آثار الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيي المعلمي اليماني

عبد الرحمن المعلمي اليماني

آثَار الشّيخ العَلّامَة عَبْد الرّحمن بْن يحْيَي المُعَلّمِيّ (1) المدخل إلي آثار العلامة عَبْد الرّحمن بْن يحْيَي المُعَلّمِيّ اليَماني - مُقَدّمَة تَعْرِيفيَّة بالمَشْرُوع - تَرْجَمَة العَلّامَة الُمعَلّمِيّ - الرَّسَائِلُ المُتَبَادَلة تأليف عَلِي بْن مُحَمَّد العِمْرَان وفق المنهج المعتمد من الشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد (رحمه الله تعالى) تمويل مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

بسم الله الرحمن الرحيم

راجع هذا الجزء مُحمَّد أجمَل الإصْلَاحِي مُحَمَّد عُزَير شَمْس

مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية SULAIMAN BIN ABDUL AZIZ AL RAJHI CHARITABLE FOUNDATION حقوق الطبع والنشر محفوظة لمؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية الطبعة الأولي 1434هـ دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع مكة المكرمة - هاتف 5473166 - 5353590 فاكس 5457606 الصّف والإخراج دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

المدخل إلى آثار الشيخ العلامة عبد الرحمن المعلمي اليماني

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله الأطهار وصحبه الكرام الأبرار، ومن والاه. أما بعد، فهذا هو "المدخل إلى آثار الشيخ العلَّامة عبد الرحمن المُعلِّمي اليماني"، وقد تضمّن ثلاثة أقسام: القسم الأول: مقدمة تعريفية بالمشروع وفيه ثلاثة مباحث: الأول: قصة بداية المشروع. الثاني: مراحل العمل فيه. الثالث: الصعوبات وما إليها. القسم الثاني: ترجمته العلامة عبد الرحمن المعلِّمي وفيه عشرة مباحث: الأول: مصادر ترجمته. الثاني: اسمه ونسبه، ومولده ونشأته. الثالث: تنقلات الشيخ ورحلاته. - الرحلة إلي الإدريسي. - الرحلة إلى الهند. - رحلته إلى مكة المكرمة. الرابع: أسرته. الخامس: شيوخه. السادس: تلاميذه.

السابع: صلته بعلماء عصره. الثامن: ثناء العلماء والفضلاء عليه. التاسع: مؤلفاته وتحقيقاته. - أولاً: مؤلفاته بحسب ترتيبها في هذه الموسوعة. - ثانيًا: كتبه المفقودة أو التي لم تدخل في هذه الموسوعة. - ثالثًا: تحقيقاته. العاشر: وفاته. القسم الثالث: الرسائل المتبادلة رأينا أنه من المناسب جدًّا أن نلحق بهذا المدخل التعريفي بالمشروع وبمؤلفه: الرسائلَ المتبادلةَ بين المعلمي وغيره من العلماء والأقارب والتلاميذ والمحبين لتعلقّها الأكيد بترجمته. والحمد لله الذي وفَّق وأعان على إتمام هذه الموسوعة العلمية العظيمة، ونسأله سبحانه أن يكتب الأجر والثواب لمؤلِّفها، وللقائمين عليها, ولكلّ مَن كانت له يدٌ بيضاء في إتمامها وإنجازها. وصلى الله على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلم. وكتب علي بن محمّد العمران المدير العلمي للمشروع 20/ 12/ 1433 هـ [email protected] a_alemran@ تويتر

القسم الأول مقدمة تعريفية بالمشروع

القسم الأول مُقَدّمَة تَعْرِيفيَّة بالمَشْرُوع

تمهيد لا شكّ أن الله تعالى قد أبقى في العلماء في كل دهر بقيةً يبيّنون للناس دينَهم، ويحفظون أمر شريعته، ويكشفون ما أشكل على الناس منها، ويوضِّحون ما التبس من أحكامها، ويهدونهم إلي الصراط المستقيم، صراط الكتاب والسنة وسلف الأمة وأئمتها، ويردّون على أهل الضلال ضلالهم وعلى أهل الشُّبَه شُبَههم بأوضح الحجج وأجلاها. وجعل الله تعالي في تلك الكوكبة من العلماء - كرمًا منه ومنّةً - مِن مَتانة الديانة، وجميل الأخلاق، والبعد عن زخارف الدنيا، ما أكسبهم جميلَ الذّكر. وجعل فيهم أيضًا من قوّة العلم والغوص على دقائق المعاني، وانكشاف الحقائق وحل المعضلات، ما مَهّد لهم القبول عند الناس، ليحصل كمال الانتفاع بعلومهم وديانتهم. وإذا كنّا نعدُّ من هؤلاء العلماء المحققين في غابر الدهر العددَ الكثير والجم الغفير، فإنهم في العصور المتأخرة أقل من القليل، فإذا كانوا كذلك فواجبٌ على أهل العلم وطلبته، وأهل الإصلاح والتربية، وأهل البسطة في المال والسعة فيه أن يلتفتوا جميعًا لإحياء مآثر هؤلاء النفر من الأئمة والعلماء؛ وذلك بأنواع من الوسائل، كالتعريف بهم، وإبراز محاسنهم، وبثّ علومهم، والعناية بتراثهم، وتقريبه للناس، وتيسير الوصول إليه، وغير ذلك. ومن هؤلاء العلماء المحققين في العصور المتأخرة: الشيخ الإِمام العلامة بقيّة السَّلَف عبد الرحمن بن يحيى المُعلِّمي العُتْمي اليماني، المولود سنة 1312 في اليمن، المتوفى سنة 1386 بمكة المكرمة رحمه الله تعالى.

فقد ترك المعلمي ثروة عظيمة من الكتب والرسائل، فيها علم غزير وتحقيق بالغ، لكن لم يطبع منها في حياته إلا القليل، ولم يطبع منها بعد وفاته إلى اليوم إلا قليل أيضًا، فجاء هذا المشروع لينهض بمهمة طباعة جميع كتبه ورسائله = تحقيقًا لرغبة الشيخ في طباعتها وعملًا بوصيته (¬1)، ونفعًا للناس وخدمة للعلم. وقد يسّر الله الكريمُ بمنّه جَمْعَ آثاره ومصنّفاته في هذه الموسوعة المباركة، بجهود مخلصة حثيثة، وعمل دؤوب، وصبر ومصابرة، واستغرق العمل فيه عشر سنوات قضيناها في خِضَمّ هذا المشروع الكبير، وتخلّل ذلك انقطاعات متعددة للعمل في المشروعات العلمية الأخرى. وكان هذا المشروع أول الأمر مجرّد فكرة، ثم بذرناها في أرض الجدّ في مطلع سنة 1423، وتعاهدناها بالعناية والسقي عدة سنين، حتى استوى العمل على سوقه، فنمت أشجارُه، وأورقت أغصانُه، وتفتّقت أكمامه، وبدت ثماره، فها هي يانعةً دانيةَ القِطاف لكل راغب في حصاد موسم 1433. فيا له من حصاد مبارك! فالحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصالحات، والحمد له أوّلًا وآخرًا وظاهرًا وباطنًا، وهذا أوان الشروع في شرح قصة المشروع، وخطته، ومراحل العمل فيه، والصعوبات التي واجهناها. ... ¬

_ (¬1) سيأتي بسط ذلك في الكلام على مؤلفاته (ص 124 - 126).

المبحث الأول قصة بداية المشروع

المبحث الأول قصة بداية المشروع في صيف عام 1418، أي قبل خمسة عشر عامًا مضت، في مجلس من مجالس شيخنا العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد (ت 1429) رحمه الله تعالى بداره العامرة بالطائف = تذاكرنا سيرةَ الشيخ العلامة المجتهد عبد الرحمن بن يحيى المعلّمي (ت 1386) رحمه الله تعالى، وعرّجنا على ذِكر كتبه ومؤلّفاته، وما طُبع منها وما لم يُطبع. وكان شيخُنا شديدَ الإعجاب بمؤلفات المعلمي (¬1)، وقد لقَّبَه في بعض كتبه بـ (ذهبيّ العصر) (¬2) مقارنة له بالإمام الذهبي، بجامع تفنّنهما في علم الرجال والجرح والتعديل. وذكرنا ما طُبع من كتبه في الآونة الأخيرة، وأن هناك بعض المحاولات لبَعْث بعض تراثه، إلا أنها لا تليق بمكانة الشيخ ولا تنهض بخدمة كتبه على الوجه المرضيّ. وذكرنا أيضًا بعض الرسائل العلمية التي قدّمت عن جهود الشيخ في مختلف الجوانب، وأنها لم تَفِ بحقّ الشيخ لا من حيث الترجمة ولا من حيث استيفاء المادة العلمية؛ لأن غالب كتبه لم تطبع، واعتماد الدارسين على مؤلفاته المخطوطة كان يعتوره قصور شديد. فانتهى الكلامُ بنا إلى أنه ينبغي النظر فيما بقي من تراث هذا الإِمام، والسعي في نشره وتعميم نفعه للناس. ¬

_ (¬1) ولم يكن قد طبع منها في ذلك الوقت إلا ستة كتب أو سبعة. (¬2) كما في "التأصيل" (ص 27).

وكان معنا في المجلس آنذاك أحد طلاب الشيخ، وكان يعمل في "كتابة عدل" في مكة، فطلب منه شيخنا أن يسعى في تصوير كتب الشيخ المعلمي من مكتبة الحرم المكيّ الشريف، تمهيدًا للنظر فيها، ومعرفة ما لم يطبع منها، وطباعة ما يصلح منها للنشر. ولا أدري هل صوّرت الكتب بعد ذلك أم لا! لكنني أحسب أن أمر هذه الفكرة قد انتهى إلى هذا الحدّ! ولعل انشغال شيخنا بمشاريع علمية أخرى أخّرت إتمام النظر في هذا المشروع، أو أن من كلّفه شيخُنا بالتصوير لم يتمكّن من ذلك. وبعد نحو خمس سنوات، أي في أثناء سنة 1423 لمَعَ بارقُ أمل جديد لإحياء هذه الفكرة، والنهوض بهذا المشروع من جديد، وذلك أن أخي الشيخ أسامة الحازمي كان يتردّد عليّ ومعه بعض رسائل العلامة المعلمي المخطوطة في مسائل نحوية وصرفية (¬1)، وكان له اشتغال بنسخها وتحقيقها، فربّما استشكل كلمةً أو عبارة من خط الشيخ، فنتعاون في فكّ عُقَدها وإيضاح مغلقها، وجرى الحديث في أثناء ذلك عن كتب العلامة المعلمي في مكتبة الحرم، وعن حالها وإمكانية تصويرها. وذكرتُ له ما كنّا نهمّ به من تصويرها والعمل عليها، وذكرتُ له حديثي السالف مع شيخنا بكر أبو زيد رحمه الله. ثم انقدح في ذهني أن أُعيد لفتَ نظر شيخنا إلى الأمر من جديد، مع ¬

_ (¬1) وكان قد سبق له تحقيق كتاب "اللطيفة البكرية" للشيخ المعلمي، وطبعت في دار عالم الفوائد سنة 1421هـ.

علمي بما كنّا عليه من الانشغال الشديد بالمشاريع العلمية الكبرى التي كان شيخنا يشرفُ عليها (¬1)، وأنجزنا طائفة منها؛ لكني عزمتُ وفاتحته في الأمر، فرأيت منه ما لم أتوقعه من سرعة الاستجابة والنشاط للموضوع، بما لم أعهده منه في المرة السالفة التي سبق الحديث عنها. طلبَ الشيخُ كتابةَ تصوّر للمشروع، مع قائمة بأهم كتبه التي لم تُطبع، ومعلومات أوليّة عنها وعن مكان وجودها، فأرسلتُ له ذلك بعد أيام قلائل، فحصلت الموافقة على المشروع في غضون أيام، وأُدرج ضمن المشاريع العلمية التي يشرف عليها الشيخ تحت رعاية مجمع الفقه الإِسلامي بجدة، والتي تمولها مؤسسة سليمان الراجحي الخيرية، وتديرها وتنفذها دار عالم الفوائد بمكة المكرمة، ولله الحمد والمنة. وعليه؛ كَتب شيخُنا طلبًا لرئاسة شؤون الحرمين يطلب فيه تصوير كتب الشيخ المعلمي من مكتبة الحرم المكي الشريف، فاعتُمِد الطلب، وصوّرت الكتب. فهذه قصة البداية، وها نحن اليوم نكتب قصة نهاية هذا المشروع العظيم، الذي سيكون بدايةً لقصّةٍ جديدة في العلم والتحقيق والمعرفة، فما أجملها من نهاية نَدلِفُ بها إلى بداية جديدة. ... ¬

_ (¬1) وهي ثلاثة مشاريع كبرى: آثار شيخ الإِسلام ابن تيمية، وقد طبع منها حتى الآن 21 مجلدًا، وآثار الإِمام ابن القيم، وطبع منها 38 مجلدًا، والعمل جارٍ في استكمال باقي المشروعَين. وآثار العلامة الأمين الشنقيطي، وطبعت كاملة في 19 مجلدًا.

المبحث الثاني تفاصيل العمل في مراحل المشروع

المبحث الثاني تفاصيل العمل في مراحل المشروع أما تفاصيل العمل في المشروع على مدى عشر سنوات منصرمة؛ فتلك قصة طويلة الذيول، ربما أعْجِز عن سرد تفاصيلها، لكني سأذكر منها ما يكشف عن المراحل التي مرّ بها، وخطة العمل الأساسية، والعقبات التي واجهتنا، والمشاركين في كل مرحلة، وما استجدّ لنا من كتب الشيخ بعد ما شارفنا على تمام المشروع. * المراحل التي مرّ بها المشروع المرحلة الأولى: أول عمل قمنا به في باكورة هذا المشروع هو كتابة قائمة بمؤلفات الشيخ المحفوظة في مكتبة الحرم المكي الشريف، وذلك من خلال البطاقات الموجودة في المكتبة والسّجلّ المتسلسل لمخطوطات المكتبة، قمنا بحصر هذه العنوانات في قائمة من عدة أوراق، ومن خلال هذا الفهرس حصل تصوير المخطوطات من المكتبة. وقد قمنا بهذا الفهرس بناءً على طلب قسم التصوير في المكتبة، فإنه لما جاءت الموافقة من إدارة المكتبة بتصوير كتب الشيخ، طُلِب منّا صنع قائمة بالكتب التي نريد تصويرها. وقد استلمنا كلَّ المطلوب تصويره من مكتبة الحرم في غضون شهرين أو ثلاثة.

وقد اعتور هذا الفهرس والتصوير من خلاله عدة أمور، نبدأ بذكر ما وقع في الفهرس: 1 - أن لكل مخطوطا رقم تصوير على الميكروفلم، وما لم يكن كذلك فإنه لم تؤخذ له صورة فلميّة، فلا يمكن تصويره. 2 - أن مجموعة من الكتب لم تكن مصوّرة على المكيروفلم، لضعف ورقها واهترائه، فهذه لم نتمكن من تصويرها في هذه المرحلة. 3 - لم ندرج أرقام الكتب التي طبعت سابقًا في هذا الفهرس، كـ "التنكيل" و"الأنوار الكاشفة" وبعض الرسائل الصغيرة، فقد أجّلنا تصويرها لمرحلة آتية، إذ كان جلّ اهتمامنا في هذه المرحلة بما لم يطبع من الكتب تمهيدًا للمرحلة الثانية. 4 - هناك العديد من كتب الشيخ لم تكن مدرجة ضمن البطاقات ولا ضمن السجل العام، ثم أُدرجت فيما بعد، فلم نصوّرها في هذا المرحلة، ثم صورناها بعد صدور فهرس مكتبة الحرم في أربعة مجلدات عن مكتبة الملك فهد الوطنية. حيث تتبّعتُ عنوانات كتب الشيخ، وقارنتُها بما صورناه منها، وطلبتُ تصوير ما لم يصوّر سابقًا، وقد بلغت أكثر من خمسة وعشرين عنوانًا. هذا ما اعتور الفهرس المذكور، أما ما اعترى المخطوطات المصوّرة من إشكالات فنعرضه هنا باختصار: أُخِذت صورةٌ من كتب الشيخ على الميكروفلم، ومن ثَمّ كان التصوير الورقي من خلاله وليس من الأصول الخطيّة.

المرحلة الثانية: النسخ

وقد وقع في هذه الصورة الورقية لكتب الشيخ ضروبٌ من النقص والإشكالات، سواء في أمور تتعلق بوضوح التصوير وضعفه، أو نقص المخطوط وتمامه، أو ترتيب أوراق المخطوط من عدمها، أو نقص أوراق منها عند التصوير، أو تفرّق أوراق المخطوط ووقوع الخطأ في ترتيبها، أو ترقيم الأوراق بعد تشتتها فيزيد اضطرابهَا غموضًا وإبهامًا، أو تشتّت المخطوط الواحد ليصبح عدة مخطوطات لكل منها رقم خاص وعنوان خاص، أو إغفال تصوير الأوراق الطيّارة الملحقة بالمخطوط مع أهميتها لمعرفة هوية المخطوط وعنوانه، أو الجور على أوراق المخطوط عند تجليده فتذهب كثير من الكلمات في أطرافه. هذه بعض الإشكالات التي توقفنا عندها بادئ ذي بدءٍ عند استلامنا لمصوّرات كتب الشيخ! وربما كان المتبادر إلى ذهن الكثيرين - وأنا منهم - أن الشيخ المعلمي عالم معاصر لم يمض على وفاته إلا أربعون عامًا، فيُفترَض أن تكون كتبُه مرتّبةً، وخطّه واضحًا مقروءًا، وأوراقه الخطية في أحسن أحوالها، هذا ما كان يتصوّره غالب الناس، وعليه فلن يأخذ العمل في تحقيقها وطباعتها جهدًا كبيرًا؛ لكن الواقع خلاف ذلك، بل هو كما شرحناه وأكثر من ذلك. وسيأتي في مبحث الصعوبات والعقبات التي واجهتنا في المشروع مزيدُ شرحٍ لذلك ولطريقة كتابة الشيخ لمؤلفاته وتركه غالبها في مسوّداتها، بما سيتبيّن معه - إن شاء الله تعالى - حجم الجهد المبذول في تحقيقها وإخراجها. المرحلة الثانية: النَّسْخ في مثل حالة كتب الشيخ التي سبق وصفُها كان لا بدّ لنا من مرحلة

تمهيدية تسبق التحقيق، وهي نسخ جميع ما وقفنا عليه من كتبه وأوراقه ومقيّداته، وهذا تدبير بحمد الله حسنٌ، وقد انتفعنا به نفعًا عظيمًا، نذكر بعض جوانبه في عدة أمور: 1 - تبيّن ترتيب أوراق المخطوط، فكثير منها وقع اختلال واضطراب في ترتيب أوراقه. 2 - عرفنا ما هي الكتب والرسائل الكاملة أو الناقصة. 3 - لمعرفة عنوانات وموضوعات الرسائل والكتب، فكثير من كتب الشيخ بلا عنوان لا في صفحاتها الأولى ولا في مقدماتها. 4 - لتكميل النقص الحاصل في كثير من الرسائل، إذ قد يكون داخلاً خَطَأً ضمن رسالة أخرى، أو تكملته في أوراق طيارة. 5 - لمعرفة النُّسَخ المسوّدة من المبيّضة، إذ قد يكون من الرسالة الواحدة عدة نسخ، ويلتبس أيتها الأولي منها وأيتها الأخيرة. ولا يتبين ذلك إلا بعد النسخ والمقارنة. 6 - واستفدنا من النَّسْخ في هذه المرحلة المبكرة جملةَ فوائد تتعلق بترجمة الشيخ وتنقلاته، وطريقة تأليف كتبه، وتواريخ تأليف بعضها، وسبب تأليف البعض الآخر، وأماكن تأليف الكتب، وبعض المصادر والطبعات التي اعتمدها، وكثير من اهتمامات الشيخ وأموره الخاصة. بدأنا مرحلة النسخ مع أخينا الشيخ أسامة الحازمي، وقد تولي بادئ ذي بدءٍ نسخ بعض الرسائل التي لم تصوّر على الورق بسبب ضعف أوراقها أو سوء حالتها، فنسخ عددًا منها ولم يستوفها، وكذلك نسَخَ جملةً من رسائل

النحو واللغة. وبعد عدة شهور من العمل في النسخ رأينا الأمرَ أكبر من أن يتولّاه شخص واحد، فكوّنّا فريقًا من الباحثين المتميزين، ووزعنا عليهم الكتب، كلما انتهى الباحثُ من كتاب أو رسالة أو جزء دُفع إليه جزء آخر، وهكذا. ولم يكن من مهمة الناسخ أن يقف طويلًا عند العبارات المشكلة، ولا الكلمات المطموسة، ولم يكن من مهمته الأساسية ترتيب الأوراق ترتيبًا سليمًا إذ كان ذلك يأخذ وقتًا وجهدًا، بل كان جلّ الهمّ والعمل منصبًّا على نسخ الكتب والرسائل فقط التي كُلِّف بنسخها، وتقييد ما يجده الناسخ من إشكال أو اضطراب أو عدم وضوح إما بنقاط أو بمعكوفات أو بتنبيهات تدلّ على ذلك، ليتولّى مَن بعده تحقيق ذلك وتبيينه وحلّ مشكله. والمشاركون في هذا الفريق هم: - الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن قائد (¬1). - الشيخ أسامة بن مسلم الحازمي. - الشيخ زايد بن أحمد النشيري. - الشيخ عبد الرحمن بن سالم الأهدل. - الشيخ عدنان بن صفاخان البخاري. - الشيخ نبيل بن نصار السِّندي (في مرحلة لاحقة). ¬

_ (¬1) وكلمة حق أقولها في حق أخي عبد الرحمن قائد: أنه كان له فضلٌ على إخوانه في الكتب والرسائل التي كُلّف بنسخها؛ من حيث العدد والتدقيق والتحرير وجودة الخط.

المرحلة الثالثة: الإدخال على الحاسوب، والصف والإخراج

فأتينا على غالب المصوّرات نسخًا، ووضعنا كلَّ كتاب ينتهي نَسْخُه في ملف خاص، ودوّنا في أوّل ورقة منه عنوانَ الكتاب أو الأوراق المنسوخة، ورقمها في المكتبة (¬1)، والعنوان أو الموضوع إن اتضح، وبعض المعلومات التي تفيد في معرفة الكتاب أو تاريخ تأليفه أو علاقته بكتاب آخر للشيخ. فنسخنا في هذه المرحلة أكثر من سبعة آلاف ورقة بخط اليد. فأصبحت بحمد الله غالب كتب الشيخ التي صورناها منسوخة، ومهيَّأة للتحقيق، وقد عُرفت هُويّة كثير من الكتب والرسائل التي لم تكن معنونة، وكثير من الأوراق التي لم تكن في مكانها الصحيح. وتجدر الإشارة هنا إلي أنه قد شارك في النسخ أيضًا كلّ المحققين؛ لأنه لم يخل فنّ من الفنون أو كتاب من الكتب التي وزّعت على المحققين وتولّوا تحقيقها من رسائل كثيرة أو أوراق عديدة لم تكن قد نسخت من قبل إما لعُسْر نسخها أو لاكتشافها مؤخّرًا. يضاف إلي ذلك الكتب والرسائل والأوراق الجديدة التي صوّرت بعد هذه المرحلة أو عُثر عليها أخيرًا ولم تكن معروفة من قبل. وليس الجهد ولا العدد في هذه المرحلة من النسخ بأقل من الجهد والعدد في سابقتها. المرحلة الثالثة: الإدخال على الحاسوب، والصف والإخراج لما انتهينا من مرحلة النسخ على الوصف الذي تقدّم تفصيله، رأينا أن ¬

_ (¬1) غالب الأرقام التي كانت مدوّنة على المخطوطات هي أرقام الأفلام، ثم حاولنا تعديلها عند الإشارة إليها في مقدمات التحقيق إلي أرقامها الأصلية، فنرجو أنه لم يفتنا منها شيء.

نلحقه بمرحلة متمّمة وهي إدخال كل هذه المنسوخات الورقية باليد على الحاسوب، وقمنا قبلها باختيار الخط المناسب، والتنسيق المناسب، فأدخلنا جميع المنسوخات على الجهاز في نحو أربعة أشهر أو تزيد، وتتلخص الفوائد من هذه المرحلة في أمور: 1 - اختصار الوقت، وذلك بِطَيِّ مرحلة الإدخال على الحاسوب قبل التحقيق، فلا يبقى على الصفيف إلا إدخال حواشي التحقيق وتعديلات المقابلة وتصحيحات النصّ والإخراج. 2 - سهولة البحث في المادة المدخلة لمعرفة تعلق الرسائل ببعضها، أو اكتشاف التكرار الذي قد يحصل بين المنسوخات، ومعرفة أين بحث المؤلف هذه المسألة من كتبه الأخرى. 3 - سهولة نقل المباحث أو القطع المتفرّقة من الرسالة الواحدة إلى مكان واحد إذ عرف تعلقها ببعضها. 4 - حفظ المنسوخ الورقي من الضياع أو التلف بأنواعه، فنأمن من أن نحتاج حينئذٍ إلى نَسْخِه من جديد. بعد إتمام عملية الإدخال كان عدد الأوراق المنسوخة على الحاسوب أكثر من سبعة آلاف ورقة. وقد شارك في هذه المرحلة الأولية عدد من الأفاضل، أبرزهم الشيخ عبد الرحمن الأهدل، والأخ عبد الله بن أحمد العمري، والشيخ عدنان البخاري.

المرحلة الرابعة: التحقيق وما إليه

أما مرحلة الإخراج الفنيّ والنهائي للكتب، وذلك باختيار الحرف المناسب والحجم المناسب، والتنسيق والتصحيح وإدخال التعليقات والحواشي، فبدأت مع أوائل تحقيق الكتب والتعليق عليها، فشارك فيها أولاً الأخ سلطان البدر لأشهر قليلة، ثم تولاها الأخ خالد محمد جاب الله، فنسق الكتب المحققة، وأعاد تنسيق الجزء المنتهي منها - وهو قليل - لتوحيد المواصفات في جميع الكتب، وقام أيضًا بصف الكتب الجديدة التي لم تُنسخ وهي لا تقل من حيث العدد عما نُسخ في المرحلة الأولى. وكان للأخ خالد جاب الله جهد مشكور في حُسن الإخراج، وقلة الأخطاء، والصبر على كثرة التصحيح والمراجعة والتعديل. علمًا بأن مجموع عدد صفحات هذه الموسوعة المباركة بلغ (457، 12) صفحة. المرحلة الرابعة: التحقيق وما إليه كانت الخطة الأوّلية التي اقترحتُها على شيخنا بكر أبو زيد رحمه الله وكتبتُ بها إليه ووافق عليها = تقضي بأن يتولّى مهمة التحقيق فريقٌ مكوّن من ثلاثة باحثين أو أربعة، باحثٌ رئيس ومعاوِنَين أو ثلاثة، وكان القصد من ذلك أن يكون العمل في جميع كتب الموسوعة على منهجيّة واحدة منضبطة من التحقيق والتعليق، فإنه من المعلوم أنه كلما قلَّ عدد الفريق العلمي انضبطت المنهجية وقلّ الخلاف. وكان من الأغراض أيضًا أن هذا الفريق يستطيع أن يكشف علاقة الرسائل والقطع والأوراق الطيارة ببعضها ومن ثَمّ يربط بعضها ببعض، وكذلك يكشف المباحث المتشابهة؛ فيسْهُل على الفريق الذي سبق وصفُه معرفة كلّ ذلك ويتمكن من التعامل معه.

بدأنا العمل في التحقيق أواخر سنة 1428 فمضيتُ على هذه الخطة عدة أشهر أنهيتُ فيها بعض الكتب تحقيقًا وتصحيحًا، لكن تبيّن لي أنه لا يمكن إنجاز العمل في المشروع بهذه الطريقة إلا في سنوات عديدة، وهذا سيؤخّر إنجاز المشروع، فرأينا أن توزّع الكتب على عدة محققين بحسب الفنون غالبًا، فقسمنا المشروع على الفنون: العقيدة، والتفسير، والحديث، والفقه، والأصول، واللغة والنحو، والفوائد والمتفرقات، وقسمنا كل فنّ على محقق واحد أو اثنين، فكان عدد المحققين المشتركين فيه سبعة، المحققون الرئيسون ثلاثة وهم: محمَّد أجمل الإصلاحي، ومحمد عزير شمس، وعلي بن محمد العمران (¬1)، وقد حققوا من الموسوعة 21 مجلدًا، أما المحققون المتعاونون فتولَّوا أربعة مجلّدات منها (¬2). وقد توقفنا عن التحقيق على الطريقة الأولى في منتصف عام 1429، وبدأنا في الطريقة الثانية عام 1431، فوضعنا لها برنامجًا مناسبًا ووقتًا محددًا لإنجازها. وقد سارت بحمد الله منهجيّة التحقيق كما خُطَّط لها، وكذلك الوقت الذي رسمناه لإنجاز التحقيق. إلا أنه قبيل إنجاز المشروع بأشهر قليلة وقع ما كنّا نتمناه ولم يكن في الحسبان؛ ففي زيارة لمكتبة الحرم المكي في أوائل عام 1433 أخرج لنا الإخوة في قسم المخطوطات بالمكتبة بعض الأوراق للنظر فيها هل هي ¬

_ (¬1) سيأتي ذكر ما حققه كل واحد في آخر هذا المبحث. (¬2) سيأتي ذكرهم مع ما حققه كل واحدٍ منهم.

للشيخ المعلمي أولا؟ وكانت نحو أربعة دفاتر، فوجدناها جميعًا بخط الشيخ ففرحنا به وعرفنا موضوعها وعنواناتها، وأردنا أن ننصرف فاسْتَمْهلَنا مسؤولُ المكتبة قليلاً، فإذا به يخرج لنا أوراقًا أخرى أكثر من سابقتها ولا زال يخرج لنا أمثالها حتى امتلأت الطاولة أمامنا، وما كدنا نصدق أنفسنا! وبنظرةٍ سريعة في تلك الأوراق الكثيرة والدفاتر المختلفة علمنا أننا قد وقعنا على كنز؛ إذ عثرنا على كتب جديدة وأوراق مهمة، ومقيّدات ومسوّدات كثيرة جدًّا للشيخ رحمه الله لم تكن قد فُهرست في المكتبة ولا عُرِفت عنواناتُها، فعكفتُ عليها أنا وأخي الشيخ محمد عزير أيامًا لفهرستها وتدوين عنواناتها ومعرفة علاقتها بما انتهى تحقيقه أو نسخه، فخرجنا بنفائس لا تقدّر بثمن من كتب الشيخ وأوراقه، واكتشفنا كتبًا ورسائل جديدة تُعرف لأول مرة ولله الحمد والمنة، واقتضى منا ذلك تمديد خطة إنجاز العمل قرابة ستة أشهر أخرى. وللحق فلم تكن مهمة التحقيق بالأمر اليسير كما قد يتوهّمه البعض، وذلك على اعتبار أن الكتب قد نُسِخَت وأدخلت في الحاسوب وطبعت ورقيًّا تمهيدًا لتحقيقها؛ لأن المحقق بدأ مرحلةً جديدة من المقابلة على الأصل المخطوط، والتأكد من صحة المنسوخ، وقراءة ما أشكل أو ما جار عليه الطمس أو ضعف الورق والحبر، أو التجليد، وكان عليه أن يزور مكتبة الحرم المكي مرارًا للتأكد من كلمة أو عبارة في الأصل الخطيّ. ثم كان عليه ترتيب أوراق المخطوط، إذ كثير منها قد وقع اضطراب في أوراقها - كما سلف -، وكان عليه أن ينظر في مسوّدات الكتاب الآخرى علَّه أن يظفر بفائدة أو تكميل أو تسديد فراغ وقع في النسخة المعتمدة، وكان

عليه أن يعيد النظر فيما استجدّ من الأوراق التي اكتُشِفت وهل لها تعلّق بكتابه وإدخال ذلك في مكانه، وعمل ما يلزم من تعديل وتصحيح وإضافة في المقدمة والفهارس. وكان عليه أيضًا توثيق النصوص وتخريج ما يحتاج إلى تخريج من أحاديث وأشعار وآثار وخلافه، ثم تصحيح النص وتدقيقه، وعرضه على التحكيم، وتعديل ملاحظات المحكمين، ثم فهرسته. هذا عمل المحقق باختصار، ويبقى أن لكل كتاب خصوصيةً في تحقيقه والعناية به، وقد شرح كلُّ محقّق ما قام به في مقدمة تحقيق كتابه، فلينظره هناك من أراد التفصيل. وهذا مسرد أسماء من شارك في التحقيق مرتبين على عدد الكتب التي شارك في تحقيقها كلُّ واحدٍ منهم: * علي بن محمد العمران: وقد حقق الكتب الآتية: 1 - الرسائل المتبادلة. 2 - تحقيق الكلام في المسائل الثلاث (ش) (¬1). 3 - عمارة القبور (مبيضة ومسودة). 4 - يُسر العقيدة الإِسلامية. 5 - طليعة التنكيل. 6 - تعزيز الطليعة. ¬

_ (¬1) إشارة إلي كون التحقيق مشتركًا.

7 - شكر الترحيب بنقد التأنيب. 8 - التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل - المجلد الأول (ش) 9 - الأنوار الكاشفة لما في كتاب أضواء على السنة من الزلل والتضليل والمجازفة. 10 - الوحدان. 11 - تراجم منتخبة من التهذيب والميزان. 12 - مجموع الرسائل الحديثية (فيه 14 رسالة). 13 - المقدمات وما إليها. 14 - فوائد المجاميع (ش). * الشيخ محمد عزير شمس: وقد حقق الكتب الآتية: 1 - تحقيق الكلام في المسائل الثلاث. (ش) 2 - التنكيل - المجلد الثاني. (ش) 3 - مجموع رسائل الفقه، ثلاثة مجلدات فيها (38 رسالة). 4 - مجموع رسائل أصول الفقه. فيه (خمس رسائل). 5 - معجم شواهد النحو واللغة. * الشيخ محمد أجمل أيوب الإصلاحي: وقد حقق الكتب الآتية: 1 - مجموع رسائل التفسير (16 رسالة). 2 - الرد على المعلم عبد الحميد الفراهي في تفسيره لسورة الفيل.

المرحلة الخامسة: التحكيم

3 - التنكيل (ش). 4 - الخُطب والوصايا. 5 - مجموع رسائل في التحقيق وتصحيح النصوص (7 رسائل). * الشيخ عثمان بن معلم محمود. حقق كتاب العبادة في مجلدين. * الشيخ أسامة بن مسلم الحازمي. حقق مجموع رسائل في النحو واللغة (14 رسالة). * الشيخ عدنان بن صفاخان البخاري. حقق مجموع رسائل في العقيدة (عشر رسائل). * الشيخ نبيل بن نصار السِّندي. حقق فوائد المجاميع. (ش). المرحلة الخامسة: التحكيم بعد انتهاء أيّ كتاب من مرحلة التحقيق والتصحيح وكتابة المقدمة يُدفع إلى مُحَكّمَين اثنين غالبًا، وفي كتابين أو ثلاثة اكتفينا بمحكّم واحد لأمور تعود لطبيعة الكتاب. ويكون أحد المحكّمين من أهل التخصص في فن الكتاب المراد تحكيمه، والآخر من أهل الخبرة في التحقيق والتجربة في تقويم كتب التراث، أو يكون كلاهما كذلك، فيقرأ المحكَّم الكتاب مِن أوّله إلى آخره، ويُبدي ملاحظاته مقيّدًا إيّاها على النسخة الورقية المرسلة إليه، ثم تسلّم لمحقق الكتاب، فيستفيد من هذه الملاحظات لتستقر أرقام صفحات الكتاب بعد إدخال التصحيحات، ومن ثَمّ تُصنع الفهارس. وقد بلغ عدد المحكّمين في هذا المشروع أحد عشر محكمًا، وبعضهم كان قد اشترك في التحقيق أيضًا وهم المشايخ الأفاضل.

المرحلة السادسة: الفهرسة

- د. محمد أجمل الإصلاحي. - د. سليمان بن عبد الله العمير. - د. عبد الرزاق بن موسى أبو البصل. - محمد عزير شمس. - د. سعود بن عبد العزيز العريفي. - د. عادل بن عبد الشكور الزرقي. - عبد الله بن عبد العزيز الهدلق. - علي بن محمد العمران. - عبد الرحمن بن صالح السديس. - جديع بن محمد الجديع. - عبد الرحمن بن حسن بن قائد. المرحلة السادسة: الفهرسة بعد انتهاء الكتاب من التحكيم وتعديل تصحيحات المحكّمين يدخل الكتاب في مرحلته الأخيرة وهي صنع الفهارس المتنوّعة. وكان أمامنا خياران في صُنعْ الفهارس، الأول: أن تصنع فهارس موحّدة لكل الموسوعة وتكون في مجلد أو أكثر في آخرها، كما هو الشأن في المجلدين السادس والسابع والثلاثين من مجموع الفتاوى لشيخ الإِسلام ابن تيمية. والخيار الثاني: أن نجعل لكل كتاب فهرسًا خاصًّا به ملحقًا في آخره. ووقع الاختيار على الخيار الثاني وكان شيخنا رحمه الله مؤيدًا له.

المرحلة السابعة: تكميلية نهائية

وكان من المؤمل في بداية العمل أن نصنع لكل كتاب نوعين من الفهارس، الفهارس اللفظية، والفهارس العلمية، كما هو دأبنا في مشروع مؤلفات ابن القيم، لكن رأينا أن صنع الفهارس العلمية على ذلك النحو سيؤخّر طباعة المشروع لأشهر كثيرة، فاتخذنا طريقة وسطًا وهي صنع الفهارس اللفظية: الآيات والأحاديث والآثار والأعلام والكتب والأشعار، ثم فهرس موضوعي يشتمل على فوائد الكتاب وإن لم يكن مقسمًا على الفنون، وقد استطعنا إنجاز كل فهارس الكتب بهذه الطريقة، ولله الحمد والمنة. وقد شارك في صنع الفهارس محققو بعض الكتب، واستعنّا لإنجازها ببعض الأفاضل من الباحثين، كالشيخ نبيل السِّندي الباحث في المشروع، والشيخ زاهر بالفقيه، وشاركنا في بعضها الدكتور جمال حُديجان. وغالب من قام بصنع فهارس الآيات الأخ الفاضل خالد محمد جاب الله الصفيف الرئيس في المشروع. وقد سمّينا في مقدمة كل كتاب مَنْ قام بصنع فهارسه؛ اعترافًا لكل واحد من المشاركين بدوره. المرحلة السابعة: تكميلية نهائية بعد الانتهاء من هذه المراحل صارت الكتب جميعًا جاهزة للطبع، لكنّا أعدنا النظر في جميع كتب هذه الموسوعة كَرَّة جديدة وذلك بالمرور عليها صفحة صفحة، لاستكمال جاهزيتها وعدم وقوع نقص في أوراقها، أو تصحيحِ ما لم يعدّل من تصحيحاتها، أو ملْء فراغ لم يُملأ أو استدراك ورقة سقطت أو تحوّلت من مكانها. وقد صححنا في هذه الجولة من المراجعة ما يزيدُ العملَ صحةً وإتقانًا وبهاءً. وشاركنا في هذه المرحلة الشيخ مصطفى بن سعيد إيتيم.

وقد أعددنا في هذه المرحلة أيضًا نماذج من النسخ الخطية لكل كتاب أو مجموعةٍ، وجدير بالإشارة أننا لم نلتزم في إيراد النماذج في المجموعات - كمجموع رسائل العقيدة أو الفقه أو الحديث - إيرادَ ورقة أو أكثر من كل رسالة، بل وضعنا نماذج مختارة من عموم الرسائل، فإن الفقه - مثلاً - فيه نحو أربعين رسالة، فلو التزمنا إيراد صفحتين من كل واحدة صار عندنا نحو ثمانين صفحة من النماذج، وهذا تطويل لا داعي له؛ فلهذا اقتصرنا على ما سلفت الإشارةُ إليه. ***

المبحث الثالث الصعوبات وما إليها

المبحث الثالث الصعوبات وما إليها ذكرنا في أول الكلام على المرحلة الأولى بعض الملاحظات التي تتعلق بالفهرس الذي صنعناه لتصوير الكتب من مكتبة الحرم المكي، وبعض الإشكالات التي اعتورت تلك الأوراق المصوّرة، وهنا سنذكر باقي العقبات التي اعترضتنا في المشروع جملةً بشيء من التفصيل، حتى يتبين للقارئ الكريم حجم الجهد المبذول في إخراج هذه الموسوعة العظيمة: بادئ ذي بدء ينبغي أن يُعرف أن الشيخ رحمه الله كان قد اتخذ غرفةً في مكتبة الحرم للسُّكْنى، وكان فيها كتبه وأوراقه ومؤلفاته وما إليها، وقد توفي فيها بين أوراقه وكتبه. ثم آلت هذه الكتب والأوراق والكنانيش التي خلّفها الشيخ إلي مكتبة الحرم ودخلت في قسم المخطوطات منه، لكنها بقيت زمنا على حالها لم تفهرس ولم تُفرز، ثم بعد مدة لعلها تزيد على الخمس عشرة سنة فُرِز ما فُرِز من هذه الكتب والأوراق لتأخذ مكانها في المكتبة، لكنّ الهيئةَ التي تَرَك عليها الشيخُ كتبَه كانت بحيث يَعْسُر فهرستها وترتيبها إلا بجهد ومشقة وفحص وتدقيق. والذي يظهر أن أوراق الشيخ جُمِعت بعد وفاته في بداية الأمر جمعًا بلا ترتيب ولا عناية، فاضطربت الأوراق وتداخلت الكتب والرسائل، وربما كان التداخل حاصلاً قبل ذلك لكنّ الشيخ كان يستطيع استخراجها ومعرفة ما أراد منها بخلاف من يأتي بعده وهو أجنبيّ عنها.

ثم لما أراد القيّمون على المكتبة فرز هذه الأوراق والكتب وفهرستها جعلوها قسمين، الأول: ما أمكنهم معرفة عنوانه أو موضوعه، فهذا دخل في الفهرسة وأخذ رقمًا، والثاني ما لم يمكنهم معرفة عنوانه ولا موضوعه، فهذا تُرك دون رقم ولم يدخل في فهرس المكتبة لكنه حُفِظ فيها ضمن الدشوت والأوراق والمخطوطات التي لم تُفهرس. وعليه فإن كتب الشيخ لم تكن كلها في مكان واحد في المكتبة بل منها ما فهرس ووضع له عنوان، ومنها ما بقي ضمن الدشوت والأوراق غير المفهرسة في المكتبة، وربما كان بعض المطالعين أو المترددين على المكتبة يقف على كتاب أو رسالة ضمن الدشوت أو الأوراق الأخرى فينبّه على عنوانها وموضوعها، فتدخل بعد ذلك ضمن الفهرس. وترتَّب على ذلك أن فهرس المكتبة سواء أكانت البطاقات أو السِّجِل أو الفهرس المطبوع لم يحو جميع كتب الشيخ المعلمي. ويمكن القول إن تصويرنا لكتب الشيخ وحصولنا عليها مرّ بثلاث مراحل: المرحلة الأولى: عبر القائمة التي صنعناها لكتب الشيخ عن طريق البطاقات والسّجل المدوّن، وقد سبق الحديث عنها في المرحلة الأولى من مراحل العمل في المشروع. المرحلة الثانية: ما صوّرناه بعد طباعة "فهرس المكتبة" في أربع مجلدات ضمن منشورات مكتبة الملك فهد الوطنية، وهي نحو خمسة وعشرين مخطوطًا، ثم تَبِعْتها مخطوطات أخرى. المرحلة الثالثة: ما صوّرناه في أوائل سنة 1433، فقد تفضل الإخوة في قسم المخطوطات بالمكتبة فأخرجوا لنا أوراقًا كثيرة جدًّا يُعتقد أنها للشيخ

رحمه الله، وكانت المفاجأة أن وقفنا فيها على كتب كاملة ورسائل محررة، ورسائل شخصية، ومسوّدات كثيرة لكتب مطبوعة أو غير مطبوعة، أو أوراق لها علاقة بكتب أخرى، ورسائل وكتب جديدة تُكتشف لأول مرة؛ فعكفنا عليها فرزًا وفهرسة وترتيبًا أنا وأخي الشيخ محمد عزير شمس لمدة ثلاثة أيام، فاستخرجنا قرابة السبعين عنوانًا. وكان التصوير في المرحلة الأولى على الورق من الميكروفلم، أما في المرحلتين الثانية والثالثة فقد تحصّلنا على المخطوطات على أقراص مدمجة (CD)، وقد ذلّل لنا ذلك الكثير من العقبات التي اعترضتنا في الأوراق المصوّرة، وقد سبق شرحها، وإن بقيت العقبات الأخرى المتعلقة بكتب الشيخ. فمن تلك العقبات والصعوبات: 1 - أن المؤلف رحمه الله ترك كثيرًا من الرسائل والكتب بلا عنوان، فيجتهد المفهرس في وضع عنوان لها فلا يوفّق، وهذا كثير. 2 - أن طريقة المؤلف في كتابة مؤلفاته ورسائله زادت من عُسْر استخراجها وتحقيقها، فإنه يبدأ بكتابة مسوّدة الرسالة، ثم يزيد فيها وينقص ويكتب على طررها فتمتلئ، ثم ينتقل إلي دفتر جديد أو يضيف أوراقًا إلي الدفتر الأول. ثم بعد ذلك يبيّض هذه المسوّدة، ثم يعود على المبيّضة كرّة أخرى فيحيلها إلي مسوّدة من جديد بكثرة الضرب والتخريج والإضافات. ونادرًا ما سلم كتاب أو رسالة من هذه الطريقة، بل ربما كتب الرسالة الواحدة سبع مرات أو أربع مرات مثل رسالة في معنى {مَا أَغْنَى} ورسالة "عمارة القبور" ورسالة "بيع الأحرار".

3 - أن كثيرًا من كتب المؤلف عبارة عن مسوّدات، مليئة بالضرب والتخريج والتهميش، واستخراجُ الكتاب من مسوّدته يكتنفه كثير من المصاعب لا تخفى على من مارس التحقيق، وفيما سنورده هنا من نماذج يكشف عن جلية الأمر ومدى صعوبته. 4 - أن كتب المؤلف لم يُعتنَ بها العناية المطلوبة، فدخلت أوراق المخطوطات في بعضها، واضطربت أوراق كثير من الرسائل، بل دخل كتاب في كتاب، أو انفردت ورقة عن مجموع لتدخل في مجموع آخر. 5 - كان المؤلف يكتب الكتاب أو الرسالة كيفما اتفق له، فأحيانًا يكتب بقلم الرصاص الباهت، أو بقلم الحبر، أو يدقق الخط جدًّا حتى لا يكاد يُقرأ. 6 - أن المرحلة الأولى من التصوير كانت على الورق وهو مستنسخ من الميكروفلم، وقد وقع في هذه الصورة الورقية من ضروب الإشكالات ما تقدم ذكره (ص 15 - 16) فيضطر الناسخ أو المحقق لحلِّ هذه الإشكالات إلي تكرار زيارة المكتبة للاطلاع على الأصل الخطي. 7 - حتى المخطوطات التي صوّرت على القرص المدمج (CD) لم تكن خالية من الإشكال، فيحتاج الباحث للاطلاع على الأصل الخطي للتأكد من كلمة أو عبارة، أو الكشف عن بعض الأوراق التي كانت مثنيّة أو ملتصقة، أو فات تصويرها سهوًا. 8 - أننا قد عثرنا في أحيان كثيرة على جزء من كتاب بعد الفراغ من تحقيقه، وكنا نعتقد أن المؤلف لم يتمكن من إتمام هذا الكتاب أو أن بعض أوراقه فقدت. والعثورُ عليه اقتضى تحقيق هذا الجزء الجديد مع إعادة النظر

فيما حقق سابقًا، والتغيير في تنسيقه وإحالاته وفهارسه. وقد وقع هذا في كتاب "العبادة" و"تحقيق المسائل الثلاث" و"رسائل الفقه" و"رسائل التفسير" ... 9 - أن بعض الكتب لم نعثر على مبيضاتها التي طبعت عنها كـ "التنكيل" و"الأنوار الكاشفة"، فكان الاعتماد على المطبوعات وعلى بعض المسوّدات التي عثرنا عليها. هذه أهم الصعوبات التي واجهتنا في أثناء العمل في هذه الموسوعة، فالحمد لله الذي ذلّلها ويسّر لنا إكمال هذا العمل العلمي العظيم. وفي خَتْم هذه التقدمة الموجزة أتقدّم بالشكر لكل أعضاء الفريق العلمي والفني والإداري الذي تحمّل أعباء إخراج هذه الموسوعة على هذا النحو المُرْضي، وكذلك لمؤسسة سليمان الراجحي الخيرية على تحملها أعباء تمويل هذا المشروع، والشكر أيضًا للإخوة الكرام في مكتبة الحرم المكي الشريف على أريحيتهم وتلبيتهم طلبات التصوير على كثرتها وتكررها، وأخص بالذكر مديرها الدكتور محمد بن عبد الله باجودة، والأستاذ عادل بن جميل في قسم المخطوطات، والأستاذ حامد اللهيبي مدير قسم التصوير. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

القسم الثاني ترجمة الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني

القسم الثاني ترجمة الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني

المبحث الأول مصادر ترجمة المعلمي

المبحث الأول مصادر ترجمة المعلمي تعدُّد مصادر ترجمته العَلَم يثري الترجمة، ويزيدها اتساعًا وتفصيلاً، وقد تعددت بحمد الله مصادر ترجمة الشيخ المعلمي، فشملت أنواعًا عديدة، قلّما تجتمع في كثير من الترجمات بعد ما كانت تشتكي القضاب، وسنعرض هنا لهذه الأنواع، ونذكر نبذةً عنها، وما الذي أفدناه منها، وطريقة الإفادة: 1 - ما كتبه عن نفسه ونقصد هنا ما تعمّد الشيخ أن يخصّه بالتأليف والكتابة مما يتعلق بشخصيته وحياته، وقد كتب في هذا الصدد عدة أشياء: ترجمته ذاتية، ونبذة في نسب آل المعلمي قيدها عن أبيه، وعقيدته ووصيته، وورقات في وصف حاله عند الإدريسي ووصف رحلته إلى مكة. وقد وقفنا على هذه الكتابات سوى نسب آل المعلمي فلم نقف عليه (¬1)، وبعض ما وقفنا عليه وإن لم يكن كاملاً من حيث المادة إلا أنه يمثل مادة جيدة مفيدة. 2 - الرسائل الشخصية المتبادلة وقد بلغ عدد الرسائل التي وقفنا عليها أكثر من سبعين رسالة من الشيخ وإليه، وهي على أنواع فمنها العلمية، ومنها الشخصية مع أقاربه أو معارفه، ورسائل أخرى متعددة الأغراض. ¬

_ (¬1) نقل منه الوشلي في "نشر الثناء الحسن": (3/ 219 - 220).

3 - كتب الشيخ ومؤلفاته

وفي هذه الرسائل مادة جيدة ثرية في ترجمة الشيخ، ما كنا لنتعرّف عليها لولا الوقوف على هذه الرسائل، وسيظهر ذلك عند النقل عنها أو الإشارة إليها. 3 - كُتب الشيخ ومؤلفاته على كثرة كتب الشيخ من حيث العدد إذ جاوزت مئة وعشرين كتابًا، غير أنه لم يكن يُكثر فيها من الحديث عن نفسه ولا عن كتبه، ولم يكن يتبسّط في مقدّماتها بما يكشف عن ملابسات تأليفها وما اكتنفها من أحداث، إلا أن فيها إشاراتٍ مفيدةً عن محطّات ومواقف من حياة الشيخ، سواء فيما يتعلق بكتبه، أو بعض الأحداث التي مرت به، أو تحديد أمور كانت غائبة عن الترجمة أو مفقودة المصدر، أو تحديد مكان التأليف. 4 - مجاميعه ومذكّراته اتخذ الشيخ القلم والدفاتر له صاحبًا وأنيسًا، فكان يكتب ويقيد كل ما يعنّ له أو يخطر على باله أو يعثر عليه من الفوائد، وكان مما يكتبه بعض المعلومات عن نفسه أو ولده أو مقتنياته، أو مذاكراته، أو أشعاره، أو خواطره العلمية وغيرها، وقد وقفنا على مادة صالحة تتعلق بترجمة الشيخ في هذه الدفاتر التي يزيد عددها على ثلاثين دفترًا بأحجام متفاوتة. 5 - مقدمات الكتب المحققة حقق الشيخ كثيرًا من الكتب العلمية الضخمة، والمراجع المهمة، وقد كتب مقدمات لهذه الكتب، أسهب في بعضها واقتضب في الآخر، وقد حوت هذه المقدمات بعض المعلومات المفيدة عن الشيخ وطريقته في

6 - تلاميذه

التحقيق، وصِلاته العلمية، وأقرانه ومساعديه في العمل، ومعاناته في هذه المراحل. وتكمن الأهمية في الأمر حين نعلم أنه قد أمضى دهرًا طويلًا من حياته في هذه الوظيفة، فقد استمرّ العمل على التحقيق من سنة 1345 إلى حين وفاته سنة 1386، فهذه أزيد من أربعين عامًا. 6 - تلاميذه توفي الشيخ سنة 1386، وبدأنا في المشروع كما سلف سنة 1423، وعليه فقد مضى على موته نحو أربعين عامًا، وعليه فإمكانية إدراك عددٍ من تلاميذه أو معاصريه واردة جدًّا، وقد حاولنا من ذلك التاريخ التعرّف على تلاميذه والاتصال بهم والإفادة منهم كمصدر مهم من مصادر ترجمة الشيخ، فتمكّنتُ من لقاء عددٍ منهم، كالشيخ العالم مُشَرّف بن عبد الكريم المحرابي (¬1) وقد زارني في بيتي سنة 1428، وسجّلت معه لقاء عن الشيخ المعلمي في شريط. ومنهم الأستاذ عبد الكريم الخراشي، التقيتُه في مكة وجلست معه جلسة مطولة تحدّث فيها عن الشيخ وأجاب عن بعض أسئلتي. ومنهم الأستاذ عبد الله بن عبد الرحمن المعلمي (¬2) رحمه الله، كنت التقيته في مكتبة الحرم حين كان متعاقدًا معها، ثم حاولت بعد مدة اللقاء به في بيته مرارًا إلا أن حالته الصحية لم تسمح بذلك، وتوفي سنة 1428. ومن تلاميذه من أرسل لي ترجمته وذكريات مع الشيخ رحمه الله ¬

_ (¬1) ترجمته في كتاب "هجر العلم ومعاقله في اليمن": (3/ 1951). (¬2) له ترجمته في "هجر العلم": (3/ 1270).

7 - الكتب والمقالات التي ترجمت له

كالشيخ محمد بن عبد الرحمن بن محمد المعلمي والشيخ محمد بن أحمد بن محمد المعلمي (¬1). وممن أدركه ولم يتتلمذ عليه لكن رآه وسمعه شيخُنا عبد الوكيل بن عبد الحق الهاشمي، وقد أعطاني ورقة بخط المعلمي فيها تقريظ الكتاب والده المحدّث عبد الحق الهاشمي "مسند الصحيحين"، وحدَّثني ببعض المواقف التي يذكرها. وهناك غيري من الباحثين ممن لقي تلاميذه ومعارفه ونقل عنهم واستفاد منهم، ومن هؤلاء التلاميذ: محمد عثمان الكَنَوي، وعبد الله الحكمي، وغيرهما. 7 - الكتب والمقالات التي ترجمَتْ له وهي مجموعة من كتب التواريخ والرجال، وهي تتفاوت من حيث الأصالة والدقة وثراء المعلومة، أقدمُها "نشر الثناء الحسن" للوشلي (ت 1356) وأفدتُ منه فوائد كثيرة، ومن آخرها "هجر العلم ومعاقله في اليمن" للأكوع (ت 1424). ومن المقالات مقال لعبد الله المعلمي نُشر في مجلة الحج سنة 1386، ثم نُشر في مقدمة كتاب "التنكيل". ... ¬

_ (¬1) وقد طلبتُ من الشيخ الكريم عبد الرحمن بن عبد القادر المعلمي (ابن أخت الشيخ المعلمي) أن يسعى في تحصيل هذه التراجم من هؤلاء الأفاضل، فبادر إلى ذلك مشكورًا، ثم أرسلها إليّ.

المبحث الثاني اسمه ونسبه، ومولده ونشأته

المبحث الثاني اسمه ونسبه، ومولده ونشأته (¬1) * اسمه ونسبه هو: عبد الرحمن بن يحيى بن علي بن مُحَمَّد (¬2) بن أبي بكر بن مُحَمَّد بن حسن المعلمي العُتْمي اليماني (¬3). والمُعَلِّمِي: بفتح العين وتشديد اللام المكسورة وكسر الميم، آخره ياء، نِسبةً إلي أحد أجداده. وقد وقع في نسب آل المعلمي خلاف هل يعود نسبهم إلى أبي بكر الصديق وهو من قبيلة تيم مرّة أم إلى قبيلة بجيلة؟ فقد ساق المؤرخ ¬

_ (¬1) ذكرتُ في مبحث مصادر ترجمة الشيخ أنه كتب ترجمةً لنفسه، وهذه الترجمة لم تكتمل، ولم يكتب الشيخ منها سوى أربع ورقات، تكلم فيهما عن اسمه ونسبه ونشأته وبداية طلبه للعلم، وكيف ترقى فيه .. وقال في أولها بعد الحمدلة والتصلية: "أما بعد، فهذه ترجمتي أكتبها لرغبة بعض الإخوان إليّ، على أن لا يطلع عليها أحد، وعسى أن تنشر بعد موتي". وما سننقله منها جعلناه بين قوسين صغيرين وصدرناه بـ "قال الشيخ". (¬2) هكذا ضبطها الشيخ بضم الحاء في الأول، وفتحها في الاسم الثاني، وهذا ضبط معروف في بعض مناطق اليمن. وقد ذكر شيخنا إسماعيل الأكوع في "هجر العلم": (4/ 2251) أن اسم الإِمام الشوكاني يضبط هكذا بضمّ الميم والحاء، قال: "سمعت ذلك من بعض شيوخي عن شيوخهم المعاصرين له، وهذا الاستعمال شائع في نجد اليمن ... ". (¬3) هذا الاسم بهذا التمام مقيّد بخط الشيخ في عدة مجاميع ومقيدات ووصايا.

إسماعيل الوشلي (ت 1356) في كتابه "نشر الثناء الحسن" (¬1) نسبَ آل المعلمي في ترجمته الشيخ المعلمي، ورَفَع نسبَهم إلى أبي بكر الصديق، فقال في ترجمة الشيخ إكمالاً لسياق نسبه السالف: "بن صالح بن عبد الرحمن بن أحمد بن علي بن إبراهيم بن عبد القادر بن قاسم بن عبد الله بن سليمان بن علي بن الحسين المعلِّم المقبور بـ "عواجة"، وهو أخو البجلي والحكمي بن أحمد بن علي بن المثنى بن عبد الواسع بن صالح بن عبد الحفيظ بن أحمد بن إبراهيم بن علان النقشبندي ... بن خليل بن علان بن عبد الملك بن علي بن المبارك بن أبي بكر المأمون بن محمد بن طاهر بن حسين بن عفيف الدين بن يونس بن يوسف بن إسحاق بن عمران بن أبي العتيق عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه" (¬2). وهذا النسب نقله الوشليّ من خط الشيخ عبد الرحمن المعلمي، فالظاهر أنه كان يرى صحته. قال الوشلي: "وصورة هذا النسب ساقه صاحب الترجمة (يعني المعلمي) بخطه ناقلاً له عن والده، والنقل متضمن لإجازةٍ لأحد أجداده الأعلين، وصورة ذلك: قد وجدت بخط والدي العلامة قال ما لفظه: وجدت بخط سيدي العلامة الفقيه عبد الله بن أحمد الموقري المسلمي قال: نقلتُ عن خطِّ شيخنا العلامة أحمد بن حسن الموقري من إجازة جعلها لتلميذه الفقيه عبد الله بن يحيى المعلمي قال فيها: قد أجزت الولد ¬

_ (¬1) (3/ 219 - 220). (¬2) جاء في هامش الكتاب: جاء في هامش الأصل: ينظر في تدريج هذا النسب.

الفقيه العلامة عبد الله بن يحيى بن محمد. ثم ساق النسب إلى الصديق رضي الله عنه. ومحمد هذا هو ابن حسن بن صالح بن عبد الرحمن، وإليه ينتهي نسب صاحب الترجمة". قلت: وهذا النسب إلي أبي بكر الصديق كان مشهورًا شائعًا لدى أسرة آل المعلمي سواء ممن كانوا في قرية الطُّفَن أو ممن انتقلوا إلى صنعاء (¬1)، ومن شواهد ذلك ما جاء في رسالة من الشيخ محمد بن عبد الرحيم المعلمي إلي الشيخ مؤرّخة سنة 1360 فقد صدّرها بقول الشاعر (¬2): فتًى من بني تَيْم بن مُرّة أصله ... عليه من الصديق نورٌ ورونق والبيت واضح في النسبة إلى قبيلة تيم، وإلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه. قلت: لكن الشيخ المعلمي رجع عن هذا الرأي ورجَّح أن نسب آل المعلمي يرجع إلى قبيلة بجيلة، وقد صرّح بهذا فيما علّقه على كتاب "الأنساب" للسمعاني، عند حرف الباء مع الجيم (¬3). قال رحمه الله: "بجيلة عك: بطنٌ من بني عبس بن سمارة بن غالب بن عبد الله بن عك، منهم كما في "طرفة الأصحاب" (ص 65): محمد بن حسين البجلي الصالح، وهو مشهور جدًّا في اليمن، يقال للمنتسبين إليه "بنو البجلي". وله أخ اسمه ¬

_ (¬1) ذكره الشيخ عبد الرحمن بن عبد القادر المعلمي في أوراق لدي بخطّه. (¬2) "الرسائل المتبادلة" (ص 358). (¬3) (2/ 87) حاشية (7).

* ولادته

"علي" وكان أبوهما "حسين" يعرف بـ "المعلم"؛ لكثرة تعليمه الناس، وإلى علي بن حسين هذا ينتسب جدُّنا محمد بن الحسن المعلمي، الذي ينتسب إليه عشيرتنا بنو المعلمي". انتهى. والعُتْمِي: نسبة إلى "عُتْمة" بضم العين وسكون المثناة من فوق ثم ميم مفتوحة، وهو حصن في جبل وُصاب من أعمال زبيد (¬1). * ولادته أما وقت ولادته ومكانها فقد قال الشيخ في ترجمته: "وُلدت في أواخر سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة وألف، بقرية المحاقرة من عُزلةِ الطُّفَن (¬2) من مخلاف رازح من ناحية عُتْمة من قضاء آنِس (¬3) التابع لولاية صنعاء في اليمن". وعليه فما هو مذكور في بعض الكتب والدراسات الحديثة من أنه ولد سنة 1313 ليس بصحيح، أو أنه تصحيف. * نشأته نشأ الشيخ نشأة صالحة في بيت صلاح وعلم، وبيئة صالحة، وقد ¬

_ (¬1) انظر "معجم البلدان": (4/ 82)، و"معجم بلدان اليمن وقبائلها": (3/ 576)، و"معجم البلدان والقبائل اليمنية": (2/ 1014). (¬2) بضمّ الطاء ثم فاء مفتوحة، وكتبها الشيخ في موضع بالثاء "لطُّثَن"، وهي لغة فيها والمشهور بالفاء. (¬3) بمدّ الهمزة وكسر النون، وهي منطقة واسعة في الشمال الغربي من مدينة ذمار. "معجم البلدان والقبائل اليمنية": (1/ 9).

نصَّ الشيخ على هذه النشأة وهذه البيئة فقال: "ربّيتُ في كفالة والديَّ، وكانا من خيار تلك البيئة، وهي بيئة يغلب عليها التديُّن والصلاح". ثم ذكر طريقة طلبه للعلم، وكيف تدرّج فيه، وما هي العلوم التي درسها فقال: "قرأت القرآن على رجل من عشيرتنا، وعلى والدي، وكانت طريقة القراءة: تحفيظ القرآن في اللوح حفظًا موقتًا، أي أن يحفظ الدرس في اليوم الأول ثم يعيد حفظه في اليوم الثاني، ثم لا يُسأل عنه بعد ذلك؛ إلا الالتزام بتلاوة القرآن في المصحف كل يوم صباحًا ومساءً لكل أحد، حتى بعد الكبر. وعلى كل حال، فإن قراءتي كانت متقنة من جهة القراءة والكتابة. وقبل أن أختم القرآن ذهبتُ مع أبي إلى بيت الرَّيمي حيث كان أبي يمكث هناك يعلِّم أولادهم ويصلِّي بهم. ثم سافرت إلى الحِجَرية (¬1) حيث كان أخي الأكبر محمد بن يحيى رحمه الله كاتبًا في المحكمة الشرعية. وهناك شَرِكتُ في مكتب للحكومة كان يعلَّم فيه القرآن والتجويد والحساب واللغة التركية. فمكثت هناك مدة ومرضت في أثنائها مرضًا شديدًا. طال مرضي فحوّلني أخي إلي بيت أرملةٍ من الجيران تُمَرِّضني. وكان لي في مرضي إسهال مستمر، فجاء أخي مرَّة بطبيب فوصف دواءً زعم أنه يصفِّي بطني، فجيء بالدواء في كأس فامتنعَتْ ممرِّضتي أن تسقينيه وأهرقتْه؛ قالت: بطنه يتصفّى كل يوم، فالدواء الذي يصفِّي عسى أن ¬

_ (¬1) بكسر الحاء وفتح الجيم، بلدة في مقبنة تقع غربيّ تعز، تبعد عنها 50 كيلو مترًا. انظر "معجم المدن والقبائل اليمنية": (1/ 422) للمقحفي.

يقتله، ثم دعتْ لي رجلاً كان يوصف بالصلاح فجاء بسفوف، فصارت تعطيني من ذاك السفوف، ورزقني الله العافية". تعتبر هذه المرحلةُ إلى هذا الحدّ المرحلةَ الأولى في التعلّم التي لم تتعد القراءة والكتابة وتعلّم القرآن ومبادئ الحساب، والظاهر أن الشيخ لم يكن في هذه المرحلة قد جاوز الخامسة عشرة من عمره لدلائل عديدة. ثم بدأت المرحلة الثانية من طلبه للعلم من حين قدوم والده إلي الحجرية وتوجيهه لدراسة النحو، وهذا واضح من كلام الشيخ رحمه الله، قال: "ثم جاء والدي رحمه الله لزيارتنا ومكث هناك مدَّة. سألني عمّا أقرأ في المكتب فأخبرته. ثم قال لي: فالنحو؟ فأخبرته أنه لا يُدرَّس في المكتب، فقال: ادرسه على أخيك. ثم كلَّم أخي أن يقرِّر لي درسًا في النحو، فكان يُقرئني في "الآجرُّومية" مع "شرح الكفراوي". استمرَّ ذلك نحو أسبوعين ثم سافرتُ مع والدي. ولا أدري ما الذي استفدته تلك الأيام من النحو، غير أن رغبتي اتَّجهت إليه، فاشتريتُ في الطريق بعض كتب النحو. ولما وردْتُ (بيتَ الرَّيمي) وجدت أحمد بن مصلح الريمي رحمه الله قد عاد من شُهارة (¬1) [معقل] (¬2) الإِمام يحيى حميد الدين، وقد كان تعاطى هناك طلب النحو، وكانت معه كرَّاسة فيها قواعد وشواهد وإعرابات. فاصطَحَبْنا وكنّا عامة أوقاتنا نتذاكر، ونحاول إعراب آيات أو ¬

_ (¬1) بضم الشين كما في "تاج العروس": (7/ 68) وتنطقها العامة بفتح الشين وكسرها، وهو حصن عظيم باليمن في محافظة صعدة. اتخذه كثير من أئمة الزيدية معقلًا لهم لتحصينه، انظر "معجم بلدان اليمن": (1/ 880 - 882)، و"هجر العلم": (2/ 1057 - 1060). (¬2) كلمة لم تتبين ولعلها ما أثبت.

أبيات، وكنا نستعين بتفسيرَي "الخازن" و"النسفي". وأخذَتْ معرفتي تتقوَّى، حتى طالعتُ "مغني ابن هشام" نحو سنة، وحاولت تلخيص قواعده المهمَّة في دفتر. وحصلَتْ لي بحمد الله تعالى مَلَكَة لا بأس بها، في حال أن زميلي لم يحصل على كبير شيء، وكان مني بمنزلة الآلة". وتُعدُّ هذه المرحلة من أهم مراحل نشأة الشيخ وتكوينه العلمي، وقد بدت في أمرين، الأول: اهتمامه بعلم النحو دراسة وتطبيقًا وقراءة، ومن الواضح أنه أقبل على هذا العلم بكلّيته، واتّجه إليه برغبة وإقبال. الثاني: الاستعداد الذهني والذكاء فإنه قد استوعب النحو وفهمه في مدة وجيزة، بحيث لم تطل دراسته عند أخيه، فلم تتعدّ الأسبوعين، ثم اتجه بنفسه إلى القراءة والبحث فيه، بدليل ما يأتي من كلام شيخه أحمد بن محمد المعلمي. ثم انتقل الشيخ بعد هذه المرحلة التأسيسية إلى مرحلة جديدة من العلم، وهي الانتقال إلى قراءة علم الفقه والفرائض، وقد وفّق حين درس على الشيخ أحمد بن محمد بن سليمان المعلمي، وقد وصفه الشيخ بالتبحّر في العلم كما سيأتي. قال الشيخ: "ثم ذهبتُ إلي بلدنا الطُّفن، ورأى والدي أن أبقى هناك مدَّةً لأقرأ على الفقيه العلامة الجليل أحمد بن محمد بن سليمان المعلِّمي (¬1)، وكان ¬

_ (¬1) من العلماء المحققين (ت 1340). انظر "هجر العلم": (3/ 1265).

متبحِّرًا في العلم، مكث بزبيد مدة طويلة، ثم عاد بعلمه إلى جهتنا، ولم يستفيدوا من علمه إلا قليلاً. فأخذتُ من كتب والدي كتابَ "منهاج النووي" مخطوطًا وذهبتُ إلي الشيخ، وكان يختلف إليه جماعة من أبناء عشيرتنا يقرؤون عليه، فبعد أن سلَّمت عليه وأخبرته خبري قال: في أي كتاب تريد أن تقرأ؟ قلتُ: في "منهاج النووي" فوَجَم. ثم لمَّا جاء دوري أمرني أن أقرأ، فشرعت أقرأ خطبة "المنهاج" وهو يستمع لي. فبعد أن قرأت أسطرًا تناول مني الكتاب ونظر فيه، ثم قال لي: هل صحّحت هذا الدرس على أحد؟ قلت: لا. قال: فهل قرأتَ في النحو؟ قلتُ: قليلاً. قال: "لا، ليس بقليل"، وكرَّرها. ثم قال: أخبرْتَني أولاً أنك تريد القراءة في "المنهاج" فلم يُعجبني ذلك، لأني أرى أنّ على طالب العلم الذي يريد أن يقرأ في "المنهاج" أن يبدأ قبل ذلك بدراسة النحو حتى يتمكّن من الفهم، لكن كرهت أن أكسر خاطرك، فرأيتُ أن آذن لك في القراءة، وطبعًا تخطئ في الإعراب فأردّ عليك فيكثُر ذلك فتنتبه بنفسك إلى احتياجك إلى دراسة النحو أولاً، ولكن لمَّا قرأتَ لم تخطئ، فظننتُ أن الكتاب مضبوط بالحركات، فلمّا رأيته غيرَ مضبوط قلتُ: لعلك قد صححت ذاك الدرس على بعض العلماء، فلما نفيتَ ذلك علمتُ أنك قد درست النحو. فأخبرته بالواقع، وأني في الحقيقة لم أدرسه دراسة مرتّبةً. فقال: على كل حال معرفتك بالنحو جيدة، فاقرأْ في "المنهاج" وتحضر عندما يتيسَّر لك مع هؤلاء في درسهم في النحو. ثم درستُ عليه شيئًا في الفرائض فتيسَّرت لي جدًّا لمعرفتي السابقة بمبادئ الحساب".

وقد انتفع المعلمي بشيخه أحمد بن محمد المعلمي، وكان بينهما مراسلات عديدة، وصفه شيخُه في تلك الرسائل (¬1) بأوصاف تدلّ على نبوغه المبكر وألمعيته السريعة، وقد أجازه إجازةً عامة في الحديث وغيره من كتب العلم سنة 1335 وعمره ثلاثة وعشرون عامًا، وأشار إلي إجازته هذه الوشلي في "نشر الثناء الحسن" (¬2) مما يدلّ على اعتداد الشيخ بها. ولتمام الفائدة نسوق هنا نصَّ إجازته من شيخه أحمد بن محمد بن سليمان المعلمي: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي جعل الرواية من الدين؛ لكونها سببًا موصلًا إلى سيد المرسلين بل إلى رب العالمين. وبذلك أيضًا حصلت الصيانة له عن تحريف الغالين وانتحال المبطلين، حتى قيل: إن كل فائدة لم تُسند إلى صاحبها فهي لقيطة كالطفل المنبوذ الذي لا يُعرف أبوه في المنتسبين. والصلاة والسلام على سيدنا وواسطتنا إلى ربنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وأصحابه أجمعين. وبعد: فإن من جملة طرق الإسناد الإجازةَ التي مضى عملها بين الزهاد، ومضى العمل بها قديمًا وحديثًا، وسعوا في طلبها سعيًا حثيثًا. وقد التمسها من الحقير مَن هو أحقّ بها وأهلُها لحسن ظنِّه بأنه يحسنها ومن رجالها. والحقيقة بأنه كالسُّلَم لسبب الرقيّ إلي ذروتها. فالآمر المقرّر على الارتقاء إلى السطح آمرٌ بالسُّلَّم، ليس فيه فضيلة سوى الصعود عليه، فهو كالواو من "عَمْرٍو" المنسوب إليه. ¬

_ (¬1) كما سيأتي في مبحث الثناء عليه. (¬2) (3/ 221).

ولكون رواية الأعلى عن الدون واردةً في صحيح الأخبار كما أخبر - صلى الله عليه وسلم - بحديث الجسّاسة (¬1) عن تميم الداري = أجاب الطالبَ إلي مطلوبه وساعده على مرغوبه، لرجاء دعوةٍ صالحة تدركه لحياته وموته، أو تدرك عَقِبه وذريته. فأقول متلفظًا وكاتبًا: أجزتُك أيها العالم الكريم، والنحرير الذي هو بهذا الوقت في النظير له عديم، إجازةً عامَّةً بكل ما يجوز روايته وتنفع درايته من منقول ومعقول، وبكل ما يقرّب إلي رب البرية، بشَرْطه المعتبر المقرر عند أهل الأثر. وأجزتُ له أن يروي الأوراد القرآنية والنبوية, والأدعية والأحزاب الصوفية، وأن يبيِّن طريق الإسناد بيانًا يزيل الظنون الرَّديَّة. وتلك الإجازة لمن ذكرنا هو الفقيه الوجيه: عبد الرحمن بن العلامة يحيى بن علي المعلمي، كما أجازني كذلك السيد الجليل والعلامة الحفيل محمد بن محمد بن حسن الأهدل، والشيخ النحرير جمال الإِسلام علي بن أحمد المِزجاجي، والشيخ الولي عباس بن داود السالمي الزبيدي، والسيد المحقق الصدّيق ابن إبراهيم البطاح الأهدل، بطرقِ أخذهم عن الشيخ داود بن العباس السلامي الزبيدي، ما خلا الشيخ علي بن أحمد المزجاجي فهو شيخ المذكورين. كما أخذ ذلك هو والشيخ داود عن السيد الجليل محمد بن عبد الرحمن بن سليمان الأهدل. وأوصي المجاز بما وصَّانا به مشايخنا من ترك ما لا يعني، وبما وصى الله به خلقه الأولين والآخرين بقوله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2942).

الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131]. وأن لا ينساني من الدعاء ولا ينسى مشايخي وأولادي إن ذَكَر وتسهَّل له. نسأل الله أن يحقق في الخير أمله والله ولي التوفيق. والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله كلما ذكره الذاكرون وغَفَل عن ذكره الغافلون. قاله بفمه وكتبه بقلمه أحمد بن محمد بن سليمان بن يحيى بن محمد أحمد بن محمد بن الحسن بن صالح المعلمي عفا الله عنهم آمين. والتحرير يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان أحد شهور سنة 1335 خمس وثلاثين وثلاثمائة بعد الألف قمرية هجرية. قال الشيخ: "ولم تطُل قراءتي على شيخنا المذكور، بل رجعت إلى "بيت الرَّيمي" وانكببت على كتاب "الفوائد الشنشورية" في الفرائض أحلُّ مسائله، وأَفرِض مسائل أخرى وأحاول حلَّها ثم امتحانها وتطبيقها. وكانت في كتب والدي كتاب "مقامات الحريري" وبعض كتب الأدب فأُولعتُ بها، ثم حاولت قرض الشعر. ثم جاء أخي من مقرِّه بالحجرية وأُعجب بما شدوته من النحو والفرائض، ثم رجع إلي الحِجَرية وتركني. ثم كتب يستقدمني، فقدمت عليه وبقيت هناك مدّةً لا أستفيد فيها إلا حضوري معه بعض مجالس نتذاكر فيها الفقه". وقد وجدت في أحد مجاميع الشيخ (¬1) أبياتًا له قيّدها في أثناء مقامه ¬

_ (¬1) رقم [4104].

بالحِجَرية لمناسبة عرضت، قال: "للحقير وأنا في قضاء الحِجَرية لمَّا بنى مفتي القضاء أمين وقف الشيخ عمر الطيار دارَه في مركز القضاء المذكور، فلما أتمَّ طبقتها الثانية أوكر على عادة الناس اليوم في الولائم من الذبح وتفريق اللحم، ثم اجتماع الناس للسمر في بيت المولم. فحضرنا فحصل ازدحام مفرط، فارتجلتُ ولم أفُهْ بها، قلتُ: بنى المفتي أمين الوقف دارًا ... تفوق متانة القصر المشيد وأوكر داعيًا للناس ليلاً ... إليها ذي القرابة والبعيد وكنا في الذين دُعُوا فجِئْنا ... وأظْفرنا محلًّا للقعود تزاحمْنا كما رُصِفت ورُصَّت ... نُزحزح كالوحوش لدى الورود فلو من تحتنا الأخشاب زالت ... ثبتنا في الهواء بلا عمود عسى الرحمن يمنحنا اكتفاءً ... بها الإعفاء عن ضمِّ اللحود وقلت أيضًا وقد قيل لي: إن أمين الوقف أراد فتح بابٍ لرحبة المسجد المحيط بها السور، وليس له حاجة، وكان يُظَن في الأمين عدم الأمانة: قالوا نوى الوقفيّ فتح باب ... كقاصدٍ إفساد قول حاب فقلت تضييعٌ بغير نفعٍ ... لكن رضينا بالخروج بدون باب" قال الشيخ: "ثم رجعت إلى عُتمة، وكان القضاء وقتها قد صار إلى الزيدية، وعُيِّن الشيخ علي بن مصلح الريمي كاتبًا للقاضي. فلزمت القاضي، وكان هو السيد علي بن يحيى المتوكِّل (¬1) رجلاً عالمًا فاضلًا معمَّرًا. آسَفُ ¬

_ (¬1) انظر "هجر العلماء": (3/ 1256).

لتقصيري، إذ لم أقرأ عليه شيئًا ولا طلبتُ منه إجازةً. ثم عُزل، ووَلِي القضاء بعده السيد محمد بن علي الذاري (¬1)، وكتبتُ عنده مدّةً، وكان رجلاً شهمًا كريمًا على قلّة علمه". وقد وجدنا ما يحدّد لنا الوقت الذي عمل فيه الشيخ كاتبًا عند الذاري، فقد كان ذلك في سنة 1335 وعمره ثلاثة وعشرون عامًا، فقد صرَّح بذلك في كتاب "تحقيق الكلام في المسائل الثلاث" (¬2) قال: "ومن ذلك أني كنت سنة 35 (¬3) ببلدتي "عُتمة" بمركزها المعروف بـ "الربوع"، وأنا إذ ذاك أكتب لحاكمها السيّد محمد بن علي الذّاري، وكان قد أرسل رسولاً إلي الإمام يحيى بن محمد، فأبطأ الرسول. وبينا أنا يومًا جالس أمام القلعة خَطَر لي أن ذلك الرسول الذي ينتظره سيمرّ حينئذٍ من تحت القلعة، فصوّبت نظري إلى تحت القلعة؛ وإذا بذلك الرجل مارًّا من ذلك المكان". فهذه هي المراحل التي مرّ بها الشيخ في نشأته باليمن وتلقيه أنواع العلوم من تعلّم القراءة والكتابة، والقرآن والتجويد، وعلم الحساب، ثم النحو والاهتمام به وحذقه إياه في أقرب مدة وبراعته فيه، ثم الفقه الشافعي، والفرائض وإتقانه لها وحلّه لمسائلها، ثم ولعه بكتب الأدب وقرضه للشعر. وقد كشفت لنا دفاتر الشيخ ومجاميعه مدى عنايته باللغة والأدب ¬

_ (¬1) له مشاركة في العلم، تولّى للإمام يحيى حميد الدين على عدة بلدان منها عُتمة، وعزله الإِمام لما كثرت الشكوى ضده، (ت 1344). انظر "نزهة النظر" (ص 569)، و"هجر العلم": (2/ 661). (¬2) (ص 361). (¬3) أي سنة 1335.

والشعر، ففي المجموع [4104] فوائد شتى وتقييدات كثيرة نحوية وصرفية وأدبية، وقصائد برمتها منها المعلقات السبع ولامية الشنفرى وقصيدة لأحيحة بن الجُلاح، ومرثية لأخت المنذر بن عبد شمس وغيرها كثير، قيّدها بخطه الدقيق المتقن. ولا أجزم أن كل ما في هذا المجموع مكتوب إبان إقامته في اليمن، بل من الواضح أن بعضه مكتوب في اليمن وبعضه الآخر حين إقامته لدى الإدريسي، ومع ذلك فليس الفاصل الزمني بينهما كبيرًا بل يمكن أن يعدّا في فترة زمنية واحدة؛ لأنه ارتحل إلي الإدريسي وعمره خمسة وعشرون عامًا وبقي عنده خمس سنوات فقط. فالمحقَّق أن فنون العربية بأنواعها كانت محلّ اهتمام الشيخ وعنايته، وقد برع فيها وأصبح ذا مَلَكة قوية وهو لم يزل بعدُ في سن مبكرة، مع تفننه في العلوم الأخرى كالفقه والفرائض والحساب وغيرها. ***

المبحث الثالث تنقلات الشيخ ورحلاته

المبحث الثالث تنقلات الشيخ ورحلاته للشيخ ثلاث رحلات رئيسة، الأولى رحلته إلي الإدريسي، والثانية إلي الهند، والثالثة رحلته إلي مكة المكرمة واستقراره بها، وقد تخلل ذلك انتقاله إلى عدن وإندونيسيا، وهذا تفصيل خبرها. 1) الرحلة إلي الإدريسي (¬1) (1337 - 1341) في سنة 1335 كان المعلمي يعمل كاتبًا للسيد محمد بن علي الذاري، وكان الذاري عاملًا وقاضيًا على عتمة من قبل الإِمام يحيى حميد الدين، وقد وُصف بالعسف والجور في أحكامه بحيث كثرت شكوى الناس منه، فعزله الإِمام يحيي (¬2)، وقد أثنى المعلمي على الذاري بالشهامة والكرم إلا أنه وصفه بقلّة العلم. وكان القضاء قبل ولاية الذاري في عُتمة وغيرها ¬

_ (¬1) هو: محمد بن علي بن محمد ابن السيد أحمد ابن إِدْرِيس: مؤسسة دولة الأدارسة في صبيا وعسير. ولد سنة 1293، أصله من فاس. تعلّم في الأزهر بمصر، وطمح إلى السيادة، فنشر في صبيا طريقة جده (أحمد بن إدريس) فأتبعه كثيرون، فوثب بهم على حكومتها (سنة 1327)، فجهزت حكومة الترك الجيوش لقتاله، فلم تفلح. وامتلك بلاد (عسير) واتسع نطاق سلطانه. واستولى بعد الحرب على الحديدة، وتعاقد مع الملك عبد العزيز آل سعود على تأمين مصالح الجانبين. وكان بين عدوّين قويين: الإِمام يحيي في اليمن، والشريف حسين بن علي في الحجاز، واستمر في عزّ ومنعة إلى أن توفي سنة 1341. وكان مدبرًا حكيمًا شجاعًا جوادًا. ملخصة من "الأعلام": (6/ 303 - 304) للزركلي. (¬2) انظر "هجر العلم": (2/ 661). وانظر ما سبق (ص 53) حاشية (1).

إلى السنة على مذهب الشافعية، وكان القاضي هو علي بن يحيى المتوكل، وقد أثنى عليه المعلمي بالعلم والفضل، ثم آل القضاء إلى الزيدية بعد اتفاقية دعّان بين العثمانيين والإمام يحيى حميد الدين، والذي أوكل بموجبه تعيين قضاة الأقاليم إلى الإِمام يحيى (¬1). والذي يظهر أن المعلمي رحمه الله كان من المعارضين لحكم أئمة الزيدية، وظهرت له باعتباره كاتبًا لحاكمها أمارات الظلم والعسف والخروج عن السنة فاستحكمت هذه المعارضة، ولذلك بدأ يُنشئ القصائد في التشكِّي منهم، ففي قصيدة أنشأها سنة 1335 وصدّرها بقوله: "قبل توجهي إلى الإدريسي"، وموضوعها شكوى إلى السيد محمد بن علي بن أحمد الإدريسي لرفع الظلم عن البلاد اليمانية التي تحت حكم الأئمة الزيدية. ومطلعها: ظفرت بقلب الصبّ فاكفف عن الصدّ ... وكن عادلًا في الحكم يا عادل العدِّ ويقول فيها: أتيَ اليمنَ الميمونَ مجتهدًا لكي ... يُطهِّره من عُصبة الرفض بالعمد همُ أخذوا الأحرارَ مِنّا رهائنًا ... وهمْ أخذوا الأموالَ قهرًا بلا عقد همُ ظلمونا واستباحوا محارمًا ... وأصبح مِنّا الليث يخضع للقرد فهم عاملونا بالقساوة غِلْظةً ... وهم كفَّرونا إذ وقفنا على الرشد وقالوا لنا إنّا كفرنا بقولنا ... لهم: إنما الأعمار من قَدَرِ الفرد (¬2) ¬

_ (¬1) "هجر العلم": (2/ 661). (¬2) "ديوان المعلمي" (ق 8) وعدد أبيات القصيدة 48 بيتًا.

وفي هذا دلالة واضحة أن هناك علاقةً بين المعلمي والإدريسي قبل أن يتوجّه إليه مطلع عام 1337. ويؤكد هذه العلاقة القديمة كتابٌ من الإدريسي إلى الشيخ المعلمي بتاريخ 6 محرم سنة 1336 أي قبل توجه المعلمي إليه بعام يذكر فيه أن المعلمي أرسل له كتابًا وأنه وصل بمعيّة أخيه (لعله محمد)، ثم ذكر أنه أرسل لوالده وأخيه ستين ريالاً، مع الاعتذار له بسبب جدب البلاد. والذي يظهر أن الإدريسي كان يرغّب الشيخ في القدوم عليه، فها هو يقول في آخر رسالته السالفة: "ونسأل الله أن يمنَّ بالاتفاق عاجلًا على أحسن وفاق" (¬1). ولم يمض شهران على رسالة الإدريسي هذه حتى قوي عزم الشيخ المعلمي على الارتحال عن بلدته إلي الحضرة الإدريسية. ولعل الذي قوّى عزمه على الرحلة رؤيا منامية حكاها للمؤرخ إسماعيل الوشلي (¬2)، فإنه حين التقاه في بلدة المنيرة سنة 1336 في أثناء توجهه إلى زيارة المسجد النبوي ذكر له أن السبب الباعث له علي التوجه للزيارة رؤيا منامية رآها. فقال: "لما كان ليلة الاثنين لعله عاشر شهر ربيع الأول من سنة 1336 رأيته - صلى الله عليه وسلم - رؤيا منامية، كأنه في مسجد لا أعرفه، وحوله جماعة كثيرة، فدخلت المسجد فقبّلت يده الشريفة، وقلت له: يا رسول الله إني أحبك، فالتفت إلي رجل واقف عن يمينه، وقع في ذهني أنه الصدّيق رضي الله عنه، فقال له: أنشد البيتين، فقال: ¬

_ (¬1) "الرسائل المتبادلة" (ص 255). (¬2) "نشر الثناء الحسن": (3/ 220).

زُر مَن تحبّ وإن شطّت بك الدارُ ... وحال من دونه حُجْبٌ وأستارُ لا يمنعنّك بُعدٌ من زيارته ... إن المحب لمن يهواه زوّارُ فالتفت - صلى الله عليه وسلم - إليَّ فقال: هل سمعت؟ ثم انتبهت، فتقوّت النية ... " اهـ. ودلالة هذا الخروج المبكّر من البلاد قبل الحج بنحو تسعة أشهر واضحة في أن المؤلف حزم أمره على المغادرة النهائية لبلدته والتوجه للسياحة في البلاد وطلب العلم، وربما لم يكن الشيخ قد اتخذ قرارًا حازمًا للاستقرار لدى الإدريسي بدليل أنه لم يمرّ به ولم ينزل عنده في أثناء سفره إلى الزيارة ثم الحج، وإلا كان بإمكانه - وفي الوقت متسع - أن ينزل عنده ثم يتوجه إلي الحج، لكنه فيما يظهر ذهب إلى المدينة المنورة للزيارة تحقيقًا لتلك الرؤيا التي سلفت، ثم توجّه بعدها إلى الحج. وقد وجدت له في "ديوانه" (¬1) أبياتًا يتشوّق فيها إلى الحج كتبها سنة 1336 يقول فيها: متى يبلغ المشتاق مَقْصِده الأسنى ... متى تُنجز الأيام آمالَه الحسنى متى يشهد النور الجمالي ساطعًا ... حواليه في هاتيكم الروضة الغنّا متى يتراأي نورَ مكة يقظةً ... وقد حقق الرحمنُ آماله مَنّا متى نبهَرُ البيت الرفيعَ عمادُه ... فنغتنم القربى ونستلم الركنا ولابد أن نبتاع كتبًا شريفةً ... تكون لنا من جهلنا دائمًا حِصْنا فيا طالما اشتقنا إلى نيلها ولم ... نَزَل نتمنّى نيلها مُذْ تحقَّقْنا ومما يؤكد أن وجهته لم تكن محددة حين خروجه من بلدته تعليقٌ وجدناه بخط الشيخ جاء فيه: "إنه لما كان ليلة الخميس 8 شهر ربيع الأول ¬

_ (¬1) (ق 74).

سنة 337 (يعني وألف) ظهرت للحقير أمارات بلوغ خبري إلي الوالد الزاهد العابد حفظه الله ورضّاه عني ودعّاه بتوفيقي، وفقني الله لطاعته وبره وعصمني عن عقوقه مدةَ عمره آمين" (¬1). وقد يقدح في هذا ما ذكره القاضي العمودي في كتابه: "تحفة القارئ والسامع في اختصار تاريخ اللامع" (¬2) أن الإِمام الإدريسي أوْفَد الشيخ المعلمي إلى الشريف حسين بمكة سنة 1336 وأنه اجتمع به وقال قصيدة يمدحه بها ويكفّر فيها الأتراك. فتكون رحلة المعلمي إلى الزيارة فالحج لها غرض آخر غير طلب العلم والسياحة، ويكون فيها تكليف من الإدريسي. أقول هذا وعندي بعض التردد في كون هذه الواقعة حصلت في هذا العام 1336، فأني أخشى من تداخل بعض أخبار هذا التاريخ إما لتداخل أوراقه أو لخلل في الإلحاقات الكثيرة في حواشيه، وعلى كل حال فالأمر سهل أيضًا. وتسلسل الأمور يدل أن الشيخ ذهب للزيارة والحج ولقاء الشريف حسين (إن صحّ ما وقع في تاريخ العمودي)، ثم توجّه في أول سنة 1337 إلى الإدريسي. والإدريسيُّ وإن كان حاكمًا فهو أيضًا معدود في العلماء، وكان الشيخ المعلمي يعظمه ويجلّه ويخلع عليه لقب "الإِمام المجتهد"، فنزوله عليه للتلقي والطلب من أغراض رحلة الشيخ، فاستقرّ به المقام لدى الحضرة الإدريسية، ولم يكن سفره ولا استقراره لديه لأجل وظيفة أو جاه أو منصب. ¬

_ (¬1) مجموع رقم [4104]. (¬2) (2/ 379 - 380).

وقد وجدت ما يدل على تاريخ قدومه إلي الإدريسي، ففي أحد مجاميع الشيخ (¬1) ما نصه: "يقول العبد الحقير المقر بالتقصير .... عبد الرحمن بن يحيى بن علي المعلمي ... : إنه لما كان أواخر صفر الطف أحد شهور عام 337 (بعد الألف) تشرفت بالمثول بين يدي مولانا إمام العصر ... محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن إدريس الحسني أيَّده الله ... ". والذي أستنتجه من النظر في سياسة الإدريسي أنه كان يستقطب العلماء والكفاءات لغرض تثبيت إمارته وحشد الولاءات لها (¬2)، وكان الشيخ المعلمي من أولئك النفر الذين حَرَص الإدريسي على قدومهم عليه ووقوفهم بجانبه في إمارته الجديدة خاصة من علماء اليمن الذين يحتاج إلي خبرتهم وكسب ولاء مَن وراءهم ليكونوا عونًا له في حربه ضد الإِمام يحيى حميد الدين. لكنّ هذا التوجّه إلى العلم بدأت تُزاحمه بعض الأعمال التي أسندها إليه الإدريسي من القضاء ومراقبة القضاة والمكاتبات إلي المسؤولين خارج الدولة وداخلها. وفي ورقات بخط الشيخ (¬3) شرح فيها الأمر من قدومه إلي ¬

_ (¬1) مجموع [4707] ق 66. (¬2) انظر "تاريخ المخلاف السليماني": (2/ 842 - 843) فقد ذكر أن الوفود من الزعماء والعلماء والوجهاء ربما بلغ متوسط عددهم في اليوم الواحد مائتي شخص. وذكر الوشلي في "نشر الثناء الحسن": (4/ 205 - 206) جملة من العلماء الذين وفدوا على الإدريسي، وأنه تكفّل بكفايتهم في كل ما يحتاجونه من الأمور الدنيوية لهم ولعائلاتهم. (¬3) في المجموع رقم [4707] في أربع ورقات. وقد بدأ المؤلف هذه الوثيقة بالحمدلة، ثم قال:"أولًا: أريد أن تعلموا جميعًا أن غاية ما أقصده هو خدمة الدين، وخدمة هذه الدعوة الشريفة" ثم ذكر ثانيًا. وهو ما ذكرنا نصَّه.

الإدريسي حتى وفاته - وهي وثيقة مهمة تغني عن التحليل والتخمين - قال الشيخ: "أوضِّح لكم صورة استخدام سيدنا - المقدَّس سرّه - لي، فأولًا عقب وصولي كان مُنزِلًا لي منزلة العلماء للمذاكرة في حضرته الشريفة وتدريس الطلبة، ومكثتُ على ذلك مدةً كان في أثنائها ربما استعان بي في كتابة بعض المهمات؛ كجواب على عالم أو تعزية في رئيس أو نحو ذلك، وربما أحال إليَّ بعض المسائل القضائية المشكلة". وفي رسالة من المعلمي إلى القاضي عبد الله العمودي جاء فيها: "وأخوكم مشغول بالقراءة أولاً على سيدنا في "مسلم" مجلسين صباحًا إلى بعد الظهر، ومساء من بعد العصر إلى دخول المغرب، ومذاكرة نحن والشيخ محمد بن إسماعيل، ومذاكرة مع الطلبة على اختلاف دروسهم، ومسألة القضاء ... مع ما لا يستغني عنه الطالبُ من المطالعة". فهذا النص يبيّن برنامج الشيخ اليومي ومدى تفرُّغه لطلب العلم ونشره، وهذا البرنامج مضاف إليه "مسألة القضاء" التي كان الشيخ كارهًا لتولّيها فقد دعا بعد ما ذكرها بقوله: "نسأل الله تعالي أن يجعل لنا منها فرجًا ومخرجًا". ثم قال الشيخ في تلك الوثيقة: "ولم يزل الحالُ على نحو ذلك، حتى أرسلني إلي "رجال ألمع" (¬1)، وقد ¬

_ (¬1) محافظة "رجال ألمع" تقع في الجهة الغربية من منطقة عسير، على مسافة 45 كيلو مترًا من مدينة أبها. وقد أشار إلي هذا الإرسال إلى عسير القاضي العمودي في مختصر تاريخه "إتحاف القارئ" (2/ 398) قال: "من أجل الخلاف الذي صدر من عسير على أصحاب الملك ابن سعود".

حضر سيدي سيف الإِسلام - حفظه الله - كيف كان خطاب سيدنا - قُدِّس سرّه - لي في التوجُّه، فإنه كان ألطف خطابٍ على جهة العرض فقط. ثم بعد عودتي من "رجال ألمع" ودَخَل شهرُ رمضان، ففي رمضان رُفِعت إلى حضرته عدةُ قضايا، منها ما يتعلق بالقضاة، ومنها ما يتعلق بالنهي عن المنكر، ونبَّهتُه على إسراف القضاة في أخذ الرِّشا والنكالات، وقد وجدتُ بعض تلك الكتب في كتب سيدنا التي وضعها لديّ، وقد مُزّق منه شيء وهو موجود الآن لدي وهو بغاية الخسارة (¬1)، فكان ذلك من أسباب انتباهه للقضاة، ثم حَصَر القضاءَ أن يكون بالباب وعيّن الحقير والقاضي حسن عاكش، فراجعته: أنني لا أستطيع ذلك، فقال: أما الآن فتجشّمْ ذلك، لأننا لا نأمن على أحدٍ غيرك في براءة ذمتنا، وأصحابنا قد ألِفوا، وألِفوا، فأنت تكون بصفة الحارس المراقب، حتى يظهر لنا ثقة أحد منهم، أو يجيء الله برجل آخر، وكن على ثقة أننا لا نرضى عليك بدوام المشقة. فبقيتُ في المراقبة حتى ترخَّص القاضي حسن، وأبطأ في البيت (¬2)، فأمرني سيدنا - قُدّس سرّه - بلزوم مجلس القضاء حتى يهيئ الله تعالى. وقد قال لي قبل ذلك: يكون السيد علي (¬3) يحضر معكم حتى يتأهل للمركز إن شاء الله، فكان السيد علي يحضر معنا. وفي أثناء تلك المدة كان يستعين بي في بعض الكتابات المهمة ¬

_ (¬1) غير محرَّرة. (¬2) ترخّص: أي استأذن لأخذ إجازة. والبيت يراد به: الوطن أو بلد الشخص. (¬3) هو الابن الأكبر للإدريسي، وقد تولي الإمارة بعد موت أبيه سنة 1341 وعمره دون العشرين عامًا. انظر "تاريخ المخلاف السليماني": (2/ 850).

الذي (¬1) يجب كتمانها، إلى أن وقع السفر إلى جهة اليمن لفتح الحديدة، وعند وصولنا "حبل" (¬2) كان الشيخ محمد إسماعيل الهِتَاري قد تقدّمت منه أشياء، ويومئذ قدّم لسيدنا كتاب (¬3) يعاتبه من خصوص عدم حمله في المُوْتَر (¬4)، فعدّد سيدنا الذين كانوا في الموتر، وأنهم جميعهم لا يمكن ترك أحد منهم، وعدَّ الحقيرَ، فقال: وفلان باذلٌ نفسَه للمساعدة، وأما محمد إسماعيل فما يقدر على كتابة كتاب واحد، فقال الشيخ يحيى: حتى إنه يكتب لنا، فخاصمه سيدنا - قدّس سرّه - في ذلك، وقال: والله ما أستصحبه أنا بصفة كاتب، إنما أستصحبه لمذاكرة علمية، أو مسألة قضائية، أو كتابة سرّية، ولكن إذا وصلنا مكانًا، ودار الأمر بيني وبينه في الكتابة تحمَّلها هو. ثم خاصمني في تكلّف مساعدة الإخوان بالكتابة، وبيَّن لهم أن منزلتي فوق ذلك، حتى قال: إن علمه أنفع من علم محمد إسماعيل؛ لأنه أخذ العلم بصفاء، وسيف الإِسلام والشريف حمود والشيخ يحيى حاضرون حتى رتّب الهِبَة، وكان "كامل" يصدر التحارير، ويجعل العلامات: خُدّام الإدريسي، خُدَّام الإدريسي، والحقير يُمْضي معهم، فأمرَه سيدُنا - قدّس سرّه - أن يجعل علامة الحقير: "نائب الشرع الشريف" بدل "خدام الإدريسي" مع أن الخدمة هي أشرف شيء. ثم جعل لنا درسًا لديه في الفقه، فكان بعد تمام الدرس يأمر جميع الحاضرين أن يَصِلوا إلي الحقير لأعيد لهم الدرس وأفهّمهم، ثم ¬

_ (¬1) كذا، والصواب: التي. (¬2) لعلها اسم منطقة هناك. (¬3) كذا، والوجه: كتابًا. (¬4) أي: السيارة.

استقام السيد عليّ بالقضاء وأخذتُ أسُلّ نفسي منه. ولما كان رمضان عام 1340هـ, وصام في "صَبيا" (¬1) مع ذلك [لحرّ] الشديد وهو تعبان إلي الغاية، وكان "كامل" والشيخ محمد غائبين، وكذلك الشريف حمود، فكان يحيل علَيَّ الكتب، ثم توجّهنا إلي جيزان، فذكر لي أن الضرورة دعت لتوجُّهي إلي "رجال ألمع"، فتوجّهت فنزلوا "الجبالية" وحصلت الأزمة في العمل، وهو بشدّة التعب بعد حرارة الصيام في صبيا، ولم يحمد سيدنا - قدّس سرّه - مساعدة "كامل"؛ لأنه كان قد نجم عليه المرض (¬2)، وكان يتحسّر ويتندّم على إرسالي. ثم رجعتُ من "رجال ألمع" وهو مريض، فكانت أقلّ مراجعةٍ أو سؤال أو شغل يشقّ عليه جدًّا، فحينئذٍ تولي الحقير أكثر المخاطبة مع مندوب ابن سعود، ثم توليتُ أكثر المراجعة مع سيدنا - قدّس سرّه - للتبصُّر والتلطّف في إدخال السرور عليه وعدم المشقة، وأمَرَ حينئذ أن تكون الكتب عمومًا ترِدُ إلي الحقير حتى أقرأها، وأتلطّف في عرض مضمونها عليه، ففزت في خدمته بذلك والحمد لله، حتى أفاق من المرض، فكانت الكتب على عادتها تصِلُ إليَّ وأعرض عليه مضمونها، فكان حينئذ يطلب بعض الكتب لقراءتها نصًّا، وكان الإخوان ربما أحالوا عليَّ بعض الأشغال، فيخاصم في ذلك ويقول: لا يمكنه تحمّل الأمور جميعها، فقط مع مرضي هو يتحمل أشغالي التي لا يقوم [بها] ¬

_ (¬1) محافظة صبيا في منطقة جازان إلى الشمال منها وتبعد عن مدينة جازان نحو 37 كيلو مترًا. (¬2) يعني زاد.

أحدٌ غيري، وإذا حمّلتموه ما لا يطيق ما تقوموا يوم (¬1) إلاَّ وقد شَرَد، ولا عيب عليه ولا حجة مني إليه إذا شرد؛ فإني أنا لو حَمَلْتها بدون مساعدٍ شردت وتركتها. وربما تعرّضت أنا في بعض الأشغال فيخاصمني، ويقول لي: ما لَكَ قدرة على تحمّل الأمور كلها، وهؤلاء إخواننا لو لقوا مَن يتحمل عنهم أشغال بيوتهم رموها على ظهره ورقدوا والحال على ذلك. وفي أثناء مدة القضاء فما بعدها لا أزال أقدّم له الاستعفاء من ذلك لأتفرغ لخدمة العلم، فيعِدُني أنه سيُحضِر مساعدين في الخدمة، ويسمح لي بذلك، حتى إني عرضت إلى سيدي الحسن (¬2) أستشيره، لعله في ربيع سنة 1341، وكان قصدي حينئذ الشَّرْدَة، فصبَّرني سيدي الحسن وسلّاني. ثم في "صبيا" قبل موت سيدنا - قدّس سرّه - بمدة يسيرة رفعتُ له ورقة طلب الإذن إلى مصر أو السودان، للتفرُّغ لطلب العلم، فبقي تلك الأيام يَعِظُنا معشرَ الإخوان موعظةً عمومية، ويحضّنا على الثبات، فقدمتُ له ورقة أني تُبت من ذلك، ولكن على أن يَعِدَني أنه يسعى في حصول مَن يكفيني العمل، وأبقى بحضرته لخدمة العلم فقط، فقال: هذا هو عزمنا بدون طلبك، لأني أعرف قدر المشقة التي عليك بالاشتغال عن العلم، وإن شاء الله تعالى تبلغ المراد. ثم قضى الله تعالى بوفاته". فهذا حال الشيخ وكيف تدرّجت به الأمور من حين مقدمه إلي وفاة ¬

_ (¬1) كذا، يعني: لا تنتبهون أو لا تستيقظون. (¬2) الحسن بن علي الإدريسي أخو الإمام محمد بن علي. انظر "تاريخ المخلاف السليماني": (2/ 900 فما بعدها).

الإدريسي، وهذا التفصيل يكشف لنا الهدف الرئيس من رحلة الشيخ إلى الإدريسي وأنه لم يكن قادمًا طمعًا في منصب ولا جاه ولا رئاسة، بل هدفه خدمة العلم والترقي في منازله، والإعانة على نشره. كانت مدة بقاء الشيخ لدى الإدريسي خمس سنوات من سنة 1337 إلى سنة 1341، وهذه المدة مع قِصَرها كانت حافلةً بالعلم والعمل والأحداث، فقد تولي الشيخ خلالها أعمالًا علمية من تدريس ومذاكرة وتأليف، وأعمالًا تتعلق بالحكم والسياسة والنظر في شؤون الدولة وكتابة الإنشاء، وأعمالًا تتعلق بالقضاء وفصل الخصومات، إضافة إلى الخطابة في الجُمع والأعياد، والتهنئة بالفتوحات والانتصارات. وقد وقفنا في أوراق الشيخ ومجاميعه على وثائق متعددة تتعلق بهذه الجوانب جميعًا، ومن ذلك ما أنشده مهنئًا الإدريسي بفتح مدينة اللُّحيَّة (¬1): باب الفتوح بإسم القاهر انفتحا ... وطائر النصر في دوح العلا صدحا وكوكب السعد في برج الفلاح بدا ... فلاح نور كنور البدر متضحا وأصبح الدين مسرورًا بعزّته (¬2) ... لما غدا قلبه نشوان منشرحا قد قلت للأرض مِيْدي (¬3) نشوةً ولقد ... بفوزك اهتزت السبع العلا مرحا هذي "اللُّحيَّة" لَحْييْهَا قَبَضْتَ فثق ... بالنصر حتمًا وخالف من نهى ولحا ¬

_ (¬1) انظر "تحفة القارئ والسامع": (2/ 398 - 400) للقاضي العمودي، و"تاريخ المخلاف السليماني": (2/ 848 - 849) للعقيلي. (¬2) في "تاريخ المخلاف": "بغرته". (¬3) في "تاريخ المخلاف": "تِيهي".

إن الفتوح إما (¬1) كان أولها ... تتابعت مثلما قد ينظم السبحا بشراك فالله قد أعلى يديك على ... أيدي العباد وقد أعطى وقد منحا فالحق أرفع من أن يُعتلى فأدِمْ ... نشر الجهاد فإن الله قد سمحا واستخلص المخلصين التابعين من الـ ... أنصار (¬2) واطرد كذوبًا خان (¬3) وافتضحا دع "حاشدًا" (¬4) إنهم خانوا ولو جهدوا ... فإنهم (سمك) في (مائه) نزحا أما "بكيل" (4) فلولا أنهم مكروا ... قاموا بعزم ولكن قلَّ من نصحا وإن ربيَ عنهم حاز نصرته ... إذ ليس يوجد فيهم غير من طلحا وكيف يبذل كل الجد رافضة ... لا تحسب الحق إلا كلَّ ما قبحا لكنَّ في جذبهم لا شك مصلحةً ... وأخذ أبنائهم حزما قد اتضحا يا أيها الناس هذا بين أظهركم ... مقدَّم الكون بدر التمِّ شمس ضحى يدعو إلى الله إخلاصًا بملته ... بل امتثالًا لأمر الحق إذ نفحا يا طالما كانت الأكوان تنظره ... حتى إذا قام أجلى من جلا اطرحا (¬5) موّهتم الزور في تكذيب دعوته ... تبتْ يدا كل من في شأنه قدحا لما رأيتم كنوز الأرض قد فتحت (¬6) ... له تأول قوم في الذي فتحا قلتم أعانته أحزاب الضلال نعم ... نعم أعانوه خوفًا منه إذْ سنحا ¬

_ (¬1) في "تاريخ المخلاف": "إذا ما". (¬2) في "تاريخ المخلاف": "لأنصار". (¬3) في "تاريخ المخلاف": "خاف". (¬4) "حاشد" و"بكيل" القبيلتان المعروفتان في اليمن. (¬5) هذا البيت ليس في "تاريخ المخلاف". (¬6) في "تاريخ المخلاف": "منحت"، وسقطت كلمة "كنوز" من "التحفة".

الله أنزل رعبًا في قلوبهمُ ... إذْ شاهدوا أسدًا كالبدر قد وضحا فأصبحوا يبذلون المال لا طمعًا ... يدري بذا كل من نحو الهدى جنحا وكيف يطمعهم بيض الأنوق وهم ... مميزون ولكن جلَّ من منحا هذا الإِمام الذي فاضت أنامله ... جودًا عميمًا كموج البحر ما برحا هذا هو الكف والناس الجميع عصا ... هذا هو القطب والكون البديع رحا أقامه الله روحًا للعباد كما ... قلوبهم ردها المولى له شبحا وقد نطقتُ بحق سوف ينكره ... قوم يقولون هذا المعتدي شطحا والله يعلم أني لم أقل كذبًا ... فقبَّح الله من في كذبه سبحا هذا جواب عليهم قبل قولهمُ ... لا فاز أكذبنا (¬1) قولا ولا برحا ودام للصادق الخيرُ الجزيل ولا ... عَدَتْه أيدي الندى أنَّى أتى ونحا فلا برحتَ بخير والصلاةُ على ... محمد وسلام الله لا برحا والآل والصحب والتُّبّاع قاطبةً ... لا زال يُتلى عليكم بكرةً وضحى (¬2) وكما كان الشيخ معظّمًا للإدريسي، فقد كان الإدريسي أيضًا معظِّمًا للشيخ مجلًّا له، بحيث ولاَّه رئاسة القضاء وهو دون الثلاثين، وفوّضه الرد على مكاتبات الرؤساء والملوك، ولقبّه بشيخ الإِسلام، وأذن له بالدخول عليه في آية ساعة يشاء بدون إذن من رئيس الحرس، حتى صار من كبار رجال الدولة وأقرب مستشاري الإدريسي. هذه العلاقة القوية ربما أوغرت بعض الصدور على الشيخ، فلم يسلم ¬

_ (¬1) في "تاريخ المخلاف": "كذابنا". (¬2) الأبيات الثلاثة الأخيرة ليست في "تاريخ المخلاف".

* الانتقال إلى عدن

من حسد الأقران أو منازعة بعض المقربين، والناظر في رسائل القاضي عبد الله العمودي إليه سيقف على بعض ذلك. * الانتقال إلى عدن: بقي الشيخ على هذه الحال إلى حين وفاة السيد الإدريسي في الثالث من شعبان من عام 1341، فتولى بعده ابنه الأكبر السيد علي بن محمد وكان عمره دون العشرين، بعد أن وقع نزاع على السلطة بينه وبين عمه الحسن انتهى باستقرار الإمارة في يد علي بن محمد الإدريسي، إلا أن هذا الأمير الشاب لم يَسِر سيرةَ أبيه في الحكم من الحنكة والتدبير والاعتماد على رجال الدولة، وذوي العلم والخبرة، فعزم أن يبعد كبار المسؤولين أيام إمرة أبيه. وكان حقه أن يستفيد منهم ويعتمد عليهم كما كان يفعل أبوه. وربما اجتمع مع عدم الحنكة ما رآه من وقوف جماعة منهم مع عمه الحسن وقت النزاع بينهما في تولي الإمارة، فأراد أن ينتقم منهم بمشورةِ ومساعدةِ أعوانه الجدد. وحين رأى الشيخ هذه الأمور مجتمعة وتغوُّلَ بعضِ أولئك المستشارين الجدد، كتب أوراقًا (¬1) يحكي فيها خبرَه من أيام مقدمه على الإدريسي وكيف كان تعامله معه حتى وفاته، ثم في آخرها يشرح مراده من المجيء إلى الحضرة الإدريسية وما يأمله الآن من المكوث لدى الأدارسة، وأنه بعيد كل البعد عن الاهتمام بالوظائف التي كان يشغلها أيام الإدريسي الأب، وأنه غير طامع في بقائها، بل رغبته العظيمة وأمنيته المرجوّة هي ¬

_ (¬1) وقد سقنا أكثرها فيما مضى.

التفرّغ للعلم. قال في وثيقته تلك: "والآن أرى أن تفرُّغي للعلم واجب. أولاً: أن سيدنا - قدّس سرّه - كان يعدُني بذلك. ثانيًا: أن مشرب سيدنا في علم الظاهر لم يعرفه أحد ذوقًا وتحقُّقًا مثلي، فأريد أن تكون مذاكرتي للطلبة ممزوجة به، حتى تخالط بشاشته قلوبهم وينشؤوا عليه، وأيضًا أنا بنفسي أرى ما عندي. ثالثًا: أن الطلبة الشافعية ضائعون بلا شيخ، وقد تعب عليهم سيدنا - قدّس سرّه - تعبًا شديدًا، فلا يضيعوا. رابعًا: أني كما سأذاكرهم في الأحكام سأذاكرهم في الأخلاق كالزهد ونحوه، حتى ينشؤوا عليه. خامسًا: أنه يجب أن يُنظر إليَّ الآن بنظرٍ فوق ما كان يُنظر إليَّ في حياة سيدنا - قدّس سرّه -، لأني كنتُ في حياته مغمورًا بالحقوق التي له ولا حقّ لي، وأما الآن فالحقوق التي لي كثيرة، وقصدي من هذا أنه ينبغي إجابة طلبي. سادسًا: من المعلوم أن الخدمة بغير العلم، هي بكُرْهٍ منّي ومشقّة عليّ، فلا آمن على نفسي أن أقصّر فيها. سابعًا: أني ليس قصدي من ترك الخدمة الراحة والبطالة، وإنما هو الانتقال من مهمّ إلى أهمّ، فإن الدعوة من المعلوم أنها مبنية على علم وعمل، فكيف نقوم بإحياء العمل وترك العلم. والقيامُ بخدمةِ العلم وخصوصًا على الصفة المشروحة هو أعظم خدمة للدعوة، بل هو الشطر المهم فيها.

وبَقِيَت بعد هذا وجوهٌ أخرى، وفي هذا كفاية إن شاء الله تعالى". لكن يبدو أن الغلبة كانت لمن أشار إلي الإدريسي الابن، إذ قرر التخلّص من كبار مستشاري أبيه وأعوانه بمكيدة مدبّرة لإخراجهم من عاصمة الحكم إلى عدن، قال القاضي عبد الله العمودي: "ففي شهر ربيع الأول من سنة 1342 أجلى أهل مجلسه ومشورته من رجال دولته، فطلبهم الإِمام المذكور إلي مجلسه، وأوهمهم بأن يتوجّهوا إلى الحديدة لأجل النظر في الصلاحية، وقد أعطى أمرًا إلى واليه بالحديدة عبد المطلب في نفيهم وإدخالهم البحر إلى عدن، فتمّ له ذلك ... " وذكر منهم القاضي العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي العتمي. قال: "نعم، ولم يكن مقتضى لبقائهم إلا أوهام ومشورة الأحداث من أهل مجلسه الطَّغام، حتى إن جريدة صنعاء أشارت إلي هذه الحادثة باللوم، والفضل ما شهدت به الأعداء" (¬1). وهذه المكيدة المفاجئة لم تُمَكِّن الشيخ من أخذ شيء من كتبه وأوراقه وباقي أغراضه، وإنما طلبها من تلك الجهة بعد ما استقرّ في الهند، كما في كتاب منه إلى الشيخ محمد نصيف مؤرخ في ذي القعدة سنة 1355. لم يطل مكث الشيخ في عدن، إذ لم يبق فيها إلا نحو سنتين أو أقل، اشتغل فيها بالتدريس والوعظ والتأليف، فقد ألّف في هذه الفترة رسالته في "الوتر"، و"الرد على حسن الضالعي"، وانتقل في أثناء ذلك إلي مدينة "زنجبار" (¬2) وهي مدينة بالقرب من عدن. ¬

_ (¬1) "إمارة السيد الإدريسي" (ص 69 - 71) للقاضي العمودي. وانظر نحوه في "نشر الثناء الحسن": (4/ 224). (¬2) ففي المجموع رقم [4657] ذكر فائدة ثم قال: "أفدته بزنجبار".

والظاهر أن الحال لم يكن مطمئنًا للشيخ فمكيدة الإدريسي تمنعه من العودة إلى المخلاف السليماني، وترصّد الإِمام يحيى حميد الدين يمنعه من العودة إلى بلده عُتمة أو إلى مناطق اليمن الخاضعة لنفوذ الإِمام، فلم يجد أمامه إلا التفكير في السفر بعيدًا. مع أنه قد عاد جماعة ممن سَفَّرهم ابن الإدريسي إلي بلدانهم، وخضعوا لإمرة الإِمام يحيى حميد الدين وذلك نحو سنة 1343. وقد ذكرهم الوشلي بأسمائهم في "نشر الثناء الحسن": (4/ 226). لكن توقع الشيخ المعلمي كان مختلفًا لقوّة صلته بالإدريسي، ولأجل قصائده التي كان ينشئها في ذم الإِمام يحيى وحكم الزيدية، وكان يتألم منها الإِمام يحيى أشدّ الألم (¬1)، ومما يعضد هذا ما ذكره الشيخ عبد الرحمن بن عبد القادر المعلمي (ابن أخت الشيخ المعلمي) قال - مبديًا السبب في عدم عودة الشيخ المعلمي إلى اليمن -: "إن الإِمام يحيى قد امتدت يده القاسية إلى إنزال عقاب شديد، وهو سجن أشخاص من بيت المعلّمي ليس لهم صلة بحكم الإدريسي، وقد حبسهم الإِمام يحيى بسبب تهمة واهية أوهى من بيت العنكبوت، قال: أعرف الفقيه العلامة أحمد بن محمد المعلمي وهو في أخريات حياته، وهو والد زوجتي رحمه الله، وقد حكى قصة سَجْنه من قِبَل الإِمام يحيى في أيام طلبه العلم هو ووالده محمد وأخواه: عبد الله بن محمد المعلمي، وعبد الكريم بن محمد المعلمي، أنه ذهب إلى مدينة زبيد لطلب العلم، ومكث فيها مدة سبع سنوات، وفي نهاية فترة دراسته قوي عزمه على السفر لأداء فريضة الحج، فسافر من زبيد على أمل العودة إلى قريته في ناحية عُتمة، فسافر لأداء فريضة الحج، ومر عند عودته بالبلاد التي ¬

_ (¬1) نقله عبد الله الحكمي عن الشيخ المعلمي.

* الانتقال إلى إندونيسيا

كان فيها حكم الإدريسي مارًّا بها وعاد إلى قريته، وما فتئ يستقر في قريته حتى هجم عليه عساكر الإِمام يحيى حميد الدين واعتقلوه هو ووالده وأخويه، وذهبوا بهم الأربعة إلي صنعاء مشيًا على الأقدام على مسافة أربعة أيام أو خمسة، وأودعهم الإِمام في السجن أشهرًا. كل هذا العقاب الشديد والقاسي والترويع لأن هذا الفقيه رحمه الله مرَّ عند عودته من سفر الحج بالأماكن التي كان يحكمها الإدريسي، وبعد إطلاقهم من السجن لم يلبث والدهم إلا أيامًا يسيرة حتى توفاه الله، رحمه الله. فأنت ترى ماذا حصل لهذا الطالب ووالده وأخويه من عِقاب من الإِمام يحيى حميد الدين بدون ذنب اقترفوه، فكيف لو كان هذا الفقيه البريء ممن ناصر الإدريسي، أو اتصل به، أو شارك معه في الحكم؟! ماذا سيصنع معه الإِمام يحيى حميد الدين؟ " (¬1) اهـ. * الانتقال إلى إندونيسيا: ويبدو لي أن مكث الشيخ في عدن قد عرّفه إلى جماعة من أهل الفضل والتجار هناك ممن لهم علاقة بإندونيسيا، فارتحل الشيخ إلى هناك في عام 1344 وبقي بها مدة من الزمن يسيرة لا تزيد على عام واحد، والشيخ على دأبه أينما حلّ وارتحل لا ينقطع عن العلم والاشتغال به، ففي هذه المدة في إندونيسيا في مدينة سواربايا ألَّف الشيخ كتابه "تحقيق الكلام في المسائل الثلاث" (¬2) ¬

_ (¬1) من أوراق بخطه لديّ نسخة منها. (¬2) هذه التسمية منا كما شرحناه في مقدمة تحقيقه وهو يمثل المجلد الرابع من هذه الموسوعة.

2) الرحلة إلى الهند (1345 - 1371)

وذلك أن الشيخ أحمد السوركتي (ت 1364) ألَّف رسالة صغيرة سماها "المسائل الثلاث" ضمنها الكلام على الاجتهاد والتقليد والكلام على بعض مسائل في السنة والبدعة والعقيدة، فجاء أحدهم بهذه الرسالة إلي الشيخ وطلب منه رأيه في مؤلفها وفيما ذكره، وسأله أن يكتب عن هذه المسائل فأجاب الشيخ على سؤال هذا السائل بهذا الكتاب الكبير. وقد ألَّف الشيخ هذا الكتاب سنة 1344 أي وعمره اثنان وثلاثون عامًا، وهذا يدل دلالة واضحة على قوّته العلمية، ونزوعه إلي الاجتهاد واتباع الدليل في وقت مبكر إذا اعتبرنا أن الفترة التي قضاها عند الإدريسي ومن قبلها أيام مكثه في بلده اليمن كان فيها متقيدًا بالمذهب الشافعي، وهذا حديث يحتاج إلى بسط وتفصيل ليس هذا موضعه. 2) الرحلة إلى الهند (1345 - 1371) لم يطل مكث الشيخ المعلمي في إندونيسيا، فرحل إلى الهند أواخر سنة 1344 أو أوائل التي تليها؛ لأنه من المؤكد أنه وصل الهند سنة 1345 وبدأ في هذه السنة عمله في دائرة المعارف العثمانية في حيدراباد الدكن. وقد يتبادر إلى الذهن سؤال: هل كانت وجهة الشيخ من عدن إلى الهند وكانت إندونيسيا مجرد محطة عبور، أم كانت الوجهة إلي إندونيسيا ثم أنشأ رحلة أخرى إلى الهند؟ هذا ما لم نجد ما يحدّده لنا من خلال ما وقفنا عليه من تراثه، لكن الذي يترجح لي أن الشيخ رحل إلى إندونيسيا قاصدًا لها لا مارًّا بها؛ لأن إندونيسيا أبعد من الهند وليست محطة في الطريق إليها. الأمر الثاني: لم يتعرض الشيخ ولا مترجموه لذكر هذه الرحلة فكأنّ الشيخ قد أسقطها من الذكر لقِصَر مدتها فلم تمثل له محطةً تستحق الوقوف عندها، والله أعلم.

وبهذه الرحلة الهندية انتقل الشيخ إلى عالم جديد عليه من حيث الثقافة والعادات، وانفتح على علوم جديدة لم يكن لها من الذيوع والانتشار كما في الهند، كعلم الحديث والرجال. وبانتقاله إلي دائرة المعارف العثمانية للعمل في تحقيق أُمَّات كتب الحديث والرجال واللغة والأدب وغيرها يكون الشيخ قد انتقل إلى عمل جديد لم يمارسه من قبل ولا كان معروفًا في البيئة التي عاش فيها في اليمن ولا عند الإدريسي، فهي تجربة جديدة بحق. تمكَّن الشيخ بفضل الله ثم بفضل مواهبه المتعددة وعلومه المتنوّعة وذكائه المفرط من إتقان هذه الصنعة في أقرب وقت، بل صار هو العَلَم المشار إليه في الدائرة في تصحيح الكتب وحلّ مشكلات التحقيق خاصة فيما يتعلق بكتب الحديث والرجال. ولا شك أن هذه الرحلة نفعت الشيخ في أمرين مهمين، الأول: التفرّغ التامّ للعلم والانقطاع له قراءة وطلبًا، وتأليفًا وتحقيقًا، الثاني: العناية بعلم الحديث رواية ودراية. وقد التفت في وقت مبكر من قدومه الهند إلي طلب الإجازة من بعض العلماء المسندين، فقد استجاز من الشيخ محمد عبد القدير الصديقي (1288 - 1381) فأجازه في الثالث عشر من ذي القعدة سنة 1346، ووصفه فيها "بالأخ الفاضل العالم العامل الشيخ" (¬1)، وغير بعيد أنه أخذ عن غيره مع توافر العلماء المسندين وسهولة الأخذ عنهم، لكن لم يصلنا شيء نستند إليه لإثبات ذلك. مكث الشيخ في الهند موظفًا في دائرة المعارف العثمانية خمسة وعشرين ¬

_ (¬1) سيأتي شيء من نص الإجازة في مبحث ثناء العلماء عليه.

الناحية الأولى: حياته الاجتماعية

عامًا من سنة 1345 إلى سنة 1371، وهي أطول محطة في رحلات الشيخ وتنقلاته، فإنه مكث في اليمن أربعة وعشرين عامًا وعند الإدريسي خمسة أعوام، وفي مكة ستة عشر عامًا، فبقاؤه في الهند هو الأطول مدة، ويمكن أن نجعل الكلام في هذه المرحلة من حياة الشيخ في ناحيتين: الناحية الأولى: حياته الاجتماعية وهذه الناحية كانت غائبة عنا حتى عثرنا على مجموعة من الرسائل الخاصة التي أرسلها الشيخ إلى أخيه أحمد في إندونيسيا وهي سبع عشرة رسالة، سبع رسائل منها وقت إقامته بالهند، وقد كشفت لنا هذه الرسائل عدة أمور: 1 - اهتمامه البالغ بأقاربه وأهله بالسؤال الدائم عنهم، ومساعدتهم بإرسال المال لهم. 2 - تزوج الشيخ في الهند بعد عدة سنوات من مقدمه، لعله قبيل سنة 1350. 3 - ولد له ابنه الوحيد عبد الله في السادس من ربيع الثاني سنة 1351، وكتب تاريخ ولادته في بعض مجاميعه ودعا له بالبركة والخير، وقد سقنا الدعاء بكامله في مبحث أسرة الشيخ. وفي وصية للشيخ (¬1) وهو في الهند: أوصى إلى الشيخ إبراهيم رشيد (¬2) ¬

_ (¬1) "الخطب والوصايا" (ص 242 - 243). (¬2) كتب أخي الدكتور محمد أجمل إلى الشيخ السيد محمد أثر الحيدرابادي يسأله عن (إبراهيم رشيد)، فأفاد بأنه من العرب، وكان خطيبًا في بورما ثم قدم إلي حيدراباد، وتولى الخطابة في الجامع الكبير المسمى (مكة مسجد) وكان صوته جهوريًّا. اهـ.

أن يحتاط لولده (عبد الله) ويجتهد في تربيته تربيةً صالحة، ويمنعه من الاختلاط بالأطفال السفهاء، وينفق عليه وعلى أمه ... إلي آخر الوصية. 4 - في رسالة مؤرخة في 1353 قال: "حالي بحمد الله تعالى حسنة، كفاف المعيشة، وهذه الأيام التقلبات كثيرة"، وفي رسالة أخرى في العام نفسه ذكر أنه قانع بما يتحصّل من المطبعة؛ قال: "لأنّ خدمتي فيها موافقة لهواي". ولعل هذه من الميزات التي خفّفت عن الشيخ طول البقاء في الهند والصبر على المعاناة التي شرحها في عدة رسائل. 5 - ذكر في رسالته السالفة أنه ليس مطمئن البال من الإقامة في الهند، ولكنها تمشية وقت، مع وثوقه بأن الإقامة هنا أصلح له من غيرها. 6 - كتب الشيخ سنة 1356 رسالة طويلة مؤثّرة إلى أخيه أحمد يبث له فيها أحاسيسه وما يجده من مشاعر ألم وعدم ارتياح نفسيّ، مع أنه قد استقر في الدائرة وتزوج ورُزق بابنه عبد الله، إلا أن طبيعة الحياة هناك لم تلائم الشيخ، فهو يشرح في هذه الرسالة ما عبّر عنه في رسالة سالفة أنه إنما يبقى في الهند "تمشيةَ وقتٍ ولأن الإقامة هنا أصلح من غيرها". ولندع الكلام له ليبثّ ما يجول في نفسه قال: "الانقباض والرغبة عن المزاورة يزداد تمكّنًا، فإن ههنا أناسًا تقضي عليّ المصلحةُ بكثرة زيارتهم، ولكن نفسي تغلبني فأدع ذلك، حتى إني لا أكاد أتعمّد زيارتهم ولو يوم العيد، وفي مقابل ذلك أكره أن يتعمّد أحدٌ زيارتي ولو يوم العيد". ثم قال: "قد ضاق صدري من الإقامة هنا وأحبّ أن أخرج شهرًا أو

شهرين أنفخ" (¬1). قال: "وأما الوَحْدة فإني أشدّ منك فيها، والله ما أعلم إنسانًا هنا يؤنِسُني الاجتماعُ به إلا واحدًا هو الشيخ أحمد العبادي (¬2)، ومع ذلك فلا أكاد أجتمع به في السنة ثلاث مرات، وليس هو كما أحب من كل جهة. أما بقية الناس فإن اجتماعي بهم يكدِّرني ويغمّني. أما الفُرجة والنزهة فلا حظَّ إلي فيها؛ لأن معظم شروطها الإخوان وأين هم؟! ولهذه الأمور شَمِطَت لحيتي، وضاقت جدًّا طبيعتي، وصرت كما قيل: عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى ... وصوَّت إنسان فكِدتُ أطيرُ وبالجملة، فحياتي ههنا تعيسة بئيسة والحمد لله على كل حال، فإن نِعَمه سبحانه وتعالى عليّ وعلى خلقه لا تحصى، ومن أعظم ذلك أنني بحمد الله تعالى لا أحتاج إلى أحدٍ من الناس، وأني رُزِقت شيئًا من اللّذة في الكتب .... وأقسم بالله تعالى لولا أن عندي شيئًا من العلم أرجو أن ييسر الله تعالى نشره، وأن طاعتي لله عَزَّ وَجَلَّ حقيرة، أرجو إن طالت بي حياة أن ييسر الله تعالى لي خيرًا منها، لكان الموت أحبَّ إليّ من الحياة، بل لكان الموت هو المحبوب والحياة مكروهة، هذا معتقدي الآن ولا أدري ما يحدثُ بعد، والسلام". 7 - أما ما يتعلق بما كان يتقاضاه من رواتب شهرية وكيف كان يصرفها ¬

_ (¬1) "أنفخ" تعبير دارج لأهل اليمن، يعنون به الخروج للترويح عن النفس. (¬2) لم أقف على ترجمته.

وما يدخره منها فيقول في رسالة لأخيه سنة 1356: "أما ما ذكرته من النقود الموفَّرة، فإني منذ مدَّة أحرص على التوفير وإلى الآن لم يمكني أكثر من ثلاثمائة وسبعة وخمسين ربية، مع أني مشهور هنا بالبخل! ... أصرف في كل شهر نحو مائة وثلاثين رُبّية مع الاقتصاد". قلت: وكأن أخاه ألحّ عليه في إرسال شيء من المال فاضطر الشيخ أن يذكر له تفاصيل الحال في النفقة والظروف المحيطة فقال في رسالة مؤرخة في 12 رمضان 1366: "فأنا الآن أبوح إليك بالحقيقة، معاشي الذي أتقاضاه شهريًّا لا يفضل عن مصاريفي بعد محاولة الاقتصاد؛ لأن أثمان الأشياء ارتفعت جدًّا تتراوح ما بين خمسة أضعاف إلى ما فوقها لا يُستثنى من هذا شيء، حتى التراب الأحمر وهو من تراب هذه الأرض لا يُجْلَب إليها من الخارج ولا ينقل منها إلى الخارج ... ". 8 - لم تكن الأوضاع في الهند مستقرّة بل تعرضت لهزّات سياسية وقتال، ويبدو أن أخاه كان يستشيره في التحول من إندونيسيا إلى الهند فكتب إليه يقول: "الأمور هنا مضطربة وتؤذن بانفجار شديد تصير به هذه البلدة مثل جهتكم أو أشد خطرًا، ومن القواعد الفقهية: الضرر لا يزال بالضرر". ثم فصّل الأمر أكثر فقال: "باكستان انضمَّ إلي أهلها مثلهم أو أكثر فضاقت سُبُل المعيشة إلا على من بيده رأس مال وافر، وبقية الجهات كذلك أو أشدّ، فلا تحدّث نفسك بالخروج عن تلك الجهة، فإنه كما قيل: "كالمستجير من الرمضاء بالنار". وقال: "الأحوال هنا من عدة سنين متضايقة، وهي الآن كذلك، والأمور

السياسية مضطربة جدًّا لا يُدرى عما تتمخض، واستقراري الآن متزلزل لا أدري لعلي أضطر إلي التحول، وما لم يطمئن البال بالاستقرار لا أقدر أشير عليك بشيء". ومع كل ما سبق نجد الشيخ يكرر لأخيه مرارًا أنه في خير وعافية قال: "ولا تظن أنني مضطرب أو منزعج أو مشوَّش، بل أنا بحمد الله عز وجل في خير ولكن الأحوال نفسها مضطربة ومشوشة". 9 - وقد تكلم أيضًا عن دائرة المعارف والأوضاع التي تمر بها وذلك سنة 1356 وهو وقت مبكّر نسبيًّا لالتحاقه بها قال: "دائرة المعارف هذه الأيام في مهبّ الريح، قد أخرجوا اثنين من مصححيها القدماء ممن لهم صِلات وروابط بأهل الحلِّ والعقد، فأما أنا فليس لي شفيع (¬1) إلا لياقتي (¬2)، وهي في هذا الزمان وهذا المكان أضعف الشفعاء". 10 - يبدو أن الشيخ أخذ يفكر ويعمل على الانتقال من حيدراباد الدكن قبل مدة من تحقق سفره، ففي رسالة له مؤرّخة في 22 رمضان 1369 ذكر فيها أنه يعد العدة للسفر قبل ثلاثة أعوام من هذا التاريخ أي من سنة 1366 (¬3) قال: "موجب الكتابة أنني كنت منذ ثلاث سنوات [تقريبًا] أتوقع السفر عن قرب فاحتجت إلى الاقتصاد من المعاش لأجل مصاريف السفر، وتبيّن لي الآن أنه لا يمكنني السفر إلى سنتين أو أكثر". ¬

_ (¬1) (ي): "شفاعة". (¬2) أي أهليتي للعمل وتمكني منه. (¬3) بل قال في رسالة مؤرخة في 1356: "ولعلي أضطر إلي التحوّل".

فهاجس التحوّل لم يزل ملازمًا للشيخ بسبب الاضطرابات السياسية وغلاء المعيشة، وعدم الراحة النفسية، وتوفّر الظروف في البلدان التي كان يخشى أن يتحوّل إليها، وقد كان الشيخ يُرَغَّب في التحوّل إلى مكة من قبل بعض محبيّه من العلماء أو من آل المعلمي ففي رسالة من الشيخ القاضي محمد بن عبد الرحيم المعلمي مؤرخة سنة 1360 يقول مرغِّبًا للشيخ في التحوّل إلى مكة: "وقد حررت هذا من أم القرى مكة المكرمة، بلد آمن وبيت حرام، إذ لو سكنتموه لكان خيرًا لكم، ولعمري أن لو تشرفوا بقدومكم للحج لرأيتم ما يسركم ويقرّ أعينكم ... " (¬1). ولا زالت معاناة الشيخ في الهند تأخذ صورًا متعدّدة، فقد وجدنا رسالةً من الشيخ إلى مدير دائرة المعارف العثمانية تفصح عن معاناة الشيخ حين عزم على السفر إلى مكة المكرمة، وحاجته إلي استكمال مصاريف السفر، وأن الدائرة لم توفه حقّه الماليّ، يقول فيها: "استلمت مراسلتكم نِشَان (¬2) 922 تاريخ 30 ديسمبر سنة 1951 م، وأنا شاكر جدًا لعالي جناب الصدر وجنابكم، ويسرني أن أخدم هذه الدائرة العلمية الجليلة بلا طلب معاوضة، وسأدوم على ذلك بقية عمري، سواء أكانت الخدمة مقابلة وتصحيحًا أم غيره، وإنما اضطرني الآن إلى طلب المعاوضة على مقابلة وتصحيح الستة الأجزاء الباقية من كتاب "ابن أبي حاتم" حاجتي إلى مصاريف السفر، وهذا السبب نفسه يجبرني أن أرفع إليكم مع الأسف والخجل أن هذا المبلغ الذي ¬

_ (¬1) "الرسالة المتبادلة" (ص 359). (¬2) يعني: رقم.

الناحية الثانية: حياته العلمية

قررتموه (1500) لا هو الذي يكفيني لحاجتي، ولا هو الذي يعادل في نظري الأجرة الواجبة، ولو كنت أُعطيت البُونَس (¬1) الذي قرَّر المجلس إعطاءه لمن ينفصل عن الدائرة من الملازمين (¬2)، كنت اكتفيت به، وبهذا المبلغ الذي قررتموه، فأما إذا كنت محرومًا من البونس فأرجو من فضلكم أن تعيدوا النظر في القضية، وتحسنوا إليَّ بأحد أمرين: 1 - إما أن تعفوني من هذا العمل رأسًا، فتخلصوني من المسؤولية، وتتركوني أستريح في هذه الأشهر، لأنني منذ أربع وعشرين سنة تقريبًا - وهي مدة ملازمتي (¬3) - لم أزل في عمل متصل، لأني لم أستفد من الرخصة غير الرخصة الاتفاقية. 2 - وإما أن تعيدوا النظر في الأجرة، فإذا عرفتم صحة قولي إن هذا المبلغ المقرر أقل من الواجب، وأمكن أن تزيدوا عليه إلي القَدْر الذي يكفيني لحاجتي زدتم، وأنا على كلا الحالين شاكر، ولا أحتاج أن أوضح في جوابي هذا وجهة نظري في أن هذا المبلغ لا يفي بالأجرة الواجبة، بل أَكِلُ الأمر إلى نظركم، فإذا لم يظهر لكم ذلك فأحسنوا إليَّ بالإعفاء من العمل لأستريح من التعب والمسؤولية. وأفكر في طريق أخرى لتحصيل مصاريف السفر، ولن يتعسر ذلك إن شاء الله تعالى". الناحية الثانية: حياته العلمية يمكننا القول: إن حياة الشيخ العلمية في الهند جرت في اتجاهين، ¬

_ (¬1) البُونَس: كلمة إنجليزية وتعني المكافأة الزائدة على الراتب. (¬2) الملازم يعني: الموظف. (¬3) أي: وظيفتي.

3) رحلته إلى مكة المكرمة (1371 - 1386)

الأول: تحقيق الكتب التي أُسندت إليه أو اشترك فيها في دائرة المعارف العثمانية، وكان هذا في وقت الدوام الرسمي، بالإضافة إلي المشاركة في فعاليات الدائرة العلمية والثقافية، من اقتراح كتب لتحقيقها والعمل عليها، ومن إلقاء المحاضرات والندوات في المواسم المعروفة. وقد بلغت الكتب التي حققها استقلالاً أو بالاشتراك إبان إقامته في الهند نحو أربعين مجلدًا (¬1)، ويمكن تمييزها عن الكتب التي حققها بعد ذلك بتاريخ الطبع، فما كان قبل 1371 فهو من أعماله في الهند. والاتجاه الثاني: هو التأليف، فقد ألَّف الشيخ عددًا من الكتب في هذه المرحلة من حياته، بل أهم مشاريعه العلمية ابتدأها وأتمّ مسوّداتها في الهند ثم بيّضها في مكة، مثل "التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل" و"العبادة"، وكثير من رسائل الفقه كرسالته في الفرائض في الرد على الجيراجي، وجواب الاستفتاء في حقيقة الربا، ورسالة كشف الخفا عن حكم بيع الوفا وغيرها، وعددٍ من الرسائل الحديثية، والرد على أحد شرّاح سنن الترمذي، والرد على عبد الحميد الفراهي، وغير ذلك. 3) رحلته إلى مكة المكرمة (1371 - 1386) حينما تهيّأت الظروف للتحول من حيدراباد إلى مكة حزم الشيخ أمتعة السفر إلى جدة في ذي القعدة من سنة 1371 ولم يصطحب معه زوجته ولا ولده عبد الله، أما زوجته فيبدو أنها كانت مريضة مرضًا مقعدًا كما تقدم في الكلام على أسرته، وأما ابنه فإنه لا يزال يكمل تعليمه هناك. ¬

_ (¬1) انظر أسماء الكتب في المبحث الخاص بذلك.

وقد كتب الشيخ وصفًا مفصّلًا لأيام هذه الرحلة في بعض دفاتره (¬1) لكنه لم يكمل. قال: "1 - خرجنا من "بَمْبَئي" يوم الخميس أول أو ثاني ذي القعدة سنة 1371، الموافق 24 جولاي سنة 52 م. 2 - الجمعة. 3 - السبت: حول الساعة العاشرة صباحًا جاء رجل فطلب مني الجواز والتَّكِت (¬2)، فأخذه ثم ردّ الجواز، وذكر أن اسمي لم يكن مقيّدًا في الرِّجِسْتَر (¬3)، وأنهم افتقدوا وبحثوا في الباخرة حتى اهتدوا إليَّ. فقلت له: فأين التكت؟ فقال: سيُردُّ إليك فيما بعد. 4 - الأحد: بعد الساعة العاشرة، جاء رجل آخر فسألني عن حالي، فحمدتُ الله عز وجل، وأخبرتُه أنني بخير، ثم ذكرتُ له قضية التكت، فذكر أنها قاعدتهم (¬4)، يأخذون التكت من الركاب ويحفظونها عندهم حتى يدفعوها إلى الوكيل، وإنما عليّ حفظ الجواز. كنتُ في الدرجة الأولى في الحجرة رقم (62) و (63)، واتفق أنه لم ينزل في الحجرة غيري، وكانت الحُجر الأخرى في كل منها اثنان وأكثر. فجاءني رجلان من أهل الهند وقالا: جئنا نكلِّف عليك، نراك في هذه الحجرة وحدك ونحن في ضيق، ونستأذنك في أن يكون معك رجل على هذا السرير الفارغ. ¬

_ (¬1) [4721/ ق 18 - 20] (¬2) تكت: هي التذكرة بالإنجليزية. (¬3) مكتوب فوقه: "الدفتر"، والرجستر هو السجل والدفتر بالإنجليزية. (¬4) أي طريقتهم، والقاعدة هي الطريقة بالأرديّة.

فقلت لهم: أرى الاختيار في هذا لأصحاب الأمر في الباخرة، فاسألوهم فإن أذنوا فليس لي اعتراض. فذهبوا ولم يعودوا. ثم لقيت أحدهما فسألتُه فجمجم، فقلت: هل خاطبتم أصحاب الأمر في هذا؟ فقال: لا. والله أعلم. قال لي الذي يجيء بالطعام: هل تطلب شيئًا؟ فقلتُ: هذا كافٍ. فقال: إذا تحتاج (¬1) إلى شيء فاطلب. 5 - يوم الاثنين: لقيتُ شابًّا ظهر لي أنه عربيّ، فسألته، فذكر أن اسمه: عادل بن السيد عبد الله، وأنه كان في مَدْراس (¬2). 6 - يوم الثلاثاء: من مساء هذا اليوم شعرتُ ببرد الهواء. 7 - يوم الأربعاء: رأيتُ طوائر على جوّ الماء، ودلّ ذلك على أننا بالقرب من البرّ، أو أن بالقرب منا جزائر. 8 - يوم الخميس: خفّ البرد. 9 - يوم الجمعة: أصبح اضطراب البحر أهون مما كان. وفي حوالي الساعة 9 صباحًا مرّت بنا باخرة مشرقة. واشتدّ الحر هذا اليوم وليلة السبت. 10 - يوم السبت: رأينا سفينة شراعية من بُعدٍ متجهة اتجاهنا، ثم رأينا أخرى متجهة قريبًا من اتجاهنا مائلةً إلى الجنوب. وحول الساعة السادسة رأينا على يسارنا - وهو الجنوب - جبالاً متسلسلة، وبعد قليل مالت باخرتنا إلى الشمال. ¬

_ (¬1) في الأصل: احتاج، سبق قلم. (¬2) مدينة في جنوب الهند عاصمة ولاية "تمل ناد".

11 - يوم الأحد: اشتد الحر منذ الأمس. 12 - يوم الاثنين: هبَّت منذ الأمس ريحٌ غربيّة خفَّفت ضيق الحرّ". انتهى وصف الشيخ لرحلته. وفي المجموع نفسه (¬1) كتب الشيخ وصفًا لتلك الباخرة التي تمخر العباب فقال: طوينا العُباب على باخره ... تبيت لقاموسه ماخره بناء على الموج ما إنْ له ... أساسٌ سوى اللجّة الزاخره إذا ما تأملتها من قريبٍ ... تخال بها بلدة عامره وتحسبها جبل النار إن ... تعالت دواخنها الثائره ونجمًا له ذنبٌ إن بدت ... بعيدًا مدخِّنةً زاهره تباري وما إن تبالي الرِّياح ... أعادلة هي أم جائره وليست تُرى لسكون الرّياح ... على الماء راكدة حائره يهيج الخضمّ ويرتج وَهْي ... به جدّ هازئة ساخره لها النار قوتٌ متى لم تجِدْه ... رأيت قواها له خائره يصرّفها رجلٌ واحدٌ ... فتنقاد خاضعةً صاغره يراعي النجومَ لها، والنُّجوم ... لديه - لعمرك - في دائره وفي المجموع نفسه كتب الشيخ مذكرة فيها: "إرسال البرقيّة إلى جلالة ¬

_ (¬1) مجموع [4726]. وقد كانت تسعَّرت عليّ قراءة ثلاث كلمات في البيتين الرابع والخامس، وحين تأملها أخي د. الإصلاحي تبينت له وحلّ ما غمض منها، ونبهتُ على ذلك هنا لأنها لم تعدّل في "فوائد المجاميع" (ص460) فلتؤخذ من هنا.

الناحية الأولى: حياته الاجتماعية

الملك يوم الأحد 18 ذي الحجة سنة 1371" فلعل هذه البرقية كانت لاستكمال الإجراءات النظامية للاستقرار في مكة المكرمة. نزل الشيخ في جدة أول الأمر، وعيّن مدرّسًا في مدرسة الأنجال لبعض الوقت براتب مجزئ، لكنه لم يستمر طويلا وطلب وظيفة أخرى أقرب إلى نفسه التواقة إلى العلم والتحقيق والبحث والمطالعة، فعيِّن أمينًا لمكتبة الحرم المكي الشريف في 18/ 6/ 1372 براتب أقل بكثير من سابقه. قضى الشيخ في مكة خمسة عشر عامًا متفرّغًا للبحث والتأليف والتحقيق والتدريس، قائمًا بوظيفته في مكتبة الحرم خير قيام من مساعدة الباحثين وتدبير شؤون المكتبة. ويمكن أن نجعل الكلام في هذه المرحلة من حياة الشيخ في ناحيتين: الناحية الأولى: حياته الاجتماعية وقد استفدنا من رسائله إلي أخيه أحمد (وهي عشر رسائل) كشفَ بعض أحوال الشيخ الاجتماعية في هذه المدة. وأول ما لمسته في هذه الرسائل العشر نوع من الارتياح النفسي لدى الشيخ، فكأن المقام طاب له، وكيف لا يطيب وهو بجوار حرم الله، يتقلّب بين أعطاف الكتب في مكتبة الحرم المكي الشريف؟! ومع هذه الانفراجة فإن أموره الأخرى لم تتيسر له على ما يريد، فقد كتب إلى أخيه سنة 1373 يقول له: "إلى الآن ما رسخت قدمي هنا، وعسى الله تعالى ييسر ذلك قريبًا". وكرر ذلك في رسالة أخرى في العام نفسه قال: "وإذا يسر الله تعالى

رسوخي هنا فستُقْضى جميع المطالب على ما يرام إن شاء الله تعالى، ومن الآن إن شاء الله تعالى ستتصل المكاتبة بقدر الإمكان". وفي العام الذي يليه في ذي القعدة 1374 كتب نفس المعنى لكن يبدو أن الأمور تحسنت أفضل من سابقتها فقد كتب إليه يقول: "مضت مدة لم يكتب فيها أحدنا إلى الآخر، وليس لي عذر إلاّ أن أحوالي هنا لم تنتظم انتظامًا يمكنني مما أحب، فأما أنت: فأنا عارف بعذرك، وعسى الله تعالى أن يهيئ الأمور وييسر كل معسور بفضله وكرمه". وفي التاسع من رجب 1375 بعد مضي أربع سنوات على قدومه انفرجت الأمور ويبدو ذلك في رسالته المؤرخة في ذلك التاريخ قال: "ثم تحسَّنت الحال أخيرًا إلي حدٍّ ما، وشَرعتُ أفكر في ترتيب الأمور الأقرب فالأقرب، أسأل الله تعالى التيسير والتوفيق". وفي رسالة له مؤرخة في 28 شعبان 1375 شرح مراده بتحسن الحال فقال: "أما تحسّن حالي فلله الحمد، ولم تكن قبل ذلك حالي سيئة، لكن الإنسان ما دام حيًّا لا يخلو من مطالب إذا قَصُرت يده عنها عدّ حالَه سيئة، مع أنه إذا بسطت يده امتدت عينُه إلى مطالب أخرى وهلمّ جرّا. وأنا الآن في صدد تأمين أهم المطالب". وفي 26 شعبان سنة 1377 قدم ابنه عبد الله من باكستان إلى المملكة بعد تعب كثير في طلبه إلى هنا، وحصول الإذن له بالإقامة. ولم يمض وقت طويل حتى تحصّل ابنه على خدمة (وظيفة) في جدة بعد استئذان أبيه في ذلك وموافقته له.

الناحية الثانية: حياته العلمية

وقد بقي الشيخ على جنسيته حتى ذي القعدة من سنة 1384 أي قبل وفاته بسنة وثلاثة أشهر! وقد لخص ذلك بقوله لأخيه في رسالة له في هذا التاريخ: "والحقيقة أن قضية الجوازات وما يتبعها معقّدة جدًّا، وأنا نفسي بعد اللَّتيا والتي حصلت على الجنسية السعودية، أما ابني عبد الله فلم يتهيأ لنا ذلك، وهو إلى الآن بالجنسية اليمانية ... ". الناحية الثانية: حياته العلمية أما الناحية العلمية، فهي حافلة بحق بالتأليف وتحقيق الكتب والتدريس. أما جانب التأليف: فقد بيَّض فيها عددًا من كتبه الكبار التي ألفها في الهند كـ "التنكيل"، و"العبادة"، وألَّف عددًا من الكتب والرسائل الحديثية والفقهية منها: رسالة تأخير المقام، ورسالة توسعة المسعى، وقيام الليل، وصيام الست من شوال، والتأويل، والأنوار الكاشفة. وفي جانب التحقيق: أصدر ستة مجلدات من كتاب "الأنساب" للسمعاني إلي حرف الزاي، وستة مجلدات من "الإكمال" لابن ماكولا إلى حرف العين، و"الفوائد المجموعة" للشوكاني، و"الموضح لأوهام الجمع والتفريق"، و"بيان خطأ محمد بن إسماعيل"، و"تذكرة الحفاظ" وغيرها، بما مجموعه واحد وعشرون مجلدًا (¬1). هذا سوى الكتب التي أشرف على نسخها أو تصحيحها أو فهرستها أو ¬

_ (¬1) انظر مبحث تحقيقات الشيخ، فما كانت طباعته مؤرَّخة بعد 1371 فهو مما عمل عليه في مكة المكرمة.

النظر فيها (¬1). أما جانب التدريس: فقد كان للشيخ درس بعد صلاة الفجر في حَصوة باب السلام يحضره عدد من الطلبة (¬2)، وكانت له دروس بعد العصر يحضرها خاصته من طلبة العلم، يدرّس فيها النحو والبلاغة والفقه والفرائض (¬3). إضافةً إلى القيام بوظيفته في مكتبة الحرم المكيّ الشريف من إعانة الباحثين عن العلم والمعرفة، وفهرسة المكتبة، والكتابة إلى الجهات المختلفة لتزويدها بمختلف الكتب، حتى إنه كاتب مجموعة من المجلات بمصر لترسل أعدادها إلى مكتبة الحرم كمجلة (الأزهر) ومجلة (الناشر المصري) وكاتَبَ الشيخ أحمد شاكر بنحو ذلك. اتخذ الشيخ من غرفته بمكتبة الحرم المكي الشريف سكنًا، وكان ابنه الوحيد يسكن ويعمل في جدة، فلم يكن للشيخ شاغل يشغله عن العلم والتحقيق والتأليف، بل كل وقته كان للعلم، كتب إلى تلميذه محمد بن عبد الرحمن المعلمي: "كان رحمه الله لا يحب المظاهر، ويبقى دائمًا في المطالعة والتأليف، ولا يخرج من المكتبة إلا لصلاة الفرائض ... ويعود إلى المكتبة ... ". فلذلك أنتج لنا هذا الانتاج العظيم تأليفًا وتحقيقًا بما لم يجتمع في ¬

_ (¬1) انظر "الرسائل المتبادلة" مع الشيخ محمد نصيف (ص295 - 307). (¬2) "باب السلام في المسجد الحرام" (ص 160). (¬3) كما أخبر بذلك جماعة من طلابه ممن كتبوا إليَّ وسبقت الإشارة إلى كلامهم.

عالم من علماء هذا العصر. كان خاصّة الشيخ الذين يأنس بهم ويكثر الاجتماع بهم قِلّة يعدون على الأصابع، من أبرزهم الشيخ محمد حسين نصيف (ت 1392) وكان بينهما حبّ أكيد وتواصل مستمر، وكان الشيخ المعلمي يجلّه غاية الإجلال فهو يدأب في مكاتباته له بنعته بعدّة نعوت لا يفارقها "حضرة السيد الكريم المحسن العظيم صاحب الفضيلة الشيخ محمد نصيف". ومنهم الشيخ سليمان الصنيع (ت 1389) مدير مكتبة الحرم المكي الشريف وعضو مجلس الشورى، كان الشيخ كثير الذكر له في مقدمات كتبه ويصفه بـ "الصديق العزيز الناقد البحّاثة" وقال: "وهو مَن أولى العناية البالغة بكتب الرجال وتحقيق الأسانيد" (¬1). وكان للشيخ الصنيع عادة بجمع بعض الفضلاء والعلماء يوم الجمعة للغداء، ومنهم الشيخ المعلمي، والشيخ محمد عبد الرزاق حمزة، والشيخ صالح بن عثيمين، والشيخ الحرْكان (¬2). وبقي الشيخ رحمه الله ممتّعًا بعزيمة قوية وجَلَدٍ على البحث والتنقيب والتحقيق مع كِبر سنه وضعف قوّته، وشاهد ذلك أن الأجزاء الأخيرة من تحقيقه للأنساب والإكمال إنما طبعت بعد وفاته بأشهر، مما يعني أن الانتهاء منها كان قبل وفاته بأشهر قليلة، ولعل في تلك التعليقة الطويلة الشهيرة في "الإكمال": (6/ 322 - 331) لابن ماكولا ما يكشف عن هذا ¬

_ (¬1) انظر "المقدمات" (ص 8، 10، 195، 201، 253، 257). (¬2) ذكره لي تلميذاه عبد الكريم الخراشي، ومحمد بن عبد الرحمن المعلمي.

الجَلَد العجيب والصبر على البحث والتفتيش والتحقيق، وقد سقناها برمّتها في "المقدمات" (ص 318 - 331) فلتراجع، وكان وقت كتابتها في أواخر سنة 1385 أي قبل وفاته بأربعة أو خمسة أشهر. ***

المبحث الرابع أسرته

المبحث الرابع أُسْرته كان الشيخ المعلمي رحمه الله صاحب عناية تامة بأقاربه على اختلاف صلة قرابته معهم، وقد ظهر هذا جليًّا من خلال الوقوف على رسائله الخاصة مع أخيه أحمد، ومع أننا لم نقف إلا على بضع عشرة رسالة منها إلا أن فيها مادة جيدة توضّح هذه الخلة الحميدة، وسأشير إلى نماذج من ذلك: فهو لا يزال يتعاهد أباه بإرسال ما يرتفق به من المال، سواء حين كان في الحضرة الإدريسية أو حين سافر إلى الهند، ولم يزل يتعاهد أباه برسائل متعددة. وكذلك لم يزل يراسل أخاه أحمد منذ كان في الهند وحتى آخر حياته، وغير مستبعد أنه يراسل بقية إخوته لكن لم يصلنا خبر شيءٍ من ذلك. هذا مع ملاحظة أن المراسلات كانت تثقل عليه جدًّا ولا يجد نشاطًا لها (كما صرح بذلك مرارًا). وكذلك عنايته بأبناء إخوته، فقد استجلب عددًا منهم يوم كان مقيمًا بالهند، وحين استوطن مكة، وكان كثير السعي في مصالحهم، مع كثرة السؤال عنهم وعن أحوالهم، وكذلك باقي إخوته يَذْكر أحوالهَم ويعينهم بجاهه وماله حتى الغنيّ منهم إذا طلبه لم يردّ طلبه. وكان أيضًا يتابعُ أحوالهم وإن بعدت الديار وشطّ المزار حتى أبناء أبناء إخوته لم يغفل عن العناية بهم، بل ذكر في بعض رسائله أنه سيطلب بعضهم ليكونوا عنده في مكة، وأنه يصل بعضهم بصلاتٍ مالية. وكذلك اعتنى بتدريس جماعة من آل المعلمي وأَوْلاهم عنايةً خاصة،

* والده

وقد كتب إليَّ جماعةٌ منهم بذلك كما سبق في مبحث مصادر ترجمة الشيخ. وقد يشتدّ أحيانًا عليهم من باب التربية وحملهم على مصالحهم، كما وقع له مع ابن أخيه (أحمد بن محمد بن يحيى). وسنذكر هنا أفراد أسرته الأقربين (الوالد والإخوة)، وما عرفناه عنهم من خلال ما وقفنا عليه من المصادر (¬1)، أما الفروع فلن نفرد الحديث عنهم بل سنشير إليهم في تراجم أصولهم. * والده: هو الفقيه العلامة (¬2) يحيى بن علي بن محمد المعلمي. لم أقف على تاريخ ولادته، وقد نشأ في عُزلة "العَقِد" التابعة لمخلاف "حمير الوسط" في قرية "الطُّفَن" (¬3) من ناحية عُتْمَة لواء ذمار، وسافر إلى زبيد لطلب العلم فأقام بها خمس سنين، ثم عاد وتزوّج من أسرة من القبائل اليمنية من بني كرد، فأنجبت له: فاطمة ومحمد وعبد الرحمن وعطية، ثم تزوّج بأخرى هي فاطمة بنت أحمد المعلمي فأنجبت له: أحمد، وعبد المجيد، وسعيدة، وميمونة. وبعد مدة انتقل من قريته إلى قرية بلاد الريمي، وأراد أن يبني له منزلاً، ¬

_ (¬1) استفدت في بعض ما يتعلق بأسرته مما كتبه الشيخ عبد الرحمن بن عبد القادر المعلمي (ابن أخت الشيخ) في تقديمه لرسالة "إدراك الركوع بإدراك الركعة". (¬2) هكذا وصفه الشيخ في إحدى وصاياه انظر "الخطب والوصايا" (ص 237) ضمن هذه الموسوعة. (¬3) سبق التعريف بها.

فوجد في رأس جبل مرتفعٍ بيوتًا متهدمة قديمة على شكل أطلال يسمى الجبل "بيت الولي" فبنى له منزلًا في ذلك المكان بعد أن حصل على إذن من مالكه. وكانت المنطقة أرضًا زراعية يستفيد من زراعتها، فبنى هناك بيتًا ومسجدًا واستقرت به الحال. وفي هذا المنزل والمسجد الجديدين كان يتقلّب والد الشيخ عبد الرحمن ما بين تعليم للأطفال والصلاة بالقرى المجاورة صلاة الجمعة والعيدين، وتعليم الصغار والزراعة حتى مات سنة 1361 هـ. رحمه الله. وكان لوالد الشيخ تأثير جيد في نشأته، من حيث الاهتمام بتعليمه، وتربيته، ورعايته. وكان الشيخ المعلمي يكنّ لوالده حبًّا عظيمًا، كما صرح به في رسالة خاصة إلى أخيه أحمد، إذ قال: "وليس على وجه الأرض بعد سيدي الوالد - حفظه الله تعالى - من يسرني سروره أزيد منك". وكان والده يتعاهده بالمكاتبات والرسائل، وكان الشيخ يهتم بها غاية الاهتمام، فلذلك أوصى أخاه أحمد - وقد أرسل إليه كتابًا من والده - بقوله: "واحتفظ بكتبه لا تضيع". وكان الشيخ يتعاهد والده بالبر والصلة، فيرسل له بانتظام ما تيسّر له من المال يستعين به على شؤون الحياة، وقد يتأخر أحيانًا في الإرسال لظروف قاهرة تتعلق بالإرسال، ويظهر من رسائله التألّم لذلك، وربما أصابه القلق إذا تأخرت رسائل أبيه. وربما كان قلقه بسبب خوفه على أبيه من بطش الإِمام يحيى حميد الدين بسبب انضمام الشيخ المعلمي إلى الإدريسي وهو أشدّ خصوم الإمام وبينهما معارك ونزاع طويل.

* إخوته

* إخوته: 1 - محمد بن يحيى المعلمي: نشأ عند والده ودرس عنده، ثم سافر إلى مدينة زبيد للدراسة، ثم إلى الحِجَرية لواء تعز في "تربة ذيحان"، وعمل كاتبًا للمحكمة هناك، وكان يجيد اللغة التركية، ثم عاجلته الوفاة، فقد توفي سنة 1340 أو في التي تليها، أيام مقام الشيخ عند الإدريسي، وخطب الشيخ إحدى خطب الجمعة وذكر فيها موت أخيه فقال: "وإنه قد بلغني ما قضاه الله تعالى من وفاة سيدي الأخ الفاضل العالم العامل عز الإِسلام: محمد بن يحيى ... " (¬1). ووصل خبر وفاته إلى والده فذهب إلى الحجرية، وكان قد ترك مكتبة ضخمة، فحمل كتب ابنه على بعيرين ونقلهما إلى عُتمة. وقد خلّف ولدين: أبو بكر، وأحمد، ذكرهما الشيخ في رسائله كثيرًا، وقد بقيا عند جدهما (يحيى) مدة، والتحق أبو بكر بالشيخ إلى الهند، ولم يطل مكثه بها، وعاد إلى اليمن، لكنه ما لبث أن توفي، وقد خلّف ابنًا اسمه محمد. وفي رسالة للشيخ مؤرخة في 1375 ذكر أن عمره نحو 15 عامًا، وأنه ينوي أن يجلبه إلى مكة. 2 - أحمد بن يحيى المعلمي: نشأ عند والده حتى ترعرع، وسافر مغتربًا لا يعرف أين ذهب حتى اتضح بعد فترة طويلة أنه في إندونيسيا وقد تزوّج وأقام هناك يعمل في ¬

_ (¬1) "الخطب والوصايا" (ص 22).

3 - عبد المجيد بن يحيى المعلمي

التجارة، وقد زار اليمن في أوائل السبعينات ثم عاد. وكان بينه وبين الشيخ مراسلات كثيرة وقفنا منها على سبع عشرة رسالة كلها من الشيخ المعلمي إليه (انظرها في الرسائل الشخصية)، وكان أحمد من أحب الناس إلى الشيخ، قال في رسالة إليه: "فإنك تعلم حقيقة هذا الأمر من نفسك، أنت مني وأنا منك، وليس على وجه الأرض بعد سيدي الوالد - حفظه الله تعالى - من يسرني سروره أزيد منك، ولا أعلم لك ذنبًا". والرسائل التي أرسلها له الشيخ تبين مكانته عنده وحبه له، وتعاهده بالنصيحة والمشورة والمساعدة المادية، واستجلاب أولاده إلى مكة بعد أن استقر فيها، ودوام الاعتذار عن التقصير في تتابع الرسائل إليه، لما يُعرف من طبيعة الشيخ من قلة المكاتبة. توفي فيما بلغني سنة 1412. 3 - عبد المجيد بن يحيى المعلمي: نشأ عند والده ولازمه حتى مات، وتعلم القرآن الكريم، وأجاد القراءة والكتابة، واستمر في منزل والده في "بيت الريمي" يقوم بوظيفة والده من تعليم وزراعة حتى بداية السبعينات، حيث فارق القرية وسافر إلى صنعاء، وأقام عند أحد أولاده الموظفين، وعليه سيما الصلاح، وقد توفي رحمه الله سنة 1415. وقد ذكره الشيخ في رسائله الخاصة عدة مرات، وذكر أنه اعتاد أن يحج كل سنة، وواضح من إشارات الشيخ المتكررة أن عبد المجيد كان يتعاهد إخوانه بالرسائل والمكاتبات، وذكر الشيخ في رسالة له أن حالته المادية

4 - سعيدة بنت يحيى المعلمي

حسنة، وأنه مِن أحسن أهل "منطقة الريمي" حالاً حتى إنه يقارن بشيخها، وأنه في إحدى زياراته للحج أراد العلاج من مرض ألمَّ به، وأن الشيخ عازم على مساعدته في ذلك رغم سعة ذات يده، وهذا من برّه وإحسانه بإخوانه. 4 - سعيدة بنت يحيى المعلمي: هي والدة الشيخ الأديب عبد الرحمن بن عبد القادر المعلمي، يقول عنها ولدها: "كانت رحمها الله لا تقرأ ولا تكتب، ولكن كان لها جهد طيب مع الوالد في التربية والتوجيه، وكانت تحفظ سورًا من القرآن، عليها الصلاح وسيما الخير، وكانت وفاتها عام 1393". وقد ذكرها الشيخ في رسائله مرتين، وذكر أن حالها حسنة، وأنه أرسل لها صِلَة يسيرة. 5 - عطية بنت يحيى المعلمي: أخته من أبيه، ذكرها في إحدى رسائله وأنها توفيت نحو سنة 1375، وذكر أن لها بنتًا من إبراهيم القاضي، وأن لهذه البنت ولدًا جاء إليه وأقام لديهم في مكة مدة، وتزوّج من بنت أخيه عبد المجيد. * زوجته: لم يتزوّج الشيخ رحمه الله إلا في الهند قبيل سنة 1350، والظاهر أن زوجته من أهل تلك البلاد، وعندما رحل الشيخ إلى مكة بقيت هناك مع ولدها عبد الله الآتي ذِكرُه، وقد أصيبت بمرض مزمن، ولعلها توفيت هناك؛ فقد جاء في رسالة مؤرخة في 1375 قول الشيخ: "وزوجتي لا تزال في الهند وهي مريضة مرضًا مزمنًا لا يمكنها معه القيام بمصالح نفسها فضلاً عن

* أولاده

غيرها، وأنا مرتّبٌ لها معيشتها هناك". ولم يتزوج الشيخ بغيرها حتى مات. مع أنه قال في رسالة إلى أخيه أحمد حين ذكر مرض زوجته المزمن: "ولي فكرة في الزواج إذا وجدتُ امرأة عاقلة فيها بقيّة" * أولاده: أعقب الشيخ المعلمي ولدًا واحدًا اسمه عبد الله، ولد في السادس من ربيع الثاني سنة 1351، وقد أرّخ ذلك الشيخ في أحد مجاميعه بقوله: "بحمد الله تبارك وتعالى ولد الولد المبارك الصالح - إن شاء الله تعالى - عبد الله ضحى يوم الثلاثاء سادس شهر ربيع الثاني من عام واحد وخمسين وثلثمائة وألف من الهجرة النبوية. اللهم اجعله من عبادك المخلصين، العلماء العاملين، الهداة المهديين، وإني أعيذه بك وذريته من الشيطان الرجيم، وأسألك أن تجعله من العلماء الراسخين، العارفين بكتابك المبين، وسنة نبيك الأمين - صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله - وأن تجعله من حفظة كتابك، والواقفين عند حدودك، وأن تجعله قرة عين لأبويه، إنك أنت الكريم الوهاب الرزاق من تشاء بغير حساب .. ". وليس له من الولد غيره. وسبق أن ذكرنا أن الشيخ المعلمي أوصى إلى الشيخ إبراهيم رشيد أن يعتني بابنه إن باغته الأجل قبل بلوغه (¬1). ¬

_ (¬1) انظر (ص 77).

وقد أثنى عليه الشيخ وعلى أدبه وخلقه فقال في رسالة مؤرخة في 1377: "وهو بحمد الله حَسَن السيرة طيب الأخلاق بعيد عن مخالفتي"، وكان عمره حينذاك ستة وعشرين عامًا. وعندما رحل الشيخ إلى مكة المكرمة سنة 1371 بقي الابن مع والدته لاستكمال دراسته والعناية بوالدته، ثم انتقل إلى باكستان لإكمال دراسته، وبقي فيها إلى سنة 1376، ثم أحضره والده إلى مكة، ورغب الولد في البقاء في جدة للعمل فأذن له الشيخ، ولم يزل على هُويَّته اليمنية لم يتحصّل على الجنسية السعودية كما أشار الشيخ إلى ذلك في إحدى رسائله المؤرخة سنة 1384. هذا ما عرفناه عن أسرة الشيخ رحمه الله، ولا شك أن مزيدًا من البحث والتنقيب سيكشف الكثير من أخبارهم. ***

المبحث الخامس شيوخه

المبحث الخامس شيوخه لم نقف إلا على القليل من شيوخ العلامة المعلمي، وهذا القليل هو مَن نصّ على التتلمذ عليهم ووصَفَهم بكونهم من شيوخه. ولا أعتقد أن للشيخ شيوخًا كثيرين، بدليل أنه هو مَن أرَّخ لفترة طلبه للعلم باليمن إلى حين ارتحاله للإدريسي، ولم يذكر في هذه المرحلة (1312 - 1336) إلا شيوخه الثلاثة الأُوَل الآتي ذِكْرُهم، وعليه فلا نعتقد أنه أغفل ذِكْر شيوخٍ تلقى عنهم في هذه المرحلة، بل أخبر عن الواقع. أما بعد رحلته إلى الإدريسي فقد تلقّى عنه كما صرح بذلك مرارًا، ونص أيضًا على أن العلامة باصهي من شيوخه. ولا نشك أن الشيخ قد استفاد أيام الإدريسي من أولئك النخبة من العلماء الذين نزلوا عند الإدريسي بالمذاكرة والمناظرة في مجالس الإدريسي وغيرها، كما سبقت الإشارة إليهم. أما بعد رحلته إلى الهند فلم نقف إلا على ذكر الشيخ عبد القدير الصديقي في إجازته للشيخ، وقد سبق نقلها. وهذا يدلّ على نبوغ الشيخ وعبقريته، فبقليل من الدراسة للفن يفهمه ويبرع فيه، ويذكّرني قوله: إنه درس النحو أسبوعين حتى فهمه وتقدّم فيه = بما جاء في ترجمة شيخ الإِسلام ابن تيمية: أنه قرأ أيامًا في العربية على ابن عبد القوي (¬1)، فسبحان مقسم المواهب والأرزاق! ¬

_ (¬1) "الجامع لسيرة شيخ الإِسلام" (ص 250).

ولنذكر هنا هؤلاء الشيوخ مرتبين على حسب تلقيه العلم عنهم: 1 - والده الفقيه العلامة العماد يحيى بن علي المعلمي (ت 1361). 2 - أخوه العلامة (¬1) محمد بن يحيى بن علي المعلمي (ت 1341). وقد درس عليه النحو، وتذاكر معه في الفقه كما سبق تفصيله. 3 - الفقيه العلامة الجليل أحمد بن محمد بن سليمان المعلمي (ت 1341). درس عليه الفقه والفرائض والنحو وغيرها من الفنون، وقد أثنى عليه الشيخ كثيرًا، وأجازه إجازةً عامة بكل مروياته سنة 1335 وعمره 23 سنة، وقد سقنا الإجازة برمّتها عند الكلام على نشأته وطلبه للعلم. 4 - الإمام السيد محمد بن علي الإدريسي (ت 1341)، درس عليه بعض الفنون، ولا سيما النحو والحديث، وقد قيد جملةً من الدروس والفوائد مما ألقاه الإدريسي، وهي موجودة في مجاميعه منسوبةً إلي الإدريسي، وربما جمعت بينهما مذاكرة فيقيد الشيخ خلاصتها في أوراق ويزيدها بحثًا وتقريرًا. 5 - الشيخ سالم بن عبد الرحمن باصهي (ت 1366). قال عنه الشيخ: "شيخنا، إمام الشريعة والحقيقة في وقته، الشيخ العلَّامة سالم بن عبد الرحمن ... " (¬2). 6 - الشيخ محمد عبد القدير الصديقي القادري (ت 1381)، شيخ الحديث بكلية الحديث في الجامعة العثمانية بالهند، قرأ عليه في الهند بعض ¬

_ (¬1) وصفه الشيخ المعلمي بذلك. (¬2) "الرد على الضالعي - ضمن رسائل العقيدة" (ص 181).

"صحيح البخاري" و"صحيح مسلم"، وأجازه بروايتهما، وأجازه أيضًا بـ "جامع الترمذي" و"سنن أبي داود" و"سنن ابن ماجه" و"سنن النسائي" و"الموطأ" (¬1). ... ¬

_ (¬1) سيأتي طرف من إجازته له في مبحث الثناء عليه.

المبحث السادس تلاميذه

المبحث السادس تلاميذه تصدَّر الشيخ لتدريس الطلاب وإقراء العلم مبكرًا، فقد كان له عدة دروس أيام مقامه عند الإدريسي وهو في سن الخامسة والعشرين، واستمر الشيخ في التعليم ونشر العلم في كل بلد ينزل فيه، سواء في عدن أو الهند أو حين استقرَّ به المقام في مكة المكرمة. وكان الشيخ يعقد درسه في المسجد الحرام في حصوة باب السلام بعد صلاة الفجر لمجموعة محدودة من طلبة العلم الشريف (¬1). هذا غير الدروس التي كان يلقيها على بعض الطلاب بعد صلاة العصر. وكان الشيخ صبورًا على الطلبة لا يسأم من تعليمهم والإعادة لهم وتفهيم مَن أشكلت عليه، يقول تلميذه محمد بن أحمد المعلمي فيما كتبه إليَّ: "كان زملائي متفوقين عليّ بأذهانهم، وأنا كان ذهني بعيدًا عن أذهانهم في مادة النحو، فكان زملائي يحفظون بسرعة ما يلقي علينا الشيخ من شرح مادة دروس النحو، وكان الشيخ رحمه الله يعرف ذلك مني مما يلاحظه في خلال إلقاء الدرس، وبعد انتهاء الدرس وتفرُّق الطلاب يستدعيني الشيخ ويعيد الدرس عليّ ثانيًا ويكرر عليَّ الدرس حتى أفهمه ويعيد فكري ثم أسجل كل ما يلقيه عليَّ الشيخ من الشرح والإعرابات والأمثلة في دفاتري، وأكرر ذلك، وهكذا كل يوم. ¬

_ (¬1) انظر "باب السلام في المسجد الحرام" (ص 160) لعبد الوهاب أبو سليمان.

أما زملائي فكانوا يعتمدون على ذكائهم ولا يسجلون شيئًا مما يتلقونه من الشيخ، وبعد أيام وعند تكراري لحفظ الأمثلة والإعرابات أصبحتُ متفوقًا على زملائي، فما كان الشيخ يأتي بأمثلة أو إعرابات إلا وأنا أسابق زملائي، ثم يقول الشيخ لزملائي: انتظروا حتى يفرغ ما عنده، ثم أتى لهم ولي بقصة فقال: إن حيوانًا يسمى بالسلحفة وهو يختفي داخل غلاف له فإذا أحس بشيء دخل في غلافه وهو مما يشبه العظم، فيوم من الأيام التفت السلحفة بالحجل (الظبية) وقالت: يا حجل أريد أن أتسابق أنا وأنت إلى الجبل الفلاني، فقال الحجل: ما أسخف عقلك يا سلحفة أتسابق أنا وأنت؟! فأنت تَحْبِي حبوًا وإذا حَسَّيتي (¬1) بشيء اختفيتِ، وأنا أسابق الريح! فكررت السلحفة قولها، وقالت: سابقيني، فتسابقتا. فأسرعت الحجل إلى بعض الطريق ثم توقفت، وقالت: سأنام هنا قليلاً ثم أذهب إلى الموضع المتسابق إليه فغلبها النوم فما انتبهت إلا وقد سبقت إليه السلحفة. فقال الشيخ: هذا مثلكم ومثل هذا الطالب، ثم سأل الشيخ بعض الجلساء الذين جلسوا يستمعون من الشيخ حينما يلقي الدرس علينا: ما رأيكم في هذا الطالب؟ فقال أحدهم: قد أصبح سيبويه". ومن الواضح تركيز الشيخ على تدريس فن النحو كما عرفناه من تراجم بعض الطلبة، والسبب في ذلك أنه إذا استقام علم النحو لطالب العلم مكّنه ذلك من العلوم الأخرى. ومع هذا العمر المديد في التدريس لم نقف على عدد كبير من أسماء تلاميذه خاصة في المرحلتين الأوليين من حياته، وهما وقت مقامه عند ¬

_ (¬1) كذا على اللهجة الدارجة، والوجه: "حَسَسْتِ" أو "حسَيِتِ" بقلب السين الثانية ياءً.

الإدريسي ووقت بقائه في الهند، بل لا نكاد نعرف أحدًا من طلابه في هاتين المرحلتين على طولهما، وغالب مَن وجدناهم كانوا من طلابه وقت مقامه في مكة. 1 - أحمد صالح دحوان الآنسي. أرسل للشيخ رسالةً يقول فيها "حضرة الوالد الشيخ العلامة الورع شيخنا عبد الرحمن بن يحيى المعلمي" والرسالة مؤرّخة في 26/ رمضان/ 1373. 2 - أحمد بن سالم باسويدان. جاء ذكره في رسالة من عبد الله بن أحمد بن مذحج إلى الشيخ المعلمي. ووصفه بأنه تلميذ للشيخ. 3 - أحمد بن محمد المعلمي، قرأ عليه في النحو "الآجرومية"، وتدرّب عليه بإعراب جزءٍ من القرآن من سورة الناس إلى فصلت. 4 - أبو تراب الظاهري عبد الجميل بن عبد الحق الهاشمي (ت 1423). وقد درس على الشيخ علم الفرائض، قرأ عليه كتاب "السراجية" للسجاوندي الحنفي. وقد ذكره الشيخ في مقدمته لكتاب "الإكمال" (¬1) فقال: "العالم الفاضل". 5 - عبد الرحمن بن أحمد بن محمد بن عبد الكريم المعلمي، لازمه ثلاث سنين، فقرأ عليه في النحو "الآجرومية" ثم "الألفية"، وقرأ عليه في الفقه الشافعي، وهو الآن أستاذ متقاعد. 6 - عبد الرحمن بن حسن بن محمد شجاع الدين، قرأ عليه "الآجرومية". ¬

_ (¬1) "المقدمات" (ص 57).

7 - عبد الكريم الخراشي، مدرس بالمدرسة الرحمانية المتوسطة سابقًا، ومدير مكتبة مكة المكرمة في الفترة المسائية لاحقًا، التقيت به وسألته عن الشيخ المعلمي فحدَّثني عنه حديثًا طويلاً، وقد انتفع بالشيخ وتوجيهاته وعلمه، واستعمله الشيخ في نسخ كتاب "الغيلانيات"، وكتاب "مجمع البحرين" للهيثمي. 8 - عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الرحيم المعلمي، لازمه عشر سنوات. وقرأ عليه "شرح ابن عقيل" و"النحو الواضح" في المرحلة الابتدائية والثانوية، وقرأ عليه "الرحبية"، ومصطلح الحديث "الكفاية"، والحساب، كما علَّمه الشيخ كيفية التعامل مع المعاجم العربية وكيفية كتابة الترجمة. 9 - عبد الله بن محمد الحكمي، لازم الشيخ عدة سنين إبّان عمله في مكتبة الحرم المكي إلى حين وفاته، وعُيّن موظفًا في المكتبة، ثم انتقل إلى المكتبة العامة بالزاهر بمكة، وقد دفع إليه الشيخ المعلمي "ديوان شعره"، وقد زرت أبناءه بعد وفاته واطلعت على "الديوان" وأفدتُ منه، كما سيأتي عند الكلام عليه. 10 - محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الكريم المعلمي، كتب إليّ يقول: "الفترة التي عشتها مع الشيخ عبد الرحمن بن يحيى سنتين من أول سنة واحد وسبعين 1371 على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم إلى آخر سنة 1372 عامين كاملين ثم دعت الظروف بالعودة إلي اليمن مع والدي ... ". وقرأ عليه "قطر الندى" و"شرح ابن عقيل" وشرح "الآجرومية" وفي الفرائض شرح "الرحبية". وعند مغادرته مكة طلب من الشيخ أن يكتب له وصية جامعة، فكتبها الشيخ بناء على طلبه

وأثنى عليه في أولها فقال: "فقد صحبني الولد الفاضل محمد بن أحمد ... المعلمي وفقه الله تعالى عامين كاملين بمكة المكرمة وحمدت صحبته وأدبه وحرصه على طلب العلم ... " (¬1). 11 - محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الكريم المعلمي، لازمه نحو أربع سنين، وقد كتب إليَّ أنه درس عنده "النحو الواضح الابتدائي" ثلاثة كتب، وكذا ثلاثة الأجزاء الثانوية، وتدرّب عليه بإعراب جزء عمّ كاملاً، وقرأ عليه في الفرائض، والمناهج في الفقه. 12 - محمد بن عثمان الكَنَوي، عمل كاتبًا في مكتبة الحرم المكي حينما كان الشيخ أمينًا عامًّا لها، وأول لقائه بالشيخ كان سنة 1379 (¬2) واشتغل بعد ذلك في فهرسة مخطوطاتها. وربما ساعد الشيخ في نسخ بعض المخطوطات، ثم عمل رئيسًا لقسم المخطوطات بجامعة أم القرى. 13 - محمد بن علي بن حسن الروافي، ترجم له الأكوع في "هجر العلم" (¬3) فقال: "عالم في الفقه والفرائض والنحو، له مشاركة قوية في علم الحديث، درس في ذمار وفي صنعاء، ثم رحل إلى مكة المكرمة سنة (1379 هـ) فأخذ عن بعض شيوخ العلم مثل الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني وعن غيره، وله إجازات ممن أخذ عنهم". ¬

_ (¬1) "الخطب والوصايا" (ص 244). (¬2) "عبد الرحمن المعلمي وجهوده في السنة" (ص 67) لهدى بالي. (¬3) (2/ 899).

14 - محمد سعيد بامردوف العمودي، ذكره الشيخ في رسائله عدة مرات مما يدلّ على علاقة وطيدة به، ووقفت على إجازة له من الشيخ منها نسخة في مكتبة الحرم المكي الشريف. 15 - الحاج محمد فارع، جاء في رسالة له إلى الشيخ: "حضرة سيدي وعمدتي العلامة القدوة الفهامة الشيخ عبد الرحمن ... أخوكم وتلميذكم محمد فارع". وقد وصفه الشيخ في موضع بـ "الشيخ العلامة". 16 - مُشرّف بن عبد الكريم بن محسن المحرابي، له ترجمة في "هجر العلم" (¬1) للأكوع وفيها: "عالم مشارك درس في ذي جبلة، ثم رحل إلى مكة المكرمة، فلازم الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي، وعمل معه، فأقبل على القراءة والمطالعة، وانتفع بشيخه المذكور وشيوخ آخرين، وبقي هناك مدة، ثم ذهب إلي عدن فلازم الشيخ محمد سالم البيحاني، ونقل إلى صنعاء فعُين مديرًا في وزارة التربية والتعليم ثم عُين وكيلًا للهيئة العلمية، فنائبًا لمكتب التوجيه والإرشاد ومستشارًا للهيئة العامة للمعاهد ثم عضوًا في اللجنة الدائمة، جمع ثروة كثيرة من المخطوطات وفيها نوادر لا مثيل لها". وقد أكرمني بزيارة في بيتي سنة 1428هـ، وسجلت معه لقاءً عن الشيخ المعلمي في شريط. ... ¬

_ (¬1) (3/ 1951).

المبحث السابع صلته بعلماء عصره

المبحث السابع صلته بعلماء عصره كان الإِمام المعلمي كسائر العلماء الربانيين، متواصلًا مع العلماء يفيدهم ويفيدونه، وقد كتب الشيخ في هذا الباب (التواصل مع العلماء) كتابة قيّمة بعنوان (صفة الارتباط بين العلماء في القديم) ذكر فيها أمثلة كثيرة من هذا التواصل، وحث فيها على التواصل بين العلماء في مختلف الأقطار، وقد أوردناها في آخر "مجموع الرسائل الحديثية". وقد كان للشيخ صلات عديدة مع علماء عصره، ومنهم على سبيل المثال: - محدث الديار المصرية الشيخ أحمد محمد شاكر (ت 1377)، فقد أرسل إليه الشيخ عدة رسائل بخصوص مسائل علمية، وأثنى الشيخ أحمد شاكر عليه في تحقيقه لتفسير الطبري. - الشيخ العلامة محمد بن عبد الرزاق حمزة المصري (ت 1392) مدير دار الحديث بمكة والمدرس بالحرم المكي الشريف ومؤلف كتاب "ظلمات أبي رية". - فضيلة العلامة الشيخ محمد بن عبد العزيز بن مانع الوهيبي التميمي (ت 1385) رحمه الله تعالى، صاحب كتاب "مختصر عنوان المجد في تاريخ نجد" و"إرشاد الطلاب إلي قضية العلم والعمل والآداب" وغيرهما. - الشيخ المحقق البحاثة سليمان بن عبد الرحمن الصنيع العنيزي المكي (ت 1389) رحمه الله تعالى، كان من أقرب أصدقائه وأحبهم إليه.

- الشيخ العلامة عبد الله بن محمد بن حمد القرعاوي النجدي، (ت 1389) رحمه الله تعالى، ومن الصِّلات بينهما أن القرعاوي أرسل إلى المعلمي ما طبع وما لم يطبع من كتب الشيخ حافظ الحكمي لكي يقوم بتصحيحها ومراجعتها. - الشيخ القاضي عبد الله بن علي العمودي (ت 1398) المعمّر، قاضي ميدي في أيام الإدريسي، كان بينه وبين الشيخ مكاتبات عديدة ومناظرات في مسائل علمية، أثبتّ طرفًا منها في "الرسائل المتبادلة"، وله تاريخ سماه "تاريخ اللامع" ذكر فيه الشيخَ مرارًا أيام كان لدى الإدريسي، ومختصره "تحفة القارئ والسامع" وهو المطبوع الآن. - صاحب الفضيلة الوجيه الشيخ محمد بن حسين نصيف (ت 1391) رحمه الله. ويبدو أن معرفته به وعلاقته قديمة، فقد وقفتُ على رسالة أرسلها إليه الشيخ المعلمي من الهند عام 1355 يستشيره في أمر يتعلق بكتب بقيت عنده للإدريسي، وكيفية مكاتبة أولاده لتسليمها لهم. وبعد مجيء الشيخ إلى مكة قويت العلاقة واستحكمت، وكان علاقة عمل في العلم ودأب على تصحيح الكتب وطباعتها وتوزيعها وما يتعلق بها. - الشيخ العالم السيد فضل الله بن أحمد بن علي الجيلاني (ت 1399) رحمه الله تعالى، صاحب كتاب "فضل الله الصمد في توضيح الأدب المفرد". وقد قدّم الشيخ المعلمي لهذا الكتاب مقدمةً حافلة بطلبٍ منه.

- عبد الله بن أحمد بن مذحج، قال في رسالة إلى الشيخ: "إلى حضرة الصديق الحميم العلامة المحقق مولانا الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي دام بخير آمين". - محمد عبد الله صولان، أَرْسَل للشيخ رسالة في مسألة مشكلة في الفرائض، وأنه لم يعرف من يحلها غيره، ووصفه الشيخ في جوابه إليه بقوله: "سيدي الأستاذ العلامة الشيخ محمد بن عبد الله صولان". - الأستاذ فؤاد سيد (ت 1387)، مدير قسم المخطوطات بدار الكتب المصرية، ذكره الشيخ في حاشية الإكمال: (6/ 322 - 331)، وذكر أنه راسله بخصوص نسبة (العندي)، وقد وقفنا على رسالتين منه إلى الشيخ كلتاهما في سنة 1385. وفي أول لقاء لهما قصة طريفة ذكرها الدكتور محمود الطناحي تدل على شدة تواضع الشيخ المعلمي. قال: "حدثني الأستاذ فؤاد سيد ... قال: كنت في أثناء الحج أتردد على مكتبة الحرم المكي لرؤية المخطوطات وزيارة مدير المكتبة المرحوم الشيخ سليمان الصنيع وكان بين الحين والآخر يأتي إلينا رجل رقيق الحال، يسقينا ماء زمزم. وبعد يومين طلبت من الشيخ الصنيع رؤية الشيخ عبد الرحمن المعلمي، فقال: ألم تره بعد؟ أليس يسقيك كل يوم من ماء زمزم! يقول الأستاذ فؤاد: فتعجبت من تواضعه ورقة حاله، مع ما أعرفه من علمه الواسع الغزير" (¬1). ¬

_ (¬1) "مدخل إلى تاريخ نشر التراث العربي" (ص 205).

- الشيخ محمد بن سالم البيحاني (ت 1391). وكان قد راسله الشيخ يسأله عن نسبة (العندي)، وفي رد البيحاني على رسالته أنه اعتذر له من قلة رسائله إليه، وقد أبان جواب البيحاني عن علاقة جيدة بينهما، واعتراف بفضل الشيخ قال: "أما ما أشرتم إليه من تقصيركم في المراسلات فلا عتب ولا لوم إلا على مثلي فيما يجب لأمثالكم من أهل العلم والفضل، وأعاذك الله من سوء الخلق أو العجز عن أي واجب أو مندوب، ولعلك تعذرني أنا لما تعلم من حالي. وأرجو أن يكون قد وصلكم القسم الأول من كتابي "أشعة الأنوار على مرويات الأخبار"، من طريق الشيخ عبد الملك بن إبراهيم". - الشيخ عبد الحق الهاشمي (ت 1392)، وقد طلب من الشيخ أن يكتب تقريظًا على كتاب "مسند الصحيحين"، فكتبه. زودني ابنُه شيخُنا عبد الوكيل بنسخة منه، وأخبرني أن الشيخ المعلمي كان بعض الأحيان يقف على حلقة والده، فيسأله الشيخ المعلمي - وهو واقف - عن مكان حديث أو أثر في صحيح البخاري، فيقول: إنه في زاويةٍ من زواياه. وقد ذكر الشيخ في رسالة منه للشيخ محمد نصيف أنه سلّمه نسخةً من "مجاز القرآن". ***

المبحث الثامن ثناء العلماء والفضلاء عليه

المبحث الثامن ثناء العلماء والفضلاء عليه الثناء على الشيخ المعلمي كثير من العلماء الفضلاء، من شيوخه وأقرانه وتلاميذه، نسوق هنا طائفة من كلماتهم: 1 - قال والده الشيخ يحيى المعلمي (ت 1361): "الولد الأجل الأمجد العلامة القاضي عبد الرحمن ... حرسه الله تعالى ووفقه لرضاه" (¬1). 2 - الإِمام محمد بن علي الإدريسي (ت 1341): "محبّنا الأجل العالم العامل الأمثل وجيه الإِسلام عبد الرحمن المعلمي" (¬2). 3 - الحسن بن علي الإدريسي: "محبّنا الفقيه العلامة وجيه الإِسلام عبد الرحمن .. المعلمي" (¬3). 4 - القاضي عبد الله العمودي (ت 1398): "حضرة أخينا ومحبّنا الهمام وجيه الإسلام قاضي القضاة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي" (¬4). 5 - ناظم دائرة المعارف السيد هاشم الندوي: "حضرة العلامة الجليل والفهامة النبيل مولانا الشيخ عبد الرحمن اليماني". "الأستاذ الفاضل العلامة مولانا الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي ولله دره، قد اجتهد في تصحيح الأسماء والأنساب ¬

_ (¬1) كان عمر الشيخ حينها 31 عامًا. (¬2) كان عمره 24 عامًا. (¬3) كان عمره حينها 25 عامًا. (¬4) كان عمره حينها دون الثلاثين حين كان رئيس القضاة في أيام السيد الإدريسي.

والمشتبهات، واستوعب النظر في الاختلافات من حيث علم الرجال ونقد الروايات من جهة الجرح والتعديل". 6 - الأستاذ فؤاد سيّد (ت 1387): "أستاذنا الجليل العلامة الشيخ عبد الرحمن المعلمي .. متّعه الله بالصحة والعافية والهناء". 7 - الشيخ محمد بن سالم البيحاني (ت 1391): "حضرة المحترم الشيخ العلامة الجليل بقيّة المحققين عبد الرحمن بن يحيى المعلمي". 8 - الشيخ محمد بن عبد الرحيم المعلمي: "كوكب الأدباء، وتاج النجباء، من تسنَّم قُنَن المعالي، وناطح بهمته كل عالي، سليل الأكارم, ... الآخذ بمجامع القلوب بلا مرا الشيخ العلامة القاضي عبد الرحمن بن يحيى المعلمي أدام الله معاليه وخلد لياليه، وحفظ ذاته من كل سوء وصرف عنه الشرور ... ". 9 - الشيخ فضل الله الجيلاني (ت 1399): "جامع الفضائل والعلوم مولانا الشيخ عبد الرحمن اليماني". 10 - الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي (ت 1413): "حضرة العالم الخبير الناقد البصير العلامة الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي" (¬1). وقال: "كان أوحد عصره في أسماء الرجال، وَسِيع المعرفة بالمخطوطات في ذلك الفن وما يناسبه ... " (¬2). ¬

_ (¬1) ما سبق من كلمات الثناء مقتبس من رسائل خاصة أرسلها هؤلاء العلماء إلى الشيخ، انظرها في "الرسائل المتبادلة" في آخر هذا المدخل. (¬2) "حياة أبو المآثر" (ص 263).

11 - العلامة أحمد محمد شاكر (ت 1377): "وقد كان حقق - يعني: التاريخ الكبير للبخاري - مصححه العلامة الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي" (¬1). 12 - الشيخ محمد حامد الفقي (ت 1378) قال في مقدمته لرسالة المعلمي في جواز تأخير المقام: "كتب أخبرنا المحقق الشيخ عبد الرحمن المعلمي اليماني هذه الرسالة القيِّمة". 13 - العلامة مفتي المملكة محمد بن إبراهيم آل الشيخ (ت 1389) قال في تقدمته لرسالة المعلمي حول مقام إبراهيم وجواز تأخيره: "قد قُرئت عليَّ هذه الرسالة التي ألَّفها الأستاذ عبد الرحمن المعلمي اليماني ... فوجدتها رسالة بديعة، وقد أتى فيها بعين الصواب" اهـ. ووصفه بقوله: "عالمًا خدم الأحاديث النبوية وما يتعلق بها". 14 - العلامة محمد ناصر الدين الألباني (ت 1420): "هذا كلام جيد متين من رجل خبير بهذا العلم الشريف، يعرف قدر كتب السنة وفضلها، وتأثيرها في توحيد الأمة" (¬2). وقال في مقدمته لكتاب "التنكيل": "تأليف العلامة المحقق الشيخ عبد الرحمن بن يحيى بن علي اليماني رحمه الله بيَّن فيه بالأدلة ¬

_ (¬1) حاشية "تفسير الطبري": (1/ 33). (¬2) مقدمة تحقيقه لـ "الأدب المفرد"، قاله تعليقًا على كلام للشيخ في مقدمته على "فضل الله الصمد شرح الأدب المفرد" للجيلاني، وهي مطبوعة ضمن "المقدمات وما إليها".

القاطعة والبراهين الساطعة تجني الأستاذ الكوثري على أئمة الحديث ورواته ... مبرهنًا عليها من كلام الكوثري نفسه في هذا الكتاب العظيم بأسلوب علمي متين، لا وهن فيه ولا خروج عن أدب المناظرة وطريق المجادلة بالتي هي أحسن، بروح علمية عالية، وصبر على البحث والتحقيق كاد أن يبلغ الغاية إن لم أقل: بلغها، كل ذلك انتصارًا للحق، وقمعًا للباطل، لا تعصبًا للمشايخ والمذهب، فرحم الله المؤلف، وجزاه عن المسلمين خيرًا". 15 - العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد (ت 1429): "العلامة المعلمي م سنة 1386 هـ رحمه الله تعالى له جهود في خدمة السنة وعلومها كما في "التنكيل" و"طليعته" وفي تحقيقاته الحافلة في كتب الرجال والأنساب والموضوعات أبدى يراعُه فيها براعةً ودررًا في أصول التخريج وقواعد الجرح والتعديل، في جهود انتشرت الاستفادة منها في كتب المعاصرين" (¬1). وقال: "ذهبي عصره العلامة المحقق المعلمي عبد الرحمن بن يحيى". ثم قال في الحاشية: "تحقيقات هذا الحبر نقش في حجر، ينافس الكبار كالحافظ ابن حجر، فرحم الله الجميع، ويكفيه فخرًا كتابه التنكيل" (¬2). 16 - العلامة محب الدين الخطيب الدمشقي (ت 1389) في مقدمته ¬

_ (¬1) "براءة أهل السنة" (ص 42). (¬2) "التأصيل" (ص 27).

لكتاب "كشف المخدَّرات": "حضرة العالم المحقق الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي، الذي عرف الناس فضله بما صدر عنه من تصحيح كثير من الكتب الإِسلامية". 17 - العلامة إسماعيل بن علي الأكوع (ت 1424): "عالم محقق في الفقه والنحو، مبرز في علوم الحديث، شاعر أديب" (¬1). 18 - شيخه محمد عبد القدير الصديقي (ت 1381): "إن الأخ الفاضل والعالم العامل الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي العتمي اليماني، قرأ عليَّ من ابتداء "صحيح البخاري" و"صحيح مسلم" واستجازني ما رويته عن أساتذتي، فوجدته طاهر الأخلاق، طيب الأعراق، حسن الرواية، جيد الملكة في العلوم الدينية، ثقة عدل، أهل للرواية بالشرط المعتبر عند أهل الحديث" (¬2). 19 - الشيخ المحدث حماد بن محمد الأنصاري (ت 1418): "إن الشيخ عبد الرحمن المعلمي عنده باع طويل في علم الرجال جرحًا وتعديلًا وضبطًا ... عنده مشاركة جيدة في المتون تضعيفًا وتصحيحًا، كما أنه ملم إلمامًا جيدًا بالعقيدة السلفية" (¬3). ¬

_ (¬1) "هجر العلم": (2/ 1266). (¬2) من إجازة له للشيخ المعلمي كتبت سنة (1346) منها نسخة في مكتبة الحرم المكي الشريف رقم [4291]. (¬3) "عبد الرحمن المعلمي وجهوده في السنة" (ص 53) لهدى بالي، وهي رسالة علمية مقدمة لكلية التربية للبنات، منها نسخة محفوظة في مكتبة الحرم المكي الشريف.

20 - العلامة أبو تراب الظاهري (ت 1423): "هو علم من العلماء الأعلام البارزين، كان عبدًا أوَّاهًا ورعًا زاهدًا تقيًّا، لم يكن يدنس ثوبه برذيلة ولا اخترام مروءته". وقال أيضًا: "كان نحويًّا بارعًا وعروضيًّا، وذا معرفة باللغة وغريبها، حفظ الألفية وبعض المتون في الأصول والفقه، ولقي الأكابر" (¬1). 21 - المؤرخ إسماعيل بن محمد الوشلي اليمني (ت 1356): "الفقيه العلامة الأديب عبد الرحمن بن يحيى المعلمي ... رأيته فقيهًا نحويًّا أديبًا لطيفًا شاعرًا فصيحًا" (¬2). 22 - الدكتور محمد سلطان محيي الدين: "هو نادرة الزمان، علامة الأوان، والأستاذ الناقد، والباحث المحقق، الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني الشافعي كان من أجلِّ العلماء الربانيين، وفضلاء اليمن الكبار ... كان بارعًا في جميع العلوم والفنون، وتمهّر في علم الأنساب والرجال، ونبغ في تصحيح الكتب والتعليق عليها، وله براعة في البحث والتحقيق، وتبحر وتمييز بين الخطأ والصواب، وكان واسع الاطلاع على تاريخ الرجال ووقائعهم ... حقق كثيرًا من المخطوطات القيِّمة، وعلق عليها التعليقات المبسوطة، والتقديمات النافعة، كثيرة الفوائد العلمية والتاريخية" (¬3). ¬

_ (¬1) مقال في جريدة المدينة في صفر سنة 1386. (¬2) "نشر الثناء الحسن": (3/ 219). (¬3) "علماء العربية ومساهماتهم في الأدب العربي في العهد الأصفجاهي" (ص 424 - 425).

23 - الدكتور محمود محمد الطناحي (ت 1419): " ... كتاب "الأنساب" للسمعاني، الأجزاء الستة الأولى بتحقيق العلامة المرضيِّ عنه إن شاء الله عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني المتوفى سنة 1386 هـ بمكة البلد الأمين" (¬1). 24 - الدكتور عبد الوهاب بن عبد اللطيف في تقديمه لكتاب "الفوائد المجموعة" للشوكاني: "الأستاذ الشيخ عبد الرحمن اليماني لا يجهل علمه باحث في علوم الحديث، وله منّة على الباحثين بما يحققه من الكتب الحديثية التي نشرت في الهند، وهو ذو باع طويل في علم رجال الأثر، وقد اجتهد في تحقيق هذا الكتاب ونقد رواياته ورواته، معتمدًا على أوثق المصادر، حتى إنه صحح كثيرًا من أغاليط المؤلفات في هذا الفن، وهو بذلك جدير، وكان في علمه أمينًا رزينًا إذا لم يعلم يقول في الراوي المجهول: لم أجده، لا أعرفه، وفيمن لم يتبين له أمره: لم يتبين لي حاله، بعبارة ضابطة محققة". 25 - العلامة حمد الجاسر (ت 1420): "علامة جليل، وباحث صَرَف كلَّ جهده وكل عمله لكي يخرج الكتاب (الإكمال لابن ماكولا) في أصحّ صورة وأجملها من حيث الكمال والجمال، هو شيخنا العلامة التقي الورع الجليل الشيخ عبد الرحمن ... المعلمي أمين مكتبة الحرم المكي" (¬2). ... ¬

_ (¬1) "الموجز" (ص 90). (¬2) مجلة العرب، السنة 2، 1387، مقال لحمد الجاسر.

المبحث التاسع مؤلفاته وتحقيقاته

المبحث التاسع مؤلفاته وتحقيقاته * تمهيد مؤلفات العَالِم من أعظم ما يدلّ على علمه وتحقيقه وتبحّره، وقد ضرب العلامة المعلمي بنصيب وافر في هذا الباب، فهو يعدّ من المكثرين من التأليف، إذ تجاوز عدد مؤلفاته مئة وعشرين كتابًا ورسالة، متفاوتة الحجم ما بين رسالة لطيفة وكتاب في مئات الصفحات. والكلام على خصائص مؤلفات الشيخ ومنهجه في الكتابة والتأليف يحتاج إلى مكان أوسع ووقت أرحب، لكن يمكن أن نجمل أهم خصائص مؤلفاته في نقاط: 1 - غالب مؤلفات الشيخ لم تجر على النمط السائد في ذلك العصر وما قبله، وهي طريقة المتن والشرح أو التقريرات، بل غالب مؤلفاته مبتكر، ويلاحظ أن الرسائل الصغيرة لا تقاس بحجمها، فرُبّ رسالة صغيرة فيها من الإبداع والتحقيق ما يفوق الكتاب الكبير. 2 - نزوع المؤلف إلى الاجتهاد، وترجيح ما يعضده الدليل والحجة، حتى وإن خالف الجمهور أو المذهب. 3 - من مواطن القوّة في كتبه أنها تسير غالبًا على طريقة واحدة لا تكاد تختلف من حيث القوة والأصالة وصفاء المنهج ووضوح الطريق، لا فرق بين متقدم منها ومتأخّر. 4 - الأمانة العلمية والدقة البالغة، فقد ناقش الإِمام عددًا من المؤلفين

فتوخّى معهم غاية الأمانة بنقل عباراتهم بحروفها، وقد ثبت ذلك بالمقارنة الدقيقة مع أصول تلك الكتب. 5 - الإنصاف والتجرّد، فكان هدفه البحث عن الحق الذي يعضده الدليل والحجة، يعرضها بمنهج استدلالي متين، يغوص بك في المسائل المشكلة والمضايق المعقدة فيحلّها بالتوجيه والتعليل والحجة والدليل، لا بقول فلان ولا علاّن، فالأقوال عنده يُستدلّ لها لا بها. 6 - من أحسن خصائص كتبه وبحوثه أنه يورد على القول المراد ترجيحه كل الإشكالات التي قد تطرأ على الذهن ثم يحلّها ويناقشها حتى لا يترك شبهة إلا أتى عليها، حتى إن بعضَ ما يورده لم يرد على لسان أصحاب ذاك المذهب المردود عليه، وهذا من إنصافه وقوة اطمئنانه لما رجّحه واحتجّ له. 7 - من جميل ما يقف عليه القارئ لكتب هذا الإِمام: أنه يذكر الشبهة أو الحجة لأصحاب القول المخالف ويقررها تقريرًا يبدو لك لأول وهلة أن حلّه في غاية العسر، ثم ينقضه ويحلّه، فيبدو لك كأسهل ما يكون جوابًا وحلًّا. فالشيخ عجيب في حلّ العقد والمعضلات. 8 - استعمال لغة العلم في أسلوب أدبيّ عالٍ، بعيد عن التكلف والتعقيد أو الابتذال، فتقرأ للشيخ الصفحات الطوال في أعقد المسائل ولا تشعر فيها بملل ولا خلل ولا سآمة، كأنك تقرأ لابن تيمية أو غيره من كبار الأئمة. 9 - كشفت مؤلفات الإِمام عن تعدُّد مواهبه، ومعرفته بأكثر الفنون الإِسلامية، وبلوغه درجة التحقيق والاجتهاد في كثير منها.

الأغراض الحاملة للشيخ على التأليف

10 - تكشف لنا مؤلفات الشيخ قوّته على الصبر على البحث والجَلَد على التفتيش والتنقيب والتتبّع والمقارنة، في وقت لم تكن الفهارس قد ظهرت إلا في أضيق الحدود، فقد صرّح الشيخ أنه ربما قرأ المجلد الكامل لاستخراج عبارة أو كلمة، وقد يبقى في تحقيق لفظة أو عبارة أيامًا، ويُكاتب العلماءَ والباحثين في أقطار الأرض من أجل ضبط لفظة أو الوقوف على مصدر قصة أو نحو ذلك. 11 - مع ما شرحناه من خصائص كتب الشيخ، وما وقع في كتبه من التحرير والتدقيق وحل عويصات المسائل لن تجده يفخر بها أو يمدح كتبه ومصنفاته، ولو وقعت بعض هذه التحقيقات لغيره لتبجَّح بها في المجالس والمحافل والكتب. هذا بعض ما تميزت به كتب الإِمام، والناظر فيها بعين الإنصاف يعلم أنها من أحسن ما كتبه المتأخرون علمًا وتحقيقًا ولغةَ بيان وتنوّعًا في المعارف. الأغراض الحاملة للشيخ على التأليف يمكن ذكرها في الآتي: 1 - إجابةً لسؤال سائل، كما في كتاب "تحقيق الكلام في المسائل الثلاث" ورسالة "إدراك الركعة بإدراك الركوع"، و"اللطيفة البكرية"، و"الأنوار الكاشفة" وغيرها. 2 - تقييدًا للمسألة بعد مذاكرة أو مناظرة، وذلك في رسائل عديدة في إعراب بعض الآيات (انظر مجموع رسائل التفسير)، ومسألة اشتراط الصوم في الاعتكاف، ومسألة توكيل الولي المجبر، وبعض المسائل اللغوية والأدبية.

3 - انتصارًا للحق وبيانًا للصواب وردًّا على المخالفين، كما في "التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل" وملحقاته من الطليعة والتعزيز وشكر الترحيب، ويمكن أن يدخل كتاب "الأنوار الكاشفة" في ذلك، والرد على الفراهي، والرد على بعض شرَّاح جامع الترمذي من الحنفية، والرد على الجيراجي صاحب كتاب "الوراثة في الإِسلام" و"عمارة القبور" وبعض الرسائل الفقهية. 4 - تحقيقًا لبعض المسائل الكبرى أو القضايا التفصيلية سواء كانت فقهية أو عقدية، كما في كتابه العظيم "رفع الاشتباه عن معنى العبادة والإله ... " وكتاب "الوحدان"، و"معجم شواهد النحو واللغة"، و"إرشاد العامه إلى الكذب وأحكامه"، و"حكم العمل بالحديث الضعيف" ورسائل في البدعة، وجملة من الرسائل الحديثية والفقهية والتفسيرية والعقدية. فإن قيل: إن أغلب كتب الشيخ مسوّدات، فكيف يمكن طباعة المسوّدة وفيها من الضرب والتخريج والتحويل ما يزيد من صعوبة العمل إذا نظرنا إلى كون تلك الكتب والرسائل نسخًا فريدة؟ ولعل المؤلف لا يرضى بطباعة كتبه على هذا الحال. فالجواب من وجوه: الوجه الأول: أن الشيخ من العلماء الذين يصدق في مؤلفاتهم القول: "إن مبيّضاتها مسوّدات"، فمهما بلغ الكتاب حدّ التمام فإن الشيخ لا يزال يتعاهده بالإضافة والتصحيح والتنقيح حتى يعود مسوّدة كما بدأ، ولذلك نجد الكتاب الكثير الضرب والهوامش والتحويل إذا تمّ نسخه ووُضِعت كل

إشارات المؤلف في مواضعها = غدا كتابًا متسلسل الأفكار مؤتلف المقاطع متناسق الفقرات، مترابط الأجزاء، لا تنكر منه شيئًا كأنه مبيَّضة نهائية. والشأن في كتب الشيخ كالشأن في مؤلفات شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله، فغالب ما تركه بخطه مسوّدات استخرجها تلاميذه كما شرحناه في غير موضع. الوجه الثاني: عُرف في تراثنا ما يسمى باستخراج الكتاب من مسوّداته، وقد وقع هذا كثيرًا في جملة من كتب التراث. يراجع "الكتاب العربي المخطوط" لأيمن فؤاد سيد، ولي بحث في هذه القضية التراثية. الوجه الثالث: أن الشيخ رحمه الله كان حريصًا على طبع كتبه ورسائله ومجاميعه وأشعاره، وقد صرّح بذلك في عدة مناسبات سواء حين كان عند الإدريسي أو بعد ما استقر في الهند أو وقت استقراره في مكة المكرمة؛ فإليك هذه المواضع: 1 - قال في وصية له أيام مقامه لدى الإدريسي قبل سنة 1341: "أسأل والدي وأخي الشقيق أن يجمعا ويدوِّنا ما يوجد معي من نظمي أو مذاكرتي. وإذا تيسَّر نشره فذلك خير. وعلى أمير المؤمنين - أيده الله - أن يجمع ما يوجد من مدحي لجنابه العالي، ويأمر بنسخه وطبعه ونشره، فذلك تمام حقِّي عليه". 2 - وقال في رسالة لأخيه أحمد مؤرخة في سنة 1356: "أنا مشتغل بتأليف رسالة مهمة وأحب أن أطبعها على نفقتي إن أمكن، لأن لا أطمع أن أحدًا يساعدني بطبعها، ولا تطاوعني نفسي أن أطلب المساعدة من أحد".

كتب الشيخ المعلمي وآثاره

3 - وقال في رسالة له إلى الشيخ أحمد شاكر: "في عزمي أن أفرد من كتابي ترجمة الإِمام الشافعي وترجمة الخطيب، لأن الكلام طال فيها فصار كل منها يصلح أن تكون رسالة مستقلة. فهل هناك في القاهرة مِن الشافعية مَن ينشط لطبع تينك الرسالتين على نفقته. فإن كان فأرجو من فضيلتكم أن تعرّفوني حقى أرسلهما إليكم وتنوبوا عني فيما يلزم ... ". 4 - وقال تلميذه محمد بن أحمد المعلمي فيما كتبه إليَّ: "إن هيئة سعودية زارته، فأراهم بعض مؤلفاته فقالوا له: لماذا لا يهتم بطبعها؟ فأفاد أنه إذا رأى الله سبحانه وتعالى أن فيها إفادة للإسلام والمسلمين فسيأتي الله بمن يطبعها". فهذه النصوص تدلّ على حرص الشيخ على طباعة كتبه ورسائله ومذكّراته، وحرصه على ذلك كان من وقت مبكّر، فنحن بحمد الله ما زِدْنا على أن نفّذنا وصية الشيخ، وساعدنا على طبعها بلا طلب منه، ونَشِطنا إلى جمع تراثه كاملًا لتعميم نفعه، فلعلّنا ممن اختارهم الله سبحانه لنشر علمه وتراثه، فنكون مَن أشار إليهم الشيخ بقوله: "إذا رأى الله سبحانه وتعالى فيها إفادة ... فسيأتي الله بمن يطبعها". وقد قسمنا الكلام على كتب الشيخ المعلمي وآثاره على النحو التالي: أولاً: مؤلفاته بحسب ترتيبها في هذه الموسوعة ثانيًا: كتبه المفقودة أو التي لم تدخل في هذه الموسوعة ثالثًا: تحقيقاته

أولا: مؤلفاته بحسب ترتيبها في هذه الموسوعة

أولاً: مؤلفاته بحسب ترتيبها في هذه الموسوعة وقد رتبنا الكتب في هذه الموسوعة على الفنون، فبدأنا بالعقيدة، ثم التفسير، ثم الحديث، ثم الفقه، ثم أصول الفقه، ثم اللغة، ثم المتفرقات. أولاً: قسم العقيدة يحتوى هذا القسم (14) كتابًا ورسالة. 1 - كتاب العبادة كتاب "رفع الاشتباه عن معنى العبادة والإله والفرق بين التوحيد والشركِ بالله" من أوسع الكتب في بيان توحيد العبادة، تناول فيه المؤلف قضايا عدَّة ما بين مقدمات وتمهيدات مطوَّلة أراد بها الإسهام في تجلية معنى الإله والعبادة، مبيِّنًا أهمية التوحيد وخطورة الشرك، وشروط لا إله إلا الله، وكيف يدخل المرء في الإِسلام، وبم تقوم الحجة على العباد؟ وحُكم من تلبس بشركٍ جهلاً أو غلطًا. واستطرد المؤلف إلى بيان الأمور التي يحتجّ بها بعض الناس في العقائد وهي غير صالحة للاحتجاج؛ كالتقليد، والحديث الضعيف، والرأي المجرَّد، والاعتساف في الاستدلال بالكتاب والسنة كيفما اتفق دون مراعاة لقواعد العربية والمنقول عن السلف وبلاغة القرآن، ولا جمعٍ للنصوص الواردة في الموضوع الواحد؛ فإن الكتاب والسنة كالكلام الواحد. وبين المؤلف أن المشركين لم يكونوا يعتقدون في الأصنام أنها قادرة على كل شيء، خالقة، رازقة، مدبرة للعالم. ثم شرع بعد ذلك في تعريف

2 - تحقيق الكلام في المسائل الثلاث

لفظي (العبادة والإله) وتحقيق معناهما، وسرد أعمال الأمم السابقة واعتقاداتها تجاه معبوداتها ليستخلص من ذلك القدرَ المشترك بين تلك الأمم فيكون هو التأليه والعبادة، معِّرفًا العبادة تعريفًا جامعا مانعًا. وعقد فصولاً في تفسير عبادة الملائكة والأصنام والشياطين والهوى والأحبار والرهبان وغيرها مع تفصيلات في قضايا السجود لغير الله والقيام للقادم وأحواله، والدعاء وأحكام الطلب والتوسل بما لا مزيد عليه. وأفاض أيضًا في توضيح أحكام الطِّيرَة والرقى والتمائم والتولَة والسحر والحلف بغير الله. كل ذلك باستقراءِ الكتاب والسنة والتاريخ دون أن يقلِّد أحدًا في هذه المسائل، مع جمال في التعبير وجلالة في المعاني. فالكتاب بحقّ من أهم كتب الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي، فيجدر بكل طالب علمٍ قراءته والاستفادة منه. والكتاب يمثل المجلدين الثاني والثالث من هذه الموسوعة وعدد صفحاته 1300 صفحة. وكان قد وقع في نسخه الخطية نقص كبير، لكنا بحمد الله قد عثرنا على أكثر هذا النقص، ونعتقد أنه لم يُفقد من الكتاب إلا صفحات قليلة، والحمد لله. 2 - تحقيق الكلام في المسائل الثلاث ألَّفه الشيخ سنة 1344 في إندونيسيا استجابةً لرغبة سائلٍ عن كتاب (المسائل الثلاث) للشيخ أحمد بن محمد السوركتي (ت 1364)، حيث طلب منه أن يُبدي رأيه فيه وفي مؤلفه إجمالًا ثم يتكلم على هذه المسائل تفصيلاً، وألحَّ عليه السائل، فاستعان بالله وألَّف هذا الكتاب.

والكتاب يحتوي على الكلام في ثلاث مسائل رئيسة: الأولى: في الاجتهاد والتقليد. الثانية: في السنة والبدعة. الثالثة: في النداء للغائبين والموتى وغيرهم. وفي المسألة الثانية ستة مباحث: الأول: البناء على القبور. الثاني: اتخاذ القبور مساجد أو اتخاذ المساجد على القبور. الثالث: زيارة القبور. الرابع: التبرك. الخامس: التوسُّل. وفي المسألة الثالثة ثلاثة مقامات: الأول: في الاطلاع على الغيب. الثاني: في تصرُّف بعض بني آدم في الكون. الثالث: النداء والطلب. ويعتبر هذا الكتاب من نوادر كتب المشروع، إذ لم يذكره أحد من الباحثين قبل ذلك، وقد كانت أوراقه مشتتة ومبعثرة في عدة مجاميع، وقد وفقنا الله تعالى لمعرفة كنهه وموضوعه، ثم تحقيقه والعناية به بعد تعب وجهد لم نواجهه في أيّ كتاب آخر، فالحمد لله الذي وفق وأعان. ويمثل هذا الكتاب المجلد الرابع من المشروع، ويقع في 581 صفحة.

3 - عمارة القبور في الإسلام (المبيضة والمسودة)

3 - عِمارة القبور في الإِسلام (المبيَّضة والمسوّدة) ناقش هذا الكتاب مسألةً من مسائل الفقه من حيثُ أصلُها، ولها تعلُّق بالعقيدة من حيث نتائجُها وما تفضي إليه، وهي مسألة البناء على القبور وحكمها في الإِسلام؛ فحرّر القولَ فيها على طريقة الاجتهاد؛ من ذكر النصوص في المسألة، ثم النظر فيها ثبوتًا ودلالةً، على نحوٍ لم يسبقه إليه أحد ممن تكلم فيها، على عادة المصنف رحمه الله في التحقيق والتحرير. وقد كُتب في هذه المسألة عدة مصنفات، وذكر المؤلف في مقدمة رسالته هذه أنه اطلع على بعض ما أُلف فيها، فأراد هو أن ينظر فيها نظرَ متحرٍّ للحق بدليله من الكتاب والسنة. وقد كتب المؤلف رسالته هذه عدة مرات، وفي كل واحدة منها ما ليس في الأخرى، فرأينا أن ننشر نسختين منها، سمينا الأولى بـ "المبيضة" والثانية بـ "المسودة"، والذي حملنا على نشر المسوّدة أن فيها قواعد عديدة لا وجود لها في "المبيضة"، لعل الشيخ تركها اختصارًا، أو عرضها بطريقة أخرى فوّتت بعض الفوائد. وهذا المجلد يمثل المجلد الخامس في الموسوعة، ويقع في 479 صفحة مضمومًا إليه الكتاب الآتي بعده وهو "يُسر العقيدة الإِسلامية". 4 - يُسْر العقيدة الإسلامية وقد سمّاها المؤلف بهذا الاسم، وباسم آخر هو "دين العجائز" فاخترنا هذا المثبت لوضوح دلالته على الكتاب. وهذه رسالة أراد منها مؤلفها تسهيل العقيدة وتيسيرها كما أفصح عن

* مجموع رسائل العقيدة

ذلك في مقدمتها، فقد ذكر اختلاف الناس في العقائد وتفرّقهم، وأنواع الكتب المؤلفة فيها، وأنها بأنواعها الثلاثة "المختصرة، والمتوسطة، والمطولة" لا تفضي إلي العلم اليقين والاطمئنان، بل إلى الشك والحيرة والتقليد، وقال: "فأحببتُ أن أكتب رسالةً أوضِّح فيها الكلام، وأُقرِّب المرام، وأحرص على تقرير الحجة على وجهٍ يشفي غليل المستفيد، ويخرجه إن شاء الله تعالى عن الحيرة والتقليد". إلا أنه لم يتمكن من إتمامها ليتحقّق له مراده. فلم نعثر إلا على هذه القطعة المنشورة. وقد جعلنا هذه الرسالة في المجلد الخامس من الموسوعة مع رسالة "عمارة القبور في الإِسلام" وعدد صفحاتها 137. * مجموع رسائل العقيدة: ويمثل المجلد السادس من الموسوعة ويقع في 480 صفحة، وفيه عشر رسائل: 5 - حقيقة التَّأويل تكلَّم فيها عن التأويل الباطل، وقدّم بتعريفه لغة واصطلاحًا، وإطلاقاته على الرؤيا والفعل واللَّفظ، ثم ذكر مقدِّمة في الصِّدق والكذب، وتشديد الشارع في الكذب وما فيه من المفاسد، والترخيص في بعضه والتورية الجائزة، وحكم التأويل، وضروب نصوص العقيدة التي تؤوَّل، ثم خلاف الناس في آيات صفات الله، ودحض حُجج متأوِّليها، وتباين الفِرَقِ المثبتة لصفات الله، وأنَّ إثبات معناها على ظاهرها لا يلزم منه التشبيه، وقصور

6 - حقيقة البدعة

العقول وخطئها في كثير من الأمور، وتفصيل القول في المتشابه والمحكم، وموقفه من تأويل الأخبار الواردة في نصوص الشرع. وتقع هذه الرسالة في 80 صفحة. 6 - حقيقة البِدْعة بيَّن فيها بطلان العمل بالبِدع، وأنَّ الدِّين كلَّه من وضع المشرِّع، ثم بيّن بالأمثلة والشرح أنَّ الاستدلال على مشروعيَّة أيِّ بدعةٍ لا يخرج عن أن يكون دليلًا شرعيًّا، أو يكون فيه شُبْهَة دليلٍ للعامِّي، أو يكون فيه شبهة دليلٍ للمجتهد، ثمَّ بيَّن أنَّ البدعة وضلالها وذمَّها معلوم عند الناس، ولكن يخفى عليهم حكم أهل البِدع، والطريق التي يتحقَّق بها العلم بالبدعة، ثم أفاض في ذكر ذلك. وتقع هذه الرسالة في 37 صفحة. 7 - صَدْع الدُّجُنَّة في فَصْل البِدعة عن السُّنَّة قصد بها إيضاح الفرق بين السُّنَّة والبدعة وتعيين الحدود الفاصلة بينهما على وجهٍ يفهمه أكثر طلبة العلم والأذكياء من العوام، فناقش بعض التعريفات المذكورة في هذا الباب، وما عليها من اعتراضات، مع أمثلة وشرح، ثم خلص في آخر رسالته إلي أنَّ التَّعريف الاصطلاحي المختار عنده للبِدعة هو: "أمرٌ أُلْصِق بالدِّين، ولم يكن من هَدي النَّبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، لا بالفعل ولا بالقوَّة". وتقع هذه الرسالة في 15 صفحة.

8 - الحنيفية والعرب

8 - الحنيفيَّة والعرب ذكر فيها نصوصَ أهل الكتاب على أنَّ الدِّين الحقَّ بقي في عرب الحجاز وما حولها فوق عشرين قرنًا بعد إبراهيم عليه السَّلام، وأنَّهم بعدُ غيَّروا أشياء وبقوا متمسِّكين بأشياء، حتى بعث الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، وما في ذلك من فضل العرب على بني إسرائيل من جهة طول مدَّة تمسُّكهم بالحنيفيَّة ملَّة إبراهيم قبل دخول الشِّرك فيهم، مع قِلَّة الأنبياء فيهم وبُعد عهدهم بهم، وناقش ضمنًا بعض كلام مؤلف كتاب "إظهار الحق" في تفسيره نصوص الكتاب المقدَّس، وحقّق فيها نسب "عمرو بن لُحَيًّ" وأصل "النبت" و"قيدار" ولد إسماعيل. وتقع هذه الرسالة في 15 صفحة. 9 - عقيدة العَرَب في وثنيَّتهم أجملَ فيها بيان عقيدة العرب الجاهليين في سبع فقرات، بيَّن في أولها توحيد العرب وإقرارهم في جاهليَّتها بربوبيَّة الله تعالى في الجملة، وفي الثانية تناقض إقرارهم بالربوبيَّة مع شركهم في الألوهيَّة، وفي الثالثة نسبتهم البنات لله تعالى، والأسباب المحتملة لذلك، وفي الرَّابعة تاريخ دخول الوثنيَّة في بلادهم، وفي الخامسة نصبهم الأوثان وأنَّهم لا يعبدون ذواتها بل هي صورٌ لمعبوداتهم، وفي السَّادسة أصل تسمية أوثانهم بأسماء أنثويَّة، وعلاقة ذلك باعتقادهم في الملائكة أنها بنات الله، وفي الفقرة الأخيرة معتقدهم في الملائكة، وأنهم يعدّونهم وسائط تقرِّبهم إلى الله زُلفى. وتقع هذه الرسالة في 24 صفحة.

10 - الرد على حسن الضالعي

10 - الردّ على حسن الضالعي ردّ فيها على حسن بن إبراهيم باهارون الضَّالعي الحلولي، ونقل حاله عن بعض مشايخه وأصحابه، وفيها إثبات قول الضالعي بالحلول، وبيان جهله الظاهر بالشرع ونصوصه، ودعواه التتلمذ على مشايخ الأقطار والانتساب لآل البيت، واستنكافه عن الحق بعد ما تبيَّن له باعترافه، ثم مناقشته فيما أظهره من القول بالحلول ورفع التكاليف عن الناس، وإنكار صحَّة نبوَّة نبينا - صلى الله عليه وسلم -، ومنازعته في ثبوت وإعجاز القرآن. وهذه الرسالة كتبها المؤلف في عدن سنة 1341 هـ, وقد اهترأ كثير من أوراقها وتآكل أطراف البعض الآخر، وجرى الشيخ فيها على طريقته المعهودة في الحوار والنقاش، وتقع في 69 صفحة. 11 - ما وقع لبعض المسلمين من الرياضة الصُّوفية والغلوّ فيها ناقش المؤلف فيها أحدَ الصوفية المدّعين لاكتساب بعض خوارق العادات، وذكر ما ثبت منها كالعين والتنويم المغناطيسي والرقية، وما يختلط فيه السحر مع الكرامة والمعجزة، وتشابه الصوفيَّة مع الهندوس في التعبّد، واشتباه عباداتهم بالمشروع والمأثور عن السلف، وأغراض متعبِّديهم وولع الشياطين بهم، وبيّن سحر الأبصار والأدمغة، وردّ على المشكِّكين في صحَّة السحر والكرامة، وردّ على المجيزين لعبادات الصوفية، والمتعاطين للسحر بحجّة إيذاء الكَفَرة، ومن زعم بأنّ معجزات الأنبياء حاصلة بقوى نفسيَّة مكتسبة. وتقع هذه الرسالة في 46 صفحة.

12 - رسالة في الشفاعة

12 - رسالة في الشفاعة مهَّد لها بكلام مختصر عن تفاوت أقوال الناس في مسألة الشفاعة، وشكا أحوال مشايخ وقُصَّاص رخّصوا في الشفاعة الباطلة، ثم بيَّن معنى الشفاعة لغة، وذكر عدم اشتراط قبول الشفاعة، ولا كونه من الأدنى للأعلى، واشتراط أن لا يكون الشافع مالكًا للحاجة المشفوع فيها، وأقسام الشفاعة عند الله، ومباحث متعلِّقة بالدعاء، كحكم طلبه وأهميّته وجعل الخيرة في إجابته إلى الله، ونبَّه إلى كراهة الدعاء إجابةً لمن يطلبه إن كان مصرًّا على الكبائر، وبعض الأحوال التي يستحبُّ فيها طلب الدعاء من الآخرين. وهذه الرسالة لم تكتمل، وقد علّقها المؤلف بقلم الرصاص، وتقع في 18 صفحة. 13 - التفضيل بين الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم رسالة مختصرة تتعلق بالتفضيل بين الخلفاء الأربعة الراشدين رضي الله عنهم، فمهَّد ببيان عدم انضباط التفضيل بينهم عند من يطلقه، سواءٌ أكان بتشييد الدّين ونفع المسلمين وورود الأدلَّة؛ فهم مشتركون فيها، وأنَّ التفضيل إن كان بالنظر إلى منزلتهم عند الله تعالى فمردودٌ؛ لأنَّه كلام في غيبٍ لا يعلمه إلاَّ الله. ونبَّه على ما يحصل في التفضيل من تعصُّب، وأنَّ الخلفاء أنفسهم لم يشتغلوا به، وأنَّ السلف اهتمُّوا بتعظيم الجميع، وذكر حِكَمًا بالغة في تأخُّر خلافة عليٍّ رضي الله عنه عن الثلاثة، وما حصل في ذلك من المصالح واندفع به من المفاسد. وتقع هذه الرسالة في 8 صفحات.

14 - رسالة تعلق العقائد بالزمان والمكان

14 - رسالة تعلّق العقائد بالزمان والمكان بيَّن فيها أهميَّة النظر إلى حال المكان والزمان لتعلقهما تعلُّقًا متينًا بالعقائد، وذكر في أوَّلها معنى "المكان"، وحقيقة الفضاء، والفرق بينه وبين الهواء، ثم ناقش عقلًا ما نُقِل من إطباق المتكلِّمين في إطلاقهم على "الفضاء" عدمًا يسمُّونه بُعدًا موهومًا، وزعموا أنَّه شيءٌ موجود. وتقع هذه الرسالة في 5 صفحات. ثانيًا: قسم التفسير ويحتوى على (18) كتابًا ورسالة. 15 - التعقيب على تفسير سورة الفيل للمعلم عبد الحميد الفراهي للعلامة المعلم عبد الحميد الفراهي (ت 1349) أحد كبار علماء الهند جزءٌ في تفسير سورة الفيل، ذهب فيه إلى أن الخطاب في قوله تعالى: {تَرْمِيهِمْ} للمخاطب، وأن العرب قاوموا جيش أبرهة بما يطيقون ورموهم بالحجارة، فجاء نصر الله، وأرسل عليهم ريحا عاصفة أهلكتهم. وأما الطير فأرسلت لأكل جثث الموتى. فألَّف الشيخ المعلمي كتابه هذا ردًّا على هذا التفسير، وجعله على قسمين الأول: الردّ مفصلاً، والثاني: تفسير السورة. ويمثل هذا الكتاب المجلد السابع من الموسوعة ويقع في 304 صفحة. * مجموع رسائل التفسير: ويمثل المجلد الثامن من الموسوعة ويقع في 443 صفحة، وفيه أربع

16 - تفسير البسملة

عشرة رسالة، وهي: 16 - تفسير البسملة هذه الرسالة مرتبة على ثمانية فصول، وقد تكلم في الفصل الثالث منها على مسألة الاسم والمسمى وبالغ في تحريرها وتنقيحها. وأطال النقاش مع العز بن عبد السلام في كتابه "مجاز القرآن" وردّ عليه. وفي فصل طويل ردَّ على من يزعم أن المشركين لم يكونوا يعرفون كلمة "الرحمن". وهي رسالة كاملة تقع في 69 صفحة. مع ما ألحقناه بها من مسوّدة في شرح البسملة كانت ضمن تفسير للفاتحة، وردت فيها فصول ممتعة لم نرد أن تفوت على القارئ. 17 - تفسير سورة الفاتحة هذا تفسير كامل للسورة، فقد تكلم فيه على الآيات كلها معنى وقراءة وإعرابًا، غير أن هناك إحالات على مواضع لم نجدها في الرسالة, وكذلك "الفرائد" التي أشار إليها للبسط في بعض المسائل لم توجد في المخطوط، فهل هو كتاب مستقل أو مبحث مفقود من مباحث الرسالة؟ ومن أهم فصول هذه الرسالة ذلك الفصل النفيس الذي حرره في تفسير العبادة، وقد أحال فيه كثيرًا على كتابه المفرد في هذا الموضوع، كتاب (العبادة) وهو أول كتاب في هذه الموسوعة. وتقع هذه الرسالة في 58 صفحة. 18 - تفسير أول سورة البقرة (1 - 5) تفسير المؤلف في هذه الرسالة أشبه بالنكت ويغلب عليه الاهتمام بالجانب البياني، وتقع في 6 صفحات.

19 - ارتباط الآيات في سورة البقرة

19 - ارتباط الآيات في سورة البقرة كشف المؤلف في هذه الرسالة عن ارتباط آيات سورة البقرة وتناسبها من أول السورة إلى قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [256]. وتقع هذه الرسالة في 50 صفحة. 20 - ارتباط قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ ...} بما قبله وما بعده وهي رسالة مختصرة دعاه إلى تأليفها حل الإشكال في وقوع هذه الآية بين آيتين متعلّقتين بالطلاق. وتقع في 6 صفحات. 21 - تفسير قوله تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ ...} الآيات فسَّر المؤلف في هذه الرسالة الآيات (2 - 4) من سورة النساء، وضمَّ إليها الآيات من (127 - 130) من السورة أيضًا. وذهب فيه إلى وجه جديد في تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} الآية. وهي رسالة كاملة، تقع في 17 صفحة. 22 - تفسير أول سورة المائدة وهو تفسير لثلاث آيات من أول السورة [1 - 3]، جرى فيه على طريقة تفسير الجلالين ونحوه، ثم ذكر مناسبة الآيات لما بعدها، وانقطع الكلام، فهل بقي في الرسالة بقية أو انتهت عند هذا الموضع؟ وتقع الرسالة في 8 صفحات.

23 - تفسير قوله تعالى: {كلوا من ثمره إذا أثمر ...} الآية

23 - تفسير قوله تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ ...} الآية أصل هذه الرسالة حوار جرى بين السيد الإدريسي والفقيه السيد محمد بن عبد الرحمن الأهدل في المقصود بالإسراف في الآية المذكورة من سورة الأنعام (141)، وقد اشترك المؤلف في الحوار، ثم حرره فيما بعد وأضاف إليه وعدَّل. وتقع هذه الرسالة في 10 صفحات. 24 - تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ ...} الآيات رتب المؤلف هذه الرسالة ترتيبًا بديعًا على خمسة فصول هكذا: أجزاء الآية، ما قيل في تفسير الآية، تمحيص، تدبر، المحصل. وقد ردّ على الجمهور اختيارهم في الآية، واعترف فيها بشناعة القصص المشهورة في تفسير الآية، ولكنه ذكر صورًا محتملة للقصة خالية من الشناعة. وهي رسالة تامة مبيّضة، تقع في 11 صفحة. 25 - تفسير قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ...} ومعنى "أهل البيت" هذه الرسالة نصّ مذاكرة جرت بين المؤلف وبين الشيخ صالح بن محسن الصيلمي عن الآية المذكورة من سورة الحشر، ثم المقصود بأهل البيت في قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}. ثم تطرق الكلام إلى المراد بأهل البيت وآل النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث. وهي كاملة، وتقع في 12 صفحة.

26 - إعراب قوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى}

26 - إعراب قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} 27 - إعراب قوله تعالى: {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} 28 - إعراب قوله تعالى: {الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ} هذه الأعاريب الثلاثة تقع في 25 صفحة، وهي من نتائج المذاكرات التي كانت تجري في حضرة السيد الإدريسي، وقد افتتح المؤلف رسالته الأخيرة بقوله: "مما اقتطفه كاتبه من ثمرات المعارف الإدريسية الطيبة اليانعة الجنية ... ". 29 - رسالة في تفسير آيات خلق الأرض والسماوات موضوع الرسالة حل إشكال قوله تعالى: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} مع قوله في البقرة: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} فهل خلق الأرض مقدم على خلق السماء؟ وفي الرسالة نكت وفوائد، وهي كاملة تقع في 12 صفحة. 30 - معنى قوله تعالى: {أَغْنَى عَنْهُ} قد شغلت هذه العبارة بال المؤلف، فتكلم عليها في عدة مواضع من كتبه. وقد تتبع في هذه الرسالة استعمالاتها، وحرَّر معناها. وهي رسالة كاملة تقع في 10 صفحات. 31 - بحث حول تفسير الفخر الرازي وتكملته أثبت المؤلف في هذا البحث أولاً أن التفسير المطبوع ليس بكماله

32 - فوائد من تفسير الرازي

للرازي، وأثبت ثانيًا أن التكملة المطبوعة معه لشمس الدين الخويي، لا لنجم الدين القمولي، ثم عني ثالثًا بتمييز التكملة من الأصل. وهو بحث نفيس يشهد بما أوتي المؤلف من أدوات البحث؛ من سَعة العلم، ودقة الملاحظة، وتذوق البيان، والحرص على التتبع والاستقصاء دون كلل أو ملل. وكان الذي بعث المؤلف على تحقيق هذه القضية الشيخ العلامة محمد بن مانع (ت 1385)، ونُشر في حياة مؤلفه في مجلة الحج سنة 1376، وترجم إلى الأردية ونشر في مجلة "معارف" أشهر مجلّات الهند سنة 1957 م. وهو في 30 صفحة. 32 - فوائد من تفسير الرازي هذا التعليق ليس تأليفًا مستقلًّا، ولكنه ورقات مقيّدة بخط الشيخ رأينا من المناسب إدراجها بعد البحث السالف. وهي تقع في 6 صفحات. ثالثًا: قسم الحديث وعلومه ويحتوي هذا القسم على (21) كتابًا ورسالة. 33 - طليعة التنكيل ألف الشيخ محمد زاهد الكوثري (ت 1371) كتابًا عنونه بـ "تأنيب الخطيب على ما ساقه في ترجمة أبي حنيفة من الأكاذيب" انتقد فيه ما ساقه الحافظ الخطيب البغدادي (ت 463) في ترجمة أبي حنيفة من كتابه "تاريخ بغداد" من المثالب عن السالفين. وطبع كتابه في مصر عام 1360 هـ. فلما اطلع عليه المؤلف بطلب من أحدهم رأى أنه بحجة إلى جوابٍ

34 - تعزيز الطليعة

مفصل عما وقع فيه الكوثري من الأخطاء العلمية والطعن في أئمة السنة ورواتها، فألف كتابًا - وهو في الهند - سماه "التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل" (¬1) وقسمه إلى أربعة أقسام: قسم القواعد، وقسم الرواة، وقسم الفقهيّات، وقسم العقائد. ولما كان كتاب "التنكيل" على وشك التمام رأى المؤلف أن يقتضب نموذجًا منه فيه أهم ما وقع فيه الكوثري من الأخطاء، وسماه "طليعة التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل" (¬2) طُبع بمصر سنة 1368 هـ. في نحو 100 ص من القطع المتوسط. بيّن فيه مغالطات الكوثري فيما يتعلّق برواة الحديث خاصةً، وجعلها أنواعًا. 34 - تعزيز الطليعة لما اطَّلع الكوثري على "الطليعة" كتب ردًّا عليها سماه "الترحيب بنقد التأنيب" بناه على أمرين: الأول: الطعن في قصد المؤلف، واتهامه بالطعن في أبي حنيفة، وأمور أخرى. الثاني: مناقشة ما أورده من أمثلة، ومحاولة التملّص من عُهدة التغيير ¬

_ (¬1) وكان قد سماه بادئ الأمر "النقد البري في الرد على الكوثري". (¬2) وكان المؤلف في الإخراج الأول للكتاب قد قسمه إلى خمسة أقسام، الأربعة المعروفة، والخامس (وهو الأول في المسودة): في تقييد أوابده من المغالطة والتجاهل ونحوها. وهو ما أفرده وطبعه بعنوان (الطليعة). وقد كشفت لنا مسوَّدةُ الكتاب رقم [4710]، هذه الحقيقة، ولله الحمد.

والتبديل التي أثبتها المؤلف عليه. فما كان من المعلمي حين وقف على "الترحيب" إلا أن أردف "الطليعة" برسالتين وهما: "تعزيز الطليعة" و"شكر الترحيب" ولم يطبعا في حياة المؤلف ولا بعده. أما الرسالة الأولى - تعزيز الطليعة -: فقد شرح المؤلف في أولها سبب تأليفها، وبين الظروف التي طبعت فيها. وقسّم الرسالة إلى بابين: الباب الأول: مطالب متفرّقة. وفيه أربعة فصول: الأول: شرح فيه أمورًا تتعلق بكتاب "التنكيل" وخطورة ما فعله الكوثري على السنة. الثاني: تعليقه على محاولة الكوثري التبرؤ مما نسبه إليه. الثالث: تكلم على مسألة الغلو في الأفاضل. الرابع: في تفريق الكوثري الأمة إلى حنفية وعامة المسلمين. ثم خلص إلى تحرير قاعدة التهمة. ثم دلف إلى عدة قواعد خلّط فيها الكوثري، وهو: [الباب الثاني: في قواعد خلّط فيها الكوثري]، وذكر فيه أربع قواعد: رمي الراوي بالكذب في غير الحديث النبوي. والتهمة بالكذب، ورواية المبتدع، وقدح الساخط ومدح المحب. ويلاحظ هنا أنه قد ذكر جميع هذه القواعد في التنكيل، لكنه صرح بأنه

35 - شكر الترحيب

أعادها هنا للحاجة إليها، قال (ص 33): "فالنظر في شأنهم يتوقف على تحرير قاعدة التهمة، وقد كنت بسطته في التنكيل ثم دعت الحاجة إلى تلخيصه هنا". وكذلك في (ص 38) وضرب عليها. 35 - شكر الترحيب وهي الرسالة الثانية، وقد قسمها إلى بابين: [الباب الأول]: النظر في خطبة الكتاب وما للكوثري فيها من الوهم (7 - 26). الباب الثاني: النظر في أجوبة الكوثري على ما أورده في الطليعة، وذكر ما وقع في كل فرع على حدة. وقد جمعنا هذه الرسائل الثلاث (الطليعة، والتعزيز، وشكر الترحيب) في مجلد واحد؛ لتعلقها بعضها ببعض، ولتكون مدخلًا إلى كتاب التنكيل، وهي المجلد التاسع من هذه الموسوعة في 325 صفحة. 36 - التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل هو أهمّ وأكبر كتاب ألَّفه الشيخ، ويُعدُّ من المؤلفات النادرة الفريدة في القرون المتأخرة من حيث التدقيقُ والتحقيقُ وكثرةُ الفوائد، وهو الذي عرَّف الشيخ إلى قُرّائه، فيه عَرفوا قوَّته العلمية، وقدرته على البحث، وبراعته في حلّ المشكلات العويصة بتحقيق بالغ وتجرّدٍ نادر، ويؤازره علوّ الأسلوب، وإنصاف الخصم، ولغة معتدلة في النقد والمناظرة. وقد ألَّفه ردًّا على كتاب "تأنيب الخطيب" للأستاذ محمد زاهد الكوثري، كما سبق شرحه عند الكلام على "طليعة التنكيل".

37 - الأنوار الكاشفة على ما في كتاب "أضواء على السنة" من الخلل والتضليل والمجازفة

وقد افتتحه المؤلف بخمسة فصول هي أشبه بالتوطئة والتمهيد للكتاب، ثم قسَّم الكتاب إلى أربعة أقسام: 1 - القواعد. 2 - التراجم. 3 - الفقهيات (البحث مع الحنفية في سبع عشرة قضية). 4 - العقائد (القائد إلى تصحيح العقائد). ويعتبر كلُّ قسم منها كتابًا قائمًا برأسه، وينظر للتعريف به مقدمة التحقيق التي صدَّرنا به الكتاب. وهو يمثل المجلدين العاشر والحادي عشر من هذه الموسوعة، وقد نجز المجلد الأول في 914 صفحة، والثاني في 794 مع الفهارس. 37 - الأنوار الكاشفة على ما في كتاب "أضواء على السنة" من الخلل والتضليل والمجازفة واضح من عنوان الكتاب موضوعه الذي ألفه الشيخ لأجله، وهو الرد على كتاب أبي ريَّة "أضواء على السنة"، وخلاصة كتاب أبي رية: توجيه جملة من الطعون والشبهات إلى السنة النبوية والعمل بها، وإلى علم الحديث وعلمائه، وإلى رواة الحديث وحَمَلته، بل وإلى طائفة من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين! وخصّ منهم بالطعن راويةَ الإِسلام أبا هريرة رضي الله عنه، ولم يكتفِ بالطعن بل زاد إليه السفاهةَ والتهكّمَ والتجنّي.

38 - كتاب الوحدان

وقد طبع كتاب "الأنوار الكاشفة ... " في حياة مؤلِّفه سنة 1378 هـ في المطبعة السلفية ومكتبتها لمحبّ الدين الخطيب، في مجلّد واحد. وقد بناه المؤلف على الاختصار ودحض الشبهة بأقرب طريق، مع الدقة والتحقيق والتتبع. وهو يمثل المجلد الثاني عشر، ويقع في 584 صفحة. 38 - كتاب الوُحدان جمع المؤلف في هذا الكتاب الرواة الذين ليس لهم إلا راوٍ واحدٌ، وهو ما يُعرف في علم مصطلح الحديث باسم "الوُحْدان". وقد كتب جمعٌ من الأئمة في هذا الباب عدة مصنفات لكن تميّز كتابنا هذا بميزات عديدة، أهمها: أنه لم يقتصر على مجرّد جمع الأسماء، بل جعل كتابه تحقيقًا لأحوالهم من حيث الثقة والضعف، والقبول والرد. والكتاب تام من حيث الجمع والترتيب إلا أنه لم يزل في مسوّدته، لم يستوفِ المؤلف القولَ في تراجمه، ولا بلغ فيه الغاية التي كان قد بدأها في أوائل التراجم، ولا التي كان يرجوها. ومع ذلك فهو كتاب نافع جليل في هذا الباب. وهو المجلد الثالث عشر من هذه الموسوعة ويقع في 360 صفحة. 39 - تراجم منتخبة من التهذيب والميزان هذا كتاب منتخبٌ في تراجم رواة الحديث، انتخب المصنفُ تراجمه من كتابين هما أشهر كتب الرجال: "ميزان الاعتدال" للحافظ الذهبي (ت 748)، و"تهذيب التهذيب" للحافظ ابن حجر العسقلاني (ت 852).

* مجموع الرسائل الحديثية

والظاهر أن المصنف قد مرّ على ذينك الكتابين قراءةً وتدبّرًا ونقدًا، مكّنه أولاً من انتخاب (321) ترجمة من آلاف التراجم، وثانيًا من الانتخاب من الترجمة نفسها. فلم يعمد المصنف لاختصار الكتابين ولا لتهذيبهما، بل كان غرضه تقييد ما مرّ به في تلك التراجم من ملاحظات تفيد في التفقّه في علم الجرح والتعديل، ومعرفة مناهج الأئمة، وأسباب الطعن في الرواة، واختلاف أقوال الإِمام الواحد ... وغير ذلك. ولم يقتصر عمله على مجرّد الانتخاب بل كان له تعليقات ومناقشات وفوائد مهمة. ويقع الكتاب في 307 صفحة، وهو المجلد الرابع عشر من هذه الموسوعة. * مجموع الرسائل الحديثية: فيه أربع عشرة رسالة في مباحث حديثية مختلفة، وهو يمثل المجلد الخامس عشر من هذه الآثار, ويقع في 553 صفحة. وهذا هو محتوى رسائله: 40 - الاستبصار في نقد الأخبار لخص المؤلف مراده من تأليف هذه الرسالة بقوله: "أتوخَّى فيها تحرير المطالب، وتقرير الأدلة، وأتتبع مذاهب أئمة الجرح والتعديل؛ ليتحرر بذلك ما تعطيه كلماتهم في الرواة ... ". ثم شرح الأسباب التي دفعته إلى تأليفها، فأشار إلى أمرين رئيسين: الأول: اختلاف اصطلاحات الأئمة في إطلاق عبارات الجرح والتعديل.

41 - رسالة في أحكام الجرح والتعديل

الثاني: اختلافهم في الاستدلال على أحوال الرواة. وتمنَّى إنْ تَمّت رسالتُه هذه أن يتضح بها سبيل القوم في نقد الحديث، ويتبيّن أن سلوكَه ليس بالأمر العسير على أولي الهمم العالية، فيكون منهم أئمة مجتهدون في ذلك. ثم ذكر أن نقد الخبر على أربع مراتب هي: الأولى: النظر في أحوال رجال سنده واحدًا واحدًا. الثانية: النظر في اتصاله. الثالثة: البحث والنظر في الأمور التي تدل على خطأ إن كان. الرابعة: النظر في الأدلة الأخرى مما يوافقه أو يخالفه. وأراد أن يعقد لكل واحدة من هذه الأربع مقالةً خاصّة، لكن لم يصلنا إلا كلامه على المقالة الأولى. وعليه فالرسالة ناقصة. وهي تقع في 60 صفحة. 41 - رسالة في أحكام الجرح والتعديل هذه الرسالة لم يسمها مؤلفها بهذا الاسم، ولكنا أخذناه من قوله: "وقد عنَّ لي أن أجمع رسالة في أحكام الجرح والتعديل ... ". وكان غرض المؤلف منها أمرين، الأول: حل مشكلات الفن. الثاني: تيسير طرق الاجتهاد في هذا الفن، ليتمكَّن العالم من الحكم على الرواة بنفسه بالحجة والدليل. لكن القَدْر الذي وصلنا من هذه الرسالة ناقص الأول والآخر، مشوّش

42 - إشكالات في الجرح والتعديل

الترتيب، وهي تقع بحسب ما وصلنا ضمن مجموعة أوراق للشيخ فيها مسائل عدة. وموضوع الرسالة مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالرسالة التي قبلها "الاستبصار"؛ فموضوعهما واحد، وهو الجرح والتعديل، وبحث العدالة، وأخشى أن تكون إحدى مسوّداتها مع ما فيها من زيادات كثيرة. وتقع هذه الرسالة في 27 صفحة. 42 - إشكالات في الجرح والتعديل صدَّر المؤلف هذه الخاطرة بقوله: "مهمة"، ثم قرَّر أن أئمة الجرح والتعديل كثيرًا ما يوثقون رواةً لم يدركوهم، وضَرَب عدة أمثلة، وأنه لا يُنكر على المتبحر في هذا العصر إذا تتبّع حديثَ الراوي أن يخلُص إلى حكم فيه، لكن بقيت إشكالات تتعلق بذلك، فذكر أربعة إشكالات ولم يجب عنها هنا وإن كان قد أجاب عنها في مواضع أخرى من كتبه. وتقع هذه الرسالة في 5 صفحات. 43 - الحاجة إلى معرفة علم الجرح والتعديل لم يعنون المؤلف هذه الرسالة الموجزة، فوضعتُ عنوانًا مناسبًا لموضوعها؛ إذ أراد المؤلف منها بيانَ أهمية علم الجرح والتعديل, وأنه لابد من معرفته لمن أراد الاجتهاد. وختم الرسالة بتقرير أن أهل العلم يحتاجون إلى أمرين: الأول: تحقيق الحق فيما اختلف فيه أئمة الجرح والتعديل، ومعرفة عادة كل إمام في إطلاقاته.

44 - الأحاديث التي استشهد بها مسلم في بحث الخلاف في اشتراط العلم باللقاء

الثاني: معرفة الطريق التي سلكها الأئمة لنقد الرواة، ثم السعي في اتباعهم فيها. وتقع هذه الرسالة في 8 صفحات. 44 - الأحاديث التي استشهد بها مسلم في بحث الخلاف في اشتراط العلم باللقاء هذه الرسالة تندرج تحت بحث "رواية الرجل بصيغةٍ محتملة للسماع عمن عاصره ولم يثبت له لقاؤه" وقد كفانا المؤلف رحمه الله شرح هذه المسألة، وما المقصود بهذه الأحاديث التي استشهد بها مسلم، وذلك في كتابه "التنكيل" (1/ 134 - 137)، فقد ذكر فيه أنه كان يريد الكلام على تلك الأحاديث هناك إلا أن المكان لم يتسع لذلك، فكانت هذه الرسالة المكان المناسب للتوسع في الكلام عليها. وتقع هذه الرسالة في 21 صفحة. 45 - رسالة في الصيغ المحتملة للتدليس، أظاهرةٌ هي في السماع أم لا؟ ناقش المؤلفُ هنا مسألةَ قولِ المحدّث: "عن فلان" أو "قال فلان" أو "ذكر فلان" ونحوها من الصَّيَغ المحتملة للتدليس هل هي ظاهرةٌ في السماع أم لا؟ ابتدأ المؤلف هذه الرسالة بسؤال طويل استغرق أربع صفحات على لسان سائلٍ ما، وواضح من السؤال والمناقشة الواردة فيه وصياغته أنه للمؤلف، لكنه أراد أن يظهر البحث على شكل حوار بين شخصين أو

46 - فوائد في كتاب "العلل" لابن أبي حاتم

فريقين، وقد صنع المؤلف ذلك في غير موضع من كُتُبه ورسائله. والسؤال على طوله لم يكن مجرّد سؤال، بل فيه حوار وأجوبة وإشكالات؛ غرضها تحديد مناط الخلاف، وتخليص الإشكال المراد الجواب عنه. ثم شرع في الجواب واختار أن هذه الصيغة ليست ظاهرة في السماع وبيَّن وجه ترجيحه، وأجاب عما يمكن أن يُعترض به عليه. والرسالة ناقصة لم يصلنا منها إلا هذا القدر. 46 - فوائد في كتاب "العلل" لابن أبي حاتم وهي عبارة عن ورقات استخرج المؤلف فيها عدة فوائد من كتاب "العلل" للإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي (ت 327)، وقد بلغت أكثر من خمسين فائدة. كتبها المؤلف بحسب ورودها في الكتاب، ولم يرتبها ترتيبًا معينًا، بل حرص على ذكرها مرتبة بحسب ورودها في الكتاب. وكانت طريقة المؤلف الإشارة إلى الفائدة بأوجز عبارة وألْخَص إشارة، وهذه التقييدات أشبه بالتنبيهات والإشارات التي يفهمها العارف بالفن والمدقِّق فيه، فقد يكتفي المؤلف بذكر رأس الحديث، أو كلمتين، أو كلمة واحدة. 47 - أحكام الحديث الضعيف قال المؤلف في صدر الرسالة: "فهذه رسالة في أحكام الحديث الضعيف ... " فاقتبسنا هذا العنوان منه.

48 - محاضرة في علم الرجال وأهميته

وقد بيَّن سبب تأليفها بقوله: "جمعتُها لما رأيتُ ما وقع للمتأخرين من الاضطراب فيه؛ فنَسَب بعضُهم إلى كبار الأئمة الاحتجاجَ به، ونَسَب غيرُه إلى الإجماع استحبابَ العمل به في فضائل الأعمال ونحوها، وتوسّع كثيرٌ من الناس في العمل به، حتى بنوا عليه كثيرًا من المحدَثات، وأكَّدوا العمل بها، وحافظوا عليها أبلغ جدًّا من محافظتهم على السنن الثابتات، بل والفرائض القطعيات. بل كثيرًا ما بنوا عليه عقائد مخالفة للبراهين القطعية من الكتاب والسنة والمعقول. ولم يقتصروا على الضعاف بل تناولوا الموضوعات". وما وصلنا من نُسَخ هذه الرسالة (وهو ثلاث قطع) لا يمثل كامل الكتاب، فهل أكمله المؤلف أو وقف عند هذا الحدّ؟ وقد اعتمدنا على مبيّضة الرسالة، ثم أتبعناها بالمباحث الزائدة في المسوّدات. 48 - محاضرة في علم الرجال وأهميته كانت دائرة المعارف العثمانية بحيدراباد الدكن تعقد لقاءً ثقافيًّا سنويًّا، وتدعو فيه جمعًا من العلماء لإلقاء كلمات أو محاضرات، فشارك المؤلف في موسم سنة 1354 بمحاضرته هذه التي عنونها بـ "علم الرجال وأهميته". فبدأ كلامه في تفاوت العلوم في مقدار شرفها، وأن لدين الإِسلام ينبوعين عظيمين: القرآن والسنة، ثم عرَّف السنة وكيف انتقلت إلينا عبر الرواية, وأن الرواة متفاوتون في القوة والضعف، ومن هنا نشأ علم الرجال ومعرفة الرواة، وذكر تأصيل الكلام في الجرح والتعديل، ومَن أوّل من تكلم في الرجال؟ وكيف تطوَّر إلى أن صار عِلْمًا برأسه. ثم تطرّق إلى طرق اختيار الأئمة للرواة فذكر جملةً منها، وذكر كتب الرجال وأنواعها وأهمها وما طبع منها، وأيها أحق بالطباعة والتحقيق مما لم يُطبع.

49 - ملخص طبقات المدلسين

49 - مُلَخّص طبقات المُدلِّسين وهو جزء لطيف في الرواة الذين وُصفوا بالتدليس، اختصره المؤلف من كتاب "طبقات المدلسين" للحافظ ابن حجر العسقلاني (ت 852) رحمه الله، المسمى "تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس". وكتاب الحافظ مِن أجْمع ما كُتِب فيمن وُصِف من الرواة بالتدليس، وقد بلغ عدد تراجم الكتاب كله مئة وإحدى وخمسين ترجمة. 50 - تنزيه الإِمام الشافعي عن مطاعن الكوثري هذه الرسالة تتبّع المؤلف فيها مطاعن الشيخ محمد زاهد الكوثري (ت 1371) التي ذكرها في كتابه "تأنيب الخطيب" وفي تعليقاته على كتاب "الانتقاء" لابن عبد البر، وكان المؤلف قد تعرَّض لذلك في كتابه العظيم "التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل" في ترجمة الإِمام الشافعي (رقم 189)؛ لكن رأى أن يُفْرد الكلام على ذلك في رسالة مستقلة مع زيادات وإضافات. كان الشيخ حريصًا على طبع هذه الرسالة مفردة؛ ففي رسالة بعث بها المؤلف إلى العلامة المحدّث أحمد محمد شاكر (ت 1377) قال فيها: "في عزمي أن أفرد من كتابي (يعني التنكيل) ترجمة الإِمام الشافعي وترجمة الخطيب؛ لأن الكلام طال فيهما فصار كل منهما يصلح أن تكون رسالة مستقلة. فهل هناك في القاهرة مِن الشافعية مَن ينشط لطبع تينك الرسالتين على نفقته؟ فإن كان فأرجو من فضلكم أن تعرّفوني حتى أرسلهما إليكم، وتنوبوا عني فيما يلزم".

51 - شرح حديث: "آية المنافق ثلاث ... "

51 - شرح حديث: "آية المنافق ثلاث ... " لم يعنون المؤلف هذه الرسالة، فوضعت لها هذا العنوان اجتهادًا، وكانت بداية البحث تتعلق بـ "إذا" وإفادتها التكرار. ثم ذكر حديث: "آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب ... " وأن (إذا) يُقصد بها التكرار والمداومة ومَن غلبت عليه هذه الخصال، ثم ذكر الحديث الآخر الذي ذكرت فيه أربع خصال، وأنها تعود في حقيقة الأمر إلى الثلاث الواردة في الحديث الأول. ثم ذكر بعض ما يَرِد على معنى الحديث وأجاب عنه. ثم ذكر خلاصة البحث وهي: أن من غَلَب عليه الكذب في الحديث والغدر بالعهد والخيانة بالأمانة مهما كانت = فهو منافق خالص. 52 - التعليق على "الأربعين في التصوف" للسلمي ألَّف الشيخ محمد بن الحسين أبو عبد الرحمن السُّلَمي (ت 412) كتابًا جمع فيه أربعين حديثًا في التصوُّف، ووضع لكل حديث بابًا ... فلما رأت في دائرة المعارف العثمانية طبع هذه الأربعين التمس مجلس الدائرة من الشيخ المعلمي أن يكتب تعليقًا يُطبع مع الأربعين يتضمن النظر في أحاديث الكتاب صحة وضعفًا. فلبَّى المعلمي الطلب وكتب هذا التعليق، إلا أنه لم يُطْبَع مع الأربعين، لسبب غير معلوم لدينا. وقد كتب الشيخ تقديمًا بين يدي تخريجه لأحاديث الأربعين نبَّه فيه إلى سبعة أمور مهمة تتعلّق بالكتاب وبعلوم الحديث.

53 - صفة الارتباط بين العلماء في القديم

وقد سلك المؤلف طريقة الاختصار في التخريج بما يتناسب مع حجم الرسالة، فيذكر مَن أخرج الحديث غير السلمي، وينظر في إسناده، فيذكر من طُعِن عليه فيه، ويذكر شواهده إن وُجدت، ويعزو إلى المصادر بالجزء والصفحة غالبًا. وينبغي التنبه إلى أن الشيخ لم يحقق نص الأربعين (¬1) وإنما عمله التخريج والتعليق على الأحاديث. 53 - صفة الارتباط بين العلماء في القديم هذا العنوان من وضع المؤلف رحمه الله، وهذه الرسالة عبارة عن محاضرة ألقاها المؤلف سنة 1356 في أحد المواسم الثقافية التي كانت تعقدها دائرة المعارف العثمانية بحيدراباد دكن. وكانت بمناسبة زيارة وفد من علماء الأزهر دائرة المعارف العثمانية. قصد المؤلف برسالته أن يبين كيف كان التواصل بين العلماء في القديم، وما كان يجري بينهم من المراسلات، سواء منها الأخوية أو العلمية، وأن كثيرًا من المؤلفات كانت بسبب تلك المراسلات ... وأن الأمر اختلف في الأعصار المتأخرة فلا صِلَة بين علماء الأقطار، ولا بين علماء القُطر الواحد، ثم حثّ على التواصل العلمي بين الجهات والمجامع العلمية كالأزهر والدائرة وغيرها. وليست هذه الرسالة متعلقة بفنّ الحديث، لكن رأينا إلحاقها هنا أليق من إلحاقها في أيّ مجموع آخر في هذه الموسوعة. ¬

_ (¬1) والمتن الذي أوردناه للأربعين هو من طبعة دائرة المعارف سنة 1402 مع بعض التصحيحات التي نبهنا عليها في الحواشي.

رابعا: قسم الفقه

رابعًا: قسم الفقه ويحتوى هذا القسم على (38) رسالة جعلناها في ثلاث مجموعات، كل مجموعة في مجلد، وسميناها (مجموع رسائل الفقه)، وهي تمثل المجلد السادس عشر (558 صفحة)، والسابع عشر (557 صفحة)، والثامن عشر (638 صفحة)، وهذا محتوى رسائله: 54 - القِبْلة وقضاء الحاجة وصلت إلينا قطعتان منه، بدأ الشيخ أولاهما بذكر أحاديث النهي عن استقبال القبلة عند قضاء الحاجة، وهي سبعة أحاديث تكلم على أسانيدها ومتونها واختلاف ألفاظها، ثم بيَّن معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أتى أحدكم الغائط" وهل يفيد إخراج الأبنية؟ ثم ذكر الأحاديث الدالة على الرخصة، وتكلَّم عليها وعلى معانيها، وأطال الكلام في نقدها وتحقيقها، وبيان رجال أسانيدها، وذكر مذاهب العلماء في هذه المسألة. وأورد في القطعة الثانية حديث أبي أيوب الأنصاري وبعض الأبحاث المتعلقة به، ثم ذكر حديث عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "حوِّلوا مقعدي قِبلَ القبلة"، وأطال الكلام في تخريجه وبيان الاختلاف فيه، وأورد كلام النقاد في تضعيفه. 55 - فائدة في السِّواك ذكر فيها أولاً الأحاديث الواردة في فضل السواك، وتكلم على أسانيد بعضها. ثم انتقل إلى بيان أهمية السواك، وأنه مطهرة للفم وطريق القرآن. وكما أن مسَّ المصحف مع الحدث حرام، وتلطيخه بالنجاسة إن قارنه استهزاء فكفرٌ وإلّا فحرام، وكذا تلطيخ الذكر أو اسم من أسماء الله أو أنبيائه

56 - مسألة بطلان الصلاة بتغيير الآيات في القراءة

ونحوه يحرم في الأماكن النجسة، ويُكره في الأماكن المستكرهة، فكان القياس أن يحرم القراءة والذكر ونحوهما عند تغيُّر الفم، لأن التلفظ بالقرآن بمنزلة كتابته، وما عَسُر إزالته فيُعفى عنه للضرورة. 56 - مسألة بطلان الصلاة بتغيير الآيات في القراءة مناسبة تأليفها أن الإِمام في صلاة الجمعة قرأ سورة الغاشية، فأبدل لفظ الغاشية بالخاشعة، ففتح عليه المصلُّون فلم ينتبه، وبعد الصلاة اختلفوا في صحتها أو إعادتها، فسُئل المؤلف عنها، فقال: صحيحة، وقرَّر المسألة ناقلاً فيها الآيات والأحاديث، ومحرِّرًا مذهب الشافعية في ذلك. وختم الرسالة بحكم النفخ والتنحنح ونحوه هل يُعدّ كلامًا يُبطِل الصلاة؟ فقال: الأصح عند أصحاب الشافعي: نعم، والصحيح هو الصحيح. 57 - هل يدرك المأموم الركعة بإدراكه الركوع مع الإِمام؟ كانت مناسبة تأليفها أن الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة أطلعَ المؤلفَ على رسالته في اختيار إدراك المأموم الركعةَ بإدراكه الركوعَ مع الإِمام، وأشار عليه أن يكتب ما يظهر له في هذه المسألة، فكتب هذه الرسالة وناقش فيها الشيخَ محمد عبد الرزاق حمزة فيما ذهب إليه، فأجملَ أولاً ذِكر الأدلة الخمسة التي احتج بها الشيخ، ثم تكلَّم عليها واحدًا واحدًا، ونظر في جميع الأحاديث على طريقة المحدثين، وبحث عن معانيها وفقهها. وقد أطال الكلام على حديث أبي بكرة، وعلى معنى "الركعة" في حديث: "من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها" هل هي بمعنى الركوع لغةً وشرعًا كما ادَّعى الشيخ؟ وأورد من الأحاديث والنصوص ما يدل على خلاف ذلك.

58 - بحث في حديث قيس بن عمرو في صلاة ركعتي الفجر بعد الفرض

58 - بحث في حديث قيس بن عمرو في صلاة ركعتي الفجر بعد الفرض ذكر الشيخ طرق الحديث وألفاظه من كتب الحديث أولاً، ولاحظ اختلاف الألفاظ في موضعين: الأول في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أصلاة الصبح مرتين؟ "، فقد روي بألفاظ مختلفة. والثاني أن في عامة الروايات: "فسكت النبي - صلى الله عليه وسلم -"، وفي رواية الدراوردي وحدها: "فقال: فلا إذًا". وتكلم على الموضعين، وبيَّن المعاني المحتملة لهما، ورجَّح من حيث الإسناد والسياق ما هو الراجح في نظره. وردَّ على بعض الحنفية تأويله لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فلا إذًا" بمعنى "فلا جوازَ إذًا"، وبيَّن أنه ليس فيما استشهد به ما تقوم به الحجة. 59 - إعادة الصلاة بدأها المؤلف بذكر حديث ابن عمر مرفوعًا: "لا تصلُّوا صلاةً في يومٍ مرتين" بطرقه وألفاظه في كتب الحديث، وتكلم على معنى إعادة الصلاة، ثم أورد بعض الآثار عن ابن عمر في مشروعية الإعادة مع الجماعة، وذكر الأحاديث المرفوعة الدالة على مشروعيتها، وهي عشرة أحاديث خرَّجها وتكلَّم عن أسانيدها وفقهها، وأن الأصل عدم مشروعية الإعادة، وأن دلالة الأحاديث المذكورة على مشروعية الإعادة في أربع صور، فما عداها باقٍ على الأصل. وعقد فصلاً بقوله: "هل يعيد إمامًا؟ " فذكر أدلة المجيزين أولاً، وهي ثلاثة أحاديث (حديث جابر في قصة معاذ، وحديث جابر في صلاة الخوف، وحديث أبي بكرة في صلاة الخوف)، ثم ذكر أجوبة المانعين، وردَّ عليها. وفي الفصل الأخير تكلم على مسألة اقتداء المفترض خلف المتنفل، واحتج لصحتها، وردَّ على شبه المانعين.

60 - بحث في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه في صلاته بقومه

60 - بحث في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه في صلاته بقومه تكلم فيه على معنى حديث جابر في قصة معاذ، وأن شكوى الناس كانت من تأخر معاذ وتطويله في القراءة، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتعجيل في الإتيان إلى الصلاة والاختصار في القراءة. وعقد فصلاً ذكر فيه تأويلات الحنفية لحديث معاذ، وردَّ عليها في ضوء الأحاديث وأقوال المحققين من العلماء. ويبدو أن له تتمة لم نجدها ضمن المجموع، فقد أشار في أثناء الكلام على بعض الموضوعات إلى أنها ستأتي فيما بعد. ولعل ما في رسالة "إعادة الصلاة" يقوم مقام المفقود. 61 - حقيقة الوتر ومسمَّاه في الشرع سبب تأليفها أن بعض الإخوان سأل الشيخ في رمضان سنة 1342 عن بعض أحكام الوتر المختلف فيها، طالبًا بيان الراجح من الأقوال مع ذكر الدليل. ولما بدأ الشيخ بتصفح الأدلة وجد أحكام الوتر مترابطةً آخذًا بعضها برقاب بعض، فعزم على تأليف كتاب مستقل يشتمل على عامة أحكام الوتر. وقد ذكر الشيخ في ورقةٍ منها العناوين الرئيسة، ولكن الموجود لا يحتوي إلا على أبحاث معدودة منها. أولها بيان حقيقة الوتر، ذكر أن الوتر أُطلق على ثلاثة معانٍ في السنة كما يظهر ذلك باستقراء الأحاديث والآثار. ثم تكلم على معنى حديث "الوتر ركعة من آخر الليل"، وأنه لا يفيد الحصر، فقد منعت منه قرائن. ثم ذكر الأحاديث التي احتج بها الشافعية للاقتصار على ركعة واحدةٍ في الوتر، وقال: في كل أدلتهم نظر. ثم تكلَّم على هذه الأحاديث وبيَّن معانيها، وناقشهم طويلًا وقرَّر أن إطلاق الوتر على الركعة الواحدة خاصٌّ بما إذا كانت مفصولة ويشترط الشفع قبل الواحدة.

62 - مبحث في الكلام على فرضية الجمعة وسبب تسميتها

ثم عقد "الفصل الثاني في الاقتصار على الثلاث"، وأورد أحاديث الإيتار بثلاث وحديث النهي عن الثلاث، وتوصَّل إلى أنه لابدَّ أن يتقدَّم الواحدة شفعٌ غير سنة العشاء، وهذا الشفع الذي يتقدم الواحدة لابدَّ أن يكون أربعًا فأكثر، لحديث "لا توتروا بثلاثٍ، أوتروا بخمس ... " 62 - مبحث في الكلام على فرضية الجمعة وسبب تسميتها هو في أوراق متفرقة كتبها الشيخ في أوقات مختلفة، تتناول الكلام على فرضية الجمعة، وتاريخ نزول سورة الجمعة، وبيان المراد بقوله: {وَءَاخَرِينَ مِنْهُمْ}، وسبب تسمية الجمعة، ودراسة ما ورد في هذا الباب من الروايات والأقوال. وفي الرسالة أبحاث وتحقيقات أخرى متناثرة منها الكلام على الإسناد المشهور في كتب التفسير: (أسباط عن السدّي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن عبد الله بن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ...)، ما المراد بذلك؟ وكيف صار هذا الإسناد في أول تفسير كثير من الآيات بهذا الشكل؟ 63 - سنة الجمعة القبلية ألَّف الشيخ هذه الرسالة عندما سُئِل: هل للجمعة سنة قبلية؟ وقبل الكلام على هذه المسألة بحثَ عن التنفّل يوم الجمعة قبل الزوال، وتحقيق وقت الجمعة، ثم قرَّر أن تأخير أذان الجمعة إلى خروج الخطيب دليل ظاهر على أنه ليس للجمعة سنة قبلية، لأن صلاتها بعد خروج الخطيب ممنوعة، فلو كانت ثابتة لسُنّ الأذان قبل خروج الخطيب، فإن وقت الرواتب القبلية بين الأذان والإقامة، فلو قُدِّمت لم تقع الموقعَ.

64 - بحث في وقت تشريع ونزول آية صلاة الخوف

ثم ذكر أدلة القائلين بسنة الجمعة القبلية، وناقشها مناقشة تفصيلية، وتوسَّع في الكلام على الاحتجاج باللفظ الوارد في بعض الروايات في قصة سُليك الغطفاني: "أصليتَ ركعتين قبل أن تجيء؟ "، وأن زيادة "قبل أن تجيء" لم تثبت، وأن الاستدلال بها على ثبوت سنة الجمعة القبلية لا يصحّ. 64 - بحث في وقت تشريع ونزول آية صلاة الخوف يبدو أن هذا المبحث تتمة للكلام المتعلق برواية قتادة عن سليمان بن قيس عن جابر بن عبد الله في قصة قصر الصلاة في الخوف، فذكر أنه يعارضها حديث أبي عياش الزرقي أن آية صلاة الخوف نزلت بعُسفان، ثم ذكر أحاديث أخرى في الباب عن ابن عباس وأبي هريرة وخالد بن الوليد، وتكلَّم عليها. وقد فصَّل المؤلف الكلام على هذا الموضوع في رسالته "إعادة الصلاة"، وبيَّن اختلاف الروايات في الباب، ولم يترجَّح له شيء كما صرَّح به هناك. 65 - قيام رمضان تناول في هذه الرسالة مباحث تتعلق بقيام رمضان، واستوفى الكلام عليها. فذكر أولاً فضل قيام الليل مطلقًا ثم في رمضان خاصةً، وبيَّن عدة صفاتٍ إذا اتصف بها قيام الليل عظُم أجره، وسمَّاها مكملات، وأورد بعض الأحاديث الواردة في هذا الباب. ثم ذكر مجمل ما كان عليه قيام رمضان في العهد النبوي، وما صار إليه في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وجمْعُهم على إمام واحد لم ينكر عليه

66 - مسألة اشتراط الصوم في الاعتكاف

أحدٌ من الصحابة، فكان في ذلك حجة على صحة اجتهادهم، وعلى أنه لو اتفق مثل ذلك في العهد النبوي لما أنكره النبي - صلى الله عليه وسلم -. فالعمل به سنة لا بدعة. أما عدد الركعات فقد تكلم عليه المؤلف، وذكر الأوجه التي وردت في الأحاديث والآثار, وعقد فصلاً لبيان الاختلاف في الأفضل: أفي البيت أم في المسجد؟ وفرادى أم جماعة؟ ذكر فيه بعض الآثار والأقوال. وألحق المؤلف بهذه الرسالة الجواب عن الإشكال الوارد على حديث خشية افتراض قيام الليل مع ما ثبت في حديث الإسراء من أن الله تعالى قال: "هنّ خمس وهي خمسون، لا يبدَّل القول لديَّ". فإذا أُمِن التبديل فكيف يقع الخوف من الزيادة؟ تكلَّم عليه المؤلف بكلام لم يُسبَق إليه، وردَّ بعض الأجوبة الضعيفة وبيَّن وهاءها. 66 - مسألة اشتراط الصوم في الاعتكاف جرت مذاكرة بين المؤلف وبين أحد العلماء في هذه المسألة، فألَّف هذه الرسالة، وذكر الأحاديث الواردة في الباب، وبيَّن معانيها واختلاف العلماء فيها. وتكلَّم على لفظ "لا اعتكاف إلا بصوم" في الحديث، هل هو مدرج من كلام الزهري أو من كلام عائشة؟ وردَّ على من استدلَّ بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعتكف إلاَّ صائمًا، واحتج لعدم اشتراط الصوم ببعض الأحاديث التي ذكرها. 67 - مقام إبراهيم عليه السلام كانت مناسبة تأليفها أن الملك سعود بن عبد العزيز رحمه الله عندما بدأ بتوسعة المسجد الحرام وتوسعة المطاف حول الكعبة المشرفة، اقتضى ذلك

68 - رسالة في توسعة المسعى بين الصفا والمروة

نقلَ مقام إبراهيم وتأخيره عن موضعه، فظنَّ بعض الناس أن في ذلك مخالفةً وتغييرًا للمشاعر. فكتب المؤلف هذه الرسالة لبيان أن الحق هو في نقل المقام وتأخيره عن موضعه، اقتداءً بفعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي أقرَّه عليه الصحابة. وقد ذكر المؤلف فيها ثلاث معارضات يعتبرها بعضهم موانع، وفصّل الكلام عليها مع بيان ما لها وما عليها، وعقد عدة فصول متعلقة بالمقام وتاريخه وتحويله. وهذه أول رسالة علمية تناولت هذا الموضوع بهذا التفصيل، وبأسلوب علمي هادئ. وقد ردّ على هذه الرسالة الشيخ سليمان بن حمدان (ت 1397) برسالة سماها "نقض المباني من فتوى اليماني" في أسلوبها شدة وبُعد عن التحقيق العلمي، فردَّ عليه مفتي الديار السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله في رسالة مستقلّة. 68 - رسالة في توسعة المسعى بين الصفا والمروة يبدو أنه ألَّفها أيضًا عندما قام الملك سعود بن عبد العزيز رحمه الله بتوسعة المسجد الحرام سنة 1377، واقتضى ذلك توسعةَ المسعى أيضًا تيسيرًا للحجاج والمعتمرين، فبيَّن المؤلف حكم الشرع في هذه المسألة. وقد استعرض المؤلف بعض التغييرات التي حصلت للمسعى في بعض جهاته فيما مضى، ونقل من كتب التاريخ نصوصًا تدلُّ على ذلك، وردَّ على مَن يقول: إن المسعى بين الصفا والمروة من الأمور التعبدية، فلا يصحّ السعيُ إلاَّ في ذلك المكان المخصوص الذي سعى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

69 - رسالة في سير النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحج، والكلام على وادي محسر

وقال: إن الصفا والمروة هما الشعيرتان بنصّ القرآن، فأما ما بينهما فهو بمنزلة الوسيلة ليُسعَى فيه بينهما، والوسائل تحتمل أن يزاد فيها بحسب ما هي وسيلة له. 69 - رسالة في سير النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحج، والكلام على وادي محسِّر بدأها المؤلف بذكر الأحاديث الواردة في سير النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحج بين المشاعر، وبيَّن الخلاف في سبب إسراعه في وادي محسِّر، ورجَّح أن ذلك لأنه موضع نزل به عذاب. ثم عقد فصلًا لبيان أن محسِّرًا هل هو من منًى أو مزدلفة أم لا؟ وقد أورد الروايات الواردة في هذا الباب وتكلَّم عليها، ورجَّح أنه ليس من مزدلفة ولا من مني. وختم الرسالة بنقل كلام شيخ الإِسلام ابن تيمية وابن القيم اللذين صرَّحا بأنَّ محسِّرًا برزخ بين مزدلفة ومنى، لا من هذه ولا من هذه. 70 - فلسفة الأعياد في الإسلام ذكر فيها أولاً معنى العيد في العرف العام، وتحدَّث عن منشأ الأعياد عند الأمم، وأن غالب الأعياد الدينية في غير الإِسلام اصطلاحي، أما الشريعة الإِسلامية فلم تنظر إلا إلى النعم الحقيقية التي تعمُّ جميعَ المسلمين، والموجود من هذه النعم الذي يتكرر كلَّ عام أمران: تمام صيام شهر رمضان والخروج من مشقة الصيام، وتمام الحج والخلاص من مشقة الإحرام، فشُرِع عيد الفطر وعيد الأضحى. أما الأيام التي حدثت فيها النعم بعد العهد النبوي فليس لأحدٍ تخصيص أمثالها بعبادة مخصوصة لأن الدين قد كمل في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم -.

71 - توكيل الولي غير المجبر بتزويج موليته

وختم الرسالة بذكر أهم المقاصد في الأعياد، وهو الاجتماع، وبيَّن كيف راعته الشريعةُ في تعاليمها، ولكن عامة المسلمين جهلوا هذه الحكم، أو جهلوا الانتفاع بها. 71 - توكيل الولي غير المجبر بتزويج موليته جرت مذاكرة بين المؤلف وغيره في هذا الموضوع، وبعد مراجعة المظانّ وجد الحاجة ماسة إلى البسط والتحقيق في المسألة، فألَّف هذه الرسالة عند ذلك، وذكر فيها شبه القائلين بجواز توكيل الوكيل غير المجبر قبل إذنها وردّ عليها من وجوه كثيرة، وأطال في الرد والمناقشة. 72 - الحكم المشروع في الطلاق المجموع القضية الأساسية التي تناولها الشيخ بالبحث والدراسة هي قضية الطلاق الثلاث المجموع، فذكر آراء الفريقين في هذه المسألة، وناقش أدلتهما مناقشة علمية هادئة، وحقّق الأحاديث والآثار الواردة فيها، ونثر في أثنائها فوائد علمية كثيرة على طريقته في البحث والتحقيق. فبدأه المؤلف بذكر الآيات المتعلقة بالطلاق وتفسيرها، ثم سَرَد الأحاديث الواردة في الباب وتكلّم عليها طويلاً، وخاصة حديث ابن عباس المشهور ومرسل عروة وغيرهما من الأحاديث والآثار. ثم عقد بابًا لبيان الطلاق المأذون فيه ومذاهب العلماء في ذلك، وبابًا ثانيًا للكلام على وقوع الطلاق البدعي واختلاف العلماء في ذلك مع الاحتجاج لكل فريق والمناقشة.

73 - رسالة في المواريث

73 - رسالة في المواريث ردَّ فيها المؤلف على كتاب "الوراثة في الإِسلام" للشيخ أسلم الجيراجي الهندي الذي خالف جماهير الأمة في مسائل المواريث، وفسَّر الآيات تفسيرًا غريبًا، ولم يبالِ بالإجماع في هذا الباب. فانبرى له المعلمي واشتمل كتابه على تفسير آيات الوصية والمواريث، ثم الردّ على الجيراجي فيما قاله بشأن آية الوصية، وبيان أنها منسوخة بدلالة الكتاب والسنة والإجماع، ثم الكلام على ذوي الفروض وأن أولاد الأم منهم، ثم الكلام على العصبة وسياق أدلة القول بالتعصب والردّ على ما قاله الجيراجي، ثم الكلام على ذوي الأرحام ومناقشة الجيراجي فيما قاله. 74 - مسألة منع بيع الأحرار كتب فيها الشيخ أربع مرات لأهميتها، فإنهم كانوا آنذاك يبيعون الأحرار ويجعلونهم رقيقًا دون بينة ولا شهادة، بل يُكرِهونهم على الإقرار بأنهم عبيد، وكان القضاة يوافقونهم على ذلك، ولا يسمعون الشهادة ولا يقبلون الدعوى. فأراد الشيخ أن يحرَّر المسألة بأدلتها، فنقل كلام الفقهاء والشراح من كتب الفقه الشافعي، وترجَّح لديه إثبات البينة وسماع شهادة الحسبة. وقد تناول المؤلف هذا الموضوع كلَّ مرة بأسلوب مختلف وبخطبة جديدة وتمهيد مستقل، ويبدو أن الشيخ كان مهتمًا جدًّا بهذه النازلة، وأراد من الإِمام الإدريسي أن يَبُتّ في الأمر للقضاء على ظاهرة بيع الأحرار، وتوجيه القضاة إلى سماع دعوى الحرية وإقامة البينة عليها بعد الإقرار بالرق، واعتبار شهادة الحسبة في هذا الأمر، لدفع المفاسد المترتبة على الرق.

75 - أسئلة وأجوبة في المعاملات

75 - أسئلة وأجوبة في المعاملات بدأها الشيخ بتعريف البيع وما الذي يجوز بيعه وما الذي لا يجوز بيعه، والبيوع المنهي عنها في الأحاديث وتفسيرها. ثم عقد باب الربا، وباب بيع الأصول والثمار، وباب الخيار تكلَّم فيه عن أقسامه السبعة وأحكامها، وبعده باب السَّلم وباب القرض وباب أحكام الدين. وفي الأخير عنونَ باب الحوالة والضمان، ولم يكتب بعده شيئًا. وهذه الرسالة بصورة سؤال وجواب بأسلوب سهل مبسَّط، لعلّ الشيخ ألَّفها لطلاب العلم الذين يصعب عليهم فهمُ ما في المتون الفقهية المختصرة فأراد أن يوضّح أبواب المعاملات بطريقة السؤال والجواب. 76 - الإِسلام والتسعير ونحوه (أو) حول أجور العقار كتب الشيخ مرتين في هذا الموضوع، وذكر كلاًّ من العنوانين بخطه في أول كل قطعة بعد البسملة. وقد أشار في القطعة الأولى إلى كثرة الضجيج من ارتفاع أجور العقار، وكتابة أحد العلماء في هذا الباب بما يفهم منه أن غلوّ الملّاك في زيادة الأجور عمل مذموم، فهو إما حرامٌ عليهم أو قريب منه. وما دام الأمر كذلك فعلى وليّ الأمر منعُ الناس منه، وعليهم طاعته كما في الكتاب والسنة، وقد أورد المؤلف بعض هذه النصوص. وبدأ القطعة الثانية بذكر ارتفاع أجور العقار، وأن القضية تحتاج إلى تحقيق علمي مشبع، ثم أدار الحوار بين أرباب العقار وغيرهم، وفيه احتجاج كل فريق لما ذهب إليه. وأطال في ذكر حجج أصحاب العقار، وتوقَّف في أثنائها، ولم يتمكن من استيفاء الكلام في الموضوع، ولعله لم يجد الفرصة لذلك.

77 - مناقشة لحكم بعض القضاة في قضية تنازع فيها رجلان

77 - مناقشة لحكم بعض القضاة في قضية تنازع فيها رجلان موضوعها يدور حول نقض المعلمي لقضاء قاضٍ في قضية تشاجر فيها رجلان، وفيها بحث مسائل في الدعوى والشهادة، واختلاف البينات وتعارضها، ومسألة غرز الأخشاب في جدار الغير. 78 - مسائل القراءة في الصلاة والرد على أحد شرَّاح الترمذي وقف المؤلف على شرحٍ لم يُطبع لجامع الترمذي لأحد علماء الحنفية من المعاصرين، اعتنى فيه بالمسائل الخلافية وسَرْد الأدلة وتنقيحها روايةً ودرايةً، وقد طالعه المؤلف من أوله إلى أواخر كتاب الصلاة، فظهرت له مواضع تحتمل التعقُّب والمناقشة، فقيَّد ذلك، ثم رأى أن الكلام في مسائل القراءة في الصلاة يطول، فأفرده مرتَّبًا في هذا الكتاب. وقد تكلم فيه على ستّ مسائل، وناقش شارح الترمذي فيها: 1 - المسألة الأولى: هل يجب قراءة الفاتحة في الصلاة؟ 2 - المسألة الثانية: هل تجب الفاتحة في كل ركعة؟ 3 - المسألة الثالثة: هل تجب الزيادة على الفاتحة؟ 4 - المسألة الرابعة: قراءة المأموم للفاتحة. 5 - المسألة الخامسة: هل يزيد المأموم في الأوليين من الظهر والعصر على الفاتحة؟ 6 - المسألة السادسة: إذا كان المأموم أصمّ أو بعيدًا عن الإمام لا يسمع قراءته، فهل يقرأ غير الفاتحة والإمام يجهر؟

79 - مسألة في إعادة الإمام الصلاة دون من صلى وراءه في الجماعة

79 - مسألة في إعادة الإِمام الصلاةَ دون من صلَّى وراءه في الجماعة بدأها المؤلف ببيان أن الأصل في جميع الأعمال عدم الوجوب، فلا يجب علينا شيء إلا بدليل، فلا يلزم من بطلان صلاة الإِمام بطلانُ صلاة المأموم إلاَّ حيث وقع من المأموم تقصير. وقد استدل على ذلك ببعض الأحاديث والآثار. 80 - صيام ستة أيام من شوال ألَّف الشيخ هذه الرسالة ردًّا على مَن قال: إن صيامها بدعة، وإن حديثها موضوع لأنه تفرد به سعد بن سعيد الأنصاري، وقد طعن فيه أئمة الحديث. فردّ على ذلك ببيان صحةِ الحديث وعملِ بعض الصحابة والتابعين به، وإطباق المذاهب على استحباب صيامها. وأما القول بأنه موضوع فلا يتصوَّر أن يصدر عن عارفٍ بالحديث. ثم ذكر أن هذا الحديث رُوي عن جماعة من الصحابة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقف المؤلف على رواية عشرة منهم، وتكلم عليها في عشرة فصول بذكر جميع طرقها، بالإضافة إلى الآثار الواردة في الباب، وبيان مذاهب الفقهاء، وشرح معنى الحديث. 81 - جواب الاستفتاء عن حقيقة الربا كان سبب تأليفه أن بعض الفضلاء في حيدراباد نشر سنة 1347 رسالة بعنوان "الاستفتاء في حقيقة الربا" أجلبَ فيها بخيله ورجله لتحليل ربا القرض، وأُرسِلتْ من طرف الصدارة العالية (مشيخة الإِسلام) إلى علماء الآفاق ليُبدوا رأيهم فيها. وقد راجع الشيخ المعلمي صاحبَ الرسالة وناقشه في بعض المباحث، وأراد أن يكتب عنها جوابًا بعد ما تنبَّه لدقائق في أحكام

الربا وحِكَمه، واطلع على كلام الشاطبي في "الموافقات" وغيره، فألَّف هذا الجواب وقسَّمه قسمين: الأول لبيان أحكام الربا وأنواعه، والثاني في البحث مع صاحب الاستفتاء. وقد تكلم في القسم الأول عن حقيقة الربا ومفاسده، والفرق بينه وبين البيع، وبعض وجوه الربا مثل: العِيْنة والانتفاع بالرهن (الذي يسمَّى بيع العهدة وبيع الوفاء وغير ذلك)، وربا البيع والعلة في الذهب والفضة والأجناس الأربعة الباقية. وخصَّص فصلًا للكلام على الاحتكار وبيان علاقته بهذا الحكم، وتوصَّل إلى أن الربا والاحتكار أخوان، يتعاونان على الظلم والعدوان. أما القسم الثاني فهو في البحث مع صاحب الاستفتاء في أربعة أمور: الأول: أن الربا المنهي عنه في القرآن مجمل. الثاني: أن القرض ليس بدَين، فعلى هذا لا يكون الربا إلاَّ في البيع. الثالث: أن النفع المشروط في القرض ليس بربًا منصوص. الرابع: أن النفع المشروط في البيع لا يصحّ قياسه على الربا المنصوص، ولو صحَّ فالأحكام القياسية قابلة للتغيُّر بتغير الزمان، فلا محيصَ من تحليله في هذا الزمان. تكلم المؤلف على جميع هذه الأمور التي ادّعاها صاحب الاستفتاء، وردَّ على حججه بتفصيل، وبيَّن وهاءَها. وفي آخر الكتاب تحدَّث عن أحوال هذا العصر، وذكر أن المرض الحقيقي هو التبذير والكسل، ونتيجتهما الفقر، وليس علاجه تحليل الربا.

82 - كشف الخفاء عن حكم بيع الوفاء

82 - كشف الخفاء عن حكم بيع الوفاء أفرده المؤلف لبيان حكم بيع الوفاء (الذي تكلم عليه في الكتاب السابق أيضًا)، وكان يريد أن يفصّل الكلام عليه في سبعة أمور، ولكنه توقف في أثناء الكلام على الأمر الثاني، ولم يتمه. 83 - النظر في ورقة إقرار تكلم فيه المؤلف على ألفاظ ورقةٍ يُفهم منها الإقرار ومناقضة الإقرار، وذكر أنه إذا نُظر إلى السياق وإلى تسامُح العوامّ في ألفاظهم لم تكن تلك الألفاظ ظاهرة فيما يناقض الإقرار، بل هي محمولة على ما يوافقه. ثم شرح ما فيها من الألفاظ والعبارات مع الاستناد إلى نصوصٍ من كتب الفقه الشافعي. 84 - قضية في سكوت المدعى عليه عن الإقرار والإنكار تكلم المؤلف على هذه القضية في ضوء ما وجد في كتب الفقه الشافعي وذكر أن كون لفظ "لا أدري" في فعل نفسه يُعتبر إقرارًا غير ظاهر، لأن مبنى الإقرار على اليقين، ولا نظير لها في باب الإقرار يُقاس عليه، ولكنها قد تؤدّي إلى ما هو في حكم الإقرار، بأن يُصرَّ المدَّعى عليه، فيحكم القاضي بأنه كالمنكر الناكل، ويحلف المدعي اليمين المردودة. 85 - الفسخ بالإعسار ذكر فيه أن الفسخَ بالإعسار ثابت في المذهب الشافعي، وعِلّته أن النكاح عقدٌ بمقابلٍ كالبيع، فهو إباحة الانتفاع بالبضع إلى مقابل الصداق والإنفاق، وإذا تعذَّر تسليم العوض بأن غاب غيبةً منقطعة أو امتنع ولم يُقدَر على ضبطه، وُجدت علة الفسخ.

86 - مسألتان في الضمان والالتزام

86 - مسألتان في الضمان والالتزام تكلم فيهما الشيخ على قضيتين حكم فيهما القاضي بما هو مخالف للحق والصواب، ونقل من كتب المذهب الشافعي ما يُبيِّن ذلك. وقد حرَّر القضية الأولى في ربيع الثاني سنة 1337. 87 - مسألة الوقف في مرض الموت نقل فيها الشيخ نصوصًا من كتب الفقه الشافعي تُصرِّح بأنه لو وقف في مرض الموت ما يخرج من ثلثه على ورثته بقدر أنصبائهم صحَّ من غير احتياج إلى الإجازة. ثم ذكر ما يخالف هذا في الظاهر، وتكلم عليه في ضوء كتب المذهب. 88 - الفوضى الدينية وتعدُّد الزوجات تكلم فيها على مسألة تعدُّد الزوجات، وبيَّن أنها مسألة معلومة من دين الإِسلام بالضرورة، بل ومن الفطرة ومن المصلحة، وردَّ على الشبهة التي أثارها بعض المتأخرين، وبين أن معنى العدل في قوله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا ...} هو العدل الكامل. وذكر بعد ذلك أن تعدُّد الزوجات مناسب للفطرة، وفيه مصالح عديدة. ثم تحدَّث تحت عنوان "مفاسد تعدد الزوجات" عن ثماني مفاسد يذكرها بعض الناس، ونظر فيها واحدةً واحدةً، وبيَّن أنها أقلُّ بمقابل المصالح. بل إن الزوج إن عدلَ عن طلاق زوجته ووقع في الزنا تحصل به مفاسد أشدُّ من مفاسد التعدُّد كما يزعمون، ثم عدَّدها.

89 - مسألة في رجل حنفي تزوج صغيرة بولاية أمها

89 - مسألة في رجل حنفي تزوَّج صغيرة بولاية أمها كتبها الشيخ ردًّا على سؤال مفتي المدرسة النظامية بحيدراباد، ذكر فيها المذهب الشافعي في هذه المسألة نقلاً عن كتاب "الأم" وغيره، وبيَّن الخلاف بينه وبين المذهب الحنفي. 90 - مسألة في صبيين مسلمين أخذهما رئيس الكنيسة فنشآ على دينه، وبلغا عليه وتزوَّجا، ثم أسلما ذكر الشيخ أن لهذين الصبيين خمس حالات: 1 - حالة صغرهما قبل دخول الكنيسة. 2 - حالة دخولهما والتلبس بالنصرانية. 3 - حالة بلوغهما على ذلك. 4 - حالة عقد الزواج بينهما. 5 - حالة عودهما إلى الإِسلام. ثم تكلم عن كل حالة بتفصيل، وذكر نصوص كتب الفقه الشافعي، واستنبط منها ما يبيِّن حكم ذينك الصبيين اللذين بلغا وتزوجا على النصرانية ثم أسلما. 91 - بحث في قصة بني هشام بن المغيرة واستئذانهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يزوِّجوا عليًّا رضي الله عنه أراد الشيخ أن يتناول عدة مباحث متعلقة بالحديث الوارد في الباب،

خامسا: قسم أصول الفقه

ولكن الموجود يحتوي على تخريج الحديث والكلام على مبحث واحدٍ فقط. وفيه تحقيق تاريخ ولادة راوي الحديث المِسْوَر بن مخرمة، وردٌّ على المؤرخين الذين قالوا: إن مولده كان بعد الهجرة، وقصة خطبة علي كانت بعد مولد المسور بنحو من ست سنين أو سبع. ردَّ عليهم الشيخ باللفظ الوارد في الحديث في الصحيحين ومسند أحمد: "وأنا يومئذٍ محتلم"، وقال: ما حكاه المؤرخون لا أساسَ له من الصحة. خامسًا: قسم أصول الفقه يحتوي هذا القسم على خمس رسائل، وأسميناه (مجموع رسائل أصول الفقه) وهو يمثّل المجلد التاسع عشر من الموسوعة ويقع في 401 صفحة، وهي: 92 - رسالة في فَرْضيّة اتباع السنة والكلام على تقسيم الأخبار وحجية أخبار الآحاد بدأ المؤلف هذه الرسالة بذكر إجماع المسلمين على فرض اتباع السنة، وأنه من الأمور المعلومة بالضرورة من دين الإِسلام، وأن التفريق بين الكتاب والسنة تفريق بين الله ورسله. ثم استعرض أربع شُبه لمنكري حجية السنة، وردَّ عليها بتفصيل، وبيَّن أن الحجة قائمة على فرض اتباع السنة، وأن فيها ما ليس في القرآن، وأن الذي يرتاب في ذلك فحقُّه أن تُقام عليه الحجج على أصل الإِسلام، ولا يُتشاغل معه بالنظر في الجزئيات. ثم تكلم على تقسيم الأخبار عند الأصوليين إلى ثلاثة أقسام: مقطوع بكذبه، ومقطوع بصدقه، وما ليس مقطوعًا بكذبه أو بصدقه.

93 - رسالة في الكلام على أحكام خبر الواحد وشرائطه

وبعدما فصَّل الكلام في القسمين الأولين وعقَّب على كلام الأصوليين فيهما عقد فصلاً في الكلام على أحاديث الصحيحين هل تفيد العلم أم لا؟ ثم جعل عنوان "أخبار الآحاد" وذكر أنها القسم الثالث من الأخبار عند الأصوليين، وهو ما لا يُقطع بكذبه ولا بصدقه. تكلم فيه على وجوب العمل بخبر الواحد، وأنه قد وقع الاجماع على ذلك، وذكر جميع الشبه العقلية والنقلية للمانعين من قبول خبر الواحد والعمل به، وأطال في الرد عليها. وقد تكلم بتفصيل على معنى آية {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} التي استدل بها المانعون، وفنَّد مزاعمهم. كما تكلَّم على آية {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} وبيَّن معنى الظنّ و"يغني" (¬1). وفي الفصل الأخير ذكر بعض الشبه النقلية من الأحاديث والآثار التي تدلُّ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر وغيرهما لم يقبلوا خبر الواحد حتى جاء آخر فأخبر بمثله. تكلَّم المؤلف عليها واحدًا واحدًا، وبيَّن معناها ووجهها. 93 - رسالة في الكلام على أحكام خبر الواحد وشرائطه كان سبب تأليفها أن الشيخ أراد تحقيق بعض المسائل المتعلقة بأحكام الجرح والتعديل لما وجد عند المتأخرين كلامًا مخالفًا للصواب وغيرَ وافٍ بالتحقيق، ثم رأى أن يضمّ إليه شيئًا من الكلام على أحكام خبر الواحد وشرائطه، فألَّف هذه الرسالة ورتَّبها على ثلاثة أبواب كما قال في المقدمة، والموجود منها بين أيدينا بابان فقط. ¬

_ (¬1) وقد سبق تحت رقم (30) ذكر رسالة خاصة للمؤلف في معنى "أغنى"، وهي في رسائل التفسير.

94 - إرشاد العامه إلى معرفة الكذب وأحكامه

عقد المؤلف الباب الأول للكلام على بعض ما يتعلق بخبر الواحد، وقسَّمه إلى أربعة فصول: الأول: في وجوب العمل بخبر الواحد. الثاني: فيما يفيده خبر الواحد. الثالث: في المعنى الذي لأجله وجب العمل بخبر الواحد. الرابع: في المقابلة بين الرواية والشهادة. أما الباب الثاني فقد عقده لبيان شرائط حجية خبر الواحد، وذكر أنها على ثلاثة أنواع، والموجود الكلام على النوع الأول فقط، وهو ما يُشترط في المخبر حالَ الإخبار، تكلم فيه أولًا على العدالة وضوابطها، ثم تكلم على الضبط، وعرَّفه بأنه اجتماع الثبات والتثبت، وشرح ذلك، وبيَّن في الفصل الأخير أن غالب ما في كتب الجرح والتعديل من الكلام مبني على اعتبار حديث الراوي، وذكر مذهب ابن حبان والعجلي في ذلك. 94 - إرشاد العامِه إلى معرفة الكذب وأحكامِه ذكر في المقدمة سبب التأليف، فإنه لما نظر فيما وقع من الاختلاف في العقائد والأحكام، ورأى كثرة التأويل للنصوص الشرعية، تبيَّن له في كثير من ذلك أنه تكذيب لله ورسله، ثم رأى في كلام بعض الغلاة التصريح بنسبة الكذب إلى الله والرسل، والتلبيس على أكثر المسلمين بذلك، فجرَّه البحث إلى تحقيق معنى الكذب وبيان أحكامه، فألَّف هذه الرسالة. لم تصل إلينا هذه الرسالة بتمامها، والموجود منها قِطع متفرقة تحتوي على عدة مطالب، ذكر فيها معنى الخبر لغةً واصطلاحًا، وتعريف الصدق والكذب، ومن يلحقه معرَّة الكذب، وإرادة المتكلم، والمجاز، والقرينة،

95 - رسالة في أصول الفقه

والفرق بين الاستعارة والكذب والمجاز والكذب، وما يأتي الخلل في فهمه من تقصير المخاطب، والمعاريض وكلمات إبراهيم عليه السلام، وما رُخّص فيه مما يقول الناس إنه كذب، وما ورد من التشديد في الكذب. وقد فصَّل المؤلف في الكلام على هذه المطالب بما لا مزيد عليه، وذكر من الأمثلة والشواهد ما يقرِّرها ويُوضّحها. 95 - رسالة في أصول الفقه ذكر المؤلف في مقدمتها أن الكتب المؤلفة في هذا العلم على ضربين: الأول كتب الغزالي ومَن بعده، والثاني بعض المختصرات لمن قبله كاللمع للشيرازي والورقات للجويني. أما الأول فقد مُزِج بمباحث كثيرة من علم الكلام والمنطق، وأما الثاني فإنه بغاية الاختصار، ولا يخلو مع ذلك عن تعقيد. ونظرًا لحاجة طلاَّب العلم ألَّف هذه الرسالة بأسلوب سهل مبسّط ليفهمها الجميع، إلاَّ أنه لم يتمكن من إكمالها، فالموجود منها يحتوي على مقدمة وفصلين فقط. 96 - رسالة في التعصُّب المذهبي هي في الكلام على نشأة التعصب المذهبي عند أتباع الأئمة وكيفية معالجته، ذكر في خاتمتها أنه مع انتشار هذه المذاهب فلم تُطبِق الأمة على هجر الكتاب والسنة، بل بقي النظر في التفسير وجمع السنة وترتيبها والكلام في الروايات وجمع الأدلة واستنباطها من الكتاب والسنة مستمرًّا. ومن وطَّن نفسه على الإنصاف علم أنه يقع من المتقيدين من علماء المذهب في كثير من المواطن ميلٌ عن الإنصاف وحيفٌ على الأدلة، يُوقعهم في ذلك حرصُهم على الانتصار للمذهب.

سادسا: قسم النحو واللغة

سادسًا: قسم النحو واللغة ويحتوي هذا القسم على (14) كتابًا ورسالة. * مجموع رسائل النحو واللغة وفيه ثلاث عشرة رسالة، وهو يمثل المجلد العشرين من هذه الموسوعة، ويقع في 538 صفحة، وهي على أقسام: الأول: الرسائل النحوية والصرفية، وفيه: 97 - اللطيفة البكرية والنتيجة الفكرية في المهمات النحوية وهي عبارة عن سؤال ورد عليه من بعض الناس يطلب منه التحدّث عن الاسم المبني، والاسم الممنوع من الصرف، وقد جعل مصادره خمسة كتب هي: "الهمع" للسيوطي، و"شرح الكافية" للرضي، وحاشيتي الصبان والخضري على شرحي الألفية، ورسالة أحمد زيني دحلان في المبنيات. 98 - حقائق في النحو مستقربة هي رسالة في الاصطلاحات النحوية على طريقة السؤال والجواب، وقد أورد فيها ثلاثًا وستين ومائة حقيقة معتمدًا على مصادر النحو المعتبرة، وقد رتبها على وفق كتب الفن، ولم يكن مقلدًا في تلك المسائل، بل يختار قولًا يراه أرجح من غيره ويستدلّ له، كما ستراه في الرسالة. 99 - مختصر شرح ابن جماعة على القواعد الصغرى لابن هشام هذه الرسالة عبارة عن اختصار لشرح من شروح القواعد الصغرى لابن هشام الكثيرة، وهو شرح ابن جماعة الحفيد (ت 819)، وكان قد وضع عدة

100 - نظم قواعد الإعراب الصغرى

شروح للقواعد، وما اختصره المعلمي هنا هو أحد تلك الشروح المهمة التي لم تطبع بعد، فيكون المختصر أسبق للنشر من أصله، ولم يضع المعلمي عنوانًا محددًا بل عنون بهذه العبارة: (القواعد الصغرى لمحمد بن هشام مع بعض تقريراتٍ من شرحها لابن جماعة، كما نبهت عليها)، وأراد بالتنبيه أنَّه وضع للمتن حرف (م)، وللشرح حرف (ش). 100 - نظم قواعد الإعراب الصغرى هي منظومة علمية للمختصر الآنف الذكر، وهي من بحر الرجز، وتقع في مئتي بيتٍ، ولعلها أول منظومة للقواعد الصغرى إذْ إن غالبهم نظم (الإعراب عن قواعد الإعراب) وقد عنون لها المؤلف بقوله: (نظم قواعد الإعراب الصغرى). 101 - طرائف في العربية ناقش فيها المؤلف خمس مسائل نحوية وصرفية بمحاولة إبداء رأي جديدٍ فيها لم يسبق إليه، وهذه المسائل هي: الإشارة وعلاقتها بنشأة اللغة، تصريف كلمة (تنّور)، تصريف كلمة (تُفَّاح)، ضمير الشأن والقصة، بحثٌ في الفعل (كاد). وسترى في المجموع بسط هذه المسائل ومناقشتها بأسلوب رائع متين، وقد عنون لها بقوله: (طرائف في العربية). 102 - الكلام على تصريف (ذو) تعرَّض المؤلف في هذه المقالة لبحث لفظة (ذو) بمعنى (صاحب) والتي تعدُّ من الأسماء الخمسة على رأي الفراء والزجاج، أو ستة على رأي

103 - إشكال صرفي وجوابه

الجمهور، وقد أوضح المؤلف تصريفها وأصلها من خلال نقل كلام أئمة هذا الشأن، وعقَّب عليهم بزيادة توضيح تزيل الإشكال عنها. 103 - إشكال صرفيٌّ وجوابُه هو عبارة عن إشكال في كلمة (خطيئة) لِمَ لمْ تعامل معاملة جمع (رسالة، وصحيفة، وعجوز) مع أن وزن المفرد من كلٍّ هو (فعيلة)؟ وقد أجاب عن هذا الإشكال واللبس الحاصل في تلك الكلمة بجوابٍ أبدى فيه رأيه لإزالة هذا الإشكال. 104 - ضبط فعلين في متن الأزهار، واعتراض وانتقاض هذه الرسالة عبارة عن سؤال ورد على المؤلف في فعلين جاءا في متن "الأزهار" وهما (يرقّ - يعتق) كيف يضبطان؟ وما الدليل على ذلك؟ وقد أجاب عنه مستعينًا ببعض المعاجم كالمصباح والأساس للزمخشري وغيرهما من الكتب، وترجَّح له أنَّهما بفتح الفاء وكسر العين، فاعترض عليه معترض رمز لاسمه بحرف (ع) ولعله العلامة القاضي عبد الله العمودي، فأجابه عن الاعتراض الأول، ثم عاد المعترض مرةً أخرى فنقض المؤلف اعتراضه الثاني. * فائدتان: خاطرة في قول الشاعر: (ولكنني من حبها لعميد): هي عبارة عن فائدة وخاطرة وردت في ذهن المؤلف حال الدرس في هذا الشطر تخالف ما ذهب إليه نحاة الكوفة والبصرة من تأويلهما للشاهد.

القسم الثاني (الرسائل اللغوية والأدبية)

المعارف التي بعد اسم الإشارة: هي مسألة مجيء الاسم المعرفة بعد اسم الإشارة ماذا يكون حكمه؟ أجاب بجواب جديد لم يسبق إليه من قبل، وهو مراعاة مراتب الاسم المعرفة. القسم الثاني (الرسائل اللغوية والأدبية) 105 - اختصار كتاب: "درة الغواص في أوهام الخواص" للحريري قام المؤلف بتلخيص الدرة اختصارًا بديعًا، اقتصر فيه على الكلمات التي وقع فيها الخطأ وما يقابلها من صواب تاركًا استطرادات الحريري وما أورده من شواهد شعرية أو قصص عربية أو أمثالٍ وحكمٍ وفوائد لغوية ونحوية وصرفية، ولم يلتزم بعبارة الأصل بل يصوغها بنفسه، وربما حذف كلمات من الأصل، وربما عقَّب واستدرك. 106 - فوائد لغوية منتقاة من كتاب: "الكنز المدفون والفلك المشحون" اعتمد المؤلف على هذا الكتاب في استخراجه فوائد لغوية عدةً تتعلق بفقه اللغة من مترادفاتٍ وأضدادٍ ومثلثاتٍ، وما فيه لغتان، وما يُهْمَز وما لا يهمز، وما فيه لغةٌ فأكثر، والفرق بين المكسور والمفتوح، أو المضموم والمفتوح وغير ذلك من الفوائد، ولم يلتزم المؤلف ترتيب الأصل، وربما أضاف من عنده إضافاتٍ لا توجد في الأصل كما وقع في أسماء الخمر، وكما نظم أسماء الجناس وأنواعه.

107 - مناظرة أدبية بين المعلمي والسنوسي

107 - مناظرة أدبيَّة بين المعلمي والسنوسي جرت مذاكرة أدبية شعرية بين المؤلف وبين الشاعر علي بن محمد السنوسي في مجلس الإدريسي محمد بن علي، وذلك يوم عيد الفطر سنة (1337) إذْ كانت له عادة لا تتخلف من إلقاء قصائد وتهاني وخطب في ذاك اليوم، ومنها هذه الواقعة، فكان السنوسي قد ألقى قصيدةً من بحر المديد تكررت تفعيلاتها أربع مرات؛ فاعترض المؤلف بأن المديد لا يستعمل إلا مجزوءًا وأن التربيع من صنيع المتأخرين وأتى بالشواهد في هذا وتصدَّى لنقد قصيدة السنوسي، ثم أطال في مسألة معنى الفعل (عدا) وتعدّيه بحرف الجر، ممَّا جعل السنوسي يردّ عليه بمكاتبات وجوابات وطال النقاش بينهما، فأدخلوا طرفًا ثالثًا وهو العلامة السيد صالح بن محسن الصيلمي وكأنَّه رأى الحقَّ للمعلمي، واعتذر له السنوسي في آخر النقاش بقصيدة بعثها إليه وطلب منه إصلاح خللها، فأجابه المؤلف بعشرة أبيات. وألحقنا هذه الرسالة بفائدتين هما: شرح بيت ومعناه: كان أحد الأدباء في زمن المؤلف اسمه ثابت بن سعيد نظم بيتًا فيه تاريخ العام الذي قيل فيه هذا البيت بحساب الجُمَّل، فبيَّن المعلميُّ المحاسن اللفظية التي اتفقت لهذا الشاعر دون تكلف ولا تعسف. أنظام لغوية: نظم المؤلف أنظامًا مختلفة في مسائل وهي كالتالي: في الأسماء المؤنثة السماعية: وقد أورد فيها الكلمات الواجبة التأنيث والكلمات الجائزة في أربعة عشر بيتًا من الرجز.

القسم الثالث (الرسائل العروضية)

نظم جموع كلمة (عبد): فقد نظمها بنظمين، وأوصل جموع (عبد) إلى عشرين جمعًا. جموع (شيخ): ذكر الفيروزابادي في قاموسه لجمع كلمة (شيخ) إحدى عشرة لفظةً جمعها المعلمي في أربعة أبيات من الرجز. القسم الثالث (الرسائل العروضية) 108 - مختصر متن الكافي في العروض والقوافي " متن الكافي" كتاب في العروض لأحمد بن عباد القنائي (ت 858)، وقد لخَّص المؤلف من الشرح الصغير الموضوع على متن الكافي وهو شرح العلامة الدمنهوري، وأضاف إليه إضافاتٍ مثل أبيات الحلِّي في حركات القافية، وربَّما تصرَّف في المتن وصحح بما ينبه عليه المحشّي أحيانًا. 109 - نظم بحور العروض نظم المؤلف بحور العروض، وهي ستة عشر بحرًا في خمسة أبياتٍ وقد وضع بعد كل بيت دائرة من دوائر العروض الخمسة. وبهذه الرسالة ينتهي مجلد (مجموع رسائل النحو واللغة). 110 - معجم الشواهد الشعرية أراد المؤلف أن يفهرس الشعر الموجود في أهم كتب النحو واللغة وشروح الشواهد، فاختار أولاً ستة كتب، ثم أضاف إليها أربعة كتب أخرى، وكان قصده أن يصنع فهرسًا موحَّدًا لجميع ما ورد فيها من الشعر، فرتَّبه على القوافي بعدد الحروف من الألف إلى الياء، وقسَّم كل قافية إلى الساكنة ثم المفتوحة ثم المكسورة ثم المضمومة، وألحقَ بكل قسمٍ منها ما وُصِل

سابعا: قسم المتفرقات، وهو أنواع

بالهاء. كما قسَّم قوافي كل حرفٍ على البحور من الطويل إلى المتقارب، ويبيِّن إذا كان مجزوءًا أو مشطورًا أو منهوكًا. ثم جعل القوافي من بحرٍ معيّن في مجموعاتٍ حسب نظام القافية. وقد قسَّم المعجم إلى جداول، يذكر فيها حرف القافية أولاً، ثم القوافي، ثم البحر، ثم القائل، ثم المصادر بالإشارة إلى الجزء والصفحة. وقد كان الشيخ سبَّاقًا إلى وضع هذا المعجم وصدَر بعده فهارس متعددة صنعها المستشرقون والعرب في بلدان مختلفة، ويتميز هذا المعجم بدقته في الترتيب واستيعابه للشواهد كما يظهر ذلك بمقارنته بغيره من الفهارس. وهو يمثل المجلد الحادي والعشرين من هذه الموسوعة، ويقع في 420 صفحة. سابعًا: قسم المتفرّقات، وهو أنواع: 111 - 112 النوع الأول: الخُطَب والوصايا تشتمل هذه المجموعة على نحو ستين خطبة من خطب الجمعة - وبعضها من خطب العيد - التي ألقاها الشيخ في مقتبل شبابه، في بعض مساجد جيزان، في أيام حكم السيد الإدريسي. لهذه الخطب أهمية تاريخية وقيمة أدبية. ثم ألحقنا بالخطب جملةً من وصايا الشيخ، أهمها وصيته الجامعة لتلميذه محمد بن أحمد المعلمي. وهذا المجلد يمثل الجزء الثاني والعشرين من هذه الموسوعة، ويقع في 325 صفحة.

* النوع الثاني: مجموع رسائل في التحقيق وتصحيح النصوص

* النوع الثاني: مجموع رسائل في التحقيق وتصحيح النصوص ويضمّ ثماني رسائل، وهو يمثل المجلد الثالث والعشرين ويقع في 288 صفحة. 113 - أصول التصحيح العلمي 114 - أصول التصحيح العلمي (مسوَّدة) 115 - أصول التصحيح (مسوَّدة) هذه الرسائل من أول ما كُتب في فن التحقيق، إذ كان تسويدها وتبييضها قبل صدور كتاب الأستاذ عبد السلام هارون. وقد عالج فيها المؤلف مسائل التحقيق معالجة دقيقة منظمة. 116 - تخريج الأحاديث الواردة في كتاب "شواهد التوضيح" لابن مالك، مع تعليقات على نشرة محمد فؤاد عبد الباقي طبع كتاب "شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح" لابن مالك في الهند سنة 1309، دون إحالة الأحاديث الواردة فيه على مواضعها من الجامع الصحيح، فقام الشيخ بهذا العمل. ثم نشر الكتاب الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي مع تخريج الأحاديث، فقابل الشيخ عمله بنشرته، وفي خلال ذلك ظهرت له فيها مآخذ فقيَّدها في هذه الرسالة. 117 - تصحيحات وتعليقات على "سبل السلام شرح بلوغ المرام" للأمير الصنعاني هذه التعليقات تتضمن الأخطاء المطبعية التي وقعت في طبعة الكتاب

118 - تنبيهات على "الكامل" للمبرد نشرة زكي مبارك

التي كانت بين يدي الشيخ، وأوهام الشارح في الضبط والإعراب والتفسير، وتعقيبات على آرائه. ومما يبعث على الأسف أن الشيخ لم يتجاوز فيها مقدمة الكتاب والأبواب الثلاثة الأولى من كتاب الطهارة. 118 - تنبيهات على "الكامل" للمبرد نشرة زكي مبارك 119 - تنبيهات على الجزء الأول من "معجم الأدباء" نشرة أحمد فريد الرفاعي 120 - من نوادر المخطوطات المحفوظة في مكتبة الحرم المكي الشريف 121 - النوع الثالث: فوائد المجاميع هذا السفر منتخب من مجاميع الشيخ وكنانيشه ودفاتره التي كان يُقيّد فيها ما عنّ له من الفوائد واللطائف والاستنباطات والاستدراكات وغير ذلك، وقد مررنا على هذه المجاميع وعددها اثنان وعشرون، وانتقينا منها ما كان خالصًا للشيخ وليس نقلًا محضًا، ثم رتبناها على الفنون، ورتبناها داخل الفن ترتيبًا مناسبًا يُقرّب الفائدة. وهذا الجزء يمثل المجلد الرابع والعشرين من هذه الموسوعة، ويقع في 511 صفحة. 122 - النوع الرابع: المقدمات وما إليها جمعنا فيها كل مقدمات المؤلف على الكتب التي حققها، وقد بلغ عدد المقدمات 13 مقدمة، وألحقنا بها ثلاثةً من خواتيم الكتب، وتقريظين لكتابين، وتعليقين له على الإكمال والسنن الكبرى للبيهقي.

123 - النوع الخامس: الرسائل المتبادلة

وهذا الجزء يمثل المجلد الخامس والعشرين من هذه الموسوعة، ويقع في 419 صفحة. 123 - النوع الخامس: الرسائل المتبادلة جمعنا ما تيسّر لنا الوقوف عليه من الرسائل المتبادلة بين الشيخ المعلمي - رحمه الله تعالى - وبين علماء عصره ومحبيه وأقاربه، حصلنا عليها من مصادر مختلفة، وأغلبها رسائل مرسلة منه إلى بعض أهل العلم والفضل والأقارب. مجموع هذه الرسائل إحدى وسبعون رسالة، ستٌّ وأربعون منها مرسلة من الشيخ وخمس وعشرون مرسلة إليه. وهي كالتالي: 1 - رسالة من أبيه يحيى المعلمي. 2 - رسائل الشيخ إلى أخيه أحمد بن يحيى المعلمي، (17) رسالة. 3 - رسالتان من شيخه أحمد المعلمي. 4 - رسائل من آل الإدريسي، (3) رسائل. 5 - رسائل متبادلة بين الشيخ والقاضي عبد الله العمودي، (6) رسائل. 6 - رسائل من دائرة المعارف وإليها، (4) رسائل، 7 - رسائل المؤلف إلى الشيخ محمد نصيف، (13) رسالة. 8 - رسائل المؤلف إلى العلامة أحمد محمد شاكر (رسالتان). 9 - رسائل المؤلف إلى الشيخ عبد العزيز ابن باز، (3) رسائل. 10 - رسائل متعلّقة بضبط نسبة (العَنَدي)، (4) رسائل.

11 - رسائل متفرقة (18) رسالة. وهذه الرسائل ضممناها إلى المجلد الأول الذي يحوي التعريف بالمشروع وترجمة الشيخ لمناسبتها للتعريف به والترجمة له. ****

ثانيا: كتبه المفقودة أو التي لم تدخل في هذه الموسوعة

ثانيًا: كتبه المفقودة أو التي لم تدخل في هذه الموسوعة أما الكتب والرسائل التي لم تدخل في هذه الموسوعة فهي: 1 - ديوان شِعر وسأتكلم عنه في نقاط: أ- السبب في عدم إدخاله في هذه الموسوعة ما كتب على صفحة عنوانه بخط الأستاذ عبد الله الحكمي قال: "لا يجوز طبعه ولا إعارته لأحد، وإنما يُعدّ وثيقة تاريخية لفترة من فترات الشيخ عبد الرحمن المعلمي في مقتبل عمره كشاعر وأديب وقاضي في نفس الوقت والزمان. حرره تلميذه عبد الله بن محمد حكمي، مكة المكرمة سنة 1386 هـ" ا. هـ والذي تحققته أن الشيخ المعلمي هو من أعطى الحكمي نسخةَ الديوان للاحتفاظ به (¬1)، لكن هل أوصاه بعدم طبعه أو تصويره؟ ذلك ما لم نتبيّنه، ولو أراد الشيخ إتلافه لأحرقه أو مزَّقه أو غسله، فإن ذلك أقوى لغرض الإتلاف من مجرّد إعطائه لأحد التلاميذ كما هو معلوم. ب - وصفه: يقع الديوان في مجلد واحد في 333 ورقة، ثم ألحقت به أربع ورقات فيها مقطوعات وقصائد في عدة أبيات، ثم أَلحق به الحكمي أوراقًا مصورة كتب عليها "القصائد الهندية" فيها عدة قصائد كل قصيدة نحو ورقتين. ليس عليه اسم الناسخ، لكنه كتَبَ في آخر النسخة: "تم الديوان المبارك قليل الوجود في أغوارها والنجود بما حواه من القصائد الفرائد ¬

_ (¬1) كما صرح بذلك الحكمي في رسالة منه إلى القاضي محمد الأكوع، لدي نسخة منها.

الخرائد لعله في يوم الأربعاء ثالث يوم - والله أعلم - من شهر الحجة الحرام بعناية تحفة زمانه ووقته حميد الشّيَم سخي اليمن: الشيخ الكامل نجل الأخيار الأفاضل محمد حكمي ابن الشيخ يحيى زكري الحكمي، أدام الباري وجودهم في عافية وستر الدارين آمين". جـ - كيفية جمع الديوان: الظاهر أن الشيخ محمد حكمي - المنسوخ له الديوان - قد استأذن الشيخ المعلمي بأن يكلّف ناسخًا ليجمع قصائده من أوراق الشيخ المدون فيها القصائد، فأذن له الشيخ، فأخذ الناسخ تلك الأوراق (غير المرتبة) فنسخها على حالها، ثم لما انتهى أخذ الشيخ النسخة وقرأها قراءة كاملة، فقيّد وزاد ونقص ونقّح، ويمكن تلخيص ما عمله الشيخ في نقاط: 1 - كتب في رأس كل قصيدة تاريخ كتابتها (¬1) ومناسبته. 2 - ميّز قصائده وأشعاره من أشعار غيره، فهناك جملة من الأشعار ليست له. 3 - زاد في الحواشي أبياتًا وربما قصائد برمتها. 4 - أصلح بعض الأبيات سواء كلمة أو شطر بيت أو بيت بتمامه. 5 - أصلح خطأ الناسخ أو وهمه، وضبط بعض الكلمات. 6 - صدر جميع القصائد بقوله: "للحقير" تواضعًا منه. ¬

_ (¬1) قد يصدّرها بقوله: "لعله بتاريخ كذا ... "، وقد يبيّض للتاريخ كما في ق 190، 70، وقد لا يدون تاريخًا كما في ق 194.

فهل استُنسخ منه نسخة ثانية مبيضة بعد هذه القراءة والتعديل؟ لا دليل على الإثبات ولا النفي، وإن كنت أظن الحكميَّ الذي حَرَص على استنساخ الديوان ونَشِط لذلك لا يُفرّط في أخذ نسخة مبيّضة منه، والله أعلم. د - وصف عام للديوان ومحتواه: يبدأ الديوان بقوله: "الحمد لله" ثم قصيدة: وإنك توَّابٌ كما أنت منعِمٌ ... ومنتقم يا ربّ من كل ذي شرِّ غالب قصائد الديوان في ثلاثة أغراض: المديح، وصف معارف وفتوحات الإدريسي، الغزل. الديوان يمثل نحو عشر سنوات من عمر الإِمام، فأقدم قصيدة فيه قِيلت سنة 1329وعمره سبعة عشر عامًا، وآخر تاريخ مدوّن سنة 1341 وعمره تسعة وعشرون عامًا. يحتوي الديوان على تخميسات لبعض القصائد، وشعر شعبي ومنه الحميني، فمنها قصيدة مطلعها (¬1): يالله باسمك نبتدي ... يا صاحب الفضل الهتون يا من جمعْ تدبير كلْـ ... ـل الملك في كاف ونون أشار في عدة مواضع إلى أن بعض القصائد فقدت أو ضاعت أوراقها. انظر ق 46. وهناك قصيدة واحدة في هجاء أحدهم (ق 72) علق عليها الشيخ بقوله: ¬

_ (¬1) (ق 166).

2 - ترجمة الإدريسي

"وللحقير هاجيًا وجَدَها الناسخُ بين أوراقي فوضعها هنا عفا الله عن الجميع". هذا ما أمكن تلخيصه هنا عن "الديوان" والكلام يحتمل أكثر من ذلك، لكن يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق. 2 - ترجمة الإدريسي مسوّدة في ورقتين، ليس فيهما إلا الديباجة والثناء على الإدريسي وعناوين فصول الرّسالة، والظاهر أنه لم يكملها. 3 - شرح الآجرومية كتب منه ورقات قليلة، ولم يكمله. 4 - رسالة في كيفية الصلاة كما صلاها النبي - صلى الله عليه وسلم - ناقصة، والورق متآكل ومتكسّر من منتصف الصفحات. 5 - أوراق في مسألة قصر الصلاة للمسافر في 9 ورقات، متآكلة من الأعلى والأسفل، ناقصة الأول والآخر. 6 - رسالة في حديث جابر في صلاة ركعتين والإمام يخطب يوم الجمعة مسوّدة في نحو 10 ورقات، ناقصة ومشوشة الترتيب. 7 - تقرير مفصّل عن بروفة من كتاب الجرح والتعديل لابن أبي حاتم في أربع صفحات من القطع الكبير جدًّا، كتبها في جدول كبير، لكن يصعب طباعته بهذا الشكل، وتغيير الهيئة التي وضع عليها

8 - كتاب "الفرائد"

يفسد الغرضَ من تأليفه، وحقّه أن يصوّر على هيئته بحيث تطوى أوراقه وتُنشر كما هو حال الخرائط الملحقة بأواخر الكتب. 8 - كتاب "الفرائد" قال في تفسير سورة الفاتحة ص 10: "وقد أوضحت هذا في الفرائد". وقال في موضع آخر ص 39: "وتمام الكلام على هذا يطول، فله موضع آخر، وعسى أن أبسطه في الفرائد إن شاء الله تعالى". ولم أقف له على خبر غير هذه الإشارة. ****

ثالثا: تحقيقاته

ثالثًا: تحقيقاته ما قام الشيخ بتصحيحه والتعليق عليه، وهو على نوعين: * النوع الأول: ما استقلّ بتصحيحه وتحقيقه، وهي الكتب التالية: 1 - التاريخ الكبير للإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري (ت 256). وقد حققه وعلق عليه عدا الجزء الثالث الذي يمثل المجلدين الخامس والسادس من المطبوع، فقد كانت نسخ الكتاب المتوفرة ينقصها هذا الجزء. وقد حققهما غيره فيما بعد، ولذلك وقع فيهما من الأخطاء ما لم يقع في غيرهما. وقد علق عليه تعليقات دقيقة تدل على تمكنه من علم الرجال، وغلب عليها الاختصار إلا في مواضع اقتضاها المقام فبلغ التعليق صفحات عديدة. وقد طبعته دائرة المعارف العثمانية بين سنتي (1360 - 1362). أما المجلدان الخامس والسادس فطبعا في سنتي 1377 و1378. 2 - كتاب الكنى، للإمام البخاري. طبع سنة 1360. 3 - المعاني الكبير لأبي محمد عبد الله بن مسلم ابن قتيبة الدينوري (ت 276). طبع بدائرة المعارف بحيدراباد الدكن في مجلدين سنة 1368 - 1369. ثم طبع بعد ذلك في ثلاثة مجلدات، وقد قدم له الشيخ بمقدمة حافلة، أوردناها كاملة في "المقدمات".

4 - تاريخ جرجان

4 - تاريخ جرجان للحافظ حمزة بن يوسف السهمي (ت 427). طبع في دائرة المعارف العثمانية سنة 1370 في مجلد واحد، وقد سقنا مقدمته كاملة في مكانها. 5 - كشف المخدَّرات والرياض المزهرات شرح أخصر المختصرات للإمام زين الدين عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد البعلي الحنبلي (ت 1192). طبع في مجلدين عن المكتبة السلفية لمحب الدين الخطب سنة 1370. وقد قدم له الشيخ بمقدمة مختصرة تراجع في مكانها. 6 - الجرح والتعديل للإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي (ت 327). طبع كاملًا مع تقدمته في دائرة المعارف العثمانية بين سنتي (1371 - 1373) في تسعة مجلدات. وكتب له الشيخ مقدمة مفيدة سقناها كاملة في "المقدمات"، وجرى في تحقيقه كما جرى في تحقيق كتاب التاريخ. 7 - تذكرة الحفاظ للحافظ أبي عبد الله شمس الدين الذهبي (ت 748). طبع في دائرة المعارف العثمانية سنة 1375 - 1377 في مجلدين في أربعة أجزاء، اعتمد فيها على نسخة خطية ومطبوعة قديمة، واقتصرت تعليقاته على المقابلة بين النسختين مع تصحيح النص. 8 - الموضح لأوهام الجمع والتفريق للحافظ أبي بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي (ت 463). طبع في دائرة المعارف العثمانية سنة 1378 - 1379 في مجلدين، قدم له المؤلف بمقدمة شرح فيها غرض الكتاب وفائدته، وقد سقناها في "المقدمات".

9 - الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة

9 - الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة للإمام محمَّد بن علي الشوكاني (ت1250). طبع في مجلد واحد في مطبعة السنة المحمدية سنة 1379. وقد قدم له الشيخ بمقدمة مهمة جدًّا في علم نقد الحديث، وقد سقناها كاملة في "المقدمات". وقد تكلم الشيخ فيها على أكثر أحاديث الكتاب كلامَ عارفٍ بالفن متضلّع فيه، ومع ذلك فهو يعتذر في المقدمة أنه لم يتمكّن من استيفاء النظر على الأحاديث في جميع المواضع، وشَرَح أسباب ذلك. 10 - بيان خطأ محمَّد بن إسماعيل البخاري في تاريخه للإمام أبي محمَّد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي (ت 327). وقد طبعته دائرة المعارف العثمانية سنة 1380، ثم طبع في بيروت مصورًا عنها مع "التاريخ الكبير" ومع "الموضح" للخطيب. وقد قدَّم له الشيخ بمقدمة مهمة عن فائدة الكتاب ومعنى "الخطأ" المنسوب إلى الإِمام البخاري. وقد أوردناها في "المقدمات". 11 - الرد على الإخنائي واستحباب زيارة خير البرية الزيارة الشرعية. لشيخ الإِسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية (ت 728). صحح نصه، وعزا أحاديث الكتاب إلى مصادرها في كتب السنة المشهورة، فهو يكتفي بما في الصحيحين أو أحدهما، ثم السنن الأربع، ثم الموطأ ومسند أحمد، ولم يتكلم على الأحاديث صحة وضعفًا فلعله لم يكن من غرض التعليق. وقد وجدت نسخةً من هذا التخريج بخط الشيخ في 6 ورقات محفوظة في جامعة الملك سعود برقم [1674]، ولعلها كانت في مكتبة الشيخ سليمان الصنيع،

12 - الإكمال في رفع الارتياب عن المؤتلف والمختلف من الأسماء والكنى والأنساب

وقد كان صديقًا للشيخ ومديرًا لمكتبة الحرم المكي إبان عمل الشيخ فيها. 12 - الإكمال في رفع الارتياب عن المؤتلف والمختلف من الأسماء والكنى والأنساب للحافظ الأمير ابن ماكولا (ت 475). طبع في دائرة المعارف العثمانية في السنوات 1382 - 1386، وقد صدرت بتحقيقه ستة مجلدات إلى أثناء حرف العين، وطبع المجلد السادس بعد وفاة الشيخ بأشهر في جمادى الأولى سنة 1386 13 - الأنساب للإمام أبي سعد عبد الكريم بن محمَّد السمعاني (ت 562). طبع في دائرة المعارف العثمانية من سنة 1382 وكان آخرها المجلد السادس سنة 1386 بعد وفاة الشيخ بثلاثة أشهر، ولم يكمل الشيخ تحقيقه. ثم أكمله مجموعة من المحققين وطبع في دائرة المعارف في اثني عشر مجلدًا، وأعادت صفّها وإخراجها مكتبة محمَّد أمين دمج في بيروت. 14 - المنار المنيف في الصحيح والضعيف للإمام شمس الدين محمَّد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية (ت 751). صحح الشيخ الكتاب وعلق على بعض المواطن فيه، معتمدا على نسخة مطبوعة وأخرى مخطوطة، لكن الكتاب لم يطبع في حياته ولا أعلم سبب ذلك، وطبع بعد ذلك بعناية الشيخ منصور السماري عن دار العاصمة بالرياض سنة 1416. 15 - لوامع الأنوار البهية، للسفاريني. طبع في بيروت.

* النوع الثاني: ما شارك في تصحيحه وتحقيقه

* النوع الثاني: ما شارك في تصحيحه وتحقيقه 1 - تنقيح المناظر، طبع في دائرة المعارف العثمانية (¬1) سنة 1347 - 1348. 2 - الأمالي الشجرية، سنة 1349. 3 - الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، للحافظ ابن حجر. سنة 1349 - 1350. 4 - نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر، لعبد الحي الحسني الندوي، المجلد الثاني، سنة 1350. 5 - معجم الأمكنة لنزهة الخواطر، لمعين الدين الندوي. سنة 1350. 6 - السنن الكبرى, للإمام البيهقي، وبذيله الجوهر النقي لابن التركماني. وقد شارك الشيخ في التحقيق من بداية الجزء الرابع (وقد طبع سنة 1351) إلى نهاية الجزء العاشر الذي طبع سنة 1355. 7 - صفة الصفوة لابن الجوزي، سنة 1355 - 1356. 8 - مفتاح السعادة لطاش كبري زاده، سنة 1356. 9 - أمالي اليزيدي، سنة 1357. 10 - الكفاية في علم الرواية, للحافظ أبي بكر الخطيب البغدادي، طبع سنة 1357. ¬

_ (¬1) الكتب ذات الأرقام (1 - 17) مطبوعة في دائرة المعارف العثمانية.

11 - المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، للإمام أبي الفرج ابن الجوزي، الأجزاء 5 - 10، في السنوات 1357 - 1359. 12 - عمل اليوم والليلة لابن السني، سنة 1358. 13 - الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار للحازمي، سنة 1359. 14 - إعراب ثلاثين سورة لابن خالويه، سنة 1360. 15 - مسند أبي عوانة، للإمام أبي عوانة يعقوب بن إسحاق الإسفراييني. طبع سنة 1362. 16 - المعتصر من المختصر من مشكل الآثار، سنة 1363. 17 - دلائل النبوة لأبي نعيم، سنة 1369. 18 - موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان، للحافظ نور الدين الهيثمي. 19 - الجواب الباهر في زوّار المقابر، لشيخ الإِسلام ابن تيمية. وقد اشترك معه في تحقيقه الشيخ سليمان الصنيع. 20 - عمدة الفقه، للإمام موفق الدين ابن قدامة المقدسي. طبع في المطبعة السلفية - القاهرة. ***

المبحث العاشر وفاته

المبحث العاشر وفاته توفي الشيخ يوم الخميس السادس من شهر صفر عام ألف وثلاثمائة وستة وثمانين، وذلك بعد أن أدى صلاة الفجر في المسجد الحرام، وعاد إلى مكتبة الحرم حيث كان يقيم، فتوفي على سريره (¬1)، وذكر الشيخ حمد الجاسر أنه توفيّ منكبًّا على بعض الكتب في مكتبة الحرم المكي الشريف (¬2). وشيعت جنازته من الحرم المكي ودفن بالمعلاة (¬3). رحمه الله ورضي عنه وأسكنه فسيح جناته. أما مآل مكتبة الشيخ فقد وُجد في وصيته أنه جعل كتب مكتبته هدية لمكتبة الحرم المكي الشريف، وعدد كتبها آنذاك ستمائة وخمسة وعشرون كتابًا، وسبع عشرة مخطوطة مصورة، وكان ضمُّها إلى مكتبة الحرم بمكة في اليوم الثالث من شهر محرم عام 1387 هـ, وأصبحت بذلك جزء من مقتنياتها (¬4). ¬

_ (¬1) هذا ما ذكره تلميذه وقريبه عبد الله المعلمي. "مقدمة التنكيل": (1/ 12). (¬2) "مجلة العرب" سنة 1386 (ص 245). (¬3) "الجواهر الحسان": (2/ 566) لزكريا بيلا. (¬4) تقرير عن مكتبة الحرم المكي الشريف مقدم إلى معهد الإدارة العامة بالرياض، رجب عام 1388، (ص 5). انظر "مكتبات مكة المكرمة الخاصة" (ص 33) لابن دهيش. و"نثر القلم في تاريخ مكتبة الحرم" (ص 114) لباجودة.

القسم الثالث الرسائل المتبادلة

آثَار الشّيْخ العَلّامَة عَبْد الرّحْمْن بْن يَحْيىَ المُعَلِّمِيّ (1) القسم الثالث الرسائل المتبادلة تحقيق علي بن محمد العمران وفق المنهج المعتمد من الشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد (رحمه الله تعالى) تمويل مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

مقدمة

مُقَدَّمة الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله ومصطفاه. أما بعد، فهذا مجموع حوى بين دفتيه أكثر ما تيسّر لنا الوقوف عليه من الرسائل المتبادلة بين الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي - رحمه الله تعالى - وبين علماء عصره ومحبيه وأقاربه، جمعناها من مصادر مختلفة، وأغلبها رسائل مرسلة منه إلى بعض أهل العلم والفضل والأقارب. وكان من المؤمَّل أن نعثر على قدر أكبر من الرسائل المرسلة إليه، سواء من أقاربه أو من أهل العلم الذين تواصلوا مع الشيخ في فترات حياته المختلفة، ضمن ما بقي من أوراق الشيخ في مكتبة الحرم المكي، باعتبار أن الشيخ سيحتفظ بهذه الرسائل كما احتفظ بكثير من أوراقه، لكنني لم أقف إلا على شيء قليل منها. ثم وقفت بعد ذلك على رسائل أخرى ضمن أوراق الشيخ المعلمي في مكتبة الحرم المكي. ونحن على يقين أن للشيخ رسائل كثيرة إلى أهل العلم وغيرهم لم نعثر عليها، لأنها عند أصحابها المرسل إليهم إن احتفظوا هم بها أو حافظ عليها ورثتهم، شاهدُ ذلك أنه قد ذكر في بعض مقدّمات كتبه التي حققها وحواشيها أنه راسل معهد المخطوطات التابع لجامعة الدول العربية مرارًا بخصوص بعض الكتب المخطوطة، وذكر في بعض حواشي "الإكمال" (¬1) لابن ماكولا أنه راسل الأستاذ فؤاد سيد (¬2) مدير قسم المخطوطات بدار ¬

_ (¬1) (6/ 225 - 230). (¬2) (ت 1387 هـ). أقول: وقد راسلتُ ابنه الدكتور أيمن فؤاد السيد أسأله عن رسائل =

الكتب المصرية، عدة مرات، وأنه وردت أجوبة منه وساق بعض ما جاء فيها مما له علاقة بالمسألة المبحوثة (¬1). ووصفه بأوصاف تدل على متانة العلاقة بينهما، كـ "الصديق العزيز". وأنه راسل بعض أهل اليمن للسؤال عن بعض الأنساب لديهم، وراسل الشيخ محمد سالم البيحاني بهذا الخصوص أيضًا، وأنها جاءته أجوبتهم وأثبتَ بعضًا منها (¬2). أما رسائله العائلية، فالظاهر أنها كثيرة؛ لأنه كثيرًا ما ذكر في رسائله لأخيه أحمد أنه راسل والده في عدة مناسبات، لكن لم نتحصّل على شيء منها إلا رسالة من والده إليه. وسؤال قد يطرأ على الذهن وهو أنه من الطبيعي أن يُعثر على الرسائل التي أرسلها الشيخ عند مَن أُرسلت إليه، لكن كيف عُثر على بعض تلك الرسائل في مكتبة الحرم ضمن أوراق الشيخ؟ والجواب على هذا التساؤل باحتمالات: أولها: أن ما وقفنا عليه من تلك الرسائل كان عبارة عن مسوّداتها، أما المبيّضة فقد أرسلها الشيخ، ويكون هذا احتمالًا راجحًا في الرسائل التي ¬

_ = الشيخ المعلمي إلى والده، فاعتذر بأنها تحتاج إلى بحث طويل ولم يصلني منه شيءٌ حتى الآن. (¬1) عثرنا أخيرًا على رسالتين من الأستاذ فؤاد سيد إلى المؤلف وهما جواب على رسالتين للشيخ. (¬2) انظر "الإكمال": (6/ 228) الحاشية. وقد عثرنا أخيرًا على رسالة من الشيخ البيحاني إلى المؤلف.

يكثر فيها الضرب والتخريج. الاحتمال الثاني: أن يكون الشيخ قد كتب الرسالة ثم عَدَل عن إرسالها ولم يُتلفها، فبقيت ضمن أوراقه. الاحتمال الثالث: أن الشيخ ربما كان ينسخ نسختين من بعض الرسائل، فالذي وُجِد ضمن أوراقه هو النسخة الثانية. وهذا واضح في قوله في إحدى رسائله للعمودي: "صورة كتابي الأول عندي بخطِّي". والله أعلم. ويلاحظ أن الشيخ قد ذكر في عدة مواضع من هذه الرسائل التي بين يديك أنه قليل الاحتفال بالرسائل، ولا يجد في نفسه رغبة في تبادل المكاتبات التي لا تزيد عن مجرّد السؤال عن الحال، خاصة وهو في الهند، بل وصل به الأمر إلى أن ينهى بعض مُحِبّيه، ممن يعترف الشيخ بقربه منه عن الكتابة إليه ومراسلته، كما في رسالته المؤرخة في 1356. وقد كشفت لنا هذه الرسائل جوانبَ من حياة الشيخ - رحمه الله - خاصة إبّان إقامته بالهند ومكة المكرمة، والأوضاع التي تقلّبت به هناك، ثم عن أوضاعه بعد مجيئه إلى مكة، وعن مدى صلاته بعائلته وإخوانه وأقاربه، ومدى عنايته بهم وبآل المعلمي عمومًا. وعن بعض أحواله المعيشية، وهمومه اليومية، ونَظْرته إلى بعض الأمور الاجتماعية، كالزواج وتربية الأبناء، والتعامل مع الناس، وغير ذلك. وقد استكملنا الحديث عما أفادته هذه الرسائل في حياة الشيخ عند الكلام على ترجمته في أول هذه الآثار، فلا نعيده هنا.

* رسائل من الشيخ

وجدير بالذكر هنا أنه قد وقع في هذه الرسائل الشخصية عبارات وكلمات بالعامية الدارجة، وكلمات لم يلتزم فيها بالوجه النحوي الصحيح = أبقيناها على حالها، ونبّهنا في بعض المواضع على جملةٍ منها. مجموع هذه الرسائل واحد وسبعون رسالة، ست وأربعون منها مرسلة من الشيخ وخمس وعشرون مرسلة إليه. وهي كالتالي: 1 - رسالة من أبيه يحيى المعلمي. 2 - رسائل الشيخ إلى أخيه أحمد بن يحيى المعلمي (17) رسالة. 3 - رسالتان من شيخه أحمد بن محمَّد بن سليمان المعلمي. 4 - رسائل من آل الإدريسي (3) رسائل. 5 - رسائل متبادلة بين الشيخ والقاضي عبد الله العمودي (6) رسائل. 6 - رسائل من ناظم دائرة المعارف وإليه (4) رسائل. 7 - رسائل المؤلف إلى الشيخ محمَّد نصيف (13) رسالة. 8 - رسائل المؤلف إلى العلامة أحمد محمد شاكر (رسالتان). 9 - رسائل المؤلف إلى الشيخ عبد العزيز ابن باز (3) رسائل. 10 - رسائل متعلّقة بضبط نسبة (العَنَدي) (4) رسائل. 11 - رسائل متفرقة (18) رسالة. * رسائل من الشيخ: - رسالة إلى صالح بن محسن الصيلمي. - تقويم الشيخ لكتاب عبد الصمد الديوبندي. - رسالة إلى مدير مجلة الأزهر. - رسالة إلى مدير مكتبة الأزهر.

* رسائل إلى الشيخ

- رسالة إلى مدير مجلة الناشر المصري. - رسالة من الشيخ محمد بن عبد الله صولان. - جواب الشيخ المعلمي على سؤال محمد صولان. * رسائل إلى الشيخ: - رسالة من أبناء محمد بن يحيى الأهدل. - رسالة من أحمد عبد القادر فيلا. - رسالة من القاضي محمد بن عبد الرحيم المعلمي. - رسالة من صديق المؤلف: فضل الله الجيلاني. - رسالة من عبد الله بن أحمد. - رسالة من أحمد صالح دحوان. - رسالة من باعشن وشركاه. - رسالة أخرى من باعشن وشركاه. - رسالة من حبيب الرحمن الأعظمي. وقد رتبنا هذه الرسائل بحسب تاريخ إرسالها إن وُجد. وفي الختام أشكر كلّ من أسهم في تزويدي بهذه الرسائل، وأخصّ منهم فضيلة الشيخ مشهور حسن سلمان الذي زوّدني برسائل الشيخ إلى أخيه أحمد، فقد صورها من أبناء أخيه أثناء زيارته إلى أندونيسيا، وكان قد أعدّها للطبع، لكنه لما علم بعملي في هذا المشروع بادر - جزاه الله خيرًا - إلى تصويرها وإرسالها. كما أشكر الشيخ عبد الرحمن بن عمر نصيف الذي زودني بأربع رسائل أرسلها الشيخ إلى جده الشيخ محمد نصيف. وأشكر الأستاذ الكريم عبد الإله الشايع إذ أرسل لي مجموعة من رسائل الشيخ إلى

الشيخ محمد نصيف، كما أشكر أخي الشيخ عبد الرحمن بن عبد القادر المعلمي ابن أخت العلامة المعلميّ، إذ تفضل بتصوير رسالة من الشيخ إلى أخيه أحمد وهي برقم (4) وأرسلها إليَّ فكانت نسخة أخرى مساعدة. والحمد لله رب العالمين. علي بن محمد العمران 16/ 4/1429هـ ثم زدت ما استجدّ من رسائل وصححته مرة أخرى 6/ 7/1433هـ

نصوص الرسائل

نصوص الرسائل

رسالة من والد الشيخ المعلمي

رسالة من والد الشيخ المعلمي

بسم الله الرحمن الرحيم حضرة الولد الأجلّ الأمجد العلامة القاضي عبد الرحمن بن يحيى المعلمي حرسه الله تعالى ووفّقه لرضاه آمين. صدرت (¬1) الأحرف الحقيرة لأداء مسنون السلام ورحمة الملك العلّام تغشاك على الدوام. كتابكم وصل، فحمدت الله على عافيتكم، الحوائج وصل مع النجيد (¬2) ولم عرّفتم ثمنه فصِرنا محجوبين عن ذلك، وما أظن أنكم أبصرتوا (¬3) النجيد وإلا ما كان أرسلتوه على ضعفه. البزّ والعمامة الذي عرّفناكم ما يناسبوكم خذوهم وارسلوهم وعرّفونا ثمنهم مع ثمن الحوائج والبخور، والباقي عندنا إن شاء الله تعالى عند حصول رسول مركون عليه نرسل ذلك. أحمد غانم سلَّمْنا له ستَّ روبيات حيث ما نزل إلا سبب الأولاد، ولم يزل يشكر إحسانكم كافأكم الله بالحُسنى. ولا تنسونا من صالح دعائكم، وعرِّفونا حالكم وحال الأولاد، ولا تقطعونا مكاتبتكم، والسلام يغشاكم مع كافة من حوى مقامكم. مَن لدينا كافة يهدونكم جزيل السلام، والسلام. ¬

_ (¬1) الأصل: "صدرة". (¬2) غير محررة في الأصل وهذا ما استظهرته منها. (¬3) يعني: أبصرتم، وقد أبقينا الكلمات والأساليب العاميّة الدارجة على حالها.

25 ذي القعدة، سنة 43 الأولاد (¬1) اجهدوا بتعليمهم جزاكم الله خير الدنيا ونعيم الآخرة، والسلام في 25 منه. مستمدّ الدعاء والدكم. (التوقيع) يحيى المعلمي وأيّ حاجة أو منفعة عرّفونا، ونبارك لكم بقدوم العيد السعيد، أعادَ اللهُ الجميعَ لأمثاله سنينًا بعد سنين، آمين. ¬

_ (¬1) من هنا إلى الآخر ملحق في حاشية الرسالة.

رسالة الشيخ المعلمي إلى أخيه أحمد بن يحيى المعلمي (17) رسالة

رسالة الشيخ المعلمي إلى أخيه أحمد بن يحيى المعلمي (17) رسالة

الحمد لله أخي الصفي حفظه الله. السلام عليكم ورحمة الله. تناولت جوابك، وقد وصل جواب سيدي الوالد حفظه الله مع كتاب من الأخ عبد المجيد إليكم، فهذا جوابي وكتابك مرسل إليك. أما الأخ مكي فإنه وصل إلى عدن من أجل قضيتهم مع السيد محمد محسن، وذكر أنه لم يفُز (¬1)، ورأيته مائلاً إلى زيارة الهند فلم أوافقه، لأن حالهم ضيق وحالنا غير متسع. مسألتك مهمّة لي، وقد عرَّفتك بخلاصة رأيي، وإذا انفرجت الأزمة العامة ووثقت من نفسك، فلنا تدبير إن شاء الله تعالى، ومسألة الولد أبي بكر ابن محمد منوطة بمسألتك، فعسى الله تعالى أن يصلح الأمور بفضله وكرمه، والسلام. في 19 جمادى الأولى سنة 1351 أخوك عبد الرحمن ¬

_ (¬1) لم تحرر قراءتها.

الحمد لله الأخ الصفي عافاه الله. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وصل كتابك المؤرخ 13 نوفمبر سنة 34 م، وحمدت الله تعالى على عافيتك وصلاح حالك. ذكرتَ أنك قبل هذا أرسلت إليّ كتابين أولهما مع ولد باالعلاء، والآخر عن طريق البريد، فأما الأول فلم يصل، وأما الثاني فوصل ولكني تكاسلت عن الجواب كعادتي. أما أنا فحالي بحمد الله تعالى حسنة، كفاف المعيشة، وهذه الأيام التقلبات كثيرة، ولن ينالنا منها إلا الخير إن شاء الله تعالى. أما أنت فأنت أدرى بشأنك، واعلم أن سر النجاح الغلوّ في العمل، والاقتصاد في النفقة. كُتُب سيدي الوالد - حفظه الله - انقطعت عنا من قبل الحرب، وعسى أن يجيء كتابه قريبًا إن شاء الله تعالى فأبعثه إليك، وأنا قبل أيام جددت إليه كتابًا أستعجل منه الجواب. أما أخبار البلاد فساكنة، والصلح بين الإِمام وابن سعود تم كما بلغكم، ولا شك أنه خير كبير، والأمور الداخلية في اليمن لا تَسُر ولولا حياة الإمام لكان وكان. ونسأل الله تعالى صلاح الأحوال. أما الأخ مكي فإني قطعت مكاتبته منذ اشتراكه في الفتنة، ولا أدري الآن أين هو. أصلح الله أحوالنا وأحواله، والسلام. في 13 شعبان سنة 1353 توقيع

الحمد لله. أخي الحبيب أحمد دام بخير. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. لا تؤاخذني بتأخير الجواب إلى الآن عن كتابك المؤرخ 13 نوفمبر سنة 34 م. سَرَّني تحسُّن حالك زادك الله تعالى رُقيًّا، لا حاجة بي إلى بيان سبب انقطاع المكاتبة ولا بيان شدة حرصي على ترقيك واستقلالك ثقةً بفهمك. أما أنا فحالي بحمد الله تعالى مستقيمة، قد قنعت بما يتحصَّل من المطبعة؛ لأن خدمتي فيها موافقة لهواي كما تعلم. وصلني قريبًا كتاب من سيدي الوالد، وطيّه كتاب إليك تراه ملفوفًا بهذا، وقد استغنيت به عن إرسال كتابه إليّ أو شرح ما فيه، وقد أرسلت جوابًا إلى الوالد مع مائة ربية أوْصَلَها الله تعالى. الأخ مكي كتب إليّ عدة كتب وتكاسلت عن الجواب؛ لأني لم أجد ما أكتبه إلا الكلمات الرسمية، ثم إنه أيضًا قطع المكاتبة. صِحّتي بحمد الله تعالى حسنة، والولد عبد الله بخير ولا تظنني مطمئن البال من الإقامة هنا, ولكن تمشية وقت، مع وثوقي بأن الإقامة هنا أصلح لي من غيرها، والله يصلح أحوالنا جميعًا، والسلام. محمد بن صلاح القعيطي الجمعدار شمشير ياورجنك توفي إلى

رحمة الله تعالى (¬1). 6 ذي الحجة، سنة 1353 أخوك عبد الرحمن ¬

_ (¬1) وجدت في مجموع (4724) تعليقًا للشيخ في تحديد وفاته. قال: "توفي شمشير ياورجنك محمد بن صلاح القعيطي ليلة السبت 3 ذي الحجة الحرام سنة 1353".

الحمد لله (¬1). أخي الصفيّ حفظه الله (¬2). السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. كتابك رقيم 24 مارس سنة 1936 وصل، وحمدت الله تعالى على عافيتك وصلاح حالك، كتبك السابقة وصلت، ولا عُذْر لي في عدم الجواب، إلا أن ما تعهده (¬3) فيّ من الخُلُق المَرَضي [بفتح الراء]، أو المرض الخُلُقي [بضم الخاء]، أعني الانقباض والرغبة عن المزاورة يزداد تمكّنًا، فإن ههنا أناسًا تقضي عليّ المصلحة بكثرة زيارتهم، ولكن نفسي تغلبني فأدع ذلك حتى إني لا أكاد أتعمد زيارتهم ولو يوم العيد، وفي مقابل ذلك أكره أن يتعمَّد أحد زيارتي ولو يوم العيد. وحسبك ما بيني وبين الأخ مكي من المودّة لم أكتب إليه منذ سنين؛ بل وعرَّفته أن لا يكتب إليّ، وكذلك حال الشيخ سليمان فإن منزلته في قلبي مكينة، ومع ذلك لا أكاد أكتب إليه إلا شبه المُكْره. دعنا من هذا، فإنك تعلم حقيقة هذا الأمر من نفسك أنت مني وأنا منك، وليس على وجه الأرض بعد سيدي (¬4) الوالد - حفظه الله تعالى - من يسرني سروره أزيد منك، ولا أعلم لك ذنبًا. ¬

_ (¬1) "الحمد لله" ليست في (ي). (¬2) بعده في (ي): "أحمد بن يحيى المعلمي". (¬3) طمس بعض الكلمة في (ن)، وأثبتناها من (ي). (¬4) "وجه الأرض بعد سيدي" مطموسة في (ي).

أما ما ذكرته من النقود الموفَّرة، فإني منذ مدَّة أحرص على التوفير وإلى الآن لم يمكني أكثر من ثلاثمائة وسبعة وخمسين (¬1) ربية، مع أني مشهور هنا بالبخل. وهذا المقدار فكَّرت أن أبعث إليك منه بشيء ولكن إلى الآن ما عزمت على ذلك. أولاً: لأني من نحو سنتين لم أرسل إلى الوالد بشيء؛ لأني قبل ذلك أرسلتُ بما أرسلت به وطلبت الجواب فلم يصل جواب، وكررتُ الكتب ولا جواب، ولا أدري ما السبب أهو تعويق من جهة الحكومة، فإن محمود الحرازي هنا يشكو مثل هذا .. أم غير ذلك. وثانيًا: قد ضاق صدري من الإقامة هنا وأحبّ أن أخرج شهرًا أو شهرين أنفخ (¬2). وثالثًا: دائرة المعارف هذه الأيام في مهبّ الريح، قد أخرجوا اثنين من مصححيها القدماء ممن لهم صِلات وروابط بأهل الحلِّ والعقد، فأما أنا فليس لي شفيع (¬3) إلا لياقتي، وهي في هذا الزمان وهذا المكان أضعف الشفعاء. ورابعًا: أنا مشتغل بتأليف رسالة مهمة وأحبّ أن أطبعها على (¬4) نفقتي إن أمكن، لأني لا أطمع أن أحدًا يساعدني بطبعها، ولا تطاوعني نفسي أن ¬

_ (¬1) (ي): "ثلاثمائة وخمسين أو سبعة وخمسين". (¬2) "أنفخ" تعبير دارج لأهل اليمن، يعنون به الخروج للترويح عن النفس. (¬3) (ي): "شفاعة". (¬4) "أن أطبعها على" طمس في (ي). ولعل المقصود كتاب "العبادة".

أطلب المساعدة من أحد. وخامسًا: وهو أضعف الأسباب، أني أرى أن البركة في التجارة إنما هي في النموّ الذي يحصل منها بمعونة الاعتماد على الله عز وجل، والجدّ في العمل والاقتصاد في النفقة. هذا وإني أعرف وأعترف بأن لك الحق أن تَعْتب عليّ وتلومني وأشد من ذلك، فإنك لا تستطيع أن تفهم كيف أصرف في كل شهر نحو مائة وثلاثين رُبّية مع الاقتصاد، ولا يلزمك أن تحسن الظن بي، وكان عليّ أن أشرح لك نفقتي تفصيلاً، ولكني أرجأت ذلك إلى وقت آخر. أما قولك: [فاعذروني إذا رأيتم في كتابي هذا من كلمات تنافي الأدب] فإني لم أرَ فيه إلا هذه الكلمة، فإني غَلَبت عليّ الصراحة وبُغْض الآداب المتكلَّفة، وأحب شيء إليَّ: أن تدع قلمك يترجم عن قلبك، مفوِّضًا إليه التعبير عن خواطرك بحريته الكاملة، وقد قيل: إذا ثبتت الأُلفة سقطت الكُلْفة، فما بالك بالأخوّة! مع أن خُلُقي الآن بُغْض التكلّف مُطلقًا. أما الولد (¬1) أبو بكر بن محمد فإنه كان ذهب هو وأخوه إلى سيدي الوالد ولم يناسبهما المقام، فأما أبو بكر فاحتال ورجع إلى أخواله وبقي عندهم، وسأكتب إليه إن شاء الله تعالى، ولا أظنه يوافق. وأما أحمد فلم يصبر على البقاء عند الوالد فالتجأ إلى أحمد مصلح وهو باقٍ عنده، وجاءني منه كتاب يناشدني أن أطلبه، وأنه في مشقة شديدة وكنت قد كتبت إلى الوالد في إرساله ولم أُلحّ في ذلك، لأني لا أرى ¬

_ (¬1) "الولد" ليست في (ي).

لأحمد بن محمد مصلحة في المجيء إليّ ظاهرة. أما الزواج، وما أدراك ما الزواج، فلا أستطيع أن أشير عليك بشيء، لأني في نفسي وجدت الزواج فيه خير وفيه شر، أما خيره فحفظ العفة والنّاموس. وأما شرّه: فكثرة المصارف ونكد الخاطر دائمًا وغير ذلك. والنساء أشبه بالضأن؛ جوف لا يشبعن، وهِيم لا ينقعن، وأمر مُغويتهنّ يتبعن، ولا سيما في اللباس والحليّ، أشدّ شيء على المرأة أن ترى عند صاحبتها حُليًّا ليس عندها أغلى منه، أو لباسًا ليس عندها أجمل منه، والأمر أشد من ذلك، فإن لم (¬1) يوافقها زوجها - وطبعًا لا يقدر على موافقتها - أدخلت عليه الهمّ والغمّ، أما أنا فإني لا أبالي بهوى زوجتي ولكن لا أسلم من الغم ونكد الخاطر وتكدّر الحال. وبالجملة، فإني أحبّ أن تتزوج لأن خير الزواج أهمّ من شرِّه كما تعلم، ولكني لا أقدر أن آمرك لما ذكرت أن تعبه أعظم من راحته. فعليك أن تستخير الله عز وجل، فإذا غلب ميلك إلى الزواج فاجتهد أن تكون امرأة موافقة، واستخر الله تعالى فيها ثم تزوج. وقد قال سفيان الثوري: من تزوج فقد ركب البحر، فإذا وُلِد له فقد انكُسِر به، يعني انكسرت سفينته (¬2). وأما الوَحْدة فإني أشدّ منك فيها، والله ما أعلم إنسانًا هنا يؤنسني الاجتماع به إلا واحدًا هو الشيخ أحمد العبادي، ومع ذلك فلا أكاد أجتمع به ¬

_ (¬1) "لم" ليست في (ي). (¬2) أخرجه الخطيب في "الجامع لأخلاق الراوي" (1/ 103 رقم 66).

في السنة ثلاث مرات، وليس هو كما أحب من كل جهة. أما بقية النّاس فإن اجتماعي بهم يكدّرني ويغمّني. وكنت سابقًا أروّح نفسي في الشهر مرتين بمشاهدة السينما، ثم رغبت عنها لأسباب منها: أن الألعاب الجديدة أوغلت في الفُحْش والخلاعة، وتلك سماجة تذهب اللذة. وثانيًا: أنها لمّا (¬1) صارت مع النطق والكلام صار ثلاثة أرباعها غناءً ومعظم لذة السينما إنما هو في القصّة، وأما الغناء الهندي فلا أستلذّه. وثالثًا: وهو أضعف الأسباب أن المنتمين إلى العلم والدين هنا مقاطعون للسينما. أما الفُرجة والنزهة فلا حظَّ لي فيها؛ لأن معظم شروطها الإخوان وأين هم؟! ولهذه الأمور شَمِطَت لحيتي، وضاقت جدًّا طبيعتي، وصرت كما قيل: عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى ... وصوَّت إنسان فكِدتُ أطيرُ (¬2) وبالجملة، فحياتي ههنا تعيسة بئيسة والحمد لله على كل حال، فإن نِعَمه سبحانه وتعالى عليّ وعلى خلقه لا تحصى، ومن أعظم ذلك أنني بحمد الله تعالى لا أحتاج إلى أحدٍ من الناس، وأني رُزِقت شيئًا من اللّذة في الكتب، وقد وجدت لذَّة في كتابتي لهذا الجواب على خلاف العادة فطوّلته، ¬

_ (¬1) ليست في (ي). (¬2) البيت للأحيمر السعدي من قصيدة له، انظر "الشعر والشعراء": (2/ 787).

وأجدني مشتاقًا إلى التطويل، ولكن أخشى أن تعدّ أكثر كلامي نوعًا من الهذيان، ولعلّه كذلك. وصل كتابك هذه الليلة، ليلة ثامن محرّم، وأهل البلد منشغلون بألعابهم المحرميّة، وأنا هذه السنة رغبت عن التفرج، مع أني كل سنة كنت أصرف أكثر هذه الليالي فيه، وكنت هذا اليوم قد اشتغلت (¬1) بالكتابة في الرسالة المذكورة آنفًا حتى سئمت وترددت في الخروج للتفرج، فلما جاء كتابك انفتح لي هذا الباب فشرعت في كتابة الجواب، وخشيتُ إن أنا أخرته أن تهيج بي طبيعتي المعهودة فيتأخر. وأقسم باللهِ تعالى لولا أن عندي شيئًا من العلم أرجو أن ييسر الله تعالى نشره، وأن طاعتي لله عَزَّ وَجَلَّ حقيرة، أرجو إن طالت بي حياة أن ييسر الله تعالى لي خيرًا منها لكان الموت أحب إليّ من الحياة، بل لكان الموت هو المحبوب والحياة مكروهة، هذا معتقدي الآن ولا أدري ما يحدث بعد، والسلام. أخوك عبد الرحمن ¬

_ (¬1) "الليالي فيه وكنت هذا اليوم قد اشتغلت" طمس في (ي).

الحمد لله. الأخ الصفي حفظه الله. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. العفو من عدم الجواب على كتابك، وما ذاك إلا لأنني بقيت متحيرًا أقدِّم رجلاً وأؤخر أخرى، حتى وصل كتاب سليمان أخيرًا فظهر لي أن الخير فيما اختاره الله تعالى. وطبعًا إنك متكدر من تراخي المكاتبة، ولكن أنت تعلم طبيعتي أنني لا أهتم بالمكاتبة ما لم يكن هناك موجب غير مجرد ما يسمونه: المعاهدة. وأسباب غير ذلك لعلها لا تدق عن فهمك. صدر جواب سيدي الوالد عن كتابي الأول، وقد أرسلت له أول رمضان بقريب من المبلغ الأول، وعندما يصل جوابه إن شاء الله أرسله إليك واحتفظ بكتبه لا تضيع، والسلام. أخوك

الحمد لله. سيدي الأخ الصفي أحمد بن يحيى المعلمي العتمي، سلمه الله. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ما أدري كيف أعتذر إليك من تأخير الجواب، ولقد سوّدت الجواب مرارًا ثم لا تطمئن نفسي إليه فأقول: لعل التأخير إلى مدة خير، والآن حصحص الحق وحق كتابة الجواب على أي حال كان. فأنا الآن أبوح إليك بالحقيقة، معاشي الذي أتقاضاه شهريًا لا يفضل عن مصاريفي بعد محاولة الاقتصاد؛ لأن أثمان الأشياء ارتفعت جدًّا تتراوح ما بين خمسة أضعاف إلى ما فوقها لا يُستثنى من هذا شيء، حتى التراب الأحمر - وهو من تراب هذه الأرض - لا يُجْلَب إليها من الخارج ولا ينقل منها إلى الخارج إلاَّ في .... إن العامل يحفر خارج البلدة بنحو ميل ثم يحمله إلى بلده ويبيعه. فالقدر الذي كان يباع بآنة (¬1) يباع الآن بخمس آنات وأكثر. وكان الأخ سليمان وعد بأنه سيجيء إلى هنا فلم أزل أترقب قدومه لأشاوره في أمرك حتى أستطيع أن أشير عليك بأمر يُرجى أن لا تكون عاقبته أن تلومني. وقد قيل: في كلِّ وادٍ بنو سعد (¬2). الأمور هنا مضطربة وتؤذن بانفجار شديد تصير به هذه البلدة مثل جهتكم أو أشد خطرًا، ومن القواعد الفقهية: "الضرر لا يزال بالضرر". ¬

_ (¬1) الرّبية الهندية كانت تساوي 16 آنة. (¬2) الجملة غير واضحة، وهكذا قرأتها بعد تأمّل.

هذا والولد عبد الله يقبّل يديك، وقبّل عني خدود الأولاد، ومن الله العون، والسلام. في 12 رمضان سنة 1366 أخوك

الحمد لله. الأخ الصفي أحمد بن يحيى العتمي، دام بخير. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وصل كتابك الأخير الملفوف بكتاب الأخ سعيد بامردوف، ولا أكتمك يا أخي أنني أيضًا قد سوّدت قبل وصول كتابك عدة مكاتيب ثم لا أرى فائدة لإرسالها، وكذلك بعد وصول كتابك، والآن قويت الهمّة على إرسال هذا. أرجو أنني غير خالي الذهن من التفكّر في شأنك، ولكن أكره أن أشغلك بالتفكّر في شأني، فاعلم يا أخي أن الأحوال هنا من عدة سنين متضايقة، وهي الآن كذلك، والأمور السياسية مضطربة جدًّا لا يُدرى عما تتمخض، واستقراري الآن متزلزل لا أدري لعلي أضطر إلى التحول، وما لم يطمئن البال بالاستقرار لا أقدر أشير عليك بشيء. وأرجو إذا هدأت الأمور وظهر الاستقرار العام والخاص أن أكتب إليك بما ينبغي. هذا خلاصة الأمر الآن، ولا تظن أنني مضطرب أو منزعج أو مشوَّش، بل أنا بحمد الله عز وجل في خير ولكن الأحوال نفسها مضطربة ومشوشة، وبالجملة فلا يمكنني الآن أن أشير عليك، وإذا أراد الله تعالى [شيئًا] هيأ أسبابه، والسلام. أخوك عبد الرحمن

له الحمد. في 22 رمضان سنة 1369. الأخ الصفي أحمد بن يحيى بن علي العُتْمي دام بخير. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وصلت إشارتكم بواسطة الأخ سعيد بامردوف، ولم أعتنِ بجوابها؛ لأن الكتابة تثقل عليّ ما لم تكن لفائدة مهمة، ومجرد الإخبار بالعافية والسؤال عنها لا يهمني. ثم سافر الأخ سعيد بامردوف إلى حضرموت، وبعد سفره بمدة تجدّد ما أوجب أن أكتب إليك. باكستان انضمَّ إلى أهلها مثلهم أو أكثر فضاقت سُبُل المعيشة إلا على من بيده رأس مال وافر، وبقية الجهات كذلك أو أشدّ، فلا تحدّث نفسك بالخروج عن تلك الجهة، فإنه كما قيل: "كالمستجير من الرمضاء بالنار". وصل مكتوب من الأخ عبد المجيد يفيد أن حاله حسنة، وكذلك حال الأخت سعيدة. الولد أحمد بن محمد بن يحيى بقي هنا مدة في حال حسنة، ولكنه بحماقته لم (يطل) بها. ثم أدته حماقته إلى (واستقر رأيي ورأي جميع ... ههنا ...) سفره إلى اليمن تخفيفًا للمصيبة، فعرض عليه ذلك، فامتنع وبقي يعذّب نفسه [تعذيبًا] بالغًا، ثم رضي بالسفر، فغرمنا عليه وسافر إلى عدن واسترحنا.

موجب الكتابة أنني كنت منذ ثلاث سنوات [تقريبًا] أتوقع السفر عن قرب فاحتجت إلى الاقتصاد من المعاش لأجل مصاريف السفر، وتبيّن لي الآن أنه لا يمكنني السفر إلى سنتين أو أكثر. وأُلهمتُ أن أتوكل على الله وأوثركَ بالخمسمائة الربية التي اجتمعت عندي لتضمّها إلى رأس مالك، وتضاعف (أموالك) في عملك، لكن إرسالها إليك تعسَّر. وقد سألت بقايا العرب ههنا لعلّي أجد من له علقة بسوربايا (¬1)، فيحوّل لك بقدر خمسمائة ربية كَلْدار وأسلمها هنا، فما وجدت إلى الآن. ولو كان الأخ سعيد بامردوف هنا لسهل الأمر، فانظر أنت إذا كان أخوه يرغب في ذلك يدفع إليك مقدار خمسمائة ربية هندية كلدار، وتعرّفني أرسلها إلى الأخ سعيد، فإن الإرسال من هنا إلى حضرموت متيسر. فإن لم [ترغب] في ذلك فابحث لعلك تجد غيره. والمقصود أن عندي خمسمائة ربية هندية كلدار ... لك. والسلام. أخوك عبد الرحمن ¬

_ (¬1) مدينة كبيرة بإندونيسيا.

الحمد لله. الأخ الصفي أحمد بن يحيى المعلمي، حفظه الله. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وصل جوابكم وحمدت الله تعالى على عافيتك مع الأولاد، وأرجو أن يكون اهتمامي بشأنهم قريبًا من اهتمامك، ولكني إلى الآن ما رسخت قدمي هنا، وعسى الله تعالى ييسر ذلك قريبًا، وحينئذ نسعى في استدعاء بعضهم إن لم يتيسر استدعاء الجميع. الأخ عبد المجيد قد رجع إلى البلاد وسنرسل إليه جوابك إن شاء الله تعالى. قد أحسنت بتزويج فريدة إذ يسر الله تعالى الكفء الصالح إن شاء الله. والولد عبد الله إلى الآن في باكستان، وإذا يسر الله تعالى رسوخي هنا فستُقْضى جميع المطالب على ما يرام إن شاء الله تعالى. وهذا على عجل، ومن الآن إن شاء الله تعالى ستتصل المكاتبة بقدر الإمكان. وقبّلوا عني وجنات الأولاد. وإخواننا هنا يسلمون عليكم، والله ييسر للجميع خيرَي الدارين بفضله وكرمه. 29 محرم سنة 1373 أخوك عبد الرحمن

بسم الله الرحمن الرحيم سيدي الأخ الصفي أحمد بن يحيى المعلمي - حفظه الله. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. مضت مدة لم يكتب فيها أحدنا إلى الآخر، وليس لي عذر إلاَّ أن أحوالي هنا لم تنتظم انتظامًا يمكنني مما أحب، فأما أنت: فأنا عارف بعذرك، وعسى الله تعالى أن يهيئ الأمور وييسر كل معسور بفضله وكرمه. الأخ عبد المجيد قدم للحج هذه السنة، وقد كتب إليك كتابًا تراه مع هذا. دعائي لك ولأبنائك متواصل إن شاء الله تعالى. والسلام. في ذي القعدة سنة 1374 أخوك عبد الرحمن بن يحيى المعلمي بمكتبة الحرم المكي بمكة المكرمة

بسم الله الرحمن الرحيم سيدي الأخ الصفي أحمد بن يحيى المعلمي العتمي حفظه الله. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أرجو الله تعالى أن تكون أنت وأهلك وأولادك بخير وعافية، وأسأله تعالى أن يديم لكم ذلك ويصلح سائر شؤونكم، أنت تعرف عيبي في التقصير في المكاتبة، والعيب إذا استحكم ربما لا يبقى وجهٌ اللعَتْب عليه، وعلى كل حال فالحق لك. في موسم الحج الماضي جاءنا الأخ عبد المجيد وكتب إليكم كتابًا لا أدري وصل أم لا، أما أنا فبعد وصولي هنا لم تتهيأ الأمور كما ينبغي؛ لأن ذاك يستدعي أعمالاً لا يدعني كسلي وغيره من خلائقي أن أؤديها، ثم تحسَّنت الحال أخيرًا إلى حدٍّ ما، وشَرعتُ أفكر في ترتيب الأمور الأقرب فالأقرب، أسأل الله تعالى التيسير والتوفيق. الولد عبد الله لا يزال إلى الآن في باكستان يتعلم، ونريد أن نطلبه إلى هنا بعد (¬1) سنة تقريبًا، ولعلنا نحصل له على خدمة هنا، وزوجتي لا تزال في الهند وهي مريضة مرضًا مزمنًا لا يمكنها معه القيام بمصالح نفسها فضلاً عن غيرها، وأنا مرتّب لها معيشتها هناك، ولي فكرة في الزواج إذا وجدت امرأة عاقلة فيها بقية. ¬

_ (¬1) الأصل: "بعده".

ولا يزال فكري مشغولاً بشأن أولادك لكني كنت أقول: القضية التي لا يسعني أن أعمل فيها شيئًا الأولى أن أحاول الغفلة عنها. أما الآن فأرجو أنني بعد ترتيب الأمور القريبة أتمكن من عمل شيء في قضيتك، فأرجو أن تسامحني وتعرَّفني بحالك وحال أولادك، فأما الدعاء لك ولأولادك فهو على كل حال مبذول، والله تبارك وتعالى لا يُضيع دعاء سائل، ولا عمل عامل، أسأله سبحانه التوفيق لنا جميعًا وإصلاح شؤوننا كلها بفضله وكرمه، والسلام. أخوك عبد الرحمن بن يحيى المعلمي في 9/ رجب سنة 1375 عنواني هنا: مكة المكرمة - مكتبة الحرم المكي - عبد الرحمن المعلمي

بسم الله الرحمن الرحيم في 28 شعبان 1375 الأخ العزيز الشيخ أحمد بن يحيى المعلمي، حفظه الله. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. كتابك المؤرخ 20 شعبان سنة 75 وصل، وحمدت الله تعالى على عافيتك أنت والأولاد، وأسأله تعالى أن يزيدنا وإياكم خيرًا. أرجو العفو والمسامحة، كانت هزَّتني أريحية السرور بجوابك، فشرعت أكتب جوابًا مفصَّلاً، فكتبت ورقة ثم ... فرأيت ذلك يطول، ونحن كما يقولون في عصر السرعة، فعدلت عن ذلك معللاً نفسي برجاء أن يمنّ الله عز وجل بالاتفاق فنتمكن من التفصيل. أما تحسّن حالي فلله الحمد، ولم تكن قبل ذلك حالي سيئة، لكن الإنسان ما دام حيًّا لا يخلو من مطالب إذا قصرت يده عنها عد حاله سيئة، مع أنه إذا بسطت يده امتدت عينُه إلى مطالب أخرى وهلمّ جرّا. وأنا الآن في صدد تأمين أهم المطالب، وأسأل الله تعالى التوفيق. الأخ عبد المجيد حجَّ العام الماضي ومعه ولده عبد اللطيف يريد أن يبقيه عندي فلم يتيسر ذلك؛ لأني وحيد مشغول، والولد صغير لعّاب يحتاج إلى من يحفظه، وكان - أعني عبد المجيد - يريد أن يتداوى لأنه اعتراه بياض الجلد، فلم يتمكن لأن الطب هنا لم يبلغ درجة عالية، والسفر إلى

الخارج يحتاج إلى نفقات باهضة لا تتهيَّأ لي، ومن المؤسف أنه لم يستصحب معه غير نفقة الوصول إلى هنا، مع أن الحجاج الواردين من أصحابنا وغيرهم مجمعون على أنه قد صار من أغنى أهل بلاد الرَّيمي، حتى وصفه بعضهم بأنه يضاهي عميد بيت الرَّيمي ويزيد عليه بأنه ممسك وذاك متلاف. والحاصل أنه بحمد الله عز وجل في راحة، فأما ذاك المرض فإنما ضرره تغيير اللون، والعلاج لا يُصْلح ما تغير بل غايته الإيقاف من الزيادة وليس في ذلك كبير فائدة لأن التغير قد انتشر، ومع ذلك فنيتي أني بعد تأمين المطالب الضرورية أساعده إن شاء الله على مرغوبه. والأحسن أن تكتب أنت إليه مكتوبًا لأرسله إليه، فذلك أولى من أن أرسل إليه جوابك إليّ. وبقيت واحدة من الكرائم حالها حسن، وأرسلت لها في العام الماضي صلة يسيرة. الكريمة عطية توفيت وبقيت بنتها من إبراهيم القاضي مزوجة بابن القاضي محمد، وجاءنا ابن هذه البنت وأقام مدة ثم عاد وتزوج بنت الأخ عبد المجيد. الأخ محمد - رحمه الله - كان ابنه أحمد جاءني إلى الهند وتحصلنا له على خدمة، ثم ساءت طباعُه جدًّا فآذى نفسَه وآذاني وترك الخدمة، فكان أقصى جهدي أن اجتهدت في ترغيبه في السفر إلى اليمن، وهو الآن في الحِجَرية، وأرسلت له صِلَة كبيرة، أما أخوه أبو بكر فتوفي وترك ولدًا يقال له محمد عمره نحو خمس عشرة سنة، وهو الآن بعدن يتعلم في المعهد التجاري، وقد راسلته وفي نيتي أن أطلبه، فإذا رأيته يصلح للبقاء هنا ورغب في ذلك أبقيته.

ابني عبد الله لا يزال بكراجي، وبقي عليه في التعليم سنة ثم نطلبه إلى هنا إن شاء الله تعالى. ههنا من أصحابنا محمد وعبد الرحمن ابنا عبد الرحيم المعلمي، وأبناء أخويهما عبد الله وعبد الصمد وحالهم حسنة. كتبت إلى هنا في التاريخ المذكور أعلاه ثم توقفت لأني أردت أكتب في شيء يتوقف على أسباب منتظرة، فرجوت أن يتبين حالها عن قرب، ولكنها تأخرت جدًّا، فرأيت تسجيل الجواب وتأخير ذلك الأمر إلى وقته. تعليم الأولاد وإعدادهم لمعترك الحياة ضروري، ولابد أن يهيئ الله تعالى أسباب المعونة. أرجو أن أتمكن بعد هذا من شرح الحال بأصرح من هذا كما أطالبك بمثله، تحيتي ودعائي للأولاد، والسلام. أخوك عبد الرحمن

بسم الله الرحمن الرحيم في 6 ذي القعدة سنة 1375 الأخ العزيز الشيخ أحمد بن يحيى المعلمي حفظه الله. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. كتابكم الكريم المؤرخ 2 شوال وصل، وحمدت الله تعالى على عافيتكم وصلاح أحوالكم، وأسأله أن يديم لكم ولنا نعمه ويزيدنا من فضله، ويبارك في الابن الحَدَث ناصر وإخوته، ويصلح جميع الأمور بفضله وكرمه. قضية الحج عن أحمد بن سالم جبر لا تتيسر لي أنا، وأنا أحج هذه السنين عن نفسي إلا سنة واحدة ألحَّ عليّ بعضُ النّاس ودفع له ما يعادل عشرة أضعاف المبلغ الذي ذكرت، ولا تكاد تجد أحدًا ههنا يحج بالمبلغ الذي ذكرت إلا نادرًا، فإذا أراد صديقك أن نبحث له عن بعض طلبة العلم وندفع له ما يعادل المبلغ المذكور ليحج عن أحمد بن سالم، فاقبض أنت المبلغ ثم عرّفني، فإن وجدت عرفتك بذلك، وإلا أرجعتم المبلغ لصاحبه، والسلام. أخوك عبد الرحمن

بسم الله الرحمن الرحيم سيدي الأخ العزيز الشيخ أحمد بن يحيى المعلمي، حفظه الله. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أسأل الله تعالى أن يبارك للجميع في شهر الصّيام ويصلح جميع الأمور، ويوفقنا جميعًا لما يحبه ويرضاه. أرجو العفو والمسامحة من تأخير المكاتبة، أرجو أن تكون أنت والأولاد بخير وعافية. ابني عبد الله عندي الآن، وقد تعبنا كثيرًا في طلبه إلى هنا، وحصول الإذن له بالإقامة. أحبّ إرسال هدية للأولاد، لكن الإرسال من هنا فيه شيء؛ لأن الواسطة الميسرة مخسّرة بمقدار الثلث تقريبًا، فأرجو أن يتيسر لكم الاتفاق مع بعض العازمين على الحج من هناك، تحولون لهم عليّ مبلغ ألف ريال سعودي على أن تأخذوا منهم مبلغ عشرة آلاف ربية جاوي، أو على الأقل تسعة آلاف وهم الرابحون؛ لأنهم إذا جاءوا بربيات جاوية إلى هنا يحتاجون إلى صرف ألف ربية بتسعين ريال، وإذا طلبوا من يحول لهم من هنا لا يعطيهم في مقابل الألف ربية إلا سبعين ريالاً أو نحوها، فإذا لم تجدوا فانظروا من يقبل التحويل. على أي حال أسأل الله تعالى أن يهيئ الأسباب وييسر الأمور ويلطف بالجميع.

الولد عبد الله يُسلّم عليكم وعلى الأولاد، والدعاء مبذول، ومن الله القبول، والسلام. في 26 شعبان سنة 1377

بسم الله الرحمن الرحيم 13/ 12/ 1377 الأخ العزيز الصفي الشيخ أحمد بن يحيى المعلمي حفظه الله. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وصلني مكتوبك الكريم المؤرخ 17 ذي القعدة سنة 1377، وحمدت الله تبارك [وتعالى] على عافيتك وعافية الأهل والأبناء، أسأل الله تبارك وتعالى أن يصلح شؤون الجميع وييسر جميع المقاصد بفضله وكرمه. الولد عبد الله يسلم عليكم ويقبل يديكم وهو الآن بجدة؛ لأنه اختار أن يتحصَّل على خدمة هناك، ولم يسعني إلا السماح له لأنني أحبّ أن يشقَّ طريقه بفكره ورأيه، وعلى كل حال فهو بحمد الله تعالى حَسَن السيرة، طيب الأخلاق، بعيد عن مخالفتي، وأرجو أن يفوز بمقصوده قريبًا إن شاء الله تعالى، تعليمه متوسّط يكفي لحصوله على خدمة طيبة. قضية زواجه فِكرتي فيها موافقة لفكرتك، وقد كنت لمَّحت له، فإذا رأيه أنه يريد أولاً أن يتحصَّل على الخدمة ويستقر فيها. الولد محمد يسرّني أن أراه وأن يبقى معي، لكن ينبغي أن نفكر أولاً في الرخصة؛ لأن قانون البقاء هنا يُشدد، فالقادم للحج أو الزيارة لا يمكن أن يرخّص له البقاء بحال، والقدوم لغير ذلك لا يُرَخّص به إلا لمن تحتاج إليه الحكومة أو تحتاج إليه بعض الشركات، بعد أن تثبت اضطرارها إليه وعدم

وجدانها لمن يقوم مقامه، حتى الحاملون لجوازات يمنية صاروا يشدّدون عليهم، وكانوا قبل سنتين أو ثلاث يتسامحون معهم، غير أنني سأستشير بعض أهل الخبرة وأعرفكم إن شاء الله تعالى. هدية الأولاد أرسلتها. وحُرّر هذا على عَجَل فسامحوا، والسلام. أخوك عبد الرحمن بن يحيى المعلمي

بسم الله الرحمن الرحيم الأخ العزيز الشيخ أحمد بن يحيى بن علي المعلمي اليماني العتمي، حفظه الله. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. كتابك الكريم المؤرخ 27 شوال سنة 1378 وصل، وحمدت الله تعالى على صحتك وعافيتك أنت والأولاد، وسرّني عزمك على إرسال الولد محمد بارك الله فيه، وذكرتَ أنك تسعى في استخراج جواز أندنوسي له، فإذا تم ذلك فعرفني حتى نستخرج له الرخصة وغير ذلك عند وصوله إن شاء الله تعالى يدبر الله الأمور بأفضل تدبير. الأخ عبد المجيد وصل للحج كعادته هذه السنين، وكتب إليك ورقة تراها طيَّ هذا، والرجاء من الله تعالى إصلاح الأمور كلها بفضله وكرمه. الولد عبد الله يسلم عليك ويقبّل يديك وهو الآن في جدة، أسأل الله تعالى أن يوفقنا جميعًا لما يحبه ويرضاه، والسلام. 3 ذي الحجة سنة 1378 أخوك عبد الرحمن بن يحيى المعلمي

بسم الله الرحمن الرحيم أخي العزيز الشيخ أحمد بن يحيى المعلمي، حفظه الله. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أرجو أن تكون مع الأولاد والأهل بخير وعافية. وصلني كتاب من ابني عبد الله يذكر أنه وصله منكم كتاب بعزمكم على إرسال اثنين من أبنائكم، وأنه كتب إليكم جوابًا وذكر فيه شيئًا يتعلق بالجواز، ثم تذكّر بعض مشكلات الجوازات، ويريد أن يكتب إليكم كتابًا آخر. والحقيقة أن قضية الجوازات وما يتبعها معقّدة جدًّا، وأنا نفسي بعد اللَّتيا والتي حصلت على الجنسية السعودية، أما ابني عبد الله فلم يتهيأ لنا ذلك، وهو إلى الآن بالجنسية اليمانية ويعاني من المتاعب. والذي أرى الآن إذا عزمتم على إرسال الابنين: أن ترسلوهما بجواز إندنوسي حفظًا لخطّ الرجعة، مع التأشير عليه من السفارة السعودية عندكم، وعند وصولهما نبذل الوسع وعسى ولعل. القانون هنا مشدّد جدًّا، والنّاس يغامرون في التحايل عليه، ونحن لا نحسن المغامرة والأمر بيد الله. وأما التذاكر فقد ذكر عبد الله أنه مستعد وقد أكدت عليه في ذلك وعسى الله سبحانه أن ييسر الأمور. سلامي ودعائي لأبنائكم، والله يحفظكم. والسلام. 10/ ذي القعدة الحرام سنة 1384 أخوك عبد الرحمن

رسالتان من شيخه أحمد بن محمد المعلمي

رسالتان من شيخه أحمد بن محمد المعلمي

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله. إلى حضرة الولد الوجيه، الأريب النبيه، العلَّامة الفقيه: عبد الرحمن بن يحيى المعلَّمي - كان الله لنا وله خير حافظ وولي -، السلام عليه وعلى مَن لديه ورحمة الله وبركاته. والله المسؤول أن يحفظ أمير المؤمنين وينصر به الدين. آمين. صدرَتْ للعهاد ولطلب الدعاء في التوفيق بنشاط الأجساد في فعل الطاعات والاستعداد، نسأل الله القبول. وما ذكره الولد من الضنَّ بالإمداد إلى آخر المقول، فليس كذلك، بل سهو ونسيان، وأمرٌ آخر لعله لا يسمح به اللسان إلا بعد تأبٍّ وامتناع، وهو التسهيل في شأن إحياء ما بين العشائين كأنه أفضل من صوم على الإحياء لا يستطاع (¬1)، وكذا صلاة الصبح تكون قضاءً في بعض الأوقات. ولكن مع كثرة القيل والقال صار العلم يُعرف بالرجال بعد أن كانوا لا يُعرفون إلا بالأعمال بمشاهدة المتابعة منهم في كل حال. وتوهَّمتم بأنا ذكرناكم من جملة المشايخ في السؤال. فقد كان الجواب عن الدرهم سيحصل بالجواب على الفقيه محمد عبد الرزاق اطلبوه منه. ومما ذكرنا فيه أن الموعظة تكون ... (¬2) ضمن قصة أو لغزٍ لتتمكن في ¬

_ (¬1) كذا هذه العبارة! (¬2) كلمة لم تتبين.

القلوب، وأن المقصود من السؤال لازم الخبر لا فائدة الخبر وإشاعة الملازمة لمن له أعلى الرُّتب، والموالاة فيه من أفضل القرب. والإشارة في ذلك إلى قوله: "إن الله اختارني ... " إلخ، و"خيركم قرني ... " إلخ، وما أحسن قول الهمزية: تتباهَى بك العصورُ وتسمو ... بك عَلْياءُ بعدها عَلْياءُ فالإضافة إلى أرباب الصدور تعمُّ جميع المقاصد الدنيوية والأخروية والأعمال الدينية والدنيوية، كما حمل بعض العلماء "الماعون" على كل ما يُطلب حتى القلب ماعونٌ لمهبط التجليات الربانية. هذا، ونروي السند مسلسلًا بالحفاظ المعروفين، وللإنسان أن يروي [عن النووي] (¬1) من فقه وحديث وأوراد بالسند المذكور، وكذا غير النووي كذلك. وأخبرنا بذلك شيخنا السيد العلامة داود بن عبد الرحمن حجر رحمه الله حيث ننقل السند عنه. والمقصود من السند ما حرَّرناه في الفائدة، وكلُّ فائدة أو دعاء أو ذكر لا يُسند فحكمه حكم اللقيط, فأمر السند ومعرفته أمر مهمّ جدًا. والدعاء وصيتكم، لا تنسونا منه وفي حفظ الله لا برِحْتم، والله يحميكم وشريف السلام، وحرّر غُرَّة شعبان سنة 35 (¬2). مستمدّ الدعاء وباذله، فقير ربه الغني أحمد بن محمد بن سليمان بن المعلمي وفقه الله ¬

_ (¬1) لم تظهر من الكلمتين إلا "وى" لانثناء الورقة من تحت. (¬2) يعني 1335.

الحمد لله وحده. إلى حضرة العلامة النحرير والبدر المنير، الولد الوجيه الفقيه عبد الرحمن بن يحيى المعلمي - سلَّمه الرب العلي -. السلام عليه وعلى مَن لديه يغشاهم كلِّ بكرةٍ وعشي. والله المسؤول أن ينصر أمير المؤمنين، وأن يرزقنا بركة ولايته آمين. وأن يجعلنا أجمعين ممن شملتهم الرحمة والمغفرة بهذه الخواتم بحق نبيِّه وآله الطيِّبين. وبعد فصدرت للإلف للعماد، ولتكبير الوداد ولطلب الدعاء بالتوفيق لعمل المعاد. ولا يخفى بأنه قد طال تأخير الجواب لحصول أشغال وأسباب، ثم اقتضى الحال التحقيق بعد وصول الحاج محمد عبد الرحمن، وأخبر عن أمور الجرائد يحققها ويوجب الجهاد على كل فرد غير المعذورين إذا نصحوا لله ورسوله، ومن النصيحة الدعاء الذي يُقنت به في وتر رمضان لما فيه من جمع الكلمة، ولأن عمر أمر به في بدء الجهاد وكذلك في غربة الإِسلام. وبيان دسائس الكفار وهو حصر البحر حتى التجوا للبضائع وأخرجوها ودسُّوا فيها ... (¬1) للعرب وذهبيا حتى أخذ الكفر الاسكندرية من البحر والعرب من البر، ومكران والصقلِّية كذلك. والحديدة سيعملوا بها كذلك، والبضائع تخرج للعرب من الخوجة وغيرها. ونخبركم بأنه حصلت للمرحوم زيارة بنياية الشيخ سعيد الآتي من مكة وزيارة من الحاج بعد أن كان يائس، فشكا الحال على بعض الأخيار، فجعل له شفاعة إلى الشريف فيصل بن حسين فأوصلوا الزوَّار إلى ابن رشيد ¬

_ (¬1) كلمتان لم تتبينا.

وأدخلهم على خمسين خمسين بسبب هدنة بين المتقاتلين من أهل المدينة ومكَّة حصلت بينهم ليقبروا القتلى، ويجدِّدوا العدَّة، وحصل النفير على الاسكندرية حينئذ. وبلغ أخذهم لها وخرَّبوا المساجد. والرهن وقع بعد أن قُتل أنور وعبد الحميد قتله الألمان خطأً. فهذا ما نحقق لكم إجمالاً، وأما كتابه فينبغي إبقاؤه والتنبيه على الدسائس التي فيه، وهوا .... (¬1) اتركوا لي أصحابي. وصرَّح أكثر الأئمة بأنهم أولاد [المشركين] (¬2) مثل مالك والشافعي، وأن عذاب القبر لا حقيقة له، وأظن بل أتيقَّنُ أن الدسائس قد سَرَتْ إلى الناس من قديم الزمان بهذه الجهة، فتراهم يقولون لصاحب الدهاء والذكاء والحفظ: هو ابن زنا، ويكنون عن الجوع بسيدي حسن، وعن الهَنِ الذي لا يُذكر بـ "حسين" يأمروا الصبية بسترته. وكل هذه دسائس كفرية من أمثال كتاب "زهر الربيع". ولقد نبه القاضي الجمالي علي السماوي بأنه من تصنيف بعض الرافضة والباطنية المعروفة بالقرامطة والإسماعيلية. فهذا ما نفيدكم، ونأمركم بإرشاد الناس إلى التحذير من ذلك جميعًا، وللدعاء وأن قطع البضائع هو من الضرر في الدين. وفي حفظ الله لا برحتم والله يحميكم وشريف السلام. نعم صدر ما حررناه في الكراسي وأنتم بالخيار إما أن تنقلوه للحقير وإلا أرجعتموه. لا تسهّلوا، لا تسهلوا من إرجاعه. وقد حرَّرنا الإجازة في ورقة مستقلة حسب طلبكم والدعاء وصيتكم وشريف السلام. ¬

_ (¬1) طمس كلمة أو أكثر. (¬2) قطع في الورقة ولعله ما أثبت.

رسائل من آل الإدريسي

رسائل من آل الإدريسي (3) رسائل

[رسالة من محمد بن علي الإدريسي إلى الشيخ]

[رسالة من محمد بن علي الإدريسي إلى الشيخ] بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن علي بن إدريس إلى مُحبّنا الأجل العالم العامل الأمثل وجيه الإِسلام عبد الرحمن المعلمي عافاه الله. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد. فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو مصلّيًا مسلمًا على مولانا محمد وآله وصحبه. كتابكم الكريم وصل بمعيّة أخيكم الفاضل (¬1) مبشِّرًا بقدومكم من الحج، جعله الله حجًّا مبرورًا وسعيًا مشكورًا، وقد اتفقنا بأخيكم وأصْحَبناه ستين ريالًا؛ أربعين لوالدكم وعشرين له. ويعذرونا لأنه صادف موسم هذه الجنود والمطالب الجمة مع شدة الوقت وجدب البلاد، وقد كنّا ننتفع فيها بالحبوب فأصبح الآن نشتريها من الأسواق، وما كان من خصوصكم فلا نظن أن الشيخ محمد يحيى والقائمين بميدي يقصّرون في حقكم، وسنؤكد عليه من خصوصكم، ونسأل الله أن يمنّ بالاتفاق عاجلاً على أحسن وفاق. ودمتم سالمين. 6 محرم الحرام سنة 1336 ¬

_ (¬1) لعل المقصود أخوه محمد (ت 1341).

[رسالة من الحسن بن علي الإدريسي إلى الشيخ]

[رسالة من الحسن بن علي الإدريسي إلى الشيخ] بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على مولانا محمد وآله وصحبه. من الحسن بن عليّ بن محمد بن أحمد إدريس - تاب الله عليه - إلى محبّنا الفقيه العلَّامة وجيه الإِسلام عبد الرحمن بن عبد الله (¬1) المعلمي عافاه الله آمين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. صدرت (¬2) للسلام والتحيّة والسؤال عن أحوالكم المرضيّة. قد تشرفنا بوصول كتابكم الكريم وخطابكم العذب الوسيم، فحمدنا الله تعالى على عافيتكم، والقلوب بالمحبّة مرتبطة، والأرواح جنود مجنّدة. إن السلام وإن أهداه مرسله ... وزاده رونقًا منه وتحسينا لم يبلغ العُشر من قول تبلِّغه ... أُذنَ الأحبةِ أفواهُ المحبينا هذا، والله يقدّر الاتفاق على أحسن وفاق، وقصيدتكم الميمونة لمدح مشايخ الطريقة الأحمدية وصلت إلينا، أوصلكم الله إلى رضوانه. وأحسنتم بذلك، والمتعلق بأولياء الله في حرز مكين. ¬

_ (¬1) كذا وهو سبق قلم فوالد الشيخ اسمه "يحيى". (¬2) الأصل: "صدرة".

هذا، ودمتم سالمين في حفظ رب العالمين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 15 ربيع أول سنة 1332 (¬1). ¬

_ (¬1) غير محررة وتحتمل (1337).

[رسالة من مصطفى الإدريسي]

[رسالة من مصطفى الإدريسي] بسم الله الرحمن الرحيم إنه من عبد ربه الفقير إليه في جميع أموره مصطفى الإدريسي كان الله له، لحضرة مَن وافانا كتابه الكريم المنبئ عن صحبته بتصميم الفاضل المحترم عبد الرحمن بن يحيى المعلمي عافاه الله. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. قد سرَّنا ما أبديتموه، ودعونا لكم بالتوفيق، ونبشّركم أنه في هذه الأيام توالت علامات النصر والظَفَر بفضل الله ومَنّه وطوله، حتى إن الجيوش المنصورة دخلت قضاء باجل، وسيكون قريبًا إن شاء الله التحاق القَضوات (¬1) المجاورة بحول الله، حسبما استُفيد من مخابرات الأهالي وطلبهم ذلك، فنحمد الله تعالى على ما مَنّ وأنعم ونشكره جلّ ذكره الشكر الأتمّ. ونظرًا لما نعهده منكم بخصوص سروركم عند سماعكم مثل هذا فقد أجبنا (¬2) ذكر الواقع لكم، ونوصيكم بالدعاء على الدوام، والله يحفظكم والسلام. مصطفى الإدريسي 27 ربيع الآخر سنة 338 (¬3) ¬

_ (¬1) جمع "قضاء" وهو بمعنى المحافظة أو المنطقة. (¬2) كذا. ولعلها: "أحببنا". (¬3) يعني بعد الألف.

رسائل متبادلة بين الشيخ المعلمي والقاضي عبد الله العمودي (6) رسائل

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله مستحقَّ الحمد، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه من بعد ... ولله السيد حاتم رحمه الله تعالى: يا قلبُ إنك بيتٌ (¬1) للحبيب فلا ... تخَفْ غزوَ واشٍ لومُه انفصلا حضرة أخينا ومحبنا الهمام، وجيه الإِسلام قاضي القضاة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي - عافاه الله تعالى - بعد أسنى السلام والتحية والإكرام، والمعاهدة والتهنئة بالعيد السعيد - أعادنا الله وإياكم لمثله وأمثاله، وأسبل علينا جميع ألطافه الظاهرة والخافية، بحقَّ من نزلت عليه سورة الجاثية (¬2). والله المسؤول أن يديم التأييد والنصر والظفر والفتح لإمامنا أمير المؤمنين المهدي لدين الله رب العالمين. وأنه ورد إلينا معرّفكم الكريم وخطابكم الفخيم مضمونه التهنئة بالعيد والمعاهدة، وقد أعرب عن الودّ والمعاضدة، وهكذا من حقّ الإخاء وأنتم أهلٌ لذلك، وأفدتم أنه ثبت لدى قاضي رجال ألمع رؤيته الهلال ليلة الأحد ... إلخ. فقد عنَّ لنا البحث معكم في ذلك والقصد الفائدة والاستفادة. قد قالوا: يلزم من الرؤية في البلد الشرقي رؤيته في البلد الغربي ... ¬

_ (¬1) مهملة النقط, وكذا استظهرتها. (¬2) كذا، وهو من التوسل الممنوع.

إلخ، و"رجال" (¬1) شرقية بالنسبة إلى غربيّها مطلقًا من غير نظرٍ إلى اتحاد فهل هو مسلَّمٌ؟ فإذا قلتم بتسليمه، فما معنى اشتراطهم اتحاد المطلع؟ فيكون من باب تعارض المانع والمقتضي، فيا ترى أيّ ذين يُقدَّم؟! فإن قلتم بالثاني تفريعًا على ما قرّروه أنه يلزم من رؤيته في البلد الشرقي رؤيته في البلد الغربي من غير نظرٍ للاتحاد، فقد قالوا بتقديم المانع كما في القواعد الفقهية، اللهم إلا أن يكون ذلك من المستثناة من القاعدة أو نظيرها، فالنصُّ مطلوب. وهذا كلُّه مفروض مع عدم اتحاد المطلع، وأمَّا مع اتحاده (¬2) فلا كلام في ذلك. وأيضًا لنا بحثٌ هل "رجال" داخلةٌ في مطلعنا فنسحب حكمها علينا أم لا؟ محلُّ نظرٍ يحتاج إلى تحرير، فالفائدة مطلوبةٌ. واعْرِضوا ذلك المُشْكل على وليّ نعمتنا الإِمام الأعظم، فإنّ عنده زيادةَ علمٍ فيما أشكل علينا، وهو مُبَلَّغ منَّا بأسنى السلام. وكتبه عبد الله بن علي عمودي عفا الله عنه ¬

_ (¬1) يقصد "رجال ألمع". (¬2) الأصل: "اتحاه" سهو.

وعليكم من الأخ المكرم السلام الأتم الأكرم. نعم (¬1) وأيضًا قد عللوا أنه لا حكم يتعلق بالشرقي إذا رُئي في الغربي؛ لأنه - أي الليل - يدخل في البلاد الشرقية قبل ... إلى آخر كلامهم. والحال أنَّهم قد علقوا الحكم على اتحاد المطلع، فيكون بدون نظرٍ إلى تعبيره بالشرقي والغربي، هذا مع الاتحاد، فهذا (¬2) فارقٌ لذلك وجمعٌ لكلامهم؟ وما معنى قول ابن حجر في "التحفة" (¬3) عَقِبَ هذا البحث: وفيه منافاةٌ لظاهر كلامهم، ويُوجَّه كلامُهم بأنَّ اللازم إنما هو الوجود لا الرؤية؛ إذ قد يمنع منها مانعٌ والمدارُ عليها لا على الوجود. اهـ. نعم، واصِلُكم نَظْم قاعدة الحصر والإشاعة حرّروه ودمتُم. نعم، وقد تفضَّل الله على المسلمين بالأمطار والسيول وما يصل إنسانٌ من البريّة إلا ويتحدث بالجَوْد، فاللهُ [مسؤول] أن يتمَّها نعمةً. واصِلُكم طيَّ كتابكم كتابٌ للشيخ علي السويد فضلاً إبلاغُه. فضلاً تُقدِّموا كتابنا باطن كتابكم إلى حضرة المولى، وتأخذوا جوابه وترسلوه مع كتابنا بالسرعة حسب أملنا فيكم يا محبّ. قاض إذا التبس الأمران عنَّ له ... رأيٌ يُفرِّق بين الماء واللبن (¬4) ¬

_ (¬1) من هنا إلى آخرها ملحق على طرة الرسالة. (¬2) الأصل: "فهل". (¬3) (3/ 382). (¬4) البيت للمتنبي "ديوانه" (ص 172).

بسم الله الرحمن الرحيم سيدي القاضي العلامة الهمام فخر الإِسلام، حاكم بندر ميدي عبد الله بن علي عمودي حرسه الله. والسلام عليه ورحمة الله وبركاته، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، والله المسؤول أن يحفظ مولانا الإِمام آمين. جوابكم الكريم وصل، وأحسنتم بالمذاكرة، وأخوكم مشغول بالقراءة أولاً مع سيدنا في "مسلم" مجلسين صباحًا إلى بعد الظهر، ومساءً من بعد العصر إلى دخول المغرب، ومذاكرة نحن والشيخ محمد بن إسماعيل، ومذاكرةٍ مع الطلبة على اختلاف دروسهم. ومسألة القضاء نسأل الله تعالى أن يجعل لنا منها فرجًا ومخرجًا. مع ما لا يستغني عنه الطالبُ من المطالعة. ولكن الذي يظهر - ولا أقطع بصحته الآن - أنَّ الهلال إذا رُئيَ ببلدٍ لزِمَ ما يسامتها جنوبًا وشمالاً وغربًا، وكذا كلُّ ما هو بالنسبة إليها غربي، وكذا ما كان شرقيها بدون أربعة وعشرين فرسخًا فصاعدًا من خطّ استوائها بين الجنوب والشمال، وسنضعُ له تمثالاً أيْسَرَ هذه (¬1). وأمّا قاعدة الحصر والإشاعة ففضلاً انقلوا لنا عبارة الشرحين حتى نتأملها. وصَدَر جوابُ سيدنا - أيده الله - عليكم، والسلام. أخوكم عبد الرحمن ¬

_ (¬1) انظره في الصفحة التالية.

فكلُّ ما كان غربيًّا بالنسبة إلى الخط الذي بين الجنوب والشمال يلزمه الصوم، ومن كان شرقيَّه فينظر المسافة بينه وبين الخط المذكور، فإن بلغت أربعة وعشرين فرسخًا فصاعدًا لم يلزمه وإلا لزِمَ. وهذا القول هو الجامع بين أشتات كلامهم. واختلاف المطالع صحيحٌ معمولٌ به فتأمَّل.

ولكن كل ما كان على خطِّ استواء بين الجنوب والشمال فمطلعه واحدٌ، وكذا كلُّ ما ضمّه أقل من أربعة وعشرين فرسخًا على خط استواءٍ من الشرق إلى الغرب، فإن كان بلد الرؤية هنا مثلاً والبلد المسؤول عن حكمه منه زاوية بين الشرق والشمال مثلاً، فننظر المسافة التي بين البلد المسؤول عنه وبين ما يسامتُ بلدَ الرؤية من جهة الشمال، فإن بلغت أربعةً وعشرين فرسخًا فصاعدًا فمطلعها غير مطلع بلد الرؤية. وأمّا ما يكون غربيّ الخط من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، فإن كان بينه وبين الخط دون أربعة وعشرين فرسخًا فمطلعه ومطلع بلد الرؤية واحدٌ، وإن بلغها فصاعدًا اختلف المطلع، وحينئذٍ (¬1) تلزمه الرؤية بالأَوْلى والأحرى. وهذه المسألة تحتاج إلى تأليف رسالةٍ. والسلام. ¬

_ (¬1) مختصرة في الأصل إلى "ح".

بسم الله الرحمن الرحيم سيدي القاضي الفاضل العالم العامل عبد الله بن علي عمودي، حرسه الله، وبارك لَنا وَلَهُ في خواتم هذا الشهر المبارك - آمين -. جوابكم الكريم وَصَل، وأحسنتم بما شرحتم، ورأيتكم تقدحون في جوابي إليكم أنَّه يدلُّ على التكبُّر ونحوه. فنقول: معاذ الله أنْ نتكبر، وإنَّما أول شأني نطفةٌ مَذِرَةٌ، وآخره جيفة قذرة، وأنا ما بينهما أحملُ العَذِرَةَ، ولكن قال تعالى: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148]؛ لأني كتبت إليكم كتاب لَطافةِ، فأجبتم جوابَ جَلافةٍ، فلم يمكنّي إلا مناقشتكم. وثانيًا: تقولون: "إنَّ الأخذ للرُّشا مشهورٌ عنّي". فأقول: جيئوني - ولو بواحدٍ - غير الدريهمات التي أخذتها من يدكم ثم تصدقت على ذلك اليتيم بما اللهُ به عليم، وهذا طنين ذباب لا يقدح فيما عَلِمه الإِمام والمأموم من حالتي، وحالة غيري. على أنيّ أقول: تعالوا ندعُ أبناءنا وأبناءكم، ونساءنا ونساءكم، وأنفسنا وأنفسكم، ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين. وأمّا قولك: "إنَّ مجيئي من الوطن وهجرتي إلى إمام الزمن معلول بحيث إني ما أتيت إلا لإثارة فتنةٍ بين دولتين" فهذا قَدْحٌ في الإمام، ودعوة الإِسلام؛ فتيقَّظ يا نومانُ.

أمّا إثارة الفتنة فأنا الآن أحبّها؛ إذ كانت قتال مُبْطِلين مكفّرين، وأنا أحبُّ أن أقاتلهم بنفسي، وأعُدُّ ذلك أعظم قربةٍ. وأمّا أنَّ الثقة أخبرك أني هجوتُ الإِمام في سابق الأيام، فأسألك بالله أن تكتب بهذا إلى حضرته لينظر هل يصدقك أم يكذِّبك؟ وما أدري من الثقة الذي أخبرك؟! على أني لو فُرِضَ وقوع شيءٍ مني فقد تبتُ توبةً نصوحًا، لا كالذين لم يزالوا في ريبهم يترددون. وأمّا كوني أحبُّ الأطماع، فإن كانت من بيت المال، وكرم مولانا المفضال، فدعه هو يمنُّ علىَّ. أمّا أنتَ فليس لك - والحمدُ لله - منَّةٌ. وسيّدنا الإِمام - والحمدُ لله - يعلم أنَّ كرمه لم يزل سابقًا لسؤالي، فلم تعرِض لي - والحمدُ لله - حاجة إلا وقضاها قبل أن أرفعها، فَضلاً منه وكرمًا. فإن كنتَ ترى أنَّ قبولي لعطائه فيه مفسدة، فهذا قدح صريح، ولكنِ التفتْ إلى من يأكل أموال الناس بالباطل. وأمّا بحثُك الفقهي فقد أعفيتك عن المناقشة فيه، لا بل أعفيت نفسي من التعب في محاورة مَنْ لا ... ولله القائلُ: وأصعبُ شيءٍ أن تُعلّم جاهلاً ... فيحسب جهلاً أنّه منكَ أعْلَم ولكن قد رأيتُ أنْ انقلَ كلامي وكلامَك في ورقةٍ، ونعرضها على إمامنا

المجتهد المطلق وترى لمن يثبت الحق، وجرَّبت مِرارًا على أنيّ رأيت كلامَك فيها كلامَ مجازفٍ تريدُ أن تتنَصَّل عن الخطأ بحكاية أقوالٍ شاذّةٍ خارجة عن المذهب، بل ربّما خرجت عن الإجماع، مُتشبِّعًا بما معناه دعوى الاجتهاد، لا إله إلا الله! أمّا إذا دخلتَ في باب الاجتهاد فلسنا من أقرانك، ونقول: وابنُ اللبونِ إذا مَا لُزَّ في قَرَنٍ ..................... إلخ (¬1) وأمّا خطأ الحاكم، فنحن لا نسلّم أنكم أخطأتم، بل ندّعي التعمّد، ولو سلّمنا فنطلب منكم نَقْلَ عباراتهم في ذلك لننظرها، ثم نَكِلُ إليكم البحثَ: هل يُفرَّق بين القاضي، وقاضي الضرورة؟ وبين الخطأ مع الوضوح، والخطأ مع الغموض؟ وبين الخطأ مع خلاف الكتاب والسنة أو الإجماع وغيره؟ ... إلى غير ذلك. ثم بيتُ المال مشغول عن حمل الديات بما هو أهمُّ؛ مِن حِفْظ الثغور وغيرها، ومادّته إن لم تكن معدومة فهي قليلةٌ. وأمّا قولكم في الحديث الذي استدل به العلماء على أنَّ مُؤنةَ الردّ في الأيدي الضافية عليها: "لعلَّ موردَ ذلك في الغصبِ"، فلو سُلِّم فالعبرةُ بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وقولك: "ويمكن أن تكون قضيّة عينٍ لا عمومَ لها". فهذه العبارةُ لو كان يُرَدُّ بها كلُّ دليلٍ أُريد إبطاله لصارَ الدينُ لعبةً. وقولكم: "إنها قامت الدعوى لدى حاكم بلد المشتري ... " إلى آخر ما نقلتموه عن المحليّ. فيه ¬

_ (¬1) البيت لجرير "ديوانه" (ص 250). وعجزه: لم يستطعْ صولةَ البُزْلِ القناعيسِ

اضطراب وتدليسٌ شَحِحنا بالوقت عن إنفاقه في البحث عنه، ولا سيّما في قولكم: "إنَّ البائعَ اختار ردَّ المبيع وتحمَّل مؤنة الردّ". هذا وقد كنا حررنا جوابًا ناقشنا فيه كلَّ جملةٍ نقاشًا مستوفىً علميًّا، ولا سيما تشبثكم بأذيالِ الاجتهاد، ووضعكم من علماء المذهب، بل وربّما كان من الإجماع، وكذلك الأمثال والشواهد والبيتين، والبهتان بهجوم الإِمام ودعوته ثم أضْربنا صفحًا مَللاً، وطوينا كشحًا كسَلاً، لا بل إبقاءً على المودة التي نخشى أنّ طولَ المناقشة تُقلّها، وحفاظًا على المحبّة التي كثرة المراجعة تُخلّها، وذلك من جهتكم، وأمّا أنا فلا يزيدني ذلك إلا مودَّةً، ولا يُزيلني عنها. وقولكم: "إني لا أسوى أن تكاتبوني" أخشى أن يطلع عليه من يحسدكم فيستدل به على ضيق ذات اليد من العلوم، فإنَّ الحاذق إذا أُفحم احتدَّ ليغطي الحقيقة. إلاَّ أنَّ الحقَّ إذا كان واضحًا فلم يرجع إليه المناظَر أورث في قلبِ مناظِره وغيره (¬1) سوءَ ظَنٍّ به؛ لأنَّ مولانا جلَّ وعلا يقول: {فَلَا وَرَبِّكَ ...} الآية [النساء: 65]. خلا لكِ الجوُّ فبيضي واصْفري ... ونقّري ما شئتِ أن تنقّري (¬2) كلاّ - والله - ما خلت البلادُ, وإمام الحقِّ قائمٌ. أو كما قال الآخر: ¬

_ (¬1) هكذا استظهرتها. (¬2) البيت لطرفة بن العبد. "ديوانه" (ص 126).

خلت البلادُ فسُدتُ غير مسوَّد ... ومن الشقاء تفرُّدي بالسؤددِ (¬1) كلا والله ما خلت البلاد ولا تُفُرِّدَ بالسؤدد مع وجود أمير المؤمنين محمد. وأمَّا اعتذاركم بقولكم: "هذا سبيل العلماء". فأينَ العلماء منّي ومنك؟! وفي الحديث: "المتشبع بما لم يُعط كلابسِ ثوبيْ زور" (¬2). ولكن كما قال الشاعر: سكتتْ بغابِغَةُ الزما ... ن وأصبح الوطواطُ ناطق وتبرذَنَتْ عُرْجُ الحميـ ... ـر فقلتُ مِن عَدَمِ السوابقْ وإنيّ أراك تدَّعي أنك أعلمُ ممن على ظهرها، وإصْرارُك على المناقشة في قصة المدخلي بعد أنْ جَهَد سيدنا الإمامُ أنْ يدخل الحقَّ الواضحَ الذي لم يقل بخلافه أحدٌ في ذهنك، فلم ينفتح غَلَقُه حتى الآن، وتمسَّكْت بظاهر كلام الماوردي كأنك أعلم به من ابن حجر! ارْجعْ إلينا أيّها الطائر! ومَالَكَ وللماورديّ؟ وأين أنتَ والنظرُ في كلامه؟ إنَّما نحن وأنت من صغار المقلدين، الواجبُ علينا اتباع كلامِ ابن حجر والرملي. ¬

_ (¬1) البيت لحارثة بن بدر. انظر "البيان والتبين": (3/ 219). (¬2) أخرجه البخاري (5219) ومسلم (2130) من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها. وأخرجه مسلم (2129) أيضًا من حديث عائشة رضي الله عنها.

الحاصلُ لا تُتعبْ نفسكَ في مراجعتي، فإنَّ فَهْمي قاصرٌ؛ لقصور باعي في مبادئ العربية، التي لا يُعْلَم كلام الله وكلام رسوله وكلام العلماء إلاَّ بها. وبيننا إذ نتفق بحضرة سيدنا الإِمام فنعرِضَ عليه المسألة الأخرى، وننظر ما يقول فنتبع حكمَه، إلاَّ إنْ كنتَ جاريًا على عادتك في ادّعاء أعْلَميتِكَ مطلقًا فلا يبقى حينئذٍ (¬1) إلا الله؛ فنرجع إلى المباهلة. وأما المسألة الأولى فقد انقضت، فإنْ كنتَ مناقشًا فناقشِ الإِمام. وقولك: إنك كنتَ ستطيل الجواب، ولكن ذكرتَ حديث: "أبغض صديقك ... " (¬2). هذا من جملةِ الغلطات الفاحشة، وهي رواية الحديث بقلْب لفظه، وقلب معناه، حاشا رسولَ الله من هذه العبارة. وفي الختام أقول: والله إنيّ رجعتُ إلى فؤادي فلم أجدْه تنكَّر، وتفقّدتُ ودادي فلم أره لكَ تغيَّر، ودليل ذلك أنيّ لم أسمعَ في مراجعتكم إلاَّ بمكاتبتكم، إلّا فإنيّ أجدُ لسانًا قائلاً، ومقامًا قابلاً، وهَدَفًا ماثلاً، ولكن - والله - ما المقصود إلا الحقُّ، فإنْ رأيتَ أنْ تبتدئ بقطع المحاورة، ورَمْي المكابرة فجزاك الله خيرًا، وإلّا فالكلامُ والورق والمدادُ والأقلامُ كثير. والسلامُ. ¬

_ (¬1) رمز لها المؤلف بـ (ح) اختصارًا. (¬2) لفظ الحديث: "أحبب حبيبك هونًا ما ... وأبغض بغيضك ... " أخرجه الترمذي (1697) من حديث أبي هريرة وقال: غريب، وأخرجه ابن أبي شيبة (37026) والبخاري في "الأدب المفرد" (1321) وغيرهم من حديث علي والصواب وقفه.

بسم الله الرحمن الرحيم سيدي ومولاي العلامة قاضي بندر ميدي عبد الله بن علي عمودي حرسه الله. بعد حَمْدِ العزيز الحميد، والصلاة والسلام على رسوله ذي الشرف العتيد، وآله وصحبه أُولي الفضل المديد، والسلام المزيد والتهنئة بهذا العيد السعيد، فأرفع إلى جنابكم تمامَ المذاكرة: أمَّا مسألة المدخلي فقد سمعتم كلامَ سيدنا الإِمام بقية مجتهدي الإِسلام، ويمكننا أن نقول: نحن من المقلدين، فندع البحثَ إلى المجتهدين، وانظروا بعين الإنصاف قَولي: إنّكم تدّعون الفضلَ على الإِمام والمأموم، هل له حظٌّ من النظر أمْ لا؟ ولكن لا بأسَ بالبحث فنقول: قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ...} الآية [المائدة: 45]. لا يُنازع فيها أنه يشترط المماثلة، وليس الآية على عمومها؛ وإلا يلزم أن يُقاد الإنسان بالبهيمة. أمَّا قصة الرُّبيّع فقد حملها العلماء على الانضباط وإمكان القصاص، ومن المقرر في المذهب لزومُ القصاص مع ذلك، ومع ذلك فلم يقع القصاص في القصة حتى يُعلم هل تعتبر المماثلة أمْ لا؟ وقد قال تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]. فلا يجوز الاعتداءُ على المعتدي إلا بمثل ما اعتدى، فإذا لم

تنضبط المماثلة لم يجر كما هو ظاهر من الآية التي جئت بها دليلاً علي نقيضه، كأنك غفلتَ عن لفظ (مثل). على أنَّ قوله: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} يُعيّنُ هذا، إذ القصاصُ هو أن يُفْعل بالجاني مثل ما فَعَل، فلو فُعِل به أكثر من ذلك لم يسمَّ قصاصًا لغةً ولا شرعًا، ومَعَ عدم أمْنِ الزيادة لا يجوز الإقدام؛ إذ المانع مُقدَّمٌ على المقتضي. على أنَّ قولكم بالقصاص في المسألة بقطع يد الجاني خَرْق للإجماع، فإنَّ العلماء مجمعون أن القصاصَ لا يُقْدم عليه إلا فيما أمكن. انظر "الميزان" للشعراني. هذا مع مخالفة قولكم للقرآن. وتخطئتكم الفقهاء في اشتراطهم المماثلة ونحوها جَهْلٌ بالقرآن، وخرق للإجماع. وأمَّا كون ما رأيتموه مصرَّحًا به في "الحاوي"، فابنُ حَجرٍ أعلمُ بالمذهب و"الحاوي" وصاحبه، وبمعاني العبارات منكم، على أنّه رأى إطلاق ذلك الحكم مخالفًا للقطعيات فزاده قيدًا، وهذا شائعٌ ذائعٌ في زيادة القيد حتى في الكتاب والسنة إذا عُلِمَ من دليل آخر. وقولكم: "اليد التي ذهبت منفعتها في حكم المُبانة" لا يخفى أنّ للعضوِ منفعتين القوة والصورة فلا يفيدك كونها في حكم المُبانة إلا إذا كان بالنظر لِكلا الاعتبارين. وقولكم: "ولا سبيل إلى إبطال يد الجاني إلا بالقطع". نقول: تعارَضَ المانعُ والمقتضي. وأمَّا آية الاعتداء فقد سبق أنَّها لنا لا علينا، وذلك صريح.

وقولكم: "فهل تمكن (¬1) المجنيّ عليه من رمي يد الجاني" يُشْعِر أنكم فهمتم أن المماثلة في الآية باعتبار الآلة فقط، وهذا تقوُّلٌ على كتاب الله تعالى. وقولك: "إنّي غفلتُ عن كلام أهل العلم في خطأ الحاكم". فانقلوا لنا عبارتهم حتى ننتقدها، فإن كان كلامهم في رجوع الشهود، فإنَّما صرحوا بأنّها على القاضي، على أننا نقول: قد يحصل الفرقُ بين القاضي وقاضي الضرورة، كما بين الطبيب الحاذق وغيره، وبين ما إذا كان خطأ مع الوضوح أو الغموض، وبين ما إذا خالفَ القطعيَّ والظني، ومع ذلك فنحن لا نُسَلِّم لكم أنكم غفلتم عن ذلك الحكم القطعي، كيف وأنتم تتشبثون بأذيال الاجتهاد، ولكن تعمدتم الحكم بخلافه معتقدين أن الجاني رجلٌ مفسدٌ يسوغ إضراره ولو بغير حقٍّ، أو لغير ذلك. ولو سلّمنا أنكم أخطأتم وأن خطأكم على العاقلة فلا عِلْمَ لي بعاقلتكم، ولكن لو منع مانعٌ من ذلك وقيل بعوده على بيت المال، فبيتُ المال مشغول بما هو أهمُّ، وهو لا يقوم بالمهمات الضرورية، وأين موردُه الخاصُّ؟ أمِنَ الجزيةِ؟ أمِ الخمس؟ أم الخراج؟ أم المواريث؟ ولو قلتَ: من عشور التركات، وأعشار الأموال المتداعَى عليها لكان أدنى إلى الصواب. وقولكم: "العلم النافعُ هو المأخوذ من الكتاب والسنَّة ... إلخ" يُشعر أنَّك منهم! ¬

_ (¬1) هكذا استظهرتها.

والله لو عرفنا لك أدنى استحقاق لذلك لاعترفنا، ولكن الكتاب والسنّة تحتاج إلى رجالٍ وعلومٍ، أمَّا مثلي ومثلك لا يُتْقِنُ مبادئ العربية، ولا يفهم كلام الفقهاء تمامًا فأنَّى له؟ وقولكم: "وهذه الفضيلة - تعنون الاجتهاد - هي ميزانُ العدل بين أرباب الكمال، ولم يوفّقْ لها إلا الأفراد من فُحول الرّجال". كذلك، وفيه ما مرَّ. وما أدري مِمَّ احترزت بقولك: "غالبًا"؟! أمَّا قولي: "فإنَّ في الناس بقيةً ... إلخ". فأنا لم أدّعها لنفسي، ولكنْ رأيتك كثيرًا ما تسمع كلام مولانا الإِمام، ويردّك إلى الصواب؛ فتصرُّ على ما تقوله أنتَ؛ فعلمتُ أنك تدّعي الكمال عليه. ولو لم يكن في البقيّة إلا هو - أيّده الله - لكفى. وقولك: "إنَّ في هجرتي من وطني سيئات كثيرة" قَدْحٌ في الإِمام لا فيَّ، وأمَّا ارتجالي القصائد أيام كنت في الوطن في هجاء إمامكم الأعظم وأهل دولته، فإنْ أردتَ به المُبْطل ابن حَمِيد الدين فلا حاجةَ لنقل الثقة؛ إذ قد سمعتموها من لساني، وإنْ أردتم سيدنا محمد بن علي بن إدريس إمام الحق، فتفضّل بالله اكتب إليه بهذا حتى يأخذني بقولك، إنَّ هذه الخزعبلات لا تصلح أنْ تكون غطاءً ساترةً ما جرى من الغلط والخطأ. وقولك: "العدو لا يصلح صديق". مثل قولهم: الكافر لا يصير مسلم، فهكذا تكون أمثال الفقهاء!! وأمَّا كوني لا أسوى أن تعاتبني فصحيحٌ؛ لأنني لا أسوى .... (¬1) يقال ¬

_ (¬1) كلمة غير مقروءة.

الإِمام الذي تدَّعي أعْلَمِيّتك عليه. وأمَّا الحديث الصحيح: "سباب المسلم فسوق" فبحمد الله تعالى صورة كتابي الأول عندي بخطِّي ليس فيها سُبَّةٌ، وجوابك عندي وفيه ما يكفي. فإنْ كنتَ فهمتَ من كلامي بَعْدُ ما هو في معنى السبِّ فذلك اقتضاءً لحقّي، والحديث الآخر رويتَه بلفظ: "أَبْغِضْ صديقَك". وحاشا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من لفظ هذه العبارة ومعناها. وقولك: "إنّي لا أكون صالحًا حتى أتجرَّد عن الإِمام والمأموم، وأجوبَ الفيافي والقفار" خطأٌ فإنَّ القربَ من الإِمام وخدمته أرجى قربة. وقولك: "إنك في صَلَفٍ من العيش". ما أدري ما هو الصَّلَفُ؟! فإن كان بالمهملة فهو قلَّة نماء الطعام وبركته، فهذا دالٌّ على خلافِ ما أوردتموه له؛ لأنَّ العبد الذي لا ينمي إليه طعامه فيباركَ له فيه لا يخفى حاله. أو أن لا تحظى المرأةُ عند زوجها. ولا دَخْل لهذا. أو التكلُّم بما يكرهه صاحبُك وهذا ممكنٌ. أو التمدُّح بما ليس عندك - وهذه عبارة "القاموس" (¬1) - وهو المراد هنا. وإن كان بالمعجمة فمادَّته مهملةٌ. وإن أردتَ ضيقَ العيش وتنغُّص الرزق فَقُل: في شَظَفٍ. ثم لا عبرة بضيق العيش مع إرسال النفس وإطلاق عنان اليد تختلس ¬

_ (¬1) (ص 828).

وتنتهب حتى لا يردّها إلا العجز، وشاهد ذلك قصّة الجَدْي. وأمّا قولك في الحديث الذي استدل به علماء المذهب على أنّ مؤنة الردّ في الأيديَ الضامنة عليها: "لعلَّ موردَه في الغصب"، لو سُلِّمَ. فالعبرةُ بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وقولك: "ويمكن أن تكون قضيَّة عين لا عمومَ لها". ما مثلك إلا مثل الطبيب الذي كان يداوي الناس وإذا حَمَى إنسانًا، فأكل ذلك الإنسان شيئًا ممَّا حُمِيَ عنه أعْلَمه به بواسطة معرفة النبض والنظر في الآثار, فمرّةً دَخَلَ عدى إنسانٍ قد حماه، فجسَّ نَبْضَه فعرف منه أنَّه أكل شيئًا حارًّا، فتأمَّل فرأى ريش دجاج طريِّ؛ فقال له: لِمَ تأكل لحمَ الدجاج؟ فصادفَ الواقع. واليوم الثاني أرسل ولده فجاء إلى المريض فجسَّ نبضه من غير معرفة، ثم تأمَّل فرأى حوافر حمارٍ، فقال للمريض: لِمَ تأكل لحمَ الحمير؟ فضحكوا عليه، وطردوه. فإنَّ هذه العبارة لو كان يُجاء بها في كلِّ دليلٍ أُريد إبطالُه لصار الدينُ لعبةً، وإنَّما يُؤتى بها في مواضع معروفة. وقولك: "على التنزّل والمراعاة لكلامِ أهل المذهب" تبجُّح بالاجتهاد، لا إله إلا الله! وكلامكم بعد هذا في قيام الدعوى لدى حاكم بلد المشتري لثبوتِ الفسخ، وإبقاء الحاكم له على نظرِ المشتري، لعلكم أدخلتم دعوى في دعوى، حيث والمشتري الأول قد كان باع وردَّ عليه، وإلا فلا بأس. وأمَّا كون البائع اختار ردَّ المبيع وتحمَّل مؤنة الردّ، فهذا مناقض لما حررتموه

إلينا وبَلَغنا عن حضور الحكم. كيف والبائع لم نحكم عليه إلا بإصراره على السكوت، فأيَّ وقتٍ اختار الردَّ وتحمَّل المؤن؟! إن كان ذلك مِن بَعْدُ فلا بأس. وقولكم: "إني أُلقّن البائع إنكار أن السلعة عينُ مالِه". فأنا لستُ بمتحاكَمٍ إليَّ بعدُ حتى يَحْرُم عليَّ التلقينُ. وأمّا كوني أجادل عن رجل من تجار ميدي، فلا والله، إنّما أجادل عن الشرع الشريف، والحقّ المنيف، والدين الحنيف، الذي اتخذه الناس ألعوبةً لمّا قلَّ أهلُه، فلم يبق منهم إلا إمام الحقّ، وهو مشغول بحفظ الثغور، وإدارة شؤون الجمهور، فبقينا معشر الفقهاء نتلاعب بالدين، تارةً نقلّدُ على غير بصيرة، وتارةً نركبُ متنَ عمياء في دعاوي الاجتهاد الخطيرة. واستشهادك ببيت دُرَيد بن الصمّة: وما أنا إلا من غَزيَّة ... إلخ. في غير محلّه، فإنّما يَسْتَشِهدُ به المقلِّدُ اللازم للتقليد، العارف به؛ فيقول: ما أنا إلا مقلّد فإن رَشَد مقلَّدي رشدتُ، وإن غوى غويتُ، على أنَّ المقلَّدَ إذا غوى فإنَّما غيُّه خطأ مجتهدٍ، وهو مثابٌ، وليس على مثلي ومثلك في تقليده إثمٌ لقصورنا عن مرتبة الاجتهاد، فاللازمُ علينا شرعًا اتباعُ ما قلّدنا. وأمّا البيتان اليتيمان اللذان أنشأتهما، فنعمّا هما، سالمان معنىً مستقيمان وزنًا، لا تجدُ فيهما لحنًا، ولعلك قد سمعتَ بمثل الفرزدق الذي ضربَه في الشعر بقوله: كان الشعر جَمَلاً بازلاً فنُحِرَ ... إلخ.

واستشهادُكَ بقوله: رأى الأمر يُفضي إلى آخِرٍ ... فصيّر آخره أوَّلا لا أدري على ماذا؟! فإنَّما يُستشهَد بذلك مثلاً فيمن صالح عدوّه بعد بدوِّ الحرب؛ لأنه رأى الحربَ تُفضي إلى الصلح فبدأ بالصلح وترك الحرب. وأمّا البيتُ الآخر: وخلافُ أهل العلم ... إلخ. فرحم اللهُ تعالى الإمامَ الشافعيَّ حيث قال ما معناه: "ما ناظرتُ أحدًا إلا أحببتُ أن تقوم له الحجّة عليَّ فأرجع إلى الحقّ". ووالله ما في نفسي عليك مثقال ذرّة من حقدٍ، ولكنَّ الحقَّ أحقُّ أن يُتَّبع، والقصدُ عِلْمُه عند الله جلّ وعلا، فالمطلوب المسامحةُ. وأمَّا الرسالة فإن شاء الله تعالى عند الفراغ نستنسخ لكم منها نسخةً، ونرسلها إن أردتموها. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله مستحق الحمد، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه من بعد. حضرة محبّنا وأخينا الأجلّ والتمام الأكمل الأخ الشفيف العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي العتمي. بعد أسنى السلام والتحية والإكرام والمعاهدة والتهنئة بالشهر المبارك جعلنا الله وإياكم ممن صامه وقامه احتسابًا ... كتابكم الكريم وصل عما يتعلّق بدعوى بادويلان .. إلى آخر ما شرحتم. أعْلَم أنّ المسألةَ بسيطة ولكن نحكي لكم طرفًا منها جامعًا لها على الجملة: أن بادويلان باع على رجل يمني بضاعة كثيرات بنحو أحد عشر مئة اثنتي عشرة عدة (¬1) صفقة واحدة بموجب الأنموذج، فعند وصوله إلى بلده تصرّف بالبيع في بعضها، فظهر بها عيب قديم، فترافع المشتري الأول مع المشتري الثاني إلى حاكم الشرع وثبت لديه حق الفسخ، وحكم به على البائع، فرجع المشتري على بائعه بادويلان، فطلب خصمه إحضاره، فأحضرناه، فادعى عليه، فسأل منه الجواب فنكل عنه، فقضينا عليه بالنكول بشرطه المشروط، فطلب إحضار المبيع فاعتذر المشتري أن الجملة مرسلة إلى طرفنا بل يحوّله إلى من أحبّ أو يأذن للحاكم في بيعه فمنع فعليه ألزمنا دعواه الردّ لأنه مورّط للمشتري والحكم الشرعي بيد المدّعي توجّه به إلى ¬

_ (¬1) كذا في الأصل.

اليمن في إحضار المبيع المغيب، وصار من بادويلان الهضم في جانبنا بما لا يليق، وتعصّب له الغير من أهل الجهل وأعداء الشرع المحمدي، كالشيخ أحمد طاهر، فحصل الإغضاء في الآمر الشريف أحمد بن زيد الحسني، فرفعنا بما يلزم إلى حضرة المولي أيده الله تعالى وحكمنا ... (¬1) في ذلك ولو بخروجنا إليه. فأنت طب نفسًا وقرّ عينًا في تثبّتنا بهذا الخصوص ولا تغتر ببرهان بادويلان فإنه رجلٌ فاجر، عدو الدين، يطعن في حق الإِمام والمأموم، وأنتم غرُّون عن تفاصيل أموره، فلا نزيدكم تحذيرًا منه وبيانًا في حاله، وكما قيل: اعرفوا الحق بالحق لا بالرجال. وتشريف السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وكتبه عبد الله علي عمودي عفى الله عنه ¬

_ (¬1) كلمة لم تتبيّن.

رسائل من ناظم دائرة المعارف وإليه (4) رسائل

25 من سبتمبر سنة 1953 الحمد لله. حضرة مولانا الشيخ عبد الرحمن بن يحيى اليماني. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. تقدم إليكم كتاب قبل أيام الرَّجاء وصوله. وذكرتم في كتابكم أن ورقة ناقصة من نسخة "الإكمال" من المجلد الثاني التي أرسلناها لكم، وذكرتم رقومًا لصفحات العكس الذي عندكم ثم قلتم: "فبعد هذه الورقة ورقة مفقودة من النسخة، والموجود منها ورقة أولها: "الكنى والأباء - أبو عليم ... " والظاهر أن هذه الورقة ساقطة من النسخة المصرية نفسها فانقلوا إلى ما يقابلها من نسخته الآصفية وأرسلوها إلي فورًا والسلام" هكذا حررتم، ففتشنا في المسوّدة التي عندنا فلم نجد فيها صورة ما حررتم، وفهمنا ما فهمنا فكتبناه لكم وها هو مرسل لكم. هذا والسلام. التوقيع

مؤرخ 30 سبتمبر 1953 م الحمد لله. إلى حضرة العلامة الجليل والفهامة النبيل مولانا الشيخ عبد الرحمن بن يحيى اليماني دام بخير آمين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته - تقدم إليكم كتاب مؤرخ 28 محرم الحرام وقبله مثله فيما يتعلق بتصحيح "الإكمال" وأمر "التبصير" - ولا يخفاكم أن أكثر كتبكم التي أكثرتم فيها من التحريض والحث على إرسال "التبصير" لإلحاق زوائده بالإكمال جاءت وأنا مسافر، ويومنا هذا استعرضت جميع كتبكم المتعلقة بذلك فاطلعت على أشياء لم أكن أعرفها من قبل، فعزمت عزمًا جازمًا على إرسال "التبصير" إليكم، إما بأخذ عكسه من نسختَي الآصفية، وإما بنسخه منهما، أما العكس إن تيسر فسيحصل في مدة سريعة فنرسله إليكم حينئذٍ سريعًا، وأما الكتابة فكلما نجزت كتابته منه نرسله إليكم لتأخذوا منه مطلوبكم الأول فالأول - وظنّي أنكم تجعلون زوائده بهامش الإكمال لا في متنه - ونسختا الآصفية من "التبصير" استعرضناهما هذا اليوم وقابلنا بينهما فرأينا بينهما فرقًا عظيمًا في الصحة، وأصحهما على الإطلاق المنقولة بخط المولوي زين العابدين البِهَاري في مجلد واحد كبير، وأما الأخرى التي كنتم تراجعون فيها فهي غير جيدة، كثيرة التصحيفات والسقطات، وسنأخذ مطلوبنا من الأولى، هذا وأرجوكم العفو والمسامحة، هذا والسلام. خادمكم ومنتظر لجوابكم 30/ 9 التوقيع ناظم دائرة المعارف

إلى حضرات السادة جميع الرفقاء والمصححين بدائرة المعارف (¬1). نرجو منكم أن تتكرَّموا بإطلاعنا على اقتراحاتكم المتعلقة بالأعمال المفوَّضة إليكم، وذلك من خلال النقاط التالية؛ حتى نتمكَّن من وضع خطَّة عملية لهذا العام لطباعة الكتب ونشرها. 1 - اسم الكتاب. 2 - اسم المؤلف مع تاريخ الوفاة. 3 - فنّ الكتاب، وأهمية الكتاب فيه. 4 - النسخ المختلفة مع وصف أقدم النسخ. 5 - نوعية التصحيح والتعليق المطلوبين (على الكتاب). 6 - حجم أوراق النُّسَخ وأجزاءها، ومجلداتها، وعددها. 7 - متوقَّع عدد صفحات النسخة المطبوعة مع مراعاة خط "شرف الدين" بحجم (18). 8 - المدة المتوقَّعة لإكمال العمل حسب أيام الدوام في السنة. 9 - كم كتابًا آخر في نفس الفنِّ قد تم نشره عن الدائرة؟ 10 - ما هي الفنون الأخرى التي يُقترح نشرُ نوادرها؟ مع التفصيل. إلى حضرة جناب الشيخ عبد الرحمن ناظم دائرة المعارف ¬

_ (¬1) أصل الخطاب بالأوردو، ونقله إلى العربية الشيخ نبيل بن نصار السندي.

له الحمد حضرة رفيع المقام ناظم دائرة المعارف العثمانية دام علاه. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته عرضت على جنابكم في جوابي المؤرخ 6 فَرْوَردي سنة 56 ف (¬1) أن الباقي من تصحيح كتاب "الجرح والتعديل" يقدَّر أن يتم في سنة وبعض شهر، وأن المقابلة على النسخة المصرية إذا وصلت يقدَّر أن يتم في 11 شهرًا. ثم فكرت فرأيت أن اشتراكي في المقابلة ضروري لأنني أنا الذي صححت الكتاب وعرفت طرائقه، وعلى هذا فلا يتم التصحيح والمقابلة إلا في سنتين وفي هذا تأخير للعمل. وثانيًا: إذا قمت بالمقابلة مع رجل آخر من الرفقاء واستمر ذلك أحد عشر شهرًا كان مقدار ما نأخذه من الشهرية وغيرها هذه مبلغ 5170 ربية، وهذا المبلغ لابد من ملاحظته في تعيين قيمة الكتاب فيكون ثمنه زائدًا. فرأيت حرصًا على خدمة العلم ونشره وعلى تعجيل العمل والاقتصاد في المصارف وغير ذلك أن أعرض على جنابكم أنني مستعد - مع القيام بتصحيح الكتاب في الدفتر (¬2) في أوقات العمل - أن أقوم بمقابلته على النسخة المصرية عند وصولها في بيتي في الليل وفي أيام التعطيل. وبذلك ¬

_ (¬1) "فَروَرْدِي" شهر فارسي يكون في أول الربيع (مارس - إبريل). "سنة 56 ف" أي سنة 1366 من التقويم الفصلي المعمول به في حيدراباد آنذاك، وهو يوافق 1947 م. (¬2) أي المَكْتب باللغة الأردية.

يتم التصحيح والمقابلة في سنة واحدة تقريبًا ويمكن الشروع في الطبع في أثنائها، فإذا رأيتم أن تشاوروا الرفقاء في هذا وتعينوا من يحضر إلى بيتي في الليالي وأيام التعطيل للقيام معه بالمقابلة فالنظر لكم، والسلام. الحقير/ عبد الرحمن بن يحيى اليماني 9 فَرْوَردي سنة 56 ف

استلمت مراسلتكم نِشَان (¬1) 922 تاريخ 30 ديسمبر سنة 1951 م، وأنا شاكر جدًا لعالي جناب الصدر وجنابكم، ويسرني أن أخدم هذه الدائرة العلمية الجليلة بلا طلب معاوضة، وسأدوم على ذلك بقية عمري، سواء أكانت الخدمة مقابلة وتصحيحًا أم غيره، وإنما اضطرني الآن إلى طلب المعاوضة على مقابلة وتصحيح الستة الأجزاء الباقية من كتاب "ابن أبي حاتم" حاجتي إلى مصاريف السفر، وهذا السبب نفسه يجبرني أن أرفع إليكم - مع الأسف والخجل - أن هذا المبلغ الذي قررتموه (1500) لا هو الذي يكفيني لحاجتي، ولا هو الذي يعادل في نظري الأجرة الواجبة، ولو كنت أُعطيت البُوْنَس (¬2) الذي قرَّر المجلس إعطاءه لمن ينفصل عن الدائرة من الملازمين، كنت اكتفيت به، وبهذا المبلغ الذي قررتموه، فأما إذا كنت محرومًا من البونس فأرجو من فضلكم أن تعيدوا النظر في القضية، وتحسنوا إليَّ بأحد أمرين: 1 - إما أن تعفوني من هذا العمل رأسًا، فتخلصوني من المسؤولية، وتتركوني أستريح في هذه الأشهر، لأنني منذ أربع وعشرين سنة تقريبًا - وهي مدة ملازمتي - لم أزل في عمل متصل، لأني لم أستفد من الرخصة غير الرخصة الاتفاقية. 2 - وإما أن تعيدوا النظر في الأجرة، فإذا عرفتم صحة قولي إن هذا المبلغ المقرر أقل من الواجب، وأمكن أن تزيدوا عليه إلى القَدْر الذي ¬

_ (¬1) يعني: رقم. (¬2) البونس: كلمة إنجليزية وتعني المكافأة الزائدة على الراتب.

يكفيني لحاجتي زدتم، وأنا على كلا الحالين شاكر، ولا أحتاج أن أوضح في جوابي هذا وجهة نظري في أن هذا المبلغ لا يفي بالأجرة الواجبة، بل أَكِلُ الأمر إلى نظركم، فإذا لم يظهر لكم ذلك فأحسنوا إليَّ بالإعفاء من العمل لأستريح من التعب والمسؤولية، وأفكر في طريق أخرى لتحصيل مصاريف السفر، ولن يتعسر ذلك إن شاء الله تعالى.

رسائل الشيخ المعلمي إلى الشيخ محمد نصيف (13) رسالة

الحمد لله. حضرة الفاضل الجليل الشيخ محمد نصيف دام فضله. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. إني كنت في حياة السيد محمد بن علي الإدريسي تغمّده الله برحمته مقيمًا في جواره، وبعد وفاته رحلت من تلك الجهة إلى أن استقررت بالهند في حيدراباد دكين، وكانت للمرحوم عندي عدة كتب علمية على طريق الأمانة. وبعد سفري طلبتُ كتبي من تلك الجهة، وبقيت كتب السيد فيها؛ لأنه لم يكن لي هناك مَن أعتمد عليه في تمييزها من بين كتبي، وبعد ذلك حصلت الاضطرابات وبعدت الشُقّة. والآن أحبّ أن أستأمر آل الإدريسي في هذه الكتب، ولا أعلم كيف تكون مخابرتهم؛ هل أكتب إلى السيّد الحسن رأسًا، أو بواسطة وكيل خارجية الحجاز؟ فأرجو من فضلكم أن تشيروا عليَّ في ذلك بحسب اختباركم. ولا تتوهّموا أن لي غرضًا غير ما ذكر من أداء هذه الأمانة إلى أهلها. فأرجو أن تتفضلوا بتحرير جواب وتسلّموه لحامل هذا ليرسله إليّ. والسلام. 7/ ذي القعدة سنة 1355 الحقير عبد الرحمن بن يحيى اليماني

بسم الله الرحمن الرحيم حضرة السيد الكريم المحسن العظيم صاحب الفضيلة الشيخ محمد نصيف حفظه الله. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وصلني كتابكم الكريم المؤرخ 25 المحرم سنة 1380 المؤذِن بعزمكم على السفر إلى الخارج، وتعميدكم مطبعة الأصفهاني بإرسال الملازم والبروفات إليّ رأسًا، فأسأل الله تبارك وتعالى أن يبارك في سفركم وإقامتكم، ويرجعكم إلى وطنكم بالسلامة والكرامة والصحة التامة. وأرجو أن أقوم بالواجب في تصحيح الكتاب (¬1) كما تحبّون. والباري يحفظكم، والسلام. 16/ 1/1380 محبكم عبد الرحمن المعلمي ¬

_ (¬1) لعله شرح السفاريني الآتي ذكره.

بسم الله الرحمن الرحيم حضرة السيد الكريم المحسن العظيم صاحب الفضيلة الشيخ محمد نصيف حفظه الله. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أرجو أن تكونوا وآلكم بخير وعافية وبركات نامية، زادكم الله من فضله. ترون مع حامل هذا شيئًا من الحاجة التي ذكرتموها لي، ومع الأسف لم أجد إلا هذا، وترون معه علبة فيها بشاوري عسى أن يناسبكم. عرَّفتكم سابقًا أن كاتب المكتبة (¬1) اعتذر عن مساعدتي على تصحيح الكتاب، وصرتُ أستعين ببعض التلامذة الأذكياء وفيهم الكفاية. ولأجل ترغيبهم في مواصلة العمل يحسن أن يُقدّم لهم شيء من المكافأة الموعود بها، والباري يحفظكم، والسلام. 14/ 3/ 1380 محبكم عبد الرحمن بن يحيى المعلمي ¬

_ (¬1) هو محمد عثمان الكنوي.

بسم الله الرحمن الرحيم حضرة السيد الكريم المحسن العظيم صاحب الفضيلة الشيخ محمد نصيف، حفظه الله. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وصل الولد عبد الله المعلمي مناول المكتبة من جدة ومعه نسخة من الجزء الثاني من "شرح الأدب المفرد" سلَّمها إليّ، وذكر أنكم تسألون عن نسخ المجلد الأول بأي تجليد، وقد نظرتها فوجدتها كلها مجلدة بقماش مثل نسخة المجلد الثاني. وهي نسخة عندي، ونسخة عند الشيخ سليمان، ونسخة عند محمد عثمان كاتب الفهارس بالمكتبة، ونسختان بالمكتبة، هذه خمس نسخ من الجلد الأول هي التي أعلمها. هذا، والباري يحفظكم، والسلام. 15/ 3/1380 محبكم عبد الرحمن المعلمي

بسم الله الرحمن الرحيم حضرة السيّد الكريم المحسن العظيم صاحب الفضيلة الشيخ محمد أفندي نصيف حفظه الله. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وصلني كتابكم الكريم المؤرّخ 28 ربيع الأول سنة 1380، وحمدت الله تبارك وتعالى على حُسْن عافيتكم وصلاح شؤونكم، أوْزَعَكم الله شكر نِعَمه وزادكم من فضله. وصل المبلغ الذي أرسلتموه خمسمائة ريال، وسلّمتُ بعضه للذين يساعدونني وأخّرتُ الباقي عندي لأسلّمه لهم فيما بعد تجديدًا لنشاطهم. وأما تجارب الطبع فترون مع هذا الكراريس الحاضرة للطبع، وهي ثمان كراريس من صفحة 81 - 208. وأرجو أن تنبّهوا عليهم أن يرسلوا ... نسخة أخرى منها تبقى لديّ كما طلبت ذلك مرارًا. وبقية التجارب الجديدة العملُ فيها جارٍ وسأرسلها بعد هذا إن شاء الله تعالى. والباري يحفظكم. كتاب "مجاز القرآن" سلمناه للشيخ عبد الحق، وبقيّة الكتب وزّعناها كما أمرتم، والشيخ سليمان بالمدينة، والسلام. 30/ 3/1380 محبكم عبد الرحمن المعلمي

بسم الله الرحمن الرحيم حضرة السيد الكريم المحسن العظيم صاحب الفضيلة الشيخ محمد نصيف، حفظه الله. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وصلني كتابكم الكريم المؤرخ 7 جمادى الثانية سنة 1380 هـ مع بروفات "شرح السفاريني" مقابل ص 289 إلى 322 من الجزء الأول من المسوَّدة التي هي مطبوعة المنار، وها هي إليكم بعد مقابلتها وتصحيحها. أشرتم إلى معاكسة أصحاب المطبعة وأرى أن معاكستهم واضحة في التأخير، فأما في طبع هذه البروفات فلم أر فيه ما يصلح أن يكون حجة على تعمدهم المعاكسة؛ ولهذا لم أر موجبًا لوصولي إليكم. فأما الشيخ سليمان فإني عرضتُ عليه كتابكم فأخبرني أنه عازم إليكم، وقد وصلكم وحصل المطلوب إن شاء الله تعالى، والله يحفظكم، والسلام. في 10 جمادى الثانية سنة 1380 محبكم عبد الرحمن المعلمي

بسم الله الرحمن الرحيم حضرة السيّد الكريم المحسن العظيم صاحب الفضيلة الشيخ محمد نصيف حفظه الله. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أرجو العفو والمسامحة، طالبت مرارًا بأن تكون الكراريس المرسلة إليّ المطلوب إجازة طبعها نسختين، تبقى إحداهما عندي للتوثّق من الاتصال والتقييد في الإحالة في الحواشي على الصفحات المتقدمّة. والحاجة الآن داعية إلى نسخ من الكراريس التي أُجيز طبعها من ص 112 إلى آخر ما تمّ إجازة طبعه، فإن تصحيح الأوراق التي لديّ يتوقف على وصول تلك الكراريس إليّ. وأرجو في المستقبل مراعاة ذلك دائمًا كلما أرسلت الكراريس التي يُطلب إجازة طبعها تُرسل منها نسختان. وأرجو أن تؤكدوا على أهل المطبعة ذلك لئلا يتوقف العمل. والباري يحفظكم، والسلام. 21/ 4/ 1380 محبكم عبد الرحمن المعلمي

بسم الله الرحمن الرحيم فضيلة الشيخ الفاضل العلامة السلفي الشهير محمد نصيف أفندي المحترم. حفظكم الله وأبقاكم في طاعته ومرضاته وفي منافع المسلمين، خادمًا للعلم وعونًا لأهله آمين. تحية مباركة طيبة مشفوعة بمزيد من التقدير والإجلال. وبعد، يسرنا أن نبعث لفضيلتكم بهذا مستفسرين عن صحتكم الغالية، نرجو الله لكم دوامها مع العفو والعافية. سيدي بلغ توزيعكم لكتب موقوفة في ضمنها نسخة "الدين الخالص" وكنا نودّ مزاورتكم بمناسبة ذلك ولكن ... فهذا نيابة عنّا، نرجو عدم المؤاخذة، كما نرجو ألا تنسونا من الكتب وخاصة الجزء الأول من "فضل الله الصمد" ونسخة "الدين الخالص", ولكم منا جزيل الشكر مع الدعوات الصالحة، والله يحفظكم ويمتعنا بحياتكم الغالية، وسلام الله عليكم. 8 شعبان سنة 1380 من المحبّين المخلِصَين محمد المعلمي، عبد الرحمن المعلمي العنوان: مكة مكتبة الحرم

بسم الله الرحمن الرحيم حضرة السيد الكريم المحسن العظيم صاحب الفضيلة الشيخ محمد نصيف حفظه الله. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. تقدّم قبل هذا إليكم بقيّة الجزء الأول من "شرح السفاريني" ثم القطعة الأولى من الجزء الثاني. وأبعث إليكم الآن القطعة الثانية، وهي مقابل ص 53 إلى ص 112 مطبوعة المنار. ولم تصلني الورقة الثانية من المسوّدة وهي ص 55 - 56، ولا حرج في طبع مقابلها من المسوّدة، لكن لا يرجعونها ويدّعون أنها عندنا. هذا وقد أرسلت مع بقية الجزء الأول الفهرست الخاصّ به، ورتّبت جدول الخطأ والصواب لأكثره، وهو باقٍ عندي حتى أُتمّه فيما بعد إن شاء الله عند تمام طبع البقيّة. وأرجو العفو والمسامحة، والسلام. 15/ شوال سنة 1380 محبكم عبد الرحمن المعلمي

بسم الله الرحمن الرحيم حضرة السيد الكريم المحسن العظيم صاحب الفضيلة الشيخ محمد نصيف حفظه الله. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد، فأبعث إليكم من الجزء الثاني من "شرح السفاريني" 64 صفحة آخرها ص 176، إذا صحح ما فيها من الإصلاح أصبحت قابلة للطبع. وأبعث إليكم أيضًا 13 ورقة طويلة تجارب أوليّة، ومعها ما يقابلها من المسوّدة طبع المنار، وهي صفحات 257 - 288، وبقي عندي أوراق من التجارب مع ما يقابلها من المسوّدة وهو صفحات 297 - 310 سأقابلها وأصححها وأرسلها. والمهمّ أن في الوسط ثماني صفحات لم يرسلوها ولا تجاربها وهي صفحات 289 - 294. والرجاء أن تخاطبوا أهل المطبعة فورًا، فإن لم يكونوا ضيّعوها فليعجلوا إرسالها مع تجاربها. وإن كانوا ضيّعوها فكلّفوا من ينسخها لهم من النسخة الأخرى التي لديكم. والله يوفقكم ويحفظكم، والسلام. 10 محرم سنة 81 محبكم عبد الرحمن المعلمي

بسم الله الرحمن الرحيم حضرة السيد الكريم المحسن العظيم صاحب الفضيلة الشيخ محمد نصيف، حفظه الله. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وصلني كتابكم الكريم المؤرّخ 3/ 2/ 81 وعرفت ما تضمَّنه، وسأعمل إن شاء الله بما رسمتموه، وأحسن الله جزاءكم وأجزل مثوبتكم. ذكرتم "أن فضيلة الشيخ محمد بن مانع طلب نَسْخ ما كتبه الشيخ ابن سحمان في كتابه "تنبيه ذوي الألباب" ويطبع في آخر "شرح عقيدة السفاريني"". وكنتُ أول ما شرعت في تصحيح الشرح فهمت أن المطلوب أن يعلّق كلام ابن سحمان مفرّقًا على المواضع التي يتعلق بها، ولذلك نقلت عامة كلامه في التعليقات على الجزء الأول من الشرح، وقد طبع كذلك، فهل يكفي هذا؟ أم ينبغي مع ذلك أن يطبع كتاب ابن سحمان جملةً في آخر الشرح؟ وذكرتم أيضًا رغبتكم أن يطبع ما في "الكواكب" ص 99 مع الإشارة إلى ما في "طبقات الشَّعْراني" فقد علقت ذلك على بحث الكرامات في الشرح، فإذا أحببتم أن يُعاد في آخر الشرح فعرّفوني. وأسأل الله تعالى أن يبارك لكم في الحلّ والترحال والحال والمآل، والسلام. محبكم عبد الرحمن المعلمي 5/ 2/ 1381

بسم الله الرحمن الرحيم حضرة السيد الكريم المحسن العظيم صاحب الفضيلة الشيخ محمد نصيف، حفظه الله. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وصلني كتابكم الكريم المؤرخ 26 ذي الحجة سنة 80، مع البروفات وقد قابلتها، وأبعثها إليكم ومعها بقيّة الجزء الثاني من المسودّة وهي آخر الكتاب. أما الجزء الحادي والعشرون من "الفتح الرباني" فسأنظر إن كان عندي من السابق، أرجعت لكم هذا المرسل أخيرًا مع الشيخ سليمان (¬1). والباري يحفظكم، والسلام. 28 ذي الحجة سنة 1381 محبكم عبد الرحمن المعلمي ¬

_ (¬1) يقصد: الشيخ سليمان الصنيع.

بسم الله الرحمن الرحيم حضرة السيد الكريم المحسن العظيم صاحب الفضيلة الشيخ محمد نصيف، حفظه الله. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، فأرجو العفو والمسامحة من تأخّر نسخ الجزء الرابع من "الإكمال" والجزء الرابع من "الأنساب"؛ فإنها تأخرت في الهند وفي الطريق ولم تصل إلا أمس، وأبعث إليكم ما يخصُّكم من النسخ وهي (16) نسخة من رابع "الإكمال" و (6) نسخ من رابع "الأنساب"، وأسأل الله تعالى أن يحفظكم ويرعاكم ويبارك في جميع شؤونكم، والسلام. في 22 رجب سنة 1385 محبكم عبد الرحمن بن يحيى المعلمي

رسائل الشيخ إلى العلامة أحمد محمد شاكر (رسالتان)

لله الحمد. العلَّامة المِفضال أبي الأشبال ناصر السنة الشيخ أحمد محمد شاكر أدام الله تعالى توفيقه. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. قبل ثلاث سنوات تقريبًا جاء صديق لي من أهل الفضل بكتاب وناولني إياه، فقرأت عنوانه، فإذا هو كتاب "تأنيب الخطيب ... " للأستاذ محمد زاهد الكوثري، وكنت قد وقفت على تعاليق للكوثري على ذيول "الحفاظ"، وكتب أخرى، فعرفت طريقته، فلم تطب نفسي بمطالعة تأنيبه، فرددت الكتاب على صاحبي فألح أن انظر فيه، فرأيت أن أطيب نفسه بقراءة ورقة أو ورقتين، فلما شرعت أن أنظر في ذلك، رأيتُ الأمر أشد جدًّا مما كنت أتوقع، فبدا لي أن أكمل مطالعته، وأقيد [ما أراه من] ملاحظات على مطاعنه في أئمة السنة وثقات رواتها، فاجتمع عندي كثير منه، طُبع نموذج بمصر في رسالة بعنوان "طليعة التنكيل" لا أراكم إلا قد تفضلتم بالاطلاع عليها. وآلمني أن الفاضل الذي علق عليها تصرف في مواضع من المتن بباعث النكاية في صاحب "التأنيب"، وذلك عندي خارج عن المقصود، بل ربما يكون منافيًا له، وفي النكاية العلمية كفاية لو كانت النكاية مقصودة لذاتها، ثم وقعت في الطبع أغلاط كثيرة، ولا سيما في إهمال العلامات، وعلى ذلك فليس ذلك بناقص من شكري للناشر والمعلق. وأنا الآن مشتغل بتبييض الكتاب، لكن بقيت مُهمَّات لم أهتد إلى مواضعها.

وأنا منذ زمان أحب التعرّف عليكم والاستمداد منكم، فيعوقني إكباري لكم، وعلمي بأن أوقاتكم مشغولة بكبار الأعمال كخدمة "المسند". وأخيرًا قوي عزمي على الكتابة إليكم، راجيًا العفو والمسامحة. أهم الفوائد التي أسأل عنها أمور: الأول: أن الكوثري ذكر أن أبا الشيخ عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان الأصبهاني، روى عن أبي العباس الجمار عن ابن أبي سريح عن الشافعي مقالة مالك في أبي حنيفة .. نعم رأيت رجلاً لو نظر لهذه السارية وهي من الحجارة فقال: إنها من ذهب لقامت حجته. فأحب أن أعرف من أين أخذ الكوثري هذه الرواية، وما هو سندها إلى أبي الشيخ. الثاني: أن الكوثري يقول في أبي الشيخ هذا: "ضعَّفه بلديّه الحافظ أبو أحمد العسّال بحق" فأحب أن أعرف مستند الكوثري في ذلك. وفي ذهني قصة فيها: أن رجلاً من المحدّثين هجر صاحبًا له في حكاية عن الإِمام أحمد تتعلق ببعض أحاديث الصفات، وقال الهاجر ما معناه: لا أزال هاجرًا له حتى يخرج تلك الحكاية من كتابه. هذه حكاية وقفت عليها قديمًا. ولم أهتد الآن لموضعها، ويمكن أن تكون الواقعة لأبي الشيخ والعسَّال وأن تكون هي مستند الكوثري. الثالث: في "تاريخ بغداد 3/ 177": من طريق يونس يعني ابن عبد الأعلى قال: سمعت الشافعي يقول: ناظرت محمد بن الحسن ... الخ.

فالكوثري يزعم أن الخطيب تصرف في هذه الحكاية، والحكاية من وجه آخر عن يونس في "الانتقاء" لابن عبد البر ص 34. وأكاد أجزم أن ابن عبد البر اختصرها، فعسى أن تكونوا وقفتم عليها تامة في غير "تاريخ بغداد"، فأرجو إن تيسر لكم أن تفيدوني عن هذه الأمور الثلاثة. في عزمي أن أفرد من كتابي ترجمة الإِمام الشافعي (¬1) وترجمة الخطيب, لأن الكلام طال فيها فصار كل منها يصلح أن تكون رسالة مستقلة. فهل هناك في القاهرة من الشافعية من ينشط لطبع تينك الرسالتين على نفقته. فإن كان، فأرجو من فضيلتكم أن تعرّفوني حتى أرسلهما إليكم وتنوبوا عني فيما يلزم ... ". ¬

_ (¬1) سمى المؤلف هذه الترجمة "تنزيه الإِمام الشافعي عن مطاعن الكوثري"، وهي ضمن هذه الموسوعة في "مجموع الرسائل الحديثية".

بسم الله الرحمن الرحيم صاحب الفضيلة الأستاذ العلامة أحمد محمد شاكر حفظه الله. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. نرجو أن تكونوا على خير ما يُرام، دائبين في أعمالكم العلمية المجيدة مُعانين موفّقين. ومع العلم بأن أوقاتكم العزيزة مستغرقة بل ضيّقة عما تسمو إليه همتكم من الأعمال والتحقيقات، فلا أرى حرجًا في أن أرجو من فضيلتكم الالتفات إلى أمر آخر له أيضًا أهمية. قد عرفتم هذه المؤسسة الخيرية (مكتبة الحرم المكي) المتصلة بالمسجد الحرام، وعرفتم عظمة مكانها لشرف موقعها وغايتها، ولأنها هي المرجع العلمي لمن يقيم بهذه البلاد ومن يحجّها من سائر الأقطار. وبما أن شمس الإِسلام بزغت من هذه البقعة، فأرسلت أشعّتها إلى جميع جهات العالم، فإن وفود الحجاج من جميع أقطار العالم يتعطّشون إلى اقتباس تلك الأنوار من معدنها. وأعظم ما يهُيئ لهم ذلك هو وفرة الكتب على اختلاف أنواعها في هذه المكتبة، وإن الإدارات التي تسعى في نشر العلم لتجد في [إرسال] بعض الكتب إلى هذه المكتبة أقرب واسطة تحقق بها ما تسعى إليه، وتكون دعاية ناجحةً لها. فالرجاء من فضيلتكم أن تلفتوا نظر أُولي الشأن في دُور العلم لديكم إلى ذلك ولا سيما دار المعارف. الرجاء أن يتكرّموا بإرسال نسخة نسخة من الكتب التي تقوم الدار بطبعها، وما يوجد لديهم مما قد طبع سابقًا. وكذلك

إدارة مجلة "الكتاب" وجريدة مجلة الشرق، فإن المكتبة لا تستغني عنها. وإني إذ أرجو في هذه الإدارات تلبية طلبي، فإني باسم المطالعين في هذه المكتبة أقدّم شكري على ذلك سلفًا، والسلام.

رسائل الشيخ المعلمي إلى الشيخ عبد العزيز بن باز (3) رسائل

بسم الله الرحمن الرحيم إلى حضرة الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز، حفظه الله. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وأسأله أن يوفقنا جميعًا لما يحبه ويرضاه. كانت جرت المذاكرة في حديث مسلم وغيره عن حجَّاج عن ابن جريج: أخبرني إسماعيل بن أمية عن أيوب بن خالد عن عبد الله بن رافع مولي أم سلمة عن أبي هريرة ... الحديث. مع قول ابن كثير: "وقد رواه النسائي في التفسير عن إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني عن محمد بن الصباح عن أبي عبيدة الحدّاد عن الأخضر بن عجلان عن ابن جريج عن عطاء ابن أبي رباح عن أبي هريرة ... الحديث. وقلت أنا: إن ابن جريج - وإن كان مدلسًا - لكنه لا يدلس فيما يرويه عن عطاء. ويُعلَم ذلك من ترجمته في "التهذيب" (6/ 406)، وزعمتُ أن الحَمْل في هذا على الأخضر بن عجلان؛ فإنّ حجّاجًا أثبت منه بكثير، بل هو أثبت الناس في ابن جريج؛ فكأنَّ الأخضر وهم وسلك الجادة: ابن جريج عن عطاء عن أبي هريرة. وأحسبك لم تقنع بذلك. وأنا - أيضًا - في نفسي من ذلك شيء. ثم وجدت في آخر ترجمة عطاء من "التهذيب" (7/ 203): "روى الأثرم عن أحمد ما يدل على أنه كان يدلس، فقال في قصة طويلة: ورواية

عطاء عن عائشة لا يحتج بها إلا أن يقول: سمعت ... وأمس الجمعة جاء إلى المكتبة فضيلة الأستاذ إسماعيل الأنصاري يبحث عن القضية. والبارحة تذكرتُ وأنا في صلاة الوتر ما قيل: إن ابن جريج لم يسمع من عطاء في التفسير، وإنما يروي في التفسير عن عطاء الخراساني، ولم يسمع من عطاء الخراساني وإنما أخذ الكتاب من ابنه عثمان بن عطاء. والقصة في "فتح الباري" في تفسير سورة نوح (8/ 511)، وفي "مقدمة الفتح" (ص/ 372). وترجمة عطاء الخراساني من التهذيب (7/ 214). وحاصلها أن ابن جريج قال: "سألت عطاءً - يعني ابن أبي رباح - عن التفسير من البقرة وآل عمران فقال: أعفني من هذا". ثم كان ابن جريج يروي التفسير من طريق عطاء الخراساني، وكان يقول في روايته: "عطاء الخراساني .. "، ولكن أصحابه ملّوا من كثرة الكتابة فصاروا يقتصرون على "عطاء" اعتمادًا على أنهم قد عرفوا أن ابن جريج إنما يروي التفسير عن عطاء الخراساني. هذا، وعطاء الخراساني لم يسمع من أحد من الصحابة، وابن جريج لم يسمع منه، وإنما أخذ الكتاب من ابنه عثمان بن عطاء. ولا يُدرى ما حال ذلك الكتاب. وعثمان بن عطاء ضعيف جدًّا؛ لكن الذي وقع في البداية والنهاية: " ... الأخضر بن عجلان عن ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح".

ويبعد أن يكون الأخضر وهم في هذا؛ لأنه أخذ الخبر من ابن جريج وابن جريج كان يقول: "عطاء الخراساني" وأصحابه هم الذين اقتصروا في كتابتهم، فلم يكتبوا "الخراساني". أرجو أن تفيدوني برأيكم في هذا، وما تجدد لديكم في هذه القضية. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 21/ 2/ 1378 محبكم عبد الرحمن بن يحيى المعلمي

بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الرحمن بن يحيى المعلمي إلى حضرة صاحب الفضيلة الشيخ العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز، حفظه الله. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وأسأله أن يوفقنا جميعًا لما يحبه ويرضاه. وصلني كتابكم الكريم المؤرخ 10/ 7/ 1378 وعرفتُ ما شرحتم في شأن "فتح الباري"، وقد فكرتُ في القضية فوجدْتُني بين أمرين: إما أن أقبل ثم لا أستطيع الوفاء، وإما أن أعتذر من الآن. فرأيت الثانية أولى، وذلك أن العمل ضخم، ولي مع شغلي بالمكتبة أشغال في كتب أخرى لا ينبغي تأخيرها، وصحتي مع ذلك ليست على ما يرام. فأرجو قبول عذري، والعفو والمسامحة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 22/ 7/ 1378 محبكم عبد الرحمن بن يحيى المعلمي

بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الرحمن بن يحيى المعلمي إلى حضرة العلامة الجليل الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، حفظه الله. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وأسأله أن يوفقنا جميعًا لما يحبه ويرضاه، تناولت كتابكم الكريم المؤرخ 13/ 8/ 1378، وإنه ليشقّ عليَّ جدًّا أن لا أمتثل رغبةَ فضيلتكم، ولا سيما في مثل ذلك العمل الصالح العظيم (¬1)، غير أني كما ذكرت في جوابي السابق لا أتمكن من القيام به. ولم أقل ذلك حتى فكَّرت ونظرت بحسب ما أعرفه من حالي، وحال العمل، وحال من يمكن أن أستعين به، فأسأل الله تعالى أن ييسر لكم الأمر، ويهيئ لكم سبيل القيام به، والسلام عليكم ورحمة الله. ¬

_ (¬1) يقصد العمل على تحقيق كتاب "فتح الباري" كما في الرسالة السابقة.

رسائل متعلقة بضبط نسبة (العندي)

رسائل متعلّقة بضبط نسبة (العَنَدي) (4) رسائل

[رسالتان من الأستاذ فؤاد سيد]

[رسالتان من الأستاذ فؤاد سيد] القاهرة في 10/ 6/ 1965 أستاذنا العلامة الجليل الشيخ عبد الرحمن المعلمي حفظه الله ورعاه. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد، فقد سعدت بتلقي رسالتكم الكريمة المؤرخة 28 المحرم 1385، وحمدت الله على جميل أحوالكم وتمام صحتكم وعافيتكم، وإني لأشكركم على هذه المواصلة القلبية النبيلة، ولا حرج عليكم أبدًا في الإقلال من الكتابة إلى أحبابكم، فالجميع يقدّر ظروفكم ويكفيه منكم ما يحمله قلبكم الكبير من الحب الصافي والمودّة الأكيدة، ويكفي أن نسمع عنكم من طريق إخواننا وأحبابنا، وعلى رأسهم الأخ في الله الشيخ سليمان الصنيع بعضَ أخباركم ونشاطكم وخدمتكم الجليلة لسنة رسول الله وحفّاظها الأمناء، زادكم الله من فضله، وأتمّ عليكم نعمته، ومدّ في عمركم لتحقيق رسالتكم النبيلة النافعة للإسلام والمسلمين. وبخصوص موضوع الوزير "أبو بكر العدى"، وأنا الآن لا أضبطها بالنقط أو بالشكل بعد ما تضاربت فيها الروايات أمام عيني نتيجةً لبحثكم وبحثي الأخير الذي وصلتُ فيه إلى ما يأتي: 1 - في "تاريخ ثغر عدن" لبامخرمة المطبوع في أوربا سنة 1950 يذكر صاحبنا في مواضع كثيرة باسم "العَيِّدِي" مضبوطة بالشكل، ويذكر في

الحواشي القراءات الأخرى التي يراها لهذا الاسم وهي: العَبْدى - العَيْذيّ - العَيِّذيّ - العِيديِّ. 2 - في "خريدة القصر" لابن العماد الأصفهاني، قسم شعراء الشام واليمن والحجاز المطبوع أخيرًا سنة 1964 بتحقيق الدكتور شكري فيصل ترجمة لا بأس بها للرجل من ص 145 ويذكر الاسم فيها "أبو بكر بن أحمد بن محمد العِيْديِّ اليمني" وفي الحواشي يورد الروايات الأخرى التي رآها وهي: العبدي - العَيْدي. 3 - رجعت إلى مخطوطة "الغِيْد في أخبار زبيد" لعمارة اليمني، فرأيت أن الناسخ يذكر الاسم: "العبدي" وترجمته هناك مطولة وحافلة بشعره من ورقة 180 - 232. 4 - في كتاب ابن المجاور "المستبصر" ص 46 يذكره باسم: العبدي، وفي الحاشية: العيدى. 5 - وعند الجندي في "السلوك" ترجمة له في لوحة 156 بقوله: "ومنهم أبو العتيق أبو بكر بن أحمد العبدي [بنقطة تحت الموحدة ونقطة تحت الدال للإهمال] نَسَبًا الأبيني بلدًا، من قومه الأعود [كذا بدون نقط] جماعة يسكنون أبين ولجح وعدن ... ". وقد أنهى الجندي الترجمة بقوله: وكانت وفاة الأديب بعدن سنة ثمانين وخمسمائة تقريبًا. ومن آثاره في عدن المسجد الذي يُعرف بمسجد العبدي [كذا بنقط الموحدة]. ويبدو أن هذه الترجمة هي التي نقل منها الأهدل.

وقد كان بودّي أن أرجع لكتاب "مشتبه النسبة" لبامخرمة، - وهو في الأعم خاص بأهل اليمن والجنوب - حيث عادته أن يضبط الإنساب بالعبارة، إلا أنه مع الأسف ليس في مصر نسخة من هذا الكتاب وإن كنت رأيتها في اليمن. ولا شك أن الأخ هادون العطاس يمكنه أن يكتب إلى من يعرف من العلماء في عدن - وأنا أعتقد بوجود هذا الكتاب هناك - لمراجعة هذه النسبة وضبطها، وإن كنت أخيرًا بعد هذه البلبلة أميل إلى أن الاسم "العندي". وأن القبيلة "الأعنود". هذا وسأكتب من جهتي إلى صديقي العزيز القاضي محمد الأكوع محقق كتاب "الإكليل" وصاحب الخبرة في مثل هذه المسائل، ليبحث القضية معنا لعله يصل إلى حقيقة الأمر. أكرّر شكري لرسالتكم الشريفة، وأدعو لكم بطول العمر، وأسأل الله أن ينفعنا بكم وبعلمكم، ويسدّد خطاكم ويكتب لكم السعادة والهناء والصحة. مع خالص تحياتي واحتراماتي للصديق الكريم والأخ الوفي الشيخ الصنيع. وسأكتب لك قريبًا ردًّا على رسالته التي وصلتني أول أمس فقط. والسلام عليكم ورحمة الله. المخلص: فؤاد سيّد.

القاهرة غرة شوال سنة 1385 أستاذنا الجليل العلامة الشيخ عبد الرحمن المعلمي ... متَّعه الله بالصحة والعافية والهناء. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وكل عام وأنتم بخير وعافية وصحة وسعادة، جعلَ الله كل أيامكم أعيادًا، ومنحكم الصحة والتوفيق ويسّر لكم سبيل الخير والفلاح، وجعلكم من الفائزين المقبولين وبعد: فيؤسفني أن رسالة سيادتكم الأخيرة وصلتني منذ ثلاثة أيام فقط، رغم أنها مؤرّخة في 21/ 5/ 1385، وقد أوضحتُ ذلك لأستاذنا الشيخ الصنيع في رسالتي المرفقة مع رسالتكم هذه. فلا حول ولا قوة إلا بالله. ويهمني أن أذكر لسيادتكم أنه مع الأسف لا يوجد في دار الكتب نسخة مخطوطة من "تاريخ ثغر عدن" حتى أرجع إليها في تحقيق "العبدي". وقد كان لحسن الحظ - عند مطالعتي رسالتكم - بجانبي الأستاذ حمد الجاسر وتناقشنا في صواب النِّسْبة، وقد سبق له اهتمام بها، ولذلك فقد كتب لسيادتكم الورقة المرفقة مع هذا بخطه (¬1)، ولعلها تلقي ضوءًا على صحة النسبة. إنني لأعتذر لكم عن هذا التأخير الذي لم تكن لي فيه حيلة، وأسأل الله ¬

_ (¬1) ألحقنا هذه الورقة بعد رسالتَي الأستاذ فؤاد سيد ورسالة الشيخ البيحاني.

أن يعفو عنا جميعًا ويهدينا سواء السبيل، والسلام عليكم ورحمة الله المخلص فؤاد سيّد

[رسالة من الشيخ البيحاني]

[رسالة من الشيخ البيحاني] تحريرًا في 27/ شوال 1385 هـ حضرة المحترم الشيخ العلامة الجليل بقية المحققين عبد الرحمن بن يحيى المعلمي حفظه الله. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. بلغني كتابكم الكريم المحرر في 15 الجاري وفيه تسألون عن الشيخ العندي، وأشكركم على عظيم ثقتكم وحسن ظنكم بي مع ما تعرفون من قصر باعي وقلة بضاعتي، والمذكور هو أبو بكر بن أحمد بن محمد العَنَدِي بفتح العين المهملة والنون المنقوطة من أعلى مفتوحة أيضًا وبعدها دال مهملة، وهكذا ينطق بهذا الاسم، وهو نسبة على قرية يقال لها (العَنَد) شمال حوطة لحج العاصمة على بعد عشرين ميلًا تقريبًا، وهي تقرب من الشَقْعة بفتح الشين وسكون القاف وبها سكان قليل، وقال لي أحد أمراء لحج أنها كانت قلعة حربية وكان فيها معسكر صغير للجيش البريطاني، والمسؤول عنه أديب فقيه فرضي شاعر مشهور، ولد في (أبين) وطلب العلم في عدن وبرز في معلوماته، وكان للأمير بلال بن جوير المعظمي كاتب يثق به ويعتمد عليه، ولما تو في الكاتب ذُكر له الشيخ أبو بكر العندي فاستدعاه وأعجبه في خلقه وخلقه وأدبه ومقدرته فاتخذه كاتبًا وأسند إليه المهمات فكان وزيرًا، له حيثيته ومكانته عند الأمير بلال المعظمي نسبةً على المعظم محمد بن سبأ الزريعي وعاملًا له في عدن، وتوفي المعظمي في سنة 547 هـ، وعاش بعده العندي نحو ثلاث وثلاثين سنة، وقد استوزره أو استكتبه الملك طفتكين بن أيوب، وهو الذي كتب له رسالة الاستيذان من أخيه صلاح الدين في العودة

من اليمن إلى مصر ومع الرسالة قصيدة طويلة أوردها الأمير أحمد فضل في كتابه "هدية الزمن" صفحة 67 ومطلعها: لولا محلك في قلبي وأفكاري ... ما رنّح الشوق أعطافي وتذكاري ولا التفت على مصر وساكنها ... وقد تعوضت عن مصر بأمصار ولا حننت إلى أرض الشآم وإن ... كانت مطالع أوطاني وأقطاري وللعندي قصائد كثيرة، ومنها قصيدته التي ذكر بعضها ياقوت الحموي في "معجم البلدان" وأوَّلها: حياك يا عدن الحيا حياك ... وجرى رُضاب لَمَاه فوق لماك وافترّ ثغرُ الروض فيك مضاجعًا ... بالنشر رونق ثغرك الضحّاك أما مسجده الذي ذكره حمزة لقمان في صفحة 268 من كتابه "تاريخ عدن والجنوب العربي" فهو غير معروف اليوم وقد سالت الكبار من أهل عدن عن هذا المسجد ولم يعرفوا عنه ولا عن موقعه قليلاً ولا كثيرًا، والمذكور هو أستاذ الشيخ نجم الدين عمارة اليمني، ونسبته إلى الأعنود - قبيلة تسكن عدن وأبين ولحج - غير صحيحة. ولو كان الأمر كذلك لقيل له الأعنودي وإنما هو منسوب إلى قرية (العَنَد). وفي جهتنا ينسب السكان إلى مساكنهم بهذه الصيغة فيقال في أهل قدس: الأقدوس، وفي أهل الحَكْم: بسكون الكاف الأحكوم، وفي أهل العند: الأعنود، وهكذا. وكلُّ ما ورد في ضبط اسمه غير ما ذكرناه فهو مغير ومصحف، فليس هو بالعبدي ولا العيذي ولا العيدي. وليس هو أبو بكر أحمد بن محمد، وإنما هو أبو بكر بن أحمد العندي فاضبطوه فضلاً لا أمرًا هكذا، وإذا تيسر

لكم الوقوف على كتاب "التحفة السنية" للأهدل أو "تاريخ الجندي" أو "ثغر عدن" لبامخرمة أو "كتاب النسب" بكسر النون لبامخرمة أيضًا فستجدون أكثر وأحسن مما تيسر لي في هذه الخلاصة، ومعذرة إليكم من قلة الاطلاع وقلة المصادر التاريخية عندنا، أما ما أشرتم إليه من تقصيركم في المراسلات فلا عتب ولا لوم إلا على مثلي فيما يجب لأمثالكم من أهل العلم والفضل، وأعاذك الله من سوء الخلق أو العجز عن أي واجب أو مندوب، ولعلك تعذرني أنا لما تعلم من حالي. وأرجو أن يكون قد وصلكم القسم الأول من كتابي "أشعة الأنوار على مرويات الأخبار"، من طريق الشيخ عبد الملك بن إبراهيم. والسلام عليكم وعلى من حضر مقامكم الكريم أولاً وآخرًا ودعواتكم مطلوبة وأسأل الله أن يجمعنا قريبًا في خير زمان وأقدس مكان وبعد ذلك في جنات النعيم. محبكم المخلص محمد بن سالم البيحاني الختم (¬1) ¬

_ (¬1) وفيه: إمام وخطيب جامع العسقلاني - محمد سالم البيحاني - مؤسس المعهد العلمي الإسلامي بعدن.

[ورقة من حمد الجاسر]

[ورقة من حمد الجاسر] (¬1) أبو بكر العَنْديُ، لا العَيَدِي، ولا العبدي. ولا العيذي. 1 - أول من غلط وخلط في نسبة هذا الشاعر ياقوت في "معجم البلدان"، وفي "معجم الأدباء"، وقد أورد له نسبتين مختلفتين. 2 - ثم جاء ابن الصابوني فوقع في الغلط، وزاده تخليطًا وغلطًا الأستاذ الدكتور مصطفى جواد بتعليقه حاول فيها أن يصحح فما أصاب. 3 - ثم الدكتور شكري فيصل في تصحيحه للجزء الثالث من كتاب "خريدة القصر" أو الثاني، وقد أشار في آخر الجزء إلى أنني نبهته إلى الصواب، إشارة مبهمة. 4 - إن الصواب في نسبة هذا الشاعر هو (العَنْدي) بالعين المهملة بعدها نون فدال مهملة كما ورد بذلك نصٌّ صريح في كتاب "تاريخ عدن" للسلطان الفضلى، منسوب إلى (الأعَنُود) وأن في عدن مسجدًا يُنسب إلى الشاعر المذكور وقد نقلت نصه في تعليقي على دائرة معارف البستاني المنشور في جريدة الرياض في المحرم 1385 وصفر 1385. ¬

_ (¬1) هذه الورقة ملحقة برسالة الأستاذ فؤاد سيد وهي بخط الأستاذ حمد الجاسر.

[رسالة من أحد العلماء]

[رسالة من أحد العلماء] (العندي صاحب مسجد العندي بعدن) ظهر لنا بعد أن ظفرنا بترجمة العندي في كتاب "هدية الزمن" للأمير أحمد فضل العبدلي، أن من سميتموه ونقلتم ترجمته عن كتاب الصابوني رجل آخر، أما العندي وصاحب مسجد العندي بعدن فهاكم ترجمته: قال أحمد فضل في كتابه (ص 72): قال الأهدل في "التحفة": الأديب أبو بكر بن أحمد العندي نسبة على الأُعنود قوم يسكنون لحج وأَبْين وعدن. أثنى عليه عمارة. مولده أبين، وكان أبوه من أعيانها وكان ولده هذا موفقًا في صغره مسددًا في كبره ثم دخل عدن فقرأ الفقه والأدب والحساب ومهر في جميع ذلك ونظم ونثر. وعدن إذ ذاك بيد الشيخ بلال المحمدي مولي الداعي محمد بن سها الملقب بالمعظم، ولذلك يقال لبلال: المعظمي الزريعي. وكان له كاتب توفي بتلك المدة فاحتاج إلى غيره فدله بعضهم على الأديب أبي بكر بن أحمد فاستدعاه فأعجبه جماله ثم فاتحه في الكلام فازداد عجبه به فولَّاه كتابة يده ثم جعله مدونًا لأموره. وكان لا يقطع أمرًا دونه وراجعه مرةً في حوائج جماعة وفدوا فقال بمحضر من الناس: يا مولاي الأديب! الدولة دولتك والمال مالك، فأجبْ وأثبْ كيف شئت ولمن شئت بما شئت! وكان الأديب أبو بكر يبالغ في إخفاء منزلته عند بلال حتى لا يعرفها إلا الأفراد. قال عمارة - وهو ممن أدرك الأديب -: ولقد كان متى سمع بقدوم قافلة لقيها إلى الباب وسأل عمن فيها من الفضلاء فيسلم عليه ويسأله

النزول معه ويقربه ويبذل جهده في إكرامه ومراعاته. ولما خرج أهل زبيد من ابن مهدي إلى عدن بذل الأديب كرامته وجاهه لأعيانهم، ومالَه وشفقتَه لضعفائهم وفقرائهم حتى دمل كَلْمهم وسدَّ ثلمهم. وكان متى وجد من فاضل زلة مع السلطان اجتهد في العذر له عنها حتى أن أبا طالب الطرائفي قدم عدن ومدح الداعي محمد بن سبأ سنة 536 هـ بقصيدة لأبي الصلت كان مدح بها الأفضل بن أمير الجيش أولها: نسخت غرائب مدحك التشبيبا ... فكفى به غزلًا لنا تشبيبا وأنا الغريب مكانه وزمانه ... فاجعل نوالك في الغريب غريبا ولما قدم القاضي الرشيد أهدى للداعي الديوان فوجد فيه القصيدة فكتب إلى الأديب العندي أن يسير له قصيدة ابن الطرائفي فعلم الأديب أنه قد أدرك علي بن الطرائفي، وكتبها بخطه وألحقها اعتذارًا عن ابن الطرائفي من شعره هذي صفاتك يا مكين وإن غدا ... فيها سواك مديحها مغصوبا فاغفر لمهديها إليك فإنه ... قد زادها بشريف طيبك طيبا وكان مُجيدَ الكتابة والإنشاء، أثنى عليه كتَّاب مصر لما يرد عليهم من مكاتباته. وله أشعار أرق من النسيم وأحلى من التسنيم. وامتحن آخر عمره بكفاف البصر، قال عمارة: حين بلغني ذلك علمت أن الزمان قد سلب بصيرته حين سلب بصره، وأن الأيام طمست بذلك جمالها وأطفأت سراج كمالها. ولما كف بصره أحياه الله بثمرة الخير الذي كان يغرسه فتضاعفت

عنده أهل الدولة وجماعته كأن الزمان أراد أن يخفضه فرفعه، وأن يضره فنفعه. وكانت وفاة الأديب بعدن سنة 580 تقريبًا، وكان من آثاره مسجده المعروف بمسجد العندي بعدن. اهـ. واعلموا أن كتاب الأهدل الذي نقل عنه الأمير أحمد فضل إنما هو "تحفة الزمن". وأما التاريخ الذي رأيته مع سيدي الوالد في مكتبة شيخ الإِسلام بالمدينة فهو "بغية المستفيد في تاريخ زبيد"، وأظنه لابن الديبع مؤلف "قرة العيون في تاريخ اليمن الميمون"، وهذا تصحيح لما ورد في كتابنا لكم. وربما تجدون للعندي ذكر (¬1) في تاريخ "ثغر عدن" لبامخرمة، فقد سمعنا أنه طبع وأخبرني الأخ حامد أنه رأى منه نسخة من المطبوع عند الشيخ محمد عوض باوزير (¬2). ¬

_ (¬1) كذا والوجه: ذكرًا. (¬2) كُتب أسفل الرسالة بخط الشيخ المعلمي: "كتاب من الشيخ محمد بن عوض باوزير إلى السيد هادون: جواب عن كتاب في السؤال عن هذا المسجد ما لفظه: "هذا المسجد غير معروف الآن ... وفي عدن الآن منارة مسجد أمام الميدان .... لا تزال باقية، ولعلها من بقايا هذا المسجد".

رسائل متفرقة من الشيخ وإليه

رسائل متفرقة من الشيخ وإليه

[رسالة المعلمي إلى الصيلمي]

[رسالة المعلمي إلى الصيلمي] بسم الله الرحمن الرحيم سيدي العلَّامة الهمام علم الإِسلام السيد صالح بن محسن الصيلمي حرسه الله. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فأرفع إليك مقالة محب صادق ومصادق غير ماذق، فاعْلم غير معلم: أن الأولى في خطبة الجمعة قصرها ما أمكن اتباعًا للسنة ورفقًا بالمأمومين. فإن فيهم من يشق عليه القعود في مقام واحد مع ازدحام الناس، وعذرُه واضح، فإننا نرى كثيرًا في الجمع تكاد تضطرهم الحاجة إلى الخروج. كيف ومولانا - أيَّده الله تعالى - وأولادُ عمِّه وأعوانُه كلُّهم تنالهم المشقة لإضرار الحرِّ مع الازدحام بهم. وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "أفتَّانٌ يا معاذ؟! " ولم يُرَ أشدَّ غضبًا منه حينئذ. فقصِّروا الخطبةَ، ولتبلغ الأولى قدر سورة الفجر، والأخرى أقصر. وإليكم خطبةً من خُطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، خطب بها ورؤوس العرب حاضرون، وفيهم المؤمن الموقن، والشاك المرتاب، والمنافق والمشرك، وليس معه من يشق عليه البقاء في المسجد لتأذِّي جسم أو نحوه إلا النادر، إذ لم يكن لهم غالبًا أعمال تشغلهم غير العبادات، فكيف اليوم؟ قال الجاحظ (¬1) رحمه الله، قال: "خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - بعشر كلماتٍ، حمد الله وأثنى عليه ثم قال: ¬

_ (¬1) "البيان والتبيين": (1/ 302، 303).

أيها الناس إنَّ لكم معالمَ فانتهوا إلى معالمكم، وإن لكم نهايةً فانتهوا إلى نهايتكم. إن المؤمن بين مخافتين، بين عاجل قد مضى لا يدري ما الله صانعٌ فيه، وبين آجل قد بقي لا يدري ما الله قاضٍ فيه. فليأخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الكبرة، ومن الحياة قبل الموت. فوالذي نفس محمد بيده ما بعد الموت من مُستَعْتَب، ولا بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار". اهـ.

[تقويم كتاب "منتخب في أشعار مشاهير شعراء الهند وترجمته"]

[تقويم كتاب "منتخب في أشعار مشاهير شعراء الهند وترجمته"] أطلعني الأخ الفاضل عبد الصمد صارم الديونبدي ثم الأزهري على طرفته هذه (¬1) التي انتخب فيها أبياتًا أخلاقية لمشاهير الشعراء في الهند، وترجمها إلى العربية نظمًا؛ إجابة لاقتراح بعض أصدقائه من المصريين، فرأيته قد بذل جهده في الوفاء بما التزمه، مع ما في ذلك من الصعوبات. فإن الترجمة نفسها صعبة، فكيف إذا كانت ترجمة شعر؟ فكيف إذا كانت نظمًا؟ فكيف إذا التزم جمع عدة أبيات متفرقة في قطعة واحدة متفقة الوزن والرويّ؟ والترجمة وحدها كافية لفقدان الفرع كثيرًا مما للأصل من المزايا الفنيّة إن لم يفقدها كلّها. مع أن تلك الصعوبات اضطرت المترجم - كما قال - على (¬2) الاقتصار على أخذ المفهوم. وحبذا لو ضم إلى ترجمته النظمية ترجمةً نثرية يتحرّى فيها الدقة؛ فإن ذلك أوفى بمقصود أصدقائه من المصريين، وأَرْعى لحقّ الشعراء الذين ترجم كلامهم، بل ولحق مواطنيه عامة، وهو فاعلٌ ذلك إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) الأصل: "هذا" سبق قلم. (¬2) كذا في الأصل.

بسم الله الرحمن الرحيم الأخ المحترم مدير مجلة الأزهر ... السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. غير خافٍ عنكم ما لهذه المؤسسة الخيرية (مكتبة الحرم المكي) من شرف الموقع وجلالة الغاية؛ فإنها في حضن المسجد الحرام، أشرف بقعةٍ على وجه الأرض، وهي المرجع العلمي لأهل هذا البلد والمجاورين فيه، والألوف المؤلّفة التي تحجّه من جميع أقطار الأرض. فحق على سائر المؤسسات العلمية، ولا سيَّما الدينية، أن تقوم بتعضيدها، وفي المقدمة مجلة الأزهر، فقد كانت تُهدَى إلى هذه المكتبة، فتؤدّي بواسطتها قدرًا صالحًا من مهمتها التي هي الدعوة إلى الحق، ونشر نور المعرفة، ثم احتبست منّا أخيرًا، فرأينا تذكيركم لتعودوا إلى إهداء المجلة لهذه المكتبة كالسابق، ولكم الشكر. والسلام.

بسم الله الرحمن الرحيم الفاضل المحترم مدير مكتبة الأزهر الشريف ... السلام عليكم ورحمة الله وبركاته إن هذه المؤسسة الخيرية (مكتبة الحرم المكي) هي المرجع العلميّ لأهل هذه البلاد والمجاورين بها والقادمين عليها، وفيهم عدد غير قليل ممن يتطلّعون إلى المخطوطات ومواضعها من مكتبات العالم، لطلب شيءٍ منها أو السعي في طبعها أوغير ذلك. فلهذا أرجو أن تتكرّموا بإهداء نسخة من فهرست مكتبة الأزهر إلى هذه المكتبة. هذا وقد أنبنا في استلامها فضيلة الشيخ أحمد بن محمد شاكر ليقوم بتجليدها وإرسالها إلينا. وتقبلوا فائق احترامي.

بسم الله الرحمن الرحيم جناب الفاضل المحترم مدير مجلة "الناشر المصري" سلامًا واحترامًا. وقفت على العدد الأول من مجلّتكم الممتازة. وإنه لعمل جليل تسدّون به فراغًا محسوسًا، وبما أن هذه المؤسسة الخيرية (مكتبة الحرم المكي) هي المرجع العلمي الوحيد لأهل هذه البلاد والمجاورين لها والجموع الكثيرة التي تَفِد إليها من جميع الأقطار؛ فأرجو أن تتكرموا بإهداء المجلة إلى هذه المؤسسة ليطّلع من يَرِد على المكتبة من المطالعين على سير حركة التأليف والنشر بمصر. وذلك مُحَقِّق لمقصود المجلة. وتقبّلوا مزيدَ احترامي.

[رسالة من الشيخ محمد عبد الله صولان إلى الشيخ المعلمي في مسألة في الفرائض]

[رسالة من الشيخ محمد عبد الله صولان إلى الشيخ المعلمي في مسألة في الفرائض] ... أن رجلاً عظيمًا من أكابر الفرضيين بيقين عرض على أحد الطلبة ورقة في أعلاها مسألة في الفرائض، زعم أنها حصلت في زمانه، وأنه أجاب عنها، ويذكر له فيها أنه قصد بها المذاكرة معه والاختبار لا المباهاة والامتحان، كما ستقفون على ذلك في سؤاله بخط يده، فكأنه يفرّق بين الاختبار والامتحان. وكان أسفل السؤال بياض لتحرير الجواب فيه، فألهم الله الطالب بقوله: أرجوكم سيدي أن توضحوا لي الجواب الذي أجبتم به عن هذه المسألة لكي أستفيده منكم، ويبقى لكم أثر عندنا، فإن هذه المسألة عويصة عجيبة لا يحلها سواكم، فشكر الشيخ وضحك منه، وأخذ الورقة المذكورة وغاب عنه. ثم أعادها عليه بنفسها وفي أسفلها جواب غير واضح بخط عامي مختلّ رسم كلماته. فأخذها الطالب منه وقبّل يده وقدمها إليّ، فعملت حسابها - كما ستقفون عليه - أيضًا فلم يتوافق مع حسابه، فأخذتني الحيرة لعلمي بأن الرجل أكبر فَرَضيّ في تلك الجهة بيقين، فأخفيتها وذهب على ذلك زمن طويل. وبينما كنت في هذه الأيام أفتّش في كتبي إذ وجدتها مصادفةً بعد أن راحت من بالي ونسيتها، فاستحسنت أن أقدمها إلى فضيلتكم لأني واثقٌ

بحسابي - كما ستقفون عليه - وعلى يقين بأن الرجل من خِصّيصي هذا العلم، فراجعوها وأرشدوني على خطئي أهو في نصيب الزوجات بتقسيمي له على الخمس كما هو الواجب، أو أخرج ربع الربع للأخيرة وأحصر الأربع الباقيات في ثلاثة أرباعه لأنها متيقنة بخلاف الأربع الأول، فإن البائنة واحدة منهن غير مُعينة. أو الخطأ في غير ذلك سيدي. مع العلم بأن هذه المسألة الآن ليست لأحد ولا ينتظرها أحد سواي، فعلى مهلكم وستقفون على شرحها في الورقة الأصلية، وهي مرسلة مع هذه أيضًا لتكونوا على بصيرة. (ثم ساق المسألة على ظاهر السؤال).

واعلم يا سيدي أنكم إذا صححتم هذه فإني أعتمدها وأخطِّئه، إذ هو بشر، فجلّ من لا يسهو. وإن أرشدتموني إلى موضع الخطأ فأنا المخطئ. فالله يساعدكم ويوفقكم للصواب بمنه وكرمه، وإني لأعلم أني شققتُ عليكم، وأنكم مشغولون، ولكن ماذا أفعل، وليس هنا من أراجعه غيركم فسامحوني. ودمتم ملجأً لكل قاصد. 30/ رجب الحرام سنة 1359 محسوبكم محمد عبد الله صولان

[جواب الشيخ المعلمي على سؤال الشيخ محمد صولان]

[جواب الشيخ المعلمي على سؤال الشيخ محمد صولان] سيدي الأستاذ العلامة الشيخ محمد بن عبد الله صولان أعزه الله. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وصلني كتابك المتضمن المذاكرة في تلك المسألة الفرضية، فتأملتها، فرأيتكم تنعتون المجيب الأول بقولكم: "رجلاً عظيمًا من أكابر الفرضيين"، وقولكم: "أكبر فرضي في تلك الجهة"، وقولكم: "من خصّيصي هذا العلم"، وقولكم مع جلالة قدركم - ولا سيما في هذا الفن -: "ولا أظن أنه مخطئ بل أنسب الخطأ إلى نفسي". فبناء على هذا النعت لا يسعني إلا أن أقول: إن جواب ذلك العظيم صواب، وبناء على ما أعرفه من علوّ مكانتكم - ولا سيما في هذا العلم - لا يسعني إلا أن أقول إن جوابكم صواب أيضًا. وهاكم التوجيه. أما ذلك العظيم فإنه بني جوابه على ثلاثة أمور لم تبنوا أنتم عليها. الأول: أنه جعل للزوجات [الثمن]، وأنتم جعلتم لهنّ الربع. الأمر الثاني: أنه جعل للزوجة الأخيرة ربع ما للزوجات، والباقي منه للأربع الأُول اللاتي أبان المتوفى إحداهن قبل أن ينكح الأخيرة، ثم جُهِل أيّ الأربع هي، (يقسم بينهن سواء). والثالث: أن الشقيقة وهي في المسألة الثالثة، وهي التي جعلتموها الأكدرية. فأما الأمر الأول - وهو جعله للزوجات الثمن (¬1) - يحتمل أنه بناه على ¬

_ (¬1) فوق (الزوجات) كلمة تحتمل (فقط)، وفوق (الثمن) كلمة لم تتبين.

أن الزوجات الخَمْس - ولهن ربع التركة حتمًا إذ لا فرع وارثًا - نَذَرْنَ لبقية الورثة بنصف مالهنّ، أعني بثُمن التركة، يوزع بينهم بحيث يتم لكل منهم ما يكون له لو لم يفرض لهن إلا الثُّمن. وأما الأمر الثاني، فمذهب أصحابنا في هذه الصورة وهي "أن يكون لرجل أربع زوجات فيبين إحداهن وينكح أخرى ثم يموت وتُجْهَل المطلّقة من الأربع الأُول مع معرفة الأخيرة" مذهبهم ما ذكرتموه بقولكم: "أو أخرج ربع الربع للأخيرة وأحصر الأربع الباقيات في ثلاثة أرباعه؛ لأنها متيقّنة بخلاف الأربع الأول، فإن البائنة واحدة منهن غير معينة". ثم يقولون: الثلاثة الأرباع الباقية مما للزوجات لثلاث من الأربع الأول، فيوقف إلى البيان بأن تتعيّن المُبانة منهن، فينقسم على الثلاث البواقي أو الصلح، بأن يصطلح الأربع الأُول أو ورثتهنّ أو بعضهن وورثة الباقي فيقسم الموقوف على ما وقع عليه الصلح. فكأنّ ذلك العظيم بعد أن جعل للزوجات الثمن - على ما تقدم توجيهه - جعل للزوجة الأخيرة ربع ما للزوجات، وأصاب في ذلك في الجملة، ثم بني على أن الأربع الأُول اصطلحن أو اصطلح الموجودتان (¬1) منهن مع ورثة المتوفاتين على قَسْم الموقوف بينهن على السواء. وأما الأمر الثالث؛ فكأنّ ذلك العظيم بني على أن الشقيقة نذرت لشركائها بحصتها تكون بينهم كما لو لم تكن هي موجودة أو فُرِض أنه قام لها مانع من الإرث. ¬

_ (¬1) الأصل: الموجوتان.

وقد رتبت المسألة باعتبار هذه الأمور، فكانت النتيجة طبق جوابه، فاعتبروها إن أحببتم بأن تفرضوا للزوجات الثمن من التركة ثم تقسمونه بينهنّ؛ للأخيرة ربعه كاملاً، وثلاثة أرباعه الباقية بين الأربع الأُول على السويّة، وبقيّة المسألة على ما تعلمون. ثم تفرضون في المسألة الثالثة - التي جعلتموها الأكدرية - أن الشقيقة غير وارثة، فإنكم تجدون النتيجة طبق جواب ذلك العظيم ... فإن قلتم: ليس في السؤال ولا الجواب تعرّض لهذه الأمور! قلت: ترتيبه الجواب على وفقها يدلّ عليها، وكأنه أراد الإلغاز. وافرضوا أنه قال لكم: كيف يمكن تصحيح هذا الجواب في هذه المسألة؟ ألا ترونكم مضطرين إلى فرض تلك الأمور أو ما يصح أن يقوم مقامها؟ على أنه يجوز أن يكون ذلك العظيم بني على ما ذكرت وإنما فرض للزوجات الثمن (وهو يعلم أنه غلط) لمصلحة الاختبار، فأما فرض الصلح فكأنه رأى أنه أقرب مخرج. ويجوز أن يكون عوقب بدعواه وامتحانه، فأوقعه الله عز وجل في غلطتين شنيعتين فاحشتين يبعد أن يقع فيهما أو في إحداهما طالب علم فضلاً عن عالم! وعلى كل حال فقد انجلت عنكم الحيرة إن شاء الله تعالى. وأما جوابكم الذي تضمنه الجدول فقد قدمت أنه لا يسعني إلا الحكم بصحته. ووجه ذلك أن تكونوا فرضتم أن يكون الاشتباه وقع في الخمس معًا، بأن يكون الرجل بعد أن أبان إحدى الأربع ونكح أخرى اشتبهت عليه

المطلقة من الخمس كلهن بأن لم يعد يعرف المطلقة بعينها ولا المنكوحة أخيرًا، وأن الخمس كلهن اصطلحن على أن يقسم الربع الموقوف بينهن بالسوية، أو فرضتم أن الزوجة الأخيرة سامحت الأربع الأُول، قالت: لا آخذ من الربع إلا مثل واحدة منكنّ. وهكذا يمكن تصحيح الجواب الذي ذكرتموه بقولكم: "حتى لو اعتبرت الزوجات أربعًا لا يتوافق مع حسابه قط وقد عملتها" بأن يكون مرادكم اعتبارهن أربعًا طبق حكم الشرع، ثم يعطي الأخيرة ربع الثمن، ويقال: الباقي لثلاث من الأربع الأول ثم يعرفن بأعيانهن فيكون موقوفًا، (ولكنه على هذا لا تصح المناسخة) إلا في حق الزوجة الأخيرة، فأما المتوفاة من الأربع الأول فإنها على الاحتمال لم يحكم لواحدة منهما بشيء، فكيف يقسم بين ورثتها إلا إن كان على فرض البيان أو المسامحة. فإن قلتم: إن تصحيح هذين الجوابين مبنيّ على احتمالات لم تُذْكَر ولا أُشير إليها! فالجواب: أنه يجوز أن تكونوا قصدتم إظهار فضلي لحُسْن ظنكم بي وهذا المعنى أحسن من الاختبار؛ لأن الاختبار قد يكون مع انتفاء حُسن الظن، مع أن الاختبار خير من الامتحان، فإن الامتحان يُشعر بإشقاقٍ على المسؤول، ولهذا شاع إطلاق المحنة على المصيبة. هذا، والجواب الموافق لظاهر السؤال أن يقال: للجدتين السدس، وللزوجات الربع؛ للأخيرة ربعه، وثلاثة أرباعه توقف حتى تتعين المبانة من الأربع الأُول، أو يقع صلح فيُعْمل بحسبه، وأما الباقي فكما ذكرتم.

ثم إذا فرضنا أن الأربع الأُول اصطلحن على قسم الموقوف بينهن على السويّة، أو اصطلح من بقي منهن وورثة من هلك على ذلك عُمِل بحسب ذلك. وقد رتبتها في جدول على الاختصار كما ترونها في ظهر هذه الورقة. ولا أدري لعل في حسابي غلطًا لأني متطفّل على هذا العلم، وقد بَعُد عهدي جدًّا بمزاولة مثل هذه المسائل، فتفضلوا إذا وجدتم خطأً بتنبيهي عليه. هذا وأرجو من فضلكم أن تسعفوني بالمذاكرة فيما يعرض لكم من المسائل، فإن هذا دأب أهل العلم، ويسرّني ذلك جدًّا، فما كان عندي منه علم ذكرته، وما صَعُب عليّ استفدته منكم، وما استغلق علينا معًا تعاونّا عليه، والله الموفق.

[رسالة من أبناء محمد بن يحيى الأهدل]

[رسالة من أبناء محمد بن يحيى الأهدل] {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا} الحمد لله. حضرة القاضي العلامة الحجة وجيه الإِسلام الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي العُتمي سلمه الله. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. لا يخفاكم أن من قضاء الله الذي لا محيص عنه وفاة سيدنا ووالدنا (¬1) السيد العلامة محمد بن يحيى الأهدل، وانتقاله من دار الفناء إلى دار البقاء، فوالله لقد شقّ علينا فراقه وأزعجنا انطلاقه ولكن ما وسعنا إلا الرضى، فالمطلوب الدعاء له بالمغفرة والرحمة، ولنا بالثبات والصبر وحسن الاستقامة. وقد حررنا مكاتيب إلى حضرة مولانا أمير المؤمنين، وسيدنا سيف الإِسلام، أرجو من فضلكم إيصالها إلى حضرتهم، وتناول الجواب منهم وتسليمه إلى رسولنا حامل هذا إليكم. وشريف السلام عليكم ورحمة الله منّا ومن راقمه إسماعيل. وكانت وفاة الوالد يوم الخميس الموافق 11 رمضان سنة 1339. قاسم وعبد الله ابنا محمد بن يحيى الأهدل ¬

_ (¬1) الأصل: "وولدنا" سبق قلم.

بسم الله الرحمن الرحيم من كَلَكته إلى حيدراباد دكين في 11 القعدة سنة 1354 موافق فَروَري سنة 1936 يوم الربوع المبارك. حضرة صاحب الفضيلة مولاي الأجلّ العلامة الشيخ عبد الرحمن اليماني أدام الله بقاءه آمين. بعد إهداء التحية ورحمة الله وبركاته على الدوام لا زلتم بكمال الرفاهية ودوام العزّ. سيدي أخبركم أني من مدة أبحث عن المصحح بدائرة المعارف الجليلة العثمانية، وأمس كنت عند مسافرين حضروا من بلدة رانكون، وصارت (¬1) مذاكرة عن حيدراباد دكن وأحواله إلى أن وصلت بمذاكرتي لأعرف من هو المصحّح بالدائرة المشار إليها. ولما عرفتُ اسمَ سيادتكم بادرتُ (¬2) اليوم بتحرير خطي راجيًا من سيادتكم أن تشاهدوني هناك. سيدي لا يخفاكم أني من أهالي مكة المكرمة، ولي مدة وأنا في كلكته ولما وصلتها وبحثت فيها عن كل شيء فوجدت الكتب العربية مفقودة فيها، وأهلها يطلبوا الكتب من بومبئي وسُوْرَتْ بأسعار زائدة. وبعدها شمرت عن ساعدي، وتوكلت على الواحد الأحد، وفتحتُ مكتبة عربية حجازية، ومن حين وصولي وفَتْحي للمكتبة وهي بفضل الله في التقدّم ففي بعض الأوقات ¬

_ (¬1) الأصل: "وصارة". (¬2) الأصل: "بادرة".

أحتاج إلى مطبوعات دائرة المعارف العثمانية، وطلبت مرارًا منها ولكن مع الأسف ما أتحصّل على الأثمان التي يتحصّلوا عليها المكاتب في بومبئى وسورت، بل يجعلون لي كميشن (¬1) في الربيّة أربعة "آنات" (¬2) والمكاتب الثانية بالنصيفة، ولا عرفتُ كيف أتحصّل على ذاك إلا بتوسط واحد رجلٍ فاضل جليل (¬3) مثل حضرتكم. فإن كان يمكن لكم ذاك فأرجوكم لله ولرسوله الكريم أن لا تبخلوا بجاهكم ولو بطريقة تدلوني عليها أتمسّك بها. وهذي مسألة خيرية يكون الأجر فيها مناصف، والدالّ على الخير كفاعله. واليوم أيضًا حررت جواب للمهتم بهذا الخصوص - وفي ... (¬4) أطلب الدعاء من حضرتكم مع فائق احترامي لكم. ودمتم محروسين بعناية المولى الكريم، آمين. أحمد عبد القادر فيلا التوقيع ¬

_ (¬1) "كميشن" كلمة إنجليزية مستعملة في شبه القارة الهندية بمعنى "العمولة". (¬2) جمع "آنه" كانت في الربيَّة الواحدة ست عشرة "آنه" وفي "آنه" أربع "بيسات". (¬3) الأصل: "جيل". (¬4) كلمة لم تتبين.

[رسالة من القاضي محمد بن عبد الرحيم المعلمي]

[رسالة من القاضي محمد بن عبد الرحيم المعلمي] بسم الله الرحمن الرحيم كوكب الأدباء وتاج النجباء، من تسنّم قُنَن المعالي، وناطح بهمّته كل عالي، سليل الأكارم ... الهدى، الآخذ بمجامع القلوب بلا مرا، زين المفاخر، وحليف .... فتًى من بني تَيْم بن مُرّة أصله ... عليه من الصديق نورٌ ورونق الشيخ العلامة القاضي عبد الرحمن بن يحيى المعلمي أدام الله معاليه، وخلّد لياليه، وحفظ ذاتَه من كل سوء، وصرف عنه الشرور، وتولانا وإياه في جميع الأمور. سلام عليه أطيب من عَرف النسيم، وأحلى من ثمرات النعيم، سلامٌ قولاً من ربّ رحيم، ورضوان كريم من عظيم، ما جنّ ليلٌ، وما غنّت مطوّقة، وما تغنّت هزاراتٌ بالحِمى طربًا. والله المسؤول أن يحفظ علينا وعليكم دين الإِسلام حتى يتوفّانا عليه، وينصر الإِسلام وأهله، ويذلّ المشركين وأهل البدع المضلين. صدورها لأداء واجب التحية عن قلبٍ مشتاق إلى أخلاقكم الرضيّة، وشمائلكم الحسنة البهيَّة، والقلوب بالود لا تنفصم عروته، فليت شعري متى يكون التلاق، ومتى ييسّر أسباب الاتفاق؟ فبيد الله أزمّة الأمور، فهو الملك الخلّاق. وإن سألتم عن المملوك وذويه ففي نعم لا تُحْصَى، لا أُحصي ثناءً عليه. لم يكن ثمة شغل في قلبي غير الشوق إلى لقائكم، والتوق إلى رؤية

محيّاكم، فعندي من الشوق ما لو حُمل بعضه ... لما ذاب، أو لو سكن قلب غيري لذاب ولو كان من الحجار. ما لاح برقٌ أو ترنَّم طائر ... إلا أتيت ولي فؤاد شيِّق ولكن الأمور ... (¬1) من الله تصير، وهو على جَمْعنا إذا يشاء قدير. هذا، وقد حررت هذا من أم القرى مكة المكرمة؛ بلدٌ آمن، وبيت حرام، إذ لو سكنتموه لكان خيرًا لكم، ولعمري أن لو تشرفوا بقومكم للحج لرأيتم ما يسركم ويقر أعينكم، وترون الفرق الجلي بين حجكم في العصر الأول وبين حجكم في عصر صاحب الجلالة الملك الصقر العربي السعودي، خلّد الله ملكه. والمرجو أن لا تنسونا من الجواب الذي ردُّه من السنة والصواب، ويكون العنوان: مكة المكرمة، نزيل الحكومة العربية السعودية، القاضي محمد المعلمي العُتْمي. ومن لدينا الأخ القاضي عبد الرحمن المعلمي العتمي، وأولاد الأخ الشهيد عبد الله ... ومحمد والولد أبو السعود يهدونكم جزيل السلام، كما هو عليكم وعلى أولادكم وإخوانكم بدءًا وختام. أخيكم مستمدّ الدعاء وباذله محمد بن عبد الرحيم المعلمي العتمي 27/ 10/1360 ¬

_ (¬1) كلمة لم تتبين.

بسم الله الرحمن الرحيم من فضل الله - غفر الله له - إلى جامع الفضائل والعلوم مولانا الشيخ عبد الرحمن اليماني لا زال محفوظًا باللطف الرباني. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. سيدي المحترم! قد ذهب بعض خلّاني إلى مصر، فأنا أريد أن أكتب إليه أن يتكلم هو في مسألة الطبع لشرحنا لـ "الأدب المفرد" بجمعية أو ناشر، فأرجو من فضلكم أن تكتبوا على الشرح "تقريظ" أو "تعارف" ليزِنوا به الشرح هذا ويرغبوا في طبعه، وإرسال الشرح من غير وعدٍ لطبعه عسير. واذكروا في أثناء كلماتكم الشريفة أن الشارح قد اجتنب من أنواع الخطأ التي قلما يَجتنب عنها شرَّاح الحديث من أهل الهند، وهذا إن كان من فضلكم، لكن الكتاب صارت منزّهة (¬1) عن أمثال هذه الغلطات، جزاكم الله في الدارين خيرًا وسعادة، وأجزل لكم الحُسْنى وزيادة، طبتم ما دمتم. صديقكم المخلص فضل الله، غفر له الله ¬

_ (¬1) من تأثير الأردية. فلفظ "الكتاب" في الأردية مؤنث.

الحمد لله. 19 القعدة سنة 1373 إلى حضرة الصديق الحميم العلامة المحقق مولانا الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي دام بخير آمين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. كتابكم المؤرّخ 8 جمادى الأولي وصلني، وأشرتم فيه إلى أنكم ستكتبون لي بعد رجوع مدير المكتبة من مصر في شأن الكتب، فبقيت منتظرًا ولكن إلى الآن لم أتشرّف بذلك. وإني على كل حال لا أعتب عليكم خصوصًا من جهة الثلاث الصوافح التي كتبتم للناظم وهو غائب في أمريكا، وبعد رجوعه أمرني أن ألخّص له منها الخلاصة، ففعلتُ، ولكنه لم يفعل شيئًا. وكم حرصت على ابتعاثها ... (¬1) ابتعاثها مضمونة بثمن مقدَّر فيرسلها إليكم كذلك مسجّلًا مضمونًا، ولكنه قال ... من أراد أن يكتبه الصفحة ... فليفعل. وهكذا مررت عليه قبل أيام بعد أن كتب لكم الكتاب، وقلت له في الجواب على رؤوس الأشهاد: أظن أن الشيخ في نفسه شيء؛ لأنه أتعب نفسه في تحريضكم على إرسال ذلك الكتاب لما فيه من الفائدة للدائرة وللمطالعين، ولكنكم لم تلتفتوا إلى كتابته. فقال: ليس الشيخ كذلك، وعلى كل حال بعد ... عبد الله صالح ¬

_ (¬1) كلمة لم تتضح، ومثله ما سيأتي في هذه الرسالة.

الملاحي ... أكّد على أن أعرّفكم بواسطة المذكور أن ترسلوا ما فرغتم منه من "الإكمال". وقال لي: قل للخلافي يقول للشيخ: إن أراد شيئًا فأنا أعطيه، وهذا بعد أن سافر المذكور بيوم، فلم أجد سوى جارنا محمد أكبر ... من سكّان قيمن سعد الله (¬1)، فأعطيته هدية (¬2) لكم، وقد أمر بالشروع في الجزء الخامس من "كنز العمال" وطاوعني أن أبا شداد .... فلم أفعل، فدعا الموصلي فجعله مع طه فشرعوا في التصحيح والحقير وعبد الستار في طبع "ذيل مرآة الزمان" نكاد أن نفرغ من الحصة الأولى في نحو أربعمائة صفحة، ولأنَّ أكثره أشعار إذا ذكر ترجمة لرجل شاعر ذكر من شعره أكثره. نعم وأرجوكم سلمتم كتاب محمد بن سالم الجوهر له، و ... كتاب لتلميذكم أحمد بن سالم باسويدان الديني كتب لي كتابًا، وأرسلت له جوابه مع أحد الحجاج العام، .... بُنّ يمني أرجوكم تسلموه له، والشيخ عبد الله صالح الخلافي اسمعوا منه بالمشافهة أخبار حيدراباد الدكن. هذا والسلام المستمد الفقير عبد الله بن أحمد بن ... (¬3). ¬

_ (¬1) كذا في الأصل. (¬2) تحتمل غير هذه القراءة. (¬3) لم تحرر هذه الكلمة ولعلها "مذحج".

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه. حضرة الوالد الشيخ العلامة الورع شيخنا عبد الرحمن بن يحيى المعلمي، حفظه الله تعالى. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وتحياته ومرضاته. نعم سيدي صدرت رسالتي نائبة عنِّي لمصافحة يديه الكريمتين وناظرة لذاته البهية الطاهرة. أسأل المولي عز وجل أن تكونوا في أتمّ الصحة والعافية، وأن يجعلك ممن شَمِلَتْهم الرحمة وعمّتهم المغفرة بحوله وطَوله. نعم سيدي أُهنِّيك بقدوم عيد الفطر المبارك أعاده الله من السالمين المغفور لهم آمين آمين. وإن سألتم عنّا فنحن في خير وعافية ولم (¬1) معنا شجن سِوى ما شاهده الله يجمعنا بك فيما يحب. وبشأنه المرضى أفاد الدكتور أنه أصاب الرئة قليل مرض وعلاجنا في اليوم والليلة أربع حبوب وثلاث إبر في الأسبوع، ونسأل الله الشفاء للجميع والدعاء منك سيدي مطلوب، جزاك الله خير الدارين. والسلام عليك سيدي ورحمة الله. ¬

_ (¬1) كذا.

وخصوا نفسك بالسلام والوالد عبد الرحمن والولد محمد والإخوان محمد وعبد الله وأحمد وعبد الواحد ومن سأل عنا. والدعاء منك للجميع مطلوب، جزيتم خيرًا، ولك الشكر. وحرر بتاريخ 26 رمضان 1373 هـ معروفك الداعي لك: أحمد صالح دحوان الآنسي.

بسم الله الرحمن الرحيم حضرت صاحب الفضيلة الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي أبقاه الله. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأرجو أن تكونوا بخير. تسلمت رسالتكم الكريمة، وسأقوم بالتأكيد على مولانا صاحب الجلالة حول موضوع كتاب "مصنف عبد الرزاق الصنعاني"، وسأحاول إذا كان موجودًا تعميد بعض أصدقائي للقيام بتنسيخه بخط معتبر وملاحظة أن يكون الناسخ من الفقهاء، وأن يُقابل بعد الفراغ من نسخه، والله نسأل أن يوفق بالظّفَر به، وسامحوا من كل تقصير، وهذا بعَجَل، أرجو دعواتكم والله يحفظكم ويرعاكم. وتقبلوا تحياتي. ولدكم باعشن وشركاه 16/ 6/ 1377

الحمد لله وحده من عدن إلى حيدراباد الدكن. في 11 محرم سنة 1349 موافق 8 جُون سنة 1929. جناب المكرم المحترم حضرة الشيخ الفاضل عبد الرحمن بن يحيى اليماني ... دام مجده. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وصلنا كتابكم المحرر 23 الماضي أسرَّنا وصوله وباشر .... إلى آخره علم .... عن طريق البوسطة مائة وثلاثين ورسة 130 وصلت واستلمناها ... الكتب .... تحت أمركم، والباقي لنا طرفكم سداد .... عشرين جنيه 4 انه 6 ورسم للمعلومية حُرر، والباري يحفظكم، والسلام. صالح عبد الله بارحيم باعشن وشركاه

[رسالة من الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي]

[رسالة من الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي] (الهند) مئو، أعظم كَد بسمه سبحانه حضرة العالم الخبير، الناقد البصير، العلامة الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي حفظه الله تعالى ومتعنا به. السلام عليكم ورحمة الله. وبعد، فإني لا أزال آسى إلى يومي هذا على أني لم أتمكن من اختلاس الفرصة للزورة الأخيرة قبل خروجي إلى المدينة المنورة، والأسف أنه قد مضى على عودتي نحو من خمسة أشهر ولم تمكنني الظروف أن أطالعكم بكتاب من عندي، فالمرجو العفو. وأنهي إليكم أني قد امتثلت أمركم، فطالعت "الأنساب" للسمعاني وأمعنت النظر في تعليقاتكم، فوجدتها والله كثيرة المتعة، وقد سبقتم سبقًا بعيدًا في التحقيق بحيث لا يكاد يجد الناظر فيه مغمزًا، فأجزل الله لكم المثوبة وجزاكم عنا خيرًا. وقد بدت لي أثناء مطالعتي أشياء تافهة دعتني إلى التوقف فأحب أن أعرضها عليكم امتثالاً، لأمركم. "الجزء الأول من الأنساب" ص: 84، الرقم: 35. الآموي: هل الصواب في رسمه الآمويي؟ فإن

البلدة التي على طرف جيحون سماها السمعاني آمويه. فقال: ويقول لها الناس: آمويه (1/ 83). وراجعوا ما علقتم على الباكويي، وآمويه بضم الميم وسكون الواو ليس إلا، ولا أرى أنها تعامل معاملة خالويه كما نقلتم عن "التبصير" (الإكمال 1/ 148). قال شاعرهم: ريكَـ آمُوْى ودُرُشْتيها او ... زيربايم بَرنيارآيدهم "الجزء الثاني" ص: 91، س: 19: سعد بن خيثمة البجلي: الصواب: سعد بن حبتة، راجع الإصابة (سعد بن حبتة وسعد بن بجير) والاستيعاب وغير ذلك وخصوصًا "الإكمال" (2/ 199) (¬1) و (3/ 121). ص: 185، س: 9: سمع ابنه أبا علي - سمع ابنه أبو علي ص: 183، س: 7: وأما سمعته في القناء - أراه من أخطاء المُركَّب (¬2) والصواب "الغناء". ص: 184، س 13: غير أن له كلام حسن في التصوف - غير أن له كلامًا حسنًا إلخ؟ ص: 291، التعليق س: 9. البكتمري، نسبة إلى بكتمر نسبًا أو ولاء، وهو من الأعلام التركية. وفي المسمّين به كثرة، ترجم لبعضهم في "الدرر الكامنة" ولبعضهم في "الضوء اللامع". ¬

_ (¬1) كذا، والصواب: (1/ 199). (¬2) أي الذي يركَّب الحروف عند الطباعة.

ص: 397، التعليق س: 7: البَيْسَرِي، في "القاموس" البياسرة: جيل بالسِّنْد تستأجرهم النَّواخذة لمحاربة العدو، والواحد بَيْسَرِي، ويزيد بن عبد الله البيسري البصري: محدث (مادة بسر). ونحوه في "لسان العرب"، وكتاب "الحيوان" للجاحظ، وقال المسعودي في "مروج الذهب": ومعنى قولنا البياسرة يراد به مَن ولد مِن المسلمين بأرض الهند يدعون هذا اللقب، واحدهم بيسر (كذا) وجمعهم بياسر (). وبهذه المناسبة أقول: إن بَيْسَري الذي ذكرتموه في التعليق على "الإكمال" (1/ 439) نقلاً من "المشتبه" للذهبي ياءه ليست بياء النسب، بل هي ساكنة كما في "القاموس"، وهو مما لا يخفى عليكم ولكن كان ينبغي أن ينبه عليه. "الجزء الثالث" ص: 262، س: 5: كان ينزل سكة طخارانية - الصواب: سكة طخارانبه، بالباء الموحدة والهاء الغير المنقوطة في آخرها، وكان ينبغي (فيما أرى) أن ينقل في التعليق عليه ما ذكره المصنف في (3/ 23) فإن قوله هو المقنع في هذا الباب؛ لأنه مروزي ويذكر ما يذكر عن يقين لا عن ظن. ص: 106: كان ينبغي أن يضاف التوربشتي. ص: 142: التعليق رقم (2) في ك أحمد خطأ - وعندي أنه الصواب؛ لأن أحمد هو الذي يكنى أبا بكر، وأما أخوه محمد فإنه يكنى أبا العباس. راجع "المشتبه" للذهبي (2/ 407) و"اللباب" (2/ 49). ص: 176، التعليق رقم: (3) زائد لا حاجة إليه فقد فرغ منه المصنف (س 11).

ص: 375: الصواب عندي في جوبار وجويبار أنهما بسكون الواو، وتحريكها بالفتحة مما تفرد به ياقوت، وليس بحجة في أمثال هذا. إنما الحجة السمعاني فإنه عجمي وهو أعرف بلغتهم، وحقيقة الأمران جُوْىْ (بمعنى النهر) أو أمثاله من نحو كَُوْى، وكُوْى، ومُوْى، ورُوْى، أعني الكلمات التي في أواخرها الياء الساكنة بعد الواو الساكنة، تستعمل كثيرًا بحذف الياء تخفيفًا في حالتي الإفراد والتركيب جميعًا، فيقولون: موباف، موتراش، رُوْبوش، رومال، كوبكر، كُوْجه، ويقولون: سيه رو، وسيه روى، خوشبو، وخوشبوى، إلى غير ذلك، فكذا يقولون: جويبار، بسكون الواو والياء، ويقولون: جوبار، بحذف الياء، وقد قال السعدي: شد غلام كه آب جو (¬1) آرد ... آبِ جو آمد وغلام بَبُرْد هذا بحذف الياء، وقال: الا اخرد مند فرخنده خوى ... هنر مند نشنيده ام عيب جوى هذا بإثبات الياء الساكنة. ص: 406 س: 5: نيف وعشرين جزءًا - نيفًا وعشرين أو نيف وعشرون؟ هذا ما بدا لي في أثناء المطالعة إلى وقتي هذا، وما يبدو لي فيما بعد فلا آلو - إن شاء الله - من أن أعرضه عليكم. ثم أفيدكم أنه قد ظهر حتى الآن نحو من خمسين صفحة من كتاب ¬

_ (¬1) في الأصل الخط فوق الشاهد هنا، وفي المواضع الآتية.

"الزهد" للإمام عبد الله بن المبارك بتحقيقي، فإن أذنتم لي بإرسال الملازم المطبوعة أرسلتها إليكم. لتردوها بعد إبداء ملاحظاتكم مشفوعة بكلمتكم القيمة عن الكتاب وتحقيقه ونشره. الهند، مئو، أعظم كَدهـ بنهان نوله 14/ 6/ 1385 والسلام مشفوعًا بالاحترام أخوكم حبيب الرحمن الأعظمي

وأعود فأقول (¬1): إنه كان من المناسب زيادة "الجرهى" في التعليق (ج 3 ص255) والمشهور بهذه النسبة عبد الرحيم بن عبد الكريم الجرهي وابنه محمد، وهما من رواة "مشكاة المصابيح". وهي نسبة إلى قرية من قرى شيراز، كما في "الأمم لإيقاظ الهمم" (ص 69). وقولكم في التعليق على "الإكمال" (3/ 185): وعبارة الأمير أمامك إلخ. وأرى أن قول الحافظ هو الصواب، ويدل عليه قول الأمير "ويروى أيضًا عن العباس بن شبيب" ومعنى كلام الأمير أن الخطيب جعل أبا الجلال الزبير بن عمر بالحاء المهملة، والمستغفري بالجيم. وأبو الجلال بخاري كرميني يعني أنه من أهل بلاد المستغفري وهو أعرف بهم. ووقع في "الإكمال" (3/ 303): "وأخرج إلى كركس" ولم أفهمه فهل الصواب: "إلى كس"؟ فقد مضى في (3/ 111): "وتوفي بكس". وأسأل الله تعالى أن يتيح لي الفرصة، ويوجه لي الأسباب حتى أستسعد بالمجاورة بالبلد الحرام عدة أشهر، والسلام. حبيب الرحمن الأعظمي ¬

_ (¬1) تابع للرسالة السابقة، استدركه الأعظمي بعد ما انتهى من رسالته.

رفع الاشتباه عن معنى العبادة والإله وتحقيق معنى التوحيد والشرك بالله

آثار الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي (2) رفع الاشتباه عن معنى العبادة والإله وتحقيق معنى التوحيد والشرك بالله تأليف الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني 1312 هـ - 1386 هـ تحقيق عثمان بن معلم محمود بن شيخ علي المجلد الأول وفق المنهج المعتمد من الشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد (رحمه الله تعالى) تمويل مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

بسم الله الرحمن الرحيم

راجع هذا الجزء محمد أجمل الإصلاحي عبد الرحمن بن حسن بن قائد

مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية SULAIMAN BIN ABDUL AZIZ AL RAJHI CHARITABLE FOUNDATION حقوق الطبع والنشر محفوظة لمؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية الطبعة الأولى 1434 هـ دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع مكة المكرمة - هاتف 5473166 - 5353590 فاكس 5457606 الصف والإخراج دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

مقدمة التحقيق

مقدمة التحقيق إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 71]. أما بعد .. فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار (¬1). ¬

_ (¬1) هذه خطبة الحاجة، وقد وردت من حديث ابن مسعود، أخرجه أحمد (1/ 392) وأبو داود (2/ 238 ح 2118) والترمذي (3/ 404 ح 1105) والنسائي (3/ 85) وابن ماجه (1/ 609 ح 1892)، وأخرجه مسلم (3/ 11 - 12 ح 867، 868) من حديثي جابر وابن عباس مختصرًا. وقد أفردها العلَّامة الألباني برسالة مستقلة.

هذه رسالة العبادة للعلَّامة عبد الرحمن بن يحيى المعلِّمي، وهي عظيمة القدر لجلالة الغرض الذي أُلِّفت من أجله، وهو تحديد معنى العبادة التي يكون صارفها لله وحده مسلمًا موحِّدًا، وجاعل شيء منها لغيره مشركًا مندِّدًا، وقد اقتضى ذلك من المؤلِّف أن يستقرئ كتابَ الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وكتبَ التفسير والحديث واللغة والتاريخ وغيرها. وقد جمع فيها المؤلِّف علمًا جمًّا، وحرَّر المسائل التي بحثها تحريرًا بالغًا. والمعلِّمي ممن أوتي فهمًا في الكتاب والسنة، وحاز أدوات البحث والتحقيق، فإن يمَّمت شطر علم التوحيد بفروعه ألفيتَه قائد لوائه، ويشهد على ذلك كتابه "القائد إلى تصحيح العقائد" و"دين العجائز أو يسر العقيدة الإِسلامية"، و"رفع الاشتباه عن معنى العبادة والإله وتحقيق معنى التوحيد والشرك بالله"، وهو مشهور بكتاب "العبادة"، وهو الذي أقدِّم له هنا، و"عمارة القبور" و"التأويل"، ورسائل كثيرة. وإن نظرت إلى علوم الحديث روايته ودرايته, فهو حامل رايته, ومرصّع جواهره، وقد كتب رسالة "أحكام الجرح والتعديل وخبر الواحد"، و"الاستبصار في نقد الأخبار"، و"العمل بالحديث الضعيف"، وحرَّر رسالة "علم الرجال وأهميته"، وألّف "الأنوار الكاشفة لما في كتاب (أضواء على السنة) من الزلل والتضليل والمجازفة"، فدافع فيه عن السنة النبوية دفاعًا مجيدًا. وصنّف كتابه البديع "التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل" الذي طبقت شهرته الآفاق. وحقَّق "التاريخ الكبير" للبخاري، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم الرَّازيِّ، و"الأنساب" للسمعاني، و"الإكمال" لابن ماكولا.

فلا غَرْوَ أن وَصَفَه الشيخ محمد ناصر الدين الألباني بأنه من أهل التحقيق في هذا العلم الشريف (¬1) (يعني علم الحديث). وظهرت ملكته الفقهية فيما درسه من مسائل فقهية شائكة، سواء في كتابه التنكيل، أو بحوثه المفردة، كرسالة الربا ورسالة المواريث في نحو ثلاثين رسالة فقهية، إضافة إلى فتاوى كثيرة في مسائل متفرقة. وله جهود جيِّدة في التفسير برزت في تفسيره لسورٍ وآيات أفردها بالتفسير، مثل تفسيره للبسملة والفاتحة، وتفسيره لسورة البقرة، وتفسيره لسورة الفيل، وآيات متفرِّقة في كثير من السور، وأفرد بعضها بتأليف مستقلٍّ مثل: تفسير قوله تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ}، وتفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا}. وأما العربية فهو ابن بجدتها ومالك ناصيتها، سهَّل الله له التعبير عن المعاني التي يريدها بأسلوب جمع بين جزالة اللفظ وجماله، وسلامة المعنى ووضوحه، وله كتب في النحو، وبحوث في البلاغة ومنشأ اللغات. وقد درس حياته العلمية عددٌ من طلبة العلم، فكتب الأخ منصور بن عبد العزيز السماري رسالة ماجستير مقدَّمة إلى الجامعة الإِسلامية بالمدينة النبوية بعنوان "الشيخ عبد الرحمن المعلمي وجهوده في السنة ورجالها" وطُبعت عام 1418 هـ. وأعدَّ الأخ أحمد بن علي يحيى محمد بيْه رسالة ماجستير مقدَّمة إلى الجامعة نفسها بعنوان "منهج المعلِّمي وجهوده في تقرير عقيدة السلف" ونوقشت في 25/ 7/ 1416 هـ. ¬

_ (¬1) التنكيل 1/ 438 - الطبعة القديمة (التعليق).

وكتبتْ هدى بنت خالد بالي رسالة ماجستير بعنوان: "عبد الرحمن المعلمي وجهوده في السنة" وهي مقدَّمة إلى قسم الدراسات الإِسلامية في كلية التربية للبنات بمكة المكرمة. وأفرده الأخ أحمد بن غانم الأسدي بترجمة سمّاها: (الإمام عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني حياته وآثاره). وفي مقدمة هذه الموسوعة ترجمة حافلة للشيخ. وقد حبَّب الله إليَّ هذا العالم، وحبَّب إليَّ كتاباته، فاستفدتُّ منها في دروسي وبحوثي، منذ نحو ربع قرن، ولم أفكر في تحقيق شيء من كتبه إلاَّ قريبًا. ومن الكتب التي طال انتظارُ أهل العلم لها رسالة "العبادة"، واسمها الكامل "رفع الاشتباه عن معنى العبادة والإله، وتحقيقُ معنى التوحيد والشرك بالله". فأحببت إخراجها للناس أقربَ ما تكون إلى ما أراده المؤلِّف، لكنَّني اصطدمت بعائق النقص الكبير الموجود في الكتاب، فيسَّر الله بمنِّه وفضله تكميل معظم النقص، وسأشرح ذلك بإذن الله عند الحديث عن طبعتنا. وقد مهَّدتُ للرسالة بدراسة تضمَّنت التعريف برسالة العبادة، وبيان منهج التحقيق، ووصف النسخ. ****

التعريف برسالة العبادة

التعريف برسالة العبادة * أوّلاً: عنوان الكتاب: اسم الكتاب كاملاً: "رفع الاشتباه عن معنى العبادة والإله وتحقيق معنى التوحيد والشرك بالله". كذا ذكره المؤلف في مقدمة رسالة "حقيقة البدعة" (¬1). وقد يختصره أحيانًا إلى "رسالة العبادة" (¬2)، وهو أكثر استعمالًا. * ثانيا: تحقيق نسبة الكتاب إلى المعلِّمي رحمه الله: ثمَّة أمور تؤكد ثبوت نسبة هذا الكتاب للمعلِّمي، من ذلك: 1 - أنه قلَّما يخلو كتاب من كتب المعلِّمي المطبوعة والمخطوطة من الإشارة إلى رسالته هذه، والإحالة عليها. فمن ذلك كتابه "التنكيل" (¬3)، قال فيه عن رسالة العبادة: "هو كتاب من تأليفي، استقرأت فيه الآيات القرآنية ودلائل السنة والسيرة وغيرها؛ لتحقيق ما هي العبادة، ثم تحقيق ما هو عبادة لله مما هو عبادة لغيره". ¬

_ (¬1) ضمن مجموع رسائل العقيدة، ص 87. (¬2) المصدر السابق ص 108 - 113 أحال فيها على رسالة العبادة أربع مرَّات، وانظر: رسالة "تفسير سورة الفاتحة", فقد أكثر فيها من الإحالة على رسالة العبادة، فقد وجدت في ص 90 - 92 منها ستَّ إحالات إلى رسالة العبادة. (¬3) التنكيل 2/ 435 - ضمن هذه الموسوعة، وانظر: الحاشية السابقة أيضًا.

* ثالثا: تاريخ تأليف المعلمي لكتابه العبادة

2 - الكتاب كثير منه بخطِّ المعلِّمي. ومَنْ له أُنس بكتب الشيخ المخطوطة لا يرتاب في خطِّ الشيخ، مع قرب العهد، وتسلسل هذه المعلومة بطريق الثقات. ومسوَّدات الكتاب دالَّة على ذلك. 3 - وقد ذكره له جُلُّ مَن ترجم له (¬1). 4 - وذكره المؤلف في إحدى محاضراته في دائرة المعارف في حيدراباد (¬2)، ولخص فيها الباعث له على جمع ذلك الكتاب والطريقة التي سلكها. 5 - وقد أشار في هذا الكتاب إلى أن له رسالة مستقلة في حكم العمل بالحديث الضعيف (¬3). 6 - في الرسالة إشارات إلى أمور شاهدها في اليمن وفي الهند، وهما البلدان اللذان قضى فيهما أكثر حياته (¬4). * ثالثًا: تاريخ تأليف المعلِّمي لكتابه العبادة: أشار المؤلف إلى هذا الكتاب في كتابه التنكيل، مما يؤذن بتقدُّمه عليه أو مقارنته له، وقد كان المعلِّميُّ أثناء تأليفه للتنكيل في الهند، ويؤكّد ذلك ما نقله زكريا عبد الله بيلا عن المعلمي من قوله وهو يتحدَّث عن الطليعة: ¬

_ (¬1) انظر مثلاً: مجلَّة العرب 1/ 245 مقال خير الدين الزركلي، والأعلام 3/ 342 له. (¬2) كما في دفتر مسودات صور برقم 4930 في مكتبة الحرم المكي. (¬3) انظر ص 249. (¬4) انظر ص 256، 752، 923 لذكر اليمن، و264، 683 - 684 لذكر الهند.

*رابعا: أهمية الكتاب وقيمته العلمية

"فإني لما أرسلت من الهند إليه الكتاب للاطلاع عليه ... " (¬1). ثم وقفت في إحدى مسوَّدات الشيخ بالرقم العام 4930 على مسوَّدة محاضرة أعدَّها المؤلف لإلقائها في المؤتمر العلمي الذي تعقده دائرة المعارف العثمانية في حيدراباد في الهند كل سنة، قال في بداية المحاضرة: "كان وكنت مشغولاً منذ مدة بجمع كتاب في تحقيق معنى الإله والعبادة في الإِسلام فاقتطعت منه فصلاً أعرض ملخصه على مسامعكم". فقطعت جهيزةُ قولَ كلِّ خطيب، وثبت بذلك أنَّ تأليف الكتاب كان والشيخ في حيدراباد الدَّكَن من الهند؛ وقد كان خروجه من الهند أوَّل أوْ ثاني ذي القعدة من عام 1371 هـ (¬2)، فيكون تأليف الكتاب قبل هذا التأريخ؛ إلاَّ أنَّ المؤلِّف لم يزل يعيد النظر في كتابه ويضيف إليه ويحذف منه، كما تدلُّ على ذلك مبيَّضة الكتاب الأولى وما تلاها. * رابعا: أهمِّية الكتاب وقيمته العلمية: تكمن أهمية الكتاب في كونه يعالج أمرًا مهمًّا يتعلَّق بأصل الدين، ألا وهو تفسير كلمتي العبادة والإله، اللَّتين على فهمهما يتوقَّف فَهمُ معنى كلمة التوحيد التي هي أساس الإِسلام وقاعدته، وقد وقع في الكلمتين اشتباه عريض وغفل أكثر العلماء المتأخِّرين عن دفع هذا الاشتباه لأسباب ذكرها المؤلف (¬3)، "والشأن إنما هو في تحقيق ما غُفل عنه" (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: الجواهر الحسان في ترجمة الفضلاء والأعيان من أساتذة وخُلاَّن 2/ 564. (¬2) كما في حديثه عن رحلته إلى الجزيرة (المخطوط رقم 4721). (¬3) انظر: رسالة "تفسير سورة الفاتحة" ص 107. (¬4) انظر: رسالة "تفسير سورة الفاتحة" ص 108.

وأما قيمة الكتاب العلمية فتتَّضح من مكانة مؤلِّفه الإِمام المعلمي، وتضلُّعه من مختلف الفنون التي لا بدَّ منها في خوض غمار مثل هذا الأمر العظيم. ثم مما أبداه من التحقيق العلمي والتدقيق الجليِّ في هذا الكتاب، وقد قال عنه: "استقرأتُ فيه الآيات القرآنية ودلائل السنة والسيرة وغيرها لتحقيق ما هي العبادة، ثم تحقيق ما هو عبادة لله مما هو عبادة لغيره" (¬1). ثم من كونه لم يسلّم زمامه لأحد من الأئمة فضلاً عن غيرهم، بل (¬2) كما قال عن نفسه يستقي مسائله من عين الأدلة غير مقلِّد لأحد في هذا الأمر. هذا مع كونه لا يُغفل أقوال الجهابذة، بل يجمع شتاتها وما تفرَّق منها في هذا الأمر العظيم، فاستخرج من أقوالهم جملة من الدُّرَر، منها ما هو صريح فيما توصَّل إليه، ومنها ما هو مستلزم له قطعًا، "ولكنها خبايا في الزوايا وشذرات في الفلوات" (¬3). والمعلِّمي ذو اطّلاعٍ واسع فلا غرو أن يأتي باللآلئ الخفيَّات من بطون المحيطات. فتبيَّن مما ذكرنا أنَّ الكتاب مهمٌ في مسائله، قيِّمٌ في تحقيقاته، فريدٌ في بابه، حريٌّ بالنشر والمطالعة والمدارسة. ¬

_ (¬1) التنكيل 2/ 435. (¬2) انظر نسخة (س) من كتاب العبادة 24 ب. (¬3) انظر: رسالة "تفسير سورة الفاتحة" ص 107.

* خامسا: موضوع الكتاب ومنهج المصنف فيه

* خامسًا: موضوع الكتاب ومنهج المصنِّف فيه: أ - أما موضوعه فيكفينا في الدَّلالة عليه عنوانه؛ إذ هو "رفع الاشتباه عن معنى العبادة والإله، وتحقيقُ معنى التوحيد والشرك بالله". ولم يُحْوِجْنا المؤلِّف إلى تتبُّع سطور كتابه للتَّهَدِّي إلى موضوع رسالة العبادة، بل صرّح به في عدّة مناسبات، في الكتاب نفسه، وفي غيره من كتبه، ولا يسعنا إلا أن ننقل شيئًا من ذلك، فمنها: قوله في رسالة العبادة (¬1): "واعلم أنَّ موضوع هذه الرسالة هو البحث عن حقيقة التوحيد، ووزنُه بهذه الكلمة الطيبة [يعني: لا إله إلا الله] التي جعلها الشرع عَلَمًا له ليتضح شأن الأمور المختلف فيها، أمنافية هي للتوحيد أم لا؟ والغالب أن الجاهل بمعنى لا إله إلا الله يكون جاهلاً بحقيقة التوحيد، ومَن كان كذلك يُخْشَى عليه أن يكون مشركًا وهو لا يشعر، أو أن يَعْرِضَ له الشرك فيقبله وهو لا يدري، أو أن يرمي غيره من المسلمين بالشرك بغير بيِّنة، وكلا الأمرين خطر شديد". وقوله في رسالة الشفاعة (¬2): "قد جمعتُ رسالة مطوَّلة في تحقيق العبادة المطلقة، أي: أعمّ من أن تكون لله عَزَّ وَجَلَّ أو لغيره، فوجدتُ عبادة غيره تشابك مسألة الشفاعة بحيث لا يمكن تحديد العبادة ما لم تتحدَّدْ الشفاعة وما يتعلَّق بها". ¬

_ (¬1) ص 22 من نسخة (أ). (¬2) ضمن مجموع رسائل العقيدة, ص 301.

وقوله في خطبة نخب الفوائد من الأصول والقواعد: "جمعتُ رسالة في تحقيق معنى العبادة ومعنى الإله لينكشف بذلك معنى كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) ويتضح ما يكون تأليهًا وعبادةً لغير الله تعالى وشركًا به ممَّا ليس كذلك، وحاولتُ استيفاء النظر في ذلك" (¬1). هذا موضوع الكتاب الإجمالي، ومحوره الذي يدور عليه. وأرى ألَّا أترك موضوعات الكتاب التفصيليَّة التي تناولها بالشرح والبيان دون إعطاء القارئ نُبذًا دالَّة عليها، كاشفة حجابها، فأقول ملخِّصًا (¬2): * بدأ المؤلِّف رسالته ببيان الباعث له على الكتابة في هذا الموضوع، ثم عقد بابًا عنونه بـ "تحتُّم العلم بمعنى لا إله إلا الله، وفيه شرائط الاعتداد بقولها" بيَّن فيه أهمَّ شروط لا إله إلا الله، ومن أعظم تلك الشروط: شرط العلم بمعناها؛ إذْ مَنْ لا يعرف معناها لا يُؤْمَنُ عليه أنْ يقع فيما يَنْقُضُها. وأن يكون قولها على سبيل الاعتراف والتصديق والتسليم والرضا. وأهمُّ تلك الشروط على الإطلاق: شرطُ التزام الشاهد مدَّة حياته أن يعبد الله ولا يشرك به شيئًا؛ لأن الشهادة إعلان بقبول ما أرسل اللهُ به رسولنا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - مِن تصديق أخباره والانقياد للأمر والنهي، وأوَّل ذلك الأمر بعبادة الله وحده واجتناب الشرك أسوة بما أُرسلت به سائر الرسل، قال تعالى لنبيه: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران: 64]. ¬

_ (¬1) صفحة ملحقة برسالة البسملة والفاتحة. (¬2) ومن أراد التوثُّق من صفحات ما سأسرده فليستعن بفهرس الموضوعات.

* ثم عقد الشيخ بابًا ثانيًا عنونه بـ "باب في أنَّ الشرك هلاك الأبد حتمًا وأنَّ تكفير المسلم كفر" بيَّن فيه أنه لا ينبغي للمسلم أن يتهاون بهذا الأمر لأنه أصل الدِّين، وأورد الآيات والأحاديثَ المتعلَّقة بهاتين المسألتين: مسألة خطورة الشرك، وقضية رمي المسلم بالشرك من غير بيِّنة، وأوضحُ دليل من السنة على المسألة الأخيرة قولُه - صلى الله عليه وسلم -: "مَن قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدُهما"، وعَقد له البخاري بابًا سماه: باب بيان حال إيمان مَنْ قال لأخيه المسلم: يا كافر. * ثُمَّ عقد المؤلف بابًا ثالثًا في أصول ينبغي تقديمها: الأصل الأول: حجج الحق شريفة عزيزة كريمة، بيَّن فيه أن الله خلق الخلق لعبادته، وخلقهم قابلين للكمال، ومكَّنهم من العمل؛ لكنهم لا ينالون الجنة والدرجات العالية إلا بمقاساة عناء ومشقة، وهو الابتلاء، ومِنْ لازم الابتلاء الاختلافُ، ومن لازم الاختلاف استحقاقُ بعضهم الجنة وبعضهم النار. وطلبُ حجج الحق من جملة العبادة، ولا بد أن يكون دون منالها عناء ومشقَّة. الأصل الثاني: الحجج والشبهات. بيَّن فيه أنَّ الحجج العلمية تَعْتَوِرُها بواعث على الخيانة فيها، وموانع من الخيانة فيها، وأساس ذلك الهوى الذي يتفاوت قوَّة وضعفًا، والتشبُّث بالشبهات الكثيرة. ويعارضها المانع الدنيوي؛ وهو الخوف من الفضيحة بين الناس إذا عاند الشخص وردَّ الحجج بالشبهات الساقطة. الأصل الثالث: إصابة الحق فيما يمكن اشتباهه.

تلبَّس بتلك المحدثات، فبقي على إسلامه، فتبعه ابنه في الإِسلام، فيبقى له حكم الإِسلام، إلى آخر نقاشه القويِّ المفحم (¬1). ثم أفاض في أحوال الكفار الذين لم يدخلوا في الإِسلام، وفصَّل أحكامهم بما ينبغي مطالعته. * وبعد فراغه من هذا الفصل شرع في الكلام وعلى الباب الرابع الذي عقده لبيان أمور يستند إليها بعض الناس، ويستدلُّون بها على إثبات هذه الأمور المحدثة في العقيدة، وهي غير صالحة للاستناد إليها. ومنها: التقليد، وقد بيَّن الشيخ عدم كفايته في بناء أصول الاعتقاد عليه، بدلالة الأدلَّة التي اشترطت العلم بمعنى لا إله إلا الله، كقوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19]، وحديث سؤال القبر الذي فيه: "وأما المنافق والكافر - وفي بعض الروايات: المرتاب - فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، كنت أقول كما يقول الناس، وأما المؤمن فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدَّقت" ولا يخفى أيُّ الرجلين المقلِّد. والمعنى الدقيق للتقليد هو العمل بقول مَن ليس قولُه إحدى الحجج بلا حجَّة (¬2). ولم يقصد الشيخ مِن منع التقليد إيجاب النظر على طريقة المتكلمين، بل يرى النظر على طريقة السلف، وهو أمر متيسِّر لكل أحد، حتى العامَّة. ¬

_ (¬1) انظر ص 157 - 163. (¬2) تيسير التحرير 4/ 241.

وعلى طالب الحق إذا اختلف عليه العلماء أن ينصب نفسه منصب القاضي، فيسمع قول كل واحد منهم وحجَّته، ثم يقضي بالقسط. وأكثر العلماء المنتسبين إلى المذاهب لم ينصبوا أنفسهم منصب القضاة، بل نصبوا أنفسهم منصب المحامين، فلا يسمع من أحد منهم إلا كما يسمع القاضي من المحامي. قال الشيخ: إذا كان الأمر كما علمت في تقليد العلماء، فما بالك بتقليد المنسوبين إلى الخير والصلاح بدون أن يكونوا أئمة في العلم؟ والحامل للناس على تقليد مَن يُنسب إلى الخير والصلاح اعتقادُ العصمة فيهم، وسببُ اعتقادهم العصمة فيهم اعتقادُ الولاية فيهم، والباعثُ على اعتقاد الولاية فيهم ظهورُ الخوارق على أيديهم، ثم برهن الشيخ على أن ظهور الخوارق لا يدلُّ على ولاية مَن ظهرت على يده. وأكثر ما يُنقل من تلك الخوارق اخترعها مريدوهم زاعمين أنَّ ذلك يُقرِّبهم إلى الله وإليهم. ثمَّ ذكر أقسام الخوارق وأنَّ منها معجزة للأنبياء، وكرامة للأولياء، ومنها إهانة للدَّجَّالين، واستدراج لبعض الدَّجَّالين كالدَّجَّال الأعور ليمتاز المؤمن عن علمٍ ومعرفةٍ مِن غيره. وذكر الشيخ من الخوارق الشعبذة، وقوَّة نفسيَّة تُكتَسبُ بالرياضة التي أساسها الجوع والسَّهَر والخلوة وجمع الفكر، وما يُسمَّى بالكشف، وهو لا يعدو أن يكون نوعًا من الرؤيا في أحسن أحواله. * وأما الأمر الثاني الذي يستند إليه كثير من أهل زماننا في الاعتقاد هو أنهم يحتجُّون بآيات من كتاب الله تعالى، ويفسِّرونها برأيهم بما لم يُنْقل عن السلف ولا تساعده اللغة العربية ولا البلاغة القرآنية، وهكذا يصنعون

بالأحاديث الثابتة، فينبغي للمسلمين ألَّا يغترُّوا بأحد يحتجُّ بالكتاب والسنة على الأمور المشتبهة. * والأمر الثالث الذي يستند إليه كثير من الناس هو الاحتجاج بالأحاديث الموضوعة والضعيفة، وكذلك بالآثار المكذوبة عن السلف، أو التي لم تصحَّ. ويحتجُّ بعضهم بالضعيف مع اعترافهم بضعفه قائلين بأن فضائل الأعمال يُتسامح فيها، مُغْفِلين أنَّ الفضائل إنما تُتَلقَّى من الشارع فإثباتها بالحديث الضعيف اختراع عبادة، وشرعٌ في الدين لما لم يأذن به الله. * وذكر المؤلِّف من الأمور التي يستند إليها بعض الناس في باب العقائد: مجرَّد العقل والقياس، مع أنَّ للعقل حدًّا ينتهي إليه كما أن للبصر حدًّا ينتهي إليه، وللعقل أغلاط دقيقة وخفيَّة أشدّ من أغلاط الحواسَّ الأخرى. وقد حكى الله عن طوائف من المشركين استنادهم إلى مجرَّد رأيهم وقياسهم في عبادتهم غير الله زاعمين أنهم بشركهم معظِّمون لله، وأنهم ليسوا بأهلٍ أن يعبدوا لله مباشرة لحقارتهم، ولا بدَّ من واسطة يتوسَّطون بها. ويحتجُّ بعض الناس بآيات من كتاب الله أو سنة ثابتة عنه - صلى الله عليه وسلم - ويغفل أو يتغافل عن عدَّة آيات أو سنن أخرى تعارض استدلاله , فإنَّ الكتاب والسنَّة كالكلام الواحد. ومن الناس مَن تغلب عليه العصبيَّة للرأي الذي نشأ عليه، ويستغني بمحبته لذلك الرأي عن أن يتطلَّب له حجَّة، ويمتنع من أن يُصغي إلى الأدلَّة التي يتمسَّك بها مخالفُه.

* وقد خاض في مسألة التوحيد مَنْ لم يكن له علم راسخ بالقواعد، ويقع اللَّوم على مَن صدَّره ونَحَلَه العلمَ والإمامة بغير استحقاق، مع أننا نجد أفرادًا لا يؤتَون من جَهْل بالقواعد وإنما يؤتَون من مخالفتها. والقواعد هي ما تشتمل عليه علوم الاجتهاد من إتقان اللغة العربية وطول الممارسة لها، ومعرفة أصول الفقه على وجه التحقيق لا التقليد، ومعرفة مصطلح الحديث وطرفٍ صالح من معرفة الرجال ومراتبهم وأحوالهم، وكثرة مطالعة كتب الحديث حتى تكون له مَلَكَة صحيحة في معرفة العِلل والترجيح بين المتعارضات، ومعرفة السيرة النبوية وأحوال العرب قبل الإِسلام. وكذلك معرفة العلماء ومراتبهم، وكثرة تدبُّر كتاب الله. ولْيَكُنْ فهمه مطابقا للقواعد العلميَّة، مع الإخلاص ومجانبة الهوى والتعصب وحبِّ الجاه والشهرة، مع المحافظة على الطاعات والتنزُّه عن المعاصي بقدر الاستطاعة، والإكثار من دعاء الله أن يوفِّقه للحق. ويلتزم باحترام العلماء والصالحين، وإن خالف بعضَهم لدليلٍ فلا يحتقرهم. * ونبَّه المؤلِّف على قاعدة مهمَّة وهي: وجوب حمل النصوص على ظاهرها، والظاهر قد يترقَّى إلى القطع إذا عَضَدَتْه ظواهر أخرى. * ومن الناس مَن يتهاون بقضيَّة الفصل بين التوحيد والشرك قائلاً: "إنما الأعمال بالنيات"، والحديث إنما تعرَّض للفصل بين الأعمال الشرعية التكليفيَّة وبين غيرها، فأما أحكام تلك الأعمال فإنما تؤخذ من الأدلَّة الأخرى، والكافر إذا زعم أنه يتمسَّك بكفره طاعةً لله وتعظيمًا له فإنَّ قصده ذلك لا ينفي عنه اسم الكفر ولا حكمه، بل يغلِّظه عليه ويكون كفرًا على كفر.

ثم ختم هذا الفصلَ بقوله: "وبالجملة فتحقيق ما هو شرك وما ليس بشرك متوقف على تحقيق معنى كلمة التوحيد". فذكر أنه يظهر من صنيع بعض علماء الكلام أنَّ معنى (إله) هو المعنى الذي يعبِّرون عنه بـ (واجب الوجود). و"الأمم كلها لا تشرك في وجوب الوجود حتَّى الثَّنَوِيَّة، وقد حكى القرآن عن الأمم المشركين ابتداء من قوم نوح وانتهاء بمشركي العرب الذين بعث فيهم محمد - صلى الله عليه وسلم - أنهم يعترفون بتفرد الله بالخلق والرَّزْق والإحياء والإماتة والتدبير". قال المؤلَّف: ومن العجائب أنك تجد في هذا العصر كثيرًا من طلبة العلم - إن لم أقل من العلماء - يتوهَّمون أن المشركين يعتقدون في الأصنام وغيرها أنها واجبة الوجود قادرة على كلّ شيء، خالقة، رازقة، مدبِّرة للعالَم. * وتبيَّن مِن بحث الشيخ وتحقيقه في هذه المسألة أنَّ اتخاذ الشيء إلهًا لا يتوقَّف على اعتقاد كونه واجب الوجود، ولا اعتقاد كونه مستغنيًا عمَّا سواه، ولا كونه مدبِّرًا مستقلًّا، بل ولا غير مستقلٍّ؛ فإنَّ الذين ألَّهوا الأصنام لم يعتقدوا لها شيئًا من التدبير. قال العزُّ في قوله تعالى: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97 - 98]: "وما سوَّوهم به إلاَّ في العبادة والمحبة دون أوصاف الكمال ونعوت الجلال". * ثمَّ قرَّر المؤلِّف برهان التمانع الذي دلَّت عليه بعض آيات القرآن فقال: "تقرير هذا البرهان أنه لو كان مع الله تعالى أحياء يدبِّرُ كلٌّ منهم الخلق والرزق ونحوهما من الأمور العظمى في العالم تدبيرًا مستقلًّا لاختلفوا،

وإذا اختلفوا فسدت السموات والأرض. كما أن الأمور الصغيرة التي يدبِّرها الناس مستمرة الفساد. ولا ريب أن قدرة الناس لو تتناول نحو إنزال المطر ومنعِه، وإرسال الرياح وحبسها، وتيسير الهواء ورفعه، وتحريك الزلازل ونحو ذلك، لكان الفساد أظهر. ومعلوم بالمشاهدة أن الأمور العظمى لا يتطرَّق إليها الفساد، وما قد يظهر في بعضها مما يُتَوهَّم فسادًا تُعْلَم مصلحته عند التدبُّر، فعلم بذلك أنه ليس في العالم مع الله تعالى أحياء كلٌّ منهم يدبِّر تدبيرًا مستقلًّا .... " إلخ. * وذكر المؤلِّف أنَّ برهان التمانع يجتثُّ شُبَه المشركين من أصلها، فلا يثبت للروحانيّين ما يزعمه بعضهم من أنَّ لها تدبيرًا ما، وأنَّ الملائكة والجنَّ وأرواح الموتى كذلك. * وذكر المؤلِّف بعض الأمور التي قد يفهم منها بعضُ الناس أن الملائكة غيرُ معصومين كقصَّة هاروت وماروت، وأطال في الجواب عن ذلك. * وعَنْوَن لتفسير الإله بالمعبود، ونقل عن علماء التوحيد قولهم: إن حقيقة معنى الإله: المعبود بحقًّ، وفسَّره بعضهم بالمستحقِّ للعبادة، ونقل ألفاظ عدد من المفسّرين معبِّرة عن هذا المعنى، وأن الألوهيَّة هي العبادة وأن الإله هو المعبود الذي لا تنبغي العبودية إلا له، لا شريك له فيما يستوجب على خلقه من العبادة. * والقول بوجود إله غير الله تعالى إن كان بمعنى مستحق للعبادة فشركٌ، وإن كان بمعنى معبود بالفعل غير مستحقًّ فلا، فأمَّا اتِّخاذ إله غير الله تعالى فشرك مطلقًا، وهذا ممَّا لا خلاف فيه بين المسلمين.

* ثمَّ عرَّج على إيضاح معنى العبادة في اللغة والاصطلاح فنقل عن أهل اللغة ما حاصله أربعة تعريفات: 1 - الطاعة. 2 - الطاعة التي يُخْضَع معها. 3 - غاية التَذَلُّل، أو أقصى درجات الخضوع. 4 - التَألُّه أو الطاعة مع اعتقاد أن المُطاعَ إله. فناقش هذه التعريفات واحدًا بعد آخر، ثم عقد بابًا في تحقيق معنى كلمة (إله) ومعنى كلمة (العبادة) وما يلحق ذلك، وبيَّن أنَّ هاتين الكلمتين تكرَّرتا في القرآن كثيرًا، وباستقراء مواضعهما وتدبُّر مواقعهما تنجلي حقيقة معناهما. قال: أمَّا إطلاق كلمة (إله) على الله تبارك وتعالى، و (العبادة) على طاعته، وكلَّ ما يُتقرَّب به إليه، فأمر لا يحتاج إلى بيان. قال: وأما غير الله فقد حكى الله عن المشركين اتخاذهم بعض المخلوقات آلهة كالأصنام والعجل والهوى والشياطين والأحبار والرهبان والمسيح وأمّه عليهما السلام والملائكة وأشخاص خياليَّة لا وجود لها. وأما العبادة فأخبر الله عزَّ وجلَّ أنها وقعت للأصنام والشياطين والشمس والأحبار والرهبان والمسيح وأمّه عليهما السلام والملائكة وأشخاصٍ متخيَّلةٍ. فاتَّخذ قوم نوحٍ الأصنام آلهةً وعبدوها، واتَّخذوا جماعةً من الصالحين الذين ماتوا قبلهم آلهةً.

واتَّخذ قوم هودٍ عليه السلام أشخاصًا متوهَّمةً آلهةً وعبدوها. وعبد قوم صالحٍ مع الله تعالى غيره، واتَّخذ قوم إبراهيم عليه السلام الأصنام آلهةً وعبدوها، وعبدوا الشيطان، وعظَّموا الكواكب. واتَّخذ أهل مصر في عهد يوسف عليه السلام أشخاصًا متوهَّمةً وعبدوها، وادَّعى فرعون أنه إلهٌ وأطاعه قومه. واتَّخذ القوم الذين مرَّ بهم قوم موسى أصنامًا وعكفوا عليها، وسمَّاها أصحاب موسى آلهةً، وسألوه أن يجعل لهم إلهًا مثلها، واتَّخذ بعض قوم موسى العجل إلهًا، ثم اتَّخذوا الأحبار آلهةً وعبدوهم. واتَّخذ النصارى عيسى وأمَّه عليهما السلام إلهين من دون الله وعبدوهما، واتَّخذوا رهبانهم آلهة من دون الله وعبدوهم. واتَّخذ مشركو العرب الأصنام والملائكة والشياطين وأشخاصًا متخيَّلةً آلهةً وعبدوها. قال المؤلِّف: فطريق البحث أن ننظر فيما كان هؤلاء القوم يعتقدونه في تلك الأشياء وما كانوا يعظِّمونها به، فإذا تبيَّن لنا ذلك علمنا أنَّ ذلك الاعتقاد والتعظيم هو التأليه والعبادة. ثم أفاض الشيخ في تفصيل ما كان يفعله هؤلاء الأقوام مع معبوداتهم، وإلامَ كانت أنبياؤهم تدعوهم، وبَرْهَن على أنهم لم يكونوا ينكرون وجود الله، مستدلًّا بالآيات القرآنيَّة على وجهٍ رئيسٍ ومثنِّيًا بأحاديث وآثارٍ تدلُّ على ذلك، وأدلُّ دليلٍ على ذلك أنهم قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف: 20] , {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ

مَلَائِكَةً} [المؤمنون: 24]، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87]. وقولُ الرسل لأقوامهم: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [فصلت: 14] ظاهره أنهم كانوا يعبدون الله في الجملة ولكنهم يشركون به. وابتداء الرسل بهذا يدلُّ أن المرسَل إليهم لم يكونوا يجحدون وجود الله عزَّ وجلّ، بل قولهم: {لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً} [فصلت: 14] نصٌّ في أنهم كانوا يعترفون بربوبية الله عزَّ وجلّ وأنه لا ربَّ غيره، ويعترفون بوجود الملائكة عليهم السلام. وذكر الله عن المشركين أنهم دعوا آلهتهم ونادوها واتَّخذوها أربابًا وشركاء وأندادًا، وذكر أدلَّة ذلك وشرحَها بما يحسن الرجوع إليه. وأورد على نفسه سؤالًا مضمونه: كيف تسمَّي مَن لا يعبد الله بل يقتصر على عبادة غير الله مشركًا؟ فأجاب بأنه: قد وُجد معبودان من حيث الواقع، أحدهما: معبود ذلك الشخص، والآخر: المعبود بحقًّ الذي يعبده الملائكة ومَن شاء الله من خلقه، فصحَّ أن يُسمَّى ذلك المعبود بالباطل شريكًا، وأن يُسمَّى عابده مشركًا. قال: وأما قول المؤمن: (لا إله إله الله وحده لا شريك له) فإنه يريد - والله أعلم - لا شريك له في الألوهيَّة، أي في المعبوديَّة بحقًّ. * وقرَّر الشيخ أنَّ المشركين كانوا يقصدون بعبادتهم الإناثَ الخياليّات التي زعموا أنها بناتُ الله، وأنها هي الملائكة، وأنَّه إذا جاء ذكرُ معبوداتهم غيرَ مُبَيَّن، فالأَولى أن يُفسَّر بها؛ لأنَّ ذلك هو صريح اعتقادهم، فأمَّا الملائكة فإنما عبدوهم على زَعْم أنهم هم الإناث الخياليَّة، ولم يكونوا يقصدون عبادة الشياطين، وأمَّا الأصنام فإنما كانوا يعظَّمونها تعظيمًا لتلك

الإناث على أنها تماثيل لها. * ثم دلف المؤلف إلى بيان اعتقاد المشركين في الأصنام، وبين أنهم إنما عظموها على أنها تماثيل أو رموز للإناث الوهميات التي هي في زعمهم بنات الله عز وجلَّ، وهي عندهم الملائكة، ثم أورد الآيات التي يستدل بها بعض أهل العلم لتقرير خلاف ما قرَّره المؤلف وأجاب عن استدلالاتهم. * ثم أطال بوجهٍ خاصًّ الكلام على قوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر: 43 - 44]. * ثم أورد المؤلف على نفسه سؤالين قبل الخروج من بحث الأصنام، أولهما: أنه جاءت آثار كثيرة في شأن اللات تخالف ما قرَّره في اعتقاد المشركين في الأصنام. والسؤال الثاني: أن لهم أصنامًا مذكَّرة الأسماء كهبل ومناف، فكيف يكون هذا المذكَّر رمزًا للإناث التي هي الملائكة في زعمهم؟. ثم أجاب عن السؤالين بعد تقديمه كلام أهل اللغة والتفسير في اللات عن اشتقاقها، وأين كانت، ومن كان يعبدها؟ *ثم ذكر الشيخ أن المشركين كانوا يتمسحون بالأصنام ويعكفون عليها ويضمَّخونها بالطيب ويتقاسمون بالأزلام عندها, ولم يجد الشيخ نصًّا صريحًا في أنهم كانوا يسجدون للأصنام ولا أنهم كانوا يدعونها، ثم أبدى احتمال أنهم كانوا يدعونها في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ

فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا ...} الآيات [الحج: 73 - 76]، وحقَّق تفسيرها. * ثم انتقل المؤلف إلى بحث اعتقاد المشركين في الملائكة وذكر أنه يتلخَّص في طمعهم في أن الملائكة يشفعون لمن يعبدهم وأن الشفاعة تنفعهم، ومعلوم أن الملائكة لا يرضون أن يُعبدوا من دون الله، فالمشركون إنما عبدوا الشيطان الذي زيَّن لهم عبادة الملائكة. وأطال المؤلِّف في بيان بطلان اعتقاد المشركين في الملائكة. قال المؤلِّف: فلم يبق أمام المشركين إلا شبهتان، إحداهما: التشبُّث بالقدر. الثانية: التقليد، وجلَّى الشيخ المقام بإيراد الآيات الدالَّة على إبطال هاتين الشبهتين. * ثم بيَّن الشيخ كيف كان تأليههم للملائكة، فذكر أن المشركين كانوا يشركون في التلبية في الحج بالإناث الخياليات التي هي الملائكة في زعمهم. وكانوا يتخذون الأصنام تماثيل أو رموزًا لتلك الإناث، وكانوا يسمون عبد اللات، عبد العزى، عبد مناة، وكانوا يُقْسمون بهذه الأسماء ويذكرونها عند الذبح، وكانوا يجعلون لهم نصيبًا من أموالهم يصرفونه في تطييب الأصنام. * ثم تكلم الشيخ عن اعتقاد المشركين في أهوائهم، وأنهم أطاعوا أهواءهم لما أطاعوا رؤساءهم في شرع الدين. قال الشيخ: وإنما لم يكثر هذا المعنى في القرآن استغناءً بذكر تأليههم للشياطين، فإن تأليه الهوى يلزمه تأليه الشيطان؛ لأنه المتلاعب بالهوى.

* ثم تعرَّض لبيان اعتقاد المشركين في الشياطين وأنهم كانوا يعتقدون أنَّ ما يوحونه إليهم في شرع الدين حقٌّ، ولكن لم يعلموا أنَّ ذلك من وحي الشياطين، بل يظنُّونه من رأيهم واجتهادهم. وفيما يتعلَّق بأعمالهم ألزمهم الله بأنهم يعبدون الشياطين لكونهم يأخذون دينهم عن غير حجة ولا برهان، بل بمجرَّد التخرُّص والتخمين. * وبيَّن الشيخ أن العكوف على الصنم هو المكث عنده بهيئة الأدب زاعمين أنَّ ذلك تعظيم لمن جُعل الصنم تمثالاً له، بل يعدُّون ذلك عبادة لله عزَّ وجلَّ؛ لأنه في زعمهم يحب ذلك ويرضاه، ولذلك نرى مشركي الهند يتحرَّون لدعاء الله عزَّ وجلَّ أن يكون عند الأصنام. * ثم فسر آيات النجم {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22)}. واختار تفسيرها بقول ابن زيد: جعلوا لله عَزَّ وَجَلَّ بنات، وجعلوا الملائكة لله بنات، وعبدوهم وقرأ: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ} الآية, وقرأ: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ} الآية, وقال: دعوا لله ولدًا، كما دعت اليهود والنصارى، وقرأ: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}. * ثم تكلم عن قصة الغرانيق، وبيَّن أن الكلمات التي ألقاها الشيطان لم تكن من القرآن، بل القرآن يبطل هذا لقوله تعالى: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} فبيَّن أن تلك الكلمات - إن صحَّت - من إلقاء الشيطان، ولكن قد يجوز أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قال كلمات أثنى بها على الملائكة, وقد أثنى الله

تعالى على الملائكة في مواضع كقوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26)}. فالذي يظهر من هذه العبارة أنهم لم يفهموا من تلك الكلمات إلا ما أراده - صلى الله عليه وسلم - من الثناء على الملائكة ولكنهم زعموا أن ذلك الثناء يدل على جواز اتِّخاذ الملائكة آلهة. فالعرب إنما كانوا يعظمون هذه الأصنام الثلاثة تعظيمًا لأشخاص معظمين، وليست هذه الأصنام إلا تماثيل أو تذكارات لأولئك الأشخاص كما هو شأن عَبَدَة الأوثان في كلَّ أمة، وبذلك صرَّح المحققون. والأقرب فيما نحن فيه أن المشركين لما كانوا يعبدون إناثًا غيبيات، قالت الشياطين: ليست هناك إناث غيبيَّات إلاَّ منّا، أما الملائكة فليسوا بإناث، فكلما قال المشركون: فلانة بنت الله - تعالى الله عما يقولون - وعبدوها، عيَّنت الشياطين واحدة من إناثهم كأنها هي تلك الأنثى التي يعبدها المشركون. ونجد القرآن مملوء بمحاجة المشركين في تأليه الملائكة وقلَّما نجده حاجَّهم في تأليه الجمادات. * ثم تكلم عن عبادة الشياطين وأوضح أن الأشخاص الغيبية التي عبدها العرب ليست هي الملائكة لأنها إناث والملائكة ليست كذلك، ولأنها بنات الله في زعمهم وليست الملائكة كذلك. فعبادتهم في الحقيقة إنما هي عبادة للشياطين، أوَّلاً: لما تقدم مرارًا أنهم أطاعوا الشياطين الطاعة التي هي عبادة.

ثانيا: أن الشياطين أنفسهم تصدَّوا لهذه العبادة قائلين: إن هؤلاء يعبدون إناثا غيبيات وليس هناك إناث غيبيات إلا من الشياطين فعرَّضوا إناثهم لتلك العبادة. * ثم انتقل إلى الكلام على عبادة الهوى وفسره بأن يطيعه ويبني عليه دينه، لا يسمع حجة ولا ينظر دليلاً. * ثم شرع في تفسير عبادة الأصنام، فذكر أنهم كانوا يعبدون الأصنام على أنها تماثيل للإناث الخياليات، أعني ما زعموه أن لله بنات وأنهن هن الملائكة، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا. * ثم ذكر أسباب تعظيم المجوس للنار. وعبادةَ بني إسرائيل العجل، هل كانت بدعوى أن الله حل في العجل، أو أن العجل رمز لله؟ وناقش المسألة من جوانب عدَّة. * ثم دلف إلى الكلام على عبادة الأناسي الأحياء وأرواح الموتى، وبيَّن أنهم كانوا يزعمون أن أولئك الموتى يشفعون لمن يعبدهم، أو أن الله عز وجل يثيب من يعبد أولئك الموتى لما كانوا عليه من الصلاح. * ثم تحدث عن تأليه المسيح وأمه، وذكر أن النصارى يؤلَّهون مريم ويعبدونها كما يؤلَّهون عيسى ويعبدونه، وقد عُلم أنهم لم يقولوا في مريم إنها واجبة الوجود ولا قديمة ولا أنها جزء من الله تعالى، ولا أنها تخلق وترزق وتنفع وتضرُّ وتغفر الذنوب، فثبت بذلك أن التأليه والعبادة لا يتوقفان على اعتقاد شيء من هذه الصفات في المعبود وأن اعتقادهم هذه الصفات في عيسى أمر زائد على التأليه والعبادة.

ومن عبادتهم عيسى عليه السلام إشراكُهم إياه في كلِّ عبادة تكون لله تعالى لزعمهم أنه جزء منه وتعظيمهم لصورته ولصورة الصليب لمشابهتها للصليب الذي صُلِب عليه فيما زعموا. ومن تعظيمهم لأمه تعظيمُ صورتها والاستغاثة بها. * ثم استفاض في الكلام على قوله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ}. وحاصل المعنى: أنَّ مَن علم الله منه الأمر بالشرك لم يؤته النبوة، ومَن آتاه النبوة عصمه عن الأمر بالشرك. * ثم عقد عنوانا في تأليه الأحبار والرهبان وبيَّن أن اتِّخاذهم بعضهم بعضًا أربابا هو ما كان بطاعة الأتباع الرؤساءَ فيما أمروهم به من معاصي الله وتركهم ما نهوهم عنه من طاعة الله. * ثم فسَّر عبادة الأحبار والرهبان كيف تكون؟ وبيَّن أنَّ شرع الدين خاصٌّ بالربِّ، فمن ادَّعى أنَّ له حقًّا أن يشرع وأنَّ ما شرع يكون دينا فقد ادَّعى الربوبية، ومَن قال في شخص إنَّ له حقًّا أن يشرع وأنَّ ما شرعه يكون دينًا فقد اتخذه ربًّا وجعله شريكًا لله عزَّ وجلَّ. * ثم تناوَل المؤلِّف تفسير عبادة القبور والآثار بإيجاز، مبيِّنًا أنها عُبِدت تعظيمًا للأشخاص التي هي تماثيل لهم. * وفَسَّر عبادة الجنِّ، وأنها تقع بالاستعاذة بهم والنذر لهم والذبح لأجلهم زعمًا أنَّ مَن قرَّب للجن شيئًا فإنهم ينفعونه ويكفُّون عنه أذيَّته أو يدفعون عنه ضرر بعضهم أو يبيَّنون لهم شيئًا مغيَّبًا بواسطة الكُهَّان.

* وبيَّن الشيخ أن الذين عبدوا الكواكب إنما عبدوها لأنها بمثابة الأجسام للملائكة التي هي أرواح، ومثّل بعضُهم الكواكب بصور معينة تخيّلوها ويعبدون تلك التماثيل. * وأوضح الشيخ أنَّ قوم هود كانوا يعبدون أشخاصًا لا وجود لها، وكانوا يعتقدون في آلهتهم نوعًا من القدرة على النفع والضر، ولعلَّ ذلك كان على معنى أنَّ آلهتهم يسألون الله أن ينفع أو يضرَّ. * ثم تحدَّث الشيخ عن ديانة المصريِّين وعبادتهم في عهود إبراهيم ويوسف وموسى عليهم السلام، وفصَّل الشيخ تفصيلًا بديعًا في دعوى فرعون الإلهيّة وحقيقتها، وأنه شرع لقومه أن يعبدوه، وهو يعبد الملائكة. * ثم تعرَّض الشيخ لبيان تأليه العرب الإناثَ الخياليَّات، وقد وبَّخ الله هؤلاء المشركين على قولهم: إن لله ولدًا، ثم على قولهم: إن ذلك الولد إناث، ثم على قولهم: الملائكة إناث، ثم على قولهم: {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} فدلّ أنَّ كلّ أمر من هذه الأمور منكر على حِدَة، وتأليهُ الشيء وعبادته لا يتوقَّف على زَعْمِ أنه واجب الوجود أو أنه الخالق، أو خالق آخر، أو ابن الخالق، أو نحو ذلك. * ثم فسَّر الشيخ كيف كانت عبادة الملائكة، وبيّن أن عُبَّاد الملائكة ما عدا أتباع أرسطو فريقان: فريق يزعمون أن الملائكة يتصرَّفون باختيارهم، وفريق لا يثبتون للملائكة اختيارًا إلاَّ في الشفاعة، ومنهم مشركو العرب. * ثم عقد عنوانًا سماه: (تفسير عبادة الشيطان)، وذكر لها وجوهًا: أولها: طاعة الشياطين في شرع الدين على نحو ما مرّ في الأحبار والرهبان.

والوجه الثاني: أن الشياطين رأت أنه لا وجود لما يدّعيه المشركون من الإناث الغيبيات بزعم أنهن بنات الله وأنهن الملائكة، فعمدت شيطانة فتسمَّت بالعزّى ولزمت الصنم المجعول للعُزَّى، وقس على ذلك. * ثم بيّن الشيخُ أنَّ عبادة الهوى: طاعته فيما لا ينبغي أن يُطاع فيه إلا الربّ، وأنها من قبيل عبادة الأحبار والرهبان. * وبعد شرحه المستفيض لعبادات أصناف المشركين والكفار ابتداء من قوم نوح وانتهاء بقوم عيسى عليهما السلام؛ عقد عنوانا سماه: (تنقيح المناط) (¬1)، وهو بيت القصيد في كتابه، أراد به تحديد ما يدخل في العبادة وما لا يدخل فيها، فقال: "مدار التأليه والعبادة على أمرين: الأول: الطاعة في شرع الدين، والمراد بالدين: الأقوال والأفعال التي يُطلَب بها النفع الغيبي، والمراد بالنفع الغيبي ما كان على خلاف العادة المبنيَّة على الحسّ والمشاهدة. والأمر الثاني: الخضوع أو التعظيم على وجه التديُّن .. ". إلى أن قال: "وتحرير العبارة في تعريف العبادة أن يقال: خضوع اختياري يُطلَب به نفع غيبي، أي من شأنه أن يُطْلَب به نفع غيبي، سواء كان الخاضع طالبًا بالفعل بأن يكون له اعتقاد أو ظنّ واحتمال أن ذلك الخضوع سبب لنفع غيبي، أو يكون في حكم الطالب بأن يكون المعهود في ذلك ¬

_ (¬1) تنقيح المناط: هو الاجتهاد في تحصيل العلَّة التي ربط بها الشارع الحكمَ وإلغاء ما لا يصلح للاعتبار. انظر: شرح المحلي على جمع الجوامع بحاشية البناني 2/ 292، وشرح الكوكب المنير 4/ 131.

الفعل أنه يُطلَب به نفع غيبي، كالسجود للصنم إذا فعله الخاضع عنادًا أو خوفًا من ضرر لا يبلغ به حدَّ الإكراه، أو مداهنةً، أو طمعًا في نفع دنيوي كمن يُجعَل له مال عظيم على أن يسجد لصنم، أو هزلًا ولعبًا". قال: "وهذا تعريف للعبادة من حيث هي، فإن أريد تعريف عبادة الله عز وجل زِيد: (بسلطان)، أو أريد تعريف عبادة غير الله زِيد: (بغير سلطان) .. ". * ثم فسَّر الإله بالمعبود، فمَن عبد شيئًا فقد اتخذه إلهًا وإن لم يزعم أنه مستحق للعبادة، ومَن زعم أنه مستحق للعبادة فقد عبده بهذا الزعم، وهكذا من أثبت لشيء تدبيرًا مستقلًّا بالخلق والرزق ونحوهما، فإنَّ هذا التدبير هو مناط استحقاق العبادة، وكذا مَن أثبت لشيء أنه يشفع بلا إذن وأنَّ شفاعته لا تردُّ ألبتة؛ لأنَّ ذلك في معنى التدبير المستقلّ. والحاصل أن الخضوع لغير الله عَزَّ وَجَلَّ طلبًا لنفعٍ غيبيٍّ إن كان بسلطانٍ من الله عزَّ وجلَّ فذلك عبادة لله عز وجل، قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]، وإن كان بغير سلطان من الله عز وجل فذلك عبادة لغير الله عز وجل. ثم استطرد في ذكر ما يؤيِّد به كلامه من كلام أهل العلم. * ثم عقد فصلاً في القيام الذي هو في حقيقته قريب من السجود في المعنى، وبيّن ما يجوز منه وما لا يجوز، وقَرَّر أن القيام إلى الشخص القادم لاستقباله والترحيب به ليس مثلَ القيام له الذي هو تعظيم له بنفس القيام، وهو يشبه القيام لله عزَّ وجلَّ في الصلاة. * ثم عقد فصلاً طويلًا في الدعاء، وذكر أنه ألجأه إلى الإطالة ما رآه من اضطراب المفسرين وغيرهم في تفسير الدعاء وتوجيه كونه شركًا.

وقد اتَّفق أهل اللغة على أنَّ أصل الدعاء بمعنى النداء، وذكر آيات كثيرة تفيد أنَّ الدعاء فيها بمعنى السؤال والاستعانة، ولا سيَّما في الآيات التي فيها ذكرُ الاستجابة. * ثم وضع عنوانًا في أحكام الطلب، ومتى يكون دعاء؟ وبيَّن فيه أنَّ دعاء الحيّ الحاضر ما لا يقدر عليه ودعاء الأموات والغائبين مطلقًا شرك بالله. * وتعرَّض لبيان مسألة التوسُّل، والأحاديث الواردة فيها. * وأجاب عن الأحاديث والآثار التي يستدلُّ بها مَن يدَّعي سماع الموتى لمن خاطبهم، وقال: مَن قاس الأموات على الأحياء فهو كمَن قاس الملائكة على البشر. ولو كانت أرواح الموتى تتصرَّف بهواها لفسد الكون، بل ولهاجت الفتن بين الأرواح. قال: ولو لم يكن في اجتناب ما قيل إنه شرك إلا سدُّ باب الاختلاف بين الأمَّة في هذا الأمر لكان من أعظم القربات عند الله عزَّ وجلَّ. * ثم عقد فصلًا في الشبهات وردَّها، تضمَّن بيان شُبه عُبَّاد الأصنام وعُبَّاد الأشخاص الأحياء، والنصارى في عبادتهم الصليب، وشبهة للنصارى واليهود في شأن الأحبار والرهبان، وشُبه عَبَدَة الملائكة، ثم أجاب الشيخ على هذه الشُّبَه بكلام قويًّ متين. * ثم عقد فصلاً في السلطان الفاصل بين ما هو عبادة لله وما هو عبادة لغيره. قال: الفرق بين عبادة الله تعالى وعبادة غيره هو السلطان، فكلُّ عبادة

كان عند صاحبها سلطان بها من الله تعالى فهي عبادة لله عَزَّ وَجَلَّ، وكلُّ عبادة ليست كذلك فهي عبادة لغير الله تعالى، والسلطان هو الحجة، وقد تكون الحجة يقينيَّة وقد تكون ظنيَّة، وفصَّل في أنواع الأدلَّة. ثمَّ ذكر أنَّ القطع بـ "لا إله إلا الله" يستدعي القطع بثلاثة أمور: الأول: أنه لا مدبِّر في الكون استقلالًا إلاَّ الله عَزَّ وَجَلَّ. الأمر الثاني: القطع بأنه لا مستحقَّ للعبادة إلاَّ الله عَزَّ وَجَلَّ. الأمر الثالث: العلم بحقيقة العبادة. * ثمَّ بيّن أن التديُّن بشيء لا دليل عليه، أو عليه دليل باطل، شركٌ. ولا يُستثنى من ذلك المبتدعُ الذي قامت عليه الحجة فأصرّ على التديُّن بها. ونقلَ نقلاً طويلًا عن الشاطبي يوضِّح فيه مقتضى فعل المبتدع وما يلزم من كلامه من لوازم خطيرة. ثم نقل نقلاً آخر طويلًا عن الصارم المسلول، بيَّن فيه حكم مَنْ يكذب على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. ثم قال: "والحاصل أنَّ السلطان هو الحجة التي يُحتجُّ بها في فروع الفقه. وينبغى للمقلِّد أن يحتاط في مواضع الاختلاف. والقرآن يقسم الكفر إلى ضربين: الكذب على الله، والتكذيب بآياته. والتكذيب قد يكون باللفظ فقط، كمن يقول: إنَّ الله لم يفرض صلاة الظهر، وهو نفسه يصلِّيها، وقد يكون بالفعل فقط كمن ألقى مصحفًا في قاذورة، وقد يكون بالاعتقاد فقط كأن يعتقد أنَّ الله لم يفرض الظهر، وقد يكون بالثلاثة معًا، أو باثنين منها معًا".

* ثم عقد فصلاً تحدَّث فيه عن أحوال مَن يُعذر بالجهل أو الخطأ أو التأويل، والآيات والأحاديث الدَّالَّة على ذلك، وذكر أنَّ مدار العذر على الجهل يكون مع عدم التقصير في النظر. وقال: "مَن رضي بالإِسلام دينًا ولو إجمالًا فالأصل فيه أنَّه معذور في خطئه وغلطه، ومَن لم يرض بالإِسلام دينًا فالأصل فيه أنَّه غير معذور، ولا يخرج أحدُهما عن أصله إلا ببيان واضح. وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يحكم فيمن أسلم أنه على إسلامه، وإن ظهر منه خلاف ذلك، ما لم يتضح أمره". * ثم عقد بابًا في ذكر أمور ورد في الشريعة أنها شرك وأشكل تطبيقها على الشرك، وبدأ بتمهيد أوضح فيه أنَّ كون الشيء سببًا أو علامة قد يكون تديُّنًا، وهو ما يرجع إلى اعتقاد بأمر غيبي، وقد لا يكون تديُّنًا وهو ما يرجع إلى أصل عاديًّ مبنيًّ على الحسّ والمشاهدة، وقد يُتردَّد في بعض الظنون: أمن الضرب الأول هو، أم من الثاني؟ * ثم تحدَّث عن الطَّيَرة، وأورد الأحاديث التي تفيد أنها شرك، ثم علَّل ذلك بأنها تديُّن بما لم يشرعه الله؛ لأن المتطيِّر يظنُّ أن الطائر سبب أو علامة، وهذا الظنُّ لا يُعرف له توجيه من الأصول العاديَّة المبنيَّة على الحسّ والمشاهدة، فيكون من قسم التديّن. وجعل الشارع ضابط حصول الظن هو العمل به. قال معاوية بن الحكم: "ومنَّا رجال يتطيَّرون"، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ذاك شيء يجدونه في صدورهم فلا يصدَّنّهم". ثم ذكر تفريعات وتفصيلات في العلاقة بين التطير والتفاؤل.

* ثم عقد مبحثًا في الرقى، أورد فيه أحاديث يدل بعضها أن مِن الرقى ما هو شرك، وفي بعضٍ آخر منها الإذن بالرقى. قال: "وتفسير ذلك أنَّ الرُّقى على ثلاثة أضرب: الضرب الأول: الرقية بكتاب الله تعالى وذكره ودعائه اللَّذَين أُذن في مثلهما، فهذا حق وإيمان، ولكن الأولى بالمؤمن ألَّا يسأل غيره أن يرقيَه، كما تقدَّم إيضاحه في الدعاء. الضرب الثاني: ما كان فيه تعظيم لغير الله عَزَّ وَجَلَّ، فهذا إن كان مما أنزل الله تعالى به سلطانًا فهو كالأوَّل، وإلَّا فهو شرك ... الضرب الثالث: ما كان من الرقى كلمات عربية ليس فيها تعظيم ولا مدح، فإن كان يرى أو يجوِّز أنَّ لتلك الكلمات أثرًا يستند إلى غيبيٍّ كالروحانيين والجنِّ والكواكب ونحوها، فحكمه كالقسم الثاني، والله أعلم. وإن كان لا يجوِّز ذلك ... فالحكم في هذا مشتبه ... والذي أختاره الآن المنعُ من هذا، والله أعلم". * ثم انتقل من ذلك إلى عقد عنوان في التمائم، وبيّن أن التميمة خرزة مخصوصة، وهي ممنوع منها مطلقًا. وقيل: بل كلُّ ما يُعلَّق رجاء للنفع. وأورد آثارًا عن السلف أنهم كانوا يكرهون التمائم كلَّها من القرآن وغير القرآن، وفصَّل آخرون في تعليق ما يُكتب من القرآن والدعاء، فقالوا: إن عُلِّق قبل البلاء فهو تميمة منهيٌّ عنها، وإن عُلِّق بعد البلاء فلا حرج فيه، ونقل عن عائشة ما يدلُّ على ذلك. ومال المؤلف إلى هذا التفصيل بشرط ألّا يكتب إلا ما ثبت من الشرع

التبرك به من القرآن والدعاء الخالي عما لم يأذن به الله تعالى، وبشرط ألاّ يتحرَّى شيئًا لا سلطان من الله تعالى على تحرَّيه مِن مكان أو زمان أو هيئة مخصوصة، فإذا تحرَّى شيئًا لم يجيء به سلطان من الله كانت المعاذة في معنى الخرزة. قال: "وعامَّة كتب العزائم والتعاويذ على خلاف الشريعة، وفي كثير منها الكفر البواح والشرك الصُّراح". * ثم عقد فصلاً في التَّوَلة والسحر، أورد فيه حديث ابن مسعود الذي فيه أن التِّوَلة شركٌ، وهي ما يحبَّب المرأة إلى زوجها من السحر وغيره. فإن تحبَّبت المرأة إلى زوجها بما لم تجر به العادة، بل بما هو مستندٌ إلى قوَّةٍ غيبيَّةٍ ففيه تفصيلٌ؛ فإن جاء سلطانٌ من الله بالإذن فيه فذاك، وإلا فهو من التِّوَلة. وإنما جاء السلطان بالإذن في الدعاء المجرَّد عن البدع والخرافات وفي كلِّ ما هو طاعةٌ لله عزَّ وجلَّ كالصلاة والصيام والصدقة. وكلُّ ما لم يجيء به سلطانٌ فهو من التَّوَلة، وهي شركٌ؛ لأنها تتضمَّن خضوعًا يطلب به نفعٌ غيبيُّ لم يُنزل الله به سلطانًا، وتتضمَّن طاعةً للشيطان والمعزِّمين والعجائز ونحوهم فيما يطلب به نفعٌ غيبيٌّ ولم ينزل الله تعالى به سلطانًا. ونقل عن ابن حجرٍ الهيتميِّ أنَّ السحر إن اشتمل على عبادة مخلوقٍ أو اعتقاد أنَّ له تأثيرًا بذاته أو تنقيص نبيِّ أو ملَكٍ، أو اعتقد الساحر إباحة السحر بجميع أنواعه، كان كفرًا وردَّةً. ثم عرَّج ابن حجرٍ على بيان مذاهب الأئمَّة في السحر والسحرة. ثم فصَّل المؤلَّف مضامين ما نقله عن ابن حجرٍ وناقشه في بعضه. ثم عقد مبحثًا مطوَّلًا في حكم السحر وتعليمه وتعلُّمه وتوابع ذلك.

ثم انتقل إلى المسألة الأخيرة في هذا الباب الكبير، وهي مسألة القَسَم بغير الله، وأورد الأحاديث الناهية عن الحلف بغير الله وكفارة مَن حلف بغير الله. ومال الشيخ إلى التشديد في هذه المسألة، وأنَّ مَن حلف بغير الله غيرَ جاهلٍ ولا ذاهلٍ أنَّه يخرج من الملَّة، وذكر أنه يؤخذ من تبويب البخاريِّ لهذه المسألة واحتجاجه بحديث عمر "مَن حلف بغير الله فقد أشرك" أنه يرى هذا الرأي. * ثم عقد عنوانًا في حقيقة القَسَم وأنَّ أصل المقصود منه التوكيد اتّفاقًا, ولذلك سمِّي يمينًا أخذًا من اليمين بمعنى القوَّة، ويمكن أن يكون من اليد اليمين لما جرت به العادة من الصَّفْق باليمين عند المحالفة. * وبيَّن المؤلّف أن التوكيد في الحلف يستفاد من اعتقاد الحالف ومخاطَبيه في المقسَم به أنه ذو قدرةٍ غيبيَّةٍ، فمعنى الحلف به جَعْلُه كفيلًا وشاهدًا على الحالف بألَّا يُخْلِف ولا يَكْذب. وإنما يثق المحلوف له باليمين لأنه يعلم أن الحالف يُجِلُّ المحلوف به ويخاف سطوته الغيبيَّة، فيبعُد أن يجعله كفيلًا ثم لا يفي له أو شهيدًا على الكذب، وعلى فرض أن الحالف يجترئ على ذلك فالمحلوف به يعاقبه ويوفي المحلوف له حقَّه من عنده. * ثم وجَّه المؤلف لفظ: (وأبيه) أو (وأبيك) الوارد في بعض الأحاديث، ورجَّح أنه مقحمٌ، قال: وكأن الباعث على الإقحام أنَّ واو القسم لا تدخل على الضمير، فتُوُصَّل إليه بإقحام لفظ الأب، وباعثٌ آخر معنويٌّ، وهو تبعيد إيهام التعظيم، فإنه يتوهَّم تعظيم المخاطَبين لأنهم مسلمون،

بخلاف آبائهم المشركين. ثم تعرَّض لتوجيه لفظ: (لعمري) أو (لعمرك) أو (لعمر الله)، وذكر تفاصيل أخرى مهمَّةَ. ب - منهج المصنف في كتابه: 1 - بني منهجه على الاستقراء والتتبُّع، قال في وصفه: "هو كتاب من تأليفي، استقرأت فيه الآيات القرآنية ودلائل السنة والسيرة وغيرها لتحقيق ما هي العبادة، ثم تحقيق ما هو عبادة لله مما هو عبادة لغيره" (¬1). وفصَّل هذا المنهج الاستقرائي في محاضرة أعدَّها لإلقائها في مؤتمر دائرة المعارف السنوي فقال: "فرأيت أنه لا طريق لتحقيق معنى الكلمتين "إله وعبادة" إلاَّ بتتبع مواردهما في القرآن مع ما قصَّه عمن أخبر عنهم أنهم اتخذوا الأصنام أو غيرها آلهة، وأستعين مع ذلك بالسنة والتاريخ, فإذا وجدت القرآن قد أخبر عن مشركي العرب أنهم اتخذوا الأصنام آلهة وعبدوها جهدت أن أعرف ماذا كانوا يعتقدون في الأصنام وماذا كانوا يعملون لها، فإذا تيسَّر لي ذلك علمت أن ذلك الاعتقاد والعمل مشتمل على التأليه والعبادة, ثم أَكُرُّ على ذلك بأن أخرج منه ما يُقطع بأنه لا دخل له في ذلك مثل اعتقاد أن الأصنام أحجار، ثم أصنع ذلك في أمَّةٍ أمَّةٍ من الأمم التي قصَّ القرآن بعض أخبارها، وفي كل نوعٍ نوعٍ من الأشياء التي نصَّ القرآن على أنها اتُّخِذت آلهة وعُبدت من دونه، ثم أستخلص القدر المشترك بين الأمم فهو الشرك والعبادة. هذه صورة إجمالية لطريقتي في الكتاب المذكور" (¬2). ¬

_ (¬1) "التنكيل" 2/ 435. (¬2) دفتر مسوَّدات محاضرة ... ص 33 ويحمل الرقم العام 4930 في مكتبة الحرم المكي الشريف.

2 - انتهج فيه اتَّباع الكتاب والسنة دون تقليد لأحد، قال في ختام مقدمته لكتاب العبادة (س 24 ب): "مستقيًا لها من عين الأدلَّة، غير مقلِّد لأحد في هذا الأمر". 3 - مع اهتمامه بنقد بعض القواعد والأصول التي يستند إليها بعض الناس في عقائدهم كالتقليد والحديث الضعيف والكشف والإلهام، حرص على استثمار الأصول العلمية المبنيَّة على المقدِّمات الصحيحة التي تفضي إلى نتائج سليمة فعلًا وتركًا، فقد قال في بيانه للأصل الثاني: "الصراط المستقيم" من نسخة (ب) غير المرقَّمة: "فالأمر بقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} يتضمّن الأمر بلزوم الصراط المستقيم وتعرُّفه بما أمكن من الأسباب، وتجنُّب ما يخالفه، ثم أعلمنا سبحانه أن الصراط المستقيم هو صراط الذين أنعم عليهم، والمُنْعَم عليهم من هذه الأمة يقينًا هم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فكل شيء علمنا أنه من صراط النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فهو من الصراط المستقيم، وكل ما خالف ذلك فهو من السبل المخالفة لسبيله، قال تعالى: {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}، وفي الحديث: "عليكم بسنتي" ثم قال تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}. إلى أن قال: والحكم بأنَّ هذا الأمر من صراط النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لا بدَّ له من نَقْلٍ ثابت، وأما الحكم بالنفي فيكفيه عدمُ النقل على ما أوضحناه في رسالة "بيان البدعة"، حيث قرَّرنا هذا الأصل مبسوطًا، وإنما نبَّهتُ عليه هنا لأنه قد يجيء في الرسالة الاحتجاج على بعض الأمور بأنها لم تُعْرَف في عهد الصحابة رضي الله عنهم، فإذا رأيت ذلك فينبغي أن تعلم أنه برهان متين لا ينبغي

* سادسا: موارد الكتاب

للمسلم أن يتهاون به قائلاً: (قال فلان من العلماء كذا) أو (قال فلان من الأولياء كذا) ونحو ذلك". 4 - التزم المؤلف في الكتاب الدلالة على مواضع الآيات التي يسوقها، ويخرِّج الأحاديث من دواوين السنة، ويعزو الأقوال إلى مصادرها. * سادسًا: موارد الكتاب بني المؤلِّف كتابه على جملة كبيرة من كتب أئمَّة العلم، وأحسن توظيفها واستعمالها. فاعتمد في التفسير وعلوم القرآن في المقام الأوَّل على تفسير الطبري، يليه روح المعاني للآلوسي، ثم حواشي الشيخ زاده على تفسير البيضاوي. ورجع إلى الكشَّاف في مواضع قليلة وبخاصَّة في القضايا اللغويَّة، كما استفاد من تفاسير البغوي والبيضاوي وابن كثير وأبي السعود والخازن والبقاعي وطنطاوي جوهري. ونقل من الإمعان في أقسام القرآن للفراهي. واستقى من متون كتب السنة بكثرة كالموطَّأ، والصحيحين، وجامع الترمذي، وسنن أبي داود والنسائي وابن ماجه، ومسند أحمد، ومسند أبي داود الطيالسي، ومستدرك الحاكم، وسنن البيهقي، وسنن الدارمي، والدارقطني، والمصنَّف لابن أبي شيبة, وشرح السنة للبغوي، ومعاجم الطبراني، والحلية لأبي نعيم، ومشكاة المصابيح، وبلوغ المرام للعسقلاني. ومن شروح الحديث: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، وشرح مسلم للأبَّيَّ والسنوسي، وفيض القدير شرح الجامع الصغير, والتيسير كلاهما للمناوي، وحواشي ابن ماجه للسندي.

ومن كتب السيرة: سيرة ابن هشام، والدلائل لأبي نعيم، والشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض، والروض الأنف للسهيلي، وشرح الشفا للقاري، والهدي النبوي لابن قيم الجوزية. ومن كتب علوم الحديث والتراجم والتخريج: علوم الحديث لابن الصلاح، وفتح المغيث للسخاوي، وشروط الأئمة الخمسة للحازمي، والقول المسدَّد (في الذَّبِّ عن مسند أحمد) لابن حجر، والضعفاء للعقيلي، وطبقات ابن سعد، والثقات لابن حبان، وميزان الاعتدال للذهبيِّ، ولسان الميزان, وتعجيل المنفعة، وتهذيب التهذيب، والإصابة في تمييز الصحابة، أربعتها لابن حجر العسقلاني، والمقاصد الحسنة للسخاوي، وصفة الصفوة لابن الجوزي، والتلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير، وتوالي التأسيس في معالي ابن إدريس، كلاهما لابن حجر العسقلاني. ومن كتب الآداب والأخلاق: مختصر جامع بيان العلم للمحمصاني، والزواجر لابن حجر الهيتمي، والبدور البازغة لولي الله الدهلوي. ومن كتب الفلسفة وغلاة الصوفية: الفتوحات المكِّيَّة لابن عربي الطائيِّ، والذخيرة لعلاء الدين الطوسي، والإنسان الكامل للجيلي، وتنبيه المغترِّين للشعراني. ورجع في متن اللغة وغريب القرآن والحديث والمصطلحات إلى المخصَّص لابن سيده، والمفردات للراغب الأصفهاني، والمصباح المنير للفيُّومي، ولسان العرب لابن منظور، والقاموس المحيط للفيروزابادي، وتاج العروس شرح القاموس للزبيدي، والنهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير، ودستور العلماء لعبد ربِّ النبي الأحمَد نَكَري.

ورجع إلى مغني اللبيب لابن هشام في الأدوات. ورجع في أصول الفقه إلى: الرسالة للشافعي، والمستصفى للغزالي، والموافقات للشاطبي، وشرح المحليِّ على جمع الجوامع، مع حاشيتي البناني والعطَّار، وإحكام الأحكام للآمدي، وإعلام الموقعين لابن قيم الجوزية. ومن كتب الفقه: الأمُّ للشافعي، والأنوار للأردبيلي، بواسطة الهيتمي، وحواشي الشرواني على التحفة، وإبطال الاستحسان (من الأم)، والمغني (مغني المحتاج إلى معرفة المنهاج) للشربيني، والهداية للمرغيناني، والعناية شرح الهداية للبابرتي، وردُّ المحتار (حاشية ابن عابدين) على الدُّرِّ المختار للحصكفي. ومن كتب السنَّة والاعتقاد وعلم الكلام والأديان والفِرق: نهاية الإقدام للشهرستاني، والنونية لابن القيم، وشرح المقاصد للتفتازاني، وشرح المواقف للسيد الشريف، وشرح جوهرة التوحيد لابن الناظم، وحواشي الأمير على شرح الجوهرة، وحواشي البيجوري على الجوهرة، و (الفصل في) الملل والنحل لابن حزم، وكتاب ابن وضَّاح (البدع)، والصارم المسلول لابن تيمية، نقل عنه نقلًا طويلًا يتعلَّق بحكم الكذب على النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، والاعتصام للشاطبي، والملل والنحل للشهرستاني، والمواقف للعضد الإيجي، وحاشية حسن جلبي على المواقف، وسِفر التكوين من أسفار التوراة. هذه هي أهمُّ الكتب التي نهل منها وانتفع بها، أو ناقش مؤلفيها ولا يلزم من النقل عن بعض تلك الكتب تزكية لها، بل قد يكون ذلك للرَّدِّ على ما

* سابعا: طبعات الكتاب

ينقله، أو إقامة الحجَّة على مَن يعظِّم أصحاب تلك الكتب إذا نقل منها ما يؤيَّد الحقَّ. * سابعًا: طبعات الكتاب: للكتاب طبعتان فيما علمتُ: 1 - طُبع مائة صفحة من أوَّل مخطوطة الكتاب عام 1423 هـ عن المكتبة العصريَّة بتحقيق الداني بن منير آل زهوي، وبذل فيه جهدًا مشكورًا في التخريج والتوثيق، ولم تتيسَّرْ له القراءة الصحيحة للنصِّ في بعض المواضع، ومن أمثلة ذلك: الصفحة |السطر |المخطوطة |الخطأ | الصواب 51|9||فالأمر في هذا ربما يستغرب|بالقاف لا بالغين وهي واضحة في المخطوط، والمعنى لا يستقيم بهذا التصحيف 64|1||ما يُعلم منه أن الضمائر على. . . |ما يُعلم منه أن الضمائر للملائكة 64|7||بعد نقل تبويب بوَّبه البخاري: (ففي صحيحه إشارة واضحة) |ففي صنيعه إشارة واضحة 64|8||الإنكار|إلى الملائكة 64|9||سقط ما في خانة الصواب|ورأيتُ في بعض تعاليقي نَقْلَ مِثل قولِ مقاتل عن ابن عباس

الصفحة |السطر |المخطوطة |الخطأ | الصواب ||||رضي الله عنه، ولم أستحضر الآن من أين نقلته. 115| 3||في تصديقها إلا ناله ما يكره| في صحتها إلا ناله بما يكره 144|4||نقول لمن لا يقدر لنا على ضر|نَذِلُّ لمن لا يقدر لنا على ضرٍّ 2 - طبعة دار العاصمة لكتاب "العبادة": اشتريت هذه الطبعة يوم الأربعاء الموافق 11/ 4/ 1432 هـ بعد أن صحَّحتُ تجربتين للكتاب وخدمتُه خدمة يسيرة، وعملتُ له فهارس ومقدِّمة لم تُحرَّرْ، فتصفَّحتُه فعرفتُ أنه نَشْر للدفاتر الأربعة المعروفة منذ أكثر من ربع قرن عند المهتمّين بتراث المعلَّمي. وقد كان اشتهر عند طلبة العلم أنَّ الكتاب تنقصه ثلاثة دفاتر تلي الدفتر الأوَّل، وكانت هذه المعلومة دقيقة وصحيحة، وكان ذلك من أسباب عزوف أهل العلم وطلبة الدراسات العليا عن القيام بتحقيقه للنقص الكبير فيه. قام بتحقيق هذه الطبعة الشبراوي بن أبي المعاطي وقدَّم له الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن السعد. وهذه الطبعة جيِّدة، لولا ما شابها من الدعوى العريضة أنَّه يُطبع لأوَّل مرَّة كاملًا. بالإضافة إلى ملاحظات أخرى سأذكرها بعد مناقشة دعوى طبع الكتاب كاملًا. والدليل المقدَّم على طبعه كاملًا ما قاله المحقِّق في حاشية ص 77 أثناء

وصفه للنسخة الخطّية للكتاب: "سقط من ص 91 - 397، وذلك عند ما تكلَّم الشيخ المعلمي على الحديث الضعيف، وهذا الجزء استلَّه الشيخ رحمه الله من الكتاب، وجعله في جزء مفرد، وذلك لأنَّ الشيخ توسَّع في هذا المبحث جدًّا"، ثم قوَّى حجَّته بما نقله عن المؤلف من قوله في رسالة (بيان البدعة): "فإني ألَّفت رسالة في "رفع الاشتباه عن معنى العبادة والإله، وتحقيق معنى التوحيد والشرك بالله"، ونبهتُ في مقدَّمتها على الأمور التي يحتجُّ بها الناس ويستندون إليها وهي غير صالحة، فجاء في ضمن ذلك الحديث الضعيف، فرأيت الكلام فيه يطول، فأفردتُه في رسالة" إلى آخر ما نقله من كلامٍ آخر لا تعلُّق له بمسألتنا. والظاهر أنَّ المحقِّق يفهم من إفراد أحكام الحديث الضعيف برسالة خاصَّة أنَّ ذلك استلالٌ لها من الكتاب، وليس ذلك بلازم؛ فإن المؤلِّف بصدد الكلام على أمور يستند إليها بعض الناس وهي ليست صالحة للاستناد، فذكر منها التقليد، والرأي المجرد، وتفسير الكتاب والسنة بغير علم، والرؤى والمنامات، والكشف، وخوارق العادات، والحديث الضعيف، وقد فصَّل في حكم الحديث الضعيف بما يناسب المقام فكتب فيه تسع صفحات بحسب المطبوع، فكيف يقال: إنه استلَّ هذا الجزء؟ وكونه ذَكَر في كتابٍ آخر له أنه أراد إفراد هذا المبحث بتأليف مستقلٍّ لا يُسوِّغ لنا دعوى أنَّ ثلاثمائة الصفحة المفقودة من الكتاب كلُّها في الحديث الضعيف، وأنَّ المؤلف استلَّها وجعلها هي نفسها كتابًا آخر، كيف والجزء المُدَّعى استلالُه قد وصلت إلينا مخطوطته، وهي لا تكاد تزيد على ثمانين صفحة إن سَلِمتْ من التكرار.

وتأمَّلْ أيُّها القارئ مقدَّمة رسالة العمل بالحديث الضعيف لترى هل هي رسالة مستقلَّة أو هي مستلَّة من كتاب العبادة: "بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى. أما بعد: فهذه رسالة في أحكام الحديث الضعيف، جمعتها لما رأيت ما وقع للمتأخرين من الاضطراب فيه، فنسب بعضهم إلى كبار الأئمة الاحتجاج به، ونسب غيره إلى الإجماع استحباب العمل به في فضائل الأعمال ونحوها، وتوسع كثير من الناس في العمل به حتى بنوا عليه كثيرًا من المحدثات وأكدوا العمل بها، وحافظوا عليها أبلغ جدًّا من محافظتهم على السنن الثابتات، بل والفرائض القطعيات، بل كثيرًا ما بنوا عليه عقائد مخالفة للبراهين القطعية من الكتاب والسنة والمعقول، ولم يقتصروا على الضعاف بل تناولوا الموضوعات, وأنكر جماعة جواز العمل بالضعيف مطلقاً، .... ومن المانعين القاضي أبو بكر بن العربي والمحقق الشاطبي صاحب كتاب الموافقات في أصول الفقه وغيره. ثم نصَّ بعض الفقهاء الشافعية كالزركشي في مقدمة "الذهب الإبريز" (¬1) والخطيب الشربيني في شرح المنهاج، أنَّ العمل بالضعيف في الفضائل جائز فقط، لا مستحب، وردَّه بعضهم كابن قاسم في حواشيه على التحفة، وأثبت الاستحباب. ¬

_ (¬1) في تخريج أحاديث العزيز، والعزيز هو الشرح الكبير للرافعي على الوجيز للغزالي.

هذا، وقد نصَّ النووي نفسه في كتاب الأذكار على الاستحباب. واستشكل جماعة القول بالجواز أو الاستحباب مع الإجماع على أن الضعيف لا يثبت به حكم، والجوازُ والاستحبابُ من الأحكام الخمسة. وأُجيبَ من طرف القائلين بالجواز والاستحباب بأجوبة عامَّتُها من قبيل ما عُرف في الجدليَّات من المطاولة، وتشتيت ذهن الناظر ليقنع بالتقليد الصِّرف. وتلك المطاولة هي التي ألجأتني إلى تأليف رسالة مستقلَّة، وذلك أنني ألَّفت كتابًا نبَّهت في مقدمته على الأمور التي يسلكها كثير من المتأخرين في الاحتجاج وهي غير صالحة لذلك، وذكرتٌ مِن جملتها العمل بالضعيف وحاولت أن أحقِّق الكلام فيه، فطال الكلام جدًّا، قبل أن أستوفي البحث كما أحبُّ، فآثرت إفراده برسالة مستقلة" (¬1). فقد قال المؤلِّف عن الرسالة: "جمعتها لما رأيت ما وقع للمتأخرين من الاضطراب فيه"، ولم يقل: استللتها, ولا قال: إنها كانت في الأصل من كتاب العبادة ثم أفردتُها منه، وإنما آثر إفراد الحديث الضعيف برسالة مستقلَّة لحاجة مباحثه إلى التطويل الذي لا يتناسب مع موضوع رسالة العبادة. وقد قال المؤلف في ص 249 من كتاب العبادة بعد ذكره كلامًا مقتضبًا حول العمل بالحديث الضعيف: "وقد حقَّقت هذا البحث في رسالة مستقلة". أفيعقل أن يقول المؤلف هذا الكلام هنا ثم يأتي بعد نحو خمسين صفحة فيكتب ثلاثمائة صفحة في الحديث الضعيف ثم يستلُّها كما زعم المحقق؟ وأمرٌ آخر يدلُّ على تهافت دعوى الاستلال وهو: أنَّ تسلسل المعاني مفقود بين ما وقف عنده الكلام في الدفتر الأوَّل وبين ما بدأ به الكلامُ في ¬

_ (¬1) انظر: رسالة العمل بالحديث الضعيف.

الدفتر الخامس. فقد كان الكلام في الحديث الضعيف ثم تحوَّل فجأة إلى كلام يتعلَّق بـ "عبادة الأحبار والرهبان" أو "كفر اليهود والنصارى"، بدايته: "يجيء في القرآن بهذا المعنى أنَّ المراد الرؤساء الذين يطيعونهم ويتديَّنون بما يخترعون لهم" إلى آخر هذا المبحث الذي بقيتْ منه ثلاث صفحات (¬1). وأمرٌ ثالث يدلُّ على عدم صحة ما ادَّعاه المحقَّق من الاستلال، وهو إحالات المؤلف على صفحات معيَّنة من الصفحات المفقودة، وما يحيله المؤلَّف معانٍ ومباحثُ لا علاقة لها بالحديث الضعيف. انظر مثلًا ص 286 من مطبوعة دار العاصمة وص 397 من المخطوط (ص 659 من طبعتنا) قولَ المؤلف: "وقد مرَّ قول الزجاج فيما نقله ابن هشام [في] المغني أنَّ المعنى في قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [الأنعام: 151] قال: "الأصل: أبيّن لكم لئلا تشركوا، وذلك لأنهم إذا حرَّم عليهم رؤساؤهم ما أحلَّه الله سبحانه وتعالى فأطاعوهم أشركوا؛ لأنهم جعلوا غير الله بمنزلته". وقد وضع المؤلَّف الرقم (1) على قوله: "مرّ"، وكتب في الحاشية 326؛ إحالة على تلك الصفحة من كتابه. وهذا النقل لا يمتُّ إلى بحث الحديث الضعيف بصلة، ولم نعثر عليه كذلك في مخطوطة العمل بالحديث الضعيف، لكنه موجود عندنا في هذه الطبعة (ص 598)، وهو من الدفتر الرابع الذي أعثرني الله عليه. وانظر أيضًا في ص 342 من مطبوعة دار العاصمة و460 من المخطوط قول المؤلف: ¬

_ (¬1) هذا قبل اكتشاف الدفتر الرابع.

"وقد أدحض الله تعالى شبهة هؤلاء، وبرهن على بطلان ما زعموه بقوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، وقد تقدَّم إيضاح ذلك فأرجع إليه"، وكتب المؤلف إحالة على ص 129 - 130. وطالِعْ في ص 365 من مطبوعة دار العاصمة و (480 و) من المخطوط قولَ المؤلف: "ومما يوافق ما تقدَّم أيضًا ما مرَّ في الكلام على آيات النجم". وأحال المؤلِّف في الحاشية على ص 287 من كتابه. وانظر مثالًا رابعًا في ص 387 من طبعة دار العاصمة وص 496 من المخطوط قول المؤلف: "كما قدَّمناه في الكلام على قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}، وأحال المؤلف في الهامش على ص 125 من كتابه. وهذه الإحالات الأربع بالصفحات حذفها المحقِّق، وكذلك حذف غيرها (¬1) مما لم أذكره هنا، وهناك إحالات أخرى لم يحدِّد المؤلِّف صفحاتها (¬2)، وقد كان ينبغي أن تنبِّهه هذه الإحالات إلى طبيعة الصفحات الساقطة وحقيقتها، وأنها ليست في الحديث الضعيف، وستجد هذه الإحالات في مواضعها من طبعتنا هذه كما حدّدها المؤلف، ما عدا الموضع الثالث، فسقط بذلك ما طُرِّز على غلاف طبعة دار العاصمة من أنَّ الكتاب ¬

_ (¬1) كما في ص 391 من طبعة دار العاصمة وص 499 من المخطوط. (¬2) كما في ص 368 من طبعة دار العاصمة، وص 480 ط من المخطوط من قوله: "وقد مرَّ الكلام على هذه الآيات في الكلام على تفسير تأليه المسيح"، وقد وجدت ذلك في ص 383 فما بعدها بعد أن وضع لها عنوانًا فرعيَّا خاصًّا بها. وفي ص 333 من طبعة دار العاصمة, وص 451 من المخطوط "وقد مضى طرف من هذا في شأن قوم نوح". وانظر ذلك في ص (س 54/ ب) من رسالة العبادة. ومن المواضع أيضًا ص 361.

"يُطبع لأول مرة كاملاً". ملاحظات أخرى على طبعة دار العاصمة: من الملاحظات: وقوع بعض السقط في الطبعة. انظر ص 514 - 515 من طبعة دار العاصمة، وص 617 من المخطوط (ص 892 - 893 من طبعتنا) فقد سقطت ثلاث حواشٍ مهمة للمؤلف. وفي ص 227 من طبعة دار العاصمة: "فوجدته الولاية"، صوابه: "فوجدته اعتقاد الولاية"، كما في المخطوط ص 56. وفي ص 217 من طبعة دار العاصمة،: "بحديث الطائفة وغيره"، صوابه: "بحديث الطائفة وغيره مما مرَّ"، كما في ص 50 من المخطوط. وسقط الكلام الآتي "لقلنا: المسلمون إنما يكرمون من يظنّون به الصلاح" من السطر الرابع من ص 457 من طبعة دار العاصمة، وهو في المخطوط ص 570. وفي ص 248 من طبعة دار العاصمة: "عنها لمن يصعق"، صوابه: "عنهما وغيرهما من قولهم لمن يصعق" كما في ص 74 من المخطوط. وفي ص 370 من طبعة دار العاصمة: "آيات القرآن في أن آدم"، صوابه: "آيات القرآن ظاهرة في أن آدم" كما في ملحق ص 481 من المخطوط. وفي ص 270 س 11 من طبعة دار العاصمة: "ولكن ليس المراد"، صوابه: "ولكن قد تقدَّم عن يوسف بن أسباط تفسير التواضع. وليس المراد" كما في ص 81 من المخطوط. وفي ص 659 من طبعة دار العاصمة: "فإذا وقع بغير الله عزَّ وجلَّ كان

مما أنزل الله تعالى به سلطانًا بأنه عبادة لله عزَّ وجلَّ، فهو عبادة للمحلوف به، فكيف والمحلوف به يستحقُّ هذا التعظيم". صوابه كما في آخر ص 737 من المخطوط: "فإذا وقع بغير الله عزَّ وجلَّ فإن كان مما أنزل الله تعالى به سلطانًا فهو عبادة لله عزَّ وجلَّ وإَّلا فهو عبادة للمحلوف به، فكيف والمحلوف به لا يستحقُّ هذا التعظيم". وسقط على المحقق صفحتان كاملتان من المخطوط هما 740 و741. ومنها: الإخلال بترتيب بعض فقرات الكتاب: انظر ص 227 من طبعة دار العاصمة، وص 57 من المخطوط (ص 243 - 244 من طبعتنا): جعل المحقق بداية صفحة المخطوط: "اعلم أولاً أنني بحمد الله ... " إلى قوله: "وهو أبعد الناس عنهم". ثم أعقبها بفقرة "فصل: واعلم أن الباعث على تقليد الصوفية". إلى قوله: "فأقول مستعينًا بالله: اعلم أن الخوارق المنقولة ... " إلخ. والصواب: أنَّ بداية الصفحة هي الفقرة المؤخرة عند المحقق، التي تبدأ بـ "فصل"، ثم يأتي بعد قوله: "فأقول مستعينًا بالله" فقرةُ: "اعلم أوَّلًا أنني بحمد الله"، ثم فقرة: "ثم اعلم أن الخوارق المنقولة ... ". ومن التحريفات والتصحيفات والأسقاط والتطبيعات: الصفحة |السطر |المخطوطة |الخطأ | الصواب 226 | ......... |56 |اعتقادهم نية الصلاح |اعتقادهم فينا الصلاح 229| ......... |58 |اخترعها متبوعوهم |في الأصل: متبعوهم، وفي نسخة (ب): تابعوهم

ر الصفحة |السطر |المخطوطة |الخطأ|الصواب 223| ......... |52|عبد الواحد بن زيد البصري |القاص، بدل البصري 217| ......... |49|بنقله عن زيد جماعة|ينقله عن زيد جماعة 217| ......... |50|لا يخرج|لا مخرج 210| ......... |47|مما لا مجال للرأي فيه|مما لا يقال بالرأي 243| ......... |70|يتجه|نتيجة 243| ......... |70|دين|بدين 247| ......... |70|فيه ويال عليه|فهي وبال عليه 247| ......... |مرتبة السحر الحال|مرتبة السحر العال. وانظر معنى ذلك في طبعتنا ص 263. 167|4|20|وسلم "عليم حليم"| وسلم في آخرها "عليم حليم" 171|16|ملحق22|وقع في الحرام|ضرب عليها المؤلف في الأصل. 160|الحاشية|15|قال في الشرح (3674): إسناد حسن. وزعم وضعه الصغاني. حسب نسخة (أ) |قال في الشرح: بإسناد حسن، وزَعْمُ وضعِهِ رُدَّ. انتهى. والذي أوقعه في هذا الخطأ هو ظنه أن الشرح هو فيض القدير، فعدل كلام المؤلف على ضوء ما استخلصه من فيض

ر الصفحة |السطر |المخطوطة |الخطأ |الصواب ........ | ....... | .......... | ...... |القدير. والحقيقة أن الشرح هو التيسير بشرح الجامع الصغير 1/ 1002. 298|12|411|تقدير الأمر|تقدير الصور 303|8|418|وارجع إلى|وارجع بنا إلى 304|14|419|والملائكة يعلمون|والملائكة يعملون 305|13|420|الخلف يتأولنه|الخلف يتأولونه 330|4|448|مواجهة له، ومعرفة به|ومواجهته له، ومعرفته به 331|1|449|أنه رسول|أنه رسول الله 331|3|449|فشبهة لأهل الجهل|فشنشنة لأهل الجهل 332|6|451|متكيء على|متكئا على 332|7|451|أهبة|آهبة. بالمد كما ضبطها الشيخ، وإن كان ضبط المحقق ليس خطأ، لكن ينبغي احترام رأي الشيخ. 332|8|451|والروم وسع|والروم قد وسع 332|10|451|أولئك|إن أولئك

ر الصفحة |السطر |المخطوطة |الخطأ |الصواب 332|16|451|أُفَيْقٌ|أَفِيْقٌ بوزن عظيم كما اتفق عليه شراح الحديث: النووي، وابن حجر، والعيني، ولم أجد في المعاجم إلا ما يوافق ذلك. 333|8|451|لذو وجد|لذو حظ 334|11|452|قدرة تزيله|قدرة تزيد 344|6|462|الحكيم|العليم 358|13|478|يشرعوه|يشرعون 358|16|478|ومن طاعة|ومنه طاعة 354|الحاشية|474|البخاري ومسلم|البخاري ومسلم 364|2|480هـ|ثابتا|ثباتا 366|7|480هـ|إنما يرجع إلى الاعتقاد ولا يتغير|أن ما يرجع إلى الاعتقاد ولا يتغير 366|15|480ز|خضوع لغير الله|كأنها تشريك له مع الله 370|13|481ملحق|آيات القرآن في أن آدم|آيات القرآن ظاهرة في أن آدم 375|9|483|لا يقرب|أنه لا يقرب 418|1|530|وكذلك سؤال|ولا كذلك سؤال

ر الصفحة |السطر |المخطوطة |الخطأ |الصواب 426|2|540|عن المنبر، هو واضح|عن المنبر، كما هو واضح 428|12|543|فالمصلي يعلم أنه|فالمصلي يقول 430|8|544|وإلى المشتكى|وإلى الله المشتكى 432|3|546|حق، كأنه|حتى كأنه 441|17|554|تكون تلك الخصوصية|تكون تلك خصوصية 450|3|563|يا ملائكة|يا ملائكتي 453|بين 3و4|567|سقط من هنا ملحق ص567 من المخطوط، وتحول إلى ص 455|وَضْعُ الملحق بين السطر 3 والسطر 4 من ص 453 469|11|583|يوهما أن القصة|توهما أن القصة 597|12|6888|كالتزين والتذلل|كالتزين والتدلل 536|الحاشية|634|البخاري (1292) |هذا الرقم ليس هو الذي يريده المؤلف، ولو رجع إلى الطبعة التي نقل منها المؤلف لما وقع في هذا الخطأ؛ لأن الحديث ورد في البخاري خمس مرات، فاختار

* ثامنا: وصف النسخ الخطية

ر الصفحة |السطر |المخطوطة |الخطأ |الصواب ........ | ....... | .......... | ...... |المحقق أول موضع، والمؤلف يريد الموضع الأخير. 257|15|80|لرسول الله يوحى إليه مع ملك وحفظة|ما بعد "لرسول" ليس في النسخة 257 - 258|16|80|وليسوا في ذلك كالأنبياء|لا توجد هذه الزيادة في المخطوط 261|9|81 ب|في الطبقات|في ترجمة ابن عمر في الطبقات ولا أبرئ عملي من الخطأ والنقصان، وأستغفر الله من كلِّ خطأ، وأرى أن عملي يتميَّز بمحاولة تكميل النقص الذي طال انتظارُ إتمامه. وأيضًا: الإضافات المأخوذة من نسخة (ب) مما زاده المؤلِّف على المبيَّضة الأولى المشهورة عند طلبة العلم. * ثامنًا: وصف النُّسَخ الخطِّيَّة: النسخة الأولى: (أجزاء مفرقة من كتاب العبادة) محفوظة بمكتبة الحرم المكِّيِّ بالرقم العامّ 4781. وعدد أوراقها 445 مع زيادة عدة صفحات هي ملاحق، وهي عبارة عن أربعة دفاتر، كلُّ دفتر نحو مئة صفحة. مقاسها: 20 × 15 سم. مسطرتها: ما بين 14 - 16 سطرًا في كلَّ صفحة.

وخطها واضح جميل، وهي بخط أحد النسّاخ في الأغلب، ثم راجعها المؤلف فصحّح وأضاف، وألحق سطورًا بل صفحات كاملة بخطه المعروف. وعليها ضرب في بعض المواضع. وبها نقص من ص 93 إلى ص 396. وقد رمزت لها بالحرف (أ). النسخة الثانية: (أوراق مفرَّقة أغلبها في العقيدة وفنون مختلفة) محفوظة بمكتبة الحرم المكِّيِّ بالرقم العامّ 4249 (منوَّعات). عدد أوراقها 95 ورقة، من ص 85 إلى 180 مقاسها: مثل السابق. مسطرتها: 15 سطرًا في كلِّ صفحة. وهي بخط المؤلِّف، وعليها تصويبات وإلحاقات، غير أنها أقلُّ مما في الدفتر الأول. ولا تحتاج إلى أن يُرْمز لها برمز لأنها الدفتر الثاني، وهي في مكانها الطبيعي، والصفحات متسلسلة. النسخة الثالثة: الدفتر الرابع من دفاتر مخطوط العبادة، محفوظ في مكتبة الحرم المكِّيِّ بالرقم العامّ 4937. وعدد صفحاتها 108، تبدأ من ص 289، وتنتهي بـ ص 396. وهي كذلك لا تحتاج إلى أن يرمز لها برمز؛ لأنها في موضعها الطبيعي. والصفحات متسلسلة حتى تتصل بالدفتر الخامس الذي يبدأ بـ ص 397. وهي بخط المؤلف.

النسخة الرابعة: (كتاب العبادة) محفوظة بمكتبة الحرم المكِّيَّ بالرقم العامّ 4689. وعدد أوراقها 220 ورقة، والصفحات الأولى مطابقة تقريبًا للنسخة المشهورة لكتاب العبادة مع زيادات تقلُّ أو تكثر أحيانًا. مقاسها: 32 ×20 سم. مسطرتها: 25 - 29 سطرًا. وهي في مجلَّد كبير، مشوَّشة الأوراق، ولم تُرَقَّم. وهي بخط المؤلف. وفيها عدَّة صفحات من نصوص الدفتر الأول، وشيء من الأصل الثاني: "الحجج والشبهات" الذي عندنا، وأصول أخرى لم نجدها في قطعة (ز) ولا في نسخة (أ)، وكثير من فصل حكم الجهل والغلط، وصفحات من محتوى الدفترين الثاني والثالث، وطغى عليها ما يتعلَّق بالرياضة الصوفية، والخوارق، والغرائب. وقد رمزت لها بالحرف (ب). النسخة الخامسة: قطعة مؤلَّفة من ثلاث رسائل بحسب الفهرسة في مكتبة الحرم المكي. عنوان الأولى: (أصول ينبغي تقديمها)، وعنوان الثانية: (معنى قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا})، وعنوان الثالثة: (رسالة في العقيدة). ثلاثتها محفوظة بمكتبة الحرم المكَّيِّ بالأرقام العامَّة (4679، و4655، و4672). والحقيقة أنها قطعة واحدة من كتاب العبادة، دل على ذلك الترقيم المتتابع (1 - 52)، وترابط الكلام، وحجم الورق. وعدد أوراقها 53 ورقة من القطع الكبير، وهذه القطع الثلاث مرقَّمة

بترقيم المؤلِّف من ص 1 إلى ص 52، وهي مبيَّضة تبييضًا نهائيًّا. وقد وضعتُها في موضعها الذي حدَّده المؤلِّف، كما بَيّنته في فقرة "الطريقة التي سلكتها في تكميل النقص" ص 64 وما بعدها. مقاسها: 34 × 21 سم. مسطرتها: الأولى والثانية: 30 سطرًا، والثالثة مختلفة الأسطر. وأغلب الظن أنها بخط المؤلف. وقد رمزت لها بالحرف (ز) النسخة السادسة: (رسالة في معنى كلمة التوحيد) محفوظة بمكتبة الحرم المكِّيَّ بالرقم العامّ 4713. عدد صفحاتها: مئة وأربع عشرة صفحة. مقاسها: 15 × 9 سم. مسطرتها: 15 سطرًا مع تفاوت يسير يقع بينها أحيانًا. وهذه النسخة تمثَّل نصف الكتاب تقريبًا في مرحلته الأولى. وأغلب الظنِّ أنها المسوَّدة الأولى للكتاب. وهي بخط المؤلف. وترتيب الأوراق مشوَّش تشويشًا كبيرًا، فبينا ترى الكلام يتَّجه اتجّاهًا مستقيمًا إذا به يرجع القهقرى عدَّة صفحات، وكتب المؤلِّف كثيرًا من الكلام بين السطور بالخط الأحمر. واستفدتُ منها فائدة كبيرة في تكميل النقص الحاصل في الكتاب بسبب الدفتر الثالث الذي لم أعثر عليه بعد. وقد رمزتُ لها بالحرف (س). النسخة السابعة: دفتر صغير لم يفهرس بعدُ، مقاساته ومسطرته مثل السابق، ويغلب على ظني أنه يأتي بعد الدفتر السابق. وقد كتب كله بحبر

* تاسعا: الطريقة التي سلكتها في تكملة نقص الكتاب

أحمر، وفيه مادة من الدفترين الثالث والرابع. والنسخة بخط المؤلف. وقد رمزت لها بالحرف (س) أيضًا، إلا أن ترقيمه يبدأ من حيث انتهى الدفتر الذي قبله. النسخة الثامنة: (رسالة في الكلام في الحكم بغير ما أنزل الله، وتفسير آية {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} الآية) محفوظة بمكتبة الحرم المكَّيَّ بالرقم العامّ 4658/ 8. وهي صفحة واحدة. مقاسها: 20 × 16 سم. مسطرتها: 16 سطرًا. وهي بخط المؤلف. ولهذه الصفحة صلة بتفسير عبادة الأحبار والرهبان .. * تاسعًا: الطريقة التي سلكتها في تكملة نقص الكتاب: قد عُلم مما سبق النقصُ الكبير الذي وقع في نسخة (أ)، ولا بدَّ لمن أراد تكميل نقص الكتاب أن يعرف ترتيب الكتاب وبناءه، وأفضل طريق لمعرفة ما نقص من نسخة (أ) ومعرفة ترتيب الكتاب هو تتبُّع إشارات المؤلّف وإحالاته فهي التي تحدَّد لك الموضوعات التي تناولها مع ترتيبها عنده. فخذ مثالًا على ذلك قوله في ص 115 من نسخة (أ) أثناء كلامه على تفسير لفظ (إله) في كتب العقائد: "وسيأتي إن شاء الله تعالى إيضاح ذلك مفصَّلًا في الكلام على شرك قوم نوح، وقوم إبراهيم، وقوم هود، وقوم صالح، والمصريَّين في عهد إبراهيم، ثم في عهد يوسف، ثم في عهد موسى".

والكلام على شرك قوم نوح وقوم إبراهيم وقوم هود وقوم صالح لا تجده في نسخة (أ)؛ لأنه فُقد منها الدفتر الثالث، ولكنك واجدٌ ذلك في نسخة (س) التي تسلسل الكلام فيها من أول الكتاب إلى شرك المصريِّين وموضوعات أخرى، والكلام على شرك المصريِّين موجود في نسخة (أ)، فيسهِّل عليك ذلك معرفةَ تسلسُل الكتاب. وقال أيضًا في ص 34 من المخطوط: "وستعلم عند تحقيق معنى الإله والعبادة أنَّ معرفة المعنى ... "، وكرَّر هذه الإشارات في مواضع أخرى. وتحليل لفظَي الإله والعبادة من حيث اللغة والمعنى وكلام أهل العلم في ذلك وتحقيق شأنهما ليس موجودًا في نسخة (أ)، ولكن تجده في أواخر الدفتر الثاني وتكملته في نسختي (ب) و (س)، ثم تجد في الدفتر الخامس تحرير العبارة في تعريف العبادة. وبيان الطريق التي سلكتها في تكملة النقص وترتيب القِطَع في صُلْب الكتاب على النحو التالي: أوَّلاً: نسخة (ب) من كتاب العبادة. بالرقم 4689. وهي تمثِّل المرحلة الأخيرة من تأليف كتاب العبادة، وفيها زيادات في صُلْب المتن في حين هي ملاحق في حواشي نسخة (أ) المشهورة عند طلبة العلم، ويُعلم ذلك بالمقارنة بينهما. ومن الأدلَّة على تأخُّر نسخة (ب) عن نسخة الأصل إحالة المؤلَّف في نسخة (ب) على نسخة الأصل، انظر: مثلاً: قوله في ص 104 بترقيمي: وأما الخوارق فاعلم أن الخوارق ...... وكتب المؤلِّف فوق النُّقَط عبارة

"دفتر صغير ص 57", كأنه يقول: أكمل من هناك، ويعدُّها مادَّة جاهزة يستفاد منها في هذه النسخة المتأخرة بدل كتابة الكلام مرَّة أخرى. وقال في ص 105 من نسخة (ب) بترقيمي: "وقد يكون الشيخ" وكتب بعدها فوق السطر ص 59 - 77، إشارة إلى ما في ص 59 من نسخة (أ) من قوله: "وقد يكون الشيخ المنسوب إليه الخارق خيَّرًا في نفسه، ولكنه ابتُلِي بأولاد وأتباع يحبون أن يأكلوا بسببه الدنيا فيخترعون الخوارق، ويدّعونها له ويلبّسون على الشيخ نفسه ... ". فاعتمدت على هذه النسخة - نسخة (ب) من أوَّل الرسالة إلى أثناء ص 27 من هذه النسخة بترقيمي، وهي تقابل ص 34 من نسخة (أ)، وإنما فعلتُ ذلك لأنه ترجَّح عندي بقرائن كثيرة أنها نسخة محرَّرة مزيدة بعد نسخة (أ)، ونسخة (أ) مضمَّنة في نسخة (ب)، فلم أر فائدة في إثقال الحواشي بذكر فروق النسخ بينهما. وقد أثبتُ بداية صفحات كلتا النسختين، وميزت أرقام صفحات نسخة (ب) بوضع هذا الرمز أمام الرقم. وأخذتُ من هذه النسخة أيضًا ثلاث صفحات غير مرقمة، هي "فصل في تفسير أهل العلم للعبادة" الذي يقع فاصلًا بين نهاية الدفتر الثاني وبداية نسخة (س). ثانيًا: رسالة "أصول ينبغي تقديمها" (¬1). بالرقم 4679. ثالثا: رسالة في معنى قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} ¬

_ (¬1) وهذه التسمية وما سيأتي بحسب ما كُتب عليها في فهرس مكتبة الحرم المكي الشريف.

بالرقم 4655. رابعًا: رسالة في العقيدة، ناقصة الأخير. بالرقم 4672. وهذه القِطع الثلاث أعانني الله على اكتشاف تسلسُلها وكونها تمثِّل قطعة واحدة. فرسالة "أصول ينبغي تقديمها" وُجِدت بخطَّ المؤلَّف بعنوان "باب في أصول ينبغي تقديمها"، وهي ثلاثة أصول، ولما انتهى من الأصل الثاني كتب: الأصل الثالث: حكم الجهل والغلط، وكتب عدّة أسطر، ثم ضرب على هذا الأصل مع الأسطر التي تحته، لكنه كتب في موضع آخر عنوان "حكم الجهل والغلط" وأعاد كتابة الأسطر التي ضرب عليها من قبلُ بعد كتابة عنوان "فصل" في آخر الأصول الثلاثة، وقد استوفي في هذا الفصل الكلام على حكم الجهل والغلط، ولعلَّه لم يجعلْه أصلاً من الأصول لطوله. لكنَّ المفهرسين جعلوا "الأصول" رسالة مستقلَّة، وتجزَّأ فصلُ حكم الجهل والغلط إلى رسالتين أخريين: "رسالة في معنى قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} "، وما أسموه: "رسالة في العقيدة، ناقصة الأخير" فصار عندنا ثلاث رسائل مقطَّعة الأوصال لا يربط بينها رابط إلا كون مؤلَّفها جميعًا هو عبد الرحمن المعلِّمي. وبعد الفحص تبيَّن أنَّ رسالة في معنى قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} " جزء من فصل حكم الجهل والغلط، ذهبت عدَّة أسطر من أوَّلها (وهي التي ضرب عليها من قبلُ بعنوان: الأصل الثالث) فكُتبت في

أسفل صفحة مستقلَّة، فجاء المفهرسون وكتبوا فوق هذه الأسطر عنوان "أصول ينبغي تقديمها" فصارت هذه الأسطر بداية رسالة "أصول ينبغي تقديمها"، وبعد وضع هذه الأسطر الشاردة في بداية "رسالة في معنى قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} " استقام الكلام. فاقرأ الكلام الآتي واحكم بنفسك. قال المؤلِّف: " ... خلط الناس في معنى {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}، فزعم بعضهم أن الرسول هنا إنما أريد به العقل، وهذا تحريفٌ تغني حكايته عن ردَّه. وقال بعضهم: أما الرسول فهو الرسول المعروف, ولكن المراد بالعذاب عذابٌ خاصٌّ هو العذاب الدنيوي المستأصل كلإهلاك قوم نوح وعاد وثمود". هذا الكلام الذي قرأتَه متصل بعضه ببعض، لكن قوله: "خلط الناس" إلى قوله: "تغني حكايته عن ردَّه" هو عبارة عن آخر الأسطر الشاردة التي كُتِب فوقها عنوان رسالة "أصول ينبغي تقديمها"، وقوله بعد ذلك: "وقال بعضهم: أما الرسول" أوَّلُ "رسالة في معنى قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} " (¬1)، ثم تنتهي هذه القطعة بقوله: "وأما القول بأن شريعة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام قد كانت اندرست قبل بعثة محمد صلىَّ الله عليه وآله وسلَّم فخطأ القائلين به من وجهين: ¬

_ (¬1) ثم وقفت على مسوَّدة للمؤلف فيها بداية أصل (حكم الجهل والغلط) متصلة بأول رسالة: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} وذلك في دفتر يحمل الرقم العام 4930، في مكتبة الحرم المكي، بعنوان: دفتر مسودات محاضرة ...

الأول: أنهم يطلقون القول بعذر المشركين الذين هلكوا قبيل بعثة محمد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وآبائهم وأجدادهم فصاعدًا، وقضية ذلك: أن شريعة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام اندرست قبل أن يشرك أحد من العرب، وهذا قول لا دليل عليه، بل الدليل قائمٌ على خلافه". انتهت هذه القطعة بهذه العبارات، ومن حقِّك أن تسأل ما هذا الدليل الذي يريد الشيخ أن يذكره؟ وأين الوجه الثاني من الوجهين اللذين ذُكِر الأوَّل منهما؟ والجواب تجده في بداية "رسالة في العقيدة، ناقصة الأخير"، إذ يذكر الشيخ الدليلَ القائمَ على بقاء شريعة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وعدم اندراسها حتى غيَّرها عمرو بن لُحَيًّ، ثمَّ يذكر الوجه الثاني من وجهي خطأ القائلين باندراس تلك الشريعة، قال الشيخ: "فقد ثبت عن النبيِّ صلىَّ الله عليه وآله وسلَّم أنه قال: "رأيتُ عمرو بن لُحَيِّ بن قَمَعة بن خِندِفَ أخا بني كعبٍ هؤلاء يجرُّ قُصْبه في النار"، وفي روايةٍ: "وكان أول من سيب السيوب". ..... الوجه الثاني: أنهم يطلقون العذر فشمل العذر في الشرك والعذر في المعاصي وذلك يقتضي أحد أمرين: إما أنهم يرون أن الشريعة إذا اندرس بعضها سقط التكليف بباقيها، وإما أن يزعموا أن شريعة إبراهيم عليه السلام كانت قد اندرست بجميع فروعها, ولا أرى عاقلا يُقْدِمُ على الأول ولا عارفًا يُقْدِمُ على الثاني". وبعد أن وقفتَ على التسلسل والترابط المنطقي بين هذه القطع الثلاث أزيدك أنها متسلسلة الأرقام من ص 1 إلى ص 52 بترقيم المؤلِّف. ووضعتُ هذه الرسائل الثلاث بعد نهاية الباب الثاني "باب في أنَّ

الشرك هلاك الأبد حتمًا وأنَّ تكفير المسلم كفر". وقد يتساءل القارئ: لِم أقحمتَ هذه الرسائل الثلاث في الكتاب مع عدم ورودها في نسخة (أ) المشهورة؟ والجواب: أنني وجدت في هذه القطعة أكثر من خمس عشرة إحالة إلى مواضع سبقت أو ستأتي من نسخة (أ) لكتاب العبادة (¬1)، مما لم يَدَعْ عندي مجالًا للشكِّ في أنَّ هذه القطعة جزء من كتاب العبادة. ¬

_ (¬1) منها ما في ص (ز 7): "فتستعين النفس بالشبهات وهي لا تحصى كثرةً, وسيأتي ذكر طائفةٍ منها في بابٍ على حِدَةٍ". وقد عقد المؤلف في كتاب العبادة عنوانًا مستقلًّا خاصًّا بالشبهات. انظر ص 567 من المخطوط. وقال في ص (ز 28): "وبهذا يجمع بين ما تقدَّم هنا وما تقدَّم في أوائل الرسالة من اشتراط اليقين.". وتجد هذا في المخطوط ص 2. وقال أيضًا في ص (ز 31): "ما تقدَّم في الكلام على اشتراط العلم بمعنى: لا إله إلا الله من قصة أُبَيِّ بن كعب وغيره". وتجد هذا الكلام في ص 15 من المخطوط. ومن ذلك: ما في ص (ز 32): "وسيأتي في ذكر الأمور التي ورد في الشرع أنها شرك عدة أحاديث وآثار". انظر ص 666 من المخطوط. وما في ص (ز 33): فاليهود أطاعوا الأحبار والشياطين والهوى الطاعة الخاصة التي هي تأليه وعبادة لغير الله على ما يأتي تفسيره. وقد عقد مبحثًا في تأليه الأحبار والرهبان في ص 391 فما بعدها من المخطوط. وما في ص (ز 40): "أما الأول فبيانه متوقَّف على تحقيق معنى الإله والعبادة, وسيأتي إن شاء الله تعالى". وبيان ذلك هو لبُّ الرسالة. انظر من ص 165 إلى ص 480 ب من رسالة العبادة فما بعدها. وما في ص (ز 33): "قد قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} في آيات أخرى تقدَّمت في أوائل الرسالة". وقد تقدمت فعلًا في أوائل الرسالة. انظر ص 17 من المخطوط، باب في أنَّ الشرك هلاك الأبد.

وترجَّح عندي أن أضعها في الموضع الذي وضعتُها فيه من الكتاب بسبب قوله في ص (ز 51) من هذه القطعة: "ما تقدَّم في الأصل الثاني، ومنها ما سيأتي في الكلام على التقليد". والكلام على التقليد من فصول "باب في أمور يستند إليها بعضُ الناس في إثبات العقائد، وهي غير صالحة للاستناد إليها"، وهو الباب الرابع من الكتاب فلم يمكن أن أضع هذا الباب المكتَشَف بعد الباب المحال عليه، ولا أن أضعه في أوَّل الكتاب؛ لأنَّ في القطعة عدَّة إحالات على الباب الأوَّل وهو الذي فيه شروط لا إله إلا الله. والباب الثاني "باب في أن الشرك هلاك الأبد، وأن تكفير المسلم كفر" لصيق بالباب الأول، فتعيَّن جعلُ هذه القطعة الباب الثالثَ للكتاب. والبديل عن صنيعي هو أن أجعله ملحقًا بآخر الكتاب، أو أن أنشره مفردًا، وكلا الأمرين يقلَّل الفائدة ويزيد اختلال الكتاب. ولعلَّ مما يُسوَّغ صنيعنا وتصرُّفنا هذا أنَّنا لم نحصل على النسخة النهائيَّة التي أرادها المؤلَّف بدليل ما ورد في نسخة (ب) (وقد صاغها بعد المبيَّضة الأولى) من الإشارات التي تدلُّ على تقديم وتأخير في بعض فصول الكتاب. ومن الأدلَّة القويَّة على كون هذه القطعة من صُلْب الكتاب: قولُ المؤلف في ص (ز 32) من هذه القطعة التي ألحقتُها بالكتاب: "وتقدَّم في أواخر الباب الذي قبل هذا: اتقوا هذا الشرك؛ فإنه أخفى من دبيب النمل". فإذا الباب الذي أشار إليه هو "باب في أنَّ الشرك هلاك الأبد، وأنَّ تكفير المسلم كفر"، وهو الباب الثاني، ووقع ذكرُ هذا الحديث الذي أحاله

المؤلِّف في آخر هذا الباب، وخرَّجه المؤلَّف تخريجًا مختصرًا مع ذكر الطرق والشواهد (¬1)، فتعيَّن موضعُ هذه القطعة وأنَّها من صُلْب "رسالة العبادة" بنصِّ المؤلَّف لا باجتهادي، والحمد لله على نِعَمِه. ومما يؤكِّد ما سبق ويزيده وضوحًا قولُ المؤلف عن هذا الحديث في رسالة البسملة والفاتحة ص (8 ب): "وقد ذكرتُ هذا الحديث في رسالة العبادة بطرقه وشواهده"، ولا شكَّ أنَّ رسالة البسملة والفاتحة متأخرَّة التأليف عن رسالة العبادة؛ إذ ضمّنها زبدة رسالة العبادة بطريقة رائعة وأكْثَرَ من الإحالات فيها على رسالة العبادة. خامسًا: أجزاء مفرَّقة من كتاب العبادة. بالرقم 4781. وهي المبيَّضة الأولى الناقصة للرسالة، وهي المشهورة في أوساط طلبة العلم، وهي أربعة دفاتر، رمزت لها بالحرف (أ)، وترقيمها هو المعتمد ما عدا مواضع القِطَع الزائدة، فتُميَّز أرقامُها بحروف خاصَّة. سادسًا: أوراق مفرقة أغلبها في العقيدة. بالرقم 4249. وهي تمثل الدفتر الثاني من دفاتر نسخة (أ) السبعة، ووصل إلينا كاملًا غير منقوص، ويبدأ من ص 85، والسبب في ذلك أنَّ المؤلَّف قال في أواخر ص 84 من نسخة (أ): "ومن الناس مَن يحتجُّ في هذا الأمر العظيم بمجرَّد العقل والقياس، وفي ذلك ما فيه"، ثمَّ ضرب على هذا السطر، وزاد فصلين: أولهما في الرَّدَّ على احتجاج بعض أهل زمان المؤلَّف وما قرُب منه بآيات من كتاب الله تعالى ويفسرونها برأيهم بما لم يُنقلْ عن السلف ولا تساعده ¬

_ (¬1) انظر ص 27 من رسالة العبادة نسخة (ب).

اللغة العربية، ولا البلاغة القرآنية، والفصل الثاني في احتجاج بعضهم بالحديث الضعيف، واستغرق ذلك سبع صفحات، ثم عاد المؤلَّف فأثبت الكلام الذي حذفه سابقًا في بداية الدفتر الثاني الذي عثرتُ عليه بتوفيق الله، واستمرَّ ترقيم الدفتر الثاني من حيث انتهى الدفتر الأول قبل زيادة سبع الصفحات، ولا يُشوِّشْ عليك تكرُّر الترقيم من ص (85) إلى ص (91) في الدفتر الثاني مرَّةً أخرى؛ لأنه الموافق للأصل الأصيل قبل الزيادة، فلزم بقاؤه كما كان. ومن الأدلَّة على صحَّة موضع هذا الدفتر أنَّ المؤلِّف أحال على عدَّة مواضع منه، وتأكَّدتُّ من مطابقة أرقام الصفحات المحال عليها فإذا فيها المعلومات المُشار إليها سواء بسواء. سابعًا: ثم رسالة في معنى كلمة التوحيد. بالرقم 4713. وأظنها المسوَّدة الأولى للكتاب. واستفدتُّ منها فائدة كبيرة في تكميل النقص الحاصل في الكتاب بسبب الدَّفترين المفقودَيْن بعد الدفترَيْن الأوَّلين. وموضعها بعد الدفتر الثاني مع الفاصل الذي أشرنا إليه عند الحديث عن نسخة (ب)، ورمزت لها بالحرف (س). ثامنًا: قطعة غير مرقمة ولا مفهرسة، ورمزت لها بالحرف (س) أيضًا، لكن يبدأ ترقيمها بـ (س 115/ أ) من حيث انتهى الدفتر الذي قبله. تاسعًا: رسالة في الكلام في الحكم بغير ما أنزل الله وتفسير آية {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} الآية، بالرقم 4658/ 8، وهي صفحة واحدة. وموضعها قبل بداية الدفتر الرابع من نسخة (أ).

عاشرًا: الدفتر الرابع من كتاب العبادة. وهو محفوظ في مكتبة الحرم المكي بالرقم العام 4937. وهو متسلسل الصفحات بدءًا بـ ص 289 وانتهاء بـ ص 396، ثم تتصل ببقية صفحات نسخة (أ) ابتداءً بـ ص 397 إلى ص 741، وهي آخر ما عُرف من الكتاب. * عاشرًا: عملي في الكتاب، ومنهج التحقيق. 1 - قمت بنسخ الرسالة، ووضعتُ رقم صفحة المخطوط بين معقوفين أمام بداية كلَّ صفحة من صفحات المخطوط. 2 - ميَّزتُ بالحرف (ز) أرقامَ صفحات المخطوط التي زدتُّها من القطع الثلاث التي وضعتُها في أوائل الكتاب، وعلَّمتُ بالحرف (س) أرقامَ صفحات المخطوط التي أضفتُها من نسخة (س) ورديفتها غير المرقمة، تمييزًا بين الأرقام المتشابهة، كما ميَّزتُ بالحرف (ب) أرقام صفحات نسخة (ب). 3 - قابلت الرسالة بعد نسخها بالأصل مرتين. 4 - قام المؤلف بعزو الآيات إلى سورها، وتخريج الأحاديث وتوثيق الأقوال غالبًا، واستكملت النقص في القضايا الثلاث عند الحاجة، وعلَّقت على ما رأيته بحاجة إلى تعليق. 5 - ترجمتُ للأعلام الواردين في الرسالة ممن رأيته يحتاج إلى التعريف به. 6 - أثبت تعليقات المؤلف في الحاشية وختمتها بـ (المؤلف). 7 - عرَّفت بالبلدان المغمورة غير المشهورة. 8 - خرَّجت الأبيات الشعريَّة. 9 - شرحت الألفاظ الغريبة.

10 - أمّا ما يتعلَّق بتخريج الأحاديث، فقد التزمت ذكر الكتاب والباب ورقم الحديث، وكذلك رقم الجزء والصفحة إذا أغفلهما المؤلِّف دون تمييز لزياداتي على المؤلِّف لكثرة ذلك، ولأن المؤلف مال أخيرًا إلى الاكتفاء بذكر الكتاب والباب دون ذكر الجزء والصفحة كما صنع في نسختَيْ (ب) و (ز). 11 - في إصلاح الخطأ وإكمال النقص سلكت الآتي: أ - قمت بتصحيح ما كان مخالفًا لقواعد العربية مع التنبيه عليه. ب - أصلحتُ ما وقع من الأخطاء في نصوص الآيات القرآنية وإحالاتها، دون تنبيه. ت - للمؤلِّف بعض الرموز والاختصارات، مثل: (هـ) و (اهـ)، اختصارًا للفظ (انتهى)، وقد يكتبها كاملة، وذلك في آخر النصوص التي ينقلها أحيانًا، فأبقيت ذلك كلَّه عدا الأول، فقد جعلته هكذا: (اهـ). وقد يجرِّد اسم السورة من أداة التعريف عند عزو الآيات إلى سورها، ويخلي أحيانًا اسم الكتاب من أداة التعريف كذلك، فأكملت ذلك كلَّه دون تنبيه، اكتفاء بما ذكرته هنا. 12 - قدَّمت للرسالة بمقدِّمة تضمَّنت تحديد عنوان الكتاب وتحقيق نسبته إلى المؤلف، مع ذكر تاريخ تأليفه له، وبيان أهمية الكتاب وقيمته العلمية، وبيان منهج المصنف، وموارده وطبعات الكتاب ووصفًا للنسخ المخطوطة، وبيان موضوع الرسالة وموضوعاتها.

13 - ذيَّلْتُ الرسالة بفهارس للآيات والأحاديث والأعلام والأشعار والمصادر والموضوعات.

آثَار الشّيخ العَلّامَة عَبد الرّحمن بن يَحيَى المُعَلِمّيّ (2) رفع الاشتباه عن معنى العبادة والإله وتحقيق معنى التوحيد والشرك بالله تأليف الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني 1312 هـ - 1386 هـ تحقيق عثمان بن معلم محمود بن شيخ علي المجلد الأول وفق المنهج المعتمد من الشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد (رحمه الله تعالى) تمويل مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

النص المحقق

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي خلق الجنَّ والإنس ليعبدوه، وبعث إليهم رسله ليوحِّدوه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمَّدًا عبده ورسوله، اللهم صل على محمَّدٍ وعلى آل محمَّدٍ، كما صلَّيت على آل إبراهيم، وبارك على محمَّدٍ وعلى آل محمَّدٍ، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيدٌ، وسلِّم تسليمًا كثيرًا. أما بعد: فإني تدبَّرت الخلاف المستطير بين الأمَّة في القرون المتأخَّرة في شأن الاستعانة بالصالحين الموتى، وتعظيم قبورهم ومشاهدهم، وتعظيم بعض المشايخ الأحياء، وزَعْم بعض الأمَّة في كثيرٍ من ذلك أنه شركٌ، وبعضِها أنه بدعةٌ، وبعضِها أنه من الحقِّ، ورأيتُ كثيرًا من الناس قد وقعوا في تعظيم الكواكب والروحانيِّين والجنِّ بما يطول شرحه، وبعضه موجودٌ في كتب التنجيم والتعزيم كـ "شمس المعارف" (¬1) وغيره، وعلمتُ أن مسلمًا من المسلمين لا يُقْدِمُ على ما يعلم أنه شركٌ، ولا على تكفير مَن يعلمُ أنه غير كافرٍ، ولكنه وقع الاختلاف في حقيقة الشرك، فنظرتُ في حقيقة الشرك؛ فإذا هو - بالاتَّفاق -: اتَّخاذ غير الله عزَّ وجلَّ إلهًا من دونه، أو عبادة غير الله عزَّ وجلَّ، فاتَّجه النظرُ إلى معنى الإله والعبادة؛ فإذا فيه اشتباهٌ شديدٌ؛ فإنَّ المعروف في تفسير (إله) قولهم: (معبود)، أو: (معبود بحق)، ومعنى العبادة ¬

_ (¬1) شمس المعارف ولطائف العوارف كتابٌ لأحمد بن عليِّ بن يوسف البُوني، المتوفَّى سنة 622 هـ. انظر: كشف الظنون 2/ 1062.

مشتبهٌ جدًّا - كما ستراه إن شاء الله تعالى -, فعلمتُ أن ذلك [2] الاشتباه هو سبب الخلاف، وإذا الخطر أشدُّ مما يُظَنُّ؛ لأن الجهل بمعنى (إله) يلزمه الجهل بمعنى كلمة التوحيد: (لا إله إلا الله)، وهي أساس الإِسلام وأساس جميع الشرائع الحقَّة من قبل، قال الله عزَّ وجلَّ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]. وقد دلَّ الكتاب والسنة والإجماع والمعقول على أنَّه لا يكفي النطق بها بدون معرفة معناها. وإيضاح ذلك أن الاعتداد بالنطق بها له شروطٌ: منها: أن يكون على سبيل الاعتراف؛ للقطع بأن المشرك إذا نطق بها حكايةً عن غيره لا يُعْتَدُّ بذلك؛ كالمسلم إذا نطق بكلمة الكفر حكايةً عن غيره، وأنت خبير أن العبارة لا يُحْكَم بكونها اعترافًا حتى يُعْلَم أن المتكلِّم بها يعرف معناها، فلو أثبت زيدٌ على إنسانٍ أعجميًّ أنه قال: أنا رقيقٌ لزيدٍ، ووجدنا هذا الأعجميَّ لا يعرف العربيَّة ولا يعرف معنى هذه العبارة، وإنما لقَّنوه إيَّاها بدون إعلامه بمعناها, لم يُعْتَدَّ باعترافه، وهذا مما لا خلاف فيه أصلاً. [ب 2]، ومنها: العلم بمضمونها، والعلم هو الذي يُعَبِّرُ عنه أهل الكلام بالتصديق، وقيل: التصديق أخصُّ، قال الله تبارك وتعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19]. [3] وقال عزَّ وجلَّ: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86]. فقيَّد نفع الشهادة، قيَّده بالعلم بالمشهود به.

قال ابن جريرٍ في تفسيرها: "اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: ولا يملك عيسى وعزيرٌ والملائكة الذين يعبدهم هؤلاء المشركون بالله (¬1) الشفاعة عند الله لأحدٍ إلا مَن شهد بالحق فوحَّد الله وأطاعه على علمٍ (¬2) منه بتوحيد الله وصحَّة ما (¬3) جاءت به رسله". ثم أسند نحوه عن مجاهد، وفيه: "إلا مَن شهد بالحقَّ، وهو يعلم الحقَّ". ثم قال: "وقال آخرون: عُنِيَ بذلك: ولا تملك الآلهة التي يدعوها المشركون ويعبدونها من دون الله الشفاعة، إلا عيسى وعزيرٌ وذووهما والملائكة الذين شهدوا بالحقِّ فأقروا به وهم يعلمون حقيقة ما شهدوا به". ثم أسند نحوه عن قتادة، ثم قال: "وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يُقال: إن الله تعالى ذِكْره أخبر أنه لا يملك الذين يعبدهم المشركون من دون الله الشفاعة عنده لأحدٍ إلا مَن شهد بالحق، وشهادته بالحق هو إقراره بتوحيد الله، يعني: إلا مَن آمن بالله وهم يعلمون حقيقة توحيده" (¬4). ¬

_ (¬1) في الأصل تبعًا للطبعة التي ينقل منها المؤلف: (بالساعة)، والتصحيح من طبعة دار هجر (20/ 661). (¬2) كتب المؤلِّف هنا لفظ: (كذا)؛ إشارة إلى الخلل في العبارة. ولفظ (على) زيادةٌ من الطبعة المذكورة. (¬3) في الأصل: "بتوحيد وصحة بما"، والتصحيح من الطبعة المشار إليها. (¬4) تفسير ابن جريرٍ، الطبعة الأولى، 25/ 56 - 57 [المؤلف]. وقد أشار المؤلف في نسخة (أ) إلى الخلل الوارد في النسخة بقوله: "نقلت هذه العبارة كما هي في النسخة المطبوعة". وقد وضعتُ الصواب في المتن، وأشرف في الهامش إلى ما كان في الأصل.

وقال الله تبارك وتعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ [4] لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 14]. وقال عزَّ وجلَّ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} [المائدة: 41]. وفي القرآن آياتٌ كثيرةٌ في المنافقين تبيِّن هذا المعنى. وفي صحيح مسلم عن عثمان قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "مَن مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة" (¬1). وفيه عن عمر قال: كنا مع النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في مسيرٍ، فذكر الحديث، وفيه: فقال - يعني النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم - عند ذلك: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنَّي رسول الله، لا يلقى الله عزَّ وجلَّ بهما عبد غير شاكًّ فيهما إلا دخل الجنة" (¬2). وفيه عن أبي هريرة عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم من حديث طويل: "فَمَنْ لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنًا بها قلبه فبشره بالجنة" (¬3). ¬

_ (¬1) صحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان, باب 10 [مَن لقي الله بالإيمان وهو غير شاكًّ فيه ...]، 1/ 41، ح 26. [المؤلف] (¬2) صحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان, باب 10 [مَن لقي الله بالإيمان وهو غير شاكًّ فيه ...]، 1/ 41 - 42، ح 27. [المؤلف] (¬3) صحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان, باب 10 [مَن لقي الله بالإيمان وهو غير شاكًّ فيه ...]، 1/ 44، ح 31. [المؤلف]

وفي صحيح البخاريِّ عن أبي هريرة عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: "أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة مَن قال: لا إله إلا الله، خالصًا من قلبه أو نفسه" (¬1). [ب 3] وفيه عن معاذٍ عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله [5]، وسلَّم قال: "ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمَّدًا رسول الله صدقًا من قلبه إلا حَرَّمه الله على النار" (¬2). وأصل الحديث في صحيح مسلمٍ (¬3). وحديث الصحيحين وغيرهما في سؤال القبر سيأتي في الكلام على التقليد (¬4) إن شاء الله تعالى. واعلم أن هذا الشرط مجمعٌ عليه أيضًا، فأما ما نُقِل عن الكرّامية من أن الإيمان هو النطق بالشهادتين فقط، وأن المنافق مؤمنٌ حقيقةً، فهو نزاع لفظي؛ لأنهم يقولون: إن هذا الإيمان الذي هو النطق إنما هو بالنظر إلى الأحكام الدنيوية (¬5)، فأما النجاة من النار فلا بدَّ فيها من التصديق القلبيِّ. ¬

_ (¬1) صحيح البخاريِّ، كتاب العلم، باب 32 [الحرص على الحديث] , 1/ 31، ح 99. [المؤلف] (¬2) صحيح البخاريِّ، كتاب العلم، باب 47 [مَن خصَّ بالعلم قومًا دون قومٍ]، 1/ 37 - 38، ح 128. [المؤلف] (¬3) كتاب الإيمان, باب 10 [مَن لقي الله بالإيمان وهو غير شاكًّ فيه ...]، 1/ 43، ح 30. [المؤلف] (¬4) ص 200 - 203. (¬5) يعني الإيمان الذي يعصم الدم والمال في الدنيا ويصير به من جملة المسلمين.

هكذا نقله عنهم الشهرستاني (¬1)، والسعد التفتازاني (¬2) وغيرهما. هذا، مع مخالفة قولهم للنصوص القرآنية والنبويَّة والإجماع السابق قبلهم. إذا تقرَّر ما ذُكِر فلا ريب أن الجاهل بمعنى (لا إله إلا الله) لا علم له بمضمونها, ولا يصحُّ أن يُقال: شهد بها "وهو يعلم"، "مؤمنًا بها قلبه"، "غير شاكًّ"، "مستيقنًا بها قلبه"، "خالصًا من قلبه أو نفسه"، "صدقًا من قلبه"، فتدبَّرْ. وفي فتح الباري عن الحليميِّ (¬3): "لو قال الوثنيُّ: "لا إله إلا الله" وكان يزعم أن الصنم يقرّبه إلى الله لم يكن مؤمنًا حتى يتبرّأ من عبادة الصنم" (¬4). ومنها: التسليم، وُيعَبَّر عنه بالرضا، واكتفى جماعة عنه بالتصديق، زاعمين أنه يتضمنه. قال الله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا [6] فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]. وفي صحيح مسلمٍ من حديث العباس بن عبد المطلب قال: قال ¬

_ (¬1) الملل والنحل 1/ 154 بهامش الملل والنحل لابن حزمٍ، الطبعة الأولى سنة 1320. [المؤلف] (¬2) شرح المقاصد 1/ 248. [المؤلف] (¬3) أبو عبد الله الحسين بن الحسن بن محمد بن حليم البخاري الشافعي، القاضي العلامة، أحد أصحاب الوجوه في المذهب الشافعى، وكان متفننًا, وله مصنفات نفيسة، توفي سنة ثلاث وأربعمائة. السير 17/ 231 (¬4) فتح الباري، طبعة الخيريَّة، 13/ 280. [المؤلف]. وهو في كتاب المنهاج في شعب الإيمان للحليميّ 1/ 136.

رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "ذاق طعم الإيمان مَن رضي بالله ربًّا، وبالإِسلام دينًا، وبمحمَّد رسولًا" (¬1)، وقال الله عزَّ وجلَّ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء: 101 - 102]. وقال سبحانه: {فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ} إلى أن قال: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 12 - 14]. فعُلِم من هذه الآيات أن فرعون وقومه كانوا عالمين مستيقنين، ولم ينفعهم ذلك لعنادهم؛ إذ لم يعترفوا ولم يُسَلِّموا ولم يرضوا. ومَنْ لا يعلم معنى (لا إله إلا الله) لا يدلُّ تسليمه ورضاه بقولها على تسليمه ورضاه بمدلولها. ومنها: أن يكون النطق بها على وجه الالتزام، أعني: التزام أن يعمل طول عمره بمقتضاها، وألا يخالفه. وأدلَّته أكثر من أن تحصى. [ب 4] قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64]. اتَّفق المفسِّرون على أن قوله: {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ} إلخ تفسيرٌ لقوله: ¬

_ (¬1) صحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان, باب 11 [مَن رضي بالله ربًّا وبالإِسلام دينًا وبمحمَّدٍ رسولاً]، 1/ 46 ح 34. [المؤلف]

{كَلِمَةٍ}. وقال ابن جريرٍ: "وقال آخرون: هو قول "لا إله إلا الله"". ثم أسند عن أبي العالية قال: "كلمة السواء: لا إله إلا الله" (¬1). أقول: ويبيَّنه أن النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كان يدعو إلى (لا إله إلا الله). وفي قوله تعالى في الآية: {كَلِمَةٍ} ما يرشد إلى ذلك. فيتحصَّل مما ذُكِر أن قوله تعالى: {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} بسطٌ لمعنى (لا إله إلا الله). وقد تضمَّن قوله: {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ} إلخ الالتزام، فاتَّضح بذلك أن (لا إله إلا الله) تتضمَّن الالتزام، وهو المطلوب. [7] وقال عزَّ وجلَّ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]. وقد فُسَّر قوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} في آياتٍ أخرى. قال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]. وقال تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} إلى أن قال: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} الآيات [الأعراف: 64 - 70]. وجاء نحو هذا في قصة صالحٍ (¬2)، وشعيبٍ (¬3)، ¬

_ (¬1) تفسير ابن جريرٍ 3/ 195. [المؤلف] (¬2) الأعراف: 73. [المؤلف] (¬3) الأعراف: 85. [المؤلف]

وجاء نحوه في سورة هودٍ، ونحوه عن نوحٍ (¬1). ودلالة هذه الآيات على الالتزام واضحةٌ, وهي مفسَّرةٌ لقوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} في الأنبياء. فظهر من ذلك تضمُّن الكلمة الطيِّبة للالتزام، وأن المطلوب من الخلق أن يقولوها على سبيل الالتزام. وإيضاحه: أن هذه الآيات تصرِّح بأن إرسال الرسل إلى قومهم كان لدعوتهم إلى أن يعبدوا الله ويذروا عبادة غيره، وإجابة الرسل معناها قبول ما أُرسِلوا به. ولما جُعِلَت الشهادة إعلانًا بقبول ما أُرسِل به الرسل كانت متضمِّنةً التزامَ الشاهد أن يعبد الله ولا يشرك به شيئًا. وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة في حديث جبريل عليه السلام، إذ سأل النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم عن الإيمان والإِسلام، قال: "الإِسلام أن تعبد الله ولا تشرك به" (¬2). وفي صحيح مسلم حديث عمر في هذه القصة: "الإِسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمَّدًا رسول الله" (¬3). ¬

_ (¬1) المؤمنون: 23. [المؤلف] (¬2) البخاريّ، كتاب الإيمان, باب سؤال جبريل، 1/ 19، ح 50. مسلم، كتاب الإيمان, باب الإِسلام ما هو؟ [وفي بعض النسخ: باب بيان الإِسلام والإيمان والإحسان]، 1/ 30، ح 9. [المؤلف] (¬3) صحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان, [باب بيان الإِسلام والإيمان والإحسان]، 1/ 29، ح 8. [المؤلف]

قال في الفتح: "ولما عَبَّر الراوي بالعبادة احتاج أن يوضَّحها بقوله: "ولا تشرك به شيئًا", ولم يحتج إليها في رواية عمر؛ لاستلزامها ذلك" (¬1). [8] وفي الصحيحين أيضًا حديث ابن عبَّاسٍ في قصَّة وفد عبد القيس، وفيه: أمرهم بأربعٍ، ونهاهم عن أربعٍ. أمرهم بالإيمان بالله وحده، قال: "أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمَّدًا رسول الله ... " (¬2). [ب 5] وفي صحيح مسلمٍ من حديث أبي سعيدٍ في هذه القصة: "آمركم بأربع: اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا ... " (¬3). فيُعلَم بما تقدَّم أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يرون اتِّحاد معنى شهادة أن لا إله إلا الله ومعنى التزام عبادة الله وعدم الشرك به، وهو المطلوب، والله أعلم. هذا، ومَن تدبَّر تبيَّن له أن الشروط السابقة - وهي الاعتراف والتصديق والتسليم والرضا - إنما هي بمثابة الوسيلة للالتزام، وكأنه المقصود. بل لو قيل بأن جانب الالتزام هو المغلَّب في شهادة أن لا إله إلا الله لما كان بعيدًا، بدلالة الاكتفاء بها من المشرك المحارب وإن لم يسمع شيئًا من البراهين المبطلة للشرك. ¬

_ (¬1) فتح الباري 1/ 88. [المؤلف] (¬2) البخاريّ، كتاب الإيمان, بابٌ أداء الخمس، 1/ 21، ح 53. مسلم، كتاب الإيمان, باب [الأمر] بالإيمان إلخ، 1/ 35 - 36، ح 17. [المؤلف] (¬3) مسلم، كتاب الإيمان, باب الأمر بالإيمان إلخ، 1/ 36، ح 18. [المؤلف]

وفي حديث أسامة قال: بعثنا رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم إلى الحُرَقة من جهينة، قال: فصبَّحنا القوم فهزمناهم، قال: ولحقت أنا ورجلٌ من الأنصار رجلاً منهم، قال: فلما غشيناه قال: (لا إله إلا الله)، قال: فكفَّ عنه الأنصاريُّ، فطعنته برمحي حتى قتلته، قال: فلما قدمنا بلغ ذلك النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: فقال لي: "يا أسامة، أقتلته بعد ما قال: (لا إله إلا الله)؟ " قال: قلت: يا رسول الله، إنما كان متعوِّذًا، قال: "أقتلته بعد أن قال: (لا إله إلا الله)؟ " قال: فما زال يكرِّرها عليَّ حتى تمنَّيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم (¬1). وفي حديث المقداد أنه قال: يا رسول الله، إن لقيتُ كافرًا فاقتتلنا، فضرب يدي بالسيف فقطعها، ثم لاذ بشجرةٍ، وقال: أسلمتُ لله، آقتله بعد أن قالها؟ قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "لا تقتله". قال: يا رسول الله، فإنه طرح إحدى يديَّ ثم قال ذلك بعد ما قطعها، آقتله؟ قال: "لا تقتله؛ فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وأنت بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال" (¬2). وفي حديث ابن عمر "قال: بعث النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد إلى بني ¬

_ (¬1) صحيح البخاريَّ، كتاب الديات، باب 2 [قول الله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا}]. صحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان, باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال (لا إله إلا الله)، 1/ 68، ح 96 (159). [المؤلف] (¬2) صحيح البخاريَّ، كتاب الديات، باب 1 [قول الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ}]. صحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان, باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال (لا إله إلا الله)، 1/ 66، ح 95. [المؤلف]

جَذِيمة، فدعاهم إلى الإِسلام، فلم يحسنوا أن يقولوا: (أسلمنا)، فجعلوا يقولون: (صبأنا) فجعل خالدٌ يقتل ويأسر" الحديث، وفي آخره: فرفع النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يده، فقال: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالدٌ" (¬1). وفي حديث أنسٍ: ... فجاء أبو طلحة فخطب أمَّ سُلَيمٍ، وهي أمُّ أنس، فكلَّمها في ذلك، فقالت: يا أبا طلحة، ما مثلُك يُرَدُّ، ولكنك امرؤٌ كافرٌ، وأنا امرأةٌ مسلمةٌ، لا يصلح لي أن أتزوَّجك. فذكر الحديث، وفيه: فانطلق أبو طلحة يريد النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، ورسول الله جالس في أصحابه، [ب 6] فلما رآه [9]، قال: "جاءكم أبو طلحة، غُرَّة الإِسلام بين عينيه" الحديث (¬2). بل قال الله تبارك وتعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 14]. فهؤلاء شهدوا أن لا إله إلا الله على سبيل الالتزام وقُبِلَتْ منهم مع شهادة الله تعالى عليهم بأنه لم يدخل الإيمان في قلوبهم، وبذلك انتفى صدقُ الاعتراف، وانتفى التصديقُ، وانتفى الرضا الحقيقي، فلم يبق إلاَّ الالتزام، فتدبَّرْ. وقد قال العلماء: إن (لمَّا) النافية تشعر بأن المنفيَّ سيقع بعدُ، وعلى ¬

_ (¬1) صحيح البخاريَّ، كتاب المغازي، باب بعث النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم خالد بن الوليد إلخ، 5/ 160، ح 4339. [المؤلف] (¬2) رواه أبو داود الطيالسيّ في مسنده, حديث 2056 [وفي طبعة التركي 3/ 533، ح 2168]، وسنده صحيحٌ. [المؤلف]

هذا ففي الآية وَعْدٌ من الله عزَّ وجلَّ لهؤلاء القوم بأنه سيدخل الإيمان في قلوبهم، وقد وعدهم صريحًا بقوله: {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية، فيُعلَم من هذا أن هؤلاء لم يكونوا من المنافقين؛ فإن الله تعالى وعد هؤلاء بما سمعت، وأوعد المنافقين بأن يُضِلَّهم ويزيدَهم مرضًا ورِجْسًا. والفرق بين الفريقين أنَّ المنافقين التزموا بألسنتهم وكانوا ينقضونه في السرَّ بالتكذيب والطعن والعدوان والسعي بالفساد وكيد الإِسلام وأهله. وأما هؤلاء الأعراب فإنهم التزموا ووفَوْا بما التزموه وإن لم يكن قد دخل الإيمان في قلوبهم، فتدبَّرْ. ثم رأيت الإِمام الشافعيَّ رحمه الله تعالى قد ألمَّ بهذا في كتاب (إبطال الاستحسان)، قال: "ثم أَطْلَع الله رسولَه على قومٍ يظهرون الإِسلام ويُسِرُّون غيره .... فقال لنبيِّه: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ...} [الحجرات: 14]. قال الشافعيُّ: {أَسْلَمْنَا}، يعني: أسلمنا بالقول بالإيمان مخافة القتل والسَّباء، ثم أخبر أنه يجزيهم إن أطاعوا الله ورسوله، يعني: إن أحدثوا طاعة الله ورسوله، وقال له في المنافقين وهم صنفٌ ثانٍ: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ ...} [المنافقون: 1] " (¬1). محلُّ الشاهد قوله في المنافقين: "وهم قسم ثانٍ" (¬2). والمقصود أن الأحكام الدنيويَّة بُنِيت على الالتزام وحده، ولو ممن عُلِم أنه لم يؤمن قلبه. وبهذا يُعلَم أنَّ ما جاء في بعض روايات حديث أسامة من ¬

_ (¬1) كتاب الأمّ 7/ 268. [المؤلف] (¬2) كذا في الأصل.

قول النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "فهلَّا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا" ليس المراد منه: آمن قلبه أم لا، بل المراد - والله أعلم -: آلتزم الإِسلام بقلبه كما التزمه بلسانه أم لا؟ لأنَّ حرمة القتل لا تتوقَّف على الإيمان بالقلب كما سمعت. وقال الله عزَّ وجلَّ: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106]. [ب 7] استثناؤه مَن أُكرِه وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان يدلُّ أن المستثنى منه وهو قوله: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ} يعمُّ مَن تظاهر بالكفر وإن لم يكفر قلبه، وإنما استثنى مَن تظاهر بالكفر مكرهًا. وعلى هذا فقوله: {مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} يعمُّ مَن تظاهر به مختارًا غير مكرهٍ وإن لم يكفر بقلبه؛ فإن تظاهره بالكفر مختارًا كافٍ في شرح الصدر بالكفر، وذلك أنه بتظاهره بالكفر قد نقض التزامه. وظاهر الآية أن المكرَه إذا كفر وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان قد كفر بعد إيمانه، ولكن لما كان معذورًا وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان عذره الله تعالى، فالعذر مبنيٌّ على الأمرين معًا: الإكراه، واطمئنان القلب بالإيمان, فلا يكفي أحدهما، والله أعلم. [10] ويشهد لهذا قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ

عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء:97 - 99]. أخرج البخاريُّ عن ابن عبَّاسٍ أن ناسًا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثِّرون سواد المشركين على رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، يأتي السهم فيصيب أحدهم فيقتله، أو يُضرب فيُقتل، فأنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ} الآية (¬1) وأخرج البخاريُّ عن ابن عبَّاسٍ أيضًا أنه تلا: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ}، قال: كنتُ أنا وأمِّي ممن عذر الله (¬2). وهذا الأثر الثاني يدلُّ أن ابن عبَّاسٍ لم يرد بالأثر الأوَّل أن الآية خاصَّةٌ بمن كان يكثِّر السواد في الحرب، بل تعمُّ المتخلِّفين عن الهجرة. وجاء عن بعض السلف أن هؤلاء المتخلِّفين غيرَ المعذورين كفروا بعد إيمانهم، واستبعده بعض المتأخِّرين ظنًّا أنه لم يقع منهم إلاَّ التخلُّف عن الهجرة. والذي تدلُّ عليه الآثار أن المتخلِّفين كانوا يُكرَهون على الكفر، [11] وعلى هذا فمُكْثُ مَن مكث منهم مع استطاعته الهجرة وعلمِه أنه إن لم يهاجر أكُرِه على الكفر = ضربٌ من الاختيار؛ فلذلك - والله أعلم - لم يُعذَروا. ثم رأيت في سنن البيهقيِّ ما لفظه: "قال الله جَلَّ ثناؤه في الذي يُفْتَن عن ¬

_ (¬1) صحيح البخاريَّ، كتاب التفسير، تفسير هذه الآية [باب: "إن الذين توفَّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ... "]، 6/ 48، ح 4596. [المؤلف] (¬2) الصحيح، كتاب التفسير، باب: "وما لكم لا تقاتلون" إلخ، 6/ 46، ح 4588. [المؤلف]

دينه، قَدَر (¬1) على الهجرة فلم يهاجر حتى توفي: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ} الآية [النساء: 97] " (¬2). وهذا صريحٌ فيما ظهر لي، ولله الحمد. هذا، وقوله تعالى في الذين لا يستطيعون حيلةً ولا يهتدون سبيلاً: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} فيه دلالةٌ على [أن] مَن أُكرِه منهم على الكفر فتظاهَر به فقد أساء، وإن كان معفوًّا عنه، أي - والله أعلم -: لأنه كان الأولى لهم أن يصبروا [ب 8] على العذاب أو القتل ولا يتظاهروا بالكفر. وقد كان جماعةٌ من أصحاب النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قبل أن يُؤذَن لهم بالهجرة يعذَّبون فصبر أكثرهم، وقال النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلَّم لعمَّارٍ وأبيه وأمَّه وهم يعذَّبون: "صبرًا آل ياسر, فإنَّ موعدكم الجنَّة" (¬3). ومما يدلُّ على الالتزام قول الله جلَّ ثناؤه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} , إلى قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ} , إلى قوله: {فَبَايِعْهُنَّ} [الممتحنة: 10 - 12]. ¬

_ (¬1) كذا في الأصل والسنن الكبرى للبيهقيَّ. (¬2) سنن البيهقي 9/ 12. [المؤلف] (¬3) أخرجه الحاكم في كتاب معرفة الصحابة، ذكر مناقب عمَّار بن ياسر رضي الله عنه، إيذاء الكفَّار آل ياسرٍ، 3/ 383، من طريق ابن إسحاق مرسلاً. ثم أخرجه في الكتاب المذكور، ذكر مناقب عمَّار بن ياسرٍ رضي الله عنه، "ما خُيَّر عمَّارٌ بين أمرين إلا اختار أرشدهما"، 3/ 388 - 389، من طريق أبي الزُّبير عن جابرٍ رضي الله عنه، نحوه، وقال: "صحيحٌ على شرط مسلمٍ ولم يخرجاه"، ولم يتعقَّبْه الذهبيُّ.

يعني - والله أعلم -: فبايعهنَّ على ذلك عند قدومهنَّ من دار الكفر، على أن هذه المبايعة كانت غير خاصَّةٍ بهنَّ؛ ففي الصحيحين عن عبادة بن الصامت أحد النقباء أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال وحوله عصابةٌ من أصحابه: "بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا" الحديث، كما في بيعة النساء (¬1). وجاء نحوه عن جرير بن عبد الله وعبد الله بن عمرو بن العاص (¬2). وهذه المبايعة كالتفسير للشهادتين وبعض ما يتعلَّق بهما؛ ولذلك - والله أعلم - ترك أئمَّةُ الصحابة ومن بعدهم مبايعةَ مَنْ يُسلم مثل المبايعة المذكورة اكتفاء بالشهادتين، وبأنَّ معناهما وما يتعلَّق به [12] قد اشتهر بين الناس. وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} الآية [البقرة: 83]. فأَخَذَ الميثاق منهم لا يعبدون إلا الله على وجه الالتزام، وهو معنى شهادة أن لا إله إلا الله. ومما يوضِّح اشتراط الالتزام أنَّ الكافر لو قال: أنا أعلم أن دين الإِسلام حقٌّ ولكن لا أدع ديني، أو قال: أنا أعلم أن شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمَّدًا رسول الله حقٌّ ولكني لا أحبُّ الدخول في الإِسلام، أو قال: أنا لا أدع ديني أبدًا مع أني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمَّدًا رسول الله؛ فإنه لا ¬

_ (¬1) البخاريّ، كتاب الإيمان, باب 11، 1/ 12، ح 18. مسلم، كتاب الحدود، بابٌ الحدود كفَّارةٌ لأهلها، 5/ 127، ح 1709. [المؤلف] (¬2) انظر: فتح الباري 1/ 51. [المؤلف]

يصير بشيءٍ من ذلك مسلمًا, ولا تلزمه أحكام الإِسلام. وقد وردت في معنى هذا آثارٌ كثيرةٌ، منها قصة أبي طالبٍ (¬1) ومنها قصَّة ابن صُوريا (¬2) وغيره من اليهود كانوا يعترفون ولكنهم أبَوْا الدخول في الإِسلام، فلم يَعُدَّ النبي صَلّى الله عليه وآله [13] وسلَّم اعترافَهم إسلامًا, ولا تمسُّكَهم بعده بدينهم ردَّة. ومنها قصة هرقل (¬3) والأعشى ميمون (¬4) وغير ذلك. ¬

_ (¬1) انظر: صحيح البخاريَّ، كتاب مناقب الأنصار، باب قصَّة أبي طالبٍ، 5/ 52، ح 3884. وصحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان, باب صحَّة إسلام مَن حضره الموت ما لم يُشرع في النزع، 1/ 40، ح 24. (¬2) هو عبد الله بن صوريا اليهوديّ، أعلم بني إسرائيل. رُوِي أن النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال له: "يا ابن صوريا، أنشدك الله وأذكَّرك أيَّامه عند بني إسرائيل، هل تعلم أنَّ الله حكم فيمَن زنى بعد إحصانه بالرجم في التوراة؟ " فقال: اللهمَّ نعم، أما والله يا أبا القاسم إنهم ليعرفون أنك نبيٌّ مرسل ولكنهم يحسدونك. أخرجه البيهقي في كتاب الحدود، باب ما جاء في حدَّ الذمَّيَّين ... ، 8/ 245، من حديث أبي هريرة. وأصل القصَّة في الصحيحين من حديث ابن عمر. انظر: صحيح البخاريَّ، كتاب المناقب، باب قول الله تعالى: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ}، 4/ 206، ح 3635. وصحيح مسلمٍ، كتاب الحدود، باب رجم اليهود أهلِ الذمَّة في الزنى، 5/ 121، ح 1699. (¬3) هو ملك الروم، وهرقل اسمه، ولقبه قيصر. وقصَّته مع أبي سفيان مشهورةٌ، وفيها أنه قال له بعدما سأله عن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: (فإن كان ما تقول حقًّا فسيملك موضع قدميَّ هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارجٌ، لم أكن أظنُّ أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشَّمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه). انظر: صحيح البخاريَّ، كتاب بدء الوحي، 1/ 8، ح 7. وصحيح مسلمٍ، كتاب الجهاد والسير، باب كتاب النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل، 5/ 163، ح 1773. (¬4) هو ميمون بن قيس بن ثعلبة الشاعر الجاهليُّ المشهور، ذُكِر أنه خرج إلى رسول الله =

وقد أطلت في بيان هذا الشرط لأنني لم أره مشروحًا فيما وقفت عليه. ثم رأيت صاحب "الهَدْي" ذكر قصَّةً وقعت لبعض النصارى في العهد النبويِّ، ثم قال: [ب 9]: "وفيها: أن إقرار الكاهن الكتابي لرسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بأنه نبي لا يُدْخِلُه في الإِسلام ما لم يلتزم طاعته ومتابعته، فإذا تمسَّكَ بدينه بعد هذا الإقرار لا يكون ردّة منه، ونظير هذا قول الحَبْرَين له وقد سألاه عن ثلاث مسائل، فلما أجابهما قالا: نشهد أنك نَبِيٌّ، قال: فما يمنعكما من اتِّباعي؟ قالا: نخاف أن تقتلنا اليهود (¬1)، ولم يَلْزَمْهُما بذلك الإِسلامَ، ونظير ذلك شهادةُ عمِّه أبي طالبٍ له بأنه صادقٌ وأنّ دينه من خير أديان البريّة دينًا (¬2)، ولم تدخله هذه الشهادة في الإِسلام. ومَن تأمَّل ما في السير والأخبار الثابتة من شهادة كثير من أهل الكتاب والمشركين له صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بالرسالة، وأنه صادق، فلم تُدخلهم هذه الشهادة في الإِسلام، عَلِمَ أن الإِسلام أَمْرٌ وراء ذلك، وأنه ليس هو المعرفة فقط، ولا المعرفة والإقرار فقط، بل المعرفةَ والإقرار والانقياد ¬

_ = - صلى الله عليه وسلم - يريد الإِسلام، فأنشأ قصيدةً يمدح بها النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، ومِن ضمنها أبيات يقرُّ فيها بأن محمَّدًا نبيُّ الإله، ويحضُّ على فرائض الإِسلام، وينهى عن المحرَّمات المشهورة، فمرَّ بمكَّة في الفترة التي هادن فيها النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قريشًا، فصدَّه بعضُ المشركين عن نيَّته. انظر: السيرة النبويَّة لابن هشام 2/ 29 - 32، وديوان الأعشى 185 - 187 (¬1) أخرجه التَّرمِذيّ في كتاب التفسير، بابٌ ومن سورة بني إسرائيل،، ح 3144، وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. والنَّسائيُّ في كتاب تحريم الدم، السحر، 7/ 102 - 103. (¬2) قال ذلك في قصيدةٍ له، أورد بعضها ابن إسحاق في سيرته ص 136.

والتزام طاعته ودينه ظاهرًا وباطنًا" (¬1). وبعد ذلك رأيت في حاشية عبد الحكيم على شرح المواقف ما لفظه: " .... من حصل له تصديقٌ بلا اختيارٍ إذا التزم العمل بموجبه يكون إيمانًا اتّفاقًا. ولو صدَّق النبيَّ بالنظر إلى معجزاته اختيارًا ولم يلتزم العمل بموجبه بل عانده فهو كافرٌ اتّفاقًا. فعُلم أن المعتبَر في الإيمان الشرعيَّ هو الاختيار في التزام موجب التصديق لا في نفسه، وهذا هو التسليم الذي اعتبره بعض الفضلاء أمرًا زائدًا على التصديق" (¬2). وإذ قد تبيَّن أن من شرط الاعتداد بشهادة أن لا إله إلا الله أن تقع على وجه الالتزام، فمن الواضح أنه لا بدَّ من معرفة معناها كسائر صيغ العقود التي يلتزم بها المكلَّف ما لم يكن ملتزمًا له قبل. ثم إذا وقعَتْ كلمة الشهادة مستكملة للشروط فشرط استمرار حكمها ألا يحدث من صاحبها ما يخلُّ بموجَبها، وهذا هو المقصود الحقيقي والثمرة المطلوبة، ولذلك وقع الاتّفاق على أنَّ السجود للصنم أو الشمس أو نحوهما ردَّةٌ تخرج من الإِسلام إلا المكرَه بشرطه، ولم يشترط في الحكم برِدَّة الساجد للصنم أو الشمس أن يُسَمَّي ما سجد له إلهًا أو يُسَمِّي سجوده عبادةً، بل لو كان حال السجود معلنًا بثباته على شهادة أن لا إله إلا الله وكانت هناك قرينةٌ تدلُّ أن سجوده إنما كان لغرضٍ عارضٍ، كأن جُعِلَ له مالٌ ¬

_ (¬1) الهدي بهامش سيرة ابن هشامٍ 2/ 39. [المؤلف]. وهو في طبعة مؤسسة الرسالة 3/ 638. (¬2) حواشي شرح المواقف، موقف 6، مرصد 3، مقصد. [لمؤلف]. 8/ 322 والنص المنقول لحسن جلبي في حاشيته لا لعبد الحكيم السيالكوتي.

شبهة وجوابها

عظيمٌ على السجود فسجد، لم يُفِدْه ذلك ظاهرًا ولا باطنًا. والسرُّ في ذلك: أنَّ سبب الكفر هاهنا ليس محصورًا فيما يدلُّ عليه السجود من الاعتقاد في الشمس، بل له وجه آخر وهو الإقدام على ما عُلم أنه في حكم الشرع كفرٌ، فالإقدام عليه بغير إكراهٍ دليلٌ واضحٌ على رضاه بأن يكون كافرًا، وسيأتي لهذا مزيدٌ إن شاء الله تعالى. وإذا علمت أن المقصود الحقيقيَّ هو الاستمرار على مقتضى الشهادة حتى لا يقع من الشاهد ما ينقضها علمت أنه لا بدَّ من معرفة معناها؛ إذ مَن لا يعرف معناها لا يؤمَن عليه أن يقع فيما ينقضها، وهذا بغاية الوضوح. [ب 10] شبهةٌ وجوابها فإن قيل: أفلا يكفي الإنسان أن يكون معترفًا بصدق الرسول في جميع [14] ما جاء به مصدَّقًا به مسلَّمًا راضيًا ملتزمًا العمل بموجَب ذلك عازمًا عليه، فلما سمع كلمة أن لا إله إلا الله وعلم أنَّ الرسول جاء بها اعترف بها وصدّق وسلّم ورضي والتزم وعزم على العمل بموجَبها مع جهله بمعناها كما يكفيه نحو هذا في الآيات القرآنيَّة والأحاديث المتواترة، وإذا وقع منه عملٌ يخالف موجَبها عُذِرَ بالجهل؟ قلت: الأدلَّة التي قدَّمناها صريحةٌ في أن المطلوب في الشهادة الاعترافُ والتصديق والتسليم والرضا والالتزام والعمل بالموجَب على وجه التحقيق في كلَّ واحد منها، وذلك لا يكون إلا مع العلم بالمعنى كما قدَّمنا. فأمَّا حصول هذه الأمور بمجرَّد خبر المعصوم مع جهل المعنى، فلا يكون على وجه التحقيق كما هو ظاهر. وقد يجمع الجاهل بالمعنى بين الاعتراف بلا إله إلا الله على الوجه المذكور وبين الاعتراف بما يناقض معناها، أعني

الشركَ، وإنكارَ حقيقة معناها، أعني التوحيد، وهكذا يُقال في التصديق وبقيَّة الأمور. وحينئذٍ فلم يحصل له شيء من المقصود وهو أن يعبد الله ولا يشرك به شيئًا، وما يدرينا لَعَلَّ هذا الرجل لو عَلِمَ حقيقة معناها لما اعترف ولا صدَّق، وهكذا الباقي. ووجه ذلك: أنه قد تقوم لديه شبهاتٌ تعارض عنده ما يعتقده من صدق الرسول أو يكون ذلك الأمر مخالفًا لهواه. وللهوى سلطان عظيم على النفوس، فربما عُرِضَت الحقيقة البينة على النفس وهي غير مخالفة لهواها فتقبلها، ثم تُعرض عليها حقيقة مثل تلك في الوضوح أو أبين، ولكنها مخالفة لهواها فتردّها. وهل كذّب المشركون رسلهم إلا لمجيئهم بما يخالف أهواءهم؟ وفي الحديث: "حُبُّك للشيء يُعْمي ويُصِمّ" (¬1). ومن تتبع مناظرات أهل النحل المختلفة وتأويلاتهم البراهينَ الواضحةَ تبين له ما ذكرناه، بل من تتبع مناظرات الفرق الإِسلامية وما تحتجُّ به كلُّ فرقةٍ منها، [ب 11]، وتردُّ ما يخالفها من الأدلَّة أو تتأوَّله عرف ما للهوى من عظمة السلطان، على أن كثيرًا من أولئك المتأوَّلين التأويلات التي لا يشكُّ البريء من الهوى في بطلانها هم ممن ثبتت معرفته وأمانته وأنه لا يتعمَّد الباطل، ولكن الهوى أعماه وأصمَّه فقاتل الحقَّ وهو يظنُّ أنه يقاتل عن الحقَّ. ¬

_ (¬1) مسند أحمد 5/ 194. سنن أبي داود، كتاب الأدب، بابٌ في الهوى، 2/ 344، ح 5130. كلاهما من حديث أبي الدرداء مرفوعًا، وفي سنده مقالٌ، ورجَّح بعض الحفاظ وقفه, وفي الجامع الصغير أن ابن عساكر أخرجه من حديث عبد الله بن أُنَيْس، قال في الشرح [التيسير بشرح الجامع الصغير 1/ 1002]: "وسنده حسنٌ"، وقد رُوِي من حديث معاوية. [المؤلف] وفي نسخة أ: "وسنده حسن، وزَعْمُ وَضْعه رُدَّ".

ولله درُّ البُرَيق الهذلي في قوله (¬1): أَبِنْ لي ما ترى والمرء تأبى (¬2) ... عزيمته ويغلبه هواه [16] فيعمى ما يرى فيه عليه ... ويحسب ما يراه لا يراه وكما أن الإنسان قد يجتهد في الطاعة في العمل ولكنه لو كُلِّفَ عملًا شديد المشقة لم يُطِع، قال الله عزَّ وجلَّ: {وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} [محمد: 36 - 37]، وقال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [النساء: 66]، وقال تبارك وتعالى لرسوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159] = فكذلك قد يجتهد الإنسان في التصديق فإذا كُلِّف التصديق بما يخالف هواه لم يُصَدِّق، فربما أُخْبِر بخبر لا يفهمه فصدَّق على عادته، ولو تبيَّن له معناه وكان مخالفًا لرأيه وهواه لكذَّب أو ارتاب أو توقَّف؛ فقد كان مشركو قريشٍ يعلمون أمانة النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم حتى خصُّوه بلقب الأمين، ولما سأل هرقل أبا سفيان عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: هل كنتم تتَّهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال أبو سفيان: لا (¬3). وأبو سفيان يومئذ رأسُ المشركين وأشدُّهم عداوةً لرسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم. ¬

_ (¬1) انظر: شرح أشعار الهذليِّين 2/ 758. (¬2) في شرح أشعار الهذليِّين: يأتي، ولعله أنسب. (¬3) صحيح البخاريِّ، في أوائله، بابٌ كيف كان بدء الوحي إلخ، 1/ 8 - 9، ح 7. [المؤلف]

وأخرج الحاكم في المستدرك عن ناجية بن كعبٍ (¬1)، عن عليِّ بن أبي طالبٍ، قال: قال أبو جهلٍ: "قد نعلم يا محمَّد أنك تصل الرحم وتَصْدُق الحديث، ولا نُكذَّبك، ولكن نُكذَّب الذي جئت به"، فأنزل الله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ} [الأنعام: 33]. قال الحاكم: "صحيحٌ على شرط الشيخين"، تعقَّبه الذهبي، فقال: "ما خرَّجا لناجية شيئًا" (¬2). [ب 12] أقول: أجل، لم يخرجا له، ولكن قد وثَّقه العجليُّ وابن حِبَّان، وقال ابن مَعين: "صالحٌ". فأما قول ابن المدينيِّ: "ما روى عنه غيرُ أبي إسحاق، وهو مجهولٌ"، فقد قال السخاوي في فتح المغيث - بعد ذكر مَن يقبل المجهول -: "وخصَّ بعضهم القَبول بمن يزكَّيه مع رواية الواحد أحدٌ من أئمة الجرح والتعديل, واختاره ابن القطَّان في بيان الوهم والإيهام، وصحَّحه شيخنا، وعليه يتمشَّى تخريج الشيخين في الصحيحين لجماعةٍ ... " (¬3). أقول: وبهذا الاعتبار يصحُّ قول الحاكم: "على شرط الشيخين". فأما قول الجوزجاني في ناجية: "مذمومٌ"، فالجوزجانيُّ كان فيه نصبٌ وانحرافٌ شديد عن عليًّ عليه السلام، يرى محبَّة عليٍّ جرحًا؛ ولهذا لم يلتفت العلماء إلى كلامه في أصحاب عليًّ ومحبَّيه، وقد صرَّح بذلك ابن ¬

_ (¬1) انظر ترجمته في ميزان الاعتدال 4/ 155. [المؤلف] (¬2) المستدرك، كتاب التفسير، تفسير سورة الأنعام، سورة الأنعام شيَّعها من الملائكة ما سدَّ الأفق، 2/ 315. [المؤلف] (¬3) فتح المغيث ص 135. [المؤلف]

حجرٍ وغيره في مواضع. وعليه فقوله في ناجية: "مذمومٌ" معناه أنه كان يحب عليًّا، "وتلك شكاةٌ ظاهرٌ عنك عارها" (¬1). نعم، أخرج الترمذي الحديث في جامعه من طريق معاوية بن هشام، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن ناجية، عن عليًّ. ثم أخرجه من طريق عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن ناجية، أنَّ أبا جهل ... قال الترمذي: "فذكر نحوه ولم يذكر فيه: عن عليٍّ. وهذا أصحُّ" (¬2). أقول: ابن مهديًّ أثبت من معاوية، ولكن رواية المستدرك من طريق إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن ناجية، عن عليّ. وقد قال ابن مهدي نفسه: إسرائيل في أبي إسحاق أثبت من شعبة والثوريِّ. أقول: ولعلم مشركي قريشٍ بمنزلة النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم من الصدق والأمانة فزعوا إلى قولهم: (مسحورٌ)، (مجنونٌ)، ونحو ذلك. والمقصود أنه - صلى الله عليه وسلم - لو جاءهم بخبرٍ لا يخالف هواهم أو لا يعرفون معناه لصدَّقوه، ولكنه لما جاءهم بـ (لا إله إلا الله) وهم يعرفون معناها بما يخالف هواهم أنكروا. ¬

_ (¬1) هذا عجز بيتٍ صدره: وعيَّرها الواشون أني أحبُّها وهو لأبي ذُؤيبٍ الهذلي، وظاهرٌ عنك، أي: زائلٌ عنك، لا يَعْلَق بك. انظر: شرح أشعار الهذليَّين 1/ 70. (¬2) جامع الترمذي، تفسير سورة الأنعام، 2/ 678، ح 3064. [المؤلف].

وفي الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم جمع قريشًا [17] ثم قال لهم: "أرأيتكم لو أخبرتُكم أن خيلًا بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدِّقيَّ؟ " قالوا: نعم، ما جرّبنا عليك إلاَّ صدقًا، قال: "فإني [ب 13] نذيرٌ لكم بين يدي عذابٍ شديدٍ". فقال أبو لهبٍ: تبًّا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فنَزلت: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} (¬1) [المسد: 1]. وقال الله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146]. وقال جلَّ ثناؤه: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 20]. وقد تقدَّم بيان أن فرعون وقومه كانوا مستيقنين بصدق موسى عليه السلام، ومع ذلك كان منهم ما كان. وكان عمرو بن عبيد من زُهَّاد المسلمين وعُبَّادهم يُضْرَب به المثل في ذلك، حتى قال الخليفة المنصور العباسي في العُبّاد: كلُّكم طالب صيد كلُّكم يمشي رويد غير عمرو بن عبيد ¬

_ (¬1) صحيح البخاريَّ، [كتاب التفسير]، تفسير سورة الشعراء، [باب قوله: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}]، 6/ 111، ح 4770. صحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان, بابٌ في قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ}، 1/ 134، ح 208. [المؤلف]

ورثاه لما مات بأبياتٍ مشهورةٍ. ومع ذلك فإنها أخذته فتنةٌ في القَدَر غلا فيها حتى قال: "إن كان {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} في اللَّوح المحفوظ فما لله على ابن آدم حجَّةٌ". وسُئل مرَّةً عن {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} كانت في اللوح المحفوظ؟ فقال: "ليس هكذا كانت"، قيل: وكيف كانت؟ فقال: "تبَّت يدا مَن عمل بمثل ما عمل أبو لهبٍ"، كأنه يريد أنها كانت: "تبَّت يدا مَن أشرك بالله وكذَّب رسوله" مثلاً، ثم لما أشرك أبو لهب وكذَّب علم الله تعالى ذلك منه، فجعل بدل هذا {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ}؛ لأنَّ مقصود عمرٍو نفي علم الله بأن فلانًا سيكفر وفلانًا سيفجر، وإنما يَعلم ذلك بعد وقوعه. ورُوِي له عن الأعمش، عن زيد بن وهبٍ، عن ابن مسعودٍ, عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم حديثٌ (¬1) رآه مخالفًا لهواه، فقال: لو سمعت الأعمش يقول هذا لكذَّبته، ولو سمعته من زيد بن وهبٍ لما صدَّقته، ولو سمعت ابن مسعودٍ يقوله لما قبلته، ولو سمعتُ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم (¬2) لرددته، ولو سمعت الله يقول هذا [18] لقلت: ليس على هذا أخذت ميثاقنا! ونُقِلَت عنه أشياء أخرى من هذا الباب. وجاء عنه أنه قال: "لو أن عليًّا ¬

_ (¬1) هو حديث: "إن أحدكم يُجمع خلقه في بطْن أمه أربعين يومًا" إلخ، وهو في الصحيحين، انظر: صحيح البخاري، كتاب القدر، باب 1، 8/ 122 ح 6594، وصحيح مسلم، كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه 8/ 44 ح 2643 (¬2) زاد في تاريخ بغداد 12/ 172 هنا: (يقول هذا)، وهو أوضح.

وعثمان وطلحة والزُّبير شهدوا عندي على شِراك نعلٍ ما أجزته" (¬1). وليس هذا رأي عمرٍو وحده، بل كلُّ مَن يعتقد عقيدةً مستندًا فيها إلى عقله يزعم أنها يقينيَّةٌ عنده، بحيث يستحيل أن يجيء يقينٌ بخلافها. قال الغزالي: "أمَّا اليقين فشرحه أنَّ النفس إذا أذعنت للتصديق بقضية من القضايا وسكنت إليها فلها ثلاثة أحوال: أحدها: أن تتيقَّن وتقطع به .... بل حيث لو حُكي لها عن نبي من الأنبياء أنه أقام معجزة وادَّعى ما يناقضها فلا تتوقف في تكذيب الناقل، بل تقطع بأنه كاذب، أو تقطع بأن القائل ليس بنبي، وأنَّ ما ظن [ب 14] أنه معجزة فهي مخرقة (¬2)، وبالجملة فلا يؤثَّر هذا في تشكيكها بل تضحك من قائله وناقله .... " (¬3). وقد عرّفتك أن كلَّ معتقد عقيدة مسندًا لها إلى العقل يزعم أنها يقينية. ومعنى ذلك أنه لو لقي النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فشافهه النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بما يخالف تلك العقيدة لكذّبه، والعياذ بالله. [19] فلا تحسبنْ هندًا لها الغدر وحدها ... سجيةَ نفسٍ، كلُّ غانيةٍ هندُ (¬4) ولكن القوم إذا جاء دليل شرعي يخالف عقيدتهم فتارة ينكرون ثبوته ¬

_ (¬1) انظر ترجمته من: تهذيب التهذيب وغيره، وانظر: الاعتصام 1/ 309 - 313، وتاريخ الخطيب 12/ 170 - 188. [المؤلف] (¬2) ما عُمِل بتمويهٍ وخداعٍ. انظر: تاج العروس، مادَّة (مخرق). (¬3) المستصفى 1/ 43. [المؤلف] (¬4) البيت لأبي تمام، ديوانه 2/ 81.

عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، بل يزعمون أن ثبوته محال، وتارة يستكرهونه على التأويل، وقد مرَّ مثال ذلك عن عمرو بن عُبيدٍ. وقد علمنا أنهم مختلفون في العقائد؛ فهذا يعتقد أمرًا ويزعم أنه يقينيٌّ، وذاك يعتقد نقيضه ويزعم أنه يقينيٌّ. وبهذا يُعلَم أن من العقائد التي يزعم أصحابها أنها يقينيَّةٌ ما هو باطلٌ قطعًا، فلو فرضنا أن أصحابها لقوا النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فأخبرهم ببطلان عقيدتهم فماذا يكون حالهم؟ أيردُّون قوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ويكذِّبونه ويقطعون بأنه ليس بنبيٍّ وأن معجزاته مخرقةٌ ويضحكون منه وممن يتَّبعه، أم يتردَّدون، أم يرجعون عن عقيدتهم التي زعموا أنها يقينيَّةٌ يستحيل أن يجيء يقينٌ بخلافها؟ ومَنْ تأمل تأويلاتهم المستكْرَهة للآيات القرآنيَّة وما وقع فيه شجعانهم كابن سينا وابن رشدٍ وغيرهما لم يجزم بحسن الظنِّ بهم. إنَّ مَن غَرَّه النساء بودٍّ ... بعد هندٍ لجاهلٌ مغرورُ كلُّ أنثى وإن بدا لك منها ... آية الحبّ حبُّها خيتعورُ (¬1) (¬2) هذا مع أن هؤلاء - وعمرٌو في مقدمتهم - إذا سمعوا آية من القرآن لم يفهموا معناها لم يتردَّدوا في تصديقها، وكذلك إذا كانت مخالفةً لعقيدتهم فإنهم يصدِّقونها بعد تأوُّلها على ما يوافق عقيدتهم، ولكن لو فُرِض [20] أنَّ آيةً جاءت قطعيَّة الدلالة على خلاف قولهم فما ندري ماذا يصنعون؟ وقد ¬

_ (¬1) هو كلُّ شيءٍ يتغيَّر ويضمحلُّ ولا يدوم على حالٍ، والسراب المضمحِلُّ، وشيءٌ كنسيج العنكبوت يظهر في الحرِّ كالخيوط في الهواء. المعجم الوسيط 454. (¬2) البيتان لآكل المرار حجر بن مطاوية. البيان والتبيين للجاحظ: 3/ 328، والأغاني: 16/ 380 - 381.

نُقِل عن عمرو أنه جحد أن تكون {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1] السورة، وقوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدثر: 11]، الآيات، من القرآن. وذهب بعض المنتسبين إلى الإِسلام من المتفلسفين إلى أنَّ [ب 15] في القرآن والأحاديث الثابتة كذبًا كثيرًا، ويقولون: هو كذبٌ حسن للمصلحة. وذهب بعضهم إلى إنكار أن يكون القرآن من عند الله، وإنكار أن يكون الأنبياء معصومين عن الكذب، قالوا: وإنما هم رجالٌ صالحون مصلحون تكلَّموا بمقدار فهمهم وعلمهم فغلطوا كثيرًا. وفي قصة ابن أبي سرحٍ أنه كان يكتب للنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فربَّما أملى عليه النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلَّم: "عليمٌ حليمٌ"، فيقول: أو: "عزيزٌ حكيمٌ"، فيقول النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "كلاهما سواءٌ"، فارتدَّ ابن أبي سرحٍ (¬1). هذا ضربٌ. والضرب الثاني، من أمثلته: ما في صحيح مسلمٍ من حديث أبيِّ بن كعبٍ في اختلاف القراءة، وفيه: قال أُبيٌّ: "فسقط في نفسي من التكذيب ولا إذ كنت في الجاهلية، فلما رأى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ما قد غشيني ضرب في صدري، فَفِضْت عَرَقًا، وكأنما أنظر إلى الله فَرَقًا" (¬2). وفي خبر الرجل الذي قاتل مع النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أشدَّ ¬

_ (¬1) انظر الروايات وتوجيه القصَّة في الصارم المسلول ص 118 وما بعدها. [المؤلف] (¬2) صحيح مسلمٍ، كتاب الصلاة [وفي بعض النسخ: كتاب صلاة المسافرين وقصرها]، باب بيان أن القرآن على سبعة أحرفٍ، 2/ 203، ح 820. [المؤلف]

القتال، وقال النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "هو من أهل النار"، فكاد بعض المسلمين يرتاب (¬1). [21] وفي قصَّة الحديبية، ويوم أحدٍ، ووفاة النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ما يشبه ذلك. والمقصود أن الإيمان الإجماليَّ لا يؤمَن تزلزله أو زواله إذا جاء في التفصيل ما يخالف الرأي والهوى، ولكنَّ أُبيًّا وأضرابه كان الله تبارك وتعالى يتداركهم فورًا ويخرجهم من الظلمات إلى النور. [22] وإنما لم يكلَّف الله عزَّ وجلَّ العباد بالإيمان التفصيليَّ بجميع ما جاء به الرسول بحيث لا يُقبَل إيمان العبد حتى يعلم الشريعة من أوَّلها إلى آخرها؛ لما في ذلك من المشقَّة الشديدة، بل عدم الإمكان، فلو كلَّفهم بذلك لم يكد يصحُّ إيمان أحدٍ، فاكتُفي بالعلم التحقيقيِّ بمعنى الشهادتين مع الإيمان الإجماليَّ، ثم كُلَّف الناس بعد ذلك ما يطيقون. والتوحيد رأس الدين وعماده، فلا يلزم من الاكتفاء بالإيمان الإجماليِّ بالقرآن والسنَّة بدون معرفة المعاني كلِّها أن يُكتفى بمثل ذلك في الشهادتين. [ب 16] فإن قيل: فما القول في صبيان المسلمين: أمسلمون أم لا؟ وفيمَن كبر منهم وبلغ ولم يعلم معنى الشهادتين تحقيقًا أمسلمٌ أم لا؟ وفيمَن قبل الإِسلام من الأعاجم ونحوهم وهو لا يعلم معنى الشهادتين أيصحُّ إسلامه أم لا؟ ¬

_ (¬1) صحيح البخاريَّ، كتاب القدر، باب العمل بالخواتيم، 8/ 124، ح 6606. صحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان, باب بيان غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه، 1/ 74، ح 112. [المؤلف]

قلت: هؤلاء كلُّهم مسلمون، وإنما الكلام في الإيمان المنجي؛ فالصبيُّ ومَن بلغ مجنونًا ينجوان لعدم التكليف؛ فإن الأعراب وإن كانوا يعلمون معنى الشهادتين إلاَّ أنهم لم يصدِّقوا به بقلوبهم، وهؤلاء لم يعلموا معنى الشهادتين حتى يُعلَم أيصدَّقون أم لا, ولكن الشريعة قد قبلت إسلام هؤلاء وهؤلاء وأجرت عليهم أحكام المسلمين. فإن قلت: فإذا كان رجلٌ عارفٌ بالتوحيد الذي تدلُّ عليه (لا إله إلا الله) تحقيقًا مصدَّقًا به مسلِّمًا راضيًا ملتزمًا عالمًا بموجَبه ولكنه لا يعلم معنى (لا إله إلا الله)، ومع ذلك يقولها امتثالًا مؤمنًا بها إجمالًا؟ قلت: أمَّا هذا فالأمر فيه قريبٌ، ولكن الغالب أن الجاهل بمعنى (لا إله إلا الله) يكون جاهلاً بحقيقة التوحيد، ومَن كان كذلك يُخشى عليه أن يكون مشركًا وهو لا يشعر، [23] أو أن يعرض له الشرك فيقبله وهو لا يدري، أو أن يرمي غيره من المسلمين بالشرك، [ب 17] وكلا الأمرين خطرٌ شديدٌ. ***

باب في أن الشرك هلاك الأبد حتما، وأن تكفير المسلم كفر

بابٌ في أن الشرك هلاك الأبد حتمًا، وأن تكفير المسلم كفرٌ أما الشرك - نعوذ بالله منه - فهلاك الأبد، لا هوادة فيه لأحدٍ، قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48, 116]. وقال تعالى: {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72]. وقال عزَّ وجلَّ: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26)} أي: الملائكة، {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 26 - 29]. وقال تبارك وتعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ

(88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} [الأنعام: 83 - 89]. وقال جلَّ ثناؤه: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) [24] وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 64 - 65]. وقال تعالى: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} [الإسراء: 22]. [ب 18] وقال سبحانه: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء: 39]. وقال عزَّ وجلَّ: {فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 213 - 214]. وقال جلَّ ثناؤه: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]. وقال تبارك وتعالى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18]. هذا مع أن الله عزَّ وجلَّ قد عصم ملائكته وأنبياءه وخاتمهم عليهم الصلاة والسلام من الشرك ومما هو دونه، ولكن نَبَّه بما تقدَّم من الآيات المتعلقة بهم على عِظَمِ أمر الشرك وخطره، مع أنَّ التعليم والتحذير هو من جملة العصمة.

فصل

فصلٌ ومما يبيِّن فظاعة الشرك وشدَّه بغض الله عزَّ وجلَّ له: النظر فيما ورد في تعظيم شأن ضدِّه وهو التوحيد. قال الله عزَّ وجلَّ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. جاء عن ابن عبَّاسٍ وغيره تفسير العبادة بالتوحيد (¬1). ووَجْه ذلك: أن الله عزَّ وجلَّ يحبُّ أن يُعبد العبادة التي يقبلها، وهو لا يقبل إلا العبادة الخالصة التي لا شرك معها. [25] ومما يبيِّن عظمة شأن التوحيد وشدَّة خطر الشرك: أن أعظم سورة في القرآن، والسورة التي تعدل ثلثه, وإنما هي بضع عشرة كلمة, والسورة التي ورد أنها تعدل ربعه, وأعظم آية في القرآن = كلُّها مبنيَّةٌ على توحيد العبادة. أما أعظم سورة في القرآن فأمُّ الكتاب. روى البخاريُّ وغيره عن أبي سعيد بن المعلَّى أن النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال له: "ألا أعلِّمك أعظم سورةٍ في القرآن قبل أن تخرج من المسجد؟ "، فأخذ بيدي، فلما أردنا أن نخرج، قلت: يا رسول الله، إنك قلت: لأعلِّمنَّك أعظم سورةٍ من القرآن، قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في تفسيره 1/ 385، وابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 59 - 60 كلاهما من طريق ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس (اعبدوا ربكم) أي: وحِّدوا ربكم .. (¬2) صحيح البخاريِّ، [كتاب] فضائل القرآن، باب [فضل] فاتحة الكتاب، 6/ 187، ح 5006. [المؤلف]

أشار صلَّى الله عليه وآله وسلَّم إلى قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر: 87]. وجاء نحوه من حديث أُبَيَّ بن كعبٍ وأبي هريرة (¬1). وصحَّ في عدَّة أحاديث تسميتها أمَّ الكتاب وأمَّ القرآن. وفي ذلك أوضح الدَّلالة على أنها أعظم السور؛ لأن أمَّ الشيء في اللغة أعظم ما فيه، يُقال للدِّماغ: أمُّ الرأس. [ب 19] ومما يدل على عظمتها: أن الله تبارك وتعالى فرض قراءتها في كلِّ ركعةٍ من الصلاة، فانظر كم شُرِع تكرارها كلَّ يومٍ، والصلاة أعظم الفرائض الدينيَّة. وجاء أن الفاتحة هي الصلاة؛ ففي صحيح مسلمٍ وغيره من حديث أبي هريرة عن النبيَّ صلَّى الله تعالى عليه وآله وسلَّم: "قال الله تعالى: قَسَمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، قال الله تعالى: حمدني [26] عبدي، وإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، قال الله تعالى: أثنى عليَّ عبدي" الحديث، فصَّل فيه الفاتحة فقط فجعلها في الصلاة (¬2). ويشهد لذلك تسمية الصلاة صلاةً، فإن الصلاة في اللغة: الدعاء، وليس في الصلاة دعاءٌ أعظم من الفاتحة، والشيء إنما يسمَّى باسم جزئه إذا كان ذلك الجزء كأنه كلُّه. ¬

_ (¬1) المستدرك، [كتاب فضائل القرآن، "ما أُنزِلت في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثل فاتحة الكتاب"]، 1/ 557 - 558. [المؤلف] (¬2) صحيح مسلمٍ، كتاب الصلاة, باب وجوب قراءة الفاتحة, 2/ 9، ح 395. [المؤلف]

وبيان كون الفاتحة مبنيَّةً على توحيد العبادة: أن صدر السورة تمهيدٌ لقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}. فقوله تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] معناه كما حقَّقه المفسِّرون وغيرهم: لا نبتدئ بشيءٍ مستعينين به أو متبرَّكين إلا باسم الله الرحمن الرحيم، وتَضَمُّنُ هذا للتوحيد ظاهر. {الْحَمْدُ لِلَّهِ} معناه على ما حقَّقه المفسرون وغيرهم: كلُّ حمدٍ فهو مستحَقٌّ لله وحده، أي ليس معه تعالى أحدٌ يستحقُّ شيئًا من الحمد، وإيضاحه: أنَّ الكمالات التي يُسْتَحَقُّ عليها الحمد كلُّها لله عزَّ وجلَّ؛ فإنَّ ما يُنْسَب إلى غيره من الكمالات فهو أثرٌ من آثار خلقه تعالى وفضله {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53]. رُوِي عن جعفر بن محمَّد بن عليِّ بن الحسين بن عليًّ عليهم السلام قال: فَقَدَ أبي بغلة له فقال: لئن ردَّها الله عزَّ وجلَّ لأحمدنَّه بمحامد يرضاها، فما لبث أن أُتىِ بها بسرجها ولجامها، فركبها، فلما استوى عليها وضَمَّ عليه ثيابه، رفع رأسه إلى السماء وقال: الحمد لله، لم يزد عليها، فقيل له. في ذلك، فقال: وهل تركتُ أو أبقيتُ شيئًا؟ جعلتُ الحمد كلَّه لله عزَّ وجلَّ (¬1). وإذا كان لا يستحق شيئًا من الحمد إلا الله عزَّ وجلَّ، فقد بان من ذلك أنه لا يَستحق غيرُه تعالى شيئًا من العبادة. ¬

_ (¬1) صفة الصفوة 2/ 62. [المؤلف]. وقد رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الشكر ص 54، ح 106. ومن طريقه أبو نعيم في حلية الأولياء 3/ 186، وفي إسناده محمد بن مسعر، لم نجد فيه جرحًا ولا تعديلاً.

قال ابن جريرٍ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} الشكر خالصًا لله جَلَّ ثناؤه دون سائر ما يُعبد من دونه ودون كُلِّ ما يُرَى من خلقه" (¬1). [ب 20] {رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي مالكهم ومدبِّرهم، بيده ملكوت كلِّ شيءٍ، يدبَّر الأمر كلَّه، فكيف يعبد أحدٌ من عباده المخلوقين المربوبين عبدًا مخلوقًا مربوبًا مثله؟! [27] {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} هذا إبطالٌ لما توهَّمه بعض المشركين بل جميعهم كما يأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى في بيان اعتقاد قدماء المصريَّين (¬2)، توهَّموا أن الناس لحقارتهم وجهلهم وفجورهم لا ينبغي لهم أو لا يغنيهم التوجُّه إلى مَن له الكبرياء والجلال والعظمة تبارك وتعالى، بل لا بدَّ لهم أن يتوجَّهوا إلى المقرَّبين عنده كالروحانيِّين والصالحين ليكونوا شفعاءهم عند الله ويقرِّبوهم إليه زُلفى؛ لأنهم متوسَّطون بين الجبار عزَّ وجلَّ وبين سائر الخلق، فدرجتهم لا ترفعهم عن الالتفات إلى العامَّة ولا تضعهم عن نظر الجبَّار تعالى إليهم وقبول شفاعتهم. ويقول بعضهم: إذا كثرت ذنوب الإنسان كان حريًّا بألَّا تناله رحمة العزيز الجبَّار إلا أن يشفع له أحد المقرَّبين، وهذا جهل برحمة الله تعالى التي قال فيها: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156]، وقال جلَّ ثناؤه: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ}، إلى قوله: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7]. وسيأتي بسط هذا المعنى إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) تفسير ابن جرير 1/ 45. [المؤلف] (¬2) انظر ص 700 فما بعدها.

[28] {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} فيه ردٌّ على مَن يقول: أما الدنيا فإن الله تبارك وتعالى يوسِّع فيها على البرَّ والفاجر؛ فيمكن ألَّا يحتاج المخلوق فيها إلى شفاعةٍ، وأما الآخرة فلا غنى فيها عن الشفاعة؛ فأخبر الله تعالى أنه مالك يوم الدِّين بما فيه، فهو الذي يملك الشفاعة والشافعَ والمشفوعَ له، {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزمر: 44]، وقال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26]. فمَن تدبَّر الآيات المتقدِّمة من الفاتحة واستحضر ما تضمنته من دلائل التوحيد لم يبقَ عنده ريب في أنَّ الله عزَّ وجلَّ هو وحده المستحق للعبادة، فإذا كان مع ذلك مستحضرًا أنه قائمٌ بين يدي ربَّ العالمين يثني عليه ويتضرَّع إليه، لم يتمالك نفسه أن يقول بلسانه وقلبه وعقله: [ب 21] {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} , ومعنى ذلك كما أطبق عليه المفسرون وأهل العربية وأهل المعاني: نَخُصُّك اللَّهمَّ بعبادتنا ونَخُصُّك باستعانتنا، أي: لا نعبد غيرك، ولا نستعين أحدًا سواك. وعبارة ابن جريرٍ: "وتأويل قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} لك اللهم نخشع ونذلّ ونستكين إقرارًا لك يا ربنا بالربوبيَّة". ثم روى بسنده عن ابن عبَّاسٍ قال: "قال جبريل لمحمَّدٍ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: قل يا محمَّد: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} نُوَحِّد ونخاف ونرجو يا ربَّنا لا غيرك"، إلى أن قال ابن جريرٍ: "ومعنى قوله: {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}: وإيَّاك ربنا نستعين على عبادتنا إياك وطاعتنا لك وفي أمورنا كلها لا أحدًا سواك، إذ كان مَنْ يكفر [29] بك يستعين بسواك, ونحن

بك نستعين في جميع أمورنا مخلصين لك العبادة". ثم روى بسنده عن ابن عبَّاسٍ: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قال: "إيَّاك نستعين على طاعتك وعلى أمورنا كلِّها" (¬1). وعلاقة بقيَّة السورة بالتوحيد تظهر بالتدبُّر. ثم رأيت في نظم الدرر للعلامة البقاعيَّ تلميذ الحافظ ابن حجرٍ في الكلام على الفاتحة ما لفظه: "فالغرض الذي سيقت له الفاتحة هو: إثبات استحقاق الله تعالى لجميع المحامد وصفات الكمال واختصاصه بملك الدنيا والآخرة وباستحقاق العبادة .... ، ومدار ذلك كله مراقبة العباد لربهم. والمقصود من جَمْعهم تعريفهم بالمَلِكِ وبما يرضيه وهو إفراده بالعبادة، وهو مقصود القرآن الذي انتظمته الفاتحة لإفراده بالعبادة فهو مقصود الفاتحة بالذات، وغيره وسائل إليه ..... ؛ لأن [المقصود من] (¬2) إرسال الرسل وإنزال الكتب: نصبُ الشرائع، والمقصود من نصب الشرائع: جمع الخلق على الحق، والمقصود من جمعهم: تعريفهم بالملِك وبما يرضيه، وهو إفراده بالعبادة، وهو مقصود القرآن الذي انتظمته الفاتحة بالقصد الأوَّل" (¬3). أقول: ويتلخَّص من كلامه بإيضاحٍ أنَّ مقصود الشرائع مجموعٌ في ¬

_ (¬1) تفسير ابن جريرٍ 1/ 52. [المؤلف] (¬2) ما بين المعقوفين ساقط من الأصل، وأضفته من المطبوع. (¬3) كذا نقلته من أوراقٍ مأخوذةٍ بالتصوير عن نسخةٍ قلميَّةٍ محفوظةٍ بدار الكتب المصريَّة أو بإحدى مكاتب إسلامبول. [المؤلف]. وهو في المطبوع 1/ 20 - 22. وقد وضع المؤلف هنا في نسخة (أ) كلمة (ملحق). واستوفى في هذا الملحق المستقلَّ الكلامَ على سورتي الإخلاص والكافرون.

الإِسلام، ومقصود الإِسلام مضمَّنٌ في القرآن، ومقصود القرآن منتظمٌ في الفاتحة، ومقصود الفاتحة في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}. وتقرير هذا يُحْوِج إلى إطالةٍ، ويكفي في إثباته قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. [ب 22] وأما السورة التي تعدل ثلث القرآن، فـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، ففي صحيح البخاري "عن أبي سعيد الخدري أن رجلاً سمع رجلاً يقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، يردِّدها فلما أصبح جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكر ذلك له، وكأَن الرجل يتقالُّها، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "والذي نفسي بيده، إنها لتعدِل ثلثَ القرآن"" (¬1). وفي صحيح مسلم "عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: أيعجز أحدكم أن يقرأ في ليلته ثلث القرآن؟ قالوا: وكيف يقرأ ثلث القرآن؟ قال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تعدل ثلث القرآن". وفيه: "عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: احشُدوا (¬2) فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن، فحشَد مَن حشَد، ثم خرج نبيُّ الله صلَّى الله عليه وآله وسلم، فقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}. ثم دخل فقال بعضنا لبعض: إني أرى هذا خبرٌ (¬3) جاءه من السماء فذاك الذي أدخله، ثم خرج نبيُّ الله صلى الله عليه ¬

_ (¬1) صحيح البخاري، فضائل القرآن، فضل {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، 6/ 189، ح 5013. [المؤلف] (¬2) يعني: اجتمِعوا واستحضروا الناس. النهاية 1/ 388. (¬3) كذا في الأصل وصحيح مسلم، وفي إحدى نُسخ صحيح مسلم بالنصب.

وآله وسلم فقال: إني قلت لكم سأقرأ عليكم ثلث القرآن، ألا إنها تعدل ثلث القرآن" (¬1). وفي الصحيحين وغيرهما أحاديث أخرى في هذا المعنى وفي فضلها. فأما بناؤها على توحيد العبادة فإن قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} معناه عند السلف ما لخَّصه ابن جرير في قوله: "هو الله الذي له عبادة كل شيء، لا تنبغي العبادة إلا له ولا تصلح لشيء سواه" (¬2). ومَن حمله على أَحديَّة الذات أو على ما يشمل الأمرين فالمراد بأحديَّة الذات، والله أعلم، الرَّدُّ على النصارى في قولهم: (ثلاثة أقانيم)، وانجزُّوا بذلك إلى القول بأن عيسى إله يستحق العبادة، وسيأتي إن شاء الله تعالى إيضاح ذلك، وعلى هذا فإثبات أحديَّة الذات مقصود منه إثبات الأحديَّة في استحقاق العبادة. {اللَّهُ الصَّمَدُ (2)}، ساق ابن جرير آثارًا في تفسيره ثم قال: "قال أبو جعفر: الصمد عند العرب هو السيد الذي يُصْمَد إليه، الذي لا أحد فوقه، وكذلك تسمِّي أشرافَها، ومنه قول الشاعر (¬3): ¬

_ (¬1) صحيح مسلم، كتاب الصلاة، باب فضائل القرآن، باب فضل قراءة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}. [المؤلف] (¬2) تفسيره 3/ 195. [المؤلف] (¬3) نُسب البيت إلى (هند) بنت معبد الأسدية. انظر: سيرة ابن هشام 2/ 254، ومعجم ما استعجم 2/ 996، والبيان والتبيين 1/ 180، وخزانة الأدب 11/ 269. ونُسب أيضًا إلى سبرة بن عمرو الأسدي. انظر: شرح أبيات إصلاح المنطق 151، وسمط اللآلي 2/ 933، ولسان العرب مادة (خير).

ألا بكَّر الناعي بخيري بني أسد ... بعمرو بن مسعود وبالسيِّد الصَّمَد وقال الزَّبْرِقان (¬1): ولا رهينة إلا سيِّد صمد فإذا كان كذلك فالذي هو أولى بتأويل الكلمة المعنى المعروف من كلام مَن نزل القرآن بلسانه" (¬2). [ب 23] وفي الكشاف (¬3): "الصمد فَعَل بمعنى مفعول من صمد إليه إذا قصده وهو السيد المصمود إليه في الحوائج". أقول: وإنما زاد ابن جرير قوله: "الذي لا أحد فوقه" لما فهمه والله أعلم من الحصر في قوله تعالى: {اللَّهُ الصَّمَدُ}، أي: لا صَمَد إلاَّ الله، وقد نص غيره على الحصر وأنه لأجله عُرِّف (الصمد) دون (أحد)؛ لأن المشركين لم يدَّعوا الأحديَّة لغير الله عز وجل، وإنما ادَّعوا الصمدية فأتى بالحصر ردًّا عليهم. وقد نص أهل البلاغة في بحث المسند أنَّ نحو "زيد الأمير" قد يفيد القصر، أي: لا أمير إلا زيد. وكأن ابن جرير رأى أن غير الله تعالى قد يصمد الناس إليه كالملوك والرؤساء وأن الصمْد إليهم قد يكون مباحًا، فرأى أنه لا يتأتَّى الحصرُ إلا مع ¬

_ (¬1) مجاز القرآن 2/ 316. انظر: الأمالي لأبي علي القالي 2/ 288، وفرحة الأديب للغندجاني 177. وصدره: ساروا إلينا جميعًا فاحتملوا (¬2) تفسيره 30/ 197. [المؤلف] (¬3) 4/ 242.

الزيادة المذكورة "الذي لا أحد فوقه"، والصواب: أنه لا حاجة إليها, ولكن الصمد في الآية صمد خاص تعيّنه القرائن، وسيأتي بيانه في تحقيق الدعاء إن شاء الله تعالى، وهذا الصَّمْد الخاصُّ عبادة لا يستحقه إلاَّ الله تعالى. {لَمْ يَلِدْ} ردٌّ على من زعم أن لله تعالى ولدًا، ومنهم مشركو العرب في قولهم: (الملائكة بنات الله)، والنصارى في شأن عيسى وغيرهم، وهؤلاء زعموا لله تعالى ولدًا ثم أشركوا ذلك المزعوم أنه ولد في العبادة، وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى. {وَلَمْ يُولَدْ} فيه رد على النصارى في قولهم: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 17, 72]، ثم عبدوه مع أنه مولود. {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} فيه [ردٌّ] (¬1) على جميع أصناف المشركين الذين يؤلهون غير الله، فإنهم يجعلونهم أكفاءً له من حيث استحقاق العبادة وإن كانوا لا يسوُّونهم به في كل شيء، وسيأتي إيضاح هذا إن شاء الله تعالى. ولبناء هذه السورة على توحيد العبادة سميت سورة الإخلاص، والله أعلم. وأما السورة التي ورد فيها أنها تعدل ربع القرآن فـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، ففي روح المعاني (¬2): "وجاء في حديث أخرجه الطبراني في الأوسط (¬3) عن ابن عمر مرفوعًا، وفي آخر أخرجه في ¬

_ (¬1) زيادة يحتَّمها السياق. (¬2) 30/ 249. (¬3) 1/ 61، ح 186، وفي إسناده: عُبَيد الله بن زحرٍ، وفيه مقالٌ. وأخرجه الحاكم في =

الصغير (¬1) عن سعد بن أبي وقاص كذلك أنها تعدل ربع القرآن". وأخرج أبو داود والترمذي والحاكم وغيرهم من طريق فروة بن نوفل الأشجعي، عن أبيه أنه أتى النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله علِّمني شيئًا أقوله إذا أويت إلى فراشي، قال: "اقرأ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} فإنها براءة من الشرك". قال الحاكم: "صحيح الإسناد" وأقره الذهبي (¬2). ¬

_ = كتاب فضائل القرآن، " {إِذَا زُلْزِلَتِ} تعدل نصف القرآن، و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ربع القرآن"، 1/ 566 (سقط من الأصل وهو في التلخيص). وقال: "صحيحٌ"، فتعقَّبه الذهبي فقال: "بل جعفر بن ميسرة منكر الحديث جدًّا، قاله أبو حاتمٍ. وغسَّان - يعني ابن الربيع - ضعَّفه الدارقطنيُّ". وانظر الآتي. (¬1) 1/ 114، وفي إسناده: زكريا بن عطية. قال أبو حاتم: "منكر الحديث". وقال العُقيلي في حديثه هذا: "لا يتابع عليه". انظر: الجرح والتعديل 3/ 599، الضعفاء 2/ 85. وورد من حديث أنس، أخرجه الترمذي في كتاب فضائل القرآن، باب ما جاء في {إِذَا زُلْزِلَتِ} 5/ 166، ح 2895. وأحمد 3/ 146 و221. من طريق سلمة بن وردان عنه. قال الترمذي: "حديث حسن". وأخرجه الترمذي أيضًا في الموضع السابق 5/ 165 - 166، ح 2893. من طريق ثابتٍ عنه. وقال: "حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث هذا الشيخ: الحسن بن سلم". ومن حديث ابن عباس. أخرجه الترمذي في الموضع السابق 5/ 166، ح 2894. والحاكم في كتاب فضائل القرآن، " {إِذَا زُلْزِلَتِ} تعدل نصف القرآن و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ربع القرآن". قال الترمذي: "هذا حديثٌ غريبٌ لا نعرفه إلا من حديث يمان بن مغيرة". وقال الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، فتعقَّبه الذهبي فقال: "بل يمان ضعَّفوه". (¬2) المستدرك، كتاب فضائل القرآن، قراءة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} براءةٌ من الشرك، =

وجاء نحوه من حديث جَبَلة بن حارثة (¬1)، وهو كما في الإصابة في ترجمته: "حديث متصل صحيح الإسناد" (¬2). [ب 24] وورد نحوه من حديث أنس، أخرجه البيهقي في الشعب (¬3)، ومن حديث خبَّاب أخرجه البزار وابن مردويه (¬4)، ذكرهما في روح ¬

_ = 1/ 565. وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه", ولم يتعقَّبه الذهبي. [المؤلف]. قلت: وانظر: سنن أبي داود، كتاب الأدب، باب ما يقول عند النوم، 4/ 313، ح 5055. وجامع الترمذي. كتاب الدعوات، باب 22، 5/ 474، ح 3403. وقال: "وقد اضطرب أصحاب أبي إسحاق في هذا الحديث ... ". وعمل اليوم والليلة للنسائي، قراءة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} عند النوم ... ، ص 468 - 469، ح 801 - 804. وصحيح ابن حبان (الإحسان)، كتاب الرقائق، باب قراءة القرآن، ذكر الأمر بقراءة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} لمن أراد أن يأخذ مضجعه، 3/ 69 - 70، ح 789 - 790]. (¬1) أخرجه أحمد 5/ 457، والنسائي في عمل اليوم والليلة، الموضع السابق، ص 467، ح 800، والطبراني في الكبير 2/ 287، ح 2195، وفي الأوسط 1/ 272، ح 888، و2/ 275، ح 1968. قال الهيثمي: "ورجاله وُثَّقوا". مجمع الزوائد 10/ 166. وفي إسناده اختلافٌ بيَّنه النسائي في الموضع المذكور، وانظر: العلل للدارقطني 13/ 277، س 3174. (¬2) الإصابة 2/ 159. (¬3) انظر: شعب الإيمان, باب في تعظيم القرآن، فصل في فضائل السور والآيات، ذكر سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} 5/ 461 - 462، ح 2291. قال البيهقي: "هو بهذا الإسناد منكر". (¬4) انظر: مختصر زوائد البزَّار 2/ 416، ح 2122. والمعجم الكبير للطبراني 4/ 81، =

المعاني (¬1) قال: "وأخرج أبو يعلى والطبراني عن ابن عباس مرفوعًا: "ألا أدلُّكم على كلمة تنجيكم من الإشراك بالله؟ تقرؤون: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} عند منامكم" (¬2). فأما بناؤها على توحيد العبادة فظاهر. وأما الآية فآية الكرسي؛ ففي صحيح مسلم وغيره "عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله تعالى معك أعظم؟ قال: قلت: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}، قال: فضرب في صدري: وقال: والله ليَهْنِك العلمُ، أبا المنذر" (¬3). وقد وردت في فضلها أحاديث أخرى لا حاجة إلى ذكرها هنا. وأما بيان بنائها على توحيد العبادة فهاكه: ¬

_ = ح 3708. وليس فيه: "فإنها براءةٌ من الشرك". والدر المنثور 8/ 657 - 658. وفي إسناده شريك بن عبد الله، وهو صدوق اختلط. وجابرٌ الجعفيُّ، وهو ضعيف. (¬1) 30/ 249. (¬2) أخرجه أبو يعلى، كما في المطالب العالية 15/ 452، ح 3786، والطبراني في المعجم الكبير 12/ 241، ح 12993. قال الهيثمي: "وفيه جبارة بن المغلس، وهو ضعيف جدًّا". مجمع الزوائد 10/ 167. (¬3) صحيح مسلم، كتاب الصلاة, باب فضائل القرآن، باب فضل سورة الكهف وآية الكرسي. [المؤلف]

قال تعالى في الآية التي قبلها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254]. المراد، والله أعلم، بنفي الخلَّة: ما لم يكن في طاعته، كما قال تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67]، وهذه الآية تقدَّمها في سورة الزخرف ذكر شأن مشركي العرب في عبادتهم الملائكة، وقولهم: "بنات الله"، وذكر شأن النصارى في عبادتهم عيسى وقولهم: "ابن الله"، فيظهر من هذا أن قوله تعالى: {الْأَخِلَّاءُ} الآية فيه إشارة إلى ذلك، أي أن مشركي العرب يحبون الملائكة ويعبدونهم، والنصارى يحبون المسيح ويعبدونه، فإذا كان يوم القيامة كان الملائكة والمسيح أعداء لمن عبدهم من دون الله، وقد بين الله عَزَّ وَجَلَّ ذلك في مواضع من القرآن كما يأتي إن شاء الله تعالى. وهكذا قوله: {وَلَا شَفَاعَةٌ} المراد بها، والله أعلم، الشفاعة التي يطمع فيها المشركون من الملائكة وعيسى ونحوهم، فأمر الله عَزَّ وَجَلَّ المؤمنين ألَّا يتَّكلوا على الشفاعة التي يتَّكل عليها المشركون، ونبَّه على ذلك بقوله: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}. ثم رد الله تعالى على الكافرين زعمهم وبيَّن حقيقة الشفاعة بقوله: [30] {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} خبرٌ برهن عليه بما [ب 25] يعترف به المشركون وغيرهم، وهو أنه عز وجل:

{الْحَيُّ} وحياته عَزَّ وَجَلَّ حياة ذاتية تامة كاملة، نسبة حياة الملائكة والجن والإنس إليها أضعف من نسبة موتهم إلى حياتهم. وإلى هذا - والله أعلم - أشار سبحانه بقوله: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل: 20 - 21]. المدعوُّون هنا الملائكة أو هُم وغيرهم، وصفهم سبحانه بأنهم أموات غير أحياء، أي بالنظر إلى الحياة الكاملة، وهي حياته سبحانه وتعالى. وسيأتي الكلام على هذه الآية إن شاء الله تعالى. {الْقَيُّومُ} قال الراغب (¬1): "أي القائم الحافظ لكل شيءٍ والمعطي له ما به قوامه، وذلك هو المعنى المذكور في قوله: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50]، وقوله: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ} [الرعد: 33] "، ولا أحد سواه تعالى يشاركه في ذلك ولا يقاربه. {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ}، فيه توضيح لكمال حياته وقيُّوميَّته. {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}، بما فيه الداعون من دونه والمدعوون وغيرهم، وكل خير وشر يحتاج المخلوق إلى جلبه أو دفعه. فهذه الصفات يعترف بها المشركون لله عَزَّ وَجَلَّ ويعترفون باختصاصه بها؛ فثبت بها أنه سبحانه هو المستحق للعبادة وحده لا شريك له؛ لأن العبادة إن كانت إجلالًا فالله هو الجليل على الحقيقة، وإن كانت شكرًا فهو المنعم على الحقيقة، وإن كانت استجلابًا لنفع أو استدفاعًا لضرًّ فهو سبحانه ¬

_ (¬1) المفردات 691.

الذي بيده ملكوت كلَّ شيءٍ، والمشركون يعترفون بهذا كلَّه، إلا أنهم يقولون: الذين نعبدهم من دون الله هم مقربون لديه يشفعون إليه، فلما ثبت أنَّه سبحانه وتعالى قرّبهم وجعل لهم أن يشفعوا إليه لزم من ذلك أن لا يمنع غيرهم من عبادتهم طلبًا لشفاعتهم؛ لأن ذلك ينفع العابد ولا يضرُّ الله تعالى. وعلى ذلك قولهم فيما حكاه الله عَزَّ وَجَلَّ عنهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، وقولهم: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18]، فأبطل الله تعالى شبهتهم بقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} الاستفهام بمعنى النفي، كما قال تعالى في موضع آخر: [31] {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} [يونس: 3]. والمشركون يسلَّمون أنه لا يشفع أحد عنده بغير إذنه، ولكنهم يتوهَّمون أنه سبحانه قد أذن للمقرَّبين في الشفاعة إذنًا عامَّا، فدفع سبحانه وتعالى ذلك بقوله: [ب 26] {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ}، فهو سبحانه العالم بكل شيءٍ بالمشفوع له وما قُدَّر له، وبالشافع وشفاعته وغير ذلك، والمقرَّبون لا يحيطون بشيءٍ من علمه إلاَّ بما شاء، فلا يعلمون بالمشفوع له ولا بحقيقة عمله ولا حقيقة ما يستحقه ولا ما قدر له ولا بأن الشفاعة له صواب يشاؤه الله ويرتضيه، لا يعلمون شيئًا من هذا إلا إذا شاء الله تعالى أن يعلموا، وقد ثبت أنهم مملوكون لله عز وجل مبالغون في طاعته، فيُعْلَم من هذا أنهم لا يشفعون لأحدٍ إلاَّ بعد أن يأذن الله تعالى لهم أن يشفعوا له، وأنه سبحانه لا يأذن لهم إلا بعد أن يشاء شفاعتهم لذلك الشخص ويرتضيها ويعلم أنها صواب، كما قال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ

فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26]، وقال عز وجل: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} [النبأ: 38]، [32] وقال تبارك وتعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 26 - 28]. ومَن تدبَّر هذا كلَّه علم أنَّ شفاعة المقرَّبين لا تقع إلاَّ لمن أراد الله عز وجل أن ينفعه، ومَن أراد الله عَزَّ وَجَلَّ أن ينفعه فلا بد أن ينفعه، فإن كان قد قضى أن ذلك النفع يكون بعد شفاعة فإنه سبحانه يأمر بها الشفيع فيشفع طاعة لربه ومسارعة في مرضاته. وإذا كان الأمر كذلك فلا معنى لطلب الشفاعة من المقربين، ولا لتعظيمهم لكي يشفعوا. فإذا كان الطلب والتعظيم عبادة فهو مع ذلك موجِبٌ لغضب الله عَزَّ وَجَلَّ على فاعله, لأنه أشرك به غيره، فكيف يرجو منه أن يجازيه على ذلك بأن يرتضيه ويرضى له النفع، ويأذن في الشفاعة له ويرضاها؟ بل وموجِبٌ لغضب المقربين على الفاعل؛ لأنهم ما تقرَّبوا إلا بطاعتهم لربهم وحبهم لرضاه حبًّا أفناهم عن غيره من الحظوظ والأغراض. فأما ما ثبت بسلطان أن الله عَزَّ وَجَلَّ أمر به وأذن فيه مما فيه توقير للمقربين فإنه عبادة لله تعالى، كما سيأتي تحقيقه بأدلته، والحق على الناس أن يقتصروا عليه، والله الموفق. [ب 27] {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ

الْعَظِيمُ}. في هذا وفيما قبله إبطال لما يتوهَّمه بعض الأمم من أن الله عز وجل يَكِلُ كثيرًا من تدبير العالم إلى الرُّوحانيَّين والأرواح، فيدبَّرون كما يريدون، ويزيد بعضهم فيتوهَّم أنَّ الله تبارك وتعالى لا يقدر على التدبير بغير معونة الرُّوحانيين والأرواح، ويغلو بعضهم فيجحد علم الله تعالى بالجزئيات، أو يشكُّ فيه. وسيأتي بسط الكلام على هذا وذكر الآيات الصريحة في إبطاله إن شاء الله تعالى. [33] هذا، والآيات المبيَّنة خطر الشرك كثيرة جدًّا، وفيما تقدَّم كفاية إن شاء الله تعالى. وأمَّا رمي المسلم بالشرك من غير بيَّنة، فحسبك من خطره ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من طرق عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّ مَن كفَّر مسلمًا فقد كفر (¬1). على أنَّ مَن لم يحط علمًا بمعنى لا إله إلا الله على سبيل التحقيق فهو نفسه على خطر أن يكون مشركًا، أو يعرض له الشرك فيقبله وهو لا يشعر، فالأَولى به أن يبادر إلى تخليص نفسه. وقد جاء من حديث أبي موسى: "خطبنا النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم ذات يوم فقال: أيها الناس، اتقوا هذا الشرك فإنه أخْفَى من دبيب النمل". ¬

_ (¬1) انظر: صحيح البخاري، كتاب الأدب, باب مَن كفَّر أخاه ... ، 8/ 26، والباب الذي يليه. وصحيح مسلم، كتاب الإيمان, باب بيان حال إيمان من قال لأخيه المسلم يا كافر، 1/ 56. [المؤلف]

الحديث، رواه الإِمام أحمد (¬1)، وجاء مثله من حديث عائشة، رواه الحاكم في المستدرك (¬2). ونحوه من حديث أبي بكر الصديق وابن عباس (¬3). وسيأتي (¬4) إن شاء الله تفصيل هذه الأحاديث، والكلام على أسانيدها (¬5)، وبيان أن في سياقها ما يدل أنه أريد بها الشرك الحقيقي كما هو الظاهر، لا الشرك الأصغر الذى هو الرئاء. ... ¬

_ (¬1) المسند 4/ 403. [المؤلف] (¬2) 3/ 391. [المؤلف] (¬3) انظر: كنز العمال 2/ 97 و98 و169. [المؤلف] (¬4) 641. [المؤلف]. وانظر ص 989 فما بعدها في كلامه عن القسم بغير الله. (¬5) انظر ص 143 فما بعدها.

باب في أصول ينبغي تقديمها

بابٌ في أصولٍ ينبغي تقديمها الأصل الأول حجج الحقِّ شريفةٌ عزيزةٌ كريمةٌ ليست كالهَلُوك (¬1) تعرض نفسها, ولا كأمِّ خارجة - يُقال لها: خِطْبٌ، فتقول: نِكْحٌ - (¬2)، ولا كميًّ في وقاحتها ولجاجها؛ إذ قال صاحبها (¬3): على وجهِ مَيًّ مسحةٌ من مَلاحةٍ ... وتحت الثياب العارُ لو كان باديا فكشفت ثيابها، وقالت: هل ترى عارًا؟ وإنما شأنها أن تدعو الناس إلى طلبها، فمن جدَّ في طلبها وبذل وسعه في التقرُّب منها, ولم يكن له هوًى في سواها، أو كان له ولكنه يؤثرها على ما عداها، كشفت عن وجهها وعرَّفته بنفسها؛ ومن فسد طبعه فلم يُعْنَ بشأنها أو قعدت به همَّته عن الجهاد في سبيل الوصول إليها قالت له (¬4): دَعِ المكارم لا ترحل لبُغيتها ... واقعد فإنَّك أنت الطاعم الكاسي ومَن حمله الجهل بها والغرام بغيرها على أن يعيبها وينفر عنها ازدادت ¬

_ (¬1) هي الفاجرة الشبِقَة المتساقطة على الرجال. انظر: تاج العروس 27/ 404. (¬2) هي أم خارجة البجلية، يقال في المثل: أسرع من نكاح أم خارجة. انظر: الكامل 2/ 580 ومجمع الأمثال 1/ 348. (¬3) نُسِب في خزانة الأدب (1/ 109) إلى ذي الرُّمَّة، وكان يحلف أنه ما قاله. وفي المصدر نفسه أن ابنة عمًّ لمَيَّ قالته على لسانه. (¬4) البيت للحطيئة. انظر: ديوانه 108، والكامل للمبرَّد (2/ 720)، والطاعم: الحسن الحال في المطعم، أي: إنك ترضى بأن تشبع وتلبس.

فصل

عنه بعدًا واحتجابًا، وقالت: حسبه ذاك عقابًا. ارض لمن غاب عنك غيبتَه ... ذلك ذنبٌ عقابه فيه (¬1) ومَن كانت حاله بينَ بينَ أشارت إليه تشوِّقه، فإما أن يرقى به الشوق إلى درجة الأوَّل، وإما أن يحطَّه اليأس إلى درجة الثاني، وإما أن يبقى معلَّقًا فيوشك أن تَعْرِض له إحدى البغايا فتذهب به إلى حيث ألقت رَحْلَها أُمُّ قَشْعَمٍ (¬2). فإن قيل: هذا تمثيلٌ لا يُقنِع، فارجع بنا إلى التحقيق؛ فقد يتراءَى للناظر أنه لو كانت حجج الحقِّ ظاهرةً مكشوفةً لكان أولى. قلتُ: الجواب عن هذا يتوقَّف على معرفة حكمة الخلق، فأستعين الله تعالى، وأقول: فصلٌ قال الله تبارك وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. الكمال يقتضي التكميل، فالعالم الكامل يقتضي كمالُه أن يكون له تلامذةٌ يجتهد في تكميلهم، وهكذا الطبيب والصانع والزاهد وغيرهم، حتى إن العالم الكامل إذا لم يكن له تلامذةٌ يجتهد في تكميلهم يُرْمَى بالبخل ¬

_ (¬1) ديوان ابن نباتة: 574، وفيه: "أرضى"، و"فذاك". (¬2) كنية الموت، أي: بمَضْيَعَة حيث الهلاك والموت. انظر القاموس المحيط، مادة قشعم، وشرح شعر زهير بن أبي سُلْمى ص 30 عند البيت الذي يقول فيه: لدى حيث ألقت رحلها أمُّ قَشْعم، من معلَّقته المشهورة.

والحسد وغير ذلك، ولله تبارك وتعالى الأسماء الحسنى وهو الغنيُّ الحميد، فاقتضى جوده سبحانه وتعالى أن يكمَّل غيره إلى الحد الممكن، ولما لم يكن معه غيره خلق الخلق ليكمَّلهم إلى الحدَّ الممكن، وليس من الممكن خلقهم كاملين؛ لأن الذي يمكن خلقهم عليه من الكمال يكون كلُّه بمنزلة كمالِ خلقِهم في صُوَرهم، وليس ذلك بكمالٍ يُحْمَدُ عليه المخلوقُ إذ لا إصبع له فيه، فكان لا بدَّ أن يُخْلَقُوا صالحين لأن يَكْمُلوا. ثم كمال العبد المملوك إنما هو في طاعة ربِّه. ويتأكَّد هذا في فهمك إذا لاحظت أن الربَّ هو الله عزَّ وجلَّ، وهو لا يأمر إلا بالخير الذي يكون كمالًا يُحْمَدُ عليه فاعلُه، ولا ينهى إلا عن الشرَّ الذي ينافي الكمال والحمد، ويقتضي النقص والذمَّ. ويزداد ذلك وضوحًا إذا لاحظت أنه سبحانه الغنيُّ الحميد، فما كان فيما أمرهم به من خيرٍ فهو لهم، فعبادة ربَّهم هي كمالهم. ولا يحصل المقصود بأن يخلقهم قابلين للكمال ثم يجبرهم عليه؛ لأنه إذا جبرهم على الخير كان كما لو خلقهم عليه، وقد سبق أن ذلك ليس بكمالٍ يُحْمَدُون عليه، ولا بأن يخلقهم ويجعل لهم اختيارًا ثم لا يُمَكِّنَهُمْ من العمل؛ لأنهم إذا لم يعملوا لم يَكْمُلُوا. فإن قيل: ألا يُكْتَفَى بعزمهم؟ قلتُ: إنهم لو سئلوا لأجابوا كُلُّهُم بالعَزم على الطاعة. فإن قيل: فبعلم الله تعالى فيهم؟ قلتُ: عِلْمُ الله عزَّ وجلَّ بأنه لو مكَّن هذا لكَمُلَ ولو مكَّن هذا لرَذُلَ لا يكفي في حقيقة الكمال؛ فلا يكون الأوَّل كاملًا بمجرَّد العلم، ولو أخبر المعصوم أن هذا الذي مات كافرًا لو عاش لآمن، وهذا الذي مات مؤمنًا لو عاش لكفر = لما اقتضى أن يحكم

عليهما في الحال بغير ما ماتا عليه. ولا بأن يخلقهم (¬1) ويجعل لهم اختيارًا ويمكّنَهم من العمل، ولكنه يجعل الخير بحيث يُنَال بلا عناءٍ ولا مشقَّةٍ البتَّة؛ لأن مَن يُتَصَوَّرُ في حقَّه العناءُ والمشقَّة لا يُحْمَدُ على اختيار الخير والعمل به إلا بمقدار ما تحمَّلَهُ في سبيله من العناء والمشقَّة. فلو أن جماعة جاد كلٌّ منهم بدينارٍ، وكان أحدهم لا يملك إلا ذلك الدينار وهو محتاجٌ إليه، والآخر يملك عشرةً، ولا يحتاج إليها كلِّها، والثالث: يملك مائةً، ولا يحتاج إلا إلى نصفها، والرابع: يملك القناطير المقنطرة من الذهب، ولا يحتاج إلا إلى عُشْرِ مِعْشَارِها = لكانوا متفاوتين في الحمد، وقد قال الشاعر (¬2): ليس العطاء من الفضول سماحةً ... حتى تجود وما لديك قليلُ فأما قول الآخر (¬3): لولا المشقَّة ساد الناس كلُّهم ... الجود يُفْقِر والإقدام قَتَّالُ فمعنى قوله: "ساد الناس": عملوا ما هو - لولا عدم المشقَّة - من أسباب السيادة، فالحقيقة أنه لولا المشقَّة ما ساد أحدٌ من الناس. هذا، والعبد إنما يَعْتَدُّ من طاعته بما كان عليه فيه عناءٌ ومشقَّةٌ، وإنما يُحمَد عليها على قدر ذلك. افرض أن رجلاً أثنى على عبده بالطاعة، فقلتَ له: ماذا بلغ في ذلك؟ فدعا العبد، وقال له: امسس أذنك اليمنى ولا تمسَّ ¬

_ (¬1) معطوف على قوله: "ولا يحصل المقصود بأن يخلقهم قابلين للكمال". (¬2) هو المقنَّع الكندي، والبيت في حماسة أبي تمام. انظر شرحها للشنتمري 2/ 919. (¬3) هو أبو الطيب المتنبئ. انظر ديوانه مع الشرح المنسوب للعكبري 3/ 287.

اليسرى، ففعل، فقال لك: أرأيت؟ ألست تستحمق هذا الرجل. وإذ كان لا بُدَّ في الكمال في العبادة أن يُخْلَقُوا قابلين للكمال، ويُجْعَلَ لهم اختيارٌ، ويُمَكَّنُوا من العمل، ويكون الخلق والأمر بحيث يكون دون الخير عناءٌ ومشقَّةٌ = اقتضت الحكمة أن يكون ذلك، وهذا هو الابتلاء، وعليه قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7]. ومن لازمِ الابتلاء - وقد عرفتَ تفصيله - أن يختلفوا في تَحَمُّل العناء والمشقَّة. فأما الملائكة فإن الله عزَّ وجلَّ اصطفاهم وعصمهم، فانحصر اختلافهم في تفاوت درجاتهم في الكمال، ومع ذلك فخوفهم من ربَّهم عزَّ وجلَّ شديدٌ، قال تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 50]: وقال سبحانه: {يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 57]. الصحيح أن هذا صفةٌ للملائكة كما يأتي بعد إن شاء الله تعالى. وفي العذاب الذي يخافه الملائكة وجهان: الأول: أنه نقص درجات القرب، وأما النُزول إلى دركات المقت فقد أَمِنُوه لإخبار الله عزَّ وجلَّ أنهم معصومون. الثاني: أنه أَعَمُّ من ذلك، وأنهم لعلوِّ درجتهم في العلم بالله وشدَّة خشيتهم إياه يعلمون ما لا نعلم، وربما يُؤَدِّيهم ذلك إلى تجويز ما نراه غيرَ

جائز. وقد يأتي نحوُ هذا في حقِّ الأنبياء عليهم السلام، جاء عن بعض السلف أن الذي أوتي الآيات فانسلخ منها كان قد أوتي النبوة (¬1). وجاء في قصة قتل زكريَّا عليه السلام ما قد يدلُّ على إمكان سَلْبِ النبوة (¬2). وقال جماعة: قوله تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} [الأعراف: 88 - 89] = قالوا: "إلا أن يشاء الله ربُّنا أن نعود في ملَّتكم". وعن السُّدِّيِّ: " ... {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا}، فالله لا يشاء الشرك، ولكن يقول: إلا أن يكون الله قد عَلِمَ شيئًا فإنه وسع كلَّ شيء عِلْمًا" (¬3). أقول: هذا على مذهب مَنْ لا يُجَوِّزُ أن يقالَ: إن الله تعالى يشاء الشرك. ومن الناس من يُجَوِّز إطلاق ذلك إلا أنهم يختلفون في تفسير المشيئة. ¬

_ (¬1) انظر: تفسير ابن جرير 9/ 78. [المؤلف]. قال ابن كثير: ولا يصح. وقال ابن الجوزي: فيه بُعد. انظر: تفسير ابن كثير 3/ 509، وزاد المسير 3/ 288. (¬2) جاء في تلك القصة "أن المنشار لما بلغ رأس زكريا أنَّ منه أنَةً، فقال الله له: لئن صعِدتْ إليّ منك أنَّة ثانية لأمحونَّك من ديوان النبوة". ولم أجد ما يدلُّ على هذا إلاَّ ما حكاه أبو الخير التيناتي الأقطع المتوفى سنة 349 هـ عن قاصًّ سمعه بمصر. انظر: تاريخ دمشق 66/ 165. (¬3) تفسير ابن جرير 9/ 3. [المؤلف]

وأقرب ما يقال هنا أن المعنى: إلا أن يشاء الله خذلاننا أو خذلان بعضنا، فيكلنا إلى أنفسنا فنعجز، وقد نقع في الشرك، ولذلك قال بعد هذا: {عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا}. وقد يقال: إن الاستثناء إنما هو بالنسبة إلى الذين آمنوا مع شعيب ولم يكونوا أنبياء ولا معصومين. وقد قال جماعة: إن إبليس وهاروت وماروت كانوا ملائكة. وأجابوا عن العصمة بأن الملك معصوم ما دام ملكًا، وقد يُحَوِّلُهُ الله عزَّ وجلَّ عن الملكيَّة إلى خَلْقٍ آخر فتزولُ العصمة. كذا قالوا، وقد يقول مَن زعم أن المنسلخ عن الآيات كان نبيًّا بأنَّ النبيَّ معصومٌ ما دام نبيًّا، ثم إن قُدِّر أن الله عزَّ وجلَّ سَلَبَ نبيًّا النبوة زالت العصمة. وقد يجيبون عما يلزم ذلك من عدم الوثوق بإخبار من ثبتت نبوته لاحتمال السَّلْب لو جاز بأن يقولوا: إنْ قُدِّر وقوعُ ذلك فلا بدَّ أن يقيمَ الله عزَّ وجلَّ حجة قاطعة تُعْرَفُ بها الحقيقة. وبالجملة فهذا قول مرغوب عنه، منفورٌ منه، وإنما المقصود أن عصمة الملائكة عليهم السلام لا تنافي شدَّة خشيتهم لله وخوفهم من عذابه. وأما الجنُّ والإنس فإنهم حملوا الأمانة، كما يأتي، فكان الابتلاء في حَقِّهِمْ أتمَّ والاختلاف أعمَّ. وإذ كانوا خُلِقُوا للابتلاء، ومن لازم الابتلاء الاختلاف، صَحَّ أن يقال: خُلِقُوا للاختلاف. قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود: 118 - 119].

اختلف السلف والخلف في تفسير الآية، والأَوْلىَ بظاهر التنزيل ما رُوِيَ عن مجاهد قال: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ}: "أهل الحقِّ وأهل الباطل"، {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ}، قال: "أهل الحقِّ" (¬1). وعن الحسن البصري قال: "وللاختلاف خَلَقَهُمْ" (¬2). أقول: فالاستثناء منقطع، أي: ولكن مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ يُهْدَى للحق. وتَأَوَّلَ ابنُ جريرٍ الخَلْقَ للاختلاف بقوله: "فإن قال قائلٌ: فإن كان تأويل ذلك كما ذَكَرْتَ فقد ينبغي أن يكون المختلفون غَيْرَ ملومين على اختلافهم؛ إذ كان لذلك خلقهم ربُّهم ... قيل: إن معنى ذلك بخلاف ما إليه ذَهَبْتَ، وإنما معنى الكلام ..... ولعِلمه، وعلى عِلمه النافذ فيهم قبل أن يخلقهم - أنه قد يكون فيهم المؤمن والكافر والشَّقِيُّ والسعيد - خلقهم، فمعنى اللام في قوله: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} بمعنى على ... " (¬3). أقول: وهذا يلاقي ما قَدَّمْتُه إلا أنه لا يخلو عن تَكَلُّفٍ ولما كان الكمالُ في العبادة صَعْبَ الحصول لما فيه من العناء والمشقة كان لا بُدَّ مِنْ باعثٍ للخلق يُهَوّنُ عليهم ذلك، وليس إلا وعد المطيع بما تَعْظُمُ فيه اللَّذَّةُ وإيعاد العاصي بما يَعْظُمُ فيه الألم. والناسُ في هذه النشأة المبْنِيَّةِ على الابتلاء لا يكادون يتصوَّرون اللَّذَّة والألم إلا فيما يناسب ما ¬

_ (¬1) تفسير ابن جرير 12/ 80. [المؤلف] (¬2) المصدر السابق. (¬3) تفسير ابن جرير 12/ 81. [المؤلف]

فصل

عرفوه منهما. ومن جهةٍ أخرى فعدلُ الله عزَّ وجلَّ ورحمته يقتضي أن يكافئ كلًّا بما يستحقُّه، فلذلك خلق الله عزَّ وجلَّ الجنَّة والنار، وذكر من وصفهما لعباده ما يناسب أفهامَهُمْ حتى يدركوا أن في الجنَّة غاية اللَّذَّة، وفي النار غاية الألم. ولما كانوا على كلَّ حالٍ لا بدَّ أن يختلفوا كما تقدَّم، وإذا اختلفوا استحقَّ بعضهم الجنَّة، وبعضهم النار، وقد أحاط علمُ الله عزَّ وجلَّ وقَضَاؤُه وقَدَرُه بتفصيل ذلك قبل خَلْقِهِمْ، صَحَّ أن يقال: إن الله عزَّ وجلَّ خلق هؤلاء سعداءَ للجنَّة، وهؤلاء أشقياءَ للنار، كما جاء في أحاديث. فقد عَلِمْتَ بحمد الله عزَّ وجلَّ أنه لا منافاة بين العقل الصريح والنقل الصحيح، ولا بين النصوص، فالله عزَّ وجلَّ خلق الخلق ليَكْمُلُوا، وكمالهم في عبادته، فقد خلقهم لعبادته، ولا يكون الكمالُ والعبادةُ إلا بطريق الابتلاء، فقد خلقهم ليَبْلُوَهُمْ، والابتلاء يؤدَّي إلى الاختلاف ولا بدَّ, فقد خلقهم ليختلفوا، والاختلاف يقتضي مصير هؤلاء للجنة، وهؤلاء للنار، فقد خلق هؤلاء للجنة، وهؤلاء للنار. فصلٌ وإذ قد علمتَ هذا فنبني الجواب على الابتلاء، فنقول: إن الله عزَّ وجلَّ إنما أنشأ الناس هذه النشأة للابتلاء، كما قال: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2]. وإذ كانت للابتلاء فالأمر فيها كالخلق لا بُدَّ أن يكون مناسبًا للابتلاء، وذلك بأن تكون حُجَجُ الحق دون منالها عناءٌ ومشقَّةٌ، وكيف لا وطَلَبُهَا من جملة العبادة، والعبادة كما تقدَّم تستدعي العناءَ

والمشقَّةَ، وإذا كان لا بُدَّ أن يكون دون منالها عناءٌ ومشقة لزم أن لا تكون ظاهرة مكشوفة كما اقْتَرَحْتَ. ثم رأيتُ في أوائل الرسالة (¬1) للإمام الشافعي رحمه الله تعالى: "ومنها ما فرض الله على خلقه الاجتهاد في طلبه وابتلى طاعتهم في الاجتهاد، كما ابتلى طاعتهم في غيره ممَّا فرض عليهم، فإنه يقول جل ثناؤه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31]، وقال تعالى: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} [آل عمران: 154] ". ... ¬

_ (¬1) 22 - 23.

الأصل الثاني الحجج والشبهات

الأصل الثاني الحجج والشبهات إن قال قائلٌ: قد عرفنا اقتضاء الحكمة أن لا تكون حجج الحق ظاهرةً مكشوفةً، وبقي أمرٌ آخر وهو أنه قد يتراءى للناظر أنه لو كانت حجج الحقِّ كلُّها بحيث يَعْرِفُ يقينًا مَنْ وَصَلَ إليها أنه قد وصل، ويَعْرِفُ يقينًا مَنْ لم يصل إليها أنه لم يصل، لكان أولى. قلت: حاصلُ هذا أن تكون حجج الحقَّ كلها يقينيَّةً, لا تشتبه على أحد. فالجواب: أنه مَنَعَ مِنْ ذلك موانعُ، نكتفي هنا بذكر واحدٍ منها، وهو أنه قد سبق أن هذه الدار مبنيَّة على الابتلاء، وقال الله تبارك وتعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72]. فكلُّ ما يجري من الإنسان في هذه الدار تَصَرُّفٌ في الأمانة، ولا يتمُّ الابتلاء إلا بأن يُمَكَّنَ من الخيانة، والخيانةُ لها درجات كثيرة، فلا بدَّ أن يكون الابتلاء بحيث يتناول الدرجات كلَّها. فلو عَمَدْتَ إلى عشرة رجالٍ قد أُودِعَ كلٌّ منهم وديعةً وجدتهم متفاوتين في الأمانة والخيانة بحسب تفاوتهم في ثلاثة أمورٍ: الأوَّل: الباعث على الخيانة. الثاني: المانع الدنيويُّ. الثالث: المانع الدينيُّ.

أما الأوَّل، فمن البواعث: الحاجة، وأن تكون الوديعة ثمينةً، وإرادة الإضرار بالمودِع، قال الله تبارك وتعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [آل عمران: 75]. [ز5] وحُبُّ السمعة إذا كان الناس يمقتون المودِعَ، وكلُّ واحدٍ من هذه يتفاوت. وأما الثاني فمن الموانع الدنيويَّة: ظَنُّهُ أنه ستُقَام عليه البيَّنةُ، ويؤخذُ منه المال، أو أنه سَيُعَاقَبُ بأخذ ماله أو بحبسه أو ضَرْبِه أو نحو ذلك، أو أنه يُحْرَمُ من فوائد أخرى، أو أنه يفتضح بين الناس، وكلٌّ من هذه يتفاوت. مثال التفاوت في الأخير: أن من الناس مَن لا يبالي بالفضيحة البتَّة، ومنهم مَن لا يبالي بالفضيحة إذا رأى أن كثيرًا من الناس سيشكُّون في أمره، ومنهم مَنْ لا يبالي بها إذا رأى أن كثيرًا مَن الناس سيحسنون الظنَّ به، ومنهم من يأبى الفضيحة ولا يبالي بالرَّيبة كأن رأى أن الناس إذا سمعوا بالقصَّة يرتابون ولا يجزمون بأنه خانَ، ومنهم مَن يأبى الرِّيبة العامَّة ولا يخون إلا إذا ظنَّ أن كثيرًا من النَّاس سيحسنون الظنَّ به، ومنهم مَنْ يأبى الريبة ولا يخون إلا إذا رأى أن النَّاس سيحسنون الظنَّ به. ومنهم مَنْ يزيد على هذا فيأبى أن يفتضح عند المودِعِ فلا يخونُه إلا إذا رأى أنه سيجوَّز براءته، ومنهم مَنْ لا يخون إلا إذا رأى أن المودِع سيحسن الظنَّ به كأن يحترق بيته ومتاعه فيزعم أن الوديعة احترقت فيما احترق. ومنهم مَنْ يزيد على هذا فلا يأمن سوء الظنِّ، ولكنه يخون إذا رأى أن المودِعَ نَسِيَ الوديعة. ومنهم مَنْ لا يخونُ إلا إذا أَمِنَ التهمةَ البتَّة، كأن يموت المودِعُ ولم يَعْلَمْ أحدٌ غيرهما بالوديعة. وأما الثالث: فالمانع الديني رقيب الإيمان في قلب الإنسان، وقد يَقْوَى

بحيث لا يغلبه شيء، وقد يضعف بحيث تغلبه شبهةٌ من الشُّبَه، ثم يتفاوت الحال بتفاوت قوَّة الرقيب، وقوَّة الشبهة. فمن الشبهات أن يقول: الله غفور رحيم، قال الله عزَّ وجلَّ: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [الأعراف: 169]. ومنها أن يقول: سيشفع لي فلانٌ. المودِع غنيٌّ فإذا خنتُه في هذه لم يضرَّه. هو فاجرٌ، وأخْذُ مال الفاجر فيه مصلحةٌ. هو كافرٌ، والإضرار بالكافر مطلوبٌ. قد ظلمني زيدٌ فأظلم عمرًا، فيتكافأ الذي لي بالذي عَلَيَّ. قد ظلمني ابنُ عَمِّهِ أو أخوه فأظلمه استيفاءً لحقِّي. قد كنتُ أَوْدَعْتُهُ شيئًا فادَّعى أنه سُرِقَ، وما أُرَاهُ إلا كاذبًا فأخونه كما خانني. هو غنيُّ وأنا محتاجٌ، فهذا من جملة حقِّ المحتاج في مال الغنيِّ. هو غني ولا أراه يؤدِّي الزكاة ولي حَقٌّ في الزكاة، فهذا منه. لي حسناتٌ كثيرةٌ تُكَفِّرُ هذه السيِّئة. سوف أتوب. مضت مُدَّةٌ ولم يطالبني بالوديعة فلعلَّه قد سمح لي بها. قد قلتُ له: ألا تأخذ وديعتك؟ فتبسَّم فكأنَّه أراد أن يُفْهِمَنِي أنه وهبها لي. قد قلتُ له: إني أريد أن أستمتع بالوديعة فسكت، والسكوت يدلُّ على الإذن. قد نفعته مرَّةً فلم يكافئني. قد سَبَّني مرةً فصار لي حقٌّ عليه. إلى غير ذلك. وقد يَقْوَى الرقيبُ حتى لا ينقاد إلا لنحو قوله: قد كنتُ أودعتُه مثلَ هذا المال أو أكثر فجحدني فقد ظفرتُ بحقِّي، وقد يكون أقوى من هذا فيقول: ورد في الحديث: "أدَّ الأمانة إلى مَن ائتمنك، ولا تخن مَن خانك" (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الإجارة, بابٌ في الرجل يأخذ حقَّه مَن تحت يده, 3/ 290، ح 3535. والترمذيّ في كتاب البيوع، باب 38، 3/ 555، ح 1264، من =

هذا، والباعث على الخيانة من أنصار الشبهة، والمانع الدنيوي من أنصار الحجة، والحكمة تقتضي أن يكون الابتلاء بحيث تظهر به الخيانة في أيِّ درجةٍ كانت. [ز 6] وعلى هذا القياس يكون النظر في الحجج العلمية؛ فالبواعث على الخيانة فيها كثيرة متفاوتة يجمعها كلمة (الهوى)، فقد تَهْوَى القولَ لأن في مقابله مشقَّةً كعدم وجوب الجماعة، أو إخراجَ مالٍ كجواز الحيل لإسقاط الزكاة، أو تحصيلَ مال كجواز العينة، أو شهوةً كاستحلال النبيذ والملاهي، أو موافقةً لهوى مَنْ تُحِبُّ أو مخالفةً لهوى مَنْ تُبْغِضُ كان يُطَلِّقَ رجلٌ، ثم يَنْدَم فيستفتيك فتهْوَىْ عدمَ الوقوع إن كان صديقَكَ، والوقوعَ إن كان بغيضَك. وقد تَهْوَى القولَ لأنك ترى ذهابك إليه، وانتصارك له يُكْسِبُكَ جاهًا وقبولاً وشهرةً؛ كأن يكونَ موافقًا لهوى الأمراء والأغنياء والعامَّة، وهذا من أَضَرِّ الأهواء وأهدمها للدِّين. وقد تهواه لأنك ترى في ظهور صحَّته فخرًا لك، وفي ظهور بطلانه غضاضةً عليك، فتهْوَى القولَ الذي سبق أن قلتَ به وعرفهُ الناسُ، والقولَ الذي مضى عليه آباؤُك أو مشايخُك أو إمامك، أو أي رجل أو فريق تنتسب إليه؛ لأنك ترى أن ما يثبت لمن تنتسب إليه من مدحٍ بإصابة أو نقص بغلطٍ يَسْرِي إليك. ¬

_ = حديث أبي هريرة. وقال: "حسنٌ غريبٌ". وأخرجه الحاكم في كتاب البيوع، "أدَّ الأمانة ... "، 2/ 46، وقال: "صحيحٌ على شرط مسلمٍ ولم يخرجاه, وله شاهدٌ عن أنسٍ ... "، فذكره.

وقد تهوَى القول لمناسبةٍ مَّا بينك وبين قائله، كأن تكون حنبليًّا فتهْوَى قول مالك إن كنت مدنيًّا أو قول أبي حنيفة إن كنت فارسيًّا أو قول الشافعي إن كنت قرشيًّا، حتى لقد نجد المرأة في عصرنا تميل إلى قول يُرْوَى عن عائشة. وقد تهواه لأن في ظهور صحته نقصًا على من ينافسك من أقرانك ومعاصريك؛ لأنك تحبُّ ظهور نقصهم وظهورَ فَضْلِكَ عليهم. وكذلك تهواه إذا كان في ظهور صحته تخطئةٌ لمن كان ينافس أباك أو شيخك أو إمامك أو أيَّ رجل أو فريق تنتسب إليه؛ لأنك ترى أن في ظهور نقص ذاك رجحانًا لمن تنتسب إليه يسري إليك، حتى لقد يسمع الحنفي شعرًا منسوبًا إلى الإِمام الشافعيَّ فيحرص على أن يقدح في فصاحته. وقد تَهْوَى القولَ لأن فيه فضيلةً لك أو لمن تنتسب إليه أو توافقه في أمرٍ مَّا، أو لأن في مقابله نقصًا لمن يخالفك أو يخالف مَنْ تنتسب إليه، أو توافقه فتهوى القول بأنَّ الأعجميَّ كفءٌ للعربيَّة إن كُنْتَ عجميًّا، ومقابله إن كُنْتَ عربيًّا، وتهوَى صحةَ ما رُوِيَ في فضل العربِ دون ما رُوِيَ في فضل فارسٍ إن كنت عربيًّا، وعكسه إن كنت فارسيًّا. وقد بلغ الأمر ببعض الجهلة من العرب والفرس إلى وَضْع كُلًّ من الفريقين أحاديث في فضل قومه، وذمَّ الآخرين، وكذلك وضع بعض جهلة أهل الحديث أحاديث في فضل أصحابه وذَمَّ أهل الرأي، وَوَضَعَ بعضُ جهلة أهل الرَّأْيِ أحاديثَ في فضل أبي حنيفة وذمَّ الشافعيَّ، وجرت معارك بين القادريَّةِ والرفاعيَّة كلٌّ من الفرقتين تضع القصص والحكايات لإطراء شيخها وتنقيص الآخر.

وقد تهوى القول لأنه يُطْمِعُكَ في النجاة في الأخرى وإن ساء عملك، كالإرجاء المحض والغلوَّ في إثبات الشفاعة، وكالميل إلى صحة ما رُوِيَ من الأحاديث والآثار في الفضائل الخطيرة على الأعمال اليسيرة، وفي نجاة مَنْ مات بأحد الحرمين إن كنت تُؤَمِّلُ ذلك؛ وفي أن أهل البيت مغفورٌ لهم إن كُنْتَ منهم، وغير ذلك. ويشتدُّ الهوى جدًّا في الأمور التي نشأ عليها الرجل وأَلِفَهَا وافتخر بها ومضى عليها آباؤه وأجداده وأحبَّاؤه وشيوخه ومَنْ يقتدي بهم، ويرجو النجاة بحبِّهم وشفاعتهم، إذا قيل له في كثير من تلك الأمور إنها بدع، وإن منها ما هو كفر أو شرك, ذلك أنه يرى أن من لازم صحة ذلك أن يظهر أنه كان مبتدعًا ضالًّا أو كافرًا مشركًا، وأنَّ كثيرًا من آبائه وأجداده وشيوخه وفقهائه وأقطابه وأوتاده كانوا مبتدعين [ز 7] ضالّين أو كفَّارًا مشركين وأنهم مخلَّدون في النار، وأنه إذا تدبَّر الحجج فتبيَّن له بطلانُ ما كان عليه هو وأسلافه فرجع إلى الحق كان رجوعُه بدعوة أناسٍ لم يزل يمقُتُهُم ويُسَفِّهُهُمْ. هذا، وسيأتي الكلام على الأعذار، وفيه ما يُهَوِّن هذا الأمر ويعين الناظر على هواه إن شاء الله تعالى. وقد ينعكس الهوى فَيَهْوَى الإنسانُ أن ينقض قولَهُ السابقَ وأن يخالفَ آباءه وأجدادَه وشيوخَه وأئمّتَه وسائرَ ما تقدَّم، يَهْوَى ذلك حرصًا على أن يقال: حرُّ الفكر بريءٌ من التعصُّب، وطمعًا أن يُعَدَّ مجدّدًا يُؤْخَذُ عنه، وإمامًا يُقْتَدَى به، وعلى الأقلِّ يرى أنه إذا خالف الأكابر فقد صار قِرنًا لهم. وقد كان أصاغرُ الشعراءِ يَتَعَرَّضون لِهَجْوِ أكابرهم كجرير والفرزدق وبَشَّار، كل ذلك ليرتفعوا بذلك فيقال: إن فلانًا ممن هاجى جريرًا, ولهذا كان الأكابرُ

يترفَّعُون عن إجابة هؤلاء المتعرَّضين. وبالجملة فمسالك الهوى كثيرة، وفيها ما يَدِقُّ ويَغْمُضُ فيخفى على صاحبه، وكثيرًا ما يتفق ذلك لأكابرَ لا يُرْتَاب في علمهم وفضلهم وورعهم. {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10]. واعلم أن الهوى يتفاوت قوَّةً وضعفًا، ويعارضه المانع الدنيويُّ وهو خشية الفضيحة بين الناس وأن يقال: كثير الغلط، يتشبَّثُ بالشبهات الساقطة وُيعْرِضُ عن الحجج النيَّرَة، معاندٌ مكابرٌ لا يخاف الله تعالى، ونحو ذلك. فتستعين النفس بالشبهات وهي لا تحمى كثرةً، وسيأتي ذكر طائفةٍ منها في بابٍ على حِدَةٍ، وهي في نفسها متفاوتةٌ في القوَّة والضعف، ثم يكون الحكم لرقيب الإيمان, فقد يقوى الرقيبُ حتى لا يكاد يبقى للهوى أثرٌ البتَّة، ولا يبقى في المعركة إلا الحجَّة والشبهة، وقد يَضْعُفُ الرقيب على تفاوتٍ، والتوفيق بيد الله. فلو كانت حجج الحقِّ كما اقْتَرَحْتَ كلُّها يقينيَّةً لا تشتبه على أحدٍ لتعذَّرت الخيانةُ فيها، وبذلك يَنْسدُّ أعظمُ بابٍ من أبواب الابتلاء، وهو الابتلاء في العلم والنظر، ثم يَجُرُّ ذلك إلى الخَلَلِ في الابتلاء في العمل، وذلك مخالفٌ لحكمة الخلق كما تقدَّم، والله سبحانه أعلم وأحكم. ****

الأصل الثالث

[ز 8] الأصل الثالث إصابة الحقِّ فيما يمكن اشتباهه تتوقَّف على ثلاثة أمورٍ: التوفيق، والإخلاص، وبذل الوسع. أما التوفيق، فالتوقُّف عليه ظاهرٌ، وإنما الشأن في سبب حصوله، وقد بيَّنه الله تبارك وتعالى بقوله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [خاتمة العنكبوت]. والجهاد فيه عزَّ وجلَّ يتضمَّن الأمرين الآخرين، أعني الإخلاص وبذل الوسع، فَعُلِمَ أن حصولَهما سببٌ لحصول التوفيق، وعلى ذلك حجج أخرى، وسيأتي بعضها. وأما الإخلاص، فهو رغبة صادقة في إصابة الحق لا يعارضها هوًى مُتَّبَعٌ، ومسالك الهوى لا تحصى قد تقدَّم بعضها في الأصل الثاني. وعلى الناظر في مسألة من المسائل أن يفتِّش نفسه قبل البحث فيها، ثم في أثنائه، مثلًا إذا أردت النظر في حكم الماء القليل تقع فيه نجاسة لا تُغَيِّرُه ففتِّش نفسك قبل البحث فإنها لا تخلو عن حالين، إما أن تودَّ وتشتهيَ واحدًا معيّنًا مِن الطرفين: التنجُّس وعدمه، وإما أن لا يكون لها ميلٌ إلى ذا ولا ذاك، وإنما تودُّ معرفة الراجح منهما شرعًا، فإن وجدتَها على الحال الثانية فهي حينئذ بريئة من الهوى، وإلَّا كأنْ تجدها تهوَى عدم التنجُّس، ففتِّش عن سبب ذلك الميل، وقَوِّمْ نفسك إن استطعت. فإن وجدتَ السبب هو الرأي المحض كأن تقول: إن النجاسة إذا لامست الماء ولم ينحلّ منها فيه شيء كبعرة مُس بها الماء فأبْعِدَتْ عنه فورًا،

أو كانت يسيرةً جدًّا على (¬1) لا يظهر منها أثرٌ مَّا على الماء، فإنه بعيد في النظر أن تنجسه، فاستَحْضِرْ أن الله تبارك وتعالى أعلمُ منك وأحكمُ؛ فلعلَّه سبحانه عَلِمَ حِكْمَةً خَفِيَتْ عنك. وإن وجدته حبَّ التيسير على نفسك فعِظْهَا واستحضر فناء الدنيا وبقاء الآخرة وغير ذلك. وإن وجدته حبَّ التيسير على الناس فاستحضر أن ربهم أرحمُ بهم منك، وأن الخير لهم إنما هو في طاعة ربهم في العسر واليسر. وإن وجدته حبَّكَ لإمامك أو شيخك لأن مذهبه عدم التنجس فاستحضر عدم عصمته، وأنك إنما كُلَّفْتَ بطاعة الله ورسوله، وإنما ينبغي لك البحث لتعرف ما هو أقرب إلى طاعة الله ورسوله فتتبعه. فإن استطعت أن تردَّ نفسك إلى الاعتدال فانظر في المسألة ولا تنس مراقبة نفسك أثناء البحث فإنه قد يَعْرِضُ لها هوىً لم يكن قبلُ. وإن لم تستطع فعلى الأقلَّ تَعَرَّفْ هواها وعامِلْها معاملة الخصم الأَلدِّ، فإذا لم يحصل لك من البحث إلا الرجحان النفسيُّ فلا تثق به، وإذا ظهر لك دليلٌ يوافق هواك فأمعن في تأمُّلِه والتفكُّر فيما يخدش فيه أو يعارضه كما تصنع في دليل خصمك، واستعن بمراجعة مَن يخالفك. وتَفَقَّد المسائل الخلافية التي قد استقرَّ في نفسك الحكمُ فيها وترى أنه إنما استقرّ للحجة، فتدبَّرْ تلك الحجة، فإن وجدتها قاطعة كَنَصٍّ قاطعٍ يكون القدحُ فيه قدحًا في الشارع، أو كإجماع محقَّقٍ، كفاك ذلك، وإن وجدتهَا ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولعلّها: "على ألاّ"، أو "على" مقحمة.

دون ذلك فإنك لا تأمَنُ أن تكون شبهةً رجَّحَها عندك الهوى. ومن علامات الهوى أن تجد نفسك تضيق وتنقبضُ إذا سمعت آية أو حديثًا احتجَّ به مخالفك وتتمنَّى أن تظفر بما تردُّ به احتجاجه، ومما تعرف به ميلك مع الهوى أن تنظر في نظائر حجتك وتأويلك فلعلَّك قد رَدَدْتَ مثلَ ذلك أو أقوى منه على مخالفك في تلك المسألة أو غيرها، وتنظر في نظائر حجة خصمك وتأويله فلعلَّك قد اعْتَمَدتَ على مثله أو دونه، والله الموفق. وأما بذل الوسع ففي ثلاثة أمور: الأول: تَعَرُّفُ الهوى، وتطهيرُ النفس منه، أو التحرُّزُ من اتَّباعه، وقد مضى. الثاني: تقوى الله عزَّ وجلَّ والاستكثارُ من الطاعات واجتناب المعاصي والمكروهات، قال الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2]، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق: 4]، {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29]، {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [أوائل البقرة]، والأدلَّة على هذا كثيرةٌ، وهذا الأمر متضمَّنٌ للأمر الأوَّل، وإنما أفردت الأوَّل لدقَّته وغلبة التقصير فيه، ومتضمِّنٌ للثالث كما يأتي. الثالث: طلب العلم، وهو على درجاتٍ. الدرجة الأولى: تحصيل الضروري من العقائد، وهو ما لا يكون الإنسان مؤمنًا إلا إذا كان معتقدًا له. وهذا أمرٌ ميسَّرٌ في الإِسلام لولا ما كَدَّرَهُ من إذاعة الشُّبَه وإشاعة البدع حتى أصبح الخلاص منها صعبًا على العلماء فضلاً عن العامة.

الدرجة الثانية: الضروريُّ من الأحكام، وهذا أيضًا مُيَسَّر؛ لأنه متواترٌ كفرض الصلوات الخمس وأعدادها. الدرجة الثالثة: العقائد التي يَصِحُّ أصلُ الإيمان مع خُلُوّ الذهن عنها، ولكنَّ اعتقادَ الحقّ فيها مشروع، واعتقاد الباطل فيها قد ينافي أصل الإيمان أو يخدشُ فيه. والأمر في هذا سهل أيضًا على مَن وفَّقه الله تعالى، وذلك بأن يستمرَّ على ما يقتضيه خُلُوُّ الذهن، فإن أراد المعرفة أعدَّ لها عُدَّتها، ثمَّ يبذل وسعَه حتى تقهرهُ الحجَّةُ. الرابعة: الأحكام الفرعية، والأمر فيها سهلٌ أيضًا، فإنه يكفي العاميَّ فتوى العالمِ والأخذُ بالأحوط ما استطاع، فإن أراد المعرفة أعدّ لها عُدَّتها ثمَّ نظر. وبالجملة فالصعوبة في الدرجة الأولى إنما جاءت من إشاعة الشُّبَهِ والبدع، فمتى رُزِقَ العامَّةُ دولةَ حقًّ تَسُدُّ عنهم ذلك استراحوا كما كان في أوائل الإِسلام، وقصة عمر مع صبيغ بن عسل معروفة (¬1)، فإن لم يكن ذلك ¬

_ (¬1) يعني صَبِيغ بن عِسْلٍ الحنظليَّ. وقصَّته مع عمر رضي الله عنه وردت من طرقٍ متعدَّدةٍ وبألفاظٍ مختلفةٍ. منها: ما أخرجه الدارميُّ من طريق سليمان بن يسارٍ، أن رجلاً يُقال له صَبِيغٌ قدم المدينة, فجعل يسأل عن متشابه القرآن، فأرسل إليه عمر رضي الله عنه - وقد أعدَّ له عراجين النخل -, فقال: من أنت؟ قال: أنا عبد الله صَبِيغٌ، فأخذ عمر عرجونًا من تلك العراجين فضربه، وقال: أنا عبد الله عمر، فجعل له ضربًا حتى دمي رأسه، فقال: يا أمير المؤمنين حسبك, قد ذهب الذي كنتُ أجد في رأسي. وأخرجه أيضًا من طريق نافعٍ بسياقٍ أتمَّ. سنن الدارميَّ، المقدَّمة، باب مَن هاب الفتيا وكره التنطُّع والتبدُّع، 1/ 252 و254، ح 146 و150. وانظر: الشريعة للآجرَّيَّ 1/ 481 - 484، ح 152 - 153، الإبانة لابن بطَّة 1/ 414 - 415، ح 329 - 330، =

فإنما يهوِّنُ عنهم الشر تمييزُهم بين علماء الحق وغيرهم، فيقتدون بعلماء الحق ويهجرون غيرهم، ويَسُدُّون آذانهم عن سماع الشُّبَه وقَبُولِ البدع، وقد كان هذا في القرون الأولى. وأما بعد ذلك فاختلط الأمر بل انعكس، فَمَنْ رزقه الله تعالى من العامَّة معرفةَ عالمٍ من علماء الحق فاقتصر عليه وهجر سماسرة الشُّبَه وأنصارَ البدع فقد فاز. وأما الدرجة الثانية فلا صعوبة فيها على مَنْ سَلِمَت له الأولى. وأما الثالثة فكالأولى، فإن العامَّيَّ بعد شيوع الكلام فيها لا يكاد يستطيع الاستمرار على ما يقتضيه خُلُوُّ الذهن إلا أن يقيَّض (¬1) له عالِمٌ من علماء الحق فيلزمه ويدع مَنْ سواه. وأما الرابعة فإن ما حدث من غلو الناس في مذاهبهم والتعصب على مخالفها حال بينهم وبين الأخذ بالأحوط والوقوف عند الحدِّ. وعلى كل حال فالأمر على العامي أسهل؛ لأن إعداد العُدَّة للعلم إنما يحصل بطلب العلوم من أهلها الراسخين فيها, ولا تجد علمًا من العلوم إلا قد شاركت فيها البدع والأهواء، ولا تكاد تجد عالمًا راسخًا في هذه الأزمنة فإن وجد فخاملٌ غير معروفٍ، فإن عُرِف فمرميٌّ بالضلال عند الجمهور. وطالب العلم لا بُدَّ أن يقلد شيخه والكتاب الذي يقرؤه؛ لأنه لا يكاد يستطيع أن يبقى على ما يقتضيه خُلُوُّ الذهن حتى تقهره الحجة، فإنها تَعْتَوِرُه ¬

_ = اعتقاد أهل السنَّة للالكائيَّ 4/ 634 - 636، ح 1136 - 1140، ذم الكلام للهرويِّ 4/ 242 - 244، ح 706 - 707، الإصابة 5/ 306 - 307، الدر المنثور 2/ 152 - 153. (¬1) في الأصل بالظاء المشالة.

شبهاتٌ وأهواءٌ تخيَّل إليه أنه قد عقل الحجَّة واتَّضحت له في كثير من المسائل، ثم ينشأ على الهوى لتلك المسائل وعلى الهوى لشيخه ومذهبه وعلى تَوَهُّم أن الحقَّ محصورٌ فيه، فإن فرض أنه بلغ رتبة العلم الحقيقيَّة لم يكد ينتفع بها, ولكنَّه مع هذا كلِّه إذا ناقش نفسه الحساب وألزمها صدق النظر وصحَّت نيَّته أن يجاهد في الله حقَّ الجهاد فلا بدَّ أن يهديه الله تبارك وتعالى سبله، والله الموفق. ****

فصل حكم الجهل والغلط

فصل حكم الجهل والغلط (¬1) خفاء الكثير من حجج الحق يلزمه وقوع الجهل والغلط، والناس في ذلك ثلاث طبقات، الطبقة الأولى: من لم تبلغه دعوة نبي أصلاً، قال الله تبارك وتعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15) وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 13 - 16]. خلط الناس في معنى {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}، فزعم بعضهم أن الرسول هنا إنما أريد به العقل (¬2)، وهذا تحريفٌ تغني حكايته عن ردَّه. [ز 8] (¬3) وقال بعضهم: أما الرسول فهو الرسول المعروف، ولكن المراد ¬

_ (¬1) قوله: (فصلٌ) جاء متَّصلًا بالكلام السابق. والعنوان الجديد (حكم الجهل والغلط) وما بعده إلى قوله: (تغني حكايته عن ردَّه) كان ملحقًا بصفحة عنوان القطعة السابقة (أصول ينبغي تقديمها). (¬2) انظر: روح المعاني 15/ 37. (¬3) من هنا تبدأ القطعة المسمّاة (رسالة في معنى قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا})، وهي متَّصلةٌ بما قبلها كما ترى، لكن تكرَّر عند المؤلِّف وضع الرقم (8) على هذه الورقة، فتبعته على ذلك.

بالعذاب عذابٌ خاصٌّ هو العذاب الدنيوي المستأصل (¬1) كإهلاك قوم نوح وعاد وثمود، واحتجوا على ذلك بقوله عقب هذه الآية: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً} الآية، فنظروا إلى ما بعدها وغفلوا عما قبلها. والحق أن الرسول هو الرسول المعروف، وأن العذاب على إطلاقه، فيتناول الأخروي والدنيوي، وترتبط الآية بما قبلها وما بعدها, ولله الحمد. ولا يشكل على الآية ما يشاهَد من عموم الهلاك للصبيان والمجانين وما يتفق من هلاك مَنْ لم تبلغه دعوة؛ فإنه ليس كلُّ هلاكٍ عذابًا، ألا ترى إلى الطاعون هو رجز على الكفار وشهادة للمؤمنين، وإنما يكون الهلاك عذابًا إذا كان عقوبة على ذنب. هذا وفي القرآن آيات أخرى تشهد لهذا المعنى، كقوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا}، إلى قوله: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130) ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} [الأنعام: 128 - 131]. وقوله عزَّ وجلَّ: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى} [الزمر: 71]. ¬

_ (¬1) انظر: متشابه القرآن للقاضي عبد الجبار الهمذاني المعتزلي 2/ 68. ونسب هذا القولَ القرطبيُّ (10/ 231) وأبو حيان (6/ 10) والشوكاني (3/ 306) إلى الجمهور، مع ترجيح الأخيرين ما رجَّحه المؤلَّف.

وقال سبحانه: {وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ}، إلى أن قال: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ} [الملك: 6 - 9]، وهذه الآيات صريحة في أن جميع الذين يدخلون النار من الكفار قد جاءتهم نذرٌ منهم فكذبوهم، وقوله: {فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ} صريح في أن المراد بالنذير النبي، فاندفع ما يزعمه بعضهم من حمل النذير على العقل (¬1). وذكر سبحانه وتعالى الرسل، ثم قال: {رُسُلًا ... الرُّسُلِ} [النساء: 165]. أوضح تبارك وتعالى بهذه الآيات أن من عدله وحكمته ورحمته ألا يعذب حتى يرسل رسولاً، فأخطأ قوم فقالوا ما سبق من أن المراد بالرسول في الآية هو العقل، فلا مع الشرع وقفوا, ولا عدل الله وحكمته عرفوا. والحامل لهم على ذلك: أنهم زعموا أن العقل مستقل بإدراك وجود الخالق وأنه قادر عليم حكيم، وبإدراك أن الحكمة تقتضي المنع من القبيح وتقتضي تعذيب مرتكبه بشرطه، وبإدراك قبح كثير من الأعمال. قالوا: فمن لم تبلغه دعوة أصلاً إذا أدرك ما تقدم ومع ذلك ارتكب القبيح فقد استحق العذاب، وإن قَصَّر في إدراك ما تقدم أو بعضه فكذلك يستحق العذاب على التقصير وعلى ارتكاب القبيح. أقول: كأن القوم قاسوا من لم تبلغه دعوة أصلاً على أنفسهم، فظنوا أنه ¬

_ (¬1) الحرف الأخير لم يظهر في الصورة.

يكون كواحدٍ منهم في سرعة الانتقال، وسهولة الاستدلال، وتيسُّر دَفْع الشبه في الجملة، وغير ذلك. ولو فكَّروا قليلاً لعلموا أن البون شاسع؛ فإنهم تلقَّنوا العقائد صغارًا ونشؤوا على قبولها والسكون إليها، وعامَّة الناس حولهم مطبقون عليها، وبَلَغتْهم الشرائع وما نبَّهتْ عليه من الحجج ودفع الشبهات، وبلغهم كلامُ العقلاء الذي تلقَّوه من الشرائع وفسَّروا به ما نبَّهتْ عليه من الحجج وفرَّعوا عليها. ومَنْ لم تبلغه دعوة أصلاً بعيدٌ عن هذا كله، ونحن نجد من المنهمكين في العقليات المقصِّرين في الشرعيَّات من تكون عاقبتُه الإلحادَ أو الارتيابَ مع أنهم قد تلقَّوا كلام العقلاء في الحجج التي اقتبسوها من الشرائع أو فَرَّعوها عليها [ز 9] فما بالك بمن لم تبلغه دعوة أصلاً؟ وهَبْ أن النظر العقلي يستطيع أن يُثْبِتَ على مَنْ لم تبلغه دعوة إجرامًا أو تقصيرًا، فقد بقي وراء ذلك عفو الرؤوف الرحيم. فإن قيل: إن غلاة هؤلاء يجحدون العفو ويزعمون أنه قبيح؛ لأنه خلاف الحكمة! فالجواب: أن تلك منهم مكابرة للعقل والشرع، ثم ما عساهم يقولون في الأطفال رُفِعَ عنهم القلم حتى يبلغوا الحلم؟ فإن قيل: إن الطفل يكون تمييزه ضعيفًا. قلت: ذاك في أول أمره، وقد لا يبلغ الغلام إلاَّ لتمام خمس عشرة سنة، أو ثماني عشرة على الخلاف في ذلك، وقد يكون ابنُ ثلاث عشرة أو أربع عشرة أعقلَ من كثير من الرجال، فأما إذا كان من قوم بلغتهم الدعوة واتبعوها فقد يتعلَّم ويتدرَّب وينظر ويتدبَّر، فيكون أَقْوَمَ بمعرفة الحجج من أُمَّة بكمالها لم تبلغها دعوة أصلاً.

هذا، وإذا كان المدار على التمييز فما بال الغلام يكون الآن غير مكلف، ثم يبلغ بعد ساعة فيصير مكلَّفًا، والبلوغ لا يزيد في العقل شيئًا؟ بل لو قال قائل: إنه ينقصه لما يطرأ من قوَّة الشهوة التي تغالب العقل لَمَا أَبْعَدَ. فإن قيل: المناط في الحقيقة هو التمييز، ولكنه غير منضبط، فضبطه الشارع بالبلوغ، على ما تَقَرَّر في أصول الفقه في بيان العلَّة، ويمثِّلونه بعلَّة قَصْر الصلاة أنها في الأصل المشقةُ، ولكن لعدم انضباطها ضبطها الشارع بالسفر بشرطه، واغتفر ما قد يترتب على ذلك من الإخلال بأصل الحكمة في بعض الجزئيات مراعاة لحكمة الضبط التي هي أهمُّ. قلت: فقد يقال: إن ضبط المناط إنما يُحتاج إليه في إقامة الأحكام الدنيوية على المكلَّف كالحدود ونحوها، فأما الجزاء الأخروي فالله عزَّ وجلَّ لا تخفى عليه خافية، فقد كان يمكن أن يُقال للناس: أما أنتم فلا تُجْرُوا على الصبي حكم المكلَّف حتى يبلغ، وأما الصبي في نفسه فينبغي له إذا حصل له أصل التمييز أن يعامِلَ نفسه معاملة المكلَّف؛ لأنه قد يكون حصل له في علم الله تعالى نصاب التمييز فيكون في علم الله تعالى مكلَّفًا يستحق العقوبة في الآخرة على إجرامه وتقصيره. وهذا - مع ما يظهر من مطابقته للحكمة - فيه مصلحة ظاهرة ومعونة لوليِّ الصبي على ما أُمِر به من تعويد الصبي المحافظة على الفرائض واجتناب القبائح وتأديبه على الإخلال بذلك. أقول: لا أعرف لهم جوابًا ينفعهم، وأما نحن فنقول: إن الله تعالى عَفُوٌّ كريم، فعفا عن الصبيِّ حتى يبلغ. ومع ذلك فقد دلَّتنا الشريعة على الحكمة في ذلك، وهي أنه كما يُحتاج إلى ضبط مناط التكليف لتعريف الناس متى يعامِلون الإنسان معاملة المكلَّف، فإنه يُحتاج إلى ذلك لأمرين آخرين:

أحدهما: تعريف الملائكة الموكَّلين بكتابة الأعمال وغيرها، ففي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أن نبي الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: "كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعةً وتسعين نفسًا، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فَدُلَّ على راهب فأتاه، فقال: إنه قتل تسعةً وتسعين نفسًا فهل له من توبةٍ؟ فقال: لا، فقتله فكَمَّل به مئة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فَدُلَّ على رجل عالم، فقال له: إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ فقال: نعم، ومَنْ يحول بينه وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا؛ فإن بها أناسًا يعبدون الله [ز10] فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك، فإنها أرض سوء. فَانْطَلَقَ حتى إذا نَصَفَ الطريق أتاه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ... "، الحديث (¬1). الأمر الثاني - وهو الأعظم -: معرفة الأشهاد ليشهدوا يوم القيامة، وذلك أن الناس يجادلون عن أنفسهم هناك، قال الله عزَّ وجلَّ: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} [النحل: 111]. والله تبارك وتعالى هو الحكم العدل، فاقتضى كرمه وعفوه وفضله وكمال عدله ألاَّ يقطع جدال المجادل هناك بقوله: "أنا أعلم"، بل يقيم عليه الشهادة من الرسل والملائكة حتى تشهد عليه أعضاؤه، فَيُعْذِر من نفسه، قال تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ ¬

_ (¬1) وهذا لفظ مسلم في صحيحه, كتاب التوبة، باب قبول توبة القاتل إلخ، 8/ 103، ح 2766. ونحوه في صحيح البخاريَّ في ترجمة "باب" قبل باب المناقب. [المؤلف]. يعني كتاب أحاديث الأنبياء، باب 54، 4/ 174، ح 3470.

شَهِيدًا} [النساء: 41] (¬1). وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]. وقال سبحانه: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [خاتمة الحج]. وفي مسند أحمد وغيره عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان، وأكثر من ذلك، فَيُدْعى قومُه فيقال لهم: هل بَلَّغكم هذا؟ فيقولون: لا، فيقال له: هل بَلَّغْتَ قومَك؟ فيقول: نعم، فيقال له: مَنْ يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فيُدْعى محمد وأمته، فيقال لهم: هل بلَّغ هذا قومه؟ فيقولون: نعم، فيقال: وما عِلْمُكُم؟ فيقولون: جاءنا نبينا فأخبرنا أن الرُّسُلَ قد بَلَّغوا، فذلك قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}، قال: يقول: عدلاً، {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} " (¬2). وأصل الحديث في تفسير هذه الآية من صحيح البخاريِّ (¬3) وفيه: "والوسط: العدل". وقال الله تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا ¬

_ (¬1) ونحوها في سورة النحل: 89، والقصص: 75. [المؤلف] (¬2) مسند أحمد 3/ 58. [المؤلف] (¬3) كتاب التفسير، باب قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ ...} 6/ 21، ح 4487.

تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 10 - 12]. وآياتٌ أخرى في إثبات ذلك. وقال تعالى: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت: 19 - 23]. وقال سبحانه: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس: 65]. وفي صحيح مسلمٍ من حديث أنس قال: كنا عند رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فضحك، فقال: "هل تدرون مِمَّ أضحك؟ " قال: قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: "مِنْ مخاطبة العبد ربَّه عزَّ وجلَّ، يقول: يا رب، ألم تُجِرْني من الظلم؟ قال: فيقول: بلى، قال: فيقول: فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهدًا مني، قال: فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيدًا، وبالكرام الكاتبين شهودًا، قال: فيختم على فيه، فيقال لأركانه: انطقي، قال: فتنطق بأعماله، قال: ثم يخلى بينه وبين الكلام، فيقول: بُعدًا لكُنّ فعنكُنَّ كنت أناضل" (¬1). ¬

_ (¬1) صحيح مسلمٍ، كتاب الزهد والرقائق، 8/ 216، ح 2969. [المؤلف]

وفيه من حديث أبي هريرة: " .... فيَلْقَى العبدَ، فيقول: أي فُل (¬1)، ألم أكرمك وأُسَوِّدْك (¬2) وأزوجك وأسخِّرْ لك الخيل والإبل وأَذَرْكَ تَرْأس (¬3) وتَرْبَع (¬4)؟. فيقول: بلى أي رب! فيقول: أفظننت أنك ملاقىَّ؟ فيقول: لا، [ز 11] فيقول: فإني أنساك كما نسيتني"، ثم ذكر الثاني كذلك، ثم قال: "ثم يَلْقى الثالث فيقول له مثل ذلك، فيقول: يا رب آمنت بك وبكتابك وبرسلك وصلَّيت وصمت وتصدَّقْت، ويثني بخير ما استطاع، فيقول: ها هنا إذًا (¬5)، قال: ثم يقال له: الآن نبعث شاهدنا عليك، ويتفكَّر في نفسه: مَنْ ذا الذي يشهد عليَّ، فيُختم على فيه، ويقال لفخذه ولحمه وعظامه: انطقي، فتنطق فخِذُه ولحمه وعظامه بعمله, وذلك لِيُعْذِرَ من نفسه (¬6)، وذلك المنافق، وذلك الذي يسخط الله عليه" (¬7). أقول: ظاهر الآيات في شهادة الرسل أنهم يشهدون على مَنْ أدركوه وبلَّغوه. ويؤيِّده ما أخبر الله تعالى به عن عيسى عليه السلام من قوله: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} [المائدة: 117]. ثم من الناس من يجحد شهادة الرسل، فيشهد لهم نبينا صلَّى الله عليه ¬

_ (¬1) يا فلان. (¬2) أجْعَلْكَ سيّدًا على غيرك. (¬3) ألم أدَعْكَ تكون رئيسًا على قومك. (¬4) أي تأخذ مِرْباعَهم وهو رُبْعُ الغنيمة. (¬5) إذا أثنيت على نفسك بما أثنيت فاثبُتْ هنا إذًا كي نُرِيَك أعمالك. (¬6) ليقطع الله عُذْرَه وتقوم الحجة على العبد بشهادة أعضائه عليه. (¬7) صحيح مسلمٍ، كتاب الزهد والرقائق، 8/ 216، ح 2968. [المؤلف]

وآله وسلَّم وأمته. والسَّرُّ في ذلك والله أعلم - مع ما له صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وأمته من الفضائل - أنه يكون قد سبق تقديم أهل المحشر كلَّهم له صلَّى الله عليه وآله وسلَّم للشفاعة العظمى، وظهر لهم بذلك عُلوُّ منزلته وسعيه فيما ينفعهم، فكأنهم في ضمن ذلك قد عرفوا واعترفوا بأنه أهلٌ لأن تُقْبَلَ شهادته، وأمتُه تبعٌ له. ثم من الناس من لا يقنع بهذه الشهادة وشهادة غير الأنبياء من الناس كشهادة الصحابة على التابعين، فيُشْهِدُ الله عليهم الملائكةَ وغيرهم مما ورد في الآثار من شهادة الأماكن والأحجار والأشجار وغيرها. ثم منهم مَنْ يَرُدُّ هذه أيضًا، ويقول كما تقدَّم في الحديث: "لا أجيز على نفسي إلا شاهدًا منّي"، فيُنْطِق الله تبارك وتعالى أعضاءَه فتشهد، فيُعْذِرُ من نفسه. فلو كان الله عزَّ وجلَّ يكتفي في قطع العذر يوم القيامة بأن يقول: "أنا أعلم" لمَا اقتضت الحكمة كتابة الحَفَظَة ولا إقامةَ ما تقدَّم من الشهادات، لكنه تبارك وتعالى اقتضى كرمه وفضله وعفوه وكمال عدله ألاَّ يكتفي بذلك. فلهذا نقول: اقتضى كرم الله تعالى وعفوه وكمال عدله أن يُرفع القلم عن الصبي حتى يبلغ، ولا يُكتفى باستكماله نصاب التمييز قبل بلوغه، إذ لو اكتُفي به فاعتذر يوم القيامة بقوله: "كنت صبيًّا لم أستكمل التمييز" لمَا أمكن إقامة الشهادة عليه، لِما تقدَّم أن التمييز لا ينضبط، فلا يعلمه الناس ولا الملائكة ولا الأعضاء؛ بخلاف مَنْ بلغ سليمَ العقل، فإنهم يشهدون عليه أنه كان قد بلغ سليم العقل، ومعلوم أن مَنْ بلغ سليم العقل يكون قد استكمل نصاب التمييز. ثم نعود إلى مسألتنا فنقول: الاكتفاء في تكليف مَنْ بلغته الدعوة ببلوغه سليمَ العقل لا يلزم مثلُه فيمن لم تبلُغْه دعوة أصلًا؛ لوضوح الفرق؛ فإن مَنْ

فصل

بلغته الدعوة قد نبَّهه الشرع وقَرَّب له الحججَ وعبَّد له طرقَ الاستدلال ودَفْعَ الشبه، ومَكَّنه من سؤال الرسول أو العلماء، وغير ذلك؛ ومَنْ لم تبلغه دعوة أصلاً محرومٌ من هذا كلَّه. فإذا فكَّرنا فيما تقتضي الحكمة أن يكون مناطًا لتكليفه في نفس الأمر لم يكن بُدٌّ من أن نعتبر مع التمييز الذي يكون لمن بلغ سليمَ العقل أمرًا آخر كسلامة الفطرة وقوَّة الفطنة، وهذا الأمر الآخر لا ينضبط فلا يعلمه الناس ولا الملائكة ولا هو نفسه، [ز 12] فاقتضى كرمُ الله تبارك وتعالى وعفوُه وكمالُ عدله وحكمته أن ينوط الحكم ببلوغ الدعوة، فيكون مناطُ التكليف هو بلوغ الحلم مع سلامة العقل وبلوغ الدعوة، وقد صرَّحت الآيات السابقة بإقامة الحجة ببلوغ الدعوة، وفيها: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام: 130]، {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [الزمر: 71]، وأنه لو أهلكهم قبل الرسول لاعتذروا هناك بقولهم: {لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ} [طه: 134, القصص: 47]. فقد اتَّضح بحمد الله تبارك وتعالى تطابق العقل والنقل على أن مَنْ لم تبلغه دعوة أصلاً ليس بمكلَّف، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. فصل وأخطأ آخرون فزعموا أن الآية (¬1) تتناول العرب قبل بعثة محمَّد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فليسوا بمعذَّبين على ما كان منهم من الشرك وغيره (¬2)، ¬

_ (¬1) يعني قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}. (¬2) انظر: روح المعاني 15/ 40 - 41.

وقد ردَّ النووي في شرح مسلم (¬1) هذا القول فأجاد. وكأن هؤلاء القوم توهَّموا أن معنى الآية: وما كنا معذَّبين أحدًا من أمَّةٍ حتى نرسل إليها رسولًا، ثم توهَّموا أنه لم يُرْسَلْ إلى العرب رسولٌ قبل محمَّد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أو أن الرسول أو الرسل الذين أرسلوا إلى العرب قبل محمد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كانت قد اندرست شرائعهم، فصار العربُ كمَنْ لم يُرْسَلْ إليهم رسول حتى أرسل الله محمدًا صلَّى الله عليه وآله وسلَّم. وقد أخطؤوا في كلا الأمرين، أما الأول فإن الآية مطلقة، فمعناها: وما كنا معذَّبين أحدًا حتى نرسل رسولًا، فتتناول كلَّ أحد وكلَّ رسول سواء مَنْ كان من أمَّة الرسول ومَن كان من غيرها، وإنما الشرط بلوغ الدعوة فقط، على ما تقدَّم، مع قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]. والغلط في هذا مبنيٌّ على الغلط في فَهْمِ ما أشار إليه القرآن وصرَّحت به السُّنَّه من أن الرسل قبل محمد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كان أحدُهم يُرسل إلى قومه خاصة، فتوهَّموا أنه إذا أُرسل إلى قومه خاصَّة لم يكن له بغيرهم عُلْقَة. والحقُّ أنَّ معنى إرساله إلى قومه خاصَّة أنه لم يؤمر بالتجَرُّدِ لتبليغ غيرهم وبَذْلِ المجهود فيه كما أُمِرَ بذلك في قومه، بل يكفيه في غير قومه ما تيسَّر له من أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر إذا لقيهم وأَمِنَ من شرِّهم ونحو ذلك. ¬

_ (¬1) 3/ 79.

فلما أُرْسِلَ هود إلى عاد كان غيرُهم من الأقوام الذين بلغتهم دعوتُه على قسمين: أمَّة فيها رسول حيٌّ أو قد مات ولكن شريعته باقيةٌ محفوظة، فهؤلاء يكفيهم رسولُهم ولا يلزمهم أن يأتوا هودًا، وأمَّة لم يُبعث إليها رسول أو بُعِث ثم مات واندرستْ شريعتُه أو بعضُها، فهؤلاء يلزمُهم أن يأتوا هودًا ويطيعوه. قال الحَليمي في منهاجه: "إن العاقل المميز إذا سمع أيّه دعوة كانت إلى الله تعالى، فترَك الاستدلال بعقله على صحَّتها وهو من أهل الاستدلال والنظر، كان بذلك معرضًا عن الدعوة، فيكفر"، نقله في روح المعاني (¬1). ولا ريب أنهم إذا جاؤوه لم يقل لهم: لا شأن لي بكم إنما أرْسِلْتُ إلى غيركم. وفي الفتح في الرَّدِّ على من زعم أن رسالة نوح كانت عامة بدليل أنه دعا على جميع أهل الأرض فأُغرقوا: "ويحتمل أن يكون دعاؤه قومَه إلى التوحيد بَلغ بقيَّة الناس فتمادوا على الشرك فاستحقُّوا العقاب، وإلى هذا نحا ابن عطيَّة في تفسير سورة هود. قال: وغيرُ ممكن أن تكون نُبوَّته لم تبلغ القريب والبعيد لطول مُّدَّته" (¬2). أقول: وكان نوح قريبَ العهد من آدم، فكأنَّ أهل الأرض كانوا في عهده قليلاً متقاربين لم ينتشروا في الأرض كلها، وإنما هم في إقليم واحد، ولم يثبت بدليل صحيح ما يخالف ذلك، وليس في الإِسلام ما ينص على أن آدم ¬

_ (¬1) 4/ 495. [المؤلف]. وهو في المنهاج في شعب الإيمان للحليمي 1/ 175. (¬2) فتح الباري، أوائل كتاب التيمم، 1/ 298. [المؤلف]. وانظر: المحرر الوجيز لابن عطية 4/ 572.

كان قبل ستة آلاف سنة ولا أكثر ولا أقلَّ، وكذلك نوح، وإنما عندنا قوله تعالى: {وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} [الفرقان: 38]، وما في الكتاب الذي يزعم اليهود أو النصارى أنه التوراة من تحديد المُدَّة لا نقول بصحته، وقد أبطله الأوربيون أنفسهم. [ز 13] وقد كان موسى رسولًا في الأصل إلى قومه بني إسرائيل، ولم يكن عليه بمقتضى أصل الرسالة أن يتجرَّد لتبليغ فرعون وآله، وإنما أُمِر بالذهاب إلى فرعون ليستخلص منه بني إسرائيل، فإنه كان يستعبدهم، ولا يمكن تبليغهم كما يجب وإقامةُ الشريعة فيهم حتى يخلصوا من الاستعباد ويصيروا إلى بلد لا معارِض فيها لإقامة الشريعة. قال الله عزَّ وجلَّ: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ}، إلى أن قال: {وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأعراف: 103 - 105]. وقال تعالى لموسى وهارون: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} إلى قوله: {فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ} [طه: 43 - 47]. وقال سبحانه: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ} إلى قوله: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء:10 - 17]. فظهر بما ذكر أن جِدّ موسى عليه السلام في تبليغ فرعون كان مداره

على أن يرسل معه بني إسرائيل، فلو أن فرعون أرسل معه بني إسرائيل لذهب معهم ولم يتشاغل بتبليغ فرعون وملئه؛ لأنه في الأصل لم يرسل إليهم. ومع هذا فقد لزمهم الإيمان به وقامت عليهم الحجة وبلّغهم هو من أصل الدين ما دعت إليه الحاجة. ولو أرسلوا معه بني إسرائيل لكان عليهم بعد ذلك أن يأتوه حيث كان ويؤمنوا به ويتعلَّموا منه، وقد قَبِلَ الله تعالى إيمان مَنْ آمن منهم، كمؤمن آل فرعون وامرأة فرعون والسحرة؛ وعَذَّب الباقين. وكذلك قاتَل موسى وخلفاؤه الأقوامَ الذين كانوا مستولين على الأرض المكتوبة لبني إسرائيل، ولا نشكُّ أنهم دعوهم إلى الإيمان ولزمتهم الحجة وإن لم يكونوا من قوم موسى الذين أرسل إليهم. وكذلك نجد موسى أنكر على الخضر ما فعله مما ظاهره المنكر ولم يمنعه من ذلك أنه ليس من قومه الذين أرسل إليهم. وهكذا نجد سليمان عليه السلام لمَّا تيسَّر له أن يدعو سبأ دعاهم وتَوَعَّدَهم بأن يغزوهم، فجاؤوه وأسلموا معه. وكذلك نجد الإِسلام وجد جماعة من العرب قد تهوَّدُوا وآخرين منهم ومن الروم والحبش وغيرهم قد تنصَّروا فعاملهم معاملة أهل الكتاب ولم يقل لهم: إن موسى وعيسى لم يُرْسَلا إليكم. وهذا يوسف عليه السلام تدلُّ قصته أنه لم يكن رسولاً إلى أهل مصر، فإنه لما قابل الملِك لم يَدْعُهُ، بل سأله أن يولِّيه الخزائن فتولَّاها منه، ثم كان إذا جرى بينه وبين آخر نزاعٌ يكون الحكم على دين الملك، كما يدلُّ عليه قوله تعالى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [يوسف: 76].

ثم نراه لمَّا كان في السجن وسأله الرجلان عن حلمهما فآنس منهما الإقبالَ عليه وحسنَ الظن به، تلطَّف في دعائهما إلى الإيمان, قال الله عزَّ وجلَّ: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ [ز 14] وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 36 - 40]، ثم فسّر لهما رؤياهما. ولا بُدَّ أنه بعد أن تولَّى الخزانة كان يدعو الناس بحسب ما تيسَّر، كما يصنعه النبي مع مَنْ لم يؤمر بالتجرُّد لتبليغه أو قُلْ مع غير قومه الذين أُرْسِلَ إليهم. وهكذا ينبغي أن يكون فَعَلَ أبوه يعقوب عليه السلام بعد ورود مصر. ومما يدلُّ على هذا ما أخبرنا الله تعالى به عن مؤمن آل فرعون قوله لقومه: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا} [غافر: 34]. زعم بعضهم أن يوسف هذا غير ابن يعقوب (¬1)، كأن هذا الزاعم فَهِمَ ¬

_ (¬1) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير 7/ 221، وقال: ليس بشيء. وانظر: الإتقان 5/ 1970.

من هذه الآية أن يوسف هذا كان رسولاً إلى المصريّين الرسالة الخاصَّة، كما أُرْسِلَ هود إلى عاد، وعلم أن هذا لا ينطبق على يوسف بن يعقوب لما مَرَّ. والصواب أن الآية لا تدلُّ على ما ذكر، بل تدل أن يوسف كان رسولاً أي إلى أهل بيته ومن لعله تبعهم من قومهم، ولكنه تيسر له أن يدعو المصريين ففعل. والله أعلم. وهكذا ما اشتهر بين أهل العلم أن من الأنبياء مَنْ لم يكن رسولاً، ويفسرون ذلك بأنه لم يؤمر بالتبليغ، لا أرى هذا التفسير على إطلاقه، وإنما معناه الصحيح أنه لم يؤمر بالتجرد للتبليغ والجِدِّ فيه لا لقومه ولا لغيرهم، وإنما يؤمر بما تيسر له من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأهله وجيرانه ومن يأنس به, فيكون حاله مع الناس كلهم كحال هود مع غير قومه الذين أرسل إليهم على ما تقدم. وعلى هذا فمن بلغه وجود نبيًّ غير رسول يكون حاله كمن بلغه وجود رسولٍ في قيام الحجة إذ لا يظهر فرق، وعلى هذا فكلمة (رسول) في قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} المراد بها - والله أعلم - ما يَعُمُّ النبي، ولا حاجة لدعوى المجاز، ولا إلى ما قيل: إن كل نبي فهو رسول إلى نفسه، بل كل نبي يصدق عليه أنه رسول؛ لأنه لا بُدَّ أن يؤمر بالتبليغ وإن لم يؤمر بالتجرُّد له والجِدِّ فيه. وقد قال الله عزَّ وجلَّ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى} [الحج: 52]، فدلت الآية أن كلاًّ من الرسول والنبي مرسل. نعم إذا أطلق الرسول فالظاهر منه أنه المأمور بالتجرُّد للتبليغ والجِدّ فيه, لأن معنى الإرسال فيه أقوى، ولكن ذلك لا يمنع من حمل (رسول) في بعض الموارد

فصل

على ما يعمُّ النبي الذي لم يؤمر بالتجرد للتبليغ والجد فيه إذا دل دليل على العموم، والدليل هنا ما مر؛ إذ لا يظهر فرق بين من بلغه إرسال رسول ومن بلغه إرسال نبي في قيام الحجة. والله أعلم. فصل وأما القول بأنه لم يبعث إلى العرب رسول قبل محمد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فيردُّه أن مَنْ كان منهم من نسل إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام فقد دخلوا في رسالتهما؛ إذ لا شبهة أنهما كانا مرسلين إلى أبنائهما، ومَن كان مرسلاً إلى قوم فهو مرسلٌ إلى ذرَّيَّتهم ما تناسلوا، وأما الباقون فقد دخلوا في رسالة إسماعيل، كما جاء أنه أرسل إلى جُرْهُم (¬1)، وجاء أن عادًا وثمود من العرب، وقد أرسل إليهم هودٌ وصالحٌ. فأما قوله تعالى: {بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [السجدة: 3]، فالمراد بالقوم كما هو الظاهر مَن بلغتهم بعثته صلَّى الله عليه وآله وسلَّم من أهل مكة وغيرهم، وهؤلاء لم يأتهم أنفسهم رسول نذير قبله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، ولا يفهم من ذلك أنه لم يأت أسلافهم نذير، كيف ومن أسلافهم إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وهما نبيّان مرسلان، ومن أسلافهم أبناء إسماعيل لصلبه، وقد أنذرهم أبوهم إنذارًا مباشرًا، وهكذا يُقال في آيات أخر (¬2). ¬

_ (¬1) جُرْهُم: حيٌّ من اليمن نزلوا مكَّة وتزوَّج فيهم إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وهم أصهاره، ثمَّ ألحدوا في الحرم فأبادهم الله. لسان العرب 12/ 97. (¬2) كالآية (44) من سورة سبأ، و (46) من سورة القصص. [المؤلف]

وأما قوله تعالى في أوائل سورة يس: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} [يس: 6]، فالمراد آباؤهم الأدنون، كما هو الحقيقة، فإن حُمِل على ما يعمُّ الأجداد وإن عَلَوا فلا بُدَّ من قصره على بعض الطبقات لما تقدم. وأما القول بأن شريعة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام قد كانت اندرست قبل بعثة محمد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فخطأ القائلين به من وجهين: الأول: أنهم يطلقون القول بعذر المشركين الذين هلكوا قبيل بعثة محمد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وآبائهم وأجدادهم فصاعدًا، وقضية ذلك: أن شريعة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام اندرست قبل أن يشرك أحد من العرب، وهذا قول لا دليل عليه، بل الدليل قائمٌ على خلافه. [ز 15] (¬1) فقد ثبت عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أنه قال: "رأيتُ عمرو بن لُحَيِّ بن قَمَعة بن خِندِفَ أخا بني كعب هؤلاء يجرُّ قُصْبه في النار"، وفي روايةٍ: "وكان أول من سيَّب السُّيوب" (¬2). والحديث في المستدرك وفيه: "هو أول من حمل العرب على عبادة الأصنام"، وفي رواية: "هو أوَّل من سيَّب السوائب وغيَّر دين إبراهيم عليه ¬

_ (¬1) من هنا تبدأ القطعة المسمّاة في فهرس المكتبة (رسالة في العقيدة)، وهي متَّصلةٌ بما قبلها كما ترى. (¬2) صحيح مسلمٍ، كتاب الجنة إلخ، بابٌ النار يدخلها الجبَّارون إلخ، 8/ 155، ح 2856. ونحوه في صحيح البخاريَّ، كتاب المناقب، باب قصَّة خزاعة، 4/ 184، ح 3521. [المؤلف]

السلام"، وفي أخرى: "أول مَن غيَّر عهد إبراهيم ... ونصب الأوثان" (¬1). وقد وردت آثار في سبب نصبه للأوثان وسبب إشراكه في التلبية سنذكرها فيما بعد إن شاء الله تعالى. الوجه الثاني: أنهم يطلقون العذر، فشمل العذر في الشرك والعذر في المعاصي، وذلك يقتضي أحد أمرين: إما أنهم يرون أن الشريعة إذا اندرس بعضها سقط التكليف بباقيها، وإما أن يزعموا أن شريعة إبراهيم عليه السلام كانت قد اندرست بجميع فروعها. ولا أرى عاقلا يُقْدِمُ على الأول، ولا عارفًا يقدم على الثاني. فأما قوله تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص: 47]، وقوله سبحانه: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه: 134]، فالمعنى أنه لو لم يرسل إليهم رسول لقالوا ذلك على جهة الاعتذار، فقطع الله عذرهم، ولا يفهم من ذلك أنه لو لم يرسل الرسول فقالوا ذلك لقُبِل منهم وعُدَّ عذرًا لهم. وقد دل قوله تعالى: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} أنهم مؤاخذون بأعمالهم، على فرض عدم الإرسال وإظهار الاعتذار، فكذلك يقال فيمن هلك قبل البعثة. ¬

_ (¬1) راجع المستدرك، كتاب الأهوال، ذكر أوَّل مَن حمل العرب على عبادة الأصنام، 4/ 605. والإصابة، ترجمة أكثم بن الجون، [1/ 214 - 215]. وفتح الباري، باب قصَّة خزاعة، 6/ 354. [المؤلف]

وقد قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} [المائدة: 19]، وليس المعنى أنه لم يأت أسلافهم كما هو واضح، ولا يُفهم منه أنه لو لم يُبعث رسول فقالوا ذلك كان عذرًا مقبولًا. فكذلك لا يكون مَن هلك من أهل الكتاب قبل بعثة محمد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم معذورًا على الإطلاق، فكذلك العرب. وقال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ} إلى قوله: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ} [الأنعام: 155 - 157]، فهذا اعتذار قطعه الله تعالى، مع العلم بأنه لو أُرْسِل إليهم رسول بلا كتاب لقامت عليهم الحجة وإن كان ذاك الاعتذار باقيًا، فكذلك مَن هلك منهم قبل بعثة الرسول وإنزال الكتاب بالنسبة إلى ما قامت عليه الحجَّة. وأما قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} إلى قوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا} [القصص: 59]، فالمراد بالإهلاك هنا التدمير الدنيوي المستأصل كما يرشد إليه السياق، ثم إما أن يكون (أل) في {الْقُرَى} للاستغراق، والكلامُ على سلب العموم، وأمُّ القرى مكَّة، والمعنى: ما كان ربُّك ليدمِّر على جميع القرى حتى يبعث رسولاً في مكَّة، فَأَنْتَ ذلك الرسول. وهذا التدمير هو الموعود به عند قيام الساعة. فحاصل المعنى: ما كان ربك ليقيم الساعة حتى يبعث رسولاً في مكَّة فأنت هو. وهذا معنى صحيح لا غبار عليه.

وإما أن تكون (أل) للجنس، وأمُّ القرى أعظمها، والمعنى: ما كان ربُّك ليدمِّر على طائفةٍ من القرى حتى يبعث في أعظمها رسولاً، كما بعث في القرية العظمى من قرى عادٍ هودًا فلما كذَّبوه دمَّر الله تعالى على تلك القرى وهكذا، وهذا معنًى صحيحٌ أيضًا. وبقيت احتمالاتٌ أخرى ما بين باطلٍ وضعيفٍ فلا حاجة للإطالة بها. والمقصود أنه ليس في الآية ما يدلُّ على أن المشركين كانوا قبل بعثة محمَّدٍ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم معذورين مطلقًا. ودونك تحقيق حال العرب.

فصل

فصل العرب بعد إسماعيل عليه السلام فريقان: الفريق الأول: ذُرِّيَّته، ومنهم بنو عدنان. والفريق الثاني: مَن عداهم. فأما ذُرِّيَّته فإنها لزمتهم شريعة أبويهم إبراهيم وإسماعيل والتزموها، وأما مَن عداهم فإنها لزمتهم ببلوغ الدعوة، فمنهم مَن التزمها، ومنهم مَن أبى، والذين أبوا منهم مَن تهوَّد بعد ذلك كسبأ الذين اتَّبعوا سليمان عليه السلام مع مَلِكَتِهم كما قصَّه الله تعالى في كتابه في سورة النمل، ومنهم مَن تنصَّر كأهل نجران، ومنهم مَن بقي على شركه. وكلامنا الآن في الذين اتبعوا شريعة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، فنقول: إنهم بقوا محافظين عليها أمدًا طويلاً، ففي كتاب أرميا، الإصحاح الثاني: " [9] (¬1) لذلك أخاصمكم بعد يقول الرب وبني بنيكم أخاصم -10 - فاعبروا جزائر كِتِّيم (¬2) وانظروا وأرسلوا إلى قيدار وانتبهوا جدًّا وانظروا هل صار مثل هذا - 11 - هل بدَّلت أمَّةٌ آلهةً وهي ليست بآلهةٍ، أما شعبي فقد بدَّل مجده بما لا ينفع -12 - " (¬3). ¬

_ (¬1) لم يكتب المؤلف رقم الفقرة. (¬2) هو اسمٌ قديمٌ لقبرص. انظر: قاموس - ما يُسمَّى - الكتاب المقدَّس، في مدخليْ كِتَّيم وقبرس. (¬3) لم ينقل المؤلف الفقرة الثانية عشرة، ولعله أشار بكتابة الرقم إلى انتهاء الفقرة الحادية عشرة.

قيدار - ويُقال: قيذار - هو اسم ابن إسماعيل، كما هو مذكورٌ في الإصحاح الخامس والعشرين من سفر التكوين. وذكر معه نبايوت، وأكثر النسابين من العرب أن نابتًا - ويقال: نبت - هو ابن قيذار بن إسماعيل، وإليه نُسب عدنان، ولا مانع أن يكون لإسماعيل ابن اسمه نبايوت ونابت أو نبت، ثم سمي ابنُ قيذار نابتًا أو نبتًا باسم عمه. وما وقع لبعض النسابين من قولهم في نسب عدنان: ثابت أو نبت بن إسماعيل، فكأنهم أسقطوا قيذار اغترارًا بما حكي عن التوراة أو غير ذلك. وأنشد ابن إسحاق لقصيَّ بن كلاب جدِّ النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم أبياتًا فيها (¬1): فلست لغالبٍ إن لم تَأثَّل ... بها أولادُ قَيذَرَ والنَّبيتُ أراد بالنبيت أبناء نابتٍ. والله أعلم (¬2). فمعنى قوله: "وأرسلوا إلى قيدار" أي: أرسلوا إلى بلاد بني قيدار، وهي الحجاز وما حولها. وقوله: "وانتبهوا جدًّا" يشير به - والله أعلم - إلى تدبُّرِ الفَرْقِ بين بني إسرائيل وبني قيدار، بنو قيدار محافظون على شريعة إبراهيم لم يبدِّلوا ولم يغيِّروا مع مرور الزمان، وبنو إسرائيل قد بدَّلوا شريعة موسى، وكان بعد إبراهيم بزمانٍ، ومع ذلك كانت عندهم التوراة، ثم تسلسل فيهم الأنبياء كداود وسليمان ومَنْ بعدهما. وقوله: "هل بدَّلت أمة آلهة" إلخ يُعْلَمُ ¬

_ (¬1) سيرة ابن هشام 1/ 128. انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد 1/ 57 وفيه: لحاضن بدل غالب. (¬2) راجع فتح الباري، كتاب المناقب، باب نسبة اليمن إلى إسماعيل، 6/ 346. وراجع تاريخ ابن جريرٍ 2/ 192؛ فإن أكثر الأقوال المختلفة في نسب عدنان تقول: نابتٌ، أو نبتٌ، أو النبيت بن قيذار بن إسماعيل. [المؤلف]

منه مع ما تقدَّم أن بني قيدار لم يبدِّلوا كما بدَّل بنو إسرائيل. والسِّفْر المذكور يصرِّح بأن بني إسرائيل عبدوا الأصنام ونصبوها في بيت المقدس، فراجعه إن شئت. واستمرَّ بنو إسماعيل ومن وافقهم في اتِّباع شريعة إبراهيم عليه السلام على المحافظة عليها، فبُعث عيسى عليه السلام وهم على ذلك، ورُفع وبُدِّلَتْ شريعته وهم على ذلك، حتى بدَّلها ذلك الخبيث عمرو بن لحيٍّ. وقد تأمَّلتُ أنساب الصحابة الذين أسلموا من ذرِّية عمرو بن لحيٍّ كأكثم بن الجون، وسليمان [ز 16] بن صُرَد، وعمرو بن سالم، وبُدَيل بن وَرْقاء، وعمرو بن الحَمِق، وجويرية أمِّ المؤمنين، وغيرهم، فإذا بين كلًّ منهم وبين عمرو بن لحيًّ تسعة آباءٍ، وربَّما زاد أبًا أو نقص. وبين عمرو بن لحيًّ وبين معدِّ بن عدنان خمسة آباء عند من يقول: هو من ذريته كما هو ظاهر الحديث الصحيح المتقدِّم، فإن خِندِفَ هي زوج الياس بن مضر بن نِزار بن مَعَدٍّ، وأما على المشهور أن لحُيًّا لقبٌ واسمه ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد، وأنه إنما نسب إلى قَمَعة بالتبنِّي أو غيره، فإنه يكون في عهد النضر بن كنانة بن مدركة بن إلياس أو قبله، وهو أظهر؛ فقد كان لكنانة ابنٌ اسمه عبد مناةٍ ولأُدِّ بن طابخة بن إلياس ابنٌ اسمه عبد مناة أيضًا، والظاهر أن هذا الاسم إنما سمَّوا به بعد التبديل، ومثله زيد مناة، وعبد اللات، وتيم اللات، وعبد العُزَّى، وغيرها، والله أعلم. وقد حكى ابن الكلبي وغيره أنَّ معدَّ بن عدنان كان على عهد عيسى

فصل

عليه السلام (¬1)، وبين مولد عيسى ومولد محمد عليهما الصلاة والسلام نحو ستمائة سنةٍ، فعلى هذا يكون بين عيسى عليه السلام وبين تبديل عمرو بن لحيًّ نحو مائتي سنةٍ. ومن تتبَّع تاريخ النصرانية علم أنها لم تكد تمضي مائة سنة بعد رفع عيسى عليه السلام حتى بدَّل جمهورُ أتباعه أشنع تبديلٍ، وظهر بما تقدَّم أن شريعة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بقيت محفوظةً في ذريتهما العرب ومن وافقهم حتى بُدِّلت شريعةُ موسى والأنبياء بعده وشريعة عيسى، وكانت آخر الشرائع تبديلاً. فصل أما مَن كان من العرب على شريعة إبراهيم قبل تبديل عمرو بن لحيًّ أو بعده وبقي متمسكًا بها فلا ريب في نجاتهم؛ لأنهم كانوا على شريعة صحيحةٍ لم تُبدَّلْ ولم تُنسَخْ ولم يلزم أهلَها إجابةُ أحدٍ من الأنبياء الذين بُعِثُوا بعد إسماعيل؛ لأنه لم يُبعث أحد منهم إلى ذرية إسماعيل ومن وافقهم في اتباع شريعة إبراهيم. وقد قدَّمنا أنه إذا بُعث رسول إلى أمة وكانت هناك أمة أخرى على شريعة لم تبدَّلْ لم يلزمها اتباع ذلك الرسول. وأما عمرو بن لحي ومن وافقه على التبديل وكذا من جاء بعده فأتبعه مع علمه بالتبديل فهؤلاء هالكون لا محالة. وأما مَن بعد هؤلاء إلى بعثة محمد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فالكلام ¬

_ (¬1) انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد 1/ 57.

فيهم يستدعي بعض البسط، فأقول: إن القوم كانت قد بلغتهم أصل دعوة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام فلم يزالوا يعرفون أن إبراهيم رسولُ الله وأنه جاء بشريعة من عند الله، وكانوا يدَّعون أنهم على دينه. ذكر ابن إسحاق اجتماع زيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل ورجلين آخرين ونجواهم، قال: "فقال بعضهم لبعض: تَعَلَّموا والله ما قومكم على شيءٍ، لقد أخطؤوا دين أبيهم إبراهيم ... يا قوم التمسوا لأنفسكم فإنكم والله ما أنتم على شيء، فتفرَّقوا في البلدان يلتمسون الحنيفية دين إبراهيم ... وأما زيد بن عمرو بن نفيل فوقف فلم يدخل في يهودية ولا نصرانية وفارق دين قومه، فاعتزل الأوثان والميتة والدم والذبائح التي تذبح على الأوثان، ونهى عن قتل الموءودة، وقال: أعبد رب إبراهيم، وبادى قومَه بعيب ما هم عليه. قال ابن إسحاق: حدثني هشام بن عروة، عن أبيه، عن أمه أسماء بنت أبي بكرٍ رضي الله عنهما قالت: لقد رأيت زيد بن عمرو بن نفيلٍ شيخًا كبيرًا [ز 17] يسند ظهره إلى الكعبة وهو يقول: "يا معشر قريشٍ، والذي نفس زيد بيده ما أصبح منكم أحد على دين إبراهيم غيري"، ثم يقول: "اللهم لو أعلم أي الوجوه أحب إليك عبدتك به، ولكن لا أعلمه"، ثم يسجد على راحته. ثم قال: وحُدَّثت عن بعض أهل زيد بن عمرو بن نفيل أن زيدًا كان إذا استقبل الكعبة داخل المسجد قال: "لبيك حقًّا حقًّا تعبُّدًا ورقًّا" عُذتُ بما عاذ به إبراهمُ ... مستقبلَ الكعبة وهو قائمُ إذ قال: أَنْفِي لك اللهم عانٍ راغمُ ... مهما تُجَشِّمْنِي فإني جاشِمُ

إلى أن قال: ثم خرج يطلب دين إبراهيم عليه السلام ويسأل الرهبان والأحبار حتى بلغ الموصل والجزيرة كلها، ثم أقبل فجال الشام كلها حتى انتهى إلى راهب بميفعةٍ (¬1) من أرض البلقاء كان ينتهي إليه علم النصرانية فيما يزعمون، فسأله عن الحنيفية دين إبراهيم، فقال: إنك لتطلب دينًا ما أنت بواجِدٍ مَنْ يحملك عليه اليوم، ولكن قد أظلَّ زمان نبيًّ يخرج من بلادك (¬2). أقول: وأثر أسماء بنت أبي بكر أخرجه البخاري في صحيحه. وأخرج عن ابن عمر قصة زيد في مساءلته لعلماء اليهود والنصارى، وذكر ابن عمر أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بَلْدَحَ (¬3) قبل أن ينزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - الوحي فقُدَّمت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - سُفرة فأبى أن يأكل منها، ثم قال زيد: "إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلا مما ذكر اسم الله عليه" (¬4). وذكر في الفتح شاهدًا لقصة السُّفرة من حديث سعيد بن زيدٍ وفيه: فمرَّ بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وزيد بن حارثة وهما يأكلان من سُفرة لهما فَدَعَيَاهُ فقال: "يا ابن أخي لا آكل مما ذُبحَ على النُّصب، قال: فما رُئِيَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يأكل مما ذُبِح على النصب من يومه ذلك" (¬5). أقول: وهذا الحديث في مسند أحمد (¬6). ¬

_ (¬1) أي: بمرتفعٍ. (¬2) راجع سيرة ابن هشام، ذكر ورقة بن نوفلٍ إلخ، 1/ 222 - 231. [المؤلف] (¬3) بَلدَح: وادٍ قبل مكة من جهة المغرب. معجم البلدان 1/ 480. (¬4) صحيح البخاريَّ، كتاب المناقب [وفي السلطانيَّة: كتاب مناقب الأنصار]، باب حديث زيد بن عمرو بن نفيلٍ، 5/ 40، ح 3826. [المؤلف] (¬5) فتح الباري 7/ 98. (¬6) 1/ 189. [المؤلف]

وذكر الحافظ حديث زيد بن حارثة، وسأذكره بعد إن شاء الله تعالى. وذكر ابن إسحاق اتخاذ قريش الأصنام ثم قال: "وهي تعرف فضل الكعبة عليها؛ لأنها كانت قد عرفت أنها بيت إبراهيم الخليل ومسجده". أقول: ولعلمهم بأن احترامها من دين إبراهيم الذي بلَّغه عن ربه عزَّ وجلَّ لم ينعتوها بالألوهية كما نعتوا أصنامهم، ولم يصفوا احترامهم لها بأنه عبادة لها كما قالوا في أصنامهم، بل كانوا يرون أن احترامهم لها عبادة لله عزَّ وجلَّ، وسيأتي إيضاح هذا إن شاء الله تعالى. وذكر ابن إسحاق شأن زمزم وتجديد عبد المطلب لها وقول قريش: "إنها بئر أبينا إسماعيل" (¬1). وبالجملة فالشواهد على ما ذكرت من معرفتهم بأصل دعوة إبراهيم وإسماعيل ودعواهم أنهم على دين إبراهيم كثيرة، وفيما ذكرت كفاية إن شاء الله تعالى. ومع ذلك فقد كان بقي فيهم من شريعة إبراهيم عليه السلام أشياء: [ز 18] منها: في العقائد: علمهم بأن الله هو الحق، قال قائلهم - وأنشده بين ظهرانيهم فلم ينكروه -: ألا كل شيء ما خلا الله باطل (¬2) ¬

_ (¬1) سيرة ابن إسحاق ص 3. (¬2) راجع صحيح البخاريَّ، كتاب بدء الخلق [وفي السلطانيَّة: كتاب مناقب الأنصار]، باب أيَّام الجاهليَّة, 5/ 42، ح 3841. وصحيح مسلمٍ، كتاب الشعر، 7/ 49، ح 2256. [المؤلف]

وذِكْرُ الله تعالى والثناءُ عليه والقَسَمُ به في كلامهم أكثرُ من أن يُحْصَى، بل شهد الله تبارك وتعالى عليهم في كتابه بأنهم يعترفون بربوبيته، وأنه الذي يرزق من السماء والأرض، والذي يملك السمع والأبصار، ويخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، ويدبر الأمر، له الأرض وما فيها، رب السموات السبع ورب العرش العظيم، بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه، خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر، يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر له، ينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض، خلق السموات والأرض وهو العزيز العليم. وسيأتي سياق الآيات في ذلك (¬1) وما يتعلق به من كلام المفسرين (¬2). ومنها في الأحكام: احترام البيت والحرم، ومشروعية الختان، والوفاء بالنذر وباليمين وبالعهد، وتحريم الظلم والغدر والزنا والربا والكذب، وتحريم نكاح الأمهات والبنات والأخوات، إلى غير ذلك. ولما بنوا الكعبة قبل البعثة تواصوا أن لا يجعلوا فيها إلا مالاً طيبًا, ولا يجعلوا فيها مالاً أُخِذَ غصبًا ولا قُطِعت فيه رحم ولا انتُهِكت فيه ذمة ولا مهر بغيٍّ ولا بيع ربًا ولا مظلمة أحد من الناس (¬3). ¬

_ (¬1) اقرأ من سورة يونس الآية: 31، ومن سورة قد أفلح المؤمنون، الآية: 84 - 89، ومن سورة العنكبوت، الآية: 61 - 63، ومن سورة الزمر، الآية: 38، ومن سورة الزخرف، الآية: 9، والآية: 87. [المؤلف] (¬2) يشير إلى ما ذكره في تفسير عبادة الملائكة في ص 715 - 724. (¬3) راجع: سيرة ابن هشام، حديث بنيان الكعبة، 1/ 194. وراجع: فتح الباري، كتاب المناقب، باب بنيان الكعبة 7/ 100. وكتاب الحجَّ، باب فضل مكَّة إلخ، 3/ 286. [المؤلف]

محدثاتهم

وقال في شرح قول النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لعائشة: "ألم تري قومك قَصُرَتْ بهم النفقة" قال في الفتح: "أي النفقة الطيبة التي أخرجوها لذلك كما جزم به الأزرقي وغيره .... وروى سفيان بن عيينة في جامعه عن عبيد الله بن أبي يزيد عن أبيه أنه شهد عمر بن الخطاب أرسل إلى شيخ من بني زهرة أدرك ذلك فسأله عمر عن بناء الكعبة فقال: إن قريشًا تقرَّبت لبناء الكعبة، أي بالنفقة الطيبة، فعجزت فتركوا بعض البيت في الحِجْر، فقال عمر: صدقت". أقول: قولهم: "بيع ربا" صورته أن أحدهم كان يبيع بنسيئة فإذا حلَّ الأجل قال لغريمه: تقضي أم تربي؟ قال جماعة من أهل العلم: هذا هو المعروف من الربا في الجاهلية، ولم يُنْقَلْ عنهم ربا القرض. أقول: كأنهم - والله أعلم - تنزَّهوا عن ربا القرض لأنه كان مقطوعًا بتحريمه عندهم. ونظير هذا كلمة "العِينَة" وردت في الحديث (¬1) ولم ينقل أنَّ الصحابة سألوا عن تفسيرها، فيظهر من ذلك أنها كانت معروفة من قبل، فكأنَّ أهل الجاهلية كانوا يتعاملون بها احتيالًا على ربا القرض لحرمته عندهم. والله أعلم. مُحْدَثاتهم منها: زعمهم أن الملائكة بنات الله، سبحانه وتعالى عما قالوا علوًّا كبيرًا. ومنها: عبادتهم الملائكة بالدعاء وغيره، على ما يأتي تفصيله. ومنها: ارتيابهم في البعث مع أنه قد كان بلغهم. قال الله تبارك وتعالى: ¬

_ (¬1) انظر: سنن أبي داود، كتاب البيوع، باب في النهي عن العينة، 3/ 274، ح 3462.

{قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 82 - 83] (¬1). وقد كان منهم من يصدِّق به، قال لبيد (¬2) في الجاهلية: [ز 19] وكل امرئٍ يومًا سيعلم سعيه ... إذا كُشِفت عند الإله المَحاصِلُ وقال زهير بن أبي سلمى في معلقته (¬3): فلا تكتمُنَّ الله ما في نفوسكم ... ليخفى ومهما يُكتَم اللهُ يعلم يؤخَّر فيوضع في كتاب فَيُدَّخر ... ليوم الحساب أو يُعَجَّل فيُنْقَم ومنها: نصبهم الأوثان في جوف الكعبة وفوقها وحواليها وفي مواضع أخرى، وتسميتها آلهة، وعبادتهم إياها. ومنها: الاستقسام بالأزلام والذبح للأنصاب. ومنها: ما شرعه لهم عمرو بن لحي من البَحِيرة والسائبة والوَصِيلة والحامي. ومنها: النسيء، وفيه تحريم بعض أشهر الحلّ وتحليل بعض الأشهر الحرم وتقديم أو تأخير الحجِّ عن ميقاته. ومنها: ما أحدثوه في الحجِّ من امتناع قريش ومَنْ إليها من الوقوف بعرفة مع الناس، بل كانوا يقفون بالمزدلفة، ومِنْ مَنْعِ مَنْ ليس من أهل ¬

_ (¬1) ونحوها في سورة النمل 67 - 68. [المؤلف] (¬2) انظر: شرح ديوانه 257. (¬3) انظر شرح شعر زهير بن أبي سُلمى ص 26.

فصل

الحرم أن يطوف في ثياب الحلِّ، بل إن حصل له من ثياب أهل الحرم وإلا طاف عريانًا. فصل ثبت بما تقدم أن القوم كانوا يعلمون وجود الله تعالى وأنه الرب الخالق الرازق المدبر القادر العليم الحكيم، وأنه أرسل إبراهيمَ بدينٍ فبلَّغه إبراهيمُ، وأنه لازمٌ لهم. فقد بان بهذا أن الحجَّة قائمة عليهم في الجملة. أما التفصيل، فما بلغهم أنه من شريعة إبراهيم فلا ريب في لزومه لهم وسقوط عذر مَن خالفه منهم، وكذلك ما لم يبلغهم ولكنهم لو ساءلوا أو بحثوا ونظروا لعرفوه، إلا أنه قد يُعْذَرُ في هذا مَنْ لم يتنبَّهْ ولم يُنبَّهْ، أو تنبَّه وتعسَّر عليه البحثُ فاحتاط، فلندع هذا وننظر في محدثاتهم. يمكن أن تجعل محدثاتهم على ثلاثة أضربٍ: الضرب الأوَّل: ما كانوا يرونه من شريعة إبراهيم. الضرب الثاني: ما كانوا يجهلون أمنها هو أم لا؟ الضرب الثالث: ما كانوا يعلمون أنه ليس منها. فأما الضرب الأوَّل فلم أجد له مثالاً صريحًا، وقد قرعهم الإِسلام بالحجَّة والبرهان، ثم بالسيف والسنان، مع إعلانه أنَّما يدعو إلى ملة إبراهيم، فلم نسمع بقول قائلٍ منهم: هذا من دين إبراهيم فكيف تتركه يا محمد وتعيبه وتنهى عنه مع زعمك أنك متَّبعٌ ملَّة إبراهيم؟ فلو كان الضرب

الأول موجودًا لكانت هذه أقوى حجة في يدهم وأسرعها خطورًا في بال أحدهم، فمن المحال عادة أن يسكتوا عنها وهم يرون سبيلًا إليها. وقد أطبق أهل العلم على إثبات إعجاز القرآن بتركهم معارضته، وحُجَّتنا هذه لا تقلُّ عن ذلك. فأما ما حكاه الله تعالى عنهم من قولهم: {وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} فسياق الآية هكذا: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28]. [ز20] فعلم أن كلمتهم تلك ليست مبنية على شبهة تورث اعتقادًا أو ظنًّا وإنما هي من القول بلا علم وهو التخرُّص والرجم بالغيب، وقد عرفوا من صفات الله تبارك وتعالى ما يَثْبُتُ به أنه سبحانه لا يأمر بالفحشاء، وعلموا حرمة الكذب وقبحه في أخبار الناس بعضهم عن بعض فما الظن بالكذب على الله عزَّ وجلَّ. فتلك الكلمة إما افتراء محض وإما قولٌ بلا علم، وهو إما كذب وإما في حكم الكذب. ولعلمهم ببطلان تلك الكلمة قدَّموا عليها ما هو عمدتهم وهو اتباع آبائهم؛ فإن كانوا تحذلقوا في تلك الكلمة فكأنهم نحوا بها منحى قولهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 148]، وهذه شبهة أخرى كانوا هم يعلمون بطلانها قطعًا كما يأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى. فإن قيل: أما قولهم "الملائكة بنات الله" تعالى الله عن ذلك، فالظاهر أنهم كانوا ينسبونه إلى دين إبراهيم؛ إذ لو لم ينسبوه إليه لنسبوا إليه نقيضه، وهم يزعمون أن نقيضه باطل ويعترفون بأن دين إبراهيم حق.

قلت: كلامنا إنما هو في ظنًّ يستند إلى نقلٍ أو ما يقرُب منه؛ فإن هذا هو الذي قد يصلح عذرًا لهم ويمكنهم به المدافعة بأن يقولوا: هذا من دين إبراهيم فكيف تنكره؟ فالنقل أن يخبرهم آباؤهم عن آبائهم عن آبائهم وهكذا إلى إسماعيل، والذي يقرب منه أن يكون مضى عليه أسلافهم، وهم - أعني الأسلاف - حريصون على المحافظة على شريعة إبراهيم والوقوف عند حدودها، فيقول الأخلاف: كان أسلافنا يتدينون بهذا وقد عرفنا مِنْ أحوالهم ما جَعَلَنا نثق بأنهم لا يتدينون إلا بما ثبت عندهم أنه من شريعة إبراهيم. فهذا الذي نفيناه، فلم يكن عند القوم بمقالتهم في الملائكة نقلٌ ولا كانوا واثقين بأسلافهم، بل كانوا يعلمون أن الأسلاف بدَّلوا وغَيَّروا وزادوا ونقصوا بمحض التخرُّص. فأما ظنٌّ يستند إلى شبهة غير ما ذكر بأن تكون عندهم شبهة عقلية فيذكرونها ثم يقولون: ثبت أن هذا حقٌّ فهو من دين إبراهيم = فلم ننفِه، على أنه في هذه المقالة لم يكن عندهم إلا قولهم: {وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا} [الأعراف: 28] وهم أنفسهم يعلمون وَهَنَ هذه الشبهة بل بطلانهَا؛ لأنهم يعلمون أن آباءهم لم يكونوا معصومين، بل كانوا يتقوَّلون بالخرص والرجم بالغيب. ويحتمل أن تكون لهم شبهة أخرى واهية أيضًا سيأتي بيانها إن شاء الله تعالى. فإن قلت: قد يمكن في بعض تلك المحدثات أن يخفى حاله عليهم فيحسبونه من شريعة إبراهيم، ولكن لما نبههم الإِسلام وقرَّعهم تفكروا فتبين لهم أن حسبانهم لم يكن عن دليل، فذاك الذي كَفَّهم عن المعارضة. قلت: إن هذا لمحتمل؛ فإن بَعُدَ أن يخفى بعضُها عليهم جميعًا لم يَبْعُدْ

أن يخفى على بعضهم، بل إذا نظرنا إلى العادة كِدْنا نقطع بأنه لا بدَّ أن يخفى بعضها على بعضهم. والله أعلم. وأما الضرب الثاني فلم أجد له مثالًا صريحًا, ولكن لا بدَّ من ثبوته في الجملة بأن يكون بعضهم كان يشك في بعض تلك المحدثات أمن شريعة إبراهيم هي أم محدثة؟ وأما الضرب الثالث: فمن أمثلته الصريحة: الاستقسام بالأزلام، ففي صحيح البخاريَّ [ز 21] من حديث ابن عبَّاسٍ: قال: إن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لما قدم أبى أن يدخل البيت وفيه الآلهة، فأمر بها فأخرجت، فأخرجوا صورة إبراهيم وإسماعيل في أيديهما الأزلام، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "قاتلهم الله، أَمَ (¬1) والله لقد علموا أنهما لم يستقسما بها قط" (¬2). ومن هذا الضرب فيما يظهر: نصب الأوثان واتخاذها آلهة وعبادتها، فإن إحداث عمرو بن لحي لذلك واقعةٌ أكبر وأظهر من إحداث الأزلام فعلمهم بها أولى، وكان العرب معروفين بحفظ الوقائع وتناقلها إلى مئات السنين، وقد اتَّصل بعض أخبارهم في إحداث الأصنام بمؤرخي الإِسلام كما سنذكره فيما يأتي، وكذلك اتَّصل بهم شيءٌ من أخبار عمرو بن لحيٍّ، ¬

_ (¬1) أصلها: "أمَا" وهي كلمةٌ لافتتاح الكلام، وقيل: هي بمعنى "حقًّا"، وحُذِفت ألفها للتخفيف. انظر: عمدة القاري 9/ 355. وأُثْبِتَت الألف في بعض روايات البخاري. انظر: فتح الباري 3/ 305. (¬2) صحيح البخاريَّ، كتاب الحجَّ، باب مَن كَبَّر في نواحي الكعبة، 2/ 150، ح 1601. [المؤلف]

ومن أخبار معاصريه ومن كان قبله. هذا ولو كانوا يزعمون أنهم إنما يستندون في اتخاذ الأوثان وتعظيمها إلى شريعة إبراهيم أو شريعة نبيًّ آخر لما سمَّوها آلهة ولا سمَّوا تعظيمها عبادة لها. والحجة على هذا الامتناع ستأتي فيما بعد (¬1)؛ لأنها نتيجةٌ لمقدَّماتٍ وتمهيداتٍ كثيرةٍ لم نستوفها بعد. ونكتفي هنا بما إذا تدبرته حق تدبره أرشدك إليها، وهو أن القوم كانوا يحترمون الكعبة أبلغ من احترام الأصنام كما تقدم، ومع ذلك لم يسموها إلهًا ولا قالوا في احترامها أنه عبادة لها, ولا قال أحد ممن كان يشغب منهم على النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "كيف يعيب محمَّد علينا عبادتنا للأوثان وهو وأصحابه يعبدون الكعبة والحجر الأسود معنا"، بل كانوا يقولون: الكعبة بيت الله، واحترامها عبادة لله، وإنما ذلك لعلمهم بأن بناءها واحترامها مما أمر الله تعالى به على لسان رسوله إبراهيم عليه السلام. وهكذا يُقال في عبادتهم الملائكة، فإنهم كانوا يطلقون أن الملائكة آلهة وأنهم يعبدونهم كما يأتي. ومن هذا الضرب الثالث: وقوف قريش بالمزدلفة. قال جبير بن مطعم: "كانت قريش إنما تدفع من المزدلفة ويقولون: نحن الحُمس فلا نخرج من الحرم" (¬2). وقريشٌ مثل لم يكن لها في عهد إبراهيم وجودٌ مستقلٌّ، وإنما هي من ذُرِّيَّته ¬

_ (¬1) انظر: ص 831 - 832. (¬2) انظر: فتح الباري، كتاب الحج، باب الوقوف بعرفة، 3/ 334. [المؤلف]

تنبيه

وُجِدت بعد قرونٍ، فلا يُتوهَّم أنها خُصَّتْ بحكم دون الناس قبل وجودها، وكانوا يعلمون أنهم إنما أحدثوا ذلك برأيهم، قال سفيان بن عيينة: "كان الشيطان قد استهواهم فقال لهم: إنكم إن عظَّمتم غير حرمكم استخفّ الناس بحرمكم" (¬1). إذا تقرر هذا، فيمكن أن يقال بعذرهم في الضرب الأول في الجملة. وأما الضرب الثاني فكان الواجب عليهم فيه السؤال والبحث والنظر، فمن فعل ذلك فتبين له فقد خرج من هذا الضرب، وإلاَّ كان عليه الاحتياط، ومَنْ لم يعمل ما عليه من ذلك فلا أرى له عذرًا. وأما الضرب الثالث فقيام الحجة عليهم فيه أوضح. تنبيه: اختلف أهل العلم في حال النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قبل البعثة أكان متعبَّدًا بشرعٍ أم لا؟ والقائلون بالتعبد اختلفوا في تعيين الشرع الذي كان متعبَّدًا به. وأنت إذا تدبَّرت ما تقدَّم علمت أنه كان متعبَّدًا بشرع أبيه إبراهيم عليه السلام، وكان صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قائمًا بما يلزمه بحيث لو أن رجلاً آخر كان على مثل حاله ومات قبل البعثة لكان ناجيًا. [ز 22] فمن المنقول في ذلك: اجتنابه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم الأوثان، صحَّ ذلك من حديث زيد بن حارثة كما سيأتي، وفيه كفاية عما في الدلائل لأبي نُعَيمٍ بسند واهٍ إلى أمِّ أيمن وآخر واهٍ إلى ابن عبَّاسٍ. ¬

_ (¬1) فتح الباري أيضًا. [المؤلف]

ومن ذلك: أنه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كان يقف بعرفة مخالفًا لقومه، ثبت ذلك في الصحيحين من حديث جبير بن مطعمٍ (¬1). وفي رواية لابن خزيمة وإسحاق بن راهويه من حديث جبير "قال: كانت قريش إنما تدفع من المزدلفة يقولون: نحن الحُمس فلا نخرج من الحرم، وقد تركوا الموقف بعرفة، قال: فرأيت رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في الجاهلية يقف مع الناس بعرفة على جمل له ثم يصبح مع قومه بالمزدلفة فيقف معهم ويدفع إذا دفعوا" (¬2). ومن ذلك: اجتنابه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم الذبح على النصب والأكل مما ذُبِح عليها. قد مَرَّ طرف من ذلك في قصة زيد بن عمرو بن نفيل، وأخرج الحاكم في المستدرك وأبو يعلى والبزار وغيرهما من طريق أبي أسامة، ثنا محمد بن عمرو هو ابن علقمة، عن أبي سلمة ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن أسامة بن زيد، عن زيد بن حارثة رضي الله عنهما قال: خرج رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وهو مُرْدِفي إلى نُصب من الأنصاب، فذبحنا له شاة ووضعناها في التنور حتى إذا نضجت استخرجناها فجعلناها في سفرتنا، ثم أقبل رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يسير وهو مُرْدِفي في أيام الحَرِّ من أيام مكة، حتى إذا كنا بأعلى الوادي ¬

_ (¬1) راجع صحيح البخاريَّ، كتاب الحجَّ، باب الوقوف بعرفة، 2/ 162، ح 1664. وصحيح مسلمٍ، كتاب الحجَّ، بابٌ في الوقوف، 4/ 44، ح 1220. [المؤلف] (¬2) ذكره في فتح الباري 3/ 334. [المؤلف]. وانظر: صحيح ابن خُزيمة، كتاب المناسك، باب الوقوف بعرفة على الرواحل، 2/ 1332، ح 2823. والمعجم الكبير للطبرانيَّ 2/ 136، ح 1579.

لقي فيه زيد بن عمرو بن نفيل فحيّا أحدهما الآخر بتحية الجاهلية (¬1)، فقال له رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: ما لي أرى قومك قد شَنَفُوكَ (¬2)؟ قال: أما والله إنَّ ذلك لغير نائرةٍ (¬3) كانت منَّي إليهم، ولكني أراهم على ضلالةٍ، قال: فخرجت أبتغي هذا الدين حتى قَدِمْتُ على أحبار يثرب، فوجدتهم يعبدون الله ويشركون به (¬4)، فقلت: ما هذا بالدين الذي أبتغي، فخرجت حتى أقدم على أحبار خيبر فوجدتهم كذلك، فقلت: ما هذا بالدين الذي أبتغي، فقال لي حبر من أحبار الشام: إنك تسأل عن دينٍ ما نعلم أحدًا يعبد الله به إلا شيخًا بالجزيرة، فخرجت حتى قَدِمْتُ إليه فأخبرته الذي خرجت له فقال: إن كل مَنْ رأيته في ضلالة، إنك تسأل عن دينٍ هو دين الله وملائكته، وقد خرج في أرضك نبيٌّ أو هو خارج يدعو إليه، ارجع إليه وصدِّقه واتَّبِعْهُ وآمن بما جاء به، فرجعت فلم أحس شيئًا بعد، فَأنَاخَ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم البعير الذي كان تحته، ثم قدمنا إليه السفرة التي كان فيها الشواء، فقال: ما هذه؟ فقلنا: هذه شاةٌ ذبحناها لنصب كذا وكذا، فقال: إني لا أكل ما ذُبح لغير الله. قال: وكان صنمٌ من نحاسٍ يُقال له إساف ونائلة يتمسح به المشركون ¬

_ (¬1) يعني قولهم: "عِمْ صباحًا" أو نحوها. [المؤلف] (¬2) أي أبغضوك. [المؤلف]. وفي بعض المصادر: "شنفوا لك"، وكلاهما مذكور في كتب اللغة. (¬3) أي: عداوة. انظر: النهاية: نور. (¬4) هذا لفظ الذهبي في تلخيص المستدرك، وفي المستدرك بدلها: " ... على أحبار أيلة، فوجدتهم يعبدون الله ولا يشركون به" كذا، والظاهر أن كلمة (لا) من زيادة النسَّاخ. [المؤلف]

إذا طافوا، فطاف رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وطفت معه فلما مررت مسحت به فقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "لا تَمَسَّهُ"، قال زيد: فطفنا، فقلت في نفسي: لأمسَّنَّهُ حتى انظر ما يقول، فمسحته، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "ألم تُنْهَ؟ " قال زيد: فوالذي أكرمه وأنزل عليه الكتاب ما استلمت صنمًا حتى أكرمه الله بالذي أكرمه وأنزل عليه الكتاب، ومات زيد بن عمرو بن نفيل قبل أن يبعث، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "يأتي يوم القيامة أمةً وحده"، قال الحاكم: "صحيحٌ على شرط مسلمٍ"، وأقرَّه الذهبي (¬1). [ز 23] أقول: أبو أسامة إمام حجة، قيل: إنه كان يدلس، فإن صح ذلك فقد صرَّح هنا بالسماع، وحكى الأزدي عن سفيان بن وكيع كلامًا يوهن به أبا أسامة، وردَّه ابن حجر في مقدمة الفتح (¬2) بضعف الأزدي وسفيان بن وكيع. وأقول: لو صحّ ذلك لكان محمله التدليس وقد علمت اندفاعه هنا، وإنما الكلام في محمد بن عمرو بن علقمة فأطلق بعض الأئمة توثيقه وغمزه بعضهم بما حاصله أنه لم يكن بالحافظ، ومجموع كلامهم يقتضي أنَّ حديثه دُوَيْن الصحيح وفوق الحسن، ذكر ابن حجر في المقدمة (¬3) أنَّ البخاري أخرج له في الصحيح مقرونًا بغيره، وتعليقًا، وأنَّ مسلمًا أخرج له ¬

_ (¬1) المستدرك، كتاب معرفة الصحابة, ذكر قصَّة إسلام زيد بن حارثة ... ، 3/ 216 - 217. [المؤلف]. والسنن الكبرى للنسائي، كتاب المناقب، زيد بن عمرو بن نفيل، 7/ 325، ح 8132، ومسند البزار 4/ 165 ح 1331، ومسند أبي يعلى 13/ 137، ح 7212. (¬2) ص 399. (¬3) ص 441.

في الصحيح في المتابعات. أقول: قال ابن المديني عن يحيى القطان: "محمد بن عمرو أعلى من سهيل". وقال أيضًا: "محمد بن عمرو أحبُّ إلي من ابن أبي حرملة" (¬1)، وفضَّلَه ابن معين على سهيل والعلاء ومحمد بن إسحاق (¬2)، وقد احتجَّ مسلم بهؤلاء كلهم في الصحيح ووافقه البخاري فأخرج لمحمد بن أبي حرملة. وقضية السُّفرة قد وردت من حديث ابن عمر عند البخاريِّ في صحيحه, ولكنها مختصرةٌ تحتمل بعض التأويل (¬3). وجاءت أيضًا من حديث سعيد بن زيد عند الإِمام أحمد وغيره، كما تقدم، وأخرج أبو نعيم في الدلائل من طريق عبد الله بن محمد بن يحيى بن عروة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة مرفوعًا: "سمعت زيد بن عمرو بن نفيلٍ يعيب أكل ما ذبح لغير الله، فما ذقت شيئًا ذبح على النصب حتى أكرمني الله عزَّ وجلَّ بما أكرمني به من رسالته" (¬4). ¬

_ (¬1) الجرح والتعديل 8/ 31، وسهيل هو ابن أبي صالح إلاَّ أن الإِمام أحمد تعقَّب يحيى بن سعيد فقال: "وما صنع شيئًا، سهيل أثبت عندهم من محمد بن عمرو". الجرح والتعديل 4/ 247. (¬2) انظر: تهذيب التهذيب 9/ 376 - 377. (¬3) راجع صحيح البخاريَّ [5/ 40، ح 3826]- مع فتح الباري [7/ 97 - 99]-، كتاب المناقب [وفي السلطانيَّة: كتاب مناقب الأنصار]، باب حديث زيد بن عمرو بن نُفَيلٍ. [المؤلف] (¬4) دلائل النبوة لأبي نُعيمٍ، الفصل الثالث عشر، ذكر ما خصه الله عزَّ وجلَّ به من العصمة ... ، ص 59. [المؤلف]. وهو في ط: دار النفائس ص 188، ح 131.

وعبد الله بن محمَّدٍ هذا ضعيف جدًّا، وقد تقدَّم في حديث سعيد بن زيد قوله: "فما رُئِيَ النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يأكل مما ذبح على النصب من يومه ذلك" (¬1). وذكر الحافظ في الفتح (¬2) تأويلاتٍ لم يَقْنَعْ بها، ثم قال: "قوله: ذبحنا شاة على بعض الأنصاب يعني الحجارة التي ليست بأصنام ولا معبودة، وإنما هي من آلات الجزَّار التي يذبح عليها؛ لأن النصب في الأصل حجر كبير، فمنها ما يكون عندهم من جملة الأصنام فيذبحون له وعلى اسمه، ومنها ما لا يُعبد، بل يكون من آلات الذبح ... ". أقول: لا أراك تقنع بهذا, ولا بما حكاه ابن الأثير في النهاية (¬3) عن إبراهيم الحربي، فالصواب إن شاء الله تعالى أنَّ الأنصاب كانت عندهم غير الأصنام، فكانت الأصنام تعظَّم بوجوه مختلفة، كالعكوف عندها والتمسُّح بها وغير ذلك، وأما الأنصاب فكانت مختصَّة بالذبح عليها, ولعلهم لم يكونوا يطلقون على الذبح عليها أنه عبادة لها, ولما كان الأمر كذلك وكان معروفًا من شريعة إبراهيم عليه السلام تحريم الحرم واحترامه في الجملة، وكانت تلك الأنصاب من جملة حجارة الحرم، كان ذلك مظنَّة أن يحسب الناشئ فيهم أنه من بقايا شريعة إبراهيم عليه السلام، فإذا ذبح عليها بهذه النية وهو مع ذلك حريص على اتِّباع شريعة إبراهيم والوقوف عندها واجتناب ما بان له أنه ليس منها كان معذورًا إن لم نقل مأجورًا. ¬

_ (¬1) انظر: ص 106. (¬2) 7/ 144 ط. دار المعرفة. (¬3) 5/ 60 - 61.

وهذه كانت حال النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، ولعل سِنَّه حينئذٍ دون الثلاثين؛ فإنه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم تزوج خديجة رضي الله عنها وهو في الخامسة وعشرين (¬1) من عمره، فوهبت له زيد بن حارثة، فلعلَّ هذه القصة كانت بعد ذلك بقليل. والله أعلم. ولما سمع صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كلام زيد بن عمرو بن نفيل تبيَّن له خلاف ما كان يحسب في الذبح [ز 24] على الأنصاب، فاجتنبه واجتنب الأكل مما ذبح عليها. ومن ذلك ما صحَّ من حديث جابرٍ قال: "لما بُنِيَت الكعبة ذهب النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وعباس ينقلان الحجارة فقال عباس للنبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: اجعل إزارك على رقبتك يَقِك من الحجارة، فخرَّ إلى الأرض وطمحت عيناه إلى السماء، ثم أفاق فقال: إزاري إزاري فَشُدَّ عليه إزاره" (¬2). وذكر الحافظ له شواهد في هذا الباب، وفي كتاب الحج، باب فضل مكة، منها: عن العباس قال: "لما بنت قريشٌ الكعبة انفَرَدَتْ رجلين رجلين ينقلون الحجارة، فكنت أنا وابن أخي فجعلنا نأخذ أُزُرَنا فنضعها على مناكبنا ونجعل عليها الحجارة، فإذا دنونا من الناس لبسنا أُزُرَنا، فبينما هو أمامي إذ صرع فسعيت وهو شاخص ببصره إلى السماء، قال: فقلت لابن ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، وانظر: سيرة ابن هشام 1/ 178. (¬2) صحيح البخاريَّ، كتاب المناقب [وفي السلطانيَّة: كتاب مناقب الأنصار]، باب بنيان الكعبة، 5/ 41، ح 3829. [المؤلف]

أخي: ما شأنك؟ قال: نهيت أن أمشي عريانًا" (¬1). فبان بهذا أنه لم يكن هناك إلا هو وعَمُّه وهما على عزم أن يستترا إذا دَنَوَا من الناس، فكأنه لم يكن معروفًا عندهم من شريعة إبراهيم تحريم كشف العورة عند الحاجة إذا لم يكن هناك إلا الأب أو العم أو نحوهما، ومع ذلك أدَّب الله تعالى رسوله فمنعه من ذلك. وفي الصحيحين وغيرهما في حديث بدء الوحي: "ثم حبب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه - وهو التعبد الليالي ذوات العدد - قبل أن ينزع إلى أهله ويتزوَّد لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها" (¬2). قال الحافظ في الفتح: "قوله: "فيتحنَّث"، هي بمعنى يتحنَّف، أي: يتَّبع الحنيفيَّة، وهي دين إبراهيم، والفاء تبدل ثاءً (¬3) في كثيرٍ من كلامهم، وقد روي في رواية ابن هشامٍ في السيرة: يتحنَّف بالفاء؛ أو التحنُّث: إلقاء الحنث، وهو الإثم، كما قيل: يتأثَّم ويتحرُّج ونحوهما". ولفظ البخاري في التفسير " ... فيتحنَّث فيه، قال: والتحنُّث: التعبُّد". استظهر الحافظ في الفتح أن هذا من تفسير عروة أو الزهريِّ، ثم قال: "ولم يأت التصريح بصفة تعبُّده، لكن في رواية عبيد بن عميرٍ عند ابن إسحاق: فيطعم من يرد عليه من المساكين. وجاء عن بعض المشايخ أنه كان ¬

_ (¬1) أخرجه ابن إسحاق (79)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (354)، والبزار (1295) وغيرهم بإسناد ضعيف، وأصل القصة ثابت صحيح كما تقدم. (¬2) صحيح البخاري، كتاب بدء الوحي، باب 1، 1/ 7، ح 3. وصحيح مسلم، كتاب الإيمان, باب بدء الوحي، 1/ 97، ح 160. (¬3) في الأصل: "فاء"، سبق قلم.

يتعبد بالتفكر. ويحتمل أن تكون عائشة أطلقت على الخلوة بمجرَّدها تعبُّدًا؛ فإن الانعزال عن الناس ولا سيَّما مَن كان على باطلٍ من جُمْلة العبادة، كما وقع للخليل عليه السلام حيث قال: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات: 99]. ثم ذكر مسألة تعبُّده صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قبل البعثة بشرعٍ، وذكر قول مَن قال: لم يكن متعبَّدًا بشريعة نبيًّ قبله، ثم ذكر شبهتهم "لأنه لو كان تابعًا لاستبعد أن يكون متبوعًا, ولأنه لو كان لنُقِل مَنْ كان يُنْسَبُ إليه" (¬1). أقول: الأوَّل خيالٌ فاسدٌ، وكأن قائله لم ينظر في أحوال الأنبياء الماضين ولم يعلم ما يلزم قوله من الفساد، وهو أن مَنْ أراد الله تعالى إرساله يبقى أربعين سنة غير مكلف. وأما الثاني فقد نُقِل كما علمت. ثم ذكر القول بتعبُّده بشرع نبيًّ قبله، وذكر الأقوال في ذلك إلى أن قال: "الثالث: إبراهيم، ذهب إليه جماعةٌ، واستدلُّوا بقوله تعالى: {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123]، إلى أن قال: "ولا يخفى قوة الثالث ولا سيَّما مع ما نقل من ملازمته للحج والطواف ونحو ذلك مما بقي عندهم من شريعة إبراهيم، والله أعلم" (¬2). أقول: قد جاء عن زيد بن عمرو بن نفيل قوله: "إني خالفت قومي واتبعت ملة إبراهيم وإسماعيل وما كانا يعبدان وكان يصليان إلى هذه القبلة" ذكره في الفتح في باب حديث زيدٍ (¬3). ¬

_ (¬1) فتح الباري 8/ 506. (¬2) فتح الباري 8/ 506 - 507. (¬3) 7/ 97. وأخرجه ابن سعد في الطبقات 3/ 379، والفاكهي في أخبار مكة 4/ 85 - 86، ح 2419، وأبو نعيم في الدلائل ص 100، ح 52 من رواية عامر بن ربيعة العدوي عنه.

وفي صحيح مسلمٍ (¬1) في قصَّة إسلام أبي ذرٍّ قوله: "وقد صليت يا ابن أخي قبل أن ألقى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بثلاث سنين"، قال ابن أخيه: "قلت: لمن؟ قال: لله، قلت: فأين توجَّه؟ قال: حيث يوجهني ربي، أصلي عشاء حتى إذا كان من آخر الليل أُلْقِيتُ كأني خِفَاءٌ" (¬2). ففي هذا ما يدل أنه كان قد بقي من شريعة إبراهيم ما يسمى صلاة وإن لم نعلم صفتها، إلا أنه [ز 25] كان فيها سجود كما تقدم في قصة زيد بن عمرو بن نفيل "ثم يسجد على راحته"، وذكره في الفتح بلفظ: "ثم يسجد على الأرض براحته" (¬3). هذا بعض ما ورد به النقل، وفيه كفاية. وقد بان أن الله تبارك وتعالى وفَّق نبيه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قبل النبوة لما كان يلزمه، فمن ذلك ما أدركه بنظره، ومنه ما يسَّر له مَنْ ساءله فأخبره كزيد بن عمرو بن نفيل، ومنه ما نُبَّه عليه بأمرٍ غير عاديٍّ كقضية الستر. وقد كان بلغه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم تبديلُ اليهود والنصارى بالتواتر وبأخبار من يثق به كزيد بن عمرو بن نفيل فأيْأسَهُ ذلك أن يجد عندهم من الحق ما يوثق به، فسقط عنه سؤالهم، مع أن الله عزَّ وجلَّ جنَّبه ذلك للحكمة التي نبه عليها بقوله سبحانه: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} ¬

_ (¬1) في كتاب فضائل الصحابة, باب من فضائل أبي ذرًّ رضي الله عنه، 7/ 153، ح 2473. (¬2) كغطاءٍ وزنًا ومعنىً، والمعنى: كأني ثوبٌ مطروحٌ. مشارق الأنوار (ج ف و) 1/ 160. (¬3) فتح الباري 7/ 100.

فصل

[العنكبوت: 48]. فبالنظر إلى هداية الله تعالى له إلى الطرف الذي كان يلزمه قبل النبوة ثم إكماله له الهداية بالنبوة خاطبه عزَّ وجلَّ بقوله في سورة الضحى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7)}، فالهداية شاملة للأمرين. والله أعلم. وبالنظر إلى أن معظم شريعة إبراهيم قد كان اندرس فلم تمكن الهداية إليه إلا بالنبوة خاطبه عزَّ وجلَّ بقوله: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} [الشورى: 52]. ونبه سبحانه على عذره فيما لم يكن يدريه بقوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف: 3]. ونصَّ سبحانه على عذر مَن كان غافلًا هذه الغفلة، وقد تقدم ذلك في الآيات الدالة على عذر مَن لم تبلغه الدعوة، وفيها: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} [الأنعام: 131]. فصل إنك إذا تدبرت الآيات السابقة في أنه سبحانه لا يعذب حتى يبعث رسولًا تبين لك أن بعث الرسول لا يكفي، بل لا بدَّ من بلوغ دعوته وغير ذلك مما يعبِّر عنه أهل العلم بقيام الحجة. وإيضاح ذلك أن الناس على ثلاث طبقات:

الطبقة الأولى: مَنْ لم يبلغه خَبَرُ دعوةٍ أصلاً. الثانية: من بلغه الخبر. الثالثة: مَنْ أَسْلَمَ. أما الطبقة الأولى: فأهلها ثلاثة، رجل غافل البتَّة، ورجل متحيَّر قد تنبَّه بفطرته وعقله ونظره في آيات الآفاق والأنفس فاعترضه بعض الشبهات فبقي حائرًا، ورجل مستيقن قد بلغ بنظره إلى استيقان أن للعالم ربًّا هو الخالق المدبر القادر العليم الحكيم. وأما الطبقة الثانية: فإنَّ الرجل أوَّل ما يبلغه خبر دعوة يكون إمّا متردَّدًا، وإما مستيقنًا؛ لأنَّ الغافل يتنبَّه فيتردَّد أو يستيقن، والمتردِّد يدرك أنَّه إذا كان للعالم ربٌّ وأرسل رسولاً وجبت طاعته، والمستيقن يدرك أنَّ الربَّ إذا أرسل رسولاً وجبت طاعته، فكلاهما تلزمه في الجملة الحجَّة ببلوغ الخبر. وأما التفصيل فلا يخفى أنه بمجرد بلوغ الخبر لا تقوم الحجة في جميع العقائد والأحكام، والآيات التي قدمناها في عذر من لم تبلغه الدعوة تبيِّن هذا، فإذًا لا بدَّ من تحديد أمر يكون هو اللازم لمن بلغه الخبر إنْ تهاون به استحقَّ العقاب وإنْ أدَّاه بقي معذورًا فيما عداه حتى يتجدَّد ما يُلْزِمُه به. [ز 26] وهذا يختلف باختلاف الأحوال، فقد يكون المخبر معروفًا بالكذب، وقد يكون مجهولاً، وقد يكون معروفًا بالصدق، وقد يتواتر الخبر، وقد يكون هناك ما يوقع في النفس أنَّ المدعيَ كاذب، وقد لا يكون ما يدلُّ على كذبه ولا صدقه، وقد يكون ما يدلُّ على صدقه؛ وقد يكون بلده بعيدًا عمن بلغه الخبر، وقد يتوسط، وقد يقرب، وقد لا يمكن من بلغه الخبر أن

يذهب إلى الداعي، وقد يمكنه بمشقة شديدة، وقد يمكنه بمشقَّة عاديَّة، وقد يمكنه بغير مشقَّة، وقد قال الله عزَّ وجلَّ: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [خواتيم البقرة]. فقد يُقال: إنَّ من بلغه الخبر ولم يظهر له صدقه أو ظهر له صدقه ولكن كان هناك ما يظهر منه كذب المدعي كفاه أن يتبين ويتثبت، فيسائل كُلَّ من يَقْدَمُ من الجهة التي أُخْبِرَ بأنَّ الداعي فيها ويأمر مَنْ يذهب إليها أن يبحث ويسأل؛ فإذا قوي الخبر ولم يظهر ما يظهر منه كذب المدَّعي لزم مَن بلغه الخبر أن يبادر إلى التبيُّن كأن يرسل رسولاً إن شقَّ عليه ذهابه بنفسه؛ فإذا تحقق الخبر وظهر ما يدلُّ على صدق المدَّعي لَزِمَتِ المبادرة إليه، إلاَّ أنه فيما يظهر يكفي القبيلةَ وأهلَ البلدة أن يوفدوا وفدًا ممن عُرِفَ بالعقل والحلم وقبول الحق. وإذا كان المدَّعي نبيًّا حقًّا فلا بدَّ أن يظهر للذين يجتمعون به راغبين في الحق أنه صادق، أو على الأقلِّ يترجَّح لهم صدقُه، ويعلمون أن الذي يدعو إليه خير مما هم عليه، فيلزمهم إجابته حتمًا، وكذلك القبيلة إذا رجع إليها وفدُها، فإن الأخذ بالراجح واجب، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [الشورى: 16]. فإنه إذا استجاب جماعة لمدَّعي النبوة في حين إمكانها كان ذلك مما يدل على صدقه، فيتحتَّم على مَن سمع به الاجتماعُ به أو إيفاد الوفد كما تقدَّم، فإذا اجتمعوا به راغبين في الحق فهم مجاهدون في الله محسنون؛ فلا

بدَّ أن يهديهم الله بأن يهيَّىء لهم ما يفيدهم اليقين أو الرجحان، قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [خاتمة العنكبوت]. وأنت ترى أن بين بلوغ الخبر ووجوب الإِسلام مسافةً قد يموت الإنسان في أثنائها، أعني بعد أن أدَّى ما يلزمه من البحث عن صحة الخبر وما بعده, وقبل أن يلزمه الإِسلام. والظاهر أن حكمه فيها كحكمه قبل بلوغ الخبر؛ فإن بلوغ الخبر إنما أوجب عليه البحث وما بعده كما مر، وقد فعل ذلك، فيبقى فيما عداه على ما كان عليه، فإن كان معذورًا كمن لم تبلغه قبلُ دعوةٌ أصلاً استمرَّ عذره. وكذلك من كان قد بلغته دعوة فأخذ بما يلزمه منها واستمرَّ على ذلك عند بلوغ خبر الدعوة الأخرى مع القيام بما لزمه من البحث ونحوه، فمات قبل أن يلزمه الإِسلام، والله أعلم. وأما الطبقة الثالثة: فإنَّ من الذين يسلمون من يكون قد حصل له اليقين قبل قبول الإِسلام أو معه فيجتمع له الإِسلام والإيمان, ومنهم من يسلم قبل أن يدخل الإيمان في قلبه، [ز 27] كالأعراب الذين أنزل الله تعالى في شأنهم: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} الآيات [خاتمة الحجرات]. فهذا الضرب عليهم الطاعة والمتابعة وتحري مجالسة الرسول أو علماء دينه ونحو ذلك مما من شأنه أن يَكْسِبَهم الإيمانَ كتدبُّر القرآن والسنَّة والسيرة. ومعاملةُ النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم للأعراب تدلُّ أنه إنما

يلزمهم من هذا ما ليس فيه مشقَّةٌ شديدةٌ، والله أعلم. فمن قام بما عليه من ذلك فعاجله الموت قبل أن يدخل الإيمانُ في قلبه، لم يَلِتْهُ الله من عمله شيئًا كما نصَّت عليه الآية. ومن جهة النظر لا يخفى أنه مع أصل العذر أحسن حالًا ممن هلك قبل بلوغ الدعوة، وممن بلغه الخبر فقام بما عليه فعاجله الموت قبل أن يلزمه الإِسلام، فلا ينبغي التوقُّف في نجاته. ومَن قَصَّر من هؤلاء؛ فإن بلغ في التقصير إلى أن يأتي في السرِّ ما أخبره الرسول بأنه كفر ويناجي أصحابه بتكذيب الرسول ونحو ذلك فهذا منافق هالك. وبهذا عُلِمَ الفرقُ بين الأعراب المذكورين في الآية وبين المنافقين، ولذلك قال الإِمام الشافعي رحمه الله: إن الأعراب المذكورين صنف آخر غير المنافقين كما تقدم في أوائل الرسالة (¬1). وانظر صفة المنافقين في أوائل سورة البقرة يتضح لك الحال. وإن كان تقصيره بدون ذلك ففيه نظر، والظاهر أنه إذا لم يقصَّر فيما لزمه مما يكسبه الإيمان عادةً، وإنما قَصَّر بترك واجبٍ آخر أو ارتكاب حرامٍ، ثم عاجله الموت قبل أن يتوب وقبل أن يدخل الإيمان في قلبه = استحقَّ المؤاخذة بذنبه ولم يُخَلَّد في العذاب. والله أعلم. وقد يتَّفق مَوْتُ هذا بعد أن حصل له جزءٌ من الإيمان دون النصاب الشرعيِّ أو قبل أن يحصل له شيءٌ وإنما معه قول: لا إله إلا الله، وعسى أن يكون هؤلاء داخلين فيمن ورد في الأحاديث الصحيحة أنهم يخرجون من النار، فإن فيها أنه يخرج من النار "مَن في قلبه مثقال شعيرةٍ من إيمان"، ثم "مَن كان في قلبه مثقال ذرة أو خردلة من إيمان". ثم "مَن كان في قلبه أدنى ¬

_ (¬1) انظر ص 15.

أدنى أدنى مثقال حبَّة خردل من إيمان"، وفي رواية: "أدنى شيء"، وفي رواية قال النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "فأقول: يا رب ائذن لي فيمن قال: لا إله إلا الله، قال: ليس ذاك لك، أو قال: ليس ذاك إليك، ولكن وعزَّتي وكبريائي وعظمتي وجبريائي لأُخْرِجَنَّ من النار مَنْ قال: لا إله إلا الله". وذكر في روايةٍ شفاعة الشفعاء وإخراجهم مَنْ أذن لهم بإخراجهم ثم قال: "فيقولون: ربنا لم نذر فيها خيرًا" ثم يتفضَّلُ الله عزَّ وجلَّ "فيخرج منها قومًا لم يعملوا خيرًا قط"، وفي رواية في ذكر هؤلاء: "يعرفهم أهل الجنة، هؤلاء عتقاء الله الذين أدخلهم الجنة بغير عملٍ عملوه ولا خيرٍ قدَّموه" (¬1). فدخول هؤلاء النار إما أن يكون بذنوبٍ وخطايا، وإما أن يكون بتقصيرٍ في تحصيل الإيمان [ز 28] تقصيرًا لا يهدم لا إله إلا الله، ولا يهدم الجزء الذي قد حصل لمن حصل له منهم. والله أعلم. وفي بحث زيادة الإيمان ونقصانه من المواقف العَضُدِيَّة وشرحها للسيد الشريف: "والظاهر أن الظنَّ الغالب الذي لا يخطر معه احتمال النقيض بالبال حكمُه حكمُ اليقين - في كونه إيمانًا حقيقيًّا -؛ فإن إيمان أكثر العوامِّ من هذا القبيل" (¬2). ¬

_ (¬1) راجع صحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان, باب إثبات رؤية المؤمنين إلخ، والأبواب بعده، 1/ 116 - 117 و126 - 127، ح 183 (302) و193 (326). والأحاديث في صحيح البخاريَّ مفرَّقةٌ. [المؤلف]. انظر: كتاب الإيمان, باب زيادة الإيمان ونقصانه، 1/ 17، ح 44. وكتاب التوحيد، باب كلام الربَّ عزَّ وجلَّ يوم القيامة ... ، 9/ 146، ح 7509 - 7510. (¬2) شرح المواقف العضديَّة 3/ 544.

فصل

أقول: قد قَدَّمْتُ ما يوافقه في الجملة ويزيد عليه، ولكن بشرط عدم التقصير الهادم، وبهذا يجمع بين ما تقدَّم هنا وما تقدَّم في أوائل الرسالة من اشتراط اليقين. والله أعلم. فصل ومما ورد في الأعذار ما ثبت عن جماعة من الصحابة فيما قصَّه النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، قال: "أسرف رجل على نفسه, فلما حضره الموت أوصى بنيه فقال: إذا أنا متُّ فأحرقوني، ثم اسحقوني، ثم اذروني في الريح في البحر، فوالله لئن قدر عليَّ [ربيِّ] (¬1) ليعذبَنِّي عذابًا ما عذَّبه أحدًا. قال: ففعلوا ذلك به, فقال للأرض: أَدِّي ما أَخَذْتِ، فإذا هو قائم فقال له: ما حملك على ما صنعت؟ فقال: خشيتك يا رب، أو قال: مخافتك، فغفر له بذلك" (¬2). وجاء في بعض الروايات من قول الرجل: "لعليِّ أَضِلُّ (¬3) الله"، قال الحافظ في الفتح: "قوله: (لئن قدر الله عليَّ)، في رواية الكُشمِيهَنيِّ: (لئن قدر عليَّ ربيَّ)، قال الخطابيُّ ... إنه لم ينكر البعث، إنما جهل فظنَّ أنه إذا فُعِل به ذلك لا يُعاد ... قال ابن قتيبة: قد يَغْلَطُ في بعض الصفات قومٌ من ¬

_ (¬1) هذه الزيادة من الصحيحين. (¬2) راجع صحيح مسلمٍ، كتاب التوبة، باب سعة رحمة الله، 8/ 97، ح 2756 (25). وصحيح البخاريَّ، قُبَيل كتاب المناقب. [المؤلف]. يعني كتاب فضائل الأنبياء، باب 54، 4/ 176، ح 3478. (¬3) يُقال: ضل فلانًا، أي: فاته وذهب عنه فلم يقدر عليه. انظر: النهاية 3/ 98. المعجم الوسيط 1/ 542.

المسلمين فلا يكفرون بذلك" (¬1)، ثم ذكر تأويلات أخرى. وللسنوسيِّ في شرح مسلمٍ كلامٌ لا بأس به، حاصله أن الرجل لم يجحد أن لله قدرة ولم يشك في ذلك، وإنما شك في إعادة الجسم إذا فُعِلَ به كما أمر، فطمع أن تكون من المحال الذي لا تتعلق به القدرة (¬2). أقول: أما قول الخطابيّ: (إن الرجل لم ينكر البعث) فحقٌّ، ولكنه شكَّ فيه. أما البعث في القبر بمعنى إعادة الإحساس بحيث يحيى بالعذاب فشكَّ فيه فيمن فُرِّق جسده تلك التفرقة، وأما البعث للقيامة فالرجل إما جاهلٌ به البتَّة، وإما شاكٌّ فيه مطلقًا, لأن الأبدان لا بدَّ أن تتفرَّق تلك التفرقة أو أشدَّ منها، وإن لم تحرق وتسحق وتذرى (¬3). وأما قول ابن قتيبة: (قد يغلط) إلخ، فإن أراد أنهم لا يكفرون البتَّة فمردودٌ عليه، وإن أراد أنه قد يكون منهم الجاهل الذي لم تقم عليه الحجَّة، ولم يقصّر تقصيرًا هادمًا، فهذا حقٌّ على ما سمعت وتسمع. وأما أن الرجل لم يجحد القدرة جملةً ولم يشكَّ فيها مِنْ أصلها فحقٌّ، ولكنه قد شكَّ في تناولها لإعادة البدن الذي يفرَّق مثل تلك التفرقة، وفي شكه هذا تجويز للعجز على الربِّ عزَّ وجلَّ، وتجويزه أن تكون تلك الإعادة من المحال الذي لا تتناوله القدرة لا يَدْفَعُ تجويزَه العجز. وإيضاح ذلك أن الإنسان قد يشاء أن يقتل الأمير فلا يقدر عليه، وقد لا ¬

_ (¬1) تأويل مختلف الحديث 81. والعبارة فيه: "ولا يحكم عليهم بالنار". (¬2) راجع شرح مسلم للأُبَّي والسنوسي 7/ 160. [المؤلف] (¬3) كذا في الأصل، والصواب حذف الألف آخره.

يشاء وهو يقدر، وقد لا يشاء وهو لا يقدر، فالأول هو العاجز ولا يدفع عنه اسم العجز إعراضه عن المشيئة لعلمه بعدم قدرته، بل المدار في انتفاء المشيئة على انتفاء الباعث عليها، أو وجود مانع غير العجز. فالمحالات التي لا تتعلق بها قدرة الباري عزَّ وجلَّ كلها من قبيل الضرب الثالث، ولكن لا يجوز أن يصرَّح فيها بنفي [ز 29] القدرة، كأن يُقال: "لا يقدر على كذا"؛ لأن هذه العبارة توهم الضرب الأول، ولأن العقل مما يخطئ فيزعم ما ليس بمحالٍ محالًا، بل يُقال: إنه على ما يشاء قدير، فلو شاء كذا وكذا قدر عليه. يُقال: هل يقدر الله عزَّ وجلَّ بعد تعذيب ثمود أن يرفع ذلك العذاب فيجعله لم يقع؟ فنقول: إنه على ما يشاء قدير، فلو شاءه قدر عليه. فيقال: ولماذا لا يشاؤه؟ فنقول: لا حكمة تدعو إليه، قال تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)} [خاتمة سورة الشمس]، أي لا يخاف عقبى تلك القضية وهي تعذيبهم. قال بعض المتأخرين: فيه إشارة إلى الردَّ على اليهود الذين يقع في كتبهم نسبة الندم إلى الله تبارك وتعالى. أقول: حاصله أنه سبحانه لا يخاف أن يبدو بعد ذلك أن الحكمة تقتضي عدم تعذيبهم؛ فإنه سبحانه عالم الغيب والشهادة، فهو يعلم أن الحكمة في الحال والمآل تقتضي تعذيبهم. إذا علمت هذا فتجويز عدم القدرة على إعادة الأبدان بعد تفرُّق أجزائها هو من الضرب الأول؛ لأنَّ عدل الله تعالى وحكمته يقتضي الجزاء، وذلك يقتضي أن يشاء الجزاء، وإذا كان الجزاء يتوقف على الإعادة (¬1) اقتضى ذلك ¬

_ (¬1) في الأصل: "العبادة" سبق قلم.

أن يشاءها الله تعالى، فمَن جَوَّزَ مع ذلك أن لا تتعلَّق بها القدرة كان مُجوِّزًا للعجز لا محالة. فالحقُّ أن هذا رجل كان عنده جهل بالبعث والقدرة ولم يُقَصِّرْ تقصيرًا هادمًا فعذره الله تعالى. وقريبٌ من هذا ما قصَّه الله تبارك وتعالى عن الحواريين، قال سبحانه: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا} إلى قوله: {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)} [المائدة: 111: 115] فالآية ظاهرةٌ في أن القوم كانوا قد أسلموا، وأخذوا بحظٍّ من الإيمان, ولكن بقي في قلوبهم شيءٌ من الجهل والشكِّ، ولم يوجب هذا أن يُعَدُّوا كفَّارًا أو مرتدِّين، ألا ترى إلى قول عيسى: {اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 112]، ومثل هذا إنما يخاطَب به مَن عنده إيمانٌ في الجملة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278]. وقد اضطرب الناس في قضية الحواريين؛ لعلمهم أنهم كانوا قد أسلموا وأن مقالتهم لم تخرجهم من الدين، فمن الناس مَنْ شَذَّ فقرأ "هل تستطيع

ربَّك" على معنى هل تستطيع سؤال ربِّك (¬1)، ومنهم من أغرب فحمل (يستطيع) على معنى (يريد) أو (يجيب). وقد تردَّد ابن جريرٍ في ذلك، ثم قرَّر "أنَّ القوم كانوا قد خالط قلوبهم مرض وشك في دينهم وتصديق رسولهم" (¬2). أقول: وأنا لا أرتضي قوله: "مرضٌ" فإن مجرَّد الشكِّ والتردُّد وضعف اليقين لا يسمى مرضًا حتى يكون معه خبثٌ وعنادٌ وبغضٌ للحقِّ، ومثل هذا يمنع الاهتداء، كما قال تعالى في المنافقين: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة: 10]. قال الراغب: "ويُشبَّه النفاق والكفر ونحوهما من الرذائل بالمرض إما لكونها مانعةً عن إدراك الفضائل كالمرض المانع للبدن من التصرُّف الكامل ... " (¬3). [ز 30] ومن الناس من تأوَّل الآية (¬4)، ثم قال: إنما أراد القوم الطمأنينة كحال إبراهيم عليه السلام فيما قصَّه الله تبارك وتعالى من حاله بقوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ ¬

_ (¬1) هذه القراءة ليست شاذَّةً, بل قرأ بذلك الكسائيُّ من القرَّاء السبعة، وهي قراءةٌ متواترةٌ. انظر: السبعة لابن مجاهدٍ 249، النشر في القراءات العشر لابن الجزريَّ 2/ 256. (¬2) تفسيره 7/ 78 - 79. [المؤلف] (¬3) المفردات ص 765. (¬4) يعني قوله تعالى: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}

قَلْبِي} [البقرة: 260] (¬1). أقول: قد أبعد المرمى؛ فإن الخليل عليه السلام إنما سأل أن يرى الكيفيَّة ليطمئنَّ قلبه من الخواطر. وإيضاح ذلك أن المدركات على أربعة أضربٍ: ما يدركه الإنسان بالحسَّ المحقَّق ويعرف له بالحسَّ نظائر ولو في الجملة، كأن ترى رجلاً في إحدى يديه أو في كلًّ منهما إصبع زائدة، فهذا إذا رأيته رؤية محققة لم تَرْتَبْ في إدراكك إلا أن تكون سوفسطائيًا. الثاني: ما يدركه بدليلٍ غير الحسَّ ويعرف له بالحسّ نظائرَ، كأن يتواتر عندك أن فلانًا الذي سمعت به في إحدى يديه أو في كل منهما أصبع زائدة، وهذا أيضًا تحصل به الطمأنينة. الثالث: ما يدركه بالحس ولكن لا يعرف له نظيرًا، كأن ترى مشعوذًا أمامه إناء مغطًّى فيكشف الإناء فترى فيه ثلاثة عصافير ولا ترى فيه غيرها، ثم يعيد الغطاء، ثم يكشفه فلا ترى في الإناء إلا ثلاث بيضات. فإذ كنت لا تعرف نظيرًا لانقلاب العصفور بيضة تجد نفسك تشكك في إبصارك أعصافير في الإناء ولم تحقق النظر ثانيًا، أم بيضات فيه ولم تحقق النظر أولًا، أم ماذا؟ قال الله عزَّ وجلَّ: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجرات: 14 - 15]. ¬

_ (¬1) انظر: تفسير أبي السعود 3/ 97 - 98.

الرابع: ما تدركه بدليل غير الحس ولا تعرف له نظيرًا، كهذا المثال السابق لو لم تشاهد الواقعة. فمَن لم يشاهد المشعوذين ويَكْثُرْ سماعُه لقصصهم إذا أخبره جماعةٌ يحصل بخبرهم القطع عادة بهذه الواقعة لا يزال يجد نفسه كأنها تتردَّد في قبول خبرهم. وأوضح من هذا أن تفرض أنَّ إنسانًا ولد أعمى وعاش حتى كبر وأهله يتحامون أن يشعروه بأن الناس يبصرون فعاش لا يشعر بذلك البتة، ثم تعمِد أنت فتقول له: إني أبصر الأجسام البعيدة منِّي، فإنه يقول: ما معنى قولك أُبْصِرُ؟ أتريد أنك تلمسها أو تسمع حسَّها؟ ولنفرض أنك استطعت أخيرًا أن تُفْهِمه أنَّ الإبصار قوَّةٌ في العينين يدرك بها الأجسام من بُعْدٍ فيعرف قربها وبعدها وحجمها ويعرف أن ذاك فلان وذاك فلان، فإنه يقول: وما لي لا أدرك أنا؟ فتقول: لم تُخْلَقْ لك هذه القوة، فلا تجده يصدِّقك، فتقول له: فإذا جاء أحد فاسأله, فيجيء رجل فيسأله فيوافقك، ثم ثالث ورابع وخامس إلى أن يبلغ العدد مبلغًا يحصل بخبرهم القطع عادة, فإن الأعمى يصدِّقكم، ثم تنازعه نفسه فيتطلب نظيرًا للإبصار يعرف به كيفيته في الجملة، فلا يجد، فيكاد يرتاب في الخبر، ثم يقول: من المحال أن يتوارد هؤلاء كلُّهم على الكذب، ثم تنازعه نفسه ويتخيَّل كأنَّه مرتابٌ في الخبر. واعلم أنَّ صفات الله تبارك وتعالى وكثيرًا مما أخبر به الشرع من هذا القبيل. ومن ذلك حشر الأجساد، فالإنسان يعلم بأنَّ الجسم يبلى وتتفرق أجزاؤه شذر مذر، ثم يخبره الشرع [ز 31] بأن الله تعالى يعيد الأبدان بعد موتها وبلائها وتفرُّق ذراتها، ويوضح له ذلك بأن الله تعالى عالم بمواقع تلك

الأجزاء المتفرقة وقادر على جمعها، فتتطلب نفسه مما تعرفه بالحس نظيرًا لذلك العلم وتلك القدرة فلا تجد، فأما المؤمن فإنه يوقن بصدق الخبر ولكنَّ نفسه قد لا تكفُّ عن نزاعها اشتياقًا إلى معرفة الكيفية، فإذا لم تجد نظيرًا عادت تنظر في الخبر فتجده قاطعًا فترجع إلى تطلُّب النظير وهكذا. فإذا أحسَّ الإنسان من نفسه بهذا خشي ألَّا يكون موقنًا، فالنفس تضطرب اشتياقًا إلى معرفة الكيفية، والقلب يضطرب خشية من ضعف اليقين، وقوة اليقين لا تدفع هذا الاضطراب بل تزيده؛ لأنه كلما قَويَ اليقين قويت الخشية فاشتدَّ الاضطراب. فهذه والله أعلم كانت حال الخليل عليه السلام، ففزع إلى ربه عزَّ وجلَّ أن يريه كيف يحيي الموتى فتسكن نفسه ويطمئن قلبه من ذلك الاضطراب المؤلم. وما حُكِيَ عن بعض الصِّدِّيقين من قوله: "لو كُشِفَ الغطاء ما ازددتُ يقينًا" (¬1)، إن صحَّ فلا إشكال فيه؛ إذ قد يُقال: إن الخليل عليه السلام لم يطلب زيادة اليقين ولا ازداد بالرؤية يقينًا وإنما سكنت نفسه واطمأن قلبه من ذلك الاضطراب الذي لا ينافي كمال اليقين بل يناسبه كما مرَّ، بل قد يكون في هذه المقالة دلالة على أن حال قائلها دون حال الخليل عليه السلام؛ لما قدَّمنا أن قوَّة اليقين تثمر قوَّة الخشية، وقريبٌ من هذا حال أبي بكرٍ مع النبيِّ ¬

_ (¬1) اشتهرت نسبة هذا القول إلى عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه، قال الآلوسي: "موضوع لا أصل له في كتب الحديث الصحيحة عند الفريقين" يعني: السنة والشيعة. ونسبه أبو طالب المكي إلى عامر بن عبد الله بن عبد قيس. انظر: قوت القلوب 2/ 169، وانظر: المصنوع في معرفة الحديث الموضوع ص 149، ومختصر التحفة الاثني عشرية ص 39.

صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في عريش بدر، وقد شرحتها في موضعٍ آخر. وقد يقال: إن قائل تلك الكلمة أراد اليقين بوجود الله عزَّ وجلَّ، والخليل عليه السلام لم يَعْرِضْ لهذا؛ فإن قلبه مطمئن به غاية الطمأنينة، وإنما نظره في إحياء الموتى. وعلى كل حال فحال الخليل عليه السلام حال عالية، ولذلك قال نبينا صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "نحْن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال: رب أرني كيف تحيي الموتى" (¬1). فأما الخليل فقد أراه الله تعالى فاطمأن قلبه، وأما سائر المؤمنين فقد ضرب الله تعالى لهم أمثالًا محسوسة على جهة التقريب، كخلقهم أول مرة وإحياء الأرض بعد موتها. هذا في حشر الأجساد، وأما صفات الله عزَّ وجلَّ فإن الشارع أرشد إلى قطع التفكر، ففي الصحيحين: "يأتي الشيطانُ أَحَدَكُمْ، فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربَّك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته" (¬2). وفي صحيح مسلم (¬3) أن بعض الصحابة قالوا للنبيِّ صلَّى الله عليه وآله ¬

_ (¬1) صحيح البخاريِّ، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قوله: "ونبِّئهم" إلخ، 4/ 147، ح 3372. صحيح مسلمٍ، كتاب الفضائل، بابٌ من فضائل إبراهيم الخليل، 7/ 97، ح 151 (بعد 2370). [المؤلف] (¬2) صحيح البخاريَّ، كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، 4/ 123، ح 3276. صحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان، بابٌ في الوسوسة، 1/ 84، ح 134 (214). [المؤلف] (¬3) في الباب المذكور [في الهامش السابق، 1/ 83، ح 132]. [المؤلف].

فصل

وسلَّم: "إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال: أَوَ قد وجدتموه؟ قالوا: نعم، قال: ذاك صريح الإيمان". فصل ومما ورد في الأعذار ما تقدَّم في الكلام على اشتراط العلم بمعنى: لا إله إلا الله، من قصة أُبَيِّ بن كعب وغيره، فراجعه. وقد اختلفت فرق من المسلمين في أشياء من صفات الله تعالى، ولا يخفى أن في الأقوال المختلفة ما يلزمه الكفر بالكذب على الله عزَّ وجلَّ ونسبة النقص إليه، وتكذيب آياته، [ز 32] كلُّ ذلك أو كثره عن جهلٍ وخطأ، ومن الذاهبين إلى ذلك مَنْ لم يحمله عليه إلا اتِّباع الرؤساء والشياطين والهوى فيلزمه الشرك باتخاذ هذه الأشياء أربابًا وآلهة، كما ألزم الله تعالى أهل الكتاب وغيرهم بذلك كما يأتي مبسوطًا. ومع هذا اتفق المحققون من علماء الفرق الإِسلامية على عدم الكفر الحقيقي على من أُلزِم بالكفر على الوجه المذكور ما دام ملتزمًا أصول الإِسلام الضرورية وزاعمًا أنه لا يلزمه ما أُلزِم به، على تفصيلٍ يؤخذ من مظانِّه، وَمَنْ شدَّد فحكم بالكفر على بعض مَنْ تقدَّم إنما حكم به على مَنْ يرى أنه قد قامت عليه الحجَّة فعاند، لا على الأتباع من العوامِّ ونحوهم. ومما ورد في الأعذار قول الله عزَّ وجلَّ: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 138 - 140].

يظهر من جواب موسى عليه السلام أنه وإن أنكر عليهم وجَهَّلَهُمْ لم يجعل طلبهم ارتدادًا عن الدين. ويشهد لذلك أنهم لم يؤاخذوا هنا بنحو ما أوخذوا به عند اتخاذهم العجل، فكأنهم هنا - والله أعلم - عُذِرُوا بقرب عهدهم. وقد مرَّ جماعة من المسلمين مع النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم على شجرةٍ يعكف عليها المشركون، فسألوا النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أن يجعل لهم مثلها، فقال: "قلتم والذي نفسي بيده كما قال قوم موسى لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} (¬1)، ولم يعدَّ النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كلمتهم ردَّةً، فكأنه عذرهم لقرب العهد. وسيأتي في ذكر الأمور التي ورد في الشرع أنها شرك عدة أحاديث وآثار فيها أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم مع حكمه على تلك الأمور أنها شرك لم يحكم على من فعلها من المسلمين قبل البيان أنه أشرك وارتدَّ. وكذلك تأتي آثارٌ عن أصحابه أنهم كانوا يرون الشيء من ذلك فيغيِّرونه وينكرونه ويُبَيِّنون أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أخبر أنه شركٌ ولا يحكمون على مَنْ فعله من المسلمين قبل أن يبيِّنوا له بأنه أشرك وارتدَّ. وتقدَّم في أواخر الباب الذي قبل هذا "اتَّقوا هذا الشرك؛ فإنه أخفى من دبيب النمل" (¬2)، وسيأتي الكلام عليه مبسوطًا، وفي روايةٍ للإمام أحمد وغيره: "فقال له مَن شاء الله أن يقول: وكيف نتَّقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله قال: قولوا: اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئًا ¬

_ (¬1) المسند للإمام أحمد 5/ 218 [وفي الأصل 118]، وسيأتي تصحيحه وشواهده [ص 230]. [المؤلف] (¬2) انظر ص 54 - 55.

نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلم" (¬1). وسيأتي أنَّ في سياق الأحاديث ما يؤيد ظاهرَها من أنَّ المراد بهذا الشرك: الشرك الحقيقيُّ، لا ما يحمله عليه بعض الناس من الرئاء، إلاَّ أنَّه وإن كان شركًا حقيقيًّا في نفسه فقد دلَّت الأحاديث على أن مَنْ وَقَعَ منه وهو لا يعلم أنه شركٌ فهو معذورٌ، أي - والله أعلم - بشرط ألَّا يكون مقصِّرًا تقصيرًا هادمًا. وسيتَّضح لك - عندما تعلم حقيقة معنى الإله ومعنى العبادة، ومعنى الشرك - أَنَّ كثيرًا من الآراء والأقوال والأفعال التي لا يكاد يسلم منها أحدٌ غير من عصمه الله يَصْدُقُ عليها لولا العذر أنها شركٌ. اللهمَّ إنَّا نعوذ بك أن نشرك بك شيئًا نعلمه ونستغفرك لما لا نعلم. [(¬2) ومما يدل على هذا ما أخرج الإِمام أحمد بسند صحيح عن أبي علي الكاهلي قال: خطبنا أبو موسى الأشعري، فقال: يا أيها الناس، اتقوا هذا الشرك؛ فإنه أخفى من دبيب النمل. فقام إليه عبد الله بن حزن وقيس بن المضاب، فقالا: لتخرجَنَّ مما قلت أو لنأتينَّ عمر مأذون (¬3) لنا أو غير مأذون، قال: بل أخرج مما قلتُ. خطبنا رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم ذات يومٍ، فقال: "أيها الناس، اتقوا هذا الشرك؛ فإنه أخفى من دبيب النمل"، فقال له مَن شاء الله أن يقول: وكيف نتَّقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله؟ قال: "قولوا: اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئًا ¬

_ (¬1) مسند أحمد 4/ 403. [المؤلف]، وفي إسناده: أبو علي رجل من بني كاهل، لم يوثقه إلا ابن حبان. (¬2) من هنا إلى نهاية الفصل ملحق ص 32 من المخطوط. (¬3) كذا في الأصل والمسند، وفي التاريخ الكبير ومجمع الزوائد: (مأذونًا)، وهو الوجه.

نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلم" (¬1). أبو علي الكاهلي ذكره ابن حبان في الثقات (¬2). وأخرج الحاكم في المستدرك من طريق عبد الأعلى بن أعْيَن، عن يحيى بن أبي كثير، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "الشرك أخفى من دبيب الذَّرِّ على الصفا في الليلة الظلماء، وأدناه أن تحبَّ على شيءٍ من الجور وتبغض على شيءٍ من العدل، وهل الدين إلا الحبُّ والبغض، قال الله عزَّ وجلَّ: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] ". قال الحاكم: "هذا حديثٌ صحيح الإسناد ... "، تعقَّبه الذهبيُّ، فقال: "قلتُ: عبد الأعلى قال الدارقطنيُّ: ليس بثقةٍ" (¬3). أقول: ولكن للحديث شواهد؛ ففي كنز العمال نحوه عن معقل بن ¬

_ (¬1) مسند أحمد 4/ 403 [المؤلف]. وأخرجه ابن أبي شيبة، كتاب الدعاء، في التعوُّذ من الشرك ... ، 15/ 279 - 280، ح 30163. وعنه البخاري في التاريخ الكبير 9/ 58. وأخرجه الطبرانيُّ في الأوسط 4/ 10، ح 3479. قال الهيثميُّ: (ورجال أحمد رجال الصحيح غير أبي علي، وقد وثَّقه ابن حبان). مجمع الزوائد 10/ 384. (¬2) 5/ 562. وانظر: الجرح والتعديل 9/ 409. (¬3) المستدرك 2/ 291 [المؤلف]. وهو في مسند البزَّار (كما في كشف الأستار) 4/ 217، ح 3566. والضعفاء للعقيلي 3/ 60. والحلية لأبي نعيم 8/ 368 و 9/ 253. قال الهيثمي: (وفيه عبد الأعلى بن أعين، وهو ضعيف). مجمع الزوائد 10/ 384. وانظر ترجمة عبد الأعلى بن أعين في ميزان الاعتدال 2/ 529، وتهذيب التهذيب 6/ 93.

يسارٍ، عن أبي بكر الصِّدِّيق، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونسبه إلى إسحاق بن راهويه وأبي يعلى، قال: "وسنده ضعيفٌ". ونحوه عن قيس بن أبي حازمٍ، عن أبي بكر الصِّدِّيق، عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، ونسبه إلى الحسن بن سفيان، والبغوي (¬1). وذكر أيضًا نحوه عن ابن عباسٍ، ونسبه إلى الحكيم الترمذي والحلية لأبي نعيمٍ" (¬2). ووجه الدلالة أمران: - الأول: أن الحديث صريح في أنَّ من الشرك ما هو خفيٌّ جدًّا وأنَّ كلَّ أحد معرَّض للوقوع فيه، ومثل هذا لا يليق بيسر الدين ونفي الحرج عنه المؤاخذةُ به. - الأمر الثاني: أنه أرشدهم إلى الدعاء المذكور، وفيه: "ونستغفرك لما لا نعلم" أي: من الشرك، كما هو ظاهر، فعُلم منه أن الشرك الذي لا يُعلم قابل للمغفرة. فإن عورض هذا بقول الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48] فسيأتي الجواب (¬3) عن ذلك إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) انظر: كنز العمَّال 2/ 169 [المؤلف]. ورواية معقل بن يسارٍ عن أبي بكرٍ في مسند أبي يعلى 1/ 61 - 62، ح 59 - 61. (¬2) كنز العمَّال 2/ 97 و98 [المؤلف]. وانظر: الحلية 3/ 36 - 37. (¬3) صفحة 650 [المؤلِّف]. ص 924.

ولكن لا بدَّ من تقييد الشرك الذي يقبل المغفرة لكون فاعله لم يعلم به بأن يكون فاعله معذورًا في جهله على ما مرَّ. فإن قلت: إنما يصح الاستدلال بقوله: "ونستغفرك لما لا نعلم" إذا حُمل على معنى: لا نعلم أنه شرك، وقد تعمَّدنا فعله، وقد يحتمل معنًى آخر وهو أن يقال: أي: لا نعلم أننا نفعله أي: لم نتعمَّد فعله أصلًا، بل وقع سهوًا كالقائل: "اللهم أنت عبدي وأنا ربك". قلت: المعنى الأول هو المتعيِّن لدلالة السياق على أنَّ الذي لا يُعلم هو الخفيُّ، فإنما لم يُعلم لخفائه لا لعدم تعمُّده، ولدلالة التمثيل بالحب على جورٍ والبغض على عدلٍ، ومعناه: أن تحبَّ رجلًا لجورٍ جارَه من حيث هو جور، وتبغض رجلًا لعدلٍ عدَله من حيث هو عدْل، فلا يدخل في هذا حبك حاكمًا حكم لك بمالٍ جورًا وتبغض آخر حكم عليك بعدلٍ إذا أحببت ذاك من حيث نفعك نفعًا دنيويًّا وأبغضت هذا من حيث ضرَّك ضررًا دنيويًّا. فأما قول الله عزَّ وجلَّ: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]. فقد قيل: إنَّ المعنى: لا يؤمنون إيمانًا كاملًا، وفيه نظر، والأولى أن يقال: المراد بالحرج الحرجُ الذي يصحبه نسبة النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم إلى الجور والظلم، فأما مَن حكم عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم بمالٍ يدفعه إلى صاحبه فدفعه موقنًا بأن الحكم حق وعدل ولكن نفسه كارهة للدفع حبًّا للدنيا وحرصًا عليها، فمثل هذه الكراهة لا تنافي أصل الإيمان.

فصل

نعم، مَن حملته هذه الكراهة على مشاقَّة الرسول في حياته صلَّى الله عليه وآله وسلَّم والامتناع منه بالفرار أو بالقوَّة، بحيث لو بعث إليه النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم مَن يستوفي منه الحقَّ لقاتلهم، فالذي يظهر أنَّ ذلك ينافي الإيمان، ولكن هذا خاصٌّ بحكم النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في حياته، فأما بعد وفاته فإنما يكفر مَن ثبت عنده حكم النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فزعم أنَّ الحقَّ خلافه، والله أعلم]. فصل [ز 33] وها هنا اعتراضان، أحدهما: أن يقال قد قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48] في آيات أخرى تقدمت في أوائل الرسالة (¬1)، فكيف التوفيق بينها وبين ما ذُكِرَ هنا من الأعذار؟ والجواب: أنه إذا قام الدليل على العذر في بعضى الصور فالتوفيق سهل بحمد الله تبارك وتعالى بأحد وجهين: الأوَّل: أن يقال في تلك الصور: إنها ليست بشرك ولا كفر، ثم نطلب للشرك والكفر تعريفًا لا يتناول تلك الصور وما في معناها، فإن كان هناك تعريف مشهور نظرنا فيه، فإما أن نبيِّن أنه لا يتناول تلك الصور، وإما أن نزيد فيه قيدًا أو أكثر لإخراج تلك الصور التي قام الدليل على العذر فيها. فإذا قيل: الشرك اتِّخاذ إلهٍ من دون الله أو عبادة غير الله، فإما أن نبيِّن معنى الإله والعبادة بألَّا يشمل تلك الصور، وإما أن نقول: لا بدَّ من زيادة قيدٍ، كأن يُقال ¬

_ (¬1) انظر ص 35 - 36.

"بلا عذرٍ"، والمدار على الحجَّة؛ فليس لأحدٍ أن يفسِّر ويقيِّد بمجرَّد هواه، ولا لأحدٍ أن يَرُدَّ ما قامت عليه الحجَّة. الوجه الثاني: أن يُقال: إن الشرك في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} من العامِّ المراد به الخصوص أو العامِّ المخصوص، فتخرج تلك الصور بأدلَّتها. وربَّما يتعيَّن الوجه الأوَّل أو يترجَّح في بعض الصور، والثاني في باقيها. ومما يُستأنَس به للوجه الأوَّل: أن القرآن خصَّ اسم المشركين غالبًا بما عدا أهل الكتاب من كفَّار العرب ونحوهم مع أن أهل الكتاب {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31]، فاليهود أطاعوا الأحبار والشياطين والهوى الطاعة الخاصَّة التي هي تأليه وعبادة لغير الله على ما يأتي تفسيره (¬1)، والنصارى فعلوا مثل ذلك وزادوا فألهَّوا عيسى وأمه والصليب وغيره وعبدوهم من دون الله، ولكن أهل الكتاب يجحدون أن يكونوا اتخذوا مع الله إلهًا أو عبدوا غيره، فيجحدون أن تكون طاعتهم للأحبار والرهبان والشياطين والهوى تأليهًا وعبادة لغير الله تعالى، والنصارى يجحدون أن يكون ما يعملونه لمريم والصليب وغيرهما تأليهًا وعبادة. نعم يقولون: إنهم يؤلَّهون عيسى ويعبدونه، ولكنهم يقولون: ليس هو غير الله، وهذا الجهل والجحود لا ¬

_ (¬1) انظر ص 654 - 657 وص 731.

ينفعهم؛ لأن الحجة كانت قائمة عليهم قبل البعثة، وتَمَّ قيامها ببعثة محمَّد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وما جاء به من الآيات. لكنه مع ذلك خصَّ القرآنُ اسمَ المشركين بغيرهم ممن كانوا يسمون غير الله تعالى آلهةً ومعبوداتٍ وشركاء، على ما يأتي تفصيله إن شاء الله تعالى. ومما يُستأنَس به للثاني قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ} [النحل: 106]، إذا بنينا على أن الاستثناء متَّصلٌ كما هو الأصل ثبت بذلك أن مَن أُكْرِه على الكفر ففَعَلَه وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان فقد صدق عليه في الجملة أنه كفر بعد إيمانه، ولكنه مستثنًى من عموم الأدلَّة المشدِّدة في الكفر مطلقًا. وحديث: "اتَّقوا هذا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل ... "، قد يُستأنَس به للوجه الثاني, لأنه سمَّاه شركًا مع خفائه وأمر بالاستغفار مما يقع منه بغير علمٍ. والأقرب الاستئناس به للأوَّل, لأنه قال: "قولوا: اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئًا نعلمه، ونستغفرك لما [لا] نعلم". فأبهم في الثانية فأشعر بأن عدم العلم يمنع تسميته شركًا. والله أعلم. [ز 34] الاعتراض الثاني: إن قيل: كيف هذا، وقد تقدَّم في أوائل الرسالة اشتراط العلم بمعنى: "لا إله إلا الله"، وعليه فَمَنْ يُحْكَم له بالإِسلام تبعًا يلزمه الإتيان بالشهادتين عند بلوغه مع معرفة معناهما، فإن فَعَل لم يشتبه عليه الشرك بعد ذلك، وإن لم يفعل كان مقصِّرًا، فكيف يُعْذَر؟ وأما الكافر إذا أراد الدخول في الإِسلام

فلا يدخل إلا بالشهادتين مع معرفته لمعناهما، فإن فعل لم يشتبه عليه الشرك بعد ذلك، وإلا فلم يصحَّ إسلامه من أصله. فالجواب: أن الأوَّل وهو من يُحْكَم له بالإِسلام تبعًا قد لا يكون مقصِّرًا، كمن ينشأ ببادية بعيدة عن العلماء، فيعلم بوجوب الإتيان بالشهادتين، ولا يعلم أنه يجب عليه تحقيق معناهما، وإذا علم فقد يرى أنه قد عرف معناهما، ويكون في نفس الأمر لم يحقَّق المعنى، وقد يحقِّق المعنى ثم يغفل عنه أو يشتبه عليه في بعض الجزئيَّات. وستعلم عند تحقيق معنى الإله والعبادة أن معرفة المعنى جملة لا تضمن عدم الاشتباه في بعض الجزئيات، حتى لقد يقع الاشتباه للمتبحر في العلم فضلًا عن العالم الذي لم يتبحر فضلًا عن العامي، وذلك أن معنى الإله والعبادة كما ستعلم يرتبط بسائر فروع الشريعة، فالخطأ في فرعٍ منها يلزمه خطأٌ مّا في تطبيق معنى لا إله إلا الله، وذلك مصداق الحديث السابق أن الشرك أخفى من دبيب النمل. هذا وقد قام الإجماع أن الإِسلام لا يوجب على كلِّ فردٍ أن يكون عالمًا فضلًا عن أن يكون متبحرًا. وأما الثاني وهو مَنْ كان كافرًا ثم أسلم فالذين يشترطون للدخول أن يأتي بالشهادتين مع معرفته معناهما يكتفون فيما يظهر بمعرفة معناهما إجمالًا. يدلُّك على ذلك أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلَّم كان يكتفي من الناس بشهادة ألا إله إلا الله مع أنهم لم يكونوا يفهمون من كلمة (إله) إلا معنىً إجماليًّا لا يضمن ألَّا يشتبه عليهم، فلم يكونوا يعلمون أن من طاعة الرؤساء ما يكون تأليهًا لهم، وأن من طاعة الشيطان ما يكون تأليهًا له، وأن من اتِّباع الهوى ما هو تأليهٌ له، وأن من الطيرة وتعليق التمائم والقسم بغير الله

تعالى ما هو تأليهٌ لغير الله تعالى، وسيأتي بسط ذلك كلِّه إن شاء الله تعالى. والمتنصِّرون منهم لم يكونوا يعلمون أن تعليق الصليب تأليه له، في أشياء أخر ستأتي فيما بعد. والظاهر أن الذين قالوا للنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "اجعل لنا ذات أنواط" (¬1) لم يكونوا يعلمون أن اتخاذها من اتخاذ إله مع الله تعالى. هذا مع أنَّ من أهل العلم من لا يشترط للدخول في الإِسلام الإتيان بالشهادتين أصلًا، بل يقولون: يكفي كلُّ ما يؤدِّي معنى الدخول في الإِسلام كقوله: أسلمت لله، ونحو ذلك. كما حكى الله عزَّ وجلَّ عن ملكة سبأ: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 44]. وقال الله عزَّ وجلَّ: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} إلى أن قال: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 131 - 132]. ومما يدلُّ على صحَّة هذا المذهب حديث الصحيحين عن المقداد أنه قال: يا رسول الله، إن لقيتُ كافرًا فاقتتلنا فضرب يدي بالسيف فقطعها ثم لاذ بشجرةٍ، وقال: أسلمت لله، أأقتله بعد أن قالها؟ قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "لا تقتله"، قال: يا رسول الله، قد طرح إحدى يديَّ، ثم قال [ز 35] ذلك بعد ما قطعها أأقتله؟ فقال: "لا تقتله، فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه عند المؤلف في ص 230.

أن تقتله، وأنت بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال" (¬1). هكذا رواه الجماعة عن الزُّهري: ابن جُرَيجٍ ويونُس بن يزيد في الصحيحين، وابن أخي الزُّهري عند البخاري، والليث بن سعدٍ والأوزاعي وابن عُيَينة (¬2) عند مسلمٍ، وغيرهم. ووقع في رواية عبد الرزَّاق عن معمرٍ عن الزُّهري عند مسلمٍ: "فقال: لا إله إلا الله"، ورواية الأكثر أثبت، على أن الإِمام أحمد أخرج الحديث من طريق ابن جُرَيجٍ: "أخبرني الزُّهري" فذكره، وفيه: "فقال: أسلمت لله، أقاتله يا رسول الله؟ "، فذكر الحديث. ثم قال أحمد: "ثنا عبد الرزَّاق، ثنا معمرٌ"، فذكر أوَّل الحديث، ثم قال: "فذكر الحديث، إلا أنه قال: أقتله أم أدعه؟ " (¬3). فظهر بهذا أن في رواية أحمد عن عبد الرزاق عن معمر "فقال: أسلمت لله" كما في رواية ابن جريج قبلها؛ إذ لم يستثن أحمد إلا قوله "أقتله أم أدعه"، فعُلِم أن الباقي سواءٌ، ولو كان في حديثه "لا إله إلا الله" لكان ذكر ذلك أهمَّ من ذكر "أقتله أم أدعه" كما لا يخفى، فقد اختلفت الرواية عن معمرٍ، ولا خفاء أن الترجيح فيها لما يوافق رواية الجمهور. ¬

_ (¬1) صحيح البخاريِّ، كتاب الديات, باب قول الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ}، 9/ 3، ح 6865 [وفي كتاب المغازي، باب 12، 5/ 85، ح 4019]. صحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال: لا إله إلا الله [وفي الأصل: باب الدليل على أن مَن مات لا يشرك إلخ]، 1/ 66، ح 95. [المؤلف] (¬2) لم أجد رواية ابن عيينة عن الزهري عند مسلم، ولم يذكرها المزي في تحفة الأشراف 8/ 502، (11547). (¬3) المسند 6/ 5 - 6. [المؤلف]

فائدة

وفي شرح مسلمٍ للأُبِّيِّ عن القرطبيِّ: فيحتجُّ به للدخول في الإِسلام بكلِّ ما يدلُّ على الدخول فيه من قولٍ أو فعلٍ ما يتنزَّل منزلة النطق بالشهادتين، وقد حكم النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بإسلام بني جَذِيمة الذين قتلهم خالدٌ وهم يقولون: "صبأنا صبأنا"، ولم يحسنوا أن يقولوا: "أسلمنا"، فلما بلغ ذلك النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم رفع يديه إلى السماء، وقال: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالدٌ"، ثم وداهم صلَّى الله عليه وآله وسلَّم (¬1). قال الأُبِّيُّ: "وكان الشيخ - يعني شيخه أبا عبد الله محمَّد بن عرفة - يقول: كلمة: "أسلمت لله" إنما توجب الكفَّ عن القتل ثم يستَفهم بعد ذلك"، قال الأُبِّيُّ: "وهو خلاف ما دلَّ عليه الحديث" (¬2). أقول: وذلك من وجهين، الأول: أنه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أطلق النهي ولم يقل: لا تقتله حتى تستفهمه وتعرض عليه النطق بالشهادتين، فإن أبى فاقتله، أو نحو ذلك. الثاني: قوله: "فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله" والمعنى الظاهر من هذا أنه مسلم، والظاهر حجة. فائدة: اختلف في معنى قوله: "وأنت بمنزلته قبل أن يقول كلمته". ولا نزاع أن الظاهر "وأنت كافر"، ولكن الجمهور أبوا هذا؛ لأن من أصلهم أن ارتكاب ¬

_ (¬1) انظر: المفهم 1/ 293 - 294. (¬2) شرح الأُبِّي لصحيح مسلمٍ 1/ 204. [المؤلف]

الكبيرة ليس بكفر. وأجيب بأن المعنى: إن قتلته مستحلًّا لقتله، ولا نزاع أن استحلال الحرام القطعي كفر. ولم يرتضوا هذا؛ يرون أنه ليس في الكلام ما يدل على هذا القيد. وأنت إذا تأملت وجدت الدلالة واضحة فإن سؤال المقداد إنما قصد به معرفة الحلِّ أو الحرمة لعلمه أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم إذا أذن في القتل كان حلالًا، فقوله: أأقتله؟ في قوَّة قوله: أيحلُّ لي قتله؟ أو: أأستحلُّ قتله؟ وبحسب هذا يكون الجواب (¬1) قوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "فإن قتلته" في قوَّة قوله: "فإن استحلَلْت قتله"، والله أعلم. وقصَّة بني جَذِيمة التي أشار إليها القرطبيُّ هي في صحيح البخاريِّ (¬2). وفيها من قول ابن عمر: "فدعاهم إلى الإِسلام فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا وجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا"، وهذا ظاهرٌ أنهم لو قالوا: (أسلمنا) ما اشتبه الأمر على خالدٍ. [ز 36] وفي الصحيحين في حديث أسامة لما صمد في الجهاد لرجل ليقتله فقال الرجل: لا إله إلا الله، فقتله أسامة فَلامَه النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، قال أسامة: "حتى تمنَّيت أني لم أكن أسلمتُ قبل ذلك اليوم" (¬3). ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولعل الصواب: "وبحسب هذا الجواب يكون قوله ... " فوقع تقديم وتأخير من سبق القلم، أو يتمُّ الكلام عند قوله: "الجواب"، ويُستأنف: "فقوله ... ". (¬2) كتاب المغازي، باب بعث النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم خالد إلخ، 5/ 160 - 161، ح 4339. [المؤلف] (¬3) صحيح البخاريِّ، كتاب الديات، باب [قول الله تعالى]: {وَمَنْ أَحْيَاهَا} إلخ، 9/ 4، ح 6872. صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال: لا إله إلا الله [باب الدليل على أَن مَن مات لا يشرك باللهِ شيئًا دخل الجنَّة]، 1/ 68، ح 96 (159). [المؤلف]

وفي رواية لمسلمٍ أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال لأسامة: "كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا أتتك يوم القيامة؟ " وكرَّر ذلك، وهذا ظاهرٌ في حكمه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بإسلام الرجل مع أنه لم يأت بلفظ: "أشهد" ولا بشهادة أن محمَّدًا رسول الله، ما ذاك إلا أن الظاهر من قوله: لا إله إلا الله، أنه أراد بها الدخول في الإِسلام. وفي صحيح مسلمٍ من حديث عائشة في قصَّة المشرك الذي اتَّبع النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم في طريقه عند خروجه إلى بدر "قال له رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: تؤمن باللهِ ورسوله؟ قال: لا، قال: فارجع فلن أستعين بمشرك"، وفيه أنه رجع ثم عاد كذلك قالت: "ثم رجع فأدركه بالبيداء فقال له كما قال أول مرة: تؤمن باللهِ ورسوله؟ قال: نعم، فقال له رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: فانطلق" (¬1). وفيه في قصة العقيليِّ: أسره المسلمون وأوثقوه، فمرَّ به النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فناداه: يا محمَّد، يا محمَّد، فرجع النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فكلَّمه، ثم مضى. فناداه ثانيًا، فرجع إليه، فقال: إني مسلمٌ، قال: "لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كلَّ الفلاح" (¬2). ¬

_ (¬1) صحيح مسلمٍ، قُبَيل كتاب الإمارة. [المؤلف]. يعني كتاب الجهاد والسير، باب كراهة الاستعانة في الغزو بكافرٍ، 5/ 200، ح 1817. (¬2) مشكاة المصابيح، كتاب الجهاد، باب حكم الأسرى، الفصل الأول، 2/ 1161 - 1162، ح 3969. [المؤلف]. وهو في صحيح مسلمٍ، كتاب النذر، بابٌ: "لا وفاء لنذرٍ في معصية الله"، 5/ 78، ح 1641.

وفيه أن تلك الكلمة ضامنةٌ لأن يفلح كلَّ الفلاح لولا أنه قالها وهو لا يملك أمره، والفلاح كلُّ الفلاح هو النجاة في الآخرة، فثبت أن تلك الكلمة إسلامٌ لو قالها وهو يملك أمره. فإن قيل: يمكن أن يكون النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم إنما كان يكتفي بنحو "أسلمتُ لله" بعد أن اشتهر أمر الإِسلام وأنه يدعو إلى الشهادتين، وكان العرب يعرفون معناهما، فقام قولُ أحدهم: "أسلمتُ لله" - مع معرفته لما ذُكِر - مقامَ إتيانه بالشهادتين عارفًا بمعناهما. قلت: يكفي في ردِّ هذا قصة بني جذيمة، فإنها كانت في أواخر السنة الثامنة للهجرة، ومع ذلك لم يحسنوا أن يقولوا: "أسلمنا"، فكيف يُظَنُّ بهم معرفة ما هو أخفى من ذلك؟ على أنه قد سلف أن العرب مع معرفتهم أصل معنى الإله كانت تشتبه عليهم أشياء، فلم يكونوا يعلمون أن من طاعة الرؤساء وقبول وسوسة الشيطان واتِّباع الهوى ما هو تأليهٌ لهذه الأشياء، وكذلك ما يقع في الرقى والتِّوَلة والقسم بغير الله عزَّ وجلَّ مما كان يشتبه على الصحابة حتى بَيَّنَهُ لهم النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وعلى بعض التابعين حتى بَيَّنَهُ لهم الصحابة، ومن ذلك قصَّة ذات أنواطٍ وغيرها. فالذي يقتضيه ما مرَّ أنه يكفي لدخول الكافر في الإِسلام أن يتقبَّله مع معرفة أنه دينٌ مشتملٌ على عقائد وأحكامٍ وأنه ملتزمٌ لها سواءٌ أوافقت ما كان عليه أم خالفته، فإنه بذلك يَنْسَلِخُ عن كفره ويُسَلِّم نفسه للإسلام ويلتزمه جملةً؛ والله الموفق.

فصل المنتسبون إلى الإسلام أقسام

[ز 37] فصل المنتسبون إلى الإِسلام أقسام: الأوَّل: مَن تحكم له أيَّها القارئ بالإِسلام، فلا كلام فيه. الثاني: مَن تكفِّره أو تتردَّد فيه لعلَّةٍ غير الشرك، وهذا لا كلام فيه هنا. الثالث: مَن تكفِّره أو تتردَّد فيه لعلَّة الشرك خاصة، وكلامُنا في هذا. فاعلم أن كلَّ مكلَّفٍ مَنْ هؤلاء لا بدَّ أن يكون قد ثبت له حكم الإِسلام؛ لأنه لا يخلو أن يكون هو الذي دخل في الإِسلام وكان آباؤه على ملَّةٍ أخرى كاليهوديَّة والنصرانيَّة، أو يكون نُسِبَ إلى الإِسلام على سبيل التبعيَّة، أَوْ لا. فالذي أسلم هو نفسه قد ثبت له حكم الإِسلام. فإذا قلنا: إنه يكفي للدخول في الإِسلام كلُّ ما يؤدِّي معنى التزامه فذاك، وإن قلنا: لا بدَّ من الإتيان بالشهادتين مع معرفة معناهما فقد عرفت أن المراد معرفته في الجملة، والعادة مستمرة إلى الآن أن الكافر إذا أراد الدخول في الإِسلام يلقِّنُه الناس الشهادتين ويفسِّرون له معناهما فيعرفه في الجملة، يعرف أنه لا مدبِّر بقوَّته الذاتيَّة إلا الله ولا معبود بحقٍّ إلا الله، ويعرف من العبادة الصلاة والصيام فيعرف أنه لا يستحقُّ أن يُصَلَّى ويُصام له إلا الله، وأن تعظيم الأوثان والسجود لها أو للشمس أو القمر أو الصليب عبادةٌ لغير الله، إلى غير ذلك، مع التزامه للإسلام جملةً. وهذا كافٍ للدخول في الإِسلام وثبوت حكمه كما تقدَّم. والمنسوب تبعًا إما أن تكون موافقًا على ثبوت الإِسلام له بالتبعيَّة أو

غير موافقٍ، فالأوَّل قد ثبت له حكم الإِسلام اتِّفاقًا. والثاني الذي يكثر وجوده من صوره هو مَنْ كان آباؤه متلبِّسين بتلك الأمور التي تراها شركًا، فتقول: آباؤه مشركون فكيف يحُكم له بالإِسلام تبعًا لهم؟ فاعلم أن هذا لا بدَّ أن يكون أحدُ أجداده كان كافرًا فأسلم فثبت له حكم الإِسلام كما مرّ، وقد يكون هذا الجدُّ تلبَّس بتلك المحدثات، وسيأتي، وقد لا يكون تلبَّس بها فكان مسلمًا اتِّفاقًا، وتبعه ابنه في الإِسلام ثم ابن ابنه، وهكذا إلى أوَّل جدٍّ تلبَّس بالمحْدَثات. فأوَّلُ جَدًّ تلبَّس بالمحْدَثات إما أن يكون هو الذي دخل في الإِسلام، وإما أن يكون ابن رجل مسلم لم يتلبس بها، وعلى كلا الحالين قد ثبت لهذا الجدِّ حُكْمُ الإِسلام اتفاقًا، ومَنْ ثبت له حكم الإِسلام فالأصل بقاؤه عليه ولا يخرج عنه إلا بحجَّةٍ واضحةٍ. وقد علمت أن من قَبِلَ الإِسلام ثم جهل وأخطأ بما هو شرك قد يُعْذَرُ، ولا يظهر حَدٌّ لذلك إلا قيام الحجَّة كما سيأتي. فذلك الجدُّ الذي ثبت له حكم الإِسلام لا يخرجه عنه تلبُّسه بتلك المحدثات ما لم تعلم قيام الحجة عليه، وأنت لا تعلم ذلك، فبقي على إسلامه، فيتبعه ابنه في الإِسلام، فيبقى له حكمه وإن تلبس بتلك المحدثات، وهكذا. وهبك أثبتَّ قيام الحجَّة على أحد الآباء فإنَّك لا تعلم قيامها على الأمِّ فَبقِيَتْ على حكم الإِسلام فتبعها ولدها. وهَبْكَ أثبتَّ قيامها على الأبوين فلعلَّها إنما قامت عليهما بعد العلوق بالولد وثبوت حكم الإِسلام له، وهَبْكَ أثبتَّ قيامها على الأبوين قبل العلوق بالولد فقد قال بعض أهل العلم كالشافعيَّة: إنه إذا كان في أصول الطفل المعروفة سلسلةُ نسبِه إليهم مسلمٌ حُكِمَ للطفل بالإِسلام وإن كان ذلك الأصلُ قد مات قبل زمانٍ طويلٍ وكان

الأقرب حيًّا (¬1)، فإن لم ترض هذا فقد قال بعض أهل العلم - وهو الذي [ز 38] حكاه ابن المنذر (¬2) عن الشافعيِّ وبه أخذ أكثر أصحابه وصحَّحه الرافعيُّ وخالفه النوويُّ، لكن تعقَّبه ... (¬3) فصوَّب تصحيح الرافعيِّ، وأطال البلقينيُّ في تصويب ما قال الرافعيُّ ... (¬4) -: إن ولد المرتدَّيْنِ محكومٌ بإسلامه وإن كان العلوق به بعد ردَّتهما. والذي يخالف في هذا إنما يقوى قوله إذا كانت الردَّة مكشوفة يُصَرِّح صاحبها بأنه قد بدَّل دينه وترك الإِسلام. وإيضاح هذا أن المدْرَك فيما يظهر في الحكم بإسلام الطفل أو كفره قبل أن يعرب عن نفسه هو النظر فيما يظهر أنه يختاره إذا بلغ، وأظهرُ أسباب الاختيار أمران: وضوح الحجة واتباع الآباء. والأول وهو وضوح الحجة خاصٌّ بالإِسلام فإن وافقه الثاني بأن كان الآباء كلهم المعروفة سلسلة النسب إليهم مسلمين فالحكم بالإِسلام بغاية الوضوح. وإن خالفه البتة بأن كان الآباء كلهم المعروفة سلسلة النسب إليهم كفارًا أصليين فالحكم بالكفر ظاهر؛ لأن الغرام باتِّباع الآباء شديدٌ، كما تشاهده في اليهود والنصارى وقلَّةِ مَن يُسْلِمُ منهم. وإن وافقه مِن وجهٍ وخالفه مِنْ وجهٍ نُظِرَ في الراجح فيوضع مثلًا إسلام الأب والأمر الأوَّل وهو وضوح حجة الإِسلام في كفَّةٍ، وكفر الأم والأصول من الطرفين في كفَّةٍ، فيرجح أنه يختار الإِسلام، وقس على ذلك. وموضع التفصيل كتب الفقه، ¬

_ (¬1) انظر: روضة الطالبين 5/ 430. (¬2) الأوسط 13/ 508. (¬3) هنا بياضٌ بقدر كلمةٍ، والظاهر أن المؤلف بيَّض لاسم العالم الذي تعقَّبَ النوويَّ. (¬4) هنا بياضٌ بقدر نصف سطرٍ، وانظر منتقى الينبوع فيما زاد على الروضة من الفروع للسيوطي بهامش روضة الطالبين 7/ 297.

ونقتصر هنا على النظر في مسألتنا. الطفل إذا بلغ فعرف أنَّ أسلافه كانوا مسلمين حتى تنصَّر أبواه مثلًا فإن غرامه بالنصرانيَّة لا يكون كغرام من عرف أن أسلافه مضوا عليها من قرونٍ كثيرةٍ، فهذا يحتمل أن يميل إلى النصرانيَّة؛ لأن أبويه صارا إليها ويحتمل أن يميل إلى الإِسلام؛ لأنَّ أسلافه مضوا عليه حتى صار أبواه إلى خلافه، فله شبه بمن كان أحد أبويه مسلمًا والآخر كافرًا. هذا في الرِّدَّة المكشوفة، ودونها درجات. فأما مسألتنا وهي أن يعرف أنَّ أسلافه مضوا على الإِسلام، وأنَّ أبويه عاشا ينتسبان إلى الإِسلام مغتبطَين به يعتقدان أنه هو الدين الحق ويبذلان أنفسهما في سبيله، ويُعَظِّمان القرآنَ ويعتقدان أنَّ كلَّ ما فيه حقٌّ، ويحبَّان النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ويعتقدان أن كلَّ ما جاء به حقٌّ، ويحترمان سلف الأمة وعلماءها، ويتمسكان بشعائر الإِسلام، ويعتقدان حقًّا عليهما أن لا يخالفاه، ويحكمان على أنفسهما أنهما إن خالفاه ولم يعذرهما الله عزَّ وجلَّ هلكا، ولكنهما وقعا في شيء كانا يزعمان أنه لا يخالف الإِسلام وجماعة من أهل العلم يقولون إنه مخالف. فهذا الغلام إن لم توضح له الحجة على أنَّ تلك المخالفة كفرٌ فالظاهر أنه يتبع أبويه عليها، ولكن هذا لا يكفي للحكم عليه من طفوليَّته بعدم الإِسلام؛ فإن النظر في هذا الباب مبني على فرض قيام الحجة، ألا ترى أنه يحكم بالإِسلام للطفل الذي أبوه وأسلافه كلهم نصارى وأمه مسلمة مع العلم بأنه إذا لم توضح له حجة الإِسلام إنما يتبع أباه وأسلافه. وإذا أوضحت له الحجة فأمامه طرقٌ:

الأولى: أن يتَّبع أبويه على تلك المخالفة تعصُّبًا لهما ويرضى لنفسه بأمورٍ: منها: ترك الإِسلام الذي اتَّضح له أنه الحق ومضى عليه أسلافه ومضى أبواه أنفسهما على الانتساب إليه والاغتباط به كما مر، ونشأ هو نفسه على حبه والاغتباط به والافتخار بالانتساب إليه. ومنها: اختيار الكفر الذي مضى أسلافه وأبواه أنفسهما ونشأ هو نفسه على بغضه ومقته وشدة النفور عنه والعلم بأنه هلاك أبدي. [ز 39] ومنها: عداوة الله ورسله والمؤمنين، وقد مضى أسلافه وأبواه أنفسهما ونشأ هو نفسه على محبتهم وتعظيمهم والاغتباط باتِّباعهم. ومنها: غضب الله عزَّ وجلَّ والخلود في نار جهنم. الطريق الثانية: أن يتبع الحق ويشهد على أبويه بالكفر. الطريق الثالثة: أن يتبع الحق ويرجو العذر لأبويه. أفلا ترى سلوكه الطريق الأولى أبعد جدًّا من اختيار مَن كان أبوه وأسلافه نصارى وأمُّه مسلمةً للنصرانيَّة؟ فبقي النظر في الطريقين الأخريين، فإن لم تتَّضح له الحجَّة على هلاكهما وعلى أن الشكَّ في هلاكهما كفرٌ فلا ريب أنه يختار الطريق الثالثة، ولكن هذا لا ينافي الحكم بإسلامه؛ لوجوه: الأوَّل: أن النظر في هذا الباب مُرَتَّبٌ على فرض قيام الحجة كما مرَّ. الثاني: أنه إذا لم تقم عليه الحجة القاطعة بهلاكهما لا يكون رجاؤه العذر لهما كفرًا.

الثالث: أن كفر المتلبِّس بالمحدثات التي الكلام فيها ليس في هذه الأزمنة من الأمور الواضحة التي يكفر مَن شكَّ أنها كفرٌ مطلقًا، فكيف مَنْ لم يشكَّ أنها كفرٌ ولكنَّه يرجو العذر لبعض مَن تلبَّس بها؟ وعلى فرض أنك أثبتَّ قيام الحجة على أحد الأجداد وامرأته وإصرارهما قبل العلوق بالولد وأنه لم يُقْنِعْكَ ما تقدَّم من الاستدلال على أن ذلك لا يمنع الحكم للولد بالإِسلام فبماذا تحكم للولد في صغره؟ إن قلتَ: أحكم أنه مرتد قيل لك: أنَّى يكون مرتدًّا ولم يُحْكَم له بالإِسلام قطُّ؟ وأصل معنى الارتداد هو الرجوع، فكيف يُقال: إنه رجع عن الإِسلام مَنْ لم يكن عليه قطُّ؟ وقد جاء عن الصحابة أنهم سَبَوْا أولاد المرتدِّين (¬1)، والمرتدُّ لا يُسْبَى. وقد كان خطر لي أن أحتجّ بمعاملة النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم مشركي العرب معاملة الكفَّار الأصليين مع أن أسلافهم كعمرو بن لُحَيٍّ وأقرانه كانوا مرتدِّين عن شريعة إبراهيم عليه السلام، وكانت الأنساب إليهم معروفةً. ثم ظهر لي أنه قد يجاب عن هذا بأن الإِسلام شريعةٌ جديدةٌ يطالبهم باتِّباعه، حتى لو رجعوا إلى شريعة إبراهيم ولم يتَّبعوا الإِسلام لم يخرجوا من الكفر، فلا يلزم من عدم حكمه عليهم حكم المرتدين أنهم لم يكونوا في حكم المرتدِّين عن شريعة إبراهيم. ويمكن أن يناقش في هذا ¬

_ (¬1) ورد عن أبي الطفيل أنه كان في جيش عليًّ الذين أرسلهم إلى المرتدين من بني ناجية، قال: فقتلوا المقاتلة وسبوا الذَّراري. أخرجه ابن أبي شيبة في كتاب السير، ما قالوا في الرجل يسلم ثم يرتد ... 17/ 434 - 435، ح 33407. ومن طريقه: البيهقي في كتاب المرتد، باب ما جاء في سبي ذرية المرتدين 8/ 208.

فصل

الجواب ولكن فيما تقدَّم كفاية إن شاء الله تعالى. فلم يبق إلا أن تقول: أحكم لذلك الولد بأنه كافرٌ أصليُّ، فيُقال لك: أنت خبيرٌ أن كلامنا إنما هو في المنتسبين إلى الإِسلام الذين لا ترميهم بالكفر إلا لتلبُّسهم بتلك المحدثات التي تراها شركًا ويزعمون أنها مما أذن الله تعالى فيه، وتعلم أن هؤلاء القوم لا يميز الولد منهم إلا وقد تلقن الشهادتين وأحبَّ الإِسلام واغتبط به وعزم أن يدين به حتى يموت، فإن فرضت أنه في صغره محكوم له بالكفر الأصلي فإنه يسلم قبل أن يبلغ، وإذا بلغ استمرَّ على ذلك، وقد تقدَّم (¬1) أنه يكفي الكافر للدخول في الإِسلام والحكم له به ما هو أقلُّ من ذلك. فقد اتضح بحمد الله سبحانه أنه ما مِنْ منتسبٍ إلى الإِسلام ممن ترميه بالكفر لتلبُّسه بتلك المحدثات فقط إلا وقد ثبت له حكم الإِسلام، وهذا ما أردنا بيانه. فصلٌ مَن ثبت له حكم الإِسلام ثم أعلن عن نفسه أنه قد رغب عن الإِسلام وتركه فأمره واضحٌ، وهذه هي الردَّة المكشوفة. وأما مَن يدَّعى أنه مستمرٌّ على الإِسلام فإنه لا يُحْكَم عليه بالردَّة إلا بحجَّةٍ واضحةٍ؛ إذ الأصل بقاء ما كان على ما كان. وإذ كان كلامنا إنما هو في العبادة فالمثال الواضح فيها أن يصرِّح بأنه يتَّخذ مع الله إلهًا أو يعبد غيره على الحقيقة، [ز 40] وهذه الدرجة هي حال أهل الجاهليَّة كما تقدَّم، ويليها أن يتلبَّس بما هو تأليهٌ وعبادةٌ لغير ¬

_ (¬1) ص 151 فما بعدها.

الله تعالى مع قيام الحجَّة بأنه يعلم ذلك وإن لم يعترف به. هذا طرفٌ. ويقابله الطرف الذي يتَّضح فيه أن ما تلبَّس به مما صورته صورة التأليه والعبادة لغير الله تعالى ليس في نفس الأمر كذلك، أو أنه وإن كان في نفس الأمر كذلك فصاحبه معذور. أما الأول فبيانه متوقف على تحقيق معنى الإله والعبادة، وسيأتي إن شاء الله تعالى (¬1). وأما الثاني فينبغي لمن أراد التحقيق أن يستحضر أمورًا: الأوَّل: ما قدمناه في الأعذار (¬2). الثاني: قول الله تبارك وتعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [خواتيم البقرة]، {لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 233]، {لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [الأنعام: 152، والأعراف: 42، والمؤمنون: 62]، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7]. قال المحقِّق الشاطبيُّ: "قد ثبت في الأصول العلميَّة أن كلَّ قاعدةٍ كلِّيَّةٍ أو دليلٍ شرعيٍّ كلِّيٍّ إذا تكرَّرت في مواضع كثيرةٍ وأُتِيَ بها شواهدَ على معانٍ أصوليَّةٍ أو فروعيَّةٍ ولم يقترن بها تقييدٌ ولا تخصيصٌ مع تكرُّرِها وإعادة تقرُّرها فذلك دليلٌ على بقائها على مقتضى لفظها من العموم ... " (¬3). ¬

_ (¬1) ص 387 فما بعدها. (¬2) أواخر ص 132 فما بعدها. (¬3) الاعتصام 1/ 180. [المؤلف]

ويظهر من كلام ابن جرير في بعض المواضع محاولة تخصيصها، واحتجَّ بقوله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} [الإسراء: 48، والفرقان: 9] (¬1). أقول: في قوله: {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} أوجهٌ: أحدها: ما أشار إليه. الثاني: ما اختاره في آية الفرقان، قال: "يقول: فلا يجدون سبيلًا إلى الحقَّ إلاَّ فيما بعثتك به"، وروى نحوه عن ابن عبَّاسٍ (¬2). الثالث: فلا يستطيعون سبيلًا إلى ما حاولوه من الطعن في نُبُوَّتك. والسياق يقتضيه، وفي آثار السلف ما يوافقه. فعلى الوجهين الأخيرين لا كلام، وأما على الأوَّل فالآية كما يدلُّ عليه السياق والآثار إنما وردت في أفرادٍ عاندوا وتمرَّدوا فختم الله على قلوبهم، وسيأتي الكلام على ذلك. وقد تقدَّم في الأصل الأول (¬3) عن ابن جرير تأويله (¬4) قولَه تعالى: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 119]، ما ينفي قول الجبرية، وتقدَّم هناك (¬5) ما رواه عن السُّدِّيّ في تأويل قوله تعالى: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} ¬

_ (¬1) راجع تفسيره 2/ 283. [المؤلف] (¬2) راجع تفسيره 8/ 126. [المؤلف] (¬3) ص 63. (¬4) كذا في الأصل، ولعله سقط "عند" أو "في". (¬5) ص 61.

[الأعراف: 89]، وفيه: "فالله لا يشاء الشرك". وقد تقدَّم في الأصل الأوَّل (¬1) حكمة الخلق بما عُلِمَ به يقينًا أن الله تعالى لم يخلق الخلق عبثًا، ولا ليُعْنِتَهُم. وقال تعالى: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 108]، {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} [غافر: 31]، في آياتٍ كثيرةٍ ينفي الله تبارك وتعالى عن نفسه الظلم. وقد تقدَّم في هذا الأصل (¬2) كمال عدل الله سبحانه حتى إنه يوم القيامة لا يحكم بمجرد علمه، وفي الحديث القدسي: "يا عبادي إني حرَّمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم ... " إلى أن قال: "يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفِّيكم إيَّاها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه" (¬3). واختلف الناس في معنى الظلم الذي ينفيه الله تبارك وتعالى عن نفسه، فقال الجبريَّة ومَن تابعهم: هو "أن يتصرَّف في غير ملكه" (¬4). قال عبد الرحمن: مَن نظر إلى كثرة الآيات في القرآن وتدبَّرها اتَّضح له بطلان هذا التفسير، وعليك أن تعتبر ذلك بأن تجعل التفسير مكان المفسَّر في الآيات كأن تجعل مكان قوله في الآيتين السابقتين "ظلمًا" قولك: ¬

_ (¬1) ص 58 فما بعدها. (¬2) ص 64. (¬3) صحيح مسلمٍ، كتاب البرِّ والصلة، باب تحريم الظلم، 8/ 16، ح 2577. [المؤلف] (¬4) التبصير في الدين للإسفراييني 169، والذين اتبعوا الجبريَّة هم الأشاعرة, انظر: شفاء العليل، الباب 16، ص 241.

"تصرفًا في غير ملكه" وانظر كيف يصير الكلام، وراجع ما قدَّمناه في كمال عدل الله تعالى يوم القيامة. وقال غيرهم: هو: "أن ينقص عبده من حاقِّ ثوابه أو يعذبه بغير ذنب" (¬1)، قالوا: وما يُشَاهَدُ في الدنيا من إيلام الأطفال والمعتوهين والبهائم، فكل ذلك مطابق لحكمة الله عزَّ وجلَّ وعدله، فإن لم نعرف وَجْهَ ذلك في بعضها فعدم العلم ليس علمًا بالعدم {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85]. وغلت القدرية وتجارت بها أهواؤها حتى جحدت علم الله تعالى بالحوادث قبل حدوثها (¬2)، وربما ضاق الأمر على بعضها فأنكر آيات من القرآن كما سلف عن عمرو بن عبيد (¬3)، وأحجمت المعتزلة عن هذا الغلوِّ ولكنها تطرَّفت من جهاتٍ: منها: قولهم: إن العقل يحكم بأن الظلم قبيحٌ محرَّمٌ على الله تعالى، ويحكم بأنه سبحانه ليس له أن يتصرَّف في ملكه إلا بالعدل (¬4)، وغير ذلك ¬

_ (¬1) وهو قول أهل السنَّة، انظر: شرح الطحاويَّة 2/ 679 - 681، وقد قال ابن عباس في قوله تعالى: {فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} قال: لا يخاف ابن آدم يوم القيامة أن يُظْلَم فيُزاد عليه في سيئاته، ولا يُظْلَم فيُهْضَم في حسناته. أخرجه الطبريُّ في تفسيره (18/ 379) من طريق علي بن أبي طلحة عنه. وورد نحوه عن مجاهد وقتادة والحسن. انظر: تفسير الطبري (18/ 380)، الدُّرّ المنثور 5/ 601. (¬2) انظر: مجموع الفتاوى 8/ 450، شفاء العليل، الباب 21، ص 393. (¬3) ص 29، 32. (¬4) انظر: مجموع الفتاوى 8/ 91.

من الألفاظ التي يتبادر [ز 41] إلى الفهم منها أنهم يزعمون أن العقل حاكمٌ على الله عزَّ وجلَّ يوجب عليه ويحرَّم ويسأله عمَّا يفعل ويناقشه الحساب. وأهل الحقِّ أغنياء عن تلك المقالات بما تقدَّم في الحديث القدسيِّ "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي" إلى قوله: "فمن وجد خيرًا فليحمد الله" (¬1). ومنها: تحريف الآيات الواردة في القضاء والقدر، وردّ الأحاديث الثابتة في ذلك. وعارضهم المُجْبِرة فادَّعوا صراحتها في الجبر، وآل بهم الأمر إلى أن حرَّفوا أضعاف أضعافها من الآيات والأحاديث وجحدوا حكمة الله وعدله، وسمّوا الحكمة غرضًا والعبث اختيارًا والعدلَ عجزًا، وجعلوا خلق الله تعالى وأمره كله لهوًا ولعبًا (¬2)، بل شرًّا من ذلك؛ فإنَّ اللاهي واللاعب له فائدةٌ مَّا مِنْ لهوه ولعبه. وأهل الحقِّ أغنياء عن ذلك كلَّه بقول النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فقدموا عنه" (¬3). وما صحَّ عن عبد الله بن عمرٍو قال: هجَّرت إلى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يومًا، قال: فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية فخرج علينا رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يُعْرَفُ في وجهه الغضب فقال: "إنما ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه قبل قليل. (¬2) انظر: شفاء العليل، الباب 22، ص 435 فما بعدها. (¬3) صحيح البخاريَّ، آخر كتاب فضائل القرآن، [بابٌ: "اقرأوا القرآن ما ائتلفت قلوبكم"]، 6/ 198، ح 5060. صحيح مسلمٍ، أوائل كتاب العلم، [باب النهي عن اتَّباع متشابه القرآن]، 8/ 57، ح 2667. [المؤلف]

هلك مَنْ كان قبلكم باختلافهم في الكتاب" (¬1). وتلك الآية التي اختلفا فيها كانت متعلقة بالقدر، فقد أخرج ابن ماجه بسندٍ صحيحٍ عن عمرو بن شُعَيبٍ عن أبيه عن جدِّه، وجدُّه هو عبد الله بن عمروٍ قال: خرج رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم على أصحابه وهم يختصمون في القدر فكأنما يُفْقَأُ في وجهه حَبُّ الرُّمَّان من الغضب، فقال: "بهذا أُمرتم أو لهذا خُلقتم؟ تضربون القرآن بعضه ببعض، بهذا هلكت الأمم قبلكم" (¬2). فهم يقبلون كلَّ ما ثبت عن الله ورسوله، ويأخذون بالواضح معناه من ذلك ويتفهَّمون ما عداه، فإذا فهموا نظروا فإن كان إظهار ذلك مما تدعو إليه ضرورةٌ أو لا تترتَّب عليه مفسدةٌ أظهروه، وإن لم يروا لإظهاره ضرورة وخافوا من إظهاره اختلافًا وافتراقًا في الدين وسعهم السكوت. وقد كان كلام الراسخين في العلم من السلف مجملًا تبعًا لإجمال الكتاب والسنة، وكانوا ينكرون على من حدث من القدرية وجرَّه هواه إلى ما جرَّه كما تقدَّم، فربَّما كان في إنكارهم ما يوهم طرفًا من الجبر، فأراد إمام التابعين الحسن البصريُّ رحمه الله تعالى أن يشرح الأمر، فلامه أهل العلم؛ لأنهم - والله أعلم - خافوا أن يكون في ذلك تقويةٌ مَّا لبدعة القدريَّة مما يجرُّ كثيرًا من الناس إلى مقالتهم، وفوق ذلك رأوا أن في الشرح والتفسير مخالفةً لصنيع الكتاب والسنَّة من الإجمال، وأنه ربَّما أَدَّى إلى الاختلاف والافتراق في الدين، فكَفَّ رحمه الله تعالى عن ذلك. ¬

_ (¬1) صحيح مسلم، أوائل كتاب العلم، [باب النهي عن اتَّباع متشابه القرآن]، 8/ 57، ح 2666. [المؤلف] (¬2) سنن ابن ماجه، في أوائله، بابٌ في القدر، 1/ 33، ح 85. [المؤلف]

ثم صار الناس يقولون في كلِّ من شَمُّوا منه رائحة الميل إلى الشرح والتفسير: "كان يرى القدر"، قالوا ذلك في الحسن البصريِّ وقتادة وسعيد بن أبي عروبة وابن أبي ذئبٍ - الذي قال فيه أحمد بن حنبلٍ: "ابن أبي ذئبٍ أصلح في بدنه وأورع وأقوم بالحقَّ من مالكٍ" (¬1) -، وكذلك قالوا في ابن إسحاق وعبد الوارث بن سعيدٍ وحسَّان بن عطيَّة في خلقٍ كثيرٍ. ولم يكن هؤلاء الأعلام من القدريَّة الذين عُرِفَ عنهم الغلوُّ ولا يقولون مقالات المعتزلة، ولا كان المنكرون عليهم الذين ينسبونهم إلى القدر جبريَّةً، حاشاهم، وإنما الفرق بين الفريقين أن هؤلاء مالوا إلى إظهار شيءٍ من الشرح والتفسير، وهؤلاء يرون أن الصواب أن لا يُظْهَرَ إلا الإجمالُ كما جاءت به السنَّة. ولكن بعد أن ظهرت بدعة الجبريَّة وجَرَّتْ إلى ما جَرَّتْ إليه كما تقدَّم حَقَّ على أهل العلم أن ينكروا عليهم وينزِّهوا السلف الصالح عن بدعتهم، فذلك الذي دعاني إلى بيان ما سمعتَ، وأسأل الله التوفيق. وإن لم يفهموا (¬2) عملوا بما أمرهم الله تعالى به في قوله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ [ز 42] مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 7 - 8]. واعلم أن الذي استقرَّ عليه قول علماء الأصول من الأشعريَّة وغيرهم منع التكليف بما ليس في الوُسْعِ، ويسمُّونه التكليف بالمحال والتكليف بما ¬

_ (¬1) المعرفة والتاريخ 1/ 686، وفي تاريخ بغداد 2/ 302: أصلح في دينه. (¬2) معطوف على قوله في الصفحة السابقة: فإذا فهموا نظروا ...

لا يُطاق، وإنما يستثنون صورةً واحدةً هي ما عَلِمَ الله تعالى أنه لا يكون، قالوا: قد علم الله تعالى أن أبا جهلٍ لا يؤمن؛ فإيمانه محالٌ، ومع ذلك كان مكلَّفًا بالإيمان (¬1). قال عبد الرحمن: هذه الصورة لا يُحْتَاج إلى استثنائها من قول الله عزَّ وجلَّ: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}، ولا من قولهم: لا يكلِّف الله تعالى أحدًا بما لا يطيق؛ لأن علم الله تعالى بعدم إيمان أبي جهلٍ لا ينافي أنه كان في وسعه الإيمان وأنه كان يطيقه ويقدر عليه (¬2)، ألا ترى أنك تقول: لم أفعل كذا وكان في وسعي أن أفعله أو وكنت أطيقه أو وكنت أقدر على فعله. ولو ضرب رجلٌ ابنك وأنت غائب فلما حضرت قلت له: لو كُنْتُ حاضرًا ما قَدَرْتَ على ضربه، فقال: لم يكن في وسع أحد ولا قدرته حتى رب العالمين (على) (¬3) منعي من ضربه، لبادَرَ الناس بحقٍّ إلى تكفيره. ومع نصهم أنه لا يستثنى إلا هذه الصورة البعيدة ففي كلامهم ما يُشْعِرُ باستثناء أخرى هي التي جَرَّتْنا إلى هذا البحث. قال العضد في مواقفه في الكلام على خلود الكفَّار في النار: "قال الجاحظ والعنبريُّ: هذا في الكافر المعاند (¬4)، وأما البالغ في اجتهاده إذا لم يهتد للإسلام ولم تَلُحْ له دلائل الحق فمعذورٌ، وكيف يُكَلَّف بما ليس في ¬

_ (¬1) قال في تشنيف المسامع بجمع الجوامع 1/ 281 بعد ذكره القول بامتناع تكليف ما لا يطاق ونسبته إلى المعتزلة: "وساعدهم كثير من أئمتنا". (¬2) انظر: شرح العقيدة الطحاوية 2/ 674. (¬3) كذا في الأصل. (¬4) زاد السيِّد في شرحه "والمقصِّر"، وسياق المتن يدلُّ عليه. ع. [المؤلف]

وسعه ويعذَّب بما لم يقع فيه تقصيرٌ من قِبَله" (¬1). وحكى عياضٌ في الشفاء نحوه عن داود إمام أهل الظاهر وثمامة (¬2)، قال: "وقد نحا الغزاليُّ قريبًا من هذا المنحى في كتاب التفرقة (¬3)، وقائل هذا كلِّه كافرٌ بالإجماع على كفر من لم يكِّفر أحدًا من النصارى واليهود وكلَّ مَن فارق دين المسلمين أو وقف أو شكَّ" (¬4). قال عبد الرحمن: في نظم عبارة عياضٍ ما فيه على أنه لم يحك عن العنبري ولا عن أحد ممن ذكر معه أنه لا يُكَفِّر أحدًا ممن لم يلتزم الإِسلام من النصارى وغيرهم، بل ولا أنه إنما يكفر بعضهم دون بعض، ولا أنه يقول بعذرهم جميعًا. وأما القول بعذر بعضهم (¬5) فهو في الجملة حق، والعذر لا يستلزم عدم الكفر كما أن الكفر لا يستلزم عدم العذر، ألا ترانا نقول بعذر صبيان الكفار ومجانينهم مع قولنا بكفرهم، وحُكْمِنا عليهم حُكْمَ الكفار في ¬

_ (¬1) المواقف: موقف 6، مرصد 2، مقصد 6، مبحث 8. 2/ 308 [المؤلف] (¬2) هو ثمامة بن أشرس النميري أحد معتزلة البصرة, كان له اتصال بالمأمون، وتنسب إليه الثمامية من المعتزلة، هلك سنة 213 هـ. انظر: تاريخ بغداد 7/ 147، الأعلام 2/ 100. (¬3) فيصل التفرقة 87. (¬4) الشفاء، في أواخره، فصلٌ في تحقيق القول في إكفار المتأوِّلين [2/ 280 - 281]. [المؤلف]. (¬5) كالذين لم يسمعوا بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فهم كفَّارٌ، ولكن لا يعذَّب إلا مَن بلغته بعثة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثم لم يؤمن به، فالمقصود بعذرهم عدم التعذيب في الآخرة لا نفي الكفر عنهم كما سيبيِّنه المؤلِّف بعد قليلِ. وقال شيخ الإِسلام ابن تيمية: (والنصوص الدالة على أن الله لا يعذب إلا بعد الرسالة كثيرةٌ تردُّ على مَن قال من أهل التحسين والتقبيح: إن الخلق يعذبون في الأرض بدون رسول أرسل إليهم) مجموع الفتاوى 8/ 435.

المناكحة والتوريث والدية والكفارة وما يصنع بالميت وغير ذلك؟ وفي المواقف عَقِبَ ما مرَّ: "واعلم أن الكتاب والسنّة والإجماع يُبْطِلُ ذلك، إذ يعلم قطعًا أن كفار عهد الرسول الذين قتلوا وحكم بخلودهم في النار لم يكونوا عن آخرهم معاندين، بل منهم من يعتقد الكفر بعد بذل المجهود، ومنهم من بقي على الشكِّ بعد إفراغ الوسع لكن ختم الله على قلوبهم ولم يشرح صدورهم للإسلام، ولم يُنْقَلْ عن أحدٍ قبلَ المخالفين هذا الفرقُ" (¬1). قال عبد الرحمن: إن كان مراده بدلالة الكتاب والسنة والإجماع ما فيها من أن الكفار مُخَلَّدُون في العذاب فقد بيَّنتها الحجج الدالَّة على أن الله تعالى لا يعذب حتى يقيم الحجة، ولا يكلف نفسًا إلا وسعها، وغير ذلك مما سلف، [ز 43] فإما أن يكون المراد بالكفر في أدلَّة التعذيب كفرًا خاصًّا هو الكفر الحقيقيُّ فلا يدخل فيها الكفر الحكميُّ، كالكفر المحكوم به على صبيان الكفار ومجانينهم وسائر المعذورين، وإما أن تكون (¬2) من العامِّ المراد به الخصوص أو العامِّ المخصوص، وأدلَّةُ العذر صريحةٌ محكمةٌ فلا بدَّ من حمل ما يوهم خلافها على ما يوافقها. وإن كان مراده أن الكتاب والسنة والإجماع تدلُّ على أن مَنْ قُتِلَ في عهد النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم من الكفار مُخَلَّدُون جميعهم في النار، فالجواب أن ما كان فيها من دلالة خاصة كما ورد في أبي جهل وأصحاب القليب قليب بدر، فمحمولٌ على أنهم كانوا معاندين أو مقصِّرين، والآثار تدلُّ على ذلك. وما كان فيها من دلالة عامَّة فقد يُقال: تُبَيِّنُها حُجَجُ العذر ¬

_ (¬1) المواقف 8/ 308. (¬2) أي: أدلة التعذيب.

على ما سمعت آنفًا، ويزاد على ذلك احتمال أن يكون ما في السنَّة والإجماع مَبْنِيًّا على الظاهر أن مَن أصرَّ على الكفر بعد بلوغ الدعوة وطول الإنذار مع ظهور حجج الحق وضعف شبهات الكفار فهو إما معاندٌ أو مقصِّرٌ. وقول العضد: "إذ يُعْلَمُ قطعًا إلخ" مردودٌ عليه، بل لنا أن نقول: المعلوم خلافه، ولنا على ذلك حجج: منها: ما أسلفنا أنهم كانوا قائمة عليهم الحجة قبل البعثة لتقصيرهم، فما ظنك بهم بعدها؟ ومنها: ما أسلفناه (¬1) فيما يلزم مَنْ بلغه بعثة نبيٍّ. ومنها: أن شبهات الكفار كانت ضعيفةً، مَنْ تأمَّلَهَا عَرَفَ أنه لا يتفكر فيها عاقل إلا بان له بطلانها أو ضعفها، فَمَنْ لم يكن منهم تفكَّر فيها قبل البعثة فلا ريب أن خبر البعثة يدعوه إلى التفكُّر فيها، فإن لم يفعل فهو مقصِّرٌ؛ وإن تفكَّر فلا بدَّ أن يظهر له ضعفها إلا أن يُقَصِّر في النظر لما غلب عليه من الغرام بما أَلِفَ واعتاد وأدرك عليه الآباء والأجداد فهو مقصِّرٌ. ومَن نظر ولم يقصِّر ظهر له ضعفها فلا بدَّ أن يرجو أن يجد عند النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ما هو خير منها. هذا إن لم يبلغه هنا ما يورث علمًا أو ظنًّا بصدقه، فإن لم يَسْعَ ليعرف ما عند النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فهو مقصِّر، وإن تعرَّض لمعرفتها ولكن هواه وغرامه بما كان عليه هو وآباؤه واستكباره عن أن يقبل الحق حالت بينه وبين أن ينظر حق النظر فهو معاندٌ مقصِّرٌ أخذ من كلًّ منهما طرفًا. وإن نظر مخلصًا للحق راغبًا فيه حريصًا على إصابته فإننا بما نعلم من ظهور حجج الحق وَوَهَنِ شبهات الشرك نعلم أنه لا بدَّ أن يتبيَّن له صدقُ الرسول أو على الأقلِّ يتبين له أنَّ ما يدعو إليه الرسول خيرٌ من الكفر، فإن لم ¬

_ (¬1) ص 128.

يتَّبعه فهو معاندٌ أو معاندٌ ومقصِّرٌ معًا. هذا وقد مكث النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قبل القتال نحو خمس عشرة سنةً يدعو الناس ويعرض نفسه عليهم، واتَّبعه على ذلك مَنْ اتَّبعه، حتى اتَّبعه الأنصار وهم مِنْ أقرب الناس إلى معرفة الدِّين لمجاورتهم أهلَ الكتاب. بل واتبعه بعض علماء أهل الكتاب كعبد الله بن سلام، وشاع عنه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قبل النبوَّة ما شاع من شرف المحتد وكرم الأخلاق وغير ذلك، ثم شاع عنه بعد النبوَّة ما يدعو إليه من تعظيم الله عزَّ وجلَّ والأمر بالعدل والإحسان وصلة الرحم والنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي، وشاع عنه أشياء من المعجزات وغير ذلك. فَمَنْ أصرّ من الكفار بعد ذلك كلِّه على الكفر وغضب له فقاتل عليه حتى قُتِل فلا يكون إلا معاندًا أو مقصّرًا، وحسبك في عنادهم قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26]. وقد أوضح الله تبارك وتعالى حال الكفار الذين يستحقُّون النار بقوله سبحانه: {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا [ز44] أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)} [خواتيم الجاثية]. وقال عزَّ وجلَّ: {وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا

فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)} [الملك: 6 - 11]. ومن الحجج: أننا قد علمنا من النصوص القاطعة التي تقدَّم بعضها أن الله تبارك وتعالى لا يعذب إلا معاندًا أو مقصِّرًا، فإذا ثبت بحجة واضحة أن كلَّ مَنْ قُتِلَ مِنَ الكفار في عهد النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يُعَذَّبون عَلِمْنَا أنهم كانوا بين معانِدٍ ومقصَّرٍ. ومنها: قول الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [خواتيم العنكبوت]. السورة مكَّيَّةٌ كما نصُّوا عليه (¬1) ونقلوه عن ابن عبَّاسٍ (¬2) وابن الزُّبير (¬3) ¬

_ (¬1) انظر: تفسير الكشَّاف 3/ 182، وأنوار التنزيل 524، وتفسير النسفي 3/ 360، وتفسير الجلالين 407، وتفسير أبي السعود 7/ 29. وحكى الخلاف في ذلك ابن الجوزي في زاد المسير 6/ 253، وأبو المظفر السمعاني في تفسيره 4/ 165، والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن 16/ 333، والآلوسي في روح المعاني 20/ 132، والشوكاني في فتح القدير 4/ 191. ولا يخفى رجحان القول بمكِّيَّة السورة لثبوت ذلك عن ابن عبَّاسٍ كما سيأتي. (¬2) أخرجه النحَّاس في الناسخ والمنسوخ 2/ 316، ح 465، من طريق مجاهدٍ عنه بسندٍ حسنٍ. (¬3) رواه ابن مردويه كما في الدُّرِّ المنثور 6/ 449.

وجماعة من التابعين (¬1)، وتَدَبُّرها يقضي بذلك، واستثنى بعضهم آيات من أوائلها وأثنائها (¬2)، فعلى كلِّ حال هاتان الآياتان مَكِّيَّتَان، والقتال إنما شُرِعَ بالمدينة. وتفسير (جاهدوا) بـ (قاتلوا) يُخِلُّ بحُسْن الكلام وبديع نظمه، بل الذي يقتضيه النظم أن يكون المراد بالجهاد هنا هو دفاع الهوى والشبهات. لمّا قضى في الآية الأولى بهلاك مَنْ افترى على الله كذبًا أوكذَّب بالحق لما جاءه، وكِلا هذين مما يدعو إليه الهوى والشبهات، فقابل ذلك في الآية الثانية بمن جاهد الهوى والشبهات في سبيل الحقِّ فرارًا من الافتراء والتكذيب، وتكفَّل الله سبحانه وتعالى لمن فعل ذلك أن يهديه سبله. والله أعلم. وقد اعترف العضد بأن مِن قَتْلىَ الكفار مَن كان معاندًا ومَن كان مقصِّرًا، ثم زعم أن فيهم مَن بذل المجهود واستفرغ الوسع فبقي معتقدًا للكفر أو على الشكِّ (¬3). ومعلوم أنَّ مَنْ نظر وهو مستكبرٌ عن الحق متعصِّبٌ لما أَلِفَهُ وأدرك عليه سلفه فلم يبذل المجهود ولا استفرغ الوسع. وعليه فالمدَّعى أنَّ منهم مَنْ بذل المجهود واستفرغ الوسع راغبًا في الحق حريصًا على إصابته، فنقول: صاحب هذه الصفة مجتهد ليعرف الحق عند الله فيتبعه، فهو مجاهد في الله وهو آتٍ بما أوجبه الله عليه، فهو محسن، ومن كان كذلك فلا بدَّ أن ¬

_ (¬1) منهم: عكرمة والحسن البصري. أخرجه البيهقي في دلائل النبوَّة، باب ذكر السور التي نزلت بمكَّة والتي نزلت بالمدينة، 7/ 143، من طريق يزيد النحويِّ عنهما بسندٍ حسنٍ. ومنهم: قتادة. أخرجه ابن الأنباري كما في الإتقان 1/ 57. (¬2) انظر: الإتقان في علوم القرآن 1/ 95 - 96. (¬3) انظر شرح المواقف 8/ 207 - 208.

يهديه الله تعالى كما صرحت به الآية. ومن قُتِلَ كافرًا فلم يهده الله تعالى، فلم يكن مجاهدًا محسنًا، فلم يكن ممن بذل مجهوده واستفرغ وسعه راغبًا في الحق حريصًا على إصابته، فانكسر ساعد العضد واتَّضح أن قوله "إذ يُعْلَمُ قطعًا إلخ" دعوى باطلة. أما قول العضد: "ولكن ختم الله على قلوبهم ولم يشرح صدورهم للإسلام"، فهذه مسألة القدر وقد تقدَّم طرفٌ منها، ويكفينا هنا أن نقول: قال الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [خواتيم العنكبوت]. بيَّنت هذه الآية وآياتٌ أخرى في معناها أن الله تعالى إنما يُضِلُّ مَنْ سَبَقَ منه ما يستحقُّ به العذاب، وآية الختم نفسها تدلُّ على هذا، قال تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ *الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}، إلى أن قال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ [ز 45] لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 1 - 7]؛ فأخبر بسبق كفرهم. وقوله: {لَا يُؤْمِنُونَ} مما يُسْتَشْكَل؛ لأن كثيرًا من الكفار نفعهم الإنذار فآمنوا. وحَلُّه فيما يظهر لي: أن المراد بالكفر في قوله {كَفَرُوا} كفرٌ خاصٌّ هو أشدُّ أنواع الكفر وهو ما يكون عن عنادٍ واستكبارٍ وتمرُّدٍ شديدٍ. وما روي عن بعض السلف أن المراد أحبار يهود الذين علموا أن محمَّدًا رسول الله، ثم جحدوا وأصرُّوا على الجحود، وعن بعضهم أن

المراد جبابرة المشركين الذين أُلْقُوا في قليب بدر لا يخالف ما ظهر لي؛ فإن كثيرًا من تفاسير السلف يخرج مخرج التمثيل كما نبَّه عليه أهل العلم (¬1). هذا، وسياق الآية يدلُّ أن الختم وما معه ضربٌ من العقاب، ولهذا عطف عليها قوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}. وفي روح المعاني: "إسناد الختم إليه عزَّ وجلَّ باعتبار الخلق، والذمُّ والتشنيع الذي تشير إليه الآية باعتبار كون ذلك مسبَّبًا عما كسبه الكفار من المعاصي كما يدل عليه قوله تعالى: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء: 155]، وإلا أشكل التشنيع والذمُّ على ما ليس فعلهم. هكذا قاله مفسرو أهل السنة عن آخرهم فيما أعلم" (¬2). وأما آية الشرح فهي قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} إلى قوله: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 124 - 125]. ففي الآية الأولى مثالٌ مِنْ عنادهم، وفي الآية الثانية أن الإضلال ¬

_ (¬1) انظر: مقدِّمة في أصول التفسير 43، إذ تبيِّن أن غالب ما يثبت عن السلف من الخلاف في التفسير هو اختلاف تنوُّع، وهو نوعان، أحدهما: أن يعبِّر كلٌّ منهم عن المراد بعبارةٍ غيرِ عبارة صاحبه تدلُّ على معنىً في المسمَّى غيرِ المعنى الآخر مع اتَّحاد المسمَّى. والنوع الثاني: أن يذكر كلٌّ منهم من الاسم العامِّ بعض أنواعه على سبيل التمثيل. (¬2) روح المعاني 1/ 132.

وتحريج الصدر إنما يجعله الله تعالى على الذين لا يؤمنون. وقد قصَّ الله تعالى دعاء موسى وهارون على فرعون وملئه، وفيه: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} [يونس: 88 - 89] لمَّا عَلِمَا عناد فرعون وملئه - كما قال تعالى بعد ذكر ما أراهم من الآيات: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14]- عَلِمَا أنهم قد استحقُّوا العذاب الأليم وأحبَّا أن ينالهم البتَّة. فالختم والشَّدُّ على القلب عقوبةٌ يعجِّلها الله عزَّ وجلَّ لمن كفر واستكبر وعاند وتمرَّد. فإن قيل: فالمختوم على قلبه هل يبقى مكلَّفًا؟ قلت: نعم، أمَّا بترك الأقوال والأفعال التي هي فجورٌ أو كفرٌ فظاهرٌ؛ إذ الختم على القلب لا يمنع مِن تركها، وأمَّا بأصل الإيمان فللتكليف أثران: الدعوة والمؤاخذة، فالدعوة قد يقال: لا فائدة لها؛ إذ قد عُلِمَ أنه لا يؤمن ولم يقع الختم حتى قامت الحجة على أَتَمِّ ما يكون، وقد قال الله تعالى لرسوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا} [النجم: 29] في وقت الصعق والجنون والختم على القلب. [ز 46] وقال سبحانه: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [خاتمة سورة ق]، وقال تبارك وتعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى: 9]. وقد يقال: دلالة هذه الآيات غير واضحة ولا يخلو تجديد الدَّعوة عن فائدةٍ، والله أعلم.

وأمَّا المؤاخذة فهو مؤاخَذٌ على أقواله وأفعاله كما علمْتَ، وعلى عدم الإيمان؛ إذ المانع عن الإيمان ليس هو الختم فحسب بل الهوى وبغض الحق والاستكبار الذي منعه قبل الختم باقٍ وهو بعد الختم المانعُ في الظاهر، وهو مانعٌ آخر في الباطن. فمؤاخذته بالنظر إلى هذا المانع لا إشكال فيها وإنما هو كمن كان ممتنعًا عن أداء الزكاة بُخْلًا ثم عرض له ذو سطوة فَوَكَّلَ به مَنْ يلازمه قائلًا: إن أدَّيت الزكاة قتلتك، فما دام المانع الذي في نفسه وهو البخل قائمًا فهو آثم ولا ينفعه وجود المانع الآخر وهو الإكراه. ومع ذلك فإن مانعيَّةَ الختم هي أثر الختم، والختم أثر عناده الذي كان باختياره. واختيارُ الأمر المنهيِّ عنه يُعَدُّ اختيارًا لما يترتَّب عليه من المفاسد ولو مع الجهل والعجز؛ فإن الله تبارك وتعالى إذا نهى عن أمرٍ عُلم أنه يترتَّب عليه مفاسد إن عَرَف الإنسان بعضها خفي عنه بعضها، وإنما يحيط بها الحكيم العليم جَلَّ وعلا، فإذا اختاره الإنسان كان مختارًا لكلِّ ما يترتب عليه من المفاسد على وجه الإجمال. قال الله تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل: 25]. وقصَّ سبحانه قصَّة قتل ابن آدم أخاه، ثم قال: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32]. وفي الحديث: " ... ومَنْ سنَّ في الإِسلام سنّةً سيِّئَةً فَعُمِلَ بها بعده كُتِب عليه مثلُ وِزر مَن عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيءٌ" (¬1). ¬

_ (¬1) صحيح مسلمٍ، كتاب العلم، باب مَن سنَّ سنَّةً إلخ، 8/ 61، ح 1017. [المؤلف]

ورواه غيره بلفظ: " ... ومَنْ سنَّ سنَّةً سيِّئَةً فَعُمِلَ بها كان عليه وزرها ووزر من عمل بها لا ينقص من أوزارهم شيئًا" (¬1). وقوله في الرواية الأولي: "في الإِسلام" ليس بقيدٍ، وإنما فائدته - والله أعلم - التنصيص؛ لئلا يتوهَّم أن هذا الحكم خاصٌّ بمن قبلنا وأنه من الإصر المرفوع عنا، فتدبَّرْ. وفي الحديث: "لا تُقتل نفسٌ ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كِفْلٌ من دمها؛ لأنه كان أوَّلَ مَن سَنَّ القتل" (¬2). وليس هذا من التكليف بما لا يُطاق، وإنما هو أثر التكليف بالأمر الأوَّل. فالإنسان منهيٌّ عن الإحداث في الدين، قائمةٌ عليه الحجَّة بأن الله عزَّ وجلَّ إذا نهى عن شيءٍ فإنه تترتَّب عليه مفاسد لا يحيط بعلمها إلا هو، فإذا أقدم على الإحداث فقد اختار كلَّ ما يترتَّب عليه كما مرَّ. وعقوبة الذنب على مقدار ما تحقَّق من شرِّه، فكلَّما عَمِل عاملٌ بتلك المحدثة تحقَّق لإحداث المُحْدِث الأوَّل شرٌّ جديد، فلا تزال تضاعف عليه العقوبة بمقدار ما يتضاعفُ من الشَّرِّ والعياذ بالله. هذا، وقد قال أهل العلم: إن المتعدِّيَ بسُكْرِه مؤاخَذٌ بما يقع منه وهو سَكْران (¬3). والعقل لا ينكر هذا، ألا ترى لو أن ثلاثة نفرٍ سَكِرُوا؛ أما أحدهم ¬

_ (¬1) سنن ابن ماجه، باب مَن سنَّ سنَّةً إلخ، 1/ 74، ح 203. [المؤلف] (¬2) صحيح مسلمٍ، كتاب القسامة، باب بيان إثم مَن سنَّ القتل، 5/ 106، ح 1677. صحيح البخاريِّ، كتاب الاعتصام [بالكتاب والسنَّة]، باب إثم مَن دعا إلى ضلالةٍ أو سنَّ سنَّةً سيِّئةً، 9/ 103، ح 7321. [المؤلف] (¬3) انظر: الأم للشافعي 6/ 646، والأشباه والنظائر للسيوطي 216.

فسقاه الطبيب دواءً لا يدري أنه مسكرٌ، وأما الآخران فتعمَّدا شرب [ز 47] الخمر. فأما الأوَّل فاشتدَّ به السكر وعَرْبَد حتى وقع على أخته وقتل أمَّه وكذلك وقع لأحد المتعمِّدين. وأما الثالث فضُبِطَ وأُغْلق عليه بيت حتى أفاق، أفلا ترى أن جُرْم الثالث في صدور الناس دون جرم الثاني بكثيرٍ، وأما الأوَّل فلا يرون له جرمًا، وإن نَفَرَتْ منه الطباع عَذَرَتْهُ العقول. ولو أنَّ ثلاثة نفر عَمَد كلٌّ منهم إلى رجلٍ مصوِّبًا بندقيته إليه ورماه عامدًا لقتله، فأخطأ أحدهم، وأصاب الثاني فجرح، وأصاب الثالث فقتل، لكانت أجرامهم متفاوتةً في حكم الله عزَّ وجلَّ وفي عقول الناس مع أن أصل فعلهم الذي وقع بأصل اختيارهم واحدٌ. بقي قول العضد: "ولم يُنْقَلْ عن أحد قبل المخالفين هذا الفرقُ"، وقد يجاب بمنع عدم النقل، كيف وقد نقل القول بمنع التكليف بما لا يطاق، وهذه المسألة من فروعه وإن لم تُنْقَلْ بخصوصها. ولعلَّهم إنما سكتوا عنها لأنه لا يُعْلَم صدق اليهودي مثلًا في قوله: "قد تدبَّرتُ حجج الإِسلام وبذلتُ المجهود واستفرغتُ الوُسْع راغبًا في الحقِّ حريصًا على اتِّباعه فتبيَّن لي بطلان الإِسلام". ولم يُفَرِّق الشرعُ بين مَن يَدَّعي هذه الدعوى وغيره من الكفَّار المصرِّحين، فرأوا أن البحث في نجاته في الآخرة إن صدق بحثٌ قليل الجدوى وتنشأ عنه مفاسد لا تحصى. قال عبد الرحمن: الصواب ما قدَّمته أن حجج الإِسلام واضحةٌ، وشبهات الكفر واهيةٌ، وقد تكفَّل الله تعالى لمن جاهد فيه محسنًا أن يهديه ويكون معه، فإطلاق السلف أن كلَّ مَن بلغته الدعوة وأمكنه النظر فلم يُسْلِمْ هالكٌ، حقٌّ واضحٌ؛ فإن مَن كان كذلك لا يكون إلا مُقَصِّرًا أو معاندًا. ومَن

قال: "إن مَن استوفى مجهوده مخلصًا للحقِّ فظهر له أن الحقَّ في غير الإِسلام فلم يُسْلِمْ فهو معذور عند الله تعالى"، فليس في هذا القول شناعة ولا مخالفة للسلف إلا في تَوَهُّمِ الإمكان. فأمَّا مَنْ قال بالإمكان أو قضى بالوقوع كما صنع العضد ثم قضى بعدم العذر فهو المخطئ. والله المستعان. فإن قال قائلٌ: إن آية الجهاد على ما فسَّرْتهَا به تَسُدُّ باب الأعذار كلِّها لحَصْرها الأقسام في مهديٍّ ومعاندٍ ومقِّصرٍ، والمهديُّ مصيبٌ والمقصِّرُ لا يستحقُّ العذر. فعن هذا أجوبةٌ: أخصرها: أن قوله تعالى: {سُبُلَنَا} المراد بها سبل النجاة عنده سبحانه، كما قال سبحانه في صفة القرآن: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 16]، والسَّلام هو السَّلامة كما نصَّ عليه أهل التفسير (¬1). ومما يبيِّن ما قلناه جمعُ السبل في الآيتين، وسبيل الحقِّ في نفس الأمر واحدٌ، قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]. فللحقِّ في نفس الأمر سبيلٌ واحدٌ، وللنجاة والسلامة سبلٌ، أوَّلها: سبيل الحقِّ في نفس الأمر وهو المتعين بالنظر إلى أصل الدين في حقِّ المكلَّف الذي بلغته الدعوة، قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]. ¬

_ (¬1) انظر الجامع لأحكام القرآن 7/ 386، تفسير القرآن العظيم 3/ 63.

وثانيها: سبيل بَذْلِ الوسع. وثالثها: سبيل الإتيان بما كُلِّفَ به من البحث وهو دون الوسع. وهذا قد يكون مع حرمة الاستقصاء أو كراهيته أو إباحته أو استحبابه، كالقاضي يتَّجِه له الحكم بدليلٍ ظنِّيٍّ فيحرم عليه أن يقول: لا أقضي حتى أراسل علماء الأرض كلَّهم، فلعلَّ عند بعضهم دليلًا يخالف ما ظهر لي، ويُكْرَه له التأخير حتى يُسَائِلَ علماء البلدان القريبة، وقد يُباح له أن يؤخِّر حتى يُسائِل علماء البلد إذا كانت القضيَّة متوسِّطةً، ويُستحبُّ له إذا كانت كبيرةً كالقتل. ويمكن تعداد سبلٍ أخرى، وفيما ذُكِرَ كفايةٌ إن شاء الله تعالى. [ز 48] فإن قيل: فإن الآية الأولى (¬1) ونظائرها من القرآن تنصُّ على هلاك مَن كذب على الله تعالى أو كذَّب بالحقِّ، والخطأ في الدِّين لا يخرج عن ذلك، فمن أخطأ في النبيذ المسكر يقول: إن الله أَحَلَّه، وهذا خبرٌ عن الله تعالى، فإذا كان غيرَ مطابق للواقع فهو كذبٌ، ويردُّ قولَ مخالفه، فإذا كان حقًّا ففي ردِّه إياه تكذيبٌ له، ويَرُدُّ الأدلَّة التي يستدلُّ بها مخالفه وهي من جملة حجج الله وآياته، ففي ردِّه لها تكذيبٌ لها، أفلا يكون كاذبًا على الله تعالى مُكَذِّبًا بالحقِّ والآيات؟ فالجواب: أن الحكم الأول هو أنه لا أظلم ممن افترى على الله كذبًا. وافتراء الكذب هو اختلاقه، وذلك أن الخبر يتضمَّن خبرًا آخر، فالقائل "أحلَّ الله النبيذ المسكر". يتضمَّنُ خبرُه خبرًا آخر صورته: "وأنا أعتقد أن الله تعالى أحلَّ النبيذ المسكر"، فافتراء الكذب هو عدم مطابقة كلٍّ من الخبرين ¬

_ (¬1) 68 من سورة العنكبوت.

للواقع بأن يكون الله تعالى لم يُحِلَّ ويكون المخبر لا يعتقد أن الله أحلَّ. فأما إذا كان الله تعالى لم يُحِلَّ ولكنَّ المخبر يعتقد أنه أحَلَّ فليس بمفترٍ، ومن أهل العلم مَن يقول: وليس هو بكاذب أيضًا. فإنْ بَنَيْنَا على قول الجمهور - أنه يَصْدُق على مثل ذلك أنه كذبٌ - فإننا نقول: الحكم في الآية منصبٌّ على الافتراء لا على مطلق الكذب، وكذلك في نظائرها من الآيات. فأما قوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [الزمر: 32]، فهذه الآية وإن لم تقيَّدْ بالافتراء لكنها عطفت التكذيب بالواو، فأفهمت أن الحكم منصبٌّ على مَنْ جَمَعَ بين الكذب والتكذيب بخلاف بقيّة الآيات، فإنها لمَّا قيدت بالافتراء عطفت التكذيب بأو، فأفهمت أن الحكم منصبٌّ على كلٍّ من الرجلين أعني مَن انفرد بافتراء الكذب على الله، ومَن انفرد بالتكذيب بالحق لما جاءه أو بآيات الله. وبعض الآيات تقتصر على أحد الأمرين، كقوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الكهف: 15]، وقوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا} [الأنعام: 157]، وقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} [السجدة: 22]. وأمَّا قوله عزَّ وجلَّ: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18)} [هود: 18]، فواضحٌ أن المعنيَّ بقولهم: {كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ} أُريدَ به: افترَوْا عليه الكذب، كما تصرَّح به أوَّلُ الآية.

وأما قوله تبارك وتعالى: {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر: 59 - 60]، فلا يخفى أن قوله {كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ} هو في قومٍ جمعوا بين الكذب والتكذيب بالآيات استكبارًا كما يُبيِّنُه أوَّلُ الآية وآخرُها. وأما الحكم الثاني فهو أنه لا أظلم ممن كذَّب بالحقِّ لما جاءه، فالتكذيب هو نسبة الخبر إلى الكذب بأن يقول: هذا كذبٌ، وفي معناه أن يُعْرِضَ عنه ويستمرَّ على خلافه كما نَبَّهَتْ عليه آية الجُرُز. والحقُّ والصدق المراد به - والله أعلم - ما هو حقٌّ وصدقٌ في دين الله في نفس الأمر وإن لم تقم الحجَّة بأنه حقٌّ؛ فإن الآيتين لم تُفَصِّلا ولكن التكذيب مُقَيَّدٌ بوقوعه وقت مجيء الحق بقوله في الأولى: {لَمَّا جَاءَهُ} وفي الثانية: {إِذْ جَاءَهُ}. والمعنى أنه لم يَكَدْ يسمع الحقَّ حتى بادر إلى تكذيبه بدون نظرٍ ولا تفكُّرٍ ولا تأمُّلٍ ولا تدبُّرٍ، فهو كالحاكم الذي يجيئه المتظلِّمُ فلا يكاد يَعْرِفُ أنه متظلِّمٌ حتى يُكَذِّبَه بدون نظرٍ في شكواه، وهذا من أشدِّ الظلم في الناس؛ لأنه [ز 49] ظَلَمَه بعدم إنصافه وبعدم سماع شكواه وبتكذيبه، فمَنْ فعل مثل هذا بالحق الجائي عن الربِّ عزَّ وجلَّ فذاك الذي لا أظلم منه. وأما مَنْ كذَّبَ بالحق في دين الله وقد قامت به الحجة فهو المعبَّرُ عنه بالتكذيب بآيات الله، وهي حججه الظاهرة كما يقال لأعلام الطريق الظاهرة: آيات. وهذا أيضًا لا أظلم منه، فإن الآيات التي عبَّرت بالتكذيب بآيات الله لم تُقَيِّد التكذيب بكونه وقت المجيء، بل تقدَّم في آية الجُرز: {ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا}. وهذا إن كان المكذِّبُ بالحق أظلم منه من جهة أنه كذَّبه ولم ينظر فهذا أظلم من جهة

أنه كذَّب وقد بان له الصدق. فتحصَّل من الآية أنه لا أظلم من اثنين: أحدهما: مَن افترى على الله كذبًا. الثاني: مَن كذَّب بالحق في دين الله وقت ما جاءه، وعُلِمَ من بقيَّة الآيات أن مِثْلَه مَن كذَّب بآيات الله وهي حججه الواضحة أو أعرض عنها. وخرج عن الآية مَنْ أخبر عن الله عزَّ وجلَّ بما يعتقده واقعًا وهو في نفس الأمر غير واقع، ومن جاءه الحقُّ في دين الله فنظر وتدبَّر فلم تتبيَّن الحجة فكذَّبه أو أعرض عنه. فتبيَّن بحمد الله عزَّ وجلَّ أن الآية لا تَسُدُّ باب العذر على المخطئين. فإن قلت: خروج هذين عن الآية إنما معناه خروجهما عن الأظلميَّة، ولا يلزم من ذلك خروجهما من الظلم، قلت: نعم، ولا يستلزم دخولهَما في الظُّلم. فإن قلت: فما حالهما؟ قلت: المخطئ إن دخل في الآية الثانية فهو على سبيلٍ مِنْ سُبُل النجاة كما عَرَفْتَ، وإلا فهو المقصِّر، فإن أدَّاه تقصيره إلى عدم التزام الإِسلام فهالكٌ لا محالة كما سلف، وأمَّا إذا كان ملتزمًا للإسلام فسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى. الأمر الثالث (¬1): قال ابن جرير: "الوُسْع: الفُعْلُ، من قول القائل: وَسِعَني هذا الأمر فهو يسعني سعةً، ويُقال: هذا الذي أعطيتك وُسْعِي، أي: ما يَتَّسِع لي أن أعطيك فلا يضيق عليَّ إعطاؤكَه، وأعطيتك من جهدي إذا ¬

_ (¬1) مما ينبغي أن يستحضره مَن أراد التحقيق في مسألة الحكم بالردة، وتقدم الأمران الأول والثاني ص 164.

أعطيتَه ما يجهدك فيضيق عليك إعطاؤه، فمعنى قوله {لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 233] هو ما وَصَفْتُ من أنها لا تُكَلَّف إلا ما يَتَّسِعُ لها بذلُ ما كُلِّفَتْ بَذْلَه فلا يضيق عليها ولا يجهدها" (¬1). وروى في موضعٍ آخر عن ابن عبَّاسٍ "قوله: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] قال: هم المؤمنون، وسَّع الله عليهم أَمْرَ دينهم فقال الله جلَّ ثناؤه: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وقال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] (¬2). قال عبد الرحمن: المقصود هنا معرفة معنى الوُسْعِ، فأمَّا العموم والخصوص فقد مضى الكلام فيه. وقال الراغب: "والوُسْعُ من القدرة ما يَفْضُلُ عن قَدْرِ المكلَّف، قال: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} تنْبيهًا أنه يُكَلِّف عبده دُوَيْنَ ما ينوء به قدرته" (¬3). وفي الشريعة مواضع توضِّح ذلك، منها: أن الله تعالى لم يكلِّف الأعراب الذين أسلموا ولمَّا يدخل الإيمان في قلوبهم لزومَ المسجد وسماعَ القرآن ونحو ذلك مما من شأنه أن يكسبهم الإيمان. ¬

_ (¬1) تفسيره: 2/ 283. [المؤلف] (¬2) تفسيره: 3/ 95. [المؤلف] (¬3) المفردات 870.

ومنها: ما سبق أنه كان يخفى على العرب شيء من دقائق معنى الإله والعبادة، ولم يكن النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم [ز 50] يُلْزِمُ مَن أسلم أن يتعلَّم جميعَ ذلك على الفور، بل رُبَّما كان أحدُهم يُسْلِم فيأمره لوقته أن يذهب للجهاد. ومنها: حديث "اتَّقُوا هذا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل" (¬1)، ولم يأمرهم النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أن يستفرغوا أوقاتهم في التعلُّم، بل أرشدهم أن يقولوا: "اللهم إنا نعوذ بك مَن أن نشرك بك شيئًا نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلم". ومنها: أن المسلمين مِنْ عهد الصحابة وهَلُمَّ جرًّا كانوا يكتفون ممن يقبل الإِسلام من الأعاجم بأن يُلَقِّنَهُ مسلم الشهادتين ويُفَسِّرَ له معناهما كما تيسَّر، ولا يُلْزِمونه أن يسائل كلَّ مَن لقيه من أهل العلم، ولا أن يرتحِل إليهم فيسائلهم حتى يعلم اتفاقهم، ولا أن يبادر إلى تعلُّم العربية والقرآن وتفسيره والسنَّة حتى يحصل له المعرفة التامَّة، بل لا نعلمهم أوجبوا أن يتعلَّم من القرآن إلا ما لا بدَّ منه لصحَّة الصلاة ولا نعلمهم أوجبوا معرفة تفسير ذلك. وقريبٌ من كلمة الوُسْعِ كلمتا الاستطاعة والطَّاقة، وقد فُسِّر قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] بوجدان الزاد والراحلة، وذلك دون المجهود. وفي الصحيحين وغيرهما من طرقٍ حديث المعراج وفيه قول موسى لمحمَّدٍ عليهما الصلاة والسلام في المراجعة في فرض الصلوات: "إن أمَّتك ¬

_ (¬1) سبق تخريجه في ص 54 - 55، 143 فما بعدها.

لا تستطيع ذلك" (¬1)، وفي رواياتٍ: "لا تطيق ذلك" (¬2) حتى قال له ذلك في خمس صلواتٍ. وقال الراغب: "فقوله: {مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} أي ما يصعب علينا مزاولته، وليس المعنى: لا تُحَمِّلْنا ما لا قدرة لنا به" (¬3). وفي الصحيح من حديث عمران بن الحصين، قال: كانت بي بواسير، فسألت النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم عن الصلاة، فقال: "صَلِّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنبٍ" (¬4). قال أهل العلم: المراد بنفي الاستطاعة وجود المشقَّة الشديدة. راجع فتح الباري، شرح الحديث المذكور (¬5). وفيه أن عند الطبرانيِّ من حديث ابن عبَّاسٍ: "يصليِّ قائمًا، فإن نالته مشقَّةٌ فجالسًا، فإن نالته مشقَّةٌ صلَّى نائمًا" (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الصلاة، بابٌ كيف فُرِضت الصلاة في الإسراء؟ 1/ 79، ح 349. ومسلمٌ في كتاب الإيمان، باب الإسراء بالرسول، 1/ 103، ح 163، من طريق ابن شهابٍ، عن أنسٍ، عن أبي ذرٍّ رضي الله عنه. (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب التوحيد، بابٌ: "وكلَّم الله موسى تكليمًا"، 9/ 150، ح 7517. من طريق شريك بن عبد الله بن أبي نمرٍ، عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه. (¬3) المفردات 532. (¬4) صحيح البخاريِّ، [أبواب تقصير الصلاة]، بابٌ إذا لم يُطِقْ قاعدًا صلَّى على جنبٍ، 2/ 48، ح 1117. [المؤلف]. (¬5) 2/ 397. (¬6) انظر: المعجم الأوسط 4/ 210، ح 3997، وقال: "لم يروِ هذا الحديثَ عن ابن =

وفي صحيح مسلمٍ من حديث أبي سعيد الخدريِّ، سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يقول: "مَن رأى منكم منكرًا فليغيِّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه (¬1)، وذلك أضعف الإيمان" (¬2). المراد بعدم الاستطاعة في الحديث أن يخاف على نفسه ضررًا، ولذلك عُدَّ الاقتصار على الإنكار بالقلب أضعف الإيمان، فإنَّ قويَّ الإيمان لا يَصُدُّه خوفُ الضرر عن أن ينهى عن المنكر. فأما العاجز البتَّة كمن كان مقعدًا أخرس ورأى منكرًا بعيدًا عنه فأنكره بقلبه فلا يتعيّن أن يكون هذا من أضعف الإيمان، بل إذا صمّم بقلبه على أنه لو كان يمكنه المشي لمشى إلى ذلك المنكر حتى يغيِّره بيده كان ذلك من أقوى الإيمان. والله أعلم. وقد يُعْتَرَضُ ما تقدَّم بوجهين: الأول: أن حَمْل الوُسْع والطاقة والاستطاعة على ما فيه مشقَّةٌ شديدةٌ يقضي على تلك النصوص بالإجمال، وذلك أن المشقَّة الشديدة لا تنضبط كما اعترفوا به في تقرير عِلَّة قَصْرِ الصَّلاة، قالوا: إنَّ أصل الباعث على ذلك المشقَّة لكن لعدم انضباطها ضبطها [ز 51] الشارع بالسفر (¬3)، ولا يمكن ¬

_ = جريجٍ إلا حَلْبَس ... " يعني: ابنَ محمَّدٍ الضُّبَعيّ. قال الهيثميّ: "ولم أجدْ مَن ترجمه، وبقيَّة رجاله ثقاتٌ". مجمع الزوائد 2/ 348. وقال ابن حجر في التلخيص 1/ 555: في إسناده ضعف. (¬1) في الأصل: "فإن لم يستطع فبقلبه، فإن لم يستطع فبلسانه". (¬2) صحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان ... [وفي الأصل: باب تغيير المنكر إلخ]، 1/ 50، ح 49. [المؤلف] (¬3) انظر: شرح المحلَّي على جمع الجوامع مع حاشية العطار 2/ 279.

ضبطها بالعرف لاضطرابه، وقد دلَّت مسألة القصر على عدم اعتباره، ولا يُقال: كلُّ إنسان فقيهُ نفسه؛ لأن ذلك يؤدِّي إلى تساهل أكثر الناس وتسامحهم. الوجه الثاني: أن من المشاقِّ الشديدة ما ألغاه الشارعٍ وكَلَّف بما هو فيه، مِنْ ذلك تكليفُ الكافر بالإِسلام مع أنه يشقُّ عليه مشقَّةً شديدةً أن يَدَعَ دينًا قد أَلِفَهُ واعتاده وأدرك عليه آباءه وأجداده. ومِنْ ذلك تكليف مَنْ هام بامرأة وصادفها في خلوةٍ وتمكَّن منها أن لا يَقْرَبَها مع أنه يشقُّ عليه الانكفاف عنها مشقَّةً شديدةً. ومِنْ ذلك تكليفُ مَنْ أدمن الخمر في كفره ثم أسلم بأن يجتنبها، واجتنابها بدون تدريجٍ يشقُّ عليه مشقَّةً شديدةً. والجواب عن الوجه الأوَّل بتسليم الإجمال في الجملة، ولكن الشريعة قد تضمَّنَتْ ما يُرْشِد إلى التفسير، ولكنها ترَكت مجالًا للاختلاف لحِكَمٍ عديدةٍ، منها: ما تقدم في الأصل الثاني. ومنها: ما سيأتي في الكلام على التقليد. ومنها: توسعة المجال لاجتهاد أهل العلم ليعظم ثوابهم. ومنها: تركُ مُتَّسَعٍ لاحتياط أهل التقوى من أقوياء المؤمنين ليأخذوا أنفسهم بالورع والتوقِّي فيعظم أجرهم ويُعْرَف فضلهم، وللضعفاء ليمكن لهم الترخُّص بدون المعصية، ولو شُدِّد عليهم لرموا بأنفسهم في المعصية. ومنها: تهيئة سبيلٍ لحسن ظنِّ المسلمين بعضهم ببعضٍ فيرى المتشدِّد أن للمترخِّصِ وجهًا وسبيلًا. والجواب عن الوجه الثاني: أن المشقَّة في الأمثلة المذكورة ونحوها ليست بشديدةٍ إلى حدِّ الخروج عن الوُسْع، نعم إنها تقارب ذلك وربَّما اعتدَّ الشارع بأخفَّ منها، ولكن الشارع قد يُلْغِي المشقَّة التي ربَّما يظهر أنها

شديدةٌ لأسبابٍ، منها: أن يكون اتّفاقها نادرًا، والفقهاء يلاحظون هذا، قالوا: لو أخطأ الحُجَّاج فوقفوا عاشر ذي الحجَّة أجزأهم حجُّهم، ولو أخطؤوا فوقفوا حادي عشره كان عليهم القضاء لندرة الخطأ بيومين (¬1). والثلاثة الأمثلة مما يندر، فما كلُّ أحدٍ يشقُّ عليه ترك دين آبائه ولا يتَّفق له ذلك إلا مرَّةً في عمره، والعاشق يندر أن يصادف معشوقته في خلوةٍ بدون تحرِّيه ذلك، ومدمن الخمر إذا أسلم فعزم على تركها إن شقَّ عليه ذلك فأيَّامًا معدودةً ثم ينساها أبدًا. ومنها: أن تكون المفسدة التي تترتَّب على الفعل عظيمة، ولهذا قالوا: لو أكره على قتل مؤمنٍ لم يجز له، وعظم المفسدة في الأمثلة ظاهرٌ. ومنها: أن لا تنضبط المشقَّة وتترتَّب على الفعل مفسدةٌ عظيمةٌ، كمن أُغْضِبَ فجنى على إنسان وادَّعى أن المجنيَّ عليه أغضبه فلم يَتَمالَكْ نفسه أن جنى عليه. فإنه لا دليل على أن الغضب بلغ ذلك المبلغ، ولو رُخِّصَ له لادَّعى أكثرُ الجناة مثلَ ذلك؛ إذ أكثر ما يقع القتل عند الغضب، بل لربما استحلَّ المغْضَبُ القتلَ لتوهُّمِه أنه قد بلغ به الغضبُ ذلك الحدِّ. ويأتي هذا في تلك الأمثلة، فإن المفسدة فيها عظيمة كما مرّ، ولو رُخِّصَ لهم لاستحلَّ الكافر المتبصِّر البقاءَ على دين آبائه لتوهُّمه أن المشقَّة شديدةٌ، وأن الله تعالى لا يكلِّفه بتحمُّلها. وكذلك الآخران، وإذًا لأوشك أن يدَّعيَ كلُّ زانٍ وكلُّ شاربِ خمرٍ نحوَ تلك الدعوى. ومنها: أن تكون المشقة ناشئة عن مخالفة من المكلَّف لولاها لم يقع في المشقة، بل ربما ألغى الشارع هذه المشقَّةَ ولو خرجت عن الوُسْعِ بل ¬

_ (¬1) انظر: منح الجليل 1/ 476، شرح المحلَّي على المنهاج 2/ 185.

وعن القدرة، كالمتعدِّي بِسُكْرِه يؤاخَذُ بما يقع منه، وسيأتي توجيه ذلك في المختوم على قلبه. [ز 52] ومَنْ أَدْرَكَ آباءه على الكفر ثم نُبِّهَ على ذلك كان عليه أن يبحث وينظر ويحقِّق، وهذا لا يشقُّ عليه مشقَّة تُذْكَر، فلو قام به لهداه الله تعالى فعرف بطلان دينهم وأن البقاء عليه مُوجِبٌ لغضب الجبار والخلود في عذاب النار، وإذًا لهان عليه ترك دينهم بل لما استطاع البقاء عليه. والعاشق قد كان عليه أن يسعى في تقوية إيمانه وتحصيل الإيقان بأنَّ ربَّه عزَّ وجلَّ معه أبدًا، وأن الكرام الكاتبين لا يفارقونه، ودوام استحضار ذلك، ولو قام بهذا لما شقَّ عليه تركُ الزنا؛ فإننا نعلم أنه لو كان حين صادف معشوقته يرى أن إنسانًا ينظر إليهما ويخاف أن يحقره ويمقته ويُفْشِيَ سرَّه ويسيء سمعته لمنعه ذلك من مقاربتها، بل لو قيل لمَا استطاع أن يقع بها لم يَبْعُد. ومُدْمِن الخمر لو قَوِيَ إيمانه لصحَّ عزمُه على تركها، وإذًا لهان عليه تركُها، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يعتادون شربها فلما حُرِّمَتْ أعرضوا عنها البتَّة، وهكذا عامَّة مَنْ أسلم بعد تحريمها. وإنما يشقُّ تركها على مَنْ لم يصحَّ عزمه فتبقى نفسه تنازعه إليها، وعن ذلك يكون تضرُّره في بدنه إن صدق الأطباء، فأما مَنْ صَحَّ عزمه فبإذن الله تعالى لا ينالُه إلا كلَّ خيرٍ. هذا، والمشقَّة في تلك الأمثلة ونحوها وإن لم يعتدَّ بها الشارع في رفع التكليف فقد اعتدّ بها إلى حدٍّ ما من جهة أخرى، أما من نشأ على كفر آبائه فخَفَّفَ عنه بقبول العهد والذمَّة والأمان ولم يشدِّدْ عليه كما شدَّد على مَن

كان آباؤه مسلمين ونشأ هو على الكفر؛ فإن هذا مرتد لا يُقْبَل منه إلا الإِسلام، وهكذا يكون التخفيف في الآخرة، فعذاب المرتدِّ أشدُّ من عذاب الكافر الأصليِّ، والله أعلم. وأما العاشق الذي صادف صاحبته في خلوة فلعلَّ الله عزَّ وجلَّ أن يلطف به فيحجزه عنها أو يستره ويتوب عليه أو يخفِّف عنه من العذاب. ونحو هذا يقال في مدمن الخمر، وفي قصَّة النعيمان (¬1) ما يشهد لذلك. والله أعلم. الأمر الرابع: أن الذي جرى عليه العمل في عهد الصحابة والتابعين هو التوسعة على العامَّة في عِلْم الدين، فيُكْتَفَى للعامِّيِّ بأن يعمل ما يرى عليه المسلمين، فإن عرضت له قضيَّة سأل مَن يتفق له ممن يُعْرَف بالعلم، ولما نشأت البدع كان العلماء يُنَفِّرُون العامَّة عن المبتدع لئلَّا يعتمدوا عليه، وربما كان يشتهر العالِمُ في جهة فتميل عامَّة تلك الجهة إلى الاعتماد عليه دون مَنْ يخالفه ما لم يظهر لهم خطؤه. والعامَّة في القرون المتأخِّرة لم يزالوا في الظاهر على تلك الطريق، وإنما الفرق أن الذين كانوا يشتهرون في عهد السلف بأنهم علماء هم علماء حقًّا، والذي كان يُنَفِّر عنه العلماء بأنه مبتدع ضالٌّ كان مبتدعًا ضالًّا حقيقة، والحال في العصور المتأخرة على خلاف ذلك، فإن الذين يشتهرون فيها بأنهم علماء عامَّتُهم مقلِّدون لمذاهبهم، وكلُّ مذهب منها قد ضُمَّ إليه ¬

_ (¬1) هو النعيمان بن عمرٍو بن رفاعة بن الحارث الأنصاري، شهد بدرًا، واشتهر بالمزاح، ووُصِف بشرب الخمر، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقيم عليه الحدَّ، فلعنه رجل، فمنع النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من لعنه. الإصابة في تمييز الصحابة 11/ 112 - 117.

أضعافٌ مضاعفةٌ. مثال ذلك: مذهب الإِمام الشافعيِّ رحمه الله تعالى، كان له أصحابٌ جمعوا كلامه وقاسوا على أقواله وفَرَّعُوا وضمُّوا جميع ذلك إلى المذهب، ثم جاءت طبقةٌ بعدهم جمعوا كلام مَنْ تَقَدَّمَهُم وقاسوا عليه وفَرَّعوا وضمُّوا جميع ذلك إلى المذهب، وهكذا طبقةً فطبقةً. ولما ظهر كلام الأشعريِّ في العقائد مال إليه بعضُ فقهائهم وأنكره بعضهم، ثم غلب عليهم فصار عامَّةُ الشافعيَّة أشاعرةً، وصار عند المتأخِّرين كأنه جزءٌ من المذهب، حتى إنه كان يستغرب في القرن الخامس والسادس فضلًا عما بعدهما أن يُقال: إن فلان (¬1) فقيهٌ شافعيٌّ ولكنه ليس بأشعريِّ، ويرى طلبة العلم والعامَّة أن هذا قريبٌ من المحال لتوهُّمِهِم أن رأيَ الأشعريِّ قطعةٌ من مذهب الشافعيِّ، فكيف يكون الرجلُ شافعيًّا وليس بأشعريًّ؟! (¬2). وكانت تظهر المقالة والرأي فيتكلَّم فيها بعض فقهاء المذهب غير مستندٍ إلى المذهب بل متأثِّرًا بآثارٍ خارجيَّةٍ، وقد يحاول هو إلصاقها بالمذهب أو يحاول مَنْ بعده ذلك فلا تلبث أن تَلْصَقَ بالمذهب ثم تصبح أصلًا يُقاس عليه. وربما ظهرت البدعة فقصَّرت طبقةٌ في إنكارها، فشارك فيها بعضُ الطبقة التي تليها فَضَمَّتْها الثالثة إلى المذهب ثم تصبح أصلًا يقاس عليه. على أنه في القرون المتأخرة صار كثير من المحدثات متفقًا عليه بين ¬

_ (¬1) كذا في الأصل. (¬2) هنا انتهى ما كان مسمًّى (رسالة في العقيدة)، وقد وجدت صفحةً غير مرقَّمةٍ ملحقةً بآخر الرسالة المسمّاة (أصول ينبغي تقديمها)، وهذا هو الموضع المناسب لها.

فقهاء المذاهب، فصار المعروف بين الناس أنها مذهب أهل السنة. وقضيَّة ذلك أنها مما أجمع عليه سلف الأمة، على أنها إذا ألصقت بمذاهب أهل السنة فبقية المذاهب أولى بها، بل إن غالب المحدثات إنما هو من نتائج بعض مذاهب أهل البدع، أو مما لَصِقَ بها من ضلالات الديانات الباطلة كاليهودية والنصرانية والمجوسية وغيرها، وإنما سرى إلى أن أُلْصِقَ بمذاهب أهل السنة فأصبح بحيث يُظَنُّ إجماعًا، ومَنْ وُجِدَ مِنْ علماء الحقِّ في هذه القرون المتأخِّرة رُمِي بالابتداع ومخالفة الإجماع. فالعامَّة في هذه القرون شبيهون بالعامة في القرون الأولى في اتِّباعهم مَنْ يرونهم علماء السنة ونفورهم عمن يرونه مبتدعًا. (¬1) واعلم أن كثيرًا من الناس يستندون في هذه الأمور - أعني معرفة معنى (لا إله إلا الله) وما يتفرَّع عنه من الاعتقاد في بعض الأعمال أنها شركٌ أو ليست بشركٍ - إلى أمورٍ لا يُعتَدُّ بها شرعًا؛ فأرى أن أنبِّه عليها. ¬

_ (¬1) هنا رجعنا إلى تكملة ص 27 من نسخة ب.

باب في أمور يستند إليها في بناء الاعتقاد وهي غير صالحة للاستناد

بابٌ في أمورٍ يُستنَد إليها في بناء الاعتقاد وهي غير صالحةٍ للاستناد فمن تلك الأمور: التقليد، وقد دلَّ الكتاب والسنة وأقوال أهل العلم أن التقليد في أصول العقائد لا يكفي، ومعرفة معنى (لا إله إلا الله) أصل الأصول. أما دلالة القرآن، فقد تقدَّم أدلَّة اشتراط العلم (¬1)، وفيها قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19]، وقوله عزَّ وجلَّ: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86]، وما قاله ابن جريرٍ في تفسيرها، وما رواه عن مجاهدٍ وقتادة. والتقليد ليس بعلمٍ؛ لأن العلم عند أهله هو: حكم الذهن [ب 28] الجازم المطابق؛ لموجبٍ، أي لحجَّةٍ قاطعةٍ. قالوا: خرج بقوله: (لموجِبٍ) اعتقاد المقلِّد ونحوه؛ فإنه قد يكون جازمًا ومطابقًا، ولكنه ليس لحجَّةٍ قاطعةٍ. أقول: فالاعتقاد ضربٌ من الظنِّ، وقد ردَّ الله عزَّ وجلَّ على المشركين ما كانوا يعتقدونه، ثم قال: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36]، في آياتٍ أخرى بهذا المعنى. قال جماعةٌ من أهل العلم: هذه الآيات واردةٌ فيما يُطلَب فيه العلم كالعقائد، فأما فروع الأحكام العمليَّة فقد ثبت بالحجج القطعيَّة وجوب العمل فيها بأنواعٍ من الظنِّ، كالظنِّ ¬

_ (¬1) انظر: ص 4 - 8.

الحاصل من خبر الواحد بشرطه. وقال بعضهم: الآيات على عمومها، وما قامت الحجَّة القطعيَّة على وجوب العمل به من الأدلَّة الظنِّيَّة كخبر الواحد بشرطه في الأحكام الفرعيَّة فالعمل به اتِّباعٌ لتلك الحجَّة القطعيَّة، وهي مفيدةٌ للعلم، فالعمل به اتِّباعٌ للعلم لا اتِّباعٌ للظنِّ. ألا ترى لو أن النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم شافه بعض أصحابه بقوله: (إذا جاءك رجلٌ تظنُّه ثقة فأخبرك عنِّي بخبرٍ وجب عليك أن تعمل بخبره)، أليس وجوب العمل على ذلك الصحابيِّ بخبر من يظنُّه ثقةً واجبًا عليه قطعًا؟ أوليس إذا عمل به فإنما يستند إلى الأمر الذي تلقَّاه مواجهةً وهو قطعيٌّ معلومٌ له؟ أفلا ترى أنه متَّبعٌ للعلم لا متَّبعٌ للظنِّ؟ تدبَّر. وأما السنة فقد مرَّ (¬1) في أدلّة اشتراط العلم قوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "مَن مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنَّة"، وقوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: " .... فمَن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنًا بها قلبه فبشِّره بالجنَّة". وفي الصحيحين من حديث هشام بن عروة، عن فاطمة بنت المنذر، عن أسماء بنت أبي بكرٍ، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في صلاة الكسوف، وفيه: فلما انصرف رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "ما من شيءٍ كنت لم أره إلا قد رأيته في مقامي هذا حتى الجنَّة والنار، ولقد أُوحِي إليَّ أنكم تفتنون في القبور مثل - أو قريبًا من - فتنة ¬

_ (¬1) ص 6.

الدجَّال - لا أدري أيَّهما قالت أسماء - يُؤتى أحدكم، فيُقال له: ما علمك بهذا الرجل؟ فأما المؤمن - أو الموقن، لا أدري أيَّ ذلك قالت أسماء - فيقول: محمَّدٌ رسول الله، جاءنا بالبيِّنات والهدى، فأجبنا وآمنَّا واتَّبعنا، فيُقال له: نم صالحًا، فقد علمنا إن كنت لموقنًا. [ب 29] وأما المنافق - أو المرتاب، لا أدري أيَّتهما قالت أسماء - فيقول: لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته" (¬1). وقد رُوِي نحو هذا الحديث في سؤال القبر عن أم المؤمنين عائشة، وعن أنسٍ، وعن البراء، وعن أبي سعيدٍ، وعن جابرٍ، وعن أبي هريرة، وعن غيرهم من الصحابة من طرقٍ كثيرةٍ بعضها في الصحيحين. انظر: فتح الباري (¬2). ¬

_ (¬1) صحيح البخاريِّ، كتاب الكسوف، باب صلاة الرجال مع النساء في الكسوف، 2/ 37، ح 1053. هذه روايته من طريق مالكٍ عن هشامٍ. ورواه في مواضع أخرى من طرقٍ أخرى. ورواه مسلمٌ من طريق ابن نُمَيرٍ عن هشامٍ. صحيح مسلمٍ، كتاب الصلاة، باب ما عُرِض على النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في صلاة الكسوف إلخ، 3/ 32، ح 905. [المؤلف] (¬2) كتاب الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر، ... [المؤلف]. والحديث أخرجه البخاريُّ في كتاب الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر، 2/ 98 - 99، ح 1374. ومسلمٌ في كتاب الجنَّة وصفة نعيمها وأهلها، باب عرض مقعد الميِّت من الجنَّة أو النار، 8/ 161 - 162، ح 2870، من حديث أنسٍ. وأخرجه البخاريُّ أيضًا في الموضع السابق، 2/ 98، ح 1369. ومسلمٌ في الموضع السابق، 8/ 162، ح 2871، من حديث البراء - وهو في مسند أحمد 4/ 287 - 288 و 4/ 295 - 297. والمستدرك، كتاب الإيمان، مجيء ملك الموت عند قبض الروح ... ، 1/ 37 - 40، مطوَّلًا، وصحَّحه الحاكم على شرط الشيخين، ولم يتعقَّبه =

وفيه: "ولابن حِبَّان وابن ماجه من حديث أبي هريرة، وأحمد من حديث عائشة: "ويُقال له: على اليقين كنتَ، وعليه متَّ، وعليه تُبعث إن شاء الله"". وفيه أيضًا: (وله - أي: لأحمد - من حديث أبي سعيدٍ (¬1): "فإن كان مؤمنًا قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمَّدًا عبده ورسوله"". وفيه عند الكلام على حديث البراء الذي في الصحيحين في هذا المعنى: "وقد رواه زاذان أبو عمر عن البراء مطوَّلًا مبيَّنًا، أخرجه أصحاب السنن, وصحَّحه أبو عوانة وغيره، وفيه من الزيادة ... : "فيقولان له: مَن ربُّك؟ فيقول: ربِّي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإِسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بُعِث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله، فيقولان له: وما يدريك؟ فيقول: قرأتُ القرآن كتابَ الله فآمنتُ به وصدَّقتُ، فذلك قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} [إبراهيم: 27] "" (¬2). وقوله: "وقرأتُ القرآن" إلخ، يريد أنه قرأه فعرف ما فيه من البراهين ¬

_ = الذهبيُّ - وأخرجه البخاريُّ في الموضع السابق، 2/ 98، ح 1373، من حديث أسماء. وأحمد 6/ 139 - 140، من حديث عائشة. و3/ 3 - 4، من حديث أبي سعيدٍ. و3/ 331، من حديث جابرٍ. والترمذيُّ في كتاب الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر، 3/ 374، ح 1071. وابن حِبَّان (الإحسان) في كتاب الجنائز، فصلٌ في أحوال الميِّت في قبره، ذكر الإخبار عن اسم الملكين ... ، 7/ 386، ح 3117، من حديث أبي هريرة، وقال الترمذيُّ: "حديثٌ حسنٌ غريبٌ". وهو معدودٌ في الأحاديث المتواترة. انظر: قطف الأزهار المتناثرة ص 294، ح 109. (¬1) في الأصل: (عائشة)، والتصويب من فتح الباري. (¬2) فتح الباري 3/ 151 - 152.

فحصل له اليقين. "وأما المرتاب فيقول: لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته"، ولا يخفى أيُّ الرجلين المقلِّد؟ وقد دلَّت هذه الأحاديث على توُّقف النجاة على اليقين، واليقين هو العلم القطعيُّ اتِّفاقًا. قال الراغب: "اليقين من صفة العلم فوق المعرفة والدراية وأخواتها" (¬1). وبالغ الغزاليُّ في المستصفى فخصَّه، فقال في صفة النفس الموقنة [ب 30]: " ... بل حيث لو حُكي لها عن نبيٍّ من الأنبياء أنه أقام معجزة وادَّعى ما يناقضها، فلا تتوقَّف في تكذيب الناقل، بل تقطع بأنه كاذبٌ أو تقطع بأن القائل ليس بنبيٍّ، وأنَّ ما ظنَّ أنه معجزة فهي مَخْرَقَة (¬2). وبالجملة فلا يؤثر هذا في تشكيكها، بل تضحك من قائله وناقله. وإن خطر ببالها إمكان أن يكون الله قد أطلع نبيًّا على سرٍّ به انكشف له نقيضُ اعتقادِها فليس اعتقادها يقينًا، مثاله: قولنا: الثلاثة أقلُّ من الستة، وشخصٌ واحد لا يكون في مكانين، والشيء الواحد لا يكون قديمًا حادثًا موجودًا معدومًا ساكنًا متحرّكًا في حالة واحدة". ثم قال: "الحالة الثانية: أن تصدِّق بها تصديقًا جازمًا ولا تشعر بنقيضها البتة، ولو أُشعرت بنقيضها تعسَّر إذعانها للإصغاء إليه، ولكنها لو ثبتت وأصغت وحُكي لها نقيض معتقدها عمَّن هو أعلم الناس عندها كنبيٍّ أو صِدّيق أورث ذلك فيها توقُّفًا، ولْنُسَمّ هذا الجنس اعتقادًا جزمًا، وهو أكثر اعتقادات عوامِّ المسلمين واليهود والنصارى في معتقداتهم وأديانهم، بل ¬

_ (¬1) مفردات ألفاظ القرآن 892. (¬2) ما عُمِل بتمويهٍ وخداعٍ. انظر: تاج العروس، مادَّة (مخرق).

اعتقاد أكثر المتكلمين في نصرة مذاهبهم؛ فإنهم قبلوا المذهب والدليل جميعًا بحسن الظن في الصِّبا، فوقع عليه نشؤهم؛ فإنَّ المستقلَّ بالنظر - الذي يستوي ميلُه في نظره إلى الكفر والإِسلام - عزيزٌ. الحالة الثالثة: أن يكون لها سكونٌ إلى الشيء والتصديق به وهي تشعر بنقيضه، أو لا تشعر ولكن لو أُشعِرت به لم ينفر طبعها عن قبوله، وهذا يُسمَّى ظنًّا، وله درجاتٌ .... " (¬1). أقول: وفيما قاله نظرٌ؛ فإنَّ الحسَّ والمشاهدة تفيد العلم اليقين، ومع ذلك فقد تشكَّك فيها الحكماء السوفسطائيُّون (¬2) كما هو معروفٌ، ومن تأمَّل شُبَههم قد يعرض [له] توقُّفٌ ما. وقال تعالى: ... (¬3) وجلُّ أو كلُّ البراهين على الأصول الدينيَّة مبنيَّةٌ على المحسوسات، ومع ذلك يرد على البناء شبهاتٌ عديدةٌ. ولو صحَّ ما قاله لما وُجِد مؤمنٌ موقنٌ إلاَّ أن يكون من الملائكة والنبيِّين، وهذا باطلٌ قطعًا. والحقُّ أن اليقين لا يختصُّ بما ذكره، بل يعمُّ كلَّ اعتقادٍ جازمٍ عن دليلٍ قاطعٍ كالحسِّ والمشاهدة وما ينبني عليهما انبناءً واضحًا، وأنَّ إمكان التشكيك لا يدلُّ على عدم سبق اليقين. وقد قدَّمنا تحت عنوان: (شبهةٌ وجوابها) ما يصحُّ إيراده ها هنا. ونحن نرى كثيرًا من الناس يتعقَّلون البراهين القطعيَّة، ومع ذلك لا يزالون مرتابين لغلبة الهوى والتقليد عليهم. فالحقُّ أنَّ مَن تعقَّل البرهان ¬

_ (¬1) المستصفى 1/ 43 - 44. [المؤلف] (¬2) هم أهل السفسطة القائمة على مبدأ الشك في الموجودات. انظر الموسوعة الفلسفية العربية 1/ 480، المعجم الفلسفي 1/ 660. (¬3) وضعُ النُّقَط من المؤلِّف.

القطعيَّ وأذعن وانقاد ظاهرًا وباطنًا فهو موقنٌ، وأنه إن عرض له بعدُ شكٌّ (¬1) أو شبهةٌ فإن دفعها فورًا فهو موقنٌ، وما عرض له وسوسةٌ في (¬2) حكم الشرع. وإن استقرَّت في نفسه وأورثته ريبةً أو جحودًا زال يقينه السابق، وهو العلم الحقيقيُّ. والحقُّ أنه ليس بين اليقين وبين الظنِّ منزلةٌ. قال الله عزَّ وجلَّ: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية: 24]، [ب 31] إلى قوله جلَّ ثناؤه: {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية: 32]. وكأن الغزاليَّ يشير بهذا الاصطلاح إلى تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36]، بأن المراد الظنُّ الذي ليس بجازمٍ. وهبه تمَّ له هذا، فما يصنع بالآيات والأحاديث الناصَّة على اشتراط العلم واليقين وقد تقدَّمت؟ والحقُّ أنَّ التقليد لا يفيد إلا الظنَّ غير الجازم، وما يظهر من جزم مَن نراه مقلِّدًا لا يخلو عن ثلاثة أحوالٍ: الأولى: ألَّا يكون مقلِّدًا في الواقع، بل قد يعقل برهانًا قطعيًّا، وهذا حال عوامِّ المسلمين غالبًا في إيمانهم بالله ورسوله. الثانية: أن يكون قد قام عنده ما توهَّمه برهانًا قاطعًا؛ إما على العقيدة نفسها، وإما على عصمة إمامه، وقد يجتمع الأمران كما وقع لبعض مقلِّدي ¬

_ (¬1) غير واضحة في الصورة. (¬2) الحرف غير واضح في الصورة.

أرسطو من المتفلسفة. الثالثة: أن يكون غلب عليه الهوى والعصبيَّة. وقد تقدَّم الكلام في الهوى، ويأتي له مزيدٌ إن شاء الله تعالى (¬1). وقال الآمديُّ: "اختلفوا في جواز التقليد في المسائل الأصوليَّة المتعلِّقة بالاعتقاد في وجود الله تعالى، وما يجوز عليه وما لا يجوز عليه، وما يجب له وما يستحيل عليه. فذهب عُبَيد الله بن الحسن العنبريُّ والحشويَّة والتعليميَّة (¬2) إلى جوازه .... وذهب الباقون إلى المنع، وهو المختار؛ لوجوهٍ: الأول: أن النظر واجبٌ .... ، ودليل وجوبه أنه لما نزل قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران: 190]، الآية، قال عليه السلام: "ويل لمن لاكها بين لَحْيَيه ولم يتفكَّر فيها"". أقول: أخرجه جماعةٌ، منهم ابن حِبَّان في صحيحه (¬3). قال (¬4): "توعَّد على ترك النظر والتفكُّر فيها، فدلَّ على وجوبه". ¬

_ (¬1) انظر: ص 24 فما بعدها، والأصل الثاني في باب أصول ينبغي تقديمها، وص 911 فما بعدها. (¬2) من ألقاب الباطنيَّة الذين يزعمون أنهم أصحاب التعليم والمخصوصون بالاقتباس من الإِمام المعصوم، وبهذا الاسم اشتهروا في خراسان قديمًا وبالملحدة، كما كانوا يُسمَّون بالعراق: الباطنيَّة والقرامطة والمزدكيَّة. انظر: فضائح الباطنيَّة 17، الملل والنحل 1/ 190. (¬3) انظر: صحيح ابن حبان (الإحسان)، كتاب الرقائق، باب التوبة، 2/ 386، ح 620. (¬4) يعني: الآمدي.

الثاني: الإجماع من السلف منعقد على وجوب معرفة الله تعالى وما يجوز عليه وما لا يجوز، فالتقليد إما أن يقال: إنه محصِّل للمعرفة أو غير محصِّل لها. القول بأنه محصل للمعرفة ممتنع لوجوهٍ: الأول: أن المفتي بذلك غير معصوم، ومَنْ لا يكون معصومًا لا يكون خبره واجب الصدق، فخبره لا يفيد العلم. الثاني: أنه لو كان التقليد يفيد العلم لكان العلم حاصلًا لمن قلَّد في حدوث العالمَ ولمن قلد في قِدَمه وهو محال لإفضائه إلى الجمع بين كون العالمَ حادثًا وقديمًا. الثالث: أنه لو كان التقليد مفيدًا للعلم فالعلم بذلك إمَّا أن يكون ضروريًّا أو نظريًّا، لا جائز أن يكون ضروريًّا وإلا لما خالف فيه أكثر العقلاء، ولأنه لو خُلَّي الإنسان ودواعي نفسه من مبدأ نشئه لم يجد ذلك من نفسه أصلًا، [ب 32] والأصل عدم الدليل المفضي إليه فمن ادّعاه لا بدَّ له من بيانه. الوجه الثالث - من الوجوه الأُوَل -: أن التقليد مذمومٌ شرعًا، فلا يكون جائزًا، غير أنَّا خالفنا ذلك في وجوب اتِّباع العامِّيِّ للمجتهد فيما ذكرناه (¬1) من الصور فيما سبق" يعني: فروع الفقه "لقيام الدليل على ذلك، والأصل عدم الدليل الموجب للاتِّباع فيما نحن فيه، فنبقى على مقتضى الأصل. وبيان ذمِّ التقليد قوله تعالى حكايةً عن قومٍ: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23]، ذكر ذلك في معرض الذمِّ (¬2) لهم". ¬

_ (¬1) في الأصل: ذكره، والتصحيح من نسخة أ. (¬2) سقطت الكلمة من الأصل، وأضفتها من نسخة أ.

أقول: والآيات في هذا المعنى كثيرةٌ، ثم ذكر المعارضات وأجاب عنها، إلى أن قال: "قولهم: إن التقليد عليه أكثر والسواد الأعظم، قلنا: ذلك لا يدلُّ على أنه أقرب إلى السلامة؛ لأن التقليد في العقائد المضلَّة أكثر من الصحيحة، على ما قال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116]، وقال تعالى: {وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24]، وقال عليه السلام: "تفترق أمَّتي ثلاثًا وسبعين فرقةً، واحدةٌ ناجيةٌ، والباقي في النار" (¬1) ...) (¬2). أقول: والذي يقع لي: أن القول بالاكتفاء بالتقليد إنما جرى على الألسنة لما لجَّ النزاع بين السلفيِّين والمتكلِّمين، كأنه لما بالغ بعض السلفيِّين فكفَّر مَن يخوض في علم الكلام بالغ بعض المتكلِّمين فزعم أنَّ مَن لا يعرف الكلام فهو مقلِّدٌ؛ ولا إيمان لمقلِّدٍ، فقال بعض السلفيِّين: التقليد كافٍ في الإيمان، يريدون إن كان الاقتصار في النظر على الطريقة التي درج عليها السلف تقليدًا فالتقليد كافٍ في الإيمان، ولم يريدوا أنَّ التقليد الحقيقيَّ يكفي. فأما حكاية الآمديِّ عن العنبريِّ والحشويَّة والتعليميَّة الجواز ¬

_ (¬1) أخرجه - بمعناه - أبو داود في كتاب السنَّة، بابٌ في شرح السنَّة، 4/ 197 - 198، ح 4596 - 4597. والحاكم في كتاب العلم، "تفترق هذه الأمَّة على ثلاثٍ وسبعين ملَّةً ... "، 1/ 128، من حديث أبي هريرة ومعاوية رضي الله عنهما. قال الحاكم بعد أن أورد له طرقًا وشواهد: "هذه أسانيد تُقام بها الحجة في تصحيح هذا الحديث". وانظر: السلسلة الصحيحة (204). (¬2) إحكام الأحكام 4/ 300 - 306. [المؤلف]

فالمشهور عن العنبريِّ أنه كان يرى أنَّ كلَّ مجتهدٍ مصيبٌ سواء في العقائد أو في الفروع. فقيل: إنه إنما كان يقول هذا في المجتهدين من المسلمين - أعني في الضرب الثاني من العقائد - فيصوِّب مَن يثبت القدر ومَن ينفيه، ومَن يثبت الرؤية ومَن ينفيها، ونحو ذلك، ويقول: "هؤلاء عظَّموا الله، وهؤلاء نزَّهوا الله"، يريد أن المخطئ منهم مصيبٌ، على نحو ما يقوله غيره في المجتهدين في الفروع، وبهذا لا يكون الخلاف فيها اختلافًا في الدين ولا افتراقًا بين المسلمين. وقيل: بل كان يقول بهذا في غير المسلمين أيضًا؛ فيرى أنَّ الكافر إذا بذل مجهوده في البحث والنظر يريد الحقَّ ويحرص عليه فأدَّاه نظره إلى أنَّ الإِسلام ليس بحقٍّ فهو معذورٌ، وحُكِي عنه الرجوع عن ذلك. انظر: الاعتصام (¬1) [ب 33] وانظر ترجمة عُبيد الله في تهذيب التهذيب (¬2) وغيره. وقد حكوا القول بعذر الكافر إذا بذل مجهوده كما تقدَّم عن الـ (¬3) أيضًا. قال بعض العلماء: ومال إليه الغزاليُّ في فيصل التفرقة (¬4). أقول: وهذه مسألةٌ أخرى، والحقُّ فيها أنه لا يوجد إنسانٌ يبذل مجهوده في البحث والنظر مريدًا للحقِّ حريصًا عليه مخلصًا في قصده ثم يظهر له أنَّ ¬

_ (¬1) 1/ 189 - 190. [المؤلف]. وانظر ط دار ابن الجوزي 1/ 257. (¬2) 7/ 8. وفيه "ونقل محمَّد بن إسماعيل الأزدي في ثقاته أنه رجع عن المسألة التي ذُكرت عنه لما تبيّن له الصواب". (¬3) بيَّض له المؤلِّف، ولعله الجاحظ كما مرَّ في ص 171 مقرونًا بالعنبري. (¬4) ص 87.

الإِسلام ليس بحقًّ؛ لأن الله تعالى قال: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا} [العنكبوت: 69]، فهذا الإنسان مجاهدٌ في الحقِّ محسنٌ فكيف لا يهديه الله تعالى؟ (¬1). فإن فُرِضت المسألة فرضًا، فإن (¬2) قال قائلٌ: إنه لو وُجِد إنسانٌ بهذه الصفة لكان حكمه في الشرع حكمَ غيره من الكفَّار، وأمَّا في الآخرة فيكون في الذين يُمتحَنون فتُرفَع لهم نار، إلى آخر ما جاء في الأحاديث. فليس هذا القول بخروجٍ عن الإِسلام، ولكن مثل هذا مما تواصى العلماء بالسكوت عنه لما قد يترتَّب على إظهاره من المفاسد. وبالجملة فذلك النقل عن العنبريِّ ليس بنصٍّ في جواز التقليد في أصول الدين، مع أنه قد نُقِل عنه الرجوع عن مقالته. ¬

_ (¬1) قال المؤلِّف في ص 908 - 909: "وأما اليهود والنصارى والمشركون فهم في سُبل أخرى ليست من سُبُل الله تعالى؛ لأنها لا ترجع إلى سبيله الأعظم وصراطه المستقيم، فمَن جاهد منهم في الله فلا بدَّ أن يهديه الله إلى سبيله الذي يرضاه وهو الإِسلام، كما قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}، وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ". وانظر كلام المؤلِّف في السياق نفسه (ص 913) إلى أن قال: "ومن هنا يُعْلَم أنَّ قوله تعالى: {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} لا يقتصر معنى الهداية فيه على تيسير البرهان القاطع، بل يحصل بذلك وبتيسير الدليل الذي يتبين به للناظر أن اتِّباع الإِسلام أحوط له، ولكنه إذا عمل بالأحوط ودخل في الإِسلام يسّرَ الله تعالى له بعد ذلك ما يُثْلِج صدرَه إن شاء الله تعالى، كما مرّ في تفسير قوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ". (¬2) كذا في الأصل، ولعلَّه: بأن.

وأما الحشويَّة فإن أراد بهم أهل الحديث المتَّبعين للسلف فقد سبق الجواب عنهم، وأنهم إنما ينكرون النظر على الطريق الفلسفيَّة ويوجبون النظر على الطريق السلفيَّة. وأما التعليميَّة (¬1) فهم عند عامَّة المسلمين مبتدعةٌ، ومن المسلمين مَن يكفِّرهم. والمعروف عنهم أنهم إنما يرون الاتِّباع للإمام؛ لأنه عندهم معصومٌ، فاتِّباعه في زعمهم ليس بتقليدٍ بالمعنى المتعارَف. وبالجملة فالأصول الضروريَّة من العقائد التي لا يكون المؤمن مؤمنًا إلا بها لا نعلم أحدًا يقول: يكفي فيها التقليد الحقيقيُّ، والله أعلم (¬2). واعلم أنه لا فرق في التقليد بين أن يكون لعالم واحد وأن يكون لجماعة من العلماء (¬3) وإن اشتهر أنهم أهل السنة وأن مخالفهم من أهل البدعة. أولًا: لأن اشتهار أن هذا قول أهل السنة جميعهم قد يكون غير صحيح، ويكون جماعة من أئمة السنة على خلافه. بل قد يكون القول الذي زعموا لك أنه قول أهل السنة إنما هو قول طائفة من المتأخرين، ويكون قول سلف هذه الأمة الذين هم أهل السنة في الحقيقة (¬4) على خلافه، وسيأتي قريبًا قول ابن مسعود وحذيفة وغيرهما: إنها ستنتشر البدع ويألفها الناس حتى إذا تُرِكَ منها شيء قالوا: قد تُرِكَت السنة، وأن ذلك في حكم المرفوع، على أنها ¬

_ (¬1) من ألقاب الباطنية، وسبق التعريف بهم قريبًا. وقد كفَّرهم الغزالي وغيره. راجع: الإسماعيلية لإحسان إلهي ظهير، وفضائح الباطنية للغزالي. وانظر: مجموع الفتاوى 19/ 186 - 187. (¬2) هنا ينتهي ما أخذناه من النسخة ب. (¬3) من هنا يبدأ ملحق ص: 43، وهو سبع ورقاتٍ. (¬4) ولا يخرج الحق عما يجتمعون عليه. انظر منهاج السنة النبوية 5/ 166.

ستأتي أحاديث كثيرة تفيد هذا المعنى. ثانيًا: أن قول أهل السنة وحدهم ليس بإجماع، فلا يكون حجة كما هو مقرَّر في أصول الفقه، قال الإِمام الغزالي: "المبتدع إذا خالف لم ينعقد الإجماع دونه، إذا لم يكفر، بل هو كمجتهد فاسق، وخلاف المجتهد الفاسق معتبر ... والمبتدع ثقة يقبل قوله؛ فإنه ليس يدري أنه فاسق ... " (¬1). وإذا لم يكن حجة مطلقًا فكيف يكون حجة في العقائد التي لا يصح بناؤها إلا على الحجج القطعية المفيدة لليقين؟ ثالثًا: أن أهل السنة إنما حصل لهم الشرف باتباع الكتاب والسنة، فإنما يكون تقليدهم فيما يجوز فيه التقليد أولى لأن الظاهر أن قولهم موافق للكتاب والسنة، فإذا فُرِضَ أنه تبيَّن بالبحث والتحقيق أنهم قالوا في مسألة خلاف ما يدل عليه الكتاب والسنة فلا قيمة لقولهم فيها. وإنما ننبِّهك على هذا؛ لأنَّ مِنْ طَبعْ الإنسان أنه إذا عرف في طائفة أنهم على الحق في كثير من المسائل، وعرف في طائفة أخرى أنهم على باطل في كثير من المسائل، ثم ذكرت له مسألة اختلفت الطائفتان فيها، فإنه يتسرَّع إلى الحكم بأن الحقَّ فيها مع الطائفة الأولى، ولو لم يعرف لهم حجَّة، بل قد تُتْلى عليه الحجج الموافقة للطائفة الثانية، وتكون قويَّة ولا يعرف حجَّة للطائفة الأولى، ولكنه لا يستطيع دفع ذلك الوهم عنه، وهذا من أشنع الغلط. وفي الحديث: "الكلمة الحكمة ضالَّة المؤمن، حيثما وجدها فهو أحقُّ ¬

_ (¬1) المستصفى 1/ 183. [المؤلف]

بها"، أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة مرفوعًا (¬1). وأخرج الديلمي وابن عساكر نحوه من حديث علي عليه السلام كما "في المقاصد الحسنة" للسخاوي. أقول: ومعناه صحيح يشهد له الكتاب والسنة. ومما يشهد له من السنة حديث أحمد وغيره في اليهوديّ الذي جاء إلى النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فقال: إنكم تشركون وتندِّدون، تقولون ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة، فنهى النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أصحابه عن ذلك (¬2)، وسيأتي هذا الحديث وما في معناه إن شاء الله تعالى. وحديث الحكمة يُشير إلى أمور: منها: أن الحق كثيرًا ما يوجد عند مَنْ ليس من أهله فضلًا عمن أسيئت سمعته، ولهذا قال: "فهو أحق بها" يريد: فهو أحق بها ممن وجدها عنده، وذلك صريح في أنه وجدها عند من ليس من أهلها. بل قوله: "ضالة المؤمن" إلخ صريح في أنه قد توجد الحكمة عند كافر. ولهذا يكون المؤمن أحق بها ممن وجدها عنده؛ إذ لو وجدها عند مؤمن لكان كلٌّ منهما حقيقًا بها، وإذا أمكن وجودها عند كافر فإمكان وجودها عند مبتدعٍ أو فاسقٍ أولى. ¬

_ (¬1) جامع الترمذيّ، كتاب العلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة، 2/ 115، ح 2687. سنن ابن ماجه، كتاب الزهد، باب الحكمة، 2/ 281، ح 4169. قال الترمذيّ: "هذا حديثٌ غريبٌ لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإبراهيم بن الفضل المدني المخزومي يُضَعَّفُ في الحديث من قِبَل حفظه". اهـ. [المؤلف] (¬2) انظر: المسند 6/ 371 - 372، سنن النسائيّ، كتاب الأيمان والنذور، الحلف بالكعبة، 7/ 7. والحديث صحَّحه الألبانيُّ في صحيح سنن النسائيّ، برقم 3773.

ومنها: أنه قد لا يوجد الحق في بعض المسائل عند من اشتهر بالحق؛ لأن من شأن الضالة أنها تقع في محلٍّ غير مناسب لها فلا توجد إلا فيه، ولا توجد في المحلِّ المناسب لها، فمن اقتصر على طلبها في المواضع المناسبة لها لم يظفر بها. ومنها: أنه لا ينبغي للمؤمن أن يستنكف عن طلب الحق عند من اشتهر بخلاف الحق ولا عن قبوله منه، فإن من ضلّ خاتمه مثلًا فوجده في كُنَاسَة أو بيد مشرك أو مبتدع أو من يلابس القاذورات مثلًا لم يمنعه ذلك من أخذه، ولو امتنع لعُدَّ أحمق. ومنها: أنه ينبغي للمؤمن أن يتعرَّف الحق من حيث هو حق، ولا يلتفت إلى حال من قاله، حتى لو اختلف عليه وليٌّ وفاجر أو إمام وجاهل لم يحمله ذلك على تلقّي كلام الوليِّ أو العالم بالقبول بدون تحقُّق أنه الحق، كما أن من ضلّ خاتمه مثلًا فلقيه وليٌّ وفاجر أو إمام وجاهل بيد كلٍّ منهما خاتم يقول له: أرى أن هذا خاتمك لم يلتفت إلى جلالة الوليّ أو الإِمام ودناءة الفاجر أو الجاهل، بل يتأمَّل الخاتمين فأيُّهما عرف أنه خاتمه أَخَذَه، وإن كان هو الذي بيد الفاجر أو الجاهل. ومنها: أن ترك الأخذ بقول وليٍّ أو إمام لا يكون تحقيرًا له ولا استخفافًا بحقه؛ فإن من عرف أن خاتمه هو الذي بيد الفاجر أو الجاهل، فأخذه وترك الذي بيد الوليِّ أو الإِمام لم يُعَدَّ مُهينًا لهذين ولا مُسيئًا إليهما كما أنه لا يُعَدُّ معظِّمًا مبجلًا لذلك الفاجر أو الجاهل، وإن كان عليه شكره. ومن أمعن في تدبُّر الحديث ظهر له أكثر مما ذكرنا.

ومما يحسن ذكره هنا قوله تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} [المائدة: 2]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8]. تقول العرب: جَرَمَه بُغْضِي أن يظلمني أو على أن يظلمني أي: جعله بغضي يكسب ظلمي الذي هو جُرْمٌ، أي: ذنب. ومن العدوان وترك العدل أن تردَّ قول العالم بدون حجة، ولكن لأنك تسيء الظنّ به أو لأن كثيرًا من الناس أو أكثرهم يخالفونه ويدَّعون عليه أنه يخالف الحقَّ في بعض المسائل. وكما أن هذا عدوان على ذلك العالم، فهو عدوان على الحق أيضًا؛ لأن عليك أن تطلبه بالحجة والبرهان، فَتَرَكْتَ ذلك، وعدوانٌ على نفسك أيضًا؛ لأنك ظالم لها. والحاصل: أن طالب الحق إذا اختلف عليه العلماء كان عليه أن ينصب نفسه منصب القاضي فيسمع قولَ كلِّ واحد منهم وحجته، ثم يقضي بالقسط، فكما أن القاضي إذا اختصم إليه وليٌّ وفاجر أو مؤمن وكافر ليس له أن يقضي للوليِّ أو المؤمن بدون حجة، ولا أن يسمع منه ويُعْرِضَ عن خصمه، ولا أن يمتنع عن الحكم للفاجر أو الكافر إذا توجَّه له الحق، فكذلك طالب الحق في المسائل المختلف فيها. ولعلك قد بلغك ما روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في أيام خلافته أنه رافع يهوديًا إلى القاضي شريح وبيد اليهودي درعٌ،

فادَّعى أمير المؤمنين عليٌّ عليه السلام: "إنها درعي"، فأنكر اليهودي، ولم يكن لأمير المؤمنين بينة، فقضى القاضي لليهودي، فلما رأى اليهوديّ ذلك أسلم واعترف بأن الدرع درع أمير المؤمنين، فلما رأى أمير المؤمنين إسلامه واعترافه وهب له الدِّرْعَ. والقصة ثابتة في كتب الحديث والتاريخ (¬1). وبعض الناس يتوهَّم أنَّ مثل هذا الحكم إنما هو من باب طرد القواعد، وإلَّا فلا ريب في صحة قول أمير المؤمنين وبطلان قول اليهوديّ. وفيه أنه يجوز خلاف ذلك لجواز أن يكون أمير المؤمنين وَهَبَها أو باعها ثم نسي أو اشتبهت عليه درع بدرع أو نحو ذلك، فتدبَّرْ. والله أعلم. واعلم أن أكثر العلماء المنتسبين إلى المذاهب لم ينصبوا أنفسهم منصب القضاة، وإنما نصبوا أنفسهم منصب المحامين، كلٌّ عن المذهب المنتسِب إليه (¬2). فعلى طالب الحق أن ينزلهم منازلهم فلا يعدّهم قضاة يُقْبل قولهم في تأييد المذهب المنتسبين إليه وتخطئة غيره، بل عليه أن يعرف أنهم محامون عن مذاهبهم، فلا يسمع من أحد منهم إلا كما يسمع القاضي من المحامي. ورُوِّينا من حديث عليٍّ بن أبي طالبٍ عليه السلام أن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال له: "إذا تقاضى إليك رجلان فلا تقض للأول حتى تسمع كلام الآخر؛ فسوف تدري كيف تقضي". قال عليٌّ: "فما زلت قاضيًا ¬

_ (¬1) انظر: سنن البيهقيّ، كتاب آداب القاضي، باب إنصاف الخصمين ... 10/ 136. [المؤلف] (¬2) كذا في الأصل، والجادَّة إظهار الفاعل، فيُقال: المنتسِب هو إليه.

بَعْدُ". رواه أحمد، والترمذيّ وحسَّنه، وأبو داود، وقوَّاه ابن المدينيّ، وصحَّحه ابن حِبَّان (¬1). وله شاهدٌ عند الحاكم من حديث ابن عبَّاسٍ (¬2). كذا في بلوغ المرام (¬3). واشتهر من قول أمير المؤمنين عليٍّ عليه السلام: "لا تنظر إلى مَنْ قال وانظر إلى ما قال" (¬4)، وسيأتي كثيرٌ مما يؤيِّد هذا المعنى. وقال الإِمام الغزالي: "الغلطة الثالثة: سببها سَبْقُ الوهم إلى العكس، فإنَّ ما يُرَى مقرونًا بالشيء يُظَنُّ أنَّ الشيء أيضًا لا محالة مقرون به مطلقًا، ولا يُدْرَى أنَّ الأخصَّ أبدًا مقرون بالأعمِّ، والأعمُّ لا يلزم أن يكون مقرونًا بالأخص. ومثله نُفْرَة نفس السَّلِيم وهو الذي نهشته الحيَّة عن الحبل ¬

_ (¬1) انظر: المسند 1/ 90. وسنن أبي داود، كتاب الأقضية، بابٌ كيف القضاء، 3/ 301، ح 3582. وجامع الترمذيّ، كتاب الأحكام، باب ما جاء في القاضي لا يقضي بين الخصمين حتى يسمع كلامهما، 3/ 609، ح 1331، وقال: "هذا حديث حسنٌ". وصحيح ابن حبَّان (الإحسان)، كتاب القضاء، ذكر أدب القاضي عند إمضائه الحكم ... ، 11/ 451، ح 5065. وأعلَّه ابن حزم وغيره بسماك بن حرب. انظر: المحلى 8/ 436، والبدر المنير 9/ 533، وإرواء الغليل 8/ 226. (¬2) انظر: المستدرك، كتاب الأحكام، استماع بيان الخصمين واجبٌ على القاضي، 4/ 93، من حديث عليًّ رضي الله عنه، وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ولم يتعقَّبه الذهبيّ. أما حديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما فقد رواه في أوَّل كتاب الأحكام 4/ 88، وقال: "صحيحٌ على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ولم يتعقَّبه الذهبيّ، لكن ليس فيه ذكر الاستماع إلى الخصمين. (¬3) كتاب القضاء، 2/ 188، ح 1388. (¬4) انظر: المصنوع في معرفة الحديث الموضوع ص 206، ح 397، وكشف الخفاء 2/ 362.

المبرقَش اللَّون؛ لأنه وجد الأذى مقرونًا بهذه الصورة، فتوهم أنَّ هذه الصورة مقرونة بالأذى. وكذلك تنفر النفس عن العسل، إذا شُبِّه بالعَذِرة؛ لأنه وجد الأذى والاستقذار مقرونًا بالرَّطْب الأصفر، فتوهَّم أنَّ الرَّطْبَ الأصفر مقرون به الاستقذار، ويغلب الوهم حتى يتعذَّر أكل وإن حكم العقل بكذب الوهم، لكن خُلِقَتْ قُوَى النفس مطيعة للأوهام وإن كانت كاذبة، حتى إنَّ الطبع لينفر عن حسناء سمِّيت اسم اليهود إذا وجد الاسم مقرونًا بالقبح، فظنَّ أنَّ القبح أيضًا ملازم للاسم. ولذا تُوْرَد على بعض العوامِّ مسألة عقلية جليلة فيقبلها، فإذا قلت: هذا مذهب الأشعري أو الحنبلي أو المعتزلي نفر عنه إن كان يسيء الاعتقاد فيمن نَسَبْتَه إليه، وليس هذا طبعَ العامِّيِّ خاصَّة، بل طبعُ أكثر العقلاء المُتَّسمين بالعلوم، إلا العلماء الراسخين الذين أراهم الله تعالى الحقَّ حقًّا، وقوَّاهم على اتِّباعه .... " (¬1). أقول: ومما يوضح ما قاله الغزالي أنك قد ترى من يشبه صديقًا لك فتميل إليه نفسك، مع أنك لم تره قبل ذلك، وترى من يشبه بغيضًا لك، فتنفر نفسك عنه، وترى من يشبه مخوفًا لك فتخافه، وقس على هذا. حتى إن الإنسان ليميل إلى سَمِيِّ صديقه، وينفر عن سميِّ بغيضه، ونحو ذلك، وقد يكون عهدك بصديقك أو بغيضك أو مخوفك بعيدًا، أو تكون مشابهة هذا له غير واضحة، فيخفى عنك السبب، فتبقى متعجبًا ما بال نفسي مالت إلى هذا الشخص مع أني لم أره قبل الآن. وما لها نفرت عن هذا مع أني لم أره قبل الآن، وأكثر الناس يوجِّهون ذلك بتعارف الأرواح أو تناكرها، وهذا وإن كان صحيحًا في الجملة إلاَّ أنَّ الغالب ما تقدّم، وأنت إذا تذكّرت وتفكَّرْت ¬

_ (¬1) المستصفى 1/ 59. [المؤلف]

عرفت صحَّة ما ذكرنا. وهذا الباب واسع حتى لقد ترى الشخص فتظنُّه عالمًا، وما ذلك إلا لمشابهةٍ بينه وبين رجلٍ عالمٍ قد عرفته قبل ذلك. فأمَّا ما ذكره الغزاليُّ أنَّ الإنسان قد تُذْكَر له مسألة عقلية جليلة فيقبلها، فإذا قيل له: هذا قول الأشعرية وكان يسيء الظن بهم نفر عنها، فقد يكون لما ذكر بأن يكون هذا الإنسان طالب علم، وقد عرف مسائل أخطأ فيها الأشعرية، فلما نُسِبَتْ هذه المسألة إليهم نفرت نفسه عنها لمشابهتها لتلك المسائل في أنَّ الجميع من قول الأشعرية، فتوهَّم أنَّ المشابهة في هذا الأمر تشعر بالمشابهة في الخطأ، وقَوِيَ هذا المعنى في وهمه حتى غلب ما قام لديه من دليلٍ على صحَّة قولهم في تلك المسألة. وقد يكون طالع مذهب الأشاعرة فظهر له أنَّ الغالب فيما يخالفون فيه المعتزلة الخطأ، فاجتمع عنده القياس الوهميُّ السابق مع الحمل على الغالب. وقد يكون سمع كثيرًا ممن يحسن الظن بهم يذمّون الأشعرية، وقد يكون وجد آباءه وأشياخه على الاعتزال ونشأ عليه، فصار يكره أن يُنْسَب الغلط إلى مذهبه ومذهب آبائه وأشياخه. وهذا هو التعصب، وهو أوْخَم هذه الأمور، فلقد بلغ بكثير من الناس إلى ما يظهر منه اعتقاد العصمة في فرد من أفراد الأمة؛ فإنك تجد كثيرًا من المقلدين للشافعيِّ مثلًا لا يجوّزون الخطأ عليه. فإن قيل: إنهم لا يصرِّحون باعتقاد العصمة. قلت: نعم، ولكن ألا تراهم كلما عُرِضَ عليهم قولٌ من أقوال الشافعي اعتقدوا أنه الحق، ولا يتردَّدون فيه، ولو خالف القرآن أو خالف الأحاديث الصحيحة أو خالف أكابر الصحابة أو خالف جمهور الأمة؟ فلولا أنهم يعتقدون له العصمة لكانوا إذا بُيّنَتْ لهم الحجة على خلافه خضعوا لها.

ولقد كثر اعتقاد العصمة في كثير من أفراد الأمة فضلًا عن الطوائف كالأشعرية والمعتزلة ونحوها، ومع هذا فلا نقول فيمن لم يصرِّح باعتقاد العصمة إنه يعتقدها، وإنما وقعوا فيما وقعوا فيه بالتعصب ومحبة النفس، فإنَّ أحدهم يحب نفسه حتى لا تطاوعه نفسه إلى الاعتراف بأنَّ آباءه أو مشايخه أو أهل مذهبه أخطؤوا، فلذلك تجده لا يميل إلى الاعتراف بأن إمامه أخطأ، وإن قامت الحجة عليه، بل يذهب يحرِّف الحجج ويؤوِّلها. وليس هذا بالتقليد الذي أجازه العلماء في الفروع وأنكره بعضهم، وإنما التقليد المجوَّز أن تأخذ بقول مجتهد لا تعلم حجَّته، ولكن قد قام عندك دليل يفيد الظن بأنَّ قوله صواب، فإذا أُخْبِرْتَ بدليل أقوى من الدليل الأول يدلُّ على أنَّ ذلك المجتهد أخطأ، وأنَّ الصواب قول مجتهد آخر، لزمك أن ترجع إلى قول الآخر، فإن منعك التعصُّب فعليك أن تكتفي بقول: "لعلّ لإمامي جوابًا عن هذا الدليل". واعلم أنَّ هذا لا أراه ينجيك؛ لما تقرَّر في الأصول من وجوب اعتقاد أنَّ الدليل الظاهر على ظاهره، والعمل بمقتضى ذلك حتى يتمَّ البحث، فإن ظهر بالبحث أنَّ هناك دليلًا آخر يوجب تخصيص الأول أو تأويله عُمِلَ به من حين ظهوره. ذَكَرَ أهلُ الأصول هذه المسألة في بحث الأمر وبحث العامِّ (¬1). ولا فرق بين المقلّد وغيره؛ لأنَّ قول إمامه وإن كان شبه قرينة على أن لذلك الدليل مخالفًا، فهذه القرينة معارَضَةٌ بقول مَنْ قال من المجتهدين بظاهر ذلك الدليل، والتفاوت بين المجتهدين يسير لا يقاوِم الدليلَ الظاهرَ ¬

_ (¬1) انظر قواطع الأدلَّة للسمعانيّ 1/ 308، وتشنيف المسامع للزركشيّ 2/ 599 و728.

من الكتاب والسنة. والمقصود أنَّ قولك: "لعلَّ لإمامي جوابًا عن هذا الدليل" لا ينجيك، ولكنه أهون من أن تَعْمِد إلى الأدلَّة المخالفة لمذهبك فتحرِّفها وتؤوِّلها وتبدلها، والعياذ بالله. هذا مع أن التقليد المجوَّز إنما هو في فروع الفقه، فأمَّا أصول الدين فلا يغني فيها التقليد المحض (¬1). ولو جاز التقليد في أصول الدين، لكان سلف الأمة أولى بأن يقلِّدهم الناس، فإنَّ لهم مزايا يعزُّ وجودها فيمن بعدهم. منها: قربهم من عهد النبوَّة. ومنها: بعدهم عن التقليد لغير المعصوم. فكان الصحابة رضي الله عنهم لما علموا أن أمور الدنيا ربما يرى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - رأيًا يكون غيرُه أولي منه لا يمنعهم علمهم بعظيم قدره صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وتفانيهم في محبته وتوقيره، عن الإشارة عليه بخلاف رأيه. وهذا كثير في الأحاديث، وثبت في حديث جابر في شأن الجمل الذي اشتراه رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم منه، قال جابر: "كنا نراجعه مرَّتين في الأمر إذا أَمَرَنَا به، فإذا أَمَرَنَا الثالثة لم نراجعه" (¬2). ومن كان له اطِّلاع على الحديث وجد المراجعة ثلاثًا موجودة في أحاديث كثيرة يكفي بعضها في تواتر هذا المعنى. فأمَّا في أمور الدين فكانوا يعلمون عصمته صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فيها فلم يكونوا يراجعونه في شيء منها إلاَّ نادرًا، حيث يعلمون أنه صلَّى الله ¬

_ (¬1) هنا انتهى ملحق ص 43. (¬2) مسند أحمد 3/ 358 - 359. [المؤلف]

عليه وآله وسلَّم استند إلى اجتهاده، كما راجعه عمر رضي الله عنه في الصلاة على ابن أبيٍّ المنافق (¬1)؛ لأنَّ عمر فَهِم أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم إنما استند في ذلك إلى رأيه. ثم كان أصاغرهم يخالفون أكابرهم في أمور الدين مع احترامهم لهم، وهكذا التابعون وأتباعهم والأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المشهورة وغيرهم يخالفون أكابر الصحابة فضلًا عن غيرهم. ولم يكن يخطر ببال العالم منهم أنَّ مخالفته مَنْ تَقَدَّمَه فيها احتقار أو سوء أدب في حقِّه، بل كان أحدهم يعترف بأنَّ مَنْ فوقه أفضلُ وأعلم منه، ولا يمنعه ذلك من مخالفته إذا ترجَّح له خلافُ قوله. ومنها: الإخلاص، فكان أحدهم إذا سئل عما لا يعلمه حقَّ العلم لم يتوقف عن قول: لا أدري، وإذا أخطأ في شيء ثم وُقِفَ عليه لم يتوقَّف عن قوله: أخطأتُ، ولا يتكلَّم في علم لم يتقِنه، بل يقول: لا خبرة [44] لي بهذا العلم، ولا يبالي بأنَّ ذلك قد ينقص مكانته في قلوب الناس ويعظم مكانة غيره من معاصريه ومخالفيه. وحسبك ما كان بين أمير المؤمنين عليٍّ وبين معاوية من النزاع، ولم يمنع ذلك معاوية أن يستفتي أمير المؤمنين عما أشكل عليه من الأحكام، كما في قضية الرجل الذي قتل آخر زاعمًا أنه وجده مع امرأته، وغير ذلك (¬2). والعلوم كالصنائع، قد يكون الرجل نَجَّارًا ولا يحسن من الصنائع ¬

_ (¬1) انظر: البخاريّ، كتاب الجنائز، باب ما يُكره من الصلاة على المنافقين ... ، 2/ 97، ح 1366. وصحيح مسلمٍ، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، 8/ 120، ح 2774. [المؤلف] (¬2) انظر: سنن البيهقيّ، كتاب الحدود، باب الشهود في الزنى، 8/ 231. [المؤلف].

غيرها، ولا يمنعه ذلك أن يقال: إنه صانع ماهر، فهكذا قد يكون الرجل ماهرًا في العربية فقط كسيبويه، ولا يمنعه ذلك أن يقال: إنه عالم علَّامة إمام. وكان أهل القرون الأولى من الورع والمعرفة بحيث إن العالم بفنٍّ لا يتعاطى الكلام في غيره، والعامَّة لا يسألون في كلِّ علمٍ إلاَّ من عُرِفَتْ له الإمامةُ فيه. فكان الناس في بغداد في زمن المأمون وما بعده مَنْ أحب أن يسأل عن شيء من الحديث وفقهه سأل الإِمام أحمد وأضرابه، ومَنْ أحب أن يسأل عن شيء من الرأي والقياس سأل أصحاب الإِمام أبي حنيفة، ومَنْ أحبّ أن يسأل عن شيء من العربية سأل أصحاب الكسائي وأضرابهم، ومَنْ أحبَّ أن يسأل عن شيء من الورع وأمراض القلب سأل أضراب بشر الحافي وأصحابه، ومَنْ أحبَّ أن يسأل عن شيء من [45] المغازي والأخبار سأل أصحاب الواقدي وأمثالهم، وقس على ذلك. وقد كان جماعة من أئمة الحديث المضروب بهم المثل إذا سئل أحدهم عن مسألة فقهية يقول للسائل: سَل الفقهاء. ولكن في العصور الوسطى تغيَّر الحال، فكم من عارف بفنٍّ خاصًّ تعاطى الكلام في غيره، واغترَّت العامة بشهرته فقلَّدوه في جميع العلوم. وبالجملة فمزايا السلف كثيرة، وحسبك قول النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "خير أمتي القرن الذين يلوني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته". والحديث في الصحيحين وغيرهما عن جماعةٍ من الصحابة (¬1)، وفي ¬

_ (¬1) منهم: ابن مسعودٍ رضي الله عنه. أخرج حديثه البخاريّ في كتاب الشهادات، بابٌ لا يشهد على جَوْرٍ إذا أُشْهِد، 3/ 171، ح 2652. ومسلمٌ - كما سيأتي - ومنهم: =

ألفاظه اختلافٌ، واللفظ الذي ذكرناه لمسلمٍ في صحيحه عن عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه (¬1). وفي مسند أحمد وسنن أبي داود وغيرها عن عرباض بن سارية رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ذات يوم ثم أقبل علينا بوجهه فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال رجل: يا رسول الله كأن هذه موعظة مُوَدعّ فأوصنا، فقال: "أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن كان عبدًا حبشيًّا، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديِّين، تمسّكوا بها وعضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة" (¬2). ¬

_ = عمران بن حُصَينٍ رضي الله عنه. أخرج حديثه البخاريّ في الموضع السابق، 3/ 171، ح 2651. ومسلمٌ في كتاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة، 7/ 185، ح 2535. ومنهم: أبو هريرة رضي الله عنه. أخرج حديثه مسلمٌ في الموضع السابق، 7/ 185، ح 2534. (¬1) صحيح مسلمٍ، كتاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة، 7/ 184، ح 2533. [المؤلف] (¬2) مسند أحمد 4/ 126. سنن أبي داود، كتاب السنَّة، بابٌ في لزوم السنَّة، 2/ 165، ح 4607. سنن ابن ماجه، كتاب السنَّة (المقدِّمة)، باب اتِّباع سنَّة الخلفاء الراشدين المهديِّين، 1/ 10 - 11، ح 42 - 44. سنن الدارميّ، (المقدِّمة)، باب اتِّباع السنَّة، 1/ 44، ح 96. جامع الترمذيّ، كتاب العلم، باب الأخذ بالسنَّة واجتناب البدع، 2/ 113، ح 2676، وقال: "حسنٌ صحيحٌ". والحاكم في المستدرك، كتاب العلم، "عليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء الراشدين"، 1/ 94 - 98، من طرقٍ، قال في بعضها: "صحيحٌ ليس له علَّةٌ"، وقال في بعضها: "صحيحٌ على شرطهما جميعًا، ولا أعرف =

[46] وفي سنن أبي داود وسنن الدارمي وغيرهما عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال: "يُفتح القرآن على الناس حتى يقرأه المرأة والصبيُّ والرجل، فيقول الرجل: قد قرأتُ القرآن فلم أُتَّبَع، والله لأقومنَّ به فيهم لعلي أُتَّبع، فيقوم به فيهم فلا يُتَّبَع، فيقول: قد قرأتُ القرآن فلم أُتَّبَع، وقد قمت به فيهم فلم أُتَّبَع، لأحتظرنَّ في بيتي مسجدًا لعلي أُتَّبَع، فيحتظر في بيته مسجدًا فلا يُتَّبَع، فيقول: قد قرأتُ القرآن فلم أُتَّبَعْ، وقمتُ به فيهم فلم أُتَّبَع، وقد احتظرتُ في بيتي مسجدًا فلم أُتَّبَع، والله لآتينَّهم بحديث لا يجدونه في كتاب الله ولم يسمعوه عن رسول الله لعلَّي أُتَّبَع، قال معاذ: فإياكم وما جاء به؛ فإنَّ ما جاء به ضلالة" (¬1). وفي سنن الدارمي أيضًا عن الحسن قال: "سننكم، والله الذي لا إله إلا هو، بينهما: بين الغالي والجافي، فاصبروا عليها رحمكم الله، فإن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما مضى وهم أقل الناس فيما بقي .... " (¬2). وفيها أيضًا عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يهرم فيها الكبير ويربو فيها الصغير إذا تُرِكَ منها شيء [47] قيل: تُرِكَت السنَّة ... " (¬3). ¬

_ = له علَّةً"، وأقرَّه الذهبيّ. وقد صحَّحه ابن حِبَّان أيضًا (الإحسان)، في (المقدَّمة)، باب الاعتصام بالسنَّة ... ، 1/ 178، ح 5. [المؤلف] (¬1) سنن أبي داود، كتاب السنَّة، بابٌ في لزوم السنَّة، 2/ 272، ح 4611. سنن الدارميّ، (المقدِّمة)، باب تغيُّر الزمان وما يحدث فيه، 1/ 66 - 67، ح 205. [المؤلف] (¬2) سنن الدارميّ، (المقدِّمة)، بابٌ في كراهية أخذ الرأي، 1/ 72، ح 222. [المؤلف] (¬3) سنن الدارميّ، (المقدِّمة)، باب تغيُّر الزمان وما يحدث فيه، 1/ 64، ح 191. ونحوه في المستدرك، كتاب الفتن والملاحم، ذكر فتنةٍ يهرم فيها الكبير ويربو فيها الصغير، =

أقول: وهذا الموقوف له حكم المرفوع؛ لأنه مما لا يُقال بالرأي. وفي كتاب ابن وضاح (¬1) عن حذيفة رضي الله عنه: "أنه أخذ حجرين فوضع أحدهما على الآخر ثم قال لأصحابه: هل ترون ما بين هذين الحجرين من النور؟ قالوا: يا أبا عبد الله! ما نرى بينهما من النور إلاَّ قليلًا، قال: والذي نفسي بيده لتظهرنَّ البدع حتى لا يُرى من الحق إلا قَدْر ما بين هذين الحجرين من النور، والله لتفشُونَّ البدع حتى إذا تُرِكَ منها شيء قالوا: تُرِكت السنة ... ". وهذا الموقوف له حكم المرفوع أيضًا؛ لأنه لا مجال للرأي فيه. ومن أعظم مزايا السلف: ما نبَّه عليه ابن الحاج (¬2) رحمه الله، قال ما معناه: كان في عهد السلف إذا ابتدعت العامّة بدعة قام العلماء في إبطالها، وأما علماء الخلف فإنهم إذا ابتدع أحد من العامَّة والأمراء والأغنياء بدعةً قام العلماء في الترغيب فيها والانتصار لها وتوجيهها. أقول: وقد صدق وبرَّ، ومَن أراد من أمرائنا وأغنيائنا فليجرِّب بأن يُحْدِثَ بدعة، ثم يستعين بالعلماء والمتصوِّفين فسيجدهم أسرع ما يكون إلى الترغيب فيها وتحريف الكتاب والسنة في سبيل تحسينها وتضليل أو ¬

_ = 4/ 514 - 515. قال الذهبيّ في تلخيصه: "قلت: (خ م) "، يعني أنه على شرط الشيخين. [المؤلف] (¬1) ما جاء في البدع 124 ح 162. (¬2) أبو عبد الله محمَّد بن محمَّد بن محمَّد العبدري القبيلي الفاسي المالكي المشهور بابن الحاج، من تصانيفه: "المدخل إلى تنمية الأعمال"، قال فيه ابن حجر: (كثير الفوائد، كشف فيه عن معايب وبدعٍ يفعلها الناس)، توفي سنة 737 هـ. انظر: الدرر الكامنة 4/ 355 - 356. ولم أقف على هذا النقل في المدخل.

تكفير مَن قد يتعرّض لردِّها، [48] ولعلَّ الأعلم الأتقى منهم هو الذي يُلزم نفسه السكوت، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون. وبهذا هلكت الأمم السابقة، وقد قصّ الله تعالى في كتابه عن اليهود والنصارى ما فيه أعظم العبر. وفي الكتب الموجودة بيد اليهود والنصارى الآن ويسمونها بالتوراة أشياء كثيرة من هذا القبيل، وأما النصرانية فمَن تتبع تاريخها منذ رفع عيسى عليه السلام تبيَّن له أنه كان لا يزال في القرون الأولى عارفون بالحق، ولكنهم مغلوبون على أمرهم، وكانت العامَّة والملوك والأئمة المضلُّون يحدثون المقالات فيجدون من العلماء والرهبان مَنْ ينصرها، ويكفّر أو يضلِّل مَنْ يخالفها، وهذا حال جميع الأمم. وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود أن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريُّون وأصحابٌ يأخذون بسنته ويقتدون بأمره. ثم إنها تخلف من بعدهم خلوفٌ يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمَنْ جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومَنْ جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردلٍ" (¬1). [49] وفي الصحيحين وغيرهما عن أبي سعيد الخدري عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: "لتتبعن سنن مَن كان قبلكم شبرًا بشبرٍ، وذراعًا بذراعٍ، حتى لو دخلوا جحر ضبٍّ تبعتموهم"، قلنا: يا رسول الله! اليهود ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب الإيمان، بابٌ النهي عن المنكر من الإيمان، 1/ 50 - 51، ح 50. [المؤلف]

والنصارى؟ قال: "فمن؟ " (¬1). وروى البخاري نحوه عن أبي هريرة، وفيه: فقيل: يا رسول الله! كفارس والروم؟ فقال: "ومَن الناس إلا أولئك" (¬2). وروى الشافعي بسندٍ صحيحٍ - كما في الفتح - عن عبد الله بن عمرٍو عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "لتركَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كان قبلكم حُلوَها ومُرَّها" (¬3). وفي الفتح: وأخرج الطبرانيّ من حديث المستورد بن شدَّادٍ - رفعه عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم -: "لا تترك هذه الأمَّة شيئًا من سنن الأوَّلين حتى تأتيه" (¬4). قال في الفتح: قلت: وقد وقع معظم ما أنذر به صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وسيقع بقية ذلك (¬5). ¬

_ (¬1) البخاريّ، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنَّة، باب قول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "لتتَّبعنَّ سنن مَن كان قبلكم"، 9/ 103، ح 7320. مسلم، كتاب العلم، باب اتِّباع سنن اليهود والنصارى، 8/ 57، ح 2669. [المؤلف] (¬2) البخاري، الموضع السابق، 9/ 102 - 103، ح 7319. [المؤلف] (¬3) الفتح 13/ 235. [المؤلف]. كذا، وليس الفتح أنه مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - والحديث موقوف على ابن عمرو كما نصَّ عليه البيهقي في معرفة السنن والآثار 1/ 186. وانظر: السنن المأثورة للشافعي ص 137 - 138 ح 398. وأخرجه كذلك ابن أبي شيبة ومحمد بن نصر في السنة وغيرهما. (¬4) الفتح 13/ 235. [المؤلف]. قال الطبرانيّ: "لا يُروى هذا الحديث عن المستورد إلا بهذا الإسناد، تفرَّد به ابن لهيعة". انظر: المعجم الأوسط 1/ 101، ح 313. (¬5) الفتح 13/ 235. [المؤلف]

وفي المستدرك عن حذيفة رضي الله عنه قال: "أوَّلُ ما تفقدون من دينكم الخشوع، وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة، ولتُنْقَضَنَّ عرى الإِسلام عروة عروة، وليصلينَّ نساء وهنَّ حيّض، ولتسلكُنَّ طريق مَن كان قبلكم حذوَ القذة بالقذة، وحذوَ النعل بالنعل، لا تخطئون طريقهم ولا يخطئنكم (¬1)، حتى تبقى فرقتان من فرقٍ كثيرة، فتقول إحداهما: ما بال الصلوات الخمس، لقد ضَلَّ مَنْ كان قبلنا، إنما قال الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود: 114] لا تصلُّوا إلاَّ ثلاثًا، وتقول الأخرى: إيمان المؤمنين بالله كإيمان الملائكة، ما فينا كافرٌ ولا منافقٌ، حقٌّ على الله أن يحشرهما مع الدَّجَال". قال الحاكم: "صحيح الإسناد"، وأقرَّه الذهبيّ (¬2). أقول: وقد وُجِدَت الطائفتان؛ فإنَّ بالهند طائفة يسمُّون أنفسهم أهل القرآن (¬3)، يقولون: إنما الواجب ثلاث صلوات أو صلاتان، وأما الطائفة الأخرى فغلاة المرجئة. والله أعلم. وقال الإِمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولعلَّ الضمير يرجع إلى الطرق المفهومة من "طريق"، ورُسمت الكلمة في المستدرك: "ولا يخطأنكم" على لغة "خَطِئ يخطأ". وفي مسند الشاميِّين للطبرانيّ 2/ 100، ح 987: "ولا يُخْطَأُ لكم". (¬2) المستدرك، كتاب الفتن والملاحم، "أوَّل ما تفقدون من دينكم الخشوع"، 4/ 469. [المؤلف] (¬3) انظر رسالتي في الرَّدَّ على "شبهات القرآنيِّين" وقد طُبعت مرّتين في مجمَّع الملك فهدٍ لطباعة المصحف الشريف.

سنان بن أبي سنان الديلي، عن أبي واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قِبَلَ حنينٍ، فمررنا بسدرةٍ، فقلت: يا نبي الله! اجعل لنا هذه ذات أنواطٍ، كما للكفار ذات أنواطٍ، وكان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرةٍ ويعكفون حولها، فقال النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: [49 ب] "الله أكبر! هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}، إنكم تركبون سنن الذين من قبلكم". وقال أيضًا: حدَّثنا حجَّاج، حدَّثنا ليث يعني ابن سعد، حدثني عقيل بن خالد، عن ابن شهاب، عن سنان بن أبي سنان الدؤلي ثم الجندعي، عن أبي واقدٍ الليثيِّ، فذكره. وفيه: فقلنا يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط، فقال صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "قلتم والذي نفسي بيده كما قال قوم موسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}، إنها السنن، لتركبن سنن مَن كان قبلكم سنَّةً سنَّةً" (¬1). وكلا السندين رجاله رجال الصحيحين، وأخرجه الترمذيّ، وقال: "حسنٌ صحيحٌ" (¬2). وأخرج الطبرانيُّ عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوفٍ، عن أبيه، عن جدِّه، نحوه (¬3). ¬

_ (¬1) المسند 5/ 218 [وفي الأصل: 118]. [المؤلف] (¬2) جامع الترمذي، كتاب الفتن، باب ما جاء "لتركبنَّ سنن مَن كان قبلكم"، 2/ 27 - 28، ح 2180. [المؤلف] (¬3) المعجم الكبير 17/ 21، ح 13715.

وفي المستدرك "عن حذيفة: ذكروا عنده {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]، فقال رجلٌ: إنَّ هذا في بني إسرائيل، فقال حذيفة: نِعْمَ الإخوة بنو إسرائيل، إن كان لكم الحلو ولهم المرُّ. كلَّا والذي نفسي بيده حتى تحذوا السنَّةَ بالسنَّةَ حذو القذَّة بالقذَّة". قال الحاكم: "صحيحٌ على شرط الشيخين"، وأقرَّه الذهبي (¬1). وفي صحيح مسلم عن ابن عمر، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: "إن الإِسلام بدأ غريبًا وسيعود [غريبًا] كما بدأ، ويَأرِزُ بين المسجدين كما تأرز الحيَّة في جُحرها" (¬2). وقد رُوِي نحوه من حديث ابن مسعودٍ وأنسٍ وأبي هريرة وعمرو بن عوف المزنيّ وسعد بن أبي وقَّاصٍ وغيرهم (¬3). ¬

_ (¬1) المستدرك، كتاب التفسير، تفسير سورة المائدة، "ابن أمِّ عبد من أقربهم إلى الله وسيلةً"، 2/ 312. [المؤلف] (¬2) مسلم، كتاب الإيمان، بابٌ الإِسلام بدأ غريبًا، 1/ 90، ح 146. [المؤلف] (¬3) حديث أبي هريرة رضي الله عنه أخرجه مسلمٌ في الموضع السابق، 1/ 90، ح 145. وحديث ابن مسعود رضي الله عنه أخرجه أحمد 1/ 398. والترمذيّ في كتاب الإيمان، باب ما جاء أن الإِسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا، 5/ 18، ح 2629، وقال: "حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ". وحديث سعد بن أبي وقَّاصٍ رضي الله عنه أخرجه أحمد 1/ 184. وحديث أبي الدرداء وأبي أمامة وواثلة بن الأسقع وأنس بن مالكٍ رضي الله عنهم أخرجه الطبرانيّ 8/ 152، ح 7659، وقال الهيثميّ: "وفيه كثير بن مروان، وهو ضعيفٌ جدًّا". مجمع الزوائد 7/ 513 - 514. وحديث عمرو بن عوفٍ رضي الله عنه أخرجه الترمذي في الموضع السابق، 5/ 18، ح 2630، وقال: "حديث حسنٌ صحيحٌ". وانظر: مجمع الزوائد 1/ 297 و7/ 545 - 547.

وأخرج الحاكم في المستدرك - وقال: "صحيحٌ على شرط الشيخين"، وأقرَّه الذهبيّ - عن عبد الله بن عمرٍو، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: "يأتي على الناس زمانٌ يجتمعون في المساجد ليس فيهم مؤمنٌ" (¬1). والأحاديث في هذا المعنى كثيرةٌ. وفي فتح الباري: "قال ابن بطَّال: أعلم صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أن أمَّته ستتبع المحدثات من الأمور والأهواء، كما وقع للأمم قبلهم، وقد أنذر في أحاديث كثيرةٍ بأن الآخِرَ شرٌّ، والساعة لا تقوم إلا على شرار الناس، وأن الدين إنما يبقى قائمًا عند خاصَّةٍ من الناس" (¬2). أقول: يشير [49 ج] إلى الحديث المشهور: "لا تزال طائفة من أمَّتي ظاهرين على الحقِّ، لا يضرُّهم مَن خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك". وهو في الصحيحين وغيرهما من رواية جماعةٍ من الصحابة رضي الله عنهم، منهم: ثوبان - واللفظ له عند مسلمٍ -، وجابر بن عبد الله، ومعاذٌ، وأبو أمامة، وأبو هريرة، وسعد بن أبي وقَّاصٍ، وجابر بن سَمُرة، وعقبة بن عامرٍ، وسلمة بن نُفَيلٍ، وقرَّة بن إياسٍ، والمغيرة بن شعبة، ومعاوية بن أبي سفيان (¬3). ¬

_ (¬1) المستدرك، كتاب الفتن والملاحم، "يأتي على الناس زمانٌ يجتمعون في المساجد ليس فيهم مؤمنٌ"، 4/ 442. [المؤلف]. وهو موقوفٌ على عبد الله بن عمرٍو رضي الله عنهما. (¬2) الفتح 13/ 235. [المؤلف] (¬3) انظر: البخاريّ، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنَّة، باب قول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "لا تزال طائفةٌ من أمَّتي ظاهرين"، 9/ 101، ح 7311، [من حديث المغيرة بن شعبة]. وصحيح =

قال البخاريّ في صحيحه: "وهم أهل العلم". وقال ابن المدينيّ: "وهم أصحاب الحديث". وقال الإِمام أحمد: "إن لم يكونوا أهل الحديث، فلا أدري مَنْ هم؟ "، وكذا قال يزيد بن هارون (¬1). وقد استُدِلَّ به وبغيره على عصمة مجموع الأمة، فبني على ذلك حجِّيةُ الإجماع، وفيها نزاع كثير. وعلى كلِّ حال، فأصول العقائد إنما تُبْنَى على الحجج القطعية، وقلَّما يتفق ذلك في الإجماعات المعروفة إلاَّ ما كان منها على وفق ظواهر الكتاب والسنة، كما يأتي. بل قيل: إنَّ الإجماع - أي وحده - لا يكون حجَّةً قطعيَّةً أصلًا. ¬

_ = مسلمٍ، كتاب الإيمان، باب نزول عيسى بن مريم، 1/ 95، ح 156، [من حديث جابر بن عبد الله]. وكتاب الإمارة، باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تزال طائفةٌ من أمَّتي ظاهرين على الحقِّ"، 6/ 52 - 54، ح 1920 - 1925، [من حديث ثوبان، والمغيرة بن شعبة، وجابر بن سَمُرة، وجابر بن عبد الله، ومعاوية بن أبي سفيان، وعقبة بن عامرٍ، وسعد بن أبي وقَّاصٍ. وسنن أبي داود، كتاب الجهاد، بابٌ في دوام الجهاد، 3/ 4، ح 2484، من حديث عمران بن حُصَينٍ. وجامع الترمذيّ، كتاب الفتن، باب ما جاء في الشام، 4/ 485، ح 2192، من حديث قرَّة بن إياسٍ، وقال: "هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ". وسنن ابن ماجه، كتاب السنَّة (المقدِّمة)، باب اتِّباع سنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، 1/ 5، ح 7. والمسند 4/ 104 و5/ 269، من حديث سلمة بن نُفَيلٍ وأبي أمامة]. وانظر: فتح الباري 13/ 229 - 230. [المؤلف]. وهو معدودٌ في الأحاديث المتواترة. انظر: قطف الأزهار المتناثرة ص 216، ح 81. (¬1) انظر: فتح الباري 13/ 229. [المؤلف]

والقائلون بأنه قد يكون حجَّةً قطعيَّةً يشترطون أن يُعْلَم بالعلم القطعي أنَّ أهل العصر محصورون في عدد كذا، ثم يُنقل ذلك القول عن كلِّ فرد منهم بالتواتر، أي: ينقله عن زيد جماعةٌ يستحيل عادةً تواطُؤهم على الكذب وحصوله منهم اتفاقًا، فيحصل العلم القطعي بأنَّ ذلك الرجل قاله، كعلم المطَّلِع على أخبار العالم في هذا العصر أنَّ (باريس) اسم مدينة للفرنسيس، وينقله عن عمرٍو جماعة كذلك، وعن خالد كذلك، حتى يستغرق جميع أفراد ذلك العصر، ويُعْلمَ قطعًا أنهم استمرُّوا على ذلك القول إلى أن ماتوا، وأنَّ كل واحد منهم قاله غير مكرَه، ويعلم قطعًا أنه لم يخالفهم أحد قبل انقراض عصرهم، وأنه لم يكن قبلهم في الأمة مَنْ يقول بخلاف قولهم، وأن يتسلسل النقلُ إلينا بالتواتر [50] التفصيليّ القطعيِّ في كل درجة، إلى غير ذلك من الشرائط المسطورة في كتب الأصول (¬1)، فإن لم تجتمع فغايته أن يكون حجَّة ظنيَّة بشرطه. فلا يصلح للتمسك في أصول العقائد إلاَّ إذا انضمَّ إليه أدلَّةٌ أخرى من ظواهر القرآن وعِدَّة من الأحاديث، بحيث يكون كلُّ فرد منها مفيدًا للظن، ولكن مجموعها يفيد القطع. وإذا كان هذا حال الإجماع، فما بالك بقول الأكثر؟ فإن قيل: فأين الأحاديث الآمرة بالتمسك بالجماعة والسواد الأعظم؟ قلت: فما تصنع أنت بحديث الطائفة وغيره مما مرّ؟ وقد مرّ كلام ابن بطَّالٍ. ثم ما تصنع إذا دلّ كتاب الله تعالى أو سنة رسوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم على معنىً، وقولُ أكثر على خلافه؟ وهذا كثيرٌ. ¬

_ (¬1) انظر: قواطع الأدلَّة 3/ 250، 270، 296، 303، 310، ونهاية السول 3/ 303 فما بعدها.

لا مخرج إلا أحد أمرين: الأول: أن يقال: إن أحاديث الجماعة والسواد الأعظم خاصة بما إذا لم يوجد دليل من الكتاب ولا من السنة، وعلى هذا يدل قول الله عزَّ وجلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]. والأدلَّة في هذا من الكتاب والسنة كثيرةٌ. وعلى [51] ذلك كان عمل الصحابة، فقد جاء عن أبي بكرٍ رضي الله عنه أنه كان إذا عرضت حادثةٌ يقضي بالكتاب، فإن لم يجد فبالسنَّة، فإن لم يجد شاور الناس (¬1). وعن عمر رضي الله عنه أنه كان يقضي بالكتاب، فإن لم يجد فبالسنَّة، فإن لم يجد فبما قضى به أبو بكرٍ، فإن لم يكن شاور الناس (¬2). وعلى هذا يدلُّ كتابه إلى شريح (¬3). وروي نحو ذلك عن ابن مسعود (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: سنن الدارميّ، (المقدِّمة)، باب الفتيا وما فيها من الشدَّة، 1/ 58، ح 163. وإعلام الموقعين 1/ 74 - 75. [المؤلف] (¬2) انظر: إعلام الموقعين 1/ 74 - 75. [المؤلف] (¬3) انظر: سنن النسائيّ، كتاب آداب القضاة، الحكم باتِّفاق أهل العلم، 2/ 360، ح 5414. وسنن الدارميّ، الموضع السابق، 1/ 60، ح 169. وانظر: إعلام الموقعين 1/ 61 - 62. (¬4) انظر: المستدرك، كتاب الأحكام، الخصمان يقعدان بين يدي الحاكم، 4/ 94، سنن النسائيّ، الموضع السابق، 2/ 306، ح 5412. سنن الدارميّ، الموضع السابق، 1/ 59، ح 167. [المؤلف]

وعن ابن عباس أنه كان إذا سئل عن الأمر فكان في القرآن أخبر به، وإن لم يكن في القرآن وكان عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أخبر به، فإن لم يكن فعن أبي بكر وعمر، فإن لم يكن قال فيه برأيه (¬1). وفي طبقات ابن سعد: "أخبرنا سفيان بن عيينة، عن عبيد الله بن أبي يزيد قال: كان ابن عباس" فذكر نحوه (¬2). وفي سنن البيهقي من طريق ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، أن بكير بن عبد الله أخبره، عن يزيد بن أبي حبيب، عن مسلمة بن مخلد، أنه قام على زيد بن ثابت فقال: يا ابن عم: أُكرِهْنا على القضاء، فقال زيد: اقض بكتاب الله عزَّ وجلَّ، فإن لم يكن في كتاب الله ففي سنة النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فإن لم يكن في سنة النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فادع أهل الرأي، ثم اجتهد، واختر لنفسك، ولا حرج (¬3). وعلى هذا كان عمل أئمة التابعين وعلماء السلف، كالأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المشهورة، ترى أحدهم إذا ظفر بدلالة من كتاب الله تعالى أو سنة رسوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال بها، وإن كان جمهور الأمة على خلافها. ¬

_ (¬1) سنن الدارميّ، الموضع السابق، 1/ 59، ح 168. ونحوه في المستدرك، كتاب العلم، الناس كانوا لا يكذبون في عهد النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، 1/ 127. قال الحاكم: "صحيحٌ على شرط الشيخين"، وأقرَّه الذهبي. [المؤلف] (¬2) الطبقات 2/ 101. (¬3) سنن البيهقي، كتاب آداب القاضي، باب ما يقضي به القاضي ... ، 10/ 115. [المؤلف]

الأمر الثاني: ما نقله الشاطبي في الاعتصام (¬1) عن ابن جرير الطبري، وحاصله: أن أحاديث السواد الأعظم خاصَّة بمسألة الإمارة، والمعنى أنه إذا اجتمع أكثر المسلمين على تأمير أحدهم وجب عليهم وعلى غيرهم طاعته. أقول: وهذا هو الذي يدلُّ عليه سياق تلك الأحاديث، وقد بُيِّنَ في بعضها أن المراد الطاعة في غير معصية الله تعالى، وقد دلّت على ذلك الآية السابقة، وبَيَّن في بعض الأحاديث أنَّ الخروج على الأمير لا يجوز إلاَّ أن يكفر كفرًا بواحًا أو يترك الصلاة. وعلى هذا أو ما في معناه يُحْمَل عمل الحسين بن علي عليهما السلام، ثم خلاف ابن الزبير وأهل المدينة ثم ابن الأشعث ومن خرج معه من الأئمة كسعيد بن جبير والشعبي وغيرهما. وبالجملة، فالنظر في هذه المسألة مبنيٌّ على الأصل الإِسلامي المشهور، وهو أنه إذا تعارضت مفسدتان ولم يكن بدٌّ من ارتكاب إحداهما وجب ارتكاب الصغرى لدرء الكبرى. وَمِنْ هنا يُعْلَمُ عُذْرُ أهلِ السنة بعد القرن الأول في حظر الخروج على السلطان ما دام مسلمًا، فإنَّ التجارب علّمتهم أنَّ نتيجة الخروج تكون أعظم فسادًا وشرًّا وضرًّا مما كان قبله. والمقصود أنَّ أحاديث الجماعة والسواد الأعظم لا حجة فيها على أنَّ قول الأكثر يكون حجة شرعية في المسائل العلمية، ولا سيَّما فيما يُطْلَبُ فيه العلم القطعيُّ من أصول الدين. هذا مع أنَّه إذا فُرض ضلالُ أكثر في أصلٍ من أصول الدِّين الكلِّيَّة، فقد ¬

_ (¬1) 3/ 140. نقل في الاعتصام أقوالًا أخرى فراجعها إن أحببت. [المؤلف]

خرجوا بذلك عن رسم الأمة فلا يصدق عليهم الجماعة ولا السواد الأعظم؛ لأنَّ المراد جماعة المسلمين، والسواد الأعظم منهم، كما هو ظاهر، والله أعلم. وليس غرضي مما تقدَّم الحكمَ على أكثر الأمَّة بالضلال، وإنما مقصودي أن يعلم الناظر أنَّ ذلك أمر محتمل في نفسه، فلا يصُدُّه حسن الظن عن تدبُّر كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وما كان عليه سلف الأمة. (¬1) فأما حديث البخاري وغيره عن عقبة بن عامرٍ في صلاة النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم على شهداء أحد وخطبته بعد ذلك وقوله: "وإني والله ما أخاف أن تشركوا بعدي" (¬2)، فقال الحافظ في الفتح: أي على مجموعكم؛ لأنَّ ذلك قد وقع من البعض، أعاذنا الله تعالى (¬3). وأشار في موضعٍ آخر إلى أنه خاصٌّ بالصحابة؛ لأنهم المخاطَبون، وعبارته: "ووقع من ذلك في هذا الحديث إخباره .... وبأنَّ أصحابه لا يشركون بعده، فكان كذلك" (¬4). وفي صحيح مسلمٍ من طريق أبي سفيان عن جابرٍ قال: سمعت النبي ¬

_ (¬1) من هنا يبدأ ملحق 52. (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجنائز، باب الصلاة على الشهيد، 2/ 91، ح 1344، ومواضع أخرى. ومسلمٌ في كتاب الفضائل، باب إثبات حوض نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - وصفاته، 7/ 67، ح 2296، من حديث عقبة بن عامرٍ رضي الله عنه. (¬3) الفتح 3/ 139. [المؤلف] (¬4) الفتح 6/ 400. [المؤلف]

صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يقول: "إنَّ الشيطان قد أيس أن يعبده المصلُّون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم". قال الأُبَّيُّ: "يعارضه ما يأتي في الأشراط من أمر دوسٍ، ويُجاب أنَّ الإياس المذكور هو قبل قرب قيام الساعة، وعبادة دوسٍ من الأشراط، أو يقال: إن ذلك الإياس إنما هو من الشيطان، ولا يضره عدم صدقه" (¬1). ويعني بأمر دوسٍ ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: "لا تقوم الساعة حتى تضطرب أَلَيَاتُ نساء دوسٍ على ذي الخَلَصَة"، وذو الخَلَصَة: طاغية دوسٍ التي كانوا يعبدونها في الجاهلية (¬2). وأخرج مسلمٌ وغيره من حديث عائشة قالت: سمعت النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يقول: "لا يذهب الليل والنهار حتى تُعبد اللات والعزَّى"، فقلت: يا رسول الله! إن كنتُ لأظنُّ حين أَنْزَلَ الله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33، والصف: 9] أن ذلك تامًّا (¬3)، قال: "إنه سيكون من ذلك ما شاء الله، ثم يبعث الله ريحًا طيبة فتَوَفَّى كل من في قلبه مثقال حبَّة خردل من إيمان، ¬

_ (¬1) إكمال إكمال المعلم 7/ 206. [المؤلف] (¬2) البخاريّ، كتاب الفتن، باب تغيير الزمان حتى يعبدوا الأوثان، 9/ 58، ح 7116. مسلم، كتاب الفتن ... ، بابٌ لا تقوم الساعة حتى تعبد دوسٌ ذا الخلَصة، 8/ 182، ح 2906. [المؤلف] (¬3) كذا في الأصل وفي صحيح مسلمٍ، والتقدير: يكون تامًّا، كما في الطبريّ 23/ 361، والمستدرك 4/ 447 وتلخيصه.

فصل

فيبقى مَنْ لا خير فيه، فيرجعون إلى دين آبائهم" (¬1). أقول: هو صريح في أنه بعد بعث الريح يعمّ الكفر وتُعبد اللات والعزى، وأما قبل ذلك فلا يَعُمُّ ولا تعبد اللات والعزى، ولكنه يقع من بعض الناس الكفر بغير ذلك، كما بيّنته الأحاديث الأخرى، والله أعلم. وأما حديث أحمد عن شدَّاد بن أوس، وفيه: " ... قلت: يا رسول الله: أتشرك أمتك من بعدك؟ قال: "نعم، أما إنهم لا يعبدون شمسًا ولا قمرًا ولا حجرًا ولا وثنًا، ولكن يراؤون بأعمالهم، والشهوة الخفية" (¬2)، ففي سنده (¬3) عبد الواحد بن زيدٍ القاصّ وهو مجمع على ضعفه، كما في تعجيل المنفعة ولسان الميزان. والله أعلم (¬4). فصل [53] وإذا كان الأمر كما علمت في تقليد العلماء؛ فما بالك بتقليد المنسوبين إلى الخير والصلاح بدون أن يكونوا أئمة في العلم؟ وقد كان في السلف الصالح كثير من الزهاد والعباد، فلم يكن الناس يرجعون إليهم ولا إلى أقوالهم في الأمور العلمية، وإنما كانوا يرجعون إليهم في دقائق الورع، وترقيق القلوب، ومداوة النفوس، ونحو ذلك. وأنت خبير أنَّ التقليد في المسائل الظنيات شرطه أن يكون لمجتهد ¬

_ (¬1) مسلم، الموضع السابق، 8/ 182، ح 2907. [المؤلف] (¬2) المسند 4/ 123. (¬3) أصاب هاتين الكلمتين بللٌ فلم تظهرا كاملتين، والمثبَت اجتهادٌ منَّي. (¬4) انتهى ملحق ص 52.

مُسَلَّمٍ له الاجتهاد، وأنَّ عامَّة الأولياء الذين شاع بين الأمة تقليدهم كانوا مقلَّدين، ومَنْ قيل: إنه بلغ رتبة الاجتهاد منهم لم يعترف له أهل عصره بذلك. ولما بحثت عن أسباب تقليد الناس لمن يظنون به الخير والصلاح، وجدتُ أنه قد سرى إلى أذهانهم اعتقاد العصمة لكثير من أولئك، حتى لقد يغلو بعضهم فيُثْبِت لبعض الأولياء كمالات لا يثبتها للأنبياء، وينزهه عن أشياء لا ينزه عنها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولقد يُنْقَل له نقلًا (¬1) صحيحًا أو متواترًا أو يشاهِد بعينيه أنَّ فلانًا الذي يعتقد فيه يترك الصلاة ويشرب الخمر ويفعل ويفعل، فيقول: نعوذ بالله من فساد العقيدة ومن حرمان بركة الصالحين، إنما كان [54] سيدي فلان يتستر من الناس لئلا يعلموا منزلته عند الله، أو يختبر الناس ليظهر الموفَّق الذي لا تَزَلْزَلُ عقيدتُه من المحروم الذي يغترُّ بالظواهر، فكان يظهر للناس أنه عندهم ولم يصلّ، مع أنه في الحقيقة بمكة أو بالمدينة أو بجبل قاف أو نحو ذلك، ويظهر لهم أنه يشرب الخمر والواقع أنَّ الخمر كانت تستحيل في يده إلى شراب طهور. ومنهم من يعترف بفعل سيده فلان بعضَ تلك الأعمال، ويقول: فَعَلَها وفَعَلَ غيرَها؛ لأنه قد وصل إلى الله تعالى، وتخلَّص من حيطة التكليف، فإنَّ الشريعة إنما فُرِضَتْ لأجل الوصول، فَمَنْ وَصَلَ ارتفعت عنه التكاليف. وأحْسَنُ الغلاةِ حالًا مَنْ يقول: فَعَلَ ذلك الولي هذه الأمور لحِكَمٍ لا نعلمها، أو لعلَّه ألهمه الله عزَّ وجلَّ إباحتها له، أو رأى النبيَّ صلَّى الله عليه ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، وهو مفعول مطلقٌ. وقوله: (أنَّ فلانًا) نائب فاعلٍ لـ (يُنقَل)، أو مفعولٌ لـ (يشاهِد).

وآله وسلَّم فأذن له فيها، أو أمره بها. وأقربهم مَنْ يقول: لعلّ ذلك الصالحَ فَعَلَ هذه الأمور وهو في حال الغيبوبة عن هذا الكون، والاستغراق في أنوار التجلِّيات. وأضرُّهم على الإِسلام والمسلمين مَنْ يقول: فِعْلُ ذلك القطب لهذه الأمور يدلُّ على مشروعيتها، وأن فعلها يُقَرِّب إلى الله تبارك وتعالى [55] وما خالف ذلك من ظواهر الكتاب والسنة له تأويل يعلمه أولياء الله تعالى. كيف لا وهم أعرف بالله وبكتابه ورسوله، وهم دائمًا حاضرون عند الله تعالى يُعَلِّمُهم ما لا يعلم غيرهم، ومشاهدون للوح المحفوظ، والملائكة تنزل عليهم، ويجتمعون بالنبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم متى شاؤوا. وقد يتعدَّى بعضهم هذا الحدَّ فيقول: إن الوليَّ إذا استحسن شيئًا كان عند الله تعالى حسنًا؛ لأن الله تعالى يحبه، فيحبُّ كل ما أحبَّه. وفي طبقات الصوفية ومناقب الأولياء قصص كثيرة مما قدَّمنا الإشارة إليه، وتجدهم عند ذكر شيء منها يُعْقِبُونه بالتعوذ بالله تعالى من سوء الاعتقاد في الصالحين ومن حرمان بركتهم، ويتأولون فعلهم بشيء مما تقدم. واغتنم الفساقُ هذا الأمر، فصار بعضهم يتظاهر بِزِيِّ المتصوفة، ثم يفعل ما بدا له. بل اغتنم ذلك أعداء الإِسلام الملحدون فصاروا يتظاهرون بِزِيِّ المتصوفة، ويستعملون الألفاظ الشائعة بين المتصوفة، ثم يصرِّحون بكفرهم وإلحادهم جهارًا، قائلين في أنفسهم: مَنْ ضل بهذا الكلام فقد اصطدناه، [56] ومَنْ لم يضلَّ به فلا علينا؛ لأن من كان راسخ العقيدة في الإِسلام سيحمل كلامنا على تأويلات بعيدة، أو يقتصر على زَعْم أن كلامنا على غير ظاهره، وأنه إنما يفهمه أهل الذوق والمعرفة؛ وعلى كلَّ حال فإن

فصل

اعتقادهم فينا الصلاح لا يتزلزل، وتبقى كتبنا متداوَلةً بينهم، يضلُّ بها في كل يوم جماعة. أقول: وقد صدق ظنهم، فصار الضلال بكتبهم كثيرًا، ولا يستطيع أحد الإنكار عليهم؛ إما خوفًا من سطوتهم الروحية إن كان يعتقد فيهم، وإما خوفًا من أكثر الناس، وهكذا أُميت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والله المستعان. وقد قال الله تبارك وتعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110]. فقوله: {تَأْمُرُونَ} إلخ، في معنى بيان السبب في الخيرية، فدلّ ذلك على أن مَنْ ترَكَ ذلك فلا نصيب له في الخيرية. وقد نظرت في الأمر الباعث للغلاة على اعتقاد العصمة في غير الأنبياء، فوجدته اعتقاد الولاية فيهم، ونظرت في سبب اعتقاد الولاية، فإذا هو ما شاع بينهم من ظهور بعض الغرائب على أيدي أولئك، فأحببت أن أُبَيِّن لك حال الخوارق، هل تدل على ولاية مَنْ ظهرت على يده؟ ثم أبيِّنُ لك حال الولاية. [57] فصل واعلم أن الباعث على تقليد الصوفية والغُلوِّ فيهم أمران: الأول: ما ينقل عن أحدهم من الخوارق. الثاني: اعتقاد أنهم يطَّلعون على الغيب.

فأما الثاني فسيأتي الكلام عليه في الطريق الرابع (¬1). وأما الأول فتقرير ما قام بأنفس العامة من الاحتجاج به أن يُقال: كما أن الخارقة إذا وقعت على يد مدّعي النبوة دلت على صدقه، فكذلك إذا وقعت على يد الصالح دلت على ولايته. وإذا ثبتت ولايته ثبت أنه كان على حق، فثبت أنّ كلَّ ما جاء عنه حق. فأقول مستعينًا بالله عزَّ وجلَّ: اعلم أولًا أنني بحمد الله تعالى لا أنكر الولاية ولا الكرامات، وأني بفضل الله عزَّ وجلَّ أحب كلَّ من عُرِف بالخير والصلاح والولاية، وأرجو الله تبارك وتعالى أن ينفعني بمحبتي لهم. واعلم أيضًا أنني على يقين بأن ما أكتبه ها هنا مرضي عند أولياء الله تعالى؛ لأن فيه تبرئة لهم عما يظنه بهم الجاهلون وينسبه إليهم الغافلون، وتمييزًا لهم عمن يتستر بدعوى أنه منهم وهو أبعد الناس عنهم. ثم اعلم أن الخوارق المنقولة عن صُلحاء المسلمين إذا وزنّاها بما توزن به سنة رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وجدنا غالبها لا يثبت. ولا تَسْتَبْعِدَنَّ الكذب في اختلاق الكرامات، فإن الناس قد كذبوا على ربهم، فنسبوا إليه الابن والبنات والشركاء، وادعى بعضهم الألوهية، وبعضهم النبوة، وبعضهم أنه يوحى إليه. وكذبوا على رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كما تقدَّم، مع أن الكذب عليه كذب على الله عزَّ وجلَّ، لقوله تعالى: ¬

_ (¬1) وهو بحث "الاطلاع على الغيب" الذي يشمل الإلهام والكشف كما يتضح من نسخة (ب) المشوَّشة.

{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]. والكذب على الله عزَّ وجلَّ كفر بواح، قال الله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [الزمر: 32]. وقد صرَّح بعض أهل العلم بأن الكذب على النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كفر، وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى (¬1). وقال أهل العلم - والعبارة لابن الصلاح في مقدمته -: "والواضعون للحديث أصناف، وأعظمهم ضررًا قوم من المنسوبين إلى الزهد، وضعوا الحديث احتسابًا [أي: طلبًا للأجر والثواب] زعموا، فتقبل الناس موضوعاتهم ثقة منهم بهم وركونًا إليهم، ثم نهضت جهابذة الحديث بكشف عوارها ومحو عارها، والحمد لله" (¬2). وفي صحيح مسلمٍ عن الإِمام يحيى بن سعيدٍ القطّان قال: "لم نر أهل الخير في شيءٍ أكذب منهم في الحديث" (¬3). وذكر غيره أن أكثر الأحاديث المكذوبة على النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وضعها أصحابها تعصُّبًا لمذاهبهم. أقول: فهكذا كثير من الخوارق المنقولة عن الصالحين اخترعها متبعوهم زاعمين أن ذلك يقرِّبهم إلى الله عزَّ وجلَّ وإليهم، بل قد يقول بعضهم: إن الولي الفلاني أهلٌ لأن تجري على يده جميع الخوارق، فكلُّ ¬

_ (¬1) انظر: ص 889 فما بعدها. (¬2) مقدِّمة ابن الصلاح (علوم الحديث)، النوع الحادي والعشرون، ص 279 - 280. (¬3) مسلم، (المقدِّمة)، باب بيان أن الإسناد من الدين، 1/ 13 - 14. [المؤلف]

خارقة [59] تخيَّلتها صحّ لك أن تنسبها إليه، ولا يكون ذلك كذبًا؛ ويقول: إن لذلك الولي الحظَّ الكامل من وراثة النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وقد قال صاحب البردة: دع ما ادَّعته النصارى في نبيِّهمُ ... واحكم بما شئت مدحًا فيه واحْتَكِم وانْسُب إلى ذاته ما شئت من شرف ... وانْسُبْ إلى قدره ما شئت مِنْ عِظَمِ فإن قَدْر رسول الله ليس له ... حدٌّ فيُعْرِب عنه ناطق بفم (¬1) زاعمًا أن هذا حجة على أن للإنسان أن ينسب إلى النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ما شاء من الخوارق سواء رويت أم لم ترو. وقد يكون الشيخ المنسوب إليه الخارق خيِّرًا في نفسه، ولكنه ابتُلِي بأولاد وأتباع يحبون أن يأكلوا بسببه الدنيا، فيخترعون الخوارق ويدّعونها له ويلبِّسون على الشيخ نفسه، فيقول له هذا: رأيتك يا سيدي في المنام كذا وكذا، ويقول له الآخر: وقعت لي شدة فاستغثت بك فجئت وأنقذتني منها، وهكذا لا يزالون به حتى يعتقد في نفسه أنه من أهل الكرامات. وفي المثل الفارسي: "بِيرانْ نَمِي بَرَنْد ومُرِيدَانْ مِيْ بَرَانَنْدْ". ومعناه: المشايخ لا يطيرون، ولكن المريدين يُطَيِّرُونهم. [60] فأما إذا كان الشيخ نفسه يميل إلى الشهرة وبعد الصيت ومحبة الدنيا فالأمر أوضح، وهذه أمور قد شاهدنا بعضها. وقد يتعصب المزيد لشيخه على شيخ آخر في عصره، فيحرص على أن ينسب لشيخه الخوارق والكرامات. وكثيرًا ما يفعل المريدون ذلك بعد ¬

_ (¬1) ديوان البوصيريّ ص 8 - 9.

موت الشيخ ليكون لهم بذلك جاه وشهرة، وليحملوا الناس على كثرة زيارة ضريحه، وبذل أموالهم على سبيل النذر وغيره، فيتمتع بها أولئك الفجار، ومَنْ وقف على كتب القادرية والرفاعية عرف إلى أي حدٍّ يصل التعصب بين أتباع المشايخ. وكثيرًا ما تكون الغرائب المنقولة حِيَلًا دَبَّرها أتباع الشيخ بحضرته أو عند قبره، وقد وقفنا على بعض ذلك. وأما سبب انتشارها بين الناس فهو أنَّ للطباع البشرية وُلُوعًا (¬1) بذكر العجائب والغرائب، كما تراه منتشرًا بينهم من أخبار الجن والغِيلان والكيمياء وعجائب المخلوقات. وغالب ذلك مما لا أصل له، وإنما يختلق الإنسان شيئًا من ذلك مدحًا لنفسه أو لمن له علاقة به، [61] أو تكون جرت له قصة توهَّم فيها خارقًا، كمن يخيل له بعض الخيالات في النوم ويستيقظ بسرعة فيتوهم أنه لم يزل مستيقظًا، وأن الأمر الذي تخيَّل له كان يقظة؛ أو كان في ظلمة وخوف، فتوهَّم شيئًا، فذهب يحكيه على أنه أمر واقع، أو يكون احتال عليه بعض الناس بحيلة أوهمته تلك الواقعة. والغالب في هؤلاء أنهم إذا حكوا الحكاية وأراد بعض العقلاء أن يناقش فيها حملهم ذلك على أن يسدِّدوا مواضع الخلل والاحتمال فيها بالكذب. ثم يتلقَّى الناس تلك الحكايات وينشرونها لحرصهم على الإغراب والتعجيب، وكثيرًا ما يكملها الحاكي بالكذب إذا رآها غير وافية بالتعجيب ويدافع عنها إذا قوبلت بالتكذيب، فيزعم أن الذي أخبره ثقة، أو أن الحكاية متواترة أو نحو ذلك. ¬

_ (¬1) هكذا ضبطه المؤلف بضم الواو، ونصّت عامَّة المعاجم على أنَّ هذا المصدر من المصادر القليلة التي تأتي على فَعول.

فأما إن حكيت تلك الغريبة على أنها كرامة فإن الدواعي إلى نقلها ونشرها أشدُّ؛ لما تقدَّم، ومقابلتها بالشك أو التردد بعيد جدًّا عند العامة وكثيرٍ من المنتسبين إلى العلم؛ لأنهم يعتقدون أنَّ الشك في مثل ذلك شكٌّ في قدرة الله عزَّ وجلَّ وفساد عقيدة، فترى أحدهم يُكْرِهُ نفسه على التصديق بذلك خوفًا من الكفر وفساد العقيدة ولا يسمع أحدًا يُكَذِّبها أو يستبعدها أو يتردَّد في صِحَّتها [62] إلا ناله بما يكره. ولما صار أكثر المنتسبين إلى العلم في القرون المتأخرة يتزلَّفون إلى العامة وإلى مَن تعتقد فيه العامة جَارَوْهُم على هواهم، وأحسنهم حالًا مَنْ يعتصم بالسكوت. والحاصل أنَّ من أراد أن يعلم في شيء من تلك الخوارق المحكية عن بعض المعتقَد فيهم أثابتة هي أم لا؟ فعليه أن يختبرها بما تُخْتبَرُ به سنة النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ومعجزاته. ومَن كان له اطِّلاع على علم الحديث وكلام أهله والكتب التي أُلِّفَتْ في الموضوعات علم أنَّ كثيرًا من الموضوعات قد اغترَّ بها أئمة أكابر كالغزالي وإمام الحرمين والزمخشري والبيضاوي وغيرهم، فأدرجوها في كتبهم، بل إنَّ أئمة الحديث ليوردون في كتبهم التي لم يلتزموا فيها الصحة كثيرًا من الأحاديث الموضوعة ولا يُنَبِّهون على وضعها مكتفين بأنهم لم يلتزموا الصحة، وأن على من رأى حديثًا في كتبهم ينبغي له أن يبحث عن درجته. ويقع هذا كثيرًا في مؤلفات ابن منده وأبي نعيم والخطيب وابن عساكر وغيرهم. بل وقع بعضه في الكتب التي قيل إنها خاصة بالصحاح، ولا سيَّما المستدرك، ولم يَعُدَّ أحدٌ من العلماء ذلك دليلًا على

فصل

صحَّتها، بل صرَّحوا بوضعها واعتذروا عن أولئك الأكابر. فكذلك لا ينبغي أن يُسْتَدَلَّ على صحة شيء من هذه الغرائب بإدراج بعض العلماء المشهورين لها في كتبهم، على أنَّ كثيرًا منهم يتسامحون في ذلك؛ لزعمهم أن ما كان من باب المناقب والفضائل يجوز التساهل في روايته؛ لأنه لا يبنى عليه حكم شرعيٌّ لا قطعيٌّ ولا ظنِّيٌّ. [63] وقد نُقِلَ نحوُ هذا عن الأئمة المتقدمين وشرطوا ألاّ يشتمل على شيء من الأحكام، وألّا يبنى عليه شيء من الأحكام، وقد حققت هذا البحث في رسالة مستقلة (¬1). والحمد لله. فصل فإذا صحَّ وثبت وقوع شيء من الغرائب عن رجل من المسلمين (¬2) كان عليك حينئذٍ أن تعرف من أيّ الأقسام هو، فقد قسم أهل العلم الغرائب إلى قسمين: خوارق وغيرها. وذكروا أن الخوارق على أربعة أضرب: معجزة، وكرامة، واستدراج، وإهانة. فالمعجزة مخصوصة بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام. والكرامة بالأولياء والصالحين، وأنكرها المعتزلة والأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني من كبار أئمة أهل السنة، قال: كل ما جاز تقديره معجزة لنبيٍّ لا يجوز ظهور مثله كرامةً لوليٍّ، وإنما مَبَالِغُ الكرامات إجابة دعوة أو موافاةُ ¬

_ (¬1) هي: رسالة "حكم العمل بالحديث الضعيف". (¬2) هنا لَحَق بقدر ثمان كلمات، ظهر منها: (لزم ... النظر فيها أخارق هي أم لا؟)، مع أنَّ الكلام يستقيم بدونها.

ماءٍ في بادية من غير توقُّع المياه، أو نحو ذلك مما ينحطُّ عن خرق العادات. وقال الإِمام القشيريّ - وهو من أئمَّة أهل السنَّة العارفين بالتصوُّف -: لا تنتهي الكرامة إلى نحو ولدٍ دون والدٍ، وقلب جمادٍ بهيمةً. قال التاج السبكي: وهذا حق يخصص قول غيره: ما جاز أن يكون معجزة لنبيٍّ جاز أن يكون كرامة لوليًّ (¬1). وقال الحافظ ابن حجرٍ في فتح الباري في باب غزوة الرجيع، في الكلام على مقتل خُبَيبٍ رضي الله عنه وقول المرأة: "لقد رأيتُه يأكل من قِطْف عنبٍ وما بمكَّة يومئذٍ ثمرةٌ، وإنه لموثقٌ في الحديد، وما كان إلا رزقٌ رزقه الله خُبَيبًا". قال الحافظ: "قال ابن بطَّالٍ: هذا يمكن أن يكون الله جعله آيةً على الكفار وبرهانًا لنبيِّه لتصحيح رسالته، قال: فأما مَن يدَّعى وقوع ذلك له اليوم بين ظهراني المسلمين فلا وجه له؛ إذ المسلمون قد دخلوا في الدين وأيقنوا بالنبوَّة، فأيُّ معنىً لإظهار الآية عندهم؟ ولو لم يكن في تجويز ذلك إلا أن يقول جاهلٌ: إذا جاز ظهور هذه الآيات على يد غير نبيٍّ فكيف نصدِّقها من نبيٍّ والفرض أن غيره يأتي بها؟ لكان في إنكار ذلك قطعًا (¬2) للذريعة، إلى أن قال: إلا أن يكون وقوع ذلك مما لا يخرق عادةً ولا يقلب عينًا، مثل أن يكرم الله عبدًا بإجابة دعوةٍ في الحين ونحو ذلك مما يظهر فيه فضل الفاضل وكرامة الوليِّ، ومن ذلك حماية الله تعالى عاصمًا لئلا ينتهك عدوُّه حرمته، انتهى. ¬

_ (¬1) انظر: شرح المحلَّي على جمع الجوامع مع حاشية البناني 2/ 262 - 263. [المؤلف] (¬2) كذا في الأصل وفتح الباري.

والحاصل أن ابن بطَّالٍ توسَّط بين مَن يثبت الكرامة ومَن ينفيها، فجعل الذي يُثبَت ما قد تجري به العادة لآحاد الناس أحيانًا، والممتنعَ ما يقلب الأعيان مثلًا. والمشهور عن أهل السنَّة إثبات الكرامات مطلقًا، واستثنى بعض المحقِّقين منهم كأبي القاسم القشيريِّ ما وقع به التحدِّي لبعض الأنبياء، فقال: ولا يصلون إلى مثل إيجاد ولدٍ من غير أبٍ ونحو ذلك. وهذا أعدل المذاهب في ذلك؛ فإن إجابةَ الدعوة في الحال وتكثيرَ الطعام والماء والمكاشفةَ بما يغيب عن العين والإخبارَ بما سيأتي ونحو ذلك قد كثر جدًّا حتى صار وقوع ذلك ممن ينسب إلى الصلاح كالعادة، فانحصر الخارق الآن فيما قاله القشيريُّ، وتعيَّن تقييد قول مَن أطلق أن كلَّ معجزةٍ وُجِدَتْ لنبيٍّ يجوز أن تقع كرامةً لوليٍّ" (¬1). وفي شرح المقاصد: ثمَّ المجوزون ذهب بعضهم إلى امتناع كون الكرامة على قضيّة الدعوى، حتى لو ادّعى الوليّ الولاية واعتقد بخوارق العادات لم يجز ولم يقع، بل ربما يسقط عن مرتبة الولاية. وبعضهم إلى امتناع كونها من جنس ما وقع معجزة لنبي، كانفلاق البحر وانقلاب العصا وإحياء الموتى، قالوا: وبهذه الجهات تمتاز عن المعجزات. وقال الإِمام: هذه الطرق غير سديدة، والمرضي عندنا تجويز جملة خوارق العادات في معرض الكرامات، وإنما تمتاز عن المعجزات بخلوِّها ¬

_ (¬1) فتح الباري 7/ 268 - 269. [المؤلف]

عن دعوى النبوة، حتى لو ادَّعى الولي النبوة صار عدوًّا لله، لا يستحق الكرامة، بل اللعنة والإهانة (¬1). والاستدراج: ما يجريه الله عزَّ وجلَّ لبعض الدجّالين، كالدجّال الأكبر، فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة عدَّة عجائب تقع معه، وذلك فتنة وابتلاء وامتحان واختبار من الله عزَّ وجلَّ لخلقه، ليمتاز المؤمن الموقن عن علمٍ ومعرفةٍ من غيره، فإن المؤمن الموقن عن علمٍ ومعرفةٍ يميِّزُ ما هو حجة حقيقية يرتضيها الشرع والعقل، وما ليس كذلك، فتلك العجائب لا تخدش في يقينه؛ للبراهين القاطعة على كذب الدجال، فيعلم المؤمن حينذٍ أن تلك العجائب من قَبِيل الاستدراج. وأما غيره فإن العجيبة عنده [64] هي أقوى الحجج، فإذا رآها خضع لها، والعياذ بالله تعالى. فإن قيل: فما الفرق بين المعجزة والاستدراج، حيث قلتم: إن المعجزة توجب العلم اليقينيِّ بصدق صاحبها، وأن الاستدراج لا يدل على صدقه، بل قد يدلُّ على كذبه؟ قلت: قد تولىّ الإِمام الغزالي رحمه الله وغيره من علماء الأمة بيانَ الفرق. وحاصله: أن المعجزة إنما تفيد الصدق بمعونة القرائن، مثل أن تكون سلسلة النبوة لم تختم، وأن يكون مدَّعي النبوة محمود السيرة، وألّا يأتي بما يكذبه العقل تكذيبًا قاطعًا، ولا يأتي بما يكذب خبرًا ثابتًا عن الله عزَّ وجلَّ ثبوتًا قطعيًّا، وأن يكون عامّة ما يأتي به مما تتضافر الفطر والعقول والشرائع على الشهادة بأنه حق، إلى غير ذلك؛ بخلاف الاستدراج فإنه يصحبه براهين قطعية على كذب الدجّال إذا ادّعى دعوى يستشهد عليها بالعجيبة، فأما إن لم ¬

_ (¬1) شرح المقاصد 2/ 203. [المؤلف]

يدَّعِ ولم يستشهد فلا إشكال أصلًا. والله أعلم. والإهانة: ما يجريه الله تعالى تكذيبًا للدجّال، كما نقل أن مسيلمة الكذاب بلغه أن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم مسح بيده على رأس أقرع فنبت شعره، وتفل في بئر كان ماؤها ملحًا فعَذُب، ففعل مسيلمة مثل ذلك فازداد رأس ممسوحه قرعًا وماء بئره ملوحة (¬1). وقد بقي ضرب خامس، وهو الابتلاء، أعني ما يجريه الله عزَّ وجلَّ ليبتلي به المؤمنين ويختبرهم أيغترُّون به ويركنون إليه، فيقول أحدهم: أنا وليٌّ لله تعالى محبوب له؛ بدليل أنه أجرى على يدي الكرامة، أم يثبت على ما يقتضيه (¬2) الشريعة؟ وكما يكون ابتلاء لمن وقع على يده فهو كذلك ابتلاء لغيره، والله أعلم. ومن أعظم الابتلاء أن يُمَكِّن الله تعالى الدجَّال من استعمال غرائبه في نفع مَنْ يوافقه والإضرار بمن يخالفه مع أن المخالف على الحق، ولكن ليتبين حالُ المخالف أعلى يقين هو من أمره أم لا؟ ويتبيَّن حال غيره أيعتصمون بالحجج الحقيقيَّة أم يغترُّون بتلك الظواهر؟ وفي أحوال الدجَّال الأكبر كثير من هذا، فاحفظه وتدبَّره، فإنه مهمٌّ جدًّا. ومما يشهد له قصة لبيد بن الأعصم اليهودي في إضراره بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان ذلك سبب نزول المعوذتين (¬3). والله أعلم. ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 3/ 284 - 285، الروض الأنف 4/ 225. (¬2) كذا في الأصل. (¬3) صحيح البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده 4/ 122، ح 3268، ومواضع أخرى، وصحيح مسلم، كتاب الأدب، باب السحر، 7/ 14، ح 5832.

فصل

[65] فصل وأما القسم الثاني من الغرائب: فيقع بكسب الإنسان وتَسَبُّبه، وقد تُسمَّى خوارق؛ لخفاء أسبابها وجهل غالب الناس بها. فمنها: الشعبذة، وهي: عبارة عن أعمال تُظَنُّ أوَّلَ الأمر خارقة، فإذا عُرِفَتْ أسبابهُا تبين أنها حِيَلٌ بمعونة خاصيَّةٍ يجهلها أكثر الناس، أو خفَّة اليد وسرعة الحركة إلى حدٍّ لا يثبته الناظر، أو بآلة يخفيها المشعوذ، أو عملٍ خفي قد أعدَّه من قبل، أو مساعدة شخص آخر مختبئٍ أو ظاهرٍ، والنظَّارة (¬1) لا يحسبون له علاقة بالمشعوذ، أو غير ذلك. وللمشَعْبِذ مهارةٌ في تغليط النظارة، وصرف ظنونهم وأبصارهم إلى غير ما يريده. [66] (¬2) وقريب من الشعبذة ما يسمى الآن بالألعاب الرياضية، كرفع ¬

_ (¬1) النَّظَّارة هم القوم ينظرون إلى الشيء. انظر: المعجم الوسيط، ص 923. (¬2) من منتصف ص 65 إلى آخرها مع ثلاثة أسطر من ص 66 كلامٌ مضروبٌ عليه وهو: (وبالجملة، فالشعبذة في الأعمال كالتعمية والإلغاز في الكلام، كقولي: والله الذي لا إله إلا هو إني أستطيع أن أخطو خطوة واحدة تكون إحدى رجليّ في الهند والأخرى في صعيد مصر، وأشير عند الكلام إشارات تناسب المقام. فكلُّ مَنْ عَلِم بُعْدَ ما بين الهند وبين مصر وصعيدها يعلم أن قطع ذلك بخطوة واحدة محال، وإذا سمعني أُقْسِم على ذلك، وهو يعلم أني مسلم متحرِّز عن إظهار الكذب والفجور عَلِمَ أني لا أحلف إلا على صدق، فيتحيَّر في ذلك، فإن كان يظن بي القدرة على خرق العادة صدَّقني على ظاهر قولي، وإن أساء بي الظن كذَّبني بلا تأمُّل. والعاقل الفَطِن: الذي يتأمَّل كلامي، فإن ظَفِر له بمحمل صحيح يخرجه من المعنى المحال عرف أنه المقصود، وإلا قال: لا بدَّ له من محمل صحيح غير ما يتبادر منه, ولم =

الأثقال العظيمة، والمشي على سلك دقيق ممدود بين جدارين، أو نحوها، والإمساك عن التنفس مدة طويلة، وغير ذلك مما لا يستطيع الإنسان فعله ابتداء، ولكن أصحابه تمرَّنوا عليه زمانًا حتى سَهُلَ لهم. ومن هذا القبيل: الإمساك عن الأكل مدة طويلة، وتناول بعض السموم، وإدخال حديدة في موضعٍ خاصٍّ من البدن. وقد رأيت فقراء يزعمون أنهم رفاعية زعموا أنهم يأتون بالخوارق، فكان أحدهم يُدخل حديدة في طرف عينه اليمنى ثم يرفع بها حدقته رفعًا يسيرًا، وهذا عمل بسيط، وهو يأبى أن يغرز الحديدة في نفس الحدقة أو يبرز الحدقة أكثر مما كان يبرزها. فأخبرناهم أن هذا ليس بشيء، فتقدَّم آخر وجعل يجذب جلد بطنه ثم يغرز فيما انجذب من الجلد مسلّة (¬1)، ولكنه يأبى أن يغرزها في حشاه بحيث تخرق الصِّفاق (¬2)، بل يأبى أن يغرزها في موضع آخر من جلده. ثم تقدَّم الثالث - وكان أهمَّهم -[67] فأبرز حنجرته وحلقومه إلى الأمام إبرازًا فاحشًا، ثم غرز حديدة في جانب عنقه الأيمن، ومرت وراء الحلقوم حتى نفذت من الجانب الأيسر، ولكن لحقته صعوبة شديدة وساعده أصحابه وبعد نفاذها سال دم وتأَلَّم الرجل. وحاول أصحابه أن يكتموا ذلك ولكن كان ظاهرًا، فقيل لهم: إن كان هذا كرامة فَلِمَ هذا ¬

_ = يتردَّدْ في أن المتبادر من ذلك الكلام أمر محال، وأني إن أردت ظاهره فأنا كذَّاب دجَّال). [المؤلف] إلى هنا انتهى الكلام المضروب عليه، لكن المؤلف قد عاد ووضع كلمة (صح) أربع مرات فوق آخر سطرين. (¬1) هي بمعنى الإبرة. (¬2) الصِّفاق: غشاء ما بين الجلد والأمعاء. انظر: المعجم الوسيط، ص 517.

العناءُ كلُّه؟ فزعموا أنه كان في النَّظَّارة امرأة حائض! وسئلوا: هل يمكن هذا أن يغرز حديدة في بطنه أو في ثغرة نحره أو غير ذلك؟ فأجابوا: أنه ليس له إجازة في غير ما فعل. وفي اليمن فقراء كثيرون هذه صناعتهم. أن يطوفوا البلاد للسؤال، ويعملون بعض أعمالٍ. يوهم أحدهم أنه يغرز الحديدة في عينه أو في حلقه أو بطنه أو نحو ذلك، ويوهم الناس أنه يتحامل على الحديدة بأقصى قوَّته، وتتمُّ حِيَلُهُم على النساء والصبيان ونحوهم، ومنهم من يضرب كتفه بالسيف، ولكنه يقيس قوَّة يده بالضرب بقدر أن يدنو السيف من كتفه أو يلامسه ملامسة خفيفة، وقد يجاوز بعضهم هذا إلى حدِّ أنه يشق أعلى الجلد فيسيل الدم. والحاصل: أن العاقل إذا تأمَّل صنيعهم، وأمعن النظر تبين له أن عملهم كله مغالطة. [68] ومن الغرائب ما يكون عن قوة غريبة للنفس، فأشهر ذلك الإصابة بالعين، وقد تكون قوة الإصابة بالعين اكتسابية. قال في شرح المقاصد: "وقالوا: إن كان العين في بني أسد (¬1)، وكان الرجل يتجوَّع ثلاثة أيام فلا يمرُّ به شيء يقول فيه: لم أر كاليوم؛ إلاَّ عانه" (¬2). وفوق الإصابة بالعين درجات كثيرة تكتسب بالرياضة، فإنه كما أن القوى الجسمية يمكن تربيتها بالرياضة حتى تصير للمرتاض قوَّة لم تكن له من قبل ولا تكون لغير المرتاض، كما مرّ في الشعبذة والألعاب، فكذلك ¬

_ (¬1) كذا في الأصل بتذكير العين وحذف اللام الفارقة من الخبر. (¬2) شرح المقاصد 2/ 207. [المؤلف]

القوى النفسية يمكن تربيتها بالرياضة المختصة بها. وهذا الأمر معروف من القِدَم بين اليونان وأهل الهند والصين وغيرهم. والفلاسفة القدماء فريقان: فريق يذهبون إلى اكتساب العلوم والمعارف بإعمال العقل والفكر، ويقال لهم: المشَّاؤون. وفريق يذهبون إلى اكتسابه برياضة النفس وترقيتها، ويقال لهم: الإشراقيون. قال غير واحد: فالمشَّاؤون كالمتكلمين من المسلمين، والإشراقيون كالمتصوِّفين. وفي رسائل ابن سينا وغيره كثير من طريق الإشراقيين، ويسميها هو تصوفًا. وقال البيروني (¬1): إن اشتقاق التصوف من كلمة يونانية هي سوفا، ومعناه: الحكمة، ومنها قيل: فيلسوف، وأصله باليونانية فيلا سوفا، أي: محبّ الحكمة، فعُرِّبت هذه الكلمة بالصاد، ونسب إليها الصوفي (¬2). أقول: واعلم أن أهل الرياضة من الأمم تختلف أغراضهم، فالحكماء ¬

_ (¬1) هو أبو الريحان أحمد بن محمَّد - وقيل محمَّد بن أحمد - الخوارزمي العلامة المنجم الطبيب، اللغوي، من مؤلفاته: "الآثار الباقية عن القرون الخالية"، توفي سنة 440 هـ. انظر: عيون الأنباء في طبقات الأطبَّاء 2/ 20 - 21، ومعجم الأدباء 17/ 180. (¬2) تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة ص 24.

إنما يقصدون أن تصفو أنفسهم، وتنكشف لهم بعض الحقائق الكونية والمعارف الربانية، رغبة في العلم والمعرفة، [69] فإذا حصلت لهم قوى غريبة لم يأنسوا بها، ولا يلتفتون إلاَّ إلى ما يرونه معينًا لهم على مطلوبهم. ولكنَّ كثيرًا من الناس إنما يرتاضون طلبًا لتحصيل القوة الغريبة، ومنهم من يكون نيته أوَّلًا تحصيل المعرفة، ولكن إذا حصلت له القوة الغريبة اغترّ بها وعكف عليها. وأساس هذه الرياضات عندهم الجوع والسهر والعزوبة والخلوة وقطع الشواغل وجمع الفكر في شيء واحد، وأن لا يأكل روحًا ولا ما خرج من روح، كالبيض، والسمن، واللبن، وغير ذلك، وإتعاب الجسد وأعمال أخرى لها قواعد مخصوصة عندهم كرياضة التنفُّس، فينظِّم الطالب تنفُّسه على كيفية مخصوصة يواظب عليها حتى تصير له عادة. ومنها: أن يوجِّه همته عند استنشاق الهواء إلى أن يمرَّ به على طريق مخصوص يمرُّ على أعضاء مخصوصة، وغير ذلك. ثم إنهم يزيدون على هذا المقدار أشياء تناسب غرض الطالب وعقيدته، فمن كان غرضه تحصيل المعرفة وتصفية النفس يضيف إلى ذلك المحافظة على الشريعة التي يعتقدها حقًّا، فالصابئة يضيفون تعظيم الكواكب ودعاءَها والتبخير بالبخورات الخاصة وغير ذلك، والوثنيون تعظيمَ الأصنام [70] والعكوف عليها، ونحو ذلك؛ وهكذا كل فريق بحسب اعتقاده. ومن كان غرضه تحصيل القوة الغريبة فإنه يقتصر على ما يظنه كافيًا في تحصيلها، حتى إن منهم مَنْ يستعجل حصول تلك القوة ويرى أنها لا تحصل له إلا إذا أصلح نيته، ولكنه قد يحصل له مثلها بمعونة الشياطين،

فيسعى في الأعمال الخبيثة في اعتقاده، ويبالغ فيها، فربما حصل له شيء من القوة بسبب الرياضة إن كان ارتاض، ولكنه يظنها ما حصلت له إلا بتلك الأعمال الخبيثة، وأنه إن ترك تلك الأعمال سُلِبَ تلك القوة. ومنهم من تستولي عليه الشياطين حقيقة، فيساعدوه (¬1) على بعض ما يريد ليطيعهم، ويعمل على تطويع الناس لهم، والعياذ بالله. والمقصود أن حصول تلك الآثار إنما هو في الغالب نتيجة لما قدَّمنا ذكره من الجوع والسهر ونحوهما، فإذا صَحِبَ ذلك نوعٌ ما مما يراه المرتاض عبادة فإنما يساعد على حصول تلك الآثار من حيث هو رياضة. ولذلك لا يختص حصول تلك الآثار بدين من الأديان، ولكن الناس لجهلهم بالأسباب الحقيقية يستدلون على صحة الدين بحصول تلك الآثار للمرتاضين العاملين به، بل قد يستدل المرتاض نفسه بذلك، وهو خطأ كما علمتَ. والله أعلم. [71] واعلم أن هذه الرياضة ليست بمذمومة على الإطلاق، فقد جاء الإِسلام بالنهي عن الإسراف في الأكل والشرب، وبمشروعية الصيام، وقيام الليل، والتفكر، والاعتكاف، وغير ذلك مما يتضمن طرفًا من الرياضة وإن لم تكن الرياضة هي المقصود من ذلك، على أنه لا يبعد أن تكون مقصودة في الجملة. وعلى كل حال فإن القدر الذي تضمنته العبادات المشروعة في الإِسلام من الرياضة مفيد في تهذيب الأخلاق، وتقوية العزم، وتصفية النفس، وغير ¬

_ (¬1) كذا في الأصل.

ذلك إلى حدٍّ لا يبلغ القوى الغريبة. بل جاءت أحاديث كثيرة في النهي عن الغلوّ في العبادات؛ فثبت النهي عن مواصلة الصوم، وعن صوم الدهر، وعن قيام جميع الليل أبدًا، وأخرى في النهي عن الغلو، وعن التشديد على النفس ومجاوزة ما كان عليه أصحاب النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم على عهده. فكان الصحابة رضي الله عنهم وعامَّة التابعين واقفين عند الحدود الشرعية في ذلك، ولكنه بعد ذلك نشأ أفرادٌ لهم رغبة في الخير وفي عبادة الله عزَّ وجلَّ، يتأوّلون ما ثبت عن الشارع من النهي عن الزيادة في العبادات بأن ذلك كان شفقة منه على الناس لئلا يشق عليهم، أو خشية أن يكون الإمعان في العبادة داعيًا إلى السآمة والملل، أو لئلا تضعف أجسامهم عن الجهاد والعمل في إعزاز الإِسلام، ونحو ذلك من التأويلات. وربما بالغ بعضهم [72] في العبادات ونحوها مما ورد في الشرع استحبابُ طرفٍ منه، حتى يبلغ بهم الحالُ إلى مشابهة أهل الرياضات، كما كانوا يبالغون في تجويع أنفسهم؛ لأنهم لا يجدون طعامًا حلالًا صِرْفًا لا شبهة فيه، وفي مناقب الزهاد أشياء من ذلك. وفي القرن الثاني والثالث بدأ هؤلاء المبالغون يذكرون أن للجوع فائدة في تصفية النفس. ثم اطَّلع المسلمون على فلسفة اليونان ووجدوها على طريقين: إعمال العقل، ورياضة النفس؛ فنقلوا ذلك وعملوا به. وقد عورضوا في الأولى معارضة شديدة يعلمها من له إلمام بتاريخ الإِسلام. وأما الثاني فلم يَلْقَ كبيرَ معارضة؛ لأن أصحابه ألحقوا كلَّ طَرَفٍ منه بما يشابهه في الإِسلام، وقد قدَّمنا أن الإِسلام تضمَّن طرفًا من الرياضة، وأن

بعض الراغبين في الخير بالغوا في ذلك. ولم تبق على الناقلين صعوبة إلا في بعض الأمور؛ كالعزوبة، وأن لا يأكل من روح ولا ما خرج من روح، ورياضة التنفس، فألحقوها بالإِسلام بضربٍ من التَّمَحُّل، فقالوا: إن الزواج يشغل عن أداء الحقوق، ويحمل على الحرص على الدنيا من حلَّها وغير حلِّها، ولا سيَّما على أمثالنا من الضعفاء، فأما النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وأصحابه فكانت عندهم قوة ليست عندنا، وذكروا حديثًا نسبوه إلى النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "خيركم بعد الـ ... (¬1) مَن لا زوجة له ولا ولد". وأما منع الأكل من روح أو ما خرج من روح فاستشهدوا له بما نقل عن عمر رضي الله عنه أنه قال: إن لهذا اللحم ضراوة كضراوة الخمر (¬2)، [73] وغير ذلك. وأما رياضة التنفس فاخترعوا لها نوعًا من الذكر بقولهم: (هو الله، الله ¬

_ (¬1) كذا في الأصل. ولعلَّه أراد حديث: "خيركم في المائتين كلُّ خفيف الحاذ الذي لا أهل له ولا ولد". أخرجه أبو يعلى في مسنده - كما في إتحاف الخيرة المهرة 4/ 3، ح 3584 - وغيره، من طريق روَّاد بن الجرَّاح عن سفيان الثوريّ، ولم يتابَع عليه. ولذلك قال أبو حاتمٍ: "باطلٌ"، وقال مرَّةً: "منكرٌ". انظر: العلل س 1890 و2765. وقال الدارقطنيّ: "تفرَّد به روَّادٌ، وهو ضعيفٌ". انظر: العلل المتناهية 2/ 146 - 147، ح 1051 - 1052. وقال السخاويّ: "وعلَّته روَّادٌ، ولذا قال الخليليّ: ضعَّفه الحفَّاظ فيه وخطَّؤوه. انتهى. فإن صحَّ فهو محمولٌ على جواز الترهُّب أيَّام الفتن. وفي معناه أحاديث كثيرةٌ كلُّها واهيةٌ". المقاصد الحسنة ص 203، ح 452. وقال الألبانيّ: "باطلٌ"، وقال أيضًا: "موضوعٌ". انظر: السلسلة الضعيفة 8/ 71، ح 3580، ضعيف الجامع الصغير ح 2919. (¬2) أخرجه مالك في الموطأ 2/ 524 - 525 ح 2702، وأبو داود في الزهد (47)، وغيرهما.

هو)، على نظام مخصوص، واخترعوا بدل جمع الهمة وحصر الفكر في شيء معيّن حصر المزيد همَّته في تصوُّر الشيخ، ونحو ذلك. واعلم أن العاملين بالرياضة من المسلمين على أقسام: فقسم منهم يرى أنها علم من العلوم، وصناعة من الصنائع، تختلف أحكامها في الشريعة باختلاف الغرض منها. فمَنْ كان غرضه منها تهذيب نفسه وتقوية إدراكه وتحصيل قوة يستعين بها على معرفة ربَّه فلا بأس بها عند هؤلاء. ومَنْ كان غرضُه تحصيلَ قوة يستعين بها على أغراضه الدنيوية من الجاه والشهرة ونحو ذلك فهي وبال عليه. وقسم منهم تَوَهَّم أنها عبادات، إما بناء على ما تقدّم من أن الشريعة جاءت بشيء مما يشبهها، وأن أفرادًا من الراغبين في الخير بالغوا في ذلك إلى أن قربوا منها. وإما استنادًا إلى كلام المتأخرين من المتصوفين الذين يزعمون أن تلك الأعمال عبادة إسلامية بدون تأويل. وقسم ليس لهم اعتقاد ثابت في الشريعة، ورأوا أن هذه الرياضة طريقة من طرق الحكماء تُوْصِل إلى زيادة المعرفة والقوة الغريبة، ولكنهم يراؤون الناس بزعم أنهم يعتقدون [74] أنها عبادة. ثم لما كان مقرَّرًا عند جمهور الأمة أن الله عزَّ وجلَّ يكرم صالحي عباده بأن يخرق لهم العادة أحيانًا، وقد نقل شيء من ذلك عن بعض الصحابة والتابعين، وكان أكثر الناس يجهلون أن الرياضة من شأنها ترقية قُوَى الناس إلى حدِّ الغرائب = صاروا يسمُّون كلَّ ما يظهر أو ينسب إلى المرتاضين من الغرائب: كراماتٍ، مع أنها محتملة لذلك، ومحتملة أن تكون من آثار الرياضة. والله أعلم.

وقد قال الصوفية أنفسهم بأن السالك يمر على مرتبة السحر العال (¬1) يكون صاحبها بحيث لا يريد شيئًا إلا كان في الحال، وأنه إن وقف عليها هلك. ذكره غير واحدٍ، منهم: عبد الكريم الجيليّ (¬2) في "الإنسان الكامل"، في الباب السادس والثلاثين (¬3)، وفي كتب الغزاليّ نحو ذلك. ومن الغرائب ما يكون بمساعدة الشياطين، إما لمشاكلة بينهم وبين نفس ذلك الإنسان، كابن صَيَّاد الثابتة قصته في الصحيحين وغيرهما (¬4). وإما بسعي ذلك الإنسان فيما يرضي الشياطين حتى يساعدوه، كما في كُهَّان العرب. وكان في زمن الحجاج رجل يقال له عبد الله بن هلال، ويلقَّبُ "صديق إبليس"؛ كان يعمل الغرائب، وكان يترك صلاة العصر إرضاء لإبليس حتى يساعده (¬5). ¬

_ (¬1) كذا في الأصل بحذف ياء المنقوص، وفسَّره الجيليّ في الإنسان الكامل (1/ 71) بأنه شيءٌ يشبه الكرامات، قال: "لأنه بلا أدويةٍ ولا عملٍ ولا تلفُّظٍ بشيءٍ، بل بمجرَّد قوىً سحريَّةٍ في الإنسان تُجْري الأمور على حسب ما اقتضاه الساحر". (¬2) عبد الكريم بن إبراهيم بن عبد الكريم الجيلي القادري، قطب الدين، صوفي، من تصانيفه الكثيرة: الإنسان الكامل في صرفة الأواخر والأوائل، الإسفار عن رسالة الأنوار فيما يتجلَّى لأهل الذكر من الأنوار لابن عربي، توفي سنة 832 هـ. الأعلام 4/ 50 - 51 ومعجم المؤلفين 5/ 313. (¬3) 1/ 71. (¬4) انظر: البخاريّ، كتاب الجهاد والسير، بابٌ كيف يعرض الإِسلام على الصبيّ؟ 4/ 70 - 71، ح 3055. وصحيح مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر ابن صيَّادٍ 8/ 189 - 194، ح 2924. [المؤلف] (¬5) انظر ترجمته في: لسان الميزان [3/ 372 - 374]. [المؤلف]

فصل

وكثير من الناس في الهند وغيرها في عصرنا هذا يسلكون هذه الطريقة، أي التقرب إلى الشياطين. وإما لقصد الشياطين أن يُضِلُّوا ذلك الإنسان ويُضِلُّوا به، وقصة الشيخ عبد القادر الجيلي رحمه الله وتعرُّض الشيطان له مشهورة، وأشباهها كثيرة. قال ابن قتيبة في عيون الأخبار (¬1): حدثني محمَّد بن داود، قال: حدثنا أبو الربيع الزهراني، قال: حدثنا أبو عوانة، عن المغيرة، عن إبراهيم في الرجل يرى الضوء في الليل قال: هو من الشيطان، لو كان فضلًا لأوثر به أهل بدر. وعن السلف آثار أخرى في هذا المعنى، كما روي عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما وغيرها، من قولهم لِمَنْ يُصْعَقُ عند سماع القرآن: من الشيطان، وغير ذلك (¬2). وفي مقابلها آثار كثيرة عن التابعين فمن بعدهم في تحسين الظنِّ بمن ظهر على يده شيء من الغرائب، وكان واقفًا عند حدود الله تعالى، متحقِّقًا بالكتاب والسنة، بلا تحريف ولا تأويل يخالف به العلماء. والله أعلم. فأما السحر، فمنه ما يكون بالرياضة، ومنه ما يكون بالتقرُّب من الشياطين، ومنه ما يكون بغير ذلك، وسنتكلم عليه في ما يأتي إن شاء الله. [75] فصل واعلم أن الخوارق والغرائب متقاربة يلتبس بعضها ببعض غير أن المعجزة تمتاز بما قدمنا، وكذلك الإهانة ممتازة كما مرّ. ¬

_ (¬1) 4/ 301. [المؤلف] (¬2) انظر: سنن سعيد بن منصور، كتاب فضائل القرآن 2/ 330 ح 95، وانظر آثارًا أخرى في هذا المعنى في الدر المنثور 7/ 221 - 222.

فأما الكرامة فذكر أهل العلم أنها تمتاز بوقوعها على يد المسلم العالم بالشريعة العامل بها. قال الشعراني في كتابه "تنبيه المغترِّين": "من أخلاق السلف الصالح رضي الله عنهم ملازمة الكتاب والسنة كلزوم الظلِّ للشاخص، ولا يتصدَّر أحدهم للإرشاد إلا بعد تبحره في علوم الشريعة المطهرة بحيث يطلع على جميع أدلة المذاهب المندرسة والمستعملة، ويصير يقطع العلماء في مجالس المناظرة بالحجج القاطعة أو الراجحة الواضحة، وكتب القوم مشحونة بذلك، كما يظهر من أقوالهم وأفعالهم. وقد كان سيد الطائفة الإِمام أبو القاسم الجنيد رضي الله عنه يقول: كتابنا هذا - يعني القرآن - سيد الكتب وأجمعها، وشريعتنا أوضح الشرائع وأدقُّها، وطريقتنا - يعني طريق أهل التصوف - مشيدة بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن ويحفظ السنة ويفهم معانيها لا يصح الاقتداء به. وكان رضي الله عنه يقول: ما نزل من السماء علم وجعل الله لغير [76] نبيٍّ إليه سبيلًا إلا وجعل لي فيه حظًّا ونصيبًا. وكان رضي الله عنه يقول لأصحابه: لو رأيتم رجلًا قد تربَّع في الهواء فلا تقتدوا به حتى تروا صنعه عند الأمر والنهي، فإن رأيتموه ممتثلًا لجميع الأوامر الإلهيّة مجتنبًا لجميع المناهي فاعتقدوه واقتدوا به، وإن رأيتموه يخلُّ بالأوامر ولا يجتنب المناهي فاجتنبوه. انتهى" (¬1). وفي الأنوار: "ومن ادَّعى الكرامات لنفسه بلا غرض ديني فكاذب ¬

_ (¬1) تنبيه المغترين ص: 6. [المؤلف]

يلعب به الشيطان" (¬1). وقال الشاطبي: "وقال أبو يزيد البسطامي: لو نظرتم إلى رجل أُعْطِيَ من الكرامات حتى يرتقي في الهواء فلا تغترُّوا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي وحفظ الحدود وآداب الشريعة" (¬2). وقال الحافظ ابن حجر في الكلام على غزوة الرجيع من فتح الباري: "ووراء ذلك كله أن الذي استقر عند العامة أن خرق العادة يدلّ على أنّ من وقع له ذلك من أولياء الله تعالى، وهو غلط ممن يقوله؛ فإن الخارق قد يظهر على يد المبطل من ساحرٍ وكاهن وراهب، فيحتاج مَنْ يستدلُّ بذلك على ولاية أولياء الله تعالى إلى فارقٍ، وأولى ما ذكروه أن يُخْتبر حالُ مَنْ وقع له ذلك، فإن كان متمسِّكًا بالأوامر الشرعية كان ذلك علامة ولايته، ومَنْ لا فلا" (¬3). أقول: والتمييز بين الكرامة والابتلاء والغرائب التي قدَّمناها صعب جدًّا، كثيرًا ما يشتبه على من جرت الواقعة على يده فضلًا عن غيره. وأقصى ما يمكن: أن تمتحن تلك الواقعة مع النظر في جميع ما يتعلق بها، وتوزن بالكتاب والسنة، فإن وُجِد فيها مخالفةٌ ما لظاهرٍ من ظواهر الشريعة كان الظاهر أنها ليست بكرامة، وإلا كانت محتملة. وهذا - والله أعلم - مراد الجنيد وأبي يزيد. فأما أمرهما بالاعتقاد والاقتداء فإنما ذلك لكون ذلك الرجل عالمًا عاملًا [77] بحسب الظاهر، ¬

_ (¬1) نقله ابن حجر ص: 54 وأقرّه في الإعلام [بهامش الزواجر 2/ 161]. [المؤلف]. (¬2) الاعتصام 1/ 113 - 114. (¬3) فتح الباري 7/ 269. [المؤلف]

ومن كان كذلك كان أهلًا أن يُعْتَقَد فيه ويُقْتَدى به وإن لم يظهر على يده شيء، فظهور تلك الواقعة مع سلامتها عن الدلالة على مخالفته للشريعة إن لم يزده لم ينقصه، فتدبَّرْ. وعلينا إذا رأينا مَنْ ظهر على يده شيء من ذلك، وهو معتصم بالشريعة واقف عند حدودها، ولم يتعاط شيئًا من أسباب الغرائب، أن نظن تلك الظاهرة كرامة، وهذا مجرد ظن لا يكون حجة على القطع بأنه وليٌّ لله تعالى. وقد تقدّم في الطريق الثالث (¬1) ما فيه كفاية، والحمد لله. [وفي الصحيحين عن أبي بكرة قال: أثنى رجل على رجل عند النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فقال: "ويحك قطعت عنق صاحبك"، يقولها مرارًا: "إن كان أحدكم مادحًا لا محالة، فليقل: أحسب كذا وكذا، إن كان يرى أنه كذلك، وحسيبه الله، ولا يزكِّي على الله أحدًا" (¬2). وفي صحيح البخاريِّ وغيره حديث سعد بن أبي وقاص وقوله في رجل: إنه لمؤمن، فقال النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "أو مسلم"، الحديث (¬3). ¬

_ (¬1) لعله يشير إلى استناد بعضهم إلى تقليد الصوفية المعتَقَد فيهم العصمة. (¬2) البخاريّ، كتاب الأدب، باب ما يُكرَه من التمادح، 8/ 18، ح 6061. ومسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب النهي عن المدح إذا كان فيه إفراطٌ، 8/ 227 - 228، خ 3000. [المؤلف] (¬3) البخاريّ، كتاب الإيمان، بابٌ إذا لم يكن الإِسلام على الحقيقة، 1/ 14، ح 27. [المؤلف]. وهو في صحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان، باب تألُّف مَن يُخاف على إيمانه، 1/ 91، ح 150.

وحديث الأنصارية التي قالت في عثمان بن مظعون بعد وفاته: فشهادتي عليك لقد أكرمك الله، فقال النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "وما يدريكِ أن الله أكرمه؟ " الحديث. وفيه: "والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل به" (¬1). وفي مسند أحمد وغيره عن شقيق، ومسروق، عن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يقول: "إن من أصحابي مَنْ لا يراني بعد أن أفارقه"، فبلغ عمرَ رضي الله عنه، فجاء عمرُ فدخل عليها فقال لها: بالله منهم أنا؟ فقالت: لا، ولن أبرِّئ أحدًا بعدك (¬2)] (¬3). [78] وبالجملة، الأدلة في هذا كثيرة، وحاصلها: النهي عن القطع، فأما الظن وما يتبعه من الثناء المبني على الظاهر بدون نصٍّ على القطع، فلا حرج فيه. وإذا ظننا في إنسان أنه وليٌّ لله تعالى بما ظهر لنا من علمه وعمله، واستقامته على الصراط الشرعي؛ فلا يلزم من ذلك أن نجعل قوله حجة؛ لأن ولايته لم تثبت بالقطع، ولو ثبتت فهي لا تقتضي العصمة. وقد سئل الجنيد: أيزني العارف؟ فسكت قليلًا، ثم قال: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب: 38] (¬4). وهب أننا ظننا برجل أنه معصوم أو كالمعصوم، فإنما ذلك عن التعمُّد، فأمَّا عن الخطأ فلا شبهة في عدم عصمته؛ إذ لا تمنعه تقواه وورعه أن يخطئ ¬

_ (¬1) البخاريّ، كتاب الشهادات، باب القرعة في المشكلات، 3/ 182، ح 2687. [المؤلف] (¬2) المسند 6/ 290، وص 298، وص 307، وص 312، وص 317. [المؤلف] (¬3) ما بين المعقوفتين رأينا عليه خطًّا معترضًا، يحتمل أن يكون للضرب عليه. (¬4) انظر: الرسالة القشيرية ص 187.

فيقول أو يعمل ما يظنه حقًّا وهو في نفس الأمر باطل. وكذلك لا يمنعنا اعتقاد أنه أخطأ مِنْ حُسْنِ الظن به، وظن أنه كان صالحًا فاضلًا أو وليًّا لله عزَّ وجلَّ؛ فإن المجتهد إذا أخطأ لم يأثم، بل هو مأجور، كما ورد في الحديث (¬1)، وأشار إليه القرآن في قصة داود وسليمان، فقال تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79]. واعلم أن كثيرًا من مسائل العقائد لا تخرج عن هذا؛ فإن كثيرًا من الأعمال والأقوال يُعَدُّ كفرًا، ومع ذلك يُنْقل شيء منه عن بعض الأكابر، ولا يمنع ذلك من اعتقاد فضلهم وصلاحهم وولايتهم؛ فإن إنكار آية من القرآن كفر، ومع ذلك فقد قال ابن مسعودٍ رضي الله عنه: إن المعوذتين ليستا من القرآن، ولم يقدح ذلك في جلالته، لما كان له من العذر. وأمثلة ذلك كثيرةٌ، لعلَّنا نفرد لها فصلًا، وقد قدَّمنا (¬2) ما يتعلَّق بهذا. وحاصله: أنه ليس كل ما ثبت في العمل أنه كفر أو شرك ثبت أن كلَّ مَنْ عَمِله يكون كافرًا أو مشركًا، بل ربما يكون العمل كفرًا أو شركًا ويكون بعضُ عامليه من أولياء الله عزَّ وجلَّ؛ لأنه كان معذورًا في عمله. وبهذا يندفع عنك ما تتوهَّمه؛ إذ تقول لك نفسك: لو كان هذا كفرًا أو شركًا لكان فلان وفلان وآبائي ومشايخي كفارًا، وأنت لا تستطيع أن تتصوَّر ذلك، وبهذا التوهم تتجنَّب النظر إلى الأدلة بالعدل والإنصاف. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام، باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، 9/ 108، ح 7352. ومسلم في كتاب الأقضية، باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، 5/ 131، ح 1716، من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه. (¬2) في ص 132 - 147.

وقد غلط كثير من الناس فصاروا إذا ظهر لهم في أمرٍ أنه كفر تعدَّوا الحدود وأعلنوا بتكفير جماعة من أئمة الدين والأولياء الصالحين، وهذه حماقة شيطانية. نعم لا يلزم من عذر بعض العاملين أن يُعْذَر جميعهم؛ فإن للعذر شرائط، فلا يخدعنَّك الشيطان، فتقول: إذا كان أولئك معذورين فأنا معذور على فرض أن هذا العمل كفر أو شرك؛ فإنك إنما تعذر إذا بحثت وحقَّقْت وبذلت وُسْعَك ثم تبيَّن لك أنه ليس ذلك العمل بكفر ولا شرك، بشرط أن تكون أهلًا للبحث والنظر، وإلَّا فإنه يتعين عليك الاحتياط. ولعلَّنا نوضح هذا المعنى، وإنما قدَّمنا هنا الإشارة إليه مخافة أن يمنعك التوهُّمُ المذكور عن النظر في رسالتنا هذه نظر الطالب للحقِّ من حيث هو حقٌّ. والله الموفق. وأنت خبير أن سادة الأولياء هم الصحابة رضي الله عنهم، ولم يُجْعَل قولُ أحد منهم حجة كما تقدَّم. وكثيرًا ما نجد المنسوبين إلى الولاية يختلفون فيما بينهم، ويخطِّئ بعضهم بعضًا، وقد يَنْسُبُ كلٌّ منهما رأيَه إلى الكشف، وقد يقول أحدهم قولًا ينسبه إلى الكشف ثم يرجع عنه، وينسب رجوعه إلى الكشف أيضًا، وفي ذلك دلالة على أن الكشف يخطئ. وفي أبيات لابن عربي (¬1): واعتصم بالشرع في الكشف فقد ... فاز بالخير عُبيدٌ قد عُصِم ¬

_ (¬1) نقلها الآلوسيُّ في روح المعاني (1/ 141 - 142) عن الفتوحات لابن عربيّ. وستأتي بقيَّة الأبيات في ص 307.

وسبب الخطأ في الكشف يُعْلَم مما قدمنا في الخوارق والغرائب. وأزيدك ها هنا فائدة جليلة. [79] اعلم أن الكشف، وإن ثبت أنه صحيح، فالأغلب أنه يكون له تأويل كتأويل الرؤيا، يوكل ذلك التأويل إلى فهم المكلَّف. والبرهان على ذلك مكاشفات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ فإنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم رأى ليلة أُسْرِي به الفطرة في صورة اللبن، والشهوات في صورة الخمر، وأشياء كثيرة رآها (¬1)، وهي من باب التمثيل تحتاج إلى تأويلٍ. وكذلك رؤيا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ فقد رأى يوسف عليه السلام الكواكب والشمس والقمر ساجدين له، وكان تأويلُ ذلك سجودَ أبويه وإخوته. وقال الله تعالى لنبيه محمَّد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ ...} [الأنفال: 43]. فرآهم قليلًا وليسوا في الواقع قليلًا، ولكن ذلك كناية عن الذلَّة، وأنهم سيُغلبون. ورأى أنه في درع حصينة فأوَّلها المدينة. ورأى بقرًا تُنْحَرُ، فأوّلها بمن يقتل من أصحابه. ورأى سوارين من ذهب، فأولهما بالكذَّابَيْنِ: مسيلمة والأسود. وأمثال ذلك كثير (¬2). وإنما يكون الظاهر حجة في الأوامر التكليفية التي كلف الله العباد أن ¬

_ (¬1) سيأتي تخريج هذه الأحاديث بعد أسطر. (¬2) انظر: باب التعبير في صحيح البخاريِّ 9/ 29 - 46، [ح 6982، وما بعده]. وكتاب الرؤيا في صحيح مسلمٍ 7/ 50 - 58، [ح 2261، وما بعده]. [المؤلف].

يتدبروها ويعملوا بما فيها، فأمّا ما عدا ذلك فهو على ما وصَفْتُ. هذا مع أن رؤيا الأنبياء وحي، فأما رؤيا غيرهم فإنها كما جاء [80] في الحديث محتملة أن تكون صادقة، وأن تكون من حديث النفس، وأن تكون من الشيطان. والكشفُ عند التحقيق ضرب من الرؤيا، غاية الأمران الروح إذا قويت وضعف الجسد صارت الروح تعمل في اليقظة مثل ما تعمل غيرها من الأرواح في النوم. والبرهان على هذا حديث البخاري وغيره عن أبي هريرة قال: قال النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "لم يبق من النبوَّة إلا المبشِّرات"، قالوا: وما المبشّرات؟ قال: "الرؤيا الصالحة" (¬1). فلو كان الكشف أقوى من الرؤيا لكان أولى بأن يستثنيه. ثم رأيت في فتح الباري نقلًا عن الطيبي: " ... فلا يظهر على غيبه إظهارًا تامًّا وكشفًا جليًّا إلا لرسول ... وأما الكرامات فهي من قبيل التلويح واللمحات" (¬2). فأما حديث الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "ولقد كان فيما قبلكم من الأمم محدَّثون، فإن يك في أمتي أحد فإنه عمر"، وفي روايةٍ: "فإن عمر بن الخطَّاب منهم" (¬3). فقد تتبعنا ¬

_ (¬1) البخاريّ، كتاب التعبير، باب المبشِّرات، 9/ 31، ح 6990. [المؤلف] (¬2) انظر: فتح الباري 13/ 284. [المؤلف] (¬3) البخاريّ، كتاب فضائل أصحاب النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، باب مناقب عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه، 5/ 13، ح 3689، [من حديث أبي هريرة رضي الله عنه]. ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، بابٌ من فضائل عمر رضي الله عنه، 7/ 115، ح 2398، [من حديث =

سيرة عمر رضي الله عنه فلم نجد له من هذا القبيل إلا الفراسة وصدق الظن. ولم يكن ذلك مطَّرِدًا له، بل كان ربما أخطأ، ولم يكن يحتج في الشريعة بمجرد ظنه، بل كان يقضي القضاء ثم يرجع عنه لحديث يبلغه، أو لرأي يبدو له أو غير ذلك. وهكذا لم يقل أحد من الصحابة ولا مَن بَعْدَهُم: إن قول عمر يكون حجة لحديث التحديث، وقد وجدنا صغار الصحابة وأئمة التابعين والأئمة الأربعة المجتهدين وأضرابهم كثيرًا ما يخالفون عمر لأدلَّة ظنية، بل لم يكن أحد من الصحابة يحتج في قليل ولا كثير [81] بالكشف، بل لا يكاد يصحُّ، بل لا يصحُّ عن أحد منهم دعوى الكشف لنفسه أو لغيره منهم، والله المستعان. وقصَّة: (يا سارية الجبل) لم تصحَّ، وإن قال بعض المتأخِّرين: إن لها طرقًا تبلغ بها درجة الحسن لغيره (¬1)، ومع ذلك ففيها: أن عمر سُئل بعد أن قال: "يا سارية الجبل"، فأجاب أنه شيءٌ جرى على لسانه لم يُلْقِ له بالًا، وسيأتي بقية الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى (¬2). وهكذا نجد نقل الكرامات عنهم قليلًا، والنادرَ من ذلك القليل صحيحًا، مع أنهم خير الأمة وأقربها من الله تعالى ورسوله، وأولاها بكل ¬

_ = عائشة رضي الله عنها]. [المؤلف]. (¬1) لعلَّه يعني الحافظ ابن كثيرٍ؛ فإنه قال بعد ما ذكر طرقًا لهذه القصَّة: (فهذه طرقٌ يشدُّ بعضها بعضًا). انظر: البداية والنهاية 10/ 176. أو الحافظ ابن حجرٍ؛ فإنه حسَّن إسنادها في الإصابة، ترجمة سارية بن زنيم بن عبد الله الدؤليِّ، 4/ 177. (¬2) انظر: ص 799.

فضل، ولا يبلغ أحد ممن بعدهم مُدَّ أحدهم ولا نصيفه، عَمِلَ ما عَمِل. ولقد ينقل لواحد من أفراد الأمة بعد القرون الفاضلة أضعاف أضعاف ما نُقِلَ عن مجموع الصحابة رضي الله عنهم وأكثر من ذلك، وأنت إذا كنت قد تدبَّرت ما قدَّمنا فقد علمت السبب الحقيقيَّ في ذلك. والله أعلم. وأغرب من ذلك أنك تجد الصحابة وخيار التابعين ومَنْ يليهم من العارفين كانوا شديدي الخوف من الله عزَّ وجلَّ، والمقت لأنفسهم، واتهامها بالغرور والرئاء وغير ذلك، مع أن منهم مَنْ مدحه الله عزَّ وجلَّ في كتابه وبشره بالجنة على لسان رسوله، وكثر ثناء النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم عليه، وكان ممن ورد فيهم: "اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم" (¬1)، فلا تجد أحدا منهم ادّعى لنفسه الخير والصلاح، وأن الله يحبه، وأنه من المقربين، ونحو ذلك. [81 ب] وفي الصحيحين عن عائشة قالت: صنع النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم شيئًا ترخص (¬2) وتنزه عنه قوم، فبلغ ذلك النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فحمد الله ثم قال: "ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه؟! فوالله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشيةً" (¬3). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري كتاب الجهاد، باب الجاسوس ... ، 4/ 59 ح 3007، وصحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة, باب من فضائل أهل بدر 7/ 167 ح 2494 من حديث عليًّ رضي الله عنه. (¬2) في بعض نسخ البخاريِّ: ترخَّص فيه. (¬3) البخاريّ، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنَّة، باب ما يُكرَه من التعمُّق والتنازع، 9/ 97، ح 7301، مسلم، كتاب الفضائل، باب علمه - صلى الله عليه وسلم - بالله تعالى وشدَّة خشيته، 7/ 90، ح 2356، وفي رواية له: "فغضب حتى بان الغضب في وجهه". [المؤلف]

وفي معنى ذلك أحاديث أخرى. وفي الموطأ عن زيد بن أسلم، عن أبيه أنَّ عمر بن الخطَّاب دخل على أبي بكر الصديق رضي الله عنهما وهو يجبذ لسانه، فقال له عمر: مه! غفر الله لك، فقال له أبو بكر: إن هذا أوردني الموارد (¬1). وجاء عن عمر رضي الله عنه أنه أخذ تِبْنَة من الأرض، فقال: ليتني كنت هذه التبنة، ليتني لم أُخْلَق، ليتني لم أكن شيئًا، ليتني كنت نسيًا منسيًّا (¬2). وفي مسند أحمد وغيره عن مسروقٍ (¬3). وعن علي عليه السلام أنه كان يقول في مناجاته بالليل: "آه من قلة الزاد وبُعد السفر ووحشة الطريق" (¬4). وقال ابن سعد (¬5): وعن ابن مسعود أنه قال رجل عنده: ما أحب أن أكون من أصحاب ¬

_ (¬1) الموطَّأ بهامش شرحه المنتقى للباجي 7/ 312. [المؤلف]. وهو في كتاب الجامع، باب ما جاء فيما يُخاف من اللسان، 2/ 586، ح 2825 - ط: دار الغرب -. (¬2) انظر: الزهد لابن المبارك ص 79، ح 234، الطبقات الكبرى لابن سعد 3/ 360، مصنَّف ابن أبي شيبة، كتاب الزهد، كلام عمر بن الخطَّاب، 19/ 149، ح 35621. وفي إسناده: عاصم بن عُبَيد الله، وهو ضعيفٌ. (¬3) بيَّض له المؤلِّف. (¬4) انظر: حلية الأولياء 1/ 85، تاريخ دمشق 24/ 401. وفي إسناده: محمَّد بن السائب الكلبي، وهو متهم بالكذب. وله طريق آخر عند ابن عبد البر في الاستيعاب 3/ 44 (بهامش الإصابة)، وفيه رجل مبهم. (¬5) بيَّض له المؤلِّف.

اليمين، أكون من المقربين أحب إليَّ. فقال عبد الله بن مسعود: لكن ها هنا رجل ودّ أنه إذا مات لا يُبْعَث، يعني نفسه (¬1). وعنه قال: لو تعلمون ما أعلم من نفسي حثيتم عليّ التراب (¬2). وعنه قال: لو وقفت بين الجنة والنار فقيل لي: اختر نخيِّرْك، من أيهما تكون أحب إليك، أو تكون رمادًا؛ لأحببت أن أكون رمادًا (¬3). يريد أن يخيّر بين أمرين: أحدهما: أن يكون رمادًا. الثاني: أن يُقْضَى له بما يستحقه من الجنة أو النار، فهو يختار الأول، أي: أن يكون رمادًا, لأنه لو اختار الثاني لا يدري لعله يقضى له بالنار. وعن ابن عمر قال: لو علمت أن الله يقبل مني سجدة واحدة وصدقة درهم لم يكن غائبٌ أحبَّ إليَّ من الموت، ثم تلا: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27] (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: الزهد للإمام أحمد ص 195 و198، حلية الأولياء 1/ 133، صفة الصفوة 1/ 405. (¬2) انظر: الزهد لأبي داود، ص 144، ح 148، المعرفة والتاريخ 2/ 549، المستدرك، كتاب معرفة الصحابة، ذكر مناقب عبد الله بن مسعودٍ، 3/ 316، حلية الأولياء 1/ 133، صفة الصفوة 1/ 406 - 407. (¬3) انظر: مصنَّف ابن أبي شيبة، كتاب الزهد، كلام ابن مسعود، 19/ 165، ح 35683، المعجم الكبير للطبراني 9/ 105، ح 8535، حلية الأولياء 1/ 133، صفة الصفوة 1/ 406. قال الهيثمي: (ورجاله ثقاتٌ، إلَّا أني لم أجد للحسن سماعًا من ابن مسعود). مجمع الزوائد 10/ 407. (¬4) انظر: تاريخ دمشق 31/ 146، صفة الصفوة 1/ 576.

وروى ابن سعد في ترجمة ابن عمر من الطبقات عن أبي الوازع أنه قال: قلت لابن عمر: لا يزال الناس بخير ما أبقاك الله لهم. قال: فغضب وقال: إني لأحسبك عراقيًّا، وما يدريك ما يُغْلق عليه ابن أمّك بابه؟ (¬1). وعن أبي ذرًّ قال: والله لوددت أن الله عزَّ وجلَّ خلقني يوم خلقني شجرة تُعْضَد، ويؤكل ثمرها (¬2). [81 ج] وعن أبي الدرداء قال: أخوف ما أخاف أنْ يقال لي يوم القيامة: أعَلِمْتَ أم جَهِلْتَ؟ فإن قلتُ: علمتُ لا تبقى آية آمرة أو زاجرة إلا أُخِذْتُّ بفريضتها، الآمرة هل ائتمرت، والزاجرة هل ازدجرت (¬3). ¬

_ (¬1) الطبقات الكبرى 4/ 161. وانظر: الزهد لابن المبارك (زيادات نُعَيم بن حمَّادٍ) ص 14، ح 54، المعرفة والتاريخ 3/ 191، المدخل للبيهقيِّ 2/ 91، ح 542، تاريخ دمشق 31/ 157 - 158، صفة الصفوة 1/ 572. (¬2) انظر: مسند أحمد 5/ 173، مصنَّف ابن أبي شيبة، كتاب الزهد، كلام أبي ذرٍّ، 19/ 209، ح 35827، الزهد لأبي داود، ص 186 - 187، ح 203، الزهد لوكيعٍ 1/ 393، ح 159، المستدرك، كتاب الأهوال، بشارة النبيِّ للمؤمنين أن يكونوا شطر أهل الجنَّة، 4/ 579. الزهد لهناد ص 259، ح 450، الزهد لابن أبي عاصم، ص 42، ح 66، حلية الأولياء 1/ 164، صفة الصفوة 1/ 595. وروي مرفوعًا، أخرجه الترمذيُّ في كتاب الزهد، باب قول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا"، 4/ 556، ح 2312، وقال: (هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ). وابن ماجه في كتاب الزهد، باب الحزن والبكاء، 2/ 1402، ح 4190، والحاكم في المستدرك، الموضع السابق، 4/ 579، وقال: (هذا حديثٌ صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه)، ولم يتعقَّبه الذهبيُّ. والموقوف هو الأشبه، كما قال الألباني في السلسلة الضعيفة 4/ 261، ح 1780، والسلسلة الصحيحة 4/ 299، ح 1722. (¬3) انظر: حلية الأولياء 1/ 214، صفة الصفوة 1/ 630. وورد نحوه في الزهد للإمام أحمد =

وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها؛ دخل عليها ابن عباس وهي محتضَرة فبشرها، وذكر فضائلها. فقالت: دعني عنك يا ابن عباس، فوالذي نفسي بيده، لوددت أني كنت نسيًا منسيًّا (¬1). وعن زين العابدين علي بن الحسين بن علي عليهم السلام أنه حجَّ فلما أحرم واستوت به راحلته اصْفَرَّ لونه، وانتفض، ووقع عليه الرِّعْدة ولم يستطع أن يلبي فقيل له: مالك لا تلبي؟ فقال: أخشى أن أقول: لبيك فيقال لي: لا لبيك، فقيل له: لا بدَّ من هذا، فلما لَبَّى غُشِيَ عليه، وسقط عن راحلته، فلم يزل يعتريه ذلك حتى قضى حجَّه (¬2). وعن محمَّد بن عليِّ بن الحسين أنه كان يقول في جوف الليل: إلهي أمرتني فلم آتَمِرْ، وزجرتني فلم أزدجر، هذا عبدك بين يديك ولا أعتذر (¬3). ¬

_ = ص 170، وشعب الإيمان للبيهقيِّ 4/ 411، ح 1646، وجامع بيان العلم 1/ 549، ح 1201. ورُوِي مرفوعًا، وأوَّله: "كيف أنت يا عُوَيمر إذا قيل لك يوم القيامة: أعلمتَ أم جهلتَ ... ". أخرجه الحارث بن أبي أسامة في مسنده، كما في بغية الباحث 2/ 1004، ح 1124، والخطيب في اقتضاء العلم العمل ص 19، ح 5، وابن عساكر في تاريخه 67/ 181. وضعَّفه الألبانيُّ في السلسلة الضعيفة 9/ 179، ح 4157. (¬1) انظر: صحيح البخاريَّ، كتاب التفسير، سورة النور، باب: {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا ...}، 6/ 106، ح 4753، حلية الأولياء 2/ 45، صفة الصفوة 2/ 37 - 38. (¬2) ذُكِرَتْ هذه القصة في ترجمة علي بن الحسين من تهذيب التهذيب [7/ 306]. [المؤلف]. وانظر: المجالسة وجواهر العلم 3/ 154، تاريخ دمشق 41/ 378. قال الذهبي: (إسنادها مرسلٌ). سير أعلام النبلاء 4/ 392. (¬3) انظر: التوبة لابن أبي الدنيا، ص 92، ح 101، حلية الأولياء 3/ 186، صفة الصفوة 2/ 111.

وعن الفضيل بن عياضٍ قال: لو خيرت بين أن أعيش كلبًا أو أموت كلبًا ولا أرى القيامة لاخترت أن أعيش كلبًا أو أموت كلبًا ولا أرى القيامة (¬1). وعنه قال: أخذت على يد سفيان بن عيينة في هذا الوادي، فقلت: إن كنت تظن أنه بقي على وجه الأرض شر مني ومنك؛ فبئس ما تظن (¬2). [81 د] وعن بشرٍ الحافي أنه قال: شهرني ربي في الدنيا فليته لا يفضحني في القيامة، ما أقبح بمثلي يُظَنُّ بي ظنٌّ وأنا على خلافه، إنما ينبغي لي أن يكون أكثر ما يُظَنُّ بي أني أكره الموت، وما يكره الموت إلا مريب، ولولا أني مريب لأيِّ شيء أكره الموت (¬3). وعنه: لقيه سكران وجعل يقبِّله ويقول: يا سيّدي، فلما ولىّ تغرغرت عينا بشر بالدموع، وقال: رجل أحبَّ رجلًا على خيرٍ توهَّمه، لعلَّ المحبّ قد نجا، والمحبوب لا يدري ما حاله (¬4). وعنه قال: ربما رفعت يدي في الدعاء فأردُّها أو قال: فأستلها، أقول: إنما يعمل هذا من كان له عنده وجه (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: حلية الأولياء 8/ 84، صفة الصفوة 2/ 238 - 239. (¬2) انظر: حلية الأولياء 8/ 101، صفة الصفوة 2/ 239 - 240. ونحوه في تاريخ دمشق 48/ 418. (¬3) انظر: طبقات الصوفية ص 50، صفة الصفوة 2/ 326. (¬4) انظر: تاريخ دمشق 10/ 203 - 204، صفة الصفوة 2/ 327. (¬5) انظر: صفة الصفوة 2/ 330.

وعن السَّريِّ السقطي (¬1) فيما حكاه الجنيد عنه، قال: ما أرى لي على أحد فضلًا، قيل: ولا على المخنثين، قال: ولا على المخنثين (¬2). وعنه فيما حكاه الجنيد أيضًا عنه قال: ما أحب أن أموت بحيث أُعْرَف، أخاف أن تقذفني الأرض، فأفتضح (¬3). قال الجنيد: وسعت سَريًّا يقول: إني لأنظر إلى أنفي كلَّ يوم مرتين مخافة أن يكون قد أسودَّ وجهي (¬4). وعن أبي عبد الله البراثي (¬5) قال: حملتنا المطامع على سوء الصنائع، نذلّ لمن لا يقدر لنا على ضرٍّ ولا نفع، ونخضع لمن لا يملك لنا رزقًا، ولا موتًا ولا حياة، ولا نشورًا، وكيف أزعم أني أعرف ربي حق معرفته، وأنا أصنع ذلك، هيهات هيهات (¬6). ¬

_ (¬1) السري بن المغلس السقطي، أبو الحسن البغدادي، الإِمام القدوة شيخ الإِسلام، ولد في حدود الستين ومائة، وتوفي في رمضان سنة ثلاث وخمسين ومائتين، وقيل: إحدى وخمسين، وقيل: سبع وخمسين. انظر: تاريخ بغداد 9/ 187، سير أعلام النبلاء 12/ 185. (¬2) انظر: طبقات الصوفية ص 53، حلية الأولياء 10/ 124، صفة الصفوة 2/ 375. (¬3) انظر: شعب الإيمان 3/ 169، ح 692، حلية الأولياء 10/ 116، صفة الصفوة 2/ 376. (¬4) انظر: شعب الإيمان 3/ 169، ح 691، حلية الأولياء 10/ 116، صفة الصفوة 2/ 376. (¬5) محمَّد بن خالد بن يزيد بن غزوان البراثي، كان كثير البر والإحسان، وكان صديق بشر بن الحارث. اللباب 1/ 131. (¬6) انظر: حلية الأولياء 10/ 323، صفة الصفوة 2/ 389.

وعن الجنيد قال: كنت بين يدي السَّرِيِّ السقطي ألعب وأنا ابن سبع سنين، وبين يديه جماعة [81 هـ] يتكلّمون في الشكر فقال لي: يا غلام! ما الشكر؟ فقلت: ألاّ تعصي الله بنعمه، فقال لي: أخشى أن يكون حظُّك من الله لسانَكَ. قال الجنيد: فأنا أبكي على هذه الكلمة التي قالها السريُّ لي (¬1). وعن الربيع بن خُثَيْم أنه كان إذا قيل له: كيف أصبحت قال: أصبحنا ضعفاء مذنبين، نأكل أرزاقنا وننتظر آجالنا (¬2). وقال: أدركنا أقوامًا كنا في جنوبهم لصوصًا (¬3). وعن داود الطائي أنه وعظ رجلًا ثم قال: إني لأقول لك هذا، وما أعلم أحدًا أشدَّ تضييعًا مني (¬4). وعن سفيان الثوري رآه رجل يكثر البكاء فقال له: يا أبا عبد الله أراك كثير الذنوب فرفع شيئًا من الأرض، فقال: والله لذنوبي أهون عندي من ذا، إني أخاف أن أسلب الإيمان قبل أن أموت (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: الرسالة القشيرية ص 95، تاريخ بغداد 7/ 244 - 245، صفة الصفوة 2/ 417. (¬2) انظر: الزهد لابن المبارك (زيادات نعيم بن حماد) ص 38، ح 151، الزهد لهنَّاد بن السريِّ ص 293، ح 513، مصنَّف ابن أبي شيبة، كتاب الزهد، كلام ربيع بن خُثَيمٍ 19/ 266 - 267، ح 35987، الطبقات الكبرى 6/ 185، المعرفة والتاريخ 2/ 564، الدعاء للطبراني 1/ 541، ح 1940، حلية الأولياء 2/ 109، صفة الصفوة 3/ 67. (¬3) انظر: الطبقات الكبرى 6/ 189، الرقَّة والبكاء لابن أبي الدنيا، ص 163، ح 218، حلية الأولياء 2/ 109، صفة الصفوة 3/ 68. (¬4) انظر: الزهد لابن أبي الدنيا، ص 190، ح 490، حلية الأولياء 7/ 346، اقتضاء العلم العمل، ص 110 - 111، ح 193، صفة الصفوة 3/ 138. (¬5) انظر: شعب الإيمان 3/ 133 - 134، ح 839، حلية الأولياء 7/ 12، صفة الصفوة 3/ 150.

وعن هرم بن حيان (¬1) قال: والله لوددت أني شجرة من هذه الشجر، أكلتني هذه الراحلة، ثم قذفتني بَعْرًا، ولم أكابد الحساب، إني أخاف الداهية الكبرى؛ إما إلى الجنة وإما إلى النار (¬2). وعن الحسن البصري؛ بكى مرة، فقيل: ما يبكيك؟ فقال: أخاف أن يطرحني في النار ولا يبالي (¬3). وعنه قال: لقد أدركت أقوامًا ما أنا عندهم إلا لصٌّ (¬4). وعن مالك بن دينار قال: رأيت أبا عبد الله مسلم بن يسار في منامي بعد موته، فسلّمت عليه فلم يردَّ السلام، فقلت: ما يمنعك أن تردّ عليّ السلام؟ فقال: أنا ميّت، فكيف أرد عليك السلام، قال: قلت له: فماذا لقيت بعد الموت؟ قال: فدمعت عينا مالك عند ذلك، وقال: لقيت والله أهوالًا زلازل (¬5) عظامًا شدادًا، [81 و] قال: فقلت: فما كان بعد ذلك؟ قال: وما تراه يكون من الكريم؟ قبل منا الحسنات وعفا لنا عن السيِّئات، وضمن عنا التبعات، قال: ثم شهق مالك شهقة خرّ مغشيًّا عليه، قال: فلبث بعد ذلك ¬

_ (¬1) هو العبدي الأزديُّ البصريُّ، أحد العُبَّاد، قال ابن سعدٍ: كان عاملًا لعمر، وكان ثقةً، له فضلٌ وعبادةٌ. سير أعلام النبلاء 4/ 48. وانظر: الطبقات الكبرى 7/ 131 - 132، حلية الأولياء 2/ 119. (¬2) انظر: الزهد للإمام أحمد ص 284 - 285، المتمنِّين لابن أبي الدنيا ص 36 - 37، ح 37، حلية الأولياء 2/ 120، صفة الصفوة 3/ 214. (¬3) انظر: صفة الصفوة 3/ 223. (¬4) انظر: شعب الإيمان 9/ 285، ح 4673، حلية الأولياء 8/ 240، صفة الصفوة 3/ 234. (¬5) كذا في الأصل، وفي المصادر: وزلازل.

أيامًا مريضًا من غشيته، ثم مات (¬1). وقال صالح المرِّي: وقف مُطرِّف بن عبد الله بن الشخِّير وبكر بن عبد الله المزني بعرفة، فقال مطرِّف: اللهم لا تردَّهم اليوم من أجلي. وقال بكر: ما أشرفه من مقام وأرجاه لأهله لولا أني فيهم (¬2). وعن العلاء بن زياد أنه قال: إنما نحن قوم وضعنا أنفسنا في النار، فإن شاء الله أن يخرجنا منها أخرجَنا (¬3). وعن محمَّد بن واسع أنه قال: لو كان يوجد للذنوب ريح ما قدرتم أن تدنوا مني من نتن ريحي (¬4). وعنه أنه لما مرض كثر عُوَّاده فقال لرجل: أخبرني ما يغني هؤلاء إذا أُخِذَ بناصيتي وقدمي غدًا وأُلْقِيتُ في النار؟! ثم تلا هذه الآية: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ} [الرحمن: 41] (¬5). وعن مالك بن دينار أنه قال له محمَّد بن واسع: يا أبا يحيى! إن كنت ¬

_ (¬1) انظر: المنامات لابن أبي الدنيا ص 39، ح 30، حسن الظن بالله لابن أبي الدنيا ص 114، ح 131، المجالسة وجواهر العلم 1/ 452، ح 140، حلية الأولياء 2/ 295، صفة الصفوة 3/ 241. (¬2) انظر: الزهد للإمام أحمد ص 298، صفة الصفوة 3/ 248. (¬3) انظر: الزهد للإمام أحمد ص 312، شعب الإيمان 3/ 211، ح 953، حلية الأولياء 2/ 245، صفة الصفوة 3/ 254. (¬4) انظر: حلية الأولياء 2/ 349، صفة الصفوة 3/ 268. (¬5) انظر: المحتضرين لابن أبي الدنيا ص 142 - 143، ح 183 - 184، حلية الأولياء 2/ 348، صفة الصفوة 3/ 271.

من أهل الجنة فهنيئًا لك، فقال مالك: ينبغي لنا إذا ذكرنا الجنة أن نخزى (¬1). وعنه قال: والله لو وقف ملك بباب المسجد وقال: يخرج شرّ مَنْ في المسجد لبادرتكم إليه (¬2). وعنه أنه قال له رجل: يا مرائي! فقال: متى عرفت اسمى، ما عَرَفَ اسمي غيرُك (¬3). وعنه لما حضرته الوفاة قال: لولا أني أكره أن أصنع شيئًا لم يصنعه أحد قبلي [81 ز] لأوصيت أهلي إذا أنا متُّ أن يقيِّدوني، وأن يجمعوا يديَّ إلى عنقي، وأن ينطلقوا بي على تلك الحال حتى أُدْفَن، كما يُصْنَع بالعبد الآبق (¬4). وقال عبد الواحد بن زيدٍ: إن حبيبًا أبا محمدٍ وهو العجميُّ جزع جزعًا شديدًا عند الموت، فجعل يقول بالفارسية: أريد أن أسافر سفرًا ما سافرته قطُّ ... ثم أُوْقَف بين يدي الله فأخاف أن يقول لي: يا حبيب هات تسبيحةً واحدةً سبَّحتني في ستِّين سنةً، لم يظفر بك الشيطان فيها بشيءٍ، فماذا أقول وليس لي حيلةٌ؟ أقول: يا رب قد أتيتك مقبوض اليدين إلى عنقي. قال عبد الواحد: هذا قد عبد الله ستِّين سنةً مشتغلًا به، ولم يشتغل من الدنيا ¬

_ (¬1) انظر: تاريخ دمشق 56/ 422، صفة الصفوة 3/ 279. (¬2) انظر: صفة الصفوة 3/ 281 - 282. (¬3) انظر: شعب الإيمان 14/ 515، ح 8108، حلية الأولياء 8/ 339، تاريخ دمشق 56/ 420، صفة الصفوة 3/ 287. (¬4) انظر: المنتخب من كتاب الزهد والرقائق للخطيب البغداديِّ ص 101، ح 71، صفة الصفوة 3/ 288.

بشيءٍ قطُّ، فأيُّ شيءٍ حالنا؟ واغوثاه بالله! (¬1) وعن بشر بن منصورٍ (¬2) قال: كنت أوقد نارًا بين يدي عطاءٍ السلمي (¬3) في غداةٍ باردةٍ، فقلت له: يا عطاء، يَسُرُّك الساعة لو أنك أُمِرْتَ أن تُلْقِيَ نفسك في هذه النار ولا تبعث إلى الحساب؟ فقال لي: إي ورب الكعبة. قال: ثم قال: والله مع ذلك لو أُمِرْتُ لخشيت أن تخرج نفسي فرحًا قبل أن أصل إليها (¬4). وقال عبد الواحد بن زيدٍ: ربما سهرت مفكِّرًا في طول حزن عُتبة (الغلام) (¬5)، ولقد كلَّمته ليرفق بنفسه، فبكى، وقال: إنما أبكي على تقصيري (¬6). وعن سهل التستري أنه قال: أول الحجاب الدَّعْوَى، فإذا أخذوا في الدعوى حُرِمُوا (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: المجالسة وجواهر العلم 4/ 399 - 400، ح 1594، صفة الصفوة 3/ 321. (¬2) السَّليمي، أبي محمَّد الأزدي البصري، عابد زاهد. توفي سنة 180 هـ. انظر: التاريخ الكبير 2/ 2/ 84 برقم 1770، سير أعلام النبلاء 8/ 359 - 361. (¬3) من صغار التابعين، نُقلت عنه أشياء في الخوف فيها غلو. توفي بعد الأربعين ومائة. انظر: سير أعلام النبلاء 6/ 86 - 88. (¬4) انظر: شعب الإيمان 3/ 168 - 169، ح 890، حلية الأولياء 6/ 216، صفة الصفوة 3/ 325. (¬5) هو عتبة بن أبان بن صمعة، من عباد أهل البصرة وزهادهم ممن جالس الحسن. روى عنه البصريون الحكايات. مات غازيًا. الثقات لابن حبان 7/ 270، السير 7/ 62. (¬6) انظر: حلية الأولياء 6/ 236، صفة الصفوة 3/ 372 - 373. (¬7) انظر: حلية الأولياء 10/ 202، صفة الصفوة 4/ 65.

وعنه أنه قال: ليس بين العبد وبين الله حجاب أغلظ من الدَّعْوَى، ولا طريق أقرب من الافتقار (¬1). [81 ح] وعن شاه بن شجاعٍ الكرماني (¬2) أنه قال: لأهل الفضل فضلٌ ما لم يروه، فإذا رأوه فلا فضل لهم، ولأهل الولاية ولايةٌ ما لم يروها، فإذا رأوها فلا ولاية لهم (¬3). وعن يحيى بن معاذ الرازي (¬4) أنه قال: ليس بعارفٍ مَنْ لم يكن غاية أمله من ربه العفو (¬5). وعنه أنه قال: لا يفلح مَنْ شمِمْتَ منه رائحة الرياسة (¬6). وقال: ذنوب مزدحمة على عاقبة مبهمة، ثم قال: إلهي! سلامة إن لم يكن كرامة (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: المنتخب من كتاب الزهد والرقائق للخطيب البغداديِّ ص 123، ح 101، صفة الصفوة 4/ 65. (¬2) هو شاه بن شجاع بن محمَّد بن المظفر، جلال الدين، أبو الفوارس، كان من أولاد الملوك، فتزهَّد، وصحب أبا تراب النخشبي، قال السُّلَميُّ: كان من علماء هذه الطبقة، وله رسالاتٌ مشهورةٌ، تو فِّي قبل الثلاثماثة. انظر: طبقات الصوفيَّة للسلمىِّ 192، الوافي بالوفيات 16/ 91. (¬3) انظر: طبقات الصوفية للسلميِّ 193، صفة الصفوة 4/ 68. (¬4) زاهدٌ، له كلامٌ جيِّدٌ، ومواعظ مشهورةٌ. توفَّي بنيسابور سنة ثمانٍ وخمسين ومائتين. انظر: طبقات الصوفيِّة 107 - 114، سير أعلام النبلاء 13/ 15. (¬5) انظر: القصَّاص والمذكِّرين ص 272، ح 134، صفة الصفوة 4/ 93. (¬6) انظر: حلية الأولياء 10/ 53، صفة الصفوة 4/ 94. (¬7) انظر: صفة الصفوة 4/ 96.

وعن محمَّد بن أسلم الطوسي أنه كان يقول: والله الذي لا إله إلا الله هو ما رأيت نفسًا تصلَّي إلى القبلة شرًّا عندي من نفسي (¬1). وعن إبراهيم بن أدهم أنه كان ناطورًا في كَرْمٍ، فمرَّ به رجل، فقال: ناوِلْنا من هذا العنب، قال إبراهيم: ما أذن لي صاحبه. فقَلَب الرجل السوط فجعل يُقنِّعُ (¬2) رأس إبراهيم، فطأطأ إبراهيم رأسه، وقال: اضرب رأسًا طالما عصى الله (¬3). وعن رَابِعَة العدوية أنه قال لها رجل: ادعي، فالتصقت بالحائط، وقالت: مَنْ أنا يرحمك الله، أَطِع ربك وادعه؛ فإنه يجيب المضطرَّ (¬4). وعن شقيق البلخي (¬5) أنه قال: مَثَلُ المؤمن كمثل رجل غرس نخلة وهو يخاف أن تحمل شوكًا، ومَثَل المنافق كمَثَل رجل زرع شوكًا وهو يطمع أن يحصد تمرًا (¬6). وعن أبي سليمان الداراني أنه قال: من حَسَّن ظنَّه بالله ثم لا يخاف الله فهو مخدوع (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: حلية الأولياء 9/ 244، صفة الصفوة 4/ 127. (¬2) قنَّع رأسه بالسوط: علاه به. (¬3) انظر: حلية الأولياء 7/ 379، تاريخ دمشق 6/ 316. (¬4) انظر: صفة الصفوة 4/ 28. (¬5) الإِمام الزاهد شقيق بن إبراهيم الأزدي البلخي، أبو علي، صاحب إبراهيم بن أدهم، قُتل في غزاة كولان سنة 194 هـ. حلية الأولياء 8/ 58، سير أعلام النبلاء 9/ 313. (¬6) انظر: حلية الأولياء 8/ 71، صفة الصفوة 4/ 160. (¬7) انظر: حلية الأولياء 9/ 272، صفة الصفوة 4/ 226.

وعنه أنه قال: ربّما مثل لي رأسي بين جبلين من نار، وربما رأيتُني أهوي فيها حتى أبلغ قرارها، وكيف تهنأ الدنيا مَنْ كانت هذه صفته (¬1). وعنه أنه قال: إنما ارتفعوا بالخوف، فإن ضيَّعوا نزلوا، وينبغي للعاقل وإن بلغ أعلى درجة [81 ط] أن يُفَرِّع (¬2) قلبَه بأسفل درجة من ذكر الموت في المقابر والبعث (¬3). وعنه أنه قال: ليس العبادة عندنا أن تَصُفَّ قدميك وغيرُك يَفُتُّ لك، ولكن ابدأ برغيفيك فأحرزهما ثم تعبَّد، ولا خير في قلب يتوقَّع قَرْعَ الباب يتوقَّع إنسانًا يجيئه يعطيه شيئًا (¬4). وقال أحمد بن أبي الحواري (¬5): قلت لأبي سليمان: إن فلانًا وفلانًا لا يقعان على قلبي، قال: ولا على قلبي، ولكن لعلّنا أُتِينا من قلبي وقلبك، فليس فينا خير، وليس نحبُّ الصالحين (¬6). وعن الجنيد أنه قال: لولا أنه يُروى أنه يكون في آخر الزمان زعيم القوم أرذلهم؛ ما تكلَّمت عليكم (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: حلية الأولياء 9/ 261، صفة الصفوة 4/ 227. (¬2) أي: يخوِّف. (¬3) انظر: صفة الصفوة 4/ 227. (¬4) انظر: حلية الأولياء 9/ 264، صفة الصفوة 4/ 230. (¬5) هو أحمد بن عبد الله بن ميمون، شيخ أهل الشام، إمام زاهد عالم، توفي سنة 246 هـ. حلية الأولياء 10/ 5، سير أعلام النبلاء 12/ 85. (¬6) انظر: حلية الأولياء 9/ 262 - 263، صفة الصفوة 4/ 232. (¬7) انظر: حلية الأولياء 10/ 263، صفة الصفوة 2/ 420. وعبارة: "وكان زعيم القوم =

الزعيم: هو الرئيس، يعني: أني إذا تكلمت عليكم أجعل نفسي رئيسكم فأنا أخاف من ذلك أن يلزم منه تزكيتي لنفسي، ولكن هذه الرواية دفعت الخوف؛ لأنها تُشْعِر بأني إذا تكلّمت عليكم فأنا أرذلكم. وعن ذي النون المصري (¬1) أنه قال: من تطأطأ لقط رُطَبًا ومن تعالى لقي عطبًا (¬2). وعن أبي يزيد البسطامي أنه قال: لو صَفَتْ لي تهليلةٌ ما باليت بعدها بشيء (¬3). وعنه أنه قال: ما دام العبد يظنّ أن في الخلق من هو شرٌّ منه فهو متكبِّر (¬4). ¬

_ = أرذلهم" وردت في حديثٍ ضعيفٍ أخرجه التِّرمِذيِّ في كتاب الفتن، باب ما جاء في علامة حلول المسخ والخسف، 4/ 494، ح 2210، ضمن خمس عشرة خصلةً إذا فعلتها الأمَّة حلَّ بها البلاء، وقال التَّرمِذيُّ: (هذا حديثٌ غريبٌ لا نعرفه من حديث عليِّ بن أبي طالبٍ إلَّا من هذا الوجه، ولا نعلم أحدًا رواه عن يحيى بن سعيدٍ الأنصاريِّ غير الفرج بن فضالة، والفرج بن فضالة قد تكلَّم فيه بعض أهل الحديث وضعَّفه من قبل حفظه ...). وانظر كلام الأئمَّة في تضعيفه في السلسلة الضعيفة 3/ 312 - 313، ح 1170. (¬1) هو ثوبان بن إبراهيم، وقيل في اسمه غير ذلك، الإخميميُّ النوبيُّ، يكنى أبا الفيض أو الفياض، الزاهد، كان عالمًا واعظًا فصيحًا حكيمًا، توفي سنة 245 هـ. تاريخ بغداد 8/ 393، سير أعلام النبلاء 11/ 532 - 533. (¬2) انظر: حلية الأولياء 9/ 376، صفة الصفوة 4/ 319. (¬3) انظر: حلية الأولياء 10/ 40، صفة الصفوة 4/ 108. (¬4) انظر: حلية الأولياء 10/ 36، صفة الصفوة 4/ 109.

وعن أبي بكرٍ الهلالي (¬1) أنه قال: رَمَوا بِهِمَمِهم إلى أعلى الفضائل وضيّعوا الفرائض، فلا إلى هممهم وصلوا ولا قاموا بقليلٍ ما به وُكِلُوا، ومَن قام بقليل ما وُكِل به اؤتمن على الكثير، ومن لم يقم بقليل ما وُكِلَ به لم يؤتمن على قليلٍ ولا كثيرٍ (¬2). وسئل يوسف بن أسباط عن غاية (التواضع) فقال: أن تخرج من بيتك فلا تلقى أحدًا إلا رأيت أنه خيرٌ منك (¬3). وعنه أنه قال: خرجت سَحَرًا لأؤذِّن فإذا عليّ ليلٌ، فقعدت فإذا أَسْوَد في يده حجرٌ يريد أن يضربني، ووراءه شيءٌ أبيض بيده حجرٌ يريد أن يصرفه عني، فقلت: هذان شيطانان يريدان أن يُرِيَاني أني رجلٌ صالحٌ، فقلت: كلاكما شيطان؛ فطارا (¬4). وعن حذيفة بن قتادة المرعشي (¬5) أنه قال: إن لم تخش أن يعذِّبك الله على أفضل عملك، فأنت هالك (¬6). وقال: لو جاءني رجلٌ، فقال لي: والله الذي لا إله إلا هو، ما عَمَلُك ¬

_ (¬1) هو محمَّد بن معمر، من أهل طبرية. تاريخ دمشق 56/ 16. (¬2) انظر: صفة الصفوة 4/ 243 - 244. (¬3) انظر: حلية الأولياء 8/ 238، صفة الصفوة 4/ 265. (¬4) انظر: صفة الصفوة 4/ 265. (¬5) من العُبَّاد، صحب سفيان الثوري، وروى عنه. مات سنة 207 هـ، الثقات لابن حبان 8/ 215 - 216، حلية الأولياء 8/ 267، سير أعلام النبلاء 9/ 283. (¬6) انظر: حلية الأولياء 8/ 268، صفة الصفوة 4/ 268. قال الذهبي تعليقًا على هذا الكلام: يعني: لما يعتوِرُه من الآفات. انظر: تاريخ الإِسلام 5/ 47.

عملَ من يؤمن بيوم الحساب؛ لقلت له: يا هذا! لا تكفِّر عن يمينك، فإنك لم تحنث (¬1). وجاء سعيد بن عبد العزيز (¬2) إلى سليمان الخوَّاص (¬3) بِصُرَّةٍ، وقال له: تنفق هذا وأنا أحلف لك بين يدي الله تعالى أنه حلالٌ، فقال: لا حاجة لي فيها، فقال له: ما ترى ما الناس فيه؟ دعوةً، فصرخ سليمان صرخةً، ثم قال: ما لك يا سعيد، فتنتني بالدنيا وتَفْتِنُني بالدين، ما لي والدعاء؟ مَن أنا؟! (¬4). وعن فتح الموصلي (¬5) قال: كبرت عليَّ خطاياي وكثرت، حتى لقد آيسَتْني من عظيم عفو الله، ثم قال: وأَنى آيَسُ منك، وأنت الذي جُدْتَ على السَّحَرة بعد أن غدوا كفرةً فجرةً؟ ... ولم يزل يقول: وأنى آيسُ منك؟ حتى سقط مغشيًّا عليه (¬6). ما لم أنسبه من هذه الآثار فهو من كتاب صفة الصفوة، وعامَّتها في الحلية لأبي نعيم بأسانيدها. ¬

_ (¬1) انظر: حلية الأولياء 8/ 268، صفة الصفوة 4/ 268. (¬2) أبو محمَّد التنوخي، الدمشقي، مفتيها، مات سنة 167 هـ. حلية الأولياء 6/ 124، سير أعلام النبلاء 8/ 32. (¬3) من العابدين الكبار، المرابطين في الثغر في الشام، وكان لا يأكل إلاَّ الحلال المحض، وما له حديثٌ مستقيمٌ يرجع إليه. الثقات لابن حبان 8/ 277، سير أعلام النبلاء 8/ 178. (¬4) انظر: حلية الأولياء 8/ 277 (طرفه الأوَّل)، صفة الصفوة 4/ 273 - 274. (¬5) هو فتح بن سعيد الموصلي، أبو نصر، كان شريفًا زاهدًا، مات سنة 220 هـ. حلية الأولياء 8/ 292، تاريخ بغداد 12/ 381 - 383. (¬6) انظر: حسن الظن بالله لابن أبي الدنيا، ص 114، ح 130، صفة الصفوة 4/ 186.

فأما مَنْ ذُكِر من أهل البيت والصحابة فمقامه معروف، وأما من ذُكِرَ من غيرهم فعامَّتهم ممَّن عُرِفَ بالعلم والعمل والزهد والصلاح واشتهر بالولاية، ونُقِلَتْ عنهم كرامات كثيرة. وكثير من الناس يقول في الآثار المتقدمة: إنها من باب التواضع. وهذا حقٌّ، ولكن قد تقدَّم عن يوسف بن أسباط تفسير التواضع. وليس المراد بالتواضع أن يخبر المرء عن نفسه بخلاف ما يعتقده؛ فإن هذا كذب، وقد كان السلف أبعد الناس عن الكذب مطلقًا. وفي ترجمة القاسم بن محمَّد بن أبي بكر الصديق من "تهذيب التهذيب" (¬1): وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: رأيت القاسم يصلَّي فجاء إليه أعرابي [81 ي] فقال له: أيما أعلم أنت أو سالم؟ فقال: سبحان الله، فكرَّر عليه، فقال: ذاك سالم فاسأله. قال ابن إسحاق: كره أن يقول: أنا أعلم من سالم، فيزكِّي نفسه، وكره أن يقول: سالم أعلم مني، فيكذب. قال: وكان القاسم أعلمهما". وأنت ترى في هذه الآثار المتقدمة أن منهم من أقسم بالله تعالى وأكَّد اليمين. وفي الآثار المتقدمة الحكم على الناس بأن المدَّعِيَ محروم، ومن رأى لنفسه فضلًا فلا فضل له، ومن رأى لنفسه ولاية فلا ولاية له، ومن حسَّن ظنه بالله ثم لا يخاف الله فهو مخدوع، وأن الذين ارتفعوا إنما ارتفعوا بالخوف، فإذا ضيَّعوا نزلوا، وأن من تعالى لقي عَطبًا، وأنه ما دام العبد يظنُّ أن في ¬

_ (¬1) تهذيب التهذيب 8/ 334. وانظر: حلية الأولياء 2/ 184.

الخلق من هو شرٌّ منه فهو متكبِّر، وأن التواضع أن تخرج من بيتك فلا تلقى أحدًا إلا رأيت أنه خير منك، وأنه من لم يخش أن يعذِّبه الله تعالى على أفضل عمله فهو هالك، وقول فضيل بن عياض لسفيان بن عيينة: إن كنت تظن أنه بقي على وجه الأرض شر مني ومنك فبئس ما تظن. فهذه الآثار تصرِّح بأن على كل إنسان أن يعتقد في نفسه النقص والتقصير، ويُظهر ذلك، ويطهِّر نفسه من العُجْب وظنِّ أنه صالح أو فاضل، وأنَّ من لم يصنع ذلك فهو متكبر، والمتكبر هالك. فكيف بمن تعدَّى حسن الظن بنفسه إلى الدعوى والشَّطح؟ فانظر حال السلف وحال من بعدهم. [82] فقد جاء بعد ذلك أقوام يتغالون في مدح أنفسهم وإطرائها حتى إن بعضهم ليفضِّل نفسه على الأنبياء والمرسلين والملائكة المقرَّبين، ومنهم من يتجاوز ذلك فيزعم أنه ربُّ العالمين، أو أن ربَّ العالمين لا يقدر على مخالفته، ونحو ذلك مما يسمُّونه الشَّطح، ويعدُّونه من علامات الولاية. وأقلُّ ما يدلُّ عليه هذا فضل علم السلف على علم الخلف، فإن ميزان العلم الخشية، قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]. وفي كتب الزهد والرقائق كلمات كثيرة عن السادة الصوفية في وجوب مقت النفس وسوء الظنِّ بها، وذمِّ مَنْ يزكِّي نفسه أو يظن بها خيرًا، ولكن أكثر هذه الكتب تشتمل على أدوية وسموم، وإلى الله المشتكى. وليس مقصودي الطعنَ في أحدٍ من أولياء الله تعالى والعلماء به، أعوذ بالله من ذلك، وإنما المقصود بيان فضل السلف على الخلف، وإذا لم تثبت

العصمة للسلف كما مرَّ، فأولى من ذلك أن لا تثبت للخلف، فإذا لم يكف في أصول العقائد تقليدُ أحد من السلف فتقليد الخلف أولى ألا يكفي. واعلم أن الله تعالى قد يوقع بعض المخلصين في شيء من الخطأ ابتلاء لغيره أيتبعون الحق ويدَعون قوله أم يغترُّون بفضله وجلالته؟ وهو معذور بل مأجور؛ لاجتهاده وقصده الخير وعدم تقصيره؛ ولكن من تبعه مغترًّا بعظمته بدون التفات إلى الحجج الحقيقية من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فلا يكون معذورًا، بل هو على خطر عظيم. [83] ولما ذهبت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إلى البصرة قبل وقعة الجمل، أتبعها أمير المؤمنين علي عليه السلام ابنه الحسن وعمار بن ياسر رضي الله عنهما لينصحا الناس، فكان من كلام عمَّار لأهل البصرة أن قال: والله إنها لزوجة نبيكم صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في الدنيا والآخرة، ولكنَّ الله تبارك وتعالى ابتلاكم بها ليعلم إيَّاه تطيعون أم هي (¬1). ومن أعظم الأمثلة في هذا المعنى مطالبة فاطمة عليها السلام بميراثها من أبيها صلَّى الله عليه وآله وسلَّم (¬2)، وهذا ابتلاء عظيم للصِّدِّيق رضي الله عنه، ثبَّته الله عزَّ وجلَّ فيه. وأهل العلم إذا بلغَهُم خَطَأ العالم أو الصالح وخافوا أن يغترَّ الناس ¬

_ (¬1) البخاريّ، كتاب الفتن، باب 18، 9/ 56، ح 7100. [المؤلف] (¬2) أخرجه البخاري في كتاب فرض الخمس، باب فرض الخمس، 4/ 79، ح 3092. ومسلم في كتاب الجهاد والسير، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا نورث ما تركنا فهو صدقة" 5/ 153، ح 1759.

بجلالته ربما وَضَعوا مِنْ فَضله وغبَّروا في وجه شهرته، مع محبتهم له ومعرفتهم بمنزلته؛ ولكن يظهرون تحقيره لئلا يفتتن به الناس. ومن ذلك ما ترى في مقدمة صحيح مسلم من الحطِّ الشديد على البخاري في صدد الردِّ عليه في اشتراط ثبوت لقاء الراوي لمن فوقه، حتى لقد يخيل إلى القارئ ما يخيل إليه، مع أن منزلة البخاري في صدر مسلم رفيعة، ومحبته له وإجلاله أمر معلوم في التاريخ وأسماء الرجال. وقد يكون من هذا كثير من طعن المحدثين في أبي حنيفة رحمه الله تعالى. [84] ولعلَّ مما حملهم على هذا علمهم بأن العامَّة وأشباه العامَّة يغترُّون بفضل القائل في نفسه، فإذا قال لهم العلماء: إنه أخطأ مع جلالته وفضله، قالوا: قد خالفتموه وشهدتم له بالجلالة والفضل، فقوله عندنا أرجح من قولكم بشهادتكم. وهكذا قال بعض الناس لعمَّار رضي الله عنه لما قال مقالته المتقدمة آنفًا: "فنحن مع الذي شهدتَ له بالجنة يا عمَّار"، يعنُون أمَّ المؤمنين (¬1). وبالجملة؛ فمن علم القاعدة الشرعية في تعارض المفاسد لم يعذل العلماء في انتقاصهم مَنْ يخافون ضلال الناس بسببه، ولو علم محبُّو المطعون فيه هذا المعنى لما وقعوا فيما وقعوا فيه من ثَلْبِ أولئك الأكابر حميَّة وعصبيَّة، والله المستعان. ¬

_ (¬1) انظر: تاريخ الأمم والملوك 4/ 485.

فصل

فصل وكثيرًا ما يحتج أهل زماننا وما قرب منه بآيات من كتاب الله تعالى ويفسرونها برأيهم بما لم ينقل عن السلف ولا تساعده اللغة العربية ولا البلاغة القرآنية. وقد عظم البلاء بذلك، حتى إنك لتجد العجميَّ الذي لا يعرف من العربية إلا بعض المفردات، ولا يستطيع أن يكتب سطرين أو ثلاثة بدون لحن، وهو يفسر القرآن [85] برأيه. وهكذا يصنعون بالأحاديث الثابتة، مع أنهم يشددون النكير على مخالفهم إذا احتجَّ عليهم بآية أو حديث، وأوضح تفسيرها بالحجج الصحيحة، ونقل عن تفسير السلف ما يوافق قوله أو يشهد له، ويقولون: إن الفهم من الكتاب والسنة خاصٌّ بالمجتهدين. فأما إذا خالف أحد قول إنسان يعتقدون فيه الإمامة أو الولاية؛ فإنهم يكفِّرونه أو يضلِّلونه، ويشدِّدون عليه النكير، ويقولون: انظروا إلى هذا الضالِّ المضلِّ يزعم أنه فهم من الكتاب أو السنة ما لم يفهمه الإِمام فلان أو الشيخ فلان أو نحو ذلك. ومن البلاء العظيم أن هؤلاء الجهال هم في نظر العامة هم الرؤساء في الدين. وذلك مصداق حديث الصحيحين عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالمًا اتخذ الناس رؤساء جهالًا فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضَلُّوا وأضلُّوا" (¬1). ¬

_ (¬1) البخاريّ، كتاب العلم، بابٌ كيف يُقبَض العلم، 1/ 32، ح 100. ومسلم، كتاب العلم، باب رفع العلم، 8/ 60، ح 2673. [المؤلف]

فصل

نعم، قد بقي في الناس أفراد من العلماء؛ مصداقًا لحديث الصحيحين: [86] "لا تزال طائفةٌ من أمَّتي قائمةً على الحقَّ" (¬1)، وهو مبيِّن لحديث ابن عمرٍو، والله أعلم. ولكن يكاد يكون وجود أولئك الأفراد كعدمهم؛ لأنهم غرباء، لا ترى العامَّةُ إلا أنهم مبتدعون ضُلَّال، والرياسة الدينيَّة بيد غيرهم. والمقصود ها هنا النصيحة للمسلمين أن لا يغترَّ أحد منهم بأحد ممن يحتج بالكتاب والسنة على الأمور المشتبهة، وعليه أن ينظر لنفسه إن كان أهلًا، أو يطلب العلم لتصير له أهلية، أو يعمل بالاحتياط؛ فإنه لا عسر فيه. والله أعلم. فصل وكثيرًا ما يحتجون بالأحاديث الموضوعة والضعيفة، وكذلك بالآثار المكذوبة عن السلف، أو التي لم تصحَّ؛ فمنهم من يكتفي بذكر الحديث أو الأثر ونقله عن كتاب معروف ولا يبين حاله من صحة وعدمها، إما لجهله بهذا العلم الجليل، وهو معرفة علوم الحديث، وإما لأنه لما رأى ذلك الحديث أو الأثر موافقًا لهواه اعتقد صحته، وإما لغير ذلك. ومنهم من يحكي عن بعض [87] المتأخرين، كالسبكي وابن حجر وابن الهمام والسيوطي ونحوهم، أنهم صحَّحوا ذلك الحديث أو الأثر أو حسَّنوه، ويكون جهابذة العلم من السلف قد ضعّفوا ذلك الحديث أو حكموا بوضعه، وهم أجلّ وأكمل من المتأخرين، وإن كان بعض المتأخرين أولي علم وفضل وتبحُّر، ولكننا رأيناهم يتساهلون في التصحيح والتحسين، ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص 232.

ويراعون فيه بعض أصول الفن، ويغفلون عما يعارضها من الأصول الأخرى، وفوق ذلك أن السلف كانوا أبعد عن الهوى. ومن هنا قال ابن الصلاح: إن باب التصحيح والتحسين قد انسدَّ، ولم يبق فيهما إلا النقل عن السلف. وهذا القول خطأ، ولكنه يعين على ما نريده، وهو وجوب الاحتياط فيما يصحِّحه المتأخرون أو يحسِّنونه. وهكذا جماعة من المتقدمين لا يُغْترُّ بتصحيحهم، كالحاكم وابن حبان، بل والترمذي، ولا سيَّما تحسينه. وهؤلاء أئمة كبار، ولكن الحاكم كان هَمُّه في كثرة الجمع ليردَّ على مَنْ قال من المبتدعة: إنه لم يصح عند أهل الحديث إلا ما في صحيحي البخاري ومسلم، كما ذكر هذا في مقدمة مستدركه، فجمع ولم يحقِّق ولم ينتقد. وكان عَزْمُه أن ينظر في الكتاب مرة [88] أخرى ليُخرج منه ما ليس من شرطه، ولكنه لم يتمكن من ذلك، كما ذكره السخاوي في فتح المغيث (¬1). وقد انتقد أحاديثه الذهبي وابن دقيق العيد، وطبع كتاب الذهبي مع المستدرك، ولكني وجدته يتسامح أيضًا، فكثيرًا ما يكون في الحديث رجلٌ مدلِّس ولم يصرِّح بالسماع، أو رجل اختلط بأخرة، وربما أخرج له الشيخان أو أحدهما مما سُمِع منه قبل الاختلاط، أو رجل ضعيف قد انتقد الأئمة مسلمًا أو البخاري في الرواية له في الصحيح، أو رجل عن رجل كان يُضَعَّف في روايته عنه، وإنما يروي له الشيخان مما رواه عن غيره، أو رجل كان يُضَعَّف في حفظه وإنما أخرج له الشيخان أو أحدهما مما حدَّث به من ¬

_ (¬1) ص 13. [المؤلف]. وفي الطبعة الهنديَّة بتحقيق علي حسين علي 1/ 40 - 41.

كتابه، أو رجل ضعيف وإنما أخرج له الشيخان أو أحدهما في المتابعات والشواهد، إلى غير ذلك. وفي شروط الأئمة الخمسة للحازمي بسنده إلى سعيد بن عمرو - هو البرذعي - قال: شهدت أبا زرعة الرازي ... وأتاه ذات يوم، وأنا شاهد، رجل بكتاب الصحيح من رواية مسلم، فجعل ينظر فيه، فإذا حديث عن أسباط بن نصر، فقال لي أبو زرعة: ما أبعد هذا عن الصحيح! يُدخل في كتابه أسباط بن نصر؟! ثم رأى قطن بن نسير وصل أحاديث عن ثابت فجعلها عن أنس، ثم نظر، فقال: يروي عن أحمد بن عيسى المصري في كتاب الصحيح؟ قال أبو زرعة: ما رأيت أهل مصر يَشُكُّون في أن أحمد بن عيسى - وأشار أبو زرعة بيده إلى لسانه - كأنه يقول: الكذب ... فلما رجعت إلى نيسابور في المرة الثانية ذكرت لمسلم بن الحجَّاج ... فقال لي: إنَّ ما قلت صحيح، وإنما أدخلت من حديث أسباط بن نصر وقطن وأحمد ما قد رواه الثقات عن شيوخهم إلا أنه ربما وقع لي عنهم بارتفاع ... (¬1). أقول: وقد وافقه البخاري على الإخراج لأحمد بن عيسى، وعُذْرُه عُذْرُه. وقد قال أبو داود: كان ابن معين يحلف أنه كذَّاب. وقد تأوَّل ابنُ حجر في تهذيب التهذيب ذلك بما حاصله: أنه كان يكذب في السماع لا أنه يضع الحديث اختلاقًا (¬2). وهذا لا يدفع الجرح، والله أعلم. ¬

_ (¬1) شروط الأئمَّة الخمسة ص 23 - 24. [المؤلف] قلت: وهو في كتاب الضعفاء لأبي زرعة الرازي المنشور ضمن رسالة (أبو زرعة الرازي وجهوده في السنة النبوية) 2/ 674 - 676. (¬2) انظر: تهذيب التهذيب 1/ 65.

ومع هذا يسكت الذهبيُّ عن بيان ذلك، وهكذا يسكت عن علل أخرى تكون في الأحاديث، والله المستعان. وأما ابن حِبَّان فمِن أصله - كما نبَّه عليه في كتابه الثقات - أن المجهول إذا روى عن ثقةٍ وروى عنه ثقةٌ، ولم يكن حديثه منكرًا؛ فهو ثقةٌ، يذكره في ثقاته، ويخرج حديثه في صحاحه. ووافقه على هذا شيخه ابن خزيمة، إلا أنه أشدُّ احتياطًا منه، وكذلك الدارقطنيُّ. ويظهر لي أن الكعبيَّ (¬1) صاحب الثقات كذلك. وهذا قولٌ واهٍ مخالف لما عليه جمهور الأئمَّة والأئمَّةُ المجتهدون وجهابذة الفنِّ، والنظر الصحيح يأباه. وأما الترمذيُّ فله اصطلاحٌ في التحسين والتصحيح، وهو أن الحديث إذا روي من طريقين ضعيفين يسمِّيه حسنًا، والأئمَّة المجتهدون وغيرهم [89] من الجهابذة لا يعملون بهذا الإطلاق، بل يشترطون أن تحصل من تعدُّد الطرق مع قوة رواتها غلبةُ ظنٍّ للمجتهد بثبوت الحديث، فإن لم تحصل هذه الغلبة فلا أثر لتعدد الطرق وإن كثرت. والمتأخِّرون يعرفون هذا الشرط، ولكنهم كثيرًا ما يتغافلون عنه. وربما توهَّم أحدهم أنه قد حصلت له غلبة ظنٍّ، وإنما حصلت له من جهة موافقة ذلك الحديث لمذهبه أو لمقصوده، والله المستعان. بل إن في الصحيحين أو أحدهما أحاديث قد انتقدها الحفاظ، مثل حديث البخاري: حدّثنا محمَّد بن عثمان، حدثنا خالد بن مَخْلَد، حدثنا سليمان بن بلال، حدثني شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عن عطاء، عن أبي ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولم يتبيَّن لي مَنْ هو، ولعلَّه يريد العجليّ.

هريرة قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "إن الله قال: مَنْ عادى لي وليًّا فقد آذنتُه بالحرب، وما تَقَرَّب إليَّ عبدي بشيء أحبَّ إليَّ مما افترضتُ عليه، ولا يزال عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذ بي لأُعيذنَّه، وما تردَّدْتُ عن شيء أنا فاعله تردُّدِي عن نفس المؤمن؛ يكره الموت وأنا أكره مَسَاءتَه" (¬1). فهذا الحديث قد تكلَّم فيه الذهبي في الميزان في ترجمة خالد بن مخلد، ولم يخرجه الإِمام أحمد في المسند. وخالد بن مخلد ... (¬2) قال فيه الإِمام أحمد: له أحاديث مناكير. وقال ابن سعد: كان متشيِّعًا، منكر الحديث، في التشيُّع مفرطًا، وكتبوا عنه للضرورة. وقال صالح جَزَرَة: كان ثقة في الحديث إلا أنه كان مُتَّهَمًا بالغلوّ. وقال الأعين (¬3): قلت له: عندك أحاديث في مناقب الصحابة؟ قال: قل: في المثالب والمثاقب. ¬

_ (¬1) البخاريّ، كتاب الرقاق، باب التواضع، 8/ 105، ح 6502. [المؤلف] (¬2) هنا كلمةٌ غير واضحةٍ، تشبه: (ضعيفٌ) أو (ضُعِّف). (¬3) هو محمَّد بن الحسن بن طريف، أبو بكر البغدادي الحافظ، روى عنه مسلم في المقدمة وأبو داود خارج سننه، وحدّث عن يزيد بن هارون وغيره، وثقه ابن حبان والخطيب البغدادي، وأثنى عليه الإِمام أحمد، توفي سنة 240 هـ. انظر: الثقات لابن حبان 9/ 95، وتاريخ بغداد 2/ 183، وسير أعلام النبلاء 12/ 119 - 120.

وقال (¬1) أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتجُّ به. وذكره الساجي والعقيلي في الضعفاء. وقال ابن معين: ما به بأس (¬2). وحاصل القول فيه أنه صدوق يهم ويخطئ ويأتي بالمناكير، ولا سيما في التشيع، فإنه كان غاليًا فيه. ومثل هذا يتوقف عما انفرد به، ويُرَدُّ ما انفرد به مما فيه تهمة تأييدٍ لمذهبه. وقد تفرد بهذا الحديث كما ذكره الذهبي (¬3)، وكذا الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح (¬4). وفي هذا الحديث تهمة تأييد مذهب غلاة الرافضة في الاتحاد والحلول، وإن لم يُنْقَلْ مثل ذلك عن خالد. وقد أُسْنِدت إلى هذا الحديث بدع وضلالات تصطكُّ منها المسامع، والله المستعان. وفي سنده أيضًا شريك بن عبد الله بن أبي نمر، وحاصل كلامهم فيه أنه صدوق يخطئ (¬5). وقال الحافظ في الفتح بعد أن نقل كلام الذهبي والكلام في شريك: "ولكنْ للحديث طرق أخرى يدلُّ مجموعُها على أن له أصلًا" (¬6). ¬

_ (¬1) من قوله: "وقال أبو حاتم" إلى قوله: "والله الموفِّق" ملحق. (¬2) انظر هذه الأقوال في تهذيب التهذيب 3/ 117 - 118. (¬3) ميزان الاعتدال 1/ 640 - 641. (¬4) هدي الساري: 400. (¬5) وهو ما قاله ابن حجر في التقريب ص 266. (¬6) فتح الباري 11/ 270. [المؤلف]

ثم ذكر الحافظ تلك الطرق، وعامَّتها ضعاف، إلا أنه ذكر أن الطبرانيَّ أخرجه من طريق يعقوب بن مجاهد، عن عروة، عن عائشة، وأن الطبراني أخرجه عن حذيفة مختصرًا، قال: "وسنده حسن غريب". أقول: أما رواية حذيفة فمع الغرابة هو مختصر، وكأنه ليس فيه تلك الألفاظ المنكرة، وينبغي النظر في سنده؛ فإن الحافظ ربما تسامح في التحسين. وكذا ينبغي النظر في سند الطبراني إلى يعقوب بن مجاهد؛ فأخشى أن يكون فيه وهم؛ فإن المشهور رواية عبد الواحد بن ميمون عن عروة، وعبد الواحد متروك الحديث. وبالجملة، فاقتصار الحافظ على قوله: "إن تلك الطرق يدلُّ مجموعها على أنَّ له أصلًا"، ظاهرٌ في أنه ليس في شيء منها ما يصلح للحجَّة. ودلالة مجموعها على أنَّ له أصلًا لا يكفي في إثبات هذه الألفاظ المنكرة. ولو فهم البخاري رحمه الله من تلك الألفاظ ما يزعمه الملحدون لما ذكر هذا الحديث في صحيحه. وهذا من المهمَّات؛ فإن كثيرًا من الأئمة قد يقبل الحديث؛ لأنه يحمله على معنىً له شواهد وعواضِد بمعونتها يستحقُّ القبول، فيجيء بعض الناس يحتجُّ بالحديث على معنىً منكر، قائلًا: قد قبله فلان من الأئمة، فليُتنبَّه لهذا. ومما ينبغي التنبه له أيضًا: أن الشيخين أو أحدهما قد يوردان في الصحيح حديثًا ليس بحجَّة في نفسه، وإنما يوردانه لأنه شاهد لحديث آخر ثابت، ثم قد يكون في هذا الحديث الذي ذكراه شاهدًا زيادةٌ لا شاهد لها، فيجيء مَنْ بعدهما يحتجُّ به بالنسبة لتلك الزيادة، وربما حمل الحديث على

معنىً آخر غير المعنى الذي فهمه صاحب الصحيح، وبنى عليه أنه شاهد للحديث الآخر. وبالجملة، فمَن أراد الاحتجاج بالحديث لا يستغني عن النظر في إسناده، بعد أن يكون له من المعرفة ما يؤهِّله لهذا الأمر، وإلَّا أوشك أن يَضِلَّ ويُضِلَّ. والله الموفق. ومن أهل زماننا وما قرب منه من يترقَّى فيذكر الراوي وبعض ما قيل فيه من جرح أو تعديل، ولكنَّ كثيرًا منهم أو أكثرهم يكون زمامه بيد الهوى، فإن كان الحديث موافقًا له نقل ما قيل في الرجل من الثناء، وأعرض عما قيل من الجرح، وإن كان مخالفًا لهواه نقل ما قيل فيه من الجرح وسكت عن الثناء. وأكثرهم ليس عندهم من التبحر في العلم، وممارسة الفن ما يؤهلهم للترجيح ومعرفة العلل، وأعظم ما عند أحدهم أن يتمسك بظاهر قاعدة من قواعد الفن؛ فإن كان الحديث موافقًا له تمسك بقولهم: "إن الجرح لا يُقْبل إلا مفسَّرًا"، أو: "إن كلام الأقران بعضهم في بعض لا يُلْتفت إليه"، أو: "إنَّ [90] المتصلِّب في مذهبٍ يجب التأنَّي في قبول كلامه في أهل المذهب الآخر"، أو نحو ذلك. وإن كان مخالفًا له تمسَّك بقولهم: "الجرح مقدَّمٌ على التعديل"، ونحوها. فأما جهلهم بالعلل فحدِّث عنه ولا حرج. وغاية أحدهم أن ينقل عن بعض أهل العلم تعليل الحديث أو يتنبه هو للعلَّة إن تنبَّه، ثم يعمل في ذلك عمله في الجرح والتعديل؛ فإن كان الحديث موافقًا له تمسَّك بقولهم: "المثبِت مقدَّم على النافي"، أو: "زيادة الثقة مقبولةٌ"، أو: "إن من الأئمَّة مَن يقبل المرسل والمنقطع مطلقًا"، أو: "إن تصحيح بعض العلماء للحديث

يدلُّ أنه علم أن المدلِّس قد سمع الحديث ممن عنعنه عنه"، أو: "يدلُّ أن الراوي سمع هذا الحديث من شيخه قبل الاختلاط". وإن كان مخالفًا له قال: "إن النافي كان أحفظ من المثبت"، و"الساكتين جماعةٌ، والذي زادَ واحدٌ"، و"أُعِلَّ بالإرسال والانقطاع، وبعنعنة المدلِّس، واختلاط الشيخ"، ولم يعرِّج على ما يخالف ذلك، أو أشار إليه، ونقل ردَّه عن بعض العلماء، وهكذا. وهذه القواعد منها ما هو ضعيفٌ، ومنها ما ليس بكلِّيٍّ، ومنها المختلف فيه. والعالم المتبحر الممارس [91] للفنِّ هو الذي يصلح أن يحكم في ذلك، بشرط براءته عن الهوى، والتجائه إلى الله تعالى دائمًا أن يوفَّقه لإصابة الحقِّ. وكثيرًا ما يحتجُّ المتأخرون بالحديث مع اعترافهم بضعفه، ولكن يستندون إلى ما قاله النوويُّ - وتبعه كثير ممن بعده من الشافعيَّة والحنفيَّة وغيرهم - أن الحديث الضعيف يعمل به في فضائل الأعمال - بشروط ذكرها الحافظ ابن حجر وغيره -، وقد عارضه القاضي أبو بكر ابن العربيِّ - مؤلِّف أحكام القرآن وشرح الترمذيِّ وغيرهما - بأن الفضائل إنما تُتَلقَّى من الشارع، فإثباتها بالضعيف اختراع عبادة، وشرعٌ في الدين لما لم يأذن به الله (¬1). ومما شُرط لجواز العمل أن لا يعتقد السُّنِّيَّة، أي الاستحباب، ذكره ¬

_ (¬1) وضع المؤلِّف هنا علامة إلحاقٍ، لكنه لم يكتب شيئًا، ولعلَّه أراد الإحالة إلى الفتح المبين بشرح الأربعين لابن حجر الهيتمي: 36، فإنه أورد نصَّ هذه العبارة، ونسبها إلى بعضٍ مبهم لم يفصح عنه، وجوَّز المعلَّمي في رسالة العمل بالحديث الضعيف أن يكون الهيتمي أراد بالبعض المبهم ابنَ العربي.

فصل

الخطيب الشربيني في شرح المنهاج (¬1)، وردَّه ابن قاسم بأنه لا معنى لجواز العمل في فضائل الأعمال إلا أنه يكون مطلوبًا طلبًا غير جازم، وكلُّ ما كان كذلك فهو سنَّةٌ (¬2). [85] (¬3) فصل ومن الناس مَن يحتجُّ في هذا الأمر العظيم بمجرَّد العقل والقياس، وفي ذلك ما فيه. أما العقل؛ فإنما يصحُّ الاستناد إليه إذا كان قاطعًا، والوجوه التي يحتجُّون بها غير قاطعةٍ، اللهم إلا ما أُشِير إليه في آية الكرسيِّ كما تقدَّم (¬4). وليعلم العاقل أن عقله قوَّةٌ من قواه المخلوقة له، كالسمع والبصر ¬

_ (¬1) المغني 1/ 67. [المؤلف] (¬2) انظر: حواشي الشرواني على التحفة 1/ 251. [المؤلف] (¬3) من هنا تبدأ تكملة السقط في مخطوطة الحرم المكِّي (رقم: 4781)؛ بدليل أن المؤلَّف كتب السطر الأوَّل من هذا الفصل أثناء ص (84) من الدفتر الأوَّل، ثم ضرب عليه، وزاد فصلًا كاملًا استغرق سبع صفحاتٍ، وجعل هذا الفصل الذي ضرب على أوَّل سطرٍ منه بداية الدفتر الثاني من دفاتر الكتاب الذي عثرت عليه بتوفيق الله، واستمرَّ ترقيم الدفتر الثاني من حيث انتهى الدفتر الأول قبل زيادة سبع الصفحات. ولا يُشوِّش عليك تكرُّر الترقيم من ص (85) إلى ص (91) في الدفتر الثاني مرَّةً أخرى؛ لأنه الموافق للأصل الأصيل قبل الزيادة، فلزم بقاؤه كما كان. ومن الأدلَّة على صحَّة موضع هذا الدفتر أنَّ المؤلِّف أحال إلى عدَّة مواضع منه، ثم وُجدت الأرقام المحالة مطابقة لأرقام الصفحات المُحال إليها، وفيها المعلومات المُشار إليها سواء بسواء. (¬4) في ص 53.

والشمَّ والذوق وغيرها. فكما أن كلَّ قوَّةٍ من هذه لها حدٌّ لا تتجاوزه، فكذلك العقل. وكما أن للحواسِّ أغلاطًا معروفةً كرؤية الواحد اثنين والصغير كبيرًا وعكسه، وَتَوَهُّمِ بعض الناس أنه يسمع كلامًا في حال أن الذين بجنبه لا يسمعون شيئًا، واستطابة الروائح الكريهة في بعض الأمراض، وطعم الماء العذب مرًّا في بعضها وطعمه كأنما مُزِجَ بالسكر بعد تناول بعض الأدوية المُرَّة؛ فكذلك للعقل أغلاطٌ أدقُّ وأخفى. وقد روي عن الإِمام الشافعيِّ رحمه الله تعالى أنه قال: إنَّ للعقل حدًّا ينتهي إليه كما أن للبصر حدًّا ينتهي إليه (¬1). ولابن عربيٍّ الصوفيِّ في الباب الثاني والسبعين بعد أربعمائةٍ من فتوحاته (¬2): على السمع عَوَّلْنا فكنا أولي النهى ... ولا علم فيما لا يكون عن السمع وله في الباب الثامن والخمسين بعد ثلاثمائةٍ: كيف للعقل دليلٌ والذي ... قد بناه العقل بالكشف انهدم [86] فنجاة النفس في الشرع فلا ... تك إنسانًا رأى ثم حُرِم واعتصم بالشرع في الكشف فقد ... فاز بالخير عُبَيْدٌ قد عُصِم كلُّ علمٍ يشهد الشرع له ... فهو علمٌ فبه فلتعتصم وإذا خالفه العقل فقل ... طَوْرَكَ الْزَمْ ما لكم فيه قَدَم ¬

_ (¬1) توالي التأسيس في معالي ابن إدريس ص 72. [المؤلف]. وانظر: مناقب الشافعي للبيهقي 2/ 187. (¬2) 5/ 468. [المؤلف]

والخلاصة أن العقل القاطع إذا لم يوجد فما بقي إلا الخرص والتخمين، وهو سبيل المشركين، فلا ينبغي لمسلم اقتفاؤهم فيه. وأما القياس؛ فإنه لا يفيد القطع كما حققه الغزالي والفخر الرازي (¬1) وغيرهما، ومسألتنا تستدعي الدليل القاطع. بل اختلفت الأمة في القياس أدليلٌ ظنِّيٌّ هو أم ليس بدليلٍ أصلًا؟ ومن قال بدلالته شرط له عدة شرائط، منها: ألَّا يعارض شيئًا من ظواهر الكتاب والسنة، ومنها: عدم الفارق، وقد يخفى الفارق على أكابر النُّظَّار. وقد قال الله تبارك وتعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74)} [النحل: 73 - 74]. وجاء عن بعض الصحابة أنه قال لمن كان ربما توقَّف في الحديث وذكر أقيسة [87] تعارضه: "إذا حدَّثتك عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم حديثًا فلا تضرب له الأمثال" (¬2). وهذا المتوقَّف من الأكابر، وإنما كان يتوقف تَثَبُّتًا لاحتمال غلط الذي أخبره بالحديث أو نحو ذلك، فقد كان إذا لم يظهر له دليل على غلط المخبر يصير إلى الحديث، ولا يبالي بما خالفه، وقد نُقِل عنه من ذلك كثير. ¬

_ (¬1) انظر: المستصفى للغزالي 1/ 31 والمحصول للرازي 5/ 123 - 124. (¬2) رواه الترمذي في كتاب الطهارة، باب الوضوء مما غيَّرت النار، 1/ 114، ح 79، مطولًا. وابن ماجه في كتاب السنَّة (المقدِّمة)، باب تعظيم حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، 1/ 10، ح 22، مختصرًا. وفي كتاب الطهارة وسننها، باب الوضوء مما غيَّرت النار، 1/ 163، ح 485، مطوَّلًا.

وقال الله عزَّ وجلَّ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]. هؤلاء القوم رأوا أن البيع والربا شبيهان، في كلٍّ منهما أخذ زيادة على رأس المال؛ فرأوا أن أخذ الزيادة إما أن يحرم في الموضعين، وإما أن يحلَّ فيهما، وهذا هو القياس، فردَّ الله عزَّ وجلَّ عليهم بأنَّ من الفرق بينهما أن الله تعالى أحلَّ أحدهما وحرَّم الآخر، أي فإن كانوا عَبِيدَه فليطيعوه ويكتفوا بذلك. وليس في هذا نفيُ أن يكون هناك فرقٌ آخر، وإنما فيه أن فريضةَ العبد طاعةُ ربه، وإن لم يفهم الحكمة. وروى الدارميُّ عن الحسن أنه تلا هذه الآية: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12، ص: 76] قال: "قاس إبليس، وهو أوَّل مَن قاس". وعن ابن سيرين أنه قال: "أوَّل مَن قاس إبليس، وإنما عُبِدَت الشمس والقمر بالمقاييس" (¬1). وصدق؛ فإن عامَّة دين المشركين مبنيٌّ على المقاييس والرأي. [88] فمن ذلك: نسبتهم إلى الله سبحانه الولد، واتخاذهم بعض المقربين عنده آلهةً من دونه ليشفعوا لهم إليه. ¬

_ (¬1) سنن الدارميّ، (المقدِّمة)، باب تغيُّر الزمان وما يحدث فيه، 1/ 65، ح 195 - 196. [المؤلف]. قلت: وأثر الحسن في إسناده محمَّد بن كثيرٍ الصنعانيُّ، ومطرٌ الورَّاق، وفي كلٍّ منهما مقالٌ. أما أثر ابن سيرين ففي إسناده يحيى بن سُلَيمٍ الطائفيُّ، وهو صدوقٌ سيء الحفظ.

وقال الله تبارك وتعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الزخرف: 19 - 20]. وقال سبحانه: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [الأنعام: 148]. وقال عزَّ وجلَّ: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النحل: 35]. وقال تبارك وتعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28]. ومن ذلك: ما أحدثوا في أعمال الحجِّ، وما حرَّموه في (¬1) البحيرة والسائبة وغيرهما. وقال تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الأنعام: 136]. ¬

_ (¬1) كذا في الأصل.

جاء في تفسيرها روايات يجمعها أنهم كانوا يجعلون ما سمَّوه لله تعالى أو بعضه لشركائهم ولا يعكسون، محتجِّين بأن الله تعالى غنيٌّ وشركاءهم فقراء. ومن ذلك: قولهم: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً} [المؤمنون: 24]. {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} [الفرقان: 7 - 8]. {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 57 - 58]. وهكذا عامة ديانتهم، وسيأتي كثير من ذلك مع إيضاحه إن شاء الله تعالى. وفي تفسير الخازن عند قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] ما لفظه: "قال أهل المعاني: توهَّموا أن عبادتها أشدُّ في تعظيم الله من عبادتهم إيَّاه، وقالوا: لسنا بأهل أن نعبد الله، ولكن نشتغل بعبادة هذه الأصنام؛ فإنها تكون شافعة لنا عند الله" (¬1). [89] وكان من المنتسبين إلى الإِسلام مَن يجحد علم الله عزَّ وجلَّ بالأشياء قبل كونها، دعاه إلى ذلك أنه لم يقدر على تقرير عدل الله تعالى ¬

_ (¬1) تفسير الخازن 3/ 180.

وحكمته مع إثبات علمه السابق سبحانه وتعالى. ومن الفلاسفة مَن يجحد علم الله تعالى بالجزئيَّات، زاعمين أَنهم بذلك ينزِّهونه عزَّ وجلَّ عن التغيُّر. وقد توسَّط أبو البركات البغدادي (¬1) في كتاب المعتبر فاعترف بعلم الله عزَّ وجلَّ لبعض الجزئيَّات ونفاه عن الاتفاقيَّات، زاعمًا أن العقل ينفي أن يسع علم الله تعالى جميع الجزئيَّات مع كثرتها، وأن الثواب والعقاب الذي جاءت به الشرائع لا يسوِّغه العدل والحكمة إلا إذا كان الله عزَّ وجلَّ لا يعلم الأعمال قبل وقوعها، وحاول أن يلطِّف العبارة جهده (¬2). وبعض المجوس قالوا بوجود قديم غير الله عزَّ وجلَّ هو خالق الشرِّ، أدَّاهم إلى ذلك تنزيه الله عزَّ وجلَّ عن الشرِّ، زعموا أنه لا يمكن تنزيهه عنه إلا بذلك القول، ومع ذلك فهم يبغضون خالق الشرِّ ويوجبون مخالفته ويقولون: إن مصيره مع مَن تبعه إلى جهنَّم، وأكثرهم يقول: إن خالق الشر وهو الشيطان مخلوق من خلق الله تعالى، ثم يتحيرون كيف يمكن أن يخلقه الله تعالى مع علمه بخبثه، حتى التزم بعضهم أنه قديم كما سبق. وهكذا جميع أمم المشركين وطوائف المبتدعين يزعمون أنهم بشركهم أو بدعهم معظِّمون لله عزَّ وجلَّ، حتى فرعون وقومه كما سيأتي إيضاح ذلك إن شاء الله تعالى. ولعل أكثرهم كالصادقين في قصدهم، وإنما أُتُوا من قبل اعتمادهم على عقولهم وقياسهم وإعراضهم عن كتب الله ورسله فلم يقنعوا ¬

_ (¬1) هبة الله بن علي بن ملكا البلدي، أبو البركات البغدادي، العلامة الفيلسوف، شيخ الطب، أوحد الزمان، كان يهوديًّا ثم أسلم، من تصانيفه: المعتبر في الحكمة (أي المنطق والفلسفة)، توفي عام نيِّفٍ وخمسين وخمسمائة. انظر: عيون الأنباء في طبقات الأطباء 374 - 376، وسير أعلام النبلاء 20/ 419. (¬2) انظر: المعتبر 3/ 93 - 99، 187 - 195.

بما جاءت به الرسل ويسلِّموا له ويدَعوا خَرْصَهم وتخمينَهم وأهواءَهم وظنونَهم. [90] ولقد بلغ الاعتماد على العقل والقياس بل الخرص والتخمين بكثير من نظار المسلمين إلى أن زعموا أن كثيرًا من آيات الكتاب وكثيرًا من الأخبار الثابتة عن الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم مصروفة عن ظواهرها بدون قرينة تمنع المخاطَبين عن فهم الظاهر، بل صرَّحت طائفة بأن الله تعالى ورسوله قصد من المخاطَبين أن يفهموا ذلك الظاهر المخالف للحقيقة، فقيل لهم: فهذا كذب، فأجابوا أن الكذب للمصلحة جائز على الله تعالى وعلى رسله. فيقال لهم: فإن كثيرًا من تلك الآيات والأحاديث لا ملجئ إلى الإخبار بها على ظاهرها، ولا تتوقف على ذلك مصلحة ضرورية على فرض أن ظاهرها غير مراد، وقد تكرَّرَتْ وكَثُرَتْ وتضافرت إلى حدٍّ يقْطَع مَنْ تأمّله بأنه لا يمكن أن تكون إنما أُتي بها على تلك الصفة للضرورة التي زعموها. ولهذا ذهب بعض أئمة الفلسفة من المنتسبين إلى الإِسلام إلى أن الرسل مصلحون فقط، ولا علم لهم بالحقائق الغيبية والدقائق العقلية. قالوا: فالفيلسوف أعلم من الرسول، وسموا الأنبياء: فلاسفة العامة، والفلاسفة أنبياء الخاصة، فلم يتحاش أحدهم أن يقول: أنا أعلم بالله من أنبيائه ورسله، بل ويقول بعضهم: أنا أعلم بالله من نفسه، تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا. وإذا تتبعت كلامهم وجدتهم يزعمون أنه ما أدَّاهم إلى تلك الأقوال إلا تنزيه الله عزَّ وجلَّ وتعظيم رسله. والله المستعان.

فصل

[91] فصل ومن الناس مَن يحتج في هذا الباب بآية من كتاب الله عزَّ وجلَّ أو سنة ثابتة عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ويغفل أو يتغافل عن عِدَّة آيات أو سنن أخرى تعارض استدلاله. وهذا غلط شنيع؛ فإن الكتاب والسنة كالكلام الواحد، بمعنى أن الاستدلال على مطلب من المطالب بآية أو حديث لا يتم الوثوق به إلا بعد العلم بأنه ليس في آية أخرى من آيات القرآن ولا حديث آخر من الأحاديث الثابتة ما يخالفه. فكما أنه ليس لعاقلٍ أن يحتجَّ على حرمة الصلاة بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] ويقف على الصلاة، ولا على انتقاص النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بقول الله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65] ويحذف {لَئِنْ أَشْرَكْتَ}، وأمثال ذلك = فكذلك ليس له أن يحتجَّ بقول الله عزَّ وجلَّ: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} [النساء: 92] على نفي قتل القاتل والزاني المحصن ودفع الصائل والباغي؛ لأن على هذه أدلَّةً خاصَّةً من الكتاب والسنَّة تبيِّن المراد بتلك الآية. وهذا أمرٌ واضحٌ، وإن أعرض عنه كثيرٌ من الباحثين في مسألتنا. [92] فصل ومن الناس مَن تغلب عليه العصبيَّة للرأي الذي نشأ عليه وقَبِلَه من آبائه أو مشايخه، ويستغني بمحبته لذلك الرأي عن أن يتطلب له حجة، ويحول ذلك بينه وبين أن يصغي إلى الأدلة التي يتمسك بها مخالفه أو يتدبَّرَها، فإن

تعدى هذه المنزلة أخذ يتطلب الأدلة لرأيه، فيجمع كل ما يظن فيه دلالة بدون تصحيح ولا تنقيح ولا نظر في الأدلة المعارضة له. فإن جاوز هذه الدرجة تصفَّح أدلة مخالفيه وانتقى منها ما يسهل عليه تأويله، وأعرض عن الباقي. فإن ترقى عن هذه المرتبة جَهَدَ نفسه في الكلام على ما يجده لمخالفه من الأدلة، وإن اضطر إلى التعسف والتحريف ومخالفة القواعد القطعية. فأما من لم يكن له علم راسخ بالقواعد وما أكثرهم في المتكلمين في مسألتنا وغيرها في القرون الأخيرة فهو أقرب إلى العذر عند الناس، وعُظْمُ اللوم على من صدَّره ونحله العلم والإمامة بغير استحقاق. ولكننا نجد أفرادًا لا يُؤْتَون مِنْ جهلٍ بالقواعد وإنما يُؤْتَونَ من مخالفتها، والله المستعان. وأريد بالقواعد ما تشتمل عليه علوم الاجتهاد. فلا ينبغي للعاقل أن يزجَّ بنفسه في بحر الاستدلال حتى يجمع أمورًا: الأوَّل: إتقانُ [93] العربية وطولُ ممارستها؛ فإننا نجد من علماء العجم من يغلط في فهم آية أو حديث غلطًا لا نشك فيه. ومع ذلك يصعب علينا أن نقنعه بقاعدة معيَّنة من القواعد المذكورة في كتب النحو وغيرها، وما ذلك إلا لأنه قد بقي من قواعد فهم اللغة ما لا يُعْرَف إلا بالممارسة التامة وتربية الذوق الصادق، بل إن القواعد المبسوطة المحرَّرة لا يُسْتَطاع تطبيقُ أكثرها بدون ممارسةٍ وحسن ذوق. وليس هذا خاصًّا بعلم العربية، بل الأمر كذلك في بقية العلوم، ألا ترى أن من الأئمة المجتهدين من يحتجُّ بالاستحسان وفسَّروه بدليل ينقدح في نفس المجتهد ولا يستطيع التعبير عنه. ونحو هذا يقول أئمة الحديث في معرفة علل الحديث حتى قال الإِمام

عبد الرحمن بن مهدي: هي إلهام، لو قلتَ للقيِّم بالعلل: من أين لك هذا؟ لم تكن له حجة (¬1). وذكر السخاوي في فتح المغيث (¬2) قصصًا في ذلك ومثلوه بالصيرفيِّ والجوهريَّ. (¬3) ومما يشبه ذلك أنَّ من خالط أهل الصين واليابان ثم رأى شخصين صينيًّا ويابانيًّا يميز أحدهما من الآخر بأوَّلِ نظرةٍ، ولو سئل عن سبب تمييزه ما استطاع أن يذكره حينئذٍ (¬4). الثاني: المعرفة بالمعاني والبيان مع حظٍّ من معرفة أشعار العرب وفهم معانيها ولطائفها وتطبيقها على قواعد المعاني والبيان ممارسًا لذلك. [94] الثالث: معرفة أصول الفقه والتمكن فيها على وجه التحقيق لا التقليد، وكثرة الممارسة لتطبيق الفروع على الأصول. الرابع: معرفة مصطلح الحديث والتمكُّنُ فيه، وطرفٌ صالحٌ من معرفة الرجال ومراتبهم وأحوالهم. الخامس: كثرة مطالعة كتب الحديث, وتَفَهُّم معانيه، ومعرفة صحيحه من سقيمه، والممارسة لذلك إلى أن تكون له ملكة صحيحة في معرفة العلل والتوفيق بين المختلفات والترجيح بين المتعارضات. ويلحق بذلك معرفة السيرة النبوية وأحوال العرب قبل الإِسلام وأحوال الصحابة وعلماء التابعين وتابعيهم. ¬

_ (¬1) انظر: العلل لابن أبي حاتم 1/ 388، ومعرفة علوم الحديث للحاكم ص 360. (¬2) 1/ 273. (¬3) هنا بداية ملحق ص 93 وهو ثلاث صفحات وبضعة أسطر. (¬4) لفظ "حينئذٍ" مكرَّرٌ في الأصل.

السادس: معرفة العلماء ومراتبهم في العلم ومزاياهم الخاصة التي يتفاوتون فيها، كشدَّة الاعتصام بالكتاب والسنة والورع وتجنب الأهواء والبدع والإخلاص وعدم العصبية وغير ذلك، ولا يقتصر على ما هو مشهور بين الناس من الفضائل والمناقب فإن كثيرًا من [95] ذلك نشأ عن التعصب للمتبوعين والمغالاة فيهم وتنقيص مخالفيهم. السابع - وهو الأوَّل في الرتبة والأَوْلىَ بالعناية -: كثرةُ تدبر كتاب الله عزَّ وجلَّ وتفهم معانيه، وليختبر فهمه له ويكرر امتحان نفسه حتى يحصل له الوثوق التام بأن فهمه فهم العلماء، وليكن اعتماده على الفهم المطابق للقواعد العلمية ولا يقتصر على "قال فلان وقال فلان". الثامن: الإخلاص ومحبة الحق وتطهير النفس من الهوى والتعصب وحب الجاه والشهرة والغلبة، وأن يكون أعظم همِّه موافقةَ الحق وإن خالف آباءَه ومشايخه وعاداه أكثر الناس، ويكون مع ذلك محافظًا على الطاعات متنزِّهًا عن المعاصي بقدر الاستطاعة، ويبتهل إلى الله عزَّ وجلَّ في كلِّ وقت أن يهديه ويرشده ويوفِّقه ويسدده. ويكثر من قول "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك"، و"اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك"، اللهم يا من بيده ملكوت كل شيء، وهو يجير ولا يجار عليه، أجرني من شر نفسي ومن شر ما خَلَقْتَ، ونحو ذلك. ويُكْثِرُ من الصلاة والسلام على [96] النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم والمحبة له ولأهل بيته عليهم السلام ولأصحابه الكرام رضوان الله عليهم، والاحترام للعلماء والصالحين؛ فإن ألزمه الدليل مخالفة بعضهم فلا يحمله ذلك على احتقارهم والطعن فيهم، وليعرف لهم حقهم ويعتذر لهم بما استطاع مع المحافظة على الحق أينما كان.

ولعل قائلًا يقول: وهل كاتب هذه الرسالة جامع للأمور المتقدمة؟ فأقول: لست هنالك ولا قريبًا من ذلك. ولكنَّ البلاد إذا اقْشَعَرَّتْ ... وصَوَّحَ نَبْتُها رُعِيَ الهَشِيمُ (¬1) ومَن طالع هذه الرسالة فسيعرف منزلة كاتبها، والله تعالى الموفق. ولنختم هذا الفصل بالتنبيه على قاعدة من القواعد التي تقدَّمت الإشارة إليها وهي وجوب حمل النصوص على ظاهرها، وهي قاعدة قطعية متفق عليها بين المسلمين بل بين العقلاء. والمراد بالظاهر ما يكون ظاهرًا من النص بعد أن يُضَمَّ إليه ما يبينه من النصوص الأخرى، فالنصُّ العام ظاهره العموم فإذا قامت حجة ثابتة على تخصيصه لم يبق ظاهرًا إلا فيما بقي بعد التخصيص. [97] واعلم أن الظاهر الواحد لا يفيد وحده إلا الظن، ولكنه قد يترقى إلى القطع إذا عضدته ظواهر أخرى، أو عُلِمَ من حال السلف الصالح أنهم كانوا يحملونه على ظاهره أو غير ذلك. ونقل ابن حجر الهيتمي في كتابه الإعلام بقواطع الإِسلام عن كتاب الأنوار ما لفظه: "وأن من دافع نص الكتاب أو السنة المقطوع بها المحمول على ظاهره فهو كافر بالإجماع". ¬

_ (¬1) البيت لأبي عليٍّ البصير، الفضل بن جعفرٍ الكوفيِّ. انظر: أمالي القالي 2/ 287، والوساطة بين المتنبِّي وخصومه ص 221، ومعجم الأدباء 3/ 89، ترجمة أحمد بن أبي طاهرٍ ونسبه لدعبل أيضًا، واقشعرت: أجدبت، وصوّح أي جفَّ، والهشيم الكلأ الجافّ.

وأقرَّه ابن حجر إلا أنه قال: "والظاهر أيضًا أن معنى قوله: المحمول على ظاهره، أي بالإجماع" (¬1). أقول: ومن الإجماع عندهم أن يُنْقَلَ قولٌ عن بعض السلف ولا يعلم له مخالف منهم (¬2). والله أعلم. وبالجملة، فالظاهر إذا لم يعتضد بشيء فإنه حجة في غير العقائد، فأما في العقائد فإنه يوجب الاحتياط، والاحتياط فيما يتعلق بالاعتقاد أصل عظيم نَبَّه عليه القرآن في مواضع قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 52]، وقال عزَّ وجلَّ: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأحقاف: 10]. ويدخل في هذا المعنى كثير من الآيات التي يُطالَبُ المشركون فيها بالحجة والسلطان على دعواهم، أو يُنْفَى أن يكون عندهم شيء من ذلك، أو يُنْعَى عليهم الاعتماد على الظن والخرص والتقليد؛ فإن من المقصود في ذلك أن يبين لهم أنه على فرض أن حجج الأنبياء وبيناتهم لا تفيد عندكم [98] القطع بصدقهم فأنتم ليس عندكم براهين قاطعة على شرككم، وحينئذٍ فالواجب عليكم الاحتياط وترجيح جانب السلامة، ولا ريب أنها ترك الشرك. ¬

_ (¬1) الإعلام ص 44. [المؤلف] (¬2) انظر: الإحكام لابن حزم 4/ 219 إذ نسب هذا القول إلى بعض الشافعيِّين وجمهور الحنفيين والمالكيين، والسلف عنده: واحد أو أكثر من الصحابة.

والحكماء الربانيون يسلكون هذه الطريقة لقربها، قال الله تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28)} إلى أن قال: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر:28 - 35]. وروي عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أنَّ دَهْرِيًّا (¬1) نازعه في البعث فقال أمير المؤمنين: "يا هذا إن كان الأمر كما أقول نجوتُ أنا وهلكتَ أنت، وإن كان كما تقول نجونا جميعًا" أو كما قال (¬2). يعني: فعليك أن تحتاط لنفسك فتُسْلِمَ فتكون ناجيًا بيقينٍ. وجاء عن ابن عمرو وابن عباس أنهما قالا لمن كان يرى أنه كما لا ينفع مع الكفر عمل لا يضرُّ مع الإيمان عمل، قالا له: عَشِّ ولا تَغْتَرَّ (¬3)، وهذا مثل ¬

_ (¬1) في تاج العروس 11/ 349: "والدَّهريُّ - بالفتح، ويُضمُّ -: الملحد الذي لا يؤمن بالآخرة القائل ببقاء الدهر". وانظر: الفصل في الملل والنحل لابن حزم 1/ 47. (¬2) لم أعثر عليه. (¬3) أخرجه أبو عبيد في غريب الحديث 4/ 253، وورد أيضًا بمعناه جوابًا لسؤال معبد الجهني القدري لما قال: رجل لم يدع من الشر شيئًا إلا عمله غير أنه يشهد أن لا إله إلا الله. انظر: الجامع لمعمر 11/ 285 ح 20553، والزهد لابن المبارك ص 324 - 325 ح 922 - 923، ومسند ابن الجعد 2/ 1167 ح 3506 - 3507، وحلية الأولياء 1/ 311، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 6/ 1073 - 1074 ح 2002 - 2003.

أصله أن رجلًا أراد أن يقطع بإبله مفازة فأراد أن لا يعشِّيها اتِّكالًا على ما في المفازة من الكلأ (¬1). وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يتعلق بهذا المعنى في الكلام على بيان شرك العرب الذين بُعِثَ فيهم محمَّد - صلى الله عليه وسلم -. [99] فإن قيل: فهلا أغنى الله عزَّ وجلَّ رسله عليهم الصلاة والسلام عن هذه الطريقة بآيات قاطعة؟ فالجواب أن الحجج القاطعة على ضربين: الضرب الأول: ما لا يستطيع المعاند إنكاره، ولو أنكره لمقته الناس جميعًا ولم تكن هناك أدنى شبهة يجوز أن يعتذر بها عنه، كأن يكون بصيرًا في مكان مكشوف، وحوله أمة من الناس، والشمس وسط السماء ليس دونها سحاب؛ فإنه لا يقدر أن ينكر كون الشمس في ذلك الوقت طالعة على ذلك المكان. الثاني: ما يستطيع المعاند إنكاره؛ لظنه أنه لا يعدم عذرًا عند الناس، كأن يكون العلم بتلك الحجة متوقفًا على التدبر والتأمل، فيقال: لعل هذا لم يتدبر ولم يتفكر، بل قد يكون الواقع كذلك، أعني أنه لم يتدبر ولم يتفكر، إما لأنه قد أَلِفَ ذلك القول الباطل ووجد عليه آباءه ومشايخه ويصعب عليه أن يتبين بطلانه، فهو يَصُدُّ نَفْسَه عن التدبر والتفكر ويغالطها ويقنعها بأن ما هو عليه هو الحق، وإما لأنه أخذ ما هو عليه تقليدًا عن مُعَظَّم عنده يغلو في اعتقاده فيه، وإما لأنه يتوهم أن ما هو عليه هو الحق، ويخشى أن يوقعه ¬

_ (¬1) انظر: نهاية ابن الأثير، مادة (عشا). [المؤلف]. ومجمع الأمثال 2/ 16.

التدبر والتفكر في خلاف الحق [100] أو نحو ذلك، وهذه الأعذار وشبهها تمنع الناس أن يسخروا منه كما يسخرون من المنكر للضرب الأول. إذا علمت ذلك فاعلم أن عامة الحجج الدينية من الضرب الثاني. ومن الحكمة في ذلك - والله أعلم - أن الله عزَّ وجلَّ أنشأ الجن والإنس هذه النشأة في الحياة الدنيا لحكم يعلمها، منها: أن يبرز فعلًا ما انطوت عليه نفوسهم من الخضوع للحق أو الاستكبار عنه، فتكون مجازاتهم على أمرٍ قد وقع وَوُجِدَ ما ينشأ عنه من المفاسد، وشَاهَدَهُ الخلق وشهدوا به حتى تشهد به أعضاء الفاعل؛ إذ لو أراد سبحانه أن يجازيهم على ما علمه من نفوسهم لأنكروا ذلك. وقد قال تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 22 - 23]. ولعلَّ الأرواح في عالَمِها لا يقع منها كفر ولا معصية، إما لأن الحق في ذلك العالم واضح من الضرب الأول وإما لغير ذلك، والله أعلم. وعلى كلِّ حالٍ فإن عدل الله عزَّ وجلَّ اقتضى ما قدمنا ألا يجازيهم على مجرد ما علمه من نفوسهم حتى تبرز آثار ذلك إلى الخارج وتشهد به الخلائق. إذا تقرَّر هذا فالحكمة المذكورة لا تتمُّ إلا إذا كانت حجج الحق وبراهينه من الضرب الثاني؛ ليتمكَّن من إنكارها مَنْ انطوت نفسه على العناد [101] والاستكبار، ويتبين في مَنْ قَبِلَها أن نفسه منطوية على حبِّ الحق وقَبوله والخضوع له.

فصل

ومثال هذا: أنك إذا أردت امتحان رجل أأمين هو أم لا؟ فإنك لا تمتحنه بأن تودعه مالًا بمحضر أمة من الناس، ثم تطالبه به في المجلس، وإنما تمتحنه بأن تودعه سرًّا مالًا له خطر، ثم تطالبه بعد أيام مثلًا، فإنه إن أدَّاه كان ذلك دليلًا على أمانته. ثم اعلم أن الخيانة على درجات: فمن الناس مَنْ يرتكبها وهو يعلم قطعًا أنها خيانة. ومنهم من لا يرتكبها إلا إذا كانت هناك شبهة يغالط بها نفسه، كأن يزعم أنه محتاج وأن المودِعَ لا يؤدِّي الزكاة أو نحو ذلك، فهكذا المخالف لظواهر الأدلة قد يكون يعلم من نفسه أنه على باطل وإنما يعتني بالتأويل والمغالطة كراهية أن يعترف بأنه على باطل. ومنهم من يغالط نفسه أيضًا كما تجده في كثير من المقلدين فإن أحدهم لشدة محبته لإمامه وحسن ظنه به يعمد إلى الأدلة الظاهرة المخالفة لمذهبه فيؤولها التأويلاتِ البعيدةَ في حين أنه يشنع على مخالفه إذا فعل مثل ذلك أو أقلَّ منه. والمقصود أن الحكماء الربانيين يسلكون الطريقة المتقدمة؛ لقربها، [102] ولأن المخالف إذا قَبِلَها لم يلبث أن تزول عنه تلك الحواجز التي كانت تحول بينه وبين معرفة الحقّ فيعرفه يقينًا. والله أعلم. فصل ومن الناس مَن يتهاون بهذا الأصل العظيم - الفصل بين التوحيد والشرك - قائلًا: "إنما الأعمال بالنيات"، زاعمين أن هذا الحديث حجة على أن المدار في البر والإثم، والطاعة والمعصية، والإيمان والكفر، وكل خير

وشر على مقصود العامل، فأيُّ عمل عمله قاصدًا به التقرب إلى الله عزَّ وجلَّ فحُكْم الشرع في حقِّه أنه متقرب يُرْجى له الثواب. فبعض هؤلاء يجعل هذا الحديث على تأويله له حجةً يتحجَّرُها لنفسه ولا يقبلها لمخالفه، وكفى بذلك تناقضًا. وبعضهم يسمح بالمشاركة ولكنه يجحد أنَّ مخالفيه قصدوا الخير ويكذَّبهم في ذلك. وبعضهم يضطرب ويرتبك. وبعضهم يتسامح فلا ينكر على أحد. وهذا رأي فيه قيراط حق وقنطار باطل. فأما الحديث فلفظه كما في الصحيحين: "إنما الأعمال بالنية، وإنما لامرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه" (¬1). فالمراد بالأعمال الأعمال الشرعية التكليفية بقرينة أن المتكلمَ النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وأن كلامه هذا من باب تبليغ الشريعة، وأنه مَثَّلَ [103] بالهجرة وهي عمل شرعي تكليفي. وقال الحافظ ابن حجر: "والتقدير: الأعمال الصادرة من المكلفين ... ¬

_ (¬1) البخاريّ، كتاب الأيمان والنذور، باب النيَّة في الأيمان، 8/ 140، ح 6689. ومسلم، كتاب الإمارة، باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيَّة"، 6/ 48، ح 1907. [المؤلف]

قال الطيِّبِي: كلام الشارع محمول على بيان الشرع" (¬1). وقوله: "إنما الأعمال بالنيات" ظاهره اتفاقًا نفي وجود الأعمال بدون النيات. وتوهم بعض أهل العلم أن النفي لا يصح إذ قد توجد صورة الصلاة بدون نية، والصواب صحة النفي؛ فإن الكلام في الأعمال الشرعية كما علمت، والموجود في الخارج بدون النية ليس هو العمل الشرعي، وقد قال النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم للمسيء صلاته: "ارجع فصلِّ فإنك لم تصلِّ" (¬2). ولا خفاء أنَّ مَنْ اتفق له عدمُ الأكل والشرب والجماع يومًا كاملًا بغير نية صيام يصدق عليه حقيقة أنه لم يقع منه صيام. فهذه الجملة "إنما الأعمال بالنيات" دلَّت أنه لا يوجد عملٌ شرعيٌّ تكليفيٌّ (¬3) إلا بنيَّةٍ، والمراد بها - والله أعلم - إخراج الأعمال الصورية التي لم تقع بنية عن أن تكون شرعية تكليفية، مثل أن يكون إنسان نائمًا أو مغمى عليه فيُحْمَلَ بغير رضًا منه سابقٍ من دار الكفر إلى دار الإِسلام، فهذا لم يوجد منه عمل شرعي تكليفيٌّ أصلًا. والجملة الثانية "وإنما لامرىء ما نوى" أريد بها - والله أعلم - التمييز بين الأعمال الشرعية التكليفية المشتبهة صورة، فأفاد أنَّ الذي يوجد منها هو ما ¬

_ (¬1) الفتح: 1/ 9. [المؤلف]. وقد تكرَّر في الأصل قوله: "كلام الشارع" مرَّتين سهوًا. (¬2) البخاريّ، كتاب الأذان، باب أمر النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الذي لا يتمُّ ركوعه بالإعادة، 1/ 158، ح 793. ومسلم، كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة، 2/ 11، ح 397. [المؤلف] (¬3) في الأصل: تكليفيَّةٌ، وهو سبق قلمٍ.

نواه، ومَثَّلَ له بالهجرة؛ فإنَّ الخارج من دار الكفر إلى دار الإِسلام [104] قاصدًا قد وُجِدَ منه عَمَلٌ شرعي تكليفيٌّ في الجملة، وهذا العمل الشرعي التكليفي يحتمل أن يكون الهجرةَ إلى الله ورسوله وحكمُه الوجوب، أو الهجرة إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها وله حكم آخر، فتعيين أحدهما بخصوصه موكول إلى نيته الخاصة. وها هنا انتهى معنى الحديث (¬1). فأنت ترى أن الحديث إنما تعرَّض للفصل بين الأعمال الشرعية التكليفية وبين غيرها، فأما أحكام تلك الأعمال فلم يتعرَّضْ لها وإنما تؤخذ من الأدلَّة الأخرى. ولنوضح ذلك بمثال: أربعة وقعوا على أمهاتهم، فأحدهم مجنون، والثاني ظنها زوجته، والثالث يعلم أنها أمه ولكن غلبته الشهوة، والرابع يعلم أنها أمه وقصد بِرَّها ورضاها تقربًا إلى الله تعالى في زعمه. فالأوَّل: ليس له قصد معتدٌّ به شرعًا. "وإنما الأعمال بالنيات"، فلم يوجَدْ مِنْه عمل شرعي تكليفي أصلًا، فلا يقال لعمله: حرام ولا مكروه ولا مباح ولا مندوب ولا واجب، والآخرون قصدوا الوقوع فوُجِدَ مِنْ كلٍّ منهم عملٌ شرعيٌّ (¬2) تكليفي. ثم يقال: الثاني (¬3) إنما نوى الوقوع على زوجته، ¬

_ (¬1) هنا كان مكتوبًا: "ولنضرب مثلًا يتَّضح به المعنى"، وهو تكرارٌ لما سيأتي بعد سطرين من قوله: "ولنوضِّح ذلك بمثالٍ", لأنه ضرب على صفحةٍ ونصف صفحة ثم أعاد تبييضهما، فنسي أن يضرب على هذا القدر. (¬2) أي للشرع فيه حكمٌ، ولا يعني أنه مشروعٌ. (¬3) لعله: "الأوَّل" أي: في عدد الآخرين خلا المجنون، بدليل ما يأتي من الثاني والثالث.

"وإنما لامرئ ما نوى"، فالعمل الشرعي التكليفي الذي وُجِد منه هو الوقوع على زوجته. والثاني نوى الوقوع على أمه شهوة فالعمل الشرعي الذي وُجِدَ منه هو الزنا بأمِّه. والثالث: نوى الوقوع على أمه تقربًا إلى الله تعالى في زعمه، فالعمل الذي وجد منه هو الزنا بأمه تقربًا إلى الله تعالى في زعمه. وها هنا انتهى معنى الحديث، فأما الأحكام فتطلب من غيره، فحكم الثاني أنه مندوب أو مباح، وحكم الثالث أنه حرام من أكبر الكبائر، عليه التفسيق والحد، وحكم الرابع من جهة كالثالث، ومن جهة أنه كفر لاستحلاله الحرام المقطوع به وكذبه على الله تعالى، وتكذيبه بآياته وتكذيبه لرسوله، ولو كان المعنى ما توهَّمه الجهال لكان عمل الرابع يكون قربة يرجى لصاحبه الثواب. وذلك قريب مما توهّمه المشركون فيما حكى الله تعالى عنهم من قولهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]. والحاصل أن مَن نوى التقرُّب إلى الله تعالى بعملٍ لا بدَّ من النظر في الأدلَّة الشرعيَّة، فإذا دلَّت على أن ذلك العمل بذلك القصد قربة فهو قربة، وإذا دلَّت على أنه ليس بقربة ففعلُه له بنيَّة التقرب وبالٌ عليه؛ لما فيه من الكذب على الله تعالى والتكذيب بآياته وغير ذلك ... (¬1). فإن قيل: فقد عُلِمَ من الشريعة أن المباح يصير قربة بالنية الصالحة، بل بعض المكروهات، وكذا بعض المحرمات إذا تعينت طريقًا لدفع مفسدة أعظم منها. قلت: نحن لم ننف ذلك، وإنما قلنا: لا بدَّ من دليل شرعيٍّ على أن هذا ¬

_ (¬1) هنا نحو كلمتين لم تظهرا في الأصل، وكلمة: (ففعله) لم تظهر كاملةً.

العمل يكون قربةً بالنية، ولا يكفي في ذلك مجرد النية كما في الزاني بأمِّه تقرُّبًا في زعمه، وشاربِ الخمر تقوِّيًا على قيام الليل، والساجد للشمس احترامًا لها لأنها آية من آيات الله، وقس على ذلك، ولعلّك قد وقفت على الحكاية التي وُضِعَتْ على مؤذن حمص ومسجدها وإمامها وقاضيها، فإنها من هذا القبيل (¬1). واعلم أن سائر الكفار من أهل الكتاب والمشركين كلهم يزعمون أنهم إنما يتمسكون بكفرهم طاعة لله عزَّ وجلَّ وتعظيمًا له، كما تقدم بعض ذلك، وقد علمنا أن قصدهم ذلك لا ينفي عنهم اسم الكفر ولا حكمه بل يغلِّظه عليهم ويكون كفرًا على كفرٍ. وأما ما في ذلك الرأي (¬2) من الحق فهو في رمي المسلم غَيْرَهُ بالكفر عند ظنه ذلك بعد اجتهادٍ يُعْتَدُّ به، كما قال عمر في حاطب، وأسيدُ بن حضير في سعد بن عبادة، وجلساء عتبان بن مالك [107] في مالك بن الدخشم رضي الله عنهم، وسيأتي توضيح ذلك في أواخر الرسالة (¬3)، إن شاء الله تعالى. وقد قال الإمام أحمد وغيره بكفر تارك الصلاة كسلًا، ولم يُنْكَرْ عليهم ذلك، وإن خولفوا فيه فكما خولفوا في بعض أحكام البيع مثلًا، ومَنْ طالع أبواب الردة في كتب الفقهاء وجد من ذلك كثيرًا. ¬

_ (¬1) الحكاية في المستطرف 2/ 305، وهي من الحكايات الماجنة المكذوبة. (¬2) أي: عدم الإنكار على أحد، وقد مرَّ في مطلع هذا الفصل. (¬3) في باب الأعذار ص 935 - 941.

ولكنَّ كثيرًا من الذين يكفِّرون بَعْضَ المصلِّين في هذا الزمان ليس عندهم شبهة قويَّة يُعْذَرُون بها، ولا هم أهلٌ للاجتهاد والنظر. والله المستعان. فإن قلت: فهل يتصور أن يُعْذَرَ الإنسان في الكفر كما قد يعذر في التكفير؟ قلت: أما من أقدم على الكفر مختارًا وهو يعلم أو يظن أنه كفر، أو كان عنده احتمال لكون ذلك كفرًا ولم يبحث ولم ينظر، أو بحث ونظر بغير تحقيق ولا إنصاف، بل كان غرضه من البحث نصرَ هواه والردَّ على مخالفيه، أو جاهلًا أنه كفر وهو مقصِّر بجهله = فإنه لا يُعْذَر. وأما من أقدم مكرهًا وقلبه مطمئن بالإيمان، أو جاهلًا غير مقصِّر، كمن نشأ في رأس جبل = فمعذور. وأما مَنْ أقدم عليه يعتقد أنه ليس بكفر، وقد نظر وبحث باذلًا أقصى جهده في ذلك حريصًا على إصابة [108] الحق مخلصًا في هذا القصد، فأدَّاه اجتهاده إلى أن ذلك الأمر ليس بكفر بل هو حق؛ فإن كان مسلمًا ملتزمًا بالأصول الإِسلامية العظمى، وإنما كان خلافه فيما دونها، فسيأتي الكلام عليه في الأعذار، إن شاء الله. وإن كان خلافه في أصول الإِسلام العظمى فقد نُقِلَ عن رجل أو رجلين من المتقدمين أن هذا معذور، وجمهور العلماء على أنه غير معذور، وزاد بعضهم فكفَّر من يقول إنه معذور (¬1). وظهر لي أن مثل هذا الشخص لا يوجد؛ لأنه قد فُرِضَ مجاهدًا في سبيل الحق مخلصًا في جهاده، فيمتنع ¬

_ (¬1) مضى الكلام على هذا المبحث في الصفحات 171 - 172، 206 - 210.

ألا يُهْدى؛ فإن الله تبارك وتعالى يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]؛ فثبت من هذا أن من كان على كفر ويزعم أنه أداه إليه اجتهاده فلم يكن اجتهاده صادقًا خالصًا لوجه الحق، فثبت أنه ليس بمعذور اتفاقًا. والتكفير دون الكفر قطعًا، ولا سيما الشرك، فقد قال الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48، 116]، وقد مرَّ في المقدمة ما يتعلق بهذا. ويشتد الخطر على من فهم من دلالة الكتاب أو السنة في عمل من الأعمال أنه شرك، فعارضها بمجرد التقليد وغيره مما مرَّ. وكذلك من أمكنه تدبر الكتاب والسنة فلم يفعل واكتفى بالتقليد أو غيره. وكذا من لم تمكنه المراجعة ولكنّه قد علم أن من أهل العلم مَنْ يقول في عمل من الأعمال إنه شرك فلم يجتنبه؛ [109] فإن الاحتياط واجب كما تقدم. وفي الحديث الصحيح: "الحلال بيِّن والحرام بَيِّن، وبينهما مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات كراعٍ يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه" (¬1). وشبهات الشرك أشدُّ من شبهات الحرام. وفي حديثٍ آخر: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك؛ فإن الصدق طمأنينة، وإن الكذب ريبة" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه 1/ 20 ح 52، ومسلم في كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات 5/ 50 ح 4178. (¬2) المسند 3/ 153.

وفي حديثٍ ثالثٍ: "لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرًا لما به بأس" (¬1). وبالجملة فتحقيق ما هو شرك وما ليس بشرك متوقف على تحقيق معنى كلمة التوحيد (أشهد أن لا إله إلا الله)، فعلى المسلم السعي في ذلك، وعليه أن يلتزم قبل تحقيق معناها الاحتياط، ولا يكفيه الاحتياط مع الإعراض عن الاجتهاد في تحقيق معناها. ولما كان معظم الاشتباه في معناها إنما جاء من الاشتباه في معنى الإلاهة والعبادة، فلنشرع في تحقيق معناهما، وأرجو الله تبارك وتعالى أن يهديني والمسلمين لما اختلف فيه من الحق بإذنه ويحفظنا من الزيغ والزلل بفضله ومَنِّه، آمين. **** ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في كتاب صفة القيامة والرقائق، باب 19، 4/ 634 ح 2451، وابن ماجه في كتاب الزهد، باب الورع والتقوى 2/ 1409 ح 4215، وضعَّفه الألباني في ضعيف سنن الترمذي.

تفسير لفظ "إله" في كتب العقائد

[110] تفسير لفظ "إله" في كتب العقائد يظهر من صنيع بعض المتكلمين - أعني علم الكلام أو علم العقائد أو علم التوحيد - أن معنى (إله) هو المعنى الذي يُعِبِّرون عنه بواجب الوجود، ولكنَّ في عباراتهم اضطرابًا. قال العضد في مواقفه: "المرصد الثالث في توحيده تعالى، وهو مقصد واحد، وهو أنه يمتنع وجود إلهين. أما الحكماء (¬1) فقالوا: يمتنع وجود موجودَين كلُّ واحدِ منهما واجب لذاته ... وأما المتكلمون فقالوا: يمتنع وجود إلهين مستجمعين لشرائط الإلهية، لوجهين: الأول: لو وُجِد إلهان قادران ... واعلم أنه لا مخالف في هذه المسألة إلا الثنوية". قال المحشِّي حسن جلبي (¬2): "قوله: (في توحيده تعالى) التوحيد يطلق بالاشتراك على معانٍ، من جملتها: اعتقاد الوحدانية أي عدم مشاركة الغير له في الألوهية، وهذا هو المقصود ها هنا، والمشاركة فيها تستلزم الاشتراك في الوجوب الذي هو معدن كلِّ كمال ومُبْعِد كل نقصان ... ". وقال الشارح السيد الشريف بعد قول المتن: (إلا الثنوية): "دون الوثنية فإنهم لا يقولون بوجود إلهين واجبي الوجود، ولا يصفون [111] الأوثان بصفات الإلهية وإن أطلقوا عليها اسم الآلهة، بل اتخذوها على أنها تماثيل الأنبياء أو الزهَّاد أو الملائكة أو الكواكب، واشتغلوا بتعظيمها على وجه العبادة توصُّلًا بها إلى ما هو إله حقيقةً". ¬

_ (¬1) يعني: الفلاسفة. (¬2) ابن محمَّد شاه الفناري، توفي سنة 886 هـ. انظر: شذرات الذهب 8/ 3.

قال حسن جلبي: "فعدَّهم [أي الوثنية] من المشركين لقولهم بتعدُّد المستحق للعبادة لا لقولهم بواجبي الوجود" (¬1). فهذه العبارات كما ترى. وفي مسألة التوحيد من المقاصد وشرحها بنى الكلام على توحيد وجوب الوجود أيضًا، ولكن قال في الشرح: "حقيقة التوحيد اعتقاد عدم الشريك في الألوهية وخواصَّها، ولا نزاع لأهل الإِسلام في أنَّ تدبير العالم وخلق الأجسام واستحقاق العبادة وقِدَم ما يقوم بنفسه كُلُّها من الخواصِّ ... ". ثم عدَّدَ أصناف المشركين، إلى أن قال بعد ذكر الثنويَّة والمجوس: "ومنهم عَبَدَة الملائكة وعبدة الكواكب وعبدة الأصنام، أما الملائكة والكواكب فيمكن أنهم اعتقدوا كونها مؤثِّرة في عالم العناصر مدبِّرة لأمور قديمة بالزمان (¬2) شفعاء للعباد عند الله تعالى مقرِّبة إياهم إليه تعالى. وأما الأصنام فلا خفاء أنَّ العاقل لا يعتقد فيها شيئًا من ذلك، قال الإِمام رحمه الله: فلهم في ذلك تأويلات باطلة: الأول: أنها صور أرواحٍ تدبِّر أمرهم وتعتني بإصلاح حالهم على ما سبق. الثاني: أنها صور الكواكب. ¬

_ (¬1) شرح المواقف 3/ 32 - 36. [المؤلف] (¬2) سيأتي ما فيه، إن شاء الله تعالى. [المؤلف]

الثالث: أن الأوقات الصالحة للطَّلَّسْمات (¬1) القويَّة الآثار [112] لا توجد إلا أحيانًا من أزمنة متطاولة جدًّا، فعملوا في ذلك الوقت طِلَّسْمًا لمطلوب خاصًّ يعظمونه ويرجعون إليه عند طلبه. الرابع: أنهم اعتقدوا أن الله تعالى جسم على أحسن ما يكون من الصورة، وكذا الملائكة، فاتخذوا صورًا وبالغوا في تحسينها وتزيينها وعبدوها لذلك. الخامس: أنه لما مات منهم مَنْ هو كامل المرتبة عند الله تعالى اتخذوا تمثالًا على صورته وعظَّموه تَشَفُّعًا إلى الله تعالى وتوسُّلًا ... وبالجملة فنفي الشركة في الألوهية ثابت عقلًا وشرعًا وفي استحقاق العبادة شرعًا، {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31] " (¬2). أقول: وهذه العبارة الأخيرة مفهمة أنَّ عَبَدَة الملائكة وعبدة الكواكب وعبدة الأصنام لم يشركوا في وجوب الوجود وإنما أشركوا في استحقاق العبادة، وقد جعل استحقاق العبادة غير الألوهية، وإنما يعني الألوهية بالمعنى الذي يريده المتكلَّمون منها في هذا البحث، وهو وجوب الوجود، وهو غير استحقاق العبادة قطعًا، فلا تَفْهَمْ من كلامه أنَّ المشركين الذين ¬

_ (¬1) الطَّلَّسْم - بكسر الطاء وفتح اللام المشدَّدة وحُكِي تخفيفها -: خطوطٌ وأعدادٌ يزعم كاتبها أنه يربط بها روحانيَّات الكواكب العلويَّة بالطبائع السفليَّة لجلب محبوبٍ أو دفع أذًى. انظر: مفتاح السعادة ومصباح السيادة 1/ 316، المعجم الوسيط 562. (¬2) شرح المقاصد 2/ 64 - 65. [المؤلف]

حكى فيما سبق أنهم يشركون في استحقاق العبادة غيرُ مشركين في الألوهية، كيف والقرآن مملوء بالإخبار عنهم أنهم اتخذوا الأوثان آلهة، وقد قال هو نفسه في المطوَّل (¬1) في بحث تعريف المسند إليه بالعَلَمِيَّة ما لفظه: "ألا ترى أنَّ قولنا: (لا إله إلا الله) كلمة توحيد بالاتفاق ... فيجب أن يكون إله بمعنى المعبود بحق، والله تعالى عَلَمًا للفرد الموجود منه، والمعنى: لا مستحق للعبودية له في الوجود أو موجود إلا الفرد الذي هو خالق العالم، وهذا معنى قول صاحب الكشاف: "إن الله تعالى يختصُّ بالمعبود بالحق لم يُطْلَقْ على غيره"، أي بالفَرْدِ الموجود الذي يُعبد بالحق تعالى وتقدَّس". ونقلوا نحوه عن السعد في شرح الكشاف (¬2). فأما زعمه أنَّ نفي الشركة في استحقاق العبادة غير ثابت بالعقل، فببطله القرآن كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وفي شرح الجوهرة لابن الناظم: "وحقيقة الألوهية وجوب الوجود والقدم الذاتي، ويلزم منه استغناؤه عن كل ما سواه وافتقارُ كلِّ ما سواه إليه". تعقَّبه المحشِّى الأمير فقال: "قوله: (وجوب الوجود) هذا من اللوازم، وحقيقة الألوهية كونه معبودًا بحق. قوله: (ويلزم منه استغناؤه إلخ) السنوسي فسَّر الألوهية بهذين الشيئين، وأخذ ما عداهما منهما، والشارح فَعَلَ ما فَعَلَ ولم يظهر له وجه" (¬3). وقال البيجوري في حواشيه على الجوهرة: "فحقيقة الإله المعبودُ ¬

_ (¬1) المطول: (ص 216) نشرة د. عبد الحميد هنداوي. (¬2) ما زال مخطوطًا. (¬3) شرح عبد السلام للجوهرة لوالده ص 117. [المؤلف]

بحق، ويلزم منه أنه مستغنٍ عن كلَّ ما سواه، ومفتقر إليه كلُّ ما عداه ... فتفسير السنوسي الذي ذكره في الصغرى باللازم لا بالحقيقة" (¬1). أقول وأسأل الله التوفيق: أما وجوب الوجود فالأمم كلُّها لا تشرك فيه حتى الثنويَّة، والنقل عنهم مضطرب، وغالبهم يقول بحدوث الذي يقولون بأنه خالق الشر، ومَن قال منهم بقدمه فالقِدَم عندهم لا يستلزم وجوب الوجود. وفي نهاية الإقدام للشهرستاني المطبوع بإسلامبول: "القاعدة الثالثة في التوحيد ... وهذه المسألة مقصورة على استحالة وجود إلهين يثبت لكلَّ واحدٍ منهما من خصائص الإلهية ما ثبت للثاني، ولست أعرف صاحب مقالة صار إلى هذا المذهب؛ [114] لأن الثنويَّة وإن صارت إلى إثبات قديمين لم تثبت لأحدهما ما ثبت للثاني من كلَّ وجه. والفلاسفة وإن قضوا بكون العقل والنفس أزليَّيْن، وقضوا بكون الحركات سرمديَّة، لم يُثْبِتُوا للمعلول خصائص العلَّة، كيف وأحدهما علّة والثاني معلول. والصابئة وإن أثبتوا كون الروحانيين والهياكل أزليَّة سرمديَّة (¬2) مدبَّرة لهذا العالم وسمَّوها أربابًا وآلهة فلم يثبتوا فيها خصائص رب الأرباب. ودلالة التمانع في القرآن مسرودة على من يُثْبِت خالقًا من دون الله سبحانه وتعالى، قال الله تعالى: {إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} [المؤمنون: 91]. وعن هذا صار أبو الحسن [الأشعري] رحمه الله إلى أنَّ أخصَّ وصف الإله هو القدرة على ¬

_ (¬1) حواشي البيجوري على الجوهرة ص 68. [المؤلف]. وانظر: أم البراهين ضمن مجموع المتون 7 - 8. (¬2) سيأتي في عبارة الشهرستاني نفسه في الملل والنحل أنَّ القوم لم يعتقدوا قِدَم الروحانيات. [المؤلف]

الاختراع فلا يشاركه فيه غيره، ومَن أثبت فيه شركة فقد أثبت إلهين" (¬1). وسيأتي ما فيه قريبًا إن شاء الله تعالى. نعم مَنْ قال من النصارى: إن الله - تعالى عما يقولون - عبارة عن ثلاثة أقانيم انفصل أحدها حتى حلَّ في جسد عيسى عليه السلام، يلزمه الشرك في وجوب الوجود، ولكن لهم خبط شديد لعلَّه يأتي بعضه. ورأيت في ترجمة الكِنْدِيِّ الفيلسوف [115] أن له رسالة في بيان أن الأمم جميعها موحِّدون، كأنه يريد توحيد وجوب الوجود. وكتابُ الله تعالى مع شهادته على كثير من الأمم بالشرك ينفي عنهم الشرك في وجوب الوجود. وسيأتي إن شاء الله تعالى إيضاح ذلك مفصَّلًا في الكلام على شرك قوم نوح وقوم إبراهيم وقوم هود وقوم صالح، والمصريين في عهد إبراهيم، ثم في عهد يوسف، ثم في عهد موسى، حتى إن فرعون نفسه لم يشرك في وجوب الوجود. وكذلك مشركو العرب الذين بُعِثَ فيهم خاتم الأنبياء - عليه وعلى إخوانه من النبيين وآل كلًّ منهم صلوات الله وسلامه - شهد عليهم القرآن باعترافهم بأن الله عزَّ وجلَّ هو الذي يرزقهم من السماء والأرض، والذي يملك السمع والأبصار، والذي يخرج الحي من الميت والذي يخرج الميت من الحي، والذي يدبر الأمر، والذي له السموات والأرض، وأنه رب السموات السبع ورب العرش العظيم، وأنه بيده ملكوت كل شيء وأنه هو ¬

_ (¬1) نهاية الإقدام 1/ 90 - 91. [المؤلف]

يجير ولا يجار عليه، وأنه هو الذي خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر، وأنه هو الذي ينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها، وأنه العزيز العليم، إلى غير ذلك، وسيأتي - إن شاء الله تعالى - سياق الآيات في ذلك. [116] وأخبر الله تعالى عنهم بقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [النحل: 35]، وآيات أخرى بهذا المعنى سيأتي - إن شاء الله تعالى - ذكرها مع بيان حجة الله البالغة في رَدَّ شبهتهم. وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18]. وقال عزَّ وجلَّ: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر: 3]. وقال سبحانه: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً} [الأحقاف: 27، 28]. ذكر الراغب وغيره أن القربان هو من يتقرب بخدمته إلى الْمَلِك يستوي فيه الواحد والجمع (¬1) - أي لأنه في الأصل مصدر -, فيكون هذا كقولهم: ¬

_ (¬1) المفردات 664.

{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]. فهذه الأمم التي ثبت أنها لم تكن تشرك في وجوب الوجود هي التي [117] ملئ القرآن بالإخبار عنها أنها كانت تشرك في الألوهية وتتخذ من دون الله آلهة، وعنهم أخبر الله تعالى بأنه أرسل إليهم رسله يدعونهم إلى لا إله إلا الله، فاستكبروا عن ذلك وأعظموه، قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات: 35]، وقال عزَّ وجلَّ: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 4، 5] وكانت الرسل تكتفي منهم بلا إله إلا الله، فمن قاله فقد برئ من الشرك، فأيُّ ريب يبقى في أن توحيد الألوهية غير توحيد وجوب الوجود، وأن معنى (إله) غير معنى واجب الوجود؟ وكيف يُعْقَل أن يكون معنى (إله) هو معنى واجب الوجود، وهم يؤلَّهون أحجارًا ينحتونها بأيديهم، وأشجارًا قد علموا أنها لم تكن قبلُ نابتةً ثم نبَتَتْ، ومعادن تصاغ أمام أعينهم؟! وأما قول السنوسي: إن معنى (إله): المستغني عن كلِّ ما سواه المفتقر إليه كلُّ ما عداه، فقد تقدَّم أنه تفسير باللازم؛ على أن في كلام السَّعْد المتقدِّم ما يدلُّ على إنكاره هذا اللزوم. وفيما تقدَّم في الكلام على إبطال أن يكون معنى (إله) هو معنى واجب الوجود ما يُعْلَمُ منه إبطالُ أن يكون [118] معنى (إله): المستغني عن كلِّ ما سواه المفتقر إليه كلُّ ما عداه. فأما كون هذا المعنى ملازمًا له فحقٌّ ولكن المشركين لا يعترفون بهذه الملازمة، وسيأتي قريبًا نصُّ ابن عبد السلام وغيره على ذلك، ولذلك يؤلَّهون المخلوقات والجمادات مع علمهم باحتياجها وافتقارها واعترافهم بذلك.

واعلم أن المتكلمين تبعوا الحكماء في الكلام على توحيد وجوب الوجود، وأرادوا أن يعبَّروا بعبارة شرعية فاختاروا كلمة (إله)؛ لأنَّ الشارع جعلها عَلَمًا للتوحيد الآخر في لا إله إلا الله، وبنى الملازمة عليها في قوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، وغيرها ممّا سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى. ورأوا أن الشرع خصَّ الألوهية بالله عزَّ وجلَّ، وكثيرًا ما يحتجّ على ذلك بالعقل، فدلَّهم ذلك على أن بَيْنَ الألوهية ووجوب الوجود ملازمةً، وهذا حقٌّ في نفسه، وكذلك الملازمة بين الألوهية والاستغناء المطلق كما مرَّ. ولا يلزم من التلازم في نفس الأمر اتحاد المعنى ولا التلازم في الاعتقاد، فإن عدم الألوهية ملازم لغير الله عزَّ وجلَّ في نفس الأمر، مع أن المشركين يعتقدون في أوثانهم مثلًا أنها آلهة ولا يعتقدون أنها هي الله. وإطلاق أحد المتلازمين على الآخر شائع ذائع. ولكن المتكلمين سكتوا عن إيضاح توحيد الألوهية الحقيقيِّ مع أن الضرورة إليه أشدُّ؛ لِمَا تقدَّم أنَّ عامَّة الأمم تعترف بوحدانية وجوب الوجود وإنما تنكر توحيد الألوهية، والأمم التي بعثت إليها الرسل كذلك، وعلى ذلك الأمم الباقية على الشرك إلى يومنا هذا، ومعلوم أن تلك الأمم لا تعترف باستلزام وحدانيَّة وجوب الوجود لوحدانية الألوهية، فكان على المتكلمين أن يُبَيَّنوا وجه الملازمة، [119]، وُيمْعِنُوا فيه، كيف لا وعليهم اتَّكَال أكثرِ الأمَّة في بيان العقائد، وقد جعلوا التوحيد عَلَمًا لهم حتى سُمَّيَ علمُ الكلام علمَ التوحيد، فكيف لا تتَّكِل الأمَّة في بيان التوحيد على علماء التوحيد؟ ولكنهم ويا للأسف أغفلوا التوحيد الذي بُنِيَتْ عليه الشرائع وبه

أُرْسِلت الرسل، والمسلمون بغاية الضرورة إلى معرفته، وهو محور الخلاف والنزاع والقتال والجدال = أغفلوا هذا واشتغلوا بغيره. نعم فَسَّر بعضُهم الألوهية باستحقاق العبادة، ولكن العبادة أيضًا كلمة مشتبهة فلم يبيِّنوا معناها ولا تكلّموا في بيان اختصاص الله عزَّ وجلَّ باستحقاقها. ولعلَّ السبب في إهمالهم الكلامَ على توحيد الألوهية الحقيقيِّ أنهم لم يجدوا للفلاسفة كلامًا فيه، كيف وعامَّة الفلاسفة مشركون يعبدون الأرواح والكواكب والأوثان، وظنَّ المتكلمون كما صرَّح به بعضهم وتقدَّم في آخر ما نقلناه عن شرح المقاصد أن وحدانية استحقاق العبادة لا يدلُّ عليه العقل وإنما هو (¬1) شرعيٌّ محض. [120] فتقصير المتكلمين في هذه المسألة من أعظم أسباب الاشتباه فيها؛ لأن مَنْ أراد البحث عنها فَزِعَ إلى ما سَمَّوْهُ علمَ التوحيد؛ لاعتقاده أنه متكفِّل بمسائل العقائد، ولا سيما مسألة التوحيد، فوجد فيه الكلام في وحدانية وجوب الوجود مُعَنْوَنَة بوحدانية الألوهية، ووجد بعضَهم قد صرَّح بأنَّ معنى الإله هو معنى واجب الوجود أو نحوه، فظنَّ أن ذلك معنى الإله حقيقة. فإن شكَّكه في ذلك قول بعضهم: إن معنى الإله هو: المستحق للعبادة، توهَّم أن العمل لا يكون عبادة إلا مع اعتقاد أن المعبود واجب الوجود أو نحو ذلك، وإلَّا لمَا أهمل علماءُ التوحيد الكلامَ عليها. ومن العجائب أنك تجد في هذا العصر كثيرًا من طلبة العلم - إن لم أقل ¬

_ (¬1) أي الاستحقاق.

مِنَ العلماء - يتوهَّمون أن المشركين يعتقدون في الأصنام من أشجار وأحجار وغيرها أنها واجبة الوجود قادرة على كلَّ شيء خالقة رازقة مدبِّرة للعالَم. ولقد كَلَّمْتُ بعضهم في شأن الوثنيَّين من أهل الهند وقولهم في الأصنام، فقال: إذا كان هذا قولهم في الأصنام فليسوا بمشركين!! وحجته أنهم لم يخالفوا التوحيد الذي حقَّقه علماء التوحيد، وهكذا غلب [121] الجهلُ بمعنى لا إله إلا الله، والغلطُ فيه وفي حقيقة الشرك الذي بعث الله عزَّ وجلَّ رسله لإبطاله، فإنا لله وإنا إليه راجعون. واعلم أن كلمة "واجب الوجود" لم ترد في الشرع، وأقربُ ما يؤدِّي معناها من الأسماء الحسنى اسمه تعالى: "الحق". وفي الحديث الصحيح: "أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد: ألا كلُّ شيء مما خلا الله باطل" (¬1) والمراد بالباطل هنا - والله أعلم - ما يُعَبَّر عنه المتكلمون بجائز الوجود أو ممكن الوجود فيكون ضدُّه الحقَّ بمعنى واجب الوجود. ثم رأيت كلام الحافظ ابن حجر على هذا الحديث فرأيت فيه ما لفظه: "والحقُّ على الحقيقة مَنْ لا يجوز عليه الزوال" (¬2). وتمام البيت: وكلُّ نعيم لا محالة زائل ¬

_ (¬1) البخاريّ، كتاب مناقب الأنصار، باب أيَّام الجاهليَّة، 5/ 43، ح 2841. ومسلم، كتاب الشَّعر، 7/ 49، ح 2256 (3). [المؤلف] (¬2) فتح الباري 7/ 104. [المؤلف]

والبيت من قصيدةٍ قالها لبيد في شركه (¬1)، وأنشدها مشركي قريش بعد بعثة النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وكان حاضرهم عثمان بن مظعون بعد إسلامه، فلما أنشد لبيد الشطر الأول قال عثمان: صدقت، ولما أنشد الشطر الثاني قال عثمان: كذبت، إلا نعيمَ الجنة فإنه لا يزول، فغضب لبيد لقوله: كذبت، وغضب له المشركون، وآذوا عثمان رضي الله عنه، ولم ينكر أحد من المشركين قول لبيد: ألا كلُّ شيء ما خلا الله باطل مع قول عثمان: صدقت (¬2). وقد يؤخذ من كلام بعضهم أن المعنى الحقيقي لـ (إله) هو المدبَّر استقلالًا، وإليه يرجع فيما يظهر ما نقله الشهرستاني في نهاية الإقدام عن الأشعري، وقد مرَّ. [122] ولا يخفى أن الاستقلال التامَّ إنما يكون لواجب الوجود، وقد مرَّ الكلام عليه. فأما ما دون ذلك فمنه ما يقوله بعض الثنوية في الشيطان: إنه يعمل ما يعمل ولا يستطيع الله - تعالى الله عما يقولون - مَنْعَه في كثير من الأحوال. ولا أدري ما صحَّةُ هذا النقل عنهم، فإن مقالتهم مضطربة. ¬

_ (¬1) انظر: ديوانه (254 - 266) نشرة إحسان عباس. (¬2) انظر: سيرة ابن هشام 1/ 200 - 201، وفتح الباري 7/ 104 - 105 [المؤلف]. وأخرجه الطبراني في الكبير 9/ 24 من مرسل عروة. وأبو نعيم في معرفة الصحابة 4/ 1954 - 1956 ح 4915 من مرسل الزهري.

ومنه قول بعض الفلاسفة: إن في العالم موجودات يُسَمُّونها العقول العليا، وإنها تدبر الكون بدون علم من الله عزَّ وجلَّ؛ لزعمهم أنه سبحانه لا يعلم الجزئيات. وفي صحة هذا عنهم مقال، ففي كلام ابن رشد الحفيد آخِرَ كتابه تهافت التهافت إنكارُ كون هذا اعتقادَ الفلاسفة (¬1). ومنه ما يُحْكى عن الصابئة، قال الشهرستاني في كتابه الملل والنحل: "فإن عندهم أن الإبداع الخاصَّ بالرب تعالى هو اختراع الروحانيات ثم تفويض أمور العالم العلوي إليها، والفعل الخاص بالروحانيات هو تحريك الهياكل (الكواكب) ثم تفويض العالم السفلي إليها، كمن يبني معملة وينصب أركانًا للعمل من الفاعل والمادَّة والآلة والصورة وتفوَيض العمل إلى التلامذة" (¬2). فأما الأولان فلم يقل بهما أحد عن الأمم التي أخبر الله عزَّ وجلَّ بأنها أشركت في الألوهيَّة وبعث إليها رُسُلَه بـ "لا إله إلا الله"، وقد مرَّ شيء من بيان ذلك. [123] وسيأتي إيضاحه مفصّلًا إن شاء الله تعالى. وأما الثالث - أعني ما حكي عن الصابئة - فالحكايات عنهم مضطربة، وقد حكى الشهرستاني عنهم في موضع آخر ما يخالف ما تقدَّم أو يُبَيِّنه. قال في أول الكلام على الصابئة: "ومذهب هؤلاء أن للعالم صانعًا فاطرًا حكيمًا مقدَّسًا عن سمات الحدثان، والواجب علينا معرفة العجز عن الوصول إلى جلاله، وإنما يتقرب إليه بالمتوسطات المقربين لديه، وهم الروحانيون المطهَّرون المقدَّسون جوهرًا وفعلًا وحالة ... وقد جُبِلوا على ¬

_ (¬1) انظر: تهافت التهافت ص110 (ط الحلبي). (¬2) الملل والنحل 2/ 128. [المؤلف]

الطهارة وفُطِرُوا على التقديس والتسبيح لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ... فنحن نتقرَّب إليهم ونتوكَّلُ عليهم، فَهُمْ أربابنا وآلهتنا ووسائلنا ... حتى يحصل مناسبةٌ ما بيننا وبين الروحانيات، فنسأل حاجاتنا منهم ونَعرض أحوالنا عليهم ونصبو في جميع أمورنا إليهم، فيشفعون لنا إلى خالقنا وخالقهم ورازقنا ورازقهم ... وأما الفعل فقالوا: الروحانيات هم الأسباب المتوسطون في الاختراع والإيجاد وتصريف الأمور من حالٍ إلى حالٍ، وتوجيه المخلوقات من مبدأ إلى كمال، يستمدون القوة من الحضرة الإلهية القدسية، ويُفيْضون الفيض على [124] الموجودات السفلية ... وأما الحالة فأحوال الروحانيات ... ثم طعامهم وشرابهم التسبيح والتقديس والتمجيد والتهليل وأنسهم بذكر الله تعالى وطاعته، فمِن قائمٍ ومِن راكع ومن ساجد ... {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] " (¬1). فيظهر مما ذكر هنا أن القوم لم يدَّعوا للروحانيين تدبيرًا مستقلًّا. وبعدُ، فقد علمت شهادة الله عزَّ وجلَّ على المشركين بأنهم يعترفون بأن الله عزَّ وجلَّ هو الذي يدبِّر الأمر والذي يرزقهم من السماء والأرض وغير ذلك، وقد أخبر الله تعالى عن كثير من الأمم أنهم اتخذوا الأصنام آلهة، واتخذوا الشياطين آلهة، واتخذوا الهوى إلهًا، واتخذوا الأحبار والرهبان أربابًا وآلهة، مع أنهم لم يعتقدوا لشيء من ذلك التدبير المستقل. وسيأتي إيضاح ذلك مفصَّلًا إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) الملل والنحل 2/ 95 - 98 بهامش الفصل في الملل والنحل لابن حزم.

ولعلَّ مراد الشهرستاني والأشعريَّ مِن قبله ومَن يؤخذ من كلامه موافقتُهما أن الخلق والتدبير استقلالًا مناط الألوهية، بمعنى أن الموجود إذا كان متصفًا بذلك استحق أن يكون إلهًا، ومَن وصف شيئًا بذلك لزمه إثبات الألوهية له. وعليه فلا يُفْهَمْ من كلامهم أن ذلك معنى الألوهية، ولا أنَّ مَنْ لم يعتقد في شيء أنه كذلك لا يمكن أن يعتقد له الألوهية، فتدبَّر. فقد ثبت بما تقدم أن اتخاذ الشيء إلهًا لا يتوقف على اعتقاد كونه واجبَ الوجود، ولا اعتقاد كونه مستغنيًا عما سواه، ولا كونه مدبَّرًا مستقلًّا، بل ولا غير مستقلًّ؛ فإن الذين ألَّهوا الأصنام لم يعتقدوا لها شيئًا من التدبير كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، واتضح لك أن عبارات المتكلمين التي تُوهِم خلاف ما ذكرنا لا تخالفه في الحقيقة، ولله الحمد. وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام في كتابه (الإشارة والإيجاز إلى أنواع المجاز) عند ذكر قول الله عزَّ وجلَّ حكاية عن قول المشركين يوم القيامة لآلهتهم: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97، 98] ما لفظه: "وما سَوَّوهم به إلا في العبادة والمحبة دون أوصاف الكمال ونعوت الجلال" (¬1). وقال أبو السعود الرومي (¬2) في قوله الله تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} [النمل: 64]: "أي هاتوا برهانًا عقليًّا أو نقليًّا يدلُّ على أن معه تعالى إلهًا، لا على أن غيره تعالى يقدر على شيء مما ذُكِرَ من أفعاله تعالى ¬

_ (¬1) الإشارة ص 55. [المؤلف] (¬2) تفسير أبي السعود 6/ 296.

كما قيل، فإنهم لا يدَّعونه صريحًا، ولا يلتزمون كونه من لوازم الألوهية وإن كان منها في الحقيقة، فمطالبتهم بالبرهان عليه لا على صريح دعواهم مما لا وجه له". [125] الذي يدل عليه القرآن أن التدبير بالخلق والرزق ونحوهما على سبيل الاستقلال هو الذي ينبغي أن يكون مناطًا للألوهية، فمَن لم يكن كذلك لم يَنْبَغِ أن يُتَّخَذَ إلهًا، وأعني بالتدبير المستقلِّ: أن يكون المدبِّر ذا قدرة مطلقة، بحيث لا يكون فوقه قادرٌ محيط به علمًا وقدرة، يعلم جميع أحواله ويمنعه إذا أحبَّ ويغني عنه إذا أراد، أو يكون فوقه قادر كذلك ولكنَّ الأعلى فَوَّضَ الأمرَ إلى الأدنى مطلقًا يتصرَّف كيف يشاء. قال الله تبارك وتعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} [الأعراف: 191، 192]. وقال عزَّ وجلَّ: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ... وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [النحل: 17 - 20]. وقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج: 73]. وقال جلّ ذكره: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [126] وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا} [الفرقان: 3].

وقال عزَّ من قائل: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الرعد: 16]. وقال سبحانه: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [لقمان: 11]. وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا} [فاطر: 40]. وقال جلَّ ذكره: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأحقاف: 4]. والآيات في هذا المعنى كثيرة، وفي أكثرها ما يزيدك بصيرة بما قدَّمناه [127] أنَّ عامَّة المشركين لا يعتقدون لشركائهم تدبيرًا مستقلًّا، ولذلك قامت عليهم الحجة بهذه الآيات. ولكن من الأمم مَنْ يُشْرِكُ الروحانيين زاعمًا أنه كما أن للبشر قدرة يتصرفون بها على حسب اختيارهم فينفعون ويضرون ويغيثون ويعينون ويقتلون ويستحيون ونحو ذلك مما هو مشاهد، فللروحانيين قدرة يتصرفون بها على حسب اختيارهم وهي أعظم وأكمل من قدرة البشر. قالوا: وكلا (¬1) القدرتين مخلوقة لله عزَّ وجلَّ وممنوحة منه، وإذا ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، والوجه: كلتا.

شاء سَلْبَ القدرة من بعض الروحانيين فَعَلَ، كما إذا شاء سَلْبَ القدرة مِنْ بعض البشر. قالوا: فنحن نؤلِّه الروحانيين ونعبدهم لينفعونا بهذه القدرة الموهوبة لهم من الله عزَّ وجلَّ، كما أن البشر يعظَّم بعضُهم بعضًا ويخضعُ بعضُهم لبعض رغبةً في منفعة أو خشيةً من مضرَّة مع العلم بأن قدرة البشر موهوبة لهم من الله عزَّ وجلَّ. ومِنْ هؤلاء عامَّةُ وَثَنِيَّي الهند وغيرهم. [128] فاحتجَّ القرآن على هؤلاء وغيرهم بقوله عزَّ وجلَّ: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 19 - 29] وقوله جل ذكره: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) [129] بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا

كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 84 - 91] وقوله تبارك وتعالى: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39) أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41) قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 39 - 44]. وتقرير هذا البرهان: أنه لو كان مع الله تعالى أحياء يدبِّرُ كلٌّ منهم الخلق والرزق ونحوهما من الأمور العظمى في العالم تدبيرًا مستقلًّا [130] لاختلفوا، وإذا اختلفوا فسدت السموات والأرض، كما أن الأمور الصغيرة التي يدبِّرها الناس مستمرة الفساد. ولا ريب أن قدرة الناس لو تتناول نحو إنزال المطر ومنعِه، وإرسال الرياح وحبسها، وتيسير (¬1) الهواء ورفعه، وتحريك الزلازل ونحو ذلك؛ لكان الفساد أظهر، ومعلوم بالمشاهدة أن الأمور العظمى لا يتطرَّق إليها الفساد، وما قد يظهر في بعضها مما يُتَوهَّم فسادًا تُعْلَم مصلحته عند التدبُّر. فعلم بذلك أنه ليس في العالم مع الله تعالى أحياء كلٌّ منهم يدبِّر تدبيرًا مستقلًّا. والمراد بالآلهة هنا الجنس، أي واحد مع الله فأكثر؛ لأن الفساد كما يلزم من وجود ثلاثة مثلًا مع الله يَلْزَمُ من وجود اثنين وواحدٍ أيضًا. ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولعله: "تسيير".

وقد علم من هذا البرهان إبطالُ ما يزعمه المشركون من أن الملائكة متمكِّنون من التصرُّف بهواهم واختيارهم كالبشر، وبيان ذلك: أن الفساد كما يلزم من تصرُّفهم بهواهم واختيارهم بناءً على أنهم مدبِّرون استقلالًا، فكذلك يلزم من تصرُّفهم بهواهم واختيارهم بناء على أن الله عزَّ وجلَّ مَكَّن لهم في ذلك كما مكَّن للبشر في الأرض؛ فإنّ تصرُّف البشر يحدُثُ منه الفسادُ قطعًا، وذلك معلومٌ بالمشاهدة، ولو تناولت قدرتُهم الأمورَ العظمى ومُكِّنوا من التصرُّف فيها تمكينَهم من الصغرى لظهر الفساد فيها حتمًا. وبهذا التقرير اجْتُثَّتْ شبهةُ المشركين من أصلها، فلم يبق حاجةٌ إلى بيان أنه لو فُرِضَ أنَّ الملائكة مُمَكَّنون من التصرف تمكين البشر لم يستحقُّوا أن يُعْبَدُوا، مع أن القرآن قد بَيَّنَ هذا في مواضع، منها قوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر: 36 - 38]. وتقريره: أنه إذا ثبت أن الله عزَّ وجلَّ محيطٌ بالملائكة قدرةً وعلمًا ومهيمنٌ عليهم في جميع أعمالهم، فلا يستطيعون نفع أحد يقضي الله ضرَّه ولا ضرَّ أحد يقضي الله نفعَه، ولا أن ينالوا أحدًا بشيء لا يقضيه الله تعالى له، فلم يبق معنىً لإشراكهم معه سبحانه في العبادة. فأما عدم التشديد على الناس في خضوع بعضهم لبعض فإنما ذلك فيما لم يكن عبادة على ما يأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى.

والناس في هذه الدار مغمورون بالحسَّيات والعاديَّات، حتى إنَّ الإنسان يجد بحسب الظاهر أن سؤاله إنسانًا مثله أقربُ إلى حصول غرضه من الاقتصار على سؤال الله عزَّ وجلَّ، وتوجيهُ ذلك معروفٌ في العقل والدين، ولكن الإنسان يصعب عليه أن يقتصر في أعماله على مقتضى العقل والدين لغلبة الحسّ والعادة عليه. هذا مع أن كثيرًا من الأحكام الشرعية أو أكثرها كالمبنيَّ على هذه الأمور العادية، ألا ترى أنه ليس للإنسان أن يتناول السُّمَّ أو يمتنع من الطعام والشراب أو يمتنع من العمل بطاعة الله تعالى والكفَّ عن معاصيه قائلًا: ما سبق في علم الله فهو كائن لا محالة ففيم العناء؟ فأما حال الملائكة فإنه مخالف لحال البشر؛ فليس هناك حسٌّ ولا عادة يوهم بظاهره أن الالتجاء إلى الملائكة أقربُ في حصول المقصود من الالتجاء إلى الله عزَّ وجلَّ، بل الأمر بالعكس، كما يدلُّ عليه حالُ المشركين حيث كانوا عند الشدائد يدعون الله عزَّ وجلَّ وحده، وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى. وبهذا التقرير يُعْلَمُ أن الجن وأرواح الموتى كالملائكة، ولا سيما إذا ثبت أن دعاء الجن وأرواح الموتى عبادة، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى. هذا مع أن ما أشرنا إليه من عدم التشديد على الناس في خضوع بعضهم لبعض ليس معناه أن ذلك مباح لهم مطلقًا، بل فيه تفصيلٌ سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى. واعلم أن البرهان المتقدِّم - أي: لو كان مع الله تعالى أحياء إلخ - هو برهان التمانع المشهور بين المتكلمين، ولهم في تقريره خبط طويل، والذي

ذكرته هو الذي يقتضيه القرآن. وعلى هذا البرهان تشكيكاتٌ ترجع إلى التحيُّر في وجه لزوم الاختلاف على سبيل القطع؛ لأنه لِمَ لا يجوز اتفاق الآلهة؟ كيف والمفروض أنهم كاملون في العلم والحكمة، والعدل والرحمة، والأمورُ التي تقتضيها هذه الصفات لا يُتَصَوَّرُ اختلافُها؟ والجواب: أن هذا البرهان مَسُوقٌ في مقابلة الأمم التي تَدَّعِي للروحانيين تدبيرًا كما مرَّ، وسياق الآيات واضح في ذلك. وهذه الأمم كما يُعْلَم [131] من ديانة اليونان والهند وغيرهم تثبت للروحانيين الاختلاف بينهم والنزاع وعدم إحاطة العلم، بل لا تكاد تميزهم عن البشر إلا بأنهم أعظم قدرةً، فثبت بذلك لزوم الفساد قطعًا. بل وثبت لزوم الفساد من جهةٍ أخرى، وهي: أن الصفات التي تثبتها تلك الأمم للروحانيين لا تكفي لإتقان تدبير العالم على مقتضى العدل والحكمة، فلو كان واحدٌ منهم فقط هو المدبر باختياره لفسد العالم، وهكذا لو كان واحد منهم يدبر العالم مع الله تعالى والله تعالى مُطْلِقٌ له العنان يفعل ما يشاء ويهوى، فإن تدبير الله تعالى يقتضي في الإحكام وإتقان النظام، وتدبير ذلك الروحاني يقتضي الفساد على ما علمت، فيصبح العالَمُ كما قال عَبِيد بن الأبرص: عيُّوا بأمرهم كما ... عيَّتْ ببيضتها الحمامه جعلت لها عودين من ... نَشَمٍ وآخر مِنْ ثمامه (¬1) [132] ولعله قد تبيَّن بهذا معنى قوله تعالى: {إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ ¬

_ (¬1) ديوان عبيد بن الأبرص 126.

ِسَبِيلًا} [الإسراء: 42] على القول بأن هذا إشارة إلى التمانع كالآيتين الأخريين، فيكون المعنى - والله أعلم -: لابتغوا إلى تدبير ذي العرش المقتضي للإحكام والإتقان سبيلًا بالإفساد، فيقع الفساد. والراجح في تفسير الآية ما قاله ابن جرير: "يقول تعالى ذكره لنبيه محمَّد - صلى الله عليه وسلم -: قل يا محمَّد لهؤلاء المشركين الذين جعلوا مع الله إلهًا آخر: لو كان الأمر كما تقولون من أن معه آلهة - وليس ذلك كما تقولون - إذًا لابتغت تلك الآلهة القربة من الله ذي العرش العظيم، والتمست الزلفة إليه والمرتبة منه، كما حدثنا بشر قال: ثنا يزيد قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} [الإسراء: 42]، يقول: لوكان معه آلهة إذًا لعرفوا فضله ومرتبته ومنزلته عليهم فابتغوا ما يقرِّبهم إليه، حدثنا محمَّد بن عبد الأعلى، قال ثنا محمَّد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، {إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا}، قال: لابتغوا القرب إليه مع أنه ليس كما يقولون" (¬1). وروى غيره نحوه عن مجاهد، وروى عن سعيد بن جبير ما يوافق الأول. ويحتمل أن يقال: لو كان مع الله [133] آلهة كائنة كما يقولون من أنهم بنات الله وغير ذلك من الصفات التي يصفون شركاءهم بها، إذًا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلًا، بأن ينازعوه في ملكه؛ لأن الولد تكون له خصائص أبيه وإن تأخر وجوده عنه. ¬

_ (¬1) تفسير ابن جرير 15/ 61. [المؤلف]

وهذا معنىً آخر غير برهان التمانع المتقدَّم، وإنما هو تنبيهٌ لمشركي العرب على عظم غلطهم؛ فإنهم كانوا يلتزمون أنه لا يجوز أن يكون لله عزَّ وجلَّ منازع، وكأنهم إنما نسبوا لله تعالى الولد لما استقرَّ في أذهانهم من أن العقم عيب. قال علقمة بن علاثة لعامر بن الطفيل يفخر عليه: "إني لولودٌ، وإنك لعاقرٌ" (¬1). وقال عامرٌ نفسه: لبئس الفتى إن كنتُ أعور عاقرًا ... جبانًا فلا أغني لدى كلَّ مشهد (¬2) وأمرهم في ذلك معروفٌ، فقاسوا رب العزة على الناس في أن العقم يكون عيبًا في حقه، فأثبتوا له الولد لينزهوه بزعمهم، ولما علموا أن إثبات الولد يلزم منه إثبات المنازع جعلوا ذلك الولد إناثًا بناء على ما أَلِفوه واعتادوه أن الإناث ضعاف عواجز، وفاتهم أن ضعفهن وعجزهن لا يبلغ أن يمنعهنَّ من النزاع البتة. ولعلَّ المعنى الذي تقدَّم عن قتادة ومجاهد ولم يذكر ابن جرير غيره أقربُ؛ فإن قوله: [134] {إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا}، يتبادر منه الطاعة، وقد جاء نحوه في القرآن بمعنى الطاعة، وهو قوله تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} [الفرقان: 57]، وقوله عزَّ وجلَّ: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} [المزمل: 19، والإنسان: 29]. ¬

_ (¬1) انظر: صبح الأعشى للقلقشندي 1/ 438، وخزانة الأدب للبغدادي 8/ 260. (¬2) ديوانه ص 64، المفضليات 362، أنساب الخيل في الجاهلية والإِسلام وأخبارها لابن الكلبي ص 64، الشِّعر والشعراء 1/ 334. والرواية في الديوان والمصادر الأخرى: فما عذري لدى كلِّ محضر، والقصيدة رائية، فلعلَّ ما هنا سهو.

فإن قيل: فإن القرآن نفسه يثبت للملائكة قدرة وتصريفًا في الكون، فالجواب: نعم ولكنه بيَّن أنهم ليسوا كما يزعم بعض الأمم يتصرفون باختيارهم كتصرف الناس، فقد مرَّ في سياق آية التمانع قوله تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)}. إلى قوله سبحانه: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 19 - 27]. وقال جلَّ ذكره: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 49 - 50]. وقال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ [135] مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]. وأخرج الحاكم في المستدرك وقال: "صحيح"، وأقره الذهبي، عن ابن عمر قال: جاء رجل إلى النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فقال: يا رسول الله أيُّ البقاع خير؟ قال: "لا أدري"، قال: أيُّ البقاع شرٌّ؟ قال: "لا أدري"، فأتاه جبريل فقال: سل ربك، فقال: ما نسأله عن شيء. فانتفض جبريل انتفاضةً كاد أن يُصعَق منها محمدٌ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فلما صعد جبريل قال الله تعالى: سألك محمَّد أيُّ البقاع خير وشرٌّ؟ فقال: نعم، قال: فحدِّثه أن خير البقاع المساجد وأن شر البقاع الأسواق (¬1). ¬

_ (¬1) المستدرك، كتاب البيوع، "إن من أشراط الساعة أن يفيض المال ويكثر الجهل"، =

[136] ويكفي في هذا المعنى قوله تعالى: {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 27]؛ فإن (يسبقون) فعلٌ في سياق النفي فيعمُّ، وفاعله ضمير جمع فيعمُّ، و (القول) اسم جنس معرَّف فيعمُّ، وتقديم (بأمره) على (يعملون) يقتضي الحصر، والحصر يستلزم العموم، وتقدير الحصر هكذا: (لا يعملون إلا بأمره)، فيكون (يعملون) عامًّا لما مرّ في (يسبقون). وفيه دليل آخر على العموم وهو حذف المعمول. فتلخيص المعنى هكذا: لا ينبسُ أحدٌ منهم بكلمةٍ إلا بَعْدَ أن يأذن له الله تعالى، ولا يكون مِنْ أحدٍ منهم شيءٌ من العمل إلا بأمر الله تعالى. وربما يخطر للقارئ احتمال أن يكون هذا من نمط القَدَرِ. وهو غلط. أما في قوله: {وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} فظاهرٌ؛ إذ الأمر غير القَدَر، ولا قائل بأنه لا يكون من الناس عملٌ إلا بأمر الله تعالى كما يقال بقدر الله تعالى، وأما الإذن فإنما أردنا منه الإذن الخاص (¬1) وهو الذي في نحو قوله تعالى: {آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59]. وإنما قدَّرناه اقتداء بقول الله تعالى في آية الكرسي: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] , والشفاعة قولٌ، والمغزى من القول في قوله: ¬

_ = 2/ 7 - 8, ورواه البيهقي في السنن مطوَّلًا. سنن البيهقيّ، كتاب النكاح، بابٌ كان لا ينطق عن الهوى ... , 7/ 50 - 51. [المؤلف]. وصححه ابن حبان (1599)، وقال الذهبي في العلو ص 99 ح 238: حديث غريب صالح الإسناد، وقال البوصيري في إتحاف الخيرة 2/ 28 ح 969: في الحكم بصحته نظر ... ". وروي من وجوه أخرى. (¬1) سيأتي بيان الفرق بين الإذن الخاص والإذن العام إن شاء الله تعالى. [المؤلف]. انظر ص 818 - 823.

{لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ} الشفاعة، ولدفع هذا الاشتباه [137] قال تعالى: {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 27 - 28]. فاتضح بذلك أن المراد الإذن المصحوب بالارتضاء. هذا، والقول عمل على رأي بعض أهل العلم، فهو داخل في عموم قوله: {وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}. وإنما خصَّ القول والشفاعة بالذكر بعد دخول ذلك في عموم الفعل لأن مشركي العرب وبعض الأمم الأخرى يعترفون بموجب برهان التمانع كما مرَّ قبل آية التمانع الثانية، وإنما يَتَشَبَّثُونَ بأن الملائكة يشفعون إلى الله تعالى ويقرَّبون إليه بالشفاعة عنده، ويقولون: إن ذلك كافٍ أن يكون مناطًا للألوهية، قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18]. وقال تعالى: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الزمر: 3، 4]. [138] وقال عزَّ وجلَّ: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ

وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأحقاف: 27, 28]. قال الراغب وغيره (¬1): القربان الذي يتقرَّب بطاعته إلى المَلِك يستوي فيه الواحد والجمع. واعلم أن برهان التمانع وإن سبق تقريره على وجهٍ لا يظهر منه إبطال تمكن الملائكة من الشفاعة بدون إذن، فالحق أنه يدل على ذلك، وتقرير الدلالة أن يقال: قد ثبت ببرهان التمانع أن الملائكة لا يعملون شيئًا بغير أمر الله تعالى، فلا يخلو أن يكون ذلك لعجزهم بأن لا تكون لهم قدرة ذاتية ولا قدرة مودَعة، وإنما يُقْدِرُهم الله تعالى على ما يأمرهم به، أو يكون للعصمة التامة بأن تكون لهم قدرة أودعها الله تعالى فيهم بحيث يمكنهم أن يعملوا ولكنهم لحفظ الله تعالى إياهم وإجلالهم لربهم ومحبتهم له وخوفهم منه لا يعملون شيئًا إلا بأمره، وأَيًّا ما كان من الاحتمالين فيلزم مثلُ ذلك في القول. فإن قيل: قد يجوز أن يمنعهم ربهم عزَّ وجلَّ من الفعل إلا بأمره، لئلَّا يترتب على فعلهم فساد الكون كما ثبت ببرهان التمانع، ويأذن لهم في [139] القول إذنًا مطلقًا إذ لا يترتب عليه الفساد. فأقول: أفيقبل الله تعالى شفاعتهم حتمًا أم إذا شاء ورضي؟ ولا سبيل إلى الأول وإلاّ لَزِمَ فساد الكون؛ إذ لا فرق بين أن يكونوا مدبِّرين باختيارهم بالفعل أو بالتحكُّم على ربهم، كما أنه لا فرق بين أن يكون في البلدة رؤساء متعددون غير كاملين في العلم والعدل والحكمة، كلُّ واحد منهم يحكم فيها برأيه، وأن يكون في البلدة ملك واحد عالم عادل حكيم هو الذي يحكم ¬

_ (¬1) المفردات: 664، تفسير القرطبي 18/ 218.

ولكن حوله مقربون غير كاملين في العلم والعدل والحكمة يتحكَّمون عليه في تدبير البلدة وهو يوافق كلاًّ منهم على هواه، بل إن هذا الفعل ينفي عن الملك نفسه صفتي العدل والحكمة. وأما الثاني - أعني: أن يكونوا مأذونًا لهم في القول إذنًا مطلقًا والله عزَّ وجلَّ يقبل شفاعتهم إذا شاء ويردُّها إذا شاء - فهَبْ أنه لا برهان على بطلان هذا، فإنه لا برهان على أنه الواقع، ومجرد احتمال أنه الواقع لا يصلح مسوِّغًا لاتخاذهم آلهة من دون الله تعالى، بل لو فُرِضَ ثبوت أنه الواقع فإنه لا يكفي مُسوَّغًا لاتخاذهم آلهة، والفرق بين تعظيم المقربين من ملوك الدنيا ليشفعوا إلى الملوك وبين اتخاذ الملائكة آلهة سيأتي إن شاء الله تعالى. على أننا نقول: قد ثبت ببرهان التمانع أن الملائكة مربوبون والله عزَّ وجلَّ ربهم، [140] ومنصب الربوبية يقتضي ألا يكون للمربوب شيء من الاختيار، وإنما خولف هذا في الجن والإنس في حياتهم الدنيا لأنهم في دور ابتلاء واختبار ولغير ذلك مما يُعْلَم بالتأمل، وفي المحشر لأنهم لما أعيدوا كما كانوا في الحياة الدنيا أعيد لهم ضرب من الاختيار، وفي الجنة لأنها دار كرامة محضة تقتضي إطلاقهم من كل قيد، ونحوُه ما جاء في أرواح الشهداء أنها في أجواف طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت (¬1)، وإكرامها بهذا الضرب من الاختيار لا يستلزم منحها الاختيار المطلق. فأما الملائكة فهم باقون على الأصل. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة, باب بيان أن أرواح الشهداء في الجنة ... ، 6/ 38، ح 1887، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

هب أن هذا الاستدلال لا يفيد القطع، فإن الظن في مثل هذا يوجب التوقُّف، بل إن الشك يقتضي التوقف، بل الوهم كذلك، فأما بعد أن جاء الرسول بما يوافق ذلك الاستدلال فقد اتضح الحق، والحمد لله. واعلم أن الاختيار الممنوح للإنس والجن ليس معناه أن الله عزَّ وجلَّ لا يكفُّهم عن شيءٍ أصلًا. أمَّا على رأي القائلين بأن الله تعالى هو الذي يخلق أفعال العباد كلها فواضح، وأمَّا على رأي المعتزلة ومن وافقهم فلأنهم يقولون: إن الله عزَّ وجلَّ يمنع العبد عن كثير من الأعمال التي تتعلَّق بغيره من العبيد ويحول بينه وبينها، والقرآن مملوء بالدلالة على ذلك، وقد قال تعالى في السحر والسحرة: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 102]، وقال تعالى لرسوله والمؤمنين فيما أصابهم يوم أحد: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 166]. وعلى هذا فكل إنسان مستغنٍ عن التذلُّل لغيره من الناس بالالتجاء إلى الله عزَّ وجلَّ، إلا أنَّ تصرُّف بعضِ الإنس في بعضٍ لمَّا غلب على الحسِّ والعادة وامتزج بالتكليف أقيم له وزنٌ ما في الشرع كما تقدَّمت الإشارة إليه، ولعلَّه يأتي له مزيد في الكلام على الدُّعاء. وأما تصرُّف الجن في الإنس فبخلاف ذلك، ولذلك لم يرخَّص الشرع في شيء من دعاء الجن والتذلل لهم البتة، ومثلهم أرواح الموتى إن قلنا إن لها تصرفًا ما، وسيأتي توضيح المقام في فصل الدعاء إن شاء الله تعالى. والله أعلم. ****

ذكر ما قد يعارض به ما تقدم في شأن الملائكة عليهم السلام والجواب عنه

[141] ذكر ما قد يعارَضُ به ما تقدَّم في شأن الملائكة عليهم السلام والجواب عنه من ذلك قول الله عزَّ وجلَّ في سياق آية التمانع: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 29]. ومنها ما في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)} إلى قوله سبحانه: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة: 30 - 33]. ومنها ما جاء أن إبليس كان من الملائكة. ومنها قصَّة هاروت وماروت. ومنها ما روي أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: "لما أغرق الله فرعون قال: آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل، فقال جبريل: يا محمَّد! فلو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر (¬1) فأدُسُّه في فيه مخافة أن تدركه الرحمة" (¬2). والجواب عن الأوَّل: أن ذلك من باب الفرض، ولا دلالة فيه على الجواز فضلًا عن الوقوع. ونظير الآية قوله تعالى لخاتم أنبيائه صلَّى الله عليه ¬

_ (¬1) أي: طين البحر. (¬2) سيأتي تخريجه.

وآله وسلَّم: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ [142] مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65]، مع آيات أخر قد مر بعضها في أوائل الرسالة. وقد نُقِلَ عن بعض السلف في قوله تعالى: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ} قال: هو إبليس. كذا قال، وسيأتي قريبًا تبرئة الملائكة عليهم السلام من اللعين. والجواب عن الثاني: أن قولهم عليهم السلام: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} كان بعد إذن الله تعالى لهم بأن يقولوا، والإذن مفهوم من إخباره لهم. ألا ترى أن الطبيب الماهر قد يقول لتلميذه المطيع الخاضع العارف بقصور نفسه وكمال الطبيب: سأركِّب من لحوم الحيات معجونًا، فيقول التلميذ: كيف تركِّب معجونًا من هذا السمَّ القاتل، والأدوية الخالية عن السمِّ موجودة؟ فهل تشكُّ أيها الناظر في أنَّ الطبيب إنما أراد بإخبار التلميذ أمره بأن يسأل عن الحكمة فيفيده إياها؟ أو تشك أنَّ التلميذ فَهِمَ هذا الأمر؟ أو أنه إنما أراد بسؤاله استكشاف الحكمة؟ [143] وقد أخرج ابن جرير بسند صحيح عن قتادة قال: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} فاستشار الملائكة في خلق آدم فقالوا {أَتَجْعَلُ ...} (¬1). مراد قتادة بقوله: "فاستشار" لازمه من الإذن بإبداء الرأي. وقال ابن جرير بعد كلام: "وأما دعوى مَنْ زعم أن الله جلَّ ثناؤه كان ¬

_ (¬1) تفسير ابن جرير 1/ 158. [المؤلف].

أَذن لها بالسؤال عن ذلك فَسَأَلَتْهُ على وجه التعجُّب، فدعوى لا دلالة عليها في ظاهر التنزيل ولا خبر لها من الحجة يقطع العذر" (¬1). أقول: قد علمت الدلالة، ولو لم يكن إلا قوله تعالى: {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ} وقول جبريل: "ما نسأله عن شيء" لكفى. فأما وصفهم الخليقة الأرضية بالفساد وسفك الدماء فقد جاء عن جماعة من السلف أن الله تعالى كان قد أخبر الملائكة بذلك. وفي هذا نظر. والظاهر ما جاء عن بعض السلف أيضًا أن الملائكة فهموا ذلك بالاستدلال، إما بالقياس على خلقٍ كانوا في الأرض من قبل، وإما لمعرفتهم بطبيعة الأرض وأن الخليقة التي تجعل فيها يكون من شأنها ذلك، أو غير ذلك. وسياق القصة وقرائنها ظاهرة في أن الملائكة إنما أخبروا عن ظنهم، فكأنهم قالوا: إننا نظن كذا، وعلى هذا فلا يضرُّهم استنادهم إلى دليلٍ ظنَّيًّ، بل ولا يضرُّهم أن [144] يتبيَّن خطأ ظنَّهم. ألا ترى إلى ما رواه مسلمٌ في صحيحه وغيره عن طلحة، قال: مررت مع رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بقومٍ على رؤوس النخل، فقال: "ما يصنع هؤلاء؟ " فقالوا: يُلَقَّحُونَه، يجعلون الذَّكَرَ في الأنثى فَيَلْقَحُ (¬2)، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "ما أظن يغني ذلك شيئًا"، قال: فأُخْبِرُوا بذلك فتركوه، فأُخبر رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بذلك، فقال: "إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظنًا فلا تؤاخذوني بالظن، ¬

_ (¬1) تفسير ابن جرير 1/ 161. [المؤلف] (¬2) أي: يقبل اللقاح فينعقد طلعه.

ولكن إذا حدَّثْتُكُم عن الله شيئًا فخذوا به؛ فإني لَنْ أَكْذِبَ على الله". وأخرجه مسلمٌ أيضًا عن رافع بن خَدِيجٍ، وفيه: "لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرًا"، قال: فتركوه، فنفضت أو فنقصت ... الحديث. وأخرجه مسلمٌ أيضًا من حديث أنسٍ أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم مَرَّ بقوم يلقحون فقال: "لو لم تفعلوا لصلح"، قال: فخرج شيصًا، فمرَّ بهم، فقال: "ما لِنَخْلِكُم؟ " قالوا: قلت كذا وكذا، قال: "أنتم أعلم بأمر دنياكم" (¬1). فالنبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لم يكن من أهل النخل، وقد عَلِمَ أنَّ عامّة الأشجار تثمر بدون تلقيح، فقاس النخلَ عليها وأخبر بظنه، وصدق [145] صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في إخباره عن ظنه ولا يضرُّه خطأ الظَّنِّ. ومثل ذلك حديث الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة في صلاة النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بالناس الظهر أو العصر وتسليمه من ركعتين، قال فيه: "وفي القوم رجلٌ في يديه طولٌ يُقال له ذو اليدين، قال: يا رسول الله، أنسيت أم قصرت الصلاة؟ فقال: "لم أنس، ولم تقصر", وفي رواية: "كلُّ ذلك لم يكن" الحديث (¬2). مراده صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بقوله: "لم أنس ولم تقصر" أو "كُلُّ ذلك لم يكن": الإخبار عن ظنِّه لا عن الواقع، فكأنه قال: (في ظنِّي) وإنما ¬

_ (¬1) صحيح مسلمٍ، كتاب الفضائل، باب وجوب امتثال ما قاله شرعًا ... , 7/ 95، ح 2361 - 2363. [المؤلف] (¬2) اللفظ الأوَّل أخرجه البخاريُّ في كتاب الصلاة, باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره، 1/ 103، ح 482. واللفظ الثاني أخرجه مسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له، 2/ 87، ح 573 (99).

لم يُصَرِّح بذلك لدلالة الحال عليه. والله أعلم. وبما قرَّرناه عَلِمْتَ الفَرْقَ بين قياس الملائكة وقياس إبليس؛ فإن قياس الملائكة لم يعارض نصًّا بخلاف قياس إبليس؛ فلذلك قال الحسن وابن سيرين: إن أول من قاس إبليس، كما تقدم. والله أعلم. وأما ما توهَّمه بعض الناس أن قول الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} من الغيبة المحرمة، فمِنْ ضِيقِ عَطَنه، وقد صحَّت عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أخبارٌ كثيرةٌ عما سترتكبه أمَّته من بعده من الفجور، فهل يكون ذلك غيبة؟! وأما قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فإنهم لما أرسلوا الوصف كان على العموم، فنبَّههم الله تعالى أن تعميم الحكم لا ينبغي إلا بعد العلم بجميع [146] الأفراد وخصائصهم، فإذا كانوا يجهلون أسماءهم فهم لغيرها أجهل. وقد عَلِمْتَ أن الملائكة إنما أخبروا عن ظنهم، وليس في خطأ الظن ما ينافي العصمة. وأما قوله تعالى: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ} فهو تذكير بقوله تعالى: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} قصد به التنبيه على حصول البرهان الحسي على ذلك ليتقرر ذلك عندهم بعين اليقين، فلا ينافي أن يكونوا قبل ذلك عالمين علم اليقين، والله تبارك وتعالى أعلم. والجواب عن الثالث - وهو ما قيل: إن إبليس كان من الملائكة -: فالقرآن يكذِّب ذلك، قال الله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي

وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف: 50] فقوله تعالى: {كَانَ مِنَ الْجِنِّ} نصٌّ على أنه لم يكن من الملائكة، وَزَعْمُ أن من الملائكة طائفة يقال لهم: جن، وهم غير الجن المعروفين، دعوى لا دليل عليها. والاستدلال بقوله تعالى: {بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} [سبأ: 41] ساقطٌ، بل المراد الجنُّ المعروفون كما تفصح به (بل)؛ لأنها تقتضي نفي المسؤول عنه وهو ما في قوله تعالى: {أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} [سبأ: 40]، فالمعنى حينئذٍ: كلاَّ، لم يكونوا يعبدوننا، بل كانوا يعبدون الجن. وسيأتي توجيه نَفْيِهم عبادة المشركين لهم. وكذلك الاستدلال بقوله تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} [الصافات: 158] ليس بشيءٍ، بل المراد الجنُّ المعروفون كما يأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى. وقوله تعالى: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} يؤيد أن المراد الجن المعروفون؛ فإن الفاء للسببية، [147]، يريد - والله أعلم - فبسبب كونه من الجن فَسَقَ، أي: لأنه لو كان من الملائكة لما تأتَّى منه الفسق. ونحوها قوله تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 34]. قال أبو السعود: "أي في علم الله تعالى إذ (ا) (¬1) كان أصله من كفرة ¬

_ (¬1) وضع المؤلِّف الألف بين قوسين إشارة إلى أنها خطأٌ في الأصل.

الجن، فلذلك ارتكب ما ارتكبه، على ما أفصح عنه قوله تعالى: {كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50] " (¬1). فأما دخوله في الأمر بالسجود فلأن أمر الله تعالى لما وقع للملائكة وهو معهم دخل في عموم الخطاب، وقوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ}؛ فالخطاب موجَّه إليهم، والأمر لهم ولمن كان معهم، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]، فالخطاب موجَّه إلى النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، والأمر له ولأمته. وأما استثناء اللَّعين من الملائكة فكالحمار يُسْتَثْنَى من القوم، تقول: جاء القوم إلا حمارًا، ومنه قول الله تعالى: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء: 157]. ويجوز أن يكون الاستثناء متصلًا على أن لفظ الملائكة تناول إبليس تبعًا، كما تقول: جاءت بنو تميم إلا المواليَ، تريد بقولك (بنو تميم) ما هو أعمُّ مِنْ التميميِّ صَلِيبة (¬2) والتميميَّ بالولاء. وقال تعالى: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12]. وقد قال تعالى مخاطبًا الجنَّ والإنس: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا ¬

_ (¬1) تفسير أبي السعود 1/ 63. (¬2) أي: خالص النسب عريقه، وفي الأصل بتقديم الباء على الياء، سبق قلم.

تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 14 - 16]. وقال سبحانه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} [الحجر: 26 - 27]. وفي صحيح مسلم وغيره عن عائشة رضي الله عنها عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: "خُلِقَتِ الملائكةُ من نورٍ، وخُلِقَ الجانُّ من مارجٍ من نارٍ، وخُلِقَ آدم مِمِّا وُصِفَ لكم" (¬1). وما اشتهر بين الجهال أن إبليس أراد أن يقول (من نور) فأجرى الله تعالى على لسانه (من نار) لا أصل له، والأدلة [148] على أن اللَّعين لم يكن من الملائكة حقيقة قطُّ كثيرة، وفيما ذكرناه كفاية إن شاء الله تعالى. وأما الجواب عن الرابع - وهو قصَّة هاروت وماروت - فنقول: قال الله تبارك وتعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 102]. ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب الزهد والرقائق، بابٌ في أحاديث متفرَّقةٍ، 8/ 226، ح 2996. [المؤلف]

اختلف العلماء في تفسير هذه الآية، فالقول المنصور أن (ما) في {وَمَا أُنْزِلَ} موصولة عطف على السحر من عطف الخاصِّ على العامِّ أو على (ما) الأولى في قوله: {مَا تَتْلُو}، و {هَارُوتَ وَمَارُوتَ} مَلكَان أذن الله تبارك وتعالى لهما في تعليم السحر بعد أن يقولا: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ}. قالوا: وتعليم السَّحر وتعلُّمُه ليس كفرًا ولا حرامًا، وإنما المحظور العملُ به، كما لا يحرم أن يخبر الإنسان غيره بكيفية صناعة الخمر وإن حَرُمَ عصرُها وبيعُها وغير ذلك، وعلى فرض حرمة تعلُّمه وتعليمه في شريعتنا لا يلزم من ذلك حرمته في جميع الشرائع، وعلى فرض أنه حرام في جميع الشرائع فلا يلزم ذلك في حق الملائكة؛ فإن القتل حرام في كل الشرائع، وهذا ملك [149] الموت يقبض نفوس الخلق أجمعين والأنبياءِ والمرسلين، وإن فرضنا أن تعلُّمَه كفر فلا يلزم من تعليمه مع كراهيته وبغضه والزجر عنه الكفر، فلو أن جماعة من المشركين جعلوا مالًا عظيما لمن يسجد لصنم فجاء رجل يريد السجود له وكان هناك مسلم فسأله هذا عن الصنم فزجره هذا ووعظه ونهاه فأصرَّ فأشار إلى الصنم = لم يظهر من هذا كفر المشير، بل إن السائل لما أصرَّ على عمل الكفرِ صار كافرًا وإن لم يسجد، فعلى هذا فلا فرق بينه وبين المشرك الأصلي إذا سأل مسلمًا عن الطريق إلى بيت الصنم فدلّه. هذا أقصى ما يُسْتَدَلُّ به لهذا القول، وفي بعضه نظر. والله أعلم. وقيل: إن (ما) نافيةٌ، والباقي كما مرّ. والمعنى: أنه لم يكن سليمان ساحرًا، ولم ينزل الله تعالى السحرَ على الملكين، فإن السحر أَخسُّ من ذلك، أي وإنما عَلِمه الملكان بطريق أرضيَّة وإن كان ذلك بإذن الله تعالى.

وذهب بعضهم إلى أن (ما) نافية، والمراد بالملكين رجلان صالحان هما هاروت وماروت، واستدلَّ بالقراءة الشاذة (الملِكين) بكسر اللام، والباقي نحو ما مرَّ. وقال جماعة: (ما) نافية، والمراد بالملكين جبريل وميكائيل أو داود وسليمان. قالوا: وهاروت وماروت بدلٌ إمَّا من {الشَّيَاطِينَ} فهما اسما شيطانين أو قبيلتين من الشياطين، وإما من {النَّاسَ} فهما اسما رجلين، وعلى هذا فلا إشكال [150] من جهة أن تعلُّم السحر وتعليمه كفر أو حرام. واعتُرِضَ على هذا القول بأنه كيف تقول الشياطين أو الكفار {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ}؟ وأجابوا بأنه لا مانع أن يأخذ الله تعالى على الشياطين هذا القول حتى لا يقدروا على التعليم بدون قوله، وكذا لا يمتنع أن يكون الإنسانان تأوَّلا جواز التعلُّم والتعليم واحتاطا بمنع التعليم حتى يقولا ذلك. ويُبْعِدُ هذا القولَ ما فيه من التعسُّف في تقدير الكلام. وقد يؤخذ من بعض الآثار أن (ما) موصولة والمراد بالمُنَزَّل الاسمُ الأعظم، وعلى هذا فلا إشكال في جواز تعليمه وتعلُّمه وإن كان المتعلِّم قد يعمل بواسطته ما يكون كفرًا، كما يجوز أن تعطيَ مسلمًا مصحفًا وإن احتمل أن يكفر بإلقائه في نجاسة مثلًا، ويَرِدُ على هذا القول أن فيه كون الشياطين يَعْلَمون الاسم الأعظم ويُعَلِّمُونه، وهو كما ترى. وقد أخرج ابن جرير وغيره عن عائشة أمِّ المؤمنين قالت: قدمت عليَّ امرأة من أهل دومة الجندل جاءت تبتغي رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بعد موته حداثة ذلك تسأله عن شيء دخلت فيه من أمر السحر ولم تعمل به،

قالت عائشة لعروة: يا ابن أختي فرأيتها تبكي حين لم تجد [151] رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فيشفيها، كانت تبكي حتى إني لأرحمها وتقول: إني أخاف أن أكون قد هلكتُ، كان لي زوج فغاب فدخلتُ على عجوز فشكوت ذلك إليها فقالت: إن فَعَلْتِ ما آمرُكِ فأجعله يأتيك، فلما كان الليل جاءتني بكلبين أسودين فركبت أحدهما وركبت الآخر فلم يكن كشيء حتى وقفنا ببابل فإذا برجلين مُعَلَّقين بأرجلهما فقالا: ما جاء بك؟ فقلت: أتعلّم السحر، فقالا: إنما نحن فتنة فلا تكفري، وارجعي، فأبيت وقلت: لا، فقالا: اذهبي إلى ذلك التنُّور فبُولي فيه فذهبت ففزعت، فلم أفعل فرجعت إليهما، فقالا: أفعلت؟ قلت: نعم، فقالا: فهل رأيتِ شيئًا؟ قلت: لم أر شيئًا، فقالا لي: لم تفعلي، ارجعي إلى بلادك ولا تكفري، فأبيت فقالا: اذهبي إلى ذلك التنُّور فبُولي فيه، فذهبت فاقشعررت وخفت، ثم رجعت إليهما، فقلت: قد فعلت، فقالا: فما رأيت؟ فقلت: لم أر شيئًا، فقالا: كذبتِ، لم تفعلي، ارجعي إلى بلادك ولا تكفري فإنك على رأس أمرك، فأبيت، فقالا: اذهبي إلى ذلك التنُّور فبُولي فيه، فذهبت إليه فبُلْت، فرأيت فارسًا مُتَقَنَّعًا بحديد خرج مني حتى ذهب في السماء وغاب عنَّي حتى ما أراه فجئتهما فقالا: صدقْتِ، ذلكِ إيمانكِ خرج منكِ، اذهبي. فقلت للمرأة: والله ما أعلم شيئًا وما قالا لي شيئًا، فقالت: بلى لن تريدي شيئًا إلا كان، خذي [152] هذا القمح فابذري، فبذرتُ، فقلت: اطْلُعِي فطَلَعَتْ، وقلت: أَحْقِلي فأَحْقَلَتْ، ثم قلت: أفْرِكي فأَفْرَكَتْ، ثم قلت: أَيْبسِي فأَيْبَسَتْ، ثم قلت: أطحني فأطحنت، ثم قلت: أخبزي فأخبزت، فلما رأيت أني لا أريد شيئًا إلا كان أُسْقِطَ في يدي وندمتُ والله يا أمَّ المؤمنين، والله ما فعلت شيئًا قطُّ، ولا أفعله أبدًا، فسَأَلَتْ أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم حداثة وفاة رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وهم

يومئذ متوافرون، فما دروا ما يقولون لها، وكلُّهم هاب وخاف أن يفتيها بما لا يعلم إلا أنهم قالوا: لو كان أبواك حَيَّين أو أحدهما لكانا يكفيانك. انتهى حديث ابن جريرٍ عند قولها: "ولا أفعله أبدًا"، والزيادة من المستدرك وسنن البيهقي، قال الحاكم: صحيح وأقرَّه الذهبيّ (¬1). أقول: أما السند فلا كلام فيه، وإنما الشأن في هذه المرأة الدُّومِيَّة. ومَن تأمل القصة ومناسبتها للآية وسكوت الصحابة عن إنكارها علم أنه ليس من الإنصاف تكذيبها. وفيها بقاء الملكين إلى ذلك الوقت، وقد يشهد له قول الله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ} بصيغة المضارع المشعرة بالاستمرار، ولم يقل: وما علَّما، أو: وما كانا يعلِّمان، أو نحو ذلك. وقد أنكر أبو محمَّد بن حزمٍ رحمه الله [135] بقاءهما، واحتجَّ بأن بابل موجودةٌ على وجه الأرض والناس يطوفون فيها ولا يرونهما، ومَنْ كان يؤمن بوجود الجنِّ والملائكة وإمكان أن يراهم بعض الناس بإذن الله تعالى لم يَخْفَ عليه الجوابُ (¬2). وقد يُحتجُّ على عدم بقائهما بقلَّة السِّحر على وجه الأرض، وبأنه لو كان الأمر كما زعمت الدُّوميَّة - أنَّ مَن تعلَّم لم يُرِدْ شيئًا إلا كان - لفسدت السماوات والأرض. والجواب: أنه لا مانع أن يقال: إن الله عزَّ وجلَّ يمنع الناس من الوصول ¬

_ (¬1) تفسير ابن جريرٍ 1/ 347. المستدرك، كتاب البرَّ والصلة، حكاية امرأةٍ فزعت من عمل السَّحر، 4/ 155. سنن البيهقيّ، كتاب القسامة, باب قبول توبة الساحر ... ، 8/ 137. [المؤلف] (¬2) انظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل 4/ 64.

إليهما إلا مَنْ ندر، ويمنع مَنْ تَعَلَّمَ ذلك مِنْ عَمَل ما يَخْتَلُّ به شيء من قوانين الخلق والأمر، كما يمنع الشياطين من ذلك، وقد بيَّنَ هذا في الآيات بقوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}، هذا والسياق يدلُّ أن قولها: "لا أريد شيئًا إلا كان" محمول على المُحَقَّرَات فقط. على أن هذا التعميم إنما وقع من قول العجوز الفاجرة، ومِنْ ظن هذه الدُّوميّة لما رأت قصَّة القمح. وفي القصة أنها رأت الرجلين أو قُل (الملَكَين) معلَّقَيْن بأرجلهما، فإن فُهِمَ من التعليق العذابُ فلا يجوز أن يكون هذا العذاب على التعليم؛ إذ كيف يُصِرَّان على المعصية مع أنهما يعذَّبان عليها ومع ذلك يقولان: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} ويؤكَّدان ذلك غاية التأكيد مع أن في الآثار التي سيأتي الكلام عليها [154] أنهما تابا وأنابا. فإن قيل: لعلَّ العذاب على ذنبٍ آخر كما تدلُّ عليه الآثار الأخرى، فكذلك يبعد أن يصرّا على معصية مع تعذيبهما على أخرى ويقولان مقالتهما. والأقرب إن صدقت المرأة أنهما مُثِّلا لها كذلك ليكون أَبْلَغَ للتنفير، ولا عذاب ولا تعليقَ في نفس الأمر. وموضعُ الفائدة في هذه القصَّة أنهما لا يُعَلِّمان شيئًا وإنما يقولان: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ}، فإذا أصرَّ الطالبُ قالا له: اذهب فبُلْ في ذلك التنور فيذهب فَيَعْرِضُ له خوف ورعب، فإن صَمَّم وبال فما هو إلا أن يبولَ فيخرجَ منه إيمانه وَيعْلَمَ السَّحْر. فإن صحَّ هذا فلا إشكال في الآية أصلًا، بل المعنى: ولم ينزل السَّحر

على الملكين ببابل، وإنما هما فتنة يفتنان مَنْ طلب تعلُّم السحر ليتبيّن تصميمه على الكفر أو عدمه، فيعظانه ويحذِّرانه، فإن أصرَّ امتحناه بأن يبول فيعرض له ذلك الخوف والرعب، فإن صمَّم وبال تبيَّن أنه قد صمَّم على الكفر فَيُنْزَعُ منه التوفيقُ، ويُخَلَّى بين الشياطين وبينه، فيحصل له السحر من صحبة الشياطين، فليس في فعل الملكين رضًا بكفر ولا تعليمُ سحر؛ وذلك أن البول في التنُّور ليس كفرًا في نفسه، بل الطالب إذا أصرَّ على التعلُّم بعد أَن يقولا له: [155] {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} فقد صار كافرًا, وإنما البول في التنُّور دليل على تصميمه على الكفر وإصراره عليه وشدة حرصه على التعلُّم الذي هو كفر بجرأته على البول مع ما يعرض له من الرعب، ولكن لما كان البول في التنُّور يقع بإشارتهما وعِلْمُ السحر يَحْصُلُ عقِبه، وكان ذلك في صورة التعليم أطلق في الآية {يُعَلِّمَانِ} {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا}، وذلك على سبيل المجاز، والله أعلم، والقرينة الصارفة عن الحقيقة أمور: الأوَّل: أنه قد بيَّن في الآية أن تعليم السحر كفر وأن تعلُّمه كفر، وأنهما ملكان، وقد قامت الدلائل على عصمة الملائكة. أما بيان أن تعليم السحر كفر، فقوله تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ}. وأما بيان أن تعلُّمَه كفر ففي قوله: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ}، وقوله: {لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} , واشتراؤه تعلُّمه، ونفي النصيب في الآخرة البتة إنما يكون على الكفر، وقوله: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ}، أي: باعوا، وبيع النفس عبارة عن إيقاعها في الهلاك التامّ، وذلك إنما يكون بالكفر.

وأما دلائل عصمة الملائكة فقد تقدَّمَتْ. الأمر الثاني: أنه لو صرف النظر عن العصمة وجُوَّزَ عليهما الكفر فكيف يقولان: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ}، فينهيان عن الكفر مع تلبسهما به؟ [156] الأمر الثالث: قولهما: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} و {إِنَّمَا} للحصر، أي: ما نحن إلا فتنة، فيُفْهَم من ذلك نَفْيُ كونهما معلَّمين على الحقيقة، وعلى هذا المعنى فـ (ما) في قوله: {وَمَا أُنْزِلَ} نافية. والله أعلم. وإذ قد اتضح بحمد الله تعالى معنى الآية فلننظر في الآثار الواردة عن قصَّة هاروت وماروت مع الزُّهَرَةِ، فأقول: ساق الإِمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله تعالى في تفسيره (¬1) الآثار المذكورة ولم يعرض لها مع جزمه بعصمة الملائكة عليهم السلام، وقد ردَّها جماعة كالقاضي عياض والفخر الرازي، نقله الآلوسي في تفسيره قال: "ونصَّ الشهاب العراقي على أن مَنْ اعتقد في هاروت وماروت أنهما مَلَكَان يُعَذَّبان على خطيئتهما مع الزُّهَرَةِ فهو كافر بالله تعالى العظيم؛ فإنَّ الملائكة معصومون، {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]، {لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 19، 20]، والزُّهَرَة كانت يوم خلق الله تعالى السموات والأرض، والقول بأنها تمثَّلت لهما فكان ما كان وَرُدَّتْ إلى مكانها غير معقول ولا مقبول". ¬

_ (¬1) 1/ 343 - 348. [المؤلف]

قال الآلوسي: "واعترض الإِمام السيوطي على مَن أنكر القصَّة بأن الإِمام أحمد وابن حبان والبيهقي وغيرهم رووها مرفوعة وموقوفة على عليٍّ وابن عباس [157] وابن عمر وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم بأسانيد عديدة صحيحة، يكاد الواقف عليها يقطع بصحتها؛ لكثرتها وقوَّة مُخْرِجِيها. وذهب بعض المحققين [إلى] أن ما رُوِيَ مرويٌّ حكايةً لما قاله اليهود، وهو باطل في نفسه، وبطلانه في نفسه لا ينافي صحة الرواية, ولا يَرِدُ ما قاله الإِمام السيوطي عليه، إنما يَرِدُ على المنكرين بالكلِّيَّة، ولعلَّ ذلك من باب الرموز والإشارات ... " (¬1). وفي القول المسدَّد للحافظ ابن حجر: "قلت: وله طرق كثيرة جمعتها في جزء مفرد يكاد الواقف عليه يقطع بوقوع هذه القصة لكثرة الطرق الواردة فيها وقوة مخارج أكثرها. والله أعلم" (¬2). أقول: أما رواية القصة عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، ففي مسند الإِمام أحمد: عن يحيى بن أبي بكير، عن زهير بن محمَّد، عن موسى بن جبير، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعًا (¬3)، وموسى هو الأنصاري مجهول الحال لم يوثِّقه أحد إلا أن ابن حبان ذكره في ثقاته، وقال: "يخطئ ويخالف" (¬4). قلت: وقد عُرِفَ من مذهب ابن حِبَّان أنه يذكر المجاهيل في ثقاته فيذكر مَن روى عن ثقةٍ وروى عنه ثقةٌ ولم يكن حديثه منكرًا، نبَّه على ذلك ¬

_ (¬1) روح المعاني 1/ 279. [المؤلف] (¬2) القول المسدد، ص 41. [المؤلف] (¬3) المسند 2/ 134. [المؤلف] (¬4) انظر: الثقات 7/ 451.

في كتاب الثقات نفسه (¬1)، وكذلك يخرج ابن حِبَّان لمن كان كذلك في صحيحه, نبَّه عليه الحافظ ابن حجر وغيره (¬2)، فعُلِمَ من ذلك أن ذِكْرَ ابن حبان لرجلٍ في الثقات وإخراجه له في صحيحه لا يرفع عنه اسم الجهالة. هذا مع أن قوله في موسى: "يخطئ ويخالف" جرحٌ ينزل به موسى عن درجة المستور. وهذا الحديث من جملة خطئه ومخالفته؛ فإنَّ الناس رووا القصة عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن كعب الأحبار، كذا أخرجه ابن جرير من طريق موسى بن عقبة عن سالم ومن طريق محمَّد بن عقبة - أراه أخا موسى وهو ثقة - عن سالم (¬3). والعجب من ابن حبان كيف أخرج الحديث في صحيحه (¬4) من طريق موسى بن جبير المذكور؟! وذكر القاري في شرح الشفاء عند الكلام على هذا الحديث كلام الأئمة في زهير، وفيه: "وقال الترمذي في العلل: سألت البخاري عن حديث زهير هذا فقال: أنا أتقي هذا الشيخ كأن حديثه موضوع، وليس هذا عندي بزهير بن محمَّد، قال: وكان أحمد بن حنبل يضعَّف هذا الشيخ ويقول: هذا الشيخ ينبغي أن يكونوا قلبوا اسمه" (¬5). كذا قال، ولينظر (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: الثقات 1/ 11 - 12. (¬2) انظر: النكت على كتاب ابن الصلاح 1/ 290 - 291، فتح المغيث 1/ 42 - 43. وراجع: صحيح ابن حبان (الإحسان) 1/ 151 - 152. (¬3) انظر: تفسير الطبري 2/ 343 - 344. (¬4) صحيح ابن حبان (الإحسان)، كتاب التاريخ, باب بدء الخلق، ذكر قول الملائكة عند هبوط آدم إلى الأرض ... ، 14/ 63 - 64، ح 6186. (¬5) 4/ 231. [المؤلف] (¬6) انظر: العلل الكبير ص 381، ح 713.

وقد أخرج ابن جرير (¬1) طرفًا من القصة من طريق فرج بن فضالة عن معاوية بن صالح، عن نافع، عن ابن عمر فرفعه إلى النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، [158] وذكره الذهبي في الميزان (¬2) في ترجمة سنيد بن داود. والفرج بن فضالة ضعيف، وفي القول المسدَّد للحافظ ابن حجر عند ذكر هذه القصَّة: "أورده ابن الجوزي - يعني في الموضوعات - من طريق الفرج بن فضالة، عن معاوية بن صالح، عن نافع وقال: لا يصحُّ، والفرج بن فضالة ضعَّفه يحيى، وقال ابن حبان: يقلب الأسانيد، ويلزق المتون الواهية بالأسانيد الصحيحة" (¬3). وفي تذكرة الموضوعات عند ذكر القصَّة: "فيه موسى بن جُبَيرٍ، مختلفٌ فيه، ولكن قد توبع، ولأبي نعيم عن علي، قال: لعن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم الزُّهَرَة لأنها فتنت المَلَكَين، وقيل: الصحيح وَقْفُهُ على كعب، وكذا قال البيهقي" (¬4). أقول: إن كان المراد بقوله: (قد توبع) رواية فرج بن فضالة عن معاوية بن صالح فليست مما يُفْرَح به، وأما رواية أبي نعيم فلم أقف عليها، وأبو نعيم معروف بتتبُّع الواهيات. والحق ما ذكره البيهقي أن ابن عمر إنما سمع القصة من كعب الأحبار، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: تفسير الطبري 2/ 347 - 348. (¬2) 2/ 236. (¬3) القول المسدد، ص 41. [المؤلف]. وانظر: الموضوعات 1/ 295 - 297، ح 389. (¬4) تذكرة الموضوعات, ص 110. [المؤلف]

وأما الرواية في ذلك عن أمير المؤمنين عليًّ عليه السلام، فقد ثبت عن عمير بن سعيدٍ النخعيّ أنه قال: سمعت عليًّا يقول: فذكر القصة، لم يذكر النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، أخرجه الحاكم في المستدرك (¬1) وغيره. وعمير ثقة عندهم، لم يطعن فيه أحد إلا أن أبا محمد بن حزم ذكر في الملل والنحل هذه الرواية وقال: "رويناه من طريق عمير بن سعيد وهو مجهول، مرَّة يُقال له: النخعيّ، ومرَّةً يُقال له: الحنفي، ما نعلم له رواية إلا هذه الكذبة، وليس أيضًا عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، ولكنه أوقفها على عليِّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه، وكذبةً أخرى في أنَّ حدَّ الخمر ليس سنَّةَ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وإنما هو شيءٌ فعلوه، وحاشا لهم رضي الله عنهم من هذا" (¬2). [159] وقد شنَّع الحافظ ابن حجر في ترجمة عمير من تهذيب التهذيب على ابن حزم فيما قال (¬3). وأقول: لعلَّ أمير المؤمنين حكى هذه القصَّة عقب قوله مثلًا: تزعم اليهود أو زعم كعب أو نحو ذلك، ولم يسمع عمير تلك الكلمة وسمع القصة. والله أعلم. وأما الرواية عن ابن عباس فذكرها الحاكم في المستدرك وغيره من قوله، لم يرفعه، ولفظه: "عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت الزُّهَرَة ¬

_ (¬1) كتاب التفسير، من سورة البقرة, قصَّة الزهرة وكونها كوكبًا، 2/ 265. [المؤلف] (¬2) الملل والنحل: 4/ 32. [المؤلف] (¬3) انظر: تهذيب التهذيب 8/ 146 - 147.

امرأة في قومها، يقال لها: بيدحة" (¬1)، وسبيله سبيل ما ذكرنا في الرواية عن أمير المؤمنين عليًّ عليه السلام. وأما ابن مسعود فأخرج ابن جرير من طريق علي بن زيد، عن أبي عثمان النهدي، عن ابن مسعود وابن عباس أنهما قالا: لما كثر ... ، فذكر القصة من قولهما (¬2)، وعلي بن زيد واهٍ, فإن صحّ فسبيل ابن مسعود سبيل ما تقدَّم. والله أعلم. والحاصل: أن رواية سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قد أنارت الطريق وبيَّنَتْ أن القصة من أساطير كعب، والله المستعان. فإن قيل: لكن من حكى القصة من الصحابة رضوان الله عليهم لم يبيِّنوا فسادها فيؤخذ من ذلك على الأقلِّ أنهم كانوا يرون جواز صحَّتها. قلت: يجوز أن يكونوا بَيَّنُوا ولم يُنْقَل كما تقدَّم، ويجوز أن يكونوا إنما حكوها على وجه التعجُّب واستغنوا عن بيان بطلانها بوضوحه شرعًا وعقلًا، [160] ويجوز أن يكونوا تأوَّلوا في الزُّهَرَة تأوُّلاً معقولًا، كما أخرج ابن جرير بسنده إلى الربيع - هو ابن أنسٍ - وفيه: "وفي ذلك الزمان امرأة حُسْنُها في سائر الناس كحسن الزُّهَرة في سائر الكواكب"، فذكر القصَّة (¬3) وتأوَّلوا في الملكين أنه بعد أن سُلِخَا من المَلكِيَّةِ زال حكمُ العصمة، وأن ذلك لا ينافي ما ثبت من عصمة الملائكة وإن كان فيه ما فيه، وقد رُوِيَتْ ¬

_ (¬1) المستدرك، كتاب التفسير، من سورة البقرة, كانت الزهرة امرأةً، 2/ 266. وليس فيه ذكر لهاروت وماروت كما ترى. [المؤلف] (¬2) تفسير الطبري 2/ 342. (¬3) تفسير الطبرى 2/ 345 - 346.

القصة عمَّن بعد الصحابة كمجاهد وقتادة والسدي وغيرهم، والأمر في ذلك سهل. والله تبارك وتعالى أعلم. والجواب عن الخامس - وهو ما رُوِي من دَسَّ جبريل الحمأة في في فرعون -: أن العلماء أنكروا ذلك أشدَّ الإنكار، ففي الكشاف أنَّ ذلك من زيادات الباهتين لله تعالى وملائكته عليهم السلام، وفيه جهالتان: إحداهما: أن الإيمان يصحُّ بالقلب كإيمان الأخرس، فحالُ البحر لا يمنعه. والأخرى: أنَّ مَن كره إيمان الكافر وأحبَّ بقاءه على الكفر فهو كافر؛ لأن الرضا بالكفر كفر. ووافقه ابن المنيَّر مع تحرَّيه مخالفته في كل ما له مساس بالقَدَر. قال ابن المنيِّر: "لقد أنكر منكرًا وغضب لله تعالى وملائكته عليهم السلام كما يجب لهم". اهـ (¬1). أقول: أما الخبر في ذلك فرواه الإِمام أحمد والترمذي وحَسَّنه من [161] طريق عليَّ بن زيد بن جُدْعَان، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس مرفوعًا (¬2). ورواه الترمذي والإمام أحمد أيضًا من طريق شعبة، أخبرني عدي بن ثابت وعطاء بن السائب، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عباس، ذكر أحدهما عن النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أنه ذكر أن جبريل صلَّى الله عليه وسلم جعل في في فرعون الطين خشية أن يقول: "لا إله إلا الله" فيرحمه الله أو خشية أن يرحمه الله. قال أبو عيسى: "هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ من ¬

_ (¬1) 1/ 431 - 432. [المؤلف] (¬2) جامع الترمذيّ، كتاب التفسير، بابٌ ومن سورة يونس، 2/ 188، ح 3107. مسند الإِمام أحمد 1/ 245. [المؤلف]

هذا الوجه" (¬1). وأخرجه الحاكم من طريق شعبة، عن عدي بن ثابت قال: سمعت سعيد بن جبير يحدِّث عن ابن عباس عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فذكره، ثم قال: "حديثٌ صحيحٌ على شرط الشيخين ولم يخرجاه، إلا (¬2) أكثر أصحاب شعبة أوقفوه على ابن عبَّاسٍ". قال الذهبي في تلخيصه بعد ذكر هذا الحديث: " (خ م)، وعامَّة أصحاب شعبة أوقفوه" (¬3). أقول: الصواب وقفه؛ فإن عليَّ بن زيدٍ ضعَّفه الجمهور، وقال فيه شعبة وغيره: كان رفّاعًا أي يَرْفَعُ ما يَقِفُه غيره. والذي رفعه من الرجلين في رواية الترمذي هو عدي بن ثابت كما بيَّنَتْه روايةُ الحاكم، وقد قال شعبة نفسه [162] في عدي بن ثابت: كان من الرفَّاعين أي الذين يرفعون الموقوفات غلطًا. وفي عديًّ هذا كلام كثير غير هذا. على أن عطاء بن السائب فيه كلام، وقد قال فيه الإِمام أحمد: "مَنْ سمع منه قديمًا فسماعه صحيح، ومَنْ سمع منه حديثًا لم يكن بشيء، سمع منه قديمًا سفيان وشعبة وسمع منه حديثًا جرير وخالد ... وكان يرفع عن سعيد بن جبير أشياء لم يكن يرفعها". ¬

_ (¬1) المسند 1/ 240. [المؤلف]. وجامع الترمذيّ، الموضع السابق، 5/ 287، ح 3108. (¬2) كذا، ولعل الصواب: لأن. [المؤلف] (¬3) المستدرك، كتاب التفسير، تفسير سورة يونس، شرح آية: {لَهُمُ الْبُشْرَى ...} , 2/ 340. [المؤلف]

فهذا أقوى ما رُوي في هذه القصة، وهو موقوف على ابن عباس كما رأيت. فإن قيل: إنه وإن كان الراجح روايةً أنه موقوف فله حكم المرفوع؛ لأنه مما لا مسرح للرأي فيه، ولم يكن ابن عباس مُولَعًا بالإسرائيليات، كيف وهو القائل: "كيف تسألون أهل الكتاب عن شيءٍ، وكتابكم الذي أُنزل على رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أحدث، تقرؤونه محضًا لم يُشَبْ، وقد حدَّثكم أن أهل الكتاب بدَّلوا كتاب الله وغيَّروه وكتبوا بأيديهم الكتاب، وقالوا: {هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} [البقرة: 79]، ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم؟ لا والله ما رأينا منهم رجلًا يسألكم عن الذي أُنزِل عليكم" (¬1). قلت: لعلَّه رضي الله عنه إنما أراد نهي المسلمين عن سؤال مَن لم يَزَلْ على كفره من أهل الكتاب، بدليل قوله: فوالله لا يسألكم أحد منهم عن الذي أنزل [163] عليكم، فإنهم هم الذين لا يسألون المسلمين، فأما مَن أسلم منهم فإنه يسألنا كما لا يخفى. أو لعلَّه إنما نهى من لم يرسخ الإيمان والعلم في قلبه خوفًا عليه من الضلال. وأظهر من ذلك أن يكون إنما نهى عن سؤالهم للاحتجاج في الدين بما يحكونه، فأما ما كان من قَبِيل الوقائع التاريخية التي تتعلق بما في القرآن فلم ¬

_ (¬1) البخاريّ، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنَّة، باب قول النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: "لا تسألوا أهل الكتاب عن شيءٍ"، 9/ 111، ح 7363. [المؤلف]

يكن هو ولا غيره يرى في ذلك حرجًا، كيف وقد صحَّ عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أنه قال: "بلِّغوا عني ولو آية، وحدَّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومَن كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار"، رواه البخاريُّ وغيره (¬1). ومَن تَتَبَّع ما يُرْوَى عن ابن عبَّاسٍ وغيره من الصحابة رضي الله عنهم من التفسير عَلِمَ صحَّة ما قلناه. وفي تفسير ابن جريرٍ عدَّة آثارٍ في سؤال ابن عبَّاسٍ كعبَ الأحبار عن أشياء من القرآن، وسؤاله غير كعبٍ من أحبار اليهود. والله أعلم. فإن قيل: إن هذه القصة تتعلَّق بالدين تَعَلُّقًا عظيمًا؛ فإن فيها نسبة جبريل عليه السلام إلى ما علمت، فكيف يحكيها ابن عبَّاسٍ ولا يشير إلى بطلانها إن كانت باطلة؟ قلت: ارجع إلى الاحتمالات التي مرَّت في جواب الأمر الرابع (¬2)، وقد يكون الحبر رأى أن القصة إن صحَّت فإنما فعل جبريل عليه السلام ما فعل بأمر الله تعالى تنفيذًا لما علمه عزَّ وجلَّ وقضاه وسبق به دعاء موسى وهارون عليهما السلام وإجابة الله تعالى دعوتهما. ودونك الآيات: [164] {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ ¬

_ (¬1) صحيح البخاريِّ، كتاب أحاديث الأنبياء, باب ما ذُكِر عن بني إسرائيل، 4/ 170، ح 3461. [المؤلف]. وانظر: جامع الترمذيّ، كتاب العلم، باب ما جاء في الحديث عن بني إسرائيل، 5/ 40، ح 2669، من حديث ابن عمرٍو رضي الله عنهما. (¬2) وهو ما يتعلَّق بقصَّة هاروت وماروت.

عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 88 - 91]. فإن قيل: وكيف يأمر الله تعالى بالمنع من الإيمان؟ قلت: كما دعا به موسى وهارون عليهما السلام، وأجاب سبحانه دعوتهما. وإذا انتهى البحث إلى القَدَرِ وَجَبَ الإمساك. فأما قول جار الله: "إن الإيمان يصحُّ بالقلب فحالُ البحر لا يمنعه"، فالجواب: أنه ليس المرادُ من إيجاره (¬1) الحمأة مَنْعَهُ عن النطق كما تُوهِمُه بعضُ الروايات، بل تعجيل حال الغرغرة قبل أن يعقد قلبه على الإيمان. هذا كلُّه إيضاح لعذر ابن عباس رضي الله عنهما في حكايته الواقعة ساكتًا عن اعتراضها. والله أعلم. **** ¬

_ (¬1) مصدر أوْجَرَهُ: أي جعله في فيه. وأكثر ما يستعمل في الدواء.

تفسير الإله بالمعبود

[165] تفسير الإله بالمعبود الآيات القرآنيَّة الدالَّة على ذلك كثيرةٌ، قد تقدَّم بعضها في أوائل الرسالة في بيان اشتراط أن يكون التشهد على سبيل الالتزام، فراجعه. فأما أقوال أهل العلم، فقد سبق عن بعض علماء التوحيد أن حقيقة معنى الإله: المعبود بحق، وفسره بعضهم بالمستحق للعبادة، وبينَّا بحمد الله تعالى أن تعبير المتكلمين عن واجب الوجود بالإله وقول السنوسى: "إن معنى الإله: المستغني عن كلَّ ما سواه" إلخ، وما يؤخذ من كلام جماعة أن الإله هو الخالق أو المدبِّر استقلالًا، لا ينافي ذلك. وهذا المعنى هو المعروف عند المفسرين والمحدِّثين والفقهاء وأهل اللغة وغيرهم. قال الإِمام أبو جعفر بن جرير في تفسيره: "وأما تأويل قول الله: (الله) فإنه على معنى ما روي لنا عن عبد الله بن عباس: هو الذي يألهه كلُّ شيء ويعبده كلُّ خَلْق، وذلك أن أبا كريب حدثنا ... عن عبد الله بن عباس قال: (الله) ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين ... فإن قال: وما دلَّ على أن الألوهية هي العبادة وأن الإله هو المعبود وأن له أصلًا في فعل ويفعل؟ قيل: لا تَمَانُعَ بين العرب في الحكم لقول قائلٍ يصف رجلًا بعبادة ويطلب مما (¬1) عند الله جلَّ ذكره: يأله [تأَلَّه] (¬2) فلان، بالصحة [ولا] (¬3) خلاف. ومن ذلك قول رؤبة بن العجاج: ¬

_ (¬1) في طبعة محمود شاكر 1/ 123: "وبِطَلَبِ ما"، وهو أجود. (¬2) تصحيح من المؤلَّف للنسخة التي نقل منها. (¬3) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة كتاب العبادة، واستدركتها من تفسير ابن جرير =

لله دَرُّ الغانيات المُدَّهِ ... سبَّحْن واسترجعن من تألُّهي (¬1) يعني: مِن تعبد وطلبِ الله بعمل (¬2)، ولا شك أن التألُّه: التفعُّلُ من أَلَه يألَه، [166] وأن معنى أله إذا نُطق به: عَبدَ الله، وقد جاء منه مصدر يدلُّ على أن العرب قد نطقت [منه] (¬3) بفعل يفعل بغير زيادة، وذلك ما حدثنا ... عن ابن عباس أنه قرأ: (ويذرك وإلاهتك)، قال: عبادتك، ويقول: إنه كان يُعبد ولا يَعبُد ... عن مجاهد قوله: (ويذرك وإلاهتك) قال: وعبادتك ... ، فقد بيَّن قولُ ابن عباس ومجاهد هذا أن أَلَه عَبدَ وأن الإلاهة مصدره" (¬4). وقال في تفسير قول الله عزَّ وجلَّ: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 163]: "قد بينا فيما مضى معنى الألوهية وأنها اعتباد الخلق، فمعنى قوله: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)} والذي يستحق عليكم أيها الناس الطاعة ويستوجب منكم العبادة معبودُ واحدٌ وربٌّ واحدٌ، فلا تعبدوا غيره ولا تشركوا معه سواه؛ فإن من تشركونه معه في عبادتكم إياه هو خلقٌ من خَلْقِ إلهكم مثلكم، {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} لا مثل له ولا نظير ... ¬

_ = بتحقيق محمود شاكر. (¬1) ديوانه 165. والمدَّه: جمع مادهٍ، كالمدَّح: جمع مادحٍ، أُبدِلت الحاء هاءً على لغةٍ لبعض العرب. انظر: الكامل 2/ 1051 - 1052. (¬2) في طبعة محمود شاكر: "يعني: مِن تعبُّدي وطلبي اللهَ بعملي"، وهو الصواب. (¬3) زيادة من النسخة التي حقَّقها محمود شاكر. (¬4) 1/ 40 - 41. [المؤلف]

وأما قوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}، فإنه خبرٌ منه - تعالى ذكره - أنه لا رب للعالمين غيره، ولا يستوجب على العباد العبادة سواه، وأن كل ما سواه فَهُمْ خَلْقُه، والواجب على جميعهم طاعته والانقياد لأمره وترك عبادة ما سواه من الأنداد والآلهة، وهجرُ الأوثان والأصنام؛ لأن جميع ذلك خلقه، وعلى جميعهم [167] الدينونة له بالوحدانية والألوهة، ولا تنبغي الألوهة إلا له؛ إذ كان ما بهم من نعمة في الدنيا فمنه دون ما يعبدونه من الأوثان ويشركون معه من الأشراك ... ثم عَرَّفَهُمْ تعالى بالآية التي تتلوها ... فقال تعالى ذكره: أيها المشركون إن جهلتم أو شككتم في حقيقة ما أخبرتكم من الخبر من أن إلهكم إله واحد دون ما تدَّعون ألوهيته من الأنداد والأوثان فتدبَّروا حججي وفكِّروا فيها، فإن مِنْ حججي خَلْقَ السموات والأرض واختلاف الليل والنهار ... فإن كان ما تعبدونه من الأوثان والآلهة والأنداد وسائر ما تشركون به - إذا اجتمع جميعه فتظاهر أو انفرد بعضه دون بعضٍ - يقدر على أن يخلق نظير شيءٍ من خلقي - الذي سَمَّيْتُ لكم - فلكم بعبادتكم ما تعبدون من دوني حينئذٍ عذرٌ، وإلَّا فلا عذر لكم ... " (¬1). وقال في تفسير آية الكرسي {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}: "قد دللنا فيما مضى على تأويل قوله: {اللَّهُ}، وأما تأويل قوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} فإن معناه: النهي عن أن يُعبد شيء غير الله الحي القيوم الذي صفته ما وصف به نفسه تعالى ذكره في هذه الآية، يقول: الله الذي له عبادة الخلق، الحيُّ ¬

_ (¬1) 2/ 35. [المؤلف]

القيوم، لا إله سواه، لا معبود سواه، يعني: ولا تعبدوا شيئًا سواه" (¬1). وقال في تفسير قول: {الله لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ} [النساء: 87]: "المعبود الذي لا تنبغي العبودة [168] إلا له هو الذي له عبادة كلِّ شيءٍ وطاعة كلِّ طائعٍ" (¬2). وقال في تفسير قول الله سبحانه: {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرَى} [الأنعام: 19]: "يقول: تشهدون أن معه معبودات غيره من الأوثان والأصنام ... {إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} يقول: إنما هو معبود واحد لا شريك له فيما يستوجب على خلقه من العبادة" (¬3). وفي الكشاف: "والإله من أسماء الأجناس كالرجل والفرس، اسم يقع على كل معبود بحق أو باطل، ثم غلب على المعبود بحق، كما أن النجم اسم كوكب ثم غلب على الثُّرَيَّا، وكذلك السَّنَة على عام القحط ... " (¬4). وفي تفسير البيضاوي: "والإله في أصله لكل معبود ثم غلب على المعبود بالحقِّ، واشتقاقه من أَلَه إلاهة وألوهة وألوهية - بمعنى: عَبَد -، ومنه: تألَّه واسْتَأْلَه" (¬5). وفي مفردات القرآن للراغب: "و (إله) جعلوه اسمًا لكل معبوديهم ¬

_ (¬1) 3/ 4. [المؤلف] (¬2) 5/ 112. [المؤلف] (¬3) 7/ 97. [المؤلف] (¬4) 1/ 5. [المؤلف] (¬5) هامش حواشي الشيخ زاده 1/ 22. [المؤلف]

وكذا الذات (¬1) وسموا الشمس إلاهة لاتخاذهم إياها معبودة، وأله يأله: عبد ... و (إله) حقُّه ألا يُجْمَعَ إذ لا معبود سواه، لكن العرب لاعتقادهم أن ها هنا معبوداتٍ جمعوه، فقالوا: الآلهة". [169] وفي حواشي الشيخ زاده على تفسير البيضاوي: "قوله: (إلاَّ أنَّه يختصُّ بالمعبود بالحقِّ) استدراكٌ بمعنى (لكنه)، وضمير (أنه) للفظ الجلالة المذكور سابقًا، ووجه الاستدراك أنه لما ذكر أن أصل لفظ الجلالة إله وهو اسم جنس يُطْلَقُ على كلّ معبودٍ حقًّا كان أو باطلًا كما في قوله تعالى: {وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا} [طه: 97]، وقوله: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23] نشأ من ذلك تَوَهُّمُ أن لفظ الجلالة أيضًا اسم جنس يَصِحُّ إطلاقُه على غير المعبود بالحق فاحتيج إلى رفع هذا الوَهْم، فَرَفَعَه بقوله: (إلا أنه يختص بالمعبود) يعني أن الإله المُحَلَّى باللام قبل أن يغلب استعماله في فردٍ معين من أفراد جنس إله يطلق على كلَّ معبود سواء كان معبودًا بالحق أو لا؛ لأنه ليس عَلَمًا قصديًّا موضوعًا لذاته المخصوصة ابتداء، بل هو عَلَمٌ اتِّفاقيٌّ عرضت له العَلَمِية بأنْ كثر استعماله حال كونه مُحَلًّى بلام العهد في فردٍ معيَّنٍ من أفراد جنسه يكون ذلك الفرد معهودًا للمخاطب بسبب شهرة ذلك الفرد المعهود من بين أفراد جنسه بكونه فردًا لذلك الجنس وأن إلاهًا المُنَكَّر اسم جنسٍ يقع على كل معبود، فإذا كان فردٌ من أفراده أيَّ فردٍ كان معهودًا للمخاطب وأشرت إليه بلفظ (الإله) المحلَّى بلام العهد صحت الإشارة إليه [170] وإن لم يكن معبودًا بالحق، وإذا كان ذلك الفرد المعهود معبودًا بالحق وكثر استعمال لفظ ¬

_ (¬1) يعني المعبود بحق. وفي (ط: دار القلم) ص 82: اللات.

(الإله) المحلَّى بلام العهد فيه لكونه أشهر أفراد ذلك الجنس بكونه فردًا له بحيث صار ما عدا ذلك الفرد كأنه ليس فردًا يصير لفظ (الإله) عَلَمًا له بغلبته عليه وإن كان في أصله أَيْ مَعَ قطع النظر عن غلبته عليه يصحُّ إطلاقه على كلَّ فَرْدٍ من أفراد المعبود" (¬1). وفي تفسير العلامة أبي السعود: "الإله في الأصل اسم جنس يقع على كلَّ معبود بحق أو باطل، أي مع قطع النظر عن وصف الحقية والبطلان لا مع اعتبار أحدهما لا بعينه، ثم غلب على المعبود بالحق كالنجم والصعق. وأما (الله) بحذف الهمزة فَعَلَمٌ مختصٌّ بالمعبود بالحقِّ لم يُطْلَقْ على غيره أَصْلًا، واشتقاقه من الإلاهة والألوهة والألوهية بمعنى العبادة حسبما نص عليه الجوهري على أنه اسم منها بمعنى المألوه كالكتاب بمعنى المكتوب لا على أنه صفة منها، بدليل أنه يوصف ولا يوصف به حيث يقال: إله واحد، ولا يقال: شيء إله كما يقال: كتاب مرقوم، ولا يقال: شيء كتاب ... واعلم أن المراد بالمنكَّر في كلمة التوحيد هو المعبود بالحقِّ" (¬2). [171] وفي لسان العرب: " (الإله) الله عزَّ وجلَّ وكل ما اتخذ من دونه معبودًا إله عند مُتَّخِذِه، والجمع آلهة، والآلهة: الأصنام، سموا بذلك لاعتقادهم أن العبادة تحق لها وأسماؤهم تتبع اعتقاداتهم لا ما عليه الشيء في نفسه. وقال أبو الهيثم: فالله أصله إله، قال الله عزَّ وجلَّ: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا ¬

_ (¬1) 1/ 24. [المؤلف] (¬2) 1/ 7. [المؤلف]

كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} [المؤمنون: 91]، قال: ولا يكون إلهًا حتى يكون معبودًا وحتى يكون لعابده خالقًا ورازقًا ومدبِّرًا وعليه مقتدرًا [سيأتي بيان مراده]، فمَن لم يكن كذلك فليس بإلهٍ [سيأتي بيان مراده] وإن عُبِد ظلمًا، بل هو مخلوقٌ ومتعبَّدٌ. قال: وأصل إلاه وِلاه، فقُلِبت الواو همزةً، كما قالوا: للوِشاح إشاح وللوِجاح - وهو السترُ - إجاح، ومعنى (إله) أن الخلق يَوْلَهون إليه في حوائجهم ... وقد سمَّت العرب الشمس لما عبدوها إلاهة ... قال ابن سيده: ... فكأنهم سمَّوها إلاهة لتعظيمهم لها وعبادتهم إياها فإنهم كانوا يعظمونها ويعبدونها، وقد أوجدنا الله عزَّ وجلَّ ذلك في كتابه حين قال: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37]. والإلاهة والألوهة والألوهية العبادة, وقد قرئ: (ويذرك وإلاهتك) أي وعبادتك، وهذه الأخيرة [172] عند ثعلب كأنها هي المختارة، قال: لأن فرعون كان يُعبد ولا يعبد [فيه كلام سيأتي] ... قال ابن بَرِّي: يقوِّي ما ذهب إليه ابن عبَّاسٍ في قراءته: (ويذرك وإلاهتك) قول فرعون: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24] وقوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38]، [سيأتي الجمع الصحيح بين الآيات] ويقال: إله بيَّن الإلاهة والأُلْهَانيَّة، وكانت العرب في الجاهلية يدعون معبوداتهم من الأوثان والأصنام آلهة وهي جمع إلاهة [فيه نظر] قال الله عزَّ وجلَّ: {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الأعراف: 127]، هي

أصنام عبدها قوم فرعون معه، [هذا تخرُّصٌ وستأتي حقيقة الأمر إن شاء الله تعالى]. والله أصله إلاه على فعال بمعنى مفعول, لأنه مألوه أي معبود ... قال ابن بَرِّي: ... فإذا قيل: الإله انطلق على الله سبحانه وعلى ما يعبد من الأصنام، وإذا قلت: الله لم ينطلق إلا عليه سبحانه وتعالى" (¬1). وفي القاموس (¬2): "أله إلاهة وألوهة وألوهية عبد عبادة ... ومنه لفظ الجلالة ... وأصله إلاه كفِعال بمعنى مألوه، وكلُّ ما اتُّخِذ معبودًا إله عند متَّخِذِه بَيِّن الإلاهة ... ". [173] وفي المصباح (¬3): "أَلِهَ يَأْلَه من باب تعب [سيأتي ما فيه] إلاهة بمعنى عبد عبادة، وتألَّه تعبَّد، والإله المعبود، وهو الله سبحانه وتعالى، ثم استعاره المشركون لما عبدوه من دون الله تعالى، والجمع آلهة، فالإله فِعَال بمعنى مفعول، مثل كتاب بمعنى مكتوب وبساط بمعنى مبسوط". وفي دستور العلماء (¬4): "والإله بمعنى المعبود المطلق حقًّا أو باطلًا". واستيفاء النقل مما لا مطمع فيه، فقد تعرَّض له الفقهاء من جميع المذاهب وغيرهم من أهل الفنون في أوائل الشروح في الكلام على البسملة، والنحاة في الكلام على المعرَّف بالعَلَمية والمعرف بأل، وباب ¬

_ (¬1) لسان العرب 13/ 467 - 469. (¬2) ص 1603. (¬3) ص 19. (¬4) 1/ 10.

النداء، وأهل المعاني في ذكر تعريف المسند إليه. والمرجع الحقيقيُّ هو التفسير واللغة وقد نقلنا عنهما ما يكفي، أو علم الكلام وقد مرَّ النقل عنه. وتلخيص كلامهم المتقدم مع زيادةٍ: أنهم اتفقوا على أن لفظ (إله) مشتقٌّ، ثم اختلفوا فيما اشتقُّ منه، فالأكثر أنه من أله يأله إلاهةً - بمعنى عبد يعبد عبادةً -, والماضي بفتح اللام، وقول صاحب المصباح: (من باب تعب) سهوٌ. وقيل: من أَلِه كفرح، بمعنى: تحيَّر أو غيره. وقيل: من أَلهَه كمنعه إذا أجاره. [174] وقيل: من وَلِه كفرح - بمعنى تحيَّر أو غيره -, والأصل وِلاه قلبت الواو همزة كإشاح وإجاح. ويؤخذ من كلام بعضهم أن الخلاف مختصٌّ بالإله الذي هو أصل كلمة الجلالة، فأما إله المستعمل بلفظه فلا خلاف أنه من أله بمعنى عبد، ومن كلام آخرين أن الخلاف جارٍ في المستعمل بلفظه أيضًا. وحجَّة الأكثر: الاتفاق على أن لفظ إله بمعنى معبود أو معبود بحق أو مستحق للعبادة وهو مناسب لمادة أله بمعنى عبد لفظًا ومعنى، وكأن المخالف يعتذر عن الاختلاف المعنوي بين معنى إله ومعنى متحَيَّر فيه مثلًا بأن الاسم قد يكون أخصَّ مما يقتضيه اشتقاقه كعِطاف خاص في اللغة بالثوب الذي يرتدى به مع أن اشتقاقه يقتضي أن يعمَّ كل معطوف، وهذا حق، ولكن الأصل في المشتق بقاؤه على ما يقتضيه اشتقاقه، والمناسبة بين

المعبود والتحيُّر ضعيفة، ومادة أله بمعنى عبد مستعملة متصرفة فكيف يعدل عنها؟ ويختص قول من قال: وِلاه بأن فيه مخالفةً أخرى للأصل بلا حجَّةٍ ولا حاجةٍ، وبأن قلب واو نحو وشاح همزة جائز غير لازم، وأكثر العرب يقولون: وشاح ولم يُسْمَعْ عنهم وِلاه، وبما ذكره البيضاوي وغيره [175] أن جمع إله آلهة ولو كان الأصل ولاه لقيل: أولهة إذ التكسير يردُّ إلى الأصل. وبعد، فلا يهمنا الخلاف في الاشتقاق بعد الاتفاق على المعنى الراهن، فإنه كما أن أهل اللغة يفسَّرون العطاف بالرداء فكذا المخالف في إله يفسره بالمعبود أو المعبود بحق أو المستحق للعبادة، ومدار فهم المعنى على هذا لا على الأصل الاشتقاقي، والله أعلم. فأما ما مرَّ في عبارة اللسان عن أبي الهيثم من قوله: "ولا يكون إلها حتى يكون معبودًا وحتى يكون لعابده خالقًا ... " فمراده أن معنى إله: معبودٌ بحقًّ، ولا يكون معبودًا بحقًّ حتى يكون خالقًا إلخ، بدليل قوله بعد ذلك: "وإن عُبِد ظلمًا"، أي: فإن عابده وإن كان بزعمه أنه معبودٌ بحقًّ قد زعم أنه إلهٌ، لكنه ليس في حكم العقل والدين بمعبودٍ بحقًّ، فليس بإلهٍ في نفس الأمر. والله أعلم. الاختلاف الثاني: في (إله)، أهو بمعنى: معبودٌ بحقًّ، أم: مستحقٌّ للعبادة، أم معبودٌ. فأما العبارتان الأوليان فلا فرق بينهما، إلا أن قولنا معبود بحق يفهم منه اشتراط أن يكون معبودًا بالفعل، وليس هذا [176] بمراد اتفاقًا؛ للاتفاق على أن من اعتقد في شيء أنه مستحق للعبادة فقد اعتقد أنه إله وإن لم يعبده هو

ولا غيره. واللغة لا تأبى هذا، فإن فِعالًا بمعنى مفعول قد يطلق على ما مِن شأنه أن يكون مفعولًا وإن لم يكن كذلك بالفعل كما يسمون البساط بساطًا وإن لم يكن قد بُسِط. ولو كان معنى إله معبودًا بحق أي معبودًا بالفعل لكان النفي في كلمة التوحيد خاصًّا بذلك، لا يتناول المستحق للعبادة ولم يُعبد بالفعل، وعليه فلا تكون الكلمة الشريفة توحيدًا، وهذا باطل قطعًا. فقد علم أن العبارتين الأوليين متفقتان، وقولنا: "مستحقٌّ للعبادة" أجودهما؛ لسلامتها من الإيهام، فيبقى النظر بينها وبين الثالثة. فأقول: في القرآن آيات كثيرة تدلُّ على أن معنى (إله) مستحق للعبادة لا معبود فقط، منها قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19]، وقوله سبحانه: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، وقوله عزَّ وجلَّ: {لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا} [الأنبياء: 99]. وفي القرآن آيات كثيرة تدل على عكس ذلك منها قوله عزَّ وجلَّ: {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [هود: 101]. [177] وقوله سبحانه في قصة الخليل عليه السلام: {فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ} [الصافات: 91]. وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً} [الأنعام: 74]. وقوله جل ذكره: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم: 81، 82].

وقوله تبارك وتعالى في حكاية توبيخ موسى عليه السلام للسامري: {وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا} [طه: 97]. وقوله سبحانه: {وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء: 39]. وقوله عز اسمه: {فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} [الشعراء: 213]. وأهل العلم مختلفون، فمنهم مَن يختار أنه بمعنى معبودٌ فقط ويتأوَّل أدلَّة القول الآخر، ومنهم من يعكس. والصواب - إن شاء الله تعالى -: إبقاء الآيات على ظواهرها، وأنه قد يجيء بمعنى: ما من شأنه أن يُعْبَد، فيؤخذ من ذلك قيد الاستحقاق، فمعناه حينئذٍ: مستحق للعبادة، وقد يجيء بمعنى معبود، أي بالفعل، ومعناه حينئذٍ: معبود، بلا قيد. [178] فحاصل ما تدلُّ عليه الآيات أن القول بوجود إله غير الله تعالى إن كان بمعنى مستحق للعبادة فشرك وإن كان بمعنى معبود بالفعل غير مستحق فلا. فأما اتخاذ إله غير الله تعالى فشرك مطلقًا، وهذا مما لا خلاف فيه بين المسلمين، أما الأول فظاهر، وأما الثاني فإنهم مجمعون أن عبادة غير الله تعالى شرك بل هذا من ضروريَّات الإِسلام. وكلمة الشهادة تتضمن الأمرين أما الأول فظاهر، وأما الثاني فلما قدمنا في أوائل الرسالة أن النطق بكلمة الشهادة على سبيل الالتزام يتضمن التزام ألاَّ يعبد إلا الله. وإيضاح ذلك: أن لفظ (إله) في كلمة الشهادة بمعنى مستحق للعبادة، وإذا

شهد المرء أنه لا مستحق للعبادة إلا الله عزَّ وجلَّ ثم اعتقد أو ادَّعى أو جوَّز أن غير الله تعالى مستحق للعبادة فقد نقض الشهادة، ثم قد علم من شهادته بذلك اعترافه بأنه إن عبد غير الله تعالى فقد عبد ما لا يستحق العبادة. وقد علم المشركون أن دعوة المسلمين هي إلى ترك الشرك ومنه عبادة غير الله تعالى، وإلى توحيد الله تعالى بأن يعبده ولا يشرك به شيئًا، وأنهم يكتفون من المشرك بأن يشهد ألَّا إله إلا الله [179] وأن محمدًا عبده ورسوله على سبيل البراءة من الشرك كلَّه والتزام التوحيد كلِّه، بل الإِسلام كلِّه. أو لا ترى أننا لا نطالب الكافر بإقامة الصلاة وأداء الزكاة وترك الخمر وغير ذلك، فإذا أسلم طالبناه وقتلناه إن لم يُصَلِّ، وقاتلناه إن لم يزكِّ، وحَدَدْناه إن شرب الخمر. وهل ذلك إلا لأن الكافر لم يلتزم أحكام الإِسلام، فإذا تشهَّد على سبيل التزام الإِسلام فقد التزم ورضي بجميع الأحكام. وفي لفظ الإِسلام ما يومئ إلى ذلك أي أنه أسلم نفسه لكلِّ ما يَحْكُمُ به الدين، فإن قتلناه أو قاتلناه أو حَدَدْنَاه فبمقتضى رضاه. ولهذا إذا حكَّمَنَا الكفار في قضية حكَمْنَا بينهم بحكم (¬1) ديننا ونفَّذْناه عليهم لرضاهم بذلك حين حكَّمونا، وهذا (1) يوضح لك أن النطق بالشهادة على سبيل الالتزام يتضمن التزام (1) جميع أحكام الإِسلام، فإذا خالف بعد الشهادة شيئًا من (1) الأحكام فقد أَخَلَّ بالشهادة، إلا أن الإخلال قد يكون نقضًا لأصل (1) الشهادة كزعم أن غير الله تعالى مستحق للعبادة [180] ¬

_ (¬1) هذه بدايات خمسة أسطر في المخطوط، وقد تآكلت الورقة فلم تظهر بعض حروف هذه الكلمات، والمثبت اجتهاد منِّي.

وكتكذيب النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أو إهانته، وقد يكون نقضًا لما تقتضيه بمعونة القرائن القطعية كما تقدَّم مع دلالة المنطوق عليه، كأن يعبد غير الله تعالى مع اعترافه أن ذلك الشيء لا يستحق العبادة؛ فإن منطوق الشهادة أنه لا مستحق للعبادة إلا الله تعالى، وعلم منه أن عبادة غيره تعالى شرك، وقد يكون الإخلال تقصيرًا دون ذلك كشرب الخمر. فخلاصة ما تقدَّم: أن لفظ (إله) قد يأتي بمعنى مستحق للعبادة، وقد يأتي بمعنى (معبود)، وأن كلمة الشهادة تتضمن التوحيد في الأمرين، وأن الإخلال بأحدهما شرك. ولكن الاشتباه الذي نشكوه لا يزول إلا بمعرفة معنى العبادة، فنقول (¬1): "أصل العبادة في اللغة التذليل (¬2) ... والعبادة والخضوع والتذلُّل والاستكانة قرائب في المعاني، يقال: تعبد فلانٌ لفلانٍ إذا تذلَّل له، وكلُّ خضوعٍ ليس فوقه خضوعٌ فهو عبادةٌ طاعةً كان للمعبود أو غيرَ طاعةٍ, وكلُّ طاعةٍ لله على جهة الخضوع والتذلُّل فهي عبادةٌ، والعبادة نوعٌ من الخضوع لا يستحقُّه إلا المنعم بأعلى أجناس النعم كالحياة ... والعبادة لا تستحقُّ إلا بالنعمة؛ لأن العبادة تنفرد بأعلى أجناس النعم؛ لأن أقلَّ القليل من العبادة يَكْبُرُ عن أن يستحقه إلا مَن كان له أعلى جنسٍ من النعمة [؟] (¬3) إلا الله سبحانه، فلذلك لا يستحق العبادة إلا الله". ¬

_ (¬1) المخصَّص. [المؤلف]. لابن سيده، المجلَّد الرابع (13/ 96). (¬2) كذا في الأصل، والوجه التذلُّل. ونقل في موضع آخر عن أبي عليًّ: "وأصل التعبيد: التذليل". انظر المجلد الأول 3/ 143. (¬3) كذا في الأصل، إشارة إلى الخلل في العبارة؛ لأن الاستثناء هنا لا مناسبة له، إلا أن يكون بدلًا من الاستثناء الأوَّل.

فصل في تفسير أهل العلم للعبادة

فصل في تفسير أهل العلم للعبادة (¬1) أما المتكلمون وأهل العقائد المسمّى بعلم التوحيد فلم أقف لهم على كلام بيِّن في تفسير العبادة، وكأنهم يرون أن الكلام عليها خارج عن فنِّهم، بل صرّح به السعد في شرح المقاصد - كما تقدم -, وكذلك الفقهاء مع حكمهم بالردّة على من عظّم غير الله تعالى أو تذلَّل له على سبيل العبادة. وهذا عجيب؛ يبنون الأحكام على العبادة ويهملون تفسيرها!، ولو قال قائل: إن أكثر الفقهاء بعد القرون الأولى لم يكونوا يعرفون معنى العبادة على وجه التحديد لما وجدنا حجّة ظاهرة تردّ قوله. وأما المفسِّرون؛ فقال ابن جرير: "تأويل: {إِيَّاكَ نَعْبُد} لك اللهمّ نخشع ونذلّ ونستكين إقرارًا لك يا ربّنا بالربوبيّة لا لغيرك" (¬2). وفي الكشّاف: [والعبادة أقصى غاية الخضوع والتذلّل، ومنه: ثوب ذو عَبْدَةٍ، إذا كان في غاية الصفاقة وقوّة النسج؛ ولذلك لم تستعمل إلا في الخضوع لله تعالى؛ لأنه مولي أعظم النعم، فكان حقيقًا بأقصى غاية الخضوع] (¬3). وأما أهل اللغة؛ ففي لسان العرب (¬4): "قال الأزهري: ... ولا يقال عبد يعبد عبادة إلا لمن يعبد الله، ومن عبد دونه إلهًا فهو من الخاسرين. ¬

_ (¬1) هذا الفصل ثلاث صفحات غير مرقمة من نسخة (ب). (¬2) تفسير الطبري 1/ 159. (¬3) الكشّاف 1/ 10، وقد بيض المؤلَّف لكلام الزمخشري فأضفته. (¬4) 3/ 271 - 274.

قال: وأمَّا عبدٌ خَدَم مولاه فلا يقال: عَبَده. قال الليث: ويقال للمشركين: عبدة الطاغوت، ويقال للمسلمين: عباد الله يعبدون الله، والعابد الموحَّد ... وعبد الله يعبده عبادة ومعبدًا ومعبدة: تألّه له؛ والتعبد التنسك، والعبادة الطاعة، وقوله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} [المائدة: 60] ... وقال الزجاج .... قال: تأويل (عبد الطاغوتَ) أي: أطاعه، يعني الشيطانَ فيما سوَّل له وأغواه. قال: والطاغوت هو الشيطان. وقال في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}، أي نطيع الطاعة التي يُخْضَع معها. وقيل: إياك نوحِّد، قال: ومعنى العبادة في اللغة الطاعة مع الخضوع، ومنه طريق مُعبَّد إذا كان مُذلَّلًا بكثرة الوطء ... وقال ابن الأنباري: فلان عابد، هو الخاضع لربَّه المستسلم المنقاد لأمره. وقوله عزَّ وجلَّ: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21] أي: أطيعوا ربّكم". وفي القاموس (¬1): "والعبادة: الطاعة". قال في شرحه تاج العروس (¬2): أما عَبَد اللهَ فمصدره عبادة وعبودة وعبودية، أي: أطاعه ... قال ابن الأثير: ومعنى العبادة في اللغة: الطاعة مع الخضوع (¬3). ¬

_ (¬1) ص 378. (¬2) 8/ 330. (¬3) تقدم قريبًا نقل هذه العبارة عن الزجاج، ولم أجدها في كتاب النهاية لابن الأثير.

وفي المصباح (¬1): "عبدت الله أعبده عبادة وهي الانقياد والخضوع، والفاعل: عابد ... ثم استُعْمِل فيمن اتخذ إلهًا غير الله، وتقرَّب إليه، فقيل: عابد الوثن والشمس، وغير ذلك". وقال الراغب: "العبودية: إظهار التذلُّل، والعبادة أبلغ منها، ولا يستحقها إلا مَنْ له غاية الإفضال، وهو الله تعالى، ولهذا قال: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف: 40] " (¬2). وتحرير هذه النقول أن لهم في تفسير العبادة عبارات: 1 - الطاعة. 2 - الطاعة التي يُخْضَع معها. 3 - غاية التَذَلُّل، أو أقصى درجات الخضوع. 4 - التَألُّه أو الطاعة مع اعتقاد أن المُطاعَ إله. فأقول: أما العبارة الأولى فقصورها واضح، وقد مرَّ (¬3) عن الأزهري قوله: "وأما عبدٌ خَدَم مولاه فلا يقال: عَبَدَه". وقد جاء في الكتاب والسنة في مواضع لا تحصى النهيُ عن عبادة غير الله تعالى، وأن ذلك شرك، وهذا من ضروريّات الدين. وجاء في الكتاب والسنة الأمر بطاعة الرسول وأولي الأمر والوالدين، وهو من ضروريات الدين أيضًا. ¬

_ (¬1) ص 389. (¬2) انظر: المفردات ص 542. (¬3) ص 402.

فإن قيل: فلعلَّ للعبادة استعمالين: أحدهما بمعنى الطاعة مطلقًا. قلت: لم ترد العبادة في الكتاب والسنة وكلام أهل العلم لغير الله تعالى إلا مَنْهِيًّا عنها، ومطلق الطاعة منها المأمور به والمستحبُّ والجائز، وقد مرّ عن الأزهري قوله: فأمّا عبد خدم مولاه فلا يقال: عَبَده. والحاصل أن قصور تلك العبارة أمر يقينيّ. وأما العبارة الثانية؛ فالخضوع إن كان هو التذلُّلَ كما هو المعروف فهو غير منهيًّ عنه مطلقًا، فقد قال تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء: 24]، وقال سبحانه: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [المائدة: 54]. وإن كان غيره فما هو؟ وأيضًا فلا يرتاب أحد أن العبد يطيع مولاه خاضعًا له. وقد مرّ (¬1) عن الأزهري أن طاعة العبد لمولاه لا تسمَّى عبادة. وزاد بعض الأئمة في هذه العبارة قيد المحبَّة (¬2)، ولم يصنع شيئًا؛ فإن العبد قد يطيع مولاه ويخضع له مع محبته إيّاه، وليس هذا بعبادة، والولد مأمور بطاعة والديه والخضوع لهما ومحبتهما، إلى غير ذلك. وأما العبارة الثالثة - وهي المشهورة بين العلماء - فمجملة؛ للجهل بالحدِّ الفاصل بين ما يُعَدُّ من الغاية وما لا يُعَدُّ منها. وأيضًا، فإن أريد بالتذلّل والخضوع ما يظهر للنظر فالأمور المعلوم بأنها ¬

_ (¬1) ص 402. (¬2) انظر: مجموع الفتاوى 15/ 162، 16/ 202، وإغاثة اللهفان 2/ 852.

عبادة تختلف في درجات التذلّل والخضوع، كاستلام ركن الكعبة بمحجنٍ، ولمسه باليد، وتقبيله، ووضع الجبهة عليه، وكالقيام في الصلاة والركوع والسجود، وهذه كلها عبادات، فهي بمقتضى العبارة الثالثة من غاية التذلّل وأقصى درجات الخضوع. وإذًا فالغاية وأقصى الدرجات لها في نفسها درجات؛ فالأمور التي لم يُنَصَّ على أنها عبادات كيف نعلم أنها من الغاية، أو من أقصى الدرجات ما دامت درجات الغاية متصلة بدرجات ما قبل الغاية؟ ومَثَل ذلك مِرْقاة لها خمسون درجة مثلًا، فقال رجل لمملوكه: اصْعَدْ هذه المرقاة ولا تَبْلُغ أقصى الدرجات، وأراد بالأقصى عدّة درجات من أعلى، فمن أين يعلم المملوك عدّة الدرجات التي جعلها السّيّد غاية؟ وأوضح من ذلك أنَّ كثيرًا من الأفعال قد يكون تارة عبادة قطعًا، ثم يكون مثله ليس قطعًا بعبادة، كالسجود لله تعالى وسجود المشرك للصنم مع سجود الملائكة لآدم وآل يعقوب ليوسف عليهم السلام. وأما العبارة الرابعة، ففهمها متوقف على فهم معنى كلمة (إله). وقد تقدَّم أن معنى (إله) معبود، وأن معرفة معنى (معبود) تتوقَّف على معرفة معنى العبادة، وهذا دور وتفسير مجهول بمجهول. سألنا ما معنى إله؟ قالوا: معبود، قلنا: نحن لا نعرف معنى (معبود) فما معناه؟ قالوا: (إله). وهذا كما تراه. وإنما (¬1) التفسير الصحيح أن يُفَسَّر المجهول بمعلوم، فنستعين الله عزَّ وجلَّ في تحقيق ذلك ونقول: ¬

_ (¬1) من هنا تكملة مأخوذة من المسوَّدة (س) من ص 33/ أ، وسأثبت ترقيم صفحاتها الخاصَّ بها مسبوقًا بحرف س.

الباب الثاني في تحقيق معنى كلمة (إله) ومعنى (العبادة) وما يلحق ذلك

[س34/أ] الباب الثاني في تحقيق معنى كلمة (إله) ومعنى (العبادة) وما يلحق ذلك لا مفزع للباحث عن حقيقة هاتين الكلمتين إلا إلى كتاب الله عزَّ وجلَّ، وهو القول الفصل والحَكَم العدل، وقد تكرَّرت فيه هاتان الكلمتان كثيرًا، وباستقراء مواضعهما وتدبُّر مواقعهما تنجلي حقيقة معناهما إن شاء الله تعالى. فأقول: أما إطلاق كلمة (إله) على الله تبارك وتعالى، و (العبادة) على طاعته وكلِّ ما يتقرب به إليه، فأمر لا يحتاج إلى بيان. وأما غير الله فقد حكى الله عزَّ وجلَّ عن المشركين اتخاذهم بعض المخلوقات آلهة. فمن ذلك: 1) الأصنام. حكاه الله تعالى عن قوم نوح، قال تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23]، وفي هذا احتمال؛ لأن المنقول عن ابن عباس وغيره كما في البخاري وغيره: أن هذه أسماء رجال صالحين ماتوا، فمُثَّلت تماثيلهم، وسمّيت بأسمائهم وعُبِدت، وسيأتي إن شاء الله تعالى تمام القصَّة. والظاهر أن التماثيل إنما عُبدت تعظيمًا للمُمَثَّلين ليقرَّبوا إلى الله زلفى، كشأن قريش في حق الملائكة كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى. ويبيّنه أن قوم نوح عليه السلام كانوا يعرفون الله عزَّ وجلَّ، فقد قالوا لنوح عليه السلام: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً} [المؤمنون: 24]، ونحو ذلك.

فإذًا يحتمل أن يريدوا بقولهم: {لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} الأصنام، ويحتمل أن يريدوا أولئك الصالحين، وسيأتي أن قريشًا اتخذوا الملائكة آلهة، وهم إنما صنعوا في حقّهم ما صنعه قوم نوح في حقِّ أولئك الصالحين، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وكذلك قولهم: {وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا}، يحتمل أن يريدوا الأصنام أو أولئك الأشخاص الذين مُثّلَتْ على صُورهم وسميت بأسمائهم. ولعلّ جَعْلَ (آلهة) لأحد الشيئين، أعني: الأصنام، والأشخاص، و (ودًّا) وغيره للآخر = أولى؛ لما يقتضيه ظاهر العطف من المغايرة، أو يريدون بالآلهة ما يعمُّ الجميع، وبـ (ودٍّ) وما معه أحد الفريقين، ولعلَّ هذا أقرب، والله أعلم. وقال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59]. وقال عزَّ وجلَّ: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 23، 24]. فقوله: {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} صريح في أنهم اتخذوا آلهة من دون الله، ولكن لم يظهر أأراد الأصنام أم الأشخاص التي صُوَّرت على صورهم وسُمَّيت بأسمائهم وعُبِدت تعظيمًا [لهم]، أم ما يعمُّ الاثنين؟

وحكى الله تعالى (¬1) عن قوم إبراهيم في عدَّة آيات، منها قول إبراهيم في محاورة أبيه: {أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً} [الأنعام: 74]. [س 34/ ب] وفي شأن بني إسرائيل والقوم الذين أتوا عليهم قال تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138]. 2) العجل. ومنه قوله تعالى: {فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} [طه: 87 - 89]. 3) الهوى. [قال تعالى]: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} [الفرقان: 43]، وقال سبحانه: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23]. 4) الشياطين. يظهر ذلك في قوله تعالى في سورة الأنبياء: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97) إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ} [الأنبياء: 97 - 100]، فقوله: {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} عامٌّ في جميع الكفار، والسياق يؤيده، وهذا يدفع تأويل الموصول في قوله: {وَمَا تَعْبُدُونَ} بما ¬

_ (¬1) أي تأليه الأصنام.

عبده بعض الكفار دون بعض حيث أمكن تأويله بما يطابق العموم. ودخول النار يمنع إرادة ما يعمُّ عيسى وعزيرًا والملائكة ونحوهم. والإشارة بـ {هَؤُلَاءِ} دون هذه، وقوله: {وَرَدُوهَا} دون (وردتها)، وقوله: {خَالِدُونَ}، و {لَهُمْ} {وَهُمْ} و {لَا يَسْمَعُونَ} يمنع من تفسيرها بالأشخاص الخياليّة؛ لأن الأشخاص الخياليَّة معدومة، وهؤلاء موجودون. ويُبْعِدُ إرادة الأصنام؛ لأنها لا تعقل، واحتمال تنزيلها منزلة العقلاء أو التغليب خلاف الأصل. وعموم قوله: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ} يُبْعِد إرادة الأصنام أيضًا؛ لأن الزفير من عوارض الحياة، وليست كذلك. واحتمال أن يخلق الله عزَّ وجلَّ لها حياة خلاف الأصل، ويمنعه أنه لو خُلِق لها حياة لصارت حينئذٍ معذَّبة حقيقة أي تجد ألم العذاب، ولذلك يكون منها الزفير، وهذا لا يجوز؛ لأن الأصنام لا ذنب لها، فلماذا تُعذَّب؟ ومثله عموم قوله تعالى: {وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ}، إذ لا يُنفى الشيء إلا عما يُتَوهَّم ثبوته له، وليس في المقام ما يدلّ أن هناك توهّم سماع التماثيل في النار. فما بقي إلا تأويله بالمتبوعين من الإنس، كالأحبار والرهبان وغيرهم، أو بالشياطين، وسيأتي في العبادة أن الكفار جميعًا عابدون للشياطين، ونصوص القرآن كثيرة في ذلك، فاحتمالهم أقرب. ويؤيَّده أن الخطاب للذين كفروا عمومًا، وهو يشمل المتبوعين، فيكون

الظاهر أن المعطوف عليهم وهو قوله: {وَمَا تَعْبُدُونَ} غيرهم، والمتبوعون من الإنس ليسوا كذلك، والشياطين وإن كانوا داخلين في الذين كفروا إلا أنه يمكن أن يُخَصّ {الَّذِينَ كَفَرُوا} في الآية بالإنس، وهو وإن كان أيضًا خلاف الظاهر إلا أنه أقرب من تخصيصه بالتابعين من الإنس. [س 35/ ب] ويشهد له ما رواه ابن مردويه والواحدي عن ابن عباس أن قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} الآية، لما نزلت قال ابن الزبعرى: أليس اليهود عبدوا عزيرًا والنصارى عبدوا المسيح وبنو مُليح عبدوا الملائكة؟ فأجابه بقوله: بل هم عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك (¬1). وأصل القصة مرويٌّ من طرق (¬2). فأما ما شاع من أنه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أجابه بقوله: يا غلام ما أجهلك بلغة قومك؛ لأني قلت: (وما تعبدون) و (ما) لما لم يعقل، ولم أقل: (ومن تعبدون)؛ ففي تفسير الآلوسي (¬3) أنَّ ابن حجر تعقَّبه في تخريج ¬

_ (¬1) أسباب النزول للواحدي ص 305 - 306، من طريق أبي يحيى عن ابن عباس. وانظر: الدر المنثور 5/ 679 - 680. (¬2) أخرجها الطبري 16/ 418، من طريق سعيد بن جبير، والطبراني 12/ 153 - 154، ح 12739 - 12740، من طريقي أبي رزين وأبي يحيى. والحاكم في كتاب التفسير، تفسير سورة الأنبياء، 2/ 384 - 385، من طريق عكرمة. وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ولم يتعقبه الذهبي. وانظر: مشكل الآثار, باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المراد بقول الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} الآية، 3/ 15. (¬3) روح المعاني 17/ 94.

أحاديث الكشاف (¬1) بأنه اشتهر على ألسنة كثير من علماء العجم في كتبهم، وهو لا أصل له، ولم يوجد في شيء من كتب الحديث مسندًا ولا غير مسند، والوضع عليه ظاهر، والعجب ممن نقله من المحدِّثين، انتهى. أما قولهم: إنَّ (ما) لما لا يعقل، فقد ردَّه الجمهور. نعم، قيل: إنَّ الغالب ذلك، ولكن قوله تعالى: {لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا} يوضح أنها استعملت هنا في العقلاء، [س 36/ أ] وقد قيل: إن السر في ذلك تحقير الشياطين، أي: وأما ترك ذلك في قوله: {لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا} فجاء على الأصل، فلا يدفع تلك النكتة، واستشهد لمراعاة تلك النكتة بما في الحديث: "التي أمرتْهم" ولم يقل: الذين أمروهم. نعم، قال الآلوسي عند قوله تعالى: {لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا} ما لفظه: "وهذا ظاهر في أن المراد مما يعبدون الأصنام لا الشياطين؛ لأن المراد به إثبات نقيض ما يدَّعونه، وهم يدَّعون إلهيَّة الأصنام لا إلهيتها (الشياطين) حتى يحتجَّ بورودها النار على عدمها. نعم، الشياطين التي تعبد داخلة في حكم النص بطريق الدلالة، فلا تغفُل". اهـ (¬2). والجواب: أنهم وإن لم يدَّعوا كون الشياطين آلهة فقد اتخذوها آلهة؛ ¬

_ (¬1) الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف 111 - 112، والجملتان الأخيرتان لم أجدهما في هذا المختصر المطبوع في آخر الكشاف، ولا المطبوع مع تخريج أحاديث وآثار الكشاف للزيلعي (2/ 371). (¬2) روح المعاني 17/ 96.

لعبادتهم لها، كما شهد به القرآن في مواضع كثيرة، ويأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى. ومثله إلزامهم كونهم عبدوا الشياطين وإن كانوا لا يعترفون بذلك بل لا يقصدونه. [س 36/ ب] وبما قرَّرناه عُلم سقوط اعتراض ابن الزبعرى بدون احتياج إلى تخصيص ولا تأويل، ولله الحمد. ويشهد لما تقدم قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا} [مريم: 68]، وقوله تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) [س 37/أ] قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الصافات: 22 - 33]. فسر بعض أهل العلم الموصول في قوله تعالى: {وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ} بالشياطين، وهو الذي يُعيَّنه السياق. نعم، قيل: إنه غير مناسب إذا حُمِل قوله تعالى: {وَأَزْوَاجَهُمْ} على قرنائهم من الشياطين، كما روي عن الضحاك. والجواب: أن أكثر المفسرين على أن المراد بـ (أزواجهم) نظراؤهم في السيرة. أخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن منيع في مسنده والحاكم

وصححه وغيرهم من طريق النعمان بن بشير عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (أزواجهم) أمثالهم الذين هم مثلهم يُحْشَرُ أصحاب الربا مع أصحاب الربا، وأصحاب الزنا مع أصحاب الزنا، وأصحاب الخمر مع أصحاب الخمر (¬1). وجاء نحوه عن ابن عباس وتلامذته سعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة (¬2). نعم، يرد عليه أن النظراء داخلون في عموم الذين ظلموا فكيف يعطفون عليهم بلا مزيَّة؟ واختيار كون الواو للمعيَّة لا يُفيد، وقد يجاب باختيار عدم الدخول، ويكون المراد بـ {الَّذِينَ ظَلَمُوا} المشركين، وبـ {أَزْوَاجَهُمْ} نظراؤهم من سائر الكفار، أو {الَّذِينَ ظَلَمُوا} الكفار مطلقًا، و {أَزْوَاجَهُمْ} نظراؤهم من فسَّاق المسلمين، وظاهر كلام عمر يساعده، أو {الَّذِينَ ظَلَمُوا} كفار الإنس، و {أَزْوَاجَهُمْ} نظراؤهم من كفار الجنِّ. وقيل: إن المراد بالأزواج الأعوان، ويستدل له بالحديث: "الظلمة وأعوانهم في النار" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق 2/ 148 (من قول النعمان بن بشير)، وأحمد بن منيع كما في المطالب العالية 15/ 147، ح 3693، قال ابن حجر: "إسناده صحيح". والطبري 19/ 519. والحاكم في كتاب التفسير، تفسير سورة الصافات, 2/ 430، وقال: "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"، ولم يتعقبه الذهبي. وانظر: الدر المنثور 7/ 83. (¬2) انظر: تفسير الطبري 19/ 519 - 521، الدر المنثور 7/ 84. (¬3) أخرجه الديلمي 2/ 470، من حديث حذيفة، وحكم عليه الألباني بالوضع. انظر: السلسلة الضعيفة 8/ 305، ح 3845.

والصواب إن شاء الله تعالى أن المراد بـ {أَزْوَاجَهُمْ} أخلَّاؤهم، أعمُّ من أن يكونوا من الإنس أو الجنَّ، فقد قال تعالى في آية أخرى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} [الزخرف: 67 - 70]، والمراد بالأزواج هنا الأخلاَّء، فكذا هناك، وبه تتَّفق غالب الأقوال في الآية، والله أعلم. وقد رُوي عن ابن عباس أن المراد بـ {أَزْوَاجَهُمْ} نساؤهم (¬1)، والمراد الكافرات، أي أنه من العام المخصوص أو المراد به الخصوص. والله أعلم. وعلى فرض أن المراد القرناء فقط فيقال [س 37/ ب]: الشياطين المعبودون أعمُّ من القرناء، ويقرب منه قوله تعالى: {وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 92 - 98]. ولعله إنما لم يكثر هذا الاستعمال لأن غالب الكفار لا يسمُّون الشياطين آلهة، بل ولا يعترفون بأنهم يعبدونها، وإنما ألزمهم الله تعالى ذلك لأنهم أطاعوها الطاعة المخصوصة التي تسمَّى عبادة كما سيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى. 5) الأحبار والرهبان. قال الله تبارك وتعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا ¬

_ (¬1) انظر: روح المعاني 23/ 80. قال: ورجحه الرماني.

لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31]. [س 38/ أ] فقوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا} بيان لبطلان اتخاذهم المتقدم. واتخاذهم المتقدم متناول للأحبار والرهبان والمسيح عليه السلام، فظهر منه أنهم اتخذوهم أيضًا آلهة، وإلا لما كان إبطالًا لاتخاذهم، وظهر منه أنهم لم يقتصروا على اتخاذ المسيح وحده إلهًا، وإلا لما كان إبطالًا لاتخاذهم بطرفيه، والله أعلم. 6) المسيح وأمّه عليهما السلام. في الآية المارَّة قريبًا ذكر المسيح عليه السلام. وقال الله تبارك وتعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة: 116]. وقال عزَّ وجلَّ: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ ... مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} [المائدة: 73 - 75] , والمراد ثالث ثلاثة آلهة بدليل قوله في الرَّدَّ عليهم: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ}، والمراد بالثلاثة: الله عزَّ وجلَّ، وعيسى، وأمه، بدليل قوله: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ... وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ}. 7) فرعون. حكى الله تعالى عنه قوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38].

8) أشخاص يُتوهَّم وجودها ولا وجود لها. ولعلَّ من هذا ما في سورة الأعراف: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) ... قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} [الأعراف: 65 - 71]. فإنكارهم عليه قوله: {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ظاهر في أنهم كانوا يطلقون على معبوداتهم من دون الله تعالى: آلهة، وقوله: {فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا} ظاهر في أنها لا وجود لها، وإنما يوجد منها في الخارج الأسماء. [س 38/ ب] وذلك كما لو سئل رجل عن العنقاء فيقول: لا يوجد منها إلا اسمها، أي: إنه اسم بلا مسمًّى, لأن العنقاء اسم لطائر وهميًّ، أي يتوهَّمه الناس موجودًا ولا وجود له. ومن هذا - والله أعلم - ما في قوله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون: 84 - 92].

عدّد الله تعالى عليهم الصفات التي هي من موجبات الألوهية ولوازمها، وقرَّرهم أنها خاصّة به، ثم قال تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ}، فلو لم يكن المغزى مما تقدَّم نفيَ ألوهية تلك الأشخاص التي يزعم المشركون أنها بنات الله لما ظهرت للكلام مناسبة، والله أعلم. وأكثر آلهة أمم الشرك من هذا القبيل، وسيأتي إيضاح هذا في الكلام على العبادة إن شاء الله تعالى. 9) الملائكة. قال الله تبارك وتعالى في سورة الإسراء: {وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39) أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40) ... قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44) ... وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ [39/أ] وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46) ... قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 39 - 57]. وختم هذه السورة بقوله تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111]. [س 39/ ب] فقوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} مورده الإطلاق

ولكن تعقيبه بقوله تعالى: {أَفَأَصْفَاكُمْ} يدل أنه لوحظ في ذلك الإطلاق حالُ أهل مكة في عبادتهم الملائكةَ، وكأن قوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ} وقع على سبيل التعريض بهم من باب "إياكِ أعني واسمعي يا جارة" (¬1)، فكأن الخطاب في المعنى لهم، فكأنه قال: ولا تجعلوا يا أهل مكة مع الله إلها آخر، وأنتم تجعلون الملائكة، ولم تكتفوا بذلك حتى جعلتموهم إناثًا، ولم تكتفوا بذلك حتى قلتم بنات الله - تعالى الله عن قولهم - {أَفَأَصْفَاكُمْ} إلخ، وبهذا يتمُّ الارتباط. إلى أن قال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} , وهذا يحتمل وجهين: الأول: أن يكون المراد: لو كان معه آلهة متصفون بالصفة التي يقول المشركون مِنْ كونهم ينتسبون إلى الله تعالى بالبنوَّة، [س40/ أ] {إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا}؛ لأنهم يكونون مثله سبحانه؛ لأن الولد يشبه أباه سواء كان ذكرًا أو أنثى، فإذا كانوا مثله كانوا أكفاءه في القدرة فتسمو نفوسهم إلى منازعته الأمر؛ لأن كلًّا منهم له إرادة مستقلة، والإرادات تختلف. ولا يرد على هذا الوجه أنَّ جَعْلَ {كَمَا يَقُولُونَ} قيدًا يوهم أنه لو كان هناك آلهة لكن ليسوا كما يقولون لما ابتغوا؛ فيُعارِضُ قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}. ¬

_ (¬1) مثل يضرب لمن يتكلم بكلام ويريد به شيئًا غيره، وأول مَن قاله سهل بن مالك الفزاري. مجمع الأمثال 1/ 49.

لأنا نقول: غاية ما ذُكر أن يكون مفهومًا، والمفهوم لا يُعتدُّ به إذا قام الدليل على عدم إرادته، وزَعْمُ المشركين أنَّ الأنثى ليست كذلك فِعْلاً باطلٌ. أو يقال: لعلَّه أريد بقوله {آلِهَةٌ} مطلقُ معبودين، لا معبودون بحق، فكأنه قال: لو كان معه معبودون بالصفة التي يقول المشركون. وعليه فيكون المفهوم: أنه لو كان معه معبودون لكن بغير تلك الصفة لما لَزِمَ أن يبتغوا إلى ذي العرش سبيلًا. وهذا صحيح؛ فإن [س 40/ ب] الشياطين قد عُبِدت والأصنامَ وبعضَ بني آدم بل والملائكةَ أيضًا، وكلُّهم ليسوا بالصفة التي زعمها المشركون، ولم يلزم من وجودهم أن يبتغوا إلى ذي العرش سبيلًا؛ لأنهم كلهم عبيده مقهورون لإرادته. الوجه الثاني: أن يكون المعنى: لو كان معه آلهة كما يقولون ذلك أي كما يزعمون. [س 41/ أ] وقوله تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} يريد - والله أعلم - وأولئك الذين تجعلونهم آلهة يسبحونه، فهم عبيده لا بناته ولا شركاؤه. ثم قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ ...} واضح في أنه أراد الملائكة. وأما قول: إنهم طائفة من الجن على ما مرّ فضعيف جدًّا؛ لأن الكلام على العموم، وليس كلُّ الشياطين أسلموا، وأباه أكثر المفسرين، وإن صحّ عن بعض الصحابة (¬1)، وكفى بالسياق دليلًا على بطلانه، وما رُوي عن ¬

_ (¬1) منهم ابن مسعود. أخرجه البخاري في كتاب التفسير، سورة الإسراء، باب {قُلِ ادْعُوا =

الصحابيَّ يحتمل التأويل. واعلم أن المشركين كانوا يقولون ما معناه: بنات الله التي (¬1) يقال لهن: "ملائكة" آلهتنا يشفعن لنا، كما سيَبِينُ لك من تدبُّر هذه الآيات، وسنوضحه إن شاء الله تعالى في الكلام على العبادة. وتلك مقالة متضمَّنة خمسة أشياء: الأول: اتخاذ إله من دون الله. الثاني: نسبة الولد إلى الله. الثالث: جعل ذلك الولد أنثى. الرابع: زَعْمُ أن الملائكة إناث. الخامس: دعوى أن لهم شفعاء يشفعون لهم. ولهذا قلَّما ينعى الله تعالى عليهم شيئًا من هذه الأمور إلا أردفه بالباقي. فتحقَّقْ هذا المعنى تتضحْ لك الآيات على وجهٍ يتَّفق مع بلاغة القرآن إن شاء الله تعالى. [س 41/ ب] وقال تعالى في سورة مريم: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) ... يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) ... ¬

_ = الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} الآية, 6/ 85 - 86، ح 4713 - 4715، وانظر تفسير الطبري 14/ 627 وما بعدها. (¬1) كذا في الأصل.

كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 81 - 93]. فقوله تعالى: {لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا} يدلُّ أنه لم يرد الشياطين؛ لأن المشركين لم يقصدوا تأليه الشياطين حتى يقال: أمَّلوا فيهم أن يكونوا لهم عزًّا، وإنما أمَّلوا العزّ من الملائكة، وقالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}، و {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}، [س 42/أ] ويوضح هذا ما جاء في هذا السياق من قوله تعالى: {لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ}. وقوله تعالى: {كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)} ظاهر في أنه لم يرد الأصنام، وإنما حكى الله تعالى هذا عن الملائكة في قوله: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ ... فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ} [الفرقان: 17 - 19]. فكفرُهم بعبادتهم هو تبرُّؤهم منها، أي: إنهم لم يأمروا بها ولم يرضوها وكانوا غافلين عنها، كما سيأتي في فصل العبادة إن شاء الله. وكونهم {عَلَيْهِمْ ضِدًّا} هو شهادتهم عليهم بانهم كانوا يعبدون الجن وغير ذلك كما يأتي إن شاء الله. [س 43/ أ] وقال تعالى في سورة الأنبياء: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19)

يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ [س 43/ ب] أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) ... أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} [16 - 43]. وتفسير هذه الآيات ظاهر لمن تدبَّره وراعى قوانين البلاغة، [س 44/ أ] ولكن نُنَبَّه على أمرين: الأول: قوله تعالى: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا}، عن ابن عباس وغيره تفسيره بالولد، وعن آخرين تفسيره بالمرأة، وفسره آخرون باللعب (¬1)، ورُجِّح الأول لموافقته ما بعده، ورُجَّح الثالث لموافقته ما قبله. والصواب - والله أعلم - أنه لوحظ فيه ما يعمُّ الأمرين ليناسب ما قبله وما بعده. الأمر الثاني: قوله {مِنَ الْأَرْضِ}، اختلف في متعلَّقه، قيل: إنه متعلق ¬

_ (¬1) انظر: نفسير الطبري 16/ 238 وما بعدها، تفسير البغوي 5/ 313، زاد المسير 5/ 343 - 344.

بـ {اتَّخَذُوا}، وقيل: بمحذوف صفة لآلهة. وعلى هذين فالمراد الأصنام. والأشبه بالسياق أنه متعلَّقٌ - والله أعلم - بـ {يُنْشِرُونَ}. والمعنى: أم اتخذوا آلهة هم ينشرون من الأرض. وعليه يكون المراد - والله أعلم - الملائكة، وهو الموافق للسياق. [س 45/ أ] وقال تعالى في سورة الفرقان: {بسم الله الرحمن الرحيم تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3) ... وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا} [1 - 3, 17 - 19]. فقوله تعالى: {وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} يشعر بأن المراد بقوله بعد ذلك: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} إلخ، الملائكة؛ لأنه اجتمع فيهم ادّعاء الولديّة والشرك، وبذلك حَسُن التمهيد، ويؤيّد ذلك قوله: {لَا يَخْلُقُونَ} فجاء بضمير العقلاء، ثم جاء في السياق قوله: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ} إلخ، وهو ظاهر جدًّا أن المراد بـ {مَا يَعْبُدُونَ} الملائكة، وقد تقدّم نظير ذلك. والله [أعلم].

[س 45/ ب] وقال جلّ ثناؤه: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} [يس: 74, 75]. وهذا كما مرَّ في قوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) ... وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)} [مريم: 81 - 82]. ومعنى {وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} - والله أعلم -: والملائكة جند محضرون للمشركين، أي لعذابهم وتنفيذ أمر الله فيهم. وقال تعالى في سورة الزخرف: [س 46/ أ] {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22)} إلى أن قال: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)} [س 46/ ب] إلى أن قال: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ}. ثم بيَّن الله تعالى حال عيسى وبراءته مما تقوَّلوا عليه، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ

هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67)} [47/ أ] إلى أن قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} إلى أن قال: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} (¬1). فتدبَّرْ أنت معاني هذه الآيات، وسأنبهك على بعض ذلك فأقول: قد قدَّمت لك أن مقالة المشركين تتضمَّن خمسة أمورٍ (¬2)، فأرجع إلى ذلك. وستعلم إن شاء الله تعالى أن مرادهم بآلهتهم في قولهم: {أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} الملائكة، وأن مرادهم بذلك الاحتجاج على مقالتهم في الملائكة أنهم ولد الله تعالى، وأنهم آلهة، كأنهم سمعوا بعض الآيات التي ذكر فيها شأن عيسى ممَّا أنزله الله تعالى على سبيل ضرب المثل لهم [مقصودًا به بيان أن الله تعالى لا ندَّ ولا شريك له] (¬3)، وأن مَن قال ذلك مبطل كافر مخذول، فتعاموا عن المقصود وأخذوا من الآية مجرَّد أن عيسى قد قيل فيه: إنه ابن الله، وإله من دون الله، فكأنهم قالوا: إن عيسى قد قيل فيه: إنه ابن الله، وعبدته أمَّة عظيمة كما اعترفْتَ أنت يا محمَّد بذلك، وتلوته فيما تدَّعي أنه كتاب ¬

_ (¬1) سورة الزخرف 15، 22، 45، 57 - 60، 64 - 67، 81، 86. [المؤلف] (¬2) هي كما سبق قريبًا للمؤلَّف: "الأول: اتخاذ إله من دون الله. الثاني: نسبة الولد إلى الله. الثالث: جَعْل ذلك الولد أنثى. الرابع: زَعْمُ أن الملائكة إناث. الخامس: دعوى أن لهم شفعاء يشفعون لهم". (¬3) ما بين المعقوفتين لم تظهر بعض كلماته بسبب بللٍ أصاب نسخة الأصل.

منزل عليك، هذا وهو مولود من امرأة، وكان متصفًا بالصفات البشرية، ونحن إنما قلنا مثل هذه المقالة في الملائكة المقرَّبين الذي ليسوا بشرًا ولا وُلدوا من بشريّات، فهم خير من عيسى، فهم أولى بالولديَّة والألوهيَّة منه، فكيف تنكر علينا؟ ثمَّ وجدتُ ابن جرير قال في تفسيره: حدَّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ} قال: عبد هؤلاء عيسى ونحن نعبد الملائكة (¬1). وهو عين ما فهمتُه، ولله الحمد. [س 47/ ب] فقال الله تعالى: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} , والمعنى في ذلك - والله أعلم - أنه لا متمسَّك لهم فيما أُنزل عليك في عيسى؛ لأن الذي أُنزل عليك في شأنه من كونه قيل فيه: إنه ولد الله، وإلهٌ من دونه، ليس فيه إثبات ذلك ولا تصديقه حتى يكون لهم في ذلك متمسَّك. مع أنَّ الآيات ظاهرة صريحة في إبطال ذلك، ولم تُسَقْ [إلا مساق الإبطال] (¬2)، وإنما [ضربه] مثلًا [قصد به] بطلان [ذلك]، وهم يعلمون ذلك، وإنما يتعامون. {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا} أي لم يحملهم على ذلك القول إلا إرادة الجدل، وإرادة الجدل لذاته مذمومة غاية الذم؛ لأن صاحبها لا يبالي أهو محقٌّ أم مبطل، وإنما غرضه أن يغلب. {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} والخصيم هو كثير الخصومة، لا يبالي أكانت ¬

_ (¬1) تفسير الطبري 20/ 627. (¬2) ما بين المعقوفتين هنا وما بعده في الفقرة لم يظهر بسبب بلل في أعلى الصفحة.

بحق أم بباطل، بشبهة أم بغير شبهة، وهذا هو الذي يقال له: العناد والمكابرة والشَّغَب. وإنما بينت هذا لأن من الناس مَن يتوهَّم أن في الآية دليلًا على قوة شبهتهم وعلى مهارتهم في استخراج الشبه. ثم بيَّن الله تعالى حال عيسى وأنه مُبَرَّأ مما قال النصارى فيه، ثم وَهَّن الله تعالى الأولويّة التي جعلوها للملائكة بقوله: {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ}، أي - والله أعلم - لولَّدْنا منكم ملائكة يخلفون في الأرض, وعليه كثير من المفسرين (¬1)، أي فالملائكة مخلوقون كما أن عيسى [س 48/ أ] وسائر البشر مخلوقون، فليس فيهم صفة تتعالى عن أن تكون مخلوقة. وقوله تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} أريد به - والله أعلم - أن يعُمَّ شأن النصارى في محبتهم عيسى عليه السلام وسائر المشركين في محبتهم الملائكة عليهم السلام، وفي ذلك إيذان أن عيسى عليه السلام يكون يوم القيامة عدوًّا لعابديه. وقد ذكر الله تعالى بعض ذلك في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ...}، وفي قوله: {كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا}، وغيرها مما تقدَّم بعضه. ويشبه ما هنا قولُه تعالى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ...} [النساء: 172]. ¬

_ (¬1) انظر: الكشاف 3/ 424، مفاتيح الغيب 27/ 223، أنوار التنزيل 652، البحر المحيط 8/ 25، الدر المصون 9/ 602 - 603.

[س 48/ ب] فقوله: {وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} ردٌّ على قريش. والله أعلم. [س 49/ أ] وقال تعالى (¬1): {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6)} , إلى أن ذكر الله تعالى قصة هود عليه السلام وقومه وقولهم: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا ...} , إلى أن قال تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}. [س 49/ ب] فالإتيان بـ (مَن) الخاصة غالبًا بما يعقل والصيغ الخاصة بهم أيضًا ظاهرٌ في أنه لم يُرِد الأصنامَ. ويوضحه قوله تعالى: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ}، وهو من قبيل قوله تعالى: {وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا}، وغيره مما تقدم. ويوضحه ما جاء في السياق من قوله تعالى: {فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً}، ولا يأبى هذا قولُه تعالى: {وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ}؛ لأن الملائكة عليهم السلام غافلون عن دعاء المشركين إياهم؛ لأنهم عليهم ¬

_ (¬1) في سورة الأحقاف: 4 - 6، 22، 27 - 28. [المؤلف]

السلام لا يعلمون الغيب، وإذا علموا شيئًا من ذلك فإنما يعلمونه بإطلاع الله تعالى إياهم، وذلك مع كونه إطلاعًا جزئيًّا مجملًا لا يخرجهم عن صدق كونهم غافلين عن دعاء المشركين, لأنهم إنما اطَّلعوا على بعض ذلك بواسطة إطلاع الله تعالى إيّاهم. [س 50/ أ] وذلك كالمعدوم في هذا المقام، أعني: مقام اتخاذهم آلهة؛ فإن مَنْ لا يعلم دعاء داعيه إلاَّ أن يُعلمه غيرُه، لم يخرج عن الغفلة التي تَنَزَّه عنها الإله. على أنه يمكن أن تكون الغفلة هنا مجازًا عن عدم الإجابة كالنسيان في قوله تعالى: {الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ ....}. ومثل هذا - والله أعلم - قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} [يونس: 28, 29]، وتفسيرها بالأصنام أو الشياطين خلاف الظاهر. وإنما هي مثل قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) ....}. [س 50/ ب] فإن قلت: كيف هذا والملائكة يقولون: {بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ}، وهذا ينافي أن يكون الملائكة غافلين. فالجواب: أنه لا منافاة لما تقدَّم قريبًا في معنى (غافلين)، وإنما شهدوا عليهم بإطلاع الله تعالى إياهم وبإقرار المشركين أنفسهم أنهم كانوا يعبدون الملائكة، وسيأتي تقرير أن كلّ من عبد من دون الله شيئًا فقد عبد الشيطان.

فصل

وجاء في الصحيح أن أمة محمَّد تشهد لنوح عليه السلام بالبلاغ (¬1)، وهم إنما يشهدون لإعلام الله تعالى لهم في كتابه وعلى لسان نبيهم صلَّى الله عليه وآله وسلَّم. ثم إن ذكره عزَّ وجلَّ في السياق قصة هود عليه السلام وفيها ذكر الآلهة، وقوله تعالى بعد ذلك: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى ... فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28)} ظاهر في أن حال المشركين المذكور قبل ذلك هو من هذا القبيل. أي: إنهم اتخذوا الملائكة آلهة، ولهذا ذكرنا هذه الآيات في هذا الفصل. وقد تقدَّم تفسير القربان (¬2) وأنه اسم لمن يتقرب إلى الملِك يستوي فيه الواحد والجمع، والله أعلم. [س 56/ أ] فصل وأما العبادة فأخبر الله عزَّ وجلَّ أنها وقعت: 1) للأصنام. وعامَّة ما جاء صريحًا في ذلك عن قوم الخليل عليه السلام. فمن ذلك قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} [إبراهيم: 35، 36]. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب التفسير، سورة البقرة، باب {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}، 6/ 21، ح 4487، من حديث أبي سعيد رضي الله عنه. (¬2) انظر: ص 338.

وقوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم: 41، 42]. وقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} [الأنبياء: 51 - 53]. وجاء بعد قصة تكسيره عليه السلام الأصنام قوله: {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 66، 67]. [س 56/ ب] وقال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} [الشعراء: 69 - 71]. ومثله قوله عزَّ وجلَّ: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} [العنكبوت: 16, 17]. وقوله عزَّ وجلَّّ: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) ... قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 83 - 96]. فهذه المواضع المارَّة كلها في قوم إبراهيم عليه السلام، وبقي غيرها فيهم أيضًا. فأما غيرهم فلم أر ذلك صريحًا، وقد يكون منه ما جاء عن قوم نوحٍ كما

تقدَّم في فصل التأليه، وكذا ما في قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18]. [س 57/ أ] فإن لفظ {هَؤُلَاءِ} إشارةٌ للقريب، وهذا يأبى أن يكون المراد الملائكة أو الأشخاص الخيالية أو الشياطين، وأيضًا فقوله: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} يأبى أن يكون المراد الشياطين؛ لما قدمنا أن المشركين لم يكونوا يقصدون عبادة الشياطين، وأيضًا لم يكونوا يعتقدون في الشياطين الخير ولا القرب من الله عزَّ وجلَّ. ولكن ربما يجاب عن الأول بأن الملائكة أو الأشخاص الخيالية قريب بالنظر إلى الذكر؛ لتقدُّم قوله: {وَيَعْبُدُونَ} فكأنهم كانوا عند عبادة الملائكة أو الأشخاص الخيالية يذكرون بعض أسمائهم أو صفاتهم ثم يقولون {هَؤُلَاءِ} يعنون المذكورين. ويؤيده ما يأتي تقريره في تفصيل شرك العرب أنهم لم يكونوا يزعمون للأصنام نفعًا ولا ضرًّا، وإنما يعبدونها على أنها تماثيل أو رموز لأشخاص عُلويِّين يرجون شفاعتهم (¬1)، وأما نفي الضر والنفع فالمراد - والله أعلم - نفي ملكه، كما قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ ... مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ¬

_ (¬1) انظر ص 590 - 591، 627 فما بعدها.

كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ ...} [المائدة: 73 - 77]، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق الكلام في الآية في بحث اعتقاد المشركين في الأصنام (¬1). [س 58/أ] 2) الشمس. قال تعالى حكاية عن الهدهد: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} إلى أن قال تعالى: {وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ} [النمل 24 - 43]. وقال تعالى: {لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37]. [س 58/ ب] 3) الشياطين. من ذلك ما مرَّ في الفصل قبله في قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98]. وقوله عزَّ وجلَّ: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 22، 23]. وقوله جلَّ شأنه: {وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ ¬

_ (¬1) انظر ص 500 - 501.

يَنْتَصِرُونَ} [الشعراء: 92, 93]. وقوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ: 40، 41]. وقال تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} [المائدة: 60]. قد مرَّ (¬1) في تفسير أهل العلم للفظ العبادة قول الزجاج: تأويل {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} يعني: أطاعهُ فيما سوَّل له وأغواه، قال: والطاغوت هو الشيطان، وهو قول ابن عباس والحسن، وقد قرئ: (وعابد الشيطان)، والشيطان طاغوت بلا شك، ولعل من ذلك قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء: 76]. ولكن الأقرب أن المراد بالطاغوت في قوله تعالى: {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} قول من قال: هم كهنتهم وكلُّ من أطاعوه من دون الله، ويدخل الشيطان في ذلك؛ ليوافق الآيات الواردة في تربيبهم الأحبار وتأليههم وعبادتهم، وقد ذُكِرَت في مواضعها. وقد جاء تسمية الكاهن طاغوتًا في قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ}. ¬

_ (¬1) ص 402.

وقد روى ابن أبي حاتم والطبراني بسند صحيح كما في أسباب النزول عن ابن عباس قال: كان أبو برزة الأسلمي كاهنًا يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه، فتنافر إليه ناس من المسلمين، فأنزل الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا} إلى قوله: {إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} [النساء: 60 - 62] (¬1). وهنالك روايات أخرى قريب من هذا المعنى. [س 59/ أ] وقال تعالى حكاية عن خليله إبراهيم عليه السلام: {يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} [مريم: 44]. وقال تعالى إخبارًا بما يخاطب به يوم القيامة: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)} [يس: 60 - 62]. وقال تعالى: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 161 - 163]. [س 59/ ب] 4) الأحبار والرهبان. قال الله تبارك وتعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31]. وقد ¬

_ (¬1) انظر: تفسير ابن أبي حاتم 3/ 991، ح 5547، والمعجم الكبير11/ 373، ح 12045، ولباب النقول 64، والدرّ المنثور 2/ 580.

مرَّت الآية في فصل الألوهيَّة، وإيضاحُ دلالتها هنا يُعلم مما هنالك. ومنه قوله تعالى: {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ}، وقد مرّ الكلام عليها آنفًا. وقال الله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ ... وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا} [آل عمران: 64]. 5) المسيح وأمه عليهما السلام. في الآية المارَّة قريبًا ذِكْرُ المسيح عليه السلام، وقال الله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ ... مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [المائدة: 73 - 76]. وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ...} [المائدة: 116, 117]. [س 60/ أ] 6) أشخاص متخيَّلة. ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ... قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ... قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا

أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [الأعراف: 65 - 71]. وقال تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ ...} [يوسف: 39 - 40]. [س 60/ ب] 7) الملائكة. من ذلك ما مرّ في فصل الألوهية عن سورة الفرقان، وفيه {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ ...} [الفرقان: 17 - 18]. وفي سورة سبأ: {... وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41)}. واعلم أن المشركين كانوا يزعمون أنهم يعبدون الملائكة، ولكن سيأتي في تحقيق العبادة أنّ لها إطلاقين: تطلق على طاعة مخصوصة، [س 61 / أ] وعلى تعظيم مخصوص. فبالنظر إلى الإطلاق الأوَّل لم يكن المشركون يعبدون الملائكة؛ لأن الملائكة لم يأمروهم بذلك، وإنما أمرتهم الشياطين فأطاعوها. وبالنظر إلى الثاني لم يكونوا يعبدون الملائكة أيضًا؛ لأنهم كانوا يعبدون ملائكة هم بنات الله، وليس الملائكة كذلك.

ولما لم يكن هناك ما يَتَوَجَّه التعظيم إليه كان الأولى بأن يتوجه إليه مَنْ أمرهم بذلك، وهم الشياطين، فتنبَّه. ومرَّ في فصل الألوهية عن سورة يونس: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29)}. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الزمر: 3 - 4]. [س 61/ ب] وقال عزَّ وجلَّ: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الزخرف: 19 - 20]. وقال تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} [يونس: 28 - 29]. وهذا مثل ما تقدَّم في آيتي الفرقان وسبأ. وما اعتُرِضَ به من أن قوله تعالى: {مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ} تهديد، وهو لا يناسب مقام الملائكة، غفلة عما يقتضيه المقام؛ فإن المقام يقتضي تأكيد الوحدانية، وأنه لا هَوادة فيه للملائكة ولا غيرهم، وذلك كقوله تعالى

فصل

لعيسى عليه السلام: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة: 116] فإنه لا يخفى ما في هذا السؤال من صورة التهديد، ولذلك جاء عن السلف أن عيسى عليه السلام يعتريه من خشية الله عزَّ وجلَّ عند السؤال أمر عظيم (¬1). ومن هذا الباب قوله تعالى في حق الملائكة عليهم السلام: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 29]. وقال الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65]. وقال تعالى بعد تعداد ثمانية عشر نبيًّا: {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 87 - 88]. [س 57/ ب] فصل ملخَّص ما تقدم أن الله عزَّ وجلَّ حكى تأليه غيره وعبادة غيره عن أممٍ: 1) قوم نوحٍ عليه السلام، اتَّخذوا الأصنام آلهةً وعبدوها، واتَّخذوا جماعة من الصالحين الذين ماتوا قبلهم آلهةً. ¬

_ (¬1) ورد عن ميسرة أنه أرعدت مفاصله. وعن الحسن بن صالح أنه زال كل مفصل له من مكانه خيفة. انظر: تفسير الطبري 9/ 134، تفسير ابن أبي حاتم 4/ 1252، ح 7048 - 7049. وانظر أيضًا: الدر المنثور 3/ 238، وروح المعاني 7/ 65 - 66.

2) قوم هودٍ عليه السلام، اتَّخذوا أشخاصًا متوهَّمةً آلهةً وعبدوها. 3) قوم صالحٍ، عبدوا مع الله تعالى غيره. 4) قوم إبراهيم عليه السلام، اتخذوا الأصنام آلهة وعبدوها، وعبدوا الشيطان، وعظَّموا الكواكب كما يأتي تفصيله إن شاء الله تعالى. 5) أهل مصر الذين دعاهم يوسف عليه السلام اتخذوا أشخاصًا متوهمة وعبدوها. 6) فرعون ادّعى أنه إله وأطاعه قومه. 7) القوم الذين أتى عليهم أصحاب موسى اتخذوا أصنامًا وعكفوا عليها وسماها أصحاب موسى آلهة وسألوه أن يجعل لهم إلهًا مثلها. 8) قوم موسى فيما مرَّ. واتخذ بعضهم العجل إلهًا وعبدوه، ثم اتخذوا أحبارهم آلهة وعبدوهم. 9) النصارى اتخذوا عيسى وأمه عليهما السلام إلهين من دون الله تعالى، وعبدوهما، واتخذوا رهبانهم آلهة من دون الله تعالى، وعبدوهم. 10) (¬1) مشركو العرب اتخذوا الأصنام آلهة وعبدوها. [س 55/ ج] وهذا وإن لم أره صريحًا في القرآن فهو معروف في السنة والتاريخ وكتب اللغة أنهم كانوا يسمُّون أصنامهم آلهة ويعبدونها. واتخذوا الملائكة آلهة وعبدوهم. واتخذوا أشخاصًا متخيَّلة زعموا أنها بنات الله - تعالى الله عن قولهم - اتخذوها آلهة وعبدوها. واتخذوا الشياطين آلهة وعبدوهم. ¬

_ (¬1) تكرّر هنا الرقم (9) عند الشيخ.

فطريق البحث أن ننظر فيما كان هؤلاء الأقوام يعتقدونه في تلك الأشياء وما كانوا يعظَّمونها به؛ فإذا تبين لنا ذلك علمنا أن ذلك الاعتقاد والتعظيم هو التأليه والعبادة. فأقول: أما قوم نوح عليه السلام ففي "روح المعاني": "أخرج البخاريّ (¬1) وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال: صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح عليه السلام في العرب بعدُ، أمَّا وَدٌّ فكانت [س 55/ أ] لكلب بدومة الجندل، وأما سواع فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمْدان، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع، وكانت هذه الأسماء أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إليهم أن انصبوا في مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابًا، وسمُّوها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تُعبد حتى إذا هلك أولئك ودَرَس العلمُ عُبِدَتْ. وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن محمَّد بن كعب القرظي أنه قال: كان لآدم عليه السلام خمسة بنين: ودّ وسواع ... إلخ، فكانوا عبّادًا، فمات رجل منهم فحزنوا عليه حزنًا شديدًا فجاءهم الشيطان فقال: حزنتم على صاحبكم هذا؟ قالوا: نعم، قال: هل لكم أن أُصوّر لكم مثله في قبلتكم إذا نظرتم إليه ذكرتموه؟ قالوا: نكره أن تجعل لنا في قبلتنا شيئًا نصلي إليه (¬2)، قال: فأجعله في مؤخر المسجد، قالوا: نعم، فصوَّره لهم، حتى مات خمستهم فصوَّر ¬

_ (¬1) صحيح البخاريَّ، كتاب التفسير، سورة نوحٍ، باب: "ودًّا ولا سواعًا ولا يغوث ويعوق", 6/ 160، ح 4920. (¬2) في الأصل: عليه، والتصويب من العظمة 5/ 1590 والدرّ المنثور 8/ 294.

صورهم في مؤخَّر المسجد، فنقصت الأشياء حتى تركوا عبادة الله تعالى وعبدوا هؤلاء، فبعث الله تعالى نوحًا عليه السلام فدعاهم إلى عبادة الله [س 55/ ب] وحده وترك عبادتها، فقالوا ما قالوا. وأخرج ابن أبي حاتم عن عروة بن الزبير أن وَدًّا كان أكبرهم وأبرَّهم، وكانوا كلهم أبناء آدم عليه السلام. وروي أن وَدًّا أوّلُ معبود من دون الله سبحانه وتعالى. أخرج عبد بن حميد عن أبي مطهر قال: ذكروا عند أبي جعفر يزيدَ بن المهلب فقال: أما إنه قتل في أوّل أرضٍ عبد فيها غير الله تعالى. ثم ذكر وَدًّا وقال: كان رجلًا مسلمًا وكان مُحبَّبًا في قومه، فلما مات عسكروا حول قبره في أرض بابل وجزعوا عليه، فلما رأى إبليس جزعهم تصوّر في صورة إنسان ثم قال: أرى جزعكم على هذا، فهل لكم أن أصوَّر لكم مثله فيكون في ناديكم فتذكرونه؟ قالوا: نعم، فصوَّر لهم مثله فوضعوه في ناديهم، فجعلوا يذكرونه به. فلما رأى ما بهم من ذِكْرِه قال: هل لكم أن أجعل لكم في منزل كلَّ رجلٍ منكم تمثالًا مثله، فيكون في بيته فيذكر به؟ فقالوا: نعم، ففعل، فأقبلوا يذكرونه، وأدرك أبناؤهم فجعلوا يرون ما يصنعون به، وتناسلوا ودرس أمر ذكرهم إياه حتى اتخذوه إلهًا يعبدونه من دون الله، فكان أوَّلُ مَنْ عُبِدَ غيرَ الله تعالى في الأرض وَدًّا" (¬1). [س 54/ أ] أقول: والقرآن يدل أن قوم نوح لم يكونوا ينكرون وجود الله عزَّ وجلَّ. يدلُّ عليه قول الله عزَّ وجلَّ: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ ¬

_ (¬1) روح المعاني 29/ 77. وانظر: الدرّ المنثور 8/ 293 - 295.

نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا} [هود: 25 - 27]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 23 - 24]. فيظهر أنهم لو كانوا يجحدون الله عزَّ وجلَّ لبدأ بإثبات ذلك أو لأجابوه بجحد الله عزَّ وجلَّ. [س 54/ ب] وقولهم: {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} إنكار أن يترقى البشر إلى أن يكون رسولًا لله عزَّ وجلَّ. وقولهم: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً} ظاهرٌ في اعترافِهم بالله عزَّ وجلَّ وبالملائكة، وزَعْمِ (¬1) أن الله عزَّ وجلَّ لو أراد الإرسال لما أرسل إلا مَلَكًا؛ لأن البشر لا يتأهَّل لمرتبة الرسالة في زعمهم، فيبعد أن ينكروا أهلية البشر للرسالة وهم يعتقدون في بعض البشر الربوبية المشتملة على الاستقلال بالخلق والرزق والتدبير، فكيف بالجمادات؟ بل كانوا يرون أن الرسالة أَعْلىَ وأجلُّ من الألوهية، فيرون الألوهية مستحقة لبعض البشر أو الجماد ويستبعدون أو يحيلون تأهُّلَ البشر للرسالة، فاعرف هذا واحفظه وتدبَّرْ واعتبر. وقال عزَّ وجلَّ: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ [س 53/ أ] اعْبُدُوا ¬

_ (¬1) معطوفٌ على "اعترافِهم".

اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ... أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 59 - 63]. فتدبّر أيها القارئ. ومن السهل أن تقول: إن القوم لم يكونوا يجرون على مقتضى المعقول إما جهلًا وإما عنادا، ولكن ليس من السهل وأنت بريء من هذين الأمرين: الجهل والعناد، أن يطمئنَّ قلبك إلى صحة هذا القول. وأزيدك أنه لو كان الأمر كما قلت لقال لهم نوح عليه السلام: كيف تستعظمون الرسالة على البشر وأنتم تعتقدون فيهم أو في ما هو أخسُّ منهم من الجمادات ما لا تنكرون أنه أعلى منها بمراحل، ولكانت هذه من أبين الحجج وأوضحها. فإن قلت: لعلَّه قال لهم. قلتُ لك: هذا بعيد؛ إذ لو كان كذلك لقصّها الله تعالى علينا؛ لأنه عزَّ وجلَّ إنما قصَّ القصص في القرآن لبيان ما فيها من حججه وحجج أنبيائه عليهم الصلاة والسلام، وغير ذلك. فإن قلت: فإن الألوهية أعظم من الرسالة فلماذا لم تبن الحجة عليها؟ قلت: قد مرَّ أن الظاهر أنهم كانوا يرون الألوهية دون الرسالة، وأنت إذا تدبرت تبيّن لك الأمر إن شاء الله تعالى. [س 53/ ب] والحاصل أنهم كانوا يعظَّمون الأصنام تقربًا إلى الله عزَّ وجلَّ لاعتقاد أن الله تعالى أمر بتعظيمها بناء على أنهم رأوا أسلافهم يعظمونها تقربًا إلى الله عزَّ وجلَّ، وزعمهم أن أسلافهم لم يكونوا ليفعلوا ذلك إلا عن بينة، وإما على سبيل الاحترام للأشخاص الذين جُعِلت الأصنام تماثيل لهم اعتقادًا بأن احترامَ تماثيلهم احترامٌ لهم، واحترامهم يرضيهم

فيقربوا (¬1) المحترم إلى الله عزَّ وجلَّ، لقربهم منه لما عرفوا به من الصلاح والخير. وهذا الاحتمال الثاني هو الأقرب والله أعلم، وهو الذي علّل به أهل العلم عبادة الأصنام كما يأتي نقل كلامهم. بقي أن في القصة أن الآباء الأولين هم الذين اتخذوا التماثيل ليتذكروا بها أولئك الموتى، وأن الذين عبدوها إنما هم الخلف، فماذا كان يصنع بها الأولون؟ أقول: في القصة أنهم إنما صنعوها لتذكر إيمانهم إذا رأوا التمثال ذكروا صاحبه وما كان عليه من الخير والصلاح وكثرة العبادة، فيبعثهم تذكره على النشاط في عبادة الله عزَّ وجلَّ، كما أن أحدنا ينظر في سيرة أحد صالحينا كسلمان الفارسي وأبي الدرداء وكالربيع بن خثيم وداود الطائي فينشِّطه ذلك لفعل الخير. وقد يُقال: إنَّ هذا في نفسه خيرٌ ومعونةٌ على الخير [س 52/ أ] إذا صرفنا النظر عن التصوير واتِّخاذ الصور، ولا سيَّما وقد تحرَّزوا عن جَعْل التمثال في القبلة، ولكن الشيطان لا يحب الخير ولا يعين عليه، وإنما قصد أن يكون ذلك ذريعة لإضلال خَلَفِهم حيث رقَّاهم من مجرَّد التذكُّر إلى التبرك والعبادة. ونصب التماثيل للذكرى أمر معروف الآن عند الغربيّين ومقلِّديهم من الشرقيّين، فلا تكاد تدخل بيتًا إلا وجدتَ فيه تماثيل أسلاف أهل ذلك البيت، بل لم [يزل ذلك عادة لغير المسلمين قديمًا، ولكنه في] (¬2) هذا العصر أكثر. ¬

_ (¬1) كذا في الأصل. (¬2) ما بين المعقوفتين لم تظهر أكثر كلماته، واستعنت في تقديره بكلام مضروب عليه في نهاية يمين الصفحة.

هذا ما يتعلق باعتقاد قوم نوح، وخلاصته: أنهم اعتقدوا أن تعظيم تماثيل الرجال الصالحين دين يقرَّب إلى الله عزَّ وجلَّ، فأما ما كانوا يعملون فلم أجد فيه نصًّا. والله أعلم. وأما قوم هود وقوم صالح فقد قال الله عزَّ وجلَّ: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [فصلت: 13 - 14]، فقوله: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} ظاهره أنهم كانوا يعبدون الله في الجملة ولكنهم يشركون به، وابتداء الرسل بهذا يدلّ أن المرسَل إليهم لم يكونوا يجحدون وجود الله عزَّ وجلَّ، بل قولهم: {لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً} [س 51/ ب] نصٌّ في أنهم كانوا يعترفون بربوبية الله عزَّ وجلَّ وأنه لا رب غيره، ويعترفون بوجود الملائكة عليهم السلام، وفي القصص التاريخية ما يوافق هذا المعنى. وقال الله تعالى: {قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [هود: 53 - 54]. ففي هذا أنهم كانوا يعتقدون في آلهتهم القدرة على الضرر ويلحق به النفع، وهو بقرينة ما تقدَّم يدلُّ أنهم يعتقدون لتلك الآلهة قدرة منحها الله عزَّ وجلَّ إيَّاها، فهي تتصرَّف فيها بحسب إرادتها كما يتصرَّف الإنسان بالقدرة التي مُنِحها بحسب إرادته (¬1). ¬

_ (¬1) هنا كلمات نحو ثلاثة أسطر مضروب عليها، هي: "الوجه الثاني: أنهم لا يعتقدون لها قدرة على النفع والضر مباشرة، ولكن إذا حقرها أحدٌ سألت الله عزَّ وجلَّ أن =

وقد ذكر الله تعالى في سورة الأحقاف خبر عاد ثم قال: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً} [الأحقاف: 27 - 28]. وذكر المفسِّرون أنَّ المراد بمن حولهم عاد وثمود وغيرهم (¬1) (¬2)، وهو صحيح؛ فإن بلاد عاد وثمود من أرض العرب. وقد سبق في المقدِّمة أن القربان هنا من يتقرَّب بتعظيمه إلى الله عزَّ وجلَّ. وقد تقدَّم أنَّ آلهة عاد كانت أشياء خياليَّة، فأمَّا كيفيَّة عبادتهم فلم أجد فيه شيئًا. وكذلك آلهة ثمود وعبادتهم لم أجد بيانها. وقد يقال: قد دلّ قولهم: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً} (¬3) أنهم كانوا يعتقدون بوجود الملائكة، فهلَّا يقال: إن تلك الأشخاص التي كانوا يؤلَّهونها ملائكة؟ قلت: قد تقدَّم أنَّ الآية قوله تعالى: {أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا} تدلُّ أنَّ تلك الأشخاص لا وجود لها، فكأنهم كانوا ينعتونها ¬

_ = يعتريه بسوء فيعتريه به، فنسب الاعتراء إليها مجازًا، والأول هو الظاهر" وبقي سطر آخر لم يضرب عليه، وهو: "والثاني هو المتعيَّن لما مرّ من قولهم: {لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً} ". ولا وجه لبقائه مع حذف الوجه الثاني كلِّه. (¬1) انظر: تفسير الطبري 21/ 161، وزاد المسير 7/ 386. (¬2) في نهاية الصفحة سطر أصابه بلل، وبقي منه: ويظهر أنه ... الناس والآلهة في القدرة. (¬3) سورة المؤمنون: 24.

بنعوت لا [تنطبق] على الملائكة كما نعتت قريش آلهتها بأنهم بنات الله [تعالى الله عن ذلك]، ولعلَّهم كانوا يزعمون الأنبياء عليهم السلام بتلك الصفة التي تخيَّلوها كما هو شأن قريش، وكذلك المصريُّون القدماء على ما يأتي. (¬1) وجاء في الآثار أنهم كان لهم أصنام، فإذا صحَّ هذا فإنَّ تلك الأصنام كانوا يتخذونها تماثيل لتلك الأشخاص، كما هو حال جميع المشركين، كما مرَّ في قوم نوح، وكما يأتي في غيرهم. ويدلُّ عليه هنا أن الله عزَّ وجلَّ أخبر عن مجادلة هودٍ لقومه في الأشخاص المتخيّلة أعني قوله: {أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ}، ولم يذكر شأن الأصنام لأنها إنما كانت تبعًا لتلك الأشخاص، والله أعلم. خلاصة اعتقادهم: يعتقدون وجود أشخاص علوية ينعتونها بنعوت لا تنطبق على الملائكة، ويقولون: إنها تتصرَّف في الكون بقدرة ممنوحة لها من الله عزَّ وجلَّ، ولا تفعل إلا ما يرضاه، وإنها تقرَّب إليه، ويظهر أنهم كانوا يَدْعون تلك الأشخاص ويتضرَّعون إليها ويسألون منها حوائجهم، ويعتقدون أن ذلك من الدَّين الذي يرضاه الله عزَّ وجلَّ، وإذا صحَّ ما جاء في الآثار فيضاف إلى هذا أنهم كانوا يعتقدون أن تعظيم الأصنام يقرِّب إلى أولئك الأشخاص الذين هي تماثيل لهم، وأنَّ ذلك من الدَّين الذي يقرِّب إلى الله عزَّ وجلَّ. ¬

_ (¬1) ورقة محبوكة بدبُّوس صغير، ولعلَّ ذلك من المؤلف، ولها ظهر ووجه.

وأمَّا قوم إبراهيم عليه السلام فأمرهم مشتبه، [س50/ ب] قال الله تبارك وتعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) ... فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 74 - 82]. وقال عزَّ وجلَّ: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء: 69 - 78]. وقال عَّز مِنْ قائل: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ

مِنَ الشَّاهِدِينَ ... قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ} [الأنبياء: 51 - 66]. وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف: 26، 27]. وقال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ ... وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ... فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ...} [مريم: 41 - 49]. وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ...} [البقرة: 258]. فالذي يظهر من مجموع هذه الآيات أن إبراهيم عليه السلام أنكر أولًا على أبيه عبادة الأصنام، ولم يرها أهلًا أن تعبد لأنها لا تضر ولا تنفع، ثم طلب الرب الذي يستحق العبادة فوقع بصره على الكوكب ثم بدا له نقصه، فانتقل إلى القمر فبدا له نقصه، فانتقل إلى الشمس فبدا له نقصها، فانتقل إلى رب العالمين ثم أخذ يحاج قومه. واختلف أهل العلم في قوله: {هَذَا رَبِّي} , أهو على ظاهره، وكان هذا

منه حال صباه وقبل أن يؤتى النبوة، وهذا رأي كثير من السلف، واختاره ابن جرير (¬1)؟ أم كان على سبيل الاستدراج لقومه وأضمر في نفسه الاستفهام: أو هذا ربي في زعمكم؟ وكلٌّ من القولين له مرجَّحات ليس هذا موضع بسطها. والمقصود هنا هل في ذلك دلالة على أن قومه كانوا يعبدون الكوكب؟ فإن من المفسرين من قال ذلك، قال: وإنما كانت عبادتهم الأصنام (¬2). [س 86/ أ] فالقوم ألَّهوا الأصنام وعبدوها ودعوها وجعلوها شركاء. وهل كانوا يعتقدون فيها ذواتها قدرة على النفع والضُّر؟ الظاهر عدم ذلك، فإنه لما سألهم الخليل عليه السلام: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 72 - 74]، وظاهرٌ أنهم لو كانوا يعتقدون أنها تضرُّ وتنفع لما فرُّوا إلى الاعتصام بالتقليد، بل ربما يُفهم من تعبيرهم بـ (بل) تسليم أنها لا تسمع ولا تضر ولا تنفع. ويؤيد ذلك أن إبراهيم عليه السلام لما كسرها وهم غائبون، وأُخبروا بأنه سُمِع يذكرها من قبلُ، لم يَستبعدوا قدرته على تكسيرها. ولما قال لهم: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا ¬

_ (¬1) تفسيره 9/ 361. (¬2) كذا في الأصل، وتعليق المؤلِّف على الآيات من قوله: "فالذي يظهر" إلى هذا الموضع عليه خطٌّ معترض، ولم يتبيَّنْ لي هل قصد به الضرب على الكلام أو لم يقصد به.

يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ ... لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ} [الأنبياء 63 - 65]. ثم لمّا قال لهم: {أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ} عدلوا عن الجواب إلى أن: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ}. [س 86/ ب] ويشهد لذلك أيضًا أن إبراهيم عليه السلام قال لأبيه: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم: 42]، فلم يجبه أبوه بشيء كأن يقول: بل يغني عني، بل {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم: 46]. إذن فلماذا كانوا يعبدونها؟ يظهر من جوابهم بقولهم: {قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 74]، مع ما تقدَّم أنهم إنما كانوا يعبدونها محافظة على عادتهم وعادة آبائهم أنفةً مِنْ أن يتركوا ذلك، كما روي عن بعض مشركي قريش أنهم تيقَّنوا بطلان ما هم عليه، ولكن شقَّ عليهم أن يعترفوا بأنهم كانوا هم وآباؤهم على ضلال. ويؤيَّده أن إبراهيم عليه السلام لما كسر الأصنام: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} [الأنبياء: 63 - 64]، ففي هذا اعتراف بأن الأصنام لا تضرُّ ولا تنفع، وإنما نُكسوا على رؤوسهم لمجرد المحافظة على العادة فقط. ولو كانوا يعبدونها على أنها تماثيل لأشياء أُخر لانتقلوا في الموضعين

- والله أعلم - إلى تلك الأشياء، بأن يقولوا: نحن لا نعبدها لذاتها وإنما نعبدها تعظيمًا للأشخاص التي هي تماثيل لهم مثلًا. وأيضًا، لو كانوا يعبدون التماثيل بهذا القصد لكانوا يعبدون تلك الأشخاص التي هي تماثيل لهم، وإذًا لجاء في محاجَّة إبراهيم عليه السلام ذِكْرُ ذلك كما جاء عن نبينا عليه الصلاة والسلام وغيره من الأنبياء، بحيث إن غالب ما جاء عن نبينا عليه الصلاة والسلام في القرآن لا يكاد يوجد فيه ذكر الأصنام، وإنما كلامه مع المشركين في الملائكة والبنات الخياليَّات. وقد قيل: إن قوم إبراهيم عليه السلام كانوا يعبدون التماثيل على أنها تماثيل أو تذاكر أو رموز [س 87/ ب] للكواكب، واحتُجَّ له بقصَّة إبراهيم عليه السلام في الكواكب وقوله: {هَذَا رَبِّي} وتعقيبه ذلك بقوله: {يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 78]، فدلَّ بذلك أن شركهم له علاقة بالكواكب. وقال بعد ذلك: {وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا}، فدلَّ هذا أنهم كانوا يخافون شركاءهم ويخوِّفون إبراهيم عليه السلام إيَّاهم، ويَبْعد هذا أو يَمْتَنِع في حق الأصنام؛ لأنهم كما تقدَّم اعترفوا أو كادوا بأنها لا تضرُّ ولا تنفع. ويشهد لهذا أنه قد عُرِف الآن من دين البابِليِّين القدماء وهم الصابئة - وإلى أهل بابل بُعث إبراهيم عليه السلام - أنهم كانوا يؤلَّهون زُحَل والمشتري والمِرِّيخ والزُّهَرة وعُطارِد، وعندهم أن لزُحَل صورةً تُصَوَّر برأس إنسان وجناحي طائر، وللمِرِّيخ صورة أسد برأس إنسان وجناحي طائر، وقِس [س 89/ أ] الباقي، ثمَّ يمثلون لها تماثيل بتلك الصور التي تخيَّلوها أي:

بدن حيوان برأس إنسان وجناحي طائر، ويعبدون تلك التماثيل (¬1). ويؤيد أن [هذا] (¬2) كان اعتقادَ قوم إبراهيم عليه السلام ما قد أخبر الله عزَّ وجلَّ عنه في قوله: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89)}، فإنه أوهمهم بنظره في النجوم أنه عرف من دلالتها أنه سيَسْقَم، فقوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} أراد به: إني سأسقم. وقرينة ذلك نظرُه في النجوم، وإيهامه المذكور. وصدق عليه السلام في قوله: إنه سيَسْقَم؛ فإنَّ كلَّ إنسان مُعرَّضٌ لسقَم. وما ورد من [أنه] من المعاريض هو - والله أعلم - نظره في النجوم؛ فإنه أوهمهم أنه عرف من دلالتها أنه سَيَسْقَم، وهو لم يعرف (منها) ذلك، وإنما [أوهمهم]، فهذا الإيهام هو الذي من المعاريض، والله أعلم. وقد دلّت الآية على أن النظر في النجوم والاستدلال بها على ما سيحدث كان معروفًا عند القوم، ومن هنا - والله أعلم - ألَّهوها. وعلى هذا الوجه فلماذا كانوا يؤلَّهون الكواكب؟ جاء في التفسير المذكور (¬3) أيضًا أنهم كانوا يصفون المشتري بالرِّب العظيم، والملك، وملِك الآلهة، والإله المجيد، والقاضي، والقديم، وقاضي الآلهة، ورب الحروب، وملِك السماء، ورب الأبديَّة العظيم، ورب الكائنات، ورئيس الآلهة، وإله الآلهة. ¬

_ (¬1) انظر: تفسير الجواهر 10/ 206. [المؤلف] (¬2) ما بين المعقوفين لم يظهر في الأصل بسبب بلل أصاب طرف الورقة (¬3) تفسير الجواهر 10/ 206. [المؤلف]

والمرِّيخ بإله الحرب والصيد، الرجل العظيم، البطل القدير، ملك الحرب، المهلك، جبَّار الآلهة. [س 89/ ب] ومن صفاتهم للزُّهَرة ملكة الآلهة والآلهات. ولعطارد ربّ الأرباب الذي لا مثيل له. واستدلّ صاحب التفسير بهذه الأوصاف المتناقضة الظاهر بأنهم كانوا يصفونها على سبيل المبالغة في المدح. أقول: وعلى كلِّ حال فوصفهم لتلك الكواكب صريحٌ في أنهم يعتقدون لها التدبير والتصرُّف، وبقي علينا أن نفهم بأيِّ كيفية تدبَّر وتتصرَّف في زعمهم؟ جاء في الملل والنحل (¬1) للشهرستاني: ["فإن عندهم [أي الصابئة] أن الإبداع الخاص بالرَّبّ تعالى هو اختراع الروحانيات ثم تفويض أمور العالم العلوي إليها والفعل الخاصّ بالروحانيات هو تحريك الهياكل (الكواكب) ثم تفويض العالم السفلي إليها، كمن يبني معْمَلة وينصب أركانًا للعمل من الفاعل والمادَّة والصورة وتفويض العمل إلى التلاميذ" (¬2)]. وفي شرح المقاصد: [" (قال: وزعموا أن لكل فلك روحًا) يشير إلى ما ذهب إليه أصحاب الطِّلَّسمات (¬3) من أن لكل فلك روحًا كليًّا يدبر أمره وتتشعب منه أرواح كثيرة، مثلًا للعرش - أعني الفلك الأعظم - روح يدبر ¬

_ (¬1) بيض المؤلف للنقلين فأضفتهما من الكتابين اللذين ذكرهما. (¬2) الملل والنحل 2/ 128. (¬3) سبق التعريف بها في ص 334.

أمره في جميع ما في جوفه يسمى بالنفس الكلية والروح الأعظم وتتشعب منه أرواح كثيرة متعلقة بأجزاء العرش وأطرافه، كما أن النفس الناطقة تدبر أمر بدن الإنسان ولها قوة طبيعية وحيوانية ونفسانية بحسب كل عضو، وعلى هذا يُحمل قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا} [النبأ: 38]، وقوله تعالى: {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [الزمر: 75]، وهكذا سائر الأفلاك. وأثبتوا لكلَّ درجة روحًا يظهر أثره عند حلول الشمس تلك الدرجة، وكذا لكل يوم من الأيام والساعات والبحار والجبال والمفاوز والعمران وأنواع النباتات والحيوانات وغير ذلك، على ما ورد في لسان الشرع من ملَك الأرزاق وملَك الجبال وملَك البحار وملَك الأمطار وملَك الموت ونحو ذلك. وبالجملة فكما ثبت لكل من الأبدان البشرية نفس مدبرة فقد أثبتوا لكل نوع من الأنواع بل لكل صنف روحًا يدبّره يُسمَّى بالطباع التام لذلك النوع تحفظه من الآفات والمخافات وتظهر أثره في النوع ظهور أثر النفس الإنسانية في الشخص"] (¬1). أقول: الظاهر أنهم كانوا يعتقدون حياتها كما هو رأي الفلاسفة أنَّ للكواكب أنفسًا، وهل أرواح الكواكب عندهم من الملائكة أم غيرهم؟ الله أعلم. وعلى كلَّ حال فهم يعتقدون أن تلك الأرواح مقرَّبة عند الله عزَّ وجلَّ، ¬

_ (¬1) 2/ 54.

ومقرَّبة إليه، فكانوا يعبدون الكواكب على أنها أحياء تنفعهم فيما يدخل تحت تدبيرها، وتشفع لهم إلى الله عزَّ وجلَّ في غير ذلك. قال صاحب التفسير المذكور (¬1): "وقصارى الأمر وحماداه (¬2) أن هؤلاء الصابئين كانوا أوَّلًا يعبدون الله، ولله ملائكة موكَّلون بالكواكب، فالله هو المعبود، والملائكة يعملون [س90/ أ] بأمره، والكواكب كأنها أجسام تلك الأرواح، فعبادة الملك يتقربون بها إلى الله، والكوكب حجابه أو جسمه أو نحو ذلك، فهو رمزه، والتماثيل في الأرض مذكِّرات بالكواكب إذا غابت عنهم؛ إذًا العبادة (¬3) في نظرهم كلها راجعات إلى الله كما قال تعالى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، فإذا عبدوا زُحَلًا (¬4) أو المشتري فقد أرادوا بذلك أنهما ملكان ثم اعتبروا الكواكب ثم التماثيل. اهـ. وبَعَثَه على هذا القول أن القوم كانوا يعترفون بالله عزَّ وجلَّ، واسمه عندهم: (إل) (¬5). وقد جاء عن السلف أن (إيل) بالسريانيَّة - وهي لغة القوم - اسمٌ لله عزَّ وجلَّ. وجاء عن ابن عبَّاسٍ أن معناه: الرحمن (¬6). وربما يساعد هذا قولُ [س 90/ ب] إبراهيم عليه السلام لأبيه: {يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ ¬

_ (¬1) 10/ 208. [المؤلف] (¬2) قصارى الأمر وحماداه: غايته. انظر: القاموس المحيط: 355. (¬3) كذا في الأصل، ونقله المؤلف في موضع آخر بلفظ الجمع، وهو الصواب. (¬4) كذا في الأصل. (¬5) ذكره [طنطاوي جوهري] في [تفسيره الجواهر، ج 10] ص 205. [المؤلف] (¬6) انظر ما سيأتي ص 678.

لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم: 44 - 45]. وعلى ذلك سمي الملائكة بجبرائيل وميكائيل وإسرافيل، وسمي يعقوب بإسرائيل. وجاء في التوراة والإنجيل بأيدي أهل الكتاب الآن أن إيل اسم الله تعالى ... (¬1). والمقصود أن قوم إبراهيم كانوا يعترفون بـ (إيل) وأنه أكبر من بقية آلهتهم على الحقيقة، وينزهونه عما اعتقدوه في بقيَّة آلهتهم من اتِّخاذ الزوجة. وأثبت الله وأنبياؤه أن إيل اسم الله، فثبت بذلك أن قوم إبراهيم كانوا يعترفون بالله عزَّ وجلَّ ويعظَّمونه في الجملة. وقد يرشدنا إلى ذلك محاورات إبراهيم عليه السلام معهم؛ فإنه ينازعهم في عبادة غير الله دون وجود الله عزَّ وجلَّ وربوبيته، وذلك ظاهر في أن وجوده تعالى وربوبيَّته كان مسلَّمًا عندهم. فمن ذلك الآيتان المارَّتان آنفًا، وأظهر من هذا قولُ إبراهيم عليه السلام: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 75 - 77]، والأصل في الاستثناء الاتصال، و (ما) وإن كانت أكثر ما تجيء لما لا يعقل فكثيرًا ما تجيء لما يعقل. [س 91/ أ] ¬

_ (¬1) كلمة لم تظهر في الأصل، يمكن أن تُقرأ: حي قيوم

وعليه، فالآية ظاهرة في أنهم كانوا يعبدون الله عزَّ وجلَّ في الجملة. ومما يؤيِّد ما قاله صاحب تفسير الجواهر في ترتيب اعتقاد البابليِّين وأن ذلك كان اعتقادهم حتى بُعث إليهم إبراهيم عليه السلام ما حكاه الله عزَّ وجلَّ عن إبراهيم عليه السلام في قضية الكوكب والقمر والشمس، فلنذكرها هنا مع تفسيرٍ يوافق ظاهرها، وهو مطابق لما ذكره صاحب التفسير. قال الله عزَّ وجلَّ في سورة الأنعام: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ} أي - والله أعلم - في أوَّل أمره قبل أن يصرِّح بإبطال دين قومه {لِأَبِيهِ} أي - والله أعلم - بحضرة قومه كما نص عليه في سورة الشعراء {أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً}، أجمل القصَّة هنا وفصَّلها في سورة الشعراء حيث قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 69 - 74]، فكأنه والله [أعلم] قال لهم أوَّلًا ما ذُكر هنا. [س 91/ ب] أي: لأن نوره في حِسِّنا أعظم من نور الكوكب، ونفعه المحسوس أعظم، {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} [الأنعام: 77]، كأنه يقول: إن القمر بقوَّة نوره وظهور نفعه قد يغرُّ الناظر ويشغله عن استحضار كونه يأفل أيضًا، فلا يستحضر ذلك إلا عند رؤيته آفلًا. وفي كلامه هنا غاية اللطف والحكمة حيث ارتفع عن قوله في الكوكب: {لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} إلى ذكر الرب الحقيقي وأنه وحده الهادي، ومَن لم يهده فهو ضال، وفي ذلك أن عبادة القمر ضلال، ويلزم من ذلك أن عبادة الكوكب أشدُّ ضلالًا، ولكن لم يواجه قومه بقوله: أنتم ضالُّون؛ رغبةً في بقائهم

معه حتى النهاية. {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ} أي من القمر حجمًا ونورًا ونفعًا. [س 93/ أ] وحينئذ كأن لسان حال قومه يقول: إن الشمس أيضًا ستأفل، فهب أن هذا الفتى بهره نور القمر فغفل عن كونه سيأفل، فهل غفل عن أفول الشمس أيضًا؟ إن ضياء الشمس وبهجتها ونفعها لمما يبهر الناظر، ولكن يبعد ألَّا يستحضر ما تقدَّم له في القمر. وأعجب من ذلك أنه قبل هذا اليوم كان يرى الكواكب والقمر تطلع وتأفل، فكيف غفل كلَّ الغفلة عن أفولها حتى رآه هذا اليوم؟ لا بدَّ من أحد أمرين: الأول: أن يكون حريصًا على عبادة الكواكب مستغرقًا في عظمتها، فشغله ذلك عن استحضار كون الكوكب يأفل [س 93/ ب] حتى رآه الآن، وكذلك القمر. الأمر الثاني: أن يكون مستدرجًا لنا وفي نفسه شيء آخر. وعلى كلا الحالين فنراه يبحث بحث خالٍ عن الغرض، بل بحث حريص على عبادة الكواكب حتى إنه يغفل أو يتغافل عما يقتضي بطلان عبادتها حتى يقع ذلك بالفعل. لننتظر النتيجة. {فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ} قد رأيتم بطلان عبادة الكواكب وما هو أعظم منها وأنفع وهو القمر، وها أنتم رأيتم بطلان عبادة ما هو أشدُّ عِظَمًا ونفعًا

وهو الشمس، ولم يبق إلاَّ الله عزَّ وجلَّ الذي هو بالاتفاق ربُّ كل شيء وخالق كل شيء ومدبِّر كلِّ شيء وبيده الخلق والأمر والنفع والضَّر، [س 94/ أ] {إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}. وأنت ترى أنه لم يجر ذكرٌ للملائكة، فكأنهم كانوا يرون أنَّ الكواكب أجسام حقيقيَّة للملائكة، أو أن الملائكة لا عمل لهم إلا تدبير الكواكب، وبواسطتها يدبِّرون غيرها. وعلى كلًّ، فببطلان عبادة الكواكب بطلت عبادة الملائكة. والله أعلم. {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ} أي - والله أعلم - في توحيد الله وفي الكواكب فقالوا له مثلًا: إن الله عزَّ وجلَّ يرضى لخلقه عبادة الكواكب ويسخط عليهم إذا تركوها، وإن الكواكب نفسها تنتقم ممن لا يعبدها. {قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ}، أي - والله أعلم - وهو سبحانه وتعالى الذي هداني لتوحيده فلا معنى [س 94/ ب] لمحاجَّتكم. {وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} , أي - والله أعلم - أنها مربوبات لله عزَّ وجلَّ باعترافكم، فهي إذًا عاجزة عن ضَرِّي، وإنما يمكن أن تضرني إذا أذن الله تعالى لها، فإذًا الأمر كله لله وحده، وهو الذي هداني لتوحيده، فكيف يأذن لها بضرِّي عقوبةً على طاعتي له؟ {أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ}. ثم عطف عليهم فقال: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ}، مع ما قدَّمت، {وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ}، وأنتم معترفون بأنه ربُّ كلَّ شيء وخالق كل

شيء، والقائم على كل شيء، أشركتم به {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا}، أي - والله أعلم - أن كونه تعالى منفردًا بالربوبية الحقيقية وغيرها من الصفات التي لا تنكرونها يقتضي أن لا يعبد غيره، فإن توهَّم متوهم أنه يجوز عبادة غيره فإنه لا يتوهَّم أن يجوز ذلك إلا بعد إذنه عزَّ وجلَّ، وهو لم يأذن لكم بعبادة الكواكب؛ لأن إذنه تعالى إنما يُعلم بأن ينزل سلطانًا، [س 95 / أ] وهو لم ينزل سلطانًا بالإذن بعبادة ما تعبدون. {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} , أي - والله أعلم - بشرك؛ لأن الكلام إنما هو فيه، وبذلك ورد التفسير عن النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم (¬1)، {أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}. وأمَّا ما قصَّه الله عزَّ وجلَّ في الذي حاجَّ إبراهيم في ربه، فقول إبراهيم عليه السلام: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} يحتمل وجهين: إمَّا أن يكون جوابًا عن سؤال المحاجَّ له مَنْ ربُّك؟ كما حكى الله عزَّ وجلَّ عن موسى وفرعون: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}. وإمَّا أن يكون المحاجُّ هدَّد إبراهيم عليه السلام بالقتل إن لم يطعه، ووَعده ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب التفسير، سورة الأنعام، باب: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} , 6/ 56 - 57، ح 4629. ومسلم في كتاب الإيمان, باب صدق الإيمان وإخلاصه، 1/ 80، ح 124، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

بالاستحياء إن أطاعه، فأجابه الخليل عليه السلام بذلك، أي إنك لستَ إلاَّ عبدًا من عباد الله، إن شاء حياتي لم تقدرعلى قتلي (¬1)، وإن شاء قتلي لم تقدرعلى استحيائي، فالأمر لله عزَّ وجلَّ وحده. واستعمال الإحياء بمعنى التسبُّب في بقاء الحياة معروف. قال الله عزَّ وجلَّ: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32]. ويَرِدُ على الأول أنه يقتضي أن المحاجّ زعم أنه هو الذي يحيي ويميت في العالم كلِّه، وهذا باطل. أوَّلًا: لما تقدَّم أن قومه كانوا يعترفون بالله في الجملة، ثمَّ يؤلِّهون الكواكب ويعظِّمون الأصنام. وثانيًا: لو كان ملكهم يدَّعي الربوبية العظمى لما تركهم يعبدون غيره. [وإنما أقصى] ما رُوي أنه دعا برجلٍ فقتله، ودعا برجلٍ يستحقُّ القتلَ فأطلقه. وهذا ليس فيه أدنى شبهة تدلُّ على أن الذي يفعل ذلك هو الذي يحيي ويميت في العالم. ورمي الرجل بالبلادة إلى هذه الدرجة يكاد يكون بلادة. والله أعلم. وثالثًا: لو كان الأمر كذلك ما كان هناك داعٍ للخليل عليه السلام إلى ¬

_ (¬1) اخترتُ هذه العبارة لأن القرآن استعمل نحوها في هذا المعنى، كقوله تعالى: " ... "، ولأنها لا تخالف مذهبًا من مذاهب المسلمين في القدر. [المؤلَّف]. ولعلَّ الآية التي بيَّض لها المؤلَّف هي قوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32]؛ لأن فيها ذكرَ القتل مقابل الإحياء في حقَّ المخلوق.

[الانتقال] إلى الشمس، [بل] يقول له: هذا النوع من [أنواع] الإحياء والإماتة، [فمن] الذي يخلق الأجنَّة في بطون أمهاتهم ويحييهم ويميت أكثر الناس على فُرُشهم بدون قتل؟ فإن قال: أنا. قال له: فكم أحييت هذه الساعة في مدينتك هذه، وكم أمَتَّ؟ فإنه يستحيل أن تفعل ذلك وأنت لا تعلم. [فإن قيل: لعلَّ الرجل إنما أراد دعوى أنه يحيي ويميت في الجملة لا مطلقًا] (¬1)؟ قلت: يردُّه: أوَّلًا: أنه لو أراد ذلك لكان حق العبارة أن يقول: وأنا أحيي وأميت، بواو العطف. وثانيًا: لو أراد ذلك لانحصر جواب الخليل، والله أعلم، في أمرين: الأول: أن يبيَّن له أن هذا القتل والإطلاق الواقع على يديه هو من فعل الله عزَّ وجلَّّ بقضائه وقدره، فيرجع هذا إلى المعنى الثاني فليكن هو المراد من أوَّل مرَّة. الأمر الثاني: أن يبين الخليل أنه إن كان في هذا شبهة فكيف بإحياء الأجنَّة وإماتة الناس على فُرُشهم، والمحاجُّ لا يدَّعي ذلك كما مرَّ، وإن ادَّعاه أجابه بما مرَّ. وثالثًا: لو كان المحاجُّ إنما ادَّعى الإحياء والإماتة في الجملة، فإما أن يريد بذلك إثبات الربوبية العامَّة له، فهذا ما لا يُعقل، وإما أن يريد إثبات ربوبية خاصة فالاحتجاج عليه بعجزه عن الإتيان بالشمس من مغربها لا ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين مضروب عليه في الأصل، والسياق يقتضي إثباته فيما يظهر.

يفيد؛ لأنه يقول: أنا لم أدَّع أنَّي ربُّ الشمس. فالوجه الثاني (¬1) - والله أعلم - هو الصواب. وعليه، فالنزاع إنما وقع في الإحياء والإماتة اللَّذين يتَسَبَّب فيهما المحاجُّ من القتل أو الاستحياء، فالخليل عليه السلام يقول ما تقدَّم أو نحوه، والمحاجُّ يقول: بل أفعل ذلك بمشيئتي وإرادتي وقدرتي ولا يحول بيني وبين ذلك أحد، كأنه كان يزعم أن الله عزَّ وجلَّ مهمِل للناس في الحال يعملون ما يشاؤون، أو أنه فوَّض إليه التدبير الذي تصل إليه قدرته ولا يعترض في شيء منه، وهذا أقرب؛ لأن الله تعالى علَّل محاجَّته لإبراهيم بقوله: {أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ}. وكثير من المغترَّين يحتجُّون على رضوان الله عنهم وحبه لهم ومكانتهم عنده بأنه أنعم عليهم في الدنيا، وسيأتي إيضاح ذلك في الكلام على فرعون (¬2)، فكأن المحاجَّ يزعم أن الله تعالى فوَّض إليه التدبير الذي تصل إليه قدرته ولا يعارضه في شيء بدليل أن آتاه الملك. والله أعلم. فانحصر الجواب - والله أعلم - في أمرين: الأول: أن يقول الخليل عليه السلام: فأحضِرْ إنسانًا تريد قتله فاقتله، وآخر تريد أن تطلقه فأطلقه، فيحضرهما، ويأمر بقتل الأول، فيحُول الله عزَّ وجلَّ بينه وبينه، ويأمر بإطلاق الآخر فيميته الله عزَّ وجلَّ. ¬

_ (¬1) يعني: كون المحاجَّ هدَّد إبراهيم عليه السلام بالقتل إن لم يطعه، ووَعده بالاستحياء إن أطاعه. (¬2) انظر: ص 703 - 704.

[س 96/ أ] الأمر الثاني: أن يعدل به إلى أمرٍ آخر لا تصله يد المحاجِّ. ولا شك أن الأوَّل كان مقتضى الظاهر؛ ولكن عدل عنه الخليل عليه السلام لأنه أوَّلًا: يحتاج إلى إظهار خارق، وإظهار الخارق إنما يلجأ إليه الأنبياء عليهم السلام في الأمور التي لا يتيسَّر الاحتجاج عليها ببرهان عقليًّ؛ كإثبات رسالتهم. والحِكم في ذلك كثيرة: منها: أن الدليل العقليَّ أبعد عن الشبه التي يحتمل إثارتها على الخارق. ومنها: أن في استنباط الحجَّة أجرًا عظيمًا للأنبياء، وليس كذلك الخارق؛ لأنه ليس من سعيهم. ومنها: أن في المحاجَّة بالعقل [إرشادًا] لأتباع الأنبياء ممن [لا] تظهر على أيديهم الخوارق [أنَّ عدم] ذلك [أولى] (¬1). وقد أخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله تعالى: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة: 258] قال: أقتل مَن شئت، وأستحيي مَن شئت أدَعه حيًّا فلا أقتله. وأخرج نحوه عن قتادة والربيع والسُّدِّي وابن جريج وابن إسحاق. وأخرج عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: أنا أحيي وأميت، إن شئتُ قتلتك فأمتُّك، وإن شئت استحييتُك (¬2). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفات لم تظهر أكثر حروفه، وكلمة (أولى) تقدير منَّي، ويظهر أن بعض الكلمات بعد ذلك لم تظهر بسبب آثار الرطوبة، والله أعلم. وفي ص 639: "ومنها: أن في المحاجة بالحجج العادية إرشادًا لأتباع الأنبياء ممن لا يظهر على يده الخارق". (¬2) تفسير ابن جرير 4/ 571 - 576.

(وهذه) الآثار صريحة بأن الرَّجل لم يدَّع الإحياء والإماتة المختصَّين بالله عزَّ وجلَّ. فإن قيل: سلَّمنا أنه إنما ادَّعى هذا النوع من الإحياء والإماتة، ولكن لا يلزم من ذلك أن يكون النزاع إنما وقع في ذلك، بل الظاهر أنه أراد: كما أنَّ الله يحيي ويميت فأنا أحيي وأميت أيضًا في الجملة، ومقصوده بذلك ادِّعاء أنه مساوٍ لله تعالى في الجملة. وثانيًا: الغالب أنَّ الله عزَّ وجلَّ إذا أظهر الخارق لقومٍ ولم يؤمنوا عقّبه بالعذاب، ولم يكن الخليل عليه السلام يريد تعجيل العذاب رجاء أن تفيد المطاولة إيمانَ القوم أو بعضِهم، أو يخرجَ من أصلابهم مَنْ يؤمن. ثالثًا: يحتمل أن الخليل عليه السلام لم يكن حينئذٍ قد نُبَّئ، والله أعلم، وإنما محاجَّته مع قومه ومع هذا المحاجَّ بإيمانه الذي وصل إليه بتوفيق الله عزَّ وجلَّ له، [س 96/ ب] وهدايته إيَّاه من طريق عقله ونظره. وربما يشهد لهذا قول قومه لما كسر الأصنام: {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ}، والفتى: الشابُّ، وقد اشتهر أنَّ الله عزَّ وجلَّ لم يبعث نبيًّا إلا بعد الأربعين (¬1). رابعًا: لو اختار الأمر الأول ربما يلجأ المحاجُّ إلى العناد فيقول: أنا الآن لا أريد قتل أحد ولا إطلاق أحد، ويكفيني أنَّي طول عمري فعلت ذلك مرارًا ولم يَعُقْني عائق، ولو قال هذا لم يتبين لقومه عناده، بخلاف قصَّة الشمس؛ فإن قومه يعرفون عجزه عن التصرُّف فيها. فلو قال: أنا لا أريد ¬

_ (¬1) ورد في ذلك حديث: "ما من نبيًّ نبِّئ إلا بعد الأربعين". قال ابن الجوزي: موضوع، نقله السخاوي في المقاصد الحسنة 373، والسندروسي في الكشف الإلهي عن شديد الضعف والموضوع والواهي 2/ 668.

الإتيان بها من المغرب لما أفاده ذلك عندهم، بل هو - والله أعلم - لا يدَّعي ذلك، وإنما ألزمه إيَّاه الخليل عليه السلام. بقي علينا أن نبيَّن دلالة عجزه عن الإتيان بالشمس من مغربها على عجزه عن قتل إنسانٍ أو إطلاقه بدون قضاء الله تبارك وتعالى، فأستعين الله وأستهديه وأقول: إن العاقل إذا تفكَّر في خلق الله عزَّ وجلَّ الشمس جارية بمصالح عباده، وأنشأ بها التغيُّرات الجويَّة والأرضيَّة التي لها دخل عظيم في حياة الحيوان وطعامه وشرابه وتنفُّسه. وغير ذلك ممَّا لا يحصى، وبعض ذلك يعرفه الناس جميعًا، ومَن كان له إلمام بعلم الطبيعة كانت معرفته بذلك أوسع، وقد كان لقوم إبراهيم معرفة بأحوال الكواكب؛ لأنهم كانوا يعبدونها، وعبادتها تدعوهم إلى تعرُّف شؤونها، وكذلك كانوا يستدلُّون بأحوالها على الحوادث [كما مرَّ بيانه في] (¬1) قوله تعالى: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 88 - 89]. أقول: إذا تفكَّر العاقل في ذلك علم شدَّة عناية الله عزَّ وجلَّ بالخلق، وإذ كانت عنايته عزَّ وجلَّ بخلقه بهذه الدرجة فكيف يَدَعُهم مع ذلك هملًا يعمل بهم بعضُهم ما يشاء في غير مصلحةٍ يعلمها الله عزَّ وجلَّ ويقدرها، وأَبْعَدُ من ذلك أن يدع مَن يوحَّده فريسة لمن يشرك به بدون قضاء منه عزَّ وجلَّ وحكمة يعلمها. فالإنسان الذي يزعم أنه يفعل في الخلق ما يشاء بدون قَدَر ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين غير واضح في الأصل، والمثبت اجتهادٌ مني. وفي ص 740: "على الحوادث الأرضية، كما يدل عليه قوله عَزَّ وَجَلَّ في إبراهيم: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} أي: أوهمهم أنه استدل بأحوال النجوم على أنه سيسقم، وإنما يعني عليه السلام بهذا الخبر أن كل إنسان معرَّض للسقم، والله أعلم".

من الله عزَّ وجلَّ ولا قضاءٍ كأنه ينكر [س 97/ ب] وجود الشمس وجريانها بمصالح العباد، أو يزعم أنه هو الذي يجريها، فأمَّا الأول فلا سبيل إليه، فلم يبق إلا زَعْم أنه هو الذي يجريها. وعلى هذا، فإنما بُهِت الذي كفر لقيام الحجة على عجزه عن قتل أحدٍ أو إطلاق أحدٍ بغير قضاء الله عزَّ وجلَّ وقَدَره، لا لأنه أعني الذي كفر عاجزٌ عن الإتيان بالشمس من المغرب، فإنه لم يدَّع ذلك، والله أعلم. وهناك معانٍ أُخر حُمِلت عليها القصَّة لا يطمئن القلب إلى شيء منها. والله أعلم. وقد رُوي أن المحاجَّة كانت قُبيل إلقاء إبراهيم عليه السلام في النار؛ فإن صحَّ فيكون الله عزَّ وجلَّ جعل في ذلك جوابًا فعليًّا قريبًا لإبطال شبهة الذي كفر، والله أعلم. بقي أن قول إبراهيم عليه السلام للأصنام: {أَلَا تَأْكُلُونَ} يدلُّ أنَّ القوم كانوا يضعون عندها الأطعمة، فعلامَ يدلُّ ذلك؟ أقول: يظهر أنهم كانوا يَعُدُّون ذلك نوعًا من عبادتها مع علمهم أنها لا تأكل، وإنما يأكل ذلك الطعام [س 98/ أ] سَدَنتها، ومثل هذا جارٍ إلى الآن عند بعض أمم الشرك، وبعض المسلمين يفعلون مثل ذلك عند القبور يجيئون بالسمن والبيض وغير ذلك ويضعونها عند القبر وهم يعلمون أن ذلك إنما يأخذه خَدَمة القبر وينتفعون به. فخلاصة ما تقدَّم أن قوم إبراهيم عليه السلام لم يكونوا يعتقدون في الأصنام نفسها (¬1) نفعًا ولا ضرًّا، وإنما عبدوها على أنها تماثيل للكواكب. ¬

_ (¬1) كذا في الأصل.

ويعتقدون في الكواكب أن فيها أرواحًا عُلويَّة تدبَّرها وتدبِّر الكون بواسطتها، وأن تلك الأرواح من خلق الله عزَّ وجلَّ وفي ملكه، ولكنه فوَّض إليها التدبير، فهي تتصرف بإرادتها فتنفع مَن يتقرب إليها وتضرُّ مَن ينهى عن التقرُّب إليها، كما يرون أن الإنسان كذلك بحسب ما عنده من الاستطاعة [س 98/ ب] كما علمته من قصة المحاجَّ. فاما اعتقادهم في الشيطان فلم يظهر شيء يخالف اعتقاد الناس. وقول الخليل عليه السَّلام: {يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} إنما يدلُّ على أنهم عبدوا الشيطان، وعبادة الشيطان سيأتي تحقيقها في فصلٍ مستقلًّ، إن شاء الله تعالى (¬1). وأهمُّها: طاعته فيما يسوَّل به للإنسان من شرع دينٍ لم يأذن به الله أو طاعة مَن يشرع ذلك. أما أعمالهم فالذي دلَّ عليه القرآن أنهم كانوا يعكفون للأصنام، حيث قالوا: {نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ}، وقال إبراهيم: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ}، ويقرَّبون لها الأطعمة كما تقدَّم آنفًا، ويدعونها على ما يظهر من قوله تعالى في سورة مريم حكاية عن خليله عليه السلام: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}، والآيات التي قبلها في شأن الأصنام، [س 99/ أ] وقد يحتمل أن المراد بـ {مَا تَدْعُونَ} الكواكب، واعتزالُه إيَّاها مستلزم اعتزاله الأصنام؛ إذ ليست إلا تماثيل للكواكب ووسيلة إليها. ¬

_ (¬1) انظر ص 725.

وقال تعالى: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}، وهذه الآية كالظَّاهرة في أنهم كانوا يدعون الأصنام أنفسها. وعليه، فكأنهم كانوا في الأصل يريدون بدعائها دعاء الكواكب، وإنما يوجهون الخطاب في الصورة إليها تخيُّلًا أنها هي الكواكب أنفسها، أو أرواحها؛ ليكون ذلك أدعى إلى الخشوع وقوَّة الهمَّة وصِدْق التَّوجُّه. وأما زعم أن الشياطين تدخل الأصنام وتخاطبهم فيردُّه قولهم: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 65]. وهذا المعنى موجود في ديانة الهنود؛ فإنهم عند حضورهم عند الأصنام يبالغون في تخيُّل أنها هي الأرواح التي جعلت تماثيل لها حتى يقال: [إنّ] بعضهم ربما ظهر له أن الصنم قد تحوَّل إنسانًا حيًّا بشكل الروح التي جُعل تمثالًا لها، وجهلتهم يعتقدون أنه ذلك الروح حقيقة قد حلَّ في الصنم. وأظنُّ هذا من وصايا المرتاضين منهم، يوهمون العامَّة أن الروح الذي جُعِل الصنم تمثالًا له قد يحلُّ في [الأصنام]، فيرى أن الصنم قد صار شخصًا حيًّا يتكلَّم ويتحرَّك، إلى غير ذلك. ومقصودهم بهذا حمل العامَّة على قوَّة التخيُّل وحصر الذِّكر؛ فإن ذلك أساس رياضتهم. والله أعلم. وقد دلَّ التاريخ والآثار الموجودة ببابل أنهم كانوا يمدحون الكواكب ويسألون منها. والله أعلم.

فصل

[س 99/ ب] ولما سألهم إبراهيم سؤال مسترشد، وذلك قبل أن يظهر خلافه لهم كما تقدَّم في ذكر الكوكب والشمس والقمر، أجابوه بما يفيد أنهم لا يعتقدون أنها تسمع أو تنفع أو تضرُّ، وإنما وجدوا آباءهم كذلك يفعلون. ويحتمل أن يكونوا قد جهلوا ما حمل أسلافهم على توجيه الدعاء في الصورة إلى الأصنام على ما تقدَّم، أو لم يجهلوه ولكن كانوا مرتابين في فائدته، أو لعلهم ذكروا ذلك فانتقل بهم الخليل إلى الكواكب كما تقدَّم، وطُوِيَ ذلك في بعض الآيات، فالله أعلم. [س 62/ أ] فصل وقد بقيت ألفاظ أُخر نسبها الله عزَّ وجلَّ إلى المشركين في حقَّ من اتخذوه من دون الله تبارك وتعالى، وهي بمعنى التأليه والعبادة. منها: الدعاء واتخاذهم شركاء وأربابًا وأندادًا. وقبل ذكر مواضعها من الآيات التي ذُكرت فيها نبين أنها بمعنى التأليه والعبادة، فأقول: أما الدعاء فالأصل على ما قاله أهل اللغة: النداء، وفرَّق بينهما الراغب (¬1) بأن الغالب في النداء هو ما يكون معه حرف النداء، والدعاء بخلافه. وفي هذا الفرق نظر، فقد سمى الله تعالى الأذان نداء، فقال تعالى: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} [المائدة: 58]، وقال: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ} [الجمعة: 9]، ومواضع كثيرة في القرآن جاء فيها لفظ النداء مفسَّرًا بكلام ليس فيه ¬

_ (¬1) في المفردات 315.

حرف نداء. ونُقل عن مجاهد في قوله تعالى: {كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} أنهما بمعنىً واحد (¬1). قال المفسرون (¬2): وسوَّغ العطف تغايُر اللفظين، يعنون - والله أعلم - مع إرادة الدلالة على التكرار، أي أن المنعوق به لا يسمع إلاَّ الدُّعاء المتكرِّر، وذلك إيضاح لعدم الفهم؛ إذ الذي من شأنه أن يفهم قد لا يفهم مقصود النداء إذا لم يتكرَّر لغفلةٍ كان فيها أو نحو ذلك، فأما إذا تكرَّر فإنه يفهم المنعوق به ما لم يكن مجرَّدَه أي الفهم (¬3). وقريب من هذا ما جاء في الحديث (¬4) أن رجلًا (¬5) سأل النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم من يَبَرُّ؟، فقال: أمَّك، ثم أمَّك، ثم أمَّك، ثم أباك. أراد: كرَّر برَّ أمَّك ثلاثًا، ثم برَّ أباك واحدةً. يعني - والله أعلم - بالغ في برِّ أمَّك أعظم من برَّ أبيك وقدَّمها عليه في ذلك. ولهذا لما جعلوا قول الشاعر (¬6): ¬

_ (¬1) لعله يعني ما ورد عنه أنه قال: "كمثل البهيمة تسمع النعيق ولا تعقل". أخرجه ابن جرير 3/ 45. (¬2) انظر: حاشية الجمل على تفسير الجلالين، المسماة: الفتوحات الإلهية، 1/ 138. (¬3) أي جُرَّد عنه الفهم. (¬4) أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، بابٌ في برِّ الوالدين، 4/ 336، ح 5139. والترمذيّ في كتاب البرِّ والصلة، باب ما جاء في برِّ الوالدين، 4/ 309، ح 1897. من حديث بهز بن حكيمٍ عن أبيه عن جدِّه. وقال الترمذيّ: "حديثٌ حسنٌ". (¬5) في الأصل: رجل. (¬6) هو عدي بن زيد العبادي، انظر ديوانه ص 183 نشرة محمَّد جبار المعيبد، وصدر البيت: وقدَّمت الأديم لراهشيه.

وألفى قولها كذبًا ومينًا قبيحًا، واحتُمل أن يجاب بأنه توكيد، قالوا: إنَّ التوكيد لا يحسن في البيت؛ لأن المقصود فيه بيان القصد فقط. وفي جوابهم نظر، ولكن المقصود دفعُ ما قد يُقال: جَعْلُ الدعاء والنداء بمعنًى واحد منافٍ لبلاغة القرآن، والله أعلم. قالوا: واستعمل الدعاء في سؤال الله تعالى، أي طلب الحوائج منه، كما في قوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] وغير ذلك من الآيات الكثيرة، وهذا صحيح كثير في القرآن والسنة وعلى ألسنة المسلمين، ولم أره استُعمِل في السؤال من غير الله تعالى إلاَّ أن يُعَدَّ منه دعاء المشركين آلهتهم كما في قوله تعالى: {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18] وغيرها، ولكن أهل اللغة وأكثر المفسرين يجعلون هذا معنى ثالثًا فيقولون: إنَّ الدعاء في هذه الآية بمعنى العبادة، قال بعضهم: وهو من التعبير عن العامَّ بالخاصِّ، فالدعاء الثاني وهو سؤال الخير نوع من العبادة، فاستعمل لفظه في الآية ونحوها في مطلق العبادة، فجَعَله مجازًا على مجاز. وعندي في هذا وقفة؛ إذ مع كونه مجازًا على مجاز فلا دليل عليه، وإنما حملهم عليه أن القرآن [يخاطب بالعبادة كما يخاطب بالدعاء] (¬1). فأما الدعاء فجاء في حق الأصنام على احتمالٍ فيه، وذلك في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين غير واضح في الأصل، والمثبت اجتهاد مني.

صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ [س 62/ ب] سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198) خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [س 63/ أ] إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ} [الأعراف: 189 - 202]. وقد اضطربت الآراء في تفسير هذه الآيات، وجاءت الآثار (¬1) أن المراد بالنفس الواحدة وزوجها آدم وحوَّاء عليهما السَّلام، وأنهما انخدعا لإبليس عليه اللعنة، فسمَّيا ولدهما عبد الحارث، والحارث اسم لإبليس. وطُعن في هذا بأن آدم عليه السلام نبيٌّ مُكَلَّم، والأنبياء عليهم السلام معصومون عن المعاصي فضلًا عن الشرك. [س 63/ ب] وأجيب بأن الذي وقع منهما ليس هو شركًا منافيًا للتوحيد، وإنما هو بمجرد التسمية، والأسماء كثيرًا ما يُقطع فيها النظر عن معناها. ¬

_ (¬1) انظرها في تفسير الطبري 10/ 623 - 628.

وهذا كما ترى، وسياق الآيات ظاهر في أن ما وقع من النفس وزوجها شركٌ منافٍ للتوحيد. فإن كنت ممن يجُوِّز على الأنبياء عليهم السلام قبل النبوة ما يجوز على غيرهم ويقصر وجوب العصمة على ما بعد النبوة فذاك، وإلاَّ فقد قيل وقيل. والأقرب ما قيل: إن المراد بالنفس وزوجها الجنس. أي: خلقكم من رجالٍ متَّحدين في الجنس، وجعل من جنس الرجال أزواجهم. وقوله: {فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا} يريد الرَّجل والمرأة، أي الجنس، ولا يلزم أن كل رجل وامرأة هكذا، [س 64/ أ] وإنما هو من باب قولهم: الرجل خير من المرأة. والموصول في قوله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا} [الأعراف: 191]، قالوا: المراد به الأصنام، بدليل ما بعده، وعندي في هذا وقفة؛ لوُجوهٍ: الأول: التعبير عن المدعوَّين بالعبارة الخاصَّة بالعقلاء، والأصنام ليست بعقلاء، وإن كان قد عُبِّر عنها في بعض الآيات بذلك فهو على كلَّ حالٍ خلاف الأصل. الثاني: قوله في موضعين: {وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} , والأحجار لا تتألَّم ولا تتأذَّى حتى تفتقر إلى الانتصار. الثالث: قوله: {عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ}، والأحجار لا توصف بهذا. [س 64/ ب] الرابع: (¬1) إن أوَّل الآيات على ما جاءت به الآثار وقع ¬

_ (¬1) هنا كان مكتوبًا "قوله تعالى" دون ذكر جزء من آية، ولعله كان يريد الضرب عليها فنسي.

الإشراك فيها بالشيطان، وأواخر الآيات من قوله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ} يوافقه، فيترجَّح بهذا أن المراد بالمدعوِّين الشياطين. أمَّا ما في الآيات مما فُهم منه أنه لا يصلح إلا للأصنام فهاك جوابَه: قوله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} يريد - والله أعلم - الشياطين؛ فإن الكفار أشركوهم كما مرَّ تقريره، ويأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى. وقوله: {وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} يريد: الشياطين لا يستطيعون نصرَ المشركين مما يريده الله تعالى بهم، [س 65/ أ] ولا نصرَ أنفسهم مما يريده عزَّ وجلَّ بهم. وقوله: {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ}، ذهب بعض المفسرين إلى أن الخطاب للنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وأصحابه، والمعنى: وإن تدعو المشركين. واعتُرِض عليه بأنه لو كان المراد كذلك لكان الوجه أن يقال: سواء عليهم. وهذا الاعتراض غير قوي. وأقوى منه أن (إنْ) لفرض المستبعد، ودُعاء النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وأصحابه إلى الهدى واقعٌ كثيرٌ, فلو أريد لكان الوجه أن يعبَّر بـ (إذا)، ولكنَّ القاعدة أغلبيّة. وكثيرًا ما تجيء (إنْ) في غير المستبعد، وقد قال الله تعالى خطابًا لنبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم: {وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف: 57]. فالنكتة في هذه هي النكتة في تلك، والله أعلم. وبهذا يعلم الجواب.

وممَّا يُرجَّح به كونُ الخطاب للنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وأصحابه أن الدعاء إلى الهدى لا يناسب أن يكون من المشركين. وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ [س 65/ ب] فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأعراف: 194] التفاتٌ إلى خطاب المشركين، يريد - والله أعلم - أن الشياطين عبادٌ أمثالكم. ومن حكمة العدول إلى الموصول أن المشركين لم يكونوا يقصدون دعاء الشياطين، وإنما كانوا يقصدون دعاء الملائكة، مع زعم أنهم بنات الله، تعالى الله عن قولهم، وإنما ألزمهم الله تعالى أنهم إنما يدعون الشياطين لأنه ليس في الوجود بناتٌ لله تعالى، والملائكة مع كونهم ليسوا بناتٍ لله تعالى لم يأمروهم بدعائهم ولا رَضُوه، فالأولى حينئذٍ بأن يكون المدعُوَّ هو الذي أمر بالدعاء، وهم الشياطين. [س 66/ أ] وقوله تعالى: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا ...} هذا أقوى دليل في الآيات على أن المراد الأصنام، ولكن يأباه ما تقدَّم، فتأمَّل هل يحتمل أن يقال: الضمائر في ذلك للمشركين؟ أي: أللمشركين أرجل يمشون بها؟ والمعنى في ذلك إما التقرير، أي: إنَّ لهم أرجلًا يمشون بها إلخ، فهلَّا يتفكَّرون فيها فيعلمون أن خالقها والمنعِم عليهم بها هو الله عزَّ وجلَّ فيعرفوا أنه لا تنبغي العبادة إلاَّ له، فيكون هذا مبنيًّا على نحو قوله تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21]، وإمَّا الإنكار، والمقصود أن حال المشركين في جهلهم المفرط حالُ الموتى أو الجمادات، بحيث يحسن أن تُنْكَر حياتهم، فيكون هذا مبنيًّا على مثل قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى}

[النمل: 80] أو قوله: {بَلْ هُمْ أَضَلُّ} من قوله: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الفرقان: 44]. فإذا كان هذا محتمَلًا فقد انتفى إرادة الأصنام، وعليه فقوله تعالى: {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [الأعراف: 198] الخطاب فيه للنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، والمعنى: وترى المشركين ينظرون إليك وهم لا يبصرون، وهذا قول كثير من المفسرين، [س 66/ ب] أي: إنهم ينظرون إليك حقيقة، ولكن لا يتدبَّرون ولا يتفكَّرون فيستدلُّون بأحوالك على ما تدلُّ عليه من الصدق والأمانة والنصيحة وحقيَّة النبوَّة. وإذا كان كذلك فنظرهم معطَّل عن الفائدة المقصودة؛ لأنَّ النظر إنما خلقه الله تعالى لينقل إلى العقل صُور الموجودات فيستفيد منها، وإذا خلا الشيء عن الفائدة التي كان لأجلها فهو في معنى المعدوم، وهذا المعنى شائع ذائع في العربيَّة كثيرٌ في القرآن. وقوله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ} الآيات [الأعراف: 200]، جوابٌ - والله أعلم - عما كان يزعمه المشركون أن مَدْعُوَّاتهم ستنتقم من النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كما أشير إليه بقوله: {قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ} [الأعراف: 195]، والمعنى أن مدعوَّاتهم في الحقيقة هي الشياطين، والشياطين ليس لها قدرة ذاتيَّة، [س 67/ أ] وأما قدرتها التي يسلِّطها الله تعالى بها فإنها تُدفع بالاستعاذة به عزَّ وجلَّّ وتذكُّر هُداه والاعتصام به. وعليه فإنها لا تضرُّ المؤمنين وإنما تضرُّ المشركين أنفسهم؛ لأنهم لا يستعيذون بالله عزَّ وجلَّ ولا يذكرون هداه فيعتصمون به، بل يمدُّون الشياطين في الغيِّ ثم لا يقصرون، فكيدُ

مدعوَّاتهم الذي يهدَّدونكم به مقصورٌ عليهم. ومثل هذا قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 98 - 100]. [س 68/ أ] (¬1) وأما الشركاء فجاء في ذكر أشياء. (1) الأصنام. فيما يظهر من قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 74 - 82]، [س 68/ ب] فهذه الآيات وغيرها مما ورد في قصة الخليل إبراهيم عليه السلام صريح في أنهم كانوا يعبدون الأصنام، فبدأ إبراهيم عليه السلام ¬

_ (¬1) (س 67/ ب) كُتِب فيها تتمَّة لحَق جاء من (س 62/ أ) واستمرَّ حتى انتهى إلى هنا.

بإبطال عبادة الأصنام، ثم ترقَّى مخالفًا لقومه إلى ما هو أعظم منها، وهو الكوكب، ثم القمر، ثم الشمس. وقوله: {هَذَا أَكْبَرُ} يريد - والله أعلم - أكبرُ مما مضى ومن سائر ما نشاهده، فهي أولى بأن تكون ربًّا إن كان في المشاهَدات ربٌّ، ثم جحد ربوبيتها عند تبين نقصانها، وصرَّح بصريح الإيمان. ومن المفسرين من يقول: إن قوم إبراهيم عليه السلام كانوا يعبدون الكوكب والقمر والشمس، وإنما كانوا يعبدون الأصنام على أنها أرصاد للكواكب كما هو حال كثير من الأمم المشركة، يتخذون بيتًا للشمس، وهكذا لعطارد وزُحَل والمشتري، ويصورون في كل بيت صورة ذلك الكوكب، تارة بصورته [س 69/ أ] لمشاهَدة، وتارة بصورة خياليَّة، كما هو موجود في كتب التنجيم. ثم منهم من يقول: إن تلك الصورة رمزية فقط، ومنهم من يقول: بل هي صورة الروح المدبِّر لذلك الكوكب. وعلى كل حال، فإنهم يعبدون ذلك التمثال، ويعبدون معه ذلك الكوكب. فمشركو الهند لهم صنم للشمس يعظِّمونه، ويعظِّمون الشمس أيضًا. وأقول: أمَّا كون هذا معروفًا عن كثير من الأمم المشركة فصحيح، وأمَّا أنَّ قوم إبراهيم عليه السلام كانوا كذلك فلا أراه؛ فقد تكرَّرت قصتهم في مواضع من القرآن، وليس فيها إلا عبادتهم الأصنام أو الشيطان، فأما عبادة الشيطان فأمر مشترك بين جميع الكفار، فلم يبق لهم إلا عبادة الأصنام.

[س 69/ ب] ولو كان شيء غير ذلك لكان الظاهر أن يقصَّه الله عزَّ وجلَّ ويخبرنا بمحاجَّة الخليل عليه السلام فيه، كما بيَّن في حق قريش عبادة الملائكة وعبادة الأشخاص المتخيَّلة، وحكى عن هود عليه السلام قوله: {أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا} [الأعراف: 71]، وعن يوسف عليه السلام قوله: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا} [النجم: 23] وغير ذلك، وحكى الله تعالى عن كثير من الأمم ما يدلُّ على اعتقادهم بوجود الله تعالى وبالملائكة، ولم يجيء عن قوم إبراهيم عليه السلام شيء من ذلك. نعم، الظاهر أنه كان قبل قوم إبراهيم عليه السلام أمّة تعبد الأصنام بنوع من التعليل، إمَّا كونها تماثيل للكواكب أو لأشخاص من الإنس أو الملائكة أو غيرهم، كما كان قبلهم قومُ نوح يعبدونها على أنها تماثيل لقوم صالحين كانوا قبلهم، [س 70/ أ] فاتَّصلت الوثنية بقوم إبراهيم عليه السلام فأخذوها تقليدًا محضًا بلا تعليل ولا تأويل. ويدلُّ على هذا قول الله تبارك وتعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 69 - 74]، ولو كان عندهم تعليل لذكروه ولما قنعوا بالتقليد المحض، وهذا بخلاف بقية الأمم فإنهم يحُاجُّون كثيرًا ولا يعتصمون بالتقليد إلا بعد نزاع وخصام. فإن قلت: فإذا كان الأمر هكذا فلماذا سمي فعلهم شركًا، والمفهوم من الشرك أنه عبادة غير الله تعالى معه، أي أن يعبد الله تعالى ويعبد معه غيره، فأما الاقتصار على عبادة غيره عزَّ وجلَّ فلا يَبِين أن تُسمَّى شركًا؟

[س 70/ ب] قلت: الشرك أن يعبد المرء غيرَ الله تعالى سواء أعبد الله تعالى معه أم لا. وتسميته شركًا في الصورة الثانية وجهها: أن الله تعالى معبود في الكون، يعبده ملائكته ومَن شاء من خلقه، فلما جاء هذا الشخص وعبد غيره فقد وُجد معبودان: أحدهما المعبود بحق، وهو الله عزَّ وجلَّ، والآخر المعبود بباطل، أعني معبود [س 71/ أ] ذلك الشخص، فهما شريكان في العبادة بالنظر إلى الوقوع في الجملة، فصحَّ أن يُسمَّى ذلك المعبود الآخر شريكًا، وعابدُه مشركًا (¬1). وأما قول المؤمن: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له)، فإنه يريد - والله أعلم - لا شريك له في (¬2) الألوهيَّة أي في المعبوديَّة بحق. فأما قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ} [الرعد: 33] فلا أراها في الأصنام، وذلك أنَّ (ما) مِن قوله {بِمَا لَا يَعْلَمُ} لم يُرَدْ بها - والله أعلم - ذوات الشركاء، وإنما أريد بها العلمُ بأن له شركاء. [س 71/ ب] والباء في قوله تعالى: {بِمَا} تحتمل وجهين: الأوَّل: أن تكون هي المعدِّية لـ (نبّأ)، وعليه فلا يكون المراد بلفظ (ما) الشركاء؛ لأن المنبَّأ به لا يكون إلا نبأً أي خبرًا وأمرًا من الأمور، لا ذاتًا من الذوات، كما قال تعالى: {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ} [يوسف: 36]، {فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ} ¬

_ (¬1) انظر توجيه حسين بن محمَّد النعمي لمثل هذا الإشكال في معارج الألباب 2/ 660 - 662. (¬2) تكرَّرت "في" في الأصل.

[التحريم: 3]، {قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ} [التوبة: 94]، فإن جاء خلاف هذا ففيه حذف، كقول الحاجب للمستأذن: قد نبَّأْتُ الأميرَ بك، فإن أصله قد نبَّأتُ الأمير بوقوفك أو بحضورك أو نحو ذلك. وعلى هذا فالمنبَّأ به في الآية هو العلم بأن له تعالى شركاء، فالمعنى: أتنبَّؤون الله بالعلم بأنَّ له شركاء، وهو لا يعلم هذا العلم موجودًا في الأرض عندكم ولا عند غيركم، كما إذا قيل لك: متى تقوم الساعة؟ فتقول: هذا العلمُ لا يعلمه الله تعالى في الأرض، تريد أنه لا يوجد في الأرض. الوجه الثاني للباء: أن تكون هي التي بمعنى (مع) أي أتنبَّئون الله بأن له شركاء مع علمٍ. فهذا العلم غير موجود في الأرض عندكم، ولا عند غيركم، {أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ} أي بمجرد ما قاله آباؤكم، والآية من باب قوله تعالى: {نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأنعام: 143]، ولعلَّ هذا الوجه أولى، وعلى كلًّ فليس في الآية دليل على أن المراد بالشركاء هنا الأصنام. ويؤيد هذا قوله {قُلْ سَمُّوهُمْ}، والمراد به - فيما قيل - تعجيزهم، أي: إنه لا أسماء لهم، والأصنام معروفة الأسماء عندهم. فإن قلت: سيأتي في تفسير آيات النجم ما ينافي هذا. قلت: المعنى هنا - والله أعلم - سمُّوهم تسمية مستندة إلى علمٍ، وما في آيات النجم تسمية خَرْصيَّة. وعلى هذا، فالظاهر أنَّ (¬1) المراد بالشركاء في الآية الأشخاص الخيالية. والله أعلم. ¬

_ (¬1) كُتب في الأصل بعد هذا علامة إلحاق، ثم كتب "وعليه فالظاهر أنّ"، وهو تكرار لما سبق.

[س 72/ أ] (2) الشياطين. قال الله تبارك وتعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ ......} [الأنعام: 100 - 101]، ومن يقول: إن الملائكة يقال لهم جنٌّ أيضًا، يحتمل عنده أن يكونوا هم المراد هنا. وقال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121]، ففي هذا أن طاعة الشياطين في هذا الموضع شرك، ويلزم من ذلك جَعْلُ الشياطين شركاء. [س 72 / ب] وقال عزَّ وجلَّ: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ ...............} [الأنعام: 137]. وقال تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ................ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم: 22]. وقال سبحانه: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 98 - 100]. [س 73/ أ] فأما قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ

تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} [القصص: 62 - 64]. فقد قيل: إنها عامَّة تشمل الشياطين، وأن الذين حق عليهم القول هم الشياطين ومن يشبههم في رضاه بأن يُعبد من دون الله تعالى. وأقول: لا أراها تشمل الشياطين: (1) لأن المشركين لم يكونوا يزعمون أن الشياطين شركاء ولا يقصدون الشرك بهم، وإنما اتخذوهم شركاء من حيث لا يشعرون، كما تقدَّم. وثانيًا: فيها [أمر] (¬1) المشركين بدعاء الشركاء، فلا يستجيبون لهم، وإنما جاء معنى هذا في حق الملائكة، كما في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ} [النحل: 86]. وأما المراد بالذين حق عليهم القول فليسوا من الشركاء؛ لأن السؤال واقعٌ من الله عزَّ وجلَّ للمشركين، [س 73/ ب] فكيف يكون الجواب من الشركاء؟ وإنما الجواب من بعض المشركين وهم المتبوعون. وعلى هذا فالمراد بالشركاء في الآية الأشخاص الخيالية أو الملائكة؛ فإن الآية في مشركي قريش، وذلك كان شركَهم. ¬

_ (¬1) هكذا كانت في الأصل، ثم ضرب عليها المؤلَّف، وكتب فوقها (أن) ولعلّه كان يريد تغيير الأسلوب فنسي.

وربما يرجح الثاني قوله: {فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} فإنه ربما يفهم منه أن المدعوَّين موجودون وإلا لما اقتُصِر على بيان أنهم لم يستجيبوا، بل كان يجاء بما يدلُّ على أنهم غير موجودين. والله أعلم. وقوله: {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ}، إما خطاب للجميع مع الإعراض عن جواب المتبوعين، وهو الظاهر، وإمَّا خطاب للأتباع، والله أعلم. وقوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50) مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا} [الكهف: 50 - 52]. مقتضى السياق أن يكون المراد بالشركاء الشياطين، [س 74/ ب] ولكن المعنى ظاهر في أن المراد الأشخاص الخيالية أو الملائكة: أوَّلاً وثانيًا: لما مرَّ قبل هذا في الكلام على آية القصص. وثالثًا: لقوله: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا}، فإنه صريح في التفريق بين المشركين والشركاء، وإنما جاء مثل هذا في الملائكة كما في قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ} الآية [يونس: 28]، وستأتي قريبًا إن شاء الله تعالى. والموبق: المهلك، وفُسَّر بواد من أودية جهنم، فكأنه - والله أعلم - تَخْرُج شعبة من جهنم فتفرَّق بين الملائكة والمشركين، ويشهد له قوله بعد

ذلك: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا} [الكهف: 53] , أي رأوا تلك الشعبة قد حالت بينهم وبين المحشر، وصارت النار محيطة بهم لا مصرف لهم عنها، والعياذ بالله تعالى. (3) فرعون. وذلك فيما حكى الله عَزَّ وَجَلَّ في سورة المؤمن من مراجعة مؤمن آل فرعون لقومه، وفيها: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ} [غافر: 41 - 42]. [س 74/ أ] (4) الأحبار والرهبان. قال الله تبارك وتعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31]، فقوله: {سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} ظاهر في أنهم اتخذوا الأحبار والرهبان وعيسى شركاء، وانظر ما قدَّمناه في فصل الألوهية (¬1). (5) المسيح عليه السلام. يظهر ذلك من الآية المارَّة قريبًا. (6) الأشخاص الخيالية. قد تقدَّم قريبًا قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ} [الرعد: 33]، وأنَّ الظاهر أن المراد بالشركاء فيها الأشخاص الخيالية. ¬

_ (¬1) ص 415.

وكذا تقدَّم آنفًا قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ ....} [القصص: 62 - 63]، وأن الأقرب أن المراد بالشركاء فيها الأشخاص الخيالية. ومرَّ في ترجمة الأشخاص الخيالية من فصل الألوهية قوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ .... فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون: 91 - 92] , وقال جلّ ذكره: {وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [يونس: 66]. [س 75/ أ] (7) الملائكة. قد تقدَّم في فصل العبادة قوله تبارك وتعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} [يونس: 28 - 29]. وتقدَّم في فصل الدعاء قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ} [النحل: 86]. [س 75/ ب] ومرَّ في ذكر الملائكة من فصل الدعاء قول الله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا ... وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [سورة فاطر: 1 - 14].

(¬1) [س 76/ ب] وأما الأرباب فجاء في أشياء: (1) الأصنام. يحتمل ذلك في قول الله عزَّ وجلَّ: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي ... فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 75 - 79]، وقد تقدَّمت الآيات قريبًا. فقد يقال: إنَّ تعقيبه إبطال ربوبية الكواكب بقوله: {إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} إلخ إن لم يدل على أن قومه كانوا يعبدون الكواكب على ما تقدَّم فإنه يكون ظاهرًا في أنهم اتخذوا الأصنام أربابًا. وكأنه عليه السلام قال لهم: إذا بطلت ربوبية الكواكب والشمس والقمر فبطلان ربوبية الأصنام أولى. ويشهد لهذا قوله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا [س77/ أ] عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [الأنبياء: 51 - 56]. [س 77/ ب] (2) الكواكب والشمس والقمر. وذلك بيِّن من الآيات المتقدمة قريبًا. ¬

_ (¬1) (س 76/ أ) لم يَكتُب فيها شيئًا.

(3) العجل. قال عزَّ وجلَّ: {فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89) وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ} [طه: 87 - 90]. وبعد ذلك في خطاب موسى عليه السلام للسامريِّ: {وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [طه: 97 - 98]. [س 78/ أ] (¬1) (4) فرعون. حكاه الله تعالى عنه في قوله: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24]. (5) النُّمروذ (¬2). يظهر ذلك من قول الله تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258]. ¬

_ (¬1) (س 78/ ب) لم يكتب فيها شيئًا، وكأنه بيَّض لرقمي 6 و 7 في تسلسل المُتَّخَذِين أربابًا. (¬2) بضمَّ النون وآخره ذالٌ معجمةٌ أو دالٌ مهملةٌ, يُطْلق على كلِّ مَنْ مَلك الصابئة الكَلْدانيين، الذين عاصمتهم بابل بالعراق، كما أُطلق فرعون على كلَّ مَنْ ملك مصر، فهو اسم جنسٍ لا اسم علمٍ. لكنّ المقصود به هنا هو النمروذ بن كنعان، بيّنه السُّدِّي في تفسيره لهذه الآية. انظر: تفسير الطبريّ 4/ 569.

[س 79/ أ] (8) الأشخاص المتخيَّلة. من ذلك - والله أعلم - قوله عزَّ وجلَّ عن يوسف عليه السلام: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 39، 40]. وقد قدَّمنا أنَّ حصره معبوداتهم في الأسماء ظاهر في أنه لا يوجد منها إلا الأسماء (¬1). ومن ذلك - والله أعلم - ما يشير إليه قوله تعالى لنبيَّنا عليه الصلاة والسلام [س 79/ ب]: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ .... قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ....} [الأنعام: 159 - 164]. فإنه يدلُّ على أن المشركين كانوا يدعونه إلى أن يتخذ غيرَ الله ربًّا، وقد قدّمنا أنهم كانوا يقصدون بعبادتهم الإناث الخياليَّات التي زعموا أنها بنات الله، وأنها هي الملائكة، وأنه إذا جاء ذكر معبوداتهم غيرَ مُبَيَّن فالأولى أن يُفسَّر بها؛ لأن ذلك هو صريح اعتقادهم، فأما الملائكة فإنما عبدوهم على زَعْم [س80/ أ] أنهم هم الإناث الخياليَّة، ولم يكونوا يقصدون عبادة الشياطين، وأما الأصنام فإنما كانوا يعظَّمونها تعظيمًا لتلك الإناث على أنها تماثيل لها. ¬

_ (¬1) انظر: ص 416.

هذا، ويحتمل أن الإشارة في الآية إلى اليهود والنصارى؛ لأنهم هم الذي فرَّقوا دينهم وكانوا شيعًا، وقد جاء فيهم أنهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة: 31]، فلا تكون هذه الآية دليلًا على تربيب مشركي قريش للإناث الخياليَّات. والأقرب أن الآية تشمل الأمرين. والله أعلم. والدَّليل الصريح في أن المشركين كانوا يتخذون ربًّا من دون الله تبارك وتعالى، [س 80/ ب] قولُه عزَّ وجلَّ: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ....} [الحج: 39 - 40]، فيُحمل ذلك على الإناث الخياليَّات؛ لما تقدَّم. والله أعلم. وقد يقال: بل الأولى الحمل على الملائكة؛ لما تقدَّم من قوله تبارك وتعالى: {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا} [آل عمران: 80]، وأن الإشارة فيه إلى المشركين، فتأمَّل. [س 81/ أ] (9) الملائكة. قد تقدَّم آنفًا. [س 81/ ب] وأما الأنداد فجاء في أشياء أيضًا: (1) المتديَّنُ بطاعتهم من البشر من دون الله تعالى. قال عزَّ وجلَّ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ

مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة 21 - 22]. قال ابن جريرٍ: حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدِّي في خبرٍ ذكره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناسٍ من أصحاب النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: [س 82/ أ] {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} , قال: أكْفاء من الرجال تطيعونهم في معصية الله (¬1). وذكر غير هذا، ولكن اخترت هذا (¬2) لأنه حكاه عن جماعة من الصحابة، ولأنه يوافق ما يأتي. وقد دلَّت هذه الآية على أن الأنداد هم المعبودون من دون الله. وقال تبارك وتعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167) يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا [س 82/ ب] تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ¬

_ (¬1) تفسير الطبري 1/ 391. (¬2) هنا كان مكتوبًا "لموافقته لما يأتي"، فضرب الشيخ على "لما يأتي"، والظاهر أن الشيخ نسي أن يضرب على "لموافقته"؛ لأنه يغني عنه ما يأتي قريبًا.

مَا لَا تَعْلَمُونَ (169) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 165 - 170]. قد كان ظهر لي أنَّ المراد بالأنداد هنا الشياطين؛ لما جاء في السياق من قوله: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ...}. ولأن ابن جرير أخرج عن السُّدَّي في قوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا}، قال: هم الشياطين تبرّؤوا من الإنس (¬1). ولما أخبر الله تعالى به في قوله: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ ... إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ ...} [إبراهيم: 22]. [س 83/ أ] ثم ترجَّح لي أن المراد: المتبوعين (¬2) من البشر؛ لقوله تعالى: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}، ولم يكن المشركون يحبون الشياطين. وفي الدر المنثور: وأخرج ابن جرير عن السدي في الآية قال: الأنداد من الرجال يطيعونهم كما يطيعون الله، إذا أمروهم أطاعوهم وعصوا الله (¬3). وفيه: وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا}، قال: هم الجبابرة والقادة والرؤوس في الشرِّ والشرك {مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} هم الأتباع والضعفاء (¬4). اهـ. ¬

_ (¬1) تفسير الطبري 3/ 24. (¬2) كذا في الأصل بالنصب مطابقة للمفسَّر (أندادًا). (¬3) الدرّ المنثور: 1/ 401. (¬4) الدّرّ المنثور: 1/ 401.

أقول: وهو الظاهر والموافق لآيات أخرى في المعنى. وفي الدرّ المنثور: وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا} أي: شركاء، {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} أي يحبون آلهتهم كحب المؤمنين لله إلخ (¬1). وفيه بيان ما قدَّمناه أن الأنداد بمعنى الآلهة من دون الله تعالى. [س 83/ ب] (2) الأشخاص الخياليَّة. قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} [إبراهيم: 28 - 30]. لا يصلح هنا تفسير الأنداد بالمتبوعين من الإنس؛ لأن الجاعلين هم المتبوعون، كما يدلُّ عليه قوله: {وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ}، وقوله: {لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ}، وقد فسر عمر وعلي وابن عباس وغيرهم (الذين أحلُّوا) بصناديد المشركين من قريش (¬2)، وهو موافق لما قدَّمنا. نعم، يمكن [س 84/ أ] أن يقال: إن صناديد المشركين من قريش جعلوا مَن تقدَّمهم من الناس كعمرو بن لحيًّ وغيره من آبائهم أندادًا لله، يطيعونهم كطاعته، فلا مانع من أن يكون المراد بالأنداد في الآية المتبوعين من البشر أيضًا، والله أعلم. ¬

_ (¬1) الدرّ المنثور: 1/ 401. (¬2) انظر: تفسير الطبري 13/ 669 وما بعدها.

وقال تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [فصلت: 9]. لم أر في السياق ما يعيِّن المراد وأن معنى الأنداد الشركاء. وقد قدَّمت أنه عند الإطلاق يحمل على الأشخاص الخياليَّة لأنها هي التي كان يقصد المشركون عبادتها بالذات. والمقام محتمل. والله أعلم. [س 84/ ب] (3) الملائكة (¬1). قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا} [سبأ: 33]. وهذه الآية في سياق تأليه الملائكة. قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ: 22 - 23]. وقد تقدَّم تفسير الآيات. وقال الله تبارك وتعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [الزمر: 8]. ¬

_ (¬1) ص 85/ أكتب فيها ما يتعلَّق بالملائكة ثمَّ كمَّله بما في 84/ ب.

هذه الآية في سياق تأليه المشركين للملائكة، وقولهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، وقد تقدَّم تفسير الآيات. وفي الآية دليل أن معنى الأنداد: المدعوُّون من دون الله تعالى. (¬1) (¬2) {الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) ...} [المائدة: 44]. المعنى كما يفيده السياق: ومَن حكم فلم يحكم بما أنزل الله، بل حكم بغيره خشية من الناس أو اشتراء لغرض من الدنيا، زاعمًا أن ما حكم به حق وعدل؛ لأن أصل الحكم في اللغة القضاء بالعدل كما في اللسان وغيره، وإطلاقه على القضاء ولو بباطل توسُّع. قال الراغب: "فإذا قيل: حكم بالباطل فمعناه: أجرى الباطل مجرى الحكم" (¬3). والحكم بغير ما أنزل الله على وجوه: الأول: أن يقضي به زاعمًا أنه هو الذي أنزل الله مع علمه بكذبه، كما كان ¬

_ (¬1) ص 85/ ب فارغة. (¬2) من هنا آخر صفحة من كُرَّاس بخطَّ المؤلف تحمل الرقم العام 4658/ 8، وأغلب ظني أنها من فصل تفسير عبادة الأحبار والرهبان، ولم أعثر على بقيَّته. (¬3) المفردات: 249.

اليهود يقضون في الزنا بالجلد والتحميم زاعمين أنَّ ذلك هو حكم شريعتهم كاتمين لما في شريعتهم من أَنَّ حُكْمَهُ الرَّجْمُ. الثاني: أن يقصي به زاعمًا أنه حق وعدل مع علمه واعترافه بأنه خلاف ما أنزل الله، كأن يقضي مَنْ يدَّعي الإِسلام بأن ميراث الأنثى من أبيها كميراث الذكر سواء. الثالث: أن يقضي برأيه ويزعمه حقًّا وعدلًا ولا يبالي أوافق الشرع أم خالفه. فالأول: كَذِبٌ على الله كما هو ظاهر، وتكذيب بآيات الله التي كتمها؛ لأنه يجحد أنَّ ما قضت به هو حكم الله، فإن استحلّ فِعْلَه ففي ذلك كذب وتكذيب آخر. وأما الثاني والثالث: فتكذيب بآيات الله عزَّ وجلَّ كما هو ظاهر، وفيها كذب على الله أيضًا من جهة وصفه بما لا يليق به من الحكم بما ليس بعدلٍ ولا حقًّ، ومن جهة إثبات شريك معه يشرع الأحكام فتكون طاعته حقًّا وعدلًا بدون إذنٍ من الله. ****

اعتقاد المشركين في الأصنام

[اعتقاد المشركين في الأصنام] (¬1) والمقصود أنهم إنما عظَّموا الأصنام على أنها تماثيل أو تذاكر للإناث الوهميَّات التي هي في زعمهم بنات الله عزَّ وجلَّ، وهي عندهم الملائكة، فلم يعتقدوا في الأصنام ذاتها نفعًا ولا ضرًّا، وإنما يعتقدون أنَّ تعظيمها ينفع من حيث هو تعظيم للأشخاص التي جُعِلَتْ تماثيل أو تذاكر لهم. وأمَّا قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18]، فقد تقدَّم في فصل العبادة في فرع الأصنام احتمالٌ وجيه أنَّ المراد الملائكة، فارجع إليه (¬2). فإن لم يطمئن به قلبك [س 117/ ب] فقل ما تقدَّم عن المفسرين أنَّ نسبة الشفاعة إلى الأصنام باعتبار السببيَّة. بقي قوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ} [الزمر: 43]، فإن قوله: {لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ} يأبى أن يكون المراد: الإناث الخياليات؛ لأنهن معدومات أصلًا ¬

_ (¬1) هذا العنوان من وضعي، اعتمادًا على إحالة سبقت للمؤلَّف (ص 433) قال فيها: "وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق الكلام في الآية في بحث اعتقاد المشركين في الأصنام"، ويعني الآية 18 من سورة يونس الآتية قريبًا، واعتمادًا أيضًا على ما سيقوله بعد ثلاث صفحات: "وقبل أن نخرج من بحث الأصنام". (¬2) انظر ص 432.

فكيف يقتصر على نفي الملك والعقل؟ وقوله: {وَلَا يَعْقِلُونَ} يأبى أن يكون المراد الملائكة, اللهم إلاَّ أن يجاب عن الأوَّل بأنَّ الاقتصار على نفي الملك والعقل لا ينافي انتفاء الوجود، وقد أخبر الله عزَّ وجلَّ عن خليله إبراهيم [عليه] (¬1) السلام قوله لأبيه: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم: 42] يريد الأصنام (¬2)، ومثل هذا كثير، واقتصر على نفي الملك والعقل للدلالة على أنَّ مجرد انتفائهما عن الشيء كافٍ في بطلان عبادته. وعن الثاني بأن المراد: لا يعقلون دعاءكم إيَّاهم أي لا يفهمونه؛ لأنهم غافلون عنه، وقد وصف الملائكة بكونهم غافلين عن دعاء المشركين في عدَّة آيات تقدَّم بعضها [س 118/ أ] ويكون قوله: {وَلَا يَعْقِلُونَ} من باب نفي أحد المتلازمين بقصد انتفاء الآخر، كقوله في الآية المتقدمة آنفًا: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} يريد "بما ليس موجودًا"؛ لأنَّ ما لم يعلمه الله تعالى موجودًا فليس بموجود، فكذا في هذه الآية، المعنى على الاحتمال المذكور أي إذ كانوا لا يعقلون عبادتكم فهم لم يعلموا بها؛ إذ لو علموا بها لعقلوها، إلا أنَّ الإطلاق في قوله: {وَلَا يَعْقِلُونَ} ربما يوهن هذا الاحتمال، [س 118/ ب] ولكن يمكن الجواب عنه بأنَّ حذف المفعول كثير في القرآن وغيره، والقرينة هنا قائمة، وهي أنَّ ¬

_ (¬1) سقطت من الأصل. (¬2) بعد هذا بضع كلمات لم تظهر، ولعلها: (ولم يرد نفي انتفاء الحياة). بدلالة كلمات كتبها المؤلف بعد إيراد الآية ثم ضرب عليها لتحسين العبارة، وهي: (لم يناف انتفاء الحياة).

المشركين إنما كانوا يرجون شفاعة الملائكة، وقد بيَّن الله عزَّ وجلَّ في عدَّة آيات صفات الملائكة الشريفة، وبيَّن في عدَّة آيات أنهم لا يسمعون دعاء المشركين، وأنهم غافلون عنه، وبذلك تكون القرينة على الحذف ظاهرة. وهنا جواب آخر لعله أقوى من هذا، وهو أنَّ المراد لا يملكون شيئًا ملكًا ذاتيًّا، أي بغير تمليك الله سبحانه إيَّاهم ولا يعقلون عقلًا ذاتيًّا أي غير موهوب لهم من الله عزَّ وجلَّ، والملائكة كذلك. والمعنى يؤيِّده، فإنَ المدار على إثبات أنهم لا يستحقُّون العبادة، واستحقاق العبادة إنما يكون بالقدرة الذاتيَّة، فأمَّا القدرة الموهوبة من الله فإنها لا تفيد في استحقاق العبادة، فإنَّ بني آدم أنفسهم يملكون ما ملَّكهم الله تعالى ويعقلون بعقلٍ موهوب لهم منه، ولم يستحقوا العبادة، ومثل هذا المعنى كثير في القرآن مِنْ نفي الملك (والضرِّ والنفع) (¬1) الذاتي. وبعد هذا قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ ... قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [المائدة: 73 - 77]. وقال سبحانه {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي ....} [سبأ: 22] والسياق يدل (أن) (¬2) المراد الملائكة. ¬

_ (¬1) لم تظهر هاتان الكلمتان والمثبت اجتهاد مني. (¬2) لم تظهر هذه الكلمة.

وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء: 56 - 57] , وقال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (¬1) كما يأتي في بحث الدعاء إن شاء الله تعالى. أما المفسرون فقال الإِمام الرازي وغيره عند [س 119/ أ] قوله تعالى {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر: 44]: هذا ردٌّ لما يجيبون به، وهو أنَّ الشفعاء ليست الأصنام أنفسَها بل أشخاص مقرَّبون هي تماثيلُهم (¬2). أقول: وهذا يحتاج إلى توجيهٍ وإيضاح، فأستعين الله عزَّ وجلَّ وأقول: قوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ} على وِزان قوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ} [الأنبياء: 21] وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان معناها ومعنى ما بعدها من الآيات قريبًا (¬3). وحاصل معناها أنها استفهامٌ، أي: أم هل اتخذوا آلهة [س 119/ ب] يعتقدون أنهم ينشرون من الأرض؟ فإن كان ذلك فهاك الجواب: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ....} [الأنبياء: 22]، مع أنَّ المشركين لم يعتقدوا في ¬

_ (¬1) سورة الملائكة (فاطر): 13 - 14. [والتوضيح من المؤلف]. (¬2) انظر: تفسير الرازي 26/ 247 - 248، وروح المعاني 7/ 410. (¬3) في الصفحة الآتية وفي ص 517 - 521.

سؤالان مهمان

آلهتهم أنهم ينشرون من الأرض، كما نصَّ الله عزَّ وجلَّ على ذلك في آيات كثيرة، ويجمعها {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] , ولكنَّ الآية تعريض بجهلهم كأنه يقول: لو اتخذوا آلهة يظنون أنها تنشر من الأرض لكان جهلُهم أخفَّ من أن يتخذوا آلهة ليسوا كذلك. أقول: فكذا قوله عزَّ وجلَّ: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ} فهي استفهام عن شأنهم في عبادتهم الأصنام، أي: أم هل اتخذوا معبودات يعتقدون أنها تشفع لهم؟ فإن كان ذلك فهاك الجواب: {أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ} والآية الثانية على ما قاله الإِمام الرازي وغيره (¬1). وعلى هذا فليس في الآية أنَّ المشركين كانوا يزعمون أنَّ الأصنام [س 120/ أ] شفعاء، وإنما الآية تعريض بهم أي أنهم لو عبدوا شيئًا يظنون أنه يشفع لهم لكان جهلهم أخفَّ من أن يعبدوا شيئًا لا يرجون منه شفاعة وهو الأصنام. فالمشركون يجيبون بأنهم وإن كانوا لا يرجون من الأصنام أنفسها شفاعة فإنهم يرجون من الأشخاص التي هي تماثيل أو تذاكر لهم، وعبادتهم لها إنما هي ذريعة لعبادة أولئك الأشخاص. فيُنْتَقَل إلى محاجَّتهم في أولئك الأشخاص. وقبل أن نخرج من بحث الأصنام نذكر سؤالين مهمَّين: الأول: قد جاءت آثار كثيرة في شأن اللاَّت تخالف ما تقدَّم، ففي صحيح البخاري وغيره عن ابن عباس قال: كان اللات رجلًا يلتُّ سَويق ¬

_ (¬1) راجع الصفحة السابقة.

الحاجَّ (¬1). وأخرج النسائي وغيره (¬2) عن مجاهد نحوه مطوَّلًا، وفيه: فلما مات عبدوه، وقالوا: هو اللات، وكان يقرأ: "اللاتَّ" مشددة. وأخرج الفاكهي (¬3) عن ابن عباس: أنَّ اللات لما مات قال لهم عمرو بن لحي: إنه لم يمت ولكنه دخل الصخرة فعبدوها وبنوا عليها بيتًا. [س 120/ ب] وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ} قال: كان رجل من ثقيف يلتُّ السويق بالزيت فلما توفي جعلوا قبره وثنًا (¬4). وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} [النجم: 19]، قال: اللات كان يلتُّ السويق بالطائف فاعتكفوا على قبره، والعُزَّى شجرات (¬5). وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن أبي صالح قال: اللات الذي كان يقوم على آلهتهم، وكان يلتُّ لهم السويق، والعُزَّى بنخلة كانوا يعلِّقون عليها ¬

_ (¬1) صحيح البخاريِّ، كتاب التفسير، سورة: "والنجم"، باب: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى}، 6/ 141، ح 4859. وانظر: تفسير الطبريَّ 22/ 48، الدرّ المنثور 7/ 652. (¬2) لم أجده في سنن النسائي، وعزاه السيوطي في الدرّ المنثور 7/ 652 إلى سعيد بن منصور والفاكهي. وانظر: سنن سعيد بن منصور، كتاب التفسير، سورة النجم، 7/ 455، ح 2084. وأخبار مكة للفاكهي، ذكر اللات وأصل عبادتها ومكانها، 5/ 164، ح 75. (¬3) أخبار مكَّة, الموضع السابق، 5/ 164، ح 76. وانظر: فتح الباري 8/ 612. (¬4) انظر: الدر المنثور 7/ 653. (¬5) انظر: تفسير الطبري 22/ 48 و49، الدر المنثور 7/ 653.

الثاني

الستور والعهن، ومناة حجر بقُديد (¬1). وأخرج عبد بن حميد عن أبي الجوزاء قال: اللات حجر كان يلتُّ السويق عليه، فسُمَّي اللات (¬2). السؤال الثاني: أنَّ لهم أصنامًا مذكَّرة الأسماء كهُبل ومناف، وهذا يدفع أن يكون هذا الضرب تماثيل أو تذاكر للملائكة؛ لأنهم كانوا يزعمون أنَّ الملائكة إناث؟ [س 121/ أ] الجواب: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلَّى لله وسلَّم وبارك على خاتم أنبيائه وآله وصحبه. أما السؤال الأوَّل فعنه أجوبة، وقبل الشروع فيها نذكر كلام أهل اللغة والتفسير في اللات، قال بعضهم: هي على وزن باب وأصلها ليَت، وقيل: أصلها لَوَيَة والتاء فيها للعوض كهي في ذات، وقيل: أصلها لاهة، وقيل: إنهم اشتقوا هذا الاسم من لفظ الجلالة، قاله الواحدي وغيره، وقالوا نحوه في العزى ومناة. وقال أهل اللغة: إن من العرب من يقف عليها بالهاء ومنهم من يقف عليها بالتاء، والقراءات المشهورة كلُّها بتخفيف التاء إلاَّ رواية عن ابن كثير فإنها بتشديد التاء، كما رُوي عن ابن عباس ومجاهد، والمعروف في اللغة الخفَّة، قال زيد بن عمرو بن نفيل (¬3): ¬

_ (¬1) انظر: تفسير الطبري 22/ 48 (وفيه ذكر اللات فقط)، الدر المنثور 7/ 653. (¬2) انظر: الدر المنثور 7/ 653. (¬3) انظر: الأصنام لابن الكلبي 22.

عزلتُ اللات والعُزَّى جميعًا ... كذلك يفعل الجَلْدُ الصبور وأنشدوا لبعضهم (¬1) في بعض حروب النبي - صلى الله عليه وسلم -: غلبت خيلُ الله خيل اللَّات ... وخيلُه أحقُّ بالثبات وقال آخر (¬2): وفرَّت ثقيف إلى لاتها ... بمنقلب الخائب الخاسر وقال عمرو بن الجعيد (¬3): فإني وتركي وَصْل كأسٍ لكالَّذي ... تبرَّأ مِن لاتٍ، وكان يدينها ثم اختلفوا في موضعها ولمن كانت؟ فقال قتادة: كانت لثقيف بالطائف (¬4)، وقال أبو عبيدة وغيره: كان بالكعبة (¬5)، وقال ابن زيد: كان بنخلة [س 121/ ب] عند سوق عكاظ تعبده قريش (¬6)، قال أبو حيان: يمكن الجمع بأن يكون المسمى بذلك أصنامًا فأخبر عن كلِّ صنم بمكانه (¬7). ¬

_ (¬1) هي امرأة من المسلمين، قالت ذلك لما هزم الله المشركين من أهل هوازن. انظر: سيرة ابن هشام 2/ 449. (¬2) هو ضرار بن الخطَّاب الفهري. انظر: سيرة ابن هشام 1/ 47. (¬3) انظر: الأصنام لابن الكلبي 16. (¬4) انظر: تفسير عبد الرزاق 2/ 253، تفسير الطبري 22/ 47، وعزاه السيوطيُّ في الدرِّ المنثور (7/ 653) إلى عبد بن حميدٍ وابن المنذر. وهو في سيرة ابن هشام 1/ 79 (طبعة طه عبد الرؤوف سعد). (¬5) مجاز القرآن 2/ 236، وانظر: المحرَّر الوجيز 8/ 115 - 116. (¬6) انظر: تفسير الطبري 22/ 47، وتفسير البغوي 7/ 407. (¬7) البحر المحيط 10/ 15 (دار الفكر).

ثم إنَّ ما ذكره ابن عباس رضي الله عنه وتلامذته وتلامذتهم حاصله بعد الجمع بين الروايات أنه كان في الطائف رجل كان سادنًا لأصنامهم يلتُّ السويق للحاجَّ على صخرة معروفة، ويظهر أنها كانت بمحلَّ أصنامهم، فلما مات قال عمرو بن لُحَيًّ: إنه لم يمت ولكنه دخل الصخرة، فالصخرة هي التي كان يلتُّ عليها السَّويق، وهي قبره الموهوم، إن لم يكن قُبِرَ تحتها - الله أعلم - فعُبدت الصخرة. إذا علمتَ هذا فأقول: الجواب الأول: قد يكون عَمْرُو بن لُحَيًّ قال لهم: إنَّ تلك الصخرة مباركة لأنها كانت بقرب الأصنام وكان يلتُّ عليها السويق للحاجَّ، ثم إنها ابتلعت صاحبها مع أنَّ وصف ذلك السادن وهو لفظ اللات مشدَّدًا يقارب اسم أحد الملائكة اللات مخفَّفة، اختلق لهم عَمرو هذا الاسم مروَّجًا لصحته بأنه مشتقٌّ من لفظ الجلالة كما ذكره الواحدي وغيره (¬1)، فينبغي أن تُجعل تذكارًا لهذا الملَك وتُسمَّى باسمه اللات، فقرأ ابن عباس - إن صحَّ عنه - وبعضُ تلامذته بالتشديد، كأنه والله أعلم تحاشيًا عن النطق بها مخفَّفة لما في [س 122/ أ] وضْع هذا الاسم كذلك من الكفر والبَهْت، وقد يكون في ذلك نقلٌ عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وهو الظاهر، وقرأها الجمهور بالتخفيف اتَّباعًا، ولأنَّ هذا الاسم كذا وُضع، وحاكي الكفر ليس بكافر. ومَنْ وقف عليها بالهاء نظر إلى أصل وضع الاسم، ومَنْ وقف عليها بالتاء حرص على ما قصده عَمْرو بن لُحيًّ من موافقة الاسم لصفة ذلك ¬

_ (¬1) انظر: الوجيز في تفسير الكتاب العزيز 1/ 423، وزاد المسير 8/ 72، وروح المعاني 27/ 55.

السادن. وعلى كلِّ حالٍ فهي مؤنَّثة، فقد قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لعروة بن مسعود الثقفيِّ يوم الحديبية: اُمْصُصْ بظر اللات. الجواب الثاني: قد لا يكون سُمِّيت اللات مخفَّفة من أوَّل الأمر وإنما سُمِّيت اللاتُّ مشدَّدة بصفة السادن ثم خفِّفت لكثرة الاستعمال، ثم تقادم العهدُ فنُسِيَتْ قصَّة السادن وظنُّوا أنَّ اللات اسمُ مَلَك من الملائكة، وتلك الصخرة تذكار له. الجواب الثالث: [س 122/ ب] أنَّ اللاتَّ مشدَّدةً اسمُ الصخرة المذكورة ثم خُفِّفَتْ لكثرة الاستعمال فقد قال الشاعر (¬1): وفرَّت ثقيف إلى لاتها ... بمنقلب الخائب الخاسر وصار يُؤَنَّثُ باعتبار الصخرة، ولذلك قال الصِّدِّيق ما قال. وكان لقريش صنم آخر سمَّوه اللات مخففة مؤنَّثة زعموا أنه اسم لملَك اشتقاقًا من لفظ الجلالة. وفي هذا الجواب الثالث ضعف، والأوَّل قويٌّ، والثاني أسلم من التكلُّف وأشبه بطبيعة النشوء التي تكاد تكون عامَّة في الوثنيَّة. ثم رأيت في شرح القاموس (¬2) ما يؤيِّده، ثم رأيت في معجم البلدان (¬3) ¬

_ (¬1) مر تخريجه قريبًا. (¬2) تاج العروس 5/ 75. (¬3) 5/ 4.

لياقوت ما لفظه: ودام أمرُ عَمرٍو وولدِه عليه نحو ثلاثمائة سنة، فلما مات استمرُّوا على عبادتها وخفَّفوا التاء، ثم قام عَمْرو بن لُحَيًّ فقال لهم: إنَّ ربَّكم كان قد دخل في هذا الحَجَر يعني تلك الصخرةَ، ونصبها لهم صنمًا يعبدونها ... اهـ. وفي القصَّة تخليط شديد فراجِعْ. ويؤيِّد الجوابين الأوَّلين تعدُّد التماثيل أو التذاكر التي يسمُّونها اللات، وذلك أنَّ اللات عندهم هو اسم الملَك، فيمكن أن يجعلوا له عدَّة تماثيل أو تذاكر يُسمُّون كلَّ واحد منهم باسمه [س 123/ أ] كما تقدَّم في قصَّة نوح (¬1) أنَّ الشيطان جعل لهم تماثيل لأولئك الرجال الصالحين وسمَّى كلَّ تمثالٍ باسم صاحبه، ووضعوها في مُصَلَّاهم ثم جعل مثل ذلك لكلِّ أحد في بيته، وهكذا نرى الوثنيِّين في الهند تتعدَّد تماثيلُ (¬2) لشخصٍ واحد. وإنما امتازت لاتُ ثقيفٍ لأنها الأُولى من نوعها لقصَّة السادن، والله أعلم. وأما السؤال الثاني، فعنه جوابان: الأول: أنَّ تلك الأصنام كأخواتها تماثيل للملائكة، ولكن كأن الشيطان لم يوحِ إليهم باسم ذلك الملَك فسمَّوا الأصنام أنفسها [س 123/ ب] بأسماء مذكَّرة اعتبارًا بلفظ الصنم أو الوثن أو نحو ذلك. الجواب الثاني: يمكن أن يكون الشيطان أوحى إليهم أنهم كما جعلوا تماثيل للملائكة يعظِّمونها فالله عزَّ وجلَّ لا ينبغي أن يكون أقلَّ حظًّا فجعلوا ¬

_ (¬1) ص 441 - 442. (¬2) كذا في الأصل.

خلاصة اعتقاد المشركين في الأصنام

لله عزَّ وجلَّ تماثيل أو تذاكر كما أوحى إليهم الشيطان، ولكنهم تحاشَوْا أنْ يسمُّوها باسمه فسمَّوها أنفسها بهبل ومناف وغير ذلك. ومما يساعد هذا أنَّ هبل كان عندهم أعلى من غيره، ولهذا قال أبو سفيان يوم أحد: اعْلُ هُبَل، فخصَّه بالذكر في ذلك المقام، فأمر النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أصحابه أن يجيبوه: "الله أعلى وأجلُّ" (¬1). ويظهر أنَّ هذا الجواب يتضمَّن إبطال هُبل، إذا كان وُضع على أن يكون تمثالًا لله عزَّ وجلَّ؛ فإنَّ قوله: "الله أعلى وأجلُّ"، يبيِّن أنه أعلى وأجلُّ مِن أن يُجعل له تمثال، ولهذا عدل أبو سفيان إلى قوله: "لنا العُزَّى ولا عُزَّى لكم"، كأنه يقول: لنا شفيع ولا شفيع لكم. فأمرهم النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بأن يجيبوه: الله مولانا ولا مولي لكم [س 124/ أ] أي: أن الله عزَّ وجلَّ نفسه مولانا وناصرُنا ومعينُنا ولا مولى لكم. خلاصة اعتقاد المشركين في الأصنام أنها تماثيل وتذاكر للملائكة، وقد يكون فيها تمثال أو تذكار لله عزَّ وجلَّ كما تقدَّم، وأنها أنفسها لا تضرُّ ولا تنفع، وإنما هي ذريعة إلى عبادة مَنْ جُعِلَتْ تمثالًا أو تذكارًا له. تعظيمهم للأصنام (¬2) كانوا يتمسَّحون بها ويعكُفون عليها ويُضَمِّخونها بالطيب ويتقاسمون بالأزلام عندها ولم أر نقلًا صريحًا في أنَّ المشركين كانوا يسجدون ¬

_ (¬1) صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة أحدٍ، 5/ 94، ح 4043. (¬2) قارن ما هنا بما في ص 630.

للأصنام، بل جاء ما ينفي ذلك، فأخرج مسلم في صحيحه (¬1) عن أبي هريرة قال: قال أبو جهل: هل يعفَّر محمَّد وجهه بين أظهركم فقيل: نعم، الحديث، وهذا يدلُّ أنهم كانوا يستشنعون السجود، ولو كانوا يسجدون للأصنام ما أنكروا عليه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم السجود لله. ومما يُروى عن أبي طالب في أسباب توقُّفه عن الإِسلام أنَّه استشنع السجود قائلًا: والله لا تعلوني استي أبدًا، والقصَّة في مسند أحمد وغيره (¬2). [س 124/ ب] وهل جاء في القرآن أنهم كانوا يدعونها؟ لم أر ما هو صريح في ذلك إلاَّ أن يكون قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} [الحج: 73 - 76]. ¬

_ (¬1) صحيح مسلمٍ، كتاب صفة القيامة والجنَّة والنار، باب قوله: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى}، 8/ 130، ح 2797. (¬2) المسند 1/ 99. [المؤلف]. وهو أيضًا في مسند الطيالسي 1/ 155، ح 184، ومسند البزَّار 2/ 319 - 320، ح 751. قال الهيثميُّ: "وإسناده حسنٌ". مجمع الزوائد 9/ 125. وقال الألبانيُّ: "ضعيفٌ جدًا"، وتعقَّب الهيثميَّ في تحسينه، لأن في إسناده: يحيى بن سلمة بن كُهَيلٍ، وهو متروكٌ. انظر: السلسلة الضعيفة 9/ 147، ح 4139.

فإن هذه الصفة لا تقال في المعدوم وهي الإناث الخياليات (¬1)، ولا تصدُق على الملائكة أو الشياطين لأنهم قد يستطيعون الاستنقاذ من الذباب كالآدميِّين على الأقلَّ، اللهمَّ إلاَّ أن يُقال: إنَّ المراد: لا يستنقذوه منه بقدرة ذاتيَّة لهم أي بغير إذن الله تعالى؛ لأنَّ الكلام إنما هو في قدرة تؤهِّلُهم لأَنْ يُدْعَوا من دون الله تعالى، ويؤيَّد هذا بأنَّ الضمائر ضمائرُ العقلاء. وقد جاءت آيات في الملائكة وفي المسيح عليه السلام وفي الشياطين أنهم لا ينفعون ولا يضرُّون, والمراد بغير إذن الله تعالى، فلماذا لا يُحْمَل ما هُنا على ذلك؟ بل إنَّ عمومَ سَلْبِ النفع والضر يتناول سَلْبَ الاستنقاذ من الذباب. وعلى هذا فقوله: {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ}، المراد به الضعف الذاتيُّ؛ فإنَّ الملائكة وغيرهم متَّصفون بالضَّعف الذاتيِّ، وما كان لهم مِن قدرة فليست ذاتيَّة، وإنما هي موهوبة من الله تعالى ومحصورة فيما يأذن به. ومما يؤيد أنّ المراد الملائكة/ (¬2) السياق: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ}، أي والله أعلم: أنَّ أكابر الملائكة ليسوا إلاَّ رسلًا يصطفيهم الله تعالى كما يصطفى الرسل من الناس، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، كقوله في آية الكرسي: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ}، والمراد سيأتي إن شاء الله تعالى. وقال صاحب روح المعاني (¬3) في تفسير الآية: "والآية وإن كانت نازلة ¬

_ (¬1) هنا خط كأنه يشير إلى ملحق لم أهتد إليه، والكلام متَّصل. (¬2) هنا بداية ملحق متصل بالصفحة السابقة. (¬3) 17/ 202.

في الأصنام فقد كانوا كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يطلونها بالزعفران (ورؤوسها بالعسل) ويغلقونه عليها، فيدخل الذباب من الكُوى ويأكله، إلاَّ أنَّ الحكم عامٌّ لسائر المعبودات الباطلة". ونفي القدرة الذاتية يشترك فيه جميع المخلوقين. وقوله في الآية: "نزلت في الأصنام" لم تقم به حجة فيما أعلم، وفي صحته نظر، أوّلًا لأنَّ آيات الدعاء في القرآن في حق مشركي العرب منها ما هو صريح في أنَّ المراد الإناث الخياليَّة وما هو صريح في أنَّ المراد الشياطين، ومنها ما هو محتمل، فالأَوْلى حملُ المحتمِل على الصريح. ويوضحه الوجه الثاني وهو: أنَّ الدعاء على ما يأتي إن شاء الله هو الرغبة إلى المدعو والسؤال منه، وقد تقدَّم أنَّ المشركين لم يكونوا يعبدون الأصنام إلاَّ على أنها تماثيل أو تذاكر للملائكة فكيف يسألونها؟ اللهمَّ إلاَّ أنْ يقال: لعلَّهم كانوا يوجَّهون الدعاء إليها والمقصود دعاءُ الأشخاص الذين جُعلت تماثيلَ لهم وإنما وجَّهوا الدعاء ... (¬1). فأما قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا ...} [الأعراف: 194 - 195]، فسيأتي تفسيرها إن شاء الله تعالى في معنى الدعاء (¬2) (¬3). ¬

_ (¬1) هنا كلمات لم تتضح. (¬2) انظر ص 759. (¬3) هنا كلام مضروب عليه وسهم لم أعرف وجهه، والكلام المضروب عليه: ومما =

والأزلام قداح مُعَدَّة للقرعة والاستخارة، ولم يكن من شرطها أن تكون عند الأصنام، فقد جاء أنَّ ... خرج إلى حنين والأزلام معه يستقسم بها، وفي قصة سراقة بن مالك بن جُعْشُم أنه لما خرج يتبع أثر النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم حين هاجر كانت الأزلام معه يستقسم بها (¬1)، ولكن كانوا يرون أنَّ كونها عند الأصنام أنجح كما في قصة امرئ القيس ... للأخذ بثأر أبيه، فاستقسم عند ذي الخَلَصَة فخرج القِدْحُ الذي يفيد النهي عن الخروج فقال: لو كنت يا ذا الخلصة (¬2) الموتورا ... دوني وكان شيخك المقبورا لم تنه عن قتل العُداة زُورا (¬3) وكانوا يقترعون بها عند اختلافهم ويقضون بها، وقد جاء ذلك في قصة عبد المطلب عند نذره ذبح ولده عبد الله (¬4)، وكانوا عند القرعة أو الاستخارة بها يدعون آلهتهم أن يرشدوهم إلى الصواب. ومن الأصنام شجر ينوطون ... ، ومنها ... أي حجارة يتحرَّون الذبح عليها ذاكرين أسماء آلهتهم، ولم يتبيَّن لي سبب ذلك عندهم. ¬

_ = كانوا يصنعون بالأصنام العكوف عليها والتمسح بها وتضميخها بالطيب والاستقسام بالأزلام عندها. (¬1) سيرة ابن هشام 1/ 489. (¬2) رواية البيت: "الخَلَص" بالترخيم. (¬3) انظر: الأصنام لابن الكلبي ص 35، سيرة ابن هشام 1/ 130 وملحق ديوان امرئ القيس 460. (¬4) انظر: سيرة ابن إسحاق ص 10 - 11، وسيرة ابن هشام 1/ 203.

اعتقادهم في الملائكة

وكانوا يزورون الأصنام من الأماكن البعيدة ويطوفون بها كما يطوفون بالكعبة (¬1)، وكانت الأوس والخزرج يُهِلُّون لمناة الطاغية ثم يجيئون إلى الصَّفا والمروة فيسعون بينهما (¬2). والله أعلم. [س 125/ أ] اعتقادهم في الملائكة اعلم أنَّ أكثر الناس في غفلة عن كون مشركي العرب جميعهم أو غالبهم كانوا يعبدون الملائكة، وأنت إذا تدبَّرْتَ ما تقدم من الآيات في فَصْليَ التأليه والعبادة في الملائكة والإناث الخياليَّات فإنهما واحد عند المشركين [وأهل] (¬3) النحل المتقدمين، والآيات الآتية في فصل الدعاء إن شاء الله تعالى علمت ذلك قطعًا. وفي القرآن آيات أخرى، فنجد القرآن يفرد في بعض المواضع محاجَّتهم في نسبة الولد إليه، وفي بعضها في جعل الولد إناثًا وفي بعضها في جعل الملائكة إناثًا، وفي بعضها في عبادة الملائكة، فيمكننا أن نقول: إنَّ الأقسام أربعة: الثلاثة الأولى تتعلَّق بذوات الملائكة، والرابع بعبادتهم، وإفراد القرآن كلَّ واحد منها بالإنكار يَدُلُّ أنَّ كلَّ واحد من الأقسام بهتان على حِدة. وتخصيص الإناث بهتان آخر أي بحيث لو فُرض جواز نسبة الولد إليه عزَّ وجلَّ لكان جَعْلُ ذلك الولد إناثًا بهتانًا؛ لأنَّ اتِّخاذه تعالى ولدًا إناثًا أشدُّ امتناعًا من اتخاذه ولدًا ذكورًا. وجَعْلُ ¬

_ (¬1) المفصل في تاريخ العرب قبل الإِسلام 11/ 389. (¬2) انظر: صحيح البخاري، كتاب الحج، باب وجوب الصفا والمروة ... 2/ 158، ح 1643، وصحيح مسلم، كتاب الحج، باب بيان أن السعي بين الصفا والمروة ركن ... 4/ 69 - 70، ح 1277. (¬3) لم تظهر الكلمة في الأصل.

الملائكة إناثًا بهتان ثالث أي بحيث لو لم يقولوا هم: ولَدُ الله، بل اعترفوا بأنهم من خلقه عزَّ وجلَّ لكان جَعْلُهم إناثًا بهتانًا. والعبادة بهتان، أي بحيث لو قالوا: إنَّ الملائكة مِنْ خلق الله تعالى، ليسوا [س 125/ ب] وَلَدَه، ولم يقولوا: إنهم إناث، ولكنهم أصرُّوا على عبادتهم لكانت عبادتهم بهتانًا، فتأَمَّلْ هذا وتدَبَّرْ آياتِ القرآن تجدْه بغاية الوضوح إن شاء الله تعالى. والذي يُهِمُّنا هنا إنما هو القسم الرابع فنقول: قد تقدَّم بيان القرآن بغاية الصراحة أنَّ المشركين كانوا يعترفون لله عزَّ وجلَّ بالانفراد بالخلق والرَّزْق وتدبير الأمر والقبض على ملكوت كل شيء وأنه يجير ولا يجار عليه، إذن فماذا أبقوا للملائكة؟ أبقَوا لهم الشفاعة فقط. أخبر الله عزَّ وجلَّ عنهم أنهم يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}، وقالوا: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}. لعلَّهم كانوا يعتقدون أنَّ شفاعتهم تنفع وإن لم يرض الله عزَّ وجلَّ؟ [س 126/ أ] كلَّا، فإنها حينئذ لا تكون شفاعة بل تكون أمرًا وإلزامًا. وأيضًا فاعترافهم بأنه سبحانه يجير ولا يجار عليه يُبْطِلُ هذا. فلعلَّهم يقولون: إنَّ البارئ عزَّ وجلَّ لا بدَّ أن يقبل إكرامًا للملائكة، وإن كان هو غيرَ راض؟ كلَّا، فإنهم يعترفون بأنه تعالى بيده ملكوت كلِّ شيء، ومَنْ بيده ملكوتُ كلِّ شيء لا يكون محتاجًا إلى أحد حتى يقبل شفاعته مُكْرَهًا، فإنَّ أهل الدنيا إنما يقبلون الشفاعة مُكْرَهين ممن هم محتاجون إليه، وقد كانوا يقولون في تلبيتهم كما في الصحيح: لبَّيك لا شريك لك إلاَّ شريكًا هو لك تملكه وما ملك (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب التلبية وصفتها ووقتها، 4/ 8، ح 1185، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

فلعلَّهم كانوا يقولون: إنَّه عزَّ وجلَّ لمحبته للملائكة لا بدَّ أن يقبل شفاعتهم برضاه؟ (¬1) ربما يدفعه اعترافهم بأنه عزَّ وجلَّ يجير ولا يجار عليه؛ فإن إطلاق "يجير" يشمل الملائكة بل إجارة الملائكة هي المقصودة بالذات في الآية، فإذا كانوا يعترفون بأنه سبحانه يجير من الملائكة لو فُرِضَ أنهم أرادوا إلحاق الضرر بأحد، فقد دل هذا على اعترافهم بأنَّ الله تعالى ليس رَهْنَ إرادةِ الملائكة. [س 126/ ب] لِنَدَعْ هذا، فالظاهر أنهم كانوا يقولون: إن البارئ تعالى يقبل غالب شفاعة الملائكة برضاه، أما هذا فنعم، وهل هذا القَدْرُ باطل حتى نرى معظم محاجَّة البارئ تعالى لهم في القرآن مع كثرتها تدور على الشفاعة؟ ليس المحاجَّةُ في هذا وإنما هي في طمعهم في أنَّ الملائكة يشفعون لمن يعبدهم وأن الشفاعة تنفعهم، وقد تفنَّن القرآن في إبطال هذا الزعم، ويجمع الكلامَ على ذلك مرتبتان: المرتبة الأولى: يُبيَّن سبحانه وتعالى أنَّ الملائكة لا يشفعون لهم، وذلك على درجات: الأولى: أنهم لم يعبدوا الملائكة، وذلك لوجهين: الأول: أنَّ عبادتهم في قصدهم موجَّهة بالذات إلى البنات الوهميّات، [س 127/ أ] وهم وإن زعموا أنهنَّ هنَّ الملائكة فقد قامت الحجَّة بخلاف ذلك، وبعبارة أخرى: إنما يعبدون الملائكة بعنوان أنهم بنات الله، تعالى الله عن ذلك، بحيث لو اعترفوا أنهم ليسوا بنات الله لما عبدوهم، فالعبادة ¬

_ (¬1) علامة الإستفهام وضعها المؤلف.

موجَّهة إلى صفة البنتيَّة وقد قام البرهان على عدمها. الوجه الثاني: أنَّ العمل إنما يُعدُّ تعظيمًا للشخص إذا كان يحبه ويرضاه، وليس عندهم دليل على أنَّ الملائكة يحبون ويرضون أنْ يُعْبَدوا؛ لأنهم لم يأمروا المشركين بعبادتهم، والدليل قائم على أنَّ الملائكة يَكْرَهون أنْ يُعْبَدُوا من دون الله عزَّ وجلَّ، إذ قد قامت الحجَّة أنهم ليسوا إلاَّ عبادًا مخلصين، والعبد المخلص لا يحبُّ أنْ يُعَظَّم كما يُعظَّم ربُّه، فإنْ أحبَّ أن يُعظَّم تعظيمًا مَّا فبقَدْرِ ما يأذن به ربُّه. فإذا كان تعظيمُ المشركين للملائكة يضاهي تعظيمَ الله عزَّ وجلَّ فقد تبيَّن أنَّ الملائكة لا يرضَون ذلك، وإن كان دونه فليس عندهم بيِّنةٌ بأنَّ ذلك القَدْرَ يرضاه الله عزَّ وجلَّ وترضاه [س 127/ ب] الملائكة، فكان العقل يقضي عليهم بأن يقفوا عند الحدِّ الذي تقوم الحجة على أنه مأذون به، ولم يفعلوا ذلك، فما هو الباعث لهم على هذا؟ هو الشيطان، فإذن ليس الباعث لهم على عبادة الملائكة محبَّتَهم إيَّاهم, لأنَّ المحبة شَرْطُها أنْ يقف المُحِبُّ مع رضا المحبوب، وإنما الباعث لهم طاعتهم للشيطان، فروحُ تلك العبادة موجَّه إلى رضا الشيطان. وقد بيَّن سبحانه وتعالى هذا المعنى بقوله: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا} [النساء: 117]، ولعلَّ مِنْ ذلك قوله تعالى: {يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} [الحج: 12 - 13]، وقد تقدَّم في فَصْليَ التأليه والعبادة آيات أُخَر.

[س 128/ أ] الدرجة الثانية: أن الله عزَّ وجلَّ إنما منح البشر قدرة محدودة يتصرَّفون فيها باختيارهم ظاهرًا ابتلاء لهم واختبارًا ليتبيَّن المطيع من العاصي، فأما الملائكة فلا حاجة لهم للابتلاء فهم مطهَّرون معصومون، وهذا يفيد أنَّ القدرة الممنوحة لهم إنما يتصرَّفون بها إذا أمرهم الله تبارك وتعالب، وقد بيَّن سبحانه وتعالى ذلك بقوله: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 26 - 28]، {وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} , معناه: لا يعملون إلا بأمره؛ لأنَّ تقديم الجارِّ والمجرور يفيد الحصر. فتفيد هذه الآية أنهم لا يعملون إلاَّ إذا أمرهم ولا يفعلون إلاَّ ما أمرهم. وقال تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 49 - 50]. أقول: فإذا كان الملائكة لا يقولون إلاَّ ما أمرهم الله ولا يفعلون إلا ما أمرهم، فما معنى الخضوع لهم وطلب الشفاعة منهم؟ لا أرى في ذلك إلا محاربةً الله عزَّ وجلَّ، ومطاوعةً الشيطان. [س 128/ ب] الدرجة الثالثة: لنصرف النظر عن هذا، فقد قامت الحجة أن الملائكة ليسوا إلاَّ عبادًا مخلصين، والعبد المخلص لا يفعل إلاَّ ما يرضَى ربُّه، فكيف إذا كان الربُّ هو الله عزَّ وجلَّ الذي يعترفون بعظمته وغناه عما سواه، والعبيد هم الملائكة المطَهَّرون المنزَّهون عن حظوظ النفس المستغرقون في محبة ربهم عزَّ وجلَّ.

فثبت بهذا أنَّ الملائكة لا يشفعون إلا لمن ارتضى ربهم عزَّ وجلَّ، إذن فالعاقل لا يوجّه همَّته إلاَّ إلى رضا الله عزَّ وجلَّ، وإذا حصل على ذلك لا يهمه غيره؛ لأنه إما أن يُنِيلَه سبحانه وتعالى مرادَه بدون شفاعة، وإمَّا أنْ يأذنَ للملائكة فيشفعوا له، وهم بطبيعتهم يشفعون لأنهم مستغرقون في محبة الله عزَّ وجلَّ، وقد علموا أنه سبحانه وتعالى ما أذن لهم في الشفاعة [س 129/ أ] لهذا الشخص إلاَّ وهو يحبها. لنفرض مُحالًا أنهم لا يحبُّون الشفاعة حينئذٍ أوْ لا يشفعون، أليس قد حصل المقصود وهو رضا الله عزَّ وجلَّ، وإنما يأذن للملائكة في الشفاعة إظهارًا لكرامتهم عنده ... (¬1). ألستم تعترفون أنَّ الله عزَّ وجلَّ بيده ملكوت كل شيء، ومن ذلك قلوبُ الملائكة خصوصًا، وقد ثبت أنهم ليسوا إلاَّ عبادًا لله تعالى، فإن فُرِضَ أنهم قد يشفعون بدون أمر الله (¬2) فهو سبحانه وتعالى الذي يوجَّه قلوبَهم إلى الشفاعة أو عدمِها، وإذا كان الأمر هكذا فالمهمُّ هو رضا الله عزَّ وجلَّ. وإذا كان كذلك فرِضَا الله عزَّ وجلَّ إنما يُكْتَسَب بطاعته، فإنْ علم يقينًا أنه أمر بشيء اتَّبَع وَيتْرُك ما لا يعلم أطاعة هو أو معصية، ويكتفي بصدق القصد أنه لو علم كيف يطيعه لأطاعه، كما صحَّ عن زيد بن عمرو بن نفيل، فإنه تَرَكَ عبادةَ غير الله تعالى، وكان يقول: اللهم إني لو أعلم أحبَّ الوجوه إليك لعبدتُّك به، ولكني لا أعلم، ثم يسجد على راحته (¬3). والمشركون قَبْلَ بَعْثِ محمَّد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لم يفعلوا هكذا، وكذلك مَنْ أدركتْه ¬

_ (¬1) هنا ملحق ذهب أوله بسبب البلل. (¬2) هنا نحو كلمتين لم تظهرا في الأصل، ولعلهما: فإنهم عباده. (¬3) مضى تخريجه ص 106.

البعثة لم يعملوا كذلك قبلها ولا بعدها, ولو أنهم [س 129/ ب] خضعوا للحقِّ إلى هذا القَدْر لما تردَّدوا في تصديق النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وقبول الإِسلام, لأنَّ الإِسلامَ جارٍ على ذلك الأصل؛ إلا أنه فصَّل الطاعات بحججٍ بيِّنات قام البرهان أنها من عند الله عزَّ وجلَّ. فعلى كلِّ حالٍ قد ثبت أنَّ ما كان عليه المشركون يوجب غضبَ الله عزَّ وجلَّ حتى مع صرف النظر عن نبوَّة محمَّد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وقد تقدَّم إثباتُ أنَّ الملائكة لا يشفعون إلاَّ لمن ارتضى، وهو لا يرتضي الشفاعة لمن أشرك به، فالملائكة لا يشفعون للمشركين. وأغلب آيات الشفاعة - وعليها مدار محاجَّته تعالى للمشركين - تدور على هذا الأمر، وهو أنهم لا يشفعون إلاَّ لمن ارتضى، حتى إنَّ أعظم آية في القرآن وهي آية الكرسي مبنيَّة عليه، [س 130/ أ] فإنَّ قبلها قولَه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254]، أجمل في هذه الآية نَفْيَ الشفاعة وأراد بها - والله أعلم - الشفاعة المتعارَفَةَ بين الناس مِنْ أنَّ الشافع يُقْدِمُ على الشفاعة مِنْ دون إذنٍ من المشفوع إليه، وهذا تحذير للمؤمنين من الاتِّكال على الشفاعة إلى حدًّ يتهاونون فيها بطاعة الله، ولم يقل هنا: "ولا شفاعة إلا بإذنه" أو نحو ذلك مبالغة في التحذير من الاتَّكال، ولكن نبَّه على المراد بالآية الثانية آية الكرسي، والخطاب وإن كان للمؤمنين فإنَّ فيه تعريضًا بالمشركين في اتَّكالهم على شفاعة الملائكة، ولذلك قال: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، ثم قال تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} وهذا رد على المشركين

في اتخاذهم آلهة من دونه، {الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [س 130/ ب] هذه الصفات كان يعترف بها المشركون، ففي ذكرها استدلال على توحُّدِه عزَّ وجلَّ بالألوهية وعلى ما بعده وهو قوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} أي - والله أعلم -: أنَّ اتّصافه بالصفات المذكورة - والمشركون يعترفون بذلك - يُحيل أن يتجرَّأَ أحدٌ مِنْ عباده على الشفاعة عنده. أي - والله أعلم -: في الآخرة مطلقًا، وفي الدنيا بالنسبة إلى الذين عنده كالملائكة. ثم رأيت في الدُّرِّ المنثور ما لفظه: "وأخرج الطبراني في السنَّة عن ابن عباس {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} يريد الذي ليس معه شريك، فكلٌّ معبود من دونه فهو خلق من خلقه لا يضرُّون ولا ينفعون ولا يملكون رزقًا ولا حياة ولا نشورًا ... {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} يريد الملائكة مثل قوله: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]، {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} يريد من السماء إلى الأرض {وَمَا خَلْفَهُمْ} يريد ما في السموات، {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} يريد مما اطلعهم على علمه ... " (¬1). والآية التي استشهد بها هذا سياقُها: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 26 - 28]. ¬

_ (¬1) انظر: الدرّ المنثور2/ 9 و19.

ثم أردفها الله تعالى بتمام الاستدلال على أنَّ الشفاعة عنده لا تكون إلا بإذنه فقال: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} الضمير للملائكة كما سمعتَ عن ابن عباس. وكذا قال مقاتل فَسَّر {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} بما بعد خلق الملائكة، {وَمَا خَلْفَهُمْ} بما قبل ذلك. وقد علمتَ أنَّ الملائكة مذكورون قبل ذلك (¬1)، فلا [س 131 / أ] مانع من عود الضمير عليهم. {وَلَا يُحِيطُونَ} أي الملائكة {بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} عزَّ وجلَّ {إِلَّا بِمَا شَاءَ}، فلا يعلمون بعبادة المشركين لهم ولا بحاجاتهم ومقاصدهم إلا أن يشاء الله تعالى أنْ يُعْلِمَهم، (ويؤيِّد كونَ المراد الملائكة .....) (¬2). فإذن الأمر كله لله، والذي ينبغي للعاقل الاهتمام به رضا الله تعالى، وفيه إشارة إلى أنَّ اتخاذهم وسائط بين العباد وربَّهم جهل؛ لأنهم لا يطَّلعون على شيء من أحوالهم إلاَّ إذا أطْلَعَهم الله عزَّ وجلَّ، فكيف يكون الله عزَّ وجلَّ هو الذي يعلم بأحوالنا دون الملائكة، فيذهب العباد إلى أن يطلبوا منه تعالى أن يُطْلِع الملائكة أنهم يطلبون منهم أنْ يشفعوا لهم عند ربهم عزَّ وجلَّ؟ فليُرْضُوه تعالى من أوَّل الأمر ويطلبوا منه حاجاتهم. {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} بيان لعِظَمِ ملكه وكمال قدرته، وشمولها كلَّ شيء وأنَّه مدبِّر كلَّ شيء، وحافظ، ولا يشقُّ عليه ذلك، فإذن هو الغنيُّ لا يحتاج إلى معونة أحد من الملائكة أو غيرهم. ¬

_ (¬1) هنا كلمة لم تظهر، ولعلها: صريحًا. (¬2) هذا ملحق ذهب البللُ بأكثره.

[س 131 / ب] المرتبة الثانية: أنه لو فُرِضَ أنَّ الملائكة يشفعون لهم بدون إذنٍ لما نفعهم ذلك؛ فإنَّ الله تعالى هو الذي بيده ملكوت كلَّ شيء ويجير ولا يجار عليه باعتراف المشركين، فمِن ذلك قولُه تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)} [سبأ: 22 - 23]، قوله: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} يعني الملائكة عندما يقضي الله عزَّ وجلَّ القضاء بالإذن لهم لشفاعة أو غيرها. أخرج البخاري في صحيحه والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة قال: إنَّ نبيَّ الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: "إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خُضْعانًا (¬1) لقوله كأنه سَلْسَلَة على صفْوان، فإذا فُزَّع عن قلوبهم {قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} قالوا للذي قال: الحقُّ {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} " الحديث (¬2). وفي صحيح مسلم والترمذي والنسائي عن ابن عباس قال: كان رسول ¬

_ (¬1) بضمَّ أوَّله ويكسر، قيل: هو مصدرٌ، وقيل: جمع خاضعٍ. النهاية 2/ 43، هدي الساري 112. قال العينيُّ: "وهذا أولى، وانتصابه على الحاليَّة". عمدة القاري 25/ 229 - 230. (¬2) انظر: صحيح البخاريَّ، كتاب التفسير، سورة سبأ، باب: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ}، 6/ 122، ح 4800. جامع التَّرمِذيِّ، كتاب التفسير، باب ومن سورة سبأ، 5/ 362، ح 3223. سنن ابن ماجه، المقدَّمة (كتاب السنَّة)، باب فيما أنكرت الجهميَّة، 1/ 69 - 70، ح 194.

الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم جالسًا في نفر من أصحابه فرُمِيَ بنجم فاستنار، الحديث. وفيه (¬1) قوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "ولكن ربنا إذا قضى أمرًا سبَّح حملة العرش ثم سبَّح أهل السماء الذين يلون حملة العرش فيقول الذين يلون حملة العرش: ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم ويخبرُ أهلُ كلِّ سماء سماءً" الحديث (¬2). وفي سنن أبي داود عن ابن مسعودٍ [عن النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم] قال: "إذا تكلم الله تعالى [بالوحي سمع أهل السماء الدنيا صلصلة كجر السلسلة على الصفا فيصعقون فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل ...] (¬3) (¬4). ¬

_ (¬1) كلمة غير واضحة، والمثبت اجتهاد منِّي. (¬2) انظر: صحيح مسلم، كتاب السلام، باب تحريم الكهانة وإتيان الكهَّان، 7/ 36، ح 2229. جامع التِّرمِذيِّ، كتاب التفسير، باب ومن سورة سبأ، 5/ 362، ح 3224. تفسير النسائيِّ، سورة الحجر، قوله تعالى: {إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ}، 1/ 629 - 630، ح 292. (¬3) ما بين المعقوفين غير واضحٍ في الأصل. (¬4) أخرجه البخاريُّ تعليقًا بصيغة الجزم في كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} , 9/ 141. وأبو داود في كتاب السنة، باب في القرآن، 4/ 235، ح 4738. وابن خزيمة في كتاب التوحيد، باب من صفة تكلُّم الله عزَّ وجلَّ بالوحي، 1/ 350 - 354، ح 207 - 211. والآجُرِّيُّ في الشريعة، باب ذكر السنن التي دلت العقلاء على أنَّ الله عزَّ وجلَّ على عرشه ... ، 3/ 1094، ح 669. والبيهقي في الأسماء والصفات، باب ما جاء في إسماع الربَّ عزَّ وجلَّّ بعض ملائكته كلامه، 1/ 506 - 511، ح 432 - 434. وصحَّحه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 3/ 282 - 283، ح 1293.

وأخرج ابن جرير وابن خزيمة وغيرهما [عن النوَّاس بن سمعان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أراد الله أن يوحي بأمرٍ تكلَّم] (¬1) بالوحي، فإذا تكلَّم بالوحي أخذت السماء رجفة شديدة من خوف الله تعالى، فإذا سمع بذلك أهل السموات صعقوا وخروا سجَّدًا، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل فيكلمه الله من وحيه بما أراد فيمضي به جبريل عليه السلام على الملائكة كلما مرّ بسماءٍ سماءٍ سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول: قال الحق وهو العلي الكبير. فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل" الحديث (¬2). وفي هذا [المعنى] آثار ... (¬3) والله أعلم (¬4). والدليل النظري على أنَّ الشفاعة وقوعها بدون إذنٍ منه عزَّ وجلَّ لا تنفع [بل] [س 132/ أ] تكون معصية له تعالى، وجرأة عليه؛ إذ المشركون معترفون بعظمة الله عزَّ وجلَّ وجلاله وكبريائه، وقد قامت الحجة عليهم أنَّ الملائكة ليسوا إلاَّ خلقًا من خلقه، فلو اجترؤوا على أنْ يشفعوا لديه في حقَّ مَنْ سوَّاهم به تعالى في العبادة وعصاه بتعظيمهم لكان ظاهر ذلك رضاهم ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين غير واضح في الأصل. (¬2) أخرجه الطبري في تفسيره 19/ 278. وابن خزيمة في كتاب التوحيد، باب صفة تكلُّم الله بالوحي .... ، 1/ 348 - 394، ح 206. وغيرهما كابن أبي عاصم في السنة، باب ذكر الكلام والصوت ... ، ص 226 - 227، ح 515. والآجرَّيُّ في الشريعة, الموضع السابق، 3/ 1092 - 1093، ح 668. والبيهقيُّ في الأسماء والصفات, الموضع السابق، 1/ 511 - 512، ح 435. وإسناده ضعيفٌ كما قال الألبانيُّ في تخريج السنة لابن أبي عاصم. (¬3) ما بين المعقوفين لم يظهر في الأصل، وهنا بضع كلمات أصابها بلل. (¬4) انظر بعض هذه الآثار في: تفسير الطبري 19/ 279 - 280.

بفعله، ورِضاهم بفعله محاربة لله عزَّ وجلَّ، وقد قال تعالى في الملائكة: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 29]، وقد عصم الله الملائكة من الشفاعة بغير إذنه، وإنما هذا فرضٌ وتقدير حتى تقوم الحجة على العباد. [س 132/ ب] فلم يبق أمام المشركين إلا شبهتان: إحداهما: التشبُّث بالقَدَر. الثانية: التقليد. أما الأولى فقال تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا} [الأنعام: 148 - 150]. وقال عزَّ وجلَّ: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [النحل: 35 - 37].

وقال سبحانه: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ [س 133/ أ] مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [الزخرف: 20 - 25]. قوله تعالى عقب الآية الأولى: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} وفي سياق الآية الثانية {فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} وفي سياق الثالثة: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} يدل أنهم أرادوا بالتشبث بالقدر تكذيب الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلم. كأنهم أرادوا - والله أعلم -: أنت تقول: إن الله يأمرنا بترك الشرك وترك التحريم من عند أنفسنا، وهذا باطل؛ إذ لو كان الله عزَّ وجلَّ يأمر بذلك كما تقول لكان يشاؤه، ولو كان يشاؤه لما وقع خلافه. فأجابهم الله عزَّ وجلَّ بأمرهم أن يتفكَّروا في أحوال مَن تقدّمهم من الأمم التي (¬1) كانوا على مثل حالهم من الشرك والتقوُّل على الله تعالى، وجاءهم رسل منهم يبلِّغونهم أوامره ونواهيه كما جاء محمَّد عليه الصلاة والسلام هؤلاء [س 133/ ب] يبلِّغهم عن الله أوامره ونواهيَه، فكذَّب فريق من أولئك كما يكذِّب فريق من هؤلاء فعذَّب الله عزَّ وجلَّ المكذبين أولئك (¬2)، فليعتبر هؤلاء ويعلموا أنهم ¬

_ (¬1) كذا. (¬2) كذا.

إن أصرُّوا على التكذيب عذَّبهم الله تعالى كما عذَّب أولئك. وهذا وإن كان ظاهره مجردَ وعيد فقد تضمَّن حجّة بيِّنة على صدق محمَّد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أوَّلاً وعلى سقوط شبهتهم ثانيًا. أما الدلالة على صدق محمَّد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فإنَّ حاله في نفسه وأخلاقِه وما يدعو إليه وما جاء به من الآيات كحال الأنبياء قبله إن لم يزد عليهم لم يَقِلَّ عنهم، وقد بان صدقُ أولئك واعترف المشركون بصدقهم أو أكثرُهم وبأنَّ مَن آمن بهم من قومهم نَجا ومَنْ كذَّبهم هلك، ولا تزال آثار عذاب المكذبين ماثلة أمام أعينهم، ذكَّرهم الله تعالى بها في غير موضع. فثبت بهذا أنَّ محمَّدًا صلَّى الله عليه وآله وسلَّم صادق وأنَّ الإيمان به نجاة وتكذيبه هلكة. وأما سقوط شبهتهم فإنَّ حال أمم الأنبياء [الأولين] (¬1) عليهم السلام كحال هؤلاء سواء، وكانت [عين هذه الشبهة] (¬2) قائمة في حقهم، قالوها أم لم يقولوا، ومع [ذلك أهلكهم الله] (¬3) عَزَّ وَجَلَّ باعتراف هؤلاء. فتبيَّن سقوط هذه الشبهة. [س 134/ أ] وإيضاح هذا أنَّ المشركين كانوا يعترفون بنبوَّة الأنبياء الأوَّلين أو بعضهم، وبأنَّ الله تعالى بعثهم إلى أممٍ ضالَّة ليهدوهم، وأنَّ من كذبهم أو خالفهم ظالم فاجر، مع أنَّ هذه الشبهة قائمة في حقهم؛ إذ يقال: لو شاء الله ما كذَّبوا الأنبياء ولا عادَوْهم ولا قتلُوهم. ¬

_ (¬1) غير واضحة في الأصل. (¬2) غير واضحة في الأصل. (¬3) غير واضحة في الأصل.

ونبَّه الله عزَّ وجلَّ على هذا بقوله: {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 149]، كأنه قال: ويلزم المشركين باعتقادهم ضلالَ مَن كذَّب الأنبياء الماضين وعاداهم أن يكونوا معتقدين بأنَّ المكذبين كانوا متمكِّنين من التصديق والطاعة، ولو جاؤوا بهذه الشبهة لكانوا مناقضين لأنفسهم في معاداة الرسل؛ إذ يلزمهم إن اعتقدوا تلك الشبهة أن يعتقدوا أنَّ ما عليه الرسل حق؛ إذ لو شاء الله تعالى ما كان منهم (من تكذيب) (¬1) الرسل ما كان، وهكذا في شأن فاعلي المحرَّمات. فإذا وَزَنَ المشركون حالَهم بهذا الميزان تبيّن لهم قطعًا سقوط شبهتهم، أي أنها لا [تصلح] (¬2) لما قصدوه بها من تكذيب محمَّد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم [وإثبات] (¬3) أنَّ ما هم عليه حق يحبه الله ويرضاه .. (¬4) الأنبياء الماضين وأممهم، وثانيًا: تناقض اعتقادهم في المحرمات، وثالثًا: أن [القضية بعكس ظنهم] (¬5). فإذًا بان لهم سقوط الشبهة بهذا التقرير، ومع ذلك كان هذا راسخًا في فِطَرِهم [س 134/ ب] أنَّ ما شاءه الله عزَّ وجلَّ كائن لا محالة، ولم يهتدوا إلى جامعٍ بين العقيدتين فليسترشدوا عقولَهم؛ فإن العقول تقول لهم: إذا كنتم مطمئنِّين بالعقيدتين فإنكم لا بدَّ أن تطمئنُّوا بأنَّ بينهما جامعًا يدفع ما يظهر ¬

_ (¬1) غير واضحة في الأصل. (¬2) لم تظهر بعض حروفها في الأصل. (¬3) لم تظهر كاملة في الأصل. (¬4) هنا بضع كلمات لم تظهر في الأصل. (¬5) غير واضحة في الأصل.

من التناقض، وعِلْمُ ذلك الجامع لا يُهِمُّكُم، بل المهمُّ أن تسلكوا الطريق المنجيَ، فَدَعُوا (¬1) الشرك والتقوُّل على الله تعالى، واتَّبِعوا الرسول وأطيعوه فتكونوا عاملين بكلا (¬2) العقيدتين ناجين على كلِّ حال؛ لأنكم إذا فعلتم ذلك كنتم قد عملتم بعقيدتكم في صدق الأنبياء الماضين وما يترتَّب عليها، وبالبراهين القائمة على حقَّيَّة ما عليه محمَّد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وصحَّ مع ذلك أن يقال: إن الله عَزَّ وَجَلَّ لو شاء ألاَّ تتركوا الشرك لما تركتموه. [س 135/ أ] فأما أن تبقوا على الشرك بعد علمكم بأن البقاء عليه ضلال موجب للهلاك والعذاب لمجرد جهلكم بالجامع بين العقيدتين، فهذه سفاهة بل جنون. فقد تبيَّن أنَّ إرشادهم إلى النظر في حال الأنبياء المتقدِّمين مع أممهم كان في إقامة الحجَّة وأنه لا حاجة إلى فتح باب القَدَر (¬3) إقراره، واكتَفَى بالإشارة إليه بقوله تعالى: {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}، وقوله: {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} والله أعلم. ثم ذكر الله عزَّ وجلَّ حجة أخرى لإسقاط تشبُّثهم بتلك الشبهة فقال تعالى في الموضع الأول: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} وفي الموضع الثالث: {مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22)} يريد ¬

_ (¬1) تحتمل: وتدَعوا. (¬2) كذا. (¬3) هنا نحو كلمتين لم تظهرا في الأصل.

- والله أعلم - أنَّ زعمكم أنَّ التشبُّث بتلك الشبهة يصلح (لإثبات) [س 135/ ب] كون ما أنتم عليه حقًّا يحبه الله ويرضاه ليس إلا توهُّمًا وتخمينًا أو كذبًا لعلمكم ببطلان ذلك كما تقدَّم. وتركُ اليقين لمجرد التخرُّص والتخمين جهلٌ واضح، فدَعُوا ذلك وأخبروني: هل عندكم من دليل علميًّ بأنَّ ما أنتم عليه من الشرك وتحريم بعض الأشياء حق يحبه الله ويرضاه؟، فلم يبق بيدهم إلاَّ الشبهة الثانية وهي التقليد. قال تعالى في الموضع الثالث: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)}. فأبطل الله عزَّ وجلَّ شبهة التقليد بثلاثة أمور: [س 136/ أ] الأول: ما سبق ذكره أنَّ ترك اليقين لمجرَّد التخرُّص والتخمين جهل، والتقليد مبنيٌّ على تخرُّص وتخمين, لأنَّ أساسه تعظيمهم لآبائهم واستبعادهم أن يكونوا على ضلال. الثاني: الإخبار بأنَّ الأمم الغابرة كانت تقول مثل هذا، أي: ومشركو العرب يعترفون بنبوَّة المتقدِّمين أو بعضهم، وضلالِ مكذِّبيهم، فإذا تأمَّلوا هذا عرفوا سقوط شبهة التقليد. الثالث (¬1): قوله: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ}، يريد ¬

_ (¬1) في الأصل: (الثالثة)، وهو سبق قلم.

- والله أعلم -: لا تحصروا نظركم في حسن الظنَّ بآبائكم، بل مع ذلك انظروا فيما وجدتموهم عليه وفيما جئتكم به، ووازِنوا بينهما؛ فإنكم إذا فعلتم ذلك بإخلاصٍ تبيَّن لكم أنَّ ما جئتُكم به الحقُّ المبين، فحينئذٍ ينبغي لكم أن تَتَّبِعوا اليقين وتتركوا التوهُّم والتخمين. ثم أخبر الله تعالى عن الأمم السابقة بأنهم بعد هذا كلِّه [س 136/ ب] لجؤوا إلى العناد البحت، وهو قولهم: {إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} أي: على كلِّ حال وإن أقمتم من البراهين عدد نجوم السماء. قال عزَّ وجلَّ: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} يريد - والله أعلم -: فلما وقفوا هذا الموقف وهو العناد المحض بعد قيام الحجة ووضوح المحجَّة لم يبق إلاَّ أن نعذِّبهم فعذَّبناهم. والمقصود ببيان هذه توعُّد المشركين بأنهم قد قامت عليهم الحجَّة ولم يبق لهم شبهة، فوقوفُهم موقف الأمم الغابرة من العناد البحت موجبٌ للعذاب، والله أعلم. وقد تسلسل هذا البحث وطال ولكنه لا يخلو عن فائدة في موضوع هذه الرسالة. ولنرجع إلى بيان اعتقاد المشركين في الملائكة فأقول مستعينًا بالله تبارك وتعالى: قد علمتَ مما تقدَّم أنَّ اعتقاد المشركين في الملائكة له طرفان: الأول: ما يتعلق بذوات الملائكة. الثاني: [س 137/ أ] فيما يُرجى منهم.

فأما الأول: فكانوا يقولون: إنهم بنات الله، تعالى عن قولهم علوًّا كبيرًا. وأما الثاني فكانوا يقولون: إنهم يشفعون إلى الله عزَّ وجلَّ، والغالب أنه تعالى يقبل شفاعتهم. وإذا كان المقصود من هذه الرسالة هو تحقيق التأليه والعبادة فنقول: هل الاعتقاد في ذوات الملائكة أنهم بنات الله هو التأليه والعبادة أو ركن لهما؟ أقول: قد تقدَّم أنَّ القرآن عدّ عبادتهم للملائكة على حِدَة أي مع صرف النظر عن الاعتقاد في ذواتهم شركًا، ويشهد له قولهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}، فجعلوا العبادة أمرًا (اختياريًّا) (¬1) يفعلونه طمعًا في الشفاعة، ولا يصح أن تفسَّر بالاعتقاد ولا بما يكون الاعتقاد ركنًا له؛ لأنهم كانوا يدَّعون أنَّ اعتقادهم في الملائكة ليس أمرًا اختياريًّا، أي: يمكنهم أن يفعلوه أو لا يفعلوه، وإنما هو كسائر الاعتقادات الاضطراريَّة كاعتقاد أنَّ لك رأسًا, ولو قالوا إنما نعتقد أنهم بنات الله ليشفعوا [س 137/ ب] لنا لكان هذا اعترافًا منهم بأنهم لا يعتقدون أنهم بنات الله، وإنما يقولون ذلك بألسنتهم، وهم لم يعترفوا بهذا. وأيضًا فقد عبدوا الأصنام مع أنهم لم يعتقدوا في ذواتها شيئًا، وقد تقدَّم في ذِكْرِ الأمم الغابرة ما هو قاطع في هذا المعنى، ومنه قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} ¬

_ (¬1) ظهرت منها الأحرف الثلاثة الأول.

[المائدة: 116]. [و] (¬1) قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} الآية [المائدة: 73]. وقد تقدَّم بيان أنَّ المراد ثلاثة آلهة، وأرادوا الله تعالى وعيسى ومريم عليهما السلام. [و] (¬2) النصارى لم يعتقدوا في مريم إلا أنها امرأة من البشر، وتقدَّم بيانه. وأوضحُ منه قولُ قومِ موسى {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138]. إذن فهل اعتقادهم في الملائكة أنهم يشفعون هو التأليه والعبادة أو ركن لهما؟ كلَّا؛ فإنَّ هذا الاعتقاد باعث لهم على العبادة فكيف يكون هو العبادة؟ وأيضًا فهذا الاعتقاد يقال فيه ما تقدَّم في اعتقادهم في ذوات الملائكة أنهم كانوا يزعمون [س 138/ أ] أنه اعتقاد راسخ في قلوبهم لا أنه من الأمور الاختياريَّة. وأيضًا فاعتقاد أن الملائكة يشفعون في الجملة أمرٌ يقرُّ عليه الشرع ويُثْبِته، والآيات في ذلك كثيرة كقوله تعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]. إذن فما هو التأليه وما هي العبادة؟ - أعمالهم التي فيها تعظيم للإناث الخياليَّات التي هي في زعمهم الملائكة. ¬

_ (¬1) لم تظهر في الأصل لبلل في طرف الورقة. (¬2) لم تظهر في الأصل.

- كانوا يشركون في التلبية في الحجِّ كما صحَّ أنهم كانوا يقولون في تلبيتهم: "لبيك لا شريك لك" فيقول النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم: ويلكم قَدْ قَدْ أو كما قال، يعني: لا تزيدوا على هذا، فيقولون: "إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك" (¬1). وقولهم: "لا شريك لك" أي: في التلبية. وقولهم: "إلا شريكًا" (¬2) والله أعلم. وقولهم: "هو لك" (¬3). وقولهم: "تملكه" (¬4). [س 138/ ب] أرادوا الإناث الخياليات، والله أعلم. وكانوا أيضًا كما تقدَّم يتَّخذون الأصنام تماثيل أو تذاكر لتلك الإناث ثم يعظِّمونها بقصد التعظيم لتلك الإناث وكانوا يَدْعُونهنَّ، وسيأتي بيان الدعاء في فصلٍ مستقلٍّ. - وكانوا يسمُّون: عبد اللات، عبد العزى، عبد مناة، وقد تقدَّم أنَّ هذه في الأصل أسماء - فيما زعموه - لتلك الإناث الخياليَّات. - وكانوا يُقسمون بهذه الأسماء ويذكرونها عند الذبح. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) هنا بضع كلمات لم تظهر بسبب البلل. (¬3) لم يظهر ما بعده في الأصل. (¬4) لم يظهر ما بعده في الأصل.

- وكانوا يجعلون لهم نصيبًا من أموالهم يصرفونه في تطييب الأصنام، يظهر هذا من قول الله تبارك وتعالى: [{وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ ...} الآية [الأنعام: 136]] (¬1). [فهذه] (¬2) الآية [تدل] (¬3) على ما ظهر لي أنهم جعلوا نصيبًا لله تعالى ونصيبًا لشركائهم. [س 139/ أ] (¬4) وقال تبارك وتعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42)} [العنكبوت: 41 - 42]، فقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} لا يصحُّ أن يكون نفيًا لأصل الدعاء كما تقول: لم أدْعُ بمعنى أنه لم يقع منك دعاء أصلاً, لأنَّ الله تعالى قد أثبت لهم الدعاء في آيات كثيرة تقدَّم بعضها، وإنما النفي مُنْصَبٌّ على {شَيْءٍ} (¬5) والمراد بالشيء هنا الثابت الموجود، والنفي منصبٌّ عليه كما في قوله تعالى: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم: 9]، {أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} [مريم: 67]. ¬

_ (¬1) بيَّض للآية نحو سطرين وربع سطر، ولعلها ما أثبتنا. (¬2) لم تظهر في الأصل. (¬3) لم تظهر في الأصل. (¬4) خمسة الأوراق ذات الوجهين الآتية محبوكة بدبوس على الورقة التي بعدهن، والظاهر أنه من صنيع المؤلف لأنها مقصوصة من دفتر. (¬5) كتبت في الأصل: (شيئًا)، وهو سبق قلم.

[س 139/ ب] ويمكن أن يكون المراد شيئًا له بالٌ كما في قوله تعالى: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور: 39]، وقوله عزَّ وجلَّ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} [البقرة: 113]. والأوَّل أقرب. ومثلُ هذه الآية قولُه تعالى: {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74) ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} [غافر:70 - 75]. أم كانوا على ضلال فقال الله عزَّ وجلَّ: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ}، أي: أن ذلك الضلال الذي كنتم عليه أوجبه كفركم أوّلاً كما قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، وكما هنا للتعليل أي: لعدم إيمانهم أول مرة عاقبهم الله عَزَّ وَجَلَّ بالضلال، كما قال تعالى: {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ}، وقال عزَّ وجلَّ: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ}، وغالب ما في القرآن من نسبة الضلال إلى الله عزَّ وجلَّ جارٍ هذا المجرى، أي واقع عقوبة على عناد وتكبر يقع من الإنسان أولاً، ثم بين عزَّ وجلَّ ذلك بقوله: {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ}، وكثير من المفسرين فسروا قولهم {بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو

مِنْ قَبْلُ شَيْئًا} بأن المراد منه نفي الدعاء أصلاً، وأنهم يجحدون شركهم، وقد يؤيد ذلك قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ}، {انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 22 - 24]، والأول أرجح؛ لأن قولهم: {ضَلُّوا عَنَّا} اعتراف بأنهم كانوا يدعون، والإنكار عقب الاعتراف لا يخلو عن بُعد، بخلاف حَمْلِ قولهم: {بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا}، على (¬1)؛ إذ ليس فيه إنكار وإنما فيه اعتراف آخر، وكأنهم قالوا: إنَّ الذين كنا ندعوهم لا وجود لهم هنا، بل لا وجود لهم أصلاً. والله أعلم. [س 140/ أ] وقال تبارك وتعالى: {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ... وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر: 35 - 38]. يعني والله أعلم: لو فُرض أنَّ تلك الإناث التي تزعمون موجودة هل في قدرتها إبطال مراد الله تعالى؟ والمقصود من هذا الفرض إلزامهم؛ فإنهم كانوا يعترفون بأنَّ الله تعالى هو الذي يجير ولا يجار عليه. فإذا اعترفوا بذلك بطل تخويفهم للنبىِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، ... (¬2). [س 140/ ب] مع أنه يلزم منه عدم استحقاق تلك الإناث للعبادة، فأما القصد إلى إبطال استحقاقهنَّ العبادة وإلى إبطال وجودهنَّ فقد بيَّنه الله تعالى ¬

_ (¬1) كلمتان أو ثلاث أصابها بلل. (¬2) بعده سطر أصابه بلل ظهر منه: "هذا تعالى لهذا".

في مواضع أخرى، والله أعلم. [س 140/ أ] ومن الثاني أي ذكر الدعاء بعنوان الملائكة قول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [الرعد: 12 - 15]، قدَّم الله تعالى أنَّ الملائكة يسبِّحون من خيفته تمهيدًا لإبطال عبادتهم من دونه، وعقب بقوله: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ ...} تتميمًا لذلك. [س 141/ ب] وقال تعالى: {وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ} [النحل: 86]. وقد تقدَّم أنَّ الملائكة هم الذين يكذِّبون المشركين يوم القيامة، ارجع إلى ذلك في ترجمة الملائكة من فصل العبادة. [س 142/ أ] وقال عزَّ وجلَّ: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ ...} [الإسراء: 56 - 57]. وقد مرَّت هذه الآية في ترجمة الملائكة من فصل الألوهية فارجع إليها (¬1). ¬

_ (¬1) ص 417، 419.

وقال تعالى في سورة الملائكة (فاطر) (¬1): {بِسْمِ اْللهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)}، {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (¬2). [س 142/ ب] فمهّد الله تبارك وتعالى بذكر الملائكة وأنهم رسله، لا يمسكون ما يفتح، ولا يرسلون ما أمسك، ثم عدَّد كثيرًا من آيات وحدانيَّته إلى أن قال: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ .......}، فكان الظاهر أنه أراد الملائكة ليكون ذكرهم أوَّلاً أمكن في التمهيد. وأيضًا فقد مرَّ في ترجَمَتَي الملائكة من فَصْلَي الألوهية والعبادة آيات توافق هاتين الآيتين فارجع إليه (¬3)، ومن ذلك قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف: 4 - 6]. ¬

_ (¬1) التوضيح من المؤلف. (¬2) سورة فاطر: 13 - 14. (¬3) كذا في الأصل. وانظر ص 421 - 428.

اعتقادهم في أهوائهم

[س 143/ أ] وقال الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ (¬1) مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل: 20 - 21]. اختار بعض المفسرين أن المراد الملائكة، وقوله: {أَمْوَاتٌ} يريد: صائرون إلى الموت كقوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30]. وقوله: {غَيْرُ أَحْيَاءٍ} يريد: الحياة التامَّة أو الدائمة لقوله تعالى: {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 88]. [س 143/ ب] اعتقادهم في أهوائهم قد مرّ في فصل التأليه آيتان في أنهم اتخذوا آلهتهم هواهم، ومعنى ذلك ظاهر، فإنهم شرعوا لأنفسهم الدِّين بمجرَّد هواهم، فقد أطاعوا هواهم في شرع الدين، فكما أنَّ اليهود والنصارى أطاعوا أحبارهم ورهبانهم في شرع الدين فالأحبار والرهبان أطاعوا أهواءهم، وهكذا مشركو العرب أطاعوا رؤساءهم في شرع الدين كما سيأتي قريبًا، إن شاء الله تعالى، والرؤساء أطاعوا أهواءهم. وإنما لم يكثر هذا المعنى في القرآن استغناء بذكر تأليههم للشياطين؛ فإنَّ تأليه الهوى يلزمه تأليهُ الشيطان؛ لأنه المتلاعب بالهوى. ¬

_ (¬1) كتبها المؤلف بالخطاب على قراءة غير يعقوب وعاصم. انظر: النشر في القراءات العشر 2/ 303.

اعتقادهم في الشياطين

[س 144/ أ] اعتقادهم في الشياطين فأما اعتقاد المشركين في الشياطين فلم أجد لهم اعتقادًا يخالف الحقَّ. فأما استعاذتهم بالجنِّ الذي أخبر الله تعالى بها في قوله عن مسلمي الجنِّ {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن: 6] فذاك شيء لا يصحُّ أن يكون هو المراد بالآيات الكثيرة في عبادة الشياطين. نَعَم، كانوا يعتقدون أنَّ ما يوحونه إليهم في شرع الدين حقٌّ، ولكن لم يعلموا أنَّ ذلك من [وحي الشياطين] (¬1) بل يظنُّونه من رأيهم واجتهادهم. أعمالهم وأمَّا أعمالهم فكانوا يطيعونهم فيما يوسوسون [به إليهم] (¬2)، والأعمال التي يتخذونها دينًا يتقرَّبون به إلى الله [سبحانه] (¬3). هذا مع أنهم كانوا يجهلون أنهم [يعبدون] (¬4) الشياطين، ولكنَّ الله عزَّ وجلَّ ألزمهم ذلك لأنهم كانوا يأخذون دينهم عن غير حجَّة ولا برهان، بل بمجرَّد التخرُّص والتخمين، وذلك من وسوسة الشياطين، [س 144/ ب] فقد ساوَوا اليهود والنصارى في أخذ دينهم عن غير بيِّنة من الله تعالى، وإنما الفرق أنَّ أولئك كانوا يعلمون أنهم يأخذون دينهم عن شرع الأحبار والرهبان، وهؤلاء لا يشعرون بأنهم إنما يأخذون عن شرع الشيطان. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين لم يظهر في الأصل. (¬2) لم تظهر في الأصل. (¬3) لم تظهر في الأصل. (¬4) لم تظهر في الأصل.

وأمرٌ آخر ألزمهم الله تعالى به وهو أنَّ عبادتهم للإناث الخياليَّات لما كانت لمعدومٍ ترجع إلى الآمر لهم بذلك وهو الشيطان. (ثم إنَّ) (¬1) عبادتهم للملائكة لما كان الملائكة لم يأمروا لها ولم يرضوها رجعت للآمر لهم وهو الشيطان. وثالث: وهو أنَّ الشيطان يعترض العبادات الباطلة بما يجعلها في الصورة كأنها له. ومن ذلك ما جاء في الصحيح أنَّ الشيطان يقارن الشمس عند ما يسجد لها المشركون (¬2)، أي: ليكون السجود في الصورة كأنه له. [س 145/ أ] بل إنَّ الشيطان يعترض العبادات الحقَّة إذا قصَّر صاحبها، يريد الشيطان أن تكون في الصورة كأنها له، فقد جاء في الحديث: "مَنْ كانت له سُتْرة فليَدْنُ منها, لا يقطع الشيطان عليه صلاته" (¬3)، وهذا الحديث فيه مقال، ¬

_ (¬1) لم تظهر الكلمتان في الأصل. (¬2) سيأتي تخريج هذا الحديث في ص 726 فصل تفسير عبادة الشياطين. (¬3) أخرجه أحمد 4/ 2. وأبو داود في كتاب الصلاة، باب الدنوَّ من السترة, 1/ 185، ح 695. والنسائي في كتاب القبلة، الأمر بالدُّنوِّ من السترة، 2/ 49. وابن خزيمة في كتاب الصلاة, باب الأمر بالدنوِّ من السترة ... ، 1/ 410، ح 803. وابن حبان (الإحسان)، كتاب الصلاة، باب ما يكره للمصلِّي وما لا يكره، ذكر العلَّة التي من أجلها أُمِر بالدنوِّ من السترة للمصلَّي، 6/ 136، ح 2373. والحاكم في كتاب الصلاة، "لا تصلُّوا إلا إلى سترة ... "، 1/ 251 - 252، من حديث سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه. قال الحاكم: "هذا حديثٌ صحيحٌ على شرط الشيخين، ولم يخرجاه"، ولم يتعقَّبه الذهبيُّ.

فصل

لكن تؤيِّده الأحاديث كأحاديث أنَّ المرأة والحمار والكلب الأسود تقطع الصلاة, وأن المرأة تُقبل بصورة شيطان، وأن الحمار إذا نهق فإنه رأى شيطانًا (¬1)، وعلَّل النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كونَ الكلب الأسود يقطع الصلاة [دون] (¬2) بقيَّة الكلاب بقوله: "الكلب الأسود شيطان". والأدلَّة في هذا كثيرة، ولتحقيق هذا البحث موضع آخر. المقصود أنَّ الشيطان يعترض العبادات لتكون في الصورة [له]. وقال الله تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا} [النساء: 117]، {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} [الحج: 13] ففي هذا إلزام المشركين بأنهم يدعون الشياطين. وفيه ما مرَّ قريبًا في الأمر الثاني والثالث، والله أعلم. [س 145/ ب] فصل معاني أعمال المشركين التي تقدَّمت كلها ظاهرة إلاَّ العكوف والدعاء، فأمَّا العكوف فهو المكث عند الصنم بهيئة الأدب زاعمين أنَّ ذلك تعظيم لمن جُعل الصنم تمثالاً له، بل يعدُّون ذلك عبادة لله عزَّ وجلَّ؛ لأنه في زعمهم يحب ذلك ويرضاه، ولذلك نرى مشركي الهند يتحرَّون لدعاء الله عزَّ وجلَّ أن يكون عند الأصنام (¬3). ¬

_ (¬1) سيأتي تخريج الأحاديث الثلاثة في ص 428 - 429. (¬2) لم تظهر في الأصل. (¬3) جاء في المسوَّدة هنا قوله: "وأما الدعاء فهاك بيانه: أهل اللغة متفقون" ثم أورد المؤلِّف نحو صفحة مطابقة لما عندنا في مدخل فصل في الدعاء ص 754 - 755 =

حاصل ما تقدم في هذا الباب

[س 146/ أ] حاصل ما تقدَّم في هذا الباب (¬1) تقدَّم ذكر قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم إبراهيم، والمصريِّين في عهد يوسف، وفي عهد موسى، وبني إسرائيل لما أتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم، واليهودِ والنصارى في شأن أحبارهم ورهبانهم، والنصارى في شأن عيسى وأمه، ومشركي العرب. وتَبَيَّن أنَّ هذه الأمم كلَّها تعترف بوجود الله عزَّ وجلَّ وربوبيَّته وأن (¬2) تاريخ الحكماء (¬3) لابن القفطي في ترجمة الكندي الفيلسوف (¬4) أنَّ له رسالة في إثبات أنَّ جميع الأمم كانوا موحِّدين (¬5)، وقد مرَّ في المقدِّمة نقلٌ عن المواقف وشرحها، فارجع إليه. وتبيَّن أيضًا أنَّ أكثرها أو جميعها تعبده تعالى وتعترف بوجود الملائكة. فأما شركهم: فقوم نوح كان فيهم رجال صالحون هلكوا فنحتوا لهم ¬

_ = إلى قوله: كما تقول: سألته أن يعطيني. ثم توقَّف الكلام عن الدعاء وقَطَع من الدفتر صفحات غير قليلة، ثم قال في صفحة جديدة: حاصلُ ما تقدَّم في هذا الباب. (¬1) مضى نحو ما يأتي مختصرًا في ص 439 - 440. (¬2) كلمة غير واضحة. (¬3) طُبع باسم إخبار العلماء بأخبار الحكماء. (¬4) هو يعقوب بن إسحاق بن الصباح، أبو يوسف، من أبناء الملوك، متبحر في فنون الفلسفة اليونانية والفارسية والهنديَّة, متخصِّص بأحكام النجوم، له مصنفات كثيرة. انظر: إخبار العلماء بأخبار الحكماء 240 - 241. (¬5) انظر: المصدر السابق 244.

[تماثيل] (¬1) وسمَّوها بأسمائهم وعظَّموها تقرُّبًا إلى الله تعالى بواسطة أولئك الأشخاص فيما يظهر. وقوم هود عظّموا أشخاصًا غيبيين لا وجود لهم في [الحقيقة] (¬2). وفي التاريخ أنهم كان لهم أصنام، فكأنها رموز لأولئك [الأشخاص] (¬3)، وكذلك قوم صالح فيما يظهر. وقوم إبراهيم كانوا يعظِّمون بعض الكواكب ويدعونها وينصبون لها تماثيل ويعظِّمون تلك التماثيل بالعكوف [س 146/ ب] عندها، ويدعونها في احتمالٍ قد تقدَّم، أي يسألون منها حوائجهم تخييلاً لأنفسهم أنها نفس الأرواح التي جُعِلت رموزًا لها. والمصريُّون في عهد يوسف عليه السلام يعظِّمون أشخاصًا غيبيِّين لا وجود لهم في الحقيقة وعندهم تماثيل لأولئك الأشخاص يعظّمونها أيضًا. وقُبيل عهد موسى عليه السلام تركوا عبادة الله تعالى تعظيمًا له، زعموا، واقتصروا على تعظيم أولئك الأشخاص. وفي عهد موسى عليه السلام قصروا جواز تعظيم أولئك الأشخاص على مَلِكهم فرعون وحده، فليس لغيره أن يعظِّم أولئك الأشخاص، وأما العامَّة فإنما يعظِّمون فرعون نفسه جاعلين تعظيمه من الدِّين الذي يُقرِّب إلى الله تعالى في الغاية زعمًا أنه كريم عند الله تعالى بدليل أنه جعله مَلِكًا عزيزًا نافذ الكلمة. ¬

_ (¬1) غير واضحة في الأصل. (¬2) لم تظهر بعض حروفها. (¬3) لم تظهر بعض حروفها.

فالعامَّة يعبدون فرعون، وفرعون يعبد الأشخاص الغيبيِّين وتماثيلهم، والأشخاص الغيبيّون يعبدون الله تعالى. وقوم موسى لما أتوا على قومٍ يعكفون على أصنام لهم طلبوا منه أن يجعل لهم صنمًا يعكفون عليه تقرُّبًا إلى الله تعالى، وفي شأن العجل [س 147/ أ] زعموا أنَّ العكوفَ عليه عبادة لله عزَّ وجلَّ. واليهود والنصارى في شأن أحبارهم ورهبانهم أطاعوهم فيما يشرعونه من ذات أنفسهم على أن يكون دينًا، واتخذوه دينًا زعمًا منهم أنَّ ما شرعه الأحبارُ والرهبان فقد شرعه الله تعالى. والنصارى في شأن عيسى عليه السلام منهم مَنْ زعم أنه الله تعالى، ووجَّه إليه (¬1) جميعَ العبادات، ومنهم مَنْ زعم أنه ابنه بالمعنى المتبادر، ومنهم مَنْ زعم أنه أحدُ الآلهة الثلاثة التي مجموعها الرَّبُّ، وكلاهما يَشْركُه في جميع العبادات، والأخيرُ هو المعروف الآن، ويعظِّمون صورة عيسى عليه السلام وصورة الصليب بناء على زعمهم أنه صُلب. وفي شأن مريم عليها السلام يُحضرون صورتها في كنائسهم ويجعلونها أمامهم عند [الصلاة] (¬2) التي هي عبارة عن القيام والدعاء مع خفض الرؤوس، وينحنون لصورتها ويتمسَّحون بها ويستغيثون بمريم عليها السلام سائلين منها الشفاعة (¬3). ¬

_ (¬1) تحتمل في الأصل أن تقرأ "الله". (¬2) غير واضحة في الأصل. (¬3) من هنا التصقت ورقتان، فهل هذا من المؤلف أو من أثر البلل؟

[س 147/ ب] وأما مشركو العرب فكانوا مع اعترافهم بربوبيَّة الله عزَّ وجلَّ وأنه خالق كل شيء، ورازق كل حيٍّ، ومدبر الأمر، وبيده ملكوت كلِّ شيء وأنه يجير ولا يجار عليه؛ يعظِّمون الأصنام التي جعلوها رموزًا للملائكة مع زعمهم أنَّ الملائكة بنات الله - تعالى الله عن ذلك - ويرون تعظيم الأصنام تعظيمًا للملائكة، ويقصدون من تعظيم الملائكة أن يشفعوا لهم إلى الله عزَّ وجلَّ، فيعظِّمون الأصنام بالعكوف عليها والتمسُّح بها وتضميخها بالطيب ويزورونها من الأماكن البعيدة ونحو ذلك مما تقدم. وفي القرآن ما يُسْتَدَلُّ به أنهم كانوا يَدْعونها كما تقدَّم، فإن ثبت فحالهم في ذلك كما تقدَّم مِنْ حال قوم إبراهيم. ويعظِّمون الملائكة زاعمين أنهم بنات الله - تعالى الله عن ذلك -, ويُشْرِكونهم في التلبية قائلين: لبيك لا شريك لك - أي لا نُشرك معك في التلبية أحدًا - إلاَّ شريك هو لك، تملكه وما ملك، ويذبحون بأسمائهم ويحلفون بها، ويسمُّون عَبْد اللات، عبد العزى، عبد مناة، وجعلوا لهم تماثيل ورموزًا، وهي الأصنام، وعظَّموها بما تقدَّم زاعمين أن تعظيمها تعظيم للملائكة؛ لأنها ليست إلاَّ [س 148/ أ] رموزًا لهم. ويجعلون للملائكة نصيبًا من أموالهم ويصرفونه في مصالح الأصنام كما يصرفون النصيب الذي يجعلونه لله تعالى في ذلك. وكانوا يدعونهم أي يسألون منهم حوائجهم بقصد أن يشفعوا إلى الله عزَّ وجلَّ في قضائها، وكانوا يطيعون أهواءهم فيما تستحسن شرعها من [دون إذنٍ من الله، زعمًا أن ذلك] (¬1) يُتقرَّب به إلى الله عزَّ وجلَّ أو إلى ¬

_ (¬1) غير واضح في الأصل.

الملائكة، وألزمهم الله تعالى بطاعتهم أهواءهم أنهم مطيعون للشياطين؛ لأنَّ أهواءَهم متَّبَعَة عن وسوسة الشياطين. وكانوا يطيعون رؤساءهم فيما يشرعون لهم على أن يكون دينًا، والله أعلم. ****

الخلاصة

[س 148/ ب] بِسْمِ اْللهِ اْلرَّحمنِ اْلرَّحِيمِ الخلاصة أنت خبير أننا إنما استعرضنا أديان الأمم التي أخبر الله عزَّ وجلَّ أنها ألَّهَتْ غيره وعبدت غيره وأشركت به لنستنتج منها تحقيق معنى التأليه والعبادة والشرك كما هو موضوع هذه الرسالة. وعند تدبُّر أديانهم تجدهم اتفقوا في معنًى واحدٍ وانفرد كلٌّ منهم بمعنًى، فكان بيِّنًا أنَّ المعنى المتَّفَقَ عليه عليه مَدارُ تأليهِ غير الله وعبادةِ غيره والشرك به، ضرورةَ أنَّ الله عزَّ وجلَّ أخبر عنهم جميعًا بذلك، وما ينفرد به كلٌّ منهم أمرٌ زائد على ذلك. وأكَّد عندنا هذا أنَّنا وجدنا القرآن يوبِّخ النصارى على تأليه غيره وعبادة غيره والشرك به مع صرف النظر عن قولهم في عيسى كما تقدَّم. وكذلك يوبِّخ مشركي العرب على تأليه غيره وعبادة غيره والشرك به مع صرف النظر عن قولهم: بنات الله كما تقدَّم أيضًا. وبعد التدبُّر والتأمُّل وجدنا القدر المشترك بين تلك الأمم هو: (زعم كلًّ منهم في غير الله عزَّ وجلَّ أنه مستحقٌّ لأَنْ يُعبد طلبًا للنفع الغيبيِّ (¬1) منه أو ممن يُخضَع له لأجله). ¬

_ (¬1) هو على وِزان ما تقدّم في الدعاء ما يكون المخضوع له غيبيًّا أو يزعم الخاضع أنَّ له قدرة غيبيَّة أي غير عاديَّة، والنفع المطلوب يتعلق بها. [المؤلِّف]

الأصنام

[س 149/ أ] وهذا هو الاعتقاد، وأما العمل فيجمعه: (الخضوع الذي يقتضيه ذلك الزَّعْمُ). الأصنام فقوم نوح وقوم هود والمصريُّون ومشركو العرب زعموا في الأصنام أنها أهلٌ لأن يُخضعَ لها طلبًا للشفاعة إلى الله عزَّ وجلَّ من الأشخاص الذين تُعظَّم الأصنام لأجلهم، وهم الرجال الصالحون في الأوَّل، والأشخاص الغيبيُّون الذين يزعمون أنهم هم الملائكة في الباقين. ومستندُهم في استحقاقها لذلك: الرأيُ وذلك يدلُّ على زعمهم أنَّ استحقاقها المذكور ثابت بحيث يستقلُّ العقل بإدراكه. وهكذا النصارى في الخضوع لصورة مريم عليها السلام التماسًا لشفاعتها. وقومُ إبراهيم زعموا أنَّ الأصنام [أهلٌ لأَنْ يُخضع لها طلبًا لنفعٍ غيبِيٍّ بواسطة الأرواح المدبِّرة] (¬1) للكواكب، ومستَنَدُهم في ذلك الرأيُ. وبنو إسرائيل في العجل زعموا أنه أهلٌ لأن يُخضعَ له طلبًا للنفع الغيبِيِّ منه. وبنو إسرائيل في قولهم: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138]، وبعضُ المسلمين في قولهم: "اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط" (¬2)، ¬

_ (¬1) غير واضح في الأصل. (¬2) سلف تخريجه عند المؤلَّف في ص 230.

الأشخاص المعظمون

ظنُّوا أنَّ الصنم والشجرة أهلٌ لأن يُخضع لهما طلبًا للنفع ممن يُخضع لهما لأجله، وهو الله عزَّ وجلَّ، ومستندُهم في ذلك الرأيُ، وإنما طَلَب أولئك من موسى وهؤلاء مِنْ محمَّد عليهما الصلاة والسلام لكونهما الرئيسين؛ ولم يقصدوا بذلك أنْ يسألا الله عزَّ وجلَّ أن يجعل لهم [س 149/ ب] ذلك اعتقادًا أنَّ الجماد لا يستحقُّ التعظيم طلبًا للنفع الغيبِيِّ إلاَّ إذا أمر الله عزَّ وجلَّ بذلك. الأشخاص المعظَّمون وقوم نوح زعموا في الرجال الصالحين أنهم أهلٌ لأن يُخضعَ لهم طلبًا لشفاعتهم إلى الله عزَّ وجلَّ، ومستندُهم في ذلك الرأيُ. والدليل على هذا أنهم خضعوا لهم بأشياء اخترعوها بآرائهم، كالخضوع لتماثيلهم، ولو كانوا يرون أنهم إنما يستحقون الخضوع لهم لأنَّ الله تعالى أمر به، لما خضعوا لهم إلاَّ القدر (¬1) الذي أمر الله به. ومثلُهم قوم هود وقوم صالح والمصريُّون في الأشخاص الغيبيِّين الَّذين زعموهم وزعموا أنهم هم الملائكة كما تقدم، وكذا قوم فرعون زعموا أنَّ مَلِكَهم أهلٌ لأن يُخضع له طلبًا للشفاعة إلى الله عزَّ وجلَّ من الملائكة؛ لأنه محبوب عندهم بدليل أنهم شفعوا له إلى الله عزَّ وجلَّ حتى جعله مَلِكًا. وكذا النصارى في شأن مريم عليها السلام، وكذا مشركو العرب في الإناث الخياليَّات التي زعموا أنها بنات الله وأنهُنَّ هنَّ الملائكة. والنصارى زعموا أن عيسى عليه السلام أهلٌ لأن يُعظَّم طلبًا للنفع الغيبي منه أو من الله الذين يقولون إنه أبوه بواسطة شفاعته. ¬

_ (¬1) كذا, ولعله: بالقدر.

الأشخاص المطاعون

[س 150/ أ] الأشخاص المطاعون وجميع المشركين زعموا أنَّ أهواءهم المبنيَّة على مجرَّد الظن والتخمين أهلٌ لأنْ يُخضع لها بالطاعة في شرع الدين طلبًا للنفع الغيبِيَّ من الله عزَّ وجلَّ بلا واسطة إذا كان الأمر المتديَّن به موجَّها إلى الله تعالى رأسًا، كالقول في صفاته تعالى بغير علمٍ كقول مشركي العرب: إنَّ لله تعالى بنات، وكتحريمهم بعضَ الأشياء كما حكاه الله عزَّ وجلَّ وغير ذلك، وبواسطة الشفاعة إذا كان موجَّهًا إلى مَن دونه كمشركي العرب في اتخاذهم التماثيل للملائكة عليهم السلام وغير ذلك. ومستندهم الرأيُ. ولما كانت أهواؤهم بأيدي الشياطين عُدُّوا في ذلك خاضعين للشياطين. ويظهر أنَّ قوم فرعون زعموا أنه أهلٌ لأنْ يُخْضَع له بالطاعة في شرع الدين إلخ، واليهود والنصارى زعموا أنَّ أحبارهم ورهبانهم أهلٌ لأنْ يُخْضعَ لهم بالطاعة في شرع الدين إلخ. ومشركو العرب وغيرهم زعموا أنَّ رؤساءهم أهلٌ لأنْ يُخْضَعَ لهم بالطاعة في شرع الدين إلخ. والمراد بالدين هنا ما يُعْتَقَد أو يُعمل طلبًا للنفع الغيبيَّ، [س 150/ ب] فيشمل القولَ في صفات الله عزَّ وجلَّ وملائكته وغير ذلك من عالَمِ الغيب، والقولَ في الأعمال والأحكام التي يتقرَّبون بها إلى الله عزَّ وجلَّ أو إلى مَن يرجون شفاعته لهم إليه سبحانه. [س 151/ أ] ما دُعي من دون الله تعالى قد تقدَّم معنى الدعاء مفصَّلاً بحمد الله تعالى، فكلُّ مَن دعا شيئًا غير الله تعالى فقد زعم أنه مستحقٌّ لأن يُدعى، ومستنده في ذلك الرأيُ، والدعاء

النتيجة

متضمِّن للخضوع طلبًا للنفع الغيبي من المخضوع له كما تقدَّم، والله أعلم. [س 151/ ب] النتيجة فيما تقدَّم عرفنا أنَّ الإله هو: المستحقُّ لأن يُخضع له طلبًا للنفع الغيبيِّ منه أو ممن يُخضع له لأجله استحقاقًا ثابتًا في نفسه بحيث يستقلُّ العقل بإدراكه. والعبادة هي ذلك الخضوع مع اعتقاد ذلك الاستحقاق. فالله تبارك وتعالى مستحقٌّ لأن يُخضع له طلبًا للنفع الغيبيِّ استحقاقًا ثابتًا في نفسه إلخ. والمشركون زعموا مثل ذلك في بعض شركائهم (¬1)، أعني ما يخضعون له طلبًا للنفع الغيبي من غيره بسبب خضوعه لأجله في الباقي. وباعتبار انقسام النفع الغيبيِّ إلى النفع المباشر وإلى الشفاعة تكون الأقسام أربعة: ما يُخضع له طلبًا للنفع الغيبي المباشر منه. ما يُخضع له طلبًا للنفع الغيبي الذي هو الشفاعة. ما يُخضع له طلبًا للنفع الغيبي المباشر ممن يخضع له لأجله. ما يُخضع له طلبًا للنفع الغيبي الذي هو الشفاعة ممن يخضع له لأجله. فالقسم الأول على ضربين: ¬

_ (¬1) هنا كلمة غير واضحة، ظهر منها: (وقر ...).

[س 152/ أ] (1) ما يُنْسَب إليه القدرة على النفع الغيبيِّ كلِّه. ولم أجد في الأمم مَنْ يقول هذا في غير الله عزَّ وجلَّ إِلَّا أن يكون مَنْ قال من النصارى {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 17]. الضرب الثاني: ما يُنْسب إليه القدرةُ على بعض النفع الغيبيِّ فقط مع الاعتراف بأنَّ قدرته ممنوحة له من الله عزَّ وجلَّ. ولعلّ من هذا بعض عُباد الكواكب الزاعمون (¬1) بأنَّ لها قدرة تُصَرِّفها باختيارها. [س 152/ ب] ومنه (¬2) الهنود في عبادتهم أشخاصًا غيبيِّين يصفونهم بصفات لا تنطبق على الملائكة، ولكننا نقول بأنهم يعبدون الملائكة كما قال الله تبارك وتعالى في مشركي العرب بأنهم يعبدون الملائكة وإن كانت الصفة التي يصفون بها معبوداتهم لا تنطبق على الملائكة. فالهنود يزعمون أنَّ لكلِّ جنس من المخلوقات الحسِّيَّة مدبِّرًا من الملائكة ويدعونهم ويخضعون لتماثيل ينصبونها لهم، ويخضعون للمخلوقات بنيَّة الخضوع لمدبِّرها، وهكذا يزعمون أنَّ كلَّ مَلك يستطيع أن ينفع البشر بحسب المخلوق الذي يدبِّره، فمدبِّر البحر يستطيع إنفاذ [سؤاله] (¬3) مثلاً، وقد مرَّ [في بيان عبادة] (¬4) قوم إبراهيم أنهم كانوا يعبدون الكواكب بنيَّة العبادة للأرواح المدبِّرة لها، والله أعلم. ¬

_ (¬1) كذا، والوجه: الزاعمين. (¬2) أي: من البعض. (¬3) غير واضحة في الأصل، وهكذا قدَّرتها. (¬4) غير واضحة في الأصل، وهكذا استظهرت.

(¬1) [289] وأخرج عبد بن حميدٍ (¬2) عن أبي جعفرٍ عليه السلام أنه ذكر ودًّا، فقال: كان رجلاً مسلمًا، وكان محبَّبًا في قومه، فلما مات عسكروا حول قبره في أرض بابل وجزعوا عليه، فلما رأى إبليس جزعهم عليه تشبه في صورة إنسانٍ، ثم قال: أرى جزعكم على هذا فهل لكم أن أصور لكم مثله فيكون في ناديكم فتذكرونه به؟ قالوا: نعم، فصور لهم مثله فوضعوه في ناديهم فجعلوا يذكرونه به، فلما رأى ما بهم من ذكره قال: هل لكم أن أجعل لكم في منزل كل رجل منكم تمثالاً مثله في بيته فيذكر به؟ فقالوا: نعم، ففعل، فأقبلوا يذكرونه به، وأدرك أبناؤهم فجعلوا يرون ما يصنعون به، وتناسلوا، ودرس أمر ذكرهم إياه حتى اتخذوه إلهًا (¬3). أقول: فيعلم من هذا الأثر والذي قبله أنه كان عندهم عدة تماثيل لودٍّ يطلقون على كلٍّ منها اسمَ ودّ، ونظير هذا معروف في وثنيي الهند، وقد يكون للمعبود الواحد ألوف من التماثيل يطلقون على كل تمثال منها اسم ذلك المعبود، ويقرب من ذلك صنيع النصارى في صور المسيح وأمه عليهما السلام. وأخرج ابن جريرٍ عن محمَّد [290] بن قيسٍ، قال: كانوا قومًا صالحين ¬

_ (¬1) هنا بداية الدفتر الرابع من دفاتر كتاب العبادة، ويبدأ من أثناء المقدمة الثانية من مقدِّمتين قدَّمهما المؤلَّف قبل شروعه في تفسير آيات النجم من فصل اعتقاد المشركين في الملائكة. (¬2) عزاه إليه السيوطيُّ في الدرَّ المنثور 8/ 294 - 295، وأخرجه أيضًا ابن أبي حاتمٍ 10/ 3375 - 3376، ح 18997. (¬3) تتمَّته: يعبدونه من دون الله.

من بني آدم، وكان لهم أتباعٌ يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صوّرناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوّروهم، فلما ماتوا وجاء آخرون دبّ إليهم إبليس فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يُسقون المطر، فعبدوهم (¬1). وفي دائرة المعارف للبستاني في ترجمة (سروج بن رعو)، وهو جدُّ (تارخ) والد إبراهيم الخليل، وكان عمره 130 سنةً لما وُلِد (ناحور)، وتوفي وله من العمر 230 سنةً: ذكر سويداس وبعض مؤرخين آخرين أنَّ (سروج) واضعُ عبادة الذين ماتوا من المفضَّلين على الجنس البشري، وتأليهَ (¬2) الأصنام وضعت بعد الزمان الذي وُجد فيه. وقال يوحنا الأنطاكي: إنه من نسل (يافث)، علَّم وجوب تكريم الفضلاء من الأموات إما بالصور وإما بالتماثيل وعبادتهم في بعض الأعياد السنوية كما لو كانوا [291] لا يزالون في قيد الحياة، وبحفظ سجلِّ أعمالهم في كتب الكهنة المقدَّسة، وتسميهم (¬3) آلهة لأنهم مفضَّلون على البشر، فتولَّد عن ذلك عبادة البشر (¬4) وديانة المشركين (¬5). وقال في ترجمة (طهمورث) (¬6): ملك من قدماء ملوك الفرس، قالوا ¬

_ (¬1) تفسير ابن جرير 29/ 54. [المؤلف] (¬2) معطوف على (سروج). (¬3) كذا في الأصل، ولعل الصواب: وتسميتهم. (¬4) في دائرة المعارف: الأوثان. (¬5) انظر: دائرة المعارف 9/ 599. (¬6) هو طهمورث بن ويونجهان بن حبايداد بن أوشهنج، وقيل في نسبه غير ذلك، وزعم =

[مؤرخو الفرس]: ولما كثر الموت بسبب المجاعة في أيامه جعل الناس يدفنون موتاهم ويتخذون لهم أمثلة لآبائهم وذوي قرباهم من الحجر والخشب والفضَّة والذهب، فكانت في أوَّل أمرها للذكرى ثم صارت للعبادة (¬1). (¬2) وقال أبو الريحان البيروني في كتاب الهند: "معلوم أن الطباع العامي نازع إلى المحسوس نافر عن المعقول الذي لا يعقله إلا العالمون الموصوفون في كل زمان ومكان بالقلة، ولسكونه إلى المثال عدل كثير من أهل الملل إلى التصوير في الكتب والهياكل كاليهود والنصارى ثم المنانية خاصة، وناهيك شاهدًا على ما قلته: أنك لو قدَّمت (¬3) صورة النبي صَلّى الله عليه وآله وسلم أو مكة أو الكعبة لعامي أو امرأة لوجدت من نتيجة الاستبشار فيه دواعي التقبيل وتعفير الخدِّ (¬4) والتمرُّغ كأنه شاهد المصوَّر وقضى بذلك مناسك الحج والعمرة. ¬

_ = الفرس أنه ملَك الأقاليم السبعة وعقد على رأسه تاجًا، وكان محمودًا في ملكه مشفقًا على رعيّته، وأنه ابتنى سابور من فارس ونزلها وتنقل في البلدان. قال ابن الكلبي: أول ملوك الأرض من بابل: طهمورث, وكان لله مطيعًا، وكان ملكه أربعين سنة، وهو أوّل من كتب بالفارسية، وفي أيامه عُبدت الأصنام، وأول ما عرف الصوم في ملكه. انظر: الكامل في التاريخ لابن الأثير 1/ 62. (¬1) دائرة المعارف للبستاني 11/ 344. (¬2) من هنا إلى قوله: "أقول: واسم جدِّ أبي إبراهيم في التوراة ... والله أعلم" ص 566، كان ملحقًا عند المؤلف. (¬3) في ط دائرة المعارف: أبديت. (¬4) في ط دائرة المعارف: الخدَّين.

وهذا هو السبب الباعث على اتخاذ الأصنام بأسامي الأشخاص المعظَّمة من الأنبياء والعلماء [والملائكة مذكِّرة أمرهم] (¬1) عند الغيبة والموت مبقية آثار تعظيمهم في القلوب لدى الفوت إلى أن طال العهد بعامليها، ودارت القرون والأحقاب عليها، ونُسيت أسبابها ودواعيها، وصارت رسمًا وسنة مستعملة، ثم داخلهم أصحاب النواميس من بابها؛ إذ كان ذلك أشدَّ انطباعًا فيهم فأوجبوه عليهم، وهكذا وردت الأخبار فيمن تقدَّم عهد الطوفان وفيمن تأخر عنه، وحتى قيل: إن كون الناس قبل بعثة الرسل أمة واحدة هو على عبادة الأوثان (¬2). ¬

_ (¬1) محله في الأصل بياض واستدرك من طبعة دائرة المعارف. (¬2) النصوص تشهد ببطلان هذا القول، فقد قال تعالى: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [يونس: 19]. فتوعَّد الله على الاختلاف لا على الاجتماع، ولو كَان اجتماعهم قبل الاختلاف كان على الكفر ثم آمن بعضهم لكان الوعد في ذلك الحال أولى بحكمة الله من الوعيد. ويمتنع أن يتوعَّد الله في حال الإيمان والتوبة دون حال اجتماع الجميع على الكفر والشرك. انظر: تفسير الطبري 3/ 626 وهذا القول مخالف لما صحَّ عن ابن عباس أنه قال: كان بين نوح وآدم عشرة قرون، كلهم على شريعة من الحق، فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، قال: وكذلك هي في قراءة عبد الله: {كان الناس أمةً واحدةً فاختلفوا}. رواه الحاكم في المستدرك 2/ 546 - 547 وقال: "هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي. ومخالف أيضًا لحديث عياض بن حمار في الحديث القدسي: "إِنِّي خَلقتُ عبادي حُنَفَاء كُلَّهُم وإنَّهُم أَتَتهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجتَالَتهُم عن دينهم وحرّمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا". انظر صحيح مسلم، كتاب الجنّة وصفة نعيمها وأهلها، باب الصّفات الّتي يعرف بها في الدّنيا أهل الجنّة وأهل النّار 8/ 158 ح 2865.

فأما أهل التوراة فقد عيَّنوا [أوَّل] (¬1) هذا الزمان بأيام ساروغ (¬2) جد أبي إبراهيم. وأما الروم فزعموا أن روملس ورومانوس الأخوين من أفرنجة لما مَلَكا بَنَيا رومية ثم قتل روملس أخاه وتواترت الزلازل والحروب بعده حتى تضرَّع روملس فأُرِي في المنام أنَّ ذلك لا يهدأ إلا بأن يُجلس أخاه على السرير فعمل صورته من ذهب وأجلسه معه، وكان يقول: أَمَرْنا بكذا، فجرت عادة الملوك بعده بهذه المخاطبة وسكنت الزلازل فاتخذ عيدًا وملعبًا يُلهي به ذوي الأحقاد من جهة الأخ. / ونصب للشمس أربعة تماثيل على أربعة أفراس أخضرها للأرض وأسمنجونها (¬3) للماء وأحمرها للنار، وأبيضها للهواء، وبقيت إلى الآن قائمة برومية. وإذ نحن في حكاية ما الهند عليه فإنا نحكي خرافاتهم في هذا الباب بعد أن نخبر أنَّ ذلك لعوامِّهم، فأمَّا مَن أمَّ نهج الخلاص أو طالع طرق الجدل والكلام ورام التحقيق الذي يسمونه (سار) فإنه يتنزَّه عن عبادة أحد مما دون الله تعالى فضلاً عن صورته المعمولة. فمن تلك القصص ما حدَّث به شونك الملك بريكش قال: كان فيما مضى من الأزمنة ملك يسمى أنبرش نال من المُلك مُناه فرغب عنه وزهد ¬

_ (¬1) زيادة من ط دائرة المعارف. (¬2) سيأتي للمؤلف أنَّ اسمه في التوراة الموجودة الآن: سروج. (¬3) هو اللون الأزرق الخفيف.

في الدنيا وتخلَّى للعبادة والتسبيح زمانًا طويلاً حتى تجلَّى له المعبود في صورة (إندر) رئيس الملائكة راكبَ فِيل وقال: سل ما بدا لك لأعطيكه فأجابه بأني سُررت برؤيتك وشكرت ما بذلته من النجاح والإسعاف لكني لست أطلب منك بل ممن خلقك. قال (إندر): إنَّ الغرض في العبادة حسن المكافأة عليها فحصِّل الغرض ممن وجدته منه، ولا تنتقد قائلاً: لا منك بل من غيرك. قال الملِك: أما الدنيا فقد حصلت لي وقد رغبت عن جميع ما فيها، وإنما مقصودي من العبادة رؤية الرب وليست إليك فكيف أطلب [حاجتي] (¬1) منك قال (إندر): كل العالم ومَن فيه في طاعتي فمن أنت حتى تخالفني؟ قال الملِك: أنا كذلك سامع مطيع إلا أني أعبد مَن وجدت أنت هذه القوة من لدنه، وهو رب الكلِّ الذي حرسك من غوائل الملكين (بل) و (هرنَّكش) فخلِّني وما آثرته وارجع عني بسلام. قال (أندر): فإذا (¬2) أبيت إلا مخالفتي فإني قاتلُك ومهلكك. قال الملك: قد قيل: إنَّ الخير محسود والشر له ضد، ومَن تخلى عن الدنيا حسدته الملائكة فلم يخلُ من إضلالهم إياه، وأنا من جملة من أعرض عن الدنيا وأقبل على العبادة ولست بتاركها ما دمت حيّا ولا أعرف [لنفسي ذنبًا] (¬3) أستحق به منك قتلًا فإن كنت فاعله بلا جرم مني فشأنك وما تريد، على أنَّ نيتي إن خلصت لله ولم يشب يقيني شوبٌ لم تقدر على الإضرار بي وكفاني ما شغلتني به عن العبادة وقد رجعتُ إليها. ¬

_ (¬1) زيادة من ط دائرة المعارف. (¬2) في طبعة دائرة المعارف: فإذْ. (¬3) ما بين المعقوفين بياض في الأصل، واستدرك من طبعة دائرة المعارف.

ولما أخذ فيها تجلَّى له الرب في صورة إنسان على لون النيلوفر الأكهب (¬1) بلباس أصفر راكب الطائر المسمى كُرد ..... فلما رآه الملك اقشعرَّ جلده من الهيبة وسجد وسبَّح كثيرًا فآنس وحشته وبشَّره بالظفر بمرامه فقال الملِك: كنت نلت ملكًا .... ولم أتمنَّ غير ما نلته الآن، ولست أريد غير التخلص من هذا الرباط. قال الرب: هو بالتخلي عن الدنيا بالوحدة .... فإن غلبك نسيان الإنسيَّة فاتخذ تمثالاً كما رأيتني عليه وتقرَّبْ بالطيب والأنوار إليه واجعله تذكارًا لي لئلا تنساني .... ثم غاب الشخص عن عينه ورجع الملِك إلى مقرِّه وفعل ما أُمر به قالوا: فمِن وقتئذ تُعمل الأصنام .... وأخبروا أيضًا بأنَّ لبراهم ابن (¬2) يسمَّى نارذ [لم تكن له همَّة غير رؤية] (¬3) الرب، وكان من رسمه في تردُّده إمساك عصا معه إذ كان يلقيها فتصير حيَّة ويعمل بها العجائب وكانت لا تفارقه. وبينما هو في فكره المأ [مول إذ رأى نورًا من بعيد] (¬4) فقصده ونودي منه أنَّ ما تسأله وتتمنَّاه ممتنع الكون فليس يمكنك أن تراني إلا [هكذا، ونظر فإذا شخص نورانيٌّ على مثال أشخاص] (¬5) الناس، ومن حينئذٍ ¬

_ (¬1) النيلوفر: جنس نباتات مائية، فيه أنواع تنبت في الأنهار والمناقع، وأنواع تزرع في الأحواض لورقها وزهرها. والأكهب: هو الذي علته غبرة مشربة سوادًا. المعجم الوسيط 802، 967. (¬2) كذا في الأصل وفي طبعة دائرة المعارف. (¬3) هنا بياض بالأصل، واستدرك من طبعة دائرة المعارف. (¬4) ما بين المعقوفين بياض بالأصل، واستدرك من طبعة دائرة المعارف. (¬5) ما بين المعقوفين بياض بالأصل، واستدرك من طبعة دائرة المعارف.

وُضعت الأصنام والصور (¬1). ونحن نذكر جوامع [باب] من كتاب [سنكَهت في عمل الأصنام] (¬2) تعين على معرفة ما نحن فيه. قال براهمر: إن الصورة المعمولة إذا كانت لرام بن دشرت أو ليل بن برو [جن فاجعل] القامة (¬3) مائة وعشرين أصبعا .... .... وصنم براهم ذو أربعة أوجه في الجهات الأربع .... وفي يد صنم إندر سلاح .... وصنم ريونت ابن الشمس .... وصنم الشمس أحمر الوجه .... فإذا حافظ الصانع عليها ولم يزد ولم ينقص عليها بعُد عن الإثم وأمِن مِن صاحب الصورة أن يصيبه بمكروه ... ولذلك قيل في كتاب كَيتا: إن كثيرًا من الناس يتقربون في مباغيهم إليَّ بغيري ويتوسَّلون بالصدقات والتسبيح والصلاة لسواي، فأقوِّيهم عليها وأوفِّقهم لها، وأوصلهم إلى إرادتهم لاستغنائي عنهم. وقال فيه أيضًا باسديو لأرجن: ألا ترى أن أكثر الطامعين يتصدَّون في القرابين والخدمة أجناس الروحانيين والشمس والقمر وسائر النيِّرين، فإذا لم يخيب الله آمالها لاستغنائه عنهم وزاد على سؤالهم/ وآتاهم ذلك من الوجه الذي قصدوه أقبلوا على عبادة مقصوديهم لقصور معرفتهم [عنه، وهو] (¬4) ¬

_ (¬1) في ط دائرة المعارف: بالصور، وبعده نحو صفحة وربع الصفحة لم ينقلها المؤلف. (¬2) ما بين المعقوفين بياض بالأصل، واستدرك من طبعة دائرة المعارف. (¬3) في الأصل: والقامة، والتصحيح من ط دائرة المعارف. (¬4) ما بين المعقوفين بياض في الأصل، واستُدرِك من ط دائرة المعارف.

المتمِّم لأمورهم على هذا الوجه من التوسيط ولا دوام لما نيل بالطمع والوسائط؛ إذ هو بحسب الاستحقاق، وإنما الدوام لما نيل بالله. وقد كان اليونانية في القديم يوسطون الأصنام بينهم وبين العلة الأولى ويعبدونها بأسماء الكواكب والجواهر العالية إذ لم يصفوا العلَّة الأولى بشيء من الإيجاب بل بسلب الأضداد تعظيمًا لها وتنزيهًا فكيف أن يقصدوها للعبادة .... وتوجد رسالة لأرسطوطالس في الجواب عن مسائل البراهمة (¬1) .... وفيها: "أما قولكم: [إنَّ] (¬2) مِن اليونانية مَن ذكر أنَّ الأصنام تنطق وأنهم يقرِّبون لها القرابين ويدَّعون لها الروحانية فلا علم لنا بشيء منه، ولا يجوز أن نقول فيما لا علم لنا به". فإنه ترفُّع منه عن رتبة الأغبياء والعوامِّ وإظهارٌ من نفسه أنه لا يشتغل بذلك. فقد علم أنَّ السبب الأول في هذه الآفة هو التذكير والتسلية ثم ازدادت إلى أن بلغت الرتبة الفاسدة المفسدة" (¬3). أقول: واسم جدِّ أبي إبراهيم في التوراة الموجودة الآن (سَرُوج) (¬4). وقد تقدَّم خبره فيما نقلناه عن دائرة المعارف. والله أعلم. وقال ابن إسحاق: وحدثني محمَّد بن الحارث التيمي أنَّ أبا صالح حدَّثه أنه سمع أبا هريرة .... يقول: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم يقول ¬

_ (¬1) في ط دائرة المعارف: للبراهمة. (¬2) هنا بياض بالأصل، واستدرك من ط دائرة المعارف. (¬3) كتاب الهند، ص 53 - 59. [المؤلِّف]. وفي طبعة دائرة المعارف العثمانية ص 84 - 96. (¬4) انظر: سفر التكوين، إصحاح 11. [المؤلف]. انظر ص 559.

لأكثم بن الجون الخزاعي (¬1): يا أكثم، رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجر قصبه في النار .... إنه كان أول من غيَّر دين إسماعيل فنصب الأوثان وبحر البحيرة وسيب السائبة ووصل الوصيلة وحمى الحامي (¬2). وبعده قال ابن هشام: حدثني بعض أهل العلم أن عمرو بن لحي خرج من مكة إلى الشام في بعض أموره، فلما قدم مآب من أرض البلقاء وهم يومئذ العماليق رآهم يعبدون الأصنام، فقال لهم: ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون؟ قالوا له: هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتمطرنا ونستنصرها فتنصرنا، فقال لهم: أفلا تعطونني منها صنمًا فأسير به إلى أرض العرب فيعبدونه، فأعطوه صنمًا يقال له: هبل، فقدم به مكة [292] وأمر الناس بعبادته وتعظيمه (¬3). وفي روح المعاني في تفسير قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} [سبأ: 40] (¬4) ما لفظه: "وتخصيصهم - أي الملائكة - بالذكر لأنهم أشرف شركاء المشركين الذين لا كتاب لهم، والصالحون عادة للخطاب، وعبادتُهم مبدأُ الشرك بناء على ما نقل ابن الوردي في تأريخه (¬5) من أنَّ سبب حدوث عبادة الأصنام في العرب أنَّ ¬

_ (¬1) تقدَّمت ترجمته. (¬2) سيرة ابن هشام 1/ 47، [المؤلف]. والحديث سبق تخريجه في ص 97. (¬3) المصدر السابق. (¬4) هكذا كتب المؤلف الآية بالنون في (نحشرهم) و (نقول) على قراءة الجمهور عدا يعقوب وحفص، فإنهما قرآ بالياء. انظر: النشر 2/ 257. ولعل المؤلف كان يقرأ بقراءة أبي عمرو. (¬5) 1/ 65.

عمرو بن لُحَي مرَّ بقومٍ بالشام فرآهم يعبدون الأصنام فسألهم فقالوا: هذه أرباب نتخذها على شكل الهياكل العلوية فنستنصرها ونستسقي (¬1)، فتبعهم وأتى بصنم معه إلى الحجاز وسوَّل للعرب فعبدوه" (¬2). وقال البيضاوي في تفسير قول الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]: "وقيل: شركاؤهم أوثانهم وإضافتها إليهم لأنهم متخذوها شركاء، وإسناد الشرع إليها لأنها سبب ضلالتهم وافتتانهم بما تديَّنوا به، أو صور مَن سنَّه لهم" (¬3). قال الشيخ زاده في حواشيه: "فإنهم يزعمون أن الأصنام صُوَر الملائكة أو المسيح أو عزير أو غيرهم من العُبَّاد الصالحين فإنهم يزعمون أنَّ هؤلاء العُبَّاد سوَّلوا لهم ما هم عليه من الدين الباطل ودعوهم إليه" (¬4). هذا، وقد وقفت على أشياء كثيرة مما يتعلق بعبادة الأوثان في ديانة اليونان والمصريِّين القدماء ووثنيَّي الهند وغيرهم، فتبيَّن لي أنَّ الأوثان إنما تُعبد تعظيمًا [293] وتكريما للغائبين، وأنَّ منها ما يصوَّر بصورة ذلك الغائب إما متحقَّقة كما مرَّ في قوم نوح، لاما متخيَّلة كما في تماثيل الروحانيِّين. ومنها ما لا يصوَّر بصورة بل يُكتفى بجعله تذكارًا لشخص أو روح معيَّن كأن يقال: هذا الحجر أو هذا البيت أو هذه الشجرة يكون تذكارًا لفلان، إمَّا ¬

_ (¬1) العبارة في تاريخ ابن الوردي: الهياكل العلوية والأشخاص البشريَّة, فنستسقي بها فنُسْقَى، ونستنصر بها فنُنْصَر، ونستشفي بها فنُشْفَى. (¬2) روح المعاني 7/ 150. [المؤلف] (¬3) تفسير البيضاوي 641. (¬4) حواشي الشيخ زاده 3/ 275. [المؤلف]

شخص معين وإما روح معينة بقصد أن يعظَّم هذا الحجر أو البيت أو الشجرة لذلك المعنى، وهو أنه قد صار خاصًّا بذلك الشخص أو تلك الروح. وقد يكون التذكار أثرًا من آثار المعظَّم كخشبة الصليب الأصليَّة عند النصارى، وقد يكون تمثالاً لذلك الأثر كشكل الصليب عندهم أيضا. ومن الوثنيِّين متفلسفون وسُذَّج، فمن المتفلسفين: الصابئةُ فإنهم يختارون المعدن الذي يُتخذ منه الصنم والكيفية والزمان والمكان وغير ذلك، وقريب منهم الوثنيُّون في الهند. ومن السُّذَّج: العربُ أيام جاهليتهم. والحامل على اتخاذ الأصنام أنهم يرون أنَّ التعظيم لا تظهر صورته ويُعلم اختصاصه بمن يُراد أن يكون له إلا إذا [294] كان المعظَّم مشاهَدًا، فلما كانت أرواح الموتى والروحانيُّون غيرَ مشاهَدين رأوا أن يجعلوا أشياء مجسَّمة فيعملون التمثال أو الشجرة أو الأثر أو صورة الأثر مثلاً قائلين: هذا فلان فينبغي تعظيم هذا الجماد بقصد أنَّ هذا التعظيم له إنما هو لأجل أنه قد صار مختصّا بتلك الروح أو بذلك الروحاني، وكثيرًا ما يسمُّون هذا الجماد باسم ذلك الغائب، كما مرَّ في قوم نوح. والمتفلسفون منهم يصنعون ذلك لتأكيد الاتصال بينهما وتحقيق أن تعظيم هذا المحسوس إنما هو تعظيم لذاك الغائب. والمتفلسفون منهم يحرصون على أن يتخيل القائم أمام الصنم أنه قائم أمام ذلك الغائب، ويُلقون بين العامة أن ذلك الغائب قد يحلُّ في ذلك الجماد الموضوع باسمه في بعض الأوقات، وكأن غرضهم من هذا أن يقوى تخيل الحاضر أمام الصنم ويشتد وهَمه وهمته, لأن للهمَّة عندهم أثرًا عظيمًا في قضاء الحوائج [295]. ولكثير من هذه الأمور مشابهات في هذا العصر، فالأمم المسيحية

تعمل تماثيل لعظماء رجالها وتنصبها في الشوارع العامة كتمثال ملكة الإِنجليز (وَكْتُورية) (¬1) المنصوب في (لُندرة) (¬2). وربما ينصبون تماثيل لأشياء متخيلة كتمثال الحرية (¬3) في أمريكا, ولا يشكُّون أنه لو مرَّ رجل منهم على تمثال من تلك التماثيل فانحنى له مثلاً أنه إنما يعظم الذي جُعل تمثالاً له. وإطلاق اسم الشخص على صورته وتعظيمه بتعظيم صورته وأشباه ذلك أمر معروف بين الناس، ألا ترى أنها لو عُرضت عليك صور أناس معروفين وأشير لك إلى صورة منها، وقيل لك: مَن هذا؟ لأجبت باسم صاحب الصورة. أوَ لم تسمع أهل المنطق يمثِّلون للمغالطة بأن يُشار إلى صورة فرس على جدار مثلاً ويقال: هذا فرس، وكل فرس صهَّال، فينتج: هذا صهَّال؟ أوَلا ترى المؤلفين وأصحاب الجرائد إذا أثبتوا صورة شخص أو طائر أو حيوان أو شجرة أو مدينة أو غير ذلك كتبوا تحت الصورة اسم صاحبها؟ ¬

_ (¬1) هي الملكة فكتوريا، ملكة المملكة المتحدة الشهيرة، عاشت في الفترة (1837 - 1901 م)، وازدهرت بلادها في فترة حكمها، وملوك بريطانيا بعدها من نسلها. انظر: دائرة معارف القرن العشرين 1/ 654. (¬2) اسمٌ قديمٌ لمدينة لندن عاصمة بريطانيا، من (londra) بالإيطالية؛ وهي بالفرنسية (londres). معجم الدخيل، للدكتور: ف. عبد الرحيم، ص 192. (¬3) طوله 93 مترًا، وهو عبارة عن امرأة تحمل شعلة في يمنى يديها، وفي يسراها لوحة مكتوب فيها تاريخ إعلان استقلال أمريكا، وهو في 4 يوليو 1776 م، صُنع هذا التمثال في فرنسا تخليدًا لذكرى الصداقة بين فرنسا وأمريكا, وشُحن إلى نيويورك فنصب فيها في 28 أكتوبر 1886 م. انظر الموسوعة البريطانية، النسخة الإلكترونية.

[296] أوَ لا تعلم أن النصارى إذا عظَّموا صلبانهم لا يعتقدون في الصليب نفسه شيئًا أكثر من أنه تذكار للمسيح، فتعظيمه تعظيم للمسيح، وهكذا إذا عظَّموا صورة المسيح أو صورة مريم عليهما السلام؟ أوَلا ترى لو أن رجلاً رأى صورة رجل من العظماء كصورة الزعيم المصري الشهير سعد زغلول (¬1) فقبَّل الصورة أو وضعها على رأسه أن العامة يعدُّونه إنما يحترم سعد زغلول نفسه؟ أوَلا ترى لو أن رجلاً رأى صورة نعلي النبي - صلى الله عليه وسلم - أو صورة البُراق فقبَّلها أو وضعها على عينيه ورأسه أو علَّقها في جدار بيته أو نحو ذلك أن العامة لا يرتابون أنه إنما يحترم النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -؟ ولعلَّك قد وقفت على الأسطورة الحاكية أنَّ بعض الصحابة ذهب رسولاً من بعض الخلفاء إلى ملك الروم فأراه ملك الروم صور الأنبياء وفيها صورة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فلما رأى تلك الصورة قبَّلها أو وضعها على رأسه أو نحو ذلك (¬2). ¬

_ (¬1) هو سعد (باشا) بن إبراهيم زغلول، زعيم نهضة مصر السياسية، وأكبر خطبائها، لازم جمال الدين الأفغاني، واختير رئيس الوفد المصري للمطالبة باستقلال مصر عن الإِنجليز، تولَّى عدَّة مناصب قياديَّة في بلاده قبل الاستقلال وبعده، توفَّي سنة 1346 هـ. انظر: الأعلام للزركلي 3/ 83. (¬2) لم أقف على هذه الأسطورة، ولكن رُوي أنَّ دحية الكلبي وجَّهه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بكتابٍ إلى ملك الروم، وأنه لما وصل إليه أدخله بيتًا عظيمًا فيه ثلاثمائة وثلاث عشرة صورة, فإذا هي صور الأنبياء المرسلين، قال: انظر أين صاحبكم من هؤلاء؟ قال: فرأيت صورة النبي - صلى الله عليه وسلم - كأنه ينظر. وفي حديث أبي بكرٍ: كأنه ينطق. قلت: هذا، قال: صدقت. أسند ذلك ابن عساكر في تاريخ دمشق 17/ 209 - 210، والرافعي في =

وقد شاع في هذا الزمان بين الشيعة اختلاق صور لأمير [297] المؤمنين عليٍّ وابنه الحسين وفرسه وغير ذلك، وعوامُّهم يعظِّمون تلك الصور. وقد مرَّ في فصل الآثار (¬1) أشياء من هذا القبيل، فلا أراك إذا تأمَّلت ما ذكرته لك في هذه المقدَّمة ترتاب أنَّ أوثان العرب إنما كانت تماثيل أو تذكارات لأشخاص معظَّمين عندهم، وأنهم إنما كانوا يعظِّمونها تعظيمًا لأولئك الأشخاص، وأن المظنون أن أسماءها هي أسماء أولئك الأشخاص. ولْنزِدْك بيانًا لذلك: أمّا اللَّات فقال قتادة: كانت لثقيف بالطائف (¬2)، وأنشدوا (¬3): وفرَّتْ ثقيف إلى لاتها ... بمنقلب الحائن (¬4) الخاسر وقال أبو عبيدة وغيره: كان بالكعبة (¬5). وقال ابن زيد: كان بنخلة عند ¬

_ = التدوين في تاريخ قزوين 4/ 24 - 25، وليس فيها تقبيل الصورة أو وضعها فوق الرأس، وإنما فيها أنَّ الملِك قبَّل خاتم الرسالة. وقد ضعَّف الشيخ الألباني القصَّة في سلسلة الأحاديث الضعيفة 7/ 310. (¬1) هذا مما لم أعثر عليه بعدُ. (¬2) انظر: تفسير عبد الرزاق 2/ 253، تفسير الطبري 22/ 47، وعزاه السيوطيُّ في الدرَّ المنثور (7/ 653) إلى عبد بن حميدٍ وابن المنذر. (¬3) البيت لضرار بن الخطَّاب الفهري. انظر: سيرة ابن هشام 1/ 42، وقد مضى في بحث اعتقاد المشركين في الأصنام. (¬4) كذا رُسمت في الأصل، وهي بمعنى الأحمق. انظر: القاموس المحيط 1192. والرواية المشهورة: "الخائب". (¬5) مجاز القرآن 2/ 236، وانظر: المحرَّر الوجيز 8/ 115 - 116.

سوق عكاظ تعبده قريش (¬1). وقال أبو حيَّان: يمكن الجمع بأن يكون المسمى بذلك أصنامًا فأخبر عن كلِّ صنم بمكانه (¬2). أقول: وهذا ظاهر وهو نظير ما صنع قوم نوح بوَدٍّ كما مر مع نظائره. وهذا يدلُّ أن اللاَّت في الأصل اسم شخص واحد، وتلك الأصنام أو التذكارات كلُّها له، أطلقوا على كلِّ واحد منها اسم ذلك الشخص. ومن المشاهَد في وثنيِّي الهند أن الأصنام [298] التي تكون لمعبود واحد يكون واحد منها هو الصنم الأعظم، وله مزيَّة على غيره، فكذا يقال في اللاَّت، فكان أعظمُها لاتَ ثقيف التي كانت بالطائف كما يُعلم بتتبع الروايات في ذلك. وأما العُزَّى فالمشهور أنها كانت سَمُراتٍ وبيتًا بنخلة (¬3)، وفي ذلك حديث سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى (¬4). وقال ابن زيد: كانت العُزَّى بالطائف (¬5)، وقال أبو عبيدة: كانت بالكعبة، وأيَّده أبو حيَّان في البحر بقول أبي سفيان يوم أحدٍ للمسلمين: لنا عُزَّى ولا عُزَّى لكم، وذكر فيه أنه صنمٌ، وجمع بمثل ما تقدَّم (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: تفسير الطبري 22/ 47، وتفسير البغوي 7/ 407. (¬2) البحر المحيط 10/ 15. (¬3) انظر: سيرة ابن هشام 1/ 78. (¬4) في ص 575. (¬5) انظر: تفسير ابن جريرٍ 22/ 49. (¬6) في الصفحة السابقة. وتقدم تخريج قصة أبي سفيان في ص 511 و629.

أقول: والكلام عليها كالكلام على اللات. وأما مناة، فقيل: صخرةٌ كانت لهذيلٍ وخزاعة (¬1)، وعن ابن عبَّاسٍ: لثقيف (¬2)، وعن قتادة: للأنصار بقديدٍ (¬3)، وقال أبو عبيدة: كانت بالكعبة أيضًا (¬4). أقول: ويجمع بالتعدُّد أيضًا، والكلام عليها كما مرَّ (¬5). فالعرب إنما كانوا يعظمون هذه الأصنام الثلاثة تعظيمًا لأشخاص معظَّمين، وليست هذه الأصنام إلا تماثيل أو [299] تذكارات لأولئك الأشخاص كما هو شأن عَبَدَة الأوثان في كلِّ أمة، وبذلك صرَّح المحققون كما علمت مما تقدَّم وإن لم ينصُّوا على شأن العرب خاصَّة. ومما يؤيِّد هذا ما ذكره الفخر الرازي في تفسير قول الله عزَّ وجلَّ: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) ¬

_ (¬1) قاله الضحَّاك. انظر: تفسير البغوي 7/ 408، زاد المسير 8/ 72. (¬2) ذكر ذلك الزمخشري في الكشاف 4/ 39، وأبو حيَّان في البحر المحيط 8/ 152، والآلوسي في روح المعاني 27/ 55. (¬3) انظر: تفسير عبد الرزاق 2/ 253، وزاد المسير 8/ 72، والدرّ المنثور 7/ 653. وفي تفسير ابن جرير 22/ 50، وتفسير البغوي 7/ 408 عن قتادة: أنها لخزاعة، وكانت بقديدٍ. ويمكن الجمع بينهما بما قاله ابن كثيرٍ: "وأما مناة فكانت بالمُشَلَّل عند قُدَيدٍ بين مكة والمدينة، وكانت خزاعة والأوس والخزرج في جاهليتها يعظمونها، ويُهلُّون منها للحجَّ إلى الكعبة". تفسيره 7/ 431. (¬4) مجاز القرآن 2/ 236. (¬5) قريبًا.

قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزمر: 43 - 44] فإنه قرر أن المراد بقوله {أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ} الآية: الأصنام، ثم ذكر أن قوله تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} ردٌّ لما يجيبون به وهو أن الشفعاء ليست الأصنام أنفسها بل أشخاص مقربون هي تماثيلهم (¬1). ويؤيده أيضًا ما أخرجه النسائي وابن مردويه عن أبي الطفيل قال: لما فتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة بعث خالد بن الوليد إلى نخلة وكانت بها العزى، فأتاها خالد وكانت ثلاث سمُرات، فقطع السمُرات وهدم البيت الذي كان عليها ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فقال: "ارجع فإنك لم تصنع شيئًا" فرجع خالدٌ، فلما أبصرته السدنة مضوا وهم يقولون: يا عزى يا عزى [300] فأتاها فإذا امرأة عريانة ناشرةٌ شعرها تحثو على رأسها فجعل يضربها بالسيف حتى قتلها، ثم رجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فقال عليه الصلاة والسلام: "تلك العزى ... ". وفي رواية: فقطعها فخرجت منها شيطانة ناشرة شعرها داعية ويلها واضعة يدها على رأسها فضربها بالسيف حتى قتلها. ذكره في روح المعاني (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: روح المعاني 7/ 410. [المؤلف]. وتفسير الرازي 26/ 247 - 248. (¬2) 8/ 256 - 257. [المؤلف]. وانظر: الدرّ المنثور 7/ 652. وهو في تفسير النسائي، سورة النجم، قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى}، 2/ 357 - 359، ح 567. ومسند أبي يعلى 2/ 196 - 197، ح 902. ودلائل النبوَّة لأبي نُعيمٍ، الفصل الخامس والعشرون، قصَّة هدم بيت العزَّى، ص 535، ح 463، من طريق الطبراني. ودلائل النبوَّة للبيهقي، باب ما جاء في بعثة خالد بن الوليد إلى نخلةٍ كانت بها العزَّى، 5/ 77، من طريق أبي يعلى. والأحاديث المختارة، 8/ 219، من طريق الطبراني =

ففيه أن السدنة كانوا يدعون العزى بعد أن قُطعت السمُرات وهُدم البيت، فيظهر من ذلك أنهم يرون أن العزى شيءٌ آخر، ويوضحه قوله - صلى الله عليه وسلم - لخالدٍ: "لم تصنع شيئًا"، وقوله في الشيطانة: "تلك العزى ... ". فلننظر الآن مَنْ هم الأشخاص الذين كانت اللات والعُزَّى ومناة تماثيل أو تذكارات لهم. جاء عن ابن عباس ومجاهد وأبي صالح وغيرهم أنهم قرؤوا: {اللاتّ} بتشديد التاء (¬1). وفي روح المعاني: أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس: أنه كان يلتُّ السويق على الحجر فلا يشرب منه أحد إلا سَمِن، فعبدوه (¬2). قال: وأخرج الفاكهي (¬3) أنه لما مات قال لهم عمرو بن لحي: إنه لم يمت ولكنه دخل الصخرة فعبدوها وبنوا [301] عليها بيتًا (¬4). ¬

_ = أيضًا. قال الهيثميُّ: "وفيه يحيى بن المنذر، وهو ضعيفٌ". مجمع الزوائد 6/ 258 - 259. كذا قال، وإنما هو: عليُّ بن المنذر، وهو ثقةٌ. (¬1) انظر: تفسير ابن جرير 22/ 47، شواذّ القرآن ص 147، والمحتسب 2/ 294. وبها قرأ رُوَيسٌ عن يعقوب. انظر: إرشاد المبتدي ص 572، النشر 2/ 379. (¬2) انظر: فتح الباري 8/ 612. وأصله عند البخاريَّ في كتاب التفسير، سورة: "والنجم"، باب: "أفرأيتم اللات والعزَّى"، 6/ 141، ح 4859، بلفظ: "كان اللات رجلاً يلُتُّ سويق الحاجِّ". (¬3) أخبار مكَّة، ذكر اللات وأصل عبادتها ومكانها، 5/ 164، ح 76. وانظر: فتح الباري 8/ 612. (¬4) روح المعاني 8/ 256 [المؤلف]. وانظر: الدرّ المنثور 7/ 653.

وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال: كان يلت السويق للحاج فمات فعكف على قبره. وأخرج أيضًا عن أبي صالح قال: اللات الذي كان يقوم على آلهتهم ويلت لهم السويق، وكان بالطائف. وقد أبى ابن جرير هذا القول فقال: "يقول تعالى ذكره: أفرأيتم أيها المشركون اللات وهي من (الله) أُلحقت فيه التاء فأنثت كما قيل: عمرو للذكر وللأنثى عمرة، وكما قيل للذكر عباس ثم قيل للأنثى عباسة، فكذلك سمى المشركون أوثانهم بأسماء الله تعالى ذِكْره وتقدَّست أسماؤه، فقالوا من الله: اللات، ومن العزيز: العزى، وزعموا أنهن بنات الله، تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا، فقال جل ثناؤه لهم: أفرأيتم أيها الزاعمون أن اللات والعزى ومناة الثالثة بنات الله، ألكم الذكر ... ". ثم ذكر اختلاف القراءة والآثار في لَتِّ السويق، ثم قال: "وأولى القراءتين بالصواب عندنا في ذلك قراءة من قرأ بتخفيف التاء على المعنى الذي وصفت لقارئه كذلك؛ لإجماع الحجة من قراء الأمصار عليه" (¬1). [302] ولم يذكر اشتقاق مناة وقد ذكره غيره، ولكن الأنسب بما تقدَّم أن يقال: أصله من قولهم: مناه الله يمنيه منيًا: قدَّرَهُ، والاسم المَنَى كالفتى. وفي النهاية (¬2) ما لفظه: وفيه أنَّ منشدًا أنشد النبي - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) 27/ 31 - 32. [المؤلف] (¬2) 4/ 368. والبيتان ضمن أبيات لسويد بن عامر المصطلقي كما في مصادر تخريج الحديث الآتية.

لا تأمنن وإن أمسيت في حرمٍ ... حتى تلاقي ما يمني لك الماني فالخير والشر مقرونان في قَرَنٍ ... بكل ذلك يأتيك الجديدان فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لو أدرك هذا الإِسلام" (¬1) معناه: حتى تلاقي ما يقدره لك المقدِّرُ وهو الله عَزَّ وَجَلَّ". فكأنهم - والله أعلم - قدَّروا أن المَنَى كالفتى اسم لله عَزَّ وَجَلَّ من باب إطلاق المصدر بمعنى اسم الفاعل كما قالوا: رجلٌ عدلٌ، ثم زادوا التاء وسمَّوا به معبودَتهم، كما قالوا: عمرٌو وعمرةٌ، و (عَمْر) في الأصل مصدرٌ. فإن قيل: فإن صاحب القاموس ذكرها في مادة (م ن و) (¬2). قلت: لم أجد ما يدل على ذلك. فأما قولهم: منويٌّ في النسبة، فقاعدة النسبة: قلب الألف الثالثة واوًا مطلقًا، وإن كانت منقلبة عن (ياء) كقولهم (رحويٌّ) في النسبة إلى رحًى، وأصل هذه الألف ياء بدليل قولهم في التثنية: رَحَيان. ¬

_ (¬1) أخرجه البزَّار (كشف الأستار)، 3/ 4 - 5، ح 2105. والطبراني 19/ 432، ح 1049. والدولابي في الكنى, (ترجمة أبي مسلمٍ الخزاعي)، 1/ 274، ح 486. والدينوري في المجالسة 2/ 383 - 385، ح 557. والبغوي في معجم الصحابة، (ترجمة مسلمٍ الخزاعيِّ المصطلقيِّ)، 4/ 368 - 369 ح 3104. وأبو نعيمٍ في معرفة الصحابة (كذلك)، 5/ 2484، ح 6043. وغيرهم. قال الهيثميُّ: "رواه الطبرانيُّ والبزَّار عن يعقوب بن محمَّدٍ الزهريِّ عن شيخٍ مجهولٍ، هو مردودٌ بلا خلافٍ". مجمع الزوائد 8/ 232. وقال الألبانيُّ: "منكرٌ". السلسلة الضعيفة 14/ 152، ح 6568. (¬2) ص 1336، ذكرها في (م ن ي) لا (م ن و).

وقد قُرئ: {مناءة} بالمد [303]، ويحتمل على هذا أن يكون مشتقًّا من النَّوْء وهو النهوض، كأنها تنهض بعابدها في زعمهم، والله أعلم. ثم رأيت ياقوتًا في "معجم البلدان" (¬1) ذكر وجوهًا لاشتقاق مناة، أوَّلها: أنها من المَنَى وهو القدَر، كما قلناه، والحمد لله. وقد يجوز أن يكون أصل اللات على ما روي عن ابن عباس ثم خُفِّفت التاء، وتُنوسي ذلك الأصل وصار المعروف بين العرب أنَّ اللات اسم لأنثى معظَّمة، وهذا الصنم أو الصخرة تذكار لها, ولعلَّ هذا أولى من غيره. وعلى كلِّ حالٍ فتأنيثهم أسماء هذه الأصنام يدلُّ مع ما مرَّ أنها عندهم تماثيل أو تذكارات لإناث معظَّمات، وعسى أن تقول: إنَّ الحديث المتقدِّم في شأن العُزَّى يدلُّ أنَّ تلك الإناث من الشياطين، فأقول: سيأتي في بحث عبادة الشياطين ما يوضح لك الحقيقة إن شاء الله تعالى. وتلخيصه: أنَّ عبادتهم للشياطين كانت من وجهين: الأول: طاعتهم لهم فيما يسوِّلون لهم متَّخذين ما يسوِّلونه لهم دينًا. الثاني: أنَّ الشياطين يعترضون العبادات لتكون في الصورة لهم، ومن ذلك قيام الشيطان دون الشمس عندما [304] يسجد لها الكفار ليكون السجود صورةً له، فقضية العُزَّى من هذا، والله أعلم. وانتظر تمام هذا قريبًا إن شاء الله تعالى. والحقيقة هي أنَّ الأوثان التي كان الكفار يطلقون عليها اسم اللات والعزى ومناة كانت عندهم تماثيل أو تذكارات للإناث المزعومات وهي قولهم: إنَّ لله بناتٍ هي - في زعمهم - الملائكة، وعبدوها كما تقدَّم بيانه بما ¬

_ (¬1) 5/ 204.

لا مزيد عليه. وقال البيضاوي في قوله تعالى: {بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} [سبأ: 41]: "أي الشياطين حيث أطاعوهم في عبادة غير الله، وقيل: كانوا يتمثلون لهم ويخيِّلون إليهم أنهم الملائكة فيعبدونهم" (¬1). قال الشيخ زاده في "حواشيه": "جواب عما يقال: إن المشركين كانوا يقصدون بعبادة الأصنام عبادة الملائكة، ولا يخطر الشياطين ببالهم حين عبادتهم الأصنام فضلاً عن أن يعبدوا الشياطين، فما وجه قوله: {كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ}؟ وأجاب عنه بوجهين: الأول: أن الشياطين زيَّنوا لهم [305] عبادة الملائكة فأطاعوا الشياطين في عبادة الملائكة، فالمراد بقولهم: {يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} أنهم يطيعون الجن بعبادة غير الله تعالى، وأن العبادة هي الطاعة، وأنهم لما أطاعوهم فكأنهم عبدوهم. والثاني: أنهم عبدوا الجن حقيقة بناء على أنَّ الجن مثَّلوا لهم صورة قوم منهم وقالوا: هذه صور الملائكة فاعبدوها، فلما عبدها المشركون فقد عبدوا الجن حقيقة" (¬2). أقول: والأقرب فيما نحن فيه أن المشركين لما كانوا يعبدون إناثًا غيبيَّات، قالت الشياطين: ليس هناك إناث غيبيَّات إلاَّ منّا، أما الملائكة فليسوا بإناث، فكلَّما قال المشركون: فلانة بنت الله - تعالى الله عما يقولون - ¬

_ (¬1) تفسير البيضاوي ص 571. (¬2) حواشي الشيخ زاده 3/ 94. [المؤلف]

وعبدوها، عيَّنت الشياطين واحدة من إناثهم كأنها هي تلك الأنثى التي يعبدها المشركون. وقد مرَّ قول ابن جرير أنَّ المشركين كانوا يقولون: اللاَّت والعُزَّى ومناة بنات الله (¬1). وفي "معجم البلدان" في ترجمة العُزَّى عن ابن الكلبي قال: وكانت قريش تطوف بالكعبة وتقول: واللات والعُزَّى ومناة الثالثة الأخرى، فإنهنَّ الغرانيق العُلى، وإنَّ شفاعتهنَّ لترتجى؛ وكانوا يقولون: بنات الله عزَّ وجلَّ وهنَّ يشفعن إليه (¬2). [306] وفي أسباب النزول للسيوطيِّ (¬3): أخرج ابن أبي حاتم عن محمَّد بن عثمان المخزومي أنَّ قريشًا قالت: قيِّضوا لكل رجل من أصحاب محمدٍ رجلاً يأخذه، فقيَّضوا لأبي بكر طلحةَ فأتاه وهو في القوم، فقال أبو بكر: إلامَ تدعوني؟ قال: أدعوك إلى عبادة اللات والعزى، قال أبو بكر: وما اللات؟ قال: ربنا، قال: وما العُزَّى؟ قال: بنات الله. قال أبو بكر: فمَن أُمُّهم؟ فسكت طلحة، فقال طلحة لأصحابه: أجيبوا الرجلَ، فسكت القومُ، فقال طلحة: قم يا أبا بكر أشهد أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله، فأنزل الله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} الآية (¬4) في سورة الزخرف 36. ¬

_ (¬1) ص 301. [المؤلف] ص 577. (¬2) معجم البلدان 4/ 116، وهو في الأصنام لابن الكلبي 19. (¬3) لباب النقول ص 188، وانظر: الدرّ المنثور 7/ 377. (¬4) تفسير ابن أبي حاتم 10/ 3283، ح 18505.

وفي هذا الأثر ما يخالف ما نُقل أنَّ المشركين كانوا يقولون: أمَّهات الملائكة بنات سَرَوات الجن، وقد فُسِّر به قوله تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} [الصافات: 158]. وفي صحَّة ذلك نظر، وقد يدفعه قول الله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ [307] وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنعام: 100 - 101]، فقوله سبحانه: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} احتجاجٌ على مَن زعم أنَّ له ولدًا فيُعلم من ذلك أنَّ كونه لا صاحبة له قضيَّة مسلَّمة عند المشركين؛ إذ لو كانوا يزعمون أنَّ له صاحبة لما احتجَّ عليهم بذلك، والله أعلم. والذي يظهر لي في تفسير قوله تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} أنَّ ذلك إلزام منه تعالى للمشركين، فإنهم زعموا أنَّ إناثًا غيبيَّاتٍ هنّ بنات الله تعالى، وليس هناك إناث غيبيَّاتٌ قد كانوا سمعوا بوجودهنَّ وصدَّقوا به (¬1) إلاَّ من الجن فلزمهم أنهم جعلوا الجنِّيَّات بناتٍ لله عزَّ وجلَّ، وهذا الإلزام من جنس الإلزام الذي تقدَّم في عبادتهم الإناث من الشياطين، والله أعلم. ولنشرع الآن في تفسير الآيات. قال الله عزَّ وجلَّ: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ [308] وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} [النجم: 19 - 22]. ¬

_ (¬1) هذا إخراج للحور العين. انتهى [المؤلف].

قال شيخ الإِسلام أبو السعود الرومي في "تفسيره": "فالمعنى: أعَقِيبَ ما سمعتم من آثار كمال عظمة الله عَزَّ وَجَلَّ في ملكه وملكوته وجلاله وجبروته وإحكام قدرته ونفاذ أمره في الملأ الأعلى وما تحت الثرى وما بينهما رأيتم هذه الأصنام مع غاية حقارتها وقماءتها بناتٍ له تعالى؟ وقيل المعنى: أفرأيتم هذه الأصنام مع حقارتها وذلتها شركاء الله تعالى مع ما تقدم من عظمته؟ وقيل: أخبروني عن آلهتكم هل لها شيء من القدرة والعظمة التي وُصف بها رب العزة في الآي السابقة؟ وقيل: المعنى أظننتم أن هذه الأصنام التي تعبدونها تنفعكم؟ وقيل: أظننتم أنها تشفع لكم في الآخرة؟ وقيل: أفرأيتم إلى هذه الأصنام إن عبدتموها لا تنفعكم وإن تركتموها لا تضركم؟ والأول هو الحق كما يشهد به قوله تعالى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى} شهادة بينة؛ فإنه توبيخ مبنيٌّ على التوبيخ الأول. وحيث كان مداره تفضيل جانب [309] أنفسهم على جنابه تعالى بنسبتهم إليه تعالى الإناث مع اختيارهم لأنفسهم الذكور = وجب أن يكون مناط الأول نفس تلك النسبة حتى يتسنَّى بناءُ التوبيخ الثاني عليه. وظاهرٌ أن ليس في شيء من التقديرات المذكورة من تلك النسبة عينٌ ولا أثر، وأمَّا ما قيل من أنَّ هذه الجملة مفعولٌ ثانٍ للرؤية وخلوِّها عن العائد إلى المفعول الأول لِما أنَّ الأصل: أخبروني عن اللات والعُزَّى ومناة: ألكم الذكر وله هُنَّ أي: تلك الأصنام؟ وضع موضعها الأنثى لمراعاة الفواصل وتحقيق مناط التوبيخ، فمع ما فيه من التمحُّلات التي ينبغي تنزيه ساحة التنزيل عن أمثالها يقتضي اقتصار التوبيخ على ترجيح جانبهم الحقير على

جناب الله العزيز الجليل من غير تعرُّضِ للتوبيخ على نسبة الولد إليه سبحانه" (¬1). أقول: أما ردُّه تلك التقديرات فحقٌّ لا غبار عليه، وسياق الآيات يؤيده كل التأييد، وأما اختياره تقدير بنات الله ففيه نظر، والظاهر أنه لا حاجة إلى التقدير أصلاً وأنَّ الكلام من النمط الذي أوضحناه في المقدمة الأولى، والمعنى: أعرفتم اللات والعزى [310] ومناة، وقد عرفت أنَّ الغرض من ذلك أن يُحضروها في أذهانهم ويحصروا أذهانهم فيها، ويترقَّبوا أمرًا مهمًّا يتعلق بها. ثم قال تعالى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى} وهذه هي الجملة الاستفهامية المتعلقة بمفعول (أرأيت) على ما شرطوه، وإنما لم يقل: ألكم الذكر وهي لله على أن يكون المراد بقوله: "وهي": اللات والعزى ومناة، لركاكة هذا اللفظ، أي: قولنا: ألكم الذكر وهي لله؛ وللتصريح بموضع الشناعة المقصود في هذا الكلام؛ ولأنه - والله أعلم - أريدَ ما يعمُّ هذه الثلاث وغيرها، فإنهم كانوا يقولون في غيرها مثل مقالتهم فيها؛ ولمقابلة لفظ الذَّكر لمراعاة (¬2) الفواصل. وقول شيخ الإِسلام: "إنَّ فيه تمحُّلات"، إنما ذلك إذا جُعلت هذه الجملة مفعولاً ثانيًا لـ (أرأيت) وأما على ما اخترناه فلا تمحُّل أصلاً. وأما أنه لا يكون بالكلام تعرُّض للتوبيخ على نسبة الولد إليه سبحانه فلا حرج في ¬

_ (¬1) تفسير أبي السعود 2/ 539 - 540. [المؤلف] (¬2) كذا في الأصل، ولعل الصواب: "ولمراعاة" عطفًا على قوله: "لركاكة هذا اللفظ"، فيكون تعليلاً مستقلاً برأسه.

ذلك، مع أنه وارد على ما اختاره شيخ الإِسلام أيضًا فإنَّ قوله: " {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ} بنات الله"، لا تصريح فيه بالتوبيخ [311] على نسبة الولد، وإنما فيه التوبيخ على جعل هذه الثلاث بناتٍ له، ولو قال قائل لآخر: أجعلت فلانة وفلانة وفلانة بنات لي؟ لما فُهِم من ذلك أنه ينكر أن يكون له ولد أصلاً، فتدبَّرْ. دعْ هذا، فإن ما اختاره شيخ الإِسلام وتقدَّم عن ابن جرير (¬1) موافقٌ في المعنى لما اخترناه، وحاصله التوبيخ على قولهم: اللاَّت والعُزَّى ومناة بنات الله. والمهمُّ أن نبحث عن وجه هذا التوبيخ: هل كانوا يقولون: إنَّ تلك الأحجار والأشجار والبيوت بنات الله حقيقةً؟ هذا لا يقوله أحد، ولو سقطوا إلى هذا الدرك من الحماقة لَكِدْتُ أقول: يسقط عنهم التكليف أصلاً، ولو كانوا يقولون ذلك لتكرَّر في القرآن توبيخهم عليه أكثر ممَّا تكرَّر توبيخهم على قولهم: الملائكة بنات الله، فما باله تكرَّر كثيرًا توبيخهم على قولهم: الملائكة بنات الله ولم يأت توبيخهم على قولهم: الجمادات بنات الله حقيقةً في موضع من المواضع إلا أن يُفرض ذلك في هذا الموضع مع دلالة [312] السياق على بطلان هذا الفرض كما يأتي إن شاء الله تعالى. ولأمرٍ مَّا نجد القرآن مملوءًا بمحاجَّتهم في تأليه الملائكة وقلَّما نجده حاجَّهم في تأليه الجمادات. ولو كانوا يقولون ذلك لما عجزوا أن يجيبوا أبا بكر إذ قال لهم: فمَن أُمُّهم؟ أن يقولوا: الأرض مثلاً، وقوم يتردَّدون في ¬

_ (¬1) ص 301. [المؤلف]. ص 577.

كون البشر رسلاً لله عَزَّ وَجَلَّ كيف يقولون: الجمادات بنات الله حقيقة؟ ولو كانوا يقولون ذلك لما بقي محلٌّ لتوبيخهم بقوله: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} فإنَّ قومًا يقولون: الجمادات بنات الله حقيقة لا يَحسُن أن ينكر عليهم جعلهم الإناث لله عزَّ وجلَّّ، على أنَّ الأنثوية في الجمادات ليست حقيقة. فإن قيل: لعلَّ المراد بالأنثى الجماد كما قيل بذلك في قوله تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا} [النساء: 117]. قلت: يكفي في دفع ذلك أنه خلاف الظاهر مع أنه قوبل بالذَّكَر، وقوله: {إِلَّا إِنَاثًا} على حقيقته، وقد مرَّ أنَّ المراد الإناثُ الخياليَّات. [313] وقد علمتَ من المقدمة الثانية أنَّ القوم لم يكونوا يعبدون الجمادات إلاَّ على أنها تذكارات للملائكة، وبالجملة فبطلان هذا الاحتمال - أعني احتمال أنهم كانوا يقولون في الجمادات إنها بنات الله حقيقة - أوضح من أن يحتاج إلى إطالة الكلام في تزييفه. بقي أن يقال: أرادوا بنات الله تعالى على المجاز أي أنها مقبولة عنده، أو على حذف مضاف كأنهم أرادوا: اللات والعزَّى ومناة تذكارات بناته اللَّاتي هن الملائكة. ويردُّه أنه لا يكون حينئذ موضع لقوله: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} لأنهم لم يجعلوها بنات الله حقيقة، ولا هي إناث حقيقة. وقد حكى الله تعالى عن اليهود قولهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] ولم يوبِّخهم على قولهم: أبناء الله لأنهم إنما قالوها مجازًا، وإن كان هذا الإطلاق اللَّفظيُّ ممنوعًا سدًّا للذريعة، وها نحن نقول:

عزَّة الله وعظمة الله ونحو ذلك، ومكَّة حَرَم الله، والكعبة بيت الله، مع قولنا: جُود فلان، وحلم فلان، وتسميتنا بلداننا وبيوتنا أسماءً مذكَّرة، فهل يتوجَّه إلينا التوبيخ [314] أننا جعلنا لأنفسنا الذكور ولله تعالى الإناثَ؟ فإن قلت: فإذًا يتعيَّن أحد التقديرات التي ردَّها أبو السعود؟ قلت: هي باطلة أيضًا لأنها تُخرج الآيات عن قانون الكلام فضلاً عن الكلام البليغ، فضلاً عن بلاغة القرآن وبديع نظمه وصحَّة تأليفه وترصيفه. فإن قلت: فماذا تقول؟ قلت: لو تدبَّرت ما سقناه في المقدمة الثانية حقَّ تدبُّره لاتَّضحتْ لك الحقيقة. وقد قال ابن جرير: حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} قال: جعلوا لله عَزَّ وَجَلَّ بنات، وجعلوا الملائكة لله بنات، وعبدوهم، وقرأ: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ} الآية [الزخرف: 16 - 17]، وقرأ: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ} الآية [النحل: 57]، وقال: دَعَوْا لله ولدًا، كما دَعَت اليهود والنصارى، وقرأ: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [البقرة: 118] قال: و"الضيزى" في كلام العرب المخالفة، وقرأ {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} [النجم: 23] " (¬1). [315] ووردت عدَّة آثار في تفسير قول الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ ¬

_ (¬1) 27/ 33. [المؤلف]

قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الحج: 52 - 54] (¬1) يُعلم من تلك الآثار أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان لحرصه على هدى قومه يحرص على عدم تنفيرهم، فلما قرأ: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} ألقى الشيطان: "تلك الغرانيق العلى، وإنَّ شفاعتهن لترتجى" ونحو ذلك، وقد ردّ أكثر العلماء هذه القصة (¬2)، وقبِلها بعضهم (¬3). ومما نُقل عن أهل العلم فيها قولُ بعضهم: كان هذا من القرآن، مرادًا بالغرانيق الملائكة، فألقى الشيطان في نفوس المشركين [316] أن يزعموا أنَّ المراد بذلك أصنامهم، فنسخه الله تعالى (¬4). ¬

_ (¬1) منها ما رُوِي عن ابن عبَّاسٍ، وسعيد بن جبيرٍ، وأبي العالية، والضحَّاك، ومحمَّد بن كعبٍ. انظر: تفسير الطبري 16/ 603 - 608، تفسير ابن كثير 5/ 439 - 440، الدرّ المنثور 6/ 65 - 69. (¬2) قال ابن الجوزي: "قال العلماء المحقِّقون: وهذا لا يصحُّ". زاد المسير 5/ 441. وقال القرطبيُّ: "وليس منها شيءٌ يصحُّ". تفسيره 14/ 424. وقال ابن كثيرٍ: "ولكنها من طرقٍ كلُّها مرسلةٌ ولم أرها مسندةً من وجهٍ صحيحٍ". تفسيره 5/ 438. وللشيخ الألباني رسالةٌ في تضعيفها، أسماها: "نصب المجانيق لنسف قصَّة الغرانيق". (¬3) قال ابن حجرٍ: "لكن كثرة الطرق تدلُّ على أنَّ للقصَّة أصلاً". فتح الباري 8/ 439. (¬4) انظر: الشفا 2/ 131، المواقف 3/ 443.

قال الحافظ في "الفتح": وقيل: المراد بالغرانيق العلى: الملائكة، وكان الكفار يقولون: الملائكة بنات الله ويعبدونها، فسبق ذكر الكل ليرد عليهم بقوله تعالى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى}، فلما سمعه المشركون حملوه على الجميع وقالوا: قد عظَّم آلهتنا ورضوا بذلك، فنسخ الله تلك الكلمتين وأحكم آياته (¬1). أقول: أمَّا أنَّ تلك الكلمات كانت من القرآن فيُبطله قوله تعالى: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} فبيَّن أنَّ تلك الكلمات - إنْ صحَّت - من إلقاء الشيطان، ولكن قد يجوز أن يكون النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قال كلماتٍ أثنى بها على الملائكة، وقد أثنى الله تعالى على الملائكة في مواضعَ كقوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} الآيات [الأنبياء: 26]. فإن قيل: وكيف يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - كلمات ألقاها الشيطان؟ قلت: قد يكون الشيطان وسوس لبعض الناس أن يشير على النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه إذا قرأ آيات النجم ينبغي أن يخبرهم بكلماتِ يثني بها على الملائكة حتى لا يتوهَّم المشركون أنه يشتم الملائكة فرأى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنه ليس في ذلك محذور فقاله، واغتنم الشيطان ذلك فوسوس للمشركين أن يحملوا تلك الكلمات على خلاف ما أراد النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم. [317] وفي تفسير ابن جرير عن محمَّد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس ذكرا القصة إلى أن قال: فرضُوا بما تكلَّم به وقالوا: قد عرفنا أنَّ الله ¬

_ (¬1) فتح الباري 8/ 307. [المؤلف]

يحيي ويميت وهو الذي يخلق ويرزق ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده إذا جعلتَ لها نصيبًا فنحن معك (¬1). فالذي يظهر من هذه العبارة أنهم لم يفهموا من تلك الكلمات إلا ما أراده - صلى الله عليه وسلم - من الثناء على الملائكة، ولكنهم زعموا أن ذلك الثناء يدل على جواز اتِّخاذ الملائكة آلهة. بقي أن يقال: الآثار المذكورة كلها تصرِّح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال تلك الكلمات عقب قراءته: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى}، فكيف تحمل تلك الكلمات على أنها ثناء على الملائكة؟ فدونك الحقيقة الآن: اعلم أنَّ شأن العرب كشأن قوم نوح وغيرهم جعلوا الأوثان تماثيل وتذكارات للأشخاص الغيبيَّة وسمَّوها بأسماء تلك الأشخاص على حسب ما مرّ في المقدمة الثانية، فلما زعموا أنَّ هناك إناثًا غيبيَّاتٍ هنَّ بنات [318] الله اختلقوا لها أسماء هي اللات والعُزَّى ومناة، اشتقُّوها من اسمه وصفاته كما تقدَّم، ثم أطلقوا على التذكار الذي جعلوه للَّات اسمَ اللاَّت، وهكذا. فَلِمُسمَّيات هذه الأسماء ثلاثة وجوه: الأول: أن يُحكم عليها باعتبار أنها من الملائكة نظرًا إلى أنَّ المشركين إنما قصدوا وضع هذه الأسماء للملائكة وإن أخطؤوا في الصفات، وقد تقدَّمت الآيات الكثيرة في أنهم يعبدون الملائكة مع أنهم إنما كانوا يعبدونهم بصفة أنهم بنات الله. ¬

_ (¬1) 17/ 117. [المؤلف]

الثاني: أن يُحكم عليها باعتبار أنها أشخاص متصفة بما يزعمه المشركون، فيُحكم عليها بالعدم؛ إذ ليس في الوجود بنات لله. الثالث: أن يُحكم عليها باعتبار أنَّ الشياطين اعترضوا هذه الأسماء فسمَّوا بها إناثهم كما تقدَّم، فيُحكم عليها بأنها من الشياطين. وهذا كما لو كان في قصر من القصور خادم للملك يتصرَّف في القصر بإذن الملك وفيها (¬1) حجَّام له بنت، فقيل لجماعة من الناس: إنَّ الشخص الذي يتصرَّف في هذه الدار هو بنت الملك، فسمُّوها وعظِّموها فقالوا: نسميها عزَّة، وأخذوا يبعثون التحف التي لا تصلح إلا للملوك إلى ذلك القصر قائلين: هذا لعَزَّة بنت الملك، فإذا قيل ذلك للخادم قال: ليست هذه التحف لي لأني لستُ أنثى، وليس الملِك أبي، وإنما أنا رجل من خَدمه ولا يصلُح أن أُسمَّى عَزَّة ولا تليق به (¬2) هذه التحف وإنما كان عليهم أن يبعثوها إلى سيِّدي الملك فلست بقابل لتحفهم ولا ينبغي لي ذلك، فاعترض الحجَّام قائلاً: أنا أُسمي بنتي عَزَّة وآخذ هذه التحف، وألعب بهؤلاء الحمقى ومهما يكن يكن، ثم أخذ يتناول تلك التحف قائلاً: ليس في القصر أنثى يقال لها عزة غير ابنتي، وشمَّر في ترغيب الناس في الإتحاف. إذا عرفت هذا فيصحُّ أن يقول مَن يعرف الحقيقة: أيها القوم إنَّ عَزَّة لَمقرَّبة عند الملك وإنها لتشفع عنده إذا أذن لها ولكنها ليست أنثى ولا بنت الملك ولا تستحقُّ تحف الملوك، وإنما هي رجل مِن خدم الملك مطيع له، فأطلق هذا الرجل الناصح عَزَّة على ذلك الخادم الذكر وأنَّث الضمائر أوَّلاً، ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، وسيعبر عن القصر بالدار بعد قليل. (¬2) كذا في الأصل، والضمير يعود على الخادم.

كلُّ ذلك بناء على ما في أذهان أولئك القوم، ويصحُّ أن يقول لهم: عَزَّة معدومة لا يوجد إلاَّ اسمها، أي: لأنها فيما يحسبون بنتُ الملك وليس للملك بنت، ويصحُّ أن يقول لهم: إنما عَزَّة بنت الحجَّام. إذا تقرَّر هذا فالألفاظ التي رُويت في قصَّة الغرانيق إن صحَّت جارية على الاعتبار الأوَّل، وكان النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم إن كان قال ذلك رأى أنَّ قول الله تعالى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى} الآيات يؤدِّي معنى ما ذكرنا في المثال من قول الناصح: ولكنها ليست أنثى ولا بنت الملك إلخ، ولكنَّ الشيطان لعب بالمشركين فلم يُصغوا إلى هذه الآيات. وبهذا تنحلُّ جميع المشكلات في تفسير الآيات ويتمُّ الجواب عن قصَّة الغرانيق ويتجلَّى ما في هذه الآيات من حُسن السبك وبَدَاعة النظم كما سيأتي تمامه. ولله الحمد. قال تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} هذا بناءً على الاعتبار الثاني، فالنفي على ظاهره لأنه ليس في الوجود بنات لله تعالى ولا يوجد منها إلا الأسماء التي اختلقوها، وهذا كما لو سُئلت عن العنقاء، فقلت: لا يوجد منها إلا اسمها، بخلاف ما لو جُعل الكلام في الأصنام أنفسها فإنها موجودة فلا يصدُق عليها أنها ليست إلاَّ أسماء مع بقائه على ظاهره. وقوله تعالى: {أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى} [النجم: 24] قال البيضاوي وغيره (¬1): (أم) منقطعة ومعنى الهمزة فيها الإنكار، والمعنى: ليس له [319] كل ما ¬

_ (¬1) تفسير البيضاوي ص 698، وتفسير أبي السعود 8/ 159، وروح المعاني 27/ 58.

يتمناه، والمراد نفي طمعهم في شفاعة الآلهة. أقول: وإيضاحه أن المشركين ربما يقولون: إن لم يكن هناك إناث غيبيات هن بنات الله وهن الملائكة فإننا نعبد اللاَّت والعُزَّى ومناة قائلين: إنهن هنَّ الملائكة فنحن بعبادتهن عابدون للملائكة، والملائكة مقرَّبون عند الله تعالى اتفاقًا فيشفعون لنا بعبادتنا إياهم، ولا يضرُّنا الخطأ في وصفهم بأنهم إناث وأنهم بنات الله، فردّ الله تعالى عليهم بأنَّ هذا تمنٍّ منهم وليس للإنسان ما يتمنَّى. وقوله تعالى: {فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25)} جواب والله أعلم عما يمكن أن يقوله المشركون وهو: ليس للإنسان كلُّ ما يتمنَّاه ولكن قد يحصل له بعضُ ما يتمناه، فكأنه قال: ولكن تمنِّيكم الشفاعة من الملائكة لا يحصل لكم منه شيء لأنه ليس للملائكة من الأمر شيء لا في الآخرة ولا في الأولى. وقوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26)} فيه جواب - والله أعلم - عما يمكن أن يقوله المشركون، كأنهم يقولون: لا ريب أن لله الآخرة والأولى، ولكن الملائكة مقرَّبون عنده، فماذا شفعوا لأحد عنده [320] قبِل شفاعتهم، فكأنه تعالى قال: وكيف تغني شفاعتهم إن شفعوا بدون إذنٍ منه تعالى لهم، ولا رضًا بشفاعتهم؟ أي: وما الذي يضطرُّه عزَّ وجلَّ إلى قَبول شفاعتهم فيما لا يرضى وهم عبيده ومملوكون له، وبفضله ومَنِّه حصل لهم القرب منه، وهو الغنيُّ عنهم وعن غيرهم؟

وفي قوله: {إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ} إشارة إلى أنَّ الشفاعة عند الله تحتاج إلى الإذن، فيُفهم من هذا أنَّ الملائكة لا يشفعون بدون إذنه أصلاً لما عُلم من خوفهم من ربكم (¬1) عَزَّ وَجَلَّ وإجلالهم له، وقد صرَّح بهذا في آية الكرسي وغيرها. ثمَّ قال عزَّ وجلَّ: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27)} هذا صريح فيما قدَّمناه أنَّ اللات والعزى ومناة أسماء سمَّى بها المشركون الإناثَ الخياليَّات اللاتي يزعمون أنها الملائكة، وقد تمحَّل المفسِّرون لتأويل هذه الآية فقالوا: يعني قولهم: بنات، وهذا كما تراه. فإنه لو قيل لك: فلان يسمِّي أبناءه تسمية الإناث لما فهمتَ إلاَّ أنه يضع لهم الأسماء المختصة بالإناث كأن يُسمِّي أحدهم سُعدى [321] والآخر ليلى، ونحو ذلك. وكأنه لعلم الله عزَّ وجلَّ ما سيقع في الآيات السابقة من الاشتباه أوضح المراد بهذه الآية، ولله الحمد. وفيما تقدَّم وبَّخهم بجعْلهم لأنفسهم الذكور وجعْلهم له الأنثى، ثم دفع شبههم في الشفاعة لأنها مقصودهم الأعظم وعليها يبنون شركهم، ثم وبَّخهم على تسمية الملائكة بأسماء الإناث. ولعله بقي شيء من لطائف هذه الآيات أدعه الآن لغيري. ولكلِّ متدبِّر في القرآن رزق مقسوم، ولا يخيب من اجتناء ثمراته إلا المحروم، نسأل الله ألاَّ يحرمنا من فوائده بفضله وكرمه. ¬

_ (¬1) كذا في الأصل.

عبادة الشياطين

هذا، واعلم أني لم أستوعب الآيات القرآنية في عبادة الملائكة بل بقي منها كثير، وقد علمتَ أن عبادة الملائكة هي أصل شرك العرب كما قاله البيضاوي وغيره (¬1)، والآيات الصريحة في الملائكة أكثر من الآيات الصريحة في غيرهم، وعلى هذا فكلُّ آية محتملة أن تكون في الملائكة أو في غيرهم يتعيَّن حملُها على الملائكة حملًا على ما هو الأصل والغالب، والله أعلم. [322] عبادة الشياطين قال الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [النساء: 116 - 120]. وقال عزَّ وجلَّ: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ ... وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94) إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى ... وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ ¬

_ (¬1) تفسير البيضاوي ص 571 عند الآية 40 من سورة سبأ, ولفظه: "ولأن عبادتهم مبدأ الشرك وأصله"، وانظر: تفسير أبي السعود 7/ 137، وروح المعاني 22/ 151.

بِغَيْرِ عِلْمٍ ... وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ... فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ [323] اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) [....] (¬1) وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 93 - 121]. أخرج ابن جرير عن السُّدِّيِّ: أما أن قوله: {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ} فإن المشركين كانوا يزعمون أنهم كانوا يعبدون الآلهة لأنهم شفعاء لهم، يشفعون لهم عند الله تعالى، وأن هذه الآلهة شركاء لله. وأخرج عن عكرمة قال: قال النضر بن الحارث: سوف تشفع لي اللات والعزى (¬2). أقول: قد علمت أنَّ القوم كانوا يعبدون الإناث الخياليَّات التي يزعمون أنها بنات الله وأنها هي الملائكة ويسمُّونها اللات والعزى ومناة، ويزعمون أنها تشفع لهم، وهذه الآيات إلى قوله: {مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} تتعلَّق بذلك. وأما قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ} فقال ابن جرير: "فتأويل [324] الكلام إذًا (¬3) وجعلوا لله الجن شركاء في عبادتهم إياه" (¬4). ¬

_ (¬1) لم يضع الشيخ هنا نقاطًا مع أنه ترك آيتين لم ينقلهما. (¬2) 7/ 170. [المؤلف] (¬3) في الأصل: "مرادًا"، والتصحيح من الطبعات الأخرى للتفسير. (¬4) 7/ 181. [المؤلف]

أقول: وقد مرّ في الفصلين السابقين ما يفيدك هنا، وحاصله: أن القرآن يذكر عبادتهم الإناث الخياليات أو عبادتهم الملائكة ثم يحكم بأنها عبادةٌ للشياطين، وقد مرّ شيءٌ في تفسير ذلك وسيأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى. وأما قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} فقد قيل: إن المسلمين كانوا يسبون الأصنام وأن الأصنام هي المراد بقوله: {الَّذِينَ يَدْعُونَ}. وفيه نظر لما يأتي تحقيقه أن المشركين لم يكونوا يدعون الأصنام أنفسها، وعليه فالصواب أن يكون المراد الإناث الخياليات أو الشياطين، ولا يجوز حملها على الملائكة أنفسهم؛ لأنَّ سبَّ الملائكة ممنوع مطلقًا، ولم يكن المسلمون ليسُبُّوا الملائكة. وأما قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ... وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ...} فأخرج [325] ابن جرير آثارًا كثيرة منها: حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال؛ حدثنا سعيد عن قتادة قوله: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} الآية، يعني: عدو الله إبليس أوحى إلى أوليائه من أهل الضلالة فقال لهم: خاصموا أصحاب محمَّد في الميتة فقولوا لهم: أما ما ذبحتم وقتلتم فتأكلون، وأما ما قتل الله فلا تأكلون، وأنتم تزعمون أنكم تتبعون أمر الله، فأنزل الله على نبيه: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} وإنا والله ما نعلمه كان شركٌ قط إلا بإحدى ثلاث: أن يدعي (¬1) مع الله إلها آخر، أو يسجد لغير الله، أو يُسمِّي الذبائح لغير ¬

_ (¬1) في ط هجر وط شاكر: أن يدعو، وهو الأنسب.

الله" (¬1). وأخرج عن السُّدِّيِّ: "وإن أطعتموهم فأكلتم الميتة، وأما قوله: {إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} يعني إنكم إذًا مثلهم، إذ كان هؤلاء يأكلون الميتة استحلالاً فإذا أنتم أكلتموها كذلك فقد صرتم مثلهم مشركين" (¬2). أقول: وإيضاح ذلك أن الشياطين وسوسوا إلى أوليائهم أن يجادلوا المؤمنين بتلك الشبهة، أي: إنكم تأكلون ما قتلتموه بأيديكم أو قتله الصقر أو الكلب، ولا تأكلون مما قتله الله تعالى. ومن شأن هذه الشبهة إذا أثرت في إنسان فإما أن يمتنع [326] من أكل ما ذكَّاه بيده أو بصقره أو بكلبه وسمَّى الله عليه قائلاً: إذا حرم عليَّ ما قتله فَلَأَنْ يحرم عليَّ ما قتلته بيدي أو بصقري أو بكلبي أولى، وإما أن يأكل الميتة قائلاً: إذا حلَّ لي ما قتلته بيدي أو بصقري أو بكلبي فلأن يحلَّ لي ما قتله الله أولى، فبيَّن الله عَزَّ وَجَلَّ أنَّ كلا الأمرين شرك منافٍ للإيمان بالله تعالى, لأن كلاًّ منهما تديُّنٌ بما شرعه الشيطان، وذلك عبادةٌ للشيطان، كما يأتي تحقيقه في موضعه إن شاء الله تعالى. وقال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ..} [الأنعام: 151] ذكر ابن هشام في فصل (لا) من المغني (¬3)، أنَّ (لا) في هذه الآية تحتمل وجوهًا، ومنها: ما حكاه عن الزَّجَّاج، وهو: "أن يكون الأصل: "أبيِّن لكم ذلك لئلا تشركوا"، وذلك لأنهم إذا حرَّم عليهم ¬

_ (¬1) 8/ 13. [المؤلف] (¬2) 8/ 15. [المؤلف] (¬3) 1/ 250، وانظر: معاني القرآن للزجاج 2/ 303 - 304.

رؤساؤهم ما أحلَّه الله سبحانه وتعالى فأطاعوهم أشركوا لأنهم جعلوا غير الله بمنزلته". وقال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) ... فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ ... وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} [النحل: 98 - 116]. [327] قال ابن جرير: "يقول: إنما حجته على الذين يعبدونه والذين هم به مشركون"، وأخرج عن الربيع خبرًا فيه: اتَّخذوه وليًّا وأشركوه في أعمالهم. وأخرج عن قتادة قوله: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} يقول: الذين يطيعونه ويعبدونه. ثم قال: "وأما قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} فإنَّ أهل التأويل اختلفوا في تأويله، فقال بعضهم فيه بما قلناه: إنَّ معناه: الذين هم بالله مشركون". ثم أخرج عن مجاهد قوله {وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} قال: يعدلون برب العالمين. وعن الضحَّاك: عدلوا إبليس بربهم؛ فإنهم بالله مشركون. ثم قال: "وقال آخرون: معنى ذلك {وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} أشركوا

الشيطان في أعمالهم". ثم أخرج عن الربيع قال: أشركوه في أعمالهم. ثم قال: "والقول الأول - أعني قول مجاهد - أولى القولين في ذلك بالصواب، وذلك أن الذين يتولَّون الشيطان إنما يشركونه بالله في عبادتهم وذبائحهم ومطاعمهم ومشاربهم لا أنهم يشركون بالشيطان، ولو كان معنى الكلام ما قاله الربيع لكان التنزيل: (الذين هم مشركوه) [328] إلا أن يوجِّه موجِّه معنى الكلام إلى أن القوم كانوا يدينون بألوهيَّة الشيطان ويشركون بالله به (¬1) في عبادتهم إياه" (¬2). ثم أيَّد ما اختاره أوَّلاً بما حاصله: أنَّ المتكرر في القرآن ذِكْرُ إشراك غير الله بالله وليس فيه ذكر إشراك الله بغيره. أقول: وأقوى من هذا أنَّ المفهوم من الآية {وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} ذمُّ الإشراك، ومعنى الإشراك باللهِ عبادة غيره معه، وعلى هذا فيكون معنى الإشراك بالشيطان عبادة غيره معه، وعبادة غير الشيطان معه لا تكون موردًا للذَّمِّ ولا سيما إذا قلنا: المراد عبادة الله تعالى مع الشيطان، ولكن حمل الآية على ما اختاره ابن جرير بعيد من جهة بُعد مرجع الضمير ومخالفة الضمائر التي قبله. ويظهر لي أن معنى الآية هكذا: إنما سلطان الشيطان على الذين يتولَّونه بأن يعبدوه وحده، وعلى الذين هم بالشيطان مشركون [329] بأن يعبدوا غيره ¬

_ (¬1) الصواب: (ويشركون الله به) بحذف الباء منه [المؤلف]. (¬2) 14/ 107 - 108. [المؤلف]

معه. ويجاب عما أورده ابن جرير من أنه لا نظير لذلك في القرآن بأنه ليس في القرآن آية تشبه هذه فيما أريد منها من التفصيل، وعما أوردته أنا بأنَّ مورد الذَّمِّ هو الإشراك باعتبار ما يستلزمه من عبادة الشيطان، فتدبَّر. وفي "لسان العرب" (¬1): "وقال أبو العباس في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} معناه: الذين هم صاروا مشركين بطاعتهم للشيطان، وليس المعنى أنهم آمنوا بالله وأشركوا بالشيطان، ولكن عبدوا الله وعبدوا معه الشيطان فصاروا بذلك مشركين، ليس أنهم أشركوا بالشيطان وآمنوا بالله وحده. رواه عنه أبو عمر الزاهد قال: وعرضه على المبرد، فقال: مُتْلَئِبٌّ (¬2) صحيح". أقول: أبو العباس هو ثعلب، وكأنه أراد أن الباء في الآية للسببيَّة، وليست هي التي يعدَّى بها الإشراك في نحو قولنا: لا تشركْ بالله، وهذا قول حسن لسلامته مما اعتُرِض به على القولين الأوَّلين، ويؤيِّده أنَّني لم أر الشرك يُعدَّى بالباء إلا في الشرك [330] بالله. فأما قول الشاعر (¬3): شِرْكًا بِمَاءِ الذَّوْبِ يَجْمَعُهُ ... في طَوْدِ أَيْمَنَ في قُرَى قَسْرِ ¬

_ (¬1) 10/ 449 - 450، والنصُّ في تهذيب اللغة للأزهري، 10/ 14 مادة (شرك). (¬2) اتلأبَّ الأمر اتْلئْبابًا: استقام وانتصب. القاموس المحيط: 79. (¬3) هو المسيَّب بن عَلَس بن عمرو بن قمامة بن زيد، واسم المسيَّب زهير، وإنما سُمِّى المسيَّبَ حين أوعد بني عامر بن ذهل فقالت بنو ضبيعة: قد سيَّبناك والقومَ، وهو خالُ الأعشى. انظر: طبقات فحول الشعراء للجمحي 1/ 156.

فمعناه: شركًا في ماء الذوب، والشرك فيه بمعنى الشريك (¬1). وكذلك الإشراك، لم أر في كلامهم: أشركت فلانا بفلان، بمعنى: جعلته شريكا له، فكأن الشرك بالله والإشراك به ضمَّنا معنى الكفر فعدِّيا بما يعدَّى به، ولا يظهر معنى لأن يضمّن الإشراك مع الشيطان الكفرَ بالشيطان. ثم رأيت الشيخ عز الدين بن عبد السلام قال في "كتاب الإشارة والإيجاز إلى أنواع المجاز": "الفصل الثاني والأربعون في مجاز التضمين: .... وله أمثلة: أحدها: قوله {لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ} ضُمِّن {لَا تُشْرِكْ} معنى: لا تعدل، والعدل لتسوية، أي لا تسوِّ بالله شيئا في العبادة والمحبة، فإنهم عبدوا الأصنام كعبادته وأحبوها كحبه، ولذلك قالوا في النار: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97 - 98]. وما سوَّوهم به إلا في العبادة والمحبة دون أوصاف الكمال ونعوت الجلال" (¬2). فإن قيل: فلماذا لا تكون الباء للمصاحبة؟ قلت: قولهم: إن باء المصاحبة بمعنى (مع) فيه تسامحٌ ما فإن بينهما فرقًا ما، وذلك أن (مع) تشعر بأن ما بعدها متبوع، تقول: ذهب الطفل مع أمه، أو ذهبت المرأة ومعها طفلها، أو طفلها معها؛ فإن قلت: ذهبت المرأة مع طفلها, لم يحسن إلا إذا كان ذهاب الطفل هو المقصود، وذهاب الأم تبع له، تدبّر. والباء بعكس ذلك أعنى أن ما بعدها هو التابع، تقول: ذهبت المرأة بطفلها، أي ذهبت هي وذهب تبعا لها. قال تعالى: {وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ ¬

_ (¬1) انظر شرح القاموس مادة (ش ر ك). [المؤلف] (¬2) الإشارة ص 54 - 55. [المؤلف]

وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ} [المائدة: 61] والكفر تبع لهم في الدخول والخروج، ولا [331] يحسن أن يقال: دخل الكفر بهم وخرج بهم، على أن تكون الباء للمصاحبة، ولو كان بدل الباء (مع) لكان وجه الكلام: دخل الكفر معهم وخرج معهم. فتدبَّر فإنه لا يخلو عن دقَّة. إذا عرفت ذلك فالأصل في العبادة أن تكون لله عزَّ وجلَّ، والمشركون يشركون معه غيره كأنهم تبع، فيحسن أن يقال: أشركوا غيره معه، ولا يحسن أن يقال: أشركوه مع غيره. فلو كانت الباء التي تجيء مع الإشراك للمصاحبة لكان حق الكلام أن يقال: لا تشرك الله بغيره. فإن قلت: فعلى ما اختاره ابن جرير وما قاله ثعلب، لا يكون في الآية ذكر لعبادة الشيطان، وأنت إنما أوردتها شاهدًا على ذلك. قلت: ولكن في النقول التي سردناها ما يحصل به المقصود من أن المشركين كانوا يعبدون الشيطان، ويُعلم ذلك من قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} فإنَّ تقديم المفعول يفيد الحصر كما في {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}، فالمفهوم حينئذ: أنَّ مَن لم يفعل ما أُمر به فقد عبد غير الله تعالى، والمعنى أنه عبد الشيطان على ما تقدَّم في آيات الأنعام. [332] وقال الله تبارك وتعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50) مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا} [الكهف: 50 - 52].

قال البيضاوي: " {نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} أنهم شركاني أو شفعاؤكم ليمنعوكم من عذابي، وإضافة الشركاء على زعمهم للتوبيخ، والمراد ما عُبد من دونه. وقيل: إبليس وذريته" (¬1). وقال سبحانه: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ ... يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم 41 - 46]. قال أبو السعود: "يا أبت لا تعبد الشيطان فإن عبادتك [333] الأصنامَ عبادةٌ له إذ هو الذي يسوِّلها لك ويغريك عليها" (¬2). قال تبارك وتعالى: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97) إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء: 97 - 103]. ¬

_ (¬1) هامش حواشي الشيخ زاده 2/ 260. [المؤلف] (¬2) تفسير أبي السعود 2/ 107. [المؤلف]

أخرج ابن جرير عن ابن إسحاق قال: جلس النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني يومًا مع الوليد بن المغيرة ... فقال عبد الله بن الزبعرى ... : أما والله لو وجدته لخصمته فسلوا محمدًا: أكلُّ مَن عُبد من دون الله في جهنم مع مَن عبده؟ فنحن نعبد الملائكة واليهود تعبد عزيرًا والنصارى تعبد المسيح، فذُكر ذلك لرسول الله [334]- صلى الله عليه وسلم - من قول ابن الزبعرى، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نعم، كلُّ مَن أحبَّ أن يُعبد من دون الله فهو مع مَن عبده، إنما يعبدون الشياطين ومَن أمرهم بعبادته، فأنزل الله تعالى فيما ذكروا أنهم يعبدون الملائكة وأنها بنات الله: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} الآيات إلى قوله: {نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 26 - 29] (¬1). أقول: ما تضمَّنه هذا الحديث هو الصواب في تفسير الآية، فأمَّا من قال: المراد الأصنامُ فلم يصنع شيئًا؛ لأنَّ كلمة (ما) وإن قيل: إنَّ الأكثر أن تكون لما لا يعقل، يعارضها هنا قوله: {لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ} [الأنبياء: 99 - 100]. أولاً: لأن هذه الألفاظ ألفاظ العقلاء. وثانيًا: الأصنام جماد ولا ذنب لها فكيف تكون خالدة في النار لها زفير، وذلك عذاب قطعًا. وثالثًا: الكفار يعلمون أن الأصنام جمادات لا حياة لها، وإنما يعظمونها ¬

_ (¬1) 17/ 68 - 69. [المؤلف]. وانظر: سيرة ابن هشام 2/ 8 - 9. والحديث سبق تخريجه من طرقٍ عن ابن عباس، راجع: ص 410.

تعظيمًا لمن هي تماثيل أو تذكارات لهم، فإلقاء الأصنام في النار لا تظهر منافاته للإلهية التي زعموها لها. [335] وأما من قال: لفظ (ما) عامٌّ يشمل الشياطين والأحبار والرهبان وغيرهم ممن عبد من دون الله، واستثني من ذلك الملائكة والمسيح ونحوهم بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101] فهذا قول ضعيف: أوَّلاً: لأنَّ اللفظ ليس بلفظ الاستثناء. ثانيًا: إن في سياق ذلك قوله: {وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ ... وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ} , فهذا يدل أنهم غير الملائكة. وثالثًا: ما رُوي أن قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} متأخِّر النزول. فالحقُّ ما تضمنه الحديث أن المراد بكلمة (ما) الشياطين؛ لأنَّ الكلام مع قريش فلم يدخل عيسى ونحوه ممن عبده اليهود والنصارى وغيرهم من الأمم غير العرب. والعرب وإن كانت تزعم أنها تعبد الملائكة، فهي في الحقيقة إنما كانت تعبد إناثًا متوهَّمة تزعم أنها بنات الله وأنها الملائكة، وتلك الإناث ليست في الحقيقة الملائكة. وإلى هذا أشار بقوله: "فأنزل الله فيما ذكروا أنهم يعبدون الملائكة وأنها بنات الله". فثبت بهذا أنَّ الأشخاص الغيبيَّة التي عبدها العرب ليست هي الملائكة [336] لأنها إناث والملائكة ليست كذلك، ولأنها بنات الله في زعمهم وليست الملائكة كذلك.

فعبادتهم في الحقيقة إنما هي عبادة للشياطين، أوَّلاً: لما تقدَّم مرارًا أنهم أطاعوا الشياطين الطاعة التي هي عبادة، وسيأتي تحقيقها إن شاء الله تعالى. ثانيًا: أن الشياطين أنفسهم تصدَّوا لهذه العبادة قائلين: إن هؤلاء يعبدون إناثًا غيبيات وليس هناك إناث غيبيات إلا من الشياطين، فعرَّضوا إناثهم لتلك العبادة، كما أشرنا إليه في الكلام على العُزَّى، وسيأتي له مزيد إن شاء الله تعالى. وقد صرَّح القرآن بما ذكر في قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ: 40 - 41] (¬1). وقد مرَّ الكلام عليها في أوائل فصل الملائكة. والله تبارك وتعالى أعلم. وقال سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى [337] وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} [الحج: 11 - 13]. وقد سبقت هذه الآيات في فصل الملائكة، ذكرنا هناك أن المراد بـ (مَن ضَره أقربُ من نفعه): أنه الشيطان، وأن الآية كنظائرها. ومنها قوله تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا} [النساء: 117]. ¬

_ (¬1) هكذا كتبها المؤلف برواية أبي عمرو، كما سبق في ص 567.

وقال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) .... وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا [338] فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98)} [الشعراء: 69 - 98]. فكلمة (ما) من قوله: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ} عامة في كل ما عبدوه من جماد وغيره، ولهذا استثنى من ذلك فقال: {إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} لأنهم كانوا يعبدون الله عَزَّ وَجَلَّ ويشركون معه غيره. وقال ابن جرير: "فتأويل الكلام: فكُبكِب هؤلاء الأنداد التي كانت تعبد من دون الله في الجحيم والغاوون. وذكر عن قتادة أنه كان يقول: الغاوون في هذا الموضع الشياطين. فتأويل الكلام على هذا القول الذي ذكرنا عن قتادة: فكُبكُب فيها الكفار الذين كانوا يعبدون من دون الله الأصنام والشياطين .... وقوله: {إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} يقول الغاوون للذين يعبدونهم من دون الله: تالله إن كنا لفي ذهاب [339] عن الحق حين نعدلكم برب العالمين فنعبدكم من دونه.

حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: {إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} قال: لتلك الآلهة" (¬1). وقال الشيخ عزُّ الدين بن عبد السَّلام: "وما سوَّوهم به إلاَّ في العبادة والمحبة دون أوصاف الكمال ونعوت الجلال" (¬2). أقول: أمَّا في العبادة فنعم، وأمَّا في المحبَّة فلا؛ لأنَّ المشركين لم يكونوا يحبُّون الشياطين. وقال سبحانه: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} [يس: 60 - 62]. وقال عزَّ وجلَّ: {بِسْمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) ... احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا [340] مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ ¬

_ (¬1) 19/ 50 - 51. [المؤلف]. والمراد أنهم وجَّهوا الخطاب لتلك الآلهة. (¬2) كتاب الإشارة ص 55. [المؤلف]

يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات: 1 - 35]. بدأ الله عَزَّ وَجَلَّ فأقسم بفِرَق الملائكة المُجِدِّين في طاعة ربهم عزَّ وجلَّ على أنه لا إله غيره. والأقسام القرآنية من قبيل الاستشهاد كأنَّه هنا يقول: إنَّ فِرق الملائكة مع ما تقوم به من الأعمال في طاعة الله عَزَّ وَجَلَّ مما يشهد على أنه لا إله إلاَّ الله. وهذا كما قال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ} [آل عمران: 18]. وفي ذلك أبلغ ردٍّ على المشركين الذين يقولون: إنَّ الملائكة تستحقُّ أن تتخذ آلهة. فقوله تعالى: {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} جواب القسم، كما هو الظاهر. وفيه احتمالٌ آخر سأذكره بعد إن شاء الله تعالى. وفي ذكره الكواكب إشارة إلى الرَّدِّ على من يعبدها، وهكذا في ذكره الشياطين. [341] وطردُها إشارة إلى تقبيح شأن مَن يعبدها. وقوله: {وَأَزْوَاجَهُمْ}: أخرج ابن جرير عن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه قال: ضرباءهم. وعن ابن عباس قال: نظراءهم. وأخرت نحوه عن أبي العالية وقتادة والسدي وابن زيد ومجاهد (¬1). وقوله: {وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ} أخرج ابن جرير عن قتادة قال: الأصنام (¬2). وقال الشيخ زاده (¬3) في حواشيه على "البيضاوي": وقال مقاتل: المراد ¬

_ (¬1) تفسير ابن جرير 19/ 519 - 520. (¬2) المصدر السابق 19/ 522. (¬3) كذا في الأصل بتعريف الشيخ، وهو في العجمية دون "ال".

بما يعبدون هو إبليس وجنوده. واحتجَّ بقوله تعالى: {أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} (¬1). أقول: والسياق ينصر قول مقاتل. وذهب جماعة إلى أنَّ المراد: وجميع ما كانوا يعبدون، ويخصُّ منهم الملائكة وعيسى ونحوهم. وأخرج ابن جرير عن قتادة قوله: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} قال: الإنس على الجن (¬2). أقول: وهذا وما بعده يؤيَّد قول مقاتل. وأخرج ابن جرير أيضًا عن مجاهد في قوله: {تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} قال: عن الحق، الكفار تقوله للشياطين. وأخرج نحوه عن قتادة والسدي وابن زيد (¬3). وهذه المحاورة تشبه ما ذكره الله تعالى بقوله: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ [342] وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم: 22]. ¬

_ (¬1) حواشي الشيخ زاده 3/ 151. [المؤلف] (¬2) تفسير ابن جرير 19/ 524. (¬3) 23/ 28 - 30. [المؤلف]

وقال عزَّ وجلَّ: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163) وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} [الصافات: 149 - 166]. [343] وقد سبق في أوائل الكلام على آيات النجم من فصل الملائكة أنَّ الوجه في معنى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} [الصافات: 158] أنه إلزامٌ من الله عزَّ وجلَّ للمشركين؛ فإنهم زعموا أنَّ إناثًا غيبيَّات هنَّ بناتُ الله - تعالى الله عما يقولون - وليس هناك إناث غيبيَّات قد سمع المشركون بوجودهن (¬1) إلاَّ من الجن فلزمهم أنهم جعلوا الجنَّيَّات بناتِ الله عزَّ وجلَّ، فهذا هو النسب. وقد مرَّ في أوائل فصل الملائكة قول قتادة في قوله عزَّ وجلَّ: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41)} (¬2) قال: يقول: أكثرهم بالجنِّ مصدِّقون يزعمون أنهم بنات الله، تعالى عما يقولون علوًّا كبيرًا. ¬

_ (¬1) المقصود من هذا القيد إخراج الحور العين. اهـ. [المؤلف]. (¬2) هكذا كتبها المؤلف برواية أبي عمرو، كما سبق.

وقوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158)} يريد والله أعلم: ولقد علم الجنُّ إنَّ عابديها لمحضرون العذاب. وقوله: {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} قال في الكشاف: استثناء منقطع من المحضَرين، معناه: ولكنَّ المخلصين ناجون. و {سُبْحَانَ اللَّهِ} اعتراض بين الاستثناء وبين ما وقع منه. ويجوز أن يقع الاستثناء عن الواو في: {يَصِفُونَ}، أي يصفه هؤلاء بذلك، [344] ولكنَّ المخلصين براءٌ من أن يصفوه به (¬1). أقول: والأوَّل هو المختار والموافق لنظائر هذه الآية من هذه السورة وغيرها. منها قوله تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ}. وفي روح المعاني: "قال الطيبي: ويحسن كل الحسن إذا فُسِّر الجِنَّة بالشياطين، أي وضمير (إنهم) بالكفرة، ليرجع معناه إلى قوله تعالى حكايةً عن اللعين: {لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 82 - 83] " (¬2). وقوله تعالى: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 161 - 163] تعليل - والله أعلم - لاستثناء المخلَصين. أي: فإنكم معشر المشركين أنتم والشياطين التي تعبدونها لا تفتنونهم أي المخلصين، وإنما تفتنون مَن سبق في علم الله تعالى أنه صال الجحيم، وليس المخلَصون كذلك. قال أبو السعود: " {وَمَا تَعْبُدُونَ} عبارةٌ عن الشَّياطينِ الذين أغوَوهم ... ¬

_ (¬1) الكشاف 2/ 272. [المؤلف] (¬2) روح المعاني 7/ 320. [المؤلف]

و {ما} نافيةٌ، و {أَنْتُمْ} خطابٌ لهم ولمعبوديهم، والمعنى: إنَّكم ومعبوديكم - أيُّها المشركونَ - لستُم بفاتنينَ" (¬1). وأما قوله تعالى: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166)} فحكاية عن الملائكة جزمًا, ولكن أشكل ارتباطه بما تقدَّم؛ فإنَّ تقدير نحو: (والملائكة يقولون) غيرُ هيِّنٍ؛ لأنَّ مثل ذلك لم تجرِ العادة بحذفه، كذا يُقال. [345] فإن لم تسلم دعوى الحذف فقد ظهر لي وجهٌ للربط فيه بُعْدٌ، ولكني أعرضه عليك لتعرفه: قال تعالى في أول السورة: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3)} وهذه كلُّها صفات الملائكة, وقوله تعالى بعد ذلك: {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) ...} تفصيلٌ لذلك الذِّكْر الذي يتلوه الملائكة، فكأنه قال: فالتاليات ذكرًا عظيمًا، هو: إنَّ إلهكم لواحد، فتكون (¬2) جملة: {إِنَّ إِلَهَكُمْ} إلخ خبر مبتدأ محذوف أو تكون الجملة بدلاً أو عطفَ بيان من {ذِكْرًا} مع احتمالاتٍ أُخَر لا حاجة لذكرها، ويكون جواب القسم محذوفًا, ولا بِدْع في حذفه. فالملائكة يتلون هذا الذكر، أي: {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) ... إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163)}، ويختمون ذلك بقولهم إخبارا عن أنفسهم: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166)}. وقد يستأنس لهذا الاحتمال بقولهم: {الصَّافُّونَ} مع قوله تعالى في وصفهم أول السورة: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا} والله أعلم. ¬

_ (¬1) تفسير أبي السعود 2/ 413. [المؤلف] (¬2) في الأصل بالياء، ولعله سبق قلم، وإن كان له وجه.

عبادة الهوى

[346] عبادة الهوى قال الله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 41 - 44]. وقال عزَّ وجلَّ: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23]. أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ}، قال: "ذلك الكافر، اتخذ دينه بغير هدى من الله ولا برهان" (¬1). وفي الكشاف: "فإن قلت: لِمَ أخر {هَوَاهُ}، والأصل قولك: اتخذ الهوى إلهًا؟ قلت: ما هو إلاَّ تقديم مفعوله الثاني على الأوَّل للعناية، كما تقول: علمت منطلقًا زيدًا؛ لفضل عنايتك [347] بالمنطلق". قال ابن المنيِّر في حواشيه: "وفيه نكتة حسنة، وهي إفادة الحصر؛ فإنَّ الكلام قبل دخول (أرأيت) مبتدأ وخبر، والمبتدأ (هواه) والخبر (إلهه) وتقديم الخبر كما علمت يفيد الحصر، فكأنه قال: أفرأيت من لم يتخذ معبوده إلا هواه" (¬2). ¬

_ (¬1) 25/ 83. [المؤلف] (¬2) الكشاف 2/ 111. [المؤلف]

وقال البيضاوي: " {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} بأن أطاعه وبنى عليه دينه، لا يسمع حجة ولا ينظر دليلاً، وإنما قدم المفعول الثاني للعناية به" (¬1). وقال في آية الجاثية: "وترك متابعة الهدى إلى مطاوعة الهوى؛ فكأنه يعبده" (¬2). ونحوه في تفسير أبي السعود (¬3). وقد قال أبو السعود في آية الفرقان: "أرأيت مَن جعل هواه إلهًا لنفسه من غير أن يلاحظه وبنى عليه أمر دينه معرضًا عن استماع الحجة الباهرة والبرهان النيِّر بالكلِّيَّة" (¬4). وقد أخرج الطبراني وأبو نعيم في الحلية عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما تحت ظلِّ السماء من إلهٍ يُعبَد من دون الله تعالى أعظم عند الله عَزَّ وَجَلَّ من هوىً يتَّبع" (¬5). ¬

_ (¬1) تفسير البيضاوي 481. (¬2) تفسير البيضاوي 662. (¬3) 2/ 494. [المؤلف] (¬4) تفسير أبي السعود 2/ 250. [المؤلف] (¬5) روح المعاني 6/ 155. [المؤلف]. والحديث أخرجه ابن أبي عاصمٍ في السنة، ذكر الأهواء المذمومة, 1/ 8، ح 3. وأبو يعلى، كما في المطالب العالية، 12/ 532، ح 2990. والطبراني في الكبير 8/ 122 - 123، ح 7502. وأبو نعيمٍ في الحلية, (ترجمة راشد بن سعد)، 6/ 118. وغيرهم. قال ابن الجوزيَّ: (هذا حديثٌ موضوعٌ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفيه جماعةٌ ضعافٌ، والحسن بن دينارٍ والخصيب [بن جحدرٍ] كذَّابان عند علماء النقل). الموضوعات 3/ 376، ح 1616. وقال الهيثميُّ: (وفيه الحسن بن دينارٍ، وهو متروك الحديث). مجمع الزوائد 1/ 447. وقال الألبانيُّ: (موضوعٌ). السلسلة الضعيفة 14/ 90، ح 6538.

النظر فيما كان يعتقده المشركون في آلهتهم ويعملونه

وقال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا [348] قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: 48 - 50]. قوله سبحانه: {وَمَنْ أَضَلُّ} استفهام إنكاري، معناه: لا أحد أضل، كما قاله المفسرون وغيرهم. وإذا لم يكن أحد أضل من هذا فهو مشرك لأنه لو لم يكن مشركًا لكان المشرك أضلَّ منه؛ لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48، 116]. النظر فيما كان يعتقده المشركون في آلهتهم ويعملونه تفسير عبادة الأصنام قد تقدَّم في الكلام على وجوب الوجود ثُمَّ في المقدمة الثانية [349] لتفسير آيات النجم من فصل الملائكة ما لا غنى بك عنه في هذا الباب فراجعه. وقد علمت أنَّ أوَّل مَن عبد الأصنام قومُ نوح، وقد تقدَّم أثر البخاري عن ابن عباس في أصل ذلك (¬1)، وفي معناه آثار أخرى، انظرها في الدُّرِّ المنثور أو في روح المعاني، وحاصلها: أنَّ ودًّا وسواعًا ويغوث ويعوق ونسرًا كانوا رجالاً صالحين؛ فلما ماتوا جعلت لهم تماثيل وسمِّيت ¬

_ (¬1) انظر: س 55/ ج.

بأسمائهم، وكان القصدُ من ذلك أن يُذكروا إذا رُئيت تماثيلهم فيذكر ما كانوا عليه من الخير والصلاح؛ فيكون ذلك أنشط لمن رآها أن يعبد الله عزَّ وجلَّ، كما أنَّ المسلم إذا قرأ سيرة بعض الصالحين أكسبه ذلك رقة في القلب ونشاطًا في العبادة وعمل الخير. وقد أخرج أبو الشيخ في العظمة عن محمَّد بن كعب القرظي أنه قال: "كان لآدم خمسة بنين: ودٌّ وسواع [إلخ] (¬1)، فكانوا عُبَّادًا، فمات رجل منهم، فحزنوا عليه حزنًا شديدًا، فجاءهم الشيطان، فقال: حزنتم على صاحبكم هذا؟ قالوا: نعم، قال: هل لكم أن أصور لكم مثله في قبلتكم إذا نظرتم إليه ذكرتموه؟ قالوا: نكره أن تجعل لنا في قبلتنا شيئًا نصلي إليه (¬2)، قال: [350] فأجعله في مؤخر المسجد، قالوا: نعم، فصوَّره لهم، حتى ماتوا (¬3) خمستهم، فصور صورهم في مؤخر المسجد، فنقصت الأشياء حتى تركوا عبادة الله تعالى وعبدوا هؤلاء" (¬4). فلم يكن المتقدمون يعتقدون في تلك التماثيل ولا يعملون أكثر من أن يتذكروا برؤيتها فيتذكروا ما كان عليه أولئك الصالحون فينشطوا لعبادة الله تعالى، وقد احتاطوا حيث لم يجعلوا التماثيل في مقدَّم المسجد، ولكن ما الذي طرأ في متأخِّريهم؟ أمَّا أن يعتقدوا أنها تخلق وترزق فقد مرَّ إبطاله. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين من روح المعاني، وقد سبق هذا النقل بهذه الزيادة في س 55/ أ. (¬2) في الأصل والمصدر المنقول منه: "عليه"، والتصحيح من العظمة. (¬3) في روح المعاني: مات. (¬4) روح المعاني 9/ 181. [المؤلف]. وانظر: الدرّ المنثور 8/ 294. وهو في كتاب العظمة، خلق آدم وحواء عليهما الصلاة والسلام، 5/ 1590 - 1591، ح 1054.

وقد قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا} [هود: 25 - 27]. وقال سبحانه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 23 - 24]. [351] فلولا أنَّ القوم كانوا يعترفون بالله عَزَّ وَجَلَّ لما حسُن أن يُخاطَبوا بهذا الخطاب. وأوضح من ذلك قولهم: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً} فإنَّ في هذا اعترافًا بوجود الله عَزَّ وَجَلَّ وقدرته واعترافًا بوجود الملائكة، وفي كلامهم إنكار أن يكون البشر رسولاً لله تعالى، فكيف يعتقدون فيه أو فيما هو دونه من الجماد أن يكون مثل الله في الخلق والرزق؟ ولو كانوا يزعمون هذا جهلاً أو عنادًا لاحتجَّ عليهم نوح بما ذكرناه؛ فإنه أقرب الحجج، ولو احتجَّ به لذكره الله عَزَّ وَجَلَّ في القرآن؛ لأنه سبحانه ذكر القصص في القرآن ليذكر ما فيها من حُجَجه وحُجَج أنبيائه عليهم السَّلام. فإن قلت: فإنَّ الألوهية أعظم من الرسالة، فكيف يستبعدون أن يكون البشر رسولاً لله تعالى ويزعمون أنه لا يتأهل للرسالة إلاَّ الملائكة وهم مع ذلك يؤلَّهون الحجارة والموتى؟ قلت: تفكَّرْ أنت في وجه ذلك، وسأذكره بعدُ إن شاء الله تعالى (¬1). ¬

_ (¬1) انظر ص 636 وص 701 - 702.

قوم هود وقوم صالح

والمتأخرون الذين بُعث فيهم نوح عليه السلام لِم كانوا يعظِّمون تلك التماثيل؟ أتعظيمًا لأصحابها أولئك الرجال الصالحين؟ أم عبادة لله عزَّ وجلَّ زاعمين أنه يرضى لهم ذلك وينفعهم به؟ [352] الأول هو الظاهر كما مرَّ في أوائل فصل الأصنام من دلالة قوله عزَّ وجلَّ: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا} على أنهم كانوا يعظِّمونها ويعظِّمون أصحابها، فراجعه، ولأنه سبيل عبادة الأوثان في كلِّ زمانٍ، وقد مرَّ بيان ذلك وشهادة المحقِّقين به، والله أعلم. قوم هود وقوم صالح لم يأت في القرآن ما يدلُّ أنه كانت لهم أصنام، ولكن أهل التواريخ يثبتون ذلك، فإن صح فإنها كانت تماثيل للأشخاص الغيبيِّين التي كانوا يعبدونها، كما سيأتي عند ذكر الأشخاص المتخيَّلة والملائكة إن شاء الله تعالى. قوم إبراهيم غالب ما جاء في القرآن في التصريح بعبادة الأصنام هو في قوم إبراهيم، حتى إنه ظهر لي أوَّلاً أنه لم يكن لهم تأويلٌ في عبادتهم أكثر من التقليد لآبائهم، ثم تبيَّن لي خلاف ذلك. فقد جاء في محاورة إبراهيم لقومه: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 75 - 77]. وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26)

[353] إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف: 26 - 27]. فالاستثناء في هاتين الآيتين يدلُّ على أنَّ القوم كانوا يعبدون الله تعالى ويعبدون غيره؛ إذ الأصل في الاستثناء الاتِّصال. وقال تعالى: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 63 - 68]، فقولهم: {مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ} مثل قول أهل المعاني: ما أنا فعلت هذا. وقد صرَّحوا أنه يفيد الحصر، فيُفهم من مقالهم: بل فعله غيري (¬1)، فكذا يُفهم من قول قوم إبراهيم - {مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ} -: بل الذي ينطق غيرهم. وهذه إشارة منهم - والله أعلم - إلى أشخاصٍ كانت الأصنام تماثيل لها بغير واسطة أو بواسطة على ما سيأتي. وقول إبراهيم: {أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66)} يتناول الأصنام والأشخاص التي أشاروا إليها، فتدبَّرْ. [354] وقال عزَّ وجلَّ: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعر اء: 69 - 74]. ¬

_ (¬1) انظر: الإيضاح في علوم البلاغة للقزويني ص 57.

قال ابن جرير: "وفي الكلام متروك استُغنِي بدلالة ما ذُكر عما تُرك، وذلك جوابهم إبراهيم عن مسألته إياهم: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73)} , فكان جوابهم إياه: لا، ما يسمعوننا إذا دعوناهم ولا ينفعوننا ولا يضرون، يدلُّ على أنهم بذلك أجابوه قولهم: {بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}، وذلك أنَّ (بل) رجوعٌ عن مجحود، كقول القائل: ما كان كذا، بل كذا وكذا، ومعنى قولهم: {وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}: وجدنا مَن قبلنا مِن آباءنا يعبدونها ويعكفون عليها لخدمتها وعبادتها، فنحن نفعل ذلك اقتداءً بهم واتباعًا لمناهجهم" (¬1). وقال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ [355] قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم: 41 - 46]. قال الشيخ زاده في حواشيه على تفسير البيضاوي: "وعبدة الأوثان وإن كانوا يعتذرون في عبادتها بأنها تماثيل الكواكب المدبرة لهذا العالم أو أنها تماثيل أشخاص معظَّمة عند الله يصلحون أن يكونوا شفعاء ونحو ذلك من الأعذار الفاسدة, فما ذكره إبراهيم عليه الصلاة والسلام في حق التماثيل بأنها لا تسمع ولا تبصر ولا تغني عن عابدها شيئًا من الإغناء لا يُبطل ¬

_ (¬1) 19/ 48. [المؤلف]

أعذارَهم بحسب الظاهر، إلا أنه عليه الصلاة والسلام احتجَّ عليهم بذلك بناءً على أنهم يزعمون أنَّ عبادتها تنفعهم وأنَّ طريقتهم مقبولة مستحسنة، فبيَّن لهم عليه الصلاة والسلام فسادَ زعمهم" (¬1). أقول: لا يخفى ما في هذا الجواب من الضعف. وعندي أجوبة أخر. [356] الأول: أن الأعذار التي ذكرها لا تدفع كون المشركين يعبدون الأصنام حقيقة، فإنه يقال لهم: لم تعبدون ما لا يسمع ولا يبصر ولا ينفع ولا يضر؟ فيقولون: نعبده تقربًا إلى أشخاص يسمعون ويبصرون وينفعون ويضرون، فيقال لهم: لنفوضْ أنَّ هناك أشخاصًا بهذه الصفة، ولكن هل أمروكم بعبادة الأصنام؟ فيقولون: لا, ولو كانوا أمرونا بذلك لما أطلقنا على الأصنام آلهة، ولا قلنا: إننا نعبدها، وهذا كما كان مشركو العرب يعظِّمون الكعبة والحجر الأسود نحوًا مما يعظِّمون الأصنام، بل من بعض الوجوه أشدَّ من تعظيم الأصنام كما يأتي، ولم يسمُّوا الكعبة إلهًا, ولا قالوا: إننا نعبدها، وإنما ذلك لأنهم كانوا يعظِّمونها طاعة لله عزَّ وجلَّ لما علموه مِن أمره بذلك بما بلَّغه خليله إبراهيم ورسوله إسماعيل وتواتر إليهم، بخلاف الأصنام وغيرها مما كانوا يعبدونه فإنهم يعلمون أنهم اخترعوه بأهوائهم، وسيأتي تحقيق هذا وتوجيهه إن شاء الله تعالى. [357] وعلى هذا فإنهم يقرُّون بأنهم اتَّخذوا الأصنام آلهة وعبدوها، وبهذا الاعتبار قد سوَّوها برب العالمين، فكيف يسوَّى برب العالمين ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عن عابده شيئًا؟ وأعذارهم في عبادة الأصنام لا تدفع هذا. ¬

_ (¬1) حواشي الشيخ زاده 2/ 286. [المؤلف]

الجواب الثاني: أن يقال: إنَّ في كلام إبراهيم إبطالاً لجميع أعذارهم. وبيان ذلك: أنَّ أباه إن اعتذر بأنَّ الأصنام تماثيل للكواكب فالكواكب أيضًا لا تسمع ولا تبصر ولا تغني شيئًا، وما فيها من المنافع الموجودة كالإضاءة ونحوها ليس باختياريٍّ منها، والناس في ذلك سواء، يستوي فيه مَن يعبدها ومَن يجحدها. فإن قال: لعلَّ للكواكب حياةً وتصرُّفًا، أو ذَكَر الروحانيين، قيل له: هذا كله تخرُّص بغير برهان، وقد نبَّه إبراهيم عليه السلام على هذا بقوله: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} [مريم: 43]. الثالث: أنه وقع إجمال في سورة مريم يبيِّنه ما في سورة الأنعام: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ [358] فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [74 - 82]. قدَّم هنا إنكاره على أبيه

المصريون في عهد يوسف عليه السلام

عبادة الأصنام، فكأنَّ أباه ذكر له علاقتها بالكواكب، فدعاه ذلك إلى النظر في الكواكب، فنظر فيها [359] وقال ما قال، ثم كأنَّهم - والله أعلم - ذكروا له شأن الروحانيِّين، وذلك قوله تعالى: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ}، فأجابهم بما ذكره الله تعالى، وسيأتي الكلام على هذه الآيات عند ذكر الكواكب (¬1) إن شاء الله تعالى. وأمّا ما ذكره الله تعالى من قول إبراهيم للأصنام: {أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92)}، وما روي أن القوم كانوا يقرِّبون لها الأطعمة فلا دلالة فيه على أنهم كانوا يقولون: إنها تأكل، وإنما كانوا يقربون لها الأطعمة ثم يأكلها سدنتها، كما هو المعروف من حال المشركين لهذا العهد. وقال إبراهيم ما قال استهزاءً بالأصنام وبمن يعبدها، وقال: {مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ}، وقد علم أن قومه يعرفون أنها لا تنطق كما قالوا هم أنفسهم: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ}، فكذلك قال: {أَلَا تَأْكُلُونَ} مع علمه أن قومه يعرفون أنها لا تأكل، والله أعلم. المصريُّون في عهد يوسف عليه السلام الذي يدل عليه القرآن أنهم كانوا يعبدون الروحانيِّين وينعتونهم بنعوت باطلة، وآثارهم الموجودة تدلُّ أنهم كانوا يعبدون الأصنام وغيرها. وبعض البحاثين [360] يعلِّل ذلك بأنهم إنما كانوا يعبدون المخلوقات على أنها مظاهر للباري عزَّ وجلَّ. وهذا الرأي مجمل، وسيأتي الكلام على ديانتهم ¬

_ (¬1) ص 675 فما بعدها.

المصريون في عهد موسى عليه السلام

عند ذكر الأشخاص المتخيَّلة إن شاء الله تعالى (¬1). فأما الأصنام فالظاهر أنها كانت عندهم تماثيل أو رموزًا للأشخاص المتخيلة، والله أعلم. المصريُّون في عهد موسى عليه السلام ذكر بعض المفسرين أنه كان لقوم فرعون أصنام يعبدونها معه، ذكروا ذلك في تفسير قوله تعالى: {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ}، وسيأتي تحقيق الحال في بيان تأليه الأناسي الأحياء إن شاء الله تعالى (¬2). بنو إسرائيل في قول الله عزَّ وجلَّ: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 138 - 140]. لا يخفى أنَّ القوم وإن بلغوا من الجهل أقصى غاياته لم يكونوا ليطلبوا من موسى أن يجعل لهم جمادًا من هذه الجمادات يكون هو واجب الوجود أو يكون خالقًا رازقًا، هذا ما لا سبيل إلى احتماله. [361] ولو كان الأمر كذلك لجاء في جواب موسى ما يدفع ذلك الظن، بل لا يبعد فيمن يجوِّز ذلك ألا يكون مكلَّفًا أصلاً. ¬

_ (¬1) ص 692 - 693. (¬2) لم يتكلم المؤلف عن الآية ولا عن قوم فرعون هناك، وإنما أحال الكلام على مبحث "تأليه الأشخاص المتخيلة".

العرب

فالظاهر أحد احتمالين: الأول: أن يكونوا أرادوا التقليد المحض، واستحسنوا تلك الأفعال الظاهرة مع قطع النظر عن المقصود منها وما فائدتها. والاحتمال الثاني: أن يكونوا أرادوا: اجعل لنا جمادًا يكون رمزًا لله عزَّ وجلَّ فنعظِّمه تعظيمًا لله عزَّ وجلَّ كما يعظِّم هؤلاء أصنامهم على أنها رموز للروحانيِّين، وقد يُشعر بهذا قولهم: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}، ولم يقولوا: اجعل لنا آلهة كما لهم آلهة، كأنهم قد علموا أن العبادة لا تكون إلا لله عزَّ وجلَّ، ولكن توهموا أن عبادة جماد من الجمادات على أنه رمز لله عزَّ وجلَّ وأنه إنما يعظم تعظيمًا لله عَزَّ وَجَلَّ لا ينافي التوحيد. وقد تقدم (¬1) حديث الإِمام أحمد وغيره، وفيه: فمررنا بسدرة، فقلت: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما للكفار ذات أنواط، كان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة ويعكفون حولها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الله أكبر! هذا كما قالت بنو [362] إسرائيل لموسى اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة". فلم يعتقد هذا القائل في السدرة شيئًا، ولكنه على أحد الاحتمالين السابقين، والله أعلم. العرب قد تقدَّم ما يتعلق بعبادتهم الأصنام عند سياق الآيات في ذلك، وفي المقدمة الثانية للكلام على آيات النجم، وعُلِم من ذلك أنهم إنما كانوا يعبدون الأصنام على أنها تماثيل للإناث الخياليات، أعني ما زعموه أنَّ لله بناتٍ وأنهنَّ هنَّ الملائكة، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا. ¬

_ (¬1) ص 49 - 50. [المؤلف]. ص 230.

فإن قيل: قد قدَّمتَ أنَّ اللاَّت والعُزَّى ومناة أسماء سمَّوا بها تلك الإناث ثم أطلقوا اسم اللاَّت على التمثال أو التذكار الذي جعلوه باسم اللاَّت وهكذا. وقد كان في أصنامهم ما يسمى باسمٍ مذكَّر، كهُبل ومناف وإساف، وهذه معروفة في أهل مكة، وأما بقية العرب فلهم أصنام كثيرة مسمَّاة بأسماء [363] مذكَّرة. قلت: لعلَّ تلك الأسماء ليست في الأصل أسماء للإناث الخياليات كاللَّات والعُزَّى ومناة، وإنما هي أسماء للأصنام أنفسها، فذكَّروا الاسم نظرًا لقولهم: صنم أو وثن أو تمثال أو حجر، وهذا لا ينافي أن يكونوا إنما يعبدونها على أنها تماثيل أو تذاكير للإناث الخياليَّات، ويجوز أن يكون الشيطان أوحى إليهم أنهم كما جعلوا تماثيل أو تذاكير للملائكة فالله عزَّ وجلَّ أولى بذلك، فجعلوا بعض تلك الأصنام رمزًا لله عَزَّ وَجَلَّ ولم يطلقوا عليها اسم الله عَزَّ وَجَلَّ تعظيمًا له أن يطلقوا اسمه على حجر. ومما يؤيِّد هذا في هُبل خاصة أنه لم يبلغنا أنهم سمَّوا عبد هُبل كما سمَّوا عبد اللاَّت وعبد العُزَّى، كأنهم استغنوا عن ذلك بتسميتهم عبد الله، والله أعلم. ويؤيِّد ذلك أيضًا في هُبل أنه كان عندهم أعلى من غيره، ولهذا قال أبو سفيان يوم أحد: "اعلُ هبل"، فخصَّه بالذكر في ذلك المقام، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه أن يجيبوه: "الله أعلى وأجلُّ". ويظهر أن هذا الجواب يتضمن إبطال هبل إذا كان وضع على أنه تمثال لله عزَّ وجلَّ، أي: إن الله عزَّ وجلَّ أعلى وأجل من أن يكون له تمثال من الحجر. وكأنه لهذا عدل أبو سفيان إلى قوله: "لنا العُزَّى ولا عُزَّى لكم". [364] كأنه يقول: لنا شفيع ولا شفيع

لكم. فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجيبوه: "الله مولانا ولا مولى لكم"، أي: إن الله تعالى مولانا وناصرنا ومعيننا، فلا حاجة بنا إلى الشفعاء، وأنتم لا ناصر لكم؛ لأنَّ تلك الإناث لا وجود لها, ولو فُرض وجودها فأنتم تعترفون أنه ليس لها من الأمر شيء وأنَّ الأمر كله لله عزَّ وجلَّ، {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 88 - 89]. وقصَّة أحد في صحيح البخاري (¬1). واتِّخاذ الأصنام على أنها تماثيل لله عَزَّ وَجَلَّ معروف بين أمم الشرك في الهند وغيره (¬2). والنصارى يقولون: إن الله - تبارك وتعالى عن قولهم - ثلاثة أقانيم: الأب والابن وروح القدس. ويجعلون للأب صورة ويسجدون لها، والأب عندهم هو ذات الله تعالى. أما ما يحكى عن المشركين أنهم كانوا ربما يسمعون كلامًا من الأصنام فلم أقف على أثر صحيح يثبت أن ذلك كان يقع، ولا أنهم كانوا يزعمون ذلك. وقد كان قوم إبراهيم أهلك الناس في شأن [365] الأصنام، بدليل أن غالب ما جاء في القرآن في عبادة الأصنام وارد فيهم، ومع ذلك فقد حكى الله عَزَّ وَجَلَّ عنهم قولهم لإبراهيم: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ}، واعترافهم بأن الأصنام لا تنفع ولا تضر ولا تسمع، كما تقدَّم ذلك (¬3) في ¬

_ (¬1) كتاب المغازي، باب غزوة أحدٍ، 5/ 94، ح 4043. (¬2) كذا في الأصل على إرادة البلد. (¬3) ص 354. [المؤلف]. ص 622.

الكلام على قوله تعالى حكاية عن خليله عليه السلام: {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74)}. ومثل هذه الحكايات شائعة بين جهلة الوثنيين في الهند، وعقلاؤهم ينكرونها. وذكر البيروني في كتابه "تحقيق ما للهند من مقوله مقبولة في العقل أو مرذوله" (¬1) أنَّ البراهمة كتبوا إلى أرسطو أنه بلغهم أن اليونانيين يزعمون أن الأصنام تكلِّمهم، فأجابهم أرسطو أنه لا يعلم بذلك. وقد تقدَّمت عبارة البيروني (¬2). والذي يزعم ذلك من الوثنيين يوجِّهونه بأنَّ الروحاني الذي جُعل الصنم تمثالاً له قد يتقمَّص ذلك الصنم ويتكلَّم منه، وليسوا يزعمون أنَّ الصنم نفسه يتكلَّم. والموحِّدون يحملون ذلك - على فرض صحته - بأنَّ الشيطان قد يدخل في جوف الصنم فيتكلَّم منه، وقد [366] علمت مما تقدَّم في الكلام على اللات والعزى ومناة أنَّ الشياطين يرون أنه ليس في الوجود إناث غيبيات إلاَّ من الشياطين، فادَّعوا أنَّ المشركين إنما يعبدون إناثًا من الشياطين. فأما الأعمال الظاهرة التي يفعلها عُبَّاد الأصنام بها، فمنها: العكوف عليها. جاء في القرآن في قوم إبراهيم: {فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ}، وفي القوم الذين مر عليهم بنو إسرائيل: {فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138]، وفي الحديث ¬

_ (¬1) ص 95. (¬2) ملحق ص 91. [المؤلف]، وصواب الرقم 291. وهو في طبعتنا ص 566.

في ذات أنواط: "كان الكفار ينوطون أسلحتهم بها ويعكفون حولها" (¬1). ومنها: تقريب الزاد لها. يُفهم من قول إبراهيم عليه السلام للأصنام: {أَلَا تَأْكُلُونَ}. ومنها: التمسُّح بها. جاء في حديثٍ في المستدرك عن زيد بن حارثة أنه كان يطوف مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بالبيت قبل النبوة، فمرَّ زيدٌ على بعض الأصنام فمسح بها، فنهاه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، ثم عاد فنهاه (¬2). وقال الحاكم: "صحيح على شرط مسلمٍ"، وأقرَّه الذهبيُّ (¬3). [367] ومنها: الذبح عندها. وَرَدَ أنَّ المشركين كانوا ينحرون عند مناة، وقد كان للعرب أنصاب يذبحون عليها ويرشُّون عليها الدَّم. قال الله تعالى: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3]. أخرج ابن جرير عن مجاهد قال: "حجارة كان يذبح عليها أهل الجاهلية". وعن ابن عباس قال: أنصاب كانوا يذبحون ويهلُّون عليها. وعن مجاهد قال: "كان حول الكعبة حجارة كان يذبح عليها أهل الجاهلية ويبدلونها إن شاؤوا بحجر هو أحبُّ إليهم منها" (¬4). وفي صحيح مسلم عن أبي ذر في قصة إسلامه ورجم المشركين له ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص 230. (¬2) هذا من معنى الحديث، وانظره في المستدرك، [كتاب معرفة الصحابة، ذِكْر قصة إسلام زيد بن حارثة ...]، 3/ 216 - 217. [المؤلف]. (¬3) انظر ما سبق في ص 119. (¬4) تفسير ابن جرير 7/ 42. [المؤلف]

بالحجارة: "فارتفعتُ حين ارتفعتُ كأني نُصُب أحمر" (¬1). يعني مما سال منه من الدماء. قال بعض أهل العلم: ولعلَّ ذبحهم عليها كان علامة لكونه لغير الله تعالى. أقول: وكانت من معالم دينهم، وكان ذبحُهم عليها عبادة، ولذلك كانوا يُقسمون بها وبما يُراق عليها من الدماء. قال المتلمِّس: أَطْرَدْتني حَذرَ الهجاء ولا ... والله والأنصاب لا تئل (¬2) وقال النابغة: فلا لعمر الذي مسَّحْت كعبته ... وما أريق على الأنصاب من جسد والجسد: الدم، كما في الصحاح (¬3). ومنها: تضميخها بالطيب. ذكره المفسرون في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج: 73]. ¬

_ (¬1) صحيح مسلمٍ، كتاب فضائل الصحابة, بابٌ من فضائل أبي ذرٍّ رضي الله عنه، 7/ 153، ح 2473. [المؤلف] (¬2) ديوان المتلمَّس 171. وفي الروايات الشائعة: واللات والأنصاب. انظر: الأصنام لابن الكلبي 16. (¬3) 2/ 456.

ومنها: [368] الدعاء. ورد ذكره في هذه الآية، وقد مرَّ الكلام عليها في سياق الآيات في الأصنام (¬1)، فراجعه. وجاء في قوم إبراهيم عليه السلام قوله عليه السلام لهم: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ ...} ما ينفي ذلك، أي ينفي سماعها وما معه، كما تقدم (¬2). وعليه فكأنهم إنما كانوا يدعون الروحانيين، ولكن الخليل بنى على الصورة الظاهرة من دعائهم عند الأصنام، حتى إذا أجابوا بما هو قصدهم اتبعهم ببيان بطلانه أيضًا، وهكذا حتى ينقطعوا، وكأنهم كانوا يدعون الأصنام تجوُّزًا، إما على حذف مضاف وإما بغيره، فإذا قالوا: (أيها الصنم انفعنا)، أرادوا: يا صاحب الصنم، يريدون الروحاني الذي جعلوه رمزًا له، أو كما يقول الخائف لطفل في المهد: أجرني، يريد أن يسمع ذلك أبوه فيجيره. ومثل هذا يقال في دعاء مشركي العرب للأصنام إن ثبت، والله أعلم. ومنها: الانحناء لها والسجود. وهذا معروف بين الوثنيين إلى زماننا هذا. فأما مشركو العرب فلم أجد نقلاً بذلك، بل هناك ما يدلُّ على أنهم لم يكونوا يسجدون للأصنام. وفي صحيح مسلم عن [369] أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال أبو ¬

_ (¬1) ص 208. [المؤلِّف]. ولم أقف على هذا الدفتر بعدُ، ولكن وجدت مُسوَّدته، انظر: ص 512 - 514 مبحث تعظيمهم للأصنام. (¬2) ص 354. [المؤلف]. ص 622.

جهل: هل يعفر محمَّد وجهه بين أظهركم؟ فقيل: نعم، فقال: واللات والعزى! لئن رأيته فعل ذلك لأطأن على رقبته، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - , زعم ليطأ على رقبته، فما فَجِئَهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه، فقيل له: ما لَك؟ فقال: إن بيني وبينه لخندقًا من نار وهولًا وأجنحة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوًا عضوًا" (¬1). يؤخذ من هذا الحديث أنهم كانوا ينكرون السجود، ولو كانوا يسجدون للأصنام لما أنكروا السجود لله عَزَّ وَجَلَّ؛ لأنهم لم يكونوا ينكرون أن يعبد الله تعالى، وإنما كانوا يشركون به، كما كانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك. وقد روي عن بعض أكابر قريش أنه كان يعترف بأن الإِسلام حقٌّ، ولكن كره أن تعلو استه رأسه، يعني السجود. رواه الإِمام أحمد من حديث أمير المؤمنين عليٍّ عليه السلام، ولفظه: عن حَبَّة العُرني، قال: رأيت عليًّا رضي الله عنه ضحك على المنبر، لم أره ضحك ضحكًا أكثر منه حتى بدت نواجذه، ثم قال: ذكرت [قول] (¬2) أبي طالب، ظهر علينا أبو طالب وأنا مع رسول الله صلَّى الله وآله وسلم، ونحن نصلي ببطن نخلة، فقال: ماذا تصنعان يا ابن أخي؟ فدعاه رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم إلى الإِسلام، فقال: ما بالذي تصنعان بأس، أو بالذي تقولان بأس، ولكن والله ¬

_ (¬1) صحيح مسلمٍ، كتاب صفة القيامة والجنَّة والنار، باب قوله: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)}، 8/ 130، ح 2797. [المؤلف] (¬2) ما بين المعقوفين سقط من المخطوط، واستدرك من نسخة المسند التي نقل عنها المؤلف.

عباد النار

لا تعلوني استي أبدًا! وضحك تعجُّبًا لقول أبيه ... (¬1). [370] وهذا أيضًا يدلُّ أنهم لم يكونوا يسجدون للأصنام. عُبَّاد النار قال الشهرستاني: "والمجوس إنما يعظِّمون النار لمعانٍ، منها: أنها جوهر شريف عُلْويٌّ. ومنها: أنها ما أحرقت إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام. ومنها: ظنهم أنَّ التعظيم ينجيهم في المعاد من عذاب النار. وبالجملة هي قبلة لهم ووسيلة وإشارة" (¬2). عجل السامري من الواضح بسياق الآيات أن القوم يعلمون أن العجل لم يكن شيئًا مذكورًا حتى ألقوا ما كان معهم من الحُليِّ فصاغ السامري منه العجلَ، فأنَّى يتسرَّب إلى أذهانهم أنَّ ذلك العجل هو الله الذي خلق العالم وخلقهم ويدبِّر العالم أجمع. هذا ما لا سبيل إليه، اللهم إلا أن يكون وسوس إليهم الشيطان [371] بأنَّ الله تبارك وتعالى حلَّ في ذلك العجل، تعالى الله عما يقولون. ولعل هذا أقرب إلى ظاهر الآيات من أن يقال: اتَّخذوا العجل على أنه رمزٌ لله عَزَّ وَجَلَّ وظنوا أنَّ عبادته تقرِّب إلى الله عَزَّ وَجَلَّ على نحو ما مرَّ في ¬

_ (¬1) المسند 1/ 99. [المؤلف]. وهو أيضًا في مسند الطيالسي 1/ 155، ح 184، ومسند البزَّار 2/ 319 - 320، ح 751. قال الهيثميُّ: "وإسناده حسنٌ". مجمع الزوائد 9/ 125. وقال الألبانيُّ: "ضعيفٌ جدًّا"، وتعقَّب الهيثميَّ في تحسينه, لأن في إسناده: يحيى بن سلمة بن كُهَيلٍ، وهو متروكٌ. انظر: السلسلة الضعيفة 9/ 147، ح 4139. (¬2) الملل والنحل 2/ 93. [المؤلف]

الأناسي الأحياء وأرواح الموتى

قولهم لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}. وعلى هذا المعنى الثاني فالمعنى في قولهم في العجل: {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} [طه: 88]: فنسي موسى أن يتخذه لكم لمَّا طلبتم منه ذلك بقولكم: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا}. وقولهم: {إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى} ربما يؤيد الثاني؛ إذ لم يقولوا: ربكم ورب موسى. وكذا قول هارون في نصحهم: {وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ} يأبى احتمال اعتقادهم الحلول؛ إذ لو اعتقدوه لما كان في ذلك ردٌّ عليهم؛ لأنهم يقولون: نعم، ربنا الرحمن، وهو حلَّ في هذا العجل. وكذلك قول موسى في توبيخهم: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ} فإنه قصر للألوهية على الله تعالى، أي: إن إلهكم الله لا غيره، فتدبَّرْ وتأمَّلْ. الأناسي الأحياء وأرواح الموتى قد تقدَّم الكلام على قوم نوح وأنهم كانوا يعبدون تماثيل أولئك الأشخاص الصالحين وأرواحهم، ولعلهم كانوا يعتقدون في أرواحهم قريبًا مما يعتقده عُبَّاد الملائكة في الملائكة على ما يأتي تفصيله إن شاء الله تعالى. ولكن استبعاد قوم نوح أن يكون البشر رسلاً، وقولهم: {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً} [المؤمنون: 24]. يدلُّ على أنَّ القوم لم يكونوا يرفعون أرواح الموتى إلى درجة الملائكة. وعلى كل حال فالظاهر أنهم كانوا يزعمون أنَّ أولئك الموتى يشفعون لمن يعبدهم، أو أنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ يثيب مَنْ يعبد أولئك الموتى لما كانوا عليه من الصلاح، والله أعلم.

[372] فأما فرعون فأخَّرنا البحث في شأنه إلى البحث في شرك أسلافه من المصريِّين، وسيرد ذلك في الكلام على تأليه الأشخاص المتخيَّلة إن شاء الله تعالى. وأما الذي حاجَّ إبراهيم في ربه فالمشهور أنه من قومه، وأنه كان ملِكَهم، وقوم إبراهيم كانوا يعبدون الأصنام والكواكب والروحانيين ويعترفون بوجود الله تعالى وربوبيته على ما مرَّ، وسيأتي بسطه في الكلام على عبادة الكواكب إن شاء الله. ومن البعيد أن يكون الملك يدَّعي الربوبية العظمى، أو أنه لا إله لرعيته إلا هو، ويكون رعيته كما سمعت. فأما قوله: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} فليس بنصٍّ في دعوى الإحياء والإماتة مطلقًا، بل يحتمل أنه إنما ادَّعى الإحياء الذي هو تخلية مَن يستحقُّ القتل والإماتة التي هي القتل، ويعيِّن هذا الاحتمال أمور: الأول: ما سمعت من ديانة قومه. الثاني: قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ}، فقوله: {أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} بيان لعلَّة محاجته لإبراهيم، والمُلْك إنما يكون علَّةً [373] لدعوى القدرة على تركه قتلَ مَن استحقَّ القتل وقتلِه مَن أراد قتلَه. الثالث: ما ورد في الآثار أنه برهن على دعواه بأنْ دعا رجلاً فقتله، ودعا آخر يستحقُّ القتل فأطلقه (¬1)، ولو كان إنما فعل هذا لإثبات أنه الذي يحيي ¬

_ (¬1) رُوِي هذا المعنى عن ابن عبَّاسٍ، وقتادة، والربيع بن أنسٍ، وابن جريجٍ. انظر: تفسير =

ويميت مطلقًا لأجابه إبراهيم عليه السلام بما يثبت أنَّ ما صنعه لا يدلُّ على دعواه، كأن يقول له: إن الإحياء يكون بالتوليد، والإماتة تكون بغير القتل، فإن كنت أنت فاعلَ ذلك فامنع رعيَّتك أنْ يُولد فيهم مولود وأن يموت منهم ميت شهرًا مثلاً، أو: أخبِرْنا كَمْ مولودًا وُلد وكَمْ ميتًا مات في مدينتك اليوم، وسمِّهم بأسمائهم ومواضعهم؛ فإنه لا يجوز أن تكون أنت فاعل ذلك وأنت تجهله، فكيف ترك إبراهيم عليه السلام هذا القبيل وانتقل إلى الشمس؟ فالذي يظهر لي أنَّ هذا الطاغية كلَّم الخليل عليه السلام في أن يطيعه، وقال له: إن أطعتني فأنا أطلقك، وإن أبيتَ قتلتُك، فأجابه الخليل عليه السلامِ بقوله: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ}، أي: إنك لا تقدر على قتلي ما لم يسلَّطك الله عليَّ، ولا على تركي حيًّا ما لم يكن الله عَزَّ وَجَلَّ [374] يريد ذلك، فجحد الطاغية ذلك، كأنه يقول: إني طيلة ملكي أقتل من أريد وأطلق من أريد، ولا مانع يمنعني عما أريد من ذلك، وها أنا الآن أدعو هذا المستحق للقتل فأطلقه، وأدعو هذا الآخر فأقتله. وليس هذا بدليل على إنكار الطاغية ربوبية الله عزَّ وجلَّ، بل يجوز أن يكون يزعم أن الله عَزَّ وَجَلَّ فوض أمر الرعيَّة إلى مَلِكهم يصنع فيهم ما أراد، فلم يكن للخليل عليه السلام في الجواب إلا طريقان: الأولى: أن يدعو الله عَزَّ وَجَلَّ فيميت الذي أطلقه الطاغية فورًا ويحول بينه وبين الذي أراد قتله. الطريق الثانية: أن يعدل إلى أمر لا تتناوله قدرة الخلق، ولعله إنما عدل عن الأولى لوجوه: ¬

_ = ابن جرير 4/ 571 - 576. الدرّ المنثور 2/ 25.

الأول: أنه يحتاج إلى إظهار خارق، وإنما يلجأ الأنبياء عليهم السلام إلى الخارق فيما لا يتيسر الاحتجاج عليه ببرهان عاديٍّ، كإثبات رسالتهم. ومن الحكمة في ذلك: بُعد البراهين العادَّية عن الشبهة. ومنها: أن استنباط الحجة أعظم أجرًا للأنبياء من حدوث الخارق. ومنها: أن في المحاجة بالحجج العادية إرشادًا لأتباع [375] الأنبياء ممن لا يظهر على يده الخارق، وغير ذلك. الوجه الثاني: أن الغالب أن الله عَزَّ وَجَلَّ إذا أظهر الخارق لقومٍ فلم يؤمنوا عقَّبه بالعذاب، ولم يكن الخليل عليه السلام يريد تعجيل العذاب رجاء أن تفيد المطاولة في القوم أو بعضهم أو يخرج من أصلابهم من يؤمن. الوجه الثالث: لعلَّ الخليل عليه السلام لم يكن حينئذ قد نُبِّئ، وإنما محاجته مع قومه ومع طاغيتهم بإيمانه الذي هداه له الله تعالى من طريق عقله ونظره، ويشهد لهذا قول قومه: {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ}، والفتى: الشاب (¬1)، وقد اشتهر أن الله عزَّ وجلَّ لم يبعث نبيًّا إلا بعد أربعين سنةً من عمره (¬2). بقي علينا أن نبين وجه دلالة عجزه عن الإتيان بالشمس من مغربها على أنه إنما يقتل ويطلق بإذن الله عزَّ وجلَّ، وأن الله عَزَّ وَجَلَّ قد يأذن له وقد يمنعه، فأستعين الله عَزَّ وَجَلَّ وأستهديه، ثم أقول: ¬

_ (¬1) انظر: المصباح المنير 462. (¬2) مرَّ ذكره في ص 467، ولا أصل له.

[376] إن العاقل إذا تفكر في خلق الله تعالى الشمسَ جارية بمصالح عباده وأنشأ بها التغيرات الجوية والأرضية التي لها دخل عظيم في حياة الحيوان وطعامه وشرابه وتنفُّسه وغير ذلك مما لا يحصى، وبعضه يعرفه الناس جميعًا، ومن كان له إلمام بعلم الطبيعة كان علمه بذلك أوسع. وقد كان لقوم إبراهيم عليه السلام معرفة بأحوال الشمس وغيرها من الكواكب؛ لأنهم كانوا يعبدونها، وعبادتها تدعو إلى تعرف شؤونها، وكذلك كانوا يستدلون بأحوالها على الحوادث الأرضية كما يدل عليه قوله عزَّ وجلَّ في إبراهيم: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89)}، أي: أوهمهم بأنه استدلَّ بأحوال النجوم على أنه سيسقم، وإنما يعني عليه السلام بهذا الخبر أنَّ كلَّ إنسان لا بدَّ أن يعتريَه السَّقَم، والله أعلم. أقول: إذا تفكَّر العاقل في ذلك عَلم شدَّة عناية الله تعالى بالخلق، وإذا كان الأمر كذلك فكيف يدَعُهم مع ذلك هملاً يعمل فيهم بعضُهم ما يشاء في غير مصلحة يعلمها الله عَزَّ وَجَلَّ ويُقدِّرها؟ وأبعدُ من ذلك أن يدَع مَن يوحِّده [377] فريسة لمن يشرك به بدون قضاء منه عزَّ وجلَّ لحكمة يعلمها. فالإنسان الذي يزعم أنه يفعل في الخلق ما يشاء بدون قدَرٍ من الله تعالى ولا قضاء كأنه ينكر وجود الشمس وجَرْيهَا في مصالح العباد، أو يزعم أنه هو الذي يجريها. ومما يشبه هذا الاستدلال قولُ الله عزَّ وجلَّ: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} [الرعد: 2]. قال أبو السعود: "فإنَّ مَن تدبَّرها حقَّ التدبُّر أيقن ... ، وأنَّ لهذه

التدبيرات المتينة عواقبَ وغاياتٍ لا بدَّ من وصولها .... " (¬1). أقول: وإيضاحه والله أعلم: أنكم إذا تدبرتم هذه الآيات علمتم أنَّ الخالق الذي دبَّر العالم هذا التدبير لم يكن ليخلقكم عبثًا ولا ليدَعَكم سُدى. وإذا كان الأمر كذلك فلا بدَّ من البعث، كما قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115]. قال أبو السعود: "فإنَّ خلقكم بغير بعثٍ من قَبيل العبث" (¬2). وقال تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) ... أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 36 - 40]. وعلى هذا فإنما بُهت الذي كفر لقيام الحجة على عجزه عن قتل أحد أو استحيائه بغير قضاء الله تعالى وقدَره، فأما الإتيان بالشمس من مغربها فإنه لم يدَّع القدرة عليه أصلاً، ولو كان يدَّعيه لأمكنه أن يعاند فيقول: لا أريد الإتيان بالشمس من المغرب؛ فإن ذلك منافٍ لحكمتي ومصالح رعيتي، وقد أقمت أنا الحجة على قدرتي على الإحياء والإماتة وأنت الجاحد لذلك، فأنت المطالَب بما يدفع حجتي، أو نحو ذلك، والله أعلم. وهناك معانٍ أخر حُملت عليها القصَّة ليس فيها أقرب مما مرَّ. وقد رُوي أن المحاجَّة كانت قبل (¬3) إلقاء إبراهيم عليه السلام في النار (¬4)؛ فإن صحَّ فيكون الله عَزَّ وَجَلَّ جعل في ذلك برهانًا حسِّيًّا [378] على ¬

_ (¬1) تفسير أبي السعود 1/ 742. [المؤلف] (¬2) تفسيره 2/ 207. [المؤلف] (¬3) سبق في ص 469: قُبيل. (¬4) نُقِل هذا المعنى عن مقاتل. انظر غرائب القرآن ورغائب الفرقان للنيسابوري 2/ 22.

تفسير تأليه المسيح وأمه عليهما السلام

تكذيب الطاغية في زعمه أنه هو الذي يطلق من أراد إطلاقه ويقتل مَن أراد قتله، والله تبارك وتعالى أعلم. وعلى ما تقدَّم فلم يدَّع الطاغية الربوبية العظمى وإنما ادَّعى أن أمر رعيَّته مفوَّض إليه يصنع فيهم ما يشاء، لا يمنعه الله عزَّ وجلَّ عما يريده بهم، فيرجع النزاع إلى ضرب من النزاع في القدر، والله أعلم. تفسير تأليه المسيح وأمه عليهما السلام رأيُ النصارى في المسيح عليه السلام مضطرب، ويظهر بالتأمُّل أن أول ما تخيَّله العامَّة أن عيسى هو ابن الله حقيقة، حملهم على ذلك أمور: منها: أنهم سمعوا أنه وُلد من غير أبٍ. ومنها: أنه كان يقال له: ابن الله، وقد كان هذا المجاز شائعًا في بني إسرائيل، وقد ورد في التوراة التي بأيدي أهل الكتاب الآن في داود أنه ابن الله البكر، وورد فيها نحوه في مواضع كثيرة. وقد قال تبارك وتعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18]. [379] ومنها: أنهم سمعوا كثيرًا من الأمم يدَّعون في رجال منهم أنهم أبناء الله لأنهم وُلدوا من عذارى، وقد نبَّه الله عزَّ وجلَّ على هذا بقوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة: 30]. وفي كتاب "العقائد الوثنية في الديانة النصرانية" للتَّنِّير (¬1) بيان مَن قال ¬

_ (¬1) ص 151 فما بعدها، والتَّنِّير هو: محمَّد طاهر بن عبد الوهاب بن سليم التَّنِّير =

هذه المقالة من الأمم قبل النصارى، وكأن بعض رؤوس الضلال أشاعوا في عامَّة النصارى تلك العقيدة مروِّجين إفكهم بالأمور السابقة، وبما كان يجري على يد المسيح عليه السلام من الخوارق. ولعلَّ الذي تولَّى كِبر ذلك بولس (¬1)، وكان من مكره أن أعلن بالإباحة ورفع الأحكام التكليفية، فعل ذلك إفسادًا للدين وتقرُّبًا إلى العامة واجتذابًا لهم، وكان مَن بقي من أهل الحق يخافون على أنفسهم، ولا يكاد الناس يسمعون قولهم؛ لأنهم إذا جهروا بشيء قال الناس: هؤلاء يبغضون المسيح ويحقرونه ويجحدون فضائله ويطعنون على من يحبه ويعظمه، ورؤوس الضلال يصوَّبون قول العامَّة ويوجِّهون أقوالهم، وإذا حوققوا قالوا: إن العامة إنما يقولون في المسيح ما [380] يقولون على سبيل التجوُّز والاستعارة، وأيُّ عاقل يخفى عليه أن الله عزَّ وجلَّ لا يكون له ابن حقيقة؟ وكان بعض بقايا أهل الحق يجْبُن أن يصرِّح به خوفًا من أن يُفهم من كلامه تحقير للمسيح، ثم نشأ في القوم مَن أخذ بنصيب من الفلسفة وأحبَّ ¬

_ = البيروتي. توفِّي في دمَّر من ضواحي دمشق، عام 1352 هـ انظر: الأعلام للزركلي 6/ 173. (¬1) وُلد في طرسوس الواقعة الآن في تركيا عام 10 ميلادي، كان يهوديًّا، من أشدِّ المعادين للنصارى، ثم دخل دينهم، وهو الذي سمح لغير اليهود أن يدخلوا في الديانة النصرانية بعد أن كانت مقصورة على اليهود، وهو الذي ألغى الختان، ويُنسب إليه في رسائله مشاركته في تحليل الخمر والخنزير والربا، قيل: إنه فعل ذلك لتقريب الوثنيِّين من النصرانية. انظر: الموسوعة البريطانية، مادة: paul,the Apostle وانظر: محاضرات في النصرانية، لمحمد أبو زهرة ص 70 - 75، 118 - 119.

أن يطبِّق تلك العقيدة على العقل فاستشنع ما كان يعتقده العامَّة من أنَّ الله تعالى وقع على مريم فأحبلها، تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًّا. فمنهم مَن زعم أن الله تعالى هو نفسه حلَّ في مريم لأنهم يجدون كثيرًا من الأمم قد تورَّطت في اعتقاد الحلول. ومنهم مَن زعم أن الذي حلَّ في بطن مريم بعضٌ من الله. والعاقل يعلم أن ما استشنعه المتفلسفون من قول العامة ليس بأشنع مما قالوه هم أعني المتفلسفين. والمقصود هنا إنما هو بيان معنى تأليههم المسيح وأمه عليهما السلام فأقول: قال الله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ [381] وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} [المائدة: 73 - 76]. ليس المراد بالثلاثة هنا ما اشتهر عن النصارى من أن الله تعالى ثلاثة أقانيم، وإنما المراد بالثلاثة: الله تعالى وعيسى وأمه. ويدلُّ على ذلك أمران:

الأوَّل: أنه قال: {ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} فدلَّ أن الاثنين الآخرين غيره، والنصارى لا يقولون ذلك في مسألة الأقانيم، بل يقولون: إن مجموع الثلاثة الأقانيم هو الله تعالى. الأمر الثاني: أنه ذكر في الرد عليهم حقيقة المسيح وحقيقة أمه، وليس لأمه دخل في الأقانيم، وإنما الأقانيم عندهم عبارة عن الأب والابن وروح القدس، فالأب هو الذات، والابن هو الصفة التي فارقته، ودخلت في بطن مريم فكانت المسيح، وروح القدس صفة ثانية نزلت على المسيح في صورة حمامة. وقال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ [382] لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ} [المائدة: 116]. فعُلم بهاتين الآيتين أن النصارى يؤلَّهون مريم ويعبدونها كما يؤلَّهون عيسى ويعبدونه، وقد عُلم أنهم لم يقولوا في مريم إنها واجبة الوجود ولا قديمة ولا أنها جزء من الله تعالى، ولا أنها تخلق وترزق وتنفع وتضرُّ وتغفر الذنوب، فثبت بذلك أنَّ التأليه والعبادة لا يتوقَّفان على اعتقاد شيء من هذه الصفات في المعبود، وأنَّ اعتقادهم هذه الصفات في عيسى أمر زائد على التأليه والعبادة. (¬1) فأما قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا ¬

_ (¬1) من هنا بداية ملحقٍ يزيد عن صفحتين قليلاً.

لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 171]، فأكثر المفسرين وغيرهم حمل قوله: {ثَلَاثَةٌ} على قولهم: الله وعيسى وأمُّه ثلاثة آلهة. قال السعد التفتازاني في المطوَّل: "أي: لا تقولوا: لنا أو في الوجود آلهة ثلاثة أو ثلاثة آلهة، فحُذِف الخبر ثم الموصوف أو المميَّز، أو لا تقولوا: الله والمسيح وأمه ثلاثة، أي: مستوون في استحقاق العبادة والتربية" (¬1). وقال المحقِّق عبد الحكيم في حواشيه على حواشي الخيالي على شرح العقائد النسفية في الكلمة (¬2) على تكفير النصارى: "فالعمدة في تكفيرهم ما ذكره بقوله: على أن قوله تعالى: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} يعني أنهم إنما كفروا لإثبات الآلهة الثلاثة لا لأنهم أثبتوا القدماء الثلاثة. ومعنى إثباتهم الآلهة الثلاثة أنهم سوَّوا الثلاثة في الرتبة واستحقاق العبادة على ما صرَّح به الشارح في بحث حذف المسند من شرح التلخيص، لا أنهم يثبتون وجوب وجودٍ لكلًّ من الثلاثة، كيف وقد صرَّح في إلهيَّات المواقف أنه لا مخالف في مسألة توحيد واجب الوجود إلا الثنويَّة دون الوثنية - أي النصارى (؟) (¬3) فما ذكره المحشِّي: "كانوا يقولون بآلهة وذواتٍ ثلاثة" (¬4) محلُّ بحث, إذ الاشتراك في الألوهيَّة بمعنى استحقاق العبادة لا يدلُّ على كونها ذواتٍ مع أنه لا حاجة إليه؛ إذ القول بتعدُّد المعبود كافٍ في تكفيرهم، ¬

_ (¬1) 3/ 14. [المؤلف]. وفي طبعة دار السعادة التركية ص 143: "في استحقاق العبادة والرتبة". (¬2) كذا. (¬3) علامة الاستفهام مِن وضع المؤلف. (¬4) حاشية الخيالي على شرح العقائد النسفية ص 59 - 60.

فالصواب ترك قوله: "وذوات". نقل عنه. قال الإِمام الرازي: "فسر المتكلمون قول النصارى: {ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} بأنهم يقولون بأقنوم الأب وهو الذات، وأقنوم الابن وهو العلم، وأقنوم الروح القدس وهو الحياة. وهذا الجواب مبني على هذا التفسير". انتهى كلامه. يعني الجواب لقوله (¬1): "وجوابه إلخ مبنيٌّ على هذا التفسير". وأمَّا لو فسر قول النصارى: {إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} بأنَّ الله ثالث الآلهة الثلاثة: الله والمسيح ومريم، ويشهد عليه قوله تعالى: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} فوجه تكفيرهم ظاهر لا سترة عليه" (¬2). أقول: وقوله تعالى: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} ظاهرٌ في أن المراد بقوله: {وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ} أي: ولا تقولوا: الله ثلاثة أقانيم، كما هو ظاهر لمن تأمَّله. والله أعلم (¬3). وقال عزَّ وجلَّ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31]. دلَّت الآية على أنَّ القوم اتَّخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا وآلهة وعبدوهم وأشركوهم كما قالوا ذلك في المسيح، فعُلم منها زيادة على ما مرَّ ¬

_ (¬1) في مصدر النقل: "الجواب المذكور بقوله". (¬2) 3/ 10 [المؤلف]. و2/ 241 من طبعة فرج الله زكي الكردي (¬3) هنا انتهى الملحق.

أن تأليههم لمريم وعبادتهم لها أمرٌ زائدٌ على قولهم: هي أمُّ ابنِ الله، تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا. [383] فمن عبادتهم لعيسى عليه السلام إشراكُهم إياه في كلِّ عبادة تكون لله تعالى لزعمهم أنه جزء منه، وتعظيمهم لصورته ولصورة الصليب لمشابهتها للصليب الذي صُلِب عليه فيما زعموا. ومن تعظيمهم لأمِّه تعظيمُ صورتها والاستغاثة بها. وأما اتِّخاذهم الأحبار والرهبان أربابًا وآلهة وعبادتهم لهم وإشراكهم فسيأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى. الكلام على قوله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ [384] تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ

بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74) وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ [385] وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64 - 80]. [386] قال ابن جرير: "حدثنا أبو كريب قال، ثنا يونس بن بكير قال، ثنا محمَّد بن إسحاق قال, ثني محمَّد بن أبي محمَّد مولى زيد بن ثابت قال، ثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال: قال أبو رافع القرظي، فذكر نحوه" يعني نحو الحديث الذي تقدَّم قبله، ولفظه: "قال أبو رافع حين

اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ودعاهم إلى الإِسلام =: أتريد يا محمَّد أن نعبدك، كما تعبد النصارَى عيسى ابن مريم؟ فقال رجل من أهل نجران نصراني يقال له الرِّبِّيس (¬1): أوَ ذاك تريد منا يا محمَّد؟ ... (¬2) فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: معاذَ الله أن نَعبُد غيرَ الله، أو نأمر بعبادة غيره ما بذلك بعثني، ولا بذلك أمرني، أو كما قال، فأنزل الله عزَّ وجلَّ في ذلك ... : {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} الآية إلى قوله: {بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} " (¬3). أقول: ابن إسحاق هو إمام أهل المغازي، وقد ذكر هذا الحديث في سيرته، وهو ثقة على الصحيح، وإنما يُخشى تدليسه، وقد صرَّح بالسماع، وشيخه ذكره ابن حبان في الثقات (¬4)، لكن قال الذهبي: [387] لا يُعرف (¬5). وفي أسباب النزول للسيوطي (¬6): وأخرج عبد الرزاق في تفسيره عن الحسن قال: بلغني أن رجلاً قال: يا رسول الله! نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك؟ قال: لا, ولكن أكرموا نبيَّكم، واعرفوا الحق ¬

_ (¬1) في الأصل: الرئيس، والتصحيح من طبعة محمود شاكر لتفسير ابن جرير. (¬2) وضع النقاط مني، وإنما وضع خطًا طويلاً، ولعله يشير إلى سقم نسخته من تفسير الطبري، والذي تُرك هو: "وإليه تدعونا، أو كما قال". (¬3) 3/ 211. [المؤلف]. وأخرجه ابن المنذر 1/ 266، ح 642. وابن أبي حاتمٍ 2/ 693، ح 3756. والبيهقيُّ في الدلائل, باب وفد نجران ... ، 5/ 384. كلُّهم من طريق ابن إسحاق. وانظر: سيرة ابن هشام 2/ 145. (¬4) 7/ 392. (¬5) ميزان الاعتدال 4/ 26. (¬6) لباب النقول ص 51.

لأهله فإنه لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله، فأنزل الله تعالى {مَا كَانَ لِبَشَرٍ} إلى قوله: {بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (¬1). أقول: الآية عامَّة تتناول هذا وتتناول - كما يدلُّ عليه السياق - عيسى عليه السلام بالنظر إلى زعم النصارى أنَّه أمرهم باتِّخاذه ربًّا، وإبراهيم عليه السلام بالنظر إلى زعمهم أيضًا أنه كان نصرانيًّا يأمر باتِّخاذ عيسى ربًّا، وبالنظر إلى زعم المشركين من العرب أنهم على ملَّة إبراهيم عليه السلام مع عبادتهم للملائكة. وأما ما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن جريج قال: كان ناس من اليهود يتعبَّدون الناس من دون ربهم بتحريفهم كتاب الله [388] عن موضعه فقال الله عزَّ وجلَّ: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ} الآيتين (¬2) = ففيه نظر؛ لأنَّ أولئك الأناس من اليهود لم يُؤْتَوا النبوة، اللَّهمَّ إلاَّ أن يُرتكب المجاز فيقال: معنى كونهم أُوتوا النبوة أنهم من قومِ مَنْ أُوتي النبوة، أو نحو هذا، وهذا خروجٌ عن الظاهر بلا موجب. وقوله تعالى: {وَلَا يَأْمُرَكُمْ} قُرئ بالنصب والرفع؛ فأما النصب فبالعطف إما: ¬

_ (¬1) لم أجده في تفسير عبد الرزاق. وقد نقله الواحدي في أسباب النزول ص 113. وعزاه في الدرّ المنثور (2/ 250) إلى عبد بن حميدٍ. قال الزيلعيُّ: (غريبٌ). وقال ابن حجرٍ: (لم أجد له إسنادًا). انظر: تخريج أحاديث الكشَّاف 1/ 192، ح 199. الكافي الشاف (الملحق بالكشَّاف) ص 26، ح 221. (¬2) تفسير ابن جرير 3/ 212، [المؤلف]. وتفسير ابن أبي حاتم 2/ 691، ح 3745.

- على {يَقُولَ} بالنظر إلى أن المعنى: ما كان لنبي أن يقول. - وإما على محذوف بعد قوله: {تَدْرُسُونَ} تقديره: ما كان له أن يقول. وعلى كلا الوجهين فالمعنى كما نص عليه ابن جرير: "ما كان له أن يقول .... ولا أن يأمركم" فكلمة (لا) صلة لتأكيد معنى النفي، وذلك شائع في الاستعمال، ولا سيما إذا طال الفصل كما هنا. وقيل: كلمة (لا) أصلية، والمعنى: "ما كان له أن يقول ولا يأمر" أي ما كان له أن يجمع بين القول وعدم الأمر، وهذا بعيد من حيث المعنى؛ إذ يصير النفي فيه منصبًّا على الجمع بين القول وعدم الأمر فيكون مفهومه أن له أن يقول ويأمر، وهو كما ترى. ويؤيِّد الأول قوله تعالى: {أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} فإنه يدلُّ على توجُّه النفي إلى كلٍّ من القول والأمر على حِدته, ويؤيَّده أيضًا الفصل [389] بقوله: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} ومثل هذا الفصل لا يحسن بين الأمرين اللَّذَين يُراد توجيه الحكم إلى اجتماعهما، والله أعلم. وفي الآية احتمالات أُخر ذكرها ابن هشام في المغني في فصل (لا) (¬1). والنفي في قوله: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ} نفيٌ - والله أعلم - للإمكان، كما في ¬

_ (¬1) مغني اللبيب 3/ 351 - 353.

قوله تعالى: {مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} [النمل: 60]، وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران: 145]، أي: لا يمكن أن يجتمع في بشر الأمران: الأول: {أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ}. الثاني: أن يأمرهم باتِّخاذه وغيره من الأنبياء والملائكة أربابًا. فحاصل المعنى: أنَّ مَن علم الله تعالى منه الأمر بالشرك لم يؤته النبوة، ومَن آتاه النبوة عصمه عن الأمر بالشرك. وإنما قلت: إن النفي نفيٌ للإمكان لا للجواز بمعنى الحِلِّ؛ لأمرين: الأول: أن قوله تعالى: {أَنْ يُؤْتِيَهُ} مما لا يدخل تحت قدرة العبد حتى يصحَّ أن يوصف بعدم الحلِّ. فإن قلت: الحكم في الآية [390] منصبٌّ على المجموع كما قدَّمتَ. قلت: صدقتَ، ولكن حُسْن التعبير في مثل هذا يستدعي إذا كان المنفيُّ الحلَّ أن يُفرَّق بين ما يكون الأمران من عمل مَن لا يحلُّ له المجموع وما يكون أحدهما من غير عمله، ففي الأول يوجَّه المنعُ إلى كلٍّ منهما في الصورة مع التنبيه على أنه موجَّه إلى الجمع، كأن يُقال: ما كان للمسلم أن يتزوَّج المرأة ثم يتزوَّج أمَّها، وفي الثاني يوجَّه المنع إلى ما هو من فعله مقيَّدًا بوجود الأمر الآخر، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]. [391] الأمر الثاني: أن نفي الإمكان أقطع للَجاج المفترين على إبراهيم

تأليه الأحبار والرهبان

وعيسى عليهما السلام وأبلغ في تبرئتهما, ولو كان المنفيُّ الحلَّ لأمكن أن يقولوا: أما هما فقد أمرانا بما نحن عليه، وكونه يحل لهما أو لا يحل لا شأن لنا به. فإن قيل: إن نفي الحلِّ يستلزم نفي الإمكان لعصمة الأنبياء عليهم السلام، فيكون نفي الإمكان بطريقٍ استدلاليٍّ، وهو أبلغ. قلت: ولكن النصارى لا يعترفون بعصمة الأنبياء عليهم السلام. تأليه الأحبار والرهبان أخرج ابن جرير وغيره من طريق عبد السلام بن حرب قال: حدثنا غُطيف بن أعين، عن مصعب بن سعد، عن عدي بن حاتم، قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: "يا عدي، اطرح هذا الوثن من عنقك"، قال: فطرحته، وانتهيت إليه وهو يقرأ في سورة براءة، فقرأ هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}، قال: قلت: يا رسول الله، إنا لسنا [392] نعبدهم، فقال: "أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ " قال: قلت: بلى، قال: "فتلك عبادتهم" (¬1). وأخرجه الترمذي بألفاظ أخرى، ثم قال: "حسن غريب لا نعرفه إلا من ¬

_ (¬1) لفظ ابن جرير 10/ 71. [المؤلف]. وأخرجه البخاري في التاريخ الكبير (ترجمة غُطيف بن أعين) 7/ 106. وابن أبي حاتم 6/ 1784، ح 10057. والطبراني 17/ 92، ح 218 - 219. والبيهقي، كتاب آداب القاضي، باب ما يقضي به القاضي ... ، 10/ 116. وغيرهم. وانظر: السلسلة الصحيحة 7/ 861، ح 3293.

حديث عبد السلام بن حرب، وغطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث" (¬1). أقول: غطيف وثقه ابن حبان وضعفه الدارقطني (¬2). وقد روى ابن جرير وغيره نحو هذا التفسير موقوفًا على حذيفة رضي الله عنه. وبمعناه عن ابن عباس، ثم عن أبي العالية والحسن والضحاك (¬3). وقال ابن جرير في تفسير قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران: 64] ما لفظه: "فإن اتِّخاذ بعضِهم بعضًا هو ما كان بطاعة الأتباع الرؤساء فيما أمروهم به من معاصي الله وتركهم ما نهوهم عنه من طاعة الله، كما قال جل ثناؤه: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا [393] مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا} ". ثم أخرج عن ابن جريج يقول: "لا يطع بعضنا بعضًا في معصية الله" (¬4). وأخرج في تفسير قوله تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ¬

_ (¬1) جامع الترمذي، كتاب التفسير، باب ومن سورة التوبة، 2/ 184، ح 3095. [المؤلف] (¬2) انظر: الثقات 7/ 311، الضعفاء والمتروكون ص 324. (¬3) تفسير ابن جرير 11/ 418 - 421، تفسير ابن أبي حاتم 6/ 1784. (¬4) 3/ 195. [المؤلف]

[البقرة: 22]. عن ابن عباس وابن مسعود وناسٍ من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} قال: "أكفاء من الرجال تطيعونهم في معصية الله". وقد مرَّ ذلك (¬1). وأخرج عن السدي في تفسير قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة: 165]. قال: "الأنداد من الرجال، يطيعونهم كما يطيعون الله، إذا أمروهم أطاعوهم وعصوا الله". وقد مرَّ هذا أيضًا (¬2). وقد جاء في القرآن عَّدة آيات في ذكر عبادة الطاغوت لعلَّنا نذكرها في فصل عبادة الشياطين. وقد فسَّر جماعة من السلف الطاغوت بالكاهن والساحر وسادن الصنم الذي يأمر بعبادته وغيرها مما يتديَّن به المشركون، وبكعب بن الأشرف وحُييِّ بن أخطب [394] وغيرهما ممن كان اليهود يطيعونه في الدين. قال ابن جرير: "والصواب من القول في تأويل: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} أن يقال: يصدِّقون بمعبودَين من دون الله، يعبدونهما من دون الله، ويتخذونهما إلهين. وذلك أنَّ (الجبت) و (الطاغوت): اسمان لكل معظَّم بعبادةٍ من دون ¬

_ (¬1) ص 494. (¬2) ص 495.

الله، أو طاعة، أو خضوع له، كائنًا ما كان ذلك المعظَّم، من حجر أو إنسان أو شيطان. وإذ كان ذلك كذلك، وكانت الأصنام التي كانت الجاهلية تعبدها كانت معظَّمة بالعبادة من دون الله فقد كانت جُبوتًا وطواغيت، وكذلك الشياطين التي كانت الكفار تطيعها في معصية الله، وكذلك الساحر والكاهن اللذان كان مقبولاً منهما ما قالا في أهل الشرك بالله، وكذلك حُيي بن أخطب وكعب بن الأشرف, لأنهما كانا مطاعَيْن في أهل ملّتهما من اليهود في معصية الله والكفر به وبرسوله، فكانا جبتين وطاغوتين" (¬1). [396] [395] وقال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ [396] بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ ¬

_ (¬1) 5/ 79. [المؤلف]

الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 13 - 21]. قيل: إن المراد بقوله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ}: شركاء للمشركين في كفرهم. وقيل: المراد: شركاء يشركونهم بالله تعالى. ومَن قال هذا فسَّره بالأوثان، وتأوَّل نسبة الشرع إليها بأنها سبب له أو أنها تماثيل لمن شرع في زعمهم. وقد تقدَّم ذلك عن البيضاوي. والصواب إن شاء الله المعنى الثاني، أي أنَّ المراد: شركاء يشركونهم بالله عزَّ وجلَّ؛ لأنَّ عامَّة ما (¬1) [397] يجيء في القرآن بهذا المعنى، وأن المراد الرؤساء الذين يطيعونهم ويتديَّنون بما يخترعون لهم على أنه من الدين، فيُعلَم من هذه الآية ومما قبلها أن شرع الدين خاصٌّ بالربِّ، فمَن ادَّعى أن له حقًّا أن يشرع، وأن ما شرعه يكون دينًا؛ فقد ادَّعى الربوبيَّة، ومَن قال في شخصٍ: إن له حقًّا أن يشرع وأن ما شرعه يكون دينًا؛ فقد اتَّخذه ربًّا، وجعله شريكًا لله عزَّ وجلَّ، وذلك تأليهٌ له وعبادةٌ وشركٌ بالله تعالى. ¬

_ (¬1) إلى هنا انتهى الدفتر الرابع، ويليه الدفتر الخامس، وأوَّله: يجيء في القرآن ....

وقد مرَّ (¬1) قول الزجَّاج - فيما نقله ابن هشامٍ (¬2) - أن المعنى في قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [الأنعام: 151]. قال: "الأصل: "أبيِّن لكم لئلا تشركوا"، وذلك لأنهم إذا حرَّم عليهم رؤساؤهم ما أحلَّه الله سبحانه وتعالى فأطاعوهم أشركوا؛ لأنهم جعلوا غير الله بمنزلته". وبعد؛ فقد ثبت أن اليهود كانوا يعلمون أن حدَّ الزاني المحصن الرجم، وأن ذلك في التوراة حقٌّ، فشرع لهم أحبارُهم الاكتفاءَ بالجلد والتحميم (¬3)، فاتَّخذوا ذلك دينًا يزعمون أن الله يحبه ويرضاه. وأما النصارى فأمرهم أظهر؛ فقد ثبت عندهم أن عيسى عليه السلام أخبرهم أنه لم يُبعَث لنسخ التوراة وإنما بُعِث لتثبيتها، [398] ثم خرج أحبارهم فأبطلوا أحكام التوراة التي كان عيسى نفسه يعمل بها، كالختان وتحريم لحم الخنزير وتحريم السبت وغيرها، زاعمين أنَّ ما شرعه بولس وغيره يكون دينًا يحبُّه الله ويرضاه. وهكذا مشركو العرب كانوا يزعمون أنَّ ما شرعه عمرو بن لُحَيًّ وأضرابه دينٌ يحبُّه الله ويرضاه، ولما كان يوم الفتح أُخرِجت من الكعبة صورتا إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وبأيديهما الأزلام يستقسمان بها، فقال النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "قاتلهم الله، أما والله لقد علموا أنهما ¬

_ (¬1) ص 326. [المؤلف]. ص 598. (¬2) المغني. [المؤلف]. 1/ 250، وانظر: معاني القرآن للزجاج 2/ 303 - 304. (¬3) التحميم: تسويد الوجه بالحُمَم، وهو الفحم. انظر: غريب الحديث لأبي عُبَيدٍ 4/ 16، النهاية 1/ 444.

لم يستقسما بها قطُّ" (¬1). فقد زعم المشركون أن الاستقسام بالأزلام دينٌ يحبُّه الله ويرضاه، حتى صوَّروا إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام يستقسمان بالأزلام، مع علمهم بأنهما لم يستقسما بها قطُّ، وإنما أحدثها بعض الرؤساء. وقد قال تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [آل عمران: 93 - 94]، [399] وقال تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [المائدة: 103]. والقرآن يقسِّم الكفر إلى قسمين: الكذب على الله، والتكذيب بآياته. قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [العنكبوت: 68]، وفي القرآن آياتٌ أخرى بمعناه. وقوله: {وَمَنْ أَظْلَم} استفهامٌ إنكاريٌّ، أي: لا أحد أظلم منه، فعُلِم من ذلك أن ذلك يكون شركًا؛ لأنه لو لم يكن شركًا لكان الشرك أعظمَ منه؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48]. ¬

_ (¬1) البخاريّ، كتاب الحجَّ، باب مَن كبَّر في نواحي الكعبة، 2/ 150، ح 1601. [المؤلف]

فأما أرواح الموتى فعبادتها من جنس عبادة الجنِّ عند بعض الناس، ومن جنس عبادة الملائكة عند آخرين. وسيأتي الكلام على ذلك، إن شاء الله تعالى (¬1). **** ¬

_ (¬1) انظر: ص 815 - 816.

القبور والآثار

[400] القبور والآثار عبادة القبور والآثار إنما تكون تعظيمًا للمقبور أو صاحب الأثر على نحو ما تقدَّم في شأن الأصنام (¬1)، حيث تُعبد تعظيمًا للأشخاص التي هي تماثيلُ لهم، فأما الفصل بين ما يكون شركًا من احترام القبور والآثار وما لا يكون شركًا بل قد يكون مشروعًا، فسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى (¬2). الجنّ كان أهل الجاهليَّة يتعوَّذون برؤساء الجنِّ من شرِّ عامَّتهم - كما تقدَّم -, ونجد الآن كثيرًا من الناس ينذرون للجنِّ ويذبحون لأجلهم، ويصنعون لهم الأطعمة، ثم يضعونها في الصحارى بالليل، ويزعمون أن الجنَّ يأكلون ذلك، وينفعون مقرِّبه، أو يكفُّون عن الإضرار به، أو يدفعون عنه ضرر بعضهم، أو يبيِّنون لهم بواسطة الكاهن شيئًا مُغَيَّبًا كسرقةٍ، أو حال رجلٍ غائبٍ، أو حقيقة مرضٍ وعلاجه، أو نحو ذلك. والمعزِّمون كثيرًا ما يفزعون إلى ذلك إذا أُتُوا بمصابٍ، وربما يفزعون إلى عبادة الكواكب. [401] وأحسنهم حالاً مَنْ يعتمد الأوفاق (¬3) المبنيَّة على الحساب ¬

_ (¬1) انظر ص 568 - 572. (¬2) انظر: فصل تحقيق السلطان الفاصل بين عبادة الله تعالى وعبادة غيره ص 873، وفصل الأعذار. (¬3) جمع وَفْق: هي جداول مربَّعةٌ لها بيوتٌ مربَّعةٌ، يوضع في تلك البيوت أرقامٌ عدديَّةٌ أو حروفٌ بدل الأرقام ... وذكروا أن لاعتدال الأعداد خواصَّ فائضةً من روحانيَّات =

ومراعاة النجوم، ونحو ذلك، وسيأتي قول الشهرستانيِّ أن ذلك كلَّه مأخوذٌ عن الصابئة. وإنما يحمل المعزِّمين على ذلك أنه ليس لديهم من الإيمان والتقوى ما يرعب الشياطين ويطردها، فهم يلجؤون إلى تَرضِّي الشياطين والتقرُّب إليهم وفعل ما يحبُّونه، وإن كان في ذلك ذهاب الدين، والله المستعان. وقد رأيتُ مَن يعتقد أن التقرُّب إلى الجنِّ شركٌ بمثل ما مرَّ، ولكنه إذا مرضت زوجته أو ابنه وقال له المعزَّم يعمل كما يعمل الناس من التقريب للجنِّ؛ أقدَمَ على ذلك، إما مرتابًا في عقيدته وهو الغالب، وإما بائعًا دينه بما يرجوه من منفعةٍ عاجلةٍ بشفاء مصابه، وإما قائلاً: غلبتنا النساء! فأمَّا عامَّة الناس، فإنهم يزعمون أن حصول النفع حجَّةٌ للجواز، بل وللاستحباب، وقد يبالغ بعضهم فيدَّعي الوجوب، كأنهم لا يعلمون أن السحر تحصل بسببه منفعةٌ للساحر وغيره ممن يريد الساحر نفعَه، وهو مع ذلك كفرٌ. وعُبَّاد الأصنام يزعمون أنه يحصل لهم منافع بعبادتها، وهكذا عُبَّاد الشياطين تساعدهم الشياطين [402] بأعمالٍ كثيرةٍ، وتلك المنافع عارضةٌ سرعان ما تزول وتعقبها مضارُّ شديدةٌ، وعلى فرض أنها دامت للإنسان مدَّة حياته؛ فحسبه ما يلقاه من غضب الله عزَّ وجلَّ وعذابه بعد مماته. ¬

_ = تلك الأعداد أو الحروف، ويترتَّب عليها آثارٌ عجيبةٌ وتصرُّفاتٌ غريبةٌ, بشرط اختيار أوقاتٍ مناسبةٍ وساعاتٍ شريفةٍ. مفتاح السعادة ومصباح السيادة لطاش كبري زاده 1/ 373. وانظر: الفروق للقرافيِّ 4/ 142، الفرق: 242.

ولعلَّك قد سمعت بمَن يترك الصلاة المفروضة من المسلمين، ثم يبدو له أن يحافظ عليها، فيصلي عدَّه صلواتٍ، ثم يَدَعُها زعمًا أنه عَرَضَتْ له مصائب ومضارُّ، فلما ترك الصلاة زالت تلك المضارُّ، حتى إن من هؤلاء مَن يقول: الصلاة نحسٌ. والسبب في هذا الأمر أن الله عزَّ وجلَّ غنيٌّ عن عباده، لا يقبل إلا طيَّبًا، وهؤلاء الجهَّال إنما يحملهم على الصلاة الرغبةُ في أن تحصل لهم منافع دنيويَّةٌ، فيُقدِمون عليه (¬1) على سبيل التجربة، بلا يقينٍ ولا إيمانٍ ولا إخلاصٍ، فيبتلي الله عزَّ وجلَّ إخلاصهم بما يصيبهم من الامتحان، فأمَّا مَن ثبت وكان عنده إيمانٌ وتصديقٌ؛ فإن تلك الأمور التي يراها مصائب تزول عنه، بل تنقلب منافع وفوائد، قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ [403] مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]. وقال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31] , وقال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155 - 157]، والآيات في هذا المعنى كثيرةٌ. وقال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولعله يعيد الضمير إلى العمل والفعل.

فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا} [آل عمران: 165 - 167]. نزلت هذه الآية فيما أصاب المسلمين يوم أحدٍ إذ قتل منهم حمزة عمُّ النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم في سبعين، وقلَّ رجلٌ من سائر المسلمين إلا أصابه جرحٌ، حتى لقد جرح رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم - بأبي هو وأمي - فكُسِرت رباعيته وجُرِحت [404] شفته وجبهته ووَجْنَته، ودخل فيها حلقتان من حَلَق المِغْفَر (¬1)، وقد أخبر تعالى أن ذلك بإذنه ليبلوهم. فكما كان الابتلاء هنالك بواسطة المشركين فهكذا قد يكون الابتلاء بواسطة الشياطين، كأن يشرع المسلم في عملٍ صالحٍ فتعدو عليه الشياطين بالإيذاء والإضرار، وكلُّ ذلك بإذن الله تعالى، فإذا ثبَّته الله تعالى وصبر جبر الله تعالى مصابه وأثابه عليه، وإن كفَّ عن ذلك العمل الصالح فقد تبيَّن كذبه، فإن اندفعت عنه تلك المصائب بعدُ فَلِهَوَانه على الله تعالى، وهكذا قد ¬

_ (¬1) ورد في الصحيحين عن سهل بن سعدٍ رضي الله عنه قال: "جُرِح وجه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وكُسِرت رباعيته وهُشِمت البيضة على رأسه". انظر: صحيح البخاريِّ، كتاب الجهاد والسير، باب لبس البيضة، 4/ 40، ح 2911. وصحيح مسلمٍ، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة أحدٍ، 5/ 178، ح 1790. وفي روايةٍ للطيالسيِّ من حديث أبي بكرٍ رضي الله عنه: فانتهينا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد كُسِرت رباعيته وشُجَّ في وجهه، وقد دخل في وَجْنَته حلقتان من حَلَق المِغْفَر. وأخرجها الحاكم، وقال: "صحيحٌ على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، لكن تعقَّبه الذهبيُّ، فقال: "ابن إسحاق متروكٌ". يعني محمَّد بن إسحاق بن يحيى بن طلحة. انظر: مسند الطيالسيِّ 1/ 9، ح 6. المستدرك، كتاب المغازي والسرايا، ذكر ما أُصِيب ثنايا أبي عُبَيدة ... ، 3/ 27. وكتاب معرفة الصحابة، ذكر مناقب أبي عُبَيدة بن الجرَّاح، كان أبو عُبَيدة أهتم الثنايا، 3/ 266.

يقدم على العمل السيِّئ فتناله منافع وفوائد دنيويَّةٌ، فإن تداركه الله عزَّ وجلَّ عَلِم أن ذلك ابتلاءٌ فكفَّ عنه، وزهد في تلك المنافع، وإلا فكما قال تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران: 178]. [405] ومن دقائق هذا الباب أن العبد إذا أراد الرجوع إلى طاعة الله تعالى أحبَّ الله تعالى أن يطهِّره مما سبق من ذنوبه، وأن يبتليه ليتبيَّن ثباته وصدقه، ويوافق ذلك طمع الشياطين في هذا الرجل أنهم إذا آذوه وأضرُّوا به ترك ذلك العمل الصالح، فعن هذا يناله ما يناله، فإذا وفَّقه الله تعالى وثبَّته كان ما أصابه من الشياطين تطهيرًا لما سبق من ذنوبه، وزيادةً له في رفع درجاته، وسرعان ما تزول تلك المضارُّ بزوال سببها، ويجبره الله تعالى ويرفعه، وإن جزع من تلك المضارِّ فترك ذلك العمل الصالح فقد ترتفع عنه المضارّ، وذلك شرٌّ له عاجلًا وآجلاً, ولا حول ولا قوة إلا بالله. وربَّما تصيب تلك المضارُّ مَن لا ذنب له سابقًا ولا يُراد ابتلاؤه في نفسه، وإنما يُراد بذلك ابتلاء غيره، وهذا كما جرى للنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم يوم أحدٍ، إنما أُرِيد بذلك ابتلاء المسلمين ورفع درجات النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم. [406] ويُحكى أن رجالاً كانوا يضيِّعون الفرائض ويرتكبون المنكرات ويدَّعون مع ذلك أنهم من الصالحين، فيُنكِر عليهم رجالٌ من أهل العلم والدِّين، فتصيب هؤلاء المنكرين مصائب يعدُّها الناس كراماتٍ لمرتكبي المنكرات، وأنت إذا تدبَّرت ما سبق علمت الحقيقة، والله المستعان.

وفي قصَّة أيُّوب النبيِّ عليه السلام ما يعينك على فهم ما قدَّمناه. والمقصود ها هنا أن الدين كما يعرِّفه أهل العلم: "وضعٌ إلهي سائقٌ لذوي العقول إلى ما فيه صلاح معاشهم ومعادهم" (¬1)، وشرعه خاصٌّ بالله تعالى. وأما ما جاء في بعض الآثار مما يوهم أن للنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم أن يشرع فليس على حقيقته، ولكن الله تعالى ربَّما يخيِّر رسوله صلَّى الله عليه وآله وسلم في أمرٍ بعينه ويُعلِمه أنه إذا اختار أن يكون شرعًا لأمته فقد شرعه الله عزَّ وجلَّ، وهذا كما في حديث الحجِّ، إذ قال صلَّى الله عليه وآله وسلم: "أيُّها الناس، قد فرض الله عليكم الحجَّ فحُجُّوا"، فقال رجلٌ: أكلَّ عامٍ يا رسول الله؟ فسكت، حتى قالها ثلاثًا، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "لو قلت: نعم [407] لوجبت" الحديث (¬2)، وكما في الحديث الآخر: "لولا أن أشقَّ على أمَّتي لأمرتهم بالسواك عند كلِّ صلاةٍ" (¬3). وقد أكمل الله الدين، وأتمَّه في حياة رسوله صلَّى الله عليه وآله وسلم، ونزل في عصر يوم النحر (¬4) من حجَّة الوداع قُبَيل وفاة النبيِّ صلَّى الله عليه ¬

_ (¬1) انظر: مفاتيح الغيب 29/ 273. (¬2) صحيح مسلمٍ، كتاب الحجِّ، باب فرض الحجِّ مرَّةً في العمر، 4/ 102، ح 1337. [المؤلف] (¬3) صحيح مسلمٍ، كتاب الطهارة, باب السواك، 1/ 151، ح 252. [المؤلف] (¬4) كذا في الأصل، ولعلَّه سبق قلمٍ؛ فالذي في الصحيحين أنها نزلت يوم عرفة - كما سيأتي -.

وآله وسلم بنحو ثلاثة أشهرٍ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] (¬1). فما لم يكن دينًا في حياة النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لا يكون دينًا بعده، والكلام على هذه الآية وهذا المعنى ونقل كلام السلف من الصحابة والتابعين وأئمَّة الدين مبسوطٌ في موضعٍ آخرٍ (¬2). فالدين إنما يؤخذ من كتاب الله عزَّ وجلَّ وسنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يقل أحدٌ من أهل العلم: إن الدين يُؤخذ بالتجربة، ولكن كثيرًا ممن يُظَنُّ بهم الصلاح وهم عن حقيقة الدين غافلون أخذوا يشرعون في دين الله عزَّ وجلَّ بغير إذنه، ويعتمدون في ذلك على التجربة. ولقد دار بيني وبين بعض الناس كلامٌ سأذكره مع زيادةٍ في جوابي، سألني عن وضعٍ أظفار الإبهامين على [408] الشفتين والعينين عندما يقول المؤذِّن: (أشهد أن محمَّدًا رسول الله)، فقلت: بدعةٌ، وقد علَّمنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ما نقوله عند سماع الأذان وبعده، فنجد أكثر الناس تاركين لذلك، محافظين على هذا الفعل، وهذا شأن البدع؛ لأن الشيطان يحرص على أن يشغل الناس بها، ويقنعهم بها عن العبادات، فقال السائل: فهل ورد حديثٌ في هذا الفعل؟ قلت: قد رُوِي في ذلك حديثٌ نصَّ الأئمة على أنه كذبٌ موضوعٌ ليس من قول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) يشير إلى ما أخرجه البخاريُّ في كتاب الإيمان, باب زيادة الإيمان ونقصانه، 1/ 18 ح 45. ومسلمٌ في كتاب التفسير، 8/ 238، ح 3017، من حديث عمر رضي الله عنه، وفيه أنه قال: (نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعرفاتٍ في يوم جمعةٍ). (¬2) انظر: "تحقيق الكلام في المسائل الثلاث"، المسألة الثانية: السنة والبدعة ص 147 - 159.

على أنه لو لم يكن موضوعًا وكان ضعيفًا لما جاز العمل به إجماعًا، أمَّا على القول بأن العمل بالضعيف لا يجوز مطلقًا فواضحٌ - وهذا هو الحقّ، كما حقَّقناه في موضعٍ آخرٍ (¬1)، ونَقْلُ الإجماع على خلافه سهوٌ -, وأما على قول مَن زعم أن الضعيف يُعمَل به في فضائل الأعمال، فلجواز العمل عندهم شرائط، منها: اندراج ذلك الفعل تحت عمومٍ ثابتٍ، وهذا الفعل ليس كذلك. فقال السائل: إذا كان قد رُوي الحديث عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فينبغي أن يُقبَل. قلت: نعم، إذا كانت الرواية صالحةً [409] للاعتماد، فأما إذا لم تكن صالحةً فإنه يجب اطِّراحها، هذا حكم الإِسلام؛ لأن الناس قد كذبوا على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عمدًا وخطأً. قال السائل: فقد كان رجلٌ يعتاد هذا الفعل، حتى قال رجلٌ من علماء الوهابيَّة (¬2): إن هذه بدعةٌ، فصدَّقه، وترك ذلك الفعل، ثم أصابه وجعٌ في عينيه، فاختلف إلى الأطبَّاء يداوي عينيه، ودام على ذلك مدَّةً والوجع باقٍ، حتى قُيِّض له رجلٌ من المتصوِّفة ساءله حتى أخبره أنه كان يعتاد هذا الفعل حتى نهاه عنه ذلك الوهابيُّ، فقال له: أخطأت بموافقة الوهابيِّ، ارجع إلى ما كنت تفعله، فعاد لذلك الفعل، فلم يلبث أن ذهب عنه الوجع. قلت: هذه تجربةٌ، والدين لا يُؤخذ بالتجربة. وقد أخرج أبو داود وغيره عن زينب امرأة عبد الله بن مسعودٍ، أن ¬

_ (¬1) يشير إلى رسالة: حكم العمل بالحديث الضعيف. (¬2) تكلَّم المؤلِّف في موضعِ آخر عن إطلاق لفظ "الوهَّابيَّة" على أهل نجد. انظر: تحقيق الكلام في المسائل الثلاث ص 446 - 453.

عبد الله رأى في عنقي خيطًا، فقال: ما هذا؟ فقلت: خيط رُقِي لي فيه، قالت: فأخذه وقطعه، ثم قال: أنتم آل عبد الله أغنياء عن الشرك، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الرُّقى والتمائم والتِّوَلَه شركٌ"، فقلت: لم تقول هكذا؟ لقد [410] كانت عيني تقذف (¬1)، وكنت اختلف إلى فلانِ اليهوديِّ، فإذا رقاها سكنت، فقال عبد الله: إنما ذلك عمل الشيطان، كان ينخسها بيده، فإذا رقى كفَّ عنها، إنما كان يكفيك أن تقولي كما كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أذهب البأس ربَّ الناس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاءً لا يغادر سقمًا". وسيأتي تخريج هذا الحديث وبسط الكلام عليه في بحث الرقى (¬2)، إن شاء الله تعالى. قلت: وقد عظمت المصيبة بهذا الأمر، فتجد كثيرًا من أهل الخير والصلاح يُعْرِض عن كتاب الله تعالى والأذكار المأثورة عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ويواظب على الأحزاب والأوراد المنقولة عن بعض المشهورين بالصلاح اعتمادًا على فضائل ومنافع ذُكِرت لتلك الأحزاب والأوراد، ولو استغنى بكتاب الله عزَّ وجلَّ وبالأذكار الثابتة عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لكان خيرًا له؛ فإن الفضائل التي تُذكَر لتلك الأحزاب والأوراد ليست مما يُعتمَد عليه؛ لأنها من زعم رجلٍ من أفراد الأمَّة، ليست ثابتةً عن الله عزَّ وجلَّ ولا عن رسوله - صلى الله عليه وسلم -، على أنَّ كثيرًا منها ينكرها الشرع إذا عرفتَ حقيقة الشرع، ولبعضها هيئاتٌ تدخل في البدع المنكرة، ولعلَّك إذا تدبَّرت رسالتي هذه علمتَ أن الأمر أشدُّ من ذلك، والله المستعان. ¬

_ (¬1) بصيغة المفعول، أي: تُرمى بما يهيج الوجع. وبصيغة الفاعل، أي: تَرمي بالرَّمَص - وهو ما جمد من الوسخ في مؤخَّر العين - أو الدمع - وهو ماء العين - من الوجع. انظر: عون المعبود 10/ 368. (¬2) انظر: ص 955.

الكواكب

[411] الكواكب أما قوم إبراهيم عليه السلام فقد قال الشهرستانيُّ في الملل والنحل: "أصحاب الهياكل والأشخاص، وهؤلاء من فرق الصابئة، وقد أدرجنا مقالتهم في المناظرات جملةً، ونذكرها ها هنا تفصيلاً. اعلم أن أصحاب الروحانيَّات لما عرفوا أنه لا بدَّ للإنسان من متوسِّطٍ، ولا بدَّ للمتوسِّط من أن يُرى فيُتوجَّه إليه، ويُتقرَّب به، ويُستفاد منه، فزعوا إلى الهياكل التي هي السيارات السبع، فتعرَّفوا: أوَّلاً: بيوتها ومنازلها. وثانيًا: مطالعها ومغاربها. وثالثًا: اتِّصالاتها على أشكال الموافقة والمخالفة مرتَّبةً على طبائعها. ورابعًا: تقسيم الأيام والليالي والساعات عليها. وخامسًا: تقدير الصور والأشخاص والأقاليم والأمصار عليها. فعملوا الخواتيم وتعلَّموا العزائم والدعوات، وعيَّنوا ليوم زُحَل - مثلاً - يوم السبت، وراعَوا فيه ساعته الأولى، وتختَّموا بخاتمه المعمول على صورته وهيئته وصنعته، ولبسوا اللباس الخاصَّ به، وبخَّروا ببخوره الخاصِّ، ودعوا بدعواته الخاصَّة، وسألوا حاجتهم منه الحاجة التي تُستدعى من زُحَل من أفعاله وآثاره الخاصَّة به، فكان تُقضى حاجتهم، [412] ويحصل في الأكثر مرامهم، وكذلك رفع الحاجة التي تختصُّ بالمشتري في يومه وساعته وجميع الإضافات التي ذكرنا إليه، وكذلك سائر الحاجات إلى الكواكب، وكانوا يسمُّونها أربابًا آلهةً، والله تعالى هو ربُّ الأرباب وإله الآلهة، ومنهم مَن جعل

الشمس إله الآلهة، وربَّ الأرباب. فكانوا يتقرَّبون إلى الهياكل تقرُّبًا إلى الروحانيَّات، ويتقرَّبون إلى الروحانيَّات تقرُّبًا إلى الباري تعالى؛ لاعتقادهم بأن الهياكل أبدان الروحانيَّات، ونسبتها إلى الروحانيَّات كنسبة أجسادنا إلى أرواحنا، فهم الأحياء الناطقون بحياة الروحانيَّات، وهي تتصرَّف في أبدانها تدبيرًا وتصريفًا وتحريكًا كما يتصرَّف في أبداننا, ولا شكَّ أن مَن تقرَّب إلى شخصٍ فقد تقرَّب إلى روحه، ثم استخرجوا من عجائب الحيل المرتَّبة على عمل الكواكب ما كان يُقضى منه العجب، وهذه الطِّلَّسْمات المذكورة في الكتب والسحر والكهانة والتنجيم والتعزيم والخواتيم والصور كلُّها من علومهم. وأما أصحاب الأشخاص فقالوا: إذا كان لا بدَّ من متوسِّطٍ يُتوسَّل به وشفيعٍ يُتشفَّع إليه، والروحانيَّات وإن كانت هي الوسائل لكنا إذا لم نرها بالأبصار ولم نخاطبهم بالألسن لم يتحقَّق التقرُّب إليها إلا بهياكلها، [413] ولكن الهياكل قد تُرى في وقتٍ ولا تُرى في وقتٍ؛ لأن لها طلوعًا وأفولاً وظهورًا بالليل وخفاءً بالنهار، فلم يَصْفُ لنا التقرُّب بها، والتوجُّه إليها، فلا بدَّ لنا من صورٍ وأشخاصٍ موجودةٍ قائمةٍ منصوبةٍ نَصْب أعيننا، فنعكف عليها، ونتوسَّل بها إلى الهياكل، فنتقرَّب بها إلى الروحانيَّات، ونتقرَّب بالروحانيَّات إلى الله سبحانه وتعالى، فنعبدهم ليقرِّبونا إلى الله زلفى. فاتَّخذوا أصنامًا أشخاصًا على مثال الهياكل السبعة، كلُّ شخصٍ في مقابلة هيكلٍ، وراعوا في ذلك جوهر الهيكل - أعني الجوهر الخاصَّ به من الحديد وغيره -, وصوَّروه بصورته على الهيئة التي تصدر أفعاله عنه،

وراعَوا في ذلك الزمان والوقت والساعة والدرجة والدقيقة وجميع الإضافات النجوميَّة من اتِّصالٍ محمودٍ يؤثَّر في نجاح المطالب التي تُستدعى منه، فتقرَّبوا منه في يومه وساعته، وتبخَّروا بالبخور الخاصِّ به، وتختَّموا بخاتمه، ولبسوا ثيابه، وتضرَّعوا بدعائه، وعزَّموا بعزائمه، وسألوا حاجتهم منه، فيقولون: كان يقضي حوائجهم بعد رعاية هذه الإضافات كلِّها، [414] وذلك هو الذي أخبر التنزيل عنهم بأنهم عبدة الكواكب، إذ قالوا بإلهيَّتها، كما شرحنا. وأصحاب الأشخاص هم عبدة الأوثان؛ إذ سموها آلهةً في مقابلة الآلهة السماويَّة، وقالوا: هؤلاء شفعاؤنا عند الله. وقد ناظر الخليل عليه الصلاة والسلام هؤلاء الفريقين، فابتدأ بكسر مذاهب أصحاب الأشخاص، وذلك قوله تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 83]، وتلك الحجَّة أن كسرهم قولاً بقوله: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 95 - 96]. ولما كان أبوه آزر هو أعلم القوم بعمل الأشخاص والأصنام ورعاية الإضافات النجوميَّة فيها حقَّ الرعاية - ولهذا كانوا يشترون منه الأصنام لا من غيره - كان أكثر الحجج معه وأقوى الإلزامات عليه، إذ قال لأبيه آزر: {أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 74]، وقال: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم: 42]؛ لأنك جهدتَ كلَّ الجهد واستعملت كلَّ العلم حتى عملت أصنامًا في مقابلة

[415] الأجرام السماويَّة، فما بلغت قوَّتك العلميَّة والعمليَّة إلى أن تحدث فيها سمعًا وبصرًا، وأن تغني عنك وتضرَّ وتنفع، وأنك بفطرتك وخلقك أشرف درجةً منها؛ لأنك خُلِقْتَ سميعًا بصيرًا، ضارًّا نافعًا، والآثار السماوية فيك أظهر منها في هذا المتَّخذ تكلُّفًا، والمعمول تصنُّعًا، فيا لها من حيرةٍ إذ صار المصنوع بيديك معبودًا لك، والصانع أشرف من المصنوع، {يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم: 44 - 45]، ثم دعاه إلى الحنيفيَّة الحقَّة {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} [مريم: 43]، {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ} [مريم: 46] (¬1). فلم يقبل حجَّته القوليَّة، فعدل عليه السلام إلى الكسر بالفعل {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ} فقالوا: {مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا} [الأنبياء: 58 - 59]، {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) [416] فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 63 - 65]. فأفحمهم بالفعل حيث أحال الفعل على كبيرهم، كما أفحمهم بالقول حيث أحال الفعل منهم، وكلُّ ذلك على طريق الإلزام عليهم، وإلا فما كان الخليل كاذبًا قطُّ. ثم عدل إلى كسر مذاهب أصحاب الهياكل، وكما أراه الله سبحانه ¬

_ (¬1) هكذا جاء ترتيب الآيات في كتاب الشهرستانيِّ.

وتعالى الحجَّة على قومه قال: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: 75]، فأطلعه على ملكوت الكونين والعالمين تشريفًا له على الروحانيَّات وهياكلها، وترجيحًا لمذهب الحنفاء على مذهب الصابئة، وتقريرًا أن الكمال في الرجال، فأقبل على إبطال مذهب أصحاب الهياكل {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 76]، على ميزان إلزامه على أصحاب الأصنام {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا}، وإلا فما كان الخليل عليه السلام [417] كاذبًا في هذا القول، ولا مشركًا في تلك الإشارة. ثم استدلَّ بالأفول والزوال والتغيَّر والانتقال بأنه لا يصلح أن يكون ربًّا إلهًا، فإن الإله القديم لا يتغيَّر، وإذا تغيَّر [احتاج] (¬1) إلى مغيِّر، وهذا لو اعتقدتموه ربًّا قديمًا وإلهًا أزليًّا, ولو اعتقدتموه واسطةً وقبلةً وشفيعًا ووسيلةً، فالأفول والزوال أيضًا يخرجه عن الكمال، وعن هذا ما استدلَّ عليهم بالطلوع، وإن كان الطلوع أقرب إلى الحدوث من الأفول، فإنهم إنما انتقلوا إلى عمل الأشخاص لِما عراهم من التحيُّر بالأفول، فأتاهم الخليل عليه السلام من حيث تحيُّرهم، فاستدلَّ عليهم بما اعترفوا بصحَّته، وذلك أبلغ في الاحتجاج. ثم لما {رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} [الأنعام: 77]. ¬

_ (¬1) في الأصل والطبعة التي نقل عنها المؤلِّف: (فاحتاج)، والتصحيح من مطبوعة محمَّد سيِّد كيلاني.

فيا عجبًا ممن لا يعرف ربًّا كيف يقول: {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ}؟ رؤية الهداية من الربَّ تعالى غاية التوحيد ونهاية المعرفة, والواصل [418] إلى الغاية والنهاية كيف يكون في مدارج البداية؟ دع هذا كلَّه خلف قافٍ، وارجع بنا إلى ما هو شافٍ كافٍ، فإن الموافقة في العبارة على طريق الإلزام على الخصم من أبلغ الحجج وأوضح المناهج. وعن هذا قال {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ} [الأنعام: 78]؛ لاعتقاد القوم أن الشمس ملك الفلك، وهو ربُّ الأرباب الذين (¬1) يقتبسون منه الأنوار، ويقبلون منه الآثار, {فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 78 - 79] " (¬2). ومما قاله البحَّاثون عن آثار بابل أنه يُعلَم منها أنهم كانوا يعترفون بوجود الله عزَّ وجلَّ، واسمه عندهم (إل)، وأن كلَّ ما سواه من روحانيِّين وكواكب وغيرها فهم خلقه وعبيده، ثم يؤلِّهون زُحَلًا (¬3) والمشتري والمرِّيخ والزهرة وعطارد. وعندهم أن لزُحَل صورة ثورٍ برأس إنسانٍ وجناحي طائرٍ، وللمرِّيخ صورة أسدٍ برأس إنسانٍ وجناحي طائرٍ، وهكذا، ثم يمثِّلون لها تماثيل بتلك الصور التي تخيَّلوها ويعبدون تلك التماثيل. [419] ¬

_ (¬1) كذا في الأصل والطبعة التي نقل عنها المؤلَّف، وفي الملل والنحل - بتحقيق محمَّد سيَّد كيلاني - 2/ 53: (الذي). (¬2) الملل والنحل 2/ 146 - 151. [المؤلف] (¬3) كذا في الأصل.

انظر: تفسير الجواهر (¬1) لطنطاوي جوهري (¬2). وفيه أيضًا: أنهم كانوا يصفون المشتري بالربِّ العظيم، والملك، وملك الآلهة، والإله المجيد، والقاضي، والقديم، وقاضي الآلهة، وربِّ الحروب، وملك السماء، وربِّ الأبديَّة العظيم، وربِّ الكائنات، ورئيس الآلهة، وإله الآلهة، والمرِّيخَ بإله الحرب والصيد، الرجل العظيم، البطل القدير، ملك الحرب المهلك، جبَّار الآلهة، ومن صفاتهم للزهرة: ملكة الآلهة والإلهات، ولعطارد: ربُّ الأرباب الذي لا مثيل له. واستدلَّ صاحب التفسير المذكور بهذه الأوصاف المتناقضة ظاهرًا بأنهم كانوا يطلقون هذه الصفات على سبيل المبالغة في المدح. قال: "وقصارى الأمر وحُماداه (¬3) أن هؤلاء الصابئين كانوا أوَّلاً يعبدون الله تعالى، ولله ملائكةٌ موكَّلون بالكواكب، فالله هو المعبود، والملائكة يعملون بأمره، والكواكب كأنها أجسامٌ لتلك الأرواح، فعبادة الملك يتقرَّبون بها إلى الله عزَّ وجلَّ، والكوكب حجابه أو جسمه أو نحو ذلك، فهو رمزه، والتماثيل في الأرض مذكِّراتٌ بالكواكب إذا غابت عنهم. [420] إذًا العبادات في نظرهم كلُّها راجعاتٌ إلى الله تعالى، كما قال تعالى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]. فإذا عبدوا زُحَل أو المشتري فقد أرادوا بذلك أنهما ملكان، ثم اعتبروا الكواكب ثم ¬

_ (¬1) 10/ 205 - 206. [المؤلف] (¬2) المصريّ، باحث له اشتغال بالتفسير والعلوم الحديثة, ولد سنة 1287هـ, من كتبه: الجواهر في تفسير القرآن الكريم، توفي سنة 1358 هـ. معجم المفسرين 1/ 242. (¬3) سبق معناه ص 457.

التماثيل" (¬1). أقول: وما ذكره من أنَّ (إل) عندهم اسم الله عزَّ وجلَّ يبيِّنه ما جاء عن سلف الأمَّة أنَّ (إيل) اسم الله عزَّ وجلَّ بالسريانيَّة وهي لغة القوم. وجاء عن ابن عبَّاسٍ أن معناه: الرحمن (¬2)، وربَّما يشهد له ما جاء في القرآن حكايةً عن إبراهيم عليه السلام {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} [مريم: 45]. وعلى ذلك سُمَّي يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام: إسرائيل، ورُوِي عن ابن عبَّاسٍ وغيره أن معنى إسرائيل: عبد الله (¬3)، وفي التوراة والإنجيل الموجودَيْن الآن التصريح بأنَّ (إيل) اسم الله تعالى (¬4). وقد اختلف أهل العلم في قول إبراهيم عليه السلام: {هَذَا رَبِّي}، فعامَّة الخلف يتأوَّلونه على نحو ما مرَّ عن الشهرستانيِّ، والمنقول عن السلف أنه على ظاهره، وقد ذكر ابن جريرٍ قول السلف ثم قال: "وأنكر قومٌ من غير أهل الرواية هذا القول الذي رُوِي عن ابن عبَّاسٍ وعمَّن رُوِي [421] عنه من أن إبراهيم عليه السلام قال للكوكب أو للقمر: {هَذَا رَبِّي}، وقال آخرون منهم: بل ذلك كان منه في حال طفولته وقبل قيام الحجَّة عليه، وتلك حالٌ لا يكون فيها كفرٌ ولا إيمانٌ، وقال آخرون ... ، وفي خبر الله ¬

_ (¬1) انظر: تفسير الجواهر لطنطاوي جوهري 10/ 208. (¬2) لعلَّه يعني ما أخرجه ابن أبي حاتمٍ (1/ 182، ح 963) - بسندٍ صحيحٍ - عن ابن عبَّاسٍ، قال: (إنما قول جبريل كقوله: عبد الله وعبد الرحمن). وانظر: زاد المسير 1/ 119, تفسير ابن كثيرٍ 1/ 190. (¬3) انظر: تفسير الطبريِّ 1/ 593. (¬4) انظر: المعجم العبري الإنكليزي للعهد القديم، د/ وليم غزينيوس، ص 42.

تعالى عن قيل إبراهيم حين أفل القمر: {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} الدليل على خطأ هذه الأقوال التي قالها هؤلاء القوم، وأن الصواب من القول في ذلك الإقرار بخبر الله تعالى الذي أخبر به عنه والإعراض عما عداه" (¬1). أقول: ومما يشكل على القول الأوَّل أنَّ كلَّ عاقلٍ يعلم منذ حداثته بوجود الكواكب والشمس والقمر، وأنها تطلع وتأفل، فكيف يغفل إبراهيم عليه السلام عن كون الكوكب الذي رآه تلك الليلة سيأفل، أو أن القمر سيظهر بعده، وأنه أعظم منه، وأنه سيأفل، وأن الشمس ستطلع بعدهما، وهي أكبر منهما، وأنها ستأفل؟ وقد يُجاب بما رواه ابن جريرٍ وغيره عن ابن إسحاق أن أمَّ إبراهيم وضعته في مغارةٍ لا يرى فيها السماء ولم تخرجه حتى كبر، فأخرجته ليلاً فرأى الكوكب وجرى ما جرى (¬2)، وعلى هذا فيقوى القول [422] بأنه كان حينئذٍ في عهد الطفولة، فيهون الأمر في حمل الكلام على ظاهره، مع أنه عليه السلام كان حينئذٍ ساعيًا في طلب الحقِّ محبًّا لإدراك الحقيقة، ليس في قلبه غيرُ ذلك. وعلى كلِّ حالٍ فالظاهر أنَّ نظره عليه السلام في الكواكب كان بعد إنكاره عبادة الأصنام - كما يدلُّ عليه الترتيب القرآنيُّ -, حيث ذكر إنكاره على أبيه عبادة الأصنام، ثم عقَّبه بقصَّة النظر في الكواكب، وكأن أباه كان ¬

_ (¬1) 7/ 150 - 151. [المؤلف] (¬2) انظر: تفسير ابن أبي حاتمٍ 8/ 2777 - 2778، ح 15691. تفسير الطبريِّ 9/ 356 - 359.

اعتذر إليه بأنه إنما يعبد الأصنام لأجل الكواكب، فانتقل إلى النظر في الكواكب. والظاهر أن المراد بالربَّ في قوله: {هَذَا رَبِّي} المعبود، لا بمعنى الخالق القديم الواجب الوجود؛ فإنَّ القوم كما تقدَّم كانوا يعترفون بأن الله عزَّ وجلَّ هو الربُّ القديم الواجب الوجود، وإنما يشركون به غيره، ويشهد لهذا قوله تعالى حكاية عن إبراهيم: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 75 - 77]، وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف: 26 - 27]؛ [423] فالاستثناء في هاتين الآيتين يدلُّ على أن القوم كانوا يعبدون الله تعالى ويشركون به غيره؛ إذ الأصل في الاستثناء الاتصال. ثم رأيت في تفسير ابن جريرٍ ما لفظه: "حدَّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ، يقول: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ} الآية [يوسف: 106]، قال: ليس أحدٌ يعبد مع الله غيره إلا وهو مؤمنٌ بالله ويعرف أن الله خالقه ورازقه، وهو يشرك به، ألا ترى كيف قال إبراهيم: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 75 - 77]، قد عرف أنهم يعبدون ربَّ العالمين مع ما يعبدون" (¬1). وقال تعالى حكايةً عن إبراهيم عليه السلام {فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي ¬

_ (¬1) تفسير ابن جريرٍ 13/ 45. [المؤلف]

بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 78 - 79]. قال ابن جريرٍ: "حدَّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ: قول قوم إبراهيم لإبراهيم: تركتَ عبادة هذه، فقال: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} فقالوا: ما جئت بشيءٍ، ونحن نعبده ونتوجَّهه، فقال: لا. {حَنِيفًا}، قال: مخلصًا، لا أشركه كما تشركون" (¬1). ثم قال تعالى: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 80 - 82]. [424] كأنَّ محاجَّتهم له - والله أعلم - كانت بذكر الروحانيِّين، وكذا التخويف كان بهم، وهذا يدلُّ أنهم كانوا يزعمون للروحانيِّين قدرةً على النفع والضرَّ، وأنه يخشى أن يضروا مَن ينهى عن عبادتهم، وقد يجوز أن يكونوا لم يثبتوا للروحانيِّين إلا الشفاعة، أي سؤال الله تعالى أن ينفع أو أن يضرَّ، وسيأتي تحقيق المقام إن شاء الله تعالى في الكلام على عبادة الملائكة (¬2). ¬

_ (¬1) تفسير ابن جريرٍ 7/ 151 - 152. (¬2) انظر ص 712 - 715.

فأما بلقيس وقومها فإنهم سبأ، وقد قال تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14) لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا [425] فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ: 12 - 23]. يؤخذ من ذكر قصَّة سبأ عقب قصَّة سليمان أن بينهم وبينه علاقةً، وكأن ذلك إشارة إلى قصَّة صاحبة العرش، فإنها ملِكتهم [426]، وقولهم: {رَبَّنَا

بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} يدلُّ على اعترافهم بالله تعالى، وتعقيبُ قصَّتهم بأمر النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أن يقول لمشركي العرب: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ}، أي: الملائكة - كما يدل عليه السياق، وقد تقدم بيانه (¬1) - يُشعرُ بأنَّ شرك سبأ كان مشابهًا لشرك قريشٍ، فيؤخذ من ذلك أنَّ سبأ كانوا يعبدون الشمس لأجل الملائكة، كما مرَّ في الصابئة، والله أعلم. وفي فهرست ابن النديم في ذكر ديانات الهند: "منهم أهل ملَّة الدينكيتيَّة، وهم عُبَّاد الشمس، قد اتَّخذوا لها صنمًا على عَجَلٍ، ويزعمون أن الشمس مَلَكٌ من الملائكة يستحقُّ العبادة والسجود، فهم يسجدون لهذا الصنم ... أهل ملَّة الجَنْدربَهكْتِيَّة، وهم عُبَّاد القمر، يقولون: إن القمر من الملائكة يستحقُّ التعظيم والعبادة، ومن سننهم أن اتَّخذوا له صنمًا على عجلٍ ... ولا يفطرون حتى يطلع القمر، ثم يأتون صنمه بالطعام والشراب واللبن، ويرغبون إليه وينظرون إلى القمر ويسألونه حوائجهم ... وفي نصف الشهر إذا فرغوا من الإفطار أخذوا في الرَّقص [427] واللعب والمعازف بين يدي القمر والصنم" (¬2). أقول: والوثنيُّون في الهند إلى الآن إذا طلعت الشمس استقبلوها وحنوا رؤوسهم إليها وطبَّقوا أيديهم ووضعوها على جباههم وهي تحيَّة يُحيُّون بها ملوكَهم وأكابرَهم، والعوامُّ من المسلمين في الهند يحيُّون بها أو بنحوها ¬

_ (¬1) انظر ص 525 - 527. (¬2) الفهرست لابن النديم 488 - 489.

قبورَ صالحيهم، ومن المسلمين مَن يعملها عَقِب كلِّ صلاةٍ يفرغ منها، فينحرف عن القبلة ويستقبل بغداد لموضع قبر الشيخ عبد القادر الجيلانيِّ، أو يستقبل أجمير (¬1) لموضع قبر الشيخ معين الدين الجشتيِّ (¬2)، ويمكث ساعةً رافعًا يديه يدعو ثم ينحني ويذهب، ومنهم مَن يشير بتلك الإشارة على معنى التحيَّة، وأهل العلم لا يصنعون ذلك ولا ينكرونه، والله المستعان. **** ¬

_ (¬1) مدينة تقع في شمال غربي الهند في ولاية راجستهان. (¬2) واسمه محمَّد بن حسن، ولد في سيستان عام 537هـ, عاش في أماكن متفرقة من خراسان، ثم توجَّه إلى بغداد وتعرّف على السهروردي المقتول وغيره من الصوفية, ثم انتقل إلى دلهي عام 589 هـ غير أنه ما لبث أن توجَّه إلى أجمير، وتوفي هناك سنة 633 هـ. انظر: دائرة المعارف الإِسلامية, إعداد المستشرقين 2/ 862.

عبادة أشخاص لا وجود لها

عبادة أشخاصٍ لا وجود لها أما قوم هودٍ، فقوله تعالى حكاية عن هودٍ عليه السلام: {أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} [الأعراف: 71] يدلُّ أنهم كانوا يعبدون أشخاصًا لا وجود لها؛ لما سلف في تفسير آيات النجم (¬1). وقال تعالى حكايةً عنهم: [428] {قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [هود: 53 - 54]. وهذا يدلُّ أنهم كانوا يعتقدون في آلهتهم نوعًا من القدرة على النفع والضرِّ، وكأنه على معنى أنهم - أي: الآلهة - يسألون الله تعالى أن ينفع أو يضرَّ، فقد قال تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [فصلت: 13 - 14]. فقوله: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} ظاهرٌ في أنهم كانوا يعبدون الله تعالى، ولكنهم يشركون به، وابتداء الرسل بهذا يدل على أن المرسَل إليهم لم يكونوا يجحدون وجود الله عزَّ وجلَّ، بل قول المرسَل إليهم: {لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً} صريحٌ في أنهم كانوا يعترفون بأن الله عزَّ وجلَّ ربُّهم، ويعترفون بوجود الملائكة عليهم السلام. ¬

_ (¬1) هذا من القدر الذي لم أعثر عليه من الكتاب. وانظر ما سلف ص 482.

وقد ذكر الله عزَّ وجلَّ في سورة الأحقاف خبر عادٍ، ثم قال: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ [429] الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً} [الأحقاف: 27 - 28]. وذكر المفسِّرون أن المراد بما حولهم عادٌ وثمود وغيرهم، وهو ظاهرٌ. وقال الراغب: "وقوله: {قُرْبَانًا آلِهَةً} فمن قولهم: قربان الملِك: لمن يُتقرَّب بخدمته إلى الملِك، ويُستعمَل ذلك للواحد والجمع" (¬1)، أي: لأنه في الأصل مصدرٌ. أقول: وقولهم: {لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً} (¬2) قد يؤخذ منه أنهم كانوا يعبدون الملائكة، ولكن كانوا ينعتونهم بصفاتٍ كاذبةٍ، فلذلك قضى عليهم أنهم كانوا يعبدون أشخاصًا لا وجود لها، ويؤخذ من قوله تعالى: {اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا} أنَّهم كانوا يقولون: ما نعبدهم إلا ليقرِّبونا إلى الله زلفى، وأنَّ قولهم: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [هود: 54] أرادوا به أنَّ الآلهة تسأل الله تعالى أن يصيبك بسوءٍ، والله أعلم. وقد ورد في التواريخ أنه كان للقوم أصنامٌ، فإن ثبت فإنها كانت تماثيل للأشخاص التي تخيَّلوها وزعموا أنها الملائكة، والله أعلم. ¬

_ (¬1) مفردات ألفاظ القرآن 664. (¬2) في الأصل: "لو شاء الله لأنزل ملائكةً", وليست هي التي مضت في حكاية قول عادٍ وثمود.

المصريون

المصريُّون أما في عهد إبراهيم عليه السلام ففي حديث الصحيحين في ذكر [430] الجبَّار الذي أراد اغتصاب سارة زوجة إبراهيم عليه السلام: "فلما أُدخِلت عليه ذهب يتناولها بيده, فأُخِذ، فقال: ادعي الله لي ولا أضرُّكِ فدعت الله فأُطلِق، ثم تناولها الثانية، فأُخِذ مثلها أو أشدَّ، فقال: ادعي الله لي ولا أضرُّكِ, فدعت الله فأُطلِق" (¬1). وقد قال ابن هشامٍ والسهيليُّ: "إن هذا الجبَّار كان ملك مصر" (¬2). وقد يشهد لذلك أن هاجر التي أعطاها لسارة من القبط، وفي التوراة الموجودة الآن بأيدي أهل الكتاب: "وحدث جوعٌ في الأرض فانحدر أبرام (إبراهيم) إلى مصر ... وحدث لما قرب أن يدخل مصر أنه قال لساراي امرأته: إني قد علمت أنك امرأةٌ حَسَنة المنظر فيكون إذا رآك المصريُّون أنهم يقولون: هذه امرأته فيقتلونني ويستَبْقُونكِ، قولي: إنكِ أختي ... فحدث لما دخل أبرام إلى مصر أن المصريِّين رأوا المرأة أنها حسنةٌ جدًّا، ورآها رؤساء فرعون ومدحوها لدى فرعون، فأُخِذت إلى بيت فرعون ... فضرب الربُّ فرعونَ ضرباتٍ عظيمةً بسبب ساراي امرأة أبرام" (¬3). ¬

_ (¬1) صحيح البخاريَّ، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} ... ، 4/ 141، ح 3358. وبمعناه في صحيح مسلمٍ، كتاب الفضائل، بابٌ من فضائل إبراهيم الخليل - صلى الله عليه وسلم -، 7/ 98 - 99، ح 2371، وزاد ذكر مرَّةٍ ثالثةٍ. [المؤلف] (¬2) انظر: الروض الأنف بهامش سيرة ابن هشامٍ 1/ 16. (¬3) سفر التكوين، إصحاح 12. [المؤلف]

المصريون في عهد يوسف عليه السلام

[431] فقول الجبَّار لسارة: "ادعي الله لي"، صريحٌ في أنه يعترف بربوبيَّة الله عزَّ وجلَّ. المصريُّون في عهد يوسف عليه السلام قال تعالى حكايةً عن عزيز مصر: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} [يوسف: 29]، المتبادر أنه أراد: استغفري الله عزَّ وجلَّ. وقال تعالى: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف: 30 - 31]، فالنساء اللاتي تدعوهنَّ امرأة العزيز، لا بدَّ أن يكنَّ من نساء عظماء مصر، وقولهنَّ: {حَاشَ لِلَّهِ} الآية، صريحٌ في اعترافهنَّ بربوبيَّة الله عزَّ وجلَّ ووجود الملائكة. وقال تعالى حكايةً عن النسوة: {قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي [432] إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [يوسف: 51 - 53]. فقولهنَّ: {حَاشَ لِلَّهِ} صريحٌ في اعترافهنَّ بالله عزَّ وجلَّ - كما سبق -, وقد قال بعض المفسِّرين: "إن قول {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ} إلخ، من كلام امرأة

العزيز" (¬1)، وعليه ففيه الدلالة على معرفتها بربوبيَّة الله عزَّ وجلَّ، ولكن الصحيح أنه من كلام يوسف عليه السلام (¬2). وفي التوراة التي بيد أهل الكتاب الآن ذكر قصَّة رؤيا الملِك وتعبير يوسف إيَّاها له، ثم قال: "فحسن الكلام في عيني فرعون وفي عيون جميع عبيده، فقال فرعون لعبيده: هل نجد مثل هذا رجلاً فيه روح الله، وقال ليوسف: بعد ما أعلمك الله كلَّ هذا ليس بصيرٌ وحكيمٌ مثلك" (¬3). فيُعلَم مما تقدَّم ومِن قوله تعالى حكايةً عن يوسف: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [يوسف: 39 - 40] أن القوم كانوا يعترفون بربوبيَّة الله عزَّ وجلَّ ويعبدونه، ولكنهم يعبدون معه أشخاصًا لا وجود لها، والظاهر أنهم كانوا يزعمون أنهم يعبدون الملائكة، ولكن ينعتونهم بنعوتٍ لا وجود لها. وقبل الكلام على المصريِّين في عهد فرعون ننقل ما قاله البحَّاثون في الآثار المصريَّة. قال طنطاوي الجوهريُّ في تفسيره في ذكر ديانات المصريِّين القدماء: ¬

_ (¬1) انظر: زاد المسير 4/ 238 - 240. (¬2) لشيخ الإِسلام ابن تيمية رأي آخر. انظر: الفتاوى الكبرى 5/ 249، ومنهاج السنة 2/ 412. (¬3) التكوين، الإصحاح 41، فقرة 27. [المؤلف]

"إنهم يقولون: الخالق الحقُّ (¬1) للسموات والأرض لم يخلقه أحدٌ، [433] الواجب الوجود لنفسه، الكائن منذ الأزل، الروح الطاهر الكامل في جميع أوصافه، الكُلَّي الحكمة والقداسة، وهذا الإله لم يصنعوا له رسمًا ولم يكن له اسمٌ عندهم، ولا يبيحون التلفُّظ باسمه، ويقولون: إن كلَّ ما سواه من الآلهة ليس إلا صفةً له أو قسمًا من الطبيعة التي خلقها، وكانوا يقولون: إن العبادة للآلهة الصغيرة هي لله تعالى، أي: ما نعبدهم إلا ليقرِّبونا إلى الله زلفى، وإذا كان الله لا يجوز التلفُّظ باسمه فوجب أن تُقَدَّم العبادة للآلهة الصغيرة؛ لأن الله أكبر من أن نعبده نحن .... ولما كانت الآلهة الصغيرة المعروفة عند العامَّة ليست مقصودةً لذاتها، بل هي رمزٌ لخالقها، أجازوا أن يُسمَّى الواحد من هذه الآلهة باسم الآخر؛ لأنها مرجعُها كلِّها إلى الإله الأوَّل" (¬2). وقال في موضعٍ آخر نقلاً عن مجلَّة الشبَّان المسلمين: "قال المؤرِّخ شمبليون فيجياك: قد استنبطنا من جميع ما هو مدوَّنٌ على الآثار صحَّة ما قاله المؤرِّخ جامبليك وغيره من أن المصريِّين كانوا أمَّةً موحِّدةً لا تعبد إلا الله ولا تشرك به شيئًا غير أنهم [434] أظهروا صفاته العليَّة إلى العِيان مشخَّصةً في بعض المحسوسات" (¬3). ¬

_ (¬1) في الأصل: (للخلق)، والتصويب من تفسير الجواهر 10/ 209، طبعة الحلبي، الطبعة الثانية. (¬2) تفسير الجوهريِّ 10/ 201. (¬3) راجع: كتاب الأثر الجليل لقدماء وادي النيل؛ لأحمد بك نجيب، ص 123. [المؤلف]

وقال العلَّامة مسبرو: "مَن تأمَّل في الآثار الباقية إلى الآن بالديار المصريَّة واللوحات الدينيَّة المنقوشة بالهياكل وما على الورق البرديِّ هالتْه كثرة هذه الآلهة المصوَّرة عليها ... كانوا يقولون: إنه الله عزَّ وجلَّ ... إلهٌ واحدٌ لا شريك له ... ثم عدَّدوا صفاته العليَّة وميَّزوها بالأسماء واشتقُّوا منها نعوتًا شخَّصوها في المحسوسات وكلَّ شيءٍ نافع، وكلُّها ترجع إليه، ولأجل التمييز جعلوا لكلَّ اسمٍ تمثالاً ... " (¬1). وفي جريدة البلاغ، تاريخ 4 رجب سنة 1353، مقالةٌ من قلم أحمد يوسف بالمتحف المصريَّ، تحت عنوان "الدين في عقيدة قدماء المصريين"، جاء فيها ما لفظه: " ... وهم وإن كانوا قد اتَّخذوا آلهةً لكلِّ قوَّةٍ من القوى الحيويَّة، إلا أنهم كانوا يجمعون في كلِّ ذلك فكرةً في إلهٍ واحدٍ هو الإله الأكبر، فكانوا مرَّةً يجعلونه [435] "رع" في عقيدة القسم الأدنى - الوجه البحريِّ -, ومرَّةً "أمون" في عقيدة القسم الأعلى - الوجه القِبليِّ -, ومرَّةً يوفِّقون بين العقيدتين فيجمعون الإلهين معًا تحت اسم واحدٍ: "أمون - رع"، ومن ذلك العبارة المشهورة التي كانت مبدأً من مبادئ الأسرة الثانية عشر (¬2)، حوالي سنة (2000) قبل الميلاد، وهي: اعمل ما يرضي الله وما يحبَّب فيك الناس، والعبارة الأخرى التي وردت في نصائح الحكيم آنى لابنه خنس حتب من الأسرة الثانية والعشرين، نحو سنة (940) قبل الميلاد، والأثر موجودٌ بالمتحف المصريِّ، تحت رقم (2505)، وفيها يقول: بيت الله يدنَّسه الصَّخَب، ادعُ بقلبٍ ودودٍ ربَّك ذا الكلمات الخفيَّة ¬

_ (¬1) 11/ 67 - 68. [المؤلف] (¬2) كذا.

ينجزْ ما تطلبُ ويسمعْ ما تقولُ ويَقبلْ ما تُقرِّبُ. وهناك أدلَّةٌ أخرى كثيرةٌ في هذا الموضوع، لعلَّنا نحسن في اختيارنا منها نشيدًا جليل الشأن وُضِع للإله "أمون- رع" الذي ذكرناه، وهو محفوظٌ بالمتحف المصريِّ تحت رقم (2505 B)، في ورقة برديَّةٍ من الأسرة الثامنة عشرة، قبل عصر الملك أخناتون الذي نادى بتوحيد العبادات، والذي سنتكلم عنه في مقالنا القادم [436] إن شاء الله تعالى، ونقتطف من هذا النشيد ما نصُّه بالحرف: "سلامٌ عليك يا مَن يسمع دعوة الملهوف، أنت الرحيم بمَن يدعوك، يا مغيث المستضعَف مِن المتجبِّر، يا مَن يحكم بين الضعيف والقويِّ، أنت الواحد الأحد، بارئ كلَّ ما كان، أنت الذي أنسل من ناظريه بني الإنسان، الذي أوجد الآلهة بكلمةٍ منه، الذي خلق العشب غذاءً للماشية، وشجرة الحياة لبني الإنسان، الذي يَعُول أسماك النهر وطيور السماء، ومدبِّر الهواء لما هو في البيضة، مغذِّي الحيَّة ومطعم البعوضة وكلِّ زاحفٍ وطائرٍ، كذلك تنحني الآلهة لجلالك ممجَّدةً مشيئة خالقها مهلِّلةً عند دنوِّها من بارئها، قائلةً لك: مرحى يا أبا آباء جميع الآلهة، ناشر السماء وباسط الأرض، صانع ما هو كائنٌ وخالق الكائنات، يا مليكًا رئيس الآلهة، نحن نقدِّس مشيئتك؛ لأنك أنت الذي خلقتنا، نحن نباركك؛ لأنك صوَّرتنا، نحن نسبِّح بحمدك؛ لأنك أنت الذي عُنِيت بأمرنا ... ". أقول (¬1): يُعلم مما نقلناه عن البلاغ أنَّ القوم وإن كانوا يعترفون بربوبيَّة الله تعالى، إلا أنهم كانوا يشركون به أشخاصًا غيبيِّين [437] يعترفون بأنهم من خلقه، وقد دلَّ القرآن على أن أولئك الأشخاص لا وجود لهم، والظاهر ما ¬

_ (¬1) القائل هو المعلِّميّ.

المصريون في عهد موسى عليه السلام

قدَّمناه أنهم كانوا يزعمون أنهم الملائكة، ولكنهم ينعتونهم بنعوتٍ لا تنطبق على الملائكة، وأما ما قاله أولئك المؤرِّخون أنهم إنما كانوا يعبدون الله عزَّ وجلَّ ولكنهم يعدِّدون صفاته فيعبدونه بعنوان كونه مجري الشمس مثلاً ونحو ذلك؛ فهذا تخرُّصٌ قد يكون تأويلًا لبعض حكمائهم، والحقُّ ما قدَّمناه أنهم كانوا يعبدون الملائكة، ثم يعبدون المحسوسات على أنها رموزٌ للملائكة. وأما قول الشيخ طنطاوي: إن القوم لم يكونوا يعبدون الله تعالى ولا يذكرون اسمه، فهذا لا ينطبق على حالهم في عهد إبراهيم عليه السلام، ثم في عهد يوسف، فقد دلَّ القرآن والسنَّة كما - سلف - على أنهم كانوا يعبدونه ويسمُّونه، وكذا ما مرَّ عن البلاغ يدلُّ على ذلك، إلا أنه يُحتمَل أنهم فعلوا ذلك بعد يوسف عليه السلام، ويؤيِّد هذا ما يأتي في حالهم في عهد موسى عليه السلام. [438] المصريُّون في عهد موسى عليه السلام قال الله تبارك وتعالى في فرعون: {فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 21 - 24]. وقال عزَّ وجلَّ: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [القصص: 38]. وقال سبحانه: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17) قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ

فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22) قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ [439] إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء: 16 - 29]. فَهِم كثير من الناس من هذه الآيات أن فرعون ادَّعى أنه ربُّ العالم، وهذا غلطٌ حتمًا؛ فإن قوله: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}، وقوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} إنما خاطب به قومه، وقوله: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} خطابٌ لموسى، وهو يراه من رعيَّته، ولم يُرِد بقوله: {رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} أنه قديمٌ واجب الوجود. وقال الشهرستانيُّ في الملل والنحل: "ويشبه أن يكون دعوى اللعينَيْن نمروذ وفرعون أنهما إلهان أرضيَّان كالآلهة السماويَّة الروحانيَّة، دعوى الإلهيَّة من حيث الأمر - يريد استحقاق العبادة - لا من حيث الفعل والخلق، وإلَّا ففي زمان كلِّ واحدٍ منهما مَن هو أكبر سنًّا منه وأقدمُ في الوجود عليه" (¬1). ولم يجئ في كلام فرعون ما يدلُّ على زعمه أنه يعلم الغيب، أو يخلق أو يرزق، أو يحيي أو يميت، أو له قدرةٌ غير عاديَّةٍ، فضلاً عن أن يدَّعِي أنه ¬

_ (¬1) 2/ 130. [المؤلف]

واجب الوجود، بل في كلامه الاعتراف بخلاف ذلك، وفي كلام قومه معه ما هو ظاهرٌ في أنهم لم يكونوا يزعمون له شيئًا من ذلك، قال الله تعالى حكايةً عنه: {قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ [440] بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء: 34 - 56]. [441] ولو كان يدَّعي القدرة لما استأمر قومَه، ولما قال له قومُه: "أبعث في المدائن حاشرين" إلخ، بل كانوا يقولون: "أنت القادر، أَبْطِلْ سحره، أو: "أَلْهِم السحرة أن يجتمعوا"، أو نحو ذلك. وكذا أمره لهامان أن يبني له الصرح صريحٌ في اعترافه بالعجز، وقوله للسحرة: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} مع أنه هو الذي طلبهم ووعدهم صريحٌ في اعترافه بأنه لا يعلم الغيب، وأمثال ذلك كثيرةٌ فلا نطيل بها.

وقال عزَّ وجلَّ: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} [الزخرف: 51 - 53]. يمكن أن يكون قوله: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} بيانًا لقوله: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} إذا كانت القصَّة واحدةً، وعلى كلِّ حالٍ فهذه الآية تدلُّ أنه لم يدَّع مُلْك العالم فضلاً عن ربوبيَّته العظمى، وأنه لم يدَّع ربوبيَّةً في مصر أكثر من كونه مَلِكَها، وعلى هذا فيمكن أن يكون أراد بـ (ربُّكم): مَلِكَكم، أو المُلْك مع الألوهيَّة [442]، على ما يأتي. وقال البيضاويُّ في تفسير قوله تعالى: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}: "أي: أعلى كلِّ (¬1) مَن يَلِي أمرَكم". قال الشيخ زاده في حواشيه: "يريد أنه لم يرد بقوله: {أَنَا رَبُّكُمُ} أنا خالق السماوات والأرض وما بينهما وما فيهما؛ فإن العلم بفساد ذلك ضروريٌّ، ومَن شكَّ فيه وجوَّزه كان مجنونًا، والمجنون لا يُبعَث إليه رسولٌ يدعوه إلى الحقِّ، بل الرجل كان دهريًّا منكرًا للصانع والحشر والجزاء، وكان يقول: ليس للعالم إلهٌ، حتى يكون له عليكم أمرٌ أو نهيٌ، أو يبعث إليكم رسولاً، ولا يحتاج الخلق إلاَّ إلى مَن يلي أمرهم، ويحكم بينهم على أمرٍ ينتظم به معاشُهم ومعادُهم، ولا يجري بينهم البغي والاعتساف، وذلك الذي يلي أمركم أنا لا غيري". ¬

_ (¬1) في تفسير البيضاوي على حاشية الشهاب الخفاجي 8/ 316: على كلَّ.

كذا قال: "ومعادُهم"، ولم يُرِد به البعثَ بعد الموت؛ لقوله: "إن الرجل كان ينكره". أقول: حاصل كلامهم (¬1) أن فرعون أراد بقوله: {رَبُّكُمُ} أي: مَلِكُكم، وهو معنىً معروفٌ في اللغة، وقد كان المصريُّون يستعملون كثيرًا كلمتهم التي ترجمها القرآن بلفظ (ربّ) في المَلِك، جاء في قصَّة يوسف قوله: {أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا} [يوسف: 41]، وقوله: {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف: 42]، وقوله للرسول: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ} [يوسف: 50] والربُّ في هذه المواضع كلِّها بمعنى المَلِك، أي مَلِك مصر. وأما قوله: "إن فرعون كان دهريًّا ينكر الصانع" فيه نظرٌ (¬2). فأما اعتقاده في نفسه؛ فقد قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا [443] رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء: 101 - 102]. وهذا نصٌّ أن فرعون كان يعلم ربوبيَّة الله تعالى وأنه أنزل تلك الآيات بصائر، وهكذا كان قومه، قال تعالى لموسى: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ ¬

_ (¬1) في الأصل: (كلهم)، وهو سبق قلمٍ. (¬2) كذا في الأصل، والمؤلَّف قد أضاف (أمَّا) في أوَّل الجملة مؤخَّرًا, ولعلَّه نسي أن يضيف الفاء فيقول: (ففيه نظرٌ).

بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 12 - 14]. أخرج ابن جريرٍ عن ابن عبَّاسٍ: {وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُم} قال: يقينهم في قلوبهم. ثم قال: حدَّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قول الله: {وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا}، قال: استيقنوا أن الآيات من الله حقٌّ، فَلِمَ جحدوا بها؟ قال: {ظُلْمًا وَعُلُوًّا} (¬1). وأما ما كانوا يُظهرونه، ففي قول فرعون: {أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} [الزخرف: 53] ما يظهر منه أنه كان يعترف بوجود الملائكة. وقال تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ [444] وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا ¬

_ (¬1) تفسير ابن جريرٍ 19/ 79.

هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37) [445] وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر: 28 - 44]. أخبر الله تعالى عن هذا المؤمن أنه متَّصفٌ حينئذٍ بكتمان إيمانه، فعُلِم من ذلك أنه إنما حاجَّهم بأمورٍ كانوا يسلِّمونها ويعترفون بها، وإنما صرَّح بإيمانه فيما بعدُ، حيث قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ} الآيات. ولهذا - والله أعلم - لم يذكر هنا كتمان الإيمان كما ذكر أوَّلاً. فإذا ثبت هذا عُلِم أن القوم كانوا يعترفون بوجود الله عزَّ وجلَّ [446] وربوبيَّته، وأنه لا ناصر من بأسه، ويؤكِّد ذلك قوله: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ

اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا}. والظاهر من هذه الآيات أن فرعون وقومه كانوا لا يزالون على ما كان عليه سلفُهم من الاعتراف بربوبيَّة الله تعالى وإشراك الملائكة، وهذا هو الذي يَقرُب في القياس ومجاري العادات، ولكن قد قدَّمنا أن القوم بعد يوسف بالغوا في تعظيم الله تعالى في زعمهم إلى حدَّ أن قالوا: لا ينبغي للناس أن يجترئوا بعبادته عَزَّ وَجَلَّ مباشرةً، ولا يذكروا اسمه، وإنما عليهم أن يعبدوا الملائكة فحسب، ثم الملائكة هم الذين يَصلُحون لعبادة الله عزَّ وجلَّ. ولهذا - والله أعلم - كان أكثر ما جاء في محاورة موسى لهم ذكر الله تعالى بعنوان: (ربّ)، نحو: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 104, الزخرف: 46]، {رَبَّكَ} [الأعراف: 150] (¬1)، {رَبِّكُمْ} [إبراهيم: 6] (¬2)، كأنه عليه السلام لم يُرِد أن يجاهرهم بالخلاف في هذه المسألة الجزئيَّة - وهي ذكر الله عزَّ وجلَّ باسمه العَلَم -, فكأنَّ فرعون بني على زعم مَن قَبله؛ فقال: كما أنه ليس للناس أن يعبدوا الله عزَّ وجلَّ مباشرةً، كذلك لا ينبغي لعامَّة الناس أن يعبدوا الملائكة؛ لأن الملائكة أعظم من أن تعبدهم العامَّة، وإنما على العامَّة أن ينظروا مَن كان من الناس [447] أقرب إلى الملائكة فيعبدوه، وهو يعبد الملائكة، والملائكة يعبدون الله عزَّ وجلَّ، ثم ادَّعى أن أقرب الناس إلى الملائكة هم الملوك، ولهذا قال: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف: 51 - 52]. ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 61، وسورة الأعراف: 134. (¬2) وسورة طه: 49، 86 وسورة غافر: 27.

فزعم أن كمال خلقه والبسط له في الدنيا حتى صار ملِكًا دليلٌ على أنه مرضيٌّ عند الله عزَّ وجلَّ وعند الملائكة، وأنه أقرب إلى ذلك من رعيَّته؛ إذ لو لم يكن ذلك (¬1) ما جعلتهم الآلهة رعيَّةً له نافذًا فيهم حكمه. وقوله: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا} إلخ، يريد أن الله عزَّ وجلَّ كمَّلني وملَّكني ونقص موسى ولم يملِّكْه، فهذا دليلٌ أني عند الله عزَّ وجلَّ وملائكته خيرٌ من موسى وأرضى منه، فلو أراد الله تعالى أن يرسل رسول من البشر أو يوحي إلى أحدٍ منهم لكنتُ أنا أقرب وأولى بذلك من موسى. ثم قال: {فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} [الزخرف: 53]، يريد أن الرسالة أمرٌ عظيمٌ، فلو أراد الله تعالى أن يرسل موسى [448] لفعل به مثل هذه الأمور العظيمة. كأن فرعون كان يزعم أن الرسالة أعظم من الألوهيَّة، فإن الألوهيَّة عنده إنما هي أن يعمِد الناس إلى مَن دلَّت القرائن على أنه مرضيٌّ عند الله تعالى، فيعظِّموه تعظيمًا للملائكة، وأما الرسالة فإنها أعظم من ذلك، فإنها تستدعي أوَّلاً رؤية الرسول للمرسِل وسماعَ كلامه. ولهذا - والله أعلم - قال لموسي أوَّلاً: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 23]، يريد أن الرسول لا بدَّ أن يعرف ذات مَن أرسله، فلما عدل موسى إلى قوله: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء: 24]، قال فرعون {لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ} [الشعراء: 25]، أي: إني أنا أسأله عن الذات ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولعل الصواب: كذلك.

فيجيبني بالصفة التي يعرفها كلُّ أحد، وقال أخيرًا: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء: 27]، أي: لأنه يجيب بغير ما يُسأل عنه، ويزعم أنه رسولٌ من ربِّ العالمين، وهو بشرٌ مستضعَفٌ ولا يعرف أن الإرسال يتوقَّف على رؤية الرسول لمن أرسله ومواجهته له ومعرفته به. وهكذا قول فرعون: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا}، يريد - والله أعلم - كما قاله البيضاويُّ: "أن يُرِيَ فسادَ قول موسى بأن إخباره عن إله السماء متوقِّفٌ على اطِّلاعه، ووصولُه إليه لا يتأتَّى إلا بالصعود إلى السماء، وهو مما لا يَقْوَى عليه الإنسان ... ". قال الشيخ زاده في حواشيه: "يعني أن فرعون لم يقصد أن يبني له هامان بناءً رفيعًا يصعد منه إلى السماء؛ لأن فرعون ليس من المجانين الذين لا يعلمون امتناع ذلك ببداهته، وإلَّا لما صحَّ من الله تعالى أن يرسل إليه رسولاً ويكلِّفه الإيمان به والامتثال لأمره" (¬1). [449] أقول: وحاصله: أنه لم يُرِد بناء الصرح، وإنما أراد أن يُفْهِمَ الناسَ ما يزعمه من كذب موسى عليه السلام، فكأنه قال: كلُّكم يعلم أنني وأنا الملك لا أستطيع أن أصل إلى السماء، وأني لو بنيتُ بناءً كأعلى الأبنية لم أصل إلى السماء ولم أقارب، أفلا تعجبون من موسى يدَّعي أنه رسول الله؟! والرسول لا بدَّ أن يكون قد وصل إلى مرسِله، ولا يشكُّ عاقل في أن موسى لم يصلْ إلى الله تعالى. ¬

_ (¬1) الشيخ زاده 3/ 234. [المؤلف]

فأما احتجاجه بالنعم الدنيويَّة على رِضَى الله تعالى فشِنْشِنَةٌ (¬1) لأهل الجهل معروفةٌ، قال تعالى في شأن قريشٍ: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31]. وقال تعالى: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} [الفرقان: 7 - 8]. وقال تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ [450] مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} [الكهف: 32 - 36]. وقال تعالى: {لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} [فصلت: 49 - 50]. وقال تعالى: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} [الفجر: 15 - 16]. ¬

_ (¬1) الشَّنْشِنَة: العادة الغالبة. المعجم الوسيط 496.

وقد يخطر شيءٌ من هذا لخيار الناس، ففي الصحيحين عن عمر رضي الله عنه [451] قال: ... فدخلتُ على رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم، فإذا هو مضطجعٌ على رمال حصيرٍ ليس بينه وبينه فراشٌ، قد أثَّر الرمال بجنبه متَّكئًا على وسادةٍ من أدمٍ حشوها ليفٌ، فرفعت بصري في بيته، فوالله ما رأيتُ في بيته شيئًا يردُّ البصر غير آهبةٍ (¬1) ثلاثةٍ، فقلت: يا رسول الله: ادع الله فليوسِّع على أمَّتك؛ فإن فارس والروم قد وُسِّع عليهم وأُعطوا الدنيا وهم لا يعبدون الله، فجلس النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم - وكان متَّكئًا -, فقال: "أو في هذا أنت يا ابن الخطَّاب؟ إن أولئك قومٌ عُجِّلوا طيِّباتهم في الحياة الدنيا"، فقلت: يا رسول الله استغفر لي ... (¬2). وفي روايةٍ: فدخلت على رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وهو مضطجعٌ على حصيرٍ، فجلستُ، فأدنى عليه إزاره، وليس عليه غيره، وإذا الحصير قد أثَّر في جنبه، فنظرتُ ببصري في خزانة رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فإذا أنا بقبضةٍ من شعيرٍ نحو الصاع، ومثلها قَرَظًا (¬3) في ناحية ¬

_ (¬1) كذا ضبطه المؤلِّف، وهو في ذلك موافق لرواية الأصيلي التي حكم عليها ابن حجر في هدي الساري (ص 82) بأنها وهمٌ، وهو جمع قلة لإهاب، وجمع الكثرة أُهُب، والإهاب: الجلد. انظر: تاج العروس 2/ 40. وفي فتح الباري - طبعة بولاق الأولى - 9/ 252: (بفتح الهمزة والهاء وبضمَّهما أيضًا، بمعنى الأُهُب. والهاء فيه للمبالغة). (¬2) صحيح البخاريَّ، كتاب النكاح، باب موعظة الرجل ابنته لحال زوجها، 7/ 29 - 30، ح 5191. وصحيح مسلمٍ، كتاب الطلاق، بابٌ في الإيلاء واعتزال النساء وتخييرهنَّ ... ، 4/ 192 - 194، ح 1479 (34). [المؤلف] (¬3) بفتح القاف والراء، وهو صمغ السَّمُر. مشارق الأنوار 2/ 178 - 179.

الغرفة، وإذا أَفِيقٌ (¬1) معلَّقٌ، قال: فابتدرتْ عيناي، قال: ما يبكيك يا ابن الخطَّاب؟ قلت: يا نبي الله، وما لي لا أبكي، وهذا الحصير قد أثَّر في جنبك، وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى، وذاك قيصر وكسرى في الثمار والأنهار، وأنت رسول الله وصفوته، وهذه خزانتك؟ فقال: "يا ابن الخطَّاب، ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا؟ " قلت: بلى (¬2). ويُروى أن معاوية حاور الحسين بن عليٍّ عليهما السلام في شأن يزيد، فقال (¬3): إن أباه حاكم أباك إلى الله عزَّ وجلَّ، فحكم لأبيه على أبيك. وقال الشاعر - أظنُّه كُثيِّرًا -: وإني لذو حظٍّ لئن عاد وصلُها ... وإني على ربيِّ إذًا لكريم (¬4) وهكذا زعمُ المشركين أن الرسالة أعظم من الألوهيَّة أمرٌ معروفٌ، ولذلك يؤلِّهون الجمادات، ويستبعدون أن يكون الرسول إلاَّ من الملائكة، وقد مضى طرفٌ من هذا في شأن قوم نوحٍ (¬5). وأما ما قدَّمناه من أن فرعون شرع لقومه أنهم يعبدونه وهو يعبد الملائكة، فالبرهان عليه قول الله عزَّ وجلَّ: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ [452] مُوسَى ¬

_ (¬1) بفتح الهمزة وكسر الفاء، وهو الجلد الذي لم يتمَّ دباغه. انظر: شرح النوويِّ على صحيح مسلمٍ 10/ 83. (¬2) صحيح مسلمٍ، الموضع السابق، 4/ 189، ح 1479. [المؤلف] (¬3) أي معاوية رضي الله عنه، وقوله: أباه, هو معاوية نفسه. (¬4) البيت في ديوان كثيِّر عزَّة 128، وفيه: "وإني لذو وَجْدٍ"، بدل: "وإني لذو حَظٍّ". وكذا هو في الأغاني 12/ 223، ومنتهى الطلب من أشعار العرب 4/ 126. (¬5) انظر ص 443 - 444. وانظر ص 636.

وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف: 127]. نصَّت الآية على أنه كان له آلهةٌ، وأما هم فقد قال لهم: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38]، وقراءة مَن قرأ: (وإلاهتك) (¬1) - إن صحَّت - لا تدفع ما تقدَّم، بل هو معنىً آخر لا يدفع معنى القراءة المجمع عليها، ومَن زعم أن المراد بآلهته أصنامٌ على صورته كان أَمر قومَه بعبادتها، فقد أبعد؛ لأنها لا تكون آلهته، بل تكون آلهةً لقومه، وذلك مخالفٌ لقوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}. فقولهم: {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} من باب الترقِّي، أي: يذر أن يعبدك، بل ويذر أن يعبد معبوداتك، ويترقَّى إلى عبادة معبود معبوداتك، فهو يترفَّع أن يعبدك، بل ويترفَّع (¬2) أن يساويك، ولا يقنع إلا بمساواة آلهتك. والحاصل: أن فرعون أقام نفسه مقام الأصنام - كما مرَّ عن الملل والنحل (¬3) -, فكما أن أهل الأصنام يعبدونها تقرُّبًا إلى الملائكة بدون أن يثبتوا لها قدرةً تنافي كونها جمادًا، فكذا فرعون شرع لقومه أن يعبدوه تقرُّبًا إلى الملائكة بدون أن يثبت لنفسه أو يثبتوا له قدرةً تزيد على كونه إنسانًا. وفي فهرست ابن النديم عند ذكر ديانات أهل الهند: "ومنهم أهل ملَّةٍ يُقال لها: الراجمرتيَّة، وهم شيعة الملوك، ومن سننهم في دينهم [453] ¬

_ (¬1) انظر: البحر المحيط 4/ 367. (¬2) في الأصل: (يترفك)، وهو سبق قلمٍ. (¬3) انظر ص 694.

معونة الملوك، قالوا: الله الخالق تبارك وتعالى ملَّكهم، وإن قُتِلنا في طاعتهم مضينا إلى الجنَّة" (¬1). وفيها في مذاهب أهل الصين، قال: "وعامَّتهم يعبدون الملِك، ويعظِّمون صورته، ولها بيتٌ عظيمٌ في مدينة بغران" (¬2). أقول: قد اشتهر قريبٌ من هذا في رعاع الشام بالنسبة إلى خلفاء بني أميَّة، كانوا يزعمون أن الخليفة لا يحاسَب ولا يعاقَب، وأنَّ طاعته فريضةٌ على الناس وإن أمر بمعصية الله عزَّ وجلَّ. وفي ترجمة الحجَّاج من تهذيب الكمال للمزِّيِّ: "وكان يزعم أن طاعة الخليفة فرضٌ على الناس في كلِّ ما يرومه، ويجادل على ذلك" (¬3). قلت: وعن هذا - والله أعلم - كفَّره أئمَّة السلف (¬4). ¬

_ (¬1) الفهرست ص: 489 - 490. (¬2) المصدر السابق 491. (¬3) لم أجد هذا النصَّ في تهذيب الكمال، وإنما وجدته في تهذيب التهذيب لابن حجرٍ 2/ 210. (¬4) منهم: سعيد بن جُبَيرٍ، والنخعيُّ، ومجاهدٌ، وعاصم بن أبي النَّجُود، والشعبيُّ، وغيرهم - كما في تهذيب التهذيب، الموضع السابق -. قال الخطَّابيِّ: "وقد اختلفوا فى السبب الذي من أجله استجاز القرَّاء الخروج عليه، فقال ابن المبارك: إنما استحلُّوا الخروج عليه لكفره بقراءة عبد الله بن مسعودٍ, ولقوله: إنها رجزٌ من أراجيز العرب ... وقال بعضهم: إنما فعلوا ذلك لإعظامه القول عند ذكر قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا}، وتقديمه طاعة ظَلَمة بني أميَّة على طاعة الله عزَّ وجلَّ". غريب الحديث 3/ 181 - 182. يعني قول الحجَّاج: "اتَّقوا الله ما استطعتم ليس فيها مثنويَّةٌ، واسمعوا وأطيعوا ليس فيها مثنويَّةٌ

العرب وتأليه الإناث الخياليات

العرب وتأليه الإناث الخياليَّات قد علمت أن العرب كانوا يزعمون أن لله - تعالى الله عن قولهم - بناتٍ، وأنهنَّ هنَّ الملائكة، ويجعلون لها تماثيل أو تذاكير من الجمادات ويعبدونها، فنجد القرآن ينوِّع محاجَّتهم، فتارةً يُؤَنِّبُهُم على عبادة الأصنام، وتارةً ينعى عليهم نسبة [454] الولد إلى الله عزَّ وجلَّ، وتارةً يوبِّخهم على أنهم لم يكتفوا بنسبة الولد إليه حتى خصُّوا الإناث - مع كراهيتهم لأنفسهم البنات -, وتارةً يبيِّن لهم أنهم إنما يعبدون العدم، وتارةً يُعلِمهم بأنه على فرض أن تكون موجودةً لا تستحقُّ أن تُعبَد؛ لاعترافهم بأنه ليس لها من الأمر شيءٌ، وتارةً يُعلِمهم بأنهم إنما يعبدون الشياطين - على المعنى الذي تقدَّم فيما سبق، وسنوضَّحه إن شاء الله تعالى في الكلام على تفسير عبادة الشياطين (¬1) -, وتارةً يفنِّدهم في قولهم: الملائكة إناثٌ، وتارةً يبطل استحقاق الملائكة أن يُعبَدوا، وتارةً يذكر أنهم إنما يعبدون من سوَّل لهم ذلك الفعل من الشياطين أو الرؤساء أو الأهواء. فأما الأصنام فقد علمتَ أنهم إنما كانوا يعبدونها على أنها تماثيل وتذاكير لتلك الإناث الوهميَّات، ويُحتمَل في بعض أصنامهم غير ذلك مما سبق. وأما الإناث الوهميَّات فكانوا يزعمونها بناتٍ لله - تعالى عما يقولون علوًا كبيرًا -, وقد احتجَّ عليهم القرآن بقوله: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ ¬

_ لأمير المؤمنين عبد الملك ... ويا عَذِيرى من عبد هُذَيلٍ يزعم أن قراءته من عند الله، والله ما هي إلا رجزٌ من رجز الأعراب، ما أنزلها الله على نبيِّه عليه السلام ... ". أخرجه أبو داود في كتاب السنَّة، بابٌ في الخلفاء، 4/ 210، ح 4643. (¬1) انظر ص730.

صَاحِبَةٌ} [الأنعام: 101]. وقدَّمنا أن هذا يدلُّ على أنهم لم يكونوا يثبتون لله صاحبةً؛ إذ لو كانوا يزعمون أن له صاحبةً لما كان في هذا حجَّةٌ عليهم، هذا [455] هو الظاهر، وأيَّده ما رُوِي أن الصِّدِّيق لما قال لهم: فمَن أُمُّهم؟ لم يُمْكِنُهم الجواب (¬1) - وقد سبق ذلك (¬2) -, ولم يَثبُت ما يعارض هذا. وقدَّمنا أن الظاهر من تعظيمِهم لله عزَّ وجلَّ واعتمادِهم في دينهم على الأقيسة الفاسدة أنهم إنما (¬3) كان مستقرًّا في أذهانهم أن العقم نقصٌ أرادوا أن ينزَّهوا الله عزَّ وجلَّ عنه، فرأوا أنهم إن أثبتوا له ولدًا ذكرًا لزم من ذلك إثبات شريكٍ له في ملكه، وكانوا يتحاشون ذلك. وقد صحَّ أنهم كانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك (¬4) إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك. ثبت ذلك في صحيح مسلمٍ، ولفظه: "عن ابن عبَّاسٍ، قال: كان المشركون يقولون: لبيك لا شريك لك، فيقول رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "ويلكم، قد، قد"، [فيقولون:] (¬5) إلاَّ شريكًا هو لك، تملكه وما ملك، يقولون هذا وهم يطوفون بالبيت" (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي حاتمٍ كما في الدرِّ المنثور 7/ 377. (¬2) انظر ص 581. (¬3) كذا في الأصل، ولعلَّ الصواب: لَمَّا. (¬4) في الأصل: (له)، وهو سبق قلمٍ. (¬5) ما بين المعقوفتين زيادةٌ من صحيح مسلمٍ. (¬6) صحيح مسلمٍ، كتاب الحجِّ، باب التلبية وصفتها ووقتها، 4/ 8, ح 1185. [المؤلف]

ورُوِي أن أوَّل من قال ذلك عمرو بن لُحَيٍّ. قال السهيليُّ: "وذكر أبو الوليد الأزرقيُّ في أخبار مكَّة أن عمرو بن لُحَيِّ ... وكانت التلبية من عهد إبراهيم: لبيك لا شريك لك لبيك، حتى كان عمرو بن لُحَيِّ، فبينما هو يلبِّي تمثَّل له الشيطان في صورة شيخٍ يلبِّي معه، فقال عمرٌو: لبيك لا شريك لك، فقال الشيخ: إلا شريكًا هو لك، فأنكر ذلك عمرٌو، وقال: ما هذا؟ فقال الشيخ: قل: تملكه وما ملك، فإنه لا بأس بهذا، فقالها عمرٌو، فدانت بها العرب" (¬1). والمقصود أنهم رأوا أن إثبات الولد الذكر يلزم منه إثبات الشريك في الملك، فأما البنات فلا يلزم هذا فيهنَّ، لما اعتادوه فيما بينهم أن البنات لا يرثن من آبائهنَّ ولا يقاتلن ولا يخاصمن، وإنما هنَّ كَلٌّ على الرجال، وليس لهنَّ من الأمر شيءٌ. وفي صحيح مسلمٍ عن ابن عبَّاسٍ قال: " .... قال عمر: والله إن كنَّا في الجاهلية ما نَعُدُّ للنساء أمرًا حتى أنزل الله فيهنَّ ما أنزل وقسم لهنَّ ما قسم، قال: فبينما أنا في أمْرٍ آتمره إذ قالت لي امرأتي: لو صنعت كذا وكذا، فقلت لها: وما لكِ أنتِ ولما ها هنا، وما تَكَلُّفُكِ في أمرٍ أريده؟! فقالت لي: عجبًا لك يا ابن الخطَّاب! ما تريد أن تُراجَعَ أنت، وإن ابنتك لتراجع رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم حتى يظلَّ يومه غضبان ... " (¬2). ¬

_ (¬1) الروض الأنف 1/ 12. [المؤلف]. وانظر: أخبار مكة للأزرقي 1/ 287. (¬2) صحيح مسلمٍ، كتاب الطلاق، بابٌ في الإيلاء واعتزال النساء وتخييرهنَّ ... ، 4/ 190، ح 1479 (31). وهو في صحيح البخاريَّ، كتاب التفسير، سورة التحريم، باب: "تبتغي مرضات أزواجك"، 6/ 156، ح 4913. [المؤلف]

فرأوا أنهم إذا أثبتوا لله عزَّ وجلَّ بناتٍ كانوا قد نزَّهوه من ذلك النقص العظيم - وهو العقم -, ولم يلزمهم إثبات شريكٍ له في ملكه، على أن الظاهر من حالهم أنهم كانوا متحيِّرين في إثبات البنات لله عزَّ وجلَّ، يكادون لولا التقليد والاستكبار [456] يعتذرون بأنهم إنما يريدون بناتٍ مجازًا، أي: محبوباتٍ له مُقَرَّباتٍ عنده، ولهذا - والله أعلم - كان اعتمادهم على أنهم يعبدون الملائكة، فكأنهم يقولون: سلَّمنا أنه ليس له ولدٌ لا ذكرٌ ولا أنثى، وسلَّمنا أن الملائكة ليسوا بناتٍ لله تعالى ولا إناث (¬1)، ولكنهم عبادٌ مقرَّبون عنده يشفعون لديه، {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]. ولهذا - والله أعلم - كان غالب محاجَّة القرآن لهم إنما هو في عبادة الملائكة - كما يُعلَم مما تقدَّم -, ومن هنا يُعلَم أن شركهم ليس مداره على قولهم: بنات الله، وقولهم: الملائكة إناثٌ، بل شركهم ثابتٌ ولو لم يقولوا ذلك، ويدلُّ على هذا قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الزخرف: 15 - 20]. فوبَّخهم الله عزَّ وجلَّ على قولهم: إن لله ولدًا، ثم على قولهم: إن ذلك الولد إناثٌ، ثم على قولهم: الملائكة إناث، ثم على قولهم: {لَوْ شَاءَ [457] ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، والجادَّة: إناثًا.

الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ}، فدلَّ أن كلَّ أمرٍ من هذه منكرٌ على حِدَةٍ. وهكذا قوله تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 19 - 29] في آياتٍ أخر قد تقدَّم بعضها في سياق الآيات في عبادة الملائكة (¬1)، يُعلَم منها أن شرك القوم ثابتٌ ولو لم يقولوا: بنات الله، ولا قالوا: الملائكة إناثٌ. والمقصود من هذا ألاَّ يُتوهَّم أن تأليههم للملائكة وعبادتهم إيَّاهم قوامه اعتقادهم فيهم أنهم بنات الله عزَّ وجلَّ. [458] وبعدُ، فقد علمتَ أنهم وغيرهم من الأمم ألَّهوا الأصنام وعبدوها، مع أنهم لم يعتقدوا فيها أكثر من أنها تستحقُّ التعظيم؛ لأنها قد جُعِلت تماثيل وتذاكير ورموزًا للملائكة أو للكواكب أو لرجالٍ صالحين، وأن قومًا ألَّهوا الكواكب وعبدوها ولم يعتقدوا فيها أكثر من كونها أجسادًا أو ¬

_ (¬1) انظر ص 437 - 439.

مظاهر للملائكة، إلى غير ذلك مما تقدَّم. فثبت بذلك أن تأليه الشيء وعبادته لا يتوقَّف على زعمهم أنه واجب الوجود أو أنه الخالق أو خالقٌ آخر أو ابن الخالق أو نحو ذلك، والله أعلم. ****

تفسير عبادة الملائكة

تفسير عبادة الملائكة قد علمتَ مما سبق أن أصل شرك العرب هو عبادتهم للملائكة، وكذلك قوم هودٍ وصالحٍ وقوم إبراهيم والمصريُّون - كما مرَّ (¬1) -, ومثلهم اليونان والهند، وقد مرَّ طرفٌ من شرك الهند عند ذكر الكواكب وغيرها (¬2)، ولم أقصد الاستيعاب؛ إذ لا داعي إليه، ولا رأيت لهم ذكرًا خاصًّا في القرآن. وعامَّة عبَّاد الملائكة ينعتونهم بنعوتٍ كذَّبها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فمن ذلك ما مرَّ عن العرب في قولهم: الملائكة بنات الله (¬3)، وكثيرٌ من الأمم يزعمون أن الملائكة ذكورٌ وإناثٌ، يتناكحون ويتناسلون. وأتباع أرسطو يزعمون أن [459] الملائكة هم العقول العليا التي توهَّموها وبنوها على أصلهم الباطل أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحدٌ، وبنوا على ذلك فظائع من الكفر والشرك، إلا أن قولهم كان محصورًا في أدمغة أفرادٍ محدودين قد انقرضوا بحمد الله تعالى. واعلم أن عبَّاد الملائكة - ما عدا أتباع أرسطو - فريقان: فريقٌ يزعمون أن الملائكة يتصرَّفون باختيارهم. وفريقٌ لا يثبتون للملائكة اختيارًا إلا في الشفاعة، مع تردُّدٍ منهم في ¬

_ (¬1) انظر ص 595. (¬2) انظر ص 683، 706 - 707. (¬3) انظر ص 50، 112, 550، 579.

إثبات الاختيار في الشفاعة، كما سيأتي إن شاء الله (¬1). فأما الفريق الأوَّل - وهم أكثر أمم الشرك، كاليونان والهند والمصريِّين القدماء -, فكأنهم قاسوا الملائكة على البشر، فرأوا أنه كما أن البشر يتصرَّفون في الدنيا بالقدرة التي خلقها الله عزَّ وجلَّ لهم باختيارهم وإرادتهم يستطيع كلٌّ منهم نفع غيره وضرَّه في دائرة قدرته المحدودة، فالملائكة كذلك، إلا أن قدرتهم أعظم. قالوا: وكما أن الإنسان يتذلَّل لإنسانٍ آخر إذا احتاج إليه، ويسأل منه أن ينفعه أو يدفع عنه الضرَّ، وإن كان البشر لا يستطيعون نفع مَن يريد الله تعالى ضرَّه ولا ضرَّ مَن يريد الله عزَّ وجلَّ نفعه، [460] فكذلك نتذلَّل نحن للملائكة وندعوهم؛ لأنا محتاجون إليهم لينفعونا أو يدفعوا عنا الضرَّ، وإن كنا نعلم أن الملائكة لا يستطيعون نفع مَن يريد الله تعالى ضرَّه، ولا ضرَّ مَن يريد الله تعالى نفعه. وإذا جاز الأوَّل فجواز الثاني أولى؛ لأن قُدَر البشر متقاربةٌ، وقدرة الملائكة أعظم من قدرة البشر، فأما إذا كان المقصود من التذلُّل للملائكة ودعائهم أن يعينوا على ما هو خيرٌ وطاعةٌ لله عزَّ وجلَّ فلا شبهة في أن ذلك يكون عبادةً لله عزَّ وجلَّ. وقد أدحض الله تعالى شبهة هؤلاء وبرهن على بطلان ما زعموه، بقوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}، وقد تقدَّم إيضاح ذلك، فارجع إليه (¬2). وأما الفريق الثاني، فمنهم مشركو العرب؛ فإنهم كانوا يعترفون بأن الله ¬

_ (¬1) انظر ص 356 - 361. (¬2) ص 129 - 130 [المؤلف]. ص 349 - 350.

تعالى هو الخالق والرازق والمدبِّر إلى غير ذلك، وفي كتاب الله تعالى الشهادة عليهم بذلك في مواضع كثيرةٍ، منها قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ [461] الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس: 31 - 32]. وقال عزَّ وجلَّ: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 84 - 89]. وقال عزَّ وجلَّ: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [العنكبوت: 61 - 63]. وقال عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [لقمان: 25]. [462] وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ

أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر: 38]. وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف: 9]. وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزخرف: 87]. ففي هذه الآيات أن المشركين كانوا معترفين بوجود الله عزَّ وجلَّ، وأنه الذي يرزقهم من السماء والأرض، والذي يملك السمع والأبصار، والذي يخرج الحيَّ من الميِّت ويخرج الميِّت من الحيِّ، والذي يدبِّر الأمر، والذي له السموات والأرض، وأنه ربُّ السموات السبع وربُّ العرش العظيم، وأنه بيده ملكوت كلِّ شيءٍ، وأنه يُجير ولا يُجار عليه، وأنه الذي خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر، وأنه الذي ينزل من السماء ماءً فيحيي به الأرض بعد موتها، وأنه العزيز العليم. [463] وفي القرآن آياتٌ كثيرةٌ تشهد على المشركين باعترافهم بتفرُّد الله عزَّ وجلَّ بما تقدَّم من الصفات وغيرها، وإن لم يكن ذلك مثل ما تقدَّم في الصراحة، منها قوله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61)

أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [النمل: 59 - 64]. [464] قال البيضاويُّ في قوله تعالى: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ}: "إلزامٌ لهم وتهكُّمٌ بهم وتسفيهٌ لرأيهم؛ إذ من المعلوم أن لا خير فيما أشركوه رأسًا حتى يوازن بينه وبين ما هو مبدأ كلِّ خيرٍ". قال الشيخ زاده في حواشيه: "يعني أن الآية بظاهرها، وإن دلَّت على أن المقصود الموازنة بينه تعالى وبين الأصنام. ولا وجه له، ضرورةَ أن أحدًا من العقلاء لا يزن المخلوق العاجز بالخالق القادر على كلِّ شيءٍ في معنى الخيريَّة، بل المقصود إلزام المشركين ... " (¬1). أقول: الأولى حَمْلُ ما في قوله: {أَمَّا يُشْرِكُونَ} على ما يَعُمُّ جميع معبوديهم من الملائكة وغيرهم. فإن قيل: لو أُرِيد هذا لكان الظاهر أن يُقال: (أم مَن يشركون)، تغليبًا للعاقل على غيره؛ لأن الغالب أن تكون (مَن) للعقلاء و (ما) لغيرهم. قلت: غلَّب هنا غير العاقل تنبيهًا على أن معبوديهم من الملائكة وغيرهم إذا وُزِنوا بالله عزَّ وجلَّ لم يكونوا شيئًا، والكلام من باب التنزيل، أي أن المشركين لما جعلوا مع الله عزَّ وجلَّ شركاء نُزَّلُوا منزلة [465] مَن ¬

_ (¬1) حواشي الشيخ زاده 2/ 493. [المؤلف]

يزعم أنهم مثله في الخيريَّة، وإلا فالقوم معترفون بأن الله عزَّ وجلَّ خيرٌ، وهذا مثل قول المؤذِّن: (الصلاة خيرٌ من النوم)، نُزِّل المؤْثِر للنوم على الصلاة منزلة مَن يزعم أن النوم خيرٌ، وإلا فالمسلمون المخاطَبُون بالأذان لا يشكُّون أن الصلاة خيرٌ من النوم. وقال أبو السعود في قوله تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ........}: "والهمزة لتقريرهم، أي: حملهم على الإقرار بالحقِّ على وجه الاضطرار، فإنه لا يتمالك أحدٌ ممن له أدنى تمييزٍ ولا يقدر على ألَّا يعترف بخيريَّة مَن خلق جميع المخلوقات ... " (¬1). وقال في قوله تعالى: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ}: "وقيل: المراد نفي أن يكون معه تعالى إلهٌ آخر فيما ذُكِر من الخلق وما عُطِف عليه، لكن لا على أن التبكيت بنفس ذلك النفي فقط، كيف لا وهم لا ينكرونه حسبما ينطق به قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}، [466] بل بإشراكهم به تعالى في العبادة ما يعترفون بعدم مشاركته له تعالى فيما ذُكِر من لوازم الألوهيَّة" (¬2). وقال البيضاويُّ في قوله تعالى: {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُه}: "والكفرة وإن أنكروا الإعادة فهم محجوجون بالحجج الدالَّة عليها". قال الشيخ زاده: "ولما ورد أن يُقال: كيف يمكن إلزام الكفرة تذكُّر نعمة الإعادة وما يترتَّب عليها وهم منكرون للإعادة؟ أجاب عنه: بأنهم وإن ¬

_ (¬1) تفسير أبي السعود 2/ 289. [المؤلف] (¬2) تفسير أبي السعود 2/ 290. [المؤلف]

أنكروا إلاَّ أنهم لما لم يكن لهم عذرٌ في إنكارها نُزَّلُوا منزلة مَن أقرَّ بها، فتوجَّه إليهم الإلزام" (¬1). أقول: ولِمَ لا يُقال: إن قوله تعالى: {ثُمَّ يُعِيدُهُ} ليس المراد به الإعادة بعد الموت بل أمرٌ آخر، كما قيل في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [لعنكبوت: 19]، قال البيضاويُّ: "إخبارٌ بالإعادة بعد الموت، معطوفٌ على {أَوَلَمْ يَرَوْا}، لا على {يُبْدِئُ}؛ فإن الرؤية غير واقعةٍ، ويجوز أن يُؤَوَّل بالإعادة [467] بأن ينشئ في كلِّ سنةٍ مثل ما كان في السنة السابقة من النبات والثمار ونحوهما، ويعطف على {يُبْدِئُ} " (¬2). وعلى هذا فلا إشكال؛ لأن المشركين يقرُّون بأن الله تعالى يعيد الخلق بهذا المعنى، والله أعلم. وقال أبو السعود في قوله تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ}: " ... أي: هاتوا برهانًا عقليًّا أو نقليًّا يدلُّ على أن معه تعالى إلهًا، لا على أن غيره تعالى يقدر على شيءٍ مما ذُكِر من أفعاله تعالى كما قيل، فإنهم لا يدَّعونه صريحًا ولا يلتزمون كونه من لوازم الألوهيَّة، وإن كان منها في الحقيقة، فمطالبتهم بالبرهان عليه، لا على صريح دعواهم، مما لا وجه له" (¬3). والحاصل: أن الاستفهام في قوله تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ} وما بعدها ¬

_ (¬1) حواشي الشيخ زاده 2/ 494. [المؤلف] (¬2) هامش حواشي الشيخ زاده 3/ 8. [المؤلف] (¬3) تفسير أبي السعود 2/ 291. [المؤلف]

تقريريٌّ، أي: أم الذي خلق السماوات والأرض خيرٌ مما تشركون؟ ولا ريب أن هذا لا يصحُّ إلا إذا كانوا يقرُّون بأن الله تعالى هو وحده الذي خلق السموات والأرض، وأنه لا حَظَّ لشركائهم [468] في ذلك، وهكذا يُقال في الباقي، ولهذا احتاج المفسِّرون إلى تأويل قوله تعالى: {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ}، وقد علمتَ أن الإعادة إذا حُمِلت على ما يقع من إعادة الخلق مرَّةً بعد مرَّةٍ في الدنيا كان الكلام على ظاهره، والله أعلم. والآيات في هذا المعنى كثيرة، فإن كلَّ آيةٍ ذكر الله تعالى بها نفسه بأنه الخالق أو الرازق أو غير ذلك من نعوت الكمال، وكان مساق الكلام على إقامة الحجَّة على المشركين، فهي من هذا القبيل؛ إذ لو لم يكن المشركون يقرُّون بأن الله عزَّ وجلَّ هو وحده فالق الإصباح وجاعل الليل سكنًا إلخ، لكان ذكر ذلك دعوى فقط لا تكون حجَّةً عليهم في إبطال شركهم، والحكيم لا يحتجُّ بما هو دعوى مجردَّةٌ. ومن هذا القبيل: الفاتحة، فلولا أن المشركين يعترفون بأن الله عزَّ وجلَّ ربُّ العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين لما كان في ذلك حجَّةٌ عليهم، يَثبُت بها ما تضمَّنه قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ [469] وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}. فإن قلت: فإنهم لا يؤمنون بيوم الدين، قلت: لكنهم لو قيل لهم: إذا فُرِض أن يوم الدين حقٌّ، فمَن يكون مالكه؟ لقالوا: الله. فتدبَّر هذا المعنى حقَّ تدبُّره، ثم اقرأ القرآن تجدْه مملوءًا بالحجج على أن المشركين كانوا يعترفون بالله عزَّ وجلَّ وصفاته، وإنما نازعوا في انفراده باستحقاق العبادة، والله أعلم.

وقد مرَّ في أثناء الرسالة ما يتعلَّق بما ذكرناه (¬1)، منه كلام ابن جريرٍ على آية {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22]، قال: "وأحسب أن الذي دعا مجاهدًا إلى هذا التأويل، وإضافة ذلك إلى أنه خطابٌ لأهل التوراة والإنجيل دون غيرهم، الظنُّ منه بالعرب أنها لم تكن تعلم أن الله خالقها ورازقها بجحودها وحدانيَّة ربِّها وإشراكها معه في العبادة غيره، وإن ذلك لقولٌ؛ ولكن الله جلَّ ثناؤه قد أخبر في كتابه أنها كانت تقرُّ بوحدانيَّته غير أنها كانت تشرك في عبادته ما كانت تشرك فيها، فقال جلَّ ثناؤه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ [470] لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87]، وقال: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [يونس: 31]، فالذي هو أولي بتأويل قوله: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} إذ كان ما كان عند العرب من العلم بوحدانيَّة الله عزَّ وجلَّ، وأنه مبتدع الخلق وخالقهم ورازقهم نظيرَ الذي كان من ذلك عند أهل الكتابين ... " (¬2). ونسبة ابن جريرٍ هذه الغفلة إلى مجاهدٍ مع جلالة مجاهد تهوِّن عليك نسبة مثل هذه الغفلة إلى غيره، حتى إنه قد يقع فيها ابن جريرٍ نفسه في بعض المواضع. وفي تفسير ابن جريرٍ عند قول الله عزَّ وجلَّ: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106]، قال ابن جريرٍ: " ... عن ابن عبَّاسٍ {وَمَا ¬

_ (¬1) انظر: ص 680 مثلًا. (¬2) تفسير ابن جريرٍ 1/ 126. [المؤلف]

يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ} الآية، قال: من إيمانهم إذا قيل لهم: مَن خلق السماء ومَن خلق الأرض ومَن خلق الجبال؟ قالوا: "الله". وهم مشركون .... عن عكرمة ... قال: تسألهم مَن خلقهم ومَن خلق السموات والأرض؟ فيقولون: "الله". فذلك إيمانهم بالله، وهم يعبدون غيره". ثم ذكر نحوه عن الشعبيِّ ومجاهدٍ. وفي روايةٍ عن مجاهدٍ: "إيمانهم قولهم: "الله خالقنا ويرزقنا ويميتنا"، هذا إيمانٌ، مع شرك عبادتهم غيره". وأخرج عن قتادة قال: " ... هذا إنك لستَ تلقى أحدًا منهم إلا أنبأك أن الله ربُّه وهو الذي خلقه ورزقه، وهو مشركٌ في عبادته". وأخرج نحوه عن عطاءٍ. ثم قال: "حدَّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ: يقول: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ} الآية. قال: ليس أحدٌ يعبد مع الله غيره إلا وهو مؤمنٌ بالله، ويعرف أن الله ربُّه، وأن الله خالقه ورازقه، وهو يشرك به، ألا ترى كيف قال إبراهيم: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 75 - 77]؟ قد عرف أنهم يعبدون رب العالمين مع ما يعبدون. قال: فليس أحدٌ يشرك به إلا وهو مؤمنٌ به، ألا ترى كيف كانت العرب تلبِّي تقول: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلاَّ شريكٌ هو لك، تملكه وما مَلَك"؟ المشركون كانوا يقولون هذا" (¬1). وفي تصريح مجاهدٍ بما سمعتَ - وهو ثابتٌ عنه من عدَّة طرقٍ - ما يبيِّن ¬

_ (¬1) تفسير ابن جريرٍ 13/ 44 - 45. [المؤلف]

بطلان ما اتَّهمه به ابنُ جريرٍ من أنه ظنَّ أن العرب لم تكن تعلم أن الله خالقها ورازقها، إلاَّ إن كان غفل عن ذلك غفلةً، كما قد تقع الغفلة عن ذلك من غيره كثيرًا - كما تقدَّم -، والله أعلم. والحاصل أن شرك العرب انحصر في قولهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]. وقولهم: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18]. وسيأتي إيضاح شبهتهم وإبطالها إن شاء الله تعالى في فصل شبهات المشركين (¬1)، وقد مرَّ شيءٌ من ذلك في الكلام على قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] (¬2). **** ¬

_ (¬1) انظر ص 851 - 854. (¬2) ص 138 - 140 [المؤلف]. ص 358 - 361.

تفسير عبادة الشياطين

[471] تفسير عبادة الشياطين قد لوَّحنا فيما تقدَّم (¬1) إلى أنَّ عبادة الشياطين لها وجوه. الأوَّل: طاعتهم في شرع الدين، وهم في ذلك قريبٌ من الأحبار والرهبان، وقد تقدَّم ما يتعلَّق بهم (¬2)، ولم يعذر الله المشركين بكونهم لا يعلمون أنهم يطيعون الشياطين؛ لأن الحجَّة قد قامت عليهم بأن الشيطان يوسوس للإنسان بالأفعال السيِّئة، فلما كان إذا وقع في أنفسهم تخيُّلُ أن عبادة الأصنام ونحوها دينٌ ينفع عند الله تعالى ونحو ذلك من التخيُّلات، وهم يعلمون أنه ليس على ذلك برهانٌ، ولا أنزل الله به من سلطانٍ، فقد ظهر أن تلك التخيُّلات من وسوسة الشيطان، فغفلتهم عن ذلك تقصيرٌ منهم لا يُعْذَرُون به. الوجه الثاني: كانوا يعبدون إناثًا غيبيَّاتٍ يزعمون أنهنَّ بنات الله تعالى، وأنهنَّ الملائكة، فرأت الشياطين أنه لا إناث غيبياتٍ إلا منهم، ولذلك عمدت شيطانةٌ فتسمّت بالعزَّى ولزمت الصنم المجعول للعزَّى - كما تقدَّم (¬3) -، وقس على ذلك. الوجه الثالث: أن من عادة الشياطين اعتراض العبادات الباطلة [472] حتى تكون في الصورة كأنها لهم، كما ثبت في صحيح مسلمٍ وغيره في حديث المواقيت النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس وغروبها، وقال: ¬

_ (¬1) انظر ص 595. (¬2) انظر ص 654. (¬3) انظر ص 596.

"فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطانٍ، وحينئذٍ يسجد لها الكفَّار"، وكذا قال في غروبها: "فإنها تغرب بين قرني شيطان، وحينئذٍ يسجد لها الكفَّار" (¬1). فالمراد - والله أعلم - أن الشيطان إذا علم من أهل قُطْرٍ أن منهم مَنْ يعبد الشمس رقب وقت عبادتهم لها، فانتصب بينهم وبينها ليكون سجودهم لها كأنه في الصورة له، فإذا انتهى وقت عبادتهم لها فارق ذلك الموضع، وانتقل إلى القطر الآخر، تدبَّر!! بل إن الشيطان يحاول أن يعترض العبادات التي يُعبد بها الله عزَّ وجلَّ، ولكنه لا يستطيع الاعتراض ما لم يقصّر العابد، فمن ذلك أنه يعترض الصلاة ليقوم أو يمرَّ بين المصلَّي وبين القبلة، ولذلك شُرِعَت السترة في الصلاة، أي: أن يصلَّي المصلَّي إلى جدارٍ أو ساريةٍ أو نحو ذلك، حتى يكون ذلك حجابًا بينه وبين الشيطان، فلا يستطيع الشيطان المرور بينه وبين السترة، يمنعه الله عزَّ وجلَّ من ذلك؛ لأن المصلَّي قد احتجب منه بما يقدر عليه، وهذا كما يمنع الشيطان من فتح الباب المغلق [473] وكشف الإناء المغطَّى ولو بعودٍ معروضٍ عليه. والقانون في هذا أن العبد إذا فعل ما يقدر عليه وتوكَّل على الله عزَّ وجلَّ كفاه الله تعالى ما لا يقدر عليه، فأما إذا قصَّر فيما يقدر عليه فلا حقَّ له أن يُكفَى، فالعبد يستطيع أن يغطِّي إناءه ولو بعَرْض عُودٍ عليه، فيكون بهذا قد فعل ما يقدر عليه مما فيه دفعٌ ما للشيطان، وإن كان بحسب العادة لا يكفي ¬

_ (¬1) صحيح مسلمٍ، كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب إسلام عمرو بن عَبَسَة، 2/ 209، ح 832. [المؤلف]

للدفع، ولكنه يوفي ما عليه حتى يستحقَّ أن يدفع الله عزَّ وجلَّ عنه ما لا يستطيعه، والله أعلم. فالشياطين تدخل في الأصنام أو تقف دونها ليكون تعظيم الأصنام كأنه للشيطان، وهكذا تفعل في كلِّ ما يُعبد من دون الله عزَّ وجلَّ. ورأيت في فتوى للسيِّد العلَّامة الجليل عبد الله بن محمَّد بن إسماعيل الأمير اليمانيِّ، قال فيها: "ذكر شيخنا الإِمام عبد الخالق المزجاجيُّ - رحمه الله تعالى - أنه رأى الشياطين في قبَّة الشيخ أحمد بن موسى بن العجيل (¬1) في بيت الفقيه متخلِّلةً بين الناس، ورأى القبر ليس فيه إلا الشياطين، قال: رأى ذلك يقظةً بشحمة عينه، رحمه الله تعالى". والإمام عبد الخالق [474] من أجلَّة علماء الحنفيَّة بمدينة زبيد باليمن، وكان من كبار الصالحين رحمه الله. وقد يُسْتَبْعَد تمكُّن الشياطين من قبور الصالحين، ولا بُعْدَ فيه، فقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إن عفريتًا من الجنِّ تفلَّت البارحة ليقطع عليَّ صلاتي، فأمكنني الله منه، فأخذته" الحديث (¬2). ¬

_ (¬1) أحمد بن موسى بن علي بن عمر بن عجيل اليمني، أبو العباس، عالم مشارك، توفي ببيت الفقيه سنة 690 هـ، له كتاب جمع فيه مشايخه وأسانيده في كل علم. معجم المؤلفين 2/ 189. (¬2) البخاريّ في كتاب العمل في الصلاة، باب ما يجوز من العمل في الصلاة، 2/ 64 [وفي الأصل: 2/ 162]، ح 1210. مسلم في كتاب الصلاة، باب جواز لعن الشيطان في أثناء الصلاة ... ، بنحوه، 2/ 72، ح 541. [المؤلف]

وفي صحيح مسلمٍ عن أبي الدرداء قال: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسمعناه يقول: "أعوذ بالله منك"، ثم قال: "ألعنك بلعنة الله" ثلاثًا، وبسط يده كأنه يتناول شيئًا، فلما فرغ من الصلاة قلنا: يا رسول الله، قد سمعناك تقول في الصلاة شيئًا لم نسمعك تقوله قبل ذلك، ورأيناك بسطت يدك، قال: "إن عَدُوَّ الله إبليس جاء بشهابٍ من نارٍ ليجعله في وجهي، فقلت: أعوذ بالله منك، ثلاث مرَّاتٍ، ثم قلت: ألعنك بلعنة الله التامَّة، فلم يستأخر، ثلاث مرَّاتٍ، ثم أردت أن آخذه، والله لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقًا يلعب به ولدان أهل المدينة" (¬1). [475] لم يكن النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يصلَّي إلاَّ إلى سترةٍ، ومَن صلَّى إلى سترةٍ لم يستطع الشيطان أن يقطع عليه صلاته، ولكنه يحتال بأن يسوق إنسانًا أو حيوانًا يمرُّ بين المصلَّي وبين السترة، فإذا قصَّر المصلي في دفع ذلك المارِّ استطاع الشيطان أن يمرَّ معه؛ لأن المصلَّي قد قصَّر فيما يقدر عليه، كما تدلُّ عليه أحاديث السترة، منها: الحديث الصحيح في الأمر بدفع المارِّ، وتعليل ذلك بأنَّ معه القرين (¬2). وكذا حديث: "يقطع الصلاةَ المرأةُ والحمارُ والكلبُ الأسودُ"، فلما سُئِل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ما بال الكلب الأسود من غيره؟ أجاب بقوله: "الكلب الأسود شيطانٌ" (¬3). ¬

_ (¬1) صحيح مسلمٍ، الموضع السابق، 2/ 73، ح 542. [المؤلف] (¬2) أخرجه مسلمٌ في كتاب الصلاة، باب منع المارِّ بين يدي المصلِّي، 2/ 58، ح 506، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. (¬3) أخرجه مسلمٌ في كتاب الصلاة، باب قدر ما يستر المصلِّي، 2/ 59، ح 510، من حديث أبي ذر رضي الله عنه.

وجاء في حديثٍ آخر: "إن المرأة تقبل بصورة شيطانٍ" (¬1)، وفي حديثٍ: "إن الحمار إذا نهق فإنه رأى شيطانًا" (¬2). فعلى هذا المعنى تراءى عدو الله بشهابه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ علمًا منه أنه إذا تراءى بحيث يراه المصلَّي، وُكِلَ الدَّفْعُ إلى المصلَّي؛ لأنه يقدر على الدفع حينئذٍ، وارتفع المنع الذي توجبه السترة؛ لأنها إنما تكفي للمنع الذي لا يقدر عليه المصلِّي، تدبَّر. [476] وأما رؤية الإِمام عبد الخالق القبر ليس فيه إلا الشياطين، فوجهه: أن المقبور لا يبقى له تعلُّقٌ بقبره إلا ما دام الجسد لم يَبْلَ، فإذا بَلِيَ الجسدُ لم يبق للميِّت علاقة بالقبر؛ لأن الجسد قد بَلِيَ وفَنِيَ، والروح قد طارت إلى مستقرِّها، فليس القبر بعد البلى إلا كالنعش الذي وُضِعَ عليه الميِّت برهةً ثم فارقه، ولهذا نصَّ العلماء على أنه لا تبقى للقبر حرمةٌ بعد البِلَى، وعلى ذلك العملُ بالحرمين وغيرهما من عهد النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إلى اليوم، إذا بليَ المقبور حُفِرَ القبرُ ودُفِن فيه غيره, وقد بسطنا الكلام على ذلك في رسالتنا عمارة القبور (¬3). فإن قلت: هذه الوجوه التي ذكرتها في تفسير عبادة الشياطين كلُّها إلزاماتٌ وبضربٍ من التأويل، ولا سيَّما الثاني والثالث، للقطع بأن المشركين ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ في كتاب النكاح، باب ندب مَن رأى امرأةً فوقعت في نفسه إلى أن يأتي امرأته، 4/ 129، ح 1403، من حديث جابرٍ رضي الله عنه. (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب بدء الخلق، بابٌ خير مال المسلم غنمٌ ... ، 4/ 128، ح 3303. ومسلمٌ في كتاب الذكر والدعاء ... ، باب استحباب الدعاء عند صياح الديك, 8/ 85، ح 2729، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) لم أجده في القدر المطبوع من عمارة القبور.

تفسير عبادة الهوى

إنما كانوا يعبدون إناثًا غيبياتٍ هنَّ عندهم بنات الله والملائكة، وليس الشياطين بنات الله ولا ملائكةً، وللقطع بأن مَن يسجد للشمس مثلًا لا يقصد عبادة الشيطان المنتصب دونها. قلت: صدقتَ، ولكن قَوِيَ هذان الوجهان بمعاضدة [477] الوجه الأوَّل، فيُقال: إنه ليس في الوجود إناثٌ غيبيَّاتٌ هنَّ بنات الله وملائكته، وإنما في الوجود إناثٌ غيبيَّاتٌ هنَّ من الشياطين، فلما كانت عبادتهم لتلك الإناث باطلةً - وهنَّ عدمٌ محضٌ -؛ كان أقرب مَن تُحَوَّل له العبادة مَن أَمَرَ بها فأُطِيع - وهم الشياطين -، وهكذا لمَّا كانت عبادة الشمس باطلةً، وإنما أَمَر بها الشيطان فأُطيع؛ قَوِيَ حقُّه في اعتراضها؛ لأنه يقول: أنا أولى بعبادتهم من الشمس؛ لأني أمرتهم فأطاعوني، والشمس لم تأمرْ ولم تُطَعْ. **** تفسير عبادة الهوى عبادة الهوى من قَبِيل عبادة الأحبار والرهبان، والوجه الأوَّل في عبادة الشيطان (¬1)، فهي طاعته فيما لا ينبغي أن يُطاع فيه إلاَّ الربُّ. **** ¬

_ (¬1) وهو طاعة الشيطان في شرع الدين.

تنقيح المناط

تنقيح المناط بعد تدبُّر ما قدَّمناه نستطيع أن نقول: مدار التأليه والعبادة على أمرين: الأوَّل: الطاعة في شرع الدين، والمراد بالدين: الأقوال والأفعال التي يُطْلَب بها النفع الغيبيُّ، والمراد بالنفع الغيبيِّ: ما كان على خلاف [478] العادة المبنيَّة على الحِسِّ والمشاهدة. فمن هذا: طاعة الموحِّدين لربَّهم عزَّ وجلَّ في شرع الدين. ومنه: طاعة قوم فرعون لفرعون فيما شرعه لهم من تعظيمه؛ زاعمًا أن ذلك يفيدهم رضى الملائكة، ورضى الملائكة يفيدهم رضى الله عزَّ وجلَّ، فتحصل لهم بسبب ذلك المنافع الغيبيَّة التي تُرجى من الله عزَّ وجلَّ. ومنه: طاعة أهل الكتاب للأحبار والرهبان فيما يشرعون لهم؛ فإنهم كانوا يزعمون أن ما شرعه الأحبار والرهبان يكون دينًا يفيد مَن عَمِل به رضوان الله تعالى، فتحصل له المنافع التي تُرجى منه سبحانه. ومثل ذلك: طاعة العرب لعمرو بن لُحَيًّ وأضرابه. ومنه: طاعة المشركين للشيطان والهوى؛ فإنهما يوسوسان لهم بأن فِعْلَ كذا دينٌ يفيد مَن التزمه رضوان الله تعالى وحصولَ النفع الذي يُرْجَى منه سبحانه أو حصولَ النفع الغيبيِّ من غيره. الأمر الثاني: الخضوع أو التعظيم على وجه التديُّن، أي: على أنه دينٌ يُطْلَب به النفع الغيبيُّ.

فمن هذا: خضوع المسلمين وتعظيمهم لربَّهم عزَّ وجلَّ، ومنه: تعظيم المشركين للأصنام والناس والكواكب وأرواح الموتى والملائكة وغير ذلك. [479] ويمكن اندراج الأمر الأوَّل في الثاني؛ لأن الطاعة خضوعٌ وتعظيمٌ. ثم نقول: الخضوع والتعظيم على سبيل التديُّن، إما أن يكون أنزل الله تعالى به سلطانًا أو لا، فما أنزل الله تعالى به سلطانًا فهو عبادةٌ له عزَّ وجلَّ وحده لا شريك له، وإن كان في الصورة لغيره، كطاعة النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، وطاعة المسلمين أولي الأمر منهم فيما يتعلَّق بمصالحهم ولا يخالف الشريعة، وطاعة الأبوين فيما لا يخالف الشريعة. وكذلك توجُّه المسلمين في صلاتهم إلى جهة القبلة، وحجُّهم البيت والطواف به واستلام الركن، وغير ذلك. وكذلك إكرامهم نبيَّهم - صلى الله عليه وسلم - على الوجه الذي رَضِيَه لهم وأقرَّهم عليه، وإكرام الصالحين والوالدين والعلماء وغيرهم على الوجه الذي ثبت في الشريعة الأمرُ أو الإذنُ به، فكلُّ هذا طاعةٌ وتعظيم لله عزَّ وجلَّ. ومما أنزل الله تعالى به سلطانًا ما كان مما يقطع به العقلُ الصريحُ، كاعتقاد وجوده [480] عزَّ وجلَّ، واتَّصافه بصفات الكمال، وتنزُّهه عن النقائص، ونحو ذلك؛ فإن العقل الصريح سلطانٌ من الله عزَّ وجلَّ، وإنما الشأن كلُّ الشأن في التمييز بين العقل الصريح وبين التوهُّم المستحوذ على

النفس بمعونة تقليدٍ أو عادةٍ أو استدلالٍ ناقصٍ، وغالبُ عقائد الفلاسفة من هذا الثاني. وأما ما لم ينزل الله تعالى به سلطانًا فهو عبادةٌ لغيره، وإن كان في الصورة له سبحانه؛ لأن التديُّنَ به - ولم ينزل الله به سلطانًا - طاعةٌ لمن شرعه، والطاعة في شرع الدين عبادةٌ للمطاع إذا لم ينزل الله عزَّ وجلَّ سلطانًا بطاعته، وكذلك إذا كان التعظيم في الصورة لغيره تعالى والنفع مطلوبٌ منه عزَّ وجلَّ، كمَن يعظِّم صنمًا يزعمه رمزًا لله تعالى ويطلب بتعظيمه ثواب الله عزَّ وجلَّ، وذلك أنه مع كونه تديُّنًا بطاعة مَن شَرَعَه فهو تديُّنٌ بتعظيم غير الله تعالى بغير إذنه. [480 ب] وتحرير العبارة في تعريف العبادة أن يُقال: "خضوعٌ اختياريٌّ يُطْلَب به نفعٌ غيبيُّ". فقوله: (خضوعٌ) يتناول ما كان بالطاعة وما كان بالتعظيم. وقوله: (اختياريٌّ) يخرج به المكره ونحوه، على ما يأتي تفصيله في الأعذار إن شاء الله تعالى (¬1). وقوله: (يُطْلَب به) أي: مِن شأنه ذلك، فيدخل ما يكون الخاضع طالبًا بالفعل، بأن يكون له اعتقادٌ أو ظنٌّ أو احتمالٌ أن ذلك الخضوع سببٌ لنفعٍ غيبيًّ أو يكون في حكم الطالب، بأن يكون المعهود في ذلك الفعل أنه يُطْلَب به نفعٌ غيبيٌّ، كالسجود للصنم وَفَعَلَه الخاضع عنادًا كما مرَّ في فرعون ¬

_ (¬1) انظر ص 917 - 918.

وقومه (¬1)، أو خوفًا من ضررٍ لا يبلغ حدَّ الإكراه - كما مرَّ في أوائل الرسالة في المستضعفين الذي عرَّضوا أنفسهم لأن يُكْرَهوا على الكفر رغبةً عن الهجرة التي فيها خروجهم من بيوتهم وأموالهم وأهليهم، أو مداهنةً (¬2)؛ لأنه أولى مما قبله، ويدلُّ عليه قول الله عزَّ وجلَّ: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء: 140]، أو طمعًا في نفعٍ دنيويًّ، كمَن يُجْعَلُ له مالٌ عظيمٌ على أن يسجد لصنمٍ، وهذا أولى من الخائف، أو هزلًا ولعبًا كما تدلُّ عليه آية الإكراه على ما تقدَّم أوائلَ الرسالة (¬3)، والفقهاء يثبتون الرِّدَّة بذلك. وقوله: (نفعٌ) أُرِيد به ما يشمل دَفْعَ الضرر. وقوله: (غيبيٌّ) قد تقدَّم تفسيره (¬4). وهذا تعريف للعبادة من حيث هي، فإن أُرِيد تعريف عبادة الله عزَّ وجلَّ زِيد: (بسلطانٍ)، أو تعريفُ عبادة غيره، زِيد: (بغير سلطانٍ)، وقد يكون الفعل عبادةً لغير الله عزَّ وجلَّ، ولَكِن فاعله معذورٌ؛ فلا يُحْكَمُ عليه بالشرك، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) انظر ص 699 - 700. (¬2) انظر ص 16 - 17. (¬3) انظر ص 16. (¬4) انظر آخر ص 730.

[480 ج] وأما الإله فهو المعبود، فَمَنْ عبد شيئًا فقد اتَّخذه إلهًا وإن لم يزعم أنه مستحقٌّ للعبادة، وذلك كالطامع في النفع الدنيويِّ ونحوه مما مرَّ (¬1)، ومن زعم في شيءٍ أنه مستحقٌّ للعبادة فقد عبده بهذا الزعم؛ لأنه يتضمَّن خضوعًا من شأنه أن يُطْلَب به نفعٌ غيبيٌّ، وبذلك جَعَله إلهًا، وهكذا مَن أثبت لشيءٍ تدبيرًا مستقلًّا بالخلق والرزق ونحوهما، فإن هذا التدبير هو مناط استحقاق العبادة، على ما مرَّ تحقيقه (¬2). وكذا مَن أثبت لشيءٍ أنه يشفع بلا إذنٍ وأن شفاعته لا تُرَدُّ البتَّة؛ لأن ذلك في معنى التدبير المستقلِّ. فأما معنى (إله) في كلمة الشهادة فهو مستحق للعبادة، وإن شئت فقل: مَن يستقلُّ العقل الصريح بإدراك استحقاقه أن يُخْضَعَ له طلبًا للنفع الغيبيِّ. فالله تبارك وتعالى مستحق للعبادة يستقلُّ العقل الصريح بإدراك استحقاقه أن يُخْضَع له طلبًا للنفع الغيبيَّ، وكان المشركون يزعمون أن الأصنام وغيرها مما يعبدونه كذلك، ولم يكونوا يزعمون مثل ذلك في الكعبة والحجر الأسود؛ لأنهم كانوا يرون أن احترامهما إنما هو لأمر الله عزَّ وجلَّ، فلذلك لم يسمُّوا الكعبة إلهًا ولا أطلقوا على احترامهم لها عبادةً. فشهادة أن لا إله إلاَّ الله بلفظها تنفي أن يكون أحدٌ غير الله عزَّ وجلَّ مستحقًّا للعبادة. وتتضمَّن بمعونة القرائن الالتزام بأن لا يُتَّخذ غير الله عزَّ وجلَّ معبودًا. فمَن قالها ثم عرض له اعتقادٌ أو ظنٌّ أو احتمالٌ أنَّ شيئًا غير الله عزَّ وجلَّ يستحقُّ العبادة فقد نقض شهادته بلا خفاءٍ، ولكنه لا يؤاخَذُ بذلك ظاهرًا إلاَّ أن يُظْهِرَه؛ لما مرَّ في أوائل الرسالة (¬3). ¬

_ (¬1) انظر ص 345. (¬2) انظر ص 347. (¬3) بعدها كلمةٌ غير واضحةٍ في الأصل.

[480 د] وكذا ينقض شهادته إن زعم ذلك بلسانه، ولو كان يعلم خلافه، كما مرَّ في فرعون وقومه (¬1). ومَن شَهِدَ بها ثم عبد غير الله عزَّ وجلَّ، فقد نقض شهادته بالنظر إلى الالتزام، وإن لم يكن له اعتقادٌ ولا ظنٌّ ولا احتمالٌ ولا زَعْمٌ أن ذلك الشيء يستحقُّ العبادة، وقد مرَّ الكلام على الالتزام أوائلَ الرسالة (¬2)، فارجع إليه. وأما مَن كان عنده سلطانٌ من الله عزَّ وجلَّ أن يخضع لشيءٍ من المخلوقات طلبًا للنفع الغيبِيِّ فخضع له طاعةً لله عزَّ وجلَّ، فهذا موافقٌ للشهادة لا مخالفٌ لها, لكن بشرط أن يكون خضوعُه لذلك المخلوق هو الخضوعَ الذي عنده به من الله تعالى سلطانٌ. فأمَّا إذا كان عنده سلطانٌ بضربٍ من الخضوع فارتكب أشدَّ منه بدون سلطانٍ طالبًا بذلك النفع الغيبيَّ، فقد نقض التزامَه؛ لأن الإذن بضربٍ من الخضوع لا يدلُّ على الإذن بكلِّ خضوعٍ. ولا شكَّ أن الله تبارك وتعالى أَمَرَ بإكرام الأناس الصالحين الذين عبدهم قوم نوحٍ وبإكرام المسيح وأمِّه وبإكرام الملائكة، ولكن لما تجاوز الناس الإكرام المأذون فيه إلى غيره على الوجه المتقدِّم كان ذلك شركًا بالله عزَّ وجلَّ. فالحاصل: أن الخضوع لغير الله عزَّ وجلَّ طلبًا لنفع غيبيًّ إن كان بسلطانٍ من الله عزَّ وجلَّ فتلك عبادةٌ لله عزَّ وجلَّ، قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]. وإن كان بغير سلطانٍ من الله عزَّ وجلَّ فتلك عبادةٌ لغير الله عزَّ وجلَّ. هذا ما أدَّى إليه النظر. ¬

_ (¬1) انظر ص 700, 705. (¬2) انظر ص 10 - 22.

[480 هـ] وممَّا يوافقه: قال أبو محمَّد بن حزمٍ: "وقال تعالى مثنيًا على قوم ومصدِّقًا لهم في قولهم: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} [الأعراف: 89]، فقال النبيُّون عليهم الصلاة والسلام قولَ الحقِّ الذي يشهد الله عزَّ وجلَّ بتصديقه أنهم إنما خلصوا من الكفر بأنَّ الله تعالى نجَّاهم منه، ولم يُنْجِ الكافرين منه، وأن الله تعالى إن شاء أن يعودوا في الكفر عادوا فيه، فصحَّ يقينًا أنه تعالى شاء ذلك ممن عاد في الكفر. وقد قالت المعتزلة في هذه الآية: "معنى هذا: إلاَّ أن يأمرنا الله بتعظيم الأصنام، كما أَمَرَنا بتعظيم الحجر الأسود والكعبة". قال أبو محمَّدٍ: وهذا في غاية الفساد؛ لأن الله تعالى لو أمرنا بها لم يكن عودًا في ملَّة الكفر، بل كان يكون ثباتًا على الإيمان وتزايُدًا فيه" (¬1). وفي تفسير روح المعاني في الكلام على هذه الآية: وقال الجُبَّائِيُّ والقاضي: "المراد بالملَّة: الشريعة، وفيها ما لا يرجع إلى الاعتقاد، ويجوز أن يتعبد الله عباده به" (¬2). أقول: كأنهما أرادا أنَّ ما يرجع إلى الاعتقاد لا يتغيَّر حاله، فلا يجوز أن يأمر الله تعالى الناس أن يعتقدوا أن معه ربًّا آخر قديما مثلًا؛ لأن ذلك باطلٌ في نفسه، بخلاف تعظيم الأصنام مثلاً، فإنه إنما قَبُحَ لأنه شركٌ، فإن أمر الله تعالى به لم يبق شركًا. فأما قول الله تبارك وتعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا ¬

_ (¬1) الملل والنحل 3/ 147. [المؤلف] (¬2) روح المعاني 3/ 82. [المؤلف]

وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28] , فالمراد بالفحشاء - كما قال ابن جريرٍ -: قبائح الأفعال ومساويها. وذكر أن المراد [480 و] بالفاحشة أنهم كانوا يطوفون بالبيت وهم عراةٌ. ونَقَل ذلك عن ابن عبَّاسٍ ومجاهدٍ وسعيد بن جُبَيرٍ والشعبيِّ، ولم يذكر قولًا غيره (¬1). أقول: واحترام الجمادات ليس من قبائح الأفعال ومساويها، وإنما كان تعظيم الأصنام من قبائح الأفعال ومساويها لأنه عبادةٌ لغير الله عزَّ وجلَّ، فلو أنزل الله عزَّ وجلَّ به سلطانًا لزال هذا المعنى، وبزواله يزول القبح. وقولهم: {وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} لم يكونوا يقولون ذلك في عبادة الأصنام وغيرها من آلهتهم. ولو قالوا ذلك لم يسمُّوها آلهةً، ولا سَمَّوا تعظيمها عبادةً، كما لم يسمُّوا الكعبة والحجر الأسود - على ما مرَّ (¬2) -، وإنما كان مستندهم في الشرك اتَّباع آبائهم، قال تعالى: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 21 - 23]. ومما يوافق ما تقدَّم أيضًا ما مرَّ في الكلام على آيات النجم عن الشهرستانيِّ (¬3)، وفيه: "فنعلم قطعًا أن عاقلًا مَّا لا ينحت خشبًا صورةً ثم ¬

_ (¬1) انظر: تفسير ابن جريرٍ 8/ 104 - 105. [المؤلف] (¬2) في ص 735. (¬3) ص 287. [المؤلف]. وهو في أواخر الدفتر الثالث الذي لم أعثر عليه بعد.

يعتقد أنه إلهه وخالقه وخالق الكلِّ ... ، ولكنَّ القوم لما عكفوا على التوجُّه إليها وربطوا حوائجهم بها من غير إذنٍ وحجَّةٍ وبرهانٍ وسلطانٍ من الله تعالى كان عكوفهم ذلك عبادةً ... ". ومما يدلُّ عليه - زيادة على ما مرَّ - قولُ الله تبارك وتعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ ... وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] , [480 ز] فقيَّد الإشراك المحرَّم بأن يكون لما لم ينزل به - أي: بإشراكه - سلطانًا، فيُفْهَم منه أن إشراك ما نزَّل به سلطانًا ليس بمحرَّم. وفيه احتمالان: الأوَّل: أن يُقال: إنما سمَّاه إشراكًا بالنظر إلى الحال الراهنة للمشركين في تعظيمهم ما لم ينزل الله عزَّ وجلَّ بتعظيمه سلطانًا، فلا ينافي أنه لو أنزل به سلطانًا لا يبقى حينئذٍ إشراكًا. الثاني: أن يُقال: ليس المراد بالإشراك ها هنا الشرك الذي هو منافٍ للإيمان، وإنما المراد: أن تجعلوا نصيبًا من الطاعة والخضوع اللَّذَين يُطْلَبُ بهما النفع الغيبيُّ، وعلى هذا فالقيد على ظاهره، أي ذلك الجَعْلُ إنما يكون محرَّمًا بذلك القيد. ولعلَّ هذا أولى من أن يُقال: إن القيد لا مفهوم له؛ لأن الإشراك لا يكون إلاَّ حيث لم ينزل الله تعالى به سلطانًا، والله أعلم. وإيضاح الاحتمال الثاني: أن طاعة الرسول والخضوع له حقٌّ، مع أنها بالنظر إلى الظاهر كأنها تشريكٌ له مع الله عزَّ وجلَّ، وكذلك احترام الكعبة والحجر الأسود فيها بحسب الظاهر خضوعٌ لغير الله عزَّ وجلَّ، وعلى هذا

الظاهر تدخل طاعة الرسول واحترام الكعبة والحجر الأسود في قوله: {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ} إذا لم نحمل الإشراك فيها على الشرك المنافي للإيمان، وإنما تخرج بقوله: {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} , والله أعلم. وقال الله تعالى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} [آل عمران: 151]. وقال سبحانه وتعالى حكايةً عن إبراهيم {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا} [الأنعام: 81]. وعن هودٍ: {أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [الأعراف: 71]. [480 ح] وعن يوسف: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [يوسف: 40]. وقال عزَّ وجلَّ: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [الحج: 71]. وقال تعالى: {أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} [الروم: 35]. إن قدَّرنا في قوله: {مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا} في آيتي الأعراف ويوسف: (بشركها) أو (بتعظيمها) فهما مما نحن فيه، وإن قدَّرنا (بوجودها) فلا.

وكذا آية الحج، إن قدَّرنا: (ما لم ينزل بعبادته) فمن هذا الباب، وإن قدَّرنا: (ما لم ينزل بوجوده) فلا، وعلى تقدير: (بوجود) في هذه الآيات الثلاث فيكون المراد الأشخاص المتوهَّمة، ولعلَّه أظهر، والله أعلم. وقال الله عزَّ وجلَّ: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون: 117]. قال البيضاويُّ: {لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} "صفةٌ أخرى لإله لازمةٌ له، فإن الباطل لا برهان له، جيء بها للتأكيدِ وبناءِ الحكم عليه؛ تنبيهًا على أن التديُّن بما لا دليل عليه ممنوعٌ، فضلاً عما دلَّ الدليل على خلافه" (¬1). أقول: ويأتي فيه الاحتمالان اللذان قدَّمنا ذكرهما في آية الأعراف (¬2)، فتدبَّر، والله الموفَّق. وأما قول الله عزَّ وجلَّ: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ ... وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا [480 ط] أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 79 - 80]. فالمراد أن يأمرهم من عند نفسه، فأما لو أمره الله عزَّ وجلَّ أن يأمرهم بطاعته واحترامه بالسجود له مثلًا لكان ما يأمرهم به طاعةً لله عزَّ وجلَّ وعبادةً له، لا عبادةً لهذا البشر المبلِّغ عن الله عزَّ وجلَّ، وكذلك إذا أمره الله ¬

_ (¬1) هامش حواشي الشيخ زاده 2/ 408. [المؤلف] (¬2) في ص 739.

تعالى أن يأمر الناس باحترام الملائكة والنبيِّين بالسجود لهم مثلاً فإنه لا يكون السجود لهم من باب اتَّخاذهم أربابًا، بل يكون طاعةً لله عزَّ وجلَّ وعبادةً له وإقرارًا بربوبيَّته، فتدبَّر. وقد مرَّ الكلام على هذه الآيات في الكلام على تفسير تأليه المسيح عليه السلام (¬1). فأما الطاعة والخضوع والتعظيم بغير تديُّنٍ فليست من العبادة في شيءٍ، فمَن أطاع إنسانًا أو شيطانًا أو هوًى في معصية الله تعالى، وهو يعلم أنها معصيةٌ لله تعالى، ولم يزعم أن تلك الطاعة دينٌ تنفعه عند الله عزَّ وجلَّ، ولا تفيده نفعًا غيبيًّا، ولا كانت تلك المعصية شركًا، فليس بمشركٍ. وبهذا الفرق تعلم [481] الجوابَ الصحيح عما زعمه الخوارج أن المعاصي شركٌ؛ لأن فاعلها مطيعٌ للشيطان، فهو عابدٌ له. واحتجُّوا بالآيات التي سقناها في ذكر عبادة الشياطين، وغفلوا أن تلك الآيات جاءت في ذكر طاعة الشيطان تديُّنًا يُطْلَب منه النفع، والعاصي من المسلمين لا يطيع الشيطان كذلك. وقرأت في حواشي الشيخ زاده على البيضاويَّ ما لفظه (¬2): "فإن قيل: كيف يجوز أن يكون الشيطان سببًا لزلَّة آدم ومخالفته لأمر الله تعالى؛ مع أن طاعة الشيطان كفرٌ، وذلك لا يتصور من الأنبياء؟ فالجواب: أنه لا يكفر بذلك ... ، وإنما يكفر إذا قصد طاعة الشيطان ¬

_ (¬1) انظر ص 648 - 654. (¬2) ملحق ص 481. [المؤلف]

ومخالفة الربِّ (¬1) .... ولا يقصد المؤمن بما بُلِيَ به من العصيان طاعة الشيطان ومخالفة الربِّ ... ، وكذا حال آدم وحوَّاء ... ، لكنهما ما أكلا من الشجرة موافقةً له، ولا قَبِلا منه النصيحة ولا صدَّقَاه في ذلك، بل أكلا على الشهوة لميلان الطبع" (¬2). أقول: ارجع إلى الآيات التي ذكرناها في شأن عبادة الشياطين مع ما معها من الآثار (¬3)؛ يتبيَّنْ لك أن الله عزَّ وجلَّ أخبر بعبادة الشياطين واتِّخاذهم شركاء وآلهةً من دون الله عن قومٍ لم يكونوا يقصدون طاعة الشياطين، بل كانوا يبغضونها ويذمُّونها، حتى كان أشدُّ ما يذفون به النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قولهم: كاهنٌ أو مجنونٌ، وقد تواتر عنهم أنهم كانوا يرون أن الكاهن يستعين بالشياطين، وأن المجنون هو مَن استولت عليه الشياطين، فقال الله تعالى ردًّا عليهم: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ} [الشعراء: 210]، وقال سبحانه: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} [التكوير: 25]، وبيَّن المفسّرون أن ذلك ردٌّ عليهم في قولهم في النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: إنه كاهنٌ، وفي القرآن: إنه كهانةٌ. / وكذا لم يكونوا يقصدون مخالفة الربِّ تعالى، بل قد أخبر الله تعالى عنهم بقولهم في آلهتهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، وقالوا: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18]، {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف: 20]. ¬

_ (¬1) لعلَّه يشير إلى ترك التزامه وعدم قبوله وانقياده. (¬2) حواشي الشيخ زاده 1/ 265. (¬3) انظر ص 595 - 614.

فالصواب ما قدَّمناه. ثم آيات القرآن ظاهرةٌ في أنَّ آدم وحوَّاء عليهما السلام قَبِلا وسوسة اللَّعين وأكلا من الشجرة على أمل الخلد، ولكننا نقول: لم يطلبا بذلك نفعًا غيبيًّا. ألا ترى لو أن رجلاً أُصِيب بمرضٍ مُهلِكٍ في العادة، فقيل له: تناولْ من هذا الدواء وإلاَّ هَلَكْت، فتناوله لئلَّا يهلك؛ جريًا مع الأسباب، مع علمه أنَّ ما سبق في علم الله عزَّ وجلَّ لا يتبدَّل، لم يكن طالبًا نفعًا غيبيًّا. وهكذا مَنْ قيل له: كما جرت عادة الله عزَّ وجلَّ بأنَّ مَن لم يأكل الطعام يموت، فكذلك جرت عادته بأنَّ مَن لم يتناول هذا الدواء لا يعيش أكثر من خمسين سنةً إلا نادرًا، وأنَّ مَن أكل منه يعيش سبعين سنةً أو أكثر غالبًا، فإنه إذا تناول من ذلك الدواء ليعيش سبعين سنةً أو أكثر جريًا مع الأسباب، مع علمه بأنَّ ما سبق في علم الله تعالى لا يتبدَّل؛ فإنما يكون طالبًا نفعًا عاديًّا. ولم يكونا قد شاهدا أحدًا مات، بل شهدا الملائكة المخلَّدين، فلذلك قوي عندهما أنَّ طول البقاء أمرٌ عاديٌّ. فأما أن يكونا مَلَكين، فإنهما لم يريدا ذلك، وكيف يريده آدم وقد سجدوا له،/ ولم يذكر إبليس أن يكونا مَلَكين إلاَّ حيث ذكر علَّة النهي، وذلك قوله: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف: 20]. فأما الترغيب والإطماع فإنما كان بالخلود، كما قال تعالى: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا

مِنْهَا} الآية [طه: 120 - 121]. وقوله: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا} إلخ، أراد به أنه لا سبب للنهي إلا هذا، ولم يصرِّحْ بأن ذلك نقصٌ أو كمالٌ، كأن الخبيث قال في نفسه: إن حَمَلَهما كلامي على سوء الظنِّ بربهما بأن يقولا: نهانا عن الأكل منها لئلا يحصل لنا ما هو خيرٌ لنا وكمالٌ من الملَكيَّة أو الخلود، فذلك الذي أبغي، وإلا فليس ذلك بمانعهما عن تصديقي؛ إذ لعلَّهما يقولان: لعلَّ ربَّنا كره لنا أن نكون مَلَكين؛ لأن في ذلك نقصًا؛ فإن لآدم مزيَّةً على الملائكة بدليل السجود، ولأننا إذا صرنا مَلَكين حُرِمنا عن التمتُّع بنعيم الجنَّة؛ لأن الملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون، ولعلَّ الخلود يورثنا نقصًا لا نعلمه الآن، ولكن مهما يكن من نقصٍ فإننا نرضى به لأنفسنا على أن يحصل لنا الخلود. هذا ما لعلَّ الخبيث قاله في نفسه، فأمَّا هما فإنهما لم يسيئا الظنَّ بربهما قطعًا، كيف ولم يجوِّزا صدق إبليس حتى قاسمهما بربهما تعالى، وإنما جوَّزا صدقه لاحتمال نقصٍ في الملَكيَّة والخلود لأجله نهاهما ربُّهما عن الشجرة رحمةً بهما، ولكن غلبتهما شهوة الخلود، فلم يباليا بالنقص، فطلبا بأكل الشجرة طولَ البقاء من الجهة العاديَّة التي قرَّرناها أوَّلاً، ولم يطلبا المَلكِيَّةَ، ولكن لعلَّهما قالا: إن فُرِضَ صدقُ إبليس فيْ أن الأكل/ من الشجرة ربَّما أورث المَلَكِيَّة، فإنما يكون ذلك بفعل الله تعالى، ولسنا نقصد ذلك ولا نطلبه، على أنه إن كان ذلك فقد حصل لنا الخلود أيضًا. هذا، وقد يُقال: إن العادة في الجنَّة أوسع منها في الدنيا، فلعلَّهما قد شاهدا من تأثير المطعومات في الجنَّة ما يجعل سببيَّة الشجرة لأن يكون آكلُها ملَكًا من قبيل الأسباب العاديَّة هنالك.

وفوق هذا كلِّه فإننا نقول: إن إخبار إبليس ومقاسمته إيَّاهما مع ظنِّهما أنه لا يُقْسِم مخلوقٌ بالله عزَّ وجلَّ على كذبٍ قام في حقَّهما مقام خبر الواحد، فكما أننا نقول: مَن بلغه عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم خبر واحدٍ يفيد غلبة الظنِّ بأن هذا الفعل يكون سببًا لنفع غيبِيًّ، فَفَعَلَه طلبًا لذلك النفع، فإنَّ فِعْلَه يكون عبادةً لله عزَّ وجلَّ، وإن فُرِضَ أن ذلك المخبر كاذبٌ في نفس الأمر، ولكن إذا كان دليلٌ خَفِيٌ على كذبه، فقد يُلام العامل لعدم احتياطه، والله أعلم. وهكذا السجود للعظماء وللأبوين - مع علم الساجد بأنه عاصٍ (¬1) بذلك السجود، وأنه لا يفيده رضوانَ الله تعالى ولا نفعًا غيبيًّا - ليس بشركٍ. وبهذا ينحلُّ الإشكال الذي حكاه القرافيُّ عن شيخه العزِّ بن عبد السلام. قال ابن حجرٍ الهيتميُّ في كتابه "الإعلام بقواطع الإِسلام": "واستشكل العزُّ بن عبد السلام الفرقَ بين السجود للصنم وبين ما لو سجد الولد لوالده على جهة التعظيم حيث لا يكفر، والسجود للوالد كما يُقْصَد به التقرُّب إلى الله تعالى كذلك قد يُقْصَد بالسجود للصنم، كما قال تعالى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، ولا يمكن أن يُقال: إن الله شرع ذلك في حقِّ العلماء والآباء دون الأصنام. قال القرافيُّ في "قواعده": كان الشيخ يستشكل هذا المقام، ويُعْظِم الإشكالَ فيه. ونقل هذا الإشكال الزركشيُّ وغيرُه ولم يجيبوا عنه. ¬

_ (¬1) سبق في آخر ص 734 اشتراط ألاَّ تكون المعصية شركًا.

ويُمكِن أن يُجاب عنه بأن الوالد وردت الشريعة بتعظيمه، بل ورد شرعُ غيرِنا بالسجود للوالد، كما في قوله تعالى: {وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} [يوسف: 100]: ... فكان شبهةً دارئةً لكفر فاعله" (¬1). أقول: في هذا غفلةٌ؛ فإن الآية ليس فيها السجود للوالد، وإنما هي في سجود إخوة يوسف وأبويه له. نعم؛ يمكن أخذ السجود للوالد منها من باب أولى، وذُكِر في السجود للعالِم أنه ثبت لجنسه في غير شرعنا، وذلك في سجود الملائكة لآدم. [482] فالحقُّ أن إطلاق علماء المذهب أن السجود للأبوين ونحوهما لا يكون ردَّةً محمولٌ على ما إذا سجد لهما غيرَ متديِّنٍ بالسجود ولا زاعمٍ أنه يفيده نفعًا غيبيًّا، بل سجد بجاذبٍ طَبَعِيٍّ أو عاديٍّ أو غرضٍ (¬2)، كمَن يسجد لسلطانٍ ليؤمِّره أو يصلَه بمالٍ أو نحو ذلك، فهذا لا مشابهة فيه لسجود المشركين لآلهتهم (¬3) كما لا يخفى، فأما مَن سجد لأبويه تديُّنًا يطلب به ¬

_ (¬1) الإعلام ص12. [المؤلف] (¬2) صورتها في الأصل يمكن أن تُقرأ بياء نسبةٍ عطفًا على طبعيًّ وعاديًّ. (¬3) سبق في تعريف العبادة (ص 733 - 734) أنه لا يُشترط في السجود للصنم طلب نفعٍ غيبِيًّ، بل لو سجد له عِنادًا أو طمعًا في نفع دنيويًّ كمَن يُجْعَلُ له مال عظيم على أن يسجد لصنمٍ، ومثلُه إذا سجد له هزلاً ولعبًا كل ذلك يرتدّ به الشخص، والفقهاء يثبتون الردّة بذلك كما هو نصُّ كلامه. ويظهر أنَّ المؤلَّف لا ينظر إلى ذات السجود بل إلى المسجود له فيفرِّق بين الصنم الذي من شأن عابديه أن يطلبوا بذلك نفعًا غيبيًّا وبين الملِكِ من بني آدم الذي لم تجر العادة بالسجود له طلبًا لنفعٍ غيبِيًّ، فَشَرَطَ في تكفير الساجد للمِلك أن يطلب بذلك نفعًا غيبيًّا ولم يشترط ذلك في السجود للصنم.

نفعًا غيبيًّا فهذا هو عمل المشركين سواءً. ومما يدلُّ على هذه التفرقة ما نقله ابن حجرٍ الهيتميُّ في كتابه المذكور عن الروضة (¬1)، ولفظه: "وليس من هذا ما يفعله كثيرون من الجهلة الظالمين من السجود بين يدي المشايخ؛ فإن ذلك حرامٌ قطعًا بكلِّ حالٍ، سواءٌ أكان للقبلة أو لغيرها، وسواءٌ قصد السجود لله أو غفل. وفي بعض صوره ما يقتضي الكفر، عافانا الله من ذلك" اهـ (¬2). فأما سجود الملائكة لآدم، وسجود آل يعقوب ليوسف، فذاك طاعةٌ لله عزَّ وجلَّ كان عندهم بذلك من الله سلطانٌ. فإن قلت: وكيف يكون الشيء كفرًا وقد كان مثلُه إيمانًا؟ قلت: ليس السجود للمخلوق بأمرٍ واحدٍ، بل ثلاثة أمور: إن أنزل الله به سلطانًا كان إيمانًا. وإن لم ينزل به؛ فإن لم يقصد به التديُّن كان معصيةً، وإن قصد به التديُّن كان كذبًا على الله تعالى وشركًا. أَوَ لا ترى أنَّ آدم وأولاده لصلبه كانوا يستحلُّون نكاح الأخت، ولو استحلَّه مسلمٌ لَحُكِم عليه بالردَّة إجماعًا؟ وهكذا لو ترك المسلم إحدى الصلوات الخمس بعد شَرْعها منكرًا لوجوبها لكان مرتدًّا، ومَن تركها قبل شرعها نافيًا لوجوبها [483] لا حرج عليه، بل مَن تركها بعد شرعها جاهلاً لوجوبها معذورًا لا حرج عليه، وذلك كقريب العهد بالإِسلام. فإن قيل: إن الحكم بردَّة مستحلَّ نكاح الأخت من المسلمين ومنكر ¬

_ (¬1) روضة الطالبين 1/ 326. (¬2) الإعلام ص: 13. [المؤلف]

فصل في القيام

وجوب إحدى الخمس إنما هو لتكذيبه النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -؟ قلت: وهكذا تكفير الساجد لأمِّه تديُّنًا، فإن التديُّن بذلك تكذيبٌ للنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فيما عُلِمَ من شريعته بالضرورة أنه لا يُقَرِّبُ إلى الله تعالى إلا دينه الذي شرعه، وأنَّ كلَّ ما شرعه لهذه الأمة فقد بلَّغه رسولُه، مع العلم بأن السجود للأمِّ ليس من شريعته، وفي ذلك أيضًا كذبٌ على الله عزَّ وجلَّ في زَعْمِ الساجد أن سجوده من الدين الذي يحبُّه الله ويرضاه. وقد قسَّم الله عزَّ وجلَّ في كتابه الكفر إلى قسمين: الكذب عليه، والتكذيب بآياته، وقدَّم الأوَّل، قال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [الزمر: 32]. وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام: 21]. والآيات في هذا المعنى كثيرةٌ، وسيأتي الكلام على هذا المعنى مبسوطًا إن شاء الله تعالى (¬1). فصلٌ في القيام مما يقرب من السجود القيام؛ فقد ثبت عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم النهي عنه والكراهة له، فروى الترمذيُّ وأبو داود عن معاوية قال: قال النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم: "مَن سَرَّه أن يَتَمَثَّلَ له الرجال قيامًا [484] فليتبوَّأ مقعده من النار" (¬2). ¬

_ (¬1) انظر ص 903 - 913. (¬2) جامع الترمذيّ، كتاب الأدب، باب ما جاء في كراهية قيام الرجل للرجل، 2/ 125 - 126، ح 2755، وقال: "حديثٌ حسنٌ". سنن أبي داود، كتاب الأدب، بابٌ في قيام =

وروى أبو داود عن أبي أمامة قال: خرج النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم متكئًا على عصا، فقمنا له فقال: "لا تقوموا كما يقوم الأعاجم، يعظِّم بعضهم بعضًا" (¬1). وأخرج الترمذيُّ عن أنسٍ قال: "لم يكن شخصٌ أحبَّ إليهم من النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وكانوا إذا رأوه لم يقوموا؛ لما يعلمون من كراهته لذلك"، قال الترمذيُّ: "هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ من هذا الوجه" (¬2). وفي صحيح مسلمٍ عن جابرٍ: اشتكى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلَّينا وراءه وهو قاعدٌ، وأبو بكرٍ يُسْمِعُ الناسَ تكبيرَه، فالتفت إلينا فرآنا قيامًا، فأشار إلينا فقعدنا، فصلَّينا بصلاته قعودًا، فلما سلم قال: "إن كدتم آنفًا لتفعلون فعل فارس والروم؛ يقومون على ملوكهم وهم قعودٌ، فلا تفعلوا، ائتمُّوا بأئمتكم، إن صلَّى قائمًا فصلُّوا قيامًا، وإن صلَّى قاعدًا فصلُّوا قعودًا" (¬3). جزم ابن حِبَّان بأنَّ هذه الواقعة هي التي في مرض موته - صلى الله عليه وسلم - والمسألة مشهورةٌ، والحقُّ أن هذا الحكم باقٍ لم يُنسَخ، وقد جاء عن جماعةٍ من الصحابة رضي الله عنهم أنهم صَلَّوا قعودًا وهم أئمَّةٌ، فأمروا مَن خَلْفَهم بالقعود، [485] وأنت خبيرٌ أن المأموم لو قام لا يقوم تعظيمًا لإمامه، ولكن ¬

_ = الرجل للرجل، 2/ 355، ح 5229. [المؤلف] (¬1) سنن أبي داود، الموضع السابق، 2/ 355، ح 5230. [المؤلف]. وأخرجه أحمد في المسند 5/ 253، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة 1/ 351 برقم 346. (¬2) جامع الترمذيّ، الموضع السابق، 2/ 125، ح 2754. [المؤلف] (¬3) صحيح مسلمٍ، كتاب الصلاة, باب ائتمام المأموم بالإمام، 2/ 19، ح 413. [المؤلف]

في ذلك مشابهةٌ لذلك الفعل وذريعةٌ إليه، فإذا سقط هذا الركن القطعيُّ - بل صار فعله حرامًا دفعًا لهذه الشبهة - فما بالك بالقيام على رأس الرجل إجلالًا له؟ فهذا حرامٌ لا شبهة فيه، ومَن فعله تديُّنًا يرجو به الثواب فقد عُلِم حكمه مما تقدَّم. فأما القيام للقادم فقد عُلِمَ النهي عنه مما تقدَّم. وقد روى الإِمام أحمد عن عبادة بن الصامت حديثًا جاء فيه: فقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "لا يُقام لي، إنما يُقام لله تبارك وتعالى" (¬1). وسنده ضعيفٌ، وفيما مضى كفايةٌ، مع أن الأصل المنعُ من تعظيم المخلوق إلاَّ ما أذن الله تعالى به. وقد وَهِم جماعةٌ من العلماء فأجازوا القيام للعالم والصالح، استنادًا إلى الحديث الصحيح أنه لما جيء بسعد بن معاذٍ على حمارٍ قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - للأنصار: "قوموا إلى سيِّدكم" (¬2)، وآثارٍ أخرى في القيام إلى القادم (¬3). ولا أدري كيف خفي عنهم أن القيام إلى القادم غيرُ القيام له، فالقيام إليه يُراد منه المشي إليه لاستقباله والترحيب به ونحو ذلك، فالإكرام إنما وقع بالاستقبال، والترحيب والقيام وسيلةٌ إلى ذلك، ولم يقع الإكرام بنفس القيام، وأما التعظيم بنفس القيام فهو قيامٌ للشخص لا قيامٌ إليه، والمحذور ¬

_ (¬1) المسند 5/ 317. [المؤلف] في إسناده ابن لهيعة ورجل لم يسمّ. (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب الاستئذان، باب قول النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: "قوموا إلى سيِّدكم"، 8/ 59، ح 6262. ومسلمٌ في كتاب الجهاد والسير، باب جواز قتال مَن نقض العهد، 5/ 160، ح 1768، من حديث أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه. (¬3) انظر ما سيذكره المؤلَّف قريبًا.

[486] إنما هو القيام للشخص؛ لأنه يضارع القيام لله عزَّ وجلَّ في الصلاة، ولذلك قال ابن أبي ذئبٍ لما أُمِرَ أن يقوم للخليفة: إنما يقوم الناس لرب العالمين، فقال الخليفة: دعوه، فلقد قامت كلُّ شعرةٍ في جسدي (¬1). ومما يوضَّح لك أن القيام للمشي إلى القادم ليس تعظيمًا له بنفس القيام، أنك قد تهُدِّد خادمك بقولك: لأقومنَّ إليك، أي: لكي أضربك مثلاً، فالقيام إلى الشخص قد يكون لإهانته، وقد يكون لإكرامه، فعُلِمَ من ذلك أن القيام في قولك: (قمت إلى فلانٍ) وسيلةٌ لغيره، وليس مقصودًا لذاته، بخلاف القيام للشخص؛ فإنه تعظيمٌ لا محالة. وقد يتردَّد النظر فيمَن دخل عليك وأراد أن يصافحك، هل يجوز القيام حتى لا تكون مصافحتُه لك وهو قائمٌ وأنت قاعدٌ مذلَّةً له أو تعظيمًا لك؟ ومن عادات العرب في اليمن أنهم إذا كانوا جلوسًا فدخل إنسانٌ فصافحهم لم يقوموا، ولكن يقول الجالس عند المصافحة: (والقائم عزيزٌ). ثم رأيت أبا داود رحمه الله قد أشار في السنن إلى الفرق الذي ذكرته، فإنه قال أوَّلاً: (بابٌ في القيام)، فأورد فيه حديث: "قوموا إلى سيِّدكم، أو: إلى خيركم"، وحديث عائشة: ما رأيت أحدًا كان أشبه سَمْتًا وهَدْيًا ودلًّا برسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم من فاطمة كرَّم الله وجهها، كانت إذا دخلت عليه قام إليها فأخذ بيدها فقبَّلها وأجلسها في مجلسه، وكان إذا دخل عليها قامت إليه فأخذت بيده فقبَّلته وأجلسته في مجلسها (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: تاريخ بغداد، 2/ 298. (¬2) سنن أبي داود، كتاب الأدب, باب ما جاء في القيام، 2/ 353 - 354، ح 5217. [المؤلف]

ثم قال أبو داود بعد أبوابٍ: (باب الرجل يقوم للرجل يعظِّمه بذلك)، فذكر فيه حديث أبي مجلزٍ، قال: خرج معاوية على ابن الزُّبير وابن عامرٍ، فقام ابن عامرٍ وجلس ابن الزُّبير، فقال معاوية لابن عامرٍ: اجلس، فإني سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يقول: "مَن أحبَّ أن يَمْثُل له الرجال قيامًا فليتبوَّأ مقعده من النار". وحديث أبي أمامة: قال: خرج علينا رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم متوكِّئًا على عصا، فقمنا إليه، فقال: "لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظِّم بعضها بعضًا" (¬1). وللنوويِّ رسالةٌ في هذه المسألة (¬2)، ومال إلى الجواز في بعض الصور، وتعقَّبه ابن الحاجَّ فأجاد (¬3)، ولَخَّص ذلك الحافظُ ابن حجرٍ في فتح الباري (¬4). ومن عجيب ما قاله النوويُّ أنه قال في الجواب عن حديث أنسٍ: إنه - صلى الله عليه وسلم - خاف عليهم الفتنة إذا أفرطوا في تعظيمه، فكره قيامهم له لهذا المعنى، كما قال: "لا تطروني" (¬5)، ولم يكره قيام بعضهم لبعضٍ. ¬

_ (¬1) سنن أبي داود، كتاب الأدب، بابٌ في قيام الرجل للرجل، 2/ 355، ح 5229 - 5230. [المؤلف] (¬2) عنوانها: الترخيص في الإكرام بالقيام، وهي مطبوعة. (¬3) انظر: المدخل لابن الحاج 1/ 140 - 165. (¬4) 11/ 38 - 43. [المؤلف] (¬5) أخرجه البخاريُّ في كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ} , 4/ 167، ح 3445، من حديث عمر رضي الله عنه، وتمامه: "كما أطرت النصارى ابن مريم؛ فإنما أنا عبده, فقولوا: عبد الله ورسوله".

فصل في الدعاء

أقول: فقضيِّة هذا أنه يتعيَّن على رأي النوويِّ المنع من القيام لمن يُنْسَب إلى الصلاح في الأزمنة المتأخَّرة، فإنَّ احتمال غلوِّ العامَّة فيهم أقرب بدرجاتٍ كثيرةٍ من احتمال غلوِّ الصحابة في حقِّ النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم. أوَّلاً: لعلم الصحابة ومعرفتهم، بخلاف عامَّة هذه الأزمان. ثانيًا: لأنه لو قارب أحدٌ منهم الغلوَّ لمنعه النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وبَيَّن له، بخلاف المنسوبين إلى الصلاح في هذه الأزمان؛ فإنَّ أكثرهم جهَّالٌ يفرحون بتعظيم الناس لهم، بل الغلوُّ في المنسوبين إلى الصلاح أمرٌ واقعٌ. فأما القيام عند قراءة قصَّة المولد فهو أمرٌ وراء ما نحن فيه بمراحل، والله المستعان. [487] فصلٌ في الدعاء ومن الأعمال التي عدَّها القرآن شركًا: دعاءُ غير الله عزَّ وجلَّ، ووقع في تفسير الدعاء وتوجيه كونه شركًا اضطرابٌ للمفسِّرين وغيرهم أحوجني إلى بسط الكلام في هذا المقام، فأقول مستعينًا بالله عزَّ وجلَّ: أهل اللغة متَّفقون على أن أصل الدعاء بمعنى النداء، إلا أن الراغب ذكر فرقًا لفظيًّا فيه نظرٌ، وقد قال الله تعالى {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} [البقرة: 171]، ورُوِي عن مجاهدٍ أنهما بمعنىً، وكذا قال غيره. قالوا: والمسوِّغ للعطف تغاير اللفظين. ويلوح إلى فرقٌ آخر بينهما، وهو: أن الدعاء مأخوذٌ في مفهومه طلبٌ مَّا، بخلاف النداء؛ فإنه غير مأخوذٍ في مفهومه، وإن كان لازمًا له، فتأمَّل.

ولعلَّ هذا الفرق هو السبب في مجيء الدعاء بمعنى السؤال. قال صاحبا اللسان والقاموس: "الدعاء: الرغبة إلى الله عزَّ وجلَّ" (¬1)، زاد شارح القاموس: "فيما عنده من الخير، [488] والابتهال إليه بالسؤال" (¬2). وهذا يُشْعِر باختصاصه به تعالى، ومعروفٌ في اللغة والاستعمال أنه لا يُقال: (دعوتُ الأمير) بمعنى: سأْلتُه، فإن جاء ما يوهم ذلك فالدعاء بمعنى النداء، وأما السؤال فإنما فُهِمَ من القرينة. ويوضِّح لك ذلك: أنك تقول: (دعوتُ الله أن يعطيني)، كما تقول: (سألته أن يعطيني)، ولا تقول: (دعوت الأمير أن يعطيني)، بل تقول: (دعوته ليعطيني)، أو: (إلى أن يعطيني)، ولكن جاء كثيرًا في القرآن أنَّ المشركين يدعون آلهتهم بأنواعهم، كما تقدَّم. ونُقِلَ عن بعض السلف تفسيرُ الدعاء في بعض ذلك بالعبادة، وكاد المفسِّرون المتأخَّرون يطبقون عليه، وفيه نظر؛ فإنه لا يُعرَف في اللغة. ولهذا لم يذكره كثيرٌ من أهل اللغة، حتى الذين يتعرَّضون للمجاز - كصاحب القاموس وصاحب الأساس وصاحب المصباح -، بل لم يذكره الراغب - مع أن كتابه موضوع لغريب القرآن -، ومَن ذكره - كصاحب اللسان - فإنما ذكره تفسيرًا لبعض الكلمات القرآنيَّة، وهذا من أشدِّ العيوب في كتب اللغة؛ يعمِدون [489] إلى بعض الكلمات التي جاءت في القرآن وفسَّرها بعض السلف بشيءٍ أو فهموه هم من القرائن فيثبتون ذلك لغةً، مع أن السلف كانوا يتسامحون في التعبير؛ ثقةً بفهم السامع، فربمَّا فسَّروا الكلمة بلازمها، أو ببعض ما يدخل تحت عمومها، أو غير ذلك مما تدلُّ عليه في الجملة ¬

_ (¬1) لسان العرب 14/ 257، والقاموس المحيط 1655. (¬2) تاج العروس 38/ 46.

- كما نبَّه عليه المحقِّقون -، ولذلك أكثر الاختلاف عنهم. وأما ما يفهمونه من القرائن فلعلَّهم يكونون مخطئين، فلا ينبغي أن يجزموا بأن ذلك لغةٌ؛ لأن الناظر في كتب اللغة إذا رأى مثلاً: (الحَرْد: المنع)، يأخذ هذا على أنه نقلٌ يقينيٌّ، ولا يكاد يخطر بباله أن قائل ذلك إنما فهم من الآية، وفي هذا ما فيه. وغاية ما يمكنهم أن يقولوا: إنَّ جَعْلَه في تلك المواضع على حقيقته - وهو مجرَّد النداء - لا يصحُّ؛ لأن القرآن جعله في تلك المواضع شركًا، وجَعْلُه بمعنى الرغبة والسؤال [490] لا يأتي؛ لما تقدَّم أنَّ ذلك خاصٌّ بالله عزَّ وجلَّ، ويزيد المتأخِّرون أنه نُقِل عن بعض السلف تفسير الدعاء في بعض تلك المواضع بالعبادة. وأقول: أمَّا كونه في تلك المواضع لا يصلح أن يُفسَّر بمجرَّد النداء فلا بأس به، وأما كونه لا يصلح أن يفسَّر بالرغبة والسؤال على وِزان دعاء الله عزَّ وجلَّ ففيه نظرٌ. أوَّلاً: إنَّ الربوبيَّة والألوهيَّة والعبادة كلَّها في الأصل لله عزَّ وجلَّ، ولكنَّ المشركين استعملوها في شركائهم، فما بال الدعاء لا يكون كذلك؟ فكما قالوا في العبادة: "ولا يُقال: عبد يعبد عِبادةً إلاَّ لمن يعبد الله تعالى، ومَن عبد دونه إلهًا فهو من الخاسرين، وأمَّا عبد خدم مولاه فلا يُقال: عَبَده"، فكذا يُقال في الدعاء: "لا يُقال بمعنى الرغبة والسؤال إلاَّ في الرغبة إلى الله تعالى، ومَن دعا من دونه إلهًا فهو من الخاسرين، وأمَّا رجلٌ رغِب إلى أبيه أو رئيسه فلا يُقال: دعاه". ثم راجعت عبارة الراغب، فإذا فيها: "ودعوتُه: إذا سألتَه وإذا استعنتَه، [قال تعالى]: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} [البقرة: 70] أي سَلْه.

[491] وقال: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ} [الأنعام: 40 - 41] تنبيهًا أنَّكم إذا أصابتكم شدَّة لم تفزعوا إلاَّ إليه، {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} [الأعراف: 56]، {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ} [البقرة: 23]، {دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ} [الزمر: 8]، {دَعَانَا لِجَنْبِهِ} [يونس: 12]، {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [يونس: 106]. {لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} [الفرقان: 14]: هو أن يقول: يا لهفاه! ويا حسرتاه! ونحو ذلك من ألفاظ التأسُّف، والمعنى: يحصل لكم غمومٌ كثيرةٌ. وقوله: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} [البقرة: 68] سله. والدعاء إلى الشيء: الحثُّ على قصده" (¬1) اهـ. فَذِكْرُهُ قولَه تعالى {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [يونس: 106]، تحت قوله: (ودعوتُه: إذا سألتَه واستعنته) ظاهرٌ في أنه يفسِّر الدعاء في الآية وأمثالها بالسؤال والاستعانة. ويؤيِّد ذلك أنه لم يذكر أن الدعاء قد يأتي بمعنى العبادة، ولا ذَكَر أنَّ الدعاء بمعنى السؤال والاستعانة مختصٌّ بالله عزَّ وجلَّ. [492] ومما يشهد له أن القرآن يَقْرِنُ الدعاء في كثيرٍ من تلك المواضع بالسماع والاستجابة لفظًا ومعنىً، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأعراف: 194]. ¬

_ (¬1) المفردات 315، وفيه: (استغثته) بدل (استعنته)، وما بين المعقوفين زيادةٌ من المفردات.

وقال سبحانه: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء: 56، 57]. وقال عزَّ وجلَّ: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} [فاطر: 13، 14]. وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} [الرعد: 14]. وقال جلَّ ثناؤه: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [493] أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف: 4 - 6]. وقال تبارك اسمه: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس: 106، 107]. فمَن تدبَّر هذه الآيات تبيَّن له أنَّ الدعاء فيها بمعنى السؤال والاستعانة ولا سيَّما في الآيات التي فيها ذكر الاستجابة. وقد قال الراغب: "والجواب يُقال في مقابلة السؤال. والسؤال على ضربين: طلب المقال، وجوابه المقال. وطلب النَّوَال، [494] وجوابه النَّوْلُ.

فعلى الأوَّل: {أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} [الأحقاف: 31]، وقال: {وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ} [الأحقاف: 32] وعلى الثاني قوله: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا} [يونس: 89] أي أُعْطِيتُمَا ما سألتما. والاستجابة قيل: هي الإجابة، وحقيقتها التحرِّي للجواب والتهيُّؤ له، لكن عبَّر به عن الإجابة لقلَّة انفكاكها منها. قال تعالى: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 24] وقال: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] " (¬1). وقال ابن جريرٍ في تفسير آية الأعراف: "يقول جلَّ ثناؤه لهؤلاء المشركين من عبدة الأوثان يوبِّخهم على عبادتهم ما لا يضرُّهم ولا ينفعهم من الأصنام: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ} أيُّها المشركون آلهةً {مِنْ دُونِ اللَّهِ} وتعبدونها شركًا منكم وكفرًا بالله {عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأعراف: 194] يقول: هم أملاكٌ لربِّكم كما أنتم له مماليكُ، فإن كنتم صادقين أنها تضرُّ وتنفع وأنها تستوجب منكم العبادة لنفعها إيَّاكم فليستجيبوا لدعائكم إذا دعوتموهم، فإن لم يستجيبوا لكم لأنها لا تسمع دعاءكم، فأيقِنوا بأنها لا تنفع ولا تضرُّ؛ لأن الضرَّ والنفع إنما يكونان ممن إذا سُئِل سَمِعَ مسألة سائله وأعطى وأَفْضَلَ، ومَن إذا شُكِيَ إليه من شيء سَمِعَ فضَرَّ مَن استحقَّ العقوبة ونفع مَن لا يستوجب الضرَّ" (¬2). [495] وقال في تفسير آية الرعد: "وقوله: {لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} [الرعد: 14]: يقول: لا تجيب هذه الآلهة التي [يدعوها] (¬3) هؤلاء المشركون آلهةً ¬

_ (¬1) المفردات: 210. (¬2) تفسير ابن جرير 9/ 95. (¬3) في الأصل: يدعونها، والتصحيح من طبعة دار هجر من تفسير ابن جرير.

بشيءٍ يريدونه من نفعٍ أو دفع ضرًّ". وأخرج عن عليٍّ عليه السلام قال: كالرجل العطشان يمدُّ يده إلى البئر ليرتفع الماء إليه وما هو ببالغه. وعن مجاهدٍ: قوله {كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ} يدعو الماء بلسانه ويشير إليه بيده ولا يأتيه أبدًا. وعنه أيضًا: {لِيَبْلُغَ فَاهُ} يدعوه ليأتيه وما هو بآتيه، كذلك يستجيب مَن هو دونه (¬1). فَيُعْلَمُ من تدبُّر الآيات مع هذه الآثار أن المراد من الاستجابة في الآيات الاستجابة بالنوال، والاستجابة بالنوال إنما تقع في مقابل السؤال - كما قال الراغب -، فعُلِم بذلك أن الدعاء في الآيات بمعنى السؤال، أي سؤال النفع - كما هو ظاهرٌ -، وذلك المطلوب. ومما يوضِّح ذلك: أنه ليس مدار استحقاق العبادة على الإجابة بالمقال حتى يحقَّ التشنيع على مَن عبد مَن لا يجيبه بالقول، وإنما مدار ذلك على التدبير المستقلِّ بالنفع والضرِّ [496]- كما قدَّمناه في الكلام على قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] (¬2) -، فتعيَّن أن يكون المراد بالاستجابة إجابة بالنفع والضرِّ. فإن قيل: إذا امتنعت الإجابة بالمقال امتنعت الإجابة بالنوال فتكون الآيات من باب قوله تعالى في شأن العجل: {أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} [طه: 89]. ¬

_ (¬1) تفسير ابن جريرٍ 13/ 76. (¬2) ص 125 [المؤلف]. ص 349.

قلت: في هذه الملازمة نظرٌ، ومع ذلك فإنما تَقْرُبُ لو كان المراد بالمدعوِّين في الآيات الأصنامَ، وليس الأمر كذلك، بل المراد الملائكة كما تقدَّم إيضاحه في فصل عبادة الملائكة (¬1). فإن قيل: إن ذلك يمكن على هذا أيضًا، فيُقال: إن الملائكة لا يجيبون داعيهم بالمقال. قلت: ولكن لا تقوم الحجَّة على المشركين؛ لأن لهم أن يقولوا: لعلَّهم يجيبوننا بالمقال ولا يُسمع كلامهم، كما أن الله تبارك وتعالى إذا أجاب بالمقال لا يُسْمَعُ جوابُهُ، ولا يقدح ذلك في استحقاقه العبادة، بخلاف ما إذا كان الدعاء بمعنى السؤال؛ فإنَّ المشركين يعترفون بأن آلهتهم [497] لا تضرُّ ولا تنفع بفعلها، وإنما يرجون منها الشفاعة، ويمكن إقامة الحجَّة عليهم بشأن الشفاعة، فيقول لهم الرسول: ادعوا آلهتكم أن يشفعوا لكم في أن لا يُبْتَلى فلانٌ اليومَ بالعمى، وأنا أدعوا الله أن يُبْتَلىَ فلانٌ اليومَ بالعمى؛ فإنَّ آلهتكم إن كانت عبادتهم حقًّا لا بدَّ أن يستجيبوا لكم بالشفاعة في هذا، ولا بدَّ أن يقبل الله تعالى شفاعتهم فيه؛ لأن هذا يومٌ لَهُ ما بَعْدَهُ. هذا، مع أن المشركين كانوا يرتابون في كون آلهتهم تشفع لهم، ولهذا كانوا في الشدائد يخلصون الدعاء لله عزَّ وجلَّ، كما يأتي (¬2). ثم اعلم أن تجويز أن يكون المراد بالاستجابة في الآيات الاستجابة بالمقال يوجب أن يفسَّر الدعاء بمجرَّد النداء، وقد دلَّت الآيات وغيرها مما ¬

_ (¬1) انظر ص 417 - 429. (¬2) انظر ص 767 - 768.

يأتي أن هذا الدعاء عبادةٌ وشركٌ، فإذا كان مجرَّد النداء كذلك فسؤالُ النفع من بابِ أَوْلىَ. فإن قلت: المفسِّرون لم يقولوا: إن الدعاء في الآيات جميعها بمعنى النداء، بل قالوا في أكثرها: إنه بمعنى العبادة. ويمكن [498] تقرير كلامهم بأن يُقال: شُبِّهَتْ عبادةُ الأوثان بدعاء الله تعالى الذي هو السؤال في أن المقصود منها طلب النفع، ثم استُعِير الدعاء للعبادة، والاستجابةُ ترشيحٌ. وقد قال الشيخ عزُّ الدين بن عبد السلام في كتاب الإشارة والإيجاز: "النوع الحادي والستُّون: التجوُّز بالدعاء عن العبادة؛ لمشابهة الداعي للعابد في التذلُّل والخضوع، وله أمثلةٌ، أحدها: قوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ}، الثاني: قوله: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ}: أي وغاب عنهم ما كانوا يعبدونه من قبل. الثالث: قوله: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}، معناه: وقال ربُّكم: اعبدوني أُثِبْكم" (¬1). فالجواب: أن الأصل الحقيقة، ولا يجوز العدول عنها إلاَّ لصارفٍ يصرف عنها، ولا صارف هنا، بل مقابلة الدعاء بالاستجابة مؤيِّدٌ لها، وإخراج الكلام عن ظاهره بغير صارفٍ تحريفٌ للكلم عن مواضعه، وقَرْمَطَةٌ (¬2) لو فُتِح بابهُا لعاد الدين لُعْبَة. ¬

_ (¬1) الإشارة ص 85 - 86. [المؤلف] (¬2) القَرْمَطة: تحريف النصوص على نَحْوِ يشبه فعل القرامطة، وهي الفرقة الباطنيَّة التي تدّعي أن للشريعة باطنًا يخالف ظاهرها، ففسَّروا الصلاة بأنها معرفة أسرارهم، والصيام بأنه كتمان أسرارهم، إلى آخر تحريفاتهم. انظر: الأجوبة النافعة عن المسائل الواقعة ص 291.

ولو تتبَّعتَ ما جاء في القرآن من ذكر دعاء غير الله تعالى لعلَّك تجده أكثر من ذكر عبادة غير الله تعالى، وهذا مما يُبعِد المجاز. وما قاله الشيخ عزُّ الدين رحمه الله تردُّه القواعدُ والأصول والأحاديث الصحيحة. وإني لأتعجَّب منه رحمه الله في إدراجه الآية الثالثة مع أنه لا يشكُّ أحدٌ أنَّ دعاء الله تعالى عبادةٌ له. فإن قلت: حقيقة الدعاء هو النداء، وأنت تزعم أن معناه في الآيات السؤال، فهو مجازٌ على قولك أيضًا لا حقيقةٌ. فالجواب: أن استعمال الدعاء في السؤال من الله عزَّ وجلَّ حقيقةٌ إن لم تكن لغويَّةً فعرفيَّةٌ وشرعيَّةٌ. وفي هذه الآيات [499] وغيرها مما يأتي أن المشركين يدعون آلهتهم كما يدعون الله عزَّ وجلَّ، فثبت بذلك أن المراد بدعائهم آلهتهم هو السؤال منها؛ لتمثيله بدعاء الله تعالى، ودعاؤه هو السؤال منه. وعلى فرض أنَّه مجازٌ فمقابلته بالاستجابة قرينةٌ عليه. ولو سلَّمنا أنَّ الدعاء في الآيات مجازٌ عن العبادة لكان أقرب أن تكون العلاقة هي الخصوص والعموم، وعليه فهو حجَّة لنا أيضًا؛ لأن الأخصَّ إنما يُطْلَقُ على الأعمَّ إذا كان الأخصُّ هو الأهمَّ أو من الأهمِّ، كما نصَّ عليه أهل المعاني (¬1)، وعليه فدعاء المشركين آلهتهم أعظمُ عبادتهم لها أو من أعظمها، فثبت بذلك كونه عبادةً وزيادةً. ¬

_ (¬1) انظر: المطوَّل في شرح التلخيص 356، وعروس الأفراح (ضمن شروح التلخيص) 4/ 37.

وعندي أن مَن فسَّر الدعاء بالعبادة إنما حمله على ذلك توهُّمه أن المراد بالآلهة في الآيات الأصنام، ورأى أن المشركين لا يسألون منها شيئًا، فهذا الذي اضطرَّه إلى التأويل، والحقُّ أن المراد الملائكة، كما علمتَ مما تقدَّم (¬1). وعليه فلا حاجة للتأويل. على أنه قد قال الله عزَّ وجلَّ: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) [500] إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 69 - 74]. فقوله: {إِذْ تَدْعُونَ} ظاهرٌ في أنهم كانوا يدعون الأصنام؛ إذ لو كان الكلام على الفرض لقيل: (إن تدعوهم)، أو: (لو دعوتموهم)، أو نحو ذلك. وقوله: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ} ظاهرٌ في أن المراد الدعاء بالكلام. وقوله {أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} ظاهرٌ في أنه ليس المراد بالدعاء مجرَّد النداء، بل المراد به التكلُّم بالسؤال طلبًا للنفع واستدفاعًا للضرِّ، وكأنَّ القوم كانوا يسألون من الأصنام على نيِّة السؤال من الروحانيِّين، كما تقدَّم بيانه (¬2). يدلُّك على ذلك أنهم نفوا السماع والنفع والضرَّ عن الأصنام. وقد تقدَّم كلام ابن جريرٍ في تقرير ذلك (¬3). ¬

_ (¬1) انظر ص 416. (¬2) انظر ص 621. (¬3) ص 354. [المؤلف] ص 622.

الدعاء عبادة

الدعاء عبادةٌ قال الله تبارك وتعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60]. [501] فكلمة (إنَّ) في مثل هذا تفيد التعليل - على ما صرَّح به أهل الأصول وغيرهم - (¬1)، وذلك يقتضي أن الدعاء عبادةٌ، كأنه قال: ادعوني؛ فإن الدعاء عبادةٌ، ومَن استكبر عن عبادتي سيدخل جهنَّم. وقد أخرج الإِمام أحمد والترمذيُّ وأبو داوود وغيرهم عن النعمان بن بشيرٍ أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ الدعاء هو العبادة"، ثم قرأ: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} (¬2). وأخرجه الحاكم في المستدرك، وقال: "صحيح الإسناد"، وأقرَّه الذهبيُّ (¬3). وأخرجه في المستدرك أيضًا عن ابن عبَّاسٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -, بلفظ: "أفضل العبادة الدعاء"، وقرأ الآية. قال الحاكم: "صحيحٌ"، وأقرَّه الذهبيُّ أيضًا. وأخرج الترمذيُّ عن أنسٍ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الدعاء مخُّ العبادة" (¬4). ¬

_ (¬1) الإشارة: ص 85 - 86. [المؤلف] (¬2) مسند أحمد 4/ 267. جامع الترمذيّ، كتاب الدعوات، باب ما جاء في فضل الدعاء، 2/ 242، ح 3372، وقال: "هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ". سنن أبي داود، كتاب الصلاة، باب الدعاء، 1/ 207، ح 1479. [المؤلف] (¬3) المستدرك، كتاب الدعاء، أفضل العبادة هو الدعاء، 1/ 490 - 491. [المؤلف] (¬4) جامع الترمذيِّ، الموضع السابق، 2/ 242، ح 3371، وقال: "حديثٌ غريبٌ من هذا الوجه، لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة".

وقد روى الطبرانيُّ في كتاب الدعاء حديث النعمان بن بشيرٍ، بلفظ: "العبادة هي الدعاء"، ثم قرأ الآية (¬1). وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) [502] وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف: 4 - 6]. لا يخفى دلالة السياق على أنَّ قوله: {بِعِبَادَتِهِمْ} أُرِيد بها الدعاء المذكور قبل. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا} [النساء: 116، 117]، فجعل الدعاء شركًا، والشرك عبادة غير الله عزَّ وجلَّ. وقال سبحانه: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 40، 41]. الآية صريحةٌ في أن المراد بالدعاء السؤال. ¬

_ (¬1) كتاب الدعاء للطبرانيِّ، باب تأويل قول الله عزَّ وجلَّ: "ادعوني أستجب لكم ... "، ص 786، ح 1.

وقال ابن جريرٍ: " ... ما أنتم أيُّها المشركون بالله الآلهةَ والأنداد إن أتاكم [503] عذاب الله أو أتتكم الساعة بمستجيرين بشيءٍ غير الله في حال شدَّة الهول النازل بكم من آلهةٍ ووثنٍ وصنمٍ، بل تدعون هناك ربَّكم الذي خلقكم، وبه تستغيثون، وإليه تفزعون دون كلِّ شيءٍ غيره، {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ}، يقول: فيفرِّج عنكم عند استغاثتكم به وتضرُّعكم إليه عظيمَ البلاءِ النازل بكم إن شاء" (¬1). وقال سبحانه وتعالى: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [الروم: 33]. قال ابن جريرٍ: "يقول تعالى ذكره: وإذا مسَّ هؤلاء المشركين الذين يجعلون مع الله إلهًا آخر فأصابتهم شدَّةٌ وجدوبٌ وقحوطٌ دعوا ربَّهم، يقول: أخلصوا لربِّهم التوحيد وأفردوه بالدعاء والتضرُّع إليه واستغاثوا به منيبين إليه" (¬2). [504] وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ ¬

_ (¬1) تفسير ابن جريرٍ 7/ 113. (¬2) تفسير ابن جريرٍ 21/ 26.

بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [يونس: 18 - 22]. قال ابن جريرٍ: " {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} يقول: أخلَصوا له الدعاء هنالك دون أوثانهم وآلهتهم، وكان مفزعهم حينئذٍ إلى الله دونها". ثمَّ أخرج عن قتادة قال: "إذا مسَّهم الضرُّ في البحر أخلصوا له الدعاء". وعن ابن زيدٍ قال: "هؤلاء المشركون يدعون مع الله ما يدعون، فإذا كان الضرُّ لم يدعوا إلا الله، فإذا نجَّاهم إذا هم يشركون" (¬1). وقال سبحانه: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} [لقمان: 32]. [505] قال ابن جريرٍ: "يقول تعالى ذكره: وإذا غشي هؤلاء موجٌ كالظلل فخافوا الغرق فزعوا إلى الله بالدعاء مخلصين له الطاعة لا يشركون به هنالك شيئًا، ولا يدعون معه أحدًا سواه، ولا يستعينون بغيره". وأخرج عن مجاهدٍ قوله: {فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} قال: "المقتصد في القول، وهو كافرٌ" (¬2). ¬

_ (¬1) تفسير ابن جرير 11/ 63. (¬2) تفسير ابن جريرٍ 21/ 49.

أحكام الطلب، ومتى يكون دعاء

يريد مجاهدٌ - والله أعلم -: أن المراد بالمقتصد الذي لا يستغيث بغير الله تعالى في قوله، ولكنه كافرٌ في اعتقاده وعمله. وهذا مع ما تقدَّم من تفسيرهم {الدِّينَ} في الآيات بالدعاء يدلُّك أن المراد بإخلاصهم الدين إنما هو إخلاص الدعاء وحده، فأمَّا الاعتقاد فهو باقٍ حتى في البحر؛ لأنه لم يَعْرِضْ له ما يزيله، وإنما عرض لهم من الشدَّة ما اضطرَّهم إلى الاقتصار على دعاء الله عزَّ وجلَّ؛ لأنهم واثقون بأنَّ دعاء الله تعالى ينفع، ومرتابون في دعاء غيره، والإنسان عند الشدِّة إنما يفزع إلى أوثق الأسباب عنده ولا يتشاغل بما دونها. قال الشاعر (¬1): وإذا نَبَا بك والحوادِثُ جَمَّةٌ ... زمنٌ حَدَاكَ إِلىَ أَخِيكَ الأَوْثَقِ والآيات القرآنيَّة في شأن الدعاء كثيرةٌ، وفيما ذكرناه كفايةٌ إن شاء الله تعالى. [506] أحكام الطلب، ومتى يكون دعاءً لقائلٍ أن يقول: قد علمنا أن السؤال من الله تعالى والرغبة إليه يُسمَّى دعاءً، وأنه عبادةٌ، وأن القرآن قد أثبت أن المشركين يدعون آلهتهم من دون ¬

_ (¬1) هو القطامي التغلبي. والبيت في ديوانه (257) تحقيق محمود الربيعي، (111) تحقيق إبراهيم السامرائي وأحمد مطلوب. ورواية الديوان ومعظم المصادر التي وقفتُ عليها هكذا: وإذا أصابك والحوادث جمَّةٌ ... حدثٌ حداك إلى أخيك الأوثق وفي بعضها: "يصيبك"، وفي بعضها: "ينوبك".

الله، وثبت أن دعاءهم آلهتهم هو السؤال منها والرغبة إليها، وأنَّ ذلك عبادةٌ لها وشركٌ بالله عزَّ وجلَّ، ولكن ما هو السؤال الذي إذا وقع لغير الله تعالى كان دعاءً وعبادةً للمسؤول وشركًا بالله تعالى؟ فالجواب: أمَرَ الله عزَّ وجلَّ عبادَهُ أن يدعوه في صلاتِهم قائلين: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} , ولا نزاع أن المعنى: نعبدك وحدك لا نعبد غيرك، ونستعينك وحدك لا نستعين غيرك، والاستعانة هنا عامَّة. وروى الإِمام أحمد والترمذيُّ وغيرهما عن ابن عبَّاسٍ أنه ركب خلف رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فقال له رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "يا غلام، إني معلِّمك كلماتٍ، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمَّة لو اجتمعوا على أن ينفعوك [507] لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضرَّوك بشيءٍ لم يضروك إلاَّ بشيءٍ قد كتبه الله عليك، رُفِعَتِ الأقلام وجفَّت الصحف" (¬1). وصحَّ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بايع جماعةً من أصحابه على ألاَّ يسألوا الناس شيئًا، فكان سوط أحدهم يسقط وهو على بعيره فينزل فيأخذه، لا يقول لأحدٍ: ناوِلْنيه (¬2). ¬

_ (¬1) المسند 1/ 293، جامع الترمذيَّ، كتاب صفة القيامة، باب 59، 2/ 84، ح 2516، وقال: "هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ". (¬2) انظر: صحيح مسلمٍ، كتاب الزكاة، باب كراهة المسألة للناس، 3/ 97، ح 1043. [المؤلف]

وجاءت أحاديث كثيرةٌ في تحريم سؤال الناس، أي: أن تسألهم أن يعطوك شيئًا من أموالهم (¬1)، واستُثْنِيَ في بعضها السؤالُ من السلطان، والسؤالُ عند شدَّة الحاجة (¬2). وقد نظرتُ في وجوه السؤال فوجدته على أقسامٍ: القسم الأوَّل: ما هو من باب سؤال الإنسان حقًّا له عند المسؤول، كأن يكون لك دَيْنٌ عند إنسانٍ فتطلبه منه. الثاني: ما جرت العادة بالتسامح به على نيَّة المكافأة، كقول التلميذ لزميله: (ناولني الكتاب). الثالث: سؤال الإنسان ما ليس بحقًّ له ولا جرت العادة بالتسامح به على نيَّة المكافأة، وذلك كقول مَن يجد الكَفاف [508] من العيش لغنيًّ لا حقَّ له عليه: (أعطني دينارًا) مثلاً. ومن هذا القسم سؤال الإنسان من ربِّه تعالى؛ لأنه لا حقَّ له على ربِّه تعالى. فأمَّا الأوَّل فلا يُسمَّى استعانةً، ولا يلزمه التذلُّل والخضوع. وأما الثاني فإنه وإن سُمَّي استعانةً لكنَّه لا يلزمه التذلُّل والخضوع، إلاَّ ¬

_ (¬1) كحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن سأل الناس أموالهم تكثُّرًا فإنما يسأل جمرًا، فليستقلَّ أو ليستكثر". أخرجه مسلمٌ في الموضع السابق، 3/ 96، ح 1041. (¬2) كحديث سمرة بن جندبٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن المسألة كدٌّ يكدُّ بها الرجل وجهه، إلا أن يسأل الرجل سلطانًا أو في أمرٍ لا بدَّ منه". أخرجه الترمذيّ في كتاب الزكاة، باب ما جاء في النهي عن المسألة، 3/ 65، ح 681، وقال: "حديثٌ حسنٌ صحيحٌ".

أن فيه رائحةً مَّا من ذلك. وأما الثالث: فهو الذي يلزمه التذلُّل والخضوع. وقد يكون السؤال من القسم الأوَّل ولكنه يصحبه تذلُّلٌ مَّا فيما يظهر، وذلك كسؤال الناس أنبياءهم عن أمور دينهم، وكذلك سؤال العامَّة علماءهم عن أمور الدين، وكذلك سؤال المحتاج العاجز حاجته من الغنيَّ. والحقُّ أن السؤال من الأنبياء والعلماء إنما يصحبه الإكرام والاحترام الذي أمر الله عزَّ وجلَّ به، وأما سؤال المحتاج العاجز فإنما يصحبه التذلُّل لجهل الأغنياء بما عليهم من الحقوق، ونظير ذلك أن يكون لك دَيْنٌ على جبَّارٍ؛ فإنك تحتاج [509] عند طلبك حقَّك منه إلى إظهار التذلُّل. ومن القسم الأوَّل ما أُبِيح من سؤال السلطان (¬1)، فالمراد إباحة أن يسأله مَن كان له حقٌّ في بيت المال، فأمَّا مَن لم يكن له حقٌّ أصلاً فسؤاله من السلطان كسؤاله له من غيره. ومن الأوَّل أمر النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - الناسَ بالصلاة عليه؛ فإن ذلك حقٌّ له عليهم. وفيه معنيان آخران هما المقصود بالذات، والله أعلم: - تبليغهم أمر الله عزَّ وجلَّ. - وإرشادهم إلى ما ينفعهم. وعلى هذا ما رُوِي من قوله - صلى الله عليه وسلم - لعمر: "لا تنسنا يا أخي من صالح دعائك" (¬2)، على أن في صحَّته مقالاً. ¬

_ (¬1) سبق قريبًا تخريج الحديث الذي يدل على ذلك. (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب الدعاء، 2/ 80، ح 1498. والترمذيّ في =

وأمَّا ما رُوِي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن خير التابعين رجلٌ يُقال له: أُوَيْسٌ، وله والدةٌ، وبه بياضٌ، فمروه فليستغفرْ لكم" (¬1). فهذا أمرٌ من النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لأُوَيْسٍ مصداقُه من كتاب الله عزَّ وجلَّ قوله سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} [الحشر: 10]، فأمر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أصحابه أن يبلِّغوا أُوَيْسًا هذا [510] الحكم. ومما يَشُدُّ هذا قوله: "فمروه فليستغفر لكم"، ولم يقل: (فاسألوه)، أو نحو ذلك، وكأنه إنما خصَّ أُوَيْسًا تنبيهًا على مزيد فضله؛ لأن الناس كانوا يسخرون منه ويحتقرونه، والله أعلم. وأما سؤال الصحابة من النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أن يستغفر لهم ففيه حظٌّ من القسم الأوَّل؛ لأن الله تعالى قد أمر رسوله بذلك، قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19]، وقال تعالى: {فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ} [النور: 62]، ¬

_ = كتاب الدعوات، باب 110، 5/ 559، ح 3562، وقال: "حديثٌ حسنٌ صحيحٌ". وابن ماجه في كتاب المناسك، باب فضل دعاء الحجِّ، 2/ 966، ح 2894. وفيه: عاصم بن عُبَيد الله، وهو ضعيفٌ. ولذا ضعَّفه الألبانيّ. انظر: ضعيف سنن أبي داود (الأم) 2/ 92. (¬1) صحيح مسلمٍ، كتاب فضائل الصحابة، بابٌ من فضائل أُوَيسٍ القرنيّ، 7/ 189، ح 2542 (224). [المؤلف]

وقال سبحانه: {فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة: 12]، وقال تبارك وتعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة: 103]. وقال عزَّ وجلَّ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ [511] إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ [512] فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 58 - 65]. قال السيوطيُّ في أسباب النزول: أخرج ابن أبي حاتمٍ والطبرانيُّ بإسنادٍ صحيحٍ عن ابن عبَّاسٍ قال: كان أبو برزة الأسلميُّ كاهنًا يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه، فتنافر إليه ناسٌ من المسلمين، فأنزل الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ

إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ}، إلى قوله: {إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} (¬1). وأخرج ابن أبي حاتمٍ من طريق عكرمة أو سعيدٍ عن ابن عبَّاسٍ قال: كان الجلاس بن الصامت ومعتِّب بن بشيرٍ (¬2) ورافع بن زيدٍ وبشر (¬3) يدَّعون الإِسلام، فدعاهم رجالٌ من قومهم من المسلمين في خصومةٍ كانت بينهم إلى النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم، فدعوهم إلى الكهَّان حكَّام الجاهليَّة، فأنزل الله فيهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ} الآية (¬4). أقول: فقول الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ} أي: لإظهار التوبة وقبول حكمك في قضيَّتهم والاعتذار إليك فيما سبق منهم [513] من إبائهم المحاكمة إليك. وقوله: {فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ} أي: إظهارًا للتوبة، وقوله: {وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} أي: كما أمره ربُّه عزَّ وجلَّ بالاستغفار للمؤمنين؛ لأن أولئك النفر إنما يرجعون إلى الإيمان بتوبتهم، ومن توبتهم المجيء إلى الرسول - كما تقدَّم -، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر ما سبق ص 434. (¬2) ويُقال له أيضًا: (معتِّب بن قُشيرٍ)، كما في الاستيعاب لابن عبد البرَّ، بهامش الإصابة 3/ 442. (¬3) كذا في الأصل واللباب، وفي مصادر أخرى: (بُشير)، وهو الصواب؛ لأن بشرًا وبُشيرًا الأنصاريَّين ابني الحارث (وهو أبيرق) أَخَوان، وقد ذُكِر بُشير بنفاقٍ وردَّة ولم يُذكر أخوه بشيءٍ من ذلك. انظر: الاستيعاب، بهامش الإصابة 1/ 154. (¬4) انظر: لباب النقول ص 64، الدرّ المنثور 2/ 580.

هذا مع أن كبار الصحابة كان غالب أحوالهم عدم سؤال الدعاء لأنفسهم من النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم، وإنما كانوا يسارعون في الخيرات من الأعمال الصالحة عالمين بأن ذلك هو السبب الحقيقيُّ لأن يستغفر لهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كما أمره الله عزَّ وجلَّ. وقد قال الله تعالى: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ [514] اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [الفتح: 11]. وقال تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 79، 80]. وقد يُقال في قول أبناء يعقوب: {قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} [يوسف: 97]: إن فيه طلب حقًّ أيضًا. وعلى كلَّ حالٍ فطلب الدعاء من الأنبياء بما فيه صلاح الدين أمرٌ مرغوبٌ فيه في الجملة إذا كان بحضرتهم، إلاَّ أن ما قدَّمناه من صنيع كبار الصحابة يدلُّ أن الأولى عدم الطلب والاكتفاء بعمل الخيرات؛ لأنه يبعث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على الدعاء والاستغفار للعامل بدون سؤالٍ [515] منه، والله أعلم.

وقد روى مسلمٌ في صحيحه عن ربيعة بن كعبٍ: كنتُ أبيتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأتيته بوَضوئه وحاجته، فقال لي: "سل"، فقلتُ: أسألك مرافقتك في الجنَّة، قال: "أوْ غيرَ ذلك؟ " قلتُ: هو ذاك، قال: "فأعنِّي على نفسك بكثرة السجود"، الحديث في صحيح مسلمٍ هكذا مختصرًا (¬1). وقد أخرجه الإِمام أحمد في المسند (¬2) مطوَّلاً، وفيه: فقلت: يا رسول الله: "اشفع لي إلى ربِّك عزَّ وجلَّ فلْيُعتقني من النار". وفي روايةٍ أخرى: أسألك يا رسول الله أن تشفع لي إلى ربِّك فيعتقني من النار. وفيه: فقال: "إني فاعلٌ، فأعنِّي على نفسك بكثرة السجود". فالنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يكافئ ربيعة لخدمته إيَّاه، فأمره بسؤال حاجته، فسأله الدعاء له بمرافقته في الجنَّة أو بالإعتاق من النار، فكأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - تردَّد في استحقاق ربيعة للمرافقة حينئذٍ، فقال له: "أوْ غير ذلك"، أي: سلْ شيئًا [516] غير ذلك، فلما أبى، قال - صلى الله عليه وسلم -: "إني فاعلٌ، فأعنِّي على نفسك بكثرة السجود"، أي: حتى تستحقَّ ذلك أو تقارب الاستحقاق، وذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يدعو لأحدٍ بما لا يستحقُّه أصلاً وإن سأله؛ فقد رُوِي أن قاتلًا سأل النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أن يستغفر له، فقال: "لا غفر الله لك" (¬3). ¬

_ (¬1) كتاب الصلاة، باب فضل السجود والحثِّ عليه، 2/ 52، ح 489. [المؤلف] (¬2) 4/ 59. [المؤلف] (¬3) أخرجه الطبريُّ 7/ 353، من طريق ابن إسحاق عن نافع عن ابن عمر. وفي إسناده: سفيان بن وكيعٍ، وهو ضعيفٌ. وأخرجه - بمعناه - أبو داود في كتاب الديات، باب الإِمام يأمر بالعفو في الدم، 4/ 171 - 172، ح 4503. وأحمد 5/ 112 و6/ 10، وابن أبي شيبة في كتاب المغازي، حديث عبد الله بن أبي حدردٍ الأسلميِّ، =

فأما سؤال الدعاء بالمغفرة ونحوها من غير النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقد كرهه بعض الصحابة وغيرهم. قال ابن سعدٍ: أخبرنا محمَّد بن عبد الله الأنصاريُّ، ثنا أبو عونٍ، قال: كنا عند إبراهيم، فجاء رجلٌ، فقال: يا أبا عمران، ادع الله أن يشفيني، فرأيته أنه كرهه كراهةً شديدةً، حتى رَأَيْتُنَا عرفنا كراهية ذلك في وجهه - أو: حتى عرفتُ كراهية ذلك في وجهه -، ثم قال: جاء رجلٌ إلى حذيفة، فقال: ادع الله أن يغفر لي، قال: "لا غفر الله لك"، قال: فتنحَّى الرجل ناحيةً فجلس، فلما كان بعد ذلك قال: "أدخلك [517] الله مدخل حذيفة! أقد رضيت الآن؟ " قال: "ويأتي أحدكم الرجل كأنه قد أحصى شأنه، كأنَّه كأنه" (¬1)، فذكر إبراهيم السنَّة فرغَّب فيها، وذكر ما أحدث الناس فكرهه. اهـ (¬2). ونقل صاحب الاعتصام عن مهذَّب الآثار للطبريِّ أنه أخرج فيه عن مدرك بن عمران قال: كتب رجلٌ إلى عمر رضي الله عنه أن ادعُ الله لي، فكتب إليه عمر: إني لستُ بنبيًّ، ولكن إذا أقيمت الصلاة فاستغفر الله لذنبك. ¬

_ = 20/ 553 - 555، ح 38168. وابن الجارود (غوث المكدود)، بابٌ في الديات، 3/ 92 - 93، ح 777. والطبرانيُّ 6/ 41 - 42، ح 5455، والبيهقيُّ في كتاب السير، باب المشركون يسلمون قبل الأسر ... ، 9/ 116 وغيرهم، من طرقٍ عن ابن إسحاق وعن عبد الرحمن بن الحارث عن محمَّد بن جعفر بن الزبير عن زياد بن سعد بن ضميرة عن أبيه. قال الحافظ ابن حجرٍ في الإصابة 4/ 271: "إسناده حسنٌ"، مع أن فيه زياد بن سعدٍ، الذي قال عنه في التقريب: "مقبول". ولذلك ضعفه الألباني في ضعيف سنن أبي داود. (¬1) كتب الشيخ بعد "كأنه" الثانية: مكرَّر. (¬2) من طبقات ابن سعدٍ 6/ 193. [المؤلف] وهو في طبعة دار صادر 6/ 276 - 277.

وعن سعد بن أبي وقَّاصٍ أنه لما قدم الشام أتاه رجلٌ، فقال: استغفر لي، فقال: غفر الله لك، ثم أتاه آخر، فقال: استغفر لي، فقال: لا غفر الله لك ولا للأوَّل، أنبيٌّ أنا؟! وعن زيد بن وهبٍ أن رجلاً قال لحذيفة رضي الله عنه: استغفرْ لي، فقال: لا غفر الله لك، ثم قال: هذا يذهب إلى نسائه فيقول: استغفرَ لي حذيفة، أترضى أن أدعو الله أن تكن (تكون) (¬1) مثل حذيفة (¬2). وعن ابن عُلَيَّة، عن ابن عونٍ، قال: جاء رجلٌ إلى إبراهيم، فقال: [518] يا أبا عمران، ادعُ الله أن يشفيني، فكره ذلك إبراهيم وقطَّب، وقال: جاء رجلٌ إلى حذيفة، فقال: ادعُ الله أن يغفر لي، فقال: لا غفر الله لك، فتنحَّى الرجل فجلس، فلما كان بعد ذلك قال: فأدخلك الله مُدْخَل حذيفة، أقد رضيتَ الآن؟ يأتي أحدكم الرجل كأنه قد أحصر (¬3) شأنه، ثم ذكر إبراهيم السنَّة فرَغَّب فيها، وذكر ما أحدث الناس فكرهه. وعن منصورٍ، عن إبراهيم، قال: "كانوا يجتمعون فيتذاكرون، فلا يقول بعضهم لبعض: استغفر لنا". اهـ (¬4). فأما سؤال الدعاء في أمرٍ دنيويًّ فقد جاء عن بعض الصحابة أنهم سألوا ¬

_ (¬1) التصحيح من المؤلف، وفي طبعة دار ابن الجوزي من الاعتصام 2/ 332: يجعلك. (¬2) أخرجه أبو نُعَيمٍ في الحلية 1/ 277. (¬3) كذا في الأصل، وفي طبعة دار ابن الجوزي من الاعتصام: "أحصى"، وهو الذي سبق أن نقله المؤلفُ عن ابن سعد في الطبقات قريبًا. (¬4) الاعتصام 2/ 159 - 160. [المؤلف]. قال الشاطبيُّ: "وهذه الآثار من تخريج الطبريِّ في تهذيب الآثار له". ولم أجده في المطبوع منه.

النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فمن ذلك ما هو في مصلحةٍ عامَّةٍ تتناول السائل وغيره، وهذا قد وقع من بعض أكابر الصحابة، كما رُوِي عن أبي هريرة أو أبي سعيدٍ قال: لما كان غزوة تبوك أصاب الناسَ مجاعةٌ، قالوا: يا رسول الله، لو أذِنْتَ لنا فنحرنا نواضحنا فأكلنا وادَّهنَّا، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "افعلوا"، قال: فجاء عمر، فقال يا رسول الله، إن فعلتَ قلَّ الظَّهْرُ، ولكن ادعهم بفضل أزوادهم، ثم ادع الله لهم عليها بالبركة، لعلَّ الله أن يجعل في ذلك ... الحديث (¬1). ومنه ما هو لبعض أقارب السائل، كقول أمِّ أنسٍ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله، خادمك أنسٌ؛ فادع الله له، فقال: "اللهم أكثر ماله وولده، وبارك له فيما أعطيته" (¬2). وفي روايةٍ: فدعا لي رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ثلاث دعواتٍ، قد رأيتُ منها اثنتين في الدنيا، وأنا أرجو الثالثة في الآخرة (¬3). أقول: والثالثة هي قوله: "وأَدْخِلْهُ الجنَّة" (¬4) صرَّح بِها في روايةٍ - كما في الإصابة -، على أنها لم تصرِّح بسؤال الدعاء [519] لمصلحة دنيويَّةٍ، ولكن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) صحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان, بابٌ مَن لقي الله بالإيمان وهو غير شاكًّ فيه دخل الجنَّة ... ، 1/ 42، ح 27 (45). [المؤلف] (¬2) صحيح مسلمٍ، كتاب فضائل الصحابة, بابٌ مَن فضائل أنس بن مالكٍ رضي الله عنه، 7/ 160، ح 2481. [المؤلف]. وقد أخرجه البخاريُّ في كتاب الدعوات، باب قول الله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} ... ، 8/ 73، ح 6334، ومواضع أخرى. (¬3) صحيح مسلمٍ، الموضع السابق، 7/ 160، 2481 (144). [المؤلف] (¬4) زيادةٌ يقتضيها السياق، والرواية بهذه الزيادة أخرجها عبد بن حميدٌ في مسنده (المنتخب 3/ 127، ح 1253)، وانظر الإصابة 1/ 255.

دعا له لدينه ودنياه. ومنه: ما هو للسائل نفسه. وعامَّة ما ورد من ذلك كان لحاجةٍ أو ضرورةٍ، كما جاء في سؤال قتادة بن النعمان ردَّ عينه واعتذاره بأنَّ له أزواجًا يخاف أن يقلن: أعور (¬1)، وما رُوِي في سؤال الأعمى الدعاء بردِّ بصره وشكواه أنه ليس له قائدٌ وأنه قد اشتدَّ تضرُّره، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى (¬2). وكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يخيِّر مَن يسأله الدعاء أنه إن صبر فهو خيرٌ له؛ فمنهم مَن اعتذر، ومنهم مَن اختارالصبر، كما جاء في صحيح مسلمٍ عن عطاء بن أبي رباحٍ قال: قال لي ابن عبَّاسٍ: ألا أُرِيك امرأةً من أهل الجنَّة؟ فقلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء، أتت النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، قالت: إني أُصْرَع، وإني أتكشَّف، فادع الله لي، قال: "إن شئتِ صبرتِ ولكِ الجنَّة، وإن شئتِ دعوتُ الله أن يعافيكِ"، قالت: أصبر، قالت: فإني أتكشَّف، فادعُ الله أن لا أتكشَّف، فدعا لها (¬3). وجاء في قصَّة ثعلبة بن حاطبٍ أنه قال: يا رسول الله، ادعُ الله أن يرزقني مالاً، [520] قال: ويحك يا ثعلبة، قليلٌ تؤدِّي شكره خيرٌ من كثيرٍ لا ¬

_ (¬1) انظر ترجمته في الإصابة. [المؤلف]. 9/ 27، وما يتعلَّق باعتذاره بأنَّ له أزواجًا انظره في الطبقات الكبرى لابن سعدٍ 3/ 453. (¬2) انظر: ص 544 - 548 من المخطوط. (¬3) صحيح مسلمٍ، كتاب البرِّ والصلة والآداب، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرضٍ، 8/ 16، ح 2576. [المؤلف]. وقد أخرجه البخاريّ في كتاب المرضى، باب فضل مَن يُصرَع من الريح، 7/ 116، ح 5652.

تطيقه، قال: والله لئن آتاني الله مالاً لأوتِينَّ كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، فدعا له، فأوتيَ المال، فكان نهايتُه أن أنزل الله تعالى فيه: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا في قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللهَ مَا وَعَدُوهُ} [التوبة: 77] (¬1). وفي هذا تنبيهٌ على سرٍّ عظيمٍ، وهو أن الله تعالى أرحم بعباده من أنفسهم، وهو سبحانه أعلم منهم بما يُصلحهم. وقد أباح الله عزَّ وجلَّ للعبد أن يدعوه بما شاء، قال تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]، وقال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]، والله تعالى لا يخلف الميعاد، ولكنه إذا عَلم أنَّ ما سأله العبد يعود عليه بالمضرَّة لو أوتيه يمنعه إيَّاه، ويجعل إجابته لتلك الدعوة نعمةً أخرى للسائل خيرًا له مما سأل (¬2). وفي صحيح مسلمٍ عن أبي هريرة قال: قال النبيُّ صلَّى الله [521] عليه وسلَّم: "لا يزال يُستجاب للعبد ما لم يدع بإثمٍ أو قطيعة رحمٍ، ما لم يستعجل"، قيل: يا رسول الله، ما الاستعجال؟ قال: "يقول: قد دعوتُ، قد دعوت، فلم أر يُستجاب لي؛ فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: أسباب النزول. [المؤلف]. للواحديّ 252، ولباب النقول للسيوطيِّ 115. والحديث أخرجه الطبري (11/ 578) وابن أبي حاتمٍ (6/ 1847) وغيرهما من طريق عليّ بن يزيد الألهانيّ، وهو متروكٌ، وضعَّفه العراقيّ في تخريج الإحياء (3/ 272) وابن حجرٍ في فتح الباري (3/ 266). وحكم ببطلان القصة ابن حزم في المحلى 11/ 208. وانظر السلسلة الضعيفة 4/ 111 برقم 1607. (¬2) يعني أنه يُعطى عوض تلك الدعوة ما هو أولى له عاجلًا أو آجلًا. (¬3) صحيح مسلمٍ، كتاب الذكر والدعاء ... ، باب بيان أنه يستجاب للداعي ما لم =

وفي جامع الترمذيِّ عن جابرٍ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من أحدٍ يدعو بدعاءٍ إلاَّ آتاه الله ما سأل أو كفَّ عنه من السوء مثله ما لم يدعُ بإثمٍ أو قطيعة رحمٍ" (¬1). وفي المستدرك عن أبي هريرة قال: قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "ما من عبد ينصب وجهه إلى الله في مسألةٍ إلا أعطاه الله إيَّاها، إمَّا أن يعجِّلها وإما أن يدَّخرها". قال الحاكم: "صحيحٌ"، وأقرَّه الذهبيُّ (¬2). وفي مسند الإِمام أحمد عن أبي سعيدٍ الخدريِّ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من مسلمٍ يدعو بدعوةٍ ليس فيها إثمٌ ولا قطيعة رحمٍ إلا أعطاه الله بهِا إحدى ثلاث: إما أن تُعَجَّلَ له دعوتُه، وإما أن يدَّخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف [522] عنه من السوء مثلها"، قالوا: إذًا نكثر، قال: "الله أكثر" (¬3). وأخرجه الحاكم في المستدرك، وقال: "صحيحٌ"، وأقرَّه الذهبيُّ (¬4). وفي المسند أيضًا عن عبادة بن الصامت أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم حدَّثهم، قال: "ما على ظهر الأرض من رجلٍ مسلم يدعو الله عزَّ ¬

_ = يعجل ... ، 8/ 87, ح 2735 (92)، [المؤلف] (¬1) جامع الترمذيّ، كتاب الدعوات، باب ما جاء أن دعوة المسلم مستجابة، 2/ 244، ح 3381. [المؤلف]. وأخرجه أحمد في مسنده 3/ 360، وحسَّنه الألباني. (¬2) المستدرك، كتاب الدعاء قال الله عزَّ وجلَّ: "عبدي أنا عند ظنَّك بي"، 1/ 497. [المؤلف]. وأخرجه أحمد في مسنده 2/ 448، والبخاري في الأدب المفرد 1/ 375 ح 711 وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد ص 264 - 265. (¬3) مسند أحمد 3/ 18. [المؤلف]. والبخاري في الأدب المفرد 1/ 374 ح 710 وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد ص 264. (¬4) المستدرك، كتاب الدعاء, "الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل"، 1/ 493. [المؤلف]

وجلَّ بدعوةٍ إلا آتاه الله إيَّاها، أو كَفَّ عنه من السوء مثلها، ما لم يدعُ بإثمٍ أو قطيعة رحمٍ" (¬1). وأخرج الترمذيُّ من حديث سلمان الفارسيِّ عن النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: "إن الله حَيِيٌّ كريمٌ، يستحيي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردَّهما صِفْرًا خائبتين" (¬2). أخرجه الحاكم في المستدرك، وقال: "صحيحٌ على شرط الشيخين"، وأقرَّه الذهبيُّ. وذكر له الحاكم شاهدًا من حديث أنسٍ نحوه (¬3). استثنى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الدعاء بإثمٍ أو قطيعة رحمٍ؛ لأنَّ الداعي عاصٍ بهذا الدعاء، فلا يستحقُّ الإجابة أصلاً. ويُلْحَق بذلك - والله أعلم - مَن ابتدع في دعائه، إمَّا في نفس الدعاء، وإمَّا فيما يتعلَّق به، كأن تحرَّى مكانًا أو زمانًا أو هيئةً يزعم أنَّ ذلك أقرب إلى الإجابة، ولم يثبت ذلك عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وقد أخرج الإِمام أحمد وأبو داود وابن ماجه عن عبد الله بن مُغفَّلٍ ¬

_ (¬1) مسند أحمد 5/ 329. [المؤلف]. وأخرجه الترمذي، كتاب الدعوات، باب في انتظار الفرج وغير ذلك، 5/ 554 ح 3573 وقال: "حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه". (¬2) جامع الترمذيّ، كتاب الدعوات، باب 105، 2/ 273، ح 3556. [المؤلف]. قال الترمذي: "حديث حسن غريب، ورواه بعضهم ولم يرفعه". وقد أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب الدعاء، 2/ 79، ح 1488. وابن ماجه في كتاب الدعاء باب رفع اليدين في الدعاء، 2/ 1271، ح 3865. وأخرجه ابن حبان في صحيحه (الإحسان)، 3/ 160، ح 876. (¬3) المستدرك، كتاب الدعاء, "إن الله حييٌّ كريمٌ ... "، 1/ 497.

رضي الله عنه أنه سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتُها، قال: أي بُنَيَّ، سل الله الجنَّة وتعوَّذ به من النار؛ فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "سيكون في هذه الأمَّة قومٌ يعتدون في الطُّهور والدعاء" (¬1). [و] أخرجه الحاكم في الدعاء من المستدرك، وقال: "صحيح الإسناد"، وقال الذهبيُّ في تلخيص المستدرك: "صحيحٌ" (¬2). [523] فأما تحرِّي الدعاء بلفظٍ معيَّنٍ يحفظه الرجل ويواظب عليه؛ فإن كان ذلك لأنَّه ثبت في كتاب الله عزَّ وجلَّ أو ورد عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - فحسنٌ، ولكنَّ الأولى أن يتتبَّع أدعية النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ويدعو بكلٍّ منها في موضعه كما كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يصنع. وإن كان لغير ذلك؛ كأن أعجبه لفظه، أو كان قد دعا به مرَّةً فحصل مطلوبه، أو نُقِل عن بعض الصالحين، أو زعم بعضهم أنه مجرَّبٌ أو أن له ثوابًا عظيمًا، أو أنه علَّمه الخضر، أو علَّمه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في النوم، أو نحو لك، فلا أحبُّ أن يتحرَّاه؛ فإن التحرِّيَ حقٌّ لما ثبت عن الله عزَّ وجلَّ وعن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وقد قال الله تعالى: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 3]. وما أخسر صفقة من يَدَعُ الأدعية الثابتة في كتاب الله عزَّ وجلَّ أو في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا [524] يكاد يدعو بِها، ثم يعمِد إلى غيرها فيتحرَّاه ويواظب عليه، أليس هذا من الظلم والعدوان؟! ¬

_ (¬1) مسند أحمد 4/ 87. سنن أبي داود، كتاب الطهارة باب الإسراف في الماء، 1/ 11، ح 96 - واللفظ له - سنن ابن ماجه، كتاب الدعاء، باب كراهية الاعتداء في الدعاء، 2/ 229، ح 3864. [المؤلف]. وأخرجه ابن حبان في صحيحه (الإحسان) 15/ 166 - 167، ح 3763، 6764. (¬2) المستدرك، كتاب الدعاء، الاعتداء في الدعاء والطهور، 1/ 540. [المؤلف].

ومن أشنع الغلط في هذا الباب الاعتمادُ على التجربة، وما يدريك لعلَّ الله عزَّ وجلَّ لا يرضى لك ذلك الدعاء، ولكنَّه علم أن حاجتك التي دعوتَ بِها إذا أُعطيتَها عادت عليك بالضرر، فأعطاك إيَّاها؛ ليكون ما يحصل لك بِها من الضرر عقوبةً لك على ذلك، أو أعطاك إيَّاها من باب الاستدراج - والعياذ بالله -، وقد قال الله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: 28]. وجاء عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لسبطه الحسن بن عليًّ عليهما السلام: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك". صحَّحه الترمذيُّ وابن حِبَّان والحاكم، وقد تقدَّم (¬1). وفي مسند أحمد من حديث أنس بن مالكٍ: ... وقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "دع ما يَريبك إلى ما لا يَريبك" (¬2). والمقصود أن ثعلبة لو اقتصر على دعائه لنفسه [525] بكثرة المال وترك الخيرة لله عزَّ وجلَّ لما ضرَّه ذلك، بل كان الله عزَّ وجلَّ يثيبه على ذلك الدعاء ما يعلم أنَّ له فيه خيرًا في أمر معاشه ومعاده، ولكنه لما لم يرض بخيرة الله له، وألحَّ على النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو له متَّكلًا على خيرته لنفسه جرى ما جرى. فإن قيل: وكيف يدعو له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بما لا خير له فيه؟ ففيه أجوبةٌ: الأوَّل: أنَّ تكثير المال ليس هو شرًّا بذاته. ¬

_ (¬1) انظر: ملحق ص 22 من نسخة أ، فقد قال هناك: "رواه الإِمام أحمد والترمذي وغيرهما، وقال الترمذي: حديث صحيح". جامع الترمذي، كتاب صفة القيامة والرقائق، 4/ 668، ح 2518، مسند أحمد 1/ 200. وانظر ما سبق في ص 330. (¬2) المسند 3/ 153. [المؤلف]

والثاني: أنَّ السائل لما أَلَحَّ استحقَّ العقوبة، فغاية الأمر أن يكون هذا الدعاء كالدعاء عليه، وهو مستحقٌّ لذلك. والثالث: ما جاء في أحاديث الصدقة أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يعطي مَن يُلِحُّ عليه وإن كان غير مستحقًّ، ثم يبيِّن أنه لا خير لهم في ذلك. ففي حديث معاوية - عند مسلمٍ -: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "لا تُلْحِفوا في المسألة، فوالله لا يسألني أحدٌ منكم شيئًا فتُخرِج له مسألته منِّي شيئًا وأنا له كارهٌ فيُبارَك له فيما أعطيته" (¬1). وفي حديث عمر - عند مسلمٍ في صحيحه -: "إنهم خيَّروني بين أن يسألوني بالفحش وبين [526] أن يبخِّلوني، فلست بباخلٍ" (¬2). ومما يتعلَّق بسؤال الدعاء بنفعٍ دنيويًّ حديث الصحيحين في السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنَّة بغير حساب، فإن فيه: "كانوا لا يكتوون، ولا يسترقون، ولا يتطيَّرون، وعلى ربِّهم يتوكَّلون"، فقام إليه عُكَّاشة بن مِحْصَنٍ، فقال: "ادعُ الله أن يجعلني منهم"، قال: "اللهمَّ اجعله منهم"، ثم قام إليه رجلٌ آخر، قال: "ادعُ الله أن يجعلني منهم"، قال: "سبقك بها عُكَّاشة" (¬3). ¬

_ (¬1) صحيح مسلمٍ، كتاب الزكاة باب النهي عن المسألة، 3/ 95، ح 1038. [المؤلف] (¬2) صحيح مسلمٍ، كتاب الزكاة، باب إعطاء مَن سأل بفحشٍ وغلظةٍ، 3/ 103، ح 1056. [المؤلف] (¬3) البخاريّ، كتاب الرقاق، بابٌ يدخل الجنَّة سبعون ألفًا بغير حسابٍ، 8/ 112 - 113، ح 6541. مسلم، كتاب الإيمان, باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنَّة بغير حسابٍ ولا عذابٍ، 1/ 138، ح 218. [المؤلف]

فالحديث يدلُّ على كراهيةٍ مَّا للاسترقاء، وحقيقته: سؤالك من رجلٍ أن يرقيك، وذلك سؤالٌ لنفعٍ دنيويًّ، فأما أن يجيئك رجلٌ فيرقيك بدون أن تسأله فلا كراهة فيه؛ فقد كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يرقي، وعرضوا عليه رقيةً، فقال: "ما أرى بها بأسًا، مَن استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه" (¬1). وفي الصحيحين عن أمَّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا اشتكى نفث على نفسه [527] بالمعوِّذات، ومسح عنه بيده، فلما اشتكى وجعه الذي توفَّي فيه طَفِقتُ أَنفُثُ على نفسه بالمعوِّذات التي كان ينفث، وأمسح بيد النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم عنه (¬2). وهذا الفرق شبيهٌ بالفرق بين سؤال المال وقبول العطاء، ففي الصحيحين عن أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعطيني العطاء، فأقول: أعطه أفقر إليه منِّي، فقال: "خذه، إذا جاءك من هذا المال شيءٌ وأنت غير مشرفٍ ولا سائلٍ فخذه، وما لا فلا تتبعْه نفسك" (¬3). وكان ابن عمر وأبو هريرة وغيرهما من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ¬

_ (¬1) انظر: صحيح مسلمٍ، كتاب السلام، باب استحباب الرقية من العين ... ، 7/ 19، ح 2199 (63). [المؤلف] (¬2) البخاريّ، كتاب المغازي، باب مرض النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ووفاته، 6/ 11، ح 4439. مسلم، كتاب السلام، باب رقية المريض بالمعوِّذات والنفث، 7/ 16، 2192. [المؤلف] (¬3) البخاريّ، كتاب الزكاة، باب مَن أعطاه الله شيئًا من غير مسألةٍ ولا إشراف نفسٍ، 2/ 123، ح 1473. مسلم، كتاب الزكاة، باب إباحة الأخذ لمن أُعطي من غير مسألةٍ ولا إشرافٍ، 3/ 98، ح 1045. [المؤلف]

لا يسألون أحدًا ولا يردُّون إذا أُعْطُوا (¬1). هذا، والظاهر أن كراهية الاسترقاء خاصَّةٌ بما إذا استرقى الإنسان لنفسه، أمَّا استرقاؤه لغيره فلا كراهية، ففي الصحيحين عن أمِّ سلمة رضي الله تعالى عنها أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رأى في بيتها جاريةً في وجهها سُفْعَةٌ - يعني صُفْرَة -، فقال: "استرقوا لها؛ فإن بها النظرة" (¬2). وعلى هذا يُحمَل حديث الصحيحين عن [528] عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو أمر - أن يُسترقى من العين (¬3). ومن القسم الثالث: سؤال العبد من ربِّه عزَّ وجلَّ، وهو المسمَّى دعاءً. ومنه - كما صرَّح به القرآن - سؤال الملائكة، وسمَّاه القرآن دعاءً. وقد تأمَّلنا الفرق بينه وبين سؤال الناس بعضهم بعضًا فوجدنا أن السؤال من الملائكة فيه تذلُّلٌ لهم وتعظيمٌ يُتديَّن به، أي: يُطلَب به نفعٌ غيبيٌّ. وقد ¬

_ (¬1) أثر ابن عمر أخرجه مسلم في كتاب الزكاة، باب إباحة الأخذ لمن أُعطي من غير مسألة ولا إشراف 3/ 98 ح 1045. وورد عن ثوبان أنه كان لا يسال أحدًا. أخرجه أحمد 5/ 275 وغيره. وحكى ابن رجب في جامع العلوم والحكم 1/ 479 نحو ذلك عن أبي بكر الصديق وأبي ذر. (¬2) البخاريّ، كتاب الطبَّ، باب رقية العين، 7/ 132، 5739. مسلم، كتاب السلام، باب استحباب الرقية من العين ... ، 7/ 18، ح 2197. [المؤلف] (¬3) البخاريّ، الموضع السابق، 7/ 132، ح 5738. مسلم، الموضع السابق، 7/ 18، ح 2195 (56)، ولفظه: "كان رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يأمرني أن أسترقي من العين". والمراد - والله أعلم - أن تسترقي لمن كانت تكفله من الصبيان، لا لنفسها. [المؤلف]

قدَّمنا (¬1) أن كلَّ ما كان كذلك فهو عبادةٌ؛ فإن لم يُنزل الله تعالى سلطانًا بالأمر أو الإذن به فهو عبادةٌ لغيره. وأمَّا سؤال الناس بعضهم من بعضٍ ما جرت العادة بقدرتهم عليه، فمنه ما لا تذلُّل فيه، ومنه ما كان فيه تذلُّلٌ ولكن لا يُطلَب به نفعٌ غيبيٌّ. وإنما كان السؤال من الملائكة سؤالًا لنفعٍ غيبيٍّ؛ [529] لأنهم غائبون عن حِسِّنا ومشاهدتنا، لا نشاهدهم، ولا نشاهد قدرتهم على النفع ومباشرتهم له كما يشاهد البشر بعضُهم بعضًا، فسواءٌ أكان المسؤول من الملائكة هو النفع بالفعل - كإنزال المطر مثلًا - أو مجرَّد النفع بالشفاعة؛ لأن البشر لا يدركون بالحسِّ والمشاهدة أنَّ الملائكة يسمعون دعاءهم، ولا أنَّهم يشفعون لمن دعاهم. وهذا بخلاف سؤال الدعاء من الإنسان الحيِّ الحاضر؛ فإن الدعاء نفسه وإن كان نفعًا فليس غيبيًّا؛ لأننا ندرك بالحسِّ والمشاهدة أنَّ الإنسان الحيَّ الحاضر يسمع طلبنا ويدعو لنا إذا طلبنا منه الدعاء. وها هنا فروقٌ أخرى بين سؤال الناس بعضهم من بعضٍ ما يدخل تحت قدرتهم وسؤال الملائكة، منها: ما تقدَّم (¬2) في الكلام على قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] أن البشر لما كانوا في دور ابتلاءٍ وامتحانٍ منحهم الله تعالى شيئًا من الاختيار، فهم يستطيعون أن يعملوا ما أرادوه مما يدخل تحت قدرتِهم ولو كان معصيةً [530] لله عزَّ وجلَّ، وأما الملائكة فهم في ¬

_ (¬1) انظر ص 732 - 733. (¬2) انظر ص 355.

دور طاعةٍ محضةٍ، فهم كما قال تعالى: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 26، 27]. فسؤال البشر بعضهم بعضًا ما جرت العادة بقدرتهم عليه له معنىً؛ لأن لهم اختيارًا، ولا كذلك سؤال الملائكة. ألا ترى لو أن ملِكًا جعل بيد بعض أتباعه مالاً، وقال له: فرِّقه على بعض المستحقِّين، ثم جعل مالاً بيد تابعٍ آخر، وقال له: لا تصرف منه فلسًا إلا إذا أمرتك، وقد علمنا أن هذا التابع لا يخالف متبوعه، فإن العاقل منَّا قد يسأل الأوَّل؛ لأنه مختارٌ، ولا يسأل الثاني. وهكذا في الشفاعة، لو أن ملِكًا أذن لبعض أتباعه أن يشفع عنده للمستحقِّين، ومنع آخر أن يشفع لأحدٍ حتى يأمره الملِك أن يشفع له؛ لكان من المعقول أن تسأل الشفاعة من الأوَّل، وأما الثاني فلا؛ لأن الملِك متى أمره بالشفاعة فلا بدَّ أن يمتثل أمْر الملك فيشفع، [531] وأيضًا فإن الملك لن يأمر بالشفاعة إلا وقد أحبَّ قضاء تلك الحاجة، وإذ قد أحبَّ قضاءها فلا بدَّ أن يقضيها ولو لم تقع الشفاعة. فأمَّا إذا قال الملِك لأحد أتباعه: (لا تشفع حتى آذن لك)، فإن قلنا: إن الإذن هنا بمعنى الأمر فكما تقدَّم، وإن قلنا: بل بمعنى أنه يقول له: (إن شئت فاشفع)، فقد يُقال: لا معنى للسؤال أيضًا؛ لأن الملِك لم يأذن بالشفاعة حتى أراد قضاء تلك الحاجة، وإنما أذن لهذا بالشفاعة إكرامًا له، فإن شفع فذلك قبولٌ للإكرام، وإن لم يشفع لم يمتنع الملِك من قضاء تلك الحاجة، مع أن هذا المأذون له إذا كان طاهر النفس لم يُحتمَل أن يأبى الشفاعة.

فإن قيل: فيُحتمَل أن الملِك يجعل شفاعة ذلك الرجل شرطًا لقضاء الحاجة، فيقول له: لا أقضيها أوْ تشفع فيها، قلت: في إمكان هذا في حقَّ الله عزَّ وجلَّ نظرٌ، وعلى فرض وقوعه فالملائكة طيِّبون طاهرون لا يمتنعون من الشفاعة بعد أن يأذن الله تعالى لهم فيها. فإن قيل: قد يتوقَّف الإذنُ بالشفاعة [532] على التعرُّض للإذن، فيحتاج إلى سؤال الشفيع أن يتعرَّض، كما في حديث الشفاعة أنَّ الخلق يسألون النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم، فيذهب فيتعرَّض للإذن بالسجود والثناء على الله تعالى، فيأذن له فيشفع. قلت: هذا صحيحٌ بالنسبة إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة، فأمَّا الملائكة فلا. أوَّلاً: لأن قوله تعالى: {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 27]، يدلُّ أنهم لا يتعرَّضون أيضًا. ثانيًا: أنه لا سلطان عندنا أن سؤال الشفاعة منهم يحملهم على التعرُّض لها. ثالثًا: أن البشر في المحشر يُؤْتَوْن ضربًا من الاختيار، فيكون للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - اختيارٌ في أن يتعرَّض للشفاعة، فإذا سُئل ذلك فإنما سُئل أمرًا يقدر عليه باختياره. وأظهر من ذلك: أنَّ السؤال في المحشر من النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم سؤالٌ من حاضرٍ مشاهَدٍ يُسْأَلُ منه ما يقدر عليه بمقتضى الحسِّ والمشاهدة، وليس كالسؤال من الملائكة في الدنيا؛ لأنهم غيبيُّون، كما مرَّ (¬1). ومن الفرق أيضًا: أن الشرائع مبنيَّةٌ على أنَّ [533] للبشر اختيارًا، ¬

_ (¬1) انظر ص 789 - 790.

وسؤال بعضهم من بعضٍ مبنيٌّ على هذا الاختيار، فكما قامت حجَّة الله تعالى على البشر بهذا الاختيار الثابت بالفطرة والبديهة وإن أعيا العقلاء بيانُ عدم مناقضته للقَدَر، فكذلك قَبِلَ سبحانه اعتذارهم بهذا الاختيار عن سؤال بعضهم من بعضٍ ما يدخل تحت قدرتهم العاديَّة، فلم يجعل ذلك كفرًا به وإن حرَّم بعضه. وهذا المعنى لا يأتي في سؤال الملائكة. ومن الفرق أيضًا: أنَّ الناس بطبيعتهم معتمدون على ما عرفوه وألِفوه من قدرة البشر على نفع بعضهم بعضًا في دائرة قدرتهم، والعادة تُكرههم على هذا الاعتماد، حتى إنك ترى إجابة البشر للسائل أقرب فيما ترى العين من إجابة الله عزَّ وجلَّ لداعيه. وهذا المعنى لا يأتي في الملائكة، بل الأمر بالعكس؛ فإنَّ العاقل إذا أمعن النظر وبحث وتدبَّر عَلِمَ كثرةَ إجابة الله تعالى دعاء مَن يدعوه، ولم ير مثل ذلك في دعاء الملائكة؛ ولهذا كان المشركون أنفسهم يقتصرون في الشدائد على دعاء الله عزَّ وجلَّ. ومن الفرق أيضًا: [534] أنَّ السؤال من الإنسان الحاضر ما يقدر عليه عادةً ليس فيه ادِّعاء أنَّه يعلم الغيب، ولا يلزمه الخضوع القلبيُّ، ولا يمكن أن يعمَّ جميع الحوائج فيؤدِّي إلى الإعراض عن الله تعالى، ولا يكاد يؤدِّي إلى تعظيمه كتعظيم الله عزَّ وجلَّ، بخلاف السؤال من الملائكة في ذلك كلِّه. ومن الفرق في خاصَّة سؤال الدعاء: أنَّ سؤال الدعاء من الأنبياء والصالحين قد تحصل به مصلحةٌ، كأن يخبر المسؤولُ السائلَ أنَّ الأمر الذي يطلبه لا يحلُّ له، أو لا خير له فيه، أو نحو ذلك. وهذا أيضًا لا يأتي في الملائكة. ومنه أيضًا: أن الناس كالمفطورين على الخضوع والتذلُّل لمن يسألون

منه، فإن كان بشرًا غير معتقَدٍ فيه الخير فإنَّ أكثر الناس ينفرون بطباعهم عن الخضوع والتذلُّل له، وإن كان نبيًّا حيًّا حاضرًا فإنه لا يُقِرُّهم على ما لا يجوز، والصالح يُظَنُّ به نحو ذلك. ونحن نرى الناس يأتون إلى مَن يُظَنُّ به الصلاح [535] فيبادرون إلى تعظيمه بما شاءت لهم أنفسهم، وقد يُصِرُّون على عمل ذلك مع مَنْع ذلك الصالح لهم ونهيه إياهم وتأذِّيه بفعلهم. فأمَّا السؤال من الملائكة لو أُبِيح فليس هناك ما يردع الناس عن التغالي في تعظيمهم حتى يسوُّوهم بالله عزَّ وجلَّ أو يزيدوا. ومنها: أنَّ سؤال الدعاء من الصالح لا يؤدِّي غالبًا إلى أكثر من زَعْمِ أنه مستجاب الدعوة، وإن كان قد يجرُّ أحيانًا إلى أزيد من ذلك، كما تراه في زعم بعض المريدين أنَّ شيخهم نافذ الحكم فيما أراد، وأنه قد أعطاه الله عزَّ وجلَّ كلمة (كن)؛ فكلُّ ما أراد أن يكون كان، وكلُّ ما أراد ألَّا يكون لا يكون. ولهذا كره السلف سؤال الدعاء من الإنسان الحيِّ أيضًا، كما مرَّ عن عمر وسعدٍ وحذيفة وغيرهم رضي الله تعالى عنهم (¬1)، ولكنَّ كثيرًا ما يمنع عن هذا الغلوِّ منعُ الشيخ منه أو زجره عنه. فأمَّا السؤال من الملائكة فإنه يسوق إلى اعتقاد أنهم يتصرَّفون في الكون باختيارهم، ولا يتأتَّى منهم النهيُ عن الغلوِّ. وقد وقع قريبٌ من ذلك في شأن أرواح الموتى، والله المستعان. [536] فإن قيل: كيف يكون السؤال من الملائكة دعاءً لهم وعبادةً، وقد كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يسألون جبريل وغيره من الملائكة عليهم السلام؟ قلتُ: ليس هذا من ذاك؛ فإن الأنبياء عليهم السلام إنما يسألون جبريل ¬

_ (¬1) انظر ص 778 وما بعدها.

عن بعض المعارف ونحوها سؤالَ استفهامٍ وهو حاضرٌ مُشَاهَدٌ لهم، أرسله الله عزَّ وجلَّ ليعلِّمهم ويخبرهم عما يسألونه عنه، فسؤالهم منه طلب حقٍّ، وهذا السؤال لا خضوع معه للمسؤول، ولا هو غائبٌ، ومع ذلك فعندهم من الله تعالى بذلك سلطانٌ. فإن قيل: فقد جاء في الأثر أنَّ خُبيب بن عديًّ رضي الله تعالى عنه لَمَّا أراد المشركون قتله نادى: (يا محمَّد) (¬1)، وهو حينئذٍ بمكَّة، والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة. وجاء في الأثر أن عمر نادى وهو على منبر المدينة: (يا سارية الجبل (¬2)! وسارية حينئذٍ بفارس. وعلَّم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أمَّته أن يقولوا في تشهُّد الصلاة: "السلام عليك أيُّها ¬

_ (¬1) أخرجه أبو نُعَيم في الحلية, ترجمة سعيد بن عامرٍ، 1/ 245 - 246. ومن طريقه ابن عساكر، ترجمة سعيد بن عامر، 21/ 161 - 162. (¬2) أخرجه السلميُّ في الأربعين في التصوُّف، بابٌ في جواز كرامات الأولياء، ص 5، وأبو نُعَيمٍ في الدلائل, الفصل التاسع والعشرون: ما جرى على يدي أصحابه بعده، ما ظهر على يدي عمر ... ، ص 579، ح 526. والبيهقيُّ في الدلائل, باب ما جاء في إخبار النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بمحدَّثين كانوا في الأمم ... ، 6/ 370. واللالكائيُّ في شرح أصول اعتقاد أهل السنَّة، سياق ما رُوِي في ترتيب خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب ... ، 7/ 1330، ح 2537. وغيرهم، من طريق ابن وهبٍ، عن يحيى بن أيُّوب، عن ابن عجلان، عن نافعٍ، عن ابن عمر، عن أبيه. وحسَّن إسناده ابن كثيرٍ وابن حجرٍ. انظر: البداية والنهاية 10/ 175، الإصابة 4/ 176 - 177. وله طرقٌ أخرى ضعيفةٌ، وفي بعضها ألفاظٌ منكرةٌ. انظر: السلسلة الصحيحة 3/ 101، ح 1110. وانظر ما سبق ص 273.

النبيُّ ورحمة الله وبركاته" (¬1)، ففعلوا ذلك في حياته وبعد وفاته، ولا يزالون على ذلك، ولن يزالوا إلى يوم القيامة. [537] وجاء في حديث الأعمى أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - علَّمه أن يقول: "اللهم إني أسألك بنبيِّك نبيَّ الرحمة، يا محمَّد، يا رسول الله، إني أتوجَّه بك إلى ربَّي في حاجتي هذه ليقضيها، اللهمَّ فشفِّعه فيَّ" (¬2)، وفي بعض رواياته زيادة: "وإن كان (¬3) حاجةٌ فعل مثل ذلك" (¬4). وروي عن عثمان بن حُنيفٍ رضي الله عنه أنه علَّم رجلاً يقول ذلك في خلافة عثمان رضي الله عنه (¬5)، وعن بعض التابعين أنه دعا بنحو هذا الدعاء (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الأذان، باب التشهُّد في الآخرة, 1/ 166، ح 831، ومواضع أخرى. ومسلمٌ في كتاب الصلاة, باب التشهُّد في الصلاة, 2/ 13، ح 402. (¬2) أخرجه أحمد 4/ 138. والترمذيُّ في كتاب الدعوات، باب 119، 5/ 569، ح 3578، وقال: "حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ ... ". والنسائيّ في عمل اليوم والليلة، ما يقول إذا راعه شيءٌ، ص 417 - 418، ح 658 - 660. وابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في صلاة الحاجة، 1/ 441، ح 1385. وغيرهم. وقد خرَّج المؤلِّف هذا الحديث وتوسَّع في الكلام عليه في رسالة الاجتهاد. (¬3) كذا في الأصل. (¬4) رواها أبو بكر بن أبي خيثمة في تاريخه من طريق حماد بن سلمة، عن أبي جعفر الخطمي، كما في قاعدة جليلة ص 196. (¬5) أخرجه الطبراني في الكبير 9/ 30 ح 8327، والصغير 1/ 183 - 184، وقال: والحديث صحيح، والبيهقي في دلائل النبوَّة باب تعليمه الضرير ما كان فيه شفاؤه ... ، 6/ 167 - 168. (¬6) هو عبد الملك بن سعيد بن أبجر كما رواه ابن أبي الدنيا في كتاب مجابو الدعوة ص 154 ح 127.

فالجواب: أمَّا خبيبٌ فقصَّته في الصحيح (¬1)، وليس فيها أنه نادى: (يا محمَّد)، بل قال الحافظ في فتح الباري: "وفي رواية بريدة بن سفيان: فقال خُبَيبٌ: اللهم إني لا أجد مَن يبلِّغ رسولك مني السلام فبلِّغه" (¬2). وفي رواية ابن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة قال: ثم رفعوه على خشبةٍ، فلمَّا أوثقوه قال: "اللهمَّ إنا قد بلَّغنا رسالة رسولك، فبلِّغه الغداة ما يُصْنَعُ بنا" (¬3). وقال ابن إسحاق أيضًا: وحدَّثني بعض أصحابنا، قال: كان عمر بن الخطَّاب استعمل سعيد بن عامر بن حِذْيَمٍ، فذكر قصَّةً، وفيها من كلام سعيدٍ: "والله يا أمير المؤمنين ما بي من بأسٍ، ولكنِّي كنتُ فيمَن حضر خُبيب [538] بن عديٍّ حين قُتِل وسمعتُ دعوته" (¬4)، ولم يفسِّر الدعوة، ولا ذَكَر أنه نادى: (يا محمَّد). وهذه القصَّة - أعني قصَّة سعيد بن عامرٍ - هي التي جاء فيها تلك الكلمة، رواها أبو نُعَيمٍ في الحلية من طريق الهيثم بن عديٍّ، نا ثور بن يزيد، ¬

_ (¬1) انظر: صحيح البخاريِّ، كتاب الجهاد والسير، بابٌ هل يستأسر الرجل؟ 4/ 67، ح 3045. وكتاب المغازي، باب 10، 5/ 78 - 79، ح 3989. وباب غزوة الرجيع ... ، 5/ 103، ح 4086. (¬2) فتح الباري 7/ 269. [المؤلف]. بريدة بن سفيان ضعيف، ولكن الرواية مخرجة من طريق أخرى عند الطبراني في الكبير 5/ 259، ح 5284. (¬3) سيرة ابن هشام 2/ 62. [المؤلف] (¬4) سيرة ابن هشام 2/ 62. [المؤلف]

نا خالد بن معدان، قال: استعمل علينا عمر بن الخطَّاب بحمص سعيد بن عامرٍ بن حِذْيَمٍ، فذكر قصَّةً فيها محاورةٌ بين عمر وسعيدٍ، ذكر فيها من كلام سعيدٍ: شهدتُّ مصرع خُبيبٍ الأنصاريَّ بمكَّة وقد بَضَعَتْ (¬1) قريشٌ لحمه، ثم حملوه على جذعة، فقالوا: تحبُّ أن محمَّدًا مكانك؟ فقال: (والله ما أحبُّ أني في أهلي وأنَّ محمَّدًا شيك شوكةً)، ثم نادى: (يا محمَّد) (¬2). وخالد بن معدان لم يدرك عمر، وثور بن يزيد ناصبيٌّ، والهيثم بن عديًّ كذَّبه ابن مَعينٍ والبخاريُّ وغيرهما، وهو الذي روى عن هشام بن عروة عن أبيه أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سمَّى ابنيه عبد العُزَّى وعبد منافٍ. قال النسائيُّ: "محالٌ أن يصدر ذلك من النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - " (¬3). وقال ابن حجرٍ في اللسان: "هذا من افتراء الهيثم على هشامٍ" (¬4). والذي ذكره ابن إسحاق [539] عن عاصم بن عمر بن قتادة وذكره الحافظ عن رواية بريدة بن سفيان هو المعروف من صنيع الصحابة. ففي هذه القصَّة بعينها في البخاريَّ أنَّ عاصم بن ثابتٍ أميرَ السَّريَّة قال: "أمَّا أنا فلا أنزل على ذمَّة كافرٍ، اللهمَّ أخبر عنَّا نبيَّك" (¬5). ولو صحَّ أن خُبيبًا قال: (يا محمَّد)، فلم يقصد به الاستغاثة. كيف وهو مستعدٌّ للموت مستبشرٌ بالشهادة، ولم يحصل له الإغاثة من القتل، ولا قصد ¬

_ (¬1) أي: قَطَعَتْه. النهاية 1/ 134. (¬2) حلية الأولياء، ترجمة سعيد بن عامرٍ، 1/ 245 - 246. (¬3) لسان الميزان, ترجمة الهيثم بن عديًّ الطائيِّ، 6/ 210. (¬4) المصدر السابق. (¬5) البخاريّ، كتاب المغازي، باب غزوة الرجيع ... ، 5/ 104، ح 4086. [المؤلف]

إسماع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ بدلالة الروايات الأُخَر، وإنما قال ذلك على ما جرت به عادة المحبِّ المشتاق أن يدعو باسم محبوبه إظهارًا لشدَّة شوقه إليه ومحبَّته له حتى كأنه حاضر لديه، وهذا مجازٌ كما لا يخفى، والله أعلم. وأما أثر: "يا سارية الجبل" [540] فالجواب عنه ما جاء في القصَّة نفسها، فإنَّ فيها: "فقيل لعمر: ما ذاك الكلام؟ فقال: والله ما ألقيت له بالاً، شيءٌ أتى على لساني" (¬1). فبين أنه لم يقصد ذلك الكلام أصلاً، ومع ذلك فإنه أمرٌ لا سؤالٌ يصحبه الخضوع والتذلُّل. ومع ذلك ففي ثبوت هذه القصَّة مقالٌ، وأقوى طرقها رواية حرملة، عن ابن وهبٍ، عن يحيى بن أيُّوب، عن ابن عجلان، عن نافع، عن ابن عمر، وفيها: "ثم قدم رسولُ الجيش، فسأله عمر، فقال: يا أمير المؤمنين هُزِمنا، فبينا نحن كذلك إذ سمعنا صوتًا ينادي: "يا سارية الجبل" ثلاثًا، فأسندنا ظهرنا إلى الجبل، فهزمهم الله تعالى، قال: قيل لعمر: إنك كنت تصيح بذلك" (¬2). وقوله: "قيل لعمر: إنك كنت تصيح بذلك" يوافق ما جاء في الرواية السابقة أنه شيءٌ جرى على لسانه بغير اختياره، والله أعلم. ومع ذلك فحرملة ويحيى بن أيُّوب ومحمَّد بن عجلان في كلٍّ منهم مقالٌ. ¬

_ (¬1) الخصائص الكبرى 2/ 285. [المؤلف] (¬2) الإصابة 2/ 3. [المؤلف]

وقد عَدَّ أهلُ الأصول من المقطوع بكذبه ما رُوِيَ آحادًا والدواعي متوفِّرةٌ على نقله. قال المَحَليِّ: "كسقوط الخطيب عن المنبر وقت الخطبة" (¬1). وهذه القصَّة أولى بتوفُّر الدواعى على نقلها من سقوط الخطيب عن المنبر، كما هو واضحٌ، والله أعلم. وبما ذكرناه عُلِم ما في قول الحافظ بن حجرٍ في الإصابة (¬2): إن إسنادها حسنٌ. وأمَّا قولنا في التشهد: (السلام عليك أيها النبيُّ ورحمة الله وبركاته)، فقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: "فإن قيل: كيف شُرِعَ هذا اللفظُ وهو خطابُ بَشَرٍ مع كونه منهيًّا عنه في الصلاة ... ؟ فالجواب: أنَّ ذلك من خصائصه - صلى الله عليه وسلم -. فإن قيل: ما الحكمة في العدول عن الغيبة إلى الخطاب في قوله: "عليك أيها النبي" مع أنَّ لفظ الغيبة هو الذي يقتضيه السياق، كأن يقول: السلام على النبيِّ، فينتقل من تحية الله إلى تحية النبي ثم إلى تحية النفس ثم إلى الصَّالحين، أجاب الطيبي بما مُحَصِّلُه: نحن نتبع لفظ الرسول بعينه الذي كان علّمه الصحابة، ويحتمل أن يقال على طريق أهل العرفان: إنَّ المصلين لما استفتحوا باب الملكوت بالتحيَّات أُذِنَ لهم بالدخول في حَرِيم الحيِّ [541] الذي لا يموت، فقرَّتْ أعينُهم بالمناجاة، فنُبِّهُوا على أنَّ ذلك ¬

_ (¬1) شرح المحلَّي على جمع الجوامع 2/ 79. [المؤلف] (¬2) 4/ 176 - 177.

بواسطة نبيِّ الرحمة، وبركة متابعته، فالتفتوا فإذا الحبيب في حَرَم الحبيب حاضر، فأقبلوا عليه قائلين: السلام عليك أيها النبيُّ ورحمة الله وبركاته. وقد ورد في بعض طرق حديث ابن مسعود هذا ما يقتضي المغايرة بين زمانه - صلى الله عليه وسلم - فيقال بلفظ الخطاب، وأما بعده فيقال بلفظ الغيبة، وهو مما يخدش في وجه الاحتمال المذكور. ففي الاستئذان من صحيح البخاريِّ من طريق أبي معمر، عن ابن مسعود بعد أن ساق حديث التشهُّد قال: وهو بين ظهرانينا، فلما قُبِضَ قلنا: السلام يعني على النبيَّ. كذا وقع في البخاري. وأخرجه أبو عوانة في صحيحه, والسَّرّاج، والجَوْزَقِي، وأبو نعيم الأصبهاني، والبيهقي من طرق متعددة إلى أبي نعيم شيخ البخاري فيه بلفظ: فلما قُبِضَ قلنا: "السلام على النبيَّ" بحذف لفظ "يعني"، وكذلك رواه أبو بكر بن أبي شيبة عن أبي نعيم. [542] قال السبكي في شرح المنهاج بعد أن ذكر هذه الرواية من عند أبي عوانة وحده: "إن صحّ هذا عن الصحابة دلّ على أن الخطاب في السلام بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - غير واجب، فيقال: السلام على النبيِّ". قال الحافظ: قلت: قد صحّ بلا ريب، وقد وجدتُ له متابعًا قويًّا. قال عبد الرزاق، أخبرنا ابن جريج، أخبرني عطاء: أن الصحابة كانوا يقولون والنبي - صلى الله عليه وسلم - حي: السلام عليك أيها النبيُّ، فلما مات قالوا: السلام على النبيَّ. وهذا إسناد صحيح. وأما ما روى سعيد بن منصور من طريق أبي عبيدة بن عبد الله بن

مسعود، عن أبيه أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - علّمهم التشهُّد فذكره قال: فقال ابن عباس: إنما كنا نقول: السلام عليك أيُّها النبي إذ كان حيًّا، فقال ابن مسعودٍ: "هكذا عُلِّمْنا، وهكذا نُعَلِّم"، فظاهره أنَّ ابن عبَّاس قاله بحثًا وأنَّ ابن مسعود لم يرجع إليه، لكن رواية أبي معمر أصحُّ؛ لأنَّ أبا عبيدة لم يسمع من أبيه، والإسناد إليه مع ذلك ضعيفٌ" (¬1). [543] والحاصل أنَّ الخطاب فيه ليس على بابه، وإنما هو على التنزيل أي تنزيل الغالب منزلة الحاضر للدَّلالة على استحضاره في الذهن، كأنَّ ذلك تنبيه للمصلَّي على تحرِّي متابعة النبي - صلى الله عليه وسلم - في أقواله وأفعاله. وهذا التحرِّي يحمل على استحضار النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في الذِّهن حتى كأنَّه حاضر يرشد إلى أعمال الصلاة والمصلَّي يتابعه. وقد كان الصحابة يقولون ذلك في حياته - صلى الله عليه وسلم - سرًّا بحضرته أو غائبين عنه، وإنما عدل عنه مَن عدل بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - لئلا يظنَّ الجهال أنَّه خطاب حقيقي، ورأوا أن تَوَهُّمَ ذلك كان بغاية البعد في حياته صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، أمَّا بحضرته فالمصلي يقول: لو كان خطابًا حقيقيًّا لشُرعَ لي أن أرفع صوتي حتى أُسْمِعَه، كما أنني لو أردتُ أن أسأله عن شيء أو أستأذنه في شيء أو إخبارَه (¬2) بشيء كان عليّ شرعًا وعادة أن أخاطبه بحيث يسمع كما يسمع غيره بحسب العادة. وأما مَن بَعُدَ عنه فكذلك؛ لأنَّه يقول: لو كان خطابًا حقيقيًّا لكان عليَّ أن لا أقوله إلا بحضرته فأسمعه كما يسمع غيره على ما جرت به العادة، كما لو ¬

_ (¬1) فتح الباري 2/ 212 - 213. [المؤلف] (¬2) كذا عطفًا على المصدر المسبوك من قوله: "أنْ أسأله".

أردتُ سؤاله أو استئذانه في شيء أو إخباره بشيء كان عليّ أن أذهب إليه فأقرُب منه بحيث يسمع صوتي، ثم أرفع صوتي فأكلِّمه. وأما بعد وفاته صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فإنَّه لم يَبْقَ ممكنًا لأحد أن يقرُب منه فيخاطبه فيُسمعَه على حسب ما هو معروف في العادة، [فإنه يعرف] (¬1) الإنسان من نفسه أني لو أردتُّ استئذانه صلَّى الله عليه وسلَّم، أو إخباره بشيء لكان عليَّ أن أذهب إليه وأقرُب منه وأرفع صوتي فأسمعه كما جرت به العادة في غيره. فما بقي إلا احتمال ما هو على خلاف العادة، وإذا انفتح هذا الاحتمال لم يكن له حدٌّ يُوقَف عنده. ورأى الآخرون أنَّ توهُّم الجهَّال كونه خطابًا حقيقيًّا بعيدٌ؛ لأنَّ القرائن العقليَّة والعاديَّة والشرعيَّة الصارفة عن الحقيقة واضحة، والناس يقولون إلى الآن: رحمك الله يا فلان، ويكون فلان قد مات منذ زمان، ودُفن بعيدًا عن القائل بمراحل، والقائل لا يشك أنَّ فلانًا لا يسمعه، وإنما أراد: رحم الله فلانًا، وذكر الله فلانًا بخير، ولكنَّه أتى بلفظ الخطاب دلالة على شدَّة استحضاره فلانًا في ذهنه، والقرينة الدالَّة على أنَّ الخطاب هنا مجاز هي ما عرفه الناس من العادة أنَّ [544] الغائبَ والميِّت لا يسمع. وذِكْرُ الميت بلفظ الخطاب لا تكاد تخلو عنه مرثيَة من مراثي العرب. وفي شعر مُهَلْهِلٍ كثيرٌ منه، مع أنه القائل (¬2): ¬

_ (¬1) كُتبت الكلمتان بعضهما فوق بعض، وهذا الذي ظهر لي. (¬2) انظر: الأمالي لأبي علي القالي 1/ 24 والزِّير هو الذي يكثر من زيارة النساء وينشغل =

فلو نُبِشَ المقابرُ عن كليب ... فيخبرَ بالذنائب أيُّ زِير بل كثيرًا ما يخاطبون الجمادات والمعاني. وفي الحديث: "يا أرض ربي وربك الله" (¬1). وفيه قوله - صلى الله عليه وسلم - لمكة: "والله إنك لخير أرض الله وأحبُّ أرض الله إلى الله" ... الحديث (¬2). وقوله لها: "ما أطيبك من بلد". الحديث (¬3). ¬

_ = باللهو بهنَّ عن طلب المعالي، يقول: لو رأى كليب ما صنعتُ بقومه بموضع الذنائب لعَلِم أني غير زِير. (¬1) سنن أبي داود، كتاب الجهاد، باب ما يقول الرجل إذا نزل المنزل، 1/ 349، ح 2603. [المؤلف]. وأخرجه أحمد (2/ 132 و3/ 123)، والنسائي في عمل اليوم والليلة، باب ما يقول إذا كان في سفر فأقبل الليل ص 378 ح 563، وابن خزيمة في صحيحه في كتاب المناسك، باب صفة الدعاء بالليل في الأسفار 2/ 1224 - 1225 ح 2572، والحاكم في كتاب المناسك، الدعاء عند بدو الفجر في السفر 1/ 446 - 447 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ولم يتعقبه الذهبي، وحسنه الحافظ ابن حجر في تخريج الأذكار. انظر الفتوحات الربانية 5/ 164. ولكن في إسناده الزبير بن الوليد، وهو مجهول. انظر السلسلة الضعيفة 10/ 392 ح 4837. (¬2) جامع الترمذيّ، كتاب المناقب، بابٌ في فضل مكَّة، 2/ 327، ح 3925، وقال: "حسنٌ غريبٌ صحيحٌ". سنن ابن ماجه، كتاب المناسك باب فضل مكَّة، 2/ 138، ح 3108. المستدرك، كتاب الهجرة، تعاقب سراقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... ، 3/ 7، وقال: "صحيحٌ على شرط الشيخين"، وأقرَّه الذهبيّ. [المؤلف] (¬3) جامع الترمذيّ، الموضع السابق، 2/ 327، ح 3926، وقال: "حسنٌ غريبٌ من هذا الوجه". المستدرك، كتاب المناسك، قوله - صلى الله عليه وسلم - لمكَّة: "ما أطيبك من بلدٍ"، 1/ 486، =

وقول عمر للحجر الأسود: "إني لأعلم أنك حجر لا تضرُّ ولا تنفع" الحديث (¬1). ومثل هذا لم يكن يشتبه على أحد في القرون الأولى، ولكن حالَ الحالُ وترأَّس الجهَّال، وإلى الله المشتكى. وأمَّا حديث الأعمى ففي صحَّته نظر؛ فإنَّه تفرَّد به أبو جعفر الخطمي، فروي عنه عن أبي أمامة بن سهل بن حُنيف، عن عمَّه عثمان بن حُنيف، وروي عنه عن عمارة بن خزيمة بن ثابت، عن عثمان بن حُنيف أنَّ رجلاً ضريرًا أتى النبيَّ صلَّى الله عليه [545] وسلَّم فقال: يا نبيَّ الله، ادع الله أن يعافيني. قال: "إن شئت أخَّرت ذلك فهو خير لآخرتك، وإن شئت دعوت لك". قال: لا، بل ادع الله لي، فأمره أن يتوضَّأ وأن يصلَّي ركعتين وأن يدعو بهذا الدعاء: "اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمَّد نبي الرحمة، يا محمَّد، إني أتوجَّه بك إلى الله في حاجتي هذه فتقضى لي وتشفِّعني فيه وتشفِّعهُ فيّ". قال: ففعل الرجل فبرئ. هذا لفظ رواية الإِمام أحمد في المسند (¬2). وقوله: "وتشفِّعني فيه" أراد: إني أدعوك أن تجيب دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي دعا لي فاستجب دعائي هذا، فأطلق على دعائه بإجابة دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - له ¬

_ = وقال: "صحيح الإسناد"، وأقرَّه الذهبيّ. [المؤلف] (¬1) البخاريّ، كتاب الحجّ، باب ما ذُكِر في الحجر الأسود، 2/ 149، ح 1597. مسلم، كتاب الحجّ، باب استحباب تقبيل الحجر الأسود في الطواف، 4/ 67، ح 1270 (250). [المؤلف] (¬2) 4/ 138. [المؤلف]

شفاعة، وكأنه من باب المشاكلة كقوله تعالى حكاية عن عيسى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116]، والله أعلم. وقوله: "يا محمد" إن كان خطابًا للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بحضرته فلا حجَّة فيه للمخالف، وإن كان علّمه أن يقول ذلك بعيدًا عنه أي بحيث لا يسمعه عادة فسياق الدعاء ظاهر [546] في أنَّه لا يُراد من ذلك إسماع النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا حقيقة الخطاب، وإنما هو من باب المجاز الذي تقدَّم ذكره، ومن القرينة على ذلك أنه لم يقع في متن الدعاء طلب شيء من النبي - صلى الله عليه وسلم -, فكأنَّ أصل المعنى: اللهم إني أتوجَّه إليك بمحمد في حاجتي، وإنما عدل إلى الخطاب إشارة إلى أنه ينبغي للداعي بهذا الدعاء أن يكون مستحضرًا لفضيلة النبي - صلى الله عليه وسلم - وكرامته على ربه حتى كأنه - صلى الله عليه وسلم - حاضر أمامه. وعلى هذا المجاز يُحمل ما يُروى أن عثمان بن حُنيف علّم رجلاً هذا الدعاء في خلافة عثمان، وما يُرْوَى من دعاء بعض التابعين بنحوه. وعلى كلِّ حال فليس في الدعاء سؤال شيء من النبي - صلى الله عليه وسلم -, وإنما السؤال من الله تعالى. وأما ما فيه من التوسُّل أي سؤال الله عزَّ وجلَّ بنبيِّه - صلى الله عليه وسلم - فتلك مسألة أخرى ليس فيها سؤال من غير الله عزَّ وجلَّ، ومَنْ مَنع من هذا التوسُّل لم يقل: إنه عبادة لغير الله [547] تعالى، ولا شرك، وغايته أن يقول: هو حرام. وممن مَنَع هذا التوسُّلَ سلطانُ العلماء عزُّ الدِّين بن عبد السَّلام الشافعي إلاَّ أنه استثنى النبي - صلى الله عليه وسلم - معلِّقًا ذلك بصحة الحديث (¬1). ¬

_ (¬1) لعله يشير إلى ما في فتاوى العز ص 126 من إجازته الإقسام على النبيَّ محمد - صلى الله عليه وسلم - =

وقد التزم بعض العلماء صحة الحديث وحمله على أنه توسُّل بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لا بذاته، واستدلَّ على ذلك بحديث البخاريِّ رحمه الله عن أنس رضي الله تعالى عنه أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كانوا إذا قُحِطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه: فقال: "اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعمِّ نبينا فاسقنا". قال: (فيُسْقَوْن) (¬1). قال: فالمراد التوسل بدعائه لِمَا جاء أنَّ عمر كان يقول هذه الكلمات عندما يرفع العباس يديه يدعو، ولأنَّ قوله: إنَّا كنَّا نتوسَّل إليك بنبيِّنا إلخ ظاهر في أنَّ المعنى: وإنَّ نبينا قد توفَّي فلا يمكننا التوسُّل به، فلذلك نتوسَّل إليك بعمِّ نبيِّنا. ومعلوم أنَّ الذي فات بموت النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إنما هو أن يدعو لهم في حاجتهم تلك، فثبت بذلك أن التوسُّل به إنما هو التوسُّل بدعائه للمتوسِّل بحاجته تلك. [548] ولو كان التوسُّل بذاته، أو بكرامته على ربه، أو بدعائه لأمَّته في الجملة لما فات ذلك بموته - صلى الله عليه وسلم -, وهكذا لو جاز سؤال الدعاء والشفاعة منه - صلى الله عليه وسلم - بعد موته لما فات المقصود بالموت، ولكانوا يسألون منه الدعاء والشفاعة ثم يتوسَّلون. وكلام أمير المؤمنين عمر ظاهر في أنَّ توسُّلهم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - قد فات ¬

_ = معلقًا ذلك بصحة حديث تعليم النبي - صلى الله عليه وسلم - بعض الناس أن يقول في دعائه: "اللهم إني أقسم عليك بنبيك محمَّد نبي الرحمة"، واللفظ الوارد: "أتوسل إليك". (¬1) البخاريّ، كتاب الجمعة، باب سؤال الناس الإِمام الاستسقاء إذا قحطوا، 2/ 27، ح 1010. [المؤلف]

بموته، وكان يقول ذلك على رؤوس الأشهاد في اجتماعهم للاستسقاء، وأصحابُ النبي - صلى الله عليه وسلم - مجتمعون، ولم ينكر ذلك أحد منهم، ومثل هذا إجماعٌ عند جماعة من أهل العلم (¬1). والله اعلم. هذا، وقد أخرج أبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من أحد يسلّم عليّ إلا ردّ الله عليّ روحي حتى أرد عليه السلام" (¬2). وفي سنده حميد بن زياد أبو صخر الخرَّاط، قال أحمد ويحيى: لا بأس به، وقال يحيى مرَّة أخرى: ضعيف، وكذا قال النسائي (¬3). وأخرج البيهقي في شعب الإيمان (¬4) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ صلَّى عليَّ عند قبري سمعته، ومَنْ صلَّى [549] عليَّ نائيًا أُبْلِغته" (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: قاعدة جليلة في التوسُّل والوسيلة 82، 210 - 211. (¬2) سنن أبي داود، كتاب المناسك، باب زيارة القبور، 1/ 278، ح 2041. [المؤلف] (¬3) انظر: العلل ومعرفة الرجال 3/ 52 (4126)، الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 3/ 222، الضعفاء والمتروكون للنسائي ص 85. (¬4) انظر: شعب الإيمان, بابٌ في تعظيم النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وإجلاله وتوقيره، ومنه: الصلاة والتسليم عليه كلَّما جرى ذكره, 4/ 213، ح 1481. (¬5) ذكره في المشكاة ص 87. ثم رأيته في جزء حياة الأنبياء للبيهقيِّ من طريق العلاء بن عمرٍو الحنفيِّ، ثنا أبو عبد الرحمن، عن الأعمش، عن أبي صالحٍ، عن أبي هريرة, فذكره مرفوعًا. ثم قال البيهقي: "أبو عبد الرحمن هذا هو محمَّد بن مروان السُّدِّيُّ فيما أرى، وفيه نظرٌ". جزء حياة الأنبياء ص 12، [ح 18]. قلت: هو هو. ففي الميزان [4/ 33] في ترجمة العلاء بن عمرٍو الحنفيُّ [كذا في الأصل، والصواب: في ترجمة محمَّد بن مروان السُّدِّيَّ]: "ثنا محمَّد بن مروان، عن الأعمش، عن أبي =

وجاءت آثارٌ أخرى قد يؤخذ منها أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يسمع ما يقع من الأصوات عند قبره بأبي هو وأمي، ولكن لم أقف على ما هو صحيح صريح في ذلك، ولم يثبت عن السلف مخاطبته عند القبر إلا بالسَّلام، وأنت خبير أنَّ السلام ليس فيه سؤال ولا استعانة ولا استغاثة، وإنما هو دعاء له - صلى الله عليه وسلم -. وقد اختلف أهل العلم في سماع الموتى فأنكرتْه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وغيرها سلفًا وخلفًا، واحتجُّوا بقوله تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} [النمل: 80، 81] (¬1). وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35) إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [الأنعام: 35، 36]، وقال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} [فاطر: 22، 23]. [550] ولم تقبل عائشة حديث ابن عمر وغيره في وقوف النبي - صلى الله عليه وسلم - على قتلى المشركين الذي أُلْقُوا في قليب بدر وندائه إياهم بأسمائهم وقوله: "هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقًّا، فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقًّا" فقيل له: يا رسول الله، أتخاطب أقوامًا قد جَيَّفُوا؟ فقال: "ما أنتم بأسمع لما أقول ¬

_ = صالحٍ"، فذكر الحديث. ومحمَّد بن مروان السُّدِّيُّ الصغير كذَّابٌ يضع الحديث. [المؤلف]. والعلاء بن عمرو الحنفيُّ متروكٌ. والحديث قال فيه الألبانيُّ: "موضوعٌ". انظر: السلسلة الضعيفة ح 203. (¬1) ومثلها في سورة الروم: 52 - 53. [المؤلف]. ووقع في الأصل 25 - 35.

منهم"، فقالت عائشة: "ما قال: إنهم يسمعون ما أقول، إنما قال: إنهم الآن ليعلمون أنَّ ما كنتُ أقول لهم حق" (¬1). تعني: وأمَّا مخاطبته - صلى الله عليه وسلم - لهم فلم تكن لكي يسمعوا، وإنما المقصود منها اعتبار مَن يسمعه من الأحياء أو يبلُغه. وقال جماعة: أمَّا الموتى فلا يسمعون، ولكنَّ الله تعالى أسمع أهل القليب كلام نبيه - صلى الله عليه وسلم -, وقد قال تعالى في آية فاطر: {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22]، فدلَّ أنَّ العادة المستمرَّة عدمُ سماعهم، ولكنَّ الله تعالى إذا شاء أسمعهم. وفي صحيح البخاريِّ: "قال قتادة: أحياهم الله - يعني أهل الطَّوِيِّ (¬2) - حتى أسمعهم قولَه - صلى الله عليه وسلم - توبيخًا وتصغيرًا ونقمةً وحسرةً وندمًا" (¬3). وفي فتح الباري: "والجواب عن الآية: أنه لا يُسمعهم وهم موتى ولكنَّ الله أحياهم حتى سمعوا كما قال قتادة ... ، وقال السهيلي ما محصَّله: إنَّ في نفس الخبر ما يدلُّ على خرق العادة بذلك للنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم؛ لقول الصحابة له: أتخاطب أقوامًا قد جَيَّفوا .... ". ثم قال الحافظ: "وقد اختلف أهل التأويل في المراد بالموتى في قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى}، وكذلك المراد بـ {مَنْ فِي الْقُبُورِ}، فحملته ¬

_ (¬1) انظر: صحيح البخاريَّ، كتاب المغازي، باب قتل أبي جهلٍ، 5/ 76 - 77، ح 3979. [المؤلف] (¬2) أي: البئر. انظر: القاموس المحيط 1687. (¬3) صحيح البخاريَّ، الموضع السابق، 5/ 76، ح 3976. [المؤلف]

عائشة على الحقيقة، وجعلته أصلاً احتاجت معه إلى تأويل قوله: "ما أنتم بأسمع لما أقول منهم" وهذا قول الأكثر ... " (¬1). وقال في الجنائز: "وقال ابن التِّين: لا معارضة بين حديث ابن عمر والآية؛ لأن الموتى لا يسمعون بلا شكًّ، لكن إذا أراد الله إسماع ما ليس من شأنه السماع لم يمتنع، كقوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ} الآية [الأحزاب: 72]، وقوله: {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} الآية [فصلت: 11] (¬2). [551] وقال آخرون: إن الموتى يسمعون الأصوات التي تقع عند قبورهم. واحتجُّوا بالحديث المذكور، وبحديث الصحيحين: "إنَّ العبد إذا وُضِع في قبره وتولَّى عنه أصحابه - وإنَّه ليسمع قرع نعالهم - أتاه ملكان" الحديث (¬3). وبما أخرجه الحاكم في المستدرك عن أبي هريرة أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال في شهداء أحد: "أشهد أنَّ هؤلاء شهداء عند الله تعالى فأتُوهم وزوروهم، فوالذي نفسي بيده لا يُسلِّم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا رَدّوا عليه" (¬4). ¬

_ (¬1) فتح الباري 7/ 215. [المؤلف] (¬2) فتح الباري 3/ 152. [المؤلف] (¬3) البخاريّ، كتاب الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر، 2/ 98 - 99، ح 1374. مسلم، كتاب الجنَّة وصفة نعيمها وأهلها، باب عرض مقعد الميِّت من الجنَّة أو النار عليه ... ، 8/ 161، ح 2870. [المؤلف] (¬4) المستدرك، كتاب التفسير، قراءات النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، زيارة قبور الشهداء، 2/ 248. [المؤلف]. وقال ابن رجب بعد كلامه على الحديث: "ولعل =

وبما أخرج ابن عبد البرِّ - وقال عبد الحقِّ: "إسناده صحيحٌ" - عن ابن عباس مرفوعًا: "ما من أحد يمرُّ بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فيسلِّم عليه إلا عرفه وردّ عليه" (¬1). وأجابوا عن الآيات بتأويلات لا تسمن ولا تغني من جوع. وإذا رجع الأمر إلى التأويل فتأويل ما يصحُّ من تلك الأحاديث توفيقًا بينها وبين الآيات هو المتعيِّن؛ لأن القرآن متواتر بلفظه الموجود، والأحاديث تحتمل خطأ الراوي، أو روايته بالمعنى ونحو ذلك [552]، فأصحّ تلك الأحاديث هو حديث قَلِيب بدر وهو محمول على أنَّ الله تعالى أسمعهم خرقًا للعادة، ويليه حديثُ "وإنه ليسمع قرع نعالهم" وهو محمول على أنَّ المراد الكناية عن قربهم من القبر، أي: بحيث لو كان يَسمَع لسَمِع قرعَ نعالهم، وقد قيل: إنه إنما يسمع حينئذ لأنها تُردُّ روحه في جسده للسؤال، كما جاء في حديث البراء عند أصحاب السنن وصحَّحه أبو عَوانة كما في فتح الباري (¬2)، وفيه نظر. فأما حديث المستدرك فهو من طريق عبد الأعلى بن عبد الله بن أبي فروة، عن قطن بن وهب، عن عبيد بن عمير، عن أبي هريرة. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، تعقَّبه الذهبيُّ فقال: كذا قال، وأنا أحسبه موضوعًا. وقطن لم يرو له البخاري، وعبد الأعلى لم يُخرجا له. ¬

_ = المرسل أشبه ... وبالجملة فهذا إسناد مضطرب". أهوال القبور ص 142. (¬1) الاستذكار 2/ 165، الأحكام الوسطى 2/ 152 - 153. وتعقبه ابن رجب فقال: "يشير إلى أن رواته كلهم ثقات، وهو كذلك إلاّ أنه غريب بل منكر" أهوال القبور ص 141. (¬2) 3/ 152. [المؤلف]

أقول: رواه الحاكم عن عبيد الله بن محمَّد القطيعي، عن أبي إسماعيل الترمذي، عن عبد العزيز الأويسي، عن سليمان بن بلال، عن عبد الأعلى، عن قطن بن وهب، عن عبيد بن عمير، عن أبي هريرة. وليس فيهم مَن يُنْظَرُ فيه إلا عبد الأعلى، ومع ذلك فقد قال ابن معين: أولاد عبد الله بن أبي فروة كلهم ثقات إلاَّ إسحاق، وذكره ابن حبان في الثقات. فأما ذكرُ ابن حبان في الثقات فلا ينافي الجهالة، وأمَّا قول ابن معين فلا يزيل الشبهة؛ لاحتمال أن يكون لم يستحضر عبد الأعلى عند إطلاقه تلك الكلمة العامَّة. ثمَّ رأيتُ الحاكم أخرج في المغازي من طريق العطّاف بن خالد، عن عبد الأعلى هذا، عن أبيه أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم زار قبور الشهداء بأحد فقال: "اللهم إنَّ عبدك ونبيَّك يشهد أنَّ هؤلاء شهداء، وأَّنه مَنْ زارهم وسلَّم عليهم إلى يوم القيامة ردّوا عليه ... " هذا إسناد مدنيٌّ صحيح، قال الذهبي: مرسل (¬1). قلت: وعبد الله بن أبي فروة مجهول، وبالجملة فالظاهر أنَّ هذا الحديث لو كان صحيحًا لاشتهر عند أهل المدينة وتناقلوه، والله أعلم. فإن صحَّ فليس فيه التصريح بأنهم يسمعون، فيُحْمَل على أنَّ الله تعالى يُبَلِّغُهُمْ سلامَ مَن سلَّم عليهم، وفائدة الوقوف على قبورهم الاعتبار والادِّكار والتأسَّي، والله أعلم. ¬

_ (¬1) المستدرك، كتاب المغازي، ردّ جواب السلام من شهداء أحد وكلامهم، 3/ 29. [المؤلف]

ومما يؤيد ذلك ما في صحيح مسلم عن مسروق قال: سألنا عبد الله [يعني ابن مسعود] (¬1) عن هذه الآية: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]، قال: أما أنا قد سألنا عن ذلك فقال: "أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل .... " (¬2). قلت: والآية نزلت في شهداء أحد اتِّفاقًا، وسياق الآيات ظاهر في ذلك، قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ ... وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا} الآية [آل عمران:166 - 169]. وفي سنن أبى داود عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "لما أُصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في جوف طير خضر، ترد أنهارَ الجنة تأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلَّقة في ظلِّ العرش" الحديث. وفيه: فأنزل الله عزَّ وجلَّ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا} الآية (¬3)، وأخرجه الحاكم في المستدرك، وقال: "صحيح على شرط مسلم"، وأقرَّه الذهبي (¬4). وفيه تدليس أبي الزبير فإنه من طريقه عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. ¬

_ (¬1) هذه الزيادة من المؤلَّف، والقوسان المعقوفان منه. (¬2) صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب بيان أن أرواح الشهداء في الجنَّة، 6/ 38 - 39، ح 1887. [المؤلف] (¬3) سنن أبي داود، كتاب الجهاد، بابٌ في فضل الشهادة، 1/ 340، ح 2520. [المؤلف] (¬4) المستدرك، كتاب التفسير، سورة آل عمران، "أرواح الشهداء في جوف طيرٍ ... "، 2/ 297 - 298. [المؤلف]

وأمَّا حديث ابن عبد البرِّ فنقل صاحبُ روح المعاني عن الحافظ ابن رجب أنَّه قال فيه: [553] ضعيف، بل منكر (¬1). قلت: وقد عثرت له على علَّة قادحة بَيَّنْتُهَا في رسالتي "عمارة القبور" (¬2). وزيارة القبور والسلام على المدفونين بقول: "السلام عليكم أهل ديار قوم مؤمنين" ثابت، وليس هو بصريح في أنهم يسمعون، فيحمل على أن المراد سؤال الله تعالى أن يُبلَّغَهُم السلام، وإنما أُوْرِدَ الكلام بلفظ الخطاب لحضور ما يذكرِّ بهم وهو قبورهم، كما نرى الناس إذا رأوا جنازة ميت قالوا: رحمك الله، أو غفر الله لك، ولا يريدون بذلك إسماعه، ولا يرون أنه يسمع، وهكذا نرى الناس إذا رأوا صورة يعرفون صاحبها ربما يخاطبون الصورة كأنهم يخاطبون صاحبها فيقولون: ما جاء بك إلى هنا، ونحو ذلك. والحاصل أنَّ استعمال الخطاب في غير موضعه كثير في اللغة وفي عرف الناس، ومهما يكن في هذا التأويل من خلاف الظاهر فإنَّ [554] ارتكابه أهونُ من ارتكاب تأويل الآيات القرآنية، والله أعلم. فأمَّا ما تقدَّم من سماع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ففي صحَّة تلك الآثار نظر، وقد لا يبعد أن تكون تلك خصوصية له بأبي هو وأمِّي، ولكنَّ سؤال الموتى على كل حالٍ طلبُ نفع غيبيٍّ؛ لأنَّه لا يُدْرَك بالحسِّ والمشاهدة أنَّ الموتى يسمعون أو يضرُّون وينفعون أو يدعون ويشفعون وإن كنا عند قبورهم، وليس عندنا ¬

_ (¬1) انظر: روح المعاني 6/ 456. [المؤلف]. وقد مرَّ تخريجه ونقل كلام ابن رجب قريبًا ص 812. (¬2) لم أجده في عمارة القبور المطبوع.

سلطان من الله عزَّ وجلَّ في الإذن بخطاب النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أو خطاب غيره من الموتى إلا بالسَّلام ونحوه، فمَن تجاوز ذلك إلى السؤال منه - صلى الله عليه وسلم - أو من غيره فلا أعلم له سلطانًا، وقد أغنى الله المسلمين عن ذلك بكثرة الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -. ومَن قاس الأموات على الأحياء [555] فهو كمَن قاس الملائكة على البشر، وقد مَرَّ الكلام على ذلك. فأمَّا ما شاع بين الناس أنَّ أرواح الأنبياء والصالحين تتصرَّف في الكون، فلو صحَّ ذلك لم يكن مُسَوِّغًا لجواز السؤال منها؛ فإنَّ الملائكة يتصرَّفون في الكون قطعًا، ومع ذلك فالسؤال منهم دعاء وعبادة لهم وشرك بالله عزَّ وجلَّ كما تقدَّم، وسائر ما ذكرناه لتوجيه السؤال منهم يأتي مثلُه في أرواح الموتى. وحسبك من ذلك قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، فلو كانت أرواح الموتى تتصرَّف بهواها لفسد الكون، بل ولهاجت الفتن بين الأرواح؛ كأن يستغيث أحد الخصمين بروحٍ، والآخر بروحٍ أخرى، فيقوم النزاع بين الروحين، كلٌّ منهما تحاول نفع صاحبها ويتعصَّب لها جماعة من الأرواح، وهكذا، فإذا كان للأرواح ما يزعمه الجهَّال من القدرة العظيمة لزم فسادُ الكون لا محالة. فالحقُّ المقطوع به أنه إن كان لأرواح الموتى تصرُّف فهو كتصرُّف الملائكة إنما يكون بأمر الله تعالى، قال تعالى فيهم: {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ [556] وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 27]. وعليه فالسؤال من الأرواح كالسؤال من الملائكة سواء، وقد تقدَّم حكمه. والله الموفق، لا إله إلا هو.

فأمَّا الجنُّ فإنهم وإن كانوا يتصرَّفون بهواهم واختيارهم، إلاَّ أنَّ تَعَرُّضَهُم للبشر بالإيذاء بغير الإضلال كالنادر، وقاصر على أمور خفيفة، والناس محفوظون منهم، ولكن ربما ترك الله عزَّ وجلَّ حفظ الإنسان منهم لحكمة يعلمها فيستطيعون حينئذ العبث به، وذلك من الابتلاء، فإذا استغاث الإنسان بربِّه أغاثه منهم، وإن خضع للشياطين هلك. وقد أغنى الله المسلمين عن سؤال الجنّ بدعائه تبارك وتعالى. وفي الصحيح عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك" (¬1)، وفي سنن أبي داود وغيره من حديث ابن مسعود سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الرقى والتمائم والتِّوَلة شرك" (¬2)، وسيأتي بسط الكلام عليه إن شاء الله تعالى (¬3). قال العلماء: كان يقع في رقى أهل الجاهلية سؤال وتعظيم لغير الله عزَّ وجلَّ وخاصة الشياطين، فذلك هو الشرك، وسيأتي تحقيق الكلام في الرقى إن شاء الله تعالى. نعم؛ لو فرضنا أنَّ إنسانًا ظهر له جنِّيٌّ فشاهده وشاهد تصرُّفه فطلب منه ما عرف قدرته عليه فقد يقال: إنَّ هذا كسؤال الناس بعضهم من بعض. والله أعلم. ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب السلام، بابٌ: "لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شركٌ"، 7/ 19، ح 2200. [المؤلف] (¬2) سنن أبي داود، كتاب الطبِّ، بابٌ في تعليق التمائم، 3/ 186، ح 3883. [المؤلف] (¬3) في الباب الخاصِّ بها ص 955 - 958.

وأمَّا السؤال من الإنسان الحيِّ الحاضر فإن كان لما جرت العادة بقدرته عليه فليس دعاء، وإن كان لما لم تجر العادة بقدرته عليه فذلك دعاء؛ لأنه حينئذ سؤال لنفع غيبيًّ. [557] ثم ظهر لي أنَّ هناك فرقًا بين قدرة الإنسان على الأفعال العادية، وبين قدرته على التأثير بما فيه خرق للعادة، وقدرة الجن على الإضرار بالإنس؛ يتوقف معرفته على العلم بمعنى إذن الله تعالى الذي يتكرَّر في القرآن. فأقول: قال الراغب: "الإذن بالشيء إعلام بإجازته والرخصة فيه" (¬1). وبعد التأمُّل وجدتُ إذن الله تعالى على نوعين: الأول: إعلامه المكلَّفَ بأنه يجوز له الفعل، ومنه قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39]. الثاني: إذنه تعالى للأسباب بأن تؤثِّر، وهذا يتناول الجائز شرعًا وغيره، وهو على ضربين: خاصٍّ وعامٍّ. فالخاصُّ ما ثبت في القرآن بأنه كان أو يكون بإذن الله تعالى وما كان في معناه. والعامّ ما عداه مما يحدُث في العالم. وبيان الفرق المعنوي بين الخاصِّ والعامِّ يتعلَّق بمسألة القَدَر، ولا أحبُّ أن أُقْحِم نفسي تلك المزلقة، ولكن سأُشرف عليها من قُرْب، وأسأل الله تعالى الحفظ والتوفيق، فأقول: أمَّا على رأي القائلين بأنَّ الحوادث كلَّها إنما تحدث بتعلُّق قدرة الله تعالى بها حين حدوثها، فالاحتراق بالنار إنما يقع ¬

_ (¬1) المفردات: 71.

بخلق الله تعالى إيَّاه حين ملابسة النار، فالفرق على رأيهم صعب، ولكن يمكن أن يُقال على رأيهم: إنَّ الإذن العامَّ ما كان على وَفْق العادة من كلَّ وجه كخروج الثمرة من أكمامها عند [558] حلول وقتها المعتاد، وحمل الأنثى بعد وقوع الذكر عليها في الوقت الذي جرت العادة بأنَّ مثلها تحمل من مثله، ووضعها عند انتهاء مدة الحمل المعتادة، وهذا النوع يُطلق عليه في القرآن بأنَّه يعلمُه الله تعالى، قال تعالى: {وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} [فصلت: 47]. والخاصُّ ما جرى على خلاف العادة، ولو في وجهٍ. ومن ذلك: الإيمان، قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} [يونس: 99، 100]، فإنَّ الإيمان يتضمَّن الإيقان بما يرتاب فيه غالب الناس من الغيب، ويقتضي تكليفَ النفوس ما يشقُّ عليها، ومنعها كثيرًا من شهواتها مع كثرة ما يصدُّ عن الإيمان، فمِنْ هذا الوجه كان الاتِّصاف بالإيمان مما يُسْتَغْرَبُ عادة، ففيه مخالفةٌ مَّا للعادة. ومن ذلك: الموت، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران: 145]، وسياق الآيات في القتل في الجهاد؛ فإنَّ الموت هو مفارقة الروح للجسد، والناس لا يدركون الروح ولا يحسُّون بها، فمفارقتها الجسد عقب قطع الرأس - مثلًا - وإن جرت به العادة، فلا يعلم الناس ما وجه ذلك وما سببه، فَمِنْ ثَمَّ كان الموت مخالفًا للعادة.

وأمَّا على رأي القائلين بأن الله عزَّ وجلَّ أودع في المخلوقات قوىً [559] من شأنها التأثير، فهي تؤثر بتلك القوة بدون حاجة إلى أن يخلق الله عزَّ وجلَّ ذلك الأثر عند حدوثه، ولكنه سبحانه إذا شاء أن يمنع من التأثير مَنَع كما مَنَع النار من الإحراق بقوله: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69]. فالفرق بين الإذن الخاصِّ والعامِّ على طريقة هؤلاء أن يقال: الإذن العامُّ هو ما كان تأثيرًا بمجرد القوَّة المودَعة على ما سمعت، فكون تلك القوة في الأصل مِن خلق الله، وكونه سبحانه لم يمنعها من التأثير مع قدرته على ذلك، إنْ سُمِّيَ إذنًا فهو الإذن العام. وأما الإذن الخاصُّ فهو بخلاف ذلك، فإما أن يكون بخلقه تعالى الأثر عند حدوثه، وإما أن يكون سبحانه قد نصب موانع تمنع من حدوث الأثر بالقوَّة المودَعة وحدها، ثم يرفع تلك الموانع إذا شاء، فذلك هو الإذن الخاصُّ، والموت والإيمان من الإذن الخاصِّ. ولا يشكل على رأي المعتزلة؛ لأنه يمكن أن يقال: إنما يعذِّب الله تعالى القاتلَ بقصده القتلَ ومباشرته سببه، وإنما يعذَّب مَنْ لم يؤمن لأنه لم يعمل ما يقدر عليه من الحرص على إصابة الحق وإيثاره على هواه، فلو فعل ذلك لأذِن الله تعالى له بالإيمان حتمًا كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]، وقد مَرَّ تفسيرها. إذا تقرَّر هذا فاعلم أنَّ كرامات الأولياء وسحر السحرة وتأثير الجن في الإنس بغير الوسوسة كلُّه مما لا يؤثِّر إلا بإذنٍ خاصٍّ من الله تعالى. أما الكرامات فقد [560] قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [الرعد: 38].

وقال تعالى: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [الأنعام: 35]. وقال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [العنكبوت: 50]. والآيات القرآنية في هذا المعنى كثيرة. وكثيرًا مَّا يقرن الخبر عن الآيات التي وقعت للأنبياء عليهم السلام ببيان أنَّها بإذن الله، من ذلك قوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي} [المائدة: 110]. وإذا كان هذا حال الرسل عليهم السلام فحال الأولياء في شأن الكرامات أولى وأحرى بأن لا يقع إلاَّ بإذن الله الإذنَ الخاصَّ. وأما حال السحر فقال تعالى في السحرة: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 102]، وأما حال الجن فقد قال تعالى: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المجادلة: 10]، [561] وقال تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ

رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} [سبأ: 12]. ومن الحِكَمِ في التنبيه على أنَّ ما جرى على يد عيسى عليه السلام من الخوارق إنما كان يقع بإذن الله تعالى، أي لا كعمل البشر الأحياء لما يقدرون عليه عادة: قَطْعُ شبهة مَنْ يُشْرِكه. وكذلك التنبيه على مثل ذلك في السحرة؛ لأنَّ توهُّمَ أنهم يعملون باختيارهم كما يعمل الناس ما يقدرون عليه عادةً يُخْشَى أن يكون ذلك داعيًا إلى الشرك. وهكذا في شأن الجن؛ فإنَّ تَوَهُّم أنهم يتصرَّفون في الإنس وفيما يحسُّ به الإنس تَصَرُّفَ اختيارٍ كتصرف البشر فيما يقدرون عليه عادةً يدعو إلى دعاء الجنِّ وإشراكهم. وقد اتَّضح بحمد الله وتوفيقه الفرق بين سؤال الإنسان من إنسان آخر ما يقدر عليه عادة وبين سؤاله مَنْ يظن به الصلاح ما لا يقدر عليه عادة وإنما يقع بإذن الله تعالى، وهكذا سؤاله من السحرة، وعمله مثل عملهم، وسؤاله من الجن. فاندفعت شبهُة القائلين: كيف يكون سؤالُنا الأحياءَ ما يقدرون عليه عادة غير شرك ويكون السؤال من الجن ونحوه شركًا؟ ولا يخفى أن أرواح الموتى إن كان لها تصرف [562] فهو مما لا يقع إلا بالإذن الخاصَّ سواء أكانت صالحة وكان تصرُّفها كرامة كالصالحين الأحياء، أم كانت طالحة وكان تصرُّفها إهانة كالشياطين. ولولا خشية الإطالة لَسُقْتُ الآيات التي جاء فيها ذكر إذن الله تعالى

كلها، وبَيَّنتُ أن المراد بذلك كله الإذن الخاص، وأوضحت وجه ذلك، وذكرت كثيرًا من الأمور التي تدخل في هذا المعنى، ولكني قد فتحت لك الباب، فإن أحببت الاستيفاء فعليك بالتدبُّر مع إخلاص النية والاستعانة بالله تبارك وتعالى. [563] وليس من السؤال ما كان المقصود به التعجيز، كقول إبراهيم عليه السلام: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة: 258]، ولا ما يشبهه مما ليس بسؤالِ خضوع وتذلُّل. وأما السؤال من الجمادات كالأصنام والكواكب فدعاء. وليس منه قول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "اسكن أحد" (¬1) ونحو ذلك مما هو من قبيل الأمر التكويني، ليس فيه تذلُّل ولا خضوع لذلك الجماد، وعند القائل سلطان من الله عزَّ وجلَّ بذلك. ومثله ما رُوي في قصَّة قارون أن الله عزَّ وجلَّ أوحى إلى موسى عليه السلام: "مُرِ الأرض بما شئت"، فقال: "يا أرض خذيهم" (¬2)، ولا ما لم يكن المقصود منه الطلب وإنما هو تَمَنٍّ أو نحوه كقول المغتمِّ بالليل: أصبحْ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عثمان بن عفان ... ، 5/ 15، ح 3699، من حديث أنس رضي الله عنه. (¬2) أخرج هذه القصَّة ابن أبي شيبة في كتاب الفضائل، ما ذُكِر في موسى - صلى الله عليه وسلم - من الفضل، 16/ 535 - 536، ح 32504، والطبريُّ 18/ 334 - 335، وابن أبي حاتمٍ 9/ 3018، ح 17156، والحاكم في كتاب التفسير، تفسير سورة القصص، 2/ 408 - 409، وغيرهم، من طريق المنهال بن عمرٍو عن سعيد بن جبيرٍ عن ابن عبَّاسٍ، وفي بعض الطرق: عن سعيد بن جبير وعن عبد الله بن الحارث عن ابن عباسٍ. وهو إسنادٌ حسنٌ. وقال الحاكم: "صحيحٌ على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ولم يتعقَّبه الذهبيُّ.

ليلُ، وقول امرئ القيس: ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي (¬1) وقول المستعجل للَّيل: اغرُبي يا شمس، ونحو ذلك، فليس من الدعاء في شيء، والله أعلم. ورأيت في بعض الكتب حكايةً عن أبي بكر بن عيَّاشٍ القارئ المشهور أنه كان يقول: "يا ملائكتي (¬2) قد طالت صحبتي لكما، فإن كان لكما شفاعةٌ عند الله تعالى فاشفعا لي" (¬3). ولا أرى ذلك يصحُّ عنه، ولو صحَّ لم يكن حجَّة، [564] ولا يلزم من ذلك شناعة عليه، وإنما الشناعة على مَن قامت عليه الحجة فأصرّ، أو وقع في نفسه تردُّدٌ فلم يحتط لنفسه. وأما مَن رأى أنَّ عنده سلطانًا من الله تعالى ولم يقصّر في النظر ولا خطر له أنَّ ترْك ذلك الفعل هو الأحوط فقد قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [آخر البقرة]، وقال: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7]. وقد اتَّفق العلماء على تكفير مَنْ أنكر آية من القرآن، أو زاد فيه ما ليس منه، ومع ذلك فقد قال بعضُ الصحابة رضي الله عنهم: إنَّ المعوذتين ليستا من القرآن (¬4)، فلم يكفِّره غيره من الصحابة بأنه أنكر آية من القرآن، ولا كَفَّرَ ¬

_ (¬1) انظر: ديوانه 18. (¬2) في الحلية: "يا ملَكيَّ" على الجادَّة. (¬3) هذه الحكاية أوردها ابن الجوزيِّ في صفة الصفوة (3/ 165). وروى أبو نُعَيمٍ في الحلية (8/ 303) معناها باختصارٍ، وفي إسنادها: عمر بن بحرٍ الأسديُّ، ترجم له ابن عساكر (43/ 545)، ولم يذكر ما يفيد توثيقه. (¬4) ورد ذلك عن ابن مسعود؛ فقد أخرج البخاري من طريق عبدة بن أبي لبابة عن زر بن =

هو غيرَه لأنهم زادوا في القرآن ما ليس منه. وزعم رجل منهم من أهل بدر أنَّ الخمر حلال محتجًّا بقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] فردُّوا عليه خطأه (¬1) ولم يكفِّروه، مع قول العلماء: إنَّ مستحلَّ الخمر يكفر. وهكذا اختلفت الأمة في البسملة، فقال بعضهم: هي آية من القرآن، وقال بعضهم: ليست آية من القرآن (¬2)، ولم يكفِّر أحد من الفريقين الآخر مع قولهم بكفر من أنكر آية من القرآن أو زاد فيه ما ليس منه، [565] وإنَّما حملهم على عدم التكفير في الأمثلة السابقة ونحوها أنَّ المخطئ فيها معذور، فأمَّا الاختلاف في العقائد فحَدِّث عن البحر ولا حرج، وقد استقرَّ عند أهل السنة ألَّا يُكفَّر أحد من المسلمين بخطأ في عقيدة وإن لزم منها ما هو كفر. ¬

_ = حبيش قال: سألت أبي بن كعب، قلت: أبا المنذر، إن أخاك ابن مسعود يقول كذا وكذا ... ولابن حبان من طريق عاصم بن أبي النجود عن زر، قال: لقيت أبي بن كعب فقلت له: إن ابن مسعود كان يحك المعوذتين من المصاحف، ويقول: إنهما ليستا من القرآن فلا تجعلوا فيه ما ليس منه. انظر: صحيح البخاري، كتاب التفسير، سورة (قل أعوذ برب الناس)، 6/ 181، ح 4977. صحيح ابن حبان (الإحسان)، كتاب الحدود، باب الزنى وحدّه، ذكر الأمر بالرجم للمحصنَين إذا زنيا ... ، 10/ 274، ح 4429. (¬1) هذه القصة وقعت لقدامة بن مظعون، وقد أنكر عليه عمر وأقام عليه الحد. وسيأتي تخريجها في ص 930. (¬2) أي منفردة مستقلة، وإلا فكونها جزء من آية في سورة النمل ليس محل خلاف بين المسلمين. وانظر أقوال العلماء في المسألة في جمال القراء للسخاوي 2/ 483 - 484، ومجموع الفتاوى 22/ 433 - 435.

وهكذا اتَّفق أهل العلم على أنَّ ما أُحْدِثَ في الدين وليس منه فهو بدعةٌ، وأنَّ إنكار السنة الثابتة بطريقٍ ظنيّ ضلالٌ، ثم اختلف الصحابة فمَن بعدهم في أشياء لا تُحصى، فقال بعضهم: هي من الدين، وقال بعضهم: ليست منه، ومع ذلك لم يحكم أحد منهم على مخالفه بأنه مبتدع أو ضالٌّ، وما ذلك إلاَّ لأنَّ كلاًّ منهم يرى مخالفه معذورًا. فهكذا نقول في مسألة الدعاء وأمثالها، فنحن وإن قلنا في صورة من صور السؤال ونحوها: إنَّ هذا دعاءٌ لغير الله تعالى وعبادة وشرك، فليس مقصودُنا أن كلَّ من فعل ذلك يكون مشركًا، وإنما يكون مشركًا مَنْ فَعَلَ ذلك غيرَ معذور، فأما من فعلها معذورًا فلعلَّه يكون من خيار عباد الله تعالى وأفضلهم وأتقاهم، ولعلَّه يكون مأجورًا على ذلك الفعل نفسِه (¬1). وقد وقع الناس في هذا الباب على طرفي نقيض؛ فمنهم من يأخذ قول بعض الأمة وصالحيها كأنه وحي منزل، ويَرجعُ قولُهُ إلى دعوى أن ذلك العالم أو الصالح معصومٌ كعصمة الأنبياء أو أعظم، فلا يهون عليه أن يسمع قائلًا يقول: لعلَّ هذا العالم أو الصالح أخطأ، وإذا حدَّثته نفسه بأنَّ ذلك ¬

_ (¬1) لم يذكر المؤلَّف على هذا الاحتمال دليلًا، ولا يظهر أن المخطئ في التوحيد كالمجتهد الفروعيِّ الذي إن فاته أجران لم يَعْدَم أجرًا. قال شيخ الإِسلام ابن تيمية: "ما لم يُشرع جِنسُهُ مِثل الشَّركِ فإنّ هذا لا ثواب فِيهِ وإِن كان الله لا يُعاقِبُ صاحِبهُ إلاّ بعد بُلُوغِ الرِّسالةِ كما قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}، لكِنّهُ وإِن كان لا يُعذَّبُ فإِنّ هذا لا يُثابُ، بل هذا كما قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا}، قال ابنُ المُباركِ: هِي الأعمالُ الّتِي عُمِلت لِغيرِ الله. وقال مُجاهِدٌ: هِي الأعمالُ الّتِي لم تُقبل" اهـ من مجموع الفتاوى 20/ 32.

العالم أو الصالح أخطأ رأيته يتعوَّذ بالله تعالى، ويجتهد في طرد ذلك الخاطر عن نفسه. ومنهم مَن إذا ظهر له في شيء من الأعمال أنه شركٌ أو لم يظهر له ولكنه سَمِع شيخه يقول ذلك بادر إلى الحكم على كلِّ مَنْ فعل ذلك من السلف والخلف بأنهم مشركون، لا فرق بينهم وبين عُبَّاد الأوثان. والحق التوسُّط بين هذين. وأُعيذُك بالله عزَّ وجلَّ أن يحملك هذا الكلامُ على [566] التهاون بمسألة التوحيد فتهجُم على شيء من الأعمال التي قد قيل إنها شرك قائلاً: إن كان في نفس الأمر شركًا فأنا معذور؛ فإنَّ الخطر عظيم، ولعلَّ عُذْرَكَ لا يكون من القوَّة بحيث يقبله الله تعالى منك، فانظر لنفسك، فإنْ شَكَكْت في شيء فدعه، فلعلَّ الله تعالى يقول لك: لِم صَنَعْتَ كذا وكذا وقد قيل لك: إنه شرك، وليس عندك يقين بأنه ليس بشرك، وأنت تعلم أنك لو تركتَه لما كان عليك إثم ولا حرج؟ وما مَثَلُكَ إلا مَثَلُ رجل وجد امرأة نائمة على سريره وشكَّ أزوجته هي أم أمُّه، فقال لنفسه: لأضطجِعنَّ معها؛ فإنَّ الاضطجاع مع الزوجة مستحبٌّ في الشرع، فإن كان (¬1) أمي فلم أتعمَّدْها، وقد وقع فلان على أمه معتقدًا أنها زوجته فأفتاه العلماء بأنه لا إثم عليه، بل هو مأجور! واعلم أنه لو لم يكن في اجتناب ما قيل إنه شرك إلا سدّ باب الاختلاف بين الأمة في هذا الأمر لكان من أعظم القربات عند الله عزَّ وجلَّ. ¬

_ (¬1) كذا في الأصل.

واعلم أن مَنْ ترك عملًا من الأعمال خوفًا أن يكون شركًا أو معصية فهو مأجور على تركه، وعلى فرض أن ذلك الفعل طاعة في نفس الأمر فإن أجره يُكْتب لهذا التارك؛ لأن الله عزَّ وجلَّ يعلم أنه إنما تركه خوفًا من الله [567] تعالى. ومَن أقدم على فعل يخاف أن يكون معصية فعليه إثمه وإن كان ذلك الأمر في نفس الأمر طاعة. ولعلَّ لنا عودة إلى هذا البحث إن شاء الله تعالى (¬1). **** ¬

_ (¬1) عقد المؤلِّف فصلًا في الأعذار في ص 914.

الشبهات وردها

[567] الشبهات ورَدُّها قد مرَّ في تضاعيف الفصول كثير من الشبهات وردُّها، ونذكر ها هنا ما يحضرنا، وربما وقع تكرارٌ للمناسبة. فمِن أشدِّ شبهاتهم: زَعْمُهم أنَّ أعمالهم التي ندَّعي نحن أنها شركٌ قد جرَّبوها فوجدوا أنَّ حوائجهم قد تُقْضَى بسببها، فيقول عُبَّاد الأصنام: إننا قد جرَّبنا فوجدنا أننا كثيرًا مَّا نذهب نُعَظِّم الصنم ملتجئين إلى الحيِّ الذي جُعِل الصنم رمزًا له من ملَك أو إنسان أو غيره فتُقْضَى حاجاتنا. ويقول عُبَّاد الكواكب: إننا قد جرَّبنا أننا إذا عظَّمنا زُحَلًا (¬1)، مثلاً، ودعوناه مع مراعاة الشروط المذكورة في كتب المسلمين أنفسهم؛ كتذكرة داوود وغيرها، فقد تُقْضَى حاجاتنا. وهكذا يقول كلُّ فريقٍ من الفِرق. وهكذا يقول الذين يدْعون الملائكة وأرواح الموتى والجنَّ وغيرهم، ويزيدون على ذلك ذِكْرَ حكايات يتناقلونها؛ أنَّ رجلاً استغاث بملَك أو ميِّت أو غائب أو جنِّيًّ؛ فإذا شخصٌ قد ظهر له وأغاثه، أو حصلت له الإغاثة بطريق خارقة للعادة ونحو ذلك. والجواب عن هذا: أن كلّ إغاثة حصلت لمخلوقٍ فهي من الله عزَّ وجلَّ، وإغاثتُه عزَّ وجلَّ لمخلوق لا تدُلُّ على أنه مؤمن، ولا صالح، ولا أن استغاثته مرضيّة عند الله تعالى. فإذا عرض لإنسان أمرٌ مُهلك فأنقذه الله منه فقد يكون ذلك لأنَّه لم يحضر أجلُه فقط، وقد يكون استدراجًا له وابتلاء، على ما تقدّم في الخوارق، وقد يتراءى له شيطان في صورة الملَك الذي توهَّمه، أو الرُّوح، وغير ذلك. ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، والمعروف في كتب النحو مَنْعُه من الصَّرْف للعَلَمِيَّة والعَدْل.

شبه عباد الأصنام

وبحسبك أنَّ كلّ فرقة من الفرق المختلفة يزعمون أنهم قد تحصل لهم الإغاثة إذا عملوا بما يعتقدونه أو يعتادونه، مع الاتِّفاق على أنَّ منهم مَنْ هو على الباطل؛ على أنَّ الحكايات المزعومةَ موجودة عند كلَّ فرقة، والغالبُ عليها الكذب، ومنها ما هو تخيُّلٌ وأوهام، ومنها ما هو مكر ودجلٌ من بعض الناس الأحياء على ما تقدَّم في الخوارق والغرائب. فإن كان المغترُّ بهذه الشبهة ممَّن يلتزم الإِسلام فيكفيه أن يعلم أنَّ الحجّة إنما هي كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وأنّ مثل ما وقع له أو سمِعه يقع أكثر منه للنصارى والوثنيِّين، وأنَّ الله قد بيَّن في كتابه أنَّه يستدرج بعض الناس. وقد مرّ في الخوارق والغرائب ما يكفي. شبه عُبَّاد الأصنام إن قالوا: أرأيت تعظيمنا لأصنامنا التي جعلناها رمزًا لله تعالى، وتعظيم المسلمين الكعبة، والحجر الأسود، وتعظيم العاشق - مثلًا - منزلة (¬1) معشوقته غير متديِّنٍ بذلك، ما الفرق بين هذه الثلاثة حتى زعمتم الأوَّل شركًا، والثاني إيمانًا، والثالث ليس بشرك ولا إيمان؟ فالجواب: أن الفرْق هو أنكم تعظِّمون أصنامكم تعظيمًا تطلبون به النفع الغيبيَّ، وتلك عبادة، ولم ينزل الله تعالى بذلك سلطانًا، فليست عبادة له، بل هي عبادة للأصنام. والمسلمون يصنعون ما يصنعون بالكعبة والحجر الأسود طاعة لأمر الله تعالى [568] الذي أنزل به سلطانًا، فتلك عبادة لله ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولعلَّ الصواب "منزل" بدون تاء كما سيذكره المؤلف بعد عدّة أسطر.

تعالى. والعاشق لا يطلب بتعظيم منزل معشوقته نفعًا غيبيًّا فليس فعله بعبادة أصلاً. وبعبارة أخرى: أنتم كذبتم على الله عزَّ وجلَّ، وكذَّبتم رسله، والمسلمون صدقوا على الله تعالى، وصدَّقوا رسله، والعاشق لا صدّق ولا كذّب. وقد قال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر: 32، 33]. وأيضًا أنتم تفتاتون على الله عزَّ وجلَّ، بجعل ما هو حقٌّ له مِن شَرْع الدين والتعظيم على سبيل التديُّن لغيره، بغير إذنه. وأيضًا أنتم سوّيتم الأصنام بربِّ العالمين، حيث زعمتم أنها تستحقُّ العبادة استحقاقًا يستقلُّ العقلُ بإدراكه، وهذا هو التأليه، ولذلك كان مشركو العرب يعظِّمون الكعبة والحجر أشدَّ مما يعظمون أصنامهم، ومع ذلك يطلقون على الأصنام آلهة، ويقولون: إنهم يعبدونها، ولا يطلقون على الكعبة والحجر الأسود لفظ الإله، ولا يقولون: إنهم يعبدونهما، وما ذلك إلاَّ لأنَّهم يعلمون أن تعظيمهم للكعبة ليس مستندًا إلى العقل، وإنما هو مستند إلى أمر الله عزَّ وجلَّ المنقول إليهم بالتواتر عن إبراهيم رسول الله وخليله عليه السلام، فهم يعظِّمونها طاعةً لله عزَّ وجلَّ لأمره الذي [569] عندهم به سلطان. وأمَّا تعظيم الأصنام فهو شيء استُنْبِط بالخرص والتخمين، فكما أن العقل يستقلُّ بإدراك استحقاق الله عزَّ وجلَّ للتعظيم ادَّعوا أنه يستقلُّ بإدراك

شبه عباد الأشخاص الأحياء

استحقاق الأصنام للتعظيم، فصارت عندهم مساوية لله عزَّ وجلَّ في هذا المعنى، ولذلك سمّوها آلهة، وسمّوا تعظيمها عبادة لها، فتدبَّر. فإن قالوا: يؤخذ من كلامكم أن الله تعالى لو لم ينزل سلطانًا بتعظيم الكعبة لكان تعظيمها شركًا، وحينئذٍ لا يكون هناك فرق إلا أمر الله وعدمه، وكيف يُعْقَل أنَّ الله تعالى يأمر بشيء لو لم يأمر به لكان شركًا، فإنه يتحصَّل من هذا أنه سبحانه أَمَرَ بالشرك، وقد جاء في القرآن: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} [الأعراف: 28]. قلنا: قد علمتم أنَّ قِوام الشرك هو الكذب عليه، والتديُّنُ بما لم يشرعه، والافتيات عليه، وتسوية غيره به في أنَّ العقل يستقلُّ بإدراك استحقاقه للتعظيم، وهذه الأمور متحقِّقة فيما لم يُنزل به سلطانًا، منتفية عن تعظيم ما أَنْزَلَ به سلطانًا، فتعظيم الجماد ليس بقبيح في ذاته حتى يُقال: كيف يأمر الله تعالى به وهو لا يأمر بالفحشاء؟ وإنما يقبُح إذا كان شركًا وقد علمتم حقيقة الشرك. [570] شُبَه عُبّاد الأشخاص الأحياء لو قال قوم فرعون: إنَّنا في تعظيمنا لفرعون ظننَّا أنه مقبول عند الله تعالى بدليل أنه سوّى خَلْقَه وعافاه وملَّكه، فعظَّمناه لذلك كما يعظِّم المسلمون مَنْ يظنُّون به الصلاح منهم. لقلنا: المسلمون إنما يُكرمون مَن يظنُّون به الصلاح، وإنما يظنُّون بالرجل الصلاح إذا كان محافظًا على طاعة الله عزَّ وجلَّ، الطاعة التي أنزل الله بها سلطانًا وعندهم من الله تعالى سلطان بأنَّ ذلك دليل على الصلاح.

شبه النصارى في عبادتهم الصليب

ولم يكن عند قوم فرعون سلطان من الله تعالى بأنَّ تسوية الخلقة والمعافاة والتمليك تدلُّ على الصلاح. وإنما يكرم المسلمون صلحاءهم إكرامًا عندهم سلطان من الله تعالى به، فلا يسجدون لصالحيهم؛ لأنه ليس عندهم سلطان بشرع السجود للصالحين، وقس على ذلك. وأمَّا قوم فرعون فعظَّموه بما لم يُنزل الله تعالى به سلطانًا، فإن وُجِدَ في المسلمين مَن يغلو في إكرام الصالحين بما لم ينزل الله به سلطانًا فهو مخالف لحكم الإِسلام، فلا يُلْتَفَتُ إليه. شُبَه النصارى في عبادتهم الصليب وإن قال النصارى: إنَّنا إنما نعظِّم خشبة الصليب بناءً على أنَّ عيسى عليه السلام صُلِبَ عليها، وأنتم تعظِّمون الكعبة والحجر الأسود ومقام إبراهيم وزمزم [571] وغيرَها من آثار إبراهيم، وقد نُقِلَ عن أصحاب نبيِّكم أنهم كانوا يعظِّمون منبره والرُّمَّانة (¬1) التي كانت عليه، ويعظمون ثيابه، والقدح الذي شرب فيه، وشعره الذي كان محفوظًا عندهم، وأنتم تعظمون قبره وآثاره وقبور من تظنُّون بهم الصلاح وآثارهم، ونحن إنما نعظِّم شكل ¬

_ (¬1) الموضع الذي يضع الخطيب يده عليه من المنبر - كما سيتَّضح من كلام المؤلَّف بعد قليلٍ -. وقد روى ابن أبي شيبة بسنده عن يزيد بن عبد الله بن قُسَيطٍ، قال: رأيت نفرًا من أصحاب النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إذا خلا لهم المسجد قاموا إلى رُمَّانة المنبر القرعاء فمسحوها ودعوا ... وعن سعيد بن المسيّب أنه كره أن يضع يده على المنبر. انظر: مصنَّف ابن أبي شيبة، كتاب المناسك، في مسِّ منبر النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -, 8/ 799، ح 16129 - 16130. وفي طبقات ابن سعد (القسم المتمم ص 100) بسند واهٍ عن سعد بن أبي وقاص وابن عمر أنهما كانا يأخذان برمانة المنبر ثم ينصرفان.

الصليب؛ لأنه يشبه تلك الخشبة، والمسلمون الآن يعظِّمون صورة نعل نبيِّهم وصورة البراق كما تخيّلوه. قلنا: أمَّا أنتم فليس عندكم سلطان من الله تعالى بتعظيم خشبة الصليب ولا تعظيم صورتها. وأمَّا صلاتنا إلى الكعبة وطوافنا بها وتقبيلنا الحجر الأسود وصلاتنا إلى مقام إبراهيم، فكلُّ ذلك عندنا به سلطان من الله عزَّ وجلَّ، ولسنا نصنع شيئًا من ذلك لأنها آثار، وإنما نصنع ذلك طاعة لله عزَّ وجلَّ وامتثالًا لأمره. وأصحاب نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - لم يكونوا يصنعون ما يصنعون إلاَّ على سبيل التماس البركة، وكان عندهم سلطان من الله تعالى؛ لأنَّ نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - أقرَّهم على ذلك، ولهذا لم يجاوزوا ما أقرَّهم عليه، فلم يكونوا يركعون ولا يسجدون له - صلى الله عليه وسلم -، ولا يقومون له إذا جاءهم وهم جلوس، ولا للمنبر ولا لرُمّانته ولا لغير ذلك من الآثار. [572] بل أعظم ما رُوي عنهم هو وضع اليد على رُمَّانة المنبر حيث كان - صلى الله عليه وسلم - يضع يده (¬1)، وأما ثيابه وشعره فكانوا يغسلونها ويسقون المرضى من غُسَالتها، وأما القَدَح فإنما كانوا يحبّون الشرب فيه، وكلُّ ذلك عندهم فيه سلطان، إمَّا فيه بخصوصه أو في نظيره. ¬

_ (¬1) قال العراقي عن حديث: "وضعه - صلى الله عليه وسلم - يده عند الخطبة على رمانة المنبر": (لم أقف له على أصل). وتعقبه الزبيدي بنحو أثر يزيد بن عبد الله بن قسيط المذكور قريبًا. انظر: إتحاف السادة المتقين 4/ 422 - 423. وفي اقتضاء الصراط المستقيم 2/ 244 - 245: (فقد رخص أحمد وغيره في التمسح بالمنبر والرمّانة التي هي موضع مقعد النبي - صلى الله عليه وسلم - ويده ... فأما اليوم فقد احترق المنبر، وما بقيت الرمانة، وإنما بقي من المنبر خشبة صغيرة، فقد زال ما رخص فيه ...).

شبهة للنصارى واليهود في شأن الأحبار والرهبان

فأمَّا صورة النعل والبراق فخطأ من فاعلها. وبالجملة فالمدار على السلطان، فكلُّ ما أنزل الله به سلطانًا فهو حق، وكلُّ ما لم ينزل به سلطانًا فهو باطل، وإن وقع فيه بعض المسلمين. ولعلّ مَنْ وَقَعَ في ذلك لم تقم عليه الحجة كما قامت عليكم، ومَنْ لم تقم عليه الحجة ولم يعانِدْ ولم يُصِرَّ فهو معذور إن شاء الله تعالى. شبهة للنصارى واليهود في شأن الأحبار والرهبان وإن قال النصارى واليهود: إنكم معشر المسلمين تطيعون علماءكم كما أطعنا أحبارنا ورهباننا. قلنا: أمَّا أهل العلم والدِّين منّا فإنهم لا يطيعون في الدِّين إلا الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وإنما يقبلون أقوال العلماء على أنهم رواة مبلِّغون عن الله ورسوله، ولذلك لا يطيعون أحدًا من العلماء تبيَّن لهم أنَّ قوله يخالف كتاب الله وسنة رسوله، وإذا قبلوا قول عالم ثم تبيَّن لهم مخالفتُه [573] لكتاب الله وسنة رسوله تركوه، ومَنْ كان من المسلمين على غير هذه الطريقة فهو على خلاف الشريعة، فلا يُلْتَفَتُ إليه. قال الشيخ العلَّامة المحدِّث الصوفي الفقيه الحنفي ولي الله الدهلوي (¬1) رحمه الله في كتابه "البدور البازغة": " بيان وجوه الإشراك بالله تعالى. من باب سوء المعرفة داء عضال عمَّت الأممَ غائلتُها، وهي الإشراك ¬

_ (¬1) أحمد بن عبد الرحيم الفاروقي الهندي المحدث، صاحب مصنفات، توفي سنة 1176 هـ, وقيل 1179 هـ. الأعلام 1/ 149.

بالله تعالى شيئًا من النَّاسوت، وتحقيقه أن الإنسان إذا خُلَّيَ ونَفْسَه أدرك لا محالة أنَّه يقدِّر بقَدْرين ... (¬1). ثم إنَّ مِن طباع النَّسَمة أنها لا تزال تفتِّش عن حقائق الأشياء وتجعل بعضها ممتازة عن البعض وذلك لقوَّته (¬2) العلمية، فإذا تفطَّنت بتأثير عجيب لم تذره سُدًى، بل ناطه بشرفٍ موجود في مظهره وفضلٍ وعظمة فيه وأحبَّه حبًّا، فإن كان التأثير تأثيرًا يبعد عن أبناء جنسه في زعمه تبعه اعتقاد الشرف المقدَّس والفضل المتعالي والمحبة السابغة بالضرورة, ثم إن تكرَّر صدور مثل هذه التأثيرات منه أو تجشَّم تكرار ذكرها ارتكزت تلك المحبة وذلك التعظيم [574] في قلبه ودبّ الإشراك بالله تعالى في عقيدته وهو لا يعلم، وذلك لأن معرفة الإنسان بربه إنما ملاكها معرفة المغايرة الجنسية، فيعرف جنس الناسوت منقهرًا بما ليس من جنسه، فلما أثبت له العظمة المقدَّسة وأحبه حبًّا مقدَّسًا، فقد حكم عليه بتفوقه عن جنس الناسوت في ضمن ذلك وهو لا يشعر. والمرضى بهذا المرض على أصناف: فمنهم من نسي الله تعالى وعظمته واضمحلَّ (¬3) عنه فجعل لا يعبد إلا الشركاء ولا يرفع حاجته إلا إليهم، ولا يلتفت إلى الله تعالى لفتة وإن كان يعلم بالنظر البرهاني أنَّ سلسلة الوجود لا بدَّ لها من واحد يستند إليه، ولكن عَطَّل هذا الواحدَ في التأثير مطلقًا، وعلى هذا المذهب قوم من المجوس والصابئين ... ¬

_ (¬1) حذف المؤلف هنا صفحة وخمسة أسطر. والمراد بقوله "يقدِّر بقدرين" أن العبد يُدرك التفاوت بين قدر نفسه وأبناء جنسه وبين قدر الخالق. (¬2) كذا في الأصل والبدور البازغة، ولعل التذكير في الضمير هنا وفي المواضع الآتية على تأويل النسمة بالإنسان أو الشخص. (¬3) كذا في الأصل، وفي البدور البازغة: وذهل.

ومنهم من اعتقد أنَّ الله تعالى هو الشريف السيد، ومنه التأثير في العالم، ولكنه قد يخلع على بعض العباد لباس الشرف والتأليه ويجعله مؤثرًا متصرفًا في قسط من العالم، كما أن ملِك الملوك قد يخلع على بعض عبيده خلعة الملك ويملِّكه على ناحية من ممالكه، فهو ملك الملوك وهم ملوك إنما ملَّكهم [575] هو، وكذلك الله إله الآلهة، وهم آلهة لهم قدر عظيم عند الله تعالى وتصرُّف في مملكته وشفاعة إليه، فتلجلج لسانهم أن يسموهم عباد الله تعالى، فيسوُّوهم وغيرَهم فعدلوا عن ذلك وسمَّوهم أبناء الله تعالى ومحبوبي الله عزَّ وجلَّ ومعشوقي الله سبحانه، وسمَّوا سائر الناس عبادًا لأولئك، فسمَّوا أنفسهم عبد المسيح وغلام فلان وغلام فلان وإسفَنْديار (¬1) وغير ذلك. وعلى هذا المذهب اليهود والنصارى والمشركون والغلاة من منافقي دين محمَّد - صلى الله عليه وسلم - في يومنا هذا. ومنهم مَن اعتقد أن الله هذا (هو) (¬2) المؤثر في خلقه ولكن أولئك عباد فنوا في الله فكان رضا الله تعالى في رضاهم ورضاهم في رضاء الله تعالى، فهم لا يفعلون فعلاً إلاَّ وفعل الله تعالى داخل اسمه فعلهم (¬3)، وأولئك لو علموا بأنَّ هذا الاعتقاد شرك وغير مرضي من الله تعالى لم يعتقدوه، ولكن الله تعالى أعمى أبصارهم. ¬

_ (¬1) ويقال: إسبنديار - بالباء المعقودة -، والكلمة معناها الحرفي باللغة الفارسية هو مَنْ خَلَقه العقل المقدَّس. وهو اسم للإله المشرف على الشهر الثاني عشر من الشهور الشمسيَّة، وكذلك الإله المشرف على اليوم الخامس من كل شهر شمسيٍّ. انظر: لغت نامة لدهخدا، وبرهان قاطع للتبريزي بتحقيق الدكتور معين - تحت كلمة اسفنديار. (¬2) ما بين القوسين تصحيح من المؤلف. (¬3) كذا في الأصل والبدور البازغة.

واعلم أن الألفاظ المستعملة في الشرف المقدَّس والشرف الناسوتي أكثرها متقاربة، ألا ترى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لطبيب: "إنما الطبيب هو الله تعالى وإنما أنت رفيق" (¬1)، فلم (¬2) يسوِّغ إطلاق [576] الطبيب على رجل من بني آدم بالمعنى الثاني، وكذلك يقول: "السيد هو الله تعالى" (¬3)، ثم يقول: "أنا سيِّد ولد آدم" (¬4) بالمعنى الثاني. فكل نبيٍّ بعث في قومه زجرهم عن وجوه الشرك فتبرَّأ قلوبهم عنها وفهموا ما يقوله وإن اشتبهت الألفاظ، ثم لما انقرض الحواريُّون من أصحابه ووصاة دينه وحملة علمه ورُفعت الأمانة عن قلوب الناس خلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات وحملوا كلام النبي على غير محمله، وجعلوا الشفاعة والمحبوبيَّة وغيرهما التي أثبتها النبيُّ لنفسه ¬

_ (¬1) الحديث في مسند أحمد 4/ 163، بلفظ: "أنت رفيقٌ، والله الطبيب". [المؤلف]. وفي رواية أخرى لأحمد 2/ 226 - 227: "لست بطبيب، ولكنك رفيق". وهو أيضًا في سنن أبي داود (4207) بلفظ: "الله الطبيب، بل أنت رجل رفيق". (¬2) في البدور: "ثم"، وعلى هذا يكون المراد بالمعنى الثاني: تشخيص المرض ووصف الدواء. وأما على ما في الأصل فالمراد به: إزالة المرض وإحداث الصحة. (¬3) الحديث في مسند أحمد وغيره بسندٍ على شرط الشيخين: قال الإِمام أحمد: ثنا حجاج، حدثني شعبة، قال: سمعت قتادة قال: سمعت مطرِّف بن عبد الله بن الشخِّير يحدِّث عن أبيه، قال: جاء رجلٌ إلى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: أنت سيَّد قريشٍ، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "السيِّد الله"، قال: أنت أفضلها فيها قولًا وأعظمها فيها طَولاً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليقلْ أحدكم بقوله، ولا يستجْرِه الشيطان". مسند أحمد 4/ 24 - 25. وله عنده وعند غيره أسانيد أخرى، مع خلافٍ في بعض الألفاظ. [المؤلف]. وانظر: سنن أبي داود، كتاب الأدب، باب في كراهية التمادح 4/ 254، ح 4806. (¬4) الحديث في صحيح مسلمٍ، كتاب الفضائل، باب تفضيل نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - على جميع الخلائق، 7/ 59، ح 2278، بلفظ: "أنا سيِّد ولد آدم يوم القيامة ... ". [المؤلف]

فصل

وللخواصِّ من أمته شفاعة ومحبوبيَّة أخرى، فعند ذلك بطل الدين وانقلب الزمان زمان جاهلية فيبعث الله نبيًّا آخر فأنكر عليهم ونهاهم عن وجوه الشرك وبذل في ذلك أشدَّ سعي وأوفر مصادمة. وأما الدِّين المحمَّدي - صلى الله عليه وسلم - فلا يزال فيه وصيٌّ يحمل الوحي والعلم على وجههما، ولا يكاد يخلط شيئًا بشيء، فإن اتَّبعوه وأصغوا إليه فازوا، وإن نبذوا قوله وراء ظهورهم خابوا، ولا يزال طائفة من أمته قائمين على الحق لا يضرُّهم من [577] خالفهم، وكذلك (ولذلك) (¬1) لا يكون في دينه جاهلية ولا يبعث بعده نبي، والله أعلم بأسراره. فصل صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: "لتتبعن سنن من قبلكم شبرًا بشبرٍ وذراعًا بذراعٍ حتى لو دخلوا جحر ضبٍّ اتبعتموهم"، قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: "فمن؟ " (¬2). إلامَ أصف لك ما أحدثه منافقو أمته من وجوه الشرك، وأغضبوا قلب وصيِّه وضيَّقوا صدر حامل علمه ووحيه، فقد رأينا رجالًا من ضعيفي المسلمين يتَّخذون الأحبار والرهبان أربابًا من دون الله تعالى، ويجعلون قبورهم مساجد، ويحجُّون إلى قبورهم وآثارهم وأتلالهم كما كان اليهود والنصارى يفعلون ذلك، ورأينا رجالًا منهم يحرفون الكلم عن مواضعه، يقولون: الصالحون لله والطالحون لي (¬3)، كما قالت اليهود: {لَنْ تَمَسَّنَا ¬

_ (¬1) التصحيح من المؤلف. (¬2) قد تقدم سياق الأحاديث في ذلك وتخريجها. [المؤلف]. انظر ص 227 - 228. (¬3) أي: يهبهم لي ولا يعذبهم، والعبارة وردت في دستور العلماء 4/ 4.

النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَة} [البقرة: 80]، ويحملون الشفاعة والمحبوبيَّة على غير محملهما، كما حملهما مَنْ كان قبلهم، واختطفوا من ملَّة الهنود وملة المجوس أمورًا فلا يزالون عاضِّين عليها بنواجذهم، وتحزَّبوا أحزابًا، وقاسوا على المنصوص (¬1) فضلّوا وأضلّوا. وهل أنت ملتمس لم كفَّر الله سبحانه اليهود والنصارى في اتخاذهم [578] الأحبار والرهبان أربابًا من دون الله؟ أتراهم يقولون بِقِدَمِ رجل اعترفوا بأنَّ فلانًا أبوه وفلانة أمُّه، أو وجوب رجل اعترفوا بأنه لم يكن بالأمس شيئًا مذكورًا، أو انتهاء (¬2) سلسلة الوجود [إلى رجل] (¬3) اعترفوا بأنَّ قبله قرونًا كثيرًا؟ كلّا، بل هي تناقضات، وأخبث مَنْ يعتقدها يُسمَّى بشرًا! أَوْ تراهم يقولون بحلول الله سبحانه ذلك القديم في هذا الحادث؟ فلِمَ يقولون في محاوراتهم: إن الله تعالى بعث فلانًا وأوحى إليه كذا وكذا، ومات فلان أو يستشفع فلان عند ربه فيستجاب له، أو ما يجري مجرى هذه الكلمات؟ بل الحق أنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، واستحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله تعالى، وتَلَجْلَج ألسنتهم أن يشهدوا بأنه مَن يملك مِن الله شيئًا إن أراد أن يهلك المسيح عيسى بن مريم وأمه ومن في الأرض [جميعًا]؛ بما أُشرب في قلوبهم من اعتقاد الشرف والتألُّه في المقدَّسين. كلَّا، بل هو بشر ممن خلق، إنما فضله أنه أوحي إليه وأُمِرَ الناس أن يأخذوا بما أمره (¬4) ويجتنبوا ما نهاهم حاكيًا عن ربه تعالى، فكل شرف له فإنما هو متشعِّب من هذه لا غير، وقد [579] آتيناك من البينات بما (¬5) لا يكون ¬

_ (¬1) لعله يقصد إعمال القياس في المنصوص تهرُّبًا من العمل به كما جاء. (¬2) في الأصل: "وانتهاء"، والمثبت من البدور. (¬3) ما بين المعكوفات هنا وما سيأتي ساقط من الأصل ومستدرَك من البدور. (¬4) كذا في الأصل والبدور، ولعل الصواب: "أمرهم" بدليل ما بعده. (¬5) كذا في الأصل والبدور.

للإنسان عذر بعده ولو ألقى معاذيره، فتدبَّر. ألا ترى أن مشركي مكة كانوا يذعنون بانصرام سلسلة الوجود إلى الله تعالى كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25]، وما أغناهم ذلك عن الإشراك بالله. وربما قرع سَمْعَكَ فيما يُسرد من الأخبار أنَّ العلم سيرفع بين يدي القيامة فيتمارى رجلان، يقول أحدهما: إيَّاك ستين، ويقول الآخر: إياك سبعين، فيرفعان القضية إلى أعلمهم فيقول: إياك تسعين! (¬1). وأقسم بالذي نفسي بيده إنه قد وقع في آيات أُخر، فلستُ أرى أحدًا إلاَّ وفيه الإشراك، كما قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106]. وكفَّر الله سبحانه مشركي مكة بقولهم لرجل سخيٍّ كان يلُتُّ السويق للحاجِّ: إنه نُصب [منصب] الألوهية، فجعلوا يستعينون به عند الشدائد ... " (ذكر حديث عدي بن حاتم (¬2)). ثم قال: "فقد علمنا أن الشرك ليس بمحصور في العبادة بل قد يكون بهذا النحو. ولعلَّ رجلاً عريض القفا يقول: وكيف يكون هذا وما سمعنا رجلاً يقول بذلك؟ فنقول له: اعلم أنَّ التحريف ليس هو [580] اعتياض لفظ مكان لفظ، كما وقف عليه فهوم العامَّة، بل شأن التحريف أَهْوَلُ من ذلك، وأكثر أنواعه وجودًا أن يقلب اللفظ عن ظاهر مراده إلى هواه وهواجس نفسه، فقد أشار عليه الصلاة والسلام إلى أنَّه سيوجد رجال يسمُّون الخمر بغير اسمها ¬

_ (¬1) يريد آية {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} في الفاتحة, ولم يرد هذا الخبر في رواية يُعتد بها، وقد ذكر ابن الجوزي حكاية شبيهة في أخبار الحمقى والمغفلين 81. (¬2) في تأليه الأحبار والرهبان، وقد سبق تخريجه في ص 654 - 655.

ويسمُّون الزنا بغير اسمه ثم يقولون: هذا ما حرَّم الله في كتابه، فعليكم به. لا بأس، ألست ترى أقوامًا يقولون (¬1): إن المسكر الذي يُتَّخذ من العسل وما يماثله ليس بخمر ثم أَحَلُّوه، فأولئك الذين فيهم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال، وأقوامًا يقولون: إذا وطئ الرجل أمة ابنه فذلك حلال، فأولئك قوم رُكسوا على وجوههم وغَرَّتهم الأماني، فسوف يعلمون غدًا مَن الكذَّاب الأشر. ألست ترى أقوامًا يذعنون لأقوالهم ويجدون في صدورهم استحلال ما أحلُّوه حتى إنهم كادوا يسطون بالذين يتلون عليهم آيات الله تعالى؟ ألست تراهم إذا قيل لهم: دَعُونا من أقوال أناس قد يصيبون وقد يخطئون وعليكم بالكتاب وبما حكاه الصادق المصدوق عليه السلام من أمر الله تعالى، قالوا: إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم لمقتدون، وخطَّؤوا هذا الرأي، بل عسى أن يقتلونِ (¬2) [581] إن استطاعوا، فأولئك هم المشركون حقًّا. وقد اقشعرَّ جلدي حين بلغني ما يُسْرَدُ في الأساطير عن رجل اعترفوا له بالفضل أنه قال: لو تجلَّى الله سبحانه يوم القيامة على غير صورة فلان ما رأيته، فقد حطَّ بالله سبحانه درجته عن فلان، فإن صدقت الرواية فليس بمعذور عند الله تعالى. والمنافقون على أصناف ... ومثل منافقي ملَّة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - ممن يدينون بدين الإِسلام ويضمرون في قلوبهم شركًا بالله تعالى وعبادة واستعانة إلى غير الله تعالى، فهموا رضا الربِّ محصورًا في رضا عبده" (¬3). ¬

_ (¬1) كلمة "يقولون" تكررت في الأصل. (¬2) كذا في الأصل والبدور بحذف ياء المتكلم. (¬3) انتهى النقل من البدور البازغة ص 121 - 127، والأسطر الثلاثة الأخيرة من ص164.

أقول: وما ذكره رحمه الله بقوله: غلام فلان، غلام فلان، إشارة إلى بعض المنكرات في الهند في أسمائهم، فإنَّ منها غلام عبد القادر، غلام جيلاني، غلام سبحاني، غلام رباني، غلام صمداني، غلام محيي الدين، غلام محبوب، غلام دستكَير، غلام غوث، غلام بير، يعنون بهذه العشرة ونحوها غلام عبد القادر الجيلاني رحمه الله أي: إن المسمى عبد لعبد القادر، وهكذا يصنعون بأسماء النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلي والحسن والحسين عليهم السلام، وأسماء بعض الأولياء، فيقولون: غلام [582] محمَّد وغلام أحمد، وهكذا. وإذا جاءهم مَنْ اسمه عبد القادر فكثيرًا ما يتحاشون من إطلاق هذا الاسم هكذا؛ لئلا يكون ذلك تشبيهًا لذلك الرجل بالشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله، بل يقولون: غلام عبد القادر. ومن العجب أنك لا تكاد تجد في أسمائهم عبد الله وعبد الرحمن، وأعجب منه أنه إذا كان فيهم مَنْ اسمه عبد الرحمن أو عبد الرحيم أو عبد العزيز أو عبد الجبار أو نحو ذلك من أسماء الله عزَّ وجلَّ لا ينادونه بذلك، بل ينادون ذاك الشخص بقولهم: يا رحمن أو يا رحيم أو يا عزيز أو يا جبَّار، وكذلك يذكرونه إذا ذكروه في كلامٍ أو كتاب، وتجد في أسمائهم كثيرًا حبيب الله، حبيب الرحمن، عظمة الله، قدرة الله، فانظر أين بلغ بهم الأمر في الجرأة على الله عزَّ وجلَّ، والخضوع للشيخ عبد القادر. واعلم أن التسمية بإضافة عبد إلى غير الله عزَّ وجلَّ من المنكرات العظيمة ولم يكن في القرون الأولى شيء من ذلك، فأمَّا عبد المطلب جَدُّ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد صحّ أنه إنما سُمِّي بذلك؛ لأنَّ عمه المطَّلِب جاء به من المدينة إلى مكة مردفًا له فظن الناس أنه عبد اشتراه فقالوا: عبد المطَّلِب، فلزمَتْه،

فلم يقصد بذلك [583] تعظيم المطَّلِب، ولذلك والله أعلم لم يكن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يكره إطلاق ذلك، بل صحَّ عنه أنَّه قال: "أنا ابن عبد المطَّلِب" (¬1). وقد أخرج ابن سعد في الطبقات بسند صحيح عن النَّزَّال بن سَبْرة قال: قال لنا رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "إنا وإياكم كنا نُدْعى بني عبد مناف، فأنتم بنو عبد الله، ونحن بنو عبد الله"، زاد في رواية: قال مِسْعَرٌ - وهو من قوم النَّزَّال -: نحن من بني عبد مناف بن هلال بن عامر بن صعصعة، والنبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم من بني عبد مناف بن قُصيًّ من قريشٍ (¬2). وقد أخرجه البخاري في التاريخ الأوسط, ذكره في الإصابة (¬3). وقد حوَّل النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم من أسماء موتى الجاهلية اسم عبد العُزَّى بن غطفان فسمى أولاده بني عبد الله بن غطفان؛ ولذلك لُقِّبوا بني محوَّلة؛ لتحويل اسم أبيهم. ووقع للصاغانيِّ ثم شارح القاموس (¬4) وهمٌ عجيبٌ، توهَّما أنَّ القصَّة تقتضي أن عبد الله بن غطفان كان في عهد النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب قول الله تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ}، 5/ 153، ح 4315 - 4317. ومسلم في كتاب الجهاد والسير، بابٌ في غزوة حنين، 5/ 168 - 169، ح 1776. (¬2) طبقات ابن سعد 6/ 56. [المؤلف] (¬3) الإصابة 11/ 161، وانظر: التاريخ الأوسط المطبوع باسم التاريخ الصغير 1/ 38. (¬4) انظر: تاج العروس 28/ 380 مادة (ح ول).

ففتَّشا عنه في معاجم الصحابة فلم يجداه فتوقَّفا. وكأن العلماء فهموا أنَّ تحويل أسماء الجاهليِّين ليس بحتمٍ، ولذلك لا يزالون يذكرونهم بعبد منافٍ وعبد العزى وعبد مناة ونحو ذلك. والمقصود أنَّ اسم عبد المطلب لم يُقصَد به تعظيمٌ، ولا يُشعِر إذا عُرِف سببه بتعظيمٍ. ثم أُلِفَ هذا الاسم فسُمِّيَ به نافلته (¬1) عبد المطلب بن (¬2) الحارث بن عبد المطلب، وهو ابن عمِّ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -, صحبه وروى عنه. وفي ترجمته من تهذيب التهذيب لابن حجر: "قال العسكري: هو المطلب بن ربيعة، هكذا يقول أهل البيت. وأصحاب الحديث يختلفون، فمنهم من يقول: المطلب بن ربيعة، ومنهم من يقول: عبد المطلب. وقال أبو القاسم [البغويُّ] (¬3): عبد المطلب، ويقال: المطلب. وقال أبو القاسم الطبرانيُّ: الصواب: المطلب". أقول: وأهل البيت أدرى به، وقد يجوز أن يكون سمي عبد المطلب باسم جد أبيه ثم غَيَّره النبي - صلى الله عليه وسلم - فسماه المطَّلِب، وبقي بعض الناس يقول عبد المطلب؛ لأنه رأى أنَّ هذه التسمية ليس المقصود منها تعظيم المطلب، وإنما سمي هذا باسم جدِّ أبيه، وجدُّ أبيه عرض له هذا الاسم على الوجه الذي قدَّمناه، لم يقصد به تعظيم المطَّلِب. واتِّباعُ أهل البيت أولى؛ فإن هذه التسمية تكون ذريعة إلى غيرها. والله أعلم. ¬

_ (¬1) النافلة: ولد الولد. انظر: القاموس المحيط: 1374. (¬2) لا خلاف في أن اسم والده: ربيعة، والحارث جدُّه. ولعل المؤلف نسبه هنا إلى جدِّه. (¬3) زيادةٌ من التهذيب 6/ 384.

(¬1) ومن عجيب صنع الله لنبيه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أنْ قضى أن يكون اسم أبيه عبد الله، وقضى أن يكون اسم من يؤمن به من أعمامه لا شرك فيه وذلك حمزة والعباس، وقضى فيمن سمي من أعمامه باسم شركيًّ أن يشتهر بكنيته وذلك أبو لهب وكان اسمه عبد العزى، وأبو طالب وكان اسمه عبد مناف. وذلك - والله أعلم - ليقترن اسم النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم من صباه بالخضوع لله وحده، فيقال: محمَّد بن عبد الله، ولئلا يقترن بكلمة شرك، فيقال: محمَّد بن فلان (ويذكر اسم فيه شرك) أو: قال النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لعمِّه فلان، ويذكر اسم فيه شرك. فأمَّا جدُّه عبد المطلب فقد علمت أنه لا شرك فيه، وأما جَدُّ جَدَّه فإنه بعيد لا يكاد يقترن اسم النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بذكره، والله أعلم. ثم رأيت في قصة مبارزة عليًّ عليه السلام لعمرو بن عبد وُدًّ يوم الخندق أن عَمْرًا قال له: مَنْ أنت؟ قال: أنا علي، قال: ابن عبد مناف؟ قال: أنا علي بن أبي طالب (¬2). ومما ينبغي ذكره هنا ما جاء في أنَّ آدم وحواء عليهما السلام سمَّيا ولدهما عبد الحارث، قال الله تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) ¬

_ (¬1) من هنا يبدأ ملحق ص 583، وهو أربع صفحات. (¬2) أخرجه الحاكم في كتاب المغازي، ذكر مبارزة علي رضي الله عنه عمرو بن عبد ودٍّ, 3/ 32 - 33. وعنه البيهقي في كتاب السير، باب المبارزة، 9/ 132 من طريق ابن إسحاق.

فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} [الأعراف: 189 - 192]. أخرج ابن جرير وغيره عن ابن عبَّاسٍ وسمرة بن جندبٍ ومجاهد وسعيد بن جُبيرٍ وعكرمة وقتادة والسُّدِّي ما حاصله: أنَّ المراد بالنفس الواحدة/ وزوجها آدم وحوَّاء، وأن إبليس تمثَّل لحوَّاء لما حملت فخوَّفها أن يقتلها ما في بطنها أو أن يكون بهيمة أو أن يولد ميِّتًا وأنها إن سمَّته عبد الحارث وُلِدَ صالحًا وعاش (¬1). وفي الرواية عن السُّدِّي أنه كان يقول لها: سمِّيه عبدي وإلَّا قتلته، فأَبَيَا فمات، ثم حملت الثانية، فكذلك، ثم حملت الثالثة، فقال: إن أبيتما فسمِّياه عبد الحارث، فأطاعاه. وفي أكثر الروايات: فأشركا في الاسم ولم يشركا في العبادة. وقد أنكر جمهور المحقِّقين هذه القصة؛ لأن سياق الآيات يخالفها، ولأنَّ فيها نسبة الشرك إلى صَفِيِّ الله آدم عليه السلام. وأمَّا قول من قال: إنه شرك في الاسم لا في العبادة، ففيه نظر؛ لأن سياق الآيات ظاهر في أنَّه الشرك الأكبر، والمقصود هنا النظر في تلك القصة ليفهم معنى قولهم: أَشْرَكَا في الاسم ولم يُشْرِكَا في العبادة. فأقول: اعلم أنَّ التسمية بعبد الله وعبد الرحمن وعبد المسيح وعبد العزى وأشباهها قُصد بها تعظيم يطلب به نفع غيبي فهي عبادة حتمًا. ¬

_ (¬1) انظر: تفسير ابن جرير 10/ 623 - 628، الدر المنثور 3/ 623 وما بعدها.

وأما قولنا لمملوك زيد: هذا عبد زيد فليس كذلك، وكذلك لو توهِّم في رجل أنه مملوك لزيد فقيل: هذا عبد زيد ثم لصقت به هذه الكلمة لقبًا كما وقع لعبد المطلب كما مرّ. ولو قيل لرجل: سمِّ ولدك عبد المسيح وإلا لم يعش، فسماه عبد المسيح ليعيش لكان من الأوَّل؛ لأن في هذه التسمية تعظيمًا طُلِب به نفع غيبي وهو أن يعيش الولد، اللهم إلا أن يكون أعجميًّا فيقال له: إنَّ المسيح اسم من أسماء الله عزَّ وجلَّ، فإن هذا يعذر. وكذا إذا تسلَّط عليه إنسان ظالم قال له: سمِّ ولدك عبد المسيح وإلا قتلته، فسماه عبد المسيح كارهًا لذلك عازمًا على أنه إذا تخلَّص من سطوة هذا الظالم غَيَّرَ ذلك الاسم، فإنَّ هذا يُعْذَر؛ لأنه مُكْرَهٌ. وكذا فيما يظهر/ لو تمثَّل له شيطان فقال له: سمِّ ولدك عبد المسيح وإلا قتلته وأنت ترى، فامتنع، فأخذ الولد فخنقه وأبوه يرى، فقال: دعه وأنا أسميه بذلك، فإنَّ الشيطان المشاهَد لا فرق بينه وبين الإنسان. ويبقى النظر فيما إذا تمثل له شيطان، فقال له: سمِّ ولدك الذي في بطن أمه عبد المسيح وإلَّا قتلته في بطن أمه، أو قال له: سمِّ ولدك هذا الذي قد وُلِدَ عبد المسيح وإلا دخلت في جسده فصرعته. والفرق بين هذا وبين الذي قبله أن تسلُّط الشيطان على الحمل أو على الإنسان بأن يدخل في بدنه ويصرعه أمر غير محسوس، فهذه الصورة تشبه من جهةٍ الشيطانَ المتمثَّلَ الذي يباشر الإيذاء بالمشاهَدة، وتشبه من جهةٍ ما لو أَخَذَ إنسان يعظِّم الشياطين ولم يشاهدهم لئلا يؤذوه أو يؤذوا أولاده. وقد يقرِّبها من الأول أن يقع في المحسوس ما يظهر منه قدرة الشيطان المتمثل على ما يهدِّد به كأن يهدِّد بقتل الحمل أول مرة فيموت الحمل وثانية فيموت أو بصرع المولود فيصرع ويموت، ثم بصرع الثاني فيصرع ويموت.

وبعدُ، فالظاهر من الحكايات عن آدم وحواء أنهما لم يعرفا أن الحارث اسم إبليس كما تصرِّح به حكاية السُّدِّي، ويظهر أنهما توهَّما أنَّ الحارث من أسماء الله عزَّ وجلَّ، ولا مانع من ذلك، فقد قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة: 63، 64]. وقد يُتَوهَّم في التسمية به سببٌ لعيش الولد، فإنَّ الولد كالزرع، ففي تسميته بعبد الحارث على فرض أنَّ الحارث من أسماء الله عزَّ وجلَّ اعتراف بأنه هو الذي خلقه ويحييه. وقد يُعَكِّرُ على هذا قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31]. والجواب: أن أسماء الله تعالى لم تدخل في ذلك كما يدلُّ عليه السياق، حيث قال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ... قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ ...} [البقرة: 31 - 33]. فقوله: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ} وقوله: {بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ} صريح في أن المراد أسماء أشخاص حاضرين مشاهَدين أشار إليهم ربهم، وليس هو فيهم. ومما يدل على ذلك ما ثبت عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم من قوله في دعائه: "أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علَّمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك" (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في مسنده 1/ 391، وأبو يعلى في مسنده 9/ 198، ح 5297، والطبراني في المعجم الكبير 10/ 169 ح 10351، وابن حبان في صحيحه =

شبه عبدة الملائكة

والحاصل: أن معنى قولهم: أشركا في الاسم ولم يشركا في العبادة، أن الحارث لما كان اسمًا للشيطان كان معنى الاسم: عبد الشيطان، ولكنهما لما لم يَعْلَمَا بذلك لم يكونا معظِّمَين للشيطان، وإذا قلنا بأن تهديد الشيطان المتمثِّل مع تكرُّر ما يدلُّ على قدرته على ما هَدَّدَ به يكون إكراهًا فيقال: إنما أشركا في الاسم وهو شرك لفظيٌّ، ولم يشركا في العبادة؛ لأنهما كانا مُكْرَهَين. والأول هو المتعيِّن، والله أعلم. هذا ما يتعلق بالآثار، فأمَّا كون هذا المعنى هو معنى الآية فلا ألتزمه، وقد تقدَّم الكلام على الآيات (¬1). والله أعلم (¬2). شُبَهُ عَبَدَةِ الملائكة عبدةُ الملائكة فريقان: الفريق الأول: مَن يزعم أنَّ الملائكة يتصرَّفون بهواهم واختيارهم، ومن هؤلاء وثنيُّو الهند واليونان والمصريُّون القدماء، وشبهتهم القياس على البشر. وربما يحتجون علينا بقول بعض المسلمين: [584] إنَّ أرواح الأنبياء والأولياء تتصرَّف في الكون باختيارها. ¬

_ = (الإحسان)، كتاب الرقائق، باب الأدعية، ذكر الأمر لمن أصابه حزن أن يسأل الله ذهابه عنه ... ، 3/ 253 ح 972 والحاكم في المستدرك، كتاب الدعاء، دعاء يُذهب الهمَّ والحزن، 1/ 509، من طريق أبي سلمة الجهني عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه، عن ابن مسعود، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم إن سلم من إرسال عبد الرحمن بن عبد الله، عن أبيه؛ فإنه مختلف في سماعه عن أبيه وتعقبه الذهبي بقوله: "وأبو سلمة لا يُدرى مَن هو، ولا رواية له في الكتب الستة". (¬1) ص (س 62 ب فما بعدها). (¬2) هنا انتهى ملحق ص 583.

وقد كنت بسطتُ الكلام على شبهتهم وردِّها ثم عدلت عن ذلك؛ لأني وجدتُ الله تعالى قد سحق شبهتهم ومحقها بحيث لم يبق لها عين ولا أثر، وذلك بقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] وغيرها من الآيات، وقد تقدَّم الكلام عليها (¬1). وأما قول بعض المسلمين فخطأ منهم كما تقدَّم. الفريق الثاني: من لا يثبت للملائكة اختيارًا إلاَّ في الشفاعة على تردُّد منهم في ذلك، ومن هؤلاء مشركو العرب، وقد تقدَّم أن قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] يبطل شبهتهم أيضًا، في آيات أُخر، ولكن لا بأس بالإطناب في هذا الباب فأقول: شبهة هذا الفريق هي القياس على ملوك الدنيا كأنهم يقولون: إننا نرى الملِك من ملوك الدنيا لا يخلو أن يكون لديه أشخاص مقرَّبون تعرض الناس عليهم حوائجهم، فيعرضها المقرَّبون على الملك، ويسألونه قضاءها فيقضيها إكرامًا لهؤلاء المقرَّبين. ويعدُّ هذا من تمام عظمة الملك؛ لأنَّ من الحوائج ما لا يحسُن عرضها على الملِك بدون واسطة، ومن أصحاب الحوائج مَن لا يليق لمخاطبة الملك؛ إمَّا لدناءته وإما لإساءة تقدَّمتْ منه، [585] ومنهم مَن لا يستحق أن تقضى حاجته ولكن إذا شفع فيها أحد المقربين قضاها الملك؛ لأن ذلك المقرَّب يستحق الإكرام. الجواب: قد أبطل الله عزَّ وجلَّ هذه الشبهة بإخباره أنَّ الملائكة لا يشفعون إلا بعد أن يأذن لهم، ولا يشفعون إلا لمن ارتضى، فهم بغاية التعظيم ¬

_ (¬1) ص 349.

لربهم عزَّ وجلَّ والمحبة له والاجتهاد في مرضاته، إن أحبوا أن يشفعوا لأحد فإنما ذلك لعلمهم بأنَّ ربهم تبارك وتعالى يحبُّ الشفاعة له ويرضاها. وقد أخبر الله تعالى عن بعض شفاعتهم بقوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} [الشورى: 4 - 6]. وبَيَّن استغفارهم لمن هو؟ بقوله: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ [586] الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر: 7 - 9]. فأنت تراهم إنما شفعوا لمن تاب واتَّبع سبيل الله تعالى، وقد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]. وإذا كان الأمر كذلك فطريق التوصُّل إلى شفاعة الملائكة إنما هي بطاعة الله تعالى واتِّباع سبيله والتوبة من الذنوب، ونحو ذلك. فأمَّا تعظيمهم فإنه لا يحملهم على الشفاعة، بل إذا علموا أن تعظيمهم معصية لله تعالى وكفر به كان أبغض الأشياء إليهم، فهم إلى أن يسألوا الله تعالى تعذيب فاعله أقرب من أن يشفعوا له. وكذا يُقال في سؤال الشفاعة منهم.

وأمَّا قياسكم على ملوك الدنيا فغلط واضح؛ فإنَّ ملوك الدنيا مفتقرون إلى أن يكون لديهم من يبلغ حوائج الناس إليهم. أوَّلاً: لجهل الملك، فلا يتيسَّر له العلم بحوائج الرعية كلهم. ثانيًا: لعجزه فلا يستطيع الاستماع من كل أحد. ثالثًا ورابعًا وخامسًا: لفقره وبخله ورئائه، فهو لا يقدر أو لا يريد قضاء الحوائج كلها، ولا يحب أن يعلم الناس أنه فقير أو بخيل فهو يرائي الناس بأن يوكِّل وسائط لسماع [587] الحوائج حتى يقضيَ منها ما أراد، ويترك ما أراد، فيظن العامة أنَّه ليس به فقر ولا بخل ولكنَّ الوسائط لم يبلِّغوه. سادسًا: لخيلائه لا يحب أن يصل إليه الضعفاء والمساكين. سابعًا: لخوفه أن يكون في غمار الناس من يريد قتله. ثامنًا: لحقده فلا يحب أن يتصل به من قد أساء إليه. تاسعًا: لاحتياجه إلى أولئك المقرَّبين ليسعوا في معونته وتأييد ملكه، فهو يوهمهم أنه لم يكن يريد أن يقضيَ تلك الحوائج لولا شفاعتهم. عاشرًا: لخشيته من رؤوس الناس أن يسعوا في زوال ملكه، فهو يداريهم بأن يمنحهم الرياسة والإمارة والوساطة بينه وبين الرعية. وهناك أسباب أخرى من هذا القبيل، منها: خوف الملك من نفسه أن يغضب في غير موضع الغضب، أو يبخل في غير موضع البخل، أو يكافئ على الإحسان بأقلَّ مما ينبغي، أو يعاقب على الذنب بأشدَّ مما ينبغي، وأشباه ذلك، وكلها نقائص لا يخفى أنَّ الله عزَّ وجلَّ متعالٍ عنها وعن أشباهها.

والمقرَّبون إلى ملوك الدنيا يرون أنَّ لهم حقًّا أن يشفعوا إلى الملوك وأن تُقبل شفاعتهم؛ لأمور، منها: علمهم بما تقدَّم من النقائص في الملوك، ومنها: أنهم يرون لأنفسهم حقًّا على الملوك لتأييدهم لملكهم وسترهم عيوبهم وإظهارهم محاسنهم وقدرتهم على أن يضرُّوا الملوك إذا أرادوا وغير ذلك. [588] ولا يأتي هذا في الملائكة؛ لأنهم يعلمون أنَّ ربهم عزَّ وجلَّ مبرَّأ من كل نقص، غني عنهم وعن غيرهم، قادر على كل شيء، لا يستطيع أحد أن يضره. هذا مع كمال الملائكة في أنفسهم، وخضوعهم الكامل لربهم سبحانه، وحرصهم على مرضاته. ورعيَّةُ ملوك الدنيا بِغاية الحاجة إلى أن يكون لهم شفعاء إلى ملوكهم؛ لعلمهم بنقائص الملوك التي تقدَّمت. ومن عرف الله تعالى علم أنه عالم الغيب والشهادة فلا يخفى عليه شيء من مصالح عباده، وإذا أراد أمرًا فقد علم أنه كائن، وما علم أنه كائن فهو كائن لا محالة، ولو شفع إليه الخلق كلهم أن يرجع عما أراده لما أمكن ذلك، وأنه سبحانه أحكم الحاكمين أرحم الراحمين، فالحاجة التي يريدها العبد إن كانت مما قد سبق العلم [بها] (¬1) واقتضتها الحكمة والرحمة فهي كائنة ولا بدَّ، ويكفي في طلبها طاعة الله عزَّ وجلَّ ودعاؤه والخضوع له، كما يقتضيه مقام العبوديَّة، وإلَّا فلو شفع إليه خلقه كلهم فيها لما حصلت، فأي فائدة للشفاعة مع هذا؟ وما أحمق مَنْ يتوهَّمُ أن يكون أحدٌ أرحمَ به من ربه تعالى! ¬

_ (¬1) سقطت هذه الكلمة من الأصل.

وقولكم: "من الحوائج ما لا يحسُن عرضُها على الملِك بدون واسطة" لا معنى له بالنسبة إلى الله تعالى؛ لأنه هو العليم الخبير الرؤوف الرحيم، فليس من حاجةٍ لا يحسُن عرضها عليه، بل إنَّ [589] من الحوائج ما يحرم على الإنسان أن يذكرها لمخلوق ويجب عليه أن يدعو الله عزَّ وجلَّ لها، وذلك كالفواحش إذا وقعت منه لم يكن له إظهارها لأحد من الناس، ويجب أن يدعو ربه ويقول مثلاً: يا رب إني ظلمت نفسي بإصابة الفاحشة فاغفر لي. وكذلك من الأشياء ما يُتَحَاشَى من ذكرها للناس كالأمراض السِّرِّيَّة ولا حرج في أن يذكرها في دعاء الله عزَّ وجلَّ. فإن كان قصدكم أنَّ من حوائج الناس ما يكون في معصية الله عزَّ وجلَّ فالملائكة أبعد من أن يشفعوا في معصيته، ولو شفعوا لحصول معصيته لكانوا عصاة، فإن وقع منهم ما يوهم الرضا بمعصيته فذلك غضب على ذلك العاصي ورغبة في بقائه على المعصية ليَتِمَّ له استحقاق العذاب، كما رُوي في دَسَّ جبريل عليه السلام الحمأة في في فرعون (¬1) إن صح، وقد تقدَّم الكلام عليه (¬2). ومما يشبه ذلك دعاء موسى وهارون على فرعون وقومه، قال تعالى: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذيّ في كتاب التفسير، بابٌ ومن سورة يونس، 5/ 287 - 288، ح 3108، وقال: "حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ من هذا الوجه". والنسائيّ في الكبرى, كتاب التفسير، سورة يونس، قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ}، 10/ 125، ح 11174. وصحّحه الشيخ الألبانيّ في صحيح سنن الترمذيّ. (¬2) انظر ص 381.

لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس: 88]. وقولكم: إنَّ من أصحاب الحوائج مَن لا يليق لمخاطبة الملك لدناءة أو إساءة، لا يصحُّ في حق الله عزَّ وجلَّ، فإنه سبحانه البرُّ الرَّحيم [590] لا يأنف من سماع دعاء أحد من خلقه، كيف وهو ربهم وبارئهم؟ ومَن أساء منهم لا يخلو أن يكون جاء تائبًا أو غير تائب، فإن كان تائبًا فالتوبة تمحو الإساءة السابقة وتوجب محبَّة الله تعالى للتائب، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]، فقال: {يُحِبُّ} ولم يقتصر على المغفرة، وقدَّم {التَّوَّابِينَ} على {الْمُتَطَهِّرِينَ}، والتوَّابين صيغة مبالغة أي الذين تكثر توبتهم، وذلك يُشْعِر بكثرة خطاياهم. وفي صحيح مسلمٍ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم" (¬1). وفي صحيح مسلمٍ أيضًا عن أنسٍ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لله أشدُّ فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظِلِّها قد أيس من راحلته، فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمةً عنده، فأخذ بخِطامها ثم قال من شدَّة الفرح: اللهمَّ أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدَّة الفرح". ¬

_ (¬1) صحيح مسلمٍ، كتاب التوبة، باب سقوط الذنوب بالاستغفار، 8/ 94، ح 2749. [المؤلف]

وفي صحيح مسلمٍ أيضًا نحوه عن ابن مسعودٍ، وعن أبي هريرة، وعن النعمان بن بشيرٍ، وعن البراء بن عازبٍ، كلُّهم عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: سمعت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: [591] "إن عبدًا أصاب ذنبًا، وربما قال: أذنب ذنبًا، فقال: رب أذنبت، وربما قال: أصبت، فاغفره، فقال ربُّه: أعَلِمَ عبدي أنَّ له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ به، غفرت لعبدي. ثم مكث ما شاء الله، ثم أصاب ذنبًا أو أذنب ذنبًا فقال: ربِّ أذنبت أو أصبت ذنبًا (¬2) فاغفره فقال: أعَلِمَ عبدي أنَّ له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ به غفرت لعبدي. ثم مكث ما شاء الله، ثم أذنب ذنبًا، وربما قال: أصاب ذنبًا قال: قال: ربِّ، أصبتُ أو أذنبت آخر فاغفره لي فقال: أعَلِمَ عبدي أنَّ له ربًّا يغفر الذنوب ويأخذ به، غفرت لعبدي ثلاًثا فليفعل ما شاء" (¬3). وروى الإِمام أحمد والدارميُّ عن أبي ذرٍّ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عن ربِّه قال: "ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك، ابن آدم! إن تلقني بقراب الأرض خطايا لقيتك بقرابها مغفرة بعد أن لا تشرك بي شيئًا، ابن آدم! إنك إن تذنب حتى يبلغ ذنبك عنان السماء ثم تستغفرني أغفر لك ولا أبالي" (¬4). ¬

_ (¬1) صحيح مسلمٍ، كتاب التوبة، بابٌ في الحضَّ على التوبة والفرح بها، 8/ 91 - 93، ح 2675 و2744 - 2747. [المؤلف] (¬2) في صحيح البخاريَّ: "آخر" بدل "ذنبا"، بالاكتفاء بالصفة وحذف الموصوف. (¬3) البخاريّ، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ}، 9/ 145، ح 7507. ومسلم، كتاب التوبة, باب قبول التوبة من الذنوب، 8/ 99، ح 2758. [المؤلف] (¬4) مسند أحمد 5/ 167 و172، سنن الدارميَّ، كتاب الرقاق، بابٌ إذا تقرَّب العبد إلى =

وإن كان غير تائبٍ (¬1) فالملائكة والأنبياء والصالحون كلهم لا يحبونه، ولا يحبُّون أن تُقْضَى حاجته، والله تعالى أرأف به منهم وأرحم، ولذلك سمّى نفسه أرحم الراحمين، وقال عزَّ وجلَّ: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ [592] وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30]. وقال تعالى لخاتم أنبيائه - صلى الله عليه وسلم -: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128]. أخرج البخاريُّ وغيره عن ابن عمر أنَّه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الآخِرة من الفجر يقول: "اللهم العن فلانًا وفلانًا وفلانًا"، بعد ما يقول: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، فأنزل الله {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ} إلى قوله {فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ}. وروى البخاري أيضًا عن أبي هريرة نحوه (¬2). وروى الترمذي حديث ابن عمر بلفظٍ آخر، وزاد فيه: فتاب الله عليهم فأسلموا فحسُن إسلامهم. وفي رواية: فهداهم الله للإسلام (¬3). ¬

_ = الله تعالى، 2/ 322، ح 2830. [المؤلف] (¬1) هذا قسيم التائب الذي ذُكِر في الصفحة السابقة. (¬2) صحيح البخاريَّ، كتاب التفسير، سورة آل عمران، باب: "ليس لك من الأمر شيءٌ", 6/ 38، ح 4559 - 4560. [المؤلف] (¬3) جامع الترمذيّ، كتاب التفسير، بابٌ ومن سورة آل عمران، 2/ 167، ح 3004 - 3005. [المؤلف]

وفي تفسير ابن جرير في الكلام على قول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأنعام: 75]: وكان ابن عباس يقول في تأويل ذلك ما حدَّثني به محمَّد بن سعد قال: ثني أبي قال: ثني عمي قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: {وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ}، إنه جلا (¬1) له الأمرَ سرَّه وعلانيته، فلم يَخْفَ عليه شيءٌ من أعمال الخلائق، فلما جعل (¬2) يلعن أصحاب الذنوب، قال الله تعالى: إنك لا تستطيع هذا، فردّه الله كما كان قبل ذلك" (¬3). وفيه أيضًا في تفسير قوله تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} [القصص: 81] عن ابن عباس: فأوحى الله إليه: مُر الأرض بما شئت، قال: يا أرض خذيهم، فأخذتهم إلى حِقِيِّهم، ثم قال: يا أرض خذيهم، فأخذتهم إلى أعناقهم. [593] قال: فجعلوا يقولون: يا موسى، يا موسى، ويتضرَّعون إليه، قال: يا أرض خذيهم، فانطبقت عليهم، فأوحى الله إليه: يا موسى، تقول لك عبادي: يا موسى، يا موسى، فلا ترحمهم، لو إيَّاي دعوا لوجدوني قريبًا مجيبًا (¬4). وإذا اتفق أن يرحم بعضُ المقرَّبين عاصيًا فيدعو له فإنما ذلك لعدم علم ذلك المقرَّب بحقيقة الحال، ومن ذلك قول الله عزَّ وجلَّ: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) ¬

_ (¬1) أي: كَشَفَ. (¬2) في الأصل: "جعله"، وهو سبق قلمٍ، والتصحيح من الطبعة التي نقل منها المؤلف. (¬3) تفسير ابن جرير 7/ 148. [المؤلف]. وهذا إسناد مسلسل بالضعفاء كما قال أحمد شاكر. انظر: تفسير الطبري 1/ 263 بتحقيق محمود شاكر. (¬4) تفسير ابن جرير 20/ 68. [المؤلف]

يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} [هود: 74 - 76]. فالخليل عليه السلام كان يرجو أن يؤمن القوم، أو يخرج من أصلابهم مَن يؤمن، ولذلك لما عرض على خاتم الأنبياء - صلى الله عليه وسلم - عذاب قومه قال: "بل أرجو أن يُخْرِج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا". الحديث في الصحيحين (¬1). ولو علم إبراهيم أنَّ قوم لوطٍ لا يؤمنون ولا يلدون مؤمنًا لدعا عليهم، وكذلك محمَّد صلَّى الله وسلَّم عليهم أجمعين، كما فعل نوح عليه السلام، قال الله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود: 36]، فلذلك - والله أعلم - دعا عليهم كما قال تعالى: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: 26، 27]. (¬2) ومما يشبه قصَّة إبراهيم عليه السلام قصَّة نوح إذ قال: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي ¬

_ (¬1) صحيح البخاريَّ، كتاب بدء الخلق، بابٌ: "إذا قال أحدكم: آمين ... "، 4/ 115، ح 3231. ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب ما لقي النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من الأذى، 5/ 181، ح 1795. [المؤلف] (¬2) ملحق ص 593. [المؤلف]

أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: 45 - 47]. ومن ذلك قوله تعالى لخاتم أنبيائه: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56]. وقوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف: 6]. وقال تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [الأنعام: 33 - 35]. وفي القرآن آيات كثيرة من هذا المعنى. وفي الصحيحين عن أبي هريرة أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم عندما أُنزلت عليه {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] قال: "يا معشر قريش - أو كلمة نحوها - اشترُوا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا بني عبد مناف، لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا عباس بن عبد المطلب، لا أغني عنك من الله شيئًا، ويا صفية عمة رسول الله لا أغني عنكِ من الله شيئًا، ويا فاطمة بنت محمَّد، سليني ما شئتِ من مالي لا أغني عنك من الله شيئًا" (¬1). ¬

_ (¬1) البخاريّ، كتاب التفسير، سورة الشعراء، باب قوله: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}، 6/ 112، ح 4771. ومسلم، كتاب الإيمان, بابٌ في قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ =

وفي صحيح مسلمٍ وغيره عن سعد أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم (¬1) مرَّ بمسجد بني معاوية، دخل فركع فيه ركعتين، وصلَّينا معه، ودعا ربه طويلاً، ثم انصرف، فقال: "سألت ربي ثلاثًا، فأعطاني ثنتين ومنعني واحدةً، سألت ربي ألاّ يهلك أمتي بالسَّنة (¬2) فأعطانيها، وسألته ألاّ يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته ألَّا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها" (¬3). وفي صحيح مسلم وغيره نحوه عن ثوبان عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وفيه: "وإن ربي قال: يا محمَّد، إني إذا قضيت قضاءً فإنه لا يُرَدُّ" (¬4). وقد جاء نحو هذا الخبر عن أبي نضرة (¬5) الغفاري عند أحمد وغيره، وهناك روايات أُخَر في هذا المعنى. وفي صحيح البخاريِّ وغيره عن أبي هريرة عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: "يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قَتَرة وغَبَرة (¬6)، فيقول له إبراهيم: ألم أَقُلْ لك لا تعصني؟ فيقول أبوه: فاليوم لا ¬

_ = الْأَقْرَبِينَ}، 1/ 133، ح 206. [المؤلف] (¬1) في صحيح مسلمٍ زيادة: أقبل ذات يومٍ من العالية، حتى إذا .... (¬2) أي: بالجَدْب. النهاية لابن الأثير 2/ 413. (¬3) صحيح مسلمٍ، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعضٍ، 8/ 171 - 172، ح 2890. [المؤلف] (¬4) صحيح مسلمٍ، الموضع السابق، 8/ 171، ح 2889. [المؤلف] (¬5) كذا في الأصل، والصواب بالباء المعجمة والصاد المهملة. (¬6) القَتَرة: السَّواد الكائن عن الكآبة، والغَبَرة: الغُبار من التراب. انظر: فتح الباري 8/ 499 - 500.

أعصيك، فيقول إبراهيم: يا رب إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون، فأيُّ خزي أخزى من أبي الأبْعد؟ فيقول الله تعالى: إنَّي حرَّمت الجنة على الكافرين، ثم يقال: يا إبراهيم، ما تحت رجليك؟ (¬1) فإذا هو بذيخٍ متلطِّخٍ (¬2)، فيؤخذ بقوائمه فيُلقى في النار" (¬3). وفي الصحيحين وغيرهما عن سهل بن سعدٍ وأبي سعيد الخدريِّ عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: " ... لَيَرِدنَّ عليَّ أقوام أعرفهم ويعرفونني ثم يحال بيني وبينهم، فأقول: إنهم منِّي، فيُقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سُحقًا سُحقًا (¬4) لمن غَيَّر بعدي". وصحَّ نحوه من حديث ابن مسعودٍ، وعائشة، وأختها أسماء، وأبي هريرة، وأنسٍ، وغيرهم (¬5). ويُعْلَم مما تقدَّم وغيره أنَّ قوله تعالى في المؤمنين: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ ¬

_ (¬1) في البخاري زيادة: فينظر. (¬2) في الطبعة الأميرية: ملتطخٍ، وما هنا موافق للطبعة الهنديَّة. والذِّيخ: ذكر الضبُع الكثير الشعر. انظر: النهاية 2/ 174، القاموس المحيط ص 321. (¬3) البخاريّ، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} , 4/ 138، ح 3350. [المؤلف] (¬4) أي: بُعْدًا بُعْدًا. النهاية لابن الأثير 2/ 347. (¬5) انظر: صحيح البخاريِّ، كتاب الرقاق، بابٌ في الحوض، 8/ 119 - 122، ح 6576 و6582 - 6587 و6593 [من حديث ابن مسعودٍ وأنسٍ وسهل بن سعدٍ وأبي سعيدٍ الخدريِّ وأبي هريرة وأسماء بنت أبي بكرٍ رضي الله عنهم]. وصحيح مسلمٍ، كتاب الفضائل، باب إثبات حوض نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - وصفاته، 7/ 65 - 71، 2290 - 2291 و2293 - 2295 و2297 و2304 [من حديث سهل بن سعدٍ وأبي سعيدٍ الخدريِّ وأسماء وعائشة وأمِّ سلمة وابن مسعودٍ وأنسٍ رضي الله عنهم]. [المؤلف].

عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الزمر: 34] المراد به ما يشاءون من نعيم الجنة، أو أنهم إذا شاءوا ما لم يقضه الله عزَّ وجلَّ بيَّن لهم الحكمة في عدم قضائه، فيرجعون عن مشيئتهم الأولى ويشاءون ما يوافق الحكمة، أو أنهم يرجعون عن مشيئتهم الأولى إذا علموا أنَّ الله تعالى لم يقض ذلك، وإن لم يعلموا الحكمة؛ لعلمهم أنَّ الحكمة فيما قضاه ربهم عزَّ وجلَّ، أو يرجعون عن مشيئتهم الأولى لمحبَّتهم لربهم عزَّ وجلَّ. وسياق هذه الآية يدلُّ على ما ذكرنا قال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر: 30 - 34]. وقال تعالى: {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [الشورى: 22]. وهكذا قوله تعالى لرسوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5] قد اغترَّ بها كثير من الجهلة، وقد كان يكفي لدفع الشبهة عنهم أن يعلموا أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لن يرضى ما لا يرضاه الله عزَّ وجلَّ. وقد سبق ذكر قوله يوم القيامة في الجماعة الذين

يحال بينه وبينهم: "سُحقًا سُحقًا لمن غَيَّرَ بعدي" (¬1). والأحاديث كثيرة عنه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أنه لعن شارب الخمر وساقيها (¬2) و ... ، ولعن آكل الربا ومؤكله وشاهده (¬3)، وغير ذلك من المعاصي (¬4). وقد قال تعالى في الملائكة: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا ¬

_ (¬1) تقدَّم الحديث قريبًا. (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب الأشربة، باب العنب يُعصَر للخمر، 3/ 326، ح 3674. وابن ماجه في كتاب الأشربة، باب لُعِنت الخمر على عشرة أوجهٍ، 2/ 1121 - 1122، ح 3380، من حديث ابن عمر. وأخرجه الترمذيُّ في كتاب البيوع، باب النهي أن يُتَّخذ الخمر خلًّا، 3/ 580 - 581، ح 1295. وابن ماجه في الموضع السابق، 2/ 1122، ح 3381، من حديث أنسٍ. قال الترمذيُّ: "هذا حديثٌ غريبٌ من حديث أنسٍ، وقد رُوِي نحو هذا عن ابن عبَّاسٍ وابن مسعودٍ وابن عمر عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -". (¬3) أخرجه مسلمٌ في كتاب المساقاة، باب لعن آكل الربا وموكله، 5/ 50، ح 1598، من حديث جابرٍ. وأخرجه البخاريُّ في كتاب البيوع، باب موكل الربا، 3/ 59، ح 2086. وفي باب ثمن الكلب، 3/ 84، ح 2238، من حديث أبي جحيفة، ولم يذكر شاهده. وكذلك أخرجه مسلمٌ في الموضع السابق، 5/ 50، ح 1597، من حديث ابن مسعودٍ, ولم يذكر شاهده. (¬4) يقصد أصحاب المعاصي. ومنهم: السارق. انظر: صحيح البخاريِّ، كتاب الحدود، باب قول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}، 8/ 161، ح 6799. وصحيح مسلمٍ، كتاب الحدود، باب حدَّ السرقة ونصابها، 5/ 113، ح 1687. ومنهم أيضًا: الواشمة والمستوشمة والمصوِّرون. انظر: صحيح البخاريَّ، كتاب الطلاق، باب مهر البغيَّ والنكاح الفاسد، 7/ 61، ح 5347.

يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 26 - 28]. وفي الصحيحين وغيرهما عنه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أنه كان يقول لأصحابه: "أما والله لأنا أخشاكم لله وأتقاكم له" (¬1). ومن السبب في عدم شفاعة الملائكة إلاَّ لمن ارتضى عزَّ وجلَّ: حبُّهم لربهم عزَّ وجلَّ وإجلالهم له وعلمهم أنه لا ينبغي ارتضاء ما لم يرتضه الله تعالى، وليسوا في ذلك بأولى من خاتم الأنبياء صلَّى الله عليه وآله وسلَّم. وقد خبط الناس في تفسير الشفاعة يوم القيامة، ففَرَّط المعتزلة فأنكروا ما عدا الشفاعة لفصل القضاء التي إنما يراد منها فتح باب الحساب لشدَّة ما يعتري الناس من طول الموقف، والشفاعة لرفع الدرجات. وأفرط كثير من المتأخرين إلى حدٍّ لا دليل عليه، بل ربما وصل بعضهم إلى حدٍّ تكذِّبه النصوص القطعية. فإن أردت معرفة الحقيقة فعليك أن تجمع الأحاديث الصحيحة وتتدبَّرها وتنظر حاصلها، وأنبهك هنا أنه وقع في حديث أنس في الشفاعة اختصار ستعرفه إذا تدبَّرت الأحاديث إن شاء الله تعالى. اهـ (¬2). وقولُكم: ومنهم مَن لا يستحقُّ أن تُقضى حاجته ولكن إذا شفع فيها أحد [594] المقرَّبين قضاها الملِك؛ لأنَّ ذلك المقرَّب يستحقُّ الإكرام. فجوابه: أن الملائكة بغاية التعظيم لربهم عزَّ وجلَّ لعلمهم بأنه وسع كل ¬

_ (¬1) البخاريّ، كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح، 7/ 1، ح 5063. ومسلم، كتاب الصيام، باب صحَّة صوم مَن طلع عليه الفجر وهو جنبٌ، 3/ 137، ح 1110. [المؤلف] (¬2) انتهى هنا ملحق ص 593.

شيء رحمة وعلمًا، كما حكى الله تعالى عنهم في كتابه أنهم يقولون: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7]، وذلك يقتضي ألَّا يشفعوا لأحد إلاَّ بأمره أو بإذنه، وقد صرَّح بذلك في القرآن كما تقدم مرارًا، فإن شفعوا لهذا الذي فرض أنه غير مستحق لحاجته، فإن أمرهم الله بالشفاعة فلم يأمرهم بها حتى جعل برحمته المشفوع له مستحقًّا، ولا بدَّ أن يطيعوا الله فيشفعوا. وعلى فرض أنهم لا يشفعون فقد كفى في حصول الحاجة أنَّ الله عزَّ وجلَّ قد أراد قضاءها فلا بدَّ أن يقضيها شفعوا أم لم يشفعوا. وإن أذن لهم فيها على أنهم مخيَّرون إن شاء شفعوا وإن شاء لم يشفعوا، فالملائكة عباد مطهَّرون لا يمتنعون من شفاعة قد أذن لهم ربهم فيها. وإن فرضنا إمكان ألَّا يشفعوا فالظاهر من حكمة الله عزَّ وجلَّ ورحمته أنه لم يأذن لهم في الشفاعة في تلك الحاجة إلاَّ وقد أراد قضاءها، فلا يمنعه مما أراده عدم شفاعتهم، وعلى فرض أنه لا يقضيها إذا لم يشفعوا فما الطريق إلى حملهم على الشفاعة؟ لا سلطان عندكم على أنه يحملهم على الشفاعة تعظيمهم أو السؤال منهم، بل إنه يُعْلَم من تعظيمهم ربهم عزَّ وجلَّ أنهم يبغضون أن يعظَّموا أو يُدْعَوا مِنْ دونه، وأنهم لا [595] يحبون إلاَّ من يُعَظَّم ربهم ويبجّله. فعُلِمَ بذلك أنَّ الطريق إلى تحصيل شفاعة الملائكة هي الاجتهاد في طاعة الله عزَّ وجلَّ وإخلاص العبادة له سبحانه. فتدبَّروا ما تقدَّم كما ينبغي، ثم تدبَّروا ما يأتي.

الحمد لله ألم تعلموا قطعًا أنَّ الله تعالى مستحق للعبادة؟ قالوا: بلى. قلنا: فكيف أقدمتم على أن تسوُّوا به فيها ملائكته وتشركوهم به وتجعلوا لهم نصيبًا منها بمجرد الخرص والتخمين، وهو احتمال أنهم يشفعون، وليس عندكم علم بأنهم يشفعون؟ ألا يجوز ألَّا يكونوا يشفعون إليه علمًا منهم بأنه تعالى عالم الغيب والشهادة، أحكم الحاكمين، أرحم الراحمين، مع ما تقدَّم تفصيله من عدم الحاجة؟ فإن قالوا: فقد جاء في القرآن أنهم يشفعون. قلنا: أنتم كذَّبتم بالقرآن. فإن قالوا: فما بال القرآن ينكر عبادتهم مع إثباته أنهم يشفعون؟ قلنا: إنما أثبت لهم القرآن الشفاعة إذا أمرهم الله تعالى بها كما قال: {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 27]، فأثبت أنهم لا يقولون ولا يعملون إلا إذا أمرهم الله تعالى، فشفاعتهم إنما هي امتثال منهم لأمر ربهم عزَّ وجلَّ، فأنَّى يستحقون أن يُعْبدوا على هذه الشفاعة التي لا تقع منهم إلا طاعة لربهم فقط؟ أوَ ليس المستحق للشكر على هذه الشفاعة هو الآمر بها سبحانه؟ فإن قالوا: فقد عبَّر القرآن في مواضع أُخَر بالإذن، فقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ [596] عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] إلى غير ذلك، وهذا يُشعر بأنهم

يريدون الشفاعة ولكن لا يشفعون حتى يؤذن لهم، ويُشعر بأنهم بعد الإذن مخيَّرون أن يشفعوا أو لا يشفعوا، ونحن نرى أنهم إذا أرادوا الشفاعة كان ذلك مظنة أنْ يؤذَن لهم، فعلى هذا فيستحقُّون العبادة لأجل إرادتهم ولأجل اختيارهم لأن يشفعوا بدون إلزام من الله تعالى لهم بالشفاعة. قلنا: فكونهم لا يشفعون إلاَّ بعد إذنه سبحانه ورضاه يدلُّكم أنه ليس لكم أن تعظموهم إلا إذا أذن الله ورضي، فإذا تحاشى الملائكة مع قربهم من ربهم أن يشفعوا عنده بدون إذنه ورضاه، أفلا ينبغي للبشر مع بعدهم أن يتحاشوا عن أن يسوُّوا بربهم بعض عباده في العبادة ويجعلوا له شركاء فيها، والخطر في هذا أشدُّ وأعظم؟ ثم نقول: أرأيتم إرادتهم واختيارهم ما علَّة وجودهما؟ أَخَلْقُ الله إياهما في نفوسهم، أم علمهم بأن فيهما مرضاته، أم رحمتهم للمشفوع له، أم المكافأة للمشفوع له على تعظيمه لهم فيما مضى ومحبة أنْ يعظِّمَهم فيما بعدُ؟ فعلى الأول لا يستحقون التعظيم بذلك بل المستحق للتعظيم على تلك الإرادة وذلك الاختيار هو الخالق لهما. وكذا على الثاني؛ فإنَّ المستحق للتعظيم على تلك الإرادة وذلك الاختيار هو الذي جعل رضاه فيهما حتى حمل الملائكة عليهما. وأمَّا على الثالث فما علَّة وجود تلك الرحمة؟ أَخَلقها الله في نفوسهم أم غير ذلك؟ [597] فإن كان الأول فالخالق لها هو المستحقُّ للتعظيم لأجلها، وإن كان غيره فما هو ... ؟ إن ذكرتم الأمر الرابع فسيأتي الكلام عليه، وإن ذكرتم أمرًا آخر أعاد (¬1) السؤال في علته حتى ينتهي الأمر إلى ¬

_ (¬1) كذا في الأصل.

خلق الله عزَّ وجلَّ أو تتحيَّروا، فإن انتهى إلى خلق الله فهو وحده المستحقُّ للعبادة على ما خلق، وإن انتهى إلى الحيرة فليس لكم أن تسوُّوهم بالله عزَّ وجلَّ فيما هو حقٌّ قطعيٌّ له من العبادة وتشركوهم به فيها بغير سلطان بيَّن، وليس مع الحيرة سلطان. فإن قلتم: بل العلَّة في إرادتهم الشفاعة واختيارهم لها هي المعنى الرابع أي مكافأتهم المشفوع له على تعظيمه إيَّاهم فيما سبق أو رغبتهم أن يعظَّمهم فيما بعد. قلنا: وما برهانكم على أنَّ هذا هو العلة، لِم لا يجوز أن تكون العلة غيره مما مرّ؟ فإن لم يكن عندكم برهان فقد علمتم أنَّ الإشراك بالله تعالى بناءً على مجرد الخرص والتخمين أقبح القبح. فإن قالوا: قياسًا على الله تعالى، فإنه يحب أن يعظَّم. قلنا: إنما يحب الله أن يعظَّم لأن تعظيمه حق، وهو يحب الحق. ولم يثبت بعدُ أنَّ تعظيم الملائكة حق، بل هو محل النزاع. فإن قالوا: فقياسًا على البشر، فإن البشر يحبون أن يعظَّموا. قلنا: أما خيار البشر فإنهم لا يحبون أن يعظَّموا إلا إذا كان التعظيم حقًّا يحبه الله تعالى ويرضاه، وقد علمتم أنه لم يثبت بعدُ أن تعظيم الملائكة حق. وأما أشرار البشر فإنهم يحبُّون التعظيم بحق [598] وبغير حق، ولكن ليس الملائكة بأشرار، ولو كانوا أشرارًا يحبون التعظيم بغير حقًّ لما أذن الله تعالى لهم بالشفاعة أصلاً. فإن قالوا: إنَّ التفصيل الذي ذكرتموه يأتي نحوه في إحسان بعض

البشر إلى بعض، ومع ذلك فإنَّ الإِسلام نفسه يأمر بشكر المحسن. قلنا: هذا حقٌّ، ولكن تعيين الفعل الذي يكون الشكر به ليس إلى اختيار البشر، بل يتوقَّف على أمر الله عزَّ وجلَّ أو إذنه فليس لأحد أن يشكر أحدًا بقول من الأقوال أو فعل من الأفعال إلا بسلطان ينزل (¬1) الله تعالى بالأمر أو الإذن بذلك القول أو الفعل. وذلك لأن استحقاق ذلك المحسن للشكر مما يتحيَّر فيه العقل كما مرّ، وعلى فرض أنه يُقطع بالاستحقاق فلا يستطيع تعيين ما ينبغي من الشكر، ولا سيما مع خشية أن يقع في تسوية ذلك المحسن بالمحسن الحقيقي، وهو ربُّ العالمين تبارك وتعالى. فكان الواجب على الإنسان أن يتوقَّف حتى يأتيه سلطان من الله عزَّ وجلَّ ببيان ذلك، عالمًا أنه إذا علم الله عزَّ وجلَّ أنَّ على الإنسان حقًّا لأحد لا يدري كيف يؤديه قيَّض (¬2) له من يعلِّمه ببرهان بيِّن أو اكتفى منه بعلمه أنه لو عرف كيف يؤدِّيه لأدَّاه. بل إنَّ الإِسلام يوجب على العباد أن لا يعبدوا ربهم إلاَّ بما أنزل به سلطانًا، ويعلمهم أنه ليس لهم أن يعبدوه بما يرون [599] بدون سلطان منه؛ لأن في ذلك كذبًا عليه بزعم أنه يحب ذلك الفعل ويرضاه مع أنه لم ينزل به سلطانًا، ولا يدركه العقل إدراكًا قاطعًا. فإذا كان هذا في شكر المنعِم الحقيقي مع قطع العقل بأنه منعم حقيقيٌّ وأنه يستحق الشكر، فما بالكم بغيره ممن نشك في كونه منعمًا، ونعلم بأنه ¬

_ (¬1) كذا في الأصل. ولعلها: ينزله. (¬2) رسم في الأصل بالظاء، والصواب بالضاد، أي: هيَّأ وأتاح له.

إذا أنعم فليس هو بمنعم حقيقة، ونشكُّ في استحقاقه الشكر، وعلى فرض استحقاقه الشكر نجهل صفة الشكر الذي يستحقُّه؟ وقد علَّمنا الله تعالى أن نؤمن بوجود الملائكة، وأنهم عباد مكرمون مطهَّرون، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون، وأن نسلِّم عليهم، قال تعالى {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل: 59] , وهم من عباده الذين اصطفى، وعلَّمنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقول أحدنا في صلاته: "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين"، وقال: "فإنه إذا قال ذلك أصاب كلَّ عبد صالح في السماء والأرض" (¬1). وأعلمنا الله عزَّ وجلَّ أنَّ الملائكة يحبون مَن يطيع ربهم عزَّ وجلَّ ويعبده ويفعل الخير {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} [غافر: 7] , وقد مرَّت الآية في أوَّل الجواب، وأنهم يبغضون من يعصي ربهم، {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة: 30]، وقد تقدَّم الكلام على هذه الآية (¬2). وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة، قال النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت لعنتها الملائكة حتى تصبح" (¬3). ¬

_ (¬1) البخاريّ، كتاب الأذان، باب التشهُّد في الآخرة، 1/ 166، ح 831. ومسلم، كتاب الصلاة، باب التشهُّد في الصلاة، 2/ 13، ح 402. [المؤلف] (¬2) انظر ص 363. (¬3) البخاريّ، كتاب النكاح، بابٌ إذا باتت المرأة مهاجرةً فراش زوجها، 7/ 30، =

فعلمنا أنَّنا إذا أطعنا الله عزَّ وجلَّ أحبتنا الملائكة، وفي ذلك كفاية. فإن قالوا: فإنَّ في الإِسلام من تعظيم الأنبياء ومن يظن بهم الصلاح من البشر [600] وتعظيم الكعبة والحجر الأسود ما هو أعظم مما فيه من إكرام الملائكة الذي ذكرتموه. قلنا: قد أعلمناكم أنَّ مدار الحق في الأقوال والأفعال على ما أنزل الله تعالى به سلطانًا، فما أنزل الله تعالى به سلطانًا من الأقوال والأفعال التي أشرتم إليها فهو حقٌّ وطاعة لله عزَّ وجلَّ. وهو عالم الغيب والشهادة أحكم الحاكمين، لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون، فعلينا أن نعمل ما أمرنا به ونقف عما عداه، عالمين أنَّ له في كل شيء حكمة بالغة وإن لم نفهمها. ومَنْ ذا الذي يزعم أن علمه كعلم الله تعالى وأن حكمته كحكمته؟ ولولا خشية التطويل لبحثنا في تفصيل ما أمر الله تعالى به مما أشرتم إليه، وبيانِ الفرق الواضح بينه وبين ما لم يأمر الله به ولم يأذن فيه، على حسب ما يفتح الله به علينا من العلم. وقد مرّ بعض ذلك، ولعلَّه يأتي زيادة فيه، ومن أوتي حظًّا من العلم وكان حريصًا على إصابة الحق صادق الافتقار إلى ربه تعالى، فإنه سيدرك ذلك بالتدبُّر إن شاء الله تعالى. **** ¬

_ = ح 5193. مسلم، كتاب النكاح، باب تحريم امتناعها من فراش زوجها، 4/ 157، ح 1436. [المؤلف]

فصل في تحقيق السلطان الفاصل بين عبادة الله تعالى وعبادة غيره

فصل في تحقيق السلطان الفاصل بين عبادة الله تعالى وعبادة غيره قد علمتَ فيما تقدم أنَّ الفرق بين عبادة الله تعالى وعبادة غيره هو السلطان، فكلُّ عبادة كان عند صاحبها سلطان بها من الله تعالى فهي عبادة لله عزَّ وجلَّ، وكلُّ عبادة ليست كذلك فهي عبادة لغير الله تعالى. والسلطان هو الحجة، وقد تكون الحجة يقينية وقد تكون ظنية، [601] فهل تكفي الحجة الظنية ها هنا، أعني إذا تعبد رجل عبادة عنده بها من الله عزَّ وجلَّ سلطان يثبت به الظن لا القطع، فهل تكون تلك العبادة لله عزَّ وجلَّ أو لا يكون عبادة لله عزَّ وجلَّ إلا ما كان به سلطان قطعي؟ اعلم أنَّ القطعيَّ على ضربين: الأوَّل: ما هو نفسه قطعي، كالآية القطعية الدلالة والسنة المتواترة القطعية الدلالة ونحو ذلك. الثاني: ما ليس هو نفسه قطعيًّا، ولكن قد قام الدليل القطعي على أنه حجة يجب العمل بها، وذلك كخبر الواحد؛ فإنه ليس قطعيًّا لجواز خطأ بعض الرواة وغير ذلك، ولكن قد قام الدليل القطعي على وجوب العمل بخبر الواحد بشرطه، فإن مجموع ما احتجّ به العلماء في إيجاب العمل بخبر الواحد يفيد القطع بمجموعه، وإن قيل: إن كل فرد من تلك الأفراد لا يفيد القطع. وعليه فيقال في استحباب صيام ست من شوال: إنه وإن لم يثبت ثبوتًا قطعيًّا لكن وجوب العمل به قطعيٌّ؛ لأنه خبر واحد مستجمع لشروط القبول، وخبر الواحد المستجمع لشرائط القبول يجب العمل به قطعًا.

فإن قيل: قد لا يكون عند الناظر علم يقيني بأن هذا الخبر مستجمع لها. قلت: الدليل يدل على وجوب العمل بخبر الواحد على كلَّ مَن ظهر له أنه مستجمع لشرائط القبول، وإن لم يعلم ذلك علم اليقين. وممن حقَّق هذا المعنى الشاطبي في كتاب "الموافقات" (¬1)، وقرّر هو وغيره أن سائر الأدلة التي درج السلف الصالح والأئمة المجتهدون [602] على الاحتجاج بها بعضها قطعيٌّ، أي: من الضرب الأول، وباقيها ظنيٌّ ولكنه يرجع إلى أصل قطعيٍّ (¬2)، أعني: كما قررناه في خبر الواحد. ولذلك قالوا: إن أصول الفقه لا تكون إلا قطعية. وقد أنكر بعضهم هذا، وقال: إن كثيرًا من أصول الفقه ظني (¬3). والجواب: أن ما كان منها ظنيًّا فهو فرع لأصل آخر قطعي، فإن سلّمنا أن كون الأمر حقيقة في الوجوب ظني، فإننا نقول: إن هذا الظن مستند إلى أن ذلك هو الذي يظهر من اللغة ومن استعمالات الشارع، وقد ثبت بالقطع أنَّ كلَّ ما يظهر من معاني الكتاب والسنة بمقتضى اللغة والعرف الشرعي يجب العمل به. وقس على هذا، فقد يجوز أن يكون الأصل من أصول الفقه ظنَّيًّا ويستند إلى أصل آخر ظني، ولكن هذا الثاني يستند إلى أصل قطعي. ثم نقول: إن الأمور الدينية منها ما يُطلبَ العلمُ به كما هو عليه في نفس الأمر كوجود الله عزَّ وجلَّ، وكونه حيًّا قادرًا عالمًا، وأنه لا إله إلا هو سبحانه، وأن محمدًا رسول الله، وأن القرآن من عند الله، ونحو ذلك، فهذا لا ¬

_ (¬1) الموافقات 2/ 359. (¬2) المصدر السابق 3/ 15 - 16. (¬3) المصدر السابق 1/ 29 وما بعدها.

بدَّ فيه من القطع على الضرب الأول. والقطع بلا إله إلا الله يستدعي القطع بثلاثة أمور: الأول: أنه لا مدبِّر في الكون استقلالًا إلا الله عزَّ وجلَّ، فمن جَوَّز أن يكون في الكون مدبر مستقل قد يعجز الله تعالى عن منعه وقد يستطيع هو منع الله عزَّ وجلَّ عن إنفاذ قضائه، فقد جَوَّز أن يكون مع الله إله آخر. وكذلك إذا جوّز أن يكون الله عزَّ وجلَّ فَوَّضَ أمر العالم أجمع، أو أمر العالم الأرضي، أو أمر قُطْر خاص، أو بلد خاص، أو شخص واحد إلى مخلوق، وأذن له أن يصنع به ما أراد [603] على أن يتخلّى الباري عزَّ وجلَّ عن تدبير ذلك الشخص مثلًا أصلاً. وكذلك إذا جوّز أن يكون مخلوق من الخلق مقبولَ الشفاعة أو الدعاء البتة بحيث لا يخالفه الله عزَّ وجلَّ في شيء قطعًا. وليس من هذا تجويز أن يفوِّض الله تعالى قضية أو قضايا خاصة إلى مخلوق، كما جاء أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لما خرج إلى الطائف قبل الهجرة وآذاه أهلها ورجع حزينًا، وفيه " .... فإذا فيها جبريل، فناداني: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردُّوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلّم عليّ، ثم قال: يا محمَّد، فقال: ذلك فيما شئت (¬1)، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين" (¬2). ¬

_ (¬1) في بعض نسخ البخاري: (فما شئت). وعلى هذا فقوله: (ذلك): مبتدأ، وخبره محذوف، تقديره: كما علمت، أو: كما قال جبريل. وقوله: (ما شئت) استفهام، وجزاؤه مقدر، أي: إن شئت فعلت. انظر: فتح الباري 6/ 316. (¬2) البخاريّ، كتاب بدء الخلق، بابٌ: "إذا قال أحدكم: آمين"، 4/ 115، ح 3231. مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب ما لقي النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من الأذى، 5/ 181، ح 1795. [المؤلف]

وكما رُوي أنَّ قارون وأصحابه لما بالغوا في أذى موسى عليه السلام شكا إلى الله عزَّ وجلَّ، فأوحى الله تعالى إليه: "إني قد أمرت الأرض أن تطيعك"، وقد تقدَّمت القصَّة (¬1). فإنه ليس معنى التفويض في هاتين الواقعتين أنَّ الله عزَّ وجلَّ تخلَّى عن الأمر البتة، فقد تقدَّم في قصة قارون وأصحابه أن موسى عليه السلام لما أمر الأرض أن تأخذهم فتضرَّعوا إليه مرارًا فلم يلتفت إليهم عاتبه الله عزَّ وجلَّ وقال له: "يقول لك عبادي: يا موسى يا موسى فلا ترحمهم، لو إيَّاي دعوا لوجدوني قريبًا مجيبًا"، وقد مرّ في الكلام على الشبه أمثلة من عدم استجابة الله عزَّ وجلَّ دعاء كبار الرسل وعدم قبوله شفاعتهم في بعض المواطن. وأما الأناسي الأحياء والجن فإنه فوض إليهم العمل بما كلَّفهم به، ولكن لا على المعنى السابق، بل ما لم تقتضِ حكمة الله تعالى خلاف ما يريدون. ألا ترى أن الفاجر قد يريد أن يزني بامرأة صالحة فتبتهل [604] هذه إلى الله عزَّ وجلَّ فيحول بينها وبينه، وقد تريد هي أن توافقه، ولكن يكون زوجها صالحًا مثلًا؛ فيحول الله بينهما مكافأة للزوج على صلاحه. وقد يريد الكافر قتل مؤمن فيمنعه الله منه، وقد يريد الإنسان التصدق على فقير وقد قضى الله تعالى حرمان ذلك الفقير؛ فيمنع الله مريد التصدق منه. وأمثال ذلك لا تحصى، وقد مر في قصة الخليل عليه السلام مع خصمه الذي كفر ما يتعلق بهذا (¬2). وأما تصرف الجن بالإنس بغير الوسوسة فهو أوضح من هذا؛ لأن ¬

_ (¬1) انظر ص 794. (¬2) انظر ص 687.

الإنس محفوظون من الجن، قال تعالى: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرعد: 10، 11]. وإنما يستطيع الجن إيذاء الإنس نادرًا بإذن الله عزَّ وجلَّ لحكمة يعلمها، وقد تقدم إيضاح ذلك (¬1). وأما أرواح الموتى فتصرفهم الذي يتعلق بالأحياء مما لا أحفظ له دليلًا صريحًا، بل ثَمَّ دلائل تدلُّ على عدمه. وإن فُرِضَ أنَّ لهم تصرفًا مَّا فالأرواح الخيِّرة لها حكم الملائكة، فلا تقول ولا تفعل إلا بأمر خاص من الله عزَّ وجلَّ. والأرواح الشريرة كالشياطين فلا تستطيع أذى الأحياء إلا بتسليط خاص لحكمة يعلمها الله عزَّ وجلَّ، بل هي أولى من الشياطين بالعجز؛ لأنها ليست في دور تكليف بل في سجن وعذاب. [605] الأمر الثاني: القطع بأنه لا مستحق للعبادة إلا الله عزَّ وجلَّ. الأمر الثالث: العلم بحقيقة العبادة. واعلم أنه إذا عرض لك دليل ينقض هذه الأصول فإنه لا يمكن أن يكون قطعيًّا من الضرب الأول لاستحالة تعارض القطعيَّات، وإنما يجوز أن يَرِدَ دليل من الضرب الثاني، وهو ها هنا لا يفيد الظن أيضًا لمعارضته للقطعي، فليس بسلطان. ¬

_ (¬1) ص 665.

ومن الأمور الدينية ما أصلُ المقصود منه طاعة الله عزَّ وجلَّ، وقُصِدَ منه مع ذلك أن تكون الطاعة على وفق ما شرعه الله عزَّ وجلَّ، ولكن قصدًا ثانيًا بحيث يغفر لمن أخطأ ذلك بعد التحري وبذل الوسع، وذلك كفروع العبادات والمعاملات، فهذا إن تيسر فيه دليل من الضرب الأول فتلك الغاية القصوى، وإلاَّ كفى فيه دليل من الضرب الثاني. ويؤخذ من كلام كثير من أهل العلم زيادة قسم ثالث، وهو ما أصل المقصود منه تعظيم الله عزَّ وجلَّ، والبعث على الإيمان به وعلى طاعته. ويدخل في هذا عامَّة الصفات التي وصف الله تعالى بها نفسه، أو وصفه بها نبيه، ووقع الاختلاف فيها بين الأمة. وقد احتجَّ أكابر السلف على بعضها بأخبار الآحاد؛ لأنهم واقفون عن الخوض في تأويلها، ما حقيقتها؟ وكيف هي؟ ونحو ذلك. وخالفهم مَنْ خاض في ذلك فاشترطوا ألَّا يحتجَّ فيها إلاَّ بالبراهين القاطعة من الضرب الأول، وأكَّدوا ذلك بأنَّ منها ما يُفهم [606] منه خلاف الواقع في نفس الأمر. وأجيب بأنه إنما يَفهم منها خلاف الواقع مَنْ خاض في تأويلها وكيف هي؟ فأما من رجع إلى فطرته ولم يَخُضْ في ذلك فلا؛ فإن الشرع أطلقها بكثرة، وسمعها الأعراب الجفاة ولم يقع من ذلك محذور؛ لأنهم قد علموا أن الله عزَّ وجلَّ ليس من جنس الخلق، فإذا سمعوا أنَّ له وجهًا وعينين ويدين وأصابع، لم يفهموا من ذلك إلا أنَّ له صفات تطلق عليها هذه الألفاظ، بينها وبين جوارح المخلوقين مناسبةٌ مَّا وليست من جنسها؛ لأن الموصوف بها سبحانه ليس من جنس المخلوقين. ولتحقيق هذا المعنى موضع غير هذا. والصواب أنّ أخبار الآحاد تُقْبل في هذا القسم الثالث على سبيل

الشرط، فيقال: إذا كان النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال هذا فهو حق وأنا أومن به. ومن العجب أن الَّذين خاضوا فيها استدلُّوا فيها بشبهات عقلية ليست من الضرب الأول ولا من الضرب الثاني، بل هي من باب الظن الممنوع الاحتجاج به مطلقًا، وهو الخرص والتخمين، كما اعترف به أكابرهم كالغزالي وإمام الحرمين والشهرستاني والفخر الرازي في آخر أمرهم. ومَنْ تأمَّل أصولهم التي يبنون عليها العقليات عَلِم أنها بغاية الضعف، وإنما يرجعون إلى تقليد أرسطو وابن سينا مع أنه قد جاء عن أرسطو أنه قال: لا سبيل في الإلهيات إلى اليقين، وإنما الغاية القصوى فيها الأخذ بالأليق والأولى، حكاه علاء الدين الطوسي (¬1) في (الذخيرة) (¬2). وجاء نحو هذا عن بعض أكابر الآخذين عن ابن سينا. والله أعلم. [607] إذا تقرَّر هذا فاعلم أن النظر في العبادة إذا كان في معرفة حقيقتها من حيث هي فهو من القسم الأول، كما تقدمت أدلته في أوائل الرسالة، فلا بدَّ من علم اليقين فيه، فإن لم يتيسَّر اليقين لزم الاحتياط، وإن كان في عمل مخصوص أَعبادة لله عزَّ وجلَّ هو أم لا؟ فهو من القسم الثاني، فيكفي فيه دليل من الضرب الثاني، وعلى هذا جرى العمل في عهد النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وما بعده. ¬

_ (¬1) علاء الدين الطوسي: علي بن محمَّد البتاركاني الطوسي الحنفي أحد أفراد علماء سمرقند، فقيه حنفي، له "الذخيرة في المحاكمة بين تهافت الفلاسفة للغزالي والحكماء لابن رشد"، توفي سنة 877 هـ. الفوائد البهية، 145، الأعلام 5/ 9. (¬2) ص 10. [المؤلف]

فإن قلت: فعلى هذا قد يكون العمل عبادة لله عزَّ وجلَّ بدليل ظني كخبر واحد، ولو لم يأت ذلك الدليل الظني لكان ذلك العمل شركًا. قلت: ألا تعلم أنه لو ورد خبر صحيح بأن مَنْ كَلَّمَ إمامه في الصلاة لا تبطل صلاته لَعَمِلَ به العلماء، وإذ لم يَرِدْ فلو أن رجلاً يصلي ويكلّم إمامه زاعمًا أن الصلاة لا تبطل بذلك مع اعترافه بأنه لا دليل له عليه لحكمنا ببطلان صلاته قطعًا، فإن زعم أنه لا تجب عليه الصلاة إلا كذلك حكمنا بكفره. ومثْل ذلك لو ورد خبر واحد أن شرب ماء زمزم لا يفطر، أو أن مَنْ لم يدرك الوقوف بعرفة يوم عرفة يُجزيه الوقوف يوم النحر، لقبلناهما، وإذ لم يرد ذلك فلو أن رجلاً يشرب في نهار رمضان من ماء زمزم عمدًا زاعمًا أنه لا يفطر وأنه لا يجب عليه صيامٌ غير ذلك لكفَّرناه، وكذا لو وقف يوم النحر [608] عالمًا بأنه يوم النحر وزعم أنه لا يجب عليه حج غير ذلك. وأمثال هذا كثير، نعم قد يكون لبعض الناس عذر يمنع من تكفيره على ما يأتي بيانه في الأعذار إن شاء الله تعالى. فإن قلت: إنما يقع التكفير في هذه الأمثلة للإجماع على أن خطاب الإِمام في الصلاة يبطلها كغيره، وأن الشرب من ماء زمزم ذاكرًا للصوم يبطل الصوم كغيره، وأن الوقوف يوم النحر مع العلم بأنه يوم النحر لا يُجزي مَنْ جاء متأخرًا. فعبادات هؤلاء باطلة إجماعًا، فلمَّا زعموا أنه لا يجب عليهم غيرها كان معنى قولهم أنه لا تجب عليهم صلاة صحيحة، وهذا تكذيب للرسول قطعًا. قلت: وهكذا يقال فيمن عمد إلى حجر في جدَّة مثلًا فزعم أنه مستحق أن يُعَظَّمَ تعظيم الحجر الأسود، ألا ترى أنه خالف الإجماع في ذلك، ومع

مخالفته للإجماع كذب على الله وعلى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم؟ وقد نبهنا مرارًا (¬1) على أن القرآن قسم الكفر إلى قسمين: الكذب على الله والتكذيب بآياته. فإن قلت: فالمدار على عدم خبر الواحد مثلًا أم على مخالفة الإجماع؟ قلت: المدار في الحقيقة على الكذب على الله أو التكذيب بآياته، ومنه تكذيب رسوله. فإن قلت: نعم، ولكن يشترط في تكفيره قيام الإجماع على أنه كاذب أو مكذِّب، أم يكفي في ذلك أنه لا دليل عنده؟ قلت: الأمران متلازمان؛ فإنه إذا تعبد بما لا دليل له على أنه عبادة فقد كذب على الله إجماعًا، وإن عمل عملًا مبطلًا في الصلاة إجماعًا ثم أنكر أن تجب عليه الصلاة إلا كذلك فقد كَذَّب الرسول إجماعًا. فإن قلت: قد يُنْقل عن بعض السلف قول [609] لا نعلم له دليلًا ولكنه يمنع عند كثير من الأصوليين كون القول المخالف له مجمعًا عليه، ولم يتحقق إجماع قبل ذلك القائل، فما الحكم فيه؟ وما الحكم فيمن يقول بقوله من الخلف مع اعترافه بأنه لا دليل له؟ قلت: أما القائل الأول من السلف فإننا نحسن الظن به؛ لأنّا وإن لم نعلم له دليلًا فلعله قامت عنده شبهة ظنها دليلاً، وكانت تلك الشبهة قوية يعذر صاحبها، اللهم إلا أن يثبت عنه ما يَسُدُّ علينا طريق حسن الظن به. وأما الموافق له من الخلف فإن اعترف بأنه لا دليل له على قوله فلا ينفعه موافقته. ¬

_ (¬1) انظر ص 903 مثلًا.

فإن قلت: فبهذا يتبين أن المدار على عدم الدليل لا على مخالفة الإجماع. قلت: ولكن قد خالف هذا القائل الإجماع من جهة تديُّنه بما لا دليل له عليه، وهذا باطل إجماعًا. فإن قلت: فإن كان القائل الأول صحابيًّا واحتجّ هذا المتأخر بقوله بناء على أنه يرى قول الصحابي حجة، أو كان المتأخر عامِّيًّا وقلَّد القائل الأول؟ قلت: الظاهر أن المتأخر يعذر إلا أن تكون قد قامت عليه الحجة القاطعة بأن قول الأول خطأ محض، كما في قول ابن مسعود رضي الله عنه بأن المعوذتين ليستا من القرآن (¬1). وهكذا الحال في كل من أظهر الاستناد إلى دليل قد قامت الحجة القاطعة على بطلانه. فإن قلت: فلو قال متأخر قولًا وسألناه الدليل عليه فاعترف بأنه لا دليل له، أو ذكر دليلًا باطلاً إجماعًا، ولكننا نعلم دليلًا يصح أن يتمسك به لقوله لم يقف عليه أو لم يتنبه له؟ قلت: أما الذي تقتضيه [610] الأدلة فهو الجزم بأن هذا الرجل لا يعذر؛ لأنه قد ارتكب القول في الدين بلا دليل، وخالف بذلك الإجماع، وكان من معنى قوله الكذب على الله وتكذيب رسوله. ولكني أرى أن الواجب علينا أن نبين له ما في قوله من الخطر، ونرشده إلى ذلك الدليل، ونقول له: إذا أصررت على قولك فعليك أن تستند إلى هذا الدليل، فإن أصرّ على أن له القول في الدين بغير دليل انقطع عذره. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. انظر ص 824.

فصل

فإن قلت: فإذا لم يَدَّعِ الرجل أن له أن يقول في دين الله بغير حجة، ولكنه ذكر شبهة لا تصلح دليلًا؟ قلت: هذا معذور حتى تقام عليه الحجة أن ما تمسَّك به لا يصلح دليلاً، فإن أصرّ بعد ما قامت عليه الحجة نظرنا، فإذا كانت شبهته قوية في الجملة بحيث يجوز ألَّا يتبيَّن له بطلانها فهو معذور، وإلَّا فلا. فصل فإن قلت: إذا كان التدين بشيء لا دليل عليه أو عليه دليل باطل شركًا فالبدع في الدين كلها شرك. قلت: كل بدعة كانت تديُّنًا بما لا دليل عليه أو عليه دليل باطل - والبدع كلها هكذا على التفسير الصحيح - فإنا نقول فيها: إذا قامت الحجة على صاحبها بأن ذلك قولٌ لا دليل عليه أصلاً أو على بطلان ما يزعم أنه دليل، وبأن التدين بما ليس عليه من الله تعالى سلطان عبادة لغيره وهي شرك، إذا قامت الحجة عليه بذلك وأصرّ على التدين بتلك البدعة فهي شرك وهو مشرك، وإلا فإنا لا نطلق عليها أنها شرك بدون التفصيل، ولا يكون صاحبها ما لم تقم عليه الحجة مشركًا بل ولا مبتدعًا، بل قد يكون من خيار المسلمين وأئمتهم وأوليائهم [611] ويكون مأجورًا على ذلك القول الذي نسميه نحن بدعةً (¬1). ¬

_ (¬1) فصَّل المؤلَّف هذه الجزئيَّة في موضعٍ آخر، فقال: إن ذلك "خاصٌّ بما إذا كان عالمًا قامت عنده شبهةٌ قويَّةٌ حملته على أن تلك البدعة سنَّةٌ وقد بذل وسعه في البحث ... وأما الجاهل فإنما يمكن أن يكون مأجورًا على البدعة إذا كان قلَّد فيها مَن يعتقد فيه العلم ... " انظر: ص 898.

وحسبك أن مثل هذا يوجد من أكابر الصحابة رضي الله عنهم فضلاً عمن بعدهم؛ فإن كل مسألة دينية اختلف فيها فالحق فيها واحد وبقية الأقوال باطلة، ولكن لا يطلق على وجه من وجوه الاختلاف: "بدعة" حتى تقوم عليه الحجة الواضحة، ولا يطلق على صاحبها: "مبتدع" حتى تقوم عليه الحجة الواضحة. نعم، جرت عادة السلف أنهم إذا رأوا رجلاً ذهب مذهبًا يعتقدون هم أنه بدعة ولذلك الرجل شبهة استولت عليه - بحيث لم يستطيعوا اقتلاعها من قلبه، ولكنها عندهم شبهة باطلة - أن يطلقوا عليه مبتدع، وهو عندهم كالواسطة بين المعذور المأجور وبين المعاند الذي سبق أنه يكفر. والغالب أنهم لم يشدَّدوا عليه إلا خوفًا على المسلمين من الاغترار بقوله والافتراقِ في الدين، ولذلك يشتدُّ نكيرهم عليه إذا كان داعية، أي يُظْهِرُ قولَه ويجادل عنه ويناضل ويرغِّب الناس فيه. واعلم أن الأفهام تختلف وتأثير الأدلة والشبهات في النفوس يختلف باختلاف العقول والأهواء وغير ذلك، فكم مَّنْ معنًى هو عند بعض الأئمة حجة قوية، وعند بعضهم شبهة ضعيفة. وحسبك بأن الصحابة وأئمة التابعين اختلفوا في مسائل كثيرة وربما لم يقدر أحدهم على إقناع الآخر، مع أنهم كانوا أبعد الناس عن الهوى وأسرعهم إلى الحق إذا تبيَّن. أَوَ لم يبلُغْك محاورة أمير المؤمنين علي عليه السلام [612] مع ابن عباس رضي الله عنهما في متعة النكاح، حتى قال علي لابن عباس: "إنك امرؤ تائه" (¬1)، ومع ذلك لم يستطع أحدهما إقناع الآخر؟ ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب النكاح، باب نكاح المتعة، 4/ 134، ح 1407. [المؤلف]

فاحذر أن تعجل فتحكم على مخالفك بأنه معاند بسبب أنك ترى شبهته ضعيفة وترى الحجة التي أقمتها قطعية أو كالقطعية، وعليك أن تتأنَّى وتَتَرَيَّث في الحكم حتى لا يبقى لديك في عناده أدنى تردُّد. وهذا التأني والاحتياط هو الذي منع العلماء من إعلان أن البدع الدينية كفر وشرك، ومَن صرَّح بذلك فعلى سبيل الفرض والتقدير. قال الشاطبي: "فالمبتدع إنما محصول قوله بلسان حاله أو مقاله أن الشريعة لم تَتِمَّ وأنه بقي منها أشياء يجب أو يستحبُّ استدراكها؛ لأنه لو كان معتقدًا لكمالها وتمامها من كل وجه لم يبتدع ولا استدرك عليها، وقائل هذا ضالٌّ عن الصراط المستقيم. قال ابن الماجشون: سمعت مالكًا يقول: من ابتدع في الإِسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدًا صلَّى الله عليه وآله وسلَّم خان الرسالة؛ لأنَّ الله تعالى يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، فما لم يكن يومئذِ دينًا فلا يكون اليوم دينًا (¬1). والثالث: أن المبتدع معاند للشرع ومُشاقٌّ له؛ لأن الشارع قد عَيَّن لمطالب العبد طرقًا خاصة على وجوه خاصَّة وقَصَرَ الخلقَ عليها بالأمر والنهي والوعد والوعيد، وأخبر أن الخير فيها وأن الشر في تعدِّيها إلى غير ذلك؛ لأن الله يعلم ونحن لا نعلم، وأنه إنما أرسل الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم [613] رحمة للعالمين، فالمبتدع رادٌّ لهذا كله؛ فإنه يزعم أن ثَمَّ طرقًا أخر، ليس ما حصره الشارع بمحصور ولا ما عَيَّنه بمتعيِّنٍ، كأن الشارع ¬

_ (¬1) رواه ابن حزم في الإحكام، 6/ 58 من طريق ابن الماجشون، بنحوه.

يعلم ونحن أيضًا نعلم، بل ربما يُفهم من استدراكه الطرق على الشارع أنه علم ما لم يعلمه الشارع، وهذا إن كان مقصودًا للمبتاع فهو كفر بالشريعة والشارع، وإن كان غير مقصود فهو ضلال مبين" (¬1). وقال أيضًا: "والرابع: أن المبتدع قد نزَّل نفسه منزلة المضاهي للشارع؛ لأن الشارع وضع الشرائع وألزم الخلق الجري على سننها وصار هو المنفرد بذلك؛ لأنه حكم بين الخلق فيما كانوا فيه يختلفون، وإلا فلو كان التشريع من مُدْرَكات الخلق لم تنزل الشرائع ولم يبق الخلاف بين الناس، ولا احتيج إلى بعث الرسل عليهم السلام. هذا (¬2) الذي ابتدع في دين الله قد صيَّر نفسه نظيرًا ومضاهيًا للشارع حيث شرع مع الشارع، وفتح للاختلاف بابًا، وردَّ قصد الشارع في الانفراد بالتشريع، وكفى بذلك. والخامس: أنه اتباع للهوى؛ لأن العقل إذا لم يكن متبعًا للشرع لم يبق له إلا الهوى والشهوى (¬3)، وأنت تعلم ما في اتباع الهوى وأنه ضلال مبين، ألا ترى قول الله تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ [614] عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26]. فحصر الحكم في أمرين لا ثالث لهما عنده وهو الحق والهوى وعَزَلَ ¬

_ (¬1) الاعتصام 1/ 47 - 48. [المؤلف] (¬2) في بعض نسخ الاعتصام: فهذا. (¬3) كذا في الأصل وبعض نسخ الاعتصام، وفي أكثرها: الشهوة - بالتاء -، وهي الأنسب. انظر: الاعتصام 1/ 68، طبعة دار ابن الجوزي.

العقل مجرَّدًا؛ إذ لا يمكن في العادة إلاَّ ذلك. وقال: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28]. فجعل الأمر محصورًا بين أمرين: اتباع الذكر واتباع الهوى. وقال: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: 50]. وهي مثل ما قبلها. وتأمَّلوا هذه الآية فإنها صريحة في أن من لم يتبع هدى الله في هوى نفسه فلا أحد أضلّ منه، وهذا شأن المبتدع، فإنه أَتبع هواه بغير هدى من الله .. " (¬1). أقول: وإذا لم يكن أحد أضلَّ منه فهو كافر مشرك؛ إذ لو لم يكن كذلك لكان الكافر المشرك أضلَّ منه. وكذلك يقال في قوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الأنعام: 144] (¬2)، وقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الأنعام: 21]، (¬3)، وقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [الصف: 7]، وقوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [الزمر: 32]. ¬

_ (¬1) الاعتصام 1/ 50 - 51. [المؤلف] (¬2) سورة الأعراف: 37، سورة يونس: 17، وسورة الكهف: 15. [المؤلف] (¬3) سورة الأنعام: 93، سورة هود: 18، وسورة العنكبوت: 68. [المؤلف]

وإذا لم يكن أحدٌ أظلم منه فهو مشرك وإلَّا لكان يوجد من هو أظلم منه. وقال تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254]، [615] وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]. وقال الحافظ ابن حجر في الفتح: "وقد اتفق العلماء على تغليظ الكذب على رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وأنه من الكبائر، حتى بالغ الشيخ أبو محمَّد الجويني فحكم بكفر مَنْ وقع منه ذلك، وكلام القاضي أبي بكر ابن العربي يميل إليه" (¬1). وقال ابن حجر الهيتمي: "قال الشيخ أبو محمَّد الجويني: إن الكذب على النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كفر. وقال بعض المتأخرين (¬2): وقد ذهبت طائفة إلى أن الكذب على الله ورسوله كفر يخرج عن الملة، ولا ريب أن تَعَمُّدَ الكذب على الله ورسوله في تحليل حرامٍ أو تحريم حلالٍ كفر محض، وأن الكلام فيما سوى ذلك" (¬3). وقال صاحب الصارم المسلول على شاتم الرسول: (السُّنَّة الثالثة عشر (¬4)، ما روِّيناه من حديث أبي القاسم عبد الله بن محمَّد البغوي، قال: ثنا يحيى بن عبد الحميد الحِمَّاني، ثنا عليُّ بن مُسْهِرٍ، عن صالح بن حيَّان، ¬

_ (¬1) فتح الباري 6/ 326. [المؤلف] (¬2) انظر: الكبائر للذهبي ص 70. (¬3) الزواجر 1/ 83. [المؤلف] (¬4) كذا في الأصل والمصدر الذي نقل عنه المؤلف، والصواب: الثالثة عشرة.

عن ابن بريدة، عن أبيه، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم (¬1) أمرني أن أحكم فيكم برأيي وفي أموالكم كذا وكذا، وكان خطب امرأة منهم في الجاهلية، فأبوا أن يزوجوه، ثم ذهب حتى نزل على المرأة، فبعث القوم إلى النبي صَلَّى الله عليه وآله، فقال: كذب عدُّو الله، ثم أرسل رجلاً، فقال: "إن وجدته حيًّا فاقتله، وإن وجدته ميَّتًا فحرِّقْه بالنار"، فانطلق فوجده قد لُدِغ فمات فحرَّقه بالنار، فعند ذلك قال النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "مَن كذب عليَّ متعمدًا فليتبؤَّأ مقعده من النار". ورواه أبو أحمد بن عدي في كتابه الكامل (¬2)، قال: ثنا الحسن (¬3) بن محمَّد بن عنبر، ثنا حجاج بن يوسف الشاعر، ثنا زكريا بن عديًّ، ثنا علي بن مُسْهِرٍ، عن صالح بن حيان، عن ابن بريدة، عن أبيه، قال: كان حَيٌّ من بني ليثٍ من المدينة على ميلين، وكان رجلٌ قد خطب منهم في الجاهلية فلم يزوِّجوه، فأتاهم وعليه حُلَّة، فقال: إنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كساني هذه الْحُلَّة وأمرني أن أحكم في دمائكم وأموالكم، [616] ثم انطلق فنزل على تلك المرأة التي كان يحبُّها. فأرسل القوم إلى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فقال: "كذب عدوُّ الله"، ثم أرسل رجلاً، فقال: "إن وجدته حيًّا - وما أراك تجده حيًّا - فاضرب عنقه، وإن وجدته ميِّتًا فاحرقه بالنار"، قال: فذلك قول النبي - صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "مَن كذب على متعمِّدًا ¬

_ (¬1) سقط شيءٌ يُعلَم مما يأتي. [المؤلف]. وهو: جاء رجل إلى قوم في جانب المدينة فقال: إن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم ... (¬2) ترجمة صالح بن حيان، 4/ 53 - 54. (¬3) في الأصل والمصدر المنقول عنه: الحسين، وهو خطأ. انظر ترجمته في تاريخ بغداد 7/ 414، وسير أعلام النبلاء 14/ 256.

فليتبوَّأ مقعده من النار". هذا إسنادٌ صحيحٌ على شرط الصحيح، لا نعلم له علَّةً. وله شاهدٌ من وجهٍ آخر، رواه المعافى بن زكريا الجريريُّ (¬1) في كتاب "الجليس" (¬2)، قال: ثنا أبو حامد الحصري (¬3)، ثنا السري بن مرثد الخراساني (¬4)، ثنا أبو جعفر محمَّد بن علي الفزاري، ثنا داود بن الزبرقان، قال: أخبرني عطاء بن السائب، عن عبد الله بن الزبير قال يومًا لأصحابه: أتدرون ما تأويل هذا الحديث: "مَن كذب عليَّ متعمدًا فليتبوَّأ مقعده من النار"؟ قال: كان رجلٌ عشق امرأةً، فأتى أهلها مساءً، فقال: إن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بعثني إليكم أن أَتَضَيَّفَ في أي بيوتكم شئت، قال: وكان ينتظر بيتوتة المساء، قال: فأتى رجل منهم النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فقال: إن فلانًا يزعم أنك أمرته أن يبيت في أيَّ بيوتنا شاء، فقال: "كذب، يا فلان انطلق معه، فإن أمكنك الله منه فاضرب عنقه وأحرقه بالنار، ولا أراك إلا قد كُفِيتَه"، فلما خرج الرسول قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "ادعوه"، قال: "إني كنت أمرتك أن تضرب عنقه وأن تحرقه بالنار، فإن أمكنك الله منه فاضرب عنقه ولا تحرِّقه بالنار؛ فإنه لا يعذِّب بالنار إلا ¬

_ (¬1) هو المعافى بن زكريا بن يحيى أبو الفرج النهرواني، الإِمام الحافظ ذو الفنون، الجَريري نسبة لابن جرير الطبري، لكونه نصر مذهبه, له كتب عدة، توفي سنة 390 هـ. السير 16/ 544. (¬2) انظر: الجليس الصالح الكافي والأنيس الناصح الشافي 1/ 182. (¬3) كذا في الصارم، والصواب: الحضرمي كما في الجليس. انظر: سير أعلام النبلاء 15/ 25. (¬4) كذا في مصدر المؤلف. وفي الجليس: مَزْيَد، وذكره الأمير في المختلف فيه.

رب النار، ولا أراك إلا قد كُفِيتَه"، فحانت (¬1) السماء بصيِّب، فخرج الرجل يتوضَّأ، فلسعته أفعى، فلما بلغ ذلك النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، قال: "هو في النار". وقد روى أبو بكر بن مردويه من حديث الوازع، عن أبي سلمة، عن أسامة [617] قال: قال النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "مَن يقول (¬2) عليَّ ما لم أقل فليتبوَّأ مقعده من النار". وذلك أنه بعث رجلاً فكذب عليه فوُجِدَ ميتًا قد انشقَّ بطنه ولم تقبله الأرض. وروي أن رجلاً كذب عليه فبعث عليًّا والزبير إليه ليقتلاه. وللناس في هذا الحديث قولان: أحدهما: الأخذ بظاهره في قتل من تعمد الكذب على النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم. ومن هؤلاء من قال: يكفر بذلك، قاله جماعة، منهم: أبو محمَّد الجويني، حتى قال ابن عقيل عن شيخه أبي الفضل الهمداني: مبتدعة الإِسلام والكذابوان والواضعون للحديث أشد من الملحدين (¬3)، قصدوا إفساد الدين من خارج، وهؤلاء قصدوا إفساده من داخل، فهم كأهل بلد سعوا في فساد أحواله، والملحدون كالمحاصرين من خارج، فالدخلاء يفتحون الحصن، فهم شر على الإِسلام من غير الملابسين له. ووجه هذا القول: أن الكذب عليه كذب على الله، ولهذا قال: "إن كذبًا ¬

_ (¬1) في الجليس: فجاءت، ولعل ما في الصارم ط حيدراباد تصحيف. (¬2) كذا في الأصل والمصدر المنقول عنه ط حيدراباد، والصواب: تقوَّل. (¬3) كذا، وكأنه سقط: لأن الملحدين، أو نحوه. [المؤلف]

عليّ ليس ككذب على أحدكم" (¬1)؛ فإن ما أمر به الرسول فقد أمر الله به يجب اتباعه كوجوب اتباع أمر الله، وما أخبر به وجب تصديقه كما يجب تصديق ما أخبر الله به، ومن كَذَّبه في خبره أو امتنع من التزام أمره (¬2). ومعلوم أن من كذب على الله بأن زعم أنه رسول الله أو نبيه، أو أخبر عن الله خبرًا كذب فيه كمسيلمة والعنسي ونحوهما من المتنبئين، فإنه كافر حلال الدم، فكذلك من تعمد الكذب على رسوله. يبين ذلك أن الكذب عليه بمنزلة التكذيب له، ولهذا جمع الله بينهما بقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ} [العنكبوت: 68]، بل ربما كان الكاذب (¬3) عليه أعظم إثمًا من المكذِّب (¬4) له، ولهذا بدأ الله به، كما أن الصادق عليه أعظم درجة من المصدق بخبره، فإذا كان الكاذب [618] مثل المكذب أو أعظم والكاذب على الله كالمكذب له؛ فالكاذب على الرسول كالمكذب له. ويوضح ذلك أن تكذيبه نوع من الكذب؛ فإن مضمون تكذيبه الإخبار عن خبره أنه ليس بصدق (¬5)، وذلك إبطال لدين الله، ولا فرق بين تكذيبه في خبر واحد أو في جميع الأخبار، وإنما صار كافرًا لما يتضمنه من إبطال ¬

_ (¬1) كذا، والحديث في صحيح مسلمٍ، المقدَّمة، باب تغليظ الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، 1/ 8، ح 4. ولفظه: " ... على أحدٍ ... " اهـ. [المؤلف] (¬2) كذا، وكأنه سقط شيءٌ. [المؤلف] (¬3) في الأصل: الكذب، والتصحيح من النسخة التي نقل عنها المؤلف. (¬4) في الأصل: الكذب، والتصحيح من المصدر الذي نقل عنه المؤلف. (¬5) في الأصل والمصدر المنقول عنه: يصدق، والتصحيح من ط رمادي.

رسالة الله ودينه، والكاذب عليه يُدخل في دينه ما ليس منه عمدًا، ويزعم أنه يجب على الأمة التصديق بهذا الخبر وامتثال هذا الأمر؛ لأنه دين الله، مع العلم بأنه ليس لله بدين، والزيادة في الدين كالنقص منه، ولا فرق بين من يكذِّب بآية من القرآن أو يصنف كلامًا ويزعم أنه سورة من القرآن عامدًا لذلك. وأيضًا، فإن تعمد الكذب عليه استهزاء به واستخفاف؛ لأنه يزعم أنه أمر بأشياء ليست مما أمر به، بل وقد لا يجوز الأمر بها، وهذه نسبة له إلى السفه، أو أنه يخبر بأشياء باطلة، وهذا نسبة له إلى الكذب، وهو كفر صريح. وأيضًا، فإنه لو زعم زاعم أن الله فرض صوم شهر آخر غير رمضان أو صلاة سادسة زائدة ونحو ذلك، أو أنه حرَّم الخبز واللحم، عالمًا بكذب نفسه، كفر بالاتفاق. فمن زعم أنَّ النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أوجب شيئًا لم يوجبه أو حرم شيئًا لم يحرمه فقد كذب على الله كما كذب عليه الأول، وزاد عليه بأن صرَّح بأن الرسول قال ذلك، وأنه - أعني القائل - لم يقله اجتهادًا واستنباطًا. وبالجملة، فمن تعمَّد الكذب الصريح على الله فهو المتعمد لتكذيب الله وأسوأ حالاً، وليس يخفى أن من كذب على من يجب تعظيمه فإنه مستخِفٌّ به مستهين [619] بحقه. وأيضًا، فإن الكاذب عليه لا بدَّ أن يَشِينه بالكذب عليه وينقصه بذلك، ومعلوم أنه لو كذب عليه كما كذب عليه ابن أبي سَرْح في قوله: كان يتعلَّم مني، أو رماه ببعض الفواحش الموبقة أو الأقوال الخبيثة كفر بذلك، فكذلك الكاذب عليه؛ لأنه إما أن يَأثُر عنه أمرًا أو خبرًا أو فعلًا؛ فإن أَثَر عنه أمرًا لم يأمر به فقد زاد في شريعته، وذلك الفعل لا يجوز أن يكون مما يأمر به؛ لأنه

لو كان كذلك لأمر به صلَّى الله عليه وآله وسلَّم؛ لقوله: "ما تركت من شيء يقربكم إلى الجنة إلا أمرتكم به، ولا من شيء يبعدكم عن النار إلا نهيتكم عنه" (¬1). فإذا لم يأمر به فالأمر به غير جائز منه. فمن روى عنه أنه أمر به فقد نسبه إلى الأمر بما لا يجوز له الأمر به، وذلك نسبة له إلى السفه. وكذلك إن نقل عنه خبرًا، فلو كان ذلك الخبر مما ينبغي له أن يخبر به، وكذلك الفعل الذي ينقله عنه كاذبًا فيه لو كان مما ينبغي فعله ويترجح لَفَعَله، فماذا لم يفعله فتركه أولى. فحاصله أن الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أكمل البشر في جميع أحواله، فما تركه من القول والفعل فتركه أكمل من فعله، وما فعله ففِعْله أكمل من تركه، فإذا كذب الرجل عليه متعمدًا أو أخبر عنه بما لم يكن فذلك الذي أخبر عنه نقص بالنسبة إليه؛ إذ لو كان كمالاً لوُجد منه، ومن انتقص الرسول فقد كفر. واعلم أن هذا القول في غاية القوة كما تراه، لكن يتوجه أن يفرق بين الذي يكذب عليه مشافهة [620] وبين الذي يكذب عليه بواسطة، مثل أن يقول: حدثني فلان بن فلان عنه بكذا، فهذا إنما كذب على ذلك الرجل ¬

_ (¬1) الحديث بنحو هذا اللفظ ذكره صاحب المشكاة في باب التوكل والصبر من حديث ابن مسعودٍ مرفوعًا، ونسبه إلى البيهقي في شعب الإيمان, والبغوي في شرح السنة، وفي المستدرك نحوه، أخرجه شاهدًا 2/ 4، وفي سند المستدرك انقطاعٌ. وأخرج [الشافعي] نحوه من طريق المطلب بن حنطبٍ أن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: .... الأم 7/ 271، وهو مرسلٌ. وذكره ابن عبد البر في كتاب العلم، وقال: رواه المطلب بن حنطب وغيره عنه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم. مختصر جامع بيان العلم ص 222 اهـ. [المؤلف]

ونسب إليه ذلك الحديث. فأما إن قال: هذا الحديث صحيح، أو: ثبت عنه أنه قال ذلك، عالمًا بأنه كذب، فهذا قد كذب عليه. أما إذا افتراه ورواه رواية ساذجة ففيه نظر. اهـ (¬1). أقول: وكلامه فيمن كذب على النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بقوله، فأمّا مَنْ كذب على الله عزَّ وجلَّ بقوله وفعله واعتقاده بأن زعم في عمل أنه من الدين الذي يحبه الله ويرضاه، وليس له على ذلك سلطان، فلا أرى موضعًا للشك في كفره إلا أن يكون له عذر، والآيات المتقدمة صريحة في ذلك. وقال الشاطبي أيضًا: "وقال تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ} [المائدة: 103]، فهم شرعوا شرعة وابتدعوا في ملة إبراهيم عليه السلام هذه البدعة توهُّمًا أن ذلك يقربهم من الله تعالى كما يقرب من الله ما جاء به إبراهيم عليه السلام من الحق، فزلّوا وافتروا على الله الكذب إذ زعموا أن هذا من ذلك، وتاهوا في المشروع، فلذلك قال تعالى على إثر الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105]. وقال سبحانه: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ} [الأنعام: 140]، فهذه فذلكة لجملة بعد تفصيل تقدَّم وهو قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا} الآية [الأنعام: 136]. فهذا تشريع كالمذكور قبل هذا ثم قال: ¬

_ (¬1) الصارم المسلول ص 165 - 170. [المؤلف]

{وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ} الآية [الأنعام: 137]، وهو تشريع أيضًا بالرأي مثل الأول، ثم قال: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا [621] يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ} [الأنعام: 138] إلى آخرها. فحاصل الأمر أنهم قتلوا أولادهم بغير علم وحرَّموا ما أعطاهم الله من الرزق بالرأي على جهة التشريع، فلذلك قال تعالى: {قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [الأنعام: 140]. ثم قال تعالى بعد تعزيرهم على هذه المحرّمات التي حرَّموها وهي ما في قوله: {قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ} [الأنعام: 143]: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 144]، وقوله: {لَا يَهْدِي} يعني أنه يُضلُّه" (¬1). وقال ابن حجر الهيتميّ في كتابه (الإعلام بقواطع الإسلام): "ووقع قريبًا أن أميرًا بني بيتًا عظيمًا فدخله بعض المجازفين من أهل مكة فقال: "قال صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد" (¬2)، ¬

_ (¬1) الاعتصام 1/ 175 - 176. [المؤلف] (¬2) أخرجه البخاريّ في كتاب فضل الصلاة في مسجد مكَّة والمدينة، باب فضل الصلاة في مسجد مكَّة والمدينة، 2/ 60، ح 1189، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وفي الكتاب المذكور، باب مسجد بيت المقدس، 2/ 61، ح 1197، من حديث أبي سعيدٍ رضي الله عنه. ومسلمٌ في كتاب الحجَّ، باب سفر المرأة مع محرمٍ إلى حجًّ =

وأنا أقول: وتُشدُّ الرحال إلى هذا البيت أيضًا". وقد سئلْتُ عن ذلك، والذي يتجه ويتحرّر فيه أنه بالنسبة لقواعد الحنفيّة والمالكية وتشديداتهم يكفر بذلك عندهم مطلقًا. وأما بالنسبة لقواعدنا وما عُرف من كلام أئمتنا السابق واللاحق فظاهر هذا اللفظ أنه استدراك على حصره صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وأنه ساخرٌ به، وأنه شرع شرعًا آخر غير ما شرعه نبيّنا صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وأنه ألحق هذا البيت بتلك المساجد الثلاثة في الاختصاص عن بقية المساجد بهذه المزيّة العظيمة التي هي التقرّب إلى الله بشدّ الرحال إليها. وكلّ واحد من هذه المقاصد الأربعة التي دلّ عليها هذا اللفظ القبيح الشنيع كفر بلا مرية، فمتى قصد أحدها فلا نزاع في كفره، وإن أطلق فالذي يتجه الكفرُ أيضًا لما علمت أن اللفظ ظاهرٌ في الكفر، وعند ظهور اللفظ فيه لا يحتاج إلى نية ... وإن تأوَّل بأنه لم يُرِدْ إلا أن هذا البيت لكونه أعجوبة يكون ذلك سببًا لمجيء الناس إلى رؤيته .... قُبِل منه ذلك، ومع ذلك فيعزر التعزير البليغ بالضرب والحبس وغيرهما بحسب ما يراه الحاكم، بل لو رأى إفضاء التعزير إلى القتل - كما سيأتي عن أبي يوسف - لأراح الناس من شرِّه ومجازفته؛ فإنه بلغ فيهما الغاية القصوى، تاب الله علينا وعليه، آمين" (¬1). واعلم أن ما قدَّمته من أن صاحب البدعة قد يكون مأجورًا عليها خاص بما إذا كان عالمًا قامت عنده شبهة قوية حملته على ظن أن تلك البدعة سنة، وقد بذل وسعه في البحث والنظر فلم يجد ما يدفع ذلك عنه، وإذا كانت تلك المسألة مما أمر الشرع بإخفائه حذر الفتنة اشترط أيضًا ألَّا يكون ذلك ¬

_ = وغيره, 4/ 102، ح 827، من حديث أبي سعيدٍ رضي الله عنه. (¬1) الإعلام ص 36. [المؤلف]

العالم معلنًا به. فأما الجاهل فإنما يمكن أن يكون مأجورًا على البدعة إذا كان قَلَّد فيها مَن يعتقد فيه العلم، ولم يقصِّر في الاختيار، ولا تبين له ضعف قوله، ولا ترك الاحتياط، فإذا اختلَّ شيء من هذا فقد صرح العلماء بأنه يكون آثمًا لتقصيره، على تردّدٍ من بعضهم في بعض ذلك، إلا أنه لا يُحكم عليه بالكفر أو الشرك حتى تقام عليه الحجة. وعندي تردُّد فيمن ترك الاحتياط، كأن يسمع من بعض العلماء أن هذا الفعل مستحب ويسمع من آخر أن هذا الفعل ليس بمستحب بل هو شرك، فإذا أقدم مثل [622] هذا على ذلك الفعل ألا يُحْكَم عليه بالشرك؟ وقد نصَّ العلماء أن مَن أقدم على ما يظنه كفرًا (¬1) يكفر، وإن لم يكن ذلك الشيء كفرًا في نفس الأمر. وفي الهداية وشرحها من كتب الحنفية: "وإن قال: إن فعلت كذا فهو يهودي أو نصراني أو كافر يكون يمينًا؛ لأنه .... ولو قال ذلك لشيء قد فعله فهو الغموس، ولا يكفر، اعتبارًا بالمستقبل. وقيل: يكفر؛ لأنه تنجيزٌ معنًى، كما إذا قال: هو يهودي. والصحيح أنه لا يكفر فيهما إن كان يعلم أنه يمين، فإن كان عنده أنه يكفر بالحلف يكفر فيهما؛ لأنه رضي بالكفر حيث أقدم على الفعل". قال المحشَّي: "قوله: (يكفر فيهما)؛ لأنه لما أقدم على ذلك الفعل وعنده أنه يكفر فقد رضي بالكفر". اهـ (¬2). ¬

_ (¬1) في الأصل: كفر. (¬2) العناية [للبابرتي] شرح الهداية [للمرغيناني] 2/ 191. [المؤلف]

فصل

نعم قد يترجَّح عذره في بعض الأحوال، كأن نشأ بقطر اتفق مَن به من المنتسبين إلى العلم على أن ذلك الفعل مستحب، وإنما بلغه أنه شرك عن رجل ببلد آخر وعلماء ذلك القطر يردُّون عليه ويخطِّئونه ويشدِّدون النكير عليه، وليس لهذا العامي مُكنةٌ في البحث والنظر. والله المستعان. فصل إذا تقرَّر أنَّ السلطان الفارق بين عبادة الله تعالى وعبادة غيره قد يكون ظنيًّا في نفسه ولكنه يستند إلى أصل قطعي؛ فإنه يدخل فيه سائر الأدلة التي يحتج بها الأئمة المجتهدون، على ما هو مبسوط في أصول الفقه. وما اختلف فيه منها أدليل هو أم لا فالمدار على ما ترجح أو قامت به الحجة. فمن احتج بدلالة الاقتران مثلاً على فعل بأنه عبادة، فإن كان قد نظر في الأصول وترجح له بأن دلالة الاقتران حجة فهي سلطان في حقه حتى تقام الحجة عليه بأن دلالة الاقتران ليست بحجة. وهكذا من تمسك بدليل صالح في نفسه ولكنه عارضه ما هو أقوى منه فإنه على سلطان حتى يعلم بالمعارض وتقوم عليه الحجة بأن المعارض أقوى. وهكذا من كان له معرفة بالكتاب والسنة ففهم من آية أو حديث معنى فهو سلطان له حتى تقوم عليه الحجة بخطئه في فهمه أو بوجود معارض لِما فَهِمَه أقوى منه. وكذلك مَن كان له معرفة بالحديث ورجاله فظهر له صحة حديث فهو سلطان له حتى تقام عليه الحجة بضعف ذلك الحديث أو بأنه عارضه ما هو أقوى منه. والحاصل: أن السلطان هو الحجة التي يُحْتَجُّ بها في فروع [623] الفقه، فكل حجة في فروع الفقه سلطان. حتى التقليد في حق العامي فهو سلطان له حتى تقام عليه الحجة بأن

فصل

مقلَّده ليس بمرتبة الإمامة أو تقام الحجة على خطئه. نعم، ينبغي للمقلد الاحتياط في مواضع الاختلاف، إلا إن تبين له أن قول من خالف إمامه ضعيفٌ جدًّا، أو يكون استناده في ظن ضعفه إلى أمر ظاهر لا إلى التعصب المحض؛ فإن كثيرًا من المقلدين يتوهمون أن إمامهم معصوم، ويستضعفون دلالة الكتاب والسنة وأقوال أكابر الصحابة وأكثر الأئمة إذا كان قول إمامهم مخالفًا لذلك. وهذا هوىً محضٌ، إنما حملهم عليه محبة أنفسهم، تقول لأحدهم نفسُه: أنت مقلد لهذا الرجل متبع له، فإذا توهَّمْتَ فيه نقصًا فقد توهَّمْتَ النقص في نفسك، فينبغي لك أن تطرد عن فهمك كل ما يفهم منه نقص إمامك، وهذا باب واسع يُكْتفى بالإشارة إليه. والله الموفق. وقد قدمنا في أوائل الرسالة فصولًا فيما يتمسك به بعض الناس ويظنه دليلًا وليس بدليلٍ، فارجع إليه. فصل الأمور الدينية تنقسم إلى قسمين: [معاملات وعبادات] (¬1)، والعبادات على ضربين: الأول: ما هو تعظيمٌ لله عزَّ وجلَّ بلا واسطة كالصوم. الثاني: ما هو خضوعٌ له سبحانه ولكن بواسطة احترام مخلوقٍ كتقبيل الحجر الأسود وإكرام الأبوين وغير ذلك. فالقسم الأول والضرب الأول من القسم الثاني يشق على العامّيّ الاحتياط فيه مشقة شديدة؛ لأنه يلزم من ذلك أن يُشَدَّد عليه أشدَّ مما يشدد ¬

_ (¬1) في الأصل: (عبادات ومعاملات)، والمثبت هو المناسب لكلامه الآتي.

على العالم، فيُمْنَع من كثيرٍ من المصالح الدنيوية لا يُمْنَع منها العالِم، ويُلْزَم بكثير من الأعمال لا يُلْزَم بها العالِم، مع أن المناسب لحال العامة [624] أن يوسَّع عليهم الأمر ويرخَّص لهم أكثر مما يرخَّص للعلماء، فلذلك لم يوجب العلماء على العامة الاحتياط فيما ذكر. فأما الضرب الثاني من القسم الثاني أعني ما كان من العبادات هو في الصورة احترام مخلوق، فأرى أنه يجب فيه الاحتياط؛ لأمور: الأول: أنه وإن تقدم أن البدع كلَّها تؤول إلى الكفر والشرك، فهذا الضرب أعني ما فيه تعظيم لمخلوقٍ أصرحُ في ذلك من غيره، فإن ما عداه إنما يحتمل الشرك لأنه يؤول إليه، وذلك من جهة كونه طاعة للرؤساء وللشيطان والهوى في شرع الدين، والطاعة تعظيم. الثاني: أنه لا مشقة على العامّيِّ في اجتناب ذلك، بل فيه تخفيف عليه بخلاف ما عداه. الثالث: أنه قد كثر في القرون المتأخرة ابتداع التديُّن بتعظيم المخلوقين أكثر مما عداه. الرابع: أن عامَّة الاختلافات في القسم الأول والضرب الأول من القسم الثاني قد وقع بين السلف من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين. وأكثر ما اختلف فيه من تعظيم المخلوق لم يثبت عن السلف، وإنما اخترعه أفراد من الخلف لم يبلغوا رتبة الاجتهاد، ومثلُ ذلك بدعة قطعًا لسَبْقِ الإجماع على تركه المستلزم الإجماع على أنه ليس من الدين، ولأن المحدِثَ له ليس ممن يجوز تقليده.

تقسيم الكفر إلى ضربين

ولا يَغُرَّنَّك ذِكْرُ مَنْ يدَّعي العلم من أنصار البدع آية من كتاب الله أو حديثًا عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أو حكاية عن بعض السلف؛ فإنه قد كثر من هؤلاء القوم تحريف الآيات القرآنية وتفسيرُها بالهوى على خلاف التفسير الذي يثبت بالحجج الصحيحة, وكذلك يفعلون في تفسير الأحاديث الصحيحة, ويعتمدون على الأحاديث الضعيفة أو المكذوبة، وكذلك يحرِّفون الآثار الثابتة عن السلف ويعتمدون [625] على الآثار التي لم تثبت أو هي مكذوبة. والعجب من هؤلاء القوم أنهم إذا نوقشوا في بعض المسائل المختلف فيها بين المذاهب وأقيمت عليهم الحجة بآية من كتاب الله أو حديث صحيح كان آخر قولهم: إنه ليس لنا أن نخالف مذهبنا لذلك؛ لأنا قاصرون عن معرفة الدليل، ولعل إمامنا فَهِمَ غَيرَ مَا فَهِمَ غيرُه من الأئمة أو كان عنده دليل يعارض ذلك. وإذا نوقشوا في بدعة لم يقل بها إمامهم ولا غيره من السلف فتحوا باب الاجتهاد على مصراعيه فأخذوا يحرِّفون الآيات والأحاديث الصحيحة والآثار الثابتة ويتبعون الأحاديث والآثار الواهية والمكذوبة، وعند التحقيق لا عجب أن هؤلاء القوم إنما يتبعون هواهم. والله المستعان. تقسيم الكفر إلى ضربين اعلم أن القرآن يقسم الكفر إلى ضربين: الكذب على الله والتكذيب بآياته، والآيات في ذلك كثيرة، منها: قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [العنكبوت: 68]

وقوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [الزمر: 32]. وقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام: 21]. فالشرك كله كذب على الله في أن له شريكًا، أو أنه عزَّ وجلَّ يرضى أن تُدْعَى الملائكة [626] ونحوهم، أو أنه شرع اتخاذ البحيرة والسائبة ونحوهما، أو أنه حرّم ما في بطون الأنعام على النساء وأحلّه للرجال وغير ذلك. والكفر كله تكذيب لآيات الله، ولذلك حصر المتكلمون الكفر في تكذيب الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم. وأنت إذا أحطت خُبْرًا بما تقدم في هذه الرسالة علمت أن الشرك والكفر متلازمان؛ فإن التكذيب بآيات الله طاعة في الدين للرؤساء والهوى والشيطان، وتلك عبادة كما مرّ، إلا أنه في بعض المواضع قد يخفى كون الأمر شركًا، وذلك فيما كان طاعة للرؤساء أو الشيطان أو الهوى. ولهذا كان المشركون يعرفون أنهم مشركون بتعظيم الملائكة والأصنام، ولذلك كانوا يسمونها آلهة ويسمون تعظيمها عبادة، ولم يعرف اليهود أنهم مشركون بطاعتهم في الدِّين لأحبارهم ورهبانهم للشيطان وللهوى. وقد بيَّن القرآن أن الكذب على الله شرك سواء أكان الكاذب يعلم أنه كاذب أم لا، بل يكفي في ذلك أنه قال على الله تعالى ما لا سلطان له به، قال تعالى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} [آل عمران: 151].

وقال تعالى حكاية عن الخليل عليه السلام: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا} [الأنعام: 81]. وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [الحج: 71]. [627] وكذلك بيّن أن التكذيب بآيات الله كفر سواء أَعَلِمَ المكذب أنها من عند الله، أم لم يعلم ولكنه لا سلطان له على أنَّ ما كذَّب به كَذِبٌ. فمن الأول فرعون وقومه كما تقدم في الكلام عليهم، وأما الثاني فكثير، وهم أهل الريب والشك. وقد يكون الكذب بالقول فقط كأن يقول رجل: إن الله تعالى يرضى لعباده السجودَ للشمس، وهو يعلم أن الله تعالى لا يرضى ذلك وهو نفسه لا يسجد لها. وقد يكون بالفعل فقط كمن يسجد للشمس وهو يعتقد أنه لا ينبغي السجود لها ويعترف بذلك. وقد يكون بالاعتقاد فقط كمن يعتقد في نفسه أن الله تعالى يرضى السجود للشمس ولكنه لا يتكلم بذلك ولا يعمل به. وقد يكون بالثلاثة معًا أو اثنين منها معًا. وكذلك التكذيب قد يكون باللفظ فقط كمن يقول: إن الله تعالى لم يفرضْ صلاة الظهر، وهو نفسه يُصلِّيها ويعتقد أن الله عزَّ وجلَّ فرضها، وقد يكون بالفعل فقط كمن ألقى مصحفًا في قاذورة. وقد يكون بالاعتقاد فقط كأن يعتقد أن الله تعالى لم يفرض الظهر. وقد يكون بالثلاثة معًا أو اثنين منها معًا.

ونصّ العلماء على تكفير مَنْ كذَّب بآيات الله بقولٍ أو فعلٍ ولو كان على وجه [628] الهَزْل واللَّعِب. ومما يشهد لذلك قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة: 65]. والكذب والتكذيب بالاعتقاد يَصْدُق بما إذا جزم بأن الله تعالى يرضى السجودَ للشمس، أوْ لمَ يفرضْ صلاة الظهر، وما إذا ظن ذلك أو شكّ أو لم يَجْزِم بأن الله لا يرضى السجودَ للشمس، وبأنه فرض صلاة الظهر، هذا بالنسبة إلى ما هو كَذِبٌ قطعًا بأن لم يكن لصاحبه عليه سلطان، وما هو تكذيب قطعًا بأن ثبت قطعًا بأن ذلك الأمر مما جاء به الرسول عن ربه. فأما ما يُظَن أنه كذب كأن كان لصاحبه دليل مختلَف فيه نرى نحن أنه ليس بحجة وقد قال بعض المجتهدين: إنه حجة، وليس هناك برهان قاطع بأنه حجة أو ليس بحجة، فلا يُعَدُّ القول بموجبه كذبًا على الله. وكذلك ما يُظَن أنه تكذيب كهذا المثال، فإن القائل بأن ذلك الدليل حجة يرى أن مخالفه مكذِّب، فلا يُعَدُّ هذا تكذيبًا بآيات الله. فأما الدلائل الظنية المستندة إلى الأصول القطعية كخبر الواحد المستجمع لشرائط القبول فَرَدُّه مع قيام الحجة على استجماعه لها تكذيب لآيات الله تعالى. فإن قلت: أرأيت اليهوديَّ مثلًا إذا دُعِي إلى الإِسلام فبحث ونظر وتدبَّر وتفكّر طالبًا للحق حريصًا على إصابته ولكنه لم يُوَفَّقْ للعلم اليقيني بأن الإِسلام حقٌّ [629] بل قامت لديه شبهة يَعْتَقِد أنها يقينية أن البقاء علي اليهوديّة حقٌّّ، فإذا أسلم كان في اعتقاده كاذبًا على الله عزَّ وجلَّ مكذِّبًا بآياته، فماذا حكمه؟

قلت: قد أجاب القرآن عن هذا بقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 68، 69]. وحاصل الجواب: أن مَنْ بحث ونظر وتدبَّر وتفكّر طالبًا للحق حريصًا على إصابته فهو مجاهد في الله، فلا بدَّ أن يهديه الله عزَّ وجلَّ لمعرفة الحق. وقد أشكل هذا السؤال على الأئمة قديمًا، وهذا جوابه في القرآن كما ترى. فإن قلت: فقد اختلف أكابر الصحابة وأئمة التابعين في فروع الفقه، وقد قدَّمت أن من أقوالهم ما هو خطأ في نفسه وأنه لولا العذر لكان بدعة، وكان صاحبُه مبتدعًا، وأن البدعة شرك، بل قد وقع من بعضهم ما هو أصرح من هذا مما لولا العذر لكان كفرًا كما سيأتي، مع أنَّ أولئك الأكابر كانوا يبحثون وينظرون حريصين على إصابة الحق، أي أنهم قد جاهدوا في الله على وفق ما حَمَلْتَ عليه الآية. [630] قلت: فهذا يدلُّ أنه ليس المراد بهداية السبيل الهدايةَ إلى عين الحق في نفس الأمر، بل الهدايةَ إلى ما يرضي الله عزَّ وجلَّ عن المجتهد ويستحق عليه الأجر، إما أجرين وذلك إذا أصاب الحق في نفس الأمر أو أجرًا واحدًا وذلك إذا أخطأ مع عدم تقصيره، كما جاء في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة وعبد الله بن عمرو قالا: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر" (¬1). ¬

_ (¬1) البخاريّ، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنَّة، باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو =

ولهذا والله أعلم عَبَّر في هذه الآية بلفظ الجمع بقوله: {سُبُلَنَا} فتكون السبل في هذه الآية عبارة عن السبيل الأعظم - وهو الحق في نفس الأمر - وفروع ترجع إليه كما علمت، بخلاف قوله تعالى: {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]، فإن سبيل الله تعالى في هذه الآية عبارة عما يَعُمُّ السبيل الأعظم والفروع التي ترجع إليه، وأما السبل فعبارة عن سبل مستقلة عن سبيله غير راجعة إليه، والسياق يدل على ذلك؛ فإن فيه: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا ... وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 151 - 153]، فالخطاب في هذه الآيات للمشركين يدعوهم إلى الإِسلام؛ فالإِسلام سبيل واحد وللمشركين سبل أخرى، والكلام في آية العنكبوت عامٌّ لكل كاذب ومكذب. فتدبر. [631] والحاصل أن أئمة المسلمين المجتهدين في فروع الإِسلام لم يخرجوا عن سبيل الله تعالى، بل منهم من هو في حق السبيل الأعظم وهو الحق في نفس الأمر، ومنهم من هو في فرع راجع إليه، فكلهم مهديُّون إلى سبل الله عزَّ وجلَّ. وأما اليهود والنصارى والمشركون فهم في سبل أخرى ليست من سُبُل الله تعالى؛ لأنها لا ترجع إلى سبيله الأعظم وصراطه المستقيم، فمن جاهد منهم في الله فلا بدَّ أن يهديه الله إلى سبيله الذي يرضاه وهو الإِسلام، كما قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: ¬

_ = أخطأ، 9/ 108، ح 7352. ومسلم، كتاب الأقضية، باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، 5/ 131 - 132، ح 1716. [المؤلف]

19] , وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]، أما من جاهد في الله من المسلمين ليعلم مسألة فرعية فإن الله يهديه إما إلى حق السبيل وإما إلى فرع يرجع إليه كما مرَّ. واعلم أن خطأ المجتهد المسلم إنما يكون راجعًا إلى سبيل الله ما لم يتبين أنه خطأ، فأما إذا تبين له أو لغيره أنه خطأ فإن ذلك القول ينقطع بذلك عن السبيل الأعظم ولا يرجع إليه، بل يتصل بالسبل الباطلة. وفي صحيح البخاريِّ وغيره عن هزيل بن شرحبيل، قال: سئل أبو موسى عن ابنة وابنة ابن وأخت، فقال: "للبنت النصف، وللأخت النصف، وأت ابن مسعود فسيتابعني". فسئل ابن مسعود، وأُخْبِرَ بقول أبي موسى، فقال: لقد ضللت إذًا وما أنا من المهتدين! أقضي فيها بما قضى النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "للابنة النصف، ولابنة ابن السدس تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت". فأتينا أبا موسى فأخبرناه بقول ابن مسعود، فقال: لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم" (¬1). [632] فلم تكن فتوى أبي موسى أوَّلًا ضلالًا ولا خروجًا عن الهدى؛ لأنه لا يعلم أنها خطأ. وكانت ضلالًا وخروجًا عن الهدى في حق ابن مسعود لو أفتى بها؛ لأنه يعلم أنها خطأ، وهكذا في حق أبي موسى لو أصرّ عليها بعد أن تبين له أنها خطأ، والسبب في هذا ظاهر؛ فإن المجتهد ¬

_ (¬1) البخاريّ، كتاب الفرائض، باب ميراث ابنة ابنٍ مع ابنةٍ، 8/ 151، ح 6736. [المؤلف]

المخطئ قاصدٌ اتباع كتاب الله وسنة رسوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فهو وإن أخطأ بقوله فقد أصاب بقصده. فأما بعد تبين الخطأ فقد انتفى هذا القصد أيضًا وحَلَّ مكانه قصد آخر إن أصرّ على الخطأ، وذلك هو الهوى واتباع الشيطان والرؤساء، فانقطع ذلك الفرع عن سبيل الله عزَّ وجلَّ ورجع إلى السبل الباطلة كما ترى. واعلم أن القاضي إذا اجتهد في قضية وتبين له فيها أن الحق كذا لا يخلو أن يكون ذلك الحكم الذي تبين له هو الحق في نفس الأمر بمقتضى الأدلة الشرعية العامة، أو يكون خطأ، وإذا كان خطأ وكان القاضي عادلا بارًّا مخلصًا لله تعالى فقد يقال: إن الله عزَّ وجلَّ إنما رجَّح في نفسه ذلك الحكم لعلمه سبحانه بأنه الذي تقتضيه الحكمة في تلك القضية خاصة. وبيان ذلك: أن الأحكام العامة إنما يمكن مطابقتها للحكمة بالنسبة إلى الغالب، مثال ذلك: الحكم على الزاني المحصن بالرجم وعلى غيره بالجلد، فقد يمكن في غير الغالب أن يكون محصنٌ أولى بأن يُخَفَّفَ عنه مِنْ بِكْرٍ، كأن يكون الأول شابًّا شديد الشهوة تزوَّج وبات معها ليلة [633] وماتت، وهو فقير لا يستطيع أن يتزوَّج غيرها، وقد ابتُلِيَ بعشق امرأة جميلة وهو يتعفَّف عنها ويتجنَّب رؤيتها، فصادف أن هجمت عليه في خلوة فلم يصبر عنها فوقع عليها، ثم لم يلبث أن ندم. ويكون الثاني شيخًا كبيرًا ضعيف الشهوة غنيًّا عنده عدَّة سَرَارِي، ومع ذلك رأى امرأة قبيحة فاحتال عليها إلى أن زنى بها، ولم يندم. فأنت ترى أن الأول أولى بالتخفيف من الثاني، ولكن لما كانت الأحكام الشرعية عامة لم يمكن أن تراعى فيها الجزئيات، وإنما يراعى فيها الغالب فقط. فإذا وقع ذلك الحكم على من لا

يناسبه فإن البارئ عزَّ وجلَّ يَسُدُّ هذا النقصَ بالقَدَر، فيجعل، لذلك الشاب مثلًا فرجًا ومخرجًا، إما بألَّا يفضحه، وإما بأن يُظْهِرَ في القضية شبهة يقوِّيها في نفس القاضي حتى يترجّح له أن هذا لا يستحقّ الحدَّ، وإما أن يُكَفِّرَ عن ذلك الشاب ذنوبًا أخرى، وإما أن يرفعه درجات في الجنة، إلى غير ذلك. وهذا معنى جليل يحتاج إيضاحه إلى إطالة ليس هذا محلَّها، وهذا المعنى هو السبب أو أحد الأسباب فيما أجمع عليه العلماء أنَّ من شرط القاضي أن يكون مجتهدًا لا يقلِّد أحدًا. فتدبر. وهو أيضًا من أسباب جَعْلِ كثير من أدلة الأحكام الشرعية غير واضحة كلّ الوضوح، ومن أسباب التعبد بخبر الواحد، ومن أسباب قولهم: الاجتهاد لا يُنْقَضُ [634] بالاجتهاد، ومن أسباب قواعدَ شرعيةٍ أخرى ليس هذا محلَّ استيفاء ذكرها. واعلم أن الطالب للحق الحريص عليه عزيز جدًّا كما مرَّ عن الغزالي، والسبب في ذلك أن للهوى مداخل كثيرة، منها: أن يميل الإنسان إلى ما كان عليه أبواه، كما في الحديث الصحيح: "ما من مولودٍ إلاَّ يولد على الفطرة، وأبواه يهودانه أو ينصرانه" الحديث (¬1). ومنها: أن يميل إلى ما كان عليه أستاذه. ومنها: أن يميل إلى ما اعتاده وأَلِفَه. ومنها: أن يميل إلى ما رأى عليه مَن يحبه أو يعظمه. ومنها: أن يميل ¬

_ (¬1) البخاريّ، كتاب القدر، باب: "الله أعلم بما كانوا عاملين"، 8/ 123، ح 6599. مسلم، كتاب القدر، باب معنى: "كلُّ مولودٍ يولد على الفطرة"، 8/ 52، ح 2658. [المؤلف]

عما رأى عليه مَن يبغضه أو يستحقره، قال تعالى: {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} [هود: 27]، وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 13]. ومنها: أن يميل إلى ما وقع في ذهنه أوَّلاً، فيصعب على نفسه أن تعترف أنها أخطأت أوَّلًا، ولا سيما إذا كان قد أظهر قوله الأول. وإذا تمكَّن الهوى عميت البصيرة، فَتُعْرَضُ على صاحبه الحجة النيرة فيرى أنها شبهة فقط، حتى إنه كثيرًا ما يقول: إنها شبهة لا أقدر على حَلَّها، وتُعْرَضُ عليه الشبهة الضعيفة [635] الموافقة لهواه فيرى أنها برهان قاطع. ومسالك الهوى قد تكون خفيَّة جدًّا فيتوهَّم الإنسان أنه لا سلطان للهوى عليه وأنه ممن يجاهد في الله طلبًا للحق أَنَّى كان، مع أنه في الحقيقة على خلاف ذلك، ولولا هذا لما كنت تجد الناس لا يخرجون عن مذاهب آبائهم إِلَّا نادرًا. ولهذا لم يقتصر القرآن على دعوة الناس إلى البحث والنظر فقط، بل أرشدهم مع ذلك إلى أنهم إن لم يتيقنوا أنَّ ما يدعوهم الله (¬1) هو الحق فلا يمنعهم ذلك عن اتَّباعه؛ فإنه أحوط لهم، قال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولعل الرابط المجرور (إليه) سقط سهوًا.

قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ: 43 - 46]. وقال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]. [636] وقال تعالى {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26]. وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأحقاف: 10]. ومن هنا يُعْلَم أن قوله تعالى: {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] لا تقتصر معنى الهداية فيه على تيسير البرهان القاطع، بل يحصل بذلك وبتيسير الدليل الذي يتبين به للناظر أن اتِّباع الإِسلام أحوط له. ولكنه إذا عمل بالأحوط ودخل في الإسلام يسَّر الله تعالى له بعد ذلك ما يُثْلِج صدرَه إن شاء الله تعالى، كما مرّ في تفسير قوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 14]. وهكذا يقال فيمن تردَّد من المسلمين في أمر: أَشركٌ هو أم مستحب أو مباح؟ فإنه قد ينظر ويبحث فلا يتضح له الحق، وإنما ذلك ابتلاء من الله عزَّ وجلَّ له أَيعمل بالقدر الذي ظهر له [637] من الحق وهو الاحتياط أم لا،

الأعذار

فإن عمل به فعسى أن ييسر الله تعالى له ما يوضح له الحق إن شاء الله تعالى. فاشدد يديك بهذا الأمر؛ فإنه إن لم تستقرَّ في يديك فائدة من هذه الرسالة إلا هو (¬1) فقد فزت، وقد مرّ ما يتعلق بهذا في صفحة () (¬2). الأعذار قد تعرَّضت لهذا البحث في مواضع (¬3)، وأريد أن أبسط الكلام عليه ها هنا، مستعينًا بالله تعالى. قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [خاتمة البقرة]. فقوله عزَّ وجلَّ: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} نصٌّ قاطع، وقد جاء نحوه في آيات أخرى، [638] وهو مطابق لما جُبِلَت عليه النفوس وشهدت به بَدائِهُ العقول أنَّ الله سبحانه عدل حكيم رؤوف رحيم. ¬

_ (¬1) المستثنى هو الأمر المذكور آنفًا. (¬2) بيّض المؤلف لرقم الصفحة، وهي ص900 - 901. (¬3) منها فصل حكم الجهل والغلط ص 132 - 143.

وفي صحيح مسلم عن ابن عباس: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}، قال: "نعم"، {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا}، قال: "نعم"، {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ}، قال: "نعم ... "، وفي رواية أخرى: "قد فعلت، قد فعلت" (¬1). ويظهر أنه ليس المراد بالنسيان والخطأ ما لا يكون من العبد فيه تقصير قطعًا، وليس المراد بـ {مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} ما لا نطيقه ولو بذلنا أقصى جهدنا، كأن يلمس أحدُنا الشمس، أو يحمل جبلًا أو يصلَّي في اليوم ألفَ ألفَ ركعة، فإن هذه الأمور قد نُفِيَتْ بقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}، وإنما المراد - والله أعلم -: النسيان والخطأ اللَّذين (¬2) لا يخلو العبد من تقصيرٍ مَّا فيهما، فإننا نجد أحدنا ينسى الصلاة أو ينام عنها حتى يخرج وقتها، ولو قيل له: إذا حضرْتَ اليوم وقت الصبح بباب الملِك حصل لك مال عظيم وهو محتاج لم يفتْه ذلك الوقت، وكذلك نجد المفتيَ إذا سُئِل عن مسألة فيها إراقة دم بذل فيها من الجهد في البحث والنظر ما لا يبذله إذا سئل عن مسألة في البيوع مثلًا. والمراد والله أعلم بـ {مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} ما فيه مشقة شديدة، ويشهد ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ}، 1/ 81، ح 125 - 126. [المؤلف]. لكن الرواية الأولى من حديث أبي هريرة، والرواية الثانية من حديث ابن عبَّاسٍ، وسقط لفظ (ربنا) في الموضع الأخير على المؤلَّف. (¬2) كذا في الأصل.

لهذا قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وقوله سبحانه: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وما في معناها، وقوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "إن الدين يُسْرٌ" الحديث (¬1). وهذا هو الذي فهمه الفقهاء، فقالوا: إنه يُعْفَى عما يَشُقُّ الاحترازُ عنه من النجاسات [639] ونحوها. وقالوا: إن المرأة إذا اشتبهت بأجنبيَّاتٍ غير محصوراتٍ لم يحرم على أبيها مثلًا أن يتزوَّج واحدةً منهنَّ، بل جعلوا هذا المعنى أصلاً من أصول الشريعة، فقالوا: "إن المشقة تجلب التيسير"، ووسَّعوا دائرة الإكراه الذي يبيح إظهار الكفر فلم يحصروه في تَيَقُّنِ القتل إذا لم يعمله. فإن قلت: ولكن النفي في قوله: {مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} يخالف ما ذُكِرَ؛ فإنه نصٌّ في نفي جنس الطاقة. قلت: صدقت، ولكن معنى الطاقة القدرة على الشيء بدون صعوبة شديدة، وقد نبَّه على ذلك الراغبُ، فقال: "فقوله: {مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} أي: ما يصعب علينا مزاولته، وليس المعنى: لا تحمِّلنا ما لا قدرة لنا به ... " (¬2). أقول: ومما يبين ذلك حديث المعراج وهو في الصحيحين وغيرهما من طرقٍ، وفيه مراجعة موسى لمحمَّد عليهما الصلاة والسلام في فرض الصلوات، وقوله له: "إن أمتك لا تستطيع ذلك"، وفي رواياتٍ: لا تطيق ¬

_ (¬1) صحيح البخاريَّ، كتاب الإيمان، بابٌ: الدينُ يسرٌ، 1/ 16، ح 39. [المؤلف] (¬2) المفردات 532.

ذلك، حتى إنه قال له ذلك في خمس صلواتٍ (¬1). ولكن يجب أن تعلم أنه ليس كل نسيان وخطأ معفوًّا؛ فإنَّ مَنْ تشاغل بلهو محرَّم أو مكروه فأنساه الصلاة ليس بمعذور. وكذلك مَنْ سمع آية فَهِمَ منها حُكْمًا، فعمل به، وأفتى، واستمرَّ على ذلك، ولم يتدبَّر القرآن والسنن الثابتة مع احتمال أن يكون فيها ما يخالف فَهْمَه. فكأنَّ النسيان والخطأ إنما يُعذر بهما إذا انتفى التقصيرُ، ولكن التقصير أمر مشتبه؛ فإن العلماء صرَّحوا بأنه يكفي المجتهد أن يبحث حتى يغلب على ظنه أنَّه لا مخالف لما فهمه، وغلبةُ الظن أمر يتفاوت، وهكذا المشقَّة التي إذا وُجِدَتْ في الشيء صدق أنَّه لا يُطاق هي أمر غير منضبط أيضًا، ولكننا نتتبَّع أمثلةً مما ثبت فيه عُذْرُ مَن جرى منه ما لولا العذرُ لكان كفرًا، فأقول: قد سبق أنَّ الكفر كلَّه يرجع إلى الكذب على الله تعالى والتكذيب بآياته. [640] فمِمَّن يُعْذَر إجماعًا مَنْ كَذَبَ على الله تعالى بقوله فقط بسبق اللسان، كما تقدَّم في الحديث الصحيح، "فقل: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح"، وقد تقدَّم (¬2). ومَن تلا آية كان يعتقد أنه يحفظها فزاد فيها أو نقص أو غيَّر شيئًا فيها على سبيل الخطأ، فإذا نُبَّهَ اعترف بأنَّه أخطأ، ومثل هذا في الأحاديث. ومَن أُكْرِه وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان بشرط ألَّا يظهر منه ما يدلُّ على ¬

_ (¬1) انظر: صحيح البخاريِّ، كتاب الصلاة، بابٌ: كيف فُرِضَت الصلاة في الإسراء؟ 1/ 79، ح 349. وصحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان، باب الإسراء بالرسول، 1/ 103، ح 163. [المؤلف] (¬2) انظر ص 856.

الاختيار، بخلاف مَن ظهر منه ذلك، كما تقدَّم فيمن بقي بمكة من المسلمين بعد الأمر بالهجرة، وهو قويٌّ (¬1). وَمَن حَكَى كَلامَ غيرِه مصرِّحًا بذلك، كمن يتلو قول الله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 30]، على أنَّ الحاكيَ لا يُطلَق عليه أنه كَذَبَ. ومثله مَن يحكي كلامًا لغيره ثم يردفه باعتراضٍ عليه، كأن يقول: مِن لازِمِ هذا القول أن يكون الله تعالى كذا ويذكر وصفًا مُحالًا. وكذلك مَن يَفْرِضُ اعتراضًا ليجيب عنه كأن يقول: فإن قيل: إنَّ الله تعالى يرضى أن تُعبد الملائكة معه لأنهم مقرَّبون لديه فالجواب .... وربما يظهر عذرُ مَنْ كان قريب عهد بالإِسلام أو عاش ببادية بعيدة عن العلماء إذا نطق بكذبٍ على الله تعالى على سبيل الضحك واللعب ظانًّا أنَّ مِثل ذلك لا يكون كفرًا، كما يُحْكَى أنَّ عدنانيًّا افتخر على قحطانيٍّ قائلًا له: محمَّد من عدنان، فأجابه القحطاني قائلاً: الله من قحطان، تعالى الله عما قال. لكنه إذا قيل [641] بالعذر يشتبه الحال فيمن كان مسلمًا بالغًا قد مضت له بعد بلوغه مدَّةٌ تمكَّن فيها من التعلُّم، على أنَّ في عذر قريبِ العهد بالإِسلام ونحوه نظرًا؛ لأنَّه يعلم أنَّ قوله كذبٌ وأنَّ في ذلك الكذب سوءَ أدب وانتهاكَ حُرْمَة، وإن لم يعلم أنَّه يبلغ الكفر، فالله أعلم. وممن يُعْذَرُ إجماعًا ممن كذب على الله تعالى بفعله فقط: مَن أُكْرِه وقلبه مطمئن بالإيمان بالشرط المتقدم، ومَن أخطأ كأعمى تلا آية سجدة ¬

_ (¬1) راجع ص 84 - 87.

فسجد إلى جهة يظنها القبلة وكان أمامه صَنَمٌ يَظْهَرُ لمن يَرَى أنَّ السجدة للصنم. ويظهر لي عذرُ مَنْ رأى تمثالًا يشبه صورةَ وَلَدٍ له غائب فاعتنق التمثال وَقَبَّلَهُ بداعي الشوق إلى ولده فقط، فإن كان يعلم أن ذلك التمثال صنم يُعبد ففي قَبُول عذره نظر. وهكذا مَن كان قريب عهد بالإسلام أو عاش ببادية بعيدًا عن العلماء إذا سجد أمام صنم مثلًا على سبيل الهزل والاستهزاء كما مَرَّ نظيرُه في الكذب بالقول. وممن يُعْذَرُ ممن كذب على الله تعالى باعتقاده: المجتهدُ في الفروع إذا اجتهد فظهر له ما ظنَّه سلطانًا على حُكْمٍ فاعتقده، وكذا مَن قلَّده بشرطه المتقدِّم فيما مرَّ في الكلام على البدع (¬1). وكذلك يُعْذَرُ مَن كان قريب عهد بالإسلام إذا توهَّم جواز شيءٍ مخالفٍ لشهادة أن لا إله إلا الله مخالفةً غير صريحة، كما مَرَّ في قول بني إسرائيل: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138]، وقال بعض المسلمين للنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: اجعل لنا ذات أنواط، وقد تقدَّم (¬2) حديث: "اتقوا هذا الشرك؛ فإنه أخفى من دبيب النمل". وليس من الشرك الذي عُذِرَ صاحِبُهُ استئذانُ قيس بن سعد النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم [642] في السجود له، وقد تقدَّم الحديث (¬3)؛ لأنه رأى ¬

_ (¬1) ص 883 - 888. (¬2) انظر ص 143 فما بعدها. (¬3) لم أقف عليه فيما سبق، وإنما وقفت عليه في كتابه "تحقيق الكلام في المسائل الثلاث" في مبحث التبرك ص 238، ونص الحديث "عن قيس بن سعد قال: أتيت الحيرة ... فرأيتهم يسجدون لمَرْزُبان لهم فقلت: رسول الله أحق أن يسجد له. قال: =

قومًا من الأعاجم يسجدون لمرزبان لهم فرأى أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أحق بأن يُسْجَدَ له؛ فإنَّ السجود للمخلوق إنما ينافي معنى: (لا إله إلا الله) إذا لم يأذن به الله، وقيسٌ لم يسجد، وإنما سأل النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، ولو أذن له لدلَّ ذلك على الإذن من الله عزَّ وجلَّ، وكذا يقال فيما جاء من الأحاديث في معنى حديث قيسٍ. وقد قال ابن القيم في النونية (¬1): تالله لو يرضى النبي سجودنا ... كنا نخر له على الأذقان وكذلك يُعْذَرُ مَنْ اشتبه عليه معنى: لا إله إلا الله، بعد القرون الأولى، فظنَّ معناها قاصرًا على نفي وجوب الوجود عن غير الله تعالى، حتى تقوم عليه الحجة، أو يَبْلُغَهُ أنَّ بعض العلماء يُفَسَّرُها على غير ما فهمه، وربما يُعْذَرُ وإن بلغه ذلك إذا رأى علماء جهته يقولون: إنَّه لم يخالف في هذا إلا فلان، وهو جاهل ضالٌّ مبتدع كافر مخالف لإجماع الأمة، ونحو ذلك. فأما إذا اختلف الناس عليه وبلغه أنَّ ذلك المخالف يوافقه جماعة من العلماء والعقلاء ويحتجُّ بكتاب الله وسنة رسوله فإنه لا يُعذر فيما يظهر. ومما يَدُلُّ على هذا قول الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ¬

_ = فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: إني أتيت الحِيرة فرأيتهم يسجدون لمَرْزُبان لهم فأنت يا رسول الله أحق أن نسجد لك! قال: "أرأيت لو مررتَ بقبري أكنتَ تسجد له". قال: قلت لا. قال: "فلا تفعلوا لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرتُ النساء أن يسجدن لأزواجهن لما جعل الله لهم عليهن من الحق". رواه أبو داود في سننه، كتاب النكاح باب في حق الزوج على المرأة 2/ 244 ح 2140. (¬1) الكافية الشافية 247.

مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [الشورى: 16]. فقوله: {مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ} مفهومه أنَّ الحال قبل الاستجابة كان بخلاف ذلك، ووجهه فيما يظهر أن مَن كان بعيدًا عن الحجاز فبلغه أنَّ رجلاً بمكة [643]، يزعم أن الله أرسله، والناس كلهم حتى أقاربه مطبقون على تكذيبه ويقولون: هو مجنون ومسحور ونحو ذلك، فإنَّ هذا البعيد قد يغلبه تصديق الجمهور مع ما عنده من الشبهة، فربما يُعذر بذلك. فأما بعد ما استجيب للنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فآمن به جماعة واتبعوه وفارقوا دين آبائهم وعَادَوْا أهليهم وأحبائهم وعرَّضوا أنفسهم وأموالهم للتلف فلم يبق عذر لهذا البعيد، وإن كان له شبه, بل تَعَيَّن عليه أن يأتي النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ويسمع كلامه ويتدبَّر ما يقوله بنية خالصة صادقة؛ فإنه إن فعل ذلك تبين له الحق بمقتضى قول الله عزَّ وجلَّ: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] على ما تقدَّم. نعم، مَن لم يبلغه الاستجابة فربما يُعْذَرُ، وعليه يُحْمَلُ قول الغزالي في فيصل التفرقة (¬1): "وصنف بلغهم اسم محمد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، ولم يبلغهم مبعثه (¬2) ولا صفته، بل سمعوا أن كذَّابًا يقال له فلان، ادّعى النبوة، فهؤلاء عندي من الصنف الأول" - أي من الذين لم يسمعوا اسمه أصلاً - فإنهم لم يسمعوا ما يحرَّك داعية النظر. ¬

_ (¬1) ص 84. نشرة محمود بيجو. (¬2) في مطبوعة فيصل التفرقة: نعته. وهو الصواب.

وسِرُّ المسألة أنَّ البعيد عن الحجاز ليس عنده برهان على بطلان دعوى النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم حتى لا يلزمه السفرُ إليه، وسماعُ كلامه، ولكن إطباق الناس على تكذيبه شبهة قوية، فإذا تبعه [644] جماعة وآمنوا به وصدّقوه سقطت هذه الشبهة. فأما مَنْ بلغه من المسلمين في هذا الزمان أن رجلاً ادّعى النبوّة وتبعه آلاف من الناس فإنَّه لا يلزمه إتيانُه وسماعُ كلامه وتدبُّر ما يقول؛ لأن عندنا براهينَ قطعيةً على كذب مثل هذا المدَّعي، ولو اتبعه الثقلان. ولعله يُعْذَر مَنْ بلغه أنَّ العلماء اختلفوا ولم يمكنه التفرُّغ للنظر والتفكر في حجج الفريقين، ولكن إنما يُرجى عذره فيما عدا الأمور التي يتوقَّف القطع بأنه لا إله إلا الله على القطع بها، وقد مَرَّ بيان ذلك (¬1)، فلا يُرْجَى عذرُه إلا بالنسبة إلى الأمور التي يكفي فيها الدليل الظني المستند إلى أصل قطعي، ولكن عليه أن يحتاط فيجتنب الأمور المختلف فيها. فإن قلت: إن جميع الفروع الشرعية المختلف فيها تدخل في هذا القبيل كما تقدم، وقد مضى سلف الأمة وخلفها على أنه يكفي العامي تقليد مجتهد، ولا يجب عليه الاحتياط. قلت: قد تقدَّم القول في هذا في ص (¬2). وإذا قلنا بأنه يرجى أن يعذر هذا الرجل إذا احتاط فمعنى ذلك أنه إذا لم ¬

_ (¬1) وهي القطع بأنه لا مدبر في الكون استقلالاً إلاَّ الله، وأنه لا مستحق للعبادة إلا الله عزَّ وجلَّ، والعلم بحقيقة العبادة. انظر ص 876. (¬2) بيَّض المؤلَّف لرقم الصفحة، وهي ص900.

يحتط لا يُرجى عذره. وكذلك أقول، على معنى أني لا أرجو له ألَّا يأثم, فأما الحكم عليه بأنه يكون كافرًا أو مشركًا فإني أدع الأمر في ذلك إلى نظرك. واعلم أن كثيرًا من البلدان إلى الآن يتبيَّن أن أهلها معذورون وإن لم يحتاطوا؛ فإنك تجد أكثر نواحي اليمن مثلًا [645] لم يبلغهم في هذه المسائل أكثرُ من أنَّ رجلاً يقال له محمد بن عبد الوهاب نَبغَ بِنَجْدٍ، وكَفَّرَ سلف الأمَّة وخَلَفها، وخرق الإجماع، وزعم أنَّ العصا أفضل من النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، واستحلَّ دماء المسلمين، وليس له حجَّة إلا أنه يحرِّف الآيات القرآنية والأحاديث النبوية إلى هواه، وأنه كان رجلاً جاهلاً لا يعرف العربية ولا المعاني والبيان، ولا أخذ العلم عن العلماء، وأنَّ العلماء كلَّهم أنكروا عليه وكفَّروه، حتى أبوه وأخوه، وإنما اتبعه أعراب جفاة غَرَضُهُمْ من اتِّباعه استحلالُ دماء المسلمين وأموالهِم، وأنهم يبغضون النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وأنهم إذا تشهَّدوا قالوا: أشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا يقولون: وأشهد أنَّ محمدًا رسول الله، وأنهم أرادوا أن يمنعوا (أشهد أنَّ محمدًا رسول الله) من الأذان، ولكنهم خافوا من افتضاح عقيدتهم فأبقوها، وأنهم إذا دخلوا قرية قتلوا الرجال والنساء والصبيان، وتحَرَّوا بالقتل خاصَّةً مَنْ يُنْسَبُ إلى العلم والصَّلاح، وإذا طلب منهم أحد من علماء المسلمين أن يناظروه قالوا: ليس عندنا إلاَّ السيف، وإذا احتجَّ عليهم أحد بكتاب الله وسنة رسوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قالوا: حسبنا ما قاله الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وأشباه هذه الحكايات، يزعم نَقَلَتُهَا بألسنتهم أو في كتبهم أنها [646] متواترة لا ريب فيها. وإن ظفر بعضُ طلبة العلم في تلك الجهات - أعني أكثر نواحي اليمن -

بنسبة الخلاف في تلك الأمور إلى ابن تيميَّة فمقرونًا بتكفير ابن تيميَّة وتضليله، وأنه كان يبغض النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وابنَ عمه عليًّا عليه السلام، وأنه كان يقول: إنَّ الله تعالى شخص مثل الإنسان جالس على العرش، وأنه قال: إنَّ العرش قديم، وأنه خرق الإجماع في نحو عشرين مسألة، وأنَّ علماء المسلمين في عصره أجمعوا على تكفيره وأفتوا بقتله، ولكن امتنع السلطان حينئذ من قتله واكتفى بسجنه إلى أن مات. فأمَّا بعد دخول السعودَّيين الحجاز فإنها لا تزال تُرْوَى عنهم كلَّ سنة حكايات شنيعة جدًّا. وحبَّذا لو أنَّ الحكومة السعودية توعز إلى أصدقائها في كلِّ جهة من جهات العالم أن يكتب إليها كلٌّ منهم كُلَّ سنة بما يقوله الحجّاج وغيرهم عن الحجاز وأهله وحكومته، ثم تنظر في ذلك، فما كان صحيحًا ولها عذر بَيَّنَتْه، وما كان صحيحًا ولا عذر عنه تداركتْه، وما كان كذبًا أعلنت تكذيبه. والمقصود هنا إيضاح أنَّ كثيرًا من البلاد الإسلاميَّة المنتشرة فيها البدع معذورون، والله أعلم. فإن قلت: كيف يُعْذر مَن وقع عنه عَمَلٌ من أعمال الشرك، وقد قال تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48, 116]؟ قلت: [647] مَن صَحَّ عُذْرُه لا يصدق عليه أنَّه أشرك، كما أنَّ مَن تزوَّجَ امرأة لا يشعر بأن بينه وبينها مَحْرَمِيَّة، فبانت أنها أخته من الرضاع مثلاً، لا يصدُق عليه بأنه زنى بأخته، لكن لو أراد أن يتزَّوج امرأة فقال له قائل: إنها أختك من الرضاع، وكثير من الناس يعلمون ذلك لو سألتَهُمْ أخبروك، فأبى

أن يسأل وأقدم على نكاحها لم يكن معذورًا. وممن يُعْذَر ممن كذَّب بآية من آيات الله: مَن سبق لسانُه إلى لفظٍ فيه تكذيب، وَمَن أُكْرِه وقلبه مطمئن بالإيمان بالشرط السابق، ومَن ظنَّ أنها ليست من عند الله وكان له عذر في ظنِّه، مثل أن يكون قارئًا للقرآن يظنُّ أنه إذا تُلِيَتْ عليه آية من القرآن لا يشتبه عليه أنها منه، فتُلِيت عليه آية فظنَّ زيادةَ كلمة أو نقصانَها فجزم بذلك خطأً على شرطِ أَنَّهُ إذا رُوجِعَ وَبُيَّنَ له غَلَطُه رَجَعَ. ومن هذا القبيل ما وقع لابن مسعود من إنكار أن تكون المعوِّذتان من القرآن، وذلك أنه صحب النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم طويلًا وقرأ عليه القرآن فلم يَتَّفِقْ له أن يُقرئه النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم المعوِّذتين على أنهما من القرآن، ولا ذكر أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قرأ بهما في الصلاة، وإنما سمع النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يعوَّذ بهما الحسن والحسين عليهما السلام مع أمور أخرى تجمَّعَتْ عنده وقويت في نفسه حتى ظَنَّ ما ظَنَّ (¬1). ونحن على يقينٍ أنه لو اتَّفَقَ مراجعةُ جماعة من الصحابة له بحيث [648] يكون خبرُهم قطعيًّا لرجع. وقد وقع لأفرادٍ من الصحابة مثل ما وقع لابن مسعود, وقد جاء عن أُبَيّ بن كعب أنه كان في مصحفه أشياء ليست عند جمهور الصحابة من القرآن؛ لأنهم علموا أنَّ تلاوتها نُسِخت. وفي صحيح البخاريِّ وغيره عن ابن عباس قال: قال عمر رضي الله عنه: أقرؤنا أُبيٌّ، وأقضانا عَلِيٌّ، وإنا لَنَدَعُ ¬

_ (¬1) انظر: فتح الباري 8/ 525 - 526. [لمؤلف]

من قول أُبَيًّ، وذاك أن أُبَيًّا يقول: لا أَدَعُ شيئًا سمعته من رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وقد قال تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} (¬1). وقد اختلفت الأمَّة في {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} , واتفقت على عذر المثبت والنافي، وقد جرى لعمر وأُبيًّ وابن مسعود وغيرهم إنكارُ قراءة مَن قرأ مخالفًا لما أقرأهم النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم حتى بَيَّنَ لهم النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أنَّ تلك القراءات كلَّها حق، فأما عمر وابن مسعود وغيرهما فاكتفوا بذلك (¬2). وأما أُبَيٌّ فَعَرَضَ له ما تقدَّم أوائلَ الرسالة (¬3) حيث قال: فسقط في نفسي من التكذيب ولا إذ كنتُ في الجاهلية، فلما رأى رسولُ الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ما قد غَشِيَنِي ضرب في صدري فَفِضْتُ عَرَقًا، وكأنما أنظر إلى الله فَرَقًا (¬4) "، وذكر الحديث (¬5). ¬

_ (¬1) البخاريّ، كتاب التفسير، سورة البقرة، باب قوله: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} , 6/ 19، ح 4481. [المؤلف] (¬2) انظر: البخاريّ، كتاب فضائل القرآن، بابٌ: "أنزل القرآن على سبعة أحرفٍ"، 6/ 185، ح 4992. وباب: "اقرأوا القرآن ما ائتلفت قلوبكم"، 6/ 198، ح 5062. وصحيح مسلمٍ، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب بيان أن القرآن على سبعة أحرفٍ ... ، 3/ 202 - 203، ح 818. [لمؤلف] (¬3) ص 32. (¬4) أي: فزَعًا. (¬5) صحيح مسلمٍ، الموضع السابق، 2/ 202 - 203، ح 820.

قال الأُبَّيُّ (¬1) في شرح مسلم بعد أن نقل كلام المازَري (¬2) ثم كلام القرطبي: "قلت: وكلامه وكلام غيره قاضٍ بأنهم حملوا الحديث على أنَّ معناه: فوقع في نفسي من تكذيبي إيَّاه لتصويبه قراءة الرجلين أكثر من تكذيبي إيَّاه قبل الإسلام، فلذلك أَوَّلُوه بأنَّ الذي وقع في نفسه إنما هو نزغة وَخَطْرَة لا تستقرُّ في النفس، والخَطْرةُ التي لا تستقرُّ في النفس غيرُ مؤاخَذٍ بها؛ لأنه لا يقدر على دفعها"، ثم ذكر تأويلًا ضعيفًا جدًّا (¬3). وأقول: هذه النزغة ليست من باب الوسوسة التي يلقي بها الشيطان في [649] صدر الإنسان خواطر هو يعلم أنها كذب كما في حديث مسلم عن أبي هريرة قال: جاء ناس من أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم إلى النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلَّم به، قال: "أوَ قد وجدتموه؟ قالوا: نعم، قال: ذاك صريح الإيمان" (¬4)؛ فإنهم فسَّروا هذه الوسوسة بما يلقيه الشيطان في خاطرك وأنت ¬

_ (¬1) محمد بن خليفة بن عمر التونسي الوشتاني أبو عبد الله، محدِّث فقيه توفي سنة 828 هـ, من مؤلفاته: "إكمال المعلم في شرح مسلم". انظر: البدر الطالع 2/ 169، معجم المؤلفين 9/ 287. (¬2) محمد بن علي بن عمر بن محمد التميمي المازري المالكي, ويعرف بالإمام، أبو عبد الله، محدث حافظ فقيه أصولي متكلم أديب، ولد بمدينة المهدية بأفريقية وتوفي بها في ربيع الأول سنة 536 هـ, من تصانيفه: المعلم بفوائد مسلم، وتعليق على المدونة، وشرح التلقين. انظر: سير أعلام النبلاء 20/ 104، معجم المؤلفين 11/ 32. (¬3) 2/ 430. [المؤلف]. وانظر: المعلم 1/ 463 - 464، والمُفهم 2/ 451 - 452. (¬4) صحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان, باب بيان الوسوسة في الإيمان, 1/ 83، ح 132. [المؤلف]

تعلم يقينًا بطلانَهُ، كما جاء في حديث آخر أنه يلقي في خاطر الإنسان: "هذا اللهُ خلق الناسَ فَمَنْ خَلَقَ اللهَ؟ " (¬1)، فإن الإنسان يخطر له خاطر وهو يعلم موقنًا أنَّ الله تعالى خالق كل شيء، وأنه لم يزل ولا يزال. ويُحْكَى أنَّ رجلاً جاء إلى بعض العلماء، فقال له: إنَّ الشيطان قد أضرّ بي، يقول لي: قد طَلَّقْتَ زوجتك، قد طَلَّقْتَ زوجتك. فقال له العالم: أَوَ لَمْ تُطَلِّقْهَا وأنا شاهد؟ قال: لا، والله ما طلَّقتُها. فراجَعه في ذلك، فقال: اتَّقِ الله فِيَّ؛ فإنها والله زوجتي، والله ما طلَّقتها قطُّ. فقال له العالم: فإذا جاءك الشيطان فاحلف له كما حَلَفْتَ لي. هذا معنى القصَّة دون لفظها. والذي عرض لأُبيًّ شيءٌ أَشَدُّ من هذا إذا حُمل الحديث على ما فهموه. وعندي أنَّ المعنى: فسقط في نفسي شيء من التكذيب ليس كالتكذيب إذ كنت في الجاهلية، أي بل دونه؛ فقد اتَّفق أهل اللغة على أنَّ قولهم في المَثَلِ: ماء ولا كصَدَّاء، معناه: هذا ماء جَيِّد، وليس كماء صَدَّاء في الجودة، بل دونه. وكذا قالوا في المثل الآخر: مَرْعىً ولا كالسَّعْدان (¬2). والحكايات التي ذكروها في أصل هذين المثلين صريحة في ذلك، والقواعد تقتضي ذلك. ¬

_ (¬1) صحيح مسلمٍ، الموضع السابق، 1/ 83 - 84، ح 134. [المؤلف] (¬2) صدَّاء: رَكِيَّة لم يكن عندهم ماء أعذب من مائها، وأمَّا السَّعْدان فنبات وعشب تأكله الإبل، ويطيب لبنها عليه، وهو من أفضل مراعيها، فإذا رأوا عَلَفًا دونه قالوا هذه المقالة. يُضرب المثلان للشيء يُفضَّل على أقرانه وأشكاله، وللرجل يُحمد شأنه, ثم يصير إلى آخر أكثر منه وأعلى. انظر المثلين والحكايات في أصلهما في الأمثال لأبي عبيد، ومجمع الأمثال للميداني 2/ 275 - 278.

[650] وعلى هذا فالأمر الذي سقط في نفس أُبيًّ رضي الله تعالى عنه دون تكذيبه إذ كان في الجاهلية، ولكن مع ذلك يظهر لي أنه أَشَدُّ من الوسوسة الفارغة. وفي كلام الأُبَّيَّ ما يؤخذ منه أنَّ العذر مَبْنِيٌّ على مجموع أمرين: الأوَّل: عدم استقرار ذلك العارض. والثاني: عدم القدرة على دفعه. وقد يقال: لماذا لا يكفي عدم القدرة، وقد قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}؟ والجواب: أنه لا يمكن أن يجتمع استقرارُها في النفس مدَّةً طويلةً، وعدم قدرته على الدفع، بل إنما تستقرُّ مدَّةً طويلةً إذا قَصَّرَ في البحث والنظر الصادق، بدليل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} كما مرّ، بخلاف النزغة العارضة فإنها تسبق النظر والمجاهدة. ومما يشهد لهذا قول الله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 200، 201]. وقد تقدَّم في أوائل الرسالة (¬1) الإشارة إلى وقائع أخرى تشبه واقعة أُبَيٍّ رضي الله عنه. ومن الآثار في الأعذار ما جاء أنَّ أَمَةً زنت في عهد عمر بن الخطاب ¬

_ (¬1) ص 32 - 33.

رضي الله عنه، فسألها فاعترفت اعترافًا يظهر منه أنها لم تعلم حرمة الزنا، فاستشار عمرُ أكابر الصحابة فقال له عثمان: إنما الحدُّ على من عَرَفَهُ، وأراها تستهلُّ به (¬1). فيؤخذ من هذا أنهم فهموا أنَّ الأَمَةَ كانت ترى الزنا مباحًا، ومع ذلك عذروها فلم يُكَفَّرُوها ولا حَدُّوها (¬2). ومنها: توهُّم بعض [651] الصحابة في زمن عمر أن الخمر حلال للمتقين المحسنين، واحتجَّ بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ ... لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 90 - 93]. فعذره الصحابة وبيَّنوا له خطأه ولم يكفِّروه، ولكنهم حَدُّوه (¬3). ومنها حديث الصحيحين وغيرهما: "كان رجل يسرف على نفسه فلما حضره الموت قال لبنيه: إذا أنا متُّ فاحرقوني، ثم اطحنوني، ثم ذرُّوني في ¬

_ (¬1) سنن البيهقيّ، كتاب الحدود، باب ما جاء في درء الحدود بالشبهات، 8/ 238 - 239. [المؤلف]. وقوله: تستهلُّ به، أي: تُعْلن به ولا تكتمه، كما بُيِّن في الرواية, ولكنَّ المؤلَّف أوردها مختصرة. (¬2) أي: حدَّ الرجم؛ لأنها كانت ثيَّبًا، وإنما جلدوها وغرَّبوها تعزيرًا كما بيَّنته الرواية. (¬3) انظر: المستدرك، كتاب الحدود، كان الشارب يُضْرب على عهد النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بالأيدي والنعال، 4/ 375. وسنن البيهقيّ، كتاب الأشربة والحدَّ فيها، باب مَن وُجِد منه ريح شرابٍ ... ، 8/ 315 - 316. [المؤلف]. وهو في مصنف عبد الرزاق، كتاب الأشربة، باب من حُدَّ من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - 9/ 240 - 243 ح 17076.

الريح، فوالله لئن قدر عليَّ ربي ليعذِّبنِّي عذابًا ما عذَّبه أحدًا، فلما مات فُعِلَ به ذلك، فأمر الله الأرض فقال: اجمعي ما فيك منه، ففعلتْ، فإذا هو قائم بين يدي الله، فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: يا رَبِّ خشيتك، فغفر له" (¬1). قال في الفتح: "قال الخطَّابي: قد يستشكل هذا فيقال: كيف يغفر له وهو منكر للبعث والقدرة على إحياء الموتى؟ والجواب: أنه لم ينكر البعث وإنما جهل فظنَّ أنَّه إذا فُعِلَ به ذلك لا يُعاد .... قال ابن قتيبة: قد يغلط في بعض الصفات قوم من المسلمين فلا يكفرون بذلك ... " (¬2). أقول: والحديث ثابت من رواية جماعة من الصحابة عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، منهم حذيفة وسلمان وأبو هريرة وأبو سعيد وأبو مسعود البدريُّ. ومنها: الحديث الصحيح [652] في الأَمَة التي سألها النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "أين الله"؟ فقالت: في السماء، فقال: "مَن أنا"؟ قالت: رسول الله، فقال لسيدها: "أعتقها؛ فإنها مؤمنة" (¬3). ¬

_ (¬1) البخاريّ، كتاب أحاديث الأنبياء، باب 54، 4/ 176، ح 3479. مسلم، كتاب التوبة، بابٌ في سعة رحمة الله تعالى، 8/ 97 - 99، ح 2756 - 2757. [المؤلف] (¬2) فتح الباري 6/ 336. [المؤلف]. وانظر تأويل مختلف الحديث ص 81. وقد تقدم للمؤلف الكلام على الحديث وتوجيهه بتوسع في ص 132 فما بعدها. (¬3) انظر: صحيح مسلمٍ، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة ... ، 2/ 71، ح 537. [المؤلف]

فقد قال منكرو الجهة: إنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم عذرها في ظنِّها أنَّ الله تعالى في السماء بجهلها، وضَعْف عقلها، وقلَّّة علمها, ولم يُبَيِّنْ لها خطأها؛ لأنها لا استعداد لها لإدراك مثل هذه الحقيقة، أي أن الله تعالى ليس في جهة. ومثبتو الجهة لا ينكرون العذر، ولكنَّهم يحتجُّون بالحديث؛ لأنَّ فيه قوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: أين الله؟ ولأنه لو كان يعلم أنها مخطئة لبيَّن ذلك لمن حضر القصَّة من أصحابه أو على الأقلَّ لبعضهم؛ فإنه لا يجوز أن يُقال: إنهم جميعًا لم يكن لهم استعداد لإدراك الحقائق. ومنها: أنه ثبت عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قوله: "مَن حلف بغير الله فقد أشرك"، وثبت عنه أنه سمع بعض أصحابه يحلف بأبيه قبل أن يعلموا ما في ذلك، فنهاهم عن ذلك وعذرهم فيما صدر منهم قبل العلم. وقد أشار البخاري في صحيحه إلى هذا المعنى فترجم بقوله: (باب مَن أكفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال)، ثم ترجم بعده: (باب مَن لم ير إكفار مَنْ قال ذلك متأوِّلًا أو جاهلاً)، وذكر في هذا الباب بعضَ الأحاديث التي ذكر فيها أن بعض الصحابة نسب غيره منهم إلى النفاق بتأويلٍ، وذكر آخِرَه حديث ابن عمر أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أدرك عمر بن الخطَّاب في ركب وهو يحلف بأبيه فناداهم رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "ألا إن الله ينهاكم عن الحلف بآبائكم" الحديث. قال في الفتح: [653] "وقصده بذكره هنا الإشارة إلى ما ورد في بعض طرقه: "مَن حلف بغير الله فقد أشرك"، لكن لما كان حلف عمر بذلك قبل أن يسمع النهي كان معذورًا فيما صنع ... ".

فصل

وسيأتي ذكر هذه الأحاديث وغيرها، والكلامُ على القَسَم بغير الله تعالى مفصَّلًا إن شاء الله تعالى (¬1). فصل واعلم أنَّ مدار العذر على الجهل مع عدم التقصير في النظر، وإنما الشأن في ضبط التقصير، وهو أمرٌ مشتبهٌ جدًّا؛ فإنه ليس المراد به ألَّا يكون للإنسان استعداد للنظر أصلاً بأن يكون مجنونًا, ولا أن يكون قد صرف عمره كلَّه في البحث والنظر ولم يتشاغل عنه إلاَّ بما لا يستطيع تركه كتناول ما يَسُدُّ رَمَقَه من الطعام والشراب، وكقضاء الحاجة ونحو ذلك، بل الأمر أوسع من هذا. وقد تقدَّم في تفسير قوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِه} ما يوضَّح هذا (¬2)، وأنَّ الأمور الموجبة للعذر من النسيان والخطأ وعدم الطاقة ليست بمنضبطة، ولكن لعلَّك إذا تَدَبَّرْتَ ما تقدَّم تستطيع التقريب. وها هنا قاعدة جليلة، وهي: أنَّ مَن رضي بالإسلام دينًا ولو إجمالًا فالأصل فيه أنه معذور في خطئه وغلطه، ومَن لم يرض بالإسلام دينًا فالأصل فيه أنه غير معذور، ولا يخرج أحدُهما عن أصله إلا ببيانٍ واضحٍ. هذا في الحكم الظاهر، فأمَّا عند الله عزَّ وجلَّ فالمدار على الحقيقة؛ ولهذا ¬

_ (¬1) انظر ص 989. (¬2) انظر ص 914 - 915 مُفْتَتَح فصل الأعذار.

كان يحكم النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم [654] على أهل الفترة بالشرك والنار (¬1)، ولا يستثني أحدًا إلاَّ مَن فارق شركهم، كزيد بن عمرو بن نفيل. ومَن حَقَّق النظر ربما يظهر له أنَّ كثيرًا منهم كانوا معذورين، ولكن ليس هناك بيان واضح؛ فلذلك حكم الشرعُ عليهم بالظاهر، وأَمْرُهُمْ عند الله موكولٌ إلى الله. وقد جاء ما يدلُّ أنَّ أهل الفترة يُمْتَحَنُون يوم القيامة. قال الحافظ في الإصابة (¬2) في ترجمة أبي طالب: "وورد (¬3) من عدَّة طرقٍ في حقِّ الشيخ الهرِم، ومَن مات في الفترة، ومَن وُلِدَ أَكْمَهَ أَعْمَى أَصَمَّ، ومَن وُلِد مجنونًا أو طرأ عليه الجنون قبل أن يبلغ، ونحو ذلك، وأنَّ كلًّا منهم يُدْلي بحجة، ويقول: لو عقلتُ أو ذكرت لآمنتُ، فتُرفع لهم نار، ويُقال لهم: ادخلوها، فمَن دخلها كانت عليه بردًا وسلامًا، ومَن امتنع أُدْخِلَها كَرْهًا. هذا معنى ما ورد من ذلك (¬4)، وقد جمعتُ طرقه في جزءٍ مفردٍ. ونحن نرجو أن يدخل ¬

_ (¬1) ورد ذلك في عدَّة أحاديث، منها حديث ابن عمر: جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إن أبي كان يصل الرحم وكان وكان. فأين هو؟ قال: "في النار" قال فكأنه وجد من ذلك. فقال: يا رسول الله فأين أبوك؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "حيثما مررت بقبر مشرك فبشَّرْه بالنار" قال: فأسلم الأعرابي بعد. سنن ابن ماجه، كتاب الجنائز، باب ما جاء في زيارة قبور المشركين، 1/ 501، ح 1573. وصححه البوصيري في الزوائد 2/ 43. وروي من حديث سعد بن أبي وقاص، وهو أشبه. انظر: السلسلة الصحيحة رقم 18. والصواب أنه مرسل. انظر: علل ابن أبي حاتم 5/ 693. (¬2) الإصابة ط: دار هجر (12/ 397 - 398). (¬3) في الإصابة: "والحديث الأخير ورد". (¬4) ورد ذلك من حديث الأسود بن سريع وأبي هريرة أخرجه الإمام أحمد 4/ 24، وقال الهيثمي عن سنده: رجاله رجال الصحيح. انظر: مجمع الزوائد 7/ 437، وذكر =

عبد المطلب وآلُ بيته في جملة مَن يدخلها طائعًا فينجو، لكن ورد في أبي طالبٍ ما يدفع ذلك ... " (¬1). وكان صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يحكم فيمن أسلم أنه على إسلامه وإن ظهر منه خلاف ذلك ما لم يتضح أمره، فمن ذلك قصَّة ذات أنواط، وقد تقدَّمت (¬2)، فعذر النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم القائلين: "اجعل لنا ذات أنواط" مع بيانه أن ذلك كقول بني إسرائيل: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا}. ومن ذلك حديث الصحيحين عن عِتبان بن مالك في صلاة النبي صلَّى الله [655] عليه وآله وسلَّم في بيته، وفيه: فقال قائل منهم: أين مالك بن الدُّخْشُن (¬3)؟ فقال بعضهم: ذلك منافق لا يحب الله ورسوله، فقال النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "لا تقل ذاك، ألا تراه قد قال: "لا إله إلا الله"، يريد بذلك وجه الله". قال: الله ورسوله أعلم. أما نحن فوالله لا نرى ودّه ولا حديثه إلا إلى المنافقين، قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "فإنَّ الله ¬

_ = الحافظ ابن كثير في الباب أحاديث أخرى، انظرها في تفسيره (5/ 50 - 54) عند قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} في سورة الإسراء: 15. (¬1) تتمَّة ما في الإصابة: "وهو ما تقدَّم من آية براءة [يعني قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}]. وما ورد في الصحيح عن العبَّاس بن عبد المطلب أنه قال للنبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: ما أغنيتَ عن عمَّك أبي طالبٍ؛ فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ فقال: "هو في ضحضاحٍ من النار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل". (¬2) ص 230. (¬3) في الأصل - هنا وفي ص 658 - : (الدُّخْش)، وقد أورده المؤلَّف على الصواب في ص 940.

قد حَرَّم على النار مَنْ قال: "لا إله إلا الله"، يبتغي بذلك وجه الله" (¬1). وأخرج الشافعي وغيره عن عبيد الله بن عَدِي بن الخِيار أنَّ رجلاً سارَّ النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فلم نَدْرِ ما سارَّه به حتى جهر النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فإذا هو يستأذنه في قتل رجل من المنافقين، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "أليس يشهد ألاَّ إله إلا الله؟ "، قال: بلى، ولا شهادة له، قال: "أليس يصلي؟ "، قال: بلى، ولا صلاة له. فقال النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "أولئك الذين نهاني الله عنهم" (¬2). وفي الصحيحين وغيرهما عن أبي سعيد الخدري في قصة قَسْمِ النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم الذُّهَيْبَةَ التي بعث بها عليٌّ عليه السلام من اليمن أنَّ رجلاً قال لرسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: اتق الله، فذكر الحديث، إلى أن قال: فقال خالد بن الوليد: يا رسول الله، ألا أضرب عنقه؟ قال: "لا، لعلَّه أن يكون يصلَّي"، قال خالد: وكَم من مصلًّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه! فقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "إني لم أومر أن أُنَقِّبَ عن قلوب الناس، ولا أشقَّ بطونهم" (¬3). ¬

_ (¬1) البخاريّ، كتاب التهجُّد، باب صلاة النوافل جماعةً، 2/ 60، ح 1186. ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب الرخصة في التخلُّف عن الجماعة لعذرٍ، 2/ 126، ح 33. [المؤلف] (¬2) الأم، كتاب الحدود وصفة النفي، باب ما يحرم به الدم من الإِسلام، 6/ 146 - 147. [المؤلف] (¬3) البخاريّ، كتاب المغازي، باب بعث عليًّ وخالدٍ إلى اليمن، 5/ 164، ح 4351. مسلم، كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم، 3/ 111، ح 1064 (144). [المؤلف]

وفي رواية: [656] أن المستأذن في قتل الرجل عمر بن الخطاب (¬1). قال العلماء: لعلَّ كلًّا من عمر وخالد استأذن في قتل الرجل. وفي الصحيحين وغيرهما عن علي عليه السلام في قصة كتاب حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين يفشي إليهم سِرَّ النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في غزوه إياهم، أنَّ عمر قال: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "إنه قد شهد بدرًا". الحديث (¬2). وفي الصحيحين وغيرهما في قصة الإفك أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم خطب فقال: "مَن يعذرني في (¬3) رجلٍ قد بلغ أذاه في أهل بيتي"، فقام سعد بن معاذٍ الأنصاري فقال: أنا أعذرك منه يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج، وكان رجلاً صالحًا ولكن اجتهلتْه الحميَّة، فقال لسعد بن معاذ: لَعَمْرُ الله لا تقتله ولا تقدر على قتله، فقام أسيد بن حضير وهو ابن عمِّ سعد بن معاذ، فقال لسعد بن عبادة: كَذَبْتَ، لعمر الله لنقتلنَّه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين. الحديث (¬4). ¬

_ (¬1) البخاريّ، كتاب استتابة المرتدَّين، باب مَن ترك قتال الخوارج للتألُّف ... ، 9/ 17، ح 6933. مسلم، الموضع السابق، 3/ 112، ح 1064 (148). [المؤلف] (¬2) البخاريّ، كتاب المغازي، باب غزوة الفتح، 5/ 145، ح 4274. مسلم، كتاب فضائل الصحابة, بابٌ من فضائل أهل بدرٍ، 7/ 168، ح 2494. [المؤلف] (¬3) كذا في الأصل، والذي في الصحيحين: "من رجلٍ". (¬4) البخاريّ، كتاب المغازي، باب حديث الإفك، 5/ 119، ح 4141. مسلم، كتاب =

وفي الصحيحين وغيرهما عن جابرٍ أنَّ معاذ بن جبلٍ رضي الله عنه كان يصلَّي مع النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، ثمّ يأتي قومه فيصلَّي بهم الصلاة، فقرأ بهم البقرة، قال: فتجوَّز رجلٌ فصلَّى صلاةً خفيفةً، فبلغ ذلك معاذًا، فقال: إنه منافقٌ. فبلغ ذلك الرجلَ، فأتى النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فقال: يا رسول الله، إنَّا قوم نعمل بأيدينا ونسقي بِنَوَاضِحِنَا (¬1)، وإنَّ معاذًا صلَّى بنا البارحة فقرأ البقرة، فتجوَّزْتُ، فزعم أني منافق، فقال النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "يا معاذ! أفتانٌ أنت"، ثلاثًا. الحديث (¬2). وفي الصحيحين في قصَّة أسامة في سَرِيَّتِه إلى الحُرَقات (¬3)، وفيه قال: ولحقت أنا ورجل من الأنصار [657] رجلاً منهم، فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله، فكَفَّ الأنصاريُّ فطعنته برمحي حتى قتلته، فلما قدِمنا بلغ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فقال: "يا أسامة أقتلته بعد ما قال: لا إله إلا الله؟ " قلت: كان متعوِّذًا، فما زال يكرُّرها حتى تمنَّيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم (¬4). ¬

_ = التوبة، بابٌ في حديث الإفك، 8/ 116، ح 2770. [المؤلف] (¬1) الإبل أو الثيران أو الحُمُر التي يُستَقى عليها الماء، واحدها: ناضح. والأنثى بالهاء، ناضحة وسانية. النهاية 5/ 69. (¬2) البخاريّ، كتاب الأدب، باب مَن لم ير إكفار مَن قال ذلك متأوَّلًا أو جاهلًا، 8/ 26 - 27، ح 6106. ومسلم، كتاب الصلاة, باب القراءة في العشاء، 2/ 42، ح 465. [المؤلف] (¬3) قبيلةٌ من جهينة، والظاهر أنه جمع حُرَقة، واسمه جُهَيش بن عامرٍ سُمَّي الحرقة لأنه حرق قومًا بالنبل فبالغ في ذلك، ذكره ابن الكلبي. انظر: عمدة القاري 17/ 362. (¬4) البخاريّ، كتاب المغازي، باب بعث النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أسامة, 5/ 144، ح 4269. ومسلم، =

وفي رواية: قلت: يا رسول الله إنما قالها خوفًا من السلاح، قال: "أفلا شققت عن قلبه حتى [تعلم أ] قالها أم لا؟ " (¬1). وفي الصحيحين من حديث المقداد أنه قال: يا رسول الله، أرأيت إن لقيتُ رجلاً من الكفار فاقْتَتَلْنَا فضرب إحدى يديَّ بالسيف فقطعها، ثم لاذ مني بشجرة فقال: أسلمت لله، أأقتله يا رسول الله بعد أن قالها؟ قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "لا تقتلْه"، فقال: يا رسول الله إنَّه قطع إحدى يَدَيَّ، ثم قال ذلك بعد ما قطعها، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "لا تقتلْه, فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وإنَّك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال" (¬2). وفي قصة خالد بن الوليد في سَرِيَّته إلى بني جذيمة أنه قتل جماعة منهم، قد قالوا: "صبأنا" (¬3) ولم يحسنوا قولَ: "أسلمنا"، فوداهم (¬4) النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وقال: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد" (¬5). ¬

_ = كتاب الإيمان, باب تحريم قتل الكافر بعد قول الشهادة، 1/ 68، ح 96 (159). [المؤلف] (¬1) صحيح مسلمٍ، الموضع السابق، 1/ 67، ح 96 (158). [المؤلف]. وما بين المعقوفتين سقط من الأصل، فاستُدرِك من الطبعة التي نقل عنها المؤلَّف. (¬2) البخاريّ، كتاب المغازي، باب 12، 5/ 85، ح 4019. مسلم، الموضع السابق، 1/ 66 - 67، ح 95. [المؤلف] (¬3) قال ابن بطّال: أرادوا بها "أسلمنا"، فجهلوا فقالوا: "صبأنا". وإنما قالوا ذلك؛ لأن قريشًا كانت تقول لمن أسلم مع النبيَّ: "صبأ فلانٌ". (¬4) أي: أعطى ديتهم. النهاية 5/ 169. (¬5) البخاريّ، كتاب المغازي، باب بعث النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد ... ، 5/ 160 - 161، =

ووقع لخالد في قتال أهل الردة ما يشبه ذلك. ففي هذه الأحاديث عذر النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لمالك بن الدُّخْشن، والرجل الذي استؤذن في قتله، [658] والقائل له: اتق الله، وحاطب بن أبي بلتعة وسعد بن عبادة مع ما ظهر منهم، وَعَذَرَ المتكلمين في مالك بن الدُّخْشن والمستأمر في قتل الرجل، وخالد بن الوليد وعمر بن الخطاب وأسيد بن حضير ومعاذًا وأسامة والمقداد مع تكفير كلًّ منهم لمن ليس بكافرٍ، مع أن في الصحيحين من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "أيُّما رجلٍ قال لأخيه: (يا كافر) فقد باء بها أحدهما" (¬1). وقد رُوي معنى هذا الحديث عن جماعة من الصحابة، وقد ترجم البخاري في صحيحه لهذا الحديث: (باب مَن أكفر أخاه بغير تأويلٍ فهو كما قال). وترجم بعده: (باب مَن لم ير إكفار مَن قال ذلك متأوِّلًا أو جاهلاً)، وذكر فيه قصَّة حاطبٍ ومعاذٍ (¬2). وقد ذهب جماعةٌ من الشافعيَّة إلى نحوٍ مما ترجم به البخاريُّ رحمه الله فقالوا: مَن كَفَّرَ مسلمًا بغير تأويل فهو كافر مرتدٌّ. وأطال ابن حجر الهيتمي في تقرير ذلك وتأييده في أوائل كتابه "الإعلام بقواطع الإسلام" (¬3)، ونقل نحوه ¬

_ = ح 4339. [المؤلف] (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الأدب، باب مَن كفَّر أخاه بغير تأويلٍ فهو كما قال، 8/ 26، ح 6104 - واللفظ له - ومسلمٌ في كتاب الإيمان, باب مَن قال لأخيه المسلم: يا كافر، 1/ 56، ح 60 - بنحوه -, من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. (¬2) انظر: البخاريّ، كتاب الأدب, 8/ 26 - 27. [المؤلف] (¬3) ص 340 - 345 (من طبعة الحلبي، 1398 هـ).

فصل

عن بعض المالكيَّة ... فأما كَفُّ النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم عن قتل مَن ثبت نفاقه فقد بَيَّنَ سبب ذلك بقوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: [659] "لا يتحدَّث الناس أنَّ محمدًا يقتل أصحابه" (¬1). ولأنهم كانوا إذا سُئِلوا عن كلماتهم الخبيثة جحدوها واعتذروا عنها وأظهروا التوبة، فأمر الله تعالى بالإعراض عنهم، قال سبحانه: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [التوبة: 95]. فصل واعلم أن من الأعذار ما ينفع في الحكم الظاهر وينفع في الآخرة، ومنها ما ينفع في الحكم الظاهر فقط، ومنها ما ينفع في الآخرة فقط، وأنَّ مدار الحكم الظاهر على الأمر الظاهر. ولذلك يكفي في ثبوت الرِّدَّة شاهدان، فلو شهدا أنَّ فلانًا مات مرتدًّا وجب الحكم بذلك، فلا يُصَلَّى عليه ولا يُدْفَنُ في مقابر المسلمين، ويعامَلُ معاملة المرتدِّ في جميع الأحكام. وقد جرى العلماء في الحكم بالردَّة على أمورٍ، منها ما هو قطعيٌّ، ومنها ما هو ظنِّيٌّ، ولذلك اختلفوا في بعضها, ولا وجه لما يتوهَّمُه بعضهم أنه لا يكفَّر إلا بأمرٍ مجمعٍ عليه. وكذلك مَن تكلَّم بكلمة كفرٍ وليست هناك قرينةٌ ¬

_ (¬1) البخاريّ، كتاب التفسير، سورة التوبة، باب قوله: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ}، 6/ 154، ح 4905. مسلم، كتاب الزكاة, باب ذكر الخوارج وصفاتهم، 3/ 109 - 110، ح 1063. [المؤلف]

ظاهرةٌ تصرف تلك الكلمة عن المعنى الذي [660] هو كفرٌ إلى معنًى ليس بكفرٍ فإنه يَكْفُر، ولا أثر للاحتمال الضعيف أنه أراد معنى آخر. وفي الشفاء عن صاحب سحنون (¬1) في رجل ذُكِرَ له رسولُ الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فقال: "فعل الله برسول الله كذا وكذا"، وذكر كلامًا قبيحًا، ثم قال: "أردتُ برسول الله العقرب" أنه لا يُقْبَلُ دعواه التأويلَ (¬2). ونقله الهيتمي في الإعلام (¬3)، ثم قال: ومذهبنا لا يأبى ذلك. وقال في الزواجر: "نقل إمام الحرمين عن الأصوليين أنَّ مَن نطق بكلمة الرِّدَّة وزعم أنه أضمر توريةً كَفَرَ ظاهرًا وباطنًا، وأَقَرَّهُم على ذلك" (¬4). أقول: وهو الموافق لقواعد الشريعة. ولو قُبِلَ من الناس مثلُ هذا التأويل لأصبح الدين لعبةً، يقول مَن شاء ما شاء مِن سبِّ الله وسَبِّ رسوله، فإن سُئِلَ اعتذرَ بما يُشْبِه هذا التأويل. فإن قلت: فإنَّ قبول توبته يلزم منه مثلُ هذا الأمر، قلت: كلّا، فإنَّ قبول توبته معناه إثبات أنه ارتدَّ, ثم أسلم، ومثلُ هذا يعاب به بين الناس ويُوَبَّخُ ¬

_ (¬1) هو أحمد بن أبي سليمان، وسُحنون هو: عبد السلام بن حبيب بن حسان التنوخي صاحب "المدونة"، لازم أصحاب الإمام مالك: ابن وهب وابن القاسم وأشهب فصار سيد أهل المغرب، وكان من أهل العقل والديانة، توفي سنة 240 هـ. سير أعلام النبلاء 12/ 63 - 69. (¬2) الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض 2/ 217، وإنما لم يقبل التأويل لأن اللفظ صريح، وفيه امتهان للنبي - صلى الله عليه وسلم -، والمتكلَّم بهذا لم يوقَّر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يحترمه. (¬3) ص 48. [المؤلف] (¬4) الزواجر 1/ 26. [المؤلف]

عليه، ويسقط من العيون، وهذا مانعٌ للسفهاء والملحدين، عن إظهار ما يكفرون به بخلاف مَن يُقْبَلُ عُذْرُه، فتدبَّر. وإذا كان الأمر كما سمعت في عدم قبول عذر مَن ذُكِرَ مع أنه قد زعم أنه لم يُرِدِ المعنى الذي هو كفرٌ، وذكر معنى آخر زعم أنه أراده، [661] فما بالك بمن يذكر مثل هذه الكلمة وأمثالها وأخبث منها ويؤلِّفُ فيها الكتب ويبنيها على شبهاتٍ عقليَّةٍ ويحتجُّ لها ويناضل عنها ويجهِّل مَن لم يقل بها، ويزعم أنَّه أدركها بالكشف وبالوحي لأنه من أولياء الله تعالى؟ هذه حال جماعةٍ من المتصوِّفة، وتجد كثيرًا من المنتسبين إلى العلم يعتذرون لهؤلاء المتصوِّفة بأنهم لم يريدوا المعاني الظاهرة، وإنما أرادوا معاني أُخر، ويسندون هذا العذر إلى أنَّ أولئك المتصوِّفة كانوا ملتزمين لأحكام الإسلام، وقد صرَّحوا في بعض كلامهم أنهم لا يخالفون الكتاب والسنة، وأنَّ مَن فهم من كلامهم مَعْنًى يخالف الكتاب والسنة فإنما أُتيَ من جهله بمعاني كلامهم أو جهله بالكتاب والسنة، وشبه ذلك. ولا يكتفون بذلك، بل يقولون: إن أولئك المتصوفة هم خيرة الله من المسلمين، وصفوته وأولياؤه. وكانت نتيجة هذا أنْ بقيت تلك الكتب تقرأ وتنسخ وتطبع وتنشر ويضلُّ بها كُلَّ يوم جماعة وبقي أتباعها ظاهرين مناضلين عن تلك المقالات، وآل الأمر بكثير من الناس إلى الكفر الصُّراح والشرك البواح، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون. [662] وهكذا تجد أكثر المنتسبين إلى العلم إذا أقيمت عليهم الحجة بأنَّ كثيرًا من الأفعال والأقوال المشهورة بين العامَّة كفر أو شرك أخذوا يتأوَّلون تأويلات ضعيفة قائلين: إن العوامَّ لا يقصدون هذا المعنى، كيف

وهم مسلمون يشهدون أَلَّا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وأن القرآن كلام الله؟ فإذا قلت لهم: إن العوامَّ ينذرون للموتى ويذبحون لهم ويدعونهم إلى غير ذلك، قالوا: أمَّا نذرهم للموتى فإنما يقصدون النذر لله عزَّ وجلَّ على أن يكون ثواب ما ينذرونه من صدقة أو نحوها هديّة منهم للموتى. كمن يتصدَّق بصدقة لوجه الله تعالى، ويجعل ثوابها لوالديه، وإنما يذبحون لله عزَّ وجلَّ ويتصدَّقون بالطعام، ويجعلون ثواب الصدقة للموتى، وإنما يقصدون بقولهم: يا بدوي يا رفاعي سؤال الله تعالى بحقَّ البدوي والرفاعي ونحو ذلك. كذا يقولون، مع أنَّ مَنْ خالط العامة وعرف حالهم عَلِمَ أنَّ هذه التأويلات لا تخطر ببال أحد منهم، وإنما يريدون ما هو الظاهر من أفعالهم وأقوالهم. نعم، إننا نعذر كثيرًا من العامة أو أكثرهم بالجهل وعدم قيام الحجة عليهم، ولكن الفرض على كُلَّ من أوتي حظًّا [663] من العلم أن يبيِّن للعامة حقيقة ما هم عليه ويبلَّغهم حجة الله عليهم ويحذَّرهم مما يصنعون، فإن لم يفعل فالتبعة عليه، ولا سيما إذا رضي بتلك الأقوال والأفعال ونصرها وساعد عليها وعادى مَن يسعى لإبطالها وعانده وَحَذَّرَ العامة من استماع قوله. وكثير من المنتسبين إلى العلم يدركون هذه الحقيقة، ولكن الشيطان والهوى وحبَّ الدنيا وما يحصل لهم بسبب انتشار تلك الأقوال والأفعال بين العامة من تعظيمٍ ومنافع دنيوية يصدُّهم عن الحق ويحملهم على

عداوته، فالله المستعان. واعلم أنَّ البلاء كل البلاء هو إيثار المنتسبين إلى العلم للدنيا ولذَّاتها وجاهها، فالذي يدافع عن المتصوِّفة إنما يحاول أن يشتهر بين العامة وجهلة الأمراء أنه وليٌّ من أولياء الله تعالى، فإن ساعدته الأحوالُ على هذه الدعوى فذاك وإلَّا اكتفى بما اشتهر أنَّ التسليم للأولياء وعدم الاعتراض عليهم ولاية صغرى. وأَقَلُّ أحواله أن يكون مقبولًا عند السواد الأعظم من الأغنياء والأمراء الذين ابتُلُوا بحسن الاعتقاد في أولئك المتصوفة ظنًّا منهم أنَّ محبتهم إياهم تجرِّدهم من قيود الشريعة فلا يبقى عليهم حساب ولا عقاب، [664] ولا يضرُّهم ترك الصلاة والصيام ولا ارتكاب الفواحش، بل يتمُّ لهم نعيم الدنيا وشهواتها ونعيم الجنة ودرجاتها. وقد وضع لهم شياطين الإنس حكايات وقصصًا تهيِّجهم على هذا الاعتقاد كالأشعار المكذوبة على الشيخ عبد القادر ونحوها. وإنَّ المنتسبين إلى التصوُّف في الهند وغيرها ليحضر عندهم الغني أو الأمير المجاهر بالفسق بحيث ليس له من الإسلام إلا اسمه، فيعظِّمونه ويحترمونه ويمدحونه ويثنون عليه، ويؤكَّدون له أنَّه باعتنائه بهم قد أحرز سعادة الدنيا والآخرة، وكلما جاءهم كان كلامهم معه كله في تعظيمه ومدحه وإقناعه بأنَّه من الفائزين دنيا وأخرى، وتحريضه على قضاء حوائجهم وحوائج أتباعهم ومَن يتشفَّع بهم، ولا يكادون يعرِّضون له أدنى تعريض بأنَّ عليه أن يلتزم الفرائض الإسلامية ويجتنب الكبائر، بل إن أحدهم قد يكون يتكلَّم بموعظةٍ فإذ دخل أحد أولئك الأغنياء أو الأمراء اختصر الوعظ وتجنَّب أن يكون فيه كلمةٌ تؤثَّر على ذلك الغني. فإذا كان معروفًا بترك

الصلاة وشرب الخمر والفجور ونحو ذلك لم يتعرَّض الواعظ في وعظه لشيء من ذلك، [665] خشية أن يتوهم ذلك الغني أنه تعريض به فينفر فيحرم هذا الواعظ من المنافع الدنيوية التي كان ينالها منه. بل يقتصر على فضائل الصالحين وما لهم من الجاه العظيم وما في محبَّتهم وخدمتهم من الخير الجسيم، وأنَّ مَن أحبَّهم فاز دنيا وأخرى، ونحو ذلك. بل قد وَسَّعُوا الدائرة للكفار والمشركين فأعلموهم أنهم إذا أحبُّوا المتصوِّفين واحترموهم وبذلوا لهم الأموال حصلت لهم سعادة الدنيا وإن كانوا مصرِّين على شركهم وكفرهم، بل وقد يوهمونهم أنهم يفوزون بالنجاة في الآخرة أيضًا، بل ربما صَرَّحَ بعضهم بذلك. وهذا الأمر هو أعظم البواعث لكثير من عقلاء العصر على عدم الإسلام؛ لأنهم يتوهمون أن الإسلام هو ما عليه هؤلاء المتصوِّفون وأضرابهم، فإذا تدبَّروا ما هم عليه وجدوا جهالات وخرافات ومحالات ودجلا ومكرًا لعلَّه يفوق ما عند رهبان النصارى وطواغيت المشركين. بل إنَّ هذا الأمر نفسه قد وَرَّطَ كثيرًا من عقلاء المسلمين في الإلحاد الصريح، وهذا الوباء يتفشَّى بسرعة مخيفة. وبالجملة، فإنَّك إذا طلبت الإسلام مما يظهر لك منه في هذا العصر وما قرب منه تمثَّلَتْ لك صورة إذا قارنتها بالإسلام المعروف في عهد النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وأصحابه وما قرُب منهم، لم تكد تجد بينهما مناسبةً مَّا، فمَن أراد الإسلام حقًّا فعليه أن يطلبه من مَعدِنه من كتاب الله وسنَّة رسوله وعمل القرن الأوَّل وما قرب منه, والله الموفق. ***

ذكر أمور ورد في الشريعة أنها شرك وأشكل تطبيقها على الشرك

[666] ذكر أمور ورد في الشريعة أنها شرك وأشكل تطبيقها على الشرك تمهيد اعلم أنَّ كون الشيء سببًا أو علامة قد لا يكون تديُّنًا، وهو ما يرجع إلى أصل عاديًّ مبني على الحسِّ والمشاهدة الموجبين للقطع ولو في جنس ذلك الشيء، كأن يأكل مجذوم ورق شجرة اتِّفاقًا فيبرأ فيعتقد هو وغيره أنَّ أكل ورق تلك الشجرة ينفع من الجذام، فإن هذه تجربة ناقصة، ولكنها ترجع إلى أصل قطعيٍّ وهو أن العقاقير تنفع من الأمراض. وكأن يكون رجل في بيت بعيد عن القرية فأراد أن يخرج ليلاً لحاجة كصلاة العشاء أو الصبح جماعة، فسمع نُباح الكلب، فظن وجود إنسان مختفٍ قريبًا من بيته ليسرق مثلاً، فمنعه ذلك من الخروج، فإنَّ نُباح الكلب ليس بعلامة قطعيَّة على وجود إنسان غريب، ولكنه يرجع إلى أصل قطعيٍّ وهو أنَّ الكلاب تنبح لرؤية الغرباء. وقد يكون تديُّنًا، وهو ما يرجع إلى اعتقاد بأمر غيبيًّ، كاعتقاد أنَّ استلام الحجر الأسود سبب للخير، وأنَّ نفرة النفس عن الحاجة بعد الاستخارة فيها علامة على أنه لا خير فيها، وغير ذلك. [667] وقد يُتَرَدَّد في بعض الظنون أَمِنَ الضرب الأوَّل هو أم مِنَ الثاني، وذلك كما يُظَنُّ في بعض الأحجار أنَّ التختُّم بها يورث السرور أو يدفع العين أو يطرد الجنَّ. والحكم في هذا، والله أعلم، أنَّ صاحب الظن إن كان يرى أن تلك

الخاصية ناشئة عن سبب من جنس الأسباب العاديَّة المبنيّة على الحسِّ والمشاهدة إلا أنه لم يتبين ذلك السبب فهذا من الضرب الأول، ولكن ينبغي المنعُ من العمل بهذا الظن سدًّا للذريعة. وإن كان مجوَّزًا أنَّ تلك الخاصيّة ناشئة عن سبب غيبي، كأن يكون ذلك الحجر محبوبًا عند الله عزَّ وجلَّ أو عند الملائكة أو الجن أو شبه ذلك فهذا من الضرب الثاني. وقد علمت فيما تقدَّم أن التديُّن بما لم يشرعه الله تبارك وتعالى شرك، وربما يقع التردُّد في الظنّ أقد بلغ الحدَّ المعتدَّ به في الحكم أم هو من قبيل الوسوسة؟ فيضبط الشارع الظنَّ المعتدَّ به بما نشأ عنه فعل أو قول. وكثيرًا ما يقيم الشارع القولَ أو الفعل الذي من شأنه أن ينشأ عن ظنًّ معتدٍّ به مقام ذلك الظن كما مضى في السجود للصنم أو الشمس ونحو ذلك. ولنشرع في المقصود، ومن الله عزَّ وجلَّ التوفيق.

الطيرة

[668] الطِّيَرة عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "الطيرة من الشرك وما منا, ولكن الله يذهبه بالتوكل". أخرجه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح ... سمعت محمد بن إسماعيل [البخاري] يقول: كان سليمان بن حرب يقول في هذا الحديث: "وما منا ولكن الله يذهبه بالتوكل" قال سليمان: هذا عندي قول عبد الله بن مسعود "وما منا" (¬1). وأخرجه أبو داود ولفظه: "الطيرة شرك، الطيرة شرك، وما منا إلا, ولكن الله يذهبه بالتوكل" (¬2). ورواه الحاكم في كتاب الإيمان من المستدرك بلفظ الترمذي وقال: "صحيح سنده، ثقات رواته"، وأقرّه الذهبي (¬3). أقول: لا يخلو المتطيِّر أن يظن أن الطائر سبب أو علامة، وعلى الحالين فهذا الظن من قسم التديُّن؛ لأنه لا يُعْرَفُ له توجيه من الأصول العادية المبنيّة على الحسَّ والمشاهدة، وهو تديُّنٌ بما لم يشرعه الله عزَّ وجلَّ، فيكون شركًا. وإنما الشأن في حصول الظنَّ، وقد جعل الشارع ضابط حصول الظن هو العمل به، ففي صحيح مسلم من حديث معاوية بن الحكم: ... قلت: يا رسول الله، إني حديث عهدٍ بجاهليَّة، وقد جاء الله بالإسلام، وإنَّ منَّا رجالًا ¬

_ (¬1) جامع الترمذيّ، كتاب السير، باب ما جاء في الطيرة, 1/ 304، ح 1614. [المؤلف] (¬2) سنن أبي داود، كتاب الطبِّ، بابٌ في الطيرة, 2/ 190، ح 3910. [المؤلف] (¬3) المستدرك، كتاب الإيمان, "الطيرة شركٌ", 1/ 18. [المؤلف]

يأتون الكهَّان، قال: "فلا تأتهم". قال: ومنَّا رجال يتطيَّرون، قال: "ذاك شيء يجدونه في صدورهم، فلا يصدَّنَّهم ... " (¬1). [669] وفي مسند أحمد بسندٍ فيه نظرٌ عن الفضل بن عبَّاسٍ، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "إنما الطيرة ما أمضاك أو ردَّك" (¬2). فالذي يعرض للمؤمنين إنما هو من قبيل الوسوسة التي لا تقدح في الإيمان أصلاً، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: قال النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "إن الله تجاوز لي عن أمتي ما وسوست به صدورها ما لم تعمل أو تكلَّم" (¬3). وفي صحيح مسلمٍ عن عبد الله بن مسعودٍ قال: سُئل النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم عن الوسوسة، قال: "تلك محض الإيمان" (¬4). وعن أبي هريرة قال: جاء ناس من أصحاب النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال: "وقد ¬

_ (¬1) صحيح مسلمٍ، كتاب المساجد ومواضع الصلاة, باب تحريم الكلام في الصلاة ... ، 2/ 70، ح 537. [المؤلف] (¬2) المسند 1/ 213. [المؤلف]. وفي سنده: محمَّد بن عبد الله بن عُلاثة العُقَيليُّ، وقد تُكُلَّم فيه. ومسلمة بن عبد الله بن ربعيًّ الجهنيُّ، وهو مجهول الحال، ولم يدرك الفضلَ بن عبَّاسٍ. (¬3) صحيح البخاريَّ، كتاب العتق، باب الخطإ والنسيان في العتاقة، 3/ 145، ح 2528. وصحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان, باب حديث النفس والخواطر بالقلب، 1/ 81 - 82، ح 127. [المؤلف] (¬4) صحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان, باب بيان الوسوسة في الإيمان, 1/ 83، ح 133.

وجدتموه؟ " قالوا: نعم، قال: "ذاك صريح الإيمان" (¬1). فالعمل بالطيرة أن تصدَّك عن أمر قد عزمت عليه أو كنت متردِّدًا فيه أو تُمْضِيَكَ في أمرٍ لم تكن عازمًا عليه. نعم، لو عزم رجل على معصية أوهمّ بها فعرض عارض فَهِمَ منه إشارة إلى موعظة فصدّه عن المعصية لم يكن هذا من الطيرة المنهي عنه (¬2)؛ لأن الذي صدّه في الحقيقة إنما هو عِلْمُه بأن ذلك الفعْلَ معصية متوعَّدٌ عليها بالعذاب. وكذا مَن كان متردَّدًا في فعلٍ يَعْلَم أنه طاعةٌ لله عزَّ وجلَّ فعرض عارضٌ فَهِمَ منه إشارةً ترغِّبه في الفعل فَفَعَل. [670] وليس من الطيرة ما يُنْقَل عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم من حبِّ الفأل (¬3)، فإنه لم يكن الفأل يحمله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم على فعلِ ما لم يكن يريد أن يفعله، ولا يصدُّه عن فعلِ ما كان يريد أن يفعله، وإنما يُرْوَى عنه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أنه كان إذا أراد أن يرسل رسولاً تحرّى أن يكون اسمه حسنًا (¬4)، ونحو ذلك. ¬

_ (¬1) صحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان, باب بيان الوسوسة في الإيمان, 1/ 83, ح 132. [المؤلف] (¬2) كذا في الأصل، ولعله قصد: التطيُّر. (¬3) كما في حديث أنس مرفوعًا: "يعجبني الفأل الصالح: الكلمة الحسنة". أخرجه البخاري في كتاب الطب، باب الفأل، 7/ 135، ح 5756. ومسلم في كتاب السلام، باب الطيرة والفأل ... ، 7/ 33، ح 2224. وفي رواية لمسلم من حديث أبي هريرة 7/ 33، ح 2225: "وأحب الفأل الصالح". (¬4) أخرج أبو داود في كتاب الطب، باب في الطيرة, 4/ 19، ح 3920، عن بريدة أن =

قال العلماء: إنما هذا من باب سَدَّ الذريعة لئلا يقع أمرٌ مكروه قد قُضِيَ فيلقي الشيطان في نفوس بعض الناس أن ذلك لأجل قبح اسم الرسول أو نحوه. أقول: سيأتي أن التفاؤل محمود في الجملة؛ فاختيار الاسم الحسن ليتفاءل به المرسَلُ إليه؛ فيكون ذلك أدعى إلى امتثال ما أرسل إليه به النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، ولا يكون ذلك إلا خيرًا. ولو كان الاسم قبيحًا لتطيَّر به المرسل إليه إن كان كافرًا أو قريب عهد بالإسلام، وهم الغالب يومئذٍ. ويُرْوَى عنه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أنه كان إذا سمع الكلمة الحسنة سُرَّ بها (¬1). وأقول في توجيه ذلك: إن ما يَعْرِضُ للإنسان مما يُتَفَاءَل به يحتمل ثلاثة أوجه: الأول: أن يكون من الله عزَّ وجلَّ على سبيل التبشير. الثاني: أن يكون من فعل الشيطان يُرَغَّب الإنسان في فِعْلِ ما لا خير له فيه. الثالث: أن يكون أمرًا اتفاقيًّا. ¬

_ = النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يتطير من شيء، وكان إذا بعث عاملًا يسأل عن اسمه فإذا أعجبه فرح به ... إلخ. وإسناده صحيح. (¬1) أخرج الترمذي في كتاب السير، باب ما جاء في الطيرة، 4/ 161، ح 1616، من حديث أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خرج لحاجته يعجبه أن يسمع يا نجيح يا راشد. وقال: "حديث حسن صحيح غريب".

فالوجه الثاني منتفٍ فيما يكون المتفائل آخذًا في العمل؛ إذ لا حاجة بالشيطان إلى الترغيب فيه وقد شرع الإنسان فيه دائبًا على فعله، ويبقى الاحتمالان الأول والثالث، فأمَّا النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فكان يترجَّح في حقِّه الأول؛ لأنه لم يكن يُقْدِمُ على العمل حتى يَظْهَرَ له أنه طاعة لله عزَّ وجلَّ، وقد علم من الدِّين أن طاعة الله عزَّ وجلَّ سببٌ للخير، وعلم أن الشيطان لا يرغَّب في الخير. فأمّا مَن لا يريد عملًا فيسمع كلمة حسنة فيرغب فيه فاحتمال الوجه الثاني قائم فيه، والوجه الأول منتفٍ بدليل مَنْعِ الشارع من الاعتداد بذلك، ولعله [671] يكون في ذلك الفعل ضررٌ لاحتمال أن تكون تلك الكلمة من الشيطان يُرَغِّب الإنسان فيما يضرُّة، اللهمّ إلا أن يكون ذلك الفعل طاعة لله عزَّ وجلَّ، فكان الإنسان متكاسلًا عنه فسمع كلمة فَهِمَ منها إشارة إلى الترغيب في الخير، فهذا معنىً آخر كما تقدم. وأما الطيرة فإن الكلمة السيئة مثلًا تحتمل أن تكون من تنبيه الله عزَّ وجلَّ تنفيرًا عن ذلك العمل، وتحتمل أن تكون من الشيطان ليصدَّ الإنسان عن ذلك الفعل لعلمه أن له خيرًا فيه، وتحتمل أن تكون اتفاقًا. ويترجّح الأول إذا كان العمل معصية لله عزَّ وجلَّ ولا يكون الانزجار عن تلك المعصية عند سماع تلك الكلمة من التطيُّر المنهي عنه؛ لأنه لم يستند إليها، وإنما استند إلى ما عنده من السلطان أن ذلك العمل معصية. ويترجح الثاني إذا كان ذلك العمل طاعة لله عزَّ وجلَّ أو مباحًا؛ لأن الاحتمال الأول منتفٍ بدليل منع الشارع من التطير. والاحتمال الثالث مرجوح لما عُلِمَ أن الشيطان مولَع بالإضلال والإضرار، فالانكفاف عن العمل تديُّنٌ بما لم يشرعه الله عزَّ وجلَّ كما مرّ، وهو مع ذلك طاعة للشيطان.

وقد قال ابن حجر المكي: "قال الرافعيُّ عنهم [أي الحنفية]: ... واختلفوا فيمن خرج لسفر فصاح العَقْعَق (¬1) فرجع، هل يكفر؟ (انتهى). زاد النووي في الروضة: قلت: الصواب أنه لا يكفر" (¬2). [672] أقول: وقد علمت أن الدليل مع مَن قال: يكفر هذا الراجع إن تحقَّق أنه إنما رجع لصياح العقعق إلا أن يكون ممن يُعْذَر، وقد مرّ بيان الأعذار. والله أعلم. **** ¬

_ (¬1) العَقْعَق - وِزان جعفرٍ -: طائرٌ نحو الحمامة طويل الذنب، فيه بياضٌ وسوادٌ, وهو نوعٌ من الغِربان، والعرب تتشاءم به. المصباح المنير ص 422. (¬2) الإعلام بقواطع الإسلام، ص 23. [المؤلف] وانظر: روضة الطالبين 10/ 67.

الرقى

الرقى قال الإِمام أحمد:"ثنا أبو معاوية، ثنا الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن يحيى بن الجزار، عن ابن أخي زينب، عن زينب امرأة عبد الله قالت: كان عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب تنحنح وبزق كراهية أن يهجم منَّا على شيء يكرهه. قالت: وإنه جاء ذات يوم فتنحنح، قالت: وعندي عجوز ترقيني من الحمرة، فأدخلتها تحت السرير، فدخل فجلس إلى جنبي، فرأى في عنقي خيط (¬1)، قال: ما هذا الخيط؟ قالت: قلت: خيط أرقي (¬2) لي فيه، قالت: فأخذه فقطعه، ثم قال: إن آل عبد الله لأغنياء عن الشرك، سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يقول: "إن الرقى والتمائم والتِّوَلَة شركٌ". قالت: فقلت له: لم تقول هذا وقد كانت عيني تقذف، فكنت أختلف إلى فلانٍ اليهوديِّ يرقيها، وكان إذا رقاها سكنت؟ قال: إنما ذلك عمل الشيطان، كان ينخسها بيده، فإذا رقيتها كَفَّ عنها، إنما كان يكفيك أن تقولي كما قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "أذهب البأس رب الناس، اشف وأنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقمًا" (¬3). وأخرجه أبو داود عن محمَّد بن العلاء عن أبي معاوية، فذكره ¬

_ (¬1) كذا في الأصل. (¬2) في سنن ابن ماجه (2/ 1167، ح 3530) وشرح السنَّة للبغويَّ (12/ 157، ح 3240): "رُقِي" بصيغة المبنيِّ للمجهول، كما ضبطه في مرقاة المفاتيح 8/ 371. وانظر رواية ابن أبي شيبة الآتية قريبًا. (¬3) المسند 1/ 381. [المؤلف]

مختصرًا (¬1). وأخرجه ابن ماجه من طريق عبد الله بن بشرٍ عن الأعمش (¬2). [673] وفي سنده: ابن أخي زينب، مجهولٌ. لكن رواه الحاكم في المستدرك من طريق محمد بن مسلمة الكوفي، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن يحيى بن الجزار، عن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن زينب، فذكره بنحوه، وقال: "صحيح الإسناد على شرط الشيخين"، وأقره الذهبي (¬3)، وفيه نظر. ولكن أخرجه الحاكم من طريق أخرى عن ميسرة بن حبيب، عن المنهال بن عمرو، عن قيس بن السكن قال: دخل ابن مسعودٍ على امرأته، فرأى عليها خرزًا من الحمرة، فقطعه قطعًا عنيفًا، ثم قال: إن آل عبد الله عن الشرك أغنياء، وقال: كان مما حفظنا عن النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "إن الرقى والتمائم والتولة من الشرك". قال الحاكم: صحيح الإسناد، وقال الذهبي: صحيح (¬4). وأخرجه الحاكم أيضًا من طريق أبي الضحى عن أم ناجية قالت: ¬

_ (¬1) أبو داود، كتاب الطبّ، بابٌ في تعليق التمائم، 2/ 186، ح 3883. [المؤلف] (¬2) ابن ماجه، كتاب الطبّ، باب تعليق التمائم، 2/ 188، ح 3530. [المؤلف] (¬3) المستدرك، كتاب الرقى والتمائم، الدعاء عند عيادة المريض 4/ 417 - 418. [المؤلف]. وأخرجه ابن حبان في صحيحه (الإحسان)، كتاب الرقى والتمائم، ذكر التغليظ على من قال بالرقى والتمائم متكلًا عليها 13/ 456 ح 6090 من طريق يحيى الجزار، عن ابن مسعود، وهو منقطع. (¬4) المستدرك، كتاب الطبّ، نهى عن الرقى والتمائم والتَّوَلة 4/ 217. [المؤلف]

دخلتُ على زينب امرأة عبد الله أعودها من حمرة ظهرت بوجهها، وهي معلقة بخرز، فإني لجالسة دخل (¬1) عبد الله، فلما نظر إلى الحِرْز أتى جذعًا معارضًا في البيت فوضع عليه رداءه، ثم حسر عن ذراعيه، فأتاها، فأخذ بالخرز فجذبها حتى كاد وجهها أن يقع في الأرض فانقطع، ثم خرج من البيت، فقال: لقد أصبح آل عبد الله أغنياء عن الشرك، ثم خرج فرمى بها خلف الجدار، ثم قال: يا زينب، أعندي تُعَلِّقين؟! إني سمعت رسول الله [674] صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يقول: نهي عن الرقى والتمائم والتولية، فقالت أم ناجية: يا أبا عبد الرحمن، أما الرقى والتمائم فقد عرفنا فما التولية؟ قال: التولية ما يهيج النساء" (¬2). كذا وقع في النسخة (التولية) والمعروف: التولة، ووقع فيه: (الحرز) بالحاء المهملة، والظاهر: (الخرز) بالمعجمة. والله أعلم. وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود قال: دخل عبد الله على امرأته وهي مريضة فإذا في عنقها خيط معلق، فقال: ما هذا؟ فقالت: شيء رقي لي فيه من الحمَّى، فقطعه فقال: إن آل إبراهيم أغنياء عن الشرك (¬3). كذا وقع في النسخة: (الحمَّى)، و (آل إبراهيم)، والصواب: (الحمرة)، و (آل عبد الله). وأخرج عن إبراهيم قال: رأى ابن مسعود على بعض أهله شيئًا قد تَعَلَّقَهُ ¬

_ (¬1) كذا في الأصل والمستدرك. (¬2) المستدرك، الموضع السابق، 4/ 216 - 217. [المؤلف] (¬3) المصنَّف، كتاب الطبّ، في تعليق التمائم والرقى، 12/ 40، ح 23924.

فنزعه منه نزعًا عنيفًا، وقال: إن آل ابن مسعودٍ أغنياء عن الشرك (¬1). وأخرج من طريق قتادة عن رافع بن سحنان (¬2) قال: قال عبد الله: مَن علّق شيئًا وكل إليه (¬3). وأخرج الإِمام أحمد وأبو داود والحاكم في المستدرك وابن حبان في صحيحه من طريق عبد الرحمن بن حرملة، عن عبد الله بن مسعود قال: كان رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يكره عشر خلال، الحديث، ذكر فيه: "الرقى إلا بالمعوذات، وعقد التمائم" (¬4). [675] وبالجملة فحديث قيس بن السكن عن ابن مسعود صحيح لا مغمز فيه، وبقية الروايات شواهد قوية وعواضد يبلغ بها الحديث غاية الصحة. ¬

_ (¬1) المصنَّف، الموضع السابق، 12/ 40، ح 23925. (¬2) كذا في الأصل في الأصل والنسخة التي نقل عنها المؤلف، وصوابه: واقع بن سَحبان، ذكره البرديجىّ في طبقات الأسماء المفردة ص 73، وابن ماكولا في الإكمال 4/ 267، ويكنى أبا عَقِيلٍ. ترجم له ابن سعدٍ 7/ 227، والبخاريّ 8/ 198، وابن أبي حاتمٍ 9/ 49، وابن حِبَّان في الثقات 5/ 498. (¬3) المصنَّف، الموضع السابق، 12/ 43 - 44، ح 23940. (¬4) مسند أحمد 1/ 380، سنن أبي داود، كتاب الخاتم، باب ما جاء في خاتم الذهب، 2/ 224، ح 4222. المستدرك، كتاب اللباس، "أن نبيَّ الله - صلى الله عليه وسلم - كان يكره عشر خصالٍ"، 4/ 195، وقال: "صحيح الإسناد"، وأقرَّه الذهبيّ، ولكن عبد الرحمن بن حرملة مجهولٌ. [المؤلف]. وهو في صحيح ابن حبان (الإحسان)، كتاب الحظر والإباحة، باب التواضع والكبر والعجب، ذكر الزجر عن أشياء معلومة ... 12/ 495، ح 5682.

وفي صحيح مسلمٍ عن عوف بن مالكٍ الأشجعيِّ قال: كنا نرقي في الجاهلية، فقلنا: يا رسول الله كيف ترى في ذلك؟ فقال: "اعرضوا عليّ رُقاكم، لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شركٌ" (¬1). هذا شاهد لحديث ابن مسعود في الجملة لدلالته على أن من الرقى ما هو شرك، وهو في أحاديث أخرى في الإذن بالرقى قد مرّ بعضها تبيِّن حديث ابن مسعود بدلالتها على أنَّ من الرقى ما ليس بشرك. وتفسير ذلك أن الرقى على ثلاثة أضرب: الضرب الأول: الرقية بكتاب الله تعالى وذكره ودعائه اللَّذَيْنِ أُذِنَ في مثلهما فهذا حق وإيمان، ولكن الأولى بالمؤمن ألَّا يسأل غيره أن يرقيه، كما تقدَّم إيضاحه في الدعاء (¬2). الضرب الثاني: ما كان فيه تعظيم لغير الله عزَّ وجلَّ، فهذا إن كان مما أنزل الله تعالى به سلطانًا فهو كالأول وإلا فهو شرك، ومن ذلك الإقسام بالكواكب وأسماء الشياطين وبالحروف (¬3) والأسماء التي يزعمون أنها أسماء الروحانيَّين. ويلحق بذلك في المنع ما كان فيه كلمات أعجمية لا يدرى معناها، وإن كان معها ذكر لله عزَّ وجلَّ وثناء عليه؛ لأن المشركين يخلطون عبادة الله تعالى بعبادة غيره. وكذا ما كان فيه حروف مفردة فإنه لا ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب السلام، بابٌ: "لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شركٌ"، 7/ 19، ح 2200. [المؤلف] (¬2) انظر ص 787 - 788. (¬3) كُتِب بحاشية الصفحة بقلم الرصاص عبارةٌ، كأنها: (التي لا تُعرَف)، وقد تكون من المؤلِّف.

يؤمَنُ أن تكون كلمات أعجمية شركية قُطَّعَتْ حروفًا. [676] الضرب الثالث: ما كان من الرقى كلمات عربية ليس فيها تعظيم ولا مدح، فإن كان يرى أو يجوَّز أن لتلك الكلمات أثرًا يستند إلى غيبيٍّ كالروحانيين والجن والكواكب ونحوها فحكمه كالقسم الثاني، والله أعلم. وإن كان لا يجوِّز ذلك، وإنما يقول: لعلَّ للحروف والكلمات خواصّ كخواصّ الأشجار والأحجار، فالحكم في هذا مشتبه، ولم نجد له مستندًا ثابتًا في الشريعة ولا في الحسَّ والعادة القطعيَّين. والذي أختاره الآن المنعُ من هذا؛ لأنه إن لم يكن فيه نفسه حرج فهو ذريعة إلى القسم الثاني، والله أعلم. وفي فتح الباري: "وقال ابن التين: .... وتلك الرقى المنهي عنها التي يستعملها المعزَّم وغيره ممن يدَّعي تسخير الجن له فيأتي بأمور مشتبهة مركَّبة من حق وباطل يجمع إلى ذكر الله وأسمائه ما يَشُوبُه من ذكر الشياطين والاستغاثة بهم والتعوُّذ بمَرَدَتهم. ويقال: إن الحية لعداوتها للإنسان بالطبع تصادق الشياطين لكونهم أعداء بني آدم، فإذا عزَّم على الحية بأسماء الشياطين أجابت وخرجت من مكانها، وكذا اللديغ إذا رُقِيَ بتلك الأسماء سالت سمومها من بدن الإنسان. ولذلك كره من الرقى ما لم يكن بذكر الله وأسمائه خاصة وباللسان العربي الذي يعرف معناه ليكون بريئًا من الشرك. وعلى كراهة الرقى بغير كتاب الله علماء الأمة. قال القرطبي: الرقى ثلاثة أقسام: أحدها: ما كان يرقى به في الجاهلية مما لا يعقل معناه فيجب اجتنابه؛ لئلا يكون فيه شرك أو يُؤدي إلى الشرك.

الثاني: ما كان بكلام الله أو بأسمائه فيجوز، فإن كان مأثورًا فيستحب. [677] الثالث: ما كان بأسماء غير الله من مَلَك أو صالح أو مُعظَّم من المخلوقات كالعرش، قال: فهذا ليس من الواجب اجتنابه، ولا من المشروع الذي يتضمَّن الالتجاء إلى الله والتبرك بأسمائه؛ فيكون تركه أولى إلاَّ أن يتضمن تعظيم المرقيَّ به فينبغي أن يُجتنَب كالحلف بغير الله" (¬1). أقول: ذكر اسم المَلَك أو الصالح أو المعظَّم في معرض الرقية بذكره تعظيم وأيُّ تعظيم، فالحقُّ ما قدَّمناه في الكلام على الضرب الأول. ثم قال في الفتح: "وقال الربيع: سألت الشافعي عن الرقية، فقال: لا بأس أن يُرقى بكتاب الله وما يُعْرَف من ذكره. فقلت: أَيَرقي أهلُ الكتاب المسلمين؟ قال: نعم إذا رَقَوْا بما يُعْرَف من كتاب الله وبذكر الله. اهـ ... وروى ابن وهب عن مالك كراهة الرقية بالحديدة والملح وعقد الخيط والذي يكتب خاتم سليمان، وقال: لم يكن من أمر الناس القديم ... وسُئِل ابن عبد السلام عن الحروف المقطَّعة، فمنع منها ما لا يُعْرَف؛ لئلا يكون فيها كفر" (¬2). **** ¬

(¬1) فتح الباري 10/ 153. [المؤلف]. وانظر: المفهم للقرطبي 1/ 466 - 467. (¬2) [فتح الباري] 10/ 153 - 154. [المؤلف]

التمائم

التمائم قد تقدَّم حديث ابن مسعود. وأخرج الإمام أحمد والحاكم في المستدرك وغيرهما عن عقبة بن عامرٍ قال: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يقول: "مَن تعلَّق تميمةً فلا أتَّم الله له، ومَن تَعَلَّق وَدَعَة فلا ودع الله له" (¬1). [678] وأخرج الإمام أحمد والحاكم وغيرهما عن عقبة أيضًا أن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أقبل إليه رهط فبايع تسعة وأمسك عن واحدٍ، فقالوا: يا رسول الله بايعت تسعة وتركت هذا، قال: "إن عليه تميمةً"، فأدخل يده فقطعها فبايعه، وقال: "مَن عَلَّق تميمةً فقد أشرك" (¬2). وقال ابن أبي شيبة في المصنف: "ثنا شبابة، ثنا ليث بن سعد، عن يزيد، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامرٍ قال: موضع التميمة من الإنسان ¬

_ (¬1) المسند 4/ 154. المستدرك، كتاب الرقى والتمائم، الدعاء عند عيادة المريض، 4/ 418، وقال: "صحيحٌ"، وأقرَّه الذهبيّ. [المؤلف] وهو في صحيح ابن حبان (الإحسان)، كتاب الرقى والتمائم، ذكر الزجر عن تعليق التمائم التي فيها الشرك بالله جل وعلا، 13/ 450، ح 6086. وقال المنذري في الترغيب والترهيب 4/ 306: "إسناده جيد". وكذا قال الهيثمي في مجمع الزوائد 5/ 175: "ورجاله ثقات" لكن في إسناده خالد بن عبيد المعافري، وهو مجهول. انظر: السلسلة الضعيفة 3/ 427، ح 1266. (¬2) مسند أحمد 4/ 156، المستدرك، كتاب الطبّ، أمسك النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن بيعة رجلٍ كانت في عضده تميمةٌ، 4/ 219، ورجاله ثقاتٌ، ووقع في نسخة المستدرك تحريفٌ في بعض الأسماء. [المؤلف]

والطفيل (¬1) شركٌ"، وهذا سندٌ صحيحٌ. وقال: "ثنا شريك، عن هلال، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: "مَن تعلَّق (¬2) التمائم وعقد الرقى فهو على شعبةٍ من الشرك"، وهذا مرسلٌ. وقال: "ثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم قال: كانوا يكرهون التمائم والرقى والنشر". وقال: "ثنا حفص، عن ليث، عن سعيد بن جبير قال: من قطع تميمة عن إنسان كان كعدل رقبة" (¬3). وقد اختلف في تفسير التمائم. فقيل: إن التميمة خرزة مخصوصة. وقيل: بل كل ما يُعلَّق رجاءً للنفع. وممَّا يدل على الثاني ما في مصنف ابن أبي شيبة: [679] "ثنا هشام (هشيم)، ثنا مغيرة، عن إبراهيم قال: كانوا يكرهون التمائم كُلَّها من القرآن وغير القرآن". ثنا هشيم، أنا يونس، عن الحسن أنه كان يكره ذلك (¬4). ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، والذي في المصنَّف: "والطَّفل". (¬2) كذا في الأصل، والذي في المصنَّف: "مَن علَّق". (¬3) المصنَّف، كتاب الطبّ، في تعليق التمائم والرقى، 7/ 373 - 375. (¬4) المصنَّف، الموضع السابق، 7/ 374.

وفيه: "ثنا وكيع، ثنا سفيان، عن إبراهيم بن المهاجر، عن إبراهيم، عن عبد الله أنه كره تعليق شيء من القرآن. وقال: "ثنا هشيم، عن مغيرة، قلتُ لإبراهيم: أعلَّق في عضدي هذه الآية: {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69] من حُمَّى كانت بي؟ فكره ذلك. وقال: "ثنا وكيع، عن ابن عون، عن إبراهيم أنه كان يكره المعاذة (¬1) للصبيان، ويقول: إنهم يدخلون به الخلاء" (¬2). ومما يدلُّ على أن التمائم يتناول (¬3) ما كان من القرآن ونحوه: ما أخرجه الحاكم في المستدرك وغيره عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: "ليست التميمة ما تُعُلَّق به بعد البلاء، إنما التميمة ما تُعُلِّق به قبل البلاء". قال الحاكم: "هذا حديث على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، ولعل متوهمًا يتوهم أنها من الموقوفات على عائشة رضي الله عنها وليس كذلك؛ فإن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قد ذكر التمائم في أخبارٍ كثيرةٍ، فإذا فسرت عائشة رضي الله عنها التمائم فإنه خبرٌ مسندٌ" (¬4). ¬

_ (¬1) ما يكتب من القرآن والدعاء ويُعلَّق كما سيأتي عند المؤلف في ص 973. (¬2) المصنَّف، الموضع السابق، 7/ 373 - 376. (¬3) كذا في الأصل على تقدير اسم التمائم. (¬4) المستدرك، كتاب الطبّ، التميمة ما تُعُلَّق به قبل البلاء، 4/ 217، وأعاده بعد ذلك [في كتاب الرقى والتمائم، التمائم ما عُلَّق قبل نزول البلاء]، 4/ 418، وقال: "صحيح الإسناد على شرط الشيخين"، وقال الذهبيّ في تلخيصه: "صحيحٌ". [المؤلف].

ودلالته على العموم من وجهين: الأول: ظاهر قولها: إنما التميمة ما تُعُلِّق به. [680] وكلمة (ما) من قولها: (ما تُعُلِّق به) اسم موصول، فيعمُّ كلَّ ما يُتَعَلَّق به. الثاني: أن كلمة (أل) في قولها: (التميمة) ليست للجنس، بدليل أن المعروف في اللغة بل المتواتر أن التميمة يطلق على الخرزة التي تُعَلَّق رجاء نفعها، سواء بعد البلاء عُلِّقت أم قبله، وإنما هي للعهد. أرادت - والله أعلم - ليست التميمة التي نهى عنها النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم .... ولو جعلنا التميمة في كلامها خاصًّا بالخرزة لدلّ كلامها أن تعلُّق الخرزة بعد البلاء غير منهي عنه، وهذا باطل لعموم الأحاديث في النهي وما في بعضها من ذكر السبب وأنه كان بعد البلاء، مع ما سيأتي عن عائشة نفسها من إنكارها جَعْلَ الخلخالين على الصبي، والصبي حينئذٍ مبتلىً. فالصواب - والله أعلم - حمل التميمة في كلامها على كل ما يُتعلَّق رجاء النفع، ثم يستثنى من ذلك الخرز ونحوها فإنها منهي عنها مطلقًا، ويبقى ما يُعلَّق مما فيه ذكر الله تعالى، فهذا هو الذي يجيء فيه التفصيل، فإن عُلِّق قبل البلاء فهو تميمة منهي عنها، وإن عُلِّق بعد البلاء فلا حرج فيه. وحديثها هذا هو - والله أعلم - حجَّة القائلين بمنع الرقى والمعاذات قبل البلاء والترخيص فيها بعد البلاء. قال الحافظ في الفتح: "وقال قوم: المنهي عنه من الرقى ما يكون قبل وقوع البلاء، والمأذون فيه ما كان بعد وقوعه، ذكره ابن عبد البر والبيهقي

وغيرهما (¬1)، وكأنه مأخوذ من الخبر الذي قرنت فيه التمائم بالرقى"، فذكر [681] حديث ابن مسعود المتقدم، ثم قال: "والتمائم جمع تميمة، وهي خرز أو قلادة تُعَلَّق في الرأس، كانوا في الجاهلية يعتقدون أن ذلك يدفع الآفات، والتولة .... شيء كانت المرأة تجلب به محبة زوجها، وهو ضرب من السحر، وإنما كان ذلك من الشرك لأنهم أرادوا دفع المضار وجلب المنافع من عند غير الله. ولا يدخل في ذلك ما كان بأسماء الله وكلامه؛ فقد ثبت في الأحاديث استعمال ذلك قبل وقوعه". فذكر حديث: كان إذا أوى إلى فراشه ينفث بالمعوذات، وحديث تعويذه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم الحسن والحسين، وما في معنى ذلك، ثم قال: "لكن يحتمل أن يقال: إن الرقى أخص من التعوذ، وإلا فالخلاف في الرقى مشهور، ولا خلاف في مشروعية الفزع إلى الله تعالى والالتجاء إليه في كل ما وقع وما يتوقّع" (¬2). أقول: أما ما كان من تعويذ الإنسان بالقول والنفث ونحوه لنفسه ولولده أو لولد غيره بدون سؤال، فهذا لا يدخل في الرقية ولا يُمنَع قبل البلاء ولا بعده. وأما ما يكون لغيره بسؤال ولا سيَّما إذا كان المسؤول منه لا يعرف بالخير والصلاح أو كان من أهل الكتاب، فهذا هو الرقية التي يمنع منها قبل البلاء ويرخص فيها بعده، بشرط أن تكون بذكر الله تعالى. فأما إذا كان المسؤول معروفًا بالخير فقد كان الصحابة رضي الله عنهم ربما يذهبون بأطفالهم الأَصِحَّاء إلى النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يدعو لهم، ولكن لم ¬

_ (¬1) انظر: التمهيد 17/ 160 - 161، سنن البيهقي 9/ 350، الآداب الشرعية 2/ 444. (¬2) فتح الباري 10/ 153. [المؤلف]

يكن ذلك يتكَرَّر، ولم يفعل السلف فيما نعلم مِثْلَ ذلك مع غير النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فلم يكونوا يذهبون بأطفالهم إلى أبي بكرٍ أو عمر أو غيرهما. [682] وأما ما يكتب ويُعَلَّق فالفرق بينه وبين تعويذ الإنسان نفسه وولده ظاهر، وقول الحافظ: "وكأنه مأخوذ من الخبر الذي قُرِنَتْ فيه التمائم بالرقى" صريح أو كالصريح في أن الحكم المذكور مُسَلَّم في التمائم أي إنها إنما يرخص فيها بعد البلاء، وهذا لا يصح في الخرز، فإنه لا يرخص فيها أصلاً، كما يدل عليه قوله: "وإنما كان ذلك من الشرك؛ لأنهم أرادوا دفع المضار وجلب المنافع من عند غير الله"، فإن هذا المعنى موجود في تعليق الخرز سواء أقبل البلاء عُلِّقت أم بعده، ولكن ينبغي أن يزاد بعد قوله: "من عند غير الله" بغير إذنه؛ لإخراج التداوي بالأدوية المعروفة. فالحاصل: أن التمائم التي يرخص فيها بعد البلاء هي المعاذات المكتوب فيها ذكر الله عزَّ وجلَّ. والله أعلم. وقال البيهقي في السنن الكبرى في الكلام على حديث ابن مسعود: "وقال أبو عبيد: ... وأما الرقى والتمائم فإنما أراد عبد الله ما كان بغير لسان العربية مما لا يُدرى ما هو؟ قال الشيخ (¬1): والتميمة يقال إنها خرزة ... ، ويُقال: قلادة تُعلَّق فيها العُوَذ"، ثم ذكر حديث عقبة بن عامرٍ، ثم قال: "وهذا أيضًا يرجع معناه إلى ما قال أبو عبيدٍ، وقد يحتمل أن يكون ذلك وما أشبهه من النهي والكراهة فيمن ¬

_ (¬1) هو البيهقيّ.

تعلّقها وهو يرى تمام العافية وزوال العلَّة منها على ما كان أهل الجاهلية يصنعون. فأما من تعلّقها متبركًا بذكر الله تعالى فيها وهو يعلم أَلَّا كاشف إلَّا الله ولا دافع عنه سواه فلا بأس بها إن شاء الله" (¬1). اهـ. فكلام أبي عبيدٍ صريحٌ في أن التمائم تطلق على ما يكتب، وكذا كلام البيهقي أخيرًا؛ فإنه في التمائم بدليل قوله: "فيمن تعلقها وهو يرى تمام العافية"، [683] وصريح في أن مراده التمائم المكتوبة؛ بدليل قوله: "فأما من تعلقها متبركًا بذكر الله تعالى فيها". بقي كلام في حديث عائشة، وهو أن لفظه عند البيهقي في رواية: "ليست التميمة ما يُعلَّق قبل البلاء، إنما التميمة ما يُعَلَّق بعد البلاء ليدفع به المقادير" (¬2). كذا وقع في هذه الرواية, ورجح البيهقي الرواية التي قَدَّمناها عن المستدرك، وكأنه انقلب الحديث في هذه الرواية, على أنها لو صحت لكان لها معنى، بأن يقال: المراد بالتمائم الخرز؛ فما علق قبل البلاء لزينة مثلًا فلا بأس به، وإنما البأس فيما يُعلَّق بعد البلاء لدفع المقادير، ولكن في هذا المعنى ركاكة؛ إذ لا يكون فائدة للتقييد بقبل البلاء وبعده، بل المدار على الباعث على التعليق، فكان وجه الكلام لو أريد هذا المعنى أن يُقال: ليس التمائم ما عُلَّق للزينة؛ وإنما التمائم ما علق رجاء النفع أو نحو ذلك، فالصواب ما رجَّحه البيهقي، وأن المتن في هذه الرواية انقلب على الراوي، والله أعلم. ¬

_ (¬1) السنن الكبرى 9/ 350. (¬2) السنن الكبرى, كتاب الضحايا، باب التمائم، 6/ 350.

والحاصل أن التمائم إن أريد بها الخرز ونحوها مما لا كتابة فيه فهو ممنوع البتة، وقد ورد فيه حديث ابن مسعود وحديث عقبة بن عامر، وقد تقدَّما. وأخرج الحاكم في المستدرك عن طريق بكير بن عبد الله بن الأشج أن أمه حدثته أنها أرسلت إلى عائشة رضي الله عنها بأخيه مخرمة، وكانت تداوي من قرحة تكون [684] بالصبيان، فلما داوته عائشة وفرغت منه رأت في رجليه خلخالين جديدين (كذا)، فقالت عائشة: أظننتم أن هذين الخلخالين يدفعان عنه شيئًا كتبه الله عليه، لو رأيتهما ما تداوى عندي، وما مُسَّ عندي، لعمري لخلخالان من فضة أطهر من هذين". قال الحاكم: صحيح الإسناد، وأقره الذهبي (¬1). وفي تهذيب التهذيب في ترجمة بكير بن عبد الله: "وقال أحمد بن صالح: إذا رأيت بكير بن عبد الله روى عن رجل فلا تسأل عنه؛ فهو الثقة الذي لا شك فيه". ولعل الصواب: (خلخالين حديدًا) بدل (جديدين)، بدليل قولها: "لخلخالان من فضة أطهر من هذين". وأخرج الإمام أحمد وابن ماجه من طريق المبارك بن فضالة عن الحسن قال: أخبرني عمران بن حصين أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أبصر على عضد رجل حلقة، أُراه قال: من صُفْر (¬2)، فقال: "ما هذه؟ " قال: ¬

_ (¬1) المستدرك، كتاب الطبّ، التميمة ما تُعُلَّق به قبل البلاء، 4/ 217 - 218. [المؤلف] (¬2) من صُفْرٍ - بضم الصاد -: أي من نحاسٍ. انظر: هدي الساري 144.

من الواهنة (¬1)، قال: "أما إنها لا تزيدك إلا وهنًا! انبذها عنك؛ فإنك لو متّ وهي عليك ما أفلحت أبدًا" (¬2). أقول: لكن في مصنف ابن أبي شيبة: "ثنا هشيم، أنا يونس، عن الحسن، عن عمران بن حصين أنه رأى في يد رجل حَلْقَة من صُفْرٍ، فقال: ما هذه؟ قال: من الواهنة، قال: لم تزدك إلا وهنًا, ولو مت وأنت تراها نافعتك لمتَّ على غير الفطرة. ثنا هشيم، قال: أنا منصورٌ (¬3)، [685] عن الحسن، عن عمران بن الحصين، مثل ذلك". أقول: وهذا هو الصحيح، موقوفٌ. المبارك بن فضالة متكلَّم فيه، وقد تابعه على رفعه مَنْ هو دونه، وهو أبو عامرٍ الخزاز صالح بن رستم. أخرجه الحاكم في المستدرك من طريقه عن الحسن، عن عمران بن حصينٍ قال: دخلت على النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وفي عضدي حلقة صُفْرٍ، فقال: "ما هذه؟ " فقلت: من الواهنة، فقال: "انبذها". قال الحاكم: "صحيح الإسناد"، وأقرَّه الذهبي (¬4). ¬

_ (¬1) الواهنة: عرقٌ يأخذ في المنكب وفي اليد كلَّها فيرقى منها، وقيل غير ذلك. انظر: النهاية 5/ 234. (¬2) المسند 4/ 445، واللفظ له. سنن ابن ماجه، كتاب الطبّ، باب تعليق التمائم، 2/ 188، ح 3531. وحسَّنه البوصيري في مصباح الزجاجة 2/ 223 ح 1232. (¬3) في النسخة: ثنا هشام، قال: أنا أبو منصورٍ. [المؤلف] (¬4) المستدرك، كتاب الطبّ، إذا رأى أحدكم من نفسه أو من أخيه ما يحبُّ فليبرَّك، 4/ 216. [المؤلف]

وأخرج الإمام أحمد والحاكم في المستدرك وغيرهما من طريق محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أخيه عيسى، قال: دخلت على أبي معبد الجهنيِّ وهو عبد الله بن عُكَيمٍ وبه جمرٌ (كذا) (¬1)، فقلت: ألا تعلِّق شيئًا، فقال: الموت أقرب من ذلك، قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "مَن تعلَّق شيئًا وُكِلَ إليه" (¬2). محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى إمامٌ في الفقه، ولكنه غير قويًّ في الحديث، ولكن في كنز العُمَّال (¬3) أن ابن جريرٍ أخرج هذا الحديث وصحَّحه، والله أعلم. وقال ابن أبي شيبة في المصنف (¬4): "ثنا علي بن مسهر، عن يزيد، أخبرني زيد بن وهب قال: انطلق حذيفة إلى رجل من النَّخَع يعوده، فانطلق وانطلقتُ معه، فدخل عليه ودخلت معه، فلمس عضده فرأى فيه خيطًا، فأخذه فقطعه، ثم قال: لو مُتَّ وهذا في عضدك ما صَلَّيتُ عليك. [686] ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن حذيفة قال: ¬

_ (¬1) في الترمذيّ: "حمرةٌ"، وهو الصواب. (¬2) لفظ المستدرك، كتاب الطبّ، من تعلَّق شيئًا وُكِل إليه، 4/ 216. ولفظ الإمام أحمد بنحوه، المسند 4/ 310. [المؤلف]. وكذا أخرجه الترمذيّ في كتاب الطبّ، باب ما جاء في كراهية التعليق، 4/ 403، ح 2072. وقال: "وعبد الله بن عكيم لم يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: كتب إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". (¬3) 10/ 110، ح 28552. لكنه من رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عبد الله بن عكيم. (¬4) كتاب الطب، في تعليق التمائم والرقى، 12/ 41 - 42، ح 23928 - 23929.

دخل على رجل يعوده فوجد في عضده خيطًا، فقال: ما هذا؟ قال: خيط رُقِيَ لي فيه، فقطعه، ثم قال: لو مُتَّ ما صَلَّيتُ عليك". وقال (¬1): "ثنا عبدة، عن محمد بن سُوقة، أن سعيد بن جبير رأى إنسانًا يطوف بالبيت في عنقه خرزة فقطعها. ثنا حفص، عن ليث، عن سعيد بن جبيرٍ قال: مَن قطع تميمة عن إنسان كان كعدل رقبة". وكُلُّ هذا يدلُّ على ما قدَّمنا في التمهيد أن مَن تعلَّق خرزة أو نحوها مجوِّزًا أن تكون سببًا لنفعٍ غيبيًّ كان ذلك شركًا، وإن لم يكن يجوِّز ذلك ولكنه يرجو أن تكون لها خاصَّيةٌ طبيعيَّةٌ في سرور النفس أو طرد الجنِّ أو دفع العين أو نحو ذلك فهذا أيضًا ممنوع سدًّا للذريعة. وعموم الأحاديث يتناول الخيط الذي يُرْقَى فيه، ويُصَرِّح بذلك أثر ابن مسعود وأثر حذيفة؛ فإنهما لم يلتفتا إلى أن ذلك الخيط رقي فيه، ولم يسألا عن تلك الرقية بماذا كانت؟ أبذكر الله تعالى أم بغيره؟ وكأن ذلك - والله أعلم - لشبهه بالخرزة، فمُنِعَ سدًّا للذريعة، وإلَّا فقد يقاس على ما صح عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أنه كان يدني يديه مِنْ فيه فيتعوَّذ وينفث فيهما ثم يمسح بهما بدنه؛ فإنَّ هذا يدلُّ أنَّ نَفْثَ القارئ يقتضي حصولَ بركة فيما نفث فيه. فأما إذا اختار الراقي شيئًا مخصوصًا كجلد أرنب أو نحو ذلك مما لم يأت به سلطان أو عقد في الخيط فلا شبهة أنه في معنى الخرزة قطعًا، والله أعلم. ¬

_ (¬1) الموضع السابق، 12/ 43، ح 23938 - 23939.

[687] وأما ما جرت به العادة أن يؤتى إلى الراقي بماء فيقرأ عليه ويدعو فيه ثم يُذْهَب به فَيُسْقاه المبتلى ويُرَشُّ عليه منه فلا أرى به بأسًا، والأولى بالمؤمن أَلاَّ يسأله لنفسه على ما علمتَ فيما مرّ، والله أعلم. وأما المَعَاذات وهي ما يكتب من القرآن والدعاء ويُعلَّق فقد تقدمت آثار بكراهتها وجاءت آثار بالرخصة فيها، والظاهر الجواز بعد البلاء بشرط أَلَّا يُكتَب إلاَّ ما ثبت من الشرع التبرّك به من القرآن والدعاء الخالص عَمَّا لم يأذن الله تعالى به، وبشرط ألَّا يتحرَّى شيئًا لا سلطان من الله تعالى على تحَرِّيه، وذلك كأن يكون القلم من حديدٍ، أو يكون الرقُّ جلد غزالٍ، أو يكون المداد فيه زعفران، أو يكون الخط بالسريانيَّة، أو أن يبخِّر عند الكتابة، أو أن يكتب عددًا مخصوصًا إلا الثلاثة أو السبعة فإن لتحرِّيهما أصلاً في الشريعة، أو يتحرَّى وقتًا مخصوصًا كوقت الكسوف، أو مكانًا مخصوصًا كساحل البحر، أو أن يكتب على هيئة مخصوصة كالأوفاق (¬1)، أو يراعي حساب الجمَّل، أو طبائع الحروف على زعم أن لها طبائع، وغير ذلك مما هو معروفٌ في كتب العزائم كشمس المعارف وغيره، وعامَّة ذلك مأخوذ عن الصابئة، كما تقدَّم عن الشهرستاني (¬2). فإذا تحرَّى في المَعاذة شيئًا من هذه الأشياء التي لم يجئ بها سلطان من كتاب الله عزَّ وجلَّ ولا من سنّة نبيّه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كانت المعاذة في معنى الخرزة, وعامة كتب العزائم والتعاويذ على خلاف الشريعة، وفي كثير منها الكفر البواح والشرك الصراح، فإنا لله وإنا إليه راجعون. ¬

_ (¬1) سبق التعريف بها ص 663. (¬2) انظر ص 671 - 673

فصل في التولة والسحر

[688] فصل في التِّولة والسحر قد تقدم (¬1) في حديث ابن مسعود أن التولة شرك. وفي النهاية (¬2): "التولة: - بكسر التاء وفتح الواو - ما يحبِّب المرأة إلى زوجها من السحر وغيره، جعله من الشرك لاعتقادهم أن ذلك يؤثر ويفعل خلاف ما قدَّره الله تعالى". وقال الحافظ ابن حجر: "والتولة بكسر المثناة وفتح الواو واللام مخففًا: شيء كانت المرأة تجلب به محبة زوجها وهو ضرب من السحر، وإنما كان ذلك من الشرك لأنهم أرادوا دفع المضار وجلب المنافع من عند غير الله" (¬3). أقول: تحبُّب المرأة إلى زوجها على وجهين: الأوَّل: تحبُّبُها بما جرت العادة المبنيَّة على الحسِّ والمشاهدة أنه يحبِّب، كالتزيُّن والتدلُّل وإظهار فَرْطِ محبتها له ونحو ذلك، وليس هذا من التولة. الثاني: تحبُّبُها بما لم تَجْرِ به العادة كذلك، وإنما هو مستَنِد إلى قوَّة غيبيَّة، فهذا إن جاء سلطان من الله تعالى بالإذن فيه فذاك، وإلا فهو من التِّوَلة. وإنما جاء السلطان بالإذن في الدعاء المجرّد عن البدع والخرافات وفي كلّ ما هو طاعةٌ لله عزَّ وجلَّ كالصلاة والصيام والصدقة. وكل ما لم ¬

_ (¬1) راجع ص 955. (¬2) 1/ 200. (¬3) فتح الباري 10/ 153. [المؤلف]

يجئ به سلطان فهو من التولة، وهي شرك؛ لأنها تتضمَّنُ خضوعًا يطلب به نفع غيبِيٌّ لم ينزل الله تعالى به سلطانًا، وتتضمَّن طاعة للشياطين والمعزِّمين وَالعَجَائِز ونحوهم فيما يُطْلَب به نفع غيبِيٌّ ولم ينزل الله تعالى بها سلطانًا، والله أعلم. وقال ابن حجر الهيتميُّ في كتابه الإعلام بقواطع الإسلام: "قد مرَّ أن السحر قد يكون كفرًا، وغرضنا الآن استقصاء ما يمكن من الكلام فيه وفي أقسامه وحقيقته وبيان أحكامه رَدْعًا لكثيرين انهمكوا عليه وعلى ما يقرب منه، وعَدُّوا ذلك شرفًا وفخرًا, [689] فنقول: مذهبنا في السحر ما بسطناه فيما مرَّ. وحاصله: أنه إن اشتمل على عبادة مخلوق كشمس أو قمر أو كوكب أو غيرها أو السجود له أو تعظيمه كما يعظَّم الله سبحانه أو اعتقاد أنَّ له تأثيرًا بذاته أو تنقيص نبي أو مَلَكٍ بشرطه السابق أو اعتقد إباحة السحر بجميع أنواعه كان كفرًا وردَّةً ..... وأما الإمام مالكٍ رحمه الله تعالى فقد أطلق هو وجماعةٌ سواه الكفر على الساحر، وأن السحر كفر، وأن تعلمه وتعليمه كفر كذلك، وأنَّ الساحر يُقتل ولا يستتاب (¬1)، سواء سحر مسلمًا أم ذِمِّيًّا كالزنديق، ولبعض أئمة مذهبه كلام نفيس ...... وحاصله: أن الطرطوشي قال: قال مالك وأصحابه: الساحر كافرٌ ..... ويؤدَّبُ من تَرَدَّدَ إلى السحرة إذا لم يباشر سحرًا ولا علمه؛ لأنه لم يكفر، ولكنه ركن للكفر. قال: وتعلمه وتعليمه عند مالكٍ كفرٌ. ¬

_ (¬1) انظر: النوادر والزيادات 14/ 532.

وقالت الحنفية (¬1): إن اعتقد أن الشياطين تفعل له ما شاء فهو كافر، وإن اعتقد أنه تخييل وتمويه لم يكفر. وقالت الشافعية رضي الله عنهم: يصفه؛ فإن وجدنا فيه كفرًا كالتقرّب للكواكب ويعتقد أنها تفعل فيلتمس منها فهو كفر، وإن لم نجد فيه كفرًا فإن اعتقد إباحته فهو كفر (¬2). قال الطرطوشي: .... واحتج مَن لا يقول إن تعلمه كفرٌ بأن تعلُّم الكفر ليس بكفرٍ، فإن الأصوليَّ (¬3) يتعلَّم جميع أنواع الكفر ليحذَّر منه ولا يقدح في شهادته .... قال القرافي (¬4): هذه المسألة في غاية الإشكال على أصولنا، فإن السحرة يعتمدون أشياء تأبى القواعد الشرعية أن نكفَّرهم، كفعل الحجارة المتقدم ذكرها قبل هذه المسألة، وكذلك يجمعون عقاقير ويجعلونها في الأنهار والآبار أو في قبور الموتى أو في باب يفتح إلى الشرق، ويعتقدون أن الآثار تحدث عن تلك الأمور بخواصَّ نفوسهم التي طبعها الله تعالى على الربط بينها وبين تلك الآثار عند صدق العزم، فلا يمكن تكفيرهم بجمع العقاقير ولا بوضعها في الآبار ولا باعتقادهم حصول تلك الآثار عند ذلك الفعل؛ [690] لأنهم جرَّبوا ذلك فوجدوه لا يخرم عليهم لأجل خواصَّ نفوسهم، فصار ذلك الاعتقاد كاعتقاد الأطباء عند شرب الأدوية، وخواصِّ ¬

_ (¬1) انظر: فتح القدير لابن الهمام 6/ 99 والكلام عن الكاهن. (¬2) انظر: روضة الطالبين 9/ 346. (¬3) يعني: المشتغلين بعلم الكلام. (¬4) في الفروق 4/ 283 فما بعدها.

النفوس، ولا يمكن التكفير بها؛ لأنها ليست من كسبهم، ولا كُفْرَ بغير مُكْتَسَب. وأما اعتقادهم أن الكواكب تفعل ذلك بقدرة الله، فهذا خطأ؛ لأنها لا تفعل ذلك، وإنما جاءت الآثار من خواصِّ نفوسهم التي ربط الله بها تلك الآثار عند ذلك الاعتقاد، فيكون ذلك الاعتقاد في الكوكب كما إذا اعتقد طبيب أن الله تعالى أودع في الصَّبِر والسَّقَمُونِيا (¬1) عَقْدَ البطن وقَطْعَ الإسهال، وأما تكفيرهم بذلك فلا. وإن اعتقدوا أن الكواكب تفعل ذلك والشياطين تُقْدِرها لا بقدرة الله تعالى؛ فقد قال بعض علماء الشافعية: هذا مذهب المعتزلة من استقلال الحيوانات بقدرتها دون قدرة الله تعالى، فكما لا تكفر المعتزلة بذلك لا يكفر هؤلاء. ومنهم مَن فَرَّق بأن الكواكب مظنة العبادة، فإذا انضمَّ إلى ذلك اعتقاد القدرة والتأثير كان كفرًا. وأجيب عن هذا الفرق: بأن تأثير الحيوان في القتل والضرِّ والنفع في مجرى العادة مشاهد من السباع والآدميين وغيرهم، وأما كون المشتري أو زُحَل يوجب شقاوة أو سعادة فإنما هو حزر وتخمين للمنجمين لا حجة في ذلك، وقد عبدت البقر والشجر، فصار هذا الشيء مشتركًا بين الكواكب وغيرها. والذي لا مرية فيه أنه كفر إن اعتقد أنها مستقلَّة بنفسها لا تحتاج إلى الله ¬

_ (¬1) نباتٌ يُستخرَج منه دواءٌ مسهَّلٌ للبطن ومزيلٌ لدوده. المعجم الوسيط 437.

تعالى، فهذا مذهب الصابئة، وهو كفرٌ صُراحٌ .... وقال قبل ذلك: .... ذكروا أنه يؤخذ سبعة أحجار ويرجم بها كلب شأنه أنه إذا رمي بحجر عضَّه، فإذا رمي بسبعة أحجار وعَضَّها كلها لُقِطت بعد ذلك وطُرِحت في ماء، فمن شرب منه ظهر فيه آثار [691] خاصّة يعبِّر عنها السحرة، فهذه تثبت للسحر، وليس ما يذكره الأطباء من الخواصِّ في هذا العالم للنباتات وغيرها من هذا القبيل .... " (¬1). أقول: أما ما اشتمل على عبادة غير الله تعالى من خضوع يطلب به نفع غيبِيٌّ ولم يأذن به الله تعالى أو طاعة فيما يطلب به نفع غيبِيٌّ ولم يأذن به الله تعالى فهو شرك وكفر قطعًا؛ فوضع العقاقير في قبور الموتى ونحوها إن كان الواضع يرى أو يجوَّز كون الوضع مرضيًّا عند الله عزَّ وجلَّ أو عند الروحانيِّين أو أرواح الموتى أو الجنّ أو الشياطين أو الكواكب فوضعه لها خضوع وطاعة يطلب بهما نفع غيبِيٌّ، وإذْ لم يأذن الله عزَّ وجلَّ به فهو شرك. وإن كان لا يجوِّز شيئًا من ذلك وإنما يرى ما يحصل من قبيل الخواص الطبيعيّة؛ فإن ثبت أن تلك الآثار من مُسمَّى السَّحر كان حكمُه حكم السحر الذي لا يتضمّن كفرًا آخر، وسيأتي ما فيه إن شاء الله تعالى. وهكذا رَمْيُ الكلب بالأحجار ولَقْطُها وَوَضْعُها في الماء إن جوّز الرامي أن عمله ذلك يرضي الله عزَّ وجلَّ أو الروحانيَّين أو أرواح الموتى أو الجنّ والشياطين أو الكواكب فهو من الشرك، وإن كان لا يجوِّز ذلك وإنما يرى ذلك لخاصيَّة في لُعاب الكلب عند غضبه؛ فإن ثبت أن تلك الآثار من مسمَّى السحر كان حكمُه حكمَ السحر، على ما سيأتي إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) الإعلام ص 58 - 61. [المؤلف]

فأما اعتقاد التأثير، فاعلم أن التأثير على ضربين: الأوَّل: ما ثبت بالعادة القطعيَّة المبنيَّة على الحسَّ والمشاهدة، كتأثير الآدميين الأحياء وغيرهم من الحيوان [692] إلى الحدِّ المحدود المعروف، وتأثير الشمس للحرارة واليبوسة وتأثير الأدوية في الصحة والمرض ونحو ذلك، فلا يكفر إلا مَنْ يُخْرجها من خلق الله تعالى أصلاً. فأما من يقول: إن الله تعالى أودع في النار قُوَّة الإحراق مثلًا فهي تؤثِّر بذلك إلا أن يشاء الله عزَّ وجلَّ سَلْبَها قوَّةَ الإحراق فيسلبها فلا يكفر هذا وإن خطَّأه كثير من العلماء (¬1). ويدخل في هذا ما لم يكن قطعيًّا ولكنه مستند إلى قطعيًّ، كما سلف في التمهيد. الضرب الثاني: ما لم يثبت بالعادة القطعيّة المبنيَّة على الحسِّ والمشاهدة، فإن بلغ اعتقاد التأثير إلى زعم أن ذلك المؤثِّر مدبِّرٌ استقلالاً، وقد مرَّ تفسيره، فهو شرك. وإن لم يبلغ ذلك؛ فإن كان في ذلك الاعتقاد تكذيب لله عزَّ وجلَّ أو كذب عليه فهو كفر وشرك، وإلا فهو من الخرص المذموم. هذا حكم الاعتقاد، فأما إن صحبه خضوع أو طاعة فقد مرّ حكم ذلك. ¬

_ (¬1) يشير الشيخ إلى علماء الأشاعرة، فهم الذين يخطئون هذا القول ويبدَّعون قائله كما قال قائلهم: "ومن يقل بالقوة المودَعة ... فذاك بدعي فلا تلتفت". انظر: شرح الخريدة البهية للدردير 165. وأهل السنة يقولون: إن النار تحرق والسيف يقطع والخبز يشبع، وكلها أسباب مؤثرة إذا توافرت الشروط وانتفت الموانع، وليست مبدعة، وليس في الوجود شيء واحد يستقل بفعل شيء إذا شاء إلا الله وحده. وخالق السبب التام خالق للمسبَّب لا محالة. منهاج السنة 3/ 12 - 13، اقتضاء الصراط المستقيم 2/ 226، التدمرية 211.

حكم السحر وتعليمه وتعلمه

ولا يتوقّف كون الخضوع أو الطاعة شركًا على فساد الاعتقاد في التأثير؛ فإن من اعتقد أن الملائكة والجنّ قد ينفعون بني آدم بإذن الله تعالى وقد يضرّونهم بإذن الله تعالى مصيب في اعتقاده، ولكنه إن خضع للملائكة خضوعًا لم يأذن به الله تعالى يكون مشركًا. وكذلك إن خضع للجنَّ أو أطاعهم قائلاً: إنما أخضع لهم لكي ينفعوني إذا أذن لهم الله تعالى في نفعي ولكي لا يضرُّوني إذا أذن الله تعالى لهم في ضري، بل من عمد إلى شجرة فزعم أن التمسُّح بها ينفع عند الله عزَّ وجلَّ يكون مشركًا مع أنه لم يعتقد للشجرة تأثيرًا أصلاً، ولو اشتهرت شجرة بأنها تُعبد ثم جاء إنسان إليها فصنع كما يصنع عابدوها لكان مشركًا، وإن زعم أنه لم يعتقد أن عبادتها تقرِّب إلى الله تعالى. [693] حكم السحر وتعليمه وتعلمه أما إذا كان في السحر عبادة لغير الله تعالى، أو كذب عليه عزَّ وجلَّ، أو تكذيب بآياته، فلا شبهة في التكفير، وربما لا يخلو السحر عن ذلك، ولكن لاشتباه معنى العبادة كثيرًا مَّا يخفى الشرك. وهذا مصداق ما جاء في الحديث عنه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أنه قال: "أيها الناس اتقوا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل" الحديث (¬1). وقد تقدَّم في الأعذار بشواهده (¬2). وتعليمه وتعلُّمه إن كانا بمباشرة الشرك أو مع اعتقاد الكفر فكلاهما ¬

_ (¬1) مسند أحمد 4/ 403. [المؤلف] (¬2) انظر ص 143.

كفر، وذلك كأن يباشر المعلم والمتعلم الأعمال الشركية، كأن يلبسا اللباس الخاص بزُحَل ويبخَّرا ببخوره، ويقْعُدا يدعُوانه ويعظِّمانه، أو يقرِّبا القُرْبان المخصوص بالجنِّ ويقعدا يدعُوان الجنَّ، أو اعتقدا أنَّ تعظيم الكواكب جائز أو أنَّ تعظيم الملائكة يحملهم على نفع المعظَّم، وقس على ذلك. وإن لم يكن إلاَّ ذكر الصفة وسماعُها فليس في ذلك كفر، لكن إذا عَلِمَ الواصفُ أنَّ السامع يريد العمل فلا شكَّ أنه لا يجوز له حينئذٍ الوصف، بل ربما يكفر به؛ فإن كان راضيًا بأن يعمل السامع فلا شك في كفره، والله أعلم. وكذلك إذا خاف الإنسان من نفسه أنه إذا علم الصفة نازعته نفسه إلى العمل بها فإنه لا يجوز له استماع الصفة، فأما إذا كان عازمًا على العمل فهذا العزم كفر. ويظهر لي أن مجرَّد ذكر الصفة مع ظنَّ الواصف أنَّ السامع لا يريد العمل لا يَصْدُقُ عليه أنه تعليم، وكذلك مجرَّد استماع الصفة مع عدم إرادة السامع العمل لا يُسمَّى تعلُّمًا، فتدبَّر. وأما السحر الذي ليس فيه عبادة لغير الله تعالى ولا كذب عليه سبحانه ولا تكذيب بآياته [694] ففيه نظرٌ، وقد يُحْتَجُّ لمالكٍ ومَن وافقه بقول الله عزَّ وجلَّ: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ

كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 102, 103]. والمراد بكلمة (مَا) من قوله: {مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ} السحر، كما جاء به التفسير عن السلف، والسياق يبيِّنه، كان الشياطين يعلَّمون الناس السحر ويزعمون أن سليمان عليه السلام كان يعرفه ويعمل به، وأنه كان قِوَام مُلكه. فقوله تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} معناه: ما سَحَر، كما جاء به التفسير عن السلف، وهو واضح من السياق، فدلَّ هذا أن السحر كفر. وقوله تعالى: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} بينه بقوله: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} فدلَّ ذلك أن تعليم السحر كفر. وقوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} ظاهر في أن تعلُّمه كفر. وقوله: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} [695] ظاهر في كونه كفرًا؛ إذ لا يصدق على أحد أنه لا خلاق له في الآخرة إلَّا إذا كان مخلَّدًا في النار، وإنما يخلَّد الكفار، فأما الملكان فقد تقدَّم العذر عنهما (¬1). ولا يمتنع أن يُغَلِّظَ الشرع في السحر فيجعله كفرًا وإن لم يتضمّن شركًا، ولا كذبًا على الله تعالى، ولا تكذيبًا بآياته. أو يقال: قد علم الله تعالى أن السِّحْر لا يخلو عن الشرك بالله أو الكذب عليه أو التكذيب بآياته. هذا أقصى ما يُوَجَّه به إطلاق مالك رحمه الله تعالى. وقد يجاب عن الآية باحتمال أن الضرب الذي نسبه الشياطين إلى سليمان عليه السلام من السحر فيه شرك وكذب على الله وتكذيب بآياته، ¬

_ (¬1) انظر ص 369 - 381.

طرق تحصيل قوة السحر

فقوله: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} أي: ما سحر هذا الضرب من السحر، فلا يلزم من ذلك أن كلَّ سحرٍ كُفْرٌ. وأما كفر الشياطين بتعليمهم فلأنهم يعلِّمون الناس ذلك الضرب من السحر الذي هو كفر، راغبين في أن يعمل الناس به مُرغِّبين لهم في العمل به. ويشهد لذلك أن الملَكين يُعَلِّمان ولكنهما لا يرضيان بالعمل؛ فلذلك لم يكن التعليم في حقهما كفرًا. وأما قول الملكين: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} فالمعنى: لا تعمل به فتكفر. وأما قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} فاشتراؤه هو العمل به، والله أعلم. ولنذكر بعض الطرق التي يُتوصَّل بها إلى السحر. [696] طرق تحصيل قوة السحر (1) أشهر الطرق بين الحكماء هي رياضة النفس بالجوع والسهر والخلوة والتفرغ عن الشواغل، وحصر الفكر في شيء محصور، وألَّا يأكل روحًا ولا ما خرج من روح، ويمسك عن الجماع، ويجَمع همته ويرتب تَنَفُّسَه على نظام معروف عندهم ونحو ذلك، فمن واظب على هذه الأمور وكان في نفسه استعداد اكتسبت نفسه قوة غريبة هي السحر. ويزعمون أنَّ مما يعين على حصول تلك القوة أن يكون المرتاض بريئًا من الحسد والبغضاء والطمع، يحب نفع المخلوقات كلها وخاصة الحيوان، وليس من شرطها دين مخصوص؛ لكن يرون أنَّ مما يساعد على حصول تلك القوة أن يجتهد المرتاض فيما يعتقد أنه عبادة سواء أكان لله عزَّ وجلَّ أم لغيره.

والحكماء وأشباههم يزعمون أن المقصود من هذه الرياضة تصفية النفس وتهذيبها وترقيق الحجب الجسمانية الحائلة بين النفس وبين ما هو ممكن لها من إدراك العلوم الدقيقة، والإشراف على العالم الروحاني وتطهير النفس من الأخلاق الذميمة والشهوات الحيوانية، وأن يستعمل المرتاض ما يحصل له من القوة الغريبة في تحصيل العلوم ونفع الخلق. ويقولون: إن من اشتغل بهذه الرياضة لحصول تلك القوة الغريبة فقط أو حصلت له تلك القوة فاستعملها في الأغراض الخسيسة من تحصيل جاه أو مال أو شهوة أو ضَرَّ بها مخلوقًا فهو إنسان مذموم ساقط الهمة، وأنه لا ينبغي للأستاذ أن يعلِّم إنسانًا الرياضة أو يساعده عليها حتى يَعْلَمَ حُسْنَ قصده. [697] ومن العجيب (¬1) أن المتصوفة نقلوا هذه الرياضة إلى الإسلام وألصقوها به، كما أشرنا إليه فيما تقدم (¬2)، وذلك معروف في كتبهم، والمحققون منهم يعترفون بأن هذه الرياضة ليست من الدين، وأن ما يحصل بسببها من القوة الغريبة لا يتوقف على كون المرتاض مسلمًا. وفي تاريخ الهند أن بعض المسلمين كان يرتاض على يد بعض العارفين بهذا الفن من الوثنيين، وأن بعض الوثنيين ارتاض على يد بعض المتصوفة من المسلمين. والغلاة من أصحابها من المتصوفة والوثنيين وغيرهم يزعمون أن الأديان كلها حق، وقد صرّح بذلك جماعة من زعماء المتصوفة وإن تأوّله بعض أتباعهم، وقد اشتهر في هذا العصر بين البحّاثين ¬

_ (¬1) وضع المؤلَّف فوقها بقلم الرصاص: الأسف، ولعلَّه كان يريد إبدالها بـ "العجيب". (¬2) انظر ص 261.

أن من العقائد الأساسية للتصوف تساوي الأديان. وصرَّح كثير من المتصوِّفة بأن المرتاض على تلك الطريقة تحصل له قوَّة غريبة يستطيع أن يعمل بها العجائب، ولكنهم يحذَّرون المريد أن يكون ارتياضه لأجل حصول تلك القوة، وأن يقف عندها إذا حصلت له، أو يستعملها في أغراضه، وأنه إن فعل ذلك هلك. وسماها بعضهم - كصاحب الإنسان الكامل -: السحر العال (¬1)، وذكر أن السالك يمرّ عليها، فيكون بحيث لا يريد شيئًا إلا حصل له، وأنه نفسه مرّ عليها. أما حكم هذه الطريقة، فإن تضمَّنت كفرًا - كاعتقاد أن الأديان كلَّها حقٌّ، أو كذبًا على الله تعالى بإلصاق ما ليس من دين الإسلام به، أو تكذيبًا بشيء من آيات الله تعالى، أو عبادة لغير الله تعالى، أو نحو ذلك مما [698] هو كفر أو شرك - فالأمر واضح، وإلا فالإقدام على القول بأن تعلُّمها وتعليمَها كفرٌ صَعْبٌ؛ فإن كثيرًا من المعْتَقَدِين عند المسلمين قد سلكوها وعلَّموها وألَّفوا فيها الكتب، والله المستعان، وقد عَلِمْتَ مذهب مالك رحمه الله تعالى. فأما من ارتاض وحصلت له تلك القوَّة وعمل بها - كما اشتهر عن جماعة أنهم كانوا يقتلون بالحال ونحو ذلك - فالكفر بذلك أقرب، ولكن لا يغيبنّ عنك ما قدمناه في فصل الأعذار، ولا تجترئ فتحكم بأن كل ما يُنْقَلُ عن المتصوفين من الغرائب هو من هذا القبيل؛ فإن الصالحين في المسلمين كثير وكرامات الأولياء حق، وعليك بالتدبر والابتهال إلى الله عزَّ وجلَّ أن ¬

_ (¬1) مضى تعريفه ص 263.

يرزقك نورًا وفرقانًا تفرق به بين المشتبهات. والله الموفق. (2) ومن طرق التعليم رياضة أخفُّ من هذه، يكون فيها أعمال مخصوصة، يزعمون أن العامل بها إذا ثبت عليها صارت له سلطة على الروحانيين والجن، فيساعدونه فيما يريد، ويزعمون أن الجنّ يعرضون للمرتاض بها ويخيَّلون له أمورًا مخيفة يهوِّلون عليه بها لكي يقطع رياضته؛ فإذا كان رابط الجأش ثبت إلى أن يُتِمَّ رياضته، فتتمَّ له السلطة، وإن خاف وقطع رياضته فاته ذلك، وربما يزول عقله من الخوف. وهذه الطريق لا تخلو عن خضوع للروحانيين والجن، وتَدَيُّنٍ بما لم ينزل به الله تعالى سلطانًا، وغير ذلك مما هو شرك وكفر. (3) ومنها: ما في "شمس المعارف" (¬1) وغيره من العزائم التي تتلى على هيئات مخصوصة يزعمون أن من عمل بها تمكَّن من مخاطبة الروحانيين واستخدامها، وعامَّتُها مشتملٌ على الشرك والكفر. [699] (4) ومنها: المندل، وأصل هذه الكلمة في الهندية: "مَنْتَر"، وله عندهم صور: منها: أن يستحضر العامل صبيًّا ويضع له إناء من ماء أو نقطة كبيرة من المداد أو غير ذلك من الأشياء الصقيلة، ويأمر الصبي أن يحدِّق في ذلك الشيء، والعامل يكرِّر ألفاظًا أعجمية وربما يكتبها أيضًا، ويزعمون أن الصبيّ يتراءى في ذلك الشيء الصقيل أشخاصًا من الروحانيين، ويأمره العامل أن يخاطب أولئك الأشخاص كان يقول لهم: أحضروا كبشًا، ثم يقول لهم: اذبحوه، اسلخوه، قطِّعوه، اطبخوه، كلوه؛ فيراهم يفعلون ذلك ¬

_ (¬1) سبق التعريف به في الصفحة الأولى من الكتاب.

كلّه، ثم يسألهم عن غائب أو سرقة فيحضرون له ذلك الغائب بهيئته التي هو عليها حينئذٍ حتى إذا كان ميتًا يُرُونَه إياه ميتًا أو يُرُونَه قبره، ويُرُونَه الموضع الذي خبئت فيه السرقة أو يحضرون له السارق فيراه، كُلُّ ذلك على سبيل التخييل والتمثيل، يراه الصبي في ذلك الشيء الصقيل. هكذا يزعمون، ولا أدري ما صحته. وقد دعاني بعضهم وأنا صبي صغير، فكتب أسماء، ووضع على ظفر إبهامي نقطة كبيرة من المداد، وبقي يكرر ألفاظًا أعجمية، فيما أحسب، وأمرني بالتحديق في النقطة، وأن أقول: احضروا، ثم سألني هل ترى أشخاصًا فلم أر شيئًا؛ ولكن من شدَّة التحديق وتعب النظر مع جهد الفكر كنت أرى خيال بعض الأشياء الحاضرة، فأَتَوهَّمُ أنها صورة شخص، فإذا تأملت لم أثبته، فاعتذر العامل بأني ليس في نفسي استعداد لذلك. وهذا العمل من الشرك؛ لما فيه من الخضوع للجنِّ ودعائهم وغير ذلك. [700] (5) ومنها: التقرُّب إلى الشياطين بالإقدام على أعمال خبيثة كقتل الصبيان والزنا بالمحارم وغير ذلك من الفظائع، وذلك شرك كما علمت مما تقدّم. (6) ومنها: ما يسمُّونه التعفين والتحريق، وقد ذُكِرَ في تذكرة داود الأنطاكي (¬1). وظاهر وصفه أنه من قبيل الخواصّ الطبيعية الغريبة، فيلحق ¬

_ (¬1) انظر: ذيل تذكرة أولي الألباب ص 78 - 79. وداود بن عمر الضرير الأنطاكي، رئيس الأطباء, حكيم مشارك في أنواع العلوم، ولد بأنطاكية، وتوفي بمكة سنة 1008 هـ, من تصانيفه: "نزهة الأذهان في طب الأبدان"، و"تذكرة أولي الألباب والجامع للعجب العجاب" ويعرف بتذكرة الأنطاكي. البدر الطالع 1/ 246، معجم المؤلفين 4/ 140.

بالشعبذة، ولا أرى الشعبذة كفرًا إلا أن يقصد بتعلُّمها دعوى النبوة، أو الولاية ليضل الناس عن سبيل الله ويكذب على الله، فإن لم يقصد ذلك وقصد ما هو محرَّم كالاستعانة على السرقة ونحوها فحرام، وإلا فقد يتجه إطلاق التحريم أيضًا سدًّا للذريعة. وقد قال ابن سعد: "أخبرنا أحمد بن محمد بن الوليد الأزرقي، ثنا عطاف بن خالد قال: كنت قائمًا مع سالم بن عبد الله فأُتِي بغلام ومعه غلمان وهو أشقُّهم، فسلّ خيطًا من إزاره (¬1) فقطعه، ثم جمعه بين إصبعيه، ثم تفل فيه مرتين أو ثلاثًا، ثم مدّه فإذا هو صحيح لا بأس به، فقال سالم: لو وليت من أمره شيئًا لصلبته" (¬2). **** ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، وفي طبعة دار صادر من الطبقات: "أزراره". (¬2) طبقات ابن سعد 5/ 148. [المؤلف]

القسم بغير الله عز وجل

[701] القسم بغير الله عزَّ وجلَّ في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أنه قال: "مَن حلف فقال في حلفه: باللات والعُزَّى، فليقل: لا إله إلا الله" الحديث (¬1). وفي صحيح مسلمٍ عن عبد الرحمن بن سمرة قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "لا تحلفوا بالطواغي ولا بآبائكم" (¬2). وفي الصحيحين عن ابن عمر أن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: "ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، مَن كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت" (¬3). وفي مسند أبي داود الطيالسي: ثنا شعبة، عن منصورٍ والأعمش - قال أبو داود: وأنا لحديث الأعمش أحفظ، والإسناد واحدٌ -, سمعا سعد بن عبيدة يحدِّث عن ابن عمر أن رجلاً سأله عن الرجل يحلف بالكعبة فقال: لا تحلف بالكعبة ولكن احلف بربِّ الكعبة، فإن عمر كان يحلف بأبيه فقال له ¬

_ (¬1) البخاريّ، كتاب الأيمان والنذور، بابٌ لا يحلف باللات والعزَّى ولا بالطواغيت، 8/ 133، ح 6650. مسلم، كتاب الأيمان، باب مَن حلف باللات والعزَّى ... ، 5/ 81، ح 1647. [المؤلف] (¬2) مسلم، الموضع السابق، 5/ 82، ح 1648. [المؤلف] (¬3) البخاريّ، كتاب الأيمان والنذور، باب لا تحلفوا بآبائكم، 8/ 132، ح 6646. مسلم، كتاب الأيمان، باب النهي عن الحلف بغير الله تعالى، 5/ 81، ح 1646. [المؤلف]

رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "مَن حلف بغير الله فقد أشرك" (¬1). أقول: هذا إسنادٌ جليلٌ على شرط الشيخين إلاَّ أن للحديث علَّةً. قال الإمام أحمد: ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن منصور، عن سعد (¬2) بن عبيدة قال: كنت عند ابن عمر فقمت وتركت رجلاً عنده من كندة فأتيت سعيد بن المسيب [702] قال: فجاء الكندي فزعًا، فقال: جاء ابنَ عمر رجلٌ، فقال: أحلف بالكعبة؟ فقال: لا, ولكن احلف برب الكعبة، فإن عمر كان يحلف بأبيه فقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "لا تحلف بأبيك؛ فإنه مَنْ حلف بغير الله فقد أشرك" (¬3). وقال أيضًا: ثنا حسين بن محمد، ثنا شيبان، عن منصور، عن سعد بن عبيدة قال: جلست أنا ومحمد الكندي إلى عبد الله بن عمر ثم قمت من عنده. فذكر الحديث بنحوه، وفيه: فجاء صاحبي - يعني الكندي - وقد اصفرَّ وجهه وتغيّر لونه، فقال: قم إليَّ، قلت: ألم أكن جالسًا معك الساعة، فقال سعيد (¬4): قم إلى صاحبك، قال: فقمت إليه، فقال: ألم تسمع إلى ما قال ابن عمر ... ، فذكره بنحوه (¬5). وقال الطحاوي: إن ابن مرزوق قد حدّثنا، قال: حدّثنا شعبة، عن منصور ... فذكره بنحوٍ من رواية محمد بن جعفرٍ - غندر -, عن شعبة. ثم ¬

_ (¬1) مسند الطيالسي ص 257. [المؤلف]. وفي ط: دار هجر 3/ 412، ح 2008. (¬2) في النسخة: "سعيد"، خطأ. [المؤلف] (¬3) المسند 2/ 86. [المؤلف] (¬4) في النسخة: "سعد"، خطأ. [المؤلف] (¬5) المسند 2/ 69. [المؤلف]

قال الطحاوي أيضًا: "وأن يزيد بن سنان قد حدثنا، قال: حدثنا الحسن (¬1) بن عمر بن شقيقٍ، حدثنا جرير بن عبد الحميد، عن منصورٍ .... فذكره بنحوٍ من رواية غندر عن شعبة أيضًا (¬2). فهذه الروايات عن منصورٍ تبين أن سعد بن عبيدة إنما سمع القصة من محمد الكندي، وهو رجل مجهول. فإن قلت: سعد بن عبيدة لم يوصف بتدليس فليحمل على أنهما قصتان سمع سعد من ابن عمر إحداهما وسمع الأخرى من محمد الكندي عن ابن عمر، ويوجَّه إخباره بالثانية عن الكندي مع أنه قد سمع مثلها من ابن عمر بأن في الثانية زيادةً وهي بيان ما لحق الكندي [703] من الرَّوْع والفزع. قلت: إنه لمحتملٌ ولكن ليس بالبيِّن، ويُضعفه أن أبا داود الطيالسي أشار إلى أنه لم يتقن الحديث كلَّ الإتقان. وقد أخرج الإمام أحمد والترمذي والحاكم من طريق أبي خالدٍ الأحمر، عن الحسن بن عبيد الله النخعي، عن سعد بن عبيدة أن ابن عمر سمع رجلاً يقول: لا والكعبة، فقال ابن عمر: لا تحلف بغير الله فإني سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يقول: "من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك" (¬3). ¬

_ (¬1) في النسخة: "الحسين"، خطأ. [المؤلف] (¬2) مشكل الآثار, باب بيان مشكِل ما رُوِي عنه عليه السلام من نهيه عن الحلف بغير الله تعالى ... ، 1/ 359. [المؤلف]. وفي طبعة الرسالة 2/ 299 - 300، ح 830 - 831. (¬3) المسند 2/ 125، جامع الترمذيّ، كتاب النذور والأيمان، باب ما جاء أن مَن حلف بغير الله قد أشرك 1/ 290، وقال: "حسنٌ". المستدرك، كتاب الأيمان والنذور،

أقول: قوله في هذه الرواية "إنَّ ابن عمر سمع رجلاً يقول: لا والكعبة" يدل أن هذه قصة أخرى غير التي سمعها سعد من الكندي؛ لأن في تلك "جاء ابنَ عمر رجلٌ، فقال: أحلف بالكعبة؟ " ولكن قد يُقال: إن مثل هذا الاختلاف كثيرًا ما يقع في حكاية القصة الواحدة، والحسن بن عُبيد الله ثقةٌ وثَّقه الأئمة، وأخرج له مسلمٌ في صحيحه, وأما البخاري فقال: "لم أخرج حديث الحسن بن عُبيد الله؛ لأن عامَّة حديثه مضطرب" حكاه في تهذيب التهذيب (¬1). ولما ذكر الإمام أحمد هذه الرواية في المسند أعاد عقبها روايته عن محمد بن جعفر غندر، عن شعبة (¬2) التي مرَّت؛ كأنه يشير إلى احتمال أن تُعَلَّلَ بها. وصَرَّح بذلك البيهقي في السنن (¬3)، ذكر رواية أبي خالد الأحمر، ثم قال: "وهذا مما لم يسمعه سعد بن عبيدة من ابن عمر"، فذكر حديث أحمد عن غندر، كما مضى. [704] وتعقبه الحافظ ابن حجر بقوله: "قلت: قد رواه شعبة عن منصور عنه قال: كنت عند ابن عمر، ورواه الأعمش، عن سعد، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن ابن عمر" (¬4). ¬

_ تسبيح ديكٍ رجلاه في الأرض وعنقه تحت العرش، 4/ 297، وقال: "صحيحٌ على شرط الشيخين"، وأقرَّه الذهبيّ. وفي رواية الحاكم تصريح أبي خالدٍ بقوله: "ثنا الحسن بن عُبَيد الله"، فأُمِنَ تدليسه. [المؤلف] (¬1) 2/ 292. (¬2) انظر: المسند 2/ 125. (¬3) كتاب الأيمان، باب كراهية الحلف بغير الله عزَّ وجلَّ، 10/ 29. [المؤلف] (¬4) تلخيص الحبير ص 396. [المؤلف]

كذا قال، فإن كان أراد رواية شعبة التي ذكرها الإمام أحمد عن غندر عنه فلا يفيد قول سعد: "كنت عند ابن عمر"، فإن بعده: "فقمت وتركت رجلاً ... " كما تقدم، وهو صريح أنه لم يسمع القصة، وإن أراد غيرها فلم أقف عليها. وكذلك رواية الأعمش، عن سعد، عن أبي عبد الرحمن السلمي لم أقف عليها، وستأتي رواية للأعمش على غير هذا الوجه. وفي المستدرك من طريق جرير بن عبد الحميد، عن الحسن بن عُبيد الله النخعي، عن سعد بن عبيدة، عن ابن عمر، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: "مَن حلف بغير الله فقد كفر" (¬1)، وقال: "هذا حديث صحيحٌ على شرط الشيخين؛ فقد احتجَّا بمثل هذا الإسناد وخَرَّجاه في الكتاب، وليس له علَّةٌ، ولم يخرجاه. وله شاهدٌ على شرط مسلمٍ .... شريك بن عبد الله، عن الحسن بن عبيد الله، عن سعد بن عبيدة، عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يقول: "كل يمينٍ يُحْلَف بها دون الله شركٌ". أقرَّه الذهبي. وأعاده بعد عدَّة أوراقٍ من طريق إسرائيل، عن سعيد بن مسروقٍ، عن سعد بن عبيدة، عن ابن عمر قال: قال عمر: لا وأبي، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "لا تحلفوا بآبائكم، مَن حلف بشيءٍ دون الله فقد أشرك". [705] ومن طريق محمد بن يحيى، ثنا عبد الرزاق، أبنا سفيان، عن أبيه والأعمش ومنصورٍ، عن سعد بن عُبيدة، عن ابن عمر قال: كان عمر يحلف: وأبي، فنهاه النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فقال: "مَن حلف بشيءٍ من دون ¬

_ (¬1) المستدرك، كتاب الإيمان, مَن حلف بغير الله فقد كفر، 1/ 18. [المؤلف]

الله فقد أشرك"، وقال الآخر (¬1): "فهو شركٌ". ثم أعاد رواية جرير بن عبد الحميد من طريق أخرى ثم قال: "هذا حديث صحيحٌ على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذا اللفظ، وإنما أودعته كتاب الإيمان للفظ الشرك فيه، وفي حديث مصعب بن المقدام عن إسرائيل: "فقد كفر". فأما الشيخان فإنما أخرجاه من حديث سالمٍ ونافعٍ وعبد الله بن دينارٍ عن ابن عمر أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال لعمر: "إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم"، وهذا غير ذاك" (¬2). ورواية عبد الرزاق عن سفيان أخرجها الإمام أحمد في المسند (¬3)، وسفيان هو الثوري، ورواية إسرائيل عن سعيد بن مسروق - وهو والد الثوري - ذكرها الطحاوي في مشكل الآثار (¬4). فهذه الروايات أقرب إلى أن يُحْكَمَ لها بالسلامة من العلَّة؛ لأنه غير مستنكر أن يكون سعد بن عبيدة قد سمع هذا الحديث المرفوع من ابن عمر، ولكنه لم يسمع كلام ابن عمر في شأن الكعبة فاحتاج أن يذكره عن الكندي عن ابن عمر. ويؤيد هذا: قال الإمام أحمد "ثنا وكيع، ثنا الأعمش، عن سعد بن عبيدة ¬

_ (¬1) لم يتبيَّن لي مَن هو، إلا أن يكون الأعمش أو منصورًا. (¬2) المستدرك، كتاب الإيمان, مَن حلف بشيءٍ دون الله فقد أشرك، 1/ 52. [المؤلف] (¬3) 2/ 34. [المؤلف] (¬4) 1/ 358. [المؤلف]

قال: كنت مع ابن عمر في حلقة فسمع رجلاً في حلقة أخرى وهو يقول: لا وأبي، فرماه ابن عمر بالحصى وقال: إنها كانت يمين عمر فنهاه النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم [706] عنها وقال: إنها شرك" (¬1). وقال الطحاوي: "حدثنا بكار، حدثنا يحيى بن حماد، حدثنا أبو عوانة، عن الأعمش، عن سعد بن عبيدة" فذكره بنحوه (¬2). ففي هذه الرواية تصريح سعد بسماعه هذا الحديث من ابن عمر، وأكَّد ذلك أن في هذه الرواية قصة غير القصة التي ذكرها عن الكندي قطعًا, وليس من المحتمل أن تكون القصة واحدة، ولكن فيه شيء وهو أن الأعمش مدلِّس ولم يصرِّح في هذه الرواية بالسماع، وإن كان قد صرَّح به في رواية أبي داود الطيالسي التي صَدَّرْنا بها. نعم، ذكر الذهبي في ترجمة الأعمش من الميزان أن روايته عن شيوخه الذين أكثر عنهم محمولة على الاتصال. كذا قال، وفيه نظر. وبالجملة، فإن جاء في روايةٍ تصريحُ الأعمش بالسماع في الرواية التي صرَّح فيها سعدُ بن عبيدة بسماعه هذا الحديث من ابن عمر، فالحديث صحيح على شرط الشيخين حتمًا، وكذا إذا كان شعبة قد روى عن منصور عن سعد مصرِّحًا بالسماع كما سبق عن تلخيص الحبير، أو صحَّ رواية سعد الحديث عن أبي عبد الرحمن السلمي عن ابن عمر كما سبق من تلخيص الحبير أيضًا، وإلا فالحديث حسن كما قاله الترمذي. ويؤكِّد ذلك جزم ¬

_ (¬1) المسند 2/ 58، وأعاده في ص 60. [المؤلف] (¬2) مشكل الآثار, باب بيان مشكِل ما رُوِي عنه عليه السلام من نهيه عن الحلف بغير الله تعالى ... ، 1/ 357. [المؤلف]. وفي طبعة الرسالة 2/ 297، ح 826.

الحاكم بأن الحديث صحيح على شرط الشيخين وليس له علَّة وأقرَّه الذهبي، ويبعد أن يكونا لم يطَّلعا على الرواية التي ذُكِرَ فيها الكندي. وقد صحَّح الحديث أيضًا ابن حبان، رواه من طريق الحسن بن عُبيد الله (¬1). وقد أشار البخاريّ في صحيحه إلى صحة هذا الحديث فإنه قال: "باب مَن [707] أكفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال" ثم ذكر الأحاديث في ذلك، ثم قال: "باب من لم ير إكفار من قال ذلك متأولًا أو جاهلًا" ثم ذكر قول عمر لحاطب: إنه منافق، وقول معاذ للرجل الذي فارقه في الصلاة: إنه منافق، وحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "من حلف منكم فقال في حلفه: واللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله"، وحديث نافع عن ابن عمر أنه أدرك عمر بن الخطاب في ركب وهو يحلف بأبيه فناداهم رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفًا فليحلف بالله وإلا فليصمت" (¬2). فأما حديث أبي هريرة فكأن البخاري استنبط من اكتفاء النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بقوله: "فليقل: لا إله إلا الله"، أنه لم يجعل ذلك رِدَّة مع أن الكلمة كلمة كفر؛ ولكن لما كانت لا تقع منه عمدًا وإنما يسبق لسان بعضهم إليها لاعتياده قولها قبل أن يُسْلِمَ عَذَرَهُمْ بذلك، وأخبرهم بما يدفع مَعَرَّةَ التلفظ بها وهو أن يعلن بنقيضها وهو قول لا إله إلا الله. قال في الفتح: "وقال ابن العربي: مَن حلف بها جادًّا فهو كافر، ومَن ¬

_ (¬1) انظر: صحيح ابن حبان (الإحسان)، كتاب الأيمان، ذكر الزجر عن أن يحلف المرء بشيء سوى الله جلَّ وعلا، 10/ 199 - 200، ح 4358. (¬2) انظر: صحيح البخاريّ، كتاب الأدب، 8/ 26 - 27، ح 6103 - 6108. [المؤلف]

قالها جاهلاً أو ذاهلًا يقول: لا إله إلا الله، يكفِّر الله عنه، ويرد قلبه عن السهو إلى الذكر، ولسانه إلى الحق، وينفي عنه ما جرى به من اللغو" (¬1). وأخرج النسائيُّ بسندٍ صحيحٍ عن سعد بن أبي وقَّاصٍ قال: حلفت باللات والعزَّى، فقال لي أصحابي: بئس ما قلتَ، قلتَ هُجْرًا (¬2)، فأتيت رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فذكرت ذلك له، فقال: "قل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير؛ وانفث عن [708] يسارك ثلاثًا، وتعوَّذْ بالله من الشيطان، ثم لا تَعُدْ". وفي روايةٍ أخرى له: عن مصعب بن سعدٍ، عن أبيه، قال: كنا نذكر بعض الأمر وأنا حديث عهدٍ بالجاهليَّة، فحلفت باللات والعزَّى، فقال لي أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: بئس ما قلت، أثبت رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فأخبره؛ فإنا لا نراك إلا قد كفرت، فأتيته فأخبرته فقال لي: "قل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ثلاث مرَّاتٍ، وتعوَّذ بالله من الشيطان ثلاث مرَّاتٍ، واتفل عن يسارك ثلاث مرَّاتٍ، ولا تَعُدْ له" (¬3). وأما ذِكْرُ البخاريّ لحديث عمر فقال في الفتح: "وقصد بذكره هنا ¬

_ (¬1) فتح الباري 8/ 434. [المؤلف] (¬2) أي: قبيحًا من الكلام. (¬3) سنن النسائيّ، كتاب الأيمان والنذور، الحلف باللات والعزَّى، 2/ 140، ح 3785 - 3786، وأخرجه ابن ماجه [في كتاب الكفَّارات، باب النهي أن يحلف بغير الله] مختصرًا, 1/ 330، ح 2097. وصحَّحه ابن حِبَّان [(الإحسان)، كتاب الأيمان، ذكر الأمر بالاستعاذة بالله جلَّ وعلا من الشيطان لمن حلف بغير الله تعالى، 10/ 206، ح 4365] , كما في الفتح 8/ 434. [المؤلف]

الإشارة إلى ما ورد في بعض طرقه: "مَن حلف بغير الله فقد أشرك". لكن لما كان حلف عمر بذلك قبل أن يسمع النهي كان معذورًا فيما صنع، فلذلك اقتصر على نهيه ولم يؤاخذه بذلك" (¬1). أقول: ومن الواضح أن احتجاج البخاري بحديث عمر في هذا الباب أنه يرى أن من حلف بأبيه غير جاهل ولا ذاهل فقد كفر، ويؤخذ من ذلك أنه يرى أن حديث سعد بن عبيدة صحيح ثابت. والله أعلم. ومن شواهد الحديث ما في مصنف ابن أبي شيبة عن عكرمة قال: قال عمر: حَدَّثْتُ قومًا حديثًا فقلت: "لا وأبي"، فقال رجل من خلفي: "لا تحلفوا بآبائكم"، فالتفتُّ؛ فإذا رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يقول: "لو أنَّ أحدكم حلف بالمسيح هلك، والمسيح خيرٌ من آبائكم" (¬2). قال الحافظ ابن حجرٍ: وهذا مرسلٌ يتقوَّى بشواهده (¬3). وفي كنز العمال عن مصنَّف عبد الرزاق عن الشعبي قال: مرَّ النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم برجلٍ يقول: وأبي، فقال: "قد عُذِّب [709] قومٌ فيهم ابن مريم، خير من أبيك، فنحن منك براءٌ حتى ترجع" (¬4). وأخرج الحازمي في كتاب الاعتبار وابن عساكر وغيرهما عن يزيد بن سنان أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كان يحلف زمنًا فيقول: "لا وأبيك" ¬

_ (¬1) فتح الباري 10/ 395. [المؤلف] (¬2) المصنَّف، كتاب الأيمان والنذور، الرجل يحلف بغير الله أو بأبيه, 3/ 416. (¬3) فتح الباري 11/ 425. [المؤلف] (¬4) كنز العمال 8/ 346. [المؤلف]. وهو في مصنَّف عبد الرزَّاق، كتاب الأيمان والنذور، باب الأيمان ولا يحلف إلا بالله، 8/ 468، ح 15928.

حتى نُهِي عن ذلك، ثم قال النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "لا يحلف أحدكم بالكعبة؛ فإن ذلك إشراكٌ، وليقل: وربِّ الكعبة". قال الحازمي: "هذا حديث غريب من حديث الشاميِّين، وإسناده ليس بذاك القائم غير أن له شواهد"، ثم ذكر حديث "أفلح وأبيه إن صدق" ونحوه (¬1). وأنا إنما ذكرته شاهدًا لحديث سعد بن عبيدة؛ لأن فيه: "فإنه إشراك". وأخرج الإمام أحمد والنسائي والحاكم في المستدرك - وقال صحيح الإسناد وأقرَّه الذهبي - عن قُتَيْلَة بنت صَيْفِي رضي الله عنها أن يهوديًّا أتى النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فقال: إنكم تُندِّدون، وإنكم تشركون، تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة، فأمرهم النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: وربَّ الكعبة، ويقول أحد [هم]: ما شاء الله ثم شئت" (¬2). وأخرج أبو داود والحاكم في المستدرك - وقال: صحيح الإسناد وأقرَّه الذهبي -[710] عن بريدة قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "مَن ¬

_ (¬1) الاعتبار ص 229. [المؤلف]. وانظر: تاريخ دمشق، ترجمة يزيد بن سنانٍ، 65/ 219. (¬2) مسند أحمد 6/ 371 - 372، سنن النسائيّ، كتاب الأيمان والنذور، الحلف بالكعبة، 2/ 140 ح 3782 - واللفظ له -. والمستدرك، كتاب الأيمان والنذور، تسبيح ديكٍ رجلاه في الأرض وعنقه تحت العرش، 4/ 297، وفيه: " ... إنكم تشركون؛ تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة ... ". [المؤلف]. وما بين المعقوفتين من السنن الكبرى للنسائيَّ، وفي المجتبى: "ويقولون".

حقيقة القسم

حلف بالأمانة فليس منا" (¬1). حقيقة القَسَم وقع اشتباه في معناه، وارتباك في الجمع بين الأحاديث المتقدمة وإقسامِ الله تبارك وتعالى في كتابه بأشياء من مخلوقاته، كالشمس والقمر والتين والزيتون، وما صحَّ عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم من قوله: "أفلح وأبيه إن صدق" (¬2)، وقوله: "وأبيك لتنبأنَّ" (¬3)، وجاء عن أبي بكرٍ رضي الله عنه أنه كان يقول للرجل الذي اتُّهِم بالسرقة وكان يقوم الليل: "وأبيك ما ليلك بليل سارقٍ" (¬4). وألَّف الأستاذ حميد الدين الفراهي الهندي رسالة سماها: "الإمعان في أقسام القرآن" أجاد فيها، وسألخَّص ها هنا ما استفدته منها ومن غيرها، وما ظهر لي، فأقول: أصل المقصود من القسم التوكيد اتفاقًا؛ ولذلك - والله أعلم - سمي ¬

_ (¬1) سنن أبي داود، كتاب الأيمان والنذور، بابٌ في كراهية الحلف بالأمانة، 2/ 107، ح 3253 - واللفظ له -. والمستدرك، الموضع السابق، 4/ 298. وصحَّحه النوويُّ في الأذكار ص 526. [المؤلف] (¬2) أخرجه مسلمٌ في كتاب الإيمان, باب بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام، 1/ 32، ح 11 (9). (¬3) أخرجه مسلمٌ في كتاب البرَّ والصلة والآداب، باب برَّ الوالدين ... ، 8/ 2، ح 2548 (3). (¬4) أخرجه مالكٌ في الموطَّإ, كتاب الحدود، باب جامع القطع، 2/ 399، ح 2418، ط: دار الغرب.

يمينًا أخذًا من اليمين بمعنى القُوَّة، ويمكن أن يكون من اليد اليمين لما جرت به العادة من الصفق باليمين عند المحالفة، وسمي أليَّة من قولهم: أَلا يألو إذا اجتهد، لا من قولهم: ألا يألو إذا قصَّر. وفي سنن أبي داود عن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم إذا اجتهد في اليمين قال: "والذي نفس أبي القاسم بيده" (¬1). وأما القَسَم فاسمٌ من قولهم: أَقْسَم إذا حلف، وكأنه مأخوذ من القَسْم بوَزْنِ فَلْسٍ، [711] وهو الشك، كما في القاموس وغيره (¬2)، فقالوا: أقسم، أي: أزال القَسْم، كما قالوا: أشكاني الأمير، أي: أزال شكواي، كما في كتب اللغة والتصريف، والحالف إنما يحلف ليزيل الشكَّ. وأما الحَلِفُ فكأنه مأخوذ من حلافة اللسان أي حدَّته - كما في القاموس وغيره (¬3) -؛ لأن حديد اللسان يكثر من القَسَم. ولذلك - والله أعلم - لم يجئ لفظ الحلف في القرآن إلا في معرض الذمِّ، قال تعالى: ¬

_ (¬1) سنن أبي داود، كتاب الأيمان والنذور، بابٌ يمين النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ما كانت، 2/ 109، ح 3264. [المؤلف]. وهو في مسند أحمد 3/ 33 و48. وصححه ابن الملقن في البدر المنير 24/ 208، ح 2410. لكن في إسناده عاصم بن شميخ، لم يوثقه إلا العجلي 2/ 8، وذكره ابن حبان في الثقات 5/ 239. أما أبو حاتم فقال: (مجهول). الجرح والتعديل 6/ 345. ولذلك ضعَّفه الألباني في ضعيف سنن أبي داود. (¬2) انظر: القاموس المحيط 1483، لسان العرب 12/ 480. وفيه أيضًا وفي معجم مقاييس اللغة 5/ 72 أن أصل ذلك من القسامة، ولم يذكر ابن فارس غيره، ونسبه إلى أهل اللغة. (¬3) انظر: القاموس المحيط 1035، لسان العرب 9/ 56.

{يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ} [التوبة: 62]، وآيات أخرى كلُّها في المنافقين، وقال سبحانه: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} [القلم: 10]. فأما وجه إفادة القسم التوكيد فمختلِفٌ باختلاف المقسَم به، وهو على أضرُبٍ: الضرب الأوَّل: أن يكون في اعتقاد الحالف ومخاطَبيه ذا قدرة غيبية، فمعنى الحلف به جَعْلُه كَفيلًا وشاهدًا على الحالف بألَّا يُخْلِفَ ولا يكذب، قال الله تبارك وتعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} [النحل: 91]. وقال عزَّ وجلَّ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة: 204]. قال ابن جرير: "فقال بعضهم: نزلت في الأخنس بن شريق، قَدِمَ على رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فزعم أنه يريد الإسلام وحلف أنه ما قَدِمَ إلا لذلك ... حدثني يونس قال: أنا ابن وهب قال: قال ابن زيد {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} إلى قوله: {.. وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} قال: كان رجل يأتي إلى النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فيقول: أي رسول الله، أشهد أنك جئت بالحق ... ثم يقول: أما والله يا رسول الله إن الله ليعلم ما في قلبي مثل ما نطق به لساني (¬1). [712] فالجَعْلُ للمحلوف به كَفيلًا ظاهرٌ فيما إذا كان الحلف على فعل ¬

_ (¬1) تفسير ابن جرير 2/ 175 - 176. [المؤلف]

شيء في المستقبل أو تركه، وإشهاده ظاهر فيما يكون الحلف على أنه وقع أو لم يقع، أو أنه واقع في الحال، أو غير واقع، وكذا على أنه سيقع في المستقبل، أو أنه لن يقع؛ لأن العلم إذا أحاط بوقوع شيء في المستقبل أو عدم وقوعه صار كأنه حاضر فتصحُّ الشهادة والإشهاد عليه كما يقول المؤمن: أشهد أن الساعة ستقوم، ونحو ذلك. ويمكن أن يكون الحلف على الوقوع وعدمه تكفيلاً، كأن الحالف يجعل المحلوف به كفيلًا عليه ألَّا يكذب. ومن هذا الضرب: الحلف بالكعبة, لأن الحالف يرى أنها كريمة عند الله عزَّ وجلَّ، بحيث يغضب على من احتقرها واستهان بها، ومن جعل شيئًا كفيلًا ولم يفِ أو شهيدًا على كَذِبٍ فقد احتقره واستهان به. ومنه أيضًا الحلف بالأصنام؛ لأن الحالف يزعم أنها كريمة عند مَن جُعِلَتْ تماثيل لهم، وهم أولو قدرة غيبيَّة أو مكرمون عند الله تعالى الذي له القدرة الغيبيَّة، فيزعم أن احتقارها والاستهانة بها احتقار لهم، وقس على ذلك. وإنما يثق المحلوف له باليمين في هذا الضرب؛ لأنه يعلم أن الحالف يُجِلُّ المحلوف به ويخاف سطوته الغيبيَّة، فيبعد أن يجعله كفيلًا ثم لا يفي له أو شهيدًا على الكذب، وعلى فرض أن الحالف يجترئ على ذلك فالمحلوف به يعاقبه ويوفي المحلوف له حقَّه من عنده. [713] الضرب الثاني: أن يكون المحلوف به عزيزًا على الحالف ولا يرى له قدرة غيبية، وذلك كما يحلف بعض الناس بشرفه، كأنه يقول: إن شرفي كفيل عليَّ، بمعنى: أني إن لم أفِ أو إن كنتُ كاذبًا فقد احتقرتُ

شرفي أو فلا شرف لي. ومنه قولهم: وحقَّك، كأنه يقول: إن لم أفِ أو إن كنت كاذبًا فقد ضيَّعْتُ مالك من الحق عليَّ. وقد يكون منه قولهم: وحياتِك، ورأسِك، وجَدَّك، كأنه يقول: إن لم أف أو إن كنت كاذبًا فقد احتقرتُ حياتك واستهنتُ بها، فاعددني حينئذٍ عدوًّا، فيثق المحلوف له بهذه اليمين؛ لعلمه أن الحالف حريصٌ على بقاء المودَّة. الضرب الثالث: أن يكون المحلوف به مما له خطر عند الحالف، بحيث يضرُّه أن يَتْلَفَ أو يَنْقُصَ، فيحلف به على معنى أني إن لم أفِ أو إن كنت كاذبًا فالإله يتلف هذا الشيء أو ينقصه، كحلف بعضهم برأسه وعينيه وحياته. ويمكن أن يكون منه قول أحدهم لصديقه: وحياتك، ورأسك، وجدِّك، كأنه يقول: إن حياتك أعزُّ عليَّ من حياتي، فهي أولى أن أقسم بها. وهذا المعنى المفهوم من القسم يَغفِرُ ما يؤول إليه المعنى؛ إذ حاصله: إن لم أَفِ أو إن كذبتُ فأفقدني الله تعالى حياتك، وكأن القائل (¬1): فإن تكُ ليلى استودعتني أمانةً ... فلا وأبي أعدائها لا أخونها استشعر هذا المعنى، فرأى أنه إن قال: وأبيها، كان حاصله: أفقدني الله تعالى [714] أباها إن خنتها، وفي هذا ما فيه من الإساءة، فعدل عن أبيها إلى أبي أعدائها؛ لأنَّ فقد أبي أعدائها يسرُّها ولا يضرُّها, ولم يبال باختلال أصل المعنى اتِّكالًا على أن القرائن تبين أنه إنما أراد القسم بأبيها, ولكنه عدل إلى أبي أعدائها لما تقدَّم. ويظهر أن لفظ الأب مقحم، وأنه أراد القسم بها, ولكن لما كان واو ¬

_ (¬1) البيت لابن الدمينة، في ديوانه: 93، وحماسة الخالديين: 74.

القسم لا يدخل على الضمير أقحم لفظ أب، ثم أقحم لفظ أعداء، لما تقدم. ويشبه هذا قولهم: (الأبعد) كناية عن ضمير المتكلم مثلاً، كقولهم: إن غدر الأبعد فأهلكه الله، يريدون: إن غدرتُ، ولكن يتنزهون عن نسبة الغدر إلى النفس صريحًا. ومثل هذا قول الآخر: لعمر أبي الواشين إني أحبها (¬1) وقد يكون البيتان من الضرب الرابع، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. الضرب الرابع: أن يكون في المحلوف به دلالة على المحلوف عليه، فكأن الحالف جعله كفيلًا وشاهدًا بالنظر إلى حاله، كقول الحصين بن الحُمام المُرِّي يرثي نعيم بن الحارث: قتلنا خمسة ورموا نُعيمًا ... وكان القتل للفتيان زينا لعمر الباكيات على نعيم ... لقد جلَّت رزيته علينا (¬2) أقسم بالباكيات منهم استدلالًا ببكائهن على عظم رزيته عليهم. ويقرب منه قول الشويعر يتنصل إلى امرئ القيس مما بلغه عنه أنه هجاه: ¬

_ (¬1) انظر: فتح الباري 11/ 534، وورد في مجالس ثعلب 2/ 507 وغيره بلفظ: لعمر أبي الواشين لا عمر غيرهم ... لقد كلَّفوني خطَّةً لا أريدها. (¬2) انظر: الأغاني 14/ 12، ونُسب إلى البطين في طبقات الشعراء لابن المعتز 250 وهو خطأ.

لعمر أبيك الذي لا يهان ... لقد كان عرضك مني حراما وقالوا: هجوت ولم أهجه ... وهل يجدن فيك هاجٍ مذاما (¬1) استشهد بعِزَّة أبي امرئ القيس وسلامته من الذام على أنه لم يهجه، وأوضح ذلك بقوله: "الذي لا يهان"، وقوله: "وهل يجدن فيك هاج مذاما". وقد يكون من هذا قول الآخر وقد مرّ: "فلا وأبي أعدائها لا أخونها"، كأنه جعل أعداءها كفلاء عليه لا يخونها، وإنما جعلهم كفلاء نظرًا إلى حالهم؛ لأنهم قد جرَّبوه وعرفوا صدق محبته لها وشدة حرصه على كتمان سرِّها، فلو سُئِلوا لقالوا: هيهات [715] أن يبوح هذا الرجل بسرِّ هذه المرأة. وكذا قول الآخر وقد تقدَّم أيضًا: "لعمر أبي الواشين إني أحبُّها"، فإن الواشين أعرف الناس بمحبته لها وأحرص الناس على إذاعتها، أي: فمن شك في محبتي لها فليستمع إلى ما يقوله الواشون عني وعنها، ففي ذلك شهادة كافية. ومنه قول أبي خراش الهذلي: لعمر أبي الطير المُرِبَّة (¬2) غدوة ... على خالد لقد وقعن علي لحم (¬3) أراد على لحم عظيم؛ لأن التنكير قد يفيد التعظيم، وأقسم بالطير التي وقعت عليه لأنها أعرف الخلق به. وكلمة: "أبي" في هذه الأبيات الثلاثة مقحمة كما علم من تفسيرها، وكأن الباعث على إقحامها الفرار مما يوهمه ¬

_ (¬1) المؤتلف والمختلف في أسماء الشعراء 208 - 209. والشويعر هو محمد بن حمران بن أبي حمران. (¬2) أي: المقيمة الآلفة. المعاني الكبير لابن قتيبة 3/ 1200. (¬3) شرح أشعار الهذليَّين 3/ 1226.

القسم من إجلال الأول أعداء محبوبته والثاني الواشين بخليلته والثالث الطير الواقعة على صاحبه، فرأى الأول أن إيهام إجلال أبي أعدائها أهون، وقس عليه، هذا مع مراعاة الوزن في الأبيات الثلاثة. الضرب الخامس: أن يكون المحلوف به شيئًا حقيرًا، فيحلف به على كلام قصد به التهكم والاستهزاء، ويكون الحلف به قرينة على ذلك، كقول عروة بن مرة الهذلي: وقال أبو أمامة يا لَبَكْرٍ ... فقلت ومَرخةٍ (¬1) دعوى كبيرُ (¬2) وقد حقق الأستاذ الفراهي أن عامة أقسام القرآن من الضرب الرابع، وذلك واضح في كثير منها، ويحتاج في بعضها إلى تدبُّرٍ. فأما قوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "أفلح وأبيه إن صدق"، وقول أبي بكر: "وأبيك، ما ليلُك بليل سارق"، فيظهر أنه من الضرب الرابع. [716] كأنه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم استشهد حال ذلك الرجل؛ لأنها تدل على أنه سيفلح؛ فإن في قصته: "جاء رجل إلى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: خمس صلوات في اليوم والليلة، فقال: هل عليَّ غيرهنَّ؟ قال: لا، إلاَّ أن تطوَّع، وصيام شهر رمضان، فقال: هل عليَّ غيره؟ فقال: لا، إلا أن تطوَّع، وذكر له رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم الزكاة، فقال: هل عليَّ غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوَّع، قال: فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على ¬

_ (¬1) المرخ: شجرٌ سريع الوري. القاموس المحيط 332. (¬2) شرح أشعار الهذليَّين 2/ 664.

هذا ولا أنقص منه، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: أفلح إن صدق. وفي رواية: "أفلح وأبيه إن صدق، أو: دخل الجنة وأبيه إن صدق" (¬1). فمجيء الرجل من نجد واهتمامه بالسؤال عن فرائض الإسلام واعتناؤه بذلك حتى سأل بعد كل فريضة: هل عليَّ غيرها؟ ثم إدباره بعد ذلك، فعلم أنه إنما جاء للسؤال عن فرائض الإسلام لم يخلط بذلك رغبة في دنيا، ثم إقسامه ألاّ يزيد على الفرائض ولا ينقص، وفي إقسامه ألَّا يزيد ما يدلُّ على صدق لهجته؛ إذ أظهر ما في نفسه ولم يبال بأنَّ عليه في ذلك غضاضة، كلُّ هذا يدلُّ على صدق إيمانه وقوَّة يقينه وتصميم عزيمته على الوفاء بفرائض الإسلام، وفي ذلك أقوى علامة على فلاحه. فأما قول النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "إن صدق"، فهو كقول القائل: لأقضينك دينك إن شاء الله، فليس تعليقًا محضًا بحيث يخدش في دلالة الكلام على عزم المتكلم أن يقضي، وإنما هو دلالة على أنَّ عزمه على القضاء لا يقتضي علم اليقين بأنه سيقضي، وإنما يحصل علم اليقين بذلك العزم مع مشيئة الله عزَّ وجلَّ، فهكذا: أفلح وأبيه إن صدق؛ معناه: إنني أظنُّ ظنًّا قويًّا أنه سيفلح، ولكن ظنِّي هذا لا يكفي وحده [717] لحصول الفلاح، بل لا بدَّ معه من أن يصدق الرجل فيما وعد به أن يؤدِّي الفرائض ولا ينقص منها شيئًا. ¬

_ (¬1) صحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان, باب بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام، 1/ 31 - 32، ح 11 (9). [المؤلف]

أو يُقال: إن زيادة "إن صدق" دفع لما قد يتوهم أن المعنى: قد أفلح الرجل على كلَّ حال حتى على فرض أنه يُقَصَّر بعد ذلك في أداء الفرائض. وأما ما روي عن أبي بكر رضي الله عنه من قوله: "وأبيك ما ليلك بليل سارقٍ"، فواضحٌ أنه من هذا الضرب؛ لأن قيام الليل دائمًا يدلُّ دلالة قويَّة أن صاحبه ليس بسارقٍ. وأما قول النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "وأبيك لتنبَّأنَّه"، فأصل الحديث: "عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فقال: يا رسول الله، أيُّ الصدقة أعظم أجرًا؟ فقال: أما وأبيك لتنبَّأنَّه: أن تَصدَّقَ وأنت صحيحٌ شحيحٌ .... " (¬1). السائل يعلم أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم عالم بما سأله عنه، وأنه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم سينبئه بذلك، وكأنه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم رأى من هيئة الرجل وكلامه ما يظهر منه أنه كالمتردد: أينبئه النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بما سأل عنه أم لا، فكأنه قال له: لم هذا التردد مع علمك بأنك إنما تسأل رسول الله، وأنه عالم بما تسأله عنه، وأنه لا يقصِّر في تعليم الناس ما يحتاجون إليه في دينهم، والله أعلم. وقد علمت من تفسيرنا للحديثين والأثر عن أبي بكر أننا نرى أن لفظ الأب [718] مقحم فيها كما هو مقحم في الأبيات المارَّة، وكانَّ الباعث على الإقحام أنَّ واو القسم لا تدخل على الضمير فتوصل إليه بإقحام لفظ الأب، ¬

_ (¬1) صحيح مسلمٍ، كتاب الزكاة, باب بيان أن أفضل الصدقة صدقة الصحيح الشحيح، 3/ 93 - 94، ح 1032 (93). [المؤلف]

وباعث آخر معنوي، وهو تبعيد إيهام التعظيم؛ فإنه يتوهم تعظيم المخاطبين؛ لأنهم مسلمون، بخلاف آبائهم المشركين، والله أعلم. وهناك أجوبة أخرى عن الحديثين، منها: الطعن في زيادة "وأبيه" في الأول، وزيادة "أما وأبيك لتنبأنه" في الثاني بتفرد بعض الرواة بهما. وفي مسند أحمد: ثنا إسماعيل (¬1)، ثنا يحيى بن أبي كثير، عن أبي إسحاق (¬2)، قال: حدثني رجلٌ من غفارٍ في مجلس سالم بن عبد الله، حدثني فلان أن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أتي بطعامٍ من خبزٍ ولحمٍ، فقال: "ناولني الذراع"، فَنُووِل ذراعًا فأكلها، قال يحيى: لا أعلمه إلا هكذا، ثم قال: "ناولني الذراع"، فَنُووِل ذراعًا فأكلها، ثم قال: "ناولني الذراع"، فقال: يا رسول الله، إنما هما ذراعان، فقال: "وأبيك، لو سكتَّ ما زلتُ أناوَلُ منها ذراعًا ما دعوتُ به"، فقال سالم: أمَّا هذه فلا، سمعت عبد الله بن عمر يقول: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يقول: "إن الله تبارك وتعالى ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم" (¬3). فأنكر سالم بن عبد الله بن عمر هذه الزيادة، وهو سلفٌ لمن أنكرها في الحديثين السابقين، ويمكن تأويلها في هذا الحديث بمثل ما تقدَّم، كأن ¬

_ (¬1) هو ابن عُليَّة. (¬2) كذا في الأصل وفي أكثر نسخ المسند، والصواب: يحيى بن أبي إسحاق. كما في بعض نسخه وإتحاف المهرة. انظر: المسند - ط الرسالة - ح 5089، إتحاف المهرة 8/ 428، ح 9703. وقد رواه النسائيّ على الصواب. انظر: سنن النسائيّ، كتاب الأيمان والنذور، 7/ 4. تحفة الأشراف 5/ 416، ح 7034. (¬3) المسند 2/ 48. [المؤلف]

النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم استشهد حال السامع من علمه بأن الله تعالى كثيرًا ما يخرق العادة لرسوله، وأقحم لفظ الأب، كما تقدَّم. ومن الأجوبة: ما نقله الحافظ في الفتح، أن القَسَم في هذه المواضع للتأكيد محضًا، [719] كأن قائل ذلك أراد أن القسم انسلخ عن التكفيل والاستشهاد المستلزمين غالبًا للتعظيم، وصار بمنزلة إنَّ ونحوها للتوكيد فقط، كأنه قال: "أؤكِّد". قال البيهقي في السنن: "ويحتمل أن النهي إنما وقع عنه إذا كان على وجه التوقير له والتعظيم لحقه دون ما كان بخلافه، ولم يكن ذلك منه على وجه التعظيم، بل كان على وجه التوكيد" (¬1). ومنها: قول السهيلي: إنه للتعجب، كأنه أراد أن قوله: "وأبيه" بمنزلة قولهم: "لله أبوه"، وقس عليه. هذه أقوى الأجوبة فيما أرى، والجواب الذي قدَّمته أشفُّها (¬2)، إلا أنه قد يُطعن فيه بأنَّ دعوى إقحام لفظ الأب لا يعرف لها نظير في العربية. وقد ردَّ أبو حيان قولَ مَن قال: إن كلمةَ "مثل" من قول الله عزَّ وجلَّ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء} [الشورى: 11] زائدة، ردَّه بأن الأسماء لا تُزاد. ويُدْفَعُ هذا بأنَّ المعنى إذا اقتضى توجيه اللفظ بزيادة أو نقص أو تغيير لا تأباه الحكمة ولا تدفعه الصورة الكلية المرتسمة في ذهن العارف باللغة وما يقع فيها من التغيير، فإن ذلك التوجيه يُقْبَلُ وإن لم يوجد له نظير. ¬

_ (¬1) سنن البيهقي 10/ 29. [المؤلف] (¬2) أفضلها. انظر: الصحاح 4/ 1382.

وقد قال ابن جني: "أما إذا دلَّ الدليل فإنه لا يجب إيجاد النظير ... " (¬1). أوَ لا ترى إلى صيغة (أَفْعِلْ بِه) في التعجب، نحو قوله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ} [مريم: 28]، كيف وَجَّهوها بأنَّ: {أَسْمِعْ} فعل ماضٍ، أصله: أَسْمَعَ كأكرم، ومعناه: صار ذا سمع، فأصله في الآية: أسمَعُوا أي صاروا ذوي سمع، [720] ثم حُوِّل إلى موازنة صيغة الأمر مع بقائه على الماضوية، ثم زيدت الباء وجوبًا، فوجب تغيير الفاعل من صورة ضمير الرفع، وهو الواو هنا، إلى صورة ضمير الجر. ولو تَطَلَّبْتَ في اللغة فعلاً ماضيًا صورته صورة الأمر لما وجدتَّه إلاَّ ما ادَّعوه في هذا الموضع، فلم يمنعهم عَدَمُ النظير من توجيه اللفظ على ما سمعت لمَّا كان المعنى يقتضي ذلك، فكذلك نقول نحن. ومع هذا فقد وجدنا النظير، ولله الحمد، وهو قول الله تبارك وتعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1]؛ فقد قال جماعة: إن كلمة (اسم) مقحمة، وإن المعنى: سبِّح ربك الأعلى، والأحاديث عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم والآثار عن الصحابة رضي الله عنهم تدلُّ على ذلك، انظرها في روح المعاني وتفسير ابن جرير، وأنشدوا للبيدٍ (¬2): إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ... ومَن يبك حولًا كاملًا فقد اعتذر فأما حديث أبي داود وغيره عن الفُجَيع (¬3)، وفيه: أنَّ النبيَّ صلَّى الله ¬

_ (¬1) الخصائص 1/ 203. [المؤلف] (¬2) انظر: شرح ديوان لبيد ص 214، وخزانة الأدب 4/ 337. (¬3) الفُجَيع بن عبد الله بن جُنْدُع بن البكاء - واسمه ربيعة - البكائي، له صحبة، سكن الكوفة. انظر: الإصابة 8/ 520.

عليه وآله وسلَّم قال: "ذلك - وأبي - الجوعُ" (¬1)، فهو حديث ضعيف. وكذلك حديث يزيد بن سنان - وقد تقدَّم سنده - ضعيف، ولكنه يشهد لحديث سعد بن سنان فيما اتفقا فيه كما مرَّ، والله أعلم. بقي أنه قد جاء في كلام الصحابة وغيرهم "لعمري"، وهي على المشهور بمعنى: أقسم بحياتي، فيكون قسمًا بغير الله تعالى. فأقول: قد جاء في تفسير قول الله عزَّ وجلَّ: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72] ما أخرجه ابن جرير وغيره من طريق سعيد بن زيد، قال: ثنا عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء [721] عن ابن عباس قال: ما خلق الله وما ذرأ وما برأ نفسًا أكرم على الله من محمد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره، قال الله تعالى ذكره: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ}. وأخرج ابن جرير أيضًا من طريق الحسن بن أبي جعفر (¬2)، قال: ثنا عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس في قول الله تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ}، قال: ما حلف الله تعالى بحياة أحد إلا بحياة محمد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، قال: وحياتك يا محمد، وعُمْرك، وبقائك في الدنيا، {إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} أي: في ضلالتهم يعمهون، أي: ¬

_ (¬1) سنن أبي داود، كتاب الأطعمة، بابٌ في المضطرِّ إلى الميتة، 2/ 178، ح 3817. (¬2) ضعيف جدًّا كما سيذكره المؤلف، وقال ابن عديًّ: هو عندي ممن لا يتعمَّد الكذب، ولعلّ هذه الأحاديث التي أُنكرت عليه توهَّمها توهُّما أو شُبِّه عليه فغلط. انظر: تهذيب الكمال 6/ 73.

يلعبون" (¬1). أقول: في ترجمة أبي الجوزاء من التاريخ الكبير للبخاري (¬2): "وقال لنا مُسَدَّد: عن جعفر بن سليمان، عن عمرو بن مالك النكري، عن أبي الجوزاء قال: أقمت مع ابن عباس وعائشة اثنتي عشرة سنة ليس من القرآن آية إلا سألتهم عنها. قال محمد: في إسناده نظر". ونبه الحافظ ابن حجر في ترجمة أبي الجوزاء من تهذيب التهذيب (¬3) على أن البخاري إنما قال هذا لمكان النكري، قال: "والنكري ضعيف عنده" أي: عند البخاري، ولم يذكر في ترجمة النكري أحدًا وثَّقه إلا قول ابن حبان في الثقات (¬4): "يعتبر حديثه من غير رواية ابنه عنه، يخطئ ويغرب". وقد عُرِفَ من مذهب ابن حبان في الثقات أنه يذكر فيها المجاهيل، ومع ذلك فقوله: "يعتبر حديثه" ظاهر في أنه لا يعتمد عليه. وقوله: "يخطئ ويغرب" الظاهر أنه وصف للأب؛ لأن هذا الكلام في ترجمته، ولأنه الموافق لقوله: "يعتبر حديثه"؛ [722] إذ الحكم عندهم فيمن يخطئ ويغرب أن يعتبر به ولا يعتمد عليه، ولأن كلام ابن حبان في الابن صريح في أنه لا يعتبر بروايته أصلاً، فهو عنده أسوأ حالًا من أن يكون يخطئ ويغرب فقط، والله أعلم. ¬

_ (¬1) تفسير ابن جرير 14/ 27 - 28. [المؤلف] (¬2) 2/ 16 - 17. (¬3) 1/ 384. (¬4) 7/ 228. وانظر: تهذيب التهذيب 8/ 96.

فأما قول الذهبي في الميزان (¬1): "ثقة" فإنما اعتمد ذكر ابن حبان له في الثقات، وقد علمت ما فيه. وسعيد بن زيد مختلف فيه، والحسن بن أبي جعفر ضعيف جدًّا على عبادته. وأخرج ابن جرير أيضًا من طريق أبي صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: {لَعَمْرُكَ}، يقول: لَعَيْشُك، {إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)} قال: يتمادون (¬2). وهذا السند ضعيف عندهم، إلا أن البخاري يستأنس بما رُوِيَ به فيعلِّقه في صحيحه, وأبو صالح ومعاوية بن صالح مختلف فيهما، وعلي بن أبي طلحة فيه شيء، ونصَّ الأئمة أنه لم يسمع من ابن عباس، ولكن ذكروا أنه سمع التفسير من مجاهد عن ابن عباس، وهذا لا يغني؛ لأننا لا ندري في هذه الرواية أمِمَّا سمعه من مجاهد هي أم لا؟ (¬3). وقال ابن جرير: "وحدثني أبو السائب قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم قال: كانوا يكرهون أن يقول الرجل: لعمري، يرونه ¬

_ (¬1) 3/ 286. (¬2) تفسير ابن جرير 14/ 28. [المؤلف] (¬3) أثنى الإمام أحمد على صحيفته في التفسير، وقال أيضًا: "له أشياء منكرات"، ودافع عنه الحافظ ابن حجر بأنه "حمل عن أصحاب ابن عباس"، وقال: "بعد أن عرفت الواسطة وهو ثقة فلا ضير في ذلك". العلل للإمام أحمد رواية المروذي ص 168، الناسخ والمنسوخ للنحاس 1/ 462، العجاب 1/ 207، الإتقان 6/ 2332.

كقوله: وحياتي" (¬1). أقول: أبو معاوية والأعمش يدلِّسان. [723] وذكر في لسان العرب (¬2) الأثر عن ابن عباس ثم قال: "قال أبو الهيثم: النحويون ينكرون هذا، ويقولون: معنى لعمرك: لدينك الذي تعمر. وأنشد لعمر بن أبي ربيعة (¬3): أيها المنكح الثريّا سهيلًا ... عمرك الله كيف يجتمعان قال: عمرك اللهَ: عبادتك الله، فنصب. وأنشد (¬4): عمركِ الله ساعةً حدَّثينا ... ودَعِينا مِنْ قَول مَنْ يؤذينا أقول: لأهل اللغة اضطرابٌ كثير في هذه الكلمة، وحاصله أن العَمر بالفتح يأتي بمعنى الدَّين، وبمعنى العبادة، ويمكن أن يكون المعنيان واحدًا، وبمعنى الحياة لغة في العُمر بضم العين، والضم أشهر، ولم يأت قولهم: لعمرك إلا بالفتح، وهذا مما يضعف تفسيره بالحياة. ولا حاجة للإطالة، بل نقول: إنَّ ما صح عمَّن يُعْتَدُّ بقوله من الصحابة ¬

_ (¬1) تفسير ابن جرير 14/ 28. [المؤلف] (¬2) 4/ 601. (¬3) ديوانه: 503. (¬4) في لسان العرب: (ذرينا) بدل (دعينا). وهو كذلك في تهذيب اللغة 2/ 381. وانظر رواية: (دعينا) في المخصص لابن سيده، المجلد الخامس (17/ 165).

وغيرهم من قولهم: لعمري ولعَمرك، فالظاهر أنهم رأوا العَمر بمعنى العبادة، ثم قصدوا به المعبود، من باب إطلاق المصدر على اسم المفعول، كقولهم: فلان عدل رضى، أي: مرضي. فأما قولهم: (لعمر الله) فإن صح عمن يُعْتَدُّ بقوله فكأنه قصد بالعَمر البقاء، كما يقوله بعض أهل اللغة، وبقاء الله صفة له، فلا يكون القَسَمُ بها قسمًا بغير الله. ثم رأيت هذا المعنى؛ فقد ترجم له البخاري: "باب قول الرجل: لعمر الله، قال ابن عباس: لعمرك: لعيشك"، ثم ذكر ما قاله أسيد بن حضير في حديث الإفك: "لعمر الله لنقتلنه" (¬1). وقال الحافظ في الفتح: "وقال أبو القاسم الزَّجَّاج (¬2): العمر الحياة، فمن قال: لعمر الله كأنه حلف ببقاء الله (¬3) ... ومن ثم قال المالكية (¬4) والحنفية (¬5): تنعقد بها اليمين؛ لأن بقاء الله من صفة ذاته. ¬

_ (¬1) البخاريّ، كتاب الأيمان والنذور، باب قول الرجل: لعمر الله، 8/ 135، ح 6662. [المؤلف] (¬2) كذا في الأصل وفتح الباري، والصواب: الزجَّاجيّ. وهو العلّامة النحويّ أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجَّاجيّ، نسبةً إلى شيخه أبي إسحاق الزجَّاج، من مصنّفاته: الجُمَل في النحو، ت 339 هـ. الأنساب 6/ 256، إنباه الرواة 2/ 160، بغية الوعاة 2/ 77. (¬3) انظر: الجمل ص 74. (¬4) النوادر والزيادات 4/ 16. (¬5) الهداية شرح البداية 2/ 74، البحر الرائق 4/ 308.

فصل

وعن مالك: لا يعجبني الحلف بذلك .... وقال الشافعي وإسحاق: لا تكون يمينًا إلا بالنية (¬1)؛ لأنه يطلق على العلم، وعلى الحق، وقد يراد بالعلم المعلوم، وبالحق ما أوجبه الله .... وأجابوا عن الآية: أن يقسم (¬2) من خلقه بما شاء وليس ذلك لهم، لثبوت النهي عن الحلف بغير الله .... " (¬3). وأما قولهم: عَمْرك الله، فعَمْر بمعنى العبادة أو التعمير، أي: اعتقاد البقاء، وهو من باب المناشدة، كأنه قال: أنشدك بعبادتك الله أو باعتقادك بقاءه، وهذه المناشدة ليست من القَسَمِ في شيء، والله أعلم. فأما الآية فلا مانع من أن يكون العَمْر فيها بمعنى الحياة، وقد أقسم الله تعالى في كتابه بكثير من المخلوقات كما علمت. والله أعلم. [724] فصل القَسَم من الضرب الأول يُفْهِمُ إجلالَ الحالف للمحلوف به، واعتقادَه أن له سطوة غيبية بحيث ينالُ الحالفَ النفعُ الغيبي إذا وفي وصدق، وأنه إن لم يف أو يَصْدُقْ نالته عقوبته ونال المحلوفَ له النفعُ الغيبِي بإيفائه حقه إن كان له حق. ومن ذلك: الحلف بالكعبة يُفْهِمُ احترامَ الحالف لها واعتقادَه أن لها سطوة غيبية، بمعنى أنها كريمة على الله عزَّ وجلَّ، بحيث ينال الحالف بها ¬

_ (¬1) روضة الطالبين 11/ 16. (¬2) في فتح الباري: بأن لله أن يقسم. (¬3) فتح الباري 11/ 438. [المؤلف]

النفعُ الغيبي أو العقوبةُ الغيبيَّةُ من الله عزَّ وجلَّ. ونحوه الحلف بالصنم يُفْهِمُ احترامَ الحالف له واعتقادَه أن له سطوة غيبيَّة، بمعنى أنه كريم على من له سطوة غيبية، وهو مَنْ جُعِلَ الصنمُ تمثالًا أو تذكارًا له، أو أنه كريم عند مَنْ هو كريم عند مَنْ له سطوة غيبيَّة، وهذا فيمن يجعل الصنم تمثالًا لإنسان ولا يعتقد لذلك الإنسان سطوة غيبية ذاتية، ولكنه يقول: ذلك الإنسان كريم على الله عزَّ وجلَّ، ولله تعالى السطوة الغيبيَّة. إذا ثبت هذا فقد ثبت أن القَسَم من هذا الضرب خضوع وتعظيم للمُقْسَم به يُطْلَب به نفعٌ غَيْبِيٌّ للحالف أو للمحلوف له على فَرْضٍ، وهذا الخضوع والتعظيم هو العبادة كما مرّ تحقيقه، والعبادة إذا لم ينزل الله تعالى بها سلطانًا فهي عبادة لغير الله وعبادة غير الله كفر وشرك. والحلف بالكعبة من هذا؛ لأن الله تعالى لم ينزل سلطانًا بجواز الإقسام بها، وإنما كان يقع من قريبي العهد بالإسلام غير عالمين بأنه شرك، فلما بين لهم النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ذلك اجتنبوه. [725] ويجوز أن الذين كانوا يقولون: والكعبةِ، كانوا يريدون: وربِّ الكعبة، ولكن لما لم تكن هناك قرينة ظاهرة على الإضمار كان ظاهر الكلام شركًا. فأما الحلف باللات والعزى غَيْرَ جاهل ولا ذاهلٍ فشركٌ لا ريب فيه كما تقدَّم. وقد سبق أنَّ اللات والعزى ومناة في الأصل أسماء للإناث الخياليات

التي كان يزعم المشركون أنهن الملائكة، ثم أُطْلِقَتْ هذه الأسماء على الأصنام؛ لأنها تماثيل لتلك الإناث (¬1). ولم يُفَرَّقْ في الأحاديث بين مَنْ قصد باللات والعزى الأصنامَ ومَنْ قصد الإناث الخياليات، ومَنْ قصد الملائكة على قياس ما تقدَّم (¬2) في توجيه رواية: "تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترجى"، فَعُلِمَ من عدم التفرقة أنه لا فرق. وهذا مع ما تقدَّم في ذكر الحلف بالمسيح ومع عموم النصوص أن الحلف بغير الله شرك، وما حقَّقناه أنَّ القَسَم من الضرب الأول عبادة، كلُّ ذلك واضح في أنَّ الحلف بالملائكة والأنبياء والصالحين كالحلف بالكعبة. فأمَّا ما جاء عن بعض الحنابلة في صحة القَسَمِ بالنبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم (¬3)، فإن كان إنما أراد أنَّ من أقسم بالنبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم تلزمه الكفارة تغليظًا، كما يقوله الحنفية والحنابلة فيمن نذر معصية أنَّ عليه كفارة يمين، مع قولهم: إنَّ نذر المعصية حرام أو كفر، بل قال الحنفية: إنَّ من حلف باللات والعزى والأصنام تلزمه الكفارة، قالوا: لأنَّ الله تعالى أوجب في الظهار الكفارة؛ لكون الظهار منكرًا من القول وزورًا، والحلف بالأصنام كذلك. وإنما خصَّ هذا القائل النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لأنه لعلوِّ درجته يُخْشَى على الناس الغلوُّ فيه. ¬

_ (¬1) انظر ص 708. (¬2) انظر ص 588 - 590. (¬3) انظر: المحرر في الفقه للمجد ابن تيمية 2/ 197.

أقول: إن كان أراد ذلك القائل هذا المعنى فله وجه، وإن كان أراد أن القَسَمَ [726] بالنبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم جائز، فَزَلَّةُ عالم؛ إذ لا يُعْلَمُ له سلطان على ذلك. وكذا ما نقله الحافظ في فتح الباري عن ابن المنذر أنه قال: "اختلف أهل العلم في معنى النهي عن الحلف بغير الله، فقالت طائفة: هو خاصٌّ بالأيمان التي كان أهل الجاهلية يحلفون بها تعظيمًا لغير الله تعالى، كاللات والعزى والآباء، فهذه يأثم الحالف بها ولا كفَّارة فيها. وأما ما كان يؤول إلى تعظيم الله، كقوله: وحقِّ النبيِّ والإسلام والحج والعمرة والصدقة والعتق ونحوها مما يراد به تعظيم الله والقربة إليه فليس داخلاً في النهي. وممن قال ذلك: أبو عبيد وطائفة ممن لقيناه، واحتجوا بما جاء عن الصحابة من إيجابهم على الحالف بالعتق والهدي والصدقة ما أوجبوه، مع كونهم رأوا النهي المذكور، فدلَّ على أن ذلك عندهم ليس على عمومه؛ إذ لو كان عامًّا لَنَهَوْا عن ذلك ولم يوجبوا شيئًا". قال الحافظ عقبه: "تعقبه ابن عبد البر بأن ذِكْرَ هذه الأشياء وإن كان بصورة الحلف فليست يمينًا في الحقيقة، وإنما خرج على الاتِّساع، ولا يمين في الحقيقة إلا بالله" (¬1). أقول: المرويُّ عن الصحابة في العتق والهدي والصدقة إنما هو فيمن قال: كلُّ مملوك لي حرٌّ وإبلي هديٌ ومالي صدقة إن فعلت كذا، ونحو ذلك من صيغ الالتزام المعلَّقة، وذلك من باب النذر وهو الذي يسميه الشافعية ¬

_ (¬1) فتح الباري 11/ 429. [المؤلف]

نذر اللَّجاج، والآثار صريحة في ذلك، انظرها في سنن البيهقي (¬1) ومصنف ابن أبي شيبة (¬2) وغيرهما (¬3)، وليس ذلك من القَسَم في شيء. نعم، كانوا يسمُّون ذلك حلفًا، فيقولون: حلف فلان بالعتق ألَّا يكلم فلانًا، إذا قال: كلُّ مملوك لي حرٌّ إن كلَّمْتُه، [727] وهذا أيضًا ثابت في الآثار, وإنما سمَّوه حلفًا لأنه يُقْصَدُ به ما يُقْصد بالحلف الحقيقيِّ من الامتناع، ولأنه قد جاء عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أن كفارته كفارة يمين. وفي صحيح مسلم عن عقبة بن عامر، عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: "كفارة النذر كفارة اليمين" (¬4). وفي سنن أبي داود والمستدرك وغيرهما عن ابن عبَّاسٍ أن رجلاً جاء إلى النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فقال: إن أختي جعلت عليها المشي إلى بيت الله، قال: "إن الله تعالى لا يصنع بشقاء أختك شيئًا، قل لها: فلتحجَّ راكبة ولتكفِّر عن يمينها". قال الحاكم: "صحيحٌ على شرط مسلمٍ" (¬5). ¬

_ (¬1) كتاب الأيمان، باب الخلاف في النذر الذي يخرجه مخرج اليمين، 10/ 67 - 68. (¬2) كتاب البيوع والأقضية، في رجل قال: إن فعلت كذا وكذا فغلامي حرٌّ، 11/ 628. (¬3) انظر: الأوسط لابن المنذر، كتاب الأيمان والنذور، ذكر ما يجب على من حلف بعتق رقيقه وحنث, 12/ 128. (¬4) صحيح مسلمٍ، كتاب النذر، بابٌ في كفَّارة النذر، 5/ 80، ح 1645. [المؤلف] (¬5) سنن أبي داود، كتاب الأيمان والنذور، باب مَن رأى عليه كفَّارةً، 2/ 112، ح 3295. المستدرك، كتاب الأيمان والنذور، إذا شقَّ إيفاء النذر على رجلٍ فليكفَّر عن يمينه, 4/ 302. [المؤلف]

وفي رواية للحاكم: جاء رجل إلى النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فقال: إن أختي حلفت أن تمشي إلى البيت ... (¬1). وفي روايةٍ لأبي داود عن ابن عبَّاسٍ: إن أخت عقبة بن عامرٍ نذرت أن تحجَّ ماشيةً (¬2). والحديث في الصحيحين من حديث عقبة بن عامر قال: نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله وأمرتني أن أستفتي لها النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فاستفتيته فقال: "لتمش ولتركَبْ" (¬3). وهذا المعنى - أعني تسمية النذر يمينًا وحلفًا - كثيرٌ في الآثار, ونحوه حديث الصحيحين وغيرهما: "مَن حلف بغير ملَّة الإسلام فهو كما قال" (¬4). وفي الفتح: "قال ابن دقيق العيد: الحلف بالشيء حقيقة هو القسم به، وإدخال بعض حروف القسم عليه كقوله: والله والرحمن، وقد يطلق على التعليق بالشيء يمين كقولهم: مَنْ حَلَف بالطلاق فالمراد تعليقُ الطلاق، وأُطْلِق عليه الحَلِفُ لمشابهته باليمين في اقتضاء الحثَّ والمنع، وإذا تقرّر ¬

_ (¬1) المستدرك، الموضع السابق. (¬2) سنن أبي داود، الموضع السابق، 3/ 234، ح 3297. (¬3) البخاريّ، كتاب جزاء الصيد، باب مَن نذر المشي إلى الكعبة، 3/ 20، ح 1866. ومسلم، كتاب النذر، باب مَن نذر أن يمشي إلى الكعبة، 5/ 79، ح 1644. [المؤلف] (¬4) البخاريّ، كتاب الأيمان والنذور، باب مَن حلف بملَّةٍ سوى ملَّة الإسلام، 8/ 133، ح 6652. ومسلم، كتاب الأيمان، باب تحريم قتل الإنسان نفسه، 1/ 73، ح 110، ولفظه: "مَن حلف على يمين بملَّةٍ غير الإسلام كاذبًا فهو كما قال".

ذلك فيحتمل أن يكون المراد المعنى الثاني لقوله: "كاذبًا متعمّدًا". والكذب يدخل القضيّة الإخبارية التي يقع مقتضاها تارة ولا يقع أخرى، وهذا بخلاف قولنا: "والله" وما أشبهه، فليس الإخبار بها عن أمر خارجيًّ، بل هي لإنشاء القَسَم، فتكون صورة الحلف هنا على وجهين: أحدهما: أن تتعلق بالمستقبل، كقوله: إن فعل كذا فهو يهوديٌّ. والثاني: تتعلق بالماضي، كقوله: إن كان فعل كذا فهو يهودي". ثم قال بعد كلام: "ولهذه الخصلة من حديث ثابت بن الضحَّاك شاهدٌ من حديث بريدة، أخرجه النسائيُّ وصحَّحه من طريق الحسين بن واقدٍ، عن عبد الله بن بُريدة، عن أبيه رفعه: "مَنْ قال: إني بريء من الإسلام، فإن كان كاذبًا فهو كما قال، وإن كان صادقًا لم يَعُدْ إلى الإسلام سالمًا" (¬1) يعني إذا حلف بذلك (¬2). [728] والحاصل: أن تسمية النذر يمينًا وحلفًا والقول بأن كفارته كفارة يمين أمر معروف عن السلف، فكلُّ ما جاء عنهم من إطلاق الحلف بالعتق والهدي والصدقة إنما يقصدون به النذر، وإطلاق الحلف واليمين على النذر مجاز. وَهَبْ أنه حقيقة أيضًا، فالنهي عن الحلف بغير الله إنما المقصود به أن يقول: والكعبة، أو أقسم بالكعبة، أو نحو ذلك. ولا يدخل فيه الحلف بمعنى النذر، كقول القائل: إن كلَّمتك فعليَّ الحجُّ ماشيًا، أو نحو ذلك. وجواز النذر ولزوم الكفارة به - وإن سُمَّيَ حَلِفًا ويمينًا - لا يَدلُّ على جواز الحلف ¬

_ (¬1) سنن النسائيّ، كتاب الأيمان والنذور، الحلف بالبراءة من الإسلام، 7/ 6 - 7. (¬2) فتح الباري 11/ 432. [المؤلف]

بغير الله بمعنى قوله: والكعبة، ونحو ذلك. وهذا واضح جدًّا، والفرق المعنوي بينهما كفلق الصبح؛ فإن القائل: "والكعبة" معظِّم للكعبة كما علمت، والقائل: "إن كلَّمتُ فلانًا فعليَّ صدقة" لا يُفْهم منه تعظيم للصدقة، والله أعلم. فأما القَسَمُ من الضرب الثاني فقد يُشْكِل دخوله في النهي والتحريم من جهة أن أصل معنى قول الرجل: "وشَرَفِي": إن كذبت أو إن لم أفِ فأنا محتقر لشرفي ومضيِّع له أو فلا شرف لي، وهذا اللفظ لا يظهر كونه حرامًا لو عبر به. نعم، يمكن أن يتطرَّق إليه التحريم؛ لما فيه من مدح النفس والافتخار والإعجاب، ولكن لا يستمرُّ هذا المعنى في جميع الألفاظ من هذا الضرب، مثل: وحقِّك، ولكن الذوق يشهد أنَّ الإجلال والتعظيم الذي يُفْهَم من قوله: وشرفي، وقوله: وحقِّك، [729] أعظم جدًّا مما يُفْهَم من قوله: إن كذبت، أو: إن لم أفِ فلا شرف لي، أو: فأنا مُخِلٌّ بحقك، وكأن ذلك لأنَّ المعروف في القسم أن يكون بالمعبود. وفي الفتح: "قال الخطَّابي: اليمين إنما تكون بالمعبود المعظَّم، فإذا حلف باللات ونحوها فقد ضاهى الكفار ... " (¬1). فإما أن يكون اختصاص القَسَم بالمعبود من أصل الوضع، ويكون ما شاع عنهم من القسم بغير المعبود مجازًا على سبيل المبالغة والغلو. وإما أن يكون لاشتهار القسم بالمعبود أكثر من غيره صار يسبق إلى الفهم من قولهم: وحقِّك - مثلًا - أن الحالف يُجِلُّ حَقَّ صاحبه إجلال ¬

_ (¬1) فتح الباري 8/ 434. [المؤلف]

المعبود، وهذا المعنى ظاهر لا يتيسَّر إنكاره ولا سيَّما إذا انضم إليه دلالة الحال على التعظيم والإجلال، كما في قولهم: وشرفي، وأبي. إذا تقرَّر هذا، فأقول: إن ظاهر هذا الضرب من القَسَم أن الحالف يُجِلُّ المحلوف به إجلال المعبود، وذلك كفر وشرك، ولا مانع من أخذ الشرع بهذا الظاهر، فإذا ثبت من الشرع ما يدلُّ على ذلك وجب القول به، وقد تقدَّم ما بلغنا عن الشرع في ذلك. والله أعلم. وأما الضرب الثالث، فقد يقال: ليس في أصل معناه إجلال وتعظيم، وإنما فيه المحبة. وأقول: المحبة تستلزم الإجلال والتعظيم؛ لأن حبيب الإنسان جليل عظيم عنده، كما قيل (¬1): أحبك إجلالًا وما بك قدرة ... عليَّ ولكِنْ مَلْءُ عينٍ حبيبُها [730] وفي أشعار العجم ومحاوراتهم العشقية كثير مما معناه: أنا أعبدك، وأنتِ معبودتي، ونحو ذلك، فإذا أقسم الإنسان بما يحبه كان ظاهر ذلك أنه يحبه كما يحبُّ المعبود، وقد علمت توجيه ذلك، وبقية الكلام عليه كالكلام على الضرب الثاني. وأما الضرب الرابع، فليس في أصل معناه تعظيم ولا ما يستلزم التعظيم، ولكنه يُمْنَعُ منه إذا كان يُتَوَهَّمُ أنه من الأَضْرُب السابقة. وأقسام الله تبارك وتعالى لا يُتَوَهَّم فيها ذلك؛ إذ كيف يتخيل أن الله ¬

_ (¬1) البيت لنُصَيب بن رباحٍ المعروف بالأكبر. انظر: شعره: 68، وهو في ديوان مجنون ليلى: 58. وشرح ديوان الحماسة للأعلم الشنتمريَّ 2/ 748. والرواية: (أهابك) بدل: (أحبُّك).

تبارك وتعالى يتخذ شيئًا من خلقه معبودًا أو يجلّه كما يجلّ العابد المعبود أو يحبه كما يحب العابد المعبود. وقد جاء عن السلف ما يشير إلى أن إقسام الله تبارك وتعالى بمخلوقاته من هذا الضرب. قال في الفتح: "وأسند - يعني الطبري - عن مطرف بن عبد الله أنه قال: إنما أقسم الله بهذه الأشياء ليعجِّب بها المخلوقين، ويُعَرِّفَهُم قدرته؛ لعظمة شأنها عندهم، ولدلالتها على خالقها" (¬1). وكذلك ما تَقَدَّم من قول النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "وأبيه"، "وأبيك"؛ إذ لا يتوهم أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يعظَّهم مشركًا أجنبيًّا عنه تعظيمَ المعبود. وعلى كلِّ حال فينبغي المنعُ من القَسَم من هذا الضرب ما لم تكن القرينةُ الصارفة عن تَوَهُّمِ كونه من الأَضْرُبِ الثلاثة الأولى واضحةً. والله أعلم. [731] وأما الضرب الخامس، فالظاهر المنع منه؛ لأنه من قبيل إطلاق الكلمة التي ظاهرها كفر على وجه الاستهزاء، وذلك لا يجوز، بل نصَّ جماعة من العلماء على تكفير فاعل ذلك. إذا تقرَّر هذا، فحَلِف الإنسان بأبيه منهيٌّ عنه مطلقًا، وقد عَلِمْتَ الأدلَّةَ الدالَّة على أنه شرك، أما إذا كان من الأضرب الثلاثة الأولى فظاهر، وأما إذا كان من الرابع قصدًا فالظاهر لا يساعد على هذا القصد، بل يكون الظاهر أنه من أحد الأضرب الثلاثة الأولى. ¬

_ (¬1) فتح الباري 11/ 429. [المؤلف]

فأما إقسامه بأبي غيره فقد يساعد الظاهر على أنه قصد به من الضرب الرابع، كما تقدَّم في كلمتي النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وكلمة أبي بكر رضي الله عنه، وعلى هذا فإما أن يكون ذلك مُخَصَّصًا لعموم قوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "لا تحلفوا بآبائكم"، وإما أن يُقال: إن الإضافة في قوله: "بآبائكم" كهي في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23]، والمعنى: لا يُقْسِمْ أحدٌ منكم بأبيه، وعلى هذا فلا يدخل فيه حلف أحدهم بأبي غيره، ويبقى حكم ذلك مسكوتًا عنه، فما كان بمعنى المنصوص أُلحِقَ به وما لا فلا. فأما قوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "مَن كان حالفًا فليحلف بالله أو ليسكت"، وقوله: "مَن حلف بغير الله فقد أشرك"، فعامٌّ مخصوص تُخَصِّصه الأدلَّة الدالَّة على جواز ما يجوز من الضرب الرابع. ولقائلٍ أن يقول: إنَّ القسم الجائز من الضرب الرابع لا يسمَّى حلفًا، بدليل أنَّ الحلف لم يجئ في القرآن إلاّ في معرض الذمّ، كما تقدّم، ولا يُذمُّ القَسَم [732] من الضرب الرابع؛ لأنه عبارة عن إقامة دليل وحجة، وليس فيه تعظيم لغير الله تعالى ولا ما يستلزم تعظيمًا ولا ما يوهمه، ولذلك أكثر إقسام الله عزَّ وجلَّ في كتابه، مع قوله: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} [القلم: 10]. ويستأنس لهذا بأن الحلف مأخوذ من حلافة اللسان كما تقدَّم، وحلافة اللسان مأخوذ من قولهم: سنان حليف، إذا كان مُحَدَّدًا، وحِدَّة اللسان وحلافته عندهم ليس بمدح، فكأنهم إنما يريدون بها ما لا يستند إلى الدليل والحجة؛ لأن الاستناد إلى الدليل والحجة ليس موضعًا للذمَّ، ولا يناسب أن يقال لصاحبه: حديد اللسان، بل يوصف بالسداد والبيان والثبات ونحو ذلك، فتأمل.

والحاصل: أن القَسَم الجائز من الضرب الرابع لا يدخل تحت النهي، إما لأنه لم يتناوله النهي أصلاً، وإما لأنَّ الدليل أخرجه. والله أعلم. فإن قلت: حاصل كلامك أنك أبقيت قوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "مَن حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك" على ظاهره إلا ما استثنيته من الضرب الرابع، وهذا خلاف ما عليه أهل العلم. فقد قال الترمذي عقب هذا الحديث: "وفُسِّر هذا الحديث عند بعض أهل العلم أن قوله: "فقد كفر أو أشرك" على التغليظ، والحجة في ذلك حديث ابن عمر أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم سمع عمر يقول: وأبي وأبي، فقال: "ألا إنَّ الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم". وحديث أبي هريرة عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أنه قال: "مَن قال في حلفه: واللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله". [733] قال أبو عيسى: هذا دليل على ما روي عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أن الرياء شرك (¬1)، وقد فسر بعض أهل العلم هذه الآية: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} الآية [الكهف: 110] , قال: "لا يرائي" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه - بهذا اللفظ - البيهقيّ في شعب الإيمان, بابٌ في إخلاص العمل لله عزَّ وجلَّ وترك الرياء، 12/ 185، ح 6394، وغيره، من حديث أبي الدرداء مطوّلًا، وذكر البيهقي أنه من أفراد بقية - يعني ابنَ الوليد - عن شيوخه المجهولين. وضعّفه الشيخ الألباني في ضعيف الترغيب والترهيب برقم 24. وورد وصف الرياء بأنه شرك أصغر في أحاديث ثابتة، كحديث محمود بن لبيد عند الإمام أحمد (5/ 428 و429) وغيره، وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة برقم 951. (¬2) جامع الترمذيّ 1/ 290. [المؤلف]

قلت: قد خالفه أستاذه البخاريّ بذكره حديث عمر محتجًّا به على أنَّ من قال لأخيه: يا كافر متأوَّلًا أو جاهلًا لا يكفر بعد جزمه أن مَنْ قال ذلك غير متأوِّل ولا جاهل يكفر، وقد تقدم بيان ذلك، وعُلم بذلك الجوابُ عن احتجاج الترمذي بحديث عمر، وحاصله: أنَّ عمر كان معذورًا, ولا يلزم من عدم إكفار المعذور عدمُ إكفار مَنْ لا عذر له. وأما احتجاج الترمذيّ بحديث: "مَن قال في حلفه: واللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله" فعجيبٌ؛ فإنه لا حجَّة له فيه، والحلف باللات والعزى كفرٌ جزمًا، إلا إن كان الحالف جاهلاً أو ذاهلًا فيعذر، كما أشار إليه البخاري وصرَّح به ابن العربي، وقد مرَّ. وهذا الحديث نفسه حجة في ذلك؛ فإن أمره بقول: (لا إله إلا الله) ظاهر في أنَّ الحلف باللات والعزى ينقض الشهادة الأولى، ونقض الشهادة الأولي هو الكفر والشرك، ويلزم من انتقاض الأولى انتقاض الثانية، أعني شهادة أنَّ محمدًا رسول الله. غاية الأمر أنَّ الحالف إذا كان جاهلًا أو ذاهلًا لم تنتقض شهادته الأولى حقيقة، ولكن حصل فيها خللٌ مَّا ينقضها صورةً، فشُرِعَ جبرانه بقول: (لا إله إلا الله) تجديدًا للشهادة الأولى، ولم يشرع تجديد الشهادة الثانية؛ لأنه [734] لم ينقضها صورة، ولم تنتقض الشهادة الأولى حقيقة فيلزمَ من ذلك انتقاضُ الشهادة الثانية، فتدَبَّرْ. فإن قلت: ما نَسَبْتَه إلى البخاريَّ يردُّه قوله في ترجمة أخرى: "باب مَنْ حلف على مِلَّةٍ سوى مِلَّة الإسلام، وقال النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم:

"مَن حلف باللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله" ولم ينسبه إلى الكفر" (¬1). قلت: مراد البخاري والله أعلم أنَّ من حلف بملَّة سوى الإسلام جاهلاً أو ذاهلًا لا يكفر، بدليل حديث: "مَن حلف باللات والعزى" إلخ، فإنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قاله عالمًا أنَّ أحدًا من أصحابه لا يحلف باللات والعزى إلاَّ ذاهلاً، فأمر مَنْ وقع منه ذلك أن يقول: "لا إله إلاَّ الله" ولم ينسبه إلى الكفر، فدلَّ هذا على أنَّ مَن حلف بملَّة سوى الإسلام على نحو تلك الصفة، أي: جاهلاً أو ذاهلاً، لا يكفر. وهذا من البخاري رحمه الله بيان للحديث الذي ساقه في هذه الترجمة، وهو قوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "مَن حلف بغير ملَّة الإسلام فهو كما قال"، أي: إنه محمولٌ على مَن حلف غير جاهلٍ ولا ذاهلٍ. هكذا يجب أن يُفْهَم كلام البخاري رحمه الله تعالى ليوافق صنيعه المتقدم؛ إذ كيف يُظَنُّ به أن يرى أنَّ حَلِف الإنسان بأبيه غير جاهلٍ ولا ذاهلٍ كُفْرٌ، ومع ذلك يرى أن حلفه باللات والعزى ليس بكفر مطلقًا. وإخراج الذاهل قد جاء في رواية لمسلم بلفظ: "مَن حلف بملة سوى ملة الإسلام كاذبًا متعمِّدًا فهو كما قال" (¬2). وكذا في صحيح البخاريَّ بلفظ: "مَن حلف بملة غير الإسلام كاذبًا متعمِّدًا فهو كما قال" (¬3). فإن قلت: فهلَّا إذْ أراد البخاري الإشارة إلى استثناء الجاهل والذاهل كما زعمت أشار إلى هذه الرواية فإنها أصرح في ذلك؟ ¬

_ (¬1) البخاريّ 8/ 133. [المؤلف] (¬2) مسلم، كتاب الإيمان, باب تحريم قتل الإنسان نفسه، 1/ 73، 110. [المؤلف] (¬3) البخاريّ، كتاب الجنائز، باب ما جاء في قاتل النفس، 2/ 96، ح 1363. [المؤلف]

قلت: كأنه عدل عن ذلك؛ لأنه قد يُفْهم من قوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "متعمِّدًا" أنَّ المراد: متعمَّدًا للكذب، وعلى هذا فلا دلالة في الحديث على إخراج الجاهل والذاهل. وإنما ذكرت أنا هذه الرواية لأني أرى الأَوْلى إبقاء قوله: "متعمَّدًا" على إطلاقها، فيكون المراد: متعمَّدًا للحلف والكذب معًا، والله أعلم. وذلك كأن يقول: إن كان ذاق ذلك اليوم طعامًا فهو يهودي، يعني نفسه، فإن كان لم يذق طعامًا فليس بكاذب، وإن كان ذاق طعامًا ولكنه نسي فليس بمتعمَّدٍ للكذب، وإن كان ذاق ولم ينس فهو متعمَّدٌ للكذب. ثم إن كان قوله: "فهو يهودي"، كلمةً جرت على لسانه ولم يعقد نيته على قولها فليس بمتعمَّدٍ للحلف بملَّةٍ غير الإسلام، بل هو ذاهل، وإلا فهو متعمِّدٌ. فإذا اجتمع تعمّد الكذب وتعمّد الحلف باليهودية فهو كما قال، وقس على هذا حالَ مَنْ قال: إن كنتُ أملك الآن شيئًا فأنا ... وذكر اليهودية. فأما من يقول: إن سافرت غدًا فأنا ... فالظاهر أنه إن كان حالَ اليمين عازمًا ألَّا يسافر غدًا فهو صادق، ثم إن بدا له بعد ذلك أن يسافر غدًا فسافر فلم يكن متعمَّدًا للكذب، ما لم يكن سفره غدرًا بأن كان فيه ضرر على المحلوف له، والله أعلم. فإن قلتَ: فلماذا بني النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قوله: "مَن حلف باللات والعزى" إلخ على علمه أنَّ أحدًا من أصحابه لا يحلف بهما إلاَّ ذاهلًا ولم يصنع مثل ذلك في قوله: "مَن حلف بغير ملَّة الإسلام" إلخ؟ قلتُ: لأنَّ أصحابه كانوا [735] يعلمون حقَّ العلم أنَّ الحلف باللات والعزى عمدًا كفر، فلم يكن ذلك ليقع منهم. وأما الحلف بغير ملَّة الإسلام كقول القائل: هو يهوديٌّ إن كان فعل كذا، يعني نفسه، فلم يكونوا يعلمون

أنَّه كفرٌ، فلم يمتنع وقوع ذلك من بعضهم عمدًا، فتدبَّرْ، والله أعلم. وأما حديث: أنَّ "الرئاء شرك" فغاية ما فيه أنَّ الشرك فيه متأوَّل على خلاف ظاهره، وتأويل كلمةٍ في كلامٍ وقعت فيه لقيام الدليل الموجب لتأويلها فيه لا يلزم منه جواز تأويل تلك الكلمة في كلِّ كلامٍ وقعت فيه، ولا دليل على تأويلها, ولزوم ذلك باطل قطعًا لا يقول به أحد. وتحقيق المقام: أنَّ الشرك إذا أُطْلِق في الشريعة في مقام الذَّمِّ كان المراد به الشركَ بالله عزَّ وجلَّ، بأن يُشْرِكَ معه غَيْرَه في العبادة على سبيل العبادة للشريك، هذا هو الحقيقة المتبادرة. وأما الرئاء فهو أن يشرك مع الله تعالى غيره في العبادة، ولكن لا على سبيل العبادة للشريك، فإنَّ مَنْ كان يصلِّي فحضره رجل فأطال الصلاة ليَحْسُنَ اعتقاد الرجل فيه فينالَ منه غرضًا دنيويًّا فإنَّ المرائي قد أشرك ذلك الرجل مع الله تعالى في صلاته؛ لأنَّ صلاته كانت لله عزَّ وجلَّ ولأجل ذلك الرجل، ولكن لم يكن ذلك على سبيل العبادة لذلك الرجل؛ [736] لأنَّه لم يجعل إطالته صلاته لأجله خضوعًا وتعظيمًا له يَطْلُبُ به نفعًا غيبيًّا من جهة كونه خضوعًا وتعظيمًا له، فتدبّر وأمعن النظر. فأمَّا بالنظر إلى اللغة فمن راءى فقد أشرك؛ لأنَّه فعل فعلًا لأجل الله عزَّ وجلَّ ولأجل غيره، وأمَّا بالنظر إلى الشرع فلم يشرك، وإطلاق بعض الأحاديث أنَّه قد أشرك مجاز. ومما يبين هذا: أنه لم يجئ في الشرع نصٌّ على أنَّ الرئاء شرك بالله، وإنما جاء أنَّه شرك فحسب؛ لأنَّ الشرك باللهِ نصٌّ في الشرك الذي هو كفر، ولذلك عدّاه بالباء لتضمينه معنى الكفر بالله أو العدل بالله على ما تقدَّم، والله أعلم.

فأمَّا قول الله عزَّ وجلَّ: {وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} آخر الكهف [110]، فالذي يظهر لي أنه ضمّن (يشرك) معنى (يرائي). ومن هنا يظهر أن حديث أحمد والطبراني عن [أبي موسى الأشعري] (¬1) عن النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أنه قال: "يا أيها الناس اتقوا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل"، قالوا: وكيف نتقيه يا رسول الله؟ قال: "قولوا: اللهمَّ إنا نعوذ بك أن نشرك بك شيئًا نعلمه ونستغفرك لما لا نعلمه" على ظاهره, أي: إن المراد الشرك الأكبر، لقوله في الدعاء: "أن نشرك بك"، فعدَّاه بالباء. والله أعلم. ومما يعترض به على ما قدَّمناه: قولُ الشافعي رحمه الله تعالى: "وكلُّ يمين بغير الله فهي مكروهة منهيٌّ عنها من قِبَلِ قول رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: [737]: "إنَّ الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، ومن كان حالفًا فليحلف بالله أو ليسكت" (¬2) .... فكلُّ من حلف بغير الله كَرِهْتُ له وخشيت أن تكون يمينه معصية" (¬3). [و] الجواب: أن الشافعي رحمه الله تعالى لا نعلمه بَلَغتْه الأحاديث المصرَّحة بأنَّ الحلف بغير الله تعالى شرك، ولم يتجشَّم التفصيل، ولعلَّه لو سئل عن الضرب الأوَّل من القَسَم لم يتوقَّفْ في أنَّه إن وقع بغير الله تعالى كان شركًا، فأمَّا ما عداه فيحتمل أن يتردّد فيه، ولا سيَّما إذا لم يقف على ¬

_ (¬1) بيض المؤلف هنا لاسم الصحابي. انظر: المسند 32/ 384، والمعجم الأوسط 4/ 10. وسبق تخريج الحديث ص 144. (¬2) سبق تخريجه ص 989. (¬3) الأم 7/ 56 - 57. [المؤلف]

الأحاديث المصرِّحة بأنَّ الحلف بغير الله تعالى شرك مطلقًا. والله أعلم. وذكر الحافظ في الفتح الاختلافَ في النهي أللتحريم هو أم للكراهة؟ ثم قال: "فإن اعتقد في المحلوف به (¬1) من التعظيم ما يعتقده في الله حرم الحلف به، وكان بذلك الاعتقاد كافرًا ... ، وأمَّا إذا حلف بغير الله لاعتقاده تعظيم المحلوف به على ما يليق به من التعظيم فلا كفر بذلك" (¬2). أقول: لم يرد بقوله: (ما يعتقده في الله) أن يعتقد أنَّ المحلوف به واجب الوجود أو أنه خالق رازق مدبِّر استقلالًا ونحو ذلك؛ لأنَّ الشرك يحصل بدون هذا الاعتقاد قطعًا كما تقدَّم تحقيقه، بل المراد ما يعتقده في الله من استحقاق العبادة. وقد علمت أنَّ القَسَم من الضرب الأول عبادة، فإذا وقع بغير الله عزَّ وجلَّ فإن كان مما أنزل الله تعالى به سلطانًا فهو عبادة لله عزَّ وجلَّ وإلَّا فهو عبادة للمحلوف به، فكيف والمحلوف به لا يستحقُّ هذا التعظيم. [738] وبهذا يُعلم أنَّ قول الحافظ: "على ما يليق به من التعظيم ... (¬3) المحلوف به أنه يستحق أن يحلف به، ولا اعتقد أنَّ الحلف به سبب لنفع غيبِي، وهذا نظير السجود للشمس، وقد تقدَّم الكلام فيه. والله أعلم. وأمَّا ما عدا الضرب الأول فقد تقدَّم أنَّ من ذلك ما يُفْهِمُ إجلال ¬

_ (¬1) في النسخة: له. (¬2) فتح الباري 11/ 425 - 426. [المؤلف] (¬3) أصاب بلَلٌ نحو سطرين، وظهر منهما: (... ثم إذا كان الظاهر في الـ ... الضرب الأوَّل ... النفع ...).

المحلوف به إجلالَ المعبود، وهذا لا يليق بمخلوق، وظاهر حال الحالف بذلك أنَّه يعتقد استحقاق المحلوف به لذلك، وعليه فقد اعتقد فيه من التعظيم ما يعتقده في الله من استحقاق العبادة؛ لأنَّه إذا اعتقد استحقاقه أن يُجَلَّ إجلال المعبود فقد اعتقد استحقاقه العبادة. وهَبْ أنَّه لم يعتقد ذلك، فقد يظهر أنه لا ينفعه، كما مرّ آنفًا في الحلف من الضرب الأول. والله أعلم. وفي الدُّرِّ المختار من كتب الحنفية: "قال الرازي (¬1): أخاف على من قال: بحياتي وحياتك وحياة رأسك أن يكفر، ومن اعتقد وجوب البِرِّ فيه يكفر، ولولا أنَّ العامة يقولونه ولا يعلمونه لقلت: إنه شرك. وعن ابن مسعود: لأن أحلف بالله كاذبًا أَحَبُّ إليَّ من أن أحلف بغيره صادقًا". وفي حاشيته ردِّ المحتار: "وفي القهستاني عن المُنْيَة: أنَّ الجاهل الذي يحلف بروح الأمير وحياته لم يتحقَّق إسلامه بعدُ" (¬2). أقول: الأثر الذي ذكره عن ابن مسعود ذكره في فتح الباري، وذكر مثله عن ابن عباس وابن عمر والشعبي (¬3). ¬

_ (¬1) هو علي بن أحمد بن مكي، حسام الدين الرازي، سكن دمشق، وكان فقيها فاضلاً يفتي على مذهب أبي حنيفة، له: "خلاصة الدلائل" في شرح القدوري، توفي بدمشق سنة 591 هـ. انظر: تاج التراجم 149 رقم 167. (¬2) رد المحتار 3/ 57 - 58. [المؤلف] (¬3) انظر: فتح الباري 11/ 429. [المؤلف]. وأثر ابن مسعود أخرجه عبد الرزاق في المصنف، كتاب الأيمان والنذور، باب الأيمان ... ، 8/ 469، ح 15929. وابن أبي شيبة في كتاب الأيمان والنذور، الرجل يحلف بغير الله أو بأبيه، 7/ 549، ح 12414. والطبراني في المعجم الكبير 9/ 205، ح 8902. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 4/ 318: (ورجاله رجال الصحيح).

[739] واعتقاد وجوب البرِّ يجعل القَسَم من الضرب الأول، وقد علمت وجه كونه كفرًا وشركًا، وقد جزم الرازيُّ بأنَّ قولهم: بحياتي وحياتك وحياة رأسك شركٌ، وأطلق ذلك، وإنما توقَّف عن الحكم على قائلي ذلك من العامَّة بأنهم مشركون؛ لكونهم لا يعلمون، وهذا حقٌّ كما قدَّمناه في الأعذار. ولكن العامة في هذه الأزمنة قد غلوا في الغلوِّ، فلم يقتصروا على نحو: بحياتي وحياتك وحياة أبيك مما لا يعتقد فيه عدم وجوب البرَّ، بل صاروا يحلفون بمن يعتقدون فيه الصلاح من الأحياء والموتى، ولم يقتصروا على الحلف بهم، بل يعتقدون وجوب البرِّ، ويعلنون بذلك، ولم يقفوا عند هذا، بل يعتقدون أنَّ القَسَم بفلان وفلان مثلُ القَسَم بالله تعالى، بل ولم يقف كثير منهم عند هذا، بل يعتقدون أنَّ القَسَم بفلان وفلان أحقُّ بالبرَّ والوفاء من القَسَم بالله عزَّ وجلَّ. ولم يكتفوا بهذا، بل إذا سئل المتفاقه منهم وعوتب قال: إنَّما نرى القَسَم بالأولياء أوثقَ من القَسَم بالله عزَّ وجلَّ؛ لأن الله تعالى صبور والأولياء لا يصبرون!! ولا تحسبنَّ هذا أقصى ما عندهم، بل إذا قلت لهذا المتفاقه: غاية ما يمكن من الولي أن يدعو الله تعالى على مَنْ لم يبرَّ بيمينه, فرجع الأمر إلى الله تعالى - وهو صبور -، فإنَّه يجيبك حينئذٍ بشبهةٍ [740] مِن شُبهِ عُبَّاد الملائكة، فأقربهم مَنْ يقول: أنت لا تنكر سؤال الدعاء من الصَّالح الحيِّ، فيقول له أحدنا: ادع الله أن يكفيني شرَّ من ظلمني، ويلزم من ذلك اعتقاد أنَّ الله تعالى يعجِّل عقوبة الظالم إذا دعاه وليٌّ مِن أوليائه تعجيلها، فكذلك ما نحن فيه. وأبعدُ منه مَنْ يقول: إن الله تعالى لا يردُّ دعاء أوليائه. وأَبْعَدُهُم مَنْ يقول لك: إنَّ للأولياء سلطة غيبيَّة يتصرَّفون بها في الكون، فبتلك

السلطة يعجِّلون عقوبة مَنْ حلف بهم ولم يبرَّ. وقد مرَّ جوابُ هذه الشبهات. وهذه السلطة الغيبيَّة قد شاع اعتقادها بين العلماء، فضلًا عن الأوساط، فضلًا عن العامَّة. ولم يبلغ مشركو العرب في الجاهلية إلى هذا الحدِّ في الملائكة، بل لم يثبتوا لهم إلا الشفاعة مع تردُّدهم فيها، حتى كانوا إذا وقعوا في شدَّة اقتصروا على دعاء الله تعالى كما تقدَّم ذلك مبسوطًا (¬1). وهذه السلطة الغيبية التي تُنْسَب إلى الأولياء لا نعلم عليها سلطانًا، بل قد استأصل الله عزَّ وجلَّ شأفتها ببرهان التمانع كما تقدَّم، وإنما ينجو من برهان التمانع قدرة الملائكة التي لا يحرِّكون بها ذرَّة، ولا ينطقون بحرف حتى يأمرهم ربهم عزَّ وجلَّ. وقد تقدَّم (¬2) أنَّ أرواح الموتى إن جاز أن نفرض لها قدرة فهي كقدرة الملائكة، وأمَّا قدرة الجنّ والسحرة وكذا إن فرضنا للصَّالحين الأحياء قدرة غيبيَّة فقد تقدَّم أنها محدودة بحيث لا تصادم برهان التمانع، ومع ذلك فإنها لا تؤثر إلاَّ بإذن خاصًّ من الله تعالى بخلاف القدرة العاديَّة للبشر الأحياء. [741] والمقصود بيان الغاية التي بلغها العامَّة ومَن يقرب منهم وإن ادَّعى العلم من الغلوَّ، والله المستعان. ¬

_ (¬1) انظر ص 767 - 769. (¬2) انظر ص 816.

قول ما شاء الله وشئت

قول ما شاء الله وشئت (¬1) ¬

_ (¬1) هذا آخر ما وُجِد من كتاب العبادة, ولا يبعد أن الشيخ المعلَّمي تيسَّر له كتابةُ هذا الفصل وفصولٍ أخرى بعده؛ لأنه كان يدعو الله أن يُيسِّر له إتمام الكتاب ونشره، ولعلَّ الله استجاب دعاءه. ثم وجدت بعدُ أنه قال في رسالة البسملة والفاتحة 8 ب (وهي متأخرة التأليف عن رسالة العبادة): "ومما كان يخفى على بعضٍ منهم أنه عبادة أو قد يكون عبادة: القَسَم بغير الله، والطيرة، وقولهم: ما شاء الله وشاء فلان، والتمائم والتولة وغيرها. وقد بسطت الكلام على ذلك في رسالة العبادة، والحمد لله".

فهرس مصادر التحقيق

فهرس مصادر التحقيق 1 - الآحاد والمثاني، لابن أبي عاصم، تحقيق باسم الجوابرة، دار الراية، الرياض، ط 1، 1411 هـ. 2 - الآداب الشرعية، لابن مفلح، تحقيق شعيب الأرنؤوط وعمر القيام، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 3، 1419 هـ. 3 - الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة، لابن بطَّة العكبري، تحقيق: رضا نعسان وآخرين، دار الراية، ط 2، 1415 هـ. 4 - إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة، للبوصيري، تحقيق: دار المشكاة للبحث العلميّ، نشر: دار الوطن، الرياض، ط 1، 1420 هـ. 5 - إتحاف السادة المتقين، للزبيدي، نشر دار إحياء التراث العربي، 1414 هـ, صورة عن طبعة المطبعة الميمنية. 6 - إتحاف المهرة بالفوائد المبتكرة من أطراف العشرة، لابن حجر، تحقيق مجموعة من الباحثين، مجمع الملك فهد بالتعاون مع مركز خدمة السنة، ط 1, 1415 هـ. 7 - الإتقان في علوم القرآن، للسيوطي، تحقيق مركز الدراسات القرآنية، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، ط 2، 1431 هـ. 8 - الأجوبة النافعة عن المسائل الواقعة، للسعدي، اعتنى به: هيثم بن جواد الحداد، دار المعالي ودار ابن الجوزي، ط 2، 1420 هـ. 9 - الأحاديث المختارة، للضياء المقدسي، تحقيق عبد الملك بن عبد الله بن دهيش، دار خضر، بيروت، ط 3, 1420 هـ.

10 - الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان، لابن بلبان، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، ط 1، 1408 هـ. 11 - الإحكام في أصول الأحكام، للآمدي، لم أرجع إليه في التحقيق، وإنما نقل المؤلف عن طبعة مطبعة المعارف بشارع الفجالة بمصر، 1332 هـ. 12 - الإحكام في أصول الأحكام، لابن حزم، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط 2, 1403 هـ. 13 - الأحكام الوسطى للإشبيلي، تحقيق: حمدي السلفي وصبحي السامرائي، مكتبة الرشد، الرياض، 1416 هـ. 14 - أخبار الحمقى والمغفلين، لابن الجوزي، شرح عبد الأمير مهنا، دار الفكر اللبناني، ط 1، 1410 هـ. 15 - إخبار العلماء بأخبار الحكماء، للقفطي، مطبعة السعادة بمصر، 1326 هـ. 16 - أخبار مكة في قديم الدهر وحديثه, لأبي عبد الله الفاكهي، دراسة وتحقيق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش، دار خضر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ط 2, 1414 هـ. 17 - أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار, لأبي الوليد الأزرقي، دراسة وتحقيق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش، مكتبة الأسدي، مكة المكرمة، ط 1, 1424 هـ. 18 - الأدب المفرد للبخاري، تحقيق: سمير الزهيري، مكتبة المعارف، الرياض، ط 1, 1419 هـ. 19 - الأربعين في التصوُّف، لأبي عبد الرحمن السلمي، مجلس دائرة المعارف العثمانية بحيدر أباد، 1401 هـ.

20 - إرشاد المبتدي وتذكرة المنتهي في القراءات العشر، لأبي العز القلانسي، تحقيق: عمر حمدان الكبيسي، المكتبة الفيصلية، مكة المكرمة، ط 1، 1404 هـ. 21 - إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، للألباني، المكتب الإسلامي، ط 2, 1405 هـ. 22 - أسباب النزول، للواحدي, تخريج: عصام بن عبد المحسن الحميدان، دار الإصلاح, الدمام, ط 1, 1411 هـ. 23 - الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار، لابن عبد البر، وثّق أصوله: عبد المعطي قلعجي، دار قتيبة, دمشق، بيروت، دار الوعي، حلب، القاهرة، ط 1، 1413 هـ. 24 - الاستيعاب، لابن عبد البر (بهامش الإصابة, لابن حجر)، دار الكتاب العربي، بيروت. 25 - الأسماء والصفات، للبيهقي، تحقيق: عبد الله بن محمد الحاشدي، مكتبة السوادي، جدة، ط 1، 1413 هـ. 26 - الإشارة والإيجاز، للعز بن عبد السلام، لم أرجع إليه في التحقيق، وإنما نقل المؤلف عن طبعة دار الطباعة العامرة, وقد صورتها دار المعرفة، بيروت. 27 - الأشباه والنظائر، للسيوطي، مصطفى الحلبي بمصر، الطبعة الأخيرة، 1378 هـ. 28 - الإصابة في تمييز الصحابة, لابن حجر العسقلاني، تحقيق: عبد الله التركي بالتعاون مع مركز البحوث والدراسات العربية والإسلامية بدار هجر بالقاهرة، ط 1، 1429 هـ. 29 - الأصنام، لأبي المنذر ابن الكلبي، تحقيق: أحمد زكي باشا، دار الكتب المصرية بالقاهرة، ط 3, 1995 م.

30 - الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار, لأبي بكر الحازمى، دائرة المعارف العثمانية، بحيدر أباد، الهند، ط 2، 1359 هـ. 31 - الاعتصام، للشاطبي، مطبعة المنار بمصر، ط 1، 1331 هـ, وهي التي رجع إليها المؤلف. وطبعة أخرى بتحقيق: محمد عبد الرحمن الشقير وزميليه، دار ابن الجوزي، الدمام، ط 1، 1429 هـ. 32 - الأعلام، لخير الدين الزركلي، دار العلم للملايين، ط 7، 1986 م. 33 - إعلام الموقعين، لابن قيم الجوزية، مراجعة وتعليق: طه عبد الرؤوف سعد، مكتبة ومطبعة الحاج عبد السلام بن محمد بن شقرون، 1388 هـ. 34 - الإعلام بقواطع الإسلام، لابن حجر الهيتمي، طبعة المطبعة الوهبية، مصر، 1292 هـ, وهي التي رجع إليها المؤلف. وطبعة أخرى بهامش: الزواجر عن اقتراف الكبائر، المطبعة الأزهرية المصرية، ط 1، 1325 هـ. وطبعة ثالثة بذيل الزواجر، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، ط 3، 1398 هـ. 35 - إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان، لابن قيم الجوزية، تحقيق: محمد عزير شمس، دار عالم الفوائد، ط 1، 1432 هـ. 36 - الأغاني، لأبي الفرج الأصفهاني، تحقيق: سمير جابر، دار الفكر، بيروت، ط 2. 37 - اقتضاء الصراط المستقيم، لابن تيمية، تحقيق: ناصر العقل، ط 7، 1419 هـ, توزيع وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، الرياض. 38 - اقتضاء العلم العمل للخطيب البغدادي، تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 4، 1397 هـ.

39 - الإكمال في رفع الارتياب عن المؤتلف والمختلف في الأسماء والكنى والأنساب, لابن ماكولا، تحقيق عبد الرحمن بن يحيى المعلمي، دار الكتاب الإسلامي، الفاروق الحديثة للطباعة، مصورة عن طبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر أباد، الهند. 40 - الأم، للإمام محمد بن إدريس الشافعي، المطبعة الأميرية الكبرى ببولاق، مصر، ط 1، 1321 - 1325 هـ. وطبعة أخرى بتحقيق: رفعت فوزي عبد المطلب، دار الوفاء، المنصورة, مصر، ط 1، 1422 هـ. 41 - الأمالي، لأبي علي القالي، دار الكتاب العربي، بيروت، مصورة عن طبعة دار الكتب المصرية، 1926 م. 42 - إنباه الرواة على أنباه النحاة, للقفطي، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الفكر العربي، القاهرة, مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، ط 1، 1406 هـ. 43 - الأنساب، للسمعاني، تحقيق: عبد الرحمن بن يحيى المعلمي وآخرين، مكتبة ابن تيمية، ط 2، 1400 هـ. 44 - أنساب الخيل في الجاهلية والإسلام وأخبارها, لابن الكلبي، تحقيق: أحمد زكي، مطبعة دار الكتب القومية، القاهرة، 1424 هـ. 45 - الإنسان الكامل، للجيلي، مكتبة ومطبعة محمد علي صبيح وأولاده، دون معلومات طباعة. 46 - أنوار التنزيل، للبيضاوي = تفسير البيضاوي. 47 - أهوال القبور، لابن رجب، خرج أحاديثه وعلق عليه: خالد عبد اللطيف السبع العلمي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 3، 1414 هـ. 48 - الأوسط من السنن والإجماع والاختلاف، لابن المنذر النيسابوري، تحقيق: مجموعة, وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر، ط 2، 1431 هـ.

49 - الإيضاح في علوم البلاغة للقزويني. بتعليق محمد عبد المنعم خفاجي، دار الكتاب اللبناني، ط 5، 1400 هـ. 50 - البحر الرائق شرح كنز الدقائق، لابن نجيم، دار المعرفة، بيروت، مصورة عن طبعة مطبعة دار الكتب العربية الكبرى بمصر، 1333 هـ. 51 - البحر المحيط، لأبي حيان محمد بن يوسف الأندلسي، دار الفكر، ط 2، 1398 هـ, مصوَّرة عن طبعة السلطان عبد الحفيظ. 52 - البداية والنهاية، لابن كثير، تحقيق: عبد الله التركي، هجر للطباعة والنشر والتوزيع، بمصر، ط 1، 1418 هـ. 53 - البدر الطالع بمحاسن مَن بعد القرن السابع، للشوكاني، مكتبة ابن تيمية، بالقاهرة. 54 - البدر المنير في تخريج أحاديث الشرح الكبير، لابن الملقن، تحقيق مجموعة من الباحثين، دار العاصمة، الرياض، ط 1, 1430 هـ. 55 - البدور البازغة، لولي الله الدهلوي، مطبوعات المجلس العلمي، الهند، 1354 هـ. 56 - برهان قاطع، لمحمد حسين بن خلف التبريزي، تحقيق: الدكتور محمد معين، مؤسسة انتشارات أمير كبير، طهران، ط 5، 1342 هجري شمسي. 57 - بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث بن أبي أسامة، لنور الدين الهيثمي، تحقيق: حسين أحمد صالح الباكري، مركز خدمة السنة بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة بالتعاون مع مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، ط 1، 1413 هـ. 58 - بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة، للسيوطي، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، مطبعة عيسى الحلبي، ط 1، 1384 هـ.

59 - بلوغ المرام، لابن حجر، تحقيق: سمير بن أمين الزهيري، مكتبة الدليل، الجبيل الصناعية بالسعودية، ط 1، 1417 هـ. 60 - البيان والتبيين، للجاحظ، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي بمصر، ط 4، 1395 هـ. 61 - تاج التراجم فيمن صنَّف من الحنفية، لابن قطلو بغا، عُني بتحقيقه: إبراهيم صالح، دار المأمون للتراث، ط 1، 1412 هـ. 62 - تاج العروس شرح القاموس، للزبيدي، تحقيق: مجموعة من المحققين، المجلس الوطني للثقافة والفنون بالكويت. 63 - تاريخ الإسلام، للذهبي، تحقيق: بشار عوَّاد معروف، دار الغرب الإسلامي، ط 1، 1442 هـ. 64 - تاريخ الأمم والملوك، للطبري، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار سويدان، بيروت، بلا تاريخ. 65 - التاريخ الأوسط، للبخاري، المطبوع باسم: التاريخ الصغير, تحقيق: محمود إبراهيم زايد، دار الوعي بحلب، ودار التراث بالقاهرة، ط 1، 1397 هـ. 66 - تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي، دار الكتب العلمية، بيروت، بلا تاريخ. 67 - تاريخ دمشق، لابن عساكر، تحقيق: عمر بن غرامة العمروي، دار الفكر، بيروت، ط 1، 1419 هـ. 68 - التاريخ الكبير، للبخاري، دار الكتب العلمية، مصورة عن طبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر أباد، الهند. 69 - تاريخ ابن الوردي، المسمى: تتمة المختصر في أخبار البشر، جمعية المعارف، 1285 هـ. 70 - تأويل مختلف الحديث، لابن قتيبة، دار الكتاب العربي، بيروت.

71 - التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين، لطاهر بن محمد الإسفراييني، عالم الكتب، بيروت، 1983 م. 72 - تحفة الأشراف، للمزي، تحقيق: عبد الصمد شرف الدين، الدار القيمة بهيوندي، الهند، والمكتب الإسلامي، بيروت، ط 2، 1403 هـ. 73 - تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة، لأبي الريحان البيروني، الهيئة العامة لقصور الثقافة بمصر، مصور عن طبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر أباد الدكن، الهند، 2003 م. 74 - تخريج أحاديث وآثار الكشاف، اعتنى به سلطان بن فهد الطبيشي، دار ابن خزيمة، الرياض، ط 1، 1414 هـ. 75 - التدمرية، لابن تيمية، تحقيق: محمد بن عودة السعوي، مكتبة العبيكان، ط 6، 1421 هـ. 76 - التدوين في أخبار قزوين، لعبد الكريم بن محمد الرافعي، طبع المطبعة العزيزية، حيدر أباد، الهند، سنة 1404 هـ. 77 - تذكرة أولي الألباب، لداود بن عمر الضرير الأنطاكي. 78 - الترغيب والترهيب، للمنذري، ضبط وتعليق: مصطفى محمد عمارة، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1406 هـ. 79 - تشنيف المسامع بجمع الجوامع، للزركشيّ، تحقيق: عبد الله ربيع وسيد عبد العزيز، مؤسسة قرطبة، القاهرة، مصر، ط 1. 80 - تفسير البيضاوي (أنوار التنزيل وأسرار التأويل)، مصورة دار الفكر عن طبعة المطبعة العثمانية بتركيا. وطبعة أخرى على حاشية الشهاب الخفاجي، مصورة دار صادر، بيروت، عن طبعة بولاق، 1283 هـ. 81 - تفسير الجواهر = الجواهر في تفسير القرآن.

82 - تفسير الجلالين، علَّق عليه: صفي الرحمن المباركفوري، دار السلام، الرياض، ط 2, 1422 هـ. 83 - تفسير ابن أبي حاتم = تفسير القرآن العظيم. 84 - تفسير الخازن، دار الفكر، 1399 هـ. 85 - تفسير أبي السعود، دار إحياء التراث العربي، بيروت. 86 - تفسير الطبري، طبعة المطبعة الميمنية بمصر، 1321 هـ, وهي التي رجع إليها المؤلف. وطبعة أخرى بتحقيق: محمود محمد شاكر، دار المعارف بمصر، ط 2. وطبعة ثالثة بتحقيق: عبد الله التركي، هجر للطباعة والنشر، ط 1، 1422 هـ. 87 - تفسير الفخر الرازي، المشهور بالتفسير الكبير ومفاتيح الغيب، دار الفكر، بيروت، ط 1، 1401 هـ. 88 - تفسير القرآن، لعبد الرزاق الصنعاني، تحقيق: مصطفى مسلم، مكتبة الرشد، الرياض، ط 1، 1410 هـ. 89 - تفسير القرآن، لأبي المظفر السمعاني، تحقيق: ياسر بن إبراهيم وغنيم بن عباس، دار الوطن، الرياض، ط 1، 1418 هـ. 90 - تفسير القرآن العظيم، لابن أبي حاتم، تحقيق: أسعد محمد الطيب، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة, الرياض، ط 1، 1417 هـ. 91 - تفسير القرآن العظيم، لإسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي، تحقيق: عبد العزيز غنيم وزميله, طبعة الشعب. 92 - تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن. 93 - تفسير ابن كثير = تفسير القرآن العظيم.

94 - تفسير ابن المنذر، تحقيق: سعد بن محمد السعد، دار المآثر، المدينة النبوية، ط 1، 1423 هـ. 95 - تفسير النسائي، حققه: سيد بن عباس الجليمي وزميله، مكتبة السنة، ط 1، 1410 هـ. 96 - تفسير النسفي، (مدارك التنزيل وحقائق التأويل)، تحقيق: مروان محمد الشقار، دار النفائس، ط 1، 1416 هـ. 97 - تقريب التهذيب، لابن حجر العسقلاني، قابله بأصل مؤلّفه: محمد عوّامة، دار الرشيد، حلب، سورية. 98 - التلخيص الحبير، لابن حجر العسقلاني، عني بتصحيحه: عبد الله هاشم اليماني، دار المعرفة بيروت، بلا تاريخ. 99 - التمهيد، لابن عبد البر، تحقيق: مصطفى العلوي ومحمد عبد الكبير، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمغرب، 1387 هـ. 100 - التنكيل، للمعلمي، تحقيق: الألباني، المكتب الإسلامي، ط 2، 1406 هـ. 101 - تهذيب التهذيب، لابن حجر العسقلاني، دار صادر، مصورة عن طبعة دائرة المعارف النظامية بحيدر أباد، الدكن، الهند، ط 1، 1325 هـ. 102 - تهذيب اللغة، لأبي منصور الأزهري، تحقيق: عبد السلام هارون، المؤسسة المصرية العامة والدار المصرية، القاهرة، 1384 هـ. 103 - التوبة، لابن أبي الدنيا، دراسة وتحقيق: مجدي السيد إبراهيم، مكتبة القرآن للطبع والنشر والتوزيع، القاهرة، بلا تاريخ. 104 - التيسير بشرح الجامع الصغير, للمناوي، مكتبة الإمام الشافعي، الرياض، ط 3، 1408 هـ.

105 - تيسير التحرير، لمحمد أمين المعروف بأمير بادشاه، دار الكتب العلمية، بيروت، 1403 هـ. 106 - الثقات، لابن حبان، مصورة دار الفكر عن طبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر أباد، الهند، ط 1، 1393 هـ. 107 - الجامع، لمعمر = بذيل مصنف عبد الرزاق. 108 - جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر، تحقيق: أبي الأشبال الزهيري، دار ابن الجوزي، الدمام، ط 7، 1427 هـ. 109 - جامع العلوم والحكم، لابن رجب، مؤسسة الرسالة، تحقيق: شعيب الأرناؤوط وإبراهيم باجس، ط 7، 1422 هـ. 110 - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، تحقيق: عبد الله التركي، بمشاركة: محمد رضوان عرقسوسي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1، 1427 هـ. 111 - الجرح والتعديل, لابن أبي حاتم، دار الكتب العلمية، بيروت، مصورة عن طبعة دائرة المعارف العثمانية، بحيدر أباد، الهند. 112 - الجليس الصالح الكافي والأنيس الناصح الشافي، لأبي الفرج المعافى بن زكريا، تحقيق: محمد مرسي الخولي، عالم الكتب، بيروت، ط 1، 1413 هـ. 113 - جمال القراء وكمال الإقراء، للسخاوي، تحقيق: علي حسين البواب، مكتبة الخانجي بالقاهرة، ط 1، 1408 هـ. 114 - الجمل، للزجاجي، اعتنى بتصحيحه وشرح أبياته: ابن أبي شنب، طبع بمطبعة جول كربونل بالجزائر، 1926 م. 115 - الجواهر في تفسير القرآن الكريم، لطنطاوي جوهري، طبع بمطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، 1351 هـ.

116 - حاشية الجمل على تفسير الجلالين، المسماة: الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين للدقائق الخفية، لسليمان بن عمر الشهير بالجمل، مطبعة عيسى البابي الحلبي بمصر. 117 - حاشية الخيالي على شرح العقائد النسفية للتفتازاني مطبوعة بذيل حاشية مصطفى الكستلي، المطبعة العثمانية 1326 هـ في عهد السلطان عبد الحميد الثاني. 118 - حسن الظن بالله، لابن أبي الدنيا، حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه: مخلص محمد، دار طيبة للنشر والتوزيع، الرياض، ط 2، 1408 هـ. 119 - حلية الأولياء، لأبي نعيم الأصبهاني، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 3، 1400 هـ. 120 - حماسة أبي تمام، بشرح الأعلم الشنتمري، تحقيق: علي المفضَّل حمّودان، دار الفكر، دمشق، مطبوعات مركز جمعة المساجد، ط 1، 1413 هـ. 121 - حماسة الخالديَّين، أبي بكر محمد بن هاشم الخالدي وأبي عثمان سعيد بن هاشم الخالدي، تحقيق محمد علي الدقة، وزارة الثقافة، الجمهورية العربية السورية، 1995 م. 122 - حياة الأنبياء صلوات الله عليهم بعد وفاتهم، للبيهقيَّ، تحقيق: أحمد بن عطية الغامدي، نشر: مكتبة العلوم والحكم، ط: 1، 1415 هـ. 123 - خزانة الأدب، لعبد القادر بن عمر البغدادي، تحقيق وشرح: عبد السلام هارون، نشر: مكتبة الخانجي بالقاهرة، ط 4، 1418 هـ. 124 - دائرة المعارف، للبستاني، مطبعة الأدبية، بيروت، 1887 م. 125 - دائرة المعارف الإسلامية, إعداد: مجموعة من المستشرقين، النسخة الإنجليزية.

126 - دائرة معارف القرن العشرين، لمحمد فريد وجدي، نشر: دار المعرفة، بيروت، ط 3، 1971 م. 127 - الدر المنثور، للسيوطي، دار الفكر، بيروت، ط 1، 1403 هـ. 128 - الدرر الكامنة, لابن حجر، تحقيق: محمد سيد جاد الحق، أم القرى، القاهرة، مصر. 129 - الدعاء، للطبراني، دراسة وتحقيق وتخريج: محمد سعيد محمد حسن البخاري، دار البشائر الإسلامية، بيروت، ط 1، 1407 هـ. 130 - دلائل النبوة، لأبي نُعيمٍ، تحقيق: محمد رواس قلعه جي وعبد الله عباس، دار النفائس، ط 3، 1412 هـ. 131 - دلائل النبوَّة، للبيهقي، تحقيق: عبد المعطي قلعجي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1405 هـ. 132 - ديوان الأعشى الكبير، تحقيق: محمد محمد حسين، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 7, 1403 هـ. 133 - ديوان امرئ القيس، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة, ط 4. 134 - ديوان أبي تمام، بشرح: الخطيب التبريزي، تحقيق: محمد عبده عزام، دار المعارف بمصر، 1964 م. 135 - ديوان ابن الدمينة, صنعة: أبي العباس ثعلب ومحمد بن حبيب, تحقيق: أحمد راتب النفاخ، مكتبة دار العروبة، القاهرة، بلا تاريخ. 136 - ديوان الحطيئة، دار صادر والمؤسسة العربية للطباعة والنشر، بيروت. 137 - ديوان رؤبة بن العجاج، اعتنى بتصحيحه وليم بن الورد البروسي، مصورة دار ابن قتيبة للطباعة والنشر والتوزيع، الكويت.

138 - ديوان عامر بن الطفيل، رواية أبي بكر الأنباري عن أبي العباس ثعلب، دار صادر، بيروت، 1399 هـ. 139 - ديوان عبيد الأبرص، تحقيق وشرح: حسين نصار، ط مصطفى الحلبي، 1377 هـ. 140 - ديوان عدي بن زيد العبادي، تحقيق: محمد جبار المعيبد، بغداد، 1965 م. 141 - ديوان عمر بن أبي ربيعة، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الأندلس، مصر، 1380 هـ. 142 - ديوان القطامي، تحقيق: محمود الربيعي. وطبعة أخرى، بتحقيق إبراهيم السامرائي وأحمد مطلوب. 143 - ديوان المتلمَّس الضُّبَعي، عُني بتحقيقه وشرحه والتعليق عليه: حسن كامل الصيرفي، معهد المخطوطات العربية بجامعة الدول العربية، 1390 هـ. 144 - ديوان المتنبي، مع الشرح المنسوب للعكبري، ضبط وتصحيح: مصطفى السقا وزميليه، مكتبة مصطفى الحلبي بمصر، الطبعة الأخيرة, 1391 هـ. 145 - ديوان مجنون ليلى، تحقيق: عبد الستار أحمد فراج، مكتبة مصر بالقاهرة، 1979 م. 146 - ديوان النابغة الذبياني، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة، ط 2. 147 - ديوان ابن نباتة، ط 1، بمطبعة التمدن، بعابدين بمصر، 1323 هـ. 148 - ذم الكلام وأهله، لأبي إسماعيل الهرويَّ، تحقيق عبد الرحمن بن عبد العزيز الشبل، مكتبة العلوم والحكم بالمدينة المنورة, ط 1، 1416 هـ. 149 - رسالة الاجتهاد والتقليد، لعبد الرحمن بن يحيى المعلمي، مخطوطة في مكتبة الحرم المكي برقم (4674).

150 - رسالة البسملة والفاتحة، لعبد الرحمن بن يحيى المعلمي، مخطوطة في مكتبة الحرم المكي برقم (4701/ 2) 151 - رسالة الشفاعة، لعبد الرحمن بن يحيى المعلمي، ملحقة بدفتر فيه الجزء الثاني من التعقيب على المعلَّم عبد الحميد وتفسير سورة الفيل، مخطوطة في مكتبة الحرم المكي برقم (4785). 152 - الرسالة القشيرية في علم التصوف، لأبي القاسم القشيري، وعليها هوامش من شرح زكريا الأنصاري، دون معلومات طباعة. 153 - رسالة في تحقيق البدعة، ويليها: صدع الدجنة في فصل البدعة عن السنة، لعبد الرحمن بن يحيى المعلمي، اعتنى بها: عثمان معلم محمود وأحمد حاج محمد، أضواء السلف، الرياض، ط 1، 1425 هـ. 154 - الرقَّة والبكاء، لابن أبي الدنيا، تحقيق: محمد خير رمضان يوسف، دار ابن حزم، بيروت، ط 3، 1419 هـ. 155 - روح المعاني، للآلوسي، دار إحياء التراث العربي، بيروت. 156 - الروض الأنف في تفسير السيرة النبوية لابن هشام، لأبي القاسم عبد الرحمن السهيلي، تعليق وضبط: طه عبد الرؤوف سعد، مكتبة الكليات الأزهرية بالقاهرة، 1391 هـ. 157 - روضة الطالبين، للنووي، المكتب الإسلامي، بيروت ودمشق، ط 3، 1412 هـ. 158 - زاد المسير، لابن الجوزي، المكتب الإسلامي، بيروت ودمشق، ط 4، 1407 هـ. 159 - زاد المعاد في هدي خير العباد، لابن قيم الجوزية، تحقيق: شعيب الأرناؤوط وعبد القادر الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ومكتبة المنار الإسلامية، الكويت، ط 7، 1405 هـ.

160 - الزهد، لأحمد بن حنبل، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1403 هـ. 161 - الزهد، لأبي داود - رواية ابن الأعرابي -، تحقيق: ياسر بن إبراهيم بن محمد وغنيم بن عباس بن غنيم، دار المشكاة للنشر والتوزيع، القاهرة، ط 1، 1414 هـ. 162 - الزهد، لابن أبي الدنيا، تحقيق: ياسين محمد السواس، دار ابن كثير، دمشق، بيروت، ط 1, 1420 هـ. 163 - الزهد، لابن أبي عاصم، تحقيق: عبد العلي عبد الحميد حامد، الدار السلفية، بومباي، الهند، نشر: دار الريان للتراث، القاهرة, مصر، ط 2، 1408 هـ. 164 - الزهد، لابن المبارك، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، دار الكتب العلمية، بيروت. 165 - الزهد، لهنَّاد بن السريّ، تحقيق: عبد الرحمن بن عبد الجبار الفريوائي، دار الخلفاء للكتاب الإسلامي، الكويت، ط 1, 1406 هـ. 166 - الزهد، لوكيع بن الجراح، تحقيق د. عبد الرحمن الفريوائي، مكتبة الدار، المدينة المنورة، 1404 هـ. 167 - زيادات نعيم بن حماد على الزهد لابن المبارك، مطبوعة مع كتاب الزهد لابن مبارك. 168 - السبعة في القرآت، لابن مجاهد، تحقيق: شوقي ضيف، دار المعارف، القاهرة، ط 3. 169 - سلسلة الأحاديث الصحيحة, للألباني، المكتب الإسلامي، بيروت ودمشق، ط 4, 1405 هـ. 170 - سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة، للألباني، المكتب الإسلامي، بيروت ودمشق.

171 - سمط اللآلي، لأبي عبيد البكري، تحقيق: عبد العزيز الميمني، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، بمصر، 1354 هـ. 172 - السنة، لابن أبي عاصم، مع ظلال الجنة في تخريج السنة للألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 3، 1413 هـ. 173 - سنن الترمذي، لأبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة، بتحقيق أحمد محمد شاكر، مصطفى الحلبي، ط 2. 174 - سنن الدارمي = مسند الدارمي. 175 - سنن أبي داود، مراجعة وضبط: محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الفكر. 176 - سنن سعيد بن منصور، حققه وعلق عليه: حبيب الرحمن الأعظمي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط 1، 1405 هـ. وطبعة أخرى بتحقيق: سعد بن عبد الله آل حميَّد، دار الصميعي، الرياض، ط 1، 1414 هـ. 177 - سنن ابن ماجه، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار الحديث، مصورة عن طبعة دار إحياء الكتب العربية لفيصل عيسى الحلبي. 178 - سنن النسائي، لأبي عبد الرحمن النسائي، طبعة مصطفى البابي الحلبي، ط 1، 1383 هـ. 179 - السنن الكبرى, للبيهقي، مصورة دار الفكر عن طبعة دائرة المعارف العثمانية بالهند. 180 - السنن الكبرى, للنسائي، تحقيق: حسن عبد المنعم شلبي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1، 1421 هـ. 181 - السنن المأثورة، للشافعي، تحقيق عبد المعطي أمين قلعجي، دار المعرفة، بيروت، ط 1، 1406 هـ. 182 - سير أعلام النبلاء, للذهبي، تحقيق مجموعة، مؤسسة الرسالة، ط 7، 1410 هـ.

183 - سيرة ابن إسحاق، تحقيق: محمد حميد الله، معهد الدراسات والأبحاث للتعريب. 184 - السيرة النبوية, لعبد الملك بن هشام، مع شرح أبي ذر الخشني، حققه وعلق عليه: همام عبد الرحيم سعيد ومحمد بن عبد الله أبي صعيليك، مكتبة المنار، الأردن، ط 1. 185 - شذرات الذهب في أخبار من ذهب، لابن العماد الحنبلي، تحقيق: محمود الأرناؤوط، دار ابن كثير، دمشق، بيروت، ط 1، 1410 هـ. 186 - شرح أبيات إصلاح المنطق، للسيرافي، تحقيق: ياسين محمد السواس، مطبوعات مركز جمعة الماجد بدبي، الإمارات العربية المتحدة، ط 1، 1412 هـ. 187 - شرح أشعار الهذليَّين، تحقيق: عبد الستار أحمد فراج، مكتبة دار العروبة، بالقاهرة. 188 - شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، للالكائي، تحقيق: أحمد سعد حمدان، دار طيبة للنشر والتوزيع، الرياض. 189 - شرح الخريدة البهية، لأبي البركات الدردير، حققه وقدم له وعلق عليه: مصطفى أبو زيد محمود رشوان، دار البصائر، القاهرة، ط 1، 1431 هـ. 190 - شرح ديوان لبيد بن ربيعة العامري، تحقيق: إحسان عباس، وزارة الإعلام في الكويت، مطبعة حكومة الكويت، ط ثانية مصورة، 1984 م. 191 - شرح شعر زهير بن أبي سُلْمى، لأبي العباس ثعلب، تحقيق: فخر الدين قباوة، دار الفكر، بيروت، إعادة الطبعة الأولى، 1417 هـ. 192 - شرح صحيح مسلمٍ للأُبيَّ = إكمال إكمال المعلم.

193 - شرح العقيدة الطحاوية، لابن أبي العز الحنفي، تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي وشعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، الإصدار الثاني، ط 2، 1424 هـ. 194 - شرح الكوكب المنير، لابن النجار، تحقيق: محمد الزحيلي ونزيه حماد، مكتبة العبيكان، الرياض، ط 2، 1418 هـ. 195 - شرح المحلِّي على المنهاج (حاشيتا شهاب الدين القليوبي وشهاب الدين الملقب عميرة على كنز الراغبين)، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1417 هـ. 196 - شرح المحلي على جمع الجوامع بحاشية البناني، مطبعة دار إحياء الكتب العربية لعيسى البابي الحلبي بمصر. 197 - شرح المحلِّي على جمع الجوامع مع حاشية العطار، دار الكتب العلمية، بيروت. 198 - شرح المقاصد، للتفتازاني، طبع في تركيا في مطبعة الحاج محرم أفندي البوسنوي، 1305 هـ. 199 - شرح المواقف، للسيد الشريف الجرجاني، مع حاشيتي السيالكوتي وحسن جلبي، المكتبة الأزهرية للتراث، ط 1، 1432 هـ. 200 - شرح النوويَّ على صحيح مسلمٍ، نشر دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط 3، 1404 هـ. 201 - الشريعة، لأبي بكر الآجُرَّيَّ، تحقيق: عبد الله بن عمر الدميجي، دار الوطن، الرياض. 202 - شعب الإيمان, للبيهقي، تحقيق: مختار أحمد الندوي، الدار السلفية، الهند، ط 2, 1421 هـ.

203 - شعر نصيب بن رباح المعروف بالأكبر، جمع وتقديم: داود سلوم، مطبعة الإرشاد، بغداد، 1967 م. 204 - الشِّعر والشعراء، لابن قتيبة، تحقيق: أحمد محمد شاكر، دار المعارف، مصر، ط 2، 1982 م. 205 - الشفا بتعريف حقوق المصطفى، للقاضي عياض، مع حاشية الشمني، دار الكتب العلمية، بيروت. 206 - شفاء العليل، لابن قيم الجوزية، تحرير: الحساني حسن عبد الله، مكتبة دار التراث، بالقاهرة. 207 - الشكر، لابن أبي الدنيا، تحقيق: طارق الطنطاوي، مكتبة القرآن للطبع والنشر والتوزيع، القاهرة، بلا تاريخ. 208 - شواذّ القرآن، لابن خالويه = مختصر في شواذ القرآن. 209 - الصارم المسلول على شاتم الرسول، لابن تيمية، تحقيق: محمد بن عبد الله الحلواني ومحمد كبير أحمد شودري، رمادي للنشر، الدمام، السعودية، ط 1، 1417 هـ. 210 - صبح الأعشى، لأبي العباس القلقشندي، شرحه وعلق عليه وقابل نصوصه: محمد حسين شمس الدين، دار الفكر. 211 - الصحاح (تاج اللغة وصحاح العربية)، لإسماعيل بن حماد الجوهري، تحقيق: أحمد عبد الغفور العطَّار، دار العلم للملايين، بيروت، ط 4، 1999 م. 212 - صحيح البخاري: اعتنى به: محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة، بيروت، توزيع: دار المنهاج، جدة، ط 1، 1422 هـ. مصورة عن الطبعة الأميرية ببولاق، مصر.

213 - صحيح ابن خُزيمة، تحقيق: محمد مصطفى الأعظمي، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 3، 1424 هـ. وطبعة أخرى بتحقيق: ماهر ياسين الفحل، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر، ط 1، 1431 هـ. 214 - صحيح مسلم، دار المعرفة، بيروت، مصورة عن طبعة الأستانة بتركيا. وطبعة أخرى بتحقيق: محمد فواد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت. 215 - صحيح الأدب المفرد، للألباني، دار الدليل، الجبيل الصناعية، ط 4، 1418 هـ. 216 - صحيح سنن الترمذي، للألباني، مكتبة المعارف، الرياض، الطبعة الأولى للطبعة الجديدة، 1420 هـ. 217 - صحيح سنن النسائي، للألباني، مكتبة المعارف، الرياض، الطبعة الأولى للطبعة الجديدة، 1419 هـ. 218 - صفة الصفوة، لابن الجوزي، تحقيق: محمود فاخوري، دار المعرفة، ط 3، 1405 هـ. 219 - الضعفاء, لأبي زرعة، وأجوبته على أسئلة البرذعي، تحقيق: سعدي الهاشمي، نشر المجلس العلمي، بالجامعة الإسلامية. 220 - الضعفاء الكبير، لأبي جعفر العقيلي، حققه ووثقه: عبد المعطي أمين قلعجي، دار الكتب العلمية. 221 - الضعفاء والمتروكون، للدارقطني، دراسة وتحقيق: موفق بن عبد الله بن عبد القادر، مكتبة المعارف، الرياض، ط 1، 1404 هـ. 222 - الضعفاء والمتركون، للنسائي، تحقيق: بوران الضناوي وكمال يوسف الحوت، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، ط 1، 1405 هـ. 223 - ضعيف الجامع الصغير, للألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 2، 1408 هـ.

224 - ضعيف سنن أبي داود (الأم)، للألباني، مؤسسة غراس للنشر والتوزيع، الكويت، ط 1، 1423 هـ. 225 - ضعيف سنن أبي داود، للألباني، مكتبة المعارف، الرياض، الطبعة الأولى للطبعة الجديدة، 1419 هـ. 226 - طبقات الأسماء المفردة، لأبي بكر البرديجيّ، حققته وقدمت له: سكينة الشهابي، دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر، دمشق، سورية، ط 1، 1987 هـ. 227 - طبقات الشعراء، لابن المعتز، تحقيق: عبد الستار أحمد فراج، دار المعارف بمصر، بلا تاريخ. 228 - طبقات الصوفيَّة للسلمي، تحقيق: نور الدين شريبه، مكتبة الخانجي بمصر، ط 3, 1406 هـ. 229 - الطبقات الكبرى, لابن سعد، تحقيق: مجموعة من المستشرقين، ليدن، بريل، 1904 - 1940 م، وهي التي رجع إليها المؤلف. وطبعة أخرى عن دار صادر، بيروت، 1405 هـ. وطبعة ثالثة (القسم المتمم)، تحقيق: زياد محمد منصور، الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، ط 1، 1403 هـ. 230 - طبقات فحول الشعراء، للجمحي، قرأه وشرحه: محمود محمد شاكر، مطبعة المدني، القاهرة. 231 - العجاب في بيان الأسباب، لابن حجر العسقلاني، تحقيق: عبد الحكيم محمد الأنيس، دار ابن الجوزي، الدمام، ط 1، 1418 هـ. 232 - عروس الأفراح (ضمن شروح التلخيص)، دار الكتب العلمية، بيروت. 233 - العظمة، لأبي الشيخ الاصبهاني، تحقيق: رضاء الله المباركفوري، دار العاصمة، الرياض، ط 1, 1411 هـ.

234 - العقائد الوثنية في الديانة النصرانية، لمحمد طاهر التَّنِّير البيروتي، تحقيق ودراسة: محمد عبد الله الشرقاوي، دار الصحوة للنشر، القاهرة، بلا تاريخ. 235 - علل الترمذي الكبير، رتبه على كتب الجامع: أبو طالب القاضي، تحقيق: صبحي السامرائي وزميليه، عالم الكتب، بيروت، ط 1، 1409 هـ. 236 - العلل، للدارقطني، تحقيق: محفوظ الرحمن زين الله، دار طيبة، الرياض، ط 1، 1405 هـ. 237 - العلل لابن أبي حاتم، تحقيق: فريقٍ من الباحثين، بإشراف وعناية: سعد بن عبد الله آل حميِّد وخالد بن عبد الرحمن الجريسيّ، ط 1، 1427 هـ. 238 - العلل ومعرفة الرجال، للإمام أحمد، رواية عبد الله، تحقيق وتخريج: وصي الله بن محمد عباس، المكتب الإسلامي، بيروت ودار الخاني، الرياض، ط 1، 1408 هـ. 239 - العلل ومعرفة الرجال، للإمام أحمد، رواية المروذي وغيره، تحقيق: وصي الله عباس، الدار السلفية، بومباي، الهند، ط 1، 1408 هـ. 240 - العلل المتناهية في الأحاديث الواهية، لابن الجوزي، حققه وعلق عليه: إرشاد الحق الأثري، نشر: إدارة ترجمان السنة، باكستان. 241 - العلو للعلي الغفار، للذهبي، اعتنى به: أشرف بن عبد المقصود، مكتبة أضواء السلف، الرياض، ط 1، 1416 هـ. 242 - عمدة القاري شرح صحيح البخاري، للعيني، دار الكتب العلمية، ط 1، 1421 هـ. 243 - عمل اليوم والليلة، للنسائي، تحقيق: فاروق حماده، مؤسسة الرسالة، ط 2، 1406 هـ.

244 - العناية شرح الهداية للبابرتي، مطبوع بهامش فتح القدير لابن الهمام، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، ط 1، 1389 هـ. 245 - عون المعبود، لشمس الحق العظيم آبادي، دار الحديث بمصر. 246 - عيون الأنباء في طبقات الأطباء، لأبي العباس الخزرجي المعروف بابن أبي أصيبعة، الطبعة الأولى بالمطبعة الوهبية, 1299 هـ. وطبعة أخرى بتحقيق: نزار رضا، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت. 247 - غرائب القرآن ورغائب الفرقان، لنظام الدين الحسن بن محمد القمي، تحقيق: إبراهيم عطوه عوض، مصطفى البابي الحلبي، ط 1، 1381 هـ. 248 - غريب الحديث، لأبي سليمان الخطابي، تحقيق: عبد الكريم إبراهيم العزباوي، مركز إحياء التراث الإسلامي بجامعة أمّ القرى بمكَّة المكرّمة، ط 2، 1422 هـ. 249 - غريب الحديث، لأبي عبيد القاسم بن سلام، مصورة دار الكتاب العربي عن الطبعة الهندية. 250 - غوث المكدود بتخريج منتقى ابن الجارود، لأبي إسحاق الحويني، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 1، 1408 هـ. 251 - الفتاوى الكبرى, لابن تيمية، قدم له: حسنين محمد مخلوف، دار المعرفة، بيروت. 252 - الفتاوى، للإمام العز بن عبد السلام، خرج أحاديثه وعلق عليه: عبد الرحمن بن عبد الفتاح، دار المعرفة, بيروت، ط 1، 1406 هـ. 253 - فتح الباري، لابن حجر العسقلاني، المطبعة الخيرية بمصر، ط 1، 1319 هـ. وطبعة أخرى بدار المعرفة، بيروت، مصورة عن الطبعة السلفية. 254 - فتح القدير، لابن الهمام، مصطفى الحلبي، ط 1، 1389 هـ.

255 - فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، لمحمد بن علي الشوكاني، مكتبة مصطفى الحلبي، ط 2، 1383 هـ. 256 - الفتح المبين بشرح الأربعين، لابن حجر الهيتمي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1398 هـ. 257 - فتح المغيث، للسخاوي، تحقيق: علي حسين علي، إدارة البحوث الإسلامية، بالجامعة السلفية، ببنارس، الهند، ط 1، 1407 هـ. 258 - الفتوحات الربانية على الأذكار النواوية، لابن علان، دار الفكر، 1398 هـ. 259 - فرحة الأديب في الرد على ابن السيرافي في شرح أبيات سيبويه، للأسود الغندجاني، تحقيق: محمد علي سلطاني، دار النبراس، 1401 هـ. 260 - الفردوس بمأثورالخطاب، لشيرويه بن شهردار الديلمي، تحقيق: السعيد بن بسيوني، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1406 هـ. 261 - الفروق، أو: أنوار البروق في أنواء الفروق، لأبي العباس القرافيِّ، ضبطه وصححه: خليل المنصور، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1418 هـ. 262 - الفصل في الملل والأهواء والنحل، تحقيق: محمد بن إبراهيم نصر وعبد الرحمن عميرة, دار الجيل، بيروت، 1405 هـ. 263 - فضائح الباطنيَّة للغزالي، تحقيق: عبد الرحمن بدوي، مؤسسة دار الكتب الثقافية بالكويت، بلا تاريخ. 264 - الفوائد البهية في تراجم الحنفية، لأبي الحسنات اللكنوي، عني بتصحيحه: محمد بدر الدين أبو فراس النعساني، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة، بلا تاريخ. 265 - فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة، لأبي حامد الغزالي، بتعليق: مصطفى القباني الدمشقي، ط 1، 1319 هـ, بمطبعة الترقي بمصر.

266 - قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة، لابن تيمية، تحقيق: ربيع بن هادي المدخلي، مكتبة لينا بدمنهور، ط 1، 1409 هـ. 267 - قاموس- ما يُسمَّى - الكتاب المقدَّس. 268 - القاموس المحيط، للفيروز آبادي، مؤسسة الرسالة، ط 3، 1413 هـ. 269 - القصَّاص والمذكِّرين، لابن الجوزي، تحقيق: محمد لطفي الصباغ، المكتب الإسلامي، 1409 هـ. 270 - قطف الأزهار المتناثرة في الأحاديث المتواتر، للسيوطي، تحقيق: خليل محيي الدين الميس، المكتب الإسلامي، ط 1، 1405 هـ. 271 - قواطع الأدلَّة، لأبي المظفر السمعانيّ، تحقيق: عبد الله حافظ الحكمي، ط 1، 1418 هـ، دون دار نشر. 272 - قوت القلوب، لأبي طالب المكي، تحقيق: عاصم إبراهيم الكيالي، دار الكتب العلمية، ط 2، 1426 هـ. 273 - الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف، لابن حجر العسقلاني، مطبوع مع الكشاف للزمخشري. 274 - الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية، لابن قيم الجوزية، دار عالم الفوائد بمكة المكرمة، ط 1، 1428 هـ. 275 - الكامل، للمبرد، تحقيق: محمد أحمد الدالي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1، 1406 هـ 276 - الكامل في التاريخ, لابن الأثير، دار صادر، ودار بيروت، 1385 هـ. 277 - الكبائر، للذهبي، دار الفكر، بيروت، بلا تاريخ. 278 - الكشاف، لأبي القاسم الزمخشري، دار المعرفة، بيروت، بلا تاريخ.

279 - كشف الأستار عن زوائد البزّار، للهيثمي، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، مؤسسة الرسالة، ط 1، 1399 هـ. 280 - الكشف الإلهي عن شديد الضعف والموضوع والواهي، لمحمد بن محمد الحسيني الطرابلسي السندروسي، تحقيق: محمد محمود أحمد بكار، مكتبة الطالب الجامعي، مكة المكرمة، ودار العليان، بريدة، ط 1، 1408 هـ. 281 - كشف الخفاء ومزيل الإلباس، للعجلوني، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط 2, 1351 هـ. 282 - كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، لحاجي خليفة، مصورة منشورات مكتبة المثنى ببغداد، بلا تاريخ. 283 - كنز العمَّال في سنن الأقوال والأفعال، لعلاء الدين المتقي الهندي، ضبط وتصحيح: بكري حياني ومصطفى السقا، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1409 هـ. 284 - الكنى والأسماء، للدولابي، حققه وقدم له: نظر محمد الفاريابي، دار ابن حزم، بيروت، ط 1، 1421 هـ. 285 - اللباب في تهذيب الأنساب، لابن الأثير الجزري، دار صادر، بيروت، ط 3, 1414 هـ. 286 - لباب النقول في أسباب النزول، للسيوطي، دار إحياء العلوم، بيروت. 287 - لسان العرب، لابن منظور، دار صادر، بيروت. 288 - لسان الميزان, لابن حجر العسقلاني، منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، لبنان. 289 - لغت نامه، لعلي أكبر دهخدا، مؤسسة لغت نامة، طهران، 1377 هجري شمسي. 290 - المؤتلف والمختلف في أسماء الشعراء للآمدي، تحقيق: عبد الستار أحمد فراج، دار إحياء الكتب العربيّة، عيسى البابي الحلبي، القاهرة، 1381 هـ.

291 - ما جاء في البدع، لابن وضاح القرطبي، حققه وخرج أحاديثه: بدر بن عبد الله البدر، دار الصميعي، الرياض، ط 1، 1416 هـ. 292 - متشابه القرآن للقاضي لعبد الجبار الهمذاني المعتزلي، ضبط ومراجعة: أحمد عبد الرحيم السايح وتوفيق علي وهبة، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، ط 1، 1430 هـ. 293 - المتمنّين، لابن أبي الدنيا، تحقيق: محمد خير رمضان يوسف، دار ابن حزم، بيروت، ط 1, 1418 هـ. 294 - مجابو الدعوة، لابن أبي الدنيا، تحقيق وتعليق: مجدي السيد إبراهيم، مكتبة القرآن للطبع والنشر والتوزيع، القاهرة، بلا تاريخ. 295 - مجاز القرآن. لأبي عبيدة، عارضه باصوله وعلّق عليه: محمد فؤاد سزكين، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 2، 1401 هـ. 296 - مجالس ثعلب، شرح وتحقيق: عبد السلام محمد هارون، دار المعارف بمصر، النشرة الثانية، 1960 م. 297 - المجالسة وجواهر العلم، للدينوري، تحقيق: مشهور حسن سلمان، جمعية التربية الإسلامية، البحرين، ط 1، 1419 هـ. 298 - مجلَّة العرب، الجزء الثالث، السنة الأولى، رمضان 1386 هـ. 299 - مجمع الأمثال، للميداني، دار المعرفة، بيروت، دون معلومات طباعة. 300 - مجمع الزوائد للهيثمي، تحقيق: عبد الله الدّرويش، دار الفكر، دمشق، 1413 هـ. 301 - مجموع الفتاوى، لشيخ الإسلام ابن تيمية، توزيع دار الإفتاء بالرياض. 302 - محاضرات في النصرانية، لمحمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، بلا تاريخ.

303 - المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات، لابن جني، تحقيق: علي النجدي ناصف والدكتور عبد الفتاح شلبي، دار سزكين للطباعة والنشر، ط 2، 1406 هـ. 304 - المحتضرين، لابن أبي الدنيا، تحقيق: محمد خير رمضان يوسف، دار ابن حزم، بيروت، ط 1، 1417 هـ. 305 - المحرر في الفقه، للمجد ابن تيمية، تحقيق: محمد حامد الفقي، دار الكتاب العربي، بيروت. 306 - المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، لابن عطية الأندلسي, تحقيق: الرحالة الفاروق وآخرين، مطبوعات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، دولة قطر، ط 2 , 1428 هـ. 307 - المحصول، للرازي، تحقيق: طه جابر العلواني، مؤسسة الرسالة، ط 3، 1418 هـ. 308 - المحلى، لابن حزم، دار الآفاق الجديدة، بيروت، بلا تاريخ. 309 - مختصر زوائد مسند البزَّار، لابن حجر العسقلاني، تحقيق وتقديم: صبري بن عبد الخالق أبو ذر، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، ط 3، 1414 هـ. 310 - مختصر في شواذ القرآن وكتاب البديع، لابن خالويه، عُني بنشره: ج. برجشتراسر، المطبعة الرحمانية بمصر، 1934 م. 311 - المخصَّص لابن سيده، دار إحياء التراث العربي، بيروت، مصورة عن طبعة بولاق. 312 - المدخل إلى تنمية الأعمال لابن الحاج، المكتبة العصرية, صيدا - بيروت. 313 - المدخل إلى السنن الكبرى للبيهقيِّ، تحقيق: محمد ضياء الرحمن الأعظمي، أضواء السلف، ط 2، 1420 هـ. 314 - مذكرات للمعلمي، مخطوط في مكتبة الحرم المكي برقم (4721).

315 - المستدرك على الصحيحين في الحديث، للحاكم النيسابوري. وفي ذيله: تلخيص المستدرك للذهبي، توزيع دار الباز للنشر والتوزيع، مكة المكرمة، مصورة عن طبعة مطبعة دائرة المعارف النظامية بحيدر أباد، الهند. 316 - المستصفى من علم الأصول، لأبي حامد الغزالي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 2، بلا تاريخ. 317 - المستطرف من كل فن مستظرف، للأبشيهي، المطبعة المصرية ببولاق، ط 3، 1285 هـ. 318 - المسند، لأحمد بن حنبل، المكتب الإسلامي، مصورة عن الطبعة الميمنية. 319 - مسند البزار (البحر الزخار)، تحقيق: محفوظ الرحمن زين الله، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، 1424 هـ. 320 - مسند ابن الجعد، تحقيق: عبد المهدي بن عبد القادر بن عبد الهادي، مكتبة الفلاح، الكويت، ط 1, 1405 هـ. 321 - مسند الدارمي، تحقيق: حسين سليم الداراني، دار المغني، الرياض، ط 1، 1421 هـ 322 - مسند أبي داود الطيالسي، تحقيق: محمد التركي، هجر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان، مصر، ط 1، 1419 هـ. 323 - مسند أبي يعلى الموصلي، تحقيق: حسين سليم أسد، دار المأمون للتراث، دمشق، ط 1, 1404 - 1409 هـ. 324 - مشارق الأنوار على صحاح الأثار, للقاضي عياض، المكتبة العتيقة، تونس، ودار التراث، القاهرة, 1333 هـ. 325 - مشكاة المصابيح، للخطيب التبريزي، تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 2، 1399 هـ.

326 - مشكل الآثار للطحاوي، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 2, 1427 هـ. 327 - مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه، للبوصيري، دراسة وتقديم: كمال يوسف الحوت، دار الجنان، ط 1، 1406 هـ. 328 - المصباح المنير، للفيومي، تحقيق: عبد العظيم الشناوي، دار المعارف، القاهرة، ط 2. 329 - مصنَّف ابن أبي شيبة، تحقيق: محمد عوامة، شركة دار القبلة، جدة، مؤسسة علوم القرآن، دمشق وبيروت، ط 1، 1427 هـ. 330 - المصنف، لعبد الرزاق الصنعاني، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، المكتب الإسلامي. 331 - المصنوع في معرفة الحديث الموضوع، لعلي القاري، حققه: عبد الفتاح أبو غدة، مكتب المطبوعات الإسلامية بحلب. 332 - المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية، لابن حجر العسقلاني، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، دار المعرفة, بيروت، لبنان. 333 - المطول على التلخيص للسعد التفتازاني، المكتبة الأزهرية للتراث، مصورة عن الطبعة التركية، 1330 هـ. وطبعة أخرى. بتحقيق: عبد الحميد هنداوي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 2، 1428 هـ. وطبعة ثالثة بتحقيق: فرج الله زكي الكردي. 334 - معارج الألباب في مناهج الحق والصواب، لحسين بن مهدي النعمي، دار الأرقم للنشر والتوزيع، ط 1، 1408 هـ. 335 - معالم التنزيل، للبغوي، حققه: محمد بن عبد الله النمر وزميلاه، دار طيبة، الرياض، ط 2، 1414 هـ.

336 - معاني القرآن وإعرابه، لأبي إسحاق الزجاج، تحقيق: عبد الجليل عبده شلبي، عالم الكتب، بيروت، ط 1، 1408 هـ. 337 - المعتبر في الحكمة الإلهية، لأبي البركات هبة الله بن علي بن ملكا البغدادي، دائرة المعارف العثمانية بحيدراباد الدكن بالهند، ط 1، 1358 هـ. 338 - معجم الأدباء، لياقوت، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، الطبعة الأخيرة. 339 - المعجم الأوسط, للطبراني، تحقيق: قسم التحقيق بدار الحرمين، طارق بن عوض الله وعبد المحسن الحسيني، دار الحرمين، القاهرة، 1415 هـ. 340 - معجم الدخيل، للدكتور: ف. عبد الرحيم، دار القلم، دمشق، ط 1، 1432 هـ. 341 - معجم الصحابة لأبي القاسم البغوي، تحقيق: محمد عوض المنقوش وإبراهيم إسماعيل القاضي، مبرَّة الآل والأصحاب، دولة الكويت، ط 1، 1432 هـ. 342 - المعجم الصغير. للطبراني. ويليه: غنية الألمعي، لأبي الطيب شمس الحق العظيم أبادي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1403 هـ. 343 - المعجم العبري الإنكليزي للعهد القديم، د. وليم غزينيوس، أكسفورد، 1976 م. 344 - المعجم الفلسفي، لجميل صليبا، الشركة العالمية للكتاب، دار الكتاب العالمي، 1414 هـ. 345 - المعجم الكبير، للطبراني، حققه وخرج أحاديثه: حمدي عبد المجيد السلفي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1422 هـ. 346 - معجم المؤلفين، لعمر كحالة، دار إحياء التراث العربي، بلا تاريخ. 347 - معجم المفسرين، لعادل نويهض، مؤسسة نويهض الثقافية، ط 3، 1409 هـ. 348 - المعجم الوسيط، لإبراهيم أنيس وآخرين، دار الدعوة، تركيا، ط 2. 349 - معجم ما استعجم, للبكري، تحقيق: مصطفى السقا، عالم الكتب، بيروت، ط 3، 1403 هـ.

350 - معرفة السنن والآثار, للبيهقي، تحقيق: عبد المعطي أمين قلعجي، جامعة الدراسات الإسلاميّة, باكستان، ودور أخرى، ط: 1، 1412 هـ. 351 - معرفة الصحابة، لأبي نعيم الأصبهاني، تحقيق: عادل العزازي، دار الوطن، الرياض، ط 1، 1419 هـ. 352 - معرفة علوم الحديث، للحاكم، شرح وتحقيق: أحمد بن فارس السلوم، دار ابن حزم، بيروت، ط 1، 1424 هـ. 353 - المعرفة والتاريخ, ليعقوب بن سفيان الفسوي، تحقيق: أكرم ضياء العمري، مكتبة الدار بالمدينة المنورة, ط 1، 1410 هـ. 354 - المعلم بفوائد مسلم لأبي عبد الله المازري، تحقيق محمد الشاذلي النيفر، الدار التونسية للنشر، تونس، ط 2 , 1988 م. 355 - مغني اللبيب، لابن هشام، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، دار إحياء التراث العربي، بلا تاريخ. وطبعة أخرى بتحقيق: عبد اللطيف محمد الخطيب، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ط 1، 1421 هـ. 356 - مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، للخطيب الشربيني، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، 1377 هـ. 357 - مفتاح السعادة ومصباح السيادة في موضوعات العلوم، لطاش كبري زاده, دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1405 هـ. 358 - المفردات في غريب القرآن، للراغب الأصبهاني، تحقيق: صفوان داوودي، دار القلم، دمشق، ط 1، 1412 هـ. 359 - المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، لجواد علي، ساعدت جامعة بغداد على نشره، ط 2، 1413 هـ.

360 - المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، لأبي العباس القرطبي، تحقيق محيي الدين ديب مستو وآخرين، دار ابن كثير ودار الكلم الطيب، دمشق وبيروت، ط 1، 1417 هـ. 361 - المقاصد الحسنة، للسخاوي، تصحيح وتعليق: عبد الله محمد الصديق، دار الكتب العلمية، ط 1، 1399 هـ. 362 - مقاييس اللغة، لابن فارس، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، دار الجيل، بيروت، ط 1, 1411 هـ. 363 - مقدَّمة ابن الصلاح ومحاسن الاصطلاح، تحقيق: عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ)، دار المعارف، القاهرة، بلا تاريخ. 364 - مقدَّمة في أصول التفسير، لابن تيمية، تحقيق: عدنان زرزور، ط 2، 1392 هـ. 365 - الملل والنحل، للشهرستاني، المطبعة الأدبية بمصر، ط 1، 1317 هـ, وطبعة أخرى بتحقيق: محمد سيد كيلاني، دار المعرفة، بيروت، 1402 هـ. 366 - مناقب الشافعي، للبيهقي، تحقيق: السيد أحمد صقر، مكتبة دار التراث، القاهرة، بلا تاريخ. 367 - المنامات، لابن أبي الدنيا، تحقيق: مجدي السيد إبراهيم، مكتبة القرآن للطبع والنشر والتوزيع، القاهرة, بلا تاريخ. 368 - المنتخب من كتاب الزهد والرقائق، للخطيب البغداديَّ، تحقيق وتعليق: عامر حسن صبري، دار البشائر الإسلامية, بيروت، ط 1، 1420 هـ. 369 - منتقى الينبوع فيما زاد على الروضة من الفروع، للسيوطي، بهامش روضة الطالبين، تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود وعلي محمد معوض، دار الكتب العلمية، بيروت. 370 - المنتقى لابن الجارود = غوث المكدود.

371 - منتهى الطلب من أشعار العرب، جمع: محمد بن المبارك بن محمد بن ميمون، تحقيق وشرح: محمد نبيل طريفي، دار صادر، بيروت، ط 1، 1999 م. 372 - منح الجليل على مختصر خليل، لمحمد عليش، مكتبة النجاح، طرابلس، ليبيا، مصورة عن طبعة المطبعة العامرة، 1294 هـ. 373 - منهاج الحسنة لابن تيمية، تحقيق: محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، بالرياض، ط 1، 1406 هـ. 374 - المنهاج في شعب الإيمان, للحليمي، تحقيق: حلمي محمد فودة، دار الفكر، ط 1، 1399 هـ. 375 - الموافقات في أصول الشريعة، للشاطبي، شرح: عبد الله دراز، ضبط وترقيم: محمد عبد الله دراز، دار المعرفة، بيروت، بلا تاريخ. 376 - الموسوعة البريطانية، النسخة الإلكترونية. 377 - الموسوعة الفلسفية العربية، نشر معهد الإنماء العربي، رئيس التحرير: د. معن زيادة، ط 1، 1986 م. 378 - الموضوعات, لابن الجوزي، تحقيق: نور الدين بن شكري بن علي بوياجيلار، أضواء السلف، الرياض، ط 1، 1418 هـ. 379 - الموطأ، للإمام مالك، تحقيق: بشار عواد معروف، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط 1، 1416 هـ. 380 - ميزان الاعتدال في نقد الرجال، للذهبي، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار المعرفة، بيروت، بلا تاريخ. 381 - الناسخ والمنسوخ، للنحَّاس، تحقيق: سليمان بن إبراهيم اللاحم، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1، 1412 هـ. 382 - نخب الفوائد، لعبد الرحمن بن يحيى المعلمي، صفحة ملحقة برسالة البسملة والفاتحة.

383 - النشر في القراءات العشر، لابن الجزري، أشرف على تصحيحه: علي محمد الضباع، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان. 384 - نظم الدرر، للبقاعيَّ، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة، ط 2، 1413 هـ, مصورة عن طبعة دائرة المعارف العثمانية بالهند. 385 - النكت على كتاب ابن الصلاح، لابن حجر العسقلاني، تحقيق: ربيع بن هادي المدخلي، الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة, ط 1، 1404 هـ. 386 - نهاية السول شرح منهاج الأصول، للإسنوي. ومعه: حواشي سلم الوصول، لمحمد بخيت المطيعي، عالم الكتب، بيروت، بلا تاريخ. 387 - النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير الجزري، تحقيق: محمود محمد الطناحي، وطاهر أحمد الزاوي، نشر المكتبة العلمية، بيروت. 388 - النوادر والزيادات على ما في المدونة من غيرها من الأمهات، لابن أبي زيد القيرواني، تحقيق: محمد حجي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط 1، 1405 هـ. 389 - الهداية شرح البداية، للمرغيناني، مطبوع بهامش فتح القدير لابن الهمام، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، ط 1، 1389 هـ. 390 - هدى الساري مقدمة فتح الباري، لابن حجر العسقلاني، قام بإخراجه: محب الدين الخطيب، دار المعرفة، بيروت، مصورة عن الطبعة السلفية. 391 - الوافي بالوفيات، لصلاح الدين لصفدي، تحقيق: هلموت ريتر وآخرين، فرانز شتايز، شتو تغارت، 1411 هـ. 392 - الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، للواحدي، تحقيق: صفوان عدنان داوودي، دار القلم، دمشق. 393 - الوساطة بين المتنبَّي وخصومه, لأبي الحسن الجرجاني، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم وعلي محمد البجاوي، طبع بمطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه، القاهرة، بلا تاريخ.

تحقيق الكلام في المسائل الثلاث (الاجتهاد والتقليد, السنة والبدعة, العقيدة)

آثار الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المُعلمي (4) تحقيق الكلام في المسائل الثلاث (الاجتهاد والتقليد, السنة والبدعة, العقيدة) تأليف الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني 1312 هـ - 1386 هـ تحقيق علي بن محمد العمران ومحمد عزير شمس وفق المنهج المعتمد من الشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد (رحمهُ الله تعالى) تمويل مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

بسم الله الرحمن الرحيم

راجع هذا الجزء عبد الرحمن بن صالح السُديس سليمان بن عبد الله العُمير

مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية SULAIMAN BIN ABDUL AZIZ AL RAJHI CHARITABLE FOUNDATION حقوق الطبع والنشر محفوظة لمؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية الطبعة الأولى 1434 هـ دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع مكة المكرمة - هاتف 5473166 - 5353590 فاكس 5457606 الصف والإخراج دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

مقدمة التحقيق

مقدمة التحقيق الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد، فبين أيدينا الآن كتاب من أعظم كتب الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي رحمه الله تعالى، حقّق فيه الكلام على مسائل كبرى تتعلق بالعقيدة، والسنة والبدعة، والاجتهاد والتقليد، فدقّق وحقّق، وناقش واستدلّ وتعمّق، وأطال وتوسّع وأغْدَق، وناقش المخالفين وأنصفهم وتحقّق. والعجب أنه ألّف هذا السِّفر النفيس في مقتبل شبابه، وعلى حين غُربة عن وطنه، وبُعدٍ عن كتبه، وعلى جناح سفر! وقد دلّت تلك المعطيات جميعًا على براعة المؤلف المبكّرة، وامتلاكه لناصية علوم الاجتهاد في تلك السنن, ودلت أيضًا على صفاء مشربه، ووضوح طريقته، وانتهاجه نهج السلف الصالحين والعلماء المحققين؛ في قضايا الاعتقاد، ومسالك السنة والبدعة، ومسائل الاجتهاد والتقليد. وهذه المسائل الثلاث هي المسائل الرئيسة التي ناقشها في الكتاب على ما سيأتي مفصلًا. وقد كان إخراج الكتاب بهذه الصورة عملًا مضنيًا شاقًّا نحتسب أجره وتعبه، وذلك لأمور اكتنفت نسخَه ومخطوطاتِه كما سيأتي شرحه، فالحمد لله على ما يسّر ووفق وأعان. وقد كان العمل في تحقيقه من أوله إلى ص 171 من نصيب محمد عُزير شمس، ومن ص 172 إلى 454 من نصيب علي بن محمد العمران.

بالإضافة إلى ملاحق خمسة متعلقة بالكتاب اشتركنا فيها. ولنتحدّث عن الكتاب بما يكشف عن مضمونه ويعرّف به في النقاط الآتية: - موضوع الكتاب. - اسم الكتاب. - تاريخ تأليفه. - سبب تأليفه. - عرض مفصّل لموضوعات الكتاب. - العثور عليه ومعاناة ترتيبه والعمل عليه. - وصف النسخة الخطية. - طريقة العمل في الكتاب. - ترجمة الشيخ أحمد السوركتي. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. والحمد لله رب العالمين. المحققان علي بن محمد العمران ومحمد عزير شمس في 20 من رمضان 1433 هـ

- موضوع الكتاب

- موضوع الكتاب الكتاب عبارة عن جواب لسؤال سائل عن كتاب (المسائل الثلاث) للشيخ أحمد بن محمد السوركتي، فإن السوركتي ألف رسالة بهذا العنوان ناقش فيها ثلاث قضايا هي: بعض قضايا الاعتقاد، وبعض الأمور البدعية، ومسائل الاجتهاد والتقليد. وكان تأليف السوركتي لهذه الرسالة إبّان اشتداد الخلاف بينه وبين بعض السادة العلويين في إندونيسيا حول قضايا في العقيدة والاجتهاد والتقليد والسنة والبدعة (¬1)، فيبدو أن قدوم المؤلف إلى هذا البلد كان في وقت اشتداد الخلاف في هذه القضايا وغيرها بين الفريقين. فطلب هذا السائل من المؤلف ثلاثة أمور: أن يبدي رأيه في هذه الرسالة إجمالاً، ثم في مؤلفها، ثم يتكلم على مسائلها تفصيلًا. فلبّى الشيخ الأمرين الأولين واعتذر عن الأخير، فألحّ عليه السائل، فاستعان بالله وكتب هذا الكتاب. وسيأتي تفصيل مباحثه في عرض موضوعات الكتاب. - اسم الكتاب لم نقف على تسمية للكتاب في أي من الأوراق التي عثرنا عليها مما هو متعلق بهذا الكتاب، ولا في أوراق المؤلف الأخرى التي وقفنا عليها، ¬

_ (¬1) انظر طرفًا منه في كتاب "حضرموت وعدن وإمارات الجنوب الغربي" للبكري، و"تاريخ حركة الإصلاح والإرشاد وشيخ الإرشاديين أحمد محمد السوركتي في إندونيسيا" لأحمد أبو شوك.

- تاريخ تأليفه

وحيث كان موضوع الكتاب كما أسلفنا هو الكلام على رسالة الشيخ أحمد السوركتي (المسائل الثلاث) استوحينا اسمًا من هذه المناسبة، فرأينا أن نطلق عليه اسم "تحقيق الكلام في المسائل الثلاث" كعنوان رئيس، وذكرنا تحته بخط أصغر الموضوعَ الرئيسَ لهذه المسائل إجمالًا؛ فقولنا: (تحقيق الكلام) مناسبته أن المؤلف نحا في كتابه نحو التحقيق والاجتهاد في كل المباحث التي عرض لها، فناسب أن نقول (تحقيق الكلام)، وقولنا: (المسائل الثلاث) لأنه عنوان رسالة السوركتي، ويصلح أيضًا أن ينطلق على المسائل التي حقّقها المؤلفُ هنا وأدارَ الكلام في الكتاب عليها. - تاريخ تأليفه أسلفنا أن هذا الكتاب ألفه الشيخ في مقتبل شبابه، فقد ألَّفه سنة 1344 هـ في إندونيسيا وهو في الثانية والثلاثين من عمره. يدلّ على ذلك أمران: 1 - ما ذكره المؤلف في المجموع رقم 4657 (ص 22) فقال: "مما يحتاج إلحاقه في رسالة الاجتهاد والتقليد: الأم جزء 1 ص 132". وتحته فائدة قُيّدت في يوم الخميس جمادى الثانية 44. أي سنة 1344 هـ. 2 - أن الشيخ السوركتي من سكان إندونيسيا - كما سيأتي في ترجمته -, وطبعت رسالته هناك، وصار بسببها لغط ونقاشات من بعض المتصوفة والمخالفين للسنة، فقُدّمت هذه الرسالة للشيخ المعلمي أثناء مقامه هناك إبان قدومه من اليمن. وهل رجع المؤلف إلى كتابه بعد هذا التاريخ للإضافة والتنقيح؟ الجواب: أن المعروف من طريقة المؤلف أنه يعتبر كتبَه، وينقّحها

- سبب تأليفه

ويضيف إليها، بل يكتب نسخًا عدةً بغرض الوصول لنسخة منقحة، وما عثرنا عليه من أوراق الكتاب تدلّ أنه كتبه مرة واحدة، لكنه كان يكتب بعض المباحث مرتين، وربما أضاف بعض الفوائد أو المراجع التي لم يكن وقف عليها وقت تأليفه للكتاب كإحالته على "فتح الباري" لابن حجر، فإنا نرجّح أنه لم يكن بين يديه وقت تأليف الكتاب؛ لأنه ينقل عنه بواسطة ثم وقف عليه بعد ذلك وألحق الإحالة. - سبب تأليفه ذكر المؤلف في صدر كتابه أن مناسبة تأليف الكتاب: أن بعض الإخوان أطْلَعه على كتاب بعنوان "المسائل الثلاث" للشيخ أحمد بن محمد سوركتي، وطلب من الشيخ ثلاثة أمور: 1 - أن ينظر فيه ويقدِّر حيثية مؤلفه؛ لأن كثيرًا من المخالفين له آنذاك كانوا يجهِّلونه ويبدِّعونه. فطالعه الشيخ ووصف مؤلفه بأنه على مكانة من العلم والدين والفهم الصحيح في الكتاب والسنة، لا يُنكِر هذا إلا مَن كان ناظرًا من وراء حجاب الهوى والتقليد. 2 - وطلب منه السائل أن يبيِّن ما يجب التنبيه عليه في الكتاب المذكور، فذكر ملاحظةً حول رأي المؤلف في علة النهي عن الجلوس على القبور، وعقَّب عليه بما رآه راجحًا في ضوء الأحاديث. 3 - وطلب منه السائل أيضًا الكلام على تلك المسائل الثلاث، فاعتذر منه، ولمَّا لم يعذره شرع في كتابة ما تيسر مستعينًا بالله ومرجئًا البسط إلى وقت آخر.

- عرض مفصل لموضوعات الكتاب

- عرض مفصّل لموضوعات الكتاب حقق الشيخ في هذا الكتاب الكلام على المسائل الثلاث: (الاجتهاد والتقليد، والسنة والبدعة، ومباحث من العقيدة). * المسألة الأولى: في الاجتهاد والتقليد بعد الخطبة وبيان مناسبة التأليف قدم له بمقدمة في بيان التكليف وما يتصل به، وذكر في أثنائها أن بقاء التكليف لما كان متوقفًا على بقاء الكتاب والسنة واللسان الذي وردا به، تكفَّل الله سبحانه وتعالى بذلك. بيَّن المؤلف طريقة حفظ القرآن والسنة واللغة، وأن بحفظها حصل حفظُ الدين، وقامت الحجة على العالمين. ثم عقد فصلاً لبيان الدليل القطعي والظني، وأن الأحكام أيضًا على قسمين: قطعي وظني، وأحال للتفصيل إلى أصول الفقه، ثم عقد فصلاً لبيان حقيقة الظنّ، وحكم العمل بالدليل الظنّي، وما هو الظنّ الذي ذمّه الله سبحانه في القرآن الكريم، وأجاب عنه بجوابين: إجمالي وتفصيلي، بحيث تناول كل آية، وبيَّن معناها، وذكر الأدلة الموجبة للعمل بالظن بشرطه، ثم عقد فصلاً لبيان أن الله تعالى خلق بني آدم على الفطرة، وركَّب فيهم العقول، وأمدّهم بآلات توصلهم إلى المطلوب منهم من السمع والأبصار والأفئدة وغير ذلك من الحواس الظاهرة والباطنة. ثم أرسل إلى كل قوم رسولًا بلسانهم، وأرسل محمدًا - صلى الله عليه وسلم - إلى الخلق كافة وأنزل عليه الكتاب وأمدَّه مع ذلك بالسنة بيانًا للقرآن وإيضاحًا له، واختار له أصحابًا أمناء حفظ الله بهم كتابه وسنة نبيه. ثم فصَّل القول في طريقة تلقي الصحابة الأحكام عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكيف كان عوامُّ القرن الأول يستفتون العلماء ويعملون، وكيف كان

حالهم في زمن التابعين وأتباعهم ومن بعدهم. ثم عقد فصلاً ذكر فيه أنه لما كان معرفة الدليل من الكتاب والسنة متوقفًا على العلم بهما، وجب أحد أمرين: إما أن تكون معرفة ذلك فرض عين على كلِّ مكلَّف، أو تكون فرض كفاية. وعليه فما هو فرضُ القاصر؟ أتقليد أحد المجتهدين أم غيره؟ ومن هنا ينشأ الكلام على المسألة الأولى في هذا الكتاب، وهي الاجتهاد والتقليد. وطريقة المؤلف فيها ذكر حجج الفريقين غالبًا بقوله: "قال المقلدون" و"قال المانعون"، ليطلع القارئ على ما أدلى به الفريقان، فيتيسر له الحكم بينهما. بدأ المؤلف كلامه في الاجتهاد والتقليد بذكر أن تحصيل العلم مراتب: 1 - تحصيل علوم اللسان العربي. 2 - العلم بأصول الفقه. 3 - العلم بالكتاب والسنة. وفرض المجتهد هو الاجتهاد في كل ما يعرض له، وفرض من لم يحصّل المرتبة الثالثة سؤال المجتهد، فيتلو عليه المجتهد الآية أو يروي له الحديث، ويُخبره أنه قد اجتهد فلم يجد ما يعارض ذلك، ويفسّر للعامي أو الأعجمي الآية أو الحديث بلغته. وعقد فصلاً بعنوان "سؤال المجتهد" بيَّن فيه كيف كان العمل في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيما بعد من القرون الثلاثة، ثم بدأ الحوار بين المقلدين

* المسألة الثانية: السنة والبدعة

والمانعين، يذكر وجهة نظر كل طائفة وأدلتها، وأشار في أثنائه إلى نهي الأئمة الأربعة عن تقليدهم، وبيَّن أن إفتاءهم للناس على طريقة السلف من إجابة السائل بتلاوة الآية أو رواية الحديث وتفسير ذلك وبيان دلالته. وذكر أجوبة المانعين عن خمسة أسئلة للمقلدين، وهي: (1) أأنتم أعلم أم الأئمة الأربعة، فإن قلتم: هم أعلم، فكيف يسوغ لكم مخالفتُهم؟ (2) أأنتم أعلم أم الأئمة الذين جاءوا بعدهم مقلِّدين لهم؟ فإن قلتم: هم أعلم، فلِمَ لا تقلِّدون كما قلَّدوا؟ (3) ما تعتقدون في المقلِّدين من علماء وغيرِهم وهم جمهور الأمة، أهم على حقّ أم على ضلالة؟ (4) ما تعتقدون في مشايخكم الذين أخذتم عنهم العلم ومشايخهم وهلمَّ جرًّا؟ (5) ما تعتقدون في مؤلفي هذه الكتب التي تأخذون عنها العلم. وبالرد على هذه الأسئلة بتفصيل من قبل المانعِين تنتهي المسألة الأولى المتعلقة بالاجتهاد والتقليد. * المسألة الثانية: السنة والبدعة كتب المؤلف تمهيدًا في نحو عشرين صفحة، ذكر فيه أولاً معنى السنة والبدعة والمحدثة لغةً واصطلاحًا وشرعًا، وقرر أن كل فعل من الأفعال إما أن يكون موافقًا للكتاب والسنة وإما أن يكون مخالفًا. ولا واسطة بينهما. والموافق ما دلَّ على موافقته دليلٌ معتبر منهما، فهو من السنة، والمخالف ما

دلَّ على مخالفته دليلٌ منهما، فإن كان موجودًا من أول الإسلام فهو حرام أو مكروه ولا يُسمَّى بدعة ولا محدثة، وإن لم يكن موجودًا من أول الإسلام بل حدثَ بعد ذلك فهو محدثة بدعة. وليس المراد بقوله: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} أن يكون كل شيء بنص خاص، وإنما المراد أنه ما من شيء إلاَّ وحكم الله فيه مبيَّن في كتابه، إن لم يكن بالمطابقة فبالتضمن أوالالتزام أو المفهوم. ثم ذكر المؤلف أمثلة لذلك في المأمورات والمباحات والوسائل. وتكلم على معنى حديث "الحلال بيِّن، والحرام بيِّن، وبينهما مشتبهات"، فإن ظاهره إثبات الواسطة. وردّ عليه بأن المشتبهات ما تعارضت فيه دليلا الحل والحرمة، فإنه عند من لم يظهر له الترجيح - وهم كثير من الناس - مشتبه، فأرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يُعمل فيه ما يقتضي الاحتياط، مع أنه في نفس الأمر إما حلال وإما حرام. فالحديث دليل على عدم الواسطة عند التأمل. ثم إن الأشياء الحادثة بعد عصر النبوة نوعان: الأول: ما كان فيما يتعلق بمصالح الدنيا مما لا يضر بالدين، فهذا جائز لدخوله تحت عمومات الإباحة، فليس بدعة في الشرع ولا محدثة، لموافقته للشرع. الثاني: ما كان فيما يتعلق بالأمور الدينية خاصةً، فهذا على قسمين: وسائل ومقاصد. فأما الوسائل فإنه يجوز العمل بما أُحدِث منها بشرط تعذُّر أو تعسُّر الوفاء بمقصدها الديني بوسيلته التي كان العمل عليها في عهده - صلى الله عليه وسلم -. ومن هذا إجماع الصحابة على جمع القرآن في مصحف واحد. وأما المقاصد فالمحدث منه كلُّه بدعة ضلالة، وليس منه صلاة التراويح كما يظن

بعضهم، فإنها من السنة. وقد أطال الكلام في بيان ذلك. ثم ذكر أن اختراع قواعد اللغة العربية صالح لأن يكون من النوع الأول، فإن الناس محتاجون إلى اللغة في أمور دنياهم، وأن يكون من النوع الثاني، فإن الدين محتاج إلى معرفة اللغة، وعلى هذا فهو من الوسائل. وفي ضوء ما ذكر شرح معنى الحديث المشهور: "من سنَّ في الإسلام سنةً حسنةً فله أجرها ... "، وبيَّن أن المراد بالسنة فيه معناها اللغوي، أي من عَمِل في الإسلام عملًا حسنًا يتبعه فيه الناس، كما يدل عليه سبب الحديث. ثم ذكر أمثلةً من المخالف الموجود من أول الإسلام: شرب الخمر ودعوى الجاهلية والنياحة، وبيَّن أن من المخالف المبتدع غلوُّ بعض الفرق بالخوض في آيات الصفات إلى صريح التشبيه، أو تأويل ما ورد في الكتاب والسنة منها، وردَّ على من يرى ضرورة الخوض في علم الكلام لإبطال شبه المبتدعة، ويجعله من القسم الأول من النوع الثاني مثل جمع القرآن ونحوه. وقرَّر أن جميع البلايا التي فرَّقت أهل الإسلام ومزَّقت شملهم ناشئة عن سببين: أحدهما: الخوض في آيات الصفات وأحاديثها، والرغبة في إدخالها تحت القوانين الفلسفية. والثاني: إحياء ما أماته الدين من العصبيات القومية. وقد حرص الشارع على بقاء دين الإسلام دينًا واحدًا لا اختلاف ولا افتراق فيه، ولما كان الاختلاف في الدين قد يكون في الأصول وقد يكون في الفروع، جاء الشرع بمنع الخوض في الأصول، بل ما كان منها ظاهرًا فأمره واضح، وما كان بخلاف ذلك فالواجب الإيمان به فقط دون الخوض

البحث الأول: البناء على القبور

فيه. وقد أورد المؤلف الآيات والأحاديث والآثار الواردة في ذلك، وذكر أن الأشعري رجع عن الخوض فيه إلى مذهب السلف، وكذا غيره من أكابر المتكلمين. ولكن بعد ما تمزَّقت الجامعة الإسلامية سلكت كل فرقة مذهبًا، وحصل الاختلاف الذي ورد النهي عنه، والتنازع والفشل الذي حذَّر الله ورسوله منه. أما الفروع فقد جاء الإسلام فيها بما يمنع الاختلاف، وهو ردُّ ما اختُلف فيه إلى كتاب الله وسنة رسوله، ولكن البلاء دخل على المسلمين من هذه الجهة أيضًا، بحملهم على تقيُّد كل فرقة منهم بمذهب مخصوص، مع الإعراض عن أدلة الحق ونصوصه من الكتاب والسنة، وآل بهم الأمر إلى العصبية المنهي عنها، فصار كلُّ أحد يتعصب للمذهب الذي ينتمي إليه ويقدح فيما عداه. وهكذا تجزأت العصبية الدينية. وبعد هذا التمهيد الذي قرَّر فيه معنى السنة والبدعة حدد ستة مباحث تتعلق بمسائل من العقيدة والتوحيد تكلم فيها عن حكم هذه المسائل بالدليل والحجة وما يجوز منها وما لا يجوز، وناقش المخالفين وفنَّد أدلتهم وشبهاتهم. البحث الأول: البناء على القبور لم يصلنا من هذا البحث إلا مسوّدته، وهذا ظاهر من خلال سياق المؤلف للأحاديث بأسانيدها - على خلاف عادته -. وأيضًا نقص المادة العلمية في البحث، فأكثر البحث في سرد الروايات وتلخيصها. وقد تكلم المؤلف على هذه المسألة في مؤلَّف مفرد حافل سماه "عمارة القبور في الإسلام" وهو مطبوع ضمن هذه الموسوعة، فليراجع.

البحث الثاني: اتخاذ القبور مساجد أو اتخاذ المساجد على القبور

البحث الثاني: اتخاذ القبور مساجد أو اتخاذ المساجد على القبور كتب المؤلف صدر هذا البحث عدة مرات رجّحنا أن ما أثبتناه هو أكملها وآخرها. فذكر أولاً حجة من يجيز البناء من القرآن وهو استدلالهم بقوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف: 21]، ثم أجاب عن هذا الاستدلال من أوجه عديدة سواء على المنع من التسليم بالاستدلال أو بالتسليم. ثم نظر المؤلف إلى السنة فذكر الأحاديث الواردة في المنع من ذلك، فذكر جملة صالحة منها عن عدد من الصحابة، وأن فيها الكفاية لمن هداه الله. ثم ذكر وجه الدلالة منها على المسألة، ثم ذكر اعتراضًا وأجاب عليه. ثم عنون بقوله "تنبيهات"، فذكر تنبيهين يتعلقان بالاستدلال بالآية، والثالث كلام لابن حجر الهيتمي في عدّ الشافعية البناء على القبور من الكبائر. ثم نقل نصًّا عن يحيى بن حمزة من أئمة الزيدية يجيز فيه بناء القباب والمشاهد على قبور الفضلاء والملوك ... مع الجواب عليه. والنص والجواب ذكرهما العلامة الشوكاني في رسالته "شرح الصدور" كما بينَّا في التعليق. وختم المؤلف البحث بنص لابن القيم من "زاد المعاد" في البناء على القبور وتحريمه ... ثم عنون بـ "تتمّة" ذكر فيها الجمع بين نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن البناء على قبره، وبين إدخال قبره الشريف في المسجد وهل هو من البناء عليه؟

البحث الثالث: زيارة القبور

البحث الثالث: زيارة القبور ذكر أولًا ما يُحتجّ به في المسألة من القرآن مع نقاش الاستدلال به، ثم ذكر ما يحتج به من السنة على المسألة، فذكر أحاديث الباب المتعلقة بزيارة القبور. ثم ذكر عدة فروع في المسألة وهي: 1 - علة النهي أولًا. 2 - الحكمة من استحباب زيارة القبور. 3 - في النساء هل يزرن القبور؟ 4 - هل تُزار قبور الكفار؟ 5 - كيفية الزيارة. ثم عقد فصلاً في زيارة قبور الأنبياء والصالحين. فذكر أن الأصل مشروعية زيارة القبور عامة للأنبياء والصالحين وسائر المسلمين وإنما النزاع في شيئين: 1 - في شدّ الرحال. 2 - الغرض المقصود من الزيارة. فذكر المسألة الأولى، وناقش دليلها المشهور "لا تُشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ... " ووجه الدلالة منه، والتحقيق في مسألة شدّ الرحال والمقصود منها. ثم خلص إلى مسألة الغرض من زيارة القبور، وهي المسألة الثانية، وعقد فيها مناظرة بين المانعين من شدّ الرحل لزيارة قبور الأنبياء والصالحين وبين المجيزين لها بناءً على استدلالهم بخصوصية زيارة قبور الأنبياء والصالحين على غيرها من القبور، وأطال وأطاب في المناظرة بين

البحث الرابع: التبرك

الفريقين، وخلص إلى المنع منها. البحث الرابع: التبرك بدأ هذا البحث بتمهيد قرر فيه أن كل عاقل يعلم أن النفع والضر بيد الله تعالى، ومن اعتقد في غيره قدرةً مستقلّة على النفع والضر فذلك هو الكفر. وأن هذا مما لا خلاف بين المسلمين فيه. ثم قرر أن المقاصد الدينية (التي يراد بها رضوان الله تعالى) والمقاصد الدنيوية التي لا يقدر عليها إلا الله، أو تتناولها قدرة البشر بالأسباب العادية وأريد تحصيلها بغيرها = كل ذلك لا يكون سببه إلا شرعيًّا، أي يفتقر ثبوته في الشرع إلى دليل معتبر. وإذا تقرر ذلك فالتبرك هو التسبُّب لحصول البركة، والمقصود به أحد الأمور الثلاثة السالفة، فثبوته مفتقر إلى دليل معتبر من الشرع. ثم ذكر بعض ما ثبتت بركتُه بالأدلة الشرعية، فذكر بركة ماء زمزم، وبركة القرآن الكريم والأدعية الشرعية، ثم خلص إلى الحديث عن الرقى وحكمها، ثم تكلم على التمائم والتِّوَلة وحكمها. ثم عاد إلى ذكر ما ثبت التبرك به، فذكر التبرّك بآثار النبي - صلى الله عليه وسلم - وأدلته وأطال فيها، ثم ذكر الاختلاف في حكم التبرّك بوضع اليد على منبره - صلى الله عليه وسلم -. ثم عقد مسألة هي معقد هذا البحث، وهي: هل للمسلمين أن يتبركوا بصلحائهم كما يتبرّك الصحابة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - استنادًا إلى تلك الأحاديث؟ فتكلم في المسألة في عشرين صفحة (ص 239 - 259) وجعلها على هيئة مناظرة بين المجيزين والمانعين، وجعل محور البحث والمناظرة في بيان الفرق بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين الصالحين والأولياء، فقياسهم التبرّك عليه لا يصح

البحث الخامس: التوسل

مع الفارق، وكذلك قياس ذريته عليه لا يصح مع الأدلة على ذلك، ودفع الاعتراضات التي أوردها المجيزون. ثم عنون بـ "خاتمة" ذكر فيها أنه رأى في بعض الكتب بحثًا في فضل العلم والشرف أيهما أعظم ... ؟ فذكر كلامه وناقشه فيه، واختار أن العلم هو الأفضل. ثم ذكر ما بقي من أقسام التبرك، فذكر مسألة التبرك بالقبور والمشاهد وما بُني عليها، واختار التحريم، وذكر أدلة ذلك وفصَّل فيها بما لا مزيد عليه. البحث الخامس: التوسُّل ذكر معنى التوسّل، وقرّر أنه لا يُتقرَّب إلا بشيء قد أقرّه الشرع، أما التقرّب إليه بسؤاله والإقسام عليه بحق شيء من الأشياء فهو على أقسام، فذكر ثلاثة أقسام وحكم كل قسم منها. ثم ذكر حديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علّم بعض أصحابه أن يدعو فيقول: "اللهم إني أسألك وأتوسّل إليك بنبيك نبي الرحمة ... "، وذكر من استدل به على جواز التوسّل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته وبعد مماته، وذكر حديث: "اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك ... ". فتكلم على الحديثين من حيث الثبوت، ورجَّح ضعفهما وعدم الاحتجاج بهما، وأجاب عن اعتراضات المجيزين - بعد أن تبسّط في عرضها - على تضعيف الحديث والاستدلال به. ثم عنون بـ "فصل" صدّره بأن المجيزين للتوسل المتعارَف لم يثبت لهم دليل صريح في ذلك، وذكر بعض حججهم وأجاب عنها ... ثم ختم البحث بقوله: "والذي أختاره لنفسي: أن أُكْثِر من الصلاة على النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم أوّل الدعاء وأثنائه وآخره، وأتتبّع الأدعية الواردة في الكتاب والسنة

والإرشادات التي جاءت عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم في آداب الدعاء، وأكتفي بالترضِّي والترحُّم والاستغفار للعلماء والصالحين، وأدَعُ التوسُّل عملاً بحديث الحسن السبط رضي الله عنه: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" أخرجه الترمذي وابن حبان والحاكم من حديث الحسن السِّبط رضي الله عنه، وما في معناه من الأحاديث. وأرجو أن تكون هذه الطريقة هي الأسلم؛ لأني على يقين أنه لو ثبت التوسّل المتعارَف ثم تركه إنسانٌ لم يكن عليه إثم؛ إذ لا قائل بوجوبه، فكيف والحال أنه لم يثبت؟ فتَرْكه بنيّة الإحجام عما لم يطمئنّ القلبُ بثبوته مما أرجو أن يأجرني الله تعالى عليه. فمن أحبّ السلامة فهذا سبيلها، ومَن أقْدَم على التوسُّل فهو وما تولّى، ولا أقطع بخطئه ولا ضلاله، بل أرجو له التوفيق والهداية إن شاء الله تعالى". وهنا انتهى الكلام على البحوث الخمسة التي عنون لها. وقد أتبعنا هذه البحوث الخمسة بحثًا في حكم اتخاذ ليلتي المولد والمعراج عيدًا، لم يتحرّر لنا مكانه في الكتاب ولم يعنونه المؤلف بعنوان، فرأينا أن هذا الموضع هو اللائق بسياق موضوعاته. وقد بدأه بقوله: "قال المانعون: ومن المحدَّث اتخاذ ليلتي المولد والمعراج عيدًا"، ثم ذكر أول مَن أحدث ذلك، ثم بدأ البحث - كما سبق في البحوث السالفة - على شكل مناظرة بين المجيزين لذلك والمانعين منه، فبدأ بقول المجيزين ثم المانعين وهكذا، وتطرق في أثنائه لحكم العمل بالحديث الضعيف وشروطه ... وأطال في الرد على من أجاز الاحتفال بهما والتشنيع عليهم.

* المسألة الثالثة: النداء للغائبين والموتى وغيرهم

ثم ختم البحث بذكر نص وقع له في "تاريخ المحبّي" فيه رأي لبعض العلماء بجواز ضرب الطبل في المسجد قياسًا على الجهاد، وأجاب عن ذلك بكلام طويل وتقرير ماتع. * المسألة الثالثة: النداء للغائبين والموتى وغيرهم تكلم على هذه المسألة في تمهيد وثلاث مقامات. أما التمهيد فلم نعثر منه إلا على بضعة أسطر، أفادتنا بذكر المقامات الثلاثة وهي: المقام الأول: في الاطلاع على الغيب (¬1) ذكر أولاً العلم القطعي وأقسامه الثلاثة، ثم عرَّف الغيب وذكر قسميه، ثم ذكر الصور الست لـ "علم الغيب" الناتجة عن الأقسام السالفة، ثم تكلم على الصور الستّ، لكن لم نعثر إلا على كلامه على الصورة الخامسة، أما باقي الصور (الأربع الأول والسادسة) فلم نقف عليها في قطع الكتاب التي وقفنا عليها. وفي الصورة الخامسة - وهي: العلم الخبري بما هو غيب عن جميع الخلق - ذكر أن العلم الخبري إنما يحصل بأحد خمسة أمور، فذكرها، ثم ذكر ما الذي يقع منها للأنبياء والملائكة والبشر وما الذي لا يقع. ثم شرع في الكلام على القسم الأول من الغيب، وذكر بعض ما يستدل به أهل الأرض على الغيب وهو لا يحصّل إلا الظن، فذكر: ¬

_ (¬1) صدر هذا المقام (من ص 312 إلى ص 327) وجدناه في المجموع رقم [4707].

1 - الرؤيا، وهل يلزم منها علم الغيب؟ (328 - 340). وقع في أول هذا المبحث نقص، وأول الموجود منه في حجج مَن يرى أن في الرؤيا دليلًا على علم الغيب ثم أجاب عنها فيما بعد. وتكلم على الرؤيا وأقسامها وصورها بكلام طويل نفيس، ورؤية النبي في النوم وتمثّل الشيطان به. ثم عقد فصلاً في مسألة مفارقة الروح للجسد عند النوم فذكر المذهبين وأدلتهما، واختار المؤلف الوقف والرد في علم ذلك إلى الله تعالى. ثم تكلم عن التنويم المغناطيسي ومعناه، وما يقاس عليه من أنواع السحر وتحضير الأرواح وغيرها، وهل تفارق الروح الجسد فيه، وتعرّض الروح لتلاعب الشيطان في تلك الأحوال. ثم ذكر عدة أشياء مما يَستدلُّ به أهلُ الأرض على بعض الغيب من القسم الأول وهو في حقيقته لا يُحَصِّل إلا الظنَّ، فذكر: 2 - التحديث (341 - 343). 3 - والكهانة (343 - 348). 4 - والنظر في النجوم (348 - 351)، وذكر من متعلّقاتها. 5 - ومعرفة الأنواء (351 - 352). 6 - ومعرفة أحوال النجوم المتعلقة بذواتها (352 - 353). 7 - والخط في الرمل (353 - 354). 8 - والعرافة (والفأل والطيرة) (354 - 355).

9 - والطّرْق بالحصى (356). 10 - والتفاؤل بالقرآن وغير ذلك (356). ثم تكلم المصنف في فصلين متتاليين الأول عن استقلال الله سبحانه بعلم الغيب وأنه لا يشركه معه نبيّ ولا ولي، وساق النصوص والأدلة على ذلك. والثاني في علم النبي بالغيب، ذكر فيه حجة مَن قال بذلك وأجاب عنها، وذكر الأدلة على عدم علمه بالغيب من الكتاب والسنة وأنها في حقيقة الأمر لا تُحصى. ثم ذكر حديث حذيفة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام مقامًا ما ترك شيئًا يكون إلى قيام الساعة إلا حدَّث به ... " وأجاب عمن استدل به على علم النبي - صلى الله عليه وسلم - للغيب وأطال في ذلك. ثم تكلم عن القسم الثاني من علم الغيب، وهو ما يكون غيبًا بالنسبة إلى بعض الخلق دون بعضهم، فذكر أنواعه الثلاثة، وهي: ما يختص بمشاهدته الملائكة، وما يختص بمشاهدته الجنّ، وما يشاهده البشر. وذكر أشياء مما يستدلون به على هذه الأنواع، فذكر منها الكهانة ووسوسة الشياطين، والنظر في النجوم والعرافة والطرق والخط والتنويم المغناطيسي وغير ذلك. وذكر مما يدخل في هذا الباب: ما يُؤثر عن أهل الرياضيات كالإشراقيين من الفلاسفة والبراهمة وبعض المتصوّفة ... فتكلم عن هذا النوع وما يصيب أولئك في تلك الأحوال، وما تُخيّله الشياطين لهم، ثم نقل نصًّا طويلًا عن ابن عربي الطائي نقله عنه الآلوسي في بعض كتبه ما يُفصح

المقام الثاني: في تصرف بعض بني آدم في الكون

عن هذه الخيالات والوساوس. ثم عرض لما يزعمه بعض المتصوّفة من أنهم يرون النبي - صلى الله عليه وسلم - يقظةً ... وسبب زعمهم هذا والرد عليهم. وختم البحث بـ "خاتمة" ذكر فيها أنه أتى على جل ما يُستدل به على المغيبات، وأنه بقي كشف الصوفية وهو لا يخرج في جملته عما ذُكِر آنفًا. ثم خرج إلى موضوع متعلّق بكشف الصوفية وهو دعوى الإلهام عند بعض المتصوّفة، وكلامهم في حجيّته، ونقل كلام الشوكاني في "إرشاد الفحول" في الموضوع ثم علق عليه وردّ من زعم حجيّة الإلهام وأطال في نقاش حججهم بما لا مزيد عليه (371 - 385). وبهذا يكون انتهى الكلام على المقام الأول وهو علم الغيب. المقام الثاني: في تصرُّف بعض بني آدم في الكون ذكر أولاً قسميه، وهما: ما جرت به العادة، وهذا ثابت للأحياء، وما لم تجر به العادة، وهو ما يمكن أن يكون معجزة لنبي أو كرامة لولي، وذلك بحسب ما يتفق مع الحكمة الربانية. ثم ذكر حال النبي - صلى الله عليه وسلم - وما ملّكه الله إياه مما هو داخل تحت قدرة البشر أما ما فوق ذلك فيملك الدعاءَ به فقط وقد يملك شيئًا منه على سبيل خرق العادة. ثم ذكر أنه من المعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن متصرفًا في الكون وحجّة ذلك، وذكر قصة الخضر وما يمكن أن يستدلّ بها على قضية التصرف في الكون والجواب عن ذلك، واستطرد إلى قضية الإنكار على المخالفين في

تلك المسألة استدلالًا بفعل موسى مع الخضر. ثم ذكر أن الأدلة صريحة واضحة في إبطال ادِّعاء أن بعض الصالحين يملك التصرف في الكون، والذي غرّ أولئك المدّعين أمور تتعلّق بالتزوير وانتحال الفضل أو التقشّف أو أصحاب سوء يتأكّلون باسم الشيخ وغير ذلك. ثم انفصل إلى ذكر أن حالات أولئك المشايخ المتصوفة لا تخلو من أربع حالات: 1 - أن يكونوا من أهل الزيغ والإلحاد تستّروا باسم التصوّف وإظهار الزهد والتقشف ليكيدوا للإسلام. 2 - أن يكونوا من أهل الإسلام لكن تلاعب بهم الشيطان. 3 - أن يكونوا من أهل الخير والصلاح، لكنهم أرادوا أن يتكلموا بما ظاهره الكفر استدعاء لذم الناس لهم؛ ليكتسبوا بذلك كسر نفوسهم والأجرَ للاعتداء عليهم. 4 - أن يكون لهم في كلامهم مرادات صحيحة، لكنهم عمّوها على الناس فجعلوها من قبيل الإلغاز، كما هو شائع في كلامهم .. واختار المؤلف أن كل أمر من هذه الأمور يوجد عند طائفة منهم، لكن الذي يدين الله به حُسن الظن بأشخاصهم وأنهم لا يعتقدون ما تدل عليهم مقالاتهم وإنما قالوها لغرض من الأغراض ظنوها حسنة, وذلك لا يمنعنا من انتقادهم وإنكار المنكر وبيان أن اعتقاد الظاهر منه فسق أو كفر أو جهل بحسب رتبته. مع النصيحة بالإعراض عن كتب هؤلاء ومؤلفاتهم.

المقام الثالث: النداء والطلب

ثم تكلم على الصوفية وكتبهم ودعاواهم أن أناسًا دسّوا عليهم فيها ... وكيف ركّبوا من كل أولئك خطة محكمة لترويج باطلهم ونشر خرافاتهم. ثم ذكر أن بعض من يُنسب إلى التصوّف يعدّ من أئمة الهدى كالجنيد، وأن بعض الصالحين ثبتت لهم كرامات، لكن ليس كل ما يدّعيه القصاصون صحيحًا بل كثير من حكاياتهم منقطعة ورواتها مجاهيل ... وأنه ينبغي أن توزن أمور الناس بميزان العدل، (فإن كان الشخص ملازمًا للطاعات، عاملًا بالكتاب والسنة معظمًا لهما ... فالظاهر أن الخارقة الواقعة على يده كرامة ... وإن كان بخلاف ذلك فالأمر بالعكس). وبهذا انتهى هذا المقام الثاني. المقام الثالث: النداء والطلب فذكر أولاً ما تقرر من أن الغيب لا يعلمه إلا الله وحده أو ما يُطْلِع عليه بعض خلقه، وأن المخلوق لا يملك شيئًا ولا يتصرف إلا بما جرت عليه عادة الخلق عليه، وبنى على ذلك أن كل نداء للغائب باعتقاد أنه يسمع أو يُبلّغ كل شيء أو بعض الأشياء لايسوّغ نداءَه ولا الطلب منه. ثم ذكر المؤلف أن دعاء النبي قد لا يُستجاب لسَبْق الكتاب كما في قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} وذكر آيات وأحاديث أخرى تدل على ذلك. ثم قرر أن كل من له اطلاع على السنة علم أن الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا ينادون غائبًا ولا حتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما كانوا يطلبون منه ما يمكنه تحصيله بالأسباب العادية، وإلا سألوه الدعاء ... وذكر جملة من الأحاديث في ذلك، ثم قال: والأحاديث أكثر من أن تُحصى.

أما عند موته فلم يُنقل عن أحدٍ من الصحابة ولا التابعين أنه طلب منه شيئًا البتة، بل غاية أمرهم إن حضروا إلى قبره أن يسلموا عليه وعلى صاحبيه، ولا يطلبوا منه شيئًا، وحديث الاستسقاء بالعباس صريح في أنهم كانوا لا يرون الطلب منه إلا في حياته، أما بعد قبضه فلا. ثم أدار المؤلف حوارًا بين المجيزين للطلب منه حال موته، وبين المانعين من ذلك وأطال في تقرير حجج المانعين. ثم ذكر حجة المجيزين بأنهم يجتهدون في الدعاء فلا يجدون إجابة حتى إذا ذهبوا إلى القبر ودعوا استجيب لهم ... وذكر كثيرًا من الأمثلة على ذلك مثل حمل النساء، وإنزال الأمطار، والوفاء بالنذر، وشفاء المريض، ووقع الكثير من الخوارق للعادات. فأجاب المؤلف عن ذلك بجواب تأصيلي، ثم ذكر أن الخوارق قد قسمها العلماء إلى أقسام: معجزات للأنبياء، وكرامات للأولياء (وقد سلف التفصيل فيها)، ومنها ما هي من قبيل: الاستدراج، أو السحر والشعبذة والكهانة وغيرها. والكلام على هذه الخوارق من وجهين: 1) إنكار وقوعها مطلقًا وأنها لا تثبت إلا عن مشاهدة أو تواتر، ثم إن ثبتت فيمكن أن تكون شعبذة أو سحرًا أو مخرقة .. فيجب وزنها بميزان الشرع كما سلف، وهي وإن ثبتت فلا يبنى عليها شيء مخالف للشرع. 2) الكلام على هذه الخوارق التي ذكروها واحدة واحدة بالتفصيل وبيان الحكم فيها وتلاعب الشياطين بعامة الناس في نسجها والتضليل بها.

ثم ذكر تنبيهًا أجاب فيه عما استَبْعَد به الناس من وجود الشياطين عند قبور الصالحين. ثم عاد إلى حوار المجيزين والمانعين وقد ناقش فيها مسائل مهمة في الاستعانة والاستغاثة، والطلب من المخلوقين، واعتقاد الضرر والنفع، والتوسّل، والتمسّح بالأضرحة، والنذر لها والذبح وغيرها. وفي نهاية البحث عقد عنوانًا بـ "الميزان" دعا فيه علماء الأمة للاستيقاظ من الغفلة والاجتماع وتأليف كتاب يكون ميزانًا في الاعتقاد، وبيَّن منهج وطريقة ذاك التأليف، وأن هذا هو الطريق الوحيد في ضم شمل الإسلام وأهله والتأليف بين قلوبهم. ثم ذكر جماع القول في تلك المسائل وهو: أن الله إنما يُعبد بما شرع، وتلك الأمور إما محدثة قامت الأدلة على بطلانها، أو فيها خلاف ونزاع فهي دائرة بين الحرام والمكروه أو المباح، فالسلامة منحصرة في ترك تلك الأشياء، فمن تركها فهو سالم لا محالة، والمسلم من حَرَص على السلامة بأيّ تقدير كان، ولا أسلم ولا أعلم ولا أفضل مما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وتابعوهم. وبه ينتهي الكلام عن المقام الثالث وينتهي الكتاب. ثم أتبعنا الكتاب بعدّة ملاحق وهي: 1، 2 - ملحقان يتعلقان بمباحث الاجتهاد والتقليد. 3، 4 - ملحقان يتعلقان بالسنة والبدعة. 5 - ملحق يتعلق بالرؤيا في المنام وعلاقتها بعلم الغيب.

- العثور على الكتاب ومعاناة ترتيبه والعمل عليه

وهي مباحث متفرقة بمسائل تتعلق بكتابنا، لم نجدها كاملة، ووقعت فيها خروم عديدة، وإدخالُها في متن الكتاب يشوّش ترتيبه ولا يتسق مع جملة مباحثه فألحقناها لتستفاد وأملًا في العثور على مكمّلاتٍ لها، يسّر الله ذلك بمنّه. - العثور على الكتاب ومعاناة ترتيبه والعمل عليه ذكرنا في مقدمة المشروع أننا عمدنا إلى كتب المؤلف فنسخناها تمهيدا لمعرفتها ومن ثم تحقيقها، غير أن رسالتنا هذه ورسالة المواريث لم تُنسخا لالتباس ترتيب أوراقها وعدم معرفة موضوعها .. وفي آخر الأمر استقر رأينا على النظر في شأن هذه الرسالة وبدأنا بنسخ ما كان لدينا مصورا على الورق ورقة ورقة، ثم ما كان مصورًا على القرص المدمج ورقة ورقة أيضًا، ثم بدأنا بترتيب الأوراق من خلال السياق واتصال الكلام، فكان الاستدلال على اتصال الكلام يسهل حينا ويتعسر أحيانًا كثيرة، لكننا استطعنا بحمد الله ترتيب صفحات الكتاب إما يقينًا وهو الأغلب، أو اجتهادًا في بعض الصفحات. - وصف النسخة الخطية وصلنا الكتاب في أربعة دفاتر وأوراق متفرقة في مكتبة الحرم المكي، فمقدّمته التي تبيِّن حقيقة الكتاب ومناسبة تأليفه تُوجد في صفحة ضمن المجموع رقم (4707) وفي المجموع نفسه أوراق تتعلق بمباحث متفرقة من موضوع علم الغيب، كمعنى علم الغيب، وكونه مختصًّا باللهِ تعالى، وأنه لا يطلع على الغيب أحد حتى النبي - صلى الله عليه وسلم -, والرؤيا وهل يلزم منها علم الغيب.

- طريقة العمل في الكتاب

ثم وجدنا مسودة المقدمة وبعض الفصول الأولى من الكتاب بعد الانتهاء من تحقيقه ضمن الأوراق والدفاتر غير المفهرسة التي عثرنا عليها في مكتبة الحرم المكي أخيرًا. ومعظم مباحث الكتاب في دفترين مضطربي الأوراق الأول برقم [4674] في 246 ورقة، والثاني برقم [4853] في 77 ورقة، وقد رُقّمت أوراق هذين الدفترين ترقيمًا حديثًا جدًا بعد تشتتها واضطرابها، وجلّد الدفتر الأول، فزاد الأمر إشكالًا في استخراج ترتيب الكتاب وتخليصه. وكنّا قبل الحصول على الكتاب في أقراص مدمجة قد حصلنا على صورة ورقية غير مرقمة مصورة عن الميكروفلم بالمكتبة، وقد نسخنا كثيرا من المباحث منها، وكانت مع وعورة استخراج الكتاب منها ومع تشتت أوراقها باهتة التصوير، بل لم تظهر لنا بعض كلماتها إلا بمزيد من تكرار النظر والتأمل وتكبير الحروف .. فكان نسخ هذا الكتاب وتخليصه من أصعب الأمور وأشقّها. وقد قمنا بنسخ كل ورقة منه كما هي، حتى إذا اكتمل النسخ قسَّمنا المنسوخ حسب أقسام الكتاب الثلاثة الرئيسة، ثم تأملنا في المنسوخ من كل قسم لمعرفة الترتيب واتصال الكلام بعضه ببعض، حتى اهتدينا إلى الوضع الذي ينشر عليه الآن. - طريقة العمل في الكتاب كانت طريقة العمل في الكتاب كطريقته في بقية كتب المشروع وهي بين أيدي الباحثين، وما كان لنا فيه من تصرف خاص بالكتاب فهو فيما يتعلق

بترتيب بعض المباحث التي لم يتبين ترتيبها، فاجتهدنا في وضعها في مكانها المناسب من الكتاب، وقُل مثل ذلك في ترتيب صفحات المخطوط التي شرحناها سابقًا فقد اجتهدنا في ترتيب بعض الأوراق التي لم يتبين لنا ترتيبها لا من خلال التعقيبة ولا من خلال ترتيب أوراق المخطوط بقطعه المختلفة، وما كان من إضافة إلى نصّ المؤلف من قِبَلنا فإنا نضعه بين معكوفتين [] بإشارة غالبًا وبدونها في الأقل، وقد كنا - كما سلف - وجدنا قطعة من مسودة الكتاب في الأوراق التي عثرنا عليها مؤخرًا فقارناها ووضعنا زيادات هذه القطعة بين معكوفتين، وذلك خاص بمبحث الاجتهاد والتقليد فحسب. وقد ختمنا الكتاب بفهارس لفظية صنعها الشيخ نبيل بن نصار السِّندي الباحث في المشروع، ثم بفهرس موضوعي مفصل. والحمد لله حق حمده. ***

ترجمة الشيخ السوركتي

ترجمة الشيخ السوركتي (¬1) تقدم في أول المقدمة أن سبب تأليف هذا الكتاب سؤال وجهه بعضهم إلى المؤلف عن كتاب المسائل الثلاث للشيخ أحمد السوركتي، فناسب أن نلقي الضوء على طرف من ترجمته فنقول: هو: الشيخ أحمد بن محمد السوركتي الأنصاري. ونسبة السوركتي: لقب لأحد أجداده، وهي من لغة أهالي تلك البلاد، ومعناها: كثير الكتب، والسبب: أن جدّه رحل إلى مصر لطلب العلم، وعاد من سفره بكتب كثيرة فلقب بهذا اللقب؛ لأن "سور" عندهم الكتاب، و"كتي" للمبالغة في الكثرة. ولد الشيخ أحمد في جزيرة أَرْقُو بالولاية الشمالية في السودان عام 1876 م = 1294 من أسرة مشهود لها بالورع والصلاح والعلم، حفظ القرآن بخلاوي منطقة دُنْقُلا، ودرس مبادئ الفقه على والده. ثم رحل إلى الحجاز عام 1897 م في سبيل العلم والمعارف ورغبة في أداء الفريضة. وبعد أداء فريضة الحج أقام في المدينة المنورة أربع سنوات ونصف، درس في هذه المدة علوم القرآن والحديث والفقه واللغة العربية ¬

_ (¬1) من مصادر ترجمته: "حضرموت وعدن وإمارات الجنوب الغربي" (ص 236 - 261)، و"تاريخ حركة الإصلاح والإرشاد وشيخ الإرشاديين أحمد محمد السوركتي في إندونيسيا" للدكتور أحمد إبراهيم أبو شوك. و"جهود الشيخ أحمد بن محمد السوركتي الأنصاري في الدعوة إلى الله في إندونيسيا" للطالب شفيق ريزا حسن، رسالة ماجستير بالجامعة الإسلامية نوقشت سنة 1428 هـ.

على علماء المدينة، أمثال المحدث عمر بن حمدان المغربي، والفقيه المالكي أحمد بن الحاج علي المجذوب، والعالم اللغوي الشيخ أحمد البرزنجي. ثم رحل إلى مكة المكرمة وجاور لمدة عشر سنوات حيث واصل طلب العلوم والمعارف النقلية والعقلية على كبار مشايخ الحرم المكي أمثال العلامة أسعد بن عبد الرحمن الدهان، والشيخ محمد بن يوسف الخياط، والشيخ شعيب بن موسى المغربي. وبعد هذه الأربعة عشرة عامًا ونصف من السياحة في حلقات العلم والمعرفة بالحرمين الشريفين حصل المترجم له على الإجازة العالمية من علماء الحجاز، وقيد اسمه في سجل علماء أم القرى، ثم صودق له بالتدريس في الحرم المكي. وافتتح مدرسة أهلية في مكة وصار لها إقبال منقطع النظير. وفي سنة 1329 هـ طلبته جمعية خير في جاكرتا لإدارة التعليم في مدرستها، وكان الواسطة لذلك العلامة الشيخ محمد بن يوسف الخياط والعلامة الشيخ حسين بن محمد الحبشي، فسافر السوركتي إلى إندونيسيا وبصحبته معلمون ومندوب جمعية خير: السيد عبد الله بن عبد المعبود الموصلي، ووصل إلى مدينة جاكرتا بصحبة الشيخين محمد الطيب المغربي ومحمد عبد الحميد السوداني في شهر ربيع الأول عام 1329 هـ ثم نزل ثلاثتهم ضيوفا على السادة العلويين الذين رحبوا بمقدمهم باعتبارهم أول هيئة علماء تصل من الأراضي المقدسة للعمل في مدارس جمعية خير.

وفور وصولهم عُين الأستاذ السوركتي مديرًا لمدرسة باكوجان ومفتشًا للتعليم، والشيخ محمد الطيب معلمًا بمدرسة كروكت، والشيخ محمد عبد الحميد بمدرسة بوقور. لما وصلوا جاكرتا قابلهم السادة العلويون وغيرهم من العرب بكل إجلال واحترام، واحتفلوا بهم احتفالًا بالغًا .. إلا أن ذلك لم يدم طويلًا ففي السنة الثانية وقعت خلافات بين الشيخ السوركتي وبعض السادة العلويين، واشتد النزاع وطال، وقد دفع هذا النزاع الشيخ السوركتي إلى تقديم استقالته في السادس من سبتمبر سنة 1914 م إلى إدارة جمعية خير. ويبدو من هذه الاستقالة أن السوركتي كان عازمًا على العودة إلى مكة المكرمة دون الدخول في صراع مكشوف مع السادة العلويين، إلا أن بعض وجهاء الحضارمة غير العلويين ثَنَوه عن هذا المسعى وشجعوه على إتمام المشوار التعليمي والإصلاحي الذي وضع لبناته في إندونيسيا. واستجابة لنداء هؤلاء عدَل السوركتي عن رأيه وفتح مدرسة خاصة في أحد بيوت نقيب العرب عمر بن يوسف منقوش بحارة جاتى، سماها مدرسة الإرشاد الإسلامية. وهذا هو أول نشوء لجمعية الإصلاح والإرشاد التي كان لها دور كبير بعد ذلك في نشر العلم والأخلاق والعقيدة، وافتُتح لها فروع كثيرة في كافة أرجاء إندونيسيا، وكثر انتفاع الناس بها، ومن أبرز مبادئ هذه الجمعية التي صاغها الأستاذ السوركتي ومن معه ما يلي:

- توحيد الله توحيدًا خالصًا بعيدًا عن مظان الشرك الظاهر والخفي في الاعتقاد والأفعال والأقوال. - المحافظة على الأخلاق الإسلامية التي جماعها: أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك وتحافظ على عزة النفس وشرف العمل وعدم الخنوع لغير الله. - المحافظة على العبادات من صلاة وصيام وزكاة وحج وغيرها وعدم التهاون فيها. - إحياء السنة الصحيحة وترك البدع وعدم المشايعة لها. - التعاون على البر والتقوى وعدم التعاون على الإثم والعدوان. - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة. - نشر العلوم الدينية والعصرية واللغة العربية. وقد أثنى عليها العلامة رشيد رضا في مجلته المنار بقوله: إن جمعية الإصلاح والإرشاد "غرضها إنشاء المدارس ونشر التعليم الديني والمدني الذي تقتضيه حالة العصر من الاستقلال وإحياء هدي الكتاب والسنة ومقاومة الخرافات الفاشية من طرق الابتداع في الدين". وقد كان للشيخ السوركتي تأثير بالغ في الحياة العلمية والدينية في إندونيسيا في العصر الحديث، فقد ذكر البروفيسور يوسف الخليفة في مقابلة صحفية أن "أثر الشيخ أحمد سوركتي في إندونيسيا معروف هنالك فهو الذي أيقظ العلماء، حتى طرده الاستعمارُ الهولنديُّ الذي كان يستعمر إندونيسيا.

أهم رسائل السوركتي وفتاويه هي

ويذكر الشيخ محمد عبد الرحيم المؤرخ الذي كان مراسل الشيخ أحمد السوركتي أن الرئيس سوكارنو عندما خرج من السجن وقبل أن يكون رئيسًا لإندونيسيا، زار الشيخ أحمد السوركتي وكان قد فقد بصره فقال له الرئيس سوكارنو: "يؤسفني أن أزورك وقد فقدت بصرك ولكنك فتحت بصائرنا". ومن آثاره نجد عددًا من الرسائل العلمية "الماجستير والدكتوراه" قدِّم بعضها إلى الجامعات الغربية وبعضها إلى إندونيسيا. أهم رسائل السوركتي وفتاويه هي: 1 - " صورة الجواب" وهو رد على بعض من كتب من السادة العلويين في مسألة الكفاءة في النكاح يقرر فيها الكفاءة الدينية. 2 - "المسائل الثلاث" وهو الكتاب الذي أيّده وعلق عليه الشيخ المعلمي في كتابنا هذا. 3 - "أمهات الأخلاق". 4 - "الآداب القرآنية". وفاته: توفي الشيخ أحمد السوركتي سنة 1363 هـ في إندونيسيا. رحمه الله وغفر له.

النص المحقق

آثار الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المُعلمي (4) تحقيق الكلام في المسائل الثلاث (الاجتهاد والتقليد, السُنة والبدعة, العقيدة) تأليف الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني 1312 هـ - 1386 هـ تحقيق علي بن محمد العمران ومحمد عزير شمس وفق المنهج المعتمد من الشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد (رحمهُ الله تعالى) تمويل مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ} [الكهف: 1 - 2]. وأنزل عليه في كتابه: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 161 - 163]. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54]. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164]. اللهمَّ صلِّ على محمد وأزواجه وذريته كما صلَّيتَ على آل إبراهيم، وبارِك على محمد وأزواجه وذريته كما باركتَ على آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيدٌ، وسلِّم تسليمًا كثيرًا. أما بعد، فقد أطلعَني بعض الإخوان على رسالةٍ عنوانها: (المسائل الثلاث) التي قُدِّمت للأستاذ الشيخ (¬1) أحمد محمد سوركتي في سورابايا، ¬

_ (¬1) "الثلاث ... الشيخ" مخروم في الأصل، استدركناه من المسوَّدة.

وسألني أن أقدِّر حيثية مؤلفها، لأن كثيرًا من المنتسبين إلى العلم يُجهِّلونه ويُبدِّعونه، ثم أُبدِي ما أراه من انتقاد في كلامه [لكونه أذن في ذلك] (¬1)، ثم أتكلم على تلك المسائل بما أدينُ الله تعالى به بقدر وُسْعي. وبعدَ مطالعتي للرسالة أجبتُ عن السؤال الأول: أن هذه الرسالة على صِغَرها تُمثِّل مؤلفَها بمكانٍ من العلم [الصحيح والفضل الحقيقي] والدين [الراسخ] والفهم السديد في الكتاب والسنة، [وأنه من البقية المذكورة في قوله تعالى: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ} (¬2) [هود: 116]، والطائفة المذكورة في قوله عليه الصلاة والسلام] (¬3). لا يُنكِر هذا كلُّ مَن يفهم كلامه إلا مَن كان ناظرًا من وراء حجاب الهوى والتقليد. وأما السؤال الثاني فلم يظهر لي في تلك الرسالة ما يجب التنبيه عليه سِوى قوله في (ص 43) بعد ذكر الأحاديث الواردة في النهي عن الجلوس على القبور ما لفظه: "والجلوس المنهيُّ عنه على ما يظهر هو الجلوس عليها للتبرك والاستشفاع أو للعبادة والدعاء، وأما الجلوس على القبر بغير قراءةٍ ولا نيةِ تبرُّك ولا لعبادةٍ، بل للاستراحة ريثَما يُدفَن الميتُ أو تُقضَى الحاجة، أو لوعظِ الحاضرين = فلا بأس [به] ... " إلخ. [ص 2] وهذا يقتضي أن ظاهر تلك الأحاديث النهي عن الجلوس عند القبور، وفي ذلك نظرٌ، بل ظاهرها هو النهي عن القعود على القبر نفسه، لأنه ¬

_ (¬1) من المسوّدة، وكذا ما يأتي بين المعكوفتين. (¬2) في المسودة: "ولتكن منكم بقية". (¬3) "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ... " الذي أخرجه مسلم (1920) من حديث ثوبان وغيره.

هو الحقيقة، ولا صارفَ عنها. وحديث أبي هريرة (¬1): "لأن يجلسَ أحدكم على جَمْرةٍ ... " إلخ كالنصِّ في ذلك. وقد ذكر في الرسالة حديث مسلم (¬2) عن جابر رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم أن يُجصَّص القبر وأن يُبنَى عليه وأن يُقعَد عليه". ويُوضح المراد منه أن لفظه عند الترمذي (¬3): "أن تُجصَّص القبور وأن يُكتَب عليها وأن تُوطأ". [وفي "المسند" (¬4) عن عمرو بن حزم قال: رآني النبي - صلى الله عليه وسلم - متكئًا على قبر، فقال: "لا تؤذِ صاحبَ هذا القبر، أو لا تُؤذِه"]. وأما حديث البراء (¬5) فالمراد: جلس عند القبر، إذ من المعلوم أن القبر المحفور لا يمكن أن يُجلَس عليه. ومثله حديث البخاري (¬6) عن أنس قال: "شهدنا بنتَ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم تُدفَن ورسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم جالس على القبر ... " الحديثَ، فالمراد قطعًا جالسٌ عند القبر كما مرَّ. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (971). (¬2) رقم (970). (¬3) رقم (1052). (¬4) رقم (24009/ 39). (¬5) أخرجه أبو داود (3212) والنسائي (4/ 78) وابن ماجه (1549)، ولفظه: "قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة، فوجدنا القبر لم يُلحَد، فجلس وجلسنا معه". (¬6) رقم (1285, 1342).

وقد قيَّد مالكٌ القعودَ المنهيَّ عنه بالقعود لقضاء الحاجة (¬1)، وذلك يحتاج إلى دليل، وظواهر الأحاديث تردُّه. والظاهر ما قاله الجمهور: إن العلة هي كراهية انتهاك حرمة القبر. ومما يؤيِّده حديث النسائي (¬2) وغيره بأمره صلَّى الله عليه وآله وسلم لصاحب السِّبْتيَّتَين أن لا يمشيَ بهما في المقبرة. وغيره كثير. ونحن نوافق الأستاذ على تحذير الناس عن التبرك بالقبور وغيرِه مما ثبت النهيُ عنه، سواء أكان مع الجلوس عندها أو مطلق الحضور أو مع الغيبة، ولكنه لا يمنعنا ذلك أن نخالفه فيما فهمنا منه غير ما فهمه (¬3)، ومهما بلغَ من حُبِّنا للحق فلا ننصره إلّا بالحق. قال تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]. واعتذرتُ من السائل عن الأمر الثالث، وهو الكلام على تلك المسائل، لقصور باعي [وغَيبة كتبي]، ولما لم يعذرني استعنتُ الله سبحانه وتعالى، وشرعتُ في كتابة ما يتيسَّر لي، مُرجئًا البسطَ إلى وقت آخر إن شاء الله. **** ¬

_ (¬1) قال مالك في "الموطأ" (1/ 233): إنما نُهي عن القعود على القبور فيما نُرى للمذاهب. (¬2) (4/ 96) من حديث بشير بن الخصاصية. (¬3) هذا السطر جاء في طرة الورقة وقد ذهب بعض حروف كلماته، فاجتهدنا في قراءته كما هو مثبت.

مقدمة في بيان التكليف وما يتصل به

مقدمة في بيان التكليف وما يتصل به قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. حَصرتْ هذه الآية خلقَ الجن والإنس في علّيّة العبادة، لأن الاستثناء من أعم العلل، أي: لا سببَ لخلْق الله تعالى لهم إلّا إرادتُه أن يعبدوه، وعليه فلا بدَّ من أن يكون خلْقُهم على هيئةٍ يكونون بها مستعدِّين لما لأجلِه خلقَهم، والأمر كذلك. [قال تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [السجدة: 7 - 9]. وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [المؤمنون: 78]]. وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [غافر: 67]، وقال تعالى: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 1 - 4]، وقال تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 1 - 3]. [ص 3] وقال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 8 - 10].

[وقال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 7 - 10]]. والقصد من إيراد هذه الآيات بيانُ أن الله تعالى إنما خلق الإنسانَ ذا سمعٍ وبصرٍ، وشمًّ ولمسٍ، وبَطْشٍ ومشي، وفكر وعقل، وحفظ ونطق، وغير ذلك من القوى الظاهرة والباطنة [التي لا يحصُر غرائبَ إتقانها وعجائب إحكامها غيرُ خالقها]، ليكون متمكنًا من العبادة التي لأجلها خُلِقَ من العدم. ويكفيك في بيان ذلك قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4]. وفوقَ ذلك أودع في فِطَرِهم: الحنيفيةَ، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الروم: 30 - 31]. وفي "الصحيحين" (¬1) من حديث أبي هريرة عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "كلُّ مولودٍ يُولَد على الفطرة، فأبواه يُهوِّدانه ويُنصِّرانه ويُمجِّسانِه، كما تُنتَج البهيمةُ جمعاءَ هل تُحِسُّون فيها من جدعاءَ؟ حتى تكونوا أنتم تَجْدَعونها". ثم قرأ أبو هريرة: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}. وفي لفظ آخر (¬2): "ما من مولودٍ إلّا يُولَد على هذه الملة". ¬

_ (¬1) البخاري (1385)، ومسلم (2658). (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (7445) بهذا اللفظ.

وقد عقد المحقق ابن القيم لبيان هذه الفطرة بابًا في كتابه "شفاء العليل" (¬1) مقتبسًا أكثر كلامه من كلام شيخه أبي العباس ابن تيمية، وقال في آخره (¬2): "فقد تبيَّن دلالةُ الكتاب والسنة والآيات واتفاق السلف على أن الخلق مفطورون على دين الله الذي هو معرفته والإقرار به ومحبته والخضوع له، وأن ذلك موجبُ فطرتهم ومقتضاها، يجب حصوله فيها إن لم يحصل ما يعارضه ويقتضي حصولَ ضدِّه، وأن حصول ذلك فيها لا يقف على وجود شرطٍ، بل على انتفاء المانع، فإذا لم يوجد فهو لوجود مُنافِيه لا لعدمِ مقتضيه. ولهذا لم يذكر النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم لوجود الفطرة شرطًا، بل ذكر ما يمنع موجَبَها، حيث قال: "فأبواه يُهوِّدانِه ويُنصِّرانِه ويُمجِّسانِه". فحصول هذا التهويد والتنصير موقوف على أسبابٍ خارجة عن الفطرة، وحصولُ الحنيفية والإخلاص ومعرفة الرب والخضوع له لا يتوقف أصلُه على غير الفطرة، وإن توقَّف كمالُه وتفصيلُه على غيرها، وبالله التوفيق"، انتهى. ثم ذكر الأدلة العقلية الموافقة لذلك، والكلام طويل، ولذلك اقتصرنا على إثبات الدعوى والدليل، ومَن أراد استيفاء البحث فعليه بـ "شفاء العليل". [ص 4] وفوق ذلك فإن الله سبحانه وتعالى خلق الأكوان المحسوسة لهم على هيئة دالة على وجودِه وإلهيته ووحدانيته وكمالِه، فلا تقعُ عينُ ابنِ آدم ولا شيءٌ من حواسِّه إلّا على آيةٍ من آيات الله تعالى وبرهانٍ قاطع، وقد نبَّه ¬

_ (¬1) هو الباب الثلاثون آخر أبواب الكتاب. وانظر "درء التعارض" لشيخ الإسلام (8/ 454 وما بعدها). (¬2) (ص 499) ط. بيروت 1407.

على ذلك القرآنُ في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)}. ثم قال تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)}. ثم قال جلَّ ذِكرُه: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [الأنعام]. وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى} [الروم: 8]. وقال تعالى: {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا

بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الجاثية: 1 - 5]. وقال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: 105]. والآيات في ذلك كثيرة. وبناءً على ما تقدم زعمت المعتزلة أن كلَّ إنسانٍ قبلَ بلوغ الدعوة مكلَّفٌ بالنسبة لما أدرك العقل فيه صفةَ حُسْنٍ أو قُبحٍ لذاته أو لصفته أو لوجوهٍ واعتباراتٍ، على اختلافٍ بينهم في ذلك، وخالفهم غيرهم، كما ذكره الشوكاني في "إرشاد الفحول" (¬1). وبعد أن شرح الخلاف والاحتجاج من الطرفين قال في آخره ما لفظه (¬2): "وبالجملة فالكلام في هذا البحث يطول، وإنكارُ مجرد إدراك العقل لكون الفعل حسنًا أو قبيحًا مكابرةٌ ومباهتةٌ. [ص 5] وأما إدراكُه لكونِ ذلك الفعل الحسن متعلقًا للثواب، وكونِ ذلك الفعل القبيح متعلقًا للعقاب = فغير مسلَّم. وغايةُ ما تُدرِكه العقول أن هذا الفعل الحسن يُمدَح فاعلُه، وهذا الفعل القبيح يُذَمُّ فاعلُه، ولا تلازُمَ بين هذا وبين كونِه متعلقًا للثواب والعقاب". أقول: قوله: "غير مسلَّم" فيه نظر؛ لأنه إذا ثبتتْ معرفةُ الله تعالى بالفطرة والاستدلال، وثبتَ أن العقل يُدرِك حُسنَ العدل، فعندما يرى العاقل قصاصَ الله سبحانه وتعالى بين بعض الخلائق في الدنيا وإملاءَه لبعضهم، يؤدِّيه نظرُه إلى أن بعد هذه الدار دارًا أخرى، يبعثُ الله بها الخلقَ ويقتصُّ من الظالم، ونحو هذا. ¬

_ (¬1) (1/ 78 وما بعدها). (¬2) (1/ 83).

ومع هذا فالذي أعتقده ما دلَّ عليه قولُه تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه: 134]، وقوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، وقوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130) ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} [الأنعام: 130 - 131]. والآيات في هذا المعنى كثيرة. وها هنا بحثٌ في حال الناس قبل بعثة محمد صلَّى الله عليه وآله وسلم، هل تقوم ببعثة كلِّ رسولٍ الحجةُ على كل مَن بلغتْه دعوتُه ولو لم يكن مِن قومه الذين أُرسِل إليهم، أو لا تقوم الحجةُ إلّا على قومِه خاصةً؟ ولهذا البحث موضعٌ غير هذا. ومما يتعلق به قوله تعالى في سورة الأنعام: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156)}، وقوله في المائدة: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا ...} الآية [19]. وعلى كل حالٍ فإن الله جلَّ ذِكرُه لم يكتفِ في إقامة الحجة وبيان التكاليف بمجرد الفطرة والعقل، أما فيما لا سبيلَ لهما إلى إدراكه كالصلاة والصيام فظاهر، وأما غيره فلكثرة العوارض والشواغل التي تُغيِّر الفطرة وتَشْغَل العقلَ، فاقتضت الإرادة الربانية الهداية والبيان، فاصطفى سبحانه وتعالى مِن خلقه رُسُلًا يُنزل إليهم وحيَه، ويؤيِّدهم بآياته، ليذكِّروا الناسَ بآيات ربهم، [ويَلفِتوا أنظارهم إلى براهين توحيده]، ويدعوهم إليه،

ويبلِّغوهم أوامرَه ونواهيَه. فأول الأنبياء آدم أبو البشر عليه السلام، [أسجد له ملائكته، وعلَّمه الأسماء، و] استخلفه في الأرض ليعمرها ويعلِّم أولاده. ثم لم تزل الرسلُ تترَى جيلًا بعدَ جيلِ، قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [النحل: 36]، وقال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 163 - 165]. وقد قصَّ الله تعالى في القرآن قصص كثير من أنبيائه فيما جرى لهم مع أممهم، كما لا يخفى]. ثم إن الله سبحانه وتعالى ختمهم بمحمدٍ صلَّى الله عليه وآله وسلم، فأرسله للناس كافَّةً، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: 28]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1]، وقال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب: 40]. [ص 6] فهو صلَّى الله عليه وآله وسلم خاتم النبيين، والمأخوذ عليهم

وعلى أممهم الميثاقُ باتباعه، [قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب: 40]]. وقال تعالى في سورة آل عمران بعد ذكر الأنبياء: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86)}. وقال تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ

يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 155 - 158]. وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف: 6 - 9]. وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح: 28]. [ص 7] ولو تركنا الأدلة السمعية جانبًا، وأَطلقَ الإنسانُ لعقله العِنان، وفَكَّه من القيود والأغلال، حتى يصير حرًّا ساذجًا، ثم استفتاه، لشهدَ أن هذه الشريعة التي جاء بها محمد صلَّى الله عليه وآله وسلم متكفِّلةٌ بمصالح الخلق كافَّةً، معاشًا ومعادًا، وأن صلاح العالم هو في الاجتماع لا في الافتراق، وأن الشرائع السابقة مع ما اعتراها من القواطع والموانع والتغيير والتبديل قد صارت مخالفةً للمصالح، فالحجة قائمة ولله الحمد.

ولما كان محمد صلَّى الله عليه وآله وسلم خاتمًا للأنبياء، وكانت شريعتُه وارثةَ جميعِ الشرائع، والمعَدَّة لتدبير مصالح الناس كافةً في إبَّان رُقيِّهم وسُموّ مداركهم إلى نهاية عمر الدنيا = أمدَّه الله سبحانه وتعالى بالكتاب الحكيم الذي قال تعالى فيه: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48]، وقال تعالى: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إبراهيم: 1]، وقال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 23]. [ص 8] وحضَّ سبحانه وتعالى على العمل به في غيرِ ما آيةٍ، قال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ} [الأنعام: 155 - 157]. وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} [الشورى: 52 - 53].

وجعله سبحانه وتعالى عربيًّا، لأنه لسان العرب الذي بُعِث الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلم بين أظهرهم (¬1)، ولا سيَّما مع ما امتازت به لغة العرب من حسن البيان، فيكون بيان الشريعة أولًا بها، ثم بواسطتها يُفسَّر لأهل اللغات الأخرى، فيحصل المقصود من التبليغ والهداية. وقد قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [إبراهيم: 4]. وقال تعالى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف: 1 - 3]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الزمر: 27 - 28]. وقال تعالى: {حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} [فصلت: 1 - 4]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 41 - 44]. وقال تعالى: {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ ¬

_ (¬1) كذا في النسخة، وفي المسودة: "بين ظهرانيهم".

الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف: 1 - 4]. وإنما أتيتُ بهذه الآيات كلها هنا لما فيها من تعظيم شأن القرآن وتفخيمه، لأن ذلك هو المقصود بالذات. [ص 9] وأمر سبحانه وتعالى بكثرةِ تلاوته وتدبُّرِ آياته، قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]، وقال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29]. وقال تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [الدخان: 58]، وقال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]. وقال تعالى {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 17، 22، 32، 40]. ولا ريبَ أن الله تعالى لم ينزل القرآن لمجرد التلاوة، وإنما أنزله هدًى للناس. ومَن حفظ القرآن ولم يتدبَّر معانيَه صدقَ عليه قولُه تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة: 5]. ومَن عَلِمَه ولم يعملْ به صدقَ عليه قولُه تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ} [الأعراف: 175 - 177].

[ص10] وأيَّد الله تعالى نبيَّه بالحكمة ليبيِّن للناس ما أُنزِل إليهم. قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية ما لفظه (¬1): "والرسول أنزل الله عليه الكتاب والحكمة، كما ذكر ذلك في غير موضع، وقد علَّم أمتَّه الكتابَ والحكمة، كما قال تعالى: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة: 129]. وكان يذكر في بيته الكتاب والحكمة، وأمر أزواج نبيِّه بذكر ذلك، فقال: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب: 34]. فآيات الله هي القرآن، إذ كان نفس القرآن يدلُّ على أنه منزَّل من الله، فهو علامة ودلالة على مُنزلِه. والحكمة قال غير واحدٍ من السلف: هي السُّنَّة، وقال أيضًا طائفة كمالك وغيره: هي معرفة الدين والعمل به (¬2)، وقيل غير ذلك، وكلُّ ذلك حقٌّ، فهي تتضمَّنُ التمييزَ بين المأمور والمحظور، والحق والباطل، وتعليمَ الحقّ دون الباطل، وهذه السنة التي فُرِّق بها بين الحق والباطل، وبيَّنت الأعمال الحسنةَ من القبيحة، والخيرَ من الشرّ" إلخ. وقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44]. وقال تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل: 64]. وقال تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113]. وقال تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ ¬

_ (¬1) في "معارج الوصول" ضمن "مجموع الفتاوى" (19/ 175). (¬2) انظر "تفسير الطبري" (2/ 576) وابن كثير (1/ 645).

عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 16 - 19]. ودلَّ الكتاب على أن جميع ما أتَى عن الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلم حقٌّ يجب اتباعُه، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31]. وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء: 80]. وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]. ولما كان محمد صلَّى الله عليه وآله وسلم خاتم النبيين ورسولَ الله إلى الناس أجمعين، والكتاب الذي أُنزِل عليه خاتمَ الكتب، ودينُه الدينَ الذي لا يرضي الله تعالى غيرَه = دلَّ ذلك دلالةً قطعية أن كلَّ من جاء بعده إلى يوم القيامة مكلَّفٌ. باتباعه. ومما يدلُّ عليه قوله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 19]. وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة: 2 - 4]. بل في القرآن ما يكاد يكون خاصًّا بالقرون الأخيرة، وهو قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16)}، ثم

أعقَبها سبحانه وتعالى ببشارة عظيمة، وهي قوله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الحديد: 16، 17]. [ص 11] ثم إن بقاء التكليف باتباع محمد صلَّى الله عليه وآله وسلم، والعملَ بالكتاب والسنة إلى يوم القيامة، لما كان متوقفًا على بقاء الكتاب والسنة واللسان الذي وردا به، تكفَّل الله سبحانه وتعالى بذلك. قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، وقال تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 17 - 19] ولا مانع من بقاء الجمع والبيان في هذه الآية على العموم. ودخلَ في هذا التكفُّلِ السُّنَّةُ واللغةُ؛ لأنهما لازمانِ للحفظ والبيان، لأن المقصود بالحفظ والبيان هو قيام الحجة، ولا تقوم الحجة على مَن بلغه القرآنُ وهو لا يَعرِف منه شيئًا، ولا يتمكن من أن يعرف منه شيئًا. والمعرفةُ إنما تكون بمعرفة اللغة والسنة، فعُلِمَ أن مِن لازمِ التكفُّلِ بحفظِ القرآن وبيانه حِفْظَهما، ولا ريبَ أن الواقع كذلك ولله الحمدُ. أما حفظ القرآن فمعلوم، وهو المعجزة العظمى الدالة على صدق الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلم، وهي المعجزة التي لا تزال محفوظةً بحفظِه، وذلك أبلغُ في إقامة الحجة. وأما حفظ السُّنَّة، فإن أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم سمعوا منه وبلَّغوا مَن بعدَهم. ثم هيَّأ الله تعالى من اختاره من عباده لحفظها وجمعها وضبطها ونقدِ رواتها إلى غير ذلك، وها هي الآن بين أيدينا مبينةً ولله الحمد.

وأما اللغة فقد كانت في القرن الأول لغةَ العرب عامةً، لا يحتاجون إلى تعلُّم شيء منها، وإنما نزل الكتاب وبُعِث الرسول بلُغتهم التي يَعرِفها صغيرهم وكبيرهم. فلما اختلطتْ بهم الأعاجم، وأوشكت اللغةُ أن تنهدم هيَّأ الله تعالى قومًا قاموا بحفظها وجمعها وضبطها وتدوينها، فاشتغل كل فريقٍ منهم بنوع منها، اعتنَوا به أحسنَ اعتناء، وذلك علم المفردات الذي خُصَّ باسم علم اللغة، وعلم الوضع، وعلم التصريف، وعلم النحو، وعلوم البلاغة، وعلم أصول الفقه، وغيرها. وها هي بين أيدينا ولله الحمد. وبحفظ الكتاب والسنة واللسان حصلَ حفظُ الدين، وقامت الحجة على العالمين، فإن الكتاب والسنة هما الأصلان اللذان ترجع إليهما الأحكام، إذ الإجماع والقياس - على عِلّاتهما - راجعانِ إليهما، إذ لا بدَّ للأول من مستنَدٍ منهما، وللثاني من أصلٍ لذلك، مع أن الإجماعات التي قد اتفقت محفوظة بنقل العلماء، كما أنهم بينوا طرقَ القياس ووجوهَه، وإن كان حفظ الكتاب والسنة مُغنِيًا عن ذلك. ****

فصل

فصل (¬1) إنما يثبت الدليلُ إذا ثبتَ متنُه: إما قطعًا (¬2) كالقرآن ومتواتر السُّنَّة، وإما ظنًّا (¬3) كالصحيح والحسن من السُّنَّة. وإنما يثبتُ به الحكمُ إذا دلَّ عليه: إما قطعًا بأن لا يحتمل غيرَه، وإما ظنًّا بأن يحتمل غيرَه ولكن احتمالًا مرجوحًا. ويتحصلُ من هذا أن الأحكام على قسمين: قطعي كمدلول قطعيّ المتن قطعيّ الدلالة، وظني كمدلول ظنِّيهما أو ظنيِّ أحدهما وقطعيِّ الآخر إذا لم يتأيَّد بما يُبلِّغه درجةَ القطع، ولم يخالف بما يُبطِله أو يُضعِفه، فإن الأدلة فيها المنسوخ والناسخ، والمجمل والمبيَّن، والعام والمخصّص، والمطلق والمقيد، وغير ذلك مما محلُّ تفصيله أصول الفقه. **** ¬

_ (¬1) كتب الشيخ هذا الفصل في المسودة كما يلي: (والدليل من حيث لفظه قطعي أو ظني، ومحتمل ومردود، وكلٌّ منها إما في المتن وإما في الدلالة. فقطعي المتن هو الكتاب وما تواتر من السنة، وقطعي الدلالة هو ما دلَّ على معنى لا يحتمل غيره. وظنّي المتن هو ما لم يتواتر لفظه من السنة وكان صحيحًا أو حسنًا، وظنّي الدلالة هو ما كان ظاهرًا في الدلالة على معنى ومحتملًا لغيره احتمالًا مرجوحًا. والمحتمل في المتن هو الحديث الضعيف، وفي الدلالة هو ما قابل الراجح في ظنّيها. والمردود في المتن هو الحديث الموضوع، وفي الدلالة ما لا يحتمل). (¬2) كذا في الأصل. وفي المسوَّدة: "إما ثبوتًا قطعيًّا". (¬3) في المسوّدة: "وإما بغلبة الظن".

فصل

[ص 12] فصل إن قال قائل: وجوب العمل بالثابت ثبوتًا قطعيًا مسلَّمٌ، وأما الظني فلا، كيف وقد ذمَّ الله تعالى في كتابه الظنَّ في عدة آيات، منها قوله تعالى في الأنعام: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116)} , وقال تعالى فيها أيضًا: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)}، وقال تعالى في سورة يونس: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [36]، وقال تعالى فيها أيضًا: {وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66)}، وقال تعالى في الجاثية: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24)} , وقال تعالى في النجم: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23)}، وقال تعالى فيها: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28)}.

وقبل الشروع في الجواب نُبيِّن حقيقة الظن، فنقول: لا يخفى أن حكم الذهن ينقسم إلى جازمٍ وغيره، فالجازم هو العلم والاعتقاد، وغيرُ الجازم إما أن يترجح أحد الطرفين: فالراجح الظنُّ، والمرجوح الوهمُ، وإما أن يتساويا وهو الشكُّ. وقد يُطلق العلم على الظن مجازًا، والعلاقةُ المجاوَرةُ في الذهن، كما يُطلق الظنُّ على العلم، كقوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} [البقرة: 46]، وعلى الشكّ، وعلى الوهم. [ص 13] ثم اعلم أن الظنّ الذي يُعتبر حجةً شرعيةً هو حكم الذهن الراجح، وله شروط: منها: أن لا يعارضه دليلٌ آخر يُبطِله أو يُضعِفه، إذا كان هذا المعارض ظاهرًا في نفسه، بحيث يُعَدُّ الشخصُ مقصِّرًا في عدم التنبُّه له والبحث عنه. ومنها: أن يكون عن دليل. فلو فُرِض أن شخصًا وقعَ في ذهنه ترجيحُ حكم من غير أن يستند إلى دليلٍ لم يكن حجةً، وشرطُ الدليل أن يكون مما يُحصِّل مثلُه الظنَّ، فلو وقع في ذهن أحدٍ ترجيحُ حكمٍ لحديث ضعيف لم يكن حجةً. ومن الدليل الضعيف: التقليد، قال تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة: 78]. قيل: ومنها - أي الشروط -: أن يكون في غير أصول الدين، فلا يكفي فيها إلّا القطعُ. إلى غير ذلك. إذا تقرر هذا فالجواب عن الآيات السابقة بطريقين: إجمالي وتفصيلي. أما الإجمالي فنقول: إن (الظنّ) قد يُستعمل لمجرد الوهم، كما في

قوله تعالى في الحجرات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [12]، وفي الحديث: "إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث" (¬1). وعليه فتلك الظنون التي نعاها الله تعالى جلُّها أو كلُّها مجردُ أوهامٍ ضعيفة يبعدُ أن تكون راجحةً في ذهنِ عاقلٍ، ولذلك فسَّرها الله تعالى في الآية الأولى والثانية والرابعة بالخرص، والخرص يُطلق على الكذب وعلى الحَزْر والتخمين. وقال في الآية السادسة: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 23]، فعطْفُ الهوى على الظنّ يدلُّ أن المراد به مجرد وهمٍ وخيالٍ وسوسَ لهم به الشيطانُ، وقلَّدوا آباءهم فيه، وشقَّ عليهم مخالفةُ آبائهم، وتكبَّروا عن الرجوع إلى الحق بعد أن كذَّبوه، إلى غير ذلك. ويُبيِّنه قوله بعد ذلك: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى}، وذلك أن الذي جاءهم من ربهم هو بيان الحجج القواطع والبراهين الجلية التي تُبطِل ذلك الظنَّ، وقد بُيِّنتْ لهم أوضحَ بيانٍ حتى فهموها وعرفوها، فلم يبقَ مجالٌ لأن تكون أذهانُهم مرجِّحةً لما يخالفها، إذ لا يتصور أن يجتمع العلم والظنّ بشيء واحد في ذهن واحد باعتبارٍ واحد، فتعيَّن أن يكون المراد بالظنّ في الآية مجردَ الوهم الفاسد. ونحو هذا يقال في بقية الآيات، فإن الكون مشحونٌ بالأدلة والبراهين من آيات الآفاق والأنفس، ومن بيان الرسل والكتب، فإن فُرِض أن بعض الأشخاص قصَّر عن البحث والتنبُّهِ لتلك البراهين ولم ينبَّه عليها، فإن الظنّ حينئذٍ يكون على بابه، لأنه يصدُق عليه بالنظر إلى ذلك الشخص أنه حكمُ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6064) ومسلم (2563) من حديث أبي هريرة.

الذهنِ الراجح، ولكن يكون باطلًا لمعارضته للقواطع التي قصَّر الشخص عن البحث عنها، مع كونه في أصول الدين التي لا يفيد فيها الظنُّ، على ما مرَّ. وتفصيلًا بأن يقال: أما الآية الأولى - وهي قوله تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ} - فإنه من المشاهَد أن أكثر الديانات التي على وجه الأرض ما عدا الإسلام كلّها مبنيةٌ على أوهام وخرافات لا يُتصوَّر أن تترجَّح في ذهن عاقل، ولذلك فسَّره تعالى بالخرص. وأما الآية الثانية - وهي قوله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} - فالقوم حاولوا أن يغالطوا بذلك مدَّعين أن الله تعالى راضٍ باتخاذهم شفعاءَ، يشفعون لهم إليه، ويُقرِّبونهم إليه زُلفى، كما حكى تعالى عنهم في الآية الأخرى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} [الأعراف: 28]، وهذه دعوى باطلة، لقيام القواطع على إبطالها، وكفَى بدعوة الرسول المؤيَّد بالمعجزات. ولذلك قال تعالى: {وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ}. [ص 14] ويُوضِّح ذلك أن الله تعالى حكى عنهم في سورة الزخرف قولهم، كما أخبر في هذه الآية أنهم سيقولونه، فقال: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ}، قال تعالى: {مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا

عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22)}. فالقوم لما قامت عليهم الحجة والبراهين المبطلة لدعواهم تعلَّقوا بآخرِ سهم مما كانوا يلجأون إليه، وهو قولهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا ...} إلخ. قال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} [الزخرف: 23 - 24] أي أتتمسَّكون بعادة آبائكم ولو جئتكم بأهدى منه؟ أي بما هو الهدى الحقيقي، فإن ما كان عليه آباؤهم لم يكن له حظٌّ من الهدى، وإنما ورد على سبيل التنزل لإلزام الحجة، إشارةً إلى أنه لو فُرض أن آباءهم كانوا على هدى، ولكن جاء بعد ذلك ما هو أهدى، لزمَهم اتباعُه، فكيف وآباؤهم على ضلال مبين؟! كما قال تعالى في البقرة: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)}، وفي المائدة: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104)}، وفي لقمان: {أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21)}. وقد قامت الدلائل القاطعة على ضلال آبائهم وهُدَى ما جاءهم به الرسول، فلما فلتَتْ من أيديهم كلُّ شبهة، ولم يبقَ لهم أدنى شيء يتعلقون به، رجعوا إلى العناد المحض، كما حكى تعالى عنهم بقوله: {قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}، ولذلك أعقبها تعالى بقوله: {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [الزخرف: 24 - 25]. وأما الآية الثالثة - وهي قوله تعالى: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} - فهي في المشركين أيضًا، وذلك أنهم عارفون مقرُّون أن الله تعالى هو الذي يرزق من السماء والأرض، ويملك السمع والأبصار،

ويُخرِج الحيَّ من الميت ويُخرِج الميت من الحي، ويُدبِّر الأمر، إلى غير ذلك مما تضمنته الآيات قبلها. فهم مع اعترافهم بذلك وغيره يزعمون أن الله تعالى راضٍ لهم بأن يتخذوا أوثانهم شفعاء، يشفعون لهم إليه، ويُقرِّبُونهم إليه زلفى، وهي دعوى باطلة وخيال فاسد، فإذا صدمَتْهم الحجة فرُّوا إلى التقليد، كما مرَّ بيانه، ونحوه الآية الرابعة (¬1). وأما الآية الخامسة (¬2) - وهي قوله تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} الآية - فإن آيات الآفاق والأنفس وبيان الرسل المؤيَّدين بالمعجزات مُبطِلة لما قالوه، بحيث لا يبقى مجالٌ لأن تُرجِّحه أذهانهم. وأما الآية السادسة - وهي قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) ...} الآيات - فالأمر فيها واضح، فإن قولهم: إن تلك الأوثان بنات الله - تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا - من أبطل الباطل وأمحل المحال، وإنما كان القوم متهوِّرين متهوِّسين لا يبالون بما قالوا، فكلُّ ما نفثَه الشيطان في نفوسهم تبعوه بلا حياء ولا خجل، نعوذ بالله من الخذلان. هذا مع أن الرسول المؤيَّد بالمعجزات بين أظهُرِهم، والبراهين قائمة، فلا يشك أحدٌ أن الظنّ في هذه الآية هو مجرد الوهم الفاسد، بل الخرص الكاذب، بل البهتان العظيم. وأما الآية السابعة - وهي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) ...} - فالأمر فيها أيضًا واضح؛ لأن الملائكة عليهم السلام غيب عن كل أحد، فلم يكن هناك سبيل إلى ترجيح أنوثتهم، بل ¬

_ (¬1) في الأصل: "الثالثة". ولعل الصواب ما أثبتناه، فإنه لم يتكلم على الآية الرابعة. (¬2) في الأصل: "الرابعة"، وهي الخامسة في ترتيب الآيات التي سبق ذكرها.

العكس أقرب، لأن المشركين كانوا يعلمون أن الذكر أشرف من الأنثى، ويُقرون بأن الله تعالى هو الخالق الرازق المدبِّر للأمر، إلى غير ذلك، فكان اللائق بأذهانهم ترجيحُ ذكورةِ الملائكة، ولذلك وبَّخَهم الله تعالى في سورة الزخرف بقوله: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا} الآيات [الزخرف: 17]. [ص 15] فإن قيل: بقي عليك قوله تعالى: {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}، فإنها جملة مستقلة مُبطِلةٌ لمطلق الظن. فالجواب أن يقال: هي وإن كانت جملة مستقلة، فهي مَسُوقة لإبطال ظنهم الذي هو مجرد الوهم والتخرُّص والتقليد، فتعيَّن حملُ الظنّ فيها على ذلك لتحصُلَ المطابقة، وقد عُلِم مما سبقَ أن ظنهم إنما كان مجردَ وهَم باطل، وهذا واضح ولا سيَّما في آية النجم. ومع هذا كله فلو فُرِض أن في هذه الآيات أو غيرها دليلًا على عدم حجية الظن الذي هو حكم الذهن الراجح، فغاية ما هناك أن يكون دليلًا عامًّا في ذلك قابلًا للتخصيص، وحينئذٍ فيكون مخصَّصًا بالأدلة الموجبة العملَ بالظن بشرطه، وهي كثيرة. أولها: أن يقال: إن أدلة الأحكام أكثرها ظنية، كما يعلمه من كانت له أدنى مُسْكةٍ، فلو لم يتعيَّن العمل بالظن بشرطه لكانت أكثر الأحكام مهملةً أو مجملة، أي أن ما لم يثبت متنُ دليله ثبوتًا قطعيًا يبقى مهملًا، وما ثبت متنُ دليله ثبوتًا قطعيًا ولم يدلَّ دلالة قطعية يبقى مجملًا. وهذا باطلٌ لما لا يُحصَى من الأدلة:

أولاً: لما فيه من تأخُّر البيان عن وقت الحاجة مع عموم التكليف، وهو سبحانه وتعالى يقول: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، و {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7]. وثانيًا: لقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}، أي مما يحتاج إليه الناس في أمر الشريعة ويسألون عنه، بدليل قوله تعالى قبلها: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ} [النحل: 89]. فهذه الآية دلَّت على عدم الإهمال والإجمال. ومما بيَّنه القرآن وجوب طاعة الرسول واتباعه، فكمل واتضح البيان بالكتاب العزيز وبسنة محمد صلَّى الله عليه وآله وسلم، ولذلك أنزل تعالى قُبيلَ وفاة رسوله - صلى الله عليه وسلم -: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، فدلت هذه الآية على الإكمال الذي هو عدم الإهمال والإجمال، وعلى إتمام النعمة الذي من جملته ذلك، وكلاهما متوقف على كون العمل بالظن بشرطه حجةً. ومن أدلة العمل بالظن قوله تعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الزمر: 55]، وقال تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 17 - 18]. إن اللفظ إذا احتمل معنيين، ولكنه ظاهر راجح في أحدهما، فلا شك أن الظاهر الراجح أحسن من الخفي المرجوح. ومن الظني خبر الواحد، وقد دلَّ القرآن على قبوله، قال تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} [الأحقاف: 10]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ

آمَنُوا إِنْ (¬1) جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6]، ومفهومه أن خبر العدل يُعمل به مطلقًا. وقد تواتر أن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم كان يُرسِل الآحادَ إلى الملوك والجهات والقبائل، ويكتفي بذلك في إقامة الحجة وتبليغ الأحكام. كما أجمع الصحابة على الاحتجاج باللفظ في المعنى الراجح منه. والأدلة في هذا كثيرة، نعم ما خصَّصه الدليل فله حكمه، كاشتراط أربعة شهود على الزنا، وغير ذلك. **** ¬

_ (¬1) في الأصل: "إذا" سبق قلم.

فصل

[فصل] (¬1) الحمد لله، إن الله سبحانه وتعالى لما خلق آدم أخرج له ذريته، وركَّب فيهم العقول، ثم أخذ عليهم الميثاق، ثم أبرزهم إلى الدنيا على الفطرة وهي الإسلام، أي أن الله سبحانه وتعالى جعل في فطرته معرفتَه والإقرار به ومحبته والخضوع له، كما حققه ابن القيم في "شفاء العليل" (¬2)، قال: وإن ذلك موجب فطرتهم ومقتضاها، يجب حصوله فيها، وإن لم يحصل ما يُعارضه ويقتضي حصول ضدّه، وأن حصول ذلك فيها لا يقف على وجود شرط، بل على انتفاء المانع، فإذا لم يوجد فهو لوجود مُنافيه، لا لعدم مقتضيه ... إلخ. وأمدَّهم سبحانه وتعالى بآلات تُوصِلهم إلى المطلوب منهم من السمع والأبصار والأفئدة، وغير ذلك من الحواس الظاهرة والباطنة، ثم جعل جميع مخلوقاته المحسوسة لهم في الآفاق والأنفس آياتٍ دالةً على وجوده وقدرته وإرادته وعلمه وكماله، وأنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. ثم أرسل إلى كل قوم رسولًا بلسانهم، وأيَّده بمعجزات تُوجب اليقين بصدقه، يُذكِّرهم ذلك الميثاق وتلك الفطرة، ويرشدهم. وشرع لهم على لسانه شريعة عادلة قويمة موافقة للفِطَر السليمة والعقول المستقيمة، وداعية إلى ما ينفعهم في الدنيا والآخرة. ثم ختم هؤلاء الأنبياء بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، أرسله إلى الخلق كافّةً، وفي ¬

_ (¬1) هذا الفصل موجود في المسودة، ولا يوجد في نسخة الأصل. (¬2) سبقت الإحالة إليه (ص 9).

مقدمتهم قومه الذين بُعِث من أنفسهم وبلسانهم، وأنزل عليه الكتاب الحكيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد. وأمدَّه مع ذلك بالسنة بيانًا للقرآن وإيضاحًا له، واختار له أصحابًا أُمناء هُدَاةً أبرارًا، حفظ الله بهم كتابه وسنة نبيّه. فكان هو - صلى الله عليه وسلم - يتلقّى الأحكام عن ربه بواسطة الوحي، فإذا نزلت النازلة وكان عنده وحيٌ سابقٌ من القرآن أو من غيره ظاهرٌ في حكمها قال به، وإلا فإن رأى مجالًا للاجتهاد اجتهد، واجتهاده حقٌّ لعصمته، فإن فُرِض وقوعُ شِبْه خطأٍ منه نُبَّه عليه فورًا، ولا يُقَرُّ إلا على الحق، وإلّا انتظر الوحي. وأما أصحابه فكانوا في حياته - صلى الله عليه وسلم - يتلقَّون عنه كتاب الله تعالى، ويتعلمون سنته مباشرةً أو بواسطة، فإذا نزلت بأحدهم نازلة فإن كان عنده شيء من القرآن أو السنة ظاهر في الدلالة عليها عمل به، وإلَّا فإن كان حاضرًا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - مباشرةً أو بواسطة، وإلّا فإن رأى مجالًا للاجتهاد اجتهد، وإلّا توقف، كما يدل عليه قصة معاذ حين أرسله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن. وأما الأعراب ونحوهم كأهل اليمن ممن أسلم ولم يصحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكانوا يكتفون بمن يصل إليهم من الصحابة يستفتونه عما ينزل بهم، فيذكر لهم الآية من كتاب الله أو الخبر عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما يتعلق بقضيتهم. وكان أحدهم يعمل ويفتي ويقضي بالآية أو الخبر مع بُعدهِ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واحتمال أنه قد تجدد ما يخالفه، حتى إذا بلغهم ذلك انتقلوا إليه، كما فعل أهل مسجد قباء عندما أُخبِروا بتحوُّل القبلة. فلما تمَّ نزول القرآن وبيانه من السنة بما يكفي الأمَّة الكفايةَ التامة في جميع ما يَعرِض لها وينزِل بها إلى يوم القيامة آذنَهم الله تعالى بذلك بقوله

جلّ ذكره: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. ثم توفي رسوله - صلى الله عليه وسلم - وكان أصحابه رضي الله عنهم إذا نزلت بأحدهم النازلة فإن كان عنده فيها شيء من الكتاب أو السنة واضح الدلالة قال به، وإلّا سأل من تيسَّر من بقية الصحابة، فإن وجد عند أحدهم ذلك قال به، وإلّا اجتهدوا في ذلك وعملوا بما ترجَّح لهم، وقد يتفق اجتهادهم وقد يختلف بحسب اختلاف الأنظار. وقد يعمل أحدهم بما يظهر له زمانًا ثم يبلغه أو يتبيَّن له ما يخالف ذلك فيرجع إليه. وكان صغار الصحابة والتابعون على قسمين: منهم مَن تكلَّم وتلقَّى كثيرًا من كتاب الله تعالى وسنة رسوله، فإذا نزلت به نازلة نظر فيما عنده من الكتاب والسنة، فإن رأى فيه دليلًا في نازلته عمل به، وإلّا سأل من وجده من كبار الصحابة وغيرهم، فإن وجد فذاك، وإلا اجتهد. [ومنهم] من لم يتفق له ذلك، كالأعراب ونحوهم، فكان شأن هؤلاء إذا نزلت بأحدهم النازلةُ ذهب إلى من يجده من علماء الصحابة والتابعين، فذكر له نازلته، فيذكر له المسؤول آية من كتاب الله تعالى أو حديثًا عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - يبيّن الحكم في نازلته، فيذهب السائل فيعمل بذلك ويرويه لغيره. وكان التابعون وتابعوهم غالبًا على العربية الخالصة، حاصلةً لهم مقاصدُ جميع العلوم المتعلقة بها من لغة ونحو وتصريف ومعانٍ وبيان، بل غالب مقاصد علم أصول الفقه، فكان الأعرابي إذا سأل العالمَ، فتلا عليه آية

من كتاب الله تعالى، أو روى له حديثًا عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - = فهم المراد منه غالبًا. وإلّا كأن كان أعرابيًّا بَحْتًا، وفي الآية أو الحديث ألفاظ خصَّها الشارع بمعانٍ شرعية، أو كان أعجميًّا لا يعرف [لغة] العرب، فإنه يستفسر المفتي عن معنى الآية أو الحديث، فيفسِّره له، إمّا بأن يخبره أن هذا اللفظ خصَّه الشارع لهذا المعنى، ويروي له في ذلك ما يدلُّ على ما قاله، وإما أن يخبره أن معناه في لغة العرب كذا بطريق الترجمة. والمفتي في جميع ذلك راوٍ لا غير. ومن هذا يظهر لك أن عوامَّ ذلك القرن كانوا في حكم المجتهدين، إلّا أن الإنسان كان يعمل بما أُفتي به، أو أخبره غيره أنه أُفتي به مع رواية الدليل، بدون أن يكتب معه جميع كتاب الله تعالى ولا الكثير من السنة، ولا يعلم الناسخ والمنسوخ، فكان يكتفي أحدهم بإخبار العالم أن هذا الدليل لا يعلم له ناسخًا ولا معارضًا، ولا مخصِّصًا ولا مقيِّدًا، ولا يشترط أن يكون الخبر بذلك لفظًا، بل يكفي فيه عدم ذكر المفتي لشيء من ذلك. وحينئذٍ فهل يقال: إن المستفتي بالنسبة إلى هذه الأمور مقلِّد أُبيح له التقليد للضرورة أو لا؟ الظاهر الثاني، ويكون قول المجتهد له ذلك بمنزلة بحثه ومراجعته، فإن ذلك أقصى جهده، ولكنه لا يجوز له الاستناد إلى مجرد قول آخر في دليل: إنه لا يعلم، بل يجب عليه البحث لقدرته. بل كان أحدهم إذا بلغه ولو بغير إفتاءٍ دليلٌ يدلُّ على حكم لم يتوقف عن العمل به، ولا يخلو أن يجيبه العالم بدليل يمكن أن يفهمه أو لا، وعلى الأول فإن قال له العالم: ولا أعلم ما يخالف هذا الدليل = فقد مرَّ حكمه، وإلّا فكما لو بلغه الدليل من غير مفتٍ، وقد مرَّ حكمه أيضًا. وعلى الثاني

فإنه يجزئه قول العالم: هذه الأدلة تفيد هذا الحكم، ولا أعلم ما يخالف ذلك. وهل قبول العاميّ لذلك تقليد أُبيح للضرورة أو لا؟ الظاهر الثاني، ويكون قول العالم "هذه الأدلة تفيد هذا الحكم" كافيًا في حقّه، لأنه في معنى الرواية بالمعنى. وقوله: "ولا أعلم ما يخالف ذلك" بعد البحث بمنزلة بحثه ومراجعته، لأن ذلك جهد استطاعته. والحاصل أن العالم في تلك العصور كان يعمل ويقضي ويفتي ويروي ما بلغه ما لم يطلع على ما يخالفه، وكذلك العامي، والعالم كان يجتهد له ولغيره، بأن يراجع مظانّ الأدلة في صدور الرجال أو الكتب، ويدقّق النظر، فإن وجد دليلًا ظاهرًا لا يعلم له مخالفًا قال به، وإلّا اجتهد، بمثابة وجود العالم له. وكذلك العامي، فإن سؤاله للعالم عن حكم قضية لنفسه أو لغيره هو كمراجعة العالم للماهر، وذكْرِ العالم له الدليلَ الذي لا يعلم له مخالفًا. والعالم يراجع علماء اللغة فيما خفي عليه، فكذلك العامي في استفهامه للعالم. وكما قيل في العالم عند التعارض وعدم الترجيح قيل في العامي عند تعارض المفتين، وكما أن العالم إذا لم يؤدِّه اجتهاده إلى ترجيح شيء توقّف، فعلى نحو ذلك العامي. وقد كان هذا يقع من الصحابة في حياته - صلى الله عليه وسلم - ومع القرب منه، ولم ينكره ولا قال: إذا فهمتم فهمًا في كتاب الله تعالى أو بلغكم عني حديث فلا تعملوا به حتى تراجعوني، بل قد بقي بعضهم يعمل بما نُسِخ بقيةَ حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعد وفاته، حتى بلغه الناسخ بعد ذلك، وربما مات قبل أن يبلغه. ثم كان صغار التابعين مع كبارهم على هذا النحو، يجيء العامي فيسأل من لقيه من العلماء عن مسألة، فيتلو عليه الآية أو يروي له الحديث ويُفهِمه

معناه إن لم يفهمه، فيذهب فيعمل به، ويرويه لغيره فيعمل به ذلك الغير بدون توقف، وهكذا. مع أن العوامّ حٍ (¬1) قد ضعُفتْ عربيتهم، بل الكثير منهم من الموالي الأعاجم، فقد صاروا قريبًا من عامة زماننا في انتفاء جميع شروط الاجتهاد. ثم تابِعو التابعين ثم تابعوهم على هذا المنوال، فكان العامي يجيء إلى العالم كأحد الأئمة الأربعة، فيسأله عن مسألة، فيذكر له آية أو يروي له حديثًا بما يدل على الحكم في مسألته، ولا يزيده على ذلك، فيذهب السائل فيعمل بذلك ويرويه لغيره، وهكذا على نحو ما مرَّ. وفصل الخطاب فيما ذُكر أن أهل تلك القرون على قسمين: عامي وعالم، والنوازل قسمان: متعلق بالنفس ومتعلق بالغير، والأحكام على وجهين: ما وُجد فيه دليل ظاهر وغيره. فالصور ثماني: (1 - 2) عالم ونازلة تتعلق به، ووجد لها دليلًا ظاهرًا، أو لا. (3 - 4) أو تتعلق بغيره، ووجد لها دليلًا ظاهرًا، أو لا. (5 - 6) عامي ونازلة تتعلق به، ووجد لها دليلًا ظاهرًا، أو لا. (7 - 8) أو تتعلق بغيره، ووجد لها دليلًا ظاهرًا، أو لا. فالأولى حكمها ظاهر، بأن يعمل بما دل عليه الأصل. وكذلك الثالثة، فيقضي بمقتضى ذلك الدليل أو يذكره للمستفتي، ويُفهِمه إن احتاج، فيعمل به. ¬

_ (¬1) أي: حينئذ.

وقريب من هذا الخامسة والسابعة. كان العامي في تلك العصور يعمل بما يبين له فهمه من الأدلة بدون توقف، ويرويه لغيره فيعمل به ذلك الغير بدون توقف. وأما الصورة الثانية فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما سبق من التفصيل إن رأى مجالًا للاجتهاد اجتهد، وإلَّا انتظر الوحي، لأن الأدلة لم تكن قد أكملت. وأما أصحابه القريبون منه فيردُّون الأمر إليه، فيخبرهم أو يجتهد لهم أو ينتظر الوحي. وأما غيرهم فإن كانت النازلة تستدعي بيان الحكم حالاً تعين الاجتهاد، وإلّا فلا. وذلك لمن كان من الصحابة بعيدًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو بعد وفاته، أو من علماء التابعين، وهكذا. فإن أداه اجتهاده إلى شيء فيها وإلَّا توقَّف. وأما الصورة الرابعة فقد مضى بيانها في حق النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأما أصحابه فمن كان قريبًا منه - صلى الله عليه وسلم - أحال الأمر إليه، وأما غيرهم فإما أن لا يوجد في الجهة عالم غيره أو يوجد، وعلى كلٍّ إما أن تكون تلك النازلة تحتاج إلى البيان حالاً أو لا، فإن لم يوجد في الجهة غيره كمعاذ حين بعثه إلى اليمن وكانت النازلة تحتاج إلى البيان حالًا تعيَّن الاجتهاد، وإلّا فلا، بل هو جائز، ومن اجتهد فلم يظهر له شيء توقَّف. وأما السادسة فإن كانت النازلة تستدعي بيان حكمها حالًا تعيَّن عليه استفتاء عالمٍ، وإلَّا فلا. وأما الثامنة فلا يلزمه شيء مطلقًا، غير أنه لا يمتنع أن يستفتي عالمًا ثم يروي لصاحبه.

فصل

فصل [ص 16] قد تبيَّن من هذه المقدمة قيام حجة الله تعالى على كلِّ إنسان، أولًا من حيث الخِلقة، وثانيًا من حيث الفطرة، وثالثًا من حيث الدعوة. وتَبيَّن لك أيضًا قيامها علينا كقيامها على أهل القرن الأول؛ لأن الكتاب والسنة محفوظان بين أيدينا، والمعجزة قائمة، واللغة معروفة. [أما القرآن فبالتواتر القطعي، وأما السنة فبالنقل الذي تقوم به الحجة، وكذلك ما يتوقف فهم الكتاب والسنة عليه من علوم اللغة فإنها مدوّنة] (¬1). وقد ضرب الله تعالى في القرآن من كل مثل، وضمَّنه أكملَ الهدى، ولا سيما في الدعوة إلى توحيده ومعرفته وإخلاص العبادة له، وأرشدَ فيه إلى التفكر في آيات الآفاق والأنفس، وهذا هو متعلَّق الاعتقاد، وبه تتعلق المسألة الثالثة، وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى. وقد جاء فيه وفي السُّنَّة تفصيلُ أحكام الشريعة المتكفلة بمصالح العباد إلى يوم القيامة، بحيث لا يحتاجون إلى إحداثِ شيء، فمهما أحدثوه في الدين مما لا يوافق الكتاب والسنة فهو بدعةُ ضلالةٍ، مخالِفةٌ للمصلحة في الحقيقة. وهذا متعلَّق المسألة الثانية، وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى. ولما كان معرفة الدليل من الكتاب والسنة متوقِّفًا على العلم بهما، لجواز أن يكون له ناسخ أو معارِض أو مخصِّص أو مقيِّد أو مبيِّن أو صارفٌ عن ظاهره، وعلى معرفة علوم اللغة، إذ لا يحصُلُ الوثوق بالفهم إلّا بعد معرفتها كما لا يخفى = وجبَ أحدُ أمرين: ¬

_ (¬1) ما بين المعكوفتين من المسوّدة.

والأحاديث التي أذكرها فيها على ثلاثة أقسام

الأول: أن تكون معرفةُ ذلك فرضَ عينٍ على كلِّ مكلَّفٍ، لأن ما لا يتمُّ الواجب إلّا به فهو واجب. الثاني: أن تكون فرضَ كفاية، وعليه فما هو فرضُ القاصرِ؟ أتقليدُ أحد المجتهدين أم غيرُه؟ ومن هنا ينشأ الكلام على المسألة الأولى، وهي الاجتهاد والتقليد. وقد آنَ الشروعُ فيها، وبالله تعالى نستعين. وطريقتي في بيان هذه المسائل ذِكْرُ حججِ الفريقين غالبًا، قائلًا في المسألة الأولي: "قال المقلِّدون"، "قال المانعون"، وفي ما بعدَها: "قال المجيزون"، "قال المانعون"، كما ستراه إن شاء الله تعالى. ليطلع القارئ على ما أدلى به الفريقان، فيتيسَّر له الحكم بينهما، إلى غير ذلك من الفوائد. والأحاديث التي أذكرها فيها على ثلاثة أقسام: الأول: المنصوص على صحتها. الثاني: ورد على سبيل الشرح لبعض الأدلة الصحيحة, لكونه أقربَ إلى الفهم منها، وقد لا يكون متنُه معلومَ الصحة. الثالث: ما أحكيه عن استدلال بعض الناس به، وأبيِّن حكمه إن شاء الله تعالى.

المسألة الأولى الاجتهاد والتقليد

المسألة الأولى الاجتهاد والتقليد * فصل: سؤال المجتهد * فصل (في منع التقليد) * فصل (نهي الأئمة عن التقليد) * فصل (مناقشة مع المقلدين) * فصل (الجواب عن اعتراضات المقلدين) * فصل (باب العمل بالدليل مفتوح بالاتفاق)

المسألة الأولى [ص 54] الاجتهاد والتقليد اعلم أن تحصيل العلم مراتب: أولاها: تحصيل علوم اللسان العربي، وهذا على درجتين: الأولى: ما هو فرض عين، قال الإمام الشافعي (¬1): "يجب على كل مسلمٍ أن يتعلَّم من لسان العرب ما يبلغه جهده في أداء فرضه". قال الماوردي (¬2): "ومعرفة لسان العرب فرض [على] كل مسلم من مجتهدٍ وغيره". وحدُّه أن يكون بحيث إذا تُلِيتْ عليه الآية من القرآن أو ذُكِر له الحديث من السُّنَّة، وفُسِّر له غريبُ الألفاظ، ونُبِّه على وجه الدلالة = فهِمَها. الدرجة الثانية: ما هو من فروض الكفاية، وهو أن تصير له في علوم اللسان ملكة قوية، بحيث يُوثَق بفهمه للكلام العربي من كتاب الله تعالى وسنة رسوله وكلام الأئمة، ويغلب على الظن إصابتُه ولو بمراجعة الكتب. فإذا بلغ ذلك تأهّل لتحصيل المرتبة الثانية: [وهي] العلم بأصول الفقه. وغالبُ مسائل أصول الفقه مبنية على اللغة، ومنها ما هو مبني على العقل، ومنها ما هو مبني على السمع. وينبغي في تحصيل ذلك أن ينظر في كل مسألةٍ النظرَ الذي يحصل به العلم المطلوب فيها. فإن كانت المسألة لغوية أو عقلية لم يحتج إلى شيء آخر، إذ هو عاقل ¬

_ (¬1) "الرسالة" (ص 48). والمؤلف صادر عن "الحاوي" للماوردي (16/ 120) ط. دار الكتب العلمية. (¬2) المصدر السابق. ومنه الزيادة بين المعكوفتين.

وعالم باللسان. وأما ما كان منها مبنيًّا على السمع فلا يمكنه تحصيلُ العلم المطلوب فيها إلا بتحصيل المرتبة الثالثة، ولكنه ينبغي له النظر فيها بقدر جهده, ينظر الأدلة التي ذكرها العلماء فيها ما أمكنه من غيرها. ومن أصول الفقه علم مصطلح الحديث، فيجب تحصيله معه. فإذا أتقن ذلك بحيث يُوثَق باستنباطه، ويغلب على الظن عدمُ خطئه ولو بمراجعة الكتب، تأهَّل للمرتبة الثالثة: وهي العلم بكتاب الله تعالى وسنة رسولِه، بأن يُمارِس كتابَ الله تعالى بكثرة التلاوة والتدبر والتفكر، ويُمارِس كتب السنة بالقراءة وتأمّل المعاني وتعرُّف مواقع الأبواب، حتى يصير بحيث يغلب على الظن أنه إذا أمعن النظر في مسألة فتذكَّر كتاب الله تعالى وتصفَّح كتب السنة، لم يعزُب عنه ما فيها من الدلائل الظاهرة على مسألته، ولا يشتبه عليه ما يُحتَجُّ به من غيره، ولا الناسخ بالمنسوخ، ولا الراجح بالمرجوح، ولا ما يحتج به من الأحاديث بغيره. وإذا حصَّل ذلك فليبدأ بتكميل النظر في مسائل أصول الفقه التي تتوقف على السمع، حتى يستتبَّ له العلم بأصول الفقه، وهذا هو المجتهد، والحق أنه إذا حصَّلَ المرتبتين الأُولَيين تعيَّن عليه تحصيل الثالثة. ويكفيه من السنة أن تكون لديه كتبها المتداولة بين الناس، كالأمهات الست وغيرها من المسانيد والمجاميع، ولا سيَّما مع شروحها، فإن الشُّراح يتعرضون في كل باب لذكر ما فيه من الأدلة من الكتب العزيزة. ولا يلزمه جَمْع كتب السنة كلها، لأن أئمة السلف كانوا يجتهدون ويفتون [ص 55] مع علمهم بأنه قد

بقي كثيرٌ من السنة موجودًا على ظهر الأرض لم يبلغهم، ولم يكن أحدهم يمتنع عن الاجتهاد والفتوى بعلّة أنه لم يجمع السنة، وإنما كان غاية أحدهم أن لا يتصدَّر للاجتهاد والفتوى حتى يصير لديه طائفةٌ كبيرة من السنة تتعلق بأكثر أحكام الدين، وهذه كتبُهم بين أيدينا. نعم، ينبغي له أن يجمع كلَّ ما أمكنَه من كتب السنة، ولا سيَّما مع تيسُّرها في هذه الأزمان، ولله الحمد. ثم اعلم أن فرض المجتهد هو الاجتهاد في كل ما يَعرِض له، وأما من حاز المرتبتين الأوليين فإنه يجب عليه - كما تقدم - تحصيلُ الثالثة، وفرضُه قبلَ تحصيلها سؤال المجتهد، فيتلو عليه المجتهد الآية أو يروي له الحديث، ويُخبره أنه قد اجتهد فلم يجد ما يُعارِض ذلك. ويزيد من حاز المرتبة الأولى بدرجتها أن يبيِّن له المجتهد وجهَ الاستدلال في بنائه على بعض الأصول. ويزيد من لم يُحصِّل إلا الدرجة الأولى أن ينبِّهه المجتهد على وجه الدلالة في اللسان العربي. ويزيد من دونَه من عامّي أو أعجمي أن يُفسِّر له المجتهد الآية والحديث بلغته. وإذا تعسَّر في بعض الفروع بيان وجه الاستدلال أو بيان وجه الدلالة في اللسان العربي سقطَ، بخلاف ذكر الآية أو الحديث وتفسيره، فإنه لا بدّ منه على كل حال، وكذا إخبار المجتهد بعدم المعارض. والظاهر أنه يكفي فيها دلالة الحال إذا كان المقام مقام فتوى، لأن المجتهد لا يُفتي إلّا بعد أن يَغلب على ظنّه عدمُ المعارض. ****

فصل سؤال المجتهد

فصل (¬1) سؤال المجتهد كان العمل في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيما بعد من القرون الثلاثة أن يجيء القاصرُ فيسأل العالمَ، فيجيبه العالم بذكر الدليل من كتاب الله تعالى أو سنة رسوله، ويفسِّره له، فيذهب السائل فيعمل بذلك. فإذا عرضتْ له قضية أخرى ذهب فسأل من لقيه من العلماء: الأولَ أو غيره، وهكذا. وهذا شيء لا خلافَ فيه، وعليه كان عمل الأئمة الأربعة رحمهم الله، فقد أسند البيهقي (¬2) إلى الربيع قال: سمعت الشافعي وسأله رجل عن مسألة فقال: رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال كذا وكذا، فقال له السائل: يا أبا عبد الله، أتقول بهذا؟ فارتعد الشافعي واصفرَّ وحالَ لونُه، وقال: ويحك! وأيُّ أرضٍ تُقِلُّني وأيُّ سماءٍ تُظِلُّني إذا رويتُ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا ولم أقل به؟ نعم على العين والرأس، نعم على العين والرأس. وقال الحميدي (¬3): سأل رجلٌ الشافعيَّ فأفتاه: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - كذا وكذا، فقال الرجل: أتقول بهذا يا أبا عبد الله؟ فقال الشافعي رحمه الله: أرأيتَ في وسطي زُنَّارًا؟ أتراني خرجتُ من الكنيسة؟ أقول: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتقولي لي: أتقول بهذا؟ أروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أقول به؟! ¬

_ (¬1) عثرنا على هذا الفصل أخيرًا ضمن أوراق متفرقة من هذا الكتاب. (¬2) في "مناقب الشافعي" (1/ 475). (¬3) المصدر السابق (1/ 474).

نقلهما الشوكاني (¬1). ومن ذلك ما نقل عن ابن عبد البر (¬2) قال: وجاء رجل إلى مالك فسأله، فقال له مالك: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا وكذا، فقال الرجل: أرأيتَ؟ فقال مالك: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]، وقال: لم يكن فُتيا الناس أن يقال لهم: قلتُ هذا، كانوا يكتفون بالرواية ويَرضَون بها. وحيث كان فرض من ذُكِر سؤال المجتهد فعلى المجتهد أن يجيب السائل بذكر الدليل، أي بتلاوة الآية أو رواية الحديث، ثم يفسِّره للسائل بلُغته العامية أو الأعجمية حتى يفهمه، فيذهب السائل فيعمل بذلك. ثم إذا عرضتْ له واقعة أخرى ذهبَ فسأل مجتهدًا، إما الأول وإما غيره، وهكذا. فلا يتعين عليه استفتاء مجتهد مخصوص في كلِّ قضاياه، بل أيّ مجتهد وجده كفاه. إن كان السائل من الرتبة الثالثة، فإن كان الدليل قطعي المتن والدلالة كفى المجتهد أن يذكر له الدليل، ويخبره أنه محكم. وإن كان قطعي المتن ظني الدلالة ذكره له، وأخبره أنه قد اجتهد فلم يجد ما يخالفه، وإن كان ظني المتن قطعي الدلالة أخبره به، وأنه ثابت، وأنه قد اجتهد فلم يجد ما يخالفه. وكذا إن كان ظنيهما. وإن كان السائل من الرتبة الثانية، فإن كان الدليل قطعي المتن والدلالة ¬

_ (¬1) في "القول المفيد" (ص 23، 24) طبعة القاهرة 1347. (¬2) في "التمهيد" (8/ 411).

كفى المجتهدَ أن يذكر له الدليل ويُخبره أنه محكم. وإن كان قطعي المتن ظني الدلالة ذكره له وأخبره أن تلك الدلالة معتبرة في الشرع، وأنه قد اجتهد فلم يجد ما يخالفه. وإن كان ظني المتن قطعي الدلالة أخبره به وأنه ثابت، وأنه قد اجتهد فلم يجد ما يخالفه. وإن كان ظنيهما أخبره به وأنه ثابت، وأن تلك الدلالة معتبرة في الشرع، وأنه قد اجتهد فلم يجد ما يخالفه. وإن كان السائل من أهل المرتبة الأولى (¬1)، فإن كان الدليل قطعي المتن والدلالة ذكره له، وترجمه له بلغته العامية أو الأعجمية، وأخبره أنه محكم. وإن كان قطعي المتن ظني الدلالة ذكره له وترجمه، وبيَّن له وجه الدلالة، وأنها معتبرة في الشرع، وأخبره أنه محكم، وإن كان ظني المتن قطعي الدلالة أخبره به وبثبوته، وأن الثابت كذلك حجة في الشرع، وترجمه، وأخبره أنه قد اجتهد فلم يجد ما يخالفه. وإن كان ظنيهما أخبره به وبثبوته، وأن الثابت كذلك حجة في الشرع، وترجمه وبيَّن له وجه الدلالة وأنها دلالة معتبرة في الشرع، وأنه قد اجتهد فلم يجد ما يخالفه. والثالث يستحق اسم العالم، لأنه متأهل لمعرفة أحكام الكتاب والسنة. وهل يجب عليه تحصيل الرتبة الرابعة؟ الجواب أن تحصيل الرتبة الرابعة فرض كفاية لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122]. فأمرهم الله تعالى أن لا يخرجوا جميعًا في السرايا، بل يبقى بعضهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للتفقه في الدين. فتحصيل ¬

_ (¬1) في الأصل: "الثالثة"، والسياق يقتضي "الأولى".

الدرجة الرابعة فرض كفاية على أهل كل جهة من المسلمين. فهذا الشخص في جهة من أهل فرض الكفاية. نعم إذا كان أهل الجهة كلهم قاصرين عن المرتبة الثالثة غيره تعيَّن عليه تحصيل الدرجة الرابعة؛ لأنه قد صار أقربهم إليها وأقدرهم على تحصيلها. وإذا لم يتعين عليه ففرضه فيما يعرض له من المسائل مراجعة الكتاب والسنة كما مرَّ؛ لأنه مأمور بالأخذ بالأحسن، ولا يكون عاملًا بذلك إلّا إذا اجتهد. نعم، كفاه أن يسأل مجتهدًا، فإن لم يجد مجتهدًا وجب عليه المراجعة لتعينها طريقًا لمعرفة الحكم. وحيث كان فرضه سؤال مجتهد غيره فالواجب على المسؤول أن يذكر له الدليل من كتاب أو سنة وكيفية الاستنباط، ويخبره أنه قد راجع الكتاب والسنة كما ينبغي، فلم يجد فيهما ما يخالف ذلك. وأما الثاني ففرضه سؤال مجتهد، فيذكر له المجتهد الدليل ويخبره أنه قد راجع الكتاب والسنة كما ينبغي، فلم يجد فيهما ما يخالف ذلك الدليل. وإن كان فيه ألفاظ شرعية أخبره بأن معناها في الشرع هو كذا. وإن كان فهمه للحكم باستنباط واضح [بيَّن] له دليل الاستنباط، فإن كان غامضًا اكتفى بأن يخبره أنه قد راجع الكتاب والسنة حتى غلب على ظنّه صحة ذلك الاستنباط، ولم يجد فيهما ما يخالف ذلك، وأنه راجعهما أيضًا، فلم يجد ما يخالف ذلك الاستنباط. وأما الأول - وهو مَن لم يعرف علوم اللسان - ففرضُه سؤال مجتهد، وعلى المسؤول أن يذكر له الدليل من كتاب أو سنة، ويترجمه له بلُغته، إن كان من عامة العرب فبالعامية، وإن كان أعجميًّا فبالأعجمية. فإن كان الدليل كافيًا فيكفي أن يخبره، فإن لم يكن قطعي الدلالة أخبره بذلك، وأنه قد نظر

في علوم اللسان فلم يجد ما يخالفه، فغلب على ظنِّه أن هذا اللفظ يدلُّ على هذا المعنى، ثم يخبره أنه قد راجع، إلى آخر ما مضى في الذي قبله. فإن الثالث عمل بإخبار المجتهد بأنه قد راجع ونظر، فلم يجد ما يخالف ذلك الدليل والاستنباط، والثاني بذلك وبأنه قد راجع ونظر حتى غلب على ظنه اعتبار ذلك الاستنباط وصحته، والأول بذلك وبأنه قد نظر في علوم اللسان، فغلب على ظنه أن هذا اللفظ يدل على هذا المعنى. فهل يُعدُّ هذا تقليدًا أو لا؟ أوجه: الأول: أنه تقليد أُبيح للضرورة، وهو قضية كلام الأستاذ السوركتي، وهو الظاهر. الثاني: أنه ليس تقليدًا، وإنما هو من باب العمل بالرواية، وعليه كلام الشوكاني، ويَرِدُ عليه أن شرط الرواية استنادها إلى القطع، فلا يكفي قول الراوي: أحسب أن فلانًا حدّثني، إلّا أن يقال: إنه هنا جاز العمل بها للضرورة. ويمكن في المسألة قولٌ ثالث، وهو أن يقال: إن الثالث إنما يعمل بالدليل الذي رواه له المجتهد، ويسقط عنه البحث والمراجعة، لأن الأصل العدم. وأما الثاني فيشترط أن يخبره بدليل الاستنباط، فيعمل هو في ثبوت الاستنباط بذلك الدليل، ثم يعمل بذلك الاستنباط، ويسقط عنه البحث عما يخالفه، لأن الأصل العدم. وأما الأول فيشترط في حقّه أن يخبره بدليل دلالة اللفظ، فيعمل هو في ثبوت تلك الدلالة بذلك الدليل، ويسقط عنه البحث عما يخالفه، لأن الأصل العدم، ثم يعمل بذلك الدليل في تلك المسألة، ويسقط عنه البحث

كما مرَّ. ويَرِدُ عليه أن الاستناد إلى كون الأصل العدم لا يكفي عن البحث كما في المجتهد. ويُجاب بأنه اكتُفي به هنا للضرورة (¬1). * قال المقلِّدون: إنا نراكم قد عُدتم إلى قولنا راغمين، فإنكم احتجتم إلى الرجوع إلى المجتهد وسؤالِه، وأوجبتم العملَ بقوله، وهذا هو التقليد بعينه. [ص 56] * قال المانعون: كلَّا، ما كان لنا أن نعود إلى قولكم بعدَ إذ تبيَّن لنا بطلانُه، والفرق بين الأمرين واضح. وذلك أنكم تقولون: إذا سأل القاصرُ المجتهدَ كفى المجتهد أن يجيبه بقوله: الحكم كذا أو كذا، بدون أن يخبره بدليله. وأما نحن فنقول: إن سؤال القاصر للمجتهد إنما هو سؤال عن حكم الله تعالى، لا عن الرأي المحض، وحينئذٍ فالواجب على المجتهد أن يذكر له الدليل من كتاب الله تعالى وسنة رسوله. وعلى هذا كان عمل السلف ¬

_ (¬1) ذكر المؤلف هذا الموضوع بصيغة أخرى في صفحة، ونصها: "إن الرواية بالنفي شرطها أيضًا القطع، وهذا غير قاطعٍ بإخباره بأنه قد راجع ونظر، إذ لا يلزم من عدم الوجدان عدمُ الوجود، فقد يكون هنالك مخالف لم يُوفَّق لفهمه، لهذا لا يمكنه أن يقطع بالنفي بأن يقول: ليس في كتاب الله تعالى ما يخالف هذا، ولذلك لا يجوز للمجتهد أن يستند إلى مثل هذه الرواية. ومع ذلك فقد يكون دليل الاستنباط ودليل دلالة اللفظ غامضًا يتعذّر على العامي فهمه. نعم قد يقال: نسلِّم أن الرواية فيما ذُكر غير مستجمعة للشروط، ولكنه جاز العمل بها للضرورة".

الصالح أهل القرون الثلاثة. قال الشوكاني في رسالته "القول المفيد" (¬1) ما لفظه: "لا نطلب من كل فردٍ من أفراد العباد أن يَبلغ رتبة الاجتهاد، بل المطلوب هو أمرٌ دون التقليد، وذلك بأن يكون القائمون بهذه المعايش والقاصرون إدراكًا وفهمًا كما كان عليه أمثالهم في أيام الصحابة والتابعين وتابعيهم، وهم خير القرون ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، وقد عَلِمَ كلُّ عالم أنهم لم يكونوا مقلدين، ولا منتسبين إلى فردٍ من أفراد العلماء، بل كان الجاهل يسأل العالم عن الحكم الشرعي الثابت في كتاب الله تعالى أو سنة رسوله صلَّى الله عليه وآله وسلم، فيفتيه به ويرويه له لفظًا أو معنًى، فيعمل بذلك من باب العمل بالرواية لا بالرأي، وهذا أسهل من التقليد، فإن تفهُّم دقائق علم الرأي أصعب من تفهُّم الرواية بمراحل كثيرة ... " إلخ. * قال المقلِّدون: الكلام معكم في مقامين: الأول: قولكم "بل المطلوب ... " إلخ، إن أردتم أنه يلزم عوامَّ اليوم أن يشتغلوا بطلب العلم حتى يساووا عوامَّ الصحابة والتابعين، فهذا هو المشقة التي لأجلها عدلتم عن القول بوجوب بلوغ رتبة الاجتهاد، بل المجتهد اليوم لا يستطيع أن يبلغ هذه الدرجة، لأن عوامَّ ذلك القرن كانت علوم اللسان جميعها ملكةً لهم بدون طلبٍ ولا تكلف. وإن أردتم أن يكونوا بحيث إذا فُسِّرت لهم الآية من كتاب الله تعالى تفسيرًا بلغتهم أو تُرجِم لهم الحديث فهموه، فالناس جميعًا هكذا. ¬

_ (¬1) (ص 14).

ولكنه ينشأ من هنا المقامُ الثاني، وهو أنه لا يكفي فهم الآية من كتاب الله تعالى أو فهم الحديث في معرفة الحكم، وذلك أن حصول المعرفة المعتبرة متوقف على أمور كثيرة، مثالُه الحديث المختلَف في حسنه، الدالُّ على حكمٍ من الأحكام دلالةً مختلَفًا فيها، المعارَضُ بحديثٍ آخر معارضةً مختلَفًا في الترجيح فيها، مع إمكان أن يكون [في الكتاب أو السنة] (¬1) [ص 57] ما يخالفه بنسخٍ أو تخصيصٍ أو تقييد أو تأويلٍ أو غير ذلك. فالمجتهد مُلزَمٌ بالنظر في أمورٍ: منها: النظر في وجوب العمل بخبر الآحاد، ويحتاج في هذا إلى اجتهاد مستقل. ثم النظر في رُواته واحدًا واحدًا، ويحتاج في هذا إلى اجتهاد آخر. ثم النظر إلى دلالته، ويحتاج فيها إلى اجتهاد ثالث بالنظر في علوم اللسان لمعرفة كيفية الدلالة وكونها معتبرة. ثم إلى اجتهاد رابع بالنظر في الكتاب والسنة، هل تلك الدلالة معتبرة شرعًا أم لا؟ ثم إلى اجتهاد خامس بمراجعة الكتاب والسنة، هل فيهما ما يخالف ذلك من ناسخ أو مخصص أو غيره مما مرّ. ثم يحتاج إلى اجتهاد سادس، وهو النظر في الترجيح عند وجود المعارض. ¬

_ (¬1) تآكل في طرف الورقة أتى على عدّة كلمات، ولعلها ما أثبت.

وقد يعرض في الحكم الواحد أبحاث أكثر من هذه، كلٌّ منها يستدعي اجتهادًا خاصًّا. ولنفرضْ أن قاصرًا سألَ مجتهدًا عن الماء الذي وقعت فيه نجاسة، فإن المجتهد يحتاج إلى النظر في عدة أدلة من الكتاب والسنة، منها قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48]، وقوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11]، ومن السنة كحديث "الصحيحين" (¬1): "لا يبولنَّ أحدكم في الماء الراكد الدائم الذي لا يجري، ثم يغتسل فيه". وفي روايةٍ لمسلم (¬2): "لا يغتسِلْ أحدكم في الماء الدائم وهو جُنُبٌ" قالوا: كيف يفعل يا أبا هريرة؟ قال: يتناوله تناولًا. وحديث "السنن" (¬3) عن ابن عمر قال: سُئل رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم عن الماء يكون في الفلاة من الأرض وما ينوبه من الدوابّ والسباع، فقال: "إذا كان الماء قُلَّتينِ لم يحمل الخبث". وفي روايةٍ لأبي داود (¬4): "فإنه لا ينجس". وحديث "السنن" (¬5) أيضًا عن أبي سعيد الخدري قال: قيل: يا رسولَ ¬

_ (¬1) البخاري (239) ومسلم (282) من حديث أبي هريرة. (¬2) رقم (283) من حديث أبي هريرة أيضًا. (¬3) أخرجه أبو داود (63، 64) والترمذي (67) والنسائي (1/ 46) وغيرهم. (¬4) رقم (65). (¬5) أخرجه أبو داود (66) والترمذي (66) والنسائي (1/ 174). وقال الترمذي: حديث حسن.

الله! أنتوضأُ من بئر بُضاعة؟ وهي بئرٌ يُلقَى فيه الحِيَض ولحوم الكلاب والنتن، [ص 58] فقال رسول صلَّى الله عليه وآله وسلم: "إن الماء طهورٌ لا يُنجِّسُه شيء". وحديث "السنن" (¬1) عن كبشة بنت كعب بن مالك أن أبا قتادة دخلَ عليها، فسكَبَتْ له وَضوءًا، فجاءت هرَّة تشرب منه، فأصغَى لها الإناءَ حتى شربت. قالت كبشة: فرآني انظر إليه فقال: أتعجبينَ يا ابنةَ أخي؟ قالت: فقلت: نعم، فقال: إن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: "إنها ليست بنجسٍ، إنها من الطوَّافين عليكم والطوّافات". ونحوه عند أبي داود (¬2) من حديث عائشة. وحديث ابن ماجه (¬3) عن أبي سعيد أن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم سئل عن الحياض التي بين مكة والمدينة تَرِدُها السباع والكلاب والحُمر، عن الطهر منها. فقال: "لها ما حملتْ في بطونها، ولنا ما غَبَرَ، طَهورٌ". وحديث "الصحيحين" (¬4) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلَّى الله ¬

_ (¬1) أخرجه مالك في "الموطأ" (1/ 22، 23)، ومن طريقه أبو داود (75) والترمذي (92) والنسائي (1/ 55) وابن ماجه (367). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. (¬2) رقم (76). (¬3) رقم (519). قال البوصيري في "الزوائد": في إسناده عبد الرحمن [بن زيد بن أسلم]، قال فيه الحاكم: روى عن أبيه أحاديث موضوعة. قال ابن الجوزي: أجمعوا على ضعفه. وأخرجه أيضًا الدارقطني (1/ 31) والبيهقي (1/ 258). (¬4) البخاري (172) ومسلم (279).

عليه وآله وسلم: "إذا شربَ الكلبُ في إناء أحدكم فليغسِلْه سبعَ مرات". وفي روايةٍ لمسلم (¬1) قال: "طهور إناء أحدكم إذا وَلَغَ فيه الكلبُ أن يَغسِلَه سبعَ مراتٍ، أولاهن بالتراب" وغير ذلك. أما الآية الأولى فيحتاج إلى مراجعة اللغة ليعرف معنى الطهارة، ثم مراجعة التصريف ليعرف صيغة "طَهور"، ثم مراجعة علم البلاغة لمعرفة إطلاق "فَعُول" الذي يقتضي المبالغة في الفعل على الماء الذي لا يمكن فيه ذلك، إذ معنى "فلانٌ شَرُوبٌ للَّبَن" أنه يُكثِر ما يشربُه مرةً بعد أخرى، فقياس لفظ "طَهور" أنه يَكثر ما يَطهُرُ مرةً بعد أخرى، وهذا المعنى غير ظاهر، فقال بعضهم: حيث لم يمكن حملُه على كثرة العدد في الفعل الذي هو الحقيقة تعيَّن حملُه على المجاز، وهو أن يُراد القوة في الفعل، بمعنى أن طهارته قويَّة، وذلك أنه طاهر في نفسه ويُطهَّر غيره، بخلاف سائر الأشياء. وقال آخرون: بل يُحمل على كثرة العدد في التطهير، أي أنه يُطهّر مرةً بعد أخرى. ويحتاج المجتهد ها هنا إلى القوة في هذه العلوم حتى يتمكن من الترجيح. ثم بعد ذلك مراجعة الكتاب والسنة لمعرفة الطهارة في عُرف الشرع، ثم مراجعة كتب اللسان وأصول الفقه لينظر هل وَصْف الماء بالطهورية يقتضي أن لا ينجس بمجرد الملاقاة أو لا يقتضي. وبعد أن يقرر ذلك يحفظه، فينظر في الآية الثانية على نحو مما مضى، فإذا تقرر له فيها حكمٌ حفظه أيضًا. ثم ينظر في غير ذلك من الآيات التي يمكن أن يكون فيها دلالةٌ على المسألة، بأن ينظر في كل آية نظرًا خاصًّا على نحو ما تقدم، ثم يحفظ ما تقرَّر ¬

_ (¬1) رقم (279/ 91).

له منها. [ص 59] ثم ينظر في الحديث الأول على نحو ما تقدم، حتى يُقرِّر هل فيه دلالةٌ على أن الماء ينجس أو لا؟ وما تقرَّر له في ذلك حفِظَه. ثم يَعمِدُ إلى حديث القلَّتين، فينظر أولًا في إسناده، فإن ظهر له أنه صالح للاحتجاج به نظر فيه على نحوٍ مما تقدم. ونظر في الآثار تحديدَ القلتين، ونظر هل فيه دلالة على أن ما دونهما يتنجس بمجرد الملاقاة أو لا؟ وما تقرر له في ذلك حفظه. ثمَّ وجَّه نظره إلى حديث بئر بضاعة على نحو ما ذُكِر، وهل فيه دلالةٌ على أن الماء لا ينجس أو لا؟ وما تقرر له منه حفظه أيضًا. ثم في حديث أبي قتادة على نحو ذلك، وهل في قوله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "إنها ليست بنجس" دلالةٌ على أن الماء ينجس بمجرد الملاقاة أو لا؟ ثم في حديث أبي سعيد على المنوال المذكور، وهل في قوله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "لها ما حملت في بطونها، ولنا ما غَبَرَ، طهور" دلالةٌ على أن الماء لا ينجس أو لا؟ ويحفظ ما تقرر له. ثم في حديث "الصحيحين": "إذا شرب الكلبُ ... " إلخ، وهل فيه في دلالةٌ على أن الماء ينجس بمجرد الملاقاة أو لا؟ ويحفظ ما ظهر له. ثم ينظر في غير ذلك من الأحاديث التي يمكن أن يكون فيها دلالة على المسألة على السبيل المشروح. وبعد استيفاء الأدلة جميعًا ينظر ما بين المحفوظات، فيعمل بمقتضى اجتهاده، فيخصِّص عامَّها بخاصِّها، ويحمل مطلَقها على مقيَّدها، ويجمع بين المتعارضين منها. فإن لم يمكن الجمع نظرَ هل ثَمَّ دليلٌ على كون أحدهما منسوخًا، فإن لم يجد ذلك رجع إلى الترجيح، حتى يتقرر له وجهٌ واحدٌ هو الحكم الذي يجوز لك العمل به.

فأنتم ترون هذه المسألة التي كل أحدٍ مضطرٌّ إلى معرفتها كيفَ تشعَّبتْ واستصعبتْ، حتى لو تصدَّى عارفٌ لبسط النظر فيها وشرح الأدلة لتحصَّل من ذلك مؤلَّف مستقل. * قال المقلِّدون: إذا قُرِّر هذا، فما قولكم أيها المانعون في جواب المجتهد للسائل القاصر؟ هل يجب على المجتهد أن يجيب القاصرَ بجواب يُحصِّل له المعرفةَ التي حصَلتْ للمجتهد نفسه، حتى يتلو عليه القرآن من أوله إلى آخره، ويفسِّر له كلَّ آيةٍ أمكنَ أن تكون فيها أدنى دلالةٍ، ويسردُ له أحاديث السنة ويشرح له كلَّ ما أمكن أن يكون فيه أدنى دلالة، ويذكر له من كتب اللسان على نحو ما ذُكِر ... إلخ، أو لا يجب عليه ذلك؟ لا شكَّ أنكم لا تكلِّفون المجتهدَ ولا السائلَ هذه الشُّقَّةَ البعيدة التي أيسرُ منها تكليف القاصر أن يتعلَّم [ص 146] حتى يبلغ درجة الاجتهاد. وإن قلتم: إنه لا يجب عليه إلَّا أن يتلو عليه إحدى الآيتين إن ترجَّح له مدلولُها، أو أحد الأحاديث إن ترجَّح له مدلوله، ويُفسِّر له معناه، فيكون السائل عاملًا بالآية أو بالحديث. فنقول لكم: وهل يكفي في العمل بالكتاب والسنة هذا القدرُ؟ حتى لو عمدَ مجتهدٌ إلى آية أو حديث، فعمِلَ به بدون نظرٍ إلى ما يُوافقه أو ما يخالفه كفاه، ولو عمدَ قاصر إلى آيةٍ في كتاب الله تعالى فهمَ معناها أو حديثٍ كذلك جاز له أن يعمل به، بدون معرفة هل هو منسوخ أو لا، مخصصٌ أو لا، مقيَّدٌ أو لا، مؤوَّلٌ أو لا، والحديث حجةٌ أو لا ... إلخ، لا شك أنكم لا تجيزون ذلك، فنسألكم: ما هو الفرق بين الأمرين: العمل بعد سؤال

المجتهد حيث أخَّرتموه، والعمل بدون سؤاله حيث لم تُجيزوه؟ هل هو إلا إخبار المجتهد الذي يحصل به الظنُّ؟ هو هو ولا محالةَ، وعليه فذلك هو التقليد بعينه وإن أبيتم. * قال المانعون: أما المقام الأول فإننا نختار الشِّقّ الثاني، وهو أنهم أي عوامُّ اليوم يكونون بحيث إذا فُسِّرت لهم الآية من كتاب الله تعالى، أو تُرجم لهم الحديث بلغتهم، فهموا. على أنه قد تقدم في أول الرسالة أن تعلُّم العربية فرض عين على كل مسلم، ولكنه على كل حال أن العامي أو الأعجمي قبل تعلُّمه العربية محتاجٌ إلى التفسير بلغته. وأما المقام الثاني وإن أطلتم بما لا طائل تحته، [ص 161] فإنا وإياكم متفقون على أن الاجتهاد على المجتهد فرضُ عينٍ لقدرته عليه، وأنّ أخْذَ القاصر بقول المجتهد إنما هو للضرورة، لأنه لو كُلِّف الناس جميعًا بلوغَ رتبة الاجتهاد لضاعت المعايش والمصالح التي هي فروض كفاية، ولعظُمتِ المشقةُ، وعليه فإنه يسقط عن القاصرِ القدرُ الموجب للمشقَّة فقط. وليس من المشقَّة أن يسأل المجتهد عن حكم من الأحكام، فيُخبره المجتهد بالدليل، ويُفسِّره له، فيكون عاملًا بذلك الدليل بما فهمه منه. [ص 162] وقولنا: إنه يسقط عن المستفتي البحثُ والمراجعة، ولا يجب على المفتي أن يُبيِّن له جميعَ ما يتعلق بالبحث مما لا يبلُغه فهمُه، أولى من قولكم: إن للعامي في هذه الأعصار استفتاءَ فقيه مقلِّدٍ، فيُخبره الفقيه بما فهمه من كلام متأخري فقهاء مذهبه، ولا يلزمه أن يشرح له جميع ما يتعلَّق

بالبحث، فهذا الفقيه اجتهد في كلام متأخري فقهاء مذهبه، ومتأخرو فقهاء مذهبه إنما اجتهدوا في كلام مَن قبلَهم، والذين قبلَهم اجتهدوا في كلام من تقدمهم، وهكذا تسلسلت الاجتهادات حتى تصلَ الإمامَ المجتهد المطلق. فإن قلتم: إن هذا العامي بالصفة المذكورة مقلِّدٌ لذلك المجتهد المطلق صاحب المذهب، فأولى منه أن نقول: إن العامي المستفتي للمجتهد عامل بالدليل، لا مقلِّد لذلك المجتهد، وإنما عَمِلَ بقوله في نفي المعارض، وهذه رواية ظنية على النفي، جاز العمل بها للضرورة، مع موافقتها للأصل الذي هو عدم المعارض. وإن قلتم: إن العامي المستفتي للمقلِّد مقلِّد له، وهَلُمَّ جرًّا، فقد نسلِّم أن المستفتي للمجتهد قد يضطرُّ إلى نوع من التقليد للضرورة التي ذكرتموها، ولكن ما جاز للضرورة قُدِّر بقدرها، ولا يلزم من جواز الشيء للضرورة جوازه مطلقًا. وهذا بخلاف حال العامي المستفتي للفقيه المقلّد فإنه مقلّد له بلا ضرورة، لقدرته على سؤال المجتهدين وتحصيلِ علمٍ مقتبسٍ من الدليل. وكذلك المفتي في تقليده لمن قبله، والذين قبله في تقليدهم في بعض المسائل لمن قبلهم، وكذلك الذين قبلهم في تقليدهم لمن تقدمهم، وهكذا حتى يبلغ إلى الإمام. ولا يستوي البحران، فإن مستفتي المجتهد لم يُقلّده في المسألة من أصلها، فإننا نوجب أن يتلو عليه الآية أو يُخبره بالحديث، فهو إنما عمِلَ بتلك الآية أو بذلك الحديث، وإنما قلَّده في عدم المعارض ونحو ذلك للضرورة، على فرض تسليم أن ذلك تقليد.

[ص 163] وأما مستفتي المقلِّد فإنه قلَّده في المسألة من أصلها، مع أنه مثله مقلِّد، وليتَه كان مقلَّدًا فحسب، بل هو مقلِّد في المسألة من أصلها لمقلِّدٍ كذلك لمقلِّدٍ كذلك لمقلِّدٍ كذلك، وهَلُمَّ جرًّا. والفرق مثل الشمس ظاهر، فإن صاحبنا يذهب يعمل بتلك الآية التي تلاها عليه المجتهد وفهَّمه دلالتَها بقدر الإمكان، أو بالحديث كذلك على سبيل الرواية الصحيحة في المتن والترجمة، وقد غلب على ظنِّه أن تلك الدلالة صحيحة معتبرة لأمرين: الأول أن الأصل عدم المعارض، والثاني أن الظاهر عدم خطأ المجتهد في إخباره بذلك على سبيل الرواية الجائزِ العملُ بها للضرورة. وأما صاحبكم فإنه إنما يذهب يعمل بقول ذلك الفقيه، عالمًا أنه إنما أخبره بما فهمه من كلام مَن قبله، وأن الذين قبله إنما قالوا بما فهموه من كلام مَن تقدمهم، وهلمَّ جرًّا. فأيهما أولى بالحق وأقربُ إلى الدين؟ [ص 164] مع أن العمل بقول المفتي بدون أن يذكر دليله بدعة مخالِفةٌ لما كان عليه العمل في خير القرون، والتزام العمل بقولِ مفتٍ واحدٍ في جميع الأعمال بدعةٌ أخرى أشدُّ، فالأئمة الأربعة رحمهم الله إنما كانت فتواهم على عادة السلف، وهكذا من كان في زمانهم وبعده. نقل السيوطي في رسالته في الاجتهاد (¬1) فيما نقله عن ابن حزم ما ¬

_ (¬1) "الردّ على من أخلد إلى الأرض وجهلَ أن الاجتهاد في كل عصرٍ فرض" (ص 56 - 59) ولم أجد النصَّ في كتب ابن حزم المطبوعة.

لفظه: قد دل الكتاب والسنة وحَضَّا على النظر والاجتهاد وترك التقليد، ووجدنا أصحاب رسولِ الله صلَّى الله عليه وآله وسلم أوَّلَهم عن آخرهم ليس منهم أحدٌ أتى إلى من هو فوقه في القرب والسابقة والعلم، وأخذ قوله كله، فيقلِّده في دينه، بل رأيت كلَّ امرئٍ منهم يجتهد لنفسه. ثم بحثنا عن عصر التابعين، فوجدناهم على تلك الطريقة، ليس منهم أحدٌ أتى إلى تابعٍ أكبر منه أو إلى صاحبٍ، فتقلّد قوله كلَّه. وكذلك أتباع التابعين ليس منهم أحدٌ أتى إلى تابعٍ أو صاحبٍ أو فقيهٍ من أهل عصره أكبر منه، فأخذ بقوله كلَّه ولم يخالفه في شيء منه، ولا أمروا بذلك عاميًّا منهم ولا خاصيًّا. وهذه القرون المحمودة الثلاثة، فعلمنا يقينًا أنه لو كان أخذُ قول عالمٍ واحدٍ بأسْرِه فيه شيء من الخير والصواب ما سبقَهم إليه مَن حدثَ في القرون المذمومة، ولو كان ذلك فضيلةً ما سبقناهم إليها. وهذا العصر الثالث هو الذي كان فيه ابن جريج، وسفيان بن عيينة بمكة؛ وابن أبي ذئب، ومحمد بن إسحاق، وعبيد الله (¬1) بن عمر، وإسماعيل بن أمية (¬2)، ومالك بن أنس، وسليمان بن بلال، وعبد العزيز بن أبي سلمة، وعبد العزيز الدراوردي، وإبراهيم بن سعد بالمدينة؛ وسعيد بن أبي عَروبة، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد، ومعمر بن راشد، وأبو عوانة، وشعبة، وهمام بن يحيى، وجرير بن حازم، وهشام الدستوائي، وزكريا بن أبي زائدة، وحبيب بن الشهيد، وسوَّار بن عبد الله، وعبيد الله بن الحسن، ¬

_ (¬1) في الأصل: "عبد الله" مصحفًا. (¬2) في الأصل: "أبي أمية"، وهو خطأ. والتصويب من رسالة السيوطي.

وعثمان بن سليمان بالبصرة؛ وهشام بن بشر بواسط، وسفيان الثوري، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، [ص 165] والحسن بن يحيى (¬1)، وشَرِيك، وأبو حنيفة، وزهير بن معاوية، وجرير بن عبد الحميد، ومحمد بن خازم بالكوفة؛ والأوزاعي، وسعيد بن عبد العزيز (¬2)، والزبيدي، والقاضي حمزة بن يحيى، وشعيب بن أبي حمزة بالشام؛ والليث بن سعد، وعقيل بن خالد بمصر، كلهم على الطريقة التي ذكرت، ما منهم من أحدٍ أخذَ بقول إمامٍ ممن قبله، فقبِلَه كلَّه دونَ أن يردَّ منه شيئًا. ثم حدث بعدهم من اعتصم بهداهم وسلك سبيلَهم في ذلك، نحو: يحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، وبشر بن المفضّل، وخالد بن الحارث، وعبد الرزاق، ووكيع، ويحيى بن آدم، وحميد بن عبد الرحمن الرُّؤَاسي، والوليد بن مسلم، والحميدي، والشافعي، وابن المبارك، وحفص بن غياث، ويحيى بن زكريا بن أبي زائدة، وأبي (¬3) داود الطيالسي، وأبي الوليد الطيالسي، ومحمد بن [أبي] عدي، ومحمد بن جعفر، ويحيى بن يحيى النيسابوري، ويزيد بن هارون، ويزيد بن زريع، وإسماعيل ابن عُلَيّة، وعبد الوراث بن سعيد، وابنه عبد الصمد، ووهب بن جرير، وأزهر (¬4) بن أسد، وعفان بن مسلم، وبشر بن عمر، وأبي عاصم ¬

_ (¬1) كذا في الأصل تبعًا للمطبوعة، وصوابه: "الحسن بن حيًّ". راجع ترجمته في "سير أعلام النبلاء" (7/ 361). (¬2) في الأصل: "سعيد بن الضرير"، وهو خطأ، والتصويب من رسالة السيوطي. (¬3) في الأصل هنا وفي الموضع بعده: "أبو" سهو. (¬4) كذا تبعًا للمطبوعة، واستظهر الشيخ في الهامش أن صوابه: "بهز".

النبيل، والمعتمر بن سليمان، والنضر بن شميل، ومسلم بن إبراهيم، والحجاج بن منهال، وأبي عامر العقدي، وعبد الوهاب الثقفي، والفريابي، ووهب بن خالد، وعبد الله بن نمير، وغيرهم، ما من هؤلاء أحدٌ قلَّد إمامًا كان قبلَه. ثم تلاهم على مثلِ ذلك: أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبو ثور، وأبو عبيد، وأبو خيثمة، وأبو أيوب الهاشمي، وأبو إسحاق الفزاري، ومخلد بن الحسين، ومحمد بن يحيى الذهلي، وأبو بكر وعثمان ابنا أبي شيبة، وسعيد بن منصور، وقتيبة، ومسدَّد، والفضل بن دُكين، ومحمد بن المثنى، وبُندار، ومحمد بن عبد الله بن نمير، ومحمد بن العلاء، والحسن بن محمد الزعفراني، وسليمان بن حرب، وعارم (¬1) وغيرهم، وليس منهم من أحدٍ قلَّد رجلًا، وقد شاهدوا مَن قبلهم ورأوهم، فلم يروا أنفسَهم في سعةٍ من أن يُقلِّدوا دينَهم أحدًا منهم. [ص 166] ثم أتى بعدَ هؤلاء: البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، ومحمد بن سَنْجر، ويعقوب بن شيبة، وداود بن علي، ومحمد بن نصر المروزي، ومحمد بن جرير الطبري، وبقي بن مخلد، ومحمد بن عبد السلام الخُشَني وغيرهم، ما منهم أحدٌ أتى إلى إمامٍ قبلَه، فأخذ قولَه كلَّه فتديَّنَ به، بل كلُّ هؤلاء نهى عن ذلك وأنكره. ولم أجد أحدًا ممن يُوصَف بالعلم قديمًا وحديثًا يستجيز التقليد ولا يأمر به، وكذلك ابن وهب، وأشهب، وابن الماجشون، والمغيرة بن أبي ¬

_ (¬1) في الأصل: "عامر"، والتصويب من رسالة السيوطي.

فصل

حازم، ومطرِّف و [ابن] كنانة، لم يُقلِّدوا شيخهم مالكًا في كل ما قال، بل خالفوه في مواضع، واختاروا غيرَ قوله. وكذلك الأمر في زفر، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن، والحسن بن زياد، وبكار بن قتيبة، والطحاوي. وكذلك القول في المزني، وأبي عُبيد بن حَرْبويه، وابن خزيمة، وابن سُرَيج، فإن كلًّا منهم خالفَ إمامَه في أشياء، واختار فيها غير قولِه. ومِن آخر مَن أدركنا على ذلك شيخنا أبو عمر (¬1) الطلمنكي، فما كان يقلِّد أحدًا، وذهب إلى قول الشافعي في بعض المسائل. إلى كثيرٍ من سلفٍ وخلفٍ لو ذكرتهم لطال الخَطْب (¬2) بذكرهم. ثم أنشد لنفسه قصيدةً في الاجتهاد، وقال في آخرها: واهْرُبْ من التقليد فهو ضلالةٌ ... إنَّ المقلِّد في السبيلِ الهالكِ إلخ. [ص 167] فصل * قال المانعون: وهَبْ أنه لا فرقَ بين أن يجيب المجتهد سائلَه بتلاوة الآية أو رواية الحديث، وأن يُجيبه بذكر الحكم مجردًا عن الدليل، فإنكم لم تقفوا عند هذا، بل جاوزتموه إلى ما هو أبعدُ، وهو تقليد الميت، وقد نقل الغزالي في "المنخول" (¬3) إجماعَ أهل الأصول على عدم جواز تقليد ¬

_ (¬1) في الأصل: "أبا عمر". (¬2) في الأصل: "الخطاب". والتصويب من رسالة السيوطي. (¬3) (ص 480).

الميت، نقله الشوكاني في "إرشاد الفحول" (¬1)، وحكى عن الرازي في "المحصول" (¬2)، ولفظه المنقول: فإن حكى عن ميت لم يجزْ له الأخذُ بقوله، لأنه لا قولَ للميت، لأن الإجماع لا ينعقد على خلافه حيًّا، وينعقد على موته، وهذا يدلُّ على أنه لم يبقَ له قولٌ بعد موته. فإن قلتَ: لِمَ صُنِّفتْ كتب الفقه مع فناء أربابها؟ قلتُ: لفائدتين: إحداهما: استفادة طُرق الاجتهاد من تَصرُّفِهم في الحوادث، وكيف بُني بعضُها على بعض. والثانية: معرفة المتفق عليه من المختلف فيه، فلا يُفتى بغير المتفق عليه. انتهى. ثم قال الشوكاني (¬3): وفي كلامه هذا التصريحُ بالمنع من تقليد الأموات. قال الروياني في "البحر" (¬4): إنه القياس، وعلَّلوا ذلك بأن الميت ليس من أهل الاجتهاد، كمن تجدَّد فسقُه بعد عدالتِه، فإنه لا يبقى حكمُ عدالته، وإما لأن قوله وصفٌ له، وبقاء الوصف بعد زوال الأصل محالٌ، وإما لأنه لو كان حيًّا لوجب عليه تجديدُ الاجتهاد، وعلى تقدير تجديده لا يتحقق بقاؤه على القول الأول، فتقليده بناءٌ على وهمٍ أو تردُّدٍ، والقولُ بذلك ¬

_ (¬1) (2/ 1097). (¬2) (6/ 70، 71). (¬3) "إرشاد الفحول" (2/ 1097). (¬4) انظر "البحر المحيط" للزركشي (6/ 298)، ففيه نقل كلام الروياني في "البحر".

غير جائز. اهـ. ثم حكى قولَ المجيزين، قال (¬1): واحتجَّ بعضُ أهل هذا القول بانعقاد الإجماع في زمنه على جواز العمل بفتاوى الموتى. قال الهندي (¬2): وهذا فيه نظر؛ لأن الإجماع إنما يُعتبر من أهل الحلّ والعقد، وهم المجتهدون، والمجمعون ليسوا بمجتهدين، فلا يُعتَبر إجماعُهم بحالٍ. ثم نقل عن ابن دقيق العيد كلامًا ظاهره موافقة المجيزين، وردَّه (¬3). والحاصل أن المقلدين قاطبةً يلتزمون حجيةَ الإجماع، فما بَقي إلّا أن يُنظَر في الإجماع الذي ذكره عن الغزالي، فان كان مستوفيًا للشروط على مذاهب المقلدين فقد لزِمَتْهم الحجةُ به، وإلّا فلا. فنقول أولًا: هذا الإجماع حكاه الغزالي، فهل حكاية لذلك كافيةٌ في إثباته؟ فنقول: قال في "إرشاد الفحول" (¬4): الإجماع المنقول بطريق الآحاد حجة، وبه قال الماوردي وإمام الحرمين والآمدي، ونُقِل عن الجمهور اشتراطُ عدد التواتر. وحكى الرازي في "المحصول" (¬5) عن الأكثر أنه ليس بحجة، فقال: الإجماع المروي بطريق الآحاد حجة [خلافًا] لأكثر الناس، لأن ظنّ ¬

_ (¬1) "إرشاد الفحول" (2/ 1098). (¬2) هو الصفي الهندي، انظر "البحر المحيط" (6/ 297). (¬3) "إرشاد الفحول" (2/ 1099). (¬4) (1/ 420). (¬5) (4/ 152).

وجوب العمل به حاصلٌ، فوجبَ العملُ به دفعًا للضرر المظنون، ولأن الإجماع نوعٌ من الحجة، فيجوز التمسك بمظنونه كما يجوز بمعلومه، قياسًا على السنة. ولأنا بيّنا أن أصل الإجماع فائدته ظنية، فكذا القول في تفاصيله. انتهى. وبهذا يظهر أن الراجح حجيته عندهم. [ص 168] وثانيًا: هذا الإجماع منقول عن أهل الأصول فقط، فهل إجماعُهم وحدَهم كافٍ في هذه المسألة؟ فنقول: قال الشوكاني أيضًا (¬1): الإجماع المعتبر في فنون العلم هو إجماع أهل ذلك الفن العارفين به دونَ من عداهم، فالمعتبر في الإجماع في المسائل الفقهية قول جميع الفقهاء، وفي المسائل الأصولية قول جميع الأصوليين، وفي المسائل النحوية قول جميع النحويين، ونحو ذلك. ومَن عَدا أهل ذلك الفن فهو في حكم العوامّ، فمن اعتبرهم في الإجماع اعتبر غيرَ أهلِ الفن، ومَن لا فلا. وقال (¬2) في بحث اعتبار العامَّة في الإجماع بعد كلامٍ: قال الروياني في "البحر": إن اختصَّ بمعرفة الحكم العلماءُ، كنُصُبِ الزكوات، وتحريم نكاح المرأة وعمَّتها وخالتها، لم يُعتَبر وفاقُ العامّة معهم. وإن اشترك في معرفته الخاصة والعامة، كأعداد الركعات، وتحريم بنت البنت، فهل يُعتبر إجماع العوامّ معهم؟ فيه وجهان، أصحهما: لا يُعتبر، لأن الإجماع إنما يصحُّ عن ¬

_ (¬1) "إرشاد الفحول" (1/ 416). (¬2) المصدر نفسه (1/ 414، 415).

نظرٍ واجتهاد. والثاني: يعمُّ لاشتراكهم في العلم به. قال سليم الرازي: إجماعُ الخاصة هل يُحتاج معهم فيه إلى إجماع العامة؟ فيه وجهان، والصحيح أنه لا يُحتاج فيه إليهم. قال الجويني: حكم المقلِّد حكم العامّي في ذلك، إذْ لا واسطةَ بين المقلِّد والمجتهد. اهـ. فأقول: هذه المسألة التي هي تقليد الأموات مسألة أصولية قطعًا، وقد علمتَ مما نقلناه أن الراجح أن إجماع أهل كل فنٍّ على شيء من مسائله كافٍ في الحجية، بل إذا كانت المسألة مما يختصون بمعرفته كان إجماعهم فيها حجةً وفاقًا، كما هو قضية كلام الروياني. وثالثًا: قد زعم بعض المجيزين الإجماع في عصره على الجواز، ولا شك أن ذلك بعد إجماع الأصوليين الذي نقله الغزالي، فعلى فرض تسليم هذا الإجماع الثاني هل يكون ناقضًا للأول؟ فنقول: حكى الشوكاني أيضًا (¬1) في بحث الإجماع على شيء بعد الإجماع على خلافه: أن الجمهور على المنع. إلى أن قال: وحكى أبو الحسن السهيلي في "آداب الجدل" له في هذه المسألة أنها إذا أجمعت الصحابة على قول، ثم أجمع التابعون على قولٍ آخر، فعن الشافعي جوابان: أحدهما - وهو الأصحُّ -: أنه لا يجوز وقوعُ مثلِه، لأن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم أخبر أن أمته لا تجتمع على ضلالة (¬2). ¬

_ (¬1) "إرشاد الفحول" (1/ 405). (¬2) أخرجه ابن ماجه (3950) من حديث أنس بن مالك، وفي إسناده أبو خلف الأعمى =

والثاني: لو صحَّ وقوعه فإنه يجب على التابعين الرجوعُ إلى قول الصحابة. قال: وقيل: إن كلّ واحدٍ منهما حقٌّ وصوابٌ، على قولِ من يقول: إن كل مجتهد مصيب. وليس بشيء. انتهى. [ص 169] وبهذا تبيَّن لك أنه لو ثبت الإجماع الثاني لم يكن حجةً، بل الواجب الرجوع إلى الأول، ومع هذا فالإجماع الثاني عند من ادعاه إنما هو سكوتي، وهو ليس بحجة عند الإمام الشافعي وأحمد وغيرهما، صرَّح به الشافعي في "الأم" (¬1) في باب الأوقات التي يُكره فيها الصلاة. قال الشوكاني (¬2) في بحث الإجماع السكوتي والمذاهب التي فيه: الأول: أنه ليس بإجماع ولا حجة. قاله داود الظاهري وابنُه والمرتضى، وعزاه القاضي إلى الشافعي واختاره، وقال: إنه آخر أقوال الشافعي. وقال الغزالي والرازي والآمدي: إنه نصُّ الشافعي في الجديد: وقال الجويني: إنه ظاهر مذهبه. إلى أن قال (¬3): القول الحادي عشر: إنه إجماعٌ بشرط إفادة القرائنِ العلمَ بالرضا، وذلك بأن يوجد من قرائن الأحوال ما يدلُّ على رضا ¬

_ = متروك، وأخرجه ابن أبي عاصم في "السنة" (83) من طريق آخر، لكن فيه مصعب بن إبراهيم منكر الحديث. وله شواهد يرتقي بها إلى الحسن لغيره. (¬1) (10/ 109، 110 ضمن "اختلاف الحديث"). (¬2) "إرشاد الفحول" (1/ 399، 400). (¬3) المصدر نفسه (1/ 403، 404).

الساكتين بذلك القول. واختار هذا الغزالي في "المستصفى" (¬1). وقال بعض المتأخرين: إنه أحقُّ الأقوال، لأن إفادة القرائنِ العلمَ بالرضا كإفادة النطق، فيصير كالإجماع القطعي. القول الثاني عشر: إنه يكون حجةً قبل استقرار المذاهب لا بعدها، فإنه لا أثر للسكوت، لما تقرَّر عند أهل المذاهب من عدم إنكار بعضهم على بعضٍ إذا أفتى أو حكمَ بمذهبه، مع مخالفته لمذهب غيره. وهذا التفصيل لا بدَّ منه على جميع المذاهب. اهـ. أقول: وأنت خبيرٌ أنه لو ثبتَ وقوعُ الإجماع الثاني فإنه لا يكون إلّا سكوتيًا كما مرَّ، وليس هناك قرائن تدلُّ على الرضا، بل بالعكس إن القرائن تدلُّ على أن من كان يرى خلافَ ذلك يمنعه الخوف من المقلّدين الذين هم جمهور الناس وأرباب السَّطوة والأُبَّهة أن يبطشوا به، وقد وقع بعض ذلك، ومع ذلك فهو إنما وقع بعد استقرار المذاهب. هذا على سبيل التنزل، وإلّا فلم يزل في كل عصرٍ جماعةٌ من العلماء يمنعون التقليد رأسًا، فدعوى الإجماع الثاني ساقطة من أصلها. فإن قلت: قد سلَّمتم أن القاصر قد يضطر إلى نوع من التقليد، وهو في العمل بإخبار المجتهد بعدم المعارض للدليل الذي يُبينه له، وإذَنْ فهذا النوع من التقليد لم يزل موجودًا منذ العصر الأول، ولا يخفى أن القاصر منهم كان يستفتي المجتهدَ فيُفتيه، ويلزم في ذلك هذا النوع من التقليد. ثم إن ذلك القاصر يذهب يعمل بتلك الفتوى طولَ عمرِه، ولم يُنقَل أن أحدًا من ¬

_ (¬1) (1/ 191).

المجتهدين أمرَ مستفتيه أن لا يعمل بفتواه إلّا مدةَ حياته، فإذا ماتَ استفتى غيرَه، بل هذا مما لا ريبَ في عدمه، فهو إجماعٌ أرجح من الإجماع [ص170] الذي نقلتم عن الغزالي. بل فوقَ ذلك لم يكن كلَ أحدٍ من أهل البوادي يذهب يستفتي المجتهدَ رأسًا، بل كان يذهب بعضهم فيستفتي أحدَ المجتهدين، ثم يرجع فيُخبر أهلَه وجيرانَه وغيرهم، فيعملون بمقتضاها، وربما أخبر أولادَه فأخبروا أولادهم، واتصل العمل بذلك زمنا طويلًا. وعلى هذا كان العمل في تلك العصور. فالجواب أولًا: أننا أسلفنا أن أخْذَ القاصر بقول المجتهد في عدم المعارِض إنما هو من العمل بالرواية، غاية ما فيه أنها رواية لا يجوز العمل بمثلها إلا للضرورة، وعلى هذا فلا تقليدَ هناك، فعملُ القاصر بذلك بعد وفاةِ المجتهد ليس من تقليد الميت في شيء، كما أن عمله بذلك في حياته ليس في شيء من تقليد الحي. ثم إن عمل غيره من أهله وجيرانه بما أخبرهم به إنما هو عملٌ بالرواية، فهو يذكر لهم ما ذكره له المجتهد من الآية وتفسيرها، أو الحديث وترجمته على سبيل الرواية الصحيحة، ثم يذكر لهم إخبارَ المجتهد له أنه لا معارضَ لذلك على سبيل الرواية الجائزة للضرورة، فيجوز لهم العمل بروايته الصحيحة والاضطرارية، كما جاز له العمل برواية المجتهد كذلك. فإن أبيتم إلّا تسمية العمل الاضطراري بهذه الرواية تقليدًا فقد أسلفنا أننا قد نسلِّم ذلك، ولكنه لا يلزم من جواز هذا النوع من التقليد اضطرارًا جواز مطلق التقليد. وهكذا نقول هنا: لا يلزم من جواز هذا النوع من تقليد الميت جوازُ مطلق التقليد.

ولا يقدح هذا في الإجماع الذي نقله الغزالي، لأن كلامه في التقليد المطلق، أي في العمل بمجرد إخبار المجتهد بدون معرفة دليله، وفي هذا دليل واضح على أن أهل الأصول لم يكونوا يعتبرون عملَ القاصر بإخبار العالم بعدمِ المعارض تقليدًا، وإلّا لم يُطلِقوا القولَ بمنع تقليد الميت بإجماعٍ منهم، وهذا هو عينُ ما قدَّمناه أن ذلك إنما هو نوع من الرواية يجوز العمل بها للضرورة. * قال المانعون: ولم تقفوا عند هذا، بل أوجبتم التزامَ مذهب إمام معين، وهذا مع عمل القرون الثلاثة في طرَفيْ نقيض، وإنما قاله من قاله لِمَا التزمه من جواز التقليد المطلق، فرأى أن العامي مُعرَّضٌ لتتبع الرخص وللتلفيق، فاحترز بإلزامه مذهبًا معينًا، على خلافٍ بينهم [ص 171] يطول شرحُه. حتى إن بعضهم أجاز تتبُّعَ الرخص مطلقًا وكذلك التلفيق، وفي المثل: "لا يَلِدُ الغلطُ إلا غلطا". ما على فاهم الحق من عدم إباحة التقليد المطلق، بل يجب على العامي سؤال المجتهد، فإنه لا يريد تتبع الرخص، فإن اتفقت له رخصة فهو لم يقصدها عينًا. فإذا كان هناك عدة مجتهدين، فذهب العاميُّ فسأل كلَّ واحدٍ منهم، وعرفَ دليله، فوجدها متعارضة، فالواجب عليه الترجيح بين الأدلة إن اتَّسع عقلُه لذلك، وإلّا فبيْنَ المفتين بالعلم فالورع ونحو ذلك بقدر ما يفهمه. هذا إن ذهب فاستفتى كلَّ واحدٍ منهم، أما إذا اكتفى بسؤال واحدٍ منهم وهو الأولى له، فإنه يعمل بفتواه، وإن بلغَه أن غيره - ولو أرجح منه - يخالفه في ذلك. وأما التلفيق فإنه لا محذور فيه لإجماع أهل القرون الأولى على عدم

التزام مفتٍ واحدٍ، بل تَعرِض لأحدهم مسألة في نواقض الوضوء كخروج الدم، فيذهب فيستفتي أحدَ العلماء فيُفتِيه بأنه لا ينقُض، ثم تَعرِض له مسألة في مسّ الفرج، فيذهب فيستفتي عالمًا آخر، فيُفتيه بعدم النقض، فيذهب فيتوضأ ويخرج منه دمٌ، فلا يعتبره ناقضًا بناءً على فتوى الأول، ويمسُّ فرجَه ولا يعتبره ناقضًا بناءً على فتوى الثاني، ويُصلِّي بذلك الوضوء مع أنه قد يكون المفتي الأول يرى النقضَ بمس الفرج، والثاني يرى النقض بخروج الدم. فكان جميع القاصرين في تلك الأزمنة معرَّضين للتلفيق كما ترى، والصحابة رضي الله عنهم والتابعون ومَن بعدهم من جميع العلماء لا يجهلون ذلك. ولم يكن أحدٌ منهم يُلزِم العاميَّ أن لا يستفتي إلاَّ مفتيًا واحدًا، ولم يكن أحدٌ منهم يُلزِمُ العاميَّ إذا جاء يستفتيه عن شيء من نواقض الوضوء أن يسمع منه جميع المسائل المتعلقة بنواقض الوضوء، فضلاً عن بقية أحكام الوضوء، فضلًا عن الصلاة، وهذا يقتضي إجماعَهم على أنه لا حرجَ في التلفيق. وإذا تأملتَ ما قدّمناه من أن المستفتي ليس مقلِّدًا للمفتي في شيء، وإنما هو عاملٌ بالدليل، اتضح لك أنه لا معنى لخشية التلفيق، لأنه في حكم المجتهد إذا أداه اجتهادُه إلى صورةٍ ملفَّقةٍ من مذهبَيْ مجتهدين ممن قبله، ولا حرجَ في ذلك اتفاقًا، فكذا هذا. نعم، وكما أن الإجماع المذكور حجة واضحة [ص 172] في عدم الحرج في التلفيق على الصفة المذكورة، فهو حجة على عدم الحرج في التلفيق حتى تتركَّب صورةٌ مُجمَعٌ على منعها. وهذا ظاهر أنهم كانوا يعتبرون كل جزئية من الجزئيات حكمًا مستقلًّا، فكما أن المجتهد قد يؤدِّيه اجتهاده إلى حكم من أحكام الصلاة يخالف بعضَ المجتهدين ممن قبلَه ويوافق بعضهم، ويؤديه اجتهاده إلى حكم من أحكام

الصيام يخالف فيه من وافقه في الأول ويوافق من خالفَه فيه، فإنه يعمل بما أدَّى إليه اجتهاده، ولا عبرةَ بكونه يتركَّب من عبادته صورة مخالفةٌ للإجماع. وهكذا في الصلاة والوضوء، وهكذا في بعض أحكام الوضوء مع بعض. فكذلك يقال في المستفتي، وإنما يحذر مخالفة الإجماع إذا كان في جزئية واحدة. فتأمَّلْ هذا، فإنه واضح، والله أعلم. وفوق ما ذُكِر فإنكم حكمتم بانقطاع الاجتهاد، وقد حكى في "إرشاد الفحول" الخلاف في ذلك، حتى قال (¬1): وقالت الحنابلة: لا يجوز خلوُّ العصر عن مجتهدٍ، وبه جزم أبو إسحاق والزبيري، ونسبه أبو إسحاق إلى الفقهاء. قال: ومعناه أن الله تعالى لو أخلى زمانًا من قائم بحجةٍ زال التكليف، إذ التكليف لا يثبت إلا بالحجة الظاهرة، وإذا زال التكليف بطلت الشريعة. قال الزبيري: لن تخلُوَ الأرضُ من قائمٍ لله بالحجة في كل وقتٍ ودهرٍ وزمانٍ، وذلك قليل في كثير، فأما أن يكون غير موجودٍ كما قال الخصم فليس بصواب، لأنه لو عُدِمَ الفقهاء لم تَقُم الفرائضُ كلُّها، ولو عُطِّلت الفرائضُ كلها لحلَّتِ النقمةُ بالخلقِ، كما جاء في الخبر: "لا تقوم الساعةُ إلّا على شِرار الناس" (¬2). ونحن نعوذ بالله أن نُؤخَّر مع الأشرار. انتهى. قال ابن دقيق العيد: هذا هو المختار عندنا، لكن إلى الحدّ الذي ينتقض به القواعد بسبب زوالِ الدنيا في آخر الزمان. ¬

_ (¬1) (2/ 1037). (¬2) أخرجه مسلم (2949) من حديث ابن مسعود.

وقال في شرح خطبة "الإلمام" (¬1): والأرض لا تخلو من قائمٍ لله بالحجة، والأمة الشريفة لا بدَّ لها من سالكٍ إلى الحقّ على واضح المحجة (¬2)، إلى أن يأتي أمرُ الله في أشراط الساعة الكبرى. انتهى. وما قاله الغزالي رحمه الله من أنه قد خلا العصرُ عن المجتهد، قد سبقَه إلى القول به القفَّال، ولكنه ناقَضَ ذلك فقال: إنه ليس بمقلِّدٍ للشافعي، وإنما وافقَ رأيُه رأيَه, كما نقلَ ذلك عنه الزركشي (¬3)، وقال: قول هؤلاء القائلين بخلوّ العصر عن المجتهد ممّا يُقضَى منه العجبُ، فإنهم إن قالوا ذلك باعتبار المعاصرين لهم فقد عاصر القفال والغزالي والرازي والرافعي من الأئمة القائمين بعلوم الاجتهاد على الوفاء والكمال جماعة منهم. [ص 173] ومن كان له إلمامٌ بعلم التاريخ، والاطلاعُ على أحوال علماء الإِسلام في كل عصرٍ، لا يخفى عليه مثلُ هذا، بل قد جاء بعدهم من أهل العلم مَن جمعَ الله له من العلوم فوقَ ما اعتدَّه أهلُ العلم في الاجتهاد. وإن قالوا ذلك لا بهذا الاعتبار، بل باعتبار أنَّ الله عزَّ وجلَّ رفعَ ما تفضَّل به على مَن قبلَ هؤلاء من هذه الأمة (¬4) من كمال الفَهم، وقوة الإدراك، والاستعداد للمعارف، فهذه دعوى من أبطل الباطلات، بل هي جهالةٌ من الجهالات. ¬

_ (¬1) يراجع "البحر المحيط" (6/ 208). (¬2) في الأصل: "الحجة" تبعًا للمطبوعة القديمة من "إرشاد الفحول"، والتصويب من الطبعة المحققة (2/ 1038) و"البحر المحيط". (¬3) المصدر السابق (6/ 208، 209). (¬4) في الأصل: "الأئمة" تبعًا للمطبوعة القديمة، والمثبت من الطبعة المحققة (2/ 1038).

وإن كان ذلك باعتبار تيسُّر العلم لمن قبل هؤلاء المنكرين وصعوبته عليهم وعلى أهل عصورهم، فهذه أيضًا دعوى باطلة، فإنه لا يخفى على من له أدنى فهمٍ أن الاجتهاد قد يسَّره الله تعالى للمتأخرين تيسيرًا لم يكن للسابقين، لأن التفاسير للكتاب العزيز قد دُوِّنتْ، وصارت في الكثرة إلى حدٍّ لا يُمكِن حصْرُه، والسنة المطهَّرة قد دُوِّنتْ، وتكلم الأئمة على التفسير والتجريح والتصحيح والترجيح بما هو زيادة على ما يحتاج إليه المجتهد. وقد كان السلف الصالح ومَن قبلَ هؤلاء المنكرين يرحلُ للحديث الواحد من قُطْرٍ إلى قُطر. فالاجتهاد على المتأخرين أيسرُ وأسهلُ من الاجتهاد على المتقدمين، ولا يخالف في هذا مَن له فهمٌ صحيح وعقلٌ سويٌّ. وإذا أمعنتَ النظر وجدتَ هؤلاء المنكرين إنما أُتُوا من قِبَلِ أنفسهم، فإنهم لما عكفوا على التقليد واشتغلوا بغير علم الكتاب والسنة حكموا على غيرهم بما وقعوا فيه، واستصعبوا ما سهَّله الله على من رزقه العلم والفهم، وأفاض على قلبه أنواعَ علوم الكتاب والسنة. ولما كان هؤلاء الذين صرَّحوا بعدم وجود المجتهدين شافعية، فها نحن نصرِّح لك مَن وُجِد من الشافعية بعد عصرهم ممن لا يخالف مخالفٌ في أنه جمعَ أضعافَ علوم الاجتهاد، فمنهم: ابن عبد السلام، وتلميذه ابن دقيق العيد، ثم تلميذه ابن سيد الناس، ثم تلميذه زين الدين العراقي، ثم تلميذه ابن حجر العسقلاني، ثم تلميذه السيوطي (¬1). فهؤلاء ستة أعلام، كلُّ ¬

_ (¬1) كونه تلميذ ابن حجر فيه نظر، فقد كان عمر السيوطي ثلاث سنوات عند وفاة الحافظ. وفي "شذرات الذهب" (8/ 52): أحضره والده مجلسَ الحافظ ابن حجر.

واحدٍ منهم تلميذُ مَن قبلَه، قد بلغوا من المعارف العلمية ما يَعرِفه مَن يعرف مصنَّفاتهم حقَّ معرفتها، وكلُّ واحدٍ منهم إمام كبير في الكتاب والسنة، محيطٌ بعلوم الاجتهاد إحاطةً متضاعفةً، عالمٌ بعلومٍ خارجةٍ عنها. ثم في المعاصرين لهؤلاء كثيرٌ من المماثلين لهم، وجاء بعدهم من لا يقصر عن بلوغ مراتبهم، والتعدادُ لبعضهم فضلًا عن كلَّهم يحتاج إلى بسطٍ طويل. وقد قال الزركشي في "البحر" (¬1) ما لفظه: لم يختلف اثنان في أن ابن عبد السلام بلغَ رتبةَ الاجتهاد، وكذلك ابن دقيق العيد. انتهى. و [حكاية] هذا الإجماع من هذا الشافعي [ص 174] يكفي في مقابلة حكاية الاتفاق من ذلك الشافعي الرافعي. وبالجملة، فتطويل البحث في مثل هذا لا يأتي بكثيرِ فائدة، فإن أمرَه أوضحُ من كلِّ واضح، وليس ما يقوله مَن كان من أُسَراء التقليد بلازمٍ لمن فتح الله عليه أبوابَ المعارف، ورزقه من العلم ما يخرج به عن تقليد الرجال، وما هذه بأولِ فاقرةٍ جاء بها المقلدون، ولا هي بأول مقالةٍ باطلةٍ قالها المقصِّرون. ومن حَصَر فضلَ الله تعالى على بعض خلْقِه، وقصَرَ فهمَ هذه الشريعة المطهرة على مَن تقدَّم عصرُه، فقد تجرَّأ على الله عزَّ وجلَّ، ثم على شريعته الموضوعة لكل عباده، ثم على عباده الذين تعبَّدهم الله بالكتاب والسنة. ويالله العجب من مقالاتٍ هي جهالاتٌ وضلالاتٌ، فإن هذه المقالة تستلزم رفعَ التعبد بالكتاب والسنة، وأنه لم يبقَ إلّا تقليد الرجال الذين هم ¬

_ (¬1) (6/ 209).

متعبدون بالكتاب والسنة كتعبد من جاء بعدهم على حدًّ سواء، فإن كان التعبد بالكتاب والسنة مختصًا بمن كانوا في العصور السابقة، ولم يبقَ لهؤلاء إلا التقليد لمن تقدَّمهم، ولا يتمكنون من معرفة أحكام الله من كتاب الله وسنة رسوله، فما الدليل على هذه التفرقة الباطلة والمقالة الزائفة؟ وهل النسخُ إلا هذا؟! سبحانك هذا بهتانٌ عظيم. انتهى (¬1). وقد نقلتُ هذا الكلام بطوله لما فيه من التحقيق النيِّر. وبعد، فلا يخفاك أن الحنابلة مُطبِقون على عدم خُلوِّ الأرض من مجتهد، وأكثر أصحابنا الشافعية معهم، وثَمَّ على وجه الأرض طوائفُ من المسلمين لم يزالوا ولا يزالون يقولون بدوام الاجتهاد، كالهادوية في اليمن وغيرهم، فما معنى حكاية الرافعي الاتفاق؟ مع أن عبارته غير جازمة بذلك، ولفظها كما في "إرشاد الفحول" (¬2): "الخلقُ كالمتفقين على أنه لا مجتهد اليوم". وذكر الشوكاني عقبهَا ما لفظه (¬3): قال الزركشي: ولعله أخذه من كلام الإمام الرازي، أو من قول الغزالي في "الوسيط": "قد خلا العصر عن المجتهد المستقل". قال الزركشي: ونقلُ الاتفاق عجيب، والمسألة خلافية بيننا وبين الحنابلة، وساعدهم بعضُ أئمتنا. اهـ. ومن تأمَّل ما شرطَه العلماء في المجتهد علم بطلان القول بخلوّ الزمان ¬

_ (¬1) أي كلام الشوكاني في "إرشاد الفحول" الذي بدأ باقتباسه قبل أربع صفحات. (¬2) (2/ 1036). (¬3) المصدر نفسه (2/ 1037). وانظر "البحر المحيط" (6/ 207).

عنه إلى انتقاض قواعده. وقد بيَّن السيوطي في رسالته "الرد على من أخلدَ إلى الأرض، وجهلَ أن الاجتهاد في كل عصرٍ فرض" أقوالَ هؤلاء الزاعمين أنه قد خلا الزمانُ من المجتهد، وأنهم إنما أرادوا المجتهد المستقل لا المجتهد المطلق، ولعله يأتي نقلُ ذلك إن شاء الله تعالى. [ص 175] ثم ظهر لي أن الإمام الغزالي رحمه الله مصيبٌ في قوله: "قد خلا العصر عن المجتهد المستقل"، وأراد بالمستقل من لا ينتسب إلى مذهبٍ من المذاهب، وهذا صحيح، فإن المذاهب الأربعة لما انتشرت واستفحل أمرها عَمَّ الانتسابُ إليها أكثرَ الناس، ثم صار تعليم العلم إنما هو على طرقها، فطالب العلم لا بدَّ أن يكون أبوه منتسبًا إلى أحدها، فيُرسِله إلى العلماء المنتسبين إلى مذهبه، فينشأ على ذلك المذهب، ويطلب العلم على طريقه، ثم إذا بلغ رتبةَ الاجتهاد لم تَزُلْ عنه تلك النسبة، وإن صار إنما يعمل باجتهاده ويخالف ذلك المذهب في كثير، وهو بنفسه لا يحبُّ أن تزول عنه النسبة خشيةً من الجهّال أن ينسبوه إلى الضلال، لا سيَّما والمناصب والمراتب اللائقة بأهل العلم قد صارت مختصَّةً بالمنتسبين إلى المذاهب، فيرى بقاءه منتسبًا ليتولَّى بعض تلك المناصب، فيأخذ منه ما يقتاتُه في مقابل معرفته بذلك المذهب إن كان الوقف خاصًّا ورأى صحته وصحة التخصيص، أو في مقابلِ قيامِه بتلك الوظيفة العلمية، أو غير ذلك. وهو مع ذلك يجتهد ويُصرِّح بمخالفته لمذهبه في مؤلفاته، وغير ذلك، ولكنه من حيث الاعتبار لا يزال في عداد أهل ذلك المذهب، فهو منتسبٌ على كل حال، وبهذا الاعتبار لا يُطلق عليه مستقل. وسائر المجتهدين في عصر الغزالي وقبلَه بكثير كلهم منتسبون على هذا.

فهذا مراد الغزالي في قوله: "إن العصر خلا عن المجتهد المستقل"، وإن لم يفهمها من جاء بعده، فبنى عليها انقطاع الاجتهاد، وكيف يُعقَل أن الغزالي يقول بانقطاع الاجتهاد وهو نفسه يجتهد في أصول الدين وأصول الفقه، وله فيهما المؤلفات العديدة، والناس فيهما عيالٌ عليه، والاجتهاد فيهما يُشتَرط له شروط الاجتهاد في الفروع بالأولى. ومع ذلك فهو القائل (¬1): إنه يكفي المجتهدَ من الحديث أن يكون عنده "سنن أبي داود"، ويكفيه أن يَعرِف مواقعَ كلّ بابٍ، فيراجعه وقتَ الحاجة. [ص 176] والحاصل أنهم فهموا أن "المستقلّ" في عبارته قيدٌ للاجتهاد المدلول عليه بقوله "المجتهد"، وأنه يريد المستقلّ في اجتهاده، أي المجتهد اجتهادًا مستقلًّا. والذي أراه أنه ليس بقيدٍ للاجتهاد، وإنما هو قيدٌ للشخص، أي الشخص الجامع بين الاجتهاد والاستقلال عن الانتساب، والذي رأيتُه هو المتعين جمعًا بين أقوال هذا الإمام، وعليه فقوله بمعزِلٍ عن انقطاع الاجتهاد، إذ الاستقلال في كلامه أمرٌ اعتباري، يكفي في وجوده أن يقوم أحد أولئك المجتهدين المعدودين في أتباع المذاهب، فيصرِّح باتصافه بالاجتهاد، ويُعلِن به على رؤوس الأشهاد، فيزول ذلك الانتساب اللفظي، ويصير مستقلًّا لفظًا ومعنًى. وإذ لم يقع هذا التصريح في عصره فما المانع أن يقع بعده؟ وليس من شرط المستقل أن لا يطلب العلم (¬2) على طريقة أحد المذاهب، بل يطلبه على طريق مستقلة، ومع ذلك فلا مانعَ من أن يوجَد من يطلب العلم على طريق مستقلة. ¬

_ (¬1) انظر "المستصفى" (2/ 351). (¬2) في الأصل: "العالم"، وهو سبق قلم.

وقد قيل: إن المراد بالمجتهد المستقل المنفيّ هو الذي يقوم بإنشاء مذهب جديد. وهذا أيضًا أمر اعتباري، فما المانع أن يُوجَد مجتهد ذو جاهٍ يكثُر تلامذتُه، فيؤسِّسون له مذهبًا؟ وحاول بعضهم أن يجعل الفرق بين "المستقلّ" المنفي في كلام الغزالي في "الوسيط"، و"المطلق" المعترف بوجوده (¬1)، [ص 177] وحاصلُه أن أحكام الشريعة فروع منتشرة، وإنما يتم الاجتهادُ فيها بضبطها بأصول وقواعد تُرَدُّ إليها وتُحمَل عليها، كقولهم: العام يُبنى على الخاصّ أو لا يبنى؟ المطلق يُحمَل على المقيَّد أو لا يُحمَل؟ وهكذا بقية الأصول المبيَّنة في أصول الفقه. فالأئمة السابقون قد تتبعوا الأدلة الشرعية واستقرأوها، ثم أصَّلُوا تلك الأصول، وجعلوا لكل أصلٍ عبارةً تدلُّ عليه صارت بعد ذلك حقيقةً عرفيَّةً، فمن فعلَ مثلَ ذلك كان مجتهدًا مستقلًّا. ولا شكَّ أن تلك الأصول والقواعد محصورة، وقد أتى عليها أولئك الأئمة. فالمجتهد اليوم لا يُمكِنه تأصيلُ أصلٍ لم يَسبِقُوه إليه، فهو عيالٌ عليهم في ذلك. وبهذا يتبيَّن أن العصر قد خلَا عن المجتهد المستقل، ليس لقصور الناس، بل لاستحالة أن يأتي أحدٌ بأصولٍ أخرى بعد أن استُغرِقت الأصول الممكنة. فالمجتهد في هذه العصور إذا اجتهد في بناء العام على الخاص، فإن ترجَّح له البناء فهو مذهب الشافعي، وإن ترجَّح له عدمُ البناء فهو مذهب أبي حنيفة، وهكذا في سائر الأصول. وهذا الفرق كما تراه اعتباريٌّ، وذلك أن الأئمة المتقدمين لم يأتوا بشيء ¬

_ (¬1) بعده بياض في الأصل في بقية الصفحة. والكلام متصل بما بعده.

من عندهم، بل ولم يعتبروا أصلًا لم يُسبَقُوا إلى اعتباره، ولو فعلوا ذلك - وحاشاهم - لكانوا من شِرار خَلْق الله تعالى. بل ولا يُحْوِج تأصيلُ تلك الأصول إلى استقراء، لأن لها دلائلَ خاصَّةً تدلُّ عليها، بخلاف الأصول اللغوية. مثاله: كون الحال منصوبًا بشرائط، فإن أئمة النحو إنما عرفوا ذلك باستقراء كلام العرب، وبعد الاستقراء جعلوا له هذا الضابط، وصار الناس بعدهم لا يتوصلون إلى معرفة اللغة إلّا بواسطة تلك الضوابط. بخلاف أصول الفقه، فإن منها ما هو مبني على العقل كالمجمل والمبيَّن، والعقل لا يحتاج إلى استقراء. ومنها ما هو مبني على اللغة، وهو لا يحتاج إلى استقراء، بل مَن عرفَ اللغة عرفَه، ومعرفة اللغة تحصُلُ بدون معرفة كلام الأئمة في أصول الفقه. فمن عرف علومَ اللغة عرفَ أن صيغة "افْعَلْ" أصلها للطلب الجازم، وتجيء لغيره بقرينةٍ عليه، وأن نحو {لَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] يدلُّ على النهي عن الضرب بالأولى، ونحو "في الغنم السائمة زكاةٌ" (¬1) يدلُّ على أن غير السائمة لا شيء فيها. وتعلُّم اللغة هذه الأزمان ليس موقوفًا على تعلُّم ما قرَّره الأئمة في أصول الفقه، بل على أصول علوم اللغة التي أصَّلَها غيرُهم. ومنها ما هو مبني على الشرع، وهذا لا يحتاج إلى استقراء، بل عليه ¬

_ (¬1) في كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصدقة: "في سائمة الغنم إذا كانت أربعين ففيها شاة ... ". أخرجه أبو داود (1567) وغيره. ونحوه في كتاب أبي بكر الصديق لأنس، كما رواه البخاري (1454).

دليلٌ خاصٌّ، كما يُستدَلُّ للقياس بقوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2]. [ص 178] فالأصول المبنية على الشرع لها أدلة خاصة تدلُّ على نفس الأصل، بخلاف الضوابط التي وضعها أئمة اللغة، فليس لها أدلة كذلك، وإنما كان أمامَهم كلمات العرب المنتشرة، فلم يتم لهم وضعُ تلك الضوابط إلّا باستقرائها. ولو فُرِض أن بعض الأصول تحتاج إلى استقراء الأدلة الشرعية، فالأدلة الشرعية في هذه العصور باقية مجموعة متيسِّرٌ الاطلاعُ عليها أكثر مما كان متيسِّرًا للأئمة السابقين، فاستقراء العالمِ لها اليومَ أتمُّ من استقرائهم، بخلاف الأصول اللغوية. وأما كون المجتهد اليوم إذا اجتهد في بناء العام على الخاص فلا بدّ أن يوافقَ أحدَ الإمامين، فهكذا الإمامانِ لكلٍّ منهما سلفٌ من الصحابة رضي الله عنهم، وإلّا لكان أحدهما خارقًا للإجماع. فلو قصرنا لفظ "المجتهد المستقل" على مَن لم يُسبَقْ إلى اعتبار ذلك الأصل لم يكن إلّا من الصحابة، بل والصحابة أيضًا لا بدَّ أن يكون لها سلفٌ من الكتاب والسنة، فلكلٍّ من المختلفين دليلٌ، وإن كان الحقُّ في نفس الأمر واحدًا، إلَّا أنَّ كلًّا منهما يرى الموافق للكتاب والسنة هو ما رآه. نعم، الأئمة السابقون انفردوا بجمع تلك الأصول في تآليفَ، وبيَّنوها وبيَّنوا دلائلَها من العقل واللغة والشرع، ووضعوا لكلَّ أصلٍ عبارةً تدلُّ عليه، فكانوا ينظرون في أدلة العقل والشرع واللغة أولًا، ثم يذكرون الأصلَ ويختارون له عبارةً تدلُّ عليه. والمجتهدون المتأخرون ينظرون في تلك الكتب أولًا، ثم ينظرون في أدلة العقل والشرع واللغة.

وأيضًا فالأئمة المتقدمون كانوا عارفين باللغة سليقةً، فلم يكونوا محتاجين إلى تعلُّم علوم اللغة على ما وضعه علماؤها. وعلى كل حال فالفرقُ كما قدَّمنا اعتباري. [ص 179] فإن جمعهم لتلك الأصول وبيان دلائلها وإن كانت مزيةً إلّا أنها لا تقتضي كونَ نظرهم في الأحكام أصوبَ من نظر المتأخرين، بل الأمر بالعكس، فإن في جَمْع المتقدمين لها وعنايتهم بها كابرًا عن كابرٍ [ما] يُقرِّب للمجتهد المتأخر المسافةَ، ويجَمعُ له المتشتِّت، فتكون الأدلةُ جميعًا نُصْبَ عينَيْه، وتجتمعُ له معارفُ الأولين جميعًا. وكذلك تعريفُهم تلك الأصول بعباراتٍ استحسنوها لا يَقدحُ في اجتهاد غيرِهم، بل الأمر بالعكس لما ذكرنا. وأما كونهم كانوا عارفين باللغة سليقةً ففيه نظرٌ، ومع ذلك فالمتأخر يتمكن من بلوغ درجتهم فيما يحتاج إليه الشرع من اللغة، بل ربما كان المتأخر أولى بذلك، فإن المتقدمين لم يكونوا عارفين بلغة العرب كلها على اختلافها، غايتُهم أن يَعرِفوا لغة أهل الأرض التي هم فيها، بخلاف المتأخرين، فإن أئمة اللغة جمعوا لهم سائر فروع اللغة كما هو معروف في كتبهم. وعلى كلّ حالٍ فهذه فروقٌ لا تُعتبر في الاجتهاد، ولنرجعْ إلى سياق كلام المانعين. * [ص 180] قال المانعون: ومع هذا كلِّه فإنكم أقمتم كلامَ أئمتكم مقامَ كلام الله تعالى وكلام رسوله في جعله أصلًا، يُؤخذ بظاهره وإيمائه وإشارته ومفهومه، ويُقاس عليه. وهكذا متأخرو أصحابِه يقيمون كلامَ مَن تقدَّمهم مقام كلام الله تعالى وكلام رسوله وكلام الإمام، وهكذا يتسلسل التقليد

طبقة بعد طبقة، مع الإعراض عن كتاب الله تعالى وسنة رسوله، فاختلط - ولا سيّما في كتب المتأخرين - كلامُ الإمام بكلام أصحابه فيما استنبطوه من كلامه بكلام مَن تبعَهم واستنبط من كلامهم، إلى آخر السلسلة. فكم من مسألةٍ ورد فيها حكمٌ عن الإمام، وصحَّ الدليلُ بخلافها، وعمل به غيرُه من الأئمة، فأعرض أصحابه عن الدليل وعملوا بكلامه، مع أنه كان لهم العملُ بالدليل وعدُّه من مذهب الإمام، لِمَا تواتَر عن الأئمة من قولِ كلٍّ منهم: "إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي" أو معناه. فإن لم تطمئن نفوسهم إلى هذا فكان لهم أن يُقلِّدوا في ذلك الحكم غيرَه من الأئمة المتفق عليهم. وكم من مسألةٍ لم يَرِدْ فيها عن الإمام نصٌّ، وحكمها في كتاب الله تعالى أو سنة رسوله واضح، وعمل به غيرُه من الأئمة (¬1) = لم يلتفت الأتباع إلى الدليل الشرعي بل استنبطوا حكمًا من كلام الإمام، ولم يعبأوا بموافقة (¬2) الدليل الشرعي ومن عَمِل به أو مخالفته. وكم من مسألةٍ لم يَرِد فيها عن الإمام ولا عن أصحابه شيء، ودليلُها في كتاب الله أو سنة رسوله، وأخذ به غيرُه من الأئمة، فجاء متأخرو أتباعه فأعرضوا عن الدليل الشرعي ومَن عمل به، ونظروا في كلام مَن تقدَّمَهم مِن أتباع ذلك المذهب، فاستنبطوا منه حكمًا ما، غير ملتفتين إلى موافقة الدليل الشرعي أو مخالفته. ¬

_ (¬1) قوله: "وعمل به غيره من الأئمة" ألحقه الشيخ بين الأسطر، فوضعناه في مكانه المناسب. (¬2) في الأصل: "بمخالفة ... أو مخالفته" سبق قلم.

وهكذا اتخذوا القرآن مهجورًا، واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، والتمسوا الهدى في غير كتاب الله تعالى. وليتَهم إذْ فعلوا ذلك تركوا الدليل المخالف لهم من الكتاب والسنة ظِهْريًّا، وجعلوه نسيّا منسيًّا، لكنهم يعودون عليه بالتأويل والتحويل، والتحريف والتبديل، وصَرْفِه عن ظاهره بالوجوه البعيدة حتى يردُّوه عَسْفًا إلى موافقة ما التزموه من الأقوال التي تخالفه، حتى لقد تجيء عن الإمام أو أحدِ أتباعه عبارةٌ ظاهرها الدلالةُ على حكم، ثم نجد في كتاب الله تعالى وسنة رسوله عبارةٌ ظاهرها الدلالةُ على خلاف ذلك، فيقدِّمون ما ظهر لهم من عبارة الإمام أو أحد أصحابه على ما يظهر من عبارة الكتاب أو السنة، وإن كانت دلالة الآية أو الحديث أظهر وأرجح من دلالة عبارتهم. بل لو اتفق ورود نصٍّ قرآني لا يقبل التأويل أصلًا أو نصّ من السنة المتواترة كذلك ما رفعوا له رأسًا. وبعضهم يجيب عن ذلك بقوةٍ: هذا منسوخ، فإن طُولِب بالناسخ قال: لا أعلمه، ولكن قول إمامي بخلافه يدلُّ على اطّلاعه على ناسخه، حتى لو لم يكن قول إمامه نصًّا في ذلك، بل مما استنبطه بعض أصحابه. [ص 181] فكأيِّنْ من دليلٍ من كتاب الله تعالى أو من سنة رسوله صلَّى الله عليه وآله وسلم أجلب عليه مقلِّد بخيله ورَجله، وعدا عليه بنَابِه وظُفْرِه، فغادرَه يتشحَّطُ في الدم، ووَدَعَه قائلًا: [فخرَّ صريعًا] لليدين وللفم (¬1) ¬

_ (¬1) عجز بيت في شعر عدد من الشعراء منهم جابر بن حُنَي كما في "شرح المفضليات" للأنباري (ص 441)، وربيعة بن مكدم كما في "الأغاني" (16/ 67)، والمكعبر الأسدي كما في "الاقتضاب" (ص 439)، وعصام بن المقشعر كما في "معجم الشعراء" للمرزباني (ص 270).

لدى حيث ألقتْ رحلَها أمُّ قَشْعم (¬1) أتدري أيها الشيخ أيَّ دمٍ أرَقْتَ؟ وأيَّ أديم مزَّقْتَ؟ أتحسبُ فريستَك هي ذلك الدليل المخالف لهواك؟ كلَّا فإنه حجة من حُجج الله تعالى على خلقه، وحجج الله تعالى معصومة: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157]. إنما مُثِّلَ لك دينُك وإيمانُك، فعليهما كان عدوانك! ومن دَمِهما ارتوى سيفُك وسنانُك! وبمَصْرعِهما اشتفَى هواك وشيطانُك! وقد كنتَ في غِنًى عن هذا، فإنك تقول: إنك مقيَّدٌ بمذهبك، لا يلزمك الخروج عنه ولو ثبتَ الدليل، ولا يلزمُك إقامةُ دليلٍ على صحة مذهبك ولا دَفْعُ دليلٍ يخالفه، وتقول: إن فَهْمَ الأدلةِ كما ينبغي خاصٌّ بالمجتهد. فما حملَكَ بعد ذلك أن تسعَى لتكلُّف الاحتمالات البعيدة لمناصرة مذهبك، وتعدو على الأدلة المخالفة له فتؤوِّلها وتحوِّلها وتحرِّفها عن مواضعها؟ فهل هذا إلّا التناقض المحض والتعصب البحت؟ وهل هذا إلّا غِلٌّ في قلبك على كل ما خالف مذهبك وغلوٌّ في التعصب له؟ عكس ما ورد في الحديث الصحيح: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئتُ به" (¬2). نعم، التأويل جائزٌ للمجتهد عند تعارض الأدلة للجمع بينها، مع تحرِّي الحقّ وتوخِّي الأرجح في نفس الأمر، أما في غير ذلك فلا، ولا كرامة. [ص 182] بالله عليك تدبَّرْ قوله تعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي ¬

_ (¬1) عجز بيت لزهير من معلقته. (¬2) أخرجه ابن أبي عاصم في "السنة" (15) والخطيب في "تاريخ بغداد" (4/ 369) والبغوي في "شرح السنة" (104) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. قال ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" (2/ 394): تصحيح هذا الحديث بعيدٌ جدًّا من وجوه، ثم ذكرها.

مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور: 46 - 52]. فانظُرْ أين تضعُ نفسَك؟ فإن لنفسك عليك حقًّا، فلا تُلْقِها في مهاوي الهلاك، وقد خلق الله لك سمعًا وبصرًا وفؤادًا، والحق واضح ما عليه حجاب. [ص 183] وَيْحَك يا مسكين! إن كنتَ من الذين آمنوا فإن الله تعالى خاطبهم بقوله: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 1 - 5]. وقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ

إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} [النساء: 59 - 62]. ما أشبه حالَ المقلدين بقولِ هؤلاء: "إن أردنا إلا إحسانًا وتوفيقًا". قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 63 - 65]. فعلى المؤمن أن يتأدب مع الأحاديث الثابتة عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم كما لو كان بحضرته صلَّى الله عليه وآله وسلم. فانظر يا مسكين كيف حالُك في هذا الواجب؟ ومن العجائب أن المقلدين يتركون النصوص المتواترة عن إمامهم بأنه إذا صحَّ الحديث فهو مذهبه، وأنه راجعٌ عما يخالفه، إلى آخر ما ورد، ويأخذون بمفهومٍ من قوله أو إشارةٍ أو إيماءٍ، أو مجردِ رأي أحدِ أتباعِه. ومن ذلك ما ذكره أصحاب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى أن مذهبه جواز تعدد الجمعة في بلد واحدٍ للحاجة، وذكروا أنهم أخذوا ذلك من تقريره لأهل

بغداد، حيث دخلَها والجمعةُ متعددةٌ بها، فلم ينكر ذلك. ومع هذا فنصُّه ظاهرٌ في منع التعدد مطلقًا (¬1). فلا أدري من أيهما أَعجَبُ؟ أمِن استدلالهم بتقريرِه أم من تركِهم لنصِّه حيثُ لم يوافقْ هواهم؟ مع كونهم مسجِّلين على أنفسهم أنهم لا يتركون كلامَه ولو ظهرتْ دلالةُ القرآن بخلافه، أو صحَّ الحديث بخلافه، وعاملين بذلك كأنهم لم يعلموا أن تقرير النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم إنما كان حجةً لعصمته - صلى الله عليه وسلم -، فمن المحال أن يرى أحدًا يفعل شيئًا غيرَ جائزٍ فيسكت عن إرشاده. والشافعي رحمه الله تعالى على فضله لم يَصِلْ إلى هذه الدرجة، ومع هذا فإنه دخلَ بغداد وهي مقرُّ الخلافة، وفيها جماعة مجتهدون هم المُفتون بجواز تعدد الجمعة، فهل يسوغُ للشافعي أن يقول: أيها الناس! لا تعملوا بفتوى هؤلاء العلماء، بل أنا أفتيكم؟ ومع ذلك فهو لا يأمنُ على نفسِه من الضرر. ومع هذا فالجمعتان في بغداد كانت إحداهما في الجانب الشرقي، والأخرى في الغربي، والنهر حائل بين الجانبين، وكلٌّ من الجانبين في حكم بلدٍ مستقل. ومع هذا فقد كان هذا التقرير في القديم، وقد نصَّ في الجديد على خلافه، فقد [ص 184] [نصَّ على] (¬2) المنع، أي منع إقامة جمعتين مطلقاً، وأن ذلك هو المتعين (¬3)، لإجماع السلف على عدم التعدُّد مع الحاجة إليه، وبَسَطَ ذلك بما ينبغي أن تراجعه. فإن قيل: إن الأصحاب رأوا منعَ التعدُّد مشدَّدًا جدًّا، فعَدَلوا عنه. فالجواب: أنه إن كان التشديد في هذه المسألة هو حكم الله تعالى ¬

_ (¬1) انظر "الأم" (2/ 385). (¬2) ذهب التآكل في رأس الورقة بكلمتين أو ثلاث. ولعلها ما أثبتناه. (¬3) هنا كلمة لم نتبينها، والسياق مستقيم بدونها.

فليس لهم أن يخففوا ما شدَّد الله، وإن لم يكن التشديد فيها هو حكم الله فمن أين فهموا ذلك؟ فإن قالوا: مِن مذهب الشافعي. قيل لهم: كلَّا، فإنه ليس معكم إلّا إقراره لأهل بغداد، وهذا لا يتمسك به عاقل. وإن قلتم: مِن قواعده "أن المشقة تجَلِبُ التيسير". قيل لكم: هذه قاعدة أغلبية، وقد نصَّ في هذا الفرع على خلافها، فكان مخصّصًا لها، ومذهبُه رحمه الله بناءُ العامّ على الخاص. ومع ذلك فالمشقة هنا لم تتحقق، إذ يُمكِن أهلَ البلد الواحد أن يُصلُّوا في الشوارع التي عند الجامع، أو يوسِّعوا جامعَهم، أو يبنوا أوسعَ منه. ويمكنكم أن تقولوا بأن من لم يدرك وُسْعًا في الجامع وحوالَيْه تسقط عنه الجمعة ويجب عليه الظهر، ونحو ذلك. وإن قلتم: فهمنا ذلك من كتاب الله تعالى وسنة رسوله. قيل: فما هو؟ سلَّمنا وجودَه، لكن أنتم مقلِّدون لا تُسوِّغون لنفوسكم الخروجَ عن المذهب. فإن قالوا: إن الإمام رحمه الله قال: "إذا صحَّ الحديثُ فهو مذهبي". وفي معنى صحة الحديث صحةُ دليلٍ آخر. قيل: فهلَّا طردتُم هذا في جميع المسائل؟ فعملتم بقول الإمام فيما وافقَ الكتابَ والسنة، وعدلتم عما لم يوافق إلى عموم قوله: "إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي"، فتكونوا أسعدَ خلقِ الله بمذهبه، ومِن أسعدِ خَلْقِ الله باتباع كتاب الله تعالى وسنة رسوله.

فصل

ثم لماذا عدلتم في هذه المسألة عن ذكر هذا، وأوهمتم الناسَ أن تقرير غير النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم حجة؟ سبحانك هذا بهتان عظيم. إذا كان قولُ العشرة المبشَّرين بالجنة وجمهور الصحابة لا يُعدُّ دليلَ حجةٍ حتى يُجمع جميعُ الصحابة، فما بالك بواحدٍ من غيرِهم؟ وقد مرَّ أن مدار حجية التقرير على العصمة، وهذا مما لا خلافَ فيه. نعم، إنما عدلتم عن ذلك لئلا يلزمكم ما أُلزِمُكموه من ترك قوله في كل ما خالف الحديث الصحيح، بل ذلك ما ألزمتموه أنفسَكم بكلمة الإسلام وشهادة الحق، فإنّ مِن لازمها أن لا تُحِلُّوا إلّا ما ثبتَ حِلُّه عن الله ورسوله، ولا تحُرِّموا إلّا ما ثبتَ تحريمُه عن الله ورسولِه، وإلّا كنتم كالذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا. والله يهدي مَن يشاء إلى صراطٍ مستقيم. [ص 28] فصل الأئمة الأربعة كغيرهم من أئمة السلف قد ثبت عنهم النهيُ عن التقليد من طرقٍ كثيرة، وكان إفتاؤهم للناس على عمل السلف من إجابة السائل بتلاوة الآية أو رواية الحديث، وتفسير ذلك وبيان دلالته. وقد أسند البيهقي (¬1) إلى الربيع قال: سمعتُ الشافعي وسأله رجلٌ عن مسألة، فقال: رُوي عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم أنه قال كذا وكذا، فقال له السائل: يا أبا عبد الله! أتقول بهذا؟ فارتعد الشافعي واصفرَّ وحالَ لونُه، وقال: ويحك! أيُّ أرضٍ تُقِلُّني، وأيُّ سماء تُظِلّني إذا رويتُ عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم شيئًا ولم أقل به؟! نعم على الرأس والعين، نعم على الرأس والعين. ¬

_ (¬1) في "مناقب الشافعي" (1/ 475). وقد تقدم.

وفي "إعلام الموقعين" (¬1): وقال الحميدي: سأل رجلٌ الشافعيَّ فأفتاه: قال النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم كذا وكذا، فقال الرجل: أتقول بهذا يا أبا عبد الله؟ فقال الشافعي رحمه الله: أرأيتَ في وسطي زُنَّارًا؟ أتُراني خرجتُ من الكنيسة؟ [ص 29] أقول: قال النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم، وتقول لي: أتقولُ بهذا؟ أروي عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم ولا أقول به؟! ومن ذلك ما نُقِل عن ابن عبد البر (¬2) قال: وجاء رجلٌ إلى مالك فسأله، فقال له مالك: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم كذا وكذا، فقال الرجل: أرأيتَ؟ فقال مالك: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]. وقال: لم يكن فُتيا الناس أن يقال لهم: قلتُ هذا، بل كانوا يكتفون بالرواية ويرضون بها. وإنما نقلنا هذه لتعلموا أن الأئمة الأربعة رحمهم الله كان عملهم في الإفتاء بعمل السلف بتلاوة الآية أو ذِكْر الحديث على ما مرَّ. وأما منعهم عن التقليد وإرشادهم الناسَ إلى اتباع السُّنَّة وتركِ قولهم، فالآثار عنهم في ذلك كثيرة مشهورة في كتب المؤلفين. وكفى في ذلك ما ذكره المزني في أول "المختصر". وإننا لنعوذ بالله عزَّ وجلَّ من أن نتَّهم الأئمة الأربعة أو غيرهم من العلماء بأنهم يرضَون بتقديم قولهم على قول الله تعالى ورسوله، حاشاهم، بل وحاشا كلّ مسلمٍ من هذا القول الذي هو الكفر الصُّراح والشرك البَواح. وقد كان تعليمهم لتلامذتهم إنما هو بذكر ¬

_ (¬1) (2/ 266). وانظر "مناقب الشافعي" (1/ 474). (¬2) انظر "التمهيد" (8/ 411) و"الاستذكار" (21/ 25).

أدلة الحكم والاستدلال بها، والإجابة عما يخالفها، فكانوا يعلِّمونهم الاجتهادَ. وهذا واضح من كتبهم. ومع ذلك فتقليد الميت باطلٌ بإجماع أهل الأصول كما مرَّ. على أنكم غيرُ مقلِّدين لهم، فإنهم لم يتكلَّموا في كل مسألةٍ، وإنما أخذ أتباعُهم يُفرِّعون على أقوالهم ويقيسون ويُرجِّحون، فصار التقليد مركبًا بدرجات كثيرة. ثم جاء المتأخرون، فخلطوا الأحكام المأخوذة عنهم بالأحكام المقيسة على كلامهم [و] بالأحكام التي (¬1) اخترعها الأتباعُ بآرائهم، مع أن المقرر في الأصول أن لازمَ [ص30] المذهب ليس بمذهب. فالأحكام المأخوذة من لازِم قولهم ليست على هذا مذهبًا لهم. والحاصل أن التقليد من أصله قد قام الدليل على مَنْعه، كما هو مفصَّلٌ في كتب القوم، مما هو معروفٌ متداولٌ بين الناس، ومرَّ في هذه الرسالة وسيأتي فيها إن شاء الله تعالى ما يكفي في ذلك. ولو سلَّمنا جواز التقليد للأحياء فإنه لا يجوز للأموات، ولو سلَّمنا جوازه للأموات لما جاء إلّا لما ثبتَ من نصوصهم. * [ص] (¬2) قال المقلدون: ها هنا ثلاثة أمور: الأول: قولكم: "إن أهل الثلاثة القرون إنما كانت فتواهم بتلاوة الآية أو رواية الحديث" فنقول: هذا ليس على إطلاقه، كيف وفي المجتهدين مَن يقول بمجرد اجتهاده إذا لم يجد دليلًا من كتاب الله تعالى وسنة رسوله، كما ¬

_ (¬1) في الأصل: "الذي" سهوًا. (¬2) بداية صفحة جديدة ولم ترقم في الأصل.

ورد عن كثير من الصحابة رضي الله عنهم، منهم الصدِّيق رضي الله عنه وغيره، كانوا إذا جرت واقعةٌ وأعوزَهم الدليلُ من كتاب الله تعالى أو سنةِ رسوله اجتهدوا برأيهم، ثم يقول المجتهد: إن كان صوابًا فمِن الله، وإن كان خطأ فمنَّي ومن الشيطان (¬1)، أو نحو ذلك. الثاني: قولكم: "إنه لم يكن منهم مَن يلتزم اتباعَ إمامٍ معين". وهذا قد يُنازَعُ فيه، فقد كان لابن عباس أتباعٌ مخصوصون، ولابن مسعودٍ كذلك، وكذا مَن بعدهم. وأما الأئمة الأربعة فاتِّباعُ تلامذتهم لهم لا يخفى على أحد. الثالث: حكاية إجماع الأصوليين على منع تقليد الميت، لا يخفى ما فيها، فإن تلامذة الأئمة الأربعة لم يزالوا عاملين بمذاهبهم بعد موتهم، وهكذا مَن بعدهم، وهلُمَّ جرًّا. * قال المانعون: أما الأول فإننا إنما أطلقنا القول لأن الحكم لا يؤخذ إلّا عن دليل من الكتاب والسنة ولو بواسطة القياس، فإن فُرض أن مجتهدًا لزِمَه النظرُ في واقعة، وتعيَّن عليه فورًا، فإنه يسوغ له أن يجتهد رأيَه بما هو الأولى والأشبه بالشرع، ويلزمه حينئذٍ أن يخبر بأن ذلك اجتهاد منه، كما قال الصدِّيق وغيره، وحينئذٍ فيجوز العمل بذلك الاجتهاد للضرورة. فإن ظهر دليلٌ وجب ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق في "المصنَّف" (19191) وابن أبي شيبة في "المصنَّف" (11/ 415، 416) والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 223) عن أبي بكر، وأخرجه الطحاوي في "مشكل الآثار" (9/ 214) والبيهقي (10/ 116) عن عمر، وأخرجه أحمد في "المسند" (1/ 431، 4/ 279) وأبو داود (2116) والنسائي (6/ 122) عن ابن مسعود. وانظر "التلخيص الحبير" (4/ 195).

المصير إليه. [31] وسيأتي شرح هذا إن شاء الله في كلام الإِمام الشافعي. وأما الثاني فليس الأمر كما زعمتم، فإن أصحاب ابن عباس لم يكونوا مقلدين له، وإنما كانوا يأخذون عنه العلم بالرواية، وكثيرًا ما يأخذون عن غيره كما يعرفه من مارسَ الآثار، وكذا أصحاب ابن مسعود وغيره، وكذا أصحاب الأئمة الأربعة، كان أخذهم عنهم بطريق الرواية لا غير، كما هو معروف في كتبهم. كيف لا وقد تواتر عن الأئمة الأربعة المنعُ من التقليد مطلقًا؟ وإنما كان تعليمهم لتلامذتهم روايةً للأحاديث وتعليمًا لطُرق الاجتهاد، فدوَّن تلامذتهم كلامهم كذلك ليستعين به مَن بعدهم في حفظ الأحاديث وتعلُّم كيفية الاجتهاد، لا ليجمُدوا عليه، بل بيَّنوا أنهم - أي الأئمة - يمنعون من التقليد، كما تراه في أول "مختصر المزني". ولهذا ترى أصحاب كل إمام قد خالفوه في عدة مسائل ترجَّح لهم فيها خلافُ ما ترجَّح له. وقال بعض المنتسبين إلى مذهب الشافعي (¬1): لسنا مقلدين للشافعي، [ص] (¬2) وإنما وافق رأيُنا رأيَه. وقال السيوطي في رسالته: "الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض" (¬3) ما لفظه: "وللمفتي المنتسب أربعة أحوال، أحدها أن لا يكون مقلِّدًا لإمامه، لا في المذهب ولا في دليله، لاتصافه بصفة المستقلّ، وإنما يُنسَب إليه لسلوكه طريقَه في الاجتهاد، وادَّعى الأستاذ أبو إسحاق هذه الصفة لأصحابنا، فحكى عن أصحاب مالك وأحمد وداود ¬

_ (¬1) انظر ما سبق (ص 78). (¬2) بداية صفحة جديدة لم ترقم في الأصل. (¬3) (ص 114).

وأكثر الحنفية أنهم صاروا إلى مذاهب أئمتهم تقليدًا لهم، ثم قال: والصحيح الذي ذهب إليه المحققون ما ذهب إليه أصحابنا، وهو أنهم صاروا إلى مذهب الشافعي لا تقليدًا له، بل لمّا وجدوا طريقَه في الاجتهاد والقياس أسدَّ الطرق، ولم يكن لهم بدٌّ من الاجتهاد، سلكوا طريقَه، فطلبوا معرفةَ الأحكام بطريق الشافعي". وذكر في تلك الرسالة نحو هذا عن القاضي عبد الوهاب المالكي (¬1)، نقل عنه كلامًا طويلًا في إبطال التقليد، وفي آخره (¬2): "فإن قيل: فهذا خلاف ما أنتم عليه من دعائكم إلى درسِ مذهب [مالك] بن أنس واعتقادِه، والتديُّنِ بصحته وفسادِ ما خالفه. قلنا: هذا ظنٌّ منك بعيد، وإغفال شديد، لأنا لا ندعو من ندعوه إلى ذلك، إلّا إلى أمرٍ قد عرفنا صحته وعلمنا صوابه بالطريق الذي بيَّناه، فلم نخالفْ بدعائنا إليه ما قررناه وعقدنا البابَ عليه". قلتُ: وكان تعليمهم مذهب مالك حينئذٍ ليس بذكر مجرد قوله، بل بسَرْد حُججِه من الكتاب والسنة وبيانِ ما لها وعليها. وهذا وجه اندفاع المناقضة. ثم إن قول الأستاذ أبي إسحاق في أصحابنا المتقدمين: "إنهم صاروا إلى مذهب الشافعي ... " إلخ، أي: في معظم الأحكام، فلا ينافي ذلك أنهم قد يخالفونه إذا ترجَّح لهم ما يخالفه. ويحتمل أن يبقى الكلام على إطلاقه، مع اعتبار مذهب الشافعي بما ثبت بالدليل، وإن نُقِل عنه ما ¬

_ (¬1) (ص 123 - 126). (¬2) (ص 126).

يخالفه، عملًا بقوله: "إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي". ومثلُ هذا يقال في كلام القاضي عبد الوهاب ليتم اندفاع المناقضة في كلامه. والله أعلم. [ص 32] وبهذا عُلِمَ الجواب على الأمر الثالث، فإن تلامذة الأئمة وعدة طبقات ممن بعدهم لم يكونوا متبعين للأئمة اتباعَ تقليدٍ، وإنما كانوا يتعلمون علمه، فيستعينون به على الاجتهاد، وكثيرًا ما يخالفونه كما علمتَ. وأما مَن جاء بعد ذلك فجمَدَ على التقليد، فاستغنى بكلام الإمام عن كتاب الله تعالى وسنة رسوله، واتخذ كتابَ الله مهجورًا، ولم يرفع إليه رأسًا، فهؤلاء لا حجةَ في عملهم، لأنهم لم يكونوا مجتهدين فيُعتَبر قولهم في الإجماع، ولا تجوز فتواهم، ولا تُجيزون أنتم تقليدهم، فأنتم وهُم سواءٌ. ومن راجع مؤلفاتهم علم مقدارَ علمهم بكتاب الله تعالى وسنة رسوله. على أنه لم يزل في المنتسبين إلى الأئمة علماء أجلَّةٌ عارفون بكتاب الله تعالى وسنة رسوله، ينكرون التقليد ويمنعونه ويتبعون الدليل، كما هو مفصَّل في محالِّه من الكتب المؤلفة في إبطال التقليد. فأولئك في الحقيقة مجتهدون، وإن كان تيَّار التقليد حين طمَّ على الأمة حَرَمَهم من لقب الاجتهاد، وحَرَمَ الأمةَ من الاهتداء بهَدْيهم والانتفاع بعلمهم، إلّا أن آثارهم والحمد لله محفوظة. تلك آثارنا تدلُّ علينا ... فانظروا بعدنا إلى الآثار (¬1) نحن لا ننكر أن تقديم المقلدين لقول إمامهم على الدليل الشرعي صادر عن حسنِ ظنٍّ به [ص 33] أنه قد أحاط بأدلة الكتاب والسنة، فرأوا أنه ¬

_ (¬1) البيت في "ريحانة الألباء" (1/ 302) بلا نسبة.

إذا كان صريحُ كلامه أو مفهومه يخالف ظاهرَ آيةٍ أو حديثٍ، فالظاهر أنه إنما ذهب إلى خلاف ذلك لدليلٍ أقوى منه ثبتَ لديه، ولا يلزم من عدم اطلاعنا على دليله عدمُه، لما لا يخفى أن عدم العلم ليس علمًا بالعدم. وهذا في الحقيقة غلوٌّ مذموم وجهلٌ فاحش، لأن الأصل عدم اطلاعه على هذا الدليل، والأصل أنه لا دليل يخالفه. وكم من حديث لم يعمل به الأئمة لعدم صحته لديهم، وقد صحَّ بعدهم، وسيأتي إن شاء الله. [ص 34] ومن جنس ما ذكرناه دليل بقاء وقت المغرب إلى غروب الشفق، فإن الشافعي رحمه الله نصَّ على أنه لم يصحَّ لديه، وأنه إن صحَّ وجبَ العمل به. وقد صحَّ بعده ذلك الدليل، بل هو في أعلى درجات الصحة، وصار إليه أصحابه، إما عملًا بالدليل الثابت، وإما - وهو الظاهر - عملًا بوصيته. وعلى كلٍّ فكان ينبغي لهم أن يُوسِّعوا الدائرة، فيعملوا بكل ما ثبت من الأدلة عملًا بوصية الإمام أنه إذا صحَّ الحديث فهو مذهبه، وأن يعملوا بما صحَّ عنه من نهيه عن تقليده وتقليد غيره، ويقتدوا بسيرته في الإفتاء والتدريس ببيان الحجج. ومن المعلوم أن السُّنَّة كانت في عهد الأئمة مفرَّقةً بتفرق التابعين في مشارق الأرض ومغاربها، وإنما تتبعها مَن بعدهم ودوَّنها، وذلك من فضل الله تعالى على هذه الأمة. وأيضًا كيف يسوغ لرجلٍ يؤمن بالله واليوم الآخر تركُ العمل بآية من كتاب الله تعالى أو حديث صحيح عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم، لمجرد احتمالِ أنه ثبتَ عند إمامِه ما يخالفه؟ مع أن الأئمة نصُّوا على أنه إذا صحَّ الحديث بخلاف قولهم وجبَ أن يُرمى بقولهم عرضَ الحائط، وأنهم

فصل

راجعون عن ذلك القول المخالف في حياتهم وبعد مماتهم، وأنه إذا صحَّ الحديث فهو قولهم ومذهبهم. فلو أن إنسانًا من المنتسبين إلى أحد الأئمة عملَ بحديث صحيح لكان أسعدَ خلْقِ الله باتباعِ مذهب ذلك الإمام، لأن القول الذي يخالف الحديث إن كان نصًّا من الإمام فهو مرجوع عنه بما ذكر، وإن كان من تخريج الأصحاب فهو أوهى وأوهنُ. هذا علاوةً على أنه أسعدُ خلق الله باتباع دين الله في تلك القضية. فصل ويقال لمن ناظر في مسألة التقليد: أمجتهدٌ أنتَ فيها أم مقلِّد؟ فإن قال: مجتهد، كان ذلك تسليمًا منه ببقاء الاجتهاد. وقيل له: مجتهد مطلق أم في هذه المسألة فقط؟ فإن قال: مُطْلق. قيل له: فلماذا تُنازع في مسألة التقليد؟ قال: ليترخص به العامة. قيل له: إنه لا يَسوغُ للعامي العملُ بالتقليد إلا بعد علمه بجوازه، ولا سبيلَ له إليه، لأنه إن ادّعاه عن دليلٍ فالأدلة في ذلك - على علّاتها - ظنية، يفتقر جوازُ العمل بها إلى اجتهاد، وليس من أهله. أو عن تقليدٍ أيضًا عاد السؤال وهكذا. ونعني بالعلم الظنَّ الذي يُسوِّغ الشرعُ الاستنادَ إلى مثله. وإن قال: بل في هذه المسألة فقط. قيل له: هذا متوقّفٌ على القول بجواز تجزِّي (¬1) الاجتهاد، وإنها مسألة ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، مصدر تجزَّى بالتسهيل، والأصل: "التجزُّؤ".

خلافية، فمقلدٌ أنت فيها أم مجتهد؟ فإن قال: مقلِّد. قيل له: فاجتهادك في مسألة التقليد باطل، لبنائه على أصلٍ أنتَ فيه مقلِّد. وإن قال: بل مجتهد فيها أيضًا. قيل له: هذا لا يصحّ، وذلك أن كونه يجوز لك الاستناد إلى القول بجواز التجزِّي متوقفٌ على غلبة ظنك بجواز التجزِّي، وغلبةُ ظنك بجواز التجزِّي متوقف على اجتهادك في مسألته اجتهادًا يغلبُ على ظنِّك صحتُه، واجتهادُك فيها اجتهادً يغلب على ظنك صحتُه متوقف على غلبة ظنك بأنك أهلٌ للاجتهاد فيها، وغلبةُ ظنك بأنك أهلٌ للاجتهاد فيها متوقف على غلبة ظنك أنه يجوز لك الاستنادُ إلى القول بجواز التجزِّي, وإنه دَوْر. وإن قال: أنا في مسألة التقليد مقلِّدٌ أيضًا، أُورِدَ عليه السؤالُ الذي قدَّمنا. فقيل له: إنه لا يَسُوغ لك الاستنادُ إلى التقليد إلّا بعد غلبة ظنك بجوازه، ولا سبيل لك إليها، لأن غلبة الظن إمّا عن دليل، والأدلة في هذا - على علاتها - ظنية تفتقر إلى الاجتهاد، ولستَ من أهله؛ وإما عن تقليدٍ، فيعود السؤال، وهكذا. فإن قال: فإن غلبة الظن بجواز التقليد حصلتْ لي بفتوى مجتهدٍ ذكرَ لي فيها الأدلة الشرعية، وفسَّرها لي، وأخبرني أنه ليس لها معارض معتبر.

قيل له: مجتهد مقيّد أم مطلق؟ فإن قال: مقيّد، أُورِدَ عليه ما مرَّ. فإن قال: مطلق. قيل له: فهلَّا صنعت في جميع فروع دينك هكذا، فتكون ناجيًا بيقين؟ ويقال له ولمن تعامَى عن البرهان المتقدم: لمن أنتَ مقلِّد؟ فإن سمَّى أحدًا من الأئمة [ص 60] قيل له: إن هذا الإمام قائلٌ ببطلان التقليد، وهذه نصوصه في كتبه وكتب أصحابه وغيرها، وهذه الأدلة من كتاب الله تعالى وسنة رسوله وأقوال العلماء، مع عمل السلف الصالح الصحابة فمَن بعدهم والأئمة، تؤيِّد ما قاله من المنع. فإن قال: لكن بعض العلماء نُسِب إليه القول بجواز التقليد. قيل له: دعْ "قِيل وقال" العاطل عن الاستدلال، واسمعْ نصوصَ ربك عزَّ وجلَّ ونصوصَ نبيك وأصحابه وأتباعهم وأئمة الدين، ومنهم إمامك. فإن وفَّقه الله تعالى فلله الحمد، وإلّا فقل له: فها هنا مخرجٌ حسن، وهو أن تعتمد استفتاء علماء الكتاب والسنة الموجودين في عصرك، فتسألهم عما يعرض لك من أمور دينك، فيخبرك المسؤول بالدّليل الذي في المسألة من كتاب الله تعالى وسنة رسوله، ويفسِّر لك معناه، ويبيَّن لك وجه الدلالة، ويُخبرك بأنه لا معارضَ له، وأنه أخذ بمقتضاه من الأئمة المشهورين فلانٌ، فيكون عملك بهذه الفتوى عملًا بكتاب الله تعالى وسنة رسولِه وفتوى العالم المعاصر لك، مع اطمئنان قلبك بقول أحد الأئمة المشهورين ما يوافق ذلك، إذ تكون في حكم المقلد له، وأنت ترى صحة تقليده.

فإن قال المتعامي عن البرهان المتقدم: لكن في هذا تبعيض التقليد [ص 26] والتعرض للتلفيق. وقد أخبرني بعض العلماء بمنع ذلك ووجوبِ الالتزام لمذهب إمام معين. قيل له: هذا التخريج قول باطل، وذُكِر له عملُ الأمة في زمن الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وغيرهم، مع نصوص العلماء المصرّحين بجواز تجزِّي التقليد ونحو ذلك مما مرَّ بيانه، وذُكِّر بنصوص الكتاب والسنة وعمل السلف في وجوب العمل بالدليل، وبنصوص إمامه وغيره في ذلك، وبُيِّن له أن الإمام الذي يريد أن يلتزم مذهبَه مطلقًا غير معصوم ولا محيط بالشريعة، ولا يدَّعى له ذلك. وقد تواتر عنه ما يفيد ذلك من الاعتراف بأنه معرَّض للخطأ مع عدم إحاطته بالشريعة، وتواتر عنه الأمر بتقديم ما صحَّ من الأدلة على قوله. ومثلُه في ذلك سائر الأئمة وجميع أفراد الأمة ما عدا نبيها صلَّى الله عليه وآله وسلم. وذُكِر له بعض الأدلة العقلية والنقلية على ذلك مما بيَّناه في هذه الرسالة وغيره. وقيل له: إننا نتلو عليك آية من كتاب الله تعالى، أو نروي لك حديثًا صحيحًا عن رسوله صلَّى الله عليه وآله وسلم، ونبيِّن لك دلالته على حكم من الأحكام بحسب ما تقتضيه اللغةُ العربية والإطلاقات الشرعية، ونذكر لك مَن أخذ بذلك من الأئمة الأربعة، وأنه لا معارضَ لذلك من الأدلة الشرعية، فيجيء رجلٌ مقلِّد فيخبرك بحكمٍ فهمه من كلام مقلِّد آخر، وأن ذلك المقلد فهمه من كلام مقلِّد ممن تقدَّمه، وهلُمَّ جرًّا، حتى تتصل الحلقات بالإمام المجتهد. ففهْمُ المقلّد الذي أفتاك يحتمل الخطأ، وتلك العبارة التي فهم منها ذلك يحتمل أن يكون لها معارض من العبارات

الأخرى، وقسْ على هذا قولَ مَن تقدمَه وهكذا مَن قبلهم إلى آخر السند، مع أن الإمام المجتهد يحتمل أن يكون أفتى بما أفتى عن دليل ثابت، ويحتمل أن يكون اجتهد في ذلك برأيه لعدم استحضاره للدليل، كما وقع كثير من ذلك لأكابر الصحابة رضي الله عنهم وغيرهم. وعلى فرض كونه أخذه من دليل ثابت، فذلك الدليل محتملٌ لأن يكون له معارضٌ لم يطلع عليه الإمام واطلعَ عليه غيره، أو لم يثبت عنده وثبتَ عند غيره، كما في وقت المغرب في قول الشافعي، وغير ذلك مع ما تقدم بيانه [ص 27] من أن جَمْع العلم كان صعبًا في القرون الأولى قبلَ تدوينه؛ فأيهما أرجحُ إن كنتَ مسلمًا عاقلًا؟ آلحكمُ المفهومُ من كتاب الله وسنة رسوله كما يبينه لك أحد علماء الكتاب والسنة، العارفين بأحكامهما، والمطلعين على مذاهب الأئمة وأدلتهم، مع إخباره لك أنه لا معارضَ لذلك، وموافقة قول أحد الأئمة المشهورين لذلك، فتكون عاملًا بما فهمتَه من الكتاب والسنة، مع أن الأصل أنه لا معارضَ لذلك، وتأكَّد ذلك بإخبار ذلك العالم، وتَمَّ الاطمئنان بموافقة أحد الأئمة المشهورين؟ أم الحكم المفهوم من عبارة بعض المقلدين، كما يحكيه لك أحد المقلّدين الذين لا يعرفون أحكام كتاب الله تعالى ولا سنة رسوله، ولا هم مطَّلعون على مذاهب الأئمة وأدلتهم، بل غايتهم معرفة كلام بعض من تقدَّمهم من المقلِّدين الذين هم قريب منهم في ذلك، وهلُمَّ جرًّا، ولا سيَّما مع إصرارهم على مخالفة إمامهم الأعظم في منع التقليد وفي منع العمل بقوله فيما جاء الدليل الشرعي بخلافه، ومع ردِّهم لما ثبت من الكتاب أو السنة بخلاف قول إمامهم أو بخلاف قول أحد أتباعه فيما ادَّعى أنه استنبطه

من قول الإمام أو من قول تابعٍ آخر، وتنقُّصِهم لبقية الأئمة المجتهدين في ردّ أقوالهم جملةً؟ وهذا بخلاف الطريقة التي أَرشدْنا إليها، فإن المستفتي لا يكون رادًّا لحكم من أحكام كتاب الله وسنة رسوله، ولا رادًّا لما قاله إمامُه من مَنْع التقليدِ ومَنْع العمل بقوله فيما جاء الدليل الشرعي بخلافه، ولا متنقِّصًا لأحد الأئمة المجتهدين لكونه إنما يُرجِّح بالدليل لا بمجرَّد التشهِّي، مع أنه وإن خالفَ قولَ أحدهم في مسألةٍ وافقه في أخرى. ولا يَرِدُ على هذا شيء من المحذورات، لأنه قد عمِلَ بالكتاب والسنة بعد تفهُّمِ ذلك ممن يُعرَف بالعلم، واعتمدَ في عدمِ المعارض على الأصل، مع ظاهر إخبار المفتي، مع تأكُّدِ ذلك بموافقة أحد المجتهدين المشهورين. فإن كان مفتيه مجتهدًا فقد أدى الواجب، وإلَّا فهو في الحكم المقلِّد لذلك الإمام الذي وافق قوله. وتجزِّي التقليد عند من يقول به لا مانعَ منه إلّا تتبع الرخص، وهو منتفٍ في هذه الطريقة. وأما التلفيق فلا محذورَ فيه كما بيناه آنفًا (¬1). فإن هداه الله تعالى لهذه الطريقة فلله الحمد، وإلَّا فإنّ الله غنيٌّ عن العالمين. وهذا الفصل كافٍ في إبطال التقليد، لتأيُّده بالبراهين القاطعة، ولا يخرج عن ذلك إلا صورة واحدة، وهي ما إذا استفتى القاصرُ مجتهدًا مطلقًا في مسألة التقليد، فأفتاه بالجواز فتوًى متفقًا على صحتها، بأن ذكر له دليلًا شرعيًّا وفسَّره له، وأخبره أنه لا مُعارضَ لذلك. وهذه الصورة مع عزَّتها قد بينّا ما ينقُضُ هذه الفتوى، وبيَّنا الطريقة التي إذا اعتمدها الإنسان كان ناجيًا بيقين، والحمد لله رب العالمين. ¬

_ (¬1) انظر (ص 75).

فصل

[فصل] [ص 35] * قال المقلدون: أخبِرونا أيها المانعون: (1) أأنتم أعلمُ أم الأئمة الأربعة؟ فإن قلتم: هم أعلمُ، فكيف تَسُوغ لكم مخالفتُهم؟ (2) أأنتم أعلم أم الأئمة الذين جاءوا بعدهم مقلدين لهم؟ فإن قلتم: هم أعلم، فلِمَ لا تقلِّدون كما قلَّدوا؟ (3) ما تعتقدون في المقلِّدين من علماءَ وغيرِهم وهم جمهور الأمة، أهم على حق أم على ضلالة؟ (4) ما تعتقدون في مشايخكم الذين أخذتم عنهم العلم ومشايخهم وهلمَّ جرًّا؟ (5) ما تعتقدون في مؤلفي هذه الكتب التي تأخذون عنها العلم؟ * قال المانعون: (1) الأئمة الأربعة أعلم إجمالًا، فأما تفصيلًا فقد يبلُغنا من السنة ما لم يبلغهم، وهذا كثير، وذلك أن السُّنَّة كانت في وقتهم لم تُدوَّن. وفي ترجمة الإمام مالك (¬1) أن الرشيد قال له: إني عزمتُ أن أحمل الناس على "الموطأ" كما حمل عثمان الناسَ على المصحف. فقال: أما حملُ الناس على "الموطأ" فليس لك إلى ذلك سبيلٌ؛ لأن أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم افترقوا بعده في الأمصار فحدَّثوا، فعند أهل كل مصرٍ علمٌ. ¬

_ (¬1) انظر "طبقات ابن سعد" (ص 440 - القسم المتمم)، وفيه أن أبا جعفر المنصور قال له ذلك. وانظر "ترتيب المدارك" (1/ 192، 193) و"سير أعلام النبلاء" (8/ 78).

وفي "إعلام الموقعين" (¬1) أن الربيع قال: سمعتُ الشافعي يقول: كل مسألة يصحُّ فيها الخبرُ عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم عند أهل النقل بخلاف ما قلتُ فأنا راجعٌ عنها في حياتي وبعد مماتي. ونقل إمام الحرمين في "نهايته" (¬2) عن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى أنه قال: إذا صحَّ خبرٌ يخالف مذهبي فاتبعوه، واعلموا أنه مذهبي. وفي "تدريب الراوي" (¬3) للسيوطي تنبيهات، الأول: اعتُرِض على التمثيل بـ "مسند أحمد" بأنه شرطَ في مسندِه الصحيحَ. قال العراقي: ولا نسلِّم ذلك، والذي رواه عنه أبو موسى المديني أنه سُئل عن حديث فقال: انظروه، فإن كان في "المسند" وإلّا فليس بحجة. فهذا ليس بصريح في أن كلَّ ما فيه حجة، بل ما ليس فيه ليس بحجة. قال: على أن ثَمَّ أحاديثَ صحيحة مخرجة في "الصحيحين" وليست فيه، منها: حديث عائشة في قصة أم زرع (¬4). انتهى. وساق السيوطي الكلام إلى أن قال (¬5): "وقال الهيثمي في "زوائد المسند": "مسند أحمد" أصحُّ صحيحًا من غيرِه، [وقال ابن كثير] (¬6): لا ¬

_ (¬1) (2/ 266). (¬2) "نهاية المطلب" (4/ 260). (¬3) (1/ 172). (¬4) أخرجه البخاري (5189) ومسلم (2448). (¬5) (1/ 173). وكلام الهيثمي في أول "غاية المقصد" بنحوه. (¬6) زيادة من "تدريب الراوي". وكلام ابن كثير في "اختصار علوم الحديث" (1/ 118، 119).

يُوازي "مسندَ أحمد" كتابٌ مسند في كثرته وحسنِ سياقاته، وقد فاته أحاديث كثيرة جدًّا، بل قيل: إنه لم يقع له جماعة من الصحابة الذين في الصحيحين قريبًا من مئتين". وإذا كان هذا الإمام أحمد، وهو وارثُ مَن قبله من الأئمة وجامعُ علمِهم وزيادة، وهو أكثر الأئمة روايةً للحديث وأجمعهم، كما يُعلَم من الموازنة بين ما رُوِي عنه وما رُوي عنهم = إذا كان ذلك في حقِّه ففي حقِّ غيره أولي وأحرى. وهذا واضح جدًّا، والله أعلم. [ص 36] ومع هذا فقد يتنبه الإنسان لدلالةٍ في كتاب الله تعالى أو في السنة الثابتة عزُبَتْ عن من هو أعلم منه، كما رُوي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيثُ ذكَّرتْه المرأةُ بقوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20] (¬1). وابن مسعود حيث ذكَّره أبو موسى بقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6] (¬2). وفي "زاد المعاد" (¬3) في الكلام على حديث فاطمة بنت قيس وقول عمر: "لا نردُّ كتابَ ربنا لقولِ امرأةٍ لعلها نسيتْ ... " إلخ: أن الإمام أحمد كان يتعجب من ذلك ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (10420) وابن المنذر في "تفسيره" (1551) عن أبي عبد الرحمن السلمي. وفي الباب روايات أخرى تكلم عليها الألباني في "إرواء الغليل" (6/ 348) وضعفها. وانظر "تفسير ابن كثير" (3/ 45، 46) و"فتح الباري" (9/ 204) و"الدر المنثور" (4/ 293، 294). (¬2) أخرجه البخاري (345، 346، 347) ومسلم (368). (¬3) (5/ 478).

ويقول: وأين في كتاب الله أن للمطلقة ثلاثًا السكنى والنفقة؟ أو كما ذكر. وهذا كثير جدًّا عن أكابر الصحابة، ولا يحتاج إلى إثبات دليلٍ، فإنه مما لا خفاءَ فيه أن الإنسان معرَّضٌ للنسيان مهما كانت رتبتُه، وقد كان النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم يسهو في الصلاة وينسى بعض الآيات حتى يُذكِّره بعضُ أصحابه، كما ثبت في حديث ذي اليدين (¬1) وغيره، ولكنه صلَّى الله عليه وآله وسلم معصوم، إذا نسي ذكَّره الله تعالى بوحى أو إلهامٍ، أو يُقيِّظُ له من يذكِّره من أصحابه، وذلك لئلا يُعتبر فعلُه المبني على النسيان شرعًا. وأما غيره من الأمة أكابرها وأصاغرها إذا نسي فقد يُذكَّر، كما في نسيان عمر وابن مسعود المارّ ذكره، وقد لا يَذكُر ولا يُذكَّر، وذلك لأنه لا محذورَ في عدم تذكيرهم، إذ ليس قول أحدٍ منهم ولا فعلُه حجةً تُفيد شرعًا لغيره. وأما قولكم: "فإن قلتم: هم أعلم منا فكيف يسوغ لكم مخالفتهم؟ "، فأخبِرونا أهم أعلمُ أم أكابرُ الصحابة: أبو بكر وعمر وعلي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وعائشة وغيرهم؟ ولا شك أن أكابر الصحابة أعلم، فكيف ساغ لهؤلاء الأئمة مخالفةُ مَن هو أعلمُ منهم. وجوابكم هو جوابنا. إن الله سبحانه وتعالى لم يُنزل كتابه خاصًّا بأحد، بل عامًّا في كل مكلَّف، قائلًا سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}، {يَا عِبَادِيَ}. فكلُّ مكلَّفٍ من بني آدم مكلَّفٌ بأن يفهم خطابَ ربّه، وإنه لَعارٌ وشنارٌ وفضيحة الأبد أن يكون كلام الله تعالى الذي أنزله على نبيه مخاطبًا لنا خطابًا يتناول كلَّ واحدٍ منا، موجودًا بين أيدينا، ميسَّرةٌ الطريقُ إلى فهمه والعمل به، ثم نُعرِض عنه ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1228) ومسلم (573) من حديث أبي هريرة.

ونهجره! إنا لله وإنا إليه راجعون. وأيْمُ الله لو أن أهل مدينة من المدن جاءهم كتابٌ من ملكهم يتناول كلَّ واحدٍ منهم، ما بقي واحدٌ منهم إلّا وأحبّ أن يسمع خطابَ الملك ويفهمه، فأما إذا علموا أنه أمرهم أن من عملَ بما في ذلك الكتاب استحق الإنعام والإكرام، ومَن لم يعمل بما فيه استحق التخليد في الحبس، فإن كلّ واحدٍ منهم يبذل جِدَّه وجهدَه ليطلع على ذلك الكتاب، وعلى الأقل على خبر جازمٍ ممن يثق به أن الذي في الكتاب هو كذا. فأما إذا قال له من يثق: أظن أن فيه كذا، فإنه لا يكتفي بذلك. [ص 37] وكذا لو أرسل الملك رسولًا، وأمر كلَّ أحدٍ باتباعه والعملِ بقوله. إذا كان هذا في مَلِك من ملوك الدنيا، لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعًا ولا ضرًّا، وإن أثاب فثوابُه محدود، وإن عاقب فعقابه منقطع، فكيف بنا وكتاب الله جلَّ جلالُه وسنة رسوله بين أيدينا، وثوابُه الجنة وعقابه النار؟! ولما كان سلف هذه الأمة وخير القرون يعلمون ذلك، ويعلمون أن كلَّ فردٍ منهم مكلَّفٌ بأن يعرف حكم الله تعالى من كتابه الكريم، أو مما يرويه له الثقات عن رسوله عليه أفضل الصلاة والتسليم = لم يكونوا يُعرِّجون على غير ذلك ولا يلتفتون إليه، ولا سيما مع علمهم أن غير المعصوم وإن علَتْ رتبتُه في العلم والفضل معرَّضٌ للخطأ والنسيان والغفلة وعدم الاطلاع وغير ذلك، فلم يكونوا يعملون إلّا بكتاب الله تعالى وإلَّا بما أخبرهم الثقات عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم، لأن الخطأ والنسيان والغفلة وغيرها منتفيةٌ في الرواية، إذ لا تُقبل إلا بالجزم، بخلاف الرأي، فإن المجتهد مكلَّف بما غلب على ظنه، وقد يعزُب عنه الدليلُ فيعمل برأيه، فلم يكن مجرد رأيه

حجةً. ولهذا قال الإمام الشافعي وغيره: ليس قول الصحابي حجةً، وإذا روى الصحابي حديثًا ورأى خلافَه عمِلْنا نحن بما رواه لا بما رآه. فلذلك ترى أصاغر الصحابة قد يخالفون أكابرَهم، وترى التابعين قد يخالفون أصاغر الصحابة وأكابرَهم، كما يخالف بعضهم بعضًا. وهكذا تابِعوا التابعين على هذا المنوال، إلّا إذا أجمع الصحابة على أمرٍ الإجماعَ المعتبر. ولهذا رُوي عن الإمام الشافعي أنه قال (¬1): ما جاء عن الله ورسوله فعلى الرأس والعين، وما جاء عن الصحابة تخيَّرنا، وما جاء عن التابعين فهم رجال ونحن رجالٌ. أي أن ما جاء عن الصحابة فإن كانوا أجمعوا فإجماعُهم حجة، وحاشاهم أن يُجمِعوا إلّا على حكمٍ ثابت في الكتاب أو السنة، وإن اختلفوا اجتهدنا واخترنا ما رأيناه أقربَ إلى دلالة الكتاب والسنة، وإن كان قولًا لأحد أصاغرهم يخالف ما عليه الأكابر. وكذا لم يزل علماء الأمة يخالف كلُّ واحدٍ منهم مَن هو أكبر منه، فضلًا عمن هو مثلُه أو دونَه، لاختلاف الأفهام والمدارك، والتفاوت في الاطلاع على الدليل، وكل واحدٍ مكلَّفٌ بما غلبَ على ظنّه أنه حكم الله تعالى، [ص 38] بدليلٍ من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلَّى الله عليه وآله وسلم، وإن خالفَ مَن هو أجلُّ منه وأفضل وأكمل وأكثر. ولا يلزم من مخالفة ¬

_ (¬1) هذا مروي عن الإمام أبي حنيفة في "الانتقاء" (ص 144) و"المدخل" للبيهقي (ص 111) و"الإحكام" لابن حزم (4/ 188) وغيرها.

الإنسان لغيره استنقاصُه له، ولا بُغضُه له، ولا تفضيلُه نفسَه عليه، ولا غيرُ ذلك، وإنما اجتهد ذاك، فعمِلَ بما أدَّاه إليه اجتهادُه كما هو فرضُه، واجتهد هذا، فعمِلَ بما أدَّاه إليه اجتهادُه كما هو فرضه. [ص 39] وفي "الأم" (¬1) في باب الأوقات التي يُكْرَه فيها الصلاة، باب الخلاف في هذا الباب: حدثنا الربيع قال الشافعي رحمه الله تعالى: فخالَفَنا بعضُ أهل ناحيتنا وغيره فقال: يُصلَّى على الجنائز بعد العصر وبعد الصبح ما لم تقارب الشمس أن تطلع، وما لم تتغيَّر الشمس. واحتجَّ في ذلك بشيء رواه عن ابن عمر يُشبِه بعضَ ما قال. قال الشافعي: وابن عمر إنما سمع من النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم النهيَ أن يتحَّرى أحدٌ فيصلِّي عند طلوع الشمس وعند غروبها (¬2)، ولم أعلمه روى عنه النهي عن الصلاة بعد العصر ولا بعد الصبح. فذهب ابن عمر إلى أن النهي يُطلَق على كل شيء، فنهى عن الصلاة على الجنائز لأنها صلاةٌ في هذين الوقتين، وصلَّى عليها بعد الصبح وبعد العصر، لأنا لم نعلمه روى النهيّ عن الصلاة في هذه الساعات. أقول: انظر احتياط هذا الإمام بقوله: "ولم أعلمه روى عنه النهي ... " إلخ، حيث عدلَ عن قوله: "ولم يسمع منه"؛ لأنه قد يكون سمع منه ونسي أو تأوَّل، كما أنه قد يكون ثبت سماع ابن عمر عند غير الإمام الشافعي، فعبَّر بعبارة لا شبهةَ فيها، مشيرًا بها إلى أنه لا يلزمه العمل إلا بما علم. ¬

_ (¬1) "اختلاف الحديث" ضمن كتاب "الأم" (10/ 102، 103). (¬2) أخرجه البخاري (585)، ومسلم (828).

ثم قال بعد كلام (¬1): قال الشافعي: وذهب أيضًا إلى أنه لا يُصلِّي أحد للطواف بعد الصبح حتى تطلع الشمس، ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس. واحتج بأن عمر بن الخطاب طاف بعد الصبح، ثم نظر فلم يرَ الشمس طلعتْ، فركب حتى أناخ بذي طُوى، فصلَّى (¬2). قال الشافعي: فإن كان عمر كره الصلاة في تلك الساعة فهو مثل مذهب ابن عمر، وذلك أن يكون علمَ أن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم نهى عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر، فرأى نهيه مطلقًا، فترك الصلاة في تلك الساعة حتى طلعت الشمس. إلى أن قال (¬3): قال الشافعي: وفي هذا المعنى أن أبا أيوب الأنصاري سمع النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم ينهى أن تُستقبَل القبلةُ أو بيت المقدس لحاجة الإنسان (¬4) ... إلخ. إلى أن قال (¬5): قال الشافعي: علم أبو أيوب النهيَ، فرآه مطلقًا، وعلم ابن عمر استقبالَ النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم لحاجته، ولم يعلم النهي، ومن علمهما معًا قال ... إلخ. إلى أن قال (¬6): قال الشافعي: وفي هذا المعنى أن أُسَيد بن حُضَير ¬

_ (¬1) المصدر السابق (10/ 104). (¬2) أخرجه مالك في "الموطأ" (1/ 368). (¬3) "الأم" (10/ 104). (¬4) أخرجه البخاري (144) ومسلم (364). (¬5) "الأم" (10/ 105). (¬6) المصدر نفسه (10/ 105).

وجابر بن عبد الله صلَّيا مريضَين قاعدينِ بقومٍ أصحَّاءَ، فأمراهم بالقعود معهما (¬1)، وذلك أنهما - والله أعلم - علما أن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم [ص 40] صلَّى جالسًا وصلَّى وراءه قومٌ قيامًا، فأمرهم بالجلوس (¬2)، فأخذا به، وكان الحق عليهما. ولا شكَّ أنه قد عزبَ عنهما أن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم صلَّى في مرضه الذي مات فيه جالسًا، وأبو بكر إلى جنبه قائمًا (¬3) ... إلخ. أقول: انظر كيف جزمَ الإمام رضي الله عنه بأن هذين الصحابين الجليلين عزبَ عنهما ذلك الأمر المشهود الذي لا يكاد يعزُب عن أحد. وهذا حسْنُ ظنٍّ من الإمام رضي الله عنه، وذلك أن الواجب عليه الأخذ بما ثبت عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم، ولو ثبت عن الصحابة خلافه، ومع ذلك فيُحسِن الظنَّ بالصحابة ما أمكنَ، فإن أمكنَ عدمُ الاطلاع قيل: لعله لم يعلم، وإن لم يمكن قيل: لعله عزبَ عنه. وهذا هو الواجب على كل متأخّرٍ في حقَّ من تقدَّمه. والعالم في زماننا يجب عليه الأخذ بالحديث وإن خالفه بعض المجتهدين، ومع ذلك يُحسِن الظنَّ والأدب بمثل ما مرَّ. وإذا ساغ للإمام رضي الله عنه أن يُجوِّز أن أكابر الصحابة لم يطلعوا على بعض الأحاديث، ¬

_ (¬1) راجع "مصنف عبد الرزاق" (2/ 462) و"مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 224، 225). (¬2) أخرجه البخاري (688، 1113، 1236) ومسلم (412) من حديث عائشة. وفي الباب أحاديث أخرى. (¬3) أخرجه البخاري (683) ومسلم (418) من حديث عائشة.

وكان يعزُب عنهم مثل ذلك الأمر المشهور الذي لا يكاد يستقرُّ في الذهن أنه يعزُب عن أحدٍ منهم، فلَأنْ يجوزَ مثلُ ذلك للعلماء المتأخرين في حق المتقدمين أولى وأحرى. والحاصل أن الواجب هو الأخذ بالحديث مطلقًا، ثم يتلطَّف العالم في الاعتذار عمن تقدَّمه بما أمكن، ولو بأن يقول: ربما بلغَهم دليلٌ لم يبلُغْنا، وليس لنا أن نعمل إلا بما بلغَنا. ثم قال بعد كلام: قال الشافعي (¬1): وفي مثل هذا المعنى أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه خطبَ الناسَ وعثمانُ بن عفان محصورٌ، فأخبرهم أن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم نهاهم عن إمساك لحوم الضحايا بعد ثلاث (¬2) ... إلخ. إلى أن قال: وكلٌّ قال بما سمعه من رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم، وكان من رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم ما يدلُّ على أنه قاله على معنًى دون معنًى أو نسخَه، فعلمَ الأولَ ولم يعلم غيرَه، فلو علمَ أمْرَ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم فيه صارَ إليه إن شاء الله. أقول: في "المسند" (¬3) من طرقٍ عن علي رضي الله عنه حديث إباحة الادّخار من لحوم الأضاحي بعد ثلاث، فليراجَع. ¬

_ (¬1) "الأم" (10/ 106). (¬2) أخرجه البخاري (5573) ومسلم (1969). (¬3) رقم (1236، 1237). وأخرجه أيضًا الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 185). وفي إسناده ضعف. والحديث صحيح لغيره.

ثم قال: قال الشافعي (¬1): ولهذا أشباهٌ غيره في الأحاديث، وإنما وضعت هذه الجملة عليه لتدلَّ على أمورٍ غلِط فيها بعضُ من نظرَ في العلم، ليعلَمَ مَن علِمَه أن من متقدمي الصحبة وأهلِ الفضل والدين والأمانة من يعزُب عنه من سنن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم شيء علِمَه غيرُه، ممن لعله لا يُقاربه في تقدُّم صحبته وعلمِه. ويعلَمَ أن علم خاصِّ السنن إنما هو علم خاصٌّ لمن فتح الله عزَّ وجلَّ له علمه، لا أنه عام مشهورٌ شهرةَ الصلاةِ، وجُملِ الفرائض التي كُلِّفَتْها العامةُ، ولو كان مشهورًا شهرةَ جُملِ الفرائض ما كان الأمر فيما وصفتُ من هذا وأشباهه كما وصفتُ. ويعلَمَ أن الحديث إذا رواه الثقاتُ عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم فذلك ثبوته. وأن لا نعوِّل على حديثٍ ليثبتَ أنْ وافقه بعضُ أصحاب النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم، ولا يُردّ لأنْ عَمِلَ بعضُ أصحاب النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم عملًا خالفَه، لأنَّ لأصحاب النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم والمسلمين كلِّهم حاجةً إلى أمرِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وآله وسلم، وعليهم اتباعُه، لا أن شيئًا من أقاويلهم تبِعَ ما رُوي عنه ووافقَه يزيد قولَه شدَّةً، ولا شيئًا من أقاويلهم يُوهِن ما روى عنه الثقة، [ص 41] لأن قوله المفروض اتباعُه عليهم وعلى الناس، وليس هكذا قول بشرٍ غيرِ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم. قال الشافعي (¬2): فإن قال قائل: أَتَّهمُ الحديث المروي عن رسول الله ¬

_ (¬1) كتاب "الأم" (10/ 107). (¬2) كتاب "الأم" (10/ 107).

صلَّى الله عليه وآله وسلم إذا خالفَه بعض أصحابه، جاز له أن يتَّهم [الحديث] عن بعض أصحابه لخلافه، لأن كلًّا روي خاصة معًا. وإن يُتَّهما فما رُوِي عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم أولى أن يُصار إليه. ومن قال منهم قولًا لم يروِه عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم لم يَجُزْ لأحدٍ أن يقول: إنما قاله عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم، لمِا وصفتُ أنه يَعزُب عن بعضهم بعضُ قوله، ولم يجز أن نذكره عنه إلّا رأيًا له ما لم يقلْه عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم. فإن كان هكذا لم يجز أن يُعارَضَ بقول أحدٍ قولُ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم. ولو قال قائل: لا يجوز أن يكون إلا عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم، لم يحلَّ له خلاف من وضعه هذا الموضع. وليس من الناس أحد بعد رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم إلّا وقد أُخِذ من قوله وتُرِك لقول غيره من أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم، ولا يجوز في قول النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم أن يُردَّ لقولِ أحدٍ غيرِه. فإن قال قائل: فاذكُر لي في هذا ما يدلُّ على ما وصفتَ فيه. قيل له: ما وصفتُ في هذا الباب وغيرِه متفرقًا وجملةً. ومنه: أن عمر بن الخطاب إمامَ المسلمين، والمقدَّمَ في المنزلة والفضل وقِدَم الصحبة والورع، والثقة والثبت، والمبتدئ بالعلم قبلَ أن يُسأله، والكاشفَ عنه، لأن قوله حكمٌ يلزم، كان (¬1) يقضي بين المهاجرين والأنصار أن الدية للعاقلة، ولا تَرِث المرأةُ من دية زوجها شيئًا، حتى أخبره أو كتب إليه ¬

_ (¬1) في الأصل: "حتى كان". و"حتى" لا توجد في "الأم"، وبدونها يستقيم السياق.

الضحاك بن سفيان أن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم كتب إليه أن يُورِّث امرأةَ أشيمَ الضبابي من دية زوجها، فرجع إليه عمر وترك قوله (¬1). وكان عمر يقضي أن في الإبهام خمس عشرة، والوسطى والمسبِّحة عشرًا عشرًا، وفي التي تلي الخنصرَ تسعًا، وفي الخنصر ستًّا، حتى وجد كتابًا عند آل عمرو بن حزم الذي كتبه له النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم: "وفي كلِّ إصبعٍ مما هنالك عشْرٌ من الإبل"، فترك الناس قولَ عمر (¬2)، وصاروا إلى كتاب النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم. [ص 42] ففعلوا في ترك أمرِ عمر لأمر النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم فِعْلَ عمر في فِعْلِ نفسه، في أنه ترك فِعْلَ نفسِه لأمر النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم، وذلك الذي أوجب الله جلَّ وعزَّ عليه وعليهم وعلى جميع خلقه. قال الشافعي (¬3): وفي هذا دلالةٌ على أن حاكمهم كان يحكم برأيه فيما لرسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم فيه سنة لم يعلمها، ولم يعلمها أكثرهم، وذلك يدلُّ على أن علم خاصِّ الأحكام خاصٌّ كما وصفتُ، لا عامٌّ كعامِّ جُملِ الفرائض. قال الشافعي: وقسمَ أبو بكر حتى لقي الله عزَّ وجلَّ، فسوَّى بين الحرّ والعبد، ولم يفضِّل بين أحدٍ بسابقةٍ ولا نسبٍ. ثم قسمَ عمر، فألغى العبيد، ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (2927) والترمذي (2110)، وقال: هذا حديث حسن صحيح. (¬2) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (17698) والبيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 93). وكتاب عمرو بن حزم في "الموطأ" (2/ 489) وغيره. (¬3) كتاب "الأم" (10/ 108).

وفضَّل بالنسب والسابقة، ثم قسمَ عليٌّ، فألغى العبيد وسوَّى بين الناس، وهذا أعظمُ ما يلي الخلفاء وأعمُّه وأولاه أن لا يختلفوا فيه. وإنما لله جلَّ وعزَّ في المال ثلاثة أقسام: قسم الفيء، وقسم الغنيمة، وقسم الصدقة. فاختلف الأئمة فيها، ولم يمتنع أحدٌ من أخذِ ما أعطاه أبو بكر ولا عمر ولا علي. وفي هذا دلالةٌ على أنهم يُسلِّمون لحاكمهم وإن كان رأيهم خلافَ رأيه، وإن كان حاكمهم قد يحكم بخلاف آرائهم، لا أن جميع أحكامهم من جهة الإجماع منهم. وعلى أن من ادَّعَى أن حكم حاكمهم إذا كان بين أظهرهم ولم يردُّوه، فلا يكون إلا وقد رأوا رأيَه، قِيْل: إنهم لو رأوا رأيَه فيه لم يخالفوه بعده. فإن قال قائل: قد رأوه في حياته، ثم رأوا خلافه بعده. قيل له: فيدخلُ عليك في هذا - إن كان كما قلتَ - أن إجماعهم لا يكون حجةً عندهم ... إلخ، بكلام يُبطل فيه ما يُسمَّى بالإجماع السكوتي. ثم قال (¬1): فإن قال قائل: أفتجدُ مثلَ هذا؟ قلنا: إنما بدأنا به لأنه أشهرُ ما صنع الأئمةُ، وأولى أن لا يختلفوا فيه وأن لا يجهله العامة، ونحن نجد كثيرًا من ذلك، إن أبا بكر جعلَ الجدَّ أبًا، ثم طرحَ الإخوةَ معه، ثم خالفه فيه عمر وعثمان وعلي. ومن ذلك أن أبا بكر رأى على بعض أهل الردّة فداءً وسبيًا، وحبسَهم لذلك، فأطلقَهم عمر وقال: لا سَبْيَ ولا فداءَ. مع غيرِ هذا مما سكتنا عنه، ونكتفي بهذا منه. ¬

_ (¬1) "الأم" (10/ 110).

[ص 43] ثم ذكر مسائل أخرى مما وقع فيها الخلاف بين الصحابة رضي الله عنهم، وقال في أثناء كلامه (¬1): فدلَّ ذلك على أن قائل السلف يقول برأيه ويخالفه غيرُه، ويقول برأيه ولا يُروى عن غيره فيما قال به شيء. إلى أن قال (¬2): وفي هذا دليلٌ على أن بعضهم لا يرى قولَ بعضٍ حجةً تلزمُه إذا رأى خلافها، وأنهم لا يرون اللازمَ إلا الكتاب والسنة. ثم ذكر كلامًا يُبطِل به إمكانَ العلم بالإجماع الحقيقي، إلى أن قال: قال الشافعي: والعلم من وجهين: اتباع أو استنباط، والاتباع اتباعُ كتابٍ، فإن لم يكنْ فسنَّة، فإن لم يكن فقول عامةِ من سلَفَنا لا نعلم له مخالفًا، فإن لم يكن فقياسٌ على كتاب الله جلَّ وعزَّ، فإن لم يكن فقياسٌ على سنة رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم، فإن لم يكن فقياس على قول عامةِ مَن سلف لا مخالفَ له، ولا يجوز القول إلا بالقياس، وإذا قاس من له القياس فاختلفوا، وسِعَ كلًّا أن يقول بمبلغ اجتهاده، ولم يَسَعْه اتباعُ غيرِه فيما أدَّى إليه اجتهاده بخلافه. والله أعلم اهـ (¬3). وفي ما ذكرناه الدلالةُ التي ليس بعدها أصرحُ منها على كثير مما ذكرناه في هذه الرسالة. ومن تأمَّلَ هذا الفصل من كلام الإمام الشافعي رحمه الله تعالى عرفَ سقوطَ التقليد جملةً إذا ثبتَ الحديثُ، خصوصًا قوله: "ويعلم أن الحديث إذا رواه الثقات عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم فذلك ¬

_ (¬1) "الأم" (10/ 112). (¬2) المصدر نفسه (10/ 113). (¬3) إلى هنا انتهى النقل من كتاب "الأم".

ثبوته، وأن لا نُعوِّل على حديثٍ ليثبتَ أن وافقَه بعضُ أصحاب النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم، ولا يُرَدُّ لأن عمِلَ بعضُ أصحاب النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم عملًا خالفَه، لأنَّ لأصحاب النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم والمسلمين كلِّهم حاجةً إلى أمرِ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم، وعليهم اتباعه لا أنَّ شيئًا من أقاويلهم تَبعَ ما رُوي عنه ووافقَه يزيدُ قولَه شِدَّةً، ولا شيئًا خالفَه من أقاويلهم يُوهِن ما رَوى عنه - أي عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم - الثقةُ، لأن قولَه المفروضُ اتباعُه عليهم وعلى الناس، [ص 44] وليس هكذا قول بشرٍ غيرِ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم. قال الشافعي: فإن قال قائل: أَتَّهِمُ الحديثَ المروي عن رسولِ الله صلَّى الله عليه وآله وسلم إذا خالفه بعض أصحابه جاز له أن يتَّهِمَ [الحديث] عن بعض أصحابه لخلافِه، لأن كلًّا روي خاصةً معًا. وإن يُتَّهما، فما رُوي عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم أولى أن يُصار إليه. ومن قال منهم قولًا لم يَرْوِه عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم لم يجز لأحدٍ أن يقول: إنما قاله عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم، لِما وصفتُ من أنه يعزُبُ عن بعضهم بعضُ قوله، ولم يجزْ أن نذكره عنه إلّا رأيًا له، ما لم يقلْه عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم. فإن كان هكذا لم يجزْ أن يُعارَضَ بقولِ أحدٍ قولُ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم. ولو قال قائل: لا يجوز أن يكون إلّا عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم لم يحلَّ له خلاف من وضعه هذا الموضع. وليس من الناس أحد بعد رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم إلّا وقد أُخِذ من قوله وتُرِك لقولِ غيرِه من أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم، ولا يجوز في قول النبي

صلَّى الله عليه وآله وسلم أن يُرَدَّ لقولِ أحدٍ غيرِه". هذا الإمام الشافعي رحمه الله يقول: "ومَن قال منهم - أي الصحابة رضي الله عنهم - قولًا لم يَروِه عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم، لم يجزْ لأحدٍ أن يقول: إنما قاله عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم، ولم يجز أن نذكره عنه إلّا رأيًا له ... " إلخ. وبالضرورة إن جميع الأئمة هكذا، فلا يجوز أن يُردَّ الدليلُ الصحيح بخلافِهم له واحتمالِ أن يكون ثبت لديهم أرجحُ منه. والله الموفق. [ص 45] السؤال الثاني: قولكم: "أأنتم أعلمُ أم الأئمة الذين جاءوا بعدهم - أي بعد الأئمة الأربعة - مقلِّدين لهم؟ ". فالجواب: أن العلماء الذين جاءوا بعد الأئمة الأربعة ثلاثة أقسام: ففيهم الكثير الطيب أئمة مجتهدون، حتى من الذين يظنُّ الناس أنهم مقلِّدون، حتى لقد عَدَّ أهلُ كلِّ مذهبٍ كثيرًا من المجتهدين في عِدادِ المقلِّدين لإمامهم تكثيرًا للسواد، حتى تنازعت المذاهب الأربعة إمامَ السنة محمد بن إسماعيل البخاري، فعدَّه أهلُ كلِّ مذهب في المقلِّدين لإمامهم، ولا يخفى على أحدٍ أنه كان مجتهدًا مستقلًّا، فكم في "صحيحه" من ردٍّ على كلِّ مذهب منها. ومن طالع مصنَّفات أولئك العلماء عرفَ الحقيقة. القسم الثاني: قوم منتسبون إلى مذاهب الأئمة، وهم مع ذلك مجتهدون، كما مرَّ فيما نقلناه عن السيوطي، وقد قال الشيخ أبو إسحاق: إن أصحاب الشافعي رحمه الله تعالى من هذا القسم. ومرَّ عن القاضي عبد الوهاب المالكي نحوه.

وعليه فتلامذة الأئمة لا يخرجون عن هذين القسمين، وكذا تلامذتهم. ومن راجع كتب الأصول عرف أن كثيرًا من العلماء الذين يظنّ الناس أنهم كانوا مقلِّدين قائلون بمنع التقليد وذمِّه، وإذا منعوه وذمُّوه علمنا أنهم لم يكونوا عاملين به، وإنما كانوا يتظاهرون بالتقليد [ص 46] حذرًا على أنفسهم من مثلِ ما عُومِل به ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهما. ومع ذلك فكانوا يبلِّغون حجةَ الله تعالى بالإشارة والإيماء، كما يقول بعضهم: "والمختار من حيث الدليل كذا" أو "وظاهر هذه الآية أو هذا الحديث كذا"، أو يقول: "هذا مذهبنا، ومذهبُ فلانٍ (يذكر إمامًا آخر) كذا، مستدلًّا بكذا"، ويذكر الآية أو الحديث. وقد يُصرِّحون بالحقّ إذا ألَّفوا أو درسوا في أصول الفقه، حيث يذكرون شروط الاجتهاد، ويصرِّحون أن من جمعَها فهو مجتهدٌ، فرضُه الاجتهاد. ويذكرون ممن منع التقليد مطلقًا من العلماء، ويُردِّدون في مؤلفاتهم قولَ إمامهم إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي، وغير ذلك مما يعرفه مَن طالع مؤلفاتهم. وإذا استفتاهم الناسُ عن مذهب إمامهم نقلوا لهم قوله نقْلَ الراوي المخبر فقط. وهؤلاء على هُدًى وصراطٍ مستقيم. وأما القسم الثالث: المقلدون الذين استخبرتمونا أهم أعلمُ أم مجتهدو هذا العصر؟ [ص 47] فنقول: أهل هذا القسم فِرَقٌ: الأولى: المشتغلون بعلوم اللسان وتأليفها وتصنيفها، ولم يُحصِّلوا غيرَها. الثانية: المشتغلون بنقل أقوال أحد الأئمة والتخريج عليها، وجَمْع

ذلك وتأليفه وتصنيفه، ولم يُحصِّلوا غيرَ ذلك. الثالثة: المشتغلون بالكلام والجدل والمنطق والفلسفة والتأليف فيها، ولم يحصِّلوا غير ذلك. الرابعة: المشتغلون بالتصوف والعبادة والسياحة والتخلِّي عن الناس، ولم يُحصِّلوا غيرَ ذلك. الخامسة: المشتغلون بعلوم الاجتهاد، ولكن لم يبلغوا رتبة الاجتهاد. وهذه الفِرق كلُّها وإن كانوا أو بعضُهم أعلمَ من مجتهدي هذا العصر بالنسبة إلى بعض العلوم، فهم بالنسبة إلى الأحكام الشرعية من العامة لا من العلماء، وإن طار صيتُهم وعظمتْ سُمعتُهم. الفرقة السادسة (¬1): أناسٌ تدلُّ مؤلفاتهم على أنهم أحرزوا علوم الاجتهاد وبرَّزوا فيها، وتدلُّ مؤلفاتهم على تعصُّبٍ شديد للمذهب المنتسبين إليه، بحيث يُقطَع بعدم دخولهم في القسم الثاني. فهؤلاء إذا كان فيهم مَن هو أعلم من مجتهدي هذا العصر فهو لم ينتفع بعلمه، بل يَصدُق عليه من بعض الوجوه قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا}. ومع هذا فإننا لا نقول في شخصٍ معين: إنه كذلك، بل نتخلَّص من ذلك بأن نرجِّح شهادةَ مؤلفاتِه على تعصبه الذي يدلُّ على قصورِه، لاعتضادها بظاهرِ اعترافه بأنه قاصر. ¬

_ (¬1) في الأصل: "الخامسة".

[ص 48] السؤال الثالث: قولكم: "ما تعتقدون في المقلدين من علماء وغيرهم وهم جمهور الأمة: أعلى حقٍّ أم ضلالة؟ ". الجواب: فقد علمتم أننا نعتقد أن من كان من العلماء بالغًا رتبةَ الاجتهاد فهو مجتهد، وإن لم يُصرِّح بذلك، لما مرَّ. والمجتهدون كلُّهم على هدًى من ربهم وصراطٍ مستقيم. وأما من كان قاصرًا عن ذلك، فإن كان من المتعصبين المضادِّين لكتاب الله تعالى وسنة رسوله ولأهل العلم بهما، قائمًا بعداوتهم وإثارةِ العامة عليهم، فهذا هالك بلا شكٍّ. وإن لم يكن بهذه الصفة فهو كمن دونَه من العامة إن لم تقُمْ حجة الله عليهم بمنع التقليد، ومنعِ الإعراض عن كتاب الله تعالى واتخاذِه مهجورًا، والمنعِ من عداوة رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم بمقاطعة سنته، فهو معذور إن شاء الله. وإلّا فأمره إلى الله، إن شاء غفر له، وإن شاء عذَّبه، ما دام محرزًا للإيمان المعتبر. السؤال الرابع: قولكم "ما تعتقدون في مشايخكم الذين أخذتم عنهم العلم، ومشايخهم وهلمَّ جرًّا"؟ الجواب: أنهم قد دخلوا في عموم العلماء، وقد تقدم حكمهم. ومع هذا فهم على قسمين: قسم بلغَ رتبةَ الاجتهاد، فنحن نعتقد فيه كما كان الإمام أحمد بن حنبل يعتقد في الإمام الشافعي، وكما كان الشافعي يعتقده في الإمام مالك، وكما كان مالك يعتقده في كبار التابعين، وكما كان التابعون يعتقدونه في الصحابة رضي الله عنهم. ولنا أسوةٌ بهم في مخالفة كل واحدٍ منهم لشيخه أو مشايخه

في بعض الأحكام، إيثارًا لدلالة كتاب الله تعالى وسنة رسوله، عملًا بقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران: 31]، وقوله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به" (¬1). قال النووي في "أربعينه" (¬2): هذا حديث صحيح، رويناه في كتاب "الحجة" بإسناد صحيح. وقِسم لم يبلغوا رتبة الاجتهاد، فهؤلاء نعتقد فيهم كما كان يعتقده الأئمة في الرواة. السؤال الخامس: "ما تعتقدون في مؤلِّفي هذه الكتب التي تأخذون عنها العلم"؟ الجواب: أنهم قد دخلوا في عموم العلماء، وقد تقدم حكمهم. ومع ذلك فإننا نعتقد فيهم ما كان الأئمة يعتقدونه في الرواة. ولنذكر ها هنا حديثًا ... (¬3) ذهبَ كثيرًا من صدوركم، وهو حديث "الصحيحين" (¬4) عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "مثلُ ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثلِ الغيثِ الكثير أصابَ أرضًا، فكانت منها طائفة طيبة قَبِلتِ الماءَ فأنبتتِ الكلأ والعُشْبَ الكثير، وكانت منها أجادبُ أمسكتْ الماء فنفع الله بها الناسَ، فشرِبوا وسَقَوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى ¬

_ (¬1) سبق تخريجه (ص90). (¬2) انظره مع شرحه "جامع العلوم والحكم" (2/ 393). (¬3) خرم بمقدار كلمة. (¬4) البخاري (79) ومسلم (2282).

إنما هي قِيعانٌ لا تُمسِك ماءً ولا تُنبِتُ كلأً. فذلك مثلُ مَن فَقِهَ في دين الله ونفعَه ما بعثني الله به فعَلِمَ وعلَّم، ومثلُ من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يَقبلْ هُدى الله الذي أُرسِلْتُ". ****

فصل

فصل قد بينّا بحمد الله تعالى الأجوبة عما أوردتموه من الأسئلة، وبعدُ، فإنكم لا تجهلون أننا مأمورون بتدبُّر كتاب الله عزَّ وجلَّ، وتعلُّم وتفهُّم سنة رسوله، فإذا وجدنا آية أو حديثًا يدلُّ على حكم من الأحكام، وبَحثنا حتى غلب على ظننا أنه لا معارضَ له، فهل تُسوِّغون لنا الإعراضَ عن ذلك الدليل إلى قول العلماء؟ هَبُوا أنه يَسُوغ ذلك فيما إذا قام الإجماع على خلافِ ذلك الدليل، وهذا إن لم يكن معدومًا فهو أقلُّ قليل، فما تقولون إذا كان الأئمة مختلفين، فبعضهم يقول بمقتضى ذلك الدليل، وبعضهم يقول بخلافه؟ وقد علمتم أن الله تعالى أمر بردِّ ما اختُلِفَ فيه إلى كتابه وسنة رسوله، فهل تُوجِبون علينا اختيارَ قول الإمام الموافق لذلك الدليل، عملًا بأمر الله تعالى لنا ولسائر المسلمين باتباع كتابه وسنة رسوله، وردِّ ما اختُلِف فيه إليها، أم تُسوِّغون لنا اتباعَ القول المخالف لذلك الدليل لمجرد احتمال أن قائله وقفَ على معارضٍ له؟ وقد علمتم أن هذا مجردُ احتمالٍ الأصلُ عدمُه، والأدلة متواترة والأئمة مُجمِعون على أنه لا يسوغُ الاستناد إلى مثله. وقد مرَّ في كلام الإمام الشافعي بيان ذلك، وهو مع ذلك معارَضٌ بأشياء كثيرة: أولها: احتمال أن يكون ذلك الإمام الذي قال بخلاف ذلك الدليل لم يطلع عليه، أو اطلع عليه وعَزَبَ عنه، أو عَزَبَتْ عنه دلالتُه، ولا سيَّما وقد تقوم قرينة على بعض هذه الاحتمالات، كما سيأتي في مسألة البناء على القبور إن شاء الله.

وثانيها: أن الظاهر عدم هذا المحتمل بدليل عمل الإمام الآخر بما يوافق ذلك الدليل. وثالثها: بحث العالم البحث الواجب حتى يغلب على ظنه المحتمل، ولا سيَّما وأدلة الشريعة في هذه الأزمنة مدوَّنة مخدومة ميسَّرة، ولا سيَّما مع تيسُّر جمع الكتب بهذه المطابع. فمن المعلوم أن مَن جمع الأمهاتِ الستَّ و"مسند" الإمام أحمد وغيرها من كتب السنة المطبوعة الآنَ كان عنده من الأحاديث ما لم يكن عند أحد الأئمة المتقدمين، بل هذا المتعيَّن في بعض الأحاديث بعينه. هَبُوا أنه لا يَسُوغ لنا اختيارُ أحد القولين على سبيل الاجتهاد لعدم التأهل له في زعمكم، فما تقولون في اختيار أحد القولين أو الأقوال على سبيل التقليد؟ ويكون الاختيار لما ظهر رجحانه بموافقة الدليل الراجح، فإن علماء التقليد إلّا من شذَّ يقولون: إن للإنسان أن يُقلِّد من شاء من الأئمة في حقّ نفسه، ويتجزَّأ التقليد، وهذا هو الذي لا ينبغي غيره، لما هو معلوم من عمل السلف الصالح، حتى الأئمة الأربعة أنفسهم، فلم يكونوا يُلزِمون العاميَّ أن لا يستفتيَ إلا عالمًا واحدًا. واستثنى بعضهم ما إذا كان بقصد تتبُّعِ الرخص، فإنه لا يجوز. وصرَّح بعضهم بجواز تتبُّع الرخص أيضًا، وتتبُّعُ الرخص لا يتأتَّى إلّا فيما إذا كان التقليد بحسب الهوى والتشهّي، أما إذا كان اتباعًا لما يُرجِّحه الدليل - كما هو الفرض في مسألتنا - فلا يتأتى ذلك. وشرطَ آخرون أن لا يُؤدِّي تجزِّي التقليد إلى التلفيق بحيث تتركَّب قضيةٌ لا يقول بها كلٌّ من المقلَّدين، كأن يقلِّد الشافعيَّ في عدم نقض الوضوء بخروج الدم، ويقلِّد أبا حنيفة في عدم

النقض بمسِّ الذكر، ويريد أن يعمل بهما في وضوء واحد، قال: لأن وضوءه باطل اتفاقًا. وأجازه بعضهم، وهو المتعيِّن، كما يقتضيه إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم. يأتي العاميُّ أحدَ العلماء فيسأله عن مسألة في نواقض الوضوء مثلًا، فيفتيه، ثم يأتي عالمًا آخر، فيسأله عن مسألة أخرى في نواقض الوضوء أيضًا، فيفتيه، فيذهب فيعمل بهما معًا، وقد يكون ذلك تلفيقًا على ما وُصِف، كأن يُفتِيَه الأول بعدم النقض بخروج الدم، والثاني بعدم النقض بمسّ الذكر، ويكون الأول يرى النقض بمسِّ الذكر، والثاني يرى النقض بخروج الدم. بل ربما تتركب من العمل بمجموع الفتاوى صورة باطلة إجماعًا من حيث جملتها، فقد كان العاميُّ في تلك القرون معرّضًا لهذا، والعلماء - الصحابة ومَن بعدهم - لا يخفى عليهم مثل هذا، ولم يأمر أحدٌ منهم أحدًا من العامة الاحتراز عن ذلك. فإن قيل: لكن الفتوى في تلك القرون كانت ببيان الدليل كما ذكرتم، فكان العامي في حكم المجتهد، فكما أنه لا بدعَ في قول المجتهد بعدم النقض بالأمرين مثلًا تبعًا للدليل، وإن كان لم يسبقه أحدٌ من المجتهدين إلى القول بذلك، بل بعضهم يرى عدم النقض بالأول ويرى النقض بالثاني، وبعضهم بالعكس، فكذلك العامي في الفتوى المبيَّن فيها الدليلُ. فالجواب: أن كلامنا مبني على التنزل في جواز التقليد، والقائلون بجواز التقليد يزعمون أن العمل بهذا النوع من الفتيا تقليد، وأن عامة السلف كانوا مقلِّدين لعلمائهم، وبهذا يتم لنا الاستدلال بذلك على جواز تجزِّي التقليد وجواز التلفيق.

وأما من يعترف بأن العمل بهذا النوع من الفتيا ليس تقليدًا، فهو يرى بطلانَ التقليد من أصله، وهذا هو الأصل الذي ندعو إليه، وإنما أردنا أن نُثبت أن العمل بالطريق التي ندعو إليها صحيح اتفاقًا، وذلك أننا نقول: إن العالم منا يجتهد قدرَ وُسْعِه، وينظر في أدلة المجتهدين المشهورين، ثم يعمل بالراجح من الأدلة، ولا بدَّ أن يكون موافقًا لأحدهم. فمن اعترف ببطلان التقليد فإنه يُصحِّح عملَنا، لأنه هو الفرض المتعيَّن علينا، إذ قد اجتهدنا في الأدلة وأخذنا بالراجح. وأما مَن يزعم صحةَ التقليد فإنه يصحِّح عملنا أيضًا، لشرطِنا موافقةَ أحد المجتهدين المشهورين. وأما المتحيِّر فإنه يرى أن عملنا صحيح على كلا التقديرين، والحمد لله رب العالمين. وكما أن جمهور علماء المقلِّدين قائلون بجواز أن يقلِّد الإنسان مَن شاء من الأئمة في حقِّ نفسه مع تجزئة التقليد، فكذلك محققوهم قائلون بجواز تجزِّي التقليد في الحكم والفتوى. وأما نحن فنقول: إنما منعَ بعضُهم تجزِّي التقليد في الحكم والفتوى لأمرين: الأول: خشية أن يكون الحاكم والمفتي رقيقَ الدين، فيتبع هواه، فإذا جاءه أحد الخصمين أو السائل بعَرَضٍ من الدنيا حكمَ له أو أفتاه بالمذهب الذي وافق هواه، وإذا جاءه خصمه بعَرَضٍ أكثر حكم بالمذهب الآخر، فاتخذ دينَ الله لُعبةً وشبكةً يصطاد بها أعراض الدنيا. الثاني: أن القضاء يحتاج إلى توليةٍ من السلطان، وكذلك تبعتْه الفتوى في الأزمنة الأخيرة، وجرت عادة السلاطين أن يُعيِّنوا للقاضي أو المفتي مذهبًا معيَّنًا ليقضي أو يفتي به. وأيضًا فالمفتي وإن لم يكن مُولًّى من قِبل السلطان جرت العادة أنه

يكون منتسبًا إلى مذهبٍ من المذاهب المشهورة، فلا يأتيه يستفتيه إلّا العامة الملتزمون لذلك المذهب، وهم إنما يسألونه عن ذلك المذهب المعيَّن، فكيف يجيبهم بغيره؟ ولهذا حكى بعضهم قال (¬1): كان السيوطي رحمه الله تعالى ربَّما يُرجِّح خلافَ مذهب الشافعي في بعض المسائل اجتهادًا، فإذا جاءه سائل في تلك المسألة أفتاه بمذهب الشافعي، فقيل له في ذلك، فقال: إنما يسألونني عن مذهب الشافعي لا عن الراجح عندي. إذا تقرر ذلك فقد قال المحققون من علماء التقليد: إذا كان القاضي أو المفتي عدلًا ولم يمنعه السلطان من الحكم بغير مذهب معيَّن، فله تجزئة التقليد في القضاء أيضًا، فيختار من مذاهب الأئمة ما يُرجِّحه الدليل إن كان متأهلًا أو نحو ذلك. وأما المفتي فإن كان مُولًّى، فإذا كان عدلًا ولم يمنعه السلطان من الفتوى بغير مذهب معين فله تجزئة التقليد في الفتوى أيضًا، فيختار ما يرجِّحه الدليل أو تقتضيه المصلحة كالتشديد على القوي المفرِّط والتخفيف على الضعيف المعذور ونحو ذلك. وإن لم يكن مولَّى (¬2) فيُشترط في حقه العدالة فقط، كذا قيل. وينبغي أنه يشترط في المفتي أن لا يفتي بغير المذهب المنتسب إليه، إلّا أن يذكر للسائل أن مذهب إمامنا كذا. ولكن مذهب فلانٍ من الأئمة كذا، ويرشده إلى تقليده إن أراد. هذا على مقتضى تفريع المقلدين، وأما ما ندعو إليه فإننا نقول: إنه ينبغي لأولي الأمر أن لا يُولُّوا القضاء أو الفتوى إلّا مَن كان عدلًا عالمًا بالكتاب والسنة وأقوال الأئمة، وهو الذي ندَّعي له الاجتهاد، وهو المستحق للقضاء ¬

_ (¬1) انظر "الميزان" للشعراني (1/ 16). (¬2) بعده في الأصل: "فإن كان".

والفتوى إجماعًا، فيولِّيه السلطان القضاءَ بما ترجَّح له دليله الشرعي بعد اجتهاده، بشرط موافقة أحد المجتهدين المشهورين، وكذلك الفتوى، ويشترط فيها أيضًا أن يُبيِّن للمستفتي أن الفتوى هي بما اقتضاه اجتهاده، ويُبيِّن له مَن وافقه من المجتهدين. وينبغي للناس أن يَعْمِدوا إلى مَن كان بقربهم من مدّعي الاجتهاد الظاهري العدالة، فيستفتوهم في سائر أمور دينهم، فيفتي العالم سائلَه كما كان عليه العمل في السلف الصالح، بذكرِ الدليل وتفسيره وغير ذلك، ثم يخبره بمن وافق ذلك من الأئمة، فيعمل السائل بتلك الفتوى ويكون بريئًا بيقين، لأنه إن كان العمل بالتقليد غير جائز فهو قد أدّى أقصى ما يمكنه، وهو سؤال العلماء المعاصرين له طبقَ ما كان عليه العملُ في القرون الأولى بمعرفة الدليل ودلالته وعدم المعارض، وليس يمكنه أكثر من هذا إلّا أن يتفرغ لطلب العلم حتى يبلغ رتبة الاجتهاد، وهذا ليس مكلَّفًا به كلُّ أحدٍ بلا خلاف. وإن كان العمل بالتقليد جائزًا فإما أن يكون متعينًا في هذه الأزمان كما زعم، وإما أن لا يكون متعينًا، فإن لم يكن متعينًا فالأمر واضح، لأنه يكون المرء حينئذٍ (¬1) مخيَّرًا بين التقليد وبين استفتاء علماء عصره، واستفتاءُ علماء عصره على ما ذكرنا أرجح لما قررناه، وهو مع (¬2) ذلك في حكم المقلد للإمام الذي شرطنا موافقة قوله. وإن كان متعينًا فقد شرطنا أن يخبره المفتي بموافقة أحد المجتهدين المشهورين، وحينئذٍ يكون في حكم المقلد لذلك المجتهد، وقد التزم الأدب مع كتاب الله تعالى وسنة رسوله، ومع علماء ¬

_ (¬1) اختصرها المؤلف إلى (ح) وكذا ما بعدها. (¬2) هكذا استظهرنا الكلمتين من الأصل.

عصره، ومع الأئمة المجتهدين، إذ لم يُرجِّحْ أحدَهم على غيره مطلقًا بدون مرجِّح ظاهر، كما هو شأن المقلد المحض، بل عمل بقول هذا في مسألة، وقولِ الآخر في أخرى، وترجيحه بمقتضى الدليل الشرعي كما عرفه وفهمه، وكما أخبره مفتيه أنه لا معارضَ له. وهذا كما كان علماء التابعين ومَن بعدهم يتخيرون في أقوال الصحابة، ويرجِّحون بحسب ما يقتضيه الدليل، ويُفتون القاصرين بذلك. رُوي عن الإمام الشافعي أنه قال (¬1): ما جاء عن الله ورسوله فعلى العين والرأس، وما جاء عن الصحابة تخيَّرنا، وما جاء عن التابعين فهم رجال ونحن رجال. ونحن نقول: ما جاء عن الله ورسوله فعلى الرأس والعين، وما جاء عن الأئمة المجتهدين من الصحابة وغيرهم مجمعًا عليه فهو في حكم ما جاء عن الله ورسوله، فعلى الرأس والعين؛ أو مختلَفًا فيه تخيَّرنا، فاخترنا ما ظهر لنا رجحانه بالنسبة إلى الدليل من كتاب الله تعالى وسنة رسوله. ومع ذلك فنعوذ بالله عزَّ وجلَّ ونبرأ إليه من تنقُّص أحدٍ من الأئمة رضي الله عنهم، كما كانوا يعوذون بالله ويبرأون إليه من تنقُّص أحدٍ من الصحابة، ولكن فرض الله في حقِّنا أن نتخيَّر في أقوال المجتهدين إذا اختلفوا، عملًا بأمره أن يُرَدَّ ما اختُلِف فيه إليه وإلى رسوله، وكان هذا في حياة رسوله بالرد إلى كتاب الله تعالى وإلى رسوله بنفسه، وبعد وفاة رسولِه بالرد إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله، وهذا كما كان عمل الأئمة رحمهم الله تعالى إذ فرض الله عليهم ذلك، فكانوا يتخيرون في أقوال الصحابة إذا اختلفوا بردّها إلى كتاب الله ¬

_ (¬1) هذا مشهور عن الإمام أبي حنيفة، وقد سبق تخريجه (ص 114).

تعالى وسنة رسوله، واختيار ما ظهر لهم رجحانُه. وبهذا تبيَّن أوضحَ البيان أن باب العمل بالدليل مفتوح بالاتفاق، أما على القول بوجود المجتهدين اليوم فواضح، وأما على القول بانقطاع الاجتهاد فالأدلة الشرعية محفوظة، وأقوال المجتهدين مدوَّنة، ولا مانعَ من تقليد أيّ مجتهدٍ كان، فلا أقلّ من ترجُّح من يوافق قوله الدليل، ولا أقلّ من أن يكون مدَّعي الاجتهاد اليوم أهلًا للترجيح، مع أنه لو فُرِض أنه ليس مجتهدًا وأنه أخطأ في الترجيح، فليس في ذلك محذور، لأن القائلين بالتقليد يجيزون التقليد ابتداءً، فلأن يجوز بعد بذل الوسع في طلب المرجِّح الشرعي أولى وأحرى. وبهذا يَسْلَم القاصر من محاربة الله ورسوله باتخاذ القرآن مهجورًا والزيغ عن اتباع الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلم، والله سبحانه وتعالى يقول: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]. وفي الحديث الصحيح: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئتُ به" (¬1). ويَسْلَم من الجهل بالدليل الشرعي في عمله، ويَسْلَم من سوء الأدب مع بعض الأئمة المجتهدين بتنقُّصِهم والتعصُّب عليهم والترجيح عليهم بدون مرجِّح معتبر، ويَسْلَم من عناد علماء عصره القائمين بعلوم الكتاب والسنة وغير ذلك، وحَسْبُه أنه موافق للشرع بيقين. فهذه الميزان، لا "ميزان" الشعراني رحمه الله، فإنه بناها على أن كل فردٍ من أفراد المجتهدين في المسائل الخلافية مصيبٌ باعتبارٍ مخطئ باعتبارٍ، أما إصابته ففي نسبته الحكمَ الذي قال به إلى الشريعة، وأما خطأه ففي زعمه ¬

_ (¬1) سبق تخريجه (ص 90).

إطلاقَ الشريعة ذلك الحكم. مثاله: الماء المستعمل، قال أبو ثور وداود وأصحابه: إنه طاهر مطهِّر غير مكروهٍ استعمالُه، وقال مالك وأصحابه: طاهر مطهِّر مكروهٌ استعمالُه، وقال الشافعي: طاهر غير مطهِّر، وقال أبو يوسف: إنه نجس. كذا في "بداية المجتهد" (¬1). فالشعراني رحمه الله يقول (¬2): الأول مخفف، وهو محمول على أن يكون المستعمل نبيًّا أو وليًّا، فيبقى الماء على أصله، لا يتقاطر فيه شيء من الذنوب. والثاني أشدُّ منه قليلًا، وهو محمولٌ على ما إذا كان المستعمل مستورًا ومريدُ التطهير غير مُكَاشَف، فهو شاكٌّ هل تقاطَرَ فيه شيء من الخطايا أو لا؟ ولما كان الظاهر التقاطر كُرِه له التطهُّر به، وكذا إذا كان مكاشفًا، ووجد أن الماء لم يتقاطر فيه إلّا شيء من المكروهات ونحوها. والثالث أشدّ، وهو محمول على ما إذا كان المستعملُ مسرِفًا على نفسه ومريد التطهير غير مكاشف، فإنه حينئذ يتأكَّد عنده أنه تقاطر في الإناء شيء من المعاصي، ولكنه لما لم يكن مشاهدًا لها لم يُحكَم في حقه بنجاسة الماء، غير أنه غير مطهِّر. وكذا إذا كان مريد التطهير مكاشفًا، وشاهد الماء، فإذا هو لم يتقاطر فيه إلّا شيء من الصغائر. والرابع أشدُّ من الجميع، وهو خاصٌّ بما إذا كان مريد التطهير مكاشفًا، وشاهد الماء قد تقاطر فيه شيء من الكبائر. هذا قضية كلام الشعراني رحمه الله أو نحوه، وحاصل ما ذكر أن الحكم ¬

_ (¬1) (1/ 30). (¬2) انظر "الميزان الكبرى" (1/ 108).

الشرعي في الماء المستعمل أنه يختلف باختلاف الأحوال، ففي الحال الأول طاهر ومطهِّر غير مكروه، وفي الثاني مكروه، وفي الثالث غير طهور، وفي الرابع نجس. وحينئذ فأبو ثور وداود وأصحابه وإن أصابوا في قولهم بالنسبة إلى ما حمل عليه قولهم، فإنهم أخطأوا في إطلاق ذلك وتعميمه، وذلك أنهم رأوا بعض الأدلة تدل على أن شيئًا من المستعمل طاهر طهور غير مكروه، فقالوا به وعمَّموه في جميع الأحوال، والحال أنه واقع فيما إذا كان المستعمل نبيًا أو وليًّا فقط. وعلى هذا فقِسْ. والحاصل أن قضية ميزانه أنهم جميعهم على خطأ، لم يصيبوا الحكم الشرعي، وإن أخذ كلٌّ منهم بطرفٍ منه. وهكذا عمَّم ميزانه في جميع مسائل الخلاف، فإذا جميع أئمة الصحابة والتابعين وتابعيهم والأئمة المجتهدين الأربعة وغيرهم كلهم عنده كما ترى مخطئون. وهذا ضدُّ ما قاله قوم: إن كل مجتهد مصيب، وإن الحق متعدد. وكلاهما باطل، وقوله رحمه الله: أظهر بطلانًا لاقتضائه إجماعَ الأئمة على الخطأ في جميع مسائل الخلاف ما عداه. فإن قيل: إنه أراد بميزانه دفعَ ما يُوهمه الاختلاف من تناقض الأدلة الشرعية. فالجواب: أن هذا مندفعٌ بما هو معلوم أن المجتهدين غيرُ معصومين عن الخطأ في الاجتهاد، فقد يجهل أحدهم الدليل، وقد ينساه، وقد يَعزُب عنه، وقد تَعزُب عنه دلالته، إلى غير ذلك. فلا جَرمَ كانوا معرَّضين للخطأ، وهذا يقتضي أن يكونوا في المسائل الخلافية على قسمين: مصيب فحسبُ،

ومخطئ فحسبُ. وبهذا ثبت الحديث الصحيح (¬1) أنه "إذا حكم الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا حكم فأخطأ فله أجرٌ واحد"، وعلى هذا أجمع الصحابة رضي الله عنهم فمَن بعدهم من أئمة الأمة. وبهذا يثبتُ نزاهةُ الشريعة عن التناقض، ويثبتُ نزاهة الأئمة، لأننا لا نقول: إنهم جميعهم مخطئون كما هو قضية قوله، بل ولا نجزم في أحدٍ منهم بعينه أنه مخطئ، وإنما نُرجِّح ما ترجَّح لنا من حيث الدليل. ويثبتُ أيضًا نزاهةُ الصحابة رضي الله عنهم وجميع الأمة عن الإجماع على الخطأ، بخلاف ما يقتضيه قوله. إلى غير ذلك مما هو واضح جلي. فوازِنْ أيها القارئ بين الميزانين وفَّقك الله تعالى. قال المقلِّدون: أيها القوم! قد جادلتمونا فأطلتم جدالَنا، وما لنا ولتضييع أعمارنا في نزاعٍ لا ينقطع. هَبُوا أن كلّ ما احتججتم به صحيح، وكلّ ما دافعنا به هَباءٌ تذهب به الريح، ولا سيَّما والطريقة التي أرشدتم إليها قريبةٌ من الصواب أو هي الصواب عينُه. لكن أنتم لا تجهلون أنّ بين زماننا هذا والقرون الثلاثة بَونًا بعيدًا، فقد كان المجتهدون لا يحُصَون كثرةً، وأما في عصرنا هذا فأنتم تعلمون أنه بعد تسليم وجود الاجتهاد فلأفراد يُعدُّون بالأصابع، لو كلَّفتم جميعَ المسلمين قصدَهم من أطراف المعمورة في كل واقعةٍ تعرِضُ لكان هذا تكليفَ ما لا يُطاق. وكيف يصنع الناس بعباداتهم ومعاملاتهم اليومية؟ مع أن كثيرًا ممن يدّعي الاجتهاد ليس عنده من العلم شيء، بل كثيرًا ما تُتَّخذ دعوى الاجتهاد وسيلةً إلى اتباع الشهوات، والاسترسال في الأهواء، واستخدام الأدلة الشرعية في الأغراض النفسية ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (7352) ومسلم (1716) من حديث عمرو بن العاص.

بدون هدًى من الله، فيجعلون الشرع تبعًا لأهوائهم وسُلَّمًا لشهواتهم، وينظرون إلى البدع الناشئة عن الاختلاط بالأجانب، فيأخذون على عاتقهم نصرتَها بتأويل أدلة الشرع إليها، إلى غير ذلك من المفاسد التي لا تخفى على أحد. وكلُّ أحدٍ لا يخفى عليه أن تقليد أحد الأئمة الأربعة أقربُ إلى دين الله تعالى من سؤال أحد هؤلاء المنتحلين للاجتهاد على هذه الصفة. * يقول عبد الله المفتقر إليه: هذا الكلام صحيح، فإنا لا نعلم الآن على ظهر الأرض من يصحُّ منه دعوى الاجتهاد إلّا أفرادًا معروفين، وأما من ينتحل الاجتهاد لأغراضه (¬1)، بل لخدمة شهواته وهواه فهذا أضرُّ على الدين من غلاة المقلِّدين، فإن المقلدين إنما أُتُوا من الغلوّ في حسن ظنِّهم بالأئمة الأعلام، حتى أدَّاهم ذلك إلى تقديم قولهم على أدلَّة الكتاب والسنة، ظنًّا أنهم اطلعوا عليها، وإنما خالفوها لما هو أقوى منها كما مرَّ بيانه. وأما هؤلاء المنتحلون فإنما يتخذون انتحال الاجتهاد وسيلةً لأغراضهم وأهوائهم. وهذا الأمر هو الذي غرَّ بعضَ صالحي المقلِّدين حتى ذهب إلى سدِّ باب الاجتهاد، وإن لم يُوفَّق للصواب في ذلك، لأن الأرض لا تخلو من قائم لله تعالى بالحجة، وحجة الله تعالى بكتابه وسنة رسوله باقيةٌ إلى يوم القيامة. وإنما الواجب أن يُميَّز بين المُحِقِّ والمُبْطِل، فلا ينبغي أن يُدْفَع الباطل بوجهٍ يقتضي دفع الحق، كيف وهو إذن باطل مثله يحتاج إلى دفع، ومع ذلك فهو غير مستحق أن يظهر عليه؛ لأن الله تعالى إنما وعد الحقَّ بالظهور على ¬

_ (¬1) هكذا استظهرنا الكلمة، ورسمها غير واضح.

الباطل، وإنما أوقع المسلمين فيما أوقعَهم فيه هذه الحيلة العوجاء، يريد أحدهم أن يدفع الباطل فيَعْمِد إلى باطلٍ مثلِه ليدفعه به، فيُزْهِق الله الجميع ويُظهِر الحقَّ على لسان من اختار، كما قال تعالى: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأنفال: 37]. ومع هذا فالمفسدة في دفع الحق أضرُّ من المفسدة في صولة الباطل؛ لأن في كتاب الله تعالى وسنة رسوله ما يُميِّز بين المحق والمبطل، والهادي من المُضِلّ، وقد وعد الله تعالى الحقَّ بالظهور على الباطل، قال عزَّ وجلَّ: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 18]. والجواب عمّا مرَّ أن يقال: أما قولكم: "أين زماننا هذا من القرون الثلاثة؟ ... " إلخ، فالجواب: هذا مسلَّم، والسبب في ذلك ظهور بدعة التقليد، فإنها لما ظهرت صار من يريد طلب العلم إنما همُّه أن يتعلَّم في مذهب بعض الأئمة، فيشتغل بذلك من أول عمره، فينشأ على ذلك، وربما أفنى فيه جميع عمره. وأما سائر أهل المعاش فغاية أحدهم أن يتعلم مختصرًا في المذهب الذي عليه أبوه، ليعمل به، ثم يذهب في عمل دنياه، وزادَ الطينَ بِلَّةً كون الدُّوَل التي تتولَّى أمور المسلمين من المقلدين، فصاروا يُولُّون القضاء والإفتاء والتدريس غير أهلها، بل يشترطون أن يكون مقلدًا، فلو كان مجتهدًا لم يولُّوه شيئًا. وبعد أن صارت المذاهب أحْزابًا كلٌّ منها يتعصب لحزبه صار اجتهاد المتفقهين فيها إنما هو في جمع العامة، وجَرِّهم إلى جانبه، وتسليطهم على مَن يخالفه.

ولمّا تكافأت هذه الأربعة المذاهب اصطلح فقهاؤها على أن يعترف كلٌّ منهم للآخر، ويتعصبوا على مَن خرج عنهم. فصار الاجتهاد مطرودًا متعصَّبًا عليه، ومن تظاهر به قيل: هذا مبتدع خارج عن المذاهب الأربعة، فاجتمعوا على أذيته، ولم يجد من يردُّ عنه، لأن أمور الدولة بأيديهم. ثم يجيء طالب العلم، فيرى هوانَ الاجتهاد وما وقع فيه صاحبه من المشقة والعناء، فتنصرف همتُه عن سلوك تلك الطريق، لما يرى أن نتيجتها في الدنيا العناء والتعب، بخلاف طريق التقليد، فإنه يرى نتيجتها في الدنيا القضاء والإفتاء، والمناصب العالية، والرتب السامية، والأموال الواسعة، والمواكب التابعة، إلى غير ذلك. ثم طرأتْ بعد ذلك تلك القولة، أي انقطاع الاجتهاد، وشاعت في الناس، فكانت ضِغثًا على إبَّالةٍ، إذ انتشر بين الناس أن الاجتهاد ممتنع، فانقطعت رغبات الناس فيه ضرورةَ أن الهمم لا تتعلق إلا بما في نيله مطمع. ومع ذلك فإن الله تعالى لا يُخلِف وعدَه بحفظ الدين، فلم يزل في هذه العصور كلها من تقوم به الحجة من المجتهدين رغمًا عن تلك العوائق والقواطع، كما بُيِّن في هذه الرسالة وغيرها، والطريق بحمد الله تعالى واضحة ميسَّرة. وأما قولكم: إنه لا يطيق جميع المسلمين قصدَ المجتهد في كل واقعة، فهذا صحيح، ولكن البلاد على قسمين: الأول: الذي فيه أو بالقرب منه عالمٌ وبالكتاب والسنة وأقوال الأئمة، عدلٌ يدعي الاجتهاد، فهؤلاء يتعين عليهم الرجوع إلى قوله على ما شرحنا، وبعد شرط العلم والعدالة وموافقة أحد المجتهدين ينتفي المحذور.

والثاني: البلد الذي ليس فيه ولا بالقرب منه عالمٌ كذلك، فالواجب على أهل هذا البلد أن يُرسِلوا إلى أقرب عالم كذلك منهم من يستفتيه في الوقائع على ما شرحنا، وينقل إليهم على سبيل الرواية، ويُهَيِّئوا من طلبة العلم مَن يرحل لطلب العلم والسموّ إلى درجة الاجتهاد، فإن ذلك فرض كفاية إجماعًا. قال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122]، والأدلة في هذا لا تُحصَى. كيف والإمامة والقضاء والفتوى والحسبة وغيرها مشروط فيها الاجتهاد إجماعًا. وكونُ طلب رتبة الاجتهاد فرضَ كفاية مما لا يخالف فيه مسلم، وما من بلدٍ إلا وفيه كثير من طلبة العلم، فإذا قام أغنياؤه بكفاية نفرٍ من الطلبة وكفاية عائلاتهم وساعدوهم على الرحلة إلى العلماء لطلب العلم، لكانوا قد أدَّوا ما يجب عليهم في هذا. بل لو فُرِض أنه ليس على وجه الأرض مجتهد لما منع ذلك من وجوب طلب رتبة الاجتهاد، وذلك أن العلوم مدوَّنة، والأدلة الشرعية محفوظة مبيَّنة موضَّحة ميسَّرة، وما من علمٍ إلا وثمَّ رجالٌ كثير يُتْقِنونه، غايةُ الأمر أنه يَقلُّ الجامعون للعلوم، وهذا ليس مانعًا، فالطالب يأخذ من هذا علم النحو، ومن هذا علم التصريف، ومن هذا علم البيان، ومن هذا علم أصول الفقه وهلمَّ جرًّا، وإذا هو قد جمع علوم الاجتهاد. وبما أن هذا غير ممتنع قطعًا على كل تقدير، فإن ما ذكرناه من أنه يجب على أهل كل بلدٍ ترشيحُ نفرٍ من طلبة العلم لطلب علوم الاجتهاد = أمرٌ لا ينبغي أن يخالف فيه أحدٌ. وأما أعمالهم في عبادتهم اليومية، فإن كانوا مقصِّرين عن الإرسال إلى

أقرب عالم كما مرَّ، وعن تهيئة بعض الطلبة، فأعمالهم - والله أعلم - باطلة. وإن كانوا غير مقصِّرين بل يرسلون إلى ذلك العالم فيما يَعرِض لهم، وقد هيَّأوا بعض الطلبة كما مرَّ فإنه يَسُوغ لهم في مدة انتظار عود الخبر من ذلك العالم أن يسألوا مَن كان له بعضُ إلمامٍ بالعلم من أهل بلدهم، ليطالع بعض الكتب التي بينت فيها الحكم بأدلته، ككتاب "الأم" للشافعي وغيرها، ويعملوا بما يخبرهم أنه ظهر له مع موافقته لأحد المجتهدين. والحاصل أنهم يبذلون أقصى ما يُمكِنهم في ذلك، حتى يعود جواب العالم الجامع الشروط، فيعملون به، فإذا منَّ الله تعالى على أولئك النفر الذين رشَّحوهم لطلب علوم الاجتهاد أو بعضهم استغنَوا بهم. على أننا لا نرى للقاصر الاقتصارَ على استفتاء عالم واحدٍ في جميع دينه، بل الأولى أن يستفتي هذا العالم في هذه المسألة، والعالم الآخر في أخرى، وهكذا. فإن اقتصر على استفتاء عالم واحد بأن لم يتيسَّر له غيره فلا بأس. ولو أن الناس فزعوا إلى هذه الطريقة التي فتح الله علينا ببيانها لعادتِ الأرضُ مُشرِقةً بنور هذا الدين الشريف، ولم يَمْضِ زمنٌ يسيرٌ حتى تعود الأمة الإِسلامية من حيث علومها الدينية كما كانت عليه في القرون الثلاثة، وكذلك من حيث عزّها وشرفها وقوتها، لأن تلك الطريقة تقضي على هذا التفرق والتحزُّب والتعصُّب قضاءً باتًا، وتصبح الأمة كما كانت بالأمس على مذهب واحدٍ، ولا سيَّما إذا تيسَّرتْ لها في الاعتقاد طريقةٌ نحو هذه. ولعل الله تعالى يفتح عليَّ ببيانها في المسألة الآتية إن شاء الله تعالى.

المسألة الثانية السنة والبدعة

المسألة الثانية السنة والبدعة * تمهيد * البحث الأول: البناء على القبور * البحث الثاني: اتخاذ القبور مساجد * البحث الثالث: زيارة القبور * البحث الرابع: التبرك * البحث الخامس: التوسُّل * بحث في اتخاذ ليلتي المولد والمعراج عيدًا

[تمهيد]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [تمهيد] [ص 1] السنة لغةً: الطريقة والسيرة، واصطلاحًا للفقهاء: مرادف المندوب، وشرعًا إطلاقانِ: الأول ما جاء عن الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلم قولًا وفعلًا وتقريرًا. والثاني ما شرعه الله تعالى لعباده بكتابه وعلى يد نبيه صلَّى الله عليه وآله وسلم. والبدعة لغةً: الأمر المبتدع، أي المخترع على غير مثالٍ سبقَ، إما مطلقًا، كقوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البقرة: 117] أي: مُبدِعُهما، كما في "المختار" (¬1) وغيره. وإما مقيَّدًا، كأن رأيتَ بخيلًا أعطَى دينارًا، فإنك تقول: هذا الفعل من هذا الرجل بدعة. وشرعًا: الأمر المبتدع في الدين على غير مثالٍ من الكتاب والسنة. والمحدَثة لغةً: الأمر المكوَّن بعد أن لم يكن: إما باعتبار ذاتِه، كما إذا أعطى كريمٌ دينارًا أو أكثر، فإنك تقول لتلك الإعطاءة: محدثة. وإما باعتبار نوعه، كما إذا أعطى بخيلٌ دينارًا، فإنك تقول: هذا الفعل من هذا الرجل مُحدَث، وهي بهذا الاعتبار مرادفة للبدعة. قال (¬2): قوم إذا حاربوا ضرُّوا عدوَّهمُ ... أو حاولوا النفعَ في أشياعهم نفعوا ¬

_ (¬1) "مختار الصحاح" (بدع). (¬2) هو حسَّان بن ثابت رضي الله عنه، والبيتان من قصيدة له في الديوان (1/ 102، 103) و"سيرة ابن هشام" (2/ 564) و"تاريخ الطبري" (3/ 118) و"الأغاني" (4/ 149).

سجيَّةٌ تلك فيهم غيرُ مُحدَثةٍ ... إن الخلائقَ فاعلَمْ شرُّها البِدَعُ وشرعًا: مرادفُ البدعة شرعًا. فالبدعة والمحدثة شرعًا: الأمر المبتدع في الدين على غيرِ مثالٍ من الكتاب والسنة. والمراد بقوله: "على غير مثالٍ من الكتاب والسنة" أن يكون غيرَ موافقٍ لهما، وكلُّ فعلٍ من الأفعال إما أن يكون موافقًا للكتاب والسنة، وإما أن يكون مخالفًا. والموافق ما دلَّ على موافقته دليلٌ معتبرٌ منهما دلالةً معتبرةً، فهو من السُّنَّة، والمخالف ما دلَّ على مخالفته دليلٌ منهما دلالةً معتبرة، فإن كان موجودًا من أول الإسلام فهو حرام أو مكروه بحسب ما يقتضيه دليله، ولا [يسمَّى] (¬1) بدعة ولا مُحدَثة. وإن لم يكن موجودًا من أول الإسلام بل حدثَ بعد ذلك فهو محدثة بدعة. ولا واسطةَ بين الموافق والمخالف. [ص 2] لأن الله تعالى قال: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)}، وأومأ إلى وجه ذلك بقوله عقبَ هذه الآية: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90]، ليعلم أنه ليس المراد بقوله: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْء} أن يكون كل شيء بنصٍّ خاص، وإنما المراد أنه ما من شيء إلّا وحكم الله تعالى فيه مبيَّن في كتابه، إن لم يكن بالمطابقة فبالتضمن أو الالتزام أو المفهوم، كأن يكون ذلك الشيء داخلًا تحت أمرٍ عامّ مبيَّنٍ حكمُه في كتاب الله تعالى. ومنها في المأمورات: العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى والتقوى والمعروف ¬

_ (¬1) مخروم في الأصل.

والإنصاف، وفي المنهيات: الجور والإساءة وحرمان ذي القربى والفحشاء والمنكر والبغي، وكلها في هذه الآية. ولذلك رُوي عن ابن مسعود أن أجْمعَ آيةٍ في القرآن لخيرٍ وشرًّ هذه الآية (¬1). ومما يبيَّن ذلك حديث مسلم (¬2) عن شدّاد بن أوس عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: "إن الله تبارك وتعالى كتب الإحسانَ على كلِّ شيء، فإذا قتلتم فأَحسِنُوا القِتلةَ، وإذا ذبحتم فأحْسِنوا الذَّبحَ، وَلْيُحِدَّ أحدُكم شَفْرتَه ولْيُرحْ ذبيحتَه". يقول عبد الله الفقير إليه: أراد صلَّى الله عليه وآله وسلم بقوله: "كتبَ الإحسانَ على كل شيء" قولَه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ}. وهذا حجة في عموم مثل هذه الصيغة وفي حجية العموم. وفي المباحات: قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32]، وقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4]، وقوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 119]، وقوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} الآية [الأنعام: 145]، وقوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]، وقوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13]. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (489) والطبري في "تفسيره" (14/ 337) والطبراني في "المعجم الكبير" (8658) وغيرهم. (¬2) رقم (1955).

ومن العمومات الواردة في كتاب الله تعالى: في اتباع الرسول وطاعته المأمور بهما، فإنه يدخل تحت ذلك جميع ما جاء عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم في جميع الأحكام. فإن قيل: فما تقول في الحديث الصحيح: "الحلال بيِّنٌ، والحرام بيِّنٌ، وبينهما مشتبهات" (¬1)؟ فإن ظاهره إثباتُ الواسطة. قلت: هذه واسطة بين الحلال البيِّن والحرام البيِّن، لا بين الحلال والحرام من حيث هما. والمراد بالحلال هو ما عبَّرنا عنه بالموافق، وبالحرام ما عبَّرنا عنه بالمخالف، والمشتبهات ما تعارضت فيه دليلَا الحلِّ والحرمة، فإنه عند مَن لم يظهر له الترجيح - وهم كثير من الناس - مشتبه، فأرشد النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم بأن يُعمل فيه ما يقتضي الاحتياط. هذا مع أنه في نفس الأمر إما حلال وإما حرام، فالحديث دليلٌ على عدم الواسطة، فتأمَّلْ. ومما يكون حكمه مبيّنًا في كتاب الله تعالى بدلالة الالتزام: الوسائل، أي الأمور التي لا تتم الأمور المشروعة إلّا بها، فإنّ لكل وسيلةٍ حكْمَ مقصدِها، فإن تعدَّدت الوسائل وكلٌّ منها يكفي في تحصيل المقصد كان الحكم لواحدةٍ منها لا بعينها، ويكون الدليل الشرعي الدال على حكم [مقصد] (¬2) ها [دالًا] على [حكمها] دلالةً مطلقةً [عامّةً] عمومًا بدليًّا، كما إذا قلت لإنسانٍ: اضرِبْ رجلًا، فإنه يحصُلُ امتثال الأمر بضرب أي رجلٍ كان. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (52، 2051) ومسلم (1599) من حديث النعمان بن بشير. (¬2) الكلمات التي بين المعكوفتين مخرومة في الأصل.

فقول الشارع: "أدُّوا النُّسُك" [أمرٌ] بأداء النسك، وأداء النسك لا يتم إلّا بسفرٍ إلى الحرم، وما لا يتمُّ الواجب إلّا به فهو واجب، فالسفر إلى الحرم واجب، فكان الأمر بأداء النسك أمرًا بالسفر إلى البيت، وهذا السفر مطلق يصدُق على السفر برًّا والسفر بحرًا وغير ذلك. إذا تقرر ما ذُكِر فإنه ما من شيء من الأشياء إلّا وحكمه الشرعي مبيَّنٌ في كتاب الله تعالى بإحدى الدلالات الثلاث أو المفهومات المعتبرة، سواء كان موجودًا في عهد رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم أم حدثَ بعده، وحينئذٍ فالآتي بشيء ما من الأشياء إن كان الإتيان به موافقًا للشرع فتلك السُّنَّة، وإن كان مخالفًا له فإن كان موجودًا من أول الإسلام فهو حرام أو مكروه فحسب، وإلَّا فهي المحدثة البدعة. [ص 3] والحاصل أن الأشياء الحادثة بعد عصر النبوة نوعان: الأول: ما كان فيما يتعلق بمصالح الدنيا، من مطاعم ومشارب وملابس ومراكب ومناظر ومزارع وغير ذلك مما لا يضر بالدين، فهذا جائز لدخوله تحت عمومات الإباحة، فليس في الشرع بدعةً ولا محدثةً لموافقته للشرع، ولا مانعَ من استعمال المحدث من ذلك وسيلةً لتحصيل الأمور الدينية، كركوب الطيارات لأداء النسك، لأن مقصود الشارع من الأمر بالسفر لأداء النسك هو الانتقال إلى الحرم بأيّ وسيلةٍ كانت لأداء المقصود الذي هو النسك، وإن كان الاتباع أفضل. النوع الثاني: ما كان فيما يتعلق بالأمور الدينية خاصةً، فهذا على قسمين: وسائل ومقاصد. فأما الوسائل فإنه يجوز العمل بما أُحدِث منها بشرط تعذُّر أو تعسُّرِ

الوفاء بمقصدها الديني بوسيلته التي كان العمل عليها في عهده صلَّى الله عليه وآله وسلم. ومن هذا إجماع الصحابة رضي الله عنهم على جمع القرآن في مصحف واحد، وذلك أن المحافظة على القرآن هي أهم الأمور الدينية، وكانت الوسيلة لذلك في عهده صلَّى الله عليه وآله وسلم الحفظ، فلما استحرَّ القتلُ بالقرَّاء في عهد الصدِّيق، وانتشر المسلمون في الآفاق، وبدأت الهِمَمُ تَكِلِّ عن الحفظ، [و] رأى الصحابة رضي الله عنهم أن الوسيلة الأولى قد ضعُفت عن الوفاء بالمقصد الذي هو المحافظة على القرآن، وأن الاقتصار عليها يُخشَى أن يؤدّي إلى ضياع المقصد = قرروا أن الأمر بالمحافظة على القرآن يلزمهم أن يعملوا لتحصيله بكل وسيلة، فإن أمكن حصولُه بالوسيلة التي كان [العمل] عليها في عهده صلَّى الله عليه وآله وسلم تعيَّن ذلك، وإلّا نظروا وسيلة أخرى، وعملُهم بالوسيلة الأخرى من السُّنَّة، لأنه عملٌ بمقتضى الدليل. والحاصل أن الإذن في هذا كأنه على الترتيب، فلا يجوز العمل بالمحدث حتى يمتنع العمل بما قبله، فالعمل بالمحدث من غير أن يمتنع ما قبله بدعة، والعمل به بعد امتناع ما قبله [سنة]. وأما القسم الثاني - وهو المقاصد - فالمحدَث منه كلُّه بدعة ضلالة، وليس منه صلاة التراويح كما يظن بعضهم، فإنها من السنة، كما ثبت في "الصحيحين" (¬1) عن زيد بن ثابت أن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم اتخذ حُجرةً في المسجد من حصيرٍ، فصلَّى فيها لياليَ حتى اجتمع عليه ناس، ثم فقدوا صوتَه ليلةً وظنُّوا أنه قد نام، فجعل بعضُهم يتنحنح ليخرج إليهم، ¬

_ (¬1) البخاري (7290) ومسلم (781).

فقال: "ما زال بكم الذي رأيتُ من صنيعكم حتى خشيتُ أن يُكتَب عليكم، ولو كُتِب عليكم ما قمتم به، فصلُّوا أيها الناسُ في بيوتكم، فإن صلاة المرء في بيته أفضلُ إلَّا المكتوبةَ". وقوله: "ما زال بكم الذي رأيتُ من صنيعكم" يريد - والله أعلم - من اجتماعهم وحرصهم على الحضور، كما يدل عليه قوله: "فصلُّوا أيها الناس ... " إلخ. فقطعَ صلَّى الله عليه وآله وسلم أن يخرج للصلاة بهم خشيةَ أن تُكتَب عليهم، وأرشدهم إلى أن يُصلُّوا في بيوتهم، لأن صلاة المرء في بيته أفضل إلا المكتوبة، وخشيةُ أن تُفرض هو المانع في الحقيقة. فأما عدولهم عن الصلاة في بيوتهم فإن غاية ما فيه أنه خلاف الأولى، ومع ذلك فكان ينجبر بائتمامهم به صلَّى الله عليه وآله وسلم، ولكن لما انقطع ائتمامهم به للمانع الأول انتفى الانجبار كما هو ظاهر. فلما توفي صلَّى الله عليه وآله وسلم انتفى الأمر الأول الذي هو المانع في الحقيقة، وبقي المانع الآخر وهو كون الأفضل صلاتهم في بيوتهم، فبقي الحال على ذلك خلافةَ الصدّيق وبعضَ خلافة عمر، ثم كان ما أخرجه البخاري (¬1) عن عبد الرحمن بن عبدٍ القاريّ قال: خرجتُ مع عمر بن الخطاب ليلةً إلى المسجد، فإذا الناسُ أوزاعٌ متفرقون، يصلَّي الرجل لنفسه، ويصلَّي الرجلُ فيصلِّي بصلاته الرهطُ، فقال عمر: إني لو جمعتُ هؤلاء على قارئ واحدٍ لكان أمثلَ، ثم عزَم فجمعَهم على أُبي بن كعب. قال: ثم خرجتُ معه ليلةً أخرى والناسُ يصلُّون بصلاة قارئهم، قال عمر: نعمتِ البدعةُ هذه! والتي ينامون عنها أفضلُ من التي يقومون، يريد آخر الليلة، وكان الناس يقومون أوّلَه. ¬

_ (¬1) رقم (2010).

فدلَّ هذا الحديث أن الناس في خلافة عمر تركوا الصلاةَ في بيوتهم إلى الصلاة في المسجد، فرأى عمر رضي الله عنه أن الأمر الذي لأجله قطعَ النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم الخروجَ للصلاة بهم - وهو خشية أن يُكتَب ذلك - قد انتفى، لإكمال الدين وانقطاع التشريع بوفاته صلَّى الله عليه وآله وسلم، والأمر الذي لأجله أرشدهم صلَّى الله عليه وآله وسلم إلى ترك الصلاة في المسجد - وهو الصلاة في بيوتهم - قد تركوه من ذاتِ أنفسهم، ولعله رأى أن أمرهم بأن يصلُّوا في بيوتهم ربما يُؤدِّي إلى تكاسُلِ بعضهم، مع أن غاية الأمر أنه أفضل فقط، وإلا فالجميع من السُّنَّة، لا جَرَمَ رأى أن جَمْعهم على قارئ واحدٍ أقربُ إلى السنة من بقائهم أوزاعًا، لموافقته لفعله صلَّى الله عليه وآله وسلم تلك الليالي، مع زوال المانع الأول، ومع إعراض الناس عن الصلاة في بيوتهم، ومع ذلك فأرشدهم إلى الأكمل بقوله: "والتي ينامون عنها أفضل" يريد - والله أعلم - بذلك الصلاةَ في البيوت، لأنهم إنما ينامون في بيوتهم. والحاصل أن السنة في صلاة الليل مخيَّرة بين أقسام: إما أن يصلَّي الرجل في بيته، وهذه هي الأفضل. وإما أن يصلّيها في المسجد منفردًا، ويصلَّي كلُّ رهطٍ وحدهم، وهذا هو الذي رأى عمر رضي الله عنه الصحابة يفعلونه. وإما أن يصلُّوا في المسجد بإمامٍ واحد، وهذا هو الذي فعله صلَّى الله عليه وآله وسلم بهم لياليَ، ثمَّ عدلَ عنها خشيةَ أن يُكتب. وأما قول عمر رضي الله عنه: "نعمتِ البدعة" فأراد - والله أعلم - الأمر المبتدع بعد أن كان العمل على خلافه، وهذا إنما هو بالنسبة إلى تلك المدة التي بينَ تركه

صلَّى الله عليه وآله وسلم الصلاةَ بهم وبينَ عَزْم عمر بجمعِهم على قارئ واحد. لا المبتدع مطلقًا، فقد ثبت فعلُه عنه صلَّى الله عليه وآله وسلم كما مرَّ. وقد يكون عمر سمع بعضَ الناس يقول: بدعة، لعدم نظرِه في الدليل، أو قدَّر أن بعض الناس سيقول ذلك، فقال: نعمتِ البدعة، أي: في زعم هذا الزاعم، كما قال تعالى في عكس هذا: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 49]، أي: على ما كنت تزعم، والله أعلم. وأما اختراع القواعد لعلوم العربية فهو صالحٌ أن يكون من النوع الأول، لأن الناس محتاجون في أمور دنياهم إلى معرفة لغة أسلافهم، وأن يكون من الثاني، فإن الدين محتاج إلى معرفة اللغة التي ورد بها الشرع، وعلى هذا فهو من الوسائل، لأن حفظ اللغة وسيلة لمعرفة الدين، وكان حفظ اللغة في عهده صلَّى الله عليه وآله وسلم حاصلًا في العرب بالطبع ومن خالطهم تعلَّم منهم بسهولة، فلما انتشر الإسلام وكثُر اختلاط العرب بالعجم تدهورت اللغة، وكادت تذهب لولا أن [العلماء اهتدوا إلى] (¬1) اختراع تلك القواعد وتدوينها. والله أعلم. [ص 4] وبما ذُكِر عُلِم معنى الحديث الصحيح (¬2): "من سَنَّ في الإسلام سنةً حسنةً فله أجرها وأجرُ من عمِل بها من بعده، من غير أن ينقُص من أجورهم شيء، ومن سنَّ في الإسلام سنةً سيئةً كان عليه وِزرها ووِزرُ من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء". فالمراد بالسنة فيه معناها اللغوي، وأصلها في اللغة: الطريقة الحسِّيَّة. ¬

_ (¬1) خرم في طرف الورقة ذهب بعدة كلمات. ولعل تقديرها ما أثبتناه. (¬2) أخرجه مسلم (1017) من حديث جابر.

يقال: سَنَّ فلانٌ سنةً في بطن الوادي، أي: طرقَ طريقةً. ثم تُستعمل في الطريقة المعنوية، يقال: سنَّ فلان سنةً، أي: عمل عملًا يتبعه فيه الناس. ومنه حديث الصحيحين (¬1) عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "لا تُقتَلُ نفسٌ ظلمًا إلّا كان على ابن آدم الأول كِفْلٌ من دمها، لأنه أوّلُ من سَنَّ القتلَ". فمعنى "من سَنَّ في الإسلام سنةً حسنةً": مَن عمِلَ في الإسلام عملًا حسنًا يتبعه فيه الناس، وسبب الحديث صريح في هذا، ولفظه في "صحيح مسلم" (¬2) عن جرير قال: كنّا في صَدْر النهار عند رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم، فجاءه قومٌ عُراةٌ مُجتابِي النِّمار ... الحديثَ، فذكر هيئةَ القوم الدالة على شدةِ فاقتهم، وتكدُّرَ النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم لذلك، وقيامَه في الناس خطيبًا يحثُّهم على الصدقة، ثم قال: فجاء رجلٌ من الأنصار بصُرَّةٍ كادتْ كفُّه تَعجِزُ عنها، بل قد عَجَزَتْ، ثم تتابعَ الناس، حتى رأيتُ لونَيْنِ (¬3) من طعام وثياب، حتى رأيتُ وجهَ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم يتهلَّلُ كأنَّه مُذْهَبةٌ، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "من سَنَّ في الإسلام سنّةً حسنةً ... " إلخ. وظاهرٌ أنه صلَّى الله عليه وآله وسلم يشير إلى ذلك الأنصاري الذي جاء بالصُّرَّة، فتتابع الناس لما رأوه. ولا شبهةَ أن مجيئه بالصُّرة من أوفق الأعمال ¬

_ (¬1) البخاري (3335) ومسلم (1677). (¬2) رقم (1017). (¬3) كذا في الأصل. وفي صحيح مسلم: "كَوْمينِ"، والكومة: الصُّبرة، والكوم: العظيم من كل شيء.

للكتاب والسنة، فكيف يُستدلُّ بهذا الحديث على أن البدعة قد تكون حسنة؟ فإن قيل: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. قلنا: واللفظ أيضًا لا يعمُّ البدعةَ، لأنه مقيَّدٌ بالحسن، والحسن إنما يعرف بالشرع، ومَن قال: يعرف بالعقل فهو معترف أن العقل ليس بحاكم بعد ورود الشرع، بل الحاكم الشرع فقط، ومع ذلك فالشرع قد استوفى جميع المحاسن والمصالح، إمّا بخصوصٍ وإما بعمومٍ. قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]، وغيرها من البراهين التي قد ذكرنا بعضها في هذه الرسالة. وكيف يكون شيء من البدعة حسنًا والنبي صلَّى الله عليه وآله وسلم يقول: "كل بدعة ضلالة"؟ وأما ما أوردوه من صلاة التراويح وجمع القرآن وعلوم العربية وغير ذلك، فهذا من السُّنَّة لموافقته لأدلة الكتاب والسنة، مع ظهور السبب في عدم وجوده في القرن الأول، وحدوثِ السبب المقتضي لفعله، كما مرَّ بيانه، والله الموفَّق. وقد علمتَ مما سبقَ أن الحَسَنَ هو ما وافق الشرع مطلقًا، وهو من السنة وإن لم يكن موجودًا في العهد النبوي، وأن السيء هو ما خالف الشرع، فإن كان مطروقًا من أول الإسلام فهو كفرٌ أو حرام أو مكروه بحسب ما قام عليه الدليل، وإن لم يكن مطروقًا من أول الإسلام فهو محدَثةٌ بدعةُ ضلالةٍ. والموافق إذا كان غيرَ موجود، أو كان ثُمَّ هُجِر، فالذي يطرقه أولًا يَصدُقُ عليه أنه سنَّ سنةً حسنةً، فله أجرُها وأجرُ من عَمِل بها من بعده بشرطه. كما أن المخالف إذا لم يكن موجودًا في العهد النبوي، أو وُجِد ثمّ هُجِر، فأولُ من يطرقه يصدُق عليه أنه سنَّ سنةً سيئةً، فعليه وِزرُها ووِزْرُ مَن عمِلَ بها من بعده بشرطه.

[ص 5] ومن المخالف الموجود من أول الإسلام: شرب الخمر، ودعوى الجاهلية، والنياحة. فهذا وإن كان محظورًا كما لا يخفى فلا يُسمَّى بدعةً. نعمْ، إحداثُ نوعٍ منه لم يُعهَد قبلُ يُسمَّى بدعةً، ومن ذلك ما اعتاده رجال الشيعة ونساؤهم من النوح على الحسين بن علي عليهما السلام يومَ عاشوراءَ ولَطْم الخدود وشَقِّ الجيوب، بل هو أشدُّ وأشنع، لأن النياحة في الجاهلية كانت خاصةً بالنساء الضعيفات العقول والقلوب، وبالوقت القريب من الموت، ومع هذا ورد من الزجر عنها ما هو معلوم، فما بالك بنَوح الرجال ......................... (¬1). ومن المخالف المبتدع غلوُّ بعض الفِرق بالخوض في آيات الصفات إلى صريح التشبيه، حتى قال بعضهم (¬2): أعفُوني عن الفرج واللحية، وسَلُوني عما شئتم. وأمثال ذلك. وقد شنَّع الله تعالى على الكفَّارِ في تخرُّصِهم على الملائكة، قال تعالى: {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف: 19]. فكيف بمن ليس كمثله شيء؟ وأما ما ورد من آيات الصفات وأحاديثها فالذي يُفهَم منها هو أن لله جلَّ ذكرُه مطلقَ يدٍ ووجهٍ ونحو ذلك مما ورد، أما أن يدلَّ على ماهية (¬3) أو كيفية ونحوها فلا، بل لو قيل: إن مَلَكًا من الملائكة له رأس لما فُهِم منه إلَّا أن له رأسًا فحسبُ، فأما ¬

_ (¬1) هنا بعض الكلمات ذهبت في التجليد. (¬2) هو داود الجواربي من مشبهة الروافض، كما في "الفرق بين الفِرق" (ص 228) و"المِلل والنِحل" (ص 105، 187). (¬3) لا يقصد الشيخ بالماهية الحقيقة، فهي ثابتة، بل يقصد التحديد والكمية والكيفية، فهي منفية. وسيأتي التصريح بذلك فيما يأتي.

تفصيله فكلَّا. وذلك أن الماهية والكيفية ونحوها لا تُفَهم بمجرد ذكر الرأس مثلًا، وإنما يحكم الإنسان على الشيء الغائب عنه إذا كان قد عرف نوعه، فالإنسان إذا تصوَّر إنسانًا من الغابرين أو الغائبين فإنه لا يحكم عليه إلّا بما هو مشترك بين سائر الأناسيّ فقط. وذلك للعلم بأنه إنسان من هذا النوع المشاهَد، فإنْ تصوَّر شيئًا آخر كطوله وجسامته وبياضه مما لم يثبت اتصافُه بها فهذا مجرَّدُ تخيُّلٍ، كما قد يتصور أن له رأسَ ثورٍ ونحوه. فأما الملائكة فإن من لم يرَ أحدًا منهم لم يُمكِنْه أن يحكم عليهم بشيء، فإن ورد وصفُهم بالأجنحة، فقد يتصور الإنسان أجنحة كأجنحة الطير، ولكنه فضلًا عن كونه لا يفهم من الخبر أن رؤوسهم كرؤوس الطير وأرجلهم كأرجل الطير، لا يفهم منه أن أجنحتهم كأجنحة الطير وإن وُصِفوا بالأجنحة، للعلم بأنهم ليسوا من نوع الطير. وإذا كان هذا في الملائكة الذين هم خلقٌ من خلق الله تعالى، فما بالك بجبَّار السموات والأرض سبحانَه وتعالى؟ ومن المبتدع أيضًا: مقابلُ هذا القول، وهو تأويل ما ورد في الكتاب والسنة من آيات الصفات مطلقًا، قالوا: لأن قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] يَصرِفها عن ظاهرها. فيقال لهم: وما هو ظاهرها؟ فإن قالوا: إن ظاهرها هو أن المراد باليد يدٌ كأيدينا، وبالوجه وجهٌ كوجوهنا ونحو ذلك = فغير مسلَّم، لما مرَّ أنها لا تُفهِم إلّا مطلقَ يدٍ ووجهٍ ونحوها مما ورد، فإن تصوَّر الإنسان ماهية أو كيفية أو كمية فهو يعلم أن ذلك تخيُّلٌ بَحْتٌ، كما مرَّ في أجنحة الملائكة، ولله المثلُ الأعلى.

وإن قالوا: إن ظاهرها وإن كان لا يثبت به إلّا مطلقُ يدٍ ووجه، فقد يتصور الإنسان ماهيةً أو كيفيةً أو كميةً ونحو ذلك، ويحكم بجوازها، كما أن الإنسان إذا علم أن للملائكة [ص 6] أجنحة، وتصوَّر أجنحةً كأجنحة الطير، قد يحكم بجواز ذلك بأن تكون أجنحةً عظيمةً من نور على هيئة أجنحة الطير، فجاءت تلك الآيتانِ لنفي هذا التجويز. ففي هذا نظر، فإن الإنسان عند تصور عظمة ربّ الأرباب جبَّار السموات والأرض يمتنع منه تجويزُ ذلك. ومن لم يمنعه تصوُر عظمة الرب جلَّ ذكره عن تجويز ذلك فأولى أن لا يمنعه تلك الآيتانِ: قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}؛ لأن دلالتهما ليست في منع التجويز بأقوى من تصوُّرِ عظمة الحق سبحانه وتعالى. وإن قالوا: إن ظاهرها هو إثبات مطلق اليد والوجه ونحوها مما ورد، وزعموا أن ذلك من أصله محال= فلا ولا كرامة، فإن العلم الخبير أنزل تلك الآيات البينات في كتابه غيرَ جاهلٍ ولا غافل، وقد أنزل القرآن عربيًا مُبِينًا، وكلَّف العرب بما فهمتْه من كتابه ومن كلام نبيّه صلَّى الله عليه وآله وسلم، ولا شكَّ أنهم عند سماع هذه الآيات يفهمون منها ظاهرها غالبًا، أي: ثبوت مطلق يد ووجه ونحوهما مما ورد. ووجوه المجاز التي تكلَّفها المؤوِّلون وإن صلحتْ في بعض المواضع. فهي بعيدة في مواضع كثيرة. وقد كان النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم يقرأ السورة من القرآن فيها شيء من آيات الصفات، فيسمعها العربي فيفهم منها ما يفهم، وليس الحال ها هنا كالحال في آيات الأحكام ونحوها، فإن العمل هناك بالحكم قبل معرفة ناسخه والعامّ قبل معرفة مخصِّصه والمطلق قبل معرفة مقيِّده جائز،

وقد وقع من ذلك كثير في عهده صلَّى الله عليه وآله وسلم. وعلى فرض أنه غير جائز ففهْمُ المنسوخ بدون معرفة ناسخه ونحوه لا خطر فيه، بخلاف الاعتقاديات، فلم يكن الله سبحانه وتعالى ليُنزِل آيةً تدلُّ دلالة واضحةً على أمرٍ القولُ به كفرٌ أو نحوه، ويَكِلَ البيانَ إلى آية بعيدةٍ عنها، بحيث قد يسمع الأعرابي الأولى دون الثانية. ومع هذا فقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} لا تدلَّانِ على نفي ما أثبتته آيات الصفات من مطلق اليد والوجه ونحوه مما ورد، كما لا تدلَّان على نفي السمع والبصر وغيرهما من الصفات. وأما قولهم بأن العقل يَصرِفها عن ظاهرها، وكان العرب عقلاء يعلمون عظمة الجبَّار جلَّ جلالُه، ويقطعون بتنزُّهه عن ظواهر تلك الآيات، وإنْ فُرِض ضلالُ أحدٍ منهم فهو لتقصيره في عدم النظر بالعقل. [ص 7] فجوابه أن العقل غايته إدراك انتفاء النقائض عن الله سبحانه وتعالى، تفصيلًا فيما يقطع بكونه نقيصةً، وإجمالًا فيما عدا ذلك. ومطلق اليد والوجه اللائقين بجلال الرب سبحانه وتعالى ونحوهما مما ورد لا يقطع العقل الصحيح يكون ذلك من النقائص، كما في السمع والبصر وغيرهما من الصفات، ومن اعتقد أن ذلك من النقائص فقد غلِط، ومثارُ الغلط: التصوُّرُ، فإن الذهن إذا تصوَّر مطلق اليد والوجه ونحوهما تصوَّر ماهيةً وكميةً جريًا على ما يعتاده ويعرفه في المحسوسات. فيغلَط بعضُ النظَّار، فيظنُّ لشدة تلازمهما في الذهن تلازمَهما في الخارج، وليس الأمر كذلك. فلذلك انقسم الناس إلى قسمين:

الأول: من علم أن إثبات مطلق اليد والوجه ونحوهما مما ورد لا يستلزم ماهيةً ولا كيفيةً ولا كميةً وغيرها من الحوادث، فآمن بذلك كما جاء من عند الله تعالى. والثاني: من ظنَّ التلازم بين الأمرين، وهؤلاء افترقوا إلى فرقتين: فرقة اعتقدت التلازم، فاعتقدت ثبوتَ اليد والوجه مع ما اعتقدتْه ملازمًا لذلك من الحوادث. وفرقة علمتْ أن ثبوت الماهية والكيفية والكمية وغيرها من الحوادث نقصٌ بالنسبة إلى الله تعالى، فنَفَتْ ثبوتَ مطلق اليد والوجه وغيرهما مما ورد رأسًا، وتعسَّفتْ في تأويل الآيات والأحاديث الواردة بذلك، بدون التفاتٍ إلى ما يلزم على هذا القول، وأعرضتْ عن قوله تعالى في كتابه: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42]، وقوله تعالى في رسوله صلَّى الله عليه وآله وسلم: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]. وقد اعتذر بعضهم بأنهم إنما خاضوا في علم الكلام مع كون الخوض فيه بدعة لأنه نشأ في الناس [كثير من] المبتدعة [شبَّهوا] على [الجهال] (¬1) بالشُّبه المنسوجة بالأدلة وغيرها. ورأى العلماء أن الوقوف على طريقة السلف غيرُ كافٍ في ردّ شُبَه هؤلاء القوم وإدحاضِ ما يغُرُّون به الناس، فاضطرُّوا إلى قتالِ أولئك المبتدعة بسلاحهم، وصياغةِ حجج الدين في قوالب الفلسفة، ليكون ذلك كافيًا في إبطال تلك الشُّبه، وأرادوا بهذا القول أن ينظموا هذا الفعل في سلك القسم الأول من النوع الثاني، ويُلحِقوه بجمع القرآن ونحوه. ¬

_ (¬1) هنا كلمات ذهب أكثرها في طرف الورقة، ولعلها ما قدرناها.

والجواب على هذا من وجوه: الأول: أن هذه الأمور الاعتقادية التي خضتم فيها هي من المقاصد لا من الوسائل، والمقاصد لا يسوغ الإحداثُ فيها أصلًا. الثاني: أننا لا نُسلِّم أن طريقة السلف قصرتْ عن الدفاع عن الدين، كيف وهي طريقة القرآن وطريقة أنبياء الله أجمعين؟ والتاريخ يشهد بذلك، فإن المتمسكين بطريقة السلف ما زالوا منصورين على المبتدعة حتى نشأتُم. الثالث: أن هذا الخوض الذي خضتموه منهيٌّ عنه بخصوصه بأدلة الكتاب والسنة. الرابع: أنكم لم تقتصروا على ما قلتم من صوغ حجج الدين في قوالب الفلسفة، بل قلبتم حجج الدين ومقاصده ظهرًا لبطنٍ، فحكَّمتم أقوال حكماء اليونان وآراء حزب الشيطان في كتاب الله تعالى وسنة رسوله، فكلُّ آية أو حديثٍ رأيتموه يخالف شيئًا من فلسفتكم تأوَّلتموه وصرفتموه عن ظاهره، ورددتموه إلى هواكم، فحكَّمتم هواكم في دين الله. إلى غير ذلك من الوجوه التي لا خفاء بها، وإلى الله المشتكى، وبه المستعان، وعليه التُّكلان. وأنت إذا تأملتَ في تاريخ الإسلام وجدتَ جميع البلايا التي فرَّقتْ أهلَه ومزَّقتْ شَمْلَه ناشئةً عن سببين: أحدهما: هو الخوض في هذه الآيات والأحاديث، والرغبة في إدخالها تحت القوانين الفلسفية. الثاني: إحياء ما أماته الدين من العصبيات القومية، وذلك أنها لا تقوم

دولةٌ إلا على أساس عصبية، والعصبية أنواع: قومية ووطنية، وكلاهما تؤدي إلى الافتراق، وتَؤول إلى الخلف والشقاق. ودينية، وهي تكفُلُ الاتحاد بين أهل ذلك الدين إذا أُمِيتَتْ بينهم العصبيات القومية والوطنية. ولذلك فإن الدين الإسلامي بُني على إماتة العصبيتين القومية والوطنية، وعلى السعي في إحياء العصبية الدينية. ولما كانت الأديان معرَّضةً للتشعُّب والاختلاف، وإذا حصلَ الاختلاف وقع الافتراق، وصارت كل فرقةٍ ذاتَ دينٍ مستقل، فيؤدِّيها ذلك إلى التعصُّب على بقية الفرق، وهلُمَّ جرًّا= حَرَصَ الشارع على بقاء دين الإسلام دينًا واحدًا لا اختلافَ ولا افتراقَ فيه، قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13]. ومن تأمل أحكام الدين الإسلامي وجدها بأجمعها تَرمي إلى هذا الغرض الذي هو الاجتماع وعدم التفرق. ولما كان الاختلاف في الدين قد يكون في الأصول، وقد يكون في الفروع، جاء الشرع بمنع الخوض في الأصول، بل ما كان منها ظاهرًا لا يمكن الاختلاف فيه فأمرُه واضح، وما كان بخلاف ذلك فالواجب الإيمان به فقط، وأن يقول كلُّ أحدٍ منا: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7]، [ص 8] ويمسك عمّا عدا ذلك. وعلى هذا جاء الشرع الشريف، قال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]. ولا شك أن الخائض في الأصول لا بدَّ وأن يقْفُوَ ما ليس له به علم، وذلك أن العلم حقيقته ما ينكشف به المعلوم انكشافًا تامًّا، أي: بحيث لا يبقى في مقابله أدنى احتمال. والأشياء التي خاض فيها المحدَثون ليست كذلك.

وقال تعالى: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 1 - 3]، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 7 - 8]. وفي "الصحيحين" (¬1) عن عائشة رضي الله عنها قالت: تلا رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} إلى {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)}. فقال: "إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمَّاهم الله، فاحذروهم". وفي "سنن الترمذي" (¬2) عن أبي هريرة قال: خرج علينا رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم ونحن نتنازع في القدر، فغضِبَ حتى احمرَّ وجهُه، حتى كأنما فُقِئ في وجنتَيْهِ حَبُّ الرُّمّان، فقال: "أبهذا أُمِرتُم؟ أم بهذا أُرسِلْتُ إليكم؟ إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر، عزمتُ عليكم عزمتُ عليكم أن لا تنازعوا فيه". وفي "المشكاة" (¬3): وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: سمع ¬

_ (¬1) البخاري (4547) ومسلم (2665). (¬2) رقم (2133). قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث صالح المري، وصالح المري له غرائب ينفرد بها لا يتابَع عليها. (¬3) رقم (237).

النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم قومًا يتدارؤون في القرآن، فقال: "إنما هلك مَن كان قبلكم بهذا، ضربوا كتاب الله بعضَه ببعضٍ، وإنما نزل كتابُ الله يُصدِّق بعضُه بعضًا، فلا تكذِّبوا بعضَه ببعضٍ، فما علمتم منه فقولوا، وما جهلتم فكِلُوه إلى عالمه". رواه أحمد وابن ماجه (¬1). وفي "صحيح مسلم" (¬2) عن عبد الله بن عمرو قال: هجَّرتُ إلى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم يومًا، قال: فسمع أصواتَ رجلين اختلفَا في آية، فخرج علينا رسولُ الله صلَّى الله عليه وآله وسلم يُعرَف في وجهه الغضبُ، فقال: "إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب". ورُوي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلًا جاء يسأله مستشكلًا لشيء من كتاب الله تعالى، فضربه بالدِّرة ضربًا مُوجِعًا، ونفاه وأمر بأن يُهْجَر، فمكثَ ذلك الرجل إلى أن مات لا يكلِّمه أحد (¬3). وعلى هذا مضى التابعون، فقال مالك (¬4) لمن سأله عن الاستواء: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والسؤال عنه بدعة، وأنت رجلٌ مبتدع. وقال هو أو غيره لمن سأله عن شيء من ذلك: أنا على يقينٍ من ديني ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (6741) وابن ماجه (85). وإسناده حسن. (¬2) رقم (2666). (¬3) هو صَبيغ بن عِسْل، وقصته مع عمر مشهورة رُويت من طُرق مختلفة، انظر "سنن الدارمي" (146، 150)، و"شرح أصول اعتقاد أهل السنة" للالكائي (ص 634 - 635)، و"تاريخ دمشق (23/ 411 - 413)، و"الإصابة" (5/ 306 - 308). (¬4) انظر "حلية الأولياء" (6/ 325، 326) و"سير أعلام النبلاء" (8/ 100، 101).

وأنتَ شاكٌّ، فاذهبْ إلى شاكًّ مثلِك فخاصِمْه (¬1). وقد كثر النقلُ عن الإمام الشافعي في النهي عن الكلام، ومن معين قوله: "لأن يأتي العبد ربَّه يومَ القيامة بكِّل ذنبٍ ما خلا الشركَ خيرٌ له من أن يأتيه بشيء من الكلام" (¬2). ومنه: "إذا سمعتَ الرجل يقول: الاسم عينُ المسمَّى أو غير المسمَّى فاعلم أنه من أهل الكلام، ولا دينَ له" (¬3). وأما الإمام أحمد فشأنه في ذلك مشهور، وقد هجرَ الحارث المحاسبي لخوضه في الكلام (¬4). وقد رجع الأشعري عن الخوض فيه إلى مذهب السلف، كما أبانَه في كتابه "الإبانة"، وكذلك الغزالي كما شرحه في كتابه "الإلجام"، وكذا إمام الحرمين والرازي كما نقله الذهبي في "النبلاء" (¬5). ولكنه - ويا للأسف -[ص 9] بعد أن تمزَّقت الجامعة أيدي سبأ، وسلكتْ كل فرقةٍ من الفرق مذهبًا، وحصل الاختلافُ الذي نهى الله ورسولُه عنه، والتنازع والفشل الذي حذَّر الله ورسوله منه. وغاية الأمر أنه حفظ الله تعالى على بعض هذه الأمة الحقَّ، كما بشَّرَ به رسوله صلَّى الله عليه وآله وسلم بقوله فيما رواه معاوية بن قرَّة عن أبيه قال: ¬

_ (¬1) انظر "الإبانة" لابن بطة (1/ 404، 2/ 509). وهو قول مالك أيضًا. (¬2) انظر "آداب الشافعي ومناقبه" (ص 187) و"حلية الأولياء" (9/ 111)، و"مناقب الإمام الشافعي" للبيهقي (1/ 452). (¬3) "مناقب الإمام الشافعي" (1/ 405). (¬4) انظر "تاريخ بغداد" (8/ 215، 216). (¬5) انظر (18/ 471 - 474، 21/ 501).

قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "إذا فسَدَ أهل الشام فلا خيرَ فيكم، ولا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرُّهم من خذَلهَم حتى تقوم الساعة" قال ابن المديني: هم أصحاب الحديث. رواه الترمذي (¬1) وقال: هذا حديث حسن صحيح. ومع هذا فإننا لا نيأسُ من رَوح الله تعالى أن يُعيدَ للإسلام مجدَه، ويردَّ من تفرقتْ بهم السُّبلُ إلى سبيله، وهو على كلِّ شيء قدير. وأما الفروع فقد جاء الإسلام فيها بما يمنع الاختلاف ويحولُ دونَه، وهو ردُّ ما اختُلِف فيه إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله، فإن اختلفت الأنظار فكلُّ أحدٍ من النُّظَّار يعذر صاحبَه كما عذَرَه الله تعالى، ولا يحَمِله خلافُه إياه على عدم موالاته وموادَّتِه، ما دامَ قد اجتهد بقدر وُسْعِه، وقال بما ترجَّح عنده أنه الحق. ومع ذلك فلا يكاد يمضي يسيرٌ من الزمن حتى يُظهِر الله تعالى الحقَّ بإظهار دليله، فيزول الاختلاف ويتم الائتلاف. ولكن البلاء دخلَ على المسلمين من هذه الجهة أيضًا بحملهم على تقيُّدِ كلِّ فرقة منهم بمذهب مخصوص، مع الإعراض عن أدلة الحق ونصوصه من كتاب الله تعالى وسنة رسوله، وآلَ بهم الأمرُ إلى العصبية المنهيِّ عنها، فصار كل أحدٍ يتعصَّبُ للمذهب الذي ينتمي إليه ويقدح فيما عداه. وهكذا تجزَّأت العصبية الدينية، التي حرصَ الشارع على جعلها رابطةً لكلِّ من ينتمي إلى الدين الإسلامي حتى تكون الجامعة الإسلامية، كما في "الصحيحين" (¬2) عن ¬

_ (¬1) رقم (2192). (¬2) البخاري (6011) ومسلم (2586).

النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادِّهم وتعاطُفِهم كمثل الجسد، إذا اشتكى عضوًا تداعَى له سائرُ الجسد بالسَّهَر والحمَّى". وأنت تعلم أن الذين ينتمون إلى الإسلام يبلغون الآن نحو ثلاث مئة مليون (¬1)، ولكنك مع الأسف لو حاولتَ أن ترى منهم بضعةَ آلافٍ على عصبية دينية صحيحة كما شرعه الله تعالى ودعا إليه رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم، وجاهد عليه أصحابه رضي الله عنهم، ومشى عليه خيارُ التابعين رحمهم الله تعالى= [لم تجد] إلا من شاء الله تعالى. ... ¬

_ (¬1) هذا في سنة 1344 هـ عندما ألَّف الشيخ الرسالة. والآن قد جاوز عددهم المليار.

[البحث الأول: البناء على القبور]

[البحث الأول: البناء على القبور] [روايات حديث أبي الهيّاج عن علي] [الروايات من مسند أحمد] حدثنا عبد الله حدثني أبي حدثنا معاوية، حدثنا أبو إسحاق، عن شعبة، عن الحكم، عن أبي محمد الهذلي، عن علي، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة فقال: "أيكم ينطلق إلى المدينة فلا يدع بها وثنًا إلا كسره، ولا قبرًا إلا سوّاه، ولا صورة إلا لطخها؟ " فقال رجل: أنا يا رسول الله. فانطلق، فَهَاب أهلَ المدينة، فرجع، فقال علي: أنا أنطلق يا رسول الله. قال: فانطلق ثم رجع، فقال: يا رسول الله، لم أدع بها وثنًا إلا كسرته، ولا قبرًا إلا سويته، ولا صورة إلا لطختها. ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من عاد لصنعة شيء من هذا، فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -" (¬1). حدثنا عبد الله، حدثني أبي، حدثنا يونس بن محمد، حدثنا حماد - يعني ابن سلمة - عن يونس بن خباب، عن جرير بن حيان، عن أبيه، أن عليًا قال: أبعثك فيما بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرني أن أسوَّيَ كل قبر، وأطمس كل صنم (¬2). حدثنا عبد الله، حدثني أبي، حدثنا وكيع، حدثنا سفيان، عن حبيب، عن أبي وائل، عن أبي الهيّاج الأسدي قال: قال لي علي: أبعثك على ما بعثني ¬

_ (¬1) (657). (¬2) (683).

عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ أن لا تدع تمثالًا إلا طمسته، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته (¬1). حدثنا عبد الله حدثني أبي حدثنا أسود بن عامر، حدثنا شعبة، قال: الحكم، أخبرني عن أبي محمد، عن علي، قال: بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة فأمره أن يسوي القبور (¬2). حدثنا عبد الله، حدثنا شيبان أبو محمد، حدثنا حماد بن سلمة، أخبرنا يونس بن خباب، عن جرير بن حيان، عن أبيه، أن عليًا قال لأبيه: لأبعثنَّك فيما بعثني فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن أسوي كل قبر، وأن أطمس كل صنم (¬3). حدثنا عبد الله حدثني أبي حدثنا وكيع وعبد الرحمن، عن سفيان، عن حبيب، عن أبي وائل، عن أبي الهيّاج قال: قال لي علي: قال عبد الرحمن: إن عليًا قال لأبي الهيّاج: أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن لا تدع قبرًا مشرفًا إلا سويته، ولا تمثالًا إلا طمسته (¬4). حدثنا عبد الله، حدثني أبو داود المباركي سليمان بن محمد، حدثنا أبو شهاب، عن شعبة، عن الحكم، عن أبي المورع، عن علي، قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة، فقال: "من يأتي المدينة فلا يدع قبرًا إلا سواه، ولا صورة إلا طَلَخَها، ولا وثنًا إلا كسره" قال: فقام رجل فقال: أنا، ثم هاب أهلَ المدينة فجلس، قال علي: فانطلقت، ثم جئت فقلت: يا رسول الله، لم أَدعْ بالمدينة قبرًا ¬

_ (¬1) (741). (¬2) (881). (¬3) (889). (¬4) (1064)

إلا سويته، ولا صورة إلا طلختها، ولا وثنًا إلا كسرته، قال: فقال: "من عاد فصنع شيئًا من ذلك فقد كفر بما أنزل الله على محمد" الحديث (¬1). حدثنا عبد الله، حدثني أبي، حدثنا أسود بن عامر، حدثنا شعبة، قال: الحكم أخبرني عن أبي محمد، عن علي، قال: بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة فأمره أن يسوي القبور (¬2). حدثنا عبد الله، حدثني شيبان أبو محمد، حدثنا حماد - يعني ابن سلمة -، أخبرنا حجاج بن أرطأة، عن الحكم بن عتيبة، عن أبي محمد الهذلي، عن علي بن أبي طالب: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث رجلًا من الأنصار أن يسوي كل قبر، وأن يلطخ كل صنم فقال: يا رسول الله، إني أكره أن أدخل بيوت قومي، قال: فأرسلني، فلما جئت قال: يا علي، لا تكونن فتانًا، ولا مختالًا، ولا تاجرًا إلا تاجر خير فإن أولئك مسوفون - أو مسبوقون - في العمل (¬3). حدثنا عبد الله، حدثني أبي، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن الحكم، عن رجل من أهل البصرة، قال: ويكنيه أهل البصرة أبا مورع قال: وأهل الكوفة يكنونه بأبي محمد قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة، فذكر الحديث، ولم يقل عن علي، وقال: ولا صورة إلا طلخها فقال: ما أتيتك يا رسول الله حتى لم أدع صورة إلا طلختها. وقال: لا تكن فتانًا ولا مختالًا (¬4). ¬

_ (¬1) (1170). و"طلخها" بمعنى "لطخها" أي بالطين حتى يطمسها. (¬2) (1175). (¬3) (1176). (¬4) (658).

مسلم

حدثنا عبد الله، حدثني عبيد الله بن عمر القواريري، حدثنا السكن بن إبراهيم، حدثنا الأشعث بن سوار، عن ابن أشوع، عن حنش الكناني، عن علي: أنه بعث عامل شرطته، فقال له: أتدري على ما أبعثك؟ على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن أنحت كل - يعني صورة -، وأن أسوي كل قبر (¬1). مسلم (¬2): حدثنا يحيى بن يحيى وأبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب (قال يحيى: أخبرنا، وقال الآخران: حدثنا وكيع)، عن سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي وائل، عن أبي الهيَّاج الأسدي، قال: قال لي علي (¬3) بن أبي طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ أن لا تدع تمثالًا إلّا طمسته ولا قبرًا مشرفًا إلا سوّيته. الترمذي (¬4): حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي وائل: أن عليًّا قال لأبي الهياج الأسدي: أبعثك على ما بعثني به النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ أن لا تدع قبرًا مشرفًا إلا سويته ولا تمثالًا إلا طمسته. قال: وفي الباب عن جابر. قال أبو عيسى: حديث علي حديث حسن. والعمل على هذا عند بعض ¬

_ (¬1) (1284). (¬2) (969). (¬3) كتب المؤلف إلى هنا، وأثبت الباقي من الصحيح. (¬4) (1049).

النسائي

أهل العلم يكرهون أن يرفع القبر فوق الأرض. قال الشافعي: أكره أن يرفع القبر إلا بقدر ما نعرف أنه قبر لكي لا يوطأ ولا يجلس عليه. النسائي (¬1): أخبرنا عمرو بن علي، قال: حدثنا يحيى، قال: حدثنا سفيان، عن حبيب، عن أبي وائل، عن أبي الهيّاج قال: قال عليّ رضي الله عنه: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لا تدعن قبرًا مشرفًا إلا سويته، ولا صورة في بيت إلا طمستها. أبو داود (¬2): حدثنا محمد بن كثير، أخبرنا سفيان، حدثنا حبيب بن أبي ثابت، عن أبي وائل، عن أبي هيّاج الأسدي قال: بعثني عليّ قال لي: أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أن لا أدع قبرًا مشرفًا إلّا سويته، ولا تمثالًا إلا طمسته. **** ¬

_ (¬1) (2031). (¬2) (3218).

[تلخيص روايات أبي الهياج عن علي]

[تلخيص روايات أبي الهياج عن عليّ] [وفي "صحيح مسلم" (¬1): عن أبي الهيّاج الأسدي، قال: قال لي علي بن أبي طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ أن لا تدع تمثالًا إلا طسمته ولا قبرًا مشرفًا إلا سوّيته]. وقد رواه أبو داود والترمذي والنسائي بألفاظ متقاربة، ورواه الإمام أحمد من طرقٍ عن أبي الهيّاج، ورواه بطريق أخرى فيها أبو محمد الهذلي - قال الذهبي: "لا يعرف" - عن عليّ رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم في جنازة فقال: "أيكم ينطلق إلى المدينة فلا يدع بها وثنًا إلا كسره، ولا قبرًا إلا سوّاه، ولا صورة إلا لطخها؟ " فقال (رجل): أنا يا رسول الله. فانطلق فَهَاب أهلَ المدينة فرجع، فقال علي رضي الله عنه: أنا أنطلق يا رسول الله. قال: فانطلق ثم رجع، فقال: يا رسول الله، لم أدَعْ بها وثنًا إلا كسرته، ولا قبرًا إلا سويته، ولا صورة إلا لطختها. ثم قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "من عاد لصنعة شيء من هذا فقد كفر بما أنزل على محمد صلَّى الله عليه وآله وسلم". الحديث. ورواه من طريق أخرى فيها أبو المورّع وهو أبو محمد الهذلي المذكور عن عليّ وذكر نحوه، وفي آخره قال: فقال: "مَن عاد فصنع شيئًا من ذلك فقد كفر بما أنزل على محمد" الحديث. ورواه من طريق أخرى مختصرًا بلفظ: بعثه النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة فأمره أن يسوِّي القبور. ¬

_ (¬1) (969).

ورواه عبد الله، حدثني عبيد الله بن عمر القواريري، ثنا السكن بن إبراهيم، ثنا الأشعث بن سوَّار، عن ابن أشوع بن حنش الكناني عن علي رضي الله عنه بعث شرطته فقال له: أتدري على ما أبعثك؟ على ما بعثني عليه رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم، أن أنحت كل - يعني صورة -، وأن أسوِّي كل قبر. فإن قال قائل: لعل القبور التي كانت في المدينة حينئذٍ من قبور المشركين كما يدلّ عليه قوله: "ولا وثنًا إلا كسرته". فالجواب: أنه لا شكّ أنه كان في المدينة حينئذٍ من قبور المشركين ولكن ليس في الحديث ما يدلّ على أنه لم يكن فيها من قبور المسلمين، بل الحديث عامّ في كل قبر، ولا سيّما وفي آخره - كما عند الإمام أحمد -: "من عاد فصنع شيئًا من ذلك فقد كفر بما أنزل على محمد صلَّى الله عليه وآله وسلم". وهذا عام في كل من اتخذ وثنًا أو صورة أو شرّف قبرًا. ولو كان هذا الحكم من وجوب الهدم خاصًّا بقبور المشركين لبيَّن صلَّى الله عليه وآله وسلم ذلك، والله أعلم، فلما أطلق فَهِمنا أنه على عمومه في كل قبر. وهذا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعث أبا الهيّاج لطمس الصور وهدم القبور، ولا يخفى أن القبور حينئذٍ كلّها أو جلّها قبور المسلمين، وعمَّم الأمر بقوله: "أن لا تدع قبرًا إلا سوّيته". وفي رواية للإمام أحمد - قد مرّت -: "أن أسوِّي كل قبر". ومع هذا ففي "صحيح مسلم" (¬1) عن ثُمامة بن شُفي قال: كنّا مع ¬

_ (¬1) (968).

فضالة بن عبيد بأرض الروم برودس، فتوفّي صاحبٌ لنا، فأمر فضالة بن عبيد بقبره فسُوِّي، ثم قال: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم يأمر بتسويتها. وأخرجه أبو داود والنسائي، وهو عند الإمام أحمد بلفظ: قال: "أخفّوا عنه، فإن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم كان يأمرنا بتسوية القبور". و (كان) تُشْعِر بالدوام، و (القبور) جمع محلَّى باللام فيعمُّ كلَّ قبر. وهذا واضح، والأمر للوجوب إذ لا صارف عنه. [فـ "قبر" في الحديث الأول] (¬1) دخلت عليه (ال) ولا عَهْد، فكان عامًّا في كل قبر، كما أن "قبرًا" في الحديث الثاني نكرة في سياق [النهي و] هي من صيغ العموم، فكان عامًّا في كل قبر. والقول بأنّ قبور أهل العلم والفضل مستثناة من ذلك يحتاج إلى دليل، ولم يأتِ دليل على ذلك. ودعوى أنّ كون صاحب القبر فاضلًا وعالمًا يقتضي تخصيصه = مجرد استحسان بلا دليل، ومَن استحسن فقد شرَّع، ومن شرّع فقد كفر، كما قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى. بل إذا نظرنا إلى العلة في النهي عن البناء على القبور وجدناها خشيةَ أن يضلّ الناسُ بها كما ضلَّ قومُ نوح وغيرهم. وهذا المحذور أشدّ في قبور الفضلاء منه في قبور غيرهم، فكانت حُرمة البناء على قبور الفضلاء أشدّ، ووجوبُ إزالته آكد. وتخصيص بعضهم التحريمَ بما بُني في غير المِلك، كالمقابر المسبّلة، ¬

_ (¬1) زيادة يكتمل بها السياق.

لا دليل عليه، وإن كان البناء في المقابر المسبّلة أشدُ حُرْمة؛ لكونه حرامًا من جهتين: الأولى: كونه بناء على قبر. والثانية: كونه استيلاء على حق الغير بلا إذن. بقي أن يُقال: إنك قلت في أول هذه الرسالة في بحث الجلوس على القبر: إن حقيقة الجلوس على القبر هو الجلوس عليه نفسه، لا الجلوس عنده، فهلَّا تقول هنا كذلك، فيكون البناء المنهيّ عنه هو ما كان على القبر نفسه، بأن يُجعَل أساسًا لدار أو نحوها، فيكون منهيًّا عنه لانتهاك حرمته؟ قلت: إن البناء على القبر بهذا المعنى لا يمكن إلا بعد نبشه، إذ لا بدّ لوضع الأساس من حفر الأرض لئلّا ينهار البناء. وهذا المعنى بعيد عن منطوق الحديث؛ إذ لو كان هو المراد لقال: أن يُنبش القبر ويُبنى مكانه، فتعيَّن أن يكون المراد بالبناء عليه: البناء على جوانبه، وهذا صريح في حديث أبي الهيَّاج. ***

البحث الثاني اتخاذ القبور مساجد أو اتخاذ المساجد على القبور

[135] البحث الثاني اتخاذ القبور مساجد أو اتخاذ المساجد على القبور إذا تصفَّحنا كتابَ الله تعالى نلتمس فيه دلالة في هذا البحث لم نجد إلّا قولَه تعالى في ذكر أصحاب الكهف: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف: 21]. فيقال: إن الله تعالى حكى عنهم هذا القول ولم يُنكره، فدلّ على جوازه في شرع مَن قبلنا، وشَرْعُ مَن قبلنا شرعٌ لنا ما لم يَرِد في شرعنا ما ينسخه كما تقدم (¬1). والجواب: لا نسلّم أنّ عدم إنكار الله تعالى جلَّ ذكره لما يحكيه من الأقوال ويقصّه من الأفعال يدلّ على الجواز، كيف وقد حكى سبحانه قولَ إبليس: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} [الأعراف: 12]، ولم يردّ عليه ردًّا يخصُّ هذه الدعوى؟ وحكى سبحانه عن النمروذ قولَه: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة: 258] ولم يُكذّبه. وقصّ عن إخوة يوسف خَدْعَهم أباهم، وإخلافَهم وعدَهم له، وإرادتهم قتلَ أخيهم، وإلقاءه في غيابة الجبّ، وبيعَه بثمن بَخْسٍ. ولم ينصّ في قصّتهم على أن تلك الأفعال من المحرّمات. وغير هذا كثير في القرآن. سَلَّمْنا أن عدم إنكاره سبحانه وتعالى يدلّ على الجواز في شرعهم، فلا نُسَلِّم أن شرع مَن قبلنا شرع لنا، كما هو الصحيح من مذهب الإمام ¬

_ (¬1) لم يتقدّم شيء في المباحث السالفة.

الشافعي (¬1). سَلَّمنا أن شرع مَن قبلنا شرعٌ لنا، لكنّا نقول: قد ورد في شرعنا ما ينسخه، وهو الأحاديث الصحيحة الصريحة التي تواترت أو كادت. فإن قيل: وكيف تنسخون القرآن بالسنّة؟ فالجواب: أنا لم ننسخ القرآن بالسنة، وإنما نسَخْنا شرع مَن قبلنا بالسنة، وبيانُه: أن الآية ليست هي الخطاب الذي ثبت به الحكم الأول حتى يلزم من نسخه نسخها، بل الخطاب الذي ثبت به الحكم الأول هو خطابٌ كان لنبيّ تلك الأمة، وتضمّنت الآيةُ الإخبار عنه فقط، إذ السُّنَّة إنما نسخت ذلك الخطاب الذي ثبت به الحكم الأول، وهو الخطاب الواقع لذلك النبيّ، وهذا جائز واقع بلا خلاف. ولم تنسخ الإخبارَ عنه الذي تضمّنته الآيةُ حتى تكون ناسخةً للآية. هذا، مع أن ذلك الخبر خبر عن أمرٍ قد وقع، ونَسْخ مثل ذلك محال، فتأمل. [ص] (¬2) الثانية (¬3): سلّمنا أن إخبار القرآن بالشىء بدون تنبيه على خطره ¬

_ (¬1) انظر "اللمع" (ص 136)، و"إرشاد الفحول": (2/ 982 - 985). والذي في المصادر أن هذا قول جماعة من محققي الشافعية وغيرهم، وذكر ابن السمعاني أن القول بأنه شرع لنا ما لم ينسخ هو قول أكثر الشافعية والحنفية وأومأ إليه الشافعي في بعض كتبه. انظر "قواطع الأدلة": (2/ 211). (¬2) هذه الصفحة وما يليها من فيلم رقم (3584). (¬3) لعل المؤلف أراد أن الجواب عن قولهم "إن الله حكى هذا القول ولم ينكره فدلَّ على جوازه" يكون بطريقين؛ الأولى: على عدم التسليم بذلك، وقد سبقت، والثانية:=

يد [ل على جوازه] (¬1) ولكنّا نقول: الذي أخبر به القرآن هنا إنما هو العزم، ومجرّد العزم لا يتعلّق به حكم. الثالثة: سلّمنا أن فيه ما يدلّ على جواز الفعل، ولكنّا نقول: [إن] "على" في الآية ليست للاستعلاء بل للسببيّة، كما في قوله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185]. وقول الشاعر (¬2): * علامَ تقولُ: الرمحُ يُثقِل عاتقي * إلخ فيكون المعنى: لنتخذنّ لأجلهم مسجدًا، أي ليكون .... يحتمل ...... منهم ولون .... عنهم (¬3)، ويتعيّن الثاني؛ لدلالة السُّنَّة على منع الأول، ولا يحتمل أن يكون على أجسامهم لقوله تعالى: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} [الكهف: 18]. وغير ذلك لما سيأتي. ثم ظهر لي مِن تأمّل الآيات [أن] الفريقين اتفقوا على العزم على البناء [على باب الغار] (¬4)، واختصّ الذين غلبوا على أمرهم بالعزم [على] اتخاذ ¬

_ = على التسليم .. وهي هذه. أو يكون الكلام تابعًا لكلامٍ قبله لم نقف عليه ضمن أوراق هذا المبحث. (¬1) خرم بمقدار كلمتين. فلعله ما قدّرته. (¬2) البيت لعمرو بن معديكرب ضمن قصيدة له. "ديوانه المجموع" (ص 53 - 56)، و"الحماسة": (1/ 99)، وعجزه: * إذا أنا لم أطعن إذا الخيلُ كرّتِ * (¬3) خرم في أطراف الورقة أتى على عدة كلمات، فأثبتّ ما ظهر منها. (¬4) خرم في الأصل واستفدنا إكماله مما سيأتي من كلام المؤلف. وكذا ما بين المعكوفات بعده.

المسجد، وذلك أن الله عزَّ وجلَّ [قال]: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} أهلَ المدينة ومَنْ معهم {لِيَعْلَمُوا} أي: أهل المدينة ومَن معهم {أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ} أي: الحاضرون من أهل المدينة ومَن معهم {بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا} [الكهف: 21] جميعًا - كما هو ظاهر -، وعليه فالعزم على اتخاذ المسجد إنما هو بعد البناء على باب الغار وغيره، وحينئذٍ فيحتمل القُرْب، فيكون معنى "على" الاستعلاء المجازيّ. والبُعْد، ويكون معناها السببيّة. والثاني هو الحق لدلالة السُّنَّة. الطريق الرابعة: لو سلّمنا دلالة الآية على وقوع البناء على أجسامهم، وأنّ عدم التنبيه يدل على الجواز، فنقول: قد وُجد التنبيه بالسنة، إذ لا يجب أن يكون التنبيه في نصّ القرآن، فإن ما ادّعيتموه من الدلالة ليست من دلالة نظم الكتاب بمنطوقٍ أو مفهوم. ومع قطع النظر عن هذه فغايتها أن تكون ظنية كالعموم والإطلاق، فيكون من النوع الثاني من المجمل، أي الذي له ظاهرٌ وقد أُريد به خلافه. والسنة كافية للبيان اتفاقًا. الخامسة: الدلالة بعد تسليمها إنما تكون على جواز تلك الواقعة بعينها، فأما في غيرها فإنما يمكن أخذه بطريق القياس في حق أهل تلك الشريعة إذا وُجدت شروطه في حقّهم؛ بأن يكونوا متعبَّدِين به، ولا يكون هناك نصٌّ في كتابهم أو كلام نبيّهم يعارضه، وأن توجد الأولوية أو المساواة في العلة. وهذا كله مجهول لدينا. وغاية ما نعلمه أن بناء المساجد على القبور كان حرامًا على اليهود والنصارى، كما دلّ عليه لَعْنُ مَن فعل ذلك منهم، واشتدادُ

غضب الله عليهم، كما تواتر في السنة. فإن كانت واقعة أهل الكهف في اليهود أو النصارى فالأمر واضح، وإلَّا فالظاهر من الأحاديث أن مثل ذلك لم يزل محرَّمًا. فإن فُرِض أنه كان جائزًا في شريعةٍ قبل التوراة والإنجيل، واختير أنّ شرع مَن قبلنا شرعٌ لنا، وأننا متعبّدون بالقياس ولو على أصل مِن شرع مَن قبلنا. فالجواب بوجوه: الأول: أن مجرد احتمال أن يكون في شرعٍ قبل التوراة والإنجيل لا يصلح متمسَّكًا، وإن استُؤنِسَ له بتلك الدلالة المدّعاة (¬1). الثاني: أن في كون شرع مَن قبلنا شرعًا لنا خلافًا. الثالث: أن القول بأنه شرعٌ لنا مقيّدٌ بأن لا يكون في شرعنا ما يخالفه، وقد عُلِم ما في السنة من النهي عن ذلك. الرابع: أن في تعبّدنا بالقياس خلافًا. الخامس: أن القائلين بالقياس في شرعنا لم نعلمهم أجازوه على أصلٍ مِن شرع مَن قبلنا. [السادس] (¬2): أن شرط القياس عدم النصّ المعارض له، حتى لو كان الأصل قطعيًّا والنصّ المعارض ظنيًّا، فكيف والأمر في مسألتنا بالعكس؟ ¬

_ (¬1) "وإن استونس ... المدعاه" لحق لعل هذا مكانه. (¬2) في الأصل: "الخامس" سبق قلم، واستمرّ في العدد الذي بعده.

[السابع]: أن شرط القياس أيضًا الأولوية أو المساواة [في العلة] (¬1) لا بكون مجرد النبوّة والصلاح، فما بقي إلّا أن يكون كونها [آية خارجة عن العادة] بتلك المثابة. على أنه لو فُرِض وجود مثل تلك الآية أو أبلغ منها لَمَا صحّ القياس لما تقدّم. [ثم رجعنا النظر إلى السنة، فوجدنا في "الصحيحين" (¬2) وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها: أن أم سلمة ذكرت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كنيسة بأرض الحبشة، وذكرت له ما رأت فيها من الصور. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أولئكِ قوم إذا مات فيهم العبد الصالح - أو الرجل الصالح - بنوا على قبره مسجدًا وصوَّروا فيه تلك الصور، أولئكِ شرار الخلق عند الله". وفي "صحيح مسلم" (¬3) عن جندب بن عبد الله البجلي قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يموت يقول: "ألا وإنّ مَن كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك". وفي "الصحيحين" (¬4) من حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "قاتل الله اليهودَ والنصارى اتخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد". وعن أسامة بن زيد قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أدْخِل عليَّ أصحابي" فدخلوا عليه فكشف القناع، ثم قال: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبورَ ¬

_ (¬1) خرم بطرف الورقة من أسفلها أتى على كلمتين في هذا الموضع وثلاث كلمات في السطر الآتي. ولعل التقدير ما أثبته بين معكوفين. (¬2) البخاري (434)، ومسلم (528). (¬3) (532). وفي الأصل: "فإنما أنهاكم" والمثبت من "الصحيح". (¬4) البخاري (2437)، ومسلم (530).

أنبيائهم مساجد" (¬1)] (¬2). وفي "الصحيحين" (¬3) عن عائشة قالت: لما نزل برسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم طَفِقَ يطرحُ خميصةً له على وجهه، فإذا اغتمَّ كَشَفها، فقال وهو كذلك: "لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". يحذِّرُ ما صنعوا. وروى الشيخان (¬4) مثله عن ابن عباس. قال الشوكاني (¬5): وأخرج الإمامُ أحمد في "مسنده" (¬6) بإسناد جيّد من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: "مِن شِرار الناس مَن تدركهم الساعةُ وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد". قال غيره: ورواه الطبراني (¬7). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (21774)، والطيالسي (669)، والبزار (2609) وغيرهم. وفي سنده ضعف يسير يتقوّى بشواهده الكثيرة. (¬2) زيادة يتم بها السياق، وأضفت هذه الأحاديث لأن المؤلف أشار بعد صفحتين إلى الأحاديث التي ذكرها إجمالًا وعدّ منها هذه الأربعة. وانظر رسالة الشوكاني "شرح الصدور" (ص 29 - 31). (¬3) البخاري (435 و436)، ومسلم (531). (¬4) انظر الأرقام السالفة. (¬5) في "شرح الصدور في تحريم رفع القبور" (ص 30 - 31 - ضمن الرسائل السلفية). (¬6) (3844)، وأصله في البخاري (6067) دون قوله: "والذين يتخذون القبور مساجد". (¬7) في "الكبير": (9/ 34) (10260).

وروى الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي - وقال: حديث حسن - والنسائي، وابن ماجه (¬1)، عن ابن عباس قال: لعن رسولُ الله صلَّى الله عليه وآله وسلم زائرات القبور، والمُتَّخذين عليها المساجد والسُّرُج. وأخرج أحمد وأهل السنن عن زيد بن ثابت (¬2) أنه صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: "لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسُّرُج". وفي "الموطأ" (¬3) عن عطاء بن يسار قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "اللهم لا تجعل قبري وثنًا يُعْبَد، اشتدّ غَضبُ الله على قومٍ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" وعطاء تابعي، فالحديث مرسل. وقد مرَّ (¬4) أن الإمام أحمد أخرجه في "المسند" (¬5) بسندٍ رجاله كلهم ثقات بلفظ: "اللهم لا تجعل قبري وثنًا، لعن الله قومًا اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (2030)، وأبو داود (3236)، والترمذي (320)، والنسائي (2043)، وابن ماجه (1575)، وابن حبان (3180). وهو ضعيف بزيادة "السرج"، وباقي الحديث له شواهد يتقوى بها. وانظر "النهج السديد" (223) للدوسري، وحاشية المسند: (4/ 363 - 364). (¬2) كذا، ولم أجد الحديث عن زيد بن ثابت، ولعل المؤلف تابع الشوكاني في رسالته شرح الصدور" (ص 30) فقد عزاه إليه. (¬3) (475). (¬4) لم يتقدم شيء فيما سبق. (¬5) (7358) عن أبي هريرة. وأخرجه أبو يعلى (6681)، والبيهقي في "معرفة السنن": (5/ 358).

وفي "الموطأ" (¬1) في حديث وصيّة النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم: "ولا تتخذوا قبري وثنًا". فهذا ما تيسّر ذِكْره من أحاديث الباب، قد رواها من الصحابة: عائشة، وأبو هريرة، وأسامة، وجندب، وابن عباس، وعبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت، وجُلّها في "الصحيحين" من طُرق، وفي ذلك كفاية لمن هداه الله، وبالله التوفيق. [140] فدلّت هذه الأحاديث على حرمة اتخاذ المساجد على القبور، أي: بأن يكون البناء مشتملًا على القبر وإن اتّسَعَ، إذ لا يتصوّر أن يُتّخذ القبر نفسه مسجدًا، ولا أن يبنى عليه مسجدٌ، بمعنى أن يكون البناء على حيطان القبر. وحديث عائشة: أن أم سلمة رضي الله عنها ذكرت لرسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم ... الحديث - وقد مرَّ (¬2) - صريحٌ في هذا. [ص] فإن قال قائل (¬3): إن هذه الأحاديث تدلّ على أن اتخاذ المساجد على القبور [كان محرَّمًا] (¬4) على اليهود والنصارى. وذَكَر المفسِّرون أن الأمة التي بَعثَ الله فيها أهلَ الكهف كانوا نصارى، فكيف يُقال: إن اتخاذ المساجد على القبور كان جائزًا في شرعها؟ ¬

_ (¬1) لم أجده بهذا اللفظ في الموطأ، وذكره الشوكاني في "شرح الصدور" (ص 32) ولم يعزه إلى الموطأ. وهو بهذا اللفظ عند البزار (9086) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) (ص 186). (¬3) كتب المؤلف هذا المبحث مرتين، هذا أكملهما. (¬4) تمزُّق في طرف الورقة أتى على بعض الكلمات، ولعلها ما أثبت.

تنبيهات

فالجواب: أن قول المفسرين: إن تلك الأمة التي بُعِث فيها أهلُ الكهف كانوا نصارى قولٌ لا دليلَ عليه، وإنما هو مأخوذ عن أهل الكتاب فلا يوثَق به، مع أنّ الله تعالى قد منعنا من سُؤالهم في شأن أهل الكهف بقوله تعالى: {فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف: 22]. وعلى هذا فالجمع بين ما سلّمناه جَدَلًا في دلالة الآية على أن ذلك كان جائزًا في شرع تلك الأمة، وبين الأحاديث الدالّة على كونه كان حرامًا على اليهود والنصارى= أن يقال: إن تلك الأمة كانت قبل موسى عليه السلام، فكان ذلك جائزًا في شرعهم، ثم نُسِخ في شرع موسى وعيسى عليهما السلام، ثم تأكَّد النسخُ في شريعةِ خاتم الأنبياء صلَّى الله عليه وآله وسلم وبارك عليه وعلى آله. على أن الظاهر أنّ البناء للمساجد على القبور كان حرامًا في جميع الشرائع، ودلالة الآية على جواز تلك الواقعة ممنوع أو محمول على أن "على" للتعليل لا للاستعلاء، فيكون المعنى: لتتخذنّ لأجلهم مسجدًا. فيكون اتخاذ المسجد بعيدًا عنهم، ليكون تذكارًا بتلك الآية، والله أعلم. تنبيهات الأول: تقدم أن الأولى حمل "على" في الآية على السببيّة وإن كان خلاف الظاهر، جمعًا بين الأدلة، ولو سُلِّم أنها استعلائية لكان المراد الاستعلاء المجازيّ، أي: على مكان يَقْرُب منهم، كما في قوله تعالى: {أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} [طه: 10] , وقول الشاعر (¬1): ¬

_ (¬1) هو الأعشى في "ديوانه" (ص 120) من قصيدة يمدح بها المحلّق بن خنثم. وصدره: * تُشبّ لمقرورَين يصطليانها *

* وباتَ على النار الندى والمُحَلَّق * وذلك لأنه لا يمكن البناء عليهم لأنهم في الكهف، والكهوف تكون في الغالب صغيرة لا تسع أن يُبنى داخلها مسجد، ويؤيد هذا قوله تعالى: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} [الكهف: 18]. فإنه إذا كان هذا الرعب ملازمًا لكهفهم كان من الممتنع بعد عودتهم إلى مضجعهم أن يدخل البنّاؤون لبناء مسجدٍ على جُثثهم في داخله. وما قيل: إنه لعله كان الغار حفرةً عميقة ... (¬1) فيكون البناء على رأسه على جثثهم بدون دخول. يُبْعِدُه قوله تعالى: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} [الكهف: 17 - 18] (¬2). ومع ذلك فالبناء بقُرْب القبر من المحرَّم في شريعتنا؛ لما مرّ في قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} [الجن: 18]، ولأنّ العلةَ - وهي خشية أن يؤدّي تمييز القبر إلى تعظيمه - موجودةٌ هنا، مع أن مقصود الشارع سدّ الذريعة، ولا يتحقق ذلك إلا بسدّ الباب رأسًا، والله الموفق. الثاني: إنّما عزم الغالبون على أمرهم أن يتخذوا عليهم مسجدًا إشهارًا ¬

_ (¬1) يحتمل هنا وجود كلمة لعلها "جدًّا" مخرومة في طرف الورقة. (¬2) من قوله: "وما قيل إنه لعله ... " إلى آخر هذه الآية لحق لم يتحرر مكانه، واجتهدتُ في إثباته في المكان المناسب.

لتلك الآية البالغة، حتى إذا قيل: بُني هذا المسجد على فتيةٍ كان مِن أمرِهم كيتَ وكيتَ= كان ذلك مما يُثبّت القلوبَ على الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر، كما يدلّ عليه السياق، ومع ذلك فمثل هذا ممنوع في شرعنا لإطلاق الأدله حُرْمة بناء المساجد على القبور، ومنها قبور الأنبياء والصالحين وغيرهم بأي قصدٍ كان، مع ما مرَّ أنّ مقصود الشارع سّد الذريعة. [ص 13] الثالث: ذكر ابن حجر في "الزواجر" (¬1) أنه وقع في كلام بعض الشافعية عدّ اتخاذ القبور مساجد والصلاة إليها واستلامها والطواف بها ونحو ذلك من الكبائر. وكأنَّه أخذ ذلك مما ذُكِر في الأحاديث. ووجه اتخاذ القبر مسجدًا واضح؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لَعَن من فَعَل ذلك بقبور الأنبياء عليهم السلام، وجَعَل مَن فَعل ذلك بقبور الصالحين شرارَ الخَلْق عند الله تعالى يوم القيامة، ففيه تحذيرٌ لنا. واتخاذُ القبرِ مسجدًا معناه: الصلاة عليه أو إليه، وحينئذٍ يكون قوله: "والصلاة إليها" مكرَّرًا، إلّا أن يُراد باتخاذها مساجد الصلاة عليها فقط. نعم، إنما يتَّجه هذا الأخذ إن كان القبرُ قبر معظَّم مِن نبيّ أو وليّ، كما أشارت إليه روايةُ: "إذا مات فيهم الرجل الصالح" (¬2) ومن ثَمَّ قال أصحابنا: تحرم الصلاةُ إلى قبور الأنبياء والأولياء تبرّكًا وإعظامًا. فاشترطوا شيئين: أن يكون قبر مُعَظّم. وأن يقصد الصلاة إليها. ومثلُ الصلاة عليه التبرُّك والإعظام. وكون هذا الفعل كبيرةً ظاهرٌ من الأحاديث، وكأنَّه قاس عليه كلَّ تعظيمٍ ¬

_ (¬1) (1/ 173). والمؤلف صادر عن "روح المعاني": (15/ 237) للآلوسي. (¬2) جزء من حديث عائشة سبق تخريجه (ص 186). ووقع في الأصل: "إن كان"!.

للقبر، كإيقاد السُّرُج عليه تعظيمًا له وتبرّكًا به والطواف به كذلك. وهو أَخْذٌ غير بعيد، سيّما وقد صرَّح في بعضُ الأحاديث المذكورة بلعن من اتخذ على القبر سراجًا، فيُحمل قولُ الأصحاب بكراهة ذلك على ما إذا لم يقصد به تعظيمًا وتبركًا بذي القبر. اهـ (¬1). أقول: قوله: "وقع في كلام ... " إلخ. هو الذي لا ينبغي غيرُه، فإنّهم عرَّفوا الكبيرةَ بأنها: ما ورد فيه وعيد شديد بنصِّ كتابٍ أو سنة. وهذا التعريف صادقٌ على الأشياء المذكورة كما لا يخفى. وقوله: "واتخاذ القبر مسجدًا معناه الصلاة عليه أو إليه ... " إلخ. فيه نظر، نعم، الصلاة إليه قد ثبت النهيُ عنها بما في "صحيح مسلم" (¬2) عن أبي مرثد الغنوي قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "لا تجلسوا على القبور ولا تصلُّوا إليها". والصلاة عليه أشدّ فهي مفهومة بالأَولى. وأما أحاديث النهي عن اتخاذها مساجد، فهي وإن لزم منها بطريق الأولى النهي عن الصلاة على القبور وإليها، فليس ذلك [هو معناها] المطابقي، [وإنما معناها] المطابقي [هو النهي] (¬3) عن اتخاذ المساجد عليها؛ لأن المساجد صارت حقيقةً شرعية في ما يُبنى ليكون مصلّى. والظاهر أنه ليس المراد أن اليهود والنصارى كانوا يبنون المساجدَ على نفس القبر، بل المراد أنهم يبنون بناءً يشتمل على القبر. ويبين هذا حديث "الصحيحين" (¬4) ¬

_ (¬1) هنا انتهى كلام الآلوسي في "روح المعاني". (¬2) (972). (¬3) خرم في طرف الورقة أتى على عدة كلمات قدّرناها بما هو مثبت بين المعكوفات. (¬4) البخاري (1341)، ومسلم (528).

وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها أن أمّ سَلَمة رضي الله عنها ذكرت لرسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة، وذكرت له ما رأت فيها من الصور، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "أولئك قوم ... " الحديث، وقد مرَّ (¬1). فهذه الكنيسة التي رأتها أمُّ المؤمنين في أرض الحبشة لم تكن ثلاثة أذرع في ذراعين أي: موضع قبر كما هو واضح. وقوله صلَّى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث: "بنوا على قبره مسجدًا وصوَّروا فيه تلك الصور" صريحٌ في أن المراد بناء يشتمل على القبر، وأن الوعيد يتناول البناء نفسَه فضلًا عن الصلاة على القبر وإليه. وقد ترجم البخاري على هذا بقوله: (باب بناء المسجد على القبر) (¬2). وقد أحْسَن (¬3) بنصِّه على أن مثل الصلاة عليه التبرّكُ والإعظام، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله (¬4). [ص 14] وأما ما استدلّ به الإمام يحيى (¬5) بقوله: (ولا بأس بالقباب والمشاهد على قبور الفضلاء والملوك، لاستعمال المسلمين ولم يُنْكَر). ¬

_ (¬1) (ص 186). (¬2) كتاب الجنائز في تبويبه على الحديث السالف رقم (1341). (¬3) يعني الآلوسي في كلامه السابق. (¬4) (ص). (¬5) هو يحيى بن حمزة بن علي المؤيّد من أئمة الزيدية (ت 745). انظر "البدر الطالع": (2/ 331)، و"الأعلام": (8/ 143). انظر كلامه في "البحر الزخّار": (2/ 132) للمرتضى.

فالجواب عنه: أنّ هذه الأحاديث الكثيرة لم تزل تُتْلىَ في مدارسهم ومجالس حُفّاظهم (¬1)، يرويها الآخر عن الأول، والصغير عن الكبير، والمتعلّم عن العالم، مِن لدن أيّام الصحابة إلى هذه الغاية، وأوردها المحدّثون في كتبهم المشهورة من الأمهات والمسندات والمصنفات، وأوردها المفسِّرون في تفاسيرهم، وأهلُ الفقه في كتبهم الفقهيّة، وأهلُ الأخبار والسِّيَر في كتب الأخبار والسير، فكيف يُقال: إن المسلمين لم ينكروا على مَن فعل ذلك؟ وهم يروون أدلّة النهي عنه واللعن لفاعله خَلَفًا عن سلف في كلِّ عصر. ومع هذا فلم يزل علماء الإسلام منكرين لذلك مبالغين في النهي عنه، وقد حكى ابن القيّم (¬2) عن شيخه تقيّ الدين، وهو الإمام المحيط بمذاهب سَلَف هذه الأمة وخَلَفها: أنه قد صرّح عامةُ الطوائف بالنهي عن بناء المساجد على القبور، ثم قال: "وصرّح أصحابُ أحمد ومالك والشافعي بتحريم ذلك وطائفة أطلقت الكراهةَ، لكن ينبغي أن يحمل على كراهة التحريم، إحسانًا للظنّ بهم، وأن لا يُظنَّ بهم أن يجوّزوا ما تواتر عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم لَعْنُ فاعلِه، والنهي عنه" انتهى (¬3). ¬

_ (¬1) غير محررة في الأصل، واستأنست بما في رسالة "شرح الصدور". (¬2) في "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان": (1/ 335 ط. عالم الفوائد). وانظر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى": (17/ 463 و24/ 318 وغيرها). (¬3) كلام الإمام يحيى والجواب عنه نقله المؤلف من رسالة "شرح الصدور" للشوكاني (ص 24, 37 - 38).

قال المحقق ابن القيم في "زاد المعاد" (¬1): "ومنها: أن الوقف لا يصحّ على غير بِرٍّ ولا قُربة كما لم يصح وقف هذا المسجد (يعني مسجد الضرار) وعلى هذا فيهدم المسجد إذا بُنِي على قبرٍ كما يُنْبَش الميت إذا دفن في المسجد، نصّ على ذلك الإمام أحمد وغيره، فلا يجتمع في دين الإسلام مسجدٌ وقبرٌ، بل أيّهما طرأ على الآخر مَنع منه، وكان الحكم للسابق، فلو وُضِعا معًا لم يجز. ولا يصحّ هذا الوقف ولا يجوز، ولا تصحّ الصلاة في هذا المسجد لِنَهْي رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم عن ذلك، ولَعْنه مَن اتخذ القبر مسجدًا أو أَوْقَد عليه سِراجًا. فهذا دينُ الإسلامِ الذي بعث الله به رسولَه ونبيَّه، وغُرْبته بين الناس كما ترى". **** ¬

_ (¬1) (3/ 572).

تتمة

* [ص 15] تتمّة: لو قال قائل: ما الجمع بين هذه الأدلة ولا سيَّما حديث "الصحيحين" (¬1) عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم في مرضه الذي لم يقم منه: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" قالت: ولولا ذلك لأُبْرِز قبره غير أنه خشي أن يكون مسجدًا. وبين ما فعله الصحابة رضي الله عنهم في المسجد؟ فالجواب: أن الصحابة رضي الله عنهم لم يُدْخِلوا القبرَ في المسجد، وإنما لمَّا احتاجَ الناسُ إلى توسعة المسجد اضطرّوا إلى إدخال الحجرة، غير أنهم احتاطوا بجعل القبر بعُزْلةٍ عن المسجد. ولم يكن المسجد ولا البناء لأجل القبر (¬2). فإن قلتَ: فإنه قد بُني على القبر بعد ذلك. قلت: قد علمتَ أنه لا حُجّة إلا في كتاب الله تعالى وسنة رسوله، ومجرّد وقوع البناء على قبر النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم لا يُعدّ دليلًا، كما أنه لو دخل إنسانٌ الكعبة أو أقام عند قبر النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم وقال كلمةً أو عَمِل عملًا= لم يكن ذلك دليلًا على جوازه. وقد كانت الأصنام والأوثان (¬3) ¬

_ (¬1) البخاري (1330)، ومسلم (529). (¬2) والذي أدخل القبر في بناء المسجد إنما هو الوليد بن عبد الملك، وقد أنكر عليه بعض السلف كسعيد بن المسيب. انظر "مجموع الفتاوى": (27/ 418). (¬3) لم يظهر منها إلا: "والأ".

داخل الكعبة وخارجها زمانًا طويلًا و ... (¬1) الكفر. ولا أثَرَ لدعوى الإجماع هنا، فإنه لا إجماع، بل جمهور علماء الأمة متّبِعون لما تقضي به الأدلة، وإنما يسكتون عن النهي تصريحًا خوفًا من الملوك والعامة، فهم يكتفون بالنصّ على الحكم في مؤلّفاتهم وتدريساتهم. وقد علمتَ تلك الأدلة الصحيحة الثابتة في مؤلفاتهم طبقةً عن طبقة، حتى تتصل بالنبي صلَّى الله عليه وآله وسلم، فكيف يصح ادّعاء إجماع يخالفها؟! ومع ذلك فقد علمتَ من كلام الإمام الشافعي الذي نقلناه في المسألة الأولى (¬2) أن الإجماع السكوتيّ ليس بحجّة، وأن الإجماع الحقيقي لا سبيل إلى عِلْمِه، وإنما غاية الأمر أن يقال: هذا قول فلان ولا نعلمُ له مخالفًا، فيؤخَذ بهذا حيث لم يكن في المسألة دليلٌ من كتابٍ أو سنة، فإذا وُجِد دليلٌ من كتاب أو سنة وجَبَ المصيرُ إليه. وقد نقل المحقّق ابنُ القيم مثل هذا عن الإمام أحمد (¬3). إذا علمتَ هذا فماذا يؤثِّر الإجماعُ في معارضة تلك الأدلة؟ على أنه قد مرّ عن بعض الفقهاء المتأخرين (¬4) أنّ محلّ كون الإجماع حجة هو في ¬

_ (¬1) كلمة أو أكثر ذهب بها خرم في طرف الورقة. ولعل تقديرها: "وليس دليلًا على إقرار الكفر". (¬2) انظر (ص 72، 122). (¬3) في "إعلام الموقعين": (2/ 53 - 54). (¬4) هو ابن حجر الهيتمي في "تحفة المحتاج": (3/ 197). ونقله المؤلف في كتابه "عمارة القبور في الإسلام" (ص 113 - المبيّضة).

العصور الصالحة، فأما في العصور الأخيرة فلا. على أننا نعلم أن محبّة النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم لا يتحقَّقُ الإيمانُ إلّا بها, ولكن حقيقة محبّته هو أن يكون أحبَّ إلينا من أنفسنا وأهلينا والناس أجمعين. وهذه المحبّة شيء في القلب، وإظهارها يجب أن يكون على وجهٍ مأذونٍ به شرعًا، فأما إظهار المحبة على وجهٍ منهيٍّ عنه شرعًا فإنه منافٍ لحقيقة المحبّة الإيمانية. وعلى كلِّ حال فثمرة محبّته صلَّى الله عليه وآله وسلم هو اتباع سنته، بل إن اتباعه صلَّى الله عليه وآله وسلم هو ثمرة [محبّة الله] ... (¬1) وبمحبته حققنا [أمر الله] تعالى بمحبّته وبمحبَّة رسوله كما يحبّ ويرضى. ... ¬

_ (¬1) هنا تآكل في أسفل الورقة ذهب بنحو سطر كامل، وما بعده لحقٌ لعل هذا مكانه, وقد أثبت منه ما ظهر.

البحث الثالث زيارة القبور

البحث الثالث زيارة القبور تصفَّحنا كتاب الله تعالى نلتمس فيه دلالة على هذا الموضوع، فلم نجد إلا قوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ} أي من المنافقين {مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ}، ثم علل ذلك بقوله: {إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 84]. فدلّ بطريق الإيماء على أن النهي يتناول كل من وُجدت فيه العلة، وهي الكفر بالله والموت عليه. ومفهومه أن مَن لم توجد فيه العلة، وهو مَن مات على دين الإسلام غير منهيّ عن الصلاة عليه والقيام على قبره. وهذا واضح ولكن الشأن في تفسير القيام على القبر، فنقول: قال السيوطي في "فتاواه" (¬1) كما نقله الآلوسي في "تفسيره" (¬2): "المراد بالقيام على القبر: الوقوف عليه حالة الدفن وبعده ساعةً، ويحتمل أن يعمّ الزيارة أيضًا أخْذًا من الإطلاق" اهـ. قال الآلوسي: وفي كون المراد بالقيام على القبر الوقوف عليه حالة الدفن وبعده ساعةً خفاء، إذ المتبادر من القيام على القبر ما هو أعمّ من ذلك. نعم، كان الوقوف بعد الدفن قَدْر نَحْر جزور مندوبًا (¬3)، ولعلّه لشيوع ذلك إذ ¬

_ (¬1) "الحاوي للفتاوي": (1/ 308). (¬2) "روح المعاني": (10/ 155). (¬3) انظر الأحاديث في ذلك في "البدر المنير": (5/ 335 - 339).

ذاك أَخَذَ في مفهوم القيام على القبر ما أخذ. انتهى. أقول: قوله: "نعم كان الوقوف بعد الدفن قدر ... [إلخ] ". إنما رُوِيَ هذا في وصية [عمرو بن العاص] (¬1) ولم يسنده إلى السنة، نعم في "سنن أبي داود" (¬2) عن عثمان [قال: كان] النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم إذا دفن الميت وقف عليه فقال: "استغفروا لأخيكم ثم سلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل". والذي يظهر لي تناول النهي في الآية للقيام للزيارة، إذ الفعل في سياق النهي فيعمّ، فالمعنى: لا يكن منكَ قيامٌ على قبره, و"قيام" يتناول القيام للدفن والقيام للزيارة، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص [السبب] (¬3). وعليه ففي الآية النهي عن القيام على المنافق، سواء أكان للدفن أو للزيارة، فكلاهما منهيٌّ عنه في [حق المنافقين] (¬4) بالمنطوق، وفي حق الكفَّار بالمفهوم، ومأذون فيه (¬5) في حقّ المسلمين بالمفهوم، والله أعلم. [ص2] ثم رجعنا النظرَ إلى السنة فوجدنا حديث مسلم (¬6) عن بُريدة ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (121). وما بين المعكوفين مطموس في الأصل. (¬2) (3221). وأخرجه الحاكم: (1/ 370)، والبيهقي: (4/ 56). قال الحاكم: صحيح الإسناد. وحسَّنه النووي والمنذري وابن حجر. انظر "الخلاصة" (2/ 1028) للنووي، و"البدر المنير": (5/ 330 - 331). (¬3) مطموسة في الأصل. (¬4) مطموسة في الأصل. (¬5) طمس في بعض الكلمة ولعلها ما قدّرت. (¬6) (1977).

رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها" الحديث. ولابن ماجه (¬1) عن ابن مسعود أن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإنها تزهّد في الدنيا وتذكّر الآخرة". وحديث مسلم (¬2) عن بُريدة أيضًا قال: كان رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم يعلّمهم إذا خرجوا إلى المقابر: "السلام عليكم أهلَ الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية". وحديث مسلم وغيره (¬3) عن أبي هريرة قال: زار النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قبر أُمه فبكى وأبكى مَن حوله، فقال: "استأذنتُ ربي في أن أستغفر لها فلم يأذَن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكِّر الموتَ". وحديث مسلم (¬4) أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: خرج رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم إلى المقبرة فقال: "السلام عليكم دارَ قومٍ مؤمنين وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون ... " الحديث. وقد مرّ. ¬

_ (¬1) (1571). (¬2) (975). (¬3) مسلم (976)، وأخرجه أبو داود (3234)، والنسائي (2034)، وابن ماجه (1572)، وأحمد (9688). (¬4) (249).

الأول: في علة النهي أولا.

وحديث مسلم (¬1) عن عائشة أيضًا قالت: كان رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم كلما كان ليلتها من رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون غدًا مؤجَّلون، وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد". وها هنا فروع: الأول: في عِلَّة النهي أولًا. هي - والله أعلم - أن أهل الجاهلية كانوا يقولون ويفعلون عند القبور أشياء ينكرها الشرع، فلئلّا يقع قريبو العهد بالجاهلية في شيءٍ من تلك الأشياء جهلًا أو جريًا على ما اعتادوه= اقتضت الحكمةُ النهيَ عن زيارة القبور مطلقًا سدًّا للذريعة. فلما ثبتت قواعد الإسلام وتبينت أحكامه، ورسخت الأقدام فيه، رَخّص في الزيارة بزوال المانع. ويومئُ إلى هذا ما رواه ابن ماجه عن زيد بن ثابت عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "زوروا القبور ولا تقولوا هُجْرًا" (¬2). الثاني: في الحكمة في استحباب زيارة القبور: ¬

_ (¬1) (974). (¬2) لم أجده في ابن ماجه، وأخرجه الطبراني في "المعجم الصغير" (881). قال الهيثمي في "المجمع": (3/ 87): "فيه محمَّد بن كثير بن مروان وهو ضعيف جدًّا". أقول: وجاء هذا اللفظ أيضًا من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أخرجه مالك (1394)، وأحمد (11606)، ومن حديث أنسٍ عند أحمد (13615)، وأبي يعلى (3705)، والحاكم: (1/ 376). ومن حديث بريدة عند النسائي (3033).

الثالث: في النساء هل يزرن القبور؟

أقول: قد بينها - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "فإنها تذكّر الموتَ" وهو معنى القول الآخر: "فإنها تزهّد في الدنيا وتذكّر الآخرة". الثالث: في النساء هل يزرن القبور؟ أقول: ظاهر قوله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "فزوروها" شموله للذكور والإناث، كما هو شأن الخطابات الشرعية، وفي "صحيح مسلم" (¬1) عن عائشة قالت: كيف أقول يا رسول الله؟ - تعني في زيارة القبور - قال: "قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منّا والمستأخرين، وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون". [ص3] وفي "الصحيحين" (¬2) عن أنسٍ قال: مرّ النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم بامرأة تبكي عند قبر، فقال: "اتقي الله واصبري". قالت: إليكَ عني، فإنك لم تُصَب بمصيبتي، ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم، فأتت بابَ النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم فلم تجد عنده بوّابين فقالت: لم أعرفك. فقال: "إنما الصبر عند الصدمة الأولى". فأنكر عليها رسولُ الله صلَّى الله عليه وآله وسلم الجزعَ والحزن، ولم ينكر عليها الخروجَ إلى القبر. فهذه الأحاديث تدلّ على الجواز. لكن ورد ما ظاهره يخالف ذلك، قال في "المشكاة" (¬3): وعن أبي هريرة: أن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم لَعَن زوّارات القبور. رواه ¬

_ (¬1) (974). (¬2) البخاري (1283)، ومسلم (926). (¬3) (1/ 398).

أحمد والترمذي وابن ماجه (¬1). وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح". وقال: "قد رأى بعضُ أهل العلم أنّ هذا كان قبل أن يرخِّص النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم في زيارة القبور، فلما رخّص دخل في رخصته الرجال والنساء، وقال بعضهم: إنما كره زيارة القبور للنساء لقلَّة صبرهنّ وكثرة جزعهنّ". تم كلامه (¬2). وروى الترمذي (¬3) عن ابن أبي مُليكة قال: لما توفي عبد الرحمن بن أبي بكر بالحُبْشيّ (¬4) - وهو موضع - فحمل إلى مكة فدُفِن بها، فلما قدمت عائشةُ أتت قبرَ عبد الرحمن بن أبي بكر فقالت: وكُنّا كَنَدْماني جَذيمة حِقْبةً ... من الدهر حتى قيل: لن يتصدّعا فلما تفرّقنا كأنّي ومالكًا ... لطول اجتماعٍ لم نَبِتْ ليلةً معا ثم قالت: والله لو حضَرْتُك ما دُفنتَ إلا حيث متَّ، ولو شهدتُك ما زرتك. والذي يلوح لي أن الرّخصة عمّت الذكورَ والإناث، ثم نهى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم النساء عن كثرة الزيارة، كما يدل عليه قوله في ¬

_ (¬1) أحمد (8449)، والترمذي (1056)، وابن ماجه (1576). (¬2) أي كلام الترمذي. (¬3) رقم (1055). وأخرجه عبد الرزاق (11811)، والحاكم: (3/ 476). وصححه النووي في الخلاصة: (2/ 1034) على شرط الشيخين. (¬4) اسم جبل بقرب مكة يبعد عنها ستة أميال. انظر "معجم البلدان": (2/ 214).

الرابع: هل تزار قبور الكفار؟

الحديث السابق: "زوّارات القبور". وبهذا تتفق الأدلة، والله الموفق. ثم وقفت على "فتح الباري" (¬1) فحكى فيه الخلاف، وقال: "قال القرطبيّ: هذا اللعن إنما هو للمكثرات من الزيارة لما تقتضيه الصِّفةُ من المبالغة .. " إلخ. وهو الذي لاح لي ولله الحمد. الرابع: هل تُزار قبور الكفّار؟ قد مضى أول هذا البحث (¬2) أن قوله تعالى: {وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84] يتناول الزيارة، وأن العلة - وهي الكفر بالله ورسوله والموت عليه - موجودة في غير المنافقين من الكفّار؛ فتكون زيارة قبور الكفار منهيًّا عنها. ولكن قوله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها" عام يتناول قبور الكفار. ثم إن العلة التي لأجلها نُدِبت زيارة القبور - وهي كونها تذكّر الموت أو تزهّد في الدنيا وتذكِّر الآخرة - موجودة في قبور الكفار. قالوا: وقد زار النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قبر أُمِّه كما مرّ (¬3). والذي يلوح لي ترجيح دلالة الآية؛ أولًا: لما يظهر من أنها نَسَخت جواز القيام على قبور الكفار كما نَسَخت جواز الصلاة عليهم. ونزولها كان بعد عود النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم من تبوك، وما مرّ من أدلة الجواز متقدّم على ذلك. ¬

_ (¬1) (3/ 149). وكلام القرطبي في "المفهم" (2/ 633). (¬2) (ص 200). (¬3) (ص 202).

[ص 4] ثانيًا: أن النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم علّمنا كيف نقول عند زيارة قبور المسلمين فقط، فلنقتصر على ذلك. والظاهر أنه لو كانت زيارة قبور الكفار مشروعة لعلّمنا كيف نقول عندها. ثالثًا: أن (¬1) زيارة قبور المسلمين فيها فائدة غير مجرّد تذكُّر الآخرة، وهي الدعاء لهم كما ورد. رابعًا: أن زيارة قبور المشركين تورث للزائر غَلَبة الرجاء، بحيث يُخشى منه الاتكال والتقصير في الطاعات؛ لأنه يستشعر ما كانوا فيه من الشرك بالله تعالى، والجحود لوحدانيته وغير ذلك، وأنه مؤمن بالله تعالى. وهذا الرجاء مع كونه محذورًا في نفسه، فهو نقيض الحكمة التي شُرِعت لها زيارة القبور، وهي تذكير الآخرة لتجديد الخوف وترقيق القلب والتزهيد في الدنيا؛ لينشأ عن ذلك الإقبال على الطاعات والتوبة من الخطايا التي سَلَفت، والاحتراز عنها فيما بقي. بخلاف زيارة قبور المؤمنين فإنها - إن لم يكونوا معصومين (¬2) - تذكّر بالثواب والعقاب معًا، وأن المحسنين منهم قد أفضوا إلى النعيم المقيم والمسيئين على خطر عظيم، وأنه لاحِقٌ بهم، فإن أحسن فالحُسْنى، وإن أساء فالأخرى. وبهذا النظر يحصل مقصود الزيارة الذي مرّ ذكره، فينشأ عنه ما ينشأ. وإن كانوا معصومين تذكّر ما هم فيه من النعيم المقطوع به لعصمتهم، فيشتاق إليه، ثم يذكر أنه غير معصوم، وأنه لاحِقٌ بالموتى، فإن أحسن كان ¬

_ (¬1) الأصل: "أن في" وبحذف (في أو فيها) يستقيم السياق. (¬2) كالأنبياء والرسل.

مع الذين أنعم الله عليهم، يتقلّب في ذلك النعيم الدائم، وإن أساء كان حريًّا أن يكون في ضدِّه من العذاب اللازم. وبهذا النظر يحصل المقصود من الزيارة، وما ينشأ عنها من الاجتهاد في الإحسان والجدّ في جهاد النفس والشيطان. وفقنا الله تعالى لما يحبُّه ويرضاه. ومما يتعلّق بالمقام: حديث الترمذي (¬1) عن عَمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: "خصلتان مَن كانتا فيه كتبه الله شاكرًا صابرًا: من نظر في دينه إلى من هو فوقه فاقتدى به، ونظر في دنياه إلى من هو دونه فحمد الله على ما فضّله الله عليه كتبه الله شاكرًا صابرًا. ومَن نظر في دينه إلى مَن [هو] دونه، ونظر في دنياه إلى مَن هو فوقه، فأسِفَ على ما فاته منه لم يكتبه الله شاكرًا ولا صابرًا". ولا يخفى أن زائر القبر ناظرٌ في دينه إلى حال المقبور، فينبغي أن لا يكون دونه، بأن يكون كافرًا، فالحديث دليل في النهي عن زيارة قبور الكفار، فتأمّل. والله أعلم. ¬

_ (¬1) (2512). وفيه بعد قوله: "خصلتان ... صابرًا": "ومن لم تكونا فيه لم يكتبه الله شاكرًا ولا صابرًا". قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب". وأخرجه ابن المبارك في "الزهد" (ص 50) والطبراني في "مسند الشاميين" (505)، والبغوي في "شرح السّنة": (14/ 293). وفي إسناده المثنى بن الصبّاح ضعيف، وبه ضعَّفه المناوي في "فيض القدير": (3/ 589) وضعَّفه الألباني في "الضعيفة" (1924). ويغني عنه ما أخرجه مسلم (2963) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "انظروا إلى من أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم".

الخامس: كيفية الزيارة

[ص5] الخامس (¬1): كيفية الزيارة: أقول: قد علمتَ أن المقصود من الزيارة إنما هو تذكُّر الموت والآخرة، والدعاء للميت، ومعلوم أنه يكفي في هذا القيام قريبًا من القبر، والدعاء بالأدعية الواردة، وقد مرَّت (¬2). ولفظه في حديث بريدة: "السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنّا إن شاء الله بكم للاحقون، ونسأل الله لنا ولكم العافية". وحديث أبي هريرة: "السلام عليكم دار قومٍ مؤمنين وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون". وحديث عائشة الأول: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون غدًا مؤجلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد". وحديث عائشة الثاني: "السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين مِنَّا والمستأخرين، وإنّا إن شاء الله بكم لَلاحقون" (¬3). **** ¬

_ (¬1) من الفروع في المسألة، وقد مضى الرابع (ص 207). (¬2) (ص 202). كلها تقدم تخريجها. (¬3) هذا اللفظ لم يتقدم هناك، وهو أحد ألفاظ الحديث رقم (974) في "صحيح مسلم".

فصل في زيارة قبور الأنبياء والصالحين

[ص 6] فصل في زيارة قبور الأنبياء والصالحين قد علمتَ أن الأدلة الواردة في مشروعية زيارة القبور عامةٌ في قبور الأنبياء والصالحين وسائر المسلمين، وإنما النزاعُ في شيئين: الأول: في شدّ الرحال. الثاني: الغرض المقصود من الزيارة. وعند التحقيق ينحصر النزاع في هذا الأخير، كما ستراه إن شاء الله تعالى. فأما شدّ الرحال، فإنّ من العلماء مَن مَنَعه لحديث "الصحيحين" (¬1) عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "لا تُشدّ الرحال إلاَّ إلى ثلاثة مساجد: مسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا". فقال قومٌ: هو نفيٌ، والمراد به النهي، وهو عامّ في كلّ شيءٍ. أي: لا تَشدّوا الرحال إلى شيءٍ من الأشياء إلّا إلى ثلاثة مساجد. ثم ما وَرَد فيه دليلٌ خاصّ في إباحةِ أو نَدْبِ أو وجوبِ شدِّ الرحال إليه غير ما ذُكِر فهو مخصَّصٌ من هذا العموم. وذلك كطلب الرزق، والتفكّر في آيات الآفاق، وزيارة ذوي الأرحام، وطلب العلم، والجهاد، وغير ذلك. فيبقى زيارة القبور داخلًا تحت ذلك العموم. ¬

_ (¬1) البخاري (1864، 1995)، ومسلم (827).

وقال آخرون: بل المراد: لا تشدّوا الرحال إلى بقعة من بقاع الأرض تلتمسون فضلَها عند الله تعالى غير الثلاثة المساجد. قالوا: ولا نحتاج لتخصيص طلب الرزق وغيره مما سبق، ويكون النهي بحالِهِ متناولًا لزيارة القبور. وقال غيرهم: بل الحديث واردٌ في شأن المساجد، أي: لا تشدّوا الرحال إلى مسجد من المساجد تلتمسون فضله غير المساجد الثلاثة، فيكون الحديث خاصًّا بالمساجد. وأنت خبيرٌ أنَّ ظاهر اللفظ يعيِّن القول الأول؛ إذ التقييد ببقاع الأرض أو بالمساجد خارج عن مدلول اللفظ. وعلى كلِّ حال فالأدلة ثابتةٌ والإجماعُ منعقدٌ على إباحة شدّ الرحال إلى كلِّ مقصدٍ دينيّ أو دنيويّ يحتاج الوصول إليه إلى ذلك. والظاهر أن المسلم إذا أراد زيارة القبور للغرض المتفق عليه، وهو تذكُّر الآخرة، ولم يكن بالقُرب منه قبور = لم يَحْرُم عليه أن يشدّ رحله لزيارة أقرب القبور إليه، بل لا أظنُّ أحدًا يتردّد في .... (¬1) أنه مأمور بزيارة القبور لتذكّر الآخرة، والأمر بزيارة القبور [ص 7] مطلق، والنهي عن شدّ الرحال إلى غير الثلاثة المساجد عام، فهل يقال: إن إطلاق الأمر بزيارة القبور يخصّصُ عمومَ النهي عن شدّ الرحال؟ أو يقال: إن عموم النهي عن شدّ الرحال يقيّد إطلاق الأمر بزيارة القبور؟ أو يقال: إن كان بِقُرْبه قبر تعيّن عليه العمل بالحديثين، بأن يزور القبر القريب منه ولا يشدّ رحلَه إلى غيره. وإن لم يكن ¬

_ (¬1) تآكلٌ في طرف الورقة ذهبَ بكلمتين أو ثلاثًا.

بالقرب منه قبر ترجّح تخصيص عموم النهي عن شدّ الرحال بإطلاق الأمر بزيارة القبور، فيرخّص له بشدّ رحله لزيارة أقرب القبور إليه لتذكُّر الآخرة؛ لأن هذا الغرض غرضٌ مهمٌّ شرعًا، وليس في شدّ الرحل إليه إخلال بغرض شرعيّ؛ لأن الغرض الذي لأجله النهي عن شدّ الرحال لغير الثلاثة المساجد إنما هو - والله أعلم - خشيةَ أن يضيّع المسلمون مصالحهم الدينية والدنيوية في الرحيل إلى ما لا فائدة لهم فيه، وفي مسألتنا قد تحققت الفائدة. وهذا الثالث - والله أعلم - هو الحقُّ إن شاء الله تعالى. وعلى هذا فمن جعل لزيارة قبور الأنبياء والصالحين فائدةً دينية زائدة عن قبور غيرهم من المسلمين، أي زائدةً عن مجرّد تذكّر الموت وما بعده خصّصها بنحو ما خصصنا به مَن كان بعيدًا من القبور، في أنه يجوز له شدّ رحله لزيارة أقرب القبور إلى محلّه. ومن هنا قلنا: إنه عند التحقيق ينحصر النزاع في المقصود من الزيارة، وعليه فأقول: قال المانعون: إن غرض الشارع من الأمر بزيارة القبور هو ما بيّنه صلَّى الله عليه وآله وسلم بقوله في حديث مسلم (¬1): "فإنها تُذَكِّر الموتَ". وفي حديث ابن ماجه (¬2): "فإنها تزهّد في الدنيا وتذكّر الآخرة". فقوله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "فإنها تذكر الموت - فإنها تزهّد في الدنيا وتذكّر الآخرة" نصٌّ منه على مشروعية زيارة القبور، وحينئذٍ (¬3) فلا شكَّ أنه يكفي في تحصيل هذا المقصد أيّ قبرٍ كان من قبور المسلمين. ¬

_ (¬1) (976) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) (1571) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. (¬3) اختصرها المؤلف إلى (ح) كما فعل في مواضع أخرى.

قال المجيزون هذا مسلّم، ولكن ليس في هذا ما يدلّ على أنه لا غرض للشارع غير ما ذُكِر، كيف وقد تقدّم من الأحاديث ما يدلُّ على أنه من المقاصد السلامُ عليهم، والدعاء لهم، والدعاء للنفس؟ [ص 8] كما مرَّ ذلك في نَقْل الأدعية الواردة عنه صلَّى الله عليه وآله وسلم في زيارة القبور، فيرجع إليها (¬1)، وهي تدلّ أن من المقاصد السلام عليهم، والدعاء لهم وللنفس وللمؤمنين. ولفظ حديث عائشة: "السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منّا والمستأخرين، وإنَّا إن شاء الله بكم لاحقون" (¬2). فإذا تقرَّر ذلك، فلا شك أنه لا يكفي في تحصيل هذه المقاصد زيارة أيّ قبرٍ كان، لأن من المقاصد: السلام على الموتى، وقد يريد الإنسان أن يخصّ بالسلام ميّتًا معينًا من الأنبياء أو الصالحين. ومن المقاصد: الدعاء لصاحب القبر، والإنسان قد يريد أن يخصّ أيضًا. ومن المقاصد: الدعاء للنفس وللمؤمنين، ولا شك أن الدعاء في بعض المواطن أَرْجى. ومن ذلك: مواضع قبور الأنبياء والصالحين، فإنَّ تجلِّي الرحمةِ عندها أكثر من غيرها. ومن المقاصد الشرعية - وإن لم تدلّ عليها تلك الأحاديث -: تذكُّر سيرة الأخيار؛ لأن في ذلك الحضّ للنفس عليها. ولا شكَّ أن الإنسان عند زيارته قبور الأنبياء والصالحين يتذكَّر سِيَرهم وما كانوا عليه من الأعمال الصالحة واجتناب الشبهات؛ فيحمله ذلك على الاقتداء بهم. وأيضًا: أنه عند زيارة قبور أهل الخير، يستشعر ما هم فيه من رضوان الله تعالى والجنة، ¬

_ (¬1) (ص 209). (¬2) تقدم (ص 209).

فتشتاقُ نفسُه إلى اللحاق بهم، ويعلم أنّ ذلك متوقِّف على العمل بِعَمَلهم؛ فيحضُّه ذلك على عمل الخير. فهذه كلُّها مقاصد شرعيّة، تختلف باختلاف القبور، وبذلك يُخصّص حديث النهي عن شدّ الرِّحال على تسليم عمومه في كلِّ شيء. فأما على اقتصار عمومه على البقاع أو المساجد فلا حاجة إلى التخصيص. أما الثاني فواضح، وأما الأول: فلأننا نقول: المراد البقاع لذاتها لا لشيء آخر كائنٍ فيها، كعالم كائن في مصر، وجهادٍ في الثغر، ونحو ذلك. إذ ليس القصد ذات مصر ولا الثغر، وإنما القصد العالم والجهاد. ومثل هذا يقال في قبور الأنبياء والصالحين، فليس القصد القبر، أي الحفرة التي هي من الأرض، بل القصد الذات المدفونة فيها. [ص 9] قال المانعون: لا نسلِّم أن للشارع حِكْمةً في الأمر بزيارة القبور غير ما نصَّ عليها الحديثُ، كما مر. فأما السلام عليهم، والدعاء لهم، والدعاء للنفس وللمؤمنين فهي من المقاصد العامة التي تُقال عند غير القبور فجيء بها عند زيارة القبور عَرَضًا. وإن سلَّمنا أنها من المقاصد فليست لذاتها وإنما هي حاصلة تبعًا، يدلك على ذلك أن السلام عليهم معناه الدعاء لهم بالسلامة، وذلك (¬1) والدعاءُ لهم وللنفس وللمؤمنين يمكن أن يحصِّلها الإنسان وهو على فراشه، فكيف يقال: إنها من الأغراض التي شُرِعت لها زيارة القبور؟! وقولكم: "وقد يريد الإنسان أن يخصّ بالسلام إنسانًا معيّنًا". ¬

_ (¬1) كذا في الأصل. ويشير بذلك إلى السلام عليهم.

فالجواب: أن السلام هو عبارة عن الدعاء له بالسلامة، فادعُ له وأنتَ في بيتك أو مسجدك أو دكانك أو حيث كنت. وسيأتي في الحديث الصحيح وهو قوله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "لا تجعلوا بيوتكم قبورًا، ولا تجعلوا قبري عيدًا، وصلوا عليَّ حيث كنتم فإن صلاتكم تبلغني" (¬1). وبهذا يُعْلَم الجواب عن قولكم: "ومن المقاصد الدعاء لصاحب القبر ... " إلخ. وأما قولكم: "ومن المقاصد الدعاء للنفس وللمؤمنين ... " إلخ. فقد مرَّ أن هذا ليس من مقاصد زيارة القبور، وإنما يحصل عندها عَرَضًا، فاتخاذه مقصدًا شرعيًّا بدعة. ولم يكن الصحابةُ والتابعون ومَن بعدهم يزورون القبور لأجل الدعاء عندها. ولو كانوا يرون أن في الدعاء عندها مزيد فائدةٍ وكونه أَرْجى للقبول ونحو ذلك لكانوا أسرع إليه. ولو سلّمنا أن الدعاء عندها أرجى لتبيّن بفعل السلف اختصاص العمل بذلك إذا كانت الزيارة لمقصدها، فيُسْتحسن الدعاءُ حينئذٍ. وأما أن يُقصد القبرُ لأجل الدعاء فلا. وسيأتي في التوسُّل (¬2) حديث البخاري (¬3) في توسّل عمر رضي الله عنه ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (8804)، وأبو داود (2042)، والطبراني في "الكبير" (19/ 486) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والحديث حسَّنه شيخ الإسلام في "الاقتضاء": (2/ 170) وصححه النووي في "الخلاصة": (1/ 440)، وله شواهد عن عدد من الصحابة. (¬2) (ص 271). (¬3) (1010).

والصحابة بالعباس رضي الله عنه وقول عمر: "اللهم إنّا كنّا إذا أجْدَبْنا توسّلنا إليك بنبيك صلَّى الله عليه وآله وسلم فتسقينا، وإنَّنا نتوسّل إليك بعمِّ نبيك". وهذا دليلٌ ظاهر أنهم لم يكونوا يرون الدعاء عند القبور، وإلّا لما تركوا قبر النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم وذهبوا يستسقون في غير محلِّه. وسيأتي في بحث عِلْم الغيب الحديث الذي أخرجه صاحب "المختارة" بسنده إلى عليّ بن الحسين أنه رأى رجلًا يجيء إلى فُرجةٍ كانت عند قبر النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم فيدخل فيها ويدعو، فنهاه وقال: أحدّثكم حديثًا سمعته من أبي عن جدِّي عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: "لا تتخذوا قبري عيدًا، ولا بيوتكم قبورًا، فإن تسليمكم ليبلغني أين كنتم" (¬1). [ص10] [وثبت] (¬2) عن ابن عمر (¬3) أنه كان يقول عند إتيانه قبر النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم وصاحبيه: السلام عليك [يا رسول الله]، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أَبَتِ. ونحن لا ننكر الدعاءَ عند القبور كما ورد في الأحاديث الصحاح. وإنما ننكر أن تُقْصَد القبور لأجل الدعاء. ونقول: لا تُقصَد القبور إلا لتذكُّر ¬

_ (¬1) وأخرجه إسماعيل القاضي في "فضل الصلاة على النبي" (20)، وابن أبي شيبة (7624)، والبزار (509)، وأبو يعلى (469). والحديث صححه الضياء المقدسي في "المختارة" (428)، وحسَّنه السخاوي في "المقاصد الحسنة" (ص 263). (¬2) طمس بمقدار كلمة أو كلمتين، ولعلها ما قدرته. وهكذا ما قدرته بين معكوفات في المواضع الأخرى. (¬3) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (6724) وابن أبي شيبة (11915). وإسناده صحيح.

[الموت] والآخرة. فإذا وصل الإنسانُ سلَّم على أهلها ودعا لهم ولنفسه وللمؤمنين كما ورد. أما قولكم: "إن من المقاصد الشرعية تذكُّر سيرة الأخيار". فهذا يحصل تمامَ الحصول بقراءة القرآن، فإنه [خُلُق] (¬1) إمام الأخيار صلَّى الله عليه وآله وسلم كما ورد في "الصحيح" عن أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها (¬2)، أو قراءة شيء من كتب السنن الصحيحة. وتذكُّر سيرتِه صلَّى الله عليه وآله وسلم بقراءة القرآن أو مطالعة السنن يغني عن تذكّر سِيَر غيره ممن ليس بمعصوم، ولا سيَّما مع ما مُزِجت به سِيَر غيره من الصالحين من الكذب الذي يخالف كثيرًا من أحكام الشرع. قال المجيزون: وفي زيارة قبر نبيّنا صلَّى الله عليه وآله وسلم فائدة أخرى، وهي أن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64]، فعلَّق المغفرةَ على ثلاثة أمور: المجيء إليه صلَّى الله عليه وآله وسلم، والاستغفار، واستغفاره صلَّى الله عليه وآله وسلم. وعليه فإنه صلَّى الله عليه وآله وسلم كان يستغفر لجميع أمته، ولكن استغفاره يحتاج إلى الأمرين الأخيرين، فإذا جاء أحدُنا قبرَه واستغفر الله تعالى تمَّت الأمور الثلاثة، فحصلت الرحمة وقبول التوبة. هكذا رأيتُ معنى هذا في ¬

_ (¬1) مطموسة في الأصل فلعلها ما قدرته. (¬2) لعله أراد ما أخرجه مسلم (746) من قول عائشة رضي الله عنها لما سألها سعد بن هشام عن خُلُق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قالت: ألستَ تقرأ القرآن؟ قال: بلى، قالت: فإن خُلُق نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان القرآن.

"المواهب" (¬1). قال المانعون: الآيةُ واردةٌ في المنافقين. وما عليكم إلا أن تقرأوا ما قبلها وما بعدها، فتعلموا ذلك. يريد الله تعالى: لو أنهم جاؤوك فاعترفوا بما سلف منهم، وخضعوا لحكم الله تعالى على يدك، واستغفروا الله تعالى واستغفرتَ لهم لوجدوا الله توابًا رحيمًا. ومع قَطْع النظر عن هذا، فإن الاستغفارَين اللذين في الآية مشروطان بتقدُّم المجيء، والاستغفارُ الذي ذكرتم أنّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قد استغفره لأمته متقدِّم على المجيء، ولا يمكنكم أن تقولوا: إنه يمكن أن يستغفر لنا صلَّى الله عليه وآله وسلم الآن [ص 11] لما ثبت في "صحيح البخاري" (¬2) عن أمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: وارأساه. فقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "ذاك لو كان وأنا حيّ، فأستغفر لكِ وأدعو لكِ" الحديث. ودعاؤه صلَّى الله عليه وآله وسلم لأمته ليس مقيَّدًا بزيارتهم قبرَه اتفاقًا. وأما شفاعته صلَّى الله عليه وآله وسلم فهي حقٌّ وأيُّ حقّ، ولكنها لا تتوقّف على زيارة قبره صلَّى الله عليه وآله وسلم، بل تتوقف على تحقيق الإيمان قبل كلِّ شيء. ففي "صحيح البخاري" (¬3) عن أبي هريرة عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم: "أَسْعَد الناسِ بشفاعتي يوم القيامة مَن قال: لا إله إلا الله خالصًا من قلبه أو نفسه". ¬

_ (¬1) "المواهب اللّدنيّة": (3/ 589) للقسطلاني. (¬2) (5666). (¬3) (99).

على أنَّنا لا ننكر زيارةَ قبره صلَّى الله عليه وآله وسلم، وأنّها من أفضل القُرُبات، وإنما ننكر ما نهى عنه صلَّى الله عليه وآله وسلم مِن اتخاذ قبره عيدًا، ونُنكر شدَّ الرحال لغير قبره من قبور الأنبياء والصالحين (¬1). وفَصْل الخطاب بيننا وبينكم: أنكم تعتقدون أن الدعاءَ عند القبور أقرب إلى القبول. وتعتقدون أنّ الصالحين أحياء، بحيث يرون زائرهم ويسمعونه ويغيثونه بتصرّفهم في الكون، أو يدعون الله تعالى. وكلا الأمرين غير صحيح؛ أما الأول، فلأنَّه لو كان الأمر كما تقولون لأمَرَنا به الله تعالى ورسولُه. فإنّ الله تعالى يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]. وقد عَلِمْتم أنه لم يصح عنه صلَّى الله عليه وآله وسلم الأمر بزيارة قبور أحدٍ من الصالحين لأجل الدعاء، وعَلِمْتم أن أصحابه رضي الله عنهم لم يكونوا يفعلون ذلك؛ بل صحَّ عنهم ما يخالفه، وهكذا أتباعُهم حتى ذهبت قرون الخيرية، وظَهَر الجهلُ والبدعُ، وصار كلُّ أحدٍ يشرع لنفسه ما يستحسنه هواه. والدين ليس ما تستحسنه النفسُ، وإنما هو ما صحَّ عن الله تعالى وعن رسوله عليه الصلاة والسلام. ¬

_ (¬1) لأن شدّ الرحل إنما هو للمسجد فهو في الحقيقة سفر إلى المساجد، بخلاف غيره من الأنبياء فإن شدّ الرحل إلى قبورهم سفر للقبر ذاته. ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن الذين استحبوا السفر إلى زيارة قبر نبينا مرادهم السفر إلى مسجده، وهذا مشروع بالإجماع، ولو قصد المسافر إليه فهو إنما يصل إلى المسجد، والمسجد منتهى سفره، لا يصل إلى القبر، بخلاف غيره فإنه يصل إلى القبر". "مجموع الفتاوى": (27/ 254، 266).

وهَبُوا أنكم جرّبتم أنّ الدعاء عند القبور أقرب إجابة، فإنّ هذا ليس دليلًا شرعيًّا كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى (¬1)، وليس الدليلُ إلّا ما ثبت من كتاب الله تعالى وسنة رسوله، إجماعًا واتفاقًا بين جميع العلماء بلا خلافٍ في ذلك أصلًا. وأمّا اعتقادُكم أنّ الصالحين أحياء، بحيث يرون زائرهم ويسمعونه ويقدرون على إعانته إلى آخره، فسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق هذا في مبحث مستقلّ (¬2) بما لا تبقى معه شبهة، وحسبكم لو عَقَلْتم حديث عائشة السابق في قولها: وارأساه (¬3). [ص 12] هذا، في زيارة من ثبت صلاحُه بالظواهر الشرعية، ولم يكن قبره على الكيفية المنهيّ عنها، ولم يُتَّخذ قبره عيدًا، ولم يكن عند قبره شيءٌ من المنكرات، ولم يقصد من الزيارة التبرُّك بالقبر والتمسُّح ونحوه، والدعاء والاستغاثة ونحو ذلك. فأما في غير ذلك فلا يمكن لعاقل أن ينكر حرمته مطلقًا. وممن لم يثبت صلاحُه مَن ثبت عنه أنه كان يدّعي علم الغيب أو نحوه لتكذيبه للقرآن. وكون القبر على كيفية منهيٍّ عنها يُعْلَم مما سبق. واتخاذُ القبر عيدًا منه ما اعتِيدَ في هذه الأزمان من الاجتماع عند قبر ¬

_ (¬1) (ص 415 - 420). (¬2) لم يأت بحث مستقل في هذا، وانظر إجابة جمُليّة عنه في (ص 422). (¬3) تقدم (ص 218).

بعض المزعوم صلاحُهم في ميعاد معلوم في كل سنة يجتمع فيها الناس، ويتجمّلون لها، ويوسِّعون فيها النفقات وغير ذلك. والحاصل أنهم يتخذون تلك الأيام عيدًا، ويكون الغرض الأكبر من الاجتماع في المحلّ الذي فيه القبر هو اختلاط الرجال بالنساء، والتوصل إلى ما يجرُّه ذلك من المنكرات، وشرح هذا يطول. وأما قولنا: "ولم يقصد من الزيارة التبرك ... " إلخ، فهذا هو المقصد العام لعامة الناس في هذه الأعصار، وهو الشرك الصريح والعياذ بالله، كما سيأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه في مبحث التبرك وغيره (¬1). نسأل الله تعالى أن يثبت قلوبنا على دينه، ويهدينا لما اختُلف فيه من الحق بإذنه، وهو وليّ الفضل والإحسان، وهو المستعان وعليه التكلان. ... ¬

_ (¬1) (ص 222).

البحث الرابع التبرك

البحث الرابع التبرُّك الإنسان مفطور على الطلب لما ينفعه والهرب مما يضرّه، وكلُّ عاقل يعلم أن النفعَ والضرَّ بيد الله تعالى، ومَن اعتقد في غيره قدرةً على النفع والضر، فإن اعتقد لذلك الغير قدرةً مستقلّة عن قدرة الله تعالى، أي غير مستمدّة منها، فذلك هو الكفر، سواء اعتقد أن تلك القدرة تستقلّ بالإيجاد أو تحتاج إلى إعانة قدرة الله تعالى. وهذا مما لا خلاف فيه بين المسلمين. وإن علم أن النفعَ والضرَّ بيد الله تعالى، ولكن اعتقد في شيء من الأشياء أن الله تعالى أودعَ فيه نفعًا أو ضرًّا وجعله سببًا، ففيه تفصيل؛ وذلك أنَّ المقصد إما أن يكون دينيًّا أو دنيويًّا، وأعني بالديني: رضوان الله تعالى والدار الآخرة، وبالدنيوي: ما عداه، والديني لا يكون سببه إلا شرعيًّا. وأما الدنيوي فهو على قسمين: الأول: ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، فهذا لا يكون سببه إلا شرعيًّا. والثاني: ما تتناوله قُدرة الخلق، فإن أُريد تحصيله بغير سببه العادي، كان كالذي قبله، لا يقدر عليه إلا الله تعالى، ولا يكون سببه إلا شرعيًّا. وإن أُريد تحصيله بسببه العادي، فهذا مما تتناوله قدرة البشر التي أعطاهم الله تعالى إيَّاها، فيكون سببه عاديًّا. إذا تقرّر ذلك فالمقاصد الدينية كلُّها وكذا الدنيوية التي لا يقدر عليها إلا الله تعالى، وكذا ما تتناوله قدرة الخلق بالأسباب العادية إذا أُريد تحصيله بغيرها = كلُّ ذلك لا يكون سببه إلا شرعيًّا. وكون الفعل شرعيًّا يفتقر إلى

ثبوته في الشرع بدليلٍ معتبر. فمَن اعتقد في شيءٍ ما أنه سبب لشيءٍ مما ذُكر؛ فإن كان ثابتًا في الشرع بدليل معتبر، فاعتقاده حق والعمل به هدى، وإن لم يكن ثابتًا في الشرع بدليل معتبر، فاعتقاده والعمل به ضلال مبين. وأما المقاصد الدنيوية التي تتناولها قُدرة الخلق بالأسباب العادية إذا أُريد تحصيلها بها، فلا يفتقر اعتقاد كون شيء من الأشياء سببًا لها إلى ثبوته شرعًا، وإنما العمل بها يفتقر إلى الإذن الشرعي. [ص 2] إذا تقرّر ذلك فالتبرّك هو التسبُّبُ لحصول البركة، ولا يكون المقصود به إلا أحد الأمور الثلاثة التي بينّا أن سببها لا يكون إلا شرعيًّا، فهو إذن مفتقِرٌ إلى ثبوته من الشرع بدليل معتبر، فإن ثبت فاعتقاده حق والعمل به هُدى، وإن لم يثبت فاعتقاده والعمل به ضلال مبين. فأقول: قد ثبت التبرك بأشياء منها: * ماء زمزم، قال في "الهَدْي" (¬1): "ماء زمزم، سيّد المياه وأشرفها، وأجلّها قدرًا، وأحبها إلى النفوس، وأغلاها ثمنًا وأنفسها عند الناس، وهو هَزْمَة جبريل وسُقيا إسماعيل. وثبت في "الصحيح" (¬2) عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم أنه قال لأبي ذر وقد أقام بين الكعبة وأستارها أربعين ما بين يوم وليلة، وليس له طعام غيره، فقال النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم: "إنها طعام طُعْم". وزاد غير مسلم بإسناده: "وشفاء سُقم" (¬3). ¬

_ (¬1) يعني "زاد المعاد في هدي خير العباد" لابن قيم الجوزية: (4/ 392 - 393). (¬2) "صحيح مسلم" (2473). وفيه: " ... ثلاثين ما بين يوم وليلة". وما في الأصل تبع للهدي. (¬3) أخرجه الطيالسي (459)، والبزار (9/ 361)، والبيهقي: (5/ 147) وغيرهم. وعزاه =

وفي "سنن ابن ماجه" (¬1) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه، عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "ماء زمزم لما شُرِب له". وقد ضعّف هذا الحديثَ طائفةٌ بعبد الله بن المؤمّل راويه عن محمَّد بن المنكَدِر. وقد رُوِّينا عن عبد الله بن المبارك أنه لما حجّ أتى زمزم فقال: اللهم إن ابن أبي الموالِ حدثنا عن محمَّد بن المنكدر عن جابر رضي الله عنه عن نبيك صلَّى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "ماء زمزم لما شُرِب له"، فإني أشربه لظمأ يوم القيامة (¬2). وابن أبي الموالِ ثقة، فالحديث إذًا حسن، وقد صححه بعضُهم، وجعله بعضهم موضوعًا، وكلا القولين فيه مجازفة. وقد جرّبتُ أنا وغيري من الاستشفاء بماء زمزم أمورًا عجيبة، واستشفيتُ به من عدة أمراض، فبرأتُ بإذن الله" اهـ (¬3). ¬

_ = البيهقي لمسلم، وليست في المطبوع منه، ويؤيده كلام المصنف والحافظ في "المطالب العالية" (1404). (¬1) (3062). وأخرجه أحمد (14849)، والبيهقي: (5/ 148). وانظر كلام المصنف على الحديث في حواشيه على "الفوائد المجموعة" (ص 113 - 114). (¬2) أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (3833)، وابن عساكر في "تاريخه": (32/ 436) من رواية سويد بن سعيد عن ابن المبارك، وقد أخطأ في الرواية عنه والمحفوظ ابن المبارك عن ابن المؤمل. انظر "فتح الباري": (3/ 493) و"التلخيص الحبير": (2/ 287). (¬3) انتهى كلام ابن القيم في "الهدي".

* ومنها: القرآن الكريم والأدعية المأثورة، بقراءة المتبرِّك وقراءة متبرَّكٍ به. وهذا مما لا خلاف فيه، وكذا بكتابة شيء من ذلك. قال في "الهدي" (¬1): "قال المرُّوذي (¬2): بلغ أبا عبد الله أني حُمِمتُ، فكتب لي من الحمَّى ورقة (¬3) فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، بسم الله وبالله، محمَّد (¬4) رسول الله، {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} [الأنبياء: 69، 70]، اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل اشفِ صاحبَ هذا الكتاب بحولك وقوّتك وجبروتك إله الحق، آمين. قال المرُّوذي: وقُرِئ على أبي عبد الله وأنا أسمع: أبو المنذر عمرو بن مجمع حدثنا يونس بن حبان قال: سألت أبا جعفر محمَّد بن علي أن أعلّق التعويذ؟ فقال: إن كان من كتاب الله، أو كلامٍ عن نبيِّ الله فعلّقه واستشفِ به ما استطعتَ. قلت: أكتب هذه من حمى الرِّبْع: باسم الله وبالله، ومحمد رسول الله ... إلى آخره؟ قال: إي نعم. وذكر أحمد عن عائشة رضي الله عنها وغيرها: أنهم سهّلوا في ذلك. قال حرب: ولم يشدّد فيه أحمد بن حنبل. قال أحمد: وكان ابن مسعود يكرهه كراهةً شديدة جدًّا. وقال أحمد وقد سُئل عن التمائم تُعلَّق بعد نزول البلاء؟ قال: أرجو أن ¬

_ (¬1) (4/ 356 - 358). (¬2) وقع في الأصل تبعًا للهدي: "المروزي" والصواب ما أثبت، وقد نقله ابن القيم أيضًا في "بدائع الفوائد": (4/ 175 - بتحقيقي). (¬3) كذا. وفي "الهدي": "رقعة". (¬4) في "البدائع": "ومحمَّد".

لا يكون به بأس. قال الخلال: وحدثنا عبد الله بن أحمد قال: رأيت أبي يكتب التعويذ للذي يفزع، وللحمى بعد وقوع البلاء. [ص 3] ثم ذكر كتابًا آخر، ثم قال: قال الخلال: أنبأنا أبو بكر المرُّوذي أن أبا عبد الله جاءه رجل فقال: يا أبا عبد الله تكتب لامرأة قد عَسُر عليها ولدها منذ يومين؟ فقال: قل له يجيء بجامٍ واسعٍ وزعفران، ورأيته يكتب لغير واحد ... ثم قال بعد كلام: ورخّص جماعة من السلف في كتابة بعض القرآن وشُربه، وجعل ذلك من الشفاء الذي جعل الله فيه. ثم قال بعد كلام: كتاب للرعاف: كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يكتب على جبهته: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ} [هود: 44]. وسمعته يقول: كتبتُها لغير واحد فبرأ، فقال: ولا يجوز كتابتها بدم الراعف كما يفعله الجهّال؛ فإن الدم نجس، فلا يجوز أن يُكتب به كلام الله تعالى" (¬1). قال في "المشكاة" (¬2): وعن عَمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: "إذا فزع أحدكم في النوم فليقل: أعوذ بكلمات الله التامّة من غضبه وعقابه وشرّ عباده، ومن هَمَزات الشياطين وأن يحضرون، فإنها لن تضره". وكان عبد الله بن عمرو يعلّمها مَن بلغ مِن ولدِه، ومَن لم يبلغ منهم كتبها في صكّ ثم علّقها في عنقه. رواه أبو داود ¬

_ (¬1) انتهى النقل من "زاد المعاد". (¬2) (2/ 57).

والترمذي (¬1)، وهذا لفظه. وفي "سنن أبي داود" (¬2) عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود أن عبد الله رأى في عنقي خيطًا فقال: ما هذا؟ فقلت: خيطٌ رُقي لي فيه. قالت: فأخذه فقطعه، ثم قال: أنتم آل عبد الله لأغنياء عن الشرك، سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم يقول: "إن الرُّقَى والتمائم والتِّوَلَة شرك"، فقلت: لِمَ تقول هكذا، والله لقد كانت عيني تقذف، وكنت أختلف إلى فلان اليهودي [يرقيني] فإذا رقاها سكنت. فقال عبد الله: إنما ذلك عمل الشيطان كان ينخسها بيده، فإذا رقى كفَّ عنها، إنما كان يكفيك أن تقولي كما كان رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم يقول: "أذْهِبَ الباسَ ربَّ الناس واشفِ أنتَ الشافي لا شفاءَ إلا شفاؤك شفاءً لا يغادرُ سَقَمًا". وفيها (¬3) أيضًا: عن عبد الله بن عَمرو قال: سمعتُ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم يقول: "ما أبالي ما أتيتُ إن أنا شربتُ ترياقًا، أو تعلّقتُ تميمةً أو قلت الشعرَ مِن قِبَل نفسي". وفيها (¬4) أيضًا: عن عيسى بن حمزة قال: دخلت على عبد الله بن عُكَيم ¬

_ (¬1) أبو داود (3893)، والترمذي (3528) - وقال: حسن غريب - وأحمد (6696)، وانظر الكلام عليه في حاشية المسند: (11/ 296 - 297). (¬2) (3883). وأخرجه أحمد (3615)، وابن ماجه (3530)، وابن حبان (6086)، والحاكم (4/ 240) وصحّحاه. وانظر حاشية المسند: (6/ 110 - 112). (¬3) أي "المشكاة": (2/ 531). وهو في "سنن أبي داود" (3869)، وأحمد (7081). وإسناده ضعيف، انظر: حاشية "المسند": (11/ 652). ووقع في الأصل تبعًا للمشكاة: "عبد الله بن عمر". وهو تصحيف. (¬4) (2/ 531). وهو في "جامع الترمذي" (2072)، وأحمد (18781). قال البوصيريّ =

وبه حمرة فقلت: ألا تعلّق تميمة؟ فقال: نعوذ بالله من ذلك، قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "مَن تعلَّق شيئًا وُكِل إليه" (¬1). [ص 4] وفي "المستدرك" (¬2) عن عقبة بن عامر مرفوعًا: "مَن عَلَّق تميمةً فلا أتمَّ الله له، ومن عَلّق وَدَعةً فلا وَدَع الله له". قال الحاكم: صحيح، وأقرَّه الذهبي. وفيه (¬3) عن عِمران بن حُصين قال: دخلت على رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم وفي عضدي حَلْقة صَفَر فقال: "ما هذه؟ " قلت: مِن الواهنة. فقال: "فانبذها". قال الحاكم: صحيح، وأقرّه الذهبي. وفيه (¬4) عن قيس بن السكن الأسدي، قال: دخل ابن مسعود على امرأةٍ (¬5)، فرأى عليها حرزًا من الحُمرة، فقطعه قطعًا عنيفًا، ثم قال: إن آل عبد الله عن الشرك أغنياء، وقال: كان مما حفظنا عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم: أن التمائم والرُّقى والتِّوَلَة (¬6) من الشرك. قال: صحيح، وأقرّه الذهبي. وفيه (¬7) عن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن زينب امرأة عبد الله أنها ¬

_ = في "إتحاف الخيرة": (4/ 468): "مرسل ضعيف". (¬1) كتب المصنف بعدها "اقلب" يعني تُكتب الصفحة التي تليها كاملة ثم يعود الكلام إلى سياقه. (¬2) (4/ 216). (¬3) (4/ 216). (¬4) (4/ 217). (¬5) الأصل: "امرأته". والمثبت من "المستدرك". (¬6) كذا، وفي "المستدرك" في هذا الموضع والمواضع الأخرى: "والتولية". (¬7) (4/ 417 - 418).

أصابها حُمْرة في وجهها، فدخلت عليها عجوز فَرَقَتْها في خيط فعلَّقته عليها، فدخل ابن مسعود رضي الله عنه فرآه عليها فقطعه، ثم قال: إن آل عبد الله لأغنياء عن الشرك، إن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم حدثنا أن الرقى والتمائم والتِّوَلَة شِرك. والتِّوَلة ما يهيّج الرجال. قال: على شرط الشيخين، وأقرّه الذهبي. وفيه (¬1) عن أم ناجية قالت: دخلتُ على امرأة ابن مسعود زينب أعودها من حمرة ظهرت بوجهها وهي معلقة بحرز؛ فإني لجالسة دخل عبد الله، فلما نظر إلى الحرز أتى جدعًا معارضًا في البيت، فوضع رداءه عليه، ثم حسر (¬2) عن ذراعيه فأتاها، فأخذ الحرز فجذبها حتى كاد وجهها أن يقع على الأرض، فانقطع ثم خرج من البيت فقال: لقد أصبح آل عبد الله أغنياء عن الشرك، ثم خرج فرمى بها خلف الجدار، ثم قال: يا زينب أعندي تعلِّقين! إني سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم نهي عن الرقى والتمائم والتِّوَلَة. فقالت أم ناجية: يا أبا عبد الرحمن، أما الرقى والتمائم فقد عرفنا، فما التِّوَلَة؟ قال: التِّوَلَة ما يهيِّج النساء. وفيه (¬3) عن الحسَن قال: سألت أنسًا عن النُّشْرة؟ فقال: ذكروا عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم أنها من عمل الشيطان. قال الحاكم: صحيح، وأقرَّه الذهبي. ¬

_ (¬1) (4/ 216 - 217). وفي إسناده السري بن إسماعيل الكوفي متروك. انظر "الضعفاء" للعقيلي: (2/ 176)، و"الكامل": (3/ 456 - 457) لابن عدي. (¬2) في المطبوع: "حصر". وكأن المؤلف أصلحه. (¬3) (4/ 418).

وفيه (¬1) عن بُكير بن عبد الله بن الأشج أن أمّه حدّثته: أنها أرسلت إلى عائشة رضي الله عنها بأخيه مخرمة، وكانت تداوي من قرحة تكون بالصبيان، فلما داوته عائشة وفرغت منه، رأت في رجليه خلخالين جديدين (كذا) فقالت عائشة: أظننتم أن هذين الخلخالين يدفعان عنه شيئًا كتبه الله عليه، لو رأيتهما ما تداوى عندي وما مس عندي، لعمري لخلخالان من فضة أطهر من هذين. قال الحاكم: صحيح، وأقرّه الذهبي. وفيه (¬2) عن القاسم بن محمَّد، عن عائشة رضي الله عنها قالت: ليست التميمة ما تعلّق به بعد البلاء، إنما التميمة ما تعلَّق به قبل البلاء. قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. ثم قال: ولعل متوهمًا يتوهّم أنها من الموقوفات على عائشة رضي الله عنها، وليس كذلك، فإن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم قد ذكر التمائم في أخبار كثيرة، فإذا فسّرت عائشةُ رضي الله عنها التميمة فإنه حديثٌ مسند. اهـ. أقول: أما الرقى فقد ثبت في "الصحيح" تخصيص النهي بما كان فيه شرك، منه ما في "صحيح مسلم" (¬3) عن عوف بن مالك الأشجعي قال: كنّا نرقي في الجاهلية، فقلنا: يا رسول الله، كيف ترى في ذلك؟ فقال: "اعرضوا ¬

_ (¬1) (4/ 217 - 218). (¬2) (4/ 217). (¬3) (2200).

عليَّ رُقاكم، لا بأس بالرُّقَى ما لم يكن فيه شرك". وأقول: الرُّقى قسمان: الأول: ما كان فيه تبرّك، فهو بحسب المتبرَّك به، فإن كان من القرآن أو الدعاء وذِكْر الله تعالى فحَسَن. وإن كان مما فيه شرك فهو ممنوع مطلقًا. ويُلحق به ما كان بالعجمية فيُمنَع. الثاني: ما لم يكن فيه تبرُّك، وإنما هو ألفاظ لا يظهر لتركيبها معنى، أو يظهر لها معنى ليس فيه شيء من التبرّك، وإنما هو على سبيل الخواصّ، جرت العادةُ بتأثيره بدون معرفة السبب، وهذا داخل في الإذن، ولكن لا يَغِبْ عنك أن الرقية لا تكون رقيةً إلا بعد وقوع البلاء، فأما قبله فليست رقية بل يقال لها: تعويذة ونحو ذلك، وهو على أصل المنع إلا ما كان بالقرآن والدعاء، والله أعلم. [ص 5] وأما التمائم والتِّوَلة فاختلف في تفسيرها أولًا، وفي حمل النهي ثانيًا. والذي يظهر أنه إذا كان الكتاب بعد وقوع البلاء، وكان المكتوب من القرآن أو الدعاء، فلا بأس به، كما ثبت عن الإمام أحمد وغيره، ولأنّ المحذور إنما هو مظنة الشرك والإعراض عن التوكّل، وهو منتفٍ ها هنا قطعًا؛ لأن الالتجاء إلى القرآن والدعاء هي حقيقة التوكّل، فكيف تكون منافية له؟! ومن المنهيّ عنه: الخرزات والعظام والأوتار ونحوها من الأشياء التي يُزْعَم أن لحملها خاصيةً في دفع العين أو شرّ الجنّ أو غير ذلك. وقد ثبت

في "الصحيحين" (¬1) عن أبي بشير الأنصاري أنه كان مع رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم في بعض أسفاره، فأرسل رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم رسولًا: "لا تُبقينّ في رقبة بعير قلادةً من وَتَر أو قلادةً إلا قُطِعَت". ومثل هذا - فيما يظهر - التختُّم بأحجارٍ مخصوصة، بزعم أنّ لها خاصة في القبول والمحبّة والهيبة وسعة الرزق، وغير ذلك من دفع العين والجن ونحوه. فأما ما كان من قبيل الأدوية كالخرزات التي جرت العادةُ أن مَن تختّم بها لم تضرّه لدغ الحية والعقرب، فالظاهر - والله أعلم - أنه لا بأس بها؛ لأنها نوع من الدواء. وهذا محتاج إلى بسطٍ لم يتيسّر لي الآن، والله أعلم. نعم تلخيص الكلام فيه أن يقال: [ص 6] التمائم قسمان: ما يكون طلب الانتفاع به من حيث التبرُّكُ، وما يكون من حيث الخاصية. فما كان من حيث التبرّك، فإن كان فيه شرك فهو ممنوع مطلقًا كالرقية بالشعر، وإلّا بأنْ كان من القرآن أو الدعاء فمذهب الإمام أحمد وغيره جوازه لدفع ما قد وقع من البلاء. وأما ما يكون طلب الانتفاع به من حيث الخاصية، فإن كانت الخاصية المزعومة أثرًا غير ما يُطْلَب حصولُه في الأدوية، كالخرزات التي يُزعَم أنّ مَن حملها حصل له القبول والهيبة وسعة الرزق وغير ذلك، فهذا ممنوع، وهو من الشرك، لعموم الأحاديث السابقة وغيرها. وإن كان مما يُطلب حصوله بالأدوية، فإن كان طريق تأثير الضرر ¬

_ (¬1) البخاري (3005)، ومسلم (2115).

معنويًّا كالعين ومسّ الجن، فهو ممنوع قبل وقوع البلاء قطعًا؛ للأحاديث الواردة في ذلك، وأما بعد وقوع البلاء فقياس جواز الرُّقية بما لم يكن فيه تبرّك جوازُه. وإن كان طريق تأثير الضرر حسّيًّا كلدغ الحية والعقرب ونزف الدم وغيره، فعموم الأمر بالتداوي يتناوله، وليس في حمله قبل حصول الضرر مضرّة؛ لأنه لا يطلب تأثيره من حينئذٍ، وإنما يُدّخَر إلى عند وقوع البلاء كما يُدَّخَر الدواء. ومن هذا الخرزات التي إذا تختَّم بها الملدوغ سكن عنه الألم، أو من ينزف الدم انقطع. والله أعلم. * ومنها التبرّك بآثار النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم. ففي قصة الحديبية: "فوالله ما تنخَّمَ النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم نُخامةً إلا وقعت في كفّ رجل منهم، فدَلَكَ بها جلدَه ووجهَه، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضّأ كادوا يقتتلون على وَضوئه" (¬1). وفي "الصحيحين" (¬2) عن جابر قال: أتى رسولُ الله صلَّى الله عليه وآله وسلم عبدَ الله بن أُبيّ بعد ما أُدْخِل حفرته، فأمر به فأُخْرِج، فوضعه على ركبتيه، فنفث فيه من ريقه وألبسه قميصَه ... الحديث. وفيهما (¬3) عن أبي جُحيفة قال: رأيت رسولَ الله صلَّى الله عليه وآله ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2731، 2732) عن المسور بن مخرمة ومروان. (¬2) البخاري (1350)، ومسلم (2773). (¬3) البخاري (3566)، ومسلم (503/ 250). واللفظ لمسلم.

وسلم بمكة وهو بالأبطح في قبّة حمراء من أدَم ... ورأيتُ الناسَ يبتدِرون ذلك الوضوء، فمن أصاب منه شيئًا تمسّح به، ومن لم يُصب منه أخذ من بَلَلِ يد صاحبه. الحديث. وفي "الصحيحين" (¬1) عن السائب بن يزيد قال: ذهبَتْ بي خالتي إلى النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم فقالت: يا رسول الله إن ابن أختي وَجِع، فمسح رأسي ودعا لي بالبركة، ثم توضّأ، فشربتُ من وضوئه. الحديث. وفي "الصحيحين" (¬2) عن أم سُليم: أن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم كان يأتيها فيقيل عندها، فتبسط نِطْعًا، فيقيل عليه، وكان كثير العَرَق، فكانت تجمع عرقَه فتجعله في الطيب، فقال النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم: "يا أم سليم ما هذا؟ " قالت: عرقك نجعله في طيبنا، وهو من أطيب الطيب. وفي رواية: قالت: يا رسول الله، نرجو بركته لطيبنا. قال: "أصبتِ". وفي "صحيح مسلم" (¬3) عن أسماء بنت أبي بكر أنها أخرجت جبّة طيالسة كَسْروانيَّة لها لبنة ديباج، وفرجيها مكفوفين بالديباج، وقالت: هذه جبة رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم كانت عند عائشة، فلما قُبِضت قبضتها، وكان النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم يلبسها، فنحن نغسلها للمرضى نستشفي بها. وفي "الصحيحين" (¬4) عن أنس أن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم أتى ¬

_ (¬1) البخاري (190)، ومسلم (2345). (¬2) البخاري (6281)، ومسلم (2332). (¬3) (2069). (¬4) البخاري (171)، ومسلم (1305).

منى، فأتى الجمرة فرماها، ثم أتى منزله بمنى ونَحَر نُسكَه، ثم دعا بالحلّاق، وناول الحالق شِقَّه الأيمن فحلقه، ثم دعا أبا طلحة الأنصاري فأعطاه إيّاه، ثم ناوله الشقَّ الأيسر فقال: احلق، فحلقه، فأعطاه أبا طلحة فقال: "اقسمه بين الناس". وفي رواياته اختلاف بيَّنها في "الهدي" (¬1). [ص 7] وفي "صحيح البخاري" (¬2) عن عثمان بن عبد الله بن مَوْهَب قال: أرسلني أهلي إلى أم سلمة بقدح من ماء، وكان إذا أصاب الإنسانَ عينٌ أو شيء، بعث إليها مِخْضَبَه، فأخرجَتْ من شعر رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم، وكانت تُمسكه في جُلْجُل من فضة، فخَضْخَضَتْه له فشرب منه. قال: فاطلعتُ في الجُلْجُل فرأيت شعراتٍ حُمرًا. وفي "صحيح مسلم" (¬3) عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم إذا صلَّى الغداة جاء خدمُ المدينة بآنيتهم فيها الماء، فما يُؤتَى بإناء إلا غمس يده فيه، فربما جاؤوه في الغداة الباردة، فيغمس يده فيها. وفي "الصحيحين" (¬4) عن أم عطية قالت: دخل علينا رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم ونحن نغسل ابنته فقال: "اغسلنها ثلاثًا، [أو خمسًا]، أو أكثر من ذلك إن رأيتنَّ ذلك بماء وسدر واجعلن في الآخرة كافورًا أو شيئًا من كافور، فإذا فرغتنَّ فآذِنّني" فلما فرغنا آذنّاه، فألقى علينا حَقْوه فقال: ¬

_ (¬1) "زاد المعاد": (2/ 247). (¬2) (5896). واللفظ نقله المؤلف من "جامع الأصول": (4/ 740). (¬3) (2324). (¬4) البخاري (1254)، ومسلم (939). وما بين المعكوفين منهما.

"أشِعِرْنها إيّاه". الحقو: الإزار. والإشعار: جعله شعارًا. والشعار: الثوب الذي يلي الجسد. وفي البخاري (¬1) عن سهل رضي الله عنه: أن امرأة جاءت النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم ببردة منسوجة فيها حاشيتُها - أتدرون ما البردة؟ قالوا: الشملة، قال: نعم - قالت: نسجتها بيدي فجئت لأكسوكها، فأخذها النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم محتاجًا إليها، فخرج إلينا وإنها إزاره، فحسَّنها فلان، فقال: اكسُنيها ما أحسنها! قال القوم: ما أحسنتَ، لبسها النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم محتاجًا إليها، وسألتَه وعلمتَ أنه لا يردّ، قال: إني والله ما سألته لألبسها، إنما سألته لتكون كَفَني. قال سهل: فكانت كفنه. واختلف السلف في التبرُّك بوضع اليد على منبره صلَّى الله عليه وآله وسلم حين كان موجودًا. قال شيخ الإسلام ابن تيمية (¬2): "فكرهه مالك وغيره لأنه بدعة. وذُكِر أن مالكًا لما رأى عطاءً فَعَل ذلك لم يأخذ عنه العلم، ورخَّص فيه أحمد وغيره؛ لأن ابن عمر رضي الله عنهما فَعَله". أقول: لعلّ مَن أجازه قاسه على التبرُّك بثيابه صلَّى الله عليه وآله وسلم، وقد ثبت ذلك كما مرَّ. [ص 8] وقد ورد في تقبيل اليدين والرجلين حديث في "سنن أبي داود" والترمذي والنسائي (¬3) عن صفوان بن عَسَّال قال: قال يهودي لصاحبه: ¬

_ (¬1) (1277). (¬2) في "مجموع الفتاوى": (27/ 79 - 80). (¬3) الترمذي (2733)، والنسائي (4078). ولم أجده في "سنن أبي داود". وأخرجه =

اذهب بنا إلى هذا النبي، فقال صاحبه: لا تقل: نبيّ، إنه لو سمعك لكان له أربع أعين، فأتيا رسولَ الله صلَّى الله عليه وآله وسلم فسألاه عن [تسع] آيات بيِّنات، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "لا تشركوا بالله شيئًا, ولا تسرقوا, ولا تزنوا, ولا تقتلوا النفس التي حَرَّم الله إلا بالحق, ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان ليقتله، ولا تسحروا, ولا تأكلوا الربا, ولا تقذفوا محصنة، ولا تولّوا للفرار يومَ الزحف، وعليكم خاصةً اليهود: أن لا تعتدوا في السبت". فقال: فقبّلا يديه ورجليه. وقالا: نشهد أنك نبي. قال: "فما يمنعكم أن تتبعوني؟ " قالا: إن داود عليه السلام دعا ربه أن لا يزال في ذريته نبي، وإنا نخاف إن تبعناك أن يقتلنا اليهود. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وفي "سنن أبي داود" (¬1) عن زارع وكان في وفد عبد القيس، قال: لما قدمنا المدينة فجعلنا نتبادر من رواحلنا فنقبِّل يد رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم ورِجله. وقد روى الإمام أحمد في "مسنده" (¬2) عن عائشة: أن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم كان في نفرٍ من المهاجرين والأنصار، فجاء بعيرٌ فسجد له، فقال أصحابه: يا رسول الله، تسجد لك البهائم والشجر، فنحن أحقُّ أن ¬

_ = أحمد (18092)، والحاكم: (1/ 9) وصححه. وفيه ضعف من جهة إسناده. انظر حاشية المسند (30/ 13 - 14). (¬1) (5225). (¬2) (24471). وأخرجه ابن ماجه (1852). وفي سنده علي بن زيد بن جدعان ليّن الحديث، وله شواهد سيذكر المؤلف بعضها.

نسجد لك، فقال: "اعبدوا ربكم، وأكرموا أخاكم، ولو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحد لأمرتُ المرأةَ أن تسجد لزوجها" الحديث. وفي "المشكاة" (¬1) عن قيس بن سعد قال: أتيت الحيرة فرأيتهم يسجدون لمرزبانٍ لهم، فقلت: لَرسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم أحقّ أن يُسجَد له، فأتيت رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم فقلت: إني أتيت (¬2) الحيرة فرأيتهم يسجدون لمرزبان لهم، فأنت أحقّ بأن يُسْجَد لك، فقال لي: "أرأيتَ لو مررتَ بقبري أكنت تسجد له؟ " فقلت: لا، فقال: "لا تفعلوا، لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحدٍ لأمرت النساء أن يسجدن لأزواجهنّ لما جعل الله لهم عليهن مِن حقّ" رواه أبو داود (¬3). ورواه أحمد عن معاذ بن جبل (¬4). قال شيخ الإسلام ابن تيمية (¬5): ولما سجد له معاذ نهاه وقال: "إنه لا يصلح السجود إلا لله، ولو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها" اهـ. **** ¬

_ (¬1) (2/ 241). (¬2) الأصل: "رأيت" سبق قلم. (¬3) (2140). (¬4) (19403). (¬5) في "مجموع الفتاوى": (27/ 81).

[مسألة التبرك بالصالحين]

[مسألة التبرك بالصالحين] [ص 9] وهل للمسلمين أن يتبرّكوا بصلحائهم كما يتبرّك الصحابة رضي الله عنهم برسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم مستندين إلى تلك الأحاديث ونحوها أو لا؟ يقول المجيزون: نعم؛ لأنه صلَّى الله عليه وآله وسلم بُعِث مشرّعًا، والأصل في فعله التشريع، أي أن حكم غيره من الأمة مثل حكمه، والخصوصية خلاف الأصل، فلا يُصار إليها إلا بدليل. قالوا: ويُقاس على التبرّك بآثار النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم التبرُّك بذريته من حيثُ كونُهم ذريةً له. وقد فهم الصحابة رضي الله عنهم هذا حيث استسقوا بالعبّاس رضي الله عنه لفضله ولقرابته من رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم، وقال عمر رضي الله عنه: "وإنّا نتوسَّل إليك بعمّ نبيّك" (¬1). واستسقوا زمان معاوية بيزيد بن الأسود الجرشي لفضله. وقال معاوية: "اللهم إنا نستشفع إليك بخيارنا" (¬2). ويقول المانعون: أما ما لم يرد فيه دليل صحيح فالأمر فيه واضح، وأما ما ورد فيه دليل صحيح أن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم فَعَلَه أو أقرَّ عليه في باب التبرّك به، فهو خاصّ به، وليس هذا من باب التشريع؛ لأن التشريع إنما هو في الأحكام التي المدار فيها التكليف، لأنه لما كان النبي صلَّى الله ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1010، 3710). (¬2) أخرجه الفسوي في "المعرفة والتاريخ": (2/ 220) وأبو زرعة الدمشقي في "تاريخه": (1/ 602).

عليه وآله وسلم مكلَّفًا مثلنا كان كل فعل يفعله شريعةً لنا إلا أن يدلّ دليلٌ على الخصوصية. وأما التبرُّك فإن المدار فيه على الفضل والبركة، وهو صلَّى الله عليه وآله وسلم أعظم الناس بركةً، وليس أحدٌ من أمته مثله في ذلك، فكيف يقال: إن التبرك به يدلّ على التبرُّك بغيره؟ هذا واضح البطلان، إلا أن يدّعي المجيزون أنَّ أحدًا من أُمته أولى منه صلَّى الله عليه وآله وسلم أو مساوٍ له، فليفعلوا ما شاؤوا، ولن يلتزموا ذلك حتى يخلعوا ربقة الإسلام من أعناقهم! [ص 10] ومما يؤيد ذلك أن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم مقطوع بكونه حبيب الله وخليله في الدنيا والآخرة، قد غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر. وأما غيره من هذه الأمة فإنما يمكن القطع في حق الصحابة المبشّرين بالجنة، ومع ذلك فلم يكن يُتبَّرك بهم رضي الله عنهم، ولا يثبت في التبرُّك بهم أثرٌ صحيح، لا بمَن كان منهم من القرابة ولا غيرهم. فدلَّ ذلك على أنَّ التبرُّك كان خصوصية له صلَّى الله عليه وآله وسلم لا يَشْرَكه فيها غيره حتى مَن عُلِمَت نجاتُه. وأما غيرهم فلا سبيل إلى القطع بكمال إيمان أحد ولا وفاته عليه ولا نجاته يوم القيامة. وفي ذلك أحاديث كثيرة منها: حديث "الصحيحين" (¬1) عن أبي بكرة قال: أثنى رجلٌ على رجلٍ عند النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم فقال: "ويلك قطعتَ عنقَ أخيك - ثلاثًا -، من كان منكم مادحًا لا محالة فليقل: أحسب فلانًا والله حسيبه، إن كان يرى أنه كذلك، ولا يزكِّي على الله أحدًا". ¬

_ (¬1) البخاري (2662)، ومسلم (3000).

ومنها: حديث "الصحيحين" (¬1) أيضًا عن ابن مسعود عنه صلَّى الله عليه وآله وسلم وفيه: "وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار، فيدخلها. وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيعمل بعمل أهل الجنة، فيدخلها". وفي "الصحيحين" (¬2) أيضًا عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "إن العبد ليعمل عمل أهل النار وإنه من أهل الجنة، ويعمل عمل أهل الجنة وإنه من أهل النار". ولما قالت الأنصاريةُ في عثمان بن مظعون: هنيئًا لك أبا السائب، فشهادتي عليك لقد أكرمك الله. لم يُقرّها صلَّى الله عليه وآله وسلم. والحديث في "صحيح البخاري" (¬3). ولما قال سعد بن أبي وقّاص: يا رسول الله مالَكَ عن فلان، فوالله إني لأراه مؤمنًا. قال: "أو مسلمًا". والحديث في "صحيح البخاري" (¬4) أيضًا. والمراد هنا كراهية القطع بالإيمان والنجاة، فأما الثناء على شخص بأنه كان مواظبًا على عمل الخير، مُجانبًا أعمال الشرّ فحَسَنٌ، وهو المراد في حديث "الصحيحين" (¬5) عن أنس قال: مرّوا بجنازة، فأثنوا عليها خيرًا، فقال ¬

_ (¬1) البخاري (3332)، ومسلم (2643). (¬2) البخاري (2898)، ومسلم (112). (¬3) (1243). (¬4) (27)، وهو في "صحيح مسلم" (150) أيضًا. (¬5) البخاري (1367)، ومسلم (949).

النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم: "وجَبَت". ثم مرّوا بأخرى فأثنوا عليها شرًّا، فقال: "وجَبَت". فقال عمر: ما وجبت؟ قال: "هذا أثنيتم عليه خيرًا فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرًّا فوجبت له النار. أنتم شهداء الله في الأرض". والسرُّ في ذلك - والله أعلم - أن ثناءهم على الميت يدلّ على أنهم لم يروا منه إلا الخير، فإذا شهدوا له بذلك غفر الله له ما لم يطلعوا عليه؛ لأنه سبحانه وتعالى أكرم من أن يفضحه في الآخرة وقد ستره في الدنيا، كما ورد معنى ذلك في "الصحيح"، [ص 11] ففي "الصحيحين" (¬1) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "كلُّ أمتي معافى إلا المجاهرون، وإن من المجانة (¬2) أن يعمل الرجل بالليل عملاً ثم يصبح وقد ستره الله، فيقول: يا فلان عملتُ البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربُّه، ويصبح يكشف ستر الله عنه". وفي "الصحيحين" (¬3) عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره فيقول: أتعرف ذنب كذا وكذا؟ فيقول: نعم أي رب، حتى [إذا] قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك قال: سَتَرْتُها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، فيعطى كتاب حسناته. وأما الكفّار والمنافقون فينادي بهم على رؤوس الخلائق: هؤلاء ¬

_ (¬1) البخاري (6069)، ومسلم (2990). (¬2) كذا في الأصل: "المجاهرون ... المجانة". والمؤلف ينقل لفظ الحديث من "المشكاة": (3/ 47). وهو لفظ بعض روايات "صحيح البخاري" كما في "فتح الباري": (10/ 486 - 487). (¬3) البخاري (2441)، ومسلم (2768).

الذين كذبوا على ربهم، ألا لعنة الله على الظالمين". ثم رأيت الحديث في "مسند الإمام أحمد" (¬1) مفسَّرًا على ما ظهر لي، وهو في مسند أبي هريرة ولفظه: "ما من عبدٍ مسلم يموت يشهد له ثلاثة أبيات من جيرانه الأدْنَين بخير إلا قال الله عزَّ وجلَّ: قد قبلت شهادة عبادي على ما عَلِموا وغفرتُ له ما أعلم". وذلك أن شهادة الجيران الأدْنَين ظاهرة في كونه لم يُجاهر بسوءٍ، وإذا لم يجاهر بسوء كان ذلك ظاهرًا في عدم استرساله في المعاصي وتوغّله فيها، إذ لو فعل ذلك لهان عليه المجاهرة ولو بإطلاع جيرانه على بعض عمله، إذ العادة تقضي بذلك، مع جَرَيان عادة الله تعالى بفضيحة المسترسل في المعاصي والمتوغِّل فيها. فإذ لم يقع شيءٌ من ذلك، أي من مجاهرته أو من اطلاع أعدائه أو فضيحة الله تعالى له = كان ذلك ظاهرًا في عدم استرساله. وتلخيصه: أن ستر الله تعالى لعبده في الدنيا دليل إرادته المغفرة في الآخرة، كما اقتضته الأحاديث الصحيحة، وشهادةُ الجيران ظاهرةٌ في الدّلالة على الستر، وبهذا يتمّ المراد. نعم يُشترط أن يكون الشهود من الجيران ممن يفرِّق بين الحق والباطل، والطاعة مِن المعصية. ويشترط أيضًا أن تكون شهادتهم مطابقةً لما علموه. ¬

_ (¬1) (8989، 9295). يرويه شيخ من أهل البصرة عن أبي هريرة، فسنده ضعيف من أجل هذا الشيخ المبهم.

فإن قيل: فما تقولون في مَن كان ظاهر عمله الخير ثم خُتِم له - والعياذ بالله - بسوء الخاتمة، فإن الله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48، 116]. فالجواب: أن هذا قلّما يتفق مع ما ذُكِر لظاهر هذه الأحاديث وغيرها؛ لأن الخاتمة هي فَذْلَكة (¬1) العمل الطويل، ففي "الصحيح" (¬2): "اعملوا فكُلٌّ ميسّر لما خُلِق له". فإن أمكن وقوعه كان مخصّصًا لما ذكر. ثم اعلم أن هذه الشهادة ليست في التزكية المنهيّ عنها في الأحاديث المارّة؛ لأن تلك في التزكية المقطوع بها بما في نفس الأمر، وهذه شهادة بما شاهدوه من محافظته على الخير، واجتنابه الشر. [ص 12] ولا يقال: إن قول النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم: "وجَبَت" قد يكون عن وحي، فيكون خاصًّا، بل ذلك عام (¬3) في كل مسلم، بدليل رواية أبي هريرة التي رواها الإمام أحمد، كما مرّ قريبًا. وفي البخاري (¬4) عن أبي الأسود قال: قدمت المدينة وقد وقع بها مرض، فجلستُ إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فمرَّت بهم جنازة، فأُثنيَ على صاحبها خيرًا، فقال عمر رضي الله عنه: وجبت، ثم مُرّ بأخرى فأثني على صاحبها خيرًا، فقال عمر رضي الله عنه: وجبت، ثم مُرَّ بالثالثة ¬

_ (¬1) أي: خلاصته ونتيجته. (¬2) البخاري (4946)، ومسلم (2647). (¬3) لم يظهر إلا "عا" بسبب تآكل الورقة. (¬4) (1368).

فأُثنيَ على صاحبها شرًّا، فقال: وجبت. فقال أبو الأسود: فقلت: وما وجبت يا أمير المؤمنين؟ قال: قلت كما قال النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم: "أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة". فقلنا: وثلاثة؟ قال: "وثلاثة". فقلنا: واثنان. قال: "واثنان". ثم لم نسأله عن الواحد. والمقصود أن غير النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم من الأمة لا يمكن القطع بتحقق إيمانه في حياته، ولا بموته عليه، ولا بنجاته يوم القيامة، حتى لو ظهرت على يده الخوارق؛ لأنها لا تفيد إلا الظنّ، لإمكان أن يكون من باب الاستعانة بالجن أو السِّحر أو الاستدراج أو غير ذلك. كيف وقد يقع ما يشبه ذلك للكفار، كما كان للإشراقيين من الفلاسفة، والكَهَنة من العرب، والسَّحَرة من بقية الأمم، وكما هو معروف الآن بالتنويم المغناطيسي وغير ذلك. وحسبك ما يقع للمسيح الدجّال. وليس المقصود رمي من ظهرت على أيديهم الخوارق بالسِّحْر والكذب وغيره، وإنما المقصود بيان أن ظهور ذلك على أيديهم لا يفيد القطع، بخلاف معجزات الرسل فإنها أمرٌ فوقَ ذلك. ولا يَغُررك قولهم: (ما كان معجزةً لنبي كان كرامة لولي) (¬1)، فإن هذا الإطلاق يتناول ادّعاء أن الولي قد يأتي بكتاب معجز كالقرآن، ولا سيما مع ادّعائهم نزول الوحي عليهم، كما سيأتي نقله إن شاء الله تعالى، فتنبّه. نعم، إذا كان الإنسان كامل الاستقامة على الحدود الشرعية، كان الغالب تحقُّقَ إيمانه ونجاته، ووجب العمل بالظاهر فيما صح الأمر به ¬

_ (¬1) انظر "فتح الباري": (7/ 383)، و"الإنصاف في حقيقة الأولياء" (ص37) للصنعاني.

فصل

والإذن فيه، كمحبته وإكرامه القَدْر المشروع في حقِّ فضلاء المؤمنين. فأما أن يُقام مُقام رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم في التبرّك بآثاره فكلّا. على أن النوع الشائع في التعظيم، وهو تقبيل الأيدي والرُّكَب والأرجل لم يثبت فعله في حق النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم إلّا في حديث اليهوديين على ما مرّ (¬1). وأما مقابلته صلَّى الله عليه وآله وسلم لجميع الصحابة فإنما كان بمجرَّد المصافحة. وأما في هذا الزمان فقد صار الشريف أو الشيخ لا يُرْجى أن يقابله أحدٌ أبدًا إلّا ويعظّمه بشيء من ذلك، فيقيم نفسَه فوق مُقام الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلم! [ص 13] فصل قال المانعون: وأما قياس ذرّيته صلَّى الله عليه وآله وسلم على آثاره فغير صحيح، أما عند مَن لا يجيز القياس فظاهر. وأما مَن يجيزه فإنه يشترط الأولوية أو المساواة، ولا مساواة هنا فضلًا عن الأولويّة. بيانه: أن آثاره صلَّى الله عليه وآله وسلم كالشَّعر والثياب وغيرها مما ورد مقطوعٌ بكونها كانت مُلابِسَةً له، ومقطوع بأنها ليس لها صفات تناقض البَرَكة، ولا كذلك الذرية في الأمرين، فتأمّل. وأما استسقاء الصحابة بالعبّاس فليس من هذا؛ لأنهم إنما توسلوا بدعائه، وهذا جائز اتفاقًا، حتى أن الله سبحانه أمرنا بالدعاء لرسوله صلَّى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]. ¬

_ (¬1) (ص 237).

وفي "صحيح مسلم" (¬1) عن عبد الله بن عَمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "إذا سمعتم المؤذّن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علَيَّ فإنه مَن صلّى عليَّ صلاةً صلَّى الله عليه بها عشرًا، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمَن سأل لي الوسيلة حلَّت عليه الشفاعة". وروى الترمذي وأبو داود (¬2) عن عمر بن الخطاب قال: استأذنتُ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم في العمرة، فأذِن لي وقال: "أشْرِكنا يا أُخَي في دعائك ولا تنسنا". ولا يُنْكَر أن لأهل بيته صلَّى الله عليه وآله وسلم من القُرب منه ما يوجب لهم المزيَّة على غيرهم في الجملة، فمن كان منتسبًا إليه صلَّى الله عليه وآله وسلم، ظاهرَ الاستقامة فمحبته واجبة، وسؤال الدعاء منه حَسَن، وأما التبرُّك به قياسًا فلا، لما مرّ. وكذا كلّ مَن كان ظاهر الصلاح والاستقامة والفضل فمحبّته واجبة، وسؤال الدعاء منه حَسَن، ومِن هذا استسقاء معاويةَ بيزيد بن الأسود الجرشي رحمه الله تعالى (¬3). ¬

_ (¬1) (384). (¬2) الترمذي (3562)، وأبو داود (1498)، وأخرجه أيضًا ابن ماجه (2894)، وأحمد (195) وغيرهم. قال الترمذي: حسن صحيح. لكن في سنده عاصم بن عبيد الله وهو ضعيف. (¬3) سبق تخريجه (ص 239).

قال المجيزون: إن الاستدلال بما ورد في التبرُّك بآثار النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم على التبرُّك بآثار غيره لا يستدعي الأولويّة ولا المماثلة ولا اليقين، بل المدار على وجود مطلق البركة، وهي بحسب الظن المعتبر شرعًا. ونحن وإن لم نقطع في حق الصالحين بالتحقق بالإيمان وغيره، فالمدار في الشرع على غَلَبة الظن، وهي حاصلة. وما أجبتم به عن التبرُّك بذريّة النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم لا يردّه؛ لأن المدار على وجود الأثر الطاهر، وهو موجود فيهم، ولا يحتاج إلى القطع بل يكفي غَلَبة الظنّ، إذ المدار عليها في الشرعيّات. وما زالت الأمة تتبرّك بصالحيها وذريّة نبيها بتقبيل الأيدي والرُّكَب والأرجل، والتبرّك بالتفل والثياب وغير ذلك. فهو إجماع، وله أسوة بغيره من الإجماعات التي خرقتموها! [ص 14] قال المانعون: أما قولكم: إنه لا يشترط الأولويّة والمساواة، فممنوع كما مرّ. وأما قولكم: إن المدار في الشرعيات على غَلَبة الظن، فجوابه: أن هذا مسلّم لو ثبت التبرّك بالصالح مطلقًا، وهو لم يثبت، وإنما ذكرنا ذلك إيضاحًا للفرق الظاهر. وقولكم في الذرية: إن المدار على غَلَبة الظن أيضًا= جوابُ مَن لم يفهم، ونحن لم ننكر نَسَبَهم، وإنما مرادنا أن الظنّي لا يُقاس بالقطعي. وما ذكرتموه من عمل الناس، فجوابه: أنه لا يتمّ لكم دعوى الإجماع، بل لنا أن نقول: إن السلف كانوا مجمعين على ترك ذلك، يعني الصحابة

والتابعين، وإنّما حَدَث بعد ذلك، وإجماعُ الصحابة والتابعين هو الإجماع الصحيح. ولعلكم تذكرون ما نقلناه عن الفقهاء في البحث الأول من هذه المسألة (¬1). فبالله عليكم تعالوا بنا نصطلح، ودَعُوا هواكم ومحبّتكم لاستعباد الناس {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران: 64]. واذكروا الحديث الصحيح، قوله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "لا يؤمن أحدُكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به" (¬2)، وثِقوا بالله تعالى، فوالله ليعوضنَّكم خيرًا مما سيفوتكم من التقبيل وغيره (¬3). [ص 15] يقول عُبيد الله المفتقر إليه: نعم الاحتياط في هذا أن تُتبّع سيرة السلف، فيُنظر ما كان يعمله خيار الصحابة رضي الله عنهم والتابعون في حق أقارب النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم الذين لم يُبشّروا بالجنة، فيُعْمَل مع مَن وُجد الآن من الأشراف المُسْتَيقَنين (¬4). ويُنظر ما كان يعمله التابعون في حق غير المبشرين من الصحابة رضي الله عنهم، فيعمله العامةُ الآن مع العلماء والصلحاء. وإنما قيّدنا بعدم التبشير لما تقدم من بطلان قياس الظني على القطعي، والله أعلم. ¬

_ (¬1) (ص 68 - 75). (¬2) تقدم تخريجه (ص 90). (¬3) كتب المؤلف بعده ثم ضرب عليه: "أقول: هذا ما أمكنني اختطافه في هذا البحث على حين عجل، وأدعه مفتوحًا" وترك نصف الصفحة بياضًا. وما كتبه المؤلف بعد ذلك هو تتميم للكلام المفتوح في المسألة. (¬4) غير محررة في الأصل.

على أننا نعلم أن العلماء وأهل الفضل والصلاح الصادقين لا يحبون تعظيم الناس لهم، بل تقشعرّ منه جلودهم، وتشمئزّ منه نفوسهم، ويكرهونه أشدّ الكراهة. وكذلك يكرهون تبرّك الناس بهم؛ لأنهم دائمًا يرون نفوسهم من أهل النقص والخطأ، ويكرهون كل ما قد يكون سببًا للعُجْب وذريعةً إليه، حتى إن بعضهم يتلبّس بما ظاهره المعصية هربًا من ذلك. وأما مَن كان دون هذه المنزلة، فإنه وإن أحبَّ تعظيم الناس له وتبرّكهم به فإنما يدعوه إلى ذلك حبُّ الدنيا، فيرى أن تعظيم الناس له وتبرّكهم به يستدعي تقرّبهم إليه بالأموال، فالمقصود حينئذٍ (¬1) هو المنفعة المادية فقط. وهذا مع كونه مقصدًا سيّئًا في نفسه بالاتفاق، فالمانعون لا يمنعون الناسَ من مواساة أهل العلم والفضل والصلاح والقرابة الشريفة بالأموال، بل يرون ذلك من أفضل القُرُبات، ويحضّون الناسَ على الاستكثار منه. نعم، قد يكون بعض الأشراف والعلماء يحبُّ تعظيم الناس له وتبرّكهم به مع عدم احتياجه إلى المنفعة المادية، وإنما يحبّ ذلك لمجرّد الفخر والعُجْب والمباهاة والتعاظم، ولا شكّ أن ذلك مذموم شرعًا. وأشدّ الناس محاربةً لهذا الداء ونحوه من أدواء القلوب: مشايخ الصوفية، حتى إن بعضهم يقول: من رأى نفسه خيرًا من بعرة كانت البعرةُ خيرًا منه! والذي ينبغي في مثل هذا: أن يُعامل صاحبه بنقيض قصده كما ورد: ¬

_ (¬1) كتبها المؤلف (ح) اختصارًا، وكذا ستأتي بعد أسطر.

الكبر على المتكبِّر تواضع (¬1). [ص 16] على أن التعظيم إنما هو وسيلة لإظهار المحبَّة التي هي المقصود بالذات وحينئذٍ فيمكن إظهار المحبة بغيره كقوله: "إني أحبك في الله" كما ورد الأمر بذلك في الحديث (¬2)، وكإهداء الهدايا، وغير ذلك. وكذلك التبرّك إنما هو وسيلة لحصول البركة التي هي المقصود بالذات، وحينئذٍ (¬3) فيمكن استحصال البركة بطلب الدعاء، كما ثبت الأمر به، وحينئذٍ فلا يخفى أن الاحتياط يقضي بالتوقّف عن التعظيم والتبرّك المختلَف فيهما، وأن يُقتصَر في تحصيل المقصود بكلّ منهما على الوسيلة الثابت الإذن بها شرعًا بالاتفاق، عملًا بقوله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" (¬4)، وقوله عليه أفضل الصلاة والسلام: "الحلال بيِّن والحرام بيِّن وبينهما مشتبهات لا يعلمهنّ كثير من الناس" الحديث (¬5). ¬

_ (¬1) ذكرها ابن الملقن في "طبقات الأولياء" (ص 112) لبشر الحافي. ووردت بلفظ "التكبر على المتكبر صدقة". انظر "فيض القدير": (4/ 336)، و"الأسرار المرفوعة": (142). (¬2) أخرجه أبو داود (5124)، والترمذي (2392)، والنسائي في الكبرى, (9963)، وأحمد (17303) من حديث المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه. وأخرجه أحمد (21619) من حديث أبي ذر رضي الله عنه، وفي سنده ابن لهيعة. (¬3) اختصرها المؤلف إلى (ح). (¬4) أخرجه الترمذي (2518)، والنسائي (5711)، وأحمد (1723) وابن حبان (722) من حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما، قال الترمذي: حسن صحيح. (¬5) أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما.

خاتمة

خاتمة: رأيت في بعض الكتب (¬1) بحثًا في فضل العلم والشرف أيهما أعظم، فذكر المؤلف اختلافًا في ذلك، ثم قال ما معناه: إن القائل بأفضلية الشرف قال: لو جُنّ الشريف لم يزل عنه الشرف، ولو جُنّ العالم زال عنه العلم، وفضل الشرف ذاتي، وفضل العلم عَرَضي. وبناءً على ذلك جزم بأفضلية الشرف. فعجبت من هذا مع قوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]. وما يبينها من الأحاديث الكثيرة! ثم ظهر لي أن المبحوث عنه هو فضل الشرف وفضل العلم مع قطع النظر عن التقوى، فأقول: إن كلاًّ من العلم والشرف لا يكون فضلًا إلا مع التقوى، فإذا فُقِدت التقوى عاد وبالًا على صاحبه، كما يدلّ عليه قوله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ ...} الآية [الأحزاب: 30]، وقوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا ...} الآية [الأعراف: 175]. وحينئذٍ فالخلاف مفروض بين عالم وشريف مستويي الرتبة في التقوى. إذا تقرّر ذلك فالأفضل منهما هو العلم؛ لأن طلبه نوع من أنواع التقوى، بخلاف النسب، ولأنَّ العلم شرط للتقوى بخلاف النسب، ولأن العلم من الفواضل التي ينفع بها صاحبُها دينَه وإخوانه المسلمين، ولا كذلك النسب، ولأن طلب العلم من عمل الإنسان الذي يستحقّ عليه الثواب بخلاف النسب. ¬

_ (¬1) لعله كتاب "ظهور الحقائق في بيان الطرائق" (ص 111) لعبد الله بن علوي العطاس. ففيه نحو ما ذكره المؤلف.

وعلى كل حال فالفضل إنما يتحقّق بالتقوى والاتباع، وإلّا عاد العلمُ وبالًا على صاحبه. وفقنا الله تعالى لما يحبّه ويرضاه آمين. على أن الوجهين اللذين ادعى أنهما يقتضيان أفضلية النسب يقتضيان أفضلية العلم، وذلك أنه تبين منهما أن النسب ليس من الأفعال الاختيارية التي يُحْمَد صاحبها عليها، بل هو كالطول والقصر وبياض اللون وسواده مما لا يتعلّق به الحمد ولا الجزاء. ولو تمّ استدلاله لزم منه أن حُسْن الوجه أفضل من العلم؛ لأنه ذاتي لا يزول بالجنون. وهذا القول هو الجنون! على أن فضل النسب هو أمر اعتباري [ص 17] بين الناس، وأما عند الله تعالى فليس الكرم إلا التقوى. وأما ما ورد من الأدلة الشرعية مما يقتضي فضيلةً للنسب فإنما هو باعتبار كونه منشئًا للتقوى أو ناشئًا عنها، والأول - أعني كونه منشئًا للتقوى - إنما يكون بالنظر إلى المجموع لا الجميع، وحيث كان كذلك فلا يحصل للفرد إلّا إذا كان من أهل التقوى، وذلك لوجود المقتضي الذي لأجله أُطلق الفضل على النسب فيه، وإلّا كان كالحشَفَة من التمر، بل إذا اتصف بما يضاد التقوى كان بمنزلة حشفةٍ نُقِعَت في نجاسة. والثاني - أعني كونه ناشئًا عن التقوى - شرط حصوله للفرد أن لا يوجد فيه ما يُناقض التقوى ويعارضها. ومع ذلك فمعلوم أن النسب ليس من الأمور القطعية. وقد سمعت شيخي محمَّد بن علي الإدريسي يحكي عن جده أحمد بن إدريس أنه كان يقول: (الزمانُ قد طال وليس على فروج النساء أقفال). وهذا البحث يحتاج إلى بسط ليس هذا موضعه.

[ص 18] وقد بقي من أقسام التبرك: التبرّك بالقبور والمشاهد وما بني عليها من المساجد. أقول (¬1): قد عَلَمتَ الأدلة الصحيحة الصريحة على حُرمة البناء على القبر وحرمة بناء المسجد عليه أو بقربه بحيث يكون منسوبًا إليه، وأن ذلك من الكبائر الملعون صاحبها، والمشتدّ غضب الله على من فعلها، وأنّ العلة في ذلك هي كراهية التشبّه بالمشركين من الأمم السالفة، وخشية أن يجر ذلك إلى الشرك كما مرّ تقريرُه بأدلته (¬2). فإذا كانت المشاهد والمساجد المتخذة على القبور بهذه المثابة، فالواجب على كل مسلم المبادرة إلى هدمها كما صحّ به الأمر من رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم، ورواه الإمام الشافعي رحمه الله عن الأئمة بمكة (¬3)، ونقله عنه النووي في "شرح مسلم" (¬4). ومضى في بحث البناء على القبور أن ذلك هو مذهبه ومذهب جميع أئمة الإسلام، بل هو الدين الذي تعبَّدنا الله به. فارجعْ إلى ذلك (¬5). فمن لم يقدر على هدمه بيده فالواجب عليه تشديد الإنكار بلسانه، فإن لم يقدر فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان، وليس بعد ذلك من الإيمان مثقال ¬

_ (¬1) في الأصل بعدها: "قد تقدم إثبات" والظاهر أن المؤلف نسي أن يضرب عليها بعد أن غيّر العبارة عدة مرات. (¬2) انظر ما سبق (ص 186 وما بعدها). (¬3) انظر "الأم": (2/ 631). (¬4) (7/ 36 - 38). (¬5) (ص 195).

ذرة كما ورد في "صحيح مسلم" (¬1) [ص 19] عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "ما من نبي بعثه الله في أُمّة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلُف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون. فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن. وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل". وفي "صحيح مسلم" (¬2) أيضًا عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: "مَن رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان". فإذا كان الاقتصار على الإنكار بالقلب أضعف الإيمان الذي ليس بعده من الإيمان حبة خردل، فما بالك بالرّضا بذلك؟ فما بالك بالمساعدة عليه؟ فما بالك بفعل ما حَرُم [من] البناء واتخاذ المساجد لأجله، وتواتر لعن فاعله، واشتداد غضب الله عليه؟ وعلماء الأمة سَلَفًا وخَلَفًا مجمعون على أنّ التبرك بالقبور بالاستلام والتمسح والتقبيل ووضع العينين ونحوه = كلّه محادّة لله ورسوله، وخروج عن سواء سبيله، فالعلماء بين مكفِّر ومفسِّق. ولا يصح قياس قبر النبيّ صلَّى الله عليه وآله وسلم على آثاره، لأن القبور ولا سيَّما قبور الأنبياء والصالحين مظنة افتتان الناس وضلالهم. وقد تقدّم (¬3) في حديث أبي داود عن قيس بن ¬

_ (¬1) (50). (¬2) (49). (¬3) (ص 238).

سعد وأحمد عن معاذ قوله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "أرأيت لو مررت بقبري أكنت تسجد له؟ " قال: فقلت: لا. وهذا يدل على أنهم كانوا يعلمون وضوح الفرق بينه صلَّى الله عليه وآله وسلم حاضرًا وبين قبره، ويعلمون الخَطَر في تعظيم القبور، وقد جعل النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم اتخاذ المساجد على القبور من عبادة الأوثان فيما روي عنه من قوله: "اللهم لا تجعل قبري وثنًا يُعْبَد. اشتدّ غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" (¬1). وقد تقدم بيان عِلّته زيادةً على علة النهي عن مطلق البناء، وذلك خشية الصلاة إلى القبر، فكيف بمن صلَّى إلى القبر؟ فكيف بمن أقبل على القبر يشمّه ويضمّه ويستلمه ويلثمه ويضع عينيه عليه حال العاشق الوامق، إنّا لله وإنّا إليه راجعون! ولو نظرتَ حالَ الناس مع كلام الله تعالى الموجود عند كلّ أحدٍ منهم لرأيتهم عنه معرضين، وعلى عبادة القبور مُقبلين! بل كثيرًا ما ترى الإنسان تاركًا للصلاة والصيام، مرتكبًا للفواحش، جاهلًا بربّه ودينه، وهو مع ذلك مشغوف بهذه القبور [ص 20] يحنّ إليها، ويحنو عليها، فإنا لله وإنا إليه راجعون، والله عزَّ وجلَّ يقول في كتابه العزيز: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165]. ¬

_ (¬1) بهذا اللفظ أخرجه مالك في "الموطأ" (475) من مرسل عطاء بن يسار. وأخرجه بنحوه أحمد (7358)، والحميدي (1025) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بإسناد حسن.

هذه حال أهل الجاهلية، وقد كانوا مع ذلك إذا وقع أحدهم في شدة أعلن التوحيد كما قصّه الله عزَّ وجلَّ في مواضع من كتابه، منها قوله عزَّ وجلَّ: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65]. وأخرج الترمذي (¬1) عن عمران بن حُصين قال: قال النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم لأبي: "يا حُصين كم تعبد اليومَ إلهًا؟ " قال أبي: سبعة، ستًّا في الأرض وواحدًا في السماء، قال: "فأيهم تعدّ لرغبتك ورهبتك؟ " قال: الذي في السماء ... الحديث. فهذا حال أهل الجاهلية الذين سمعتَ قوارع الآيات في شأنهم، وعلمتَ بعثة محمدِ صلَّى الله عليه وآله وسلم لدعوتهم، وقيامه هو ومَن آمن معه بجهادهم. فأما عامة المسلمين اليوم فإن قبور صالحيهم أحبّ إليهم من مساجدهم، وبذل الأموال الطائلة في عمارتها وفرشها وإيقاد السُّرُج عليها والذبح عندها [تابع ص 20] أيسر عليهم من إخراج الزكاة الواجبة، والمشيُ إلى بعض تلك القبور للتمسّح بها أشرف لديهم من المشي إلى علماء الدين، ودعاؤها والاستغاثة بها أرجى عندهم من إخلاص الدعاء لله وحده لا شريك له. وكلما اشتدّ على أحدهم البلاءُ ازداد ابتهالًا إليها على العكس من حال أهل الجاهلية، فإنّا لله وإنا إليه راجعون. وقد مرّ بيان الزيارة المشروعة التي قام الدليل على استحبابها ومنع ما ¬

_ (¬1) (3483). وأخرجه البزار (9/ 53)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2355). قال الترمذي: "غريب". وفي نسخة: "حسن غريب".

عداها، فارجع إليه (¬1). فإن كنتَ ممن يحبّ الله ورسوله، فالسبيل واضح، وميزان المحبةِ الاتباعُ، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران: 31]. وإن كنت ممن وجد حلاوة الإيمان فالطريق بيِّن. وإن كنت ممن كان هواه تبَعًا لما جاء به الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلم فقد تبيّن لك ما جاء به، ففي "الصحيحين" (¬2) عن أنسٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من والده وولده والناس أجمعين". وفيهما (¬3) عنه أيضًا قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "ثلاث من كنَّ فيه وجد حلاوةَ الإيمان: مَنْ كان الله ورسولُه أحبَّ إليه مما سواهما، ومن أحبّ عبدًا لا يحبه إلا لله، ومن يكره أن يكون في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يُلقى في النار". وفي "صحيح مسلم" (¬4) عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "ذاقَ طعمَ الإيمان مَن رضي بالله ربًّا وبالإِسلام دينًا وبمحمد رسولًا". وقد صحَّح النووي - كما مرَّ (¬5) - الحديثَ المرويّ عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "لا يؤمن أحدُكم حتى يكون ¬

_ (¬1) (ص 209). (¬2) البخاري (15)، ومسلم (44). (¬3) البخاري (16)، ومسلم (43). (¬4) (34). (¬5) (ص 129).

هواه تبعًا لما جِئت به". وحسبك قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]. وإن كانت نفسك تحدّثك أنها تحبُّ اللهَ ورسولَه فامتحنها بالرضا والتسليم لكلّ ما جاء عن الله وعن رسوله، فقد قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران: 31]. فإن كنت زاهدًا في محبة الله تعالى وزعمتَ أنك تحبّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم فاعلم أن محبته على قسمين: الأولى: محبة لا تنافي محبة الله تعالى [ص 21] فهذه هي شرط الإيمان، وميزانها الاتِّباع. ومحبة تنافي محبَّة الله تعالى، وهي كمحبة النصارى لعيسى، فهذه هي مناقضة للإيمان. والنبي صلَّى الله عليه وآله وسلم إنما يحبّ مَن أحبّ اللهَ. ويقال لصاحب هذه المحبّة: إن كنت تحب النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم فإنه لا يحبّك، وكيف يحبّ مَن لا يحب الله؟ وكيف يحبّ مَن غضب عليه الله؟ فاتق الله في نفسك، وانظر إلى أين أنت سائقها، على أن المحبّة لا تتحقق إلا بالاتباع على كل حال. والله أعلم.

البحث الخامس التوسل

البحث الخامس التوسُّل قال في "المختار" (¬1): "الوسيلة: ما يُتقرّب به إلى الغير، والجمع الوسيل والوسائل، والتوسّل والتوسيل واحد، يقال: وسَّل فلان إلى ربه وسيلةً بالتشديد، وتوسّل إليه الوسيلة إذا تقرّب إليه بعمل". ومِن هنا نعلم أنه لا دلالة في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35] إلا على الأمر بابتغاء ما يتقرّب به إلى الله، وهو أمر مجمل لا يؤخذ بيانه إلا من الشرع، فمن ادّعى في شيءٍ من الأشياء أنه يتقرّب به إلى الله تعالى كُلِّف بإبراز حجّةٍ من كتاب الله تعالى أو سنة رسوله. وعليه فأقول: التقرّب إلى الله تعالى بأداء الفرائض والنوافل، واجتناب الحرام والمكروه مما لا يحتاج إلى بيان. وأما التقرُّب إليه بسؤاله والإقسام عليه بحق شيءٍ من الأشياء - وهو الذي تفهمه العامة من التوسّل - فهو على أقسام: أولها: سؤال الله تعالى بوجهه الكريم وأسمائه الحسنى. وهذا مستحبٌّ اتفاقًا. وثانيها: سؤاله بذات من ذوات خلقه، كالكعبة والعرش والكرسي، ولم أر التصريح بجوازه عن أحد (¬2). ¬

_ (¬1) "مختار الصحاح" (ص 721). (¬2) كتب المؤلف أولًا: "وهذا ممنوع اتفاقًا" ثم أبدلها بهذه العبارة. وقد صرّح جماعة من =

وثالثها: سؤاله بجاه بعض خلقه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية (¬1): "وأما القسم الثالث وهو أن يقول: اللهم بجاه فلان عندك أو ببركة فلان أو بحرمة فلان عندك = افعل بي كذا وكذا. فهذا يفعله كثير من الناس، لكن لم يُنقل عن أحد من الصحابة والتابعين وسلف الأمة أنهم كانوا يدعون بمثل هذا الدعاء، ولم يبلغني عن أحد من العلماء في ذلك ما أحكيه؛ إلا ما رأيت في فتاوى الفقيه أبي محمَّد بن عبد السلام (¬2). فإنه أفتى أنه لا يجوز لأحد أن يفعل ذلك إلا للنبي صلَّى الله عليه وآله وسلم إن صحّ الحديث في النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم. ومعنى الاستفتاء: قد روى النسائي والترمذي (¬3) وغيرهما أن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم عَلَّم بعض أصحابه أن يدعو فيقول: "اللهم إني أسألك وأتوسل إليك بنبيك نبي الرحمة. يا محمَّد، يا رسول الله إني أتوسل بك إلى ربي في حاجتي ليقضيها لي. اللهم: فشفِّعْه فيَّ". ¬

_ = العلماء بالمنع منه. انظر "مجموع الفتاوى": (1/ 202، 344)، و"الاقتضاء": (2/ 307 - 308). (¬1) "مجموع الفتاوى": (27/ 83 - 85). (¬2) انظر "فتاوى العز بن عبد السلام" (ص 83). وقد بيَّن شيخ الإسلام في جواب له عن كلام العزّ هذا فقال: "وأما استثناؤه الرسولَ - إن صحّ حديث الأعمى - فهو رحمه الله لم يستحضر الحديث بسياقه حتى يتبين له أنه لا يناقض ما أفتى به، بل ظنَّ أنه يدل على محل السؤال، فاستثناه بتقدير صحته ... ". "جامع المسائل" (5/ 97). (¬3) النسائي في "الكبرى" (10419)، والترمذي (3578)، وأخرجه ابن ماجه (1385)، وأحمد (17240)، وابن خزيمة (1219)، والحاكم: (1/ 313)، والبيهقي في "دلائل النبوة": (6/ 166).

[117] فإن هذا الحديث قد استدلّ به طائفة على جواز التوسل بالنبي صلَّى الله عليه وآله وسلم في حياته وبعد مماته. قالوا: وليس في التوسل دعاء المخلوقين ولا استغاثة بالمخلوق وإنما هو دعاء واستغاثة بالله؛ لكن فيه سؤال بجاهه كما في "سنن ابن ماجه" (¬1) عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم أنه ذكر في دعاء الخارج للصلاة أن يقول: "اللهم إني أسألك بحقّ السائلين عليك وبحق ممشاي هذا، فإني لم أخرج أشرًا ولا بطرًا ولا رياء ولا سمعةً. خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك، أسألك أن تنقذني من النار وأن تغفر لي ذنوبي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت". قالوا: ففي هذا الحديث أنه سأل بحق السائلين عليه وبحق ممشاه إلى الصلاة، والله تعالى قد جعل على نفسه حقًّا، قال الله تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47]، ونحو قوله: {كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا} [الفرقان: 16]، وفي "الصحيح" (¬2) عن معاذ بن جبل أن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم قال له: "يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد؟ " قال: الله ورسوله أعلم، قال: "حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا. أتدري ما حقّ العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ فإن حقهم عليه أن لا يعذبهم". وقد جاء في غير حديث: "كان حقًّا على الله كذا وكذا". كقوله: "مَنْ شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين يومًا، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد فشربها في الثالثة أو الرابعة كان حقًّا على الله أن يسقيه من طينة الخبال". ¬

_ (¬1) (778)، وأخرجه أحمد (11156)، وابن أبي شيبة (29812). وسيأتي الكلام عليه. (¬2) البخاري (7373)، ومسلم (30).

قيل: وما طينة الخبال؟ قال: "عصارة أهل النار" (¬1) " اهـ. قلت: أما الحديث الأول فهو حديث الأعمى المشهور [214] وقد رواه الترمذي وابنُ ماجه والحاكم في "المستدرك" كما في "منتخب كنز العمال" (¬2). وأخرجه الإمام أحمد وابن خزيمة، وأخرجه البيهقي والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (¬3). وأسانيده كلها تدور على أبي جعفر. وهذا لفظ الترمذي في "سننه" في كتاب الأدعية: حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا عثمان بن عمر، حدثنا شعبة، عن أبي جعفر، عن عمارة بن خزيمة بن ثابت، عن عثمان بن حنيف: أن رجلًا ضرير البصر أتى النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم فقال: ادع الله أن يعافيني، قال: "إن شئتَ دعوتُ وإن شئتَ صبرتَ فهو خير لك" قال: فادعه، قال: فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء: "اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمَّد نبي الرحمة، إني توجهتُ بك إلى ربي في حاجتي هذه لتُقْضَى لي، اللهم فشفِّعه فيَّ". قال: هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث أبي جعفر وهو الخَطْمي. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (3680) من حديث ابن عباس رضي الله عنه، والنسائي (5670) وابن حبان عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وأحمد (14880) من حديث جابر رضي الله عنه. (¬2) "كنز العمال": (2/ 181 و6/ 521). (¬3) سبق عزوه إلى هذه المصادر قريبًا.

وقال ابن ماجه: حدثنا أحمد بن منصور بن سيَّار، حدثنا عثمان بن عمر، وساق مثل إسناد الترمذي، ولفظه: أنّ رجلًا ضرير البصر أتى النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم فقال: ادع الله لي أن يعافيني، فقال: "إن شئتَ أخَّرتُ لك وهو خير، وإن شئتَ دعوتُ"، فقال: ادعه، فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه، ويصلي ركعتين، ويدعو بهذا الدعاء: "اللهم إني أسألك، وأتوجه إليك بمحمد نبي الرحمة، يا محمَّد، إني قد توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى، اللهم فشفِّعْه فيّ". قال أبو إسحاق: هذا حديث صحيح. وأما الإمام أحمد (¬1) فرواه عن عثمان بن عُمر وعن رَوْح، كلاهما عن شعبة عن أبي جعفر، وأخرجه أيضًا عن مؤمّل عن حماد - يعني ابن سلمة - عن أبي جعفر عن عمارة عن عثمان بن حنيف. والألفاظ متقاربة بنحو لفظ الترمذي وابن ماجه. قال المانعون: أما رجال حديث الأعمى فكلّهم ثقات لكنه كما قال الترمذي: "غريب لا يُعرف إلا من هذا الوجه". والغرابةُ وإن كانت لا تُنافي الصحة فإنها توجب ريبة. قال الإمام أحمد: لا تكتبوا هذه الأحاديث الغرائب فإنها مناكير وعامتها عن الضعفاء. وقال الإمام مالك: شرّ العلم الغريب وخير العلم الظاهر الذي قد رواه الناس. رواهما البيهقي في "المدخل" كما ذكره السيوطي في "شرح التقريب" (¬2). ¬

_ (¬1) (17240، 17241، 17242). (¬2) "تدريب الراوي": (2/ 634). وليسا في المطبوع من "المدخل". وكلمة أحمد =

قلتُ: والغرابة في الاصطلاح إما في المتن وإما في السند، فالغرابة في المتن: أن ينفرد بمتنه واحد. وهذا الحديث تفرّد به أبو جعفر عن عمارة، وتفرّد به عمارة عن عثمان بن حنيف. ومع ذلك فالدعاء الذي تضمّنه غريب في الأدعية المأثورة، ليس له أنيس، فهو غريب في متنه في بابه. [215] وقال السيوطي في "شرح التقريب" (¬1) في الكلام على الشاذ وعند قول المتن: (وقال الحاكم (¬2): هو ما انفرد به ثقة وليس له أصل بمتابع) لذلك الثقة. قال: ويغاير المعلل بأن ذلك وُقِف على عِلّته الدالة على جهة الوهم فيه، والشاذّ لم يوقَف فيه على علة كذلك، فجعل الشاذ تفرّد الثقة، فهو أخص من قول الخليلي. قال شيخ الإسلام (¬3): وبقي من كلام الحاكم: وينقدح في نفس الناقد أنه غلط، ولا يقدر على إقامة الدليل على ذلك، قال: وهذا القيد لا بدّ منه، قال: وإنما يغاير المعلل من هذه الجهة، قال: وهذا على هذا أدقّ مِن المعلّل بكثير، فلا يتمكَّن من الحكم به إلا مَن مارس الفنَّ غاية الممارسة، وكان في الذروة من الفهم الثاقب ورسوخ القَدَم في الصناعة. قلت: ولعُسْره لم يفرِدْه أحدٌ بالتصنيف. ومن أوضح أمثلته: ما أخرجه ¬

_ = أخرجها ابن عدي في "الكامل": (1/ 39)، وكلمة مالك أخرجها الخطيب في "الجامع": (2/ 137). (¬1) (1/ 268 - 269). (¬2) في "معرفة علوم الحديث" (ص 375). (¬3) يعني الحافظ ابن حجر، وقد نقله عنه تلميذه البقاعي في "النكت الوفية": (1/ 455) بأتم مما هنا. ولعل السيوطي لخصه منه.

في "المستدرك" (¬1) من طريق عُبيد بن غنام النخعيّ، عن علي بن حكيم، عن شَريك، عن عطاء بن السائب، عن أبي الضُّحى، عن ابن عباس قال: في كلّ أرض نبيّ كنبيكم وآدم كآدم ونوح كنوح وإبراهيم كإبراهيم وعيسى كعيسى. وقال: صحيح الإسناد. ولم أزل أتعجَّب من تصحيح الحاكم له حتى رأيت البيهقيَّ (¬2) قال: إسناده صحيح ولكنه شاذٌّ بمرَّة. اهـ (¬3). قلت: وهذا الذي قاله الحاكم (¬4) واقع في حديث الأعمى، وذلك أنه تفرّد به أبو جعفر عن عمارة، وتفرّد به عمارة عن عثمان بن حنيف، وهو غريب في الأدعية النبوية، فلم يُعْرَف عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم دعاءٌ يشبهه في التوسّل، على كثرة الأدعية المأثورة، وحِرْص النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم على تعليم أصحابه، ولم يُعرف عن أحدٍ من الصحابة ولا من التابعين ولا من سَلَف الأمة ما يُشبهه كما مرّ عن شيخ الإسلام ابن تيمية (¬5). فإن قيل: إن الحاكم لم يوافَق على تعريفه للشاذ، فقد قال النووي بعد حكاية قول الحاكم وقوله مثله عن الخليلي: "وما ذكراه مشكل بأفراد العدل الضابط، كحديث: "إنما الأعمال بالنيات"، والنهي عن بيع الولاء، وغير ذلك في "الصحيح" ... " إلخ. ¬

_ (¬1) (2/ 493). (¬2) في كتاب "الأسماء والصفات": (2/ 268). (¬3) انتهى النقل من "تدريب الراوي". (¬4) يعني في تعريفه للشاذ. (¬5) (ص 261).

[216] قلت: قد اتفق الحاكم ومتعقِّبو كلامه على اشتراط الفردية في الشذوذ، ثم اشترط الحاكم قوله: "وليس له أصلٌ بمتابع، وينقدح في نفس الناقد أنه غلط، ولا يقدر على إقامة الدليل". ومثَّل له السيوطي بما سمعت، واشترط المتعقّبون أن يخالف مَن هو أرجح منه. فالحاكم لم يحكم بردِّ الفرد مطلقًا، بل شَرَط مع ذلك ما سمعت، وبذلك يعلم أنه لا يَرِدُ عليه أفراد "الصحيح". والحاصل أن الحاكم نحى بالشاذ نحو المعلَّل كما أشار إليه شيخ الإسلام، فالتفرّد جُزء علّة، فإذا وُجدت قرائن أخرى على الوهم كملت العلة، كما في حديث ابن عباس الذي مثَّل به السيوطي، ولا يبعُد أن يكون منه حديث البحث، وما أحراه بذلك! هذا بالنسبة إلى الاستدلال به على التوسُّل بالنبي صلَّى الله عليه وآله وسلم في حياته، وأما بعد مماته خصوصًا مع ما زِيد فيه من قوله صلَّى الله عليه وآله وسلم بعد ما مرّ: "قال: فإن كان لك حاجة فمثل ذلك" (¬1) = فيعارضه إجماع الصحابة رضي الله عنهم على العدول عن التوسُّل بالنبي صلَّى الله عليه وآله وسلم بعد موته إلى التوسُّل بعمه العباس، فيزداد ضعفًا إلى ضعفه. والحاصل أن العارف المنصف لا يطمئنّ قلبُه إلى الاحتجاج بهذا الحديث. ¬

_ (¬1) هذه الزيادة أخرجها ابن أبي خيثمة في "تاريخه" كما ذكر شيخ الإسلام في "قاعدة جليلة - مجموع الفتاوى": (1/ 275) وأعلَّها بتفرّد حماد بن سلمة ومخالفته لرواية شعبة وروح بن القاسم وهما أوثق منه. ثم أجاب شيخ الإسلام عنها على فرض ثبوتها فانظره.

أما حديث ابن ماجه (¬1) فهذا لفظه: "حدثنا محمَّد بن سعيد بن يزيد التستري، حدثنا الفضل بن الموفق أبو الجهم، حدثنا فضيل بن مرزوق، عن عطية، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "مَن خرج من بيته إلى الصلاة، فقال: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك (¬2)، وأسألك بحقّ ممشاي هذا، فإني لم أخرج أشَرًا، ولا بَطَرًا، ولا رياءً، ولا سُمعةً، وخرجتُ اتقاء سخطك، وابتغاء مرضاتك، فأسألك أن تعيذني من النار، وأن تغفر لي ذنوبي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. أقَبَل اللهُ عليه بوجهه، واستغفر له سبعون ألف ملك". ففيه الفضل بن الموفّق ضعَّفه أبو حاتم، وفضيل بن مرزوق من أفراد مسلم، وعِيْب على مسلم إدخاله في "الصحيح"، وإن كان الأكثر على توثيقه، فإن أبا حاتم قال: صدوق يَهِم كثيرًا، يُكتب حديثه. قيل: يُحتجّ به؟ قال: لا. وقال ابن حبان في "الثقات" (¬3): "يخطئ". وقال في "الضعفاء" (¬4): [217] "كان يخطئ على الثقات، ويروي عن عطية الموضوعات". كذا في "تهذيب التهذيب" (¬5). قال: وقال مسعود (¬6) عن الحاكم: ليس هو مِن شرط الصحيح، وقد عِيْبَ على مسلم إخراجه لحديثه اهـ. وهذا القدح مفسَّر فهو ¬

_ (¬1) (778). (¬2) في الأصل: "إليك" سبق قلم. (¬3) (7/ 316). (¬4) (2/ 209). (¬5) (8/ 299). (¬6) في سؤالاته للحاكم (85).

أولى من قول الموثِّقين. وعطية العوفي ضعَّفه الجمهور. قال السِّنْدي (¬1) في الكلام على هذا الحديث: وفي "الزوائد" (¬2): هذا إسناد مسلسل بالضعفاء؛ عطية وهو العوفي، وفُضيل بن مرزوق، والفضل بن الموفّق = كلهم ضعفاء، لكن رواه ابن خزيمة في "صحيحه" من طريق فُضيل بن مرزوق، فهو صحيح عنده. اهـ. وابنُ خزيمة يطلق الصحيح على ما يشمل الحسن، ولا شكّ أنّ فضيلًا وثَّقه كثير من الأئمة ولكن القدح المفسَّر أولى. قال المجيزون: إن هذين الحديثين قد نصَّ أئمة السنة على صحتهما، فنصَّ على صحة حديث الأعمى الحاكمُ والترمذيُّ وابنُ ماجه (¬3). ونص على صحة حديث السؤال بحقّ السائلين الإمامُ ابن خزيمة، فمَن أنتم حتى تخالفوهم وتُخطِّئوهم؟ وقولكم في حديث الأعمى: إنه غريب في بابه غير مسلَّم، وقد ثبت في "الصحيحين" وغيرهما حديث الثلاثة أصحاب الغار وتوسّلهم بأعمالهم، واستجابة الله تعالى لهم. ودلّ سياق الحديث على الثناء عليهم، وورد مورد ¬

_ (¬1) في حاشيته على ابن ماجه: (1/ 262). (¬2) "مصباح الزجاجة" (295). (¬3) ابن ماجه لم يصحّح الحديث، والذي في سنن ابن ماجه عقب الحديث: (قال أبو إسحاق: إسناده صحيح) ليس (أبو إسحاق) هو ابن ماجه، لأن كنيته أبو عبد الله. ولا أدري مَن يكون أبو إسحاق هذا. ولعله أحد رواة السنن. ثم راجعت الطبعة المحققة عن مؤسسة الرسالة فوجدت المحقق يذكر أن هذه الزيادة لم ترد في النسخ الخطية التي اعتمدها لسنن ابن ماجه. وأشار في الطبعة الهندية إلى أنها في إحدى النسخ الخطية.

الحثّ على الإخلاص بمثل أعمالهم؛ فكان شريعةً لنا ولا شكّ، فثبت جواز التوسّل بالأعمال بهذا الحديث الذي تواتر أو كاد، فلا سبيل لكم إلى التلاعب به. وإذا جاز توسّل الشخص بعملٍ من أعماله فجوازه بأحد الصالحين أولى فضلًا عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم، وجاء حديث الأعمى والسؤال بحقّ السائلين موافِقَين له في التوسّل بالنبي صلَّى الله عليه وآله وسلم وبالصالحين. [218] قالوا (¬1): وفي "سنن أبي داود" (¬2): عن جُبير بن محمَّد بن جُبير بن مُطعِم، عن أبيه، عن جده قال: جاء أعرابي فقال: يا رسول الله، جُهِدَت الأنفسُ، وضاعت العيال، ونُهِكت الأموال، وهلكت الأنعام، فاستسق الله لنا، فإنا نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك. قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "ويحك أتدري ما تقول؟! " وسبّح رسولُ الله صلَّى الله عليه وآله وسلم، فما زال يسبح حتى عُرِف ذلك في وجوه أصحابه ثم قال: "ويحك إنه لا يُسْتَشْفَع بالله على أحدٍ من خلقه، شأنُ الله أعظم من ذلك ... " الحديث. ¬

_ (¬1) كتب المؤلف قبلها: "الحمد لله" وكأنه استأنف الكلام بعد انقطاع فبدأه بالحمدلة. (¬2) (4726). وأخرجه البزار (3432)، وابن خزيمة في "التوحيد" (148)، والطبراني في "الكبير" (2/ 168)، وابن منده في "التوحيد" (607) وغيرهم. قال ابن منده: إسناد صحيح متصل. وصححه ابن القيم في "تهذيب السنن": (5/ 2164 - 2173). لكن ضعَّفه الذهبي في "العلو" (ص 39) قال: هذا حديث غريب جدًّا فرد. وفي سنده جبير بن محمَّد ليّن الحديث، ومحمد بن إسحاق مدلس لم يصرح بالتحديث.

فأنكر عليه رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم قوله: "نستشفع بالله عليك" وأقرّه على قوله: "نستشفع بك على الله" وتبيَّن بهذين الحديثين وغيرهما بطلان ما دفعتم به حديثَ الأعمى أنه غريبٌ في بابه. [219] وكذلك ثبت في "صحيح البخاري" (¬1) عن أنسٍ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قحطوا استسقى بالعبّاس بن عبد المطلب فقال: "اللهم إنا كنّا نتوسّل إليك بنبينا صلَّى الله عليه وآله وسلم فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعمّ نبينا فاسْقِنا، قال: فيُسْقَون". وظاهره التعدّد. ولا ريب أن الاستسقاء إنما يقع بمحضر جمهور الصحابة رضي الله عنهم وعِلْم الجميع، ولمَّا لم يُنكر صار إجماعًا. وكذلك معاوية بن أبي سفيان استسقى بيزيد بن الأسود الجرشي وقال: "اللهم إنا نستشفع إليك بخيارنا" (¬2) ولم يُنكرَ عليه ذلك. وهذه الأحاديث والآثار لم تزل تتناقلها الأئمة، ويَبْعُد أن يتناقلوها ويتفقوا على عدم العمل بها، بل الظاهر أن الأمّة لم تزل آخذة بهذه السنة مِن زمانه صلَّى الله عليه وآله وسلم وزمن أصحابه مِن بعده وتابعيهم، وهكذا إلى اليوم. ويشهد لهذا ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية إنه لم يجد عن العلماء نقلًا في باب التوسّل إلا ما رآه في فتاوى ابن عبد السلام (¬3)، فالظاهر أن التوسّل كان أمرًا مُتّفَقًا عليه متلقًّى بالقبول، معمولًا به في الخاصة والعامة، ولذلك لم يتكلموا عليه في كتبهم. ¬

_ (¬1) (1010). (¬2) تقدم تخريجه (ص 239). (¬3) انظر ما سبق (ص 261).

قال المانعون: يا مقلِّب القلوب ثبّت قلوبنا على دينك، واهدنا لما اختُلف فيه من الحق بإذنك، واجعلنا ممن لا سبيل له إلا بسبيلك، واجعل هوانا تَبَعًا لما جاء به رسولك. ما كان ينبغي لنا أن نعمد إلى عمل أطبق عليه عامة هذه الأمة فنخطّئه ونضلّله لمجرّد الهوى، إنّا والله لحريصون على أن تكون جميع أعمال هذه الأمة مطابقة لشريعة نبيها صلَّى الله عليه وآله وسلم، مستندة إلى أدلة صحيحة من كتاب الله تعالى وسنة رسوله، فهل يُعقل أن نعكس القضية فنسعى في إماتة شيء من السنة والعياذ بالله؟! [220] قد تصفّحنا ما أجبتم به حريصين على أن نجد فيه ما يثلج الصدر في جواز التوسّل، فيسرّنا أن تكون العامة على هدى في هذه المسألة، ونستفيد علمًا لم يكن عندنا، ولكننا لم نجد إلا دعاوى مجرّدة، وبيان ذلك تفصيلًا: أولًا: قولكم: "إن هذين الحديثين - أي حديث الأعمى والسؤال بحق السائلين - قد نصَّ الأئمة على صحتهما ... " إلخ. وجوابه: أن حديث الأعمى وإن نصّ الحاكم وابن ماجه على صحَّته (¬1)، والترمذي على أنه متردِّد بين الحُسْن والصحة، فقد نص الترمذي على أنه غريب، والغرابةُ توجب الريبة كما دلّ عليه كلام الإمامين مالك وأحمد، وقد مرَّ (¬2). وحينئذٍ فتكون جُزء علّة، فإذا وُجِدت قرينة أخرى كملت العلة، وذلك كما في حديث ابن عباس الذي صححه الحاكم: "في كل أرض نبي ¬

_ (¬1) انظر ما سبق من التعليق على نسبة التصحيح إلى ابن ماجه (ص 269). (¬2) (ص 264).

كنبيكم ... " إلخ، وقد مرّ (¬1). وذلك أنه اجتمع فيه مع الغرابة في المتن الغرابة في الباب؛ إذ لم يرد في الكتاب والسنة ما يُشعر بما دلّ عليه. ولما نظرنا في حديث الأعمى وجدناه أشبه شيء بهذا الحديث، وليس في هذا غض ممن صححه أو حسّنه؛ لأن التصحيح والتحسين محمول على الإسناد ونحن لا ننكره. على أننا لم نأت بشيءٍ من عند أنفسنا، وإنما نقلناه عن الأئمة كما عرفت. وكم من حديث صححه أحدُ الأئمة وتعقّبه مَن بعده! وذلك كثير في "الصحيحين" فضلًا عن غيرهما. نعم، إن ثبتت دعواكم أنه قد ورد في السنة الصحيحة ما يخرج حديث الأعمى عن كونه غريبًا في بابه بَطَل ما أشرنا إليه مِن إعلاله، وسيأتي البحث معكم في ذلك. وأما حديث السؤال بحقّ السائلين، وتصحيحُ ابن خزيمة له، فابن خزيمة ممن يعبّر عن الحسن بالصحيح كما مرّ وذَكَره السيوطي في "شرح التقريب" (¬2) وغيره، ومع ذلك ففضيل بن مرزوق قد مرّ الكلام عليه، وهذه ترجمته في كتب أسماء الرجال فليراجعها الباحث، وكذلك عطية العوفي. وأما حديث "الصحيحين" في قصة الثلاثة أصحاب الغار، فليس من التوسّل المتعارف في وِرْدٍ ولا صَدَر، [221] وهذا لفظه في "صحيح البخاري" (¬3): "بينما ثلاثة نفرٍ ممن كان قبلكم يمشون إذ أصابهم مطر فأووا ¬

_ (¬1) (ص 266). (¬2) (1/ 174). (¬3) (3465).

إلى غار، فانطبق عليهم، فقال بعضهم لبعض: إنه والله يا هؤلاء لا ينجيكم إلا الصِّدْق، فليَدْعُ كل رجلٍ منكم بما يعلم أنه قد صدق فيه ... " إلخ. قال في "الفتح" (¬1): "وفي رواية موسى بن عقبة: "انظروا أعمالًا عملتموها صالحة لله" ومثله لمسلم. وفي رواية الكُشْمِيْهَني: "خالصة ادعوا الله بها"، ومن طريقه في البيوع: "ادعوا الله بأفضل عمل عملتموه"، وفي رواية سالم: "إنه لا ينجيكم إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم"، وفي حديث أبي هريرة وأنس جميعًا: "فقال بعضهم لبعض: عفا الأثر ووقع الحجر ولا يعلم بمكانكم إلا الله، ادعوا الله بأوثق أعمالكم"، وفي حديث عليّ عند البزار: "تفكَّروا في أحسن أعمالكم فادعوا الله بها، لعلّ الله يفرج عنكم"، وفي حديث النعمان بن بشير: "إنكم لن تجدوا شيئًا خيرًا من أن يدعو كلُّ امرئ منكم بخير عملٍ عَمِلَه قطّ" اهـ. ولفظ دعاء الأول: "اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي ... " وذَكَر عملَه ثم قال: "فإن كنت تعلم أني فعلتُ ذلك من خشيتك ففرّج عنّا". وكذا الثاني والثالث. فأين هذا من قول القائل: "اللهم إني أتوسّل إليك بحقّ صلاتي وصيامي، وأتوجّه إليك بفضلها لديك"؟! فضلًا عن قوله: "اللهم إني أسألك بجاه فلان، وأتوجّه إليك بحقه عليك وفضله لديك". فإن أهل الغار إنما ذكروا أعمالهم التي أخلصوا فيها لله تعالى؛ استنجازًا لوعده للمخلصين بتفريج كروبهم، وكشف همومهم وغمومهم، ومعنى دعائهم: اللهم إن كنت ¬

_ (¬1) (6/ 507).

تعلم أننا عَمِلنا هذه الأعمال مخلصين لك، فأنْجِزْنا وَعْدَك للمخلصين بتفريج كروبهم، وكشف ما نزل بهم، وإجابة دعائهم. قال الحافظ في "الفتح" (¬1): [222] "وفي هذا الحديث استحباب الدعاء في الكرب، والتقرب إلى الله تعالى بذكر صالح العمل، واستنجاز وعده بسؤاله. واستنبط منه بعضُ الفقهاء استحباب ذكر ذلك في الاستسقاء، واستشكله المحبُّ الطبري لما فيه من رؤية العمل، والاحتقارُ عند السؤال في الاستسقاء أولى؛ لأنه مقام التضرُّع. وأجاب عن قصة أصحاب الغار بأنهم لم يستشفعوا بأعمالهم، وإنما سألوا الله تعالى إن كانت أعمالهم خالصةً وقُبِلت، أن يجعل جزاءها الفرجَ عنهم، فتضمّن جوابه تسليم السؤال لكن بهذا القيد، وهو حسن. وقد تعرّض النوويُّ لهذا فقال في "كتاب الأذكار" (¬2) في باب دعاء الإنسان وتوسّله بصالح عمله إلى الله، وذَكَر هذا الحديث، ونقل عن القاضي حسين وغيره استحباب ذلك في الاستسقاء، ثم قال: وقد يقال: إن فيه نوعًا من ترك الافتقار المطلق، ولكن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم أثنى عليهم بفعلهم، فدلّ على تصويب فعلهم. وقال السبكيُّ الكبير: ظهر لي أن الضرورة قد تُلجئ إلى تعجيل جزاء بعض الأعمال في الدنيا، وأن هذا منه، ثم ظهر لي أنه ليس في الحديث رؤية عمل بالكلية، لقول كلٍّ منهم: "إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء ¬

_ (¬1) (6/ 509 - 510). (¬2) (ص 398).

وجهك". فلم يعتقد أحدٌ منهم في عمله الإخلاص، بل أحال أمرَه إلى الله، فإذا لم يجزموا بالإخلاص فيه مع كونه أصلح أعمالهم فغيره أولى، فيستفاد منه أن الذي يصلح في مثل هذا أن يعتقد الشخص تقصيره في نفسه ويسيء الظنّ بها، ويبحث على كل واحد من عمله يظن أنه أخلص فيه، فيفوّض أمرَه إلى الله، ويعلّق الدعاءَ على عِلْم الله به، فحينئذٍ يكون إذا دعا راجيًا للإجابة خائفًا من الردّ. فإن لم يغلب على ظنّه إخلاصُه ولو في عملٍ واحد، [فليقف عند حدِّه]، ويستحيِ أن يسأل بعمل ليس بخالص. قال: وإنما قالوا: ادعوا الله بصالح أعمالكم في أول الأمر، ثم عند الدعاء لم يطلقوا ذلك، ولا قال واحد منهم: أدعوكَ بعملي، وإنما قال: إن كنتَ تعلم ثم ذكر عمله. انتهى ملخّصًا. وكأنه لم يقف على كلام المحبّ الطبري الذي ذكرته فهو السابق إلى التنبيه على ما ذكر، والله أعلم". اهـ. والحق ما اختاره الحافظ وصدَّر به بقوله: "التقرب إلى الله تعالى بذكر صالح العمل، واستنجاز وعده بسؤاله". [223] وقول المحبّ الطبري: إنهم لم يستشفعوا بأعمالهم، وإنما سألوا الله إن كانت أعمالهم خالصة وقُبِلت = حقّ لا شك فيه. وأما قوله: "أن يجعل جزاءها الفرج عنهم"، فكأنه ظهر له ذلك من قولهم: "فلْيدْعُ كلّ رجلٍ منكم بما يعلم أنه قد صدق فيه" وسائر الروايات موافقة لهذه في إطلاق الدعاء بالعمل، ولكن لا يخفى أن الدعاء إنما يكون حقيقة بالكلام ومِن المحال أن يكون بالأعمال التي انقضت بوقتها، فلا بدّ من تقدير مضاف، فَلْنقدِّر (ذِكْر) كأنهم قالوا: فليدع كل رجلٍ منكم بذكر ما يعلم ... إلخ. فقد دعوا الله بذكر أعمالهم.

ثم إما أن يكونوا قصدوا بذكرها استنجاز الوعد أو استعجال الجزاء، والأول أولى كما اختاره الحافظ، وقد يُحمل عليه كلام السبكي، فإنه قال: "ظهر لي ... " إلخ فذكر ما يفيد أنهم دعوا بذكر أعمالهم استعجالًا لجزائها، ثم قال: "ثم ظهر لي ... " إلخ فدلّ على أن الذي ظهر له أخيرًا غير الذي ظهر له أولًا، فتأمل. والحقّ أنهم لم يطلبوا تعجيل جزائها وإنما ذكروها استنجازًا لوعد الله تعالى لعامليها بالإغاثة وإجابة الدعاء، ولذلك كان ظاهر الحديث الثناءَ عليهم، وهذا واضح جدًّا. قال المانعون: فإن كنتم ترون أيها المجيزون في استنجاز الوعد دلالةً على التوسّل المدَّعى فما أكثر أدلّتكم! منها قوله تعالى حكايةً عن نوح: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} [هود: 45]، فإن الله تعالى أنكر عليه قوله: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} لما فيه من عدم المباينة للكافر، ولم ينكر عليه قوله: {وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} مع أن المقصود به استنجاز الوعد. ومنها حديث "الصحيحين" (¬1) في دعاء النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم في عريش بدر، ولفظه في البخاري: "اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك". وفي رواية مسلم: "فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على مَنكِبيه، ثم التزمه مِن ورائه، فقال: يا نبيّ الله كفاك مناشدتك ربّك، فإنه سينجز لك ما وعدك"، فأنزل الله عزَّ وجلَّ: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} الآية [الأنفال: 9] ¬

_ (¬1) البخاري (2915)، ومسلم (1763).

فأمدّه الله بالملائكة. وفي رواية للبخاري (¬1): "فأخذ أبو بكر بيده فقال: حسبك قد ألحْحتَ على ربك، والنبي صلَّى الله عليه وآله وسلم عالمٌ بوعد الله تعالى، وعالم بأن الله لا يخلف وعدَه، ولكنَّه جوَّز أن يكون الوعد مشروطًا بشيء، كأن لا يصدر عن أحدٍ من المسلمين شيء من المخالفات، فلم يزل يدعو حتى - والله أعلم - أعْلَمَه الله أن النصر كائنٌ لا محالة، أي غير مشروط بشيء، فخرج يَثِبُ في الدرع ويقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45]. وأبو بكر رضي الله عنه لم يلاحظ ما لاحظه النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم بل اطمأنّ بمطلق الوعد، فتأمّل. والأدلة كثيرة، والعجب ممن يستدلّ بحديث أصحاب الغار على جواز قول القائل: "اللهم إني أسألك بحق فلان عليك وجاهه العظيم لديك"، مع أنه لا يدلُّ على التوسّل بالأعمال إلا بمعنى ذِكرها في الدعاء استنجازًا لوعد الله تعالى لعاملها بالإغاثة. [224] والحاصل أن معنى حديث أصحاب الغار على ما قاله المحبّ الطبري: أن هؤلاء الثلاثة ذكروا أوثق أعمالهم، وسألوا الله تعالى أن يعجّل لهم ثوابها بالتفريج عنهم. وعلى المختار الذي قاله الحافظ واحتمله كلام السبكي: أنهم ذكروا أوثق أعمالهم استنجازًا لوعد الله تعالى لمن عمل مثلها بالإغاثة، وكشف الكروب. وعلى كلٍّ فلا معنى لقولكم: "وإذا جاز توسّل الشخص بعمل من أعماله فجوازه بأحد الصالحين أولى ... " إلخ، فإن أهل الغار سألوا حقًّا ثابتًا ¬

_ (¬1) (4877).

لهم بوعد الله تعالى، والمتوسّلُ بأحد الصالحين لم يسألّ حقًّا ثابتًا له، وهذا مما يُخْجَل من إيضاحه لوضوحه. وأما ما في "سنن أبي داود" عن جُبير بن محمَّد بن جُبير بن مُطعِم عن أبيه عن جده قال: جاء أعرابيّ ... إلخ. ففي إسناده ابن إسحاق، وهو مختلَف فيه، وأقلّ ما فيه أنه يدلِّس، قاله الإمام أحمد، كما في "تهذيب التهذيب" (¬1) وغيره. والمدلِّس لا يحتج به إلا فيما صرَّح فيه بالتحديث، ولم يصرّح في هذا الحديث، فإن لفظ الراوي عنه: سمعتُ ابن إسحاق يحدِّث عن يعقوب بن عتبة وللحديث علّة أخرى نبَّه عليها أبو داود (¬2). وأما حديث استسقاء عمر والصحابة بالعبّاس بن عبد المطلب رضي الله عنهم ومثله استسقاء معاوية بيزيد بن الأسود الجرشي، فهو عليكم لا لكم؛ لدلالته الظاهرة على إجماع الصحابة رضي الله عنهم على عدم التوسّل بالميّت والغائب، وهل يَشكُّ عاقل أن الصحابة رضي الله عنهم يعدلون عن التوسُّلِ برسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم إلى طلب الدعاء من غيره إلّا لأمرٍ ما، وهو عدم جواز التوسّل بالمعنى المتعارف، وهذا صريح جدًّا من قول عمر: "اللهم إنّا كنّا نتوسّل إليك بنبينا فتسقينا، وإنّا نتوسّل إليك بعمّ نبينا". فإن قيل: فما الفرق بين التوسّل بالحيّ والميت؟ قلت: الفرق بيِّن، وذلك أنّ في الكلام حذف مضاف في الموضعين، أي: إنا كنّا نتوسّل إليك [225] بدعاء نبيّنا، أي: نطلب منه الدعاء لنا فيدعو، ¬

_ (¬1) (9/ 43). (¬2) (4726) وسبق ذكرها عند الكلام على الحديث (ص 270).

فيكون دعاؤه وسيلة لنا، وإنا الآن نتوسّل بدعاء عمّ نبينا، وها هو يدعو لنا، ودعاؤه وسيلة لنا. وتقدير المضاف في الموضعين متعيّن؛ إذ لو لم يقدّر لكان الظاهر التوسّل بالذات، وذات رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم باقية بعد الموت، فعلامَ يعدل الصحابة عن التوسّل بها، ويقول الفاروق مقالته الدالة على امتناع التوسّل بالنبي صلَّى الله عليه وآله وسلم حتى احتيج إلى العدول إلى عمّه؟ فتبيَّن أنه ليس المراد التوسّل بالذات. ولا يصحّ تقدير المضاف "بأعماله الصالحة" وإن ارتضاه الشوكاني؛ لأن أعمال النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم باقية فَعَلامَ يعدل عنها إلى التوسّل بأعمال عمه، فتعيَّن أن يكون المضاف هو أمر يمتنع حصوله من الميّت، ويحصل من الحيّ، وهو الدعاء في القضية بعينها. إذا تقرّر ذلك فمعنى هذا الحديث: اللهم إنّا كنّا إذا أجْدَبْنا نتوسّل إليك بدعاء نبينا لنا بالسُّقيا فتسقينا، وإن نبينا قد قَدِم عليك فلا يمكن أن يدعو لنا بالسُّقيا الآن، ولكنا نتوسّل إليك بدعاء عمّ نبينا بالسُّقيا الآن فاسْقِنا. فإن قيل: فهل قول عمر: "اللهم إنّا كنّا نتوسّل ... " إلخ مجرّد خبر أو دعاء؟ فالجواب: أننا [226] نسلِّم أنه دعاء، ولكن ليس معنى التوسّل هو التوسُّل الذي تدّعونه، وإنما هو مطلق التقرب، كما هو معناه لغةً. فكأن عمر قال: إنا كنا نتقرّب إليك بطلب الدعاء من نبيّك، وقد تعذّر ذلك فتقرّبنا إليك بطلب الدعاء من عمّه، وها هو يدعو وندعو، فأنْجِزْ لنا وعدك بإجابة الدعاء.

وهذا كما ترى ليس فيه ما يدلّ على التوسّل وإنما هو من باب استنجاز الوعد الذي مرّ تقريره في حديث ثلاثة الغار. ولا شكَّ أن الله تعالى وَعَد عبادَه إجابة الدعاء بقوله: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]، وعوّدهم الإغاثة بالسُّقيا إذا طلبوا الدعاء من رسوله صلَّى الله عليه وآله وسلم بإجراء العادة بذلك، وإجراءُ العادة بمثابة الوعد، وذلك إجابة لدعاء رسوله، وجزاءً لهم حيث عرفوا الحقّ للرسول صلَّى الله عليه وآله وسلم، ففزعوا إليه في ذلك. وهذا كقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64]، فَشَرَط في ذلك ثلاثة أشياء: الأول: مجيئهم إلى الرسول طالبين منه أن يستغفر لهم. والثاني: استغفارهم الله. والثالث: استغفار الرسول لهم. وكذلك السُّقيا كانوا يفزعون إلى النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم طالبين منه الدعاء، فيدعو ويدعون، فيسقيهم الله تعالى. وفي "سنن أبي داود" (¬1) بإسناد حسن عن عائشة رضي الله عنها قالت: شكا الناس إلى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم قحوط المطر، فأمر بمنبر فوُضِع له في المصلّى، ووعد الناسَ يومًا يخرجون فيه. قالت عائشة: فخرج رسول الله صلَّى الله ¬

_ (¬1) (1173).

عليه وآله وسلم حين بدا حاجبُ الشمس، فقعد على المنبر، فكبَّر وحَمِد الله عزَّ وجلَّ ثم قال: "إنكم شكوتم جَدْبَ ديارِكم، واستئخار المطر عن إبّان زمانه عنكم، وقد أمركم الله عزَّ وجلَّ أن تدعوه، ووعدكم أن يستجيب لكم" ثم قال: "الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مَلِك يوم الدين، لا إله إلّا الله يفعل ما يريد ... " الحديث. ثم قال أبو داود: "وهذا حديث غريب، إسناده جيّد، أهل المدينة يقرؤون {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} وإن هذا الحديث حجة لهم" اهـ. قلت: والغرابةُ هنا هي الفرديّة، وهي بمجرّدها غير قادحة، مع أن معنى الحديث في "الصحيح" (¬1). فهذا هو التوسّل الذي أخبر عنه عمر بقوله: "إنا كنّا نتوسل بنبيك ... " إلخ، وذلك سؤالهم الدعاء من النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم ودعاؤه ودعاؤهم مستنجزين وعدَ ربّهم، كما أشار إليه قوله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "وقد أمركم عزَّ وجلَّ أن تدعوه ووعدكم أن يستجب لكم". [227] والصحابة رضي الله عنهم سألوا الدعاء من العبّاس رضي الله عنه لفضله وقرابته، فدعا ودعوا معه مُستنجزين لوعد ربهم. فهذا هو التوسُّل الذي يقول عنه عمر: "وإنّا نتوسّل بعم نبيّك". **** ¬

_ (¬1) أخرج البخاري (1012) ومسلم (894) حديث عبد الله بن زيد المازني في خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المصلى لصلاة الاستسقاء. وأخرجا أيضًا - البخاري (933) ومسلم (897) - حديث أنس في استسقاء النبي - صلى الله عليه وسلم - على المنبر يوم الجمعة.

فصل

فصل قد تبيَّن لك مما مرّ أن المجيزين للتوسُّل المتعارَف لم يثبت لهم دليل صريح، وقد أجاز بعضُهم التوسُّل بالأعمال الصالحة مطلقًا، وخصَّ غيره ذلك بأعمال المتوسّل نفسه. وسَبَق لي قولٌ قلتُ فيه: الذي يظهر أنه لا بأس أن يتوسّل (¬1) الإنسان بكلِّ عملٍ من شأنه أن ينفعه في حاجته التي يريد التوسّل به فيها، ومنه حديث ثلاثة الغار؛ لأن من شأن أعمالهم تلك أن تنفعهم في الإغاثة وتفريج الكرب. ومنه أيضًا توسّل الصحابة برسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم ثم بالعباس؛ لأن الصحابة كانوا يتوسّلون بدعاء النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم لهم في طلب السُّقيا، وهو عمل ينفعهم في ذلك، ثم توسّلوا بدعاء العباس لهم بالسُّقيا، وهو عمل ينفعهم في ذلك، ويُحْمَل عليه حديث الأعمى؛ لأنه لما شكا إلى النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم، وسأله الدعاء، توجّه قلب النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم إلى ربِّه في إغاثته، فأمره بالوضوء والصلاة والدعاء، ويُقَدَّر مضاف في الدعاء، فكأنه قال: اللهم إني أسألك وأتوجّه إليك بتوجّه قلب نبيك محمَّد ... إلخ. فإن قيل: فقد جاء في بعض الروايات: "فإن كان لك حاجة فمثل ذلك" (¬2)؟ ¬

_ (¬1) قبلها كلمة "وتوسّط" نسي المؤلف أن يضرب عليها. (¬2) سبق الكلام على هذه الزيادة وإعلال شيخ الإسلام لها (ص 268).

فالجواب: أن قوله صلَّى الله عليه وآله وسلم ذلك يدلّ أن قلبه صلَّى الله عليه وآله وسلم توجّه إلى ربِّه في قضاء حوائج هذا الأعمى مطلقًا، فهو كلما أراد أن يسأل الله حاجةً فإنما يتوسّل إليه بذلك التوجُّه. وعلى ذلك حديث السؤال بحقِّ السائلين، فقوله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "اللهم إني أسألك بحقّ السائلين عليك" معناه: أسألك بحقّ سؤالي، وأما ما بعده فواضح. وأما حديث الاستشفاع فليس من التوسُّل في شيءٍ، وإنما معناه إنا نطلب منك الشفاعة، وعلى هذا فيجوز (¬1) للإنسان التوسُّل بجميع أعمال نفسه مطلقًا، وكذا بعمل غيره الذي قام الدليل الشرعيُّ على أنه ينفعه في حاجته التي يريد التوسُّل به فيها خاصة [228]، كالتوسل في السُّقيا بدعاء الغير بها، وهذا يوافق توسُّل الصحابة بالعبّاس، وذلك أنهم إنما كانوا يسألون النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم أن يدعو لهم بالسُّقيا في ذلك الوقت، فدعاؤه بذلك عمل ينفعهم في تلك الواقعة فقط، فإذا أجْدَبوا مرةً أخرى احتاجوا إلى دعاءٍ آخر بها، فلما قُبِض رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم وأجدبوا لم يمكن أن يدعو لهم النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم بالسُّقيا حينئذٍ، فطلبوا الدعاء من عمه لفضله وقرابته، وتوسَّلوا به لكونه عملًا ينفعهم في السُّقيا حينئذٍ. ويُستنتج مما ذكر أن الرجل من أمة محمَّد إذا عمل عملًا ثبت عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم الدعاءُ لفاعله كان له أن يتوسّل بدعاء النبيّ صلَّى الله عليه وآله وسلم فيما دعا له به، فكان يصلي أربعًا قبل العصر عملًا بحديث أحمد والترمذي وأبي داود عن ابن عمر قال: قال رسول الله ¬

_ (¬1) قبلها في الأصل "ثم" نسي المؤلف أن يضرب عليها.

صلَّى الله عليه وآله وسلم: "رحم الله امرءًا صلَّى قبل العصر أربعًا" (¬1). فله أن يتوسَّل في طلب الرحمة بدعاء النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم له فيها، ولو أطلق التوسل بالنبي صلَّى الله عليه وآله وسلم في ذلك، ناويًا التوسّل بذلك الدعاء فلا بأس كما جاء في حديث الأعمى وغيره. ولا يقال: إن شَفَقة النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم ورحمته بأمته تدلّ أنه كان يدعو لهم بكل ما ينفعهم، فنتوصل بذلك إلى جواز التوسّل مطلقًا. لأننا نقول: عدول الصحابة رضي الله عنهم إلى التوسّل بالعبّاس رضي الله عنه ينافي ذلك. فالمتعيّن قَصْر ذلك على ما ورد بالنص، كصلاة أربع قبل العصر. وقد يُجاب عن هذا بأن يقال: إن كان المراد بالتوسّل السؤال بحقّ ذلك العمل وفضله عند الله تعالى، والإقسام به عليه، فهو ممنوع كما مَرَّ نقلُه عن "الفتح" في حديث الغار، مع أن حديث الغار وتوسّل الصحابة بالعبّاس لا يَدُلّان عليه أصلًا، وغيرهما مقدوح فيه كما مَرَّ. وإن أُريد بالتوسّل مجرّد ذكر العمل استنجازًا للوعد، مع المحافظة على الأدب والحذر من الاعتماد على العمل، فهذا هو الذي سبق تقريره في حديث الغار، وهو حقّ لا شُبهة فيه. والله الموفق. [229] أقول: هذا آخر ما تيسَّر لي كتابته في هذا البحث، ومَن تأمّله حقَّ تأمّله عَلِم أنّ مدار التوسّل على حديث الأعمى، فمن أراد معرفة الحق فعليه ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (1271)، والترمذي (430)، وأحمد (5980)، والطيالسي (2048)، وابن حبان (2453)، والبيهقي (2/ 473). قال الترمذي: حسن غريب.

أن يحقق البحثَ فيه والنظرَ في حاله حتى يطمئنّ قلبُه، فيعمل بما ظهر له. وقد رأيتُ في "شرح الإحياء" (¬1) ما لفظه: وأخرج البيهقي في "الدلائل" والنسائي في "اليوم والليلة" من طريق أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن عثمان بن حنيف، فذكر قصة فيها حديث الأعمى هذا ولفظه: "فقال له النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم: "ائت الميضأة فتوضّأ، ثم ائت المسجد فصلّ ركعتين ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجّه إليك بنبيك نبيّ الرحمة، يا محمَّد إني أتوجّه بك إلى ربي فتجلي لي عن بصري، اللهم شفِّعه فيّ وشفّعني في نفسي ... " إلخ. ثم ذكر مَن رواه من الأئمة من طريق عُمارة بن خزيمة على نحو ما أسْلَفنا، فإن صحّت روايتُه من طريق أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن عمّه زالت غرابةُ الحديث في نفسه. وقد سبق في تأويله والجمع بينه وبين غيره من الأدلة ما علمتَ، فراجِعْ ما هناك والله يتولّى هداك. وأما العامة فتمسّكهم بالتوسّل بأنواعه هو فرعٌ عن تمسّكهم بالتقليد كل منهم لفقهاء المذهب الذي التزمَه من غير تفريق بين العقائد وغيرها، فتنازلهم إلى التوقف عن التوسّل لا يتم حتى يتنازلوا عن الانكباب على التقليد في كل شيء. والذي أختاره لنفسي: أن أُكْثِر من الصلاة على النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم أوّل الدعاء وأثنائه وآخره، وأتتبّع الأدعية الواردة في الكتاب والسنة ¬

_ (¬1) "إتحاف السادة": (3/ 472). والحديث في "الدلائل": (6/ 167) للبيهقي، و"السنن الكبرى" للنسائي (10421). وانظر للاختلاف في إسناده "علل ابن أبي حاتم" (2064).

والإرشادات التي جاءت عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم في آداب الدعاء، وأكتفي بالترضِّي والترحُّم والاستغفار للعلماء والصالحين، وأدَعُ التوسُّل عملًا بحديث الحسن السبط رضي الله عنه: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" (¬1) أخرجه الترمذي وابن حبان والحاكم من حديث الحسن السِّبط رضي الله عنه، وما في معناه من الأحاديث. وأرجو أن تكون هذه الطريقة هي الأسلم؛ لأني على يقين أنه لو ثبت التوسّل المتعارَف ثم تركه إنسانٌ لم يكن عليه إثم؛ إذ لا قائل بوجوبه، فكيف والحال أنه لم يثبت؟ فتَرْكه بنيّة الإحجام عما لم يطمئنّ القلبُ بثبوته مما أرجو أن يأجرني الله تعالى عليه. فمن أحبّ السلامة فهذا سبيلها، ومَن أقْدَم على التوسُّل فهو وما تولّى، ولا أقطع بخطئه ولا ضلاله، بل أرجو له التوفيق والهداية إن شاء الله تعالى. ... ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه.

[بحث في اتخاذ ليلتي المولد والمعراج عيدا]

[بحث في اتخاذ ليلتي المولد والمعراج عيدًا] [ص 1] قال المانعون: ومِن المحدَث اتخاذ ليلتي المولد والمعراج عيدًا. وأول مَن أحدَث ذلك العُبيديون بمصر ثم توسّع الناسُ فيه، فألفّوا في ذلك القصص المشتملة على الآثار الموضوعة والضعيفة، والتأويلات البعيدة، كما تراه في قصة المولد المعروفة بـ "شرف الأنام". وكما في بعض قصص المعراج المشتملة على الحديث الطويل الذي نصَّ أئمة الحديث أنه موضوع، وغير ذلك. والتزموا قراءة قصة المولد في غير ليلته، وصاروا ينذرون قراءتها، ويجتمعون لأجلها، ويذبحون ويطعمون، وينشدون الأشعار، وفوق ذلك صاروا يجعلون لكل من وُسِم بالصلاح عيدًا ليلة مولده أو ليلة موته، ويجتمعون لذلك، ثم يقرأون فيها قصصًا مؤلَّفة في أخباره مشتملة على أشياء يكذّبها كتاب الله تعالى وسنة رسوله، مِن دعوى علم الغيب وغيرها. وجعلوا لكل مَن يوسَم بالصلاح عيدًا في كل سنة يجتمعون عند قبره، وينحرون النحائر، إلى غير ذلك. ويرتكبون فيها كثيرًا من المحرّمات زاعمين أن ذلك الميّت يتحمّل ذلك عنهم، يعنون أن الله تعالى لا يؤاخذهم على ذلك إكرامًا له، إلى غير ذلك من المحدَثات التي ينكرها الدين والعقل. قال المجيزون: أما اتخاذ ليلتي المولد والمعراج عيدًا، فهذا من المحبّة له صلَّى الله عليه وآله وسلم، ومحبته شرط الإيمان.

قال المانعون: محبّته صلَّى الله عليه وآله وسلم التي هي شرط الإيمان هي أن يكون أحبّ إلينا من والدينا وأولادنا والناس أجمعين. والمحبّة شيءٌ في القلب يعلمه الله تعالى، وعلامتها المحافظة على ما يحبّه المحبوب، واجتناب ما يكرهه. وكلُّ مسلم يعلم أن أحبّ الأشياء إلى النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم هو التمسُّك بسنته والعضّ عليها بالنواجذ، وأن أبغض الأشياء إليه هو الإحداث في الدين والابتداع فيه. وصحَّ عنه - صلى الله عليه وسلم - قوله: "أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمَّد، وشرّ الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة". قال بعض الأئمة: كان النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم يردّد هذا الكلام في عامة خُطبه. وهذه الأمور التي أحدثتموها في باب [الدين] (¬1) لو كان في ذلك شيءٌ من القُربة لَأَمَر به النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم في حياته أو فعله أصحابه بعد وفاته، لكن تلك القرون الفاضلة مضت كلُّها وليس فيها من هذا شيءٌ، وإنما أُحدِث بعد ذلك، فهو محدَث - والنبي صلَّى الله عليه وآله وسلم يقول: "شر الأمور محدثاتها" - وبدعة، وهو صلَّى الله عليه وآله وسلم يقول: "كل بدعة ضلالة". قال المجيزون: فإنه يُقاس على العيدين والجمعة وعاشوراء مما ثبت اتخاذه عيدًا لوقوع نعمة من العامة فيه (¬2)، ولا شكّ أن ولادته ومعراجه صلَّى الله عليه وآله وسلم مِن أعظم النعم. ¬

_ (¬1) شبه مطموسة في الأصل، وما أثبته مقدَّر. (¬2) كذا، ولعل المقصود: "من النِّعم العامة فيه".

قال المانعون: هذا الأمر محدَث قطعًا، فما معنى الاستدلال عليه؟ وما لكم وللاستدلال؟ فإنما أنتم مقلدون، وقد مضى (¬1) الأئمة الأربعة وغيرهم من المجتهدين على عدم هذا، فوجب عليكم أن تتمسكوا بمذاهبكم كما ألزمتم أنفسَكم. وعلى التنزُّل فهذا القياس باطل في ذاته أولًا، لعدة وجوه؛ منها: أن النِّعَم التي في العيدين والجمعة تتكرر بتكرُّرهما. وأما عاشوراء فإنه ليس بِعيد، وإنما نُدب صيامه فقط. وفي "الصحيح" (¬2) أن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم كان يصومه بمكة موافقةً لقريش فيما لم يبدّلوه من دين إبراهيم. وعلى هذا فلم يجدد له رؤية اليهودَ يصومونه حُكمًا. وبقية الوجوه تُعْلَم من تفصيل هذا القياس، ببيان الأصل والفرع والعلة وغير ذلك مما يطول ذكره ونحن في غنًى عن ذكره. ولمعارضته للسنة وإجماع الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين ثانيًا. [ص 2] ولو ساغ الاستدلال بهذا القياس لاتُّخِذَت أيام السنة كلها أعيادًا. والحاصل أن بطلان هذا الاستدلال من أوضح الواضحات (¬3). قال المجيزون: فإن الاجتماع في هذه الليالي داخل تحت عموم الاجتماع للذِّكْر وتعلّم العلم وغير ذلك. ¬

_ (¬1) تحتمل "قضى". (¬2) البخاري (1893) ومسلم (1125). (¬3) كلمة غير واضحة ولعلها ما أثبت.

قال المانعون: الاجتماع الذي ينبغي دخوله تحت العموم هو ما كان يقع مثله في عهده صلَّى الله عليه وآله وسلم، ثم في عصر أصحابه ومَن بعدهم من القرون الفاضلة، وهو مطلق الاجتماع الذي لا يُتحرّى له هيئة مخصوصة، ولا ذكر مخصوص ولا يوم مخصوص من أيام السنة، فهذا هو الذي يصلح لدخوله تحت عموم الأمر بالاجتماع للذكر. فأما الجمعة والعيدين فإنها ثبتت بأوامر خاصة. وفوق هذا فإن الهيئة والذكر المخصَّصان للمولد محدَثان أيضًا، فإن ما تسمونه ذِكرًا هو قصة مشتملة على الآثار الموضوعة والضعيفة، والهيئة تشتمل على إنشاد القصائد بالألحان والترجيع، وغير ذلك. وبعضهم يزيد مع ذلك الضرب بالدفوف. قال المجيزون: أما قولكم: إنها مشتملة على الآثار الموضوعة والضعيفة، فلا نُسَلِّم أن فيها الموضوع، وأما الضعيف فمسلَّم، ولكن قال العلماء: إنه يُعمل بالضعيف في الفضائل ونحوها من القَصَص والمواعظ، ويجوز روايته بدون بيان ضعفه. وأما إنشاد القصائد بالألحان، فهذه مسألة مشهورة، قد تكلم عليها الغزالي وغيره, وقد ثبت إنشاد الشعر والضرب بالدفوف بحضرته صلَّى الله عليه وآله وسلم. قال المانعون: أما بيان ما في تلك القصص من الموضوعات [فلن] نتفرَّغ له الآن، ولعلّنا نتفرّغ له في وقت آخر إن شاء الله تعالى. وأما العمل بالضعيف فله شروط أشار إلى بعضها النووي في

"التقريب" واستدرك السيوطي في شرحه زيادة عليها (¬1). فمنها: أن لا يكون في العقائد ولا في الأحكام. ومنها: أن يكون الضعف غير شديد، فيخرج مَن انفرد من الكذّابين والمتهمين بالكذب ومَن فَحُشَ غلطُه. ومنها: أن يندرج تحت أصل معمول به. ومثاله: جمع كثير من الأئمة أربعين حديثًا عملًا بما رُوي عن أبي الدرداء قال: سُئل رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم ما حدُّ العلم الذي إذا بلغه الرجل كان فقيهًا؟ فقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "مَن حفظ على أمتي أربعين حديثًا في أمر دينها بعثه الله فقيهًا، وكنت له يومَ القيامة شافعًا وشهيدًا" رواه البيهقي في "شعب الإيمان" (¬2). وهو حديث ضعيف، ولكن كثير من الأئمة جمعوا أربعينات؛ لأنهم رأوا أنه مما لا خلاف فيه: أن جمع سنة رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم من أعظم القُرُبات بأيّ عددٍ كان، وهذا أصل معمول به بلا خلاف، وهو يشتمل ما إذا كان المجموع أربعين أو أقل أو أكثر، فمَن جمع منهم أربعين كان عاملًا بهذا الأصل الصحيح وملاحظًا العمل بذلك الحديث الضعيف، أي: إن كان صحيحًا في نفس الأمر فقد عمل به، وإلا فهو عامل بالسنة قطعًا، لدخول عمله تحت ذلك الأصل المعمول به. [ص 3] والحاصل: أن عملهم بالحديث الضعيف ليس إلا في تعمد عدم ¬

_ (¬1) "التقريب" (1/ 351 مع شرحه "التدريب"). وانظر رسالة الشيخ في حكم العمل بالحديث الضعيف ضمن "مجموع الرسائل الحديثية" في هذه الموسوعة. (¬2) (1597).

النقصِ عن الأربعين، وقد يكون اقتصارهم على الأربعين لشغل كانوا فيه، أو ليفهموا الناس أنهم عملوا بهذا الحديث الضعيف، وإلا فليس في الحديث أن مَن زاد على الأربعين لا ينال ذلك الفضل، بل هو مُفهم بفحوى الخطاب: أن مَن زاد على الأربعين كان أولى بذلك الفضل وزيادة. والله أعلم. ومن الشروط: أن لا يعتقد عند العمل به ثبوتَه. وقال النووي قبل هذا: وإذا أردت رواية الضعيف بغير إسناد فلا تقل: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم كذا، وما أشبهه من صيغ الجزم، بل قل: رُوِي كذا، وبلغنا كذا، أو: وَرَد، أو: جاء، أو نُقِل، أو ما أشبهه، وكذا ما يُشك في صحته. انتهى. وتلك الآثار التي ننتقدها عليكم ليست مُستكملة للشروط، بل منها ما هو في العقائد، ومنها ما ضعفه شديد، ومنها ما لا يندرج تحت أصل معمول به، بل فوق ذلك هو معارض للآيات القرآنية والأحاديث الصحيحة. وأيضًا فالعامة عندما يسمعون ذلك يعتقدون ثبوته، مع كون مؤلفي القَصَص يحكونه بصيغة الجزم. وهَبْهُم حَكوه بصيغة التمريض، فإن ذلك لا يكفي في حق العوام بخلاف [ص 4] العصور التي أُجيز فيها رواية الضعيف بشروطه، والاكتفاء بحكايته بصيغة التمريض عن التصريح بضعفه، فإن الناس كانوا حينئذٍ يعرفون الفرقَ بين صيغة التمريض وصيغة الجزم، فيفهمون أن الحاكي بصيغة التمريض غير قائل بصحة ذلك الأثر. فأما في هذه الأعصار فإنه بعد وجود الشرائط كلِّها لا بد من الإشارة إلى عدم الجزم بصحة الحديث إشارةً يفهمها العامة، فإن الاقتصار في الإشارة على صيغة التمريض يوقع القاصَّ وسامعيه في الخطر.

أما القاص فلأنه حكى لهم الحديث الضعيف حكايةً يفهمون منها أنه صحيح، فقد أخذ بنصيبه من الكذب على رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم. وأما السامعون فلأنهم يفهمون أن تلك الآثار صحيحة فيعتقدون مضمونها وأنها صحيحة، ويبادرون بتضليل كلِّ مَن سمعوه يقول: إنها ضعيفة، فينتهكون بذلك حُرمة الدين وحرمة علماء الدين بالوقوع في أعراضهم، وربما استجراهم الشيطان إلى أذيتهم في أنفسهم (¬1). وهذا فيما يتعلّق بالآثار المتعلقة بشيء من أحوال النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم، أما الآثار المتعلقة بمن يُعرف بالخير والصلاح، فالأمر فيها أشد، إذا كان فيها ما يكذّبه القرآن؛ فيكون اعتقادها كفرًا والعياذ بالله تعالى. وأما إنشاد القصائد بالألحان، وقولكم: إنه قد ثبت مثل ذلك، وضربُ الدفوف بحضرته صلَّى الله عليه وآله وسلم، فنعم قد وقع شيء من ذلك بحضرته صلَّى الله عليه وآله وسلم، ولكن لا على أنه من الدين ولا علاقة له بالدين، بل على أنه من الأمور الدنيوية التي تباح في أوقات مخصوصة، يُباح فيها الإقبال على أمور الدنيا وزينتها، فأخرجا في "الصحيحين" (¬2) عن عائشة أن أبا بكر دخل عليها وعندها جاريتان في أيام منى، تدفّفان، وتضربان، وفي رواية: تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بعاث، والنبي صلَّى الله عليه وآله وسلم متغشٍ بثوبه، فانتهرهما أبو بكر، فكشف النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم عن وجهه، فقال: "دعهما يا أبا بكر؛ فإنها أيام عيد"، وفي رواية: "يا أبا بكر إن لكل قوم عيدًا، وهذا عيدنا". ¬

_ (¬1) كلمة مطموسة ولعلها ما قدَّرت. (¬2) البخاري (987)، ومسلم (892).

فالجاريتان إنما كانتا تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بعاث، وليس في ذلك مِن ذكر الله ولا الصلاة والسلام على رسوله شيء، ومع ذلك فإن نهي أبي بكر لهما واضح الدلالة على أنه كان يعلم النهي عن مثل ذلك، وظن أن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم لا يعلم به لكونه نائمًا، فنهاهما، فقال له صلَّى الله عليه وآله وسلم: "دعهما فإنها أيام عيد". فقوله: "فإنها أيام عيد" علةٌ لقوله: "دعهما". وفي هذا تقرير منه صلَّى الله عليه وآله وسلم لأبي بكر على [ص 5] النهي فيما عدا ما تتناوله العلة. ومقتضى الكلام أن ما تعلمه من النهي عن مثل هذا صحيح، إلا أنه مقيدٌ بأن لا يكون في أيام العيد، فإن أيام العيد يشرع فيها إظهار الزينة والتبسُّط في الأمور الدنيوية التي من شأنها ترويح النفس، كلبس الجديد، والتطيُّب، والتنظّف، ونحو ذلك. والحاصل أن الذي يدل عليه الحديث دلالة واضحة: أن التدفيف والغناء بما فيه ذكر الحرب ونحوه غير جائز، إلا أنه يترخّص فيه أيام العيد، فهو دليل على أن ذلك مجرد رخصةً رخّص فيها صلَّى الله عليه وآله وسلم لزوجته وأقرَّها عليه، كما أقرها على اللعب بالبنات، ففي "الصحيحين" (¬1) عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنتُ ألعب بالبنات عند النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم، وكان لي صواحب يلعبن معي، فكان رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم إذا دخل ينقمعن منه، فيسرّبهن إليَّ فيلعبن معي. وفي "سنن أبي داود" (¬2) عنها قالت: قدم رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم من غزوة تبوك أو حنين، وفي سهوتها ستر، فهبَّت ريح فكشفت ناحيةَ ¬

_ (¬1) البخاري (6130)، ومسلم (2440). (¬2) (4932). وأخرجه النسائي في "الكبرى" (8901)، والبيهقي: (10/ 219).

السّتر عن بناتٍ لعائشة لعب، فقال: "ما هذا يا عائشة؟ " قالت: بناتي. ورأى بينهن فرسًا له جناحان من رقاع، فقال: "ما هذا الذي أرى وسطهنّ"؟ قالت: فرس. قال: "وما هذا الذي عليه". قالت: جناحان: قال: "فرس له جناحان! ". قالت: أما سمعت أن لسليمان خيلًا لها أجنحة؟ قالت: فضحك حتى رأيت نواجذه. ثم إنَّ فِعْل مثل ذلك في أيام العيد حسنٌ لثبوت الرخصة، وأما في غيرها فالأصل المنع إلا ما ثبت بدليل. كالعرس، [ص 6] ففي "صحيح البخاري" (¬1) عن خالد بن ذكوان عن الرُّبيِّع بنت معوّذ بن عفراء قالت: جاء النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم حين بُني عليَّ فجلس على فراشي كمجلسك مني، فجعلتْ جُويريات لنا يضربن بالدف، ويندبن من قُتِل من آبائي يوم بدر إذ قالت إحداهن: "وفينا نبيّ يعلم ما في غد" فقال: "دعي هذه وقولي بالذي كنت تقولين". ثم إن إبدال أشعار الحرب بما فيه ذِكْر لله تعالى، وإبدال أيام العيد والعرس بمجامع الذكر، وإبدال البيوت بالمساجد، وإبدال الترخّص بذلك، واعتقاد كونه من الزينة التي يُترخّص بها أيام العيد والعرس باعتقاد كونه عبادة = لا يخفى أنه من أفحش البدع. وأما ما زعمه بعضُهم من أن أوقات قراءة قصة المولد هي من أوقات الأفراح، بل هي أعظم الأفراح بذكرى ولادة النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم وسيرته؛ فتقاس على أيام العيد والعرس وغيرها من أيام الأفراح؟ ¬

_ (¬1) (4001 و5147).

فالجواب: أنَّ هذا باطل لوجهين: الأول: أن أيام العيد والعرس والختان هي أوقات أفراح أسبابُها حادثة، وأما قراءة قصة المولد فإنما هي ذكرى فرح قد مضى وقت سببه. وما مثل ذلك إلّا مثل من أنشأ قصيدة [ص 7] في ذكر عرسه، أو ذكر ختان ولده، وصار ينشدها كل يوم، ويدفّف عليها بحجة أنها متعلقة بعرس أو ختان. فإن قيل: فإن في ذِكْر ولادة الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلم زيادة فرح. قلنا: وكذلك في ذكرى العرس، وختان الولد، وعلى كل حال فبطلان القياس واضح. الوجه الثاني: أن المسألة من أصلها محدَثة. قالوا: وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن امرأة قالت: يا رسول الله، إني نذرتُ أن أضرب على رأسك بالدفّ، قال: "أوفي بنذرك" رواه أبو داود (¬1). قلنا: قد أسلفنا أن ضرب الدف في أوقات الفرح مما يترخّص به، ويبين هذا الحديث ما أخرجه الترمذي (¬2) من حديث بريدة قال: خرج رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم في بعض مغازيه، فلما انصرف جاءت جارية سوداء فقالت: يا رسول الله، إني كنت نذرت إن ردَّك الله صالحًا أن أضرب بين يديك بالدف وأتغنّى. فقال لها رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "إن ¬

_ (¬1) (3312)، من طريقه البيهقي: (10/ 77). (¬2) (3690). وأخرجه البيهقي: (10/ 77).

كنتِ نذرتِ فاضربي وإلا فلا" فجعلت تضرب، فدخل أبو بكر وهي تضرب، ثم دخل عليّ وهي تضرب، ثم دخل عثمان وهي تضرب، ثم دخل عمر فألقت الدف تحت استها، ثم قعدت عليه. فقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "إن الشيطان ليخاف منك يا عمر، إني كنت جالسًا وهي تضرب، فدخل أبو بكر وهي تضرب، ثم دخل علي وهي تضرب، ثم دخل عثمان وهي تضرب، فلما دخلتَ أنتَ يا عمر ألقت الدُّف" رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب. أقول: والآثار الواردة في النذر تدل أنَّه يلزم فيما عدا المعصية، وما لا يُطيقه أو كان فيه مشقة شديدة، فيدخل في هذا نذر المباح، وخلاف الأَوْلى بل المكروه فيما يظهر. ففي "سنن أبي داود" عن ثابت بن الضحاك قال: نذر رجل على عهد رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم أن ينحر إبلًا ببوانة، فأتى رسولَ الله صلَّى الله عليه وآله وسلم فأخبره. فقال له رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يُعبد؟ " قالوا: لا، قال: "فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ " قالوا: لا، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم". وأنت خبير أن السفر إلى بوانة - على فرض كون الرجل لم يكن ساكنًا بها وهو الظاهر - فيه لولا النذر إتعاب للنفس لغير غرضٍ شرعيّ، وهذا لا يبعد أن يكون مكروهًا. ثم إن العدول عن نحر الإبل في الحرم خلاف الأولى، ولا سيّما والصدقة على فقراء الحرم أولى من الصدقة على فقراء بوانة. وحديثُ السوداء ظاهر في أن الفعل الذي نذَرتْه منهيّ عنه، لولا النذر؛ لقوله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "وإلا فلا". أي: وإن لم تكوني نذرت

فلا تضربي. [ص 8] والنهيُ حقيقة للتحريم. فظاهره: أنها إن لم تكن نذرت حرم عليها ذلك الفعل، لكن النهي مصروف عن ظاهره، بدليل الإذن لها بالفعل إن كانت نذرته. وقد عُلم من الأحاديث الصحيحة أنه لا يلزم النذر في معصية الله تعالى، فتبقى الكراهة. فالظاهر - والله أعلم - أن ذلك الفعل الذي نذَرَتْه مكروه في نفسه، ولكنه جاز للنذر. ويؤيّد هذا قوله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "إن الشيطان يخاف منك يا عمر" إلخ، إلى أن قال في بيان علة أن الشيطان يخاف من عمر: "فلما دخلتَّ أنتَ ألقت الدفّ". وهذا واضح في أنّ في فعلها ذلك نصيبًا للشيطان. وبهذا يظهر أن قدوم الغائب ونحوه ليس مما يُشْرَع فيه التدفيف إلا أن يُنْذَر. وأنه إن نذر في مثل ذلك شُرع الوفاء به وفاءً بالنذر، وإن كان فيه للشيطان نصيب. هذا ولا يخفى أن قدوم الغازي سالمًا سبب من أسباب الفرح، فلا يدلّ كون التدفيف في مثله غير معصية على كونه غير معصية مطلقًا. ومع هذا فقدومه صلَّى الله عليه وآله وسلم من الغزو سالمًا سبب للفرح حدَثَ حينئذٍ، فلا يُقاس عليه نحو المولد والمعراج؛ إذ ليس هذا إلّا مجرد ذكرى كما مرَّ. ومع هذا فقد كان النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم في حال حياته كثيرًا ما تعرض بحضرته الأشياءُ الجِبلِّية، فيعمل فيها ما يقتضيه الحال من الأفعال المباحة في مثل تلك الأحوال. وأما بعد وفاته فإن ذكره متصل بذكر الله تعالى لا ينفكّ عنه، فيجب أن يُراعى عند ذكره ما يُراعى عند ذكر الله تعالى من الأدب والرغبة فيما عند الله تعالى، ومراعاة ما كان يُراعى في عهده

صلَّى الله عليه وآله وسلم في مواطن الذكر. هذا في ما كان موافقًا للسنة من ذكره صلَّى الله عليه وآله وسلم. فأما ما لم يكن موافقًا فإنه خطأ من أصله. وقد بقيت آثارٌ غير ما سبق يتمسَّكُ بها المجيزون، وفيما قدمناه ما يُعلم به الجواب عليها. ومما يحتاج إلى ذكره ها هنا: أن هؤلاء القوم يستدلّون على جواز الرقص بحديثِ حُكمِه صلَّى الله عليه وآله وسلم في حضانة ابنِ عمِّه حمزة، وفيه قوله صلَّى الله عليه وآله وسلم لعلي: "أنت مني وأنا منك"، ولجعفر: "أشْبَهتَ خَلْقي وخُلُقي"، ولزيد: "أنتَ أخونا ومولانا"، وأنّ كلًّا منهم حَجَل عند ذلك (¬1). والجواب: أن الحجل هو عبارة عن رفع إحدى الرجلين والحفز على الأخرى. وهذا وإن كان من الحركات غير الاعتيادية، فليس هو من الرَّقْص في شيء، ومع ذلك فإنه من الأفعال الجِبِلّية [ص 9] التي الأصل فيها الإباحة، وعَرَض لهؤلاء الثلاثة فعله، لِمَا داخل كلًّا منهم من الفرح بتلك البشارة، وغايةُ ما يُستفاد من الحديث إباحة ذلك في مثل ذلك الحال. كما يستفاد من الأحاديث المذكور فيها الضحك: إباحة الضحك فقط، وكما يستفاد من حديث مسابقته صلَّى الله عليه وآله وسلم لعائشة (¬2) على (¬3) مجرد الجواز. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2699) بدون قصة الحجل، وبها أخرجه أحمد (857)، والبزار (744)، وهي زيادة ضعيفة منكرة. (¬2) حديث مسابقته - صلى الله عليه وسلم - لعائشة أخرجه أبو داود (2578)، والنسائي في "الكبرى" (8894)، وابن ماجه (1979)، وأحمد (24981 و25488)، وهو حديث صحيح. (¬3) كذا في الأصل، والعبارة تستقيم بحذف "على".

والحاصل أنّ استدلالكم بهذا الحديث باطل من وجوه: الأول: أنهم إنما حجلوا ولم يرقصوا. والحَجْل دليل الشدة والرجولية، بخلاف الرقص والتثنِّي. الثاني: أن ذلك جرى منهم من باب الأفعال الجِبِليَّة، كالضحك. فلا يجوز اتخاذ ذلك عبادة. الثالث: أنهم في ذلك الوقت - وإن كانوا بحضرته صلَّى الله عليه وآله وسلم - لم يكونوا في ذكر لله تعالى. بل كانوا في محاورة معه صلَّى الله عليه وآله وسلم، والمحاورةُ معه حيًّا يُضْطَر معها إلى وقوع كثير من الأشياء الجِبِلّية، كالضحك وغيره. ولا سيَّما وكانوا في سفر، والسفر مما يترخّص فيه بمثل هذا ترويحًا للنفس من مشقَّته. ومن هذا مسابقته صلَّى الله عليه وآله وسلم لعائشة في بعض أسفاره (¬1). فأما الذكر وسَماع العلم فإن السنة فيه: الخشوع والخضوع والإخبات، وقد ورد في بيان الإحسان: "أن تعبد الله كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك" (¬2). ومن الواضح أن المؤمن إذا استشعر بأنَّ الله يراه كانت عبادته على تمام الخضوع والسكون. بخلاف ما لم يكن عبادة، كحال عليّ وجعفر وزيد. الرابع: أن هذا وقع مرةً واحدة في عهده صلَّى الله عليه وآله وسلم، وأما في الفعل المطّرد في طول عهده فهو كما ورد في وصفهم: كأنما على ¬

_ (¬1) سبق تخريجه قريبًا. (¬2) أخرجه البخاري (50)، ومسلم (8) في حديث جبريل الطويل.

رؤوسهم الطير. نعم، الحديث يدلّ على أن مثل ذلك الفعل في مثل تلك الحال جائز. كأن يكون أحدنا مسافرًا فيلقى أحدًا يبشره بما يسرّه، فأما في غير ذلك فلا. وبهذا وغيره تبيَّن أن اعتيادكم للرقص عند الذكر بدعة قبيحة، وإلى الله المشتكى. واستدلوا أيضًا بحديث لعب الحبشة بحرابهم (¬1)، ولا دليل في هذا؛ لأنه من تعلُّم هيئة القتال. واستدلوا أيضًا بحديث الترمذي (¬2) عن عائشة قالت: كان رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم جالسًا فسمعنا لَغَطًا وصوت صبيان، فقام رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم فإذا حبشيّة تُزْفِن والصبيان حولها .. الحديث إلى أن قالت: إذ طلع عمر فارفضَّ الناسُ عنها. فقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "إني لأنظر إلى شياطين الجن والإنس قد فرُّوا من عمر". [ص 10] والجواب: أن هذا من باب اللعب واللهو الذي ليس بحرام بدليل إذنه صلَّى الله عليه وآله وسلم أن تنظر إليه وهي حينئذٍ (¬3) صبية صغيرة تستأنس إلى ما يلهو به الصبيان، كما ورد في لعبها بالبنات وغير ذلك. وقالت في حديث لعب الحبشة: فاقدروا قدر الجارية حديثة السن، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5190) ومسلم (892) من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬2) (3691) وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه. وأخرجه النسائي في "الكبرى" (8908). (¬3) في الأصل: "ح" اختصارًا لـ "حينئذٍ".

الحريصة على اللهو. ولكن قوله صلَّى الله عليه وآله وسلم في آخر الحديث: "إني لأنظر إلى شياطين الجن والإنس قد فروا من عُمر" يدلُّ على الكراهة. وإنما أقره صلَّى الله عليه وآله وسلم بيانًا للجواز. وفيه مع ذلك نحوٌ مما تقدم. وما أقبحَ الجهلَ والعنادَ! فِعْلٌ من الأفعال الجِبلّية معلوم بالضرورة أنه من اللهو واللعب وإنما وقع التقرير عليه مرة أو مرتين لبيان الجواز، فيجيء هؤلاء القوم يجعلونه من العبادة التي شرع الله تعالى لخلقه أن يستعملوها عند ذكره. وما أسوأَ هذا الفعلَ حيث يُقرَن بين ذكر لله تعالى وبين هذه الأفعال التي هي من اللهو واللعب! فما أجرأ من يفعل ذلك على الله تعالى، وأجْهَلَه بالأدب معه سبحانه وتعالى! بل ما أوهنَ إيمانَه؛ فإن كمال الإيمان الإحسان، والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. والخلاصة: أننا نقول لهؤلاء القوم: النزاعُ بيننا وبينكم في التطريب والتدفيف والرقص عند ذكر الله تعالى، والتزامُ ذلك دائمًا وعدُّه من وظائف العبادة وشرائط الذكر؛ هل كان الأمر عليه في عهد رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم، أو عهد أصحابه، أو عهد التابعين، وتابيعهم من المجتهدين وغيرهم، أو لا؟ وعلى التنزُّل فهل ورَدَ في دليلٍ صحيح أن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم فَعَل التطريبَ، أو التدفيفَ، أو الرقص في وقت ذكر الله تعالى، أو أذِنَ فيه، أو أقرّ عليه؟ كلّا، لم يكن شيء من ذلك. وهذا كافٍ في الدلالة على أن ما يفعله هؤلاء القوم مُحْدَث، وكلّ محدثةٍ بدعة، وكل بدعة ضلالة، وإلى الله المشتكى وعليه المتكل وهو غني عن العالمين. ****

[ص 11] الحمد لله بعد هذا قرأت في "تاريخ المحبّي" (¬1) في ترجمة إبراهيم الصمادي الواعظ ما لفظه: "ومنهم مسلم الكبير مذكور في نسبهم (¬2)، وهو صاحب الطبل المستقرّ عندهم من نحاس أصفر كان معه في فتح عكة يضربون به عند سماعهم ووَجْدهم، وقد سُئل كثير من العلماء عنه فأفتى البدر الغزي والشمس بن حامد والتقوي ابن قاضي عجلون بإباحته في المسجد وغيره قياسًا على طبول الجهاد والحجيج؛ لأنها محركة للقلوب إلى الرغبة في سلوك الطريق، وهي بعيدة الأسلوب عن طريقة (¬3) أهل الفسق والشر". أقول: قوله: لأنها محركة للقلوب ... إلخ، يريد أن ذلك هو العلة المبنيّ عليها القياس، وهي الترغيب والتنشيط لسلوك ما في سلوكه مشقة من الخير. والجواب: بمنع كون هذا الوصف هو العلة في الأصل. لِمَ لا تكون العلة هي قصد اهتداء من ضلّ من المجاهدين والحجاج؛ لأن المسافرين مع كثرتهم يتخلّف بعضهم لقضاء حاجته، ويعيى بعض المشاة، وتعيى دابّة بعض الركبان، وتشرد بعض دوابهم، ويعرِّس بعضهم وراء الجيش، ويبتعد بعضهم في طلب الماء أو طلب الظلّ في الهاجرة، أو طلب الطريق إذا ضل الدليل، وغير ذلك. ويعرض لهم ذلك دائمًا، فلا يكفي مجرّد التصويت لدفعه = لا جَرَم رُخِّص لهم في التطبيل. ¬

_ (¬1) وهو "خلاصة الأثر": (1/ 50). (¬2) الأصل: "نِسبتهم" والمثبت من المصدر. (¬3) الأصل: "طريق" والمثبت من المصدر.

ولو سُلّم أن في الوصف الذي ذكره مناسبة، فَلَنا أن نمنع كونه تمام العلة، لِمَ لا تكون العلة مجموع الوصفين، أي ما ذكره هو من التنشيط والترغيب وما ذكرناه نحن من الإعلام. ولو تنازلنا بتسليم أن مجرّد الوصف الذي ذكره علة تامة، فيُعترض بأن المشقة وصف غير منضبط. ولو تسامحنا في هذا، فهي في الفرع أقلُّ مناسبة من الأصل؛ إذ مشقة السفر أشدّ من مشقة ذكر الله تعالى. ولو تغاضينا عن هذا فيُعارَض بأن التطبيل بأي كيفية كان ظاهرٌ في قصد اللعب، وإباحته في سفر المجاهدين والحجاج لتخفيف المشقة لا يعارضها شيء، بخلافه في حالة الذكر والمساجد، فإنه يعارضه أن فيه انتهاك الحُرْمة. ففي "صحيح مسلم" (¬1) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "مَن سمع رجلًا ينشد ضالة في المسجد فليقل: لا ردّها الله عليك، فإن المساجد لم تُبْنَ لهذا". هذا مع أن نَشْد المرء لضالته مما ينبغي له؛ لما في تركه من تضييع المال. ونشد الضالة في المسجد له مناسبة لاجتماع الناس فيه، ولا سيَّما وقد يكون للمسجد أبواب، وإذا خرج الناس من المسجد اختلطوا وتكلموا، فوقعت الضوضاء فلا يقوم النّشْد خارج المسجد مُقامه داخله والناسُ مجتمعون هادئون. ومع ذلك فالمنع من ذلك عام، وأين هذا من التطبيل؟! وفي "صحيح البخاري" (¬2) عن السائب بن يزيد قال: كنتُ قائمًا في ¬

_ (¬1) (568). (¬2) (470).

المسجد فحصبني رجل، فنظرت، فإذا هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: اذهب فأتني بهذين، فجئته بهما، فقال: ممن أنتما، أو من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف. قال: لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم. ليت شعري لو رأى عمر هؤلاء الناس في بعض بيوت الله يضربون بطونهم ويرقصون ويصفقون ويغنون بالألحان، ويحرفون ذكر الله تعالى، ويذكرونه بما لم ينزل به من سلطان، ما كان يقول لهم؟! ثم إن في التطبيل تشتيت ذهن الذاكرين وغيرهم من المصلين، والمقصود من الذكر [ص 12] الإقبال على الله تعالى، وتصوّر معاني الذِّكر، والتخلّي عن سائر الشواغل والخواطر. فإن زعموا أنه لا يشغلهم ذلك عن الذكر فقد كذبوا، فقد كان القرآن يشغل الصحابة رضي الله عنهم عن الصلاة، ولذلك ورد: "لا يَشغَلنَّ قارئُكم مُصلّيكم" (¬1) وما في معناه. وفي "الصحيحين" (¬2) عن عائشة قالت: صلَّى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم في خميصة لها أعلام، فنظر إلى أعلامها ¬

_ (¬1) ذكره العجلوني في "كشف الخفاء": (2/ 509، 234) بلفظ: "لا يشوّش ... " ونقل عن النجم (الغزي) قوله: لا يعرف بهذا اللفظ. ونقل السخاوي في "المقاصد" (ص 361) عند كلامه على حديث: "ما أنصف القارئ ... " عن الحافظ ابن حجر قولَه: "يُغني عنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن" وهو صحيح من حديث البياضي في الموطأ [29] وأبي داود". وهو في "المسند" (19022). (¬2) البخاري (373)، ومسلم (556).

نظرة، فلما انصرف قال: "اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم، وائتوني بأنبجانية أبي جهم، فإنها ألهتْني آنفًا عن صلاتي". ومثل هذا في السنّة كثير. مع أن أكثر المريدين الذين يحضرون الذكر من العامة الذين جلّ همهم التفرّج واللعب، وربما كان لبعضهم أغراض فاسدة، نسأل الله تعالى السلامة. ومع التجاوز عما ذُكر، فنسأل المفتين هل يطردون علَّتهم في كل ما يطلب فيه الترغيب من الخير، كصلاة الجمعة والجماعة، وقراءة القرآن وتعلّم العلم وغير ذلك، فيكون المؤذّن يحضر معه طبلًا يطبّل به بعد الأذان ليرغّب الناسَ في الحضور. وعند الصلاة يؤتى بصبيان يطبلون لترغيب المصلين وتنشيطهم ولا سيّما في قيام رمضان، ويصنع ذلك في المسجد الحرام ومسجد النبي عليه الصلاة والسلام، ومسجد بيت المقدس، وغيرها من المساجد، فيصبح الدين مكاءً وتَصْديَة، ولا سيّما إذا ضموا إلى ذلك الغناء بالألحان والأصوات الحسان ليكون ذلك أبلغ في الترغيب والتنشيط قياسًا على الحَدْوِ في السَّفَر. فإن استحيوا من الله تعالى ومِن رسوله وكتابه ومِن المسلمين، فذلك المطلوب، وإن ارتكب المفتون ما يقتضي الطرد، قلنا لهم: فإن حكم الصلوات والجُمَع والجماعات والاجتماعات لقراءة القرآن وتعلّم العلم والاجتماع للذّكر الذي هو الفرع المتكلَّم فيه في مسألتنا معلوم من السنة المتواترة والإجماع المقطوع به المطبق عليه في القرون الثلاثة الفاضلة، وعدّة قرون بعدها= وهو حرمة التطبيل في شيء من ذلك، مع وجود الاجتماعات للذكر وغيره ووجود الطبول ووجود قصد الترغيب.

فلو فُرِض انتظام القياس لكان معارضًا بالسنة المتواترة والإجماع القطعي، فكيف يعتبر والسنة تَثبت بالترك كما تَثبت بالفعل؟ قال الشوكاني في "إرشاد الفحول" (¬1): "تركه صلَّى الله عليه وآله وسلم للشيء كفعله في التأسّي به فيه، قال ابن السمعاني: إذا ترك الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلم شيئًا وجب علينا متابعته فيه، ألا ترى أنه صلَّى الله عليه وآله وسلم لما قُدِّم إليه الضبّ فأمسك عنه، وترك أكله = أمسك عنه الصحابة وتركوه إلى أن قال لهم: "إنه ليس بأرض قومي فأَجِدُني أعافه" وأَذِن لهم في أكله ... " إلخ. ولو أردنا استيفاء ما يتعلق بالمقام لطال الكلام ولكن فيما ذكرناه كفاية، فقد أبطلنا ذلك القياس ببضعة أوجه، كل واحد منها كافٍ في المطلوب، وأنه تبين لكل عاقل أن التطبيل في المسجد أو عند الذكر بدعة ضلالة. والله المسؤول أن يهدينا وسائر المسلمين ويوفّقنا لاتباع صراطه المستقيم. ¬

_ (¬1) (1/ 225).

المسألة الثالثة النداء للغائبين والموتى وغيرهم

المسألة الثالثة النداء للغائبين والموتى وغيرهم * تمهيد. * المقام الأول: علم الغيب. * المقام الثاني: في تصرُّف بعض بني آدم في الكون. * المقام الثالث: النداء والطلب.

(¬1) [231] إذا تقرَّر ذلك فلا يخفى أنه قد شاع بين الناس النداءُ للغائبين والموتى، والطلبُ منهم ومن الحاضرين ممن يُعرف بالصلاح للأشياء التي لا يقدر عليها البشر عادةً. والكلامُ على هذا يستدعي النظر في ثلاثة مقامات: الأول: في الاطلاع على الغيب. الثاني: في قدرة بعض البشر على التصرّف في الكائنات بما لا يقدر عليه البشر عادةً. الثالث: في النداء والطلب. **** ¬

_ (¬1) لم نعثر على ما قبلها من الكلام، ولا ندري ما مقدار النقص في هذا الموضع.

المقام الأول علم الغيب

[*1] (¬1) المقام الأول علم الغيب العلم والمراد به القطعي ثلاثة أقسام: القسم الأول: العلم الذاتي، وهو علم الله سبحانه وتعالى، ويلحق به علم المخلوق المُدرِك له بذاته بسببٍ عاديّ، أي: لا باستناده إلى إخبار غيره له، ولا باستناده إلى سببٍ غير عاديّ. القسم الثاني: العلم الخارق، أي المستند إلى سببٍ غير عاديّ، أو إلى سببٍ عاديّ ولكن بكيفية غير عادية. القسم الثالث: العلم الخبري، أي المستند إلى الإخبار. والغيب: عبارة عما غاب عن إدراك المخلوق له بعلمه الذاتي عادةً، وهو قسمان: الأول: ما هو غائب عن الخلق كلهم عادةً. الثاني: ما يختلف باختلاف الخلق، بأن يكون غيبًا بالنظر إلى مخلوق، غيرَ غيبٍ بالنظر إلى آخر. فالصور ست: الأول: العلم الذاتي بما هو غيب عن جميع الخلق عادةً. ¬

_ (¬1) هذا الترقيم المسبوق بـ (*) هو لمجموعة من الأوراق تتعلق بكتابنا هذا وجدناها في مجموع آخر برقم (4707). كما استفدنا من هذا المجموع في مواضع أخرى كما بينّاه في مقدمة التحقيق.

الثانية: العلم الذاتي بالأشياء التي تختلف باختلاف الخلق. الثالثة: العلم الخارق بما هو غيب عن جميع الخلق عادةً. الرابعة: العلم الخارق بالأشياء التي تختلف باختلاف الخلق. الخامسة: العلم الخبري بما هو غيب عن جميع الخلق عادة. السادسة: العلم الخبري بالأشياء التي تختلف باختلاف الخلق. فأقول مستعينًا بالله عزَّ وجلَّ (¬1): [*2] الصورة الخامسة: العلم الخبريّ بما هو غيب عن جميع الخلق. لا يخفى أن العلم الخبري إنما يحصل بأحد خمسة أمور: الأول: بخطاب الله جل جلاله للمخلوق مباشرةً من وراء حجاب. الثاني: بخَلْقه العلمَ الضروريَّ في القلب. الثالث: بخطاب المَلَك المعلومُ أنه مَلَك. وهذه الثلاثة هي الواردة في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى: 51]. الرابع: بخطاب النبيّ. الخامس: بإخبار عدد التواتر. ¬

_ (¬1) لم نجد الكلام على الصور الأربع الأولى، وما وجدناه يبدأ بالكلام على الصورة الخامسة.

أما الأول والثاني، فإنه في الدنيا كالصورة الرابعة يعمّ وقوعه للأنبياء جميعهم، ولبعض الملائكة، ويدّعيه بعضُهم لبعض الأولياء، وفي الآخرة لجميع المؤمنين. والله أعلم. وأما الثالث، فإنه يقع في الدنيا للأنبياء جميعهم وللملائكة؛ بأن يخبر بعضُهم بعضًا، وليس فيه ما يقع للشياطين التي تسترق السمع كما سيأتي (¬1)، ويدّعي بعضُهم وقوعَه للأولياء، وسيأتي الكلامُ فيه إن شاء الله تعالى (¬2). وأما في الآخرة فإنه يقع لجميع الناس. فإن قيل: فظاهر القرآن وقوعه؛ وقع لحوّاء إذ كانت في الجنة، ولإبليس إذ كان في الجنة. قلت: الله أعلم هل كان خطاب حوّاء مباشرة أو بواسطة آدم؟ وهل كان خطاب إبليس مباشرة أو بواسطة بعض الملائكة؟ فإن ثبت وقوعُه مباشرةً فهما حينئذٍ في الجنة، وقد تقدّم أنه يقع في الآخرة لجميع أهل الجنة. والله أعلم. وأما الرابع، فإنه ممكن لكلّ مَن لقي النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم في حياته، سواء في الدنيا أو في الآخرة، فأمّا مَن لقيه في الرُّؤيا فإن إخباره حينئذٍ لا يحصِّل العلم كما سيأتي إن شاء الله تعالى (¬3). ويدّعي بعضُ الأولياء الاجتماع بالنبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم بعد ¬

_ (¬1) (ص 344 - 348). (¬2) (ص 341 - 344). (¬3) (ص 328 وما بعدها).

موته يقظةً، وهذا إن صحّ فهو في حكم الرؤيا، فلا يحصُل بإخباره العلم كما سيأتي إن شاء الله تعالى (¬1). وأما الخامس، فهو ممكن لكل أحدٍ. وأما ما قد يقع بواسطة الخارقة، كإخبار الطفل الذي لم يبلغ حدَّ النُّطق، وإخبار الحيوانات غير الناطقة، وإخبار الجمادات= فإنّ ذلك لا يحصّل للمُخْبَر العلم القطعيّ بصدق الخبر، لتطرّق الاحتمالات إلى جميع ذلك فتأمّل. وكذا ما يقع من إخبار الجن للكُهّان ومَن في معناهم، وما يقع من إخبار النائم في التنويم المغناطيسي، فإنه لا يحصِّل القطع أيضًا. **** ¬

_ (¬1) (ص 328 وما بعدها).

[فصل في أنه لا يعلم الغيب إلا الله، ولا يعلمه لا نبي ولا ولي]

[فصل في أنه لا يعلم الغيب إلا الله، ولا يعلمه لا نبي ولا ولي] [*3] (¬1) قال الله تعالى لرسوله: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ} [الأنعام: 50]، وقال له: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} الآية [الأنعام: 57 - 59]. وقال له: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 188]. والعلمُ المنفيُّ في هذه الآية يتناول العلمَ الذاتيّ، ويتناول الإظهار على جميع الغيب؛ بدليل قوله: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ}. واستكثارُ الخير وعدمُ مسّ السوء لا يتوقّف إلّا على مطلق المعرفة بالغيب، سواء بالعلم أو بالاطلاع، فتأمَّل. وحكى سبحانه وتعالى عن نبيه نوح مثل ذلك، وذلك قوله تعالى: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ} [هود: 31]. ¬

_ (¬1) من هنا وجدنا هذا المبحث في اختصاص علم الغيب بالله تعالى في المجموع المشار إليه سالفًا رقم [4707].

وقال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} الآية [الإسراء: 36]. وقال تعالى: {قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} [الجن: 25 - 28]. دلّت هذه الآية أنه سبحانه وتعالى وحدَه عالمُ الغيب فلا يُظهر على غيبه أحدًا إلا مَن ارتضى من رسله فإنه يطلعه على ما لا بدّ منه لأداء الرسالة، بعد أن يسلك من بين يديه ومن خلفه رَصَدًا من الملائكة يحفظونه من تلبيس الشياطين وتخييلهم، وهي مُبيّنة لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران: 179]. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34]، وقال تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل: 65] , وقال تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [التوبة: 101]. والآيات في هذا كثيرة. وانظر قصة نبيِّ الله يعقوب ومُكْثه تلك السنين العديدة لا يعلم أين ابنُه - عليهما السلام - وإن كان قد أُعْلِم أنه حيّ.

[فصل في علم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالغيب]

[فصل في علم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالغيب] [فإن قيل: إن الله قد أظهر نبيَّه محمدًا صلَّى الله عليه وآله وسلم على جميع الموجودات، فقد روى معاذ بن جبل قال: احتبس عنّا رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم ذات غداةٍ عن صلاة الصبح حتى كدنا نتراءى عين الشمس، فخرج سريعًا، فثُوّب بالصلاة، فصلّى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم وتجوَّز في صلاته، فلما سلّم دعا بصوته قال لنا: "على مصافّكم كما أنتم"، ثم انفتل إلينا، ثم قال: "أما إني سأحدثكم ما حبسني] (¬1) [*4] عنكم الغداة: أني قمت من الليل فتوضأتُ وصليتُ ما قُدِّر لي، فنعستُ في صلاتي حتى استثقلتُ، فإذا أنا بربّي في أحسن صورة، فقال: يا محمَّد! قلت: لبيك ربّ، قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري، قالها ثلاثًا. قال: فرأيته وضع كفّه بين كتفي حتى وجدت بَرْد أنامله بين ثديي، فتجلّى لي كل شيءٍ وعرفتُ، فقال: يا محمَّد، قلت: لبيك ربّ، قال: فيمَ يختصمُ الملأ الأعلى؟ قلت: في الكفَّارات .... " الحديث. رواه أحمد والترمذي (¬2) وقال: "حسن صحيح، وسألتُ محمَّد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال: هذا حديث صحيح". ¬

_ (¬1) ما بين المعكوفين إضافة يكتمل بها السياق، وبقية نص الحديث سقته من كتاب "المشكاة" لأنها مصدر المؤلف في نقل الحديث كما مرّ التنبيه عليه مرارًا. (¬2) أخرجه أحمد (22109)، والترمذي (3235)، والذي فيه عن البخاري "حسن صحيح ... ". وروي من حديث عبد الرحمن بن عائش عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، أخرجه أحمد (23210)، وله شاهد من حديث ابن عباس أخرجه الترمذي (3233) وأحمد (3484).

فيقال: إن ظاهر قوله: "فتجلّى لي كلُّ شيء" العموم في سائر الموجودات، فيكون الله تعالى أظهره حينئذٍ على جميع الكائنات. والجواب: أن المراد - والله أعلم - كلّ شيء مما يختصم فيه الملأ الأعلى، كما يدلّ عليه السياق، فإن السؤال إنما وقع على ذلك، والإظهار إنما وقع ليعلم ذلك كما هو ظاهر من السياق. فإن قيل: فإن في بعض روايات الحديث: "فتجلّى لي ما في السموات والأرض، وتلا: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: 75] " (¬1). قلت: إن صحّ بهذا اللفظ فيحتمل أن يكون مِن تصرُّف بعض الرواة، فَهِمه من قوله: "فتجلّى لي كلُّ شيء وعرفتُ" أن المراد كلّ شيءٍ في السموات والأرض، فروى بالمعنى الذي فهمَه، ويُبْعِد هذا تلاوة الآية. وعلى كل حال فلا أظنَّ هذا اللفظ يصح؛ لأن الظاهر من معنى الآية، ¬

_ (¬1) أخرج هذه الرواية أحمد (16621 و23210) عن عبد الرحمن بن عائش عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأخرجها ابن خزيمة في "التوحيد" (318)، والدارمي في "مسنده" (2195) عن عبد الرحمن بن عائش سمعتُ النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال البخاري فيما نقله عنه الترمذي: (وهذا غير محفوظ، ذكر الوليد في حديثه عن عبد الرحمن بن عائش قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وروى بشر بن بكر عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر هذا الحديث بهذا الإسناد عن عبد الرحمن بن عائش عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا أصح، وعبد الرحمن بن عائش لم يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم -". "جامع الترمذي" (5/ 368)، و"العلل الكبير": (2/ 894). ونحوه ذكر ابن خزيمة. وانظر حاشية "المسند": (27/ 172 - 174).

كما يدلّ عليه ما بعدها، أن المراد - والله أعلم - بقوله: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} أي: نوجّه نظرَه إلى أشياء من آيات مُلْكنا في السماوات والأرض، ونفتح له بسببها فهمًا واستدلالًا يؤكّد يقينه في نفسه، ويكون له حجةً على قومه. فإنّ عقب هذه الآية: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا} الآيات، وظاهر ترتيبها بالفاء أنها من ثمرة قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي} وهذا ظاهر فيما قلناه. وقوله: {هَذَا رَبِّي} استفهام بِحَذْف أداته لتكون على صورة الإخبار، فيظن قومه أن ذلك منه إخبار، وأنه موافق لهم في دينهم، ليكون ذلك أدعى إلى نظرهم وتأمّلهم وعَقْلِهم الحجة فيه (¬1)، والله أعلم. [*5] ومما يدلّ على أنه ليس المراد من الآية أن الله تعالى أظهر إبراهيم على جميع الغيب قولُه بعد هذه الآيات: {وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الأنعام: 80]. ولما جاءه الملائكة لم يعرف أنهم ملائكة، بل ذهب فجاءهم بعجلٍ حنيذٍ، فلما رأى أيديهم لا تَصِل إليه نَكِرَهم وأوجس منهم خيفة. وفي حديث "الصحيحين" (¬2) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "لم يكذب إبراهيم ... " الحديث "بينا هو ذات يوم وسارة إذ أتى على جبارٍ من الجبابرة، فقيل له: إن ههنا رجلًا ... " الحديث، ¬

_ (¬1) غير واضحة ولعلها ما أثبتّ. (¬2) البخاري (3358)، ومسلم (2371).

وفي آخره: "فأتته - أي إبراهيم - وهو قائم يصلي فقال: مَهْيَم ... " الحديث. والحاصل أنه من أَمْحَل المحال أن يُظهر الله عبدًا من عبيده على جميع غيبه، وحسبك أن الله تعالى متعبِّد عبيدَه بالدعاء، فكيف يدعو العبد فيما قد عُلِم أنه واقع أو غير واقع، وقد قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 187، 188]. ومرّ (¬1) أن قوله: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} كما يدلُّ على عدم العلم الذاتيّ يدلّ على عدم الإظهار على جميع الغيب، لأن استكثاره الخير وعدم مسّ السوء له لازمٌ لإظهاره على جميع الغيب، كما هو لازم للذّاتي، فلا يتمّ لمنع إلا بامتناعهما معًا. وقوله تعالى: {إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} وما بعده يدلّ على أن الساعة لم يُظْهِر اللهُ على وقتها أحدًا من خلقه، والآيات في هذا المعنى كثيرة. [*6] وأما الأحاديث الدالة على ما قدمنا فهي كثيرة لا تُحصى، ففي حديث جبريل الثابت في "الصحيحين" (¬2): "متى الساعة؟ فقال: ما ¬

_ (¬1) (ص 316). (¬2) البخاري (50)، ومسلم (9) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

المسؤول عنها بأعلمَ مِن السائل، وسأخبرك عن أشراطها: إذا ولدت الأمةُ ربَّتها، وإذا تطاولت رُعاة الإبل البهم في البنيان، في خمسٍ لا يعلمهنَّ إلا الله، ثم تلا النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان: 34] " الحديث. وفي "الصحيحين" (¬1) أيضًا عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "مفاتح الغيب خمس لا يعلمهنَّ إلاّ الله، فقال: لا يعلم أحدٌ ما يكون في غدٍ، ولا يعلم أحدٌ ما يكون في الأرحام، ولا تعلم نفسٌ ماذا تَكْسِب غدًا، ولا تدري نفسٌ بأيّ أرضٍ تموت، وما يدري أحدٌ متى يجيء المطر". وأخرج الإمام أحمد والبزَّار والضياء المقدسي في "المختارة" (¬2) وغيرهم عن بُريدة قال: سمعتُ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم يقول: "خمسٌ لا يعلمهنّ إلا الله: إن الله عنده علم الساعة ... " (¬3) [الحديث. وأخرج] (¬4) الشيخان والترمذيّ والنسائيّ وأحمد وغيرهم عن أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: مَن زعم أن محمدًا صلَّى الله عليه وآله وسلم يخبر الناسَ بما يكون في غدٍ - وفي رواية: يعلم ما في غدٍ - فقد أَعْظَم ¬

_ (¬1) البخاري (4697) ولم أجده في مسلم من حديث ابن عمر. (¬2) ليس في المطبوع منها. (¬3) أخرجه أحمد (22986)، والبزار (4409)، والضياء كما في "جمع الجوامع" (12287). (¬4) ما بين المعكوفين مطموس، ولعله ما قدّرتُه.

على الله الفِرْيَةَ، والله تعالى يقول: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} (¬1) [النمل: 65]. والعلم المنفيّ في الآية والأحاديث هو العلم الذاتيّ، فلا يُنافي أنّ الله تعالى قد يُظهر الرسلَ على شيءٍ من الخَمْس وغيرها، فهذا القرآن مَلْآنُ بالإخبار عما سيكون يوم القيامة، وهو داخلٌ فيما سيكون في غدٍ. وأحاديثُ الشفاعة نصٌّ على أنه صلَّى الله عليه وآله وسلم أُعْلِم ببعض ما سيكون له يوم القيامة، وذلك داخل في قوله تعالى: {مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا}. والمراد بالعلم فيها العلم القطعيّ، فلا يُنافي هذا ظنّ نزول المطر وغيره، وظنّ صاحب الرؤيا والمحدَّث، وظنّ المنجّم والكاهن ومَن في معناهما. نعم إن الله تعالى لا يظهر أحدًا كائنًا مَن كان على كل شيءٍ من غيبه، بل الثابت إظهار الرسل على بعض الجزئيات بحسب ما تقتضيه الحكمة. [*7] والحاصل أن الأدلة على أنه صلَّى الله عليه وآله وسلم لم يكن مُظْهَرًا على جميع الغيب لا تُحصَى من الكتاب والسنة، وبذلك يتعيّن حمل قوله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "فتجلّى لي كلُّ شيء وعرفتُ ... " على الأشياء التي يختصم فيها الملأ الأعلى، كما يدلّ عليه السياق (¬2). ¬

_ (¬1) البخاري (3234) من طريق القاسم عن عائشة وليس فيه هذا اللفظ، ومسلم (177)، والترمذي (3068)، والنسائي في "الكبرى" (11468)، وأحمد (24227) كلهم من طريق مسروق عن عائشة. (¬2) انظر ما سبق (ص 318).

وهذا أولى من أن يقال: إن الله تعالى أظهره حينئذٍ على ما في السموات وما في الأرض ثم سَتَر ذلك عنه. وأولى من أن يُقال: إن هذا الإظهار كان في آخر عمره صلَّى الله عليه وآله وسلم، فلا يلزم عليه عدم الاحتياج إلى الوحي، ولا عدم التكليف بالدعاء، ولا غير ذلك من الأشياء؛ لأن راويه معاذ بن جبل رضي الله عنه خرج إلى اليمن قبل وفاة النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم بكثير. وسيأتي قريبًا ما يدلّ على أنه صلَّى الله عليه وآله وسلم لم يُظْهَر على جميع الغيب بعد موته، ومنه حديث "الصحيحين" (¬1) في ذكر الحوض، وفيه: أنه يقال له صلَّى الله عليه وآله وسلم: "إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك". [*8] وقد بقي حديثٌ آخر أخرجاه في "الصحيحين" (¬2) عن حذيفة قال: "قام فينا رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم مَقامًا ما ترك شيئًا يكون في مَقامه ذلك إلى قيام الساعة إلَّا حدَّث به، حَفِظه مَن حَفِظه، ونسيه مَن نسيه، قد عَلِمَه أصحابي هؤلاء، وإنه ليكون منه الشيء قد نسيتُه، فأراه فأذكره كما يذكر الرجلُ وجهَ الرجلِ إذا غاب عنه، ثم إذا رآه عرفه". والجواب عنه: أنَّ المراد ما ترك شيئًا من الأمور العظيمة والفتن الجسيمة، كما يدلُّ عليه حديث أبي داود (¬3) عن حذيفة قال: "والله ما أدري، ¬

_ (¬1) البخاري (4625)، ومسلم (2860) من حديث ابن عباس، وجاء من حديث أبي هريرة وأنس وابن مسعود رضي الله عنهم في الصحيحين وغيرهما. (¬2) مسلم (2891) وليس عند البخاري من حديث حذيفة، وهو عنده بنحوه من حديث عمر (3192). (¬3) (4243). وفي إسناده ضعف.

أنسي أصحابي أم تناسَوا؟ والله ما ترك رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم مِن قائدِ فتنةٍ إلى أن تنقضي الدنيا يبلغ مَن معه ثلثمائة فصاعدًا إلا قد سمَّاه لنا باسمه واسم أبيه واسم قبيلته". والحديث على كلِّ حال مشكل؛ أمَّا أولًا: فلأنَّ المقامَ الواحد، بل الأشْهُر لا تسع ذِكرَ كلِّ رئيس ثلثمائة فصاعدًا، فضلًا عن كلِّ شيء. والمعجزة ممكنة، والله على كل شيء قدير، ولكن ظاهر الأحاديث أنَّ ذلك جارٍ على مقتضى العادة. وأمَّا ثانيًا: فلأن الصحابة رضي الله عنهم وقعوا في فتن بعده صلَّى الله عليه وآله وسلم [*9] فما لهم لم يحفظوا ما قال صلَّى الله عليه وآله وسلم فيها، وربما حفظوا القليل. فإن قيل: لعلّ الله تعالى أنساهم عامَّةَ ذلك لِمَا سبق في حكمته، فقد بقي إشكال آخر، وهو أنه لا يظهر فائدة عظيمة للإخبار ثم الإنساء. فأما الإخبار ببعض الفتن وعدم إنسائه، ففيه فائدة لمن أدركها؛ يَسْتدلّ على الحقّ من الباطل. ثم إن إظهارهم على ما سيكون بهم تفصيلًا منافٍ للتكليف، كما دلّ عليه: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف: 188] كما مرَّ بيانه (¬1). والذي يترجَّح في معنى الحديث - والله أعلم - ما قدَّمناه: أن المراد من الأمور العِظام والفتن الجسام التي تهمُّ الإسلام، ويفزع لها الخاص والعام. ¬

_ (¬1) (ص 321).

وأما تقييده في حديث أبي داود برئيس ثلثمائة فصاعدًا، فلعلَّه قاله بناء على ظنِّه، كأنه - والله أعلم - رأى جماعةً كلَّهم رئيس ثلثمائة قد ذكرهم النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم فقاس على ذلك المذكورين إلى يوم القيامة. وفي هذا القياس نظر، فإن مقتضى الحكمة أن يذكر النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم الفتنَ الصغارَ التي تلي موته لأهميتها، ولا يقتضي أن يستقصي ذلك إلى يوم القيامة، بل يُكتفى بالأمور العامة. وقد روى مسلم (¬1) عن عَمرو بن أخْطَب الأنصاري، قال: "صلَّى بنا رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم يومًا الفجر، وصعد على المنبر، فخَطَبنا حتى حضرت الظهر فنزل فصلَّى، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر ثم نزل فصلى، ثم صعد المنبر حتى غربت الشمس فأخبرنا بما هو كائن إلى يوم القيامة". قال: "فأعلمُنا أحفظُنا". وهو في معنى حديث حذيفة، والكلام عليه مثلُه. وأنا مؤمن بأن الله عزَّ وجلَّ على كلِّ شيء قدير، وأن رسوله صلَّى الله عليه وآله وسلم أهلٌ لأن يكرمه الله بكل كرامة يمكن أن يُكرَم بها أحدٌ من عباد الله تعالى، فيُظهره على ما شاء من الغيب، ويطوي له الزمان حتَّى يتكلم في الساعة الكلامَ الذي لا تسعه إلا السنون العديدة وغير ذلك. وإنما اضطرَّني إلى التأويل الجمعُ بين الأدلة كما علمتَ، مع أن اتِّساع المعلومات الكونية ليس من الفضل المقصود للأنبياء عليهم السلام، فنفيُ شيء منه عنهم لا يُوهم نقصًا. ¬

_ (¬1) (2892).

وعلى كلِّ حال، فالحديثان لا يدلَّان على أنه صلَّى الله عليه وآله وسلم أُظهر على جميع الغيب؛ كيف والدنيا بما فيها ليست بالنسبة إلى الآخرة شيئًا ... (¬1)، والله أعلم، وهو حسبي ونعم الوكيل. **** ¬

_ (¬1) نحو ثلاث كلمات ذهب بأكثرها قطع في طرف الورقة.

[القسم الأول من الغيب]

[القسم الأول من الغيب] [ومما يَستدلّ به أهلُ الأرض على بعض الغيب من القسم الأول ولا يحصّل إلا الظن: الرؤيا. وفي "صحيح البخاري" (¬1) عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله] (¬2) [185] صلَّى الله عليه وآله وسلم: "الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءً من النبوّة". ولهما (¬3) [عن] (¬4) أبي هريرة قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "إذا اقترب الزمان لم تَكَد تكذب رؤيا المؤمن، ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوّة ... " الحديث. فيقال: إن تلك الطرق التي ذكرناها آنفًا ستٌّ وأربعون طريقًا، خمسٌ وأربعون منها خاصة بالأنبياء، وواحد يكون لغيرهم، وهي الرؤيا. والمراد برؤيا المؤمن في حديث أبي هريرة: رؤياه الصالحة، فقد تكون رؤياه غير صالحة، كما يُشير إليه قوله في أول الحديث: "لم تكد". وهذا يدل أن رؤيا المؤمن قد تكذب ولكن الغالب صدقها. ومما يصرّح بهذا: حديث "الصحيحين" (¬5) عن أبي قتادة قال: قال ¬

_ (¬1) (6989). (¬2) لم نعثر على أول الكلام في هذا المبحث المتعلّق بالرؤيا، فأضفت ما بين المعكوفين ليتم به السياق. وانظر (ص 341) وساق المؤلف هذا الحديث ضمن حُجج مَن يرى أن في الرؤيا دليلًا على علم الغيب، ويأتي جواب المؤلف بعده. تنبيه: في مجموع [4707] كلام على الرؤيا وتأويلها لكنه ناقص أصيبت بعض أوراقه بتلف بالغ، فأثبت ما ظهر منه في ملحق آخر الكتاب. (¬3) البخاري (7017)، ومسلم (2263). (¬4) خرم في طرف الورقة أتى على هذا الحرف. (¬5) البخاري (3292)، ومسلم (2261). واللفظ ساقه المؤلف من "المشكاة" (2/ 544).

رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "الرؤيا الصالحة مِن الله، والحُلُم من الشيطان، فإن رأى أحدُكم ما يحبّ فلا يحدِّث به إلا مَن يحبّ، وإذا رأى ما يكره فليتعوّذ بالله من شرِّها ومن شرِّ الشيطان، ولْيتفُل ثلاثًا، ولا يحدّث بها أحدًا فإنها لن تضرّه" اهـ. وقد قال قومٌ في معنى الستة والأربعين: أن مدّة نبوّة نبينا صلَّى الله عليه وآله وسلم كانت ثلاثًا وعشرين عامًا، فمنها ستة أشهر كان يرى الرؤيا الصالحة، ثم جاء الوحي فيما بعدها. ونِسْبةُ الستة الأشهر إلى الثلاثة وعشرين عامًا جزءٌ من ستة وأربعين. وهذه مناسبةٌ ظاهرُها حَسَن، ولكن عند التحقيق يترجّح ما بينّاه أولًا؛ وذلك أن مُدّة نبوّته صلَّى الله عليه وآله وسلم مختلَف فيها، ومدّة الرؤيا منها غير معلومة، ومع ذلك فلم تنقطع الرؤيا عنه صلَّى الله عليه وآله وسلم بعد أن جاءه صريحُ الوحي، بل مكثت إلى أن توفَّاه الله تعالى وهو يرى في نومه. وأيضًا الحديث جعل الرؤيا ظاهرةً بتقسيم أجزاء النبوة إلى ستة وأربعين، فما بينّاه سابقًا أقرب إلى لفظه. ثم رأيتُ بعضَهم (¬1) قال: "وذَكَر الحليميُّ أن الوحي كان يأتيه صلَّى الله عليه وآله وسلم على ستة وأربعين نوعًا، مثل النفث في الرُّوع، وتمثّل المَلَك له بصورة دحية مثلًا، وسماعه مثل صلصلة الجرس، إلى غير ذلك، ولذا قال صلَّى الله عليه وآله وسلم ما قال". اهـ ¬

_ (¬1) هو الآلوسي في "روح المعاني": (12/ 182). وكلام الحليمي في كتابه "شعب الإيمان"، ونقله الحافظ في "الفتح": (1/ 20).

قلت: وهذا - والحمد لله - هو الذي ظهر لي. ويؤيِّده أنه ورد في بعض الروايات: "من خمسة وأربعين" (¬1)، وفي أخرى: "من سبعين جزءًا" (¬2). ونَقَل (¬3) عن الحافظ ابن حجر أنه قال: إن كون الرؤيا الصالحة جزءًا من كذا من النبوّة= إنما هو باعتبار صِدْقها لا غير، وإلّا لساغ لصاحبها أن يسمّى نبيًّا، وليس كذلك. أقول: بتأمل ما تقدم يظهر أن المراد بالأجزاء: العلوم، لأن النبوّة [من] (¬4) حيث هي لا تتجزَّأ، [فلا] يقال: [بُعِث نبيّ وربع] ... ، فالأجزاء عبارة عن العلوم لا غير، والمعنى: أن الرؤيا عِلْمٌ من جُملة علوم النبوة. والله أعلم. [186] ثم اعْلَم أن الرؤيا تنقسم - كما قال ابن سيرين - إلى أقسام: حديث النفس، وتخويف الشيطان، وبُشرى من الله تعالى (¬5). وهذا الذي قاله ابنُ سيرين حقّ. أما حديث النفس، فلأننا نجد من أنفسنا كثيرًا أنّنا نكون في بعض الأيام نتكلّم في شيء أو نتفكّر أو نهتمّ في ¬

_ (¬1) في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في "صحيح مسلم" (2263). (¬2) في حديث ابن عمر رضي الله عنهما في "صحيح مسلم" (2265). (¬3) يعني الآلوسي في "روح المعاني". وكلام الحافظ في "فتح الباري": (1/ 20). (¬4) ما بين المعكوفات في هذه الفقرة تقدير لكلمات في طرف الورقة لم تظهر بتمامها وبقيت بعض آثارها. (¬5) هذا التقسيم لأنواع الرؤيا مذكور في حديث أبي هريرة في البخاري (7017)، ومسلم (2263)، وقد اختلف في رفعه ووقفه، ورجَّح البخاري الوقف. وقائلها هو أبو هريرة رضي الله عنه نقلها عنه محمَّد بن سيرين. وانظر "فتح الباري": (12/ 407).

شأنه، فإذا نمنا عقِب ذلك حلمنا بما يتعلّق به. أما تخويف الشيطان، فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة؛ ففي "الصحيحين" (¬1) عن أبي قتادة قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "الرؤيا الصالحة من الله والحلم من الشيطان .. " الحديث. وإنما سكت عن القسم الثالث وهو حديث النفس؛ لأنه لا بد أن يحضره إما الشيطان وإما الملك، فإن حضره الشيطان التحق بقسمه، وإن حضره الملك التحق بقسمه. وإذا كان كذلك فالرائي لا يقطع برؤياه أنها من قسم بعينه، ولا سيّما والرؤيا التي هي من الله تعالى قد تكون مُنْذرة، وإنما أُطلق عليها "المبشّرات" في الحديث السابق تغليبًا كما نُقل عن السيوطي؛ وعليه فلا سبيل للرائي إلى القطع بأنّ رؤياه من الله تعالى، وإنما معه الظن فقط، ومع ذلك فالرؤيا التي من الله تعالى تحتاج إلى تأويل وتعبير. وقد تقدم في المسألة الثانية (¬2) في الكلام على رؤيا النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم قوله تعالى: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ} [الأنفال: 43] فارجع إليها. وقصّ الله تعالى في كتابه رؤيا يوسف عليه السلام، وهي حقّ، وهي محتاجة إلى التعبير كما لا يخفى. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3292)، ومسلم (2261). (¬2) لم يتقدم شيء هنا، فهو مما فُقِد من هذه الرسالة. انظر أول هذا المبحث (ص 308)، ومقدمة التحقيق.

والأحاديث الصحيحة كثيرة في مرائي نبينا صلَّى الله عليه وآله وسلم، وأكثرها مؤوَّلة، منها: رؤياه الناس يُعْرَضون عليه وعليهم قُمُص، منها ما يبلغ الثُّديّ، ومنها ما دون ذلك، وعُرِض عليه عمر بن الخطاب وعليه قميص يجرُّه. وأوّل ذلك بالدِّين (¬1). وإذا كان في حقه صلَّى الله عليه وآله وسلم فكيف بغيره. وقد يكون التأويل بعيدًا، كمن رأى نفسه فرِحًا يُؤوّل بالحزن، لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص: 76]. وكمن رأى نفسه ذليلًا يؤوَّل بالعز؛ لقوله تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران: 123]. ولا سبيل إلى القطع في التأويل وإنما هو الظن. وهذا بالنسبة إلى ما تدل عليه الرؤيا من الإخبار عن الغيب، وأما بالنسبة إلى الصورة المرئية، فإن المرئي ليس هو عين الصورة الحقيقية، وإنما المرئي مثال تستخرجه المخيِّلة من الحافظة أو يصوّره الشيطان أو يمثِّله المَلَك، والمثال حينئذٍ حاضر بالنسبة إلى الروح، فإدراكها له من الإدراك للحاضر لا للغيب؛ لأن الغيب إنما هو عين الصورة الحقيقية، والمرئي إنما هو مثالها. فإن قلتَ: فقد ثبت في "الصحيحين" (¬2) عن أبي هريرة أن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: "مَنْ رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثَّل في صورتي". ومنها عن أبي قتادة قال: قال رسول صلَّى الله عليه وآله وسلم: "مَنْ رآني فقد رأى الحقّ" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (23، 7008)، ومسلم (2390) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (¬2) البخاري (110)، ومسلم (2266). (¬3) أخرجه البخاري (6996)، ومسلم (2267).

[187] قلت: تمثيل الصُّوَر في النوم قد يكون من حديث النفس، وقد يكون من الشيطان، وقد يكون من الملك. وحديث النفس لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يحضره الشيطان فيلتحق بقِسْمِه، وإما أن يحضره المَلك فيلتحق بقِسْمِه، فانحصر الحال في الاثنين. والدليل على أنه قد يكون من الشيطان قوله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "ولا يتمثَّل بي الشيطان". وكما أنه لا يتمثل به فإنه لا يحضر تحديث النفس بصورته، فما بقي إلا ما يكون بتمثيل الملك أو حضوره، وكلّه حقّ. ومما يدلُّ على تمثيل المَلَك: حديث "الصحيحين" (¬1) عن عائشة قالت: قال لي رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "أُريتك في المنام ثلاث ليالي، يجيء بك الملك في سَرَقةٍ من حرير، فقال لي: هذه امرأتك، فكشفتُ عن وجهك الثوبَ، فإذا أنتِ هي، فقلت: إن يكن هذا من عند الله يُمْضِه". وفي الكلام تقدير والتفات، والتقدير - والله أعلم -: أُريتُ صورتَك في المنام ثلاث ليالي، يجيء بها المَلكُ في سَرَقةٍ من حرير، فقال لي: هذه امرأتك، فكشفتُ عن وجهِ تلك الصورةِ الثوبَ، فإذا هي صورتك، أي التي أعرفها في اليقظة. وكان صلَّى الله عليه وآله وسلم يعرفها في بيت أبيها وهي صبيّة، ولهذا قال: "إن يكن هذا من عند الله يُمْضِه". والله أعلم. وعلى هذا [188] فإن رؤياه صلَّى الله عليه وآله وسلم لا تكون بتصوير الشيطان ولا حضوره، وإذا لم تكن كذلك فهي بتمثيل الملك بإذن الله تعالى ¬

_ (¬1) البخاري (3895)، ومسلم (2438).

أو حضوره. وهذا القسم هو الحق ليكون معنى قوله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "مَن رآني في المنام فقد رآني": مَن رأى صورتي في المنام فقد رأى مثالي الحقّ، كما يدلّ عليه قوله في حديث أبي قتادة: "من رآني فقد رأى الحق". ويحتمل أن يكون المراد بقوله: "فقد رآني" أنه سيراه يقَظَة يوم القيامة، كما يدل عليه حديث "الصحيحين" (¬1) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "مَنْ رآني في المنام فسيراني في اليقظة، ولا يتمثّل الشيطانُ بي". وبما قرّرْناه يتبيّن أن رؤياه صلَّى الله عليه وآله وسلم ليست من علم الغيب؛ لأن علم الغيب إنما هو ذاته صلَّى الله عليه وآله وسلم، فأمّا مثاله الذي يراه النائم فليس غيبًا، بل حاضر مُشاهَد للروح. ومثلُه رؤيا بعض المؤمنين لبعض، فإنها قد تكون حقًّا مع كونها ليست مِن علم الغيب في شيء (¬2). ومع كون رؤيانا له صلَّى الله عليه وآله وسلم حقًّا، فليس ما رأيناه يقولُه أو يفعلُه أو يُقرّ عليه حجة، واسْتُشْكِل هذا فقيل وقيل، والذي فتح الله به عليَّ هو: أن ذلك القول أو الفعل يحتاج إلى تعبير وتأويل، والتعبير والتأويل يحتمل وجوهًا كثيرة، حتى قد يكون تعبير الشيء ضدّه كما مرّ تمثيله (¬3). ¬

_ (¬1) البخاري (6993)، ومسلم (2266). (¬2) وضع المؤلف هنا علامة اللحق المعتادة لكنه لم يلحق شيئًا في الورقة. (¬3) (ص 332).

فإذا رأيتَه صلَّى الله عليه وآله وسلم يأمرك بشيء، فقد يكون تأويلُ الأمرِ النهيَ أو الإخبارَ بوقوعه، أو الأمرَ بشيء يعبّر به الشيء المرئيّ، أو غير ذلك من الاحتمالات التي لا تنحصر = لا جَرَمَ لم يصلح ذلك لاعتباره حجة. نعم، إذا رأيتَه يأمرك بشيء قد ثبت في كتاب الله تعالى أو السنةِ الصحيحة استحبابُه، فإنه يتأكّد لك استحباب ذلك الشيء، لترجُّح أن الأمر المرئيّ في النوم على ظاهره، ويشهد لهذا واقعة لابن عباس بسبب مذهبه في التمتع (¬1). [189] وهل المراد برؤياه صلَّى الله عليه وآله وسلم التي هي الحقّ رؤيا شخصٍ يتسمّى باسمه، أو يخبرَ الرائي بأنه هو، أو يقع في نفسه ذلك وإن لم يكن على صورته التي كان عليها في الدنيا؟ أو لا بد أن يكون على صورته التي كان عليها في الدنيا؟ أقول: ظاهر قوله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "فإن الشيطان لا يتمثّل في صورتي"، وقوله: "ولا يتمثل الشيطان بي" أنه لا بدَّ في تعيّن كون الرُّؤيا حقًّا أن يكون المرئي على صورته التي كان عليها في الدنيا صلَّى الله عليه وآله وسلم، فإن الشيطان إنما مُنِع من التمثّل به، ولم يُمنَع من انتحال اسمه. ¬

_ (¬1) "واقعة ... التمتع" كتبها المؤلف في طرة الورقة، والواقعة التي يشير إليها هي ما في "صحيح مسلم" (1242) عن أبي جمرة الضبعي قال: تمتّعتُ، فنهاني ناس عن ذلك فأتيت ابن عباس فسألته عن ذلك؟ فأمرني بها. ثم انطلقتُ إلى البيت فنمتُ، فأتاني آتٍ في منامي فقال: "عمرة متقبَّلة وحجٌّ مبرور". قال: فأتيت ابن عباس فأخبرته بالذي رأيت، فقال: "الله أكبر الله أكبر! سنّة أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم -".

فصل

فصل قد فهمت مما قدمناه أن الرؤيا إنما هي بحديث النفس أو تصوير الشيطان أو تمثيل المَلَك، وأن ذلك واقع لروح الرائي بدون مفارقتها الجسد. وفي المسألة مذهب آخر وهو أن الروح تفارق الجسد عند النوم، ثم تذهب حيث شاء الله تعالى من الكون، فربما شاهَدَتْ بعضَ الأشياء حقيقةً، وربما وقع لها التخييل والتمثيل من الشيطان أو من المَلَك. ويُستَدَلّ لهذا المذهب بقوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر: 42]. قالوا: فدلّت الآيةُ على أن الله تعالى يتوفّى نفسَ النائم كما يتوفّى نفسَ الميت، ثم يمسك ما قَضى عليها الموتَ من نفوس النائمين، ويرسل التي لما يَقْض عليها الموتَ عند إرادة اليقظة. هذا على كون ما بعد الفاء تفسيرًا للنائمة، فمعنى الآية {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَ} يتوفى {الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} أي: يتوفاها في منامها، ثم يقضي سبحانه وتعالى في النائمة بما أراد {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} أي: يحبسها عن العَود إلى الجسد فيموت {وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى} التي لم يَقْض عليها الموتَ بإعادتها إلى جسدها عند إرادة يقظته {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} وهو أجل انتهاء العمر، فإذا جاء الأجلُ توفّاها وأمسكها. والله أعلم (¬1). ¬

_ (¬1) انظر "الروح": (1/ 56 - 59)، و"مجموع الفتاوى": (5/ 451 - 453).

[190] وهذا التفسير هو الذي يؤيده حديث "الصحيحين" (¬1) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "إذا أوى أحدُكم إلى فراشه فلينفض فراشه بداخِلَةِ إزاره فإنه لا يدري ما خَلَفَه عليه، ثم يقول: باسمك ربي وضعتُ جنبي وبكَ أرفعُه، إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين". واستشْكِل هذا بأنّ الناعس لا يجد الألم الذي يجده المحتضِر، وأن النائم يبقى فيه النَّفَسُ والدمُ والحركة، وإذا حُرِّك أو سمع صوتًا انتبه، إلى غير ذلك. وأقرب الأجوبة من هذا: أن للروح بالجسد تعلُّقَين: الأول: تعلّقها به في اليقظة، وهو بوجودها فيه. الثاني: تعلّقها به عند النوم، وهو بقاء اتصالها به بآثار وأشعّة تتصل به منها، فبهذه الأشعة تبقى الحياة في الجسد، ثم إذا أراد الله تعالى إرسالها ردّها إلى جسدها فاستيقظ. وإذا أراد إمساكها أبْطَل تلك الصِّلة التي بينها وبين الجسد فمات. والألمُ الذي ينال المريض عند النَّزْع إنما هو لنزع الروح بجميع آثارها. وزعم بعضُهم أن الله تعالى جعل السبب في ذلك صلاح الجسد، فما دام الجسدُ صالحًا فهو لا يزال منتفعًا بالروح، إن حلَّت فيه حصل له الحياة واليقظة، وإن فارقته حصلت له الحياة بما يتصل به من أشعتها. فإذا أراد الله تعالى موت أحدٍ أفسد الجسدَ عن قبول الانتفاع بالروح، وإذا شرع الجسد في الفساد نشأ من ذلك المرضُ والنزاع، فإذا تمّ فسادُه فارقَتْه الروحُ ولا يزال ¬

_ (¬1) البخاري (6320)، ومسلم (2714).

لها اتصالٌ به، ولكن لا ينفعه ذلك بعد تمام فساده. فإذا أراد الله تعالى حياةَ ميتٍ أصلح جسدَه، فيصير قابلًا للانتفاع، فتُرَدُّ عليه روحُه. [191] والخلاف في هذا متشعّب، والذي أختارُه الوقفَ، وردّ العلم إلى الله تعالى، ولا سيما وهذا البحث متعلِّق بشؤون الروح، وقد قال الله تعالى لرسوله صلَّى الله عليه وآله وسلم: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85]. ولا دلالة فيما هو معروف في هذه الأعصار من التنويم المغناطيسي، وهو كما أخبرني بعضُهم: أن بعض السّحَرة يتسلّط على شخص يكون عنده حتى ينوّمه، ثم يقول: اذهب إلى محلّ كذا فانظر ما ثمّ هناك، ثم يصبر قليلًا فيتكلَّم النائمُ ويقول: هناك كذا وكذا إلخ = لاحتمال أن يكون الذاهب إلى ذلك المحلّ هو شيطان من الشياطين، ثم يرجع فيتكلّم على لسان النائم كما يتكلّم الشيطان على لسان المصروع. والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم. أعاذنا الله منه، وحفظنا من نزغاته. وقِس على هذا ما لعلّك تسمع به من أنواع السحر في التنويم المغناطيسي وغيره، كتحضير الأرواح والاجتماع لها، كما هو معروف في أخبار الصوفية، وقد شاع الآن في الرياضيين من النصارى وغيرهم، ولا يبعد أن يكون الحاضر إليهم هو قرين صاحب الروح؛ إذ مع كل إنسان قرين من الشياطين كما هو ثابت في "الصحيح" (¬1) وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى (¬2). ¬

_ (¬1) كما في حديث ابن مسعود في "صحيح مسلم" (2814): "ما منكم من أحدٍ إلا وقد وُكِل به قرينه من الجن ... " الحديث. في أحاديث أخرى. (¬2) (ص 425).

نعم، لو سُلِّم أن الروح تفارق الجسد في النوم وفي التنويم المغناطيسي وتذهب حتى تشاهد بعض الأشياء بحقائقها، فهذا لا يكون من الإظهار على الغيب، أما أوّلًا فلأنه ليس من الغيب بالنسبة إلى الروح. وأما ثانيًا فلأنه لا يحصل اليقين بأنها شاهَدَتْ ذلك الشيء حقيقةً؛ لاحتمال أن يكون اعترَضَها بعضُ الشياطين فخيّل لها. والوجه الأول متعيّن في رؤيانا لذات النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم إذا سلّمنا أنها قد تكون برؤية أرواحنا لروحه الشريفة مباشرةً، أي لا لمثالها فقط. والله أعلم. والروح في التنويم المغناطيسي كهي في النوم معرّضةٌ لتلاعب الشيطان بخلاف الإنسان في يقظته، فإنه محجوب عن الشياطين غالبًا، وإنما قلنا: غالبًا؛ لأنه قد يقع تصوّرهم له، ففي "صحيح مسلم" (¬1) عن ابن مسعود قال: إن الشيطان ليتمثَّل في صورة الرجل، فيأتي القومَ فيحدّثهم بالحديث من الكذب، فيتفرّقون فيقول الرجل منهم: سمعتُ رجلًا أعرفُ وجهه ولا أدري ما اسمه يحدث. [192] وفي "صحيح البخاري" (¬2) عن أبي هريرة قال: "وكَلَني رسولُ الله صلَّى الله عليه وآله وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آتٍ فجعل يحثو من الطعام، فأخذته وقلتُ: لأرفعنّك إلى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم، قال: إني محتاج وعَلَيَّ عِيال ولي حاجة شديدة، قال: فخلّيتُ عنه، ¬

_ (¬1) (7). (¬2) (2311).

فأصبحتُ، فقال النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم: "يا أبا هريرة ما فعل أسيرُكَ البارحة؟ " قلت: يا رسول الله شكا حاجةً شديدةً وعيالًا، فرحمتُه فخلّيتُ سبيلَه، قال: "أما إنه قد كذَبَك وسيعود .. " الحديث. فذكر أنه عاد الليلة الثانية والليلة الثالثة، وقال له في الثالثة: دعني أعلّمك كلمات ينفعك الله بها، إذا أويتَ إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} حتى تختم الآية، فإنك لا يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربنّك شيطان حتى تصبح، قال: فخلّيتُ سبيلَه، فأصبحت، فقال لي رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "ما فعل أسيرك البارحة؟ " قلت: زعم أنه يعلمني كلماتٍ ينفعني الله بها، [فخلّيتُ سبيلَه]، قال: "أمَا إنّه قد صَدَقك وهو كذوب. تعلمُ مَن تخاطب منذ ثلاث ليال؟ " قلت: لا، قال: "ذاك شيطان". ووقفتُ في اليمن في بعض كتب الزيدية على قصّة: أنه بعد أن توفي الإمام القاسم (¬1) - مؤسس الدولة القاسمية في اليمن - بمُدّة، خرج فقيهٌ من أصحابه فإذا هو بالإمام القاسم بعينه لا يشكّ فيه، ثم ذهب في البريّة وهو يراه في حالة اليقظة. وذلك الفقيه عاقلٌ لم يُجرّب عليه كذب، ولا عُرف في عقله شيء، فذهب وأخبر علماء الزيدية حينئذٍ، فأجابوا بأن ذلك شيطان تصوّر بصورة الإمام. والذي يظهر أن الله تعالى مانع الشياطين من التمثل بمثال الأحياء المعيّنين لئلّا تفسد المصالح، فأما التمثُّل بمثال إنسان مجهول كما في الحديثين، أو ميّت كما في القصة، فمن الممكن، إلّا النبي صلَّى الله عليه ¬

_ (¬1) هو القاسم بن محمَّد بن علي بن محمَّد المنصور بالله، من أئمة الزيدية (ت 1029). ترجمته في "البدر الطالع": (2/ 47 - 51)، و"الأعلام": (5/ 182).

وآله وسلم فإنه معصوم مِن تمثّل الشيطان به، ومثلُه في ذلك جميع الأنبياء. والله أعلم. [193] ومما يَستدلُّ به أهل الأرض على بعض الغيب من القسم الأول ولا يُحصِّل إلا الظن: التحديث. ففي "الصحيحين" (¬1) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "ولقد كان فيما قبلكم من الأمم محدَّثون، فإن يك في أمتي أحدٌ فإنه عمر". والمحدَّث هو الذي يُلقي المَلكُ في رُوعه بعض الخواطر، فيحصل له بذلك ظنُّ وقوع ذلك. وهذه الخواطر قد تكون من المَلَك، وقد تكون من الشيطان، ولكن المحدَّث يغلب في خواطره كونها من المَلَك، فتكون غالب ظنونه صادقة، ومع ذلك فهو لا يرتقي عن الظن في شيء من ذلك، أما في نفسه، فلأنَّه لا يزال عنده احتمال ما يخالف ذلك، وأما بالتجربة، فلأنّه لا يطّرِد الصدق، ولا يزال هناك احتمال أن يكون الخاطر من الشيطان؛ ولهذا لم يكن الصحابةُ يتخذون ظنَّ عمرَ حجةً ولا هو نفسُه، وقد ثبت تردّدُه في أشياء كثيرة، وخطؤه في مواضع: منها: قوله حين توفي رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم ما قال (¬2). ومنها: نهيه الناسَ عن التغالي في الصَداق ووعيده لمن زاد على خمسمائة ¬

_ (¬1) البخاري (3669 و3689) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ومسلم (2398) من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬2) يعني قول عمر رضي الله عنه: "والله ما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" كما في "صحيح البخاري" (3667).

درهم - فيما أظن - حتى ذكّرته إحدى المسلمات بقوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} [النساء: 20] , فقال: أصابت امرأةٌ وأخطأ عمر (¬1). ومنها: ما مرّ في الرسالة الأولى في كلام الشافعي رحمه الله (¬2). ومنها: نسيانه لقصّته مع عمّار في التيمّم، فذكّره عمار فلم يذكر (¬3). وإذا كان النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم جائزٌ عليه النسيان والخطأ في الاجتهاد فما بالك بغيره؟ إلا أنه صلَّى الله عليه وآله وسلم لا يُقرّ على الخطأ كما هو مقرَّر في أصول الفقه، وقد سبق ما يتعلّق به (¬4). ولم يكن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم يتخذ مجرَّد خاطرٍ يخطر له حجّةً، بل إذا اجتهد استند إلى دليل من كتاب الله تعالى أو مما سَبَق من الوحي. وقد سَبَق (¬5) حديث مسلم عن رافع بن خديج في تأبير النخل، وهو صريح في أن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم ظن النخل كبقيّة الشجر لا تحتاج إلى لقاح، فأخبرهم بأنه يظن ذلك قائلًا: "لعلكم ... " إلخ، ولم يأمرهم بتركه، وإنما تركوه من جهة أنفسهم، فلما نقصت وأخبروه قال لهم: ¬

_ (¬1) القصة أخرجها عبد الرزاق (6/ 180) من طريق أبي عبد الرحمن السلمي عن عمر رضي الله عنه، وأخرجها سعيد بن منصور: (1/ 166)، ومن طريقه البيهقي في "الكبرى": (7/ 233) من طريق مجالد عن الشعبي عن عمر. قال البيهقي: هذا منقطع. (¬2) (ص 100 - 101، 113). (¬3) أخرجه البخاري (338)، ومسلم (368). (¬4) لم نره فيما سبق. (¬5) لم نره فيما سبق، وسيأتي (ص 387) مع تخريجه.

"إنما أنا بشر ... " إلخ. والحاصل أن المَلك قد يتلقَّى الخبرَ من السماء بالصفة المذكورة آنفًا، أو يكون في الأرض فيخبره بعض الملائكة النازلين في السماء، فيذهب فيُلقي خاطرها في قلب المؤمن إلى آخر ما تقدّم. [194] والتحديث أضعف من الرؤيا الصادقة، ولذلك استثناها النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم في قوله: "لم يبق من النبوة إلا المبشّرات" (¬1) ولم يستثنه. وسبب ذلك - والله أعلم - أن الرؤيا الصادقة قريبة من المشاهدة لما فيها من قوة الإدراك بخلاف التحديث. ومما يستدلّ به أهل الأرض على بعض الغيب من القسم الأول، ولا يحصِّل إلا الظن الضعيف: الكهانة. قال الله سبحانه وتعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} [الشعراء: 221 - 223]. وقد مرّ حديث مسلم عن ابن عباس، ويفسِّره حديث البخاري (¬2) عن أبي هريرة أن نبيَّ الله صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: "إذا قضى الله الأمرَ في السماء ضربت الملائكةُ بأجنحتها خَضَعانًا لقوله كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فُزِّع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال: الحقَّ، وهو العليّ الكبير، فيسمعها مسترقو السمع، ومسترقو السمع هكذا بعضه فوق ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6990) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) (4800). أما حديث مسلم (2229) عن ابن عباس فلم يتقدم فيما وقفنا عليه من الرسالة.

بعض - ووصف سفيان بكفه فحرفها وبدَّد بين أصابعه - فيسمع الكلمة فيلقيها إلى مَن تحته، ثم يلقيها الآخر إلى مَن تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدرك الشهابُ قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مئة كذبة، فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا: كذا وكذا، فيُصدَّق بتلك الكلمة التي سُمعت من السماء". وفي "الصحيحين" (¬1) عن عائشة رضي الله عنها قالت: سأل أناسٌ رسولَ الله صلَّى الله عليه وآله وسلم عن الكُهَّان؟ فقال لهم رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "إنهم ليسوا بشيء"، قالوا: يا رسول الله، فإنهم يحدِّثون أحيانًا بالشيء يكون حقًّا، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "تلك الكلمة من الحق يخطفها الجنّي فيقرّها في أذن وليه قرَّ الدجاجة، فيخلطون فيها أكثر من مئة كذبة". فإن قلت: قد قررتم سابقًا (¬2) أنّ إخبار المَلك للبشر بالغيب من الإظهار على الغيب، وقرَّرتم أنه خاصّ بالرُّسُل، فما تقولون في سماع الجني لكلام الملائكة بالغيب؟ فالجواب: أننا قرّرنا فيما قرّرناه أن سماع بعضِ الملائكة من بعضٍ ليس من الإظهار على الغيب، بل هو كسماع عامة البشر من الأنبياء، بخلاف سماع البشر لخبر الغيب من الملائكة مع القَطْع بكونهم ملائكة، فإنه من الإظهار على الغيب الخاص بالأنبياء. وبقي الجنّ لم نبيِّن حكمهم فيما سبق، فقد يقال: إنهم أولى من عامّة ¬

_ (¬1) البخاري (6213)، ومسلم (2228). (¬2) (ص 324).

الإنس بعدم تلقّي الغيب من الملائكة؛ لأن الإنس أشرف منهم. وقد يُقَال بخلاف ذلك [195] بحُجّة أنهم من حيث الخِلْقة أقرب إلى الملائكة، فإنهم يرون الملائكة بدليل قوله تعالى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ} الآية [الأنفال: 48]، والملائكة يرونهم فلا يبعد أن يكون سماعهم لكلام الملائكة مما جرت به عادتهم، بل هذه الأحاديث حجة في كونهم يسمعون كلام الملائكة على مقتضى العادة والخِلْقة؛ فإن فيها أنهم يسمعون كلام الملائكة في السماء الدنيا، ونحن معشر البشر لا نسمع كلام الملائكة إلا إذا تمثلوا (لنا)، ومع هذا فقد دلّت الآيات والأحاديث على أن الله تعالى لا يمكِّنهم من سماع كلام الملائكة في السماء الدنيا، قال تعالى: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} [الشعراء: 210 - 212]. وقال تعالى: {لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات: 8 - 10]. إلا أنهم قد يسمعون الكلمة الواحدة، أي: بدون تمام المعنى، فيتخرّصون هم وأولياؤهم في المعنى المراد بها، ويركّبون من ذلك كلامًا طويلًا، والغالبُ كذبُه، وقد يوافق على سبيل الاتفاق. وإذا كَذَب وحَدَث حادثٌ يتعلّق بتلك الكلمة يخالف إخبار الكاهن تأوّل الناسُ خبره الأول بأنه رمز وإشارة إلى هذا الحادث وصدّقوه! والحاصل أنّ الجنّي إنما يسمع من الملائكة كلمة أو كلمتين لا يتمّ بهما

المعنى، فيتخرّص هو ووليُّه لتكميل المعنى، والغيبُ إنما هو المعنى التامّ لا الكلمة أو الكلمتين التي تتعلّق به من دون وفائها به، كما يُشير إلى ذلك قوله صلَّى الله عليه وآله وسلم لابن صيّاد: "قد خبَأْتُ لك خبيئًا فما هو؟ " وكان خبأ له قولَه تعالى: {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان: 10]، فقال ابن صياد: هو الدُّخ، فقال له النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم: "اخسأ فلن تعدوَ قدرَك" (¬1). مع أن هذا [إنما] يتعلق بالقسم الثاني [من أقسام العلم بالغيب] (¬2). وبهذا لم يصدق على ذلك الجني أنه تلقى عن الملائكة خبرًا من أخبار الغيب. ولو سلَّمنا جَدَلًا أنه قد يتلقَّى خبرًا تامًّا في النادر لَمَا كان مِنْ عِلْم الغيب، فإن الملائكة ليسوا غيبًا عن الجنّ، فإنهم يرونهم ويسمعون منهم بحسب خِلْقتهم، فلا يكون سماعهم لكلامهم بالغيب إظهارًا على الغيب كما في سماع عامة الملائكة لكلام الرسل منهم، فإن رُسُل الملائكة ليسوا غيبًا بالنسبة إلى الملائكة، وكما في سماع عامة الإنس لكلام رسلهم، فإن رسل الإنس ليسوا غيبًا بالنسبة إلى عامة الإنس، وكما في سماع الجن كلام الإنس، فإن الإنس ليسوا غيبًا بالنسبة إلى الجن [196] وكما في سماع الإنس لكلام الجن إذا تمثَّلوا بصورهم، وكما في سماع الإنس لكلام الملائكة إذا تمثَّلوا بهم. ولكن هذا الأخير لا يمكن بواسطته الاطلاع على الغيب [لأن] الملائكة لا تخبر غير الرسل بالغيب إلا بالتمثيل في الرؤيا والتحديث في القلب، بدليل قوله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "لم يبق من النبوّة إلا المبشرات" قالوا: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1354)، ومسلم (2924) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. (¬2) ما بين المعكوفات غير واضح في الأصل فلعله ما أثبت.

وما المبشرات؟ قال: "الرؤيا الصادقة ... ". ومرّ سابقًا (¬1) أن هذا لا ينافي حديث التحديث؛ لأن التحديث أضعف من الرؤيا فلم يَسْتَثْنِه. فأما مشافهة الملائكة للإنسان بالغيب يقظةً فإنه أقوى من الرؤيا، فالحديث المذكور دليل على عدمه أيضًا، فإن وقع لأحدٍ غير الأنبياء شيءٌ مما يشبه ذلك فليحذر، فإنما المخاطِبُ له شيطان. والله أعلم. وذلك أن الرائي لا يثق يكون الشخص المتمثِّل له ملكًا إلا أن يكون الرائي نبيًّا، فإن الله يسلك من بين يديه ومن خلفه رَصدًا، ويعصمه من تلبيس الشياطين عليه. وأما غير النبي فالظاهر إذا تمثَّل له شخصٌ على أنه مَلَك وخاطبه بالغيب، فهو شيطان كما مرّ دفع هذا (¬2)، فالأولى إطلاق الجواب الأول، وهو أنَّ الجنّ لا يُمَكَّنون من استيفاء خبرٍ تامٍّ عن الملائكة. وهكذا يقال في سماعهم لخبر الملائكة في الأرض: إن الله عَزَّ وَجَلَّ لا يُمكِّنهم منه إلّا ما كان من كلمة أو كلمتين، وذلك أن الملائكة إذا أرادوا أن يتكلّموا في الأرض بدأوا بطرد الشياطين حتى لا تسمع كلامهم أو غير ذلك مما لا نعلمه، والله على كل شيء قدير. (¬3) وكما أن الجني قد يتلقَّى تلك الكلمة باختطاف السمع من السماء فقد يتلقّاها باختطاف السمع من الملائكة في الأرض كما مرّ، وقد يتلقّاها ¬

_ (¬1) (ص 343). (¬2) (ص 345). (¬3) كتب المؤلف قبلها "رجع" يعني رجوعه إلى أصل البحث بعد الاستطراد.

من شيطانٍ آخر كما مرَّ في حديث البخاري (¬1)، وقد يتلقاها من كاهن أو منجِّم، أو طارق من الجنّ أو الإنس، وكل هذا إنما يكون في الكلمة التي لا تُفْهِم معنًى تامًّا، وإنما يقعُ التخرُّص من الجن وأوليائهم. والتخرُّصُ أكْذَب الظن. فليس في ذلك رائحة من الإظهار على الغيب. والله أعلم. وقد يتلقّى الجنيُّ الخبرَ التامَّ من القسم الأول من الغيب عن الإنس، بعد أن يصل إلى الإنسيّ بإحدى الطرق السابقة، والجنّي حينئذٍ كأحد عامة الإنس، فما أمْكَنَ أن يسمعه أحدُ عامة الإنس أمكن أن يسمعه الجنيُّ، فيحصل للجني العلمُ بسماع النبي من الإنس، وبسماع عدد التواتر منهم، وبقراءته لذلك الخبر في كتاب الله تعالى، ويحصل له الظن في غير ذلك، والتفصيل لا يخفى، ثم يتلقى الجنُّ بعضُهم عن بعض، وقد ينقل بعضُهم ذلك الخبر إلى بعض الإنس، وهلمّ جرًّا، والله أعلم. **** [197] ومما يستدلّ به أهلُ الأرض على بعض الغيب من القسم الأول، ولا يحصِّل إلا الظنَّ الضعيف: النظر في النجوم. وذلك أن بعض الناس يرصد هذه الكواكب وأوقات طلوعها وغروبها واقترانها ومقادير سيرها، ويحكمون على بعضها بالسعادة وبعضها بالنحس، وينسبون لكل كوكب محلًّا مخصوصًا من الأرض والأيام والساعات والمعادن والأعضاء والحروف والأحوال، كالحرب والنصر والهزيمة، والغنى والفقر، والزواج والفراق، والرُّخص والغَلاء، وغير ذلك. ويسندون ¬

_ (¬1) تقدم (ص 343 - 344).

ذلك للتجربة أو لمناسباتٍ وهمية، ويربطون ذلك باسم السائل واسم أمه والوقت الذي ولد فيه، إلى غير ذلك. ثم منهم مَن يزعم أن هذه الكواكب هي المدبِّرة للعالم، فكلّ جوهر أو عَرَض في الأرض مربوط بالكواكب، ويزعمون لها الحياة والعلم وغير ذلك من الصفات، وهؤلاء قسمان: قسم ينكر وجود الخالق جلّ وعلا، ويزعم أن هذه الكواكب هي المدبِّرة بمشيئتها، وهذا من أفحش أنواع الكفر، والعياذ بالله. والثاني: يعترف بوجود الخالق جلّ وعلا، ويزعمون أن هذه الكواكب مدبِّرة للعالم بإذنه تعالى، أي يجعلون لها قدرةً كقدرة الإنسان على ما يَقْدِر عليه من الأفعال. ومنهم مَن لا يعتقد للكواكب تدبيرًا ولا تصرفًا ولكنه يزعم أن الله تعالى أجرى العادةَ بوقوع الحوادث الأرضية على قاعدةٍ نسبية بينها وبين الكواكب. فإذا جاء السائل - مثلًا - في ساعة كذا من يوم كذا في إقليم كذا، وسأل عن كذا، وكان كوكب كذا في برج كذا، وكوكب كذا في برج كذا، وكان اسم السائل كذا واسمه أمه كذا ومولده كذا = فإنّ جوابه كذا. فيقولون: أجرى الله تعالى العادةَ أنه إذا اتفقت هذه الأشياء على هذه الكيفية كان ما أجابوا به. ولا نُطيل الكلامَ في هذا، فإن العاقل إذا تأمّل ما ذكروه من المناسبات علم أنها أمور خرافية! وإذا بحث في التاريخ عَلِم أن ما يدّعونه من التجربة وجَرَيان العادة باطل، وعَلِم أن الغالب في كلامهم الكذب [198] وإن فُرِض أنَّ كلامَ بعضهم صدق في واقعةٍ، فهي بالنسبة إلى الوقائع التي أُخْلِف قوله فيها كَلَا شيء. ولو أنّ إنسانًا جعل يحكي وقائع ستقع على سبيل الكذب

بدون نظرٍ في نجوم أو غيرها = لَمَا بَعُد أن يتفق وقوع بعض ما ذكره على سبيل الاتفاق و"مع الخواطئ سهم صائب" (¬1)! وقد أثبت أهل الأرصاد في هذه الأعصار اكتشافَ كواكبَ لم تُعْرَف من قبل، وأنه لا يزال يتجدَّد لهم الاكتشاف، بما يُعلَم معه أن ثَمَّ كواكب لا تزال مجهولة. فيقال للمنجّمين: إن هذه الكواكب التي اكتُشفت حديثًا وبعضها أكبر من الشمس - فيما يقول أهلُ الأرصاد - ما هو حكمها؟ والكواكبُ التي لا تزال مجهولة ما يدريكم ما حكمها؟ فقد يكون بعضها - على ما تزعمون - كونه نحسًا، فإذا اقْتَرَن بالسَّعْد قَلَبه نحسًا. وعلى هذا فربّما حكمتم بالسعد على ما نظرتم في الكواكب، ويكون هناك كوكب من المجهولة مقترنًا بها! والحاصل أن النظر في النجوم من أكذب الظن ولا يحصل به إلّا مجرد الاحتمال، وقد رُوي عن قتادة قال: خلق الله تعالى هذه النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجومًا للشياطين، وعلامات يُهتدى بها، فمَن تأوّل فيها بغير ذلك أخطأ وأضاع نصيبه وتكلَّف ما لا يعنيه، وما لا علم له به، وما عَجَز عن علمه الأنبياء والملائكة (¬2). ¬

_ (¬1) انظر "فصل المقال" (ص 43)، و"مجمع الأمثال": (3/ 273). (¬2) أثر قتادة أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب في النجوم، معلّقًا مجزومًا به، ووصله ابنُ جرير في "تفسيره": (14/ 193)، وابن أبي حاتم: (9/ 2913) وغيرهما، وفي ألفاظها اختلاف وزيادات، والنص الذي ذكره المؤلف نقله من "روح المعاني": (27/ 3)، وقد عزا الآلوسي لفظ "ما لا علم .... " إلى رزين. وانظر "جامع الأصول": (4/ 29).

[199] ومما يتعلّق بالنجوم: معرفة الأنواء. والأنواءُ جمع نَوء، وهو وقت سقوط الكواكب، جرت العادةُ أن المطر ينزل غالبًا في أوقات أنواءٍ معروفة، فيتوهّم الجاهل أنَّ لها دخلًا في سبب نزول المطر، والحقيقةُ غير ما توهَّموه؛ وذلك أن الأرض تكون محتاجةً إلى المطر في أوقاتٍ مخصوصة من السنة الشمسية، واتفق أن كانت تلك الأوقات في أوقات تلك الأنواء، وربُّنا سبحانه وتعالى عليم حكيم رحيم، ينزّل الغيث غالبًا في أوقات حاجة الأرض إليه رحمةً بعباده، فإذا رأى الجاهلُ أن الغيثَ ينزل غالبًا في أوقات تلك الأنواء ظنَّها هي السبب في نزوله. والمؤمن يعلم أن السبب في نزوله هو فضل الله ورحمته، وإنما يوافق نزول تلك الأنواء في غالب السنين؛ لأن الأرض تشتدُّ حاجتها إلى المطر في تلك الأوقات، فاقتضى فضل الله ورحمته إغاثتها في أوقات حاجتها، وليس للأنواء دخل في السببية. وقد اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى دفع هذا الوهم بتقديم نزول المطر على تلك الأنواء في بعض السنين، وتأخيره عنها، وعدمه أحيانًا، ولكنَّ كثيرًا منهم لم ينتفع بذلك بل أصرّ على ضلاله. وقد أخرج النسائي (¬1) بسنده إلى أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "لو أمسك الله القَطْرَ عن عباده خمس سنين ثم أرسله لأصبحت طائفةٌ كافرين يقولون: سُقينا بنَوءِ المِجْدَح". ¬

_ (¬1) (1526). وأخرجه أحمد (11042)، وابن حبان (6130) بلفظ "سبع سنين"، وأبو يعلى (1312) بلفظ "عشر سنين". وفي سنده عَتّاب بن حنين ذكره ابن حبان في "الثقات": (5/ 274)، وروى عنه اثنان.

وفي "الصحيحين" (¬1) عن زيد بن خالد الجهني قال: صلَّى لنا رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم صلاةَ الصبح بالحديبية على إثْرِ سماءٍ كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: "هل تدرون ماذا قال ربكم؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "قال: أصبحَ مِن عبادي مؤمنٌ بي وكافر، فأما مَن قال: مُطِرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب. وأما مَن قال: مُطِرْنا بنوءِ كذا وكذا، فذلك كافرٌ بي مؤمن بالكوكب". ولا يخفاك أنه لا سبيل إلى معرفة وقت نزول الغيث قبل نزوله، أما أولًا فلأنّ العادةَ غير مطّردة، بل كثيرًا ما يتقدَّم، وكثيرًا ما يتأخّر، وكثيرًا ما يخلف. وأما ثانيًا فلأنه إذا غلبت العادةُ بنزوله في أوقات مخصوصة من السنة الشمسية فالوقت الواحد منها يكون أيّامًا، فلا يُعلم في أيّ يوم منها وأيّ ساعة لاختلافِ ذلك. ولهذا كان وقت نزول الغيث مما لا يعلمه إلا الله تعالى، كما نصَّ عليه في كتابه. وإصابةُ الظنِّ في بعض الأوقات ليست علمًا. ونحو هذا يقال في هبوب الرياح وغير ذلك، والله أعلم. [200] مما يتعلّق بالنجوم: معرفةُ أحوالها المتعلّقة بذواتها، كأوقات طلوعها وغروبها، ومقادير سيرها، ومقادير أجرامها وارتفاعها، وخسوفها وكسوفها، وهو المعروف بعلم الهيئة. وقد تقدَّم أن معرفة ذلك ليست من علم الغيب في شيء؛ أما أولًا فلأنّ الخسوف - مثلًا - وإن كان غيبًا فالدلائل الجارية بالعادة المطَّرِدة ليست غيبًا، بل كل عاقل يمكنه أن يدركها. وهذا كعلمِ كلِّ أحدٍ إذا طلعت الشمسُ اليومَ أنها ستغرب بعد كذا وكذا ساعة، ¬

_ (¬1) البخاري (846)، ومسلم (71).

وستطلع مرةً ثانية بعد تمام أربعٍ وعشرين ساعة، وغير ذلك. وأما ثانيًا فلأنّه لا يمكن حصول العلم القطعيّ لإمكان أن يخرق الله تعالى العادة، كما في طلوع الشمس من مغربها، وغير ذلك. وعلى هذا المنوال يقال في سائر الأشياء التي اطّردت العادةُ بوقوعها، كتأثير السمّ، وإحراق النار، وغير ذلك، والله أعلم. **** ومما يستدلّ به أهلُ الأرض على بعض الغيب من القسم الأول ولا يحصِّل إلا الظن الضعيف: الخطّ في الرمل. وفي حديث مسلم (¬1) عن معاوية بن الحكم قال: قلتُ: يا رسول الله، أمورٌ كنّا نصنعها ... الحديث إلى أن قال: قلت: وههنا رجالٌ يخطّون خطًّا، قال: "كان نبيٌّ من الأنبياء يخط، فمَن وافق خطَّه فذاك". وهذا إذنٌ بالخطِّ بشرط موافقة خطِّ ذاك النبي، وموافقة خط ذاك النبي متعذِّرة، فالتعليق به تعليق بالمُحَال، فمعنى الكلام على هذا: إطلاق عدم الإذن. فإن قيل: فلعلّ هذا الخط المنقول عن المتقدِّمين موافقٌ لخطِّ ذاك النبي. فالجواب: أن هذا أمرٌ مشكوكٌ فيه، والمراد بالموافقة المعلَّق عليها الإذن: الموافقةُ يقينًا أو على الأقل بِظنٍّ يُعْمَل بمثله في الشرع، بل الموافقة منتفية يقينًا؛ لأن هذا الخط لو كان موافقًا لخطّ ذلك النبي لكان الغالب عليه ¬

_ (¬1) (537).

الصدق، والأمرُ بالعكس. وقد عُلِم أنّ الخط بالرمل لا يحصّل اليقين بل ولا الظنَّ الغالبَ، فليس من الاطلاع على الغيب في شيءٍ. والله أعلم. [201] ومن ذلك العَرافة، وهي عبارة عن الاستدلال بالأشياء التي تقارن وقتَ السؤال، من حال السائل والمسؤول، واسمه واسم المكان، وما يقع عند ذلك من كلام إنسان حاضر أو مرور حيوان، أو غير ذلك. ويدخل تحت هذا الفأل والطِيَرة. وفي حديث معاوية بن الحكم قال: كنا نتطيَّر، قال: "ذلك شيءٌ يجده أحدُكم في نفسه فلا يصدّنّكم". وفي "الصحيحين" (¬1) عن أبي هريرة قال: سمعت رسولَ الله صلَّى الله عليه وآله وسلم يقول: "لا طِيرَة، وخيرها الفأل" قالوا: وما الفأل؟ قال: "الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم". وأقول - والله أعلم -: إن الإنسان إذا أراد سفرًا - مثلًا - فَعَرض له شيءٌ مما يتعَرَّف (¬2) به؛ كأن يسمع رجلًا ينادي: يا محمود، يا سعيد، يا مبارك؛ أو يسمع رجلًا ينادي: من يشتري النحاس؟ أو نحو ذلك = فالظاهر أن ذلك مجرَّد اتفاق، ويحتمل أن يكون الله سبحانه وتعالى يسّر (¬3) المنادي يا محمود، يا سعيد، يا مبارك؛ تبشيرًا لذلك المسافر إذا كان مؤمنًا وكان سفره مباحًا. ويحتمل أن يكون الشيطان ساق ذلك المنادي بالنحاس ليُحْزن ذلك المسافر، والشرعُ يرشد إلى اعتقاد الظاهر الغالب، وهو أن ذلك موافقة فقط. ¬

_ (¬1) البخاري (5754)، ومسلم (2223). (¬2) غير محررة، ولعلها ما أثبت. (¬3) رسمها "يسره" ولعل الهاء مضروب عليها.

ولا يكره الفرح بالتفاؤل بنحو: يا مبارك، بتجويز أن يكون تبشيرًا من الله تعالى، فإنه مما يقوّي التوكّل على الله تعالى، بخلاف التفاؤل على غير هذا الوجه، بل باعتقاد التأثير لغير الله تعالى، فإنه شركٌ والعياذ بالله. وبخلاف التطيّر مطلقًا بنحو سماع: مَنْ يشتري النحاس؟ فإنه إن لم يكن مجرّد اتفاق فهو من الشيطان ولا شكّ، فالعمل به إنما يكون عن اعتقاد التأثير لغير الله تعالى، والعياذ بالله، ولذلك أطلقَ الشرعُ ذمّ الطِّيرة، وورد أنها من الشرك، وإنما قوله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "ذلك شيءٌ يجدونه في أنفسهم" [202] يدلّ أنّ مجرّد وجوده في النفس لا يضر. وهذا إذا كان مع اعتقاد أنه لا مؤثِّر إلا الله تعالى، فإن وجوده في النفس حينئذٍ يكون من وسوسة الشيطان المعفوّ عنها، كما في "الصحيحين" (¬1) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "إنّ الله تجاوز عن أمتي ما وسوست به صدورُها ما لم تعمل به أو تتكلّم". فأما إذا اعتقد الإنسان التأثير لغير الله تعالى فقد أشرك، وكذا إذا صدّه التطيّر عن عزمه، فإن هذا دليل اعتقاده ذلك، والعياذ بالله. والتفاؤل الذي لا بأس به هو ما اتفق من غير قصد، فأما ما يقصده الإنسان، كاستنطاق إنسانٍ آخر بقصد التفاؤل وغير ذلك= فهو حرام قطعًا، كإهاجة الطير وغيرها؛ لأنها تدلّ على اعتقاد التأثير، بخلاف مَن سمع شيئًا اتفاقًا ولم يصدّه عن التوكل، والله أعلم. ثم لا يخفى أن العَرافة مطلقًا لا تحصّل العلم بل ولا الظنّ الغالب، فليست من علم الغيب في شيءٍ. والله أعلم. ¬

_ (¬1) البخاري (2528)، ومسلم (127).

ومما يستدلّ به على ما ذُكر: الطّرْق بالحصى. وفي "سنن أبي داود" (¬1) عن قَطَن بن قبيصة عن أبيه أن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: "العيافة والطَّرْق والطِّيَرة من الجِبْت". قال في "المختار" (¬2): "الجِبْت كلمة تقع على الصنم والكاهن والساحر". وكأنها - والله أعلم - موضوعة للقَدْر المشترك، أي: للشيءِ الذي يعظِّمه الناسُ ويعتقدون فيه التأثير، وهو باطل. ولا يخفى أن دلالة الطَّرْق ليست إلا مجرّد تخرّص لا شُبْهَة فيها لعلمِ الغيب. والله أعلم. وقد حَدَث في القرون القريبة أشياءُ أخرى، كالتفاؤل بالقرآن (¬3)، وقد كنتُ أفعله، حتى فتحتُ المصحف في بعض الأيام، فإذا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} [المائدة: 101]، ففهمتُ من هذه الآية دليلًا على النهي الخاصّ عن التفاؤل بالقرآن، ومَن تأمل فيها عَرَف وجه الدلالة. ومنها التفاؤل بغير القرآن من الكتب، والقرعة المعروفة بقرعة الأنبياء، وقرعة الطيور، وسهم الغيب، وغير ذلك. وكلها داخلة تحت النهي عن الطيرة. وقد أرْشَدَنا الشرعُ إلى ما نفعله إذا أردنا أمرًا من الأمور، وهي الاستخارة. ¬

_ (¬1) (3907). وأخرجه أحمد (15915)، والنسائي في "الكبرى" (11043)، وابن حبان (6131) وغيرهم. (¬2) "مختار الصحاح" (ص 91). (¬3) قد وجد قبل ذلك، فقد ذكره ابن بطة وأنه فعله، انظر "مقدمة إبطال الحيل"، وذكره شيخ الإسلام ابن تيمية.

وتأمّل حكمةَ الشرعِ [203] كيف جعل الاستخارة هي عبارة عن دعاء الله تعالى: أنه إن علم أن ذلك الأمر خير للمستخير يسَّره له وإلا صَرَفه عنه، بخلاف زَجْر الطير والتفاؤل بالكتب وغيره، فإنها تُحَتِّم على صاحبها أن هذا الأمر بعينه خير، وهذا الأمر بعينه شرّ، فربما ظهر له المصلحة في ترك ذلك الفعل المزعوم أنه خير أو فِعْل ذلك الأمر المزعوم أنه شرّ، فيكون ذلك سببًا لهمّه وغمّه وحزنه وضعف توكّله؛ لوقوعه بين أمرين: بين ترجيح المصلحة الظاهرة، وترجيح ذلك التفاؤل. فالحمد لله الذي أرشدنا إلى ما فيه صلاحُ معاشِنا ومعادِنا، وراحةُ قلوبنا، ونجاتُنا مِن كلِّ همّ وغمّ وحَزَن، فالحمد لله رب العالمين. ***

[القسم الثاني من الغيب]

[القسم الثاني من الغيب] [204] وأما القسم الثاني من الغيب، وهو ما يكون غيبًا بالنسبة إلى بعض الخلق دون بعضهم، فهو ثلاثة أنواع: الأول: ما يختصّ بمشاهدته الملائكة، كما فوق السموات، فهذا يلتحق بالقسم الأول. ومِن هذا أحوال الموتى، كما يدلّ عليه حديث "الصحيحين" (¬1) في عذاب القبر، وفيه في ذِكْر الكافر: "فيصيح صيحةً يسمعها من يليه غير الثقلين". النوع الثاني: ما يختص بمشاهدته الجن، أي دون الإنس، وهذا يمكن الإنس الإطلاع عليه بإخبار الجن، كما سيأتي تفصيله. الثالث: ما يشاهده البشر، وهذا بالنسبة إلى من أدركه منهم ببعض الإدراكات المشتركة بين البشر مشاهَدٌ لا غيب، وبالنسبة إلى مَن لا يدركه غيب، فيكون الشيء الواحد غيبًا غير غيب، أي غيبًا بالنسبة إلى بعض البشر غير غيب بالنسبة إلى غيره، بل قد يكون الشيءُ غيبًا غير غيبٍ مع اتحاد الشخص، ولكن باعتبارين، بأن يكون غير غيب بالنسبة إلى إدراكه ببعض الحواسّ، غيبًا بالنسبة إلى إدراكه بحاسّةٍ أخرى، وذلك كالأعمى ونحوه يلمس بعض الأشياء، فإنه غير غيبٍ بالنسبة إلى لمسه، وغيبًا (¬2) بالنسبة إلى بصره. وهذا النوع إذا كان غيبًا فإن البشر يستدلّون عليه بأمور منها ما يحصّل ¬

_ (¬1) البخاري (1338)، ومسلم (2870) مختصرًا من حديث أنس رضي الله عنه. (¬2) كذا، والوجه "وغيبٌ".

العلم، وهو إظهار الله تعالى للأنبياء وإخبار الأنبياء لأصحابهم، ونَقْل عدد التواتر من أصحابهم، ونقل عدد التواتر ممن شاهد ذلك الشيء. ومنها ما لا يُحصِّل العلم، وهو الرؤيا والتحديث، بأن يُعْلِمه المَلَك بالطريقة المذكورة في القسم الأول، أو يشاهده بنفسه، فيحدِّث به في قلب المؤمن على نحو ما مرّ (¬1). ومنها الكَهَانة، وقد مرَّت حقيقتُها في القسم الأول (¬2)، ولكنها ها هنا تتوسّع؛ لأن الجنّ متمكِّنون من مشاهدة الحوادث الأرضية، ومِن قَطْعِ المسافات البعيدة في المدّة القصيرة، قال الله تعالى: {قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} [النمل: 39]. وكَذِبُهم وكَذِبُ الكهّان إنما هو في القسم الأول لاحتياجهم إلى الكذب, لأنهم لا يتحصّلون بعد المخاطرة وهلاك كثير منهم إلّا على بعض الكلمات التي لا تفي بالمعنى، فيتخرَّصون الكذب لإتمام المعنى. [205] فأما في الحوادث الأرضية فلا داعي لهم إلى الكذب، ولا سيَّما إذا علموا أنّ وليَّهم الإنسيَّ إذا كَثُر صدقُه في الإخبار عن الحوادث البعيدة اعتقد الناسُ فيه العقائد الزائفة، فإن الشياطين يحرصون حينئذٍ على صدق الحديث بمقدار حرصهم على إضلال الناس. ويمكنهم اطلاع الشياطين على الحوادث الأرضية بالمشاهدة وبالسماع من الجن ومن الإنس ممن شاهد ذلك أو سمع به أو ظنه بطريقٍ من طرق ¬

_ (¬1) (ص 330 و341). (¬2) (ص 343).

الظن وغير ذلك. وإلقائهم للإنس على قسمين: فمن كان متصلًا بهم شافهوه مشافهةً، ومَن لم يكن كذلك وسوسوا بها في نفسه. وربما وَسْوَس الشيطان في نفس الإنسان بشيءٍ ثم ذهب إلى إنسان آخر فوسوس بذلك الشيء عينه، ومن هنا يقع كثيرًا أنه إذا تثاءب شخص تثاءب من بجنبه، وذلك أن التثاؤب من الشيطان كما في الحديث (¬1). وربما وسوس الشيطان في صدر إنسان ثم أخبر وليّه - أو (¬2) وسوس في نفسه - أن ذلك الإنسان يقول في نفسه كذا وكذا - ذلك الآخر الذي وسوس له به - فيقول الوليّ لذلك الإنسان: إنك تقول في نفسك كذا وكذا! وربما تناولت الشياطين الإخبار، وقس على هذا. وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه خَطَر في نفسه بعض الأيام أن يتزوّج بعضَ النساء، فلم يكلِّم بذلك أحدًا، ثم خرج إلى السوق، فإذا الخبر شائع بين الناس: أن أمير المؤمنين يريد أن يتزوج فلانة، فقال: هذا الخنّاس (¬3). وبهذه المناسبة أقول: إنه قد تقع لي بعضُ الخواطر فتصدُق وأنا أزِنها بميزان الشرع، فما كان ظاهره الخير رجوتُ أن يكون من المَلك، وما كان ظاهره الشرُّ خشيتُ أن يكون من الشيطان. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3289) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) تحتمل: "أي". (¬3) لم أعثر عليه.

ومن ذلك أني كنت سنة 35 (¬1) ببلدتي "عُتمة" بمركزها المعروف بـ "الربوع"، وأنا إذ ذاك أكتب لحاكمها السيّد محمَّد بن علي الذّاري (¬2)، وكان قد أرسل رسولًا إلى الإمام يحيى بن محمَّد، فأبطأ الرسول. وبينا أنا يومًا جالس أمام القلعة خَطَر لي أن ذلك الرسول الذي ينتظره سيمرّ حينئذٍ من تحت القلعة، فصوّبت نظري إلى تحت القلعة؛ وإذا بذلك الرجل مارًّا من ذلك المكان. والذي يهمّنا من هذا أن رؤية الإنسيّ للجنيّ وسماعه لكلامه إنما يكون إذا تمثّل الجني بصورةٍ غير صورته الأصلية، قال الله تعالى في إبليس عليه اللعنة: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: 27]، فمشاهدة الإنسي للجني بعد تمثّله بغير صورته ليست من الاطلاع على الغيب، وكذلك سماعه لكلامه، وكذلك الاستفادة من كلامه عن حال بعض الحوادث الأرضية ليس من الاطلاع على الغيب، كما في خبر الإنسي للإنسي. ومع هذا كله فالجنّ مغرمون بالكذب، ولا يمكن بلوغ خبرهم حدَّ التواتر، فلا يحصل بخبرهم القطع، ولو حصل لم يكن من الاطلاع على الغيب المنفيّ في الآيتين، والله أعلم. [206] ومما يُستدلّ به في هذا النوع: النظر في النجوم والعَرافة والطَّرْق والخطّ والتنويم المغناطيسي، وغير ذلك مما مرّ، وحكمُه ما مرّ في القسم الأول (¬3). ¬

_ (¬1) أي (1335 هـ). (¬2) (ت 1344 هـ). ترجمته في "هجر العلم": (2/ 661)، و"نزهة النظر" (ص 569). (¬3) (ص 343 - 357).

نعم، ربما أعانت الشياطين أصحاب تلك الطرق مع تمكّنها من معرفة الحوادث الأرضية كما مرّ، فيكثر صدقُهم، وعلى كلًّ فإنَّ شيئًا من ذلك لا يحصّل العلم، والله أعلم. ومما يدخل في هذا الباب ما يُؤثَر عن أهل الرياضات كالإشراقيين من الفلاسفة، والبراهمة في الهند، وبعض المتصوّفة من المسلمين ونحوهم، وذلك أنهم يعالجون أنفسهم بالجوع والسهر والبعد عن الناس، وغير ذلك، فيزعمون أنه يبلغ بهم ذلك مراتب؛ أدناها: سرعةُ الفهم للأشياء الغامضة ونحو ذلك، وأعلاها عند الإشراقيين - من (¬1) أدناها عند المتصوّفة -: تَمَكُّنُ أرواحِهم مِن الاطّلاع على بعض الحوادث الكونية، كما يُحكى أن الإشراقيين من أصحاب أفلاطون كانوا يقفون بمكان بعيدٍ عن مكانه ثم يتلقُّون منه الحكمة بخواطرهم، ومثل هذا كثير من حكايات المتصوّفة. والذي أراه في هذا: أنه إن كان مع نومهم فهو نوعٌ من الرؤيا، غايةُ الأمر أنهم لما كانت أنفسهم متعلّقة بمعرفة الحكمة كلَّ التعلُّق صارت تحدِّثهم في النوم بما هي مشغولة به، فربما توصّلت بذلك إلى تسلسل النظر ومعرفة بعض الحقائق. ومثل هذا يقع لكثير من الناس، وما مِنّا أحدٌ إلا وقد يجد نحو ذلك من نفسه في بعض الأحيان، فإني أيّام تعلُّقي بقرض الشعر كنت كثيرًا ما أرى في النوم أني نظمتُ البيتَ أو البيتين أو الثلاثة فصاعدًا، وربما أسْتَيقظُ وأنا ذاكر لذلك. وأيام تعلُّقي بتأليف هذه الرسالة كثيرًا ما أرى في النوم أني أنظر في بعض مسائلها وأراجع الكتب وغير ذلك. ¬

_ (¬1) كلمة غير محررة ولعلها ما أثبت.

وإن كانوا يزعمون أن ذلك في حال يقظتهم كما هو ظاهر كلام بعضهم وصريح كلام آخرين، فقد ذكروا أن سببه هو أن الإنسان إذا استعمل الرياضة ضعف جسدُه حتى يصير شبيهًا بجسد النائم، فيتأتّى له حينئذٍ في اليقظة ما يتأتّى له في النوم، فيرى صورَ الأشياء لكن لا بعينيه الشحميَّتين بل بالقوّة التي يرى بها في النوم، وهكذا السماع وغيره بحيث يُطبق عينيه فلا تمتنع الرؤية، ويسدّ أُذنيه فلا يمتنع السماع، ونحو ذلك (¬1). وهذا - إنْ حسّنّا العبارة - نوعٌ من الرُّؤيا، أوَ لا ترى أنك إذا أردت تخيّل صورة شيءٍ غائب ثم أطبقت عينيك كان التخيُّل أقوى مما إذا فتحتهما، وذلك لأنّ في إطباقهما تفريغًا للنفس من الاشتغال بالمحسوسات. وبهذا يعلم أنه كلما ازداد الإنسان بعدًا عن الاشتغال بالمحسوسات صار أقوى تخيُّلًا كما في النوم. فمِنْ أعمال الجن: يُخيِّلون للإنسان المرئيات والمسموعات ويوسوسون في خاطره ببعض الوقائع كما مرّ. والرياضة هي السبب الوحيد لموالاة الجن والشياطين والاستعانة بهم كما هو معروف عند الوثنيين. [206 ب] وفي كلامٍ لابن عربي نقله الآلوسي في بعض كتبه (¬2) قال: "لله تعالى ملَك موكّل بالرؤيا يسمى (الروح) وهو دون السماء الدنيا، بيده صور الأجساد التي يدرك فيها النائم نفسه وغيره، وصور ما يحدث من تلك الصور ¬

_ (¬1) عدة كلمات ذهبت أوائلها لمجيئها في طرف الورقة. ولعلها ما اجتهدت في إثباته. (¬2) لعله في رحلته "غرائب الاغتراب". وكلام ابن عربي في "الفتوحات المكية": (2/ 6).

من الأكوان، فإذا نام الإنسان أو كان صاحب غَيبةٍ وفناء، أو قوة إدراك لا تحجبه المحسوساتُ في يقظته عن إدراك ما بيد هذا الملك من الصور، فيدرك ما يدركه النائم، لأنّ اللطيفة الإنسانية تنتقل بقواها من حضرة المحسوسات إلى حضرة الخيال المتَّصل بها الذي محلّه مُقدَّم الدماغ، فيفيض عليها ذلك الروح الموكل بالصور من الخيال المنفصل عن الإذن الإلهي ما يشاء الحق أن يريه لهذا النائم أو الغائب ومَنْ ذُكِر معه من المعاني متجسِّدَةً في الصور التي بيد هذا المَلك، فمنها ما يتعلَّق بالله تعالى وما يوصَف به من الأسماء، فيدرك الحق في صورة أو القرآن أو العلم أو الرسول الذي هو على شرعه، فهنا يحدث للرائي ثلاث مراتب: أحدها: أن تكون [الصورة] (¬1) المدْرَكة راجعة للمرئي بالنظر إلى منزلةٍ ما من منازله وصفاته الراجعة إليه، فتلك رؤيا الأمر على ما هو عليه بما يرجع إليه. الثانية: أن تكون الصورة المرئية راجعة إلى حال الرائي في نفسه. الثالثة: أن تكون راجعةً إلى الحقِّ المشروع والناموس الموضوع، أيِّ ناموسٍ كان في تلك البقعة التي ترى تلك الصورة فيها، وفي ولاة أمر ذلك الإقليم القائمين بناموسه. وما ثَمَّ رتبة رابعة. فالأولى حسنةٌ كاملة لا تتصف بقبح ولا نقص، والأخيرتان قد تظهر الصورة فيهما بحسب الأحوال من حُسْن وقُبْح ونَقْص وكَمَال. فإن كان من تلك [الصورة] خطابٌ فهو بحسب ما يكون الخطاب، وبقَدْر ما يَفْهَم منه في رؤياه، ولا يعوِّل على التعبير في ذلك بعد الرجوع إلى عالم الحس إلا إذا ¬

_ (¬1) ما بين المعكوفين هنا وما بعده مستدرك من "الفتوحات" لابن عربي.

كان عالمًا بالتعبير أو يسأل عالمًا به. وينظر حركة الرائي مع تلك الصورة مِن أدبٍ واحترام وغير ذلك، بحسب ما يصدر منه من معاملته لتلك الصورة، فإنها صورة حقّ من كل وجه، وقد يشاهد الروح الذي بيده هذه الصورة وقد لا [يشاهده]. وما عدا هذه الصورة فليست إلا من الشيطان أو مما يحدِّث المرءُ به نفسَه في يقظته، فلا يعوُّل عليها، ومع ذلك إذا عُبِّرَت كان لها حُكم ولا بدّ، ويحدث لها ذلك من قوة تعبير المُعَبِّر لا من نفسها ... " إلخ. والذي يتلخّص منه: أنّ ما يقع للمرتاضين من الصوفية وغيرهم في بعضهم هو من قبيل الرؤيا بأقسامها، مِن صادق وكاذب ومحتاج إلى التأويل وغيره. وتعيين الصادقة من الكاذبة، والصريحة من المؤوّلة، وتعيين التأويل = كلُّ ذلك مجرّد حَدْس وتخمين لا يحصل به الظن المعمول به شرعًا فضلًا عن اليقين. قال الآلوسي (¬1): وقال غير واحدٍ من المتفلسفة: هي انطباع الصورة المنحدرة من أفق المتخيّلة إلى الحس المشترك. والصادقةُ منها إنما تكون باتصال النفس بالملكوت لما بينهما من التناسب عند فراغها من تدبير البدن أدنى فراغ، فيتصوّر بما فيها مما يليق بها من المعاني الحاصلة هناك. ثم إن المتخيّلة تحاكيه بصورة تناسبه، فترسلها على الحس المشترك، فتصير مشاهَدَةً، ثم إن كانت شديدةَ المناسبة لذلك المعنى بحيث لا يكون التفاوت إلا بالكلية والجزئية استغنت عن التعبير وإلّا احتاجت إليه. ¬

_ (¬1) في "روح المعاني": (12/ 181 - 182). وقوله: "هي انطباع الصورة ... وإلّا احتاجت إليه" هو نص كلام البيضاوي في تفسيره: (3/ 274).

والفرق بين المحتاجة وغيرها عسر جدًّا (¬1). وذكر بعض أكابر السادة الصوفية ما يقرب من هذا، وهو: أن الرؤيا من أحكامها: حضرة المثال المقيد المسمّى بالخيال، وهو قد يتأثّر من العقول السماوية والنفوس الناطقة المدركة للمعاني الكلية والجزئية، فيظهر فيه صور مناسبة لتلك المعاني، وقد يتأثر من القوى الوهمية المدركة للمعاني الجزئية فقط، فتظهر فيه صور تناسبها، وهذا قد يكون بسبب سوء مزاج الدّماغ، وقد يكون بسبب توجُّه النفس بالقوّة الو همية إلى إيجاد صورةٍ من الصور، كمن يتخيّل صورةَ محبوبه الغائب عنه تخيّلًا قويًّا، فتظهر صورته في خياله فيشاهده (¬2) ... إلخ. [207] ومن هذا ما ذكره بعضُ المتصوِّفة: أنهم يرون النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم يَقَظَةً، وهم إذا أرادوا أن يُرَبُّوا المريد إلى نيل هذه الدرجة يأمرونه بالرياضة الشاقة، فيواصل الصومَ المدّةَ الطويلة ويختلي عن الناس، وأن يفرغ فكره عن كل شيءٍ، ثم يستعمل الصلاةَ على النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم، ويكلِّف نفسَه تخيّل ذات النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم كما هو منعوت في "الشمائل الترمذية" وغيرها، ويداوم على هذا = فإنه يرى النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم يَقَظةً. وقد عرفتَ رأيي في هذا مما مرَّ. فإن قيل: فقد ثبت عنه صلَّى الله عليه وآله وسلم أن الشيطان لا يتمثّل به (¬3). ¬

_ (¬1) هذه العبارة ليست من كلام الآلوسي، فلعلَّها تعليق من المؤلف. (¬2) إلى هنا ينتهي كلام الآلوسي. (¬3) سبق تخريجه.

قلت: ونحن لم نقل إنه تمثّل به، وإنما قلنا: إنّ قوّة التخيّل تبلغ بالإنسان أن يرى في اليقظة ما يراه في النوم، كما أنّ قوّة التخيّل قد توهم الإنسان أنه رأى بعينيه الشحميَّتين ما لم يره، ويسمع بأذنيه ما لم يسمعه، ويلمس ببعض أعضائه ما لم يلمسه، كمن يتراءى الهلال ليلة الثلاثين، ويطيلُ النظرَ، فإنه يتخيّل أنه رأى الهلال، ولكنه لا يلبث أن يزول، فيذهب بعضُ الجهّال يشهد برؤية الهلال. وأما مَن يعرف السبب فإنه لا يعتبر تلك الخَطْفة حتَّى تثبت الرؤية. ولا يبعد أنه إذا قوي التخيّل، ولا سيّما مع الرياضة والتفرُّغ والتخلَّي عن الناس = يبلغ الإنسان إلى حدٍّ أعظم من هذا، فيظنّه قد رآى وتثبّت. وقد مرّ في المنقول عن الآلوسي ما يفيده. وأما في تخيّل غير ذات النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم، فإنهم معرّضون لتلاعب الشياطين - والعياذ بالله - في حواسهم الباطنة والظاهرة برياضةٍ أو بدونها، وعُقلاؤهم عارفون بهذا ولكنهم يرون أن اشتغال المريد بأوصاف النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم إلى حدّ استحضارها تمامًا بحيث يصير يراها في النوم، ويراها برؤيا المثال في اليَقَظة = مزية عظيمة وفائدة كبيرة، ومع ذلك فإنهم لا يزالون يرشدون كلَّ من سلك طريقهم أن يعرض كل ما ظهر له من الأفهام على كتاب الله تعالى وسنة رسوله، أي بدلالتيهما التي اعتبرها الشرع، فإن كان موافقًا عمل به، وإن كان مخالفًا حَذِره، وإن لم يعلم موافقته ولا مخالفته وَقَف، فينزِّلون الكشفَ منزلةَ الرؤيا، وهم في هذا مصيبون، وإنما خطؤهم من حيث مخالفتُهم لذلك أحيانًا، ومن حيث سلوكُهم طريقًا غير الطريق التي أمر الله تعالى بها ورسولُه، ولزمها الصحابةُ

والتابعون وتابعوهم، فلم يكن فيهم أحدٌ يخالف الشرعَ فيعمل بعمل هؤلاء القوم ويزعم ما يزعمونه، ويغترّ بما اغترّوا به. فالشريعة تنهى عن الوصال في الصيام ولو يومين (¬1)، بل ورد في "الصحيح" (¬2) الأمر بالسحور وتعجيل الفطور. ومن حكمة ذلك - والله أعلم - أن لا تطول مدّة الإمساك. [208] وثبت في "الصحيح" (¬3) النهي عن صوم الدهر. وثبت في "الصحيح" (¬4) النهي عن سَهَر أكثر الليل، وثبت فيه (¬5) النهي عن الترهّب وغير ذلك. والحاصلُ أن الشرع اختار أوساط الأمور، وخيرُ الأمور أوساطها. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1962)، ومسلم (1102) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. (¬2) تعجيل الفطر أخرجه البخاري (1957)، ومسلم (1098) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه، وتأخير السحور أخرجه البخاري (1920) من حديثه أيضًا، وأخرجه مسلم (1094) من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه. (¬3) أخرج البخاري (5063) حديث الثلاثة الذين تقالّوا عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفيهم من قال: "أنا أصوم الدهر ... " الحديث. وأخرج مسلم (1162) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كيف بمَن يصوم الدهر؟ فقال: "لا صام ولا أفطر ... " الحديث. (¬4) كما في حديث أبي برزه الأسلمي رضي الله عنه في البخاري (547)، ومسلم (647): "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤخر العشاء إلى ثلث الليل ويكره النوم قبلها والحديث بعدها ... ". (¬5) في البخاري (5073)، ومسلم (1402) عن سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ردّ على عثمان بن مظعون التّبَتُّل ... وجاء في "مسند أحمد" (25893) وابن حبان (9) قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعثمان بن مظعون: "يا عثمان إن الرهبانية لم تُكتب علينا ... " الحديث.

والكلامُ في هذا يطول، ولكن حسبك أن ربّنا سبحانه وتعالى هو الذي بيده الخير كلّه، وإليه يُرجع الأمر كلُّه، وهو الرزَّاق لخيرات الدنيا من مالٍ وعلمٍ وفهم وغيره، ولخيرات الآخرة. فمن كان يطلب ما هو خير له في دينه ودنياه معًا، فليعلم أن ذلك لا يتأتّى له إلا برضوان الله، ورضوانُ الله لا يتأتّى إلا بطاعته، وطاعتُه هي التزام ما ورد في كتابه وسنة رسوله، وليحذر أن يخالف ذلك أو يشرع من عنده ما لم يأذن به الله في كتابه أو على لسان رسوله، فيبوءُ بالخسران. ومَن كان يطلب ما هو خير له في دنياه فقط فهو وما تولّى، وما أحراه أن يخسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين. {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201]، يا مقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك، واهدني لما اخْتُلِف فيه من الحقّ بإذنك، وارض عني رضًا لا سخط بعده، بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين. ***

خاتمة

خاتمة قد أتينا بحمد الله تعالى في هذا الفصل على جُلِّ أو كُلِّ الطرق التي يُستدلّ بها على المغيّبات، وبقي الكشف الذي يدّعيه الصوفية، وهو لا يخرج عما ذكرنا، وهو محتملٌ لأن يكون من الرؤيا أو حديث النفس أو التحديث، وأن يكون من تلاعب الشياطين والعياذ بالله. وهم معترفون بهذا، فتسمعهم يقولون: "كشف رحماني، كشف شيطاني"، "خاطر روحاني، خاطر شيطاني". والتمييز بالرجوع إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله. ومن ذلك رؤيتهم لمن يظنونه أو يزعم أنه مَلَك، وسماع كلام من يظنونه أو يزعم أنه ملك. وقد سبق (¬1) أنهم يقولون: إنه لا يجتمع لهم الرؤية والسماع معًا، وإنما يرون ولا يسمعون، أو يسمعون ولا يرون. وهذا كسائر أنواع الكشف على كلِّ حال لا يُحصِّل اليقين، ولا يحصل به إلا بعض الظنّ، فتبيَّن أنه ليس فيه ولا في غيره من تلك الأمور ما يُعدّ إظهارًا على الغيب لغير الرسل. والحمد لله رب العالمين. ... ¬

_ (¬1) (ص 363).

[الكلام في حجية الإلهام وهل هو من الإظهار على الغيب؟]

[الكلام في حجية الإلهام وهل هو من الإظهار على الغيب؟] [209] وقد ذكر الشوكاني في "إرشاد الفحول" (¬1) دعوى بعض المتصوّفة حجيَّةَ الإلهام، قال: "واحتجَّ بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29] أي: ما تفرّقون به بين الحق والباطل، وقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] أي: عن كل ما يلتبس على غيره وجهُ الحكم فيه. وقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 282]. فهذه العلوم الدينية تحصُلُ للعباد إذا زَكَت أنفسُهم، وسلمت قلوبهم لله تعالى، بترك المنهيّات وامتثال المأمورات؛ وخبرُهُ (¬2) صدق ووعده حق. واحتجَّ شهابُ الدين السُّهْرَوَرْدي على الإلهام بقوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص: 7]، وبقوله: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل: 68]. فهذا الوحي هو مجرّد الإلهام. ثم إن من الوحي (¬3) علومًا تحدث في النفوس الزكيَّة المطمئنَّة، قال صلَّى الله عليه وآله وسلم: "إن مِن أُمتّي المحدَّثين والمكلَّمين، وإن عمر لمنهم" (¬4). وقال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} ¬

_ (¬1) (2/ 1016 - 1020 - ت الأثري). (¬2) في الطبعة الجديدة: "إذ خبره ... ". (¬3) كذا في الأصل تبعًا للطبعة القديمة، وفي الجديدة: "الإلهام". (¬4) لم أجده بهذا اللفظ، ومصدر الشوكاني "البحر المحيط" للزركشي: (6/ 104). وهو بمعناه في الصحيح كما سيأتي.

[الشمس: 7 - 8]، فأخبر أن النفوس مُلهَمَة. قال الشوكاني: قلت: وهذا الحديث الذي ذكره هو ثابت في الصحيح (¬1) بمعناه، قال ابن وهب في تفسير الحديث: أي: مُلهَمون، ولهذا قال صاحب "نهاية الغريب" (¬2): جاء في الحديث تفسيره أنهم الملهمون، والملهم: هو الذي يُلْقى في نفسه الشيء، فيخْبِر به حدسًا وفراسةً، وهو نوعٌ يخصّ به الله مَن يشاء من عباده، كأنهم حُدِّثوا بشيء فقالوه (¬3). وأما قوله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "استفتِ قلبك، وإن أفتاك الناس" (¬4)، فذلك في الواقعة التي تتعارض فيها الأدلة. قال الغزالي: واستفتاء القلب إنما هو حيث أباح المفتي، أما حيث حَرَّم فيجب الامتناع ... إلخ. وقال الشوكاني في آخر الكلام: "ثم على تقدير الاستدلال لثبوت الإلهام بمثل ما تقدَّم من الأدلة، من أين لنا أن دعوى هذا الفرد لحصول ¬

_ (¬1) البخاري (3469) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ومسلم (2398) من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬2) (1/ 350). (¬3) الأصل: "قالوه". (¬4) أخرجه أحمد (18006)، والدارمي (2575)، وأبو يعلى (1586) وغيرهم عن وابصة بن معبد رضي الله عنه. والحديث حسَّنه النووي في "رياض الصالحين" (ص 208) و"الأذكار" (ص 408). وضعَّفه الحافظ ابن رجب في "جامع العلوم والحكم": (2/ 94) وأعلّه بالانقطاع، وبضعف الزبير بن عبد السلام. وانظر حاشية المسند: (29/ 528 - 529).

الإلهام له صحيحة، وما الدليل على أن قلبه من القلوب التي ليست بموسوسة ولا بمتساهلة؟ " اهـ. يقول عبد الله الفقير إليه: قد سبق في تضاعيف هذه الرسالة ما يُعلَم منه الجواب، ولكن ينبغي أن نعيده هنا موضَّحًا فأقول: أما وجود الإلهام فلا نزاع فيه، فأفراد العالَمِ كلّها تحت حكم الله تعالى يُلْهم كلًّا منها ما أراد، ومِنْ ذلك القلوب كما قال تعالى (¬1): وفي "الصحيح" (¬2) عن عبد الله بن عَمرو قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلبٍ واحدٍ يصرّفه كيف يشاء" ثم قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "اللهم مصرّف القلوب صرّف قلوبنا على طاعتك". فالباري جلّ جلاله كما يُلْهِم جميع الكائنات ما أراد، فهو يُلْهِم القلوبَ كلَّها [210] والأدلة على هذا أكثر من أن تُحْصَى، ولكن هذا الإلهام هو عبارة عن خاطرٍ من جنس هذه الخواطر التي يجدها الإنسان في نفسه، وهذا هو الذي وقع لأمّ موسى، فإنها لما وضعَتْه وخافت عليه فرعون، وقع في نفسها أن ترضعه كما ترضع الأمُّ ولدَها، فإذا خافت عليه جعلته في صندوق وألقتِ الصندوقَ في الماء. [و] لمّا أنّ الصندوق لا يرسب في الماء، فلا بُدَّ أن تذهب به الأمواج، فيراه بعض الناس فيأخذه، فيحتمل حينئذٍ أنه من أبناء ¬

_ (¬1) كتب المؤلف: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا} [الشمس: 7، 8] ثم ضرب عليها، وأبقى موضع الآية بياضًا. ولعل قوله: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} مما يصلح في هذا الموضع. (¬2) أخرجه مسلم (2654).

القِبْط وضَعَتْه أمُّه في التابوت لريبةٍ أو غيرها فيَسْلَم، ويحتمل أن يعلم أنه من بني إسرائيل، فَعَلَت به أمُّه ذلك خوفًا عليه من الذبح فيُذْبح، ويحتمل أن يقع في يد فرعون أو شخصٍ من أتباعه فيرحمه، ويحتمل أن تتدافعه الأمواج حتى يموت، فأنتَ ترى أن هذا الفعل كما يحتمل الهلاكَ يحتمل السلامةَ، بخلاف ما لو تركَتْه عندها فإنه لا يحتمل إلا الهلاك. ومع ذلك فهلاكه بعيدًا عنها أهون عليها من ذبحه في حجرها. والحاصل أن المصلحة تقتضي وضعه في التابوت، فألْهَم الله تعالى أمَّ موسى هذا الفعل، فوجدت في نفسها خاطرًا يرشدها إلى ذلك، وتبيَّنت لها المصلحةُ المعقولةُ ففعلَتْه. وهذا الخاطر هو في الظاهر من جنس الخواطر التي يمكن عروضها لكلِّ أحدٍ. فالإلهام الذي لا نزاع في وجوده هو نحو هذا مما يلتبس بسائر الخواطر. فمن ادّعى زيادةً على هذا فدعواه مردودة إلا ما كان من قبيل الرؤيا، وقد مرَّ الكلامُ عليها (¬1). وقد ثبت في "صحيح البخاري" (¬2) قوله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "لم يبق من النبوّة إلا المبشِّرات" قالوا: وما المبشِّرات؟ قال: "الرؤيا الصالحة". وفي "صحيح مسلم" (¬3) زيارة أبي بكر وعمر لأمّ أيمن بعد وفاة رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم، فلما انتهيا إليها بكت، فقالا لها: ما يُبْكيك ... الحديث إلى أن قالت: ولكني أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء، فهيّجَتْهما على البكاء، فجعلا يبكيان معها. وقد مرَّ في هذا ¬

_ (¬1) (ص 328 وما بعدها). (¬2) (6990) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) (2454) من حديث أنسٍ رضي الله عنه.

الموضوع ما يُغني. وأما حديث التحديث، فليس فيه أن التحديث أمر زائد على الخاطر، وإنما يمتاز المُحَدَّث عن غيره بكثرة الخواطر الحقّة (¬1) في خواطره، فيكون تفرّسه أكثر صوابًا من غيره. وأما قوله تعالى: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29]، وقوله عزَّ وجلَّ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2]، فليس فيهما أن الفرقان والمخرج هو إلهامُ نفسِ الحكم أو الدليل بطريق غيرِ عادية. وعليه فالحقُّ أن الفرقان والمخرج هو في حقِّ المجتهد أن يجعل الله تعالى في قلبه باعثًا على طلب الحق، وييسّر له النظر في الحجج الظاهرة من كتاب الله تعالى وسنة رسوله بالطريق العادية، ويثبّته تعالى حتى لا يُقصِّر ولا يتَّبع الهوى، بل يؤدّي ما وجب عليه، بحيث يكون مُصيبًا مأجورًا أجرين، أو مخطئًا معذورًا، مأجورًا أجرًا واحدًا. وفي حقّ العامّي أن يجعل الله تعالى في قلبه [211] باعثًا على طلب الحق، والحرص على استفتاء العلماء في كلِّ ما يعرض له، وييسّر له من يسأله من العلماء بالطريق العادية، ويثبّته تعالى حتى لا يُقصر ولا يتعدّى، بل يؤدي ما يجب عليه. وإنما لم نقل: إن الفرقان والمخرج هو ما يكون فيه إصابة الصواب في نفس الأمر لأمرين: ¬

_ (¬1) غير محررة في الأصل، ولعلها ما أثبت.

الأول: أن الأجر والسعادة لا تتوقّف على ذلك، بل تتوقّف على أداء الواجب. الثاني: أننا وجدنا الأنبياء عليهم السلام قد ينسون ويخطئون، كما وقع لداود عليه السلام في شأن الغنم، وفي شأن المرأتين، وغير ذلك مما قد مرَّ بعضُه (¬1) - وهم أتقى الناس - فإذا جاز عليهم الخطأ فغيرهم أولى بلا شكّ، وإنما يُذَكِّرهم الله تعالى لئلا يصير خطاؤهم شَرْعًا يُعمل به، وهذا منتفٍ في حقّ غيرهم. وكذلك وجدنا الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا اختلافًا كثيرًا، ووقع منهم الخطأ، وهم أتقى الأمة بل أتقى الأمم، قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]. وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ ...} الآية [الفتح: 29]. وقد نزل في أبي بكر رضي الله عنه قوله تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى} (¬2) [الليل: 17]، فشهد له القرآن أنه الأتقى، وهذا يستلزم أن يكون أتقى بني آدم ما عدا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ومع ذلك فقد كان يقع منه الخطأ، بدليل مخالفة أكابر الصحابة له في كثير من الأمور كما في المسألة الأولى (¬3). وكذلك التابعون وتابعوهم المشهود لهم بأنهم خير القرون، وفيهم أكابر الأئمة كالمجتهدين الأربعة وغيرهم. وهذا واضحٌ جدًّا. ¬

_ (¬1) لم نره فيما سبق. (¬2) انظر "الدر المنثور": (15/ 477 - 478). (¬3) (ص 111 - 112).

ثم إن الفرقان والمخرج إنما يطَّرِد في حقّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لِعِصْمتهم من الإخلال بالتقوى مطلقًا، فأما غيرهم فلا يطّرد لعدم العصمة، إلا أن الظاهر أنه إذا استوى العالِمَان في العلم وامتاز أحدهما بزيادة التقوى كان قوله أرجح، وهذا إنما يتأتّى اعتباره في العامّي إذا استفتى العَالِمَين، ولم يظهر له رُجحان دليل أحدهما، فأما مَن عداه فإنه تَبَعٌ للدليل كما ورد: "الحكمةُ ضالةُ المؤمن ... " (¬1) إلخ، وكما عُرف من حال الصحابة رضي الله عنهم ومَن بعدهم في مخالفة كل منهم للأفضل والأتقى إذا ظهر له رجحانُ دليل غيره. وبهذا عُرِفت الميزة التي امتاز بها المتّقي عن غيره ودَلَّت عليها الآيتان، فالمتّقي إن كان نبيًّا فهو مصيب أبدًا، وإن كان غير نبيّ فهو مأجور غالبًا. وأما غير المتّقي فإنه لا يستحقّ التثبيت، بل يغلب عليه الكسل عن أداء ما يلزمه من الاجتهاد أو سؤال المجتهد، فيقصّر في ذلك ويعمل برأيه، وقد يتّبع هواه ويتعصّب، ومع هذا فالحال غير مطّرِد وإنما يتأتّى الاعتبار بنحو ما سبق في التّقي والأتقى، والله أعلم. وأما قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 282] فلا يتأتّى الاستدلال بها إلّا على تقدير معيَّة الواو، وهو غير متعيّن، ولو سُلِّم ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (3687)، وابن ماجه (4169) وغيرهما من طريق إبراهيم بن الفضل عن المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه. قال الترمذي: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإبراهيم بن الفضل المدني المخزومي يُضعّف في الحديث من قبل حفظه". وضعّفه ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (114)، وانظر "المقاصد الحسنة" (ص 191) للسخاوي.

فالتعليم في هذه الآية هو بمعنى الفرقان والمخرج في الأوليين، والله أعلم. [212] والحاصل أن الإلهام ليس إلا عبارة عن خاطرة من جنس هذه الخواطر التي تعرض لكلَّ إنسان، والخواطر تتنوّع إلى حديث النفس وإلى ما يكون بمجرَّد خلق الله تعالى، وإلى ما يكون بحديث الملك، ويزيد غيرُ الأنبياء بوسوسة الشياطين. وحديثُ النفس قد يكون حقًّا وقد يكون باطلًا. وما كان بمجرَّد خلق الله تعالى قد يكون للهداية، وقد يكون للابتلاء، ونحوه ما يكون بتحديث الملك. وما يكون من الشيطان لا يكون إلا باطلًا، إلا أنه ربما وسوس بالأمر من الحق يتوصّل به إلى باطل أشدّ. وحينئذٍ فنقول لمدّعي حجية الإلهام: بأيّ طريقٍ عرفتَ أنه حقّ؟ فإن قال: بإلهامٍ آخر. قلنا له: والإلهام الآخر يحتمل ما احتمل الأول، وبتطرّق الاحتمال إلى الثاني يتطرّق الاحتمال إلى الأوّل. وإن قال: لكون صاحب الخاطر متَيَقّنًا. قلنا له: هل هو معصوم؟ قال: لا. قلنا: فكيف قلتَ ما قلتَ؟ فإن قال: الغالب على المتَّقي خواطر الحقّ بدليل تلك الآيات المتقدّمة، وحديث التحديث.

قلنا: أَتْقى خَلْق الله تعالى أنبياؤه، وقد عرفتَ جواز السهو والخطأ عليهم، وتذكيرهم ليس لمجرّد التقوى، وإنما هو لأمر آخر. وهذا يدلّ أنّ اطّراد التقوى لا يستلزم اطراد صِدْق الخواطر، وأما إذا لم تَطَّرِد التقوى فالأمر أبْيَن، ومثل هذا لا يكون حجة، كما في الراوي إذا كذب مرّةً أو مرتين لم تُقبَل روايتُه مطلقًا، على أنه يحتمل أن يكون أكثر حديثه صدقًا. وبنحو هذا يُجاب عن حديث التحديث. وإن قال مدّعي الحُجّية: عرفتُ أنه إلهام بانشراح صدري له، وانشراح الصدر إنما يكون لِمَا يكون من جهة الله تعالى. قال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125]. وقال تعالى في سورة أخرى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا} [البقرة: 268]. وفي الحديث عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "إن للشيطان لَمَّة بابن آدم وللمَلَك لَمَّة، فأما لَمَّة الشيطان فإيعاد بالشرّ، وتكذيب بالحقّ، وأما لَمّة المَلَك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق. فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله، ومَن وجد الأخرى فليتعوّذ بالله من الشيطان الرجيم". ثم قرأ: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ}. رواه الترمذي (¬1)، وقال: هذا حديث غريب. ¬

_ (¬1) (2988). وأخرجه النسائي في "الكبرى" (10985)، والبزّار (2027)، وأبو يعلى (4999)، وابن حبان (997). وفي سنده عطاء بن السائب اختلط بأخرة، والراوي عنه =

[213] وأخرج البيهقي في "شعب الإيمان" (¬1) عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} [الأنعام: 125] فقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "إنّ النورَ إذا دخل الصدرَ انفسح"، فقيل: يا رسول الله، هل لذلك من عَلَمٍ يُعْرَف به؟ قال: "نعم، التجافي من (¬2) دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزوله". وقال ابن الصلاح (¬3): ومِن علامته (أي: خاطر الحق): أن ينشرح له الصدرُ ولا يُعارضه معارض آخر. اهـ. فالجواب: أن انشراح الصدر لأمرٍ ما هو خاطر آخر يحتمل ما احتمل الخاطر، وذلك أنه قد ينشرح للأمر لوجود هداية الله تعالى، أو إلقاء الملك، وقد ينشرح لموافقته لهواه، وقد ينشرح لوسوسة الشيطان. فأما قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} فالذي فيها شَرْح الصدر للإسلام لا شَرْح الصدر مطلقًا. وكذا جَعْل الصّدْرِ ضيّقًا ¬

_ = أبو الأحوص روى عنه بعد الاختلاط. انظر "الكواكب النيّرات" (ص 319 وما بعدها). ورجَّح الأئمة وقفه. "علل الترمذي" (654) و"علل ابن أبي حاتم" (2224). (¬1) (10068). وأخرجه ابن أبي الدنيا في "قصر الأمل" (129)، والحاكم في "المستدرك": (4/ 311) وسكت عليه، وقال الذهبي في تلخيصه: عديّ ساقط. وله شواهد لكنها ضعيفة. انظر "العلل المتناهية": (2/ 318) لابن الجوزي، و"شرح العلل": (2/ 771 - 772) لابن رجب. (¬2) كذا في الأصل تبعًا للمشكاة: (3/ 133)، وفي المصادر: "التجافي عن". (¬3) نقله عنه في "البحر المحيط": (6/ 103) من "فتاويه". ومصدر المؤلف "إرشاد الفحول": (2/ 1016).

حَرَجًا، أي: عن الإسلام لا مطلقًا. والكفّار يفرحون كثيرًا بكفرهم كما فرح المشركون يومَ أُحد بما نالوه من المسلمين، وغير ذلك، قال عزَّ وجلَّ: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ} [التوبة: 81]، وقال عزَّ وجلَّ: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53]، وقال تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر: 45]، والمتَّقي قد يفرح بالأمر يوافق هواه ما دام غير معصوم. أما قوله تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} [البقرة: 268]، فهذه الآية في الإنفاق كما يبينه السياق، يقول الله تعالى: إن الشيطان يَعِدُكم يا معشر الأغنياء بالفقر لئلَّا تنفقوا في سبيل الله، ويأمركم بالفحشاء من البخل وغيره، والله يَعِدُكم جزاء إنفاقكم في سبيله مغفرةً منه وفضلًا. وما روي من الحديث (¬1) - إن صح - فهو قريب من هذا، فلَمَّة الشيطان إيعاد بالفقر لمريد الصدقة، وبالقتل لمريد الجهاد، ولَمَّة المَلك إيعاد بالجزاء في الدنيا والآخرة. والحاصل أن الصدقة والجهاد والعبادة وتجنّب المحرّمات لا يكون إلا مع التصديق بوعد الله تعالى بحُسْن الجزاء في الدنيا والآخرة، فالله سبحانه وتعالى يدعو إلى هذا التصديق. وأما الشيطان - نعوذ بالله منه - فإنه بدعواه إلى التكذيب يَعِدُ بعدم حُسْن الجزاء، فيصوّر الصدقة بصورة مَغْرَم، ونحو ذلك، فإنه تعالى يَعِد المؤمنين بالخيرات إذا اتقوه ليزدادوا تقًى، والشيطان يَعِدهم بالشرور ليقصِّروا في التقوى، فلو كان الإنفاق معصيةً ¬

_ (¬1) تقدم نصه (ص 379).

حضّ عليه الشيطان ووعد بالغنى كما هو ظاهر، والله أعلم. ثم إن الوعد إنما هو في جزاء التقوى، فلا بدّ من معرفة التقوى بدليلٍ غير الخاطر. ومن ذلك أن يريد الإنسان أن ينفق فَخَطر له في نفسه خوف أن يؤدِّي الإنفاقُ إلى افتقاره، فإن هذا لا يدلّ على تعيين ذلك الخاطر؛ لأن الإنفاق قد يكون في مرضاة الله تعالى، وقد يكون في معصيته، والذي من الشيطان إنما هو فيما إذا كان الإنفاق في مرضاة الله تعالى، وحينئذٍ فلا بدّ لمعرفة حكم الإنفاق [10] من النظر في الأدلة الظاهرة من الكتاب والسنة، فإن عيّن الدليلُ حكمَ الإنفاق لم يتعيّن الخاطر لاحتمال كونه من حديث النفس. إلا أنه على كلِّ حال ما كان من الخواطر مودّيًا لما يقتضيه حكم الكتاب والسنة فهو خاطرُ حقٍّ، ولكن الشيطان قد يوسوس للإنسان بفعل شيء مما ظاهره خير ليستجريه إلى الوقوع في شرٍّ، كما تراه يزعج كثيرًا من الجهال الفقراء إلى الحجّ، لمعرفته بطريق العادة أنهم يُضيّعون في سفرهم أكثر الصلوات، ويرتكبون غير ذلك من المنهيَّات. وأما قوله: "وإيعاد بالحق" وقوله: "وتكذيب بالحق" فواضح أن الحقّ لا بدّ أن يكون معروفًا بدليل آخر، ولا دليل إلا الكتاب والسنة. وأما حديث البيهقي - إن صح - فهو تفسير للآية، وقد علمتَ معناها، فقوله: "إن النور إذا دخل الصدر انفسح" أي: انفسح الصدر، أي: للحق، كما بيَّنه جوابه على قولهم: هل لذلك مِنْ علم؟ والحاصل أن النفس قد تفرح وتنشرح وتنفسح للحق وللباطل، ولكن الذي مِن الله سبحانه وتعالى هو ما كان فيه فرحٌ وانشراح وانفساح للحق، والذي من الشيطان هو ما كان فيه غمٌّ وضيق وحَرَج من الحقّ، فالكلام إنما هو في الحق، وإلَّا فمن فرح بالحق اغتمّ من الباطل، ومن اغتمّ من الحق

فرح بالباطل، إلا أن الفرح بالحق دائمٌ ثابتٌ مستقرٌّ، والفرح بالباطل متزلزل، فلذلك أطلقَ الانشراح ونحوه في جانب الحق، وأطلق الحرج ونحوه في جانب الشرّ، والله أعلم. وبما تقرّر عرفتَ أنَّ مجرّد الانشراح بالخاطر لا يصلح دليلًا. وأما قول ابن الصلاح: "ومن علامته أن ينشرح له الصدر ولا يُعارضه معارضٌ آخر" فهو غير بعيد، ومعناه أن صاحب الخاطر يجتهد في أدلّة الشرع الظاهرة، أو يستفتي عالمًا في تلك المسألة التي وقع له فيها الخاطر، فإن لم يقف على معارضٍ لِمَا خَطَر له فيه الخاطر وانشرح له صدرُه، دلّ ذلك على أن ذلك الخاطر من الحق. وهذا يشتمل على قسمين: الأول: أن يجد له مؤيدًا من الأدلة الظاهرة. وهذا هو ما نقوله وندعو إليه، وهو أن يُسْتَدلّ على الخاطر بالأدلة الشرعيّة، فما دلّت الأدلّةُ الشرعيةُ الظاهرة على أنه حق كان الظاهر أن الخاطر الموافق لها حقّ، فتُجْعَل الشريعة دليلًا على الخواطر، لا الخواطر دليلًا على الشريعة. والثاني: أن لا يجد له مؤيدًا ولا معارضًا، وفي إمكان هذا نظر؛ لأنه ما من شيء من الأشياء إلا ويمكن المجتهد معرفة حكمه الشرعيّ بالاجتهاد. فإن قيل: قد دلّ الحديث الصحيح: "الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما مُشْتَبِهات" (¬1) على وجود هذا القسم الذي هو المشتبهات [*ق] (¬2) المفسّرة ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما. (¬2) هذه الورقة من الفلم رقم (3584).

بقوله: "لا يعلمهنَّ كثيرٌ من الناس". وحينئذٍ فقد يخطر للإنسان خاطر يشرح له صدره، فإذا نظر في الكتاب والسنة اشتبه عليه حكمه، وكذا إذا سأل العلماء وأجابوه بما يوقِع في الاشتباه. فالجواب: أن الشارع قد أرشدنا إلى الأخذ بالاحتياط في هذا، كما يدلّ عليه قوله في هذا الحديث: "فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ... " إلخ، فإن كان الخاطر يميل إلى الاحتياط فقد وُجِد ما يؤيّده من الشرع، وإن كان يميل إلى غيره فقد وجد ما يعارضه، فرجع إلى القسم الأول. فإن قيل: يمكن وجود القسم الثاني فيما أدّى فيه الاجتهاد أو فتوى المجتهد إلى الإباحة، وانشرح القلبُ لعدم الأخذ بذلك. فالجواب: أن ذلك المباح إن كان استعماله من التوسُّع والتبسُّط فالشرع قد أرشدنا إلى التخفيف، فانشراح الخاطر بذلك قد وجد من الشرع ما يؤيده، وانشراحه لغيره قد وجد ما يخالفه. وإن كان من غير التبسُّط فالشرع قد أرشدنا إلى العمل به، قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32]. وقد مرّ (¬1) حديث "الصحيحين" في الثلاثة الذين قال أحدهم: أما أنا فأصلّي الليل أبدًا، وقال الآخر: أنا أصوم النهار أبدًا ولا أفطر، وقال الآخر: أنا أعتزل الناس فلا أتزوّج. فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا. أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأُفْطِر، وأُصلي وأرقد، وأتزوّج النساء، فمن رَغِب عن سنتي فليس مني". ¬

_ (¬1) سيأتي (ص 462).

نَعَم يمكن وجود القسم الثاني فيما لم يوقَفْ فيه على دليل يدلُّ على حُرمته ولا كراهته، فأُخذ به بأصل الإباحة، ولم يظهر في استعماله تبسُّط ولا تضييق إلى الحدّ الذي أرْشَدَنا الشارعُ إلى اجتنابه، ولا ظهرت مصلحة ولا مفسدة، ففي هذا إذا انشرح الصدرُ لعدم الأخذ به = كان ذلك علامة على أنه من الحق. وذلك أن عدم الوقوف على دليل يدلّ على الحُرمة أو الكراهة لا يستلزم عدم الدليل في نفس الأمر، ولم يظهر من الشرع دليلٌ يرشد إلى العمل بذلك الشيء ولا تَرْكِه، فكان الأخذ به والترك على حدٍّ سواء من الشرع، فلمَّا وقع الخاطرُ بعدم الأخذ، وانشرح له الخاطر = كان ذلك مرجّحًا يجوز الأخْذُ به. وهذا معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "استفت قلبك وإن أفتاك الناس" كما مرَّ (¬1). فإن قيل: فلعلّ الخاطر يكون من حديث النفس والشيطان، وانشراح الصدر يكون بوسوسة الشيطان لغرضٍ له في ذلك. فالجواب: أن الظاهر من انشراح الصدر واطمئنانه كُونُه من جهة الله تعالى ما دام لم يعارِضْه دليلٌ آخر. وإن احتمل ما ذكرتم فهو احتمال مرجوح، وقد أخذ الإنسان بما هو أقرب إلى التقوى في اجتهاده. وهذا هو أقصى ما يمكنه. على أنه إذا استفتى قلبَه بعد التوجُّه إلى الله تعالى وإخلاص الدعاء والاستخارة فلم يَزْدَد إلّا (¬2) انشراحًا واطمئنانًا، فذلك كان أظهر، والله أعلم. ¬

_ (¬1) (ص 372). (¬2) جاءت كلمة في طرف الورقة المتآكلة فذهبت ببعضها، ولعلها ما أثبت.

المقام الثاني في تصرف بعض بني آدم في الكون

[118] المقام الثاني في تصرُّف بعض بني آدم في الكون لا يخفاك أن تصرّف الآدمي في الكون على قسمين: الأول: ما جرت به العادة، وهذا ثابت للأحياء بلا شك. الثاني: ما لم تجرِ به العادة، وهذا قد [يكون] معجزةً لنبيّ أو كرامةً لوليّ. غير أنه إنما يكون في أشياء مخصوصة بحسب ما يتفق مع الحكمة الربانية، قال تعالى (¬1): [127] {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 188]. وقال تعالى: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [يونس: 49]. والذي شاء الله تعالى أن يُمَلِّكه النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم هو ما يدخل تحت قدرة البشر، وأما فوق ذلك فإنه كان يملك الدعاء به في الدنيا، وقد يملك شيئًا منه على سبيل خَرْق العادة، كَنَظَره إلى الحوض وهو على المنبر. وسيملّكه الله تعالى الشفاعة في الآخرة كما تدلُّ عليه أحاديث الشفاعة (¬2). ¬

_ (¬1) ترك المؤلف باقي الصفحة [118] بياضًا، وكتب الآيات وباقي الكلام في ورقة أخرى أعطيت رقم [127]. (¬2) منها ما أخرجه البخاري (3340)، ومسلم (194) عن أبي هريرة، وما أخرجه البخاري (7510)، ومسلم (193) عن أنس رضي الله عنهما.

وإذا كان هذا حاله صلَّى الله عليه وآله وسلم وهو سيِّد الخلق فما بالك بغيره؟ وقال سبحانه وتعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35) إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الأنعام: 33 - 37]. وفي "صحيح مسلم" (¬1) عن رافع بن خَديج قال: قَدِم نبيُّ الله صلَّى الله عليه وآله وسلم المدينة وهم يؤبِّرون النخلَ، فقال: "ما تصنعون؟ " قالوا: كنا نصنعه، قال: "لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرًا" فتركوه، فنقصت قال: فذكروا ذلك له، فقال: "إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من أمر دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر". [126] ثم إنه من المعلوم ضرورةً من دين الإسلام أن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم لم يكن هو المتصرّف في الكون في حياته. وقد سُقتُ الأدلة على عدم علمه الغيب (¬2) إلا أنّ الله تعالى يطلعه على وقائع مخصوصة، ¬

_ (¬1) (2362). (¬2) (ص 316 وما بعدها).

وهذا يستلزم أنه لم يكن المتصرِّف في الكون؛ لأن التصرُّف يتوقّف على العلم، ولو كان صلَّى الله عليه وآله وسلم هو المتصرّف لكانت دعوتُه إلى الله تعالى وجهادُه ونَصَبُه وتعبُه وابتهالُه إلى الله تعالى بالدعاء ونحو ذلك عَبَثًا! وإذا كان المعتزلةُ وغيرُهم لم يسلِّموا أن الله تعالى هو الذي يخلق أفعالَ العباد حين فِعْلِها لما يلزم على ذلك من جَعْل إنزال الكتب وإرسال الرسل عبثًا لغير حكمة، ففي مسألتنا أولى؛ لأن غاية ما أجاب به الأشعريةُ قولهم: إن الله تعالى لا يُسأل عما يفعل، وهذا الجواب لا يتأتّى في مسألتنا، فإن الآدميّ مكلّف على كلّ حال، وإذا كانت الأشعريةُ نفت نِسبة الأفعال إلى فاعلها المحسوس إلّا مجازًا، فما بالك بنسبة الفعل إلى مخلوق آخر غير فاعله المحسوس؟! وأما قصة الخَضِر فليس فيها ما يُسْتغرب أصلًا؛ أمّا خَرْق السفينة فإن مثله في شرعنا يجوز للإنسان في مال موليّه. وأما قَتْل الغلام فإن مثله كان جائزًا في شريعة الخَضِر، بل رُوي عن ابن عبّاس (¬1) ما يدلّ أن مثله جائز في شَرْعِنا لولا أن شرطه - وهو العلم بأنه لو عاش لأرهق أبويه طُغيانًا وكفرًا - محال؛ إذ لا يُعلَم ذلك إلّا بإعلام الله تعالى، وقياسُ قول مَن يقول بالمصالح المرسلة لا يأباه. وأما إقامة الجدار فليس فيها شيء. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1812) في كتاب ابن عباس رضي الله عنهما إلى نجدة الحروري، وفيه: "وكتبتَ تسألني عن قتل الولدان، وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقتلهم وأنت فلا تقتلهم، إلا أن تعلم منهم ما علم صاحبُ موسى من الغلام الذي قتله .. ".

فإن قيل: فلماذا أنكرها الكليمُ عليه السلام؟ فالجواب: أنه لم يكن مطَّلعًا على السبب، وما مثله إلا مثل مَن يَعْمِد إلى رجلٍ معروف بالفضل فيقتله؛ لأنه يعلم أنه قَتَل أباه مثلًا، فإنّ كلَّ من رآه أو علم بأنه قتل هذا الفاضل ولم يعلم السبب ينكر عليه ويُشنّع ويستعظم هذا الفعل، مع أنه في الحقيقة حق، ولو اطلع على سببه لم ينكره. وقد جاء في الحديث - ما معناه - أنّ رجلًا صلَّى الصبح مع رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم ثم قام يركع، فقال صلَّى الله عليه وآله وسلم: "آلصبح أربعًا؟ " فقال: يا رسول الله، إني لم أصلّ الركعتين قبل الصبح، فهما هاتان. فأقرّه على ذلك (¬1). وفي معنى هذا كثير. [124] وانظر كيف أنكر موسى على الخضر ما ظنَّه منكرًا، وقال له أولًا: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} [الكهف: 71]. فنَسَب إليه أنه خرقها ليغرق أهلها، مع أن الواقع أن الخضر لم يخرقها ليُغرق أهلها وإنما خرقها لينفعهم، ولكن لما كان الظاهر أنه إنما خرقها ليغرق أهلها لم يتحاشَ موسى عليه السلام في نِسبته إليه بالاستفهام الإنكاري. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (24161)، وأبو داود (1267)، والترمذي (422)، وابن ماجه (1154)، وابن خزيمة (1116). من حديث محمَّد بن إبراهيم عن قيس بن عمرو الأنصاري. قال الترمذي: "حديث محمَّد بن إبراهيم لا نعرفه مثل هذا إلا من حديث سعد بن سعيد. وقال سفيان بن عيينة: سمع عطاء بن أبي رباح من سعد بن سعيد هذا الحديث، وإنما يروى هذا الحديث مرسلا ... وإسناد هذا الحديث ليس بمتصل، محمَّد بن إبراهيم التيمي لم يسمع من قيس". وضعفه النووي في شرح المهذب، وحسنه ابن القطان، وقواه ابن الملقن. انظر "البدر المنير": (3/ 263 - 269).

ثم عقَّبه بقوله: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} أي: عظيمًا شنيعًا. فلم يمنعه عليه السلام علمه بفضل الخضر وعلمه بالوحي من الله تعالى، وإعلامه أنه سيرى منه ما ظاهره منكر، وشرطه عليه أن لا يسأله عن شيءٍ من ذلك= لم يمنعه هذا كلُّه وغيرُه أن ينكر عليه ما ظنَّه منكرًا، ولم يقل: "لعل لها عذرًا وأنت تلوم" (¬1). ثم أكّد عليه الخضر الشرطَ وأعْلَمه أن ذلك لأمرٍ ما من الأمور التي نبَّهه عليها، فلم يمنعه ذلك أن يُعاود الإنكار لمّا عاود الخضر مثل ذلك الفعل بقتل الغلام. وقد يقال: إن قوله أولًا: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} استفهام على أصله، وقوله: {لَقَدْ جِئْتَ} إلخ أي: إن كان الأمر كذلك. ولكن يَرِدُ عليه أنه لا يتأتَّى مثل هذا في قضية الغلام، فتأمل. وقد علمتَ أن دلائل الكتاب والسنة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عامة مطلقة، وقد كان بعض الصحابة رضي الله عنهم يرمي بعضًا منهم بالنفاق إذا قلت منه عمل يُشبه عمل المنافقين، وقد تكرّر ذلك من عمر ابن الخطّاب رضي الله عنه بحضرة النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم ولم ينكره ¬

_ (¬1) صدر بيت لمنصور النمري، انظر "الزهرة": (1/)، و"التمثيل والمحاضرة" (ص)، وهو بلا نسبة في أكثر نسخ "البيان والتبين": (2/ 363)، و"البصائر والذخائر": (9/ 153). وعجزه: * وكم لائم قد لام وهو مليم *

عليه، وإنما بيّن له خطأه، كما في قصة حاطب وغيرها (¬1). ثم إن الواجب على المنكَرِ عليه أن يُبيّن عذرَه كما فعله الخَضِر. وقد ثبت في الحديث أنّ أم المؤمنين صفية زارت رسولَ الله صلَّى الله عليه وآله وسلم وهو معتكف في المسجد فقام معها يُشيّعها، وإذا برجلين مارّين، فناداهما رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "على رِسْلِكما إنما هي صفية بنت حُيي ... " (¬2) الحديث. ولم يزل الصحابةُ يُنكر بعضُهم على بعض والأئمة مِن بعدهم، [125] مع أن قصة الخضر إنما هي في أشياء مخصوصة، وأين هي من دعوى بعضهم التصرّف في جميع الكون حتى لا تتحرك ذرّة إلا ... (¬3)؟ ثم إن دعوى بعضهم التصرّف في أحوال الكون كلها خيرها وشرّها يستلزم ارتفاع التكليف؛ لأن أكثر أحوال الكون جارية على خلاف الشريعة، وهذا كله خرافات لا ينبغي لعاقل الالتفات إليها ولا الاشتغال بها لولا الضرورة الملجئة إلى ذلك، وإلى الله المشتكَى! وأما الموتى فالأمر في حقهم أوضح، ومَن تأمل أدلّة العقل والنقل وجدَها صريحةً في إبطال ما يدّعيه بعضُ الناس لبعض الصالحين مِن التصرّف في الكون، وإنما غرّهم أمور: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3077)، ومسلم (2494) من حديث علي رضي الله عنه. (¬2) أخرجه البخاري (2038)، ومسلم (2175) من حديث صفية رضي الله عنها. (¬3) بياض بقدر كلمة. ولعلها "بعلمه أو بأمره".

أولها (¬1): أن كثيرًا من الناس يلبس ثياب الزور، بانتحال الفضل والصلاح، ويتزَهَّد ويتقشّف ويتورّع = يتذرّع بذلك إلى اعتقاد الناس فيه، وإقبالهم عليه، وتعظيمهم له. وقد يستعين بما يحسنه من شعبذة ومخرقة واستعانة بالشياطين وغير ذلك. وقد يكون الشيخ في نفسه صالحًا، ولكن يُبتلى بأصحاب سوء يحاولون أن يأكلوا به الدنيا، فهم لا يألون جهدًا في التقوّل عليه ولا سيَّما إذا مات؛ فإن أولاده وأتباعه يعرفون أنه بموته أدبرت عنهم الدنيا، فيسعون في حفظها بالأكاذيب والخُرَافات والإشاعات الباطلة، وربما ساعدتهم الشياطين لإضلال الخلق، كما كانت تفعل في الجاهلية عند الأصنام والأبداد، وكما روي مِن فعلها مع الأسود العنسي، وكما يقع من فعلها مع الدجّال. [122] ولا يخلو حالهم عن أحد أربعة أمور: الأول: أن يكونوا من أهل الزيغ والإلحاد، تستّروا باسم التصوّف وإظهار الزهد والتقشّف؛ ليكيدوا الإسلام والمسلمين. وهذا هو الذي يقطع به كثيرٌ من أجلّة العلماء، بحجَّة أن جميع المذاهب التي جاء بها هؤلاء القوم هي مذاهب معروفة عن الأمم الزائغة من قدماء اليونانيين الفلاسفة وغيرهم، وكذلك العادات هي عادات أولئك، والأحوال أحوالهم، والأقوال أقوالهم. ومَن راجع كتب المقالات وعَرَف أقوالَ الفلاسفة وغيرهم من الطوائف الكفرية لم يستبعد هذا. ¬

_ (¬1) لم يذكر المؤلف غيره، إلا أن يكون قوله: "وقد يكون الشيخ ... " هو الأمر الثاني ..

الثاني: أن يكونوا أناسًا من أهل الإسلام، ولكن تلاعَب بهم الشيطان، فصوّر، وزوَّر، وخيَّل، وهوّل؛ فأراهم الحق باطلاً والباطل حقًّا. الثالث: أن يكونوا من أهل الخير والفضل والصلاح، ولكنهم أرادوا أن يتكلّموا بتلك الكلمات التي ظاهرها كفر وجحود وإلحاد في الدين استدعاءً لتكفير الناس لهم وذمّهم إياهم؛ ليكتسبوا بذلك كسرَ نفوسهم، والأجرَ باعتداءِ الناسِ عليهم. ولهم مثل ذلك حكايات ثابتة في كتبهم؛ كذلك الرجلِ الذي دخل بلادًا، فاعتقد أهلُها فيه، وأجلّوه وعظّموه، فَكِره ذلك، فاختار أن يذهب إلى الحمّام فيأخذ ثياب الناس منه ويخرج بها ليعتقدوا أنه سارق، فيضربوه ويشتموه ويسيئوا الظنَّ به، فكان ذلك. الرابع: أن يكون لهم في كلامهم مرادات صحيحة، ولكنهم عمَّوها على الناس، فجعلوه من قبيل الإلغاز، كما هو شائع في كلامهم، كقول بعضهم: "إن الله لا يعلم الغيبَ" مستندًا إلى أنه لا غيبَ بالنسبة إلى الله تعالى. وكقول بعضهم: "بذكر الله تزداد الذنوب". [121] يعني بالذّكر التذكُّر، وأن التذكُّر يستلزم النسيان، كأنه أخذه من قول الشاعر (¬1): حلفتُ بالله أني لست أذكره ... وكيف يذكره مَن ليس ينساه؟ ومثل هذا في كلامهم كثير. ومَن يحسن الظن بهم يختار هذا الأخير، ولكنه ليس كافيًا في الذبّ عنهم إلا أنه يخفف الأمر. ¬

_ (¬1) هو عبد الصمد بن المعذّل في أبيات له. انظر "عيون الأخبار" (3/ 27)، و"العقد": (2/ 305). وغير منسوب في عدة مصادر. واختلفت المصادر في مطلعه عما في الأصل.

* حنانيك بعض الشرّ أهون من بعض (¬1) * فإنها تبقى عليهم اللائمة من حيث إنهم عرَّضوا أنفسهم للتهمة، وعرّضوا الناس للوقوع في أعراضهم، وأشدّ من ذلك أنهم عرّضوا من يعتقد فيهم إلى الضلال باعتقاد ظواهر تلك الأقوال. والذي يظهر أنّ كلّ أمرٍ من هذه الأمور يوجد عند طائفة منهم، وقد نشأ بعدهم ناس ليسوا على شيء من ذلك، وإنما اغترّوا بكلام مَن سَبقهم، فأخذوا يقلّدونه ويمثّلونه ليحرزوا لأنفسهم مثل منازل أولئك في قلوب الناس، ويجتلبوا بها الشهرة والحطام، وهذا فاشٍ في كل جهة. وإذا طالعتَ كتاب الشَّعْراني الذي سماه "تنبيه المغترّين" علمت كثرةَ هؤلاء المقلدين المتشبّهين في زمانه وقبل زمانه. والذي ندين الله تعالى به حُسْن الظن بأشخاصهم أنهم لا يعتقدون ما تدلّ عليه مقالاتهم، وإنما قالوها لغرضٍ من الأغراض التي ظنوها حَسَنة، أو كُذِبت عليهم أو غير ذلك. ولا يمنعنا ذلك من انتقاد كلامهم، وإنكار المنكر منه، والتصريح بما تقتضيه الحال، مِن أنّ اعتقاد المعنى الظاهر منه كفر أو فسق أو خطأ أو جهل، أو سوء أدب، بحسب رُتْبَته في ذلك. فهذا دين الله تعالى الذي لا سلامة إلا فيه، وننصح لجميع المسلمين بأن يعرضوا عن تلك الكتب والمؤلفات في أخبارهم وأحوالهم. ¬

_ (¬1) عجز بيت لطرفة بن العبد. "ديوانه" (ص 180). وصدره: * أبا منذرٍ أفنيتَ فاستبقِ بعضنا *

[120] والقومُ أنفسُهم مصرِّحون أنه قد تلبّس بطريقتهم مَن ليس من أهلها، وإنما قصد بذلك التستّر بجلبابها لإظهار دسائسه وتنفيذ أغراضه. وبذلك يتبين لك أنه إن كان في كلامهم حق فقد التبس بالباطل خصوصًا مع قول بعضهم كالشعراني: إن القوم ابتلوا بأعداء ينسبون إليهم ما لم يقولوه، ويزيدون في كتبهم وينقصون ويحرّفون ويبدّلون ويُغيّرون، وأنه نفسه فُعِل في كتبه ذلك كثيرًا. وبما ذُكِر تصير كتبهم أشبه بالكتب التي بأيدي النصارى واليهود، بل هي أضرّ منها؛ لأن المسلمين جميعًا عارفون بأن كتب النصارى واليهود محرَّفة مبدّلة، وقلوبهم نافرة عنها, ولا كذلك كتب هؤلاء القوم، فافهم. [123] وهذه من الشبهات التي رابتِ الناسَ في الصوفية؛ لأن الحق كله معروف واضح، وفي الحديث: "تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها" (¬1). وإن كان هناك أمور قد تخفى عن الجُهّال، فلن تخفى على العلماء، والعلماء هم العارفون بكتاب الله تعالى وسنة رسوله، وإن لم يكونوا كثيري العبادات والمجاهدات. وإن سُلِّم أن ثَمَّ أسرارًا غامضة تدِقّ عن فهم غالب الناس إلا مَن اختصه الله تعالى بالولاية، فالواجب كتمان مثل هذه الأمور، فمَن أبدى لنا صفحتَه أنكرنا عليه. وكثير من المتأخرين ألَّفوا كتبًا فيها كلام يضادّ ظواهر الشريعة كلَّ المضادّة، وسَعوا في إماتة إنكار المنكر، وتحسين تحسين الظنّ بأقصى ¬

_ (¬1) قطعة من حديث العرباض بن سارية: "وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... " وتقدم تخريجه.

جهدهم، فأبدوا فصولًا طويلة في ذمِّ سوء الظن، وجمعوا أقاصيص فيما يلحق المنكِر على أمثالهم من الضرر! وهب أن مثل ذلك يقع، فإنه محمول على السحر، وقد ثبت في "الصحيحين" (¬1) أن لبيد بن الأعصم اليهودي سَحَر رسولَ الله صلَّى الله عليه وآله وسلم حتى كان يُخيّل إليه أنه فَعَل الشيء ولم يفعله، أي من أمر دنياه، فأما أمر الدين فإنه معصومٌ فيه قطعًا. وادّعوا أن لهم اصطلاحات وأذواقًا لا يعرفها غيرهم، وأن لهم شطحات وإطلاقات تجري على ألسنتهم حال الفَناء لا يُراد بها ظاهرها. والحاصل أنهم بنوا خُطّتهم على نظام محكم، وأعَدّوا لكلِّ شيءٍ عُدَّته قائلين: إن مقالاتنا هذه لا تصادف إلا أحد رجلين؛ رجلاً مغفّلًا يتمسّك بها ويعتقدها، وهذا هو مرادنا. ورجلًا ثابتًا في دينه يعلم أنها منكر، فقد أعددنا له عدّته بما يمنعه عن قصدنا بالشرَّ. ثم لا تزال دعوتنا تفشوا وتشيع في الناس على هذا المنوال. وقد صدّقوا على الناسِ ظنَّهم، فإنه لما شاعت تلك الكتب بين الناس لم تَلْقَ إلا قليلاً من المنكرين، والجمهور على عدم الإنكار، منهم من حَسَّن الظن، ومنهم من خاف المضرّة، ومنهم من افتتن بها فعمل بظاهرها، حتى كان منهم من يدّعي ارتفاع التكليف، ومَن يزعم أن الولي قد يكون أفضل من النبي، إلى غير ذلك مما إن كنت سمعتَ به فقد سمعتَ، وإلا فخيرٌ لك أن لا تسمع. ولا شك أن أوائل هؤلاء القوم كالجنيد وأصحابِه أئمةُ هدى وصلاح ¬

_ (¬1) البخاري (3268)، ومسلم (2189) من حديث عائشة رضي الله عنها.

وتقى وعملٍ بدين الله الأعلى، واتباعٍ لسنة نبيّه المصطفى. وجاء بعدهم مَن علمتَ. [119] ومع هذا فإننا لا ننفي أن تكون لبعض الصالحين في حال حياتهم كرامات، وإن كثرت بعد القرون الأولى، بخلاف عهد الصحابة وما بعده؛ فإنه قد يُقال: لما كانت كرامات الأولياء تفارق معجزات الأنبياء من حيث إن المعجزات لا تشتبه بالباطل من السِّحْر وغيره بخلاف الكرامات = كانت المصلحة أن لا توجد الكرامات في الصحابة ومَن بعدهم بكثرة، إذ لو وُجدت فيهم بكثرة، وهي مشابهة لما يجري على أيدي السَّحَرة لقالت الأمم: إنْ هؤلاء إلا سَحَرة تعلّموا السحرَ مِن صاحبهم، وإذًا لارتاب المبطلون، ولكن لما رأت الأممُ الصحابةَ مِن أبعد الناس عن السَّحْر وما يُشاكله ويشابهه = علموا أن هذا الدين دين حقًّ لا ريب فيه. ولكني مع هذا لا أقول: إن كل ما يدّعيه القصاصون صحيح، كيف وأكثرها حكايات منقطعة عن مجاهيل لا يُدرَى ما حالهم؟ ومنها ما هو محال لا يمكن وقوعُه بحال، وإنما هو من وَضْع بعض أهل الضلال أو المغفّلين الجُهَّال، ومنها ما لم يقع وحكايته كذب محض، ومنها ما هو سِحْر وشعوذة، ومنها ما هو صحيح. وعلى كل حال فإنه لا يتعلق به حكم من أحكام الإسلام غير حُسْن الظن أو سوئه. وهذا ينبغي وزنُه بميزان الاعتدال، فإن كان الشخصُ ملازمًا للطاعات، عاملًا بالكتاب والسنة، مُعظِّمًا لهما، وذلك أن الأحكام الشرعية ليس لها طريق إلا كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلَّى الله عليه وآله وسلم بما يدلّان عليه دلالةً معتبرة، من جنس ما كان يستدلّ به الرسولُ صلَّى الله عليه

وآله وسلم، ثم أصحابه مِن بعده، ثم العلماء المجتهدون، كالأئمة الأربعة وغيرهم = فالظاهر أن الخارقَة الواقعة على يده كرامة فينبغي احترامُه القدرَ المشروع، وسؤالُ الدعاء منه. وإن كان بخلاف ذلك فالأمر بالعكس. والمراد بأحكام كتاب الله تعالى وسنة رسوله: الأحكامُ الظاهرة منهما، المدلول عليها بإحدى الدلالات المعتبرة في اللسان العربي والشرع المحمدي، فلا عبرة بدعوى فهمٍ غامض من الكتاب أو السنة بدلالةٍ غير معتبرة. نعم، إن كان ما ادّعوا فهمه لا يخالف شيئًا من الظاهر مع تصديقهم بالظاهر فالأمر سهل. والله الموفق لا ربّ غيره. ***

المقام الثالث النداء والطلب

[ص 110] المقام الثالث النداء والطلب قد تبيّن مما مضى أن المخلوق لا يعلم الغيب ولا يطلعه الله عليه، إلا أن يكون نبيًّا، فيطلعه الله تعالى على بعضٍ من الغيب، لا على جميعه، وذلك في حال حياتهم، فأما بعد وفاتهم فإنهم في الرفيق الأعلى مشغولون بما هو خير وأبقى. وعُلِم أن المخلوق لا يملك شيئًا من الأشياء إلا ما كان يقدر عليه البشر بما جرت به العادة، وأما غير ذلك فإنما يملك الدعاء به في حال حياته الأولى في الدنيا أو الثانية يوم القيامة؛ وعليه فنداء الغائب: إن كان باعتقادِ أنه يسمع فهو اعتقاد باطل قطعًا؛ لأن فيه اعتقادًا أنه يعلم الغيب، وهذا تكذيبٌ لكتاب الله تعالى وردّ للسنن الصحيحة. أو باعتقاد أنه يُبلّغ في كل شيء فكذلك؛ لأنه إن كان نبيًّا فقد يُبلَّغ وقد لا يُبلَّغ، وإن كان غير نبيّ فإنه لا يبلّغ حتى لو كان محدَّثًا، لما مرّ أنه إنما يُقْذَف في خاطره في بعض الأشياء، ولا يحصل له بذلك إلا مجرّد الظن. أو مع الإيمان بأنه إنما يُبلَّغ في بعض الأشياء، فإن كان نبيًّا فمسلَّم أنه قد يبلَّغ، ولكن ذلك لا يُسوّغ النداء؛ لأن النداء لا يكون إلا لمن يترجّح أنه يسمعه، وإن كان غير نبيّ ففيه تكذيب بكتاب الله تعالى كما مرّ. وكذا الميت مع البُعْد عن القبر على نحو ما مرّ في الغالب، ويختص هذا بزيادة أنه لم يثبت التبليغ للنبي صلَّى الله عليه وآله وسلم بعد موته إلا في الصلاة عليه، وأما مع القُرب من القبر، فكذلك عند من ينفي سماع الموتى، كما دلّ عليه القرآن. ومَن يجوِّز سماعَهم فإنه لا يجوّز نداءهم، وهو عنده

من أقبح البدع إلا ما ورد من السلام في زيارة القبور فلا بأس به اتفاقًا، وهو مؤول بنحو قوله: "يا أرض ربي وربك الله" (¬1). وأما الطلب فإن كان لشيءٍ يملكه المطلوب منه، فإن كان مما يقدر عليه مثلُه بالأسباب العادية، فهو جائز ما لم يرد الشرع بمنعه، كالطلب من الساحر أن يسحر، فإنه حرام. وإن كان لما لا يملكه المطلوب منه، أي بأن كان مما لا يقدر عليه مثله بالأسباب العادية، فلا يسوغ طلبه منه وإن كان نبيًّا أو محدَّثًا لما مرَّ أنه إنما يملك من ذلك الدعاء لا غير. هذا في حال إحدى حياتَيه، فأما حال وفاته (¬2) ففي "صحيح البخاري" (¬3) عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: وارأساه! فقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "ذاك لو كان وأنا حيّ، فأستغفرُ لكِ وأدعو لكِ ... " الحديث. وأما الشفاعة يوم القيامة فإن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم موعود بها، وإنما يملكها يوم القيامة. ومع هذا فإن الدعاء قد لا يُستجاب لسَبْق الكتاب، قال تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56]. وفي معناها آيات كثيرة. [ص 111] وفي "صحيح مسلم" (¬4) عن سعد أن ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (6161)، وأبو داود (2603)، والحاكم: (1/ 447 و2/ 100) وصححه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا غزا أو سافر فأدركه الليل قال: يا أرض ربي وربكِ الله، أعوذ بالله من شرَّكِ وشرَّ ما فيك ... ". (¬2) كتب المصنف هذه العبارة عدة مرات لكن ضرب عليها وأبقى ما أثبت. (¬3) (5666). (¬4) (2890).

رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم مرَّ بمسجد بني معاوية، دخل فركع فيه ركعتين وصلّينا معه ودعا ربَّه طويلًا ثم انصرف فقال: "سألت ربي ثلاثًا، فأعطاني اثنتين ومَنَعني واحدة؛ سألتُ ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة, فأعطانيها، وسألت أن لا يهلك أمتي بالغرق، فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها". وقال تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 80]. وقال تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [المنافقون: 6]. وقد ثبت في "الصحيح" (¬1) ما فعله النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم بعبد الله بن أُبيّ مِن إخراجه من قبره ووضعه له على ركبتيه الشريفتين، وتفلِه عليه من ريقه من قرنه إلى قدمه، وتكفينه له في قميصه, وصلاته عليه. ولم ينفعه ذلك شيئًا. وفي "صحيح البخاري" (¬2) عن أبي هريرة عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: "يلقى إبراهيمُ أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قَتَرة وغَبَرة فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك: لا تعصني؟ فيقول له أبوه: فاليوم لا أعصيك. فبقول إبراهيم: يا ربّ إنك وعدتني ألا تخزيني يوم يُبعثون، وأيّ خِزْي ¬

_ (¬1) سبق تخريجه (ص 233). (¬2) (3350).

أخْزَى من أبي الأبعد، فيقول الله: إني حرّمتُ الجنة على الكافرين. ثم يُقال لإبراهيم: ما تحت رجلك؟ فينظر فإذا هو بذيِخ متلطِّخ فيؤخذ بقوائمه فيُلقَى في النار". وفي "الصحيحين" (¬1) عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "إني فَرَطكم على الحوض، مَن مَرَّ عليَّ شرب، ومن شرب لم يظمأ أبدًا، لَيَرِدَنّ عليَّ أقوام أعرفهم ويعرفونني ثم ... فأقول: إنهم منّي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فأقول: سُحْقًا سُحْقًا لمن غيّر بعدي". [ص 112] وفي "مشكاة المصابيح" (¬2) عن أبي هريرة قال: قام فينا رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم ذاتَ يوم فذَكَر الغلولَ فعظَّم أمره ثم قال: "لا ألفينَّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رُغاء، يقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملكُ لكَ شيئًا قد أبلغتك، لا ألفينَّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرسٌ له حَمْحَمة، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئًا قد أبلغتُك، لا ألفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثُغاء، يقول: يا رسول الله أغِثْني، فأقول: لا أملك لك شيئًا قد أبلغتك، لا ألفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئًا قد أبلغتك، لا ألفينَّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق فبقول: يا رسول الله، أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئًا قد أبلغتك، لا ألفينَّ أحدكم يوم القيامة على رقبته صامت فيقول: يا ¬

_ (¬1) البخاري (6583)، ومسلم (2290). (¬2) (2/ 408).

رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئًا قد أبلغتك" متفق عليه (¬1)، وهذا لفظ مسلم وهو أتمّ. أقول: ولا منافاة بين هذا الحديث وأحاديث الشفاعة كما يُعْلَم مِن مراجعتها. وفي "صحيح البخاري" (¬2) عن أبي هريرة عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: "أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة مَن قال: لا إله إلا الله خالصًا مِن قلبه أو نفسه". [ص 113] ومَن كان له اطلاع على سنة رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم عَلِم أن الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا ينادونه غائبًا، وإنما قال قائلهم: "اللهم أخبر عنّا رسولك" (¬3). ولم يكونوا يطلبون منه فيما (¬4) لا يمكنه تحصيله بالأسباب العادية المشتركة بين الناس، وإنما كانوا يسألونه في ذلك الدعاء. ومن ذلك ما في "الصحيحين" (¬5) عن أنس رضي الله عنه قال: أصابت الناس سَنَةٌ على عهد النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم، فبينا النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم يخطب في يوم جمعة قام أعرابي فقال: يا رسول الله، هلك المالُ وجاع العيالُ، فادع الله لنا، فرفع يديه وما نرى في السماء قَزَعة، ¬

_ (¬1) البخاري (3073)، ومسلم (1831). (¬2) (99). (¬3) أخرجه البخاري (3045) في قصة عاصم بن ثابت ورفاقه رضي الله عنهم. (¬4) غير محررة في الأصل. (¬5) البخاري (933)، ومسلم (897).

فوالذي نفسي بيده ما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته فمُطِرْنا يومنا ذلك، ومن الغد، وبعد الغد حتى الجمعة الأخرى. وقام ذلك الأعرابي - أو غيره - فقال: يا رسول الله، تهَدَّم البناء وغرق المال، فادع الله لنا، فرفع يديه، فقال: "اللهم حوالينا, ولا علينا" الحديث. وفي "صحيح مسلم" (¬1) عن أبي هريرة قال: لما كان يوم غزوة تبوك أصاب الناس مجاعة، فقال عمر: ادعهم بفضل أزوادهم، ثم ادع الله لهم عليها بالبركة، فقال: نعم، فدعا بنِطْع فبُسِط ثم دعا بفضل أزوادهم، فجعل الرجل يجيء بكف ذرة، ويجيء الآخر بكف تمر، ويجيء الآخر بكسرة، حتى اجتمع على النطع شيء يسير، فدعا رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم بالبركة ... الحديث. [ص 114] وفي "الصحيحين" (¬2) أيضًا حديث ابن عباس قال: خرج رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم يومًا فقال: "عُرِضت عليَّ الأمم، فجعل يمرّ النبيُّ ومعه الرجل، والنبيُّ معه الرجلان ... " الحديث. وفيه ذِكر السبعين ألفًا يدخلون الجنة بغير حساب. وفيه: فقام عُكّاشة بن مِحْصن، فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، قال: "اللهمَّ اجعله منهم". ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. فقال: "سبقك بها عُكّاشة". وفي "صحيح مسلم" (¬3) عن ربيعة بن كعب قال: كنت أبيت مع ¬

_ (¬1) (27). (¬2) البخاري (6541)، ومسلم (220). وساقه المصنف مختصرًا. (¬3) (489).

رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم فأتيته بوَضوئه وحاجته فقال لي: "سَل"، فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة. قال: "أوَ غيرَ ذلك؟ " قلت: هو ذاك. قال: "فأعنِّي على نفسك بكثرة السجود". وهذا الحديث وإن لم يصرّح في السؤال بسؤال الدعاء فإنّ ذلك ظاهر من الجواب كما تراه. وفي "الصحيحين" (¬1) عن أم سُلَيم أنها قالت: يا رسول الله، أنس خادمك، ادع الله له، فقال: "اللهم أكثر ماله وولده، وبارك له فيما أعطيته". قال أنس: فوالله إن مالي لكثير وإن ولدي وولد ولدي ليتعادّون على نحو المائة اليوم. والأحاديث في هذا الباب أكثر من أن تُحصَى. [ص 115] وأما بعد موته فلم يُنقل عن أحد منهم ولا من التابعين أنه طلب منه شيئًا البتة، بل كان غاية أمرهم إذا حضر أحدهم عند قبره الشريف أن يسلّم عليه وعلى صاحبيه. ولم يكن هذا إعراضًا منهم وتهاونا بالخير، فإنهم رضي الله عنهم أسرع الناس إلى اغتنام الخير والاستكثار من أنواع البر، فلم يكونوا ليتركوا ذلك إلاَّ لأمرٍ ما. وأَصْرح من ذلك حديث البخاري في استسقاء الصحابة رضي الله عنهم بالعبّاس، وقول عمر: اللهم إنّا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك برسولك فتسقينا، وإنّا نتوسّل بعمّ نبيك. وقد مرَّ شرحه في بحث التوسل فراجعه (¬2). ¬

_ (¬1) البخاري (6334)، ومسلم (2480). (¬2) (ص 271، 279 وما بعدها).

وهو صريح أنهم رضي الله عنهم كانوا يرون أن طلب الدعاء ونحوه من رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم إنما كان جائزًا ما دام حيًّا بين أظهرهم، فأما بعد قبضه فلا, ولكنهم لحرصهم على طاعة الرسول وتعظيمه وعلمهم بعظم جاهه فعلوا أقصى ما يمكنهم وهو سؤال الدعاء من عمِّه. وأيضًا لم يُنقل أنَّ أحدًا من الصحابة سأل صحابيًا أفضل منه أمرًا من الأمور إلا إن كان مما يمكن تحصيله بسبب عادي، فإن لم يكن كذلك سأله الدعاء فقط. وهكذا التابعون مع الصحابة، وصغار التابعين مع كبارهم، وهلمّ جرًّا. حتى عمّ الجهل وفشت البدع، وصار الدينُ غريبًا، فوجد الشيطان الفرصةَ إلى إضلال الناس، فأخذ كلّ منهم يشرِّع من الدين ما لم يأذن به الله، ويتحكم في الدين بفعله، ويقضي فيه بحكمه، فوقع الناس فيما وقعوا فيه، فإنا لله وإنّا إليه راجعون! فهب أنّ أحدًا من بني آدم يتصرّف في الأرض والسموات - كما يقولون - فإن الشرع لم يُبِحْ لنا سؤاله شيئًا من الأمور إلا ما هو من الأشياء العادية. وهب أن بعض الغائبين والموتى يسمع كلام مَن كلّمه حيثما كان، فإن الشرع لم يُبح لنا أن نخاطب ميتًا ولا غائبًا. وهؤلاء الملائكة الكرام الذين هم متصرّفون في كثير من الأشياء قطعًا لم يُشْرَع لنا سؤالهم ولا خطابهم. ويا ترى لو أن إنسانًا أخذ يخاطب الملكين الحافظين، ويتلطّف بهما أن يكتبا حسناته ويؤخّرا كتابة سيئاته، ماذا يقول له الناس؟! ويا ترى لو أن إنسانًا أخذ يصيح: يا ملائكة ربي أكثروا من الاستغفار لي! [ص 116] مع أن استغفار الملائكة لبني آدم ثابت بكتاب الله تعالى، قال الله

سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر: 7 - 9]. وقال تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الشورى: 5]. [ص 97] قال المجيزون: فإن فينا مَن يقول: إننا نرى المَلِك من ملوك الدنيا لا بُدّ في قضاء الحوائج لديه من التوسُّل بوزرائه وجلسائه والوجهاء لديه، وقد يكون صاحب الحاجة من المجرمين الذين غضب عليهم الملك، فهو يستحي أن يسأل المَلِك بنفسه، ويعلم أنه لو سأله بنفسه لم يَنَلْ منه حاجته بخلاف ما إذا استشفع بأحد الوجهاء والمقرّبين. وقد أمر الله تعالى عبادَه بطلب الاستغفار من رسوله وسؤال الدعاء من جميع المسلمين ولا سيَّما من أهل الخير والصلاح. وأحاديث الشفاعة يوم القيامة متواترة. قال المانعون: الله أعلى وأجلّ، أما ضرب المثل بالملوك فهو من الجهل بالله جلّ ذكره، وذلك أن ملوك الأرض لهم أسباب تدعوهم إلى الانقباض عن العامة - تنزّه الله سبحانه وتعالى عنها - كالخوف، فالملك يرى أنه لو برز للناس دائمًا تمكّن أعداؤه من اغتياله. والكبر، فهو يرى أنه لو

برز للناس دائمًا لسقط من أعينهم واجترءوا عليه. والبخل، فهو يرى أنه لو برز للناس دائمًا وقضى حوائجهم فني بما بيده. والعجز، فهو يرى أنّ بروزه للناس دائمًا يشق عليه ويتعبه. فلهذه الأسباب ونحوها احتاجوا إلى جعل وزراء وحُجّاب يكونون وسائط بينهم وبين الناس. ولهم أسباب تمنعهم عن الإقبال على من أساء إليهم؛ كالجَوْر وعدم التخلُّق بالعفو، فإنه يحول بينهم وبين قبول توبة المسيء، ويمنعهم من قبول (¬1) حوائجه. وإذا تأملت هذه الأسباب وجدتها جميعها محالًا على الله تعالى، فهو سبحانه وتعالى يقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60]. وجاء في الحديث: "إن الدعاء هو مخّ العبادة". وفي رواية: "هو العبادة" (¬2). فالله سبحانه وتعالى أمر خلقه بسؤاله والالتجاء إليه، وأخبر أن الذي يمتنع عن سؤاله يستحقّ العقاب. ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولعلها "قضاء". (¬2) بهذا اللفظ أخرجه أبو داود (1479)، والترمذي (2969)، وابن ماجه (3828) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما. قال الترمذي: حسن صحيح. وباللفظ الأول أخرجه الترمذي (3371) من حديث أنس رضي الله عنه، وقال: غريب من هذا الوجه لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة.

وقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186]. وأمر عباده في أم كتابه أن يقولوا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}. [ص 98] ومعناه: لا نعبد إلا إيّاك، ولا نستعين إلا إياك. وفي "الصحيحين" (¬1) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول: من يدعوني فأستجيبَ له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له". وفي "صحيح مسلم" (¬2) عن أبي ذرّ قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم فيما يروي عن الله تبارك وتعالى أنه قال: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديتُه فاستهدوني أهدِكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عارٍ إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا، فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي لن تبلغوا ضرِّي فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ¬

_ (¬1) البخاري (1145)، ومسلم (758). (¬2) (2577).

ذلك من ملكي شيئًا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أُدخل البحر، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم ثم أوفيكم إياها، فمَن وجد خيرًا فليحمد الله، ومَن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه". وفي "صحيح مسلم" (¬1) عن أنس قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "لله أشد فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان [على] راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها ثم قال - من شدة الفرح -: اللهم أنت عبدي وأنا ربك. أخطأ من شدة الفرح". وأخرجه البخاري موقوفًا على عبد الله (¬2) بلفظ: "لله أفرح بتوبة عبده ¬

_ (¬1) (2747). (¬2) كذا فهم المؤلف من كلام التبريزي في "المشكاة": (2/ 31) - وهو ينقل لفظ الحديث منها - إذ قال بعد نقله لفظ حديث ابن مسعود: "روى مسلم المرفوع إلى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم منه فحسب، وروى البخاري الموقوف على ابن مسعود أيضًا". ففهم المؤلف أن البخاري أخرج هذا الحديث موقوفًا، وأخرجه مسلم مرفوعًا, وليس كذلك، وإنما أراد أن راوي الحديث عن ابن مسعود وهو الحارث بن سويد قال: حدثنا عبد الله (يعني ابن مسعود) حديثين، أحدهما عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم والآخر عن نفسه ... ثم ذكرهما. فالبخاري (6308) أخرج المرفوع والموقوف، وأما مسلم (2744) فأخرج المرفوع فقط، وهو حديث الباب. أما الموقوف فلفظ البخاري: "إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه =

المؤمن من رجل نزل في أرض دوِّيَّة مهلكة معه راحلته عليها طعامه وشرابه، فوضع رأسه فنام نومة، فاستيقظ وقد ذهبت راحلته، فطلبها حتى إذا اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله قال: أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت، فوضع رأسه على ساعده ليموت، فاستيقظ فإذا راحلته عنده عليها زاده وشرابه. [ص 99] فالله أشدّ فرحًا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده". وفي "صحيح مسلم" (¬1) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "يُستجاب للعبد ما لم يدعُ بإثمٍ أو قطيعة رحم، ما لم يستعجل". قيل: يا رسول الله ما الاستعجال؟ قال: "يقول: قد دعوت قد دعوت فلمْ أرَ يُستجاب لي، فيستحسر عند ذلك ويَدَع الدعاء". وفي "سنن الترمذي" (¬2) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "من لم يسأل الله يغضب [عليه] ". وفي "سنن الترمذي" (¬3) عن أنسٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "ليسأل أحدكم ربّه حاجته كلها، حتى يسأل شِسْع نعله إذا انقطع". ¬

_ = قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مرّ على أنفه فقال به هكذا ... ". (¬1) (2735) وهذا لفظه. وهو في البخاري بنحوه (6340). (¬2) (3373). (¬3) أخرجه الترمذي في الدعوات كما في "تحفة الأشراف": (1/ 107) وقد ألحق بمطبوعة جامع الترمذي (5/ 782) استدراكًا من "التحفة" وسنده ضعيف.

وأخرج الإمام أحمد في "مسنده" (¬1) عن أبي سعيد الخدري: أن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: "ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته, وإما أن يدّخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها". قالوا: إذًا نُكْثِر، قال: "الله أكثر". فمن تأمل هذه الدلائل وغيرها عرف بطلان تلك الأوهام، وعلم أن الإعراض عن الله سبحانه وتعالى والعدول عن دعائه وسؤاله موجب للعقوبة. وأما طلب الدعاء من الأحياء ولا سيَّما الصالحين فهو مستحبّ، ولكن بشرط ألاّ يقصر الإنسان من الدعاء لنفسه، بل يبتهل إلى الله تعالى بالدعاء مع طلبه من غيره. ونحن لا ندفعُ هذا وإنما ندفع الاستغاثة بالموتى والغائبين، فإنها إن كانت مع اعتقاد علمهم الغيب وقدرتهم على الإغاثة = كان في هذا من الشرك ما مرّ بيانُه، وإن كانت مع اعتقاد أن الله تعالى يُبلّغهم ويُجيب دعاءهم فنحو ذلك. وإذا كان العبد لا يثق باستجابة دعائه لنفسه بتلك الحاجة فكيف يثق باستجابة دعائه أن يُبلّغهم الله تعالى طلبه منهم الدعاء؟! على أنَّ هذه الأشياء مما لم ينزل الله به سلطانًا - بل هي مضادة لدلائل كتاب الله تعالى وسنة رسوله كما علمت مما مرَّ. ¬

_ (¬1) (11149). وأخرجه ابن أبي شيبة (29780)، والحاكم: (1/ 493)، والطبراني في "الأوسط" (4368) وغيرهم. وصححه الحاكم، وقال البوصيري: إسناده جيد. انظر "إتحاف الخيرة": (6/ 147).

[ص 100] وأما استشفاعهم يوم القيامة فإنما هو طلب الدعاء من الأحياء يومئذٍ، وليس في هذا ما يدلّ على جواز نداء الغائبين والموتى والاستغاثة بهم، على أن الشفاعة ملك لله تعالى، قال سبحانه وتعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر: 44]. وقال تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِه} [البقرة: 255]. والآيات في هذا كثيرة. وقد قال النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم لمن طلبها منه: "أعنّي على نفسك بكثرة السجود" (¬1). [ص 101] قال المجيزون: فإننا نرى كثيرًا أن أحدنا يجهد في دعاء الله تعالى فلا يُستجاب له حتى إذا ذهب إلى قبرٍ من قبور الصالحين فزاره واعتقد تعظيمه، ودعا بما يحبّ استُجِيب له. ونرى كثيرًا من أصحاب الحاجات والعاهات إذا استغاث بأحدٍ من الصالحين حصل له الفَرَج، ولو اقتصر على الدعاء لم يحصل له ذلك! وقد ينذر الإنسان بشيء لأحدِ الصالحين بنيّة حصول شيء، فيحصل ذلك الشيء قريبًا، فإذا أخّر النذرَ عاد ذلك الشيء كما كان أو أحدثت بدله عقوبة أخرى، فإذا بادَرَ الناذر ووفّى بنذره رُفعت عنه العقوبة. ونرى بعض أهل الجهات جرت عادتهم أنهم إذا احتاجوا إلى المطر ذهبوا إلى قبر بعض الصالحين، فذبحوا عنده وتوسّلوا به، فيسقون. وإذا ¬

_ (¬1) سبق تخريجه (ص 400).

أخروا بعض السنين تأخر المطر، وربما قصّروا في بعض حقوق الزيارة فتأخّر المطر. ونرى بعض النساء لا تحمل أو لا يعيش لها ولد أو تولد لها البنات، فإذا تمسكت بأحد المقابر حصل مطلوبها. وكثيرًا ما نرى ناسًا يتعرّضون لبعض الصالحين بإيذاء أولاده أو إخوانه المعتقدين فيه، فلا يلبث أن يُصاب ببلاء، حتى إذا ذهب وزار ذلك القبر واستعفى سدنته ذهب عنه ما يكره! ونرى كثيرًا من الخوارق عند قبور بعض الصالحين تدلّ على رضاهم وحبهم لمن يزورهم ويتقرّب إليهم وتبرّك بقبورهم. وكثيرًا ما ينذر الإنسان لأحد أصحاب القبور بشيء فلا يشعر إلا وقد جاءه أحد أتباعهم يطلب منه ذلك النذر مع أنه لم يُعلِم بالنذر أحد، وقد يرى ذلك الوليّ في نومه يأمره بأداء ذلك النذر ونحو ذلك. [ص 102] وكثيرًا ما نرى المجانين إذا زاروا بهم القبور ذهب جنونهم (¬1). ومن جملة الخوارق المرئية عند القبور: اتساع القُبَّة للزائرين ولو بلغوا آلافًا، مع أنها لا تسع بحسب العادة إلا نحو المائتين. ومنها خروج دراهم جديدة رمي بها للمجاذيب. ومنها اختلاف أحوال الناس في تناول التراب من الطاقات التي تكون في توابيتهم، فينال بعض الناس التراب بمجرّد إدخال يده، ويأتي من هو أطول منه يدًّا، فيمدّ يده ويطاولها ويجهد نفسه فلا ينال التراب، فيجيء ¬

_ (¬1) كتب المؤلف بعدها "و" وترك مقدار ثلاث كلمات.

بعض سدَنة القبر فيقول له: انذر بكذا، فإذا نَذَر بذلك ومدّ يده، نال التراب بسهولة! ومنها أن الزائرين يضعون أسلحتهم ونحوها على باب القُبَّة فلا يقدر أحدٌ على سرقتها، وقد تتراكم الأسلحة بكثرة، فيخرج الزائر فيجد سلاحه ظاهرًا، وكلما خرج أحدٌ منهم وجد سلاحه فوق تلك الأسلحة حتى لا يتعب في البحث عنه. وقد يكون هو أول من وضع سلاحه تحت جميع الأسلحة. ومنها أن يجيء المجذوب فينحر نفسه أو يبعج بطنه، ثم يعود في الحال سالمًا، وقد يضع أحدهم الرمح في ثغرة نحره حتى ينجم من قفاه أو في بطنه حتى ينجم من ظهره. بل قد يذبح أحد المجاذيب صاحبه حتى يُرى الرأس مفصولًا عن الجسد، ثم يردّه فيقوم المذبوح سالمًا. والحاصل أنها تظهر خوارق كثيرة، ومَن أراد مراجعتها فليراجع الكتب الموضوعة في كرامات الأولياء. [ص 103] قال المانعون: قد أسلفنا أول بحث التبرّك: أن كل ما يُراد تحصيله بسبب غير عاديّ لا يكون سببه إلاَّ شرعيًّا، والشرعيّ ما ثبت في كتاب الله تعالى وسنة رسوله. ولا ريب أن الدعاء سبب شرعي. وقد عُلِمَ من حال السلف الأول أنهم لم يكونوا يقصدون القبور للدعاء، بل ثبت عن الصحابة العدولُ عن الاستسقاء بقبر النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم إلى طلب الدعاء من عمّه، ومرّ (¬1) ذِكْر الحديث الصحيح، قوله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "لا تتخذوا قبري عيدًا ... " إلخ، ونَهْي زينِ العابدين لذلك الرجلِ الذي كان يعتاد قبر النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم للدعاء، وذِكْره لهذا الحديث. ¬

_ (¬1) (ص 215 - 216).

وإذا كان هذا في قبره صلَّى الله عليه وآله وسلم فغيره أولى، فحينئذٍ فجميع ما ذكرتموه من الدعاء عند القبور والاستغاثة بالصالحين والنذر لهم والذبح عند القبور، وتمسّك النساء بهم لأجل الولد، وغير ذلك = كلها محظورة في الشرع كما يعلمه من له مسكة بالكتاب والسنة. ولا يلزم من كونها محظورة في الشرع أن لا يحصل بها نفع كما لا يلزم من حصول النفع بها كونه مأذونًا بها في الشرع؛ فهذا السحر ينتفع به صاحبه، وهذه الكهانة والتنجيم، واستخدام الجن والرقى التي فيها كفر = كلها تنفع صاحبها، وهو حرام أو كفر. وهذه صفة الدجّال في الأحاديث الصحيحة ينتفع أصحابه بالمطر ورغد العيش وحياة أقربائهم الموتى - فيما يرون - وغير ذلك، واتّباعُه أشدُّ الكفر. وإذا كانت الأسباب العادية - مع أن الأصل في الشرع إباحتها - وفيها الحرام والكفر كالزنا والربا والسرقة ونحوها مما لا يُحْصَى، وأصحابها ينتفعون بها بلا شكّ، فما بالك بالأسباب غير العادية، والأصل في الشرع حظرها؟ والحاصل أن خوارق العادة قد قسمها العلماء إلى أقسام: أولها: معجزات الأنبياء، وهذه قد مضت بمضيّهم، وبقي بعض معجزات خاتمهم صلَّى الله عليه وآله وسلم، وأعظمها كتاب الله تعالى. الثاني: كرامات الأولياء، والعلماء مختلفون فيها، فمن العلماء مَن ينكرها رأسًا، وينسب كل مَن ظهر على يده ما يُشبه الخارقة إلى أحد الأقسام الآتية. [ص 104] والباقون يثبتونها ويفرّقون بينها وبين الأقسام الآتية بوقوع الكرامة على يد عالم عامل محافظ على ظواهر الكتاب والسنة، متنزّه عن مخالفتهما، هذا في حال حياته، وأما بعد وفاته فإنما تُعرَف بقرائن الأحوال.

وذلك أنه إن وقع شيء من الخوارق لأحد الموتى، نظرنا الأحوال الحاضرة حينئذٍ، فإن كانت موافقة للكتاب والسنة، وكانت تلك الخارقة صادرة لتأييد الكتاب والسنة = جاز تسميتها كرامة، وإلا فهي من بعض الأقسام الآتية. مثاله: أن يؤذى ولدٌ لبعض الصالحين الموتى، فيصاب المؤذي ببلاء، فالواجب أن ننظر، فإن كانت الأذية بغير حق، والمؤذي ظالم لولد ذلك الصالح = جاز أن تسمّى هذه كرامة. وإن كانت الأذية بحق مؤيَّد بدليل شرعي قطعنا أنها ليست بكرامة، وإنما هي من أحد الأقسام الآتية. إذا تقرّر هذا لديك عرفتَ أن مجرّد الخارقة من حيث هي لا تصلح دليلًا لشيء، فان أدلة الشرع محصورة وليست الخارقة منها، إلا المعجزة فليس الكلام فيها. وبهذا التقرير يندفع كل ما أوردتموه، ولنبيِّن أقسام الخوارق بعد المعجزة والكرامة فنقول: منها: الاستدراج، وهذا ما يجريه الله تعالى عند بعض الأفعال ابتلاءً للناس؛ هل يثبتون على دينهم الثابت بالكتاب والسنة أم يضلون. ويصلح أن يكون منه ما يقع للدجال من الخوارق. ومن هذا ما ابتلى الله تعالى به الصحابة يوم أُحدٍ كما دلَّ على ذلك القرآن. ومنها: السحر والشعبذة والاستعانة بالجن وأعمال الشياطين، يقصدون بها تضليل المسلمين وإزاغتهم عن الصراط المستقيم، كما كانوا يفعلون في الجاهلية في الأصنام، وكما يفعلونه مع عباد الأوثان، ومثله كثير جدًّا. وقد مرَّ شيءٌ من هذا أواخر الكلام على علم الغيب، فارجع إليه (¬1). ¬

_ (¬1) (ص 361 فما بعدها).

و [منها]: الكهانة والتنجيم وغير ذلك مما مرَّ في بحث الاطلاع على المغيِّبات. [ص 105] إذا تقرر ما ذكر، فالكلام على هذه الخوارق التي زعمتم وقوعها من وجهين: الأول: إنكار وقوعها أصلا، وأنه لا يجوز القول بوقوعها إلا عن مشاهدة أو تواتر بإخبارِ عددٍ يحصل بإخبارهم القطعُ بوقوعها، كما يقطع مَن باليمن أن أرض الهند موجودة. وعلى فرض صحة وقوعها، فإنها محتملة لأن تكون من الشعبذة، ولأن تكون من السحر، ولأن تكون من أعمال الشياطين، ولأن تكون استدراجًا يبتلي الله بها عباده، ولأن تكون كرامةً. وإذا كان الأمر كذلك لم يكن من الممكن تعيين كونها من أحد الأقسام، وإنما المتيسِّر أن توزَن بميزان الشرع، فإن كان صاحبها ثابتًا على كتاب الله تعالى وسنة رسوله، وكانت الخارقة مؤيِّدة لأحكام كتاب الله تعالى وسنة رسوله = كان الواجب إحسان الظن بصاحبها أن الله تعالى أكرمه. ومع ذلك فليست دالةً على أنه معصوم من المعاصي، بل ولا تمكن العصمة لغير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. ثم إذا وقعت لذلك الشخص خارقة أخرى، كان حظّها حظّ صاحبتها، وهكذا أبدًا. فإن رأينا خارقةً تؤيد خلاف أحكام كتاب الله تعالى وسنة رسوله، حَكَمْنا عليها أنها من أحد الأنواع الأخرى. والمقصود أن أصول الأحكام في شريعة الإِسلام هي الكتاب والسنة لا غير، والعالم هو العالم بأحكامهما، والوليّ هو العامل بما عَلِمه منهما، والخوارق بعد المعجزة ليست بحجّة ولا دليل ولا يُسْتند إليها في قليل ولا

كثير، وإنما تفيد مجرَّد حُسن الظن لا غير، ولهذا كان سيّد الطائفة الجُنيد رضي الله عنه يقول لأصحابه: لو رأيتم رجلاً قد تربّع في الهواء فلا تقتدوا به حتى تروا صنيعَه عند الأمر والنهي، فإن رأيتموه ممتثِلًا لجميع الأوامر الإلهية مجتنبًا لجميع المناهي، فاعتقدوه واقتدوا به. وإن رأيتموه يخلُّ [106] بالأوامر ولا يجتنب المناهي فاجتنبوه (¬1). فجَعَل الدليل على كون الخارق كرامة هو الثبات على جميع الأوامر، واجتناب جميع المناهي، فكان من المحال أن يجعل الخارق دليلًا على الثبات، أو على كون فعلٍ من الأفعال هو من الدين وإلا لكان دورًا، فتأمّل. مع أن هذا الأمر من المعلوم بالضرورة لكل مسلم، فإن أركان الإيمان إنما هي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسوله واليوم الآخر والقَدَر خيره وشرّه. ومِن لازم الإيمان بالله ورسوله الإيمانُ بالكتاب والسنة والاهتداءُ بهديهما. والخارقُ بعد المعجزة خارج عن ذلك كله، اللهم إلا أن يختار أحدٌ لنفسه الكفر بهما والإيمانَ بالخارق، فهو وما تولّى، أعاذنا الله وجميع المسلمين من الخذلان! الوجه الثاني في الكلام على هذه الخوارق: بيانها تفصيلاً: أولاً: قولكم: إن أحدكم يجهد في دعاء الله تعالى ... إلخ. جوابه: أنه إن صحَّ ولم يتكرّر فهو مجرّد موافقة. فإن تكرر حتى حصل لصاحبه القطعُ بمقتضاه، فهو من الاستدراج، أو مما يصلح له من بقية الأنواع، فإن الله تعالى يقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]، ويقول: {وَإِذَا سَأَلَكَ ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (1719) من قول أبي يزيد البِسْطامي.

عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]. الثاني: قولكم: ونرى كثيرًا ... إلخ. والجواب عنه كالذي قبله. الثالث: قولكم: وقد ينذر الإنسان ... إلخ والجواب عنه كالذي قبله، وقد يكون البلاء الذي أصابه بسبب تأخير النذر من الشياطين، ولذلك إذا أطاعهم بأداء ما نذر به كفُّوا عنه. وقد مرَّ في التبرّك قول زينب امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنها له أنها كانت تقذف عينها فتذهب إلى يهودي يرقي، فإذا رقاها سكنت، فقال عبد الله رضي الله عنه: إنما ذلك الشيطان ينخسها بيده ... (¬1) إلخ. الرابع: قولكم: ونرى بعض أهل الجهات ... والجواب عنه: أن هذا مجرّد موافقة، فإن تتابعَتْ وتكررت حتى حصل العلم بذلك، فهو من الاستدراج - والعياذ بالله - كما يقع مع الدجّال. والغالب أن هذا مجرّد موافقة يصير أهلُ الجهة إلى الوقت الذي جرت العادة بنزول المطر فيه، فإذا أبطأ أسبوعًا أو نحوه ذهبوا ففعلوا تلك الأفعال، ثم ينزل الله تعالى المطر على جاري العادة في نزوله في ذلك الفضل، وقد يكفّون في بعض السنين عن فعلهم [107] فيتفق تأخّر المطر تلك السنة، فيجد الشيطان الفرصة إلى تثبيت تلك العقيدة في صدورهم. وقد أخرج النسائي (¬2) عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "لو ¬

_ (¬1) تقدم (ص 227). (¬2) (1526) وفي "الكبرى" (1849). وأخرجه أحمد (11042)، والحميدي (751) وابن حبان (6130) وغيرهم بلفظ: "سبع سنين". وأخرجه غيرهم بلفظ "عشر سنين".

أمسك الله القَطْر عن عباده خمس سنين ثم أرسله لأصبحتْ طائفة من الناس كافرين، يقولون: سُقينا بنوء المِجدَح". وعلى كل حال فلا يخلو عن استدراج، نعوذ بالله من غضبه و (¬1). الخامس: قولكم: ونرى بعضَ النساء ... إلخ. والجواب: أن هذا مجرَّد اتفاق، فإن تواتر وتكرر حتى حصل العلم بمقتضاه فهو استدراج والعياذ بالله. السادس: قولكم: وكثيرًا ما نرى أُناسًا ... إلخ. والجواب: أنه قد مرّ أن المؤذي لولد ذلك الصالح إن آذاه ظلمًا وعدوانًا، وبغير حق ثابت في أحكام الكتاب والسنة، فيجوز أن يكون ما ناله كرامة للصالح. وإن كان بالعكس، كان أنكر مسلمٌ البناء على القبر ونحوه، فابْتُلي بشيءٍ فهذا من أعمال الشياطين. والغالب أن هذا لم يقع ولا يقع وإنما هو من ظنون هؤلاء الجهال كما قال قوم: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [هود: 54]. وعلى فرض أنّ شيئًا من ذلك وقع فهو إما مجرّد اتفاق، وإما من أعمال الشياطين الذين اتخذوا ذلك القبر شبكةً لاصطياد الجهّال، والعياذ بالله. وإما من سِحْر أولئك السَّدَنة، فإن وافقهم ذلك المنكر على باطلهم كفوا عنه، وإذا كان المنكر ثابتَ العقيدة صحيحَها لم يُصِبْه ما يكره أبدًا. السابع: قولكم: ونرى كثيرًا من الخوارق ... إلخ. ¬

_ (¬1) كذا في الأصل.

والجواب: أن أصحاب القبور موتى لا يسمعون ولا يُبصرون على ما تقدّم، وليس لهم تصرّف في شيءٍ من الدنيا، وإنما يحضر عند قبورهم بعضُ الشياطين يضلون بني آدم، ليهلكوهم ويُرْدوهم، وربما كان ذلك من الاستدراج والعياذ بالله، فاتقوا الله في أنفسكم وارجعوا إلى دينكم. الثامن: قولكم: وكثيرًا ما ينذر ... إلخ. والجواب: أن هذا - إن صحّ - فهو من أعمال الشياطين يوحون إلى ذلك الولي من أوليائهم ذلك الخبر بعد أن سمعوا الناذِرَ يذكره، أو أخبرهم به وسواسه. وقولكم: وقد يرى ذلك الوليَّ في نومه ... إلخ. الجواب: أنه إنما رأى الشيطان، والشيطان يتصور بكل أحدٍ إلا رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم، على أن العلماء رضي الله عنهم صرّحوا أنه لو رأى الإنسانُ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم وأمره بشيء لم يجُزْ له أن يعمله إن كان غير جائز في الشرع، وقد مرَّ إيضاح ذلك (¬1). [ص 108] التاسع: قولكم: وكثيرًا ما نرى المجانين ..... الجواب: أن هذا من أوضح الواضح من عمل الشيطان، كما مرَّ عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. العاشر: قولكم: ومن جملة الخوارق ..... إلخ. والجواب: أن اتساع القبة لا يصح، فإن فُرِض أنه صحّ بمشاهدةٍ أو ¬

_ (¬1) (ص 335).

تواتر يفيد العلم القطعي، فهو استدراج. وخروج الدراهم هو حيلة من حيل السَّدَنة؛ يدخل أحدهم إلى التابوت ويقف فيه، وعنده دراهم مجلوّة، فإذا أريد التمويه تكلّم بعض السَّدَنة الذين خارج التابوت بما يفهم منه الداخل، فيرمي بشيءٍ من تلك الدراهم. وقد بلغنا عن بعض القبور أن أحد السَّدَنة يدخل في ذلك التابوت، ويُدخل معه دراهم مجلوّة ونارًا، فإذا أريد التمويه وضع بعض الدراهم على النار حتى يحمى ثم أخذه ورماه إلى الخارج، ويموّهوا على الناس أنَّ الوليّ أحضره من البلاد التي تُطبَع فيها الدراهم. وبهذه الحيلة يضع ذلك السادن حجرًا عريضة فيجعل عليها ترابًا، فإذا أريد التمويه أبعدها عن قرب الطاقة التي يتناول منها التراب، فإذا مد الزائرُ يده لم تصل إلى الأرض لبعدها، فإذا جاء بعض السَّدَنَة وأخبره أن ينذر فنذر، تكلم بما يفهم به صاحبه، فيرفع تلك الحجر إلى حيث تنالها يد الرجل بسهولة. وأمثال هذه الحيل كثيرة جدًّا عند هذه المشاهد، وكثيرًا ما تساعدهم الشياطين فيها، فتذهب الشياطين في البلاد توسوس للناس، وتسمع ما يكون منهم من نذور ونحوها، وترجع تخبر أصحابها، وإذا كانت الشياطين تخبر أصحابها بما استرقته من خبر السماء فما بالك بخبر الأرض؟ الحادي عشر: قولكم: ومنها أن الزائرين يضعون أسلحتهم ... إلخ. والجواب: أن هذا باطل لا يصحّ، فإن صحّ يقينًا فقد يكون من عمل الشياطين، فيكون قرين كلِّ إنسان يعرف سلاحه، فينظر أين وضَعَه ويعلم

ذلك، فيبقى يحرسه يرقب صاحبه، حتى إذا أراد الخروجَ أسرع فقدَّم له سلاحَه. وقد يكون ذلك من الاستدراج والعياذ بالله. [ص 109] الثاني عشر: قولكم: ومنها أن يجيء المجذوب ... إلخ. والجواب: أن هذا من سِحْر الشياطين، يسحرون المجذوب حتى لا يدري ماذا يصنع، ثم يسحرون عيون الناس، فيخيلون إليهم هذه الأشياء. وها نحن قد بينّا لكم المحامل التي تُحمل عليها هذه الخوارق المدّعاة، وما كان من الاطلاع على المغيّبات قد ذكرنا محاملَها في ما مضى، لتعلموا أنه ما من خارقةٍ - غير المعجزات - إلا وهي إلى الباطل أقرب، وأن الحجة هي كتاب الله تعالى وسنة رسوله فقط. فإن قلتم: إنّ فَتْح هذا الباب من تجويز أعمال الشياطين يؤدّي إلى مُحالات كثيرة، فلا يثق الإنسان بما يرى ولا بما يسمع، إذ كل شيء من ذلك محتمل لمثل ما ذُكِر، فقد يخيّل إليه الشيطان أنه يطأ زوجته وهو إنما يطأ بنته، مع تخييله لبنته أنه إنما يطأها زوجُها. وأشباه ذلك مما لا يُحْصىَ. فالجواب: أننا لأجل ذلك قدّمنا إنكار هذه الخوارق المدّعاة، وقلنا: إنها لا تثبت أصلاً، وإن فُرِض أنه ثبت شيءٌ منها بطريق القطع عرضناها على حكم كتاب الله تعالى وسنة رسوله، فإن قضى الكتاب والسنة ببطلانها عَلِمنا قطعًا أنها من تلك الأنواع الباطلة. والقولُ بأن شيئًا من هذه الخوارق يجوز أن يُستدلّ به ولو خالف الكتاب والسنة قولٌ لا ينبغي أن يصدر من مسلم.

تنبيه

تنبيه قد يستبعد بعضُ الناس وجود الشياطين عند قبور الصالحين. والجواب: أن الشياطين مأذون لهم فيما هو أشدّ من هذا، ففي "الصحيحين" (¬1) عن أنسٍ قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم". وفي "صحيح مسلم" (¬2) عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "ما منكم من أحدٍ إلا وقد وُكِلَ به قرينه من الجنّ وقرينه من الملائكة" قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: "وإياي، ولكن الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير" ولمسلم (¬3) أيضًا نحوه عن عائشة. وفي "الصحيحين" (¬4) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "إن عفريتًا من الجن تفلّت البارحة ليقطع عليَّ صلاتي، فأمكنني الله منه، فأخذته ... " الحديث. وقد أخرجه مسلم (¬5) عن أبي الدرداء قال: قام رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم يصلي فسمعناه يقول: "أعوذ بالله منك"، ثم قال: "ألعنك بلعنة الله" ثلاثًا، وبسط يدَه كأنه يتناول شيئًا، فلما فرغ من الصلاة قلنا: يا رسول الله، قد سمعناك تقول في الصلاة شيئًا لم نسمعك تقوله قبل ذلك، ورأيناك ¬

_ (¬1) البخاري (3281) ومسلم (2175) عن صفية بنت حُيي رضي الله عنها، وأخرجه مسلم (2174) عن أنس رضي الله عنه. (¬2) (2814). (¬3) (2815). (¬4) البخاري (3423)، ومسلم (541). (¬5) (542).

بسطت يدك؟ قال: "إنّ عدوَّ الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي فقلت: أعوذ بالله منك ثلاث مرات، ثم قلت: ألعنك بلعنة الله التامة، فلم يستأخر ثلاث مرات، ثم أردت أخذه. والله لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقًا يلعب به ولدان أهل المدينة". وفي "سنن أبي داود" (¬1) عن أنسٍ قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "رصّوا صفوفكم، وقاربوا بينها، وحاذوا بالأعناق، فوالذي نفسي بيده إني لأرى الشيطان يدخل من خلل الصفّ كأنها الحذف". وفي "صحيح مسلم" (¬2) عن ابن مسعود قال: "إن الشيطان ليتمثل في سورة الرجل، فيأتي القومَ فيحدّثهم الحديث من الكذب، فيتفرقون، فيقول الرجل منهم: سمعت رجلاً أعرف وجهه ولا أدري ما اسمه يحدّث". ولا يخفى أن الشياطين بالصالح أشدّ اهتمامًا، وهذه المشاهد حريّة بأن تكون محضورة بالشياطين؛ لأنه إما أن يكون صاحب القبر صالحًا لم تتمكّن منه الشياطين في حياته، فهم حريصون على أن يعتاضوا عما فاتهم منه بما ينالونه بواسطة قبره. وإما أن يكون طالحًا فهو صاحبهم حيًّا وميّتًا؛ ولهذا نرى حرم الله تعالى وحرم رسوله منزّهين عما ذكرتم، وإن كان شياطين الإنس والجن ربما انتهكوا حرمتهما بحِيَل يتلاعبون بها بعقول الجهّال مما يعلّمهم إيّاها الشيطان، كما كانت الأصنام والأوثان في الجاهلية داخل الكعبة وخارجها. نسأل الله تعالى التوفيق. ¬

_ (¬1) (665). وأخرجه النسائي (815)، وأحمد (13735). وصححه ابن خزيمة (1545) وابن حبان (2166). (¬2) (7).

[78] قال المجيزون: أما بعد هذا فلا طاقة لنا بجدالكم، ولكنّا نكتفي بما هو مثبت في دواوين الإِسلام من المؤلفات التي لا تُحصى، بل وبإجماع المسلمين على النداء والاستغاثة بالأنبياء والصالحين، حتى إن الظاهر أن ذلك أمر فَطَرهم الله تعالى عليه، وإنكم وإن أتعبتم أنفسكم ولجَجْتُم في الخطاب فلن تقدروا على تغيير ذلك ولا تبديله، {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} [التوبة: 32]. وإنما نسألكم عن أمر واحد وهو أن المسلمين في هذا الأمر فِرَق: الفريق الأول: مَن يُثبت للأنبياء والصالحين الكشف الصادق في السموات والأرض، ويثبت لهم التصرّف فيما بين ذلك مُسْنِدًا ذلك إلى الإذن الربّاني. الفريق الثاني: مَن لا يثبت لهم ذلك وإنما يقول: إن الله تعالى يبلغهم ويجيب دعاءهم. الفريق الثالث: مَن لا يقول بهذا ولا بهذا, ولكنه يثبت التوسّل، ويجعل الطلب منهم والاستغاثة بهم حاضرين في معنى طلب الدعاء، ويجعل خطابهم عند قبورهم بناء على أنهم يسمعون الكلام، كما ثبت ذلك في أحاديث صحيحة، وأنهم قادرون على الدعاء وإن كانوا موتى، كما ثبت من وقوع العبادات من بعض الموتى. ويجعل نداءهم والطلب منهم والاستغاثة بهم غائبين في معنى التوسّل. وليس من هذه الفِرَق من يدّعي لمخلوقٍ الاستقلال بالقدرة من دون الله تعالى، ولا مشاركته في القدرة، وإنما يقولون: إن الله سبحانه وتعالى يُسْمِع مَن يكرمه من خلقه ما غاب عنه من المسموعات، ويُطْلِعُه على ما غاب من

المعلومات، ويُجري على يده ما شاء من خوارق العادات. ويبنون على ذلك جواز النداء والطلب على ما مرّ. وكلٌّ منهم متمسّك بدليل شرعيّ، فلم تتمسكوا معهم بالأدب الواجب بين العلماء، بل بادرتم إلى تفسيقهم وتكفيرهم وتضليلهم، وإخراجهم من الدين رأسًا [79] فجعلتم أمة محمَّد صلَّى الله عليه وآله وسلم محصورةً فيكم، وسائر الأمة مرتدون، فما سمعنا بضلال أضلّ من هذا! وما دام الأمر على هذا فالكلام معكم ضائع, لأنكم تعتبروننا مرتدين كفّارًا نحن وجميع هذه الأمة إلا أفرادًا يُعدّون بالأصابع. وهذا القول يكفي في ردّه حكايتُه. قال المانعون: إنا والحمد لله أنصار الحقّ لا عداوةَ بيننا وبين الحق، وقد تدبّرنا كتاب الله تعالى وسنة رسوله وآثار سلف هذه الأمة، فوجدنا السبيل واضحًا، والمنار بيّنًا، والهدى معروفًا. وقد سردنا في هذه الرسالة من أدلة الكتاب والسنة ما يغني عن سواه، ولا تجهل أن هناك أحاديث ضعيفة وآثارًا سخيفة لا يصحّ الاستناد إليها ولا الاعتماد عليها ولو لم يعارضها شيءٌ، فكيف وقد عارضها القرآن والسنن المتواترة. وأما دعوى الإجماع فباطلة، فإنه لم يزل في كل زمان قائم لله بحجة، ومع ذلك فإنه قد سبق (¬1) عن ابن حجر قوله: إن الإجماع لا يكون حجة في هذه الأعصار لتغيّر الناس وغَلَبة الفساد. ومع هذا فالإجماع إنما يكون حجة إذا عُلِم يقينًا, وليس عندكم فيه هنا إلا الاحتمال، بل ليس - والحمد لله - (¬2) ¬

_ (¬1) لم يسبق هنا شيء، ولعله مما لم نعثر عليه من مباحث الكتاب. وقد ذكره المؤلف في رسالة "عمارة القبور". (¬2) تحتمل قراءتها: "ليس فيه بحمد الله ... " وما أثبته أقرب إلى الرسم.

احتمال أصلاً - كما مرّ -. وهذه الأدلة القواطع من آيات الكتاب، والأحاديث المتواترة الصحيحة, فما معنى دعوى الإجماع بمناقضتها ومعارضتها؟ وإنّا لله وإنّا إليه راجعون. وعليكم أن تراجعوا كلام الإِمام الشافعي في الإجماع، وكلام الإِمام أحمد، وقد مرَّ بعضُه. وأما قولكم: إن الناس مفطورون على ذلك، فهذا جهل بيّن، فإن الفطرة إنما هي معرفة الله وحده، وما خرج عنها فهو ليس من الفطرة، وإنما هو التقليد المحض، كما ينشأ أولاد الكفار كفّارًا، يظنون الحق ما عاش عليه آباؤهم وأجدادهم وألِفُوه واعتادوه، فيقول قائلهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23]. ويُنشد: بلادٌ بها عقَّ الشبابُ تمائمي ... وأوّل أرضٍ مسّ جلدي ترابُها (¬1) ويردّد: أولئك آبائي فجئني بمثلهم ... إذا جَمَعَتْنا يا جريرُ المجامع (¬2) ويقول أحدهم: واعجباه! أيمضي آباؤنا وأجدادنا وفيهم العلماء والعُبّاد والأمراء على هذه العقيدة وتكون باطلة، إن هذا لشيء عجيب! أوَ يسوغ لنا أن نخالفهم في ذلك ويفوز هؤلاء النّفَر القليل بالحق دونهم؟ لو كان خيرًا ما سبقوهم إليه. ¬

_ (¬1) البيت في "الأمالي" (1/ 84) للقالي، وتخريجه في "سمط اللآلي" (ص 272) ونُسب لغير واحد. وانظر "الكامل": (2/ 842). (¬2) البيت للفرزدق في "ديوانه" (1/ 418).

ثم يوحي بعضهم إلى بعض أن اثبتوا على ما وجدتم عليه آباءكم وأشياخكم، وأعرضوا عن كلام من يريد أن يصدكم عن ذلك والغَوا فيه، ولا تتفكّروا فيه، ولا تتدبروه، ولا تطالعوا رسائلهم فإنها مضلّة. وهكذا تمضي أعمارُهم في مناصبة الحق ومعارضته ومحاربته ومناقضته والإعراض عنه والتحذير منه، [ص 80] كأنهم لا يقرؤون كتاب الله تعالى، فيعلمون أن الدين هو ما جاء من عند الله تعالى بكتابه وسنة رسوله الصحيحة, فيتدبرون القرآن ويراجعون السنة. وهب أنّ آباءهم وأجدادهم وأشياخَهم كلهم على الحق، أفلا يجب على هؤلاء أن يعرفوا الحق بعينه، ويأخذوه من معدنه، حتى يكونوا على يقين منه لا على مجرد التقليد والظن المتردّد؟ وإننا لا نطلب منكم إلا أن تتبعوا الحق وتعملوا بموجبه مع قطع النظر عما كان عليه الآباء والمشايخ وغيرهم، فإنكم مكلّفون كما هم مكلّفون، والحُجَج قائمة عليكم كما كانت عليهم. ولو رجعتم إلى أنفسكم لعلمتم أنه إنما يحملكم على معارضة الحق مجرّد الهوى والتعصّب والإلْفَة لأنفسكم ولآبائكم ولأشياخكم. وهذه هي صفة أهل الضلال كما تعلمون، فاتقوا الله في أنفسكم، وجرّدوها عن الأهواء، واعمدوا إلى الحق تجدوه واضحًا لا غبار عليه. إن الفتى من يقول: هانا ذا ... ليس الفتى مَن يقول: كان أبي (¬1) ¬

_ (¬1) يُنسب إلى علي بن أبي طالب، وهو في "الجليس الصالح": (1/ 109)، و"غُرر الخصائص" (ص 74) بلا نسبة.

فإن آباءنا وآباءكم ليسوا بمعصومين عن الخطأ، ولا ندري ما هو الذي أخطأوا فيه مما أصابوا، وإنما يُعرف ذلك بالحجة، وهي كتاب الله تعالى وسنة رسوله الصحيحة, فعليكم بهما ترشدوا إن شاء الله تعالى. ولا سيّما والخطأ في مسائل التوحيد والجهل بها لا يُعذَر صاحبه، كما لا يسوغ التقليد فيها اتفاقًا. واعلموا أن الله تعالى لم يحفظ علينا كتابه وسنة رسوله إلا لتقوم علينا الحجةُ بهما لئلّا نتمسّك بشبهة التقليد ونقول: لم نجد متمسّكًا غيرها, لذلك حفظ الله تعالى علينا كتابَه وسنةَ رسوله حتى لا تبقى لنا شُبهة. وكيف بكَ يا ابنَ آدم إذا قال الله تعالى لك: ألم تعلم أن من شرط الإيمان أن تؤمن بكتابي وبرسولي؟ قلتَ: بلى يا رب. قال: أوَ لم تعلم أن كتابي وسنة رسولي كانت موجودة في حياتك؟ قلت: بلى يا رب. قال: أوَ لم يكن يمكنك أن تفهم معانيهما؟ قلت: بلى يا ربّ. قال: فلماذا أعرضتَ عنهما واتبعتَ ما يقول الناس؟ ثم يقول لك: ألم تعلم أني أنزلتُ كتابي مخاطبًا به جميع بني آدم قائلاً: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [البقرة: 21]. فيقول: بلى يا ربّ. فيقول: أوَ لستَ من الناس المخاطَبين. فتقول: بلى يا ربّ.

فصل

فيقول لك: أوَ لم تقرأ فيه أنه {عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103]. فتقول: بلى يا ربّ. فيقول لك: أوَ لم تقرأ هذه الآية؟ فتقول: بلى يا رب. فيقول: أوَ لم تفهم معناها بالأسلوب العربي؟ فتقول: بلى يا رب. فيقول: وكيف اعتقدتَ ما يناقضها؟ فلا يسعك إلا السكوت، إذ لا يمكنك أن تقول: عملتُ بقول آبائي وأشياخي، فتعترف على نفسك أنك قدمتَ قولَ آبائك وأشياخك على كلام ربك جلّ جلاله! [81] فصل وأما شكواكم من التكفير والتفسيق فهي شكوى لا معنى لها، وإنما عليكم أن تتجرَّدوا عن الأهواء، وتنظروا بعين الإنصاف وحب الحق حتى تقفوا على ما وقف عليه المكفِّرون والمُفَسِّقون؛ فإن تبين لكم أن لهم حجة في ذلك فلا تلوموهم على أن عملوا بها. وإن لم تجدوا لهم حجة ووجدتموهم متأوّلين، فاعلموا أنهم معذورون في ذلك. وقد مرّ في هذه الرسالة ما يتعلق بهذا (¬1). وإن اتضح لكم أنهم لا حجة لهم ولا تأويل، وإنما قالوا ما قالوه ¬

_ (¬1) لم نره فيما سبق.

بالهوى والعناد، فحينئذٍ فلوموهم عن يقين. وقد قسّمتم الناس على فِرَق، فنبني الكلام عليها، فنقول: أما الفرقة الثالثة، وهم الذين يجيزون التوسّل، ويجيزون الطلب من الصالحين الحاضرين الأحياء، لا على أنهم قادرون على تحصيل المطلوب بأنفسهم، بل على أنهم قادرون على تحصيل سببه، وهو الدعاء. فمعنى قولهم: "يا سيدي فلان أغِثْني أو أدركني أو الغارة" = أغثني بالدعاء، وأدركني بالدعاء، والغارة بالدعاء. ويخاطبون الموتى عند قبورهم بناءً على أنهم يسمعون الكلامَ ويقدرون على الدعاء، وينادون الغائبين ويستغيثون بهم لا على معنى أنهم يسمعون ويُغيثون بل على معنى التوسّل. فقولهم: "يا بدوي الغاره" يريدون به: اللهم إنا نسألك بجاه البدوي الإغاثة = فمسألة التوسّل قد مرّ ما فيها. وخلاصة القول فيها: أنه خلاف السنة، وطلب الدعاء ثابت بالكتاب والسنة، وطلب الفعل من الحيّ الحاضر بمعنى طلب الدعاء لا بأس به إذا قامت القرينةُ على المراد، فأما إذا لم تقم قرينة فالعمل على الظاهر، وهو أن الطالب يعتقد أن المطلوب منه يقدر على تحصيل المطلوب. وسيأتي ما في هذا. ثم إن قول ما ظاهره كفر محظور في الشرع وإن كان القائل لم يرد به ظاهره. وأما خطاب الموتى عند قبورهم وسؤال الدعاء منهم صريحًا، فإنه يدلّ على اعتقاد أنهم يَسْمعون أو يُبلّغون ويَدْعون.

وقد مرت الأدلة الصحيحة من الكتاب والسنة على عدم سماعهم وعدم دعائهم فراجعْها (¬1). ولا ريب أن فاعل ذلك مخالف لتلك الأدلّة، وبمراجعتها يتبيّن حكم مخالفها. وأما إن طلب منهم غير الدعاء فالأمر أشدّ, وفيه نحو ما سبق قريبًا. وأما الفرقة الثانية، وهم الذين يعتقدون أن الله تعالى يبلّغ الصالحين غائبين أو موتى، فهؤلاء مكذّبون لصريح الكتاب والسنة، فإن التبليغ إنما يقع للأنبياء في حال حياتهم في بعض الوقائع لا في جميعها. [82] ومع ذلك فإنما يجوز في حال حياتهم أو غيبتهم أن يقال كما قال عاصم: "اللهم أخبر عنا رسولك" (¬2). وأما أن الله تعالى يقبل رجاءهم، فهذا صحيح في حقّ الأنبياء عليهم السلام غالبًا لما مرّ، ومع ذلك فالطريق في سؤالهم ذلك: أن يُسأل منهم الدعاءَ حال حياتهم. وأما إذا كانوا غائبين أو قد ماتوا فإنما يقال: اللهم شفِّع نبيّك صلَّى الله عليه وآله وسلم فينا، ونحوه مما ثبت بالدليل. وأما غير الأنبياء فإنما المشروع أن يُسأل منهم الدعاء في حال حياتهم، وأما بعد موتهم فإنما الجائز أن يسأل من الله تعالى أن يجعله مع الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسُن أولئك رفيقًا. وأما الفرقة الأولى، وهم الذين يثبتون للأنبياء والصالحين الكشفَ الصادق في السموات والأرض عمومًا، ويثبتون لهم التصرّف فيما بين ذلك، مُسْنِدين ذلك إلى الإذن الربّاني، فهؤلاء في إثباتهم للأنبياء الكشفَ في ما ¬

_ (¬1) (ص 399 وما بعدها). (¬2) سبق تخريجه (ص 403).

بين السموات والأرض عمومًا مكذّبون لكتاب الله تعالى وسنة رسوله، لما مرّ بيانُه في المقام الأول، وفي إثباته للصالحين أشدّ تكذيبًا للكتاب والسنة. وفي إثبات التصرُّف فيما بينهما عمومًا مكذّبون لكتاب الله تعالى وسنة رسوله لما مرّ بيانه في المقام الثاني. ثم إن ما خالف كتاب الله وسنة رسوله فهو باطل، والمبطل في العقائد غير معذور عند الجمهور. وفوق ذلك فمخالفة كتاب الله تعالى في الاعتقاد لا تخلو أن تكون صريحة أو غير صريحة، فغير الصريحة تكذيبٌ له غير صريح، وهذا خطأ في الاعتقاد، وقد مرّ أن صاحبه غير معذور عند الجمهور. وأما الصريحة فهي تكذيب صريح لكتاب الله تعالى، [ص 83] وتكذيبه الصريح كفر صريح. وهذا كتاب الله تعالى بين أيديكم، وهذه اعتقاداتكم، فانظروا أين منزلتكم؟ ثم إن الاستعانة والاستغاثة والاستعاذة ونحوها من أقسام الطلب إن كانت مما جرت به العادةُ المشتركة بين سائر البشر، فالأصل جوازها حتى يرد الشرع بالمنع. وإن كانت فيما لم تَجْرِ به العادة؛ بأن يطلب من مخلوق ما لا يقدر عليه البشر عادة، فهذه من العبادة، قال الله عزَّ وجلَّ: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي ...} الآية [غافر: 60]. وفي الحديث عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "الدعاء هو العبادة" ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} رواه أحمد والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجه (¬1). وفي رواية للترمذي عن أنس ¬

_ (¬1) سبق تخريجه (ص 408).

قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "الدعاء مخ العبادة" (¬1). ولا شك أن مَن طلب من المخلوق ما لا يقدر عليه البَشَر عادةً، فقد عمل معه ما لا يُعْمَل إلا مع الله، أي: دعاه وعَبَدَه. وعبادة غير الله تعالى كفر بلا شكّ. ولا شكَّ أن مَن يعمل هذا مع المخلوقين معتقد استحقاقَهم لمثله. وبذلك الفعل والاعتقاد يَنْقض شهادته بوجهيها، فإن من شهد أن لا إله إلا الله فقد أخبر أنه يعتقد أن لا معبود بحقّ في الوجود إلا الله، والتَزَم أنه لا يعبد إلا الله. فمتى أخلّ بأحدِ الأمرين كفر، فكيف بمن أخلّ بهما معًا؟ والله أعلم. قال المجيزون: فهمنا هذا وبقي أن كثيرًا من المانعين يرموننا بكفر أهل الجاهلية وأشدّ منه، فما وجه ذلك؟ قال المانعون: وجهه أنكم تعتقدون في غير الله تعالى أنه يضر وينفع، وهذا هو الذي كانوا يعتقدونه في أصنامهم، وكانوا عند الشدائد يوحّدون الله تعالى، كما دلّ عليه القرآن في عدة مواضع: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} [الأنعام:63 - 64]. إلى غير ذلك من الآيات الدالة أن القومَ كانوا يوحّدون الله تعالى عند الشدائد، وأنتم بخلاف ذلك، بل كلما اشتدت عليكم الشدائد ازددتم غفلةً عن الله تعالى وذكرًا (¬2) للذين تدعون من دونه! ¬

_ (¬1) سبق تخريجه (ص 408). (¬2) الأصل: "وذكر" سهو.

قال المجيزون: لا سواء، فإن أهل الجاهلية كانوا يعتقدون في أصنامهم أنها تضرّ وتنفع من دون الله أو معه، ونحن إذا اعتقدنا في الصالحين أنهم يضرون وينفعون [ص 84] فإنما نعتقد أن ذلك بإذن الله تعالى، لا من دونه ولا معه. قال المانعون: وهكذا كان الجاهليون يقولون، كما يدلّ عليه قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18]، وقوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزمر:43 - 44]، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]. وقوله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 84 - 89]، وقوله جلّ ذكره: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس:31 - 32]. وقوله عزَّ وجلَّ: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ

لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [العنكبوت:61 - 63]. وقوله سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف: 9]. وقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزخرف: 87]. وقوله عزَّ وجلَّ: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ...} الآية [يونس: 22]. وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا} [الإسراء: 67]. وقال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65]. وفي "صحيح مسلم" (¬1) عن ابن عبّاس قال: "كان المشركون يقولون: لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك". يقولون هذا وهم يطوفون بالبيت. وكفى بقولهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، فإنهم حصروا السببَ الحاملَ لهم على عبادتهم في إرادة أن يقرِّبوهم إلى الله زُلْفى. ¬

_ (¬1) (1185).

[ص 85] قال المجيزون: هذه الآيات التي ذكرتم وغيرها تدلُّ على أن المشركين سمّوا أصنامهم آلهة، وعبدوها، واعتقدوا أنها تستحقُّ العبادة، واعتقدوا أنها تشفع عند الله تعالى وتقرب إليه بغير إذنه، وكذّبوا القرآن والنبيّ صلَّى الله عليه وآله وسلم في ذلك، وليس منّا أحدٌ يعبد الصالحين، ولا يعتقد أنهم يستحقون العبادة، ولا يعتقد أنهم يشفعون ويقرِّبون إلى الله تعالى بغير إذنه. قال المانعون: أما مطلق التسمية فإنه لا يتعلّق بمجرّد لفظها حقّ، وإنما يتعلّق بها من حيث معناها، ومعنى الإله: المعبود بحق، وسيأتي مثل هذا عنكم. وأما العبادة فإن فيكم من يعبد الصالحين، وذلك أنكم تدعونهم وتستغيثون بهم كما مرّ، والدعاء مخّ العبادة أو هو العبادة، كما ورد في الحديث (¬1)، ويدلُّ عليه قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60]، وفيكم من يتمسّح بأضرحتهم ويذبح عندها، وينذر النذور للموتى، ونحو ذلك. وكلُّ هذا من العبادة. ولا شكّ أنكم تعتقدون أنهم يستحقّون ذلك، وهذا معنى الإلهية. وأما قولكم: إن المشركين كانوا يعتقدون في الأصنام أنها تشفع عند الله من غير إذنه، ففيه نظر، كيف وهم يقولون في تلبيتهم: إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك؟ وقد مرَّ قوله تعالى: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ} [المؤمنون: 88]. مع أن فيكم من يعتقد في الصالحين قريبًا من ¬

_ (¬1) سبق تخريجه (ص 408).

ذلك ويستدلّ بقوله تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الشورى: 22]. غافلًا عن كون ذلك إنما هو في الجنة التي كلّ من دخلَها كان له ما يشاء، وأن الله تعالى يحفظ نفوس أهل الجنة أن تشتهي ما سبق في علمه خلافُه، فلا يشتهي أهل الجنة خروج أقربائهم الكفار من النار. وأما في الدنيا فقد سبقت الدلائل من الكتاب والسنة أن الأنبياء يُمنعون بعض ما يشاؤون فضلاً عن غيرهم، والله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56]. وكذا في المحشر قد يُمنعون بعض ما يشاؤون كما مرّ في حديث شفاعة الخليل لأبيه (¬1). وأما كون المشركين كذَّبوا القرآن والنبي، فقد شاركتموهم في هذا، فكذّبتم دلائل القرآن ودلائل سنة الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلم. وغاية الأمر أن تكذيبهم أصرح من تكذيبكم. [ص 86] قال المجيزون: أما كون دعاء الله تعالى من عبادته فمسلّم، ولكن لا نسلِّم أن ما يقع منّا من نذر الصالحين والاستغاثة بهم، كدعاء الله تعالى، فإن دعاء المرء لله تعالى دعاءُ مَن يعلم أنه سبحانه وتعالى الفاعل المختار، فهو يطلب منه العفو والمغفرة والرحمة والرزق والشفاء وغير ذلك، ودعاء أحدنا للصالح إنما هو كما يدعو الإنسانُ صاحبه ويطلب منه ما يقدر عليه. وأما التمسّح بالأضرحة، فإنما يفعله من يفعله منا تبرّكًا بأثر ذلك الصالح. وقد ثبت التبرّك بآثار النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم، فثبت أن ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه (ص 401).

التبرّك بآثار الصالحين إن لم يكن مستحبًّا فليس بكفر قطعًا. وأما النذر والذبح، فإن الناذر إما أن يتصدّق بالمنذور، ويعطيه من يقرأ إلى روح ذلك الصالح، أو يجمع عليه الناس لذكر الله تعالى، أو نحو ذلك. وإما أن يعطيه أقارب ذلك الصالح وأتباعه. فهو في الحالة الأولى إنما يريد النذر بثواب تلك الصدقة أو تلك القراءة أو الذكر ونحوه. وفي الثاني إنما أراد النذر على أتباعه، وهذا من باب البرّ والصِّلَة المستحبّة في الشرع. كما أن الإنسان يبرّ قرابة النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم ويعتقد أن ذلك من برِّه للنبي صلَّى الله عليه وآله وسلم قال تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23]. فهذا الرجل في نذره على ذلك الميت وإعطاء المنذور به لأتباعه إنما يعني النذر على أتباعه بنيّة البرِّ له. وكذلك الذبح، فلا نعلمَ أحدًا يذبح باسم أحدٍ من الصالحين، وإنما يذبح على اسم الله تعالى قائلاً: بسم الله، والله أكبر. وإنما قد ينذرون بالشاة ونحوها على الولي قاصدين النذر بثواب الصدقة بها أو غير ذلك مما مرَّ. وإذ قد ثبت أنه لا بأس بهذه الأشياء، فلا بأس باعتقادنا أنهم يستحقّونها. وأما أننا نعتقد أن لهم ما يشاؤون فى الدنيا والآخرة فلسنا نطلق ذلك، وإنما نعتقد أن دعاءهم أقرب إلى الإجابة، وهذا لا ينازع فيه أحد. [ص 87] قال المانعون: إننا - كما يعلم الله تعالى - نحبّ أن تكون جميع أفراد الأمة على هدى وسراط مستقيم، ولا غرض لنا في أن يكون أحدٌ منهم ضالًّا، وإنما غرضنا في تحقيق الحقّ.

أما قولكم: إنّ نداءكم للصالحين والاستغاثة بهم ليس كدعاء الله تعالى ... إلخ، فنداء الصالح على ضربين: الأول: أن يكون حاضرًا، وهذا معلوم بالضرورة أن مجرّد ندائه لا حرجَ فيه على كل حال. والثاني: أن يكون غائبًا أو ميّتًا. والاستغاثةُ على ضربين: الأول: الاستغاثة بحيّ حاضرٍ بِطَلبِ ما يقدر عليه المخلوقون عادةً، كقولك للطبيب: أغثني بالدواء، ولصاحب الماء: أغثني بالسقي، وللقويّ: أغثني من هذا العدو، وللصالح: أغثني بالدعاء، فهذا من المعلوم بالضرورة أنه لا حرج فيه. والثاني: الاستغاثة بالحيّ الحاضر بما لا يقدر عليه المخلوقون عادةً، كقولك له: أطلبُ منكَ المطر. وبالميت أو الغائب بأي شيءٍ كان. فنداء الميت أو الغائب والاستغاثة بهما مطلقًا أو بالحيّ الحاضر فيما لا يقدر عليه المخلوقون عادة = عبادةٌ. وهذه حالة الكفار مع أصنامهم، ومع عيسى والملائكة، ولا يفيدكم اعتقاد تبليغ الغائب والميت، كما لا يفيد الكفار اعتقاد حياة تلك الأحجار؛ لأن كلاًّ منهما وإن كان ممكنًا في القدرة إلا أنه مِن خَرْق العادة، وما كان من خَرْق العادة لم يَسُغ الاستناد إليه إلا أن يخرقها بالفعل بأن يصير مُشاهَدًا أو نحوه، كان يُحيي الله ميتًا بالفعل. وعليه بني بعضُ العلماء خطاب النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم لأصحاب قليب بدر، قالوا: إن الله تعالى ردّ عليهم أرواحهم وأعْلَمَ نبيَّه بذلك فخاطبهم.

وأما التمسُّح بالأضرحة، فقد مرّ في بحث التبرّك ما يُغني عن الإعادة (¬1)، وقد علمتم أن سلفَ الأمة وعلماءها مجمعون على المنع من ذلك، وأنه من أفعال المشركين. ومرّ هناك أيضًا التبرك بآثار الصالحين والخلاف فيه. وأما النذر فهو على وجهين: النذر لله تعالى، والنذر للمخلوق. فالنذر لله تعالى هو: أن يلزم الإنسان نفسه لله تعالى حقًّا في عملٍ من الأعمال كالصلاة والصيام ونحوها، وقد يتعلّق بالمخلوق تبعًا، كأن ينذر لله تعالى أن يتصدق على زيد، ويُعرف هذا بالنذر على المخلوق. والثاني: النذر للمخلوق، بمعنى التقرّب إليه بالنذر. [ص 88] فالنذر لله تعالى بالصدقة على زيد صحيح، فالنذر لله عبادة، وعلى زيد صدقة. وأنتم تنذرون للصالحين كما ينذر لله تعالى، فيقول أحدهم: هذه الناقة لفلان بِنِيّة سلامة الإبل، وهذا الثور لفلان بِنِيَّة سلامتي أو سلامة ولدي. ويقول: يا بدوي هذا الكبش لك على شفاء ولدي، ونحو ذلك. ثم إذا سُئل أحدكُم عن تلك الناقة أو الثور أو الكبش قال: هذه حق الولي الفلاني، ويسمونها: ناقة فلان، وثور فلان وكبش فلان، ويعتبرونها ملكًا له، حتى إذا رأى أحدهم في منامه شخصًا يتسمّى له باسم ذلك الولي ويقول: أعط الناقة حقي لفلان، أعطاها إياه، كائنًا مَن كان! ومَن مارس أحوال هؤلاء العوام عَرف أنهم لا يريدون بشيءٍ من ذلك أنه لله تعالى، وإنما ينوون به التقرّب إلى الولي الذي هو في زعمهم على كل ¬

_ (¬1) (ص 222 وما بعدها).

شيء قدير، فإن (¬1) لاحظوا قَصْدَ وجه الله تعالى فإنما هو تَبَعًا، أي: أنهم يتقرّبون إلى ذلك الوليَّ، والوليُّ يقربهم إلى الله تعالى زُلْفَى، وله من الله ما يشاء وهو شفيع لا يُردّ. وأما الذبح، فإنهم ينوون به التقرّب إلى الولي، حتى إن منهم مَن يحضرون للاستسقاء بقبرٍ معروف عندهم بأنه قبر ولي، فيقدِّمون الثورَ ليُذْبح عند القبر، ويعتقدون أنه لو ذُبح بعيدًا عن قبره لم يُجْزِ، كما يعتقدون أنهم إذا لم يُمْطَروا أن في ذلك الثور نقصًا، فينظرون ثورًا أجود منه، ويذهبون به، فيذبحونه عند القبر. بل ربما اعتاد عوام بعض الجهات أن يطوفوا بالثور قبل ذبحه على القبر، ثم يذبحونه بعد ذلك، وربما لطخوا القبر بشيء من دمه، فأين إرادة الصدقة لوجه الله تعالى؟! قال المجيزون: إننا لا ننكر أن يكون بعض العامة غلاةً في الاعتقاد إلى نحو ما ذكرتم، ولكنهم في دعاءِ الغائب والميت مع اعتقاد أنه يسمع، والطلبِ منه مع اعتقاد أن الله تعالى أعطاه التصرّف في الكون، والنذرِ له على ما وصفتم، والذبحِ عند قبره كذلك = جُهّال، وهؤلاء معذورون بجهلهم. وكان ينبغي لكم أن تعملوا معهم بما أمر الله تعالى به رسوله صلَّى الله عليه وآله وسلم بقوله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، [ص 89] ولا سيَّما وإطلاقكم التكفير بهذه الأفكار يستلزم ردّ أحاديث كثيرة، كحديث: "إن الله تعالى يغفر في ليلة النصف من شهر شعبان لأكثر من عدد شعر غنم كلب" (¬2). وأنتم إذا ¬

_ (¬1) كأنها مضروب عليها, ولا يستقيم الكلام بدونها. (¬2) أخرجه الترمذي (739)، وابن ماجه (1389)، وأحمد (26018) وغيرهم من =

عددتم مَن على وجه الأرض من المسلمين وجدتم جمهورهم متمسّكين بهذه الأشياء، فإن قلتم بكفرهم لم يبق إلاَّ عددٌ قليل! قال المانعون: أما حديث: "عدد شعر غنم كلب" فهو ضعيف. قال الترمذي: سمعتُ محمدًا - يعني البخاري - يُضعِّف هذا الحديث. وإن صحّ حديثٌ بنحو ذلك فهو محمول على ما إذا وجد هذا العدد (¬1) ممن تمكن له المغفرة؛ لأننا نعلم أن نبيّ الله صلَّى الله عليه وآله وسلم مكث زمانًا لا يبلغ أصحابه المائة, وأخبر أن أمته ستتبع سَنن من قبلها إلا طائفة منها، وأخبر أنه آخر الزمان لا يبقى على الأرض من يقول: اللهَ اللهَ. فمن هم الذين غفر الله تعالى لهم في بدء أيام رسوله قبل كثرة أصحابه، بل وبعد كثرتهم؟ ومَن هم الذين يغفر الله تعالى لهم آخر الزمان؟ فجوابكم هو جوابنا. وأما قولكم: إن المعتقدين جُهّال، فهم جُهّال ولا شكّ، ولكن ليس الجهل عُذرًا في أمور الاعتقاد، بل ولا غيرها حيث أمكن التعلّم. وهؤلاء الناس جميعهم قد بلغتهم دعوة محمَّد صلَّى الله عليه وآله وسلم، ولزم كلاًّ منهم أن يعرف حقيقة الدين الذي جاء به، ويعرف معنى هذه الكلمة التي هي كلمة الشهادة حقَّ معرفتها، وإلا جاء يوم القيامة مع القائلين: {رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} الآيات [الأحزاب: 67]. على أننا نلزم أنفسَنا تحسين الظنّ ما أمكن قائلين: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا ¬

_ = حديث عائشة رضي الله عنها. وقد ضعَّفه الترمذي والبخاري، وذكره ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (915). (¬1) رسمها في الأصل: "الحدد".

تنبيه

إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10]. [90] تنبيه: قد يتمسك بعض الناس في إبطال التكفير بأحاديث النُّطق بالشهادتين، كحديث الشيخين (¬1) عن ابن عمر رضي الله عنه: "أُمِرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأنّ محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم، وأموالهَم، إلاَّ بحقّ الإِسلام". زاد في رواية البخاري: "وحسابهم على الله". وحديث البخاري (¬2) عن أنس أنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "مَن صلّى صلاتنا، واستقبل قبلَتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم الذي له ذمة الله، وذمة رسوله، فلا تَخْفِروا الله في ذمته". والجواب عن هذا على وجهين: إجمالي وتفصيلي. أما الإجمالي فيقال لهم: قد نصّ علماؤكم جميعًا على كفر من أهان المصحف، أو أنكر بعض آيات القرآن غير البسملة، ونحو ذلك، فكيف ترون في رجل يفعل شيئًا من ذلك وهو يكرر الشهادتين؟ وأما التفصيلي: فتتضمنه قصة جرت لي وأنا يومئذ بمجلس المرحوم الإِمام الإدريسي، وذلك أني حضرت لديه مرةً وهناك رجل من أهل نجد وجماعة من علماء الشناقطة، فقام المرحوم وتركَنا، فسأل بعضُ الشناقطة ذلك الرجل النجديّ قائلاً: كيف تكفَّرون قومًا يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن ¬

_ (¬1) البخاري (25)، ومسلم (22). (¬2) (391).

محمدًا رسول الله، وتستحلّون دماءَهم وأموالهَم؟ وقد قال صلَّى الله عليه وآله وسلم كيتَ وكيتَ؟ فأجابه ذلك الرجل قائلاً: إن شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله لا تكفي في الإِسلام، ثم طال النزاعُ حول هذا الحديث، وتداخل بقية الشناقطة في الكلام وأنا ساكت، فرجع المرحوم فسكتوا، فقال: ما هذا النزاع؟ فأخذ كلّ منهم يخبره بقوله. فابتدرتُ وقلتُ: إني لم أتداخل في نزاعهم، فالحقّ لي أن أخبركم بالحقيقة. فقال: هات، فقلت: إنه في الحقيقة لا خلافَ ولا اختلاف، فالفريقان متفقان، وإنما هو كما يقول المولَّدون: سوء تفاهم. وذلك أن هؤلاء المشايخ أعني الشناقطة [91] قالوا للأخ: كيتَ وكيتَ، فأجاب عليهم بكيت وكيت. والواقع أن الأخ لا ينكر أنّ مَن نطق بالشهادتين عارفًا بمعناهما يصير مسلمًا، والمشايخ لا ينكرون أن مَن اعتقد ما يخالف شيئًا من مقتضى الشهادتين صريحًا يعدُّ مرتدًّا حلالَ الدم والمال، وإن استمر على النطق بالشهادتين زاعمًا أن ذلك لا يخالف مقتضاهما, ولكنّ المشايخ تمسّكوا بالنطق بالشهادتين وفهموا أن الأخ يقول: لا يُكتفى بالنطق بها ولو مع فهم معناهما والمحافظة على مقتضاهما. والأخ تمسك بأنه لا يكفي مجرّد النطق بالشهادتين أي: بدون فهم معناهما والمحافظة على مقتضاهما، وفَهِم أن المشايخ يقولون: إنه يكفي مجرّد النطق، أي: ولو بدون ذلك. انتهى. وأقول الآن بيانًا لذلك: إن المقصود الأهم إنما هو اعتقاد معنى هذه الكلمة على ما يفيده الوضع العربي، والاعتقاد غيب لا يعلمه إلا الله تعالى، فاكتفى الشارع بأقوى الأدلة عليه، وهو النطق على الوجه القاطع، ولذلك لو لقِّن مشرك أعجمي ذمي الشهادتين، ولم يعلم معناهما، فنطق بهما لم يَصِر بذلك مسلمًا، كما إذا لقِّن صيغة الطلاق ولم يعلم معناها، فنطق بها لم يقع.

إذا تقرر ذلك فمعنى الحديث أنه أُمِرَ أن يقاتلهم حتى يشهدوا ... إلخ فإذا فعلوا عصموا ... إلخ. بقي ما إذا نقضوا شهادتهم إما بجحد الشهادتين معًا أو الاتيان بما يخالف شيئًا من مقتضاهما، وذلك كان يعتقد إنسانٌ أن الله جل جلاله قد يكذب - تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا - مثلاً، وكذا تجويزه أن الأنبياء أو أحدًا منهم يكذبون. ومن هذا ما نص عليه الفقهاء من إنكار آية من كتاب الله تعالى أو زيادة آية فيه غير البسملة فيهما. وهذا كثير مفصل في باب الردة من كتب الفروع، وإنما قد يقع الاختلاف في بعض الجزئيات هل هو مخالف لشيءٍ من مقتضى الشهادتين، فمن ذلك قول الإِمام أحمد: إن ترك الصلاة -[ص 92] والعياذ بالله - كفر ولو مع عدم جحد وجوبها. وقال غيره - كالإمام الشافعي -: ليس الكفر إلا جحد الوجوب، فالإمام أحمد رحمه الله رأى أن مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله وجوب امثال أمره، وأنه من البعيد أن يشهد الإنسان أن لا إله إلا الله شهادةَ حقًّ ثم يخالف أمره، فكان يقتضي ذلك أن مَن خالف أمر الله تعالى فقد برهن على أن شهادته مدخولة، وبعبارةٍ أصرح فقد خالف مقتضى الشهادة. ولكن عَلِمَ الله سبحانه وتعالى ضَعْف ابن آدم وأنه معرّض لعدة عوامل (¬1)، كالشهوة والخوف والغضب وغيرها، فعفَا عما عفا عنه، فوجب أن نتبع الأدلة لنعلم ما عفا الله عنه وما لم يعفُ عنه، فلما تتبَّعْنا الأدلة وجدنا العفو عن اللمم قبل كلَّ شيء، ثم نظرنا في بقية الأشياء، فوجدنا من حيث ¬

_ (¬1) بعده كلمة لم تتبين.

العقل أن الإنسان قد يذنب مع سلامة عقيدته، قال تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} (¬1) [التوبة: 102] إلى غير ذلك. والنقص الذي يعتري العقيدة غير منضبط، فوجب الرجوع إلى النقل، فما وجدناه حكم فيه بالكفر عَلِمْنا أن نقص العقيدة بفعله يبلغ حدًّا يعدّ نقضًا للشهادة، فوجدنا حديث بريدة قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر" رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه، كما في "المشكاة" (¬2). ووجدنا أيضًا حديث الترمذي (¬3) عن عبد الله بن شقيق - من ثقات التابعين - قال: كان أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة. وفوق ذلك فالعقل يؤيد هذا، وذلك أن هذه الصلوات الخمس هي أهم أمور الدين، فتَرْك بعضِها أول دليلٍ على التهاون، ومع ذلك فالأمر في فِعْلها ¬

_ (¬1) في الأصل: (وآخرون خلطوا عملًا صالحًا وآخر سيئًا عسى الله أن يعفو عنهم) سبق قلم. (¬2) (1/ 126). والحديث أخرجه الترمذي (2621)، والنسائي (463)، وابن ماجه (1079)، وأحمد (22937)، وابن حبان (1454)، والحاكم: (1/ 6) وغيرهم. قال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب، وصححه ابن حبان والحاكم، وصححه النووي في "الخلاصة": (1/ 245)، وابن القيم في "الصلاة" (ص 68) على شرط مسلم. (¬3) (2622). وأخرجه الحاكم: (1/ 7)، والمروزي في "تعظيم قدر الصلاة" (948).

يسير، والمشقة فيه خفيفة جدًّا , ولا سيّما مع التسهيل بالسفر والخوف والمرض والعذر بالنوم والنسيان [93] لا جَرَم كان ترك بعضها من أحرى الأشياء أن يُعدّ نقضًا للشهادة. وقد توسّع الخوارج في هذا الباب فتمسّكوا بظاهر ما مرّ مع عدة أحاديث تنص على بعض الأعمال أنها كفر، كالزنا والسرقة وشرب الخمر والانتهاب والغلول وقتال المسلم وغيره، وخالفهم غيرهم. وليس هذا موضع البحث وإنما الذي يهمّنا أن دعاء الغائب والميت والاستغاثة به وبالحاضر فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى واعتقادَ مقتضى ذلك هي أظهر في نقض الشهادة من ترك إحدى الصلوات؛ لأن فيها عبادة غير الله تعالى واعتقاد استحقاقه لذلك، وهذا هو معنى اتخاذه إلها، فيكون ذلك مناقضًا لشهادة أن لا إله إلا الله. وعلى كل حال فلا يحسن بالمنصف أن يلوم مَن قال بتكفير الداعي والمستغيث والمعتقد على الوجه المذكور، وإن لزم على قولهم تكفير أكثر الأمة، كما أنه لا يجترئ مسلم على القدح في الإِمام أحمد بن حنبل في قوله: إن مَن تَرَك صلاةً من الفرائض فقد ارتدّ، وإن كان يعترف بوجوبها مع أنه يلزم على هذا القول أن أكثر الأمة مرتدون؛ لأنه ما من مدينة من المدن التي يسكنها المسلمون إلا وتاركوا الصلاة منهم أكثر من المصلين، وإذا عطفت النظر إلى المصلين وجدت كثيرًا منهم لا يصححون صلاتهم مع إمكان التعلم، فهم مع ذلك غير معذورين، فيلتحقون بالتاركين بدليل قوله صلَّى الله عليه وآله وسلم للمسيء صلاته: "صلّ فإنك لم تصلِّ" (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (757)، ومسلم (397) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

وقد اختلف الأئمة في أشياء كثيرة عدّها بعضهم رِدّة كالسِّحر وغيره، ولم يطعن فيه مَن خالفَه حيث كان مجتهدًا مستندًا إلى الدليل، وقد رمى عمرُ رضي الله عنه حاطب بن أبي بلتعة بالنفاق، ولم ينكر عليه النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم ذلك، بل نبَّهه على خطأه فقط، ومثل هذا كثير في الصحابة. وقد قال لي قائل: إن هؤلاء الوهابية كفّار، فقلتُ له: لماذا؟ فقال: لأن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: "من كفّر مسلمًا فقد كفر" (¬1). [ص 94] فقلت له: فإن الوهابية لا يكفِّرون أحدًا من المسلمين. قال: كيف وهم يكفّرون مَن قال: يا ستّنا خديجة، ويا ... ويا ... ؟ فقلت له: إن هذا عندهم كافر لا مسلم، فلم يصدق عليهم الحديث، لأن الحديث يقول: "من كفر مسلمًا" وهم يقولون: إنما كفّرنا كافرًا. فقال: لكن العبرة بالقول الصحيح لا بما في زعمهم. فقلت: فإنهم يعتقدون أن القولَ الصحيح هو الذي قالوه. وما ترى لو أن رجلاً مرَّ بك فظننته يهوديًا فناديته: يا يهودي، أليس قد كفّرته؟ قال: بلى. قلت: فإذا بان مسلمًا، هل يحق لنا أن نقول: إنك كافر؟ قال: لا, لأني إنما قلت له ذلك بناءً على ما وقع في ظني. فقلت له: فإن الوهّابية على فرض خطئهم في التكفير يقولون مثلك، وعذرهم أبلغ من عذرك، وأدلتهم أقوى من مجرد ظنّك. قال: فما هو معنى الحديث إذًا؟ ¬

_ (¬1) سيأتي بلفظه في الصفحة الآتية.

قلت: هو - والله أعلم - أن تقول لأخيك المسلم: "يا كافر" على جهة السبّ من غير أن يكون هناك دليل يدلّ على كفره، كما يفسِّره حديث "الصحيحين" (¬1) عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "أيما رجلٍ قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما". وحديث البخاري (¬2) عن أبي ذرًّ قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "لا يرمي رجلٌ رجلاً بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك". قال: فما وجه كفر القائل؟ قلت: هو - والله أعلم - إلزامٌ له بلازم قوله حيث أطلق أن صاحبه كافر، فكان ظاهر ذلك أن الدين الذي عليه صاحبه كُفْر، وحيث كان الدينُ الذي عليه صاحبُه هو الإِسلام، فكأنه قال: إن الإِسلام كُفْرٌ، أي: أنّ الإِسلام دينٌ باطل. وأسْتَغْفِر الله تعالى من حكايه هذا. وهذا بخلاف مَن قال لتارك الصلاة: يا كافر، مستندًا إلى أدلة الإِمام أحمد؛ وذلك أنه لم يُطْلِق عليه: "يا كافر" إلا بالنظر إلى بعض أعماله، وهو ترك الصلاة، فلم يلزم على قوله أن جميع أعمال ذلك الشخص (¬3) كالنُطق بالشهادتين كفر. [ص95] ثم الحكم على بعض الأعمال أنه كفر لا يسوغ إلا بعد اجتهادٍ ونَظَر في الأدلة حتى يغلب على الظنّ كونه كفرًا. فمن قال في شيءٍ من الأعمال إنه كفر بدون تثبّت ولا نظر في الأدلة، فهو غير معذور لتقصيره، وحينئذٍ فهو حريّ بالدخول في الوعيد المذكور. ¬

_ (¬1) البخاري (6103)، ومسلم (60). (¬2) (6045). (¬3) كلمتان شبه مطموستين، ولعلهما ما أثبت.

وعلى كل حال، فإن هذه الأشياء التي يقول الوهّابيّون إنها كفر ليس منها شيءٌ إلا وقد قام الدليل على المنع منه, فلو سُلّم أن الأدلة لا تدلّ أن ذلك كفر فلا أقلَّ من أن تفيد أن ذلك فسوق وضلالة؛ لأن جميع ذلك من المحدثات، وقد ورد: "كل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة" (¬1) إلى غير ذلك من الأحاديث التي قد مرّ بعضها، بل قد دلّ على ذلك القرآن كما مرّ بيان بعض ذلك. وحينئذٍ فما لكم وللتعصّب؟ تعالوا بنا نصطلح، ونَصِل ما أمر الله به أن يوصل، ونقطع ما أمر الله به أن يُقطع، ونحرص كل الحرص على جمع كلمة هذه الأمة، والتأليف بين أوصالها المقطعة، وأشلائها الممزّعة، وفقنا الله تعالى لرضاه آمين. ... ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (4607) والترمذي (2676)، وأحمد (17144) وابن حبان (5) من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه. وأخرجه النسائي (1578)، وأحمد (14984) وابن خزيمة (1785) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه، وهو عند مسلم (867) بلفظ: "شر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة".

الميزان

[96] الميزان لو أنَّ علماء الفِرَق الإِسلامية استيقظوا من سُباتهم، واجتمعوا على تأليف ميزان في مسائل الاعتقاد؛ ما كان متفَقًا عليه فأمْرُه واضح، وما كان مختَلَفًا فيه ردُّوه إلى الله ورسوله، فصدَّقوا بما جاء عن الله ورسوله بدون بحثٍ عن كيفية و ..... وغيرها، عاملين بما أمر الله عزَّ وجلَّ به في قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7]. والتزموا الوقف عن الخوض فيه, وألزموا عامة المسلمين ذلك، ورموا بالأغلوطات العقلية وراء ظهورهم، وأرشدوا الأمة إلى ما كان عليه سلفها الصالح، من تعلُّم العربية وتدبُّر كتاب الله عزَّ وجلَّ، وسنة رسوله، وترك الخوض في المضايق العقلية التي لا ثمرةَ لها إلا النزاع والجَدَل، والخلاف والفشل، والعداوة والبغضاء، وتجزئة الدين إلى أديان لا تُحْصىَ. وهذه هي الطريقة الوحيدة في ضم شمل الإِسلام وأهله، والتأليف بين قلوبهم. وكذلك يعملون فيما كان من العادات الحادثة بعد القرون الأولى، يرشد العلماء إلى تركها والاستغناء بما شرعه الله تعالى، والإقبال عليه، وهو الكثير الطيّب. ومتى وفّينا حقّ الفرائض المشروعات بصريح الشرع فضلاً عن المستحبّات، حتى نذهب إلى أشياء لم تثبت نحاول بها التقرّب إلى الله تعالى؟ وجِماع القول: أن الله عزَّ وجلَّ إنما يُعْبَد بما شرع، وهذه الأشياء المحدثة قد قامت الأدلة القطعية على بطلانها. وهب أنَّ بعض الأذهان

قاصرة عن فهم ذلك الشيء الواضح، أو أن بعض هذه الأشياء مما لم يتبيّن فيه الحق، ولم يترجّح جانب الحَظْر، فلا أقلّ مِن أن تكون عندهم مما لا حَرَج في تركه. وإذًا فالاحتياط يقضي بتركها، عملًا بالأحاديث الكثيرة، كقوله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "الحلال بيِّن والحرام بيِّن وبينهما مشتبهات لا يعلمهنّ كثير من [الناس] " (¬1) فالسلامة منحصرة في اجتناب تلك الأشياء، فمن تركها سالم لا محالة، إذ ليس فيها شيءٌ يقول المجيزون إنه فرض واجب، بل غاية الأمر أنهم يزعمون أنها مستحبة أو مباحة. وإذا تأمّلوا ما بُيِّن من الأدلة تبيّن لهم ما فيها من الخطر، فإن لم يتبين لهم فعليهم تركها؛ لأنها إن كانت كما يقول المانعون فيها الكفر وفيها الحرام والمكروه، فقد اجتنبوها، وإن كانت مباحة أو مستحبّة فلهم في تركها أجرُ اجتناب الشُبْهة، وليس منها شيء إلا وفي الشرع ما يُغني عنه. والمسلم مَن حَرَص على السلامة بأيّ تقديرٍ كان، ولا أسلم ولا أعلم ولا أفضل ولا أتمّ مما كان عليه النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وتابعوهم، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه (ص 152).

ملحق - 1 -

ملحق - 1 - [ص 49] ... اتباع القطعي مطلقًا والظنّي في العمليات، واجتناب المرجوح مطلقًا، فلم يبقَ إلاَّ ... لا يفهم دلالة، بأن كان مستغلق المعنى أصلاً، وإلّا الظنّي في العقائد ... مطلقًا. وهذه الثلاثة يصدُق عليها التشابه، أما مستغلق المعنى ... أيضًا في الاستغلاق، وأما الظني في العقائد فلأن بعض آياته تشبه بعضًا .... ... كل آية من آياته متشابهة المعاني في احتمال الإرادة ..... يكفي فيها إلا الجزم، ... لا يفيد إلاَّ الظنّ ... يكفي الإيمان به وأن يُوكَلَ تأويلُه إلى الله تعالى. وإنما جاز العمل بالظن في العمليات لسهولة الأمر فيها وللاحتياج إليه فيها, وليس الحال كذلك في الاعتقاديات. [ثم] إن كلاًّ من هذه الثلاثة على قسمين: الأول: ما يقع اختلاف حال الأشخاص فيه، بأن يكون بالنظر إلى شخصٍ متشابهًا وبالنظر إلى شخصٍ آخر محكمًا. الثاني: هو متشابهٌ مطلقًا. والثاني هو المراد في الآية, لأنَّ فيها ذمَّ ابتغاءِ تأويله ومدْحَ قول: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} الدالّ على التسليم والإيمان بدون تأويل، وجَعْلَ الأول نصيبَ الزائغين، والثاني نصيبَ الراسخين. وإذا كان غاية الراسخين الإيمان بها بدون تأويل فلا شك فيما ذكرناه.

ويؤيد ذلك حديث "الصحيحين" (¬1) عن عائشة رضي الله عنها قالت: تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ ...} إلى {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7]، فقال: "إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سماهم الله، فاحذروهم". الحديث صريح أن المتشابهات آيات مخصوصة من القرآن كان الصحابة رضي الله عنهم يعرفونها بأعيانها، وأن ... واتباعها زيغٌ يجب الحذرُ منه ومن أهله وبيانه، إذ قوله: "وإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه"، يدل على أن المتشابه آيات مخصوصة هي متشابهة مطلقًا، إذ لو كانت قد تكون متشابهةً بالنظر إلى شخصٍ غيرَ متشابهةٍ بالنظر إلى آخر، لما أمكنهم أن يُميَّزوا بين من يتبعها مع كونها متشابهةً في حقّه ومن يتبعها مع كونها غير متشابهةٍ في حقَّه، إذ كلُّ أحدٍ يدَّعي أنها ليست من المتشابه في حقَّه. ويدلُّ أيضًا على أن الصحابة كانوا يعرفونها, لأنه لا يمكنهم الحذرُ ممن يتبعها إلاّ إذا كانوا يعرفونها. وقوله: "فأولئك الذين سماهم الله - أي الذين في قلوبهم زيغ - فاحذروهم". ... ¬

_ (¬1) البخاري (4547)، ومسلم (2665).

ملحق - 2 -

ملحق - 2 - [ص 50] [يدلُّ] عليه، فينبغي تمييز القسم الأول من القسم الثاني. ... قد حصرنا التشابه في مستغلق المعنى، وفي الظنّي في العقائد وفي المشكوك ... فيه الاحتمالات. فأما مستغلق المعنى فهو قسمان: الأول فواتح السُّور، والثاني .... فرض وجوده، والأخير إما أن يكون في الاعتقاديات أو لا ... إما أن يكون في الاعتقاديات أو لا ... : (1) فواتح السور، (2) مستغلق المعنى في الاعتقاديات، (3) مستغلق المعنى في غيرها، (4) [مشكوك في الاعتقاديات]، (5) مشكوك في غيرها، (6) ظنّي في الاعتقاديات. [والقسم] الثالث والخامس الظاهر أنهما وإن كانا يصدُقُ عليهما التشابه، فليسا من المتشابه [المراد] في الآية, لأنهما إن كانا في العبادات أو المعاملات [فلا] يتم كونهما من المتشابه الذي لا مطمَع في علمه، إذ جميع أحكام العبادات والمعاملات كلها مبيَّنة [في] الشرع، فإن خفيتْ على واحدٍ وُفِّق لها الآخر. وإن كانا في القصص ونحوها فاتباعهما لا يظهر [دخولُه] في الزيغ المذموم المحذور منه. وأما القسم الثاني والرابع والسادس - وهي المستغلق والمشكوك والظني في الاعتقاديات - فتنقسم إلى قسمين: الأول: ما اختلف حالُ الناس فيه، بأن يكون مستغلقًا أو مشكوكًا أو ظنيًّا في حق شخصٍ، وقطعيًّا عند شخصٍ آخر لوقوفه على [دلائل] تبلِّغه درجةَ القطع.

الثاني: ما اتفق حالُ الناس فيه، بأن يكون مستغلقًا أو مشكوكًا أو ظنيًّا عند جميع الناس. فالأول وإن كان يصدُق عليه التشابه فليس من المتشابه المراد في الآية لحديث "الصحيحين" كما مرَّ بيانه (¬1). فلم يبقَ معنا إلاَّ القسم الثاني، وهو ما يكون في الاعتقاد مستغلقًا أو مشكوكًا أو ظنيًّا , ولا يمكن علمه لأحدٍ من الخلق، وإلَّا فواتح السُّوَر. فأما فواتح السور فإنها وإن كان يصدُق عليها التشابه فقد رأينا بعض الصحابة ومَن بعدهم خاضوا في تأويلها , ولم يُنكَر عليهم. ومع ذلك فلا يظهر وجهٌ قويمٌ لأن يُعدَّ الخائض فيها [ص 51] [من الذين في قـ] لوبهم زيْغٌ المحذَّر منهم في الحديث. فلم يبقَ معنا إلاَّ ما يكون في الاعتقاد [مستغلقًا أو مشكـ] وكًا أو ظنيًّا, ولا يمكن علمه لأحدٍ من الخلق [فهو] المراد في الآية. وأما تعيينُه فإن حديث الصحيحين [يدلُّ على أن] الصحابة كانوا يعرفون الآيات المتشابهات بأعيانها، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرهم أنه ... وحذَّرهم منهم. ومن البيِّن أن الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا ليتبعوها .... مع كونهم كانوا خير القرون، فإن وُجِد من يتبعها فإنما هو بعدهم. [و] بتتبُّعِ أقوال الصحابة رضي الله عنهم في الاعتقاديات عرفنا أنهم لم يكونوا يتبعون [آيات] الصفات وكذا أحاديثها بتفسيرٍ ولا تأويل، وإنما كانوا يكتفون بالإيمان بها والتسليم لها. وقد نشأ بعدهم مَن اتبّعها واعتقد الملازمةَ بين ثبوتِ مطلق اليد والوجه ¬

_ (¬1) (ص 458).

ونحوهما وثبوتِ الماهية والكيفية والكمية وغيرها من الحوادث، وهم فرقتان: فرقة تتبعها بأن تعتقدَ ظاهرَ آياتِ الصفات وأحاديثها، وتعتقد التلازم، فتستدل بها على صريح التشبيه ولوازمه، حتى قال بعضهم (¬1): [أعفو] ني من الفرج واللحية، وسلوني عما شئتم. وفرقة اعتقدوا التلازم وعلموا أن ثبوت الماهية وغيرها من الحوادث يقضي بتنزُّهِ الله تعالى عنه، فصرفوها كلَّها عن ظاهرها وأوَّلوها. وكلا الفرقتين - والله أعلم - هم الذين قال تعالى فيهم: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} وهؤلاء هم الفرقة الأولى {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} وهم الفرقة الثانية. هكذا ظهر لي أولاً، ثم رأيتُ الأَولى عدمَ التوزيع، بل الحق أن يُحمَل كلا الحكمين على كلا الفرقتين، فإن كلاًّ منهما ابتغى الفتنة بخوضه فيما نُهِيَ عن الخوض فيه، وابتغى تأويل المتشابه، أي: بيان ما يؤول إليه معناه. وأما الصحابة رضي الله عنهم ومَن اتبعهم فهم الذين قال تعالى فيهم: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} ذلك هو المتشابه المراد في الآية. ... ¬

_ (¬1) هو داود الجواربي من مشبّهة الروافض، كما سبق (ص 160).

ملحق - 3 -

ملحق - 3 - [ص 52] توقيفية، لا يجوز فعلُ شيء منها إلا ما ثبت به الدليل. وهي ثلاثة أنواع: فرائض معلومة من الدين بالضرورة، [ونفلٌ مقيَّد يكون] له اسمٌ خاص، فإحداث نفلٍ كذلك - كصلاة الرغائب - بدعة ضلالة، ونفلٌ مطلقٌ، وهو ..... ... ـفية، وهو أيضًا ثلاثة أنواع: فرض معلوم من الدين بالضرورة، ونفلٌ مقيد، وهو [ما كان في زمن] خاص، كست شوال وتسع ذي الحجة، .... والبيض، وصوم يومٍ وفطر يوم، فإحداثُ صومٍ كذلك بدعة ضلالة، [كالتزام الإ] نسان صيامَ أحد عشرَ يومًا من أول صفر كل سنة، ونفلٌ مطلق [وهو ما لم] يجيء به زمن خاصّ. [فالمطلو] ب في اتباعه في التطوع بالصلاة والصيام وقراءة القرآن هو ما ورد به دليلٌ خاص من السنة، وأن لا يُزاد على ذلك. [وفي الـ] صحيحين" (¬1) عن أنس قال: جاء ثلاثة رهطٍ إلى أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم -، [فلما] أُخبِروا بها كأنهم تَقالُّوها، فقالوا: أين نحن من النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخَّر؟ فقال [أحدهم]: أما أنا فأصلَّي الليلَ أبدًا، [وقال آخر: أنا أصوم الدهرَ ولا أُفطِر، وقال آخر: أنا أعتزلُ النساءَ فلا أتزوَّج أبدًا]. فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم، فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصومُ وأُفطر، وأصلَّي وأرقدُ، وأتزوج النساء, فمن رغبَ عن سنتي فليس منَّي". ¬

_ (¬1) البخاري (5063) ومسلم (1401).

وفي "الصحيحين" (¬1) أيضًا عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا عبد الله! ألم أُخبَرْ أنك تصوم النهار وتقوم الليلَ؟ " فقلتُ: بلىٍ يا رسول الله! قال: "فلا تفعلْ، صُم وأفطِرْ، وقُم ونَمْ، فإنّ لجسدِك عليك حقًّا، وإنّ لعينِك عليك حقًّا، وإنّ لزوجِك عليك حقًّا، وإنّ لزَوْرِك عليك حقًّا. لا صامَ من صام الدّهرَ، صومُ ثلاثة أيام من كلِّ شهرٍ صومُ الدهر كلِّه. صُمْ كلَّ شهر ثلاثةَ أيام، واقرأ القرآن كلَّ شهر" قلت: فإني أطيقُ أكثر من ذلك، قال: "صُمْ أفضلَ الصوم صومَ داود: صيام يوم وإفطار يوم، واقرأ في كل سبع ليالٍ مرةً، ولا تزِدْ على ذلك". ... ¬

_ (¬1) البخاري (1153)، ومسلم (1159).

ملحق - 4 -

ملحق - 4 - .... الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -. .... فنوعان: مقيَّد وغيره، فالمقيّد إما متعيَّن كتكبير الصلاة ... ، وإما غير متعيَّن كالأدعية عقبَ الصلاة وعند النوم والانتباه وغير ذلك. والمأثور في هذا أفضل، وكذا في سائر الأوقات التي لم [يُعيَّن فيها] ذكرٌ أو دعاءٌ مخصوص، فالأفضل اختيار ذكرٍ أو دعاء من المأثور .... لو كان مقيدًا بغير ذلك. وأما إنشاء صيغة من صيغ الذكر أو الدعاء غير مأثورة ....... عموم الأمر بالذكر والدعاء والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -. .... [ثم] الذكر المأمور به هو ما تضمَّن ثناءً حسنًا وردَ في الشرع، فما خالفَ ذلك [فهو ممنوع] بدعةُ ضلالة. والدعاء المأذون فيه ما لم يكن فيه اعتداء، ومن الاعتداءِ الدعاءُ ... مكروه، وكالدعاء على مَن لم يظلمه، فما كان فيه اعتداءٌ فهو مخالفٌ للشرع. والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - المأذون بها ما لم يكن فيها إطراءٌ محظورٌ ولا ارتكابٌ لمنهيًّ ولا كذبٌ عليه - صلى الله عليه وسلم -. ومن الكذب عليه - صلى الله عليه وسلم - أن يُثنِيَ عليه بما لم يثبت، كان يقول: اللهمَّ صلَّ على نبيك محمَّد الذي حمله جبريل على عاتقه، [فإن] ذلك كذبٌ عليه - صلى الله عليه وسلم -. وقد تواتر عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من كذبَ عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار" (¬1). والمراد بالتعمُّد أن يكون القائل غيرَ عالمٍ بصحة ما قاله، ولهذا كان حاكي [الحديث] الضعيف بصيغة الجزم كاذبًا، على أن النبي صلَّى الله ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6197)، ومسلم (3) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وجاء من حديث جماعة كثيرة من الصحابة.

وسلم وبارك عليه غنيٌّ بما له من الفضائل والفواضل عن أن يغدق عليه أحدٌ بادعاءِ فضيلةٍ أخرى، وما مثلُه إلاَّ مثلَ ملِكٍ عظيم أمرَ طبَّاخَه أن يُصلِح له طعامًا، وأحضَر له من كل ما قد يحتاج إليه في الطبخ، فترك الطباخ ذلك وخرج إلى بيوت الجيران يسألهم للملك! فهل ترى هذه خدمةً للملك ومحبةً له أو إهانةً وإيهامًا أن الملك فقير؟! ومما يُنظر فيه زيادة "سيدنا" في الصلاة الإبراهيمية وفي التشهد وغيره، فإن بعضهم استحسن ذلك بحجة أنه زيادة إخبار بواقعٍ، مع أنه ليس في عدم ذكر ذلك في السنة ما يدلُّ على الكراهة، وقد قام الدليل أنه - صلى الله عليه وسلم -[ص] سيَّد ولد آدم، وأن الثناء عليه وتوقيره من أعظم القُرَب. قال: وما رُوي من قوله - صلى الله عليه وسلم -: [لا تُسيَّدوني في الصلاة] لا أصلَ له (¬1)، ولو ثبت حُمِل على مطلق الإذن عنه - صلى الله عليه وسلم - بعدم تسييده، كما فهم الصديق [من إشارته صلَّى الله عليه] وآله وسلم له بالثبات في الإمامة، حيث رجَّح حسنَ الأدب فتأخّر، فيتعارض هنا امتثال الأمر [مع حسن الأدب]، [وحسن] الأدب أولى اقتداءً بالصديق. وكذلك نقول في مخالفة الوارد، إذ لم يكن فيه التسييد، بل هو أولى مما مرَّ ... [فالجواب:] ... هذه الزيادة يشعر أنها غير مشروعة؛ إذ لو كانت مشروعةً لأرشد إليها الشارع. وفي حديث [ابن مسعود] قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أيها الناس! ليس من شيء يُقرَّبكم إلى الجنة ويباعدكم من النار [إلا قد أمرتُكم به" (¬2)]. فإن كان - صلى الله عليه وسلم - يمنعُه من ذلك الحياءُ والتواضع كما ¬

_ (¬1) انظر "المصنوع" (ص 206) و"الأسرار المرفوعة" (ص 381) كلاهما للقاري. (¬2) أخرجه البغوي في "شرح السنة" (14/ 303). وفي إسناده انقطاع بين زبيد اليامي وابن مسعود رضي الله عنه. وفي الباب حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه عند مسلم (1844).

يقولون فلا بدَّ أن .... ويتحتم عليه - صلى الله عليه وسلم - البيانُ، والله عزَّ وجلَّ يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ...} [المائدة: 3]. [فإن قيل:] فقد جاء في القرآن عمومات تقتضي ذلك، كقوله عزَّ وجلَّ: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ ...} [الأعراف: 157]، [وقوله:] {لَا (¬1) تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63]، وغير ذلك. والتعزير: التوقير، وهو ... التعظيم بالتسييد، ويُقاس على دعاء الرسول ذِكْرُه، فلا ينبغي أن نذكره كما يذكر بعضنا بعضًا. [فالجواب] أن هذه التمسكات إنما تصلُح فيما لم يَرِدْ مبيَّنًا، فأما ما ورد مبينًا فالواجب الوقوف عنده، فكيف وقد مضى [عهدُ النبي]- صلى الله عليه وسلم - وعهدُ أصحابه وتابعيهم ومَن بعدهم والأئمة الأربعة وغيرهم على عدم النطق بهذه [في] تلك المواضع؟ وقد عُلِم أن السنة تثبت بالترك كما تثبت بالفعل، ويتبعها في ذلك الإجماعُ. ثم إن ... أنه ينبغي اتباع الألفاظ في الأذكار والأدعية المأثورة، وأن لا يُزاد ولا يُنقَص، ولا يغيَّر ولا يُبدَّل، [ولا يُقدَّم] ولا يؤخَّر, لأن في التغيير لشيء من ذلك إخراجًا لها عن كونها مأثورةً، وفي ذلك ذهابُ بركتها من .... كيف بما إذا كانت واجبةً كالتشهد. ويقال لمن يرى ذلك: وهل ترى أن يُزاد ذلك في الأذان؟ [فإن قال: نعم] قال ما لم يقله أحدٌ، وجاء ببدعة منكرة خالف بها جميع الأمة، ويُرَدُّ عليه مع ذلك بما مرَّ وغيره. وإن قال: لا .... فلا يجيء بجوابٍ مقبول إلاّ ¬

_ (¬1) في الأصل: "يأيها الذين آمنوا لا ... " سهو.

ألزم مثله في التشهد ونحوه. وأما قولهم: "إن سلوك الأدب أولى من امتثال الأمر" [والاستدلال] بفعل الصديق، فهذا حيث كان المأمور به شيئًا يُخِلُّ بالأدب مع الأمر، وعُلِم أنه إنما أمر به تركًا لحقِّ نفسِه لا لمقتضٍ [آخر، فيكون] الأمر حينئذٍ لمجرد بيان الجواز، وحينئذٍ فيعارضُه حسنُ الأدب، فيتبين أن ذلك الفعل خلاف الأولى، وهذا هو الذي ... (¬1)، فإن فعله رضي الله عنه ليس حجةً، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يُقِرَّه، بل قال عقِبَ ... بأنه يفعله. [وإن كان الأمر] لمقتضٍ آخر غير ترك حقِّ النفس، فإنه يتعيَّن امتثال الأمر جزمًا، سواء كان ذلك المقتضي يقتضي الوجوب أو .... فعدمُ امتثالِه مكروه أو خلاف الأولى، فيعارض حسن الأدب الذي تركه خلاف الأولى، مع أن مجرد عدم الامتثال ..... حينئذٍ، فيقابل سوء الأدب بسوء الأدب، ويترجَّح جانب الامتثال بالمقتضي الآخر. بل إذا تحقق المقتضي الآخر ... سوء الأدب أصلاً. إذا تقرَّر هذا فعدم التسييد في الصلاة الإبراهيمية ونحوها .... لأن المقام مقام دعاء الله سبحانه وتعالى، وهو يقتضي إفراد التعظيم له من كل وجه، مع ما يشير إليه حديث: [لا تسيِّدوني في] الصلاة، ويظهر من هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحبَّ أن لا يكون ذكره الملابس لذكر الله عزَّ وجلَّ كالصلاة ... عن أوصاف المدح الظاهرة، بل يُكتفَى فيه بما يكتفى به في ذكر سائر العباد. وهذا حسنُ أدبٍ منه وتواضعٌ لربه عزَّ وجلَّ .... لربه، ولم يتركه لنا حتى يسوغ لنا عدمُ الامتثال كما ساغ للصديق. فافهم الفرق. ¬

_ (¬1) خرم في الأصل ولعله "فعله الصديق".

مع أن هذا الأدب منه مع ربه .... رضي لنفسه نحو ما رضيه الله له في أشرفِ مواطنه، قال عزَّ وجلَّ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء: 1]، وقال تعالى: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 30]. وذكر الله عزَّ وجلَّ أنبياءه في مقام المدح بقوله: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا} [ص: 17]، {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا} [ص: 14]. وقال عزَّ وجلَّ في ردّه على إبليس: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42]. ومثل ذلك كثير. ثم إن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "كما صليتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم" ... فزاد ذكر العبد عند الدعاء له ونحوه من أوصاف المدح مقتضيًا آخر غير مجرد التواضع؛ لأن التواضع إن أمكن في حق نفسه فكيف ... ، فلم يُعلِّمنا أن نقول: "كما صلَّيتَ على خليلك سيَّدنا إبراهيم" مثلاً. ولا ينافي هذا قولَه - صلى الله عليه وسلم - في الدعاء للمدينة: " ... إبراهيم عبدك ونبيك وخليلك، وإني عبدك ونبيك" الحديث، فإن لكلَّ مقامٍ مقالاً، مع أنه قدَّم ذكر العبودية كما ترى. [وفي "المشـ] كاة" عن نافع أن رجلاً عطسَ إلى جَنْب ابن عمر، فقال: الحمد لله والسلام على رسول الله، قال ابن عمر: وأنا أقول: الحمد لله والسلام على رسول الله، وليس هكذا علَّمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، [علَّمنا] أن نقول: الحمد لله على كلِّ حال. رواه الترمذي (¬1)، وقال: هذا [حديث] غريب. وفي حواشيه نقلاً عن "اللمعات": قوله: "وليس هكذا" أي: ولكن ليس المسنون في هذه الحال هذا القول، وإنما الذي ... أن يقول: الحمد لله على كل حال فقط، من غير زيادة السلام فيه. على أنه ينبغي في الذكر والدعاء ¬

_ (¬1) (2738).

الاقتصار على المأثور، من غير [زيادة] ونقص، فالزيادة في مثله نقصان في الحقيقة، كما لا يُزاد في الأذان بعد التهليل "محمَّد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ... وفصل الخطاب في هذه القضية أنه قد عُلِم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علَّم أصحابَه التشهدات ... بدون هذه الكلمة ونحوها، ونقلها أصحابه كذلك، ولم يرشدوا إلى الزيادة، ولا نُقِل فعلُها عنهم، وهكذا الحال فيمن بعدهم ... والسنة تثبُت بالترك كما تثبُت بالقول والفعل والتقرير، ويتبعها في ذلك الإجماعُ. قال الشوكاني [في "إرشاد الفحول" (¬1) عن ابن السمعاني: إذا] ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا وجبَ علينا متابعتُه فيه ... إلخ. وما اقتضته العمومات القرآنية .... الرسول - صلى الله عليه وسلم - والثناء عليه، فيعمل بها فيما لم تكن السنة فيه عدمها، فإن الواجب في ... ما ورد. وبعد، فقد مضى السلف الصالح على ما علمتَ، وقد كانوا أعلم بالله ورسوله وأشدَّ ... ... ¬

_ (¬1) (1/ 119).

ملحق - 5 - في معنى التأويل

ملحق - 5 - في معنى التأويل / وأما التأويل فهو تفعيل من آل يؤول أوْلاً، رجع رجوعًا معنويًّا مخصصًا، كما في قولك: طُبخ الشراب فآل إلى قَدْر كذا، وجُفّف الرُّطب فآل إلى قَدْر كذا، واتجَّرَ فلان وكان رأس ماله عشرة دَراهم فآل به الأمر إلى أن صار أغنى أهل بلده، وطلب فلانٌ العلم وكان من بيتٍ خامل فآل به الأمر إلى الشَّرَف والنباهة، وعهدي بفلان وهو يطلب العلم ولا أدري ما آل إليه أمره؟ والحاصل أن (آل) قريب من (صار) إلا أنه اعتُبر في (صار) التقدُّم وفي (آل) الرجوع، وقد يصلح أحدهما مكان الآخر لكن باعتبار آخر. تقول: جُفّف الرطب فآل إلى قَدْر كذا، أو فصار إلى قَدْر كذا، فتعتبر في الأول أن الرطب كان مقبلًا على النمو فلما جُفّف رجع إلى النقص، وتعتبر في الثاني أن الرطب لما شُرِع في تجفيفه أقبل على النقصان فما زال متقدّمًا فيه حتى صار إلى ذلك القَدْر. وكلما ضعف اعتبار الرجوع ضعف صلاحية (آل) تقول: صار الطفل شابًا, ولا تقل: آل. وتعدِّي (آل) بالتضعيف تقول: أوّلْتُ الشيء أي: جعلته آيلاً، تقول: جفّفتُ صاعًا من الرطب حتى أوّلته إلى نصف صاع. فتأويل الشيء هو جَعْله آيلًا. فإذا أطلق التأويل في شأن الكلام فقد يُراد به: تأويل اللفظ، أي: جعله آيلًا إلى أن يتّضِح معناه، كأنه اعْتُبِر مقبلًا على الخفاء والغموض، فإذا فسَّرته فقد أرْجَعْتَه إلى الوضوح، وهذا مرادف التفسير، وهو صادق على التفسير

بما يُناسب الظاهر، وعلى التفسير بما يخالف الظاهر. أما ما يُناسب الظاهر فإنه إنما احتاج للتفسير لخفاءٍ ما، فكأنَّه كان مقبلًا على ذلك الخفاء فأُرجع إلى الوضوح. وأما ما يخالف الظاهر فلأنّ المؤوِّل يدّعي أن المعنى الحقيقي هو خلاف الظاهر، فاعتبر اللفظ مُقبِلًا على الخفاء بالنسبة إلى المعنى الحقيقي، فأرْجَعَه إلى الوضوح بالنسبة إليه، وإن شِئت فقل: مقبلًا على الظهور بالنسبة إلى غير المعنى الحقيقي، فأرجعه إلى عدم ذلك. والأول أولى. ولا يُشترط لهذا معرفة الحقائق التي تضمّنها الكلام على وجه الإحاطة، بل يكفي من بعض الوجوه. وقد يُراد به: تأويل المعنى، أي: جَعْله آيلاً إلى أن تُعْلَم الحقائق التي تضمّنها على وجه الإحاطة، كأنه اعتُبر مقبلًا على خفاء تلك الحقائق فأُرْجِع إلى الوضوح. وقد يُراد به: تأويل الحقيقة، أي: جَعْلها آيلة إلى البروز والمشاهدة، كأنه اعتبر أنها كانت مقبلةً على الخفاء فأُرْجِعت إلى الظهور. وقد يُراد به: نفس الحقيقة، من باب إطلاق المصدر وإرادة المفعول. ومن الأول قول السلف: تأويل هذه الآية كذا وكذا، كما يقوله ابن جرير في "تفسيره". ومن الثاني قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} [يوسف: 6]، وقوله: {وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} [يوسف: 21]. وقوله: {وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} [يوسف: 101].

فإن قول الملك: {إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ} [يوسف: 43] واضح المعنى، وتأويلُها بقوله: {تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا ...} إلخ [يوسف: 47] إنما هو تأويل للمعنى، أي: جَعْله آيلًا إلى أن تُعْلَم حقيقته، فعُلِمَ أن حقيقة السبع السمان: سبع سنين خصبة، والعِجاف: جدبة، ومشى عليه. ومن الثالث قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ} أي: جَعْل الحقائق التي تضمّنها الإخبار عنها آيلةً إلى البروز قال: {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 53]. [قال ابن عبا] س: {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} تصديق ما وَعَد في القرآن. وعن قتادة: {تَأْوِيلُهُ}: ثوابه .... جزاؤه، وعن السُّدَّي: عاقبته، وعن ابن زيد: حقيقته. وقوله عزَّ وجلَّ: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} [يونس: 39]. ومنه قوله تعالى - حكايةً عن يوسف -: {لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ} في المنام {إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا} [يوسف: 37] التأويل. ومنه قوله عزَّ وجلَّ: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]. ومنه قول عائشة: "كان رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي يتأول القرآن" (¬1) جَعلتْ نفس دعائه هذا تأويلًا لقوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر: 3]. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (817)، ومسلم (484).

ومنه ما رُوي عن ابن مسعود: "إن القرآن نزل حيث نزل، فمنه آيٌ قد مضى تأويلهنّ قبل أن ينزل، ومنه آيٌ وقع تأويلهن على عهد النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم، ومنه آيٌ وقع تأويلهن بعد النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم بيسير، ومنه آيٌ يقع تأويلهنّ في آخر الزمان، ومنه آيٌ يقع تأويلهنّ يوم القيامة، ما ذكر في الحساب والجنة والنار ... " (¬1) إلخ. ومنه ما رُوي عن سفيان بن عُيينة قال: السنة تأويل الأمر والنهي (¬2). ومن الرابع قوله تعالى - حكاية عن يوسف -: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} [يوسف: 100]. جعل نفس الحقيقة التي هي سجود أبويه وإخوته له هي تأويل رُؤياه. وإذا تقرّر هذا فلنعرض لفظ التأويل في آية المتشابه على كل واحدٍ من الأربعة المعاني فنقول: أما المعنى الأول ... ¬

_ (¬1) أخرجه نعيم بن حماد في "الفتن" (38)، وذكره الثعلبي في "الكشف والبيان": (4/ 117). (¬2) ذكره شيخ الإِسلام في "الدرء": (1/ 206) وفي "التدمرية" (ص 94).

آثار الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي (5) عمارة القبور في الإسلام (المبيضة) و (المسودة) ويليه: يسر العقيدة الإسلامية تأليف الشيخ العلامة عبدالرحمن بن يحيى المعلمي اليماني 1312 هـ - 1386 هـ تحقيق علي بن محمد العمران وفق المنهج المعتمد من الشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد (رحمه الله تعالى) تمويل مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

بسم الله الرحمن الرحيم

راجع هذا الجزء محمد أجمل الإصلاحي سعود بن عبد العزيز العريفي

مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية SULAIMAN BIN ABDUL AZIZ AL RAJHI CHARITABLE FOUNDATION حقوق الطبع والنشر محفوظة لمؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية الطبعة الأولى 1434 هـ دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع مكة المكرمة - هاتف 5473166 - 5353590 فاكس 5457606 الصف والإخراج دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

عمارة القبور في الإسلام

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة التحقيق الحمد لله رب العالمين، اللهم صل وسلم على محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد، فهذه رسالة محررة من مؤلفات الشيخ العلامة عبد الرحمن المعلمي رحمه الله تعالى في مسألة من مسائل الفقه من حيثُ أصلُها, ولها تعلُّق بالعقيدة من حيث نتائجُها وما تفضي إليه، وهي مسألة البناء على القبور وحكمها في الإِسلام؛ فحرّر القولَ فيها على طريقة الاجتهاد؛ من ذكر النصوص في المسألة، ثم النظر فيها ثبوتًا ودلالةً، على نحوٍ لم يسبقه إليه أحد ممن تكلم في المسألة، على عادة المصنف رحمه الله في التحقيق والتحرير. وقد كُتب في هذه المسألة عدة مصنفات، وذكر المؤلف في مقدمة رسالته هذه أنه اطلع على بعض ما أُلف في هذه المسألة، فأراد هو أن ينظر فيها نظرَ متحرٍّ للحق بدليله من الكتاب والسنة. فكان ذلك ولله الحمد. * فمِن المصنفات في المسألة على نهج أهل السنة ما يلي: 1 - رسالة في أن ما يوضع على القبور باطل، لنوح الرومي (ت 1070 هـ)، مخطوط في دار الكتب المصرية (¬1). ¬

_ (¬1) انظر "معجم الموضوعات المطروقة": (2/ 955).

* ومن المصنفات على طريقة أهل البدع

2 - شرح الصدور في تحريم رفع القبور، للشوكاني (ت 1250 هـ). وهي رسالة صغيرة لا تزيد على ست عشرة صفحة. وقد اطلع عليها المؤلف ونقل منها في مسوّداته لهذا الكتاب، انظر مجموع رقم (4717) في مكتبة الحرم المكي ص 57. لكنه لم ينقل منه في هاتين النسختين (المبيضة والمسوّدة) اللتين بين يديك. 3 - العِلْم المأثور والعَلَم المشهور واللواء المنشور في بدع القبور (¬1). 4 - كتاب القاضي العدل في حكم البناء على القبور، كلاهما لتقي الدين محمَّد بن عبد القادر الهلالي (ت 1407 هـ). وهذا الأخير طبع سنة 1346 هـ. وكان قد نُشر قبل ذلك في السنة نفسها في "مجلة المنار"، ثم أعيد طبعه سنة 1430 هـ بتحقيق د. صادق بن سليم. وهو رد على القزويني الرافضي. * ومن المصنفات على طريقة أهل البدع: 5 - البيت المعمور في عمارة القبور، لعلي النقوي اللكهنوي الرافضي (ت 1408 هـ). وقد طبع في الهند سنة 1345 هـ (¬2). وهو ردّ على الوهّابية كما ذكر مؤلفه (¬3)! ¬

_ (¬1) ونُشرت هذه الرسالة أولًا في "مجلة الهدي النبوي" مجلد 30 الأعداد 3 - 5، 7 - 10 عام 1385 هـ بعنوان "العلم المأثور والعَلَم المنصور واللواء المنشور في الرد على أهل الغرور المستنجدين بالمقبور". (¬2) انظر "معجم المطبوعات العربية في شبه القارة الهندية" (ص 317 - 318). (¬3) انظر ترجمته لنفسه المنشورة في مجلة ينابيع عدد 32 لعام 1430 هـ.

6 - إحياء المقبور من أدلة استحباب بناء القباب على القبور، لأحمد بن الصديق الغماري (ت 1381 هـ). ولا أدري هل اطلع المصنف على هاتين الرسالتين؟ 7 - الردّ على الوهابية لحسن صدر الدين الكاظمي الرافضي (ت 1354 هـ). وهذه الرسالة طبعت سنة 1345 هـ. وهي لا تختصّ بمسألة البناء على القبور، بل معها جملة من المسائل في التوحيد والتوسل والشفاعة. وهذه الرسالة هي التي تعرّض المصنف لها بالنقد في عدّة مواضع من الكتاب، وسمّى مؤلِّفَها صراحةً، كما سيأتي في مبحث سبب تأليف الكتاب. **** ورسالتنا هذه كتبها المؤلّف عدة مرات في عدة نسخ، وقفتُ منها على ثلاث (سيأتي وصفها ص 22 - 24)، مع تقييدات أخرى متفرقة في المجاميع تتعلق بالموضوع، لكن ليست فيها نسخة مبيّضة نهائيّة، فكلها مسوّدات يكثر فيها الضرب والشطب والإلحاق والبياضات ... ، لكن أكملها وأمثلها ترتيبًا هي التي أطلقتُ عليها (المبيضة)، وسميت النسخة الأخرى (المسوّدة). وأوضحت في مبحث مستقل (انظر ص 20 - 22) الفروق بينهما ودواعي نشر النسختين معًا , ولماذا لم نكتف بما اعتبرناه (المبيّضة). وقد قدّمتُ بين يدي هذه الرسالة في نسختيها عددًا من المباحث لمزيد التعريف بها، وهي: - أولاً: اسم الكتاب. - ثانيًا: ثبوت نسبته للمؤلف وتاريخ تأليفه.

- ثالثًا: سبب تأليفه. - رابعًا: عرض موضوعات الكتاب في نسختيه. - خامسًا: بين المسوّدة والمبيضة، ودواعي طبعهما. - سادسًا: وصف النسخ الخطية. - سابعًا: منهج التحقيق. وختمته بالفهارس المتنوّعة، اللفظية والعلمية. وصلى الله على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلم. وكتب علي بن محمد العمران في 23 ربيع الأول 1432 هـ [email protected]

التعريف بالكتاب في نسختيه

التعريف بالكتاب في نسختيه * أولاً: اسم الكتاب: ترك المصنف عدة نسخ من هذه الرسالة (كما سيأتي الكلام عليها) ليس على شيء منها اسمٌ لا على صفحة العنوان ولا في مقدمة الكتاب. لكن وجدت المؤلف قد ذكر اسم الكتاب صريحًا في مسوّدة الكتاب ضمن المجموع رقم (4717) إذ قال في ص 4 ما نصّه: "يلحق برسالة عمارة القبور في الإِسلام". فهذا هو الاسم الكامل الذي وجدناه للكتاب. ويؤيده ولا يناقضه أن المؤلف قد ذكره في كتابه الكبير "العبادة" في موضعين، وسماه هناك (عمارة القبور). قال في الموضع الأول: "وقد بسطنا الكلام على ذلك في رسالتنا (عمارة القبور) " (¬1). وفي الثاني: "وقد عَثَرْتُ له على عِلَّةٍ قادحةٍ بيَّنتُها في رسالَتي (عمارة القبور) " (¬2). وعدم ذكر عبارة "في الإِسلام" لا يعدو أن يكون اختصارًا أو تخفيفًا كما جرت العادة بذلك. وهذه التسمية لا نجزم أنها التسمية العَلَمية للكتاب، ولا أنها التي استقرّ المصنف على إطلاقها على كتابه؛ لأنه من عادة المؤلف أن يختار عنوانات مسجوعة لكتبه كما ذكرتُ في موضع آخر، ولأنه عادةً ما يُتسامح في تسمية الكتب إذا جاءت في غير صفحة العنوان أو مقدّمة المؤلف، فتُذكر بموضوع الرسالة أو يُختصر العنوان أو يُتصرّف فيه. ومهما يكن من أمر فإن ذِكر المؤلف له بهذا العنوان في ثلاثة مواضع قد قرّب لنا تسمية هذه الرسالة. ¬

_ (¬1) (ص 729). (¬2) (ص 815).

* ثانيا: ثبوت نسبته للمؤلف وتاريخ تأليفه

* ثانيًا: ثبوت نسبته للمؤلف وتاريخ تأليفه: الكتاب ثابت النسبة لمؤلفه، فهو بخط مصنّفه المعروف في كل نسخه التي وُجدت، وهي نسخ (كما سيأتي وصفها) مسوّدة كثيرة الضرب والتعديل، وهذه لا تكون إلا من صنيع مؤلف الكتاب أو الرسالة كما هو معروف. ومما يدلّ على ثبوت الكتاب له أنه قد ذكره في كتابه الكبير "العبادة" في موضعين (ص 729, 815) قال في الموضع الأول: "وقد بسطنا الكلام على ذلك في رسالتنا (عمارة القبور) "، وقال في الثاني: "وقد عَثَرْتُ له على عِلَّةٍ قادحةٍ بيَّنتُها في رسالَتي (عمارة القبور) ". ولكن يُشكل على هذا أننا لم نجد هذين البحثين في الكتاب، ولعلهما في أوراق لم نعثر عليها. ثم هو جارٍ على طريقة الشيخ المعهودة في عرض المسائل والاستدلال عليها، والتمكّنُ في الكلام على الحديث والعلل والرجال ظاهر في الرسالة. أما وقت تأليفها، فلم يظهر بالتحديد وقت تأليفها لكني أميل إلى أنه ألّفها بعد مَقدمه إلى مكة المكرمة بعد سنة 1371 هـ, وذلك أن المؤلف تعرّض في ردّ الشبهات إلى ما أورده حَسَنٌ الصدر في رسالته "الرد على الوهابية" وسمى مؤلفها في (المبيّضة ص 126). أما في (المسوّدة ص 58) فلم يذكره صراحة، لكنه ذَكَر أن بعض المتطرّفين الجهّال الذين يستحبّون البناء على القبور ... وأنه إذا أنكر عليهم أحدٌ قالوا: "وهّابي" ... وظني أن قضية الوهابية والنبز بها إنما برزت عند الشيخ ولمسها لمّا جاء إلى مكة، فالله أعلم.

* ثالثا: سبب تأليفه

* ثالثًا: سبب تأليفه: بين المؤلف سبب تأليفه لرسالته هذه فقال في مقدمتها: "فإني اطلعت على بعض الرسائل التي ألفت في هذه الأيام في شأن البناء على القبور، وسمعت بما جرى في هذه المسألة من النزاع، فأردتُ أن انظر فيها نظرَ طالبٍ للحق، متحرٍّ للصواب، عملًا بقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} " (¬1). ولم يسمّ المصنف هذه الكتب المؤلفة في هذه المسألة، لكنه ذكر واحدًا منها في أثناء كتابه، وهو كتاب "الرد على الوهابية" لحسن صدر الدين الكاظمي الرافضي (ت 1354 هـ)، فذكره صراحة في موضع واحد، فبعد أن ذكر رواية موضوعة أوردها هذا الرافضي قال: "من أراد الاطلاع على تلك الرواية, فلينظرها في رسالة حسن صدر الدين الكاظمي" (¬2). وكان المؤلف قد ذكرها باسمها "الرد ... " إلا أنه ضرب عليه. وذكر المؤلف كلام الصدر الرافضي في مواضع أخرى من الكتاب وردّ عليه، فإياه عني بقوله (ص 62): "وزعم بعض الجهال أن الحديث مضطرب". وإياه عني بقوله: "وقد قال قائل ... " فذكر قوله ثم قال: "والجواب: أن هذا كذب من ثلاثة أوجه"، وكذلك عناه (ص 124) حين قال: "وقال آخر" ثم ردّ عليه. فهذه أربعة مواضع من المبيّضة رد فيها على ¬

_ (¬1) (ص 3 - المبيضة) وبنحوه في المسوّدة. (¬2) (ص 126 - المبيضة).

* رابعا: عرض موضوعات الكتاب في نسختيه

ذاك الرافضي. وفي الرسالة مواضع أخر يظهر منها تعرّض الشيخ لبعض الشُّبَه التي أثارها الصدر في كتابه. أما النسخة الأخرى (المسوّدة ص 58 - 59) فقد ذكر بعض شُبه الصدر وأنها شُبَه الغلاة الجهال الذين يَصِمون كلّ مَن خالفهم بأنه "وهّابي"! ثم ردّ عليه. ورسالة الصدر هذه ناقش فيها أهل السنة (ويسميهم الوهابية) في مسائل من توحيد العبادة، وزيارة القبور والبناء عليها والتبرك بها والدعاء عندها، وطلب الشفاعة، وإيقاد السُّرج، والذبائح والنذور عندها. ورأى جواز ذلك كله بل استحبابه! مستدلًّا في كثير من المسائل بمراجع أهل السنة وأحاديثهم زيادة في التلبيس والتضليل! ولأجل هذا التلبيس المتعمّد - فيما يظهر - خصّه الشيخ بالذكر والتعقّب. * رابعًا: عرض موضوعات الكتاب في نسختيه: 1 - موضوعات المبيّضة: بدأ المؤلف ببيان سبب تأليفه للكتاب، وأنه اطلع على بعض الرسائل المؤلفة في مسألة البناء على القبور، وعَلِم ما في المسألة من نزاع، فأراد أن يجتهد فيها طالبًا للحق، متحرّيًا للصواب بحسب الأدلة من الكتاب والسنة. ثم ذكر أن رسالته مكونة من مقدمة وثلاثة فصول وخاتمة. بدأ بالمقدمة (ص 4 - 15) وقد استغرقت اثنتي عشرة صفحة، وتطرق فيها إلى قضيتين: الأولى: كمال الدين، وأنه لا هدي إلا هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، واستدل على ذلك بآيتين وحديثين، ذكرهما في صدر الكلام، ثم تكلم على وجه الاستدلال منها واحدًا واحدًا.

الثانية: أن الأصل في الأشياء التي خلقها الله الإباحة ولا تنتقل عن هذا الأصل إلا بدليل، وأن أمور الدين توقيفية ليس لأحد أن يتدين بشيء إلا إذا ثبت بالكتاب أو السنة. واستدل على ذلك أيضًا بآيتين وحديثين، ذكرهما ثم ذكر وجه الاستدلال منهما، وهذه قاعدة كلية في المقاصد. ثم خَلَص إلى القول في الوسائل وأنها على نوعين: وسيلة لا يمكن أن يؤدَّى المقصَد إلا بها، ووسيلة يمكن أن يؤدَّى بها وبغيرها. ثم نظر المؤلف في النوع الثاني، وجعله ثلاثة أقسام: 1 - إن كان للوسيلة مزية دينية لا توجد في غيرها = كان لها حكم المقصد، وضَرَبَ مثالاً عليها. 2 - إن لم يكن لها مزية دينية، وإنما اختيرت اتفاقًا = فلا مزية لها على غيرها. 3 - إن لم يترجح أحد الجانبين فمحلّ نظر. فإن تعدّدت الوسائل انطبقتْ عليها الأقسام الثلاثة. ثم ذكر مثالاً وهو جمع المصحف وتكييف مشروعيته، ومن أي الوسائل هو؟ وأطال وأطاب، ثم ذكر باقي ما يَستدلّ به مَن يرى جواز بعض البدع وخرّجه على نظرية الوسائل السابقة. ثم بيَّن معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من سنَّ سنَّة حسنة" وأن المراد بالحُسن الحُسن الشرعي الذي يُعلَم بالكتاب والسنة، وخَلَص إلى أن الحاكم في الأمور الدينية الشرع، وفي الأمور الدنيوية الأمر على الإباحة والسَّعَة.

وبه خلص المؤلف إلى النظر في أمر أحوال القبور هل هي من الأمور الدينية فتكون توقيفية أو لا؟ ورجَّح أنها من الأمور الدينية بدلائل عدّة، فينبغي أن يبحث عن الكيفية التي قررها الشارع للقبور. فبدأ بالفصل الأول (ص 16) فيما ثبت في كيفية القبر المشروعة. ذكر فيه أولاً أن البحث يتركز على الكيفية الظاهرة، ثم ذكر آية {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ ...}. وحديث فَضالة بن عُبيد: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر بتسوية القبور، فَسَاق الحديث من "صحيح مسلم" بلفظه ثم عقد عنوانًا (بيانُ طرقه)، وخلص إلى أن الحديث صحيح نظيف لا غبار عليه وإن وُجد في إحدى طريقيه ابن إسحاق ... ثم ذكر أحاديث أخرى تشهد له وإن اختلفت ألفاظها، ثم ذكر بعض الآثار. بعده عقد المؤلف عنوانًا (الأحكام المستنبطة من هذه الأدلة)، فبدأ بالآية، ثم حديث فضالة وأطال فيه، وبحث في معنى "التسوية" الواردة في الحديث، وخَلَص إلى القول: "فالمراد بتسوية القبر جعله سويًّا قويمًا على ما اقتضته الحكمة من غير إفراط ولا تفريط، وذلك على الهيئة التي قررها الشارع للقبور". ثم تكلم على الألفاظ الواردة في بقية الأحاديث ومعانيها، وبحث بشيء من التفصيل عن لفظ "مبطوحة" التي وردت في حديث القاسم، ومعانيها المحتملة، وخَلَص إلى أن الراجح هو المعنى الرابع وهو جعل البطحاء على الشيء، وذلك يقتضي تسطيح القبر.

وخلص في آخر المبحث إلى أن ما يتعلق بظاهر القبور من الهيئة المشروعة أمور: 1 - "رد تراب الحفرة إليها وجمعه عليها بهيئة التسنيم حتى ترتفع نحو شبر باعتبار الوسط، ولا يُزَاد على ذلك إلا ما ثبت، كوضع شيء من الحصى لا يزيد في الارتفاع، ووضع حجر عند رأس القبر علامة بشرطه. 2 - إبراز القبر" اهـ. ثم عقد الفصل الثاني وهو تتمّة لبيان الهيئة المشروعة فيما يتصل بالقبر، وذكر صفة الهيئة المشروعة للقبر، وبحث في علة النهي عن الرفع والتجصيص ونحوه، ومال إلى أنها الخشية من أن يؤدي تمييز القبور إلى تعظيمها. - ثم ذكر أثرين في الباب وهما في "صحيح البخاري" الأول: أثر الحسن بن الحسن لما ضربت امرأتُه قبةً على قبره سنة. والثاني: أثر خارجة ابن زيد: رأيتني ونحن شَبَبة ... إلخ. وبيَّن ضعفَ الأثرين سندًا ونكارتهما من جهة المعنى. - ثم ذكر حديث علي رضي الله عنه: أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله ... (ص 50 - 69) فتكلم على رواياته وألفاظه، ثم تكلم على الاختلاف في أسانيده، ثم تكلم عن الاختلاف في متنه، ثم ذكر تنبيهين يتعلّقان بالصناعة الحديثية. - ثم عقد عنوانًا جانبيًّا (رجوع) ذكر فيه أن ما زعمه بعضُ الجهّال (يعني حسنًا الصدر الرافضي) من أن الحديث مضطرب = مدفوع، وتعقّبه المؤلف أيضًا في قضايا حديثية عدة.

- ثم ذكر حديث جابر (ص 70 - 89): "سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يقعد الرجل على القبر .... "، فتكلم على طُرقه وأسانيده وألفاظه، وروايات أخرى عن جابر في الباب نفسه. - ثم عقد عنوانًا لبيان حال أبي الزبير المكي (أحد رواة حديث جابر)، وعنوانًا آخر لبيان حال سليمان بن موسى الراوي عن أبي الزبير. - ثم ذكر حديث أبي سعيد الخدري: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يُبنى على القبر". فذكر رواياته وأسانيده، وبحث حال القاسم بن مخيمرة أحد رواته (ص 90 - 92). - ثم خلص إلى بحث اشتراط اللقاء بين الرَّاويَيْن (ملخّصًا) (¬1) (ص 93 - 99). - ثم ذكر حديث أمّ سلمة: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُبنى على القبر أو يجصّص" وتكلم على إسناده ورواته، ثم ذكر أثرين في الباب. (ص 100 - 104). - ثم عقد عنوان (الأحكام المستنبطة من هذه الأدلّة) (ص 104 - 108) - يعني الأدلة التي أوردها في الفصل الثاني - من الأثرين المعلّقين في "صحيح البخاري"، فذكر ما يُستنبط منهما على فَرْض صحّتهما، فإنه قد رجّح ضعفَهما. - ثم عقد الفصل الثالث وهو: شرح حديث عليّ المتقدم (ص 50) (ص 109 - 128)، وشرح معه بعض الآثار في الباب. ¬

_ (¬1) توسّع فيه في النسخة المسوّدة.

2 - موضوعات (المسودة)

- ثم تكلم المؤلف على عدة مسائل تتعلق بالقبور هي (الكتابة، الزيادة على القبر، الجلوس على القبر - وأطال فيه -, البناء على القبر - وأطال فيه - وأخذ يردّ فيه على بعض شُبه الرافضي حسن صدر الدين الكاظمي (ت 1354 هـ). في البناء على القبور من رسالة له سماها "الرد على الوهّابية". (راجع مبحث سبب تأليف الكتاب). - ثم عقد المؤلف عنوانًا سماه (آية الكهف: 21) وهي قوله تعالى: {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا}، فذكر الأقوال فيها والخلاف في تفسيرها، ثم نظر فيها نظر اجتهاد وتحليل، واختار في قوله: {ابْنُوا عَلَيْهِمْ} أي: ابنوا عليهم مسجدًا يكون جداره سادًّا لباب الكهف، وأيّده بأنواع من الأدلة والترجيحات (ص 129 - 136). وبنهاية الكلام عليها ينتهي الكتاب. 2 - موضوعات (المسوّدة): - بدأ المؤلف بمقدمة بيَّن فيها سبب تأليفه الكتاب كما سبق في (المبيضة) وأنه لا بد من الرد إلى كتاب الله تعالى لتبيين الحق في المسألة، ومن الرد إلى كتاب الله سؤال أهل العلم. - ثم عنون بـ (عرض هذه القضية على كتاب الله) فذكر آية: {إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ} [الكهف: 21] , وذكر وجه استدلال مَن قال بجواز البناء على القبور منها. - ثم ذكر عنوانًا (تحليل الاستدلال) فذكر فيه ما احتج به مَن يجيز ذلك ثم ناقشه وردّ عليه فقرة فقرة (ص 6 - 24).

- بعده ذكر عنوان (تحديد محلّ النزاع) ذكر فيه أن المقصود من دفن جثث الموتى هو مواراتها، والأصل فيه الاقتصار على القدر الكافي للمواراة، ثم ذكر حكم تعدِّي ذلك، وتتطرّق إلى الدفن في المقبرة المسبّلة، وإلي الدفن في الموات، والوصية بالدفن في المِلك، والدفن في مِلك الدافن. فحرر محل النزاع بقوله: "بقي رفع القبر في غير الملك، بدون إحكام ولا بناء، وإنما هو بزيادة حصى ورمل وتراب يُرْكَم عليه حتى يرتفع. وبقي الرفع، والتوسعة، والإحكام، والبناء فيما إذا كان في ملك الفاعل، وهذا هو الذي يصلح أن يكون محلًّا للنزاع" (ص 25 - 28). - ثم بدأ بالكلام على مسألة الرفع في غير الملك، فذكر أدلة المجيزين، ثم أجاب عنها واحدًا واحدًا (ص 29 - 38). - ثم عقد فصلاً في تسوية القبور، فذكر حديث فَضالة بن عُبيد: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر بتسويتها، وذكر طُرقه ورواياته وألفاظه. - ثم عقد عنوانًا في (معنى التسوية) وخلص إلى أن معنى التسوية إذا أُطلقت كان المراد بها تسوية الشيء في نفسه ولا تُحمل على التسوية بالأرض إلا بقرينة. وقد وُجِدت قرينة في الحديث تدل على التسوية بالأرض (ص 43 - 46). - بعده ذكر بحثًا عَنونه بـ (تحقيق الحق في هذا البحث) أي في معنى التسوية، وأنها لا تعارض رفع القبر قليلاً من تراب حفرته، وكذلك إذا أريد تمييزه لمقصد شرعي صحيح بوضع علامة عليه ... (ص 47 - 49).

- بعده عنون بـ (القدر المشروع لرفع القبر) وذكر في ذلك حديث جابر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رُفع قبره نحوًا من شبر. - ثم تكلم على (كيفية رفع القبر) وعن معنى قوله "مبطوحة" وما قيل فيها، والراجح من ذلك، ثم ذكر جملة من أدلة التسنيم (ص 51 - 58). - ثم تكلم على مسألة (البناء على القبر) وهو خاص ببحث مسألة البناء على القبور في المِلك، وذكر أن الناس فريقان: القائلون بالكراهة في المِلك والحرمة في المسبّلة. الفريق الثاني من غلاة الجهّال الذين يقولون بأنه مستحب أو واجب، وهم لفرط جهلهم يتهمون من ينكر عليهم بقولهم (وهابي)!! وغير ذلك ... ويستدلون على هذا القول بأدلة والرد عليها. - ثم ذكر أدلة النهي عن البناء ونحوه ووجه دلالتها على الحرمة (ص 59 - 65). - ثم ذكر المؤلف حديث جابر في النهي عن البناء على القبور، وذكر رواياته وألفاظه، والكلام عليه وما يشهد له. وتضمَّن مباحث حديثية دقيقة. - ثم عنون بـ (تحقيق حال أبي الزبير) (ص 81 - 87). - بعده عنون بـ (تحقيق حال سليمان بن موسى) (ص 88 - 91). - بعده تكلم على حديث أبي سعيد الخدري، وتكلم على حال القاسم بن مخيمرة (92 - 93). ثم عقد بحثًا عنونه بـ (بحث شرط اللقاء) وعقد البحث على صورة مناظرة بين فريقين، جعل لمذهب مسلم رقم (1)، ومقابله رقم (2) وجرى هذا إلى آخر البحث (ص 94 - 108).

* خامسا: بين المسودة والمبيضة، ودواعي طبعهما

- ثم ذكر حديث أم سلمة في نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُبنى على القبر أو يجصص وتكلم على ثبوته (ص 109 - 111). - ثم عقد ما يشبه الاستدراك أو الإضافة فقال: (تتمة لحديث جابر وأبي سعيد وناعم) (ص 112 - 113). * خامسًا: بين المسوّدة والمبيّضة، ودواعي طبعهما: نعقد هذا المبحث لنوازن بين هاتين النسختين من هذه الرسالة، من حيثُ التقسيمُ، والترتيبُ، والزيادات وما تميّزت به كلٌّ منهما، وبه يظهر لنا دواعي طبعهما معًا وعدم الاكتفاء بإحداهما عن الأخرى، فنقول: 1 - التقسيم: في المبيضة صرّح المؤلف بتقسيمها إلى مقدمة وثلاثة فصول وخاتمة، وقد وفى بترتيبه هذا في الجملة، غير أن الخاتمة لم يتمكن من كتابتها بعد أن كتب عنوانها فقط. أما المسوّدة فلم يقسمها تقسيمًا واضح المعالم، وإنما يعنون عنوانات جانبية ويبحث تحتها المسائل، ويحيل إلى مباحث أنه سيأتي ذكرها ولم نجدها في هذه النسخة. 2 - الترتيب: ظهر من عرض الرسالة في نسختيها أنّ هناك اختلافًا في ترتيبهما، إذ بعد اتفاقهما في التصدير تبدأ المبيّضة بمقدّمة طويلة عقدها المؤلف للتدليل على أن أمور الشرع توقيفية لا تؤخَذ إلا من الشارع، ثم تكلّم على الوسائل وخَلَص إلى أن شأن القبور شأن شرعيّ يجب أن ينظر فيه بنظر الشرع. بينما المسوَّدة تخلو من هذا البحث.

فبدأت المبيضة بالفصل الأول: فيما ثبت في كيفية القبر المشروعة. ثم عقد الفصل الثاني وهو تتمة لبيان الهيئة المشروعة فيما يتصل بالقبر وذكر فيه جملة من أحاديث الباب وشرحها. ثم عقد المؤلف عنوانًا سمّاه (آية الكهف: 21). ثم ختم بالفصل الثالث: شرح حديث عليّ المتقدم. أما المسودة فبدأت بعنوان (عرض هذه القضية على كتاب الله) فذكر آية 21 من سورة الكهف، ثم ذكر في عنوان مستقلّ (تحليل الاستدلال) أي من الآية، وضمَّنه افتراضات عقلية لم ترد في النسخة المبيضة لأنه رأى أن الأمر أوضح من ذلك. بعده ذكر عنوان (تحديد محلّ النزاع)، ثم بدأ بالكلام على مسألة الرفع في غير الملك، ثم عقد فصلاً في (تسوية القبور)، وآخر في (القدر المشروع لرفع القبر)، ثم تكلم على (كيفية رفع القبر)، ثم تكلم على (البناء على القبر) وهو خاص ببحث مسألة البناء على القبور في المِلك، فذكر حديثي جابر وأبي سعيد في النهي عن البناء وتكلم عليهما. ثم عقد بحثًا عنونه بـ (بحث شرط اللقاء) وتوسع فيه على شكل مناظرة بين فريقين، أما المبيّضة فالبحث فيها ملخص وليس على صورة مناظرة. ثم ختم النسخة بحديث أم سلمة في نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُبنى على القبر أو يجصص، ثم الاستدراك والإضافة. 3 - الزيادات والميزات: تميزت المبيضة بحسن الترتيب ووضوح فكرة المؤلف، واكتمال البحث في صورته الأخيرة, وتحديد موضع النزاع، واستيعاب الأحاديث والآثار في المسألة والكلام عليها سندًا ومتنًا. وفيها أيضًا الرد على الرافضي حسن الصدر الكاظمي في جملة من المسائل. وتمتاز المسودة بالإضافة والإفاضة في بحث آية 21 من سورة الكهف، وبحث شرط اللقاء، وذكر بعض المسائل المتعلقة بالقبور لم تذكر في المبيّضة.

* سادسا: وصف النسخ الخطية.

فكانت تلك الأمور مجتمعة داعيةً إلى نشر النسختين لما في كل واحدة منهما من ميزة يحسن الوقوف عليها والإفادة منها. أما ترك المسوّدة دون طباعة فسيفقدنا تلك الفوائد، وأما التلفيق بين النسختين فغير مرضيّ لأنا سنُخرِج حينئذ كتابًا لم يكتبه المؤلف، وأما ذكر الزوائد في الحواشي فسيفقدها قيمتها، وربما تصدُّ القارئَ عن الوقوف عليها. * سادسًا: وصف النسخ الخطية. 1 - نسخة المبيضة: محفوظة في مكتبة الحرم المكي الشريف برقم [4668/ 2] فليم رقم (3592) تقع في 120 ورقة بخط مؤلفها العلامة المعلمي، عدد الأسطر متفاوت في غالب الصفحات، كُتِبت في دفتر مسطّر معتاد بخطًّ متفاوت في الثخانة والدّقة والوضوح، ويعود ذلك لاختلاف أقلام الكتابة، واختلاف أوقاتها. والرسالة كغالب كتب الشيخ؛ كثيرة الضرب (فقد يضرب على صفحة أو أكثر) واللحق والإضافة والتحويل والبياضات (فقد يترك ورقة كاملة أملاً في إلحاق شيء). وكان من المفترض أن تكون هذه هي مبيّضة الكتاب الأخيرة؛ لأن الشيخ قد كتب عدّة نسخ من هذه الرسالة هذه آخرها فيما أرجح، لكنها عادت مسوّدة كما بدأتْ. وقد أطلقنا عليها (المبيّضة) باعتبارها آخر ما كتب الشيخ من نُسَخ هذه الرسالة، لا باعتبار حقيقة الحال. تبدأ النسخة بعدة صفحات تبلغ التسع فيها مقيّدات لفوائد متنوعة انتقاها الشيخ من كتاب "الاعتصام" للشاطبي (دون أن يصرح باسمه) (¬1) أشبه ¬

_ (¬1) وفي مجموع رقم 4717 انتقى أيضًا فوائد من "الاعتصام" مع التصريح باسمه (ص 121 - 137).

بالفهرس للفوائد، يذكر رقم الصفحة ثم يذكر الفائدة كاملة تارة ومُشارًا إلى رأسها تارة أخرى. وقد استمرّت كتابة هذه الفوائد إلى بداية مقدمة الكتاب وصفحة تليها، والظاهر أن الشيخ كان قد ترك ورقات من أول الدفتر فارغة وكتب المقدمة بعد عدة صفحات، فلما قرأ كتاب "الاعتصام" قيّد فوائده في تلك الصفحات الفارغة وطالت حتى تجاوزت مقدمة الرسالة. وكلها تقييدات دون تعليق إلا في موضع واحد فقد استدرك على الشاطبي في معنى "الجماعة" الواردة في الأحاديث فقال: " ... معنى الجماعة في الأحاديث، ولم يأتِ فيها بتحقيق شافٍ. والصواب والله أعلم أن الجماعة هي السواد الأعظم من علماء الأمة المُسلّم كونهم علماء، فيدخل في ذلك عامة الصحابة رضي الله عنهم وأئمة التابعين وهلمّ جرًّا. والشاذّ من الجماعة المراد به عالم زلّ، وعلى ذلك جاء التحذير من زلّة العالم، فالغاية واحدة، وعلى هذا فعامة أهل البدع خارجون عن الجماعة أصلاً إذ ليس عامتهم من العلماء، فإن اتفق أن عالمًا ابتدع فهو الشاذّ في النار ونهبة الشيطان". والله أعلم. وفي آخر الدفتر بعد تمام الرسالة كتب الشيخ منتقيات وفوائد من "مختصر جامع بيان العلم وفضله" و"المعجم الصغير" للطبراني - ولم يُسَمّ الأخير - في 27 ورقة. 2 - نسخة المسودة: نسختها في مكتبة الحرم المكي الشريف برقم [4669] فليم رقم (3591) تقع في 141 ورقة. ويقال في وصفها ما قيل في وصف سابقتها. وفي أول الدفتر خمس صفحات قيد فيها المؤلف بعض الآيات والنقول من "تهذيب التهذيب" وغيره.

- سابعا: منهج التحقيق

3 - المسوّدة الثانية: نسخة مسوّدة كُتبت قبل النسخة السالفة فيما أرجح تقع ضمن مجموع رقم (4717) في مكتبة الحرم المكي الشريف في 87 صفحة بترقيم المؤلف، تبدأ النسخة بتعاليق تتعلق بمسند الإِمام أحمد وكأنه تخطيط لترتيب أحاديثه، ثم تقييد لأرقام صفحات كثيرة وكُتب فوقها: "يلحق برسالة عمارة القبور في الإِسلام" ولم أهتدِ إلى مراده بهذه الأرقام! ثم تبدأ هذه المسودة من ص 9 بقوله: "الحمد لله، الحكم الذي تدل عليه الأحاديث ... وقدمنا أن المراد ... " فالإشارة إلى ما تقدم لعله في دفتر آخر ولم نقف عليه، والنسخة ينقصها الكثير من المباحث، فلعلها في هذه النسخة المحال إليها. وفي هذه النسخة بعض الفوائد ليست في النسخ الأخرى أثبتُّ بعضها في الهوامش، وبعضها في ملحق آخر الكتاب. وفي المجموع أيضًا مختصر لـ "طبقات المدلسين" لابن حجر، وفوائد من "اقتضاء الصراط المستقيم" لابن تيمية، وفوائد منتقاة من "الاعتصام" للشاطبي. - سابعًا: منهج التحقيق أثبتنا الكتاب في نسختيه كما تركه مؤلفه، وتتبّعنا إلحاقاته وتحويلاته في تقديم مبحث أو نصّ إلى مكانه الذي حوله إليه (انظر ق 55 و93) وغير ذلك من إشاراته، ولم نتدخّل في كبير شيء إلا في موضع واحد قدمنا فيه جملةً من الآثار كان حقها التقديم. أما المسودة الثانية فاستعرضتُها فرأيت فيها موضعين مفيدين يحسن إثباتهما، فأثبتّ الأول في هامش ص 114 وهو تعليق للشيخ على كلام ابن حجر الهيتمي، والموضع الثاني في مسألة البناء على القبور وشُبهة قد يثيرها

مَن يجيز البناء مع الجواب عليها، ومع أنها مذكورة في (المبيَّضة) إلا أنها هنا تختلف في طريقة عرضها وزيادة الجواب في جوانب منها. فأثبتها في آخر الرسالة للوقوف عليها. وانتهجنا النهجَ. نفسَه في خدمة كتب الشيخ كما ذكرناه في غير موضع، وكما شرحناه في مقدمة المشروع. والحمد لله رب العالمين.

عمارة القبور في الإسلام (المبيضة)

آثار الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي (5) عمارة القبور في الإسلام (المبيضة) تأليف الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني 1312 هـ - 1386 هـ تحقيق علي بن محمد العمران وفق المنهج المعتمد من الشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد (رحمه الله تعالى) تمويل مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أوضح لنا سواء السبيل، وحفظ علينا كتابَه وسننَ رسوله، وأشهد ألاّ إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. اللهم صلّ على محمَّد وأزواجه وذرِّيته، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمَّد وأزواجه وذرِّيته، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. أما بعد، فإني اطلعتُ على بعض الرسائل التي أُلَّفت في هذه الأيام في شأن البناء على القبور (¬1)، وسمعتُ بما جرى في هذه المسألة من النزاع، فأردتُ أن أنظرَ فيها نظرَ طالبٍ للحق، متحرٍّ للصواب، عملًا بقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) ...} إلى قوله جل ذكره: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [سورة النساء: 59 - 65]. ولا ريب أن الردَّ إلى الله ورسوله بعد وفاة الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلم، إنما يحصل بالردَّ إلى الكتاب والسنة، وتحكيمه بتحكيمهما. ومن الرد إلى الله ورسوله سؤال الجاهل للعالم. وهذه الرسالة مؤلفة من مقدّمة، وثلاثة فصول، وخاتمة. ومن الله عزَّ وجلّ نسأل الإعانة والتوفيق. ¬

_ (¬1) من هذه الرسائل التي ذكرها المؤلف هنا وردَّ عليها رسالة حسن الصدر الرافضي (ت 1354) "الرد على الوهابية". انظر (ص 62، 111، 124).

المقدمة

[ص 3] المقدمة قال الله تبارك وتعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الآية [سورة المائدة: 3] (¬1). وقال عزَّ وجلَّ: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [سورة الشورى: 21]. وفي "الصحيحين" (¬2) عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "مَن أحْدَث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ". وفي "صحيح مسلم" (¬3) عن جابر قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "أما بعد، فإنَّ خيرَ الحديث كتاب الله، وخير الهَدْي هَدْي محمَّد، وشرَّ الأمور مُحْدَثاتها، وكلّ بدعة ضلالة". الآية الأولى صريحةٌ أن الله عزَّ وجلَّ أكمل لهذه الأمة دينها قبل وفاة رسوله صلَّى الله عليه وآله وسلم. ولا ريب أن الدين عبارة عن مجموع الأحكام الشرعية؛ من اعتقادية وعملية، فإكماله عبارة عن إكمالها. ¬

_ (¬1) اسم السورة من وضع المؤلف في غالب الرسالة، وقد يذكر رقمها، وإن أغفله ذكرناه. (¬2) البخاري رقم (2697)، ومسلم رقم (1718). (¬3) رقم (867).

وفي "الدر المنثور" (¬1): أخرج ابن جرير (¬2) وابن المنذر عن ابن عباس قال: أخبر الله نبيه والمؤمنين أنه قد أكمل لهم الإيمان, فلا تحتاجون إلى زيادة أبدًا، وقد أتمَّه فلا ينقص أبدًا، وقد رضيه فلا يسخطه أبدًا. وفيه (¬3): وأخرج ابن جرير (¬4) عن السُّدِّي في قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} قال: هذا نزل يوم عرفة، فلم ينزل بعدها حرامٌ ولا حلال ... وأخرج ابن جَرير (¬5) عن ابن جُريج قال: مكثَ النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم بعد ما نزلت هذه الآية إحدى وثمانين ليلةً، قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}. وفيه (¬6): وأخرج ابن جرير (¬7) وابن المنذر عن ابن عباس قال: "كان المشركون والمسلمون يحجّون جميعًا، فلما نزلت (براءة)، فَنُفِي المشركون عن البيت الحرام، وحجَّ المسلمون لا يشاركهم في البيت الحرام أحدٌ من المشركين، فكان ذلك من تمام النِّعْمة، وهو قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}. اهـ. ¬

_ (¬1) (2/ 456). (¬2) تفسيره: (8/ 80). من رواية علي بن أبي طلحة. (¬3) (2/ 458). (¬4) تفسيره: (8/ 80). (¬5) تفسيره: (8/ 81). (¬6) (2/ 456). (¬7) تفسيره: (8/ 83).

وعلى هذا يُحْمَل ما في كلام بعض السلف مما يوهم أن هذه الأمور التي عدَّها ابن عباس من تمام النعمة هي إكمال الدين، فمرادهم أنها من تمام النعمة المذكورة في الآية. ومما يدل على ذلك ما ذكره في "الدر المنثور" (¬1) قال: وأخرج الحُمَيدي وأحمد وعَبْد بن حُمَيد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن حبان والبيهقي في "سننه" عن طارق بن شهاب قال: قالت اليهود لعمر: إنكم تقرأون آيةً في كتابكم، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا. قال: وأي آيةٍ؟ قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}. قال عمر: والله إني لأعلم اليومَ الذي نزلت على رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم والساعة التي نزلت فيها، نزلت على رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم عشيَّة عرفة في يوم جمعة. وذكر آثارًا أخرى في معنى هذا. ولو كان معنى إكمال الدين هو مُجَرَّد إكمال الحج، وإعزاز الدين في مكة، ونحوه، لما استحقَّ هذه العناية كلها. ثم إن إنزال الله عزَّ وجلَّ الآية يوم عرفة، ويوم الجمعة، في أفضل ساعة منه، يدلُّ على عَظَمتها، وإنما تتمّ عظمتُها بما ذكرنا. ¬

_ (¬1) (2/ 456). أخرجه الحميدي رقم (34)، وأحمد رقم (188)، وعَبْد بن حميد رقم (30 - المنتخب)، والبخاري رقم (45)، ومسلم رقم (3017)، والترمذي رقم (3043)، والنسائي رقم (5012)، وابن جرير: (8/ 86)، وابن حبان رقم (185)، والبيهقي: (3/ 181).

هذا مع أن ما ذكرناه هو صريح الآية، لِمَا قدّمنا أن الدين عبارة عن مجموع الأحكام، ولكن أردنا زيادة الإيضاح. فأيُّ شيءٍ أُحْدِث بعد وفاته صلَّى الله عليه وآله وسلم، فهو خارجٌ عن الدين، ضرورةَ أن الدينَ قد تمّ وكَمُل قبل حدوثه. فإن قيل: قد يكون زيادة كمال. قلنا: وهل يختار الله تعالى لرسوله غير الأكمل؟ مع أن كل متنازَعٍ فيه لا يخلو أن يكون مما شرعه الله أو [لا]. وعلى الثاني فالأمر واضح، وعلى الأول فلا يخلو أن يقال: هو (¬1) مما أعْلَم الله به رسوله، أو لا؟ والثاني باطلٌ؛ لأنّ كل ما شرعه الله فقد أعْلَم به رسولَه، مع أنه لا يُعْلَم الشرعُ إلا من قِبَلِه، وعلى الأول؛ فلا يخلو أن يكون أمره بتبليغه أو لا؟ إن قيل: لا. قلنا: فهل بلَّغه تبرُّعًا؟ إن قيل: لا. قلنا: فمن أين علمتموه؟ وإن قيل: بلَّغ. قلنا: أرونا ذلك لكن أول التابعين. [ص 4] وعلى الأمر بالتبليغ، فهل بلَّغ؟ إن قيل: نعم. قلنا: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111]. والآية الثانية تدل أنه ليس لأحدٍ أن يشرع في الدين ما لم يأذن به الله، ¬

_ (¬1) "يقال هو" تداخلت مع المضروب عليه من الكلام، ومكتوب تحتها: "يكون". وتحتمل العبارة أن تكون: "فلا يخلو أن يكون مما ... ".

والإذن إنما يُعْلَم بالكتاب والسنة، وأن مَن شَرَع ما لم يأذن به الله فقد ادّعى الشرك في الألوهية، والعياذ بالله. ومعنى الحديثين واضحٌ. **** وقال الله عزَّ وجلَّ في سورة البقرة: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]. وقال جل ذكره: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32]. وفي "الصحيحين" (¬1) عن سعد قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "إنَّ أعظم المسلمين في المسلمين جُرْمًا مِن سأل عن شيءٍ لم يحرَّم على الناس، فحُرِّم من أجل مسألته". وأخرج الترمذي وابن ماجه عن سلمان قال: سئل رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم عن السَّمْن والخبز والفِراء؟ قال [ص5]: "الحلال ما أحلَّه الله في كتابه، والحرام ما حرمه الله في كتابه, وما سكت عنه فهو مما عفا عنه" (¬2). ¬

_ (¬1) البخاري رقم (7289)، ومسلم رقم (2358). (¬2) أخرجه الترمذي رقم (1726)، وابن ماجه رقم (3367)، والدارقطني: (2/ 137)، والبيهقي: (9/ 320). قال الترمذي: "هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعًا إلا من هذا الوجه، وروى سفيان وغيره عن سليمان التيمي عن أبي عثمان عن سلمان قوله، وكأنّ الحديث الموقوف أصحّ. وسألت البخاري عن هذا الحديث فقال: ما أُراه =

فالآية الأولى صريحةٌ في أن جميع ما في الأرض [مخلوق] (¬1) لبني آدم. وإذا كان لهم، فهو مباح لهم. ففي الآية عموم الإباحة، فهي الأصل، وتحريم بعض ما في الأرض تخصيصٌ لهذا العموم، فلا يُصَار إليه إلا بدليل. ونحوها الآية الثانية. وكذا الحديث الأول، فإنه لو كان الأصل الحَظْر لكان الظاهر أن يقول: "عن شيءٍ قد أبيح" كما هو واضح. والحديث الثاني ظاهرٌ، والمراد بـ "كتاب الله" فيه حُكْمُه، أو القرآن، وما السنةُ إلا تفصيل لقوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] ونحوها. [ص 6] فتقرر أن أمور الدين توقيفية، أي أنه ليس لأحدٍ أن يتديَّن بشيءٍ إلا إذا ثبت بكتاب الله تعالى، أو سنة رسوله صلَّى الله عليه وآله وسلم. وهذه كُلِّية لا تُنْقَض بالنسبة إلى المقاصد. فأما الوسائل فهي على نوعين: وسيلة لا يمكن أن يؤدَّى المقصدُ إلا بها، وهذه لا كلام فيها. ووسيلة يمكن أن يؤدّى المقصدُ بها، ويمكن أن يؤدّى بغيرها. فهذا النوع يُنْظر فيه إلى الوسيلة التي أُدّيَ بها المقصد في حياته ¬

_ = محفوظًا، روى سفيان عن سليمان التيمي عن أبي عثمان عن سلمان موقوفًا. قال البخاري: وسيف بن هارون مقارب الحديث، وسيف بن محمَّد بن عاصم ذاهب الحديث" اهـ. وله شاهد من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أخرجه أبو داود رقم (3800). (¬1) بعد "الأرض" بياض بمقدار كلمة, والسياق يناسب مع أثبتّ.

صلَّى الله عليه وآله وسلم، ونَزِنُها بباقي الوسائل، فإن ترجَّح لنا أن لها مزيَّة دينية لا توجد في غيرها، كان لها حكم المقصد، إلا أن يطرأ عليها ما يوهّنها حتى يُخْشى من الجمود عليها الإخلال بالمقصد الأصلي. فمن ذلك: المساجد، مقصد ديني، يمكن أن يؤدَّى ببناء غير مزخرف، وببناء مزخرف، فنظرنا إلى الطريق التي اختارها رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم، وهي عدم الزخرفة، هل لها مزية دينية؟ فكانت النتيجة إيجابًا، كما تدل عليه الأحاديث؛ فوجب أن نتمسّك بها، فهي السنة، وخلافها بدعة. لكن لو أن حكومةً ظالمة منعت أهل بلدٍ أن يبنوا مسجدًا إلا مزخرفًا، فقد يقال: إنه يجوز لهم ذلك للضرورة, وإلا فات المقصد من أصله. [ص 7] ونعني بالزخرف: ما ليس حرامًا لذاته، فأما الحرام لذاته، كالصور فلا يجوز بحال. وإن ترجَّح لنا أن الوسيلة التي أُدَّي به المقصد في حياته صلَّى الله عليه وآله وسلم ليس لها مزية دينية على غيرها، وإنما اختيرت اتفاقًا، أو لكونها أرفق، أو لكونه لم يمكن ذلك الوقت غيرها، فالجمهور لا يرون لها مزيَّة على غيرها، وابن عمر يرى الاتباع أفضل. وإن لم يترجَّح أحد الجانبين، فمحلّ نظر. والظاهر أن له حكم الأول. هذا فيما إذا كان المأتيّ به في عهد رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم وسيلة واحدة. فأما إذا تعددت، فإن ترجّح لنا أن لها جميعها مزايا دينية لا توجد في

سائر الوسائل الممكنة، فكالقسم الأول. وإن ترجح أنه ليس لشيء منها مزية فكالثاني، وإن لم يترجح شيءٌ فكالثالث. أما إذا ترجَّح أن بعضها لم يكن لها مزية، فهي وسائر الوسائل الممكنة، كالقسم الثاني، وتمتاز الأخرى عنها بالأفضلية فقط، وبقيت تفريعات تُعْلَم بالتأمل. ومن هذا الأخير مسألة جمع القرآن في مصحف [ص 8] فالمقصد، وهو دوام سلامة القرآن من التغيير، يمكن أن يؤدّى بالحفظ استظهارًا، ويمكن أن يؤدَّى بجمعه بالكتابة. والذي كان مستعملًا في عهده صلَّى الله عليه وآله وسلم الحفظ، لكن مع جواز الجمع بالكتابة، بدليل أنه صلَّى الله عليه وآله وسلم كان يأمر بكتابة القرآن، وهذا الأمر أعمّ من أن يُكْتب متفرقًا أو مجتمعًا، وإنما جاء التفريق من قلة القراطيس، فكان يكتب في العُسُب، واللِّخاف، ونحوهما مما لا تسع القطعة منه إلا قليلاً. ومع ذلك فلم يبلغنا أنه صلَّى الله عليه وآله وسلم أمر أن لا يكتب في القطعة الواحدة إلا آية واحدة، أو نحو ذلك، ولا أنه نهى أن يُكْتَب من القرآن إلا ما يُكْتَب بين يديه عقب نزوله، فبقي الأمر على إطلاقه. ولا أنه نهى أن تُجْمع طائفةٌ من القِطَع المكتوب فيها القرآن في مكان واحد، وذلك معرّض للوقوع بلا ريب، فَتَرْك النهي عنه إذْن فيه (¬1). والإذن بجمع طائفة من القِطَع مؤذِنٌ بجواز جمع جميع القطع. وجواز جمعها في قطع متفرقة يدل على جواز جمعها متصلة. ¬

_ (¬1) من قوله: "وذلك معرض .. " إلى هنا ضرب عليه المؤلف أولاً، ثم كتب فوقه بخط واضح (صح) على طول العبارة, إشارةً منه إلى إلغاء الضرب.

ومع أن الصحابة كانوا يبتدرون الآية إذا نزلت فيحفظونها، فكان الأمر بالكتابة مستمرًّا، وهذا يدلّ صريحًا أن الحفظ لا يُغْني عن الكتابة، وأنهما لازمان معًا، وإذًا فكما جاز جمع القرآن حفظًا، فكذا كتابةً، لا يظهر فرقٌ في شيء من ذلك. [ص 9] نعم، للحفظ مزايا لا تُنكر: منها: أن يكون القرآن نُصْب عيني المؤمن. ومنها: العدل بين القرآن في الصلاة. ومنها: تمكّن الإنسان من التلاوة كل وقت. إلى غير ذلك. ولكن للكتابة مزيَّة أيضًا، وهي كونها أبعد عن الاشتباه والالتباس والخطأ والنسيان، إلا أن شيوعها يَحْمِل على التهاون بالحفظ، لاتّكال كل أحدٍ على أن في بيته مصحفًا، ويحصل الجمع بين المصلحتين بوجود مصحف واحد في القرية مثلاً، وأن يُقْبِل الناسُ على الحفظ. وعلى هذا كان الحال في عهده صلَّى الله عليه وآله وسلم، وفي خلافة الشيخين. أما في عهده صلَّى الله عليه وآله وسلم فكان في قِطَع متفرقة بأيدي الصحابة، وذلك أقرب إلى الإنصاف من جَمْع القطع في يدِ واحدٍ وحدَه، سواءً أبقيت كما هي، أم نُسِخت في مصحف واحد. أما جمعها ثم أخذها مناوبة، فمع كونه تكلُّفًا لا يخلو من المحذور المذكور، لاتّكال كلَّ أحدٍ على أن المصحف سيصل إليه ويبقى في نوبته مدة، فيتهاون في الحفظ والمدارسة، وهذا الذي قَدَرْنا عليه، ولا يضرُّنا

القدحُ فيه شيئًا، لما قدّمنا أن الجمع كان جائزًا في عهده صلَّى الله عليه وآله وسلم، وإن لم يقع بالفعل، وربما تُصُوّرت موانعُ أُخر لا حاجة إلى الإطالة بها. فلما كان في عهد أبي بكر واستحرَّ القتلُ بالقُرَّاء في اليمامة خشي الشيخان من تزلزل الوسيلة العظمى وهي الحفظ، ففزعا إلى تأييد الوسيلة الأخرى، وهي [ص 10] الكتابة، فاقتصرا على جمعها في مصحف واحد يبقى ببيت الخليفة، فكان ثمرةُ عملهما ذلك الاحتياطَ من أن تضيع قطعة من تلك القطع، أو يطرأ عليها شيءٌ. وبقي الناس مقبلين على الحفظ مُسْتَغْنين به خلافةَ أبي بكر وعمر وصدرًا من خلافة عثمان، وكتب بعضهم مصحفًا لنفسه (¬1) كابن مسعود، وأُبَيِّ بن كعب. ثم غزا صاحبُ سِرِّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم حذيفة بن اليمان، فسمع بعضَ اختلاف في القراءات، منه ما نشأ عن اختلاف الأحرف، وكلٌّ صحيحٌ ولكنه أدى إلى النزاع، ومنه ما نشأ عن خطأ من الأعاجم الذين أسلموا ونحوهم، فأفزعه ذلك، فجاء فأشار على عثمان بتدارك القضية، فتداركها بنسخ عدة مصاحف، وإرسال كل مصحف إلى مِصْرٍ، وهو تقريبًا كما كان في عهد النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم وصاحبيه، مصحفٌ بالمدينة، فصارت كل مدينة محتاجة إلى مصحف، وهذا هو فعل عثمان. وأما بعد ذلك فهُجِرَت الوسيلة العظمى وهي الحفظ، وفترت الهِمَم، ¬

_ (¬1) يحتمل أن تكون مضروبًا عليها.

حتى لو لم توجد المصاحف بكثرة لهجروا القرآن رأسًا، فتعيَّن حينئذٍ تكثير المصاحف. والمقصود أن جمع القرآن في مصحف واحد مع كونه جائزًا في عهده صلَّى الله عليه وآله وسلم، فلم يُقْدِم عليه الصحابة إلا عند الاضطرار إليه. وأحد هذين الأمرين كافٍ في الجواز، ولكنهم لم يكتفوا إلا بهما معًا، رضي الله عنهم. وأما إجلاء يهود خيبر، فهو توصيته صلَّى الله عليه وآله وسلم. [ص 11] وصلاة التراويح سُنته، وإنما تركها خشيةَ أن تُفْرض، وزال هذا المانع بوفاته. وجَمْع كتب الحديث سنته بإذنه لعبد الله بن عَمْرو، وغير ذلك. واختراع النحو والصرف من القسم الأول والثاني معًا؛ لأن العربية يحتاجها الناس لدينهم ودنياهم، وكانت أولاً محفوظة متوارثة، فلما اختلطت العرب بالعجم ضَعُف الحفظ والتوارث، ففزع العلماء رحمهم الله إلى وسيلة أخرى تضمن سلامة اللغة. فهذا جُلُّ ما يتمسك به أنصار البدع، قد أوضحنا حقيقته، ولله الحمد. **** وأما قوله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "من سن سنةً حسنة ... " الحديث. فالمراد بالحُسْن، الحُسْن الشرعي؛ لأن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم إنما يتكلم بلسان الشرع، والحُسْن الشرعي إنما يُعْلَم من الكتاب والسنة. مع

أن القائلين بالتحسين والتقبيح العقلي يعترفون أن بعد ورود الشرع وبلوغ الدعوة لا حاكم إلا الشرع. قال في "إرشاد الفحول" (¬1) (ص 7): "اعلم أنه لا خلاف في كون الحاكم: الشرعَ بعد البعثة وبلوغ الدعوة" اهـ. فهذا ما يتعلق بالأمور الدينية. [ص 12] وأما الدنيوية؛ فقد ثبت بالأدلة السابقة أنها موسَّعة، ليس لأحد أن يحظر شيئًا منها إلا إذا ثبت الحَظْر بكتاب الله عزَّ وجلَّ، وسنة رسوله صلَّى الله عليه وآله وسلم. إذا علمت هذا، فألقِ نظرةً في أحوال القبور، أهي من الأمور الدينية، فتكون توقيفية، يجب أن يُقْتَصر فيها على ما ثبت بالشرع، أم دنيوية فتكون موسَّعة، إلا ما ثبت حظره بدليل شرعي؟ لا ريب بأنها من الأمور الدينية؛ ألا ترى إلى الأمر بأن تكون مستقبلَة، وأن يوضع الميت فيها على يمينه مستقبلاً، وأن لا يوضع إلا مغسولًا مكفَّنًا، إلى غير ذلك. إذن، فأول ما يلزمنا أن نبحث عن الكيفية التي قررها الشارع للقبور، ثم نعضّ عليها بالنواجذ، ولا نعتدي إن الله لا يحب المعتدين (¬2). ¬

_ (¬1) (1/ 78 - دار الفضيلة). (¬2) اقتباس من سورة الأعراف {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [55].

الفصل الأول فيما ثبت في كيفية القبر المشروعة

[ص13] الفصل الأول فيما ثبت في كيفية القبر المشروعة الذي يهمنا من كيفية القبر الكيفية الظاهرة؛ لأنها موضع النزاع، ولا نتعرض لغيرها إلا تبعًا. قال الله تبارك وتعالى: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ} [المائدة: 31]. * حديث فَضَالة. " صحيح مسلم" (¬1): أبو الطاهر أحمد بن عَمْرو بن سَرْح، نا ابن وهب، أخبرني عَمْرو بن الحارث، ح وحدثني هارون بن سعيد الأيلي، نا ابن وهب، حدثني عَمْرو بن الحارث - في رواية أبي الطاهر:- أنَّ أبا عليّ الهَمْداني حدَّثه،- وفي رواية هارون: أن ثمامة بن شُفَيّ حدّثه - قال: كنا مع - فَضَالة بن عُبيد بأرض الروم، فتوفي صاحبٌ لنا، فأمر فضالة بقبره فسوِّي، ثم قال: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم يأمر بتسويتها. اهـ. * بيانُ طرقه: حدث أبو علي ثُمامة بن شُفَي الهَمْداني قال: كنا مع فَضَالة بن عُبيد بأرض الروم، فتوفي صاحب لنا، فأمر فضالة بقبره فسُوَّي، ثم قال: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم يأمر بتسويتها. ¬

_ (¬1) رقم (968).

رواه عن ثمامة عَمْرو بن الحارث بن يعقوب الأنصاري، ومحمد بن إسحاق. أما عَمْرو؛ فعنه ابن وهب. وعن ابن وهبٍ أبو الطاهر أحمد بن عَمْرو بن السَّرْح، وهارون بن سعيد الأيلي، وسليمان بن داود (¬1). فعن ابنِ السرح مسلمٌ في "صحيحه" (¬2)، وأبو داود في "سننه" (¬3)، ومن طريق أبي داود رواه البيهقي في "سننه" (¬4). [ص 14] وعن هارونَ مسلمٌ في "صحيحه" (¬5) أيضًا، ومحمد بن إسماعيل الإسماعيلي عند البيهقي (¬6). وعن سليمانَ النسائيُّ في "سننه" (¬7). والروايات كلها مسلسلة بمعنى التحديث، والألفاظ متقاربة، وجميعها مشتركة في قوله: "فأمر فَضالة بقبره فسُوِّي ... " إلخ. ¬

_ (¬1) ويضاف: يونس بن عبد الأعلى عند الطحاوي في "مشكل الآثار" (3267)، وعبد العزيز بن مقلاص المصري عند الطبراني في "الكبير": (18/ رقم 811). (¬2) تقدم. (¬3) رقم (3219). (¬4) (4/ 2). (¬5) الموضع السالف. (¬6) الموضع السالف أيضًا. (¬7) رقم (2030).

وأما ابن إسحاق؛ فعنه إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، ومحمد بن عُبيد بن أبي أمية الطنافسي، وأحمد بن خالد الوهبي (¬1). فعن الأوَّلَيْن: الإِمام أحمد في "مسنده" (¬2) (جزء 6/ ص 18)؛ إلا أن في النسخة في رواية محمَّد بن عبيد: ثنا محمَّد (بن يحيى) (¬3) بن إسحاق عن ثمامة. وأما في رواية إبراهيم فقال الإِمام (¬4): ثنا يعقوب ثنا أبي عن ابن إسحاق قال: حدثني ثُمامة ... إلخ. وعن الثالث: أبو زُرْعة الدمشقي، وهو عبد الرحمن بن عَمْرو بن صفوان النصري، وعنه أبو العباس الأصم، وعن الأصم الحاكم وغيره، كما في "سنن البيهقي" (¬5). وفي هذه الرواية عنعن ابن إسحاق. ولفظ رواية محمَّد بن عبيد: " ... فأصيب ابنُ عمٍّ لنا، فصلى عليه فَضَالة، وقام على حفرته حتى واراه، فلما سوَّينا على حفرته، قال: أخِفّوا عنه، فإن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم كان يأمرنا بتسوية القبور". ¬

_ (¬1) ويضاف: عبد الأعلى عند ابن أبي شيبة (3/ 222)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (3268). (¬2) رقم (23934). (¬3) يعني أن "ابن يحيى" مقحمة وإنما هو محمَّد بن إسحاق، وهكذا جزم في النسخة الأخرى (42)، ومحققو المسند. (¬4) رقم (23936). (¬5) (3/ 411).

وفي رواية إبراهيم: "فقال فضالة: خَفِّفوا فإني سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم يأمر بتسوية القبور". وفي رواية أحمد بن خالد عند البيهقي: " ... فتوفي ابنُ عمٍّ لنا يقال له: نافع بن عبد، قال: فقام فَضالة في حفرته، فلما دفناه قال: خَفِّفوا عليه التراب، [ص 19] فإن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم كان يأمرنا بتسوية القبور". هذا الحديث صحيحٌ، نظيفٌ لا غبار عليه، ووجود ابن إسحاق في إحدى الطريقين لا يقدح، مع أنه إنما يُخْشى منه التدليس، وقد صرح بالتحديث. نعم، قال الذهبي في "الميزان" (¬1) في آخر ترجمة ابن إسحاق: "ما انفرد به ففيه نكارة، فإن في حفظه شيئًا". وقد انفرد بزيادة "أخِفّوا عنه" كما في رواية, أو "خَفِّفوا" كما في أخرى، أو "خَفِّفوا عليه التراب" كما في ثالثة، لكنها في الحقيقة ليست بزيادة، وإنما هي في مقابل ما في رواية عَمْرو: "فأمر فضالة بقبره فسُوِّي"، فهي تفسير لها، مع أن ههنا قرينة تدلّ على أن ثمامة أوضح القصة لابن إسحاق أتمّ من عَمْرو، وهي وجود اسم المتوفى في رواية ابن إسحاق، وذِكْر ابن إسحاق لاسم المتوفى واسم أبيه (نافع بن عبد) يدل على جودة حفظه للقصة. على أن الذهبي لم يقل: إن ما انفرد به فهو منكر، بل قال: "ففيه نكارة"، أي نكارة خفيفة، بدليل قوله عقبه: "فإن في حفظه شيئًا"، والنكارة اليسيرة، ¬

_ (¬1) (4/ 395).

وإن كانت تقتضي التوقف، فذلك إذا لم تقم قرينة على الحفظ، كما هنا. * في "كنز العمال" (¬1): "سووا القبور على وجه الأرض إذا دفنتم". طب عن فَضَالة بن عبيد. * [ص 20] ابن حبان في "صحيحه" (¬2): أخبرنا السجستاني ثنا أبو كامل الجحدري ثنا الفضل بن سليمان عن جعفر بن محمَّد عن أبيه عن جابر بن عبد الله: أن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم أُلْحِد له، ونُصِب عليه اللبن نصبًا، ورُفع قبره من الأرض نحوًا من شبر". * القاسم بن محمَّد في "سنن أبي داود" (¬3): عن القاسم بن محمَّد قال: "دخلت على عائشة فقلت: يا أُمَّاه! اكشفي لي عن قبر النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم وصاحبيه رضي الله عنهما، فكشفت لي عن ثلاثة قبور، لا مشرفة ولا لاطئة، مبطوحة ببطحاء العَرْصة الحمراء". وأخرجه الحاكم في "المستدرك" (¬4): وزاد: "فرأيت رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم مقدّمًا، وأبا بكر رأسه بين كتفي رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم، وعمر رأسه عند رجلي النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم". قال الحاكم: صحيح. وأقره الذهبي. * [ص 21] أبو جعفر بن شاهين في "كتاب الجنائز" له: بسنده عن جابر ¬

_ (¬1) رقم (42387). وهو عند الطبراني في "الكبير": (18/ رقم 812). وانظر "السلسلة الضعيفة" (5897). (¬2) رقم (6635). (¬3) رقم (3220). (¬4) (1/ 369).

قال: "سألتُ ثلاثةً كلهم له في قبر رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم أبٌ: أبا جعفر محمَّد بن علي، وسألت القاسم بن محمَّد بن أبي بكر، وسألت سالم بن عبد الله: أَخْبِروني عن قبور آبائكم في بيت عائشة؟ فكلهم قالوا: إنها مُسَنَّمة". نقلته من "مِرْقاة المفاتيح" (¬1)، ولا أدري ما صحته! وقد مرَّ عن جابر صفةُ دفن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم، ويبعد أن لا يحضر دفن الشيخين، فكيف يحتاج إلى السؤال، مع أن الصحابة كانوا يدخلون بيت عائشة, فيسلمون على النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم وصاحبيه. * "فتح الباري" (¬2): روى أبو بكر الآجُرِّي في "كتاب صفة قبر النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم" من طريق إسحاق بن عيسى ابن بنت داود بن أبي هند عن غُنَيم بن بسطام المديني قال: "رأيت قبر النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم في إمارة عمر بن عبد العزيز، فرأيته مرتفعًا نحو أربع أصابع ... " إلخ. لا أدري ما صحته. * ابن الهمام في "شرح الهداية" (¬3): روى ابن الحسن (¬4) أخبرنا أبو حنيفة عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم قال: أخبرني من رأى قبر النبي ¬

_ (¬1) (2/ 371). (¬2) (3/ 302). (¬3) (2/ 140). وكان المؤلف قد ضرب على هذه الجملة، ثم كتب فوقها (صح) مطولة على كامل الجملة. (¬4) في كتاب "الآثار": (2/ 182).

صلَّى الله عليه وآله وسلم، وقبر أبي بكر وعمر ناشِزةً من الأرض، وعليها فِلْق من مَدَرٍ أبيض". نقلته من "المرقاة" (¬1)، ونحوه في "جامع المسانيد" (¬2)، وفيه: أن حمادًا لم يسمّ شيخَه. * [ص 22] ابن أبي شيبة (¬3): حدثنا عيسى بن يونس عن سفيان التمَّار: "دخلتُ البيتَ الذي فيه قبر النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم فرأيتُ قبره وقبر أبي بكر وعمر مُسَنَّمة". أيضًا: ثنا يحيى بن سعيد عن سفيان عن أبي حصين عن الشعبي: "رأيت قبور شهداء أحد جثىً مُسنَّمة". اهـ. نقلتهما من "الجوهر النقي" (¬4). والأثر الأول: في "صحيح البخاري" (¬5)، ولفظه: "أنه رأى قبر النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم مُسنَّمًا". والثاني: رجاله رجال الصحيح، ولا تضر عنعنة سفيان ههنا؛ لأن الراوي عنه القطان، وهو لا يروي عنه إلا ما ثبت سماعه. انظر "فتح ¬

_ (¬1) (2/ 371). (¬2) (1/ 454). (¬3) (3/ 215). وأخرجه أبو داود في "المراسيل" (423)، وعبد الرزاق: (3/ 505) من طريق الثوري أخبرني بعض أصحابنا عن الشعبي بمثله. (¬4) (4/ 4 - بهامش سنن البيهقي). (¬5) كتاب الجنائز، باب ما جاء في قبر النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما. عقب حديث رقم (1390).

المغيث" (¬1) (ص 77). * الشافعي (¬2): أخبرنا إبراهيم بن محمَّد عن جعفر بن محمَّد عن أبيه: أن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم رشّ على قبر إبراهيم ابنه، ووضع عليه حصباء. والحصباء لا تثبت إلا على قبرٍ مسطَّح. أقول: إبراهيم بن محمَّد أجمع الأئمة على تضعيفه، إلا ابن الأصبهاني والشافعي، قال الشافعي: كان لأن يخرّ من السماء - أو قال: من بُعْد - أحبّ إليه من أن يكذب. وصرَّح جماعةٌ من الأئمة بأنه يكذب، وقال الإِمام أحمد: يضع. وقال ابن عدي: قد نظرت أنا الكثير من حديثه، فلم أجد له حديثًا منكرًا، إلا عن شيوخ [ص 19] يُحْتَمَلون، وقد حدَّث عنه الثوري وابن جريج والكبار. وعلى كل حال، فالرجل ضعيف، ومع هذا فالحديث مرسل. وفي الاحتجاج بالمرسل خلافٌ، لا حاجة لذكره. * المطلب، أبو داود (¬3): روى بسنده إلى المطلب بن أبي وداعة قال: ¬

_ (¬1) (1/ 219 - ط الجامعة السلفية). (¬2) في "المسند" رقم (599 - مع تخريجه). وله شاهد عند أبي داود في "المراسيل": (424). (¬3) رقم (3206). وأخرجه من طريقه البيهقي: (3/ 412)، ولفظهما: "أتعلَّم". والمطلب ليس صحابيًّا. قال الحافظ في "التلخيص": (2/ 141): "وإسناده حسن =

لما مات عثمان بن مظعون أُخرج بجنازته فدُفِن، فأمر النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم رجلاً أن يأتيه بحجر، فلم يستطع حملها، فقام إليها رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم وحسر عن ذراعيه. قال المطلب: قال الذي يخبرني عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: كأني انظر إلى بياض ذراعي النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم [ص 22] حين حسر عنهما، ثم حملها فوضعها عند رأسه، وقال: "أُعَلِّمُ بها قبرَ أخي، وأدفنُ إليه من مات من أهلي". اهـ. * في "الصحيحين" (¬1): عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم في مرضه الذي لم يقم منه: "لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". قالت: ولولا ذلك لأُبْرِزَ قبره، غير أنه خشي أن يكون مسجدًا". اهـ. ... ¬

_ = ليس فيه إلا كثير بن زيد راويه عن المطلب، وهو صدوق. وقد بيّن المطلب أن مخبرًا أخبره ولم يسمّه، ولا يضر إبهام الصحابي ... ". (¬1) البخاري رقم (1330)، ومسلم رقم (529).

* آثار

* آثار - الشافعي في "الأم" (¬1): لم أرَ قبور المهاجرين والأنصار مجصَّصة. - مالك: من مذهبه حُجّية عمل أهل المدينة، وقد قرر التسنيم، وترك التجصيص والبناء، وقضيته أن عمل أهل المدينة كان على التسنيم، وترك التجصيص والبناء (¬2). - "الجوهر النقي" (¬3): عن الطبري: هيئة القبور سنة متبعة، ولم يزل المسلمون يُسَنِّمون قبورهم. ثم قال: ثنا ابن بشار ثنا عبد الرحمن ثنا خالد ابن أبي عثمان قال: رأيت قبر ابن عمر مسنَّمًا. - محمَّد بن الحسن في "الآثار" (¬4): عن أبي حنيفة عن حماد عن إبراهيم كان يقال: ارفعوا القبر حتى يُعْرَف أنه قبر فلان. - "النهاية" (¬5) (جمهر): وفي حديث موسى بن طلحة أنه شهد دفن رجل، فقال: جمهروا قبره، أي اجمعوا عليه التراب جمعًا, ولا تطيّنوه، ولا تسوّوه. ... ¬

_ (¬1) (2/ 631). (¬2) انظر "تهذيب المدونة": (1/ 346)، و"الذخيرة": (2/ 478 - 479). (¬3) (4/ 4). (¬4) (2/ 190). (¬5) (1/ 180).

الأحكام المستنبطة من هذه الأدلة

[ص 23] الأحكام المستنبطة من هذه الأدلة أما الآية؛ فيُستدل بها على أن المقصود من شَرْع دفن الميت هو مواراة جثته، فالقَدْر الذي يحصل به تمام المواراة هو الأصل الثابت المقرر، وما زاد عن ذلك فإنه مفتقرٌ إلى دليل؛ لما مرَّ في المقدمة (¬1): أن أحكام القبور شرعية، والشرع توقيف. وأما حديث فضالة؛ فمداره على كلمة "التسوية"، فنقول: المتبادر من التسوية في الحديث أن يكون وجه القبر مساويًا لوجه الأرض في البقعة المحيطة به. ولكن نوزع بأن هذا إنما هو معنى تسوية القبر بالأرض، والذي في الحديث تسوية القبر فحسب. وتسوية القبر عبارة عن جعله متساوي الأطراف، كما في قوله عزَّ وجلَّ: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة: 4]. وهذا لا يقتضي التسوية بالأرض، بل أن يسوَّى القبر في ذاته، بأن لا يُترك فيه تسنيم أو زيادة في بعض أطرافه، بل يُجْعَل مسطَّحًا. وأجيب: بأن التسوية إذا أُطْلِقت على شيء ناشز على وجه الأرض كالبناء والربوة، فمعناها: تسويته بالأرض. ومنه قول الله تبارك وتعالى: {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا} [الشمس: 14]، قال الراغب (¬2): أي سوَّى بلادَهم بالأرض. ¬

_ (¬1) (ص 15). (¬2) في "المفردات" (ص 440).

ويدل عليه في هذا الحديث نفسه أن الصحابيَّ جعل الأمر بالتسوية أمرًا بالتخفيف من التراب، حيث قال: "أخِفُّوا عنه"، "خَفّفوا"، "خَفّفوا عليه التراب فإن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم كان يأمر بتسوية القبور". [ص 26] وإنما يكون الأمر بالتسوية أمرًا بالتخفيف إذا أُرِيْد بها التسوية بالأرض، فأما تسوية القبر في ذاته، فإنها تُمْكِن مع كثرة التراب، كما تُمكن مع قلته. والصحابيُّ لم ينقل لفظ النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم بنصِّه حتى يسوغ لنا أن نستقلّ بفهمه، وإن خالف فهم الصحابي، وإنما مؤدَّى كلامه أن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم كان يأمر بتسوية القبور، التسوية المقتضية لتخفيف التراب. أي أن بيان كون التسوية المأمور بها هي التي تقتضي تخفيف التراب مرفوعٌ تقوم به الحجة. وقد مر عن "كنز العمال" (¬1) حديث: "سووا القبور على وجه الأرض إذا دفنتم". فإن صحَّ فهو صريح في التسوية بالأرض، إذ لا يصح أن يقال: "سووا القبور" أمرٌ بتسويتها في ذاتها، و"على وجه الأرض" حالٌ؛ إذ لا معنى للحال، فالقبور على وجه الأرض على كل حال، فما بقي إلا أن يكون سووها بوجه الأرض. وقال الباجي في "شرح الموطأ" (¬2): قال ابن حبيب: وروى جابر: أن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم نهى أن تُرْفع القبور أو يُبْنى عليها، وأمر ¬

_ (¬1) رقم (42387). وانظر (ص 20). (¬2) (2/ 494).

بهدمها، وأمر بتسويتها بالأرض ... إلخ. وسيأتي (¬1) في حديث علي رضي الله عنه: "ولا قبرًا. مشرفًا إلا سويته"، فجعل التسوية: إزالة الإشراف، والإشراف هو الارتفاع، أعم من أن يكون القبر متساويًا في نفسه، وأن يكون غير متساوٍ، فالتسوية التي هي إزالة الإشراف، هي التسوية بالأرض، كما هو واضح. [ص 27] أقول: الحقُّ أن التسوية إذا أطلقت (¬2) كان المراد تسوية الشيء في ذاته. وتسويةُ الشيء في ذاته، لها معنيان: [المعنى] الأول: جَعْل الشيء متساوي الأجزاء، وهذا على ثلاثة أوجه: 1 - (¬3): أن يكون الشيء المراد تسويته واحدًا اختلفت أجزاؤه، كقطعة من الأرض فيها حُفر وجُثًى، فيؤمر بتسويتها، أي: إزالة تلك الجُثَى، وطمّ تلك الحفر، حتى تكون القطعة سواء. 2 - أن يكون جماعة، ويُراد تسوية كل واحدة منها في نفسه، كقطع من الأرض في كل واحدة منها حُفر وجُثًى، فيؤمر بتسوية القِطَع، أي: تسوية كل واحدة منها في ذاتها، بمثل ما تقدم، مع قطع النظر عن مساواة كل قطعة لبقية القطع أو عدمه. 3 - أن يكون جماعة، ويراد تسويتها، أي: جعلها متساوية. كأنْ يؤمر ¬

_ (¬1) (ص50، وشرحه 109). (¬2) الأصل: "طلقت" سهو. (¬3) كتب المؤلف: " (1) الأول" وفي التي تليها جعلها بالأرقام فقط فجعلنا الجميع كذلك.

الخبَّاز بتسوية الأرغفة، أي: جعلها كلها على قَدْر واحد، بحيث لا يبقى تفاوت بين رغيف ورغيف. [ص 28] المعنى الثاني: جَعْل الشيء سويًّا، أي: قويمًا على ما اقتضته الحكمة، بلا إفراط ولا تفريط، ومنه قول الله عزَّ وجلّ: {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} [الانفطار: 7]. وقوله جل ذكره: {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا} [الكهف: 37]. قال الراغب (¬1): أي: جعل خِلْقتك على ما اقتضت الحكمة. ومنه قوله عزَّ وجلَّ: {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم: 17]. أي - والله أعلم -: كامل الخلقة بالنظر إلى الهيئة المشتركة بين البشر التي اقتضت الحكمة جَعْلَهم عليها. وقال الراغب (¬2): السويّ: ما يُصان عن الإفراط والتفريط. [ص 29] إذا تقرر هذا، فالوجه الأول من المعنى الأول هو المراد في الآية: {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا} [الشمس: 14]، أي - والله أعلم -: جعلها متساوية الأجزاء، وهذا كناية عن الخراب البالغ، فإن البلاد العامرة تكون متفاوتة بارتفاع الأبنية على العَرَصات، وارتفاع بعض الأبنية على بعض، وإنما تتساوى إذا خَرِبت الخرابَ البالغ. ولا يأتي هذا الوجه في ¬

_ (¬1) في "المفردات" (ص 440). (¬2) نفسه.

حديث فَضَالة، ويمكن أن يأتي في حديث عليّ الذي سيأتي: "ولا قبرًا مُشْرفًا إلا سوَّيته". والتسوية على هذا الوجه لا تنافي التسنيم، فإن القبر إذا كان مُسنَّمًا تسنيمًا محكمًا بأن يكون سطحه أملس، بحيث لو بُسِطَ عليه ثوب للصق بجميع أجزائه، يقال له: مسوّى. ولو رأينا كرتين إحداهما ملساء السطح، والأخرى يوجد في سطحها هنات ناشزة، وحُفيرات منخفضة، فإننا نسمي الأولى مستوية، وإذا أمرنا بإصلاح الثانية، قيل: أمر بتسويتها. ولكنه على كل حال لا يصلح هذا الوجه للتسوية في حديث علي؛ [ص 30] لأن فيه أن التسوية هي إزالة الإشراف، أي: الارتفاع، وتسوية القبر في ذاته على ما قررنا في هذا الوجه لا تنافي الإشراف. الوجه الثاني هو ممكن في حديث فَضالة، والتسوية عليه لا تنافي التسنيم؛ لما مرَّ في الوجه الأول. ولكن يردّ هذا الوجه قولُ فَضالة: "خَفّفوا" الدال على أن التسوية في حديثه هي المقتضية للتخفيف، والتسوية في الوجه الثاني لا تقتضي التخفيف، فإنه يمكن تسوية القبر مع كثرة التراب، كما يمكن مع قلته. ويردّه أيضًا عدم صلاحية هذا المعنى لأن تُفَسَّر به التسوية في حديث علي. والظاهر أن معنى التسوية في الحديثين واحد. الوجه الثالث هو ممكن في حديث فضالة، فيكون المعنى: اجعلوا القبور متساوية لا يزيد قبر على قبر ولا ينقص عنه.

ولما كان النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم قد حضر دفن جماعة من أصحابه، وقرر كيفية قبورهم، لزم أن تكون تلك القبور هي الإِمام، فيُجْعَل كل ما يطرأ من القبور على هيئتها. ويردُّ بأمرين: الأول: بما قدمناه أن هذا المعنى لا يأتي في حديث [ص 31] علي، والظاهر أن معنى التسوية في الحديثين واحد، وقد يُعْتَذر عن هذا يحمل التسوية في حديث عليّ على تسوية القبر المشرف بسائر القبور المعروفة المقررة هيئتها شرعًا. ويردّه ما (¬1) سبق: أن التسوية إذا أُطلقت كان الأصل أن المراد بها تسوية الشيء في ذاته، لا تسويته بغيره. الثاني: أن حديث وضع الحجر وغيره يدل على جواز تمييز القبر بعلامة يتعرَّف بها لقصدٍ شرعي. وهذا ينافي التسوية على الوجه الثالث، والتزام التخصيص لا حاجة إليه ما دام اللفظ محتملاً لمعنًى آخر لا يحتاج إلى تخصيص. على أن هذا الوجه يؤول إلى موافقة المعنى الثاني الذي هو المختار. المعنى الثاني هو المختار عندي، فالمراد بتسوية القبر جعله سويًّا قويمًا على ما اقتضته الحكمة من غير إفراط ولا تفريط، وذلك على الهيئة التي قررها الشارع للقبور. فالنبي صلَّى الله عليه وآله وسلم كان قد بيَّن لأصحابه الهيئة التي ينبغي ¬

_ (¬1) الأصل: "بما".

أن تكون القبور عليها، وبعد أن عَقَلوها وعلموا أنها هي الهيئة السوية القويمة, أمرهم بلزومها في ما يطرأ من القبور، وردّ ما خالفها إليها. وهذا هو معنى ما في "كنز العمال" - إن صح -: "سووا القبور على وجه الأرض ... " إلخ (¬1). [ص 32] وإنما زاد قوله: "على وجه الأرض" تنبيهًا على ما هو الأهم؛ لأن الغالب أن المخالفة إنما تقع في ظاهر القبور بالتجصيص والإشراف والبناء وغيره، وهذه الأشياء منافية لكون القبر سويًّا بالنسبة لما على وجه الأرض منه، فأمر بتسويتها على وجه الأرض. وأما ما رواه ابن حبيب (¬2)، وفيه: "وأمر بهدمها وتسويتها بالأرض"؛ فلم يصحّ عندنا، فيلزمنا النظر فيه، على أن الباجيّ قال عقب ذكره: قال ابن حبيب: وينبغي أن يسوّى تسوية تسنيم. قال القاضي أبو الوليد رضي الله عنه: ومعنى ذلك عندي - والله أعلم - أن يسوَّى نفس القبر بالأرض، ويُرْفع رفع تسنيم دون أن يُرْفَع أصله". اهـ. أقول: يعني أن تبقى أطرافه مساويةً للأرض، ويرتفع وسطه مسنمًا، كما هي هيئة المسنم الذي يقتصر على إعادة تراب حفرته إليها، وجمعه عليها. وهذه الهيئة تلاقي الهيئة التي قررها الشارع للقبور، ولكن ليس معنى التسوية هنا، هو المعنى المختار في الحديثين، ولا ضير، فإن هذه الزيادة لم يُعْلَم صحتها كما تقدم، ويمكن أن يكون قوله: "بالأرض" من زيادة بعض ¬

_ (¬1) تقدم (ص 20). (¬2) فيما نقله عنه الباجي، في "شرح الموطأ": (2/ 494)، وسبق نقله (ص 31 - 32).

الرواة، رواه بالمعنى الذي فهمه (¬1). [ص 33] حديث ابن حبان: فيه أن من الهيئة المشروعة رَفْع القبر نحو شبر، وهذا من فعل الصحابة رضي الله عنهم، وخيارهم فيهم، وهم مجتمعون، فلا يصنعون بقبر النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم إلا ما يعلمون أنه المشروع، ولم ينقل عن أحدٍ منهم خلاف، ولا بأيدينا دليل يخالف فعلهم، وعليه فهو حجة. والأصل عدم الخصوصية، فالذي صُنِعَ بقبره صلَّى الله عليه وآله وسلم هو المشروع في القبور مطلقًا، أعني مما ذكره ابن حبان. فأما الدفن في المُلك، وفي البناء، فسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى (¬2). ولا يظهر فرق فيما تضمَّنه الحديث بين أن يكون القبر في الملك، وأن يكون في غير الملك، فالظاهر أن ذلك الفعل هو المشروع مطلقًا، ويؤيده ما يأتي إن شاء الله تعالى. [ص 34] الخلاصة: رفع القبر نحو شبرٍ مشروع (¬3). حديث القاسم فيه قوله: "لا مشرفة، ولا لاطئة". المشرف: المرتفع. واللاطئ: اللاصق بالأرض. فمعناه: أنها ناشزة عن الأرض قليلاً، وقد عُلِم من حديث ابن حبان قدر الرفع ابتداءً، ويحتمل أن يكون تناقص، وعلى كل حال فهو مؤيِّد لحديث ابن حبان في هذا. وفيه قوله: "مبطوحة ... " الخ. ومدار الحديث فيه على هذه الكلمة. ¬

_ (¬1) تقدم (ص 27). (¬2) في (المسوّدة) (ص 27 - 28). (¬3) كتب المؤلف الخلاصة عدة مرات، ثم استقر على هذه العبارة.

فأقول: البطح يأتي على معانٍ: 1 - بسط الشيء وجعله مسطَّحًا مستويًا. قال الزمخشري في "الفائق" (¬1) مادة (رفف): " [ابن الزبير رضي الله عنه] (¬2) لما أراد هدم الكعبة ... وكانت في المسجد جراثيم، فقال: يا أيها الناس أبْطِحوا. وروي: كان في المسجد حُفَر منكرة، وجراثيم وتَعادٍ، فأهاب بالناس إلى بطحه .... البطح: أن يُجْعَل ما ارتفع منه منخفضًا حتى يستوي ويذهب التفاوت ... ". اهـ. 2 - جعله مرتفعًا ارتفاعًا يسيرًا، وهذا المعنى يؤخذ من الحديث "كانت كِمامُ أصحاب رسول الله [ص 35] صلَّى الله عليه وآله وسلم بُطْحًا". قال في "النهاية" (¬3): أي لازقة بالرأس غير ذاهبة في الهواء. الكِمَام: جمع كُمّة، وهي القُلُنسوة. اهـ. 3 - إلقاء الإنسان على وجهه، ومنه قوله في حديث الزكاة: "بُطِحَ لها بِقاعٍ قَرْقَر" (¬4). وقد يستعمل في غير الإنسان تشبيهًا به في ذلك. 4 - جعل البَطْحاء - وهي الحَصْباء - على الشيء. ¬

_ (¬1) (2/ 74). (¬2) الأقواس من المؤلف. (¬3) (1/ 83). (¬4) أخرجه مسلم رقم (987) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

قال في "النهاية" (¬1): "وفي حديث عمر أنه أول من بَطَح المسجد، وقال: ابْطَحْه من الوادي المبارك، أي: ألقى فيه البطحاء". اهـ. فكون القبور مبطوحة بالمعنى الأول يقتضي التسطيح، وقد حاول ابنُ التُّرْكماني (¬2) أن يدفع ذلك فلم يصنع شيئًا، وذلك أنه نقل عبارة "الفائق": "البطح: أن يجعل ... " إلخ، كما مر، ثم قال: "فعلى هذا قوله: "مبطوحة" معناه ليست بمشرفة، وقوله: "لا مشرفة ولا لاطئة" يدل على ذلك" اهـ. وقد كان له أن يقول: إن استواء الشيء وذهاب تفاوته لا يقتضي التسطيح، بل يصح أن يكون المسنَّم مستويًا لا تفاوت فيه، وذلك باعتبار ظاهر سطحه، بحيث لو بُسِطَ عليه ثوبٌ للصق بجميع [ص 36] أجزاء سطحه، نظير ما قلناه في التسوية، فإن هذا التوجيه لا يخلو من قوة، وإن كان الحق أن "البطح" بالمعنى الأول ينافي "التسنيم"، وبينه وبين لفظ "التسوية" فرقٌ لا يخفى على المتأمل. وبالمعنى الثاني؛ يقتضي التسنيم فيما يظهر. وبالمعنى الثالث؛ يقتضي التسنيم قطعًا؛ لأن القبر المسنَّم يشبه هيئة الإنسان المبطوح، ولا سيما مع اعتبار ظاهر القبر ظهرًا له. وبالمعنى الرابع؛ يقتضي التسطيح على ما ذكره الشافعي في حديث جعفر بن محمَّد عن أبيه، كما مر (¬3)، قال: "والحصباء لا تثبت إلا على قبرٍ مسطَّح". ¬

_ (¬1) (1/ 134). وصُحّح فيها إلى "ابطحوه" من المصادر الأخرى. (¬2) في "الجوهر النقي": (4/ 3 - بهامش سنن البيهقي). (¬3) (ص 23).

ولا أدري ما وجهه، وإنما يمتنع ثباتُ الحصباء على الشيء المسنَّم إذا كان صلبًا، فأما إذا كان ترابًا غير منعقد، فإن الحصباء تثبت عليه كما لا يخفى. فالذي نفهمه أن البطح بالمعنى الرابع لا يقتضي تسطيحًا ولا تسنيمًا. وأما الترجيح بين هذه المعاني، فالراجح الأخير، [ص 37] لقوله: "ببطحاء العَرْصة الحمراء"، وذلك أن البطحاء على المسيل المتسع الذي فيه صغار الحصى، وتُطلق على نفس الحصى، كما مر. قال الطِّيبي في "شرح المشكاة" (¬1): "والمراد به ههنا الحصى؛ لإضافته إلى العرصة" اهـ. أي: لأن العرصة هي كل موضع واسع لا بناء فيه، وإضافة المسيل الواسع إلى الموضع الواسع غير ظاهرة. أقول: والباء في قوله: "ببطحاء" تدل على أن المراد بالبطحاء الحصى، وبـ "مبطوحة" موضوع عليها الحصى، وذلك أن الباء على هذا المعنى للتعدية، وعلى غيره للظرفية، ومجيء الباء للظرفية قليلٌ، بخلاف مجيئها للتعدية، كما هو واضح. [ص 38] ولرجحان هذا المعنى على بقية المعاني استغنينا عن الترجيح بين المعاني الباقية. ثم الظاهر أن الحال التي كانت عليها القبور حين رآها القاسم هي الحال التي وُضِعت عليها من أول مرة، إذ يبعُد أن يجترئ أحدٌ من الصحابة على تغييرها عما اتفقوا عليه فيها، ويؤيده أنها في بيت أم المؤمنين عائشة، ¬

_ (¬1) (4/ 1412).

وهي من الراسخين في العلم والدين. ويؤيد مشروعية وضع الحصى مرسلُ محمَّد بن علي، وإن كان ضعيفًا كما مرّ (¬1)، لكن بشرط أن لا يزيد في رفع القبر؛ لأن قدر الرفع في حديث ابن حبان هو الحاصل من التراب والحصباء، فلا يُزاد عليه. الخلاصة: رفع القبر قليلاً، وإلقاء الحصى عليه مشروع. [ص 39] جابر - برواية أبي حفص بن شاهين -: نصٌّ في أن قبر النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم وصاحبيه كانت مسنَّمة، ولكننا لم نعلم صحته. غُنيم بن بسطام المديني: "رأيتُ قبر النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم في إمارة عمر بن عبد العزيز، فرأيته مرتفعًا نحو أربع أصابع" اهـ. فيه دليل على أن المشروع ترك تعاهد القبور بالزيادة عليها، وإن نقصت عن القدر المشروع أول مرة، وذلك أن القدر المشروع في الرفع والمصنوع بالفعل في قبره صلَّى الله عليه وآله وسلم هو نحو شبر، كما في حديث ابن حبان، فدل كونه بعد زمان بقدر أربع أصابع أنه لم يُتَعاهَد بزيادة مع تناقصه، إلا أننا لا نعلم ما صحة هذا الأثر. [ص 40] إبراهيم النخعي: فيه أن من الهيئة المشروعة الارتفاع ووضع الحصباء ونحوها، إلا أنه لم يصح كما علمت. سفيان التمَّار: فيه أن من الهيئة المشروعة التسنيم، والظاهر أن تلك الحال هي التي وُضِعَت عليها القبور؛ لأنه لم يثبت أنها كانت مسطَّحة كما علمت، ولأن قبر النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم وصاحبيه لا يجْسُر أحدٌ أن ¬

_ (¬1) في (ص 23).

يُقدِم على تغييرها عما اتفق عليه الصحابة، خصوصًا في تلك المدة، والصحابة رضي الله عنهم أحياء, وفي التابعين أئمة فضلاء. والتغيير الذي وقع في إمارة عمر بن عبد العزيز إنما هو بناء الجدار للاضطرار، ولم يثبت تغيير في هيئة القبر، ولا ضرورة تدعو إليه، ولو احتيج إلى إصلاح زالت به الهيئة الأولى، لما أُرْجِعَ إلا بنحوها. وحسبك بعمر بن عبد العزيز علمًا وورعًا ودينًا، وهو يومئذٍ حاضرٌ وهو الأمير، ولا بد أن يكون استشار من هنالك [ص 41] من العلماء، وعمل بمشورتهم (¬1). وقد مرّ أن عمل الصحابة الذي اتفقوا عليه ولا معارض له حجة. الخلاصة: التسنيم مشروع. حديث الشعبي: "رأيت قبور شهداء أُحد جُثًى مسنَّمة". قال في "اللسان": "في حديث عامر: رأيت قبور الشهداء جُثى: يعني: أتربة مجموعة، وفي الحديث الآخر: فإذا لم نجد حجرًا جمعنا جثوةً من تراب" اهـ. ظاهره أنه رأى قبور شهداء أحد كلها كذلك، وهي كثيرة يبعد كلَّ البعد أن تُغيَّر كلُّها عما جُعِلَت عليه بحضرة النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم، وأن يتفق [ص 42] الصحابة على تغييرها، أو التقرير عليه، فلو كان قبرًا واحدًا أو ¬

_ (¬1) قال ابن عبد البر في "الاستذكار": (9/ 101): "ومعلوم عند جماعة العلماء أن عمر بن عبد العزيز كان لا يُنفذ كتابًا, ولا يأمر بأمر، ولا يقضي بقضية إلا عن رأي العلماء الجِلة ومشاورتهم، والصدر عما يجمعون عليه ويذهبون إليه، ويرونه من السنة المأثورة عن النبي صلَّى الله عليه وسلم وعن أصحابه المهتدين بهديه المقتدين بسنته، وما كان ليُحْدِث في دين الله ما لم يأذن الله له به مع دينه وفضله" اهـ.

اثنين أو ثلاثة، لجاز تغييرها، فأما نحو أربعين قبرًا فبعيدٌ جدًّا، فدلالة هذا الأثر قوية جدًّا. الخلاصة: جمع التراب على القبور بهيئة التسنيم مشروع. مرسل محمَّد بن علي: فيه أن وضع الحصى على القبر مشروع، وقد مر ثبوته بأثر القاسم، ومر الجواب عن قول الإِمام (¬1): "والحصباء لا تثبت إلا مع قبر مُسَطَّح". وفيه: أن رشَّ القبر مشروع، وقد رويت فيه أدلة أخرى، وليس هو من محلَّ النزاع، فلم نستوفِ البحثَ فيه. حديث المطلب: فيه أن من المشروع إعلام القبر إذا احتيج إلى معرفته بعد ذلك؛ لقصدٍ شرعي، وقوله: "عند رأسه" محتمل أن تكون فوق القبر، وأن تكون بجانبه، والثاني هو المتعيِّن، للنهي عن الرفع والزيادة. ثم لا يخفى أن العلامة إنما يُحْتاج إليها إذا خُشي الاشتباه أو الانطماس، وفي الاحتمال الأول في قبر عثمان نظر؛ لأن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم حضر الدفن هو وأصحابه، فكيف يُخْشى أن يشتبه عليه قبرٌ مسنَّم نحو شبر حَضَره مع أصحابه، مع أنه ورد أن عثمان بن مظعون أول مدفون بتلك البقعة، وخُصَّت لدفن المسلمين، وكانت سنة النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم أن يحضر دفن موتاهم جميعًا. وأما الثاني؛ فلا يخلو من بُعْد؛ لأن القبر إذا كان مسنَّمًا نحو شبر، لم ينطمس إلا بعد سنين. ¬

_ (¬1) أي: الشافعي.

فذلكة ما يتعلق بظاهر القبور من الهيئة المشروعة

لكن ههنا احتمال آخر، وهو أن يكون تراب الحفرة نقص عن تكوين ارتفاع يسير، وكره رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم أن يزيد على القبر من غير حفرته، فاكتفى بوضع حجرٍ عن رأسه، وقد يكون ذلك الحجر من أحجارٍ أُخْرِجت من الحفرة، وكانت هي السبب في نقص تراب الحفرة. وعلى هذا فلا يكون في الواقع زيادة، بل هي من نفس الحفرة، ومع هذا فالظاهر أنه إذا احتيج للعلامة لم يضر أن تكون من غير الحفرة، ولكن شرطها الاحتياج [ص 46] إليها لقصد شرعي، وأن لا توضع فوق القبر، بل بجانبه عند الرأس، وأن لا تزيد عن قدر الحاجة، لا في القدر، ولا في الهيئة، فإن اختلّ شرطٌ من هذه لم يكن في الحديث دلالة على الجواز، وفي غيره من الأدلة التي ذكرنا بعضها في هذه الرسالة ما يدل على المنع. والله أعلم. الآثار معناها واضحٌ، وهي مقررة لما ثبت بالأدلة المذكورة. **** فَذْلكة (¬1) ما يتعلق بظاهر القبور من الهيئة المشروعة: 1 - رد تراب الحفرة إليها وجمعه عليها بهيئة التسنيم حتى ترتفع نحو شبر باعتبار الوسط، ولا يُزَاد على ذلك إلا ما ثبت، كوضع شيء من الحصى لا يزيد في الارتفاع، ووضع حجر عند رأس القبر علامة بشرطه. 2 - إبراز القبر. ¬

_ (¬1) الفذلكة هنا بمعنى الخلاصة.

الفصل الثاني: تتمة

الحمد لله الفصل الثاني [ص 47] تتمّة هذه هي الهيئة المشروعة في نفس القبر باعتبار ظاهره، فكل ما زاد عنها فهو بدعة ضلالة، يتناوله عموم النهي عن البدعة، كالتسطيح، فإنه ينافي التسنيم، وكالرفع فوق شبر، فإنه ينافي الاقتصار على الرفع نحو شبر، وكالتجصيص، فإنه ينافي كون القبور جُثًى مُسنَّمة وغيره، مع منافاته لعدم الزيادة والبناء على جوانب القبر القريبة، بحيث يسمى البناء قبرًا، فإنه بمعنى الرفع فوق شبر، مع منافاته لعدم الزيادة، سواءً أكان بحجر أم آجُرّ، أم خشب كالتوابيت، أو بغير ذلك، فهذه الأشياء منهيٌّ عنها ما لم يُخَصَّص بعضُها بدليل. وقد بقي علينا بيان الهيئة المشروعة فيما يتصل بالقبر. فأقول: الهيئة المشروعة هي ما كان في عهده صلَّى الله عليه وآله وسلم، وقد عُلِم أنه لم يكن يبني على القبور بناءً واسعًا (¬1)، ولا يُبْنى بناء لتُجْعَل القبور فيه، ولا تُجْعَل القبور في بناء معدًّ للسُّكْنى. فأما قبره صلَّى الله عليه وآله وسلم فله سبب خاص، يأتي بيانه إن شاء الله تعالى (¬2). ¬

_ (¬1) كذا ضبطه المؤلف على أن الفعل مبني للمعلوم، والذي بعده مبنيّ للمجهول. (¬2) انظر ما سبق (ص 37 - 38). ولم يأت شيء آخر بخصوص هذه المسألة.

ولا كانت توضع أستار على القبور، ولا تُنْصَب عليها الرايات، وغير ذلك. فالهيئة المشروعة عدم هذه الأشياء، فهذه الأشياء ونحوها بدعة ضلالة، يتناولها عموم النهي عن البدعة، وإلا فإنه يُؤخَذ منه النهي عنها بالقياس الجلي، سواءً أقلنا: إن العلة في النهي عن الرفع والتجصيص ونحوه هي كراهية معاملة القبر الذي هو بيت البِلَى بما ينافيه من الإحكام والتزيين. أم قلنا: إنها كراهية تمييز القبر بما قد يؤدي إلى تعظيمه. وقد ورد التعليل بالأولى عن المذاهب الأربعة. ففي "المنتهى" (¬1) من كتب الحنابلة متنًا وشرحًا: "وتسنيمٌ أفضل لحديث التمَّار، ولأن التسطيح أشبه ببناء أهل الدنيا". اهـ. وفي "الأم" (¬2) للإمام الشافعي: "وأحب أن لا يُبْنَى ولا يُجَصَّص، فإن ذلك يشبه الزينة والخيلاء، وليس الموت موضع واحد منهما". اهـ. [ص 48] وفي "الجوهرة المضية" (¬3) من كتب الحنفية: "قوله: (ويكره الآجُرّ والخشب) لأنهما لإحكام البناء، وهو لا يليق بالميت؛ لأن القبر موضع البلى". اهـ. ثم حكى تقرير هذا التعليل عن السرخسي. وفي "شرح الموطأ" (¬4) للباجي من المالكية: "فأما بنيانه ورفعه على ¬

_ (¬1) (2/ 144 - مع شرح البهوتي ت: التركي). (¬2) (2/ 631). (¬3) (1/ 427). وهكذا وقع اسم الكتاب عند المؤلف، وصوابه "الجوهرة النيِّرة" وهو شرح لمختصر القدوري لأبي بكر الحدادي. (¬4) (2/ 494).

وجه المباهاة، فممنوع". اهـ. وورد التعليل بالعلة الثانية عن بعض أهل العلم مستدلًّا بتواتر الأحاديث بلعن من اتخذ القبور مساجد، واشتداد غضب الله عليه، وفي بعضها تفسير ذلك ببناء المسجد على القبر، وصحة الأحاديث بالنهي عن الصلاة في المقبرة, وعن الصلاة إلى القبر، مع ما قاله ابن عباس وغيره من أئمة السلف في تفسير قوله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا ...} الآية [نوح: 23]: أن هؤلاء قوم صالحون كانوا في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ... إلخ. في "صحيح البخاري" (¬1). وفي بعض الأحاديث لَعْن من اتخذ على القبر سراجًا (¬2). وصرَّح العلماء في أهل المذاهب أن النهي عن الصلاة إلى القبر خشية أن يؤدّي ذلك إلى تعظيمه، وسيأتي نقل شيءٍ من هذا عند الكلام في المساجد على القبور. فكل هذا يدلُّ أن خشيةَ أن يؤدي تمييز القبور إلى تعظيمها، أمرٌ يعتبره ¬

_ (¬1) رقم (4920) كتاب التفسير، باب: ولا تذرنّ ودًّا ولا سواعًا .... (¬2) ولفظه: "لعن الله زوّارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسُّرُج". أخرجه أحمد رقم (2030)، وأبو داود رقم (3236)، والترمذي رقم (320)، والنسائي رقم (2043)، وابن ماجه رقم (1575)، وابن حبان رقم (3179). وغيرهم من طرقٍ عن محمَّد بن جُحادة عن أبي صالح عن ابن عباس به. وفيه أبو صالح مولى أم هانئ ضعيف مدلس، وقد تفرّد بزيادة "والمتخذين عليها المساجد والسُّرج". فهي من مناكيره وباقي الحديث له شواهد يتقوى بها.

النتيجة

الشرع، فتكون هذه هي العلة في منع الرفع ونحوه؛ لِمَا هو مشاهد أن القبر المميز على غيره برفعٍ وتجصيصٍ وبناءٍ وسترٍ ونحوه يُعَظِّمه الجُهّال دون غيره، والعلة المنصوصة أرجح من المستنبطة، مع أن القياس يصح على كلا (¬1) العلتين. النتيجة: ثبت النهي عن تسطيح القبر، ورفعه فوق شبر، والزيادة عليه من تراب غير حفرته، إلا لتسويته بالأرض إذا نقص، وإلا شيئًا من حصى، وحَجَرًا للعلَامة عند الحاجة. وعن تجصيصه والبناء عليه، سواء أكان على جوانبه القريبة أم أوسع، وسواءً أبُنِي بعد القبر أم قبله لأجله، أم قبله لسُكْنى ونحوها. وعن سَتْره بالثياب، ونصب الرايات عنده، والكتابة عليه، وكل ما صُنِع لأجله مما لم يثبت له دليلٌ شرعيٌّ. فكل هذه الأشياء ثبت النهي عنها: أولاً: بدخولها تحت عموم "كل بدعة ضلالة"، وغيره من الأدلة. ثانيًا: لمنافاتها لتسوية القبور المأمور بها، أو منافاة بعضها لها، وإلحاق الباقي بالقياس الجلي. والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) كذا، والوجه: "كلتا".

[الأحاديث والآثار الواردة في مسألة البناء على القبر]

[الأحاديث والآثار الواردة في مسألة البناء على القبر] [ص 49] البخاري في "صحيحه" (¬1) تعليقًا: "لما مات الحسن بن الحسن بن علي، ضربت امرأته القبة على قبره سنةً، ثم رُفِعت، فسمعت صائحًا يقول: ألا هل وجدوا ما فقدوا، فأجابه آخر: بل يئسوا فانقلبوا". أقول: علقه البخاري بصيغة الجزم، وقد قالوا: إن ما كان كذلك فهو محمولٌ على أنه صحَّ لديه في الجُمْلة، أي: إما على شرطه، وإما على شرط غيره على الأقل. وفي هذا إجمالٌ، فإن من الأئمة الذين يصدق عليهم أنهم "غيره" من يتساهل في التصحيح. ومع هذا فقد يصحح أحدهم لمن يكذّبه غيره، فلا بدّ من النظر في رجال السند، وقد راجعنا "فتح الباري" (¬2)، فذكر فيه ما لفظه (جزء 3/ ص 161): "أي: الخيمة، فقد جاء في موضع آخر بلفظ: "الفُسْطاط" كما رُوّيناه في الجزء السادس عشر من حديث الحسين بن إسماعيل بن عبد الله المحاملي - رواية الأصبهانيين عنه - وفي كتاب ابن أبي الدنيا، في "القبور" (¬3)، من طريق المغيرة بن مِقْسَم قال: لما مات الحسن بن الحسن ضربت امرأته على قبره فُسطاطًا، فأقامت عليه سنة، فذكر نحوه". اهـ. [ص 50] ولا ندري ما حال السندَين، إلا أن المغيرة بن مِقْسَم كان أعمى ومدلسًا. ¬

_ (¬1) في كتاب الجنائز، باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور (2/ 88 - ط الميرية). (¬2) (3/ 238). (¬3) لم أجده في المطبوع منه، والمطبوع فيه نقص. وهو في "هواتف الجان" له (131).

وقد ذكر البخاري هذه القصة في باب ما يُكره من اتخاذ المساجد على القبور، قال في "الفتح" (¬1): "ومناسبة هذا الأثر لحديث الباب أن المقيم في الفُسطاط لا يخلو عن الصلاة هناك، فيلزم اتخاذ المسجد عند القبر، وقد يكون القبر في جهة القبلة، فتزداد الكراهة. وقال ابن المُنيِّر: إنما ضَربت الخيمةَ هناك للاستمتاع بالميت بالقرب منه، تعليلًا للنفس، وتخييلًا ... ومكابرةً للحسّ .... فجاءتهم الموعظة على لسان الهاتِفَيْن بتقبيح ما صنعوا ... إلخ. أقول: تعقبه بعضهم بأن الظاهر أنها إنما ضَربت الخيمةَ للاجتماع لقراءة القرآن. وهذا مع كونه ممنوعًا أيضًا، مردودٌ بقول الهاتِفَيْن: هل وجدوا ما فقدوا، بل يئسوا فانقلبوا. فالقصة فيها زراية على زوجة الحسن، وهي كما في "الفتح": فاطمة بنت الحسين بن علي رضي الله عنهم، بل وعلى أهل البيت الموجودين حينئذٍ كلهم. فالذي عندي أن هذه القصة لا تصح، فإن أهل البيت أعلم بالله عزَّ وجلَّ وأكمل عقولاً، وأثبت قلوبًا، من أن يقع لهم مثل هذه القصة، [ص 51] وفي الحديث: "لعن زوَّارات القبور" (¬2) أي: المكثرات لزيارتها، وضَرْب الخيمة على القبر، والإقامة فيها سَنةً أبلغ من إكثار الزيارة, وأهل البيت أولى من ¬

_ (¬1) (3/ 238). (¬2) سبق تخريجه (ص 43).

يُنَزَّه عن ذلك. هذا، مِع عِلْمنا أن مثل هذا لا تقوم به حُجّة، بل القصة بنفسها في ذِكْر كلام الهاتِفَين تدل على قُبح ذلك الصنع، ولكن رأينا حقًّا علينا الذبّ عن أهل البيت رضي الله عنهم. **** [ص 52] البخاري في "صحيحه" (¬1) تعليقًا أيضًا، في باب الجريد على القبر: "وقال خارجة بن زيد: رأيتني ونحن شُبّان في زمن عثمان رضي الله عنه، وإن أشدنا وثبةً الذي يَثِبُ قبرَ عثمان بن مظعون حتى يجاوزه". قال في "الفتح" (¬2): وقد وصله المصنف في "التاريخ الصغير" من طريق ابن إسحاق. أقول: قال في "التاريخ الصغير" (ص 23) (¬3) طبعة إله آباد: حدثنا عَمْرو بن محمَّد ثنا يعقوب ثنا أبي عن ابن إسحاق حدثني يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي عَمْرة الأنصاري قال: سمعتُ خارجةَ بن زيد بن ثابت: رأيتني ونحن غلمان شبان زمن عثمان، وإن أشدّنا وثبةً الذي يَثِبُ قبر عثمان بن مظعون حتى يجاوزه. اهـ. وقد مر قريبًا (¬4) الكلام على ما يعلقه البخاري بصيغة الجزم، وأنه لا يغني ذلك عن النظر في سنده، وقد علم ههنا سنده، فأقول: ¬

_ (¬1) (2/ 95 - ط الميرية). (¬2) (3/ 265). (¬3) "التاريخ الأوسط" رقم (126 - ط الرشد). (¬4) (ص 45).

شيخ ابن إسحاق لم أر له ترجمة (¬1)، وابن إسحاق كما تقدم في حديث فَضالة أنه قال الذهبي: "ما انفرد به ففيه نكارة، فإنّ في حفظه شيئًا" (¬2). 1 - [ص 53] ولا نعلم أحدًا تابعه في هذا الأثر، ولا ثمَّة قرينة تدل على حفظه، ينجبر بها تفرُّده، ففي الأثر نكارة. 2 - بل على القول بأنه يفهم منه رفع القبر فوق الشبر شذوذٌ، إذ المعروف المشهور أن القبور لم تكن تُرفع في ذلك العصر. 3 - بل نفس قبر عثمان بن مظعون، ورد أن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم [وضع] حجرًا، وقال: "أُعَلِّم به قبر أخي" (¬3)، وأسلفنا أن ذلك يدل أنه لم يرفع عن وجه الأرض. 4 - ومع ذلك فيبعد جدًّا أن يخرج الشباب من أولاد الصحابة يتواثبون على قبر رجل من أفاضل السابقين، بحيث إنه لا يجاوز القبر إلا أشدهم وَثْبة، وغالبهم تقع وثبته على القبر، مع أن بجواره من قبور أبناء رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم قبر إبراهيم، وغيره. نعم، قد كان بعض الصحابة والتابعين - ومنهم خارجة - لا يرون بأسًا بالجلوس على القبور، ولكن أين الجلوس من التوثُّب، وقد كان أبناء الصحابة رضي الله عنهم بغاية التمسّك بالآداب الشرعية، ولا سيما مثل خارجة بن زيد. ¬

_ (¬1) ترجم له البخاري في "التاريخ الكبير": (8/ 284)، وابن حبان في "الثقات" (7/ 603). (¬2) "الميزان": (4/ 395). (¬3) سبق تخريجه (ص 23 - 24).

5 - [ص 54] وفي "تهذيب التهذيب" (¬1) في ترجمة خارجة: قال ابن نُمَير وعَمْرو بن علي: مات سنة (99). وقال ابن المديني وغير واحد: مات سنة مائة. اهـ. فالأكثر كما ترى أنه مات سنة مائة. وقال ابن عساكر في "تاريخه" (¬2): "الصحيح الذي عليه أكثر الروايات أنه توفي سنة مائة". اهـ. وذكر قبل ذلك ما لفظه: "وقال العجلي: خارجة مدني ... وقال: رأيتُ في المنام كأني بنيتُ سبعين درجة، فلما فرغت منها تهورت (¬3)، وهذه السنة لي سبعون سنة قد أكملتها. فمات فيها" اهـ. أقول: وقد ذكر هذه القصة ابنُ سعد في "الطبقات" (¬4) من روايته عن الواقدي بسنده، ونقلها عنه ابن خلِّكان (¬5)، فإن صحَّ هذا كان مولده سنة (30). فيكون سِنّه يوم قتل عثمان نحو خمس سنين؛ لأن عثمان قتل سابع ذي الحجة سنة (35)، فكيف يكون من الشبّان زمن عثمان. ... ¬

_ (¬1) (3/ 95). (¬2) (15/ 395 - 396). (¬3) كذا هنا وفي (المسوّدة ص 31) والتاريخ, وفي بعض المصادر: "تدهورت". (¬4) (7/ 258 - ط الخانجي). (¬5) في "الوفيات": (2/ 223).

حديث علي رضي الله عنه

[ص 55] حديث علي رضي الله عنه (¬1) قال الإِمام أحمد في "مسنده" (¬2) (جزء 1/ ص 128 - 129): وكيع وعبد الرحمن عن سفيان عن حبيب عن أبي وائل عن أبي الهيَّاج قال: قال لي علي - وقال عبد الرحمن: إن عليًّا رضي الله عنه قال لأبي الهيَّاج -: "أبعثُك على ما بعثني عليه رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: أن لا تدعَ قبرًا مُشرفًا إلا سوَّيته، ولا تمثالًا إلا طمستَه". أقول: الحديث رواه عن سفيان جماعة: منهم عبد الرحمن وخلَّاد بن يحيى والقطان ووكيع ومحمد بن يوسف ومحمد بن كثير. ووقع فيه خلاف سندًا ومتنًا. أما السند؛ فإن عبد الرحمن وخلَّادًا جعلا الحديث من رواية أبي وائل عن علي، وجعله الباقون من رواية أبي الهيَّاج عن علي. وأما المتن؛ فيأتي تفصيله. * رواية عبد الرحمن وخلاد: أما عبد الرحمن؛ فرواه عنه محمَّد بن بشار عند الترمذي (¬3)، والإمام أحمد في "مسنده" كما تقدم، ومن طريق الإِمام أحمد رواه الحاكم في "المستدرك" (¬4). ¬

_ (¬1) كتب المؤلف فوقه: "يؤخّر بعد حديث عائشة". لكن لم يعقد المصنف لحديث عائشة رضي الله عنها مبحثًا مستقلاًّ. (¬2) رقم (1064). (¬3) رقم (1049). (¬4) (1/ 369).

* رواية الآخرين

وأما خلَّاد؛ فرواه عنه معاذ بن نجدة القرشي عند الحاكم في "المستدرك" أيضًا. ولفظ محمَّد بن بشار ... عن أبي وائل: أن عليًّا قال لأبي الهيَّاج: "أبعثك على ما بعثني عليه النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم [ص 56]: أن لا تدع قبرًا مشرفًا إلا سوَّيته، ولا تمثالًا إلا طمَسْتَه". وهكذا الباقون، إلا أنهم قالوا: "على ما بعثني عليه (رسول الله) صلَّى الله عليه وآله وسلم". وفي "المستدرك" عن أبي (هيَّاج). وقد رواه عن عبد الرحمن أيضًا عُبيد الله (أظنه القواريري) عند أبي يعلى في "مسنده" (¬1)، ولكن فيه: "عن حبيب بن أبي ثابت أن عليًّا قال لأبي الهياج". هكذا لم يذكر "عن أبي وائل"، وأظنه من إسقاط النساخ؛ لأن النسخة خطية غير مصححة (¬2)، وباقي الحديث كحديث الإِمام أحمد. * رواية الآخرين: - القطان: رواه عنه أبو بكر بن خلاد الباهلي عند مسلم (¬3)، ذكر مسلم ¬

_ (¬1) رقم (338). (¬2) وهكذا ذكر محقق مسند أبي يعلى أن ذكر "عن أبي وائل" سقط من النسختين، فلعله سقط قديم. أو من أخطاء المسعودي، فإنه ضعيف الحفظ. وسيأتي كلام المصنف في ذلك. (¬3) رقم (969) (2/ 667).

رواية وكيع، وفيها: ... عن حبيب ... عن أبي وائل عن أبي الهياج قال: قال لي عليّ: "ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم [ص 56]: أن لا تدع تمثالًا إلا طمسته، ولا قبرًا مُشْرفًا إلا سويته". ثم ذكر رواية القطان ... أخبرني حبيب بهذا الإسناد وقال: "ولا صورةً إلا طمستها". فدلّ هذا أن لفظ القطان: "ألا أبعثك ... أن لا تدع قبرًا مشرفًا إلا سويته، ولا صورة إلا طمستها". - وكيع: رواه عنه جماعة، منهم يحيى بن يحيى، وأبو بكر بن أبي شيبة، وزهير بن حرب، ومحمد بن سعيد الأصبهاني، والإمام أحمد. فعن الثلاثة الأولين: مسلم في "صحيحه"، وقد مر لفظه. وعن الثاني أيضًا: إسماعيل بن قتيبة، وعن الرابع: علي بن عبد العزيز، كلاهما عند الحاكم في "المستدرك"، ولم يصرِّح باللفظ، بل قال: بنحوه، أي: بنحو لفظ عبد الرحمن وخلّاد. وروى عن الثالث أيضًا: أبو يعلى في "مسنده"، ولفظه كلفظ الثلاثة عند مسلم، إلا أنه أسقط "ألا" وقال: "أن لا أدع"، وفي النسخة تحريف من النساخ. وأما الإِمام أحمد ففي "مسنده" قرن وكيعًا بعبد الرحمن مرةً، وأفرده أخرى (¬1) أسقط "لا" فيهما، وقدَّم في الأولى ذكر القبر، وقد مرت الأولى. ¬

_ (¬1) رقم (741).

الحكم في الاختلاف

- محمَّد بن يوسف: رواه عنه أحمد بن يوسف السلمي عند البيهقي في "السنن" (¬1)، ولفظه: " ... عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: ألَّا تترك قبرًا مشرفًا إلا سوَّيته، ولا تمثالًا في بيت إلا طمسته". فأسقط "لا" وزاد "في بيت"، وقدَّم ذِكْر القبر، وقال: "تترك" بدل "تدع". - محمَّد بن كثير: رواه عنه أبو داود (¬2) ولفظه: ... عن أبي الهياج الأسدي قال: بعثني عليٌّ قال: أبعثك على ... أن لا أدع قبرًا مشرفًا إلا سويته، ولا تمثالًا إلا طمسته". فزاد "بعثني عليٌّ"، وأسقط "ألا"، وقدَّم ذِكْر القبر، وجعل الفعل للمتكلم. [ص 57] الحكم في الاختلاف: الأصل الثابت المقرَّر: أنه إذا وقع اختلاف مع الاشتراك في عدم الضعف يُفْزَع إلى الجمع، فإن أمكن الجمع فالكلُّ صحيحٌ، من لم يمكن التُجِئ إلى الترجيح، فإن أمكن، فالأرجح هو الصحيح، وإلا ثبت الاضطراب. فلنعتبر الاختلاف في هذا الحديث بهذا الأصل. ¬

_ (¬1) (4/ 3). (¬2) رقم (3218).

* الاختلاف في السند

* الاختلاف في السند: يمكن الجمع بأحد وجهين: الأول: بالحكم لرواية القطان ومن معه، لاحتمال رواية عبد الرحمن وخلَّاد التدليس من بعض الرواة. الثاني: بتصحيح كلا (¬1) الروايتين. ويشبه أن يكون مسلم رحمه الله مال إلى الوجه الأول، وإلا لَمَا عَدَل عن رواية عبد الرحمن مع ما فيها من الفوائد: كجلالة عبد الرحمن، وعلوّ طريقه، وتسلسلها بالأئمة، ويبعد أن يكون مال إلى الترجيح، أعني بالحكم على طريق عبد الرحمن بالخطأ، فإنه عالمٌ أنه لا يُصَار إلى الترجيح إلا إذا لم يمكن الجمع. وقد يُستأنس للتدليس باختيار القطان الرواية التي فيها "عن أبي الهياج"، والقطان يتحرَّز عن تدليس سفيان، بل وعن تدليس بعض شيوخ شيوخه، انظر "فتح المغيث" (¬2) (ص 77). وعندي أنه لا وجه للتدليس هنا؛ لأن أبا وائل لم يوصف بالتدليس، بل وُصِفَ بعدمه، وحبيبًا لو دلَّس هنا بإسقاط شيخ شيخه كما هو صورة البحث لكان تدليس التسوية، ولم يوصف به، وإنما وُصِفَ بمطلق التدليس، فيُحْمَل على أخفّ أنواعه، أعني التدليس عن شيوخه. ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، والوجه: "كلتا". (¬2) (1/ 219).

ولهذا تراهم يعمدون إلى السند الذي فيه من وُصِف بمطلق التدليس، ولكنه صرح بالتحديث عن شيخه، فيحكمون له بالصحة، وإن كان شيخه أو شيخ شيخه لم يصرَّح بالسماع، إلا أن يوصَفَ بالتسوية، فلا بد من التصريح بالسماع منه إلى آخر السند. ووجهه أن تدليس التسوية أقبح وأشنع من مطلق التدليس، إذ لا يخلو عن الكذب، فالظاهر سلامة الثقة منه، وإن وُصِف بمطلق التدليس. انظر كتب الفن في تدليس التسوية. أما سفيان: فقد قيل: إنه كان يدلس التسوية، ولكن في "فتح المغيث" (¬1) (ص 77) قال البخاري: لا يُعْرَف لسفيان الثوري عن حبيب ابن أبي ثابت، ولا عن سلمة بن كُهَيل، ولا عن منصور، ولا عن كثير من مشايخه تدليس، ما أقل تدليسه! اهـ. [ص 58] وظاهر هذا يتناول تدليس التسوية، وإلا لقال البخاري: ولكنه كان يسوَّي فيما رواه عن حبيب، أو نحو ذلك. مع أن سفيان أثبت إن شاء الله من أن يسوّي فيما رواه عن شيخ قد تنزه عن التدليس عنه، فإن ذلك أشدّ غررًا من التسوية مع عدم التنزه عن التدليس؛ لأن العلم بتنزّهه عن التدليس عن شيخه، يَحْمِل على الظن بأنه لم يسوّ فيما رواه عنه. على أن ههنا مانعًا آخر من الحمل على التدليس، وهو سقوط "ألا" في رواية عبد الرحمن وخلاد أصلاً، وثبوتها في رواية الآخرين غالبًا، وهذا يدل أنهما روايتان من الأصل. ¬

_ (¬1) المصدر نفسه.

ويؤيده أن الحاكم حكم بصحة رواية عبد الرحمن وخلاد على شرط الشيخين، كما يأتي، وأقره الذهبي. وأيضًا فالحمل على التدليس نوع من الترجيح، والجمع المحض أولى منه. وبمجموع ما ذكرنا ينتهض الوجه الثاني، وهو تصحيح الروايتين معًا، إن شاء الله. فأقول: قد حكم بصحتهما معًا الحاكم في "المستدرك"، فإنه ذكر رواية عبد الرحمن وخلاد، ثم قال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وأظنه لخلاف فيه عن الثوري، فإنه قال مرة: عن أبي وائل عن أبي الهياج، وقد صح سماع أبي وائل عن علي رضي الله عنه". اهـ. ثم ذكر رواية وكيع، وتوجيهه: أن أبا وائل سمع الحديث مرةً من علي، ومرةً: من أبي الهيَّاج، فكان يحدث بهذا تارةً، وبهذا أخرى، وتَبِعه حبيب، فتبعه سفيان. وقد علمت أن رواية عبد الرحمن وخلّاد اطَّرَد فيها سقوطُ "ألا"، وسيأتي أن الأصل في رواية الآخرين ثبوتها، فيظهر من هذا: أن عليًّا رضي الله عنه عرض على أبي الهياج البعث بقوله: "ألا أبعثك ... " إلخ ولم يعزم عليه، فخرج فلقي أبا وائل فأخبره، ثم اتفق اجتماعهما عند علي رضي الله عنه، فعزم على البعث، فقال لأبي الهياج: "أبعثك ... " إلخ. أما ما في "مسند أبي يعلى" عن عُبيد الله عن عبد الرحمن، وفيه: "عن حبيب بن أبي ثابت أن عليًّا .. " كما تقدم، فهو من خطأ النساخ جزمًا، فإن

* الاختلاف في المتن

الكاتب إذا كتب "أبي ثابت" ثم نظر في الكتاب الذي نسخ منه فرأى "أبي وائل" ظن أنه قد كتبها لاشتباه الكُنيتين [ص 59] والنسخة الخطية غير مصحَّحة (¬1). * الاختلاف في المتن: أما رواية عبد الرحمن وخلاد فلم يقع فيها خلاف يُغيَّر المعنى، فلا كلام عليها، وقد ترجَّح أنها رواية مستقلة، فلا يضرّها الخلاف الواقع في الرواية الأخرى. وأما الخلاف في الرواية الأخرى؛ فمنه ما لا يغير المعنى، كالتقديم والتأخير، وإبدال "تمثال" بـ "صورة"، و"تدع" بـ "تترك" (¬2)، وجَعْل الضمائر التي للمخاطب للمتكلم وغيره، فهذا من الرواية بالمعنى، وكانت شائعة بينهم، فلا تضر. ومنه ما لا يخلو عن تغيير للمعنى، وهو الاختلاف في ثبوت "ألا" مع زيادة ابن كثير (¬3) "بعثني عليّ"، وزيادة ابن يوسف (¬4) "في بيت". فإن الكلام مع ثبوت "ألا" عَرْض، ومع سقوطها جزمٌ، ولا سيما زيادة "بعثني عليّ"، وكذلك قول ابن يوسف "في بيت" قيدٌ، ينافي إطلاق بقية الروايات. ¬

_ (¬1) انظر ما سبق (ص 51) وسيأتي (ص 58). (¬2) رسمها في الأصل: "بترك". (¬3) في رواية أبي داود، وقد تقدمت. (¬4) في رواية البيهقي، وتقدمت أيضًا.

والجواب: بالجمع، بأنَّ الأصل في هذه الرواية ثبوت "ألا" ولكن كأنَّ سفيان رحمه الله أسقَطَها مرةً بناءً على أن إسقاطها لا يغيِّر معنى المرفوع، مع أنَّ دلالة الكلام بعد إسقاطها على الجزم لا يضر، بعد صحة الجزم بالرواية الأخرى. وأثبتها مرة على الأصل، أو لأنه تنبَّه أن لإثباتها فائدة في الجمع بين الروايتين، فسمع منه أصحابه الإثبات والإسقاط، فروى بعضهم هذا، وبعضهم هذا، وروى وكيعٌ الأمرين. لكن نسبة إسقاط "ألا" إلى سفيان، يردُّه ما في "مسند أبي يعلى" قال: "حدثنا عبد الله نا يزيد بن هارون أنا المسعودي عن حبيب بن أبي ثابت (¬1) عن أبي الهياج قال: قال عليًّا (كذا) أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: لا تدع قبرًا إلا سوَّيته، ولا تمثالًا إلا طمحته (كذا) ". [ص 60] هكذا في النسخة ليس فيه: "عن أبي وائل" ويظهر أنه من إسقاط النساخ، كما مر (¬2). وهذه النسخة لا يوثق بها, لكن إذا وُجِد في نسخة صحيحة وليس فيه "ألا"، فالظاهر أن الإسقاط جاء من حبيب، أسقط مرة، وأثبت أخرى، فسمع المسعودي الإسقاط، وسمع سفيان الأمرين، فحدَّث بهذا مرة، وهذا أخرى كما مر. فأما زيادة محمَّد بن كثير "بعثني علي" فمِن عِنْده، وذلك أنه سمع ¬

_ (¬1) بعدها رمز (7). (¬2) (ص 51، 57).

تنبيه

الرواية بإسقاط "ألا" ففهم الجزم، فزاد هذه الكلمة ظانًّا أنها إيضاحٌ للمعنى لا تغيير له، مع أن محمَّد بن كثير غمزه ابنُ معين، وأظنه من جهة الضبط (¬1). وأما زيادة ابن يوسف "في بيت" فعلى الخلاف في زيادة الثقة قيدًا لما أطلقه غيره، انظر "فتح المغيث" (¬2) (ص 90). ومما يقوي طرحها، قول ابن عدي في محمَّد بن يوسف هذا: له إفرادات عن الثوري (¬3). تنبيه: حديث أبي يعلى عن عبيد الله عن يزيد عن المسعودي صحيحٌ إن ثبت في نسخة صحيحة وصله عن أبي وائل، كما هو المظنون، بل وإن لم يثبت فقد عُلِم برواية سفيان أن أبا وائل هو الساقط، ولا أدري لعل حبيبًا أدرك أبا الهياج، فلينظر. فأما ما ثبت أن المسعودي اختلط وخلّط فلا يضر؛ لأن سماع يزيد عنه كان قبل ذلك، انظر "فتح المغيث" (¬4) (ص 493). تنبيه آخر: ذكر الحافظ رحمه الله هذا الحديث في كتابه "إتحاف المهرة" (¬5) فقال: ¬

_ (¬1) كما في رواية ابن الجنيد رقم (343، 344). (¬2) (1/ 250 - 251). (¬3) "الكامل": (6/ 232). (¬4) (4/ 388). وانظر "الكواكب النيرات": (ص 282). (¬5) رقم (14194).

حصين بن حيان الأسدي أبو الهياج عن علي، حديث: قال لي علي: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: أن لا تدع تمثالًا إلا طمسته ... ثم ذكر رواية الحاكم الثانية, أعني التي فيها "عن أبي الهياج" إلى أن قال: "عن أبي وائل عنه به". ثم ذكر رواية الحاكم الأولى، أعني رواية خلاد وعبد الرحمن، ثم قال: وقال "صحيح على شرطهما"، وقال: أظنهما .... قلت: قد أخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة بسنده. ثم ذكر رواية أحمد عن يونس بن محمَّد، وسيأتي. [ص 61] ثم قال: وعن وكيع وعبد الرحمن عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي وائل عن أبي الهياج به. اهـ. وفي عبارته ثلاثة مواضع موهمة لخلاف الواقع: [الأول]: قوله بعد ذكر أكثر لفظ الحديث، وسوقه رواية الحاكم الثانية: "عن أبي وائل عنه به". هذا يوهم أن الحاكم صَرَّح بلفظ الحديث، وأنه باللفظ الذي تقدم أكثره، وليس الأمر كذلك، فإنما قال الحاكم: "فذكر الحديث بنحوه" أي بنحو لفظ عبد الرحمن وخلَّاد المذكور في الرواية الأولى. وقد اختلفت ألفاظ الرواة عن وكيع، فلا يُدْرى اللفظ الذي ثبت عند الحاكم ولم يصرح به، أهو كلفظ مسلم الذي صَدَّر به الحافظ، وحكم بأنه هو، أم لا؟. فإن قيل: إن أبا بكر بن أبي شيبة أحد الراويين عن وكيع عند الحاكم،

هو أحد رواة لفظ مسلم، والظاهر الاتفاق. قلت: فما نصنع بالراوي الآخر وهو الأصبهاني، وعلى كلَّ حال فلا يخلو المقام من مسامحة. الموضع الثاني: أنه بعد ذِكْر عبارة الحاكم: "صحيح على شرطهما ... " إلخ. قال: "قلت: قد أخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة بسنده". وهذا صريحٌ في أنَّ قولَ الحاكم: "ولم يخرجاه" يعني الحديث من أصله، فاحتيج إلى تعقُّبه بأن مسلمًا قد أخرجه بسنده، وإنما قال الحافظ: "قد أخرجه مسلم عن أبي بكر ... " إلخ. مع أن مسلمًا أخرجه عنه، وعن غيره مقرونين؛ لأن الحاكم رواه من طريق أبي بكر أيضًا. وقوله: "بسنده" أي: بنفس السند الذي ذكره الحاكم، وبهذا يتم الحكم على الحاكم بالوهم. وقد علمت أن الحاكم إنما أورد تلك العبارة عقب الرواية الأولى، أعني رواية عبد الرحمن وخلَّاد، فقوله: "هذا الحديث" متوجَّه إليها، وكذا قوله: "ولم يخرجاه" كما هو ظاهر، وهو المُطَّرِد في اصطلاحه في "المستدرك"، يذكر الحديث ثم يتكلم عليه. وأصرح من هذا قوله في آخر العبارة: "وقد صحَّ سماع أبي وائل من علي". وبهذا يعلم أن حكم الحاكم صحيح، فإنَّ حديثَ عبد الرحمن وخلاد (¬1) لم يخرجه أحدٌ من الشيخين بسنده، بل ولا متنه. الموضع الثالث: قوله في ذكر رواية أحمد عن وكيع وعبد الرحمن ... ¬

_ (¬1) الأصل: "خالد" سهو.

رجوع

عن أبي الهياج به، وقد علمت لفظ الإِمام أحمد حيث قال بعد "عن أبي الهياج": "وقال عبد الرحمن ... " إلخ، فدل أن العبارة [ص 62] الأولى هي عبارة وكيع فقط، كما لا يخفى، وقد قابلنا حديث الإِمام أحمد بنسخة خطية، ولم نكتف بالمطبوعة، مع أن رواية الحاكم من طريقه صريحة في ذلك. رجوع: قد اندفع ما زعمه بعضُ الجُهَّال (¬1): أن الحديث مضطرب سندًا ومتنًا، فإن شرط الاضطراب التقاوم، أي: أن لا يمكن الجمع ولا الترجيح، وقد أمكن الجمع ههنا كما أشار له الحاكم، وقررناه أحسن تقرير، والحمد لله. وهذا الجمع أولى وأقرب مما جمعوا به بين حديثي فاطمة بنت قيس مرفوعًا: 1 - "إن في المال لحقًّا سوى الزكاة" (¬2). 2 - "ليس في المال حق سوى الزكاة" (¬3). فدفعوا الاضطراب بأن قالوا: يُجْمَع بأنها سمعت اللفظين، والحق الأول المستحب، والثاني الواجب. ¬

_ (¬1) يشير المؤلف إلى حسن صدر الدين الكاظمي الرافضي في رسالته "الرد على فتاوى الوهابية" (ص 73) حيث زعم أن الحديث مضطرب المتن والسند! (¬2) أخرجه الترمذي رقم (659, 660) والدارقطني: (2/ 125)، والبيهقي: (4/ 84). قال الترمذي: "هذا حديث إسناده ليس بذاك، وأبو حمزه ميمون الأعور يضعّف، وروى بيان وإسماعيل بن سالم عن الشعبي هذا الحديث قوله، وهذا أصح". (¬3) أخرجه ابن ماجه رقم (1789).

والغريب أن ذلك الجاهل خَبَط في تقرير الاضطراب بما يُضْحَك منه. قال: "فتارة يذكر "عن أبي وائل أن عليًّا قال لأبي الهياج"، كما في رواية أحمد عن وكيع () (¬1)، ورواية أبي داود عن محمَّد بن كثير ()، ورواية الترمذي عن محمَّد بن بشار، وتارة يذكر "عن أبي الهياج أنه قال: قال لي علي"، كما في رواية أحمد عن عبد الرحمن ()، ورواية مسلم عن وكيع". ويعرف خبطه بما قدمناه. وزعم أن في سند الحديث أبا وائل القاصّ، وذلك أنه نظر باب الكنى في "الميزان" (¬2)، فلم يجد أبا وائل إلا واحدًا هو القاصّ، ولم يدر أن أبا وائل الذي في سند الحديث ليس مِن بَراذين (¬3) "الميزان"، وهو شقيق بن سلمة الأسدي، أبو وائل الكوفي، أحد سادة التابعين، مخضرم، روى عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاذ بن جبل وطائفة. ولم يتنبه ذلك الجاهل إلى أن القاصّ لم يرو عن علي، ولا روى عنه حبيب، ولا أخرج له مسلم. نعم، في الحديث عنعنة حبيب، وهو مدلس، وليس بأيدينا شيءٌ من المستخرجات لعلنا نجد في شيءٍ منها تصريحه بالتحديث، وليس في "إتحاف المهرة" شيءٌ عن أبي عوانة في هذا الحديث. ¬

_ (¬1) هكذا كتب المؤلف هذه الأقواس، ولا ندري ما مقصوده منها، إلا إن أراد أن يكتب مواضعها من الكتب، وقد سبقت. (¬2) (6/ 258). (¬3) جمع بِرْذون، وهو البغل. يعني ليس من جملة الضعفاء المذكورين في "الميزان".

لكن ههنا عدة أمور ينجبر بها هذا الوهن: الأول والثاني: أن الحديث في الصحيح، وهو أصل في الهدم، فلا يقال: إنه متابعة لحديث فَضَالة، وممن رواه القطان، كما مر. وقال في "فتح المغيث" (¬1) (ص 77) في الكلام على ما في "الصحيحين" من عنعنة المدلسين: "قال ابن الصلاح - وتبعه النووي وغيره -: محمولٌ على ثبوت السماع عندهم فيه من جهةٍ أخرى، إذا كان في أحاديث الأصول لا المتابعات، تحسينًا للظن بمصنفيهما. يعني: ولو لم نقف نحن على ذلك ... [ص 63] وأشار ابن دقيق العيد إلى التوقف في ذلك ... وأحسن من هذا كله قول القطب الحلبي في "القدح المعلى": أكثر العلماء أن المعنعنات التي في "الصحيحين" مُنَزَّلةٌ منزِلة السماع، يعني: إما لمجيئها من وجهٍ آخر بالتصريح، أو لكون المعنعن لا يدلس إلا عن ثقة، أو عن بعض شيوخه، أو لوقوعها من جهة بعض النقاد المحققين سماع المعنعن لها, ولذا استثنى من هذا الخلاف ... وأبو إسحاق فقط بالنسبة لحديث القطان عن زهير عنه، ... والثوري بالنسبة لحديث القطان عنه "اهـ. 1 - والذي عندي: أن صاحب الصحيح لا يصحّح عنعنة من عَرف أنه يدلس إلا بعد الوثوق بثبوت السماع، وإنما لم يثبت السند المصرَّح فيه؛ لأنه نازلٌ، أو نحو ذلك. ¬

_ (¬1) (1/ 218 - 219). وتمام اسم كتاب القطب الحلبي (ت 735): "القِدح المعلى في الرد على أحاديث المحلى". ذكره ابن الملقن في "البدر المنير": (1/ 291) وقال: "في جزء جيد، وما أكثر فوائده".

فإن قيل: قد يثبت عنده السماع من طريق فيها من لا يوافق على توثيقه. قلت: هذا خلاف الظاهر، بل الغالب على الظن أنه قد ثبت لديه من طريق متفق على تصحيحها، وإلا لأبرزها. نظير ما قالوه في سفيان بن عيينة: أنه لا يدلس إلا عن ثقة، مثل الثقة الذي صرح به، ولكن مع هذا كله لا يزال في النفس شيءٌ، خشية أن يكون خَفِي على صاحب الصحيح كون ذلك المعنعن يدلِّس، أو خَفِي عليه جرح في بعض رجال الطريق التي ثبت لديه فيها التصريح بالتحديث، أو نحو ذلك. إلا أنه على كل حال إذا كانت عنعنة المدلس في الصحيح يكون الظن بثبوت السماع أقوى مما لو كانت في غير الصحيح. [64] 2 - وأما ما نقلناه عن "الفتح" في شأن القطان، فهو لا يتناول هذا الحديث؛ لأنه إنما التزم عدم رواية ما عنعنه مدلس، ولم يثبت له سماعه في روايته عن زهير عن أبي إسحاق، والمدلِّس أبو إسحاق، وفيما رواه عن سفيان، والمدلِّس سفيان، وحديث الباب من روايته عن سفيان عن حبيب، والمدلس حبيب. لكن قد ثبت عن القطان التحرز عن أن يقع منه ما فيه رائحة من تدليس، وثبت بما هنا احتياطه أن لا يروي عن شيخه سفيان إلا ما صح سماع سفيان له، وأن لا يروي عن شيخه زهير عن أبي إسحاق إلا ما صح سماع أبي إسحاق له، فكان في هذا ما يدلّ على احتياط الرجل في الجملة، فيقوى ظن السماع فيما رواه عن سفيان عن حبيب.

3 - قد صحَّح الحاكم رواية عبد الرحمن وخلاد، وأقر صحة الرواية الأخرى، وتبعه الذهبي، فلعله ثبت لديهما ما يدفع احتمال التدليس. 4 - إن دلس حبيب فهو ثقة لا يدلس إلا عن ثقة متفق على توثيقه، أو ثقة عنده على الأقل. 5 - الإِمام أحمد في "مسنده" (¬1) (جزء 1/ ص 145): يزيد أنبأنا أشْعَثُ بن سوَّار عن ابن أشْوَع عن حنش بن (¬2) المعتمر، أن عليًّا رضي الله عنه بعث صاحب شرطة فقال: "أبعثك لما بعثني رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: لا تدع قبرًا إلا سوَّيته، ولا تمثالًا إلا وضعته". عبد الله في "زوائد المسند" (¬3) (جزء 1/ ص 150): حدثني عبيد الله بن عمر القواريري ثنا السَّكَن بن إبراهيم ثنا الأشعث .. فذكره بسنده، ونحو متنه. أبو يعلى في "مسنده" (¬4) بمثل سنده ومتنه. [ص 65] أبو يعلى في "مسنده" (¬5) أيضًا: حدثنا عبد الغفار بن عبد الله حدثنا علي بن مُسْهِر عن أشعث، فذكره بسنده، ونحو متنه. أقول: في أشعث كلام، حاصله أنه صدوق يخطئ. ¬

_ (¬1) رقم (1239). (¬2) في "المسند": "أبي" وكلاهما صحيح, لأنه ابن المعتمر وأبو المعتمر. (¬3) رقم (1284). (¬4) رقم (559). (¬5) رقم (503).

وقال ابن عدي (¬1): لم أجد لأشعث متنًا منكرًا، إنما يغلط في الأحايين في الأسانيد، ويخالف. اهـ. "ميزان" (¬2). وقد أخرج له مسلم في "صحيحه" متابعة. وأما ابن أشْوَع فثقة، من رجال "الصحيحين"، غمزه الجُوزَجاني بالتشيّع، والجُوزجاني متشدِّد على الكوفيين. قال الحافظ في "تهذيب التهذيب" (¬3) في ترجمة أبان بن تغلب الربعي: "الجُوزجاني لا عبرة بحَطِّه على الكوفيين". وحَنَش وثَّقه أبو داود، وقال أبو حاتم: "صالح، لا أراهم يحتجون به". ولينه غيرهما بما لا يسقطه عن الاعتبار. فأقلّ ما يقال في هذا السند: إنه صالح للاعتبار. 6 - الإِمام أحمد في "المسند" (¬4) من طرق عن الحكم بن عُتَيبة عن أبي محمَّد الهُذَلي عن علي رضي الله عنه، ذكر قصة بعث رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم له، ولفظه في بعض الروايات: "أن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم بعثَ رجلاً من الأنصار: أن يسوِّي كلَّ قبر، وأن يُلَطِّخ كلَّ صنم، فقال: يا رسول الله، إني أكره أن أدخل بيوت قومي، قال: فأرسلني .. ". ¬

_ (¬1) "الكامل": (1/ 374). (¬2) (1/ 265). (¬3) (1/ 93). (¬4) رقم (1176).

وفي أخرى (¬1) قال: كان رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم في جنازة، فقال: "أيكم ينطلق إلى المدينة، فلا يدع بها وثنًا إلا كسره، ولا قبرًا إلا سوَّاه، ولا صورةً إلا لَطَّخَها ... " ثم قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "من عاد لصَنْعَة شيءٍ من هذا فقد كفر بما أنزل على محمَّد صلَّى الله عليه وآله وسلم". أقول: أبو محمَّد الهذلي مجهول، لم يرو عنه إلا الحكم بن عُتَيبة، ولم يوثَّق ولم يجرّح، لكنه تابعي، روى عن علي رضي الله عنه، وروى عنه التابعي العَلَم الثبت الجليل: الحكم بن عُتيبة، فهو ثقة على مذهب ابن حبان، وصالحٌ للاعتبار عند الجمهور. فكلُّ واحدٍ من هذين السندين صالح أن يبلغ درجة الحسن لغيره، إذا اعتضد. انظر "فتح المغيث" (¬2) (ص 24). 7 - قد روى هذا الحديث عبد الله بن أحمد في "زوائد المسند" (¬3)، من طريق يونس بن خباب عن جرير بن أبي الهيَّاج (¬4)، عن أبيه. وفيما مر كفاية. يونس شيعي، كان يطعن في عثمان، قال مرةً: قتل بنتي النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم، فقيل له: قتل الأولى، فلِمَ زوَّجه الثانية؟ فلم يدر ما يقول! ¬

_ (¬1) رقم (657). (¬2) (1/ 75). (¬3) رقم (889)، ومضى في "المسند" رقم (683). (¬4) كذا في الأصل "جرير بن أبي الهيَّاج"! خطأ، وصوابه كما في المسند: "جرير بن حيَّان".

وبمجموع هذه الوجوه يندفع احتمال التدليس، وينتهض الحديث للحُجِّية، كما لا يخفى. والله تعالى أعلم. [ص 67] الباجي في "شرح الموطأ" (¬1): قال ابن حبيب: وروى جابر: أن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم نهى أن تُرْفع القبور، أو يُبنى عليها، وأمر بهدمها، وتسويتها بالأرض. وفَعَله - يعني الهدم والتسوية - عمر بن الخطاب. اهـ. في "كنز العمال" (¬2): عن عثمان: أنه كان يأمر بتسوية القبور". (ابن جرير). أقول: ذكرت هذين استئناسًا. ... ¬

_ (¬1) (2/ 494). (¬2) رقم (42927).

[حديث جابر]

[حديث جابر] [ص 68] الإِمام أحمد "مسند" (¬1) (جزء 3/ ص 339): ثنا حجاج ثنا ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: "سمعت النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم نهى أن يقعد الرجل على القبر، أو يجصَّص، أو يُبنى عليه". تابع الإِمام أحمد عن الحجاج: 1 - يوسف بن سعيد عند النسائي (¬2)، وعند أبي عوانة في "صحيحه"، وعند ابن حبان (¬3)، كما في "إتحاف المهرة" (¬4). 2 - ومحمد بن إسحاق الصغاني عند البيهقي (¬5). 3 - وهارون بن عبد الله عند مسلم في "الصحيح" (¬6). 4 - وهلال بن العلاء عند أبي عوانة. وتابع حجَّاجًا عن ابن جُرَيج جماعة، منهم: 1 - عبد الرزاق، رواه عنه الإِمام أحمد "مسند" (¬7) (جزء 3/ ص 295)، ¬

_ (¬1) رقم (14647). (¬2) رقم (2028). (¬3) رقم (3165). (¬4) رقم (3400). (¬5) (4/ 4). (¬6) رقم (970). (¬7) رقم (14148).

وعن الإِمام رواه أبو داود في "سننه" (¬1). 2 - ومحمد بن رافع عند مسلم في "الصحيح" (¬2). 3 - (¬3) عند أبي عوانة. ومنهم أبو معاوية، روى عنه سعيد بن منصور في "المستدرك" (¬4)، وإسحاق بن إبراهيم عند ابن حبان (¬5). ومنهم محمَّد بن خازم روى عنه أسد عند الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (¬6). ومنهم محمَّد بن ربيعة، روى عنه عبد الرحمن بن الأسود أبو عَمْرو البصري، عند الترمذي في "سننه" (¬7)، ومحمد بن إسكاب (كذا) عند أبي عوانة. ومنهم حفص بن غياث، روى عنه: 1 - أبو بكر بن أبي شيبة، عند مسلم في "الصحيح" (¬8) ¬

_ (¬1) رقم (3225). (¬2) رقم (970). (¬3) كذا تركه المؤلف. (¬4) (1/ 370). (¬5) رقم (3164). (¬6) (1/ 515). ومحمد بن خازم هو أبو معاوية المتقدم في رواية الحاكم. (¬7) رقم (1052). (¬8) رقم (970).

2 - عثمان بن أبي شيبة، عند ابن حبان (¬1). 3 - وسَلْم بن جُنادة بن مسلم القرشي، في "المستدرك" (¬2). 4 - ومسدَّد، في "شرح معاني الآثار" (¬3). وفي صِيَغ الرواية وألفاظ الحديث بعض اختلاف عن حديث أحمد، لم نبين ذلك؛ لأنه لا يتعلق به بحث. [ص 69] أبو داود في "سننه" (¬4): حدثنا مُسدَّد وعثمان بن أبي شيبة قالا ثنا حفص بن غياث عن ابن جريج عن سليمان بن موسى، وعن أبي الزبير عن جابر، بهذا الحديث (أي المتقدم). قال أبو داود: وقال عثمان: "أو يزاد عليه"، وزاد سليمان بن موسى: "أو يكتب عليه"، ولم يذكر مسدد في حديثه: "أو يزاد عليه". قال أبو داود: وخفي عليّ من حديث مسدد حرف "وإن". أقول: رواه أبو عوانة عن أبي داود، ورواه البيهقي في "السنن" (¬5) بسنده إلى أبي داود عن عثمان، فذكر رواية عثمان. وقد رواه النسائي (¬6) عن هارون بن إسحاق عن حفص بسنده ومتنه، إلا ¬

_ (¬1) رقم (3163). (¬2) (1/ 370). (¬3) (1/ 516). (¬4) رقم (3226). (¬5) (4/ 4). (¬6) رقم (2027).

أنه لم يذكر القعود، وقدّم وأخَّر. [سيأتي في حديث جابر في بعض طرقه النهي عن الزيادة على القبر. ويُعْتَرض بأنها لم ترد إلا في رواية حفص بن غياث، وحفصٌ ساء حفظه بعد ما اسْتُقْضي، وصرحوا أنه لا يحتج من حديثه إلا بما كان في كتابه، وقد روى الحديث عن ابن جريج جماعةٌ كما سيأتي، وليست هذه الزيادة عن أحدٍ منهم غير حفص، بل حفص نفسه لم تثبت عنه هذه الزيادة في رواية مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن حفص. وقد قيل: إن صاحبي الصحيح إنما يخرجان لحفص ما ثبت أنه حدث به من كتابه. فزيادة النهي عن الزيادة شاذة، مع أنها لم ترد إلا فيما عنعنه ابنُ جُريج، وهو مدلِّس. لكن قد يقال: إن لها شاهدًا ضعيفًا ذكره البيهقي في "سننه" (¬1) عَقِب ذكره رواية حفص، قال: ورواه أبان بن أبي عياش عن الحسن وأبي نضرة عن جابر عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: "ولا يزاد على حفرته التراب". ثم قال: "وفي الحديث الأول كفاية، أبان ضعيف". اهـ. وفي "كنز العمال" (¬2): عن جابر قال: "نهى رسول الله صلَّى الله عليه ¬

_ (¬1) (3/ 410). (¬2) رقم (42919).

وآله وسلم أن تُجَصّص القبور، وأن يُجْعَل عليها من غير حُفْرتها". ابن النجار. [ص 24] وأما عنعنة ابن جريج؛ فإنها وإن كانت قادحةً في الصحة، فإنها لا تقتضي شدة الضعف؛ لأنها تحتمل الوصل وعدمه، فإن كان الأول؛ فالحديث صحيح، وإن كان الثاني؛ فالحديث على الأقل حسن عند ابن جريج؛ لأنه لا يدلس إلا عن ثقة عنده على الأقل، ولذلك جعلوا ما عنعنه المدلس مما يصلح أن يبلغ درجة الحسن لغيره إذا اعتضد، بل نصوا على أن من الضعيف الذي يبلغ درجة الحسن لغيره إذا اعتضد ما كان فيه انقطاعٌ بين ثقتين حافظين، فما عنعنه المدلِّس من باب أولى؛ لاحتماله الوصل. انظر "فتح المغيث" (¬1) (ص 24). فأما ما ورد من مشروعية زيادة مخصوصة، كوضع شيءٍ من الحصى، وكوضع الحجر؛ فإنه يكون تخصيصًا لعموم النهي عن الزيادة، فلا يدلّ على عدم النهي مطلقًا] (¬2). الإِمام أحمد في "مسنده" (¬3) (جزء 3/ ص 295): ثنا محمَّد بن بكر ثنا ابن جُرَيج قال: قال سليمان بن موسى قال: قال جابر: "سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم ينهى أن يُقْعَد على القبر، وأن يُجَصَّص، وأن يُبْنى ¬

_ (¬1) (1/ 75). (¬2) من قوله: "سيأتي في حديث جابر ... " إلى هنا ذكره المؤلف في الفصل الأول، ثم كتب فوقه: (ينقل إلى الفصل الثاني شرح حديث جابر) ولم يحدد مكانه، فلعل هذا مكانه المناسب. (¬3) رقم (14144).

عليه". وروى منه النهيَ عن الكتابة فقط ابنُ ماجه (¬1) عن عبد الله بن سعيد عن حفص بسنده. [ص 70] "صحيح مسلم" (¬2): وحدثنا يحيى بن يحيى أنا إسماعيل بن علية عن أيوب عن أبي الزبير عن جابر قال: "نهى عن تقصيص القبور". النسائي في "سننه" (¬3): أخبرنا عمران بن موسى قال حدثنا عبد الوارث حدثنا أيوب عن أبي الزبير عن جابر قال: "نهى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم عن تجصيص القبور". ابن ماجه (¬4): حدثنا أزهر بن مروان ومحمد بن زياد قالا: ثنا عبد الوارث عن أيوب عن أبي الزبير عن جابر قال: "نهى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم عن تقصيص القبور". الإِمام أحمد مسند (¬5) (جزء 3/ ص 399): ثنا عفان ثنا المبارك حدثني نصر بن راشد سنة مائة عمن حدثه عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: "نهانا رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم أن تُجَصَّص القبور، أو تُبنى عليها". اهـ. ¬

_ (¬1) رقم (1563). (¬2) رقم (970). (¬3) رقم (2029). (¬4) رقم (1562). (¬5) رقم (15286).

الباجي: قال ابن حبيب: وروى جابر: "أن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم نهى أن تُرْفَع القبور، أو يبنى عليها، وأمر بهدمها وتسويتها بالأرض ... " إلخ كما تقدم (¬1). يظهر أنه ليس من طريق أبي الزبير ولا سليمان؛ لأن فيه زيادة ليست عندهما. والله أعلم. **** ¬

_ (¬1) (ص 69) وسبقت الإحالة على كتاب الباجي.

حال أبي الزبير

[ص 71] حال أبي الزبير (¬1) قال الشافعي: "يحتاجُ إلى دِعامة". ومعنى ذلك أنَّ فيما انفرد به نكارة. وقال أبو زُرْعة وأبو حاتم: "لا يحتج به". وهذه الكلمة من المرتبة التي تلي أخفّ مراتب الجرح، وصاحبها صالح للمتابعة. وقال شعبة: رأيته يَزِنُ ويسترجح في الميزان. وأجاب عن هذه ابن حبان بأن ذلك لا يقتضي الترك. أقول: وغاية هذا المنافاة لكمال المروءة، وليس ذلك بجرح. وروى عنه سويد بن عبد العزيز أنه قال: لا يحسن يصلي. وسويد ضعيف. وقال: بينا أنا جالس عنده، إذا جاء رجل فسأله عن مسألة، فردَّ عليه، فافترى عليه، فقلت له: يا أبا الزبير، أتفتري على رجلٍ مسلم؟ قال: إنه أغضبني. قلت: ومن يغضبك تفتري عليه؟ لا رويتُ عنك حديثًا أبدًا. أقول: الافتراء حقيقته مطلق الكذب، ولكن ظاهر السياق أنه سَبَّه، والافتراءُ إذا أُطْلِق في حكاية السبّ، فالظاهر أنه أُريد به القذف، والقذف كبيرة تُسقط العدالة. وجوابه: ¬

_ (¬1) ترجمته في "تهذيب الكمال": (6/ 503)، و"تهذيب التهذيب": (9/ 440)، و"إكمال تهذيب الكمال": (10/ 336)، و"ميزان الاعتدال": (5/ 162).

1 - أن الافتراء ليس نصًّا في القذف، فقد يُراد به مطلق السبّ، ولا سيما إذا كان شنيع اللفظ، كالإعضاض. وعليه، فقد يكون السائل أساء الأدب، فأعضَّه أبو الزبير. وفي الحديث: "من تعزَّى بعزاء الجاهلية، فأعِضُّوه بِهَنِ أبيه، ولا تكنوا" (¬1). 2 - على تسليم أن شعبة أراد بها القذف، فلم يبين لفظ أبي الزبير. فيحتمل أنه قال كلمةً يراها شعبة قذفًا، وغيره لا يوافقه، ولهذا قال الفقهاء: إذا قال الشاهد [ص 72]: أشهد أن فلانًا قذف فلانًا، لم يُقبل حتى يفسِّر. ولا يَرِد على هذا قول شعبة: فقلت له: أتفتري ... إلخ. وسكوت أبي الزبير عن نفي ذلك؛ لأن شعبة قد يكون إنما قال له: أتقول هذا لرجل مسلم. ثم روى بالمعنى في رأيه. أو يكون أبو الزبير ترك نفي ذلك؛ لأنه على كلَّ حال قد أخطأ، فرأى الأولى الاعتذار بأنها كلمة جرت على لسانه لشدة الغضب، وهذا عذرٌ صحيحٌ، كما سيأتي إن شاء الله. 3 - على تسليم أنه قَذْف صريح، فقد يكون أبو الزبير مُطَّلعًا أن ذلك هو الواقع، وسكت عن ذكره لشعبة؛ لأنه على حال مما لا يليق، وإنما جرى على لسانه لشدة الغضب. ويُستأنس لهذه الوجوه بأنه لو كان القذف صريحًا، والمقذوف بريئًا، لذهب فشكاه إلى الوالي، والحدودُ يومئذٍ قائمة. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد رقم (21218)، والنسائي في "الكبرى" رقم (8813)، والبخاري في "الأدب المفرد" رقم (1000)، وابن حبان رقم (3153)، وغيرهم من حديث أُبي بن كعب رضي الله عنه. انظر "السلسلة الصحيحة" (269).

4 - على كل حال، فقد أجاب أبو الزبير عن نفسه بقوله: "إنه أغضبني" أي: فلشدة الغضب جرت على لسانه - وهو لا يشعر - كلمة مما اعتاد الناس النطق به. وقد جاء في الحديث: "لا طلاق في إغلاق" (¬1)، وفُسِّر بشدة الغضب. وقال الله عزَّ وجلَّ: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89]. وقال جل ذكره: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 5]. وفي حديث مسلم (¬2) عن أنس مرفوعًا: "لله أشدّ فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم ... ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك. أخطأ من شدَّة الفرح". 5 - قال الذهبي في "الميزان" (¬3) في ترجمة ابن المديني: "ثم ما كلّ مَنْ فيه بدعة، أو له هَفْوة أو ذنوب يُقْدَح فيه بما يوهن حديثه، ولا من شَرْط الثقة أن يكون معصومًا من الخطايا والخطأ". اهـ. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد رقم (26360)، وأبو داود رقم (2193)، وابن ماجه رقم (2046)، والحاكم: (2/ 198)، والبيهقي: (7/ 357). وصححه الحاكم على شرط مسلم، وتعقبه الذهبي بأن فيه محمَّد بن عبيد ضعَّفه أبو حاتم ولم يحتج به مسلم. وانظر "الإرواء": (2047). (¬2) رقم (2744). (¬3) رقم (4/ 61).

وفي "إرشاد الفحول" (¬1) للشوكاني (ص 49): [ص 73] قال ابن القُشَيري: والذي صحَّ عن الشافعي أنه قال: في الناس من يَمْحَض الطاعةَ، فلا يمزجها بمعصية، و [لأن] (¬2) في المسلمين من يَمْحَض المعصية ولا يمزجها بالطاعة، فلا سبيل إلى ردّ الكل، ولا إلى قبول الكل، فإن كان الأغلب على الرجل من أمره الطاعة والمروءة، قُبِلت شهادته وروايته، وإن كان الأغلب المعصية وخلاف المروءة، ردَدْتهما" (¬3) اهـ. وفيه من جملة كلام عن الرازي: "والضابط فيه: أن كل ما لا يؤمن مِن (¬4) جراءته على الكذب، ترد الرواية, وما لا، فلا" اهـ. وفيه: قال الجويني: "الثقة هي المعتمد عليها في الخبر، فمتى حصلت الثقة بالخبر قُبِل" اهـ. أقول: وهذا هو المعقول، وعليه الأئمة الفحول، فإن الحكمة في اشتراط العدالة في الراوي هي كونها [مانعة له] عن الكذب، فيقوى الظن بصدقه. فإذا جرت منه هفوة لا تخدش قوَّة الظن بصدقه، لم تخدش قبول روايته. [ص 74] والحاصل: أن تلك الكلمة التي جرت على لسان أبي الزبير بدون شعوره لشدة غضبه، لا ينبغي أن يُهْدَر به مئات الأحاديث عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم مع التحقُّق بكمال صدقه، وحفظه، ¬

_ (¬1) (1/ 264 - دار الفضيلة). (¬2) زيادة من ط المحققة. (¬3) الأصل: "رددتها" والمثبت من المحققة. (¬4) المحققة: "معه".

توثيق الأئمة له نقلا عن كتب الفن

وضبطه، وتَحَرِّيه، وإتقانه. 6 - والظاهر من حاله، وما ثبت لدى جمهور الأئمة من عدالته، أنه تاب عنها في الوقت، وإن كانت إنما جرت على لسانه بدون شعور. ويلوح لي أن بعض أعدائه، بل أعداء الدين دسوا إليه ذلك السائل ليرصده، حتى إذا كان شعبة عنده جاء فأغضبه، ابتغاء أن يسبق لسانه بكلمة ينقمها عليه شعبة، وقد كان كذلك. ولكن حيلتهم لم تطفئ نورَ الله في صدر أبي الزبير، فاعتمده جمهور الأئمة الأعلام، واحتجوا به. [ص 75] توثيق الأئمة له نقلاً عن كتب الفن: ابن المديني: ثقة ثبت. ابن عون: ليس أبو الزبير بدون عطاء بن أبي رباح. يعلي بن عطاء: كان أكمل الناس عقلاً وأحفظهم. عطاء: كنا نكون عند جابر فيحدثنا، فإذا خرجنا تذاكرنا، فكان أبو الزبير أحفظنا. ابن معين والنسائي وغيرهما: ثقة. ابن عدي: هو في نفسه ثقة، إلا أن يروي عنه بعض الضعفاء, فيكون الضعف من جهتهم. عثمان الدارمي: قلت ليحيى: فأبو الزبير؟ قال: ثقة. قلت: محمَّد ابن المنكدر أحب إليك، أو أبو الزبير؟ فقال: كلاهما ثقتان.

وممن وثّقه مالك، فإنه روى عنه، ولا يروي إلا عن ثقة. وأحمد والساجي وابن سعد وابن حبان. وقال الذهبي: هو من أئمة العلم، اعتمده مسلم، وروى له البخاري متابعة. والظاهر أن الموثِّقين اطلعوا على قصة شعبة، واطلعوا على ما يدفع ما فيها من الإيهام، وفيهم ابن معين والنسائي وابن حبان، وحسبك بهم تعنُّتًا مع أن معهم بضعة عشر إمامًا. وسيظنّ ظانون أنه ما حدانا إلى الدفاع عن أبي الزبير، إلا حرصنا على صحة حديثه هذا، فليعلموا أن الحجة قائمة بدونه مما مضى، وما سيأتي. وأنّ رواية أبي الزبير ليست قاصرة على هذا الحديث [ص 76] فدفاعنا عنه هنا يلزمنا أن نقبله لنا وعلينا، وهذا مما يلزمناه الحق نفسه. والله أعلم. وقد صرح ابن جُريج بالسماع من أبي الزبير، وأبو الزبير بالسماع من جابر في رواية الإِمام أحمد ومسلم، فزال ما يُخْشَى من تدليسهما، لكن الروايات التي فيها النهي عن الزيادة والكتابة كلها عنعنها ابن جريج. وأما قول الذهبي في "الميزان" (¬1) في ترجمة أبي الزبير: "وفي صحيح مسلم عدة أحاديث فيما لم يوضح فيها أبو الزبير السماع عن جابر، ولا هي من طريق الليث، ففي القلب منها، فمن ذلك: ... وحديث النهي عن تجصيص القبور، وغير ذلك" اهـ. ¬

_ (¬1) (5/ 164).

فإنما أراد رواية أيوب التي فيها النهي عن تقصيص القبور فقط، فلم يثبت التصريح بالتحديث فيها، ومسلم إنما ساقها متابعة. والله أعلم. ****

حال سليمان بن موسى نقلا عن كتب الفن

حال سليمان بن موسى نقلاً عن كتب الفن (¬1) قال البخاري: عنده مناكير. النسائي: ليس بالقوي. أبو حاتم: محله الصدق، وفي حديثه بعض الاضطراب. أقول: أما عبارة البخاري في "فتح المغيث" (¬2) (ص 162): قال ابن دقيق العيد في "شرح الإلمام": "قولهم: "روى مناكير" لا يقتضي بمجرده ترك روايته حتى تكثر المناكير في روايته، وينتهي إلى أن يقال فيه: "منكر الحديث"؛ لأن "منكر الحديث" وصفٌ في الرجل يستحق به الترك لحديثه. والعبارة الأخرى لا تقتضي الديمومة، كيف وقد قال أحمد بن حنبل في محمَّد بن إبراهيم التيمي: "يروي أحاديث منكرة". [ص 77] وهو ممن اتفق عليه الشيخان، وإليه المرجع في حديث: "الأعمال بالنيات"". اهـ. أقول: وقولهم: "عنده مناكير" ليس نصًّا في أن النكارة منه، فقد تكون من بعض الرواة عنه، أو بعض مشايخه. قال في "فتح المغيث" (162): "قلت: وقد يطلق ذلك على الثقة إذا روى المناكير عن الضعفاء. قال الحاكم: قلت للدارقطني: فسليمان ابن بنت شرحبيل؟ قال: ثقة. قلت: أليس عنده مناكير؟ قال: يحدِّث بها عن قوم ¬

_ (¬1) ترجمته في "تهذيب الكمال": (3/ 304)، و"تهذيب التهذيب": (4/ 226)، و"إكمال تهذيب الكمال": (6/ 101)، و"ميزان الاعتدال": (2/ 415). (¬2) (2/ 126).

الموثقون له

ضعفاء، أما هو فثقة" اهـ. وقد علمت الفرق بين قول البخاري: "عنده مناكير" وقوله: "منكر الحديث"، مع قوله: "كل من قلت فيه: منكر الحديث، لا يحتج به"، وفي لفظٍ: "لا تحل الرواية عنه". وقد سرد في "الميزان" ما له من الغرائب، وهي يسيرة، وبيَّن أنه توبع في بعضها، ثم قال: "كان سليمان فقيه الشام في وقته قبل الأوزاعي، وهذه الغرائب التي تستنكر له يجوز أن يكون حفظها" اهـ. أقول: وبعضها من رواية ابن جُريج عنه بالعنعنة، وابن جريج يدلِّس، فربما كانت النكارة من شيخ لابن جريج، دلس له عن سليمان. وعلى نحو ذلك تُحْمل كلمة أبي حاتم، مع أن قوله: "بعض الاضطراب" يشعر بقلَّته جدًّا، وقد قرنها بقوله: "محلّه الصدق". أما كلمة النسائي؛ فتوهينٌ خفيف غير مفسر. وأبو حاتم والنسائي من المتعنتين في الرجال. [ص 78] الموثقون له: سعيد بن عبد العزيز: لو قيل لي: من أفضل الناس؟ لأخذت بيد سليمان بن موسى. ابن عدي: تفرد بأحاديث، وهو عندي ثبت صدوق. يحيى بن معين: سليمان بن موسى عن الزهري، ثقة. دُحيم: كان مقدَّمًا على أصحاب مكحول.

وفي كلمة يحيى إيهام أنه في غير الزهري يخطئ، فلعله لتلك الغرائب، وقد مر الجواب عنها. والحاصل: أن توثيقه راجح، فهو المعتمد، ومع هذا كله فليس حديث الباب من أفراده، لكن أردنا تحقيق حاله من حيث هو، كما صنعنا في شأن أبي الزبير. بقي أن في "تهذيب التهذيب" في ترجمته: "أرسل عن جابر ... وقال ابن معين: سليمان بن موسى عن مالك بن يُخَامِر وعن جابر مرسل" اهـ. مع أن في "مسند الإِمام أحمد" (¬1) (جزء 3/ ص 295): ثنا عبد الرزاق أنا ابن جريج قال سليمان بن موسى: أنا جابر .... ثنا محمَّد بن بكر أنا ابن جريج أخبرني سليمان بن موسى أخبرني جابر .... فقول سليمان في الأول: "أنا جابر" صريح في السماع، لكن فيه تدليس ابن جريج، وأما الثاني: فسالم [ص 79] من التدليس، ومحمَّد بن بكر وابن جريج على شرط الشيخين، ويبعد كلَّ البعد أن يكون هنا تحريف من النساخ في السندين المتتابعين معًا، وقد ثبت أن سليمان ثقة، وهو أعلم بنفسه من ابن معين، مع أننا لا نعلم مستند ابن معين، وقد أدرك سليمان من حياة جابر مدة. وقال الحافظ في "إتحاف المهرة" (¬2): سليمان بن موسى الأشدق (¬3) (الأموي) عن جابر، ولم يدركه، وأورد له حديثَه هذا الذي في "المسند"، ¬

_ (¬1) رقم (14143, 14144). (¬2) رقم (2705). (¬3) يشبه رسمها في الأصل: "الأسدي"، والصواب ما أثبت.

ولم يتعرَّض لصيغة روايته عن جابر، وليس عندنا نسخة خطية من "مسند أحمد" نراجعها، فمن وجد فليراجع. وقال المزي في "الأطراف" (¬1) - في الكلام على حديث ابن جريج الذي قال فيه: عن سليمان بن موسى وأبي الزبير عن جابر - قال المزي: سليمان لم يسمع من جابر، فلعل ابن جريج رواه عن سليمان عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم. أقول: يردُّه أن ابنَ جُريج عن سليمان وحدَه، كما عند أبي داود، وقد ذكره المزي أيضًا. والله أعلم. هذا، مع علمنا بأن ثبوتَ سماعه من جابر لا يفيد صحة حديث الباب، ما دامت عنعنة ابن جريج قاطعةً الطريق، (مع أن في حديثه الذي نقلناه عن "المسند": ثنا ابن جريج قال: قال سليمان بن موسى قال: قال جابر. وهذا كالصريح في أن بين سليمان وبين جابر واسطة، وإن احتمل التأويل. انظر "فتح المغيث" (ص 52).) (¬2) وإنما جلُّ مقصودنا من ذِكر روايته أن يكون دعامةً لأبي الزبير، تأدُّبًا مع كلمة الإِمام الشافعي (¬3). ¬

_ (¬1) (2/ 186 - 187). (¬2) من قوله: "مع أن في حديثه ... " إلى هنا يحتمل أن يكون حاشية من المؤلف, لأنه وضع على كلمة "الطريق" رقم (1) وكتب هذه العبارة أسفل الصفحة، ورجحنا إثباتها في المتن, لأن المؤلف سبق له هذا الصنيع في عدة مواضع في اللحق، ولأن الكتاب مسوّدة لا يحتمل التحشية. (¬3) يعني قوله في أبي الزبير: "يحتاج إلى دعامة".

تنبيه

تنبيه: أما النهي عن التجصيص والبناء والجلوس؛ فقد ثبت فيها سماع ابن جريج من أبي الزبير، وسماع أبي الزبير من جابر، فهي صحيحة. وأما النهي عن الكتابة والزيادة، فلم ترد إلا في روايات معنعنة، أو في روايات ابن جريج عن سليمان بن موسى، بدون تصريح ابن جريج بالسماع من سليمان، ولا تصريح سليمان بالسماع من جابر - إن كان أدركه -. بل في حديث الإِمام أحمد ما يدلُّ أن سليمان روى الحديث بواسطة عن جابر، كما مر. ثم إن زيادة النهي عن الزيادة لها علل غير هذه: منها: أنها من رواية حفص بن غياث، وحفصٌ ساء حفظه بعد ما استُقْضي، وذكروا أنه لا يحتجّ من حديثه إلا بما حدَّث به من كتابه، وروايته التي عند مسلم ليس فيها هذه الزيادة، وقد قيل: إن صاحبي الصحيح إنما يخرجان له ما حدث به من كتابه. ومنها: انفراده بهذه الزيادة، دون سائر من روى الحديث عن ابن جريج. لكن في "كنز العمال" (¬1): عن جابر ما لفظه: نهى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم أن تُجَصَّص القبور، وأن يُجْعَل عليها (¬2) من غير حُفْرتها". (ابن النجار). (لا أدري ما صحته). ¬

_ (¬1) رقم (42919). (¬2) في "كنز العمال": "عليها تراب .. ".

وفي "سنن البيهقي" (¬1) ما لفظه: ورواه أبان بن أبي عياش عن الحسن وأبي نضرة عن جابر عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: "ولا يزاد على حفرته (¬2) التراب ... " أبان ضعيف. اهـ. ... ¬

_ (¬1) (3/ 410). (¬2) في "السنن": "حُفيرته".

[حديث أبي سعيد الخدري]

[حديث أبي سعيد الخدري] [ص 80] ابن ماجه في "سننه" (¬1): حدثنا محمَّد بن يحيى ثنا محمَّد بن عبد الله بن عبد الملك الرَّقَاشي ثنا وهب (وفي نسخة: وهيب، وهو الصحيح) ثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن القاسم بن مُخَيمرة عن أبي سعيد: "أن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم نهى أن يُبنى على القبر". "مسند أبي يعلى" (¬2) - (خط يد): حدثنا العباس بن الوليد النَّرْسي نا وهيب نا عبد الرحمن بن يزيد (¬3) بن جابر عن القاسم بن مُخَيمرة عن أبي سعيد قال: نهى نبي الله صلَّى الله عليه وآله وسلم أن يُبنى على القبور، أو يُقْعَد عليها، أو يصلى إليها. "جامع الزوائد" (¬4) - خط يد -: وعن أبي سعيد قال: نهى نبي الله صلَّى الله عليه وآله وسلم أن يُبنى على القبور، أو يُقْعَد عليها، أو يُصَلى إليها". رواه أبو يعلى، ورجاله ثقات. أقول: في سنده عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، تكلم فيه بعضهم خطأً، وهو الفلاس، قال: "ضعيف الحديث، حدَّث عن مكحول بأحاديث مناكير عند أهل الكوفة" اهـ. ¬

_ (¬1) رقم (1564). (¬2) رقم (1016). (¬3) في المطبوعة "زيد" تصحيف. (¬4) (3/ 61).

حال القاسم بن مخيمرة

تعقَّبه الخطيب (¬1) فقال: "روى الكوفيون أحاديث عبد الرحمن بن يزيد بن تميم عن ابن جابر، وَهِمُوا في ذلك، فالحمل عليهم، ولم يكن ابن تميم ثقة" اهـ. وفي "الميزان" (¬2): لم أر أحدًا ذكره في الضعفاء غير أبي عبد الله البخاري، فإنه ذكره في الكتاب الكبير في الضعفاء, فما ذكر شيئًا يدل على ضعفه أصلاً ... إلخ. [ص 81] وفيه القاسم بن مُخَيمرة عن أبي سعيد. **** حال القاسم بن مُخَيمرة في "تهذيب التهذيب" (¬3) - أول ترجمته -: روى عن عبد الله بن عَمْرو بن العاص، وأبي سعيد الخدري، وأبي أمامة ... إلخ. ثم ذكر عن يحيى بن معين أنه قال: لم نسمع أنه سمع من أحد من الصحابة. وقال في آخر ترجمته: قال ابن حبان: سأل عائشة عما يلبس المحرم. اهـ. أقول: لم أجد فرصةً لتفتيش كتب الحديث لتحقيق سماع القاسم من ¬

_ (¬1) في "تاريخ بغداد": (10/ 212). (¬2) (3/ 312 - 313). (¬3) (8/ 327).

أبي سعيد، لكنه عاصره قطعًا، فقد ثبت بما قاله ابن حبان أن القاسم أدرك عائشة وسألها, وقد كانت وفاتها سنة (57)، فإدراكه لأبي سعيد بيِّن واضح؛ لأن أقل ما قيل في وفاة أبي سعيد أنها سنة (63)، وأكثره سنة (74)، ووفاة القاسم على ما ذكر ابن سعد في "الطبقات" (¬1) في خلافة عمر بن عبد العزيز، أي سنة (100) تقريبًا (¬2). وثبت بسؤاله لعائشة زيارته للحرمين، وذكروا أنه سكن دمشق، وقد وصل أبو سعيد إلى دمشق، وقد كان التابعون - ولا سيما أهل العلم - حريصين على لقاء أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم والأخذ عنهم، فلقاء القاسم لأبي سعيد مظنون، وبما أنه روى عنه بالعنعنة وهو ثقة غير مدلس، ولا معروف بالإرسال الخفي، فالظاهر السماع، وإن لم يعلم صريحًا، فعدم العلم ليس علمًا بالعدم. ... ¬

_ (¬1) (8/ 419). (¬2) انظر "تحفة التحصيل": (ص 414). وقال البوصيري في "مصباح الزجاجة": (1/ 277) في الكلام على هذا الحديث: "منقطع؛ لأن القاسم لم يسمع من أبي سعيد".

[بحث شرط اللقاء]

[بحث شرط اللقاء] [82] ولي بحثٌ في اشتراط اللقاء أحببت أن ألخِّصه هنا، فأقول: الأصل في الرواية أن تكون عما شاهده الراوي أو أدركه، فتأمل هذا، وافرض أمثلة بريئة عن القرائن من الطرفين: كأن تكون ببلدة، فتسمع برجل غريب جاءها، وبعد أيام تلقاه، فيخبرك عن أناس من أهل تلك البلدة: أن فلانًا قال كذا، وفلانًا قال كذا، من دون أن يصرح بسماع، ولا علمت لقاءه لهم، ولكنك تعتقد أنه لا مانع له من لقائهم. ثم توسَّع في الأمثلة ولاحِظ أنها واقعة في عصر التابعين، حين لا برق ولا بريد ولا صحافة ولا تأليف، وإنما كان يُتَلقّى العلم من الأفواه، والناس مشمِّرون لطلب العلم، ولا سيما للقاء أصحاب نبيهم صلَّى الله عليه وآله وسلم. ثم لاحِظ أنه لم يكن يوجد منهم إلا نادرًا من لم يزر الحرمين، وفيهما يمكن اجتماع الراوي بالمروي عنه، إذا كانا متعاصِرَين. وبهذا يندفع ما يوهمه تباعد البلدين من عدم اللقاء. فإذا كان الحال ما ذُكِر، وثبت أن أحد المتعاصِرَين روى عن الآخر بلا تصريحٍ بسماع ولا عدمه، كان المتبادر السماع، فكيف إذا لاحظت أن كثيرًا من السلف كان يزور الحرمين كلَّ عام، فكيف إذا كان أحدهما ساكن أحد الحرمين، فكيف إذا ثبت أن الآخر زارهما؟ وكذا إذا كان أحد الشخصين ببلدٍ قد زاره الآخر، فأما إذا كانا ساكنين بلدًا واحدًا، فإنه يكاد يقطع باللقاء. وزد على هذا أن الإسناد كان شائعًا في عهد السلف، لا تكاد تجد أحدًا إلا وهو يقول: عن فلان أن فلانًا أخبره عن فلان، مثلاً، مع أن السلف كانوا

أهل تثبُّت واحتياط. [ص 83] إذا تقرر هذا، فما المانع من الأخذ بهذه الدلالة الظاهرة المحصّلة للظن، المستوفية لنصاب الحجية؟ إن قيل: كان اصطلاح السلف خلاف ما يقتضيه الأصل، بدليل شيوع الإرسال فيهم. قلت: أما الإرسال الجلي فمُسَلَّم، ولكن أقل من الإسناد، كما يعلم بالاستقراء، فهو كالمجاز، لا يقدح شيوعه في تقديم الحقيقة عليه. وأما الخفيّ؛ فقليلٌ، حتى إنه أقل من التدليس. فإن قيل: فإن ذهاب ابن المديني والبخاري رحمهما الله تعالى إلى اشتراط اللقاء، يدل على شيوع الإرسال الخفي في السلف. قلت: الاستقراء أقوى من هذا الاستدلال، مع أن مسلمًا رحمه الله نقل في مقدمة صحيحه الإجماع على عدم اشتراط اللقاء، أي: قبلهما، كما أشار إليه بالتشنيع على بعض معاصريه. فقيل: إنه أراد به البخاري، ولا مانع من أن يريده وشيخه ابن المديني، فقد كان أيضًا معاصرًا له، فلا يخدش خلافهما وخلاف من عاصرهما أو تبعهما في الإجماع السابق. على أن أقل ما يثبت بنقل مسلم أن الغالب في عهد السلف أن تكون الرواية على السماع، والبخاري وشيخه لا ينكران أن الظاهر من الرواية السماع، بدليل تصحيحهما لعنعنة الملاقي غير المدلس، فلولا وفاقهما على أنّ الظاهر من الرواية السماع، لكانا إنما يعتمدان مجرَّد اللقاء، فيلزمهما أن

يثبتا لكل من لقي شخصًا أنه سمع منه جميع حديثه، وهذا كما ترى. [ص 84] وإنما اشترطا ثبوت اللقاء؛ لأن الدلالة معه تكون أقوى وأظهر، وهذا صحيح غالبًا, ولكنه لا يقتضي إهدار الدلالة الحاصلة مع عدم ثبوت اللقاء، ما دامت دلالة ظاهرة محصَّلة للظن، مستكملةً النصاب كما مر. قد ألزمهما مسلم رحمهم الله عدم تصحيح المعنعن أصلًا؛ لأنه كما أن عنعنة من لم يثبت لقاؤه تحتمل عدم السماع، فكذلك من ثبت لقاؤه. وأجيب: بأن احتمال السماع في الثاني أقوى. ويردُّ: بأن احتمال السماع في الأول قويٌّ ظاهرٌ محصلٌ للظن، فلا عبرة بزيادة الثاني، إذ هي زيادة على النصاب، مع أن لنا أمورًا تجبر هذه الزيادة: منها: قلة الإرسال الخفي في السلف. ومنها: أنه أقبح وأشنع من التدليس، كما سيأتي. فالثقة أشد تباعدًا عنه، تدينًا وخوفًا من نقد النقاد الذين كانوا يومئذٍ بالمرصاد، بخلاف التدليس، فإنه أشد خفاءً على الناقد. وأجيب أيضًا: بأن احتمال العنعنة لعدم السماع مع ثبوت اللقاء، اتهامٌ للراوي بالتدليس، والفرض سلامته منه، بخلاف احتمالها له مع عدم ثبوت اللقاء، فإنما فيه اتهامه بالإرسال الخفي فقط. ويردُّ: بأنه قد نقل محققون من أهل الفن أن الإرسال الخفي تدليسٌ، منهم ابن الصلاح والنووي والعراقي، وقال: إنه المشهور بين أهل العلم بالحديث.

ولنا بحث في تحقيق ذلك، والإجابة عما ذكره [ص 85] الحافظ رحمه الله، لا حاجة لإثباته هنا؛ لأن الخلاف لفظي، للاتفاق على أن في الإرسال الخفي إيهامًا، فاتهام الراوي به كاتهامه بالتدليس، فإذا اتهمتم الراوي بأنه يرسل خفيًّا - وإن لم يوصف به - فليزمكم أن تتهموا الراوي بأنه يدلس وإن لم يوصَف به. فإن قلتم: إن الأصل في الثقة عدم التدليس؟ قلنا: وكذا الإرسال الخفي. فإن قلتم: الإيهام في الإرسال الخفي أضعف منه في التدليس، فهو أقرب إلى اتصاف الثقة به. قلنا: مُسَلَّم غالبًا, ولكن هذا لا يقتضي أن لا يكون الأصل في الثقة عدمه، ما دام فيه إيهامٌ وتغرير وغشٌّ منافٍ لكمال الثقة، مع أن الإيهام في الإرسال الخفي لأمرين، كلاهما خلاف الواقع: السماع لذلك الحديث، واللقاء. بخلاف التدليس، فإنه وإن دل على الأمرين، فاللقاء موافقٌ للواقع، فتبين أن الإرسال الخفي أقبح وأشنع من التدليس، كما قاله ابن عبد البر في "التمهيد" (¬1)، ونحوه ليعقوب بن شيبة. انظر "فتح المغيث" (¬2) (ص 74 - 75). وعليه، فالثقة أشدّ بعدًا عنه؛ تدينًا وخوفًا من نقد النقاد، كما مرّ. ¬

_ (¬1) (1/ 27 - 28). (¬2) (1/ 210 - 211).

فإذا اتهمتم الثقة به من غير أن يوصَفَ به، لزمكم من باب أولى اتهام الثقة بالتدليس، وإن لم يوصَف به. فإن قيل: لعل السامع يكون عالمًا بعدم اللقاء، فلا إيهام، فلا إرسال خفيًّا. [ص 86] قلنا: وكذلك لعل السامع يكون عالمًا بعدم السماع مطلقًا، أو لذلك الحديث، فلا إيهام، فلا تدليس. والتحقيق: أنه لو كان الراوي يعلم بعدم اللقاء، أو عدم السماع، وهو ثقةٌ غير مدلس، لبينه لمن يأخذ عنه، ولو فُرِضَ أن الثاني كان عالمًا بذلك، فاستغنى عن التبيين، فيلزم الثاني أن يبينه للثالث، وهكذا. فإذا جاءنا الحديث من رواية الثقات غير الموصوفين بالتدليس، أو الإرسال الخفي إلى ثقةٍ كذلك روى بالعنعنة عمّن عاصره، وأمكن لقاؤه له، ولم ينص أحدٌ من رجال السند ولا غيرهم على عدم اللقاء، فهو كما جاءنا الحديث من رواية الثقات غير الموصوفين بالتدليس إلى ثقة كذلك روى بالعنعنة عمّن لقيه، وأمكن سماعه لذلك الحديث منه، ولم ينصّ أحدٌ من رجال السند أو غيرهم على عدم السماع، ففي قبول الأول احتمال اللقاء والسماع، وفي رده اتهام الثقة بإيهام اللقاء والسماع، وفي قبول الثاني احتمال السماع فقط، وفي ردّه اتهام الثقة بإيهام السماع فقط، فهذه بتلك. فإذا لاحَظْنا قلة الإرسال الخفي في السلف، واعتيادهم [ص 87] للإسناد، وخوفهم من نقد النقاد، كان الأمر أوضح، فكيف إذا اعتبرنا القرائن الدالة على اللقاء، كما سبق بيانها أول البحث؟

فالمختار ما قاله مسلم رحمه الله: أن ثبوت اللقاء ليس بشرط الصحة. ولم نختره لما ذكره من الإجماع والإلزام، بل لما قدمنا أن الدلالة حينئذٍ دلالة ظاهرة، محصَّلة للظن، مستكملة لنصاب الحجِّية. والله أعلم. وقد رأيت عن الحافظ رحمه الله ما يوافق ما قلنا. قال تلميذه السخاوي في "فتح المغيث" (¬1) (ص 62): "ولكن قيَّده ابنُ الصيرفي بأن يكون صرح بالتحديث ونحوه. أما إذا قال: عن رجل من الصحابة، وما أشبه ذلك، فلا يقبل. قال: لأني لا أعلم أسَمِعَ ذلك التابع منه، أم لا؟ إذ قد يُحَدَّث التابعي عن رجل وعن رجلين عن الصحابي، ولا أدري هل أمكن لقاء ذلك الرجل، أم لا؟ فلو علمت إمكانه فيه لجعلته كمدرك العصر. قال الناظم (العراقي): وهو حَسَن مُتَّجِه، وكلام من أطلق محمولٌ عليه. وتوقَّف شيخُنا (الحافظ) في ذلك؛ لأن التابعي إذا كان سالمًا من التدليس حُمِلَت عنعنته على السماع، وهو ظاهر. قال: ولا يقال: إنما يتأتَّى هذا [ص 88] في حقِّ كبار التابعين الذين جُلّ روايتهم عن الصحابة، بلا واسطة. وأما صغار التابعين الذين جُلّ روايتهم عن التابعين، فلا بد من تحقُّق إدراكه لذلك الصحابي، والفرض أنه لم يسمعه حتى نعلم هل أدركه، أم لا؟ لأنا نقول: سلامته من التدليس كافية في ذلك، إذ مدار هذا على قوة الظن، وهي حاصلةٌ في هذا المقام" اهـ. ¬

_ (¬1) (1/ 178).

أقول: وإذا كان هذا مع احتمال عدم إدراك المعنعن للصحابي، فضلاً عن لقائه، ففي مسألتنا أولى وأظهر؛ لأنه قد ثبت الإدراك، وربما قامت عدة قرائن تدل على اللقاء، كم مر. والعجب من الحافظ رحمه الله، كيف مشى معهم في ترجيح ردِّ عنعنة من عُلِمت معاصرته دون لقائه، ولو مع قيام القرائن على اللقاء. وتوقف عن ردّها، بل احتجّ لقبولها في حق من لم تُعْلَم معاصرته أصلاً، فسبحان من له الكمال المطلق! وإنما ذكرنا هذا، ليعلم صحة ما ذكرناه: من أن الدلالة ظاهرةٌ مستكملةٌ نصاب الحجية. والله أعلم. ***

[حديث أم سلمة]

[حديث أم سلمة] [ص 89] الإِمام أحمد "مسند" (¬1) (جزء 6/ ص 299): ثنا حسن ثنا ابن لهيعة ثنا يزيد بن أبي حبيب عن ناعم مولى أم سلمة عن أم سلمة قالت: "نهى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم أن يُبْنى على القبر أو يُجَصَّص". ثنا علي بن إسحاق ثنا عبد الله أخبرنا ابن لهيعة حدثني يزيد بن أبي حبيب عن ناعم مولي أم سلمة: "أن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم نهى أن يُجَصَّص قبر، أو يُبنى عليه، أو يُجْلَس عليه". قال أبي: ليس فيه أم سلمة. اهـ. وهذه الجملة: "قال أبي ... " إلخ، من قول عبد الله بن الإِمام أحمد. أقول: في ابن لهيعة كلام كثيرٌ. فأطلق بعضُهم الثناء عليه، وقال جماعةٌ، منهم ابن مهدي، والإمام أحمد، وأحمد بن صالح: سماع المتقدمين عنه صحيح. وقال الحافظ عبد الغني والساجي: إذا روى العبادلة عن ابن لهيعة فهو صحيح. وقال أحمد بن صالح: كان ابن لهيعة صحيح الكتاب، طلّابًا للعلم. وقال أبو زُرْعة: سماع الأوائل والأواخر منه سواء، إلا ابن المبارك وابن وهب، كانا يتتبعان أصولَه، وليس ممن يحتجُّ به. ¬

_ (¬1) رقم (26566, 26567).

[ص 90] وأطلق جماعةٌ توهينه. وقال ابن معين: هو ضعيف، قبل أن تحترق كتبه، وبعد احتراقها. وفَصْل الخطاب في حقه ما ذكره الذهبي في "الميزان" (¬1). قال: "قال ابن حبان: قد سبرتُ أخباره من رواية المتقدمين والمتأخرين، فرأيت التخليط في رواية المتأخرين عنه موجودًا، وما لا أصل له في رواية المتقدمين كثيرًا، فرجعت إلى الاعتبار، فرأيته كان يدلس عن أقوام ضعفاء، على أقوام رآهم ابن لهيعة ثقات، فألزق تلك الموضوعات بهم". اهـ. أقول: فكأنَّ مَنْ أطلق الثناءَ عليه نَظَر إلى صِدْقه وعدالته، وسَعة علمه. ومن قال بصحة سماع المتقدمين، نظر إلى أن الرجل كان ضابطًا حينئذٍ، فالسماع منه صحيح، وإن كان يدلس. ومن خصَّ العبادلة، فلأنهم من المتقدِّمين المتحَرَّين. وأما أبو زُرْعة؛ فكأنه علم أن كتابه صحيح، كما قال أحمد بن صالح، فصحَّح سماع من كان يتبع أصوله. ولما رأى أن ما لا أصل له كثيرٌ في رواية المتقدمين، أي ممن لم يتبع كتابه، ظهر له أن الرجل لم يكن ضابطًا أولاً وآخرًا، فأطلق قوله: "وليس ممن يحتج به"، ولو اعتبر كما اعتبر ابن حبان لظهر له ما ظهر له. [ص 91] وأما من أطلق التوهين؛ فنظر إلى الظاهر، ولم يعتبر. وعلى كل حال، فلم يتكلم أحدٌ في صحة كتابه، وقد صرح الجمهور بأنه صحيح، وتدليسه عن الضعفاء لا يقدح في صحة كتابه، مع أن الظاهر أنه ¬

_ (¬1) (3/ 189 - 197).

لم يكن يعلم بضعفهم، مع أنهم قد وثقوا كثيرًا ممن كان يدلس عن الضعفاء, كما يُعْلَم بمراجعة تراجم المدلّسين، انظر ترجمة "بقية" في "الميزان" (¬1). إذا تقرر هذا، فالرواية الأولى لحديث الباب، وهي الموصولة، هي من رواية المتأخرين عن ابن لهيعة، فهي ضعيفة. والرواية الثانية هي المرسلة، من رواية عبد الله وهو ابن المبارك وهو من المتقدمين، ومن العبادلة، وممن كان يتتبع أصول ابن لهيعة، وقد صرح بالسماع من ابن لهيعة، فهي صحيحة. فالزيادة والنقص في سند الرواية الأولى ومتنها من تخليط المتأخرين، والرواية الثانية هي الصحيحة, فالحديث مرسلٌ صحيحٌ. وناعم مع إدراكه كثيرًا من الصحابة، قليل الحديث، لم يحدث إلا عن مولاته أم سلمة (¬2)، فالظاهر أن إرساله مما سمع من الصحابة. ... ¬

_ (¬1) (1/ 331). (¬2) زاد في النسخة الأخرى: "وعن عبد الله بن عَمرو".

آثار

[ص 93] آثار (¬1) البخاري تعليقًا (¬2): "ورأى ابن عمر رضي الله عنه فُسطاطًا على قبر عبد الرحمن، فقال: انزعه يا غلام، فإنما يظله عمله" اهـ. البيهقي في "السنن" (¬3): "وروينا عن أبي موسى في وصيته: "ولا تجعلن على قبري بناءً"، وعن أبي سعيد الخدري: "لا تضربن عليّ فسطاطًا"، وعن أبي هريرة كذلك" اهـ. ... ¬

_ (¬1) قال المؤلف في أول الورقة (93) بعد أن ساق أحاديث: "ينقل إلى الفصل الأول، ويجعل ههنا حديث: لا تجعلوا بيوتكم مقابر". لكنه لم يذكر هذا الحديث في الرسالة لا في هذه النسخة ولا في (المسوّدة). (¬2) (2/ 95 - الميرية). كتاب الجنائز باب الجريد على القبر. (¬3) (4/ 4).

الأحكام المستنبطة من هذه الأدلة

[ص 94] الأحكام المستنبطة من هذه الأدلة - مُعلَّق البخاري في القصة المروية عن زوجة الحسن بن الحسن: قد علمت مما تقدم أن القصة لم تصح عندنا, ولا نظنها تصحِ، ولو صحَّت لكان فيها ما يُستأنس به لمنع ذلك الفعل، وهو ما فيها عن الهاتِفيْن. وعلى كل حال، فهذه القصة لا ينبغي أن يقام لها وزنٌ أصلاً، فلو صحت ولم يرد فيها ما يدل على المنع لما كانت دليلًا على الجواز، إذ ليست من الأدلة الشرعية في شيء. - معلق البخاري عن خارجة: قد سبق الطعن في صحته من خمسة أوجه (¬1)، وعلى فرض صحته، فيجاب عنه بوجوه: الأول: أنه إذا ثبت أن عُمُرَ خارجةَ حين قُتِل عثمان كان نحو خمس سنين، وحُمِل قوله: "شبَّان" على المجاز، بقرينة تقدُّم قوله: "غلمان" عليها، أطلق الشباب على ما يقابل الصغر المُفْرِط، فلا دلالة في الأثر على ارتفاع القبر؛ لأن الغلام الذي عمره نحو خمس سنين مهما كانت قوته يشق عليه وَثْب نحو ثلاثة أذرع على وجه الأرض، وهذا تقريبًا هو عرض القبر، فإذا لاحظنا أن القبر كان مُسنَّمًا نحو شبر ازداد الأمر وضوحًا. ووهم من قال: إن البخاري فهم منه الرفع، وأنه لذلك ساقه في باب الجريد على القبر؛ لأن الرفع يستلزم زيادة تراب أو حَجَر على القبر، وذلك ¬

_ (¬1) (ص 48 - 49).

يدلّ على جواز وضع الجريد في الجملة (¬1). وهذا وهمٌ ظاهرٌ، ما كان على صاحبه إلا أن ينظر ما في ذِكْر البخاري بعد هذا الأثر، وهذه عبارته بعد قوله: "حتى يجاوزه": "وقال عثمان بن حكيم: أخذ بيدي خارجةُ، فأجلسني على قبر، وأخبرني عن عمّه يزيد بن ثابت قال: إنما كُرِه ذلك لمن أحدث عليه. وقال نافع: كان ابن عمر رضي الله عنهما يجلس على القبور". اهـ. فواضح جدًّا أنَّ البخاري إنما ذكر هذه الآثار لدلالتها، [ص 95] وفهم من هذا الأثر أن خارجة ذكره - كالذي بعده - مستدلًّا على جواز الجلوس على القبر: أنهم كانوا يتواثبون على قبر عثمان بن مظعون، أي: ولم ينههم من رآهم من الصحابة، مع أنهم غلمان شُبَّان، أي: مميزون بحيث ينبغي زجرهم عما يخالف الآداب الشرعية. وهذا تقريرٌ للاستدلال، أي: لأنهم لو كانوا صغارًا جدًّا، يحتمل أن من يراهم من الصحابة يعرض عنهم, لأنهم لم يبلغوا حدَّ التمييز، فأما بعد بلوغ حدّ التمييز فإنه يبعد أن يراهم أحدىٌ، ويسكت عنهم. فأما إيراد البخاري هذه الآثار في باب الجريد على القبر، فلأنه - والله أعلم - لم يصحَّ على شرطه حديثٌ (¬2) في الجلوس على القبر، فرأى أن وضع الجريد على القبر يدل على جواز الجلوس؛ لأن الجلوس هو عبارة ¬

_ (¬1) لعل المؤلف قصد الحافظ في "فتح الباري": (3/ 265) إذ قال: "ومناسبته من وجه أن وضع الجريد على القبر يرشد إلى جواز وضع ما يرتفع به ظهر القبر عن الأرض" اهـ. (¬2) تحتمل في الأصل: "حديثها"، والمثبت أصح.

عن وضع شيءٍ على القبر، وذكر هذه الآثار في هذا الباب استئناسًا بها، وليشير بها إلى الاستدلال بوضع الجريد على الجلوس. الثاني: إذا فرض صحة الأثر، وعدم صحة ما ذكره ابن سعد وابن عساكر، وحمل قوله: "غلمان شبان" على أنهم مقاربون الشباب، فليس في الأثر أنهم كانوا يثبون القبر عرضًا، فهو محتمل لأن يكون الوثب طولاً، ووثب القبر طولًا يشق على ابن الثماني سنين ونحوها, ولو لم يكن مرتفعًا عن وجه الأرض. فإذا لاحظنا أنه كان مرفوعًا نحو شبر ازداد هذا الوجه قوةً. الثالث: لو فُرض - زيادةً على ما مر - دلالة الأثر على أن القبر كان مرفوعًا، فلا يُدْرَى من رفعه، مع أنه قد ورد في قبر عثمان بن مظعون نفسه ما يدلُّ على أن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم جعله بحيث خيف انطماسه في مدة قليلة، حتى احتاج إلى وضع حجر عند رأسه، وقال: "أُعَلِّم بها قبر أخي" (¬1). بل الظاهر من ذلك أنه جعله مساويًا للأرض، كما مر في الفصل الأول (¬2). وقد روي عن الصحابة النهي عن الرفع، والأمر بالهدم، فيبعد أن يفعله أحدٌ منهم. [ص 96] الرابع: لو فُرِض مع ما مر أن الرافع رجلٌ من الصحابة، فليس في فعل الصحابي حجةٌ، ولم يكن القبر ظاهرًا لجميع الناس حتى يدَّعَى ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه (ص 23 - 24). (¬2) (ص 28 وما بعدها).

الإجماع. الخامس: لو فُرض مع ما مر أنه كان ظاهرًا، فالصحابة رضي الله عنهم في مدة عثمان وبعده كانوا متفرقين في البلاد، مشغولين بالفتن والمحن والإحن. السادس: لو فُرض مع ما مر أنهم كانوا مجتمعين، فقد صحّ عن كثير منهم رواية النهي عن ذلك، وصح عنهم العمل بموجبه كما مر، وهذا كافٍ في نفي الإجماع. السابع: لو فُرض مع ما مرَّ أنه لم يرد ما ينفي الإجماع، ففي حُجّيته خلافٌ مشهور. الثامن: لو فُرض مع ما مر تسليم حجية الإجماع، فبشرط أن يعلم، ولا سبيل إلى ذلك كما هو مقررٌ في الأصول. التاسع: لو فُرض مع ما مر أنه لا يشترط العلم به، بل يُكتفى بأنه لم يُنْقل ما يخالفه، فإنما يكون حجة إذا لم يَرِد في كتاب الله عزَّ وجلّ، أو سنة رسوله صلَّى الله عليه وآله وسلم ما يخالفه. وهذا هو الثابت عن عمر وعبد الله وغيرهما، وعن الشافعي وأحمد وغيرهما، انظر باب [] (¬1) في "الأم". وذلك أن احتمال وجود مخالف لقول من قبلنا لم ينقل قوله، أقوى من احتمال كون النص على خلاف ظاهره, فضلًا عن احتمال النسخ، فضلاً عن احتمال كون الحديث الثابت بالإسناد كذبًا. ¬

_ (¬1) كذا تركه المؤلف بياضًا.

خلاصة حديث فضالة

فهذه أربعة عشر وجهًا في سقوط الاحتجاج بهذا الأثر، فمن لم يكتف بها فإنه لا يكتفي إلا بالسوط، فإلا يكن فعذاب الآخرة أشد وأبقى. قال الله تبارك وتعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25]. خلاصة حديث فضالة (¬1): أن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم كان يأمرهم أن يجعلوا القبور على الهيئة المشروعة التي قررها لهم، وأن هذه الهيئة منافية لتكثير التراب. ¬

_ (¬1) هذه الخلاصة ذكرها المؤلف في الفصل الأول وقال: "تنقل الخلاصة إلى الفصل الثاني".

الفصل الثالث شرح حديث علي رضي الله عنه

الفصل الثالث شرح حديث علي رضي الله عنه قد مر معنى التسوية في حديث فَضَالة (¬1)، والإشراف: هو الارتفاع. وما زعمه بعضهم أنه يحتمل أن يراد بـ "مشرف": مسنّم أخذًا من شَرَف البعير، أي: سنامه، فلا وجه له؛ لأنه لم يُسْمَع اشتقاق فعل من "شرف البعير"، ولو سُمِع لكان إطلاقه على القبر مجازًا، والأصل الحقيقة. وقد ورد إطلاقه على القبر في حديث القاسم المار في الفصل الأول، وفيه: "فكشفت لي عن ثلاثة قبور، لا مشرفة، ولا لاطئة" (¬2). مع أنه قد مرَّت أدلة قاضية بأن السنة هي التسنيم، فكيف يؤمر بإزالته؟! بقي ما قيل: إن الظاهر أن تلك القبور قبور كفار، ويدل عليه ذِكْر الصنم. والجواب: أنَّ هذا وإن احْتُمل في بعث النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم لعلي رضي الله عنه، لا يحتمل في بعث علي لصاحب شُرْطَته؛ لأن عليًّا رضي الله عنه كان بالكوفة، وبَعْثه لعامل شرطته إنما يكون في الكوفة نفسها؛ لأن عامل الشرطة إنما يؤمر على ما يقرب من الأمير، والكوفة إنما بُنيت في الإِسلام، فالقبور التي فيها إن لم يكن كلها قبور مسلمين فغالبها، فأَمْر عليّ بتسويتها مطلقًا يدل أبلغ دلالة على أحد أمرين: ¬

_ (¬1) (ص 26 وما بعدها). وحديث عليّ تقدم (ص 50). (¬2) تقدم تخريجه.

1 - أن يكون في القبور التي بعثه رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم بتسويتها قبور مسلمين ماتوا قبل مقدمه صلَّى الله عليه وآله وسلم، فدُفِنوا ورُفِعت قبورهم. وربما يستأنس لهذا بما في رواية أبي محمَّد الهذلي: "أن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم كان في جنازة حين بعث عليًّا" (¬1)، فيشبه أن يكون صلَّى الله عليه وآله وسلم علَّم أصحابه أن لا يرفعوا القبر الذي هو حنيئذٍ حاضر الدفن فيه، فأُخْبِر بأنهم رفعوا قبور الذين ماتوا من المسلمين قبل مقدمه، عملًا بعادتهم في رفع القبور، فبعث عليًّا لتسويتها مع غيرها. 2 - أن يكون عَلِم من النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم أنه لا فرق في وجوب التسوية، ولا أصرح في عدم الفرق من قوله: "أبعثُك على ما بعثني عليه رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم"، وعليٌّ رضي الله عنه هو الذي تلقى الأمر من النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم، فهو أعلم بحقيقته. ولا يخفى أن الإشراف هنا المراد به الارتفاع فوق الشبر، لمقابلته بالتسوية، والتسوية: جعله على الهيئة المشروعة، ومن الهيئة المشروعة: الرفع نحو شبر فقط، وسواءٌ أكان الإشراف بتراب، أو رمل، أو حصى، [ص 98] أو حَجَر أو مدر، أو خشب، كالتوابيت، أو غير ذلك. ومنه البناء الذي يكون على جوانب القبر القريبة، بحيث يطلق على البناء قبر، وما لم يتناوله الإشراف بعمومه من الأشياء الزائدة على الهيئة الشرعية التي مرَّ بيانُها في خاتمة الفضل الثاني، فإنه يتناولها الدليل بطريق القياس. ¬

_ (¬1) في "مسند أحمد" رقم (1176). وقد سبقت (ص 67 - 68).

فكل قبر أُخْرِج عن الهيئة المشروعة فهو مأمور بتسويته، أي: بردَّه إلى الهيئة المشروعة. وقد قال قائل (¬1): ليت شعري! لو كان المقصود من القبور التي أمر عليّ عليه السلام بتسويتها، هي عامة القبور على الإطلاق، فأين كان عليه السلام - وهو الحاكم المطلق يومئذٍ - عن قبور الأنبياء التي كانت مشيَّدة على عهده، ولا تزال مشيَّدة إلى اليوم في فلسطين وسورية، والعراق، وإيران .. الخ. والجواب: أن هذا كذبٌ من ثلاثة أوجه: الأول: إثبات معرفة قبور الأنبياء، وقد مر أنه لا يُعْلَم قبر أحد منهم غير نبينا صلَّى الله عليه وآله وسلم. الثاني: إثبات البناء على قبورهم في عهد عليّ رضي الله عنه، وهذا لا يثبت، وإنما كان في الكوفة شيءٌ من ذلك من فِعْل الأعاجم القريبي عهد بالإِسلام، فأمر رضي الله عنه بإزالته، ولو ثبت وجود شيءٍ يومئذٍ في غير الكوفة، فلم يعلم به رضي الله عنه، ولم يَفْرَع للبحث عن ذلك. الثالث: إدخال سورية وفلسطين تحت حكم عليّ رضي الله عنه، ولا أصرح من هذا الكذب؛ إذ هو صادرٌ من رجلٍ شيعي يستحيل أن يجهل من تاريخ أمير المؤمنين رضي الله عنه ما يتعلق بأساس التشيع، بل لا يكاد يوجد عاقلٌ - فضلاً عن مسلم - إلا وهو عالمٌ أن الشام كانت بيد معاوية. ¬

_ (¬1) نقله حسن الصدر في "الرد على فتاوى الوهابية" (ص 74) عن بعض المعاصرين من الرافضة.

ثبت الأمر بأن تُرَدّ القبور إلى الهيئة المشروعة إذا جعلت على خلافها. ابن حبيب: قد تقدم أنه إذا صح، كان قوله: "بالأرض" من زيادة بعض الرواة. والله أعلم. وفيه أن عمر رضي الله عنه كان مُحْييًا لهذه السنة. أثر عثمان: فيه أن عثمان كان عاملًا بهذه الأدلة. فكان هذا الحكم قائمًا معمولًا به في عصر الخلفاء الراشدين. والله أعلم. [ص 99] حديث جابر وأبي سعيد وناعم: فيها النهي عن البناء على القبر وتجصيصه، والجلوس عليه. وفي حديث جابر: النهي عن الزيادة عليه والكتابة. ****

الكتابة

الكتابة بعد أن صححها الحاكم على شرط مسلم قال: "وليس العمل عليها، فإن أئمة المسلمين من الشرق إلى الغرب مكتوبٌ على قبورهم، وهو عملٌ أخذ به الخلف عن السلف" (¬1). اهـ. تعقبه الذهبي فقال: ما قلتَ طائلًا, ولا نعلم صحابيًّا فعل ذلك، وإنما هو شيءٌ أحدثه بعض التابعين، فمن بعدهم، ولم يبلغهم النهي. اهـ. وتعقبه ابن حجر الهيتمي (¬2) بقوله: "ويُردّ بمنع هذه الكلية وبفَرْضها، فالبناء على قبورهم أكثر من الكتابة عليها في المقابر المُسَبَّلة، كما هو مشاهد، لا سيما بالحرمين ومصر ونحوها، وقد علموا بالنهي، فكذا هي. فإن قلت: هو إجماعٌ فِعْلي، فهو حجة كما صرَّحوا به. قلت: ممنوعٌ، بل هو أكثريٌّ فقط، إذ لم يُحْفَظ ذلك حتى عن العلماء الذين [لا] (¬3) يرون منعه. وبفرض كونه إجماعًا فعليًّا، فمحل حجيته - كما هو ظاهر - إنما هو عند صلاح الأزمنة، بحيث ينفَّذ فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد تعطَّل ذلك منذ أزمنة" (¬4). اهـ. ¬

_ (¬1) "المستدرك": (1/ 370) ووقع في الأصل: "السلف عن الخلف" سبق قلم. وكلام الذهبي في "تلخيص المستدرك" بهامشه. (¬2) في "تحفة المحتاج": (3/ 197 مع حواشي الشرواني والعبادي). (¬3) زيادة يستقيم بها السياق. (¬4) وقال المؤلف معلقًا على كلام ابن حجر في المسوّدة الثانية (ص 53 - 56) ما نصّه: "أقول: وهذا صحيح، وقد مضت عدة قرون لا تكاد تسمع فيها بعالم قائم بالمعروف لا يخاف في الله لومة لائم، بل لا تجد رجلاً من أهل العلم إلا وهو حافظ لحديث: "حتى إذا رأيت هوى متَّبعًا وشُحًّا مطاعًا وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخويصة =

أقول: النهي عن الكتابة لم يرد إلا في الروايات التي عنعن فيها ابن جُريج، وهو مدلّس كما تقدم، ولكن يؤخذ النهي عنها من الأحاديث بطريق القياس. **** ¬

_ = نفسك ودع عنك أمر العامة" يعتذر به عن نفسه ويعذل به من رآه يتعرّض لإنكار شيءٍ من المنكر. وقد وُجد ذلك في آخر عصر الصحابة بعد الثلاثين سنة, فكان أبو سعيد الخدري رضي الله عنه واحد عصره في التجاسُر على إنكار المنكر بقدْرِ الإمكان، حتى شدّد في ذلك عبد الملك بن مروان، خطب على منبر وقال: "والله لا يقول لي أحدٌ: اتق الله، إلا ضربت عنقه ... " ثم توارثها الملوك والأمراء إلا مَن شاء الله. ولهذا عَظم عند الناس ابن طاووس وعمرو بن عبيد وغيرهما ممن كان يتجاسر على النهي عن المنكر. وعلى كل حال فالمعروفون من العلماء بذلك أفراد يعدون بالأصابع والجمهور ساكتون. وأما في القرون المتأخرة فشاعت المنكرات بين الملوك والأمراء والعلماء والعامة ولم يبق إلا أفراد قليلون لا يجسرون على شيء فإذا تحمّس أحدهم وقال كلمةً، قالت العامة: هذا مخالف للعلماء ولما عرفنا عليه الآباء. وقال العلماء: هذا خارق للإجماع مجاهر بالابتداع. وقال الملوك والأمراء: هذا رجل يريد إحداث الفِتن والاضطرابات، ومن المحال أن يكون الحق معه، وهؤلاء العلماء ومن تقدمهم على باطل، وعلى كلًّ فالمصلحة تقتضي زجره وتأديبه! وقال بقية الأفراد من المتمسكين بالحق: لقد خاطر بنفسه وعرّضها للهلاك، وكان يسعه ما وَسِع غيره! وهكذا تمَّت غُربة الدين، فإنا لله وإنا إليه راجعون!

الزيادة على القبر

[ص 100] الزيادة على القبر (قد مر الكلام عليها في الفصل الأول) (¬1). **** الجلوس على القبر اختلف فيه؛ فقال مالك ومن تبعه: لا بأس به (¬2). وتأولوا الأحاديث بأن المراد القعود لقضاء الحاجة، واستدلوا: أولاً: بأن في بعضها التقييد به، فحُمِلَ عليه الباقي، حملًا للمطلق على المقيد. وثانيًا: بحديث وضع الجريد على القبر، إذ هو وضع شيءٍ على القبر، فيقاس عليه الجلوس، كما أشار إليه البخاري، ونبهنا عليه في أثر خارجة (¬3). وثالثًا: بآثار رويت عن بعض الصحابة، أنهم كانوا يجلسون على القبور، ويقولون: إنما نُهِي عن القعود لقضاء الحاجة. وقد مرَّ بعض هذه الآثار, في أثر خارجة بن زيد (¬4). ¬

_ (¬1) (ص 44 - 45). (¬2) انظر "عقد الجواهر": (1/ 272)، و"مواهب الجليل": (2/ 75). (¬3) (ص 105 - 106). (¬4) (ص 105).

قالوا: وأما ما في بعض الروايات بلفظ: "وأن توطأ" فمِنْ تصرُّف الرواة، ظن الراوي أن النهي عن الجلوس على إطلاقه، فعبر بالوطء؛ لأنه أشد منه. وقال الجمهور: بل هو ممنوع (¬1). واستدلوا بالأحاديث المطلقة، وبحديث أحمد بإسنادٍ صحيح عن عَمْرو بن حزم قال: "رآني رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم متكئًا على قبر، فقال: لا تؤذِ صاحب هذا القبر، أو لا تؤذه" (¬2). فأما من لا يقول بحَمْل المطلق على المقيّد، فاستدلاله واضح. وأما من يقول بالحمل - كالشافعية - فيجاب من طرفهم بأنَّ حديث أحمد نصٌّ لا يحتمل التقييد؛ لأن الاتكاء لا يكون مع قضاء الحاجة. وعليه، فيتعين بقاء الأحاديث المطلقة على إطلاقها، كما هو المقرر في المطلق الدائر بين قيدين متضادين. انظر كتب الأصول. ويجاب عن القياس الذي أشار إليه البخاري: بأن لوضع الجريد حِكْمة خاصة، كما يعلم من الحديث، لا يعلم وجودها في غير الجريد، فلا يتم القياس، ولو فُرِض صحة القياس، فهو مصادم للنص بحديث أحمد. ويجاب عن الآثار المروية عن بعض الصحابة رضي الله عنهم: بأنها لا تصلح لمعارضة الدليل الثابت عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم، مع أننا لا ننكر أنهم لا يرون ما رأوه إلا متمسكين بدليل، ولكن ليس لنا أن نترك دليلًا قد علمناه وتحققناه، ونأخذ بدليل نظن أنهم ظنوه. ¬

_ (¬1) انظر "المغني": (3/ 516)، و"روضة الطالبين": (2/ 139). (¬2) أخرجه أحمد رقم (24009/ 39). قال الحافظ في "الفتح": (3/ 266): إسناده صحيح. وانظر "السلسلة الصحيحة" (2960).

هذا، مع أن قولهم معارضٌ بقول صحابة آخرين، كعَمْرو بن حزم. وقد يتأول الأولون حديث عَمْرو بن حزم بأن يقال: لعل المراد [ص 101] بصاحب القبر فيه وليّ المدفون، فإنه قد يتأذَّى من جلوس الأجنبي على قبر ميِّته، فيكون النهي إذًا لأجل تأذِّي الحي، لا لأجل القبر. ويُجاب عن هذا: بأنه خلاف الظاهر، مع أن القبور إنما كانت في ذلك العهد في غير الملك. وعليه، فإن كان تأذي الولي بمجرد أنه يرى أن قبر مَيِّته، كالمستحق له، فلا عبرة بذلك؛ لأن الاستحقاق إنما هو للميت، بالنظر لباطن الحفرة، فأما ظاهرها فإنه باقٍ على الإباحة على قضية مذهبكم. وإن كان لظنه أن في الاتكاء انتهاكًا لحرمة الميت، أو أنه يتأذى بذلك، فإما أن يكون ظنه خطأً، فلا عبرة به، وكان الأولى أن يبين الحال للأولياء بأن ذلك الظن باطل، مع أنكم لم تقيدوا الإباحة بما إذا لم يتأذَّ الحي، ولا نُقِل عمن كان يرى الإباحة من السلف ما يدل على هذا القيد. وإما أن يكون صوابًا، فيلزم أن يكون الاتكاء منهيًّا عنه لذاته، فرجعنا إلى المعنى الظاهر، فلم يبق فائدة لهذا التأويل، إلا تأكيد النهي، لدلالته على أن في الاتكاء إيذاء الحي والميت. وقد يتأولونه أيضًا بأنه لعله كان القبر قبرًا لبعض أقارب عَمْرو، فاتكأ عليه يبكي عليه، فيكون إيذاؤه للميت بالبكاء عليه، لما ورد "أن الميت يعذَّب ببكاء أهله" (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري رقم (1290)، ومسلم رقم (927) من حديث عمر. وأخرجه البخاري رقم (1286)، ومسلم رقم (928) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

والجواب: أن هذا خلاف الظاهر، فقول عَمْرو بن حزم: "على قبر" يدل أنه قبر مُطلق ليس له مزية تناسب النهي عن الاتكاء، ودعوى خلاف ذلك تمحُّل لا وجه له. فإن قيل: يدلّ عليه ذهاب بعض الصحابة إلى جواز الجلوس المطلق، وتقييد النهي عن الجلوس بأن يكون لقضاء الحاجة. قلت: كل هذا بعيد. أما الأول؛ فلأننا متعبَّدون بظاهر ما بلغنا عن الشارع، لا ندعه إلا إذا بلغنا عن الشارع ما يخالفه، وقول بعض الصحابة ليس قولًا للشارع، فإنه قد يخفى عليهم الدليل، فيجتهدون ويخطئون، مع أن قولهم معارض بقول غيرهم من الصحابة كما مر. [ص 102] ولم يقل أحدٌ: إن ذهاب بعض الصحابة إلى حكمٍ يوجب تأويل ما يخالفه مما ثبت عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم. وأما الثاني؛ فلأن التقييد إنما ورد في التعليق على إثم خاصًّ، فغايته أن يفهم أن ذلك الإثم بخصوصه لا يكون مع مطلق الجلوس. فأما أن يفهم عدم الإثم أصلاً فلا، مع أن دلالة حديث عَمْرو بن حزم منطوق، وهو مقدَّم على المفهوم مطلقًا. وتأول بعض الأجلة (¬1) الجلوس المنهي عنه، بالجلوس للاستشفاع بصاحب القبر، والسؤال منه. والكلامُ عليه يعلم مما قبله، مع أن ظاهر الأدلة ولا سيما حديث عَمْرو بن حزم الإطلاق. والله أعلم. ¬

_ (¬1) جاء في بعض مسوّدات المؤلف الإشارة إلى أن قائل ذلك أحد المعاصرين.

ثم اختلف الجمهور؛ فقال بعضهم: النهي للتحريم. وقال آخرون: بل هو للكراهية. احتج الأولون: بأن الأصل في النهي التحريم، ولا صارفَ عنه. ولم يأت الآخرون بشيءٍ، إلا أنهم ربما (¬1) ذكروا ما تمسَّك به القائلون بالإباحة، وقد مرَّ الكلام عليه. قال الشوكاني في "نيل الأوطار" (¬2): " (وأن يقعد عليه) فيه دليلٌ على تحريم القعود على القبر، وإليه ذهب الجمهور ... " إلخ. وقال النووي في "شرح مسلم" (¬3): "وفي هذا الحديث كراهية تجصيص القبر والبناء عليه، وتحريم القعود، والمراد بالقعود: الجلوس عليه، هذا مذهب الشافعي، وجمهور العلماء ... قال أصحابنا: تجصيص القبر مكروه، والقعود عليه حرام، وكذا الاستناد إليه، والاتكاء عليه ... " إلخ. وتُعقِّب بأن الذي عليه الشافعي والجمهور كراهة ذلك تنزيهًا، وقد يُناقَش ما ذكره النووي رحمه الله بأنه يلزمه الجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ النهي، [ص 103] وذلك أن كون النهي على حقيقته - وهي التحريم - تقتضي حُرمة البناء والتجصيص والقعود، فالقول به في بعضها دون بعض حملٌ للكلمة على الحقيقة والمجاز معًا. واختيار جوازه أو القول بأن هذا ليس منه، بل من عموم المجاز. يردُّه أنه يحتاج إلى دليل، وإلا فالمجاز البسيط أولى منه، فضلاً عن الحقيقة. ¬

_ (¬1) الأصل: "ربهم" ولعلها ما أثبت، أو تكرر قول المؤلف "أنهم". (¬2) (5/ 169 - ت طارق عوض). (¬3) (7/ 37).

تجصيص القبر

ومع هذا، فحديث عَمْرو بن حزم صريحٌ في التحريم؛ لأنه جعل الاتكاء على القبر إيذاءً لصاحبه، وإيذاء المسلم بغير حق حرامٌ بلا خلاف. فإن قيل: وكيف يكون الإيذاء للميت؟ قلت: الله أعلم، صحَّ عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم أن الاتكاء على القبر يؤذي صاحبه، فسمعنا وأطعنا، وعلمنا أنه على كل حال يكون الجلوس على القبر ووطؤه، ونحو ذلك أولى من الاتكاء، فقلنا به. ومع ذلك، فإنني أذكر ههنا احتمالًا يُفْهَم من مجموع الأدلة الواردة فيما يتعلق بالأرواح بعد الموت، وعلى من أراد تحقيق البحث أن يراجع تلك الأدلة. لعل الروح بعد الموت ورفعها إلى السماء، وإرجاعها إلى القبر للسؤال، تبقى مجاورة لجسدها، ويمكنها معرفة ما يجري على القبر. فإن قيل: فعلى هذا لا يحرم الجلوس على من كان يحبه الميت. قلت: كلّا، فلعله قد طرأ أو تبين للميت من حال الحيّ ما يبغَّضه إليه، مع أنه بعد الموت لا يهم الميت إلا ما ينفع عند الله عزَّ وجلَّ. وهذه أمورٌ غيبية، وعِلّةٌ غير يقينية، والأحاديث مطلقة، فالمتعين إطلاق المنع، والله أعلم. **** تجصيص القبر التجصيص والتقصيص بمعنًى، وهو ظاهرٌ، وسيأتي حكمه إن شاء الله.

البناء على القبر

[ص 104] البناء على القبر (¬1) قد يقال: يحتمل أن يراد بالبناء ما كان فيه انتهاك لحرمة القبر، كأن يكون للسكنى، ويدل عليه قرنه بالجلوس. والجواب: أن البناء في الحديث مطلق، وقرنه بالجلوس يعارضه قرنه بالتجصيص الذي هو تشييد للقبر، لا إهانة، بل هذا أبين دلالة، إذ التجصيص من جنس البناء، مع أن البناء للسكنى لا يستلزم انتهاك حرمة القبر، فقد يترك بجانب من البيت على حاله، بل إن ذلك تعظيمٌ للقبر واحترامٌ له، ولذلك جاء النهي مطلقًا، يتناول البناء للسكنى وغيره. فإن قيل: الأصل في الكلام الحقيقة، والحقيقة في البناء على القبر البناء على متنه. قلت: بل الحقيقة في البناء على القبر ما كان مستعليًا عليه، فيتناول البناء حواليه مسقوفًا، إذ هو باعتبار السقف مستَعْلٍ على القبر حقيقةً. مع أنه لو سُلَّم ما قلتم، أو لم يرد النهي إلا عن التجصيص فقط، لكان في ذلك دليلٌ على النهي عن البناء الضيِّق والواسع، المسقوف وغير المسقوف، بل وعن البناء بقرب القبر غيرَ مشتملٍ عليه، ولكنه لأجله، بل وعن البناء بعيدًا عنه لأجله، كالمَشاهد، وكذا كل ما فيه تمييز للقبر، كرفعه زيادةً على الشبر، ووضع الستور عليه، ونصب الرايات عنده، وإيقاد السُّرُج. والحاصل: كل شيءٍ يكون فيه إكرامٌ للقبر أوتشييدٌ له مما لم يثبت ¬

_ (¬1) في المسوّدة الثانية (ص 30 - 40) هذا البحث مع زيادة فائدة، فأثبتناه للفائدة في آخر الرسالة.

بالسُّنة، فإنَّ كل هذا يدلّ الحديث على النهي عنه بالقياس، سواءً أكانت العلة كراهية تشييد القبور وتزيينها، أم كراهية تمييز القبر الذي يُخْشى أن يؤدي إلى تعظيمه، وقد مر إيضاح هذا آخر الفصل الأول (¬1). وقد عورض إطلاق البناء على القبر في النهي بإطلاقات أخر: منها: الإذن للإنسان أن يصنع في ملكه ما يشاء. ومنها: الأمر باحترام الصالحين. ومنها: الأمر بالإحسان إلى الخلق، وإعانتهم على البر. فعلى الأول؛ يُقَيَّد النهي عن البناء [ص 105] بما إذا لم يكن في الملك. وعلى الثاني؛ بما إذا لم يكن على قبور الصالحين. وعلى الثالث؛ بما إذا لم يكن (لتظليل) الزوَّار. والجواب: أن هذه الأمور ليست مطلقة، بل هي مقيَّدة بما لم ينه عنه الشرع، والبناء مطلقًا مما نهى عنه الشرع، فلا معارضة؛ وإلا لساغ تقييد النهي عن اتخاذ الأصنام بما إذا لم يكن في الملك. وتقييد النهي عن الرياء، بما إذا لم يكن لأجل الإهداء إلى صالح، أو لأجل الصدقة، وتقييد النهي عن تأخير صلاة الصبح مثلًا عن وقتها بما إذا لم يكن لخدمة الوالدين، وغير هذا من المصالح التي لا تُحصى. ولو سُلِّم التعارض لكان المتعين تقييد تلك المطلقات بالنهي عن البناء على القبر؛ لأن علة النهي عن البناء على القبر موجودة في كل قبر، وذلك دليلٌ أن النهي مطلقٌ لا يقبل التقييد، بل وجودها في الملك أبْيَن وأوضح؛ لأن مجرد الدفن في الملك مع منافاته للسنة في حق الآية، فيه منافاة لما ¬

_ (¬1) (ص 42 - 44).

يليق بالموت الذي هو باب البلى، والخروج من الدنيا، والتساوي مع الفقراء، وفيه تمييز للقبر، وتعظيم له، فعِلَّة النهي عن البناء موجودة في مجرد الدفن في الملك، فضلاً عن التجصيص والبناء. وكذلك وجود العلة في قبر الصالح أشد؛ لأنه أقرب إلى حمل الناس على تعظيمه، وما مثل مَن (¬1) يجيز البناء على قبر الصالح، إلا كمن يبيح شرب القَدْر المُسْكر من الخمر للمجاهدين، فإن البناء على قبر غير الصالح كشرب الجرعة والجرعتين من الخمر، والنهي عن البناء على قبر الصالح، كالنهي عن شرب القَدْر المسكر من الخمر، فإباحة البناء على قبر الصالح - لأن فيه احترامًا للصالحين - كإباحة السُّكْر للمجاهدين؛ لأن فيه شدة على الكافرين، مع أن علة تحريم الخمر خوف السكر، وعلة تحريم البناء خوف الكفر، وشتان بينهما. وهكذا تظليل الزوَّار، إن هو إلا تحقيقٌ لوجود العلة؛ لأن الزيارة التي تحتاج إلى التظليل لا تكون غالبًا مشروعة، مع أن التظليل ليس من المصلحة في شيء، لا مصلحة الميت كما هو واضح؛ لأنه إن كان للدعاء له، فإن الله عزَّ وجلَّ بكل شيءٍ عليم، فإن أراد أن يبلغه ثواب الدعاء فسيبلغه، ولو كان الداعي بأقصى الأرض عن قبره. [ص 106] ولا لمصلحة الزوَّار؛ لأنه إن أريد المصلحة الشرعية التي بيَّنها رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم بقوله: "فإنها تذكِّركم الآخرة" (¬2). فهذه ¬

_ (¬1) تكررت في الأصل. (¬2) أخرجه مسلم رقم (976) بلفظ "إنها تذكركم الموت". عن أبي هريرة رضي الله عنه. وأخرجه أحمد رقم (1236) وفي سنده علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف.

يصلح لها كل قبر، فلا معنى لتخصيص بعض القبور حتى يحتاج إلى البناء عليها للتظليل. وإن أريد أن صاحب القبر يشفع لهم إذا فعلوا ما يرضيه، فهو ميت لا يرضيه إلا ما ينفعه عند الله، والذي ينفعه عند الله هو الدعاء له بشرطه. وقد مر أن الله عزَّ وجلَّ إن أراد أن يبلغه ثواب دعائهم بلغه أينما كان، وإن أريد أنه يحتاج إلى أن يُسأل، فإنهم يزعمون أنه يبلغ، بل يسمع سؤالهم ولو كان بعيدًا. وعلى كل حال، فهذه مجاراة لهم على باطلهم، وإلا قد بيَّن الإِسلام أن النفع والضر بيد الله عزَّ وجلَّ، وأنه لا ينال ما عند الله إلا بطاعته، ولا يُطاع الله إلا بما شرع، ولا يعلم ما شرع إلا بكتابه وسنة رسوله صلَّى الله عليه وآله وسلم. وإن فرض أنه حصل لأحدٍ من الناس نفع بشيءٍ من هذه المنهيات، فإنه لا يدل على جوازه، ألا ترى إلى السحر ينتفع به صاحبه، وهو كفر؟ وقد يستدرج الله عزَّ وجلَّ بعض عباده إذا أصرّ على الإعراض عن الحق، فاستوجب الخذلان، قال سبحانه وتعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44]. وقال جل ذكره: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ

وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [الأنعام: 112 - 117]. يا مقلب القلوب ثبِّت قلوبنا على دينك، واهدنا لِمَا اخْتُلف فيه من الحق بإذنك، ووفقنا والمسلمين لما يرضيك. آمين. والحاصل: أن التقييد المذكور إن هو إلا تحقيق للمفسدة، وإيغالٌ في الغرور، كما يقال في المثل العامي: أراد أن يكحل عينه فأعماها. فنعوذ بالله من الخذلان. هذا، مع أن المقرر في الأصول: أن درء المفاسد أولى من جلب المصالح مطلقًا، وأن درء المفسدة الكبرى بارتكاب الصغرى متعيِّنٌ إذا دار الأمر بينهما, ولا شك أن ذرائع الكفر - ومنها تمييز القبر - أشد المفاسد، فلو دار الأمر بينها وبين مفسدة أخفّ منها؛ لتعيَّن ركوب الأخف، فكيف إذا لم يقابلها مفسدة أصلاً. [ص 108] وقال بعضهم: يحتمل أن يكون (البناء المنهي عنه) بناء الخيمة والفُسْطاط؛ لإقامة الحِداد، وتعظيم المصيبة. والجواب: أن هذا تقييدٌ بمجرَّد التشهِّي، لو صح مثله لأصبح الدين ألعوبة، وأيضًا فما باله قُرِن بالتجصيص؟

وقال آخر (¬1): هؤلاء المسلمون منذ العصور الأولى إلى اليوم بما فيهم من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين، ما زالوا يتقربون إلى الله زُلْفى بتعظيم مقابر الأنبياء والأولياء، وبتعميرها وتشييدها، وإقامة الأبنية الضخمة عليها. وهذا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه): هو أول من بني حُجْرة قبر النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم باللبن، بعد أن كانت مقوَّمة بجريد النخل، نص على ذلك السمهودي في "كتاب الوفاء" (¬2)، ثم تناوب الخلفاء على تعميرها. أقول: أسْمَع جعجعةً ولا أرى طِحْنًا، دعنا من حُجرة قبر النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم، فإن لها سببًا خاصًّا كما مر بيانه (¬3). ومع ذلك فما نقلته عن كتاب "الوفا" لا نراه يصح، فإن أم المؤمنين عائشة كانت ساكنةً في الحجرة، ولعله ذهب وَهْم الراوي من عمر بن عبد العزيز إلى عمر بن الخطاب. وأما غير قبره صلَّى الله عليه وسلم؛ فقد نزَّه الله الصحابة رضوان الله عليهم، إلا أن يصنع بعض جَهَلة التابعين شيئًا، فيبادرون إلى هدمه، كما سيأتي. وكذا أتباع التابعين، ومَنْ بعدهم غالبًا، قال الإِمام الشافعي (¬4): لم أر قبور المهاجرين والأنصار مجصصة. وقال: رأيت [من الولاة من يهدم] بمكة [ما يُبنى فيها فلم أر الفقهاء يعيبون ذلك] (¬5). ¬

_ (¬1) هو حسن الصدر الكاظمي في "الرد على فتاوى الوهابية" (ص 70 - 71). (¬2) (2/ 481). (¬3) (ص 37 - 38). (¬4) النصان في "الأم": (2/ 631). (¬5) العبارة في الأصل: "وقال: رأيت ا ... بمكة ... " وأكملناها من "الأم".

وقال الشعبي: رأيت قبور الشهداء جُثًى مسنَّمة (¬1). وأما بعد ذلك؛ فقد وقع بعض ما تزعم، فكان ماذا؟! [ص 109] أيكون ذلك ناسخًا لما ثبت بالشرع عن صاحب الشرع، إذًا فَمِن الشرع أن يُسبّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ لأنه دام سبه على المنابر عشرات من السنين؟ ومن الشرع أن يُشْرَب الخمر ويُخْتلى بالأجنبيات؟ فقد استمر ذلك شائعًا في آخر ملك الأمويين، وملك العباسيين، وبعدهم، في أشياء يطول تعدادها. فأما دعوى الإجماع؛ فسيأتي دحضها في الفصل الثالث (¬2)، إن شاء الله تعالى. ثم ذكر شيئًا رواه البناني (¬3) (واضع) أهل الحجاز، إن لم يكن كذبًا فليس في الدنيا كذب، ولولا أنني طالعت الرسالة بنفسي لما صدَّقتُ أن ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) كذا، وقد مرّ بعض ذلك. انظر (ص 111، 113) وانظر المسوّدة (ص 37، 59). (¬3) كذا في الأصل في الموضعين، وفي رسالة الصدر "البنائي"، وقد ورد بغير ذلك، وفي مصادر الرافضة التي ذكرت روايته: "أبو عامر الساجي واعظ أهل الحجاز". انظر "وسائل الشيعة" (باب 26 من كتاب المزار)، و"تهذيب الأحكام" للطوسي: (6/ 22، رقم 50، 189). ومع أن هذا الساجي لا يُعرَف إلا أن الراوي عنه "عمارة بن زيد" أشد جهالة منه بل لا وجود له، فقد اختلقه الراوي عنه وهو عبد الله بن محمَّد البلوي؛ إذ سألوه: مَن عمارة هذا الذي تروي عنه؟ فقال: رجلٌ نزل من السماء فحدّثني ثم عَرَج! انظر "معجم رجال الحديث" (8681) للخوئي. أقول: وقد كتب المؤلف (واضع) بين هلالين تهكّمًا باللقب الذي ذكروه به (واعظ أهل الحجاز)!

عاقلاً يورد مثل ذلك بمعرض الاستدلال. ثم قال: قال في "المنهج": "والأصل في بناء القبور وتعميرها ما رواه البناني واعظ أهل الحجاز" اهـ. أقول: فيا له من أصل! من أراد الاطلاع على تلك الرواية, فلينظرها في رسالة حسن صدر الدين الكاظمي (¬1). ثم قال: " ... إن في الآثار القائمة حول قبور الأنبياء السابقين، كقبر دانيال النبي في شوشتر (¬2)، وقبر هود وصالح ويونس وذي الكفل ويوشع في بابل والقرى (¬3)، وكقبور الأنبياء المدفونين عند البيت المقدس، بل في بناء الحِجْر على قبر إسماعيل وأمه هاجر لأكبر دليل على أن اهتمام الأمم السالفة في تعظيم مراقد أنبيائهم، لم يكن بأقل من اهتمام المسلمين في تعظيم مرقد نبيهم ومراقد أوليائهم" اهـ. أقول: هذا كله خبط، فقد ذكر العلماء رحمهم الله أنه لا يثبت العِلْم بموضع قبر نبيٍّ غير نبينا صلَّى الله عليه وآله وسلم. ¬

_ (¬1) كتب المؤلف قبلها: "الرد على الوهابية" ثم ضرب عليها. والكاظمي: حسن بن هادي الحسيني المعروف بالسيد حسن الصدر، من علماء الرافضة, له تصانيف كثيرة قيل: تجاوزت المئة، منها هذه الرسالة المشار إليها. (ت 1354). انظر "الأعلام": (2/ 224) للزركلي. (¬2) هي مدينة (تُسْتَر). انظر "معجم البلدان": (2/ 29). (¬3) هو وادي القرى، بين الشام والمدينة, بين تيماء وخيبر، وفيه قرى كثيرة، وكانت قديمًا منازل ثمود وعاد ... انظر "معجم البلدان": (4/ 338).

قال العلامة الشيخ محمَّد [بن] الجزري: "لا يصح تعيين قبر نبيّ غير نبينا عليه السلام، نعم، سيدنا إبراهيم عليه السلام في تلك القرية، لا بخصوص تلك البقعة" انتهى. "الموضوعات" (¬1) لعلي قاري. قال علي قاري: "ودُفِنَ بمكَّة كثير من الصحابة الكرام، أما مقابرهم فغير معروفة كما ذكره الأعلام، حتى قبر خديجة إنما بُني على ما وقع [ص 110] لبعضهم من المنام، ثم اختلفوا في مكان مولده عليه السلام، وإن اشتهر عند أهل مكة بالموضع المعروف عند الأنام. أما ما أحدثوا من مواليد أبي بكر وعمر رضي الله عنهم، مع عدم ثبوتها، فلا يظهر وجه التبرك بأرضها إلا باعتبار مآل أمرهم" اهـ. أقول: وقال ابن كثير في تفسيره (¬2) في سورة الكهف: وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه لما وُجِد قبر دانيال في زمانه بالعراق أمر أن يُخْفَى عن الناس، وأن تدفن تلك الرُّقعة التي وجدوها عنده فيها شيءٌ من الملاحم، وغيرها". أقول: قوله: "أمر أن يُخْفَى عن الناس" ذُكر أنه أمر بحفر ثلاثة عشر قبرًا، وأن يُدْفن في أحدها ليلاً، وتُطْمَس القبور كلها. ويكفينا تكذيب ما زعمه الكاتب من أن قبور الأنبياء معروفة كما مر. فأما بناء الأمم السابقة؛ فقد ثبت بالسنة المتواترة أن من كان قبلنا كانوا إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات، بنوا على قبره مسجدًا، وثبت في ¬

_ (¬1) (ص 385) وما بين المعكوفين منه. (¬2) (5/ 2153).

الحديث: "لتتبعنَّ سَنَن من كان قبلكم ... " (¬1) إلخ. ولكن إقرار الصدر الأول لبناءٍ على قبرٍ مردودٌ لا يثبت منه شيءٌ أصلاً، لا في بابل، ولا في القرى، ولا بيت المقدس، ولا غيره. وقد علمتَ مما مر تكذيب زعمه أن قبر إسماعيل وأمه في الحِجْر، ويكذِّبه أن الحِجْر من البيت كما ثبت في الصحيح (¬2)، فكيف يستجيز إسماعيل أن يَدْفِن أمه في جوف الكعبة؟ سبحانك هذا بهتان عظيم!! ثم قال: "إنه يقاس التسريج على القبور باتخاذ الحليّ للكعبة". فيقال له: وكذا يُصلَّى إلى القبور، ويطاف بها، ويُحجّ إليها، وغير ذلك من مزايا الكعبة، يصنع مثله بالقبور قياسًا!! ولا يضر مجيء النصوص بعدم استقبال القبور [ص 111] كما لا يضر مجيء النصوص بتسوية القبور، وعدم تمييز بعضها؟!! ... ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري رقم (3456)، ومسلم رقم (2669) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (¬2) أخرجه البخاري رقم (1584)، ومسلم (1333) من حديث عائشة رضي الله عنها.

آية الكهف

[ص 112] آية الكهف (¬1) توهَّم قومٌ أن هذه الآية تدلّ على الجواز، فتشبث بها بعض من لا علم له بالسنة من المتأخرين. وأجاب قومٌ: بأن المسجد إنما اتُّخِذَ خارجًا عن الكهف، وحملوا قوله: {عَلَيْهِم} على المجاز، واختاروا جواز مثل هذا. وقال آخرون: لا مانع من أن يكونوا اتخذوا المسجد على الفتية أنفسهم، ولكن ليس في الآية ما يدل على الجواز، وتفصيل الكلام على هذا يطول. فالأولى بنا أن ننقل ما ظفرنا به من تفسير سلف هذه الأمة أولاً، ثم نتكلم بما فتح الله به علينا. فأقول: قال ابن جرير (¬2): "يقول جل ثناؤه: قال القوم الذين غلبوا على أمر أصحاب الكهف لنتخذنَّ عليهم مسجدًا. وقد اختلف في قائلي هذه المقالة؛ أهم الرهط المسلمون، أم هم الكفار". ثم أسند عن ابن عباس قال في قوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوْا ...} قال: "يعني عدوهم". ¬

_ (¬1) قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21)}. (¬2) تفسيره: (15/ 217).

وأسند عن عبد الله بن عبيد بن عُمير قال: "عمَّى الله على الذين أعثرهم على أصحاب الكهف مكانهم، فلم يهتدوا، فقال المشركون: نبني عليهم بنيانًا، فإنهم أبناء [ص 117] آبائنا، ونعبد الله فيها، وقال المسلمون: نحن أحق بهم، هم منا، نبني عليهم مسجدًا نصلي فيه، ونعبد الله فيه". وفي "الدر المنثور" (¬1): وأخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ} قال: "هم الأمراء"، أو قال: "السلاطين". وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جُبير قال: "بنى عليهم الملك بيعة، فكتب في أعلاها: أبناء الأراكنة أبناء الدهاقين". أقول: ولا تصح القصة التي فيها أن الملك كان مؤمنًا صالحًا. وقال ابن كثير (¬2): "حكى ابن جرير في القائلين ذلك قولين: أحدهما: أنهم المسلمون منهم. والثاني: أهل الشرك. فالله أعلم. والظاهر أن الذين قالوا ذلك هم أصحاب الكلمة والنفوذ، ولكن هل هم محمودون، أم لا؟ فيه نظر؛ لأن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: "لعن الله اليهود والنصارى ... " (¬3). وقد رُوَّينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه لما وجد ¬

_ (¬1) (4/ 392). (¬2) تفسيره: (15/ 2153). (¬3) سبق تخريجه.

قبر دانيال في زمانه بالعراق، أمر أن يُخْفى عن الناس، وأن تدفن تلك الرقعة التي وجدوها عنده فيها شيءٌ من الملاحم". والحاصل: أن السلف مختلفون في تفسير الآية، ولم يثبت من النقل شيءٌ تقوم به الحجة. فالمتعيِّن علينا تحليل الآية نفسها، وإنعام النظر فيها, ليتبين الحق إن شاء الله تعالى. قال عزَّ وجلَّ: {إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ}. فدل على تنازعٍ كان بين القوم في أمر الفتية، ولا بد في التنازع من الانقسام. ثم قال تعالى: {فَقَالُو} فدل الإتيان بالفاء أن ما بعدها تفصيلٌ لما قبلها، وهو التنازع، وإذا كان التنازع لا بد فيه من الانقسام، كان الظاهر أن يكون بعد الفاء ذِكْر قول كلًّ من الفريقين على حِدَة، كما يقول: "تنازع الفقهاءُ هذا الحكمَ، فقال فريق: يجب، وقال فريق: لا يجب". فلذلك تعين أن يحمل قوله: {فَقَالُو} على أنه قول أحد من الفريقين، وأُسْنِد إلى ضمير الجمع مجازًا؛ لأن للقائلين مزية أقيموا لأجلها مقام الجميع، ويؤيد ذلك قولهم: {ابْنُوا}. فلو كان القائلون هم الجميع، لكان الأمر خلاف الظاهر، إذ هو أمرٌ لأنفسهم، ولو أريد: قال بعضهم لبعض، لكان الظاهر أن يصرح به، فكأنه قال - والله أعلم - فقال الفريق المختار: {ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ}.

[ص 113] فإن قيل: فما معنى قوله: {رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ}؟ قلت: الذي يعطيه السياق أن الفتية بعد أن رآهم القوم، واستخبروهم، وتقررت الآية، رجعوا إلى مضجعهم في الكهف، وعاد الرُّعب الذي في قوله تعالى: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} [الكهف: 18]. فبقي القوم متحَيَّرين لا يدرون أماتوا أم ناموا, ولا يمكنهم الدخول إليهم لمكان الرعب، ثم تنازعوا فيما يصنعون، فقال الفريق الأول: {ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} أي: أماتوا أم عادوا إلى نومهم؟ ولا يصح أن يقال: إن المراد: ربهم أعلم بهم، مَنْ هُم، وممن هم؟ لأن الظاهر أنهم اجتمعوا بالقوم، وقصّوا عليهم قصتهم، لتتقرر الآية التي هي المقصود من الإعثار عليهم، أعني: قوله تعالى: {لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا}. فإن قلت: فإذا كان دخول الكهف ممنوعًا، فكيف يقولون: {ابْنُوا عَلَيْهِمْ}؟ قلت: المراد بالبناء عليهم البناء لسد باب الكهف، بقرينة ما تقدم. فإن قلت: فما وجه النزاع؟ فهل أبى الفريق الآخر سد باب الكهف؟ قلت: أرادوا - والله أعلم - أن يبنوا المسجد عند باب الكهف، بحيث يكون جداره سادًّا لباب الكهف. فالفريق الأول يقولون: ابنوا جدارًا نسدُّ به باب الكهف.

والفريق الآخر قالوا: بل نبني مسجدًا يكون جداره سادًّا لباب الكهف. [ص 114] إذا تقرر هذا، فقد اختلف المفسرون مَن المحمودُ من الفريقين؟ وقبل أن نفيض في ذلك ينبغي أن تعلم أنه ليس بيدنا دليلٌ صحيحٌ عن أن الملك كان من أهل الحق، بل ولا على أن القوم الذي أعثروا على الفتية كان بعضهم كفارًا كفرًا صريحًا، وإنما في الآية قوله تعالى: {لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا}. وهذا ليس بصريح الدلالة على أن فيهم من شك، فضلاً عن الدلالة على أن فيهم من يكذب، وقد قال الله عزَّ وجلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ ... ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المائدة: 94 - 97]. نعم، الظاهر من إظهار الله عزَّ وجلَّ لتلك الآية أن يكون في أولئك القوم من يخالجه الشك في البعث، هذا أقصى ما تدل عليه الآية. إذا علمت هذا، فأصغ لما يَرِدُ عليك: فقال بعض المفسرين: الفريق الصالح هو الثاني، بدليل عزمهم على اتخاذ المسجد. وفي هذا الاستدلال نظر؛ لأنه لم يثبت لدينا أن الفريقين كان أحدُهما مؤمنين، والآخرُ كفارًا مصرِّحين بالكفر حتى ينتفي عنهم العزم على اتخاذ المسجد، فقد يكون الفريقان كلاهما من المسلمين، ولكن أحدهما أهل علم وهدى، والآخر أهل جهل وضلال.

وعليه، فليس أهل العلم والهدى بأحق من الآخرين باتخاذ المسجد، بل الأمر بالعكس كما لا يخفى. [ص 115] وقال قوم: بل الفريق الأول هو المحمود. وهذا هو الصحيح، ولنا عليه أدلة: 1 - أن الله عزَّ وجلَّ أقام الفريق الأول مُقام الجميع، بقوله: {فَقَالُواْ}، وهذا لا يكون إلا لمزية، كما تقدم. ولا تكون المزية ههنا إلا دينية؛ لأمرين: الأول: أن الباري عزَّ وجلَّ اعتبر هذه المزية، حيث جاء في كلامه العزيز إقامة الفريق الأول مقام الجميع لأجلها، وهذا يشعر بأنها محبوبة له عزَّ وجلَّ. الثاني: أن المزية الدنيوية إنما هي القوة، وقد أثبتها الله عزَّ وجلَّ للفريق الثاني بقوله: {الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ}. فتعين أن تكون مزية الفريق الأول دينية، فهم أهل العلم والهدى. 2 - أن الله عزَّ وجلَّ حكى من قول هذا الفريق الأول قولهم: {رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ}. وهذه كلمة عظيمةٌ، يشم منها نفحات الإيمان, وتلوح منها لمحات العلم والإيقان. 3 - أن الله تبارك وتعالى قدَّم الفريق الأول في الذكر، والتقديم يُشْعِر بمزية للمقدَّم، وقد علمت أن المزية ليست بدنيوية، فتعين كونها دينية. 4 - أنه جلّ ذكره قال في ذِكْر الفريق الثاني: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ ...}.

فأشعر أن الحامل لهم على هذا العزم هو الغلبة [ص 116] على ما قرره بعض علماء البيان في باب المسند إليه في مجيئه موصولًا؛ للإيماء إلى وجه بناء الخبر (¬1)، كما في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60]. واعتراض السعد عليه إنما هو لتفسيره الإيماء بما ذكر لا على نفس المعنى. وقرَّره علماءُ الأصول في مسالك العلة، بقولهم: "إن ربط الحكم بالمشتق مؤذنٌ بعِلِّية ما منه الاشتقاق" (¬2). وهو في الموصول أوضح. والغالب أن الغلبة تكون سببًا للبَطَر والبغي والعدوان، ويعيِّنه أنه لو كان فعلهم محمودًا لرتَّبَه على وصفٍ ظاهر المناسبة للخبر. إذا تأملت هذه الأوجه، وأنعمتَ النظر، علمت أن الآية تدل بنفسها على أن الفريق الأول هو المحمود، والفريق الثاني هو المذموم. فالفريق الأول متمسَّكون بعهد نبيهم، واقفون عند حده. والفريق الثاني أهل جهل وغُلوّ وعدوان، يشرعون ما لم يأذن به الله تعالى، ويحسبون أنهم يحسنون صنعًا. فهذه دلالة الآية بنفسها، قد علمت حقيقتها، ثم ضمّ إلى ذلك دلالة ¬

_ (¬1) انظر "التلخيص - بشرح البرقوقي": (ص 60)، و"المطوّل": (ص 74). (¬2) انظر "البحر المحيط": (5/ 201) للزركشي، و"التحبير شرح التحرير": (7/ 3349 - 3350) للمرداوي.

قوله عزَّ وجلَّ: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} [الجن: 18]. وقد تقدمت (¬1). ثم عزِّزها بدلالة السنة المتواترة: بلعن اليهود والنصارى، واشتداد غضب الله عليهم؛ لاتخاذهم قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد (¬2). وهذا يتناول القوم الذي أعثروا على الفتية، إن كانوا نصارى أو يهودًا، وكذلك إن كانوا من أمةٍ أقدمَ من اليهود؛ لأن ظاهر الأدلة أن هذا الفعل لم يزل محظورًا. وظاهرٌ أن الباري تبارك وتعالى قصَّ علينا هذه القصة ليرشدنا إلى أن نقتدي بالفريق الواقف عند حدَّه، المتمسَّك بعهده، ويحذرنا من أن نفعل ما فعل الفريق الآخر من الغلوّ في الدين، وشَرْع ما لم يأذن به الله، والافتراء عليه. [ص 119] وقد حذرنا رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم من مثل فعلهم، وأخبرنا بأننا سنتبع سَنَنهم، وبشَّرنا أنه لا تزال طائفة مِنَّا قائمة على الحق، لا يضرهم من ناوأهم. فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعلنا من طائفة الحق، ويثبِّت قلوبنا على دينه، ويهدينا لما اخْتُلِف فيه من الحق بإذنه، إنه سميع مجيب. وقد كنتُ كتبتُ سلسلةً من التسليمات الجدلية، وبيان الجواب عنها (¬3)، ثم رأيت الأمر أوضح من ذلك، كما لا يخفى على من له بصيرة. والله أعلم. ¬

_ (¬1) لم يتقدم شيء هنا في المبيّضة، وقد تكلّم المؤلف عليها في "المسوّدة" (ص 21). (¬2) والأحاديث في ذلك في الصحيحين وغيرهما عن عدد من الصحابة. (¬3) يعني في النسخة الأولى للكتاب (المسوّدة) انظرها (ص 18 - 19).

الخاتمة (¬1) ¬

_ (¬1) هكذا في الأصل عنوان لم يكتب تحته شيء. وانظر المقدمة (ص 20).

ملحق

ملحق النهي عن البناء على القبر (¬1) المتبادر أن المراد بالبناء على القبر ما يُبنى لأجل القبر، وهذا هو الذي فَهِمه العلماء، ونحن نعلم أن هذا هو الواقع، ولكن هذا لا يمنعنا أن نثير عليه شبهة لم نَر مَن تعرَّض لها؛ خشيةَ أن يُلَقّنها بعض المحرّفين فيلعب بها دورًا من أدوار التضليل قبل أن يُقيّض الله مَن يكشف عوارها، فرأينا أن نُثيرها لِنُنيرها؛ عملًا بقول أبي عُبادة (¬2): إذا ما الجرحُ رُمَّ على فسادٍ ... تبيَّن فيه تفريط الطبيب وللسهم السديد أشدّ حبًّا ... إلى الرامي من السهم المصيب على أني أرجو الله عزَّ وجلَّ أن يجمع لي بين السداد والإصابة، فأقول: قد يقال: لعل المراد بالبناء المنهي عنه هو ما يكون فيه انتهاك لحرمة القبر، كان يُبنى بيت للسكنى أو حائط ويجعل الجدار على متن القبر كما هو الحقيقة في البناء على القبر. ويؤيده قَرْنه بالنهي عن الجلوس عليها. والجواب: أن الحديث مطلق، وجَعْل جدار الدار على متن القبر غير ممكن عادة؛ إذ لا بد للبناء من أساس، ومتن القبر لا يصلح أساسًا. وفي كون ذلك هو الحقيقة نظر؛ إذ قد يقال: إنما يكون حقيقة لو استغرق البناء جميع ¬

_ (¬1) من المسودة الثانية (ص 30 - 40). (¬2) هو البحتري "ديوان" (1/ 441 - 442). والبيت الثاني فيه: فللسهم السديد أحبّ غبًّا ...........................

أجزاء القبر. وعلى تسليمه فيشاركه في الحقيقة أن يكون البناء مشتملاً على القبر مسقوفًا، فإنه باعتبار السقف يكون على جميع أجزاء القبر. أما قَرْنه بالنهي عن الجلوس فيعارضه ما هو أقوى منه، وهو قرنه بالنهي عن التجصيص، وهو أقرب إلى معنى البناء الذي يُقصد به تشييد القبر وتعظيمه من الجلوس إلى معنى البناء الذي يقصد به إهانته؛ لأن التجصيص من جنس البناء كما لا يخفى. فإن قيل: فإن لم يمكن وضع الجدار على متن القبر فيمكن حفره. قلت: فكان الظاهر إذن أن ينهى عن حفر القبر؛ لأنه هو المحظور لا أصل البناء إذ لو جَرف سيلٌ قبرًا في بقعة مملوكة أو مَوَات لم يمنع البناء في موضعه، على أن البناء بعد الحفر ليس على القبر، بل هو على موضعه، إذ لا بد في الحفر أن يصل إلى قعر القبر ليوضع الأساس على قرار متين كما لا يخفى. فإن قيل: فهو على القبر مجازًا. قلت: هو مجاز بعيد لا داعي إلى ارتكابه. أما إذا قلنا: إن البناء المشتمل على القبر المسقوف يكون على القبر حقيقة، فالأمر واضح لأن الحقيقة مقدمة على المجاز. أما إن قلنا إنه مجاز، فالمجاز القريب المتبادر أولى من البعيد المتكلّف، وقد سبق أن قَرْنَه بالتجصيص يدل على أن المراد بالبناء ما كان للتشييد والاحترام وأنه أدلُّ على ذلك من الجلوس على المعنى الآخر، وهذا واضح. ويؤيد ما قلناه حديثُ فَضالة كما تقدم، وحديث أمير المؤمنين عليّ كما

سيأتي. بل لو لم يرد إلا أحدهما لكان كافيًا في المطلوب، بل لو لم يرد إلا النهي عن التجصيص لكان كافيًا بدلالة القياس الجليّ كما هو بيِّن، بل لو لم يرد شيء من ذلك لكفى في حظر البناء ونحوه خلافه للسنة مع صيرورته سببًا لضلال طوائف من الأمة كما هو مشاهد، مع أدلة أخرى قد أشرنا إليها في مواضع أخر من هذه الرسالة. فيتعين أن يكون المراد بالبناء في هذا الحديث هو المتبادر منه والمنافي للتسوية والمناسب للتجصيص والإشراف، أعني البناء المشتمل على القبر، سواء كان ضيّقًا على جوانبه القريبة أم واسعًا. وسواء كان مسقوفًا أم لا. أما على القول بأن البناء المشتمل على القبر لا يقال له بناء ولو كان مسقوفًا فظاهر؛ لأن المسقوف يكون مجازًا وغير المسقوف مجازًا (¬1). وأما على القول بأن المسقوف حقيقة فلأنه لا فرق، فالكُلُّ إحكام للقبر وتمييز له، بل ويقاس عليه البناء بالقرب من القبر غير مشتمل عليه إذا كان لأجله كالمَشاهد، بناءً على أن العلة هي خشية أن يؤدّي تمييزه إلى تعظيمه الذي هو باب الشرك كما تدلّ الأحاديث الصحيحة في النهي عن الصلاة إلى القبور، وأن الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام، مع ما قاله ابن عباس وغيره من السلف كما في "صحيح البخاري" وغيره في تفسير قوله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} [نوح: 23 - 24]: إن هؤلاء قوم صالحون كانوا في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم إلخ. ومع السنة المتواترة في النهي عن اتخاذ القبور مساجد، ¬

_ (¬1) كذا في الأصل.

وفُسِّرت في بعضها ببناء المسجد على القبر، ولَعْن من فَعَل ذلك وقتال الله له، واشتداد غضب الله عليه، مع ما في بعضها مِن لَعْن من اتخذ على القبر سراجًا = كلّ هذا يدل أن العلة في النهي عن البناء على القبر هي خشية أن يؤدي تمييزه إلى تعظيمه. وهذه العلة موجودة في كلّ تمييز للقبر مما ذكرنا أو غيره، فكل ذلك مما يتناوله النهي. ومنه القبر في البناء لوجود العلة. وأما قبر النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم فله سبب خاص سيأتي بيانه في فصل مستقل إن شاء الله تعالى.

عمارة القبور في الإسلام (المسودة)

آثار الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي (5) عمارة القبور في الإسلام (المسودة) تأليف الشيخ العلامة عبدالرحمن بن يحيى المعلمي اليماني 1312 هـ - 1386 هـ تحقيق علي بن محمد العمران وفق المنهج المعتمد من الشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد (رحمه الله تعالى) تمويل مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أوضح لنا خاصّةَ سواء سبيله، وحفظ علينا كتابه وسنن رسوله. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلّ على محمَّد وعلى آل محمَّد، كما صليتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمَّد وعلى آل محمَّد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد. أما بعد، فإني اطلعتُ على بعض الرسائل التي ألِّفت في هذه الأيام في شأن البناء على القبور (¬1)، وسمعتُ بما جرى في هذه المسألة من النزاع، فأردت أن انظر في هذه المسألة نظرَ طالبٍ للحق، متحرٍّ للصواب، عملًا بقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (¬2) [النساء: 59]، وقوله عزَّ وجلّ: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]. ولا ريب أن الردَّ إلى الله ورسوله بعد وفاته، إنما يحصل بالردَّ إلى الكتاب والسنة، وأن تحكيمه بعد وفاته، إنما هو بتحكيم الكتاب والسنة. ¬

_ (¬1) من هذه الرسائل "الرد على الوهابية" لحسن الصدر الرافضي (ت 1354 هـ)، فقد ذكرها المؤلف صراحة في النسخة الأخرى وتعقَّبه في مواضع منها. انظر (ص 3). (¬2) ترك المؤلف بعد قوله (فإن تنازعتم ...) فراغًا بمقدار سطر لتتمة الآية.

ولا ريب أن من الردِّ إلى الكتاب سؤالَ العلماء، كما أن من الردِّ إلى الرسول اعتبار أقوال خلفائه وورثته من أهل العلم، قال عزَّ وجلَّ: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]. وفي حديث أبي الدرداء مرفوعًا: "العلماء خلفاء الأنبياء" أخرجه البزار (¬1)، ورجاله موثقون، كما في "مجمع الزوائد" (¬2). وله في "السنن" حديث فيه: "وإن العلماء ورثة الأنبياء ... " (¬3) الحديث. ولا ريب أن الأئمة المجتهدين مِنْ أَوْلى مَن يدخل في ذلك. ¬

_ (¬1) "كشف الأستار" رقم (136). (¬2) (1/ 126). (¬3) أخرجه أبو داود رقم (3641)، والترمذي رقم (2682)، وابن ماجه رقم (223)، وأحمد رقم (21715)، وابن حبان رقم (88). قال السخاوي في "المقاصد الحسنة" (ص 286): "صححه ابن حبان والحاكم وغيرهما وحسَّنه حمزة الكناني، وضعّفه غيرهم بالاضطراب في سنده, لكن له شواهد يتقوّى بها, ولذا قال شيخنا: له طرق يُعرف بها أن للحديث أصلاً" اهـ. وانظر "فتح الباري": (1/ 193).

عرض هذه القضية على كتاب الله عز وجل

[ص 2] عَرْض هذه القضية على كتاب الله عزَّ وجلَّ قال الله عزَّ وجلَّ: {إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف: 21]. وتقرير الاستدلال بالآية (¬1): أن قوله عزَّ وجلَّ قبلها: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ ... ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ ...} إلخ، يدل أنهم ماتوا، فتنازع الحاضرون في شأنهم {فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا}، وهذا بناءٌ على قبر. {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ} قال المفسرون: وهم المؤمنون بدليل قوله: {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} وهذا اتخاذ مسجد على قبر. فلما قصَّ الله عزَّ وجلَّ هذا في كتابه، ولم يصحبه بما يدل على حظره، دل على جوازه. بل إذا لاحظنا أن القَصَص الوارد في القرآن لم يرد لمجرَّد حكاية وقائع تاريخية، وإنما هو للاعتبار والإرشاد والموعظة = تبين لنا دلالة الآية على الاستحباب، وأن الله عزَّ وجلَّ أرشدنا بهذه الآية إلى ما ينبغي أن نعمله إذا مات فينا رجل صالح، أي: أننا على الأقل نبني على قبره بنيانًا، والأكمل أن نتخذ عليه مسجدًا. **** ¬

_ (¬1) يعني على مذهب من يرى جواز البناء على القبور، وسيردّ المصنف على تقريرهم هذا بالتفصيل.

تحليل الاستدلال

تحليل الاستدلال أولًا: قوله: "يدل أنهم ماتوا". فيه شيءٌ، فإن الظاهر أن أحد الفتية الذي بعثوه إلى المدينة عاد إليهم ومعه القوم، فدخل [ص 3] الكهف إلى أصحابه وأخبرهم، ولعل الله عزَّ وجلَّ رفع الرعب الذي كان يعتري من اطلع عليهم، وذَكَره عزَّ وجلَّ بقوله: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} [الكهف: 18]. وحالهم تحتمل إحدى صور: الأولى: أن يكون الفِتْية خرجوا إلى القوم، وجلسوا معهم ريثما تحققت الآية، ثم عادوا إلى كهفهم، وعاد الرعب كما كان، فانتظرهم القوم أيامًا، فلم يخرجوا، فعلموا أنهم عادوا لحالتهم، ولكنهم لا يعلمون أماتوا، أم ناموا كما كانوا؟ الثانية: أن يكون رُفِعَ الرعبُ أولاً حتى دخل إليهم القوم، وتقررت الآية = أمروا القومَ بالخروج عنهم، فخرجوا وعاد الرعب، وانتظر القوم أيامًا، فلما لم يخرج أحدٌ من الفِتْية، علموا أنهم إما ماتوا، وإما عادوا إلى النوم. الثالثة: أنهم عادوا إلى مضجعهم والقوم عندهم، فعاد الرعب، فخرج القوم فارَّين مرعوبين، ثم انتظروا بباب الكهف أيامًا حتى يئسوا. الرابعة والخامسة: أن يكونوا خرجوا إلى القوم، أو دخل القوم إليهم، وبعد تقرر الآية عادوا إلى مضجعهم فرآهم القوم كذلك، فحاولوا إيقاظهم، ثم انتظارهم حتى يئسوا.

ثانيا: قوله: "وهذا بناء على قبر".

[ص 4] ويرجِّح إحدى الصور الثلاث الأولى على الرابعة والخامسة قوله عزَّ وجلَّ - حكايةً عن القوم -: {رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} [الكهف: 21]. فإن هذا يدل أنهم لم يعلموا هل عاد الفتية لنومهم، أم ماتوا؟ ولو كانوا شاهدوهم بعد عودهم لمضجعهم لربما يترجَّح لهم أحد الأمرين. لا يقال: إن قوله: {رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} قد يكون المراد به: أعلمُ مَنْ هم؟ ومِمّن هم؟ وما شأنهم؟ لأن الحكمة من الإعثار عليهم، وهي إظهار آية على البعث، لا تتمّ إلا بأن يخبروا القوم بحالهم، وممن هم، وفي عهد من كانوا، فتأمل! ثانيًا: قوله: "وهذا بناءٌ على قبر". فيه نظرٌ من وجوه: الأول: أن الفتية لم يتقرر للقوم موتُهم حتى يصح أن يكون لهم قبر، إذ القبر لا يكون إلا للميت، والعبرة في الحكم بظن القوم لا بما في نفس الأمر. الثاني: لم يكن لهم قبر، وإنما كانوا في صحن الكهف. الثالث: أنه على فرض أن الواقع في عودهم إحدى الصور الثلاث المتقدمة، فالبناء إنما يكون على باب الكهف؛ لامتناع أن يدخل البناؤون إلى مرقد الفتية لمنع الرعب. والبناء على باب الكهف إنما هو بمثابة سدّ جانب انهدم من عرض القبر، إذا صح لنا أن نعتبر القوم مُرجِّحين أن الفتية ماتوا، وأن يُعتبر الكهف بمثابة القبر.

ثالثا: قوله: "قال المفسرون: وهم المؤمنون ... " إلخ.

وعلى فرض أن الواقع هو إحدى الصورتين الأُخْريين، فيحتمل أن يكونوا أرادوا بالبناء البناء على باب الكهف، وهو الأظهر الأنسب بالحال [ص 5] لاستغراب القوم هذه الحادثة واشتباههم في الفتية، أعادوا لنومهم، أم ماتوا؟ ويحتمل أن يكونوا أرادوا البناء على جثثهم في داخل الكهف، ومع بُعْدِ ذلك، فلم يكن هناك قبرٌ حتى يقال: إن البناء وقع عليه، وإنما البناء نفسه هو بمثابة القبر، واحتيج إليه لامتناع إخراج الفتية من الكهف، وحَفْر قبورٍ لهم كالعادة؛ لغرابة قصتهم، وعلاقتهم بالكهف، والشك في موتهم. وهنا احتمال آخر، وهو: أن يكون المراد بالبنيان في الآية ما يُنصب تذكارًا لتلك الآية، وأن المناسب أن يكون بمكانٍ عالٍ مكشوف، إما بأن يكون خارج الكهف بعيدًا عنه، بحيث يظهر للمارة وغيرهم، وإما أن يُجْعَل على رأس الجبل الذي فيه الكهف. وأن هذا أرجح من الأول؛ لأنه أنسب بالمقصود، وأظهر في معنى "على" كما سيأتي إيضاحه. والحق الذي لا ريب فيه أن المراد به: البناء لسد باب الكهف؛ لأن مواراة جثث الفتية أمرٌ ضروريٌّ لا بد منه، وحمل البنيان في الآية على هذا الأمر الضروري أولى من حمله على شيءٍ آخر. وقد مر أن كون البنيان لسد باب الكهف أرجح من كونه حول الفتية في جوفه. وسيأتي في تقرير النزاع ما يزيد هذا بيانًا إن شاء الله. ثالثًا: قوله: "قال المفسرون: وهم المؤمنون ... " إلخ.

رابعا: قوله: "وهذا اتخاذ مسجد على قبر".

سيأتي إن شاء الله بيان الخلاف فيه، وأن الراجح أن قائلي ذلك هم أهل الشرك. رابعًا: قوله: "وهذا اتخاذ مسجد على قبر". وفيه ما مرّ؛ أن القوم لم يتحققوا موت الفتية حتى يصح أن يكون لهم قبر، ولو صح موتُهم فلم يكن لهم قبر، وإنما كانوا في صحن الكهف. ومع هذا، فإنه على الاحتمال الراجح أن الواقع هو إحدى الصور الثلاث، فواضحٌ أن بناء المسجد لا يكون داخل الكهف، وكذا على الاحتمال المرجوح أن الواقع هو إحدى الصورتين الأخريين؛ لأنه يمتنع أن يهموا ببناء مسجد محتوٍ على جثث الفتية بارزة، والكهوف وإن كانت أكبر من الغيران، فالغالب أن تكون صغيرة لا تسع بناءً كبيرًا، كبناء يشتمل على جثث تسعة أشخاص، مع بناء مسجد فوق ذلك البناء يتسع للمصلين (¬1). [ص 15] ثم اعلم أن "على" في الآية في الموضعين لا تصلح لمعناه الحقيقي، وهو كون المستعلي فوق المستعلى عليه، محمولًا عليه، وكذا أن يكون مُسامتًا له من فوق في الهواء، بحيث لو سقط سقط عليه، فما بقي إلا الاستعلاء المجازي بأحد الأوجه الآتية: إما بأن يكون المستعلي مجوفًا ينطبق على المستعلى عليه، كالجفنة على البيضة. وإما أن يكون مستديرًا عليه، كالسور على المدينة. وإما بأن يكون بمعنى: سدًّا لمنفذ. تقول: بنيت على الضبع جدارًا، إذا ¬

_ (¬1) هذه نهاية ص 10 بترقيم المؤلف، ثم أشار إلى أن التكملة في ص 29.

سددتَ به بابَ وِجارِها. وإما بأن يكون مشرفًا عليه من قرب، كالدار على دجلة. وإما بأن يكون مشرفًا عليه من علو، كالقلعة على المدينة، إذا كانت على جبل مُطلٍّ على المدينة. والوجهان الأولان ممتنعان هنا؛ لما مرَّ أن الاحتمال الراجح هو أن الواقع إحدى الصور الثلاث الأولى من الصور الخمس المار بيانها، وبيان الترجيح بدليله. وعلى فرض أن الواقع إحدى الصورتين الأخيرتين، فيمتنع أن يُبْنى مسجد على جثث الفتية بارزة، والكهف يضيق عن بناء المسجد وحده، إذا تصورنا إمكان نحت قبورٍ في جوف الكهف، فضلاً عن بناء بنيان على الجثث، ثم بناء مسجد محيط به يتسع للمصلين. والوجه الثالث متعين بالنسبة للبناء لما مرَّ، وأما بالنسبة إلى المسجد فكل منه (¬1)، ومن الوجهين الأخيرين محتمل. وبما أن الأخير ألصق بلفظ "على" لظهور الاستعلاء فيه، مع إمكان أن يكون رأس الجبل الذي يكون البناء فيه فوق الكهف على خط مستقيم، فهو الراجح. ويمكن أن يرجَّح [ص 16] أيضًا بأن الظاهر من ذكر المسجد أنهم قصدوا أن يكون معدًّا للصلاة، والظاهر من المقام أنهم قصدوا مع ذلك أن يكون تذكارًا لتلك الآية البالغة. ¬

_ (¬1) "فكل منه" كذا قرأتها، وهي غير واضحة لأنها في طرف الورقة.

وبناء المسجد إعدادًا للصلاة إنما يكون بحيث يكثر وجود المصلين، وليس محل الكهف كذلك؛ لأن الفتية اختاروه مخبأً لهم، ولا يختبئون إلا بمكان بعيد عن الناس. واحتمال أن يكون عَمَر ذلك المكان بعد نومهم يأباه قولهم لما بُعِثوا: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ} الآية [الكهف: 19]، مع ما روي أنه ذهب إلى المدينة، القصة التي يذكرها المفسرون. ويأباه أيضًا قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} [الكهف: 21]. والإعثار إنما يستعمل في الشيء الخفي الذي لم يكن مترقبًا، والكهف - وإن كان ممنوعًا بالرعب - إذا كان بين العمارة يكون مترقبًا بسبب منعه بالرعب، هذا بخلاف رأس الجبل، فإنه لا مانع أن تكون عليه قرية مسكونة، محتاجة إلى مسجد. وقَصْد التذكار يقتضي أن يكون بحيث يشاهده الناس ويرونه، وباب الكهف كجوفه لا يصلح لذلك، وأما خارجه فإنه وإن أمكن أن يكون مشاهدًا، إلا أن رأس الجبل أظهر في ذلك. وعليه، فيكون المراد بناء المسجد على رأس الجبل عند القرية التي قدمنا احتمال وجودها، ويُكْتب فيه تاريخ العثور على الفتية وخبرهم، وما يتعلق بذلك. وحينئذٍ يكون مسجدًا وتذكارًا كما يقتضي الحال. [ص 17] ولكن هذا الترجيح معارضٌ باحتمال أن الغالبين إنما أرادوا بناء المسجد؛ ليكونوا يحضرون لزيارة قبور الفتية، والتبرك بها، والصلاة في

المسجد المنسوب إليها. وعلى هذا، فيجب أن يكونوا عزموا على بنائه بقرب الكهف، إن لم يكن في جوفه. وسيمرّ بك ما يؤيد هذا، إلا أنه على كل حال لا يحتمل أن يكون في جوف الكهف؛ لما قدمنا. خامسًا: قوله: "فلما قصَّ الله عزَّ وجلَّ هذا في كتابه، ولم يصحبه ما يدل على حظره، دل على جوازه". فالجواب: يمنع أن يكون مثل هذا دليلًا على الجواز، سواءً أريد الجواز في تلك الواقعة فقط، أم في شرع تلك الأمة مطلقًا، أم في شرعنا بواسطة أننا متعبدون بشرع مَن قبلنا، أم في شرعنا مباشرة. فقد قص عزَّ وجلَّ ما جرى من إخوة يوسف، ولم ينص في نفس القصة على حُرْمة كل ما هو حرام من تلك الأفعال، وإن ذكر الحكم في موضعٍ آخر من القرآن، فذلك لبيانه من حيث هو، لا ليكون تنبيهًا على ما في تلك القصة، وإلا لكان ناسخًا ومنسوخًا, ولا قائل به. وفي القصة أنهم باعوه، وقد بينت السنة منع بيع الحر، وإن كان ابنًا أو أخًا للبائع. وعلى فرض أن مثل هذا يكون دليلًا على الجواز، فالذي في الآية مجرد العزم، فلا يدل على جواز الفعل. وعلى فرض التسليم بأنها تدل على جواز الفعل، فذلك لو لم يصحبها التنبيه بالحظر، وقد صَحِبها.

أما التنبيه الموعود؛ فهو على أوجه: مصحوب بالآية نفسها، وواقعٍ في محلًّ آخر من القرآن، وواقعٍ في السنة. فأما الذي في الآية، فبيانه: أن الله عزَّ وجلَّ قال: {إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ}، فدل على تنازعٍ كان بين القوم في أمر الفتية. ثم قال تعالى: {فَقَالُوا} فدل لوجود الفاء أن هذا بيانٌ وتفصيلٌ للتنازع المجمل قبل، كما تقول: اختلف الأئمة في كذا، فقال فلانٌ كذا، وقال فلانٌ كذا ... إلخ. ثم إن جُعِلت الواو للجميع بناءً على الظاهر، ففي الكلام حذفٌ لا يتحقق التنازع الذي صرح به في الآية، وقام الدليل على أن ما بعد الفاء بيانٌ له، إلا بتقديره، كأنهم (¬1) قال: فقالوا جميعًا: ابنوا عليهم بنيانًا ربهم أعلم بهم. ثم قال أحد الفريقين: لا تزيدوا شيئًا غير البنيان مِن مسجدٍ وغيره = {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا ...} إلخ. فاتفق القوم أجمعون على بناء بنيان لسَتْر جثث الفتية، وتنازعوا في بناء المسجد. وإذا جُعِلت الواو لأحد الفريقين أطلقت بلا تأويل، وصحَّ مجيء الضمير مع عدم تقدّم مرجع له؛ لتقدم ما يدل عليه، وهو التنازع الدال على افتراقهم، فكأنه قال: "ففريقٌ منهم قالوا ... " ففي الكلام إيهامٌ، أي: أن القائلين هم الجميع. ¬

_ (¬1) كذا ولعلها: "كأنه".

وإذا جعلتها لأحد الفريقين بتأويل، أي: أنها عائدةٌ صناعةً إلى القوم جميعًا, ولكن لا على أنهم قالوا ذلك كلهم حقيقةً، بل على إقامة القائلين مُقام الجميع، فكأن القوم كلهم قالوا ذلك. فأطلق على الفريق الأول الضمير الذي ظاهره أنه للجميع، لإقامة ذلك الفريق مقام الجميع، كأن الفريق الثاني لا وجود له. والثاني أرجح؛ لما تقدم أن الفاء تدل على أن ما بعدها تفصيلٌ للتنازع، فلزم أن يكون مدخولها مما وقع فيه التنازع، وهذا إنما يتم على الثاني. وأيضًا المجاز والإيهام على المعنى الذي قدمناه أبلغ من الحذف. وأيضًا يؤيده قوله: {ابْنُوا} بالخطاب، ولو كان القائلون هم الجميع، لكان الظاهر أن يقال: "نبني" أو نحوه. إذا تقرر هذا فأي الفريقين المؤمنون؟ فإن المفسرين اختلفوا في ذلك، كما سيأتي نقل كلامهم إن شاء الله (¬1). فذهب بعضُهم إلى أن الغالبين هم المؤمنون، بناءً على عزمهم على اتخاذ المسجد، وعلى أخبارٍ مأثورة عمَّن قبلنا. أما نحن فنقول: إن مجرَّد العزم على اتخاذ المسجد لا يكفي، بل ربما كان كفرًا كما ذكره الله عزَّ وجلَّ في أهل مسجد الضرار، وربما فعله المتدينون جهلاً، وهو حرامٌ كبنائه في غير المِلك، أو في طريق عامة، أو نحو ذلك. ¬

_ (¬1) لم يذكر المؤلف في هذه النسخة اختلاف المفسرين الذي وعد به. وذكر طرفًا منه في النسخة الأخرى في آخرها (ص 131 وما بعدها). وانظر "تفسير الطبري": (15/ 217)، و"الدر المنثور": (4/ 392)، و"تفسير ابن كثير": (5/ 2152).

وأما الأخبار المأثورة؛ فإن صحَّ شيءٌ منها عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم نظرنا فيه، وفي الأدلة المخالفة، وأخذنا بالأحسن كما أمرنا عزَّ وجلَّ. وإن كانت عن غيره من أئمة أمته، نظرنا دليلهم، ورجحنا. وإن كانت عن أهل الكتاب، لم نعبأ بها، فقد أُمرنا أن لا نصدّقهم في شيءٍ، وخاصة في هذه القصة نفسها، قال الله عزَّ وجلَّ: {وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ} [الكهف: 22] أي: الفتية {مِنْهُمْ} أي: أهل الكتاب {أَحَدًا}. أما ورود شيءٍ عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم فلم يبلغنا، وأما عن بعض الأئمة، فنعم، ولكن لم نعلم لهم دليلًا إلا عزم الفريق الثاني على اتخاذ المسجد، وتقرر ما فيه، ومع ذلك ننظر في أدلة القول الآخر. فننظر أولاً في الآية. فنجد أولاً: إطلاق ضمير الجميع على الفريق الأول، أو إيهام ذلك، يدل أن له مزية استحق بها أن يُقام مُقام الجميع، وهذه المزية ليست الغلبة؛ لأن الله عزَّ وجلَّ أثبتها للفريق الثاني، فلم يبق هناك ما يصلح لكونه مزية بهذه المثابة إلا العلم والدين. ونجد ثانيًا: أن الله عزَّ وجلَّ حكى عن الفريق الأول قولهم: {رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ}. وهذه كلمة جليلةٌ، تدل على علم قائلها ودينه. ونجد ثالثًا: تقديم الله عزَّ وجلَّ للفريق الأول، والتقديم يُشْعِر بمزية للمقدم، وأقرب ما يتصور من المزايا: العلم والدين. ونجد رابعًا: قوله عزَّ وجلَّ في الفريق الثاني: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى

أَمْرِهِمْ} فأَشْعَر أن الحامل لهم على هذا العزم هو الغَلَبة، على ما قرره علماء البيان، في باب المسند إليه في مجيئه موصولًا؛ للإيماء إلى وجه بناء الخبر (¬1). وقرّره أهل الأصول (¬2): أن إيقاع الحكم على المشتق يؤذن بِعِلِّية ما منه الاشتقاق، وهو في الموصول أوضح. والغالب أن الغلبة تكون سببًا للمعصية، والغالبُ في الأمم السابقة: أن الغلبةَ إنما تكون للضالين، والغالبُ في الأمم السابقة أيضًا: التكذيب بالآيات، والضلال فيها نوع من التكذيب بها. قال الله عزَّ وجلَّ: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]. وقال تبارك وتعالى: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [الأعراف: 102]. وعلى كل حال، فوصف هؤلاء بالغَلَبة، مع وصف مقابليهم بما تقدم، يُشْعر بأنهم ذوو جهل وغلو، واتخاذ المسجد لا ينافي الجهل والغلو، كما لا يخفى. وننظر ثانيًا في غير هذه الآية من القرآن؛ فنجد قوله عزَّ وجلَّ: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18]. تدل أنه لا ينبغي بناء مسجد ¬

_ (¬1) انظر "التلخيص - شرح البرقوقي" (ص 60)، و"المطوّل شرح التلخيص" (ص 74). (¬2) انظر "البحر المحيط": (5/ 201) للزركشي، و"التحبير شرح التحرير": (7/ 3349 - 3350) للمرداوي.

على قبر، كما سيأتي إن شاء الله تعالى (¬1)، وهذا هو القسم الثاني من التنبيه. وننظر ثالثًا في السنة النبوية؛ فنجدها متواترة بذمّ الذين كانوا من الأمم السابقة يتخذون قبور أنبيائهم وصُلَحائهم مساجد ولَعْنهم، واشتداد غضب الله عليهم، كما سيأتي بيانه إن شاء الله. وقد جاء النصّ على النصارى بشيءٍ من الأحاديث، كما سيأتي إن شاء الله (¬2)، ولا سيما وأكثر المفسرين على أن القوم الذين أعثروا على أهل الكهف كانوا نصارى، فتبين الصبح لذي عينين. ونقطع أن الفريق الأول هم أهل العلم والدين، وأنهم محمودون بما ذهبوا إليه من الأمر ببناء جدار على باب الكهف، يستر جثث أولئك الفتية. وأن الفريق الثاني بخلاف ذلك كله، في مخالفتهم للفريق الأول، وعزمهم على بناء مسجد على باب الكهف، يكون أحد جدرانه ساترًا للكهف، كما يدل عليه معنى الآية، على ما قدمناه من التفصيل. وهذا هو القسم الثالث من التنبيه. وعلى فرض عدم التنبيه، فهي واقعةُ عينٍ لا عمومَ لها، وعلى فرض قيام دليل على العموم، ففي حق تلك الأمة فقط، بناء على أننا غير متعبَّدين بشرع من قبلنا. وعلى تسليم أننا مُتعبَّدون بشرع من قبلنا، فذلك إذا لم يوجد في شرعنا ما يخالفه، وقد وُجِد كما مرَّ مفصَّلًا. ¬

_ (¬1) (ص 21). (¬2) لم يأتِ شيء في هذه النسخة، وانظر الأخرى (ص 24، 132).

فإن قيل: إن الدليل هنا على كونه شرعًا لِمَن قبلنا في الكتاب، والدليل المخالف له في السنة، فيكون نسخًا للكتاب بالسنة. أجيب: أن في جواز نسخ الكتاب بالسنة خلافًا, ولكن لا حاجة بنا لذكره، وبيان الراجح، فإن ما نحن فيه ليس من نسخ الكتاب بالسنة في شيء، وإنما هو من نَسْخ شرع من قبلنا بشرعنا، والمنسوخ في الحقيقة هو خطاب من الله عزَّ وجلَّ لنبي تلك الأمة. فأما الآية التي في كتابنا، فأقصى ما يُدَّعى فيها: أنها في قوة خبر، بأن ذلك الفعل كان جائزًا في شرع تلك الأمة، وهذا - على فرض صحة الدعوى - خبرٌ صادق لا يتصور نسخه أصلًا، وهذا بيِّنٌ، فلا نطيل بزيادة إيضاحه، وذكر أمثلته. [ص 10] بقي أن يكون المراد بالجواز المدَّعى دلالة الآية عليه، الجواز في شرعنا مباشرة، وهذا لا وجه له. وعلى فرض أن له شِبْه دلالة، فأقصى ما يُدَّعَى فيها أنها دلالة ظاهرة. فيجاب: بأن السنة بينت عدم اعتبارها, ولا حاجة لزيادة الفروض والتسليمات، فالأمر أوضح من ذلك. سادسًا: قوله: "بل إذا لاحظنا أن القَصَص الوارد في القرآن لم يرد لمجرَّد حكاية وقائع تاريخية، وإنما هو للاعتبار ... " إلخ. قد يقال: إن قصة أصحاب الكهف نزلت - كما في أسباب النزول (¬1) - لما سألت قريشٌ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم عنهم بإيعاز اليهود إليهم، ¬

_ (¬1) انظر "الدر المنثور": (4/ 380).

فكانت الحكمة في إنزالها أن تكون معجزةً له صلَّى الله عليه وآله وسلم بالإخبار عن حالهم، ولا يعلمه أحدٌ إلا أن بعض أهل الكتاب يعلم بعضَه، وهذه الحكمة كافية. ولما كانت المعجزة لا تتم إلا بحكاية القصة على وجهها، دخل فيها التآمر بالبناء، والعزم على اتخاذ المسجد، فلا يلزم أن يكون لهما حِكْمة خاصة. على أن الحق الحقيق هو أن نقول: إن لها حكمة خاصةً غير ما ذكرتموه، وهي [أن] في التآمر بالبناء تنبيه الأمة إلى سدِّ القبور، وأن لا تترك فيها فُرْجة، وأن أهل العلم والدين ممن قبلنا كانوا يكتفون بذلك، وينازعون من أراد غير ذلك، كبناء مسجد. وفي اتخاذ المسجد بيان مخالفة العامة لأولي العلم والدين، وضلالهم من حيث إنهم يَحْسبون أنهم يحسنون صنعًا، وتحذيرنا من مثل ذلك. وصحَّ تصديق الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلم فيما كان يقوله لأصحابه: [ص 7] "إن من كان قبلهم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصُلَحائهم مساجد" (¬1)، إلى غير ذلك من المناسبات. سابعًا: قوله: "فأرشدنا عزَّ وجلَّ بهذه الآية إلى ما ينبغي أن نعمله إذا مات فينا رجل صالح، أي: أننا على الأقل نبني على قبره بنيانًا، والأكمل أن نتخذ عليه مسجدًا". الجواب: أن الحق عكس ذلك، كما علمتَ مما قدمناه، دلت عليه الآيةُ ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (532) من حديث جندب البجلي رضي الله عنه.

نفسُها، وغيرها من القرآن والسنة المتواترة. ولو كان ما زعمتَه مراد الله عزَّ وجلَّ، لكان فَهِمَه رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم، وعَمِل به في حياته في حق أصحابه الذين توفوا في حياته، كعثمان بن مظعون، وسعد بن معاذ، وعمه حمزة، ومن معه من الشهداء، وأولاده صلَّى الله عليه وآله وسلم. وعدم فعله صلَّى الله عليه وآله وسلم ذلك كافٍ في إبطال هذا الزعم، فكيف والواقع أنه ثبت عنه النهي عن البناء على القبور، والأمر بتسويتها مطلقًا، وتواتر عنه لعن من اتخذ القبور مساجد، وفي بعض الروايات الصحيحة التصريح بأن المراد باتخاذها مساجد بناء المساجد مشتملة عليها، وسيأتي بيان الأدلة التي تدل على أن مثل ذلك بناء المساجد عند القبور وإن لم تكن مشتملةً عليها، وكذا بناؤها لأجلها وإن كانت بعيدة عنها. وسيأتي إيضاح ذلك إن شاء الله (¬1). ثم جاء مِن بعده أصحابه، فلزموا طريقته، وثبت عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه بعث صاحب شرطته لتسوية كلّ قبرٍ مشرفٍ مطلقًا (¬2)، واستمرَّ الحالُ على ذلك في القرون الأولى المشهود لها بالخير، حتى جاء بعض المتشيّعين بعد الألف، يزعم أن الآية تدل على خلاف ذلك كله، سبحانك هذا بهتان عظيم!! وقال الله عزَّ وجلَّ: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18]. ¬

_ (¬1) (ص). (¬2) سبق تخريجه موسَّعًا في المبيضة (ص 50 وما بعدها)، ورواية "صاحب الشرطة" في (ص 66) منها.

وتقرير الاستدلال بالآية: أن لفظ "المساجد" عام يتناول كل مسجد، والجملة مفيدة للاختصاص، كما في {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة: 1]، بل الأمر ههنا أظهر، والحصر ههنا حصر إفراد، لقوله: {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} أي: أن المساجد كلها لله وحده لا شريك له، خالصةً من كل شرك. فتبين أن من خواصِّ المسجد أن يكون خالصًا لله، فمن بني بناءً، وزعم أنه قصد به أن يكون مسجدًا، فإن كانت نيته في بنائه خالصة لله وحده لا شريك له، كان البناء مسجدًا. وإن لم يكن كذلك، كأنْ قَصَد أن يكون على قبر فلان الصالح، [ص 11] أو بالقرب منه، فهذا لم يُبْنَ خالصًا لله وحده لا شريك له، وبهذا فُقِدَت منه تلك الخاصَّة المعتبرة في المساجد. ومما يُؤيَّد به هذا الاستدلال حديث مسلم (¬1) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عَمِل عملاً أشركَ فيه معيَ غيري، تركتُه وشرْكَه". وفي رواية: "فأنا منه بريء، وهو للذي عَمِلَه" (¬2). والذين يبنون المساجد على القبور لا يحملهم على بنائها إلاَّ وجود القبور، حتى لو لم يكن هناك قبورٌ لما بنوا. ويجاب عن هذا: بأن غاية ما فيه أن يكون وجود القبر سببًا حاملًا على بناء المسجد، وهذا كما يمرّ إنسان على قرية آهلةٍ، ليس لها مسجد، فيحمله ذلك على أن يبني فيها مسجدًا، وبأن قَصْد أن يكون المسجد على قبر فلان ¬

_ (¬1) رقم (2985). (¬2) هذا لفظ ابن ماجه رقم (4202)، وابن خزيمة في الصحيح رقم (893) وغيرهما.

الصالح، أو بقربه قَصْد شرعي أيضًا، ومثل هذا لا يضر كما كان النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم يصلي بالناس أداءً للفريضة، وليعلم الناس. ويردّ هذا بوضوح الفرق في كلا الوجهين، فالذي مرَّ على القرية الآهلة وليس لها مسجد، فحمله ذلك على بناء مسجد فيها، إنما استجاب لسبب شرعي، وهو أن الشرع إنما يدعو إلى بناء المساجد عند الحاجة إليها، فلو كان لقرية [ص 12] مسجد يكفي أهلها, لم يستحبّ بناء مسجد آخر فيها، بل يكره أو يحرم؛ لكونه يكون سببًا للتفريق، وضياعًا للمال الذي يستدعيه البناء في غير محله، وتحجُّرًا لتلك البقعة عن أن ينتفع بها المسلمون في غير فائدة. فالحاصل: أن هذا الرجل لما مرَّ على القرية المذكورة سمع نداء الشرع يقول له: إن الله عزَّ وجلَّ يدعوك إلى بناء مسجد في هذه القرية، يُصلَّى له فيه، ويُذْكَر فيه اسمه. وأما باني المسجد على القبر، فلم يستجب لسبب شرعي؛ لأن الشرع لا يدعو إلى بناء المساجد على القبور، بل حرَّم ذلك، واشتدَّ غضب الله ولعنته على فاعله، نعم، إنما استجابَ لداعٍ شيطاني، يقول له: إن الشيطان يدعوك إلى بناء باسم مسجد على هذا القبر، ليكون ذلك معصيةً لله ورسوله، ويشتد غضب الله ولعنته على بانيه، ومن أعانه، أو رضي بفعله، أو لم ينهه بقدر طاقته، ويتطاير شرر ذلك إلى من صلَّى فيه، ويتشعَّب ذلك إلى شعب أخرى، هي ملحظ الشارع في النهي عن بناء المساجد على القبور. ومما يكشف عُوار هؤلاء: أن أحدهم يعرف عدة قرى آهِلَة، ليس فيها مساجد، فلا يستجيب داعي الشرع لبناء مسجد فيها، ثم يعمد إلى قبرٍ بقفرة،

أو بمدينة كثيرة المساجد، فيبني عليه. وأما صلاة النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم أداءً للفريضة مع قَصْد تعليم الناس، فقصد التعليم قصدٌ شرعي شريف، وأين منه قصد الانغماس في غضب الله ولعنته؟! ***

تحديد محل النزاع

[ص 24] الحمد لله تحديد محلّ النزاع مما لا نزاع فيه أن المقصود من دَفْن جثث الموتى، إنما هو مواراتها، قال الله عزَّ وجلَّ في قصة ابني آدم: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ ...} الآية [المائدة: 31]. وعليه، فالأصل أن يُقْتَصر على القدر الكافي للمواراة. وهل يجوز أن يتعدّى ذلك؟ لا خلاف أن القبر إذا كان بمقبرة مُسَبَّلة لم يجز أن يتعدّى به القدر الكافي, لأن التعدي تصرُّفٌ في غير حق، سواءً أكان التعدي بالإفراط في توسعة القبر، أم بالبناء عليه، أم بإحكام رَدْمه حتى يشقّ حَفرُه. أما الإفراط في التوسعة والبناء على القبر، فواضحٌ؛ لأنه لا حقَّ إلا في القدر الكافي. وأما إحكام الرَّدْم حتى يشقّ الحفر؛ فلأنه لا حقَّ للجثة في تلك البقعة، إلا ما دامت محتاجةً للمواراة، فإذا صارت ترابًا زال الحق [ص 25] لزوال المقتضي، وإذا صارت عظامًا لم يكن الحق إلا في القدر الكافي لتلك العظام. إذا فهمتَ هذا، فلا شك أن لأولياء الموتى الحق في حفر القبور في أي موضعٍ كان من المقبرة المُسَبَّلة ما دام غير مشغول بحق آخر، فلهم الحق بالحفر في موضع القبر الذي يُظَن أن الجثة التي فيه قد أَرِمت، فإذا كان

المقبرة المسبلة

محكمًا، فإن الحفر يشق عليه جدًّا، حتى ربما تركوا تلك البقعة لذلك. فظهر أن الشخص الذي أحكم البناء قد تصرَّف في غير حقه تصرفًا يضر غيره من المستحقين في وقت استحقاقهم، وهذا حرامٌ لا شكّ فيه. المقبرة المُسَبَّلة: أما المقبرة المُسَبَّلة؛ فهي بقعة غير مملوكة، خُصّصت للدفن، بحيث لا يجوز أن تُبنى فيها دار للسكنى، أو حمام، أو مصنع، أو نحو ذلك. فدخل ما عُلِم أنه كان مملوكًا، وأن المالك سبَّله للدفن، وما عُلِم أنه كان مَواتًا حتى يشرع في الدفن فيه، وكذا ما لم يُعلم حاله قبل تخصيصه للدفن؛ لأن الأصل عدم الملك، فالظاهر أنه كان مَواتًا حتى خُصِّص للدفن. أمّا ما عُلِم أنه كان ملك شخص، ولم يعلم أنَّه سبَّله، ففيه نظر. وليس من موضوعنا؛ لأنه إن لم يُحْكَم بالتسبيل حُكِم ببقاء المِلك، فيمنع الدفن، ويكون للورثة الاستيلاء على البقعة وحرثها، أو البناء فيها للسكنى، أو غير ذلك، بعد بِلى من دُفِن فيها سابقًا، إلى غير ذلك مما لا يهمنا. [ص 27] الدفن في المَوات: الدفن في المَوات في حكم الدفن في المسبَّلة؛ لأن مجرد حفر القبر والدفن فيه ليس إحياءً مُملِّكًا، وإنما يفيد الأحقية ما دامت الجثة باقية. كل هذا مما يغنينا اتفاقُ العلماء عليه عن ذكر حُجَجِه، مع أن الآية التي صدَّرنا بها البحث دالة عليه، كما لا يخفى على العارف. وعلى كل قادر النهي عن الإفراط في التوسعة، والإحكام، والبناء في

تنبيه

المُسبَّلة، وإزالة ذلك، ولو قبل البلى، وقبل الاحتياج إلى تلك البقعة؛ لأن الفعل الحرام يجب إزالته في كل حال. فأما بعد البلى، فإن بقعة القبر نفسها تستعمل. [ص 28 ب] تنبيه: ليس من البناء المحرَّم أن يموت ميت في غار، ويتعذَّر إخراجه منه، فيُسَدّ باب الغار، ومِنْ هذا ما حكاه الله عزَّ وجلَّ في قصة أصحاب الكهف من قول القوم: {ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا}، فإن الفتية لما رجعوا إلى الكهف بعد بروزهم إلى القوم الذي يقتضيه إظهار الآية، عادوا إلى مضجعهم، وعاد الرعب الذي ذكره عزَّ وجلَّ بقوله: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} [الكهف: 18]، وانتظرهم القوم خارج الكهف حتى يئسوا، كما يدل عليه قولهم: {رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ}، أي: أماتوا، أم عادوا إلى نومهم. وليس المراد {أَعْلَمُ بِهِمْ} مِمَّن هم؟ وكم لهم؟ لأن الآية التي أعثر الله عليهم لأجلها لا تتم إلا بأن يخبروا القوم بأنهم كانوا في عهد كذا، وجرى لهم كذا، وسيأتي بَسْط الكلام على هذه الآية في فصل "اتخاذ المساجد على القبور" إن شاء الله (¬1). ¬

_ (¬1) تقدم الكلام على قصة أصحاب الكهف بالتفصيل عند استدلال المخالف بالآية على جواز البناء على القبور انظر (ص 5 - 22). ولعل المؤلف أراد تأخير هذا البحث إلى الموضع الذي ذكره أعلاه وهذا ما وضعه في النسخة الأخرى انظر (ص 131 - 138).

الوصية بالدفن في الملك

الوصية بالدفن في المِلك: قرر العلماء أن الشخص إذا أوصى أن يُدفن في ملكه، لم تنفَّذ وصيته، بل يدفن في مقبرة المسلمين، فإن أراد الورثة أن يدفنوه حيث أوصى كان دفنًا في ملك الدافن، وسيأتي حكمه. وإذا أوصى مع ذلك أن يُفْرَط في توسعة قبره، وإحكامه، والبناء عليه، وأراد الورثة الدفنَ المعتاد فقط، لم يلزمهم غيره، فإن فعلوا، فهو في ملكهم، وسيأتي حكمه. [ص 28] الدفن في مِلك الدافن: السُّنَّة المطَّرِدة في عصره صلَّى الله عليه وآله وسلم الدفن في مقبرة المسلمين، أما دفنه صلَّى الله عليه وآله وسلم في بيت زوجِه فله سببٌ خاصٌّ، سيأتي إن شاء الله بيانه، وبيان سبب دفن صاحِبَيه معه في فصلٍ مفرد (¬1). ثم إن الدفن في ملك الدافن لا يقتضي التخليد، فله بيع البقعة التي فيها القبر، وتدخل بقعة القبر في البيع، كما أنه إذا مات وُرِثت عنه، وإذا وقفها مقبرةً أو غيرها، دخلت بقعة القبر في الوقف، ولكن لا يجوز استعمال بقعة القبر إلا بعد البِلى، فإذا كان البِلى، جاز استعمالها بزرع وبناء للسُّكْنى وغيره. [ص 29] محلُّ النزاع: بقي رفع القبر في غير الملك، بدون إحكام ولا بناء، وإنما هو بزيادة حصى ورمل وتراب يُرْكَم عليه حتى يرتفع. ¬

_ (¬1) لم يتمكن المؤلف من عقد هذا الفصل في هذه النسخة.

الرفع في غير الملك

وبقي الرفع، والتوسعة، والإحكام، والبناء فيما إذا كان في ملك الفاعل، وهذا هو الذي يصلح أن يكون محلًا للنزاع. الرفع في غير المِلك لا شك أن الرفع زائدٌ على القدر الكافي للمواراة التي هي المقتضي للدفن، كما دلت عليه الآية، وفيه أيضًا ضرر على المستحقين إذا أرادوا حفر القبر بعد البِلى، وإن كان خفيفًا، فهذا يقتضي المنع، فالدليل على من يدعي الجواز. [ص 30] بِيَد المجيزين متمسَّكات: منها: ما علقه البخاري في "صحيحه" (¬1) في باب: الجريد على القبر، قال: "وقال خارجة بن زيد: رأيتني ونحن شبَّان في زمن عثمان رضي الله عنه، وإن أشدنا وثبةً الذي يَثِبُ قبرَ عثمان بن مظعون حتى يجاوزه". وهذا وإن كان معلقًا إلا أن البخاري ذكره بصيغة الجزم، وذلك حكمٌ بصحته (¬2)، كما هو مقررٌ في موضعه. ومنها: ما رواه الشافعي عن [إبراهيم بن محمَّد] (¬3) عن جعفر بن محمَّد عن أبيه: أن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم حثى على الميت ثلاث حثيات بيديه جميعًا (¬4). ¬

_ (¬1) (2/ 95 - الأميرية). (¬2) يعني إلى من علقه عنه. وانظر "هدى الساري" (ص 19 - 22). (¬3) ما بين المعكوفين تركه المؤلف بياضًا. (¬4) أخرجه الشافعي في "المسند" رقم (601)، و"الأم": (1/ 628 - 629).

وأنه رشَّ على قبر ابنه إبراهيم، ووضع عليه حصباء (¬1). وهذا مرسلٌ صحيحٌ، وأكثر الأئمة يحتجون بالمرسل. والشاهد في وضع الحصباء، ولا شك أن وضعها على القبر يؤثّر في رفعه. [ص 31] ومنها: ما أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (¬2) قال: ثنا يحيى بن سعيد عن سفيان عن أبي حصين عن الشعبي: رأيتُ قبور شهداء أحد جُثًى مُسنَّمة. وهذا الحديث صحيح، ذكره في "الجوهر النقي" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه الشافعي في "المسند" رقم (599). من الطريق نفسها. وتكلم المصنف عن إسناد الأثر في النسخة الأخرى (ص 23) قال: "إبراهيم بن محمَّد: أجمع الأئمة على تضعيفه، إلا ابن الأصبهاني والشافعي، قال الشافعي: كان لأن يخر من السماء - أو قال: من بُعد - أحبّ إليه من أن يكذب. وصرح جماعة من الأئمة بأنه يكذب، وقال الإِمام أحمد: يضع. وقال ابن عدي: قد نظرت أنا الكثير من حديثه، فلم أجد له حديثًا منكرًا، إلا عن شيوخ يحتملون، وقد حدث عنه الثوري وابن جريج والكبار. وعلى كل حال، فالرجل ضعيف، ومع هذا فالحديث مرسل، وفي الاحتجاج بالمرسل خلافٌ، لا حاجة لذكره" اهـ. قلت: وللحديث الأول شاهد عند ابن ماجه (1565) من حديث أبي هريرة، وضعفه أبو حاتم الرازي. وللثاني شاهد عند أبي داود في "المراسيل" (424)، وآخر رواه البيهقي (3/ 411) عن جعفر بن محمَّد عن أبيه في الرش على القبر. (¬2) (3/ 215). وأبو داود في المراسيل" (423)، وعبد الرزاق: (3/ 505) من طريق الثوري أخبرني بعض أصحابنا عن الشعبي بمثله. (¬3) (4/ 4 - بهامش سنن البيهقي).

والجواب

ومنها: الإجماع من المسلمين على رفع القبور في المقابر المسبَّلة، واختلافهم في قدره وكيفيته لا يقدح في الإجماع، ما داموا مجتمعين على أصل الرفع. ومنها: أن للقبور أحكامًا؛ من النهي عن القعود عليها، والصلاة إليها، وغير ذلك، وهذا يقتضي رفعها؛ لتتميز عن الأرض، فتُعْرف. [ص 32] والجواب: • أما أثر خارجة؛ فقال في "فتح الباري" (¬1): "إن البخاري وصله في "تاريخه الصغير". وقد نظرنا "التاريخ الصغير"، فوجدناه قال (ص 23) (¬2) طبعة إله آباد: "حدثنا عَمرو بن محمَّد ثنا يعقوب ثنا أبي عن ابن إسحاق حدثني يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي عَمْرة الأنصاري قال: سمعت خارجة بن زيد بن ثابت: رأيتني ونحن غلمان شُبَّان زمن عثمان، وإن أشدّنا وَثْبة الذي يَثِبُ قبر عثمان بن مظعون حتى يجاوزه" اهـ. والكلام عليه من وجوه: أولاً: من حيث إسناده. فيه ابن إسحاق، وهو وإن كان الحق أنه صدوق، وصرَّح بالتحديث، فالتحقيق ما قاله الذهبي في "الميزان" (¬3) في فَذْلَكة (¬4) ترجمة ابن إسحاق ¬

_ (¬1) (3/ 265). (¬2) "التاريخ الأوسط" رقم (126 - ط الرشد). (¬3) (4/ 395). (¬4) أي في نهايتها.

ثانيا: إذا سلم إسناده، فإن في "تهذيب التهذيب"

قال: "فالذي يظهر لي أن ابن إسحاق حسن الحديث، صالح الحال، صدوق، وما انفرد به ففيه نكارة، فإن في حفظه شيئًا، وقد احتجَّ به أئمة، فالله أعلم". وهذه القصة قد انفرد بها، ففيها نكارة. ويحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي عَمْرة، لم أطَّلع له على ترجمة (¬1). [ص 33] ثانيًا: إذا سلم إسناده، فإن في "تهذيب التهذيب" (¬2) في ترجمة خارجة: قال ابن نُمَير وعَمرو بن علي: مات سنة (99)، وقال ابن المديني وغير واحد: مات سنة مائة. فظاهر هذا أن الأكثر على أن موته كان سنة مائة، والجمع أولى، بأنه مات أواخر سنة (99). وفي "تاريخ ابن عساكر" (¬3) أنه توفي وعمره سبعون سنة، وذكر لذلك قصة: أن خارجة قال: رأيتُ كأني بنيتُ سبعين درجة، فلما فرغت منها تهورت (¬4)، وهذه السنة لي سبعون سنة قد أكملتها. قال: فمات فيها. ¬

_ (¬1) ترجم له البخاري في "التاريخ الكبير": (8/ 284)، وابن حبان في "الثقات": (7/ 603). (¬2) (3/ 95). (¬3) (15/ 396). (¬4) غير محررة في الأصل، وسبقت بنحو هذا الرسم في "المبيَّضة" (ص 49)، وهي هكذا في التاريخ وبعض المصادر، وفي بعضها الآخر: "تدهورت".

ثالثا: إذا سلم إسناده، ولم نعتبر هذه علة قادحة فيه

ونقل مثله ابن خلكان (¬1) عن "طبقات ابن سعد" (¬2). فإذا نقصنا سنين عمره من سنين الهجرة لموته، بقي تسع وعشرون، فيكون مولده آخر سنة تسعٍ وعشرين. وعثمان قُتِل سابع ذي الحجة سنة خمس وثلاثين، فيكون سن خارجة يوم قُتِل عثمان ست سنين تقريبًا، فكيف يكون شابًّا في زمن عثمان؟ وقد راجعتُ "طبقات ابن سعد" - طبع أوربا - فرأيته روى هذه القصة عن الواقدي. ثالثًا: إذا سَلِم إسناده، ولم نعتبر هذه علةً قادحة فيه، فإنه ينبغي الجمع بأن يُتأوَّل [ص 34] الأثر، بأنَّ قوله: "شبان" مجاز، أراد: أننا غِلْمان أقوياء أصحَّاء، كأننا شبان. ويؤيد هذا كلمة "غلمان" الثابتة في "التاريخ"، وإن حُذِفت في التعليق. ويؤيده أيضًا: أنهم لو كانوا أبناء تسع سنين أو نحوها, لما ذهبوا يتواثبون على قبر رجل من أفضل السابقين، ولا سيما وبجواره قبر ابن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم، وهذا ممنوعٌ في الشرع اتفافًا؛ لأن من رُوي عنه إباحة الجلوس على القبر، لا يبيح التوثُّب عليه. وقوله: "وإن أشدنا وثبة ... " إلخ، يدل أن أكثرهم كان يقصّر فيقع على القبر، والذي يجاوزه يقع على القبور المجاورة، وأبناء الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا يبلغون التمييز إلا وهم عارفون لآداب الدين، ملتزمون لها، ¬

_ (¬1) في "الوفيات": (2/ 223). (¬2) (7/ 258 - ط دار الخانجي).

ولا سيّما مثل خارجة بن زيد. وعلى هذا، فلا دلالة في الأثر؛ لأن الغلام الذي عمره ست سنين - وإن كان قويًّا - يشق عليه أن يَثبَ أكثر من ذراعين ونصف على وجه الأرض، وهذا هو عرض القبر عادة تقريبًا. ويشبه أن يكون قبر عثمان بن مظعون أعرض قليلاً من القبور المعتادة، ويكون خارجة أراد بذلك القول، الإخبار عن عرض القبر؛ ليخبرهم أن السنة توسعة القبر. [ص 35] رابعًا: إذا سَلِمَ إسنادُ الأثر، وقُدِحَ في العلة، وحُمِل على ظاهر قوله: "شبان"، ولم نُبالِ بما يلزم عليه من أن الشُّبان من أبناء أفاضل الصحابة كانوا من التفريط في الآداب الشرعية بحيث يذهبون يتوثَّبون على قبر صحابي من أفاضل السابقين، وقبور من جاوره من أبناء رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم، إذا كان هذا كله، فليس في الأثر أنهم كانوا يَثِبون القبرَ عرضًا أو طولاً، فكلا الأمرين محتمل. وعليه، فيقال: لعلَّ قبر عثمان بن مظعون كان أطول قليلاً من القبور المعتادة، ويكون مراد خارجة الإخبار بذلك ليبين أن السنة توسعة القبور. فإذا فُرِض أن طول القبر نحو خمسة أذرع، فإن هذا القدر كافٍ لأن يشقَّ على الشاب أن يثبه على وجه الأرض. فإن قيل: إن البخاري فهم من هذا الأثر الرفع، ولذلك أورده في "باب الجريد على القبر" (¬1). ¬

_ (¬1) (2/ 95 - الميرية).

وقال الحافظ في "الفتح" (¬1): "وفيه جواز تعلية القبر، ورفعه عن وجه الأرض". فالجواب: أن لفظ الأثر موجودٌ محفوظٌ، ففَهْم البخاري والحافظ ليس بمجرَّده حجة، كما لا يخفى، على أنهما قد يريدان الرفع اليسير، نحو أربع أصابع إلى شبر، وهذا فيه بحثٌ، سيأتي إن شاء الله تعالى. [ص 36] خامسًا: على فرض تسليم أن قبر عثمان بن مظعون كان مرفوعًا، فلا يُدْرَى مَن رَفَعه، إذ قد ثبت أن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم كان ينهى عن رفع القبور، والزيادة عليها من غير حُفْرتها. فكيف يصح أن يقال: إنه صلَّى الله عليه وآله وسلم فعل ذلك؟! بل ورد في نفس قبر عثمان بن مظعون ما ينافي الرفع، ولو قليلاً، وهو كونه صلَّى الله عليه وآله وسلم وضع عليه حَجَرًا، وقال: "أُعَلَّمُ بها قبرَ أخي، وأدفِنُ إليه من مات من أهلي" (¬2). وهذا يدل أنه كان مساويًا للأرض، إذ لو كان مرتفعًا ولو قليلاً لما احتاج إلى العلامة؛ لأنه أول قبر وُضِع هناك، فمجرَّد ارتفاعه كافٍ في التعليم، فدل ¬

_ (¬1) (3/ 265). (¬2) أخرجه أبو داود رقم (3206) ومن طريقه البيهقي: (3/ 412) ولفظهما: "أتَعَلَّم". من حديث المطلب بن عبد الله بن حنطب وليس صحابيًّا. قال الحافظ في "التلخيص": (2/ 141): "وإسناده حسن ليس فيه إلا كثير بن زيد راويه عن المطلب، وهو صدوق. وقد بيّن المطلب أن مخبرًا أخبره ولم يسمّه, ولا يضر إبهام الصحابي ... ".

أنه كان مساويًا للأرض، فخشي صلَّى الله عليه وآله وسلم أن يخفى موضعه بجفاف التراب، وهبوب الرياح والمطر، فعلَّمه بذلك الحجر. وعليه، فيُحْتَمل أن بعض متأخِّري الإِسلام من أقارب عثمان بن مظعون رفع القبر في أواخر مدة عثمان رضي الله عنه، والصحابة رضي الله عنهم مشغولون بالفتنة، ثم سُوِّي بعد ذلك، كما يدلُّ عليه الأثر نفسه، إذ لو كان القبر باقيًا على حاله لما احتاج خارجة إلى هذا القول، بل كان يقول: ها هو القبر موجودٌ على حاله، وهكذا كان في زمن عثمان. [ص 37] سادسًا: لنفرض أن القبر رُفِع، وأنه رفعه بعضُ الصحابة, فليس فعل الصحابي حجة، ولم يكن القبر ظاهرًا لجميع الناس حتى يُدَّعى الإجماع. سابعًا: لنفرض أنه كان ظاهرًا، فإن الصحابة رضي الله عنهم في مدة عثمان وبعده كانوا متفرقين في البلاد مشغولين بالفتن. ثامنًا: لنفرض أنهم كانوا مجتمعين، فقد صحَّ عن كثير منهم رواية النهي عن ذلك، وصحَّ عنهم العمل بموجبه، كما سيأتي بسطه إن شاء الله تعالى، وهذا كافٍ في نفي الإجماع. [ص 38] تاسعًا: هب أنه لم يرد ما يكذِّب الإجماع، فإنَّ في حُجِّية الإجماع خلافًا مشهورًا. عاشرًا: على تسليم أنه حجة، فيشترط أن يُعْلَم، ولا سبيل إلى العلم به، كما هو مقرر في الأصول.

حادي عشر: على فرض تسليم أنه لا يُشْتَرط العلم به، بل يُكْتَفى بأنه لم يُنْقَل ما يخالفه، فإنما يكون حجة إذا لم يَرِد في كتاب الله عزَّ وجلَّ، أو سنة رسوله صلَّى الله عليه وآله وسلم ما يخالفه، وهذا هو الثابت عن عمر وعبد الله وغيرهما، وعن الإِمام أحمد والشافعي، وغيرهما. وذلك أن احتمال وجود مخالف لقول من قبلنا لم يُنْقل قوله، أقوى من احتمال كون النص على خلاف ظاهره، فضلاً عن كون احتمال الحديث الثابت بالإسناد كذبًا، فضلاً عن احتمال النسخ. • [ص 39] وأما مرسل محمَّد بن علي؛ فلا يخفى ما في حُجّية المرسل من النزاع، وأن التحقيق عدم حُجِّيته. وعلى فرض صحته؛ فيُحْمل على وضع كفًّ أو كفين من الحصباء، لتكون علامة على القبر، أو غير ذلك مما لا يؤثر في رفعه الذي ثبت النهي عنه، جمعًا بين الأدلة. لكن يُشْكل على ذلك ثبوت النهي عن الزيادة، والكف من الحصباء زيادة، إلا أنه يمكن تخصيص عموم النهي عن الزيادة بهذا الحديث، هذا على فرض حُجِّيته. • وأما ما رواه ابن أبي شيبة؛ ففي سنده عنعنة سفيان، وهو يدلَّس. نعم، في "فتح المغيث" (¬1) (ص 77) في الكلام على المعنعنات في "الصحيحين" قال: "أو لوقوعها من جهة بعض النقَّاد المحققين سماع المعنعن لها ... والثوري بالنسبة لحديث القطان عنه ... الخ". ¬

_ (¬1) (1/ 218 - 219 - الجامعة السلفية).

لكن ليس فيه أن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم اطلع على ذلك، ومجرَّد احتمال ذلك يرده، فلعله أحدثه بعضُ التابعين الذين لم يطلعوا على النهي. وعلى كل حال، فليس في فعلهم حجة. • [ص 40] وأما الإجماع؛ ففي زمان الصحابة ثبت عن علي وفَضَالة ما يخالفه، وهناك آثار عن عمر وعثمان تخالف ذلك أيضًا. وفي زمن التابعين يبعد أن يروي الأئمة هذه الأحاديث بدون بيان ما يخالفها، ومع ذلك يخالفونها. وفي "كنز العمال" (¬1): عن عثمان: أنه كان يأمر بتسوية القبور. ابن جرير. وفي "شرح الموطأ" (¬2) للباجي ما لفظه: "قال ابن حبيب: وروى جابر أن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم نهى أن تُرْفع القبور، أو يُبْنى عليها، وأمر بهدمها، وتسويتها بالأرض. وفَعَلَه - يعني الهدم والتسوية - عمر بن الخطاب. قال: وينبغي أن تسوى تسوية تسنيم ... إلخ. ومع هذا فمن الواضح أن الإجماع الحقيقي لا يمكن العلم به، وإنما غاية ما يمكن أن نجد قولًا لمن قبلنا لا نعلم له مخالفًا، فيكون هذا حجةً إذا لم نجد في الكتاب أو في السنة ما يخالفه، فأما إذا وُجد في الكتاب والسنة ¬

_ (¬1) رقم (42927). وأخرجه عبد الرزاق في "المصنف": (3/ 504)، وابن أبي شيبة في "المصنف": (3/ 222). (¬2) (2/ 494).

ما يخالفه، فإنّ ذلك دليل على عدم الإجماع، وأن هناك مخالفًا لم يبلغنا قوله. وقد تقدم أن احتمال وجود مخالف لم يبلغنا قوله أقرب من احتمال كون النص على خلاف ظاهره. فضلاً عن كون الحديث الثابت إسناده كذبًا، فضلاً عن احتمال النسخ. وتقدم أن قولنا هذا هو قول أئمة الهدى، والله أعلم. وأما قوله: "إن للقبور أحكامًا ... " إلخ. فقد يقال: يكفي في التمييز وضع علامة، ككفّ من حصى مغاير لونه لحصى تلك البقعة، أو وضع حجر، هذا إن صحَّ العملُ بحديثي وضع الحصى ووضع الحجر المارَّين. وقد يقال: إنه لا بأس بالارتفاع اليسير الذي ينشأ من إعادة تراب الحفرة إليها، فإنه يزيد عن مثلها بسبب وضع الجثة، وما سترت به، وغير ذلك، فينشأ من إعادته كله (¬1) إليها ارتفاع يسيرٌ. ولكن هناك أحاديث تنافي هذا، فلْنَعْقد فصلاً للبحث فيها. ¬

_ (¬1) الأصل: "كلها" والصواب ما أثبت.

فصل في تسوية القبور

[ص 41] فصل في تسوية القبور حدَّث ثُمامة بن شُفَي قال: كنا مع فَضالة بن عُبيد بأرض الروم، فتوفي صاحبٌ لنا، فأمر فَضالةُ بقبره فسوِّي، ثم قال: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم يأمر بتسويتها. رواه عن ثمامة عَمرو بن الحارث بن يعقوب الأنصاري، وابن إسحاق. فأما عَمرو بن الحارث؛ فرواه عنه ابنُ وهب. وعن ابن وهب: أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن السَّرْح، وهارون بن سعيد الأيلي، وسليمان بن داود (¬1). فعن ابن السرح: مسلم في "صحيحه" (¬2)، وأبو داود في "سننه" (¬3)، ومن طريقه رواه البيهقي في "سننه" (¬4). وعن الأيلي: مسلم في "صحيحه" (¬5) أيضًا، ومحمد بن إسماعيل الإسماعيلي عند البيهقي (¬6). ¬

_ (¬1) ويونس بن عبد الأعلى عند الطحاوي في "مشكل الآثار" (3267)، وعبد العزيز بن مقلاص المصري عند الطبراني في "الكبير": (18/ رقم 811). (¬2) رقم (968). (¬3) رقم (3219). (¬4) (4/ 2). (¬5) الموضع السالف. (¬6) الموضع السالف.

وعن سليمان: النسائي في "سننه" (¬1). والروايات كلها مسلسلة بالتحديث والإخبار، والألفاظ متقاربة، وجميعها مشتركة في قوله: "فأمر فضالةُ بقبره فَسُوَّي ... " إلخ، كما تقدم. [ص 42] وأما ابن إسحاق؛ فرواه عنه إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، ومحمد بن عُبيد بن أبي أمية الطنافسي، وأحمد بن خالد الوهبي (¬2). فعن الأولين: الإِمام أحمد في "مسنده" (¬3) (جزء 6/ ص 18)، إلا أنه قال في رواية محمَّد بن عُبيد: "ثنا محمَّد (بن يحيى) بن إسحاق" وإنما هو محمَّد بن إسحاق، وفي هذه الرواية عنعن ابن إسحاق. وأما في رواية إبراهيم، فقال الإِمام (¬4): ثنا يعقوب ثنا أبي عن ابن إسحاق قال: حدثني ثُمامة ... إلخ، فصرَّح ابنُ إسحاق بالتحديث. وعن الثالث: أبو زرعة الدمشقي، وهو عبد الرحمن بن عَمرو بن صفوان النصري، وعنه أبو العباس الأصم، وعن الأصم الحاكم وغيره، كما في "سنن البيهقي" (¬5). وفي هذه الرواية عنعن ابن إسحاق. ¬

_ (¬1) رقم (2030). (¬2) وعبد الأعلى بن عبد الأعلى عند ابن أبي شيبة: (3/ 222)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (3268). (¬3) رقم (23934). (¬4) رقم (23936). (¬5) (3/ 411).

ولفظ رواية محمَّد بن عبيد: " ... فأصيب ابنُ عمٍّ لنا، فصلى عليه فَضالة، وقام على حُفْرته حتى واراه، فلما سوَّينا على حفرته قال: أخِفُّوا عنه، فإن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم كان يأمرنا بتسوية القبور". وفي رواية إبراهيم: " ... فقال فضالة: خَفِّفوا، فأني سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم يأمر بتسوية القبور". وفي رواية أحمد بن خالد عند البيهقي: " ... فتوفي ابنُ عمّ لنا يقال له: نافع بن عبد، قال: فقام فضالة في حفرته، فلما دفناه قال: خَفِّفوا عليه التراب، فإن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم كان يأمرنا بتسوية القبور". [ص 44] وهذا الحديث صحيحٌ، نظيفٌ لا غبار عليه، ووجود ابن إسحاق في إحدى الطريقين لا يقدح، مع أنه إنما يُخْشى من التدليس والانفراد، كما مر، وفي هذا الحديث صرح بالتحديث، وتوبع. وأما قوله في رواية: "أخِفّوا عنه"، وفي أخرى: "خَفِّفوا"، وفي ثالثة: "خَفِّفوا عنه التراب"، فهذه ليست زيادة، وإنما هي في مقابل ما جاء في رواية عَمْرو: "فأمر فضالة بقبره، فسُوِّي"، فذكرها ثمامةُ لابن إسحاق مصرحًا فيها بلفظ فضالة الذي عبّر عنه في رواية عَمرو بقوله: "فأمر". وأما اختلاف الروايات في كلمة "خَفِّفوا" فمن الرواية بالمعنى. ومما يدل على أن ثمامة أوضح القصة لابن إسحاق، وجود اسم المتوفى في روايته، دون [ص 45] رواية عَمْرو. وأيضًا فذِكْر ابن إسحاق لاسم المتوفى واسم أبيه "نافع بن عبد" يدل على جودة حفظه للقصة، وإتقانه لها.

على أن انفراد ابن إسحاق ليس شديد النكارة، بدليل قول الذهبي (¬1): "وما انفرد به ففيه نكارة، فإن في حفظه شيئًا"، أراد نكارة يسيرةً، بدليل ما بعده. والنكارة اليسيرة وإن كانت توجب التوقُّف فإنها تنجبر بقيام بعض القرائن على الحفظ، ونحو ذلك، وقد بينا ذلك في هذا الحديث، والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) في "الميزان": (4/ 395).

معنى التسوية

[ص 46] معنى التسوية المتبادر من التسوية أن يكون وجه القبر مساويًا لوجه الأرض في البقعة المحيطة به، ولكن نوزع فيه، أن هذا المعنى هو معنى تسوية القبر بالأرض، لا معنى تسوية القبر مطلقًا. فتسوية القبر عبارةٌ عن جعله متساوي الأطراف، كما في قوله عزَّ وجلَّ: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة: 4]. وهذا لا يقتضي التسوية بالأرض، بل أن يُسوَّى القبرُ في ذاته، بأن لا يُترك فيه تسنيم، أو زيادة في بعض أطرافه، بل يُجعل مسطحًا، وهذا أعم من أن يكون مساويًا لوجه الأرض، أو يكون مرتفعًا. [ص 47] وأجيب: بأن التسوية إذا أُطْلقت على شيءٍ كائنٍ على وجه الأرض، كالبناء والربوة، يُعنى بها تسويته بالأرض، ومنه قوله عزَّ وجلَّ: {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا} [الشمس: 14]. قال الراغب (¬1): أي: سوَّى بلادَهم بالأرض. ويدل عليه في هذا الحديث نفسه، أن الصحابي جعل الأمر بالتسوية أمرًا بالتخفيف من التراب، حيث قال: "أخِفّوا عنه - أو "خَفّفوا" أو "خَفّفوا عليه التراب" - فإن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم كان يأمرنا بتسوية القبور". ¬

_ (¬1) في "المفردات" (ص 440).

وإنما يكون الأمر بالتسوية أمرًا بالتخفيف، إذا أُرِيد بها التسوية بالأرض، فأما تسوية القبر في نفسه، فإنها تمكن مع كثرة التراب، كما تمكن مع قِلّته. والصحابيُّ لم ينقل لفظ النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم بنصِّه [ص 48] حتى يسوغ لنا أن نستقلَّ بفهمه، وإن خالف فهم الصحابي، وإنما مُؤدَّى كلامه أن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم كان يأمر بتسوية القبور التسويةَ المقتضية لتخفيف التراب، أي: أن بيان كون التسوية المأمور بها هي التي تقتضي تخفيف التراب مرفوعٌ تقوم به الحجة. وقد قال الباجي في "شرح الموطأ" (¬1): وقال ابن حبيب: "وتسويتها بالأرض". ويؤيد هذا ما سيأتي (¬2) في حديث علي رضي الله عنه: "ولا قبرًا مُشْرفًا إلا سوَّيته". فجعل التسوية إزالة الإشراف، والإشراف هو الارتفاع، أعمّ من كون القبر متساويًا في نفسه، أو غير متساوٍ، فالتسوية التي هي إزالة الإشراف، هي التسوية بالأرض، كما هو واضح. [ص 49] أقول: أما الآية؛ فلا يتعين فيها هذا المعنى، أعني التسوية بالأرض، بل يصح أن يكون المراد تسوية بلادهم في نفسها، أي: جعلها متساوية الأجزاء، وهذا كناية عن الخراب البالغ، فإن البلاد العامرة تكون ¬

_ (¬1) (2/ 494) وقد سبق النص قريبًا. (¬2) لم يأت شيء، وإنما في المبيضة.

متفاوتة بارتفاع الأبنية على العرصات، وارتفاع بعض الأبنية على بعض، وإنما تتساوى إذا خَرِبت الخراب البالغ. والإنصاف أن التسوية إذا أُطلقت كان المراد بها تسوية الشيء في نفسه، ولا تُحْمل على التسوية بالأرض إلا بقرينة. وعليه، فالظاهر حمل التسوية في الحديث على التسوية بالأرض للقرينة، وهي قوله: "أخِفُّوا عنه"، أو "خَفِّفوا"، كما تقدم. [ص 50] وكذا يقال في حديث علي رضي الله عنه: إن جَعْل التسوية منافية للإشراف قرينة تدل أن المراد التسوية بالأرض، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وقد مرَّ (¬1) عن "كنز العمال" (¬2): "سوّوا القبور على وجه الأرض إذا دفنتم" (¬3). فإن صحَّ فهو صريحٌ في التسوية بالأرض، إذ لا يصح أن يقال: إن قوله: "سووا القبور" أمرٌ بتسويتها في ذاتها، و"على وجه الأرض" حال، إذ لا معنى للحال، فالقبور على وجه الأرض على كلِّ حال. فيحتمل أن يكون المراد: تسوية القبور بالنظر إلى جميعها، أو تسوية كل قبر في حد ذاته. فعلى الأول يكون المراد بأن تُجْعَل متساوية، أي: بأن تكون كلها على ¬

_ (¬1) كذا قال المصنف، والذي مرّ (ص 37) أثر عثمان "أنه كان يأمر بتسوية القبور". (¬2) رقم (42387). وانظر "المبيَّضة" (ص 20). (¬3) كتب المصنف عقبه: "طب عن فضاله بن عبيد، ولا أدري ما صحته" ثم ضرب عليها. والأثر أخرجه الطبراني في "الكبير": (18/ رقم 812).

هيئة واحدة؛ لا يختلف قبر عن قبر. وهذا كما إذا أمرت الخباز بتسوية الأرغفة، يريد أن تكون كلها بقدر واحد على هيئةٍ واحدةٍ. وعلى الثاني يحتمل أن يكون المراد بتسوية القبر، تسوية أطرافه. وهذا لا يقتضي التسطيح كما قيل، فإن المسنَّم تسنيمًا محكمًا، بحيث إن ظاهر القبر يبقى أملس، بحيث لو بُسِط عليه ثوبٌ للصق به من جميع أجزائه، يقال له: مَسوًّى. ولو رأينا كرتين من حديد، إحداهما مُحْكَمة التكوير ملساء، والأخرى يوجد في سطحها مواضع ناشزة، وأخرى منخفضة، لقلنا: إن الأولى مستوية، والثانية غير مستوية. فإذا أُمِرْنا بإصلاح الثانية، صح أن يقال: أمرنا بتسويتها. ويحتمل أن يكون المراد جعله سويًّا (¬1). ... ¬

_ (¬1) من قوله: "فيحتمل أن يكون المراد ... " إلى هنا جاء في (ق 53 ب) وقدَّرت أن يكون هذا هو مكانه المناسب، فالله أعلم.

تحقيق الحق في هذا البحث

تحقيق الحق في هذا البحث هذا ما يمكن أن يقوله المتشدِّد، ولكن الذي ينبغي التعويل عليه، وأن يدان الله تعالى به: أن أثر "خارجة" لا دلالة له على شيءٍ، لما مرّ. وأن مرسل الشافعي، لا مانع من صِحّته، ولكن محله إذا كان التراب الذي أعيد في الحفرة لم يكفِ لارتفاعها قليلاً عن وجه الأرض، أو كفى للارتفاع ولكن خُشي أن يلتبس القبرُ بغيره، وأُرِيد أن يُمَيَّز لقصدٍ صحيح جائز شرعًا. وكذا حديث وضع الحجر على القبر سواء بسواء. [ص 51] وحديث ابن أبي شيبة، لا مانع من صِحّته، ولكن التسنيم الواقع على القبور، هو الناشئ عن إعادة تراب الحفرة إليها فقط. وأما دعوى الإجماع؛ فإنها وإن كان فيها ما فيها، فهي غير معارضة لما قلناه؛ لأن الفقهاء نصوا على جواز رفع القبر قليلاً، ونصوا على حظر الزيادة عليه من غير تراب حفرته (¬1)، وهذا هو الذي نقوله: أنه يعاد إليه تراب حفرته. فإن حصل ارتفاع قليلٌ فذاك، وإلا جُعلت عليه علامة ليُعْرف أنه قبر، فإن حصل الارتفاع، وخشي الالتباس بغيره، وأُرِيد التمييز لمقصد شرعي صحيح، فلا بأس بوضع علامة عليه. وبهذا يحصل تمييز القبور الذي ¬

_ (¬1) انظر "بدائع الصنائع": (1/ 320) للكاساني، و"المغني": (3/ 435) لابن قدامة.

يقتضيه ما لها من الأحكام. والرفع اليسير، أو وضع العلامة له مقتضٍ صحيحٌ، وهو تمييز القبر؛ ليجتنب الجلوس عليه، والصلاة إليه، وغير ذلك. فاندفع ما قيل: إنه زائدٌ على القدر الكافي للمواراة. ثم إن ذلك لا يضر بالمستحقين عند إرادة الحَفْر بعد البِلَى؛ لأنه أمرٌ خفيفٌ، وإن سُلِّم أنه لا يخلو عن ضرر، فإن ذلك يُغْتفر من باب دفع كبرى المفسدتين؛ لما مرّ، والله أعلم. [ص 52] وأما حديث فَضالة بن عُبيد؛ فالحق أن التسوية فيه هي تصيير القبر سويًّا، أي معتدلاً، أي: على الهيئة المشروعة في القبور، بدون زيادة ولا نقصان، ومن هذا قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ} [الانفطار: 7]، أي - والله أعلم -: جعلك بشرًا سويًّا كامل الخلقة، بالنظر إلى الهيئة المشتركة بين البشر. وكذا قوله: {الَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا} [الكهف: 37]. قال الراغب (¬1): السَّوِيّ ما يُصَان عن الإفراط والتفريط. فنقول: إن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم كان قد بين لأصحابه الهيئة التي تنبغي أن تكون القبور عليها، وبعد أن عَقَلوها أمرهم بتسوية ما يطرأ من القبور، أي: جعلها سويَّة على الهيئة التي قد علمهم إياها. ¬

_ (¬1) في "المفردات" (ص 440).

وأما قول فَضالة: "أخِفّوا عنه"؛ فالظاهر أنه رأى التراب الذي حول الحفرة كثيرًا، بحيث إذا رُكِم فوق القبر ارتفع زيادةً على القدر المشروع، فأمرهم بالتخفيف، [ص 53] بأن لا يجمعوا التراب كله، بل يقتصروا على ما يبلغه القدر المعروف للقبور. أو يكون قال لهم هذا بعد أن ركموا التراب، ورآه كثيرًا، بحيث صار القبر مرتفعًا زيادةً عن القدر المشروع. وأما ما نقلناه عن "كنز العمال" (¬1) - إن صح - فالتسوية هي: تسوية القبور في ذاتها. وقوله: "على وجه الأرض" احترازٌ من أن يُظن أن المراد بتسويتها في جوف الحفرة، والله أعلم. ومما هو صريحٌ في الرفع: ما ثبت في رفع قبر النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم، وقبري صاحبيه، كما سيأتي. وما تقدم من حديث ابن أبي شيبة، وغير ذلك. والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) انظر ما سبق (ص 45).

القدر المشروع لرفع القبر

[ص 54] القَدْر المشروع لرفع القبر لم أطلع على ما يُسْتَدل به في هذا بالنسبة إلى غير المِلك، إلا أن يقال: إن الظاهر أن يعين لذلك الأمر الذي تقتضيه طبيعة الحال، وهو إعادة تراب الحفرة إليها، بلا نقصان ولا زيادة. ويؤيد بأحاديث النهي عن الزيادة الآتية، فإن مفهومها جواز إعادة تراب الحفرة، سواءً أقل أم أكثر. وربما يُعْترض هذا بقول فَضالة: "أخِفّوا عنه" على ما قدمنا. ويمكن أن يجاب: بأنه لعل البقعة التي حفر فيها القبر ترابية، بحيث يختلط التراب الخارج من الحفرة بالتراب الذي حواليها، فلا يتميز. وفيه شيءٌ. ولكن ورد الدليل على مقدار الرفع في الملك، وعمَّمه العلماء في الملك وغيره، [ص 55] لعدم الفرق. ففي "صحيح ابن حبان" (¬1): أخبرنا السختياني ثنا أبو كامل الجَحْدري ثنا الفُضيل بن سليمان عن جعفر بن محمَّد عن أبيه عن جابر بن عبد الله: أن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم أُلْحِدَ له، ونُصِب عليه اللبن نصبًا، ورُفِع قبره من الأرض نحوًا من شبر. فهذا عمل أكابر الصحابة رضي الله عنهم، ولا نعلم لهم مخالفًا، والصحابة ذلك اليوم متوافرون بالمدينة، ولم يرد في الكتاب أو السنة ما يخالف ذلك، فكان حجة. ¬

_ (¬1) رقم (6635).

كيفية رفع القبر

كيفية رفع القبر الصفة الطبيعية لإعادة التراب إلى الحفرة: أن ينشأ عن ذلك شيءٌ من الارتفاع مسنَّمًا، وهذا هو الأصل الذي لا ينبغي أن يتعدى إلا بدليل. استدل من يقول بالتسطيح بحديث التسوية المتقدم، بناءً على أن المراد جعل القبر متساويًا. وقد سبق رده، وبيان ما هو إن شاء الله الحق (¬1). [ص 56] واستدلوا أيضًا بحديث أبي داود (¬2) عن القاسم بن محمَّد قال: دخلت على عائشة، فقلت: يا أُمّاه، اكشفي لي عن قبر النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم وصاحبيه. فكشفت لي عن ثلاثة قبور، لا مُشْرِفة ولا لاطِئة، مبطوحة ببطحاء العَرْصة الحمراء. وأخرجه الحاكم في "مستدركه" (¬3)، وقال: صحيح. وأقره الذهبي. وفيه زيادة: "فرأيت رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم مُقدَّمًا، وأبا بكر رأسُه بين كتفي رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم، وعمر رأسه عند رجلي النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم". قالوا: والبطح هو عبارة عن جعل الشيء مستويًا. قال الزمخشري في "الفائق" (¬4) في (رفف): " [ابن الزبير رضي الله عنه] ¬

_ (¬1) انظر (ص 47 - 49). (¬2) رقم (3220). والبيهقي في "الكبرى": (4/ 3). (¬3) (1/ 369). (¬4) (2/ 74).

لما أراد هدم الكعبة ... وكانت في المسجد جراثيم، فقال: يا أيها الناس ابطَحوا. وروي: كان في المسجد حُفَر منكرة، وجراثيم، وتعادٍ, فأهاب بالناس إلى بطحه ... إلخ. البطحُ: أن يجعل ما ارتفع منه منخفضًا حتى يستوي، ويذهب التفاوت ... " إلخ. اهـ. [ص 57] قالوا: ولا يمكن أن يقال: إن القبور مبطوحة، أي: مسوَّاة بالأرض؛ لقوله في الحديث: "ولا لاطئة"، فما بقي إلا أن تكون مُسَطَّحة، أي؛ مُسَوَّاة في نفسها. وتأوله صاحب "الجوهر النقي" (¬1): بأن المراد بـ "مبطوحة" غير مشرفة، أعم من أن تكون مسنَّمة، أو مسطحة، واستدل بكلام الزمخشري السابق، وهو كما ترى. وحَمَل غيرُه لفظ "مبطوحة" على أنها موضوعة عليها البطحاء، أي: الحمى، كما فُسِّر به حديث عمر أنه أمرهم أن يبطحوا المسجد، وهو ثابتٌ في مجاميع اللغة (¬2). [ص 58] ويحتمل معنى ثالثًا: وهو أن يكون شَبَّهها بهيئة الأشخاص المبطوحين، أي: المُلْقَين على وجوههم، فإن القبر المركوم عليه قليلٌ من التراب على هيئة التسنيم، يشبه هيئة الشخص المبطوح. ¬

_ (¬1) (4/ 3 - بهامش سنن البيهقي). (¬2) بعد هذا الكلام عدة أسطر ضرب عليها المؤلف وترك عبارةً لم يظهر عليها أثر الضرب وهي: "ويبعده جدًّا؛ لأن الظاهر أنه أراد".

وعليه، فينبغي الترجيح بين هذه المعاني، فأقول: أما المعنى الأول؛ فيردُّه ما علَّقه البخاري في "صحيحه" (¬1) عن سفيان التمَّار: أنه رأى قبر النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم مسنَّمًا. ووصله ابن أبي شيبة (¬2) فقال: ثنا عيسى بن يونس عن سفيان التمَّار قال: دخلتُ البيت الذي فيه قبر النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم، [ص 59] فرأيت قبره وقبر أبي بكر وعمر مُسَنَّمة. ويبعد كل البعد أن يُغَيَّر قبر النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم وصاحبيه عما وُضِعَت عليه، والصحابةُ باقون، وعلماء التابعين شاهدون، والملوك والأمراء من أهل العلم. والإصلاح الذي وقع في زمن الوليد بن عبد الملك، وقع بحضور عمر بن عبد العزيز - وحَسْبُك به علمًا، ودينًا وورعًا - مع وجود غيره، وتغيير الجدار للضرورة، ولا ضرورة في تغيير الهيئة، وهذا بخلاف ما قلناه في قبر عثمان بن مظعون، فإنه لا مانع في أن يغيره ويرفعه شخصٌ واحدٌ. فأما قبر النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم وصاحبيه، فيبعد أن يجترئ على تغييرها أحدٌ. وعلى تسليم احتمال التغيير، فإنما يُصَار إلى تجويزه إذا لم يوجد جمع بين الدليلين أيسر منه. ولا شُبْهة أن الجمع بحمل [ص 60] "مبطوحة" على ¬

_ (¬1) كتاب الجنائز، باب ما جاء في قبر النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما. (¬2) "المصنف": (3/ 215).

المعنى الذي يوافق رواية التمَّار أولى وأقرب من حملها على المعنى الذي يخالفه. ولا سيما والكلمة بالنظر إلى المعنيين الأوَّلين محتملة لهما على السواء، فيكون حديث سفيان مرجِّحًا لأحدهما، وهو الذي لا يخالفه فسقط المعنى الأول، وبقي النظر بين الثاني والثالث. لا شك أن الثاني حقيقة، والثالث مجاز، والحقيقة مقدمة على المجاز، إلا أن هناك أدلَّة تقوي إرادة المجاز: أولها: أنه إذا ثبت أن القبور كانت مسنَّمة، فمن البعيد أن ينعت القاسم قدر ارتفاعها، ويدع نعت هيئتها، ويذهب إلى ذكر أن عليها حصى، فإن بيان الهيئة أهم من [ص 61] ذكر الحصى. ثانيها: في "شرح المشكاة" (¬1) لعلي قاري ما لفظه: "وأيضًا ظهر أن القاسم أراد أنها مسنمة، برواية أبي حفص بن شاهين في "كتاب الجنائز" بسنده عن جابر قال: سألت ثلاثة كلهم له في قبر رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم أبٌ، سألت أبا جعفر محمَّد بن علي، وسألت القاسم بن محمَّد بن أبي بكر، وسألت سالم بن عبد الله: أخبروني عن قبور آبائكم في بيت عائشة؟ فكلهم قالوا: مسنمة". وههنا إشكال: وهو أن جابرًا هو راوي حديث: أن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم أُلْحِد له، ونُصِب عليه اللبن ... (¬2) إلخ، كما سيأتي، فالظاهر أنه ¬

_ (¬1) (2/ 371). (¬2) تقدم (ص 50).

حضر الدفن، والظاهر أنه حضر دفن الشيخين أيضًا، فكيف يحتاج إلى السؤال عن كيفية القبور؟ اللهم إلا أن يكون جوز تغييرها، وفيه بُعْد، كما أن تجويز أنه لم يحضر أبعد. وعلى كل حال، فحديث ابن شاهين لم يصحّح، ولعله لا يكون صحيحًا. ثالثها: أن وضع الحصى على القبر، على فَرْض تسليم جوازه، فإنما هو - والله أعلم - علامة للقبر، ولا حاجة للعلامة في قبور رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم وصاحبيه. فالذي يظهر - والله أعلم - ترجيح المعنى الثالث. [ص 62] ومن أدلة التسنيم: أثر الشعبي الذي رواه ابن أبي شيبة، كما تقدم (¬1)، وإن عنعنه سفيان. ومنها: أن العمل في عهد السلف كان جاريًا على ذلك. والظاهر في مثل هذا أن يكون موافقًا للسنة، ما دام لم يقم دليلٌ يدل على مخالفته. وقال صاحب "الجوهر النقي" (¬2): "وحكى الطبري عن قوم أن السنة التسنيم، واستدل لهم بأن هيئة القبور سنة متبعة، ولم يزل المسلمون يسنِّمون قبورهم، ثم قال: ثنا ابن بشار ثنا عبد الرحمن ثنا خالد بن أبي عثمان قال: رأيت قبر ابن عمر مسنَّمًا. ¬

_ (¬1) (ص 29). (¬2) (4/ 4 - بهامش سنن البيهقي).

قال الطبري: لا أحبّ أن يتعدَّى فيها أحد المعنيين من تسويتها بالأرض، [ص 63] أو رفعها مسنَّمة قدر شبر، على ما عليه عمل المسلمين في ذلك. قال: وتسوية القبور ليست بتسطيح. اهـ. ومما يدل على أن عمل أهل المدينة كان على التسنيم: أن مذهب مالك اختيار التسنيم (¬1)، وهو يرى عمل أهل المدينة حجة، فلو كان عمل أهل المدينة على التسطيح لما خالفهم. وأيضًا التسطيح يشبه بناء أهل الدنيا؛ لأن فيه نوعًا من الأحكام، بخلاف التسنيم، فإنه يحصل بطبيعة الحال عند رد تراب الحفرة إليها. [ص 64 ب] وهذا الارتفاع نحوًا من شبر بالنسبة إلى وسط القبر؛ لأنه مسنم. والواقع أن إعادة تراب الحفرة إليها بعد الدفن ينشأ عنه تسنيم نحو الشبر غالبًا. فإذا كان الواقع كذلك فالأمر بيّن، وإن فُرِضَ أنه زاد فعندي أنه يجب التخفيف عملاً بظاهر حديث فَضالة على ما تقدم، واقتصارًا على القدر الثابت. وإن فُرِض أنه نقص، كأنْ كان في الحفرة حجرٌ كبيرٌ أُخْرِج منها، فلما أُعيد التراب بعد الدفن لم يكفِ، فعندي أنه إن كفى لمساواة الحفرة لوجه الأرضٍ لم يزد عليه؛ لإطلاق النهي عن الزيادة كما يأتي، ولأن الرفع ليس ضروريًّا لأصل الدفن، وإنما فائدته التعليم على القبر، ويغني عنه وضع ¬

_ (¬1) انظر "تهذيب المدونة": (1/ 346)، و"الذخيرة": (2/ 478 - 479).

حجر، كما روي من فعله صلَّى الله عليه وآله وسلم بقبر عثمان بن مظعون. أما إذا نقص عن مساواة الحفرة بالأرض، فالظاهر أنه يزاد عليها حتى يساوي وجه الأرض فقط؛ لأن تركها ناقصة، نقصٌ وإخلالٌ بأصل الدفن. ***

البناء على القبر

[ص 65] البناء على القبر قد مَرَّ حكم البناء على القبور في غير المِلك، وهذا الفصل موجَّه إلى البناء عليها في الملك، مع أن الأدلة تتناول الجميع، كما ستراه إن شاء الله تعالى. قد علمت أن البناء على القبر أمرٌ زائدٌ على المواراة، وهو أيضًا زائدٌ على التعليم على القبر، بحيث يُعْرَف أنه قبرٌ, فالدليل على مدعي الجواز. أما من له حظٌّ من العلم من المجيزين، فإنه يعترف بالحُرْمة في القبور المسبَّلة، ويقتصر على الكراهة في الملك، وسيأتي الكلام مع هؤلاء عند الكلام على أدلة النهي إن شاء الله تعالى. وأما الغلاة المتطرِّفون من الجُهَّال، فإنهم يدَّعون أن البناء على بعض القبور مستحب، ومنهم من يعتقد وجوبه، وليس لهؤلاء في الحقيقة متمسَّك، [ص 66] إلا أنهم يعتقدون أن الموتى يضرون وينفعون، وأن في البناء على قبورهم وغيره تقربًا إليهم، يُدْخل في نفوسهم السرور، ويحملهم على نفع الفاعل. هذا مَبْلَغ علمهم، وغاية فهمهم. فإذا آنسوا من أحدٍ إنكارًا عليهم قالوا: "وهَّابي"، وتواصوا بهجره، وتجنّب مجالسته، وسماع كلامه، وجاهروا بتضليله وتفسيقه، بل وتكفيره، ورموه بكل حجرٍ ومدرٍ، وإن أمكنهم أن يلحقوا به الضرب لم يتأخروا عنه. وإذا دُعوا إلى الإنصاف والنظر في الحجج والأدلة، ورأوا أن في الإعراض عن الإجابة ما يؤيد جانب خصومهم، [ص 67] أخذوا يرددون

بعض الشبه التي لا تستحق أن تسمى شبهًا، فضلاً أن تسمى أدلة، لكنها على كل حال ربما تجذب أذهان بعض الجُهال، وسأذكر منها ما يسوغ أن يسمى شبهة؛ لمشابهته الشبهة، لا لمشابهته الدليل. فمنها: دعوى الإجماع (¬1). وأين الإجماع؟! وهذه كتب فقهاء المذاهب من أصغر مختصر، إلى أكبر مطوَّل متفقةٌ على النهي عن البناء، وتحريمه في المقابر المسبَّلة، ونص بعضُهم على حُرْمته حتى في الملك، ومن لم يقل بالحُرْمة في الملك أطلق الكراهة التحريمية، وسيأتي عقد فصل مستقل؛ لنقل كلام الفقهاء، إن شاء الله تعالى (¬2). فأما كتب الحديث النبوي، فأظهر من شمس على عَلَم. على أن في الإجماع نزاعًا، وأي نزاع؟ [ص 68] ومنها: القياس على قبر النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم. وهي شبهة ضعيفة، وسنعقد إن شاء الله تعالى للبحث فيه فصلاً خاصًّا، فانظره إن أردت (¬3). ومنها: أثر خارجة، وقد مرَّ ما فيه (¬4). ¬

_ (¬1) هذه الشُّبهة ساقها حَسَن الصدر الرافضي في كتابه "الرد على الوهابية" وسبقت الإشارة إليه في المقدمة. (¬2) لم يعقد المؤلف هذا الفصل في هذه النسخة. (¬3) لم يعقد المؤلف أيضًا هذا الفصل هنا. وذكر في (المبيضة ص 37 - 38) طرفًا من ذلك. (¬4) انظر (ص 30 وما بعدها).

ومنها: ما علَّقه البخاري (¬1)، قال: "لما مات الحسن بن الحسن بن علي، ضربت امرأته القبة على قبره سنةً، ثم رُفِعت: فسمعوا صائحًا يقول: ألا هل وجدوا ما فقدوا؟ فأجابه آخر: بل يئسوا، فانقلبوا". والجواب: أن البخاريَّ علقه تحت عنوان: باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور. والبخاري وإن ذكره بصيغة الجزم، فلم يلتزم في ذلك أن يكون صحيحًا. نعم، قالوا: إن ذلك إذا لم يكن صحيحًا عنده، فهو صحيحٌ عند غيره، وهذا لا يفيد؛ لأن شروط غيره مختلفة، حتى إن منهم من لا يشترط في الراوي غير الإِسلام. فإن قيل: المراد غيره ممن يتحرى، كمسلم. قلنا: فإن في بعض ما يصحّحه مسلم ما ينتقد، ولولا ذلك لما أتعبنا أنفسنا بهذا البحث. ونحن لا ننكر أنه [ص 69] ينبغي لنا حُسن الظن بالبخاري، أنه لا يعبر بصيغة الجزم إلا وقد اطلع على سندٍ قوي، لكن هذا في ظنه، فأما نحن، فالذي يلزمنا أن ننظر في السند، ونحكم بما ترجح لنا. وذكر الحافظ في "الفتح" (¬2) أنه رُوي هذا الأثر في الجزء السادس عشر من حديث الحسين بن إسماعيل بن عبد الله المحاملي - رواية الأصبهانيين عنه - قال: وفي كتاب ابن أبي الدنيا في "القبور" (¬3) من طريق ¬

_ (¬1) في كتاب الجنائز، باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور (2/ 88 - الميرية). (¬2) (3/ 238). (¬3) ليس في المطبوع منه والمطبوع ناقص. وهو في "هواتف الجان" له (131).

المغيرة بن مِقْسَم قال: "لما مات الحسن بن الحسن، ضربت امرأته على قبره فُسطاطًا، فأقامت عليه سنة ... " فذكر نحوه. اهـ. قلت: المغيرة بن مِقْسَم كان أعمى ويدلس، فلا تثبت القصة بمجرَّد هذه الحكاية منه، ولا يُدْرَى ما حال السند إليه، كما أنا لا ندري ما حال سند المحاملي. وعندي أن هذه الرواية لا تصح أبدًا، فإن أهل بيت رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم يبعُد جدًّا أن يقع مثل هذا منهم؛ إذ زوجة الحسن هي بنت عمه فاطمة بنت الحسين رضي الله عنهم، ويوم مات الحسن كان بنو أخيها أحياء، وكذلك غيرهم من أهل البيت، فلو فرضنا أنه لم يبلغها نهي، لكان بعيدًا أن لا يكون بلغهم، وأقل ما يكون بلغهم لَعْن زوَّارات القبور. والتحقيق: أن اللعن منصبٌّ على اللواتي يكثرن الزيارة. ولا شك أن ضرب قبة على القبر لأجله، والمُكْث فيها سنة أشدّ من مطلق كثرة الزيارة، فحاشا السيدة فاطمة بنت الحسين أن تصنع ذلك، وحاشا أهل البيت أن يكون منهم مثل هذا, ولا يبعد أن يكون ناصبيّ خبيث وضع هذه القصة، وحاشا فاطمة بنت الحسين بن علي أن تفعل ذلك الفعل جزعًا من وفاة زوجها، أو طمعًا في حياته، كما تدلُّ عليه حكاية قول الهاتِفَين: "هل وجدوا ما طلبوا؟ بل يئسوا فانقلبوا". وأما قول بعضهم: لعلها ضربت الفُسطاط للاجتماع لقراءة القرآن ونحوه. فمع كون ذلك محظورًا أيضًا، فحكاية قول الهاتِفَين تردّه.

وفي "الفتح" (¬1): "وقال ابن المُنيِّر: إنما ضُربت الخيمة هناك للاستمتاع بالميت بالقرب منه، تعليلًا للنفس، وتخييلًا باستصحاب المألوف من الأُنس، ومكابرة للحسّ، كما يتعلل بالوقوف على الأطلال البالية، ومخاطبة المنازل الخالية، فجاءتهم الموعظة على لسان الهاتفين بتقبيح ما صنعوا، وكأنهما من الملائكة، أو من مؤمني الجن" اهـ. أما نحن فنقول: أهل البيت أعلم بالله ورسوله ودينه، وأعقل وأكمل وأثبت من أن يصدر منهم هذا. على أننا نعلم أنهم غير معصومين، وأن فعلهم الشيء لا يكون حجة على جوازه، وإنما رأينا من الواجب أن نذبّ عنهم هذه القصة، وإن كانت لا دلالة فيها على مسألة البناء ونحوه؛ لأن فعل غير المعصوم لا تقوم به الحجة، وحسبنا الله ونعم الوكيل (¬2). [ص70] ومنها (¬3): أن في البناء مصلحة لتظليل [لتضليل] (¬4) الزوَّار الذين يشدون رحالهم إلى القبور، ويظلّون لها عاكفين. وجوابه: أن الزيارة الشرعية لا تُحْوِج إلى شيءٍ من ذلك، فالبناء إذًا إعانة على الزيارة البدعية، ومع هذا وغيره فالاستحسان في معارضة النص هباء منثور، وصاحبه مأزور لا مأجور. ¬

_ (¬1) (3/ 238). (¬2) من قوله ص 61: "لعن زوارات القبور" إلى هنا لحق في أعلى الصفحات من (ق 70 أإلى ق 74 ب) (¬3) أي من شُبَة المجوّزين للبناء على القبور. (¬4) كذا كتبها في الأصل على الوجهين إشارةً منه إلى المعنيين إذ زعموا أن في البناء مصلحة (تظليل) الزوار من الشمس، فكانت النتيجة أن (ضلوا) عن الصراط المستقيم.

ومنها: التمسُّك بعمومات خارجة عن محلّ النزاع، كالأمر بحب الصالحين واحترامهم. وجوابه: أن هذا الإطلاق مقيَّد بما أذن به الشرع، فلا يقول مسلم: إنه يستحب [ص 71] حبهم واحترامهم في معصية الله تعالى، والقدر المأذون فيه إنما يتميز عن غيره بكتاب الله تعالى وسنة رسوله، فلا يكفي هذا العموم ما لم يثبت دليل الخصوص، مع أن حالة الميت غيبٌ لا يُدْرَى ما ينفعه مما لا ينفعه، وإنما يكون التمييز بإخبار الشرع، وقد دل الشرع أن فعل محبي الميت ما ينكره الشرع يضرُّ الميت لا ينفعه، فثبت في الأحاديث الصحيحة: "أن الميت يُعَذَّب ببكاء أهله" (¬1). ومنها: القياس على ما ثبت من احترام القبور، بالنهي عن الجلوس إليها ووطئها، والمشي بينها بالنعال، وغير ذلك. وهذا قياس باطل، والنصوص تصادمه، وفوق هذا: فإنّ أكثر القبور المشيَّدة قد أَرِمت جثثها، فسقطت حُرْمتها. هذا، [ص 72] ولولا أن يطالع رسالتي هذه جاهل بحقيقة الدين، قد عَلِق بنفسه شيءٌ من هذه الشبه، لما ذكرتها، فمعذرة إلى القراء. وأما من كان عنده شيءٌ من الفقه، فإنه يسلِّم بحرمة البناء والرفع والتجصيص ونحوه في غير الملك، ولكنه يقتصر في الملك على الكراهية قائلاً: إن الأصل المقرر أن للإنسان أن يصنع في ملكه ما يشاء، ولكن لما كان البناء ونحوه خلاف السنة، وفيه إضاعة مال، وتشييد ما هو محلٌّ للبِلى، ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه في (المُبيّضة) (ص 117).

كان مكروهًا، وعلى مدَّعي الحُرْمة البيان (¬1). وعليه، فلنشرع في ذكر أدلة النهي عن البناء ونحوه، ثم نبين دلالتها على الحُرْمة. قد تقدم حديث فَضالة في الأمر بتسوية القبور (¬2)، وحققنا أن معناه: الأمر بأن تكون على الهيئة التي قررها لها الشارع، وأن الهيئة التي قررها لها الشارع هي ما تقتضيه الفطرة في ردَّ تراب الحفرة إليها، وجمعه على ظهر الحفرة، فيصير القبر بطبيعة الحال مسنَّمًا مرتفعًا عن الأرض نحو شبر [ص 73] باعتبار وسطه، ولكنه إذا اتفق أن كان التراب الخارج من الحفرة، إذا جُمِع كلّه على ظهرها ينشأ عنه ارتفاع فوق الشبر، اقتضت التسوية تخفيفه. وسيأتي في فصل إزالة الإشراف عن القبور حديث علي رضي الله عنه، ¬

_ (¬1) هذه حجج من يقول: إن البناء على القبور في المِلك مكروه وليس بمحرم، ويسلّم بحرمة البناء ونحوه في غير المِلك. حكاه المؤلف على لسانه، وقد سبق له الرد على حججه ويأتي مزيد منها، ونجملها في الآتي: 1) أن الأصل عدم التفريق بين البناء في المسبلة وفي الملك لعموم الأدلة الواردة في النهي. 2) أنه من التشبُّه بأهل الكتاب من اليهود والنصارى. 3) أنه من التشبه بأهل الجاهلية في الإفراط في تعظيم القبور. 4) أن فيه إضاعة للمال. 5) كونه من الزينة والخيلاء في أول منازل الآخرة كما قال الشافعي. 6) أنه مخالف لسنة السلف في بناء القبور. 7) أنه صار ذريعة ووسيلة إلى الشرك، إذ تقود إلى الاعتقاد في الميت وأنه يضر وينفع. وهي أدلة قوية يكفي اعتبارها في القول بحرمة البناء على القبر في المِلك. (¬2) (ص 39).

في الأمر بتسوية القبور المشرفة (¬1)، ومعناه واضح أن المراد إزالة إشرافها، وإعادتها إلى الهيئة السويَّة التي قررها الشارع، وقد حققناها في حديث فضالة. وكلا الحديثين يدلُّ على النهي عن البناء على القبور، ونحوه. أما إذا كان البناء على حدود القبر القريبة، بحيث يكون طوله نحو ستة أذرع، وعرضه نحو أربعة، [ص 74] فلأنه يُطْلَق عليه قبرٌ غير مسوًّى، ويطلق عليه: قبر مشرف، أي: مرتفع زيادة عن القدر المشروع، فيتناوله الأمر تناولًا أوّليًّا؛ لأنه إذا تناول ما جاوز الحد المشروع بزيادة قليل من التراب، فبزيادة أحجار وطين وحصى وغيره، من باب أولى. وأما دلالة الحديث على النهي عن التجصيص، فلأن القبر المجصص ليس على الهيئة التي قررها الشارع للقبور، فهو قبر غير مسوّى، فالأمر بتسوية القبر أمرٌ بعدم الجص، أو بإزالته. وأما إذا كان البناء بعيدًا عن القبر، محيطًا به، كالقبب الكبيرة، فبطريق القياس الجلي، سواء أكانت العلة هي كراهية إحكام موضع البلى أم تعظيم القبور. وهذا واضح، والله أعلم. [ص 75] ولنا حديثٌ في النهي عن البناء ونحوه، رواه عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم ثلاثة من الصحابة رضي الله عنهم: جابر بن عبد الله بن عمرو الأنصاري، وأبو سعيد الخدري، وأم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنهم. ¬

_ (¬1) لم يذكر المؤلف هذا المبحث في هذه النسخة، وانظر الأخرى (ص 50 وما بعدها).

الأحاديث الواردة في النهي عن البناء على القبر وما في معناه

[ص 18] الأحاديث الواردة في النهي عن البناء على القبر وما في معناه 1 - في "صحيح مسلم" (¬1) عن جابر رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم أن يُجَصَّص القبر، وأن يُبنى عليه، وأن يُقعد عليه". وفي رواية له (¬2): "نهى عن تقصيص القبور". وأخرجه غير مسلم: الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن حبان (¬3)، والحاكم في "المستدرك" (¬4)، وقال: صحيح على شرط مسلم، وأقره الذهبي. وسيأتي إن شاء الله الإشارة إلى بعض الألفاظ المختلفة في الروايات. 2 - أخرج ابن ماجه (¬5) بسند رجاله رجال الصحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: "أن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم نهى أن يُبْنى على القبر". وأخرجه أبو يعلى (¬6) بسندٍ رجاله ثقات، كما في "مجمع الزوائد". ¬

_ (¬1) رقم (970). (¬2) (970/ 95). (¬3) أحمد رقم (14647)، وأبو داود (3225)، والترمذي (1052)، والنسائي (2028)، وابن حبان رقم (3162 - 3165). (¬4) (1/ 370). (¬5) رقم (1564). (¬6) رقم (1016 - ط الأثري).

قال في "المجمع" (¬1): وعن أبي سعيد قال: "نهى نبي الله صلَّى الله عليه وآله وسلم أن يبنى على القبور، أو يُقْعَد عليها، أو يصلى عليها". قلت (الهيثمي): روى (¬2) ابن ماجه: النهي عن البناء عليها فقط. 3 - [ص 19] أخرج الإِمام أحمد (¬3) بسندٍ فيه ابن لهيعة عن أم سلمة قالت: "نهى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم أن يُبنى على القبور، أو تقصَّص". زاد في رواية مرسلة: "أو يجلس عليه" (¬4). [19 ب] لمجيزي البناء ثلاث طرق في التفصّي من هذه الأحاديث: الأولى: الطعن في أسانيدها. الثانية: إنكار دلالتها على المقصود. الثالثة: المعارضة. [20 أ] قالوا: أما الحديث الأول فهو من رواية أبي الزبير عن جابر (¬5). **** ¬

_ (¬1) (3/ 61). (¬2) الأصل: "رواه" سهو. (¬3) رقم (26556). (¬4) رقم (26557). (¬5) من قوله: "الأحاديث الواردة في النهي ... " إلى هنا كتبه المؤلف في أوائل الرسالة (ق 18 - 19). ثم استطرد في موضوعات الرسالة، فناسب نقل هذا الموضع إلى هنا ليكون الكلام متصلًا مع باقي الموضوعات.

حديث جابر

حديث جابر رواه عنه أبو الزبير محمَّد بن مسلم بن تَدْرُس، وسليمان بن موسى الأموي الأشدق، وها نحن نذكر ما وقفنا عليه من الروايات. • [ص 76] الإِمام الهمام أحمد بن حنبل "مسند" (¬1) (جزء 3/ ص 339): ثنا حجاج ثنا ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: "سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم ينهى أن يَقْعد الرجلُ على القبر، أو يُقْصّص، أو يُبْنى عليه". الحديث مسلسل بالتصريح بالسماع، كما ترى. • النسائي في "سننه" (¬2): أخبرنا يوسف بن سعيد حدثنا حجاج عن ابن جريج قال أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابرًا يقول: "نهى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم عن تقصيص القبور، أو يُبنى عليها، أو يُجلس عليها". يوسف: قال عنه النسائي: ثقة حافظ. وقال ابن أبي حاتم: صدوق ثقة. (خلاصة وحواشيها). وحجاج: غير مدلس، فلا يضر عنعنته، وأما باقي السند، فمصرحٌ بالسماع كما ترى. • [ص 77] البيهقي في "سننه" (¬3): أخبرنا أبو عبد الله محمَّد بن عبد الله ¬

_ (¬1) رقم (14647). (¬2) رقم (2028). (¬3) (4/ 4).

الحافظ ثنا أبو العباس محمَّد بن يعقوب ثنا محمَّد بن إسحاق الصّغاني ثنا حجاج يعني: ابن محمَّد، قال: قال ابن جُريج: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: "سمعت النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم ينهى أن يقعد الرجل على القبر، أو يُقَصّص، أو يُبْنى عليه". "أبو عبد الله": هو الحاكم. "أبو العباس ... ثنا ... الصّغاني" صحح لهما الحاكم في "مستدركه"، وأقره الذهبي. "حجاج ... قال ابن جريج" حجاج غير مدلس، فقوله: "قال" محمولٌ على السماع، مع أنه ثبت عنه أنه لا يقول: "قال ابن جريج" إلا في السماع. قال النواوي في "تقريبه" (¬1)، [ص 78] في النوع الرابع والعشرين ما لفظه ممزوجًا بشرحه للسيوطي: " (وأوضح العبارات: قال، أو ذكر، من غير لي أو لنا، وهو) مع ذلك (أيضًا محمولٌ على السماع إذا عُرِف اللقاء) وسلم من التدليس، (على ما تقدم في نوع المعضل) في الكلام على العنعنة (لا سيما إن عُرِف) من حاله (أنه لا يقول: قال، إلا فيما سمعه منه) كحجاج بن محمَّد الأعور، روى كتب ابن جريج عنه بلفظة: "قال ابن جريج"، فحملها الناس عنه، واحتجوا بها" اهـ. مع أنه صحَّ عنه التصريح، كما مر في "مسند الإِمام أحمد". • [ص 79] مسلم في "صحيحه" (¬2): وحدثني هارون بن عبد الله ثنا ¬

_ (¬1) (1/ 422 - 423 مع تدريب الراوي للسيوطي). (¬2) رقم (970).

حجاج بن محمَّد، ح، وحدثني محمَّد بن رافع ثنا عبد الرزاق جميعًا عن ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: "سمعت النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم يقول ... " بمثله. أي بمثل الحديث قبله، وسيأتي، ولفظه: قال: "نهى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم أن يُجَصَّص القبر، وأن يُقعد عليه، وأن يُبنى عليه". هارون بن عبد الله ومحمد بن رافع: ثقتان، لا مَطْعن فيهما. وعبد الرزاق: قيل: فيه شيءٌ من تشيُّعٍ كان فيه، ومن خللٍ في ضبطه بعد عماه. فأما التشيع؛ فكان خفيفًا، حتى صحَّ عنه تفضيل الشيخين على علي رضي الله عنهم، وصح عنه أنه قال: "الرافضي كافر". ومع ذلك فليس هذا الحديث مما يتعلق بالتشيع. وأما ما طرأ على ضبطه بعد عماه، فلا يضر في هذا الحديث؛ لأن محمَّد بن رافع ليس ممن سمع منه بعد عماه. [ص 80] ثم إن حجَّاجًا وعبد الرزاق غير مدلسين، فلا يضرّ قوله: "عن ابن جريج"، مع أنه قد صحَّ عن حجاج التصريح بالتحديث، كما مر في سند "المسند". وصحَّ عن عبد الرزاق أيضًا، كما في سند "المسند" الآتي عقب هذا. وقد أطلقوا أن ما في الصحيح من عنعنة المدلسين محمولٌ على السماع، كما سيأتي، وتأتي المناقشة فيه إن شاء الله. وبقية السند مصرح فيه بالسماع، كما ترى.

• الإِمام أحمد في "مسنده" (¬1) (جزء 3/ ص 295): ثنا عبد الرزاق ثنا ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: "سمعتُ النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم ينهى أن يُقْعَد على القبر، وأن يُقَصص، وأن يُبْنى عليه". جميع السند مصرح فيه بالسماع، كما ترى. • [ص 81] أبو داود في "سننه" (¬2): حدثنا أحمد بن حنبل ثنا عبد الرزاق أنا ابن جريج ... إلخ بالسند والمتن الذي قبله. • الحاكم في "المستدرك" (¬3): حدثنا أبو الحسن أحمد بن محمَّد العنزي ثنا محمَّد بن عبد الرحمن الشامي ثنا سعيد بن منصور ثنا أبو معاوية عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر قال: "نهى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم عن تجصيص القبور، والكتابة فيها، والبناء عليها، والجلوس عليها". أقره الذهبي على تصحيحه, وفيه عنعنة ابن جريج وأبي الزبير، وقد صحّ عن كل منهما التصريح بالسماع، ولكن في هذه الرواية زيادة "النهي عن الكتابة" (¬4). ¬

_ (¬1) رقم (14148). (¬2) رقم (3225). (¬3) (1/ 370). (¬4) وانظر تعليق الحاكم على هذا الحديث، وردّ الذهبي عليه ومناقشة ابن حجر الهيتمي والمؤلف له ما سبق في (المُبيّضة) (ص 113).

• [ص 82] الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (¬1): حدثنا ربيع المؤذِّن قال: ثنا أسد قال ثنا محمَّد بن خازم عن ابن جُريج عن أبي الزبير عن جابر قال: "نهى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم عن تجصيص القبور، والكتابة عليها، والجلوس عليها، والبناء عليها". • [ص 83] الترمذي في "سننه" (¬2): حدثنا عبد الرحمن بن الأسود أبو عمرو البصري حدثنا محمَّد بن ربيعة عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر قال: "نهى النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم أن تُجَصَّص القبور، وأن يُكتب عليها، وأن يُبنى عليها، وأن توطأ". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، قد روي من غير وجهٍ عن جابر. أقول: عبد الرحمن بن الأسود ... (¬3). ومحمَّد بن ربيعة وثقه ابن معين وأبو داود والدارقطني، ذكره في "الخلاصة" (¬4) ولم يوصف بتدليس، فلا تضر عنعنته. ¬

_ (¬1) (1/ 515). (¬2) رقم (1052). (¬3) بيَّض له المؤلف مقدار ثلاثة أسطر. وله ترجمة في "تهذيب الكمال": (4/ 371)، و"تهذيب التهذيب": (6/ 140) وذكرا جماعة ممن روى عنهم، قالوا: وعنه الترمذي والنسائي وابن جرير الطبري، وذكرا عدة. (ت بعد 240). ولم يذكرا فيه جرحًا ولا تعديلاً. وقال البزار (الكشف 511): كان من أفاضل الناس. وقال ابن حجر في "التقريب": مقبول. (¬4) (2/ 402).

وأما عنعنة ابن جريج وأبي الزبير فقد صحَّ عن كلًّ منهما التصريح بالسماع كما تقدم، لكن في هذه الرواية زيادة النهي عن الكتاب والتعبير بالوطء مكان الجلوس. • [ص 84] "صحيح مسلم" (¬1): حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة ثنا حفص بن غِياث عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر قال: "نهى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم أن يُجصَّص القبر، وأن يُقعَد عليه، وأن يُبنى عليه". أبو بكر إمام، وحفص ثقة، إلا أنه ساء حفظه بعد ما اسْتُقْضي، فإذا حدث من كتابه فهو حجة، لكنهم قالوا: إن صاحب الصحيح لا يروي عن مثل هذا إلا ما علم أنه حدَّث به عن كتابه، وسيأتي البحث في هذا إن شاء الله (¬2). وعنعنة ابن جريج وأبي الزبير محمولةٌ على السماع، لصحة التصريح عنهما بالتحديث كما مر، مع ما ذكروا من أن كلّ ما في الصحيح من العنعنة عن المدلسين محمولةٌ على السماع، وسيأتي البحث فيه إن شاء الله تعالى (¬3). • [ص 85] الحاكم في "المستدرك" (¬4): حدثنا أبو سعيد أحمد بن يعقوب الثقفي ثنا محمَّد بن عبد الله بن سليمان الحضرمي ثنا سَلْم بن جُنادة بن سَلْم القرشي ثنا حفص بن غِياث النَّخَعي ثنا ابن جُريج عن ¬

_ (¬1) رقم (970). (¬2) لم يأت شيء. (¬3) تقدم شيءٌ من ذلك (ص 36 - 37). (¬4) (1/ 370).

أبي الزبير عن جابر قال: "نهى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم أن يُبنى على القبر، أو يُجَصّص، أو يُقعد عليه، ونهى أن يُكتب عليه". صححه على شرط مسلم، وأقره الذهبي. قال الحاكم: وقد خرجته بإسناده "غير الكتابة"، فإنها لفظة صحيحة غريبة. أقول: قد تقدم حال حفص، والعنعنة، لكن في هذه الرواية زيادة النهي عن الكتابة، ولا يقال: لعلها من رواية حفص بعد ما اسْتُقضي من حفظه، إذ قد تابعه في روايتها عن ابن جريج أبو معاوية عند الحاكم، ومحمد بن ربيعة عند الترمذي، ومحمد بن خازم (¬1) عند الطحاوي. • [ص 87] (¬2) الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (¬3): حدثنا أحمد بن داود قال: ثنا مسدد قال: ثنا حفص عن ابن جريج، فذكره بإسناده مثله. أقول: يعني مثل (¬4) الحديث الذي قبله، وقد تقدم ولفظه: "نهى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم عن تجصيص القبور، والكتابة عليها، والجلوس عليها، والبناء عليها". • [ص 88] "صحيح مسلم" (¬5): وحدثنا يحيى بن يحيى أنا إسماعيل بن ¬

_ (¬1) محمَّد بن خازم عند الطحاوي هو نفسه أبو معاوية عند الحاكم، وإنما اشتبه على المؤلف لأنه جاء في سند الطحاوي "ابن حازم" مصحفة بالحاء المهملة، والله أعلم. (¬2) ترك المؤلف (ق 86) بياضًا. (¬3) (1/ 516). (¬4) الأصل: "مثله" سهو. (¬5) رقم (970/ 95).

عُلَية عن أيوب عن أبي الزبير عن جابر قال: "نُهِي عن تقصيص القبور". فيه عنعنة أبي الزبير، قال الذهبي في "الميزان" (¬1): "وفي "صحيح مسلم" عدة أحاديث فيما لم يوضح فيها أبو الزبير السماع عن جابر، ولا هي من طريق الليث، ففي القلب منها، فمن ذلك ... وحديث النهي عن تجصيص القبور، وغير ذلك" اهـ. أقول: كذا في النسخة "عن تجصيص" بالجيم، وإنما هو "تقصيص" بالقاف، فإنه هكذا في "صحيح مسلم"، وإن رواه غيره بالجيم، كما سيأتي، والمعنى واحد، ولكن ربما يتوهم أن مراد الذهبي بحديث النهي عن تجصيص القبور الحديث الذي فيه النهي بهذا اللفظ، وهو الحديث المطول الذي مرّ، وليس كذلك؛ لأن الحديث المطوَّل قد صرَّح فيه بالسماع، كما تقدم. [ص 89] والجواب عما قاله الذهبي: أنه يبعد جدًّا أن يدلس أبو الزبير حديث النهي عن التقصيص، أو التجصيص، وهو مسموعٌ له في ضمن الحديث الطويل، وأي حاجة تدعوه إلى التدليس؟ والذي يظهر لي: أنه عرض لأبي الزبير ما يخص تقصيص القبور فقط دون البناء والجلوس والوطء والكتابة والزيادة، كان سئل عن تقصيص القبور، أو رأى قبرًا مقصصًا، أو ذكر له ذلك، فاحتاج أن يستدل على النهي عن تقصيص القبور، وأراد الاختصار، أو كان المقام ضيقًا، أو نحو ذلك. فاختصر الحديث اقتصارًا على موضع الحاجة. ¬

_ (¬1) (5/ 164).

[ص 90] وسيأتي في رواية النسائي وابن ماجه التصريح بأن الناهي هو رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم، وهو واضحٌ وإن لم يصرح به؛ لأن جابرًا لم يكن يخبر بنهي عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم، مع سماعه النهي منه صلَّى الله عليه وآله وسلم. وفوقَ ذلك، فقول الصحابي: "نُهينا عن كذا" بدون ذكر الناهي، مرفوعٌ على الصحيح. ثم قول الذهبي: "ففي القلب منها" يدل أنه لا يوافق الجمهور على أن كل ما في الصحيح من العنعنة عن المدلسين محمولٌ على السماع، وفيه بحث ليس هذا موضعه؛ لأن محل الخلاف إذا كان في الأحاديث الأصول لا المتابعات. قال في "فتح المغيث" (¬1) (ص 77) طبع الهند: "ولكن هو - كما قال ابن الصلاح وتبعه النووي وغيره - محمولٌ على ثبوت السماع عنده فيه من طرق أخرى، إذا كان في أحاديث الأصول لا المتابعات ... " إلخ. [ص 91] (¬2) وحديث مسلم المعنعن ليس من أحاديث الأصول، بل هو متابعة لحديثه المصرّح فيه بالسماع، وقد تقدم. • [ص 92] النسائي في "سننه" (¬3): أخبرنا عمران بن موسى قال: حدثنا عبد الوارث حدثنا أيوب عن أبي الزبير عن جابر قال: "نهى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم عن تجصيص القبور". ¬

_ (¬1) (1/ 218 - ط الجامعة السلفية). (¬2) ترك المؤلف بقية (ق 91 أ - 91 ب) فارغًا. (¬3) رقم (2029).

عمران: ثقة. وعبد الوارث: إمام، روى له الجماعة، وفي العنعنة ما تقدم. • ابن ماجه (¬1): حدثنا أزهر بن مروان ومحمد بن زياد قالا: ثنا عبد الوارث عن أيوب عن أبي الزبير عن جابر قال: "نهى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم عن تقصيص القبور". أزهر: صدوق. ومحمد بن زياد: ثقة من رجال البخاري. • [ص 94] (¬2) أبو داود في "سننه" (¬3): حدثنا مسدّد وعثمان بن أبي شيبة قالا ثنا حفص بن غياث عن ابن جريج عن سليمان بن موسى، وعن أبي الزبير عن جابر بهذا الحديث: "سمعت النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم ينهى أن يقعد على القبر، وأن يقصص، وأن يبنى عليه". قال أبو داود: وقال عثمان: "أو يزاد عليه"، وزاد سليمان بن موسى: "أو يكتب عليه"، ولم يذكر مسدَّد في حديثه: "أو يزاد عليه". قال أبو داود: وخفي عَليَّ من حديث مسدد حرف "وأن". لم ينفرد حفص بذكر سليمان بن موسى، كما سيأتي. وفي الحديث عنعنة ابن جريج، وقد يقال: إنها غير ضارة هنا؛ لأنه قد صحَّ سماعه من أبي الزبير لهذا الحديث كما مر، فعنعنته هنا محمولةٌ على السماع، ولما قرن سليمان بن موسى مع أبي الزبير، دل على أنه مثله في ¬

_ (¬1) رقم (1562). (¬2) ترك المؤلف (ق 93) فارغة. (¬3) رقم (3226).

ذلك، أي: أنه سمعه منه. وفي هذا نظر؛ لأن الحديث الذي صرَّح بسماعه ليس فيه هذه الزيادة: "أو يزاد عليه" الثابتة في رواية عثمان، [ص 95] فلعله سمع من أبي الزبير الحديث بغير الزيادة، وسمع ممن سمع منه الحديث بالزيادة. على أنه لو فُرِض تسليم سماعه الحديث بالزيادة من أبي الزبير، لم يلزم في قرن سليمان به كونه سمعه منه أيضًا. وفيه أيضًا: عنعنة أبي الزبير عن جابر، ولا ينفعه تصريحه بالسماع كما مر؛ لأن في هذا زيادة، فلعله دلَّسه لموضع الزيادة. وفيه أيضًا: سليمان بن موسى عن جابر، وقد قال ابن معين: سليمان بن موسى عن جابر مرسل. لكن في هذا بحث سيأتي إن شاء الله (¬1). وكذا في سليمان مقال، سيأتي تحقيقه إن شاء الله (¬2). • [ص 96] البيهقي (¬3): أخبرنا أبو علي الروذباري أبنا محمَّد بن بكر (¬4) ثنا أبو داود ثنا عثمان بن أبي شيبة ثنا حفص بن غياث عن ابن جريج عن سليمان بن موسى، وعن أبي الزبير عن جابر بهذا الحديث: "سمعت رسول ¬

_ (¬1) (ص 90 - 91). (¬2) (ص 88). (¬3) "الكبرى": (4/ 4). (¬4) رسمها في الأصل: "بكير" وصوابه "بكر" وهو أبو بكر محمَّد بن بكر بن داسة راوي السنن عن أبي داود. انظر "السير": (15/ 538).

الله صلَّى الله عليه وآله وسلم نهى أن يقعد الرجل على القبر، أو يقصص، أو يبنى عليه". زاد: "أو يزاد عليه"، وزاد سليمان بن موسى: "أو أن يكتب عليه". أقول: هو الذي قبله. • النسائي (¬1): أخبرنا هارون بن إسحاق حدثنا حفص عن ابن جريج عن سليمان بن موسى وأبي الزبير عن جابر قال: "نهى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم أن يبنى على القبر، أو يزاد عليه، أو يجصص". زاد سليمان بن موسى: "أو يكتب عليه". رواته ثقات، وفيه ما تعلم مما تقدم. • [ص 97] الإِمام أحمد في "مسنده" (¬2) (جزء 3/ ص 295): حدثنا محمَّد بن بكر ثنا ابن جريج قال: قال سليمان بن موسى قال: قال جابر: "سمعتُ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم ينهى أن يُقْعد على القبر، وأن يُجَصص، وأن يُبنى عليه". فيه تدليس ابن جريج بقوله: "قال سليمان". و"قال" من صِيَغ التدليس. وفيه ما تقدم من قول ابن معين: إن سليمان بن موسى عن جابر مرسل. أي منقطع. وفيه تكرير لفظ "قال"، فـ "قال" التي عَقِب لفظ "ابن جريج" مُسْنَدة ¬

_ (¬1) رقم (2027). (¬2) رقم (14144).

لضمير ابن جريج، والتي تليها لسليمان بن موسى، ثم ذكر بعد سليمان بن موسى "قال: قال جابر" فالأخيرة مجاز، ويبقى التي قبلها. والظاهر أنها مسندة لضمير لم يُذْكَر مرجعه في الحديث، ولعله كان قد تقدم ذكره في كلام سليمان أو غيره بحضرته كأنْ يقال له: هل سمعت عطاء - مثلًا - يحدث عن جابر في البناء على القبر؟ فيقول: قال - يعني عطاء - قال جابر. فجاء ابن جريج فقال: "قال سليمان: قال: قال جابر". [ص 98] وصَدَق أنه قال سليمان: "قال: قال جابر". ولكن عندما قال سليمان ذلك كان معلومًا مرجع الضمير لـ "قال" الأولى، وفي حديث ابن جريج صار مجهولًا، فلو صح سماع سليمان من جابر، لم ينفع في هذا الحديث، فهو على كل حال منقطع، أو فيه من لم يُسَمَّ، على الخلاف في تسمية مثله. ويجاب عن هذا: بأنه بعيد، والظاهر أن "قال" الثالثة تأكيدٌ للثانية، وهذا أولى مما ذكر، ومن احتمال كون الرابعة من زيادة النسَّاخ. وأما قاعدة "التأسيس أولى من التأكيد" فخاصّةٌ بما إذا لم يكن إرادة التأسيس أبعد، والتأكيد أقرب. • [ص 99] ابن ماجه (¬1): حدثنا عبد الله بن سعيد ثنا حفص بن غياث عن ابن جريج عن سليمان بن موسى عن جابر قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يُكْتَب على القبر شيءٌ". **** ¬

_ (¬1) رقم (1563).

تحقيق حال أبي الزبير

[ص 100] تحقيق حال أبي الزبير (¬1) أما تدليسه فثابت، وقد مرَّ الكلام عليه عقب الروايات (¬2)، وقد زال المحذور بصحة التصريح بالسماع، كما مرّ. وأما ما فيه من المقال: فقال الشافعي: يحتاج إلى دِعامة. وقال أبو زرعة وأبو حاتم: لا يحتج به. وأشد الناس عليه شعبة سَيّد المتعنّتين، سئل: لم تركت حديث أبي الزبير؟ قال: رأيته يَزِنُ، ويسترجح في الميزان. وروي عنه أنه قال: لا يحسن أن يصلي. وقال: بينا أنا جالسٌ عنده إذ جاء رجلٌ، فسأله عن مسألة، فرد عليه، فافترى عليه، فقلت له: يا أبا الزبير، أتفتري على رجل مسلم؟ قال: إنه أغضبني. قلت: ومن يغضبك تفتري عليه؟ لا حدثت عنك أبدًا. ووثقه الجمهور، كما سيأتي ذِكْر بعضهم. وكلمة الشافعي إن لم تكن من أدنى مراتب التعديل، فهي من أخفِّ مراتب الجرح. وكلمة أبي زرعة وأبي حاتم؛ من المرتبة التي تلي أخف مراتب الجرح. ¬

_ (¬1) انظر ترجمته في "تهذيب الكمال": (6/ 503)، و"تهذيب التهذيب": (9/ 440)، و"إكمال تهذيب الكمال": (10/ 336)، و"ميزان الاعتدال": (5/ 162). (¬2) انظر (ص 75 - 76).

ومن قيل فيه ذلك، فحديثه صالحٌ للاعتبار، فإن انضم إليه مثله كان الحديث حسنًا. [ص 101] انظر "فتح المغيث" (¬1) (ص 24). هذا لو فُرِض أنه لم يوثِّق أبا الزبير أحدٌ، فأما إذا وُثِّق - وهو الواقع - تعين الترجيح. أما قول شعبة: "رأيته يزن ويسترجح في الميزان" فذلك وإن كان ينافي كمال المروءة، فليس بجرح. قال ابن حبان (¬2): ومن استرجح في الوزن لنفسه، لم يستحق الترك. وأما كلمته الثانية فلم تصح؛ لأنها من رواية سويد بن عبد العزيز، وهو ضعيف. وأما قصته الثالثة؛ فالافتراء حقيقته مطلق الكذب، وظاهر السياق أنه سبَّه، والافتراء إذا أُطلق في حكاية السبّ، فالظاهر أنه أُرِيد به القذف. وجوابه: 1 - أن الافتراء ليس نصًّا في القذف، فقد يُراد به مطلق السب، ولا سيما إذا كان شنيع اللفظ، كالإعضاض. [ص 102] فعليه، فقد يكون السائل أساء الأدب، فأعضَّه أبو الزبير، وقد جاء في الحديث: "من تعزَّى بعزاء الجاهلية، فأعِضُّوه بِهَنِ أبيه، ولا تكنوا" (¬3). ¬

_ (¬1) (1/ 83). (¬2) في "الثقات": (5/ 352). (¬3) أخرجه أحمد رقم (21218)، والنسائي في "الكبرى" رقم (8813)، والبخاري في =

2 - وعلى تسليم أن شعبة أراد بها القذف، فلم يبين لفظ أبي الزبير، فيحتمل أنه قال كلمة يراها شعبة قذفًا، وغيره لا يوافقه، ولهذا قال الفقهاء: إذا قال الشاهد: أشهد أن فلانًا قذف فلانًا؛ لم يقبل حتى يفسّر. ولا يَرِدُ على هذا قول شعبة: فقلت له: أتفتري .. إلخ. وسكوت أبي الزبير عن نفي ذلك؛ لأن شعبة قد يكون إنما قال له: أتقول هذا لرجل مسلم؟ ثم أخبر شعبة عن ذلك بالمعنى على رأيه. أو يكون أبو الزبير ترك نفي ذلك؛ لأنه على كل حال قد جرى منه شيءٌ غير لائق، فرأى الأولى المبادرة إلى الاعتذار، بأنها كلمة سبقت على لسانه لشدة الغضب. 3 - وعلى تسليم أنه قذفه قذفًا صريحًا، فقد يكون أبو الزبير مطلعًا على أن ذلك هو الواقع، وسكت عن ذكر ذلك لشعبة؛ لأنه على كل حال مما لا يليق، وإنما سبق أولاً على لسانه لشدة الغضب، ورأى أن هذا العذر كافٍ. ويُسْتأنس لما ذُكِر أنه لو كان القذف صريحًا، والمقذوف سالمًا لذهب فشكاه إلى الوالي، والحدود يومئذٍ قائمة. 4 - وعلى كل حال، فقد أجاب أبو الزبير عن نفسه [ص 103] بقوله: "إنه أغضبني". أي: فلشدة الغضب جرت على لسانه - وهو لا يشعر - كلمة مما اعتاد الناسُ النطقَ به. ¬

_ = "الأدب المفرد" رقم (1000)، وابن حبان رقم (3153)، وغيرهم من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه. وانظر "السلسلة الصحيحة" (269).

وقد جاء في الحديث: "لا طلاق في إغلاق" (¬1). وفُسِّر الإغلاق: بالغضب. وقال الله عزَّ وجلَّ: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225]. 5 - قال الذهبي في "الميزان" (¬2)، في ترجمة ابن المديني: "ثم ما كل من فيه بدعة، أو له هفوة، أو ذنوب تقدح فيه بما يوهن حديثه، ولا من شَرْط الثقة أن يكون معصومًا من الخطايا والخطأ". وفي "إرشاد الفحول" (¬3) للشوكاني (ص 49): "قال ابن القشيري: والذي صحَّ عن الشافعي أنه قال: في الناس من يمحض الطاعة فلا يمزجها بمعصية، و [لأن] (¬4) في المسلمين من يمحض المعصية ولا يمزجها بالطاعة، فلا سبيل إلى ردِّ الكل، ولا إلى قبول الكل، فإن كان الأغلب على الرجل من أمره الطاعة والمروءة، قُبِلت شهادته وروايته، وإن كان الأغلب المعصية، وخلاف المروءة رددتهما (¬5) " اهـ. وفيه من جملة كلام عن الرازي: "والضابط فيه: أن كل ما لا يؤمن ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد رقم (26360)، وأبو داود رقم (2193)، وابن ماجه رقم (2046)، والحاكم: (2/ 198)، والبيهقي: (7/ 357). وصححه الحاكم على شرط مسلم، وتعقبه الذهبي بأن فيه محمَّد بن عبيد ضعّفه أبو حاتم ولم يحتج به مسلم. وانظر "الإرواء" (2047). (¬2) (4/ 61). (¬3) (1/ 264 - ط دار الفضيلة). (¬4) زيادة من الطبعة المحققة. (¬5) الأصل: "رددتها" والمثبت من المحققة.

مِن (¬1) جراءته على الكذب، تردّ الرواية, وما لا، فلا". وفيه: قال الجويني: "الثقة هي المعتمد عليها في الخبر، فمتى حصلت الثقة بالخبر قُبِل". [ص 104] أقول: وهذا هو المعقول، وعليه عمل الأئمة الفحول، فإن الحكمة في اشتراط العدالة في الراوي هي كونها مانعة له عن الكذب، فيقوى الظن بصدقه، فإذا جرت منه هفوة لا تخدش قوة الظن بصدقه، لم تخدش في قبول روايته. ومن هنا رجَّح الأئمة رواية الخوارج على رواية الشيعة؛ لأن الخوارج يعتقدون أن مطلق الكذب كفر، فضلاً عن الكذب على رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم. أما الشيعة فيتدينون بالكذب (التقية) حتى جوزوها من النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم، بل على الله عزَّ وجلَّ؛ لتأويلهم الآيات الواردة في مدح بعض الصحابة على خلاف ظاهرها، قائلين: إنما جعل الله تعالى ظاهرها الثناء استدراجًا لأولئك القوم، ليقوموا بنصر الدين، ويكفُّوا ضررهم عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته ... (¬2). والذي يهمنا أن تلك الكلمة التي سبقت على لسان أبي الزبير بدون شعوره؛ لشدة غضبه، لا ينبغي أن نهدر بها مئات الأحاديث عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم، [ص 105] مع التحقق بكمال صدقه، وحفظه وضبطه، وتحرِّيه وإتقانه. ¬

_ (¬1) في المحققة: "معه". (¬2) كلمتان لم أتمكن من قراءتهما ورسمهما: "والسوط مطين".

الأئمة الموثقون له

6 - والظاهر من حاله، وما ثبت لدى جمهور الأئمة من عدالته، أنه تاب عنها في الوقت. ويلوح لي أن بعض أعدائه - بل أعداء الدين - دسّوا إليه ذلك السائل ليرصده، حتى إذا كان شعبة عنده، جاء فأغضبه؛ ابتغاء أن تسبق على لسانه كلمة، فينقمها شعبة عليه، وقد كان ما ظنوه. ولكن حيلتهم لم تطفئ نور الله الذي بصدر أبي الزبير، فاعتمده جمهور الأئمة الأعلام، واحتجوا به. الأئمة الموثقون له " الميزان" (¬1): ابن المديني: ثقة ثبت. ابن عون: ليس أبو الزبير بدون عطاء بن أبي رباح. يعلي بن عطاء: كان أكمل الناس عقلاً وأحفظهم. عطاء: كنا نكون عند جابر، فيحدثنا، فإذا خرجنا تذاكرنا، فكان أبو الزبير أحفظنا. ابن معين والنسائي وغيرهما: ثقة. ابن عدي: هو في نفسه ثقة، إلا أنه يروي عنه بعض الضعفاء, فيكون الضعف من جهتهم. ¬

_ (¬1) (5/ 162).

[ص 106] عثمان الدارمي: قلت ليحيى (بن معين) فأبو الزبير؟ قال: ثقة. قلت: محمَّد بن المنكدر أحب إليك، أو أبو الزبير؟ فقال: كلاهما ثقتان. وممن وثقه أيضًا الإِمام مالك، فإنه روى عنه، وهو لا يروي إلا عن ثقة. والإمام أحمد، والساجي، وابن سعد، وابن حبان. وقال الذهبي: هو من أئمة العلم، اعتمده مسلم، وروى له البخاري متابعة. والظاهر أن الموثِّقين اطلعوا على قصة شعبة، واطلعوا على ما يدفع ما فيها من الإيهام، أو حملوها على بعض ما قدمنا، أو غير ذلك. ولا سيما ومنهم ابن معين، والنسائي، وابن حبان، وحسبك بهم تعنُّتًا في الرجال، كيف ومعهم بضعة عشر إمامًا. وسيظن ظانون أنه ما حدانا إلى الدفاع عن أبي الزبير إلا حرصنا على صحة حديثه هذا، فليعلموا أن الحجة قائمة بدونه مما مضى، وما سيأتي. [ص 107] وأن أبا الزبير لم تكن روايته قاصرة على هذا الحديث، فإن له أحاديث كثيرة، ربما يكون منها ما لا يوافق هوانا، ورغبة نفوسنا. وما دافعنا عنه إلا ونحن مستشعرون لذلك، ولكن نظرنا في حقيقة الحال، ففهمنا أن الرجل حجة، سواءً أكان لنا أم علينا، وكل من نظر بعين الإنصاف تحقق ما قلناه. والله الموفق، لا رب غيره. ****

تحقيق حال سليمان بن موسى

[ص 108] تحقيق حال سليمان بن موسى (¬1) قال البخاري: عنده مناكير. النسائي: ليس بالقوي. أبو حاتم: محله الصدق، وفي حديثه بعض الاضطراب. أما عبارة البخاري؛ فهو وإن قال: "كل من قلت فيه: منكر الحديث، لا يحتج به"، وفي لفظ: "لا تحل الرواية عنه" اهـ "فتح المغيث" (¬2) (ص 163) = ففرقٌ بين "منكر الحديث" و"عنده مناكير". قال ابن دقيق العيد في "شرح الإلمام": "قولهم: "روى مناكير" لا يقتضي بمجرَّده ترك روايته، حتى تكثر المناكير في روايته، وينتهي إلى أن يقال فيه: "منكر الحديث"؛ لأن "منكر الحديث" وصفٌ في الرجل يستحق به الترك لحديثه. والعبارة الأخرى لا تقتضي الديمومة، كيف وقد قال أحمد بن حنبل في محمَّد بن إبراهيم التيمي: "يروي أحاديث منكرة"، وهو ممن اتفق عليه الشيخان، وإليه المرجع في حديث "الأعمال بالنيّات" اهـ. "فتح المغيث" (¬3) (ص 163). أقول: وإنما يُجْرَح بالمناكير إذا كان الرواة عن الرجل ثقات أثبات (¬4)، ¬

_ (¬1) له ترجمة في "تهذيب الكمال": (3/ 304)، و"تهذيب التهذيب": (4/ 226)، و"إكمال تهذيب الكمال": (6/ 99)، و"الميزان": (2/ 415). (¬2) (2/ 125). (¬3) (2/ 126). (¬4) كذا، والوجه: "أثباتًا".

الموثقون

يبعد نسبة الغلط إليهم، وكذا مشايخه ومن قبلهم، ثم كثر ذلك في روايته، ولم يكن له من الجلالة والإمامة ما يقوِّي تفرُّده. وهم قد يطلقون هذه الكلمة إذا كانت تلك الأفراد مما رُوِيت عنه، وإن لم يتحقق أن النكارة من قبله، ويطلقونها إذا كان عنده ثلاثة أحاديث فأكثر. انظر كتب المصطلح. وقد سَرَد في "الميزان" (¬1) ما له من الغرائب، وهي يسيرة، وبيَّن أنه توبع في بعضها، ثم قال: "كان سليمان فقيه أهل الشام في وقته قبل الأوزاعي، وهذه الغرائب التي تُسْتنكر له يجوز [ص 109] أن يكون حفظها" اهـ. قلت: وبعض الغرائب من رواية ابن جريج عنه بالعنعنة، وابن جُرَيج مدلّس، فربما كانت النكارة من قبل شيخٍ لابن جريج، دلَّس له عن سليمان. وعلى نحو ذلك تُحْمَل كلمة أبي حاتم، مع أن قوله: "بعض الاضطراب" يُشْعِر بقلته جدًّا، لا سيما مع قرنه له بقوله: "محله الصدق". أما كلمة النسائي؛ فتوهينٌ يسيرٌ، غير مفسَّر. وأبو حاتم والنسائي من المتعنتين في الرجال. الموثقون سعيد بن عبد العزيز: لو قيل: من أفضل الناس؟ لأخذت بيد سليمان بن موسى. ابن عدي: تفرَّد بأحاديث، وهو عندي ثبتٌ صدوق. ¬

_ (¬1) (2/ 415).

يحيى بن معين: سليمان بن موسى عن الزهري، ثقة. دُحيم: كان مقدَّمًا على أصحاب مكحول. [ص 110] ومع هذا كله، فليس الحديث الذي نحن بصدده من أفراده، ولكن أردنا تحقيق حال الرجل من حيث هو، كما فعلنا في شأن أبي الزبير. بقي البحث في سماعه من جابر: في "تهذيب التهذيب" (¬1): أرسل عن جابر، وفيه: وقال ابن معين: سليمان بن موسى عن مالك بن يُخَامر، وعن جابر مرسل. اهـ. ولم يذكر ما يخالف ذلك، لكن رأيت في "مسند الإِمام أحمد" (¬2) (جزء 3/ ص 295): ثنا عبد الرزاق أنا ابن جريج قال سليمان بن موسى: أنا جابر أن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: "لا يقيم أحدُكم أخاه يوم الجمعة ثم يخالفه إلى مقعده، ولكن ليقل: افسحوا". ثنا محمَّد بن بكر أنا ابن جريج أخبرني سليمان بن موسى قال أخبرني جابر أن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: "لا يقيم أحدُكم أخاه يوم الجمعة، ثم يخالفه إلى مقعده، ولكن ليقل: افسحوا". اهـ. [ص 111] فقول سليمان في السند الأول: "أنا جابر" صريحٌ في سماعه من جابر، لكن فيه عنعنة ابن جريج. وأما السند الثاني؛ محمَّد بن بكر وابن جريج على شرط الشيخين، وقد ¬

_ (¬1) (4/ 227). (¬2) رقم (14143، 14144).

صرَّح كلٌّ منهما بالسماع، بحيث انتفى احتمال التدليس، وصرح سليمان بقوله: "أخبرني جابر"، ويبعد كلَّ البعد أن يكون ههنا سهو من النسَّاخ في السندين المتتابعين معًا، فلم يبق إلا أحد احتمالين: إما أن يكون صَدَق في أن جابرًا أخبره، وإما أن يكون كذب. وقد ثبت أن الرجل صدوق، وهو أعلم بنفسه من ابن معين وغيره. ولم ندرِ علامَ بني ابنُ معينٍ حكمَه، فتمسَّكْنا بما صح من سماع سليمان عن جابر، وقد أدرك من حياة جابر مدةً طويلة. هذا، مع علمنا بأن ثبوت سماعه من جابر لا يفيد صحة حديثه في شأن القبور [ص 112] ما دامت عنعنة ابن جريج قاطعة الطريق، إلا أن توجد رواية مصرحة بسماع ابن جريج منه لهذا الحديث. فأما تصريح سليمان بالسماع، فلا ضرورة إليه، إذ قد صحّ سماعُه من جابر، وليس بمدلّس. على أن مجرد إمكان لقيه لجابر كافٍ في حمل عنعنته على السماع، على ما اختاره مسلم، وسيأتي البحث فيه إن شاء الله تعالى، في تحقيق حال القاسم بن مخيمرة (¬1). ... ¬

_ (¬1) (ص 94 وما بعدها).

حديث أبي سعيد الخدري

حديث أبي سعيد الخدري • ابن ماجه في "سننه" (¬1): حدثنا محمَّد بن يحيى ثنا محمَّد بن عبد الله بن محمَّد بن عبد الملك الرقاشي ثنا (وهب، وفي نسخة - وهو الصحيح -) وُهيب (بن خالد الباهلي) ثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن القاسم بن مُخَيمرة عن أبي سعيد: "أن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم نهى أن يُبنى على القبر". الإسناد صحيح، وإنما النظر في سماع القاسم من أبي سعيد، وسيأتي. • [ص 113] "مسند أبي يعلى" (¬2): حدثنا العباس بن الوليد النرسي نا وهيب نا عبد الرحمن بن يزيد (¬3) بن جابر عن القاسم بن مُخَيمرة عن أبي سعيد قال: نهى نبي الله صلَّى الله عليه وآله وسلم أن يُبنى على القبور، أو يُقعد عليها أو يُصلى إليها". العباس بن الوليد: من رجال "الصحيحين". • "جامع الزوائد" (¬4): وعن أبي سعيد قال: "نهى نبي الله صلَّى الله عليه وآله وسلم أن يُبنى على القبور أو يُقْعَد عليها أو يصلّى إليها". ورواه أبو يعلى ورجاله ثقات. ¬

_ (¬1) رقم (1564). (¬2) رقم (1016). (¬3) في المطبوعة: "زيد" تصحيف. (¬4) (3/ 61).

حال القاسم بن مخيمرة

قلت: ذكرته استظهارًا؛ لأن نسخة "مسند أبي يعلى" التي نقلت عنها الحديث خطية، وكذا نسخة "جامع الزوائد". **** [ص 115] حال القاسم بن مخيمرة في "تهذيب التهذيب" (¬1) أول ترجمته: روى عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وأبي سعيد الخدري، وأبي أمامة ... إلخ. ثم ذكر بعد أسطر عن يحيى بن معين أنه قال: لم نسمع أنه سمع من أحدٍ من الصحابة. وفي آخر ترجمته: قال ابن حبان: "سأل عائشة عما يلبس المحرم". [ص 116] أقول: لم أجد فرصةً لتفتيش كتب الحديث لتحقيق سماع القاسم بن مُخَيمرة مِن أبي سعيد رضي الله عنه، لكنه كان معاصرًا له قطعًا، فقد ثبت بما قاله ابن حبان أن القاسم أدرك عائشة إدراكًا بينًا، وقد كانت وفاتها سنة (57) فإدراكه لأبي سعيد بَيِّن واضح؛ لأن أقل ما قيل في وفاة أبي سعيد أنها سنة (63) وأكثره سنة (74)، ووفاة القاسم - على ما ذكر ابن سعد (¬2) - في خلافة عمر بن عبد العزيز سنة (100) تقريبًا (¬3). ... ¬

_ (¬1) (8/ 327). (¬2) في "الطبقات": (8/ 419). (¬3) انظر "تحفة التحصيل" (ص 414). وقال البوصيري في "مصباح الزجاجة" (1/ 277) في الكلام على هذا الحديث: منقطع؛ لأن القاسم لم يسمع من أبي سعيد.

بحث شرط اللقاء

الحمد لله بحث شرط اللقاء نقل مسلم رحمه الله في مقدمة "صحيحه": إجماع السلف من أئمة الحديث على الاكتفاء بالمعاصرة في تصحيح المعنعن من غير المدلَّس، ما لم يقم دليل على نفي اللقاء، وشنَّع على من اشترط ثبوت اللقاء من أهل عصره. ثم جاء المتأخرون فقالوا: إن الاشتراط قول المحققين، وذكروا منهم البخاري وشيخه ابن المديني. [ص 117] ولا يخفى أن هذا لا ينافي سَبْق الإجماع لهما، ومجرَّدُ حُسْن الظن بهما أنهما لا يخرقان الإجماع، ولعلهما اطلعا (¬1) أنه لم يزل في طبقات السلف من يشترط اللقاء = لا يُغني شيئًا. فلو ناظر مسلمٌ البخاريَّ، فقال: أنت وشيخك مسبوقان بالإجماع، لم يفده إلا أن يصرَّح بالنقل عن بعض السلف من جميع الطبقات في موافقة قوله؛ فأما مجرد إنكار الإجماع فلا يفيد، إذ الإجماع من الأمور التي لا يطالب مدّعيها بدليل. أما لو قال البخاري: إنه يلزمك وغيرك حسن الظن بنا، لكان قد أتى بما يُضْحَك منه. ¬

_ (¬1) تحتمل: "وأنهما مطلعان".

نعم ذكر السخاوي في "فتح المغيث" (¬1) (ص 66): عن الحارث المُحاسبي ما يُظنّ خادشًا للإجماع حيث قال: "اختلف أهل العلم .. إلخ". لكنه لا يصادم نقل مسلم؛ لاحتمال أن يكون راعَى خلافَ ابنِ المديني، ومع هذا فإننا لا نُقْنِع أنفسنا بالتمسّك بدعوى الإجماع، كما لا يَهُولُنا دعوى التحقيق في الطرف الآخر، بل نسعى لتحقيق البحث بأدلته الحقيقية على سورة مناظرة، مشيرين لمذهب مسلم رقم (1)، ومقابله برقم (2)، ونستوفي البحث بقدر الجهد، بحسب ما اطلعنا عليه من أدلة الفريقين، وما ظهر لنا أنه قد يُستدل به. والله المستعان. [ص 118] (1) الأصل الثابت في الرواية أن يكون عما شاهده الراوي وأدركه، سواء أعَلِم السامع لقاءً للمروي عنه أم لا، وعليه فهذا هو الأصل والظاهر الذي يجب التمسُّك به حتى يتبين خلافه. (2) ما دليلكم على ذلك؟ (1) نذكر أمثلة نوضحه بها: أ - مصريٌّ زار اليمن، ثم عاد فأخذ يخبر عن فلان من علماء صنعاء أنه قال: كذا، وعن آخر من علماء زبيد، وثالث من علماء تعز، والسامعون لا يسمعون بأولئك العلماء، ولم يخبرهم أنه لقيهم، ولا أنهم أحياء. ب - هنديٌّ زار الحجاز، ثم عاد، فأخذ يخبر عن فلان من علماء مكة، وفلان من علماء المدينة، وفلان من علماء الطائف، والسامعون كما تقدم. ج - عالمٌ هنديّ أخذ يخبر بمثل الذي قبله، مع أن السامعين لا يعلمون أزار الحجاز أم لا؟ ¬

_ (¬1) (1/ 191).

من تأمل هذه الأمثلة علم أن الذي يتبادر إلى الأذهان من رواية أولئك الأشخاص أنها عن سماع، مع أن الفرض أن الراوي عنعن، وأن السامع لا يعلم المعاصرة بدليل خارجي، فضلاً عن اللقاء، أما إذا علمها فإن الأمر يزداد قوة. [ص 119] (2) (¬1) هذه الأمثلة تُعارَض بغيرها، فإذا ذهب شرقيٌّ إلى أوربا، ثم عاد فأخبر عن فلان بإنجلترا، أو عن فلان بفرنسا، وعن فلان بألمانيا، فإن الذي يتبادر عدم السماع، وإن عُلِمت المعاصرة. (1) هذا التبادر لوجود القرائن الصارفة عن الأصل، كتباعد البلدان وضعف الدواعي إلى زيارتها، وزيادة المشقة في ذلك، ووجود البرق والبريد والصحافة والتأليف بكثرة، وغَلَبة الإرسال بحيث لا تكاد تجد إنسانًا يقول: أخبرني فلان عن فلان، وغير ذلك، ولهذا مثلنا أمثلة بريئة عن القرائن، وإن شئت فتصوَّرْها واقعةً في زمن التابعين حيث كانت الأقوال - ولا سيما السنة - إنما تؤخذ من ألسنة الرجال، فلا برق ولا بريد ولا صحافة، بل ولا تأليف. والناس يومئذ أهل جدًّ وتشمير في الرحيل لطلب العلم، ولا سيما للقاء أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم، فكيف إذا كان الراوي أو المروي عنه بأحد الحرمين، والناس يومئذ كلهم يزورون الحرمين، وكثير منهم من يحج كل سنة؟ ¬

_ (¬1) الأصل: (ب) وهو رمز الفريق الثاني الذي أشار المؤلف أنه سيرمز له بـ (2) فكأنه ذهل عنه، كما سيحصل عدة مرات.

[ص 120] فكيف إذا شئت زيارة الحرمين بالفعل، أو كان أحد الرجلين ببلدة قد وصلها الآخر، فكيف إذا أقاما ببلدة واحدة؟! والحاصل أن الأصل كما قررناه، وأنه قد تقوم قرائن تصرف عنه، وقد تقوم قرائن تؤيده. ولنذكر مثالاً آخر يوضّح ذلك الأصل: كنا في بومباي - مثلاً - فجاء رجل من السند، لم يصل بومباي قبل، فمكث في بومباي بضعة أيام، ثم لقينا، فأخذ يخبرنا عن فلان المدرِّس بمدرسة كذا في بومباي أنه قال كذا، وعن فلان الإِمام بمسجد كذا فيها أنه صلَّى الجمعة بسورة كذا، وعن فلان التاجر بها أن سائلاً سأله فرد عليه بكذا. فالذي يتبادر إلى الأذهان أنه لقي أولئك الأفراد وسمع منهم، مع أنه لو لم يخبرنا بذلك، لم يترجَّح لنا ألقيهم أم لا. فتبين أن التبادر إنما جاء من الرواية, فثبت أن الأصل في الرواية, أن تكون عما شاهده الراوي وأدركه. [ص 121] (2) لعل اصطلاح المحدّثين كان على خلاف ذلك، كما يدل عليه ذهاب ابن المديني والبخاري، ومن تبعهما إلى ما ذهبوا إليه. (1) قد أسلفنا أن مجرد ذهابهما إلى ذلك القول لا يصلح نقضًا لما نقله مسلم من إجماع السلف، وهو يدل أبلغ دلالة أن اصطلاحهم كان موافقًا للأصل، بل هناك من القرائن ما يدلّ على شدة محافظتهم على الأصل أشدّ من محافظة غيرهم، وذلك مزيد احتياطهم وتثبتهم وجريان عادتهم بالإسناد، والتحفُّظ من نقد النقاد، وغير ذلك.

على أننا لو تنازلنا عن دعوى الإجماع بقيت الأغلبية، وهي كافية في إثبات المطلوب، مع أن موافقة البخاري وشيخه على حمل عنعنة من ثبت لقاؤه على السماع، يدل على ما ذكرنا، وإلا لكانت الحجة عندهما هي مجرَّد اللقاء. فيلزمهما أن كل من لقي شيخًا ثبت سماعه لكل حديثه، وهذا كما ترى. [ص 122] وإنما رأيا أن دلالة الرواية بدون ثبوت اللقاء لا تخلو عن ضعف، فاشترطا تقويتها بثبوت اللقاء. ونحن نسلِّم أن الرواية مع ثبوت اللقاء أقوى منها بدونه غالبًا, ولكن هذا لا يقتضي عدم حجيتها، إذا كانت في نفسها دلالة ظاهرة محصِّلة للظن، على أنه يعلم مما قدمناه أن القرائن قد تتظافر على إثبات اللقاء حتى تكاد تقطع به، وإن لم ينقل صريحًا. (2) لنا: شيوع الإرسال في السلف، فإنه دليل على أن اصطلاحهم على خلاف الأصل الذي قدَّمْتُم. (1) أما الإرسال الجلي فلا نزاع فيه؛ لأن المرسل يتَّكِل على وضوح القرينة الصارفة عن الأصل، وهذا إنما هو كشيوع المجاز، لا يقتضي إلغاء الحقيقة (¬1). وأما الإرسال الخفي، فلنا جوابان عنه: أ - لا نسلِّم شيوعه. والاستقراء يدل على قلته؛ فإن أكثر رواية التابعين وتابعيهم المتصلة معنعنة، ولو كان الإرسال الخفي شائعًا فيهم لأقلوا خشية ¬

_ (¬1) بعده في الأصل كلمة "بل" والكلام بدونها مستقيم.

[ص 123] الإيهام. (2) لعلهم كانوا يتَّكِلُون على ثبوت اللقاء. (1) ما كل سامع لحديثهم بمُطَّلع على اللقاء، فالإيهام باقِ بالنسبة إلى من لم يطلع. (2) لعلهم كانوا يتكلون على أن من لم يطلع على ثبوت اللقاء يسأل عنه. (1) قد يتساهل فلا يسأل، مع أنه قد يغلب على ظنه ثبوت اللقاء للقرائن المتقدمة، فالأسهل والأحوط التصريح بالتحديث من أول وهلة ولا حامل على تركه. فتبين أنهم إنما كانوا يعنعنون المتصلات؛ لاعتقادهم دلالة ذلك على السماع، بل إذا تتبعت رواية المدلسين وجدتهم كثيرًا ما يعنعنون المتصلات، فلماذا يعنعنون مع علمهم بأن عنعنتهم لا تُحْمَل على السماع لتدليسهم؟ هل يقال: إنهم كانوا يريدون أن يوهموا أنهم لم يسمعوا تلك الأحاديث، والحال أنهم سمعوها؟! هذا عكس التدليس المتعارف. فالتدليس: إيهام السماع مع عدمه، وهذا إيهام عدم السماع مع ثبوته، وغرض المدلس إنما يتعلق [ص 124] بالأول دون الثاني. فتبين أنهم إنما كانوا يعنعنون جريًا على الأصل والعُرْف المطَّرد في الاكتفاء بالعنعنة في المسموع.

ب - (¬1) الإرسال الخفي تدليس، والكلام في الراوي غير المدلس، فإذا سويتم بين من وصف بالتدليس وغيره؛ لزمكم أن تردوا المعنعن مطلقًا، كما ذكره مسلم رحمه الله تعالى. (2) كلا ليس الإرسال الخفي تدليسًا، إذ لا إيهام فيه مع عدم اللقاء. (1) قد قدمنا ما يُعْلَم منه أن الإيهام واقع، وإن لم يثبت اللقاء، ويتأكد بالقرائن، كما مر. (2) على كلَّ حال المختار أنه ليس تدليسًا، كما يُعْلَم بمراجعة كتب المصطلح. (1) التحقيق أنه تدليس، ولكن لا نطيل ببيانه، إذ يغنينا أن نقول: لا يضرّ الخلاف في الاسم، فالإرسال الخفي كالتدليس في الإيهام والتغرير، بل هو أقبح منه وأشنع، قال في "فتح المغيث" (¬2) (ص 74 - 75): "فقال ابن عبد البر في "التمهيد" (¬3): ولا يكون ذلك عندهم إلا عن ثقة، فإن دلس عن غير ثقة؛ فهو تدليس مذموم [ص 125] عند جماعةِ أهلِ الحديث. وكذلك إن حدَّث عمن لم يسمع منه، فقد جاوز حدّ التدليس الذي رخَّص فيه من رخَّص من العلماء إلى ما ينكرونه ويذمونه ولا يحمدونه. وسبقه لذلك يعقوب بن شيبة كما حكاه الخطيب عنه، وهو مع قوله في موضع آخر: "إذا وقع فيمن لم يلقه ... أقبح واسمع (أشنع) (¬4). يقتضي أن ¬

_ (¬1) هذا الجواب الثاني للفريق الأول، وتقدم (أ) في (ص 98). (¬2) (1/ 210 - 211). (¬3) (1/ 27 - 28) (¬4) كذا كتب المؤلف تصحيحًا للنص، وهو في المحققة والتمهيد: "أسمج".

الإرسال أشد، بخلاف قوله الأول، فهو مُشْعِر بأنه أخف، فكأنه هذا (هنا) عني الخفي لما فيه من إيهام اللقيّ والسماع معًا، وهناك عنى الجلي لعدم الالتباس فيه". اهـ. أقول: قوله: "إيهام اللقي والسماع معًا"، أي لأن الرواية توهم السماع، ولا يكون سماع إلا مع لقي، وكلاهما غير واقع، بخلاف التدليس، فإن أحدهما وهو اللقي واقع. (2) لكن الإيهام في التدليس أقوى لثبوت اللقاء. (1) نعم، غالبًا، لكن قوة الإيهام فيه لا تنافي وجود الإيهام في الإرسال الخفي، على أن الإيهام في هذا لأمرين كلاهما غير واقع، وفي التدليس لأمرٍ واحد غير واقع، مع أنه قد يكون هناك قرائن تقوِّي إيهام اللقاء. [ص 126] (1) فقد لزمكم على الأقل أن تسووا بين الأمرين، فكما أنكم لا تقبلون عنعنة من لم يثبت لقاؤه خشية الإرسال الخفي، وإن لم يوصف بأنه كان يفعله، فكذلك لا تقبلوا عنعنة من ثبت لقاؤه خشية التدليس، وإن لم يوصَف بأنه كان يدلِّس. (2) ها هنا فرق، وهو: أن السلامة من التدليس هي الأصلُ، والظاهرُ من حال الثقة، فلا يقاوم لاحتماله وزن ما لم يُنقل. (1) وكذلك نقول في الإرسال الخفي سواء، بل السلامة من الإرسال الخفي أقرب، لأمور: منها: أنه أقبح وأشنع كما مر، فالثقة أشد بُعْدًا عنه.

ومنها: أن الغرض الحامل عليه أضعف من الحامل على التدليس, لأن الشخص قد يستنكف عن إدخال واسطة بينه وبين شيخ قد لقيه وسمع منه، لأن ذلك يوهم تقصيره بخلاف من لم يلقه. ومنها: أن الشخص يرغب في التدليس, لأنه أروج لدلسته من الإرسال الخفي. ومنها: أنه لا يأمن الإنكار في الإرسال الخفي، فإنه قد يكون هناك من يعلم عدم اللقاء فيبادر بالإنكار عليه [ص 127]، بخلاف التدليس، فإنه لا يُنْكَر عليه الرواية عن شيخ قد لقيه وسمع منه. (2) أما المدلسون فقد تكفَّل الأئمة ببيانهم، بخلاف الإرسال الخفي، فلم يبينوا أهله على جهة الاستقصاء، وهذا يدل أنهم كانوا يرون الخطر في التدليس، ولا يرون في الإرسال الخفي خطرًا. وهذا إنما يتمشَّى على أنهم كانوا يشترطون اللقاء في قبول المعنعن، فمتى فُقِد اللقاء، فالعنعنة غير مقبولة لفقده، سواء أكان الراوي ممن يرسل الإرسال الخفي أم لا. ومتى ثبت اللقاء فالعنعنة مقبولة، إلا إن كانت من مدلِّس، فلهذا اهتموا ببيان المدلسين، بخلاف الإرسال الخفي. (1) هذه مغالطة، فقد قدمنا بيان دلالة الرواية على السماع، وقدمنا نقل مسلم لإجماع السلف على حملها على السماع إذا ثبتت المعاصرة فقط، وبسطنا ذلك أحسن بسطٍ، وأما هذه الشبهة فلنا جوابان عنها: جواب مكافأة، وجواب إنصاف.

[ص 128] أ - أنه إن كان الأئمة لم ينقلوا عن أحد أنه كان يرسل إرسالاً خفيًّا، فهذا دليل لنا على غلظه وشدة شناعته وقبحه، بحيث إن جميع المحدثين تنزَّهوا عنه، إلا الكذابين، فإن وصفهم بالكذب يغني عن وصفهم بالإرسال الخفي، وإن كان الأئمة نقلوا ذلك، ولكن عن قليل بالنسبة إلى من نقلوا عنه التدليس، فهذا أيضًا دليل لنا على شناعة الإرسال الخفي، بحيث إن الموصوفين به من المحدثين قليل جدًّا بالنسبة إلى المدلِّسين. ب - المشهور بين المحدِّثين أن الإرسال الخفي تدليس، فالوصف بالتدليس يتناول النوعين، ولنا بحثٌ في تحقيق هذه المسألة نلخصه ها هنا: في عبارة ابن الصلاح (¬1) في حد التدليس "فتح المغيث" (¬2) (ص 73): "وعمن عاصره ولم يلقه موهمًا أنه قد لقيه وسمعه". وتبعه النووي، وعبارته في "التقريب" (¬3): "بأن يروي عمن عاصره ما لم يسمعه منه موهمًا سماعه"، وكذا العراقي. وقال في "فتح المغيث" (¬4) (ص 74): "إنه هو المشهور بين أهل الحديث". ومثله للسيوطي في "شرح التقريب" (¬5)، [ص 129] وهو ظاهر عبارة الخطيب في "الكفاية" (¬6). انظر "فتح المغيث" (ص 74) وإن قال ¬

_ (¬1) "علوم الحديث" (ص 73). (¬2) (1/ 208). (¬3) (1/ 256 - مع تدريب الراوي). (¬4) (1/ 209). (¬5) (1/ 256). (¬6) (ص 357).

الحافظ (¬1): إنها تخالفه. ويؤيد هذا القول: أن معنى التدليس لغةً يتناوله، والأصل عدم النقل. وأما البزَّار وابن القطان وابن عبد البر، فإنهم وإن خصوا تعريف التدليس بما ثبت منه (¬2) اللقاء؛ فقد فرقوا بينه وبين الإرسال بوجود الإيهام في الأول بخلاف الثاني، وهذا يدلك أنهم أسقطوا الإرسال الخفي، فلا أدخلوه في تعريف التدليس لما مر، ولا في الإرسال؛ لقولهم: "إن الإرسال لا إيهام فيه". ومع ذلك فكلامهم يدلّ على إلحاقه بالتدليس، لوجود الإيهام فيه، فليس من الإرسال. ولقولهم: إن التدليس إنما كان تدليسًا لوجود الإيهام. وفي هذا إيهام وأيُّ إيهام. انظر عبارة ابن عبد البر المنقولة سابقًا. وأما كلام الشافعي، فلم أقف عليه الآن، إلا أن المدَّعى إنما هو أنه يقتضيه وليس صريحًا فيه. وأما قول أبي حاتم في أبي قِلابة الجَرْمي "فتح" (¬3) (ص 67): إنه كان يروي عن جماعة لم يسمع منهم لكنه عاصرهم، كأبي زيد عمرو بن أخطب، وقال مع ذلك: إنه لا يُعْرَف له تدليس. اهـ. فيُحْمَل على الإرسال الجلي، بأن يكون مشهورًا بين الناس أنه لم ¬

_ (¬1) في "النكت على ابن الصلاح": (2/ 614 - 615). (¬2) تحتمل: "فيه". (¬3) (1/ 192).

يلقهم، فلا إيهام، والرواية عن المعاصر إنما تكون تدليسًا إذا وجد الإيهام. [ص 130] وأما استدلال الحافظ "فتح" (¬1) (ص 73): بإطباق أهل العلم بالحديث على أن رواية المخضرمين كأبي عثمان النهدي وقيس بن أبي حازم عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم من قبيل الإرسال، لا من قبيل التدليس، فلو كان مجرد المعاصرة يُكتفى به في التدليس؛ لكان هؤلاء مدلسين؛ لأنهم عاصروا النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم قطعًا, ولكن لم يُعْرَف هل لقوه أم لا؟ اهـ. وجوابه: أن الصحبة أمر غير مجمل لا يخفى، فكان معلومًا للتابعين أن هؤلاء ليسوا بصحابة، فلم يكن في إرسالهم إيهام. وقوله - رحمه الله -: "ولم يُعْرَف هل لقوه أم لا" فيه نظر. "راجع تراجمهم في كتبه". على أنه لو فُرِض أنه لم يقم دليل على عدم لقائهم له صلَّى الله عليه وآله وسلم، لالتزمنا أن تكون روايتهم عنه دعوى صحبة لها حكمها. ومع هذا كله فالمدَّعَى إنما هو كون هذا القول هو المشهور بين أهل الحديث، فلا ينافيه أن يكون منهم من يخالفه. [ص 131] على أنه لو فُرِض أن الإرسال الخفي لا يسمى تدليسًا، لكان وصف الشخص بالتدليس يدل على أنه لا يتنزه عن الإرسال الخفي؛ لأنهما متقاربان متشابهان. (2) بقي لنا اعتراض واحد، إن تفصَّيتم عنه فقد فلَجْتُم، وهو: أن الثقة ¬

_ (¬1) (1/ 208). وانظر "النكت": (2/ 408 - 409).

قد يرسل عمن عاصره غير قاصد إيهامًا، بل اتكالًا على معرفة السامع بعدم اللقاء، كما حملتم عليه قول أبي حاتم في أبي قلابة الجرمي، فيكون هذا إرسالًا خفيًّا في الحقيقة لا يمتنع اتصاف الثقة به، ولا يلزم الأئمة نقله، وإن صار فيما بعد خفيًّا. (1) هذا أشق ما أوردتموه، وعلى ذلك فجوابه [ص 132] من وجهين: إلزامي، وتحقيقي. أما الإلزامي: فلأنه يلزمكم مثله في التدليس، بأن يقال: إن الثقة قد يرسل عمن لقيه وسمع منه غير قاصدٍ إيهامًا، بل اتكالاً على معرفة السامع بأنه وإن لقيه لم يسمع، أو سمع منه ولكن هذا المعنعن ليس مما سمعه وهذا لا يسمى تدليسًا، إذ لا إيهام فيه، فلا يمتنع اتصاف الثقة به، ولا يلزم الأئمة نقله، وإن صار فيما بعد تدليسًا. فإذا اعتبرتم الاحتمال هناك، لزمكم اعتباره هنا، فتردون كلَّ معنعن كما قاله مسلم رحمه الله. وأما التحقيقي؛ فنقول: إن السامع من المُعَنعِن إذا كان ثقة غير مدلس كما هو المفروض، فإنه يبين أن شيخَه لم يلق الذي روى عنه، فإن فُرِضَ أن هذا السامع حَدَّث من يعلم بعدم لقاء المعنعن لشيخه، فهذا المحدِّث إذا كان ثقة غير مدلس كما هو المفروض، فإنه يبين وهكذا. فتلخَّص من هذا: أنه إذا ثبت عن أحد رجال السند [ص 133] بيان أن المعنعِن لم يلق المعنعَن عنه، فالأمر واضح، وإن لم يجئ البيان عن أحد منهم ولا عن غيرهم، وجب حمل تلك العنعنة على السماع؛ وإلا لزم أن يكون في الرجال مدلِّس، المفروض سلامتهم من التدليس، وهذا هو

جوابكم عما ألزمناكم، فصحّ وثبت أن العنعنة من المعاصر غير المدلس إذا رُوِيت بسندٍ رجاله ثقات غير مدلسين، فهي محمولة على السماع، إلا أن يقوم دليل على خلافه. ومثل العنعنة غيرها من ألفاظ الرواية التي ليست صريحةً في السماع، ولا في عدمه. (2) هل وافقكم أحدٌ على رأيكم هذا؟ (1) ها هي الأدلة بين أيديكم، تأملوها، فإن رأيتم الدليل موافقًا لنا، فماذا بعد الحق إلا الضلال، وإن رأيتموه علينا، فلن ينفعنا موافقة أحد. على أننا قد قدمنا أن هذا قول الإِمام مسلم بن الحجاج، ونقل أنه إجماع السلف من أهل الحديث، ولم تخدش دعوى الإجماع بما يعد خادشًا، وقد نقل السخاوي (ص 62) (¬1) كلامًا عن ابن الصيرفي نلخصه: "أن التابعيَّ إذا قال: "عن رجل من الصحابة" [ص 134] لا يقبل، إذ لا يعلم أعاصره أم لا، فلو أمكنَ عِلْمُ أنه عاصره جُعِل كمدرك العصر ... ". ثم قال السخاوي: "وتوقف شيخنا (¬2) في ذلك؛ لأن التابعي إذا كان سالمًا من التدليس حُمِلَت عنعنتُه على السماع، وهو ظاهر. قال: ولا يقال: إنما يتأتى هذا في حق كبار التابعين الذين جُلّ روايتهم عن الصحابة بلا واسطة، وأما صغار التابعين الذين جلُّ روايتهم عن التابعين؛ فلا بد من تحقّق إدراكه لذلك الصحابي، والفَرْض أنه لم يسمعه ¬

_ (¬1) (1/ 178). (¬2) انظر كلام الحافظ في "النكت": (2/ 351).

حتى نعْلم هل أدركه أم لا؟ لأنا نقول: سلامته من التدليس كافية في ذلك، إذ مدار هذا على قوة الظن، وهي حاصلة في هذا المقام" اهـ. أقول: وإذا كان هذا مع احتمال عدم إدراك المعنعن للصحابي، فضلاً عن لقائه، ففي مسألتنا أولى وأحرى؛ لأنه قد ثبت الإدراك وربما قامت عدة قرائن تدل على اللقاء، كما مرّ. والعجب من الحافظ رحمه الله كيف مشى معهم [ص 135] في ترجيح رد عنعنة من عُلِمت معاصرته دون لقائه، مع أنها قد تقوم القرائن على اللقاء، وتوقّف عن ردِّها بل احتج لقبولها في حق من لم تُعْلَم معاصرته أصلاً، وكان العكس أقرب كما هو واضح. والله أعلم. ***

حديث أم سلمة

[ص 136] حديث أم سلمة قال الإِمام أحمد في "مسنده" (¬1) (جزء 6 ص 299): ثنا حسن ثنا ابن لهيعة ثنا يزيد بن أبي حبيب عن ناعم مولى أم سلمة عن أم سلمة قالت: "نهى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم أن يُبنى على القبر أو يُجَصَّص". ثنا علي بن إسحاق ثنا عبد الله (يعني ابن المبارك) أخبرنا ابن لهيعة حدثني يزيد بن أبي حبيب عن ناعم مولى أم سلمة: أن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم "نهى أن يُجَصص قبر، أو يُبنى عليه، أو يُجْلَس عليه". اهـ. [ص 137] في ابن لهيعة كلام كثير، ولكن فصل الخطاب فيه ما ذكره الذهبي في "الميزان" (¬2) قال: "قال ابن حبان: قد سبرتُ أخباره من رواية المتقدمين والمتأخرين عنه، فرأيت التخليط في رواية المتأخرين عنه موجودًا وما لا أصل له في رواية المتقدمين كثيرًا، فرجعت إلى الاعتبار، فرأيته كان يدلس عن أقوام ضعفاء على أقوام رآهم ابن لهيعة ثقات، فألزق تلك الموضوعات بهم" اهـ. أقول: قوله "ضعفاء" أي: عند الناس فلا ينافي أن يكون ابن لهيعة يظنهم ثقات. إذا تقرر هذا، فحديث المتقدمين صحيح، لا يخشى منه إلا التدليس، فإذا جاء من روايتهم ما صرَّح فيه ابن لهيعة بالتحديث فهو صحيح. ¬

_ (¬1) رقم (26566, 26567). (¬2) (3/ 189 - 197).

لكن في "الميزان": "وقال أبو زرعة: سماع الأوائل والأواخر منه سواء، إلا ابن المبارك وابن وهب كانا يتتبعان أصوله، [ص 138] وليس ممن يحتج به" اهـ. وقال ابن مهدي والإمام أحمد وأحمد بن صالح والفلاس وغيرهم: إن رواية المتقدمين عنه صحيحة. والحافظ عبد الغني والساجي وغيرهما: إذا روى العبادلة عن ابن لهيعة فهو صحيح. وقال أحمد بن صالح: كان ابن لهيعة صحيح الكتاب طلَّابًا للعلم، وقد ضعّفه قوم مطلقًا. ونصّ بعضُهم: أنه ضعيف أولاً وآخرًا. والحق ما حققه ابن حبان، فإنه قد حقق ما ظنوه وفصَّل ما أجملوه. إذا تقرر هذا، فحديث الباب: الرواية الأولى: حسن ثنا ابن لهيعة: ضعيفة. والثانية: من حديث ابن المبارك أخبرنا ابن لهيعة حدثني ... إلخ: فهي صحيحة, لأن ابن المبارك من العبادلة، ومن المتقدمين، وممن كان يتتبع كتبَ ابن لهيعة، وقد صرَّح ابن لهيعة بالتحديث. فالظاهر أن ما في الرواية الأولى من زيادة الوصل، ونقص ذكر الجلوس من التخليط، فالحكم للمرسل [ص 139]، فالحديث مرسل صحيح. فأما من يحتج بالمرسل وحده، فهو عنده حجة مستقلة.

وأما من يشترط أن يعتضد؛ فهو عنده حجة لما تقدم من العواضد. ويؤيده أن ناعمًا مع إدراكه كثيرًا من الصحابة، قليل الحديث، لم يحدِّث إلا عن مولاته أم سلمة، وعن عبد الله بن عَمرو، فالظاهر أن إرساله مما سمعه من الصحابة. والله أعلم. ***

تتمة لحديث جابر وأبي سعيد وناعم

[ص 140] تتمة لحديث جابر وأبي سعيد وناعم لو فُرِض أنّ ابنَ جريج لم يسمع هذا الحديث من سليمان، فلا بد أن يكون قد سمعه ممن هو ثقة عنده على الأقل، وهذا الذي يكون ثقة عند ابن جريج أقل ما فيه أن يكون صالحًا للمتابعة. ثم إذا فُرِض أن سليمان لم يسمع من جابر، فكذلك لا بد أن يكون سمعه ممن هو ثقة عنده, وكذلك يقال في القاسم وناعم، وذلك أن توثيق الأئمة لهؤلاء يتضمن أنهم لا يرسلون إلا عن ثقة مطلقًا أو على الأقل عندهم، إذ لو كانوا يرسلون عن الضعفاء المتفق على ضعفهم لَمَا كانوا ثقات. وقد صرحوا أن من جملة الضعيف الذي يتقوّى فيصير حسنًا: ما كان فيه تدليس بالعنعنة، أو انقطاع بين ثقتين حافظين. انظر "فتح" (¬1) (ص 24). مع أن حديث ناعم مرسل فهو حجة، إما بمفرده، وإما بعواضده. فعلى تسليم المطاعن كلها, لا يقصر الحديث عن بلوغه أعلى درجة الصحيح لغيره؛ فكيف وقد أجبنا عنها ولله الحمد، [ص 141] فكيف إذا لوحظ حديث فَضالة وحديث عليّ، وعمل الصحابة والآثار المروية عنهم، مع موافقة آية المواراة (¬2). ¬

_ (¬1) (1/ 75). (¬2) وهي قوله تعالى: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ} [المائدة: 31].

والأصل الفطري والقياس المعبر عنه: بأن القبر بيت البِلَى لا يناسبه الإحْكام والزخرفة. والقياس على السنة المتواترة في تغليظ حُرْمة اتخاذ المساجد عليها. وإن كان هذا القياس أدون، مع ما في البناء ونحوه من تضييع المال أولاً: بإنفاق ما يستدعيه البناء. وثانيًا: بتضييع تلك البقعة لاقتضاء البناء بقاءها كذلك ولو بعد البلى. وملاحظة ما أدى إليه البناء ونحوه من تعظيم القبور. كلُّ ذلك مما يفيد العلم القطعي بصحة معنى هذه الأحاديث، والله عزَّ وجلَّ أعلم.

يسر العقيدة الإسلامية

آثَار الشّيخ العَلّامَة عبد الرّحمن بن يحيى المعَلِّمِيّ (5) يسر العقيدة الإسلامية تأليف الشّيخ العَلّامَة عبد الرحّمن بن يحيى المعلمي اليَمَاِني 1312 هـ - 1386 هـ تحقيق علي بن محمد العمران وفق المنهج المعتمد من الشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد (رحمه الله تعالى) تمويل مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

مقدمة التحقيق

مقدمة التحقيق الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيّه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد. فهذه رسالة في العقيدة للشيخ العلامة المعلمي رحمه الله تعالى، أراد منها تسهيل العقيدة وتيسيرها كما أفصح عن ذلك في مقدمتها، وسيأتي نص كلامه، ولذلك أطلق عليها "دين العجائز أو يسر العقيدة الإسلامية" إلا أنه لم يتمكن من إتمامها ليتحقّق له مراده، وسنتحدّث عنها في عدة مباحث: * اسم الرسالة تردّد المؤلف في تسمية الرسالة، فكتب على رأس الصفحة الأولى منها "دين العجائز أو يُسر العقيدة الإسلامية" فكأنه لم يجزم بواحدٍ منهما فتركهما أملًا أن يستقرّ رأيه على واحدٍ منهما لو تمَّت الرسالة، لكنه لم يتمها فبقي الاسم على حاله. فاخترنا على الغلاف كتابة أوضحهما دلالةً على مقصود الكتاب وهو "يُسْر العقيدة الإِسلامية". ولا أعتقد أن تقديم "دين العجائز" في الذكر يدل على تفضيل المؤلف له على الاسم الآخر، والله أعلم. * سبب تأليفها صرَّح المؤلف في صدر رسالته بسبب تأليفها، حيث ذكر اختلاف الناس في العقائد وتفرّقهم، وأنواع الكتب المؤلفة في العقائد، وأنها بأنواعها الثلاثة "المختصرة، والمتوسطة، والمطولة" لا تفضي الي العلم اليقين

*موضوعات الرسالة

والاطمئنان، بل إلى الشك والحيرة والتقليد، ثم قال ص 5: "فأحببتُ أن أكتب رسالةً أوضِّح فيها الكلام، وأُقرِّب المرام، وأحرص على تقرير الحجة على وجهٍ يشفي غليل المستفيد، وتخرجه إن شاء الله تعالى عن الحيرة والتقليد". * موضوعات الرسالة بدأ المؤلف مقدمة رسالته بتمهيد بيَّن فيه اختلافَ الناس وتفرّقهم في العقائد، وأن كتب العقائد على ثلاث طبقات؛ مختصرات ومتوسطات ومطوّلات. وبيَّن ما في كل واحدة منها من عيوب، ثم خلص بمحصّلة من تلك الكتب وفائدتها لمن يطالعها بقوله (ص 4): "وبالجملة، فلا يكاد الناظر في تلك الكتب يخلص منها إلا بإحدى ثلاث: التقليد المحض، أو الحيرة، أو الشك في أصل ... " ثم ذكر (ص 5 - 6) أن هذا هو السبب الداعي الي تأليف رسالته هذه، وغرضه منها، وتجرّده للحق بغضَّ النظر عن أيّ انتماء لفرقة من الفرق، وأنه نَظَر نَظَر صِدْق للحق. - ثم بدأ المصنف كتابه بمقدماث ثلاث: المقدمة الأولى: في أصول لا بدّ منها (ص 7 - 21) وذكر فيها خمسة أصول. المقدمة الثانية: في التقليد والتحقيق (ص 22 - 39). ذكر فيها أن على المرء أن يسأل نفسه: هل تريد التقليد أو التحقيق؟ وأنه ينبغي على من اختار أحد الأمرين أن يقلّد الكتاب والسنة أو يحقق فيهما،

فهما أولى ما قُلّد وأولى ما حُقق، وأن المرء إذا رأى لنفسه النظر في كتب المتكلمين فعليه أن يحذر ما فيها ولا يغتر بما يزعمونه من حجج وبراهين. وكان المؤلف قد كتب فصلاً في الأسلحة التي يصول بها الفلاسفة، وكانت سببًا في ضلال كثير من الناس، ثم ضرب عليه، فأثبتُّه في موضعه في الهامش للفائدة. ثم عقد فصلاً ذكر فيه أن الخائضين في العقائد فِرَق، فذكر سبعًا منها إجمالاً، ثم تكلم عن كل واحدة بما يلخَّص طريقتها. ثم تكلم على ثلاثة من العلماء ممن جمع بين الكلام والفلسفة، وما وقع لهم من الرجوع للحق، وهم الجويني والغزالي والرازي. ولم يتمكّن من إتمام الكلام فيهم في هذه النسخة فترك بياضًا، أو أنه أراد نقله من الكتب الأخرى التي تكلم فيها على هؤلاء العلماء، فنقلتُ كلام المؤلف في المتن حينًا وفي الهامش أحيانًا أخرى بحسب ما يقتضيه السياق، مع الإشارة إلى كل ذلك. ثم عقد فصلاً في ذكر جنايات المتكلمين على الإسلام، وذَكَر المتصوّفة، وفلاسفة العصر. المقدمة الثالثة: في تقسيم العقائد (ص 40 - 46). قسَّم العقائد إلى قسمين: قسم لا يمكن في هذه الدار الوصول إلى معرفته، وقسم يمكنهم. فالأول (ما لا يمكنهم) لا بدّ أن يكون الشارع قد حظر عليهم الخوض فيه لأسباب ثلاثة وذكرها. وأما القسم (الذي يمكنهم معرفته) فعلى ضربين، ما لم يكلفهم الشرع بطلبه، وما كلفهم به، وأن الأول على أقسام، محظور ومكروه ومباح. وأما

الأصل الأول: وجود رب العالمين.

الثاني فينظر في الطريق الموصل إليه، وأن الطريق الموصل ليس كما يهواه الإنسان، وقد تكون محفوفة بالابتلاء لكنها موصلة، وضرب لذلك مثلاً بأحد الملوك ... ثم عقد فصلاً ذكر فيه أن المكلّف بطلب هذا القسم ينقسم بالنظر إلى درجة التكليف إلى أضْرب، فذكر أربعة. - بعد الانتهاء من المقدمات بدأ بالباب الأول في الضروريات، وذكر تحته أصولاً: الأصل الأول: وجود رب العالمين. قرّر فيه أن جميع الأمم من الأولين والآخرين كانوا مقرين بوجود رب العالمين، وأحال في استكمال الاستدلال بذلك إلى كتاب "العبادة" له. ثم ذكر فرقة "الدهرية" وحقق كونهم لا ينكرون وجود الربّ تعالى، ولا ينكرون كونه يهلكهم، وذكر احتمالين في المسألة. ثم عقد سبعة فصول نذكر موضوعاتها بإيجاز، فعقد فصلاً في سنة القرآن أن ما كان من الحق معروفًا لا يورد عليه الشبهات وإنما يؤخذ منه البرهان، وذكر أن البراهين على وجود رب العالمين كثيرة منها: الاستدلال بوجود الأثر على المؤثر، وتكلم عن هذا الدليل واختلاف الناس في تلخيصه. ثم عقد فصلاً فيما يجده الإنسان في نفسه من الاطمئنان بأن للعالم ربًّا ليس من جنس ما يراه ويشاهده، وما يعرض له حين تَصفُّح استدلال الفلاسفة أو أسلافه في النسب والتعليم. ثم أجاب عن اعتراض بعضهم بأن

بعض الناس قد يفزعون عند الشدائد إلى غير الله عزَّ وجلَّ. ثم عقد فصلاً للجواب عن سؤال: كيف حصل للنفس هذا الإدراك النفسي؟ وفصلًا بعده في الدلالة الظنية، وأنه ينبغي للعاقل ألا يلغيها وضرب أمثلةً على ذلك. ثم عقد فصلاً فيمن نشأ على خلاف الحق ماذا ينبغي له أن يعمل. وفصلًا يليه في أن الله تعالى إنما خلق الناس ليبتليهم في الأخْذِ بما ظهر لهم من الحق والأحوط وما يكون لهم من التوفيق والسداد، بخلاف مَن أبى ما ظهر له من الحق. ثم عقد فصلاً في تدبُّر ما حول الإنسان من الآلات والصناعات، وفي خلق الإنسان والحيوان، وتفاصيل خلق الإنسان، وتدبر أمر الشمس والقمر .. وارتباط الموجودات ببعضها ... وأن هذه الأمور مجتمعة تضطرك إلى الإيمان بأن لها صانعًا وأن تدبيره لا يفتر. ثم عنون بقوله: "مبلغ علم الملحدين" (ص 63 - 67)، ذكر فيه أن من الأدلة على وجود الرب تعالى وأن الهداية بيده: النظر في حال الملحدين، وكيف أنهم مع تبحُّرهم في معرفة الأمور الكونية نظروا إليها لذاتها ولم يهتدوا بها إلى حق .. وشَرْح ذلك والرّد عليهم. ثم عاد إلى ذِكْر الفصول المتعلقة بالأصل الأول فذكر خمسة فصول. ذكر في الأول منها الأمور التي تبعث المتشككين في إصرارهم على دعوى الشك فذكر ثمانية منها. ثم عقد فصلاً ذكر فيه طائفة من الأدلة على وجود رب العالمين، فمنها

ما يُشاهَد من تعجيل العقوبة لكثير من أهل البغي والظلم، ومنها إجابة الدعاء، وغير ذلك. ثم عقد فصلين صغيرين في الموضوع، وفصلًا ثالثًا ذكر فيه أن ثمرة النظر في نفس الناظر تدل على وجود ربّ حقيقيّ، وليس هو ذاك الكوكب ولا تلك الشمس، وذَكَر أسباب ذلك. ثم ذكر الأصل الثاني: أنه عَزَّ وَجَلَّ واحد، وذكر الفِرَق التي قد تخالف هذا الأصل، فذكر ثلاث فرق وردّ عليها. ثم عقد فصلاً ذكر فيه اعتراضًا ورد عليه، ثم عقد فصلاً ذكر فيه الشبهات التي تعترض الطلاب في هذا الزمان وتكاد تشككهم في ذلك، وذكر تحته مسائل (ص 84 - 95). الأولى: ما هو؟ الثانية: كيف؟ الثالثة: أين؟ وأطال في بسط هذه المسألة الثالثة، وذَكَر شُبَه المتكلمين والجواب عنها (ص 91 - 108). ثم قال: وهنا مباحث: المبحث الأول: المماثلة بين الشيئين تأتي على ثلاثة أضرب. وذكرها. المبحث الثاني: المماثلة في الوصف أو الأوصاف على أربعة أوجه. وذكرها.

* وصف النسخة

المبحث الثالث: فيما بين هذه الأوجه من التلازم والتنافي. المبحث الرابع: في نفي المماثلة. وبه ينتهي ما وُجد من الكتاب. ثم ألحقتُ الكتاب بنصٍّ جاء في (ق 41 ب - 42 ب) وقد كتب المؤلف فوقه: "هذا مع الورقة الآتية يؤخَّر إلى بحث توحيد الألوهية إن شاء الله تعالى" إلا أن هذا المبحث لم نقف عليه فيما وُجد من الرسالة، فلا ندري أكتبه المؤلف أم لا؟ فألحقته في نهايتها للفائدة. * وصف النسخة للكتاب نسخة واحدة محفوظة في مكتبة الحرم المكي الشريف برقم [4666] وتقع في 62 ورقة في دفتر مسطّر من القطع العادي، وهي بخط مؤلفها المعروف. وهي نسخة مسوّدة كثيرة الضرب واللحق والتخريج، كتب المؤلف عنوانها في رأس الصفحة الأولى: "دين العجائز أو يُسر العقيدة الإسلامية" ثم بدأ بالبسملة فالمقدمة، وتنتهي الرسالة عند قوله: " ... هي الحاصلة على الوجه الأول". والحمد رب العالمين.

نماذج من النسخة الخطية

الورقة الأولى من "يسر العقيدة"

الورقة الأخيرة من "يسر العقيدة"

النص المحقق

آثَار الشيخ العَلامَة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي (5) يسر العقيدة الإسلامية تَألِيف الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني 1312 هـ - 1386 هـ تحقيق عَلي بن مُحَمَّد العِمران وَفق المنهج المعتمدَ من الشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد (رحمه الله تعالى) تمويل مُؤسسَةِ سليمان بن عبدِ العزيز الراجحي الخيريةِ دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، حمدًا يوافي نعمَه، ويكافئ مزيدَه، وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلم وبارك على محمد خاتم النبيين، وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه وسائر عباد الله الصالحين. أما بعد؛ فإن الناس تشعَّبوا في العقائد شعوبًا، وتفرَّقوا فيها فِرقًا، وأمْعَنت كلُّ فرقة في الانتصار لقولها ودفع ما عداه، وصارت كتب العقائد على ثلاث طبقات: الأولى: مختصرات، يسرد مؤلِّفوها عقائد سلفهم، ويُلْزمون أبناء تلك الفرقة بحفظها واعتقادها والاستيقان بها, ولا يذكرون حُجةً ولا دليلًا. والثانية: متوسّطات، يسوق مصنفوها عقائد فرقتهم وبعضَ ما احتجَّ به قدماؤها عليها، وعلى دفع ما خالفها، على وجهٍ لا يكادُ يثمر غلبةَ الظن، فكيف اليقين؟! والثالثة: مطوَّلات، يُبْسَط فيها الخلاف، مع ذِكْر كثير من الحُجج، مع تدقيق الكلام، بحيث يصعب المرام، ويعتاص على الأفهام، فيعجز الناظر عن استيفاء النظر فيها، ويخرج منها كما دخل فيها، بل أشدَّ حيرةً وارتباكًا. وربما ذكر الماتنُ (¬1) دليلاً، ثم ذكر اعتراضًا عليه، وأجاب عنه، ثم ذكر ردًّا لهذا الجواب ودفعه. ¬

_ (¬1) أي: صاحب المتن.

فيجيء الشارح فيذكر دفعًا لهذا الدفع وجوابًا عنه، وربما ذكر دفعًا لهذا الجواب ثم رده، فيجيء المُحَشِّي (¬1)، فيذكر دفعًا لذلك الرد ثم يجيب عنه. وهكذا لا تكاد هذه السلسلة تنقطع، وربما يقتصرون في الجواب على قولهم: "وهذا غير مسلَّم"، أو: "وفيه نظر"، أو دعوى بطلانه بالبديهة. وكثيرًا ما يُشَكِّكون في أجوبتهم، بقولهم: "قد يقال كذا"، أو: "فليتأمل" أو نحو ذلك. وكثيرًا ما يكون اعتمادهم على الإلزام للمخالف، أو الاستناد إلى دليل عقليّ قد اختلفوا فيه، أو الإحالة على مسألة أخرى مختلف فيها أيضًا. وكثيرًا ما يكون الناظر في تلك الكتب قد شدا شيئًا من العلم، فيظهر له ضَعْف بعض تلك الأجوبة، ولكنه لا يستطيع أن يفهم مِنْ ضَعْفه أنّ مقابِلَه حق. وغالب المؤلفين ينتسب أحدهم إلى فرقة خاصة، ويتقيَّد بها، ويلتزم الذَّبَّ عنها، وتسميتها (¬2): أهلَ الحق، ويطلق على مخالفيها الأنباز الشنيعة. وذلك كله مما يزهَّد الناظرَ - إن كان طالب حق - في كلامه، ويسيء ظنه في حُجَجه، ولا يأتمنه على نقله عن الفرق المخالفة له، ويَحْدِس أن المؤلف لم يذكر من حُجَج مخالفيه وأجوبتهم إلا أضعفها. وبالجملة؛ فلا يكاد الناظر في تلك الكتب يخلص منها إلا بإحدى ثلاث: التقليد المحض، أو الحيرة، أو الشك في أصلٍ اتفق عليه المختلفون ¬

_ (¬1) أي: صاحب الحاشية. (¬2) تحتمل: "ويسميها".

في تلك المسألة إن لم يستظهر بطلانه. كمسألة الجهة للرب سبحانه، قد يتدبر الناظر الأدلة العقلية للفريقين، ثم يخرج بالشكِّ في وجود الله عَزَّ وَجَلَّ أو إنكاره، فيقول: ما كان في جهة فليس برب، وما لم يكن في جهة فهو معدوم (¬1)! فأحببتُ أن أكتب رسالةً أوضِّح فيها الكلام، وأُقرِّب المرام، وأحرص على تقرير الحجة على وجهٍ يشفي غليل المستفيد، وتخرجه إن شاء الله تعالى عن الحيرة والتقليد. وهواي فيها إن شاء الله تعالى مع الحق، لا مع فرقة من الفرق، [ص 2] ¬

_ (¬1) قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "منهاج السنة": (2/ 221 - 223): "للناس في إطلاق لفظ (الجهة) ثلاثة أقوال، فطائفة تنفيها وطائفة تثبتها وطائفة تفصّل ... والمتبعون للسلف لا يطلقون نفيها ولا إثباتها إلا إذا تبين أن ما أُثبت بها فهو ثابت وما نُفي بها فهو منفي؛ لأن المتأخرين قد صار لفظ (الجهة) في اصطلاحهم فيه إجمال وإبهام كغيرها من ألفاظهم الاصطلاحية, فليس كلهم يستعملها في نفس معناها اللغوي؛ ولهذا كان النفاة ينفون بها حقًّا وباطلاً، ويذكرون عن مثبتيها ما لا يقولون به، وبعض المثبتين لها يُدخل فيها معنى باطلاً مخالفًا لقول السلف ولما دل عليه الكتاب والميزان. وذلك أن لفظ (الجهة) قد يراد به ما هو موجود، وقد يراد به ما هو معدوم، ومن المعلوم أنه لا موجود إلا الخالق والمخلوق، فإذا أريد بالجهة أمر موجود غير الله كان مخلوقًا، والله تعالى لا يحصره ولا يحيط به شيء من المخلوقات، فإنه بائن من المخلوقات. وإن أريد بالجهة أمر عَدَمي، وهو ما فوق العالم فليس هناك إلا الله وحده ... ". وانظر "مجموع الفتاوى": (3/ 41، 5/ 296 وما بعدها) و"درء التعارض": (3/ 295 وما بعدها).

وتقيُّدي فيها بالإِسلام، ليس لأنه ديني ودين قومي، وإنما هو لاستيقاني بعد صِدْق النظر أنه الحق. وسترى إن شاء الله تعالى تصديقَ قولي هذا بقدر ما تَسَعه هذه العُجالة. ***

مقدمات الأولى: في أصول لا بد منها

مقدمات الأولى: في أصول لا بد منها الأصل الأول من المعلوم أن الإنسان يولد لا يعلم شيئًا، وإنما معه الإحساس بالألم ونحوه، أعني بحيث إذا قُرِص ظَهَر إحساسُه بألم القَرْصَة. وهذا الإحساس يلزمه منذ نفخ الروح، وليس هو بِعلمٍ، ومعه إلهامٌ فطري، به يلتقم الثدي ويمتصُّه. وهذا مع وضوحه لا أحفظ فيه خلافًا، وقد قال الله عزَّ وجلَّ: [{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}] [النحل: 78] (¬1). ثم عَقِب الولادة يشرع في إدراك المحسوسات بحواسه، ثم يتدرَّج بطريق القياس. تجري العادة بأن أمه إذا أرادت إرضاعه ترفعه من مَهْده، فإذا تكرر هذا أدرك بطريق القياس أنه إذا رفعته من مهده فإنها سترضعه، فتراه إذا مسَّه الجوع يبكي، فإذا أخذَتْه من مهده سكت، فإذا مضت هُنَيهةٌ ولم ترضعه عاد إلى بكائه. وهكذا تتربّى معلوماته بالإحساس والقياس، ويقوى القياس في نفسه بالتكرر، وذلك هو الاستقراء. ثم بالإحساس والقياس ترتسم في نفسه القضايا الأولية، مثل أن الوجود والعدم لا يجتمعان ولا يرتفعان، وأن الشيء أعظم من جزئه، ويرتسم في ¬

_ (¬1) بيّض المؤلف للآية أملًا في إلحاقها، ورجّحت أنه أراد الآية التي أثبتُّها.

نفسه أن الحادث لا بد له من مُحْدِث. والمقصود أنّه إنما يدرك بحسه أو بقياسه على ما أدركه بحسه. غاية الأمر: أن العقلَ يتصرَّف في المحسوسات والمقيسات، فيحكم فيها بأن هذا صواب جزمًا أو رُجْحانًا، وهذا خطأٌ كذلك، وهذا محتمل. وهذه الحال تلازم الإنسان مدة حياته، إلا أنه كلما كبر وتعلَّم وتعقَّل وتفكر اتسعت دائرة معلوماته بكثرة الإحساس والتوسع في القياس وقوة العقل. [ص 3] فإذا كان معك في البيت إنسان، فإنك تدرك وجودَه برؤيتك له، أو بسماع صوته أو حِسّه، أو بلمسك له (¬1)، أو شمك لرائحته. وتُدْرِك أنه إنسان باستقرائك السابق أن ذلك الشكل، أو ذلك الصوت، أو ذلك الملمس أو الرائحة إنما يكون للإنسان. وتدْرِك أنه فلانٌ باستقراء آخر، وهو أن ذلك الشكل والصوت والملمس والرائحة إنما يكون لفلان. وقد تخرج من حُجرتك ولا تدع بها أحدًا ثم تعود إليها عن قُرْب، فتجد حادثًا قد حدث فيها، فتعلم بسابق استقرائك مع حكم عقلك أنه إنما حدث عن سبب، فإذا أحببت معرفة السبب نظرتَ في ذلك الحادث مستعينًا باستقرائك السابق، فقد تكون ورقةٌ خفيفةٌ قد تحولت عن موضعها، فتُجوِّز أن يكون السبب هو الريح. وقد يكون كتابٌ كان في موضع غير متمكِّن فيه، فترى أنه ¬

_ (¬1) في الأصل: "أو بلمسك لك"، سبق قلم. والكلمة على الصواب في صياغات سابقة لهذه الفقرة ضرب عليها المؤلف.

سقط، وإذا فكرت رأيت أنه لعدم تمكُّنه، كان مِن مدّة بسبب ثقله وعدم تمكُّنه يميل إلى الجهة التي سقط منها قليلاً قليلاً حتى سقط في ذلك الوقت. وإذا كان شيء معلّقًا بخيط ضعيف، فانقطع، وفكّرت، رأيتَ أن الخيط كان بسبب ثقل ما عَلِق به تَهِنُ قواه، وتتقطع شيئًا فشيئًا إلى أن انقطع. وإذا كان إناء فيه طعام، وهو متمكِّن في موضعه، فجئتَ وقد سقط، ظننتَ أن فأرة أو هرة أو نحوهما وثبت إليه فأسقطته. وإذا كان إناءُ طعام خفيف قد أُخِذَ من فوق مائدة، ووُضِع فوق مائدة أخرى بعيدة عنها، وكان في البيت أو جواره قِرْدٌ يمكن أن يكون دخل تلك الحجرة، جوَّزتَ أن يكون هو صنع ذلك. وإذا كان صندوق ثقيل، كان موضوعًا بالأرض، فحُوِّل عن موضعه إلى موضع آخر، رأيتَ أن إنسانًا دخل فصنع ذلك، وتَعْلَم مع ذلك أن ذلك الإنسان حي له قدرة على مثل ذلك الفعل. فإذا كانت عدة أشياء كانت في الحجرة قد حُوِّلت عن مواضعها ورُتَّبَت ترتيبًا أحسن وأتقن مما كانت= علمتَ أن ذلك الإنسان حكيم أيضًا إلى الحدِّ الذي يقتضيه ذلك الترتيب. فإذا كانت الحجرة مُحكمة الإغلاق من داخل وأنتَ خرجتَ منها، ووقفت قريبًا من الباب، وتعلم أنه لا يمكن أن يكون دخلها إنسانٌ بعدك، ثم عدتَ إليها فوجدتَ الأمتعة قد حُوِّلت عن مواضعها ورُتِّبت ترتيبًا آخر أبْدَع وأتقن مما كان، فإنك تُجَوِّز أحدَ أمرين: - إما أن إنسانًا له قدرة خارقة دخل إلى الحجرة من حيث لم تَجْرِ العادة بدخول الإنسان.

الأصل الثاني

- وإما أن يكون [ص 4] موجود حيٌّ عالمٌ قديرٌ حكيمٌ إلى ذلك الحد، خارجٌ عن نوع الإنسان، وعن سائر الأنواع التي شاهدْتهَا قبل، ومع ذلك فإنما أدركتَ وجودَه بالقياس على وجود المحسوسات، وكذلك ما أدركته من صفاته، فتدبر. **** الأصل الثاني العلم المُكْتسب من الخبر لا يتحصَّل إلا بمعونة الحسّ والقياس، فإن الخبر يتضمن حُكمًا ومَحكومًا به ومحكومًا عليه، فلا يستفيد السامع حتى يكون قد عرف المحكوم به والمحكوم عليه وصورة الحكم بحسٍّ أو قياس. وأكثر الكلمات تتغير صورة المفهوم منها بتغيّر المنسوب إليه، فإذا قلت: "وجه زيد" تصوَّر السامع - إذا كان يعرف زيدًا - وجهه المخصوص. فإذا قلت: "وجه بكر" تصوَّر وجهًا آخر غير الأول. فإن قلت: "وجه رجل" تصور القَدْر المشترك بين وجوه الرجال، فإن قلت: "وجه إنسان" ازداد الاشتراك. فإن قلت: "وجه حِصان" تصوَّر شيئًا آخر، وهكذا: "وجه جمل"، "وجه صقر"، "وجه حيوان"، "وجه الدار"، و"وجه المسجد"، و"وجه الشهر"، و"وجه الأمر". وإذا قلت: "وجه ضيغم"، وصاحبك لا يدري ما الضيغم، لم يستطع أن يُثبت في ذهنه صورةً ما. فإن قلتَ له: الضيغم شيء حيٌّ مما على الأرض، قَرُب أن يتصوَّر صورة مبهمة مشتركة بين الإنسان والفيل والبعوضة وغيرها، وهو مع ذلك لا يستطيع أن يثبتها.

وإذا قلت: "وجه جِنّي، أو مَلَك" لم يستطع أن يثبت في نفسه صورة؛ لأنه لم يحس بملك أو جني، ولا بما يعلم مشابهته له في الشكل ولو في الجملة، إلا أن وهمه ينازعه إلى صورة الإنسان، إذا كان قد علم أن الملائكة والجن كالناس في أنهم عِبادٌ أحياء عقلاء. ولكن عقله يدفع ذلك بأن الملائكة والجن وإن شاركوا الناس في تلك (¬1) الصفات وغيرها فليسوا من جنس الناس، والمشاركة في بعض الصفات لا يستلزم المشاركة في كل شيء، كيف وقد عَلِم المفارقة في أصل الجنس؟! فإن أخبره صادقٌ بأن للملَك أجنحة، فله أحوال: الأولى: أن يكون يرى أن للملك ذاتًا مُشَخَّصة تقابل ما يسمَّى للحيوان الأرضي: جسمًا، فهذا يقع في وهمه أولاً أنها كأجنحة الطير المعروفة، ثم يدفع هذا [ص 5] بما سمعه من صفات الملائكة: أنهم عِباد عُقلاء عُلْويون مقرَّبون إلى ربّ العالمين، أولو قدرة عظيمة، وغير ذلك، فيعلم أنهم ليسوا من جنس الطير المعروفة، فلعله إنما يستقرّ في ذهنه أنَّ للملك أطرافًا من ذاته لو رآها إنسان لأطلق عليها: أجنحة. الثانية: أن يكون يرى أن الملَكَ ذاتٌ مجردة عن المادة ألبتة، كما تقوله المتفلسفة؛ فإنه يتردد ويتحَيَّر، وأقصى ما عنده أن يتأوَّل الأجنحة على القُدْرة، أو نحو ذلك من التأويلات. الثالثة: أن يكون خالي الذهن عن التجسد والتجرد، وهذا إذا سمع الصفات التي إنما عرفها للأجسام يقع له ما يقع للأول. ¬

_ (¬1) الأصل: "بعض تلك" وعلى "بعض" آثار شطب، ورجحتُ أنه ضرب عليها، ثم أضاف "وغيرها".

الأصل الثالث

الأصل الثالث كما أن العقل محتاج إلى الحِسّ والقياس في حُكْمه بالإثبات، فكذلك هو محتاج إليهما في حكمه بالنفي، سواءً أصاب أم أخطأ. أما الحس؛ فظاهر، كأن تكون بصيرًا، فتحكم بأنه ليس معك في حجرتك إنسانٌ آخر. وأما القياس؛ فكما تحكم أن تسع بيضات لا تمكن قسمتها - وهي سالمة - إلى قسمين متساويين في العدد، وكما يُكذِّب أناس بوجود الشياطين معهم، وكما يكذِّب كثير من الناس بخوارق العادات، وكما قد تكذِّب من يقول لك: وُلد لي ولد له ثلاث أعين. **** الأصل الرابع: الأغلاط أما أغلاط الحواسّ؛ فمنها رؤية الجسم البعيد صغيرًا، ورؤية من يغمز إحدى عينيه الشيءَ شيئين، وغير ذلك مما تراه في كتاب "المواقف" (¬1)، وغيره. وأما أغلاط القياس؛ فمنها أنك إذا جئت بإنسان لم تسبق له معرفة بالمذياع، فأوقفته خارج حُجرة فيها مِذْياع، ثم دخلتَ وفتحتَ المذياع، وعدت إلى صاحبك، فإنه إذا سمع المذياع حكم بأن في الحُجْرة إنسانًا يتكلّم، وأمثال هذا كثيرة. ¬

_ (¬1) (1/ 88 - 92) للإيجي. وانظر "بغية المرتاد": (ص 267)، و"مجموع الفتاوى": (4/ 30، 13/ 76).

وقال الله عزَّ وجلَّ: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء} [النور: 39]. وقال سبحانه: {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً} [النمل: 44]. واعلم أن الأغلاط في النفي أكثر منها في الإثبات؛ وذلك لكثرة اعتماد الإنسان في الحكم بالنفي على استقرائه [ص 6] الناقص، فلو لم يَثبُت عندك قطعًا تفاوتُ الناس في الإبصار لكنت إذا تراءيت الهلال أنت وآخرون فادَّعوا رؤية الهلال وأنت لا تراه تُكذِّبهم. وقِسْ على هذا سائر الحواس. ولهذا تجدنا نكذِّب ما يُحْكى عن زَرْقاء اليمامة (¬1)، ونكاد نكذَّب ما يحكيه أهلُ التجارب من قوة شمِّ الكلب، وكذلك يكذِّب كثيرٌ من الناس كثيرًا مما يُحكى من الغرائب الطبيعية. وكثيرٌ مما اكتشفه الناس كالكهرباء والراديو وغيرها لو حُكي لهم لوازمه قبل أن يُكْتَشَف لقطعوا باستحالتها. وهذه الاكتشافات اضطرت علماء الطبيعة إلى أن يجزموا أنه لا يزال في خبايا الكون أشياء لا تخطر لأحد على بال، سيرى الناس بعد اكتشافها كثيرًا مما يقطعون الآن باستحالته. هذا مع أن أرضنا هذه نقطة صغيرة من العالم، ولا نشكّ أنَّ فيه ما هو أرقى منها، وأن هناك ما ليس ها هنا, ولا يجد العقلُ مانعًا من أن يكون هنا وهناك حقائق لا تُدْرَك بحواسنا هذه، وإنما تُدرك بحواسّ أخرى، وقد صرَّح ¬

_ (¬1) امرأة من جديس، قيل: إنها كانت تنظر الراكب من مسيرة ثلاثة أيام، وتبصر الشعرة البيضاء في اللبن .. انظر "ثمار القلوب": (1/ 465 - 467)، و"حياة الحيوان": (4/ 241)، و"الأعلام": (3/ 44).

بذلك المتفلسفون (¬1) من القدماء والعصريين (¬2). قال بعض العصريين: إن للنحل حاسة سادسة (¬3). وليس هناك ما يحصر الحواسّ الممكنة في الخمس، ولا في ست، ولا سبع، ولا أكثر. وهذا الحَبّ والنوى لو لم يتضح لنا بالحس والقياس والتواتر اتضاحًا قاطعًا أن الحبة والنواة تبقى سنين، ثم إذا وُضِعَت في الطين نبت منها مثل أصلها، ثم كبر، ثم أثمر مثل ذلك الثمر الأول، وهكذا أبدًا = لقطعنا باستحالته. وكذلك توالد الحيوان وما فيه من العجائب، لو أخذتَ بيض حمام، فولَّدته توليدًا صناعيًّا، بوضعه في التبن ونحوه في حرارة معتدلة، فلما خرجت الفراخ ربيتها بدون أن تخالط غيرها من الحمام، ثم أخذت منها ذكرًا وأنثى، وعزلتهما في موضع = لوجدتهما بعد أن يكبرا ويتسافدا يشرعان في جمع القَشّ، واتخاذ موضع صالح لوضع البيض فيه وحضنه (¬4). فمن أعْلَمَهما أن السِّفاد سبب للتوالد؟ ومن أعلمهما أن الأنثى ستضع بيضًا يحتاج أن يُحْضَن؟ وقس على ذلك. ¬

_ (¬1) غير واضحة في الأصل، وهكذا قرأتها. (¬2) هذا من حيث التجويز العقلي لا مانع منه. وانظر ما ذكره الإمام ابن القيم من حِكْمة جعل الحواس خمسًا في مقابلة المحسوسات الخمس، وأنه لو كان هناك ما يُحسّ بغيرها لجعل له حاسة سادسة. "مفتاح دار السعادة": (2/ 203). (¬3) انظر في عجيب أمرها وحكمة خلقها: "مفتاح دار السعادة": (2/ 165 - 169)، و"حياة الحيوان الكبرى": (4/ 29 - 52). (¬4) ذكر المصنف نحو هذا المثال في "التنكيل - القائد": (2/ 327).

الأصل الخامس

وطالع ما قاله علماء الحيوان في النحل والنمل (¬1). **** الأصل الخامس المقصود من وضع اللغات هو تسهيل سبيل التفاهم بين الأفراد ليتعاونوا على تحصيل معرفة ما يحتاجون إلى معرفته، فإن حسَّ الإنسان وقياسه بدون معونة غيره لا يكاد يكفيه, لما يحفظ به حياته. والإشارة محدودة الفائدة؛ إذ من المعلومات ما لا يُمكن إفهامها بمجرد الإشارة، ومنها ما يمكن على وجه إجمالي مشتبه، ومنها ما يمكن تحديده ولكن بعد تعب وعناء وصرف وقت طويل، وأما ما عدا ذلك فهو قليل. وجَرِّب ذلك بأن تدخل بلدًا لا تعرف لسانهم، ولا يعرفون لسانك، فانظر ما يكون حالك قبل أن تعرف كلماتٍ من لغتهم، على أنك في هذه التجربة [ص 7] أحسن حالاً منك لو فرضت أنه لم توضع للناس لغة أصلاً. هذا, ولا يخفى أن فائدة التعاون إنما تحصل إذا كان المخبر حريصًا على إفهام المخاطَب ما هو الواقع، فإذا كلَّمْت رجلاً بكلام ترى أنَّ من شأن ذلك الكلام بحسب قانون تلك اللغة مع حال المخاطب أنه إذا سمعه فهم منه معنى، فذلك المعنى إن كان مطابقًا للواقع في اعتقادك؛ فقد تحرَّيت الصدق، وأتيت بالكلام فيما هو المقصود منه، وإن كان غير مطابق للواقع في اعتقادك، ¬

_ (¬1) سبقت الإشارة إلى الكلام في النحل. وفي النمل انظر "مفتاح دار السعادة": (2/ 150 - 152)، و"حياة الحيوان": (4/ 105 - 119).

بمعنى أنك لا تعتقد مطابقته للواقع، بل تعلم أو تظن مخالفته له أو تشك؛ فقد تحرَّيت الكذب، [وأتيت] (¬1) بالكلام فيما هو نقيض المقصود منه. ولا شكَّ أن قانون العربية [أن يكون] الكلام على ظاهره المفهوم منه، مع ما يكون هناك من القرائن التي [إن لم] يلاحظها المخاطَب كان مقصِّرًا. فإذا كنت مع رفيق لك في الهند مثلاً، وأهلكما في اليمن، ثم رجعت إلى وطنك، فسألك أهل رفيقك عنه فقلت لهم: قُتِلَ، قَتَلَه فلان، فها هنا عدة أحوال: الأولى: أن تكون شَهِدْته قد (¬2) قَتَلَه فلانٌ القَتْلَ الحقيقي. الثانية: أن تكون شَهِدْته قد جرحه فلان، فأغمي عليه، وقال من عنده: إنه مات، وسافرتَ عَقِبَ ذلك، ولا ترى إلا أنه مات الموتَ الحقيقي. الثالثة: أن تكون علمت بالجرح، ثم أخبرك من تثق به أنه مات. الرابعة: أن يكون رفيقك رجع معك وهو حاضر المجلس، وقد عرف أهله ذلك، ولكنهم سألوك عما كان حاله في الهند، فقلت: قتله فلان، وأردت أنه خَدَعه في معاملته، أو نحو ذلك مما يُتجوَّز عنه بالقتل. الخامسة: أن يكون رفيقك باقيًا بالهند، وسئلت عنه، فقلت: قُتِل في الهند قَتَله فلان، وسمَّيتَ رجلاً يعرفون أنه لم يزل عندهم، وأردتَ أنه كَتَبَ إليه بكتابٍ أشار عليه فيه بما ضره ونقصه، فكأنه قتله، أو نحو ذلك مما يُتجوَّز عنه بالقتل. ¬

_ (¬1) تفشَّى الحبر في هذا الموضع، فطمس الكلمات التي وضعناها بين المعكوفات في هذه الأسطر الثلاثة. (¬2) عليها أثر الضرب، لكن الظاهر أنها ثابتة, والضرب إنما امتدّ إليها من السطر الآخر.

[ص 8] السادسة: أن تكون علمتَ بأن فلانًا جرحه، وظننت أن ذلك الجرح قاتل، وسافرت قبل أن تعلم بالموت، أو أخبرك به من لا يوثق به. السابعة: أن يكون صاحبهم لم يرجع من الهند، وكذلك فلان، وقلت لهم: إنه قُتِل، قَتَلَه فلان، ولم تتأول شيئًا. الثامنة: مثل السابعة، إلا أنك تأولت، أردت: خَدَعَه، أو نحو ذلك مما يُتجوَّز عنه بالقتل، زاعمًا أنه يكفي قرينة صارفة عن الظاهر: أن صاحبهم موجود على الأرض حيّ يُرْزَق، أو أن فلانًا سافر إلى أمريكا قبل التاريخ الذي زعمتَ أنه قَتَل صاحبهم فيه، ويستحيل رجوعه إلى الهند في تلك المدة، وهم لا يعلمون بذلك، أو أنه قد علم الله تعالى أن صاحبهم لا يُقْتل في الوقت الذي أخبرتهم بأنه قُتِل فيه، ويستحيل أن يقع خلاف ما سبق في علم الله، أو نحو ذلك من الأمور التي تنافي القتل، ولكنهم لا يعلمونها. ومن ذلك: أن يكون صاحبهم رجع مستخفيًا وهو موجود في المجلس بحيث لا يرونه، أو يكون عندك في بيتك، وجاءك أبوه وهو ضعيف البصر، فأدخلته إلى المكان الذي فيه ابنه ولم تخبره به، بل جلس بحيث لو كان صحيح البصر لرآه. فأما الصورة الأولى فهي الصدق المَحْض، إلا أنه في هذا المثال قد يحرم عليك إخبارهم إذا خشيت أن يَعْدوا فيقتلوا بعض أقارب القاتل. وأما الثانية فالظاهر أنه لا يلزمه قبح الكذب وإثمه، ولكن كان الأحوط أن تُفصِّل، فتَحْكي الواقعة كما هي لمكان الاحتمال وإن كان بعيدًا, ولا فرق في هذه بين أن يكون مات أو لم يمت، كأن يكون أفاق بعدك ولم يبلغك ذلك.

وأما الثالثة فهي قريب من الثانية، إلا أن الملامة لك ألزم، إذ كان ينبغي لك أن لا تصرِّح بالقتل، بل تشرح الواقعة كما كانت، ولا فرق في هذه - أيضًا - أن يكون مات أو لا. وأما الرابعة فلا قُبْح فيها ولا إثم بالنظر إلى القتل؛ لأن صاحبهم حيّ أمامَ أعينهم، فكيف يتوهَّمون أنه قتل؟! وكذلك الخامسة؛ فإنهم يعلمون أن فلانًا لم يزل عندهم، فكيف يتوهمون أنه مع ذلك قَتَل صاحبهم بالهند؟! وأما السادسة فالقبح والإثم لازم لك؛ إذ لستَ بجازم في نفسك بأنه مات، فكيف تجزم بالقتل؟ وإنما سبيلك أن تقصّ عليهم الواقعة كما كانت، ولا فرق في هذه بين أن يكون مات أو لا. وأما السابعة فتحرِّيك الكذب ولزوم قبحه وإثمه لك ظاهر، سواءً أكنت تعلم بعدم القتل أو لا تعلم قتلًا ولا عدمه، وسواءً اتّفق أن كان في نفس الأمر أنه قتله أو لا؛ إذ المدار على جرأتك على الكذب وهي ثابتة على كل حال. [ص 9] وأما الثامنة فهي كالسابقة (¬1)، فإن تأويلك في نفسك لا يغير من صورة الخبر ولا من فهم السامع شيئًا، وكذلك المنافيات التي لا يعلمها السامع لا تُغَّير من فهمه شيئًا. والقرينة التي اشترطها العلماء لصحَّة التجوُّز المرادُ بها ما يقترن بالخبر مما يَشعُر به السامعُ ليصرفه عن فهم ما لم يقصد. ومجرّد تأول المخبِر في ¬

_ (¬1) تحتمل: "كالسابعة".

فصل

نفسه ووجود منافٍ لا يَشعُر به المخاطَب لا يغير من المفسدة التي لأجلها قَبُح الكذب وحُرِّم شيئًا. ألا ترى أنهم في الصورة الثامنة يفهمون مثل ما فهموه في السابعة، وتنبني على ذلك نفس المفاسد التي تنبني في الثامنة؛ كحزنهم وأسفهم واحتمال أن يبادروا فيقتلوا فلانًا أو بعض أقاربه، ثم يتسلسل القتل للأبرياء. وأن تموتَ أنتَ فُجاءَة، ولا يصل خبرٌ يخالف خبرك، فيقتسمون تَرِكَة صاحبهم، ويزوّجون نساءه، وغير ذلك. **** فصل الكذب في نفسه قبيح محرَّم، فإذا ترتبت عليه مفسدة كان أشدَّ قبحًا وإثمًا, ولا يخلو عن مفاسد تترتب عليه. ولا يُعْهَد في الشرع ولا العرف الترخيص في شيء منه، إلا إذا كان فيه دفع لمفسدة لا تندفع إلا به، وظهر أنه لا يترتب عليه مفسدة أعظم منها. [ص 10] ولكن مثل هذا إن جاز لعامة الناس فلا أراه يجوز للأنبياء بعد النبوة؛ لأن مبنى الرسالة على الصدق المحض. فإن قيل: فقد ثبت في "الصحيح" (¬1): "لم يكذب إبراهيم - عليه السلام - إلا ثلاث كذبات" (¬2). ¬

_ (¬1) البخاري رقم (3357)، ومسلم رقم (2371) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) انظر كلام المصنف على هذا الحديث، والقول في تخريج كلمات إبراهيم في "التنكيل - القائد إلى تصحيح العقائد": (2/ 390 - 398).

قلت: كلمات إبراهيم - عليه السلام - تجمع أمورًا: الأول: التورية القريبة. الثاني: أنه كان في حاله ما يدعو إلى أن يُظَنّ أنه وَرَّى، وهذا شبه قرينة، وذلك كقوله لما سُئل (¬1) عن امرأته: "هي أختي"، وأراد الأخوَّة في الدين. فإنه كان من عادة الجبار: الذي دخل بلاده أنه إذا سمع بامرأة جميلة لها زوج بدأ بقتل زوجها، ومن البيَّن أنّ الزوج إذا سُئل عن امرأته في مثل تلك الحال يحرص على تخليص نفسه من القتل، فإذا كان ممن لا يستحلّ صريحَ الكذب وَرَّى. فتلك شِبْه قرينة تصرف عن الظاهر، ونحو هذا يأتي في الكلمتين الأخريين. الأمر الثالث: أنه إنما بتلك (¬2) الكلمات يدفع مفاسد عظيمة، ولهذا قال النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم: "لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات، كُلُّهنّ في ذات الله". وأقربها إلى حظ النفس قوله: "هي أختي"، ولم يقلها لمجرد حظ نفسه، بل حرص على بقائه حيًّا ليدعو إلى الله عزَّ وجلَّ، ودفع بها ظلم القتل عن أولئك القوم. ولا أستبعد أن تكون تلك الكلمات وقعت منه - عليه السلام - قبل النبوة، ويدل على ذلك قول الله عَزَّ وَجَلَّ فيما حكاه عن قومه بعد تكسير ¬

_ (¬1) في الأصل: "سأل" وسيأتي على الصواب في أول الصفحة التالية. (¬2) غير محررة في الأصل وهكذا استظهرتها.

أصنامهم: {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء: 60]، والفتى: الشاب (¬1)، والغالب أن النبوة تكون بعد الأربعين. وعلى ذلك أدلة أخرى من كيفية محاورته مع قومه، فكأنه - عليه السلام - أدرك التوحيد بصفاء فطرته وذكاء قريحته. ومع هذا كله فإن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم سماها: "كذبات"، وبيَّن أنه لم يقع من إبراهيم مما يطلق عليه الكذب غيرها. وثبت في "الصحيح" (¬2) أن إبراهيم - عليه السلام - يعتذر عن الشفاعة يوم القيامة بهذه الكلمات، فيعدُّها يومئذٍ خطايا، كما يعتذر آدم بأكله من الشجرة، ويعتذر موسى بقتله نفسًا، وهذا مما يوضِّح شدة بُعدِ الأنبياء عن الكذب، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. **** ¬

_ (¬1) انظر "لسان العرب": (15/ 145) ويطلق الشابّ على القويّ المكتمل، وعلى الحَدَث السنّ، وسياق الآية يدل أنهم أرادوا الغضّ منه وتصغيره، فكأنهم أرادوا المعنى الثاني. وانظر "منهاج السنة": (5/ 70). لكن أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن المنذر - كما في (الدر المنثور: 4/ 390) - عن ابن عباس قال: ما بعث الله نبيًّا إلا وهو شاب، وقرأ هذه الآية وغيرها. (¬2) في حديث الشفاعة الطويل عند البخاري رقم (4712)، ومسلم رقم (194) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

المقدمة الثانية: في التقليد والتحقيق

[ص 11] المقدمة الثانية: في التقليد والتحقيق ينبغي لطالب الحق من المسلمين أن يختبر نفسَه قبل البحث، ويسألها: التقليدَ تريد أم التحقيق؟ فإن كانت تريد التقليد؛ فأولى من قُلَّد في العقائد كتاب الله وسنة رسوله، فإن لم يكن أهلًا للنظر فيهما، فليبذل جهده في تحصيل التأهُّل. وإن كان يريد التحقيق؛ فالتحقيق في الكتاب والسنة أيضًا، فإنه لا أعلم بالله - عزَّ وجلَّ - من نفسه، ثم من رسوله. فإن أبى إلا النظر في آراء المتكلمين والمتفلسفين، معتذرًا بأن كلامهم قد اختلط بالكتب العلمية على اختلاف أنواعها من تفسير، وشروح حديث، وتراجم رجال، وفقه وأصوله، وعلوم اللغة. وتلك العلوم لا بدّ منها لطالب العلم، ولا يجدها إلا في تلك الكتب التي قد خُلِط بها الكلام والفلسفة، فليجعل نُصْب عينه أنه إنما يريد التحقيق، وأن غاية التحقيق في الكتاب والسنة، وأنه إنما يريد بالنظر في الكتب التوصُّلَ إلى الكتاب والسنة. ثم ليحذر من تقليد المتكلمين والمتفلسفين، وليضع كلَّ أصلٍ يؤصِّلونه على أنه دعوى لا يقبلها بمجرد الاغترار بكثرة المدَّعين وجلالتهم في صدور الناس، وما اشتهروا به من علم ودقة نظر، وما يكررونه مِنْ زَعْمِ: أن بدائه العقول دالة عليها، وأنها قامت عليها البراهين القطعية، وأنه لا يخالفها إلا بليد أو معاند، أو غير ذلك (¬1). ¬

_ (¬1) بعد هذا ذكر المؤلف فصلاً في أسلحة الفلاسفة التي بها يصولون، وكانت سببًا في ضلال كثير من الناس، وهي اثنا عشر سلاحًا, ولكنه ضرب عليه ربما لتكون في =

فصل

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = مكان أنسب من هذا، فرأينا إثباته في الحاشية للفائدة وهذا هو: فصل اعلم أن للمتفلسفة وأتباعهم وأشياعهم أسلحة بها يصولون، وبها اضطروا أكثر الناس إلى تقليدهم، حتى كثيرًا من أكابر العلماء، فلنكشف لك عن حقيقتها بعون الله. السلاح الأول: دعوى أوائلهم تصريحًا وكثيرٍ [الأصل: كثيرًا] ممن بعدهم تعريضًا أنهم غير متقيدين بهوى ولا دين وإنما غرضهم الحق من حيث هو. السلاح الثاني: براعتهم في الطبيعيات والرياضيات، فيتوهم الإنسان أنهم كما فاقوا في ذلك وأدركوا حقائق لا ريب فيها، وأبانوا عن لطف نظر ودقة إدراك، فكذلك ينبغي أن يكونوا في الإلهيات. وإذا تمكن هذا الأمر من نفسه صار يأخذ أقوالهم في الإلهيات قضايا مسلّمة, كما يفعل مثل ذلك في أقوالهم في الطبيعيات والرياضيات. السلاح الثالث: استدلالهم في الإلهيات بقضايا طبيعية أو رياضية، وأكثر الناظرين لا يتقن الطبيعيات والرياضيات ولا يتنبّه للمغالطات فيها، فيضطر إلى أخذ قضاياها مسلّمة، أو قل: إلى أن يقلدهم فيها، ويجرّه ذلك إلى أن يقلدهم فيما زعموا من الدلالة. [ص 12] السلاح الرابع: تهويلهم في شأن المنطق، وأنه لا يوثق بعلم من لا يعرفه ولا يفهمه ولا يعقله. السلاح الخامس: أنهم يقررون قضايا خاصة كإبطال الدور وإبطال التسلسل وما يسمونه برهان التطبيق وغير ذلك، فمنها ما هو باطل في نفسه ولكنهم يدعون أنه برهان قطعي وأنه بديهي ويكثرون من إيراد الشُّبه عليه, فيكثر أن يوافقهم الناظر عليه ثم يحتجون به في مسائل أخرى، ومنها ما هو حق في نفسه في أمر خاصّ يمثلون به عند الاحتجاج على حقيقة تلك القضية في مواضع غير ما هي حق فيه, فيأخذها الناظر على أنها برهان قد سبق منه أن أدرك بنظره أنه حق ولا يتنبه للفرق. السلاح السادس: البراعة في وضع الأسماء، فيختارون للمعاني التي يريدون إثباتها أسماء مقبولة، وللتي يريدون نفيها أسماء منفّرة، وكذلك يسمون أنفسهم بأسماء =

فصل

[ص 13] فصل اعلم أن الخائضين في العقائد فرق: الفرقة الأولى: أهل الآثار المقتصرون على ما جاء في الكتاب والسنة، مستشهدين بما تقتضيه بدائه العقول وما يقرب منها في الوضوح. الثانية: فلاسفة اليونان. ¬

_ = مقبولة ومخالفيهم بأسماء مكروهة. السلاح السابع: تعريفهم بعض الأشياء تعريفات أوسع من مفهوماتها اللغوية أو أضيق، وبذلك تسهل لهم المغالطة في تلك الأسماء. السلاح الثامن: أنهم يقدمون بيان أغلاط الحسّ والقياس والوهم، ثم يعمدون إلى ما يريدون تقسيمه من الأمور التي يرى الإنسان أنها ضرورية فيدّعون أنها وهمية أي من جملة الأغلاط. وإلى ما يريدون إثباته فيحتجون بالضرورة ولا يتعرضون لاحتمال الغلط، فإذا أُجيبوا بمثل جوابهم فيما نفوه قالوا (الأصل: قالوه): هذه سفسطة أو مكابرة. السلاح التاسع: تدقيق الكلام وتكثير الأقسام وحشد الشبهات على ما قال أوحد الزمان "فقالوا لهم إن هذه ... " المعتبر ج 3 ص 34. السلاح العاشر: قد علموا أن أعزّ شيء على المتدينين دينهم، فيأتونهم من طريقه فيقولون لهم: لو صحّ ما تقولونه لزم أن يكون الخالق محدثًا، أو أن يكون معدومًا، أو نحو ذلك من الأوصاف المنافية للدين. هذا من أنفذ أسلحتهم، فإن المتديّن إذا سمع مثل هذا اضطرب ومُلئ رُعبًا ونفرت نفسه عن ذلك القول. وربما تمتنع من تدقيق النظر خوفًا أن يجرها ذلك إلى الكفر. السلاح الحادي عشر: زعمهم أن الكلام لا يمكن أن يعلم منه قطعًا أن المتكلم أراد كذا. [ص 13] السلاح الثاني عشر: سعيهم في تفخيم شأن متبوعيهم ومن يوافقهم، وتعظيم كتبهم، واطلاق الألقاب الضخمة عليهم.

الثالثة: قدماء المتكلمين من المسلمين. الرابعة: المتفلسفون من المسلمين الذين يقلدون فلاسفة اليونان، ثم يقابلون بين عقائدهم وبين الإسلام. الخامسة: الجامعون بين الكلام والفلسفة. السادسة: المتصوفة. السابعة: أهل الفلسفة العصرية. فأما أهل الآثار؛ فقد يقع لهم الخطأ بالاستشهاد بحديث لم يثبت، أو بفهم من آية أو حديث ثابت، فيخطئون في فهمه، أو بالاستشهاد بأثرٍ عن بعض الصحابة أو التابعين قد يكون مما أُخِذَ عن أهل الكتاب (¬1). ¬

_ (¬1) الثناء على أهل الحديث والآثار كثير على لسان السلف وأئمة العلم والإيمان, وقد يقع من بعضهم الخطأ والغلط كما ذكر المؤلف وغيره لكنهم لا يجتمعون عليه كما هو شأن بقية الفرق، وخطؤهم قليل إذا قورن بخطأ غيرهم، وانظر "القواعد الحديثية من منهاج السنة": (ص 25 - 35) لراقمه. وسأنقل عبارتين جامعتين لشيخ الإِسلام في الثناء عليهم، قال في "مجموع الفتاوى": (3/ 347): "أحق الناس بأن تكون هي الفرقة الناجية: أهل الحديث والسنة، الذين ليس لهم متبوع يتعصبون له إلا رسول الله، وهم أعلم الناس بأقواله وأحواله، وأعظمهم تمييزًا بين صحيحها وسقيمها، وأئمتهم فقهاء فيها، وأهل معرفة بمعانيها واتباعًا لها تصديقًا وعملاً وحبًّا وموالاة لمن والاها ومعاداة لمن عاداها، الذين يردّون المقالات المجملة إلى ما جاء به من الكتاب والحكمة، فلا ينصبون مقالة ويجعلونها من أصول دينهم وجمل كلامهم إن لم تكن ثابتة فيما جاء به الرسول، بل يجعلون ما بعث به الرسول من الكتاب والحكمة هو الأصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه". =

وأما فلاسفة اليونان ونحوهم؛ فالذي يستهوي النفوس لتقليدهم هو الوقوف على كثرة صوابهم في الطبيعيات والرياضيات، وما اشتهر من أنهم لم يكونوا متقيدين بهوى ولا دين، وإنما كانت نهمتهم تحقيق الحق. فعليك أن تعرف أن كثرة إصابتهم في الطبيعيات والرياضيات إنما هو لأنها في متناول الإنسان؛ لأنها مما يهدي إليه الحس والقياس. فأما الإلهيات فإنما يتناول القياس منها طرفًا إجماليًّا، ويعجز عن التفصيل إثباتًا ونفيًا، فإن غَلَبْته شهوة الاطلاع، فخاض في ذلك، فإنما جَهْدُه (¬1) أن يقيس الغائب على الشاهد مع أنه ليس من جنسه، ويعمل باستقرائه الناقص، ويجحد ما لم يعرف له نظيرًا، وكلُّ ذلك غلط. وربما أوداه التوغُّل في ذلك، فيرجع فينقض ما يمكن إدراكه من الطرف الإجمالي. ذكر صاحب "المُعْتبر" (¬2) البرهانَ على شمول علم الله عزَّ وجلَّ ¬

_ = وقال في "منهاج السنة": (5/ 166): "لم يجتمع قط أهل الحديث على خلاف قوله في كلمة واحدة، والحق لا يخرج عنهم قط، وكل ما اجتمعوا عليه فهو مما جاء به الرسول، وكل من خالفهم من خارجي ورافضي ومعتزلي وجهمي وغيرهم من أهل البدع فإنما يخالف رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، بل من خالف مذاهبهم في الشرائع العملية كان مخالفًا للسنة الثابتة. وكل من هؤلاء يوافقهم فيما خالف فيه الآخر، فأهل الأهواء معهم بمنزلة أهل الملل مع المسلمين، فإن أهل السنة في الإِسلام كأهل الإِسلام في الملل". وانظر "المجموع": (4/ 1 - 193). (¬1) غير واضحة في الأصل، ولعلها ما أثبته. (¬2) وهو في علم المنطق، لأبي البركات هبة الله بن مَلْكا البغدادي ت (547). ترجمته في "إخبار العلماء بأخبار الحكماء": (2/ 460) للقفطي، وانظر ثناءه على هذا الكتاب في "وفيات الأعيان": (6/ 74). واختلف في اسم جده هل هو ملكا، أو ملكان بالنون. انظر "الأعلام": (8/ 74) للزركلي.

للكليات والجزئيات، وذكر شبهة النافين، وأنها ارتيابهم في الكيفية، ثم قال: "وصناعة النظر تأمر المتأمل بأنه إذا حقق أصلاً، وتيقَّن معلومًا، حصَّله بنظره، وحازه إلى سوابق علمه، وتأمَّلَ نسبته إلى ما هو مجهول حتى يكتسبه ويحصَّله بذلك المعلوم السابق، فإن قدر على كسبه فذاك، وإلا ثبت في علمه على معلومه، وترك المجهول في مُهْلة الطَّلَب، فأما إنْ نَقَضَ المعلومَ بالمجهول، وردَّ الحاصلَ بالمطلوب، فإنه لا يثبت له علم، ولا يصح له معنى في معلوم أبدًا، ويكون كمن ينقض الأساس لبناء الجدار، فلا يبقى الأساس ولا الجدار". (المعتبر 3/ 95). وإذا كان الأمر كذلك فهذا كله خبط عشواء، وخوض على غير هدى، فكيف يتوهَّم من كثرة إصابتهم في الطبيعيات والرياضيات أن يكون حالهم في هذا كذلك؟! على أنه قد كثر خطؤهم في الطبيعيات أيضًا، على ما هو معروف فيما يرده عليهم علماء الإفرنج الذين تيسَّر لهم أن يعرفوا من الطبيعيات أكثر مما عرفه اليونان. وأما قدماء المتكلمين فلا يُعْلَم في عهد التابعين منهم إلا طائفتان: الأولى: كان كلامها قاصرًا على القَدَر والوعيد. الثانية: أفراد حُكِيَ عنهم الكلام في الصفات، فأولهم - فيما أعلم - الجَعْد بن درهم قتله خالد القَسْري يوم النحر، بدأ فصلى بالناس، وخطب، ثم قال: [ارجعوا فضحّوا تقبل الله منكم، فإني مضحًّ بالجَعْد ابن دِرهم، زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً, ولم يكلم موسى تكليمًا، تعالى الله علوًّا كبيرًا

عما يقول الجَعْد بن درهم، ثم نزل فذبحه] (¬1). ثم تلاه الجَهْم بن صفوان، وقد رُوِي أن الجهم كان يأخذ الكلام عن الجعد، ذكر ذلك البخاري في "تاريخه" (¬2). وللجهم آراء مشهورة، وعارضه مقاتل بن سليمان، فخالفه في آرائه، وتبع كلًا منهما طائفةٌ، ثم كثرت الزندقة في عهد المهدي العباسي، وأخذت تلتبس بالكلام، فتتبع المهدي من عُرف بالزندقة البحتة، وبقيت بقايا. وفي زمن الرشيد استولى الأعاجم على تدبير الحكومة، وخلا الجوّ للناس، فأكثر فيهم الكلام؛ منهم من هو زنديق في نفس الأمر، ومنهم من عُرِف بالكلام ومزج به شيئًا من شبهات الزنادقة. وبالجملة فكان الكلام في ذلك العصر مباراة بين المتكلمين في الأسواق والمجامع، لا غرض لكلًّ منهم إلا أن يظهر أنه غلب، وكان الأمراء والأغنياء يعقدون المجالس للمتكلمين، لا لطلَب حقًّ ولا نصرته، بل على سبيل التفكُّه. وكان أئمة المسلمين ينهون عن ذلك، ويبالغون في الزجر عنه، كما هو معروف في محله. وفي هذا العصر بدأت فلسفة اليونان تنتشر بين المسلمين، ويتلقَّفها ¬

_ (¬1) بيّض المؤلف لكلام القسري، وقد سقته من المصادر. وأخرج القصة البخاري في "خلق أفعال العباد" (3)، و"التاريخ الكبير": (1/ 64) والدارمي في "الرد على الجهمية" (7)، وغيرهم. (¬2) "الكبير": (1/ 64).

المتكلمون، ويخوضون فيها، ويضمون إلى أقوالهم السابقة ما يضمون، واتصل طَرَفٌ من ذلك بالمأمون، فتعصَّبَ له كما هو مشهور. ومن هنا قويت شوكة المعتزلة الذين ضمُّوا ما نُقِل عن المعتزلة الأُوَل كعمرو بن عُبيد، وواصل بن عطاء إلى رأي جهم وما اتصل به. واحتاج علماء المسلمين إلى معارضتهم، فمنهم من اقتصر على دفعهم بالكتاب والسنة، ومنهم من أخذ بطرفٍ من الكلام، وكان من هؤلاء الحارث المُحَاسبي، وعبد الله بن سعيد بن كُلَّاب، وتوسَّع ابنُ كلَّاب في الكلام مع عدم تبحُّره في الشريعة، وبقي الأمر على ذلك حتى جاء الأشعري، [ص 15] وكان أول أمره معتزليًّا، ثم تبرأ عن الانتساب إليهم، وانتسب إلى أهل السنة، ونُقِلَ عنه قولان: أحدهما: التوسُّع في النظر والتأويل على نحو طريقة المعتزلة، مع مخالفتهم في بعض المسائل خلافًا لفظيًّا أو قريبًا من اللفظي، إلا مسائل معدودة الخلاف فيها معنوي. وفي هذا الضرب إحداث آراء وتوجيهات (¬1) يرى السلفيون أنها تخالف مذهب السلف، وفي بعضها تمحُّلات ألجأه إليها ما استولى على ذهنه من أقوال المعتزلة. والقول الآخر: التزام مذهب السلف، كما تراه في كتاب "الإبانة" (¬2). ¬

_ (¬1) تحتمل: "وتوجّهات". (¬2) ومن أقواله فيه: "فإن قال لنا قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة، فعرَّفونا قولكم الذي تقولون به وديانتكم التي =

والنظرُ يقتضي صحةَ ما قيل: إن هذا هو قوله الأخير، ولكن عامة أتباعه لم يلتفتوا إليه. ثم انتشر الكلام، وساء ظن الناس بالكتاب والسنة وأقوال السلف، فصار كثير من الناس يتبع المعتزلة والجهمية، ويأخذ كلامهم، وينتصر له، وكثير منهم - وهم في الغالب ممن كان آباؤهم وشيوخهم على رأي السلف - يلتحقون بالأشعرية، على القول الأول للأشعري، وفي أثناء ذلك تتصل بالأشعرية مسائل من أصول المعتزلة أو آراء جديدة، وشهر الأشاعرةُ أنفسَهم بأنهم أهل السنة، وأنهم الذابون عن عقائد السنة. ولم تزل في المسلمين بقايا من أهل الحديث يرون أن الحق إنما هو في اتباع الكتاب والسنة، ويبدَّعون الأشعرية، كما يبدِّعون المعتزلة، ولكنهم كانوا يَقلَّون ويضعفون حتى صاروا غرباء يرميهم الأشعريةُ بكلّ عظيمة، ¬

_ = تدينون بها؟ قيل له: قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها: التمسك بكتاب الله ربنا عزَّ وجلَّ وبسنة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وما روي عن السادة الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل - نضَّر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته - قائلون، ولِما خالف قوله مخالفون؛ لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل، الذي أبان الله به الحق ودفع به الضلال وأوضح به المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكَّين، فرحمة الله عليه من إمام مقدَّم وجليل معظم وكبير مفهم". "الإبانة": (ص 70 - 71 ت فوقية). وانظر في تحقيق الأطوار التي مرّ بها، وهل رجع إلى مذهب أهل السنة أم بقيت عليه بقايا من مذهب ابن كُلاّب؟ "موقف ابن تيمية من الأشاعرة": (1/ 361 - 409) للمحمود.

وهؤلاء اشتهروا بالحنابلة، نسبة إلى الإمام أحمد بن حنبل، ونَشِب الخلافُ بينهم لاحتكاكهم بالمعتزلة والأشاعرة. فعلى طالب الحق أن ينفي نفسه عن التعصب لفرقةٍ من هذه الفرق؛ بناء على أنه مسلك آبائه وأشياخه. ثم يعلم أن المعتزلة يتمدَّحون عند الجمهور بأنهم أهل العدل والتوحيد، ويشنِّعون على مخالفيهم بخلاف ذلك، ويتقربون إلى الخاصة فوق ذلك بأنهم الذين أَعطَوا النظر العقلي حقَّه، وأن مخالفيهم يخالفون العقل، ثم ينتقون مسائل يتراءى منها أن الصواب معهم. فاعلم أنه إن ظهر لك في مسألة أو أكثر أن الحق معهم، لم يلزم من ذلك أن يكون الحق معهم في كل شيء. وأما النظر العقلي فقد عرفت في الكلام على الفلاسفة أن نظرهم في الإلهيات لا يوثق به، وذلك يأتي هنا. وأما الأشاعرة فإنهم يتمدَّحون بأنهم أهل السنة، وأنهم الجامعون بين العقل والنقل. فاعلم أن مخالفيهم لم يوافقوهم على دعوى أنهم أهل السنة، بل بدَّعوهم وضلَّلوهم، وإنما يمكنك الفصل في ذلك بعد النظر، وبذلك ضعفت دعواهم النقل، وأما دعواهم العقل فحالهم فيه كحال المعتزلة. [ص 16] وأما الحنابلة فلا أظنك تحتاج إلى ما يُزَهِّدك فيهم، ويمنعك من تقليدهم. وأما المتفلسفة من المسلمين فعيبهم أنهم قلدوا فلاسفة اليونان - وقد علمت حالهم - ورفعوا درجتهم على درجة الأنبياء، ومع ذلك زعم بعض

من جاء بعدهم أنهم غلطوا في أشياء نسبوها إلى فلاسفة اليونان خطأً. منها ما كان من غلط المترجِم. ومنها ما كان من قول بعض فلاسفة الروم المُتنصِّرة. وأقربهم إلى تحرِّي الحق أبو البركات (¬1) صاحب "المعتبر"، ولكنه لم يَسْلَم من كثير مما وقعوا فيه. هذا، واعلم أن الفلاسفة أنفسهم كثيرًا ما يذكرون الشيء على الحَدْس والتخرُّص، لا على أنه يقيني عندهم، ويوردون عليه شواهد حَدْسية، فيجيء من بعدهم فيرى أن تلك حقائقُ قطعية لا تقبل الشك. وأما الجامعون بين الكلام والفلسفة فأشهرهم ثلاثة: إمام الحرمين، والغزالي، والفخر الرازي (¬2). ¬

_ (¬1) وقد كان يهوديًّا فأسلم في آخر عمره، وانظر ما سبق عنه (ص 32). (¬2) يبدو أن المؤلف أراد أن يتكلم عن كل واحد منهم بخلاصة موجزة، فبيَّض لإمام الحرمين، وتكلم عن الغزالي، ولم يتكلم على الفخر بشيء. والظاهر أنه أراد بعد ذِكْر تبحّرهم في الفلسفة والكلام أن يذكر ما آلت إليه أحوالهم من الرجوع إلى السنة في الجملة والنهي عن الخوض في الفلسفة والكلام، بدليل آخر كلامه في هذا الفصل. وقد وجدنا المؤلف تكلّم على هؤلاء العلماء الثلاثة في "التنكيل - القائد": (2/ 369 - 376) بنحو كلامه هنا مع بعض الاختلاف، فننقل كلامه من هناك بخصوص الجويني في المتن، وبخصوص الرازي في الحاشية لما تقدم في أول الكلام. قال: "وأما الفخر الرازي ففي ترجمته من (لسان الميزان) 4/ 429: "أوصى بوصية تدل على أنه حسن اعتقاده"، وهذه الوصية في ترجمته من كتاب (عيون الأنباء) 2/ 26 - 28 قال مؤلف الكتاب: "أملى في شدة مرضه وصية على تلميذه إبراهيم بن أبي بكر بن علي الأصفهاني ... وهذه نسخة الوصية: بسم الله الرحمن الرحيم يقول العبد الراجي رحمة ربه الواثق بكرم مولاه، محمد بن عمر بن الحسين الرازي وهو =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = في آخر عهده بالدنيا وأول عهده بالآخرة, وهو الوقت الذي يلين فيه كل قاسٍ ويتوجه إلى مولاه كل آبق ... إن الناس يقولون: الإنسان إذا مات انقطع تعلقه عن الخلق، وهذا العام مخصوص من وجهين: الأول: أنه إن بقي منه عمل صالح صار ذلك سببًا للدعاء له آثر عند الله. والثاني: ما يتعلق بمصالح الأطفال ... ، أما الأول، فاعلموا أني كنت رجلاً محبًّا للعلم. فكنت أكتب في كل شيء شيئًا لا أقفُ على كميةٍ وكيف، سواء كان حقًّا أو باطلاً، غثًّا أو سمينًا! إلا أن الذي نظرته (؟ نصرته) في الكتب المعتبرة إلى أن هذا العلم المحسوس تحت تدبير مدبر منزه عن مماثلة المتحيزات والأعراض، وموصوف بكمال القدرة والعلم والرحمة. وقد أختبرت الطرق الكلامية, والمناهج الفلسفية، فما رأيت فيها فائدة تساوي الفائدة التي وجدتها في القرآن العظيم, لأنه يسعى في تسليم العظمة والجلال لله تعالى، ويمنع عن التعمق في إيراد المعارضات والمناقضات، وما ذاك إلا العلم بأن العقول البشرية تتلاشى وتضمحل في تلك المضايق العميقة، والمناهج الخفية. فلهذا أقول: كل ما ثبت بالدلائل الظاهرة من وجوب وجوده ووحدته، وبراءته عن الشركاء في القدم والأزلية، والتدبير والفاعلية، فذاك هو الذي أقول به وألقى الله تعالى به، وأما ما انتهى الأمر فيه إلى الدقة والغموض فكل ما ورد في القرآن والأخبار الصحيحة المتفق عليها بين الأئمة المتبوعين للمعنى الواحد فهو كما هو، والذي لم يكن كذلك أقول: يا إله العالمين ... وأقول: ديني متابعة محمد سيد المرسلين، وكتابي هو القرآن العظيم، وتعويلي في طلب الدين عليهما ... ". فبيَّن في وصيته هذه أنه تدرج إلى أربع درجات: الأولى: الجري مع خاطره حقًا كان أو باطلاً. الثانية: ما نصره في كتبه المعتبرة. الثالثة: ارتيابه في المأخذ الخلفي وهو النظر الكلامي والفلسفي. الرابعة: ما استقر وثوقه به ورجع إليه، وهو ما أثبته المأخذ السلفي الأول وأكده الشرع، ثم قسم الباقي إلى قسمين: =

فإمام الحرمين [صحَّ عنه أنه قال في مرض موته: "لقد قرأت خمسين ألفًا في خمسين ألفًا ثم خليت أهل الإسلام بإسلامهم فيها وعلومه الطاهرة، وركبت البحر الخِضَمّ، وغصت في الذي نهى أهل الإِسلام عنه، كل ذلك في طلب الحق، وكنت أهرب في سالف الدهر من التقليد، والآن قد رجعت عن الكل إلى كلمة الحق، "عليكم بدين العجائز"، فإن لم يدركني الحق بلطف بره فأموت على دين العجائز، وتختم عاقبة أمري عند الرحيل على نزهة أهل الحق، وكلمة الإخلاص: لا إله إلا الله، فالويل لابن الجويني". وقال: "اشهدوا عليَّ أني رجعت عن كل مقالة يخالف فيها السلف، وأني أموت على ما يموت عجائز نيسابور". إلى غير ذلك مما جاء عنه وتجده في ترجمته من "النبلاء" للذهبي، "طبقات الشافعية" لابن السبكي وغيرها. فتدبر كلام هذا الرجل الذي طبقت شهرته الأرض يتَّضِحْ لك منه أمور: الأول: حسن ثقته بصحة اعتقاد العجائز وبأنه مقتضٍ للنجاة. الثاني: سقوط ثقته بما يخالف ذلك من قضايا النظر المتعمق فيه، وجزمه بأن اعتقاد تلك القضايا مقتضٍ للويل والهلاك. الثالث: أنه مع ذلك يرى أن حاله دون حال العجائز لأنهن بقين على الفطرة وسلمن من الشك والارتياب، ولزمن الصراط، وثبتن على السبيل، ¬

_ = الأول: ما بينه الكتاب والسنة، فهو كما بيَّناه. الثاني: ما عدا ذلك، فبيَّن عدم وثوقه فيه بما سبق أن قاله في كتبه واعتذر عن ذلك بحسن النية". اهـ "التنكيل - القائد": (2/ 374 - 376). وانظر "تاريخ الإسلام" وفيات 606 ص 241، و"طبقات السبكي": (8/ 90 - 92)، و"الروض الباسم": (2/ 347 - 348) لابن الوزير - بتحقيقي -.

فرجي لهن أن يكتب الله تعالى في قلوبهن الإيمان, ويؤيدهن بروح منه، فلهذا يتمنى أن يعود إلى مثل حالهنَّ، وإذا كانت هذه حال العجائز، فما عسى أن يكون حال العلماء السلفيين؟!] (¬1). وأما الغزالي فحاله عجيب، والذي يتراءى من صفاته أنه كان يغلب عليه ثلاثة أخلاق: الأول: الشغف بالعلم. الثاني: حب التفوُّق (¬2). الثالث: الحرص على حَمْل الناس على التمسّك بالعبادات الإسلامية. فبالخُلُق الأول نظر في الفقه وأصوله والكلام، ثم حكى عن نفسه أنه لم يقنعه (¬3) الكلام، فنظر في الفلسفة فلم تشفه، فمال إلى التصوُّف، ثم عاد إلى مطالعة كتب الحديث، حتى مات و"صحيح البخاري" على صدره. وبالخلق الثاني تجده عندما حصَّل الكلام يبالغ في مدحه، ثم لما أخذ الفلسفة صار يبالغ في مدحها، ويزعم أن من لم يعرف المنطق لا يوثق بعلمه، ويقول: "إن عامة المتكلمين مقلدون". ثم لما أخذ التصوّف صار يبالغ في مدحه، ويفرط في إطرائه، ثم كأنه ¬

_ (¬1) بيّض المؤلف للكلام على الجويني أربعة أسطر. وقد نقلنا كلامه فيه من "التنكيل - القائد": (2/ 369 - 370)، وانظر: "سير أعلام النبلاء": (18/ 471)، و"المفهم": (8/ 692 - 693) للقرطبي، و"الروض الباسم": (2/ 348). (¬2) لم يذكر هذا الخُلُق في "التنكيل". (¬3) غير محررة، وتحتمل: "ينفعه".

لما شرع في مطالعة السنة صنف كتاب "إلجام العوام عن علم الكلام" ولعله لو مُدّ في عمره حتى يتمكَّن في معرفة السنة لتَحَنْبَل (¬1). [ص 17] وبالخلق الثالث تراه يُحَسِّن التصوفَ للمتفلسفين، ويوهِمُ في بعض كلامه أن المتصوّفة يعتقدون بعض العقائد التي يزعم المتفلسفون أنها قطعية، ويدعو المتفلسفة إلى التزام العبادات الشرعية ولو على وجه الاحتياط إلى غير ذلك. والمقصود هنا أنه بيّن أن الكلام لا يقنع، والفلسفة لا تشفي، وظهر من رجوعه إلى مطالعة السنة أنه وجد التصوف لا يغني. لكن هؤلاء الأكابر لم يرجعوا حتى ملؤوا الدنيا كلامًا, ولم يلتفت الناس إلى رجوعهم، كما لم يلتفتوا إلى رجوع الأشعري. والمقصود هنا أن هؤلاء الأكابر قد زَهِدوا فيما شحنوا به كتبهم من الكلام والفلسفة، وساء ظنُّهم به، وتبرؤوا عنه، فوجب أن لا يُغترّ به لمجرَّد نسبته إليهم. **** ¬

_ (¬1) قال عبد الغافر الفارسي - وهو صاحب الخبرة به -: "وكانت خاتمة أمره إقباله على طلب حديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ومجالسة أهله ومطالعة الصحيحين، ولو عاش لسبق الكل في ذلك الفن بيسيرٍ من الأيام" اهـ. انظر "المنتخب من السياق" (ص 74)، و"تاريخ الإسلام": (وفيات 505 ص 118). وما ذكره المؤلف عن كتاب "إلجام العوام" فيه نظر يتضح بالنظر في كتابه "ميزان العمل" (ص 405 - 408)، و"نقض المنطق" (ص 55) لابن تيمية، و"موقف ابن تيمية من الأشاعرة": (2/ 632 - 637).

فصل

فصل اعلم أن في كلام المتكلمين جنايات كثيرة على الإسلام، ولها أسباب: الأول: عدم رسوخهم في معرفة الإِسلام، فربما نسبوا إليه ما هو بريء عنه، ثم لِزمَتْهم لوازم منافية للإسلام، فمنها ما يلتزمونه، ومنها ما يتمحَّلون لدفعه بأقوال يأباها (¬1) العقل وينكرها الإِسلام. الثاني: أنه ربما يحتجون بحجَّة لم يذكرها الإسلام، ولا ما هو في معناها، فتُدْفَع بِمَدافع تُلْجئهم إلى هدم شيء من الإسلام، وإلى أقوالٍ يأباها العقل وينكرها الإِسلام. الثالث: أن في الإسلام مسائل يتعذَّر أن يُدْرَك بمجرّد العقل ثبوتُها أو انتفاؤها، فيحاول هؤلاء أن يحتجّوا عليها، فيُلْزَمون، فيَدْفَعون، فيقعون فيما يخالف الإِسلام، و ... (¬2). [ص 18] وأما المتصوِّفة، فقد كان في عهد التابعين زُهَّادٌ على طريقة السلف، ثم لم يزل في كل عصر متزهدون، ولم يكونوا على طريقة واحدة، بل كانوا مختلفين بحسب اختلاف الفِرَق المعروفة في زمانهم، فمنهم المحافظ على طريقة السلف، ومنهم الخارجي، والشيعي، والمعتزلي، والجهمي، بل ومنهم من يُنْسب إلى الزندقة والباطنية، ثم صار منهم الحنبلي، والمعتزلي، والأشعري، والمتفلسف، وغير ذلك. ثم أكثرهم مصرِّحون بأن في طريقهم أخطارًا ومغالط يضلّ بها أكثر سالكيها، وأن عامة كلامهم ألغاز ورموز لا يعرفها إلا من سلك طريقهم، ¬

_ (¬1) الأصل: "بأياها"، سهو. (¬2) ترك المؤلف بقية (ص 17) بياضًا.

وتجدهم كثيري الاختلاف بينهم، والمتأخر منهم يطعن علي المتقدم تصريحًا أو تلويحًا، ويدَّعي أحدهم أن الولاية خُتِمت به، فينكر عليه معاصروه ومن يأتي بعده منهم. وبالجملة فإن كنت تميل إلى التقليد، فتقليد الكتاب والسنة أولى بالحق من تقليدهم، وإن كنت تريد معرفة طريقهم، فلذلك شروط عندهم معروفة، ومنها ما هو مخالف لما عُرِف من الشريعة الإسلامية ومن عمل الصحابة والتابعين، وأقصى ما عندهم الكشف، وقد كشفتُ عنه في غير هذا الموضع، ويكفيك قول بعض قدمائهم وهو أبو سليمان الدَّاراني (¬1): [ربما تقع في قلبي النكتة من نكت القوم أيامًا فلا أقبل منه إلا بشاهدين عدلين: الكتاب والسنة] (¬2). وقول بعض متأخريهم وهو أبو الحسن الشَّاذِلي (¬3): [إذا عارض كشفُك الكتاب والسنةَ فتمسك بالكتاب والسنة ودع الكشف، وقيل لنفسك: إن الله تعالى قد ضمن لي العصمة في الكتاب والسنة ولم يضمنها لي في جانب الكشف ولا الإلهام ولا المشاهدة ...] (¬4). ¬

_ (¬1) هو عبد الرحمن بن عطية أبو سليمان الداراني الدمشقي الصوفي (ت 215). ترجمته في "طبقات الصوفية": (ص 75 - 82) للسلمي، و"الحلية": (9/ 254 - 280). (¬2) قول الداراني بيّض له المؤلف، وأكملته من "التنكيل - القائد": (2/ 379). وقوله هذا ذكره السلمي في "طبقات الصوفية"، والقشيري في "الرسالة": (1/ 61). (¬3) هو علي بن عبد الله بن عبد الجبار أبو الحسن الشاذلي المغربي، شيخ الطائفة الشاذلية (ت 656). ترجمته في "لطائف المنن" (ص 75 - 89) لابن عطاء الله، و"تاريخ الإسلام" (وفيات 656 ص 273 - 274)، و"طبقات الشعراني": (2/ 4 - 11). ومقدمة "الرد على أبي الحسن الشاذلي" لابن تيمية، بتحقيقي. (¬4) قول الشاذلي بيّض له المؤلف، وأكملته من "لطائف المنن" و"طبقات الشعراني".

وقد بينتُ في موضعٍ آخر أن الكشفَ ليس بطريق شرعي، وأنه لا يفيد ما تقوم به الحجة (¬1). وأما فلاسفة العصر؛ فإن فلسفتهم كانت ردَّ فِعْل لفلسفة اليونان ومن تبعهم، فأولئك توسّعوا في الخياليات والحدسيات، وهؤلاء حصروا فلسفتهم في المحسوسات، وإنما يأخذون من القياسات بمقدار ما تضطرهم إليه أمور دنياهم، ويصرحون بأن الإلهيات لم يقم عليها عندهم دليل محسوس، وأنهم لم يحيطوا بكل شيء من المحسوسات فضلاً عن غيرها، وزادهم نُفْرة عن الدين أنهم إنما عرفوا من الدين النصرانيةَ، وقد قامت لديهم البراهين على اختلالها. وأما الإسلام فإنهم نشأوا على بُغْضه وعداوته، واستمر لهم ذلك لأغراضهم السياسية، ومن تكلَّف الإنصافَ منهم لم يسلك في معرفة الإسلام الطريق الموصلة إليها، على أن جماعة من جِلَّتهم يعترفون بوجود الإله، ومن لا يعترف يقول: لا أدري. ولا معنى لتقليد من يقول: لا أدري! **** ¬

_ (¬1) انظر "التنكيل - القائد إلى تصحيح العقائد": (2/ 378 - 385).

المقدمة الثالثة: في تقسيم العقائد

[ص 19 ب] (¬1) المقدمة الثالثة: في تقسيم العقائد يمكن قَسْم العقائد إلى أقسام: قسم لا يمكن الناسَ في هذه الدار الوصولُ إلى معرفته. وقسم يمكنهم. فالذي لا يمكنهم لا بد أن يكون الشارع الحكيم قد حَظَر عليهم الخوضَ فيه؛ لأسباب: الأول: أنه تضييع للعمر في غير طائل. الثاني: أنه مظنة للغلط، فإنه كما أن من يتراءى الهلال في ليلة تسع وعشرين - والحال أنه لا يمكن أن يُرَى - قد يكدّ عينيه في التحديق إلى موضع من الأُفق، فيُخيّل إليه كأنه رأى الهلال، ثم يستثبت فلا يرى شيئًا، فيصرف نظره إلى موضع آخر من الأفق، ويحدق إليه، فيخيل إليه أيضًا، فيستثبت فلا يرى شيئًا، وقد يتكرر له هذا مرارًا. وكذلك يعرض لمن يحاول أن يرى النجومَ نهارًا، وإنما يخيل إليه رؤية الصورة الثابتة في خياله. وكذا من يكون في الليل في موضع بعيد عن العمران، قد يبالغ في الإصغاء ليسمع صوتًا أو حسًّا، فيُخيّل إليه أنه سمع. فهكذا من يكد فكره في الاستدلال قد يعرض له شبيه بهذا، ثم يصعب عليه التنبه لغلطه؛ لأن خطأ الحواس قد يتنبه له العقل، فإذا أخطأ العقل فمن ينبهه؟! ¬

_ (¬1) [ص 19 أ] مضروب عليها.

[ص 20] لو بغير الماء حلقي شَرِقٌ ... كنتُ كالغصّان بالماء اعْتِصاري (¬1) وقد تقدم في الأصل الرابع من المقدمة الأولى (¬2) الإشارة إلى شيء من الأغلاط. وفيما شرحه العلماء من أغلاط الحسّ ما يستمر على كثير من الناس وإن تنبه له علماء الطبيعيات، ومنها ما يصعب عليهم حلّه، وقد يستمر عليهم الغلط، حتى إن الأشاعرة يزعمون أن العَرَض لا يبقى زمانين، فيزعمون أن بياض هذا الورق وسواد هذا المِداد في تبدّل مستمر، ولكن الحسّ لا يُدْرِك ذلك لسرعة توالي الأمثال. ويزعم ... (¬3) أن الأجسام كذلك في تبدّل مستمر، فما بالك بأغلاط العقل؟! هذا مع أن من كلَّف نفسَه النظر يحتاج غالبًا إلى كلام أهل الآراء المختلفة، وكلٌّ منهم يحتجّ على رأيه بشبه يزعم (¬4) على كثير من النظار حلها. السبب الثالث: أنه مظنة الكذب على الله، وذلك من وجهين: الأول: أن العقل قد يغلط كما تقدم، فيظهر الغالطُ غلطَه ويحتج عليه، ويتعصّب له، فإذا دفعه غيره بحجة حمله التعصب على عدم الرجوع. ¬

_ (¬1) البيت لعدي بن زيد العبادي، في "الشعر والشعراء": (1/ 229)، و"الاشتقاق" (ص 269) لابن دُريد. (¬2) (ص 12 - 14). (¬3) ترك المؤلف بياضًا مقدار كلمة. ولعلها "النظَّام" فقد نُسب إليه هذا الزعم في "بغية المرتاد" (ص 421) و"شرح المقاصد": (3/ 86). (¬4) كذا في الأصل، ولعل المؤلف أراد: "يصعب" أو "يتعذر" فسبق قلمه بهذه الكلمة.

الوجه الثاني: التخرص؛ إما بأن يتفق له ما اتفق في الوجه الأول، فيحمله التعصب على عدم النظر في حجة خصمه, ويبقى على رأيه بعد عروض الشك فيه. وإما بأن تعرض له شبهة، ثم اعترض عليها، ثم جواب هذا الاعتراض، ثم رد هذا الجواب، وهكذا ... فيمرّ على ذلك إلى أن يكلّ ذهنه، ويتعب فكره، فيقف، وتكره نفسُه الرجوع بخُفَّي حُنَين، فيختار ما اتفق وقوفه عنده. والمفروض أنه خرج عن دائرة العقل، وحاول إدراك ما لا يدرك، والخارج عن دائرة العقل ضاربٌ في ما لا نهاية له، ولا يمكن أن يجد فيه ما يطمئن إليه العقل المتثبت، فمثله مثل مسافِرَين مرّا بموضع صالح للنزول، فقال أحدهما: ننزل هنا، فإنه ليس بعده منزل صالح، فقال الآخر: كلا بل نمشي، فلعلنا نجد منزلاً أصلح من هذا، فراجعه صاحبه فأبى، فانطلقا، ثم كلما مر بمكان نظر فيه، فرآه غير صالح، وهكذا حتى استولى عليه التعب، فقال: ننزل ههنا، فإن هذا موضع صالح، وقد علم أنه ليس بصالح، ولكنه يغالط صاحبه، بل ونفسه. هذا، ومعنى النزول في العقائد هو الإقامة في ذلك الموضع، وقلَّ من يجْذِبه التوفيق، فيرده إلى الموضع الصالح، كما اتفق لإمام الحرمين وغيره، على ما تقدم في المقدمة الثانية (¬1). [ص 21] وأما القسم الذي يمكنهم في هذه الدار الوصول إلى معرفته فهو على ضربين: ¬

_ (¬1) (ص 39 - 44).

الأول: ما لم يكلفهم الشرع بطلبه. الثاني: ما كلفهم به. فالأول على أوجه؛ محظور ومكروه ومباح، فما حظره الشارع الحكيم فهو مظنة المفاسد والأخطار، وكذلك ما كرهه وإن كان دون الأول. وما أباحه فالخير والشر فيه متعادلان. والثاني وهو ما كلفهم به؛ يبقى النظر في الطريق إليه (¬1)؛ فقد تعرِض أمام الإنسان طريقان أو طرق يُرْجى منها الوصول، وقد يكون في نفس الأمر منها ما لا يوصل، ومنها ما قد يوصل، ولكن يغلب أن يَعْترِض سالكَها ما يهلكه، أو تكون في سلوكها صعوبة يعجز عنها أكثر السالكين. والشارع الحكيم لا بدَّ أن يهدي العباد إلى الطريق الموصل السليم السهل المستقيم، وينهاهم عن الطرق الأخرى، فإذا وجدنا الشارع قد أرشدنا إلى طريق، فسلوكنا غيرَها مخالفةٌ له، وتعريضٌ لأنفسنا للهلاك. واعلم أن الله غني عن العالمين، وإنما خلق الناس ليبلوهم ويختبرهم. وقد أوضحتُ هذا الأصل في رسالة "العبادة" (¬2). ومن جملة الابتلاء: أن جعل إلى المقصود طريقًا موصلة ليست كما يهواه الإنسان ويشتهيه، بل يتراءى له بادئ النظر أنها غير موصلة، وجعل طرقًا أخرى إما أن لا توصل، وإما أن يغلب فيها الهلاك، ولكنها توافق هوى الإنسان وشهوته، ويتراءى له أنها موصلة، وذلك ابتلاء العباد، فمن كان ¬

_ (¬1) من قوله: "على أوجه ... " إلى هنا لحق في أعلى (الورقة 21 ب). (¬2) (ص 57 - 65).

حَسَنَ الظنَّ بالشارع فإنه يسلك الطريق التي أرشد إليها ولا يبالي بمخالفتها لهواه وشهوته، ومن كان مؤثرًا لهواه وشهوته فإنه يسلك غيرها. ولنضرب لذلك مثلاً: وهو ملك عظيم، بعث إلى رعيته رجلاً منهم، قد عرفوا صدقه وأمانته ونصحه وإخلاصه، ومعه ما يبين لهم اتصاله بالملك، فأعلن فيهم أن الملك يدعوهم إلى بستان قد أعدّه لهم، ومد لهم سنة - مثلاً -, وأن من وصل استحق الإنعام والإكرام، ومن مضت المدة ولم يصل استحق العقوبة والنكال. فلما فكروا في أنفسهم علموا افتقارهم إلى الوصول إلى الملك، ورجوا الإنعام وخافوا العقوبة، ولم يكونوا يعرفون أين البستان، ولا في أي جهة هو، ولا كيف الطريق إليه، فأخبرهم ذلك السفير عن الملك بوصف الطريق الموصل إلى البستان، وبعد أن أتم الوصف تركهم، فافترقوا فرقتين: الأولى: رأوا أن في السفر كلفة ومشقة، فآثروا البقاء على ما هم عليه، وأخذوا يتشككون في وجود الملك [ص 22] أو في صدق السفير، وبقوا على ما هم عليه حتى مضت المدة. والثانية: علمت افتقارها إلى الوصول إلى الملك، ورَجَتِ الثوابَ، وخافت العقاب، وافترقت طوائف: طائفة قالت: المدة طويلة، فلنبق على راحتنا وملاذِّنا إلى أن تنتصف المدة، ثم نسافر، ثم بقيت تسوِّف حتى انتهت المدة. وطائفة عزمت على السفر، ولكنها لما أرادت السير على تلك الطريق التي وصفها السفير رأت أنها طريق عادية، ودعاها داعٍ إلى طريق أخرى

فصل

مُعبَّدة، على حافتيها القصور والبساتين والملاعب، قائلًا لهم: ينبغي أن تكون هذه هي الطريق إلى بستان الملك، لا تلك الطريق العادية الناشفة، فتبعوه، وسلكوا تلك الطريق، فذهبت بهم إلى جهة غير جهة البستان، فهلكوا. وطائفة دعاها داعٍ إلى طريق أخرى ذات مناظر بهجة؛ من رياضٍ وغياضٍ وأنهارٍ، قائلاً: ينبغي أن تكون هذه هي الطريق إلى بستان الملك، لا تلك القاحلة، فتبعوه فهلكوا. وطائفة فكرت في أنفسها، فقالت: السفير الذي جاءنا قد عرفنا صدقه وأمانته، ونصحه وإخلاصه وقربه من الملك، وقد تكون لهذه الطريق التي يراها الناس ناشفة قاحلة مزيةٌ عَلِمها الملك وجهلها الناس، ولعله إنما تركها - في ما ترى العين - قاحلة ناشفة لاختبار من يصدقه ممن لا يصدقه، ولو لم يكن لها مزية إلا أنها موصلة لكفاها ذلك، فسلكوها، فنجوا. فصل والمكلَّف بطلبه ينقسم بالنظر إلى درجة التكليف إلى أضرب: الضرب الأول: ما هو من ضروريات الإيمان بحيث أن من لم يؤمن به فليس بمؤمن. الثاني: ما ليس كذلك، ولكن طلبه والإيمان به فرض على كل مُكلّف. الثالث: ما طلبه ومعرفته فرضٌ على الكفاية. الرابع: ما طلبه ومعرفته مستحبّ فقط. هذا، وربما يختلف حكم الأمر الواحد باختلاف الأشخاص والأحوال، فيكون على شخص وفي حال فرضًا، وعلى شخص حرامًا، وغير ذلك.

والذي ينبغي أن يُرَتَّب البحث التفصيلي بحسب الأربعة الأضرب المذكورة. وهذا آخر المقدمات، وأسأل الله تبارك وتعالى التوفيق والعون، اللهم يا مقلب القلوب ثبَّت قلبي على دينك، واهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، فإنه لا حول ولا قوة إلا بك. ***

الباب الأول: في الضروريات

[ص 23] الباب الأول: في الضروريات وهي أصول: الأصل الأول: وجود رب العالمين اعلم أن الأمم التي سمعنا بها من الأولين والآخرين وبلغنا شيء من أخبارها كلها مقرَّة بوجود رب العالمين، وقد بسطتُ في رسالة "العبادة" (¬1) ما تيسر لي من أدلة ذلك عن قوم نوح، وقوم صالح، وقوم هود، وقوم إبراهيم، والمصريين في عهده، ثم في عهد يوسف، ثم في عهد موسى، حتى فرعون نفسه، وأوضحتُ ذلك بالأدلة الشافية. وهكذا حال اليونان والهند والصين والمجوس والترك وغيرهم، وكذلك سائر الأمم المتوحشة، حتى زنوج أمريكا (¬2) التي لم تُكْتَشف إلا منذ أربعمائة سنة. وأما الأفراد فقد يكون من السابقين من تشكَّك في وجود رب العالمين، أو كابر فجحد، كما يقع نحو ذلك من أفراد من الإفرنج المتأخرين، الذين قَصَروا علمهم على المحسوسات، كما تقدم. فأما ما شاع في الكتب من تسمية فرقة من الفرق بـ "الدهرية"، فأصل هذا الاسم مأخوذ من قول الله تبارك وتعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الجاثية: 24 - 25]. ¬

_ (¬1) (ص 439 - 551). (¬2) المعروف أن الزنوج إنما جُلبوا إلى أمريكا مؤخّرًا عبيدًا للخدمة، ومن سكنها قديمًا إنما هم الهنود الحمر.

وقد أخبرنا الله تبارك وتعالى عن مشركي العرب أنهم يعترفون بوجود الله، وأنه الذي يرزقهم من السماء والأرض، والذي يملك السمع والأبصار، والذي يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، والذي يدبر الأمر، والذي له السموات والأرض، وأنه رب السموات السبع ورب العرش العظيم، وأنه بيده ملكوت كل شيء، والذي يجير ولا يجار عليه، وأنه الذي خلق السموات والأرض، وسَخَّر الشمسَ والقمر، وأنه الذي ينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها، وأنه العزيز العليم (¬1). إلى غير ذلك مما بينت كثيرًا منه في رسالة "العبادة" (¬2). إذا عرفنا ذلك فقولهم: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} لا يمكن أن يُحْمَل على إنكار وجود الرب، ولا إنكار تدبيره مطلقًا؛ إذْ لا دلالة فيه على ذلك، وقد عُلِم أن القوم كانوا يعترفون بوجود الرب، وأنه المُدبِّر مطلقًا. إذًا بقي أن يقال: إنهم إنما أنكروا أن يكون الله تعالى هو الذي يهلكهم، وهذا بعيد؛ لأنه يوجد في كلامهم ما يخالفه. والذي يظهر لي في قولهم: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} احتمالان: الأول: أن يكون هذا قول فرد أو أفراد منهم، عاندوا به ما أُوْرِد عليهم في إنكار البعث، فإن سياق الآيات إنما هو لإثبات البعث، كأنه قيل لهم: إن الله تعالى إنما يميت الناسَ ليرجعهم إلى ما أعدّ لهم مما يستحقونه، وإلا ¬

_ (¬1) راجع سورة يونس الآية (31 - 33)، وسورة المؤمنون الآية (84 - 89)، وسورة العنكبوت الآية (61 - 63)، وسورة لقمان الآية (25)، وسورة الزمر الآية (38)، وسورة الزخرف الآية (9)، والآية (87) [المؤلف]. (¬2) سبقت الإشارة إليها في الصفحة السالفة.

فلماذا يميتهم؟! ويؤكد ذلك بأن كثيرًا من [ص 24] الناس يموتون قبل أن يلقوا في حياتهم الدنيا ما يُعدّ جزاءً لأعمالهم، فكثير من الأخيار يعيشون عيشةً نَكِدة حتى يموتوا، وكثير من الظَّلمَة يعيشون في رغدٍ من العيش حتى يموتوا، فإذا لم تكن هناك دارٌ أخرى فقد كان مقتضى الحكمة أن لا يُمِيت الله عزَّ وجلَّ أحدًا حتى يستوفي جزاءه، فكابر ذلك الفرد أو الأفراد، فقال ما قَصَّه الله تبارك وتعالى. وذلك كما كابر بعض اليهود فيما قصه الله تبارك وتعالى ورده بقوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام:90 - 91]. الاحتمال الثاني: أن يكون الله عَزَّ وَجَلَّ أراد به القول الذي كان شائعًا بينهم من نِسْبة الحوادث إلى الدهر، كما هو كثير في أشعارهم، فإن ذلك وإن كُنّا إذا عرضناه على ما عُلِم من اعترافهم بوجود الله عَزَّ وَجَلَّ وأنه المدبر يترجَّح لنا أنهم إنما كانوا يطلقونه مجازًا، إلا أنه لمَّا شاع وذاع بينهم كان من أشدِّ أسباب الغفلة عن الله عَزَّ وَجَلَّ وتدبيره، وصار أحدهم يطلقه تبعًا للاستعمال الشائع الذائع، وربما يغفل عن كونه مجازًا، وإن كان إذا نُبَّه وقُرِنَ له ذلك بما يعترف به من وجود الله عَزَّ وَجَلَّ وأنه المُدبِّر تنبه لأنه مجاز. ونحن نجد كثيرًا من المسلمين يستعمل ذلك، كقوله: "الدهر معاند لي"، "الدهر لا يساعدني"، وذلك كثير في أشعارهم، وكثير منهم لا يستحضر عندما يقوله أنه مجاز، وإنما سمع الناسَ يقولون فقال، وإن كان إذا

فصل

نُبَّه انتبه، ويؤيد هذا المعنى ويُعيّنه الحديث الصحيح [قال - صلى الله عليه وسلم -: "قال الله عزَّ وجلَّ: يؤذيني ابن آدم يسبّ الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار"] (¬1). ثم أطلق المتكلمون لفظ "الدهري" على من قال من الفلاسفة بقدم العالم، وقد يُجْمع بينهما فيقال كما في "المصباح" (¬2): "الرجل الذي يقول بقدم الدهر ولا يؤمن بالبعث دهري". **** فصل من سُنة القرآن: أن ما كان من الحق معروفًا بين الناس مسلَّمًا عندهم أن لا يَذْكُر ما يمكن أن يُورَد عليه من الشبهات، وإنما يَذْكُر ما يُؤخذ منه البرهان على ذلك الحق، والبراهين على وجود رب العالمين كثيرة، أشهرها الاستدلال بوجود الأثر على وجود المؤثِّر كما يعبر عنه جماعة، وقد تقدمت الإشارة إليه في الأصل الثاني (¬3) من المقدمة الأولى. وهذا القدر متفق عليه بين الناس، وقد نَبَّه عليه القرآن، فذكر كثيرًا من آيات الآفاق والأنفس، ودعا إلى النظر والتفكر فيها، وقال سبحانه: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ} [الطور: 35 - 36]. ¬

_ (¬1) ضاقت الحاشية على المؤلف فبيّض للحديث، وسقته اجتهادًا. وهو في البخاري (6181)، ومسلم (2246) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) (ص 77). (¬3) كذا، وإنما تقدمت الإشارة إليه في الأصل الأول (ص 8 - 10).

قال بعض الأكابر (¬1): "يقول سبحانه: أَحَدَثوا من غير مُحدِث، أم هم أحدثوا أنفسهم؟! ومعلوم أن الشيء لا يوجد نفسَه" (ص 15) (¬2). وحكوا عن بعض الأعراب أنه سُئل عن معرفته ربَّه فقال: "البعرة تدل على البعير، و [آثار الأقدام تدل على المسير] " (¬3). [ص 25] واختلف الناس في تلخيص هذا المعنى على وجوه: الوجه الأول - وهو المشهور بين المتكلمين - قولهم: الحادث لا بد له من مُحدِث، فإن كان محدثه هو القديم فذاك، وإن كان حادثًا فله (¬4) في نفسه محدث، وهكذا فلا بد أن تنتهي السلسلة إلى محدث غير حادث. وقد اصطدمت هذه العبارة بأمور: الأول: الشبهة القائلة: هذا مسلَّم، ولكن قد لا يثبت به وجود رب العالمين؛ إذ قد يقال: هذا حادث فله محدث، ومحدثه حادث فله محدث، ومحدثه حادث، فله محدث، وهكذا بغير نهاية. والأمر الثاني: ما قد يقال: وجوب الانتهاء إلى قديم مسلَّم، ولكن قد يُدَّعَى قِدَم شيء أو أشياء ليست برب العالمين، كأن يُدَّعَى قدم الشمس مثلًا. ¬

_ (¬1) هو ابن أبي العزّ الحنفي في "شرح الطحاوية" (ص 112). (¬2) هكذا بخط المؤلف فوق السطر. (¬3) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير": (1/ 166)، و"تلبيس إبليس" (ص 66)، والمقري في "نفح الطيب": (5/ 289) بسياق آخر وزيادة. وما بين المعكوفين منها، وتركه المؤلف نقاطًا. (¬4) "فله" مكررة في الأصل.

الأمر الثالث: ما ذهب إليه أرسطو وشيعته من قدم العالم، وما ذهب إليه قوم من القِدَم النوعيّ للخلق. أجاب المتكلمون عن الأمر الأول بأن التسلسل إلى ما لا نهاية له في القدم مُحالٌ، وذكروا لبيان إحالته أدلةً تعتاص على الأفهام، ولا يأمن الناظر فيها تضليل الأوهام، وقد قدح فيها قوم وعارضوها. ودفعوا الأمرَ الثاني بالاستدلال على حدوث الشمس مثلًا بأنها جسم له أجزاء وحدود ونهاية، وأنها تتحرك وتنتقل وتتغير من حال إلى حال، وأن ذلك كله لا يكون إلا للمحدث القابل للفناء. وبذلك دفعوا الأمر الثالث. فأورِد (¬1) عليهم أنّ الكتابَ والسنة يصفان الرب عَزَّ وَجَلَّ بشيء من جنس هذه الصفات، فالتزموا تأويل ذلك كله، وجرى في ذلك ما جرى. والله المستعان. الوجه الثاني: عبارة الفلاسفة - وقد استعملها المتكلمون أيضًا - قالوا: ممكن الوجود لا بد له من واجب الوجود لذاته، وقد شرحه أبو البركات (¬2) في "المعتبر" (3/ 20). وقد يعبِّرون عنه بقولهم: المعلول لا بدّ له من علة حتى ينتهي إلى علة غير معلولة، وأُورِدت عليه شبهة التسلسل إلى غير نهاية، فلخَّصَه بعضُ المتكلمين في عبارات لا ترِدُ عليها هذه الشبهة. ¬

_ (¬1) غير محررة، ورسمها: "فورد". وما أثبته يدل عليه ما يأتي بعد أسطر. (¬2) انظر ما سبق عنه (ص 26، 32).

فصل

وأُورِد (¬1) عليه أيضًا: أن غايته إثبات واجب، وقد يُدَّعَى وجوب بعض الأشياء، فلا يحصل المقصود من الدلالة على وجود رب العالمين، فعادوا يستدلون على إمكان تلك الأشياء بنحو ما استدلَّ به المتكلمون على حدوثها. **** [ص 26] فصل الإنسان إذا رجع إلى نفسه وأنعم النظر في تفتيشها وجد عندها اطمئنانًا بأن للعالم ربًّا ليس من جنس ما تراه وتشاهده، وقد يشتبه عليك هذا الأمر في نفسك، فتجده أولًا كالشيء الذي يتراءى من وراء حجاب، بَيْنا تقول: قد أثبتُّه خَفِي عنك. أو كصورة قد نسيتها، فأنت تحاول أن تذكرها، فإنك قبل أن تذكرها قد يعرض لك أن تحسَّ كأنك قد ذكرتها ثم تغيب عنك، وهكذا في أشياء أخرى. وقد تتصفّح ما استدلّ به المتكلمون والفلاسفة، فلا تطمئن إليه نفسك، ثم تراجعها في ذاتها، فتجد اطمئنانها بوجود الرب على ما كان، فتعلم أن هذا الاطمئنان لم يأتها من جهة أدلتهم، ويتأكد هذا عندك بأنك تجد كثيرًا من الناس لم يسمع بأدلة المتكلمين والفلاسفة، واطمئنان نفسه بوجود الرب ثابت، لعله أظهر من اطمئنانك. وقد تعرض على نفسك الاستدلال بقول أسلافك في النسب والتعليم، فلا تجدها تطمئن إليه، وتعرض عليها أمورًا أخرى مضى عليها آباؤك ¬

_ (¬1) قبلها في الأصل: "ولم"، ولا معنى لها, ولعله أراد أن يكتب شيئًا ثم أضرب عنه ونسي أن يضرب عليها.

وأسلافك، فلا تجدها تطمئن إليها، ثم تراجعها في اطمئنانها بوجود الرب، فتجده بحاله، فتعلم أن ذلك لم يأتها من جهة التقليد. ويتأكد هذا عندك بما سبق (¬1): أن القبائل المتوحشة حتى زنوج أمريكا يعتقدون وجود الرب، ويتأكد الأمران معًا بأن بعض الأفراد يكون ملحدًا قد ردَّ أدلة المتكلمين والمتفلسفين، واستدل بزعمه على نفي وجود الرب، وعلى أنه لا يمكن العلم بوجوده ولا عدمه، وسفَّه التقليد، وتعصَّب لذلك جهده، ثم هو يجد نحو تلك الطمأنينة من نفسه على ما حُكِي عنهم. وأظهر ما تكون هذه الطمأنينة عندما يعتري الإنسان مرض أو خوف شديد، فيجدُ نفسَه تفزع إلى ذي قوة غيبية، تلتجئ إليه، وتستغيث به. قال الله تبارك وتعالى (¬2): [{وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا ...} [يونس: 12]، وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ...} [الروم: 33]، وقال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ...} [العنكبوت: 65]]. فإن قيل: فإننا نجد كثيرًا من الناس إذا اعتراه مرض أو خوف يفزع إلى غير الله عزَّ وجلَّ، فقد يفزع النصراني إلى المسيح وأُمّه، والذين يعبدون الملائكة إلى الملائكة، وعوامّ المسلمين إلى من يعتقدون فيه الولاية من الموتى. ¬

_ (¬1) (ص 47 وما بعدها). (¬2) ترك المؤلف مكان الآيات فارغًا بمقدار ستة أسطر، فأكملناه بالآيات المناسبة للسياق.

فعنه جوابان: الأول: أنّ يُدَّعى أن هذا إنما يكون عند المرض أو الخوف الخفيف، فأما عند الشدة الشديدة فإنما يفزعون إلى رب [ص 27] العالمين، كما قَصَّه الله عَزَّ وَجَلَّ عن المشركين (¬1). الثاني: أن الفزع إلى تلك الأشياء إنما هو من جهة اعتقاد علاقتها بالرب، فإن فُرِض أن من الناس من يزعم في بعض المخلوقات أنه هو الرب، فنفسه إنما فزعت إلى الرب، غير أنّ العادةَ والتقليد وجَّه الفزعَ إلى ذلك الشيء من جهة توهُّم أنه هو الرب. وإيضاح ذلك أن القَدْر المغروس في النفس مجمل تتكاثف عليه الحُجُب، ومثال ذلك: امرأة عمياء أضلَّت ولدها صغيرًا، فهي تعرف أن لها ولدًا تحبه طبعًا، وتبحث عنه، فقد يجيئها إنسان بولد فيقول لها: هذا ولدك، فتأخذه وتضمّه وتشمّه على أنه ولدها لا ترتاب فيه. وقد يأتيها إنسان ببعض ثياب ولدها، ويخبرها بذلك، فتأخذ ذلك الثوب فتشمه وتلتذّ به، وقد يأتيها بثوب لغير ولدها، فيزعم لها أنه ثوب ولدها، فيكون حالها كذلك، فهذا كله لا ينفي اعتقادها أن لها ولدًا، وأنها إنما تحبّ ولدها في نفس الأمر، وتحنو عليه، وتلتذّ بقربه. **** ¬

_ (¬1) في الآيات التي سلفت قريبًا. وفي قوله: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ ...} الآية [الإسراء: 67].

فصل

فصل فإن قيل: هذا الإدراك النفسي كيف حصل للنفس؟ قلت: قد يكون بقيَّة من بقايا ما أدركته قبل تقييدها في الجسد، إن قلنا: إن النفوس خُلِقت أو تُخْلَق قبل الأجساد بزمان طويل، وأن من شأنها إذا قُيِّدت بالجسد أن تنسى أو ينسيها الله عَزَّ وَجَلَّ ما كان لها قبل ذلك. وعلى هذا فبقيَتْ لها هذه البقية؛ لأنها أظهر ما أدركته قبل تقيُّدِها بالجسد، ولأن حكمة الله تبارك وتعالى اقتضت إبقاء ذاك القَدْر لها؛ ليكون كالأساس لما أراده سبحانه من تكليفها في الحياة الدنيا. وقد يقال: إن للنفوس ذاتها إدراكًا ما غير ما تدركه بالحواس والقياس العادي. ومن تتبع أحوال نفسه وجد لها شيئًا من ذلك، فقد يعرض له ضيق وغمّ لا يعرف سببه، ثم يتبين أنه في ذلك الوقت جرى ما من شأنه أن يغمه، وقد يعرض له فرح وانبساط لا يعرف سببه، ثم يتبين أنه جرى في ذلك الوقت ما من شأنه أن يسره. وقد يقال: إن ذلك من آثار ملاحظتها لدلالة الأثر على المؤثر، أو غيره من الأدلة الآتية، فإننا نجد النفس قد تلاحظ بعض الدلائل ملاحظةً لا يشعر بها العقل، كأن يرى إنسانًا فتميل إليه، وآخر فتنفر (¬1) عنه، ولا تعرف سببًا لذلك. ويكون السبب أن الأول يشبه في صورته وشكله وهيئته وغير ذلك إنسانًا آخر تحبه، والثاني يشبه آخر تبغضه، وإذا أمعنت النظر عرفت ذلك، ¬

_ (¬1) هذا الفعل والذي قبله "فتميل" نقطها المؤلف بالياء والتاء معًا "فيميل ... فينفر".

فصل

وقد جَرَّبت هذا أنا وغيري. وقد يكون المرئي نفسه قد سبق أن أحسن إليك أو أساء، ولكن تقادم العهد ونسيته. وقد يشعر العقل، ولكن لا يمكنك شرح ذلك، كأن ترى إنسانًا فيقع لك أنه عربي، وترى أنك إنما أدركت ذلك من صورته، فإذا [ص 28] قيل لك: اشرح ذلك بأن تقول: لونه كذا، وشكل وجهه كذا، وعينه كذا، بما يبين اختصاصَ تلك الهيئات بالعرب غالبًا لم تستطع ذلك. واعلم أن العقل يأبى أن يقبل ما لا يدركه هو، حتى لقد يتردد أو يعاند فيما قد شعر به في الجملة، كما مر في صورة العربي. والذي ينبغي للعقل أن لا يلغي إدراك النفس، بل يتثبت فيه ويتدبر، ويمعن النظر حتى يتبين الأمر، فإن لم يتبين أخذ بالأحوط. **** فصل العاقل لا يلغي الدلالة التي هي ظنية عنده، أما في مصالح الدنيا فمعلومٌ أن عمادها الظن، فالزّارع يتعب ويصرف كثيرًا من المال على رجاء الثمرة، وحصولُها ليس بقطعي، وكذلك الصانع والتاجر وحافر البئر والناكح والحاكم وأرباب السياسة والقتال، وكذلك الطبيب والمتداوي، وغير ذلك، فتدبَّر وأنعم النظر. فإذا كان الأمر كذلك في جلب المنافع ودفع المضار التي يعلم الإنسان أنها منقطعة عنه عما قليل، إذ لعله يموت بعد ساعة أو يوم أو نحو ذلك، فإن طال عمره لم يجاوز في الغالب ثمانين سنة، فكيف لا يعمل هذا في المنفعة

والمضرّة التي لا نهاية لها في القَدْر، ولا في المدة وهي الأخروية؟! فمن حَصَل له ظنٌّ ما بأنّ للعالم ربًّا هو المدبر في الحياة، وإليه المرجع في الآخرة، فمِنْ أحْمَق الحُمْق أن يلغي هذا الظن، بل ينبغي أن يستعرض الأديان، فأيها كان أقرب إلى الحق التزمه وعمل به. بل نجد العقلاء في مصالح الدنيا إذا شكُّوا في شيء أخذوا بالأحوط، فقد يتكلف أحدهم التعب والمَغْرَم لجلب منفعة مهمة أو دفع مضرة شديدة، ليس عنده ظن بحصولهما, ولكنه يقول: يحتمل أن تقعا. فإن كانت تلك المنفعة أو المضرَّة لا تحصل أصلاً كنتُ قد أضعتُ تعبي ونفقتي، وإن كانت تحصل المنفعة وتندفع المضرَّة إذا تعبت وغرمت، وتفوت المنفعة وتقع المضرة إذا لم أتعب ولم أغرم، فقد فزت فوزًا عظيمًا بتعبي وغرامتي، فأنا بين أمرين: إن تعبت وأنفقت خشيت ضياع تعبي ونفقتي، وإن لم أتعب ولم أُنفق خشيت ذوات تلك المنفعة العظيمة ووقوع تلك المضرَّة الشديدة، وضياعُ التعب والنفقة أهون من ذوات تلك المنفعة ووقوع تلك المضرة، والعاقل إذا خُيّر بين [ص 29] ضررين اختار أهونهما. بل نجد العقلاء يصنعون مثل هذا في جلب المنافع العظيمة ودفع المضار الشديدة التي يُظنّ عدم حصولها، يقول أحدهم: يترجّح عندي أنها لا تكون، ولكن يحتمل أن تكون. أقول: فإذا كان هذا حالهم في منافع الدنيا ومضارها التي تنقطع عما قليل - كما مر -, فينبغي للعاقل مثل ذلك وأولى منه في أمر الدين. ****

فصل

فصل من نشأ على خلاف الحق يكون قد استولت عليه صوارف عنه، فهو حَرِيّ إذا عُرِض عليه دليلٌ على خلاف رأيه أن لا يمعن النظر فيه، وإذا أمعن أن يغالطه هواه بالشبه، فقد يكون الدليل قاطعًا فيرى أنه ظني، أو ظنيًّا فيرى أنه محتمل. فينبغي له أن يعرف هذا من نفسه، ويأخذها بالأحوط - كما مر -, فلعله إذا وطَّن نفسه على ذلك وأخذ بالأحوط أن تذهب تلك الصوارف، فيظهر له حقيقة ذلك الدليل، وأنه قطعيّ أو ظنيّ. فصل قد ثبت في الإسلام أن الله عَزَّ وَجَلَّ إنما أنشأ الناس هذه النشأة ليبتليهم، وإذا كان كذلك فمن قَبِل ما ظهر له من الحق وأَخَذ بالأحوط فقد نجح في الامتحان، فهو حقيقٌ بأن يوفّقه الله عَزَّ وَجَلَّ ويرشده، فيتبيّن له أن ما كان يراه ظنيًّا هو حق قطعًا، إما بأن ييسر الله تعالى له ترتيب الدليل الذي كان عنده ظنيًّا على وجهٍ قطعي، وحلّ ما كان يخالفه من الشبهات حلاً قطعيًّا، وإما أن يرشده إلى دليل آخر، وإما بأن يشرح صدرَه وينوّر قلبه، فيحصل له اليقين، وإن كان لا يدري من أين جاء. وعلى العكس من هذا يكون حال من أبى ما ظهر له من الحق، قال الله تبارك وتعالى (¬1): [{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ ¬

_ (¬1) بيّض المؤلف مكان الآية عدة أسطر، فأكملته بما ظننتُ أنه المراد.

فصل

يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ}] [الأنعام: 125]. **** فصل انظر فيما حولك من الآنية والآلات، وكيف صُنعت، ولماذا صُنعت، وتفكَّر هل كانت بغير صانع؟ ثم إذا عرفت دلالتها على صانع فانظر دلالتها على معرفة الصانع وعقله وحكمته، ومقدار ما تدل على ذلك، حتى تنظر في آلة الخياطة، والساعة، والحاكي، الفوتغراف، والراديو، فإذا انتهيت منها فانظر في صانعها الغريب. وانظر في خلق الإنسان وغيره من الحيوان، تجد أن بين الذكر والأنثى ميلًا طبيعيًّا إلى المقاربة، تكون نتيجته إلقاء النُطفة في الرحم، والذَّكَر لم يكن يشعر مما تولَّدت نطفته، ولا كيف تولدت. وقد لا يشعر بأنه إذا قارب أنزل، ولا بأنه إذا أنزل كان لذلك نتيجة. وللأنثى - فيما يقول التشريح الحديث - مِبْيَض، من شأنه توليد البيض، ثم تكبر البيضة حتى تضيق عنها الغشاوة، فتنشق، فيسيل بها الدم حتى يلقيها في الرحم، وعن ذلك الدم يكون الحيض، وليس للأنثى شعور بشيء من هذا، بل جَهِلَه الفلاسفة وعلماء التشريح والطب السالفون. قالوا: وفي نطفة الذَّكَر حيوانات صغيرة جدًّا، لا تدرَك إلا بالمُكبِّرات، فإذا وقعت النطفة في المَمرّ إلى الرحم سعت تلك الحيوانات حتى يجيء واحد منها إلى البيضة فيغوص فيها، وبذلك تكون البيضة قد تلقَّحت، هذا والذكر والأنثى لا يشعران إلا بلذَّتهما التي قضياها.

فإن كانت الأنثى مما يلد كالمرأة تربَّت البيضةُ في الرَّحِم إلى أن يكون خلقًا سويًّا من جنس الأبوين، وإن كانت مما يبيض أُحيطت البيضة بذلك الغشاء الصُّلب المعروف، وألقتها الأنثى في مكان تعدُّه لذلك، ثم تحضنها إلى أن يخرج الفرخ حيًّا سويًّا كأبويه، وتخليق الجنين مما لا شعور للأبوين به ولا بكيفيته، ولولا العادة لما علما بأنه يكون ولد إلا أن يكون إلهام فوق العادة. ثم يكون من الأولاد ذُكْران ومنها إناث، وليس للأبوين ولا لغيرهما خيرة في ذلك ولا شعور، ويكون لكل مولود يولد صورة تخالف صورة جميع الناس، ثم انظر. في تفصيل الخِلْقة، ثم في تيسير الغذاء المناسب للطفل، ثم في طريق التغذية. ثم ارجع إلى الشجر، توضع النواةُ في الطين، فلا تلبث أن تنشقّ وتنبت منها شجرة مثل أصلها، وانظر كيف تغذيتها، وكيف ثمرتها، إلى غير ذلك. ثم انظر كيف تيسير ما يحتاج إليه الحيوان والنبات، فإن أشد ما يحتاج إليه هو الهواء والنور والحرارة المعتدلة، ثم الماء، ثم الغذاء، وتجد هذه الأشياء قد قُسِّمت في الوجود بحسب شدة الحاجة إليها، وقِسْ عليها غير ذلك. ثم تدبَّر أمرَ الشمس مع الأرض، وكيف تتغير حتى يتكون الفصول، ثم انظر في السحاب والمطر والرياح، ثم سل الحُكَماء الكبار أولي العقول الكبيرة: هل استطاعوا أو يستطيعون أن يصنعوا ذرّة لها من الأعضاء والقُوى والإدراك والحياة ما لهذه الذرة التي نطؤها بأقدامنا كل يوم؟ أو بُرّةً تُغْرَس فتنبت كما ينبت البر؟ أم أن يُخَلِّدوا إنسانًا أو يبقوه معمرًا مائتي سنة مثلاً، أم

أن يحيوا ميتًا؟ أم هل يعرفون ما هي الروح؟ ثم انظر في ارتباط الموجودات بعضها ببعض، كأنها أركان حكومة واحدة، أو أركان [ص 31] مصنع من المصانع، أو عائلة واحدة، أو أعضاء شخص واحد في التعاون والتباعد، أو آلات ساعة واحدة، فتجد تقدير الليل والنهار، والحر والبرد، والهواء والريح والمطر، والنور والظلمة، كلُّ ذلك على المقدار الصالح للحياة. وتفكَّر في تلقيح الشجر على ما يصفه علماء النبات، وأن كثيرًا منه يكون بواسطة النحل والفراش التي تقع على الزهرة المذكرة لتمتصَّ عَسلَها، فيَعْلَق برجلها وريشها شيء من طلع تلك الزهرة، ثم تقع على زهرة أخرى مؤنثة لتمتصَّ عسلها أيضًا، فيقع ذلك الطلع، فيتم لقاح الزهرة. وبالجملة، فمواضع العبرة في العالم كثيرة جدًّا. فتفكَّرْ وتدبَّرْ أيضطرُّك رؤية ملعقة من حديد إلى العلم بأن لها صانعًا، وهكذا إلى الساعة، أتَضْطَرُّكَ معرفَتُها إلى العلم بأن لها صانعًا عاقلاً، له قدرة وحكمة تناسب ذلك الإحكام وتلك الدقة، ثم لا يَضْطَرُّك ما رأيتَ من خَلْق الإنسان والحيوان والنبات، وسائر أجزاء العالم، وذلك الأحكام المدهش والنظام التام إلى العلم بأن للعالم خالقًا حيًّا عليمًا قديرًا مريدًا حكيمًا مدبرًا. أو لا يضطرُّك ما ترى من تدبير الأجَنَّة في بطون الأمهات، والنوى في باطن الأرض، وغير ذلك إلى أن تدبير الخالق مستمرّ لا يفتر؟! ****

مبلغ علم الملحدين

مَبْلَغُ عِلْم المُلْحدين إن من الأدلة على وجود الرب تبارك وتعالى وأن الهداية بيده هو: النظرُ في حال الملحدين، فإنهم تبحَّروا في النظر في عجائب المخلوقات، فأدركوا فيها ما لم يدركه مَن قبلهم، ولكنهم نظروا فيها لذاته, لا ليهتدوا بها إلى حق، بل قام بهم من بغض الدين واحتقاره والاستكبار عن آياته ما استحقوا به خذلان الرب تعالى، فكان مبلغ علمهم أنهم يخرصون أن هذا الفضاء قديم، وأن فيه مادة مبثوثة يسمونها: "الأثير"، فيها عدة قُوى من جَذْب ودَفْع وحركة وغير ذلك، وأن تلك المادة بما فيها من القوى يتركَّب منها بعد عصورٍ ذرات صغيرة، سماها بعض المصريين: "الجواهر الفردة"، وهذه الذرات يختلف تركيبها من المادة الأصلية، وباختلافه تختلف، فمنها ما يكون ذهبًا، ومنها ما يكون فضة، إلى غير ذلك من العناصر. قالوا: وإذا أذبنا الذهب مثلاً إلى أقصى درجات الإذابة، فإنما ينحلّ إلى هذه الذرات، وهكذا سائر الأجسام حتى المائعات والغازات، وهي العناصر الهوائية. قالوا: وهذه الذرات صلبة لا يمكن هدمها. قالوا: وإذا صار بعض المادة ذرات أحدثت لها قوى أخرى، ثم كأنها بمجموع القوى التي فيها تتجمع وتكون كوكبًا واحدًا، ثم يعرض لذلك الكوكب ما يكسره، فتتطاير الكِسَر هنا وهنا، فحدسوا أن أرضنا هذه متعلقة هي والسيارات التي حولها بالشمس، وأن الشمس هي الأم، ولا يدرون أتكونت ابتداءً، أم هي قطعة من كوكب أعلى منها؟

قالوا: ثم تكسَّرت الشمس فتطايرت منها السيارات التي الأرض واحدة منها، وأخذت هذه السيارات تدور حول أصلها التي هي الشمس. قالوا: ثم انكسرت من الأرض كسرة هي [ص 32] القمر. قالوا: وأما الحيوان والنبات فإنا وجدنا لهما مادة خاصة، لا يتكون الحيوان والنبات إلا منها، فكأنها بالقوى الموجودة في المادة اتفق بالتبادل والتركب المستمرّ أن تكونت تلك المادة، وحصلت لها هذه القوّة الخاصة التي نسميها الحياة، وبحصول الحياة لها حصلت لها إرادة لها تأثير في تكوين جسمها وتركيبه، وفي توليد مثلها. قالوا: ثم لعلها أخذت تتوالد وتترقَّى صورها بفعل إرادتها حتى صارت إلى هذه الحال. وقوّى هذا الخَرْص عندهم بأنهم وجدوا الحيوان على درجاتٍ في الرُّقيّ، أدناه حيوانات حقيرة توجد في الماء، وأرقاه الإنسان، ووجدوا بعض الأنواع متقاربة كالخيل والحمير، ووجدوا الجنين يتشكَّل في بطن أمه على عدة أشكال، فتوهَّموا أنه يمر في تشكله على السلسلة التي ابتدأت من الحيوان الدنيء إلى أن وصلت إلى الشكل الذي عليه أبواه، وهم مع هذا متفقون أنه لا يوجد فيما يعلمونه حيٌّ إلا من حيّ، وأنهم لم يشاهدوا ولم يسمعوا بأن حيوانًا قد ترقَّى بإرادته من شكل إلى شكل آخر بخلاف العادة المعروفة في جنسه، وأنهم قد حفروا في مواضع كثيرة يقدرون في بعضها أنها اندفنت قبل مائة ألف سنة أو أكثر، ويجدون في بعضها جثث الناس، وبعض الحيوانات الموجودة الآن على ما هي عليه الآن، وأنه إن فُرِض صحة ذلك الترقّي فلا يكون القليل منه إلا في ملايين من السنين، وأنَّ عُمر الأرض على ما يَحْدِسونه لا يكفي لذلك، ولا لعُشْره، ولا لعُشْر عُشْره،

فعادوا يفرضون فرضًا آخر، وهو أن الحياة جاءت إلى الأرض من كوكب آخر. فيقال لهم: تلك المادة كيف وُجدت؟ وتلك القوى التي لها كيف حصلت؟ ثم تلك الحياة ما حقيقتها؟ وأنى جاءت؟ وما بال الحيوانات الدنيئة لا تزال موجودة بكثرة؟ فهل كان لبعضها تلك الإرادة الخارقة حتى رقَّتها إلى الإنسانية وبقي بعضها على تلك الحال؟ وإن كانت الحياة جاءت من كوكب آخر فهل جاءت بأبسط صورها - أي: الحيوانات الدنيئة - ثم ترقَّت في الأرض؟ لا يمكنُ هذا الفرض؛ فإنه يعود الإشكال. أم جاءت في صورة راقية، فإني وجدتُ في الأرض الحيوانات التي أدنى من ذلك النوع، أم جاءت بِعِدّة أنواع منها الدنيء ومنها الراقي؟ وكيف كان مجيئها؟ ثم أيّ حاجةٍ بالحيوانات الدنيئة إلى بقاء نسلها تلك الحاجة الشديدة التي تقتضي الإرادة الشديدة؟ ونحن نجد كثيرًا من أفراد أرقى الحيوان - وهو الإنسان - لا همَّ لهم في الولد ألبتة، وإنما يقارب الذكر الأنثى للشهوة، فإن كان لهما همٌّ في الولد فطلبًا للذة بمحبة الولد، فإن زاد عن ذلك فلكي يخدمهما الولد. ونجد الحيوانات الدنيئة - كما قالوه - يكون آخر عهد الأمّ بولدها حين تضعه، فإن عاشت لم تعد تعرفه، ونجد بعض الحيوانات التي هي أرقى من ذلك تربي الأم ولدها بالشفقة المغروزة [ص 33] فيها، فإذا قوي طردته ولم تعد تعرفه، كالحمام وغيرها من الطير. ثم قد كان الظاهر أن تلك الإرادة تترقَّى بترقِّي الحيوان، فتكون أرقى ما تكون في الإنسان، أو على الأقل تبقى كما كانت، ونحن نجد الأمر بالعكس، فالإنسان لا يستطيع بإرادته أن يغير شيئًا من تركيب جسمه ولا نسله، فقد

يجتمع الذكر والأنثى وهما كارهان للولد، كما يكون بين الزانيين المُسْتخْفِيين الخائفَيْن من الفضيحة، وقد يشتهيان الولد ويحبان أن يكون ذكرًا فيكون أنثى، وقد يحبان أن يكون شكله كذا، وهيئته كذا، فيكون على خلاف ذلك. وما أدري ما يقولون في النبات، وهل يقولون: إن له إرادة بها ترقَّى؟ ثم ما عسى أن يقولوا في النظام البديع في الموجودات - على ما تقدّم بعضُه - هل إرادة بعض الحيوانات الدنيئة هي التي رَتَّبت العالم على هذا النظام؟ أوَلا يهديكم العقل إلى أنه لا بد من إرادة عُليا هي التي دبرته وتدبره، وأنها إرادة الخالق ولا بُدّ؟! وبالجملة، فالقوم أنفسهم يسلِّمون أن هذا الفَرْض الذي فرضوه إنما هو تَخَرُّص محض، وأنه يَرِدُ عليه من الإشكالات أضعاف أضعاف ما ذكرتُه، وأنّ هناك أشياء كثيرة في العالم لا تَنْحَلُّ بذلك الفرض. فإذا قلتَ لهم: فلماذا لا تُسَلِّمون بوجود الخالق المُدبِّر وتستريحون من هذا العناء، ثم إن وجدتم مُسبّبات عرفتم أسبابهَا قلتم: هذا عن كذا، وهذا عن كذا، والخالق هو الذي جعلها كذلك، وما لم تعرفوا له سببًا قلتم: إرادة الخالق، وكفى؟ قالوا: لم يقم عندنا دليل حِسّي على وجود الخالق. فيقال لهم: ولا قام عندكم دليل حِسيٌّ على هذه التخرُّصات! فيقولون: نعم، ولكنها أقرب إلى ما عرفناه. فيقال لهم: بل هي بعيدة عنه، ثم هي لا تشفي ولا تكفي، والقول بوجود

فصل

الخالق أقرب إلى ما تعرفون، فإنَّ مما تعرفون أن في البدن روحًا تدبِّره، ولا تدرون ما هي، فقولوا: إن للعالم روحًا تدبره، وإن لم تدروا ما هو. لا أريد أنَّ علاقة الرب بالعالم كعلاقة الروح بالجسد، وإنما أريد التدبير فقط. وقد رجع أكثر القوم إلى الاعتقاد بوجود الأرواح لما ظهر لهم من تجارب في ذلك، انظر كتاب ... (¬1). وكذلك ارعوى كثيرٌ من عقلائهم، فاعترف بوجوب الرب، وسفَّه إخوانه المتشككين، ودَحَض شبهاتهم. **** فصل الباعث للمتشكِّكين على إصرارهم على دعوى الشك أمور: الأول - وهو عُمْدتهم -: أن فلسفتهم الحديثة كانت ردّ فعل لفلسفة اليونان وأتباعهم، كانت تلك تبالغ في التخيُّلات والتوهُّمات، فجاءت هذه تحصر العلم في المحسوسات، وقد انهدم هذا الأصل عند أساطينهم بما حدث فيهم من قضية الأرواح. الثاني: أن فيها ردّ فعل للنصرانية المبدلة التي أفرطت في الخرافات والخُزَعبلات. الثالث: أنهم وجدوا كتبهم الدينية فيها ما يُقْطَع بكذبه وبطلانه، ولا يحتمل تأويلًا. ¬

_ (¬1) بيّض المؤلف لاسم الكتاب. ولعل المؤلف أراد كتاب "تمييز الأرواح" من تعليم ألان كاردك. فإنه لخّصه في مجموع رقم (4712) من (ص 52 - 79)، وفيه مباحث تتعلق بما ذكره المؤلف.

الرابع: أن أوائلهم أرادوا تخليص قومهم من قيود ديانتهم، وعارضهم القسيسون والرُّهبان، فطال النزاع بينهم، فبالغ المتفلسفون [ص 34] في الطعن في الديانة وتسفيه المتمسكين بها إلى أن صوروهم بأقبح صور الجهل والجمود والحُمْق واعتقاد الخرافات، وطال ذلك ورَسَخ في النفوس، فصار المتمسِّك بالدين محتقرًا فيما بينهم، والطاعن في الديانة محمودًا بحرية الفكر، وغير ذلك، فيرى أحدهم أنه إذا عاد فاعترف بوجود الرب عُدَّ مُنْحطًّا رجعيًّا كما يقولون، ويكفي خصمَه أن يسقطَ سُمعته بقوله: نحن في عصر العلم والتجديد، وفلان يرجع بنا إلى خرافات القرون الجاهلية. الخامس: أن القوم نشأوا على الإباحة والتهافت على الملاذّ الدنيوية، ومن شأن الدين أن يقيِّد صاحبه، أو ينغِّص عليه ملاذَّه بِتوقُّع العقوبة، فنفوسهم تنفر من ثبوت الدين، وتعاديه أشد العداوة. السادس: أنه كما أن سليم البصر لا يرى في الظُّلمة، بل يحتاج إلى النور، فكذلك البصيرة تحتاج في إدراك ما يتعلق بالغيب إلى نور خاص، وهذا النور الخاص إنما يكون في التعليمات النبوية، وهم أبعد الناس عنها. السابع: أنهم يَحدِسون أنه إذا كان هناك دين حق فهو الإسلام، ولكنهم ينفرون عن الإِسلام لأمور (¬1): منها: العداوة المتوارثة فيهم للمسلمين. ومنها: عداوة دولهم للإسلام، فهي لا تفتأ تنفِّر عنه بالطرق المختلفة. ¬

_ (¬1) انظر "الوحي المحمدي": (ص 22 - 23) لرشيد رضا.

فصل

ومنها: أنهم ينظرون إلى أحوال المسلمين في هذا الزمان. ومنها: أنهم إنما ينظرون إلى العقيدة الإِسلامية بصورتها المشوَّهة في كتب القسيسين الذي استعربوا ووصفوا الإِسلام، فإن أمعنوا النظر نظروا في كتب المتفلسفين من المسلمين، فإن زادوا نظروا في بعض التراجم الناقصة للقرآن. الثامن: أنهم مع أخذهم في دنياهم بل وفي علمهم بالظن والاحتياط، يأبون ما هو أوضح من ذلك في الدين، وبذلك كانوا مستكبرين عن قبول الحق، وقد قال الله تبارك وتعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 146] (¬1). **** [ص 35] فصل ومن الأدلة (¬2) ما يُشاهَد من تعجيل العقوبة لكثير من أهل البغي والظلم والجور، وسوء المِيْتة لأكثرهم، وذهاب ما جمعوه من الأموال الكثيرة بعوارض لم تكن في حساب، إمَّا في حياتهم، وإمَّا بعد هلاكهم، وأهل الخير والعدل بخلاف ذلك. ¬

_ (¬1) كتب المؤلف أول الآية فقط {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ ...} وترك عدة أسطر لإكمالها. (¬2) يعني على وجود ربّ العالمين، وأنّ الهداية بيده. وانظر ما سبق (ص 63).

ومنها: ما لا يخلو إنسان من الناس من وقوعه له، وهو أنه كثيرًا ما يقارب الخَطَر ولا يشعر، ويكاد يقع فيه، فيجد ما ينبهه فيسلم، أو يعرض عارض لم يكن في حساب فينجو، وقد جربنا هذا كثيرًا. ومنها: أن الإنسان الذي لا يخلو من خير يكثر أن تنزل به المصيبة التي كان يظن أنها إذا وقعت مات غمًّا، فيجد في نفسه عند وقوعها ما يهوِّنها عليه ويخفِّفها، بل لعله يرجو منها خيرًا، وعلى العكس من ذلك أهل الشر. ومن ذلك: ما يُشاهَد من حال الأغنياء الفَجَرة؛ تُسَدّ عنهم طرق الخير، فلا يكادون ينفقون فيها فلسًا، وتُيسَّر لهم طرق الشرّ فينفقون فيها الأموال الكثيرة لغير شهوة يُعتدّ بها أو لذّة تعقل. ومنها: ما جربه كلّ مؤمن من نفسه من إجابة الرب دعاءه، وإغاثته عند الكرب، وتخليصه من المهالك، وغير ذلك، ويشاركهم في ذلك أهل الأديان الباطلة؛ لأن عندهم اعتقادًا بوجود الرب، والتجاءً إليه، واستغاثةً به، فيمدهم سبحانه بجوده وكرمه في هذه الدنيا (¬1)، قال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ ¬

_ (¬1) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم": (2/ 314 - 315): "فمن دعاه موقنًا أنه يجيب دعوة الداعي إذا دعاه أجابه، وقد يكون مشركًا وفاسقَا، فإنه سبحانه هو القائل: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} [يونس: 12] وهو القائل سبحانه: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا} [الإسراء: 67]، وهو القائل سبحانه: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 40 - 41]. =

الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل: 62] (¬1). ومنها: ما يحكيه بعض المتدينين عن أنفسهم: أن أحدَهم إذا فعل خيرًا وجد أثر ذلك في تيسير الخير له في دينه ودنياه، وإذا فعل سوءًا أحسَّ بأثر ذلك من تغيُّر حاله في دينه ودنياه. وكثيرًا ما تنال أحدهم العقوبة، فيعرف [أنها] بذنبِ كذا لمناسبتها له. كان ابن سيرين - أحد أئمة التابعين - يتَّجِر وهو مع ذلك محتاط في تجارته، فاتفق أن عَرَض له ما أوقعه في خسارة تجارته، وأدى الأمر إلى أن رفعه خصومُه إلى القاضي فحبسه، فقال: إني لأعرف الذنب الذي عوقبت به، فقيل له: وما هو؟ قال: قلت يومًا لرجل: يا مفلس (¬2)! ¬

_ = ولكن هؤلاء الذين يُستجاب لهم - لإقرارهم بربوبيته وأنه يجيب دعاء المضطر إذا دعاه - إذا لم يكونوا مخلصين له الدين في عبادته ولا مطيعين له ولرسوله، كان ما يعطيهم بدعائهم متاعًا في الحياة الدنيا وما لهم في الآخرة من خلاق ... وقد دعا الخليل عليه الصلاة والسلام بالرزق لأهل الإيمان فقال: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} فقال الله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 126]. فليس كل من متعه الله برزق ونَصْر، إما إجابة لدعائه، وإما بدون ذلك يكون ممن يحبه الله ويواليه، بل هو سبحانه يرزق المؤمن والكافر والبر والفاجر، وقد يجيب دعاءهم ويعطيهم سُؤلهم في الدنيا، وما لهم في الآخرة من خَلاق" اهـ. (¬1) ذكر المؤلف أول الآية {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ ...} وترك سطرًا لإكمالها. (¬2) بنحوها في "الحلية": (2/ 271)، و"تاريخ دمشق": (43/ 546).

يعني أنه عَيَّره بذلك، فعاقبه الله عزَّ وجلَّ بأن أوقعه في مثل ما عيره به. وقال بعضهم: إني لأرى ذنبي في وجه خادمي ولسان امرأتي (¬1)، أو كما قال. يريد أنه إذا أذنب أنكر حال خادمه، فلا يجده كما كان من حُسْن الخدمة والطاعة، وأنكر حال زوجته فوجدها تطيل لسانها عليه على خلاف عادتها. ويحكي بعضُهم عن نفسِه أنه ربما أراد في نفسه مواقعة ذنب، فينكر حال الناس معه، ويجد منهم من يتكلم بكلام فيه ما يتعلق بذلك الذنب، حتى كأنه يعنيه، أو كأنه قد اطلع على ما في نفسه، وقد يتكرر ذلك من عدة أفراد، فيتوب في نفسه، فلا يلبث ذلك أن يزول. وأنه قد يعرض له باب خير، فيبخل من الإنفاق فيه، فلا يلبث أن يعرض له ما يضطره إلى إنفاق أضعاف ذلك. [ص 36] ولو فتشت لوجدت أفرادًا من الناس لأحدهم وارد من المال يكفيه وأهله براحة، ثم يقع في اكتساب الحرام، فتجد الحلال مع الحرام لا يكفيه كما كان يكفيه الحلال، ولو دقَّقتَ لوجدت أنها تعرض له عوارض لا يشعر بها، مثل كثرة انكسار الآنية، وتخرُّق الثياب قبل وقتها، وغير ذلك من الأسباب التي تضطره إلى الإنفاق، وهو يرى أنه لم ينفق إلا فيما لا بدَّ منه (¬2). ¬

_ (¬1) أخرج أبو نعيم في "الحلية": (8/ 109) عن الفضيل بن عياض قال: "إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق حماري وخادمي". وذكره في "البداية والنهاية": (13/ 662) في ترجمة الفضيل، وجاء في بعض نسخها الخطية: "في خلق حماري وخادمي وامرأتي وفأر بيتي". وذكره في "الداء والدواء": (ص 85 - ط عالم الفوائد) عن بعض السلف وفيه: "في خُلق دابتي وامرأتي". (¬2) ترك المصنف (ص 36) بعد هذا الموضع فراغًا قَدْرُه عشرة أسطر.

ومن الأدلة (¬1): أن أفرادًا نشأوا نشأة طاهرة، عرفهم الناس فيها بالصدق والأمانة، والخير والطهارة، والنُّصْح للناس، والعقل والحِلْم، والفهم والذكاء، وعدم الميل إلى سمعة ولا جاء ولا شهرة، ثم أخبروا أن الله جعلهم أنبياء، فاختبرهم الناس بعد أن ادَّعَوا، فوجدوهم على ما كانوا عليه من الأخلاق، وازدادوا فضلاً وخيرًا، ثم اختبرهم الناس في العمل على ما يأمرون به، فوجدوهم أشد الناس محافظة عليه سرًّا وجهرًا. فإذا صرفنا النظر عن النبوة فأخبار مَن هذه حاله من الصدق والأمانة والعقل والفطنة وغير ذلك من خصال الخير لا يمكن إهماله. وقد اتفق عُقلاء الإفرنج على وصف محمد صلَّى الله عليه وآله وسلم بالعقل الراسخ، والذكاء الخارق، والحكمة البالغة، والأخلاق الفاضلة (¬2)، ثم اعترفوا أخيرًا بنزاهته عن الكذب، وحاولوا بتمحّل للجمع بين ذلك وبين ما يتشكَّكون فيه من وجود الرب وملائكته، فقالوا ما تراه مع جوابه في كتاب "الوحي المحمدي" (¬3) للسيد محمد رشيد رضا رحمه الله تعالى. ومن الأدلة: ما ظهر على أيدي أولئك الأفراد من الآيات الخارقة التي تدل على أن لهذا العالم ربًّا قادرًا حكيمًا يفعل ما يشاء. ومنها: ما جاؤوا به من الشرائع الحكيمة. ¬

_ (¬1) يعني على وجود ربّ العالمين، وأن الهداية بيده سبحانه. وانظر (ص 63، 69). (¬2) انظر كتاب "قالوا عن الإسلام": (ص 91 - 145) لعماد الدين خليل، الفصل الثاني محمد رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم. فقد ذكر أقوال اثنين وأربعين عالمًا منهم. (¬3) (ص 87 - 140).

وقد اعترف عقلاء الإفرنج على قلة علمهم بالشريعة الإسلامية بأنها أكمل تشريع يمكن [ص 37]، حتى قال (¬1): [جيبوب: إن الشريعة المحمدية تشمل الناس جميعًا في أحكامها، من أعظم مَلِك إلى أقل صعلوك، فهي شريعة حُبِكت بأحكم وأعلم منوال شرعي لا يوجد مثله قط في العالمين]. ¬

_ (¬1) ترك المؤلف سطرين بياضًا ليلحق القول لكنه لم يفعل، والقول الذي أثبته وجدته في كنّاشة للمؤلف (رقم 4727) (ص 66) علّقه من جريدة البلاغ المصرية بتاريخ الاثنين 5/ ربيع الأول سنة 1347. ثم نقل المؤلف في كناشته السالفة قولًا آخر للمسيو ليون روش قال: "لم أذكر شيئًا في قوانيننا الوضعية إلا وجدته مشروعًا في الدين الإِسلامي، بل إنني عدت إلى الشريعة التي يسميها جول سيمون "الشريعة الطبيعية" فوجدتها كأنها أخذت من الشريعة الإسلامية أخذًا. ولقد وجدت فيه حلّ المسألتين اللتين تشغلان العالم، الأولى: في قول القرآن: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] فهذا جمل مبادئ الاشتراكية. والثانية: فرض الزكاة على كل ذي مال وتخويل الحكومة أخذ حقوق الفقراء من الأغنياء إذا امتنعوا من دفعها طوعًا". ثم قال: "ولو أن هذا الدين وجد رجالاً يعلمون الناس حق التعليم، ويفسّرون تمام التفسير لكان المسلمون اليوم أرقى العالمين وأسبقهم في كل الميادين". اهـ. ويمكن أن نذكر بعض كلماتهم مما نظن أن المؤلف أراد الإشارة إليه: قال درواني: "على صعيد القانون في مجال العدل والإنسانية وفي مجال الحكمة والشفقة، فإنَّ قانون الإسلام لا مثيل له بين أديان العالم ... [وهو] لا يقيم وزنًا للأشخاص والذوات الشخصية، ولا يعترف بأية امتيازات أو طبقات ... وهنا أيضًا لا يوجد أي قانون حتى في القرن العشرين يمكن أن يضاهي القانون الإسلامي ... ". وقال ستوك: "أعتقد من صميم قلبي أن الإسلام منهج كامل للحياة يغاير المسيحية، والحق أن الإسلام هو الدين الكامل الوحيد". انظر كتاب "قالوا عن الإسلام": (ص 174، 194) لعماد الدين خليل.

فصل

و [من] تدبَّر هذه الشريعة وجد حِكمةً بالغة وإتقانًا باهرًا، يستحيل في العادة أن تكون من وضع بشر واحد، بل ولا من وضع البشر كلهم. فصل إذا كنت قد أنعمت النظر فيما تقدم فقد علمت أن الأدلة المذكورة - قطعيها وظنيها - لم يثبت بها وجود مُجرَّد، ولا وجود ذات مجردة، بل وجود رب هو المدبر لهذا العالم، فعُلِمَ بذلك أنه حي قدير مريدٌ، عليم حكيم، كريم رحيم، إلى غير ذلك من الصفات. ولهذا - والله أعلم - يُكتفَى في الكتاب والسنة في ذِكْر الإيمان بالإيمان بالله، ولا يُفرَّق فيهما بين الإيمان به والإيمان بصفاته، وإن أُفرد الاحتجاجُ على بعضها كقوله (¬1) تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]. فصل العقل إنما يستثبت بالأدلة المتقدمة وغيرها وجودَ الربّ، وأنه حيٌّ عليم قدير، إلى غير ذلك من صفاته، بطريق القياس على ما عرفه من وجود الناس - مثلًا - وحياتهم وعلمهم وقُدرتهم، ونحو ذلك. وهو بنفس تلك الأدلة يعلم أن الرب ليس من جنس هذه المحسوسات، وأن مشاركته لها في تلك الصفات تكاد لِعِظَم التفاوت تكون مشاركةً في الاسم فقط، وأن هذه المشاركة لا تقتضي المشاركة في غير ما ثبتت فيه. ¬

_ (¬1) تحتمل قراءتها في الأصل: "بقوله".

فصل

فصل النظر على الوجه الذي شرحناه يبيِّن في نفس الناظر أن الربَّ الذي وصل به النظرُ إلى معرفته ليس هو ذاك الكوكب، ولا القمر، ولا الشمس. أولاً: لأن هذه الأشياء من جنس ما يراه ويحسّه، وهل الكوكب إلا جِسْم منير، مثله في السماء كثير، وجنسه في الأرض موجود، وهو الشعلة والمصباح؟ ثانيًا: لأن هذه الأشياء لا يظهر فيها أثر حياة ولا قدرة، ومجرد الإنارة والحرارة ليست من دلائل حياة ولا قدرة، فإنها موجودة في النار. ثالثًا: بل يظهر في الشمس وغيرها أنها جماد، وذلك ببقائها على وتيرة واحدة ونظام مستمر، يعلم به أن القادر الحكيم هو الذي وضعها عليه. رابعًا: ما يظهر عليها من علامات أنها مخلوقة لمصلحة الخلق، كما خُلِقت الأرض والهواء والماء والنبات. خامسًا: لاتفاق الأمم جميعًا على أن الشمس فما دونها ليست هي رب العالمين، فأما ما حُكِي عن عُبَّاد الكواكب فقد بيَّن المحقّقون - وأوضحتُ ذلك في رسالة "العبادة" (¬1) - أنهم إنما يرون في الكواكب نحو ما يرون في الأصنام، فإن القوم يعترفون برب العالمين، ثم يعبدون الملائكة ليشفعوا لهم إليه، ثم زعموا أن للملائكة تعلقًا بالكواكب، من جهة أن مع كل كوكب مَلَكًا يدبره. فعبدوا الكواكب على قصد عبادة الملائكة التي تدبرها. ثم لما رأوا أن الكواكب تغيب عنهم اتخذوا أوثانًا على أشكالٍ ¬

_ (¬1) (ص 671 وما بعدها).

تخيلوها للكواكب، وسموها بأسمائها؛ لتكون موجودة عندهم دائمًا، فيعبدوها متى أرادوا. وبهذا يُعْلَم تفسير قول الله عزَّ وجلَّ عن إبراهيم عليه السلام: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام: 76 (¬1) -81]. فإنما أراد بـ "الرب" المعبود، على طريقة قومه في تسمية الكواكب أربابًا، على معنى أنها تستحق العبادة؛ لعلاقتها بالملائكة كما تقدم. وقوله: {لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} أي: أن هذا يغيب، فإذا غاب لم تمكن عبادته على الطريقة المعروفة عندهم، وكانوا هم يسلِّمون هذ, ولأجله اتخذ الأصنام كما مر. وهكذا في الباقي. وقوله: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} أي: فإنه لا يغيب علمًا وقدرة. ¬

_ (¬1) الأصل: "77".

وقوله: {وَلَا تَخَافُونَ ....} مما يبين أن القوم كانوا يعترفون بوجود الله. وعلى ذلك أدلة أخرى قد ذكرتها في رسالة "العبادة" (¬1). وقد خَلَّط المفسرون في هذا, ولا سيما المتأخرين. والله المستعان. **** ¬

_ (¬1) انظر (ص 458، 680 - 681).

الأصل الثاني: أنه عز وجل أحد

الأصل الثاني (¬1): أنه عزَّ وجلَّ أَحَدٌ صرَّح المتكلمون - كما بينته في رسالة "العبادة" (¬2) - بأنه لم يخالف في هذا أحد من الناس، وإنما يقرب من الخلاف فيه فِرَق: الأولى: غلاة المجوس، زعموا أن الشيطان قديم، وأن له قدرة عظيمة، وأنها لا تزال المغالبة بين الله عزَّ وجلَّ وبينه حتى يُغلَب الشيطان أخيرًا، ويلقيه الله عزَّ وجلَّ في جهنم، هو ومن تَبِعه. والذي أوقعهم في هذا القول هو النظر بعقولهم، غير مستضيئين بنور الأنبياء، فرأوا أن الله عزَّ وجلَّ لا يمكن أن يكون منه شرّ، ثم رأوا في العالم شرورًا، فقال بعضهم: الشرور من إبليس. فقال آخرون: يعود الإشكال في خَلْق الله تعالى لإبليس الشرير. وهكذا أخذوا يفرضون وينقضون، حتى قال بعضهم: لا مَخْلَص إلا بالقول بأن إبليس قديم، لم يخلقه الله عزَّ وجلَّ. وهذا الفرض يكفي في بطلانه بقاء العالم على ما نشاهده من النظام، كما يشير إليه قوله عزَّ وجلَّ: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]. فأما ماجهلوه من تفسير وقوع الشر، فإن أمكَن توجيهٌ يقبله العقل فذاك، إلا وجبَ التوقفُ والعلمُ بأن لذلك [ص 40] تأويلًا صحيحًا وإن لم نعلمه. الفرقة الثانية: غُلاة النصارى في قولهم: إن الله ربٌّ واحد حقيقة، وهو مع ذلك ثلاثة أقانيم: الأب والابن والروح القدس (¬3). ¬

_ (¬1) تقدم الأصل الأول (ص 47). (¬2) انظر (ص 332 - 337). (¬3) انظر "الملل والنحل": (2/ 245)، و"الجواب الصحيح": (3/ 183 وما بعدها).

ولهم في ذلك خَبْطٌ طويل، قد بين أهل العلم بطلانه، والنصارى أنفسهم يقولون: إن قولهم مما يبطله العقل. الفرقة الثالثة: أتباع أرسطو، يقولون: إن واجب الوجود واحد، وسائر الموجودات ممكنة، ثم يتخَرَّصون بأن موجودًا ممكنًا صدر عن الله تعالى بطريق الإيجاب، فهو لم يزل معه، كما يصدر الشعاع عن الشمس، ولم يزل معها. ثم سموا هذا: عقلاً أول (¬1)، وخَرَصوا أنه صدر عن هذا الثاني عقل ثانٍ، إلى عشرة عقول. ويزعمون أن كلًا من العقول رب لما دونه، وهم أنفسهم يعترفون بأن هذا تخرُّص، وبنوه على أصول واضحة البطلان، كقولهم: الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، وقولهم: إن الصدور عن واجب الوجود إنما كان بالإيجاب، وقولهم: إن العالم قديم، وغير ذلك مما هو بكلام المُبَرْسَمِين (¬2) أشبه منه بكلام العقلاء. وقد علمت أن الأدلة التي تقدم بيانها أوصلتك إلى العلم بأن للعالم ربًّا حيًّا عليمًا قديرًا حكيمًا، فإن فُرِض أن المدبَّر الذي تشاهد آثار تدبيره مربوب، فربُّه هو الرب، ولا بد أن يكون أكمل منه في الحياة والعلم والقدرة والحكمة. ¬

_ (¬1) كذا في الأصل. (¬2) المبرسَم من أصيب بداء الهذيان. والبِرْسام: علة يُهذَى فيها. فارسي معرّب "بَر": الصدرُ، "سام": الورم أو المرض. انظر "التاج": (16/ 48)، و"قصد السبيل": (1/ 270).

وهكذا هذا الثاني إن فُرِض أنه مربوبٌ أيضًا. إذن فالربُّ الحقيقي هو الذي ليس فوقه رب، فهو الله عزَّ وجلَّ، فإن فُرِض أن مِن دونه مدبرًا، فلا يخلو أن يكون عمله إنما هو تنفيذ ما أمره الله عزَّ وجلَّ به، أو يتصرف بهواه وإرادته. إن كان الأول فهو عبد لا رب، وإن كان الثاني فلا يخلو أن يكون تدبيره بغير إذن الله عزَّ وجلَّ أو بإذنه. الأولُ مُحالٌ كما تقدم في الكلام على إبليس (¬1)، وأما الثاني فلا يخلو أن يكون أَذِنَ الله عزَّ وجلَّ له لعلمه أنه لا يفعل إلا ما يحبه الله ويرضاه، أو أَذِنَ له مع علمه بأنه يفعل ما لا يحبه الله ولا يرضاه. فالأول عبد لا رب، وأما الثاني فلا يخلو أن يكون الله عزَّ وجلَّ مراقبًا له، فإذا أراد أن يفعل ما لا يحبه الله عزَّ وجلَّ منعه وحالَ بينه وبين الفعل، أو أن يكون مهملًا له، فالأول عبد لا رب، وأما الثاني فلا يخلو أن يكون تصرفه المُخَلّى بينه وبينه واسعًا بما فيه تدبير الأمور [ص 41] العظيمة، كتسيير الشمس والقمر، وإرسال الرياح، وغير ذلك من الأمور العظيمة، أو يكون جزئيًّا لا يؤدي إلى فساد النظام المُشاهد. فالأول باطل لما مرَّ في الكلام على إبليس (¬2)، وأما الثاني فلا يخلو أن يكون الله عزَّ وجلَّ أذن له لغير حكمة أو لحكمة. الأول باطل؛ إذ قد ثبت بالأدلة التي ثبت بها وجود الرب عزَّ وجلَّ أنه ¬

_ (¬1) (ص 79). (¬2) الموضع نفسه.

فصل

حكيم، وسيأتي زيادة إيضاح لذلك إن شاء الله تعالى، وأما الثاني فما تلك الحكمة؟ أحاجة الله عزَّ وجلَّ إليه، أم خوفه منه؟ كلاهما باطل. أم محبته له؟ هذا أيضًا باطل؛ لأن المفروض أنه يفعل ما لا يحبه الله عزَّ وجلَّ ولا يرضاه، فكيف يحبه ويمكِّنه من فعل ما لا يحبه ولا يرضاه، ومقتضى محبة الله عزَّ وجلَّ أن يَحُول بين الذين يحبهم وبين فعل ما لا يحبه؟! أم تشريفه وتكريمه؟ هذا أيضًا باطل؛ فإن شرف المربوب وكرامته إنما هو في طاعة ربه، فتركه يفعل ما لا يرضي ربَّه ليس بتشريف، بل قد يكون إهانة له. أم الابتلاء والاختبار، كما في تمكين الله عزَّ وجلَّ الإنس والجن؟ فيلزمه نزول درجته إلى درجة الإنس والجن، وسيأتي استقصاء البحث في الكلام على توحيد الألوهية، إن شاء الله تعالى (¬1). [ص 43] فصل قد يقال: وحدانية الرب عزَّ وجلَّ وإن اتفق الناس عليها - على ما مضى - فقد يُجَوِّز الوهمُ وجودَ ربين أو أكثر. ثم إمَّا أن يُقال: إن هذا العالم الذي نشاهده مختصٌّ بأحدهما وللآخر عالم آخر، وإما أن يقال: إنهما ربان لهذا العالم ولكنهما لكمال علمهما وحكمتهما لا يمكن أن يختلفا حتى يلزم من اختلافهما فساد السموات والأرض. ¬

_ (¬1) كتب المصنف بعد هذا الكلام في رأس (الورقة 41 ب) تعليقًا نصه: (هذا مع الورقة الآتية (ص 41 - 42) يؤخّر إلى بحث توحيد الألوهية إن شاء الله تعالى). فأخرناه إلى آخر الكتاب لأن المؤلف لم يكتب المبحث المشار إليه.

والجواب: أن الفلاسفة والمتكلمين قد ذكروا عدة براهين لإبطال هذا الفرض، ولكن الكلامَ فيها دقيق، ومبنيٌّ على أصولهم، فليراجعها من شاء في كتبهم. والذي يليق برسالتنا هذه أننا سنقيم الدليل على صحة النبوة، وعلى نبوة محمد صلَّى الله عليه وآله وسلم، وبذلك تثبت نبوة نوح وإبراهيم، وموسى وعيسى، وغيرهم ممن صرح القرآن بنبوَّته. وإذا ثبت ذلك فمعنى نبوّتهم أنهم مرسلون من جانب الربوبية؛ ليكونوا سفراء يبلغوا الناس عن ذلك الجانب، وقد عُلِم أن هؤلاء الأنبياء بلَّغوا الناس أنه لا يوجد إلا ربٌّ واحد، فالآمر لهم بذلك المؤيد لهم بالمعجزات إن كان أحد الربين المفروضين فقد كذب، وأمر بالكذب، واهتضم حق صاحبه، ومثل هذا لا يجوز على الرب. فإن أبيت إلا افتراض جوازه، فلا بدَّ من التنازع بين الربين، وذلك باطل كما تقدم في الكلام على إبليس (¬1). وإن فُرِض أن الأنبياء مرسلون من الربين معًا فكيف يجوز على الرَّبين أن يأمراهم بالكذب والزور، ونَفْي وجود أحدهما، والإعراض عنه؟! وتصوُّر هذا كافٍ في العلم ببطلانه. فإن عاد الوهم فجَوَّز كذبَ الأنبياء، فمعنى ذلك تجويز أن لا يكونوا أنبياء، وسيأتي إثبات نبوتهم. وهذا بحمد الله تبارك وتعالى برهان قاطع، إنما يبقى فيه إثبات النبوة، وسيأتي إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) (ص 79).

فصل

فصل قد علمت أن الأدلة على وجود رب العالمين تضمنت الدلالة على أنه حيٌّ قدير عليم حكيم، وأن ذلك على الوجه الذي دل عليه تدبير العالم من كمال الحياة وعِظَم القدرة وسَعَة العلم وتمام الحكمة. والإنسان إذا أيقن بهذا فقد حصل له الإيمان بالله على الوجه الكافي في هذا الباب، وتلك الأدلة كافية في تحصيل هذا اليقين، لكن أكثر الطلاب في هذا الزمان تعترضهم شبهات تكاد تشكَّكهم في ذلك، عامتها يرجع إلى: ما هو؟ وكيف هو؟ وأين؟ ومتى؟ [ص 44] وكيف؟ ونحو ذلك، فأجدُ الحاجةَ داعية إلى النظر في ذلك، وفيه مسائل: [المسألة] الأولى: ما هو؟ ارجع فتدبر الأصل الأول في أوائل الرسالة، ثم استحضر أنك قد عرفت أن الرب عزَّ وجلَّ ليس من جنس ما تحسُّ به وتشاهده؛ فتعلم بذلك أنه لا سبيل إلى إدراك ما هو بحسًّ ولا قياس. وإنما أدركنا أنه موجود حيّ قدير عليم حكيم؛ لأنَّ (¬1) لنا سبيلاً إلى ذلك من جهة القياس، وإن عَظُمَ الفرق. ثم ارجع إلى الأصل الثاني إلى الخامس، وانظر إلى ما قصه الله تبارك وتعالى من محاورة موسى عليه السلام لفرعون، قد أوضحتُ في رسالة "العبادة" (¬2) بالأدلة الشافية من الكتاب والسنة، والتاريخ والآثار التي ¬

_ (¬1) "لأن" يرسمها المصنف: "لئن"، وقد تشتبه بكلمة "بين". (¬2) (ص 687 - 707).

اكتُشِفَت في مصر، وكلام المحققين من أهل العلم: أن فرعون وقومه كانوا يعترفون بوجود رب العالمين، وإنما كان أوائلهم قالوا: إن ربّ العالمين بغاية العَظَمة، والبشر بغايةٍ من الضعف والحقارة، فليس لهم لذلك أن يرفعوا أنفسهم إلى التصدِّي لعبادة رب العالمين، فإن ذلك يُعَدّ سوء أدب وانتهاك حُرْمة، كما لو قام جماعة من كنَّاسي المراحيض فقالوا: نذهب لنسلم على السلطان. قالوا هذا مع أنَّ ما بين السلطان والكنَّاسين قريب؛ لأن الفرق الذي بينه وبينهم عارض، فأما بين ربّ العالمين وبين البشر فالفرق عظيم جدًّا. قالوا: وكما أن بين السلطان وبين كنَّاسي المراحيض وسائط، حقُّ كناسي المراحيض أن يرفعوا حوائجهم إلى أقرب الوسائط إليهم، ثم ذلك الواسطة يرفع (¬1) أمره إلى من فوقه، وهكذا حتى ينتهي إلى المَلِك. فبين البشر وبين رب العالمين واسطة هم الملائكة، فحقُّ البشر أن يعبدوا الملائكة، ويرفعوا حوائجهم إليهم، وأما عبادة رب العالمين فهي حق للملائكة، حتى جاء فرعون فزاد - كما يقال - في الطُّنْبور نَغْمة، كأنه بعد أن تملَّك جمع أكابر قومه، وقرَّرهم بتلك العقيدة، ثم قال لهم: كما أن البشر ليس لهم أن يعبدوا رب العالمين لانحطاط درجتهم، فكذلك ينبغي أن يُتَوقَّف في عبادتهم للملائكة؛ لأن (¬2) درجة الملائكة وإن كانت مُنْحطّة عن درجة رب العالمين فهي بعيدة في العلو والعظمة عن درجة البشر. فكأنهم قالوا: وكيف نصنع؟ لا بدّ لنا من العبادة! ¬

_ (¬1) الأصل: "يرفعه" سبق قلم، والصواب ما أثبت. (¬2) الأصل: "لا"، سهو.

فقال فرعون: ينبغي لعامة البشر أن ينظروا من كان منهم أعلى درجة وأعظم شأنًا، فيجعلونه واسطة بينهم وبين الملائكة، هو يعبد الملائكة والعامّة يعبدونه، فقالوا: ليس هذا إلا الملك، فقرروا أن كلَّ قومٍ لهم ملك ينبغي لهم أن يتخذوه إلهًا، فيعبدوه، وهو يعبد الملائكة. وبذلك حصل فرعون على منصب الألوهية عندهم، ولذلك قال فرعون: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ} (¬1) [الزخرف: 51]، فقرر مَزِيَّته عليهم، وقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24]، فقرر ربوبيته لهم، يعني: الملك، وقال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38]، فقرر ألوهيته لهم. ولم يتعرَّض في هذا كله لغيرهم من الناس، كأهل الهند والصين والروم وغيرهم؛ لأن الأمر الذي قرره مع قومه [ص 45] أن المَلِك إنما يكون ربًّا وإلهًا لرعيته، وأما غيرهم فلهم ملوك غيره، فهم أرباب والهة كلٌّ لرعيته. وقال لموسى: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء: 29]؛ لأنّ موسى عليه السلام عنده من رعيته. وقال له آلُه: {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الأعراف: 127]، فأثبتوا أن لفرعون آلهة، ومعنى الكلام: أن موسى لم يكتف بأن يَذَر عبادتك، بل ترك عبادة آلهتك، يعنون الملائكة، فلم يكتفِ بمساواتك، بل رفع نفسه إلى مساواة آلهتك. ¬

_ (¬1) "أفلا تبصرون" لم يكتبها المؤلف، وترك لها فراغًا.

قال الله تبارك وتعالى لموسى وهارون: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17) قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الشعراء: 16 - 19]. لفرعون في هذا الكلام غرضان: الأول: المنُّ على موسى بالتربية. والثاني - وهو الأهم -: القدح في رسالته، كأنه يقول: إنما أنت بشر من عامة البشر، وقد لزمك النقص بقتل النفس وكُفْر النعمة، والرسالة أمرٌ عظيم لا يصلح لها البشر، فكيف البشر القاتل للنفس الكافر للنعمة؟! وهذا كما حكاه الله تعالى عن قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم من قولهم للرسل: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [إبراهيم: 10]. وقد تكرر ذلك في القرآن، اقرأ سورة الأنبياء (3)، وسورة المؤمنين (24)، وسورة الشعراء (154، و186)، وسورة يس (15)، وسورة التغابن (6). بل قال الله تبارك وتعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} [المؤمنون: 45 - 47]. وقد تَسْتغرب استبعادهم أن يكون البشر رسولاً مع قولهم: إنه حيًّا وميتًا يكون إلهًا، وقد كشفت عن وجه ذلك في رسالة "العبادة" (¬1). ¬

_ (¬1) (ص 701).

ثم ذكر الله تبارك [وتعالى]: جوابَ موسى عليه السلام: {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا (¬1) وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 20 - 21]. هذا جوابٌ عن الأمر الثاني، يقول: إن [ص 46] لزمني نقص بقتل النفس فإنما كان ذلك قبل الرسالة، وأما البشرية فإنها ليست مانعة من فضل الله، وقد تفضَّل عليَّ. {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 22]. هذا جوابٌ عن الأمر الأول، وعن كفر النعمة من الأمر الثاني، أي: أيُّ مَنًّ لك على إنسان ربيته وعبَّدتَ قومَه تقتل أبناءهم وتستحيي نساءهم؟! فعَدَل فرعونُ إلى سؤال آخر يحاول به أن يُرِي قومه أن موسى عليه السلام كاذبٌ في دعواه الرسالة: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 23] , يريد: أن الرسول مِنْ شأنه أن يكون قد حضر عند مُرْسِلِه وشاهدَه وعَرَفه، فقل لنا: ما هو؟ يحاول أن يقول موسى: لا أدري ما هو، أو: ليس لبشر أن يدري، أو نحو ذلك. فيقول: فلست برسول إذن. {قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء: 24]. هذا من النوع الذي يسميه البيانيون: الأسلوب الحكيم، وهو إجابة السائل بخلاف ما يترقب؛ لنُكْتة. كأنه يقول: ليس من شرط الرسول أن يعرف ذات مرسله، فقد يدعو الملك بعض الأمناء الذين لم يروه قط، فيكلمه من وراء حجاب، أو يبعث إليه ثقة من ثقاته، ويوجهه رسولاً، ولكن كأنك يا فرعون ¬

_ (¬1) الأصل: "حكمًا وعلمًا" سهو.

لم تعرف معنى قولي: "رب العالمين"، أو كأنك وملأك تجحدون وجود رب العالمين، فأنا أجيبك بحسب هذا. فتجاهل فرعون: {قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ} [الشعراء: 25] أسأله عن شيء فيجيبني بغيره! فأجابه موسى: {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء: 26]. في هذا تأكيد للجواب قبله، مع إشعارهم بسوء صنيعهم، وتعرّضهم لغضب ربهم، وكأن في قوله: {وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} تعريضًا بما أحدثه فرعون وتبعوه عليه كما تقدم. فأصر فرعون على تجاهله: {قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء: 27]، يُسأل عن الشيء فيجيب بغيره، ويصرّ على ذلك! فاستمرّ موسى عليه السلام على توكيد جوابه السابق: {قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء: 28] وإلا فأنتم المجانين؛ إذ ينبغي لكم أن تعرفوا كلامي، وهو أني ادَّعيت الرسالة من ربكم الذي تعرفون وجوده، وتعترفون به، فحقكم أن تسألوني بينة على دعواي فحسب. فأراد فرعون حسم المحاورة {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء: 29]. فتلطَّف موسى عليه السلام بما منع حَسْم المحاورة، واضطرارهم إلى الجواب الذي كان ينبغي أن يأتوا به من أول مرة، وهو سؤاله البينة على دعواه، قال: {أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ} [الشعراء: 30].

المسألة الثانية: كيف؟

فاضطر فرعون إلى إجابته؛ إذ لو لم يجبه لأنكر الناس عليه - ولو في نفوسهم - قائلين: ادعى وبذل البينة على دعواه، قال: {قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ...} [الشعراء: 31] الآيات. فإذا عرفت هذا فاعلم أنه لا سبيل لك إلى معرفة ما هو رب العالمين، وأن الذي [ص 47] ينبغي لك: أن تكفَّ نفسَك عن التعب فيما لا سبيل إليه مع ما فيه من الخَطَر، وأن تشكر الله عزَّ وجلَّ على ما آتاك من الأدلة على القَدْر الذي عرفته، كما قال الله تبارك وتعالى لنبيه موسى عليه السلام: {فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف: 144]. المسألة الثانية: كيف (¬1)؟ قال الراغب (¬2): "كيف: لفظ يُسأل به عما يصح أن يقال فيه: شبيه وغير شبيه، كالأبيض والأسود، والصحيح والسقيم؛ ولهذا لا يصح أن يقال في الله عزَّ وجلَّ: كيف". فإن قيل: السؤال بكيف يرجع إلى الصفات، ولا يعقل موجود لا صفة له. قلت: السائل بكيف يطلب أن يُخْبَر بصفة يمكنه تصوُّرها وإدراكها، وصفاتُ الله عزَّ وجلَّ التي يُفْهَم السؤال عنها من قول القائل: "كيف الله؟ " مما لا سبيل لنا إلى إدراكه بحس ولا قياس. فقول ذلك يقتضي أن السائل يعتقد أن المسؤول يدركها، وأن للسائل سبيلاً إلى إدراكها، والأمر بخلاف ذلك. ¬

_ (¬1) تقدمت المسألة الأولى (ص 84). (¬2) في "المفردات": (ص 730).

المسألة الثالثة: أين؟

فإن قيل: فقد أدركنا بعض الصفات، مثل أنه سبحانه قادر عليم حكيم، فما المانع من أن يقال لمنكر البعث مثلاً: أتؤمن بالله؟ فيقول: نعم. فيقال له: كيف هو؟ أقادر أم عاجز؟ قلت: هذا السؤال لا يليق بهذا الباب، وحسبك أن تقول: "أليس بقادر"! ونحو ذلك. والمقصود هنا إنما هو تنبيهك على أن منع الكيف لا يستلزم نفيه، وأن نفيه قد لا يستلزم نفي الصفة، فإن استلزم ذلك فهو - أعني نفي الكيف - باطل. فافهم. [ص 48] المسألة الثالثة: أين؟ لو أخبر إنسان بوجود موجود، فقيل له: أين هو؟ فقال: في بلد كذا، أو: في البحر، أو: في الهواء، أو: في السماء، أو: فوق السماء، أو: فوق كل شيء حيث لا يكون فوقه شيء يُحَسّ، لكان في مُتعارَفِ الناس قد أجاب عن السؤال، فقَصْرُ المكان على ما دون الأخير اصطلاح موجبٌ للمُغَالطة، فليتنبَّه له. ثم اعلم أن النُّظَّار بعد أن اتفقوا على أن الله تبارك وتعالى موجود قائم بذاته اختلفوا، فقال أكثرهم: ليس هو في مكان، فلا هو فوق ولا تحت، ولا خارج العالم ولا داخله. وقال آخرون: إنه لا يعقل موجود بهذه الصفة، بل ما كان كذلك (¬1) فهو ¬

_ (¬1) الأصل: "ذلك".

عدم مَحْض، حتى قال المَعَرِّي (¬1): قالوا: لنا خالقٌ قديمٌ ... قلنا صدقتم كذا نقول (¬2) [زعمتموه بلا مكانٍ ... ولا زمانٍ ألا فقولوا هذا كلامٌ له خَبيءٌ ... معناه: ليست لنا عقولُ] فأجاب الأولون: بأن هذا وهم اقتضاه اعتماد الإنسان على حِسّه وقياسه عليه، ولم يحس بموجود ليس في مكان، فلذلك يأبى أن يكون موجود إلا في مكان. فقال الآخرون: ليس هذا بوهم، بل هو حقيقة بينة بنفسها، والقول بأنها وهم سَفْسَطة محضة (¬3). فقال الأولون: إن الإنسان إذا ألِفَ النظرَ في المعقولات وتمكَّن فيها اتضح له أن ذلك وهم. قال الآخرون: يُردُّ على هذا بوجوه: الأول: أننا نجد مَن خاض في المعقولات وهو موافقٌ لنا. الثاني: أننا قد نظرنا في شيء من معقولكم، فوجدنا عامته شبهات ملفقة ومغالطات متعمقة، وقد اعترف بذلك جماعة من أكابركم، كما تقدم عن إمام الحرمين والرازي والغزالي (¬4). ¬

_ (¬1) في "اللزوميات": (2/ 189). وصدر البيت الأول فيه: "قلتم: لنا خالق حكيم". (¬2) ترك المصنف بعد هذا البيت سطرين للبيتين الآتيين فأكملناهما من المصدر. (¬3) السفسطة: قياس مركب من الوهميات, الغرض منه تغليط الخصم وإسكاته. انظر "التعريفات": (ص 118)، و"التوقيف على مهمات التعاريف": (ص 407). (¬4) انظر (ص 32 - 36).

الثالث: أننا وجدنا أكثر ما عندكم تقليد كبرائكم، وقد اعترف بذلك الغزالي إذ قال (¬1): [بل اعتقاد أكثر المتكلمين في نُصرة مذاهبهم بطريق الأدلة، فإنهم قبلوا المذهب والدليل جميعًا بحُسْن الظن في الصِّبا، فوقع عليه نشؤهم]. فلعل ما يعرض للمتعمِّق منكم من السكون إلى موجود ليس في مكان إنما هو أثر من آثار التقليد والشبهات، والمُحَال إذا أكثر سماعه واعتياد التصديق به تقليدًا ربما تألفه النفس، فترى كأنها مصدقة به مطمئنة إليه. الرابع: أنكم توافقون أن معرفة الله عزَّ وجلَّ واجبة على كل عاقل، ولو كانت المعرفة لا تحصل إلا بالتعمُّق في المعقولات لكان غالب الناس غير متمكنين منها. فإن قلتم: قد قال قوم بأنه يكفي العامة التقليد. قلنا لكم: قد اختلف عليهم الناس، فمَنْ يقلدون؟ على أننا قد فتَّشنا كثيرًا من المقلدين الذين يُظْهِرون القول بقولكم، فوجدناهم إنما يقولون ما لا يفهمون، أو ما لا يعتقدون، فإذا حوققوا تبين أنهم معنا في ذلك القول، غاية الأمر أنهم قد لا يجزمون جَزْمنا؛ لتوهمهم أن ذلك ربما يفقدهم أعز شيء عليهم وهو الدين. ¬

_ (¬1) ترك المؤلف مكان القول بياضًا، فأكملناه بما بين المعكوفين؛ فالظاهر أن هذا هو النص الذي أراد المؤلف نقله، بدليل أنه نقله في "التنكيل - القائد": (2/ 226). وهذا القول في "المستصفى": (1/ 44)، وقد كرره الغزالي بنحوه في عدد من كتبه، انظر "المنقذ من الضلال": (7/ 33 - ضمن رسائل الغزالي)، و"إلجام العوام عن علم الكلام": (4/ 81 ضمن رسائل الغزالي).

الخامس: أن الأنبياء إنما بُعِثوا ليدعوا الناس إلى معرفة ربهم وطاعته، ولم نَعْلَمهم دعوا الناس إلى التصديق بأنه ليس في مكان، بل الأمر بعكس ذلك، كما يأتي. [ص 49] قال الأولون: أما الوجه الأول فلسنا ندعي أن كل من خاض في المعقولات تبين له الأمر، وإنما ادعينا أن من شأنه (¬1) ذلك، وقد يتخلف في بعض الأفراد، هذا إن سُلِّم أن الأفراد الذين وافقوكم (¬2) هم ممن تمكن في المعقولات. وأما الثاني فلسنا ننكر أن هناك شبهات ومغالطات، ولكننا نقول: إن النظر في المعقولات من شأنه أن يوصل إلى حل تلك الشبه، فغايتنا من النظر هو الوصول إلى الحقيقة وحل الشبه، فنذكرها لنحلها, ولا ندعي العصمة في كل شيء، فقد نخطئ، ولكن هذه المسألة مما اتضح لنا اتضاحًا لا يحتمل الخطأ. وما ذكرتم من حال إمام الحرمين والرازي والغزالى فلم تثبتوا أنهم رجعوا إلى قولكم في هذه المسألة، بل لعل المنقول خلاف ذلك. وهَبْهُم رجعوا إلى قولكم، فذلك لا يشكِّكنا فيما قام لدينا من الحجة، ولا يكون حجة لكم. وأما الثالث فلا ننكر أن منا من يقلد، ولكننا نعلم في كثير مما نقوله أننا لسنا مقلدين فيه، ومن جملته هذه المسألة. ¬

_ (¬1) غير بينة في الأصل، ولعلها ما أثبت. (¬2) رسمها في الأصل: "وافقوتم"، ولعل الصواب ما أثبت.

وأما أنّ النفس قد تسكن إلى المحال لكثرة سماعه واعتياد التصديق به تقليدًا، فهذا لا ننكره، ولكننا نعلم أن تصديقنا بهذه المسألة ليس من هذا القبيل؛ لقيام الحجة عليه (¬1). فقاطعهم الآخرون قائلين: جوابكم عن هذه الثلاثة الأوجه مداره على دعوى قيام الحجة القطعية عندكم، فلخِّصوا لنا أوضح حُججكم في ذلك لننظر فيها، ثم ننظر في جوابكم عن الوجهين الأخيرين (¬2). قال الأولون: الحجة الأولى: أنه قد ثبت بالبراهين القطعية أن الرب واجب الوجود، وأن المكان مخلوق مُحدَث، فقد كان سبحانه موجودًا قبل وجود المكان، فثبت أنه كان موجودًا لا في مكان. الحجة الثانية: ما لا يتصور وجوده إلا في مكان فهو محتاج في وجوده إلى وجود المكان، وما كان محتاجًا إلى غيره في وجوده، فوجوده متأخر عن وجود ذلك الغير. الحجة الثالثة: قد قامت الحجة على أن الرب قائم بذاته, فليس بعَرَض، فلو كان في مكان لكان جسمًا، والجسم إما حقير جدًّا، وهو الجزء المتناهي في الصغر الذي يسمى: الجوهر الفرد، وإما كبير، والجسم الكبير مركَّب من أجزاء، والمركَّب محتاج إلى جزئه, وهو غيره, والمحتاج إلى غيره ممكن لا واجب. ¬

_ (¬1) "عليه" ضرب المؤلف عليها سهوًا مع الكلام الذي كتبه أولاً ثم أخّره إلى موضع آخر. (¬2) سيأتي الجواب عن الوجهين الأخيرين (ص 104 - 105).

وشرحه بعضهم: بأن المركب ذو أجزاء، وجزؤه ليس بمعدوم، وإلا عدم الكل، ولا واجبًا وإلا تعدد الواجب، فتعين أنه ممكن ... إلى آخر ما في حواشي [ص 50] "شرح المواقف" (¬1). وهناك حجج أخرى يدق فيها الكلام، ويصعب المرام، ويكثر الخصام. قال الآخرون: أما الحجة الأولى فقد نقلتم إطباق المتكلمين وبعض قدماء الفلاسفة أن المكان تعيُّنه (¬2) موهوم (¬3)، وحقيقته أنه الفضاء أو الخلاء، وهو أمر عَدَمي، وأدلتهم بغاية القوة، ودعوى مخالفيهم الضرورة مردود، بل لو ادعى الضرورة في أن هذا الفضاء بعد فرض نزع ما يملؤه من هواء وغيره هو في نفسه عدم محض لكان أقرب إلى فِطَر الناس. وما احتجوا به على وجوده من أنه يشار إليه، قد أُجِيب عنه بأنه إشارة تبعية، كما في حواشي "شرح المواقف" (¬4) وغيرها. ثم قد اتفقوا على أنه ليس خارج العالم أمر وجودي، مع أنه يمكن الإشارة، إما من هنا، فنقول: النقطة التي خارج العالم من هذه الجهة، والأخرى التي من هذه الجهة، وإما على فرض أن شخصًا على طرف العالم، فيشير هنا وهناك. وبقية الأدلة قد أجيب عنها، كما في حواشي "شرح المواقف" وغيره. ¬

_ (¬1) (8/ 21). (¬2) غير محررة, وتحتمل: "تعيينه". (¬3) انظر "حواشي شرح المواقف": (5/ 121، 138 - 139). (¬4) (5/ 115).

وقد قدمت فصلاً في ذلك (¬1). ومن أنصف علم أن الحجج المُثْبِتة أنه تبارك وتعالى في جهة أقوى بدرجات مما احتجَّ به على أن الفضاء شيء وجوديّ، هذا إن لم يسلم أن تلك قطعية. وإذا ثبت أو جاز أن يكون حقيقة الفضاء أمر عدمي (¬2) سقطت حجتكم الأولى، وكذلك الثانية، فإنه إذا كان الفضاء أمرًا عدميًّا لم يتصور الحاجة إليه في الوجود إلا بمعنى الحاجة إلى أن لا يرتفع بالكلية، وارتفاعه بالكلية محال، وارتفاعه في الجملة واجبٌ، وذاك وجود الرب عزَّ وجلَّ، وجائزٌ وذاك وجود غيره تعالى، والجائز محتاج في وجوده إلى الواجب. فغاية ما تلزمونا به احتياج الرب سبحانه في وجوده إلى عدمٍ ما، يستحيل وجوده بدون إيجاد الرب سبحانه له، ولا حرج في هذا، بل ولا في بعض ما هو أشد منه، كأن يقال: إن الرب محتاج في ربوبيته إلى عدم وجود ربّ آخر يُنازعه. فإن قلتم: فيلزم أن يكون عدم وجود الجائزات متقدمًا على وجود الرب. قلنا: بل يكفي المعية، والربّ أزلي، وذاك العدم أزلي (¬3). ¬

_ (¬1) لم نجد هذا الفصل المشار إليه فيما وقفنا عليه من هذه الرسالة. (¬2) كذا في الأصل بالرفع في اللفظين، وحقهما النصب. (¬3) من قوله: "كأن يقال ... " إلى هنا تتمة اللحق الطويل الذي بدأ في (الورقة 50 ب)، لكنه جاء في (الورقة 51 ب).

وقد رأيت من يقول: هب أنّ الفضاء أمر وجودي، فقد قال بعض أكابر القائلين بوجوده: إنه لا يتصور ارتفاعه، فهو عنده واجب الوجود، فلماذا لا يلتزم مثبتو الجهة لله عزَّ وجلَّ هذا القول على فرض أن الفضاء أمر وجودي؟ فقلت له: في هذا إثباتُ قديمٍ مع الله عزَّ وجلَّ. فقال: وما الذي يبطله عقلاً؟ فذكرت له ما حضرني. فقال: وما الذي يبطله نقلاً؟ قلت: يقال لك: إنه قدح في ربوبية الله عزَّ وجلَّ وشرك به. فقال: لا أفهم كونه قدحًا في ربوبيته، إنما القدح القول بأن العالم غنيٌّ عن تدبير الله عزَّ وجلَّ، فأما القول بأن هذا الفضاء قديم، وكل ما فيه من الممكنات فهو خلق الله عزَّ وجلَّ وتدبيره، فلا أراه قدحًا في الربوبية. وأما الشرك فالذي [ص 51] أفهم أنه: إثبات رب مع الله عزَّ وجلَّ، أو معبود معه، أو يقول بنحو قول النصارى: إن الرب ثلاثة أقانيم، انفصل منها أقنوم، فكان منه عيسى، ثم انفصل الآخر، فنزل على عيسى. ومن يقول بقدم الفضاء لا يقول شيئًا من ذلك، فإنه يعرف أنه لا حياة للفضاء، ولا قدرة، ولا إرادة، ولا علم، ولا غير ذلك من الصفات التي يدور عليها أمر الربوبية والألوهية، ولا يقول: إنه أقنوم في الرب عزَّ وجلَّ. فذكرتُ له ما حضرني، ثم قلت: ويقال لك: هذا خرق للإجماع، فإن المسلمين أجمعوا على أن ما سوى الله حادث. فقال: هذا قول إجمالى، فلعلّ مِن المُجْمِعين من كان يرى أن الفضاء

أمر عدمي، كما هو المنقول عن إطباق المتكلمين، ولعل منهم من لم يخطر بباله؛ لأننا إذا كنا في حجرة ثم سألنا بعض العقلاء الذين معنا: أي شيء موجود في هذه الحجرة؟ لذهب يعدد لنا الأجسام التي فيها، فإن دقَّق عدَّ فيها الهواء، فأما أن يعد الفضاء فلا، إلا أن يكون قد سمع قول من يقول: إن الفضاء أمر وجودي، فقلَّده. فذكرتُ له ما حضرني، ثم قلت: ويقال لك: هو مخالف للنصوص، كقول الله عزَّ وجلَّ: {خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [الأنعام: 101] ونحوها. فقال: أقول: إن هذا عام يخصه العقل، فإن العقل العادي إما أن لا يعد الفضاء شيئًا موجودًا، كما تقدم في المثال آنفًا، وإما أن يعلم أنه لا يتصور عدمه، وهذا التأويل أقرب بألف درجة من تأويلات من يقول: إن الله عزَّ وجلَّ ليس في جهة، مع أني أدعي إجماع السلف على القول بالجهة، وأذكر من نصوص الكتاب والسنة في إثباتها أضعاف أضعاف ما يمكن أن تذكره في أنه خالق كل شيء، وأن كل ما سواه حادث. وهذا الإجماع والنصوص نص في محل النزاع - وهو ثبوت الجهة - فأما ذاك الإجماع وتلك النصوص فإنما يمكن تناولها للفضاء على وجه العموم. فقلت له: أتعتقد هذا؟ قال: لا, ولكني أراه أقرب إلى العقل والدين من القول بأن الله موجود لا في جهة، وأنه ليس داخل العالم ولا خارجه، وأنه خلق العالم لا في ذاته ولا خارجًا عنه.

قال: وكذلك يقال في جواب حجتهم الثانية. فيسألون على فرض صحة قولهم: إن الفضاء موجود محدَث: هل كان يمكن أن يحدثه الله عزَّ وجلَّ ويُحْدِث فيه جسمًا في وقت واحد بدون تقدم أحدهما على الآخر؟ فإن لم يكابروا قالوا: نعم. وبذلك يعلم أنه لا يلزم التأخر، بل تجوز المعية. فإذا جاز أن يكون المكان قديمًا لم يمتنع أن يكون المتمكِّن قديمًا، ثم يقال [ص 52] بالقدم فيما قام الدليلُ على قدمه، وبالحدوث فيما قام الدليل على حدوثه. فكان مما قلت له: وكيف يكون الرب محتاجًا في وجوده إلى غيره؟! فقال: هذه كلمة مشنعة بالإيهام، فإن الذي يتبادر من الحاجة في الوجود حاجة الحادث إلى محدثه، أو المعلول إلى علته، أو إلى جزئها، وليس ما هنا كذلك. قلت: فيقال لك: هو قريب من ذلك، وهو أنه احتياج الموجود إلى شرط وجوده. فقال: إذا لوحظ القدم في الجانبين وأن الرب حيٌّ قديرٌ مريدٌ عليمٌ حكيمٌ إلى غير ذلك من صفات العظمة والكبرياء، وأنَّ الفضاء خالٍ من ذلك كله هان الأمر. فإن بقيَتْ هناك شَناعة فيجاب عنها بنحو ما يجيبون عن قولهم: إن المحال لا يدخل تحت القدرة، كما يقول القائلون بحدوث المكان: إنه

شرط لوجود الأجسام، فلا يقدر الباري عزَّ وجلَّ أن يعدمه مع بقاء الأجسام. وبالجملة فالقول بما يستلزم هذا القدر من الاحتياج خير بألف درجة بل بما لا يُحْصَى من القول بما يستلزم عدم وجود الرب. فذكرت له ما حضرني، وكان من آخر ما قلت له: إن كنت مصممًا على أنه لا يمكن الوجود إلا في جهة، فخيرٌ لك أن تعتمد على أن الفضاء أمر عدمي، وتقف عنده. قالوا: وأما حجتكم الثالثة فإننا لا نطلق على الرب عزَّ وجلَّ أنه جسم، فإن عنيتم بالجسم ماله جهة، وهو قائم بذاته، فإننا نلتزم ذلك، ولا نقول: إنه جسم، ونقول: إن ذات الله تبارك وتعالى عظيمة. ولا نحدد قولكم: "مركب من أجزاء". نقول: المركب ما ركبه غيره، والرب عزَّ وجلَّ قديم تعالى الله عن ذلك، والأجزاء مأخوذة من الجزء، وهو القسم، وذات الرب عزَّ وجلَّ لا تتجزأ، وكذلك الأبعاض والأقسام والأعضاء، كل هذا يتضمن التفصيل والتفريق، إما بالفعل، وإما بالإمكان، والباري عزَّ وجلَّ يتعالى عن ذلك. فإن قلتم: إننا نطلق المركب وذا الأجزاء على ما هو أعم مما ذكرتم، فالمقصود أن ذات ربكم بحيث يمكن لمن رآه أن يشير إلى شيء منها دون شيء، وما كان كذلك فهو في اصطلاحنا مركب ذو أجزاء. قلنا: يمكن أن [ص 53] نلتزم ما ذكرتم في ذاته تعالى، ولا نقول: مركب، ولا ذو أجزاء، تعالى الله عن ذلك. فإن قلتم: فإن قولنا: المركب محتاج إلى جزئه، يجري فيما ذكر،

فالذات محتاجة إلى الشيء المفروض الإشارة إليه منها، وذاك الشيء ليس هو إياها فهو غيرها، فالذات محتاجة إلى غيرها. قلنا: قولكم: "إلى غيرها .. " وهم، فإن المفهوم من قولكم: "غيرها" أنه ليس شيئًا منها، فإنك لو قلت: في يدي شيء غير هذا القلم، ثم فسرت ذلك بشيء من القلم لأنكر عليك. وفي "شرح المقاصد" (2/ 76) في تفسير المتغايرين: "وتفسيرهما (¬1) بالشيئين أو الموجودَين أو الاثنين فاسد ... قال صاحب "التبصرة": وكذلك تفسيرهما بالشيئين من حيث إن أحدهما ليس هو الآخر يصدق على الكل مع الجزء، كالعشرة مع الواحد، وزيد مع رأسه، مع أنه لم يقل أحد: يكون الجزء غير الكل إلا جعفر بن حارث من المعتزلة، وعُدّ ذلك من جهالاته؛ لأن العشرة اسم للمجموع، يتناول كلّ فرد مع أغياره، فلو كان الواحد غير العشرة لصار غير نفسه؛ لأنه من العشرة ولن تكون العشرة بدونه". وإذا كان هذا في الواحد من العشرة، فكيف برأس زيد مثلًا؟! فكيف بشيء من ذات الباري تبارك وتعالى، والانقسام فيها مستحيل؟! فإن قلتم: دعوا قولنا: "غيرها"، ونقول: إن الذات من حيث هي ذات تامة محتاجة في تمامها إلى الشيء المفروض الإشارة إليه منها. قلنا: حاجة الذات إلى شيء منها هو في معنى حاجتها إلى نفسها, وليس في هذا ما ينافي وجوب الوجود. ¬

_ (¬1) من قوله: "وبالجملة فالقول ... " إلى هنا ضعيف في التصوير فلم تمكن قراءته إلا بصعوبة بالغة.

بقي قول ذاك المتحذلق - ما معناه -: ذاك الشيء إما واجب الوجود، فيلزم تعدد الواجب، وإما ممكن، فأشياء الذات ممكنة، فهي ممكنة. وجوابه: أن ذات الرب عزَّ وجلَّ يستحيل عليها الانقسام، فالذات واجبة، وما هو من الواجب فهو واجب. وهذا التعدد الموهوم ليس هو التعدد المنافي للتوحيد، فإن الذات واحدة، وذلك أن قولنا في الشيء المفروض الإشارة إليه: إنه واجب، إنما معناه أنه من ذات واجبة، فثبت له حكم الوجوب. وقد يمكن تقريب هذا بأن يقال: زيد مولود، ورأسه منه، فالرأس مولود، وهكذا قلبُه وكبده، فهل يلزم من هذا أن يكون زيد عدة مولودين؟ هذا، ونستغفر الله ونتوب إليه مما اضطررنا إليه في هذا الفصل مما لا يخلو عن جرأة على الله تعالى وتهجُّم على ما لا ينبغي، وقد كان يكفينا وإياكم أن نعرف أنه تبارك وتعالى موجود حيٌّ قديرٌ مريدٌ عليمٌ حكيمٌ بما تقدم من الأدلة، ثم نعرف النبوة، ثم نتبع كتاب الله وسنة رسوله، فإنه [ص 54] لا أحد أعرف بالله من نفسه، ثم من رسله. قال الأولون: ما نراكم أنصفتم في اختيار قول من قال: إن المكان أمرٌ عدمي، ولا تدبر (¬1) المجوِّز أن المكان موجود واجب الوجود (¬2) والربّ محتاج في وجوده إليه ما يَرِد عليه من اللوازم الشنيعة، ولا أنصفتم في قولكم: إن وجوب الشيء المفروض الإشارة إليه لا يستلزم تعدد الواجب. ¬

_ (¬1) كذا في الأصل. والظاهر أنها معطوفة على قوله: "ما نراكم أنصفتم". (¬2) الأصل: "الجود"، سبق قلم.

ولكننا ندع هذا، ونتمم الجواب عن بقية الأوجه التي ذكرتم. أما الوجه الرابع (¬1) فقد اختلف أصحابنا على أقوال: الأول: أن العامي يكفيه التقليد بأن الله عزَّ وجلَّ ليس في مكان. الثاني: أنه يكفيه أن يبقى خالي الذهن في هذه المسألة. الثالث: بل ولا يضره التردد فيها، مع نفي اللوازم الموجبة للكفر. الرابع: بل ولا يضره اعتقاد المكان، مع نفي اللوازم أيضًا. الخامس: بل ولا يضره أن يعتقد الجسمية على أنه جسم لا كالأجسام، بل قال بعض المحققين (¬2): ينبغي إقرار العوامَّ على ذلك؛ لئلا يتشككوا في وجود الرب عزَّ وجلَّ، بل قيل: يحرم التعرض لهم، بل قيل: إن التعرض لهم كفر. وأما الوجه الخامس فإن أصحابنا يفرقون بين الخاصة والعامة، فيقولون: أما الخاصة فقد دعاهم الرسل إلى التدبر والنظر، وبينوا أن الله هو الحق وما سواه باطل، وأنه الأول والآخر، وأنه خالق كل شيء، وأنه ليس كمثله شيء، وأنه لم يكن له كفؤًا أحد، وأنه القدوس، وهو المنزَّه عن كل نقص، إلى غير ذلك، وهذه إذا (¬3) تدبرها الخاصة وأعطوها حقها لم يخْفَ عليهم الحق. وأما العامة فاختلفوا فيهم على الأقوال المتقدمة. ¬

_ (¬1) تقدم الجواب على الثلاثة الأوجه الأولى (ص 94 - 96). (¬2) لعله الغزالي، قارن بكتابه "الاقتصاد في الاعتقاد" (ص 8)، و"إلجام العوام عن علم الكلام": (4/ 82 - 83 ضمن رسائل الغزالي). (¬3) الأصل: "وهذا إذ".

فالقائل إنه يكفيهم التقليد يقول: إن الشارع أمرهم بتقليد الخاصة، واكتفى منهم بذلك، وقس عليه. وقولكم: "بل الأمر بعكس ذلك" تشيرون به إلى ما جاء في الكتاب والسنة مما يوهم الجهة. والجواب: أنها محمولة على المجاز، وقد بيَّن أصحابنا ذلك في كتبهم، فأما الخاصة فإن ذلك لا يشتبه عليهم؛ لما لديهم من القرائن العقلية والنقلية، كما تقدم. وأما العامة فعلى ما تقدم، فلنبنِ (¬1) على القول الرابع أو الخامس، فيسقط اعتراضكم ألبتة. قال السعد التفتازاني في "شرح المقاصد" (¬2): ["فإن قيل: إذا كان الدين الحق نفي الحيَّز والجهة، فما بال الكتب السماوية والأحاديث النبوية مُشعرة في مواضع لا تُحصى بثبوت ذلك، من غير أن يقع في موضع منها تصريحٌ بنفي ذلك؟ ... أجيب: بأنه لما كان التنزيه عن الجهة مما تقصر عنه عقول العامة حتى تكاد تجزم بنفي ما ليس في الجهة، كان الأنسب في خطاباتهم، والأقرب إلى اصطلاحهم، والأليق بدعوتهم إلى الحق ما يكون ظاهرًا في التشبيه وكونِ الصانع في أشرف الجهات، مع تنبيهات دقيقة على التنزيه المطلق عما هو من سمات الحدوث ... "]. قال الآخرون: أما القول بكفاية التقليد فقد فتشنا فوجدنا عامة المسلمين ¬

_ (¬1) غير محررة في الأصل. (¬2) ترك المؤلف لقول السعد خمسة أسطر، فلعله ما أكملناه من "شرح المقاصد": (4/ 50 - 51).

يعتقدون أن الله فوق عرشه بذاته، إلا عددًا قليلاً جدًّا منهم، فإنهم يُظْهِرون القول بقولكم، فإذا فُتَّشوا وُجِدوا مع العامة, أو متشكِّكين، كما تقدم. [ص 55] فعامة المسلمين إلا أقل قليل يكونون عند من يقول القول الأول كفارًا أو فساقًا، ويلزمهم عنده الخوض في المعقولات حتى يصدَّقوا بأن الله عزَّ وجلَّ ليس في مكان، وتكليفهم الخوض في المعقولات باطلٌ إجماعًا. وأما القول الثاني فهو أشد بطلانًا، فإنَّ في فِطَر الناس اعتقادَ أن ربهم في جهة العلو، وقد أكد الشرع ذلك في نفوسهم بشرع رفع الأيدي وغيره. فأما من كان يفهم العربية في الجملة فشأنه أوضح، فليس في الخارج من هو خالي الذهن في هذه المسألة، بل الجمهور على اعتقاد جهة العلو، وقليل جدًّا أكثرهم مُتحيِّرون، وأقلهم مقلدون لكم تقليدًا غير جازم، ولم يبق إلا أفراد يجزمون بقولكم بألسنتهم، والله أعلم بقلوبهم. وأما القول الثالث فقد تقدم أن المترددين قليل جدًّا، وهم مع ترددهم في الجهة مترددون في اللوازم التي تعدونها كفرًا، ويمكننا أن نقول: إن ترددهم في الجهة قد يستلزم ترددهم في اعتقاد وجود الرب عزَّ وجلَّ. وأما القول الرابع فقد حاول صاحبه السلامة، لكن اشتراطه نفي اللوازم إن كان يعد منها ما تعبرون عنه بقولكم: "جسم لا كالأجسام" فلم يصنع شيئًا. وأما القول الخامس فقد قارب صاحبه السلامة، وسيظهر حاله في الكلام على الوجه الخامس. [ص 56] قالوا: أما جوابكم عن الوجه الخامس فإننا نستعرض ما ذكرتموه من الأدلة الشرعية هذه.

فقولكم: إن الرسل دعوا الناس إلى التدبر والنظر، فنسألكم: هل على الرسول أن يربي أصحابه على تفصيل ذلك، ثم على أصحابه أن يربوا تابعيهم على ذلك، ثم على تابعيهم في حق من بعدهم؟ فإن قلتم: لا، أبطلتم. وإن قلتم: نعم، قلنا: فهذه السنة [ص 56] وأخبار السلف بين أظهركم، فانظروا هل تجدون في شيء منها نظرًا مثل نظركم، أوتعمقًا مثل تعمقكم، أو تجدون فيها التصريح بما تزعمون. وأما بيانهم أن الله هو الحق وما سواه باطل، وأنه الأول والآخر، وأنه خالق كل شيء، فهذا كله حق، ولكننا نسألكم: هل فسروه كما تفسرون؟ وهل نبهوا الناس على ما تزعمون من الدقائق التي تزعمون أنه لا تتم تلك الحقائق بدونها، بل لا تتحقق إلا بها؟ وأما بيانهم أن الربّ عزَّ وجلَّ ليس كمثله شيء فحق، ولكننا نسألكم: هل وكَلَ الرسولُ إلى العرب أن تفهم تلك الجملة كما تفهم كلامها؟ فإن قلتم: نعم. [ص 57] (¬1) قلنا: فماذا تفهم العرب بمقتضى لغتها من قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]؟ (¬2). قالوا: اذكروا ما عندكم في ذلك. ¬

_ (¬1) ضرب المؤلف على بقية (ص 56 - 57 أ) عدا السطر الأول من (ص 57 أ). (¬2) انظر كلام المصنف على هذه الآية ومعناها في "التنكيل - القائد": (2/ 424 فما بعدها).

الأول: المماثلة بين الشيئين تأتي على ثلاثة أضرب

قلنا: قال ابن بري: "الفرق بين المُمَاثلة والمُساواة: أن المساواة تكون بين المختلِفَين في الجنس والمتفِقَين؛ لأن التساوي هو التكافؤ في المقدار لا يزيد ولا ينقص، وأما المماثلة فلا تكون إلا في المتفِقَين، تقول: نحْوُه كنَحْوِه، وفقهُه كفقْهِه، ولونُه كلونه، وطعمُه كطعمه، فإذا قيل: هو مثله على الإطلاق، فمعناه أنه يسدّ مسدَّه، وإذا قيل: هو مثله في كذا، فهو مساوٍ له في جهةٍ دون جهة". "شرح القاموس" (¬1). وقال الراغب (¬2): "هو أعمّ الألفاظ الموضوعة للمشابهة، وذلك أن النِّدّ يقال فيما يشارك في الجوهر فقط، والشِّبْه [يقال] فيما يشارك في الكيفية فقط، والمُسَاوي يقال فيما يشارك في الكمية فقط، والشَّكل يقال فيما يشارك في القَدْر والمساحة فقط، والمِثْل عامّ في جميع ذلك". ويأتي باقي كلامه. [ص 58] وهنا مباحث: الأول: المماثلة بين الشيئين تأتي على ثلاثة أضرب: الأول: المماثلة في أمر خاص واحد أو أكثر مدلولٍ على خصوصه باللفظ أو بقرينة حالية. الضرب الثاني: المماثلة في أمر خاص واحد أو أكثر يخصِّصها العرف، كقولك: زيد مثل الأسد، فيدل العرف أن المقصود في الجرأة، وتقول: عندي مطرف مثل مطرفك، فيعلم بالعرف أن المقصود المماثلة في الصفات المحسوسة الحاضرة، وأنه لا ينافي ذلك أن يكون أحدهما ملكك والآخر ¬

_ (¬1) (15/ 680). وانظر "اللسان": (11/ 610). (¬2) في "المفردات" (ص 759).

المبحث الثاني: المماثلة في الوصف أو الأوصاف على أربعة أوجه

ملك غيرك، وأن أحدهما نُسِج قبل الآخر، أو اشتُرِيَ بثمن أكثر من الآخر، أو لُبِس أكثر مما لُبِس الآخر، أو أن هذا نَسَجه مسلم، وذاك نسجه كافر، إلى غير ذلك من الصفات. الضرب الثالث: المماثلة من كل وجه، وهذا إن أُخِذَ على إطلاقه مستحيل؛ لأن من جملة الوجوه أن يكون هذا في ذاك المكان الخاص، ولا يمكن أن يكون الآخر مثله في ذلك؛ لأن معنى المماثلة في ذلك أن يكون الثاني في ذلك المكان الخاص الذي للأول. ومنها: أن لهذا هذه العينية الخاصة، ولا يمكن أن يكون الآخر مثله في ذلك؛ لأن معنى المماثلة في هذا أن يكون للثاني نفس العينية التي للأول. وإن قيل: من كل وجه تمكن فيه المماثلة، اندفعت الاستحالة العقلية، ولكن قد يقال: بقيت الاستحالة العادية من جهة أن الأوصاف في الوجود كثيرة، والاختلاف فيها كثير، والموجود إنما هو التماثل في بعضها دون بعض، فأما التماثل بين شيئين فيها جميعًا فلا يكون عادة، والأقرب أنه ممكن، ولكنه قليل. المبحث الثاني: المماثلة في الوصف أو الأوصاف على أربعة أوجه: الأول: التماثل في صحة اتصاف كلا الشيئين بذلك الوصف أو الأوصاف، كأن يقال: البرغوث مثل الفيل في الجسمية، على معنى أنه كما أن الفيل متصف بأنه ذو جسم، فكذلك البرغوث متصف بأنه ذو جسم. وكذلك أن يقال: بكر مثل زيد في العالِمِية، تريد أن بكرًا ثابت له هذا الوصف - أي: أنه عالم - كما هو ثابت لزيد.

ولا يخفى أن المماثلة على هذا الوجه لا تستلزم المماثلة في قدر الوصف وصفاته، ولا في الصفات الأخرى للممثّل به, فلا يلزم أن يكون علم بكر مثل علم زيد في القدر وغيره من الصفات، ولا أن بكرًا مثل زيد في وصف آخر. الوجه الثاني: المماثلة في الوصف بالنظر إلى مقداره مماثلة عرفية على سبيل المبالغة، كأن يقال: فلان مثل النخلة, أي: في مقدار الطول، أو: مثل الفيل، أي: في مقدار الجسم، وهذه لا يلزم منها المقاربة في المقدار، فضلاً عن المساواة الحقيقية فيه، فضلاً عما عدا ذلك من صفات الطول والجسم، أو من صفات النخلة والفيل، وإنما حاصلها أن فلانًا طويل جدًّا، أو ضخم جدًّا. الوجه الثالث: مثل الذي قبله، إلا أنه على غير المبالغة، بل على غض النظر عن التفاوت اليسير عرفًا، كأن يقال: بكر مثل زيد في العلم، وأَعْرفُ رجلاً مثل زيد، أي: في الشكل والصورة، وهذه مماثلة عرفية، هي في التحقيق مقاربة فقط. [ص 59] الوجه الرابع: تماثل الشيئين في الوصف أو في مقداره مماثلة حقيقية، كقوله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "الذهبُ بالذهبِ مِثْلًا بمثل" (¬1) أي: في الزَّنَة. فإن قيل: إن المماثلة الحقيقية قد يتعذَّر العلم بها، إذ قد يحتمل أن يكون في أحدهما زيادة مثقال ذرة - مثلًا - لا يظهر لها أثر في الميزان. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري رقم (2176)، ومسلم رقم (1584) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

المبحث الثالث: فيما بين هذه الأوجه من التلازم والتنافي

والجواب: أن هذا معفوٌّ عنه؛ إذ لا يمكن الاحتراز عنه، فالمراد المماثلة الحقيقية فيما يظهر للناس في وزنهم. المبحث الثالث: فيما بين هذه الأوجه من التلازم والتنافي: إطلاق المماثلة بالوجه الأول لا يستلزم صحة إطلاقها على بقية الأوجه. فقولنا: "البرغوث مثل الفيل في الجسمية" لا يستلزم أن يصح أنه مثله في مقدار الجسم، لا مبالغة، ولا مسامحة، ولا حقيقة. وإطلاقها بوجهٍ من الثلاثة الأخرى يستلزم صحة إطلاقها بالوجه الأول. وإطلاقها بالوجه الثاني ينافي إطلاقها بأحد الوجهين اللذين بعده؛ لأن مبناه على المبالغة، ولا بد فيها من تحقّق تفاوتٍ له قَدْر. وإطلاقها بالوجه الثالث ينافي إطلاقها بالوجه الذي بعده إذا تحقق التفاوت، وكذا بالوجه الذي قبله؛ لأن مبناه على المبالغة. وإطلاقها بالوجه الرابع لا ينافي إطلاقها بالثالث؛ إذ لا يشترط فيه تحقق التفاوت، ولا ينافي إطلاقه بالثاني؛ لأن مبناه على المبالغة. المبحث الرابع: في نفي المماثلة نفي المماثلة في وصفٍ لا يستلزم نفيها في غيره، ونفيها في وصفٍ بالنظر إلى مقداره لا يستلزم نفيها في مطلق الاتصاف به، ونفي المماثلة الحقيقية لا يستلزم نفي المماثلة العُرْفية، وقِس على ذلك. ونفيها في وصفين قد يُعنى به نفيها في كل منهما، وقد يُعنى به نفيها في

الجمع بينهما، وقد يُعنى به فيهما مجتمِعَين. فإذا قيل: ليس بكر مثل زيد في العلم والعمل، فقد يُعنى به ليس مثله في العلم ولا في العمل، وقد يُعْنَى به أنه ليس مثله في الجمع بينهما، فإن زيدًا عالم عامل، وليس لبكرٍ إلا أحدهما، وقد يُعنى به أنه ليس مثله فيهما مُجْتمِعَين، بل إما أن لا يكون مثله في هذا، أو لا يكون مثله في هذا كما تقول: لا مثل لزيد في العلم والعمل، تريد أنه يوجد من يماثله في (¬1) العلم، ولكن لا يماثله في العمل، ويوجد من يماثله في العمل، لكن لا يماثله في العلم. وإذا قيل: ليس له مثل في وصفٍ ما، كان المعنى أن كل وصف يتصف به فلا يماثله فيه غيره. [ص 60] وفي بعض ما قاله نظر، وتعبيره بالمشاركة قد يوهم أنه يكفي في المماثلة مطلق المشاركة، وليس كذلك، كما يُعْلَم بتدبر كلامه، مع ما تقدم عن ابن بَرّي وهو أعرف باللغة. وفي "الأساس" (¬2) للزمخشري: "مُثِلَ الشيءُ بالشيء: سُوِّي به وقُدَّر تقديرَه". ومثله في كلامهم كثير. وفي "روح المعاني" (7/ 510) (¬3): "نُسِبَ إلى الأشعري أنه يشترط في التماثل التساوي من كل وجه. واعْتُرِض بأنه لا تعدّد حينئذٍ فلا تماثل، وبأن أهل اللغة مطبقون على صحة قولنا: زيد مثل عَمرو في الفقه إذا كان ¬

_ (¬1) تكررت في الأصل. (¬2) (ص 420). (¬3) جعل المؤلف الرقم في آخر النقل فقدمناه. وهو في الطبعة المنيرية: (25/ 19).

يساويه فيه ويسدُّ مسدَّه، وإن اختلف في كثير من الأوصاف، وفي الحديث: "الحنطة بالحنطة مِثْلًا بمثل"، وأُريدَ به الاستواء في الكيل دون الوزن وعدد الحبات وأوصافها. ويمكن الجواب بأن مراده التساوي في الوجه الذي به التماثل". والذي يتحرر أن المماثلة بين الشيئين على ضربين: تامة وخاصة. فالتامة هي تساويهما في كل ما يمكن التساوي فيه مع التغاير، والخاصة هي التساوي في أمر خاص، كالفقه والكيل في المثالين السابقين. والخاصة تأتي في الكلام على وجهين: الأول: وهو الشائع الذائع كالمثالين السابقين. والثاني: كأن يقال: هذا الطفل مثل ذلك الإمام في أنه يعلم، يعني: أن كلاًّ منهما يوصف بأنه يعلم مع صرف النظر عن مقدار العلم، ويقال: الذرة مثل الفيل في الجسمية، أي: أن كلاًّ منهما له جسم، والبعوضة مثل جبريل في أن لكلًّ منهما أجنحة. إذا تقرر هذا فلا نزاع بين العقلاء أنه ليس لله تبارك وتعالى مِثْل مماثلة تامة، ولا خاصة بالوجه الأول، وأما بالوجه الثاني فإن الله تبارك وتعالى موصوف بأنه موجود، قائم بذاته، حي قدير مريد، عالم (¬1) حكيم، سميع بصير، إلى غير ذلك، ويوصَف الإنسان وغيره بهذه الأوصاف أو بعضها. ويمكن أن يؤتَى بعبارة تفيد تمثيلًا خاصًّا بالوجه الثاني، ولكن لم يأت في الشرع إذنٌ بذلك، ولا استعمله العلماء فيما أعلم. ¬

_ (¬1) كذا, ولعله يريد "عليم" كما سبق مرارًا.

ومن الموانع عن ذلك أن العبارة قد توهم المماثلة التامة أو الخاصة بالوجه الأول، ويكون فيها سوء أدب، ألا ترى أن المصحف يُرَى، وأن القاذورات تُرى، ويمتنع أن تصاغ عبارة للتمثيل في ذلك، كأن يقال - وأستغفر الله -: كذا مثل المصحف في أن كلًّا منهما يُرى. لكن المنع من التعبير لا يقتضي صحة نفي تلك المماثلة الخاصة بالوجه الثاني؛ لأنها في نفسها ثابتة، وإنما مُنِع التعبير لما تقدم، فتدبر. وقد يقال: إن استعمال كلمة "مثل" في هذا الوجه الثاني توسّع، وإنما حق الكلمة أن تستعمل (¬1) فيما قبله، وقد يستشهد لهذا بأنك إذا قلت: ههنا أشياء كثيرة مثل الفيل من بعض الوجوه، ثم تركت سامعيك يتفكرون، ثم قلت لهم: منها الماء؛ لأن الفيل موجود قائم بذاته مرئي ينتفع به الناس، والماء مثله في كل أمر من هذه الأمور، إذًا لوجدتهم ينكرون أن يكون هذا هو المعنى الظاهر من سؤالك. [ص 61] إذا تقرر هذا فقول الله تبارك وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] يمكن أن يقال في تفسيرها أقوال: الأول: أن المراد المُماثلة التامة، وهي أنه ليس شيء يساويه في جميع الأمور التي قد تُتَوهَّم المساواة فيها مع التغاير. وعلى هذا القول لا يكون في الآية إبطالٌ لوجود مماثلٍ مماثلةً خاصة، أي: من بعض الوجوه؛ لأن نفي المماثلة تامةً يصْدُق بانتفاء المماثلة في بعض الأمور؛ لأنها إذا انتفت المماثلة في بعض الأمور فقد انتفت المماثلة ¬

_ (¬1) الأصل: "يستعمل" بالياء.

التامة، وصح نفيها. قال الله تبارك وتعالى: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ} [الفجر: 7 - 8]. القول الثاني: أن المراد المماثلة في أمور مخصوصة. وأولى ما يقال في تعيين هذه الأمور: إنها هي المذكورة قبل. قال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 9 - 11]. والذي يتلخص من ذلك - بدون تعسُّف - سبعة أوصاف: الأول: الولاية, أي: العناية بمن يتولاه، ويمكن أن يعبَّر عنها بالقدرة المطلقة على النفع والضُّر. الثاني: إحياء الموتى، أي: بمحض قدرته. الثالث: القدرة على كل شيء. الرابع: الحكم، أي: الاستحقاق المطلق للحكم بين الخلق. الخامس: فَطْر السموات والأرض. السادس: جَعْله من أنفس الناس والأنعام أزواجًا. السابع: ذَرْؤهم فيه، أي: تدبير النطفة حتى تكون حيًّا سويًّا. بدأ سبحانه فبين اختصاصه بكل وصف من هذه الأوصاف، ثم أكدَّ ذلك

بقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} أي: في شيء من ذلك. واختصاصه سبحانه بهذه وبأوصاف أخرى ذُكِرت قبلها وبعدها يستلزم اختصاصه بأوصافٍ أُخَر، وأنه لا مثل له فيها أيضًا. ومنها: استحقاق أن يعبد، وهو الألوهية، وهو المقصود من تلك الآيات، كما يُعْلَم من سياقها. وما لم تستلزم الاختصاصَ به من الأمور، وأنه لا مِثْل له فيه = لا يلزم عدم الاختصاص به، ولا وجود المِثل فيه، فيحتاج النظر فيه إلى دليل آخر. ودعوى اللزوم في شيء يحتاج إلى بيان أن العرب الذين هم أول من خُوطب وبلسانهم نزل الكتاب كانوا يعرفون وجه اللزوم، وسنوضح هذا في موضع آخر، إن شاء الله تعالى. وقد يقال: المعنى: ليس كمثله شيء في أمرٍ ما تُستَحَقّ به العبادة، فيعمّ ما تقدم وغيره، أو يقال: ليس كمثله شيء في صفةٍ من صفات الكمال، فيشمل ما تقدم وغيره. ومعروف في الكلام أنه إذا أتي بعبارة فيها نفي المماثلة مطلقًا، وكان المقام مقام المدح فُهِم [ص 62] أن المراد المماثلة في الصفات التي يُمْدَح بها. وعلى هذا فقد عُرِف أن صفاته تبارك وتعالى كلها صفات كمال، فيرجع المعنى إلى أنه لا شيء يماثله في صفة من صفاته، وتكون المماثلة هي الخاصة على الوجه الأول (¬1). ... ¬

_ (¬1) إلى هنا انتهى الموجود من هذا الكتاب.

(¬1) [فلا يخلو أن تكون دائرة تمكينه في أمور خاصة ليس منها التصرف في أحوال البشر بالنفع والضر، أو يكون بحيث تشمل ذلك. الأول لا شأن للبشر به، وأما الثاني فقد علمنا أن الله تبارك وتعالى لما مكَّن البشر من أن ينفع بعضهم بعضًا أو يضر جعل كلاًّ منهم بحيث يرى غيره ويعرفه، وجعل لكل منهم سمعًا وبصرًا وعقلاً وقدرةً، وغير ذلك، فسهَّل لكل منهم السبيل إلى اجتلاب النفع من صاحبه ودفع ضره، وذلك المفروض أن الله تعالى مكنه في (¬2) التصرف فيهم لو كان حقًّا لجعل الله تعالى للناس سبيلًا إلى العلم به واستجلاب النفع منه ودفع ضره. فإن قيل: فقد يصل إلى الإنسان نفع من صاحبه بدون سعي منه، ويصله ضرر منه لم يكن يمكنه اتقاؤه. قلت: ما كان كذلك فهو مما قضاه الرب عزَّ وجلَّ حتمًا، فإن كان تصرف ذلك المفروض وجوده قاصرًا على مثل هذا فلا شأن للبشر به؛ لأن ما قضاه الله عزَّ وجلَّ حتمًا، بحيث لا يتوقف على سعي من الإنسان ولا تقصير فهو واقع حتمًا، فلا شأن لهم بالطريق التي يصل منها. فإن قيل: دع هذا، بل نقول: إن الله عزَّ وجلَّ جعل للناس وسيلةً إلى العلم بذلك المفروض وجوده، وهو أن كثيرًا من الأمم قالت بوجوده، ¬

_ (¬1) هذا النص كتبه المؤلف (ص 41 ب - 42 ب) ثم كتب فوقه: "هذا مع الورقة الآتية يؤخّر إلى بحث توحيد الألوهية إن شاء الله تعالى". لكن المؤلف لم يكتب هذا المبحث فأثبته هنا في آخر الكتاب. والله المستعان. (¬2) كذا, ولعلها: "من".

قلت: الأمم التي قالت بوجوده ليس عندها أكثر من التخرُّص، فالعاقل إذا فكر وتدبر علم أنه إن فرض وجوده ثم أخذ يعظَّمه ويتضرع إليه كان بذلك قد سواه برب العزة في رجاء النفع الغيبي والتعظيم والتضرع لأجله، فهو في ذلك على خطر غضب الله عزَّ وجلَّ عليه؛ إذ سوَّى به غيره، بل سوى به ما لم يثبت وجوده. وإن أعرض عنه واقتصر على تعظيم الله عزَّ وجلَّ والتضرع إليه فإنه سبحانه لا يضيّعه؛ لعلمه أنه إنما حمله على ذلك الخوف من أن يقول على الله بلا علم، أو أن يسوَّي به غيره لمجرد تخرُّص. والعاقل يرى أن هذا الثاني هو المتعين، فإن فرض وجود ذلك المفروض فإن الله عزَّ وجلَّ يغنيه عن نفعه ولا يمكَّنه من ضره. ووجه آخر: وهو أن الأمم المشار إليها تقول بوجود عدد كثير بالصفة المذكورة، وأن الإنسان إذا عظَّم بعضَهم وتضرَّع إليه غضب عليه غيرةً منهم وأراد به الضر، وأن الإنسان قد يتضرع إلى فردٍ منهم ويعظمه، ويتضرّع عدوّه إلى فرد آخر ويعظمه، فيريد صاحب عدوه به الضر، وأنه إن تضرع إلى اثنين وعظَّمهما غضب عليه الذي يرى نفسه أنه أعظمهما، قائلا: كيف سوَّى بيني وبين من هو دوني؟! فيريد به الضر، وأولى من ذلك إذا قال: أنا أتضرَّع إليهم كلهم، وأعظّمهم كلهم].

مجموع رسائل العقيدة

آثار الشّيخ العَلّامَة عبَد الرّحمن بن يحيى المعَلمِي (6) مجموع رسائل العقيدة تأليف الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني 1312 هـ - 1386 هـ تحقيق عدنان بن صفاخان البخاري وفق المنهج المعتمد من الشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد (رحمه الله تعالى) تمويل مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

بسم الله الرحمن الرحيم

راجع هذا الجزء مُحَمَّد أجمَل الإصلَاحِي سُعُود بن عَبد العزيز العُريفي

مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية SULAIMAN BIN ABDUL AZIZ AL RAJHI CHARITABLE FOUNDATION حقوق الطبع والنشر محفوظة لمؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية الطبعة الأولى 1434 هـ دَار عَالم الفوَائد للنشر والتَوزيع مكة المكرمة - هاتف 5473166 - 5353590 فاكس 5457606 الصف والإخراج دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

مقدمة التحقيق

مقدِّمة التَّحقيق إنَّ الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيِّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 - 71]. أمَّا بعد، فهذا مجموعٌ يشتمل على عشر رسائل في العقيدة، للشيخ العلَّامة عبد الرحمن بن يحيى المعلِّمي رحمه الله تعالى، وأسماؤها حسب ترتيبها في هذا المجموع: 1 - حقيقة التَّأويل. 2 - حقيقة البِدْعة. 3 - صَدْع الدُّجُنَّة في فَصْل البِدعة عن السُّنَّة.

1 - الرسالة الأولى: "حقيقة التأويل"

4 - الحنيفيَّة والعَرَب. 5 - عقيدة العَرَب في وثنيَّتهم. 6 - الرد على حسن الضالعي. 7 - ما وَقَع لبعض المسلمين من الرِّياضة الصُّوفية والغُلُوِّ فيها. 8 - رسالة في الشفاعة. 9 - التفضيل بين الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم. 10 - تعلّق العقائد بالزمان والمكان. وسألقي الضَّوء في هذا التَّمهيد على ما يعرِّف بكل رسالةٍ على حدةٍ إن شاء الله تعالى. 1 - الرِّسالة الأولى: "حقيقة التَّأويل": * اسم الرِّسالة: قال المؤلِّف رحمه الله في أول هذه الرِّسالة: "فهذه رسالةٌ في حقيقة التَّأويل". وقد استفدت من هذه الجملة اسم هذه الرسالة. * التَّعريف بالرِّسالة: تكلَّم المؤلِّف رحمه الله في هذه الرِّسالة عن مسألة التأويل الباطل عند المتأخرين، وهي مسألة كبيرة، لها تعلُّقٌ بفهم نصوص الشَّرع الحكيم، وكان الانحراف في فهمها سببًا للانحراف في كثير من المسائل العقديَّة والعمليَّة، ونشوء كثير من الفرق المخالفة للكتاب والسنة. فذكر في الباب الأول التعريف اللُّغوي للتأويل، واشتقاق المعنى

الاصطلاحيِّ منه، ثم استطرد بالشرح والتمثيل في إطلاقات التأويل على الرؤيا والفعل واللَّفظ. ثم عقد بابًا ثانيًا جعله مقدِّمة في الصِّدق والكذب. ثم أتبعه بفصلٍ في تشديد الشارع في الكذب، وساق النصوص الدالة على ذلك، وأتبعه بفصل آخَر في الترخيص في بعض ما يسمَّى كذبًا وساق فيه النصوص الدالة على ذلك وكلام أهل العلم عليها، مع استطرادٍ في تعداد مفاسد الكذب. واستطرد أيضًا في الكلام عن أنواع التورية التي يجوز استعمالها عند الحاجة. ثم ختم الباب بالتأكيد على حرمة الكذب وقبحه وذمِّه لغير ضرورة. ثم عقد بابًا ثالثًا في حكم التأويل، وذكر في مطلعه أنَّ اللَّفظ المراد تأويله لا يخرج عن نصوص العقيدة أو الأخبار أو الأحكام. ثم عقد فصلاً في ضروب النصوص الواردة في العقيدة والتي قد يقع فيها التأويل، وبيَّن بالشَّرح أنَّها على ضربين: 1 - الضرب الأول: نصوصٌ وَرَدت فيما كُلَّف الناس باعتقاده من أصول الإيمان وأركانه العظام، من الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، والقَدَر. وأنَّ عامَّتها ممَّا يُدرَك بالعقل، وأنَّ ثَمَّ تفاصيل ترجع إلى ما ذُكِر، وأنَّ هذه الأمور الضَّروريَّة في الإيمان ممَّا عُلِم من الدين بالضرورة، ومحاولة تأويلها لا نزاع في كفره. ثمَّ عقد فصلاً بيَّن فيه أنَّ صِحَّة الإيمان لا تتوقَّف على العلم بما وَرَد في النصوص من تفصيلات ما تقدَّم من الأصول الآنف ذكرها.

2 - الضرب الثاني: نصوصٌ وَرَدت فيما لم يُكلَّف الناس باعتقاده، ولا يتوقَّف الإيمان على العِلم به. وأنَّ رَحَى التأويل تدور حول هذين الضَّرْبَين. ثم استطرد المؤلِّف رحمه الله تعالى فذكر خلاف الناس في آيات صفات الله تعالى، وذكر بعض حُجج المتأوِّلين لها ودحضها. ثم أسهب في الردِّ على من زعم أنَّ مقصود الشريعة إصلاح حال البشر، ليمتثلوا للأمر والنَّهي، وأنَّها ضمَّت إلى ذلك بعض العقائد التي يتوقَّف الامتثال عليها، وأنَّه يقع في بعضها إقرار ببعض الخطأ الشائع عند الناس في أمور العقيدة، ويلزم منه وقوع الكذب في كلام الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. ثم ذكر أنَّ من أثبت لله تعالى الصفات الواردة في النصوص بما يليق به تعالى ثلاث فِرَقٍ: 1 - الفرقة الأولى: من يسلِّم لظواهر معاني نصوص الصفات مع اعتقاده دلالتها على المحال والتشبيه! ويرى خطورة تأويلها وأنَّ السلامة في ترك ذلك. 2 - الفرقة الثانية: من يسلِّم لظواهر معاني نصوص الصفات مع اعتقاده دلالتها على المحال والتشبيه، ولكنَّه يرى عدم حرمة تأويلها! 3 - الفرقة الثالثة: من يرى إثبات ظواهر معاني نصوص الصفات دون اعتقاد دلالتها على المحال والتشبيه، وأنَّ قولهم ليس كقول الممثِّلة. ثم أفاض المؤلَّف بالشرح والتمثيل في أنَّ إثبات معنى صفات الله تعالى على ظاهرها لا يلزم منه تشبيهها بكيفية صفات المخلوقين، وأنَّه ليس في

تلك النصوص كذبٌ ولا إضلالٌ ولا جهلٌ. وبيَّن أنَّ سبب ضلال هؤلاء المؤوِّلين أمور: 1 - قِلَّة حظِّهم من معرفة الكتاب والسُّنَّة. 2 - تقديسهم الفلاسفة فوق تقديس الأنبياء. 3 - تحميل عقولهم ما لا تحتمل من دعوى إدراك كُنْه كل الأشياء، وعدم وقوفهم عند الحدِّ الذي يقدرون عليه من المعرفة والعلم. ثم استطرد في بيان هذا الأمر الثالث، وذكر قصور العقول وخطأها في كثير من الأمور، واعتماد عقول أربابها على الاستقراء للمحسوسات، ونفيها لما لم تدركه، مع العلم أنَّ العقل الإنساني قاصر ومتفاوت الإدراك، واختلافُ أرباب مدَّعيه وتخطئة بعضهم بعضًا يدلُّ على ذلك. ثمَّ بيَّن أنَّ من صفات الله ما لا شبهة فيه لمَن أنكره أصلاً، وأنَّ منها ما لم تكن فيه شبهةٌ إلاَّ لمَن اطَّلع على كلام الفلاسفة. ولمَّا كان بحثُ المؤلِّف رحمه الله في مسألة التأويل استدعى منه ذلك تفصيل القول في المتشابه والمحكم، وتحقيق الكلام في معنى قول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7]. وتضمَّن ذلك كلامه رحمه الله على المتشابه وأنَّه لا يعلم معناه أحد إلاَّ الله تعالى، وبيان معنى الرسوخ في العلم، والعلامات التي يفرَّق بها بين الزائغ والراسخ في العلم.

وتضمَّن كلامه أيضًا الإسهاب في بيان معنى المتشابه، ونقله ثم نقده لكلام الرَّاغب الأصبهاني عن أنواع المتشابه وأنَّه على ثلاثة أنواع: 1 - الأول: المتشابه من جهة اللَّفظ، وله خمسة أضربٍ، ذكرها ومثَّل لها. 2 - الثاني: المتشابه من جهة اللَّفظ والمعنى، وله خمسة أضربٍ أيضًا، ذكرها ومثَّل لها. 3 - الثالث: المتشابه من جهة المعنى. ثمَّ عقد المؤلِّف رحمه الله فصلاً في الكلام على تأويل الأخبار في الوقائع الواردة في نصوص الشرع، وأنها على ثلاثة ضروب: 1 - وقائع متعلِّقةٌ بالرب، وقد تقدَّم الكلام عليها في تأويل نصوص العقائد. 2 - وقائع متعلِّقةٌ بما لا نُحِسُّ به ولا هي من جِنسه، كالملائكة والجن، فحكمها حكم العقائد. 3 - وقائع متعلِّقةٌ بما نُحِسُّ به أو من جنسه، وهو محلُّ البحث في هذا الفصل. ثم بدأ في بسط الكلام عن هذا الضرب الثالث، والردِّ على دعوى أنَّ في نصوص الشرع ما يناقض صريح العقل أو التواتر أو الحِس. ثم عقد المؤلِّف فصلاً في الرَّد بإسهاب على قول بعض العلماء: "إنَّ الشريعة إنَّما جاءت لتعليم الدين عقائد وأحكامًا، وأنَّ ما ورد فيها من بعض النصوص التي لها تعلُّقٌ بعلوم الكون والطبيعة والفلك= فلا يكون مقصودًا

لذاته، ولا يصحُّ الاستناد إلى ظاهرها في تقرير أمر من تلك الأمور الكونيَّة". وبه ينتهي ما وُجِد من هذه الرسالة. * الدِّراسات السابقة: قد سُبِق المؤلِّف رحمه الله بدراسات وكتب في موضوع التَّأويل، منها ما كان على مذهب أهل السُّنَّة، ومنها ما كان مخالفًا له، ومنها ما كتب استقلالا ومنها ما ضُمِّن في غيره. ومن أهمِّها: 1 - إبطال التَّأويلات في أخبار الصَّفات، للقاضي أبي يعلى محمد بن حسين الفرَّاء الحنبلي رحمه الله تعالى، المتوفى سنة 458 هـ (¬1). وقد ردَّ به على كتاب "تأويل الأخبار" لابن فورك، المتوفَّى سنة 406 هـ, والذي صنَّفه في تأويل الصَّفات (¬2). 2 - قانون التَّأويل، لابن العربي المالكي رحمه الله تعالى، المتوفي سنة 543 هـ, ولم يتناول الكتاب قضية التَّأويل المرادة في هذا الباب تناولًا مباشرًا، إنَّما تظهر علاقته بالتأويل من جهة استعمال التأويل بمعنى التفسير والبيان، وضرب أمثلة عمليَّة عليه (¬3). ¬

_ (¬1) طُبع بتحقيق الدكتور محمد بن حمد الحمود، جزئين بدولة الكويت. وقد قال المؤلِّف في مقدِّمة كتابه (1/ 41 - 42): "وسألتم أن أتأمَّل مصنَّف محمَّد بن الحسن بن فورك، الذي سمَّاه تأويل الأخبار، جمع فيه الأخبار وتأوَّلها، فتأمَّلنا ذلك، وبيَّنَّا ما ذهب فيه عن الصَّواب في تأويله .. ". (¬2) طُبع كتاب ابن فورك بعنوان "تأويل الأخبار المتشابهة" أو "مشكل الحديث"، بتحقيق: دانيال جيماريه، بالمعهد الفرنسي للدراسات العربية بدمشق، 2003 م. (¬3) تُنظَر مقدِّمة المحقَّق محمد السليماني (ص 229 - 230) في علاقة العنوان بمحتوى الكتاب، ويُنظَر كلام المؤلَّف في الكتاب (ص 646 - 649) وكلامه عن المحكم =

3 - ذمُّ التأويل، لموفَّق الدَّين ابن قدامة المقدسي الحنبلي رحمه الله تعالى، المتوفى سنة 652 هـ, وبيَّنٌ مراد المؤلِّف من الكتاب بوجوب إجراء نصوص الصفات على ظاهرها، وإبطال نفيها اعتمادًا على التأويل المُحْدَث عند المتأخِّرين، وجوابه عن بعض ما يُورد من الشُّبهات في آيات الصفات (¬1). 4 - الإكليل في المتشابه والتَّأويل، لشيخ الإسلام الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى، المتوفى سنة 728 هـ (¬2). 5 - الصَّواعق المرسلة على الجهميَّة والمعطِّلة، لشيخ الإسلام الإمام ابن قيِّم الجوزيَّة رحمه الله تعالى، المتوفى سنة 751 هـ (¬3). ويُعدُّ كتاب الصواعق من أهم وأكبر هذه الكتب والدراسات، فقد بَنَى الإمام ابن القيَّم رحمه الله كتابه على أربعة وعشرين فصلاً في التَّأويل وإبطاله، ثم فرَّع في الفصل الرابع والعشرين ذكر الطواغيت الأربعة التي ¬

_ = والمتشابه (ص 661 - 664) وما بعدها. (¬1) وقد قال رحمه الله في مطلع كتابه: "ومذهب السلف رحمة الله عليهم الإيمان بصفات الله تعالى وأسمائه التي وصف بها نفسه في آياته أو على لسان رسوله، من غير زيادة عليها ولا نقصٍ منها, ولا تجاوز لها ولا تفسير لها ولا تأويل لها بما يخالف ظاهرها .. " وطُبع الكتاب بتحقيق الدكتور بدر البدر، الطبعة الأولى بدار الفتح بالشارقة، سنة 1414 هـ. (¬2) طُبع الكتاب مرات عديدة. (¬3) طُبع بتحقيق الدكتور علي بن محمد الدخيل الله، بدار العاصمة بالرياض، في أربعة مجلدات.

هدم بها أصحاب التَّأويل الباطل معاقل الدِّين (¬1). وللكتاب مختصر، لابن الموصلي، المتوفى سنة 774 هـ (¬2). 7 - قصد السَّبيل إلى ذمِّ الكلام والتأويل، للعلَّامة صدِّيق حسن خان القنُّوجي رحمه الله تعالى، المتوفَّى سنة 1307 هـ, بيَّن المؤلَّف في مقدَّمته مقصوده من هذا الكتاب، فقال: "وهذه ثمانية فصول وعِدَّة أصول .. مشتملة على ما جاء من السلف الصلحاء والخلف الأتقياء، في عظم الكتاب المبين، وكراهة الغلوِّ في علم الكلام، وذمِّ التأويل، وصرف النصوص عن ظواهرها .. " (¬3). * وصف النُّسخة الخطِّيَّة: للرسالة نسخة واحدة، مكتوبة بخطِّ مؤلِّفها المعروف، وهو واضح غالبًا، مع ضَرْبٍ ولَحَقٍ كثيرٍ، يصل أحيانًا إلى الضَّرْب على الصَّفحة كلَّها أو بعضها. وقد كتبها المؤلِّف في دفتر صغير، يقارب عدد أوراقها الأربعين صفحةً، كل صفحةٍ فيها وجهان، في كل وجهٍ سبعة عشر سطرًا. وهي من محفوظات مكتبة الحرم المكِّي الشريف، ضمن مؤلَّفات الشيخ رحمه الله، برقم (4784). **** ¬

_ (¬1) تُنظَر مقدِّمة المؤلِّف (1/ 170 - 174). (¬2) طُبع بتحقيق الحسن بن عبد الرحمن العلوي، في دار أضواء السلف، عام 1425 هـ. (¬3) "قصد السبيل" (ص 36). وقد طُبع الكتاب بتحقيق سعيد معشاشة الجزائري، بدار ابن حزم، عام 1421 هـ.

2 - الرسالة الثانية: "حقيقة البدعة"

2 - الرِّسالة الثانية: "حقيقة البِدْعة": * اسم الرِّسالة: لم ينصَّ المؤلِّف رحمه الله تعالى على اسم رسالته، وقد كتب في أوَّلها: "حقيقة البِدعة". ولا أدري هل هذا الاسم من تسمية الشيخ لها، أم اجتهد من كتبه فأطلق عليها هذا الاسم. وهو مناسب لموضوعها؛ لذا فقد رأيت ترك ما سمَّوها به على حاله. * سبب كتابة الرِّسالة: بيَّن المؤلِّف رحمه الله سبب كتابته هذه الرِّسالة؛ بأنَّ الكتب في هذا الباب إمَّا أن تكون كتبًا لا يستفيد منها غير العلماء كـ "الاعتصام" للشَّاطبي، وإمَّا كتبًا غير محرَّرة كـ "الباعث" لأبي شامة، فكان ذلك سببًا في كتابته هذه الرسالة، تيسيرًا وتقريبًا. * التَّعريف بالرَّسالة: قد بيَّن المؤلَّف رحمه الله في رسالته هذه بطلان العمل بالبِدع، وتحقيق الكلام عليها في طريقةٍ أقرب إلى المحاورة والسؤال والجواب، والسَّبر والتقسيم العقلي؛ لتكون القناعة لقارئها أبلغ، والحُجَّة بها أحسن. فبيَّن أنَّ الدِّين كلَّه من وضع المشرِّع، وأنَّ البِدعة لا تخلو، إمَّا أن تكون من غير الدِّين المشروع فهي باطلةٌ اتفاقًا، أو من الدِّين فيُطالب زاعم ذلك بدليل على مشروعيَّتها. ثمَّ بيَّن المؤلِّف رحمه الله تعالى أنَّ الاستدلال على مشروعيَّة أيِّ بدعةٍ لا يخرج عن أحد أربعة أمور: 1 - الأمر الأول: ما لا يكون دليلًا شرعيًّا، كالاستحسان العقلي، أو

الاعتماد على الرؤيا، أو التجربة المخالفة للنصِّ الشرعي، وهذه كلُّها ساقطةٌ. فبيَّن أنَّ الاستحسان ظنٌّ لا تقوم الحُجَّة به، والمحمود منه عند العلماء مبنيٌّ على دليل لا مجرَّد ميل نفسيًّ. وأنَّ الرُّؤى لا تقوم بها الحُجَّة إجماعًا؛ إذ طائفة منها من حديث النفس أو الشيطان، وهي رموز وإشارات ليست على ظاهرها، بل تحتاج إلى تأويل وتفسيرٍ، لا يحسنه ثم لا يصيبه كل أحد. وأنَّ التَّجربة المصادمة للدليل - مع كونها ليست دليلاً - امتحانٌ من الله وفتنة لعباده، كالأحوال التي يكون عليها السَّحرة والمشعبذون والدَّجَّال الأكبر حين يخرج قرب الساعة. ثمَّ تكلَّم رحمه الله عن خطأ الناس في استخدام الفأل في أمورهم الدنيويَّة أو إثبات الأحكام الشَّرعية به، وعن خطأ تعلُّقهم بالرقاة في طلب الشفاء، وبيَّن سبب نفع بعضها، وأنَّه لقوَّة إيمان راقيها، أو لتعلُّقه بشياطين ينفعونه. 2 - الأمر الثاني: ما يكون فيه شُبهة دليلٍ للعامِّي، كالاستناد إلى أقوال المقلِّدين وجهلة الصَّالحين، والاعتماد على شيوع العمل به في بعض الجهات. وهذه لا تصلح بها الحُجَّة؛ إذ الفتوى مبناها على العلم، لا صلاح المفتي في نفسه مع خلوِّه من العلم، وشيوع العمل بالشيء لا يصيِّره شرعًا يحتجُّ به. 3 - الأمر الثالث: ما يكون فيه شُبهة دليلٍ للعامي، ممَّا هو مبنيٌّ على

أقوال المجتهدين، ممَّن لم يثبت ذلك عنهم، أو ثبت لكن عارضه ما هو أولى منه. 4 - الأمر الرابع: ما يكون فيه شبهة دليلٍ للمجتهد، ممَّا هو مبنيٌّ على دليلٍ شرعيًّ، وهو الكتاب والسُّنَّة والإجماع والقياس الصَّحيح، لكنَّه لم يثبت، أو ثبت لكن عارضه ما هو أولى منه. ثمَّ بيَّن رحمه الله أنَّ البدعة وضلالها وذمَّها معلوم عند الناس، ولكن يخفى بابان عليهم: حكم أهل البِدع، والطريق التي يُتحقَّق بها العلم بالبدعة. فتكلَّم في أوَّلهما عن أنَّ أهل البدع على أربعة أقسام: 1 - الأول: من يعلم من أهل البدع أنَّ بدعته ليست من دين الإسلام، ثم يزعم أنَّها ممَّا يحبُّه الله ويرضاه. 2 - الثاني: من يشكُّ في بدعته، فلا يجزم كونها من دين الإِسلام. 3 - الثالث: من يجزم أنَّ بدعته من دين الإِسلام، ولا برهان له على ذلك، وهؤلاء على ثلاثة أضْرُب: 1 - الضَّرْب الأوَّل: من بلغ رتبة الاجتهاد ولكن اختلَّ عنده شرطٌ من شروط صِحَّة الاستدلال، فهو معذورٌ مأجورٌ، إلاَّ إن نُبَّه فاستكبر وأصرَّ، وفي حُكْمه مَن تبِعَه. 2 - الضَّرْب الثاني: من لم يبلغ رتبة الاجتهاد فيتعاطى ذلك بالجهل، فهو ضالٌّ مضلٌّ، وأكثر البدع سببها هؤلاء. 3 - الضَّرْب الثَّالث: من يقيس على نصوص المجتهدين، وهذا فيه

3 - الرسالة الثالثة: "صدع الدجنة في فصل البدعة عن السنة"

تفصيلٌ خلاصته أنَّ الاستنباط من المذاهب جائز بقدر الضرورة لمن كان متأهِّلًا لذلك. ولم أقف على كلام المؤلِّف رحمه الله عن القسم الرابع من أهل البدع ولا عن كلامه في الباب الثاني فيما وُجِد من رسالته! * وصف النُّسخة الخطِّيَّة: للرِّسالة نسخة واحدة، مكتوبة بخط مؤلِّفها المعهود، وهو خطٌّ دقيق واضح في الغالب، وفيها ضرب كثير، وتبييض ما سوَّده في بعض الصفحات في أخرى تليها, ولحق في مواضع. وقد كتبها المؤلِّف رحمه الله في دفتر صغير، في ثلاث وعشرين صفحة، في كلٍّ صفحةٍ وجهان، وسطور كلٍّ منها قرابة السبعة عشر سطرًا. وهي من محفوظات مكتبة الحرم المكِّي الشريف، ضمن مؤلفات الشيخ رحمه الله، برقم (4658/ 1). **** 3 - الرِّسالة الثالثة: "صَدْع الدُّجُنَّة في فَصْل البِدعة عن السُّنَّة": * اسم الرِّسالة: سمَّى المؤلِّف رحمه الله رسالته في صدرها باسم: "صَدْع الدُّجُنَّة في فَصْل البِدعة عن السُّنَّة". * معنى الاسم: "الصَّدع" في لغة العرب هو: الانفراج في الشيء والشق فيه، و"الدُّجُنَّة" هي الظَّلماء (¬1). وكأنَّ المؤلِّف رحمه الله تعالى فَرَج وشقَّ ظلمة الجهل وأزاحها بانبلاج نور الحق في رسالته التي فصل فيها بين السُّنَّة والبِدعة. ¬

_ (¬1) مقاييس اللغة لابن فارس (2/ 330)، و (3/ 337).

* سبب كتابة الرِّسالة: بيَّن المؤلِّف رحمه الله سبب كتابته هذه الرِّسالة، وأنَّ دافعه ما أخذه الله من العهد على أهل العلم من البلاغ والصَّدع بالحق، وأنَّ كثيرًا من الفساد في زمانه سببه إماتة السنن وانتشار البدع، مع قِلَّة المُنْكِر وتثبيط غيرهم لهم. وأنَّه أراد بهذه الرسالة بيان الفرق بين السُّنَّة والبدعة، بيانًا يحصل لمن له معرفة صالحة بالكتاب والسُّنَّة، وأنَّ ما حثَّه على ذلك أنَّ أجلَّ مؤلَّف في هذا الباب، وهو "الاعتصام للشاطبي" تحول دون الاستفادة منه فائدة تامة - إلاَّ لكبار العلماء - أمورٌ ذكرها. * التَّعريف بالرِّسالة: تقدَّم في سبب كتابة هذه الرَّسالة أنَّ مؤلِّفها قصد بها إيضاح الفرق بين السُّنَّة والبدعة بيانًا يحصل لمن له معرفة صالحة بالكتاب والسُّنَّة، وقد خلص في آخر رسالته إلى أنَّ التَّعريف الاصطلاحي المختار عنده للبِدعة هو: "أمرٌ أُلْصِق بالدَّين، ولم يكن من هَدي النَّبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، لا بالفعل ولا بالقوَّة". والكتب المؤلَّفة في هذا الباب كثيرة، منها المطبوع ومنها غير المطبوع، تناول فيها مؤلِّفوها الكلام عن البِدَع بالشرح والتعريف، أو بالتمثيل والحصر (¬1). والمؤلَّفات في هذا الباب لا تخرج عن أحد أربعة أقسام (¬2): ¬

_ (¬1) تُنظَر عناوين هذه الكتب في "معجم الموضوعات المطروقة" للحبشي (ص 71 - 72). (¬2) يُنظَر في تفصيل هذه الأنواع وذكر المؤلَّفات فيها والكلام عليها: حقيقة البِدعة وأحكامها لسعيد بن ناصر الغامدي (1/ 186 - 237).

4 - الرسالة الرابعة: "الحنيفية والعرب"

1 - القسم الأول: مؤلَّفات تكلَّمت عن بعض البدع، وتناولتها بالردِّ والتبيين، من غير تعرُّضٍ لتعريف البدعة وأقسامها وأحكامها. 2 - القسم الثاني: مؤلَّفات تكلَّمت عن بعض البدع، مع تناول يسير لتعريف البدعة وحكمها. 3 - القسم الثَّالث: مؤلَّفات تكلَّمت عن بعض البدع، مع كلام موجز نافع عن تعريف البدعة، وأقسامها، وأحكامها، وقواعد التأصيل فيها. 4 - القسم الرَّابع: مؤلَّفات عنيت بمسائل التأصيل في البدع، وهي أصل في بابها. * وصف النُّسخة الخطِّيَّة: للرِّسالة نسخة واحدة، مكتوبة بخط المؤلف، وهو واضح في الغالب، والنسخة فيها ضرب كثير. وقد كتبها المؤلِّف رحمه الله في ثمان صفحات من القطع الكبير، في كلِّ صفحةٍ منها قرابة ثلاثين سطرًا. وهي من محفوظات مكتبة الحرم المكِّي الشريف، ضمن مؤلفات الشيخ رحمه الله، برقم (4673). **** 4 - الرِّسالة الرابعة: "الحنيفيَّة والعرب": * اسم الرِّسالة: سمَّى المؤلَّف رحمه الله رسالته في رأس الورقة الأولى منها باسم: "الحنيفيَّة والعرب". * التَّعريف بالرِّسالة: محصَّل كلام الشيخ رحمه الله في هذه الرِّسالة أنَّ

الدِّين الحقَّ بقي في عرب الحجاز وما حولها فوق عشرين قرنًا بعد إبراهيم عليه السَّلام، وأنَّهم غيَّروا بعدُ أشياء، وبقوا متمسَّكين بأشياء أخرى، حتى بعث الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم -. وهذا فيه بيان فضل العرب على بني إسرائيل، من جهة طول مدَّة تمسُّكهم بالحنيفيَّة ملَّة إبراهيم، قبل دخول الشَّرك فيهم، مع قِلَّة الأنبياء فيهم، وتفضيلهم عليهم في هذا الأمر. وقد خلص المؤلِّف رحمه الله إلى هذه النَّتيجة بعد تحليلٍ وشرحٍ للنُّصوص الدَّالة على هذا المعنى، ممَّا سيق من كتابهم المقدَّس، مع ربط ذلك بما نقله أهل المعرفة بتواريخ الأمم. ومع قِصَر هذه الرسالة ووجازتها فإنَّ فوائدها كثيرة، فمن نتائجها: 1 - بيان الحدِّ الزَّمني الفاصل بين بقاء العرب - من بني إسماعيل وغيرهم - على التوحيد وبين بداية دخول الشرك عليهم. 2 - فضل العَرَب الحنيفيَّين على الإسرائيليِّين، مع بُعد عهدهم بإبراهيم وإسماعيل، ولم يكن فيهم بعدهما إلى ذاك التاريخ نبيٌّ مع قِلَّة النبيِّين، بخلاف الآخرين. 3 - دلالة كتبهم المقدَّسة على فضل بني إسماعيل، وتمسُّكهم بدينهم، من كلام الله المدَّعى في كتبهم، وأنَّ العقبى لهم. 4 - مناقشته لبعض كلام الشيخ رحمة الله الهندي مؤلَّف كتاب "إظهار الحق" في تفسيره نصوص الكتاب المقدَّس، وبيان الراجح عنده والتدليل عليه.

5 - تحقيقه نسب "عمرو بن لُحَي"، والكلام عن أصل النبت، وقيدار ولد إسماعيل. * تنبيهٌ: إن قيل: إنَّ استدلال المؤلَّف رحمه الله في كتابه بما في كتب أهل الكتاب المقدَّسة عندهم مستشكل. فالجواب: أنَّ هذا غير واردٍ لمن تمسَّك بالتوجيه النَّبوي المبيح للتَّحديث عنهم، دون جزمٍ بِصحَّة ما يروون، وذلك في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "حدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج" (¬1). والتَّحديث عن بني إسرائيل إنَّما يجوز ويسوغ فيما لم يخالف أصلاً، كمخالفة نصٍّ من كتاب الله أو سُنَّة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، وفيما لم يُعلم بالضَّرورة ثبوت تحريفهم فيه. وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانيَّة ويفسِّرونها بالعربيَّة لأهل الإسلام، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تصدِّقوا أهل الكتاب ولا تكذِّبوهم" (¬2). فما لم يدلَّ دليل الكتاب والسنَّة على تكذيبه لم يجز لنا تحريم ذكره، بلْه ردَّه. ثمَّ إنَّ الردَّ على اليهود والنصارى أو غيرهم من كتبهم لإبطال باطل يحاجُّون به أهل الإسلام، أو حق نريد إثباته لأهل الإِسلام = يكون من باب قول الله تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 93]. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3461) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. (¬2) أخرجه البخاري (4485) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

وللمؤلِّف سلفٌ في الاحتجاج على أهل الكتاب من كتبهم، فقد تتابع العلماء عبر العصور على الردِّ عليهم، محتجِّين عليهم من كتبهم؛ كما فعل الإِمام ابن حزم في "الفصل"، والقرافي في "الأجوبة الفاخرة"، وشيخ الإسلام ابن تيمية في "الجواب الصَّحيح"، وتلميذه الإِمام ابن القيَّم في "هداية الحيارى"، والشيخ رحمة الله الهندي في "إظهار الحقِّ". وغيرهم كثير. والمصدر الرَّئيس الذي بني المؤلِّف رحمه الله رسالته عليه، وهو: الكتاب المقدَّس عند أهل الكتاب (العهدان القديم والجديد) يبدو أنَّه اعتمد فيه على طبعة قديمة، صدرت في بيروت، سنة 1870 م، ثمَّ طُبِعت بعدُ طبعةٌ منقَّحة لهذه الطَّبعة. وفي مقدِّمة هذه الطبعة المعرَّبة الحديثة أنَّهم انتهوا من إصدارها عام 1881 م، ولكنَّهم أعادوا النَّظر في هذه التَّرجمة عام 1949 م، فأخرجوها في ترجمةٍ أفضل من حيث الأسلوب والتَّراكيب، مع العناية بفنِّ الطباعة، وأتمُّوا العمل فيها عام 1980 م. وقد بيَّنتُ الفروق المهمَّة الظَّاهرة بين نصِّ التَّرجمة عند المؤلِّف ممَّا يخالف التَّرجمة الحديثة المشار إليها. * وصف النُّسخة الخطِّيَّة: للرسالة نسخة واحدة، مكتوبة بخطّ المؤلِّف، وهو خطٌّ جميل، وليس عليه ضرب إلاَّ في بضعة مواضع، ولا لحق إلاَّ في موضع واحدٍ، وكتب المؤلف هوامشها. وكأنَّه أعدَّها مبيَّضة مهيَّأةً للطباعة.

5 - الرسالة الخامسة: "عقيدة العرب في وثنيتهم"

وقد كتبت في دفتر صغير، في عشر صفحات، في كلِّ صفحةٍ تسعة عشر سطرًا. وهي من محفوظات مكتبة الحرم المكَّي الشريف، ضمن مؤلفات الشيخ رحمه الله، برقم (4658/ 3). **** 5 - الرِّسالة الخامسة: "عقيدة العَرَب في وثنيَّتهم" * اسم الرِّسالة: سمَّى المؤلِّف رحمه الله رسالته، في أول صفحةٍ منها باسم: "عقيدة العرب في وثنيَّتهم". * التَّعريف بالرِّسالة: محصَّل كلام المؤلِّف رحمه الله في هذه الرِّسالة بيان عقيدة العرب في جاهليَّتهم الوثنيَّة، واعتقادهم في أوثانهم ومن يدعونه ويتقربون إليه من دون الله. وقد رقَّم المؤلِّف رحمه الله مباحث رسالته إلى سبع فقرات جعلها عناوين لتلك الفقرات التي دلَّل عليها، وشرح وبيَّن. فقد بيَّن المؤلِّف بالدليل والشرح في الفقرة الأولى: توحيد العرب وإقرارهم في جاهليَّتها في الجملة بربوبيَّة الله سبحانه وتعالى. وفي الثانية: تناقض العرب بجمعهم الإيمان بالربوبيَّة مع الشِّرك في الألوهيَّة. وفي الثالثة: كفر العرب بأمرين: نسبة البنات لله سبحانه وتعالى، واحتمل أربعة أسباب حَمَلَتْهم على ذلك، وحرَّر مرادهم بنسبة البنات لله،

والأمر الثاني: عبادتهم غير الله سبحانه وتعالى، وأنَّ ذلك في حقيقته عبادة لما لا وجود له، أو للشياطين، أو لأهوائهم. وفي الرَّابعة: تأريخ دخول الوثنيَّة في الحجاز وبلاد العرب على يد عمرو بن لُحَي الخزاعي. وفي الخامسة: بيان عِلَّة نصب الأوثان والأصنام وأنَّهم لا يعبدون حجارة لذواتها، وإنَّما هي صور لمعبوداتهم، باختلافها. وفي السَّادسة: تحقيق أصل تسمية أوثان العرب المشهورة - كاللَّات ومناة والعُزَّى - بهذه الأسماء الأنثويَّة، وهل لهذا علاقة باعتقاد أنَّها صورٌ للملائكة وهي عندهم بنات الله. وفي السَّابعة - وهي الأخيرة -: معتقد العرب في الملائكة، وأنَّهم لا يضاهون بقيَّة الوثنيِّين في ذلك - كاليونان والمصريين وغيرهم - من عبادتهم لها، بل معتقدهم فيها أنَّها وسائط تقرِّبهم إلى الله زُلفى. وأنبِّه ههنا أنَّ جملةً من مباحث هذه الرسالة قد أسهب المؤلَّف رحمه الله تعالى في الكلام عليها بتفصيل وبيان شافٍ في كتابه الكبير "العبادة". * الدِّراسات السابقة: قد سُبِق المؤلِّف رحمه الله بدراسات وكتب في بعض مضامين هذه الرسالة، ممَّا يتعلَّق بالكلام عن أحوال العرب في جاهليَّتها، ومعبوداتهم فيها، كما تجد ذلك في كتاب "الأصنام" لابن الكلبي، وفي المتأخَّرين ما كتبه الدكتور جواد علي في كتابه النَّفيس "المفصَّل في تاريخ العرب قبل الإسلام". * وصف النُّسخة الخطِّيَّة: للرسالة نسخة واحدة، مكتوبة بخطّ

6 - الرسالة السادسة: "الرد على حسن الضالعي"

المؤلِّف، وليس عليها ضرب إلاَّ في بعض المواضع، ولا لحق إلاَّ في موضعين، وقد كتب المؤلف هوامش، يخرِّج فيها الآيات ويعزو النقول إلى مصادرها. وكأنَّ المؤلِّف رحمه الله كان قد أعدَّها مبيَّضة مهيَّأةً للطباعة. وقد كُتِبَت في ثلاث ورقات من القطع الكبير، في كلِّ ورقة صفحتان، في كلِّ صفحةٍ ثلاثون سطرًا قد تزيد قليلاً. وهي من محفوظات مكتبة الحرم المكِّي الشريف، ضمن مؤلفات الشيخ رحمه الله، برقم (4670). **** 6 - الرِّسالة السادسة: "الرد على حسن الضالعي": * اسم الرِّسالة: لم يذكر المؤلِّف رحمه الله لهذه الرِّسالة اسمًا، وقد كُتِب على غلافها: "رسالةٌ على [في] الحلول". ولمَّا كان محتوى القدر الموجود من الرسالة في الرَّدِّ على حسن الضالعي، في قضايا الحلول وغيرها، كما سيأتي في التعريف رأيت تسميتها بهذا الاسم الشامل. * سبب كتابة الرِّسالة: بيَّن المؤلِّف رحمه الله سبب كتابته هذه الرِّسالة؛ حيث قال في أولها: "فإنَّي عند وجودي بعَدَن، أواخر سنة 1341 هـ بلغني عن رجلٍ يُدعَى السيِّد حسن باهارون كان مقيمًا بالضَّالع ثم بيافع، يدعو الناس إلى بعض العقائد الباطنية الحلوليَّة .. وإنَّه قد اتَّبعه خَلْقٌ كثيرٌ، وألَّف جماعةٌ من العلماء في الإنكار على أقواله وضلاله .. وسألني بعض الإخوان

أن أحذو حذوهم، بكتابة رسالةٍ في هذه القضيَّة .. مع أنَّي تصفَّحتُ بعض تلك الرسائل، فرأيتها منسوجةً بالحِدَّة والغضب، وذلك وإن كان محمودًا في الشَّرع لكن الأَولى في خطاب الجُهَّال الرِّفق واللِّين .. وليس القصد من التَّأليف في هذه القضيَّة مجرَّد إقامة الحُجَّة والخروج من عهدة السُّكوت، بل القصد مع ذلك إنقاذ هؤلاء المساكين من تخبُّطات الشياطين". * التَّعريف بالرَّسالة: بيَّن المؤلِّف رحمه الله كما تقدَّم في سبب كتابته هذه الرِّسالة عزمه على الرَّدَّ على حسن بن إبراهيم باهارون الضَّالعي الحلولي، وأنَّه سيلتزم بالأَولى في خطاب هذا الجاهل، باستعمال الرِّفق واللِّين وإيضاح الحقائق باللُّطف والحِكمة. ثمَّ بيَّن المؤلِّف خطَّته في كتابه، فقال: "وقد عزمتُ مستعينًا بالله تعالى على كتابة أوراق في هذا الصَّدد، تنحصر في مقدِّمة وفصول: المقدَّمة: فيما بلغني عن هذا الرجل وأصحابه، بأسانيدها. الفصل الأوَّل: في وحدة الوجود التي يلهج بها المتصوِّفة، وبيان عقائد أئمَّة الصوفيَّة. الفصل الثاني: في معنى الوحدة عند المتطرِّفين، وما يشبه ذلك من مقالات الفرق، والأدلَّة المناقضة لذلك من العقل والنقل. الفصل الثالث: في حكم من دعا إلى ذلك، أو اعتقد، أو شكَّ، أو سكت. الخاتمة - ختم الله لنا بخير الدنيا والآخرة -: في أحاديث واردة في التَّحذير من الدَّجاجلة، أعاذنا الله والمسلمين من شرِّهم".

لكن المؤسف أنَّ ما وُجِد من هذه الرسالة لا يتجاوز المقدِّمة التي أشار إليها المؤلَّف، ولم أعثر على بقيَّة الرسالة. وقد نقل في هذه المقدَّمة التي أراد الكلام فيها عن حال هذا الرجل من بعض مشايخه وأصحابه من أهل العلم، كالشيخ محمد بن علي بن إدريس، ومن كتب الردود السابقة، كرد شيخه الإدريسي، وردَّ الشيخ سالم باصهي، المعنون بـ "كشف الغطا عمَّا يحصل لبعض السَّالكين من الخطا عند مقدمات حال الفنا والفتح والمواهب والعطا"، وردِّ السيد العلَّامة العلوي، وكتاب السيِّد عبد الله بن طاهر. وقد حصل المقصود من هذه النقول في إثبات قول هذا الضالعي بالحلول والاتحاد، وأنَّ قوله مضاهٍ لقول سلفه كابن عربي الحاتمي وعبد الكريم الجيلي وغيرهما. وتضمَّنت المقدَّمة بيان أنَّ بضاعة هذا الضالعي في علم الشرع وفي حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خصوصًا مزجاة. ودعواه العريضة بالتلمذة على مشايخ مصر والشام والعراق والحجاز والفرات واليمن. ودعواه السيادة بالانتساب إلى أهل البيت، من آل باهارون. وظهور جهله في خلطه بين ما نقل عن السلف من كلامهم الزهدي عن الفناء بما يعتقده هو من الحلول والاتحاد. واستنكافه عن الحق بعد ما تبيَّن له، واعترافه بالخطأ بعد رؤيا رآها, لكن

الله كتب عليه الخذلان فنكص على عقبيه، ثم أظهر ما عنده من الحلول وتمادت به الحال حتى قال برفع التكاليف عن الناس، كالصلاة والصيام، وأنكر صحَّة نبوَّة نبينا - صلى الله عليه وسلم -، وأنكر ثبوت القرآن عنده، مع إيمانه بصحَّة ثبوت الإنجيل. ثم بيَّن وهاء حجَّته في إنكار القرآن مع إيمانه بثبوت الإنجيل والتوراة، ونقل عن المختصِّين بالرَّدِّ على أهل الكتاب ما يدلِّل على وقوع التحريف الظاهر في العهدين القديم والجديد، كالشيخ رحمة الله الهندي وابن حزم، وقد أطال النقل عن الإمام ابن حزم رحمه الله بما يؤكِّد صحَّة وقوع التحريف في العهدين. وتوسَّط ذلك وتضمَّن أيضًا نقاشه في مسائل أخرى. كجهله سبب تسمية عيسى عليه الصلاة والسلام بالمسيح، وعدم إدراكه الحكمة من خلقه دون أبٍ. ومنازعته في إعجاز القرآن، ومساواته ببلاغة الشعراء والخطباء. واستدلاله على بطلان صحَّة ثبوت القرآن بذكر عصيان الأنبياء لربِّهم فيه. واحتجاجه على صِحَّة تثليث النصارى بفلسفة واهية. وزعمه باستدلال واهٍ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم تكن له آية معجزةٌ إلاَّ القرآن. وقد عاد المؤلِّف إلى إثبات تحريف العهدين، بنقل مسهبٍ عن ابن حزم، وبه انتهى ما وُجِد من هذه الرسالة.

* وصف النُّسخة الخطِّيَّة: للرسالة نسخة واحدف مكتوبة بخطٍّ جميل، يشوبه عدم وضوح في كثير من المواضع، مع ضَرْبٍ ولَحَقٍ وبياضٍ وخرمٍ كثيرٍ، وقد يصل الضَّرْب أو الخرم في الصَّفحة أحيانًا إلى كلَّها أو بعضها. وخطُّ الرسالة خطُّ المؤلِّف المعهود، غير ورقتين مغايرتين لخطِّه المعهود، وهما ورقتان يبدو أنَّ المؤلِّف أوعز إلى غيره نقلها من كلام الإِمام ابن حزم في "الفِصَل"، وهي المرقَّمة في التصوير برقم (9) و (43)، وهي بترقيمي (10) و (26). وقد كتبها فيما يقارب الثلاثين ورقةً من القطع الكبير، كل صفحةٍ فيها وجهان، في كل صفحة قرابة عشرين سطرًا. وقد كُتِب في وجهَي بعض هذه الصفحات واكتفِي بالكتابة في وجهٍ واحدٍ في بعضها، ممَّا ترك صفحاتٍ في الرسالة بيضاء لا كتابة فيها؛ ولأجل هذا فقد وقع في تصوير الرسالة تشويش كثير، بتقديم صفحات عن مكانها وتأخير أخرى، فأعدت ترتيبها على نحو أقرب إلى النَّسق الذي يتَّصل به الكلام. وبالنَّظر إلى صور الرسالة المرفقة يتبيَّن وعورتها وصعوبة إثبات النصِّ منها بسياقها الذي كتبه الشيخ رحمه الله بها. والرسالة من محفوظات مكتبة الحرم المكِّي الشريف، ضمن مؤلفات الشيخ رحمه الله، برقم (4671). ****

7 - الرسالة السابعة: "ما وقع لبعض المسلمين من الرياضة الصوفية والغلو فيها"

7 - الرِّسالة السابعة: "ما وقع لبعض المسلمين من الرياضة الصُّوفية والغلو فيها": * اسم الرِّسالة: لم ينصَّ المؤلِّف رحمه الله على اسم رسالته فيما وقفت عليه من أوراقها، وقد كُتِبَ في عنوانها: "ما وقع لبعض المسلمين من الرياضة الصُّوفية والغلو فيها". ولا أدري أهذا الاسم لغلاف الرسالة من تسمية المؤلِّف نفسه، أم اجتهاد ممَّن اعتنى بحفظها وفهرستها، فأبقيتها باسمها الذي كتب عليها. * التَّعريف بالرِّسالة: يناقش المؤلف في هذه الرِّسالة أحد الصوفية في كتاب له، ولم يتبيَّن إلى بعد بحث ونظر معرفة هذا المردود عليه ولا كتابه. ونقاش المؤلَّف جارٍ فيها عمَّا يحتجُّون به من دعوى اكتساب بعض خوارق العادات، وما ثبت وجوده من القوى البشريَّة المكتسبة، كالإصابة بالعين، والتنويم المغناطيسي، وإيصال الشفاء بالرقية الشرعية، والتفصيل في القوى الخارقة التي يختلط فيها السحر والشعبذة بالكرامة والمعجزة. ثمَّ بيَّن انتقال كثير من هذه الرياضات المخالفة للشرع والتي تكتسب بها القوى النفسيَّة عن الأمم الكفرية الأخرى، كالهندوس واليونان، ووجود التشابه بين تعبد الصوفيَّة المسلمين وتعبد العبَّاد من الهندوس، وما طرأ على هذه التعبُّدات المنقولة عنهم من تهذيب وتغيير وما أبقوه على حاله الأولى. ثمَّ بيَّن أسباب عدم معارضة المسلمين لها بقدر معارضتهم للعقائد المنقولة عنهم، وأنَّ ذلك يعود لاشتباهها ببعض العبادات الشرعية، ولبعض

صور التعبد والزهد المأثور عن جماعة من السلف. ثمَّ تطرَّق للكلام عن اختلاف أغراض المتعبِّدين بهذه الرياضات المُحْدثة. وعن التقاء هؤلاء المُحْدَثين من المرتاضين على هذه الرياضات وقبولهم من أهلها مع تباين أديانهم ودون اشتراط منهم لدين ذاك المرتاض! واعتراف هؤلاء بولع الشياطين بسالكي هذه الطرق وحصول قوَّة تضاهي قوى السَّحرة. ثم تكلَّم عن سحر الأبصار، ومثَّل له بما وقع لموسى عليه الصلاة والسلام مع السحرة، وقصَّة جندب بن كعب مع الساحر والسُّهْرَوردي. وبيَّن أنَّ هذا الضَّرب من السِّحر يحتمل أنَّه سحرٌ للأبصار فقط، أو أنَّه سحرٌ للأدمغة، وهو الراجح عنده، وأنَّ هذا يشبه ما يسمَّى بالتنويم المغناطيسي المعاصر. وكأنَّ الشيخ رحمه الله يشير بهذا إلى أنَّ حقيقة التنويم المغناطيسي عنده أنَّه سحر لدماغ المنوَّم من المنوِّم، فكأنَّ هذا القادر على التنويم عنده هو في الحقيقة ساحرٌ بلباس منوِّمٍ مغناطيسي معاصر! ثم ردَّ المؤلِّف على من شكَّك في صحَّة وجود هذه القوى السحرية بحُجَّة أنَّها تسدُّ باب الثِّقة بالمحسوسات، وإلى أنَّها تقدِّم عذرًا لمن كفر بالأنبياء، واتهمهم بالسحر، وإلى من أنكر الكرامات. وقد وقع سقط في الرسالة في هذا الموضع لا أدري مقداره. ثم فصَّل الكلام في حكم إحداث بعض الرِّياضات الروحيَّة المقصودة للتعبد أو الإعانة عليه، كالعزلة في الخلوات، وأربعينيَّة الصوفيَّة، وناقش

بعض الأدلَّة التي يدَّعي أرباب هذه المحدثات دلالتها على محدثاتهم، واستطرد فتكلَّم عن الطرق الباطلة في الاستدلال على المحدثات، كالتجربة والرُؤيا، ودعوى الإلهام، والذَوْق أو الكَشْف، أو خبرِ مَن يرونه ملَكًا، أو خضرًا، أو نبيًّا ونحو ذلك. ثم ناقش قول المردود عليه بجواز تعاطي السحر لإيذاء الكَفَرة، وبيَّن عدم جواز استعمال السحر بهذه الحجَّة. وشنَّع على من زعم أنَّ هذه القوى المحرَّمة من جنس الكرامات، وبيَّن أنَّها وإن كانت محرَّمة فإنَّها لا تخرج عن إرادة الله وإذنه. وشنَّع بالردِّ أيضًا وجهَّل من أفحش القول بأنَّ معجزات الأنبياء حاصلة بقوى نفسيَّة مكتسبة! ثم تطرَّق المؤلِّف رحمه الله إلى ما وقع من المبالغة والغلو في الرياضات الزهدية عند الصوفيَّة، كالجوع، والسهر، وترك أكل ذي الروح، وغير ذلك، ونقل إنكار تكلُّف ذلك والغلوِّ فيه عن السلف من الصحابة ومن بعدهم. ثم ذكر التطوُّر التاريخي لهذه الرياضات والانحراف الذي طرأ عليها بمرور الوقت، وبيَّن أنَّ قمَّة الانحراف وذروته حين اتَّصلت علوم الإسلام بعلوم أمم الكفر من اليونان والهندوس وغيرهم في القرن الثالث الهجري، وانتقال تلك الرياضات مع ما انتقل من هذه العلوم إليهم، واتَّفق ذلك وتزامن مع انتشار خواطر الصوفية وشيوع الباطنيَّة. وأشار إلى أنَّ غالب ما يُحكى من المكاشفات والكرامات عن التَّابعين وأتباعهم ومن قَرُبَ منهم من اختراع القُصَّاص.

ثم عقد فصلاً بيَّن فيه الرياضة المكتسبة بالجوع الصوفي وعدم علاقته بالجوع الشرعي، وفصلاً آخر بيَّن فيه الرياضة المكتسبة بالسهر الصوفي وعدم علاقته بالسهر الشرعي، وفصلًا ثالثًا بيَّن فيه الرياضة المكتسبة بترك كل ذوات الأرواح وعدم علاقته بالشرع. ثم عقد فصلاً ردَّ فيه على زعمهم بأنَّ المرتاض بالرِّياضة المعروفة بينهم إذا حصل له ما يسمُّونه بالفتح تحصل له القوَّة النفسية المذكورة. وبه ينتهي ما وُجِد من هذه الرسالة، والتي يظهر من سياقها نقصٌ في أولها ووسطها وآخرها. ومع قصر هذه الرسالة ووضوح أصل كتابة الشيخ لها حوت على كثير من المباحث النافعة والفوائد العالية في علوم شتى غير ما تقدَّم. ككلامه عن مسألة النبوات واكتسابها. وظهور نَفَسه الحديثي المشهود في إعلاله حديث: "ثلث لطعامه" وما تبع ذلك من كلامه عن مسألة السماع وعَدَمِه عند الإمام البخاري رحمه الله، وتقعيده قاعدة مختصة بتصرُّف البخاري في كتابه "التاريخ الكبير". ومباحث لغوية وفقهيَّة أخرى. * وصف النُّسخة الخطِّيَّة: لم أقف للرسالة إلاَّ على نسخة واحدة، مكتوبة بخطّ المؤلِّف، وهو جميل واضح دقيق غير واضحٍ في بعض المواضع، وعليه ضربٌ ولحق. وقد كتبها في أوراق دفتر كعادته رحمه الله، وتقع في إحدى عشرة صفحة، وكانت مفرَّقة في رسالتين، الأولى في ستِّ صفحات لكل صفحة

8 - الرسالة الثامنة: الشفاعة

وجهان سوى الصفحتين الأولَيَيْن فليس فيهما غير وجهٍ واحدٍ، وفي كلِّ وجهٍ من هذه الصفحات قرابة ثلاثين سطرًا، وظاهرٌ من سياق المخطوط نقصٌ في أوله ووسطه وآخره. وهي من محفوظات مكتبة الحرم المكِّي الشريف، ضمن مؤلفات الشيخ رحمه الله، برقم (4803). والثانية وهي في خمس صفحات في كل صفحة قرابة ثلاثين سطرًا، وقد وُجِدت ضمن أوراق أخرى برقم (4701)، على العادة المعهودة فيما يقع في خزائن المخطوطات من انتقال أوراق المخطوطات وتفرقتها ووضعها في غير موضعها. **** 8 - الرِّسالة الثامنة: الشفاعة: * اسم الرسالة: لم يسمّ المؤلِّف رحمه الله هذه الرسالة، وقد اخترت لها هذا الاسم نظرًا لموضوعها. * سبب كتابة الرسالة: بيَّن المؤلف رحمه الله سبب كتابته هذه الرسالة، وأنَّه ألَّفها لتكون متمِّمةً لمسألة متعلِّقة برسالته الأخرى، وهي رسالة "العبادة"، فقال: "جمعتُ رسالةً مطوَّلةً في تحقيق العبادة المطلقة، أي: أعم من أن تكون لله عزَّ وجلَّ أو لغيره، فوجدت عبادة غيره تشابك مسألة الشفاعة، بحيث لا يمكن تحديد العبادة ما لم تتحدّد الشفاعة وما يتعلَّق بها. ولهذا لا تكاد تجد موضعًا في القرآن تقام فيه الحُجَّة على المشركين إلاَّ وفيه التعرُّض للشفاعة، فرأيت أن أفرد مسألة الشفاعة برسالة، تحيط

* التعريف بالرسالة

بفروعها". * التَّعريف بالرسالة: تقدَّم أن المؤلِّف رحمه الله قصد من تأليف هذه الرسالة أن تكون متمِّمةً لمسألة متعلَّقة بالعبادة، وقد مهَّد المؤلف رحمه الله رسالته بكلام مختصر عن تفاوت الناس عامَّة وخاصَّة، من جميع الطوائف في مسائل الحق ما بين مشرِّقٍ ومغرِّبٍ، ومن ذلك تفاوت أقوالهم في مسألة الشفاعة. ثم شكا رحمه الله من أحوال بعض المشايخ والقُصَّاص المرخَّصين في الشفاعة الباطلة، وحظُّهم من العلم فيها. فمن المرخِّصين للشفاعة الباطلة من أخلد إلى ما شاع؛ خشية أن يكون خلافه هلاكًا في دينه ودنياه. ثم عقد مقدّمة بيَّن فيها معنى الشفاعة من جهة اللغة، وبعض المسائل المتعلقة بها، كعدم اشتراط قبول المشفوع عنده لشفاعة الشافع، وأنَّه لا ينبغي للشافع أن يغضب على المشفوع إليه إذا أبى قبول الشفاعة، وأنَّه لا يشترط في الشفاعة كونها من الأدنى للأعلى، ولكن يشترط فيها أن لا يكون الشافع مالكًا للحاجة المشفوع فيها. ثم عقد فصلاً في أقسام الشفاعة عند الله تعالى، وبدأ بأولها، وهي شفاعة الإنسان لآخر حيًّا كان ذلك الآخر أو ميَّتًا، وأنَّ الغالب تسمية هذا القسم بالدعاء، ثم استطرد في ذكر مباحث متعلَّقة بالدعاء، لكن الرسالة لم تكتمل، فقد وقف عند بداية كلامه عن المبحث الثاني من مباحث الدعاء، وسيأتي ذكر المبحثين. أما المبحث الأول من مباحث الدعاء فقد ذكر فيه حكم طلب الدعاء،

ونقل الإجماع على جواز طلبه من الأحياء، مع قول بعضهم بكراهته، وذكر أسباب ذلك عندهم، وأنَّ الذي تلخَّص عند المؤلف هو جوازه في الأصل، ثم يكره ويكون خلافًا للأَوْلىَ لعوارض ذكرها. ونبَّه ضمن ذلك على أهميَّة الدعاء وجعل الخيرة في إجابته إلى الله، ونبَّه أيضًا على أنَّ المانع من الدعاء عند بعض الناس وطلبه من الآخرين = عدم يقينه بإجابة الله لدعائه، بظنِّ أن إصراره على الكبائر يمنع من الإجابة. ونبَّه إلى كراهة الدعاء إجابةً لطلاَّب الدعاء إن كانوا مصرِّين على الكبائر، وإرشادهم إلى التوبة من المعاصي بدل الإصرار عليها وسؤال غيرهم الدعاء. ونبَّه أيضًا إلى كراهة الدعاء إن داخل الداعي عجبٌ، أو حصل لطالبيه غلوّ اعتقادٍ فيه. ثم ذكر بعض الأحوال التي يستحبُّ فيها طلب الدعاء من الآخرين. وأما المبحث الثاني من مباحث الدعاء فقد ذكر فيه ما ينبغي للمطلوب منه الدعاء، وأنشأ فيه خمسة أمور، ثم وقف على السادس. وبه انتهى القدر الموجود من الرسالة. * وصف النُّسخة الخطِّيَّة: للرسالة نسخة واحدة، مكتوبة في آخر الدفتر الثاني من بحث تفسير سورة الفيل والرد على عبد الحميد الفراهي، بخط مؤلِّفها المعهود، وقد وقع في بعض صفحاتها وبعض مواضع في أسطرها بياضٌ تركه المؤلف لإرادة نقل آية أو نحوه. وعدد أوراق ما وُجِد من الرسالة خمس عشرة ورقة، في كل ورقةٍ بضعة عشر سطرًا، وفي بعضها لَحَق وضربٌ وتصحيح. وهي من محفوظات

9 - الرسالة التاسعة: التفضيل بين الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم

مكتبة الحرم المكي الشريف. **** 9 - الرِّسالة التاسعة: التفضيل بين الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم: * اسم الرسالة: لم أجد تسمية للمؤلف رحمه الله لرسالته هذه. * التعريف بالرسالة: تكلَّم المؤلف رحمه الله في هذه الرسالة عن مسائل متعلقة بالتفضيل بين الخلفاء الأربعة الراشدين رضي الله عنهم، فمهَّد ببيان عدم انضباط التفضيل عند من يطلقه، سواءٌ أكان بتشييد الدين أو نفع المسلمين أو ورود الأدلة؛ إذ الأربعة كلهم مشتركون فيها، وأن التفضيل إن كان بالنظر إلى منزلتهم عند الله تعالى فمردودٌ؛ لأنه كلام في غيبٍ لا يعلمه إلا الله. ثم ذكر ما يحصل في التفضيل من التعصُّب، ونبَّه على أن الخلفاء أنفسهم لم يشتغلوا به، بل كانوا يغمطون أنفسهم ويفضِّل بعضهم بعضًا عند اختلاف التفضيل. ثم ذكر رحمه الله أربعة وجوه تظهر بها حكمة بالغة في تأخر خلافة عليًّ رضي الله عنه عن الثلاثة، وما حصل في ذلك من المصالح واندفع به من المفاسد، وبه تنتهي هذه الرسالة. * وصف النُّسخة الخطِّيَّه: للرسالة نسخة واحدة، مكتوبة بخطِّ مؤلفها المعروف، وهو واضح غالبًا، وهي من محفوظات مكتبة الحرم المكِّي الشريف ضمن مجموع برقم [4696] في ورقتين. ****

10 - الرسالة العاشرة: تعلق العقائد بالزمان والمكان

10 - الرِّسالة العاشرة: تعلّق العقائد بالزمان والمكان: * اسم الرسالة: لم ينصَّ المؤلف رحمه الله على اسم رسالته، وقد كُتب في فهرس مكتبة الحرم المكي هذا العنوان، وهو مناسب لموضوعها. * التعريف بالرسالة: قد بيَّن المؤلف رحمه الله في مطلع رسالته أهمية النظر إلى حال المكان والزمان لتعلقهما تعلُّقًا متينًا بالعقائد. ثم ذكر معنى "المكان"، وحقيقة الفضاء، والفرق بينه وبين الهواء. ثم ناقش رحمه الله بطريق العقل ما نُقِل من إطباق المتكلِّمين في إطلاقهم على "الفضاء" عَدَمًا يسمُّونه بُعْدًا موهومًا، وزعموا أنه شيءٌ موجود. وبيَّن فيها أن بعض ما يزعمه المتكلمون ضرورة هو من الوهميات، وما يكون وهميًا عندهم هو ضروري. وهذا هو القدر الموجود من هذه الرسالة. * وصف النُّسخة الخطِّيَّة: هذه الرسالة لها نسخة واحدة، مكتوبة في دفتر مع ثلاث رسائل أخرى، بخط مؤلفها المعروف. وتقع في المجموع من صفحة (11) إلى صفحة (13)، في كل ورقة بضعة عشرة سطرًا. وهي من محفوظات مكتبة الحرم المكي الشريف، ضمن مؤلفات الشيخ رحمه الله، برقم (4658/ 4). ****

* موارد الشيخ في رسائله

* موارد الشيخ في رسائله: موارد المؤلِّف التي نصَّ عليها في هذه الرَّسائل قليلة؛ نظرًا لقِصَر الرسائل، وطريقته رحمه الله في الشرح والمناقشة والتحليل والنقد، يظهر بها تقدّم علمه ووفور عقله وحسِّه النَّقدي، وسعة أفقٍ وغورٍ في بحث المسائل. والمصادر التي صرَّح بأسمائها هي: 1 - أسباب النُّزول، للسيوطي. 2 - الإصابة في معرفة الصحابة، للحافظ ابن حجر. 3 - إظهار الحقِّ، لرحمة الله الهندي. 4 - الاعتصام، للشاطبي. 5 - إعجاز القرآن، للباقلَّاني. 6 - إنجيل لوقا. 7 - الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل، لعبد الكريم الجيلي. 8 - الباعث على إنكار البدع والحوادث، لأبي شامة. 9 - التَّاريخ الكبير، للبخاري. 10 - تفسير ابن جرير الطَّبري. 11 - تفسير أبي السُّعود. 12 - تهذيب التَّهذيب، لابن حجر. 13 - تهذيب الكمال، للمِزِّي. 14 - الثَّقات، لابن حبان. 15 - الجرح والتَّعديل، لابن أبي حاتم.

16 - حُجَّة الله على العالمين في معجزات سيِّد المرسلين، للنبهاني. 17 - حواشي الشيخ زاده على تفسير البيضاوي. 18 - خزانة الأدب، للبغدادي. 19 - دائرة معارف القرن العشرين، لمحمد فريد وجدي. 20 - الدُّر المنثور في التفسير بالمأثور، للسيوطي. 21 - دلائل النُّبوَّة، للبيهقي. 22 - ديوان البوصيري. 23 - رسائل إخوان الصَّفا. 24 - تفسير روح المعاني، للآلوسي. 25 - سنن ابن ماجه. 26 - سنن الترمذي. 27 - سنن الدَّارمي. 28 - سيرة ابن إسحاق. 29 - السِّيرة النَّبويَّة، لابن هشام. 30 - شرح المقاصد، للتفتازاني. 31 - شرح المواقف، للجرجاني. 32 - شرح جمع الجوامع، للمحلَّي. 33 - شرح ذريعة الوصول إلى اقتباس زُبَد الأصول، للأشخر الزبيدي. 34 - شرح مشكل الآثار, للطحاوي. 35 - شرح معاني الآثار, للطحاوي.

36 - صحيح البخاري. 37 - صحيح مسلم. 38 - صِفة الصَّفوة، لابن الجوزي. 39 - العبادة، للمؤلِّف نفسه (¬1). 40 - الفتاوى الحديثية، لابن حجر المكي. 41 - فتح الباري شرح صحيح البخاري، للحافظ ابن حجر. 42 - الفِصَل في المِلَل والأهواء والنِّحَل، لابن حزم. 43 - الكتاب المقدَّس عند أهل الكتاب (العهد القديم والجديد). 44 - كتب أبي حامد الغزالي العقديَّة. 45 - كتب محيي الدين ابن عربي. 46 - كشف الغطا، للشيخ سالم بن عبد الرحمن باصهي (¬2). 47 - المختصر في أخبار البشر، لأبي الفداء. 48 - المستدرك على الصَّحيحين، للحاكم. 49 - مسند الإمام أحمد بن حنبل. 50 - مغني اللَّبيب عن كتب الأعاريب، لابن هشام. 51 - مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصبهاني. ¬

_ (¬1) سمَّاها في رسالة "حقيقة البِدعة": "رفع الاشتباه عن معنى العبادة والإله وتحقيق معنى التوحيد والشرك". (¬2) سمَّاها في موضع آخر من رسالة "الرد على الضَّالعي": "كشف الغطا عمَّا يحصل لبعض السَّالكين من الخطأ عند مقدِّمات حال الفنا والفتح والمواهب والعطا".

52 - مقدِّمة فتح الباري لابن حجر. 53 - المِلَل والنَّحَل، للشهرستاني. 54 - الموافقات، للشَّاطبي. 55 - المواقف، للإيجي. ***

منهجي في تحقيق هذا المجموع

منهجي في تحقيق هذا المجموع 1 - قمتُ بإثبات نصِّ المؤلِّف رحمه الله في رسائله، وقد أغيِّر شيئًا لخطأ ظاهر داعيه سبق قلمٍ، وأشير إلى ذلك في الهامش. 2 - كتب المؤلِّف رحمه الله في بعض رسائله هوامش فأثبتُّها مع إتباعي لها بكلمة [المؤلِّف]، فصلاً لهوامشه عن هوامشي. وإن استدعى التَّهميش على هامشه كان ذلك بعد كلمة [المؤلف]. 3 - نقلت إلى المتن ما جعله الشيخ رحمه الله في الهامش من العزو لآيات القرآن الكريم في بعض رسائله، واضعًا اسم السورة ورقم الآية تِلوَها. 4 - خدمت نصوص الرسائل علميًّا، فخرَّجت آياتها وأحاديثها وأشعارها، ووثَّقت نصوصها، وعلَّقت ما رأيت أهميَّة التعليق عليه. 5 - قدَّمت بمقدَّمة تمهيديَّة؛ للتعريف بكل رسالةٍ، وصنعت في آخرها فهارس لفظيَّة لها، ثم فهرسًا تفصيليًّا شاملًا لموضوعات كلِّ رسالةٍ. عدنان بن صفاخان بن شهاب الدين البخاري المدرس بدار الحديث الخيرية بمكة المكرَّمة السبت 19/ 10/ 1432 هـ حسابي على تويتر: 20 adnansafa@

نماذج من النُّسخ الخطية

الورقة الأولى من رسالة "حقيقة التأويل"

الورقة قبل الأخيرة من "حقيقة التأويل"

الورقة الأولى من "الرد على الضالعي"

الورقة الأخيرة من "الرد على الضالعي"

الرياضة الصوفية

الورقة الأولى من رسالة "الشفاعة"

من رسالة "تعلق العقائد بالزمان والمكان"

آثار الشيخ العَلّامَة عبد الرحمن بن يحيى المُعَلِّميّ (6) مجموع رسائل العقيدة تأليف الشيخ العلاَّمة عبد الرحمن بن يحيى المُعَلِّميّ اليماني 1312 هـ - 1386 هـ تحقيق عدنان بن صفاخان البخاري وفق المنهج المعتمد من الشيخ العلاَّمة بكر بن عبد الله أبو زيد (رحمه الله تعالى) تمويل مؤسسة سُليمان بن عبد العزيز الرَّاجحيِّ الخيرية دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

الرسالة الأولى حقيقة التأويل

الرسالة الأولى حقيقة التأويل

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجًا، ويسّر الدّين لعباده ولم يجعل في معرفته ضيقًا ولا حرجًا، وأشهد ألَّا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، شهادة من تحقّق بها فقد نجا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، السّالك بمتبعيه سراطًا قيِّمًا وسبيلاً منهجًا، فأقامهم على أوضح المسالك، وتركهم على البيضاء ليلها كنهارها, لا يزيغ عنها إلاَّ هالك، صلّى الله وسلّم وبارك عليه وعلى آله، ورضي الله عن صحابته المتقدمين بقاله وحاله. أمّا بعد: فهذه رسالةٌ في حقيقة التأويل، وتمييز حقه من باطله، وتحقيق أنّ الحقَّ منه لا يلزم من القول به نسبة الشريعة إلى ما نزَّهها الله عزَّ وجلَّ عنه من الإيهام والتورية، والإلغاز والتّعمية، ومن الله عزَّ وجلَّ أستمدُّ المعونة والتوفيق. ***

الباب الأول: في معنى التأويل

الباب الأول: في معنى التأويل التأويل في اللغة: مصدر أوّل يُؤوِّل، وأوّل فعَّل - بتشديد أوسطه - ثلاثيُّه آل يَؤوْلُ أوْلًا. قال أهل اللغة: الأوْلُ الرجوع. وهذا تفسيرٌ تقريبي. وأغلب ما تستعمل في الرجوع، الذي فيه معنى الصَّيرورة. ومن أمثلة اللغويين: "طُبِخَ الشَّراب فآل إلى قَدْر كذا وكذا". ولذلك عدَّ بعض النُّحاة "آل" في الأفعال التي تجيء بمعنى "صار"، وتعمل عملها. و"آل" قريبٌ من معنى "حال"، أي: تَحَوَّل من حالٍ إلى حال، وأكثر ما يقال: اسْتَحَال. وفي الحديث: "فاسْتَحالَت غَرْبًا" (¬1)، إلاَّ أنَّ "حال" و"اسْتَحَال" يختص بما تحوَّل إلى حالٍ غير ناشئةٍ عن حالهِ الأولى؛ و"آل" تكون حاله الثانية ناشئة عن الأولى، كقولك: "ربما تَؤُول البدعة إلى الكفر". أو ناشئة عما جُعل "آل" غاية له، كقولهم: "طُبِخَ الشَراب حتى آل إلى قَدْر كذا وكذا". وفرقٌ ثان، وهو أنّ "حال" و"اسْتَحَال" قد يكون بسرعة، كما في الحديث: "فاسْتَحَالَت غَرْبًا". و"آل" يقتضي أنَّه بعد مُدَّةٍ، كما في "طُبِخَ الشَّراب"، أو ما هو كالمُدَّة، وذلك أن يكون في رجوع الشيء إلى الشيء بغموضٍ وخفاء، كقولك: إنّ إخراج النصوص الشرعية عن ظواهرها بمجرّد الرأي والهوى يؤول إلى الكفر؛ تريد أنَّه كفر، إلاَّ أنّ كونه كفرًا إنّما يُعْلَم بعد ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3682) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وبرقم (7475) ومسلم (2392) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

تروٍّ وتدبُّرٍ؛ ولذلك لا يكفر كلُّ من فعل ذلك؛ لأنَّه قد يكون معذورًا. والتّأويل مأخوذٌ من هذا، فهو أن يجعل الكلام يؤول إلى معنى لم يكن ظاهرًا منه، فآل الكلامُ إلى أنْ حُمِلَ على ذلك المعنى بعد أن كان غير ظاهرٍ فيه. والتّأويل قد يكون للرُّؤيا، وقد يكون للفعل، وقد يكون للَّفظ. فأمّا تأويل الرُّؤيا: فالأصلُ فيه أنَّه مصدر أَوَّلَ العابرُ الرُّؤيا تأويلاً، أي: ذكر أنَّها تؤول إلى كذا، ويذكر ما يزعم أنَّه رمز بها إليه. وكثيرًا ما يُطلق على المعنى الذي تؤول به، ومنه - والله أعلم - قول الله عزَّ وجلَّ حكاية عن جلساء ملك مصر: {وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ} [يوسف: 44]، ومواضع أخرى في سورة يوسف. ويطلق على نفس الواقعة التي كانت الرؤيا رمزًا إليها، ومنه - والله أعلم - قول الله عزَّ وجلَّ حكاية عن يوسف عليه السلام: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ} [يوسف: 100]؛ فجعل نفس سجود أبويه وإخوته له هو تأويل رؤياه التي ذكرها بقوله: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4]. وأمّا تأويل الفعل: فهو توجيهه بذكر الباعث عليه والمقصود منه؛ فيتبين بذلك أنه على وفق الحكمة بعد أن كان متوهما فيه أنَّه مخالفٌ لها، ومنه ما حكاه الله عزَّ وجلَّ عن الخضر: {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف: 78]. وقد يطلق على العاقبة التي يؤول إليها الفعل؛ وبه فسّر قتادة وغيره قول الله عزَّ وجلَّ: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59].

وأمّا تأويل اللفظ: فالأصل فيه أن يحمل على معنى لم يكن ظاهرًا منه، فالكلام الذي لا يظهر معناه لكثيرٍ من سامعيه يكون بيان أنّ معناه كذا تأويلاً، والكلام الذي يظهر منه معنىً يكون بيان أنّ معناه غير ذلك الظاهر تأويلًا. ويُطلَق على نفس المعنى الذي حُمِل عليه. ويُطلَق على نفس الحقيقة التي عُبّر عنها باللفظ؛ فإذا قال المفسِّر في قوله تعالى: {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} [القلم: 25]، {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات: 15]، {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59]، {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان: 68]، {سَأُرْهِقُهُ (¬1) صَعُودًا} [المدثر: 17]. "الحَرْدُ": المنعُ، "ويلٌ وغيٌّ وأثام": أوديةٌ في جهنم. و"صَعُودٌ": جبلٌ فيها. فحَمْلُه إيّاها على هذه المعاني هو التّأويل بالإطلاق الأوّل. ونفسُ تلك المعاني هي التأويل بالإطلاق الثاني. يُقال: ما تأويل الحَرْد؟ فيُقال: المنع، وما تأويل صَعُود؟ فيُقال: تأويله أنّه جبل في جهنم. ونفس المنع، وتلك الأودية، وذلك الجبل: هي التأويل بالإطلاق الثالث. ويحتمل الأوّل والثّاني دعاءُ النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس: "اللهم فقِّهْهُ في الدّين وعلّمه التّأويل" (¬2). ¬

_ (¬1) في الأصل: "سنرهقه". (¬2) أخرجه البخاري (143) ومسلم (2477) من حديث ابن عباس، دون قوله: "وعلمه =

وفي رواية: "اللَّهم علِّمه الحكمة وتأويل الكتاب" (¬1). وقد ذكر الحافظ طرق الحديث في "الفتح"، في كتاب العلم، في شرح باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهم علّمه الكتاب" (¬2). ويحتمل أن يكون المراد: "عَلِّمه كيف يؤول"؛ فيكون من الإطلاق الأول، ويحتمل أن يكون المراد: "علِّمه المعاني التي تؤول إليها ألفاظ الكتاب"، فيكون من الإطلاق الثاني، والله أعلم. ومن الثالث: قول الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 52، 53]، وقوله عزَّ وجلَّ: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى ... بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} [يونس: 37 - 39]. ¬

_ = التأويل". وأخرجه بهذا التمام أحمد (1/ 266) وابن حبان في "صحيحه" (7055) والحاكم في "المستدرك" (3/ 615) وصحَّح إسناده، وقال البوصيري في "إتحاف الخيرة المهرة" (7/ 285): "بسند صحيح". (¬1) أخرجها البخاري (3756) من حديث ابن عباس، دون قوله: "وتأويل الكتاب". وأخرجها بهذا التمام ابن ماجه (166) من طريق عبد الوهاب الثقفي عن خالد الحذَّاء عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما. قال الحافظ في "الفتح" (1/ 170): "هذه الزيادة مستغربة من هذا الوجه, فقد رواه الترمذي والإسماعيلي وغيرهما من طريق عبد الوهاب بدونها، وقد وجدتها عند ابن سعد من وجهٍ آخر عن طاوس عن ابن عباس ... ". (¬2) الفتح (1/ 170).

الباب الثاني: مقدمة في الصدق والكذب

الباب الثاني: مقدمة في الصدق والكذب اعلمْ أنَّ من أعظم نِعَم الله عزَّ وجلَّ على عباده تيسيره لهم الكلام، الذي يتفاهمون به، ولولاه لكانوا كالأنعام أو أضل سبيلًا. أَلَا ترى أنَّ الإنسان إذا نَشَأ مُنْفَرِدًا عن أبناء جِنْسه لا يُدرِك إلاَّ ما وقعت عليه حواسُّه، والحواسُّ لا تهتدي إلى حقائق الأشياء، فإذا رأى مثلًا شجرةً لم يهْتَدِ إلى معرفة نفعها من ضرّها إلاَّ بتجربةٍ، والتجربة قد تُودِي بحياته، ثمَّ لا يهتدي إلى صفة استنباتها، والقيام عليها وإصلاحها إلاَّ بتجربةٍ، قد يفوز فيها، وقد لا يفوز. ولعلَّه يقضي عمره كلَّه في بضع تجارب، ولا يتفرَّغ مع ذلك للنظر في غير قوته، فلا يمكنه تحصيل علمٍ، ولا إتقان صناعةٍ، ولا معرفة ما لم يقع عليه بصرُه من الأرض. فأمّا الدِّين فلا وَصْلَة بينه وبينه إلاَّ بعض أمورٍ كليةٍ، إذا قُضِيَ له أن يتفرّغ لها، ورُزِقَ عقلاً صحيحًا، وذكاءً مرهفًا. ثُمَّ إذا اجتمع هذا بأمثاله، ولم يكن هناك كلامٌ يتفاهمون به، فقد يتعاونون على تحصيل القُوت ونحوه تعاون النمل والنحل، ولكنَّه لا يستطيع أحدهم أنْ يُطْلِعَ الآخر على ما اطَّلَعَ عليه، إلاَّ بأن يذهب به إلى ذلك الشيء حتى يَقِفَه عليه، فإذا كان الذي اطَّلَعَ عليه الأول معنىً من المعاني تعذَّر إطْلَاعُه الآخر عليه. نعم هنالك الإشارة، ولكنَّها ضئيلة الفائدة عسرة الفهم، وأنت ترى الأخرس وما يُعانيه من مشقَّة الحياة، وترى الغريب إذا دخل بلد قومٍ لا يعرفها، ولا يعرف لغتهم، ولا يعرفون لغته ما تكون حاله! فيسَّر الله عزَّ وجلَّ للنَّاس بالكلام أنْ يَطَّلِعَ أحدهم على جميع ما اطَّلَعَ عليه ألوفٌ منهم بأيسر وقتٍ.

فالقضية التي لا يُمكن أن يفهمها بالإشارة، أو يمكن أن يفهمها بعد صرف ساعةٍ أو ساعتين يفهمها بكلمةٍ واحدةٍ، وبذلك بَلَغَ الإنسانُ إلى ما تراه من العِلْم والمدنيَّة. إذن فلولا الكلام لكان الناس كالأنعام. فنعمةٌ هذا شأنها وخطرها ما عسى أن يكون حالُ من استعملها في نقيض مقصودها؟! أَلَا ترى لو أنَّ امرأةً سافرت برضيعها، فنَزَلَت في بيتٍ من مدينة، ثم تَرَكَت طفلها وخَرَجَت، ولمَّا أرادت الرجوع إلى البيت لإرضاع طفلها لم تهتد إلى الطريق، فسألت شخصًا، وذكرت له اسم المحلَّة، فأرشدها إلى الطريق، فرَجَعَت إلى طفلها، فوجدته يكاد يموت، وعَلِمَت أنها لو تأخَّرَت ساعةً مات؛ فأرضعته. ثم تدبَّرَت نعمة الكلام، أليست تعلمُ أنَّها لو كانت بكماء لمات ابنها. فافرض أنّ الذي سَأَلَتْه كذب عليها، فأراها طريقًا تؤدي إلى محلَّة أخرى فذهبت فيها، فمَشَت ساعةً أو أكثر، ثمَّ تبيَّن لها الأمر فسألت آخر فأرشدها، فلم تبلغ البيت إلاَّ وقد مات طفلها، أليست تتمنَّى أنَّ الذي كذب عليها لم يُخْلَق، أو أنَّه كان أصمَّ لا يسمع سؤالها، أو نحو ذلك؟ بلى، وكلُّ إنسان يتمنَّى معها ذلك. ثم افرض أنَّ الذي أخبرها أوَّلًا وَرَّى في خبره، كأن قال لها: هذا القطار يذهب إلى تلك المحلَّة، وأومأ إلى قطار ذاهب إلى جهةٍ أخرى، وعَنَى أنَّه عند رجوعه يذهب إلى تلك المحلَّة أَلا تكون النتيجة واحدة، والمفسدة واحدة؟ سواء أَوَرَّى أم لم يُوَرِّ.

تشديد الشارع في الكذب

تشديد الشارع في الكذب أمّا الكذب على الله عزَّ وجلَّ؛ بأن تُخبر عن الله بما لا علم لك به، ومنه الكذب على رسوله في أمور الدين، فقد نصَّ القرآن على أنَّه من أشد الكفر، وقد أوضحنا هذا في رسالة "العبادة"، بما لا مزيد عليه. وأمّا الكذب في غير ذلك؛ ففي "الصحيحين" (¬1) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "آية المنافق ثلاثٌ: إذا حدَّث كَذَب، وإذا وَعَد أخلَفَ، وإذا اؤتُمِن خان". زاد مسلم (¬2) - بعد قوله: "ثلاثٌ": "وإنْ صام وصلَّى وزَعَم أنَّه مسلم". وفيهما (¬3): عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أربعٌ من كنّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهنّ كانت فيه خصلةٌ من النفاق حتى يَدَعَها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدَّث كَذَب، وإذا عاهد غَدَر، وإذا خاصم فَجَر". ورُوِيَ من حديث أبي أمامة، وسعد بن أبي وقاص، عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: "يُطْبَع المؤمن على الخِلال كلِّها، إلاَّ الخيانة والكذب" (¬4). ¬

_ (¬1) البخاري (33)، ومسلم (59). (¬2) حديث (59). (¬3) البخاري (34) ومسلم (58)، وهذا لفظ البخاري. (¬4) أما حديث أبي أمامة فأخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (13/ 152) وأحمد في =

وإذا تدبَّرتَ وجدتَ الأمور المذكورة كلَّها تدور (¬1) على الكذب، فمن كان إذا وَعَدَ أخْلَفَ فإنَّه يكذب في وعده، فيقول: سأفعل، وهو يريد أن لا يفعل! والخائن موطِّنٌ نفسه على الكذب، يقال له: عندك كذا، أو فعلت كذا؟ فيقول: لا. ومن كان إذا عاهَدَ غَدَر فهو كالوعد، بل لو كانت نيَّتُه عند المعاهدة أن يَفِي ثم غدر لكان كاذبًا, لأنَّ قضية المعاهدة أنَّه سَيَفِي حتمًا، بخلاف الوعد، ¬

_ = "المسند" (5/ 252) من طريق الأعمش قال: حُدِّثتُ عن أبي أمامة رضي الله عنه بنحوه. ورجاله ثقات غير أنه منقطع. وأمَّا حديث سعد فأخرجه أبو يعلى (711) والبزَّار (3/ 340) والبيهقي (10/ 197) والضياء في "المختارة" (3/ 258) وغيرهم، من طريق علي بن هاشم بن البريد عن الأعمش عن أبي إسحاق عن مصعب بن سعد عن أبيه رضي الله عنه به مرفوعًا. قال البزَّار: "رُوِيَ عن سعد من غير وجهٍ موقوفًا, ولا نعلم أسنده إلاَّ علي بن هاشم بهذا الإسناد". وأشار الدارقطني في "العلل" (4/ 330) إلى مخالفة ابن البريد بذكره أبا إسحاق في إسناده، ثم رجَّح وقفه على سعد، وكذا رجَّحه أبو زرعة الرازي كما في "العلل" لابن أبي حاتم (2/ 328). ورُوِيَ من طريق أبي شيبة إبراهيم بن عثمان بن أبي شيبة العبسي - وهو متروك - عن سلمة بن كهيل عن مصعب بن سعد عن سعد بن مالك به. ورُوِيَ أيضًا من حديث ابن عمر وابن أبي أوفى وأبي بكر وابن مسعود وغيرهم مرفوعًا وموقوفًا ولا يصحُّ في المرفوع شيءٌ. وينظر في تخريج الحديث والكلام على طرقه: "السلسلة الضعيفة" للألباني (3215)، وتخريج الشيخ شعيب الأرناؤوط لـ "مسند أحمد" (36/ 504 - 505). (¬1) في الأصل: "يدور".

الترخيص في بعض ما يسمى كذبا

فإنَّ العادة كالمقاضية (¬1) بأنّ مراده أنَّه سيفعل إذا لم يعرض له ما يغيّر رأيه. وأمَّا الفجور في الخصومة فمعناه: أنَّه يفتري على خصمه ويَبْهَتُه بما ليس فيه، وذلك هو الكذب. وحسبُك أنّ الإنسان المعروف بالكذب قد سَلَخَ نفسه من الإنسانية، فإنَّ من يعرفُه لم يَعُد يَثِقُ بخبره، فلا يستفيد النَّاس منه شيئًا، ومَن لم يعرفه يَقَعُ بظنِّه صدْقَهُ في المفاسد والمضارّ، فأنت ترى أنَّ موت هذا الرجل خيرٌ للنّاس من حياته، وهَبْهُ يتحرّى من الكذب ما لا يضرُّ فإنَّه لا يستطيع ذلك، ولو اسْطَاعَهُ لكان إضراره بنفسه إذ أفقدها ثقة الناس به. على أنَّ الكذبة الواحدة كافيةٌ لتُزَلْزِلَ ثقةَ الناس به. التَّرخيص في بعض ما يسمَّى كذبًا في "الصحيحين" (¬2) من حديث أم كلثوم بنت عقبة عن النّبي - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال: "ليس الكذَّابُ الذي يُصِلحُ بين الناس، ويقول خيرًا أو ينمي خيرًا". قال الحافظ في "الفتح" (¬3): "قال العلماء: المراد هنا أنَّه يخبر بما عَلِمَه من الخير، ويسكت عمَّا علِمَه من الشرّ، ولا يكون ذلك كذبًا". وزاد مسلمٌ (¬4) في رواية: "قال ابن شهاب: ولم أسمع يرخَّص في شيء ممَّا يقول النّاس كذبٌ، إلاَّ في ثلاثٍ: الحرب، والإصلاح بين الناس، ¬

_ (¬1) كذا في الأصل. (¬2) البخاري (2692) ومسلم (2605). (¬3) (5/ 299). (¬4) حديث (2605).

وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها". ثم ذكر أنَّ بعض الرُّواة أدرج هذا الكلام، فجعله من قول أم كلثوم بلفظ: "وقالت: ولم أسمعه يرخِّص ... ". وبيَّن الحافظ في "الفتح" أنَّ الذي أدْرَجَه في الحديث وَهِم، والصواب أنَّه من قول الزُّهري، ونقل الحُكْمَ بالإدراج عن النسائي وموسى بن هارون وغيرهما، ثم قال: "قال الطَّبري: ذهبت طائفةٌ إلى جواز الكذب لقصد الإصلاح، وقالوا: إنّ الثلاث المذكورة كالمثال، وقالوا: الكذب المذموم إنّما هو فيما (¬1) فيه مضرَّة، أو ما ليس فيه مصلحة. وقال آخرون: لا يجوز الكذب في شيءٍ مطلقًا، وحملوا الكذب المراد هنا على التَّورية والتَّعريض، كَمَن يقول للظالم: دَعَوْتُ لك أمس، وهو يريد قوله: اللهم اغفر للمسلمين ... ". ثم قال الحافظ: " ... واتفقوا على جواز الكذب عند الاضطرار، كما لو قصد ظالمٌ قتل رجل - وهو مختفٍ عنده - فله أن ينفي كونه عنده ويحلف على ذلك، ولا يأثم، والله أعلم". أقول: مهما خلا الكذب عن المفسدة، فلا يكاد يخلو عن إفقاد صاحبِهِ ثقةَ الناسِ بكلامه، وحرمانِهِم الاستفادة من خَبَرِه بقيَّة عُمره، فهو يستفيد من أخبارهم، ولا يثقون به فيستفيدوا من خبره. ولعل سقوط ثقتهم بخَبَرِه يوقعُهُم في مضارَّ، ويصرف عنهم مصالح ممَّا يُخبرهم به صادقًا فلا يصدِّقونه. ولو أبيح الكذب في الإصلاح، فكَذَبَ المصلحُ لأَوْشَكَ أن يُعْرَف كذبه فتسقط الثقة به. ¬

_ (¬1) في الأصل: "ما". والتصويب من "الفتح" (5/ 300).

وافرض أنَّه عُلِم عُذْرُه، فإنَّها على ذلك تسقط الثِّقة به في الإصلاح، فإذا قال خيرًا أو نَمَى خيرًا بعد ذلك لم يُصَدَّق، وإن كان صادقًا؛ لأنَّه قد عُرِف استحلاله الكذب في ذلك، ومع هذا فإنها تَتَزَلْزَل (¬1) الثقة بخبره في غير الإصلاح أيضًا، إذ يقول الناس: لعلَّه يَرَى في خبره هذا إصلاحًا، فيستحلّ الكذب فيه! وقريبٌ مِنْ هذا: حالُ الكذب في الحرب، وكذبُ كلٍّ من الزوجين على الآخر. وأنا نفسي كانت إذا سألتني زوجتي ما لا أريد أقول لها: أفعل إن شاء الله! قاصدًا لتَّعليق، فلمَّا قلتُ ذلك ثلاث مرَّاتٍ أو أزْيَدَ فَطِنَت للقضَّية! فصارَت لا تثق بوعدي إذا قلتُ: سأفعل إن شاء الله، فوقعتُ في مشكلةٍ؛ لأنّني أحتاج إلى أن أقول: "إن شاء الله" في كل وعدٍ وإن أردت الوفاء به؛ للأمر الشرعي بذلك (¬2). وقولك لظالمٍ: "دعوتُ لك أمس" فيه مفاسد؛ لأنَّه إن كان يُحْسِن الظَّن بك، وحَمَل قولَك على ظاهره جَرَّأَه ذلك على الظُّلم، قائلاً: إنّ دعاء هذا الصَّالح لي يدلُّ على أنَّه يرائي من أهل الخير، وأنَّ ما يخطر لي من التأويل في هذه الأمور التي يزعم الناس أنَّها ظلمٌ هو تأويلٌ صحيحٌ! وما من ظالمٍ إلاَّ والشيطان يوسوسُ له بتأويلٍ ما يبرِّر به صنيعه. ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، والضمير للقصة. (¬2) يعني لأمر الشارع في قوله: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23، 24].

وإن استبعد دعاءك له اعتقد كَذِبَك ومداهَنَتَك له، وطَمِعَ منك في غيرها، وزالت من قلبه هيبَتُه لك في الله، وأوشك أن تنالك منه مضرَّةٌ؛ لسقوطك من عينه، ويجترئ مع ذلك على المظالم، قائلاً: الناس سواسية، هذا الذي يُقَال صالحٌ يكذب ويُدَاهِن الظَّلَمَة! فلو استطاع الظُّلمَ لَظَلَم! وإذا تَنَبَّه لاحتمال كلامك التَّورية لَمْ تأمن أنْ يَحْمِل قولَك: "دعوتُ لك" على "دعوتُ عليك"، يقول: كأنَّه أراد "دعوت لأجلك" أي: دعوت الله تعالى أن يريح الناس من شَرِّكَ، أو نحو ذلك. والحاصل أن الكذب لا يخلو عن المفاسد، ولكن إذا تعيَّن طريقًا لدفع مفسدةٍ عظيمةٍ - كالقتل ظلمًا - جاز، على قاعدة تعارض المفسدتين. والمنقول من هذا إنَّما هو في التَّورية، كقول إبراهيم لزوجته: هي أختي؛ لعِلْمِه أنه لو قال: زوجتي لقتلوه. وقوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89]؛ لأنَّه أراد أن يتوصَّل إلى تكسير أصنامهم، وفي ذلك دفع مفسدة عظيمة. وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 63]؛ لأنَّه أراد أن يتوصَّل بذلك إلى إنقاذهم من الشرك، والشرك أعظم المفاسد، مع أنَّهم إذا خَلَصوا من الشرك خَلَصَ هو من القتل، وظنِّي أنَّ هذه كلَّها كانت قبل أن يُنَبَّأَ إبراهيمُ عليه السَّلام، كما قرَّرْتُه في "رسالة العبادة". وكلٌّ من هذه الثلاث فيها تورية قريبة، والحال التي كان عليها شِبْه قرينة تشكَّك في حَمْل كلامه على ظاهره، فيصير بها الكلام كالمُجْمَل.

وإيضاح هذا: أنَّه قد علم أنَّه لو تبيَّن للظَّلَمة أنَّها امرأته لقتلوه، وإذا عرف ذلك فيبعُدُ أن يعترف بأنَّها امرأته. ومثل هذه الحال تُوْقِعُ عادةً في الكذب المَحْض؛ ولهذا لا يشق الناس بخبر مَنْ وَقَعَ في مثلها، فإذا عَرَفَوا منه التحفُّظ من الكذب قالوا: لعلَّه ورَّى، فهذا شِبْهُ قرينة. أَوَلَا ترى الناس لا يرتابون في قول الغنيِّ لبعض المال الذي تحت يده: هذا مال امرأتي؟ ويرتابون في مثل هذا القول إذا وَقَعَ من مفلسٍ أو مُصَادَرٍ. ومع هذا كلّه؛ فقد سمَّى الشارع هذه الثلاث الكلمات كذبات، فقال النّبي - صلى الله عليه وسلم -: "لم يكذب إبراهيمُ إلاَّ ثلاث كذبات، كُلُّهنَّ في ذات الله ... " والحديث في "الصحيحين" (¬1). وجاء في الشرع ما يدلُّ أنَّ مثل هذا من الكذب لا يخلو من مخالفة، ففي "الصحيحين" (¬2) في حديث الشفاعة: "فيأتون آدم فيقولون: ... اشفع لنا عند ربّك ... ، فيقول: لست هُناكم، ويذكر خطيئته التي أصاب، أكلُهُ من الشَّجرة وقد نُهِيَ عنها ... فيأتون نوحًا، فيقول: لست هناك، ويذكر خطيئته التي أصاب، سؤاله ربه بغير علم ... فيأتون إبراهيم، فيقول: إنَّي لست هناكم، ويذكر ثلاث كذبات كذبهنَّ ... ". وهناك ثلاثة أنواع دون ما ذُكِر: أوَّلُها: الإيهام: كأَنْ يريد غزوة جهة الشَّرق، فيسأل عن الطَّريق التي في جهة الغرب، حتى إذا كان جاسوسٌ يرى الاستعداد للغزو، يسمع ذلك ¬

_ (¬1) البخاري (3358) ومسلم (2371)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) البخاري (4476) ومسلم (193)، من حديث أنس رضي الله عنه بنحوه.

السؤال، فيَتَوَهَّمُ أنَّ القصد جهة الغرب، فإذا رجع إلى العدو الشرقيِّ أخبرهم بذلك، فيكفوا عن الاستعداد. وبهذا أو نحوه فُسِّر ما جاء في "الصَّحيح" (¬1) أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد غزوةً وَرَّى بغيرها. وليس ذلك بكذبٍ. على أنَّ مِن شأن مَن يريد غزوةً أن يكتم قصْدَه، ويحرص على إيهام العدوِّ أنَّه لا يقصدهم، وهذا شِبْهُ قرينةٍ تُشكِّك في الإيهام المذكور. ثانيها: الكلامُ الموجَّهُ، وهو الذي يحتمل معنيين فأكثر على السواء، وليس هذا أيضًا من الكذب في شيءٍ ألبتة. ثالثها: أن يكون الكلام ظاهرًا في المعنى المراد، ولكنَّه صِيغَ مَصَاغًا يستخفُّ المُخَاطَب، فإذا استعجل فَهِمَ خلاف المقصود. وقد نُقِل شيءٌ من هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -, كان ربّما تعمّده تأديبًا للمُخَاطَبِين، وتعليمًا لهم أن لا يستعجلوا في فهم الكلام قبل التروِّي فيه. فمن ذلك: ما رُوِيَ أنَّ رجلاً سأله أن يحمِلَه على بعيرٍ، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "لأحملنَّك على ولد ناقةٍ"، فاستعجل الرجل وقال: وما أصنع بولد ناقةٍ؟! فقال: "وهل تَلِدُ الإبلَ إلاَّ النُّوقُ؟ " (¬2). ¬

_ (¬1) البخاري (2947) ومسلم (2769)، من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه. (¬2) أخرجه أحمد (3/ 267) وأبو داود (4998) والترمذي (1991) وغيرهم، من طرقٍ عن خالد الطحَّان عن حميد الطويل عن أنسٍ رضي الله عنه به. وقد صحَّحه الترمذي عقبه، والألباني على شرط الشيخين في "مختصر الشمائل" للترمذي (203) و"صحيح الأدب المفرد" (202).

العرفُ قد صيَّر الظَّاهر من قولنا: "ولد ناقةٍ"، أو "ولد بقرةٍ"، أو نحو ذلك هو الصَّغير، ولكنّ قوله: "لأَحْمِلَنَّك" قرينةٌ واضحةٌ أنَّه لم يُرِد الصَّغيرة؛ لأنَّ الصَّغير لا يُحْمَل عليه. ومثله ما يُروَى: أنَّ امرأةً مَرَّت تسأل عن زوجها، وقد كان خرج من عندها قبل قليل؟ فقال لها - صلى الله عليه وسلم -: "هو ذاك في عينيه بياض" (¬1). فالعُرْفُ قد جعل الظَّاهر من قولنا: "في عَيْنَي فلان بياضٌ" هو البَيَاض العارِض، ولكنَّ العادة قاضيةٌ بأنَّ البَيَاض العارض لا يَحْدُث في ساعةٍ. ومنه ما يُروَى أنَّه قال لامرأةٍ من المسلمات قد قرأت القرآن وفهمته: "لا تدخل الجَنَّة عجوزٌ"! فلمَّا فَزِعَت قال لها: "أَمَا تقرئين القرآن: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} [الواقعة: 35، 36]؟ " (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه الزبير بن بكار في "الفكاهة والمزاح" من حديث زيد بن أسلم مرسلاً، وابن أبي الدنيا من حديث عبدة بن سهم الفِهري، مع اختلاف؛ كما في "تخريج أحاديث الإحياء" للعراقي (3/ 1574)، وقد أورده ابن الأثير في "جامع الأصول" (11/ 55) وجعله من زوائد رزين بن معاوية في "التجريد". وينظر في الكلام على زوائد رزين في "التجريد": "سير أعلام النبلاء" (20/ 205)، و"تاريخ الإِسلام" (36/ 376)، كلاهما للذهبي. (¬2) أخرجه عبد بن حميد كما في "تفسير ابن كثير" (7/ 532) ومن طريقه الترمذي في "الشمائل" (240) ومن طريقه البغوي في "تفسيره" (4/ 283) والبيهقي في "البعث والنشور" (346) وغيرهم، من طريق مبارك بن فضالة عن الحسن البصري مرسلًا. وأخرجه الطبراني في "الأوسط" (5/ 357) من طريق مسعدة بن اليسع عن ابن أبي عروبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن عائشة بنحوه مرفوعًا. وفي إسناده "مسعدة"، وهو متروك =

فقد علمتَ فيما تقدَّم حقيقة الكذب وقبحه، وأنّه غير محمود حتى في حال الضرورة، كما في قول إبراهيم عليه السلام: "هي أختي"، وتعلم أنّ الله عزَّ وجلَّ سمّى نفسه الحقّ، وبعث الرسول بالحقّ، وأنزل الكتاب بالحق، وأنزل الكتاب هدىً للناس، وبعث الرسول هدى للنّاس، وهو سبحانه وتعالى الغني عن العالمين، فكيف يجوز عليه تبارك وتعالى أن يكذب، أو يأمر رسوله بالكذب، أو يُقرَّه على الكذب؟! وكيف يجوز على رسوله الكذب؟! وقد جعل الله تعالى الكذب عليه من أشد الكفر، فقال: {فَمَنْ (¬1) أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ} [الزمر: 32]، وقال لرسوله: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]. فأنّى يُجَوِّزُ مسلم أنْ يكذِبَ ربُّ العالمين، أو أنْ يكذِبَ رسوله الصّادق الأمين؟! ... ¬

_ = وأخرجه البيهقي في "البعث" (343) وأبو الشيخ في "أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - " (186) من طريق الليث عن مجاهد عن عائشة بنحوه مرفوعًا. وفيه "ليث" وهو ابن أبي سليم، ضعيف في الرواية. وقد صحَّحه الألباني في "الصحيحة" (2987) بعد أن كان يحسِّنه في "غاية المرام" (375) و"مختصر الشمائل" (205). (¬1) في الأصل: "ومن".

الباب الثالث: في حكم التأويل

الباب الثالث: في حكم التأويل قد تقرّر في الأصول أنَّه لا تكليف إلاَّ بفعل، والفعل إنَّما يتأتَّى في التَّأويل بالإطلاق الأوّل، فأقول: اللّفظ الذي يُرَاد تأويله لا يخلو عن ثلاثة أحوال: الأوّل: أن يكون في العقائد. الثاني: أن يكون إخبارًا عمّا قد وقع، كخلق السماوات والأرض، أو عن أمرٍ كوني، فإنّه واقعٌ، كأحوال الشمس والقمر، أو أنَّه سيقع، كخروج يأجوج ومأجوج. الثالث: أن يكون فيما عدا ذلك، من الأحكام ونحوها. ****

فصل في تأويل النصوص الواردة في العقائد

فصلٌ في تأويل النصوص الواردة في العقائد النُّصوص في العقائد على ضربين: الأوّل: ما ورد في عقيدةٍ كُلَّف النَّاس باعتقادها. والثاني: بخلافه. فالأوّل هو: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، والقدر. والنصوص على ذلك من الكتاب والسنة كثيرة شهيرة. والمقصود من هذا الإيمان هو تحقيق ما أُنشِئَ الإنسان هذه النشأة الدُّنيا لأجله، وهو الابتلاء؛ {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42]. والهلاكُ هو العصيان، والحياة هي الطاعة، ويتفاوت الهلاك والحياة بتفاوت العصيان والطاعة. ولا يُتصوَّر عصيانٌ وطاعة إلاَّ ممَّن عَلِم الأمر والنَّهي، ولا يُتصوَّر العِلم بأمر الله ونهيه إلاَّ بعد الإيمان بأنّه موجودٌ حيٌّ، كما هو واضح، وبأنّه قادر؛ إذ لا يُعْلَم استحقاقُه الطاعة إلاَّ بذلك، وبأنَّه عالمٌ, إذ لا تنبعث النَّفس على الطاعة وتنزجر عن المعصية إلاَّ بذلك، وبأنَّه حكيم، إذ لا يُعْلَم صحَّة النُّبوة ويُوثَق بالجزاء إلاَّ بذلك. وبأنّ الملائكة حقٌّ؛ لأنّهم الوسائط بين الله وأنبيائه، والمُبلِّغون لكتبه، فلا يُعْلَم صحَّة الأمر والنهي وأنَّه من عند الله إلاَّ بعد الإيمان بهم.

وبأنّ كتب الله حقٌّ؛ لأنّها هي الجامعة للأمر والنّهي، فلا يُعْلَم صحَّة ذلك إلاَّ بالإيمان بها. وبأنّ الأنبياء حقٌّ؛ لأنَّهم المبلِّغون للأمر والنّهي، فلا يُعْلَم صحَّة ذلك إلاَّ بالإيمان بهم. وثَمَّ تفاصيل ترجع إلى ما ذُكِرَ، كالإيمان بعِصْمَة الملائكة المبلِّغين، والأنبياء بعد البعثة؛ لأنّ حكمة الله عزَّ وجلَّ تقتضي ذلك، ولا يتمُّ الوثوق بالأمر والنّهي إلاِّ بذلك. وبالبعث بعد الموت؛ لأنَّه لا يُوْثَق بالجزاء إلاَّ بذلك. وبالقَدَر؛ لأنَّه لا يُسَلَّم الإيمان بقُدْرة الله وعِلْمِه وحِكْمَتِه إلاَّ به، وقد اشتهر عن الشافعي - رحمه الله - أنَّه قال: "إذا سلَّم القدرية العِلْم حُجُّوا" (¬1). ¬

_ (¬1) لم أره بهذا اللفظ، ولا مسندًا إليه. وقد حكاه عنه عز الدين بن عبد السلام في "قواعد الأحكام" (2/ 65) بلفظ: "القدرية إذا سلَّمُوا العلم خُصِمُوا"، وابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (23/ 349)، وابن أبي العز في "شرح الطحاوية" (2/ 354) بلفظ: "ناظروا القدرية بالعلم؛ فإن أقرَّوا به خصموا، وإن أنكروا كفروا"، والحافظ في "الفتح" (1/ 119). وقد نسبه ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" (27) إلى كثير من أئمة السَّلف. وأسنده بنحوه إلى عمر بن عبد العزيز رحمه الله في قصة له مع غيلان الدمشقي: عبدُ الله بن أحمد في "السُّنَّة" (2/ 429)، واللَّالكائي في "اعتقاد أهل السُنة" (4/ 713) وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (48/ 208)، ومختصرًا عثمان الدارمي في "الرد على الجهمية" (139). وأسنده عن أبي يوسف القاضي: الخطيبُ في "تاريخه" (7/ 61) في قصة له مع بشر المريسي، وهو في "الأنساب" للسمعاني (11/ 263). =

ولهذا القول غورٌ أبعدُ مما فهموه منه، وقد لوَّحْتُ إليه، وعسى أن أُلمَّ به في موضعٍ آخر. وعامة ما ذُكر يمكن إدراكه بالعقل، ولا سيَّما بعد تنبيه الأنبياء، فآيات الآفاق والأنفس تدلُّ على وجود الله؛ إذ لا بُدَّ للأثر من مُؤَثِّر، فأيُّ أثرٍ نُحسُّ به في الكون لا بد له من مُؤَثِّر، فإذا فُرِضَ مُؤثِّرٌ حادِثٌ كان هو أيضًا محتاجًا إلى آخر، وهكذا حتى ينتهي الفِكْر إلى مُؤَثِّر غنيٍّ بنفسه؛ فهو الله عزَّ وجلَّ. والآثار في الآفاق والأنفس تدلُّ على حياة المُؤَثِّر الأعظم، وقُدْرَتِه، وعِلْمِه، وحِكْمَتِه. وما تدلُّ عليه الآثار من حِكْمَتِه يُوجب العِلْم بأنَّه لم يُنْشِئ الناس هذه النشأةَ عبثًا، ولا يَدَعُهم سُدّى وهَمَلًا، ولا يَكِلُهم إلى عقولهم المحدودة المختلفة، بل لا بدَّ أن يرشدهم، ولا توجد في الكون صورةٌ للإرشاد إلاَّ النُّبوة، وبذلك تثبت النُّبوة، والملائكة، والكتب أيضًا. وأمّا العِلْم بنبوَّة رجلٍ مُعيَّن فتُعْلَم بالمعجزات، وبالعِلْم بطهارة سِيرَته، وحِرْصِه على العمل بما جاء به سرًّا وعَلَنًا، وباستقراء ما جاء به، وظهور أنَّ عامَّته مُطابقٌ للحقِّ والعدل والحكمة. ولا يخدش في ذلك الجهل بوجه الحكمة في بعض ذلك؛ فإن ذلك ¬

_ = وعزاه لإياس بن معاوية: ابنُ عبد البَر في "الاستذكار" (26/ 94). وأسنده لسلاَّم بن سليمان المزني: عبد الله بن أحمد في "السُّنَّة" (2/ 385) وقوام السُنة في "الحجة" (2/ 77). وإنما أطلت تخريجه حيث لم أره مجموعًا في موضعٍ واحدٍ مع شهرته.

ضروريٌّ؛ لأنّ الدّين من شرع الحكيم العليم الذي أحاط بكل شيءٍ علمًا، وعقل المخلوق وعلمه محدود. وأنت ترى عقول النّاس مختلفة، فكم من أمرٍ يجزم كثيرٌ من النّاس بأنَّه خلاف الحِكْمة فيجيء مَن هو أعقل أو أعلم منهم فيُبيِّن لهم وجه الحِكْمة، وقد قال الله عزَّ وجلَّ: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76]. وكثيرٌ من الأحكام يحصل المقصود بالعمل بها، ولا يحتاج إلى العلم بوجه حِكْمتها، وقد يكون العلم بوجه الحِكْمة يفتقر إلى صَرْف مُدَّةٍ طويلةٍ من العمر. ومثل ذلك مثل الطبيب والمريض؛ فإنَّ الطبيب يعلم من طبائع الأمراض والأدوية ما لا يعلمه المريض، ومن ذلك ما لا يُدْرَك إلاَّ بعد صَرْف مُدّةٍ طويلةٍ في التعلُّم، وقد يكون المريض ضعيف الفهم لا يتهيَّأ له معرفة ذلك، ولو أتعب نفسه فيه، ففي مثل هذا ليس على الطبيب إلاَّ إعطاء المريض الدَّواء المناسب، وليس عليه أن يشرح له حقيقة المرض، وأسبابه، وسبب تأثير الدَّواء؛ لأنّ هذا يطول ويُتْعِب في غير فائدة. وبحَسْب المريض أنْ يعلم أنَّ الذي أعطاه الدواء طبيبٌ ناصحٌ، والعلم بذلك لا يحتاج إلى استقراء مستغرقٍ. ولو قال المريض: لا آخذ الدَّواء حتى تشرح لي حقيقة المرض، وأسبابه، وحقيقة الدَّواء، وتأثيره، لعُدَّ أحمق الناس! ولطَرَدَه الطبيب قائلاً: أنا أعالجك رحمةً وشفقة، وقد قام عندك من الدَّلائل ما يكفي في عِلْمِك أنَّي طبيبٌ ناصحٌ، وتعلم أنَّ معرفة ما تريد أن أُعرِّفك به تفتقر إلى علومٍ

ليست عندك، ولعلّ فهمك لا يبلغها، واشتغالي بذلك إضاعةٌ لوقتي ووقتك فيما لا حاجة إليه، وصرفُ الوقت في مداواة العقلاء أولى بي من التَّحامق مع الحَمْقى! هذا كلُّه مع أنّ الطبيب بشر يجوز عليه الغش والخطأ. وبالجملة؛ فالعلم بنبوَّة النَّبي له طرقٌ بعضها أكمل من بعض، ولست الآن في صَدَد الاستيفاء. والمقصود: أنّ الإيمان بما ذُكر هو الذي يتوقّف عليه معرفة الأمر والنّهي. وقد بقي معنىً مهمٌّ، وهو الإيمان بالوحدانية، فالوحدانية في الربوبية قد تكلّم فيها أهل الكلام، ولا حاجة للإطالة فيها، وأمّا وحدانية الألوهية فقد حقَّقتُها في "رسالة العبادة"، والحمد لله. واعْلم أنّ هذه الأمور الضرورية في الإيمان معلومةٌ من الدين بالضرورة، فمَن أراد أن يتأوّل بعض نصوصها تأويلاً يُنافي ما عُلم بالضرورة فلا نزاع في كفره. واعْلم أنَّ في الشريعة نصوصًا عُبِّر فيها عن بعض الصفات المتقدِّمة بلفظ يُرى أنَّ الظَّاهر معنًى آخر. من ذلك قول الله عزَّ وجلَّ: {وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} [النساء: 108]، وقوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4]، وقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة: 7]، وقوله لموسى وهارون

عليهما السلام: {إِنَّنِي مَعَكُمَا} [طه: 46]، وقوله حكايةً عن موسى عليه السلام: {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي} [الشعراء: 62]، وقوله في شأن محمَّد - صلى الله عليه وسلم -: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]، وقوله: {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]، وقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 194] في مواضع من القرآن. غَلِطَ في هذه الآيات طائفتان: الأولى: ما نُقِل عن جهم بن صفوان، مِن زَعْمِه أنَّ الله عزَّ وجلَّ في كل مكان. الطائفة الثانية: المُؤَوِّلون، قالوا: إنَّ هذه الآيات ظاهرها كما قالت الطائفة الأولى، وإنَّما يمكن صَرْفها عن ظاهرها بنحو الدَّلائل التي تُذْكَر في صَرْف آيات الاستواء والعُلُو واليد والوجه ونحوها؛ فإذ قد وافَقَنا السَّلفيُّون على صَرْف آيات المعيَّة عن ظاهرها بتلك الدَّلائل = فيلزمهم موافقتنا في صَرْف سائر الآيات في الصِّفات التي نؤوَّلها نحن. فإنَّ الأدلة هنا وهناك واحدة، أو مستوية؛ فإنْ لم يوافقونا فهم متحكِّمون، وينبغي على الأقل أنْ لا ينكروا علينا ويشنِّعوا في قولٍ قد اضطرُّوا إلى مثله سواء. هذا تقرير ما قالوه، أو يمكن أنْ يقولوه. وأقول: لو تَلَوْا هذه الآيات مع ما قبلها وما بعدها لعلموا أنَّها لا تصلح أنْ تكون شبهةً على ما قالوه، فكيف تكون حُجَّةً؟! وإيضاح ذلك بوجوه:

فصل

الأول: أنَّ هناك قرينة اعتقادية راسخة في فِطَر العَرَب وعقولهم، كافرهم ومسلمهم؛ وهي اعتقادهم أنَّ الله عزَّ وجلَّ على عرشه فوق سماواته. الثاني: أنَّ أهل الحديث ينقلون ما قالوه في هذه الآيات عن سلفهم من الصَّحابة والتَّابعين. فصلٌ واعْلم أنَّه يتّصل بالأمور الضَّرورية للإيمان تفصيلاتٌ لا يتوقَّف الإيمان على العِلم بها، مثل كيفية الحياة والعِلم وغير ذلك، وهناك أمورٌ أخرى لا يتوقَّف الإيمان على العِلم بها أصلاً، وإنَّما وَجَب الإيمان بها بخبر الصادق المصدوق، وعلى هذين تدور رَحَى التّأويل. فمِنْ قائلٍ: هي حياةٌ كَحَيَاتي، ويدٌ كَيَدي، ووَجْهٌ كَوَجْهي، إلى غير ذلك. ومِنْ قائلٍ: هذا يستلزم حدوث الربِّ ونقصه, تعالى عن ذلك، فلا بدَّ من تأويله! ومِنْ قائلٍ: حياةٌ تليق به عزَّ وجلَّ، ويدٌ تليق به سبحانه، ولا أُؤَوِّلُ. ويحتجُّ الأوَّل بأنَّ الله عزَّ وجلَّ قد وصف نفسه بذلك، ووصفه به رسله، وقد قام البرهان على وجوب حَمْل النُّصوص على ظواهرها؛ إذ لو كان المراد بها غير ظاهرها لكانت كذبًا! على ما حقَّقناه في [الباب (¬1)] الثاني (¬2)، وذلك محال. ¬

_ (¬1) في الأصل: "الفصل". (¬2) (ص 10).

وأجاب الثاني عن هذا بأجوبة: أحدُها: أنّ اللَّفظ إنَّما يبقى على ظاهره ما لم تكن هناك قرينة تصرفه إلى معنى آخر. وتحقيق هذا: أنَّ اللَّفظ قد يكون له ظاهر في نفسه، ولكنَّه اقترن به ما صار الظاهر معنى آخر، فقولُك: "إنَّ زيدًا رجع اليوم" ظاهره أنَّه رجع هو نفسه. وقولك: "إنَّ أمس رجع اليوم" لا يظهر منه ذلك، بل يظهر منه أنَّ اليوم مشابهٌ لأمس في كونه صحوًا أو غيمًا أو نحو ذلك، وهذا حقٌّ في نفسه، ولكن لما سُئِل المُؤَؤَّلون عن القرينة ذكروا أمورًا. منها العقل، فقيل: إنَّ العقل لا يصحُّ أن يكون قرينةً إلا إذا كان بديهيًّا حاصلاً للمخاطبين، وفي المعاني العقلية التي تجعلونها هي القرينة ما اعترفتم أنَّه لا يحصل للإنسان إلاَّ بعد ممارسته المعقولات، من المنطق والفلسفة وغير ذلك. هذه النُّصوص الدَّالة على أنَّ الله عزَّ وجلَّ في جِهة العُلُو تُؤَوِّلُونها لمخالفتها العقل، زعمتم! وأنتم تعترفون أنَّ الإيمان بموجودٍ ليس في جهةٍ لا يتهيَّأ للإنسان حتى يمارس المعقولات، ويُوغِل فيها، فعند ذلك تَأْنَسُ نفسه بالتَّصديق بذلك! ذكر هذا الغزالي في كتبه، وغيره (¬1). وإذا كان الحال هكذا، فلو كانت تلك النصوص غير مراد بها ظواهرها لكانت كذبًا؛ لأنَّ القرينة التي يعلم المتكلِّم أنَّ المخاطَب لا يُدركها لا ¬

_ (¬1) يُنظَر: "إحياء علوم الدين" (1/ 185 - 186) و"الاقتصاد في الاعتقاد" (ص 59).

تُخْرِج الكلام عن الكذب، كما تقدم. قالوا: هناك قرينةٌ أخرى، وهي قول الله عزَّ وجلَّّ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، وقوله عزَّ وجلَّ: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4]. قيل لهم: هاتان الآيتان غير ظاهرتين في المعنى الذي تريدون. أمَّا الأول: فلو قلتَ لرجلٍ: "عندي شيء ليس كمثله شيءٌ" لَمَا فهم أنَّه ليس في الكون ما يشبهه من بعض الوجوه، وإنَّما يفهم أنَّه ليس كمثله من جميع الوجوه شيءٌ. وقريبٌ من هذا يُقال في الآية الثانية. فكيف يجوز أن يُكْتَفى في هذا المطلب العظيم بقرينةٍ ظاهرها أنَّها ليست بقرينة؟! وفوق هذا: فقد تقرَّر في الأصول أنَّه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، والحاجةُ في النُّصوص الاعتقادية هي وقت الخطاب، فلو كان المراد جعل هاتين الآيتين قرينةً لوجب قَرْنُهُما، أو إحداهما، أو ما يقوم مقامهما بكلِّ آيةٍ أو حديثٍ يتعلَّق بالصفات، وإلَّا لزم الكذب. فإن قالوا: إذا سمع الإنسان القرينة الواضحة أوّلًا أغنى ذلك عن إعادتها مع كل آيةٍ من آيات الصفات. قيل لهم: بعد فرض تسليم الوضوح لم يكن العمل على هذا، أي: أن لا يتلو النَّبي - صلى الله عليه وسلم - شيئًا من آيات الصفات على أحدٍ حتى يتلو [عليه (¬1)] الآيتين ¬

_ (¬1) في الأصل: "عليهما".

المذكورتين أو إحداهما، بل قد نزل قبلهما كثير من القرآن، وقد كان الرجل يُسْلِم ثم يصلِّي مع النَّبي - صلى الله عليه وسلم - فيتلو في صلاته من القرآن ما شاء الله، ولا يبدأ بإحدى الآيتين، ولعلَّ كثيرًا من الأعراب الذين أسلموا لم يسمعوا الآيتين ولا إحداهما، ولم يقل أحدٌ من العلماء: إنَّه يجب على قارئ القرآن أن لا يقرأه بمَحْضَرٍ من العامَّة إلاَّ بعد أن يذكر لهم الآيتين أو إحداهما، أو ما يقوم مقام ذلك. فإن قالوا: فإنَّه يلزم مثل هذا في آيات التَّحليل العامَّة التي دلَّت آياتٌ أُخَر على تخصيصها، وليست في سياقها، فيمكن أن يكون بعض الأعراب سمع الآية العامَّة فذهب يستحِلُّ كلَّ ما تناولته، مع أنَّ بعضه مُحَرَّم بآيةٍ لم يسمعها، ومثل هذا يُقَال في الأحاديث، وهكذا ما يشبه العموم من كُلِّ دليلٍ ظاهُرُه تحليل شيءٍ، وقد بيَّنه دليلٌ آخر. فالجواب: أنَّ الخطأ في التَّحليل والتَّحريم سهلٌ، فلا يكون المخطئُ كافرًا ولا فاسقًا؛ بل هو معذور مأجور، كما سيأتي إيضاحه. وليس الخطأ في الكفر كذلك، بل قال جَمٌّ غفيرٌ: إنَّ كلَّ مجتهدٍ في الأحكام مصيب. وله غَوْرٌ، وقد أوضحنا ذلك في موضع آخر. حاصله: أنَّ كثيرًا من القوانين لا يكون مطابقًا للحكمة في كلِّ فردٍ من الأفراد، وإنَّما رُوعِيَ مطابقتُه في الأَعَمِّ الأغلب، ومثَّلناه بحدِّ الزِّنا، فرُبَّ شيخٍ غنيٍّ، ضعيف الشَّهوة، قادرٍ على التزوُّج فتَرَكَه، واحتال للاجتماع بامرأة قبيحة يستطيع التزوج بها ولا يعشقها، فزَنَى بها، ولمَّا كان غير مُحْصنٍ فحدُّه الجلد. وآخر شابٌّ فقير، شديد الشهوة، لا يقدر على التزوُّج، صادَفَتْه امرأةٌ

جميلة يعشقها, ولا يستطيع زواجها، فلم يتمالك نفسه أن وقع عليها، وكان قد تزوَّج امرأةً، وبات معها ليلةً واحدةً ثمَّ ماتت، ولمَّا كان مُحْصنًا فحدُّه الرَّجم. فأنت ترى الثاني أحقّ من الأول بالتَّخفيف، ولكنَّ الشرع لم يُخفِّف عنه؛ وإنَّما كان ذلك لأنَّ الجُرأة على المعصية أمرٌ يخفى ولا ينضبط، فأناط الشرعُ الأمر بصفةٍ واضحةٍ منضبطة، وهي الإحصان وعَدَمه؛ لأنَّ الغالب في الزَّاني المُحْصن أن تكون نفسُه أرغب عن الزِّنا من غير المُحْصَن، فإذا زنى مع ذلك كانت جُرأته أشدّ من غير المُحْصَن. ولكنَّ الحَكَمَ العَدْل تبارك وتعالى يَجْبُر ما يستلزمه القانون العام من خَلَلٍ في بعض الجزئيات بقَدَرِه الذي لا يعجزه علم الحقيقة، ولا تقدير ما يوافق الحكمة. ولذلك صورٌ قد ذكرت بعضها في غير [هذا] الموضع، والذي يختصُّ بهذا الموضع هو أنَّ الله عزَّ وجلَّ قد يعلم أنَّ هذا الشيء الذي دلَّت الآية بعمومها على أنَّه حلالٌ، وبيَّنت آيةٌ أُخرى أنّه حرام = يعلم سبحانه أنَّ الحِكْمة لا تقتضي تحريم ذلك الشيء على هذا الشخص، فيَسَّره سبحانه بقَدَرِه إلى أن يسمع الآية العامَّة ولا يسمع الآية الأخرى، فهو وإن كان مخطئًا بالنَّظر إلى الحكم الشرعيِّ، فهو مصيبٌ بالنَّظر إلى الحكم الذي علم الله عزَّ وجلَّ أنَّه أنسب به، ولا يأتي مثل هذا في الكفر. واعْلَم أنَّ المُؤَوِّلين يُكابِرون، والمكابرة لا علاج لها إلاَّ الكَيُّ، ولكنَّ جماعةً من متبحِّريهم أَنِفُوا من المكابرة ووقعوا في شرًّ منها؛ لأنَّهم أصرُّوا على شُبهاتهم الفلسفية.

ثم قال بعضهم: إنَّ المقصود من الشريعة هو إصلاح حال البشر حتى يمتثلوا الأمر ويجتنبوا النَّهي، وإنَّما ضمَّت من العقائد ما يتوقَّف ذلك عليه، وأمَّا ما عدا ذلك فإنها جاءت بما يوافق اعتقاد غالب الناس وإن كان خطأً في نفسه! وإنَّما فَعَلَت ذلك لئلَّا تصدَّ النّاس عن قبول الشريعة إذا جاءت بما يُخالف عقائدهم! قالوا: فجاءت بأنَّ الله عزَّ وجلَّ مُستوٍ على عرشه فوق سماواته، وأنَّ له وجهًا ويدًا وقدمًا، وغير ذلك ممَّا هو عندهم من خواصِّ الأجسام! قالوا: لأنَّ غالب النَّاس - بل كلَّهم إلاَّ من تغلغل في المعقولات - لا يُصدِّقون بموجودٍ قائم بذاته، ليس بجسمٍ، ولا في جهةٍ! وعند هؤلاء أنَّ عامَّة الصَّحابة والتَّابعين وغالب الأمَّة مخطئون في اعتقادهم، يلزمهم القول بحدوث الحقِّ عزَّ وجلَّ ونقصه تبارك وتعالى، ولكنَّ الشريعة أقرَّتهم على ذلك، فليسوا بكفَّارٍ، ولا فُسَّاقٍ في حكم الشَّرع. وأنت ترى أنَّ هؤلاء أدنى من المكابرين إلى العقل في بادئ الرَّأي، ولكنَّهم أخبث منهم؛ فإنَّهم يقولون: لا ريب أنَّ آيات الصِّفات وأحاديثها ظاهرةٌ في الباطل، ولم تكن هناك قرينةٌ كافيةٌ لصَرْفها عن ذلك، وعامَّة الصَّحابة والتابعين وغالب مَنْ بَعْدَهم فَهِموا منها المعنى الباطل، وهي في نفسها مسوقة سياقًا يُفْهَم منه المعنى الباطل، وذلك كذبٌ لا محالة، ولكنَّ الكذب لإصلاح النّاس حَسَنٌ! فجَوَّز هؤلاء - بل نسبوا - الكذب إلى الله وكتابه ورسوله {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف: 5].

ثُمَّ يقال لهم: لو سُلِّم أنَّ الكذب قد يكون حسنًا، فإنَّما ذلك من الإنسان العاجز المحتاج. ولو لم يستحل أن يقع من الله عزَّ وجلَّ ورسوله شيءٌ من هذا الكذب فقد كان يجب أن لا يكون إلاَّ عند الحاجة، ولا حاجة إلى تلك الآيات والأحاديث، فكان يكفي أن يُثبت لله عزَّ وجلَّ ما لا بُدَّ منه، ويُعْرِض عمَّا عدا ذلك ممَّا يخطئ النَّاس فيه من الاعتقاد، فلا يردّه عليهم! فأمَّا أن يُصرِّح بما يوافق اعتقادهم الخاطئ، ويؤكِّده، ويكرِّره في مواضع لا تُحْصَى، فهذا ما لا يُتوهَّم جوازه؛ لأنَّ الإصلاح المقصود لا يتوقَّف عليه. وقد حكم الله عزَّ وجلَّ بكفر مَن نسب إليه الولد، وقال في ربه بما لا برهان له به وغير ذلك، قبل بعثة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وبعدها. وإذا تدبّرت ما قدَّمناه في تشديد الله ورسوله في الكذب ازددت بصيرةً في هذا إن شاء الله تعالى. ووجهٌ آخر، وهو: أنَّه قد كان في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جماعةٌ من أهل الذَّكاء والفِطْنة وسلامة العقل، يلازمون النَّبي - صلى الله عليه وسلم - حضرًا وسفرًا، ويصدِّقونه في كلِّ ما يقول؛ أَفَمَا كان ينبغي أن يبوح لهم بالحقيقة، ويأمرهم أن يبوحوا بها لِمَن وثقُوا بذكائه وفِطْنته، وهكذا يتسلسل هذا الأمر في كبار العلماء في كلّ قرن. فما بالُنا نجد كبار العلماء - من الصَّحابة والتَّابعين فمَن بعدهم - هم أشدُّ الناس بُعدًا عن هذا الاعتقاد.

وعامَّة من خاض في ذلك هم ممَّن لم ينشأ على العلم، ولا لازم العلماء، ولا تبحَّر في الكتاب والسُّنة، وإنَّما أئمتهم الجعد بن درهم، وجهم بن صفوان، وأشباههم مِمَّن لا تُعرَف له عناية بالعلوم الدِّينية، ولا ملازمة لأئمَّتها، فقام الأئمة المشهورون بالعلم ومُلازمة أهل العلم فبدَّعوا هؤلاء وضلَّلوهم وكفَّروهم، كما هو معروف. فإن قال قائلٌ: لعلَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - أوصاهم بالكتمان! قيل له - مع العلم ببطلان قوله -: وهل كان الكتمان فرضًا، حتى إذا سمعوا مَن يذكر الحق ضلَّلوه وكفَّروه؟ فإن قال: نعم. قيل: فهل كان ذلك حقًّا أم باطلاً؟ فإن قال: بل حقًّا. قيل له: فأنت وأئمَّتك على هذا مُبْطِلون ضالَّون مُضلُّون، محاربون لله ورسوله. واعْلم أنَّ مِن هؤلاء مَن كابَر أيضًا، ومنهم مَن رأى أنَّ المكابرة لا تجدي ففرَّ إلى ما هو أخبث وأخبث، فقال: إنَّ الأنبياء أناسٌ فضلاء أخيارٌ أرادوا إصلاح البشر، وصَفَت أنفسهم إلى درجة أنَّهم صاروا يتوهَّمون أنَّهم يسمعون كلام الله تعالى وملائكته، وإنّما كان ذلك تخيُّلًا محضًا، غير أنَّ نفوسهم لمَّا كانت طاهرة كانت تتخيَّل ما يناسب ما يريدونه من الإصلاح بحسب معرفتهم، وكانوا يعتقدون ما أخبروا به، ويرون أنَّه الحقّ. ولمَّا رأى بعض هؤلاء أنَّ ما تواتر من صفات الأنبياء - ممَّا يدلّ على نهاية العقل والفِطْنة والمعرفة - يأبى ذلك قال: هم أناسٌ عقلاء اخترعوا لأُمَمِهِم ما يصلحونها به في دنياها.

ورأى غير هؤلاء أنَّ ما تواتر عن الأنبياء ممَّا يُبَرْهِن على ملازمتهم للصِّدق والعبادة وشِدَّة الخوف من الله عزَّ وجلَّ، وتقديم طاعته على كل ما عداه مع ما جاؤوا به من الحكمة التي تبهر العقول = تحيِّر، فقال قائلهم: نِهايةُ إقدامُ العُقُول عِقَالُ ... [وأكثرُ سَعي العَالمَين ضَلالُ وأرواحُنا في وَحْشةٍ من جُسُومِنا ... وحَاصِلُ دُنْيَانا أذًى ووَبَالُ ولم نَسْتَفِد مِن بَحْثِنا طُولَ عُمْرِنا ... سوى أن جَمعنا فيه قِيلَ وقالوا وكم قد رأينا مِن رجالٍ ودولةٍ ... فبَادُوا جميعًا مُسْرِعين وزالوا وكم من جِبالٍ قد عَلَت شُرُفاتها ... رِجالٌ فَزَالُوا والجِبالُ جِبالُ] (¬1) ومنهم من تداركته رحمة الله تبارك وتعالى، فرضي من الغنيمة بالإياب، على أنَّه لم يرجع سالمًا مِن كلِّ عاب، وإلى الله المآب، وعليه الحساب. وأمَّا مَن قال: حياةٌ تليق به، ويدٌ تليق به تعالى، ونحو ذلك، ولا تُؤولُ، فهم فِرَقٌ: الفرقة الأولى: من يُسلِّم أنَّ ظواهر آيات الصَّفات وأحاديثها تقتضي المُحَال، وأنَّ التَّأويل سائغٌ - ولكنَّه خطرٌ. وقال قائلهم: "مذهب السَّلف أسلم ومذهب الخلف أعلم". ¬

_ (¬1) لفخر الدين الرازي، محمَّد بن عمر التيمي البكري، المتوفى سنة 606 هـ. وقد ذكر ابنُ تيمية رحمه الله في مواضع من كتبه كـ "درء التَّعارض" (1/ 159) وغيرُه أنَّ الرازي أنشد هذه الأبيات في غير كتاب من كتبه، منها كتاب "أقسام اللذَّات". ونسبها إليه من ترجم له، ينظر: "معجم الأدباء" لياقوت (6/ 2590)، و"وفيات الأعيان" لابن خلكان (4/ 250)، و"الوافي بالوفيات" للصفدي (4/ 181). وقد كتب المؤلف صدر البيت الأول، وبيَّض للبقية، فأتممتها.

الفرقة الثانية: كالأولي، إلاَّ أنَّها تقول: لا يجوز التّأويل أصلاً. الفرقة الثالثة: من يقول: كلُّ ما أثبته الله عزَّ وجلَّ لنفسه، وأثبته له رسولُه عليه الصَّلاة والسَّلام فهو حقٌّ وصِدقٌ على ظاهره. أمّا الفرقتان الأُوليان فيلتحقان بالمُؤَوِّلين، وقد تقدَّم ما لهم وعليهم. وأمَّا الفرقة الثالثة فإنَّها نُسِبَت إلى موافقة مَن قال: حياة كحياتي، ويدٌ كَيَدي، وهي أبعد الناس عن ذلك. وهاك الإيضاح: غالب الصِّفات يختلف تصوُّرها تبعًا لاختلاف تصوُّر الموصوف بها، فيُقال للصَّبي الغِرِّ والأعرابي الجِلْف: يد إنسانٍ، فيتصوَّر شيئًا، ثم يُقال له: يدُ فَرَسٍ، فيتصوَّر شيئًا آخر، ثم يقال له: يدُ طائر؛ فيتصوَّر شيئًا ثالثًا، وهكذا. فإذا قيل له: يدُ الله، فقد يتخيَّل شيئًا ما، فإذ رجع إلى عقله عَلِم أنَّ ذلك التَّخيل خَرْصٌ وتَخْمين، ثم يقول: ما رأيتُ الله عزَّ وجلَّ، ولا رأيتُ ما يُماثله فكيف يتهيَّأ لي تصوُّر يَدِه؟! وهذه حقيقة متفقٌ عليها بين العقلاء، وهي أنَّ الإنسان لا يُدرِك إلاَّ ما أحسَّ به، أو أحسّ بفردٍ أو أفراد مماثلة له، ولا يدرك ممَّا أحسَّ به أو أحسَّ بما يماثله إلاَّ ما تناوله الإحساس، ولا يُدرِك ممَّا أحسَّ بما يماثله إلاَّ ما يعلم أنَّه قدرٌ مشتركٌ بينهما؛ فلسنا ندرك من صفات الله عزَّ وجلَّ إلاَّ ما يتّصف المخلوق بما يشبهه في الجملة، فاستدللنا بآثاره على وجوده؛ لأنَّنا نعرف الوجود في الجملة بوجود الخلق الذين نُحسُّ بهم، ونعلم أنَّ الأمر يدلُّ على وجود مؤثَّر. وهكذا بقيَّة الصفات التي تقدَّم ذكرها، مع العلم بأنَّ صفات الربّ عزَّ

وجلَّ واجبةٌ كاملةٌ مُبرَّأةٌ، وأنَّ صفات المخلوق فانيةٌ ناقصةٌ معيبة، ولكنَّ ذلك لا يمنع وجود اشتراك في الجملة يتهيّأ به الإدراك، على أنَّنا إنَّما نُدرِك صفات الله عزّ وجلَّ على وجهٍ إجمالي. فأمَّا اليد - مثلاً - فإنَّنا لا نجد ذاتًا تشبه ذات الرَّب عزَّ وجلَّ في الصُّورة - تفصيلًا ولا إجمالًا - حتى نُدرِك يده تعالى بالقياس على يد تلك الذات التي نعرفها. هذا في الإثبات. وأمَّا في النَّفي فلم نُدرِك ذاتًا تشبه ذاته عزَّ وجلَّ، وليس لها يدٌ حتى نُدرِك بالقياس عليها أنَّه ليس له سبحانه يدٌ، غاية الأمر أنَّنا نُدرِك أنَّه سبحانه منزَّهٌ عن النَّقص، ولكنَّنا لا نُدرِك أنَّه لو كان له يدٌ تليق به لكان ذلك نقصًا، ومَن زَعَم أنَّه يُدرِك هذا فإنَّه تخيَّل يدًا كيد المخلوق، فلذلك جَزَم بأنَّها نقصٌ. والإنسان إذا حاول أن يتصوَّر شيئًا؛ فإن كان قد أدركه بواسطة الحواسِّ فذاك، وإلّا فإنْ كان قد أدرك ما يشابهه فإنَّه يتصوَّره بتلك الصُّورة، ولكنَّ العقل إذا عَلِم أنهما لا يتشابهان في كل شيءٍ جَرَّد الصورة المتَخيَّلة من بعض الأوصاف. وإذا كانت الصُّور المشابهة لِمَا يحاول تصوُّره كثيرة فإنَّ الفكر يتصوَّر صورةً على القدر المشترك بين تلك الصُّورة التي أدركها مجرَّدة عن الخواص التي تختلف، وربما ضَمَّ إليها صِفةً، أو نقص منها صفةً إذا قام لديه ما يوجب ذلك. فإذا سمعت برجلٍ إنجليزيٍّ لم تَرَهُ، ولا رأيتَ صورتَه، ولا وُصِف لك، وكلَّفتَ ذهنك أنْ يتصورَّه، وكنت قد رأيت جماعةً من الإِنجليز = فإنَّ ذِهْنَك يتخيَّل صُورةً على القدر المشترك بين الذين رأيتهم حتى يتخيّل اللباس.

ولو أردت تصوُّر رجلٍ حبشيٍّ لاختلفت الصُّورة التي تخيَّلتها. فإذا وُصِف لك الرجل أنَّه أعور، أو أعرج، أو طويل، أو قصير، أَضَفْتَ هذه الصِّفة إلى تلك الصُّورة، ولكن بحسب القَدْر المشترك بين العُور والعُرْج، والطِّوال والقِصَار الذين قد أدركتهم، على أنَّك لو كلَّفتَ نفسك تصوُّره كبيرًا جدًّا كالجبل، أو صغيرًا جدًّا كالذَّرَّة لأمكنك ذلك. وإذا تدبَّرتَ وجدتَ الذِّهن إنِّما يستمد التَّصوُّر من القياس على الصُّوَر المخزونة في الحِفظ، ولكنَّه يركِّب ويُقسِّم، فيمكنه أن يتصوَّر شِقَّ رجلٍ، ويتصوَّر رجلاً له وجه فَرَس، وهكذا. فإذا كلَّفته أن يتصوَّر ما لم يُحسَّ به، ولا بما يشبهه فإنَّه يفرضُ عليك صورًا يستمدّها من خزانته، وقد يركِّب ويُقسِّم، ويزيد وينقص، وكلَّما عَرَض عليك صورةً، فقال العقل: ليس هذا أريد، عاد فاستمدَّ من الخزانة صورةً أخرى. فإذا كُلِّف الذِّهن تصوُّر يد الله عزَّ وجلَّ فأوَّل ما يفرِضُ يد إنسانٍ؛ لأنَّها أقرب الأيدي حضورًا بالذهن؛ لكثرة تكرُّر إحساسه بها، فإذا لم تقبلها أخذ يزيد في تلك الصورة وينقص، ويستمدُّ الزيادة والنّقص من الأجرام التي قد أدركها، كأنْ يجعلها نورًا على صفةٍ ما، قد أدركه من نور الشمس والقمر وغيرهما، ويعظمها - لإدراكه صِفة العَظَمة - حتى يجعلها كالجبل أو أعظم منه، وغير ذلك. والعقل يحكم كلَّ مرَّةٍ أنَّ تلك الصورة فيها نقصٌ وعيبٌ، وأنَّ الله عزَّ وجلَّ مُبرَّأٌ عن ذلك، فإذا يَئسَ مِن وجدان صورةٍ تليق بربِّ العِزَّة فهو بين أمرين:

إمَّا أنْ يعترف بعجزه وقصوره، وأنَّ الموجودات لا تنحصر فيما يمكنه تصوُّره وتخيُّله، فهذا يُجوِّز أن يكون لله عزَّ وجلَّ يدٌ تليق به، فإذا عَلِم أنَّ الصَّادق المصدوق قد أخبر بذلك آمن به. وإمَّا أن يغلب عليه الغُرُور والدَّعوى، ويزعم أنَّه ما من موجود إلاَّ ويمكنه أن يتصوَّره، فهذا يُنْكِر أن تكون لله عَزَّ وَجَلَّ يدٌ، ويزعم أنّ مَن أثبت لله عزَّ وجلَّ يدًا يلزمه أن يثبت له يدًا من تلك الأيدي التي تخيَّل صُوَرَها العقل. فلو أنّ رجلاً خُلِقَ أكْمَه وكبر، وعُلِّم الكلام ما عدا الألوان، ولم يُخبَر بأنَّ الناس يبصرون، ثم قال له رجلٌ بصيرٌ ذات يومٍ: هذا شيءٌ أبيض، فإنَّه يقول: وما معنى أبيض؟ أكبيرٌ؟ فيقال: لا، فيقول: فصغيرٌ؟ فيقال: لا، فيقول: فأملس؟ فخشن؟ فجامد؟ فمائعٌ؟ إلى غير ذلك من المعاني التي قد عرفها وأحسَّ بها. فإذا قيل له - في كلّ ذلك - لا، لا! قال: فهذا عدمٌ! وإن كان قد أُخْبِر بالألوان، وتواتر عنده أنَّ النَّاس يُبصِرُون، وأنَّ للأشياء ألوانًا فإنَّه يصدِّقهم، ولكنَّه لا يستطيع تصوُّر ذلك. فهذا مثل الإنسان إذا أُخْبِر بصفات الرَّب عزَّ وجلَّ. وكأنَّه لهذا المعنى زَعَم بعض المتكلِّمين أنَّ رؤية المؤمنين لربَّهم عزَّ وجلَّ في الآخرة إنَّما تكون بحاسَّةٍ سادسةٍ يخلُقُها لهم! (¬1). ¬

_ (¬1) نسب هذا القول أبو الحسن الأشعري في "مقالات الإِسلاميين" (ص 162) وغيره إلى ضرار بن عمرو وحفص الفرد.

ولبيان خطئه أضرب مثلًا ثانيًا: افرض أنَّه لا يوجد في الدُّنيا من الألوان إلاَّ السَّواد والبياض، ثم أُخْبِر إنسان بأنَّ هناك شيء يُرَى، أليس يقول: أسود؟ فإذا قيل: لا! فيقول: أبيض؟ فيقال: لا، فيقول: فليس في الوجود شيءٌ يُرَى إلاَّ إمَّا أبيض وإمَّا أسود! فهذا مثل القوم؛ فإنَّهم لمَّا لم يعرفوا في المرئيَّات إلاَّ هذه المحسوسات قالوا: لو أمكن رؤية الله عزَّ وجلَّ لكان من جنس هذه المحسوسات! والمقصود من المثال التَّفهيم، وإلّا فلا يخفى أنَّ الحُمْرة من جِنْس الألوان، وليس الله عزَّ وجلَّ من جِنْس الخَلْق، ولو فُرِض أنَّ إنسانًا لم يَرَ صقيلاً تنطبع فيه صورته، ثمّ أُخْبِر بأنَّ الإنسان يمكنه أن يدرك بمعونة حاسَّة بصره لون حَدَقَته، فيَعْلَم أنَّها سوداء أو زرقاء أو غير ذلك بدون أن تخرج إحدى عَيْنَيه من موضعها، ولا يتغيَّر شكله، أليس يبادر فيقول: هذا محالٌ! والمقصود من هذه الأمثلة تقريب المعنى الذي ذكرناه، من أنَّ الإنسان يجحد ما لا يحسُّ به، [وبما لا يشبهه] (¬1). ولو قلتَ لبدويٍّ لم يسمع بالآلات المخترعة: إنَّه يمكننا أن نسمع كلام أهل أمريكا ونحن بحضرموت بدون معجزةٍ، ولا سحرٍ، ولا كرامةٍ = لقال: هذا كذب! ولو لم يكن قد سَمِع بالمعجزات والكرامات والسِّحر ما احْتَجْتَ أن تقول له: بدون كذا ولا كذا. إذا علمتَ هذا؛ فإنَّا نقول: كان الصَّحابة ومَن بعدهم مِمَّن لم يتحكَّك بالبدع يعلمون حقَّ العِلم أنَّه لا سبيل للعقل إلى تصوُّر يد الله عزَّ وجلَّ، ولا ¬

_ (¬1) في الأصل: "ولا بما يشبهه".

سبيل للعقل أن يُدرك أنَّه سبحانه ليس له يدٌ تليق به، فلمَّا أخبرهم الله ورسوله بأنَّ لله يدًا آمنوا وصدَّقوا. فليس في تلك النُّصوص بحمد الله عزَّ وجلَّ لا كذبٌ ولا إضلال، وليس في عقيدة السَّلف جهلٌ ولا ضلالٌ؛ فإنَّ الجهل بما ليس في قدرة الإنسان العِلم به لا يُعدُّ نقصًا، وإنَّما الجاهل من يجهل ذلك ويجهل أنَّه جاهل، ويخبُّ ويضَعُ فيما ليس فيه مَطْمعٌ، ويؤول به الأمر إلى ما سمعت وتسمع. واعْلَم أنَّ سبب ضلال القوم أمور: الأول: قِلَّة حظِّهم من معرفة الكتاب والسنة. الثاني: تقديسهم للفلاسفة فوق تقديس الأنبياء بدرجات. الثالث: ما في فطرة الإنسان من دعوى أنَّ عقلَه يستطيع إدراك كلِّ شيءٍ، فَطَرَه الله على ذلك لئلَّا يكسل ويَتَوَانَى عن المعارف والعلوم، كما فَطَرَه على طُول الأمل ليبقى في عمارة الدُّنيا، وعدّل ذلك بالعقل ليَكْبَحَهُ عن تجاوز الحدِّ في ذينك الأمرين، وهؤلاء القوم نشأوا على التطلُّع والتعمُّق، فاعتَضَدَت الفِطْرة بالعادة، فأغفلهم ذلك عمَّا يُقرِّرونه من أنَّ الإدراك لا يكون إلاَّ بإحساس أو قياس كما سلف، فكلَّفوا عقولهم أن تُدرك ما ليس من شأنها إدراكه، فصارت تتَّقيهم بالتَّخْييلات، وقد أُثِرَ عن الشافعي رحمه الله تعالى أنَّه قال: "إنّ للعقل حدًّا ينتهي إليه" (¬1). ¬

_ (¬1) كذا نسبه إلى الشافعي الآلوسيُّ في "روح المعاني" (1/ 142). ورأيته بنحو هذا مسندًا معزوًّا من الشافعي لابن عباس، فقد أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (9/ 141) عن الشافعي قال: قال ابن عباس لرجلٍ أي شيء هذا؟ فأخبره، =

أقول: وقد جرَّبنا أنَّ مَن كلَّف بصره إدراك ما لا يستطيع إدراكه يُخيَّل إليه أنَّه يُدْرِك ذلك، فكم مرَّة تَرَاءَى النَّاس الهلال فتَرَاءَيتُه معهم، فإذا حدَّقتُ وأمعنتُ في النَّظر يُخيَّل إليَّ أنَّي قد رأيته، ولكنَّها خَطْفةٌ لا تثبت، ثم أيأس من ذلك الموضع، فأنظر إلى موضعٍ آخر، فيخيَّل إليَّ مثل ذلك؛ فعلمتُ أنَّ تلك الخَطْفة هي صورة خيالية لما أتخيَّله؛ تبرز إلى العيان لقوة التَّخيل وكدِّ البصر. فكثيرًا ما يعرض للعقل مثل هذا إذا كُلِّف إدراك ما لا يُدْرك، والفرق أنَّ خطأ البَصَر يتنبَّه له العقل، ولا يكاد ينتبه لخطأ نفسه. لو بغير الماء حلقي شَرِقٌ ... كنتُ كالغصَّان بالماء اعتصاري (¬1) (¬2) وكثيرًا ما يُدرك العقل خطأ ما تصوَّره ولكنَّه لا ييأس، فلا يزال في أخذٍ وردًّ إلى أن يكِلَّ ويَمَلَّ؛ ولا يَسْمحُ بذهاب تعبه سُدىً فيقنع بالشُّبهة التي وقف عندها، ومثله مثل المسافر يأبى أن ينزل ليستريح إلاَّ في موضعٍ حسنٍ جميلٍ، وليس أمامه موضعٌ كذلك، فلا يزال كُلَّما أتى على موضعٍ لم يره على الشَّرط حتى يعقله التعب والإعياء؛ فينزل ويسلِّي نفسه ويُغالطها، يزعم أنَّ ذلك الموضع حسنٌ وجميلٌ. وأنت إذا كنت قد وقفتَ على بعض الكتب المطوَّلة في الفلسفة وتدبَّرتها تحقَّقتَ هذا المعنى، ولا تكاد تجد شبهةً عقليةً قد قرَّرها أحدُهم ¬

_ = قال: ثم أراه شيئًا أبعد منه فقال: أيُ شيءٍ هذا؟ قال: انقطع الطَّرْف دُونَه. قال: "فكما جُعِل لطَرْفِك حَدٌّ ينتهي إليه كذلك جُعِل لعقلك حدٌّ ينتهي إليه". (¬1) في الأصل: "اعتصار". (¬2) البيت لعدي بن زيد العبادي في"ديوانه" (ص 93). وهو كذلك منسوب إليه في: "الأغاني" (2/ 106)، و"الحيوان" للجاحظ (5/ 138، 593)، وغيرهما.

على أنَّها برهانٌ قاطعٌ إلاَّ وجدتَ غيره قد نقضها، ثم يجيء ثالثٌ فيدفع هذا النقض، فيجيء رابع فيردُّ الدَّفع، وهكذا. حُجَجٌ تهافت كالزُّجاج ... فكُلٌّ كاسرٌ مكسور (¬1) ثم اعْلم أنَّ أعظم ما يستندون إليه هو الاستقراء؛ فيستقرئون ما يدخل تحت حواسهم حتى تنتظم لهم مقدِّمةٌ كليَّةٌ بالنِّسبة إلى ما استقرؤوه، ثم يزعمون أنَّه لا يخرج موجودٌ عن تلك الكُليِّة، وذلك أمرٌ بديهي البُطلان؛ فإنَّهم يقولون: الحيوان كلُّه يحُرِّك فكَّه الأسفل إلاَّ التِّمساح (¬2)، فلو فَرَضْنا أنَّهم لم يَرَوا التِّمساح ولا سمعوا به، كأن كان في أمريكا قبل اكتشافها = فهذا الاستقراء يكون في زعمهم برهانًا قاطعًا على أنَّه لا يوجد حيوانٌ يحرِّك فكَّه الأعلى! وهم يبالغون بزعمهم في نفي مشابهة الربِّ عزَّ وجلَّ لشيءٍ من خلقه، ثم يحكمون عليه بما استقرؤوه من خلقه. ومن أعظم بلايا العقل دعواه أنَّه لا يَتَعالى عن إدراكه شيء، كثيرًا ما ينظر فإذا لم يُدْرِك جَحَد، ولا سيَّما عقول هؤلاء القوم الذين تسرَّب إليهم ¬

_ (¬1) كذا بالأصل وهو غير موزون، مع وضوح معناه، والمشهور: حججٌ تهافت كالزجاج تخالها ... حقًّا وكُلٌّ كاسرٌ مكسورُ ولم أر مع شهرة هذا البيت نسبته لقائلٍ. ولابن الرُّومي في "ديوانه" (2/ 166): لِذَويِ الجِدَال إذا غَدَوا لجدالهم ... حُججٌ تضلُّ عن الهُدَى وتجُوْرُ وُهْنٌ كآنية الزُّجاج تصادمت ... فَهَوَت وكُلٌّ كاسِرٌ مكسورُ فالقاتل المقتول ثَمَّ لضعفه ... وَلوَهْيِهِ والآسِرُ المأسورُ (¬2) يُنْظَر: "الحيوان" للجاحظ (7/ 103).

تقديس الفلاسفة، والرَّيب في النُّبوة، على تفاوتهم فيه، ومثل ذلك مثل نفرٍ من النَّاس فيهم رجلٌ يرى أنَّه أحدُّهم نَظَرًا، فيرى آخر منهم الهلال فيخبر أصحابه، فَيَتَراءَاه ذلك الرجل فلا يراه، فيبادر بتكذيب القائل: إنِّي أراه، قائلاً: لو كان الهلال طالعًا لرأيتُه؛ لأنَّني أحدُّ الجماعة نَظَرًا! وهذا من أعظم غلط العقل، فتراه ينفي وجود بعض الأشياء، وينكر بعض الأحكام، ويردُّ كثيرًا من الأخبار؛ لأنَّه لم يدركها، أو لم يدرك وجه صِحَّتها، أو مطابقتها للحِكْمة. ولولا هذا الخطأ ومثلُه لم يكد يغلط عاقل ولا يضل، ولا استحلَّ مسلمٌ أن يذمَّ المعقولات، ويحذّر من شدة الاعتماد عليها، فإنَّ الدِّين لا يقوم إلاَّ على العقل كما قدّمنا. وممَّا يُتَّقى به خطأ العقل - إذا زعم أنَّ إدراكه قاطعٌ - أن يفرض صاحبه أنَّه اجتمع بِمَن هو أكمل منه وأعقل، فأخبره برأيه في تلك القضية، فقال له الاكمل: أخطأت؛ فإن أحسَّ في نفسه أثرًا لقول الأكمل: "أخطأت" فليعلم أنَّ إدراكه ذلك ليس بقاطع. وقد بحث معي مسلمٌ في مسألة معروفة، فزعم أنَّ العقل القاطع يدلُّ على نفيها، فقلت له: لو فرضنا أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يزال حيًّا، وأنّنا سألناه عن هذه المسألة فقال: هي حقٌّ ثابتٌ، فهل تصدِّقه؟ فقال: وكيف لا أصدَّقه؟ فقلتُ له: فأين العقل القاطع هذا؟ أو نحوه. فإن قلتَ: إنَّهم يجيبون عن مثل هذا: بأنَّه يستحيل أن يقوله النَّبي - صلى الله عليه وسلم -. قلتُ: فإنَّهم يردُّون النصوص الصَّريحة من القرآن بنحو ذلك. فإن قلتَ: ولكنّهم يتأوَّلونها.

قلتُ: قد تقدَّم أنَّ حملها على التأويل معناه نسبة الكذب إلى الله ورسوله. وبعد فالمكابرة لا دواء لها، والمقصود إرشاد مَن في قلبه خير إلى أن يفرض ما تقدَّم، ثم ينظر فلعلَّه يتبيَّن له خطَاؤُه في توهُّم القطع. فإن قال قائلٌ: إنّما استقامت لك الحُجَّة لأنَّك مثَّلتَ بالحياة واليد، ومن الصفات ما لا يظهر استقامة تلك الحُجَّة فيه، ومن ذلك كون الله عزَّ وجلَّ على عرشه فوق السماوات، وكونه ينزل كُلَّ ليلةٍ إلى سماء الدُّنيا، ويجيء يوم القيامة، وغير ذلك. أقولُ: الحُجَّة مثبتةٌ في هذه كلِّها؛ لأنَّ الفلاسفة ومقلِّديهم أثاروا شبهًا ليست ممَّا فُطِرَت عليه العقول، ولا كان يعرفها العرب الذين تلقوا الشريعة غَضَّةً، وقد كنت أحببت أن أوضح ذلك مفصَّلاً، ثم أضْرَبْتُ عن ذلك لمعنىً سأذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى. فلْأَكتف بجوابٍ إجمالي: قد عَلِمتَ أنَّ الإخبار بكلامٍ له معنى ظاهر، وليس عند المخاطَب قرينةٌ تُوْجِب صَرْفَه عن ظاهره يكون كذبًا، ولا يغني تورية المتكلِّم في نفسه، أو ملاحظته قرينةً يعلم أنَّ المُكلَّم (¬1) لا يشعر بها، كأن يَقْدَم رجلٌ من اليمن إلى الحجاز، فيسأله رجلٌ عن أبيه، فيقول: إنَّه قد مات، ويريد في نفسه أنّه نامَ، ويزعم أنَّ وجود الأب في اليمن حيًّا يرزق قرينة! وعلمتَ أنَّ الكذب مُحالٌ أن يقع من الله عزَّ وجلَّ ورسله، والله عزَّ وجلَّ إنّما أنزل الكتب وأرسل الرسُّل لهداية الناس إلى السِّراط المستقيم، لا لإضلالهم، قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى ¬

_ (¬1) الأصل: "المتكلم" سهو.

فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} [الزمر: 41]. فإذا أحَطْتَ بهذا فكلُّ نصٍّ في كتاب الله عزَّ وجلَّ أو في السُنّة المقطوع بها يخبر بصفة من صفات الله عزَّ وجلَّ، وله معنى ظاهر يُعْلَم أنَّ العرب الذين دعاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يفهمون غيره، فلا مفرَّ للمسلم من الإيمان به. ثم اعْلم أنَّ من الصِّفات ما لا شُبْهَة لِمَن أنكره أصلاً، كما قدّمنا في الحياة واليد مفصَّلًا. ومنها ما لم تكن فيه شُبْهة، ولكن نشأت الشُبْهة فيه لمن اطَّلع على كلام الفلاسفة، وهذا لا بدَّ للمسلم من الإيمان به وتكذيب الفلاسفة. علمًا بأنَّ العقل الإنساني قاصرٌ، وأنَّ إدراكه يتفاوت، وأنَّه كثيرًا ما يتوهَّم أنَّه قد أدرك إدراكًا قطعيًّا وهو مخطئ. ومن تأمّل اختلاف الفلاسفة والمتكلِّمين من كُل أُمَّةٍ، وتخطئة آخرهم لأولهم، مع زعم كلٍّ منهم أنّ عقله أدرك ما قاله إدراكًا قاطعًا = تبيَّن له هذا، ولو اطَّلعت على آراء فلاسفة العصر لرأيت من ذلك كثيرًا جدًّا. ومنها ما تعرض الشُبهة فيه لكلَّ أحدٍ، وهذا لا بدَّ للمسلم من الإيمان به، وصَرْفِ نفسه عن استرسالها في الفِكْر. ففي "الصَّحيحين" (¬1) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يأتي الشيطان أحدَكم، فيقول: مَن خلق كذا؟ مَن خلق كذا؟ حتى يقول: مَنْ خَلَق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله وَلْيَنْتَهِ". ¬

_ (¬1) البخاري (3276) ومسلم (134)، وهذا لفظ البخاري.

فصل

وفيهما (¬1) من حديثه أيضًا قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يزال الناس يتساءلون حتى يُقال هذا خَلَقَ اللهُ الخَلْقَ فمَن خَلَقَ اللهَ؟ فمَن وَجَدَ من ذلك شيئاً؛ فليقل: آمنت بالله ورُسُلِه". وفي روايةٍ لأبي داود (¬2): "لا يزال الناس يتساءلون، حتى يُقَال هذا خَلَقَ اللهُ الخَلْقَ فمَن خَلَق اللهَ؟ فإذا قالوا ذلك، فقولوا: الله أحدٌ، الله الصَّمدُ، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، ثم ليَتْفُلْ عن يساره، ولْيَستعذ بالله من الشيطان الرجيم". وذلك أنَّ الفكر إذا أراد أن يتصوَّر أن الله عزَّ وجلَّ لم يزل ولا نهاية لأوَّليَّته تاه وتحيَّر. فصلٌ قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7]. اختلف النّاسُ في هذه الآية حتى كادت تصير هي نفسها من المتشابه، وقد يُسِّرَ لي في فهم معناها سبيلٌ واضحٌ إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) مسلم (134) بنحوه، وأخرجه البخاري من حديث أنس (7296) بلفظ: "لن يبرح الناس يتساءلون حتى يقولوا: هذا اللهُ خالقُ كلَّ شيءٍ، فمَن خَلَق اللهَ؟ ". (¬2) حديث (4722) بنحوه.

فأقول: قد ثبت أنَّ القرآن كلَّه محكمٌ، لقوله تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود: 1]، وأنَّه كلَّه متشابهٌ؛ لقوله تعالى: {كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ...} [الزمر: 23]. وثبت بالآية المصدَّر بها أنَّ منه ما هو محكمٌ غير متشابهٍ، ومنه ما هو متشابهٌ غير محكمٍ. واتُّفِقَ على أنَّ المراد بالإحكام في قوله تعالى: {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} عدم الخَلَل في الحُسْن والصِّدق ومطابقة الحِكْمة، وبالتَّشابه في قوله: {كِتَابًا مُتَشَابِهًا} أنَّ بعضه يشبهُ بعضًا في الحُسْن والصِّدق ومطابقة الحِكْمة، فلا منافاة بين هذا الإحكام وهذا التَّشابه. وأمَّا الإحكام والتَّشابه في الآية المصدَّر بها فهي صريحةٌ في تنافيهما، وبذلك يُعْلَم أنَّ لكلٍّ منهما معنًى غير المعنى المتقدِّم، فبَحَثْنَا عن ذلك فوَجَدْنَا المُحْكَم مُحْكَمًا لا يحتمل إلاَّ ذلك المعنى الواحد، وأنَّه لا خَلَل فيه، والقرآن كلُّه مُحْكَمٌ لا خلل فيه ألبتَّة. ولكن يمكن أن يقال: الخَلَل المنتفي عن القرآن ألبتَّة هو الخَلَل الحقيقي. فأمَّا ما يُتَوَهَّم خَلَلًا وليس في الحقيقة بخَلَلٍ فهو موجود في القرآن. فيجوز أن يُقَال: أُحْكِمَت آياته في الحقيقة، ومنه آياتٌ محكماتٌ ليس فيها خَلَلٌ ولا ما يُتَوَهَّم خَلَلاً، وأُخرُ فيها ما يُتَوَهَّم خَلَلًا؛ فهي المتشابهات. وقبل أنْ نبُتَّ الحُكْمَ في هذا ننظر في معنى {مُتَشَابِهَاتٌ} فنجد المعنى

المتبادر: أنَّ كلَّ آيةٍ منها تشبه الأخرى، وهذا عامٌّ في آيات القرآن كُلِّها، كما قال تعالى: {كِتَابًا مُتَشَابِهًا}. فإنْ قيل: إنَّ هناك وجهًا تتشابه فيه الآيات التي يكون فيها ما يُتَوَهَّم خَلَلًا مختصَّة به، وهو تَوَهُّم الخَلَل في كُلِّ آيةٍ منها. قلتُ: ولكنَّ هذا لا يكفي لتخصيصها بلفظ: {مُتَشَابِهَاتٌ}؛ فإنَّ المحكمات أيضًا فيها وجهٌ تتشابه فيه، وهو خاصٌّ بها، وهو أنَّه ليس في كُلٍّ منها خَلَلٌ، ولا ما يُتَوَهَّم خَلَلًا. ويمكن أنْ يُقَال: كلُّ آيةٍ من المتشابهات متشابهةٌ في نفسها، على أن يكون المعنى: متشابهات معانيها، أي: يتشابه فيها معنيان، أو معاني، كما يُقَال: اشتبه عليَّ الأمر، أي: اشتبه صوابُه بخطائه، ويُقَال: اشتبه عليَّ الأمران، أي: لم تُميِّز بينهما. فإنْ قلتَ: ولكنَّه لا يُقَال: تشابه عليَّ الأمر! قلتُ: لا أستحضر شاهدًا لذلك، ولكن "اشتبه" و"تشابه" بمعنًى، قال تعالى: {مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} [الأنعام: 141]. وقد قال المولَّد (¬1): رَقَّ الزُّجَاجُ ورَاقَت الخَمْرُ ... فتشَابَهَا وتَشَاكَلَ الأَمْرُ (¬2) الشاهد في قوله: "وتشاكل الأمر". فلنترك هذا ههنا، ولننظر في بقية الآية، لعلَّنا نجد فيها ما يبيِّن المقصود، ¬

_ (¬1) هو الصاحب بن عبَّاد، في "ديوانه" (ص 176). (¬2) كذا في الأصل، وفي "الديوان": "وتشابها فتشاكل".

قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ}. دلَّت الآية أنَّ المتشابه من شأنه أن يتَّبعه الزَّائغون؛ ابتغاء الفتنة، وابتغاء تأويله. ومن المعقول أنَّ الآية التي تتشابه معانيها يتَّبعها الزَّائغ ابتغاء الفتنة؛ ليحملها على المعنى الذي يوافق هواه، ولكنّ قوله تعالى: {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} يدلُّ أنَّ ابتغاء تأويل المتشابه زيغٌ. فإن قيل: إنَّما يكون زيغًا في حقِّ الزَّائغين؛ لأنهَّم يبتغون الفتنة. قلتُ: لا أرى هذا شيئًا؛ إذ لو كان كذلك لكان المدار على ابتغاء الفتنة، ولَمَا ظهر معنًى لزيادة {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ}، بل ولا تخصيص المتشابه؛ لأنَّ مبتغي الفتنة يبتغيها في كل آية من القرآن، وإن كان ابتغاؤه إيَّاها فيما تشابهت معانيه أكثر. فإن قيل: فإنَّما يكون ابتغاء تأويله زيغًا في حقِّ هؤلاء؛ لأنَّهم غير راسخين في العلم. قلتُ: لا أراه كذلك؛ لأنَّ مَن ليس براسخٍ في العلم قد يخطئُ في فهم المحكم أيضًا. وأوضح من هذا كلِّه قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ}، فقصر علم تأويل المتشابه على الله عزَّ وجلَّ. فإن قلتَ: فقد قال: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}؟

قلتُ: ليس هذا عطفًا ألبتَّة، وإنَّما هو معادل قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ}، فكأنه قال: (وأما الراسخون في العلم ...). فالآية كقولك: أمّا زيدٌ ففي المسجد وعمرو ذهب إلى السوق، اختار هذا المعنى ابن هشام في "المغني" (¬1)، وهو المختار؛ لأنَّ "أمَّا" للتَّفصيل، وذِكْرُ القسمين أو الأقسام بعدها هو الأصل، والحذف خلاف الأصل. فلمّا كان قوله: {وَالرَّاسِخُونَ} يحتمل أنَّه القسم الثاني، ويحتمل خلافه، فحمله على أنَّه القسم الثاني هو الظَّاهر حتمًا. ويؤيِّد ذلك أنَّ القائلين بالعطف قالوا: إنَّ قوله: {يَقُولُونَ} خبرُ مبتدأ محذوف، أي: هم يقولون، ولا يخفى أنَّ الأمر إذا دار بين الإضمار وعدمه فالأصل عدمُهُ. ومنهم مَن جَوَّز أن يكون حالاً، وهو باطل؛ لأنَّ الحال قيدٌ في عاملها، فيصير المعنى: "وما يعلم تأويله في حال قول الراسخين كذا وكذا إلاَّ الله والراسخون"، فيُفْهَم منه أنَّ غير الله والراسخين قد يعلم تأويله في غير تلك الحال! ولا وجه لهذا. وإن قُدِّرَ أنَّه حالٌ من ضميرٍ محذوفٍ، والتَّقدير: "هم يعلمونه حال كونهم يقولون" [فـ]ـتعسُّفٌ بتكثير الإضمار، ولزوم أنَّ الله والرَّاسخين لا يعلمون تأويله إلاَّ في تلك الحال! وهذا محالٌ. فإن حُمِلَ قولنا: "هم يعلمونه" على الرّاسخين وحدهم، فكذلك يلزم منه أنَّهم لا يعلمونه إلاَّ في تلك الحال! ¬

_ (¬1) "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" (ص 81 - 82).

وهناك مصارعات ومقارعات، انظرها في: "روح المعاني" (¬1) إنْ أحببت. وأوضح من هذا كلِّه: أنَّه صحَّ - كما في "المستدرك" وغيره (¬2) - عن ابن عباس - وهو المَدْعوُّ له بتعلُّم التأويل (¬3) - كان يقرأ: (وما يعلم تأويله إلاَّ الله ويقول الراسخون ..). وحُكيَ مثله عن أُبيِّ بن كعب (¬4). وقد صحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله: "أقرؤكم أُبيّ" (¬5). وجاء عن ابن مسعود - وهو هو - أنه كان يقرأ: (وإن ¬

_ (¬1) للآلوسي (3/ 83 - 87). (¬2) "المستدرك" (2/ 289)، وأخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" (1/ 116) ومن طريقه ابن أبي داود في "المصاحف" (1/ 348)، والطبري في "تفسيره" (5/ 218)، وأخرجه ابن الأنباري في "الأضداد" (ص 426) وغيرهم، من طريق معمر عن ابن طاووس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنه به. (¬3) تقدم ذكره (ص 8 - 9) من هذه الرسالة. (¬4) أخرجه الطبري (5/ 219) وابن أبي حاتم (2/ 599) من طريق ابن وهب عن ابن أبي الزناد عن هشام بن عروة عن أُبَيًّ رضي الله عنه بنحوه. (¬5) أخرجه أحمد (3/ 184) والترمذي (3791) وابن ماجه (154) وابن حبان (7131، 7137، 7252) والحاكم في "المستدرك" (3/ 422) وغيرهم، من طريق خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أنس رضي الله عنه بلفظ: "أرحم أمتي بأمتي أبو بكر ... " وفيه: "وأقرؤهم لكتاب الله أُبي بن كعب". قال الترمذي عقِبه:"حسنٌ صحيحٌ"، وقال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذه السياقة؛ وإنَّما اتفقا بإسناده هذا على ذكر أبي عبيدة فقط، وقد ذكرتُ علَّته في كتاب التلخيص". وصحَّح إسناده ابن حجر في "الفتح" (7/ 93)، وقال: "إلاَّ أنَّ الحفَّاظ قالوا: إنَّ الصَّواب في أوَّله الإرسال، والموصول ما اقتصر عليه البخاري". =

تأويله إلاَّ عند الله والراسخون في العلم) (¬1). فلو كان المعنى على العطف لقال: "والراسخين"، كما لا يخفى. وقد رُوِيَت عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه آثارٌ كثيرة تصرِّح بأنَّ المتشابه لا يعلمه إلاَّ الله تعالى وحده. انظرها في "الدُّر المنثور" (¬2). وسياق الآيات يدلُّ على ذلك؛ فإنّ قول الراسخين: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} ظاهرٌ في عدم علمهم بتأويله، وإنَّما علموا أنَّه حقٌّ لأنَّه من عند ربهم، فكأنَّهم قالوا: أمَّا ما عَلِمْنَا تأويله فقد عَلِمْنَا أنَّه حقٌّ بعِلْمِنَا بتأويله، وأمَّا المتشابه فإنَّنا نؤمن به؛ لأنَّه أيضًا من عند ربِّنا، فهو حقٌّ وإن لم نعلم تأويله. ¬

_ = وقال في "التلخيص الحبير" (3/ 79 - 80): "أُعِلَّ بالإرسال، وسماع أبي قلابة من أنسٍ صحيحٌ؛ إلاَّ أنه قيل: لم يسمع منه هذا، وقد ذكر الدارقطني الاختلاف فيه على أبي قلابةً في "العِلل"، ورجَّح هو وغيره - كالبيهقي والخطيب في "المدرج" - أنَّ الموصول منه ذكرُ أبي عبيدة, والباقي مرسلٌ. ورجَّح ابن الموَّاق وغيره رواية المرسل" ثم ذكر طرقًا للحديث لا يخلو شيءٌ منها من ضعفٍ. وصحَّح الألباني الحديث في "الصحيحة" (1224) متصلاً، واستغرب إعلاله بالإرسال. تنبيه: الحديث الذي اقتصر عليه البخاري هو ما أخرجه (3744) ومسلم (2419)، بلفظ: "لكل أمةٍ أمينٌ، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجرَّاح". (¬1) ينظر: "كتاب المصاحف" لابن أبي داود (1/ 309) ولفظه فيه: "قراءة عبد الله: (وإنْ حقيقة تأويله إلاَّ عند الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به ...). وذكره الطبري في "تفسيره" (5/ 221) بلفظ المؤلف. (¬2) (3/ 459 - 461).

وقولهم بعد ذلك: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران: 8] ظاهرٌ في أنَّ المُتَشابه مَظِنَّة لأنْ يكون سبب الزَّيغ. ولو كانوا قد علموا تأويلَه لكان بالنَّظر إليهم كالمُحْكم. وتعليل اتِّباع الزَّائغين للمتشابه بقوله: {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} ظاهرٌ في أنّ ابتغاء تأويله زيغٌ؛ إذ لو كان الزَّيغ إنَّما هو في اتِّباعه ابتغاء الفتنة لَمَا كان لقوله: {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} معنى! فإن قيل: سَلَّمنا أنَّ ابتغاء تأويله زَيغٌ، ولكن لغير الراسخين. قلتُ: الرُّسوخ في العِلْم أمرٌ خفيٌّ، ليس هو كثرة العِلْم، فكم مِن رجلٍ كثير العِلْم ليس براسخٍ، قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف: 175، 176]، وقال عزَّ وجلَّ: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية: 23]. وفي الحديث: "إنَّ أخوف ما أخاف على أمّتي كلُّ منافقٍ عليم اللِّسان" (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (1/ 22، 44)، وعبد بن حميد (المنتخب: 11)، والبزَّار (1/ 434)، وغيرهم، من طرقٍ عن ميمون الكردي عن أبي عثمان النَّهدي عن عمر رضي الله عنه مرفوعًا. قال الهيثمي في "المجمع" (1/ 187): "رجاله موثقون" وصحَّح إسناده الألباني في "الصحيحة" (1013). =

وقال الحسن البصري: "العِلْم عِلْمان: فعِلْمٌ في القلب، فذلك العِلم النَّافع، وعلمٌ على اللِّسان، فذلك حُجَّة الله على ابن آدم". "سنن الدارمي" (ج 1 ص 102) (¬1). والأحاديث والآثار في هذا كثيرة. وقد كان عبد الملك بن مروان وأبو جعفر المنصور العباسي من كبار العلماء، وهما طاغيتان. وكذلك الواقدي، والشَّاذكوني، ومحمَّد بن حميد الرازي، وهؤلاء رماهم أئمَّة الحديث بأنَّهم كانوا يكذبون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمثالهم كثير. ومن العلماء مَن هو دون هؤلاء في العلم ولكنَّه معدودٌ من الراسخين. ¬

_ = وللحديث طرقٌ أخرى اختلف في رفعه ووقفه على عمر رضي الله عنه، قال الدارقطني في "العِلل" (2/ 246): "والموقوف أشْبَه بالصَّواب". وله شاهد من حديث عمران رضي الله عنه مرفوعًا، وَهَّمَه الدارقطني في "العِلل" (2/ 170). ومن حديث عليًّ رضي الله عنه مرفوعًا، ولا يصح، ويُنظر: "مجمع الزوائد" للهيثمي (1/ 187). والحاصل في هذه الرواية كما قال الحافظ ابن كثير في "مسند الفاروق" (ص 663): "هي صحيحة عن عمر، وفي رفع الحديث نظر". (¬1) حديث (376) ط حسين سليم. وقد رُوي الحديث مرفوعًا من مرسل الحسن البصري، ومن حديث جابر وأنس رضي الله عنهما، ولا يسلم واحدٌ منها من مقال وضعفٍ. ويُنظر: "الضعيفة" للألباني (1098). وقد قال شيخ الإِسلام ابن تيمية في "درء التعارض" (7/ 453): "رُوِيَ ذلك عن الحسن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً، وقد قيل إنَّه من كلام الحسن، وهو أقرب".

فالرسوخ إذن حالٌ قلبية؛ كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الغِنَى: "ليس الغِنَى عن كثرة العَرَض، ولكنَّ الغِنَى غِنَى النَّفس" (¬1)؛ فكذلك نقول: ليس الرُّسوخ عن كثرة العِلْم، ولكنَّ الرُّسوخَ رسوخُ الإيمان في القلب، ويوشك أن يكون هو اللُّب في قوله تعالى: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7]. وإنَّه ليشمُّ روائح الرسوخ من قولهم: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران: 7 - 9]. فالرّاسخ دائم الخوف والخشية من ربه عزَّ وجلَّ، مسيءٌ للظَّنِّ بنفسه، فكم من راسخٍ لا يرى أنَّه من أرسخ الرَّاسخين؟ فالخائف الخاشي المسيءُ الظَّنَّ بنفسه جديرٌ بأن لا يستخفَّه ما عنده من العِلْم على الخوض فيما ليس له به علم، وعلى البحث فيما لم يُكلَّف البحث فيه، وهو من موارد الخَطَر، ومزالق النَّظَر. هذا لو كان يمكن العِلْم به؛ فكيف إذا كان ممَّا لا سبيل إلى العِلْم به؟! وإنَّما الزَّائغ الجريء على ربه، المُتَّكِل على عقله، الفَرِح بما عنده من العِلْم هو الجدير بأن يَتَعَاطى الخوض في كُلِّ شيءٍ، ويحمِلُه ثقتُهُ بنفسه، وأَمْنُهُ مكرَ ربَّه، ودعواه أنَّه لا يَتَعَالي عن فهمه شيءٌ، وحرصه على أن يطير ذكرُهُ في النَّاس، وكبره عن أن يعترف بالجهل = تحمِلُهُ هذه الأشياء على الجهل بحقيقة حاله، وبأنّ العقل له حدٌّ ينتهي إليه، كما أنَّ للبَصَر حدًّا ينتهي إليه، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6446) ومسلم (1051) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ورُبَّما حَمَلَتْه على الخوض والكلام، والنَّقض والإبرام فيما يعلم أنَّه لا سبيل له إليه، وكم من راسخ يرميه النّاس بالكفر والضَّلال، وكم من زائغٍ يتَّخذونه إمامًا في الدِّين! فالحقُّ أنَّ هذه الآيات أفادت علامة الزَّائغ، وآية الرَّاسخ. فعلامة الزَّائغ اتَّباع المتشابه ابتغاء الفِتْنة وابتغاء تأويله، وإذا خَفِيَ علينا ابتغاء الفتنة لم يَخْفَ ابتغاء التأويل. وآية الرَّاسخ الكفُّ عن ذلك، والاكتفاء بقوله: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ...}. وفي "الصَّحيحين" وغيرهما (¬1) من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - تلا هذه الآيات، ثم قال: "إذا رأيتم الذين يتَّبِعُون ما تَشَابَه منه فأولئك الذين سمَّاهم الله فاحذروهم". فأطْلَق الحديث ولم يقيَّد؛ لكنَّه قد عُلِم إخراجُ الاتِّباع على معنى التِّلاوة والإيمان, وبقي الاتَّباع ابتغاءَ التَّأويل، ولم يُقيَّده بابتغاء الفِتْنة ولا غيرها، فعُلِم صحَّة ما قلناه، وهو: أنَّ ابتغاء التأويل زيغٌ، كما أنَّ ابتغاء الفِتْنة زيغٌ، ولم يقيَّده - صلى الله عليه وسلم - بعدم الرسوخ، فعُلِم أنَّ كلَّ من ابتغى تأويله فهو زائغٌ وليس براسخٍ، وأكَّد هذا ما يُفْهَم من الحديث: أنَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - كان واثقًا بأصحابه الذين خاطبهم أنهم لا يتبِّعون المتشابه، وإنَّما حذَّرهم ممَّن نَشَأَ بعدهم، وهم رضي الله عنهم أولى بالرسوخ من غيرهم؛ فعُلِمَ أنَّ الرَّاسخ لا يتَّبع المتشابه أصلاً إلاَّ على معنى تلاوته والإيمان به. ¬

_ (¬1) البخاري (4547)، ومسلم (2665)، وأبو داود (4598)، والترمذي (2993)، وأحمد في "مسنده" (6/ 48، 256) وغيرهم، بألفاظ متقاربة.

فإن قلتَ: المتشابه في اختيارك هو ما اشتبه معناه، بأن يتساوى المعنيان أو الثلاثة في الاحتمال، فهل يدخل فيه ما اشتبه مَعْنَيَاه أو معانيه، ولكنَّه يمكن ترجيح أحدها بدليلٍ آخر؟ قلتُ: كلَّا، ليس هذا بمتشابه، بل هذا ممَّا يعلم تأويله الرَّاسخُ وغيرُه، وممَّا أُمِرْنا بالتَّدبُّر فيه والنَّظَر في تأويله. فإن قلتَ: فالمتشابه عندك ما اشتبه معناه، بحيث لا يوجد دليل يُبيِّنه؟ قلتُ: نعم. فإن قلتَ: وما فائدةُ إنزال مثل هذا في القرآن، والقرآن إنَّما نَزَلَ هُدًى للعالمين، وأُمِرْنا بتدبره مطلقًا؟ قلتُ: ينبغي أولًّا أن تُعيِّن المتشابه، ثم أجيب عن هذا السُّؤال إن شاء الله تعالى. فأقول: مشتبه المعنى على أنواعٍ، كما فصَّلَه الرَّاغب في "المفردات" (¬1): الأول: المُتَشابه من جهة اللَّفظ، وذكر له خمسة أضرب: 1 - الكلمة الغريبة، كالأَبِّ. 2 - المشتركة، كالقُرْءِ. 3 - ما اختُصر فيه الكلام، نحو: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3]. ¬

_ (¬1) (ص 443 - 445).

4 - ما بسط فيه، نحو: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]. 5 - ما يشتبه في نظم الكلام، مثل: {أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا} [الكهف: 1، 2]، فيتوهَّمُ السَّامع أنَّ {قَيِّمًا} نعتٌ لـ {عِوَجًا}، وإنَّما هو حال من {الْكِتَابَ}. ومنه قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}، إلاَّ أنَّ المتبادر في هذه الآية هو الصَّواب كما قدّمنا، بخلاف قوله: {عِوَجًا (1) قَيِّمًا}. الثاني: المتشابه من جهة اللَّفظ والمعنى جميعًا، وذكر له خمسة أضرب أيضًا: 1 - من جهة الكميَّة، كالعموم والخصوص، نحو: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]. 2 - من جهة الكيفية، كالوجوب والتَّحريم في قوله {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40]. 3 - من جهة الزمان، كالنَّاسخ والمنسوخ. 4 - من جهة المكان والأمور التي نَزَلَت فيها الآيات، نحو: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} [البقرة: 189]، وقوله: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: 37]. قال: "فإنَّ من لا يعرف عادتهم في الجاهلية يتعذَّرُ عليه معرفة تفسير هذه الآية".

5 - من جهة الشُروط التي يصحُّ بها الفِعْل أو يفسد، كشُرُوط الصَّلاة والنَّكاح. الثالث: ما ذكره بقوله: "والمتشابه من جهة المعنى: أوصاف الله تعالى، وأوصاف يوم القيامة، فإنَّ تلك الصَّفات لا تُتَصَوَّر لنا، إذ كان لا يحصل في نفوسنا صورةُ ما لم نُحسّه أو لم يكن من جنس ما نُحسُّه". أقول: وأنت إذا كنت قد تَدَبّرت ما تقدَّم - تعلم أنَّ النَّوعين الأوَّلين لا يصحُّ تفسير المتشابه في الآية بهما، فإنَّ الأَبَّ والقُرْء وسائر ما ذُكِر في النَّوعين الأوَّلين ليست ممَّا يُتَّبَع ابتغاءَ الفِتنة، ولا ممَّا يتَّبعه الزَّائغون ابتغاءَ تأويله، ولا غير ذلك ممَّا تقدَّم، بل في ذلك ما يخفى على الرَّاسخ، ولا يخفى على الزَّائغ، وفيه ما يُخطئ فيه الرَّاسخ ويصيب فيه الزَّائغ، ولم يزل العامَّة يسألون عمَّا يُشْبِهُ ذلك، ولم يتَّهِمهُم أحدٌ بالزَّيغ. والحاصل: أنّ ذلك لا يَصدُق على المُتَشَابه الذي وَرَدَت به الآية والأحاديث والآثار, بل ولا يَصدق عليه أنَّ معانيه مُشْتَبِهَةٌ؛ لأنَّ الاشتباه فيه يزول بالتَّدبُّر، فالأَبُّ مثلًا يُعْرَف معناه بسؤال أهل اللُّغة، والنَّظَر في القرائن، وهكذا. وليس في القرآن شيءٌ من ذلك يتوقَّف العلماء عن اتّباعه والنَّظر في تأويله، مع أنَّ الجمهور يقولون في الآية بما قلناه، وهو أنّ المتشابه لا يعلم تأويله إلاَّ الله، وقد تقدَّم حديث "الصَّحيحين" (¬1)، ونحن نعلَم أنَّ الصحابة عملوا بمقتضاه، ونعلم أنَّهم تكلَّموا في النَّوعين الأوَّلين، واختلفوا في ¬

_ (¬1) (ص 59).

بعضها كثيرًا، ثمَّ رَأَوا مَن بَعْدَهم يتَّبِعُون ذلك ويبتغون تأويله فلم ينكروا عليهم ذلك. فما بقي إلاَّ النَّوع الثالث، فهو الذي لم يكن يُؤَوِّلُه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه، ولا كانوا يبتغون تأويله، ولا يختلفون فيه، ولمَّا رَأَوا من يتَّبعه مِنْ بَعدِهم ويتكلَّم في تأويله حَذَّرُوه، وحذَّروا الناس منهم. فإن قلتَ: فإنَّكم تتكلَّمون في معنى ذلك، فتقولون: لله عزَّ وجلَّ حياةٌ تليق به، ويدٌ تليق به، وتقولون: إنَّ لوجوده وحياته وقدرته وعلمه وحكمته مناسبةً ما لهذه الصِّفات في المخلوق، ولذلك أمكننا تصوُّرها إجمالًا. قلتُ: الآن حَصْحَصَ الحقُّ، ارجع إلى معنى كلمة "تأويل". فقد قدَّمنا أنَّ تأويل اللَّفظ قد يُطْلَق على المعنى، وقد يُطْلَق على نفس ذلك المعنى، وقد يُطْلَق على الحقيقة المعبَّر عنها باللَّفظ. وقلنا: إنَّ قوله تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات: 15]، فإذا قال قائلٌ: "ويلٌ" وادٍ في جهنَّم، فقد أوَّله، ويُطْلَق على قوله إنَّه تأويلٌ، ويُطْلَق على نفس ذلك المعنى أنَّه تأويل. يقال: ما تأويل {وَيْلٌ}؟ فيقال: تأويلُه وادٍ في جهنم، ويطلق على تلك الحقيقة - وهي عين ذلك الوادي - أنَّها تأويل. ولم نجد في القرآن مثالاً للإطلاقين الأَوَّلَين، وفيه ثلاثة أمثلة جاءت على الإطلاق الثالث، كما ذكرنا هناك. إذن فالتَّأويل في آية المتشابه من الإطلاق الثالث، فقولنا في حياة الله عزَّ وجلَّ: "صفةٌ ثابتة له سبحانه لها مناسبةٌ ما بحياة المخلوق" = قولنا ذلك

تأويلٌ لِلَّفظ على الإطلاق الأوَّل، وهذا المعنى تأويله بالإطلاق الثَّاني، وتلك الصِّفة نفسها هي تأويلُه بالإطلاق الثَّالث، والتَّأويل بالإطلاق الثالث هو الذي لا يعلمه إلاَّ الله، وابتغاؤه زيغٌ، ولم يكن الصَّحابة والرَّاسخون في العِلْم يبتغونه، ولمَّا رَأَوا من يبتغيه حذَّرُوه، وحذَّرُوا منه. وقد عَرَفْتَ أقسام متَّبعيه ممَّا سبق. فمَن قال: يدٌ كيدي، فقد حكم على الحقيقة المعبَّر عنها باليد بأنَّها كَيَدِه, وتصوَّرَها هذا التَّصور المحدود. ومَن قال: إنَّما هي القُدرة أو النِّعمة، فقد حكم عليها هذا الحكم، وزعم أنَّه قد أدرك حقيقتها. ومَن قال: لله عزَّ وجلَّ يدٌ تليق به لا يمكنني تصورها, ولا العلم بكنهها، ولكن لمَّا أخبر الله عزَّ وجلَّ عن نفسه أنَّ له يدًا آمنت بأنَّ له يدًا تليق به، فهذا هو القائل: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7]. وهذا أوان الجواب عن سؤالك بقولك: وما فائدة إنزال مثل هذا في القرآن والقرآن إنّما نزل هدى للعالمين وأمرنا بتدبّره مطلقًا؟ فأقول: أمّا الصفات التي نُدْرِكها إجمالًا لمناسبة ما بينها وبين صفاتنا، مع العلم بأنّها في حقّه عزَّ وجلَّ كاملة كما يليق، وفي حقّنا ناقصةٌ كما يليق بنا، كالقدرة والعلم ونحوها = فلا إشكال في إنزالها في القرآن؛ إذ يُقال: المقصود منه الإيمان بها مع العلم الإجمالي، وهو كافٍ في ذلك. وقد عَلِمتَ أنّ من تلك الصفات ما يتوقّف ثبوت الشريعة على العلم بها، ويتبعها صفات أخرى مثلها في إمكان العلم بها إجمالاً، وفي العلم بها

تثبيتٌ للشريعة، وتأكيد للإيمان، ودونها صفات أخرى تُذْكَر في القرآن في صَدَد تقرير معنًى من المعاني لا يتوقَّف فَهمُه على العلم بكُنْهها, ولكن ذكرها معه يفيدُه قوةً لا تحصل بدونها، كقول الله تعالى: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]. فأصل المقصود إظهار زيادة الاعتناء بآدم عليه السلام، وتشريفه على ما سواه، وهذا المعنى معروف من الكلام، لا يتوقّف على العلم بكُنهِ اليدين، ولا نقول كما يقول بعضهم: هذا الكلام تمثيلٌ لا بد، فيه إظهار العناية والتّشريف وليس هناك يدان، وإنَّما هو تخييل كما قالوه في قول الشاعر (¬1): إذْ أَصْبَحَتْ بِيَدِ الشِّمَالِ زِمَامُهَا لا والله لا نقول ذلك، فإنَّه من الزَّيغ، بل نقول: إنَّ لله عزَّ وجلَّ يَدَين خلق بهما آدم عليه السلام، ولكنّنا لا نعلم كُنْهَهُمَا، وجَهْلُنا بكُنهِهِما لا يمنع من فهم معنى الكلام، ولا يلزمُ منه أنَّ ذِكرهُمَا لا فائدة له، بل له أعظم الفائدة كما عَلِمْتَ. ومع هذا فلا نقول: إنَّ فائدة ذكر الصفة مقصورة على ما ذُكر، بل هناك فائدةٌ أخرى، وهي الابتلاء؛ {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} [المدثر: 31]. وأمّا التدبُّر فقد أُمِرنا به مطلقًا, ولا يتوقَّف فائدة التدبُّر على العِلْم بكُنْهِ ¬

_ (¬1) هو لبيد بن ربيعة، من معلقته، كما في "ديوانه" (ص 114)، وهو عجز بيتٍ صَدْرُه: وَغَدَاةِ رِيْحٍ قد وَزَعْتُ وَقَرَّةٍ

اليَدَين مثلاً، إذ لا يتوقَّف العِلْم بمعنى الكلام على ذلك، أَلَا تَرَى أنّك إذا أخبرت الأَكْمَهَ بأنَّك ترى ولدَه مُقبلًا يعلم معنى هذا الكلام تحقيقًا، وإن كان لا يدري كُنْهَ الإبصار. ****

الفصل الثاني: في تأويل الإخبار عن الوقائع

الفصل الثاني: في تأويل الإخبار عن الوقائع أمّا الوقائع المتعلقة بالرّب عزَّ وجلَّ من حيث تعلُّقها به من العقائد، وقد مرَّ الكلام عليها. وأمّا ما عدا ذلك، فإن كان يتعلّق بما لا نُحسُّ به، ولا هو من جنس ما نُحسُّ به فحكمه حكم العقائد، وذلك كالملائكة، والجنّ، والأرواح، وأحوال الجنة والنار، ونحو ذلك، إلاَّ أنّ للملائكة مثلًا صفات يصدق عليهم بالنَّظر إليها أنَّهم من جِنْس ما نُحسُّ به، ككونهم موجودين (¬1) مخلوقين مربوبين، فمن هذه الجهة يكون حُكْمُهُم كحكم غيرهم ممّا نُحسُّ به، أو نُحسُّ بما هو من جنسه. والوقائع المتعلقة بما نُحسُّ به أو هو من جنس ما نُحسُّ به هي موضوع هذا الفصل. فنقول: يزعم كثيرٌ من النّاس أنّ في الكتاب والسنّة إخبارًا عن أشياء من هذا القبيل، والعقل أو الحِسُّ أو الخبر المتواتر يدلُّ على خلاف ظاهر ذلك الخبر، فغالبهم يذهبون إلى تأويل الأخبار بحَمْلِها على معانٍ خلاف ظاهرها, ولكنّها موافقةٌ للمعقول أو المحسوس أو المتواتر، وحُجَّة هؤلاء أنَّهم إذا تركوا تلك الأخبار على ظاهرها يلزم من ذلك في حق الله عزَّ وجلَّ ورسوله عليه السلام الكذب أو الجهل! وإذ كان من المعلوم امتناع ذلك يجعل الخصمُ هذا حُجَّة على بطلان دين الإسلام! ¬

_ (¬1) في الأصل: "موجود".

أقول: وهذا القول قد أَرْعَبَ غالب المسلمين، وزَلْزَلَ قلوبهم وحُلُومَهُم، فخضعوا لوجوب التأويل، ولكنّ هذا لم يغنهم شيئًا، فإنّ أهل الكفر والإلحاد قالوا: إنّ هذه التأويلات التي تبدونها خلاف ظاهر الكلام! فإن قلتم: إنَّ الدليل العقلي أو الحِسِّيَّ أو التَّواتري قرينةٌ تجعل [خلاف] (¬1) ظاهر الكلام هو المعنى الذي حملناه عليه. قيل لكم: هذا الدليل لم يكن معلومًا للمُخَاطَبين، بل لم يكن معلومًا لأحد من أهل الأرض حينئذٍ، ولا يكفي أن يُقال: كان الله يعلمه، أو كان رسوله يعلمه؛ فإنّ الاعتماد على قرينةٍ يعلمها المتكلِّم، ويعلم أنّ المخَاطَبين لا يعلمونها لا يجوز، ولا يخرج الكلام بذلك عن الكذب؛ فظهر أنّ ما تُبْدُونه من التأويل لا ينفي لزوم الكذب أو الجهل في قرآنكم ونبيّكم. لعلَّ أكثر النَّاس ينكر عليَّ تقرير هذا المعنى؛ فأقول له: اعلم أنّ الكفّار والمُلْحدين يقرِّرون ذلك، ويَسْطُون به على علماء المسلمين فضلاً عن غيرهم، ولا سيَّما الشباب الذين سيقوا إلى أن يكونوا في مدارس معلِّمُوها من هؤلاء الملحدين أو الكفّار. والدِّين الحقّ لا يضرُّه تقرير الشُّبه، وإنّما يحظر على العالِم أن يثير شُبْهةً لا يزال أهل الكفر والضلال غافلين عنها، فأمّا مثل هذه الشُبْهَة ممّا قد أثاروه وأضلُّوا به فلا بدّ للعالِم مِن ذِكره وإقامة البُرهان بما يزيله. ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق.

حل الشبهة

حَلُّ الشُّبهَة اعْلم أنّ عامّة شبهات الكفّار والملحدين في هذا العصر تدور على هذه الشُّبْهة، فيجب الاعتناء بحلِّها وإيضاح الحق، وأسأل الله عزَّ وجلَّ التوفيق والهداية. لعلّه يطّلع على هذا مُلْحدٌ فيقول: إنّ هذا الكاتب وأمثاله مقلِّدون متعصِّبون، ليس لهم من حريّة الفِكْر نصيب، يَرِدُ عليهم البُرهان الذي يَدْمَغ دِيْنهم فيفرُّون إلى المعاذير، وكان عليهم أن يتدبَّروا ذلك البرهان ويعترفوا بمقتضاه، هذا مقتضى الحرية والشجاعة الأدبية، وطلب الحقّ من حيث هو حقٌّ، فهم يزعمون أنَّهم يتَّبعون الحقَّ، ويَدْعُون إلى الحقّ، وهم أبعد الناس منه. فأقول له: أنت تعلم أنّ لثبوت الحقائق طُرُقًا مختلفة، فمعرفة أنّ فلانًا حاضرٌ - مثلًا - قد تحصل بواسطة الإبصار، وبواسطة سَمْعِ كلامه، وبواسطة إخبارٍ متواتر وغير ذلك، والإدراك بواسطة البصر لا يحصل للأعمى، وبواسطة سماع كلامه لا يحصل للأصمّ، وقِسْ على ذلك. وقد يحصل الإدراك اليقينيُّ لحقيقةٍ بطريقٍ صحيحٍ، وإذا نُظِر من طريق أخرى وَجَدْتَ شُبهات تنفي تلك الحقيقة، فأمّا مَن حصل له الإدراك بذاك الطريق الصحيح فإنَّه إذا عُرِضَت عليه تلك الشُبهات لا يلتفت إليها, ولا يبالي بها، إلاَّ أنَّه إذا عجز عن إطْلاع المعترض على ذاك الطريق الصحيح فقد يحاول حلَّ تلك الشُبهات، وربَّما يعجز عن حلِّها، وهو مع ذلك غير مُتَزَلْزِلٍ فيما قد تيقَّنه، بل هو مؤمن أنّ لتلك الشبهات حلًّا لم يتيسَّر له، ومَن شكَّكَتْه الشُبهات فيما قد عَلِمَه يقينًا يُعدُّ عند العقلاء أحمق!

فمن ذلك قول علماء الطبيعة: إنّ تقرير كيفيّة الإبصار يقتضي أن ترى الصُّوَر معكوسة، وهو خلاف المُشاهَد، فيا تُرى من يشاهد الصُّوَر - ويعلم أنَّه يشاهدها مستقيمةً - إذا عُرِضَت عليه تلك الشبهة هل يَتَزَلْزَل عمّا يشاهده من أنَّه يرى الصور مستقيمة؟! وفي الفلسفة الحِسِّية العصرية أمثلة كثيرة من هذا. فهكذا نحن، قد قام عندنا من البراهين ما تَيقَنَّا به أنّ القرآن كلام الله، وأنّ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - رسول الله، فهذا اليقين هو الذي جعلنا نبادر إلى ردّ الشبهات، وإنّما نعتني بحلِّها رعاية لحال من لم يسلك الطُرُق التي سلكناها، وبها حصل لنا ذلك اليقين، وهي تحتاج إلى ممارسة وعناية، فلا يمكننا أن نحصَّلَها لِمَن لم تحصل له في مقالةٍ أو رسالةٍ؛ فلذلك نحتاج إلى حلِّ الشُّبهات. والمقصود تقرير عُذْرِنا، ودفع تهمة التقليد والتعصُّب عنّا. على أنّنا لا ندَّعي أنّنا نستطيع حلَّ جميع الشبهات حلًّا يقنع الخصم، ولكنّنا ندَّعي أنّه لو سَلَكَ الطُرُق التى سلكناها، وتَحَرَّى إصابة الحقّ، وتخلَّى عن التقليد والتعصب لوصل إلى ما وصلنا إليه، ولَعَلِم أنّ تلك الشبهات التي أثارها أوّلًا باطلة، سواء أعلم وجه حلّها أم لا. فمثلُنا ومثلُ الخصم مَثَلُ رجل قال لآخر: إنّ الأرض تدور، فعَارَضَه ذاك بأنّها لو كانت تدور لتَسَاقطت الأجرام التي عليها، وكان كذا وكذا! ولْنَفْرِض أنّ المُخْبِر قد كان وقف على الدلائل التي تثبت دوران الأرض، ولم يقف على جواب الشُّبهة، فإنّه يقول للخصم: تعال معي وانظر وتفكَّر

أقوال العلماء

لِتَقِفَ على ما وقفت عليه، فأبى هذا، مُصِرًّا على الإنكار؛ بحُجَّة أنّها لو كانت تدور لكان كذا وكذا! أفلا يكون من واجب المعترض إذا كان طالبًا للحق أن يجيب الأوّل إلى ما يدعوه إليه من النظر، وإن كان في ذلك مشقَّة وتعب؟! وبعد هذا التمهيد نشرعُ في حَلِّ الشُّبهة. **** أقوال العلماء رأيت كتابًا لبعض الفضلاء يُكذِّب صاحبُه أهلَ الطَّبيعة والفَلَك والجغرافية وغيرها في كلِّ ما يقولونه ممَّا يراه مؤلِّف الكتاب مخالفًا لظاهر القرآن أو السنة، وفي كلامه مؤاخذات: منها دعواه في مواضع ظُهُور دلالة القرآن، وليس كذلك. ومنها في السنة كذلك. ومنها الاستناد إلى أحاديث غير ثابتة، وغير ذلك. وغالب العلماء يذهبون إلى التَّأويل كما قدَّمنا، وفيه ما عَرَفْتَ من الإشكال. وسمعتُ بعض العلماء يقول: إنّ القرآن لم يُنزَّل لتعليم الطبيعة والفَلَك والتاريخ والتشريح والطِّبِّ، ونحو ذلك من العلوم الكونية، وإنّما نُزِّل لبيان الدين، عقائد وأحكامًا، وإنّما يُذْكَر بعض ما يتعلَّق بالطبيعة والفلك والتاريخ ونحوها لمغزًى دينيّ، كالتَّنبيه على آيات الله وآلائه، والتذكير بالعِبَر والمَثُلات، وهكذا السُّنَّة، فالأنبياء إنّما بُعِثُوا لتعليم الدِّين.

ومقصود هذا العالِم على ما فهمتُه: أنَّه لا يصحّ الاستناد إلى ظاهر آية من القرآن أو حديث من السنة في تقرير أمرٍ من تلك العلوم الكونية، ممَّا هو بالنسبة إلى غالب الناس غيب. فأمّا قوله: "إنّ الشريعة إنّما جاءت لتعليم الدين عقائد وأحكامًا, ولم تجئ لتعليم العلوم الكونية" فحقّ. والحكمة في ذلك: أنّ العُلُوم الكونية منها ما لا فائدة في عِلْمِه، ومنها ما في عِلْمِه فائدة، ولكنّ عِلْمَه لا يتوقَّف على الوحي، بل يُعْلَم بالبحث والنَّظر، وقد قضى الله عزَّ وجلَّ أن يكون ظهور ذلك في أوقات متراخية، كما وقع من اكتشاف الكهرباء والهاتف والمذياع وغير ذلك. والعلوم الكونية مُتَّسعةٌ جدًّا لا يكفي لتعلُّمها كلها عشر سنين أو عشرون سنة، فكان الواجب صَرْف هذه المدَّة في تعليم ما لا بدّ منه، ممَّا يتعلَّق بالغيب، ولا يُعْلَم إلاَّ بطريق النُّبوة، وهذا هو الدِّين. أمّا العقائد والعبادات فظاهرٌ؛ وأمّا الأحكام فلأَنَّ منها ما لا يُدرَك بالنظر، وما قد يُدْرَك بالنظر فهو مظِنَّة الاختلاف والتنازع، وجَوْر الحُكّام واتِّهامهم، وغير ذلك مما يكون سببًا للفتن والفساد، وامتناع الأقوياء عن قبول الحكم وغير ذلك. على أنّ الناس محتاجون إلى كثرة الحُكَّام، وليس كلُّ حاكم كاملًا في العقل والفهم والنظر حتى يُدْرِك جميع الأحكام بنَظَره، واجتماع جماعة من العقلاء لوضع القوانين لا يكفي؛ لقِصَر نَظَرِهم، واحتمال ميلهم وتعصُّبهم؛ ولأنّ غالب القوانين تختلُّ الحكمة المقصودة منها في كثير من الجزئيَّات

الداخلة فيها، فأمّا القوانين الشرعية فإنَّها يُؤْمَن الغلط والمَيْل والعصبية فيها، ويمتثلها المتدينون تديُّنًا، ويقبلونها طيِّبةً أنفسُهُم منشرحةً صدورُهم؛ لأنّهم يرون القبول خيرًا لهم في دينهم ودنياهم، ويلتزمونها غالبًا بدون إلزام حاكم، لا فرق في ذلك بين قويِّهم وضعيفهم، وما فَرَضَها على الغالب بحيث يمكن تخلُّف الحكمة في بعض الجزئيات فإنّ الله عزَّ وجلَّ يُجيزُه بقَدْرِه. والمقصود: أنّ الخلق مفتقرون إلى تلقِّي الأحكام من طريق الرب عزَّ وجلَّ، وليسوا مفتقرين إلى تلقِّي العلوم الطبيعية ونحوها. وقد قيل في تفسير قول الله عزَّ وجلَّ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189]: إنّ القوم إنّما سألوا عن الأَهِلَّة ما بالُها تبدو صِغَارًا ثم تكبر، ثم تعود فتصغر ثم تكبر، وهكذا (¬1)؟ فتُرِك الجواب عن هذا المعنى الطبيعي، وأُجيبوا بما يتعلَّق بالأهلَّة من الأحكام الدينية، ثم أُمِروا بان يأتوا البيوت من أبوابها، فإذا سألوا النَّبي ¬

_ (¬1) أخرجه أبو نعيم في "معرفة الصحابة" (1/ 493)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (1/ 25) من طريق السُّدَّي عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما بنحوه. والأثر ضعَّف إسناده السيوطي في "الدُّر المنثور" (2/ 304)، وفيه محمد بن مروان السُّدي الصَّغير ومحمد بن السَّائب الكلبي، وهما ضعيفان، بل متَّهمان بالكذب، وأبو صالح هو: باذام، وهو ضعيف الحديث. وقد قال ابن حجر في "العُجاب" (1/ 263) عن هذا الإسناد: "سِلْسلة الكذب"!

- المبعوث لتعليم الدِّين - فلْيَسألوه عمّا يتعلَّق بالدِّين، ولا يأتوا البيوت من ظهورها؛ بأن يسألوه عمّا لم يُبعث لأجله، ولا تتعلّق به ضرورة دينية. ولمّا وَرَدَ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة رآهم يُؤَبَّرون النخل، فظنَّ أن لا حاجة لذلك؛ لأنَّه كان قد رأى كثيرًا من الأشجار فرآها تُؤتي ثَمَرَها بدون تلقيح، فقال لهم: "ما أظنُّ يغني ذلك شيئًا"، فَتَركوه، قال: فخرج شِيصًا (¬1)، فمرّ بهم فقال: "ما لِنَخْلِكم؟ " قالوا: قلتَ كذا وكذا! قال: "أنتم أعلم بأمر دنياكم" (¬2). وفي رواية (¬3): "إنّما ظننتُ ظنًّا، فلا تؤاخذوني بالظَّن، ولكن إذا حدَّثْتُكم عن الله شيئًا فخذوا به، فإنيّ لن أكذب على الله عزَّ وجلَّ". وفي رواية (¬4): "إنّما أنا بشر؛ إذا أمرتكم بشيءٍ من دِينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رَأْيٍ فإنَّما أنا بشر". والحديث في "صحيح مسلم" وغيره، من حديث أمّ المؤمنين عائشة، وطلحة بن عبيد الله، وثابت بن قيس (¬5)، ورافع بن خديج رضي الله عنهم. وصحَّ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال: "لقد هَمَمتُ أن أنهى عن الغِيلة، فنظرتُ في الرُّوم وفارس فإذا هم يغيلون أولادهم فلا يضرُّ أولادَهم ذلك" (¬6). ¬

_ (¬1) يعني: تمرًا رديئًا، وهو الذي لا يشتد نواه, كما في "النهايه" لابن الأثير (2/ 518). (¬2) أخرجه مسلم (2363) من حديث عائشة وأنس رضي الله عنهما. (¬3) أخرجه مسلم (2361) من حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه. (¬4) أخرجه مسلم (2362) من حديث رافع بن خديج رضي الله عنه. (¬5) لم أرَهُ فيه عن ثابت بن قيس، فلعلَّه سبق عينٍ؛ إذ فيه من حديث ثابت عن أنس، لا ثابت بن قيس. (¬6) أخرجه مسلم (1442) من حديث جدامة بنت وهبٍ رضي الله عنها.

وجاء عنه - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال: "لا تقتلوا أولادكم سرًّا فإن الغَيْل (¬1) يُدْرك الفارس فيُدَعْثِرُه (¬2) عن فرسه" (¬3). قال الطحاوي (¬4): إنّ هذا الحديث الثاني يُظهِر أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله أولاً لمّا كان يظنّ أنّ الغَيْلَ يضرُّ، ثم لمّا تبيَّن له أنَّه لا يضرُّ قال: لقد هَمَمْتُ ... إلخ. والظَّاهر خلاف هذا؛ لوجوه: الأوّل: أنّ أقواله - صلى الله عليه وسلم - التي يبنيها على الظنّ بيَّن أنَّه إنّما قالها بناءً على الظنّ، والحديث الثاني جزم. الثاني: أنّ قوله: "إنَّ الغَيْلَ يُدْرِكُ الفارسَ فيُدَعْثِرُهُ" ممّا لا يظهر بناؤُه على الظَّن. الثالث: أنّ قوله في الحديث الأول: "لقد هَمَمْتُ ... " ظاهرٌ في أنَّه لم يكن قد نهى، فالظاهر أنَّه أراد أن ينهى أولاً بناءً على ما كان مشهورًا بين العرب ¬

_ (¬1) الغَيل - بالفتح - هو: أن يجامع الرجل زوجته وهي مرضع، كما في "النهايه" لابن الأثير (3/ 402). (¬2) أي: يصرعه ويهلكه، كما في "النهاية" لابن الأثير (2/ 118). (¬3) أخرجه أبو داود (3881) وابن ماجه (2012) وأحمد (6/ 453، 458) وابن حبان (5984) وغيرهم، من طريق المهاجر بن أبي مسلم الأنصاري عن أسماء بنت يزيد ابن سَكَن الأنصارية رضي الله عنها به. وقد حسَّن إسناده الحافظ ابن حجر في "الإصابة" (7/ 498). وضعَّفه الألباني في "غاية المرام" (242) لجهالة المهاجر بن أبي مسلم. (¬4) "شرح مشكل الآثار" (9/ 291)، و"شرح معاني الآثار" (3/ 47).

من أنَّ الغَيْلَ يضرُّ، ثم تفكَّر في حال فارس والروم فقال الحديث الأول، ثُمَّ أَعْلَمَه الله عزَّ وجلَّ بأنّ الغَيْلَ يَضُرُّ ولو بعد حين، فقال الحديث الثاني. وقد يجيء في الشريعة ما يشير إلى مسائل طبيعية إذا دَعَت إليها ضرورة، ولكنّها تُعْرَض بمَعْرِضٍ ديني، أو يُنبَّه عليها إجمالًا. فمِن الأوّل النّهي عن الشرب قائمًا، وقوله: "إنَّ الشيطان يشرب معه" (¬1). ومن الثاني النّهي عن النفخ في الطعام والشراب (¬2)، وغير ذلك. والمقصود: أنَّ قول ذلك العالم: إنَّ الشريعة إنَّما جاءت لتعليم الدين عقائد وأحكامًا، وإنَّ ما جاء فيها ممّا يتعلَّق بشيءٍ من علوم الطبيعة والتاريخ ¬

_ (¬1) أمَّا النَّهي عن الشُّرب قائمًا فأخرجه مسلم (2024، 2025، 2026) من حديث أنس وأبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهم. وأمَّا ذكر أنَّ علَّة ذلك شُرب الشَّيطان معه فقد أخرجه أحمد (2/ 301) والدارمي (2174) ومسدَّد وابن أبي شيبة (كما في "إتحاف الخيرة" للبوصيري 4/ 341) والبزار كما في "كشف الأستار" (3/ 342) وغيرهم، من طرق عن شعبة عن أبي زياد الطحَّان عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (5/ 79): "رجال أحمد ثقات". وقال الحافظ في "الفتح" (10/ 82): "أبو زياد لا يُعرف اسمه, وقد وثَّقه يحيى بن معين". وصحَّحه الألباني في "الصحيحة" تحت الحديث (175). (¬2) أخرجه أحمد (1/ 220) وأبو داود (3727) والترمذي (1888) وغيرهم، من طريق ابن عيينة عن عبد الكريم الجزري عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما. قال الترمذي: "حسنٌ صحيح"، وصحَّحه الألباني في "الإرواء" (1977) على شرط البخاري.

ونحوها لا يكون المقصود من ذكره التَّعريف بكُنهِهِ وحقيقته وكيفيَّته مُفَصَّلاً، وإنّما يُذْكَر تنبيهًا على الآيات والمَثُلات= كلُّ هذا صحيح، ولكن هل يقتضي هذا جواز أن يكون الواقع في تلك الأمور خلاف ظاهر الخبر الشرعي؟ قد كنت أنكر هذا أشدَّ الإنكار، وأقول: إنَّ الظاهر حجةٌ قطعيةٌ، وإنَّه إذا كان الواقع خلاف ظاهر الخبر كان الخبر كذبًا، وإن لم يكن المقصود من الخبر بيان ذلك الأمر. ثم رأيتُ في أصول الفقه مسألةً تعضُدُ ما قاله ذلك العالم، وهو قول بعضهم: إنَّ النَّص إذا سِيقَ لمعنًى غير بيان الحكم، وكان عامًّا لا يُحتجُّ بعمومه في الحكم (¬1). ويمكن أن يطرد ذلك في سائر الدلالات الظاهرة، ووجه ذلك: أنَّ المتكلِّم إنَّما يعتني بالمعنى المقصود بالذَّات، وأمَّا ما ذُكر عَرَضًا فإنَّه لا يعتني به، كأنَّه يَكِلُ تحقيق حُكْمِه إلى موضعه. ويقرب من هذا ما يقوله الفقهاء وغيرهم: إنَّ المسألة إذا ذُكِرَت في غير بابها استطرادًا، ثم ذُكِرَت في بابها مع مخالفةٍ فالمعتمد فيها ما في بابها. وههنا معنى آخر يعضد ذلك أيضًا، وهو: أنَّ المتكلِّم في عِلْمٍ قد يذكر في أثناء كلامه مسألة من عِلْمٍ آخر، فربّما ذكر قاعدةً يكون ظاهر كلامه أنّها ¬

_ (¬1) لعله يقصد اختلاف الأصوليين في مسألة النص لو ورد في سياق المدح أو الذم عامًّا هل يفيده في الحكم أم لا؟ الأكثر على إفادته العموم. ينظر في ذلك: "التحبير شرح التحرير" للمرداوي (5/ 2502 - 2505)، و"شرح الكوكب المنير" لابن النجار (3/ 254)، و"الأحكام" للآمدي (2/ 343)، و"البحر المحيط" للزركشي (3/ 195).

كُلِّية، ومع ذلك فلا يعتدّ بهذا الظاهر، ولا يُنسبُ إلى المتكلِّم أنَّه ادّعى كُلِّيتها, ولا يُعترض عليه بذكرها على ذلك الوجه. كأن يقول المفسِّر في قوله تعالى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2]: أصل (هدى) هُدَيٌ، والقاعدة الصرفية: أنَّه إذا تحركت الياء وانفتح ما قبلها قُلِبَت ألفًا، والقاعدة الأخرى: أنَّه إذا التقى السَّاكنان حُذف الأول. وهاتان القاعدتان ليستا على إطلاقهما، بل لكلٍّ منهما قيودٌ وشروطٌ معروفةٌ في عِلْم الصَّرْف، ومع ذلك لا يُنْسَب إلى ذلك المفسِّر قصور ولا تقصير، ولا دعوى خلاف ما تقرّر في علم الصَّرْف؛ لأنَّه يقال: ليس هو في صَدَد الكلام في علم الصَّرْف حتى يُنْسَب إليه ذلك، وإنّما هو في صَدَد التفسير، ولكن انجرَّ الكلام إلى هاتين القاعدتين فذكرهما على قدر ما دعا إليه الحال. وهكذا في القواعد النحوية والبيانية وغيرها. وأبلغ من هذا: أنَّ أصحاب الكتب المختصرة في العلوم يذكر أحدهم كثيرًا من قواعد ذلك العلم، بحيث يكون ظاهر الكلام أنّها كلية، ومع ذلك لا ينسب إليهم قصور ولا تقصير، ولا دعوى كُلِّيَّتها، بل يُقال: هذا المختصر وُضِع للحفظ ولتعليم المبتدئين، وكلٌّ من هذين يستدعي الإجمال وترك التفصيل بذكر القيود والشروط، بل يُوْكَل ذلك إلى الشروح والمطوَّلات. وأبلغ من هذا وأبلغ: أنّ الكتب الموضوعة للمبتدئين قد يُذكَر فيها ما ليس بصحيح في نفسه، ولكن سَلَكَه المؤلِّف لأنّه أقرب إلى فهم المبتدئ، فيقول النحوي مثلاً: الكلام قد يركّب من كلمتين، اسمٍ وفعلٍ، مثل: قام الرجل، والرجل قام، أو اسمين، مثل: زيدٌ قائمٌ، أو: القائمُ زيدٌ، مع أنَّ "قامَ الرجلُ" ثلاث كلمات، و"الرَّجلُ قام" أربع كلمات، فعل وحرف واسمان،

و"زيدٌ قائمٌ" ثلاثة أسماء، و"القائمُ زيدٌ" أربعة أسماء. ومن كان له ممارسة للنّحو والصَّرْف وَجَد فيها كثيرًا من هذا، ومن عَالَج التعليم يعلم يقينًا أنَّه لا غِنَى به عن سلوك هذه الطريق في كثيرٍ من المسائل. وكما أنَّ المعلّم النّاصح يتجنَّب أن يخرج بالطالب في الدَّرس عن ذلك العلم، فهكذا النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتجنّب أن يَشْغلَ الناس بما لم يُبعث لأجله، بل كثيرًا ما يُقِرُّهم على ما يعلم أنَّه خطأٌ وغلطٌ؛ لأنّ ذلك لا يضرُّهم في دينهم، فإذا دعت المصلحة إلى ذكر ما يتعلّق بشيءٍ من الأمور الطبيعية ذَكَرَه على وجهٍ لا يجرُّ إلى إيقاع السامعين في الخوض في أحواله الطبيعية، فيشتغلوا بذلك عن المقصود. ومن ضرورة هذا المعنى أن لا يذكر لهم في الأمور الطبيعية خلاف ما يعرفون، أو لا يذكر لهم ممَّا لا يعرفون شيئًا فيه دقةٌ وغرابة، فلا يذكر لهم مثلاً: الأرض كروَّية، أو أنَّها تدور. فإن قلتَ: فهل يجوز أن يُخبر عن شيء من الطبيعيَّات بكلامٍ ظاهره مخالف للحقيقة؟ هذا هو موضوع السؤال! قلتُ: أمَّا إذا ثبت أنّ الظَّاهر في مثل ذلك لا يُعتدُّ به، بل يحتمل أنَّه مراد، ويحتمل أنَّه ليس بمراد، فلا مانع من ذلك؛ إذ لم يبق ذلك الظاهر ظاهرًا، تدبّر! وقد أجاز جمهور العلماء تأخير البيان إلى وقت الحاجة، فأجازوا أن

يَرِدَ نصٌّ في الحجّ - مثلًا - يكون وروده في شهر محرَّم، ولذلك النص ظاهرٌ غير مراد، كأن يكون النص عامًّا وهو في علم الله عزَّ وجلَّ غير عامّ، أو مطلقًا وهو في علمه عزَّ وجلَّ مقيّد، أو فيه كلمة مستعملة في علم الله عزَّ وجلَّ في غير ما وُضِعَت له، ولم تصحب النَّص قرينة، ثم حين حضور الحج يبيِّن الله عزَّ وجلَّ الخصوص والتقييد، وإرادة المجاز. والوجه في ذلك: أنّ المخاطَبِين لمّا علموا من عادة الشريعة أنَّه قد يقع فيها مثل هذا صار ذلك الظاهر غير ظاهر عندهم، بل هو محتملٌ فقط، فإذا جاء وقت العمل ولم يبيَّن ما يخالف ذلك الظاهر علموا حينئذ أنَّه مراد. بل قد يقال: لا حاجة إلى علم المخاطَبِين بعادة الشريعة في ذلك، ويكفي أنَّ ذلك جارٍ في العادة مطلقًا، فلو كان لرجلٍ خمسةٌ من الولد صغار، فقال لخادمه: اذهب بالأولاد يوم الخميس إلى المستشفى للتطعيم ضد الجُدَري، وعندما تريد الذهاب أخبرني، فإنَّ الخادم إذا تدبَّر هذا الكلام قال في نفسه: كلمة "الأولاد" تشمل الخمسة كلَّهم، ويمكن أن يكون أراد الخمسة كلَّهم، ويمكن أن يكون ثلاثةً أو أربعةً منهم، وعلى كل حال فحين أريد الذهاب أُخْبِرُه فيظهر ما هو مراده. وإنّما زدتُ في المثال: "وعندما تريد الذَّهاب أخبرني" لأنَّه لو لم يقل ذلك لضَعُفَ احتمال الخصوص جدًّا؛ لأنّ الإنسان يعلم أنَّه ربّما ينسى، أو يغفل، أو ينام، أو يمرض، أو يموت، أو يغيب، وإذا عَرَض له شيء من ذلك عند حضور الوقت فإنّ الخادم يذهب بالأولاد الخمسة، فلو كان يريد الخصوص لاحتاط.

فأمّا الربُّ عزَّ وجلَّ فإنّه مُنَزَّهٌ عن تلك العوارض، فأمرُهُ على الاحتمال حتى يحضر وقت العمل بدون حاجة إلى ما يقوم مقام قول الإنسان: "وعندما تريد الذهاب أخبرني". وكذلك أمرُ نبيِّه عليه الصلاة والسلام؛ لأنَّه مبلِّغ عن الربّ، والربُّ تعالى متكفِّلٌ بحفظه، أن يَعْرِض له شيء من تلك العوارض يمنع من البيان قبل وقت الحاجة. والحاصل أنَّ النَّص على الحكم وقد بَقِيَتْ مدَّةٌ إلى حضور وقته إذا كان لذلك النص ظاهرٌ= فهو ظاهر من جهة اللفظ، ولكنّه غير ظاهر من جهة المعنى، بل هو محتمل فقط، فإذا جاء الوقت ولم يُبيَّن عُلِمَ أنّ ما ظهر من اللفظ هو المراد من جهة المعنى أيضًا. فإذا أطلق الشارع نصًّا في حُكْمٍ لم يحضر وقته، وللنّصِّ ظاهرٌ لفظيٌّ، ثم بيَّن عند الحاجة ما يرفع ذلك الظاهر = لم يلزم من إطلاق النصّ كذبٌ ولا شُبْهَة كذبٍ، فتدَّبر وأمعِن النَّظر. ثم نقول: معرفة صفات الأمور الطبيعية ليس لها حاجةٌ في الشريعة أصلاً، فلا مانع من ترك بيان ما يتعلق بها أصلاً، وإنَّما يظهر البيان عندما يطَّلِعُ الإنسان على صفة ذلك الشيء، فيتبيَّن له حينئذٍ المعنى المراد من النص، ولا يلزم كذبٌ ولا شُبْهَة كذبٍ إذا تبيَّن أنَّ الواقع خلاف الظاهر اللَّفظي من النَّص. فلو قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لرجل: اذهب إلى فلان فستجده يأكل لحم إنسان، فذهب إليه فلم يجده يأكل لحمًا, ولكن وجده يغتاب إنسانًا، لقال: صدق الله ورسولُه، إنَّ اغتياب الإنسان كأكل لحمه.

ولو قال - صلى الله عليه وسلم -: لرجل: أتحبُّ فلانًا؟ فقال: نعم! فقال: أَمَا إنّك ستقتله، فلمّا كان بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - سَقَطَت من الرجل كلمة كانت سببًا لقتل صاحبه، لقال: صدق الله ورسولُه، أنا قتلته بكلمتي. وفي هذا نصٌّ واقع، وهو قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأزواجه لمَّا سألْنَهُ أيتُهُنّ أسرع لحوقًا به: "أسرعكنَّ لحوقًا بي أطولُكُنَّ يدًا". قالت عائشة: "فكُنَّا إذا اجتمعنا في بيت إحدانا بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نمدُّ أيدينا في الجدار نتطاول، فلم نزل نفعل ذلك حتى توفيت زينب بنت جحش، وكانت امرأة قصيرة، ولم تكن أطولنا، فعرفنا حينئذ أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - إنّما أراد بطول اليد الصَّدَقة، وكانت زينب امرأة صنَّاعة باليد، وكانت تدبغ وتخرز وتصدَّق في سبيل الله". هذا لفظ رواية الحاكم في "المستدرك" (¬1)، كما حكاها الحافظ في "الفتح" (¬2). والحديث في "الصحيحين" (¬3)، ولكن وقع في رواية البخاري اختصار ووهمٌ، نبَّه عليه الحافظ في "الفتح" (¬4). قال الحافظ: "وفي الحديث عَلَمٌ من أعلام النبوة ظاهر، وفيه جواز إطلاق اللَّفظ المشترك بين الحقيقة والمجاز بغير قرينة، وهو لفظ "أطولُكُنَّ" ¬

_ (¬1) (4/ 25) وقال: "صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي. (¬2) "الفتح" (3/ 286). (¬3) البخاري (1420)، ومسلم (2452) من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬4) والوهم والاختصار الذي وقع في رواية البخاري والذي نبَّه عليه الحافظ هو لفظه الموهم أنَّ أول نسائه موتًا بعده "سودة بنت زمعة" رضي الله عنها، والصواب أنَّها "زينب بنت جحش" رضي الله عنها.

إذا لم يكن محذورٌ. قال الزين ابن المُنَيِّر: لمَّا كان السؤال عن آجالٍ مقدَّرةٍ لا تُعْلَم إلاَّ بوحيٍ أجابهُنَّ بلفظٍ غير صريح، وأحالهُنَّ على ما لا يتبيَّن إلاَّ بآخره، وساغ ذلك لكونه ليس من الأحكام التكليفيَّة". "الفتح" ج 3 ص 185 (¬1). وقد يقال: إنّ في الحديث قرينة، بل قرينتين: الأولى: قوله: "أطولُكُنَّ يدًا"، ولم يقل: "أطولُكُنَّ"، مع أنَّه أخصر، ففي العدول إلى ذكر طول اليد إشارة إلى المعنى المراد. الثاني: أنَّ سُرعة اللُّحوق به فضيلة، والفضيلة إنَّما تُدْرَك بعملٍ صالح، والطُّول الحِسِّي ليس بعمل صالح. ويمكن أن يجاب بأنَّ الأُولى مبنيَّة على أن الطُّول الحسِّي في اليد ملازمٌ لطول القامة، وليس كذلك ولكنَّه الغالب، وأمَّا الثانية فليست بظاهرة؛ لأنّ الموت عند تمام الأجل، فليس بمرتبط بالفضيلة ارتباطًا ظاهرًا، إذ لا مانع من طول عمر الفاضلة وقصر عمر المفضولة. وعلى كل حالٍ فإنّما استُنبط هذا بعد العلم بحقيقة الحال، وأمَّا قبل ذلك فقد كان الظَّاهر هو طول اليد الحِسِّي، كما فَهِمَتْهُ أمّهات المؤمنين رضي الله عنهن، ولم يَزَلْنَ على ذلك حتى تبيَّن خلاف ذلك بموت زينب. فإن قيل: كيف هذا وقد تقدَّم في كلمات خليل الله إبراهيم عليه السلام (¬2) ما عَلِمتَ، وتقرَّر هناك أنَّها لا تخلو عن شيءٍ، كأنّ المراد ما ¬

_ (¬1) "الفتح" (السَّلفية 3/ 287). (¬2) يعني كذباته وقد تقدم ذكرها.

يعبِّرون عنه بخلاف الأَوْلَى، وسياق الأحاديث فيها يقتضي أنّ نبينا - صلى الله عليه وسلم - كان يتنزَّه عن مثلها، والله سبحانه وتعالى أولى أن يُنزَّه. قلتُ: يمكن أن يُجاب بأنّ كلمات الخليل عليه السلام تتعلّق بوقائع عادية وَقَعَت له، وليست متعلَّقة بما هو غيب عند عامة الناس أو غالبهم، والبحث المتقدَّم إنّما هو فيما كان غيبًا مطلقًا، أو بالنظر إلى غالب الناس.

الرسالة الثانية حقيقة البدعة

الرسالة الثانية حقيقة البدعة

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الهادي من يشاء سواء سبيله، الموفق من ارتضى لاتباع كتابه وسنة رسوله، وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله. اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صلَّيت على آل إبراهيم, وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنَّك حميد مجيد. أمَّا بعد، فإنَّني ألَّفتُ رسالة في (رفع الاشتباه عن معنى العبادة والإله، وتحقيق معنى التوحيد والشرك بالله)، ونَبَّهتُ في مقدمتها على الأمور التي يحتجُّ بها الناس، ويستندون إليها، وهي غير صالحة لذلك، فجاء في ضمن ذلك الحديث الضعيف، فرأيت الكلام فيه يطول، فأفردته في رسالة. ثم وجدتُ إيضاح الحقِّ فيه يتوقَّف على تحقيق البدعة التي قال فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كل بدعة ضلالة" (¬1) ورأيتُ الكتب والرسائل التي أُلَّفت في التَّحذير من البِدَع منها ما لا يكاد يستفيد منه إلاَّ العلماء ككتاب "الاعتصام" للشاطبي. ومنها ما هو غير محرَّرٍ كـ "الباعث" لأبي شامة. ورأيتُ الكلام فيها يحتاج إلى بسط، فآثرت إفرادها برسالةٍ أقتصر فيها على ما لا بد منه، ومن الله تعالى أستمدُّ التوفيق. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (867) وغيره, من حديث جابر رضي الله عنه.

فصل

فصل ذكر الشاطبي في "الاعتصام" كثيرًا من الأحاديث والآثار عن الصَّحابة والتابعين والأئمة والصَّالحين، وأنا أرى الأمر أوضح من ذلك، فإنَّ البِدْعَة هي: "إلصاق أمر بالدين وليس من الدين"، وهذا ما لا يخالف عاقل في قبحه وذمَّه. ولن تجد صاحب بدعة فتسأله عن بدعته، أمِنَ الدين هي في نفسها، أم هو جعلها منه = إلاَّ أجابك بأنَّها من الدين في نفسها، وإنَّما وقع الاشتباه فيما هو من الدين ممَّا ليس منه. فأقول: لا خلاف أنَّ الدِّين وضعٌ إلهيٌّ، وأنَّ دين الحق - وهو الإسلام - هو ما وضعه الله عزَّ وجلَّ، وبلَّغه خاتم الأنبياء - صلى الله عليه وسلم -. فلْنسأل صاحب البدعة: أرأيتَ هذا الأمر أَمِن الدَّين الذي بلَّغه محمد - صلى الله عليه وسلم - عن ربَّه؟ فإن قال: لا، فقد انتهى الأمر. وإن قال: نعم، قيل له: فاذكر لنا دليله. وإن قال: لا أدري، وإنَّما أفعله احتياطًا، قيل له: أرأيتَ هذا الاحتياط أَمِنَ الدين الذي بلَّغه الرسول؟ فإن قال: لا، فقد كفانا شأنه، وإن قال: نعم، طالبناه بالدليل، وإن قال: لا أدري، وإنِّما أحتاط احتياطًا، أَعَدْنا عليه السؤال، وهكذا. وإذا ذكر ما يراه دليلًا فهو على أضرب: الضَّرْب الأول: ما ليس بشُبهةِ دليلٍ عند أهل العلم، مثل قوله: أنا أرى أنَّ هذا أمر حَسَن، وكالرؤيا، وكالتجربة ونحوها.

فصل

الثاني: ما فيه شُبْهةُ دليلٍ للعامِّي، كاستناده إلى قول بعض المقلِّدين من أهل العلم، أو إلى قول بعض من اشتهر بالصلاح والولاية، أو إلى عمل الناس في بعض الجهات بدون إنكار من العلماء، ونحو ذلك. الضَّرْب الثالث: ما هو - من حيث الجملة - من الأمور التي يجوز للعامَّة التمسُّك بها, ولكنه لم يثبت، أو عارَضَه ما هو أولى منه، وذلك قول المجتهد. الضَّرْب الرابع: ما هو - من حيث الجملة - من الدَّلائل مطلقًا, ولكنَّه لم يثبت، أو عارَضَه ما هو أولى منه، وذلك الكتاب والسنة والإجماع والقياس الصحيح. فصل فأمّا الضَّرْب الأول: فدَفْعُه إجمالًا أن تقول له: أرأيتَ هذا الضَّرْب من الاستدلال أَمِن الدِّين الذي بلَّغه محمد صلَّى الله عليه وآله وسلم عن ربِّه؟ فإن قال: نعم، فطالبه بالبُرهان على ذلك، بعد أن تُعلمَه أنَّ البرهان ههنا لا بدَّ من أن يكون قطعيًّا؛ لأن المسألة من أصول الفقه. فإن طالبك بالحُجَّة على ذلك فاتْلُ عليه قول الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36]، وبيِّن له أنَّ الآية على عمومها. فأمَّا العمل في الفروع بخبر الواحد ونحوه ممَّا لا يفيد إلاَّ الظنَّ فذلك لأنَّ وجوب العمل بخبر الواحد ثابتٌ قطعًا، والقطع مستفاد من مجموع أدلَّته منضمًّا بعضها إلى بعض.

ونظير ذلك شهادة العَدْلَين على أمر، هي في نفسها تفيد الظَّن، لكن وجوب الحكم بها قطعي، فلم تُغْن من الحق شيئًا من حيث هي ظنٌّ، بل من حيث إنَّ وجوب العمل مقطوع به، وهكذا خبر الواحد بشَرْطه. وأمَّا التَّفصيل فإذا قال: أنا أراه حسنًا، قيل له - مع ما تقدَّم -: هل ترى أنَّ للإنسان أن يجزم في كلِّ (¬1) ما يراه حسنًا أنَّه من الدِّين الذي بلَّغَه النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم عن ربِّه؟ وقد قال تعالى: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53]، وقال سبحانه: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104]، وقال تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [فاطر: 8]، والآيات في هذا المعنى كثيرة. وقد قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: "من استحسن فقد شَرَّع" (¬2). نقله المحلِّي في "شرح جمع الجوامع" وغيره (¬3)، وزاد فيه بعض ¬

_ (¬1) في الأصل: "فيما كل"، وهو سبق قلم. (¬2) بتشديد الراء وتخفيفها، يُنْظَر: "حاشية البنَّاني على شرح المحلَّي لجمع الجوامع" (2/ 353)، و"حاشية العطَّار" عليه (2/ 395). (¬3) "شرح جمع الجوامع" (2/ 353). وقد ذكره الغزالي في "المستصفى" (2/ 267)، و"المنخول" (ص 374)، وغيرُه. وكأنَّ هذه العبارة تلخيصٌ من بعض العلماء لقول الشافعي في "الأم" (6/ 200): "ومن قال هذين القولين قال قولاً عظيمًا؛ لأنَّه وَضَع نفسه في رأيه واجتهاده واسْتِحْسانه على غير كتابٍ ولا سنَّة موضعهما في أن يُتَّبع رأيُه كما اتُّبعا .. ". قال العطَّار في "حاشيته على شرح المحلَّي" (2/ 395): "قال المصنَّف في الأشباه والنَّظائر: أنا لم أجد حتى الآن هذا في كلامه نصًّا, ولكن وجدتُ في الأمَّ: أنَّ من قال =

العلماء (¬1): "ومَن شرَّع فقد كفر". فأمَّا الاستحسان الذي حُكِي عن مالك وأبي حنيفة فذاك دليل يقوم في نفس المجتهد، من أثر معرفته بالقواعد الشرعية والأحكام المتعدِّدة، ولكنَّه لا يمكنه أن يُسْنِده إلى نصًّ معيَّن، وليس هناك دليل أقوى منه يخالفه. وقد حقَّق الشَّاطبي هذا المعنى في "الاعتصام" فراجعه (¬2). وأمَّا ما رُوِي عن ابن مسعود: "وما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن" (¬3)، فمُرَاده ما رآه جميع المسلمين، وذلك هو الإجماع. وإذا استند إلى رُؤْيَا قيل له - مع ما تقدَّم -: قد صحَّ عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم أنَّ الرُّؤيا منها ما هو حقٌّ، ومنها ما هو من حديث النَّفْس، ومنها ما هو من الشيطان (¬4). ¬

_ = بالاستحسان فقد قال قولًا عظيمًا .. الخ " وأشار إلى ما تقدَّم نقله. (¬1) نَسَبه الزَّركشي إلى أصحابه الشَّافعيَّة، فقال في "البحر المحيط" (6/ 87): "قال أصحابنا .. " وذكره. وقال البدخشي في "مناهج العقول" (3/ 140): "من أثبت حكمًا بالاستحسان فهو الشَّارع لهذا الحكم، فهو كفرٌ أو كبيرةٌ". (¬2) "الاعتصام" (3/ 62 - 66، 91). (¬3) أخرجه أحمد (1/ 379)، والحاكم (3/ 79)، والبزَّار (5/ 212) وغيرهم، من طرقٍ عن عاصم بن أبي النجود عن زِر بن حُبيش عن ابن مسعود موقوفًا، وقد صحَّح إسناده أو حسَّنه موقوفًا: الحاكم ووافقه الذَّهبي، وابن القيم في "الفروسية" (ص 238)، وابن عبد الهادي (كما في "كشف الخفاء" 2/ 245)، وابن كثير في "تحفة الطالب" (ص 455)، وابن حجر في "الدَّراية" (2/ 187)، والألباني في "الضَّعيفة" (533)، وغيرهم. (¬4) يشير إلى ما أخرجه البخاري (7017) ومسلم (2263) وغيرهما، من حديث =

وتَضَافرت الأدلة على أنَّ الرُّؤيا الحق تكون غالبًا على خلاف ظاهرها، حتى رُؤيا الأنبياء عليهم السلام، كرُؤيا يوسف إذ رأى الكواكب والشمس والقمر، وتأويلها أَبَواه وإخوته (¬1)، وكرُؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم - دِرْعًا حصينة فأَوَّلها المدينة، وسيفًا هَزَّهُ ثم انكسر، ثم هَزَّهُ فعاد سالمًا، فأَوَّلها بقوَّة أصحابه، وبقرًا تُنْحَر، فأَوَّلها بمَن يُقتَل من أصحابه، وسِوارَين من ذهب فأوَّلَهما بمسيلمة والأسود العنسي (¬2). وأمثال ذلك كثير. فَمَن رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - على صفته التي كان عليها فرُؤياه حقٌّ، ولكن إذا ¬

_ = أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "والرُّؤيا ثلاثة، فرؤيا الصَّالحة بُشرى من الله، ورؤيا تحزينٍ من الشَّيطان، ورؤيا ممَّا يحدِّث المرءُ نفسه". لفظ مسلم. وثَمَّ اختلاف في رفع الحديث ووقفه، ذكره الدَّارقطني في "العِلل" (10/ 31 - 34)، ثمَّ صحَّح رفعَه. (¬1) يعني: في قوله: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ}، وقوله بعد ذلك: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} [يوسف: 4, 100]. (¬2) أمَّا رُؤْيَاهُ - صلى الله عليه وسلم - الدَّرع الحصينة: ففيما أخرجه أحمد (1/ 271)، والنسائي في الكبرى (7647)، والدَّارمي (2205)، وغيرهم، من طريق أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه. وقد صحَّح إسناده ابن حجر في "الفتح" (13/ 341)، و"التغليق" (5/ 332)، وحسَّنه الألباني في "الصَّحيحة" (1100). وفي الباب حديث ابن عباس رضي الله عنهما، يُنْظَر: "التغليق" و"الفتح" لابن حجر، و"الصَّحيحة" للألباني، نفس المواضع الآنف ذكرها. وأمَّا رُؤْيَاهُ - صلى الله عليه وسلم - للسَّيف الذي هزَّه والبقر التي تنحر: ففيما أخرجه البخاري (3622) ومسلم (2272)، وغيرهما، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. وأمَّا رُؤْيَاهُ - صلى الله عليه وسلم - للسَّوارين: ففيما أخرجه البخاري (3621) ومسلم (2274)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

رآه فعل أو قال شيئًا فذلك الفعل أو القول يحتاج إلى تعبير، فقد تراه يأمرك بشيء، ويكون تعبيره أنَّه ينهاك عنه، وعكس ذلك. ولهذا أجمع الأئمَّة على عدم الاحتجاج بالرُّؤيا، وإنَّما يُسْتَأنس بها إذا وافقت الدليل الثابت من الكتاب والسنة، كأن تراه - صلى الله عليه وسلم - يحضُّك على صلاة الجماعة، أو يزجرك عن أكل الحرام، ونحو ذلك. وإذا استند إلى التَّجربة، كما حكى لي بعضهم أنَّ رجلاً اعتاد تقبيل ظُفْرَي إبهامَيْه عند قول المؤذن: "أشهد أنَّ محمدًا رسول الله" ثم تَرَكه لما قال له بعض أهل العلم: إنَّه بدعة، والحديث الذي يُرْوَى في ذلك حَكَم عليه المحدِّثون بأنَّه كذبٌ (¬1)، فلمَّا تَرَك ذلك أصابه وَجَعٌ في عَيْنَيه فأخذ يعالجهما بأدوية مختلفة، فلم تَنْجَع، حتى قال له بعض المتصوِّفة: التزمْ تقبيل إبهامَيْك عند الأذان، فوقع في نفسه أنَّ ذلك الوَجَع إنَّما أصابه عقوبةً على ترك تلك العادة، فعاد لها فبَرِئَت عَيْناه = فقل له - مع ما تقدَّم -: إنَّ الله عزَّ وجلَّ يبتلي عباده بما شاء، ويستدرج أهل الضَّلال من حيث لا يعلمون، ¬

_ (¬1) تُنْظَر الأحاديث التي في هذا الباب مجموعةً فيما ذكره السَّخاوي في "المقاصد الحسنة" (1/ 604 - 606). وقد أشار المؤلف رحمه الله إلى هذه القصَّة بإجمالٍ في حاشية تحقيقه لـ "الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة" للشوكاني (ص 38 - حاشية 6)، وبيَّن أنَّ الرجل الحاكي للقصَّة لَقِيَه في الهند. قال المؤلِّف رحمه الله: "فقلتُ له: إنَّ الدِّين لا يثبت بالتَّجربة، وسَلْ عبَّاد الأصنام تجد عندهم تجارب كثيرة وذكرتُ قصَّة ابن مسعودٍ وامرأته". وسيأتي ذكر قِصَّة ابن مسعود مع امرأته (ص 96 - 97).

وقد سمعنا عن عِدَّة أشخاص أنَّ أحدهم كان تاركًا للصلاة، ثم رَغَّبَه الواعظون فيها وخوَّفوه من عقوبة تركها فشرع يحافظ على الصلاة، فأصابته مصائب في أهله وماله، فرأى أنَّ ذلك من أثر الصلاة فتركها. ونحن نقول: يجوز أن يكون ما أصابه من أثر الصلاة. وتفسير ذلك ما جاء في الحديث: "إن الله طيَّب لا يقبل إلاَّ طيبًا" (¬1)، فمِن شأنه سبحانه أنَّ العبد إذا تَرَك معصيةً يمتحنه ليظهر حقيقة حاله، وما الباعث له على ترك المعصية، الإيمان أم غيره؟ فإذا صبر على تلك المصائب تبيَّن أنَّ الباعث له على ترك المعصية إيمان ثابت، فيجبره الله عزَّ وجلَّ في الدنيا أو الآخرة، ويكفَّر عنه بتلك المصائب بعض ذنوبه المتقدِّمة، ويدفع عنه بتلك المصائب مصائب أعظم منها كان معرَّضًا للوقوع فيها. كان رجل من قوَّاد يزيد بن معاوية، فسَقَط من سطح فانكسرت رجلاه فدخل عليه أبو قلابة - المحدَّث المشهور - يَعُودُه، وقال له: لعلَّ لك في هذا خيرًا، قال: وأيُّ خيرٍ في كسر رجليَّ معًا؟ قال: الله أعلم. فبعد أيام جاء رسولُ يزيدٍ إلى ذلك القائد فأَمَرَه بالخروج لقتال الحسين بن عليًّ عليهما السلام فقال للرسول: أنا كما تراني، فعذروه، وكان ما كان من قتل الحسين، فكان القائد بعد ذلك [يقول]: رحم الله أبا قلابة، قد جعل الله لي في كسر رجليَّ خيرًا أيَّ خير، نجوتُ من دم ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو كما قال (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1015) وغيره، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) القِصَّة بنحو ما ذكرها المؤلَّف في: "تاريخ دمشق" لابن عساكر (28/ 307)، و"المنتظم" لابن الجوزي (7/ 92)، وغيرهما. =

وقد يبدل تلك المصائب نعمًا. وإن سقط فالله غنيٌّ عن العالمين. وقد قال الله عزَّ وجلَّ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج: 11]. وهؤلاء السَّحَرة والذين يرتكبون بعض الفظائع تقرُّبًا إلى الشياطين كثيرًا ما يحصل لهم بسبب ذلك نفع في دنياهم (¬1)؛ لأنَّ الله عزَّ وجلَّ يخلِّي بينهم وبين الشياطين، فتنفعهم الشياطين نفعًا ظاهرًا في دنياهم وتهلكهم الهلاك الأبدي. وقد يبتلي الله عزَّ وجلَّ كبارَ المؤمنين فيسلِّط بعض السَّحَرة الفُجَّار عليهم، حتى لقد وَرَد أنَّ بعض اليهود عمل عملًا من أعمال السِّحر فاعترى النبي - صلى الله عليه وسلم - مرض بسببه (¬2). وقد مكَّن الله عزَّ وجلَّ المشركين فأصابوا من المسلمين يوم أُحُدٍ ما أصابوا، فقُتِل حمزة عم النبي - صلى الله عليه وسلم - وكثير من أصحابه، وشُجَّ وجه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكُسِرت رباعيته, بأبي هو وأمي، فأنزل الله تعالى: [{وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ ¬

_ = إلاَّ أنَّ فيها أنَّ الرجل من قوَّاد "عبيد الله بن زياد", ولا تعارض بينهما؛ فعبيد الله بن زياد من قوَّاد يزيد بن معاوية. (¬1) في الأصل: "دينهم". وهو سبق قلمٍ. (¬2) هو لبيد بن الأعصم اليهوديّ. والخبر عند البخاري (3268) ومسلم (2189)، من حديث عائشة رضي الله عنها.

قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 139 - 142]] (¬1). وتأمّل الأحاديث التي وردت في صِفة الدَّجَّال (¬2). وقد روى أبو داود وغيره (¬3) عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت: [عن عبد الله قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنَّ الرُّقى والتَّمائم والتِّوَلَة شِركٌ" قالت: قلتُ: لم تقول هذا؟ والله لقد كانت عيني تقذفُ وكنتُ اختلف إلى فلانٍ اليهودي يرقيني، فإذا رقاني سَكَنَتْ. فقال عبد الله: إنَّما ذاك عمل الشيطان، كان يَنْخَسُها بيده، فإذا رقاها كفَّ عنها، إنَّما كان يكفيك أن تقولي ¬

_ (¬1) بيَّض المؤلَّف للآيات، ولعلَّه أراد كتابة ما أثبتُّه. والله أعلم. (¬2) يعني: ما يجريه الله على يديه من الأمور التي تكون استدراجًا له ولأتباعه، وفتنة للكافرين به. (¬3) أبو داود (3883). وأخرجه أحمد (1/ 381)، والبيهقي (9/ 350)، وغيرهم، من طريق أبي معاوية وعبد الله بن بشر عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن يحيى بن الجزار عن ابن أخي زينب امرأة عبد الله بن مسعود عن زينب امرأة عبد الله عن ابن مسعود رضي الله عنه بنحوه. وخالفه عبد الله بن بشر - عند ابن ماجه (3530) - فرواه عن الأعمش به، لكن قال: عن "ابن أخت زينب" عن زينب. وخالفهما محمَّد بن مسلمة الكوفي - عند الحاكم في المستدرك (4/ 417 - 418) - فرواه عن الأعمش به، لكن قال: عن "عبد الله بن عتبة بن مسعود" عن زينب، دون ذكر قِصَّة اليهودي. وقد ضعَّفه الألباني في "الصَّحيحة" بجهالة ابن أخي زينب، والاضطراب في إسناده, ونكارة القصَّة. يُنظَر كلامه في "الصَّحيحة" تحت الحديث (2972).

كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أذْهِب البأس، ربَّ الناس،- اشْفِ أنت الشافي، لا شفاء إلَّا شفاؤك، شفاءً لا يغادر سقمًا"] (¬1). ومن ذلك ما حكاه لي بعضهم: أنَّه إذا صلَّى المكتوبة منفردًا يَرِقُّ ويخشع، وإذا صلَّى في الجماعة لا يخشع! والسبب في هذا: أنَّ الشيطان يحاوله على ترك الجماعة، فيخشِّعه إذا صلَّى منفردًا، ويهوِّش عليه (¬2) إذا صلَّى جماعةً ليَحمِلَه على ترك الجماعة، مع اعتقاد أنَّ الانفراد أفضل، فيكون في ذلك من مخالفة الشريعة ما هو أضرّ عليه من ترك الجماعة. ومن ذلك: ما وجدتُه أنا، فإنِّي كنتُ في حال حسنةٍ في أهلي ومالي، فأنفقتُ نفقةً في وجهٍ من وجوه الخير، وهَمَمْتُ بغيرها فأصابني بعض نوائب في أهلي ومالي، ولكنِّي بحمد الله عزَّ وجلَّ لم ألتفت إلى ذلك، فنفَّذتُ ما همَمَتُ به، ثم فعلتُ مثله مرَّةً ثالثة، وإلى الآن وتلك النَّوائب لم يتم انجلاؤها. وظهر لي توجيهٌ لتلك النَّوائب، وهو أنَّه يمكن أنَّ تلك النفقة وقعت موقع القبول عند الله عزَّ وجلَّ، فأراد أن يكافئني عليها بأن يطهِّرني من بعض الذنوب التي عليَّ، وهذه النَّوائب من ذلك التَّطهير. ومن ذلك: أنَّني كنتُ رأيتُ بعض المشايخ يكتب كلمة (بدُّوح) (¬3) على ¬

_ (¬1) بيَّض المؤلِّف للحديث، واكتفى بقوله: "عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت:"، ولعلَّه أراد كتابة ما أثبتُّه. والله أعلم. (¬2) يعني: يخلّط عليه. (¬3) كلمة "بدُّوح": تميمة تكتب على وفق معين، كمثلَّث، أو مربع، أو مخمَّس، أو نحو =

صفةٍ مخصوصةٍ، ويتعلَّقها المَحْمُوم، فكنت أنا أكتب ذلك لِمَن به حُمَّى، فكانوا يقولون: إنَّها تنقطع الحُمَّى عنهم، حتى لقد كتبتها لرجل في تهامة فعاد إليَّ بعد مدَّةٍ، وأخبرني أنَّه علَّقَها فلم تعاوده الحُمَّى، وأنَّ رجلاً من أصحابه أصابته الحُمَّى، فأعطاه تلك التَّميمة عينها فانقطعت عنه، وأظنُّه ذكر ثالثًا، وقال: إنَّ تلك التَّميمة اشْتَهَرت في قريتهم، فصار كل من أصابته الحُمَّى يستعيرها، ثم إنَّي تدبَّرت أحكام السنة والبدعة ووقفت على ما ورد في التَّمائم فامتنعت من كتابة (بدُّوح)، حتى إنَّه يُصاب ولدي وغيره ممَّن يعزُّ عليَّ بالحُمَّى فتحدِّثُني نفسي أن أكتبها فأمتنع، أسأل الله تعالى أن يوفقني لما يحبُّه ويرضاه. وأقول كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك" (¬1)، اللَّهم لا تكلني إلى نفسي، فإنَّك إن تكِلْني إلى نفسي تكلني إلى ضعفٍ وعورةٍ وعجزٍ. والمقصود: أنَّ الاستناد إلى التَّجربة وإن كثر من المتصوَّفة ونحوهم ليس حُجَّة، ولا شِبْه حُجَّة، ولم يقل بأنَّه حُجَّة أحدٌ من سلف الأمة، ولا أحد من الأئمَّة والعلماء الرَّاسخين. وقد رأيتُ جماعة من الناس يعتمدون في أمور دنياهم على القُرْعة ¬

_ = ذلك، لجلب خير أو لدفع شر، وتكتب أو تعلَّق مكتوبةً فيمن يراد تعويذه، إنسانًا كان أو غيرها وهي مستعملة كثيرًا عند أرباب الشَّعبذة. (¬1) أخرجه الترمذي (2140)، وأحمد (3/ 257)، والحاكم (1/ 526)، وغيرهم، من حديث أنس رضي الله عنه. وقد حسَّنه الترمذي، وصحَّحه الحاكم. وفي الباب حديث النواس بن سمعان، وعبد الله بن عمرو، وأم سلمة، وعائشة، وغيرهم رضي الله عنهم. ويُنْظَر: "السلسلة الصَّحيحة" للألباني (2091).

والفأل، إمَّا بالنَّظر في المصحف أو كتاب آخر، وإمَّا بالسُّبحة ونحوها. ويمكن أن يغلو بعضهم فيعتمد مثل ذلك في إثبات الأحكام الدينية, وذلك جهل وضلال. وقد حُكِي أنَّ بعض الطُّغاة - وكان اسمه الوليد - تفاءَلَ في المصحف يومًا، فوقع على قول الله عزَّ وجلَّ: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} [إبراهيم: 15]، فمزَّق المصحف ورمى به، وقال: تُهَدِّدُني بجبَّارٍ عنيدٍ ... فَهَا أنَا ذاكَ جَبَّارٌ عنيدُ إذا ما جئتَ ربَّك يوم حَشْرٍ ... فقل: يا ربِّ مزَّقني الوليدُ (¬1) وهذه الطريقة التي اعتادها الناس في التَّفاؤل قبيحة جدًّا، فإنَّه ربَّما يريد شراء دار - مثلًا - فيتفاءل، فيَظْهَر الفألُ بما يراه أمرًا بالشراء، ثم يظهر له بالدلائل العادية أنَّ شراءها ضررٌ عليه في دينه ودنياه، فإن غلا بعضهم واستعمل مثل هذا في الأمور الدِّينية كالحج، بأن يستخبر الفأل، أَيَحجُّ أم لا؟ فربَّما خرج الفأل [ينهى] (¬2) عن الحج. ¬

_ (¬1) الطاغية المقصود هو: الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان, أحد ملوك بني أميَّة، قتل سنة 126 هـ. والخبر في: "المنتظم" لابن الجوزي (7/ 241)، و"الكامل" لابن الأثير (4/ 486)، و"الأغاني" للأصفهاني (6/ 121)، و"نهاية الأرب" للنويري (21/ 294)، وغيرها من مصادر التاريخ والأدب بنحو سياق المؤلَّف، وفيها: أنَّه نصب المصحف ثم رماه بسهمٍ، ثم أنشد البيتين. ولفظهما في بعضها: "أَتُوْعِدني" بدل "تهددني"، و"خرَّقني" بدل "مزَّقني". (¬2) زيادة يقتضيها السياق.

وأشد من ذلك إن استعملها في إثبات الأحكام، كأَنْ يستخبر في صيام يوم معيَّن، أَمِنَ السُّنَّة هو أم لا؟ فيخرج الفأل بأحدهما على خلاف الدليل الشرعي، فيقع في الحيرة؛ لأنَّه يزعم أنَّ الفأل بمثابة أمرٍ من الله عزَّ وجلَّ، وهو كاذب في هذا الزَّعم، مخطئ في تفاؤله. هذا الضَّرْب من التَّفاؤل الذي هو من باب الاستقسام بالأزلام، قال الله عزَّ وجلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90]. ولكن انظر إلى ما شَرَعَه الله عزَّ وجلَّ لعباده عوضًا عن ذلك، وهو الاستخارة الشرعية، فيصلَّي ركعتين من غير الفريضة، ثم يدعو الله عزَّ وجلَّ فيقول: "اللَّهم إنِّي أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنَّك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علَّام الغيوب، اللَّهم إن كنت تعلم أنَّ هذا الأمر خيرٌ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال: عاجل أمري وآجله - فاقدره لي ويسِّره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أنَّ هذا الأمر شرٌّ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال: في عاجل أمري وآجله - فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم أرضني به" قال: "ويسمِّي حاجته" (¬1). فهذا هو النُّور والهُدى الذي لا يوقع في حيرة ولا ارتباك، ولا فيه دعوى أنَّ الله أمر أو نهى، وإنَّما فيه دعاء يرجو العبد أن يستجاب له. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1162) وغيره، من حديث جابر رضي الله عنه قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلَّمُنا الاستخارة في الأمور كما يعلَّمُنا السُّورة من القرآن، يقول: إذا هَمَّ أحدُكم بالأمر فلْيَركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: .. " وذكره.

وقد كنتُ أولًا جريًا على العادة أتفاءل بالقرآن، فتفاءلتُ يومًا فوقعتُ على قول الله عزَّ وجلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} [المائدة: 101]. فبدا لي أنَّ فيها كالدلالة على النَّهي عن التَّفاؤل بالقرآن، فنظرتُ في هذه المسألة فظهر لي النَّهي من الأدلة الثابتة، فتركتُ ذلك. والحمد لله. ومن التَّجربة التي وقع فيها الناس من كتابة العُوَذِ (¬1) التي تشتمل على تعظيم الملائكة والكواكب والجن، أو على ألفاظ غير معروفة المعنى، أو غير ذلك ممَّا لم يكن معروفًا في سلف الأمة، وإنَّما أخذه الناس عن الصَّابئة كما ذكره الشَّهْرِسْتَاني في "المِلَل والنِّحَل" (¬2)، وقد يتعدَّون ذلك، فيذبحون للجن، ويقرِّبون لهم الأطعمة وغير ذلك، يعملون هذا للمصاب بالصَّرَع ونحوه، وقريبٌ من ذلك عند الزواج أو بناء دار أو نحو ذلك؛ ليدفعوا شرَّ الجن. وقد كان العلماء إذا أُتوا بمصروع قرأوا عليه الرُّقية النَّبوية ونحوها من الآيات والأدعية، ويكتفون عند الزَّواج والبناء ونحوه بذكر اسم الله ودعائه، فنَشَأ من المعزِّمين (¬3) من ليس له دين ولا يقين، فلم تنفع رقيتهم بالآيات والدعاء فرجعوا إلى استرضاء الشياطين بما يُعدُّ عبادة لهم، والعياذ بالله. ¬

_ (¬1) جمع: "عُوْذَة"، وهي: الرُّقْيَة. كما في "القاموس المحيط" (مادة: عوذ). (¬2) (2/ 359). (¬3) جمع "معزِّم"، وهو قارئ "العزائم" أي: الرُّقى. كما في "القاموس المحيط" وغيره (مادة: عزم).

ولقد أصيب ولدي بالمرض الذي يعتري الأطفال ويسميه الأطباء "أمَّ الصبيان" (¬1)، فقالت بعض العجائز لامرأتي: ينبغي أن تَفْدُوا عنه بذبيحة، فقالت لي زوجتي: فقلت لها: الفِدية إنَّما تكون مرَّةً واحدة، وهي العقيقة، وقد عملناها، ثم رأيتُ زوجتي اشترت دجاجة فظننتُ أنَّها تريد تذبحها لأهل البيت، ثم فقدتُ الدجاجة، فتوهَّمتُ أنَّها أَرْسَلَت بها، فأُطْلِقَت في الصِّحراء، فأنكرت عليها ذلك، وعرَّفتها أنَّ هذا الفعل خطر على الدِّين، وأنَّي أرى هلاك ولدي وهلاك أمِّه وهلاكي وهلاك كل من نحبُّه خيرًا لنا من مثل هذا الفعل. ثم لم تلبث زوجتي أن عَرَفَت أنَّ الذي بالطِّفل مرضٌ من الأمراض، ينشأ عن القَبْض وغيره، وينفع الله فيه بالأدوية، فزال عنها اتَّهام الشيطان. ثم بعد مدَّة طويلة أصيبت هي بالمرض الذي يسمَّى "اختناق الرَّحِم" (¬2)، واشتدَّ عليها حتى خُولِطَت في عقلها، وكانت تعرض لها عوارض شديدة من التشنُّج والحركات المضطربة وغير ذلك، وصادف حدوث ذلك بعد أن وقعت بينها منافرة وبين بعض النساء فتوهَّمَتْ أنَّ ذلك سِحْرٌ. ¬

_ (¬1) أم الصَّبيان: الحاصل من كلام المتقدمين أنَّه: تشنُّجٌ يصيب الطفل بسبب الحمَّى. فأهل اللغة ذكروا أنَّه: ريح تَعْرِضُ للصبيان فربما يُغشى عليهم، وقدماء الأطباء كابن البيطار وابن سينا والأنطاكي قالوا: إنَّه نوع من الصَّرع، وقد يقتل من أصيب به. وقال في "بحر الجواهر في تحقيق المصطلحات الطبَّية" (ص 36): "هو الصرع الصفراوي". وُينظَر أيضًا: "القانون" لابن سينا (2/ 78). (¬2) اختناق الرَّحِم: الحاصل من كلام الأطبَّاء المتقدمين كابن سينا وغيره أنَّه: آلام وأوجاع في الرَّحِم تتعدَّى إلى غيره فيصيب المرأة غشي، سببه احتباس دم الطَّمث عن المرأة. ويُنظَر: "القانون" لابن سينا (2/ 77)، و"الحاوي" للرازي (9/ 56).

واختلط الأمر على أمِّها ونسائها، فتارةً يقُلْنَ: إنَّه سِحْرٌ، وتارة يقُلْنَ: إنَّه من الشيطان، وتارة يقُلْنَ: مرضٌ. أمَّا أنا فلم أشك أنَّه مرض، ولكنِّي جوَّزت أن يكون الشيطان ربَّما يَعْرِض للمريض فيخيِّل له ويسوِّل، كما يَعْرِض لمن يقع سببٌ يُغْضِبه فينفخ فيه ويزيد في إشعال غَضَبه. وأرى أنَّ ما اشتهر عن جماعة من الصَّالحين قبلنا أنَّهم كانوا يرقون المصروع ونحوه فيفيق = أنَّ ذلك حقٌّ، وأنَّ ما يقع للمُعَزِّمين من معالجة المصروع ونحوه بالأعمال المحظورة شرعًا فيفيق = أمر واقع. وإنَّما الفرق: أنَّ الصالحين عندهم من الإيمان واليقين ما يستجاب به دعاؤهم فيُطْرَد الشيطان، وأنَّ المُعَزِّمين يُرْضُون الشيطان بالأعمال المحظورة فيفارق المريض، وإذا فارق الشيطان المريض خَفَّت وطأة المرض. لا أرى أنَّ الصَّرَع من أصله من فعل الشَّيطان، بل أرى أنَّ الشيطان يَعْرِض لمن يعتريه ما يُضْعِف عقله فتتضاعف عليه عوارض المرض. وجوَّزت أن يكون اقترنت بالمرض عينٌ خبيثة؛ لأنَّه كانت قُبَيْل المرض في بيتي دعوة، وكانت المريضة تكرِّر في هذيانها طلب الشكوى من عدم إعطائها من الأطعمة التي طُبِخَت للدَّعوة، مع أنَّ الأطعمة كانت تحت يدها، وكان يظهر من بعض كلامها أنَّها تتخيَّل امرأةً تؤذيها. فقلت: العين حق، ويمكن أن تكون مرَّت على الباب امرأة فشاهدت الأطعمة ولم تُعْطَ منها فبَقِيَتْ نفسُها متعلِّقة بها. وعلى كلِّ حالٍ فقد كنتُ أعالج زوجتي بالأدوية التي يشير بها الطبيب، وأرقيها بالرقية النبوية وغيرها من الآيات والأدعية، وألحَّت أمها ونساؤها

في أن نذهب بها إلى بعض من عُرِف بالرُّقية، فتطييبًا لنفوسهنَّ قلتُ: على شرط أنَّه إذا أشار بذبحٍ أو تقريبٍ أو فعل شيء لا ينفَّذ ذلك، فإنَّي أخشى أن يكون في ذلك ضررٌ أكبر من هذا الضَّرر. فمِن لطف الله تعالى بي أنَّ ذلك الرجل لم يُشِر بشيء من ذلك، وإنَّما أعطاهم تميمةً لا أدري ما كُتِب فيها، وأشار بِشمِّ الحِلْتِيت (¬1) ونحوه. فأمَّا شمُّ الحِلْتِيت ونحوه فقد أشار به الأطباء، وأمَّا التَّميمة فإنَّهنَّ رَمَيْنَ بها لمَّا رأينَ أنَّ المرض زاد بعد تعليقها. ثم قال لي بعض أصحابي: إنَّ ها هنا رجلاً صالحًا يرقي من هذه الأمراض، وقد انتفع به كثير، حتى إنَّه إذا وصل قريب البيت الذي فيه المريض يصيح الجنِّي بلسان المريض: سأخرج ولا أعود، لا تحرقني، وأشباه ذلك. فقلتُ له: وما رقيته؟ قال: يقرأ شيئًا من كتاب الله والأدعية، ثم بعد أن يفيق المريض يعطيه سِوارًا من صُفْر قد نُقِش عليه أسماء. فقلتُ: أمَّا السِّوار الصُفْر فلا يجوز، وأمَّا الرقية بالقرآن والدعاء فلا بأس، فذهب صاحبي ليدعو ذلك الرَّاقي، ثم بدا لي فأرسلت إلى صاحبي أن لا يَدْعُوه، فلم يدْعُهُ، ولكنَّه أخذ منه تميمة وكانت مكشوفة، فأخذتها منه فإذا فيها أسماء وأدعية وآيات، ولكنها في جداول، وبعضها بحروفٍ مقطَّعةٍ، وبعضها بالأرقام الهندية، والكتابة كأنَّها بليفة الزَّعفران، فأحَرْقْتُها. ¬

_ (¬1) الحِلْتِيت: صمغ يستخرج من نبات يسمَّى الأنجدان، له خواص علاجية عديدة. يُنْظَر: "التَّذكرة" لداود الأنطاكي (ص 130)، و"الجامع لمفردات الأدوية والأغذية" لابن البيطار (1/ 283)، و"معجم الأعشاب المصوَّر" لمحسن عقيل (2/ 163).

فصل

ثم منعتُهُنَّ من كلِّ شيءٍ غير تناول الأدوية، وما أرقيها أنا به، ورَزَقَ الله تعالى العافية، وزالت تلك الأوهام عنها وعن أمِّها ونسائها، وعَلِمْنَ أنَّ هذا مرض من الأمراض المعتادة. والحمد لله. فصل وأمَّا الضَّرْب الثاني (¬1): فدَفْعُه إجمالًا بما تقدَّم في الضَّرْب الأول، وتفصيلًا بأن تقول لمقلِّد المقلِّد: إنَّ هذا العالم الذي تحتجُّ بقوله لم يكن مجتهدًا، وإنَّما كان مقلِّدًا، وقد نصَّ العلماء أنَّ المقلد لا يجوز له أن يفتي، وإنَّما له أن ينقل قول المجتهد، ولا يجوز العمل بفتواه التي لم ينقلها عن المجتهد، ثم تذكر له من خالف ذلك العالم ممَّن هو مثله أو فوقه. وإن وجدتَ نصًّا عن إمامه يقتضي ولو بعمومه أو إطلاقه خلافه ذكرتَه، وإلَّا فإذا كانت تلك البدعة ممَّا يدَّعِي استحبابه - وهو الغالب في البدع - قلتَ له: إنَّ سلف الأمَّة - ومنهم إمامك وإمام ذلك العالِم - مجمعون على عدم استحباب هذا الأمر. والدليل على ذلك أنَّه لم يُنْقَل عن أحد منهم استحبابه ولا فعله، وعدم النَّقل كافٍ في الحُجَّة؛ لأنَّ الأمور التي لا تستحبُّ لا تتناهى، فيستحيل استيعابها بالنص عليها فردًا فردًا، وإنَّما جاءت الشريعة ببيان المستحبَّات؛ لأنَّها أقرب إلى الحصر. وجَزَمتُ بأنَّ ما عدا ذلك فهو من المحدثات التي هي شرُّ الأمور، كما في الحديث الصحيح الذي تواتر عن جعفر الصادق عن أبيه محمد الباقر ¬

_ (¬1) وهو الذي تقدم ذكره (ص 89).

عن جابر بن عبد الله الأنصاري: "أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتاب الله، وخير الهَدْي هَدْي محمد - صلى الله عليه وسلم - , وشرَّ الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة" (¬1). وسكوت السَّلَف - ومنهم إمامك - عن بيان استحباب هذا الأمر، وعدم فعلهم له كاف في الدلالة على أنَّه ليس من الدين، وأنَّ زَعْمَ أنَّه من الدِّين إحداثٌ في دين الله، وكذبٌ على الله. على أنَّنا نرى أنَّ لهذا العالِم الذي تحتجُّ بقوله عذرًا يخرجه من زُمْرة المبتدعين الخاطئين، ويكون به من جملة المخطئين المعذورين، المأجورين إن شاء الله تعالى. وأمَّا أنت فلا عذر لك. وإنَّما مَثَلُه مَثَل رجل عالِم تزوج امرأة، فأُهْدِيَت إليه أختها، فظنَّها زوجته فعاشرها معاشرة الأزواج حتى مضى لسبيله ولم يعلم بالحقيقة، فهذا معذور مأجور؟ ومَثَلُك مَثَل رجل أُهْديَت إليه أخت امرأته، فأُخْبِر بذلك قبل أن يقرَبَها، أو بعد ما عاشرها مدَّة، فهل له بعد الإخبار أن يستمر على معاشرة أخت امرأته مقتديًا بذلك العالِم؟ وإذا لم يؤثَّر فيه هذا فقل له: إن لم يتبيّن لك الأمر فعليك الاحتياط، واعلم أنَّك إن تركت هذا الأمر كان لك أسوة بِمَن تَرَكَه، من نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، ومن بعدهم من الصدِّيقين والشهداء والصالحين إلى قرون عديدة، وحسن أولئك رفيقًا. ¬

_ (¬1) تقدَّم تخريجه (ص 87) وأنَّه عند مسلمٍ.

وإن عَمِلْتَه لم تكن [لك] (¬1) أسوة إلاَّ بذلك العالِم المقلِّد، ولعلَّ له عذرًا ليس لك مثله. وأقصى ما في هذا الأمر أنَّ الظاهر أنَّه بدعة، وهناك شُبْهَة ضعيفة بأنَّه مستحب، فما هو الأحوط؟ وقد صحَّ في الحديث [عن عقبة بن الحارث أنه تزوج ابنةً لأبي إهاب بن عزيز، فأتته امرأة فقالت: قد أرضعتُ عقبة والتي تزوَّجَ، فقال لها عقبة: ما أعلم أنكِ أرضعتِني، ولا أخبرتِني، فأرسل إلى آل أبي إهاب يسألهم، فقالوا: ما علمنا أرْضَعَتْ صاحبنا، فركب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة، فسأله, فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كيف وقد قيل؟ " ففارقها ونكحت زوجًا غيره (¬2)] (¬3). وأمَّا تقليد من اشتهر بالصلاح وليس بمجتهد فالفتوى من حيث هي مَدَارها على العلم والعدالة، فإذا كان المشهور بالصلاح عالمًا بالعلوم الشرعية فهو بمنزلة من كان مثله في العلم من العُدُول ولم يشتهر بالصلاح، وإنَّما الإخبار عن الشرع بمنزلة الشهادة. فكما أنَّ الشريعة قَضَت في القضاء أنَّ شهادة شاهِدَين عَدْلَين لم يشتهرا بالصلاح وشهادة شاهِدَين عَدْلَين مشهورَيْن بالصلاح والولاية سواء = فهكذا حال الفتوى. بل لو قيل برجحان فتوى العَدْل الذي لم يشتهر بالصَّلاح لَمَا كان بعيدًا؛ لأنَّ الصالحين اشتهروا بسلامة القلب إلى حدِّ الانخداع، وتحسين ¬

_ (¬1) في الأصل: "له". (¬2) أخرجه البخاري (2640) وغيره. (¬3) بيَّض المؤلف للحديث، وأشار إليه في هامش الصفحة بقوله: "كيف وقد قيل"، فأكملته.

فصل

الظَّن المُفْرِط، والغفلة عن حِيَل المحتالين، إلى أمور أُخَر قد بيَّنتُ بعضها في "رسالة العبادة"، فعليك بها. وأمَّا عمل أهل جهةٍ من الجهات فلم يسلِّم الأئمة لمَالكٍ احتجاجه بعمل أهل المدينة، مع أنَّها معدن الإسلام، وأهلُها حينئذٍ الصَّحابة والتابعون، وكثير منهم أئمَّة مجتهدون، وكانوا من العلم والمعرفة والحرص على اتباع السنة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أعلى الطبقات, فما بالك بعمل أهل جهةٍ أخرى بعد أن عزَّ العلم الصحيح، وكثر علماء السوء، وانتشر دعاة البدع، وفُقِد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصار من بقي من العلماء شعارهم: عليك بخويصة نفسك، ودَعْ عنك أمر العامة. فصل ساق المحقِّق الشاطبي في "الاعتصام" (¬1) كثيرًا من الآيات والأحاديث والآثار عن الصحابة والتابعين والأئمَّة المهديين في ذمِّ البدع والتحذير منها، وفاته كثير. وأنا أرى أنَّ الأمر أوضح من ذلك فإنَّ البدعة هي: إحداث حُكْم في دين الإسلام وليس منه. ولا خلاف أنَّ دين الإسلام هو: ما شرعه الله عزَّ وجلَّ وبلَّغه خاتم أنبيائه صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين، وأنَّ كل أمرٍ لم يبلِّغ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمَّته أنَّه من دين الإسلام فليس منه، وزَعْمُ أنَّه منه هو البدعة، ومثل هذا لا يخالف مسلم في أنَّه منكر مذموم. ¬

_ (¬1) يُنْظَر: (1/ 13 - 35, 68 - 89، 99 - 146).

الباب الأول

وإنَّما اشتبه على الناس أمران: الأول: في حكم صاحبه. الثاني: في الطريق التي يُعْلَم بها في الأمر أنَّه بدعة. فلنعقد لكل منهما بابًا. الباب الأول فأما الأمر الأول فأصحاب البِدَع على أربعة أقسام (¬1): القسم الأول: الذي يعلم أنَّ بدعته ليست من دين الإسلام الذي بلَّغه محمد - صلى الله عليه وسلم - عن ربه، ومع ذلك فيزعم أنَّها ممَّا يحبُّه الله ويرضاه، فهذا قد جمع بين الكذب على الله والتكذيب بآياته. أما الكذب على الله: فبزعمه أنَّ الله يحبُّ ذلك الفعل ويرضاه، وليس عنده من الله عزَّ وجلَّ برهان على ذلك، فقد اعترف أنَّه ليس من دين الإسلام الذي بلَّغه محمد - صلى الله عليه وسلم -. فإمَّا أن يزعم أنَّ له أو لغيره أن يشرع من الدين ما لم يأذن به الله، وفي ذلك دعوى الرُّبوبية؛ لأنَّ شرع الدين من خواصها، قال الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]. وقال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31]. وإمَّا أن يزعم أنَّه أو شيخه علم أنَّ الله عزَّ وجلَّ يحبُّ ذلك الأمر ويرضاه بإعلام الله تعالى، ففيه دعوى أنَّه أو شيخه نبي ورسول بشريعةٍ تَنْسَخُ بعض ¬

_ (¬1) لم يذكر المؤلِّف - فيما وجدته من رسالته - القسم الرابع.

الشريعة المحمَّدية. وأمَّا كونه مكذِّبًا بآيات الله: فواضح. والآيات القرآنية والأحاديث النبوية كثيرة في أنَّ شرع الدين خاص بالله عزَّ وجلَّ، وفي أنَّ الدين قد كَمَل، وأنَّ عِلْم حُكْمِ الله قد انسدَّ إلاَّ بواسطة كتاب الله تعالى وسنة رسوله، وفي أنَّ النبوة قد خُتِمَت ولم يبق منها إلاَّ الرُّؤيا الصالحة، والكشف نوع منها يحتاج إلى التعبير مثلها، فإذا تضمَّن الزيادة في الدِّين على ما بلَّغه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذلك برهانٌ على كَذِبه أو على أنَّ له تعبيرًا يخرجه عن ظاهره. وقد حقَّقنا هذا في "رسالة العبادة"، وحقَّقنا فيها أنَّ التَّحديث المذكور في قوله: "إنَّه كان فيمن قبلكم محدَّثون ... " (¬1) إنَّما يحصل به الظَّن، ولا يعلم المُحَدَّث أنَّ ذلك الظن من التحديث, لأنَّ الظَّن كما يحصل به فقد يحصل بالوسوسة، وبالتوهُّم المبنيِّ على سببٍ خفيًّ قد لا يتنبَّه له المتوهِّم، وإن كانت نفسه قد بَنَتْ عليه ما بَنَتْ. ومثال ذلك: أن ينالك أذى وضُرٌّ من إنسان، ثم بعد بُرْهةٍ من الزَّمان رأيتَ إنسانًا آخر، فوقع في نفسك أنَّه يريد بك شرًّا وأذى. والسبب أنَّ بينه وبين المؤذي مشابهة ما في الصورة أدْرَكَتْها نفسُك لأول نظرةٍ، ولم يضبطها عقلك، ولهذا الاشتباه لم يكن عمر نفسُه يحتجُّ بظنِّه، ولا يبني عليه الأحكام. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3469) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ومسلم (2398) من حديث عائشة رضي الله عنها، وغيرهما.

هذا وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [الأنعام: 93]. وقد حقَّقنا هذا المعنى في "رسالة العبادة"، والحمد لله. القسم الثاني: من يشكُّ في بدعته، أمِنْ دين الإسلام الذي بلَّغه محمد - صلى الله عليه وسلم - عن ربِّه أم لا؟ ولكنَّه يجزم بأنَّها ممَّا يحبُّه الله ويرضاه، وحُكْمُه كالأول. القسم الثالث: من يجزم بأنَّ بدعته من دين الإسلام الذي بلَّغه محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولكن ليس عنده برهان على ذلك، وهذا على أضْرُب: الضَّرْب الأول: المجتهد الذي قامت عنده شُبْهَةٌ هي من جنس الأدلة المقرَّرة في الشريعة، على ما هو مفصَّل في أصول الفقه، ولكن اختلَّ شرط من شروطها, ولم يعلم باختلاله، أو قام لها معارض ولم يعلم به ونحو ذلك، وقد بَحَثَ ونَظَرَ بقدر وُسْعِه، وذلك كأن يبلُغَه حديثٌ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -, فينظر في سنده فيراه مستجمعًا لشروط الصَّحة أو الحُسْن، ويتدبَّر الكتاب والسُّنة فلا يجد له معارضًا, ولم تكن الأمة أجمعت على خلافه = فيقول به. ويطَّلِع غيرُه على ما خفي عليه، إمَّا على قدحٍ في أحد الرُّواة، أو على عِلَّةٍ تُوْهِن الحديث، أو على دليل آخر يعارضه، أو على أنَّه ليس ظاهرًا في المعنى الذي فهمه ذاك. فالأول معذور مأجور، اللهم إلاَّ أن يُنَبَّه على خطئه فيُصرَّ ويستكبر، فهذا هالك لا محالة. وفي حكم المجتهد من قلَّده عارفًا لدليله، فإن كان المقلِّد يرى صحَّة

دليل مُقلَّده فهو معذور مأجور، وإن تبيَّن له بطلان دليل مُقلَّده وأصرَّ على تقليده فهو هالك، وإن لم يعلم دليل مُقلَّده أصلاً، أو عَلِمَه ولم يتبيَّن له أصحيح هو أم باطل فهو معذور، ولكن إذا علم بأنَّ بعض المجتهدين يُخالِف إمامه في ذلك فعليه أن ينظر في أدلَّتهم - إن تيسَّر له - ثم يقلِّد من ظَهَر له رُجْحَانُ دليله، فإن لم يتيسَّر له ذلك فقد قال جماعة من العلماء: يلزمه الاحتياط، وقال بعضهم غير ذلك. والذي تقتضيه الأدلَّة أنَّ عليه الاحتياط، وفي "الصحيح" (¬1): "الحلال بيِّن والحرام بيِّن، وبينهما مشتبهات لا يعلمهُنَّ كثير من الناس، فمن اتَّقى الشُّبهات فقد استبرأ لدِينِه وعِرْضه ... " الحديث. والمختلف فيه مشتبه. اللَّهم إلاَّ أن يشقَّ عليه الاحتياط مشقَّة شديدة فقد يقال له حينئذٍ أن يأخذ بالأخف؛ لقول الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]. وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]. الضَّرْب الثاني: من لم يبلغ درجة الاجتهاد، وإنَّما يتعاطى النَّظَر في الأدلَّة، ويحكم بما يظهر له بدون استنادٍ إلى موافقة مجتهدٍ من المجتهدين فهذا ضالٌّ مُضِلٌّ، وهو من الرُّؤساء الجُهَّال الذين وَرَد فيهم الحديث (¬2). ¬

_ (¬1) البخاري (52)، ومسلم (1599) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه، ولفظ المؤلف أحد ألفاظ مسلم. (¬2) يعني: ما أخرجه البخاري (100) ومسلم (2673)، وغيرهما، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنَّ الله لا يقبض العلم انتزاعًا، ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبْقِ عالمًا، اتخذ النَّاس رؤوسًا جهالًا فسُئِلُوا، فأفتوا بغير علم، فضلُّوا وأضلُّوا". =

وأكثر البِدَع من اختراع هؤلاء، وإنَّما تبعهم الناس فيها لاشتهار بعضهم بالزُّهد والتصوُّف، أو بعلمٍ آخر غير العلم المشروط في الاجتهاد. وقد حقَّقنا في "رسالة العبادة" أنَّ الزُّهاد والعُبَّاد لا يعتدُّ بأقوالهم ما لم يكونوا من العلوم المعروفة بدرجة الاجتهاد، وأنَّ الكَشْف ليس من الحُجَج الشرعية، وأنَّ الوَلِيَّ يخطئُ كما يخطئُ غيره، بل الخطأ أقرب إليه؛ لغلبة حُسْن الظن عليه. وحقَّقنا أنَّ الأحوال المكتسبة بالرِّياضة التي لم يندب إليها الشرع ليست من الولاية الصحيحة في شيءٍ، وإن صارت حياة صاحبها كُلَّها خوارق وغرائب، وأوضحنا ذلك ببراهينه. نعم قد يكون للرجل من هذا الضَّرْب عذر يرفع عنه الملامة، وكذا لِمَن تَبِعَه جاهلاً بحقيقة الأمر معذورًا بجهله. وقد حقَّقنا في "رسالة العبادة" ما يكون من الجهل عذرًا، وما لا يكون، فمهما أمكن أن يكون له عذر فلا يجوز الحكم عليه بالهلاك أو الإثم، بل لعلَّه يكون في نفسه من الصَّالحين الأخيار، ولكن احتمال كونه معذورًا لا يكون مسوَّغًا لاتِّباعه. الضَّرْب الثالث: من يقيس على نصوص المجتهدين ويستنبط منها، وهو ¬

_ = تنبيهٌ: قوله: "لم يُبقِ عالمًا" وصحَّت الرواية بلفظ: "حتى إذا لم يبقَ عالمٌ". وقوله: "رُؤُوسًا" جمع "رأس"، ولفظ المؤلَّف: "رُؤَسَاء" جمع "رئيس" هي روايةُ أبي ذرًّ للصَّحيح، وهي رواية ابن حبَّان في "صحيحه" (4571). ويُنْظَر فيما تقدَّم: "الفتح" لابن حجر (1/ 195).

الذي يسمُّونه: "مجتهد المذهب"، وهو كما يُؤْخَذ من كلامهم: مَنْ أحرز شروط الاجتهاد المطلق، إلاَّ أنَّه قاصر في معرفة التفسير، وفي معرفة السُّنة، ويكون مع ذلك واسع الخبرة بمذهب إمامه أصولًا وفروعًا. ومن شرطه - أيضًا - أن يعلم مَأْخَذ إمامه في المسألة التي يريد الاستنباط منها. ومدار الاستنباط على تحصيل دلالة ظنية من نصوص المجتهد بأنَّ الحُكم في هذه المسألة هو كيت وكيت، وقد تكون تلك الدلالة عمومًا أو مفهومًا، والغالب فيها هو القياس، وكلٌّ من هذه الدلالات قد يَضْعُف جدًّا. فأمَّا العموم فإنَّه قد يدخل تحت النص العام صور نادرة قد لا تكون خَطَرَت على ذهن المجتهد. وإنَّما قلنا إنَّ عموم نص الكتاب أو السنة يشمل الصورة النادرة لأنَّ الله تبارك وتعالى لا يعزُبُ عن علمه شيء، وهو رقيب على لسان رسوله، يعْصِمُه عن الخطأ، ومع ذلك فقد قال جماعة من العلماء بعدم دخول الصورة النادرة في النص الشرعي أيضًا. وأمَّا غير المعصوم فإنَّنا لا نثق بأنَّه خَطَرت على ذهنه الصورة النادرة. وإذا لم تكن خَطَرت على ذهنه فلا يثبت أنَّ لها عنده ذلك الحكم، فلعلَّه لو سُئِل عنها لرأى لها حكمًا آخر، واعتذر عن ذلك العموم بأنَّها صورة نادرة لم تخطر على ذهنه. فإن قيل: فقد قال جماعة من العلماء بدخول الصور النادرة في عموم كلام غير المعصوم، في نحو النَّذر واليمين والوكالة.

قلتُ: نعم، قد قالوا ذلك، ولكن الوجه في ذلك أنَّهم رأوا أنَّ الصِّيغة سبب تامٌّ في انعقاد العقد، ولهذا قالوا بدخول الصُّوَر التي لم يقصدها العاقد، وبالانعقاد بالصيغة التي لم يقصد بها الإيقاع، وإنما قصد بها الهزل. وفتوى المجتهد ليست بسبب تامًّ لثبوت الحكم؛ إذ ليست بإنشاءٍ للحُكْم كما كانت صيغة النَّذر إنشاءً للنذر مثلاً، وإنَّما الفتوى إخبار من المجتهد بما فهمه من الشريعة، فيحصل ظنٌّ بصحة ذلك؛ لأنَّه عدل عالم، وهذا خاص بما قَصَدَه في عبارته، فكيف تدخل الصُّوَر التي لم يظهر أنَّه قصدها؟! وهكذا يقال في دلالة الإشارة، فإنَّها عندهم: دلالة اللَّفظ على ما يلزم معناه، ولا يظهر من اللَّفظ أنَّه قصد به، فنقول بها في كلام الله تعالى؛ لإحاطة علمه بما يلزم، وكذا في كلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنَّ الله تعالى رقيبٌ عليه كما تقدَّم، وكذلك يقول بها في العقود من يرى العقود أسبابًا تامَّةً؛ لأنَّها إنشاء لأحكامها, ولا يصح أن يقال بها في فتاوى العلماء؛ لما سبق. وأمَّا المفهوم فمفهوم الموافقة إن كان واضحًا فهو كالمنطوق الصَّريح، والَّا فهو من القياس، وسيأتي ما فيه. وأمَّا مفهوم المخالفة فقد نقل ابن السُّبكي عن والده: أنَّه لا عبرة به في غير الشرع (¬1)، قال المحلَّي في "شرح جمع الجوامع": "من كلام المصنِّفين والواقفين لغلبة الذُّهول عليهم بخلافه في الشرع من كلام الله ورسوله المبلِّغ عنه؛ لأنَّه تعالى لا يغيب عنه شيء" (¬2). ¬

_ (¬1) "جمع الجوامع" (ص 24) حيث قال: "والشيخ الإمام في غير الشرع". (¬2) "شرح المحلِّي" مع "حاشية البنَّاني" عليه (1/ 255)، و"حاشية العطَّار" عليه (1/ 335).

وهذا قوي جدًّا بالنسبة إلى كلام المصنِّفين، ومَن في معناهم مِن المفتين. ويؤيِّده أنَّ القائلين بمفهوم المخالفة يشترطون أن لا يكون المتكلِّم جاهلاً بحكم المسكوت عنه، والجهل ممكن في المصنِّفين والمفتين. ويشترطون أن لا يكون القيد خرج مخرج الغالب، وقد خالف في هذا إمام الحرمين (¬1)، وخلافه قويٌّ بالنسبة إلى كلام الله تعالى وكلام رسوله؛ لأنه يبعد أن يُحْمَل قوله تعالى: {اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء: 23] على أنَّه لا معنى له، وإنَّما جَرَى مَجْرَى الغالب؛ إذ ليس في موافقة الغالب فائدة تُذكر، مع أنَّ زيادة ذلك تُنْقِص الفائدة، وتُوقِع في الخطأ. وعلى نحو هذا يقال في كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فأمَّا المصنِّفون ونحوهم فلا يبعد أن يجري على ألسنتهم زيادة الكلمة موافقة للغالب. وأمَّا القياس فمالك لا يكاد يعتدُّ به في العبادات، كما قرَّره الشاطبي في "الموافقات" (¬2)، وعامَّة البدع التي نحن في صدد البحث عنها إنَّما هي في العبادات. وشرط الاحتجاج بالقياس أن لا توجد دلالة أقوى منه من كتاب أو سنة. وعدم الوجدان إنَّما يُعْتَدُّ به في حقَّ المجتهد المستقل، وأمَّا مجتهد المذهب فلا أثر لعدم وجدانه؛ لقصور معرفته بالكتاب والسنة. على أنَّ كثيرًا ¬

_ (¬1) كما في "البرهان" له (1/ 477). (¬2) "الموافقات" (2/ 519)، وبنحوه في: "الاعتصام" له (3/ 54).

من علماء المذاهب يرجِّحون قياس قول إمامهم على نصوص شرعية قد وقفوا عليها! ثم نقول: إن كان مجتهد المذهب قاس على قول إمامه بدون أن يعرف دليل إمامه = فإنَّنا نخشى أن يكون إمامه استند إلى قياس، فيكون قياس هذا المقلِّد مركَّبًا على قياس، وهو باطل عندهم، كما قرَّروه في كتب الأصول. وإنْ عَلِم دليل إمامه وكان قياسًا فالأمر واضح. وإن كان نصًّا فشرط القياس على النَّص أن لا توجد دلالة أقوى منه من كتاب أو سنة، ولا اعتداد بعدم وجدان من ليس بمجتهد مستقل؛ إذ لو كان لمجتهد المذهب من المعرفة بالكتاب والسنة ما يصحِّح الاعتداد بعدم وجدانه = لكان مجتهدًا مستقلًا، والمفروض خلافه. هذا مع أنَّ من الأقيسة ما هو ضعيف جدًّا، كقياس الشَّبَهِ وغيره. والحاصل: أنَّ الاستنباط من كلام المجتهد على جانبٍ من الضعف، فإن جاز الاستناد إليه فعلى قدر الضرورة مع وجوب الاحتياط، ويشتدُّ الأمر إذا علمنا أنَّ أكثر المسائل المدوَّنة في كتب الفروع ليست من نصِّ الإمام، ولا مستنبطة من نصِّه، بل كل متأخر يستنبط مِن كلام مَن قَبْله، ففي مذهب الشافعي مثلاً تجد "دحلان" يستنبط من كلام "الباجوري"، و"الباجوري" يستنبط من كلام "البجيرمي"، و"البجيرمي" يستنبط من كلام "الشبراملسي"، و"الشبراملسي" من كلام "ابن حجر"، و"ابن حجر" من كلام "الزركشي"، و"الزركشي" من كلام "النَّووي" وهكذا. ولعلَّك لا تصل إلى الإمام إلَّا بعشر درجات وأكثر.

هذا مع أنَّ كثيرًا من العلماء يبنون الأحكام على استحسانهم. ومنهم مَن غَلَب عليه الميل إلى بعض المبتدعة، وكثير منهم من كان يعتقد الولاية لكل من حُكِي عنه ضَرْب من الغرائب التي يسمُّونها كرامات، ويتعصَّب له، ويؤلِّف في فضائله، ويكاد يجعل أقواله براهين قطعيَّة. ومنهم من كان يعرض له الميل إلى أهل الدنيا والتعصُّب لهم. ومنهم من كان بينه وبين علماء عصره منافسة تَحْمِلُه على مخالفتهم، كما وقع في قضية الصلاة المُبْتَدَعَة في ليلة أول جمعةٍ من رجب، كما حكاه أبو شامة في "الباعث" (¬1). وبالجملة فالعوارض المشكِّكة في صحَّة أقوالهم كثيرة. وما مَثَلُ الشريعة إلاَّ مثل ينبوع يخرج من جبل ويجري إلى مراحل كثيرة، وقد تكفَّل المَلِك بحفظ مجراه وتنظيفه، ومنع اختلاط الأوساخ والأقذار والمياه المتغيِّرة به, وهناك سَوَاقٍ قد اسْتَقَت منه، ويجري فيها من مائه إلى مراحل كثيرة أيضًا, ولكن المَلِك لم يتكفَّل بحفظها ولا حراستها، فهي مُعرَّضة لاختلاط الأقذار والأوساخ والمياه الرديئة والمتغيِّرة بمائها، وكثير من تلك السَّواقي قد عَظُم وغزُر ماؤه، فَمِن الناس من يستقبل من تلك السَّواقي ساقية أو ساقيتين أو أكثر، فيملأ من مائها بحيرة، ومنهم من يتجشَّم السفر إلى المجرى الذي تكفَّل المَلِك بحفظه، فيملأ جرَّة أو جرَّتين أو ما قُسِمَ له. ¬

_ (¬1) "الباعث على إنكار البدع والحوادث" (ص 42 - 43)، وفيه قصَّة العز بن عبد السلام مع أحد منافسيه.

والمقصود: أنَّ الاستنباط من المذاهب جائز بقدر الضرورة، فمن كان أهلاً للاستنباط واضطرَّ إليه في مسألة، ولم يقدر على تحصيل ما هو أوثق منه، واحتاط بقدر إمكانه = فلا حرج عليه إن شاء الله وإن أخطأ، وكذلك من تبعه ولم يقدر على تحصيل ما هو أوثق من قوله، ومع ذلك احتاط بقدر الإمكان. ومن حكمة الله البالغة ورحمته السَّابغة أنَّ غالب البدع لا يدَّعي أصحابها ومن شُبِّهت عليهم أنَّها من أركان الإيمان, ولا فرائض الإسلام، ولا الواجبات المحتَّمة، وإنَّما غايتهم دعوى أنَّها مستحبَّة، وذلك تيسير من الله عزَّ وجلَّ لطريق الاحتياط لمن أراده، فما عليك إلاَّ أن تتحرَّى فيما قيل إنَّه مستحب، وقيل إنَّه بدعة. فإن كنت ممَّن يستطيع الوصول إلى المجرى المحفوظ فانظر، فإن وجدتَ ما يُثلج صدرك من الدلالة على أنَّه من الدَّين، أو على أنَّه ليس منه = فالزم ذلك. وإن اشتبه عليك فدَعْه عالمًا أنَّ اجتناب البدعة أحق من فعل المستحب، وأنَّ ارتكاب البدعة من الخطر بحيث لا يوازنه ترك المستحب. على أنَّك بتركك لذلك الشيء حذرًا من أن يكون بدعة، لك أجر عظيم أعظم مِن أجر مَنْ فَعَل مستحبًّا، وإن فعلتَه مع خشية أن يكون بدعة فعليك إثم البدعة، وإن كان في نفس الأمر غير بدعة! وإن لم تستطع الوصول إلى المجرى المحفوظ فإن ظفرت بمَن وصل إليه وهو ثقة مأمون بريء من التعصب، وقد اطَّلَع على قول من قال: إنَّ ذلك

الأمر مستحب، وقول من قال: إنَّه بدعة، وعَرَض القولين على نصِّ الشرع = فخذ بقوله. وإن بقي عندك تردُّد في صحَّة قوله فالزم الاحتياط، وإن لم تظفر بواصلٍ فلا بدَّ من الاحتياط، وعليك بالاحتياط لنفسك، وحسن الظَّن بغيرك على قدر الإمكان، ولا يصدنَّك أحدهما عن الآخر. فإذا علمتَ أنَّ فلانًا كان يقول: إنَّ هذا الأمر مستحب، ويعمل به، فلا تتَّخذ ذلك دليلًا على أنَّه ليس بدعة. وإذا بان لك أنَّه بدعة أو شَكَكْت فيه فلا تسئ الظن بذلك القائل، بل قل: لعلَّ له عذرًا، والأعذار ههنا كثيرة، ولعله يكون في نفسه خيِّرًا فاضلًا صالحًا من أولياء الله تعالى، ولا يلزم من ولايته عصمته عن الخطأ، ولا يلزم من كونه معذورًا مأجورًا في قول أو فعل أن يكون كل مَنْ وافقه على ذلك معذورًا مأجورًا أيضًا. وههنا مَثَلٌ: رجل خاف على نفسه الزِّنا، فأسرع إلى بيته ليواقع زوجته فتسكن نفسه عن الجماح، فعَمَد إلى السَّرير الذي تنام عليه زوجته، فقضى حاجته، وبعد الفراغ تأمَّل المرأة وإذا هي أُمُّه، قد نامت تلك الليلة على سرير زوجته، خلافًا للعادة، فهذا الرجل معذور مأجور. ولو عكس فعَمَد إلى السرير الذي تنام عليه أُمُّه ليقع على أُمِّه فوقع، ثم تبيَّن له أنَّ التي وقع عليها زوجته فإنَّه آثم فاجر. قال الأشخر في "شرح ذريعته": "لو وطئ زوجته على ظنِّ أنَّها أجنبية فتحل لمطلِّقها ثلاثًا وإن أثم (الواطئ) قطعًا، بل حكى ابن الصَّلاح وجوب

الحدِّ" (¬1). ولو اشتبه عليه الحال فلم يدر، أَزَوجته هي أمْ أُمُّهُ فإنَّه يحرم عليه الوقوع عليها حتمًا. ولو أنَّ رجلاً تزوَّج امرأةً فأُهديت إليه أختُها وهو لا يشعر، بل يظنُّ المُهْدَاة زوجته، فعاشرها طول عمره فهو معذور مأجور. ولو أنَّ رجلاً آخر تزوَّج وأُهديت إليه أخت زوجته فأُخْبِر بذلك، فهل له أن يستمر على معاشرتها، محتجًّا بأنَّ الأول كان عالمًا صالحًا وقد استمرّ على معاشرة أخت زوجته، وأفتى العلماء بأنَّه معذور مأجور؟ أَوَ لا يقول له العقلاء جميعًا: يا أحمق! ذاك لم يكن يعلم، وأنت قد علمتَ! ¬

_ (¬1) "شرح ذريعة الوصول إلى اقتباس زبد الأصول للأشخر الزبيدي" (1/ 54). رسالة جامعية.

الرسالة الثالثة صدع الدجنة في فصل البدعة عن السنة

الرسالة الثالثة صدع الدُّجنة في فصل البدعة عن السنة

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الهادي إلى سواء السراط، جاعل دينه عدلًا، وسطًا بعيدًا عن التفريط والإفراط، منزل الكتاب تبيانًا لكل شيء من أمر الدين، باعث الرسل هداة مهديين، مبشرين ومنذرين. وأشهد ألَّا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، أرسله رحمة للعالمين، وهاديًا إلى السبيل المبين؛ ليبيِّن للناس ما نُزِّل إليهم، ويفسِّر لهم ما أشكل عليهم، وجعل محبَّته اتِّباعه، وطاعته له طاعة. قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]، وقال سبحانه: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]. وأكمل له الدِّين، وأتمَّ النعمة على المؤمنين، ورضي لهم الإسلام دينًا، إلى أن يرث الأرض ومَن عليها، وهو خير الوارثين، فلا دين إلاَّ ما ثبت عنه، ولا نور إلا ما اقتُبِس منه، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه، وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الهداة المهديين، الذين أكمل لهم اليقين، وأقام بهم الدين، وحفظ بهم الكتاب والسنة، وأتمّ بهم على الخلق المِنَّة، فبلَّغوا الدين بأمانته، وبالغوا في حفظه وصيانته. تكفَّل الله عزّ وجلَّ بتوفيقهم لسبيله، وتثبيتهم على اتِّباع رسوله، وأَعْلَمَ رسولَه بما يكون منهم بعده، وكيف يتحرَّون اتِّباعه، ويحفظون عَهْدَه، فيجعل سنَّتهم من سنَّته، وإجماعهم من شريعته، فلم يزل الناس على ذلك حتى اشتهر الحق على التحقيق، وأمن السِّراط المستقيم أن يشتبه على طالبه

ببنيَّات الطريق، ثم حدثت أحداث، وخَلَف خُلُوف، وغلا غالون، وقصَّر آخرون، ووقف وُقُوفٌ. وكثرت الخدع، وانتشرت البدع، وعُبِد الهوى، وبئس المعبود، واشتبه المحمود بالمذموم، والمذموم بالمحمود. وكانت البليَّة العظمى والرَّزية الكبرى قِلَّة العلماء وتقاعدهم عن نصر الحق، ما بين خوَّار يخاف الناس أشدَّ من خوف الله، وجبّارٍ يرغب في الشُّهرة والسُّمعة والجاه ومفتون بحبِّ الحُطام وخوف الفِطام، وآخر وآخر لا نطيل بذكرهم، ولا نبالغ الآن في هتك سترهم. لا جرم اتخذ الناس رؤساء في الدَّين جهَّالًا، فلم يألوا أنفسهم وغيرهم خبالًا، فلا يكاد يُرى لهم رادع، ولا لأنوفهم جادع، بل ولا قادع. إذا غابَ ملَّاحُ السَّفينةِ وارْتَمَتْ ... بها الرِّيح يومًا دبَّرَتْها الضَّفادِعُ (¬1) وخلا الجو للملحدين وأعداء الدين، فبالغوا في العَيْث والعَبَث، ودفنوا المحض، ونشروا الخبث، وكان ما كان، والله المستعان. وبعد، فإني - ولله الحمد والمِنَّة - ممَّن أوتي نصيبًا من فهم الكتاب، ومعرفة السُّنة، وعلمتُ أنَّ لله عَزَّ وَجَلَّ عليَّ حقًّا في النصيحة للدِّين والعباد، والدعاء إلى سبيل الرشاد، ولكنَّه يثبِّطني عن ذلك خَوَر العزيمة، والحرص على مصالح الدُّنيا الذَّميمة، وزعمي أنَّه إنَّما يصلح للنصيحة من خَلَت ¬

_ (¬1) لم أقف على قائله. وقد أنشده الناصري في "الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى" (6/ 67) دون نسبةٍ لقائلٍ، وعنده: "فارتمت" بدل "وارتمت"، و"هوجًا" بدل "يومًا".

صحيفته من الذنوب، ونَقَّى عِرْضَه عن العيوب، وخلصت نيَّته لإرضاء علَّام الغيوب، ولستُ هنالك ولا قريبًا من ذلك، ونفسي تعلِّلني بأنَّها ستصلح أو تقارب، وأنَّ الأحوال ربَّما تحول إلى ما يناسب، أو أنَّه سيقوم بهذا الفرض من يكون أوسع مني علمًا، وأقوى هِمَّة وعزمًا، فيبلغ فيه الغاية، وتحصل به الكفاية، والأيام تمرُّ، والأَجَل يدنو، والأمر لا يزداد إلاَّ شِدَّة. وقد تدبَّرتُ أنواع الفساد فوجدتُ عامَّتها نَشَأَت عن إماتة السُّنن، أو إقامة البدع، ووجدتُ أكثر المسلمين يبدو منهم الحرص على اتباع السُّنن واجتناب البدع، ولكن التبس عليهم الأمر، فزعموا في كثير من السنن أنَّه بدعة، وفي كثير من البدع أنَّه سُنة. وكلَّما قام عالم فقال: هذا سنة، أو هذا بدعة عارَضَه عشرات أو مئات من الرؤساء في الدِّين، الذين يزعم العامة أنَّهم علماء، فردُّوا يده في فِيهِ، وبالغوا في تضليله والطَّعن فيه، وأفتوا بوجوب قتله أو حبسه أو هجرانه، وشمَّروا للإضرار به وبأهله وإخوانه، وساعدهم ثلاثة من العلماء، عالم غالٍ، وعالم مفتون بالدنيا، وعالم قاصر في معرفة السنة وإن كان متبحِّرًا في غيرها. فإذا سمع بذلك من بقي من أفراد العلماء الصادقين كان نصرهم لأخيهم أن يحرقوه باللَّوم والتَّعنيف، قائلين: قد كان يَسَعُك ما وسع غيرك من السكوت! فرأيتُ من أهم الواجبات إيضاح الفرق بين السنة والبدعة، وتعيين الحدود الفاصلة بينهما، علمًا بأنَّه إذا يسَّر الله تعالى ذلك على طريق واضح زال الالتباس من حيث الجملة، وكذا من حيث التفصيل في حقِّ من تكون له معرفة صالحة بالكتاب والسنة.

وإذا زال الالتباس عن هؤلاء رُجِيَ أن يزول الالتباس عن غيرهم؛ إذ لا يبقى إلاَّ دعاة الضَّلالة والعامة. فأمَّا دعاة الضلالة فإنهم وإن زال الالتباس عنهم لا يخضعون للحق، ولا يرجعون إليه، ولا حرج في ذلك، فقد كان فريق من هؤلاء موجودين في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأمَّا العامة فإنَّما مَثَلُهم مَثَل قَلْعةٍ بابُها من حديد، وسائرها من حشيش، فإذا قام فيهم دعاةٌ حكماء صابرون مصابرون أوْشَكَ أن ينكسر الباب، فيتم الفتح. والتاريخ شاهدُ عدلٍ أنَّه لم يكد يقوم في العامة داعٍ بحق أو باطل إلاَّ تنمَّروا عليه، وتسارعوا في إيذائه، ولكنَّه إذا كان ذا حكمة وصبر، أو دهاء ومكر، لم يكن بأسرع من أن يصطادهم واحدًا واحدًا، وجماعة جماعة، فلم يلبث أن يصبح معه طائفة قوية يمتنع بهم عمَّن خالفه، ويتمكَّن من إعلان دعوته. ولعلَّه إذا اتَّضح السبيل لأهل العلم أن لا يخلو بلد من واحد منهم أو أكثر، يكون له حظٌّ من الحكمة والصبر، فيهتدي به نفر من الناس، والحق إذا استجيب له بمنزلة المصباح إذا أُسْرِج فإنَّه يضيء ما حوله، ثم يُقْتَبَس منه لعدَّة مصابيح تضيء مثله. وهكذا. وإذا رأيتَ من الهِلال نموَّهُ ... أيْقَنْتَ أنْ سيصير بدرًا كاملًا (¬1) هذا، وقد وقفتُ على عِدَّة مؤلفات في الزَّجر عن البِدَع، منها كتاب ¬

_ (¬1) البيت لأبي تمَّام، وهو في "ديوانه": إنَّ الهِلالَ إذا رأيتَ نُمُوَّهُ ... أيقَنْتَ أن سيكون بدرًا كاملا يُنظَر: "شرح الصُّولي" (3/ 334)، و"شرح الخطيب التبريزي" (4/ 115).

تعريف السنة

"الاعتصام" للإمام أبي إسحاق الشاطبي المالكي، صاحب كتاب "الموافقات" في أصول الفقه، و"الباعث في ذمِّ البدع والحوادث" للإمام أبي شامة الشافعي، و"المدخل" لابن الحاج المالكي، ورسائل أخرى، وفصول في بعض الكتب. وأعظم ذلك وأجلُّه: كتاب "الاعتصام"، إلاَّ أنَّه كبير الحجم، تحرَّى مؤلَّفه رحمه الله أن يطيل البحث في كل فرع، ويذكر الوجوه المحتملة، وكيف يرجح بعضها على بعض، مع تطبيق ذلك على القواعد الأصولية، وكثيرًا ما يذكر الأحاديث والآثار, ولا يسندها إلى الكتب المعروفة، ولا يبيِّن حالها من الصَّحة وغيرها، فيكاد لا يستفيد منه إلاَّ كبار العلماء. فأردتُ أن أجمع رسالة صغيرة أعتني فيها بتحقيق حقيقة البدعة المذمومة شرعًا، وأوضح ذلك بالحجج الصريحة، وأتحرَّى أن يكون البيان على وجه يفهمه أكثر طلبة العلم، ويشاركهم العامي الذكي في فهم كثير منه، ومِن الله سبحانه أستمد التوفيق والمعونة. تعريف السُّنَّة: السُّنة في اللُّغة: الطريقة، وأكثر ما تستعمل في الطريقة المعنوية، يقال: سنَّ فلانٌ سنةً، أي: وقع منه أمر يتْبَعُه فيه غيره، ومن هذا سنن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وكثيرًا ما تطلق السُّنَّة ويراد بها مجموع السيرة، أي: "كل ما جاء عنه - صلى الله عليه وسلم - من أقواله وأفعاله وتقريره وما همَّ بفعله"، كما في "فتح الباري" ج 13 ص (191) (¬1). ¬

_ (¬1) "الفتح" (13/ 245) السلفية.

تعريف البدعة

ثم قد تُخصُّ بما عدا ما ثبت في القرآن، وعلى هذا يُقال: الكتاب والسنة. وقد تعمّ ما ثَبَت في القرآن؛ لأنَّ القرآن ثابت عنه - صلى الله عليه وسلم -، ومن سنته العمل به، وعلى هذا يقال: "أهل السُّنة" فأما قولنا: "هذا سنة، وهذا بدعة"، فالسُّنة فيه: خاصٌّ بكل أمر ثبت بكتاب الله تعالى أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - أنَّه مطلوب على الفرض والوجوب، أو على أنَّه مندوب تعريف البدعة: قال الحافظ ابن حجر في شرح حديث: "إنَّ أحسن الحديث كتاب الله وأحسن الهَدْي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها .. إلخ": "والمُحْدَثات بفتح الدال: جمع مُحْدَثة، والمراد بها ما أُحدث وليس له أصل في الشرع، ويسمَّى في عُرْف الشرع: بدعة. وما كان له أصل يدلُّ عليه الشرع فليس ببدعة، فالبدعة في عُرْف الشرع مذمومة، بخلاف اللُّغة، فإنَّ كل شيء أُحْدِث على غير مثال يسمَّى: "بدعة", سواء كان محمودًا أو مذمومًا. وكذا القول في المُحْدَثة، وفي الأمر المُحْدَث، الذي ورد في حديث عائشة: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" ... ". "فتح الباري" ج 13 ص (195) (¬1). وهذا الذي قاله في تفسير البدعة والمُحْدَثة هو المشهور بين العلماء. وحاصله: أنَّ البدعة والمُحْدَثة نُقلا عن معناهما اللُّغوي إلى معنى شرعي، ¬

_ (¬1) "الفتح" (13/ 253).

وعلى هذا التعريف اعتراضات

فإمَّا أن يكون النقل من الشارع، وإمَّا أن يكونا في كلام الشارع باقيين على المعنى اللُّغوي، ولكن قام الدليل على تخصيصهما، ثم شاع استعمالهما في المعنى الخاص. وعلى هذا التعريف اعتراضات: الاعتراض الأول: أنَّه يتناول المعاصي المُحْدَثة، التي يعترف أصحابها أنَّها معاصي. ومن تأمَّل النصوص الواردة في ذمِّ البدع، والآثار التي فيها الحكم على بعض الأمور بأنَّها بدع تبيَّن له أنَّ الأمر لا يكون بدعة حتى يزعم صاحبه أنَّه من الدِّين، فلا يُقال لمسلم تَرَك الصلاة أو صوم رمضان لغير عذر معترفًا بفرضيَّتهما: مبتدع، وإن كان ذلك ممَّا أُحْدِث، وليس له أصل في الشرع؛ إذ لم يُنْقَل أنَّ ذلك وقع من أحد من المسلمين في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -. ويمكن أن يُجاب بأنَّه إنَّما لم يصرِّح بإخراج المعاصي المُحْدَثة؛ لشهرة إخراجها, ولأنَّ المهم إنَّما هو تمييز البدعة المذمومة عما لا يُذَمُّ، والمعاصي مذمومة. الاعتراض الثاني: أنَّه يتناول المباحات المُحْدَثة التي لم يدَّعِ أصحابها لها حكمًا غير الإباحة، كلبس الثياب التي لم تكن معروفة بين الصحابة في العهد النبوي، ويُجاب عن هذا بأنَّه خارجٌ بقوله: "ليس له أصل في الشرع"، وهذا ممَّا له أصل في الشرع، وهو أدلة الإباحة، كقوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]. الاعتراض الثالث: أن يُقال: قوله: "ليس له أصل في الشرع" لا يخلو أن

يُراد بـ "الأصل": مُسْتَندٌ يُسنَد إليه الحادث وإن لم يصلح للاستناد، كاستناد الخوارج إلى قول الله عزَّ وجلَّ: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام: 57]، واستناد غلاة المرجئة - القائلين بأنَّه لا يضر مع الإيمان عمل - إلى قول الله عزَّ وجلَّ: {لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل: 15 - 16]، ونحو ذلك. أو يُراد به مُسْتَندٌ يصلح للاستناد. لا يصحُّ الأول حتمًا، وإلَّا لم يكن على وجه الأرض بدعة؛ إذ ما من بدعة إلاَّ وأصحابها يتشبَّثون بآية، أو حديث، أو قياس، أو دعوى إجماع. ولا الثاني؛ لأنَّ المفروض أنَّ المُحْدَث لم يكن موجودًا في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيكون قد تركه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فتَرْكُه له حُجَّة بالغة على أنَّه ليس من الدين. وسيأتي توضيح ذلك إن شاء الله تعالى. والجواب باختيار الثاني، وترك النبي - صلى الله عليه وسلم - للشيء لا يستلزم أن لا يكون من الدِّين مطلقًا، بل أنْ لا يكون في الدين في مثل الحال التي تركه فيها - صلى الله عليه وسلم -. فقد يكون الأمر من الدين بدلالة الكتاب والسنة، ولكنَّه موقوف على وجود أمر آخر لم يقع في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم وقع بعده، وذلك كركوب البواخر والقطار والسيَّارات والطيَّارات للحج، وكالقتال بالبنادق والمدافع في الجهاد. فقد قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}

[آل عمران: 97]، وركوب الطيّارة - مثلًا - سبيل. وقال سبحانه: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] والبنادق والمدافع قوَّة. وواضح أنَّ البواخر والقطار والسيَّارات والطيَّارات والبنادق والمدافع لا يمكن استعمالها قبل وجودها، فَترْكُ النبي - صلى الله عليه وسلم - استعمالها إنَّما كان لعدم وجودها حينئذٍ، فلا يكون مثل هذا الترك حُجَّة يُرَدّ بها دلالة الآيتين المذكورتين وغيرهما، وقس على هذا. قال ابن حجر المكي في "الفتاوى الحديثية" ص 200: "وفسَّر بعضهم البدعة بما يعمُّ جميع ما قدَّمنا وغيره، فقال: هي ما لم يقم دليل شرعي على أنه واجب أو مستحب، سواء أَفُعِل في عهده - صلى الله عليه وسلم -، أو لم يفعل، كإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب (¬1)، وقتال التُّرْك (¬2)، لمَّا كان مفعولًا بأمره لم يكن بدعه, وإن لم يُفْعَل في عهده, وكذا جمع القرآن في المصاحف (¬3)، والاجتماع على قيام شهر رمضان، وأمثال ذلك ممَّا ثبت ¬

_ (¬1) يشير إلى ما أخرجه البخاري (3035) ومسلم (1637) وغيرهما، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب .. " الحديث. وما أخرجه مسلم (1767) وغيره, من حديث عمر - رضي الله عنه -: أنَّه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لأخرجنَّ اليهود والنَّصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلاَّ مسلمًا". (¬2) يشير إلى ما أخرجه البخاري (2927) ومسلم (2912) وغيرهما، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا الترك .. " الحديث. (¬3) يشير إلى ما أخرجه البخاري (4679) وغيره، من حديث زيد بن ثابت في قصَّته مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهم في جمع القرآن.

وجوبه أو استحبابه بدليل شرعي، وقول عمر رضي الله عنه في التراويح: "نِعْمَت البدعة هي" (¬1) أراد البدعة اللُّغوية، وهو ما فُعِل على غير مثال، كما قال تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 9]، وليست بدعة شرعًا، فإن البدعة الشرعية ضلالة كما قال - صلى الله عليه وسلم -. ومن قسَّمها من العلماء إلى حسنٍ وغير حسنٍ فإنَّما قسَّم البدعة اللُّغوية، ومن قال: "كل بدعة ضلالة" فمعناه البدعة الشرعية، أَلَا ترى أنَّ الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان أنكروا فرضية غير الصلوات الخمس، كالعيدين، وإن لم يكن فيه نهي، وكرهوا استلام الركنين الشاميين، والصلاة عقيب السَّعي بين الصفا والمروة قياسًا على الطواف، وكذا ما تركه - صلى الله عليه وسلم - مع قيام المقتضي، فيكون تركه سنة، وفعله بدعة مذمومة. وخرج بقولنا: "مع قيام المقتضي في حياته تركه" إخراجُ اليهود من جزيرة العرب، وجمعُ المصحف، وما تركه لوجود المانع كالاجتماع للتراويح؛ فإنَّ المقتضي التام يدخل فيه عدم المانع". أقول: وهذا التفسير أحسن من التفسير السابق، وإن كان المآل واحدًا. ولك أن تقول في تعريف البدعة: "هي كل أمر أُلصق بالدين ولم يكن من هَدْي النبي - صلى الله عليه وسلم -، لا بالفعل ولا بالقُوَّة" (¬2)، فقولك: "ولا بالقُوَّة" يخرج ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2010) وغيره، من حديث عبد الرحمن بن عبدٍ القاري. ولفظ البخاري: "نِعْمَ البدعة هذه"، وقوله: "نِعْمَت" بالتاء هو إحدى روايات البخاري، كما في "الفتح" (4/ 253). (¬2) يعني: بالقدرة على فعله؛ لأنَّ المقصود بالقُوَّة: الاستعداد والإمكان الذي في الشيء لأنْ يوجد بالفعل. يُنظَر: "المعجم الفلسفي" لجميل صليبا (2/ 202).

به كل ما لم يقع في العهد النبوي لعدم المقتضي أو لوجود مانع؛ إذ قد قام الدليل على أنَّه لو وُجِد المقتضي أو زال المانع لَمَا تركه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهو من هديه بالقوة. ولك أن تستغني بقولك: "كل أمر أُلصق بالدين، ولم يكن من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - "؛ فإنَّ هَدْيه هو سُنَّته، والدليل الدَّال على أمرٍ أنَّه من الدِّين وأنَّه إنَّما تركه - صلى الله عليه وسلم - لعدم مقتضيه، أو لوجود مانع عنه في حياته= لا بد أن يكون ذلك الدليل من أقسام السُّنَّة. وأبلغ من هذا كلِّه أن يُقال: إنَّ كلمتي "البدعة" و"المُحْدَثة" الواردتين في الأحاديث باقيتان على معناهما اللغوي، ولكن ليس المراد بهما صورة الفعل، وإنَّما المراد الحكم المزعوم له وجوبًا، أو ندبًا، أو غيرهما من الأحكام الشرعية التكليفية والوضعية. فمَن زعم أنَّ التَّختُّم بالعقيق واجب، أو مندوب، أو حرام، أو مكروه، فقد ابتدع؛ لأنّ هذا الحكم الذي زَعَمَه مُحْدَث. وهكذا من زعم أنَّ شرب قليل الخمر مباح لِمَن وَثِق من نفسه أنَّ قليله لا يجرُّه إلى كثيره فقد ابتدع؛ لأنَّ هذا الحكم - وهو الإباحة - في تلك الحال مُحْدَث. وكذا من زعم أنَّ الغِنَى شرط لصحة النكاح، أو سبب تام لوجوبه، أو مانع من وجوب صوم رمضان، أو أنَّ صوم مَن شَرِب الدَّواء عمدًا صحيح، أو أنَّ صوم من تعطَّر عمدًا باطل. فإن قلتَ: لكن السَّلف كثيرًا ما يطلقون على الأفعال أنفسها أنَّها "بدع"،

كإخراج المنبر يوم العيد، وتقديم خطبة العيد على الصلاة (¬1)، وأطلق بعض الصحابة البدعة على الاضطجاع بعد سُنَّة الفجر (¬2)، وعلى القنوت في الفجر (¬3)، وعلى صلاة الضحى (¬4). ¬

_ (¬1) يشير إلى ما أخرجه البخاري (956)، ومسلم (889) وغيرهما، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في قصَّته مع مروان بن الحكم، حين قدَّم خطبة العيد على الصلاة وخطب على منبرٍ صنعه كثير بن الصَّلت. (¬2) يشير إلى ما ساقه عبد الرزاق (3/ 42 - 43)، وابن أبي شيبة (4/ 387 - 389)، والبيهقي في "الكبرى" (3/ 46)، من آثار عدَّةٍ، عن جمع من الصَّحابة والتابعين رضي الله عنهم في تبديع الاضطجاع بعد راتبة الفجر أو كراهة ذلك أو النهي عنه. (¬3) يشير إلى ما أخرجه الترمذي (402)، والنسائي في "الكبرى" (1080)، وابن ماجه (1241)، وأحمد (3/ 472)، (6/ 394)، وغيرهم، من حديث أبي مالك الأشجعي قال: قلتُ لأبي، يا أبت إنَّك قد صلَّيت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي بن أبي طالب ههنا بالكوفة نحوًا من خمس سنين، أكانوا يقنتون؟ قال: أي بُنَيَّ مُحْدَثٌ". قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصحَّحه الألباني في "الإرواء" (435). وقد ساق عبد الرزَّاق (3/ 105 - 108، 111)، وابن أبي شيبة (5/ 21 - 29)، والبيهقي في "الكبرى" (2/ 213 - 214) جملة آثارٍ عن جمع من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم في تركهم القنوت في الفجر أو القول بعدم مشروعيَّته. (¬4) يشير إلى ما أخرجه البخاري (1775)، ومسلم (1255)، وغيرهما، من حديث مجاهد قال: دخلتُ أنا وعروة بن الزبير المسجد، فإذا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما جالسٌ إلى حجرة عائشة، وإذا ناسٌ يصلُّون في المسجد صلاة الضُّحى، قال: فسألناه عن صلاتهم، فقال: "بدعةٌ". وقد ساق الحافظ ابن حجر في "الفتح" (3/ 52) عدَّة آثار بأسانيد صحَّحها عن ابن عمر رضي الله عنه تسميته لها بالبدعة والمُحْدَثة، ثم قال رحمه الله: "وفي الجملة: =

قلتُ: لِقائلٍ أن يقول: إنَّ ذلك كله تجوُّز سهَّلَه ما بين الأفعال وأحكامها من التلازم، فإنَّ من أخرج المنبر يوم العيد، وقدَّم الخطبة على الصلاة يدلُّ فعلُه ذلك على أنَّه يزعم أنَّه جائز، أو مندوب، فهذا الحكم المزعوم هو البدعة في الحقيقة، والفعل قرينة عليه. وأمَّا بقية الأمور المذكورة فلا إشكال فيها؛ لأنَّ من أطلق على الاضطجاع بعد سُنَّة الفجر أنَّه بدعة إنَّما أطلقه لمَّا رأى قومًا يتحرَّونه زاعمين أنَّه سُنَّة، وأوضح من ذلك حال القنوت، وصلاة الضحى، فإنَّ من يقنت إنَّما يقنت زاعمًا أنَّ القنوت سُنَّة، وكذا من يصلَّي الضُّحى. والذي ينبغي أن يعتمد في تعريف البدعة هو التعريف الثالث، أي: "أمر أُلْصِق بالدِّين، ولم يكن من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم -، لا بالفعل ولا بالقوَّة" ¬

_ = ليس في أحاديث ابن عمر هذه ما يدفع مشروعية صلاة الضُحى؛ لأنَّ نفيه محمولٌ على عدم رؤيته، لا على عدم الوقوع في نفس الأمر، أو الذي نفاه صفة مخصوصةٌ .. قال عياض وغيره: إنَّما أنكر ابن عمر ملازمتها، وإظهارها في المساجد، وصلاتها جماعة، لا أنَّها مخالفة للسُّنَّة .. ". وينظر أيضًا: مصنَّف عبد الرزَّاق (3/ 78 - 81)، ومصنَّف ابن أبي شيبة (5/ 253 - 257).

الرسالة الرابعة الحنيفية والعرب

الرسالة الرابعة الحنيفيَّة والعَرَب

الحَنيفيَّة والعَرَب الحنيفيَّة مِلَّة إبراهيم عليه السلام، وبقيت بعده في ابنَيْه إسماعيل وإسحاق وذريَّتهما. فأمَّا إسحاق فكان ابنه يعقوب - وهو إسرائيل - نبيًّا، وجرى له مع بَنِيه ما جرى. وكان يوسف بن يعقوب نبيًّا، وبسببه صار يعقوب وذريَّته إلى مصر، وبها مات. ثم مات يوسف، وبقي بنو إسرائيل هناك مضطهدين، حتى بعث الله تعالى موسى وهارون. وأخبار بني إسرائيل مع موسى تدلُّ على أنَّ دينهم قد ضعُف جدًّا، مع أنَّه ليس بين وفاة يوسف ومبعث موسى إلاَّ نحو مائة سنة. ثم أنزل الله تعالى على موسى التوراة، وصارت له شريعةٌ مستقلَّة، ولكن بني إسرائيل لم يكادوا ينتفعون بها! أنجاهم الله من فرعون، فمرُّوا بقومٍ يعبدون أصنامًا، فقالوا لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138]. ثم دعاهم موسى إلى قتال عدوٍّ لهم، وأخبرهم أنَّ الله تعالى وعَدَهُم النَّصر، فقالوا لموسى {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24]. وعبدوا العِجْل، وفعلوا الأفاعيل. وبعد موسى عليه السلام بقليلٍ ارتدُّوا وعبدوا الأوثان، ثم أظهروا التوبة، ثم عادوا.

وهكذا، لم يكد الدَّين يستقرُّ فيهم، مع أنَّ الله تعالى لم يَزَل يبعث فيهم بعد موسى نبيًّا بعد نبيٍّ، وقد يجتمع في وقتٍ نبيَّان أو أكثر، ولم يكد ذلك يؤثِّر فيهم. بل كذَّبوا كثيرًا من الأنبياء، وآذوهم، وقتلوا بعضهم، وكان يتنبأُ فيهم رجال ونساء، يماشون أهواءهم، فيصدِّقون الكاذب، ويكذَّبون الصَّادق، حتى بعث الله تعالى عيسى، فكذَّبوه وأرادوا قتله. وأمَّا إسماعيل فإنَّ أباه أسكنه في بلاد العرب بمكَّة المكرَّمة، فنَشَأ بها، وبنى مع أبيه الكعبة البيت الحرام، وتزوَّج إسماعيل من العرب، ونَشَأ بنوه عَرَبًا، واستجاب من العرب للحنيفيَّة من استجاب. وبقاء البيت معمورًا، والحرمِ معظَّمًا، وما عُرِف عن العرب قاطبةً أنَّهم لم يزالوا يعظِّمون مكَّة والبيت، ويحجُّونه، سواء منهم من كان من ذريَّة إسماعيل، ومن كان من غيرهم = يدلُّ على ذيوع الحنيفيَّة في العرب ورسوخها. وقد قامت الأدلَّة - كما يأتي - على أنَّ الدِّين الحقَّ بقي في عرب الحجاز وما حولها فوق عشرين قرنًا بعد إبراهيم عليه السَّلام، ثم غيَّروا أشياء، وبقوا متمسِّكين بأشياء، حتى بعث الله خاتم أنبيائه، محمدًا - صلى الله عليه وسلم -. في "مجموعة كتب أهل الكتاب"، الترجمة المطبوعة ببيروت سنة 1870 م (¬1)، في الفقرة (10 - 11)، من الإصحاح الثاني، من "سفر أرميا"، ¬

_ (¬1) في مقدِّمة الطبعة المعرَّبة الحديثة أنَّ هذه الطبعة انتهوا من إصدارها عام 1881 م، ولكنَّهم أعادوا النَّظر في هذه التَّرجمة عام 1949 م، فأخرجوها في ترجمةٍ أفضل من =

في صَدَد توبيخه اليهودَ على عبادة الأصنام: "لذلك أخاصمكم بعد. يقول الربُّ: وبني نبيَّكم أخاصم، فاعبروا جزائر كتيم، وانظروا، وأرسلوا إلى قيدار، وانتبهوا جدًّا، هل صار مثل هذا؟ هل بدَّلت أمَّةٌ آلهةً، وهي ليست آلهةً؟ أمَّا شعبي [يعني: بني إسرائيل] فقد بدَّل مجده بما لا ينفع" (¬1). ففي هذا أنَّ "بني قيدار" كانوا في عهد "أرميا" ثابتين على الدِّين الحق. وقيدار هو: ابنُ إسماعيل عليه السلام، كما في الفقرة (13) من الإصحاح (25) من "سفر التَّكوين" (¬2). وفي الفقرة (13 - 17) من الإصحاح (21) من "سفر أشعيا": "وَحْيُّ من بلاد العرب، من الوعر من بلاد العرب ... في مدَّة سنى كسنى الأجير يفنى كلُّ مجدِ قيدار، وبقيَّة عدد قسي بني قيدار تقل" (¬3). يعني: أنَّه سيغزوهم مَلِك بابل. ¬

_ = حيث الأسلوب والتَّراكيب، مع العناية بفنِّ الطباعة، وأتمُّوا العمل فيها عام 1980 م. وقد بيَّنتُ الفروق المهمَّة الظَّاهرة بين نصِّ التَّرجمة عند المؤلَّف ممَّا يخالف التَّرجمة الحديثة المشار إليها. (¬1) بنحو هذه الترجمة في الطبعة الحديثة (ص 1645). (¬2) في الأصل: "الإصحاح (15) "، ولعلَّ الصواب ما أثبتُّ؛ إذ الذي في (15/ 13): "فقال لأبرام: اعْلم يقينًا أنَّ نَسْلَك سيكون غريبًا في أرضٍ ليست لهم، فيذلُّونهم أربعمائة سنة". وهذا النصُّ ليس فيه كلام عن كونه ابن إسماعيل. أمَّا الذي فيه الكلام عن هذا الأمر فهو في (25/ 13) من "سفر التَّكوين"، (ص 104 الطبعة الحديثة): "هذه أسماء بني إسماعيل بحسب أسمائهم وسلالتهم: نبايوت بِكرُ إسماعيل، وقِيدار، وأدْبَئيل، ومِبْسام .. ". (¬3) (ص 1560 - 1561) في الطبعة الحديثة منه، بنحوه.

ففي الفقرة (28)، من الإصحاح (49)، من "سفر أرميا": "عن قيدار وعن ممالك حاصور التي ضَرَبَها نبوخذ راصر (¬1) ملك بابل، هكذا قال الرب: قوموا، اصعدوا إلى قيدار". و"حاصور" هذه يقول مؤرِّخُو العرب إنَّها "حَضُور" من بلاد اليمن، وأنَّ مَلِك بابل (¬2) لمَّا غزا العرب بَلَغَها وبَطَش بأهلها (¬3). وفي الفقرة (21)، من الإصحاح (27)، من "سفر حِزْقِيال": "العَرَب وكل رؤساء قيدار هم تجَّار يدك" (¬4). وانظر الفقرة الخامسة، من الإصحاح (120)، من "المزامير" (¬5)، والفقرة الخامسة، من الإصحاح الأول، من "نشيد الأنشاد" (¬6)، والفقرة ¬

_ (¬1) ص (1728) من الطبعة الحديثة، ولفظه: "إلى قيدار وممالك حاصور .. نبوكد نصَّر". (¬2) يسمِّيه العرب: "بختنصَّر" [المؤلَّف]. (¬3) يُنظَر: "نسب معد واليمن الكبير" لابن الكلبي (5/ 539)، و"صفة جزيرة العرب" للهمداني (ص 83)، و"تاريخ الرسل والملوك" للطَّبري (1/ 585)، و"معجم البلدان" لياقوت (2/ 272)، وغيرها. وقد ردَّ الدكتور جواد علي في "المفصَّل في تاريخ العرب قبل الإسلام" (1/ 348 - 352) = بكلام مفصَّل دعوى أنَّ "حاصور" هي "حضور"، وبيَّن أنَّ من قال ذلك من الإخباريين قلَّدوا فيه ابن الكلبي، وأنَّ "حاصور" أراض لعربٍ كانت ديارهم جنوب فلسطين أو شرقها. (¬4) في الطبعة الحديثة (ص 1814): "من زبائنك" بدل "تجَّار يدك". (¬5) فيه (ص 1286): "ويلٌ لي فإنَّي في ماشك نزلتُ، وفي خيام قيدار سكنتُ". (¬6) فيه (ص 1381): "أنا سوداء ولكنني جميلة يا بنات أورشليم، كخيام قيدار .. ".

(11)، من الإصحاح (42)، من "سفر أشعيا" (¬1)، والفقرة السَّابعة، من الإصحاح السِّتِّين، منه أيضًا (¬2). هذه النُّقول مأخوذةٌ من مجموعة كتب القوم، من الطَّبعة التي تقدَّم ذكرُها. وممَّا يلفِت النَّظر أنَّ الطَّابِعِين التزموا في الأسماء التي تقع في المتن أن يشيروا عليها، وينبِّهوا في الهامش على المواضع الأخرى التي وَرَد فيها ذلك الاسم من المجموعة. وكذلك صنعوا باسم قيدار، ما عدا الموضع الذي بدأتُ بنقله، وفيه الدِّلالة على ثبات بني قيدار على الدِّين الحق؛ فإنَّهم أغفلوه فلم ينبِّهوا هناك على أنَّ هذا الاسم وقع في موضع أو مواضع أُخَر، ولا نبَّهوا في بقيَّة المواضع على هذا الموضع، كأنَّهم يحاولون إخفاءه (¬3)! قيدار بن إسماعيل هو جدُّ العَرَب العدنانيين، وعدنان هو الجدُّ الموفي عشرين في أجداد النَّبي - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) فيه (ص 1594): "لترفع البرية ومدنها صوتها، والحظائر التي يسكنها قيدار". (¬2) وفيه (ص 1623): "كل غنم قيدار تجتمع إليك، وكباش نبايوت تخدمك". (¬3) ثم أحالوا إليها في الطبعة الحديثة منه (ص/ 1645) إلى "سفر التَّكوين" 25/ 13، و"سفر إشعيا" 21/ 16، ولكنَّهم شرحوه بقولهم: "قيدار: قبيلة بدويَّة، من قبائل عبر الأردن"! وهذا فيه تناقضٌ مع نص ما في الموضع الذي أحالوا عليه من "سفر التَّكوين"، إذ كيف يكون ولد إسماعيل، وهو في مكَّة، ثم يقال إنَّها قبيلة بالأردن! إلاَّ أن يُراد أنَّهم ولَدُه، وأنَّهم نزحوا إليها، وهذا يخالف ما يقرِّره المؤلَّف ههنا - كما سيأتي - واستشهاده بشعر قصي بن كلاب وكلام النسَّابة والمؤرَّخين = من أنَّ أولاد قيدار أو قيذر كانوا بمكَّة، وهم أولاد عدنان، الذين بُعِث فيهم النَّبي - صلى الله عليه وسلم -.

وفي "السَّيرة" وغيرها (¬1): أنَّ قُصَيَّ بن كلاب - وقُصَيٌّ هو الجدُّ الرابع للنَّبي - صلى الله عليه وسلم - لمَّا كان يسعى للاستيلاء على مكَّة قال: أنا ابنُ العاصِمِين بني لُؤَيًّ ... بمكَّة منزلي وبها ربيتُ إلى البَطْحاءِ قد علِمَتْ مَعَدٌّ ... ومَرْوَتها رضِيتُ بها رضِيتُ فلستُ لغالبٍ إنْ لم تَأثَّلْ ... بها أولاد قَيْذَر والنَّبيتُ رزاحٌ ناصِري وبه أُسَامِي ... فلستُ أخافُ ضَيْمًا ما حَيِيتُ القافية مرفوعةٌ كما ترى. و"قيذر" هو "قيدار" نفسه، هكذا ينطق به العرب، كما في كتب اللُّغة وغيرها (¬2). والنَّبيت أُرِيد بهم أولاد ابن إسماعيل الآخر، واسمه في "التوراة": نبايوت (¬3)، وقد كان بالشام قومٌ يُقال لهم: النَّبَط بفتحتين، والنَّبِيط أيضًا. وفي "صحيح البخاري"، في باب السَّلَم (¬4)، عن عبد الله بن أبي أوفى قال: "كُنَّا نُسلِف نبيط أهل الشَّام في الحنطة والشَّعير والزَّيت ... ". ¬

_ (¬1) همَّش المؤلف في هذا الموضع ثم لم يكتب شيئًا. وهو في "السيرة النبويَّة لابن هشام" (1/ 260)، و"البداية والنهاية" لابن كثير (3/ 241 - 242). (¬2) يُنظر: "لسان العرب" (5/ 82)، و"تاج العروس" (13/ 386). (¬3) من ذلك: ما تقدَّم في "سفر التكوين"، وفيه أيضًا: (تكوين: 28/ 9): " .. فمضى عيسو إلى إسماعيل، فتزوَّج مَحْلَة بنت إسماعيل بن إبراهيم أخت نبايوت .. ". وفيه أيضًا (تكوين: 36/ 3): "وبسمة بنت إسماعيل، أخت نبايوت". (¬4) كتاب السَّلَم، باب السَّلَم إلى من ليس له أصلٌ (2/ 125) السَّلفية.

وفي "فتح الباري" (¬1): "قوله: "نبيط أهل الشَّام" .. هم قومٌ من العرب، دخلوا في العَجَم والرُّوم، واختَلَفَت أنسابُهم، وفَسَدَت ألسنتُهم، وكان الذين اختلطوا بالعَجَم منهم ينزلون البَطائِح بين العِراقَين، والذين اختلطوا بالرُّوم ينزلون في بوادي الشَّام، ويُقال لهم: "النَّبَط" بفتحتين، و"النَّبِيط" .. قيل: سُمُّوا بذلك لمعرفتهم بإنباط الماء ... ". وفي "دائرة المعارف الوجديَّة" (¬2) في مادة "عَرَب": "دولة الأنباط: ذكر العَرَب دولة الأنباط في كتبهم، وأرادوا بهم أهل العراق، وقد تحقَّق المنقِّبون في الآثار, والمتَتَبِّعون لتاريخ اليونان والرومان، وما ذُكِر في "التَّوراة" أنَّ دولة الأنباط كانت عربيَّة، قامت بمشارف الشَّام ... اختلف المؤرِّخون في أصل الأنباط، فقال قومٌ: إنَّهم من نسل نبايوط بن إسماعيل، متابعين في ذلك ما قالته التَّوراة .. ". وذكر أنَّهم ملكوا مملكة أدوم "قبل القرن الرَّابع للميلاد، وبقيت [دولتُهم] إلى أوائل القرن الثاني بعده، حتى دخلت في حوزة الرُّومان سنة 106" (¬3). وذكر بعد ذلك دول قُضَاعة، وأنَّها خلفت دولة النَّبَطِيين رعاية الرُّومان، وكانت قُضَاعة بالشَّام (¬4). ¬

_ (¬1) (4/ 431) السَّلفية. (¬2) ج 6 ص 233. [المؤلَّف]. ويقصد به: "دائرة معارف القرن العشرين"، لمؤلَّفها: محمد فريد وجدي. (¬3) "دائرة معارف القرن العشرين" (6/ 234). (¬4) المصدر السابق (6/ 246).

وقُصَي بن كلاب قائل الأبيات المتقدَّمة وُلِد بمكَّة، ومات أبوه وهو صغير، فتزوَّج أمَّه رجلٌ من قضاعة، وذهب بها وقُصَيٌّ معها إلى بلاده، وولَدَت له رزاحًا، الذي استنصره قُصَيٌّ في شعره؛ لأنَّه أخوه لأمِّه، ونشأ قُصَيٌّ في بلاد قضاعة، ثمَّ عاد إلى مكَّة بعد أن كبر وسعى في الاستيلاء على مكَّة، وفي ذلك الصَّدد قال تلك الأبيات. فمن المعقول أن يكون - إذ كان في الشَّام بلاد قضاعة - قد تعرَّف إلى "النَّبيط"، أو "النَّبيت"، أو "النَّبَت" - كما اقترحه السَّيِّد محبُّ الدِّين الخطيب -, وقد لا يبعد أن يكون بعض قضاعة حينئذٍ كان ينسبُ قضاعة إلى النَّبيت، ولكن هذا لم يشتهر، وإنَّما ذكر النَّسَّابون الخلاف في "قضاعة"، أعدنانيَّةٌ أم قحطانيَّةٌ؟ بقي أنَّ أكثر الروايات في نسب عدنان تنسبه إلى "نبت" أو "نابت" بن قيذر بن إسماعيل، وبعضها يُسقِط "نبتًا"، وبعضها يذكر أنَّ "النَّبيت" لقبٌ لـ "قيذر". وجاء في بعض الروايات: نبت بن إسماعيل، بإسقاط "قيذر". وقد دلَّ شعر قُصَيًّ أنَّ "النَّبيت" غير أولاد "قيذر"، ولا مانع أن يسمَّى "ابن قيذر" باسم عمَّه أو نحوه، فـ "عدنان" من ولد "قيذر"، ونبيط الشَّام - وكذا العراق فيما يظهر - من "نبايوت". كان "أرميا" قبل ميلاد عيسى بنحو ستَّة قرون، وبعد إبراهيم ببضع عشرة قرنًا، فقوله لليهود: "وأرسِلوا إلى قيدار، وانتبهوا جدًّا هل بدَّلت أُمَّةٌ آلهة وهي ليست آلهة" = إشارة إلى أنَّ بني قيدار ثابتون على الدَّين الحق، مع بُعد

عهدهم بإبراهيم وإسماعيل، ولم يكن فيهم بعدهم إلى ذاك التاريخ نبيٌّ، مع أنَّ اليهود غيَّروا وبدَّلوا مرارًا، رغمًا عن كثرة الأنبياء المتتابعين فيهم. هذا مع تبجُّح بني إسرائيل بأنَّهم أبناء الحُرَّة، وأنَّ بني إسماعيل أبناء أَمَةٍ. وفي الإصحاح الرَّابع والخمسين، من "سفر أشعياء" (¬1): "تَرَنَّمي أيَّتها العاقر التي لم تلد، أشيدي بالترنُّم أيتها التي لم تمخض؛ لأنَّ بني المستوحشة أكثر من بني ذات البعل ... لأنَّك تمتدِّين إلى اليمين وإلى اليسار، ويرث نسلك أُممًا، ويعمِّرُ مُدُنًا خَرِبة، لا تخافي لأنَّك لا تخزين ... بالبر تثبتين بعيدة عن الظُّلْم، فلا تخافين، وعن الارتعاب فلا يدنو منك ... كلُّ آلةٍ صورت ضِدَّك لا تنجح، وكلُّ لسانٍ يقوم عليك في القضاء تحكمين عليه ... ". ذكر صاحب "إظهار الحقِّ" (¬2) هذه العبارة، ثم قال: "المراد بالعاقر ... مكَّة المعظَّمة ... "، وأطال في ذلك. وحاصله - مع تعديلٍ - أنَّ الخطاب هنا لا يصلح أن يكون لمدينة القدس "أورشليم". أولاً: لأنَّها ليست بعاقر، بل قام بها عددٌ من الأنبياء، بخلاف مكَّة؛ فإنَّه لم يُولَد بها نبيٌّ حتى ذاك العهد، وإنَّما جاء إبراهيم بابنه إسماعيل طفلًا، ¬

_ (¬1) من الفقرات: (1، 3، 4، 14، 17) الطَّبعة الحديثة (ص 1615 - 1616) بنحو لفظه. وفيه من التَّغاير في اللَّفظ: في فقرة 1: "فإنَّ بني المهجورة أكثر من بني المتزوَّجة"، وفي فقرة 14: "فإنَّك لا تخافين، وعن الدَّمار فإنَّه لا يدنو منك"، وفي فقرة 17: "كل سلاحٍ صُنِع عليك لا ينجح، وكلُّ لسانٍ يقوم عليك في القضاء تردِّينه مجرمًا". (¬2) ج 2 ص 140، وفي الألفاظ اختلاف لأنَّه نقل من ترجمةٍ أخرى. [المؤلَّف]. وتُنظر الطبعة الجديدة (4/ 1160) بتحقيق: الملكاوي.

فأسكنه بها. ثانيًا: لأنَّ في العبارة مقابلة بين اثنتين، متوحَّشة - وفي "إظهار الحق": وحشيَّة (¬1) - وغيرها, ولم تكن أورشليم وحشيَّة، بخلاف مكَّة. وفي "إظهار الحق" (¬2): "وقع في حقِّ إسماعيل في وعد الله هاجر: هذا سيكون إنسانًا وحشيًّا" (¬3). ثالثًا: لأنَّ بقيَّة الأوصاف، من الأمن وتسلُّط النسل على أُمَمٍ، ودحر القاصد بالسُّوء = كلُّ هذا لا نصيب فيه لأورشليم، وهو حاصلٌ لمكَّة قطعًا. وكان أشعيا قريبًا من أرميا، فكما ذكر أرميا بني قيدار بن إسماعيل، وبيَّن فضلهم على بني إسرائيل فكذلك ذكر أشعيا مكَّة وبيَّن فضلها على أورشليم. وصاحب "إظهار الحق" حَمَل المتوحِّشة أو الوحشيَّة على هاجَر، وذات البعل على سارة (¬4). والأشبه بالسِّياق أنَّ الأُولى: مكة، والثانية: أورشليم. هذا وإنَّ بني قيدار استمرُّوا على الثَّبات على الدِّين الخالص بعد أرميا بضعة قرون؛ فقد تضافرت الأحاديث الصَّحيحة عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - بأنَّ أوَّل مَن غيَّر دين إبراهيم، ودعا إلى عبادة الأصنام - يعني: بمكَّة وحواليها - عمرو بن عامر بن لُحَيًّ. ¬

_ (¬1) وفي الطَّبعة الحديثة (ص 1615) فقرة 1: "المهجورة". (¬2) (4/ 1160) ت: الملكاوي. (¬3) وفي الطبعة الجديدة منه (في سفر التَّكوين 16/ 12، ص 91): "ويكون حمارًا وحشيًّا"! (¬4) المصدر السابق.

انظر تلك الأحاديث مجموعةً في "فتح الباري"، كتاب الأنبياء، باب قصَّة خزاعة، وفي "الإصابة"، ترجمة أكثم بن الجون (¬1). و"عمرو" هذا نُسِب في الحديث (¬2): "عمرو بن عامر بن لُحَيِّ بن قِمَّعة"، فعلى هذا هو: عمرو بن عامر بن لُحَيِّ بن قِمَّعة بن إلياس بن مُضر بن نِزار بن معد بن عدنان. لكن المشهور بين النسَّابين أنَّه: عمرو بن عامر بن ربيعة بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو - مزيقيا - بن عامر بن حارثة, ورفعوا نَسَبَهُ إلى الأزد، ثم إلى سَبَأ، ثم إلى قحطان. وحقَّق بعض النَّسَّابين (¬3) أنَّ لُحَيًّا وربيعة واحد، الأول لقب، والثاني اسم. وأنَّه: ابن قمعة، ولكن قمعة مات ولُحَيٌّ صبيٌّ، فتزوَّج أمَّه حارثة بن ثعلبة الأزدي، وتبنَّى حارثةُ لُحَيًّا فمن ثَمَّ نُسِب إليه، ونُسِب هو وولده إلى الأزد. ويظهر أنَّ هذا تحقيقٌ بالغٌ، وإن حكاه بعضهم بلفظ "زعم"! وقد ذكر أبو الفداء في "تاريخه" (¬4) قصَّة عمرو بن لُحَيٍّ، ثم قال: "ذكر ¬

_ (¬1) "الفتح" (6/ 548 - 549)، و"الإصابة" (1/ 107). (¬2) يُنظر هذا الحديث وغيره في: "الفتح" (6/ 548 - 549). (¬3) يُنظر: "الروض الأُنُف" للسُّهيلي (1/ 347). (¬4) ج 1 ص 80 [المؤلَّف]. ويُنظَر: طبعة دار المعارف (1/ 99 - 100). وكلام الشَّهْرستاني في كتابه "المِلَل والنَّحَل" (2/ 580)، وقد نصَّ فيه أنَّه سابور ذو الأكتاف، فقال: "وكان ذلك في أول ملك شابور [كذا!] ذي الأكتاف"، فلم يعد للاحتمال وجه.

الشَّهْرستاني أنَّ ذلك كان في أيَّام سابور، كان قبل الإسلام بنحو أربعمائة سنة، إن كان سابور بن أزدشير بن بابك. وأمَّا إن كان سابور ذا الأكتاف فهو أبعد من الصَّواب؛ لأنَّه بعد سابور الأول بمدَّة كثيرةٍ". وكان بين موت سابور بن أزدشير وبين مولد النَّبي - صلى الله عليه وسلم - على ما يُعلم من "تاريخ أبي الفداء" نفسه - ثلاثمائة واثنتان وعشرون (¬1) سنة. فبين موت سابور والبعثة النبويَّة ثلاثمائة واثنتان وستون سنةٍ (¬2). ويظهر أنَّ قصَّة عمرو بن لُحَيًّ كانت قبل موت سابور بقليل؛ فإنَّي تتبَّعتُ أنساب من يُنسب من الصَّحابة إلى عمرو بن لُحَيٍّ فوجدت أكثرهم لا تزيد الوسائط بينهم وبين عمرو على تسع، والقاعدة التاريخيَّة المبنيَّة على الأوسط: أنَّه في كلِّ قرنٍ ثلاثة آباء. وبمعنى ما في "تاريخ أبي الفداء" (¬3) وغيره أنَّ بين وفاة إبراهيم وبعثة ¬

_ (¬1) في الأصل: "اثنتين وعشرين" وفي السطر التالي: "اثنتين وستين" بالنصب، والوجه ما أثبت. (¬2) "المختصر في أخبار البشر" لأبي الفداء (100). (¬3) بيان هذا: أنَّ الذي ذكره أبو الفداء في "المختصر في أخبار البشر" (1/ 157) أنَّ بين الهجرة النَّبويَّة ومولد إبراهيم (2893) سنة على اختيار المؤرَّخين. وقد ذكر أيضًا قبل ذلك (1/ 28) أنَّ إبراهيم عليه الصلاة والسلام مات وله (175) سنة. فلو طرحنا (175) عامًا من (2893) عامًا فستكون المدَّه الزمنيَّة بين هجرة النَّبي - صلى الله عليه وسلم - ووفاة إبراهيم عليه الصلاة والسلام هي (2718) عامًا. وذكر أيضًا في (1/ 158) أنَّ بين بعثة النَّبي - صلى الله عليه وسلم - وهجرته (13) سنة، فلو طرحنا (13) =

محمدٍ عليهما الصَّلاة والسَّلام ألفين (¬1) وسبعمائة وخمس سنين، فلْنفرض أنَّ قِصَّة عمرو بن لُحَيًّ كانت قبل موت سابور بثلاث عشرة سنة؛ فيكون ذلك قبل البعثة بثلثمائة وخمس وسبعين سنة، فيكون بين ذلك وبين موت إبراهيم ألفان وثلثمائة وثلاثون سنة. بقي بنو قيدار هذه المدَّة بطولها على الحنيفيَّة الخالصة، هذا مع أنَّه لم يكن فيهم بعد إبراهيم نبيٌّ إلاَّ إسماعيل، الذي توفَّي بعد أبيه بنحو خمسين سنة. فأمَّا بنو إسرائيل فإنَّهم عبدوا العِجْل بعد إبراهيم بنحو ستمائة سنة، وقد كان فيهم من الأنبياء إسحاق، ثم يعقوب - وهو إسرائيل -, ثم يوسف، وعبدوا العِجْل وموسى وهارون بين أظهرهم، ولعلَّه قد كان منهم قبل موسى ما كان، ثم كان منهم بعده ما كان. فبِحَقًّ قيل لهم على لسان أرميا: "أرسلوا إلى قيدار، وانتبهوا جدًّا". وبِحَقًّ كانت الوحشيَّة، العاقر، المجفوَّة = خيرًا من الإنسيَّة، الولود، الموصولة، كما مرَّ عن "سفر أشعيا". ومن هنا يظهر - والله أعلم - أنَّ تخصيص بني إسرائيل دون بني إسماعيل بكثرة الأنبياء إنَّما كان لتمرُّد الأوَّلين، واستقامة الآخِرين، لا لفضيلةٍ في بني إسرائيل أنفسهم. على أنَّ الله تبارك وتعالى جعل العاقبة للمتَّقين. ¬

_ = عامًا من (2718) عامًا فسنصل إلى أنَّ المدَّة الزمنيَّة بين بعثة النَّبي - صلى الله عليه وسلم - وبين وفاة إبراهيم عليه الصلاة والسلام هي كما ذكرها المؤلَّف (2705) عامًا. (¬1) في الأصل: "ألفان" والوجه ما أثبت.

الرسالة الخامسة عقيدة العرب في وثنيتهم

الرسالة الخامسة عقيدة العرب في وثنيتهم

1 - توحيدهم

بسم الله الرحمن الرحيم ليس من الغريب أن تُجهل حقيقة تاريخية مضت عليها آلاف السنين، أو كان العلم بها خاصًّا بأفراد قليلين، أو لم تكن مما يهمّ حفظه ونقله. وإنَّما الغريب أن تُجهل حقيقة أكبر من ذلك، كعقيدة العرب في وثنيتها، فإنَّها خفيت منذ أزمان، حتى نسمع ابن جرير - كما سيأتي - ينعى على مجاهد أنَّه لم يعرفها، ومولدُ مجاهد قبل العشرين من الهجرة، فليس بينه وبين عصر الوثنيّة إلاَّ نحو عشرين سنة، وقد أدرك كثيرًا ممَّن أدركوها ودانوا بها. ثم هي ممَّا يهمُّ المسلمين معرفته؛ فإنَّ الإسلام إنَّما جاء لنقض المختلِّ منها وممَّا يشبهها، وكثير من الآيات القرآنية إنَّما هي في محاجَّة أهلها ومناقشتهم، فمن لم يعرفها يصعب عليه فهم تلك الآيات الكثيرة، بل ربَّما يكون الأمر الأعظم من ذلك. وأحبُّ أن ألقي في كلمتي هذه بعض الضوء على هذه الحقيقة، وإن لم أوفِّها حقّها: 1 - توحيدهم: كان العرب يعتقدون وجود الله عزَّ وجلَّ وربوبيته، وأنَّه الذي يرزق من السماء والأرض، والذي يملك السمع والأبصار، ويخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، ويدبِّر الأمر كلَّه, له الأرض وما فيها، رب السماوات السبع ورب العرش العظيم، بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يُجار عليه، خلق السماوات والأرض، وسخر الشمس والقمر، يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر له، ينزّل من السماء ماء فيحيي به الأرض، خلق السماوات والأرض وهو العزيز العليم.

شهد لهم بهذا وبأكثر منه القرآن نفسه، وكرَّر بعضه في عِدَّة آيات. وذلك يؤكِّد أنَّ هذا كان عقيدتهم كلهم. فمن ذلك قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [يونس: 31]. ومنه قوله سبحانه: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 84 - 89]. في آيات أخر (¬1). وذكر ابن جرير في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21، 22]: عن ابن عباسٍ قال: "نزل ذلك في الفريقين جميعًا من الكفار والمنافقين، وإنَّما عَنَى بقوله: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، أي: لا تشركوا بالله غيره من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر وأنتم تعلمون أنه لا ربّ لكم يرزقكم غيره" (¬2). ثم أخرج عن مجاهد: ¬

_ (¬1) العنكبوت (61 - 63)، الزمر (38)، الزخرف (9، 87) [المؤلف]. (¬2) "تفسير" ج 1 ص 126. [المؤلف].

" ... وأنتم تعلمون أنَّه لا ندّ له في التوراة والإنجيل". قال ابن جرير: "وأحْسَبُ الذي دعا مجاهدًا إلى هذا التأويل، وإضافة ذلك إلى أنَّه خطابٌ لأهل التوراة والإنجيل دون غيرهم = الظنُّ منه بالعرب أنَّها لم تكن تعلم أنَّ الله خالقها ورازقها، بجحودها وحدانية ربّها، وإشراكها معه في العبادة غيره ... ولكنّ الله جلَّ ثناؤه قد أخبر في كتابه أنَّها كانت تقرّ بوحدانيّته، غير أنَّها كانت تشرك في عبادته". ثم ذكر بعض الآيات، ثم قال: "فالذي هو أولى بتأويل قوله: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} إذْ كان ما كان عند العرب من العلم بوحدانية الله، وأنَّه مبتدع الخلق وخالقهم ورازقهم، نظير الذي كان من ذلك عند أهل الكتابين ... = أن يكون تأويله ما قال ابن عباس ... " (¬1). وممّا يناسب هذا أنَّ أحد شعرائهم أنشد في ملأ منهم: أَلَا كُلُّ شيءٍ ما خلا الله باطلُ فلم يُنكَر عليه. وقال رجل ممَّن كان قد أسلم: صَدَقتَ. فقال: وكُلُّ نعيمٍ لا مَحالةَ زائلُ فقال مسلم: كذبت، نعيم الجنة لا يزول. فوثبوا على ذلك المسلم وآذوه (¬2). ¬

_ (¬1) "تفسيره" ج 1 ص 126. [المؤلف]. (¬2) راجع "صحيح البخاري"، كتاب بدء الخلق - باب أيام الجاهلية، و"صحيح مسلم"، =

2 - جمعهم بين الإيمان والشرك

2 - جمعهم بين الإيمان والشرك: قال الله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106]. أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: "مِنْ إيمانهم إذا قيل لهم: من خلق السماء؟ ومن خلق الأرض؟ ومن خلق الجبال؟ قالوا: الله. وهم مشركون ... ". وعن عكرمة قال: "تسألهم: من خلقهم؟ ومن خلق السماوات والأرض؟ فيقولون: الله. فذلك إيمانهم بالله، وهم يعبدون غيره". ثم ذكر نحوه عن الشعبي، ومجاهد. وفي رواية عن مجاهد: "إيمانُهم: قولهم: اللهُ خالقنا، ويرزقنا، ويميتنا. فهذا إيمان مع شرك عبادتهم غيره". وعن قتادة قال: "هذا أنَّك لست تلقى أحدًا منهم إلَّا أنبأك أنَّ الله ربُّه، وهو الذي خلقه ورزقه؛ وهو مشركٌ في عبادته". ¬

_ = كتاب الشعر. [المؤلف]. تنبيه: مقدار الحديث عندهما حيث أشار المؤلف رحمه الله (البخاري 3841، ومسلم 2256) بلفظ: "أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل". وأما هذا الخبر كما ساقه المؤلف فليس فيهما، كما قد يوهم كلام المؤلف، بل رواه ابن إسحاق في مغازيه، كما في "سيرة ابن هشام" (2/ 215) و"البداية والنهاية" لابن كثير (4/ 227).

وأخرج نحوه عن عطاء. وأخرج عن ابن زيد قال: "ليس أحدٌ يعبد مع الله غيره إلاَّ وهو مؤمن بالله، ويعرف أنَّ الله ربُّه، وأنَّ الله خالقه ورازقه، وهو يشرك به ... فليس أحدٌ يشرك به إلاَّ وهو مؤمن به. أَلَا ترى كيف كانت العرب تلبِّي، تقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلاَّ شريك هو لك، تملكه وما ملك. المشركون كانوا يقولون ذلك" (¬1). أقول: وتلبيتهم بنحو ما ذكر ثابتة في "صحيح مسلم" (¬2). وممَّا يناسب هذا ما رُوِي أنَّ المشركين لمَّا أرادوا الخروج إلى بدر تعلَّقوا بأستار الكعبة، قالوا: اللَّهم انصر أعلى الجُندَيْن، وأهدى الفئتين، وكرم الحزبين. وفي روايةٍ: أنَّ أبا جهل قال حين التقى الجمعان: اللَّهم ربنا! دينُنا القديم، ودين محمد الحديث، فأيّ الدِّينَيْن كان أحب إليك وأرضى عندك فانصر أهله اليوم (¬3). ¬

_ (¬1) "تفسير ابن جرير" ج 13 ص 44 - 45. [المؤلف]. (¬2) "صحيح مسلم"، كتاب الحج، باب التلبية. [المؤلف]. حديث (1185). (¬3) "روح المعاني" ج 3 ص 219. [المؤلف]. والرواية الأولى ذكرها كثير من المفسِّرين من قول السُّدي والكلبي، كما في "تفسير البغوي" (3/ 342)، و"تفسير ابن كثير" (4/ 33) وغيرهما. وأما الرواية الثانية فقد أخرجها البيهقي في "الدلائل" (3/ 115) عن موسى بن عقبة في "مغازيه".

3 - كفرهم وشركهم

3 - كفرُهم وشركهم: نجد القرآن ينوَّع ما ينسبه إليهم إلى أنواع، مآلها إلى أمرين: الأول: قولهم: الملائكة بنات الله. الثاني: عبادتهم لغيره تعالى. فأمَّا الأول, فإنَّه يقرَّعهم تارة بنسبة الولد إلى الله, كقوله {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا ...} [مريم: 88 - 90]. وتارة بجعل ذلك الولد إناثًا، كقوله سبحانه: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف: 15 - 18]. وتارةً بقولهم: الملائكة إناث، كقوله: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} [الزخرف: 19]. إلى غير ذلك. ومن المهم معرفة السبب الباعث على قولهم: "الملائكة بنات الله"، والذي يلوح لي أمور: الأول: أنَّهم تلقوا ذلك ممَّن تلقوا منه عبادة الأصنام، وسيأتي. الثاني: أنَّ الذي دعاهم إلى عبادة الأصنام، على أنَّها عبادة للملائكة - كما يأتي - اخترع لهم هذا القول: أن الملائكة ولد الله؛ ليهوَّن عليهم الأمر، فيقولوا: إذا عبدنا ولده فكأنَّنا إنَّما عبدناه.

الثالث: أنَّهم سقط إليهم عن أهل الكتاب أنَّهم يطلقون قولهم: "أبناء الله" على بعض الموجودات، فإنَّها تطلق في التوراة وغيرها بمعنى: المختارين لله (¬1). الرَّابع: أن العرب كانوا يرون العاقر - وهو مَنْ لا يولد له - معيبًا ناقصًا. قال علقمة بن علاثة لعامر بن الطفيل، يفخر عليه: "إني لَوَلُود، وإنَّك لعاقر" (¬2). وقال عامر نفسه: لَبِئس الفتى إن كنتُ أعورَ عاقرًا ... جبانًا فلا أُغني لدى كلِّ مَشْهَد (¬3) فرأوا أنَّه ينبغي لهم أن ينزِّهوا ربهم عزَّ وجلَّ عن هذا العيب في زعمهم. فأمّا سبب اختيارهم له سبحانه الإناث فهو أنَّهم يعرفون من عادتهم أنَّ الولد الذكر يشارك أباه في ملكه، حتى لقد يتغلَّب عليه, وأمّا الأنثى فهي كَلٌّ على أبيها, ليس لها شيء من ملكه، حتى إنَّهم لا يورِّثونها منه، وهي عندهم مستضعفة لا شأن لها مع أبيها ألبتَّة. فاختاروا أن يقولوا: إنَّ لله عزَّ وجلَّ بنات؛ ليكونوا قد نزَّهوه عن العقر، بدون أن يلزمهم أن يشركوا معه في الملك والتدبير. ¬

_ (¬1) راجع: "إظهار الحق" ج 2 ص 9 - 12. [المؤلف]. (¬2) "خزانة الأدب" ج 3 ص 492. [المؤلف]. (¬3) كذا ورد البيت في "الزاهر" لابن الأنباري (1/ 597)، ولكن بلفظ: "فما أغنَى" والبيت من قصيدة رائيةٍ مفضلية، وروايته في "ديوانه" (ص 64)، و"المفضليات" (ص 173)، و"الشعر والشعراء" لابن قتيبة (1/ 334) وغيرها: فبئس الفتى إن كنت أعور عاقرًا ... جبانًا فما عذري لدى كل محضِر

وأمَّا جعلهم تلك البنات هي الملائكة فلأنَّه لم يبلغهم عن المِلَل السماوية أنَّ هناك أحياء غائبين غير الله عزَّ وجلَّ، إلاَّ الملائكة والجن، والجنُّ مُبْعَدون مذمومون، فلم يبق عندهم إلاَّ الملائكة، فقالوا: الملائكة بنات الله، تعالى الله عن قولهم علوًّا كبيرًا. ومع هذا فالذي يظهر أنَّهم لما أطلقوا هذه الكلمة "بنات الله" أرسلوها مجملة، بل لعلَّ أوائلهم إنَّما أطلقوها تجوُّزًا، بمعنى: المختارات عند الله، غير أنَّه لمَّا طال العهد صاروا يرون لها صلة أقرب من الاختيار، وإن لم يحدِّدوها، يدلُّك على ذلك قول الله عزَّ وجلَّ في الردّ عليهم: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} [الأنعام: 101]. ومثل هذه الحُجَّة إنَّما تُلْقَى إلى من يعترف أنَّه لم تكن له صاحبة. ويؤيّده ما رُوِي أنَّ أبا بكر لمَّا أسلم جاء طلحة وجماعة يخاصمونه، فقال أبو بكر: إلام تدعوني؟ قال: أدعوك إلى عبادة اللَّات والعُزَّى، وزعم أنهنّ بنات الله، فقال أبو بكر: فمن أُمُّهم؟ فسكت طلحة. فقال طلحة لأصحابه: أجيبوا الرجل، فسكت القوم؛ فأسلم طلحة (¬1). وسيأتي أنَّ الأصل في اللَّات والعُزَّى ومناة عندهم أنَّها أسماء للملائكة، ثم سمّوا بها تماثيلهم، التي هي الأصنام. فأمَّا ما يُحكى عنهم أنَّهم كانوا يقولون: أمَّهات الملائكة بنات سروات الجن (¬2) = فلم يثبت. ¬

_ (¬1) راجع: "أسباب النزول" للسيوطي في الآية (36) من سورة الزخرف. [المؤلف]. ذكره عن ابن أبي حاتم، وهو في "تفسيره" (10/ 3283). (¬2) أخرجه البخاري معلَّقًا في "صحيحه"، كتاب بدء الوحي، باب ذكر الجن وثوابهم =

فإن ثبت فعسى أن يكون اختراعًا من بعض متسرّعيهم، كابن الزبعرى، اخترعه بعد قصة طلحة. ولو كان قول جميعهم لكثر في القرآن تبكيتهم عليه، كما كثر في قولهم: "بنات الله". وأمَّا قول الله عزَّ وجلَّ: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} [الصافات: 158]؛ فقد جاء عن جماعة من السلف، منهم: مجاهد، وعكرمة، وأبو صالح، وقتادة = أنَّ المراد بالجِنَّة: الملائكة، واختاره الجُبَّائي (¬1). ويُبْعِدُ ما قيل: إنَّ الجِنَّة هم الجن، وأنَّ المراد [من] قولهم: "بنات الله": بناتُ سروات الجن = أنَّ النَّسب لا يكاد يُطلق على المصاهرة. قال الراغب: "النَّسَب والنِّسْبَة: اشتراك من جهة أحد الأبوين ... كالاشتراك بين الآباء والأبناء" (¬2). وفي الآية وجه آخر سيأتي. وأمَّا الأمر الثاني، وهو عبادتهم غير الله، فنجد القرآن يخاطبهم تارة على أنَّهم يعبدون الملائكة، كقوله: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف: 19، 20]. ¬

_ = وعقابهم، وفي كتاب التفسير، باب سورة الصافات، عن مجاهد رحمه الله من قوله. ووصله الحافظ ابن حجر في "التغليق" (3/ 514) و (4/ 292). وأخرجه البيهقي في "الشعب" (1/ 66) وآدم بن أبي إياس وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم كما في "الدر المنثور" للسيوطي (12/ 484) من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه. (¬1) راجع "روح المعاني" ج 7 ص 320. [المؤلف]. (¬2) "مفردات الراغب" مادة (ن س ب). [المؤلف]. ينظر (ص 490).

وتارة على أنَّهم يعبدون إناثًا فحسب، كقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} [الزمر: 38]. وتارة على أنَّهم يعبدون ما لا وجود له ألبتَّة، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [العنكبوت: 42]. وقال سبحانه: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18] وقولهم: "هؤلاء" إشارة إلى مذكورٍ في عبادتهم، كأنَّهم كانوا يعبدونها ويسمّونها بالأسماء التي اخترعوها، كما يأتي، ثم يقولون: "هؤلاء ... إلخ". فهم يَدْعُون - فيما يزعمون - بنات الله. ولا شيء هو بنتٌ لله. وتارة على أنَّهم يعبدون إناثًا من الشياطين، قال تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا} [النساء: 117]. وهذا إلزام لهم، كأنَّه قيل لهم: أنتم تعبدون إناثًا غيبيّةً، ولا تعرفون جنسًا غائبًا إلَّا الملائكة والجن، فأمَّا الملائكة فليسوا بإناثٍ، ولا فيهم إناثٌ، وإنَّما الإناث الغيبيَّة من الجن. ومن هنا يظهر معنى قوله: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} [الصافات: 158]، وهو الوجه الذي تقدم الوعدُ به. ثم قال تعالى: {وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا} [النساء: 117]، هذا - والله أعلم - إلزام آخر مبنيٌّ على الأول، وأدهى منه عليهم، كأنَّه قال: إذا

لزمهم أنَّهم يَدْعُون إناثًا من الشياطين، فدعاؤهم الله تعالى مدخول؛ لأنَّهم يصفون الذي يَدْعُونه بأنَّه أبو تلك الإناث، وربُّ العالمين ليس بأبيهنَّ، وإنَّما أبوهنَّ الشيطان، فإذا دعوا أباهنَّ فإنَّما يَدْعُون الشيطان. وهذا أحد الوجوه التي باعتبارها صحَّ أن يُطلَق أنَّ الكفار لم يكونوا يعبدون الله. وعليه قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون: 1 - 3]. ويؤكِّد الإلزام الأول أنَّ من عادة الشيطان التعرُّض للعبادات الباطلة، حتى تكون في الصورة له، كما جاء في الحديث في ذكر الشمس: "فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان، وحينئذٍ يسجد لها الكفار" (¬1). لمَّا علم الشيطان أنَّ من الناس من يسجد للشمس عند طلوعها صار إذا طلعت على قوم جاء حتى يقوم بينهم وبينها، يمنِّي نفسه أنَّهم إنِّما سجدوا له، قائلًا: أنا الذي أمرتهم أن يسجدوا للشمس، فاطاعوني، فأنا أولى بسجودهم من الشمس. ويوضّح ذلك: ما أخرجه النسائي (¬2) وابن مردويه عن أبي الطفيل قال: لمَّا فتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة بعث خالد بن الوليد إلى نخلة، وكانت بها العُزَّى، فأتاها خالد وكانت ثلاث سَمُرات، فقطع السَّمُرات وهدم البيت الذي كان عليها، ثم أتى النّبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره, فقال: "ارجع فإنَّك لم تصنع شيئًا"، ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" [832]، كتاب الصلاة, باب إسلام عمرو بن عبسة. [المؤلف]. وأخرجه البخاري (3272)، من حديث ابن عمر رضي الله عنه، ومسلم (612)، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، لكن دون ذكر سجود الكفار لها. (¬2) "السنن الكبرى" للنسائي (6/ 474).

فرجع خالد، فلمَّا أبْصَرَتْه السَّدَنة مضوا وهم يقولون: يا عُزَّى! يا عُزّى! فأتاها فإذا امرأة ناشرة شعرها، تَحْثُو على رأسها، فجعل يضربها بالسيف حتى قتلها، ثم رجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فقال عليه الصلاة والسلام: "تلك العُزَّى". وفي رواية: فقطعها، فخرجت منها شيطانة، ناشرة شعرها ... (¬1). فالشياطين لمَّا سوَّلوا للإنس أن يقولوا: إن لله بنتًا اسمها "العُزَّى"، ويتَّخذوا لها وثنًا ويعبدوه = وكَّلَ الشياطين بذلك الوثن أنثى منهم، قائلين: هذه العُزَّى؛ لأنَّها أنثى غيبية، فأمَّا الملائكة فليسوا بإناث. وتارة على أنَّهم يعبدون الجن، قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ: 40 - 41]. أكثر أهل العلم يفسِّرون عبادة الشياطين بطاعتهم. والتحقيق أنَّها طاعة ¬

_ (¬1) "روح المعاني" ج 8 ص 256 - 257. [المؤلف]. والحديث أخرجه أبو يعلى (2/ 196)، والطبراني كما في "مجمع الزوائد" (6/ 176) ومن طريقهما الضياء في "المختارة" (8/ 219 - 220)، من طريق علي بن المنذر عن ابن فضيل عن الوليد بن جميع عن أبي الطفيل به. قال الهيثمي في "المجمع" (6/ 176): "وفيه يحيى [كذا! والصواب: علي] بن المنذر، وهو ضعيف". قلت: علي بن المنذر هو الأودي، وثَّقه النسائي، وقال أبو حاتم: "محلُّه الصدق"، وقال ابن أبي حاتم وابن نمير: "ثقة صدوق"، يُنظَر: "تهذيب الكمال" للمزي (21/ 145). فلا أقل من أن يكون صدوقًا.

خاصة، وهي طاعتهم في شرع الدين، وذلك أنَّ شرع الدِّين حقٌّ للرب عزَّ وجلَّ، فمَنَ شرع دينًا من عند نفسه فقد ادَّعى الربوبية، ومن أطاعه في ذلك واتخذ ما أُمِر به دينًا فقد عَبَدَه. فالشيطان يشرع للناس دينًا من عند نفسه، فمن أطاعه في ذلك واتخذ ما يوسوس له به دينًا فقد عبده. وتحقيق هذا له موضع آخر غير هذه العجالة. والآية تتناول هذا الضَّرب من العبادة، وهو الطاعة المخصوصة، وتتناول الدعاء ونحوه، بناء على الإلزام المتقدِّم في دعاء الإناث. وتارةً على أنَّهم يعبدون رؤساءَهم. قال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} إلى أن قال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} , إلى أن قال: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ} [البقرة: 163 - 166]. حكى ابن جرير عن قومٍ أنَّهم قالوا: "الأنداد في هذا الموضع إنَّما هم سادتهم الذين كانوا يطيعونهم في معصية الله". ثم أخرج عن السُّدي قال: "الأنداد من الرجال يطيعونهم كما يطيعون الله، إذا أمروهم أطاعوهم وعصوا الله" (¬1). وقوله: "كما يطيعون الله" أي: في شرع الدين، على ما مرَّ. وتارة على أنَّهم يعبدون أهواءهم، قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23] ¬

_ (¬1) "تفسير ابن جرير" ج 2 ص 38 - 39. [المؤلف].

4 - كيف دخلت الأوثان الحجاز؟

قال أبو السعود: "أي: أرأيت من جعل هواه إلهًا لنفسه من غير أن يلاحظه، وبنى عليه أمر دينه معرضًا عن استماع الحجة الباهرة" (¬1). قال الآلوسي: "وقد أخرج الطبراني وأبو نعيم في "الحلية" (¬2) عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما تحت أديم السماء من إلهٍ يُعبَد من دون الله أعظم عند الله عزَّ وجلَّ من هوى متَّبع" (¬3). وتارةً على أنَّهم يعبدون الأصنام والأوثان، قال تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج: 30]. 4 - كيف دخلت الأوثان الحجاز؟ صحَّ عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه ذكر عمرو بن لُحَيًّ، فقال: "هو أول من حَمَل العرب على عبادة الأصنام". قال الحاكم: "صحيح"، وأقرَّه الذهبي (¬4). وفي رواية: "هو أول من سيّب السوائب، وغيَّر دين إبراهيم عليه السلام". ¬

_ (¬1) "تفسير أبي السعود" ج 2 ص 250. [المؤلف]. (¬2) "المعجم الكبير" (8/ 103)، و"حلية الأولياء" (6/ 118). ورواه غيرهما، وتدور أسانيدهم على الضعفاء والمتروكين. وقد حكم عليه بالوضع جماعة، كابن الجوزي، والسيوطي، والشوكاني، والألباني. يُنظر: "الموضوعات" لابن الجوزي (3/ 376)، و"اللآلئ المصنوعة" للسيوطي (2/ 322)، و"الفوائد المجموعة" للشوكاني (715)، و"تنزيه الشريعة" لابن عراق (2/ 303)، و"ظلال الجنة" للألباني (3). (¬3) "روح المعاني" ج 6 ص 155. [المؤلف]. (¬4) "المستدرك" ج 4 ص 605. [المؤلف].

قال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم"، وأقرَّه الذهبي (¬1). وفي رواية: "أول من غيَّر عهد إبراهيم ... ونصب الأوثان". نقله في "الإصابة" عن "مسند أحمد"، وذكر له شواهد (¬2). وأخرجه ابن إسحاق في "السيرة"، فقال ابن هشام: "وحدثني بعض أهل العلم أنَّ عمرو بن لُحَيًّ خرج من مكة إلى الشام في بعض أموره، فلما قدم (مآب) من أرض (البلقاء)، وهم يومئذ العماليق، رآهم يعبدون الأصنام، فقال لهم: ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون؟ قالوا: هذه الأصنام نعبدها فنَسْتَمْطِرها فتُمْطِرنا، ونَسْتَنْصِرها فتنصرنا، فقال لهم: أفلا تعطوني منها صنمًا فأسير به إلى أرض العرب، فيعبدونه؟ فأعطوه صنمًا يقال له: "هُبَل"، فقدم به مكة وأمر الناس بعبادته وتعظيمه" (¬3) ¬

_ (¬1) المصدر السابق. [المؤلف]. (¬2) "الإصابة" ترجمة أكثم بن الجون. [المؤلف]. قلت: الذي في الإصابة (1/ 61) "أكثم بن الجون" أو "ابن أبي الجون" في الموضع الذي أحال عليه المؤلف رحمه الله، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: " ... قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عُرِضت عليَّ النار فرأيت فيها عمرو بن لُحي ... وأشبه مَن رأيت به أكثم بن أبي الجون ... ". ولم أقف على الحديث من رواية الإمام أحمد في "المسند" ولا غيره بهذا السياق. ولكن في "المسند" (3/ 352) وفي (5/ 137) من حديث جابر رضي الله عنه "بينما نحن صفوف مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... - وفيه - وأشبه مَن رأيت به معبد بن أكثم الكعبي ... ". وهي الرواية التي أشار إليها الحافظ بعد ذلك وفيه: "معبد بن أكثم"، وقال: "ويحتمل التعدُّد". (¬3) "سيرة ابن هشام" بهامش "الروض الأنف" ج 1 ص 62. [المؤلف].

5 - المنشأ في نصب الأصنام

وفي "روح المعاني" عن "تاريخ ابن الوردي": "أنَّ عمرو بن لُحَيٍّ مرَّ بقوم بالشام، فرآهم يعبدون الأصنام، فسألهم، فقالوا: هذه أرباب نتَّخذها على شكل الهياكل العُلوية، نَسْتَنْصِرها ونستسقي، فتَبِعَهم وأتى بصنم معه إلى الحجاز، وسوَّل للعرب، فتبعوه" (¬1). 5 - المنشأ في نصب الأصنام: في "شرح المواقف"، بعد أن ذكر عُبَّاد الأوثان: "فإنَّهم لا يقولون بوجود إلهين واجبَي الوجود، ولا يصفون الأوثان بصفات إلهيعة، وإن أطلقوا عليها اسم الآلهة، بل اتخذوها على أنَّها تماثيل الأنبياء، أو الزُّهاد، أو الملائكة" (¬2). وفي "شرح المقاصد" عن الإمام الرازي: أنَّ لأهل الأوثان تأويلات، قال: "الأول: أنَّها صور أرواحٍ تدبِّرهم .... الرابع: أنَّهم اعتقدوا أنَّ الله جسم على أحسن ما يكون من الصورة، وكذا الملائكة، فاتخذوا صورًا ... وعبدوها لذلك" (¬3). وفي "الملل والنحل" للشَّهرستاني (¬4)، في الكلام على أصحاب الأشخاص، من الصَّابئة وغيرها كلام كثير يوافق ما ذكر. إذا تقرَّر هذا، وقد سبق أنَّ العرب كانوا يعبدون الملائكة = فأصنامهم إنَّما هي تماثيل أو تذاكير للملائكة. ¬

_ (¬1) "روح المعاني" ج 7 ص 150. [المؤلف]. وهو في "تاريخ ابن الوردي" (1/ 64). (¬2) "شرح المواقف" ج 3 ص 32 وما بعدها. [المؤلف]. (¬3) "شرح المقاصد" ج 2 ص 64 - 65. [المؤلف]. (¬4) "الملل والنحل" (2/ 308) وما بعدها.

6 - ما هي اللات والعزى ومناة؟

وفي "حواشي الشيخ زاده على البيضاوي" في أثناء كلام في المشركين: "فإنَّهم يزعمون أنَّ الأوثان صور الملائكة" (¬1). ويؤكِّد ذلك: تسميتهم أكثر أصنامهم بأسماء مؤنَّثة، كاللَّات والعُزَّى ومناة؛ لأنَّهم يزعمون أنَّ الملائكة إناث، كما سلف. والعادة في الأصنام أن يطلق على الصنم اسم الشخص الذي جُعِل تمثالًا أو تذكارًا له. وفي "صحيح البخاري" في تفسير قول الله عزَّ وجلَّ: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23] عن ابن عباس قال: "أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلمَّا هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا في مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابًا، وسمُّوها بأسمائهم، ففعلوا ... " (¬2). 6 - ما هي اللَّات والعُزَّى ومناة؟ قال الله عزَّ وجلَّ: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} إلى أن قال: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى} [النجم: 19 - 27]. ¬

_ (¬1) "حواشي الشيخ زاده" ج 3 ص 275. [المؤلف]. (¬2) "صحيح البخاري"، تفسير سورة نوح. [المؤلف]. حديث (4920).

قد تكلَّم أهلُ اللُّغة والعربية على "أرأيت كذا" في نحو قول الله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة: 63]. وتحرير الكلام في ذلك: أنَّ نحو {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} يُؤتى بها مقدِّمة للاستفهام الثاني، لِيُحضِر المخاطَبُ الحَرْثَ في ذهنه، ويترقَّب استفهامًا مهمًّا يتعلَّق بالحَرْث؛ فلا بد أن يكون الاستفهام الثاني يتعلَّق بمفعول (رأيت)، وعلى ذلك جاء القرآن، قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} إلى أن قال: {(62) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} إلى أن قال: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} إلى أن قال: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ} [الواقعة: 58 - 72]. إذن فقوله في آيات النجم: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى} [النجم: 21] لا بد أن يكون متعلقًا باللَّات والعُزَّى ومناة. وقد مشى ابن جرير على هذا، فقال: "سمَّى المشركون أوثانهم بأسماء الله تعالى ذكره وتقدَّست أسماؤه، فقالوا من (الله): اللات، ومن (العزيز): العُزَّى، وزعموا أنَّهن بنات الله، تعالى الله عمَّا يقولون علوًّا كبيرًا، فقال جل ثناؤه لهم: أفرأيتم أيها الزَّاعمون أنَّ اللَّات والعُزَّى ومناة بنات الله، ألكم الذكر ... " (¬1). أقول: لعمر الله! لقد جرى على القاعدة التي سبق تحريرها, ولقد صدق ¬

_ (¬1) "تفسير ابن جرير" ج 27 ص 31 - 32. [المؤلف].

أنَّ المشركين كانوا يطلقون (اللَّات)، و (العُزَّى)، و (مناة) على تلك الأوثان، ولقد صدق أنَّهم كانوا يقولون: اللَّات والعُزَّى ومناة بناتُ الله. ولكن الشأن في المراد باللَّات والعُزَّى ومناة في الآيات، فإن كانت هي تلك الجمادات فلم يكونوا يقولون: إنَّها بنات الله، ولو قالوا ذلك لكانوا مجانين ألبتة، لا يستحقُّون أن يخاطَبوا ولا يُرسَل إليهم رسول، أو لو قالوا ذلك لكثر تبكيتهم في القرآن أكثر من تبكيتهم على قولهم: الملائكة بنات الله. ولو كان المراد ذلك كان حقُّ الكلام أن يُقال: ألكم الأحياء وله الجمادات؟ أو نحو ذلك. مع أنَّه لا يمكن أنَّ يعتقدوا أن الجمادات إناث على الحقيقة. فغاية الأمر أن يكونوا أنَّثوا اللَّفظ، ولا بدع في تسمية ما ينسب إلى الله تعالى باسم مؤنَّث، كالكعبة. وفوق ذلك، فسياق الآيات يخالف هذا المعنى. وأمَّا سائر المفسِّرين فاضطرب كلامهم اضطرابًا شديدًا؛ لعلمهم أنَّهم لم يكونوا يزعمون أنَّ تلك الجمادات بنات الله. وأقرب ما رأيته: ما أخرجه ابن جرير عن ابن زيد، قال: " جعلوا لله بناتٍ، وجعلوا الملائكة لله بنات، وعبدوهم. وقرأ: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ} الآية [الزخرف: 16، 17]. وقرأ: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ} الآية [النحل: 57]. وقرأ: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} [النجم: 23] " (¬1). ¬

_ (¬1) "تفسير ابن جرير" ج 27 ص 33. [المؤلف].

فقد أرشدك ابن زيد إلى أن هذه الآيات كنظائرها الكثيرة في القرآن؛ إنَّما هي في قولهم: لله بنات، وقولهم: الملائكة بنات الله. وإيضاح ذلك: أنَّه كما سبق عن ابن عباسٍ أنَّ قوم نوح جعلوا تماثيل لموتاهم، وسمّوها بأسماء أولئك الموتى، وكما جَرَت العادة إلى الآن أنَّه يطلق على التمثال اسم من جُعِلَ تمثالًا له = فكذلك صَنَع العرب، اخترعوا أسماء لبعض الإناث الخياليَّات التي زعموا أنَّها بنات الله، وأنَّها الملائكة، واشتقُّوها - كما قال ابن جرير - من أسماء الله تعالى، فأصل اللات: "اللاهة"، كما ذكره ابن جرير أيضًا. وبيَّنه أهل اللُّغة بأَّنَّه حُذِفت منه الهاء الأصلية، كما قالوا: شاة، وأصلها: "شاهة"، بدليل جمعها على: "شياه" = فقالوا: "اللَّات". ثم منهم من يقف عليها بالهاء - كما هو الأصل في هاء التأنيث -, كما يقال: (شاه)، والأكثرون يقفون عليها بالتاء، كأنَّه حَذَرًا من اشتباه (اللَّات) لو وُقِف عليها بالهاء بالاسم الكريم. فتفسير الآيات على هذا: أرأيتم تلك الإناث الخياليات التي تزعمونها بنات الله، ألكم الذكر، وله هي؟! وإنَّما قال: (الأنثى)، فوضع الظاهر موضع الضمير للتَّنصيص على الشَّناعة. ثم قال تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا} أي: لا وجود لها ألبتَّة، وإنَّما يوجد أسماؤها فقط، كما يقول أحدنا: ما العنقاء إلاَّ اسمٌ. وهذا لا يتأتّى في الأصنام؛ لأنَّها موجودةٌ بذواتها. ثم قدّر أنهم سيقولون: "هي الملائكة، والملائكة موجودون"؛ فقال: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ ...} الآية. أي: والملائكة أنفسهم لا يستحقُّون العبادة، لأنَّهم

7 - ما الذي كانوا يرجونه من الملائكة؟

لا يضرُّون ولا ينفعون، وأنتم تعترفون بذلك، إلاَّ أنَّكم تقولون: إنَّهم يشفعون لكم، فاعلموا أنَّ شفاعتهم لا تغني شيئًا ما لم يأذن الله ويرضى، وكيف يأذن لهم ويرضى في الشفاعة لكم وأنتم تشركون به؟! ثم قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى} فكاد ينصُّ نصًّا قاطعًا على أنَّ (اللَّات) و (العُزَّى) و (مناة) جعلها المشركون أسماء للملائكة، مع زعم أنَّهم بنات الله. وأنت إذا سمعت من يقول: (إنَّ فلانًا يسمِّي الأمراء أسماء الإناث) لم تفهم منه إلاَّ أنَّه يسمِّي أحدهم: (هالة)، وآخر (سُعدى)، والثالث (جُمانة)، ونحو ذلك. فالعرب كغيرهم من الأمم إنَّما اتَّخذوا الأصنام تماثيل أو تذاكير للملائكة، مع زعمهم أنَّهم إناثٌ هنَّ بنات الله، وعظَّموها على نيَّة التَّعظيم لمن جُعِلت تمثالًا أو تذكارًا له، وطمعوا أنَّ تعظيمهم لها يقرِّبهم من الملائكة، فيشفعوا لهم، كما جرت العادة أنَّك إذا رأيت صورة إنسان فاحترمتها فبلغه ذلك شكره لك. وكذلك إذا خَصصْت شيئًا على أنَّه تذكار له، ثم احترمته. 7 - ما الذي كانوا يرجونه من الملائكة؟ قد تقدَّم الكلام على توحيدهم، وعلى تحاشيهم أن يقولوا: لله ولد ذكر؛ كيلا يلزمهم الإشراك في الملك والتدبير. وعرفتَ من ذلك أنَّهم لا يثبتون للملائكة شيئًا من التصرُّف، وهذا بخلاف أكثر الأمم التي عَبَدَت الملائكة, كاليونان والمصريين القدماء، فإنَّهم يثبتون التصرُّف للملائكة، حتى يذكروا في أساطيرهم أنَّ الآلهة تتحارب وتتغالب!

وعلى هؤلاء - ومن يلزمه مثل قولهم - أقام اللهُ تعالى البرهان بقوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]. فأمَّا العرب فكانوا يقولون ما قصّ الله تعالى عنهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] , أي: بالشفاعة {وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18]. ولهذا كَثُر في القرآن مناقشتهم في الشفاعة، وكانوا مع ذلك مرتابين في هذه الشفاعة، حتى إذا وقعوا في شِدَّة نسوها وفزعوا إلى دعاء الله وحده، قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُون} [النحل: 53 - 54]، وقال سبحانه: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} [لقمان: 32] , وقال عزَّ وجلَّ: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا} [الإسراء: 67]. هذا ما تيسَّر لي تعليقه في هذه الكلمة، وعسى أن يكون فيه ما يحسُن موقعه عند أهل العلم، ويبعثهم على استقصاء النَّظر في هذا الموضوع وما يتَّصل به. والحمد لله أولًا وآخرًا، وصلَّى الله على خاتم أنبيائه محمد وآله وصحبه.

الرسالة السادسة الرد على حسن الضالعي

الرسالة السادسة الردّ على حسن الضَّالعي

بسم الله الرحمن الرحيم [ص 3] (¬1) [الحمد لله الذي لم يتَّخذ ولدًا, ولم يكن، له شريكٌ في الملك، ولم يكن له وليٌّ من الذُّلِّ وكبِّره تكبيرًا، [وصلَّى الله على نبينا محمَّد]، الذي أنزلت عليه: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} [الإسراء: 80]، وعلى آله وأصحابه، [ومن تبعهم بإحسان، وسلَّم] تسليمَّا كثيرًا، أمَّا بعد. فإنَّي عند وجودي بعَدَن، أواخر سنة 1341 هـ[بلغني عن رجلٍ يُدعَى] السيَّد حسن باهارون كان مقيمًا بالضَّالع ثم بيافع، يدعو الناس [إلى بعض العقائد الباطنية الحلوليَّة]، سيأتي ذكر شيءٍ منها إن شاء الله. وإنَّه قد اتَّبعه خَلْقٌ كثيرٌ، وألَّف جماعةٌ من العلماء في الإنكار [على أقواله وضلاله]. [ومنهم] شيخنا، إمام الشريعة والحقيقة في وقته، الشيخ العلَّامة سالم بن عبد الرحمن باصهي، ثم السَّيِّد [...]، ثمَّ السيِّد [... (¬2)]. وسألني بعض الإخوان أن أحذو حذوهم، بكتابة رسالةٍ في هذه القضيَّة، فاعتذرت بقصوري، ثمَّ تذكَّرتُ قول صاحب الهمزيَّة (¬3): ¬

_ (¬1) الترقيم من أصل مصوَّرة الرسالة في مكتبة الحرم المكِّي الشريف، وما حصل من تقديم وتأخير في أوراقها عند إعدادها للطبع والتحقيق من تصرُّفي حسب ما يقتضيه ترتيبها الصحيح. (¬2) بيَّض المؤلف له وللذي قبله في الأصل. (¬3) هو البوصيري، والبيت في "ديوانه" (ص 27)، والهمزيَّة قصيدة مَدَح بها النَّبي - صلى الله عليه وسلم -.

وائْتِ بالمُسْتَطاعِ مِن عَمَلِ الْبِرْ ... ـرِ فقد تُسقِطُ الثِّمارَ الإتاءُ مع أنَّي تصفَّحتُ بعض تلك الرسائل، فرأيتها منسوجةً بالحِدَّة والغضب، وذلك وإن كان محمودًا في الشَّرع لكن الأَولى في خطاب الجُهَّال الرِّفق واللِّين، والسَّعي في إيضاح الحقائق باللُّطف والحِكمة, لأنَّ الجهل داءٌ عَيَاءٌ، لا يتيسَّر له دواءٌ إلاَّ إذا وُجِد طبيبٌ حاذقٌ. وليس القصد من التَّأليف في هذه القضيَّة مجرَّد إقامة الحُجَّة والخروج من عهدة السُّكوت، بل القصد مع ذلك إنقاذ هؤلاء المساكين من تخبُّطات الشياطين. وقد عزمتُ - مستعينًا بالله تعالى - على كتابة أوراق في هذا الصَّدد، تنحصر في مقدِّمة وفصول. المقدِّمة: فيما بلغني عن هذا الرجل وأصحابه، بأسانيدها. [ص 5] الفصل الأوَّل: في وحدة الوجود التي يلهج بها المتصوِّفة، وبيان عقائد أئمَّة الصوفيَّة. الفصل الثاني: في معنى الوحدة عند المتطرِّفين، وما يشبه ذلك من مقالات الفرق، والأدلَّة المناقضة لذلك من العقل والنقل. الفصل الثالث: في حكم من دعا إلى ذلك، أو اعتقد، أو شكَّ، أو سكت. الخاتمة - ختم الله لنا بخير الدنيا والآخرة -: في أحاديث واردة في التَّحذير من الدَّجاجلة، أعاذنا الله والمسلمين من شرِّهم.

المقدمة

المقدِّمة سمعتُ شيخنا إمام الحقِّ والحقيقة، السيِّد محمد بن علي بن إدريس قدَّس الله سِرَّه مرارًا يخبر عن هذا الرجل المدعو السَّيِّد حسن الضَّالعي أنَّه كان في صَبْيَا يتظاهر بالحلول والاتَّحاد، بحيث يرى الشيء كالرجل والبقرة والشاة والدَّابة، فيشير إليه قائلاً: "هذا الله"! وقال شيخنا - قُدِّس سرُّه -: وألَّف شيخنا الإمام سالم بن عبد الرحمن باصهي رحمه الله رسالةً في الردِّ عليه سمَّاها "كشف الغطا". وقد ذكر سيَّدنا - قُدِّس سرُّه - هذا الرجل في مؤلَّفٍ له، وحكى عنه نحو ما مرَّ، إلى أن قال: "والعجب أنَّ هذا الرجل كان يظنُّ أنَّ شيخنا - قُدِّس سرُّه - لا يعرف شيئًا من علوم القوم، ولم يَدْرِ أنَّه إمام التوحيد الخاص في زمانه. وفي أوائل 1338 هـ وصل إلى جِيزان سيّدٌ من أهل الضَّالع، قافلًا من الحج، وأخبرني عن هذا الرجل بمثل ما مرَّ سابقًا، وأنَّه يتَّخذ له تلاميذ ويسوسهم، حتى إذا وثق بأحدهم أخذ عليه المواثيق المغلَّظة، ثم يقول له: اعبد نفسك". وحكى عنه غير ذلك. وأخبرت شيخنا - قُدِّس سِرُّه - حينئذٍ، فذكر لي مثل ما مرَّ سابقًا، وزاد أنَّه وصل إليه كتابٌ من الرجل المذكور قائلًا: "إنَّ والدكم هو شيخ فتحي، يريد والد شيخنا الإمام علي بن محمد بن أحمد بن إدريس رضي الله عنهم". وأنكر شيخنا - قُدِّس سِرُّه - ذلك.

[ص 8] وأخبرني السَّيِّد العلَّامة محمد بن حيدر النُّعمي (¬1)، والشيخ الفاضل محمد إبراهيم صديق [...] وغيرهما أنَّ الرجل المذكور عند وجوده بصَبْيَا كان يشير إلى أي شيءٍ يراه قائلًا: "هذا الله"! وههنا في عَدَن وقفتُ على كرَّاسةٍ منسوبةٍ إلى رجلٍ يُدعَى صالح الطيَّار، ذكر فيها سنده عن هذا الرجل عن الشيخ حسَّان عن الفاسي، إلى آخر ما ذكر. فذكرت ما مرَّ من كتابته إلى شيخنا - قُدِّس سِرُّه - أنَّ والده هو شيخُ فتْحِهِ، وما بينه وبين هذا من التنافي، فكأنَّه اعتمد قول عمران بن حِطَّان (¬2): يومًا يمانٍ إذا لاقَيْتُ ذا يمَنٍ ... وإن لقِيتُ معدِّيًّا فعَدْناني كأنَّه عندما كتب إلى شيخنا - قُدَّس سِرُّه - أراد التقرُّب إليه بمشيخة والده، ولمَّا كان بهذه الجهة القريبة من جهة الشيخ حسَّان المعتقدَة فيه = تقرَّبَ إليهم بذلك. وقد لقيتُ هنا بعدن بعض المعتقدين فيه وأخبر أنه يذكر أنَّ شيخنا الإمام - قُدَّس سِرُّه - من تلامذته، وهذا عجيب؛ فإنَّي بحمد الله تعالى ¬

_ (¬1) في "الأعلام" للزركلي (6/ 112): "محمَّد بن حيدر النُّعمي التَّهامي الحسني، مؤرَّخ، من قضاة الزَّيديَّة باليمن، ولي القضاء بالحُدَيدة في عهد محمد بن علي الإدريسي، ثم ولَّاه الإمام يحيى حميد الدين قضاء اللحية. ونشبت فتنة في جازان وما جاورها، فاتُّهِم بالاشتراك فيها، فقُتِل في مدينة صَبْيَا". (¬2) البيت منسوبٌ إليه مع غيره في: "الكامل" للمبرّد (3/ 1086)، وغيره. ويُنظَر: "شعر الخوارج" لإحسان عباس (ص 162).

لازمت شيخنا نحو ست سنين لا يكاد يخلو قومٌ منها [أن أذاكره] في العلوم النافعة، وهو ينكر هذا [...]. ومع هذا فقد ذكر لي بعض الإخوان أنَّ هذا السَّند الذي حكاه الطيَّار لا يطابق سند الشيخ حسَّان. وقد تصفَّحتُ الكرَّاسة المذكورة فوجدتُه بناها على تأويل بعض آيات وأحاديث، يشوِّه وجوهها ويغيِّر ألفاظها! منها قوله: "وقال - صلى الله عليه وسلم - لسيِّدنا جبريل عليه السَّلام: "يا أخي جبريل، أتدري كم لك في العمر"؟ قال: لا أعلم، ولكن يا سيِّدي إنَّي أشوف نجم غرار، كان يظهر بعد كلِّ سبعين ألف سنة مرَّةً واحدةً، وقد شُفْتُهُ سبعين ألف مرَّةٍ. قال له - صلى الله عليه وسلم -: "أنا ذلك النجم الغرار". قال: صدقت، وبالحق نطقت" (¬1)! فأنت ترى هذا الحديث - على علَّاته - كيف مسَخَه وشوَّهه. وقال: "وقال - صلى الله عليه وسلم -: "علماء أمَّتي كأنبياء بني إسرائيل" (¬2). قال: إذْ اسْمُ النبوَّة ممنوعٌ بعده - صلى الله عليه وسلم -. ويُفهم من هذا أنَّه لم يمنع إلاَّ الاسم فقط! وقال: "وكذلك أهل السلسلة المباركة اتَّصلوا بسِرِّه، من شيخ في شيخ، ¬

_ (¬1) لم أقف عليه، وهو مشهور في كتب متأخري الصوفية, ويوردونه تتمَّة لحديث النور المحمدي، وهو: "أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر"! وقد حكم عبد الله بن الصِّدِّيق الغُمَاري في كتابه "مرشد الحائر لبيان وضع حديث جابر" عليها بالوضع، وقال إنَّها موجودة في بعض كتب المولد، وقال: "هذا كذبٌ قبيح، قبَّح الله من وضعه وافتراه". (¬2) نقل السخاوي في "المقاصد الحسنة" (ص 459) عن ابن حجر والدّميري والزَّركشي أنَّه لا أصل له، ثم قال: "وزاد بعضهم: ولا يُعرَف في كتابٍ معتبرٍ". ويُنظَر: "الضعيفة" للألباني (466).

إلى عصرنا هذا، في معرفة العلوم الإلهيَّة، الذي قال فيها - صلى الله عليه وسلم - "كلُّكم هلكى إلاَّ أنا، أنا وما هؤلاء عليه" (¬1). يعني: كبار الصحابة. وقال - صلى الله عليه وسلم -[ص7]: "ما فضلكم أبو بكرٍ بكثرة الصلاة والعبادة، وإنَّما لشيءٍ وضعه الله في صدره" (¬2). وهي المعرفة الحقيقيَّة بالله الواحد الأحد، حتى عرف نفسه أنَّه هو عين الحقِّ المبين؛ لصِحَّة الحديث عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَن عرف نفسَه عرف ربَّه" (¬3). أي: معرفة النفس بانتفاء البشريَّة وظهور الأحديَّة تُعْدِمُنا الأسماء والصفات و .. و .. و .. ؛ لأنَّ الأحديَّة جمع، وجمع الجمع، ولا تقبل أسماء ولا صفات. أو هي ذات [صرفة] مجرَّدة، ما تقبل إلاَّ اسم الله، وإلَّا فحكمها حكم العموم، وعموم العموم، ولا تقبل كم، ولا كيف، ولا أين، ولا متى، ولا تقبل ضرب المثل، ولا المساحة، ولا تقبل الماضي، ولا المستقبل، ولا ¬

_ (¬1) لم أقف عليه! (¬2) لا أصل له مرفوعًا كما قال العراقي في "المغني عن حمل الأسفار" (1/ 23)، وعنه السَّخاوي في "المقاصد الحسنة" (ص 584)، ونسبه إلى بكر بن عبد الله المزني من كلامه ممَّا أسنده إليه الحكيم الترمذي، وهو في "نوادر الأصول" (1/ 90). ونسبه ابن القيم في "المنار المنيف" (ص 109) إلى أبي بكر بن عيَّاش. (¬3) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (16/ 349): "ليس هذا من كلام النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ولا هو في شيءٍ من كتب الحديث، ولا يعرف له إسناد، ولكن يُروَى في بعض الكتب المتقدَّمة إن صح: يا إنسان اعرف نفسك تعرف ربك .. " ويُنظَر أيضًا: "مدارج السَّالكين" لابن القيِّم (1/ 427)، و"المصنوع" لملَّا علي القاري (ص 189).

الحال، بل كل الشؤون والمظاهر، و .. و .. ". وذكر الصفات وأنواع الوجود في الحيوانات والجمادات ثم قال: "فكلُّ هؤلاء داخل تحت حيطة الأحديَّة، وهي العارف الكامل، الواصل الشَّاهد، لذاته بذاته، الله ولا شيء معه". إلى أن قال: "قُلْ ما شئتَ في هذا المقام فأنت مكانك أحديٌّ، وبعضهم لمَّا عرف نفسه بنفسه - سبحانه وتعالى - نظر إلى الفوق والتحت، والأمام والوراء، واليمين والشمال، فلم يجد محلًّا يستند إليه، ولا مكان يأويه، ولا شيء يسند إليه، [فأمير] نفسه، فعرف نفسه بنفسه سبحانه وتعالى"، وقال: رأيتُ ربَّي بعين ربَّي ... فقال: من أنت؟ فقلتُ: أنتَ (¬1) فهو سبحانه وتعالى الشَّاهد والمشهود، الشَّاهد في مقام الأحديَّة التي أنت أنت، هي هي أنت، فاعرف! في هذا الكلام العجيب، الذي لا يفهمه إلاَّ [.. و ..] ولا [تخطئ في ذاتك]، وإن [تلوت] خذ الكتاب بقوَّة، وأْمُر أهلك يأخذوا بأحسنها، فيصفو لنا حسنها، ونتعطَّر بعطر أهلها، حتى إنَّ المحبَّ يصل بالمحبوب، و [...] المحبُّ المحبوب، وأنت الحي القيُّوم: ولا تلتفت في السَّيْر غير فكلُّ ما ... سوى اللهِ غيرٌ فاتخذْ ذِكْرَهُ حِصْنَا وقُلْ ليسَ لي في غير ذاتيَ مَطْلَبٌ ... فلا صورةٌ تُجْلىَ ولا طُرْفةٌ تُجْنَى (¬2) ... إلخ. ¬

_ (¬1) البيت للحلّاج في "ديوانه" (ص 31)، وفيه: "بعين قلبي". (¬2) البيتان في قصيدة لأبي الحسن الششتري، كما في "ديوانه" (ص 73)، وعنده في البيت الأول: "في السير غيرًا".

أقول: لستُ الآن في صدد الرَّدِّ، وإنَّما الحديث الذي ساقه: "ما فضلكم أبو بكر .. الخ" على علَّاته من الواضح أنَّ المراد به غير ما ذكر، وإنَّما الشيء الذي وَقَر في صدره هو معرفة نفسه بالعجز والضعف، [ص 10] كما رُوِيَ عنه - صلى الله عليه وسلم - في الدُّعاء: "اللهم لا تَكِلْني إلى نفسي، فإنَّك إن تَكِلْني إلى نفسي تَكِلْني إلى ضعفٍ وعَورةٍ وذنْب". أو كما قال (¬1). فلمَّا عرف سيِّدنا أبو بكر نفسه حق المعرفة بالضَّعف والعجز ونحوهما من الأوصاف انتقل من ذلك إلى حقيقة الإيمان بالله تعالى، صفات الجلال والجمال والكمال؛ فإنَّ الإنسان إذا عرف نفسه بالعبودية فقد عرف ربَّه بالربوبيَّة، وكلما ازدادت معرفته لنفسه بحقيقتها، من الضعف والعبودية والعجز في الصورة = ازدادت معرفته وإيمانه بربوبية الله تعالى وقوَّته وقدرته وجلاله. وهذا معنى الحديث الآخر الذي ذكره، أعني: "مَن عرف نفسه فقد عرف ربَّه" كما هو واضح. إلى أن قال بعد كلام طويل: "وتحتاج هذه إلى الكتم والخمول حتى يريد الله بالظهور". وهذا يدلُّ على أنَّ قصد هؤلاء القوم بثُّ دعوتهم، ثم إظهارها وإثارة فتنة، عكس مقاصد أهل الله، الذين إنَّما قصدهم إصلاح ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (5/ 191)، والحاكم في "المستدرك" (1/ 697)، وغيرهما، من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه بنحوه. قال الحاكم عقبه: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، وقال الهيثمي في "المجمع" (10/ 113): "رواه أحمد والطبراني وأحد إسنادي الطبراني رجاله وُثَّقوا، وفي بقية الأسانيد أبو بكر بن أبي مريم، وهو ضعيف".

القلوب ما تيسَّر. إلى أن قال: "ولقد اغترُّوا كثيرًا، وتكبَّروا على المشايخ، وأُوقِعُوا في الجحيم، كمثل الفقهاء الزَّنادقة الوهَّابيَّة، الذين يتكبَّرون على أهل الباطن"! إلى أن قال: "ولقد رأينا أناسًا في النَّار كثيرًا، وأكثرهم الفقهاء، والعلماء، وأهل الرأي، وأهل الرِّئاسة في الدُّنيا"! إلى أن قال: "وأمَّا الألوهيَّة فهي تقبُّل الأحكام، و .. ، و .. ، ومنها السَّعادة والشقاوة، و .. ، و .. ، وإقامة نظام العالمَ، مِن عابد ومعبود، ورازق ومرزوق، وتفاضل الأعلى على الأدنى". إلى أن قال: "لأن برزخها أوسع البرازخ ومن أسماء كثيرة يُسمَّى العرش، وأمَّا الكتاب، والوجود المطلق، والذات الساذج، والزلال الأبيض، و .. ، و .. ، فسبحان من تفضَّل على ذاته بذاته .. الخ"! إلى أن قال: "فصلٌ: اعْلَمْ أنَّ الله واجب الوجود، فوجوده مطلقٌ، ووجود ثان له مقيَّد مطلق، من عند الأسماء مقيَّد ومن عند الذَّات مطلق. والصفات متعدِّدة، والذات واحدة، والكُلُّ مربوط بالكُلِّ، كما قال بعض المشايخ: الكلُّ بالكل مربوط، فليس له عنه انفكاك، خذوا ما قلته عنِّي، [لأنَّ] أصل الشيء كُلّه البرنامج، ولا شيء معه، ولا ذكر للشيء، ولا غير، ولا ذكر للغير، وأنت البرنامج، علمتَ أم لم تعلم، ولكن أنت من العارفين، وغيرك محجوبون (¬1) بك، ولم يعلموا, ولكن الغطا والغين الذي ¬

_ (¬1) في الأصل: "محجوبين".

[ص 11] على العين، والران الذي على القلب، قال الله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (¬1)} [المطففين: 14]، أَلَا ترى إلى قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10]، وهي يد رسول الله، ورسول الله هو البرنامج الكامل، والأنموذج الشامل، و [...] الواصل الموصل. ولهذا حقِّق توحيد ذاتك بذاتك في ذاتك لذاتك، في قوله تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21]، أي: هو أنفسكم أفلا تبصرون! وقوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17]، والرامي هو رسول الله يوم بدر. فافهم المعنى فقد دان المنى، وادخل الدار واقصد نحونا، واستمع لما يوحى إليك من قولنا، الذي قولك لك، المنزل على قلب نبيك: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:1 - 3]، وأدنى؛ لكلام ابن عباس: "إنَّ محمدًا رأى ربَّه بعين الرأس" (¬2). ¬

_ (¬1) في الأصل: (.. على قلوبهم فهم لا يفقهون)! (¬2) تُنظَر الروايات المنقولة عن ابن عباس رضي الله عنه وغيره في هذا الشأن في "الدر المنثور" للسيوطي (14/ 19 - 24). قال شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله في "درء التعارض" (8/ 42): "وأمَّا تقييد الرُّؤية بالعين فلم يثبت لا عن ابن عباس ولا عن أحمد". وقال الإِمام ابن القيِّم رحمه الله في "زاد المعاد" (3/ 36 - 38): "صحَّ عن ابن عباس أنَّه رأى ربَّه، وصحَّ عنه أنَّه قال: رآه بفؤاده. وصحَّ عن عائشة وابن مسعود إنكار =

إلى أن قال: "وأمَّا حضرة الأحديَّة وهي الحضرة المباركة، وهي حضرة الطمس وبحر الغمس، وبرزخ جمع الجمع". إلى أن قال يخاطب صاحب هذا المقام: "فتارة يكون ظاهرك خَلَقًا هاويًا، وباطنك حقًّا، وتارة يكون ظاهرك حقًّا وباطنك خَلَقًا". إلى أن قال: "حتى تنظر إلى [...] صاحب هذا المقام: "يسمَّى بخطِّ الاستواء، ولا أظنُّ أحدًا يقدر يقف عليه [...] الكمال". قال: "وهذا المقام من المحال؛ لأنَّه ما وقع لسيِّد المرسلين؛ لصحَّة قوله: "إنَّه لَيُغَان على قلبي، فأستغفر الله في اليوم واللَّيلة سبعين مرَّة" (¬1)؛ لأنَّ اجتماع الحضور والغيبة، والصِّحَّة والسقم في بدن واحد محالٌ، واجتماع الموت والحياة في هيكل واحد محالٌ، ولا جَمَعَ هذا الشيء إلاَّ ذو الجلال ¬

_ = ذلك .. وقد حكى عثمان بن سعيد الدارمي اتَّفاق الصحابة على أنَّه لم يره. قال شيخ الإِسلام ابن تيمية قدَّس الله روحه: وليس قول ابن عباس: "إنَّه رآه" مناقضًا لهذا, ولا قوله: "رآه بفؤاده"، وقد صحَّ عنه أنه قال: "رأيت ربي تبارك وتعالى"، ولكن لم يكن هذا في الإسراء، ولكن كان في المدينة لمَّا احتبس عنهم في صلاة الصبح، ثم أخبرهم عن رؤية ربه تبارك وتعالى تلك اللَّيلة في منامه .. وأما قول ابن عباس إنَّه رآه بفؤاده مرتين فإن كان استناده إلى قوله تعالى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11]، ثم قال: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم: 13]. والظاهر أنَّه مستنده؛ فقد صحَّ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنَّ هذا المرئيَّ جبريل، رآه مرتين في صورته التي خلق عليها". (¬1) لم أره بهذا السَّياق، لكن أخرجه مسلم (2702) وغيرها من حديث الأغر المزني رضي الله عنه، وفيه: "مائة مرة". والمشهور في تتمَّته ما أخرجه البخاري (6307) وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: "والله إنَّي لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرَّة".

والإكرام، فهو الفرد الجامع .. " الخ. إلى أن قال: "وقد قال في الكرامة: إنَّ العارفين لا [كرامة ...] النظر إلى وجه الله الكريم في كل صورة، وفي كل سورة، وفي كل أخضر ويابس، وفي كل حال ومقال، وخصام وجدال، وجلال وجمال، وفعل واعتقاد". إلى أن قال بعد كلام طويل في التَّحريض على كثرة الذَّكر: "فلا أحد بَلَغَ مبلغ عالي (¬1) يسقط عنه التَّكليف، فسقوط التَّكليف يوجب عليه التكليف، ولا يسعه إلاَّ الاتِّباع لسيَّد البشر، سيدنا محمَّد - صلى الله عليه وسلم -". [ص 14] إلى أن قال: " [في دعاء: أن يبارك بغير تعب، ... في كل شيء به له ...]، لكن تفضل على ذاتك بذاتك .. إلخ". انتهى ما أردنا حكايته من تلك الكرَّاسة، وهي كبيرة، وهي من جنس ما حكيناه، وأستغفر الله العظيم أولًا وآخرًا. وقال السَّيِّد العلَّامة علوي ما نصُّه: "وهذا هو رجل اسمه حسن بن إبراهيم، ويدَّعي أنه من آل با [معروف] آل باعلوي، وحاشاهم أن يكون هذا الدَّجَّال منهم، وقد كتب كتبًا متعدَّدة إلى السادة العلويين، ففتشوا فلم يجدوا له حسبًا ولا نسبًا. ومن أخلاق هذا الرجل أنَّه يتفاخر ويتظاهر أنَّه أخذ عن شيوخٍ في مصر والشام والعراق والحجاز والمغرب واليمن، وأنَّه وقع على العلم المكنون". إلى أن قال: "وقد سار داعي من دعاته إلى الحبشة، واسمه السَّيِّد صالح - بزعمه - وحاشا لله أنَّه سيَّد، بل هو السيئ الطالح، القرمطي، فعلَّم أناسًا ¬

_ (¬1) كذا في الأصل.

منهم أن يكونوا مثل فرعون إذ قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24]. و [رتَّب] عليهم أورادًا من قولهم: أنا الله! ". إلى أن قال بعد ذكر بعض [من] (¬1) تبعه هذا الرجل: "عقيدتهم أنَّ الذوات كلّها متساوية؛ لأنَّها الله بذاته، (تعالى الله)، فذات أعظم نبيٍّ أو وليٍّ هي وذات الخنزير سواء؛ لأنَّ النبيَّ اللهُ، وقع نبيًّا وذهب يطلب مركزه، والخنزير كذلك [...] (¬2). ويقولون: إنَّ فرعون أعرف من موسى؛ لأنَّه قال: "أنا ربُّكم"، وموسى جاهلٌ، وهكذا محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وأبو جهل لعنه الله بمنزلةٍ واحدةٍ. وهذه العقائد من أسرارهم التي لا تُفشَى، ولا يعلِّمونها إلاَّ من خرج من مزالق التوحيد، وهم خصوص الخصوص. وهم في الحقيقة الذين بلغوا الرتبة الفرعونيَّة. وهذا الضَّالعي يقول: إنَّ الحياة هي نفس الوجود، وإنَّ الوجود هو جميع المخلوقات، وينكر علم الغيب لله، ويجعل جميع التطوُّرات في الوجود الله بذاته، يتطوَّر ويطلب مركزه، وعنده أنّ قول الله [...] (¬3) كلام باطل، كما سنحكي ألفاظه إن شاء الله تعالى. ومذهبهم أنَّ قول القائل: "لعنك الله" مثل قولك: "رحمك الله"، ولا يتحاشون عن جماع الحائض، يتسارُّون بهذا الأمر بينهم. ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق. (¬2) طمس في الأصل. (¬3) طمس في الأصل.

[ص 13] إلى أن قال: "وينكرون حقيقة الأرواح، ويقولون: هي تطوُّرات الذَّات الإلهيَّة، تطلب مركزها لا غير". ولهم خزعبلات كثيرة تشابه ما تقدَّم، نتحاشى عن حكايتها، مثل قولهم في المجامعة والغائط. نعوذ بالله. فعندهم أنَّ الرجل والمرأة ليسا مخلوقين من مخلوقات الله، بل هما الله، ويقولون في المجامعة كلمات كفريَّة تقشعرُّ منها الجلود - والعياذ بالله - لا نقدر على حكايتها. إلى أن قال: "وحسن الضَّالعي هذا قد اجتمع بالشيخ الصالح العلَّامة سالم بن عبد الرحمن بن عوض باصهي، فلمَّا رآه الشيخ المذكور ضالًّا في اعتقاده ألَّف رسالةً سمَّاها "كشف الغطا عمَّا يحصل لبعض السَّالكين من الخَطَا"، يظنُّ أنَّه سيرجع بها. وحيث إنَّ ضلاله بسبب عدم فهمه كلام الصوفية، ولم يعلم أنَّه ليس من الصوفيَّة، بل هو ملحدٌ أصليٌّ، متمكِّنٌ من إلحاده، وإنَّما يتظاهر بحكاية كلام الصوفيَّة ليستجلب الناس؛ لعِلمه أنَّ الناس يعتقدون [في (¬1)] المتصوِّفة والمتنسِّكة. فلمَّا ظهر بدعوته الخبيثة إلى دينه الجديد الخبيث المخبث في جبل يافع ألَّف الشيخ المذكور رسالةً أخرى [تذييلاً] (¬2) لتلك الرسالة، قال فيها ما نصُّه: "وبعد، فقد بلغني أنَّه ظهر رجلٌ في جبل يافع يسمَّى السَّيِّد حسن ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق. (¬2) في الأصل: "تذييل".

الضَّالعي، يدعو الناس إلى وحدة الوجود، وهي: اعتقاد أنَّ هذه الموجودات كلَّها عين الحقِّ، وأن لا خَلْقَ أصلاً، فتعجَّبتُ لذلك غاية العجب؛ حيث إنَّ هذا الرجل المسمَّى السيِّد حسن الضَّالعي قد اتَّفقت به منذ سبع سنوات في صَبْيَا، قرية من قرى اليمن، مشهورة، وأخبرني أنَّه طاف البلاد، ولا مصر إلاَّ ودخله، واتفق بعلمائه وصلحائه، واجتمعنا في صَبْيَا نحو ثلاثة أشهر. وفي تلك المدَّة كلِّها ونحن نتذاكر العلوم، حتى بيَّن لنا طريقته التي هو عليها كتب الشيخ محيي الدِّين بن عربي، وكتب عبد الكريم الكيلاني، مؤلِّف كتاب "الإنسان الكامل" (¬1). وأنَّه معتقدٌ معتقداتهم، في أنَّ هذا الوجود وما فيه من المخلوقات كلّها عين الحقِّ متنوّع بزعمه، وأن لا خلق أصلاً، وأنَّ هذه المخلوقات كلَّها عين الحق تنوّع ذاته، فتارة يجعلها جبالاً، وتارةً يجعلها ريحًا، وتارةً يجعلها بحارًا، وهكذا، فما هناك خلقٌ أصلًا". فانْبَهَرتُ من هذا الاعتقاد الخبيث، فقلت: يا سيِّد حسن، هذه وحدة الوجود، التي أجمعت الأمَّة كلُّها على كفر أهلها ومنتحليها [ص 16] ومعتقديها. بل معتقد ذلك كافرٌ بالقرآن من أوَّله إلى آخره؛ لأنَّ القرآن مصرِّحٌ بأنَّ العالمَ وما فيه خَلْقُ الله، قال الله جلَّ ذكرُه: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62]، وقال تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الأنعام: 1]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ ¬

_ (¬1) يقصد كتاب "الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل" لعبد الكريم الجيلي.

خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} [الأعراف: 11]، وقال تعالى: {الَّذِي (¬1) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الفرقان: 59]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} الآية [المؤمنون: 12]، وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. إلى آخر ما قال الله من أول القرآن إلى آخره، في أنَّ العالَم وما فيه خلق الله، هو الذي خلقهم. وأنت تقول: إنَّهم عينُ الله، لا خلقُ الله، وتنكر الخلق رأسًا، والقرآن أثبت الخلق صريحًا، فكلامك هذا إنكار لما في القرآن صريحًا، وتكذيب (¬2) لنصوص القرآن كله من أوله إلى آخره. فعند ذلك توقَّف، وبقي يُغالط بكلام القوم الدقيق، وشطحاتهم، وسائر ألفاظهم التي توهم هذا القول، وأنا أقول له: لم يريدوا بهذا الكلام ما تعتقده أصلًا، وحاشاهم من ذلك. وطالت المراجعة فيما بيني وبينه في ذلك، حتى قال لي: صوِّر لي ما عرفته من كلامهم، وما مرادهم بتلك الألفاظ، فجعلنا له نبذةً, وسمَّيناها "كشف الغطا عمَّا يحصل لبعض السَّالكين من الخطا عند مقدمات حال الفنا والفتح والمواهب والعطا"، وبيَّنَّا في ذلك الصواب من الخطأ؛ لأنَّ الغلط يدخل على الإنسان في الطريق من محلَّين: الأول: من مطالعة كتب القوم الدقيقة المعقَّدة، خصوصًا كتب محيي ¬

_ (¬1) في الأصل: "وهو الذي". (¬2) في الأصل: "وتكذيبًا".

الدين والكيلاني عبد الكريم، وما جرى مجرى ذلك؛ فيفهم المطالع من ذلك غير المراد لدقَّة الكلام (¬1). ولهذا المعنى حرَّموا قراءة كتب هذين الشيخين، وما جرى مجراها. والمحلُّ الثاني الذي يحصل الغلط على السَّالك فيه: عند مقدِّمات الفتح، وقد بيَّنَّا هذا كلَّه في النُّبذة المذكورة غاية البيان والإيضاح، وميَّزنا فيها بمعونة الله الخطأ من الصواب. فلمَّا أُوقِف على تلك النُّبذة سكت وانقبض، وأخذ نحو شهرٍ كالمضطرب في أمره. ثمَّ إن الله تكرَّم عليه، فرأى رؤيا بعد مُضِيِّ هذه المدَّة، فجاء إليَّ وقال: إنَّي رأيت سيِّدنا أبا بكر الصِّديق في المنام، فقلتُ له: مرادي أن تريني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: قُم، وأخذ بيدي، [فلم يزل] يمشي معي حتى وصلنا مسجدكم هذا، فوجدناك في المسجد وحدك [ص 9]، فقال لي أبو بكر: هذا النبيُّ، يعنيكَ. فقلتُ له: هذا صاحبي فلان! قال: هذا النبيُّ. قال: فعرفتُ عند ذلك أنَّك على الحقِّ، وعلى الهدي المحمَّدي، وكل ¬

_ (¬1) هذه من الاعتذارات التي حملها بعض المدافعين عنهما وأمثالهما. وقد قال الذهبي في "السَّيَر" (23/ 48) عن محيي الدين ابن عربي: "ومن أردأ تواليفه كتاب "الفُصُوص"، فإن كان لا كفر فيه فما في الدنيا كفرٌ". وقال الشوكاني في "الصوارم الحداد" (ص 41): "الإنسان الكامل لعبد الكريم الجيلي اتَّحادٌ محْضٌ"، وقال (ص 57): "لا تجد في كتب القوم مثله في التصريح بالاتحاد والإلحاد".

ما قلتَه حقٌّ وصِدقٌ. حكى لي هذه الرؤيا بالمجمع من الخلق، [وظننتُ] (¬1) أنَّه قد رجع عن هذه النِّحلة؛ لأنَّها ظهرت لي منه أشاير القبول، ولم يذكر لي شيئًا مخالفًا ذلك، وغلب على ظنِّي أنَّه رجع عن ذلك الاعتقاد الخبيث، وبقي عندنا بعد ذلك نحو شهر، وسار وهو على حاله المحمود. واتَّفقت به مرَّةً في عَدَن، بعد سنةٍ أو نحوها، وحصل بيني وبينه من البِشْر والفرح والمحبَّة، حتى قال لي: أشهدُ بالله أنَّك واصلٌ، وأنا أعلم أنَّي لستُ بهذه المثابة. إنَّما فرحت منه واستدلَّيت (¬2) بذلك الكلام". [ص 15] وقال أخوه السيِّد عبد الله بن طاهر في جوابٍ كتبه إلى الشيخ عبد الله بن علي [الفوري] بعد ذكر الرجل المسمَّى بالسيِّد صالح ما لفظه: "فاعْلم أيَّها الوالد - نفعنا الله بصالح دعواتك - أنَّا اطَّلَعْنا وتحقَّقنا من الرجل المذكور تحقُّقًا كان عندنا كالشمس في الظُّهور، أنَّه ليس من أهل النُّور، بل من أهل الكذب والزُّور، بل لنا على ما بلغنا عنه من سوء الاعتقاد، وأنَّه من أهل الكفر والإلحاد، ينتحل مذهب القائلين - والعياذ بالله - بالحلول والاتحاد". إلى أن قال: "ولعلَّه لا يخفى عليكم ما حاصلٌ في جبل يافِع من دجَّال الضَّالع، الكاذب المفتون، الذي سمَّى نفسه أبا هارون، والسادةُ الكرام آل باهارون - بل جميع أهل البيت الطَّاهر - منه بريئون، قال - صلى الله عليه وسلم -: "من ¬

_ (¬1) في الأصل بالضاد. (¬2) كذا في الأصل.

انتسب إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلاً" (¬1). وأنساب آل با هارون وشجرتهم محفوظة ومضبوطة، وسيرهم محمودة ومغبوطة، ما فيهم كذَّابٌ ولا دجَّال، ولا داعٍ إلى ضلال، ولا يعرف لهذا الفاجر بهم انتساب ولا اتِّصال .. الخ". وقال با [شيخ] في أوائل رسالته: "قد وصل إلينا سؤالٌ من محبٍّ صادق، وخِلٍّ موافق، وهو الشيخ الفاضل محسن بن قاسم بن حسين الجهوري اليافعي محتدًا، والموسط بلدًا، قد ملأ الله قلبه بالإيمان, فأنكر الباطل وعزم على إزالته بلسانه ويده والجنان، وفَّقنا الله وإيَّاه لمرضاته، وسلك بنا وبه سبيل نجاته، آمين. مضمونه بعد البسملة والحمدلة: ما قول ساداتي العلماء الأعلام - نفع الله بهم الخاص والعام - في هذا الرجل الذي خرج إلى جبل يافع، بلاد برية، وأرض بادية، يُقال له: حسن بن هارون أظهر أمورًا بطَّالة، كفرٌ صريحٌ في الشريعة الغراء، وقد قرأنا عنده، وقال: إنَّ العقيدة التي تؤخذ عليها العهد والمواثيق من الطالب، ونأمره بكتمها هي علم التوحيد، وهو علم الباطن، ويقول: إنَّ الوجود والموجودات كلها الله، الظاهرة والباطنة، وكل رطب ويابس، وطاهر ونجس, وكافر ومسلم، وحق وباطل، وحلال وحرام = كل ذلك الله لا غير، تعالى الله عمَّا يقول هذا الجاحد الكافر علوًّا كبيرًا. وقال برفع التكاليف عن الناس، لا صلاة، ولا صيام، ولا زكاة عليهم، ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1370) بنحو هذا السياق، من حديث عليًّ رضي الله عنه.

ولا حج، وإنَّما الحج عبادة جدار! وقال: إنَّ القرآن إنَّما هو حديث الرسل والفراعنة، والمذكور فيه من جبال وأحجار وأشجار، وجنَّة ونار، وحشر ونشر، ومشرق ومغرب = فهي فيك أيها الإنسان جميعا .. الخ. [ص 19] وخلاصة تخبُّطات المخذول - والعياذ بالله - أنَّه ينكر محمَّدًا صلَّى الله عليه وآله وسلَّم والقرآن. فاضْبطوا هذا: س: بأيِّ شيءٍ ثبَت عندك الإنجيل؟ ج: بثبات التوراة. س: بأيِّ شيءٍ ثبتت التوراة؟ ج: بإقرار القرآن. س: القرآن في زعمك ليس بشيءٍ، فكيف تتَّخذه حجَّةً في دينك؟ ج: أثبتُ التوراة [بالتواريخ] الأجنبيَّة. س: التواريخ الأجنبيَّة - كما بينَّا سابقًا - لا تقوم بها حُجَّةٌ؛ لأنَّ مصدرها عن أحبار اليهود، وكم في التواريخ من كذبٍ مناقض للعقل. ج: أثبتُ التوراة بنقل الكواف لها. س: قد بينَّا لك عدم اتِّصال النَّقل كافَّة عن كافَّةٍ، وما جرى على التوراة من الغربة والإحراق [وغير ذلك]. ج: ثبت الإنجيل بنقل الكواف. س: ليس بأيدي النَّصارى إنجيل منزَّلٌ على عيسى، وإنَّما هي تواريخ لفَّقَهَا "مَتَّى" [وإخوانه].

ج: اتَّصلت الكوافُّ بـ "مَتَّى" وإخوانه، وظهرت لهم معجزات. س: هل كانوا أنبياء مع قول المسيح عليه السلام؟ ج: إن لم يكونوا أنبياء فأصحاب المسيح نقلوا عنه، كما نقل أصحاب محمَّدٍ عنه. س: أصحاب محمَّد كانوا [من الثِّقة التي] تقوم بهم الحُجَّة في إثبات القرآن وغيره من المعتقدات، ثم لم يزل الأمر كذلك إلى الآن. [ولا كذلك أصحاب متَّى] كما أشرنا إليه سابقًا عن "الملل والنِّحَل"، وهو شيءٌ واضحٌ يعلمه النَّصارى وغيرهم. وقد نقل الإِمام رحمةُ الله في [كتابه "إظهار] الحق" (¬1) عن أكابر أهل الكتاب الاتَّفاق على وقوع التَّحريف والتَّبديل الذي لا يُحْصَى في العَهْدَين العتيق والجديد مرارًا عمدًا وسهوًا، وذكروا أسباب ذلك، و [حرَّروها] بأوضح بيان، وأنَّ علماء [هم] الكبار لم يكونوا يتحاشون عن ذلك، بل يعدُّونه قربة، ولا يخفونه عن أمثالهم، وها نحن نرى كثيرًا ممَّا نقله علماء المسلمين قديمًا عن كتب العهدين لا يوجد بعضه في كتبهما الموجودة اليوم. ج: أثبتُّ التوراة بما فيها من التَّبشير بعيسى ورفعه وصفته .. الخ؛ لأنَّه من الإخبار بالغيب، ولا داعي لليهود إلى تزوير ذلك، وهو ضدُّهم، وبثبوتها أثبت ما تضمَّنته تلك البشارة .. إلخ. ¬

_ (¬1) في مواضع كثيرة منه كـ (1/ 38، 67, 80, 105، 116، 117 - 119، 146، 150) وغيرها.

س: في هذا احتمالان: الأول: ما تقوله اليهود، أنَّهم دسُّوا على النَّصارى أولئك النَّفر ليشوِّشوا دينهم، وذكرنا لك بعض شواهد ذلك، والشواهد عليه كثيرةٌ، أقلها أنَّه باعتراف النصارى أنَّ أولئك النَّفر كانوا يظهرون اليهوديَّة .. الخ، فلعلَّهم رأوا أنَّ أقرب ما يستهوون به أتباع النصرانية أن يزوِّروا لهم بشارةً في التَّوراة، مشوبةً بأوهام التَّثليث! فهذا الوجه يفسخ الشُّبهة التي ظننتَها مثبِتَةً للتوراة و [...] عليها. ولو سلَّمنا ثبوت التوراة فقد ذكرنا سابقًا وجهين في تلك البشارة: أحدهما: أنَّ الذين تلاعبوا بالتوراة من المرتدِّين والزنادقة وعبدة الأوثان وجدوا البشارة بعيسى في التوراة، فزادوا فيها مثل ما زادوا في غيرها، من ذكر الأبوَّة والبنوَّة وغيرهما. الثاني: أنَّ أولئك النَّفر الذين دسَّهم اليهود لتشويش دين النَّصارى هم الذين زادوا تلك الأشياء، لاستهواء النَّصارى، ومع ذلك فقد احترس اليهود لأنفسهم بتأخير تاريخ [...]. وأيضًا احترسوا بذكر فصول في الإنجيل، أنَّ عيسى دعا بالمغفرة (¬1) للذين صلبوه، وعفا عنهم، وأنَّه لم يجيء لنقص حرفٍ واحدٍ من التوراة، إلى آخر ما شرحناه سابقًا. نسأل الله العافية. ولعل هنالك احتمالات غير ما ذكرنا. والقصد أنَّ مثل تلك الشُّبهة لا يقتنع بها العاقل حُجَّة في دينه، وهل ¬

_ (¬1) في الأصل: "في المغفرة".

رأيت هذه الشبهة الضعيفة أقوى شيءٍ يتبعه العاقل ويتَّخذه دينًا، حتى وجدتها أقوى من القرآن وما معه! ليتك راجعت التوراة والإنجيل هذه المزيَّفِين المبدَّلين، لنقف على ما أعمى الله عنه أولئك الأنذال، في الفصول التي ترجَّح أن تكون بشارة بمحمَّدٍ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فإنَّها كثيرة. ومع هذا فقد عرفت ما في هذه الكتب من الكذب والمناقضات، وأنَّ مؤلِّفي الأناجيل كذَّابون، لا يصحُّ [أخذ] دينٍ منهم، ولا يصحُّ إطلاق الحواريين عليهم، وإن لم نعلم أسماءهم الآن. سبحان من وسع كل شيءٍ علمًا، ونعوذ به من الخذلان، ونبتهل إلى الله تعالى أن يثبَّت قلوبنا على الإيمان, ويختم لنا بالإحسان. [ص 17] ثم أخذ هذا المخذول يتخبَّط في خيالات واهية، إلى أن قال: "فلِمَ لَمْ يكذِّب القرآنُ التوراة والإنجيل"؟ فنقول: يا مخذول، أي شيء مسمَّى التوراة والإنجيل في الحقيقة؟ أليس هو الكتابَيْن المنزَّلَين من الله تعالى؟ لا شكَّ في ذلك. وقد بيَّنَّا لك بما سبق أنَّ ما بأيدي القوم من قبل بعثة النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم مبدَّلٌ مغيَّرٌ, قد اختلط فيه الحق بالباطل. وأمَّا قوله تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا} [آل عمران: 93]؛ فسمَّى ما بأيديهم "التوراة" لاشتماله على شيءٍ منها، من جملته الشيء المسوقةُ الآيةُ لبيانِهِ، مع أنَّهم كانوا يسمُّون ذلك السِّفْر بالتَّوراة ويزعمون أنَّه التَّوراة. إلى أن قال: {يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ} [آل عمران: 45]، لِمَ كانت البشارة خلاف [المعتاد]؟

نقول لك: كما بُشِّر إبراهيم بإسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب، وزكريا بيحيى، فإنَّ إبراهيم وزكريا كانا قد كبرا، فلذلك بُشَّرا؛ لأنَّ مجيء الولد للكبير خلاف المعتاد، فبُشَّرا بخلاف المعتاد. وكذلك مريم عليها السلام، لمَّا كان الولد من غير أبٍ كان خلاف المعتاد = بُشَّرت على خلاف المعتاد. قال المخذول: لم سُمَّي المسيح؟ أقوال، في الجملة أنَّه مسح بدهن كان يمسح به الأنبياء، ما حكمة التخصيص بالتسمية، وقد حصل لكلِّهم واحيرتاه! أقول: أيها المخذول، نعوذ بالله من الخذلان الذي أصبح يريك الهباء في أجرام الجبال، ما منعك أن تقول: المَسْح في اللُّغة يطلق على أن يخلق الله الشيء مباركًا، ومنه قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جرير بن عبد الله البجلي: "يطلع عليكم رجل عليه مَسْحَة ملَك، هو خير ذي يَمَن" (¬1). فإن قلتَ: فليس الأنبياء جميعهم مباركين؟ قلتُ: بلى! أفليسوا كلهم عبيد الله، فلِمَ خُصَّصَ يعقوبُ بإسرائيل (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (4/ 359) وابن خزيمة (1797) وابن حبَّان (7199) والحاكم (1/ 285)، وغيرهم، من حديث المغيرة بن شبل عن جرير رضي الله عنه. قال الحاكم: "حديث صحيح على شرط الشيخين"، ووافقه الذهبي. وقال الهيثمي في "المجمع" (9/ 372): "رجاله رجال الصحيح". (¬2) أي: لأنَّ معنى "إسرائيل" في العبرانية: عبد الله، فإنَّ "إسرا" معناه: عبد، و"إيل": الله، كما هو مأثور عن ابن عباس وغيره. يُنظَر: "تفسير الطبري" (1/ 593)، و"تفسير القرطبي" (2/ 6)، و"الدُّر المنثور" للسيوطي (1/ 337 - 338).

وهذا من الأسئلة الواهية. قال المخذول: ما حكمة ولادته من عذراء بدون أبٍ بعد استقرار ناموس التناسل؟ نقول له: كما قال تعالى: {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ} [مريم: 21]. يا مخذول هذه خارقةٌ من جملة الخوارق، كإحيائه للموتى، وإبرائه للأَكْمَهِ والأبرص، وكما وقع لغيره من الأنبياء الإحياء والإبراء ونحوهما، وكرمي أصحاب الفيل وغيرها. وهَبْ أنَّ لذلك حكمة أخرى هل هنالك أدنى شبهة على ألوهيَّته؟! وقد قيل: إنَّ الحِكمة هو أن يكمل أقسام الخلق، خلق آدم من غير حيًّ، وحواء من حيٍّ ذكر فقط، وبقيَّة الناس من حيَّيْن، ذكر وأنثى، فخلق المسيح تكملة للأقسام، من حيٍّ أنثى فقط؛ للدلالة على [أنَّ] قدرة الله تعالى شاملة لخلق أضداد، يعني: لكلِّ قِسمٍ من الأقسام. [ص 20] قال المخذول: وما الحكمة في خلقه كهيئة الطير طيرًا، وإحياء الموتى، وهذا من وظائف (¬1) الله الخاصَّة؟ نقول: يا مخذول! أمَّا إحياء الموتى فقد وقع لغيره أكثر منه، وأمَّا خلقه كهيئة الطَّير فليست بأغرب من الإحياء؛ لأنَّ كلاًّ منهما حياة واردة على موات. ودعنا من هذا، هل كان الإحياء بإذن الله أو بدون إذن الله؟ ¬

_ (¬1) في الأصل: "وضائف".

إن كان بإذن الله - كما هو الواقع - والذي نقرُّ به فقد تبيَّن أنَّه ليس للمسيح إلاَّ السَّبب؛ إذْ افْتَقَرَ إلى إذن غيره. وإن قلتَ: إنَّه بلا إذن من الله تعالى فهذا كذبٌ بحتٌ، وتكذيبٌ لكتب الله تعالى. ثمَّ ذكر حديث مسلم (¬1): "ما من مولودٍ إلَّا والشيطان ينخسه إلَّا عيسى ابن مريم وأمَّه"، وسأل عن عِلَّة التَّخصيص؟ فيُقال له: يا مخذول ما من نبيٍّ من الأنبياء إلاَّ وله مزايا، فلو كان كل من له مزيَّةٌ يستدلُّ بها على إلهيَّته لامتلأت الدنيا آلهةً! ثم عاد المخذول في إنكار التَّحريف، وزعم أنَّه لا حامل لليهود على زيادة ذلك في توراتهم؛ لأنَّه ينادي عليهم بالكفر. أقول: لم أقف على هذا الفصل من التوراة، حتى أتأمله على صحَّته، ولكن الجواب - وبالله الثَّقة - من وجهين: الأول: أنَّه كان في التوراة المنزَّلة ذكر عيسى عليه السَّلام وزمنه وصفته .. الخ، فلمَّا تلاعبت الأيدي بالتوراة ودسَّت ذلك جعله هذا المخذول دليلًا على التثليث. قد ذكر [...] في التوراة كثيرًا من الناس باسم ابن الله، وأبناء، وزوجة، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا، فلمَّا بُعِث المسيح كانت التوراة قد انتشرت قليلاً، فلم يمكنهم إزالة ذلك. الثاني: أن يكون اليهود بعد وفاة المسيح علموا أنَّّه إذا ثبت دينُه كانت ¬

_ (¬1) حديث (2366).

القاضية على دينهم المبدَّل المغيَّر، فدسُّوا (¬1) هؤلاء القوم، أصحاب الأناجيل، لتبديل دين المسيح، واليهود تدَّعي هذا، كما في "الملل" (¬2) وغيرها، فتوسَّل هؤلاء الشياطين إلى تبديل دين المسيح، بذكر تلك الزيادة في التوراة. في التوراة ذكر المسيح، وبتعيين السَنَة، والبلد، والصِّفة، ومدَّة مكثه، وارتفاعه، وأنَّهم سيكفرون به، ويعاملونه بكذا وكذا؛ حتى يعر [ف] من عرف [المسيح] أو شا [هده]، فيقولوا: [إن] نعته في [التوراة ...] وقد حكم [بذلك] التوراة وعلى هذا التوراة [....] النصرانية. وعلى كلا القولين فقد رأيتُ في التَّواريخ أنَّ الزِّيادة التي أسقطها اليهود من تاريخ الدنيا إنَّما أسقطوها معارضة للمسيح؛ لأنَّه موصوفٌ في توراتهم بزمانه فأخَّروا التاريخ, وقالوا: إنَّ المسيح لم يجيء بعد. ولم أطَّلع في الحال على ذكر المسيح في التوراة حتى أحقِّق النَّظر في التاريخ, ولكن قد علمت الحامل لليهود على الزيادة في هذه التوراة. فكأنَّ اليهود قصدوا تضليل النَّصارى بترك تلك الصفة في التوراة، ودفعوا الكفر عن أنفسهم بتأخير التاريخ. ويدلُّ على هذا عِدَّة فصول في الإنجيل، منها ما في "إنجيل لوقا" [...] قال: "فلمَّا بلغوا إلى الموضع الذي يدعى "الأجرد" (¬3) صلبوه فيه، وصلبوا ¬

_ (¬1) كذا في الأصل. (¬2) "الفِصَل في الملل والأهواء والنِحَل" لابن حزم (2/ 204). (¬3) في الكتاب المقدَّس عندهم (ص 274) من "إنجيل لوقا"، إصحاح 23 فقرة 33: =

معه السارقين والعابثين، عن يمينه وشماله، فقال يسوع: يا أبتاه اغفر لهم؛ لأنَّهم يجهلون ما يصنعون، ولا يدرون فعلهم". فدسَّ ذلك اليهودي هذه الكلمة ليتخلَّص اليهود من ملامة النَّصارى، مع ما يلزمها من التَّضليل شأن [عيسى]. ولا يعزب عنك أنَّ هوى اليهود تضليل النصارى والتلاعب بهم، بالمحالات والمتناقضات، ومع هذا فمَن وقف على تاريخ التوراة والإنجيل، على ما شرحه ابن حزمٍ ورحمة الله الهندي باعتراف أهل الكتاب لم يُعِرْ هذه الشبهة أدنى نظرٍ؛ لأنَّه يرى أنَّ سوق التلاعبات فيها لا تزال قائمة، وأنَّها في بعض الأزمان تفقد ثم تخرج من مصدر واحدٍ، وأنَّ القوم يرون التبديل والتغيير دينًا. ولقد صرت بسبب اطِّلاعي على ما ذكره ابن حزمٍ ورحمة الله على شكٍّ من هذه التوراة المطبوعة وحُقَّ لي أن أشك هل ثَمَّ نسخة في الكون يوافقها؟ وهل [تلك] النسخة نُقِلَت عن نسخةٍ أم لا؟ ولا سبيل لأَن يجد أحد ما أجد إلاَّ باطِّلاعه على ما اطَّلعت! ¬

_ = "المكان المعروف بالجمجمة". وكذا في "إنجيل متَّى" إصحاح 27 فقرة 33، (ص 115): "المكان الذي يقال له جُلجُثة، أي: مكان الجمجمة". وفي "مرقس" إصحاح 15 فقرة 22 (ص 175)، وفي "يوحنَّا" إصحاح 19 فقرة 17 (ص 354). وكذلك هو في "إظهار الحق" لرحمة الله الهندي (1/ 218). وتسميته بـ "الأجرد" موافق لابن حزمٍ في "الفِصَل" (2/ 155).

ثم أخذ يخاطب القرآن، بأنَّه قد ثبت لديه نزول التوراة من عند الله تعالى، وعدم تغييرها، وثبوتها يثبت الإنجيل، والقرآن يشهد بذلك، وأخذ يطالب القرآن بالدليل. فنقول له: يا سخيف، أنت لا تجد على التوراة والإنجيل دليلًا إلاَّ القرآن، فأمَّا نقل اليهود والنصارى فليس بحُجَّةٍ؛ لانقطاعه في مبدئه، كما بيَّنه الإِمام ابن حزمٍ، بشهادة كتب هؤلاء القوم وتواريخهم. وأمَّا التَّواريخ التي ذكرت فإنَّها ممَّا لا يقوم بها دليلٌ كهذا. وهذه تواريخ المجوس فيها من الكذب والبهت ما يستحي العاقل أن يصدِّق به. على أنَّ المؤرِّخ يكتفي بالسَّماع، فما يؤمِّنك أنَّ المؤرِّخين المذكورين سمعوا من اليهود أنفسهم أخبارًا [فدوَّنوها] كما سمعوها، فهل يكون التَّدوين المذكور حُجَّة دينيَّة؟! إذا تقرَّر هذا فكيف تُطالب القرآن بالدَّليل وهو دليلك على التَّوراة التي دلَّتك على الإنجيل؛ فإن سقط القرآن سقَطَت التَّوراة، فسقط الإنجيل يا مخذول. فإن قلت: فإنَّ إقرارنا بالتَّوراة والإنجيل كافٍ. قلنا: نحن لا نقرُّ بتوراة وإنجيل مخالفة لما وصَفَه الله تعالى في كتابه القرآن، ولا نؤمن بنبيًّ ليس كما وصفه الله، لا عيسى ولا موسى ولا غيرهما. [ص 23] ثم أخذ المخذول ينازع في إعجاز القرآن. فيُقال له: هذا شيءٌ مفروغٌ منه؛ فإنَّه لا ينكر أحدٌ أنَّ العرب كانوا في زمانه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بأعلى طبقات الفصاحة والبلاغة، وقد نقلت

الكواف العظمى أنَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - تحدَّاهم بالقرآن، وبأقل جزءٍ منه، فوجموا وأحجموا وخرسوا عن ذلك، واعترفوا بعجزهم، وقال داهيتهم الوليد بن المغيرة لمَّا سمع آيات منه: "والله لقد سمعتُ من محمَّد آنفًا كلامًا ما هو من كلام الإنس، ولا هو من كلام الجن، وإنَّ له لحلاوة، وإنَّ عليه لطلاوة، وإن أعلاه [لمثمر وإنَّ] أسفله لمغدق، وإنَّه يعلو ولا يُعْلَى عليه" (¬1). حتى آل بهم الأمر إلى القتال. وبعدُ، فوجوه إعجاز القرآن كثيرة، ليست البلاغة فقط؛ فإنَّ فيه الإخبار بالغيب، كالإخبار عن غلب الروم، وأنَّهم بعد غَلَبِهم سيغلبون في بضع سنين (¬2)، والإخبار عن أهل الكتاب أنَّهم لا يتمنَّون الموت (¬3)، والوعد ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم في "المستدرك" (2/ 507) ومن طريقه البيهقي في "الشُعب" (1/ 157) وغيرِه, عن عكرمة عن ابن عباسٍ رضي الله عنه بنحوه. قال الحاكم: "صحيح الإسناد على شرط البخاري". وقال العراقي في "المغني عن حمل الأسفار" (1/ 223): "بسند جيد". (¬2) يعني: قوله تعالى: {غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} [الروم: 2 - 4]. (¬3) يعني: قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة:94 - 95]، وقوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [الجمعة: 6 - 7].

بإحدى الطَّائفتين (¬1)، والبشرى بالفتح (¬2). وزِدْ على ذلك أخبار الأنبياء وأممهم، مع أنَّ محمدًا صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كان رجلاً أُمَّيًّا لا يكتب ولا يحسب، وكان مشهورًا بالصدق والأمانة، لا يخون ولا يكذب. أمَّا قولك: إنَّ كثيرًا من الخطباء والشُّعراء السَّابقين واللَّاحقين تحدَّوا معاصريهم، فلم يعارضوهم، وأقرُّوا لهم بالسَّبق = فأقول: اللهم يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك. أولاً لا يسلَّم وقوع ذلك؛ فلابد أن يكون موجودًا في الكون - سابقًا أو لاحقًا - من ساواه أو زاد عليه، سواء قصد المعارضة أم لا. فأمَّا القرآن فهات كلامًا متقدَّمًا أو متأخِّرًا يشبهه، أو عارِضْه أنتَ، ليتمَّ عليك الخذلان. ولو سلَّمنا فقل لي: أَلَا تُبصر فرقًا بين تحدِّي شاعرٍ لبضعة شعراء أو خطيب لبضعة خطباء، بقصيدةٍ لا تجاوز الخمسين أو السبعين بيتًا، وخطبة في [...] ولا يلزم من عدم معارضتهم شيء سوى قول: هو أفصحهم = وبين تحدِّي رجل أُمِّيًّ لأمَّةٍ كبرى، هي أُمَّة اللسان والبيان، في أقل جزء من كتابٍ كبير، وقد ضلَّلهم وضلَّل آباءهم وسبَّ آلهتهم! ويلزم من عدم معارضتهم انقلابٌ دينيٌّ عظيم، وترك مألوفات عديدة، إلى غير ذلك حتى عادوا إلى القتال! العياذ بالله من الضلال المبين. ¬

_ (¬1) يعني: قوله تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} [الأنفال: 7]. (¬2) يعني: قوله تعالى: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف: 13].

وها هو القرآن بين يديك، اختر منه بضع آيات، واقرنها بأي كلامٍ شئت من كلام المتقدَّمين والمتأخَّرين، أو من كلام محمَّد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم نفسه، أو من كلام بعض أصحابه. وانظر الفرق إن كان بقي لعقلك أثر، وإلَّا فراجع الكتب المؤلَّفة في إعجاز القرآن، كتأليف الباقلَّاني (¬1) وغيره. والله لا يسمع القرآن رجلٌ ذو مسكةٍ بكلام العرب إلاَّ تيقَّن أنَّه ليس من كلام البشر. على أنَّ بعض الزَّنادقة قد حاول معارضة القرآن، فلو نظرتَ بين كلام ذلك المعارِض في المعارضة وكلامه في غير المعارضة لظهر لك الفرق الجليُّ الواضحُ. وذلك أنَّ كلامه في المعارضة كلامٌ غثٌّ ركيكٌ إلى حدًّ لا يخفى على أحدٍ. وبالله العظيم لو لم يكن لمحمَّد صلَّى الله وسلَّم عليه وآله آيةٌ إلاَّ القرآن، ولم يكن في القرآن وجهٌ من وجوه الإعجاز إلاَّ سلامته من المناقضة والكذب الذي عمَّ ما بأيدي أهل الكتاب من الكتب، وصدق الله تعالى إذ قال: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]. بل لو لم يكن فيه إلَّا حفظُه من التغيير والتبديل، لاستمرار نقل الكواف العظمى عن الكواف العظمى، بخلاف التوراة والإنجيل التي كانت مبادئها [...] متقطعة = لكان ذلك كافيًا أيضًا. ¬

_ (¬1) يقصد "إعجاز القرآن" للباقلَّاني.

[ص 24] (¬1). [ص 25] أيُّها المخذول: إنَّ كلامك يبرهن عليك أنَّك لا تعرف القواعد العربيَّة ولا القوانين الجدليَّة، وإنَّما عندك نوعٌ من الذكاء الفاسد المحترق، قادك الشيطان، وأسلمك الخذلان إلى أن تستعمـ[ـله] في المهم الأعظم، وهو الدين، فأخذت ترسف في قيود الحرمان، وتتعثَّر [بذيول الخسران]، فنعوذ بالله من تخبُّط الشيطان. ثم ذكر معاصي الأنبياء، وأنَّ في القرآن [إتيانهم المعاصي]. ونعم، في القرآن عن آدم أنَّ الله عاهده فنسي، وأنَّه عصى ربَّه فغوى، وأنَّ [الشيطان أغواه ووسوس إليه]؛ وذلك أنَّ الله تعالى بيَّن لآدم أنَّ إبليس عدوُّه، ثمَّ نهاه عن الأكل من الشجرة، فجاءه إبليس [وإلى زوجه]، وقاسمهما إنَّي لكما لمن النَّاصحين، ودلَّاهما بغرور؛ إذ قال لهما: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف: 20]، فنسي آدم ما أعلمه الله تعالى من عداوة إبليس، وحسَّن الظنَّ به، وظنَّ أنَّ الأكل من الشَّجرة إنَّما يزيده قربًا من الله تعالى، فوقع فيما وقع فيه. فالأكل معصية، ولكن لم يباشرها إلاَّ متأوِّلًا, ولم يتعمَّد معصية الله تعالى. وأمَّا قوله تعالى: {لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا} الآية [الأعراف: 189] فلم تنزل في آدم وحوَّاء، وإنَّما نزلت في المشركين، رغمًا عن الوضَّاعين الكذَّابين (¬2). ¬

_ (¬1) هنا صفحة في أكثر من ثلثيها الأيمن عاموديًّا خرمٌ، وضرب الشيخ على نصفها الباقي، ومضمون بعض كلماتها الظاهرة عن إعجاز القرآن وصدق نسبته لله تعالى. (¬2) ساق الحافظ ابن كثير رحمه الله (3/ 525 - 528) جملةً من الآثار الواردة في هذه =

وأمَّا نوح عليه السلام، وقوله: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} [هود: 45] فإنَّه تأوَّل، ولم يتعمَّد، كما هو واضحٌ. وأمَّا إبراهيم عليه السَّلام فكلماته في المعاريض، وإنَّما يُقال لها كذب بحسب المتبادر منها فقط، كما هو واضح (¬1). وقوله في الكوكب والقمر والشمس: {هَذَا رَبِىّ} [الأنعام: 76] استهزاء وسخرية بقومه؛ توصُّلًا لإقامة الحُجَّة عليهم، ومعنى ذلك قوله تعالى بعد ذلك: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [الأنعام: 83]. ¬

_ = الآية, ثم قال: "وقد تلقَّى هذا الأثر عن ابن عباس جماعة من أصحابه، كمجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة، ومن الطبقة الثانية قتادة والسدي وغير واحد من السلف وجماعة من الخلف، ومن المفسَّرين من المتأخَّرين جماعات لا يحصون كثرة. وكأنَّه والله أعلم أصله مأخوذ من أهل الكتاب، فإنَّ ابن عباس رواه عن أُبيَ بن كعب رضي الله عنه .. وقد صحَّ الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا حدَّثكم أهل الكتاب فلا تصدَّقوهم ولا تكذَّبوهم .. وأمَّا نحن فعلى مذهب الحسن البصري، رحمه الله في هذا، وأنَّه ليس المراد من هذا السَّياق آدم وحواء، وإنَّما المراد من ذلك المشركون من ذريَّته؛ ولهذا قال الله: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} ". (¬1) يشير إلى ما أخرجه البخاري (3358) ومسلم (2371) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لم يكذب إبراهيم عليه السلام إلاَّ ثلاث كذبات, ثنتين منهنَّ في ذات الله عزَّ وجلَّ، قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا}، وقال: بينا هو ذات يوم وسارة إذ أتى على جبَّار من الجبابرة، فقيل له: إنَّ ههنا رجلاً معه امرأة من أحسن الناس، فأرسل إليه فسأله عنها، فقال: من هذه؟ قال: أختي .. " الحديث.

وقوله تعالى: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] ليس على أدنى شكٍّ، وإنَّما أراد أن يرى الكيفيَّة، كما أنَّنا الآن لا نشكُّ في وجود مصر، ولكن نحبُّ رؤيتها. وأمَّا لوطٌ عليه السلام فقوله: {أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود: 80] يعني: ركن عادي من غيره وقبيله؛ ليدفعهم، كما قال تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} الآية [الحج: 40]. وقوله: {هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود: 78] أراد التَّزويج والوَطْء المباح، وإلَّا فلا معنى لتغيير المنكر [ودعوتهم إلى منكر آخر]! وأمَّا إخوة يوسف فكثيرٌ من الأمَّة على أنَّهم ليسوا بأنبياء. وأمَّا يوسف عليه السلام [...] فأهمُّ ما ذكر عنه الهَمُّ، وهو الهمُّ بضرب المرأة, كما قال تعالى: {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ} [غافر: 5]. وأمَّا موسى عليه السلام فأخذْه رأس أخيه ظنًّا منه أنَّه يستحقُّ ذلك [لعدم إنكاره على قومه]. وأمَّا داود عليه السلام فقصَّة الخصم على ظاهرها, لا على تأويل الباطنيَّة، والاستغفار والسُّجود والإنابة مطلوبة على كل حالٍ، وظن الفتنة إنَّما هو في سعة الملك (¬1). ¬

_ (¬1) يعني ما جاء في قوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ =

وأمَّا سليمان عليه السلام فالفتنة الاختبار، والجسد لم يوجد تفسير له موثوق به، فهو كما أنَّ [...] مع تيقننا براءة سليمان عليه السَّلام من كل ما يقدح في منصب النبوَّة (¬1). وأمَّا [مَن ذكره الله في قوله:] {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} [الأعراف: 175] فلم يصحَّ دليلٌ على أنه كان نبيًّا؛ وقد يكون [أُوتِيَ بعض الآيات] بواسطة بعض الأنبياء، فانسلخ منها، وأخلد إلى الأرض، كما فعل سالم المخذول. [ص 28] وأمَّا محمَّد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فقوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] المراد بالذَّنب ما فعله ناسيًا، أو قاصدًا وجه الله فحصل خطأٌ. فإنَّما تكون ذنوب الأنبياء من جنس هذا، ومع ذلك ينبِّههم الله تعالى فورًا، والدليل على أنَّهم مؤاخذون بالنَّسيان، ما ورَد في حديث [طواف سليمان] عليه السلام على زوجاته (¬2)؛ فإنَّ فيه أنَّه إنَّما ترك "إن شاء الله" ناسيًا. وكذلك مؤاخذة [نبيِّنا] عليه السَّلام بالنسيان، ولذلك قوله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24]. ¬

_ = لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص:21 - 25]. (¬1) يعني: في قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} [ص: 34]. (¬2) أخرجه البخاري (2819) ومسلم (1654) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

وقوله تعالى: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} الآية [الأنفال: 68]، الخطاب للصحابة [...] في غنائم بدر، والخبر المخالف لما قلناه لم يصح. وقوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1)} الآيات، قصد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ما يظنُّ أنَّه خيرٌ، من استقبال بعض عظماء قريش، رجاء إسلامه، مع أنَّ ذلك السائل عن بعض أمور الدين لا يفوته، فعاتبه الله عزَّ وجلَّ، وبيَّن له أنَّ الأَولى الإقبال على ذلك الأعمى المؤمن. وما حُكِيَ من الثناء على اللَّات والعزَّى فلم يصحَّ، وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى} الآية [الحج: 52] (¬1)، فالمراد بالأماني: الأماني فيما يقصد به إلى ما يظنُّه خيرًا، ممَّا لا يوافق مراد الله تعالى منه. وأمَّا اختلاف المسلمين في العِصْمَة فنحن لا ننكر أنَّ في أقوال بعض المسلمين ما يخالف الحقَّ، ولكنَّه يكون هناك فريقٌ آخر قائل بالحقَّ، فلا يُجْمِع المسلمون على ضلالةٍ أبدًا ولله الحمد، والحقُّ ما شهد به كتاب الله تعالى وسُنَّة رسوله، والعقل السَّليم (¬2). ¬

_ (¬1) يُنظَر في تفصيل ذلك كتاب: "نصب المجانيق لنسف قصَّة الغرانيق" للشيخ الألباني رحمه الله. (¬2) الظاهر ممَّا سبق من سياق كلام المؤلَّف رحمه الله قوله بالعصمة المطلقة للأنبياء من جميع الذنوب حتى من صغائرها، وهو أحد قولين للناس في المسألة. وقد حكى غير واحدٍ من الأئمَّة - كالنَّووي والآمدي وابن تيمية وغيرهم سلفًا وخلفًا - القول عن أكثر علماء الإِسلام من السَّلَف والخلف بجواز وقوع الأنبياء في =

ثمَّ ذكر المخذول مسألة التَّثليث، وتشكَّك فيها، ثم بَرْهَن عليها - في نظَرِه - بأنَّ الإنسان مركَّبٌ من ثلاث حقائق، الجسم والروح والعقل. فنسأل الله تعالى العافية، ونعوذ به من الخذلان وسوء العاقبة، يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك. انظروا يا معشر العقلاء هذا البرهان، ولِمَ خصَّ هذه الثلاث بالذِّكْر، أليس للإنسان أيضًا فكرٌ ووهم وعلم ونحوه، وهي غير العقل ضرورة؛ لوجودها في المجنون. وعلى تخصيص الثلاث وشبَهِ الله تعالى بخلقه فلعلَّه يقول: إنَّ الأب هو الجسد، والابن: العقل، وروح القدس: الروح. وحينئذٍ فقد فارق الله تعالى عقله مدَّة حياة عيسى، وبقي - وأستغفر الله تعالى - بلا عقل، أو فارقه روحه وبقي - وأستغفر الله تعالى - ميتًا. وإمَّا أن يقول: إنَّ المفارق هو الجسد، فيبقى الروح والعقل مجرَّدين، أستغفر الله تعالى من حكاية هذه التُّرَّهات. [ص 26] وما ذكرت أنَّك انتقدته على القرآن، فلو ذكرتَه [لأجبتُ عنه] بمعونة الله تعالى، وإن كان لا يحتاج اعتراضك إلى جواب، لسقوطه ضرورةً. ¬

_ = صغائر الذنوب التي لا تتنافى مع الأمانة في تبليغ الرسالة، ومع عدم إقرارهم عليها. يُنظَر في ذلك: "الإحكام" للآمدي (1/ 227 - 230)، و"شرح صحيح مسلم" للنَّووي (3/ 53 - 54)، و"مجموع الفتاوى" لابن تيمية (4/ 319 - 321)، و (10/ 309)، و (15/ 51 - 57)، و (35/ 100 - 104) وغيرها، وأطال النفس في مناقشة الأدلَّة في "منهاج السُّنَّة" (2/ 393 - 435).

ولعلَّنا إن شاء الله يتيسَّر لنا [شرح] الآيات المتعلِّقة بأهل الكتاب جميعها [... بتفسيرها]، ولكني الآن في شغل. ومع ذلك فقد أجاب ابن حزمٍ، ورحمة الله، والنَّبهاني (¬1) عن آيات كثيرة وأحاديث، و [هوَّن عليَّ الأمر ...] ظنِّي. كيف والآيات التي أيَّد الله بها رسوله محمَّدًا صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لا تحصى، وفيها مؤلَّفات خاصَّة، كـ "دلائل النبوَّة" للبيهقي، وغيره. ويكفيك من هذا أنَّ يتيمًا من قريش نشأ بين أظهرهم بمكَّة، لم يشارك في شيءٍ من شؤونهم، وإنَّما رعى الغنم وشارك في التجارة ونحو ذلك، وكان بين قريش من صغره معروفًا بالصَّدق والأمانة، فلمَّا بلغ أربعين سنة بايَنَ قومَه كلَّ المباينة، وسفَّه أحلامهم وسبَّ آلهتهم وضلَّلهم وآباءهم، وعرَّض نفسه للإهانة والأذى، حتى بلغوا منه كلَّ مبلغٍ من الأذى، فلم يؤثَّر فيه ذلك. ثم عادوا إلى استمالته وبذلوا له الأموال، وبذلوا له الملك، فلم يستخفَّه ذلك، ولا حادَ عن سبيله قِيد شعرةٍ، حتى ترامت به الأيَّام إلى هجر وطنه ومسقط رأسه، ولم يزل مجاهدًا في سبيل الله تعالى حتى أتمَّ الله تعالى دينَه. ولم يُؤْثَر عنه شيءٌ ممَّا لا تخلو الملوك عنه من الجبروت والظلم والفساد في الأرض، بل كان نورًا كلُّه من أوَّله إلى آخره. ¬

_ (¬1) لعلَّه يقصد كتاب النبهاني: "حُجَّة الله على العالمين في معجزات سيَّد المرسلين".

ويا ترى [نظريتك] هذه كيف فاتت أحبار اليهود الذين أسلموا، كعبد الله بن سلام، وكعب الأحبار، ومن أسلم من النصارى أو قارب، كالنجاشي وأصحابه، وهرقل وغيرهم. كلَّا والله، لم يفُتْهُم، وإنَّما كانوا ينظرون ببصائر سليمة. ومع هذا فأقول مستعينًا بالله تعالى، مستمدًّا من كلام الإِمام ابن حزم رحمه الله (¬1). وأمَّا إيرادك لقوله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ} [الإسراء: 59]، وقوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (¬2) (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} الآية [العنكبوت:50 - 51] = مستدلًّا بهما على أنَّها لم تكن لمحمَّدٍ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم آيةٌ غير القرآن، فهذا نظرٌ غير صحيح. فإنَّ قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ} لا يقتضي أنَّه لم يرسل آية أصلاً؛ فإنَّ "أل" في الآيات عهديَّةٌ (¬3)، أي: الآيات التي سألها أهل مكَّة، من قلب الصفا ذهبًا ونحوه، كما فسَّره ابن عباس وغيره (¬4). ¬

_ (¬1) تصرَّف المؤلَّف رحمه الله في الاستمداد من كلام ابن حزم كما أشار ههنا، وسأكتفي بالإحالة لمواضع كلامه من "الفِصَل". (¬2) في الأصل: (وإذا لم تأتهم آية قالوا لولا أنزل عليه آية). (¬3) يُنظَر: "الفِصَل" لابن حزم (1/ 193). (¬4) يُنظَر في ذلك: "الدُّر المنثور" للسيوطي (9/ 385 - 388).

وإلَّا فقد أيَّد الله محمدًا صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بعدة آيات، نقلتها الكواف، بل في القرآن نفسه الإخبار بالغيب، والمنع من المعارضة وغيره، فكيف تحمل الآيات على الاستغراق حتى يستدل بها على أنَّه لم يُمَدَّ بآية (¬1)؟! وأمَّا قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ (¬2)} [العنكبوت: 50]، فكذلك، بل بالعكس، يفهم أنَّ هنالك آيات غير القرآن، وإنَّما المشركون يريدون آية ممَّا طلبوه، كأن يكون معه ملَك، أو نحو ذلك، فأجابهم الله تعالى أنَّ القرآن آيةٌ دائمة مستمرَّة، هي أعظم من كلِّ آية (¬3). وقول المخذول: لِمَ لمْ يقُل: (إنا أنزلنا عليك الكتاب آية)؟ فقل له: يا مخذول، إنَّ الكلام يدلُّ عليها أتمَّ دلالة، وإلَّا فما معنى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ} في مقابلة طلبهم آية؟! ويا ترى إذا قلنا لك: إنَّ فلانًا مجنون، فقلتَ: وما الدليل على جنونه؟ فقلنا: أولم يكفك أنَّ أقواله وأفعاله مشوَّشة غير منتظمة = هل يحتاج مع ذلك إلى أن نقول: وذلك دليل على الجنون. [ص 42] لا خلاف بين جميع الأمم أنَّ بني إسرائيل كانوا بمصر في أشدِّ العذاب؛ لذبح أولادهم، واستحياء نسائهم، وتسخيرهم، فأتاهم موسى عليه السلام يدعوهم إلى الخلاص من هذه المشاق، وكانوا أهل عسكر واحدٍ، ¬

_ (¬1) يُنظَر: "الفِصَل" لابن حزم (1/ 185 - 187). (¬2) في الأصل: (وإذا لم تأتهم آية قالوا لولا أنزل عليه آية). (¬3) يُنظَر: "الفِصَل" لابن حزم (1/ 194).

وبني عمًّ وأهل بلد صغير واحد، فاتَّبعوه. ثم لم يزالوا يتهافتون على الخلاف، تارةً يسألونه أن يجعل لهم إلهًا، وتارةً يجعلون لأنفسهم، وتارةً [...]، وتارةً يقولون: {اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24]. إلى غير ذلك من الأوابد والفظائع، [واعتادوا] على الارتدادات وعبادة الأوثان وقتل الأنبياء. ثمَّ إنَّ عيسى عليه السلام جاء بالبيِّنات وعظام المعجزات، أولها ولادته من غير أبٍ، ثم تكلُّمه [بالمهد صبيًّا]، وإبراء المرضى بإذن الله، مع أنَّ لديهم التبشير به، وهو يناديهم أنَّه إنَّما جاء مقرَّرًا للتوراة، لا ينقض حرفًا واحدًا [منها]. فلم يؤمن به في نصَّ الإنجيل إلاَّ نحو اثني عشر رجلاً معروفين، ونساءٌ قليل، وعدد لا يبلغ جميعهم وفي جملتهم الإثنا عشر [...]، وكانوا مشرَّدين مُسْتَخْفِين، وارتدَّ جماعةٌ منهم بنصَّ الإنجيل. وأمَّا محمَّد عليه السلام فلا خلاف بين جميع الأمم أنَّه نشأ في مكَّة يتيمًا، لا مال له، أميًّا، رعى غنم قومه بأجرة و [...]، ولم يفارق مكَّة فراقًا يتمكَّن به من معرفة أحوال الأمم، فنشأ محفوظًا من قبيح العادات، [حتى لُقِّب:] الأمين، فاختاره الله لنبوَّته، واصطفاه لرسالته، فعلَّمه ما لم يعلم، وألزمه بما ألزم. فقابله معظم قومه بالتَّكذيب والأذى والشتيمة، وقاطعوه مع عشيرته، فلم يزده ذلك إلاَّ جدًّا في أمر الله، فعدلوا عن الأذى إلى الاستمالة، فبذلوا له الأموال الكثيرة والتَّمليك عليهم، فأبى وقال: "والله لو وضعوا الشمس في

يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه، ما تركته" (¬1). واستمرُّوا على أذاه وأذى من اتَّبعه، حتى عذَّبوهم، وقتلوا بعضهم، وهاجر بعضهم إلى الحبشة، وفيهم بنته وخَتَنُه، وتآمروا عليه مرارًا بالقتل، وهمُّوا به لولا عصمة الله له. ولم يزل يدعو إلى الله سِرًّا وجهرًا، ويعرض نفسه على القبائل، حتى جاءه الجماعة من الأنصار ووعدوه النُّصرة، فخرج من بين ظهراني قومه مهاجرًا إلى المدينة، وتَبِعَه مَن تَبِعَه من قومه، فأعماهم الله تعالى وصدَّهم. فلمَّا وصل المدينة ثابر على الدَّعوة إلى الله، ودخلت الناس في دين الله أفواجًا، جُلُّهم استسلامًا للحقَّ وانجذابًا إلى الهدى، وخضوعًا للحُجَّة، ولم يدخل بالحرب إلاَّ القليل. وكانت العرب قومًا لقاحًا لا يملكهم أحدٌ، ولهم ديانة مضى عليها ¬

_ (¬1) أخرجه ابن إسحاق في "السيرة" (1/ 329)، وأبو نعيم في "الدلائل" (ص 197)، والبيهقي في "الدلائل" (2/ 187)، وغيرهم، من طريق يعقوب بن الأخنس به، بإسناد معضل، وبه ضعَّفه الألباني في "الضعيفة" (909). وأخرجه البخاري في "تاريخه" (7/ 50)، والبزَّار (6/ 115)، وأبو يعلى (12/ 176) والطبراني في "الكبير" (17/ 191)، وغيرهم، من طريق يونس بن بكير حدثنا طلحة بن يحيى عن موسى بن طلحة حدثنا عقيل ابن أبي طالب، بلفظ: "ما أنا بأقدر على أن أدع لكم ذلك على أن تشعلوا لي منها شعلة". يعني: الشمس. قال الهيثمي في "المجمع" (6/ 15): "رجال أبي يعلى رجال الصحيح"، وحسَّنه الألباني في "الصحيحة" (92).

أسلافهم، كمضر وربيعة وإياد وقضاعة؛ أو ملوكًا في بلادهم، كاليمن وعمان والبحرين قد ملؤوا الجزيرة، وهي نحو شهرين في شهرين. فقام وحده - كما شرحنا - يضلَّل دينهم ويسفَّه أحلامهم ويسبُّ آلهتهم، فانقادوا كلهم لظهور الحق، وآمنوا به طوعًا، ونسوا ما كان بينهم من البغضاء والشحناء والتَّرات والذُّحول والاختلاف [الذي] لا يمكن بحسب العادة إزالته، فألَّف الله بينهم حتى صاروا إخوانًا كبني أب وأم، كما قال: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال: 63]. [وترك كل] منهم ملكه، مع ما لهم من القوَّة وكثرة الجيوش، ولم يكن بيده ما يرغب فيه من المال، بل دعاهم أن ينحطُّوا إلى غرم الزكاة وجري الأحكام عليهم وإقامة الحدود والأخذ للضعفاء من الأقوياء بكل فتيل ونقير. فيا للعقلاء! أتنقاد هذه الأمم العظمى على هذه الكيفيَّة لغير برهان وبغير سلطان، ثم يستمر ذلك إلى آخر الزمان؟! [ص 39] [ومع ذلك] كله فلم يُؤْثَر عنه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كذبٌ ولا زورٌ؛ بل لمَّا كسفت الشمس وكان ذلك يوم موت ولده إبراهيم [وقال الناس:] "إنَّما كسفت الشَّمس لموت إبراهيم" فخرج مسرعًا، وخطبهم قائلاً: "إن الشَّمس والقمر آيتان من آيات الله، وإنَّهما لا ينكسفان [لموت] أحدٍ ولا حياته" (¬1). فلو كان فيه أدنى شائبةٍ للهوى لترك الناس على ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1040) ومسلم (901)، من حديث عدَّة من الصحابة رضي الله عنهم.

اعتقادهم، بل لأكَّد لهم ذلك وعظَّمه [لهم، ولكنَّه] صلَّى الله عليه وآله وسلَّم منزَّهٌ عن كلَّ نقصٍ. ومع ما كان له من التَّمكين لم يتوسَّع في شيءٍ من المآكل [والمشارب، والملذَّات، وغير] ها، بل كان أكثر ما يأكل خبز الشَّعير، أو التَّمر والماء، وينام على حصير يؤثَّر في جنبه. [وكانت ابنته] فاطمة تخدم في بيتها حتى ورمت يدها، وسَأَلَته خادمًا من السبي، فمنعها [وعلَّمها ذكرًا تقوله] (¬1). وقام هو بالعبادة حتى ورمت قدماه (¬2). وكم من أموالٍ تمكَّن منها، من الغنائم والزَّكوات وغيرها، أنفقها كلَّها في سبيل الله، وقسمها على مستحقيها, ولم يتَّخذ لنفسه ولا لأهل بيته منها شيئًا. وكان له [في] حياته أملاكٌ ينفق منها على أهله مقتصدًا، ثم ينفق الباقي في مصالح المسلمين، وأوصى أن يكون [ميراثه بعده] صدقة (¬3). وخلَّف عمّه العبَّاس وبنيه، وابن عمِّه علي بن أبي طالب زوج ابنته فاطمة، وأبا سبطيه الحسن والحسين، وكانوا من أطوع الناس لله وله، أحب الناس لله وله، وأحب الناس إلى الله وإليه = فلم يحمله ذلك أن يخصَّهم بشيءٍ في حياته، أو يجعل الأمر فيهم بعد وفاته. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3113) من حديث علي رضي الله عنه. (¬2) أخرجه البخاري (1130) من حديث المغيرة رضي الله عنه. (¬3) أخرجه البخاري (3090) ومسلم (1758) من حديث عائشة رضي الله عنها.

ثمَّ إنَّ شريعته الغرَّاء الحنيفيَّة أعدل شاهد لمن كان له قلبٌ أو ألقى السَّمع وهو شهيد على أنَّه رسوله الله، وأنَّ هذا نورٌ من الله، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد؛ لما اشتملت عليه الشَّريعة من الأسرار، والحكم والمحاسن، والنطق بالحق والعدل والإنصاف، والاستقامة التي ليس بعدها غايةٌ ولا وراءها نهايةٌ. مع ما اشتملت عليه من دقائق السياسات، وحفظ [النطاقات]، وموجبات الرُّقِيِّ، وغير ذلك ممَّا لا يحُصى ولا يحصر، ولا ينكره إلاَّ أعمى القلب والبصر. ومع هذا كلَّه فإنَّ آياته ومعجزاته أكثر من أن تحصَى، كالإخبار بعدم تمنِّي اليهود للموت (¬1)، ونبعان عين تبوك فهي كذلك إلى اليوم (¬2)، ونبعان الماء بين أصابعه بحضرة العسكر (¬3)، وإطعامه النَّفر الكثير من طعامٍ يسير مرارًا جمَّة بحضرة الجموع (¬4)، وإخباره بأكل الأرَضَة كل ما في الصَّحيفة المكتوبة حاشا أسماء الله تعالى (¬5)، وإنذاره بمصارع أهل بدرٍ موضعًا ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في "دلائل النبوَّة" (6/ 274) عن ابن عباس رضي الله عنه. ويُنظَر أيضًا: "الدُّر المنثور" للسيوطي (1/ 471 - 473). (¬2) أخرجه مسلم (706) من حديث معاذ بن جبلٍ رضي الله عنه. (¬3) أخرجه البخاري (3576) من حديث جابر رضي الله عنه، ومسلم (1807) من حديث سلمة ابن الأكوع رضي الله عنه. (¬4) منها ببيت أبي طلحة الأنصاري رضي الله عنه، كما أخرجه البخاري (3578) ومسلم (2040) من حديث أنس رضي الله عنه. (¬5) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" (1/ 189، 210) وأبو نعيم في "الدلائل" (ص 199) والبيهقي في "الدلائل" (2/ 312) بأخبار منقطعة الأسانيد.

موضعًا بحضرة الجيش (¬1)، وانشقاق القمر (¬2)، إلى ما لا يُحصى ممَّا ثبت بعضه بنقل الجمع عن الجمع، وبعضه بالسَّند المتَّصل بالثِّقات العدول الصدوقين، الجاعلين نصب أعينهم قوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "من كذب عليَّ متعمِّدًا فلْيتبوَّأ مقعده من النَّار" (¬3). نسأل الله تعالى العصمة والهداية والتوفيق بفضله وكرمه. [ص 27] وقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ [الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ] بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا [بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 78، 79] ....]. وبعد فإنَّ في القرآن مواضع [........................................] أنَّ الكتب التي عناها [................................................] كما شرحه أبو محمَّد [ابن حزمٍ رضي الله عنه فقال: "أول ذلك أنَّ بأيدي السامريَّة توراة غير التوراة التي بأيدي] سائر اليهود، يزعمون [أنَّها المنزلة، ويقطعون أنَّ التي بأيدي] اليهود محرَّفةٌ مبدَّلة، وسائر [اليهود يقولون] إنَّ التي بأيدي [السامرية محرَّفة مبدلَّة"] (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2873) من حديث عمر رضي الله عنه. (¬2) أخرجه البخاري (3636) ومسلم (2800) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. (¬3) أخرجه البخاري (110) ومسلم في المقدَّمة (3) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وغيرِه. (¬4) "الفِصل" (1/ 202).

[قال أبو محمَّد رضي الله عنه]: "في التوراة: أنَّ بنيامين لم يولد ليعقوب إلاَّ [بأقراشا] بقرب بيت لحم، [على أربعة أميال من بيت المقدس بعد] رحيله من فدان أرام بدهر" (¬1). ثم ذكر بنيامين في ذكر الذين ولدوا [ليعقوب] بفدان أرام، وفيها قال ابن حزمٍ: "فصلٌ: وبعد ذلك قال: "وكان مسكن بني إسرائيل بمصر أربع مائة وثلاثين سنة، فلما انقضت هذه السنون خرج ذلك اليوم معسكر السيد من أرض مصر. قال أبو محمَّد رضي الله عنه: هذه فضيحة الدَّهر، وشهرة الأبد، وقاصمة الظهر! يقول ههنا إنَّ مسكن بني إسرائيل بمصر أربع مائة سنة وثلاثون سنة! وقد ذكر قبل أنَّ فاهاث بن لاوي دخل مصر مع جدَّه [يعقوب] ومع أبيه لاوي، ومع سائر أعمامه وبني أعمامه، وأنَّ عُمْر [فاهاث] بن لاوي المذكور كان مائة سنة [وثلاثة] وثلاثين سنة، وأنَّ عمران بن فاهاث بن لاوي المذكور كان عمره مائة سنة وسبعًا وثلاثين [سنة، وأنَّ موسى بن عمران] بن فاهاث بن لاوي المذكور كان إذ خرج ببني إسرائيل من مصر مع نفسه ابن ثمانين سنة. هذا كلُّه [منصوصٌ كما نذكره] في الكتاب الذي يزعمون أنَّه التوراة. فهَبْكَ أنَّ فاهاث دخل مصر ابن شهرٍ أو أقل، وأنَّ عمران ابنَه وُلِد بعد موته، وأنَّ موسى بن عمران وُلِد بعد موت أبيه، ليس يجتمع من كل ذلك إلاَّ ثلاثمائة عام وخمسون عامًا فقط، فأين الثمانون عامًا الباقية من جملة ¬

_ (¬1) "الفِصل" (1/ 235).

أربعمائة سنة وثلاثين سنة؟! فإن قالوا: نضيف إلى ذلك مُدَّة بقاء يوسف بمصر قبل دخول أبيه وإخوته. قلنا: قد بيَّن في التوراة أنَّه كان إذ دخله ابنَ سبع عشرة سنة، وأنَّه كان إذ دخلها أبوه وإخوته ابنَ تسعٍ وثلاثين سنةٍ، فإمَّا (¬1) كان مقامه بمصر قبل أبيه وإخوته اثنين (¬2) وعشرين سنة ضمَّها إلى ثلثمائة سنة وخمسين سنة = يقوم من الجميع بلا شكٍّ ثلاثمائة واثنان (¬3) وسبعون سنة، أين الثماني والخمسون الباقية من أربعمائة سنة! هذه شهرة لا نظير لها، وكذبٌ لا يخفى على أحد، وباطلٌ يقطع بأنَّه لا يمكن ألبتَّة أن يعتقده [أحدٌ في رأسه شيءٌ] من دماغٍ صحيحٍ؛ لأنَّه لا يمكن أن يكذب اللهُ تعالى في دقيقةٍ، ولا أن يكذب [رسولُه]- صلى الله عليه وسلم -[عامدًا ولا] مخطئًا في دقيقةٍ فيقرُّه الله تعالى على ذلك = فكيف ولا بد أن يسقط [من هذه المُدَّة] سِنُّ [فاهاث إذ وُلِد له عمران]، وسِنُّ عمران إذ ولد له موسى عليه السلام. والصَّحيح [الذي] يخرج على [نصوص كتبهم] أنَّ مُدَّة [بني إسرائيل مذ دخل يعقوب] وبنوه مصر إلى أن خرجوا منها مع موسى عليه [السلام لم تكن إلاَّ مائتي عام وسبعة عشر عامًا، فهذه كذبة في مائتي] عام وثلاثة عشر ¬

_ (¬1) في "الفِصَل" (1/ 253): "فإذن". وأشاروا في الهامش أنه "فإما" في نسخة. (¬2) كذا في الأصل و"الفِصَل" (1/ 253). (¬3) كذا في الأصل و"الفِصَل" (1/ 253).

[عام، ولو لم يكن في [توراتهم إلاَّ هذه الكذبة وحدها لَكَفَت في أنَّها موضوعة مبدَّلة من حمارٍ في] جهله أو مستخفٍّ [سَخِر بهم ولا بد"] (¬1). وقال الإِمام المذكور: "والخامسة: قوله في "سفر يوشع" (¬2) إنَّه وقع لبني هارون ثلاث عشرة مدينة، والعازار بن هارون حيٌّ قائمٌ. فيا للناس! أفي المحال أكثر من أن يدخل في عقل أحدٍ أنَّ نسل هارون بعد موته بسنةٍ وأشهر يبلغ عددًا لا يَسَعُه للسُّكنى إلا ثلاث عشرة مدينة؟! هل لهذا الحمق دواءٌ إلا الغل والقَيد والمجمعة وما يتبع ذلك من الكَيَّ والسَّوط! والعياذ باللهِ من الخذلان. وكذبة سادسةٌ ظريفة جدًّا، وهي أنَّه ذكر في توراتهم أنَّ عدد ذكور بني جرشون بن لاوي من ابن شهر فصاعدًا كانوا ستة آلاف وخمسمائة، وأنَّ عدد ذكور بني قهاث بن لاوي من ابن شهر فصاعدًا كانوا [ثمانية آلاف وستمائة، وأنَّ عدد ذكور بني مراري بن لاوي من ابن شهر فصاعدًا كانوا ستة آلاف ومائتين. ثم قال: فجميع الذكور من بني لاوي من ابن شهر فصاعدًا اثنان وعشرون ألفًا! فكان هذا ظريفًا جدًّا، أو شيئًا تندى منه الآباط! وهل يجهل أحدٌ أنَّ الأعداد المذكورة إنَّما هي يجتمع منها واحدٌ وعشرون ألفًا وثلاثمائة؟! هذا أمرٌ لا ندري كيف وقع؟! أتُرَاه بلغ المسَخَّم الوجه الذي كتب لهم هذا الكتاب الأحمق من الجهل بالحساب هذا ¬

_ (¬1) "الفِصل" (1/ 252 - 253). (¬2) الكتاب المقدس (ص 454) سفر يشوع، إصحاح (21) فقرة (4).

المبلغ، إنَّ هذا لعجبٌ! ولقد كان الثور أهدى منه والحمار أنْبَه منه بلا شكٍّ، أتُرَى لم يأت بعده من اليهود مذ أزيد من ألف عام وخمسمائة عام من تبيَّن له أنَّ هذا خطأ وباطل؟! ولا يمكن أن يُدَّعَى هنا غلطٌ من الكُتَّاب، ولا وَهمٌ من النَّاسخ في بعض النُّسخ؛ لأنَّه لم يدعنا في لبسٍ من ذلك .. " (¬1)] (¬2). [ص 30] [ثم قال الإِمام ابن حزم رحمه الله: "فصل: ثم قال آخر توراتهم: فتوفَّي] موسى عبد الله بذلك الموضع في أرض "مواب"، [مقابل بيت "فغور"، ولم يَعْرِف آدميٌّ موضع قبره إلى اليوم، وكان] موسى يوم توفَّي ابنَ مائةٍ وعشرين سنةً، لم ينقص بصره، [ولا تحرَّكت أسنانه، فنعاه بنو إسرائيل في موطنه "مواب" ثلاثين يومًا، وأكملوا] نَعْيَه، ثم إنَّ يوشع بن نون امتلأ [من روح الله، إذ جعل موسى يديه عليه، وسمع له بنو إسرائيل، وفعلوا ما أمر] الله به موسى، ولم يخلِّف موسى [في بني] إسرائيل نبيًّا مثله، ولا من [يكلِّمه الله مواجهة، في جميع عجائبه التي فعل على يديه] بأرض مصر، في فرعون مع عبيده، وجميع أهل مملكته، ولا من صنع [ما صنع موسى في جماعة بني إسرائيل]. قال أبو محمَّد رضي الله عنه: هذا آخر توراتهم [وتمامها، وهذا الفصل شاهد عدل]، وبرهانٌ تام، ودليلٌ قاطعٌ، وحُجَّةٌ صادقةٌ في أنَّ توراتهم ¬

_ (¬1) من قوله: "ثمانية آلاف وستمائة" إلى هذا الموضع استدركته من الفصل، سقط لخرمٍ في الأصل. (¬2) "الفِصَل" لابن حزم (1/ 275 - 276).

[مبدَّلة، وأنَّها تاريخٌ مؤلَّفٌ، كتبه لهم من تخرَّص] بجهله، أو تعمَّد بفكره، وأنَّها غير منزَّلة من عند الله تعالى؛ إذ لا يمكن أن يكون هذا الفصل منزَّلًا على موسى في حياته، فكان يكون إخبارًا عمَّا لم يكن بمساق ما قد كان، وهذا هو محض الكذب، تعالى الله عن ذلك. وقوله: "لم يَعْرِف قبرَه آدميٌّ إلى اليوم" بيانٌ لما ذكرنا كاف، وأنَّه تاريخٌ أُلَّف بعد دهرٍ طويلٍ ولا بد" انتهى (¬1). [قلتُ]: قد راجعتُ التَّوراة المطبوعة، فإذا المعنى واحدٌ، وإن اختلفت الألفاظ. [ثم عقد] أبو محمَّد رضي الله عنه فصلاً مشبعًا في تاريخ بني إسرائيل، وارتداداتهم المتعدَّدة، وحال التوراة وغربتها، وكونها كانت من يد واحد إلى يد واحد، ثم ما طرأ عليها من النَّهب والإحراق مرات، وفقدهما من أيديهم مدَّة طويلة، إلى أن جاء "عزرا الورَّاق" - كما يذكرون - فأملاها من حفظه. إلى آخر ما شرح بما يقطع معه أنَّ التي بأيديهم الآن ليس هو الذي أنزله الله تعالى (¬2). وأول الجزء الثاني من "الملل والنِّحَل" للإمام المذكور ذكر حال الإنجيل، وأنَّ النَّصارى عن بكرة أبيهم مقرُّون أنَّه ليس بأيدهم كتابٌ منزَّلٌ ¬

_ (¬1) "الفِصَل" لابن حزم (1/ 284 - 285). وما بين الأقواس المعقوفة وقع فيه خرم بالأصل، استدركته من "الفِصَل". (¬2) "الفِصَل" لابن حزم (1/ 288 - 329).

من عند الله تعالى، وإنَّما بأيديهم تواريخ كُتِبت بعد وفاة المسيح بزمان، وبيَّن ضعف الرِّواية لتلك التواريخ؛ لضعف من كان متديِّنًا بدين المسيح، واستخفائهم تحت الذُّلِّ والخوف والقتل، ثم ما عارضهم من اختلاط المنانية بهم. إلى آخر ما شرح، بما معه يبطل دعوى النَّصارى من أصلها (¬1). ثم ذكر دعوى النَّصارى أنَّهم مصدِّقون للتوراة التي بأيدي اليهود، و [عقد] فصلاً فيما يثبته النصارى [...] (¬2). [ثم] شرح فصلاً في التواريخ، قال آخرَه: "فتولَّد [من الاختلاف المذكور] بين الطائفتين [زيادة عن ألف عام] وثلاثمائة عام وخمسين عامًا عند النَّصارى [في تاريخ الدنيا على ما هو] عند اليهود .. " (¬3). [ص 45] إلى أن قال: "ولا بد للنصارى ضرورةً من أحد خمسة أوجهٍ، لا مخرج لهم عن أحدها. إمَّا أن يصدِّقوا [نقل اليهود] للتَّوراة، وأنَّها صحيحة عن موسى عن الله تعالى، ولكتبهم. وهذه طريقتهم في الحِجاج والمنا [ظرة]. فإن فعلوا فقد أقرُّوا على أنفسهم وعلى أسلافهم الذين نقلوا عنهم دينهم بالكذب؛ [إذ خالفوا قول الله تعالى] وقول موسى عليه السلام. أو يكذِّبوا موسى عليه السلام فيما نقل عن الله عزَّ [وجلَّ، وهم لا يفعلون هذا]. ¬

_ (¬1) "الفِصَل" لابن حزم (2/ 13 - 19). (¬2) "الفِصَل" لابن حزم (2/ 21). (¬3) "الفِصَل" لابن حزم (2/ 21 - 23).

أو يكذَّبوا نقل اليهود للتَّوراة ولكتبهم، فيبطل تعلُّقهم بما في تلك الكتب، ممَّا [يقولون إنَّه إنذارٌ] بالمسيح عليه السلام؛ إذ لا يجوز لأحدٍ أن يحتجَّ بما لا يصح نقله. أو يقولوا كما قال بعضهم: إنَّهم [إنَّما عوَّلوا] فيما عندهم على ترجمة السبعين شيخًا، الذين ترجموا التوراة وكتب الأنبياء عليهم السلام لبطليموس. فإن قالوا هذا فإنَّهم لا يخلون ضرورةً من أحد وجهين، إمَّا أن يكونوا صادقين في ذلك، أو يكونوا [كاذبين في ذلك]. فإن كانوا كاذبين في ذلك فقد سقط أمرهم، والحمد لله رب العالمين؛ إذ لم يرجعوا إلَّا [إلى المجاهرة] بالكذب. وإن كانوا صادقين في ذلك فقد حَصَلَت توراتان متخالفتان متكاذبتان متعارضتان، توراة السبعين شيخًا، و"توراة عزرا". ومن الباطل الممتنع كونهما جميعًا حقًّا من عند الله. واليهود والنَّصارى كلُّهم مصدِّقٌ مؤمنٌ بهاتين التوراتين معًا، سوى توراة السامرية، ولا بد ضرورةً من أن تكون إحداهما حقًّا، والأخرى مكذوبة، فأيُّهما كانت المكذوبة فقد حصَلَت الطَّائفتان على الإيمان بالباطل ضرورةً، ولا خير في أمَّةٍ تؤمن بيقين الباطل. وإن كانت توراة السبعين شيخًا هي المكذوبة فلقد كانوا شيوخ سوءٍ كذَّابين ملعونين؛ إذ حرَّفوا كلام الله تعالى وبدَّلوه. ومن هذه صفته فلا [يحلُّ] أخذُ الدِّين عنه، ولا قبول نقله. وإن كانت "توراة عزرا" هي المكذوبة فقد كان كذَّابًا؛ إذ [حرَّف كلام

الله تعالى]، ولا يحلُّ أخذ شيءٍ من الدِّين عن كذَّابٍ. ولا بد من أحد الأمرين، أو يكون كلاهما كِذبًا، وهذا [هو الحق] اليقين الذي لا شكَّ فيه؛ لِمَا قدَّمْنا ممَّا فيها من الكذب الفاضح، الموجب للقطع بأنَّها مبدَّلَة [محرَّفةٌ، وسقطت] الطائفتان معًا، وبطل دينهم الذي إنَّما مَرْجِعُه إلى تلك الكتب المكذوبة، ونعوذ بالله من الخذلان" (¬1). ثم ذكر شيئًا (¬2) عن الأناجيل، أولها في أول "إنجيل متَّى" في نسب المسيح [أنَّه يذكر نسب المسيح] أنَّه ابن يوسف النجَّار، وبيان ما في ذلك الفصل من الكذب، ثمَّ ما بين "إنجيل متَّى" و"إنجيل [لوقا] " من التكاذب في هذا النَّسب (¬3). ثم قال: "فصلٌ: وفي الباب الثالث من "إنجيل متَّى" (¬4): فلحق يسوع - يعني: المسيح - بالمفاز، وساقه الروح إلى هنالك". ثم ذكر ما في هذا الفصل من الأوابد (¬5). [ص 48] [ثم] قال: "فصلٌ: وفي الباب الرَّابع من "إنجيل متَّى": أنَّ المسيح قال لتلاميذه: لا تحسبوا أنَّي جئتُ لنقض التوراة وكتب الأنبياء، إنَّما أتيتُ لإتمامها، امين، أقول لكم إلى أن تبيد السماء والأرض لا تبيد باءٌ ¬

_ (¬1) "الفِصَل" لابن حزم (2/ 24 - 25). (¬2) في الأصل: "شيء". (¬3) "الفِصَل" لابن حزم (2/ 27 - 34). (¬4) "إنجيل متَّى" من "الكتاب المقدَّس" (ص 43)، إصحاح 5 فقرة 1 وما بعدها. (¬5) "الفِصَل" لابن حزم (2/ 35 - 37).

واحدة، ولا حرف واحد من التوراة حتى يتمَّ الجميع .. الخ (¬1) " (¬2). ثم قال: "قال أبو محمَّد رضي الله عنه: وهذه نصوصٌ تقتضي التأييد، وتمنع من النسخ جملة". ثم ذكر ما يناقض ذلك [...] النسخ. إلى أن قال: "ثم ذكر في الباب الثامن عشر من "إنجيل متَّى" أنَّ المسيح قال للحواريين الاثنا عشر بأجمعهم - ومن جملتهم يهوذا الأشكريوطا، الذي دلَّ عليه اليهود برشوة ثلاثين درهمًا -: "كلُّ ما حرَّمْتُمُوه في الأرض يكون محرَّمًا في السماء وكل ما حلَّلْتُمُوه في الأرض يكون محلَّلًا في السماء" (¬3). وفي الباب السادس عشر من "إنجيل متَّى" أنَّه قال هذا القول لباطرة وحده (¬4). قال أبو محمَّد رضي الله عنه: وهذا تناقضٌ عظيمٌ، كيف يكون التَّحليل ¬

_ (¬1) لفظ الترجمة المعاصرة من "إنجيل متَّى" من "الكتاب المقدَّس"، (ص 47 - 48)، إصحاح 5 فقرة 17 - 18: "لا تظنوا أنَّي جئت لأبطل الشريعة أو الأنبياء، ما جئت لأبطل، بل لأكمل، الحق أقول لكم: لن يزول حرفٌ أو نقطةٌ من الشريعة حتى يتم كل شيء، أو تزول السماء والأرض". (¬2) "الفِصَل" لابن حزم (2/ 45). (¬3) لفظ الترجمة المعاصرة من "إنجيل متَّى" من "الكتاب المقدَّس" (ص 88)، إصحاح 18 فقرة 18: "ما ربطتم في الأرض رُبِط في السماء، وما حللتم في الأرض حُلَّ في السماء". (¬4) "إنجيل متَّى" من "الكتاب المقدَّس" (ص 83) إصحاح 16 فقرة 19، بنحو ما قبله. و"باطرة" في اصطلاحهم هو "بُطْرُس".

والتَّحريم للحواريين أو لباطرة مع قوله: إنَّه لم يأت لتبديل التوراة لكن لإتمامها؟! وإنَّه من نَقَضَ من عهودها عهدًا صغيرًا دُعِيَ في ملكوت السموات صغيرًا، وإنَّ السماوات والأرض تبيدان قبل أن تبيد من التوراة باءٌ واحدةٌ أو حرفٌ واحدٌ! ولئن كان صَدَق في هذا فإنَّ في نصَّ التوراة أنَّ الله تعالى قد لعن من صُلِبَ في خشبةٍ (¬1)! وهم يقولون: إنِّه صُلِب في خشبةٍ! ولا شك في أنَّ باطرة وشمعون أخوا يوسف، وأندرياش أخو (¬2) باطرة، وفليش، وبولس = صُلِبوا في الخشب فَعَلى قول المسيح لا يبيد شيءٌ من التوراة حتى يتمَّ جميعها= فكُلُّ هؤلاء ملعونون بلعنة الله تعالى! فاعْجَبُوا لضلال هذه الفرقة المخذولة، فما سُمِع بأطمَّ من هذه الفضائح أبدًا" (¬3). أقول: يتعيَّن علينا أن ننقل هنا فصلاً مشبعًا ذكره الإِمام المذكور أواخر الجزء الأول، وهو شاف كاف في جواب هذا المخذول. قال الإِمام أبو محمَّد رضي الله عنه: "فإن قيل: فإنَّكم تقرُّون بالتوراة والإنجيل (¬4)، وتستشهدون على اليهود والنَّصارى بما فيها من ذكر صفات ¬

_ (¬1) في "سفر التثنية" (ص 390) من "الكتاب المقدَّس" إصحاح 21 فقرة 23: " .. لأنَّ المعلَّق لعنة من الله"، وفي "رسالة القديس بولس إلى أهل أغلاطية" (ص 577) 3/ 13: "إنَّ المسيح افتدانا من لعنة الشريعة إذ صار لعنةً لأجلنا؛ فقد ورد في الكتاب: ملعون من عُلَّق على الخشبة". (¬2) كذا في "الفِصَل" (2/ 47). (¬3) "الفِصَل" لابن حزم (2/ 45 - 47). (¬4) تكرَّرت عبارة "فإن قيل .. والإنجيل" في الأصل.

نبيَّكم، وقد استشهد نبيُّكم عليهم بنصِّها في قِصَّة الرَّجم (¬1) للزَّاني المُحْصَن، ورُوِيَ أنَّ عبد الله بن سلام ضَرَب يد عبد الله بن صُوريا، ووضعها على آية الرجم (¬2). ورُوِيَ أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أخذ التَّوراة وقال: "آمنتُ بما فيك" (¬3). وفي كتابكم: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [المائدة: 68]، وفيه أيضًا: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 93]، وفيه أيضًا: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا [ص 43] لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} [المائدة: 44]، وفيه: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ ¬

_ (¬1) في الأصل: "الراجم". (¬2) أخرجه البخاري (3635) ومسلم (1699) من حديث ابن عمر رضي الله عنه، وليس فيهما ولا في غيرهما ضرب يده, بل الوارد الأمر برفع يده. وتسمية ابن صوريا وقع في غيرهما، عند ابن حبان (4435) وغيره. (¬3) أخرجه أبو داود (4449) من حديث ابن عمر قال: أتى نفر من اليهود فدعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى القف فأتاهم في بيت المدارس فقالوا: يا أبا القاسم إنَّ رجلاً منا زنى بامرأة فاحكم، قال: ووضعوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسادة فجلس عليها، ثم قال: "ائتوني بالتوراة" فأتي بها، فنزع الوسادة من تحته، ووضع التوراة عليها، وقال: "آمنت بك وبمن أنزلك .. " الحديث. وقد حسَّن إسناده الألباني في "الإرواء" ضمن الحديث (1253)، وسيأتي بعد قليل حكم ابن حزمٍ عليه بالوضع!

هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47]، وفيه: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [المائدة: 66]، وفيه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ} [النساء: 47]. قلنا - وبالله التوفيق -: كل هذا حقٌّ, حاشا قوله عليه السلام: "آمنتُ بما فيك"؛ فإنَّه باطلٌ، [لم يصحَّ] قطُّ. وكلُّه موافقٌ لقولنا في التوراة والإنجيل بتبديلهما, وليس شيءٌ منه حُجَّة لمن ادَّعى [أنَّهما بأيدي] اليهود والنصارى كما أُنزِلا، على ما نبيِّن الآن إن شاء الله تعالى بالبرهان الواضح. قال أبو محمَّد رحمه الله: أمَّا إقرارنا بالتوراة والإنجيل فنعم، وأي معنى [لتمويهكم بهذا؟!] ونحن لم ننكرهما قطُّ، بل نكفِّر من أنكرهما، إنَّما قلنا: إنَّ الله تعالى أنزل التوراة على موسى [عليه السلام] حقًّا، وأنزل الزبور على داود عليه السلام حقًّا، وأنزل الإنجيل على عيسىٍ عليه السلام حقًّا، [وأنزل] الصُّحُف على إبراهيم وموسى عليهما السلام حقًّا، وأنزل كتبًا لم يُسَمَّ لنا، على أنبياء لم يُسَمَّوا لنا حقًّا، نؤمن بكل ذلك، قال تعالى: {صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى: 19]، وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء: 196]. وقلنا ونقول: إنَّ كفَّار بني إسرائيل بدَّلُوا التوراة والزَّبور، فزادوا ونقصوا، وأبقى الله تعالى بعضها حُجَّةً عليهم كما شاء، {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23]، {لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد: 41]. وبدَّل كفَّار النَّصارى الإنجيل كذلك، فزادوا ونقصوا، وأبقى الله تعالى بعضها حُجَّةً عليهم كما شاء، {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23].

فدَرَس ما بدَّلوا من الكتب المذكورة، ورفعه الله تعالى، كما دَرَسَت الصُّحف وكتب سائر الأنبياء جملةً. فهذا هو الذي قلنا، وقد أوضحنا البرهان على صِحَّة ما أوردنا من التَّبديل والكذب في التَّوراة والزَّبور، ونورد إن شاء الله تعالى في الإنجيل وبالله تعالى نتأيَّد. فظهر فساد تمويهِهِم بأنَّنا نُقِرُّ بالتَّوراة والإنجيل والزَّبور، ولم ينتفعوا بذلك في تصحيح ما بأيديهم من الكتب المكذوبة المبدَّلة. والحمد لله رب العالمين. وأمَّا استشهادنا على اليهود والنصارى بما فيهما من الإنذار بنبينا - صلى الله عليه وسلم - فحَقٌّ، وقد قلنا آنفًا إنَّ الله تعالى أطْلَعَهم على تبديل ما شاء رفعه من ذينك الكتابين، كما أطلق أيديهم على قتل من أراد كرامته بذلك من الأنبياء الذين قتلوهم بأنواع المُثُل، وكفَّ أيديهم عمَّا شاء إبقاءه من ذينك الكتابين حُجَّةً عليهم، كما كفَّ أيديهم اللهُ تعالى عمن أراد كرامته بالنَّصر من أنبيائه الذين حال بين الناس وبين أذاهم. وقد أغرق الله قوم نوح عليه السلام وقوم فرعون نكالًا لهم، وأغرق آخرين شهادةً لهم، وأملى لقومٍ ليزدادوا إثمًا، وأملى لقومٍ آخرين ليزدادوا فضلاً، [ص 46] هذا ما لا ينكره أحد من أهل الأديان جملةً. وكان ما ذكرنا زيادة في أعلام النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم الواضحة وبراهينه اللَّائحة، والحمد لله رب العالمين. فبطل اعتراضهم علينا باستشهادنا عليهم بما في كتبهم المحرَّفة من ذكر نبينا صلَّى الله عليه وآله وسلم. وأمَّا استشهاد رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم بالتوراة في أمر رجم الزاني المُحْصَن، وضرب ابن سلام رضي الله عنه يد ابن صوريا إذ جعلها

على آية الرَّجم = فحقٌّ، وهو ممَّا قلنا آنفًا أنَّ الله تعالى أبقاه خِزيًا لهم، وحُجَّةً عليهم، وإنَّما يحتج عليهم بهذا كلَّه بعد إثبات رسالته صلَّى الله عليه وآله وسلم بالبراهين الواضحة الباهرة، بالنقل القاطع للعذر، على ما قد بيَّنَّا ونبيِّن إن شاء الله تعالى. ثم نورد ما أبقاه الله تعالى في كتبهم المحرَّفة [من] ذِكْرِه عليه السلام إخزاءً لهم وتَبْكِيتًا وفضيحة لضلالهم، لا لحاجةٍ منَّا إلى ذلك أصلاً، والحمد لله رب العالمين. [وأمَّا] الخبر بأنَّ النبيَّ عليه السلام أخذ التوراة وقال: "آمنت بما فيك" فخبرٌ موضوعٌ، لم يأت قطُّ من طُرُقٍ فيها خير، [ولسنا نَسْتَحِلُّ] الكلام في الباطل لو صحَّ، فهو من التكلُّف الذي نُهِيْنَا عنه، كما لا يحلُّ توهين الحق ولا الاعتراض فيه. وأمَّا قول الله عزَّ وجلَّ: {[يَا أَهْلَ] الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [المائدة: 68] = فحقٌّ لا مرية فيه، وهكذا نقول، ولا سبيل لهم [إلى إقامتها] أبدًا لرفع ما أسقطوا منها. فليسوا على شيءٍ إلاَّ بالإيمان بمحمد صلَّى الله عليه وآله وسلم، فيكونون حينئذٍ مقيمين للتوراة والإنجيل، [كلهم يؤمنون] حينئذٍ بما أنزل الله منهما، وُجِد أو عدم، ويكذِّبون بما بُدِّل فيهما ممَّا لم ينزله الله تعالى فيهما، وهذه هي إقامتهما [حقًّا (¬1)]، فلاح [صِدْق] قولنا موافقًا لنصِّ الآية بلا تأويل، والحمد لله رب العالمين. ¬

_ (¬1) زيادة من "الفِصَل".

وأمَّا قوله تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 93] فنعم، إنَّما هو كذبٌ كذبوه ونسبوه إلى التوراة على جاري عادتهم، زائد على الكذب الذي وضعه أسلافهم في توراتهم، فبَكَّتَهم عليه السلام في ذلك الكذب المُحْدَث بإحضار التوراة إن كانوا صادقين، فظهر كذبهم. وكم عَرَض لنا هذا مع علمائهم، في مناظراتنا لهم قبل أن نقف على نصوص التوراة، فالقوم لا مؤنة عليهم من الكذب حتى الآن، إذا طمعوا بالتخلُّص من مجلسهم لا يكون ذلك إلاَّ بالكذب، وهذا خُلُق خسيس، وعارٌ لا يرضى به مصحح، ونعوذ بالله من مثل هذا. وأمَّا قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} [المائدة: 44] = فنعم، هذا حقٌّ على ظاهره كما هو، وقد قلنا إنَّ الله تعالى أنزل التوراة وحكم بها النبيُّون الذين أسلموا، كموسى وهارون وداود وسليمان ومن كان بينهم من الأنبياء عليهم السلام، ومن كان في أزمانهم من الرَّبَّانبين والأحبار، الذين لم يكونوا أنبياء، بل كانوا حُكَّامًا من قبل الأنبياء عليهم السلام، ومن كان في أزمانهم من الرَّبَّانيين والأحبار قبل حدوث التَّبديل. هذا نصُّ قولنا. وليس في هذه الآية أنَّها لم تبدَّل بعد ذلك أصلاً، لا بنصًّ ولا بدليل. وأمَّا مَن ظنَّ لجهله من المسلمين أنَّ هذه الآية نزلت في رجم النبي - صلى الله عليه وسلم - لليهوديَّيْن اللَّذَين زَنَيَا وهما محصنان فقد ظنَّ الباطل، وقال بالكذب، وتأوَّل

المحال، وخالف القرآن؛ لأنَّ الله تعالى قد نهى نبيَّنا عليه السلام عن ذلك نصًّا، بقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [المائدة: 48]، وقال تعالى: {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 49]. قال أبو محمَّد رضي الله عنه: فهذا نصُّ كلام الله عزَّ وجلَّ، الذي ما خالفه فهو باطل. وأمَّا قوله تعالى: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ} [المائدة: 47] فحَقٌّ على ظاهره؛ لأنَّ الله تعالى أنزل فيه الإيمان بمحمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - واتِّباع دينه، ولا يكونون أبدًا حاكمين بما أنزل الله تعالى فيه إلاَّ باتِّباعهم دين محمَّد - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنَّما أمرهم الله تعالى بالحكم بما أنزل في الإنجيل الذي ينتمون إليه، فهم أهله. ولم يأمرهم قطُّ تعالى بما يُسَمَّى إنجيلًا, وليس بإنجيل ولا أنزله الله تعالى كما هو قط، والآية موافقة لقولنا, وليس فيها أنَّ الإنجيل لم يبدَّل، لا بنصًّ ولا بدليلٍ، إنَّما فيه إلزام النَّصارى الذين يَتَسَمّون بأهل الإنجيل أن يحكموا بما أنزل الله فيه، وهم على خلاف ذلك. وأمَّا قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [المائدة: 66]، فحقٌّ كما ذكرناه قبلُ، ولا سبيل لهم إلى إقامة التوراة والإنجيل المنزَّلَين بعد تبديلهما إلاَّ بالإيمان

بمحمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -، فيكونون حينئذٍ مقيمين للتوراة والإنجيل حقًّا؛ لإيمانهم بالمنزَّل فيهما، وجحدهم ما لم ينزَّل فيهما، وهذه هي إقامتهما حقًّا. وأمَّا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ} [النساء: 47] فنعم، هذا عمومٌ قام البرهان أنَّه مخصوصٌ، وأنَّه تعالى إنَّما أراد مصدِّقًا لما معكم من الحقِّ، لا يمكن غير هذا؛ لأنَّنا بالضَّرورة ندري أنَّ معهم حقًّا وباطلاً, ولا يجوز تصديق الباطل ألبتَّة، فصحَّ أنَّه إنَّما أنزله تعالى مصدِّقًا لما معهم من الحق، وقد قلنا إنَّ الله تعالى أبقى في التوراة والإنجيل حقًّا؛ ليكون حُجَّةً عليهم وزائدًا في خزيهم. وبالله تعالى التوفيق. فبطل تعلُّقهم بشيءٍ ممَّا ذكرنا، والحمد لله رب العالمين" (¬1). [ص 37] الحمد لله، [نُسَخ] التوراة: أولاً للسامرة توراة، ولسائر اليهود توراة، [وكلتا] الطائفتين تزعم أنَّ توراتها الصادقة، والأخرى مبدَّلة. ثم توراة اليهود نسختان، نسخة عزرا، ونسخة السبعين شيخًا، وهما متناقضتان، واليهود يؤمنون بكلتيهما! يقول عن الله تعالى: اصنع بناء آدم كصورتنا يشبهنا! ولمَّا أكل آدم من الشجرة قال الله: هذا آدم قد صار كواحد منَّا في معرفة الخير والشر! [ويقول عن المسيح عليه السلام مرَّة إنَّه] إله، ومرَّةً هو الله، ومرَّةً ابن الله، ومرَّةً هو وأصحابه أبناء الله، وتارةً أرواح الله، ومرَّةً ابن يوسف النجَّار، وابن داود، وابن الإنسان! ¬

_ (¬1) "الفِصَل" (1/ 313 - 317).

ومرَّةً [يقول:] أنا رجلٌ أدَّيت إليكم الحقَّ الذي سمعته من الله، ومرَّةً إلهٌ يخلق ويرزق، خروف الله، له آيات، يقول الأكثرون: آية إلاَّ آية [...]، في الله والله فيه، هو في تلاميذه وهم فيه، هو عِلم الله وقدرته، مرَّةً هو كلمة الله، "في البدء كانت الكلمة، والكلمة كانت عند الله، والله كان الكلمة، بها خُلِقت الأشياء، ومن دونها لم يخلق شيءٌ، فالذي خلق فهو حياة فيها". أولئك المؤمنون به الذين لم يتوالدوا من دمٍ ولا من شهوة اللَّحم، ولاباه رجل، لكن توالدوا من الله، فالتحمت الكلمة، والكلمة كانت بشرًا وسكنت فيهم فرأوا عظمتها كعظمة ولد الله. ومرَّةً هو روح القدس، ومرَّة هو محشيٌّ من روح القدس، لا يحكم على أحد، ولا تنفذ إرادته، نبي وغلام الله، [...]، أسلمه الله إلى أعدائه، انعزل الله له عن الملك، وتولَّاه هو، وصار يشرف الله تعالى، ويعطي مفاتيح السموات لباطرة، وهو مخالف معارض جاهل بمرضاة الله، ويولَّي أصحابه، أو باطرة وحده خطَّة التَّحريم والتَّحليل في السموات والأرض. يقول: أنا أُميت نفسي وأنا أحييها، يجوع ويطلب ما يأكل، ويعطش ويشرب، ويعرق من الخوف، ويلعن الشجرة إذا لم يجد فيها تينًا يأكله، ويفشل فيركب حماره، ويؤخذ فيُلْطَم وجهُه، ويُضرَب رأسُه بالقَصَبَة، ويُبْزَق في وجهه، ويُضرَب ظهرُه بالسِّياط، ويُمِيتُه الشُّرَط ويتهكَّمون به، ويُسقَى الخلَّ في الحنظل، ويُصلَب بين سارِقَين، وتسمَّر يداه، ومات في الساعة ثم أحيا نفسه بعد الموت، ولم يكن له همٌّ بعد أن حيِيَ إلاَّ طلب ما يأكله، فأطعموه الخبز والحوت المشوي، وسقوه العسل، ثم انطلق إلى شغله (¬1). ¬

_ (¬1) كل ما تقدَّم بنحوه في "الفِصَل" لابن حزم (2/ 200).

وقالوا في يحيى مرَّةً: إنَّه منتهى النبوَّات، ومرَّةً إنَّه فوق النَّبي، ومرَّةً إنَّه نبيٌّ، ومرَّةً آخر الأنبياء، ومرَّةً أنَّه بُعِث بعده أنبياء، ومرَّةً محشيٌّ من روح القدس في بطن أمَّه، وكذلك أمُّه أيضًا، ومرَّة ليس بنبيٍّ، ولم يولد في الآدميين أشرف منه، ولكن من كان صغيرًا في ملكوت السماء فهو أكبر منه، ومرَّةً لا يأكل ولا يشرب، ومرَّةً طعامه الجراد والعسل (¬1)! قال أبو محمَّد بن حزم: "إن قالوا: قال الله عزَّ وجلَّ في كتابكم حكايةً عن المسيح عليه السلام أنَّه قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف: 14]، وقال تعالى أيضًا مخاطبًا للمسيح عليه السلام: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 55]. قلنا: نعم، هذا خبر حق ووعد صدق، وإنَّما أخبر تعالى عن المؤمنين ولم يسمِّهم. ولا شكَّ في أنَّ من ثبت عليه الكذب من "باطرة" و"يوحنا" و"متَّى" و"يهوذا" و"يعقوب" ليسوا منهم، لكنَّهم من الكفار المدَّعين له الربوبية كذبًا وكفرًا. وأمَّا الموعودون بالنصر إلى يوم القيامة، المؤمنون بالمسيح عليه السلام فهم نحن المسلمون، المؤمنون به حقًّا، وبنبوَّته ورسالته، لا من كفر ¬

_ (¬1) بنحوه في "الفِصَل" لابن حزم (2/ 69 - 73).

به، وقال: إنَّه كذَّاب، وقال: إنَّه إلهٌ وابن إلهٍ، تعالى الله عن ذلك" (¬1). أقول: وقضيَّة التَّحريف والتبديل في التَّوراة والإنجيل كالشمس رابعةَ النهار. ومن أراد علم اليقين فيها فعليه بمراجعة "الملل والنِّحَل"، ومراجعة "إظهار الحق" لرحمة الله الهندي؛ فإنَّه رحمه الله فَحَص القضيَّة فحصًا تامًّا، حتى تحصَّل على كثيرٍ من الكتب المؤلَّفات على كتب العهدين، ونقل عن أساطين علمائهم الاعتراف بالتحريف والتبديل المجْحِف في تلك الكتب. وذكر بعضهم أنّ هذه الأناجيل ليست للنَّفر الذين تنسب إليهم، وإنَّما هي لرجلٍ متأخر عنهم، لا يُعرَف اسمه، جمعها وخشي أن لا يصدَّق فنسبها إلى أولئك النَّفر، [وحذف] اسمه. أقول: فرقٌ [......] صحب الحواريين، على غربتهم وتشتُّتهم واستخفائهم، مظهرًا لهم التنصُّر، فلمَّا قتلوا وذهبوا وضع هذه الأناجيل [.....] إلى الحواريين، وهذا أقرب إلى العقل؛ لأنَّ المسيح رفع ولم يكتب الإنجيل، باعتراف النصارى [...] بأيديهم إنجيل منزَّلٌ، والواقع كذلك ولو ادّعوا [خلافه] افتُضحوا؛ لأنَّ دلالة هذه الأناجيل واضحة أنَّها مجرَّد تواريخ. [ثم] تبعه الحواريون، مع خوفهم واستخفائهم، فلم يؤلِّفوا شيئًا حتى جاء ذلك اليهودي فزوَّر عليهم كتبًا أخذها تبَعُهُم وتصرَّفوا فيها تصرُّف اليهود في التوراة (¬2). ¬

_ (¬1) "الفِصَل" (1/ 208 - 209). (¬2) هنا ينتهي ما وُجِدَ من هذه الرسالة.

الرسالة السابعة ما وقع لبعض المسلمين من الرياضة الصوفية والغلو فيها

الرسالة السابعة ما وقع لبعض المسلمين من الرياضة الصُّوفيَّة والغلو فيها

فصل

فصلٌ (¬1) وأمَّا قوى النُّفوس البشريَّة فأشهرها الإصابة بالعين، وهي مشهورة بين النَّاس، لا تكاد ترى أحدًا إلاَّ حكَى لك بعض ما يزعم أنَّه شاهده أو أُخبِر به. وفيها فُسِّر قوله تعالى في سورة الفلق: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)}. وقال تعالى فيما قصَّه عن يعقوب عليه السَّلام: {وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 67 - 68]. قال أكثر المفسَّرين: "خشي عليهم العين" (¬2). وفي "الصَّحيحين" وغيرهما (¬3)، عن أمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: "أمر النَّبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أن يُسترقَى من العين". وصحَّ نحوه عن أمِّ المؤمنين أمَّ سلمة, وجابر، وأنس، وغيرهم من الصَّحابة رضي الله عنهم (¬4). ¬

_ (¬1) وقع سقط من أول الرسالة، لا يُدرى كم مقداره. (¬2) هو قول ابن عباس ومحمد بن كعب والضحاك ومجاهد وقتادة. يُنظَر: "الدُّر المنثور" للسيوطي (8/ 286 - 287). (¬3) البخاري (5738)، ومسلم (2195)، وابن ماجه (3512). (¬4) حديث أم سلمة عند البخاري (5738) ومسلم (2197). وحديث جابر عند مسلم =

وفي "صحيح مسلم" (¬1) عن ابن عباس رضي الله عنه عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "العَيْن حقٌّ، ولو كان شيءٌ سابق القَدَر سَبَقَته العَيْن، وإذا اسْتُغْسِلْتُم فاغْسِلوا". وفي "مسند أحمد" (¬2) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: "العين حقٌّ، ويحضر بها (¬3) الشيطان وحَسَد بني آدم". قالوا: وسببها أن ينظر الإنسان إلى شيءٍ لغيره فيُعجَبُ به، ويحسد صاحبه عليه، فتتولَّد في نفسه قوَّةٌ تتَّصل بذاك الشيء فيُصابُ، والحكايات في ذلك كثيرةٌ، وفيها ما يقضي أنَّ المعيان قد يعين وهو أعمى، وقد يعين ما لا يراه. وممَّا هو مسلَّمٌ عند فلاسفة العصر ما يسمُّونه بـ "التَّنويم المغناطيسي" (¬4). ¬

_ = (2196). وحديث أنس عند مسلم (2196). وأخرجه الترمذي (2059) من حديث أسماء بنت عُميس. (¬1) حديث (2188). (¬2) (2/ 439). (¬3) في الأصل: "يحضرها". (¬4) يُنظَر في: "قصَّة الحضارة" لوِل ديورانت (1/ 896)، و (12/ 12478)، و (14/ 14637) كيف انتقل التنويم المغناطيسي من الهند إلى أوربا، وبدايات استخدامه كعلاجٍ عندهم. تنبيهٌ: وقد يُفهم من ظاهر كلام المؤلَّف رحمه الله في هذا الموضع وموضعٍ تالٍ التسليم بكونه علمًا حقيقيًّا وقوَّة ذاتيَّة لبعض الأشخاص، وهذا ليس بصحيح؛ إذ أشار رحمه الله كما سيأتي (ص) أنَّه أشبه بسحر العقول، فإن ثبَت التنويم حقيقةً فهو كفعل المشعوذين والسَّحرة في استعانتهم بالجن والشياطين للتأثير على أجسام =

وحاصله أن يرتاض الإنسان برياضةٍ مخصوصةٍ، بالمواظبة على جمع فِكْرِهِ في نقطةٍ يحدِّق ببصره إليها، فبعد مُدَّةٍ تحصل له قوَّة التنويم، بأن يحدَّق بعينيه إلى إنسان ويتحرَّك حركاتٍ مخصوصةٍ، فلا يلبث المنظور إليه أن يصيبه ذهول وتشنُّجٌ، ثم يسقط مغشيًّا عليه. وتكون للمنوِّم سلطةٌ على النَّائم بأن يسأله فيجيب وهو لا يشعر، ويحسُّ الأطبّاء نبْضَه ويختبرونه فيعلمون أنَّه لا يزال نائمًا رغمًا عن قيامه وكلامه وفعله. وقد تزداد القوَّة إلى حدِّ أنَّه يبقى سلطان المنوِّم على ذاك الشَّخص حتى بعد إفاقته ولو بمدَّة. هذا والمشهور في قوَّة الإصابة بالعين أنَّها تكون طبيعيَّة لبعض النَّاس، ولكن قد تكون مكتسبةً, إمَّا بغير اختيار كما يقول الناس: إنَّ من نشأ يتيمًا محتاجًا يرى الأشياء التي تشهيها نفسه فلا يصل إليها ينشأ معيانًا. وإمَّا باختيار. ففي "شرح المقاصد" (¬1): ["يكون لبعض النفوس خاصية أنها إذا استحسنت شيئا لحقته الآفة فثبوتها يكاد يجري مجرى المشاهدات التي لا تفتقر إلى حجة وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "العين حق"، وقال: "العين تدخل الرجل القبر والجمل القدر" (¬2). ¬

_ = الناس وعقولهم. (¬1) (2/ 270). (¬2) أخرجه ابن عدي في "الكامل" (6/ 407) وأبو نعيم في "الحلية" (7/ 90) وغيرهما، من طريق معاوية بن هشام القصار عن الثوري عن ابن المنكدر عن جابر مرفوعًا به. وقد حسَّنه الألباني في "الصحيحة" (1249).

وذهب كثير من المفسَّرين (¬1) إلى أن قوله تعالى: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ} الآية [القلم: 51] = نزل في ذلك، وقالوا: إنَّه كان العين في بني أسد، وكان الرجل منهم يتجوَّع ثلاثة أيامٍ فلا يمرُّ به شيءٌ يقول فيه: لم أر كاليوم إلاَّ عانَهُ، فالتمس الكفار من بعض من كانت له هذه الصِّفة أن يقول في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك فعَصَمَه الله .. "] (¬2). فأمَّا ما حصل بغير اكتساب اختياريًّ فظاهرٌ أنَّه لا يوجب ذمَّ صاحبه، إلاَّ أنَّ عليه أن يحتاط، فإذا رأى ما يعجبه ذَكَر الله تعالى ودعا بالبَرَكة، وإذا اتُّهِم بالإصابة فاستُغسِل فلْيغتسل، كما في الحديث. وأمَّا المكتسبة بالاختيار فهي فيما يظهر من السِّحر، واكتسابها داخلٌ في تعلُّم السِّحر. ومن جملة قوى النُّفوس ما هو حاصلٌ لبعض الناس الذين يرقون من الحيَّة والعقرب ونحوها؛ فإنَّهم قد يرقون بألفاظٍ لا معنى لها. وفي الآثار النَّبويَّة ما يدلُّ على الإذن بالرقية بالألفاظ التي ليس فيها تعظيمٌ لغير الله عزَّ وجلَّ، وإن لم يكن فيها ذكر الله تعالى، ولا دعاء له، وأرى أنَّ الإذن في ذلك إنَّما هو اعتداد بما يصحبه من قراءة [....] (¬3). ومن قوى النُّفوس ما يكتسب برياضتها، فإنَّه كما أنَّ القوى البدنيَّة يمكن تتميمها بالرِّياضة، كَمَن يواظب على رفع الأثقال؛ فإنَّه بعد مُدَّةٍ يستطيع ¬

_ (¬1) يُنظَر: "الدر المنثور" للسيوطي (14/ 656 - 657). (¬2) ما بين القوسين المعقوفين بيَّض له المؤلَّف. (¬3) خرمٌ مقدار سطرين.

ضعف ما كان يستطيعه قبل، وكذلك في الجري على الأقدام، والرَّمي بالأحجار، والمشي على سلك ممدود بين عمودين، وغير ذلك ممَّا هو معروف في الألعاب الرِّياضية. وكذلك الشَّعبذة التي تعتمد خِفَّة الحركة؛ فإنَّ ذلك القَدْر من سرعة الحركة لا يحصل إلاَّ بمعاناة الحركات السَّريعة مدَّةً. فكذلك قُوَى النُّفوس يمكن تربيتها بالرِّياضة، فقد علِمْتَ ممَّا تقدَّم أنَّ بعض النُّفوس تكون بها بطبيعتها قوَّة التأثير بالإصابة بالعين وبإزالة الألم الحاصل من لدغ العقرب ونحو ذلك، وأنَّ ذلك قد يُكْتَسَب كما يُكْتَسَب قوَّة التَّنويم المغناطيسي ونحوه. غير أنَّ الرِّياضة هنا تختلف وعمادها أمران: إضعاف القُوى الجسديَّة، والتعوُّد على جمع الهِمَّة، وحصر الفِكر في شيءٍ واحدٍ. وهذه الرِّياضة معروفةٌ عند قدماء اليونان والهنود وغيرهم، وقد يفعلها المسلمون وعملوا بها، كما نقلوا المنطق والفلسفة وعملوا بها , ولم تَلْقَ هذه من المعارضة كما [تلقَّت] (¬1) الفلسفة ذلك؛ لأسباب. منها: أنَّ في العبادات الإِسلاميَّة ما يشبهها في الجملة، كالصِّيام، والقيام، والاقتصاد في أكل والشرب، واعتزال الناس إذا خشيت من الناس مفسدةً. ومنها: أنَّ بعض الزُّهَّاد من التَّابعين وغيرهم بالغوا في العبادات الإِسلاميَّة، حتى قربوا من هذه الرِّياضة؛ فداوموا على الصيام، وواصلوا فيه، ¬

_ (¬1) في الأصل "تقلت".

وأداموا قيام جميع اللَّيل. وبالغوا في الاقتصاد في المطعم؛ لعزَّة الحلال الصَّرْف في نظرهم. وامتنعوا عن النَّكاح؛ لعجزهم - بزعمهم - عن القيام بمصالح الأهل والولد من الحلال. وبالغوا في العُزلة والخلوة. ومنها: أنَّ الذين نقلوا هذه الرَّياضة وعملوا بها تلطَّفوا بإدراج كل منها فيما يشبهه من العبادات الشَّرعيَّة. إلى غير ذلك. وبالجملة فهذه الرَّياضة كما توجد في كتب الهنود وغيرهم توجد في كتب المتصوِّفة بنصَّها وفصَّها؛ إلاَّ أنَّ بعضها قد ألبس صورةً غير صورته، كرياضة التنفُّس عند الهنود وغيرهم، وقد ذكرها المتصوِّفة بلفظ "هو الله"، "الله هو"، وجمع الهِمَّة في شيءٍ صوَّرَهُ المتصوِّفة بجمع الهِمَّة في تصوّر الشيخ. ومنها ما أبقوه على صورته، كأن لا يأكل من روحٍ، ولا مَن خرج مِن روح، وغير ذلك. وبالجملة فهذه الرَّياضة لقيت قبولًا تامًّا على اختلاف الأغراض. فمن الناس من كان غرضه منها إضعاف شهوات جسده؛ ليتمكَّن من كثرة العبادة، والإعراض عن الشهوات. ومنهم من كان حريصًا على الاطِّلاع، فَغَرَضُه منها ما تثمره من قوَّة الإدراك، المسمَّاة بالكشف ونحوه. ومنهم من كان له غرَضٌ سياسيٌّ تعاناها ليظهر بمظهر الزاهد في الدنيا المقبل على العبادة، ثم لعلَّه يحصل له شيءٌ من قوَّة الإدراك وقوَّة التأثير، فيدَّعي الوَلاية أو المهدويَّة!

ومنهم من كان غرضه الجاه والثروة، فتعاناها لنعتقد فيه الولاية، فيقبل عليه الناس بما يريد. ومنهم قومٌ كانت لهم عقائد دينيَّة شاذَّة، يخافون من إظهارها أن يُقتلوا أو يُؤذوا أو يُمقتوا؛ فتعانوا تلك الرِّياضة لتحصل لهم تلك القوَّة؛ فتعتقد فيهم الوَلاية، فيظهروا تلك العقائد، فيُقبِل عليها الناس لحسن الاعتقاد في أصحابها. ومنهم قومٌ تعانوا الفلسفة؛ فحصلت لهم عقائد منافية لعقائد الإِسلام، وخافوا من إظهارها، فحالهم كحال الذين قبلهم. ومنهم قومٌ يضمرون الكيد للإسلام ويريدون إطفاء نوره؛ فتعانوا تلك الرِّياضة، حتى إذا اعتُقِدت فيهم الوَلاية أظهروا الأقوال والعقائد المنابذة للإسلام، على نحو ما تقدَّم. ومنهم - وهم كثير من المتأخِّرين - قومٌ ظنوا أنَّ تلك الرِّياضة هي خلاصة العبادات الشَّرعيَّة الموصلة إلى الوَلاية. هذا والعارفون بحقيقة تلك الرِّياضة لا يشترطون دينًا خاصًّا, ولا مذهبًا خاصًّا، بل يعلِّمونها كلَّ إنسان مهما كان دينه ومذهبه، ويوصونه بالمواظبة على العبادات التي يعتقدها، فيوصون المسلم بالصيام والقيام، والوثني بالعكوف على الأصنام، وغير ذلك! يرون أنَّ ذلك ممَّا يساعد على حصول المقصود بتلك الرِّياضة، ولا سيّما جمع الهِمَّة، وحصر الفِكْر، وقوَّة التخيّل.

ويسرع حصولها للمريد إذا كان يرتاض على يد شيخٍ عارف بقوانينها، قد حصَّلت له نفسه قوَّة التأثير، فهو يؤثِّر بها في نفس الطالب، مساعدًا له على استحصالها. ويبقى النظر في حكم العمل بهذه الرِّياضة. والمعروف في الشَّريعة هو النَّهي عمَّا يكاد يقرب من الغلو في العبادة، كصيام الدهر، ومواصلة الصوم، والمداومة على قيام جميع الليل، وترك التزوُّج، والامتناع من أكل اللَّحم، ونحوه. والمعروف فيها أيضًا أنَّ السِّحر كفرٌ أو كبيرةٌ، وأنَّ تعلُّمه كذلك. والمتصوَّفون يصرِّحون بأنَّ من سلك تلك الطريق تحصل له قوَّة السِّحر، وأنَّ كثيرًا منهم يقف عندها ويستعملها فيكون ساحرًا. ويصرِّحون بأنَّ الشياطين تولع بمَن سلك تلك الرِّياضة، يخيَّلون له، ويصوَّرون، ويقضون له بعض الأغراض؛ يوهمونه أنَّه قد بلغ درجة الوَلاية، أو ما هو أعظم منها؛ ليضلُّوه ثم يُضلِّوا به. وأنَّ من ارتاض رغبةً في أن تحصل له قوَّة المكاشفة، وقوَّة التأثير فهو على ضلال، والمعنى أنَّه يرتاض تعلُّمًا للسحر. وأنَّ من ارتاض طالبًا للحق قد يعرض له من الاغترار بتلك القوَّة وتخييل الشياطين ومساعدتهم ما يوقفه عندها، إمَّا ميلًا إلى الهوى، فيكون ساحرًا حقًّا، وإمَّا ظنًّا أنَّه قد صار من أولياء الله، وهو في الحقيقة من أولياء الشيطان. ويذكر الغربيُّون عِدَّة وقائع من تأثير النُّفوس، منها أنَّ بعض الأفراد

يوجِّه همَّته إلى بعض أعضائه، فيحدث فيه جرح ظاهر، يسيل منه الدَّم، ثم يوجِّه همَّته إليه فيزول كأن لم يكن، أو يضرب نفسه بسكِّين فيحدث الجرح ثم يوجِّه همَّته إليه فيلتئم ويبرأ في الحال، وغير ذلك. ومن تأثير النُّفوس سِحر الأبصار، كما قصَّه الله سبحانه وتعالى عن سحرة فرعون، قال تعالى: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} [طه:66 - 68] , وقال عزَّ وجلَّ: {قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 116]. وروى البخاري في "تاريخه" (¬1) [في ترجمة جندب بن كعب قاتل الساحر، "وقال الأعمش عن إبراهيم أراه عن عبد الرحمن بن يزيد أنَّ جندبًا قتل السَّاحر زمن الوليد بن عقبة. حدثنا إسحاق حدثنا خالد الواسطي عن خالد الحذاء عن أبي عثمان: كان عند الوليد رجلٌ يلعب، فذبح إنسانًا وأبان رأسَهُ، فعَجِبْنا، فأعاد رأسه، فجاء جندب الأزدي فقتله"] (¬2). والقصَّة مشهورة، راجع ترجمة جندب في "الإصابة" (¬3). وفي ترجمة السُّهْرَوردي المقتول وغيره أشياء تشبه ذلك. ¬

_ (¬1) "التاريخ الكبير" (2/ 222). (¬2) ما بين القوسين المعقوفين بيَّض له المؤلَّف رحمه الله. (¬3) "الإصابة في معرفة الصَّحابة" لابن حجر (1/ 511 - 512)، وذكره الحافظ والقصَّةَ بسياق آخر في مواضع أخر (1/ 507، 508، 509)، و (2/ 647)، و (3/ 235).

[كما قال ابن أبي أصيبعة: "ويُحكَى عن شهاب الدين السُّهْرَوردي أنَّه كأن يعرف علم السيمياء (¬1)، وله نوادر شوهدت عنه من هذا الفن. قال: حدَّثني الحكيم إبراهيم بن أبي الفضل بن صدقة أنه اجتمع به، وشاهد منه ظاهر باب الفرج وهم يتمشّون إلى ناحية الميدان الكبير، ومعه جماعة من التلاميذ وغيرهم، وجرى ذكر هذا الفن وبدائعه وما يعرف منه وهو يسمع، فمشى قليلاً، وقال: ما أحسن دمشق، وهذه المواضع. قال: فنظرنا وإذا من ناحية الشرق جواسق (¬2) عالية، متدانية بعضها إلى بعض مبيضة، وهي من أحسن ما يكون بناية وزخرفة، وبها طاقات كبار، فيها نساء ما يكون أحسن منهن قط، وأصوات مغان وأشجار متعلِّقة بعضها مع بعض، وأنهر جارية كبار، ولم نكن نعرف ذلك من قبل. فبقينا نتعجَّب من ذلك وتستحسنه الجماعة وانذهلوا لِمَا رأوا. قال الحكيم: فبقينا كذلك ساعة، ثم غاب عنَّا، وعُدْنا إلى رؤية ما كنَّا نعرفه من طول الزمان. قال لي: إلاَّ أنَّ عند رؤية تلك الحالة الأولى العجيبة بقيت أحسُّ في نفسي كأنَّني في سِنَةٍ خفيَّةٍ، ولم يكن إدراكي كالحالة التي أتحقَّقها منَّي. وحدَّثني بعض فقهاء العجم قال: كُنَّا مع الشيخ شهاب الدِّين عند القابون (¬3)، ونحن مسافرون عن دمشق، فلقينا قطيع غنم مع تركماني فقلنا ¬

_ (¬1) نوع سحرٍ، بإحداث مثالات خياليَّة لا وجود لها في الحسَّ. كما في "المعجم الوسيط". (¬2) جمع "جوسق"، وهو القصر، كما في "العين" للخليل. (¬3) هو موضع بينه وبين دمشق ميل واحد، في طريق القاصد إلى العراق. كما في "معجم البلدان" لياقوت.

للشيخ: يا مولانا نريد من هذا الغنم رأسًا نأكله، فقال: معي عشرة دراهم، خذوها واشتروا بها رأس غنمٍ، وكان ثَمَّ تركماني فاشترينا منه رأسًا بها، فمشينا. فلحِقَنا رفيقٌ له، وقال: ردُّوا الرأس وخذوا أصغر منه, فإن هذا ما عرف يبيعكم يَسْوَى هذا الرأس البختيَّة الذي معكم أكثر من الذي قبض منكم، وتقاولنا نحن وإيَّاه. ولما عرف الشيخ ذلك قال لنا: خذوا الرأس وامشوا، وأنا أقف معه وأرضيه، فتقدَّمْنا وبقي الشيخ يتحدَّث معه ويمنِّيه، فلمَّا أبعدنا قليلاً تركه وتبعنا، وبقي التركماني يمشي خلفه ويصيح به، وهو لا يلتفت إليه. ولمَّا لم يكلَّمه لحقه بغيظٍ وجذب يده اليسرى، وقال: أين تروح وتخلِّيني؟ وإذا بيد الشيخ قد انخلعت من عند كتفه، وبقيت في يد التركماني ودمها يجري، فبُهِت التركماني وتحيَّر في أمره، ورمى اليد وخاف، فرجع الشيخ وأخذ تلك اليد بيده اليمني ولحقنا. وبقي التركماني راجعًا وهو يتلفَّت إلينا حتى غاب، ولمَّا وصل الشيخ إلينا رأينا في يده اليمنى منديله لا غير". وذكر قصَّة ثالثة. انتهى (¬1)] (¬2). وهذا الضَّرب يحتمل وجهين: الأول: أنَّه سحرٌ للأبصار فقط، بحيث يختلُّ إدراكها، فترى ما لا حقيقة له. والثاني - وهو الذي يترجَّح لي -: أنَّه سحرٌ للأدمغة، فيصير دماغ المسحور ¬

_ (¬1) "عيون الأنباء في طبقات الأطباء" لابن أبي أُصيبعة (ص 642 - 643). ويُنظَر أيضًا: "وفيات الأعيان" لابن خلّكان (6/ 269 - 270)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (21/ 208 - 209)، و"تاريخ الإِسلام" له (41/ 284 - 285). وغيرها. (¬2) ما بين القوسين المعقوفين بيَّض له المؤلَّف رحمه الله.

ضعيفًا، وقد عُرِف أنَّ الدِّماغ إذا ضعف قد يختلُّ الإدراك، كَمَن يكون بين النوم واليقظة فإنَّه يتخيَّل أشياء كثيرة، مثل أنَّه قام ومشى ورأى أشياء كثيرة، وأشباه ذلك. وهكذا من يتناول بعض الأشياء المُسْكِرة أو المفتَّرة. وهكذا من يضعف دماغه لمرضٍ أو شدَّة خوفٍ، كما يدخل في الليل مكانًا يعتقد أنَّ فيه جِنًّا يتعرَّضون لمن يدخل. وبالجملة فهذا الضَّرْب يشبه ما عُرِف الآن بـ "التنويم المغناطيسي"؛ فإنَّ المنوَّم - بالكسر - يستطيع أن يخيَّل للمنوَّم - بالفتح - أشياء لا وجود لها، كما مرَّ، ولهذا يشعر المسحور بأنَّه في حالٍ غير عاديَّة، كما تقدَّم في القِصَّة. فإن قيل: إنَّ إمكان مثل هذا يؤدَّي إلى سدِّ باب الثَّقة بالمحسوسات، وإلي عذر من كفر بالأنبياء، وقال: إنَّهم سحرةٌ، وإلي عذر منكري الكرامات. قلتُ: أمَّا سدُّ باب الثِّقة بالمحسوسات فالحال في هذا كالحال في أعمال الجِنَّ، كما تقدَّم، فلا يأذن الله عزَّ وجلَّ بوقوع مثل هذا إلاَّ في حالٍ تكون هناك قرائن وأدلَّة تدلُّ على أنَّه تخييل، أو تشكَّك فيه تشكيكًا قويًّا. فسحرة فرعون كانوا يعترفون ويُعرَفون بأنَّهم سحرةٌ، ثمَّ بيَّن الله عزَّ وجلَّ حقيقة أمرهم، وهكذا حال السَّاحر الذي قتله جندب، وقريب منه ما تقدَّم عن السُّهْرَوردي. وأمَّا اشتباه المعجزات والكرامات فسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى. [......] (¬1). ¬

_ (¬1) هنا وقع سقط في الأصل، لا يُدرى كم مقداره.

الذي في "الصَّحيح" (¬1) ومن قول عائشة رضي الله عنها: "أوَّل ما بُدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوَحْي الرُّؤيا الصَّالحة في النَّوم، فكان لا يرى رُؤيا إلاَّ جاءت مثل فَلَق الصُّبح، ثم حُبِّب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حِراء، فيَتَحنَّث فيه - وهو التعبُّد - اللَّيالي ذوات العَدَد، قبل أن ينزِعَ إلى أهله، ويتزوَّد لذلك، ثم يرجع إلى خديجة، فيتزوَّد لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حِراء". فلم تُعَيِّن اللَّيالي ولا عِدَّتها. ولكن في "سيرة ابن هشام" (¬2): " .. قال: ابن إسحاق: وحدَّثني وهب بن كيسان مولى آل الزبير قال: سمعتُ عبد الله بن الزبير وهو يقول لعُبَيد بن عمير بن قتادة اللَّيثي: حدِّثْنا يا عُبَيد كيف كان بُدُوُّ ما ابتدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من النبوَّة حين جاءه جبريل عليه السَّلام؟ قال: فقال عُبيد: " .... كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجاور في حِراء من كل سنةٍ شهرًا، وكان ذلك ممَّا تحنَّثُ به قريش في الجاهليَّة. والتحنُّث: التبرُّر. قال ابن إسحاق: فقال أبو طالب: وثور ومَن أرْسَى ثبيرًا مكانَه ... وراقٍ لِيرقى في حِراء ونازلِ ... قال عُبيد: فكان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يجاور ذلك الشهر من كل سنةٍ، يُطْعِم من جاءه من المساكين ... ¬

_ (¬1) البخاري (3)، ومسلم (160). (¬2) "السيرة النبويَّة" (2/ 68).

حتى إذا كان الشَّهر الذي أراد الله تعالى به فيه ما أراد من كرامته، من السَّنة التي بعثه الله تعالى فيها، وذلك الشهر رمضان = خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حِراء كما كان يخرج لجواره، ومعه أهله ... ". وهذا مرسلٌ؛ لأنَّ عبيدًا تابعيٌّ، إلاَّ أنَّ استماع الصَّحابة له، وتركهم الإنكار ممَّا يشدُّه. وفيه: أنَّ المجاورة كانت ممَّا تعمله قريش في الجاهلية، وقد كان النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة يتحرَّى من أعمالهم ما يرى أنَّه مما بقي من شريعة إبراهيم، كالحج ونحوه. وفيه: أنَّ المجاورة كانت شهرًا، وهذا محمول على جُمْلتها. وقد دلَّ حديث عائشة رضي الله عنها أنَّه كان يرجع في أثناء الشهر مرارًا ليتزوَّد. وقوله أخيرًا: "وذلك الشَّهر رمضان" صريحٌ في أنَّ الشَّهر الذي جاوره ذلك العام رمضان، ويحتمل أن يكون رمضان هو الشهر الذي يجاور فيه كل سنة، والذي كانت تجاور فيه قريش. والله أعلم. وعلى كلِّ حالٍ فالذي تقرَّر في الشَّريعة ممَّا يتعلَّق بهذه القضية هو صيام رمضان واعتكاف العشر الأواخر منه في أيِّ مسجدٍ كان. وأحكام الاعتكاف معروفةٌ في الشَّرع، ولم يُنقَل عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه جاور بحراء أو غيره بعد النبوَّة، ولا أمر به أحدًا, ولا فَعَله أحدٌ من السَّلف = فلم يبْقَ في تلك القضيَّة أثرٌ عمليٌّ في الشَّريعة، إلاَّ أن يكون صيام رمضان والاعتكاف فيه.

واتَّضح بذلك أنَّه من أحدث غير ذلك - كأربعينيَّة المتصوِّفة (¬1) - فليس له حُجَّة في تلك القضيَّة. والله الموفِّق. وإن حُكِمَ به عن تجربةٍ، أو رُؤيا، أو إلهام، أو أمَارةٍ خاصَّة بهم، أو ذَوْقٍ، أو كَشْفٍ، أو خبرِ مَن يرونه ملَكًا، أو مَن يرونه الخضر، أو نبيًّا، أو النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، وأنَّهم شاهدوه يقظةً، أو شاهدوه في اللَّوح المحفوظ، أو سمعوه من الله تعالى، ونحو ذلك ممَّا يدَّعونه لأنفسهم = فسيأتي الكلام على هذه الأمور إن شاء الله تعالى. ويكفيك هنا أمورٌ: الأوَّل: أنَّ هذه الأمور منها ما دلَّت الشَّريعة على نفيه، ولو بدليلٍ ظاهر تقوم الحُجَّة به إجماعًا. ومنها ما لا يُعلَم في الشَّريعة إثباته أو نفيه. ومنها ما جاء في الشَّريعة إثباته في الجملة. فالأوَّل ساقط، والثَّاني كذلك؛ لأنَّ الشريعة لم تشهد له، ولو كان حقًّا ¬

_ (¬1) الأربعينيَّة: خلوةٌ صوفيَّةٌ عدَّتها أربعون يومًا، تتخلَّلُها عبادات ورياضات, كالصَّوم ونحوه. وقد استدلَّ من قال بها، كالسَّهروردى في "عوارف المعارف" (ص 37) وغيره بأدلَّة، كلُّها لا تثبت بها الحُجَّة، فاستدلُّوا بفعل موسى عليه الصلاة والسَّلام حين لقي ربَّه, واستدلُّوا بأحاديث ضعيفة أو موضوعة, تُنظَر ألفاظ هذه الأحاديث في "تذكرة الموضوعات" للفتني (ص 191 - 192) باب خرقة الصُّوفية والأربعينيَّات والمجاهدة، ويُنْظَر تفصيل القول في عِلَلها في كتب الموضوعات, ومناقشةٌ مفصَّلةٌ لباقي أدلتهم في: "مجموع الفتاوى" لشيخ الإِسلام ابن تيمية (10/ 393 - 406)، وفي (18/ 11).

لشهِدَت له، فهو إمَّا راجعٌ إلى الأوَّل أو الثالث. أمَّا الأول فقد مرَّ. وأمَّا الثالث [فإنَّ ما] (¬1) ثبت في الشَّريعة أنَّه أمارة قد يكون حقًّا، وقد يكون باطلاً، فحدُّه أنَّه إذا وافق حُجَّةً مشهودًا لها في الشَّريعة بأنَّها حُجَّة أُخِذ بتلك الحُجَّة، وذُكِر معها استنانًا (¬2)، كما يذكر أهل العلم الحُجَّة الشَّرعيَّة، ثم يذكر بعضهم ما وافقها من رُؤيا ونحوها. وإن خالف حُجَّةً شرعيَّةً كان ذلك دليلًا على بطلانه. وإن لم يوافق ولم يخالف أُخِذ به فيما تكفي فيه الأمارة الضَّعيفة، وذلك في نحو صدقة التطوُّع، إذا تردَّدتَ في إعطائها لهذا أو لذاك، ولم يظهر لك ما يرجِّح أحدهما من جهة الشرع ولم يتيسَّر قسمتها، فرأيتَ رؤيا تدلُّ على أحقِّيَّة أحدهما = فإنَّه يجوز لك أن تعطيه؛ وذلك أنَّه يكفي في ذلك الأمارة الضَّعيفة، كأنْ ترى ثوب أحدهما أبْلَى من ثوب الآخر فتقول: يظهر من هذا أنَّ الذي ثوبُه أبلى أشدُّ حاجة. ولا يدخل في هذا: التردُّد في صيام يومين لم يثبت في الشَّرع لأحدهما مزيَّة عن الآخر إذا دلَّت رؤيا على مزيَّةٍ شرعيَّةٍ لأحدهما. والفرق: أنَّ المزيَّة الشرعيَّة حكم شرعيٌّ لا يثبت إلاَّ بالشَّرع، وأمَّا كون هذا أحْوَج من ذاك فهو موكولٌ إلى نظر المكلَّف، فلا تغفل. الأمر الثَّاني: أنَّ ما يصحُّ في الجملة ممَّا ادَّعاه المتصوِّفة مُعَرَّضٌ للاشتباه بتضليل الشيطان، والهوى، والتَّخيُّل، والتوهُّم. ¬

_ (¬1) في الأصل: "فإنما". (¬2) كذا في الأصل، ولعلَّه يقصد: "استئناسًا".

والأَمارات التي يزعمونها محتملةٌ لذلك أيضًا, وللتخلُّف، وغير ذلك. وأعظم من هذا كلِّه أنَّه قد جاء في الحديث وصف القرآن بأنَّه "من يبتغي الهُدَى في غيره أضلَّه الله" (¬1). فمَن ابتغي معرفة الحقِّ من حيث لم يشرعه الله عزَّ وجلَّ بصريح شريعته فهو أهلٌ لأن يضلَّه الله عزَّ وجلَّ، ويستدرجه، ويُلَبَّس عليه ما لَبَّس على نفسه، والعياذ بالله. الأمر الثالث: أنَّ ما أوضح الله عزَّ وجلَّ لعباده بصريح شَرْعِهِ أنَّه طريقٌ يعرف به الحقَّ في دينه = فهو معصومٌ بالجملة، وهو سبحانه يتكفَّل بحفظه. وما يحتمل فيه من الخطأ فهو إمَّا خطأ صوري، إنَّما وقع لحِكْمَةٍ. وإمَّا معفوٌّ عنه، بل مأجورٌ فيه أجرًا واحدًا، وإمَّا معفوٌّ عنه فقط. اللَّهمَّ إلاَّ أن يكون خطأً عن تقصيرٍ بيِّنٍ من النَّاظر، فالذَّنب في هذا له. وقد أوضحتُ هذا في موضعٍ آخر. وأمَّا ما ليس في صريح الشَّرع أنَّه طريقٌ لمعرفة الحقِّ في الدِّين فليس بمعصومٍ، ولم يتكفَّل الله عزَّ وجلَّ بحفظه، فالمصيب فيه مأزورٌ؛ لمخالفته ما شرَعَه الله، فما ظنُّك بالمخطئ! ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (1/ 91)، والترمذي (2906)، والدَّارمي (3374)، والبزَّار (3/ 71)، وغيرهم، من طرقٍ عن الحارث الأعور عن عليٍ رضي الله عنه مرفوعًا. ومداره على الحارث، وهو ضعيف؛ وقد ضعَّفه التَّرمذي. ورجَّح الحافظ ابن كثير وقفه، ووهَّم رفعَه. وفي الباب حديث معاذٍ رضي الله عنه، وفيه راوٍ متروك، وفي الباب أيضًا: حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وفيه راوٍ ليَّن. وصحَّح الحافظ ابن كثير وقفه عليه, ووهَّم رفعَه. ويُنْظَر: "تفسير ابن كثير" (1/ 21 - 22)، و"السِّلسلة الضَّعيفة" للألباني (1776).

فصل

وباب تلبيس الشيطان - وغيره ممَّا مرَّ - مفتوحٌ فيه على مِصْرَاعَيْه؛ بل هو مظنَّة إضلال الله عزَّ وجلَّ واستدراجه، كما مرَّ. حتى لو فُرِضَ أنَّ من تلك الطُرُق التي لم يأت صريح الشَّرع ما هو أقوى في نَظَر النَّاظر من بعض الطُرُق التي ورد بها = فإنَّه لا يغني هذا شيئًا؛ فإنَّ الضَّعيف الذي تكفَّل الله عزَّ وجلَّ بحِفْظِه أقوى من القويِّ الذي لم يتكفَّل سبحانه وتعالى بحِفْظِه. فصلٌ ظاهر قول الشيخ (¬1): "فالكَفَرة دمَّرهم الله من عالم البشر، فلا يُستعمل في قتالهم إلاَّ ما هو عادة في عالم البشر، لا غير" = أنَّ هذا عام في كلَّ حالٍ. ويلحقُ به من باب أَوْلى المسلمون. وعلى هذا فكلُّ شخصٍ بتلك القوَّة في إيذاء آخر - ولو كافرًا - فهو إمَّا ساحرٌ، وإمَّا إن كان وليًّا فعصى. هذا على فرض أنَّ مكتسب تلك القوَّة قد يكون وليًّا، وفي ذلك نظر! إذ قد يقال له: لم نعرف في الشَّريعة ترغيبًا ما في اكتساب تلك القوَّة؛ بل فيها ما يؤخذ منه النَّهي عن اكتسابها، والرَّياضة الموصلة إليها، كما يأتي. وقد وَرَد في النَّهي عن تعلُّم السَّحر ما ورد (¬2). ¬

_ (¬1) لم يتبين لي مَن الشيخ المردود عليه. (¬2) يعني كقوله تعالى: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} [البقرة: 102]. =

وقد تقدَّم عن الشَّيخ أنَّ تلك الرِّياضة محصِّلة لهذه القوَّة التي إن استعملها صاحبُها في هواه فهو ساحرٌ، وإنَّما يبقى النَّظَر فيمن لم يشعر بأنَّ ما وقعَ منه داخلٌ في تعلُّم السِّحر. والله أعلم. هذا وقد يُقال: إذا كان استعمال تلك القوَّة في إيذاء البشر - ولو كفارًا - محرَّمًا لأنَّهم من عالمَ البشر، وهي خارجةٌ عمَّا هو عادة في عالم البشر = فكذلك ينبغي أن يكون الحال في استعمالها في النَّفع؛ أو المراد على خروجها عن عادة البشر! فإذا صحَّ هذا فالحكم المتقدِّم على من استعملها في الإيذاء شامل لمن استعملها في غير الإيذاء، بل الأمر أوضح من هذا. فأمر إيذاء الكفَّار والحربيين نفعٌ للدِّين والمسلمين، ومع ذلك فإنَّما يُتَخَيَّل الفرق بين النَّفع والإيذاء من جهة حُسْن النفع، وقُبْح الإيذاء، فإيذاء الكفَّار والحربيين ليس بقبيحٍ، بل هو حَسَن. لكن قد يُقال: إنَّ عموم عبارة الشيخ مخصوص بما إذا لم يكن هناك أمرٌ خاصٌّ، فيقول: إنَّه يحرم على الوليَّ استعمالها ما لم يُؤْمَر، فإذا أُمِر كان له ذلك، كما تدلُّ عبارات أخرى له. وعلى هذا فنقول: الأمر الذي تتلقَّاه ليس هو في الكتاب ولا السُنَّة، وإنَّما يريدون به الأمر بالإلهام ونحوه، وسيأتي الكلام عليها، وقد تقدَّم بعضه، وأنَّه لا يثبت بها حكمٌ ألبتَّة. ¬

_ = وكحديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اجتنبوا السَّبع الموبقات". قالوا: يا رسول الله، وما هنَّ؟ قال: "الشِّرك بالله، والسِّحر .. " الحديث. أخرجه البخاري (2766)، ومسلم (89).

فصل

فإذا عُلِم المنع من استعمال تلك القوَّة، فاستعمالها بناءً على إلهام أو نحوه خروج على الشَّريعة، وذلك قد يكون أشد من استعمال الإيذاء على سبيل المخالفة الصَّريحة. فإن قيل: فالمنع من استعمالها إنَّما أخذوه من تلك الطُرُق، كالإلهام ونحوه. قلتُ: بل هو ثابتٌ شرعًا؛ لأنَّ تلك القوَّة عندنا سِحْرٌ أو في معناه. والله أعلم. فصلٌ يُفهَم من كلام الشيخ أنَّ التصرُّف الجائز عندهم لا يكون بحسب هوى المتصرِّف، ولا بأمرٍ متوجِّهٍ إليه خاصَّة، وإنَّما يكون بأوامر يتلقَّاها من الدِّيوان، وأنَّ أهل هذا الدِّيوان إنَّما يقرِّرون ما قضاه الله وقدَّره، وفي هذا قضاء على الاستغاثة بالأولياء الأحياء؛ لأنَّهم لا شأن لهم إلاَّ تنفيذ ما أُمِروا به، فهم كالملائكة سواء، فكما أنَّه لا يُستغاث بالملائكة - كأن يُستغاث بمَلَك الموت ليقبض روح فلانٍ الظالم - فكذلك هؤلاء، على فرض صِحَّة دعواهم. وأمَّا الموتى فقد سبق عن الشَّيخ أنَّهم لا شأن لهم بعالم الأحياء ألبتَّة. ويُشكِل على هذا أمورٌ أخرى نُقِلَت في هذا الكتاب عن الشَّيخ، إلاَّ أنَّ التناقض في أشباه هذه الدَّعاوى لا يُستنكَر.

فصل

فصلٌ وقد عُلِم ممَّا ذكره الشيخ في اقتتال أهل الدِّيوان أنَّ عِلية القوم - وهم أهل الدِّيوان - قد يغلطون، فيزعمون - أو جماعة منهم - أنَّ مراد الله عزَّ وجلَّ كذا، ويقاتلون عليه أخوانهم، ويقتلونهم. وإذا جاز هذا على هؤلاء في ديوانهم فما بالك بالواحد منه! فهذا يدلُّك أنَّنا لو سلَّمنا دعاويهم لما تحتَّم علينا قبول قولهم إذا خالفه دليلٌ ظاهرٌ من الكتاب والسُّنَّة. وقد تقدَّم مزيد على هذا، ويأتي تمامه إن شاء الله تعالى. فصلٌ فأمَّا الاستدلال بمشاهدة التصرُّف بتلك القوَّة, أو نقلها على أنَّ صاحبها وليٌّ - فواضح البطلان؛ لاعتراف القوم أنَّ تلك القوَّة لا يختصُّ اكتسابها وتحصيلها بالصَّالح، بل تكون أيضًا للفاجر والكافر، وكذلك الاحتجاج في نحو ما لو قال أحدهم قولًا أو فعل فعلًا فاعترض عليه، فتصرَّف فيه! فصلٌ من أشنع الأغلاط أن يُعدَّ التصرُّف بهذه القوَّة في الكرامات! أمَّا أولاً: فلِمَا علمتَ أنَّ حصول القوَّة والتمكُّن من التصرُّف بها قد يكون للفاجر والكافر. وأمَّا ثانيًا: فإن فُرِض أنَّ صاحبها وليٌّ فتصرُّفه بها إنَّما هو تصرُّفٌ بقدرةٍ حصَلَت له باكتسابه، فهذه القوَّة عند التَّحقيق من جُملة القُوى العاديَّة، كالإصابة بالعين، وليست من الخارق في شيءٍ!

نعم، هي كالواسطة بين القُوى العاديَّة المشهورة وبين الخوارق؛ فهي من قبيل السِّحر وأعمال الجنَّ الزائدة على الوسوسة ونحوها. والذي ظهر لي أنَّ هذا النَّوع ليس صاحبه يخلَّى وشأنه، يستعمله كيف يشاء، كما في القُوى العاديَّة، كالضَّرب والشتم، بل هو مقيَّدٌ بإذن خاصًّ من الله عزَّ وجلَّ. أو على الإذن الذي نصَّ عليه تعالى بقوله: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 102]. وهو غير مستلزمٍ الإذن الشَّرعي، كما لا يخفى. فالسَّاحر لا يستطيع أن يضرَّ بسِحره كلَّ أحدٍ، كما لا يستطيع الإنسان أن يضرب من شاء بحسب الإذن العام؛ بل لمن يقدر على الضَّرب عادةً إذنٌ خَلْقيٌّ عامٌّ، أن يضرب متى شاء؛ فإذا أراد الله عزَّ وجلَّ منْعَه منَعَه، كقول الله عزَّ وجلَّ لنار إبراهيم: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69]. والسَّاحر على خلاف ذلك. فالضَّارب مطلقٌ، يقيِّده الله عزَّ وجلَّ إذا شاء، والساحر مقيَّدٌ، يطلقه الله عزَّ وجلَّ، فتدبَّر وأنْعِم النَّظر. والله أعلم. وقد حكوا أنَّ عالمًا رأى من شيخٍ ما يخالف الشَّريعة، فأنكر عليه فتصرَّف الشيخ، فنسي العالم علمه كلَّه، فتاب وتضرَّع إلى الشيخ، فأمره بذبح دِيكٍ عيَّنه له، وأن يأكل قلبه، ففعل، فعاد علمه كلُّه، فقال له الشيخ: كيف تُدِلُّ بعلمٍ وسِعَهُ قلبُ ديكٍ؟! أقول: إن صحَّت القصَّة فكان فرض ذلك العالم أن يستمرَّ على إنكاره،

ويتضرَّع إلى الله عزَّ وجلَّ فيُذْهِب ما به، ويزيده علمًا إلى علمه، على رغم الشَّيخ. ولا يُستبعَد أن يَدَعَ الله عزَّ وجلَّ المبطِل يتصرَّفُ بإضرار المُحِقِّ. وكفاك ما رُوِي في قصَّة اليهودي الذي سَحَرَ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم (¬1). ولله عزَّ وجلَّ حِكَمٌ لا تُحصَى، وإنَّما علينا الوقوف عند حدود الشَّرع. والله الموفق. وأمَّا الكرامة فإنَّما هي بفعل الله عزَّ وجلَّ لا دخل فيها لقوَّة الولي، وكذلك المعجزة، كما يأتي إيضاحه إن شاء الله عزَّ وجلَّ. ومن الجهل الفاحش أن يُظنَّ أنَّ المعجزات تصدر من قوَّة في النَّبي، بل هذا قول المُلْحِدين كالمُتفَلْسِفَة، الذين يزعمون أنَّ النُّبوَّة والسِّحر من وادٍ واحد؛ إلاَّ أنَّ النَّبيَّ خيِّرٌ، إنَّما يصرف قواه في الخير، بخلاف السَّاحر. راجع: "شرح المواقف" وغيره (¬2). وبما قرَّرناه هنا يتبيَّن صحَّة فتوى من أفتى من الفقهاء بوجوب الضَّمان على القاتل بالحال المعروف بين المتصوِّفة - وهو من هذه القوَّة التي نتكلَّم عليها - وبطلان قول مَن خالفه، محتجًّا بما رُوِي أنَّ بعض التَّابعين دعا على ¬

_ (¬1) يعني ما أخرجه البخاري (3268)، ومسلم (2189)، من حديث عائشة رضي الله عنها، في قصة سحر لبيد بن الأعصم اليهودي للنبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) "شرح المواقف" للجرجاني (3/ 329 وما بعدها، 347). ويُنظَر أيضًا: "النُّبوَّات" للفخر الرَّازي (ص 194 - 204)، و"المطالب العالية" له (8/ 127)، وكتب شيخ الإِسلام: "النُّبوَّات" (1/ 137، 196) و"الصَّفديَّة" (1/ 5) و"شرح الأصبهانيَّة" (ص 575)، وغيرها.

فصل

رجلٍ فهَلَك لحِينِه، فرُفِع إلى الأمير، فقال: دعوة رجل صالحٍ صادفت أجلًا - أو كما قال -, وخلَّى سبيل الدَّاعي (¬1). وإيضاح ذلك: أنَّ القاتل بالحال قتل بقوَّةٍ فيه، فهو كالقاتل بالسِّحر، إن لم نقل: إنَّه هو، ومثله فِعلُ مَن ضرب بسيفه أو طعن بخنجره أو رمى ببندقيَّته. وأمَّا الدَّاعي فلا شأن له، وإنَّما مثله مثل من شكا رجلاً إلى حاكمٍ، وطلب منه أن يقتله، فقتله الحاكم؛ فإن كان في هذا ضمان فعلى الحاكم وحده، وأمَّا في الواقع فالحاكم هو الله تبارك وتعالى؛ فإذا كان قضاؤه بموت ذاك إجابة لدعاء هذا فقد بان بذلك أنَّ دعاء هذا حقٌّ. والله الموفق. فصلٌ هذه القوَّة لم تكن حاصلة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام اكتسابًا قطعًا، وقد برَّأهم الله عزَّ وجلَّ منها؛ إذ لو حصَلَت لأحدهم قبل النُّبوَّة لكان ذلك سِحرًا وما في معناه، وإذًا لقَوِيَت شُبهة الكفَّار في قولهم: ساحر. وأمَّا بعدها فكذلك. أمَّا اكتسابًا فواضحٌ. وأمَّا أن يعطيهم الله عزَّ وجلَّ قوَّةً تشبهها، فمَن تدبَّر الكتاب والسُّنَّة والسِّيرة علِمَ أنَّه لم يحصل لهم ذلك، على أن يكون ملازمًا ¬

_ (¬1) القِصَّة لمطرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير، تابعي معروف، والأمير هو زياد بن أبيه. وقد أسندها عنه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (2/ 206)، وابن أبي الدُّنيا في "مجابو الدَّعوة" (89) وغيرهما، في قصَّةٍ بنحوه، وفيه: "فقال زيادٌ: هي دعوة رجلٍ صالحٍ وافَقَتْ قدر الله".

لهم، وإنَّما يمدُّهم الله بالمعجزات بقدرته عندما يشاء ذلك. نعم، من المعجزات ما تقتضي الحكمة أن يكون للنَّبي أثر فيه، كضرب موسى عليه السَّلام البحر والحجر بالعصا (¬1)، وكَرَمْي محمَّد - صلى الله عليه وسلم - الكفَّار بالحصى (¬2)، وغير ذلك. ولذلك حكمةٌ، قد ذكرتُ بعضها في موضع آخر، ولعلَّه يأتي في الكلام عن المعجزة إن شاء الله تعالى. وهذا لا يخالف ما تقدَّم؛ فإنَّ الضَّرب الواقع من موسى عليه السَّلام هو ضربٌ عاديٌّ، بقوَّته العاديَّة، وأمَّا الأثر المعجز فهو حاصل بمَحْض قدرة الله عزَّ وجلَّ. وأمَّا ما في الحديث من قوله - صلى الله عليه وسلم - للمصلِّين: "إنَّي أراكم من خلفي" (¬3) فالظَّاهر أنَّ هذه قوَّةٌ كان يجعلها له البارئ سبحانه عزَّ وجلَّ في الصَّلاة ¬

_ (¬1) أمَّا ضرب موسى عليه السلام الحجر ففي قوله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} [البقرة: 60]، وأمَّا ضربه عليه السلام البحر ففي قوله تعالى: {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء: 63]. (¬2) وقع ذلك منه - صلى الله عليه وسلم - مرَّات، منها: ما رواه مسلم (1777) من حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، وفيه: " .. ثم قبض قبضةً من تراب من الأرض، ثم استقبل به وجوههم، فقال: شاهَت الوجوه، فما خلق الله منهم إنسانًا إلاَّ ملأ عينيه ترابًا بتلك القبضة، فولّوا مُدْبِرين، فهَزَمَهم الله عزَّ وجلَّ". وفي الباب أيضًا حديث العبَّاس عند مسلمٍ أيضًا (1775). وتُنظَر بقية المواضع ورواياتها في: "الدُّر المنثور" للسيوطي (7/ 72 - 74). (¬3) أخرجه البخاري (718)، ومسلم (426)، من حديث أنسٍ رضي الله عنه، بنحوه.

فصل

لمصلحة التَّعليم، وحصولها له من جُملة المعجزات. وإنْ صحَّت دعوى المتصوِّفة أنَّه قد يحصل لهم نحو ذلك بالقوَّة المذكورة فإنَّ الذي يحصل لهم عن اكتسابٍ عاديٍّ في الجملة، والذي حَصل له - صلى الله عليه وسلم - بغير ذلك؛ وإنَّما هو بمَحْض قدرة الله عزَّ وجلَّ. وقِسْ على ذلك. فصلٌ وما ذكره الشيخ في الرِّياضة فيه نظر! أمَّا قوله: "إنَّ السَّلف كانوا لصفاء نفوسهم لا يحتاجون إلى رياضةٍ" فقد تقدَّم أنَّه لم يُنقَل عن السَّلف هذه الدَّعاوى التي يدَّعيها الخلف؛ فمقصود السَّلف إذًا غير مقصود الخلف. وأمَّا قوله: "إنَّه بعد تكدُّر القلوب احْتِيج إلى الجوع والخلوة والذِّكر" فنقول: قد كان يمكن تطبيق هذه الأمور على السُّنَّة؛ فيُكتَفى من الجوع بأن يُؤمَر المزيد بالعمل بالسُّنَّة، في صوم يومٍ وإفطار يوم، وبتقليل الأكل في الجُملة؛ بأن يكون دون الشَّبع، كما يأتي. ويُكتفَى من الخلوة بأمره باجتناب مجالسة من لا ينفعه. ومن الذِّكر بكثرة تلاوة القرآن والأذكار الثابتة في الكتاب والسُّنَّة. فما بالكم خالفتم هذا، وسلكتم طُرُقًا أخرى، كما يُعلَم من النَّظر إلى رياضتكم؟ وقد تبيَّن من كلام الشيخ على رياضة الغزالي أنَّها طريقٌ عاديَّة يُتوصَّل بها إلى حضور ما يسمُّونه: الفتح! إلى آخر ما تقدَّم. والمعروف أنَّ جِنس هذه الرِّياضة معروفٌ عند اليونان والهند وغيرهم؛

يتوصَّلون بها إلى قوَّة الإدراك، وقوَّة الإرادة التي ينبني عليها قوَّة التَّأثير. وأمَّا وقوع بعض المسلمين في هذه الرِّياضة فمِن طريقين: الأولى: الغُلُو. الثانية (¬1): النَّقل عن الأُمَم الأخرى. وتفصيل ذلك: أنَّ الإِسلام جاء بشرع الصِّيام والقيام، واجتناب الحرام والشُّبهات، وترك صُحبة أهل الشَّر والفساد، وحدَّد الصَّيام بعد الفَرْض بثلاثة أيَّامٍ من كُلِّ شهرٍ، إلى أن جعل منتهاه صيام يومٍ وإفطار يومٍ، ونهى عن صيام الدَّهر، وعن الوصال، وحضَّ على أكلة السَّحَر لمن يريد الصَّيام، ونهى عن قيام اللَّيل كلِّه، وعن العُزلة، وعن الترهُّب (¬2). ¬

_ (¬1) في الأصل: "الثاني". (¬2) أمَّا شرعيَّة الصيام والقيام فأظهر وأكثر من أن تذكر دلائله. وأمَّا اجتناب الحرام والشُّبهات فورد في أحاديث، منها حديث النُّعمان بن بشير رضي الله عنه مرفوعًا: "إنَّ الحلال بيَّن، وإنَّ الحرام بيَّن، وبينهما مشتبهات .. ". أخرجه البخاري (52) ومسلم (1599) وهذا لفظه. وأما النَّهي عن صحبة أهل الشَّرَّ ففي أحاديث، منها: حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: "إنَّما مثل الجليس الصَّالح والجليس السُّوء كحامل المسك ونافخ الكير .. ". أخرجه البخاري (2101) ومسلم (2628). وأمَّا تحديد الصَّيام بثلاثة من كلَّ شهر، وجعل منتهاه صيام يوم وإفطار يومٍ، والنَّهي عن صيام الدَّهر، والنَّهي عن قيام اللَّيل كلَّه ففي حديث عبد الله بن عمروٍ رضي الله عنهما، وسيأتي ذكره في كلام المؤلَّف (ص 289). وأمَّا النَّهي عن الوِصال ففي أحاديث، منها: حديث ابن عمر رضي الله عنه: "أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم واصل، فواصل الناس، فشقَّ عليهم، فنهاهم .. ". أخرجه =

وبَلَغَه [- صلى الله عليه وسلم -] عن ثلاثة من أصحابه العزم على الزَّيادة على ذلك فخطبهم، وقال في خطبته: "لكنِّي أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوَّج النِّساء؛ فمَن رغِب عن سُنَّتي فليس منِّي" (¬1). وكان من سُنَّته أن يأكل الطَّعام الطَّيِّب إن تيسَّر له، فإن لم يتيسَّر اجتزأ بما حصل، فإن لم يجد شيئًا صبر على الجوع. وكان من دعائه: "وأعوذ بك من الجوع؛ فإنَّه بئس الضَّجيع" (¬2). وكذلك سُنَّته في اللِّباس. وعلى نحو ذلك جَرَت سُنَّة أصحابه بعده. ¬

_ = البخاري (1922) ومسلم (1102). وأمَّا الحثُّ على التسحُّر ففي أحاديث، منها: حديث أنس رضي الله عنه مرفوعًا: "تسحَّروا فإنَّ في السَّحور بركة". أخرجه البخاري (1923)، ومسلم (1095). وأمَّا النَّهي عن التَّرهُّب ففي أحاديث، منها: حديث عائشة رضي الله عنها: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لعثمان بن مظعون: "إنَّ الرَّهبانية لم تكتب علينا .. " الحديث. أخرجه أحمد (6/ 226)، وابن حبان (9)، ويُنظَر: "الصَّحيحة" للألباني (1782)، و"الإرواء" (2015). وأصله في البخاري (5073)، ومسلم (1402)، من حديث سعدٍ رضي الله عنه قال: "ردَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عثمان بن مظعون التَبَتُّل، ولو أذن له لاخْتَصَينا". (¬1) أخرجه البخاري (5063) ومسلم (1401)، من حديث أنس رضي الله عنه. (¬2) أخرجه أبو داود (1547)، والنَّسائي (8/ 263) وغيرهما، من طرق عن ابن إدريس عن ابن عجلان عن المقبريَّ عن أبي هريرة رضي الله عنه به مرفوعًا. وقد صحَّحه ابن حبَّان (1029)، والنَّووي في "الأذكار" (ص 313)، و"رياض الصالحين" (ص 269)، وحسَّنه الألباني في "صحيح أبي داود، النُّسخة الأم" (1383) بشواهده.

إلاَّ أنَّ بعضهم تأوَّل خبرًا في الصِّيام، فسَرَد الصَّوم، وكان بعض أصاغرهم يواصل (¬1). ثم نشأ أفرادٌ من التَّابعين رغبوا في كثرة العبادة وحبِّ العُزلة، وظهر من بعضهم التَّخاشع في الهيئة والمشي والجلوس، والصَّعق عند الذَّكر، وظهر أثر السُّجود على الجبهة = فأنكر عليهم ذلك من أدركهم من الصَّحابة وكبار التَّابعين. فأنكرت عائشة وغيرها على الذين يتخاشعون في الهيئة والمشي (¬2). وقال لهم قائلٌ: "لا تموِّتوا علينا ديننا" (¬3). ¬

_ (¬1) هو عبد الله بن الزُّبير رضي الله عنهما، وروي أيضًا عن غيره, كما في "المصنَّف" لابن أبي شيبة (9692) وغيره، قال الحافظ في "فتح الباري" (4/ 204): "بإسنادٍ صحيحٍ". (¬2) اشتهر نسبة ذلك إليها في كتب ذمِّ البِدَع، وغريب الحديث، واللُّغة والأدب، ففيها: أنَّ رجلاً مرَّ بعائشة رضي الله عنها متماوتًا، فقالت: مالَهُ؟ قالوا: متخشِّعٌ! قالت: "هو أخشع من عمر! وكان إذا مشى أسرع، وإذا قال أسمع، وإذا ضرب أوجع". ولم أره مسندًا. ويُنظَر: "الفائق" للزمخشري (1/ 280)، و"النِّهاية" لابن الأثير (3/ 370)، و"محاضرات الأدباء" للراغب (2/ 428)، و"الباعث" لأبي شامة (ص 82)، وغيرها. وهو مسندٌ بنحوه عن الشفاء بنت عبد الله رضي الله عنها، كما أخرجه عنها ابن سعد في "الطَّبقات" (3/ 290)، ومن طريقه الطَّبري في "تاريخ الرسل والملوك" (4/ 212)، وغيرهما. (¬3) اشتهر في كتب ذمِّ البِدَع، وغريب الحديث واللُّغة والأدب نسبة ذلك إلى عمر رضي الله عنه. ففيها: أنَّ عمر رضي الله عنه رأى رجلاً متماوتًا في إظهار النُّسك، فعلاه =

وأنكرت أختها أسماء وغيرها على الذين يصعقون عند الذِّكر (¬1). وقال بعض المنكرين: "إنَّه من الشَّيطان" (¬2). ¬

_ = بالدَّرَّة, وقال: "لا تُمِت علينا ديننا". وفي بعضها: "ارفع رأسك؛ فإنَّ الإِسلام ليس بمريضٍ". ولم أره مسندًا. ويُنظَر:"النَّهاية" لابن الأثير (3/ 370)، و"محاضرات الأدباء" للرَّاغب (2/ 428)، و"الباعث" لأبي شامة (ص 82). ورأيته مسندًا عن عمر بنحو معناه, ولكن دون ذكر التَّماوت، فأخرج الدينوري في "المجالسة" (1691)، ومن طريقه ابن الجوزي في "تلبيس إبليس" (1/ 355)، بسنده عن محمَّد بن عبد الله القرشي عن أبيه قال: "نظر عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى شابٍ قد نكس رأسه، فقال له: يا هذا ارفع رأسك؛ فإنَّ الخشوع لا يزيد على ما في القلب، فمن أظهر للناس خشوعًا فوق ما في قلبه فإنَّما أظهر نفاقًا على نفاقٍ". وأخرجه ابن أبي الدُّنيا في "الإخلاص والنيَّة" (43)، وفي "الرِّقَّة والبكاء" (154)، ومن طريقه ابن الجوزي في "تلبيس إبليس" (1/ 355) بسنده عن كهمس بن الحسن: "أنَّ رجلاً تنفَّس عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه كأنَّه يتحازن، فلَكَزَه عمر - أو قال:- لكمه". (¬1) أسنده ابن الجوزي في "تلبيس إبليس" (ص 310) وغيره - كما في "الدُّر المنثور" (12/ 649) - عن حصين بن عبد الرحمن قال: قلتُ لأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما: ... إنَّ ههنا رجالاً إذا قُرِئ على أحدهم القرآن غشي عليه! فقالت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم! وفي الباب عن أنسٍ وابن عمر وابن الزُّبير رضي الله عنهم وغيرهم، يُنظَر: "تلبيس إبليس" لابن الجوزي (ص 310)، و"الدُّر المنثور" للسيوطي (12/ 649 - 650). (¬2) أخرج عبد الرزاق في "تفسيره" (3/ 172) وغيره [كما في "الدُّر المنثور" 12/ 649] عن معمر قال: "تلا قتادة: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} [الزمر: 23]، قال: "هذا نعت أولياء الله، نَعَتَهم الله بأن تقشعرَّ جلودهم، وتبكي =

وأنكر ابن عمر وغيره على من رُئِي بجبهته أثر السُّجود (¬1). وعن ابن مسعودٍ: أنَّ بعض المتعبِّدين جعلوا لهم مسجدًا في عُزلتهم = فقال: "قوموا بنا نهدم مسجد الضَّرار"، فخرج وهَدَمه (¬2). وكان الحسن البصري يُنكر على الذين يُخَشِّنون على أنفسهم في المَطْعَم والمَلْبَس (¬3). ¬

_ = أعينهم، وتطمئنَّ قلوبهم إلى ذكر الله، ولم ينعتهم بذهاب عقولهم، والغشيان عليهم، إنَّما هذا في أهل البِدَع، وهذا من الشيطان". (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنَّف" (3154)، والبيهقي في "الكبرى" (2/ 286)، وغيرهما، من طُرُقٍ عن أشعث بن أبي الشعثاء عن أبيه عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنَّه رأى أثرًا فقال: "يا عبد الله إنَّ صورة الرجل وجهه، فلا تُشِن صورتك". وفي الباب عندهما وغيرهما عن أبي الدَّرداء، ومجاهد، وغيرهما. (¬2) لم أره مسندًا. وقد ذكره ابن سعد في "الطَّبقات" (6/ 206) قال: "وفي غير هذا الحديث: أنَّ عمرو بن عتبة ومعضد بن يزيد العجلي بَنَيَا مسجدًا بظهر الكوفة، فأتاهم ابن مسعود رضي الله عنه فقال: جئتُ لأكسر مسجد الخبال .. ". وقد ذكره الطُّرطوشي في "الحوادث" (ص 145) ثم أبو شامة في "الباعث" (ص 65) بنحوه. وأصل الخبر في إنكار ابن مسعود رضي الله عنه على القوم الذين اجتمعوا للذَّكر بهيئةٍ مخترعةٍ في المسجد، لكن دون ذكر هدمه, أخرجه الدَّارمي في "مسنده" (204) وغيره. (¬3) أسنده أحمد في "الزُّهد" (ص 267) وابن الجوزي في "تلبيس إبليس" (ص 240) أنَّ الحسن رأى فرقدًا وعليه جُبَّة صوف، فقال له: إنَّ التقوى ليس في هذا الكساء، إنَّما التَّقوى ما وَقَر في القلب وصدَّقَه العمل. وعنه أثران آخران كما في "تلبيس إبليس" (ص 241).

ولكنَّه مع ذلك بقي الأمر على ما هو عليه، ولم يزل يزداد يومًا يومًا. وكان المضيَّقون على أنفسهم في المَطْعَم والمَلْبَس يعتذرون بأنَّ الحلال الصِّرْف عزيزٌ. وامتنع بعضهم من النَّكاح؛ بعِلَّة أنَّه لو تزوَّج وصارت له عائلةٌ يحتاج إلى نفقتهم؛ فيخشى الوقوع في الحرام لعِزَّة الحلال. وفي أواسط القرن الثاني ظهر لبعض الذين يجوِّعون أنفسهم أنَّ الجوع يُورث الصَّفاء وقوَّة الفهم، فقالوا: إنَّ الجوع ينور القلب. ففي ترجمة [بشر بن الحارث الحافي] من "صِفة الصفوة" [قال: "إنَّ الجوع يصفِّي الفؤاد، ويُورِثُ العِلم الدَّقيق] (¬1). فصار الجوع مقصودًا اختيارًا، بعد أن كان يقع اضطرارًا، ثم حَدَثت لبعضهم الخواطر، التي من شأن من يقبلها أن يتديَّن بها، فكان خيارهم لا يقبلون تلك الخواطر ما لم يكن مدلولها معروفًا في الكتاب والسُّنَّة. فعن أبي سليمان الدَّاراني أنَّه قال: ["ربَّما وقع في قلبي نُكتةٌ من نُكَت القوم أيامًا، فلا أقبل إلاَّ بشاهدين عَدْلين، الكتاب والسنة"] (¬2). ¬

_ (¬1) في الأصل: "ففي ترجمة وهيب بن الورد من صفة الصفوة"، ثمَّ بيَّض المؤلِّف رحمه الله للقول قدر سطرين، وليس في ترجمة وهيب في "صفة الصَّفوة" ما له علاقة بسياق ما ذكره، ولعلَّ مراد المؤلِّف ما أثبتُّهُ بين القوسين المعكوفين من ترجمة بشر الحافي رحمه الله (2/ 332). (¬2) بيَّض له المؤلَّف قدر سطر، وكأنَّه يقصد ما نقلتُه. وقد أسنده عنه أبو عبد الرَّحمن السُّلمي في "طبقات الصُّوفية" (ص 76)، ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (34/ 127)، والذَّهبي في "السَّير" (18/ 231).

ثم اتَّسع نطاق الخواطر والتديُّن فأصبح أكثر القوم يَبْنُون دينهم عليها، وساعد على ذلك أنَّ أكثرهم كانوا من الأعاجم. واسْتَفْحَل الأمر في القرن الثالث، واتَّصل بالطَّريق الثاني، وهو النَّقل عن الأُمم كاليونان والهند، فحكاها المتفلسفون، وتقبَّلها المتصوِّفون، وعظَّمها بعض المتعطِّشين إلى العِلم، الزَّاهدين في الكتاب والسُّنَّة. وذلك أنَّ المتكلِّمين قد كانوا من قبل ذلك وضعوا من الكتاب والسُّنَّة، وزعموا أنَّه ليس فيهما ما يُغني في معرفة قواعد العقائد، بل من اقتصر عليهما كان بغاية الجهل بالله تعالى وصفاته، وأنَّ حقيقة الأمر إنَّما تُدرَك بالنَّظر العقلي، فاغترَّ كثيرٌ من النَّاس بذلك، فخاض مع الخائضين = فكان من أذكيائهم من لم يحصِّل في طريق المتكلِّمين على ما يشفي الغليل. واتَّفق أن كان ذلك بعد نقل الفلسفة؛ فخاض هؤلاء فيها، فمنهم من لم يحصِّل فيها على طائلٍ. واتَّفق أن كان ذلك وقت انتشار قول الباطنيَّة؛ فخاض هؤلاء معهم، فلم يجدوا عندهم شيئًا. واتَّفق أن كان ذاك وقت اشتهار خواطر المتصوِّفة. على أنَّ الباطنيَّة يخلطون خرافاتهم بالكلام والفلسفة والتصوُّف، كما تراه في "رسائل إخوان الصفا" من كتبهم (¬1). ¬

_ (¬1) يُنظر في تفصيل الكلام عن هذه الرسائل: "إخوان الصفا - فلسفتهم وغايتهم" تأليف: د. فؤاد معصوم. والمراجع التي أحال عليها الدكتور محمَّد رشاد سالم في تحقيق "درء تعارض العقل والنقل" (1/ 11) حاشية (1). وقد تتابع كلام الأئمة في ذم هذه الرسائل، وأنها جمعت بين علوم الفلسفة وعلوم الشريعة، وأنَّى يجتمعان! =

فصل

وبالجملة فإن الطَّريقين - الغُلُو والنَّقل عن الأُمم الأخرى - اتَّصلا في القرن الثالث، ومن حينئذٍ اشتهرت المكاشفات والغرائب التي يسمُّونها كرامات، ولم تزل تنمو وتزيد. فأمَّا ما يُحكى من المكاشفات والكرامات عن التَّابعين وأتباعهم ومن قَرُبَ منهم فغالِبُه من اختراع القُصَّاص الذين لم يكونوا يُحْجِمون عن وضع الأحاديث، وروايتها عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم -، كما تقدَّم، فما بالك بما دون ذلك! فصلٌ من أركان الرِّياضة عندهم: الجُوع، ويجتمعون على إلصاقه بالدِّين، بما جاء عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. وقد تقدَّم ما يتعلَّق بذلك، وأنَّه لا حُجَّة فيه. وأقوى ما عندهم: حديث المقدام بن معدي كرب مرفوعًا: "ما مَلَأَ ابنُ آدم وعاءً شرًّا من بطنه، حسْبُ ابن آدم لُقَيمات يُقِمْن صُلْبَه، فإن غَلَبَت الآدمي نفسُه فثُلُثٌ للطَّعام، وثُلُثٌ للشَّراب، وثُلُثٌ للنَّفس". رواه ابن ماجه (¬1)، من طريق محمَّد بن حربٍ حدَّثتني أمَّي عن أمِّها أنَّها سمعت المقدام. والمرأتان مجهولتان. لكن أخرجه الترمذي (¬2)، من طريق إسماعيل بن عيَّاش حدَّثني أبو سلمة الحمصي وحبيب بن صالح عن يحيى بن جابر الطَّائي عن مقدامٍ، وفيه: " ... بحَسْب ابن آدم أُكُلات ... فإن كان لا محالة فثُلُثٌ ... ". ¬

_ = ويُنظر أيضًا: "طبقات الشافعية" لابن الصلاح (1/ 256)، و"شرح العقيدة الأصفهانية" (ص 170)، و"درء التعارض" له (6/ 242)، وغيرها. (¬1) "سنن ابن ماجه" (3349). (¬2) "سُنن الترمذي" (2380).

قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح". قال عبد الرحمن: في إدراك يحيى بن جابر للمقدام كلام. قال البخاري في "التاريخ" (4/ 2/ 265) (¬1): "يحيى بن جابر الطَّائي القاضي عن المقدام ... ". ومن عادة البخاري في "تاريخه" أنَّه حيث يثبت السَّماع يقول: "سمع"، وإلاَّ قال: "وعن". وقال ابن أبي حاتم: "يحيى بن جابر .. روى عن المقدام .. مرسلٌ ... سمعتُ أبي يقول ذلك" (¬2). فهذا ابن أبي حاتم جزم بأنَّ رواية يحيى عن المقدام مرسلةٌ، وكذلك جزم به المزِّي في "تهذيبه" (¬3)، وابن حجر في "تهذيب التَّهذيب" (¬4). لكن أخرج الإِمام أحمد في "المسند" (4/ 132): "ثنا أبو المغيرة ثنا سليمان بن سليم الكناني قال ثنا يحيى بن جابر الطائي قال: سمعتُ المقدام ... ". وكذلك أخرجه الحاكم في "المستدرك" (4/ 331) من طريق أبي المغيرة، وقال: "صحيح الإسناد". وأقرَّه الذَّهبي. وفيه: "حسْب ابن آدم ثلاث أكلات". ¬

_ (¬1) "التَّاريخ الكبير" (8/ 265). (¬2) "الجرح والتَّعديل" (9/ 133). وبمثله في "المراسيل" له (ص 244). (¬3) "تهذيب الكمال" (31/ 249). (¬4) "تهذيب التَّهذيب" (11/ 168).

وأبو المغيرة عبد القدُّوس بن الحجَّاجْ موثَّق، روى عنه البخاري في "صحيحه". وأبو سلمة سليمان بن سلمة موثَّقٌ أيضًا. ويحيى بن جابر موثَّقٌ، وكانت وفاته سنة 126. ووفاة المقدام سنة سبع وثمانين، وقيل: ثلاث وثمانين، وقيل: ست وثمانين. فبين وفاتيهما نحو أربعين سنة. فالسَّماع ممكنٌ؛ بأن يكون يحيى وُلِد سنة سبعين على الأقل، فأدرك من عمر المقدام بضع عشرة سنةً. وعلى هذا يكون عمر يحيى حين مات دون السِّتين، وأي بُعْدٍ في ذلك وهما في بلدةٍ واحدةٍ؟! وترجمة يحيى في "الثِّقات" في التَّابعين، وقال: "روى عن المقدام" (¬1). وذلك بمعنى الحكم بسماعه من المقدام. لكن قد يقوَّي قولَ أبي حاتم: بأنَّ يحيى كثير الإرسال عن الصَّحابة، الذين لم يدركهم، وبأنَّ عامَّة شيوخه - الذين لا كلام في سماعه منهم - هم من صغار التَّابعين، كصالح بن يحيى بن المقدام بن معد يكرب، وعبد الرحمن بن جبير بن نفير. والله أعلم. فقه الحديث: أمَّا أوَّله فهو في ذمَّ ملء البطن، ولا نزاع في ذمِّه؛ لأنَّه يورث البِطْنَة والتُّخمة، وينشأ عن ذلك الكسل والفتور، ويكون سببًا لكثير من الأمراض، فهو إضرارٌ بالجسم والرُّوح، وتضييع للمال. وقوله: "أُكُلات" بضمَّتين، جمع أُكْلَة، كلُقْمَة، وزنًا ومعنى. وزيادة: "ثلاث" في رواية "المستدرك" منكرةٌ؛ فإنَّ الثلاث اللُّقَم لا تقيم الصُّلْب عادة، ولم يكن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يكتفون عند وجود الطَّعام ¬

_ (¬1) "الثَّقات" لابن حبَّان (5/ 520).

بثلاث، بل ولا تِسْعٍ. وقد يتوهَّم أن يكون وقع في هذه الرواية: "أكلات" بفتحتين، ولا يصحُّ؛ لمخالفته السِّياق، ولأنَّ المعروف في ذلك العهد الاكتفاء بأكلتين في اليوم، الغداء والعشاء. و"أكلات" جمعٌ بالألف والتاء، وأهل العربيَّة يعدُّونه من الجموع التي حقُّها أن تُطْلَق على ما دون الأحد عشر، ولا تحمل على أحد عشر فما فوقه إلاَّ بقرينةٍ (¬1). لكن ضعَّف ابن خروفٍ، وصوَّبه الرَّضِي ومن تَبِعَه، أنَّ هذا الجمع مخالفٌ لتلك الجموع، وأنَّه يطلق على ثلاثة فما فوقها، إلى ما لا نهاية (¬2). إلاَّ أنَّ السِّياق هنا يدلُّ على القِلَّة، وهي هنا مبيَّنةٌ بقوله: "يُقِمْن صُلْبَه"، فالمدار إذًا على إقامة الصّلْب، وهي كناية عن ذهاب الجوع، وحفظ القوَّة. فالقَدْر الذي يُذهِب الجوع ويحفظ القوَّة هو القَدْر الذي ينبغي الاكتفاء به. ثمَّ زاده بيانًا بقوله: "فإن كان لا محالة .. ". وإيضاحه: أنَّ الإنسان الصَّحيح قد يأكل ويشرب ويحسُّ بالثقل والضِّيق، وقد يأكل ويشرب ثم لا يجد ثقلًا ولا ضيقًا، فثُلُث الطَّعام هو القَدْر إذا زاد عليه وقع في الحال الأُولى. وذلك لا ينضبط تحديدًا, ولكن يمكن للإنسان معرفته بأحد أمرين: الأوَّل: أن لا يستوفي شهوته من الطَّعام، كما قيل: أن تقعد على الطَّعام ¬

_ (¬1) "شرح المفصَّل للزمخشري" لابن يعيش (3/ 225). (¬2) "شرح الرَّضِي على الكافية" (3/ 397 - 398).

وأنت تشتهيه، وتقوم عنه وأنت تشتهيه، يعني: بعد أخذ المقدار الذي تحْزُرُ أنَّه يكفيك. الثَّاني: أن يقدَّر أكله، كأن يكون طعامه خبزًا مستويًا كل يوم، فيعلم أنَّه إذا أكل ثلاثة أرغفة أحسَّ بالضَّيق والثقل، وإذا أكل رغيفين ونصفًا لم يحسَّ بذلك. والأمر الثاني لا يتيسَّر كلَّ وقتٍ، فالاعتبار بالأوَّل. وعلى كلَّ حالٍ فينبغي للإنسان أن لا يستوفي القَدْر الذي يعلم أنَّه إذا زاد عليه كَظَّه، بل يدعُ فسحةً؛ لأنَّه قد يجِدُ طعامًا شهيًّا، فيختلُّ حسابه، بأن يأكل فوق حاجته، ويظنُّ أنَّه لم يفعل، وقد يجِدُ بعد الأكل فاكهةً أو نحوها فيشتهيها ولا يصبر. فالحاصل: أنَّ مَن استوفي ثُلث الطَّعام، وجعل ذلك عادته كان معرَّضًا لأنْ يقع في الزَّيادة؛ فالحكمة تقتضي أن يعتاد النَّقص على ذلك. واعْلم أنَّ الشَّبَع لا يتوقَّف استيفاءً على الثُلُث، بل يحصل بدُونه، وعلى ذلك يُحمَل ما يجيء في الأحاديث والآثار في أكل النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وأصحابه حتى شبعوا (¬1). ¬

_ (¬1) يشير إلى ما أخرجه البخاري (6452) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصَّة شربه وأهل الصُّفَّة رضي الله عنهم من قدح لبنٍ حتى ارتووا منه كلُّهم، وفيه: قال أبو هريرة: "فما زال يقول: اشْرب, حتَّى قلتُ: لا، والذي بعثك بالحق، ما أجد له مسلكًا". وما أخرجه البخاري (2618)، ومسلم (2056) من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما في قِصَّة أكله هو وثلاثين ومائةٍ من أصحاب النَّبي - صلى الله عليه وسلم - من صاعٍ وشاةٍ, وفيه: قال عبد الرحمن: "وجعل قصعتين فأكلنا منهما أجمعون وشبعنا".

فصل

ومع هذا كلّه فما في الشَّريعة من كراهية الإفراط في الأكل حكمٌ مستمرٌّ، لا يختصُّ بوقتٍ دون وقتٍ، والجوع الرِّياضي إنَّما يأمرون به زمن الرِّياضة، فأمَّا من فُتِح له عندهم فلا يحجرون عليه شيئًا، ولا يكاد يحجر على نفسه، وهذا أمرٌ لا [أصل له] في الشريعة ألبتَّة. فصلٌ ومن أركانها: السَّهَر، ويحتجُّون على إلصاقه بالدِّين بما جاء في قيام اللَّيل. ولا يخفى على من له علم بالدِّين أنَّ قيام اللَّيل ليس المقصود من السَّهر، وإنَّما المقصود العبادة بالصَّلاة والذِّكر والدُّعاء، فلو سهر الإنسان بدون ما ذِكْرٍ لم يكن له شيءٌ من الفضل. ومع ذلك فقد وَرَدَ النَّهي عن استيعاب جميع اللَّيل بالقيام (¬1). وجاء تحديد الأفضل بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أفضل القيام قيام داود، كان ينام نصف اللَّيل، ويقوم ثُلُثه، وينام سُدُسه" (¬2). واللَّيل هنا ليس المقصود به اللَّيل الطَّبيعي، وهو ما بين غروب الشَّمس وطلوعها؛ لوجهين: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6134)، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "ألم أُخبَر أنَّك تقوم اللَّيل وتصوم النَّهار"؟ قلتُ: بلى، قال: "فلا تفعل، قُم ونَم .. " الحديث. (¬2) لم أره بهذا اللَّفظ، وقد أخرجه البخاري (1131)، ومسلم (1159)، وغيرهما، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما بلفظ: "أحب الصلاة إلى الله صلاة داود .. ".

الأول: أنَّ اللَّيل في عُرف الشَّارع خلاف ذلك، وألفاظ الشَّارع تُحْمَل على عُرْفِه ما أمكن. الوجه الثاني: أنَّ بعد الغروب صلاةُ المغرب، ثم صلاة العشاء، وما يتبعها، وقد نهي عن النَّوم قبلها، وأنَّ بعد طلوع الفجر راتبة الصُّبح وصلاتها، ثمَّ القعود للذِّكر والدُّعاء. وكذلك لا يصحُّ أن يكون المراد في الحديث: اللَّيل الشَّرعي، وهو ما بين غروب الشَّمس وطلوع الفجر؛ لما تقدَّم أنَّ بعد الغروب صلاتَي المغرب والعشاء وتوابعهما. فالمقصود باللَّيل إذًا هو الذي يكون وقتًا لقيام اللَّيل، وهو ما بين الفراغ من صلاة العشاء ورواتبها إلى طلوع الفجر، والقدر الذي لصلاة المغرب والعشاء ورواتبها يمكن لمن كان مطَّلعًا على السُّنَّة أن يقدَّر بساعتين ونصف تقريبًا، وما ورد من أنَّ تأخير صلاة العشاء أفضل لم يكن العمل عليه في الأَعَمِّ الأغلب؛ لأنَّه لا يتيسَّر إلاَّ للأفراد، أو في بعض الأحوال. فالذي يجب البناء عليه هو ما كان عليه العمل غالبًا، ويتيسَّر العمل به، وهو ما ذكرنا، ويبقي بين ذلك وبين طلوع الفجر عند اعتدال اللَّيل والنَّهار ثماني ساعات، ينام نصفها، وهو أربع ساعات، ويقوم ثلثها، وهو ساعتان وثلثان، ثم ينام الباقي، وهو ساعة وثلث. هذا على فرض التَّحديد، وليس بلازم، وإنَّما الأمر على التَّقريب، وعليه كان عمل النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. وبهذا يحصل للإنسان من النَّوم في اللَّيل المعتدل خمس ساعات وثلث.

فصل

وقد شُرِع نوم القائلة، وقد يكون نحو ساعة، وبذلك تتمُّ السِّتُّ السَّاعات، الذي ينصح به الأطبَّاء بعدم النُّقصان عنها. مع أنَّ هذه الحال هي لمن أراد استيفاء الفضل، الذي لا أفضل منه في الحديث، ودون ذلك مراتب داخلةٌ في الفضل. ووراء هذا كلِّه فإنَّ ما تقدَّم من أنَّ أفضل القيام إنَّما فضيلته من حيث هو، ومن حيث إنَّ الزِّيادة عليه ليست بأفضل منه، بل قد تكون مذمومةً في الشَّرع، كما تقدَّم. وأمَّا استيفاؤه والنَّقص منه فإنَّه يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، فقد كان أهل بيت النَّبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته ينقصون عن ذلك ولم يَلُمْهُم. وأرشد - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن عمرو إلى النَّقص عن ذلك، كما هو مشهور (¬1). ومع هذا فقيام اللَّيل حكم مستمرٌّ لا يختصُّ بوقتٍ، بل يُكْرَه لمن اعتاد شيئًا منه أن يُخِلَّ به لغير عذرٍ. والسَّهر الرِّياضي إنَّما يؤكِّدونه أيَّام الرِّياضة، فأمَّا بعد الفتح فلا تبقى له حاجةٌ عندهم! وبهذا يتبيَّن أن لا علاقة لسَهَرهم بالقيام الشَّرعي، إلاَّ بقصدهم بالعبادة في وقت الرِّياضة غير المقصد الشَّرعي. فصلٌ ومن أركان الرِّياضة: أن لا يأكل رُوحًا ولا ما خرج من رُوحٍ، وهذا في الأصل منقولٌ عن براهمة الهند؛ فإنَّهم يحرِّمون اللَّحم ألبتَّة، وكذلك البَيْض. ¬

_ (¬1) يُنظَر تخريج الحديث السابق.

فصل

ويكرهُ غلاتُهم اللَّبن وغيره ممَّا يخرج من الحيوان (¬1). فأمَّا المتصوَّفة فقد حاولوا إلصاقه بالدِّين بأمرٍ يُحكى عن عمر رضي الله عنه، أنَّه نهى عن أكل اللَّحم كلَّ يومٍ، وقال: "إنَّ لهذا اللَّحم ضراوةً كضرواة الخمر" (¬2). وهذا إن صحَّ ليس فيه متمسَّك لهم. أولاً: لأنَّهم لم يقتصرُوا على النَّهي عن أكله كلَّ يومٍ، أو نحو ذلك، بل منعوا منه مدَّه الخلوة، وهي أربعون يومًا على الأقل. ثانيًا: أنَّ الكراهة التي في الأمر لا تخصيص فيها، وهم يخصُّون المرتاض أيَّام رياضته. ثالثًا: أنَّ الأمر في اللَّحم فقط، وهم زادوا ما خرج من الحيوان كاللَّبن وغيره. فصلٌ وذكروا أنَّ المرتاض بالرَّياضة المعروفة بينهم إذا حصل له ما يسمُّونه بالفتح تحصل له القوَّة المذكورة، وأنَّه إن اطمأنَّ إليها كان ساحرًا هالكًا. وذلك أنَّ رياضتهم كما اعترفوا به طريقٌ عاديَّةٌ لحصول الفتح، ولذلك ¬

_ (¬1) يُنظر مذهب البراهمة في ذلك: كتاب "تحقيق ما للهند من مقولةٍ مقبولة في العقل أو مرذولة" لأبي الريحان البيروني (ص 467 - 469). (¬2) أخرجه مالك في "الموطَّأ" (2/ 935)، من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري عن عمر رضي الله عنه، بلفظ: "إيَّاكم واللَّحم فإنَّ له ضراوة .. ". وأخرجه ابن أبي شيبة في "المصنَّف" (25018) من طريق وكيع عن حزام بن هشام عن أبيه عن عمر رضي الله عنه, فذكر نحوه. ثم أخرجه (25019) عن عائشة رضي الله عنها أيضًا بنحوه.

قد يحصل الفتح للكافر والفاجر، إلاَّ أنَّ المؤمن الصَّالح لا يطمئنُّ إلى ذلك الفتح، بل يثابر على الاجتهاد، فيرتقي بعد ذلك درجات لا ينالها الكفَّار والفجَّار، ولهم في ذلك كلامٌ طويلٌ. أمَّا أنا فأقول: إنَّ رياضتهم من حيث المجموع غير شرعيَّة, بل [منها] (¬1) ما هو غلوٌّ في العبادات الشَّرعيَّة، ومنها ما هو من المُحْدَثات والبِدَع، ومنها ما أخذوه من الأُمم الأخرى، كاليونان والبَرَاهِمة، فماذا عساه يُرجى من بركتها؟! وفي الحديث: "أنا أغنى الشُّركاء عن الشِّرك" الحديث (¬2). والنَّتيجة تتبع أخَسَّ المقدِّمتين، ومعيارُ قوَّة السِّلسلة إذا عُلِّق بها شيءٌ أو شُدَّ = قوةُ أَوْهَنِ حلقةٍ فيها. اللَّهم إلاَّ أنَّ مَن سَلَكها غير عارفٍ لحقيقتها, ولا مقصر تقصيرًا يقطع العذر، وكانت نيَّته حسنة، فلا يمتنع أن ينفعه الله تعالى بحُسن نيَّته. والله أعلم. وهذا ممَّا يفسِّر لك ما أشكل على بعضهم من أنَّ الغرائب التي تُعَد كرامات يعزُّ ما يثبت منها عن الصَّحابة وكبار التَّابعين، وكثرت فيما بعدهم. وممَّا يبيِّن لك صِحَّة فتوى من أفتى من الفقهاء بوجوب الضَّمان على مَن قتل بالحال المعروفة بين المتصوِّفة، وخطأ من ردَّه مستندًا إلى ما نُقِل ¬

_ (¬1) في الأصل: "منهم". (¬2) أخرجه مسلم (2958) وغيره، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

عن بعض خيار التَّابعين، أنَّه دعا على رجلٍ، فسقط الرجل ميَّتًا، فرُفِع الدَّاعي إلى الحاكم فخلَّى سبيلَه، قائلاً: "دعوة رجلٍ صالحٍ صادَفَت منيَّة رجلٍ" (¬1). ووجه الخطأ: أنَّه لم يكن من التَّابعيِّ إلاَّ دعاء الله عزَّ وجلَّ، فهو بمنزلة من شكا إنسانًا ظلمه إلى حَكَم عَدْلٍ فسطا الحَكَمُ بالظَّالم. وأمَّا القاتل بالحال فإنَّه قتل بقوَّةٍ فيه، فهو كمَن ضرب بسيفه. فأنَّى يشتبهان (¬2)؟! ¬

_ (¬1) تقدَّمت القصَّة (ص 273 - 274). (¬2) هنا ينتهي ما وجد من هذه الرَّسالة.

الرسالة الثامنة رسالة في الشفاعة

الرسالة الثامنة رسالة في الشفاعة

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي شفع الوعد بالوعيد، والترغيب بالترهيب، والتبشير بالإنذار، وخلق الجنة بخلق النار، ونهى عن الأمن من مكره، كما نهى عن اليأس من رحمته؛ ليكفَّ عباده عن العلو والتقصير، ويقيمهم على الصراط المستقيم، قال عزَّ من قائل: {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأعراف: 167]. وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، شهدت بذلك غرائز الفِطَر، وشفعها صحيح النَّظَر، وعزَّزها الوحي المُسْتَطَر، ولم يَرْتب فيها إلاَّ من عاند وأصرَّ. وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، أرسله بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، وخصَّه بالشفاعة الكبرى في المقام المحمود، والوسيلة العليا في اليوم المشهود. صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى إخوانه النبيين والمرسلين، وآله الغُرِّ الميامين، وأصحابه الهداة المهديين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. أمَّا بعد، فإنَّ صراط الهدى كصراط الجزاء، ذاك صراط على متن النار، لها عذابٌ ووبال، وهذا على متن الباطل، بين غضبٍ وضلال، ولا يمين لهذا ولا ذاك، بل كلتا الجهتين شمال. فقلَّ قضيَّة من قضايا الحق إلاَّ وقد شرَّق عنها قومٌ وغرَّب آخرون، ومن ذلك الشفاعة عند الله عزَّ وجلَّ، غَلَت فيها أُممٌ، فعبدوا من طمعوا أن يشفع

لهم، قال الله عزَّ وجلَّ: [{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] (¬1)]. وقصَّر المعتزلة من المسلمين، نُقِل عنهم أنَّهم لا يثبتون شفاعةً في الأخرى، إلاَّ شفاعة النَّبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لفصل القضاء. وتوسّع المتأخّرون من أهل السنَّة، فأثبتوا أنواعًا من الشفاعة، و [أجملوا فيها]، ووصل الأمر إلى القُصَّاص والمتصوّفة والمدّاحين المغرمين (¬2) بمدح النَّبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وإطراء المشهورين بالولاية من أمَّته، فبلغوا في ذلك كلَّ مبلغ. قال بعضهم: قد قال الله عزَّ وجلَّ لرسوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5]، ولن يرضى صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أن يعذَّب أحدٌ من أمَّته (¬3). ¬

_ (¬1) بيَّض المؤلِّف للآية، فكتبتها. (¬2) في الأصل: "والمداحون المغرمون". (¬3) نُسِب إلى الشِّبلي كما في "تلبيس إبليس" لابن الجوزي (ص 422) قوله: "والله لا رضي محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - وفي النار من أمَّته أحدٌ! ثم قال: إنَّ محمدًا يشفع في أمَّته وأشفع بعده في النار حتى لا يبقى فيها أحد"! وقد رُوِيَ مسندًا موقوفًا على ابن عباس رضي الله عنهما كما في "الدُّر المنثور للسيوطي" تفسير سورة الضحى، أنَّه قال في تفسير الآية: "لا يرضى محمدٌ وأحدٌ من أُمَّته في النار". وعدم البقاء في النار أخص من نفي التعذيب ألبتة، كما هو نقل المؤلِّف عنهم.

وعسى أن يقول آخر: قد قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، فلن يرضى صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أن يعذّب أحدٌ من العالمين. وجماعةٌ من شيوخ المتصوّفة يقول أحدهم: ليس على مريدي حسابٌ ولا عقابٌ، فأتاح لهم الكبائر وترك الفرائض، وبعضهم يصرِّح بذلك، فيقول لمريديه: لا تعذِّبوا أنفسكم، اعملوا ما تهواه أنفسكم، وأنا لكم واجب القصاص (¬1). والمشايخ إلى العامة أشدهم ترخيصا لهم، والمنتسبون إلى العلم منهم مَن حظُّه من العلم مطالعة كتب الفضائل والمناقب والتصوّف، وهؤلاء هم القُصَّاص والمشايخ الذين شكونا منهم. ومنهم من قرأ وطالع كتب المتأخرين في الفقه، ثم إمَّا يدمج نفسه في القسم المتقدّم، لما يشاهده من رواجهم على الناس، وإمَّا أن يقتصر على تعليم مختصرات الفقه والفتوى، ويقف عند ذلك، فإن خالف أهل القسم الأول ففيما أفرط فيه غلاتهم جدًّا فقط. ومنهم من يحاذر ذلك، فيقرأ بعض التفاسير وبعض كتب الحديث، ويشتغل بإقرائها ويقتصر على ذلك، وإذا عرَض له ما ينافي ما شاع بين الناس في الشفاعة خاف على نفسه من الكفر والضلال، فقطع التفكّر وصرف نفسه ¬

_ (¬1) نقل ذلك عنهم أبو الحسن الأشعري في "مقالات الإِسلاميين" (ص 289)، وتنظر نقول أخرى في "التصوف، المنشأ والمصدر" لإحسان إلهي ظهير (ص 262) وما بعدها.

عن التدبّر. ومنهم من طال باعه واتّسع اطّلاعه، ولكنّه أخلد إلى ما شاع بين الناس؛ لأنَّه قد رسخ في نفسه قبل اتّساعه، ولأنَّه يرى أنَّ خلافه إن لم يكن خرقًا للإجماع فهو خلاف للمشهور الذي عليه الجمهور، ويخشى أن يكون خلافه لذلك هلاكًا في دينه ودنياه. أمَّا في دينه فلخشية أن يكون الخلاف انتقاصًا للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وأولياء أمَّته. وأمَّا في دنياه فلِعِلمه أنَّه إن أظهر خلاف ما شاع ضلَّلوه وكفَّروه وآذوه، وربَّما قتلوه، وأيسر ما يناله أن يصير مبغوضًا ممقوتًا، يعانده الناس في دنياه، فتضيق عليه المسالك. فأخذ يتأوَّل ويتمحّل ويتكلَّف الطعن في أدلَّة الحِسِّ الصحيحة وتلفيق الشبهات لموافقة ما يخالفها. ومنهم مَن بان له الحق واتَّضح له السبيل، ولكن لم تطعه نفسه لمعارضة الناس أحوج ما يكون إليهم، والتعرّض لمقتهم وبغضهم وعداوتهم وأذاهم، فطوى على علمه كشحا وضرب عن المصارحة صفحًا، إلاَّ إشارات يُسِرُّ بها إلى من يأنس به من تلامذته وأصحابه، ويلوّح بها في بعض كتبه. وبالجملة فإنَّ الغلو المفرط، كالقول بأنَّه لا يعذر من هذه الأمَّة أحدٌ، وقول بعض المشايخ برفع التكليف عن مريديه = تجد بحمد الله كثيرًا من أهل العلم قد صرَّحوا بإبطاله والتشنيع عليه وعلى قائله، وأشاروا - وربَّما

صرَّح بعضهم - بردَّ ما دونه، إلاَّ أني لا أعلم من صمد لتحقيق مسألة الشفاعة كلها، واجتثاث شجرة الخطأ فيها من أصلها. وقد جمعتُ رسالةً مطوَّلةً في تحقيق العبادة المطلقة، أي: أعم من أن تكون لله عزَّ وجلَّ أو لغيره، فوجدت عبادة غيره تشابك مسألة الشفاعة، بحيث لا يمكن تحديد العبادة ما لم تتحدّد الشفاعة وما يتعلَّق بها. ولهذا لا تكاد تجد موضعًا في القرآن تقام فيه الحُجَّة على المشركين إلاَّ وفيه التعرُّض للشفاعة، فرأيت أن أفرد مسألة الشفاعة برسالة، تحيط بفروعها، متضرِّعًا إلى مقلّب القلوب أن يثبِّت قلبي على دينه، ويهديني لما اختُلِف فيه من الحق بإذنه. ***

مقدمة

مقدِّمة الشفاعة في اللُّغة مأخوذة من الشَّفع، وهو مقابل الوتر، ويقال (شفَعَه) أي: انضمَّ إليه، فصار معه شفعًا. قال الراغب: "والشفاعة الانضمام إلى آخر، ناصرًا له وسائلاً عنه، وأكثر ما يستعمل في انضمام من هو أعلى حرمةً ومرتبةً إلى من هو أدنى" (¬1). أقول: وكأنَّ (شَفَع) ضُمَّن معنى سأل ورغب، فقولهم: (شفعتُ لزيدٍ إلى فلان) كأنَّ تقديره: شفعتُ زيدًا سائلًا له قضاء حاجةٍ راغبًا إلى فلان، وقولهم: (شفعت إلى زيدٍ في فلان) كأنَّ أصله: شفعتُ فلانًا راغبًا إلى زيدٍ في شأنه. إنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كلَّم بريرة بعد أن أعتقتها زوجته عائشة أن تقيم مع زوجها، فقالت: أتأمرني؟ قال: "لا، إنَّما أنا شافعٌ". قالت: لا حاجة لي فيه (¬2)! فلم يلمها النَّبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في ردَّها شفاعته. ويعلم من هذا أنَّ الشافع ينزل نفسه منزلة من يرغب في حاجةٍ لنفسه، إن شاء المشفوع إليه قبل، مكرمًا له، وإن شاء أبى. وأنَّه ليس من شأن الشافع أن يغضب على المشفوع إليه إذا أبى، ولا يتكدَّر منه، وإلَّا لم يكن شافعًا بل آمرًا. وعُلِم منه أيضًا أنَّه ليس من شرط الشفاعة أن تكون من أدنى لأعلى، ¬

_ (¬1) "مفردات القرآن" (457). (¬2) أخرجه البخاري (5283) وغيرها، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

فصل

ولكن من شرطها أن لا يكون الشافع مالكًا للحاجة، فلا يتصوَّر في حقِّ الله تبارك وتعالى أن يشفع إلى أحدٍ؛ لأنه مالك الملك كله، وقد جاء في الحديث: ["فيشفع النبيون والملائكة والمؤمنون، فيقول الجبَّار: بقيت شفاعتي، فيقبض قبضةً من النار، فيخرج أقوامًا قد امتُحِشوا، فيُلقَون في نهرٍ بأفواه الجنة، يُقال له: ماء الحياة، فينبتون في حافتيه كما تنبت الحِبَّة في حميل السيل .. " (¬1)] (¬2). فصلٌ والشفاعة عند الله عزَّ وجلَّ أقسام: الأول: شفاعة إنسان في هذه الحياة الدنيويَّة لحيٍّ أو ميتٍ، والغالب في هذه تسميتها (دعاء)، وفيها مباحث: الأول: في حكم طلب الدعاء: اتفقت الأمة على جواز طلب الدعاء ممَّن هو حيٌّ هذه الحياة الدنيا طلبًا عاديًا، كان يخاطب السائل المسئول وهو حاضرٌ عنده، أو يكتب إليه كتابًا، أو يرسل إليه رسولاً، أو نحو ذلك. فأمَّا أن يهتف به وهو غائبٌ، بحيث يعلم أنَّه لا يسمع كلامه بحسب العادة فلا، وقد أوضحت حكم ذلك في "رسالة العبادة". وذكر بعض أهل العلم (¬3) أنَّ طلب الدعاء لا يخلو من كراهية، واستدلَّ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (7439) وغيره, من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (¬2) بيَّض المؤلّف للحديث فأتممته. (¬3) لعلّه ابن تيمية، ينظر قوله في "مجموع الفتاوى" (1/ 182)، وغيرها.

على ذلك بحديث "الصَّحيحين" (¬1)، في الذين يدخلون الجنَّة بغير حساب: "هم الذين لا يسترقون، ولا يتطيرون، ولا يكتوون، وعلى ربِّهم يتوكَّلون". وبأنَّ كبار الصحابة لم يكونوا يسألون النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم الدعاء لأنفسهم، بل كانوا يجتهدون في أعمال الخير التي [رضاها] الله تعالى ورسوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم. وأنَّ الناس بعد النَّبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لم يكونوا يسألون كبار الصحابة الدعاء إلاَّ ما ندر. وأنَّ رجلاً كتب إلى عمر [................................. (¬2)] والذي تلخَّص لي أنَّ الأصل الجواز، وإنَّما يكره أو يكون خلاف الأولى لعارضٍ. فمن ذلك: أن تكون الحاجة دنيويَّة غير ضرورية، وهي للطالب نفسه، فالمؤمن يرجو من الله عزَّ وجلَّ أن يختار له ما يعلمه خيرًا له، ودعاؤه لنفسه لا ينافي هذا؛ لأنَّ الدعاء نفسه عبادة، مع أنَّ الله عزَّ وجلَّ قد وعد بالإجابة بقوله: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]. وفسَّر النَّبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم الإجابة بقوله: ["ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث إما أن تعجل له دعوته وإما أن يدخرها له في الآخرة وإما أن يصرف عنه من ¬

_ (¬1) البخاري (5705) ومسلم (218)، من حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما. (¬2) بيَّض له المؤلَّف، ولم يتبيَّن لي مراده!

السوء مثلها". قالوا: إذًا نكثر؟ قال: "الله أكثر" (¬1)] (¬2). فالمؤمن في دعائه لنفسه مأجورٌ على الدعاء، موعودٌ بما يختاره الله عزَّ وجلَّ له من إعطائه عين ما طلبَه، أو إعطائه ما هو خيرٌ له من مطلوبه. فطلب الدعاء يشير بأنَّ الطالب حريصٌ على قضاء حاجته، وإن كان الله عزَّ وجلَّ يعلم أنَّه شرٌّ له، وقد كان النَّبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يرشد مَن يطلب منه الدعاء، إلى أنَّ الصبر خيرٌ له. فمن ذلك: [حديث المرأة السوداء التي أتت النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فقالت: إنَّي أصرع، وإنَّي أتكشَّف فادع الله لي، فقال: "إن شئتِ صَبَرتِ ولكِ الجنة، وإن شئتِ دعوتُ الله أن يعافيك"، فقالت: أصبر، فقالت: إنَّي أتكشَّف، فادع الله أن لا أتكشَّف، فدعا لها (¬3). ومنه: حديث خباب بن الأَرَتِّ رضي الله عنه قال: شكونا إلى رسول الله ¬

_ (¬1) بيَّض له المؤلِّف، فذكرته. (¬2) أخرجه أحمد (3/ 18)، والترمذي (3573)، والحاكم (1/ 670)، وغيرهم، من أحاديث عدّةٍ, جابر وأبي سعيد الخدري وعبادة بن الصامت وغيرهم رضي الله عنهم. قال الترمذي: "حسن صحيح"، وقال الحاكم: "صحيح الإسناد" ووافقه الذهبي، وقال البوصيري في "إتحاف الخيرة المهرة" (6/ 441): "بأسانيد جيّدة"، وصحَّحه الألباني في "السلسلة الضعيفة" تحت الحديث (4483)، وفي "صحيح الأدب المفرد" (264). (¬3) أخرجه البخاري (5652) ومسلم (2576) وغيرهما، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وهو متوسِّدٌ بُردةً له في ظِلِّ الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ فقال: "كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين، وما يصدُّه ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظمٍ أو عصبٍ، وما يصدُّه ذلك عن دينه، والله ليتمنَّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت، لا يخاف إلاَّ الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون" (¬1)] (¬2). وقد يُشعِر طلب الدعاء بأنَّ الطالب غير واثق بوعد الله عزَّ وجلَّ له بقوله: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]. فإن كان عدم وثوقه لعلمه بأنَّه مُصِرٌّ على الكبائر، كما هي حال أكثر أمراء هذا الزمان فالأمر أشد؛ فإنَّ الله عزَّ وجلَّ يبتليهم ليرجعهم إلى التوبة والاستغفار والطاعة، فالابتلاء خيرٌ لهم قطعًا، وهم يحاولون التخلُّص من الابتلاء مع الإصرار على الفجور! وعلى من طلب منه هؤلاء الدعاء لحوائجهم الدنيوية أن يمتنع ويقول: ادعوا لأنفسكم. فإن قالوا: إنَّنا عصاةٌ؟ قال لهم: توبوا وأنيبوا واستغفروا وادعوا لأنفسكم، وشرح لهم هذا المعنى. وأكثر الذين يُطلَب منهم الدعاء هذا الزمان لا يعرِّجون على هذا، بل ¬

_ (¬1) بيَّض المؤلِّف مقدار صفحة، فذكرت هذين الحديثين. (¬2) أخرجه البخاري (3612) وغيره.

يحرصون على أن يطلب منهم الدعاء؛ ليحصل لهم من الطالبين شيءٌ من الدنيا، بل إنَّ بعضهم يقول: خيرٌ لنا أن يبقى الأمراء والأغنياء فجّارًا؛ لأنَّهم إذا صلحوا استغنوا بالدعاء لأنفسهم، فلم يحصل لنا منهم شيءٌ! وقد رأينا كثيرًا منهم يجيئه الغني المجاهر بالفجور، يلتمس منه الدعاء فلا يعظه ولا ينصحه، بل يعظِّمه ويكرمه ويفهمه أنَّك ما عليّك إلاَّ أن تعطيني وتقضي حوائجي وأنا أتكفَّل [لك] (¬1) بحوائجك عند الله تعالى كلها! فحال الفريقين كما قال الله عزَّ وجلَّ: {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج: 73]. فليعلم الأمراء والأغنياء أنَّ طلبهم الدعاء من أمثال هؤلاء شرٌّ لهم في دينهم ودنياهم، وأنَّها إن قُضِيَت لهم حاجة عقب دعاء هؤلاء، فهي وبالٌ عليهم، والله المستعان. فأمَّا من يطلب الدعاء لحاجةٍ ضروريَّة فلا بأس به، كطلب السوداء الدعاء بأن لا تنكشف، ولذلك طلب الدعاء لغيره، ولو لولده. وقد كان الصحابة يطلبون الدعاء لأولادهم، وشكَت أسماء بنت عُمَيس إلى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أنَّ أطفالها أبناء جعفر بن أبي طالب تسرع إليهم العين، فأذن لها النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أن تسترقي لهم (¬2). وكذلك إذا كانت الحاجة عامَّة، كسؤال الصحابة النَّبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أن يستسقي لهم (¬3). وغير ذلك. ¬

_ (¬1) في الأصل "له". (¬2) أخرجه مسلم (2198) وغيره، من حديث جابر رضي الله عنه. (¬3) أخرجه البخاري (1015) ومسلم (897) وغيرهما، من حديث أنس رضي الله عنه.

ومن العوارض أن يكون في طلب الدعاء مشقة على المطلوب منه، أو شبه إساءة الظن به؛ ولهذا لم يكثر من أكابر الصحابة طلب الاستغفار من النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، كرهوا أن يشقُّوا عليه، وعلموا أنَّه يستغفر لهم كما أمره الله عزَّ وجلَّ بقوله: [{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159]، وقوله عزَّ وجلَّ: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19] (¬1)]. وقد وقع من بعضهم طلب الاستغفار لتقصيرٍ خاص، قال عمر رضي الله عنه: [.. يا رسول الله ادْعُ الله فليوسّع على أمتك؛ فإنَّ فارسًا والروم قد وسَّع عليهم، وأُعْطُوا الدنيا وهم لا يعبدون الله! فجلس النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم - وكان متكئًا - فقال: "أَوَفي شكٍّ أنت يا ابن الخطاب؟! إنَّ أولئك قومٌ عجَّلوا طيِّباتهم في الحياة الدنيا"، فقلت: يا رسول الله، استغفر لي .. (¬2)] (¬3). ومن العوارض أن يخشى على المطلوب منه أن يداخله العجب، فيرى أنَّ الناس إنَّما يطلبون منه الاستغفار لعلمهم بصلاحه. أو يخشى على الطالب أن يكون غاليًا في الاعتقاد في المطلوب منه، أو أن يقصّر في عمل الخير اتكالًا على استغفار فلان له. ¬

_ (¬1) بيَّض المؤلَّف مقدار هاتين الآيتين، فكتبتهما. (¬2) بيَّض المؤلَّف مقدار هذا الحديث، فذكرته. (¬3) أخرجه البخاري (2468) وغيره, في قصَّة ما أشيع من تطليقه - صلى الله عليه وسلم - نساءه.

[. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . (¬1)] وقد تُفقَد العوارض المقتضية للكراهة، ويقوم ما يفيد استحباب الطلب، كما يروى أنَّ عمر لمَّا جاء يودَّع النَّبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ليذهب إلى مكَّة للوفاء بما كان نذره في الجاهلية، من الاعتكاف عند البيت قال له النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "لا تنسنا يا أخي من صالح دعائك" (¬2). كان ذلك من النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم تطييبًا لنفس عمر، وبيانا لأنَّ في اعتكافه فضلاً وأجرًا يُرجَى معه استجابة الدعاء، ليزول بذلك ما قد يخطر في نفسه من توهّم أنَّ اعتكافه لمَّا كان وفاءً بنذرٍ نذَرَه في الجاهليَّة = يمكن أن لا يكون له فيه أجر، وفوق ذلك ففيه إرشاد له فيما يجب عليه؛ فإنَّ الله عزَّ وجلَّ [أمر] (¬3) بالدعاء لنبيِّه بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]. ¬

_ (¬1) بيَّض المؤلِّف هنا مقدار صفحة. (¬2) أخرجه أحمد (1/ 29)، وأبو داود (1498)، والترمذي (3562)، وابن ماجه (2894)، وغيرهم، من طرقٍ عن عاصم بن عبيد الله عن سالم عن أبيه عن عمر رضي الله عنه بنحوه. قال الترمذي: "حسن صحيح". ومدار إسناده على عاصم بن عبيد الله بن عمر بن الخطَّاب، وقد ضعَّفه الأئمَّة. تنظر ترجمته في: "تهذيب الكمال" للمزِّي (12/ 500)، و"ميزان الاعتدال" للذهبي (2/ 353). وينظر بسط تخريجه في: "ضعيف سنن أبي داود، الكبير" للألباني (264)، و"النافلة في الأحاديث الضعيفة والباطلة" للحويني (130). (¬3) زيادةٌ يقتضيها السياق.

ومن هذا ما يُروَى أنَّ النَّبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بشَّر عمر وغيره بأُوَيس القرني، وأمرهم إذا لقوه أن يأمروه أن يستغفر لهم (¬1). ففي ذلك إرشاد لأُوَيس إلى ما أمر الله تعالى بقوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} [الحشر: 10]. وفيه تنبيه للناس على فضل أُوَيس؛ فإنَّهم كانوا يستحقرونه ويؤذونه ويسخرون منه. [. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . (¬2)] ... ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2542) وغيره، من حديث عمر رضي الله عنه. (¬2) بيَّض هنا المؤلَّف نحو سطرين.

المبحث الثاني: فيما ينبغي للمطلوب منه الدعاء

المبحث الثاني: فيما ينبغي للمطلوب منه الدعاء ينبغي للمطلوب منه الدعاء أمور: الأول: إذا خشي على نفسه الإعجاب أو خشي على الطالب أو على غيره أن يغلوا في الاعتقاد فيه، أو يتَّكلوا على دعائه، ويقصِّروا في العمل = كان عليه أن لا يدعو له، بل يرشده إلى أن يتَّقي الله ويدعو لنفسه، فإن اقتضى الحال أن يزجره زجره، كما يفيده ما تقدَّم من الآثار. الثاني: إذا لم يخش مفسدةً، وكانت الحاجة أُخرويَّة أرشد الطالب إلى أن يجتهد في الخير، ويعلِّمه أنَّ الدعاء إنَّما يُرجَى أن يكون مساعدًا له، وقد قال النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لبعض من سأله الدعاء في منزلةٍ أُخرويَّة: "أعنِّي على نفسك بكثرة السُّجود" (¬1). وإن كانت دنيويَّة للطالب نفسه أرشده إلى أنَّ الصبر خير له، كما كان النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يصنع. الثالث: إذا أظهر ولده أو تلميذه - الذي ظهر عقوقه - التوبة وطلب منه الدعاء، وظهر صدق توبته، أو كان في إظهار الرضا عنه مصلحة تخفيف شرٍّ ونحوه = دعا له، كالحال في استغفار النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (489) وغيره، من حديث ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه قال: كنت أبيت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأتيته بوَضُوئه وحاجته، فقال لي: سَلْ، فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: أوَ غير ذلك؟ قلتُ: هو ذاك، قال: "فاعنِّي على نفسك بكثرة السجود".

وغيرهم. فإذا علم أنَّ في ترك المبادرة بالدعاء مصلحة امتنع منه، كما امتنع النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم من الاستغفار للثلاثة الذين خُلِّفوا (¬1). الرابع: عليه أن يتحرَّز من بيع الدعاء، ولا يتمُّ هذا إلاَّ بالاستغناء عن الناس. الخامس: أن يبدأ فينظر في حاله وحال الطالب وحال حاجته، ويزنها بالميزان الشرعي، حتى يتهيّأ له أن يقدّم رضا الله عَزَّ وَجَلَّ، ولا يكون في الدعاء ما يخالفه. السادس: .... (¬2). ¬

_ (¬1) قصَّة الثلاثة الذين خُلَّفوا أخرجها بطولها البخاري (4418) ومسلم (2769) وغيرهما، من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه. (¬2) هنا ينتهي آخر ما وجد من هذه الرسالة.

الرسالة التاسعة التفضيل بين الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم

الرسالة التاسعة التفضيل بين الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم

بسم الله الرحمن الرحيم مسألة التفضيل بين الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم وإن كان أصلُها من الدين؛ لتنزيل الناس منازلهم، وإعطاء كلِّ أحدٍ حقَّه = فقد صارت مِن حُجُبِ الشيطان التي يُلهي بها الإنسانَ عمّا خُلِقَ لأجله، ومَن أنكر هذا فيقال له: التفضيل هل هو بحسب ما عند الله تعالى أم بحسب تشييد الدّين والنفع للمسلمين؟ فإن قال بالثاني. قلنا: وايمُ الله إنّ كلاًّ منهم قد شاد الدين ونفع المسلمين. ومعرفة تفصيل ذلك تمامًا لا سبيل إليها؛ لأنَّه لم يَرِد مِن ذلك إلاَّ بعضُه، ولعلَّ لبعضهم زيادةً على غيره ينفع المسلمين بالالتجاء إلى الله تعالى والدعاء لهم؛ فإنَّ ذلك من أعظم النفع. وليت شعري أيُّ طائل في الدين لمثل البحث في: أيّهم أنفع؟! ولا سيّما مع ما عَرَض للفضائل من التعصُّبات بدفن البعض واختلاق البعض، حتى يحتمل صدق الضعيف وكذب الصحيح. وإن قال: بحسب ما عند الله تعالى. قلنا: هذا غيب. فإن قال: الأدلَّة. قلنا: ما منهم إلاَّ وقد وَرَد في حقِّه ما يُشْعِر بأفضليَّته أو يصرِّح بها مع كثرة ذلك، ولا سبيل إلى القطع ببعضها حتى تزعم أنَّها عند الله تعالى كذلك. فأمَّا كوننا متعبَّدين بالأخذ بالصحيح من السُّنن والحَسَن ونحو ذلك،

فهذا في العبادات المتعبَّد بعملها، وأمَّا في الاعتقادات فليس كذلك؛ إذْ هي مبنيّةٌ على القطع، ولا سبيل إليه، بل ولا إلى الظنَّ؛ لتعارض ظواهر الآثار, ولم يكونوا أنفسهم رضي الله عنهم يشتغلون بمثل هذا، بل ورد أنَّ كلاًّ منهم كان يقول بفَضْل الآخر عليه، مع أنَّه ما منهم إلا من كان يتحدَّث بنعمة الله، ولا سيّما سيدنا علي فيما أوتيه من العلم. فكيف يغمط نفسه حقَّها بتفضيل أبي بكرٍ وعمر على نفسه؟! وكذلك أبو بكر بتفضيله سيدنا عليًّا على نفسه، وغير ذلك. فإن قيل: كان ذلك ظنَّهم بأنفسهم. قلنا: فهل يعرف غيرُهم منهم - ولا سيّما بعد مرور هذه الأعصار - ما جهلوه من أنفسهم؟! فأمَّا كون أحدهم كذب بذلك فلا يقوله أحدٌ. وقد كان السلفُ لا يهمُّهم إلاَّ تعظيم الجميع، بحيث لا ينقص أحد منهم، ولا يهتمون بالتَّفضيل، وإن قالوا به بحسب الظنَّ فلا يلومون أحدًا خالفهم في ذلك، أو يعنِّفون عليه، كما رُوِي ذلك عن معمر ووكيع، كما في "الاستيعاب" في ترجمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه (¬1). وكلُّ مُفضَّل لا يخلو عن تعصُّبٍ، والدليل عليه أنَّه إذا قال بتفضيل أحدهم ثم ورد ما يدلُّ على أفضلية الآخر تكدَّر لذلك، وتمنَّى أن يظفر بما يَردُّ ذلك الوارد ويُبطله، إلى غير ذلك. فكلُّهم ساداتنا، أفاضلُ الأمر رضي الله عنهم وعنّا. ¬

_ (¬1) (3/ 1150)، وعزاه لعبد الرزاق.

فأمّا ما جرى بينهم من الوحشة فما زالت تجري بين الأخيار، بل - وأستغفر الله - لم يسلم منها الأنبياء الأطهار عليهم أفضل الصلاة والسلام. أترى موسى لمَّا أخذ بلحية هارون يجرُّه إليه، أليس ذلك عن وحشة حَدَثَت في نفسه، وهي للهِ بلا شكًّ. وهارون بريءٌ، وموسى معذورٌ. أترى الأسباط وفعلهم الذي قصَّهُ الله - تعالى - ألم يُدْخلوا على أبيهم وحشةً؟ ولا دخلت بينهم الوحشة، وإن كان الأنبياء - عليهم السلام - أعلى شأنًا من أن يُنْسَبَ إليهم الخطأ إلاَّ مع ضَرْبٍ من التنزيه. وكفاك أنَّ الوحشة التي جَرَت بين الخلفاء ونحوهم زالت في حياتهم، فقد قال عليٌّ عليه السلام: "إنِّي لأرجو أن أكون أنا وفلان وفلان وفلان من الذين قال اللهُ فيهم: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ ...} الآية [الحجر: 47]، ثم قال: فإن لم نكن هم فمَن هم؟ " (¬1). فكيف يُقامُ لها وزنٌ بعد الممات؟! اللَّهم وفّق وسدِّد واهْدِ وأرشِدْ بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على سيدنا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين. وأمّا التقدُّم بالخلافة فقد قيل: إنَّ سببه الفضل، وإنَّ الصحابة اجتمعوا على الأفضل فالأفضل. ¬

_ (¬1) أخرجه سعيد بن منصور وابن مردويه ونعيم في "الفتن" وابن أبي شيبة والطبراني كما في "الدر المنثور" (8/ 629 - 630)، وسمّى المبهمين (عثمان، وطلحة، والزبير).

فاعْلم أنَّ الإمامةَ كالإمارة، والسُّنَّةُ أن يؤمَّر في كلَّ عملٍ أهل الاقتدار فيه، وإن لم يكونوا من أولي الأفضلية، كما وُلَّيَ عمرو بن العاصي على كثيرٍ من أكابر الصحابة؛ لمزيد علمه بالحروب ونحو ذلك. واليقينُ الذي لا يشوبه ريبٌ أنَّ هذا الدين لم يزل يَسُوْسُه الله تعالى عند تأسيسِه فما بعده بما يصلحه، ولا سيّما بعد موتِ رسول الله صلىّ الله عليه وآله وسلم وارتدادِ العرب قاطبةً، ولله الحكمةُ البالغةُ، والذي يظهر من الحِكَمِ ما سيفتح الله به: فأولاً: حكمة الله في الأنبياء أن لا ينبَّؤُوا إلاَّ بعد بلوغِ سِنِّهم أربعين سنةً، وعند موتِ النبي صلّى الله عليه وآله وسلم كان سيِّدُنا عليٌّ دون الأربعين، وكذا عند موت أبي بكرٍ. وثانيًا: أنَّه قد سبق في علم الله تعالى أنَّ كلاًّ من الأربعة له حقٌّ في تولَّي الخلافة، وللدِّين مصلحةٌ في تولِّيه، فحينئذٍ لا بد أن يتولَّاها قطعًا. فلو تولَّاها أولاً عليٌّ وقد سبق تأخُّر أَجَلِه فلا تَصِلُ إلى غيره إلاَّ بموته قبل أَجَلِه، وهذا محالٌ. أو بعَزْلِه وهذا ينافي الحكمة، ليس لمجرد التكدُّر، بل لِما يلزم العزلَ من المفاسد المشوِّشة. فاقتضت الحكمة الإلهية أن يُوَلَّوها على ترتُّب آجالهم، وهذا الوجهُ قد كان فُتِحَ عليَّ به في الصَّغَر ثم رأيته محرَّرًا مقررًا للشيخ الأكبر نفع الله به (¬1). ثالثًا: لو وَلِيَها عليٌّ أولاً لقال أهل الكتاب وغيرهم من الكفار ¬

_ (¬1) لم يتبيّن لي من هو!

والمنافقين: هذه صفةُ المَلِكِ؛ إذ وليها بعده أقربُ الناسِ إليه نسبًا وحسبًا، وهذا عهد كسرى، ولصارت شبهةً للأمراء بعد ذلك بأن يُولَّي أحدُهم ولَدَه أو أخاه وقال: سُنَّة رسول الله، كما قال مروان إذْ خطبَ الناس لبيعة يزيد: "سُنّة أبي بكر وعمر"، فردَّ عليه عبد الرحمن بن أبي بكر: "بل سُنَّة كسرى وقيصر، إنّ أبا بكرٍ لم يولِّها ولَدَه ولا أخاه ولا قريبه" أو كما قال (¬1). فلو كانت الخلافة أولاً في سيدنا عليٍّ لوجَدَ مروانُ وأمثاله شبهةً يُغالطون بها الناس، وإلى نحو هذا يشير الحسن بن عليٍّ في قوله: "والله ما ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي في "السنن الكبرى" (11426) والحاكم في مستدركه (4/ 528)، من طريق علي بن الحسين عن أمية بن خالد عن شعبة عن محمَّد بن زياد قال: لمَّا بايع معاوية لابنه قال مروان: سنة أبي بكر وعمر! فقال عبد الرحمن بن أبي بكر: سُنَّة هِرَقل وقَيْصَر .. " الأثر. قال الحاكم: "صحيحٌ على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، وقال الألباني في "الصَّحيحة" (3240): "وإسناده صحيح". وفي روايةٍ لابن أبي حاتم في "تفسيره" (10/ 3295): "أهرقليَّةٌ؟! إن أبا بكر والله ما جعلها في أحد من ولده، ولا أحد من أهل بيته، ولا جعلها معاوية في ولده إلاَّ رحمة وكرامة لولد .. " الأثر. قال الألباني في "الصَّحيحة" (3240) عن إسناده: "إسناد صحيح". وتُنظَر طرقه الأخرى في "الصحيحة" للألباني (7/ 2/ 721)، و"الدُّر المنثور" للسيوطي (13/ 327 - 328). وأصله مختصرًا عند البخاري (4827) عن يوسف بن ماهك قال: "كان مروان على الحجاز، استعمله معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، فخطب فجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يُبَايَع له بعد أبيه، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه شيئًا .. " الأثر.

أرى الله جامعًا لنا بين النبوة والخلافة" (¬1)، أو كما قال. ولو دامت في أهل البيت فكذلك قد يتولاها أحدهم، ثم يكون له ولدٌ غيرُ أهلٍ فيأخُذ له البيعة، ويستدل بما قلناه سابقًا. رابعًا: أنّ الله - تعالى - قد جَبَل كُلًّا منهم على خلائق يحصل بها الصلاح في الوقت الذي تولَّى فيه، فلو تولَّى فيه غيره لما حصل الصلاح، أَلا ترى إلى أبي بكرٍ في الشَّدَّة على قتال أهل الرِّدَّة، وكان فيه غايةُ الصلاح، ولو كان غيره مكانه لكان الأمر بخلاف ذلك، وكذلك في الثبات عند موت النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم، وعند موت أبي بكرٍ نفسِه حيث لم يدعِ الناسَ في عمياءَ، بل اجتهد فرأى عمرَ أهلاً، وصَدَق اللهُ ظنَّه؛ فكان ذلك الزمنُ عزَّة الإِسلام (1). وقِسْ على ذلك. ولم ... (¬2) بما ذكرتُ توصّلاً إلى الجزم بأفضليّةِ عليًّ عليه السلام، بل لإمكان ذلك، فيلزمُ التوقُّفُ، والله أعلم. ¬

_ (¬1) لم أره مسندًا عن الحسن رضي الله عنه، ولكن في "الاستيعاب" لابن عبد البر (1/ 391) قال: "ورُوَّينا من وجوه أنَّ الحسن بن عليًّ لمَّا حضرته الوفاة قال للحسين أخيه: يا أخي، إنَّ أبانا رحمه الله تعالى لمَّا قُبِض رسول الله استشرف لهذا الأمر، ورجا أن يكون صاحبه فصَرَفَه الله عنه، ووليها أبو بكر، فلمَّا حضرت أبا بكر الوفاة تشوَّف لها أيضًا، فصُرِفت عنه إلى عمر، فلمَّا احتضر عمر جعلها شورى بين سِتَّةٍ هو أحدهم، فلم يشك أنَّها لا تعدوه, فصُرِفت عنه إلى عثمان، فلمَّا هلك عثمان بُوْيع ثم نُوْزع حتى جرد السيف وطلبها، فما صفا له شيء منها، وإنَّي والله ما أرى أن يجمع الله فينا أهل البيت النُّبوَّة والخلافة .. ". (¬2) كلمة غير ظاهرة.

الرسالة العاشرة تعلق العقائد بالزمان والمكان

الرسالة العاشرة تعلق العقائد بالزمان والمكان

بسم الله الرحمن الرحيم ممَّا يتعلَّق بالعقائد تعلُّقًا متينًا حال المكان والزمان، فالضرورة داعية إلى النظر فيهما. فأمَّا المكان فقد يطلق على موضع التمكُّن كمجلس زيد على الأرض، وقد يطلق على محلِّ الكَوْن، كموضع ذاك الطائر من الجوَّ، وقد علم كل واحد أنَّ بين السماء والأرض فضاءٌ، وأنّه ليس هذا الفضاء هو الهواء الذي تدفعه المروحة، ويمتلئ به الزق إذا نُفِخ؛ لأنَّ كثيرًا من النّاس لا يتصوَّر أنَّ الهواء جسْمٌ موجود في الفضاء، وهو مع ذلك يعرف الفضاء، ولأنّنا نعقل إمكان إعدام الهواء مع بقاء الفضاء، فالكلام في هذا الفضاء أمعدومٌ هو أم موجودٌ؟ نقلوا إطباق المتكلِّمين على أنَّه عَدَمٌ ويسمُّونه بُعْدًا موهومًا، وعن الفلاسفة - وتبعهم أكثر المتأخِّرين من نُظَّار المسلمين - أنَّه موجود، قال العضد في "مواقفه": "وهو موجودٌ ضرورة؛ أنّه يشار إليه هنا وهناك، وأنّه ينتقل منه الجسم وإليه، وأنّه مقدّر له نصف وثلث، وأنّه متفاوت فيه زيادة ونقصان، ولا يتصور شيء منها للعدم المَحْض وشكَّك عليه بأنّه ... والجواب أن وجوده ضروري، وما ذكرتم تشكيك في البديهي، وأنَّه سفسطة لا تستحق الجواب" (¬1). قال عبد الرحمن: الضرورة كثيرًا ما تشتبه بالوَهْمِيَّات، وهؤلاء القوم ¬

_ (¬1) "المواقف" للإيجي (ص 113)، الموقف 3، المرصد 2، المقصد 9.

يتحكَّمون، فربما يَعْمَدون إلى الوَهْمِيَّات فيدَّعون فيها الضرورة، ويسخرون ممَّن يخالفها، وربما يردُّون الضروريات، ويقولون: هذا وهم فاسد، ويسخرون ممَّن يحتجُّ بها، فينبغي أن نكشف عن هذه الضرورة التي ادَّعوها هنا، فنقول: لو نظرت رجلاً من عقلاء العامة، فرفعت يَدَيْك مبسوطتين في الفضاء متباعدين بنحو شبر مثلًا ثم سألْتَهُ: هل بين يدي شيء موجود لقال لك: لا. فأين الضرورة؟ ثم نقول: قد ذكرتم أنَّ الحكماء متفقون على أنَّ خارج العالم عَدَمٌ مَحْضٌ، وأنَّ المتكلِّمين متفقون أنَّ خارج العالم فضاء أي: بُعْدٌ موهوم، ونصرتم مذهب الحكماء، إذ قيل لكم: لو فُرِض أنَّ إنسانًا في طرف العالم فمدَّ يده إلى خارجه فقلتم: لا تنفذ، فقيل لكم: الجسم بمانع؟ قلتم: لا، ولكن شرطُ النُّفوذِ الفضاءُ، ولا فضاء هناك. فنقول لكم: فهل يجوز أن يخلق الله تعالى خارج العالم فضاءً مستطيلًا ضيَّقًا بحيث تمتد فيه اليد؟ فإن لم يُكابروا قالوا: نعم! فنقول: لنفرض أنَّ جسمًا مقوَّسًا على شكل نصف دائرة مثلًا يكون له سطح يمكن أن يجلس عليه إنسان، فركب جماعة على هذا القوس، ثم وُجِّه طرفا القوس إلى خارج العالم، ولنفرض على صحة قولكم: أنّ الفضاء شيء موجود، وأنّه ليس خارج العالم فضاء = أنّ الله عَزَّ وَجَلَّ خلق هناك فضاءً بقدر كُوّةٍ ينفذ فيها طرف ذلك الجسم بِمَن عليه، وأنَّه أُدِير ذلك القوس، والله عزَّ وجلَّ يخلق الفضاء أمامه حتى أعيد الطرف الذي ابتدئ بإنفاذه إلى موضع آخر من طرف العالم، فكان على شكل قوس وكرة طرف العالم = فهل يكون بين باطن القوس وبين سطح العالم بُعد

ومسافة؟ فإن قالوا: لا، كابروا. وإن قالوا: نعم. قلنا: فالبُعْد والمسافة موجودان أم معدومان؟ فإن قالوا: معدومان، قيل لهم: كيف؟ والمفروض أنَّ ذلك الجسم قوس، والقوس إذا وُضِعت على ما فرضنا كان طرفاها على سطح العالم وباطنها المقوَّس خارجه. وإن قالوا: موجودان. قلنا: كيف؟ والمفروض أنَّ خارج العالم عَدَمٌ مَحْضٌ، ولم يخلق الله عَزَّ وَجَلَّ فضاء إلاَّ بقَدْر ما ينفذ فيه طرف القوس، إلى أن يرجع طرفه إلى موضع آخر من سطح العالم، فذاك الفضاء إذًا على شكل قوس، وما بين مقعَّره وبين العالم على ما كان عليه. فإن قالوا: إنَّ وجود البُعْد بين الجسمين لا يستلزم أن يكون ما بينهما شيئاً موجودًا، بل يجوز أن يكون ما بينهما عَدَمًا مَحْضًا، ووجود المسافة إنّما معناه كونها بحيث تُعْلَم. قلنا: فوجود البُعْد بين السماء والأرض لا يستلزم وجود ما به البُعْدُ، وما به البُعْدُ هو الفضاء فهو المسافة، فالضروري إنَّما هو وجوده بمعنى كونه بحيث يُعْلَم، لا بمعنى كونه ليس بِعَدَم، وبعبارة أخرى: فالبُعْدُ معناه عدم التَّماسّ، فوجود البعد عبارة أخرى عن وجود عدم التَّمَاسّ، ووجود العَدَم إنَّما معناه كونه بحيث يُعْلَم. وأمّا قول العضد: "لأنَّه يشار إليه هنا وهناك" فمثل هذا يقع في المثال الذي فرضناه، فَمَنْ على طرف العالم يشير إلى ما بينه وبين القوس هنا

وهناك، وكذلك مَنْ على القوس. وهكذا قوله: "وأنَّه مقدار نصف وثلث، وأنَّه متفاوت فيه زيادة ونقصان". قد لزم مثل ذلك في المثال السابق. فأمّا قوله: "وأنَّه ينتقل منه الجسم وإليه" فإن أراد به تحقيق التقدر فقد أجبنا عنه، وإن أراد به أنَّ الجسم لا يتحيَّز إلا في موجود، ولا ينفذ إلاَّ في موجود منعناه، بل إنَّ مجاورة الجسم للعَدَم ونفوذه في العَدَم أسهل من مجاورته للوجود ونفوذه في الوجود، كمجاورته لجسم آخر ونفوذه فيه. وقد حلَّ عبد الحكيم (¬1) في "حواشي المواقف" الشُبَه العضدية، فراجعه إن شئت. هذا ونافي الوجود يكفيه المنع والقدح في أدلة مدَّعي الوجود، وقد حصل هذا، وقد تبرَّع المتكلمون بأدلة موجودة في الكتب. واختلف القائلون بأنّ الفضاء شيء موجود على أقوال، كلٌّ منها يبطل قول الآخر، وكلُّها أدلة للمتكلَّمين، إذ لهم أن يقولوا: لو كان شيئًا موجودًا، فإمّا أن يكون كذا، وإمّا أن يكون كذا، ثم يستدلُّون على بطلان كل قِسْمٍ بما أبطله به المخالف له. ¬

_ (¬1) هو السيالكوتي.

مجموع رسائل التفسير

آثار الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي (7) مجموع رسائل التفسير تأليف الشيخ العلامة عبدالرحمن بن يحيى المعلمي اليماني 1312 هـ - 1386 هـ تحقيق محمد أجمل الإصلاحي وفق المنهج المعتمد من الشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد (رحمه الله تعالى) تمويل مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

بسم الله الرحمن الرحيم

راجع هذا الجزء عبد الرزاق بن موسى أبو البصل علي بن محمد العمران

مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية SULAIMAN BIN ABDUL AZIZ AL RAJHI CHARITABLE FOUNDATION حقوق الطبع والنشر محفوظة لمؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية الطبعة الأولى 1434 هـ دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع مكة المكرمة - هاتف 5473166 - 5353590 فاكس 5457606 الصف والإخراج دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

مقدمة التحقيق

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة التحقيق الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد، فهذه مجموعة رسائل في التفسير للعلامة الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي رحمه الله، ولم ينشر شيء منها من قبل غير بحثه عن تكملة تفسير الفخر الرازي، فإنه قد طبع في حياته في مجلة الحج سنة 1376، ثم طبع ضمن مجموعة من رسائل الشيخ سنة 1417. أُلَّفت هذه الرسائل في أزمنة متباعدة، فمنها ما كتبه يوم كان قاضيًا في حكم الأدارسة في عسير، ومنها ما ألفه - فيما يبدو - في الهند، ومنها ما حرره بعد عودته من الهند أيام اشتغاله في مكتبة الحرم المكي الشريف. وقد ألف بعضها ابتداء لأهمية موضوعها، وبعضها نتاج مذاكرات جرت بينه وبين السيِّد محمَّد بن علي الإدريسي أو بعض معاصريه، وكتب بعضها بناء على اقتراح بعض أصدقائه. وهي رسائل متنوعة في موضوعاتها، فرسالة في تفسير البسملة، وأخرى في تفسير سورة الفاتحة، ورسالة في بيان تناسب الآيات وارتباطها في سورة البقرة، وثلاث رسائل في تفسير آيات مشكلة، وثلاث أخرى في الإعراب، ورسالة في تفسير لغوي. وقد ضممنا إليها بحثه المشهور عن تكملة التفسير الكبير لفخر الدين الرازي.

ليست كل الرسائل كاملة، فإن بعضها مخروم الأول والآخر، وقد تكون نسختها التي وصلت إلينا هي الناقصة، ولكن بعض الرسائل يظهر أن المؤلف نفسه لم يتمكن من إتمامها؛ بيد أنها جميعًا - سواء أكاملة كانت أم ناقصة - رسائل نفيسة تشتمل على فوائد جليلة ونظرات دقيقة، وتحريرات وتنقيحات كثيرة. لم يسمّ الشيخ شيئًا من هذه الرسائل، وإنما سُمِّي كثير منها عند فهرستها في مكتبة الحرم المكي الشريف استنباطًا من مضمونها. وقد بقي بعضها ضمن مجموعات دون عنوان، فاخترنا لها عنوانًا مناسبًا. نعم، عنوان البحث الذي عن تفسير الرازي قد يكون من وضع المؤلف, لأنه طبع في حياته. وهنا أريد أن أنبَّه على أمرين: الأول: أنَّ مسوَّدات المؤلف رحمه الله تضمنت فوائد تفسيرية كثيرة جُمعت في مجلَّد مستقل مع فوائد الفقه والعقيدة وغيرهما بعنوان "فوائد المجاميع". الثاني: أنَّنا وجدنا في مجموع برقم 4718 خطَّة وضعها المؤلف رحمه الله لكتاب في التفسير مع الإشارة إلى مصادره, ونصُّها بعد البسملة: "- القراءات: (عن تفسير الآلوسي) أقتصر على ما كان له علاقة بالمعنى، فلا أتعرض للخلاف في الهمزة ونحوه. - اللغة والتصريف والاشتقاق: (عن الراغب وابن الأثير واللسان والقاموس مع شرحه، ونحوها مع التفاسير) وأقتصر على ما له [علاقة] بالمعنى.

(1) رسالة في تفسير البسملة

- النحو: (أعاريب القرآن للسمين وغيره مع التفاسير) أقتصر على ما فيه غموض. - البلاغة: (الكشاف وغيره مع مراجعة كتب البلاغة). - أسباب النزول: (السيوطي وغيره والتفاسير). - المعنى: وفيه الناسخ والمنسوخ، وذكر الأحاديث المبيِّنة للآية، وما جاء من القصص مما كان إسناده قويًّا، مع بيان ذلك بالأسانيد. أقتصر على نقل الأقوال التي لها محلٌّ من النظر". لم يؤرِّخ المؤلف رحمه الله لتذكرته هذه، فلا نعرف متى فكَّر في وضع هذا التفسير، غير أنَّ الرسائل التي بين أيدينا ليس شيء منها مطابقًا للخطة المذكورة. وإليكم تفصيل الرسائل التي تشتمل عليها هذه المجموعة والأصول الخطية المعتمدة في نشرها، وهي جميعا بخط المؤلف رحمه الله تعالى، وكلها محفوظة في مكتبة الحرم المكي الشريف. (1) رسالة في تفسير البسملة هذه رسالة كاملة، وهي الرسالة الوحيدة التي صدَّرها المؤلف رحمه الله بمقدمة أوضح فيها الغرض من تأليفها، فأشار إلى كثرة الرسائل التي ألفت في شرح البسملة وأنه لا يكاد شرح من شروح الكتب يخلو من الكلام عليها، ثم قال: "ولكنني مع ذلك لم أجد كلامًا عليها يقتصر على إيضاح معناها إيضاحًا تامًّا، يسهّل على الطالب الإحاطة به، ليستظهره عند ذكرها. فسمت بي الهمة إلى محاولة ذلك".

والرسالة قد رتبها المؤلف على ثمانية فصول: أشار في أولها إلى أربعة أمور ينبغي استحضارها قبل البسملة. والفصول الثاني والخامس والسادس والسابع تدور حول معنى "بسم الله"، ومعنى الباء فيها، ومتعلقها، وما إلى ذلك. والفصلان الرابع والثامن في تحقيق لفظ الجلالة والصفتين الرحمن والرحيم. أما الفصل الثالث، وهو أطول الفصول إذ استغرق نصف الرسالة تقريبًا، فقد تكلم فيه على دلالة الاسم في البسملة، ثم ذكر الأقوال المشهورة فيها، وأولها قول ابن جرير: إن كلمة الاسم هنا بمعنى التسمية، وقد ردّه الشيخ المعلمي بأنه قول لا حجة عليه ولا حاجة إليه. وقد تلبست الأهواء قديمًا بمسألة الاسم والمسمى، هل الاسم عين المسمى أو غيره؟ فتمسك أهل السنة بأنه عين المسمى، وروى اللالكائي عن الأصمعي وأبي عبيدة معمر بن المثنى قولهما: "إذا رأيت الرجل يقول: الاسم غير المسمى، فاشهد عليه بالزندقة" كما في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (2/ 207). وذهبت المعتزلة والخوارج إلى أن الاسم غير المسمى. وأراد المؤلف رحمه الله أن يكشف أصل الخلاف ويحرر المسألة حسب طريقته في تحرير المسائل المشكلة، فخاض في لجة البحث، واقتحم معترك الآراء. فنقل الأقوال المختلفة في المسألة ثم ناقشها، وفي آخر الفصل تكلم على "الأمثلة التي يحتج بها أصحاب هذه الأقوال أو

بعضهم وتحقيق معناها". وهكذا استطال الكلام، واستغرق نصف صفحات الرسالة. وكان للشيخ عز الدين بن عبد السلام النصيب الأوفر من هذه المناقشات، فإن كتابه "مجاز القرآن" (الإشارة إلى الإيجاز في بعض أنواع المجاز) كان بين يدي المؤلف، فنقل ما كتبه في هذه المسألة، وردّ عليه أكثر ما قال. هذه الرسالة محفوظة في مكتبة الحرم المكي الشريف ضمن مجموع رقمه 4693، ومنه مصورة برقم 3593. المجموع في 50 ورقة غير مرقمة، ورسالتنا في آخره في الأوراق 42 - 49. وفي كل صفحة منها نحو 32 سطرًا. وهي مبيضة، ولكن المؤلف تناولها في مواضع كثيرة بالضرب والتصحيح والإلحاق. وقد وجدنا بعد تحقيق هذه الرسالة رسالة أخرى ضمن مجموع سيأتي وصفه، فسَّر فيها المؤلف البسملةَ مع سورة الفاتحة دون فاصل بينهما، فكأنه اعتدَّها آية من الفاتحة. وهي مسودة تكلَّم فيها أولاً على الباء والاسم في "بسم"، وتعرض لمسألة الاسم والمسمى، ولكنه كلام مختصر. وقد بسطه في المبيضة غاية البسط، وبالغ في تفصيله وتنقيحه، وقد ذهب كلامه على المسألة بعُظْم الرسالة كما رأينا. ثم فسَّر "الرحمن الرحيم"، ولكنه لم يتمّ الكلام وضرب على ما كتبه. ثم كتب أربعة فصول لم يتناول معناها في المبيضة. أولها - وهو طويل - في تعجرف المشركين في شأن الاسم الكريم "الرحمن"، إذ قالوا لما

أُمِروا بالسجود للرحمن: {وَمَا الرَّحْمَنُ} [الفرقان:60]. ذكر المصنف أنَّ وجه هذا التعجرف قد أشكل على المفسرين، فقيل: إن القوم لم يكونوا يعرفون هذه الكلمة لا علَمًا ولا وصفًا. وقد ردَّ المصنف هذا القول بعدَّة أمور. منها أن الاسم المذكور جاء فيما حكاه الله تعالى من كلام المشركين كقوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف: 20]. ومنها أنهم سموا بعبد الرحمن في الجاهلية، وذكر "عبد الرحمن الفزاري" الذي أغار على إبل النبي - صلى الله عليه وسلم - وقتله أبو قتادة كما ورد في قصة غزوة ذي قَرَد في صحيح مسلم. ثم نقل من تفسير الطبري بيتين ورد فيهما اسم "الرحمن". أحدهما لسلامة بن جندل التميمي، والآخر "لبعض الجاهلية الجهلاء". قال ابن الكلبي: "وقد رُوي بيت في الجاهلية ولم ينقله الثقات، هو للشنفرى" ثم أورد هذا البيت (الاشتقاق لابن دريد: 59). ثم قال: لا يجوز أن يخاطبهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بما لا يعرفون. وهذه الوجوه هي التي ردَّ بها العلّامة عبد الحميد الفراهي رحمه الله تعالى القولَ المذكور في كتابه "مفردات القرآن". وقد طبع هذا الكتاب سنة 1358، وكان الشيخ المعلمي رحمه الله حينئذ في الهند، وقد وصل إليها سنة 1345. ولا شك أنه لم يقف على كتاب المفردات حين تسويد هذا الفصل، وإلا لوجد فيه شواهد أخرى ثابتة النسبة من شعر الأعشى والمثقِّب العبدي وحاتم الطائي. وقد تكلم المصنف في هذا الفصل أيضًا على ما ورد في الصحيح في

(2) رسالة في تفسير سورة الفاتحة

قصة صلح الحديبية من قول سهيل بن عمرو: "وأما الرحمن فوالله ما أدري ما هي"، ورجَّح أنَّ سهيلًا لم ينكر كلمة "الرحمن"، وإنما أنكر تصديرَ الكتب بالبسملة بدلاً من "باسمك اللهم". وفي الفصل الثاني بيَّن المقصود من اختصاص اسم "الرحمن" بالله تبارك وتعالى. والفصل الثالث في تفسير أهل اللغة وأصحاب الكلام لكلمة "الرحمة"، وتأويلهم إياها إذا جاءت صفةً لله عزَّ وجلَّ. وفي الفصل الأخير ناقش ما احتج به الذين لا يرون البسملة آية من سورة الفاتحة، من جهة النظم فقط. ولما كانت هذه الفصول الممتعة لم يتطرق الكلام إلى معناها في المبيضة ألحقناها بها في آخرها. (2) رسالة في تفسير سورة الفاتحة أصل هذه الرسالة بخط المصنف رحمه الله، محفوظ في مكتبة الحرم المكي الشريف بعنوان "رسالة في المواريث"، ورقمها 4701. والمصورة الرقمية التي بين أيدينا تشتمل على 77 لوحة، واللوحات (52 - 65) في تفسير آية البسملة وسورة الفاتحة، وبلفظ أصح: في تفسير سورة الفاتحة، وضمنها آية البسملة، فإن المؤلف رحمه الله لم يفصل بينهما - كما سبق - ولا وضع عنوانًا للرسالة. واللوحات (2، 3، 4/ أ، 6/ أ) أيضًا جزء من هذه الرسالة، ويبدو أنه قد حصل اضطراب في ترتيب الأوراق عند التصوير.

وهي مسودة ناقصة. وقد بيَّض فيما بعد تفسير البسملة في رسالة مستقلة وتوسَّع في الكلام ورتَّبه على فصول. فاعتمدنا عليها في نشرها في الرسالة السابقة، وضممنا إليها الفصول الجديدة التي وجدناها في هذه المسودة للفائدة، كما سبق. أما تفسير سورة الفاتحة بعد آية البسملة، فهو كامل من جهة، وناقص من جهة أخرى. أما كماله، فإنَّ المصنف رحمه الله فسَّر الآيات كلها، وتكلم على قراءاتها ومعانيها وإعرابها. وأما نقصه، فإنه أحال فيه لبسط بعض الموضوعات على ما سمَّاه "الفرائد" فقال في موقع: " ... حتى الفواحش التي يبغضها الله عزَّ وجلَّ ويعذَّب عليها, لولا أن الحكمة اقتضت أن تقع لَما وقعَتْ. وقد أوضحت هذا في (الفرائد) " (ص 10). وفي موضع آخر لما فسَّر الصراط المستقيم قال: "وتمام الكلام على هذا يطول، فله موضع آخر، وعسى أن أبسطه في الفرائد إن شاء الله تعالى" (ص 39). و"الفرائد" هذه لم أجد لها أثرًا في المخطوطة. وهناك إحالات أخرى، كقوله في ذكر الحمد الحالي: "وقد قيل: إن هذا معنى قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44]. وسيأتي تمام هذا إن شاء الله" (ص 4). ومنها قوله بعد ما ختم كلامه على "رب العالمين" بأن التصرُّف الغيبِيَّ كلَّه بيد الله: "وسيأتي لهذا مزيد إن شاء الله تعالى" (ص 13/ 5).

ومنها قوله في مسألة الإضلال من الله: "وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام على ذلك" (ص 48). يظهر من أسلوب المؤلف في هذه الإحالات أنه سيأتي الكلام على الموضوعات المذكورة في تفسير سورة الفاتحة نفسه، ولكن لم نجده في مخطوطة التفسير. وثمة إحالات يشير فيها إلى رسائل أخرى له دون تسميتها, ولعله ينوي تأليفها. وقد يكون في نيته تفسير سور أخرى كاملة أو بعض آياتها ويريد أن يفصل القول هناك. وذلك كقوله بعد تفسير معنى العبادة: "وقد ذُكر هنا ما تيسَّر، وإذا أذِن الله فسترى كثيرًا من ذلك في مواضعه" (ص 29). وفي موضع آخر ذكر وجهين فيما أخبر الله تعالى عن المشركين بأنهم يعبدون الشيطان. فذكر الوجه الأول. وأما الوجه الثاني فقال فيه: "قد بينته في رسالة العبادة، ولعله يأتي في موضع آخر إن شاء الله تعالى" (ص 25). وقال بعد تحقيق معنى العبادة: "وقد أقمت بحمد الله تبارك وتعالى البراهينَ على هذا التفصيل في رسالة العبادة. وإذا يسَّر الله تبارك وتعالى فسيأتيك كثير منه في مواضعه". وقد أحال المصنف رحمه الله في هذا التفسير على "رسالة العبادة" له مرة بعد مرة. ويدل كلامه في موضع على أنه لما سوَّد تفسير الفاتحة هذا لم تكن رسالة العبادة قد بلغت مرحلة التمام. وذلك قوله بعد تفسير معنى

العبادة: "وقد استوعبت أكثر ذلك في رسالة العبادة، أسأل الله تعالى من فضله تيسيرَ إتمامها ونشرها" (ص 29). والمؤلف رحمه الله يُعنَى دائمًا بتوضيح الغوامض وحلّ المعضلات وإزالة الشبهات. وقد تجلَّت عنايته بذلك في تفسير البسملة كما رأينا، وفي تفسير سورة الفاتحة أيضًا. فالموضوعات التي تكلم عليها في هذه الرسالة بصورة خاصة أهمُّها: - تفسير معنى الحمد. وقال: إنه يأتي في اللغة نفسيًّا وقوليًّا. والنفسي كقولك: جالست فلانًا فحمدته، وطعمت من عسلك فحمدتُه. وهو يفسَّر بالرضا والموافقة، وهو تقريب. والقوليُّ يفسَّر بالشكر والثناء. والنفسي والقولي مرتبطان، وهو يستلزم الحمد الفعلي والحمد الحالي. - ولما قال ضمن تفسير قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}: "كلُّ حمدٍ يقع في العالمين فهو سبحانه المستحقُّ له" ذكر إشكالين على ذلك: الأول أنه إذا كان لا يستحق شيئًا من الحمد إلا الله عَزَّ وَجَلَّ لزم أن يكون ثناء الله على بعض الخلق باطلاً. وأجاب عنه بجوابين. والإشكال الثاني: أن نفي استحقاق المخلوق للحمد الذاتي البتة إنما يتخرج على قول المجبرة. ثم زاد إشكالًا ثالثًا: أنه إذا كان كلُّ شيءٍ محمودٍ إنما يستحق الحمد عليه استحقاقًا ذاتيًّا اللهُ عزَّ وجلَّ، فمن أين يقع الذمُّ؟ وأجاب عن الإشكالين. - ذكر المصنف أن في قوله تعالى: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} ردًّا على المشركين الذين يزعمون أن لمعبوداتهم تدبيرًا غيبيًّا فوضه الله تعالى إليها.

ثم تكلم على أنواع التصرف الغيبي التي تقع في الكون. وقد فسر كلمة "الرب" بمعنى الملك المدبِّر التدبيرَ التامَّ. - وذكر من فوائد صفة {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}: تقرير استحقاق الرب عزَّ وجلَّ للحمد واختصاصه به، وتقرير ربوبيته، وتقرير رحمته، وتقرير توحيده. وأحال لتمام الكلام على النقطة الأخيرة، على رسالة العبادة له. - وكتب فصلاً نفيسًا بالغ الأهمية في تفسير كلمة العبادة. نقل فيه أولاً أقوال العلماء في تفسير العبادة، ثم أورد عليها إيراداته. وذكر من تعريفاتهم أن العبادة: التأليه، فمن اتخذ شيئًا إلهًا فقد عبَده. قال: وهذه أقرب عباراتهم، ولكن كلمة "إله" غير مكشوفة المعنى. وأقرب العبارات وأشهرها في تفسيرها أنه: المعبود أو المعبود بحق. ثم نقل كلامًا لبعض المشاهير من معاصريه - ولم يسمِّه, والظاهر أنه محمَّد رشيد رضا صاحب المنار - وأورد عليه عدة إيرادات. ثم ذكر أنه اعتنى بهذه المسألة وجمع فيها "رسالة العبادة". ثم أورد تعريفه للعبادة، الذي توصل إليه بعد النظر في النصوص القرآنية ومقابلة بعضها ببعض، والنظر في أحوال المشركين من الأمم المختلفة، وغير ذلك. وهو أن العبادة: خضوع يُطلَب به نفعٌ غيبيٌّ. والمراد بالخضوع: ما يشمل الطاعة والتعظيم، وبالنفع الغيبي: ما هو وراء الأسباب العادية. ثم إن كان ذلك الخضوع مأذونًا فيه من الله تعالى بسلطان بيِّن وبرهان واضح، فلا يكون إلا عبادةً له سبحانه، سواء كان في الصورة له أم لغيره.

وبعد شرح هذا التعريف ذكر ستة أمور يجب استحضارها، أولها: أن هذا المعنى كان بيِّنًا في الجملة عند العرب الذين خوطبوا بالقرآن، إلا أن هناك دقائق قد كان يخفى على كثير منهم أنها عبادة وتأليه. وآخرها: أن العقل يستبعد بل يكاد يُحيل أن يكون هذا الأمر الذي هو أسُّ الإِسلام وجوهره غفل عنه أكثر العلماء، إن لم نقل كلهم ... حتى آل إلى ما نراه من الخفاء. فصارت تفسيراتهم للإله والعبادة على ما شهدت، وصار الكلام في التفاسير وشروح الحديث وكتب الفقه على ما يعرفه من طالعها. ثم بيَّن السبب الذي أدَّى إلى تلك الغفلة. - في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قرَّر أن الجملتين إنشائيتان. وذكر استشكال كثير من الناس ما اقتضته الآية من نفي الاستعانة بغير الله عزَّ وجلَّ، مع أنَّ مصالح الدنيا وكثيرًا من مصالح الدين لا تقوم إلا بتعاون الناس. وأجاب عنه بأن هذا مبني على أن الجملة خبرية، وليس الأمر كذلك، وإنما هي إنشائية لطلب المعونة، والطلب يُوجَد بنفس الجملة. - فسَّر هداية الطريق بالإرشاد إليه. قال: ولكنها تكون على أوجه. وذكر خمسة أوجه. - وبعد ما فسَّر قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} الآية وذكر ما فيها من الهداية والتنبيه، كتب "مسألة"، وتكلم على صفة الغضب من الله جلَّ ذكرُه. وبهذه المسألة انتهت المسوَّدة.

(3) رسالة في تفسير أول سورة البقرة (1 - 5)

(3) رسالة في تفسير أول سورة البقرة (1 - 5) هذه الرسالة ضمن دفتر يحتوي على عدة رسائل. رقمها في المكتبة 4658/ 4. وهي في نحو أربع صفحات، وفي كلِّ صفحة نحو 14 سطرًا. لم يضع المؤلف عنوانًا للرسالة، وإنما كتب البسملة، ثم بدأ بتفسير قوله تعالى: {لَا رَيْبَ فِيهِ}، فلم يعرِّج على الحروَف المقطعات، ولا فسَّر {ذَلِكَ الْكِتَابُ}. وختم الرسالة بالكلام على قوله سبحانه: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. وتفسير المؤلف رحمه الله تعالى في هذه الرسالة أشبه بالنكت ويغلب عليه الاهتمام بالجانب البياني. فذكر فوائد الصفة الكاشفة عند الكلام على قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}، والسرَّ في إعادة الاسم الموصول {الَّذِينَ} في الآية الثالثة، ولماذا جيء باسم الإشارة في قوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى}، والسرَّ في إعادته في {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} والاستعارة المكنية في {عَلَى هُدًى}. والنكت في قوله: {مِنْ رَبِّهِمْ}. وشرح كون القرآن هدًى للمتقين، والمراد بـ {مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ}، وهل "الهدى" في قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى} نفسه في {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}. أما اللغة والإعراب، فلم يشرح إلا كلمة "الريب" ومعنى الباء في "بالغيب".

(4) رسالة في ارتباط الآيات في سورة البقرة

(4) رسالة في ارتباط الآيات في سورة البقرة لعل هذه الرسالة ألفها الشيخ في حيدراباد أيام اشتغاله مصححًا بدائرة المعارف العثمانية، ويدل على ذلك أنه أحال فيها على كتاب "الرأي الصحيح فيمن هو الذبيح" للعلامة عبد الحميد الفراهي رحمه الله، فقال وهو يذكر ارتباط الآية (144): "وذكر الفاضل المعلم عبد الحميد الفراهي في كتابه (الرأي الصحيح في من هو الذبيح) - وهو كتاب نفيس - أن في الآيات إشارة إلى أن الذبيح هو إسماعيل عليه السلام ... انظر التفصيل في الكتاب المذكور". وقال مرة أخرى: "وقد حقق هذا البحث المعلم عبد الحميد الفراهي في كتاب الرأي الصحيح، فانظره". وقد طبع كتاب الرأي الصحيح سنة 1338 قبل نحو سبع سنوات من وصول الشيخ المعلمي إلى حيدراباد سنة 1345، ومن المستبعد أن يكون قد وقف عليه من قبل، وهو في الحضرة الإدريسية. وقد أشار الشيخ في تعقيبه على تفسير سورة الفيل للفراهي إلى كتب أخرى له وقف عليها واستفاد منها، وذكر منها "الرأي الصحيح"، مع "إمعان في أقسام القرآن"، و"تفسير سورة الشمس" بصورة خاصة. وقد توفي الفراهي سنة 1349، والتزم الشيخ في رده عليه بالترحم عليه كلما ذكره، خلافًا لهذه الرسالة فإنه ذكره فيها مرتين دون الترحم عليه، فهل ألفها في حياة الفراهي، أي فيما بين سنة 1345 و1349؟ لا يمكن القطع بذلك, لأن نسخة الرسالة التي بين أيدينا هي المسودة،

وقد افتتحها بقوله: "الحمد لله وسلام" كذا، فترك البياض، ولم يكمل الصلاة والسلام، ولا كتب مقدمة للرسالة. وكان رحمه الله كثير التعديل والتغيير في مسوداته، وقد يشرع في بحث فيكتب صفحة أو أكثر ثم يضرب عليها ويبدأ من جديد، ويفعل هذا ثلاث مرات أو أكثر، فلعله كتب في المرة الأولى الحمد والصلاة على وجه التمام، ثم بدأ التسويد من جديد فاختصر ومضى، وأجّل تكملته لوقت التبييض الأخير. وفي مثل هذه الحالة لا يتوقع منه أن يترحم على الفراهي، وهو لم يكمل الصلاة والسلام على النبي - صلى الله عليه وسلم -، مع أنه لا يقتصر في ذلك على صيغة "صلَّى الله عليه وسلم" بل يلتزم إضافة "وآله" بعد "عليه". الرسالة في نسختها التي بين أيدينا ليست كاملة، إذ وصل المؤلف رحمه الله في بيان ارتباط الآيات إلى قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] ففسر المقصود بالإكراه في الآية، وبيّن ارتباط الآية بما قبلها، ثم شغلته مناقشة ما يمكن إيراده على ما اتفق عليه المفسرون في معنى الجملة المذكورة، وانقطع الكلام. وكذلك أحال في موضع (ص 7) على "فوائد"، وهي غير موجودة في هذه النسخة، والظاهر أنه كان يريد تقييدها بعد إكمال الرسالة. ثم ما الذي بعث الشيخ على تأليف هذه الرسالة، وهل كان ينوي بيان ارتباط الآيات في سور القرآن كلها على هذا النحو، أو أراد قصره على سورة البقرة فحسب، ولماذا اختار سورة البقرة وحدها؟ وهل وقف على تفسير البقاعي أو لا؟ لا يمكن الإجابة عن هذه الأسئلة لأن الرسالة خالية من المقدمة، ولم نجد إشارة في أثنائها تُعين على ذلك.

نعم وقف الشيخ على كتب الفراهي، وذكر ثلاثة منها في مقدمة تعقيبه على تفسيره لسورة الفيل كما سبق. وأحدها: تفسير سورة الشمس، وقد طبع سنة 1326. وفي هذه السنة طبع تفسير سورة العصر، وتفسير سورة التحريم، وتفسير سورة الكافرون. وقد طبع تفسير سورة القيامة وسورة اللهب منها سنة 1324، ثم طبع تفسير سورة الذاريات وعبس نحو سنة 1338، وبعدها تفسير سورة التين. أما تفسير سورة المرسلات وتفسير سورة الكوثر فطبعا نحو سنة 1351 هـ. وقد عني الفراهي في تفسيره بارتباط الآي بل بنظام السورة عناية بالغة، وقد سمى تفسيره "نظام القرآن وتأويل الفرقان بالفرقان". و"النظام" - وقد يستعمل كلمة النظم - عنده يختلف عن "التناسب" الذي اهتم به كثير من المفسرين، فهو قريب من الوحدة الموضوعية عند المعاصرين. ولا يبعد أن يكون الشيخ المعلمي قد لقي في حيدراباد بعض أصحاب الفراهي وتلامذته، وسمع منهم ثناء عاطرًا على الفراهي ومنهجه في تفسير القرآن، ثم وقف على بعض أجزاء تفسيره، مما دفعه إلى تأليف هذه الرسالة في ارتباط الآي في سورة البقرة. وقد ذكر القاضي ابن العربي في سراج المريدين أن "ارتباط آي القرآن بعضها ببعض حتى تكون كالكلمة الواحدة متسقة المعاني منتظمة المباني علم عظيم لم يتعرض له إلا عالم واحد عمل فيه سورة البقرة ... " (الإتقان 5/ 1837). ويقول الفراهي في مقدمة تفسيره: "وقد يسر الله تعالى لي بمحض

نعمته فهم نظم القرآن في سورة البقرة وسورة القصص من نفس القرآن". وانكشاف النظام في سورتين حمله على التدبر في سائر السور، ولكنه فسر في البداية جملة من السور من آخر القرآن، ولما بدأ بالتفسير من أول القرآن على المنهج الذي ارتضاه أخيرًا وصل إلى الآية 62 من البقرة وتوقف. غير أنه كتب مقدمة لتفسير سورة البقرة، تتضمن تحليلاً جيدًا لنظامها الإجمالي، وقد طبع هذا التفسير بأخرة في الهند في نحو ثلاث مائة صفحة. وقد تكلم الشيخ عبد الله دراز رحمه الله (ت 1377) في كتابه "النبأ العظيم" (ص 163 - 210) على نظام سورة البقرة أيضًا. ونظرة الشيخ المعلمي رحمه الله في ارتباط الآي في سورة البقرة وإن لم تكن نظرة كلية شاملة تكشف عن النظام العام للسورة، وإنما تغلب عليها الجزئية، ولكنها مع ذلك تحوي نظرات دقيقة، وهي مع محاولتي العلامة الفراهي والشيخ عبد الله دراز رحمهما الله تقدم مادة ثريَّة لدراسة مقارنة في نظام سورة البقرة. النسخة التي اعتمدنا عليها في نشر هذه الرسالة هي مسودة، رقمها في فهرس مكتبة الحرم المكي الشريف 4714، وهي عبارة عن دفتر مذكرات فيه 54 ورقة، ورسالتنا تبدأ فيها من الورقة الثانية وتنتهي في الورقة 32. ولكن الحقيقة أنها انتهت في ق 25/ ب، فإن المؤلف رحمه الله قد أضاف كلامًا في ق 24/ ب في السطر الرابع عشر، وبدأ كتابته في الحاشية العليا من الصفحة، واستمر هذا الاستدراك في الحواشي العليا إلى ق 32، وترك الصفحات الثلاث عشرة بيضاء لبيان ارتباط الآيات الباقيات.

(5) رسالة في بيان ارتباط قوله تعالى: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى}

(5) رسالة في بيان ارتباط قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} من الآيات المشكلة من ناحية الارتباط والمناسبة: قوله تعالى في سورة البقرة: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [238 - 239]. فقد وقعت الآيتان بين أحكام الطلاق وأحكام المتوفى عنهنَّ أزواجهنَّ، ولا مناسبة ظاهرة لهما بالأحكام المذكورة قبلهما ولا بعدهما. وقد بيَّن المؤلف رحمه الله ارتباط الآيتين في الرسالة السابقة. وبعد تحقيقها بزمن طويل عُثِر ضمن أوراق متفرقة بخط المؤلف على كلمة مفردة في بيان ارتباطهما. ولاشتمالها على زيادات أحببت أن ألحقها بالرسالة السابقة. وقد عني المفسرون ببيان مناسبة الآيتين وأشاروا إلى وجوه عديدة، منهم الرازي وأبو حيان والبقاعي والآلوسي، وقد أحال المؤلف على الأخير في الرسالة السابقة، ثم ضرب على الإحالة. والوجوه التي ذكروها متقاربة. ويحسن الرجوع في هذا الموضوع إلى كتاب "نظام القرآن وتأويل الفرقان بالفرقان" للفراهي، فإنَّ تحليله لأجزاء سورة البقرة كشف عن وجه جديد في موقع الآيتين، يدلُّ على الفرق بين علم التناسب وفكرة النظام التي دعا إليها الفراهي وبنى عليها كتابه.

(6) رسالة في تفسير قوله تعالى: {وآتوا اليتامى أموالهم ...} الآيات

هذه الرسالة في ورقة واحدة أعطيت رقم 4920. وليس في أولها بسملة ولا حمدلة، فأخشى أن يكون قد سبقها كلام للمؤلف على الآية السابقة. (6) رسالة في تفسير قوله تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ ...} الآيات فسَّر المؤلف رحمه الله في هذه الرسالة الآيات (2 - 4) من سورة النساء، وضم إليها الآيات (127 - 130) من السورة أيضًا. ذكر فيها أولاً مذهبين في تفسير قوله تعالى. {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً}. المذهب الأول: حمل الآية على العموم، ونقل قولين على هذا المذهب. والمذهب الثاني: حملها على الخصوص، فقال: "وحملها الأكثر على الخصوص على اختلاف بينهم، وذلك على أقوال". ثم نقل قولين: أولهما ما رواه الزهري عن عروة عن عائشة، والحديث في الصحيحين، قالت: "هي اليتيمة تكون في حجر وليها، تشاركه في ماله، فيعجبه مالها وجمالها، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره. فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن، ويبلغوا بهن أعلى سُنَّتهن من الصداق، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن". والثاني: ما رواه مسلم من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أيضًا قالت: أنزلت في الرجل تكون له اليتيمة، وهو وليها ووارثها، فيُضرُّ بها، ويسيء صحبتها، فقال له: فانكح ما أحللت لك، ودع هذه التي تضر بها.

وبعد نقل الحديث قال: الزهري أجلّ من هشام، لكن قد ينظر فيما في روايته من وجهين ... " فانتقد الصورة المذكورة في رواية الزهري وقال: إن ما في رواية هشام أقرب إلى ظاهر الآية، مع ملاحظة عليها. ثم ذهب إلى أن طريقة المحققين من أئمة التفسير والحديث تحري الجمع بين الروايات، وإذا كانت الآية ظاهرة في العموم لم تصرف عنه إلى الخصوص لظاهر تفسير بعض السلف. وأيد كلامه بقول شيخ الإسلام ابن تيمية: إن كثيرًا من تفسيرات السلف إنما أريد بها النص على أن ما ذكره مما يدخل في الآية، لا أنه المعنى كله. وجعل الشيخ المعلمي رحمه الله هذا مدخلًا لتفسير جديد للآية، فقال: "فعلى هذا، يمكن تقرير معنى الآية على ما يشمل ما تقدم وغيره من صور خوف عدم الإقساط، وتسلم مع ذلك عن كثرة الحذف والتقدير". ثم ذكر بعض الأوجه التي يشتبه فيها وجه القسط وقال: "فأرشدهم الله عزَّ وجلَّ إلى أولى الأوجه وأقربها إلى القسط، وهو تحري الطيب في النكاح". وفسر الطيب بأن تكون المرأة مع حلها للرجل معجبة له خَلْقًا وخُلُقًا. فإذا كان تأويل الآية حسب القولين الأولين: وإن خفتم يا معشر الأولياء ألا تقسطوا في اليتامى إذا نكحتموهن، فلا تنكحوهن، وانكحوا ما طاب لكم من النساء سواهن، فإن المعنى الثالث عند الشيخ "غني عن تلك التقديرات، وإنما تحتاج إلى تفسير يكشف المعنى، وبيان أن التعليق منحوٌّ به نحو اللازم، فكأنه قيل: وإن ألبس عليكم سبيل الإقساط إلى اليتامى في قضية نكاحهم فخفتم ألا تقسطوا في اليتامى، فهذا سبيل الإقساط في ذلك وفي النكاح كله: انكحوا ما طاب لكم من النساء ... ".

(7) رسالة في تفسير أول سورة المائدة [1 - 3]

ثم تكلم الشيخ على تعدد الزوجات ومفهوم العدل في الآيتين. هذه الرسالة كاملة، ومصورتها التي بين يدي في 15 صفحة، وهي الرسالة الأولى في المجموع المحفوظ في مكتبة الحرم المكي الشريف، ورقم مصورته فيها 3556. والمجموع في 21 ورقة، وفي كل صفحة نحو 20 سطرًا. والرسالة مبيضة، ولكنها لا تخلو من الحذف والإضافة والتصحيح، بل كثر ذلك في الصفحات (10 - 13)، فيبدو للناظر أنها مسودة. ولعل الشيخ بيض الصفحات التي سودها من قبل إلى (ص 9)، وكتب ما بعدها لأول مرة هنا. (7) رسالة في تفسير أول سورة المائدة [1 - 3] وقفنا على هذه الرسالة بأخرة ضمن دفتر مذكرات صغير محفوظ في مكتبة الحرم المكي دون رقم. وهي في 8 صفحات (19 - 26) وفي كل صفحة 16 سطرًا. كتب المؤلف رحمه الله في وسط السطر الأول: "سورة المائدة"، ثم كتب البسملة، وجزءًا من الآية الأولى، وبدأ يفسِّر على طريقة تفسير الجلالين ونحوه. وقد عني فيها بتفسير ما جاء في الآيات الثلاث من أحكام بهيمة الأنعام والصيد وطعام أهل الكتاب. فلم يتكلم على قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا}، ولا على قوله سبحانه: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ

(8) رسالة في تفسير قوله تعالى: {كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده} الآية [الأنعام: 141]

شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}. وفي آخر كلامه على الآيات المذكورة ذكر مناسبتها لما بعدها، فقال: "ولما ذكر حكم طعام أهل الكتاب أراد أن يذكر حكم نسائهم، وقدَّم قبلهن المؤمنات إشارةً إلى أنَّ الاختيارَ: الاقتصارُ عليهن، فقال". وهنا انقطع الكلام، فلا يظهر أكان ينوي الاستمرار أم الاكتفاء بتفسير الآيات السابقة. (8) رسالة في تفسير قوله تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} الآية [الأنعام: 141] نصَّ المؤلف في مستهل الرسالة على أنها عبارة عن "فائدة في بحث جرى، فحرَّرت ما علِق بفكري منه بالمعنى، بحسب ما بلغ إليه فهمي". وقد جرى الحوار ذات ليلة بين الإمام محمد بن علي الإدريسي (ت 1341) والفقيه السيِّد محمد بن عبد الرحمن الأهدل في قوله تعالى: {وَلَا تُسْرِفُوا} في سورة الأنعام: 141. فرأى الإِمام أنه راجع إلى الأكل، وذهب الفقيه إلى أنه عامٌّ يشمل كلَّ إسراف، وليس قيدًا في شيء مما قبله، وإنما هو جملة مستأنفة. فدعا الإمامُ المصنفَ رحمه الله، وأشركه في الحوار، وكلَّفه مراجعة نسخته من تفسير الجلالين. وقد أيَّد الشيخ المعلمي رحمه الله ما رجَّحه السيِّد الإمام. وقد وصل المصنف رحمه الله إلى الحضرة الإدريسية في شهر صفر

(9) رسالة في تفسير قوله تعالى: {ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب} [ص: 34]

من سنة 1337 كما ذكر في بعض أوراقه، وتوفي الإدريسي سنة 1341. ويظهر لي من أسلوب المصنف في هذه الرسالة أنَّ الحوار وتقييده مما وقع في بداية عهده بالإدريسي. وأصل الرسالة محفوظ في مكتبة الحرم المكي ضمن مجموع برقم 4690، وهي في ورقة واحدة من القطع الكبير، وفي الصفحة الأولى 24 سطرًا. وقد راجع المصنف فيما بعد ما كتبه، فعدَّل فيه وأضاف إليه في الصفحة الثانية خصوصًا إضافات كثيرة في الحواشي وبين الأسطر. (9) رسالة في تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} [ص: 34] نسخة هذه الرسالة تمتاز بأن المؤلف رحمه الله بيضها بخط جلي، وتكاد تخلو من التغيير والحذف. وهي في ثماني صفحات كبيرة. وفي كل صفحة 19 سطرًا. ورقم مصورتها في مكتبة الحرم المكي الشريف 3554. وللرسالة ميزة أخرى، وهي أنها رتبت ترتيبًا بديعًا. فهي تشتمل على الفصول الآتية بعد إيراد الآيات الثلاث 34 - 36 من سورة ص: 1 - أجزاء الآية. 2 - ما قيل في تفسير الآية. 3 - تمحيص. 4 - تدبر. 5 - المحصل.

وقد فسر المؤلف في الفصل الأول بعض الكلمات والجمل من الآيات، وأراد بذلك أن يمهد لتفسير القصة بما لا يخالف ألفاظ الآيات وسياقها. ويرى الجمهور أن المراد بالجسد في الآية هو الشيطان، ولكن الشيخ لم يوافقهم على ذلك، فإن الجسد عنده جسم إنسان أو حيوان لا روح فيه، وردّ على صاحب القاموس تفسيره للجسد بأنه جسم الإنسان والجن والملائكة. ولاحظ على المعجمات ملاحظة قيمة جدًّا، وهي خلطها بين الثابت قطعًا، وما يفهم من آية أو حديث أو كلام فصيح. ثم ذكر في الفصل الثاني ثلاثة أقوال في تفسير الآية: القول المشهور الذي فيه أن الشيطان أخذ خاتم سليمان، وتمثل بصورته، وقعد على الكرسي مستوليًا على الملك، وما ذكروا من القصص الشنيعة. وقول النقَّاش الذي أوَّلَ الآية على ما رواه البخاري في صحيحه من قول سليمان: "لأطوفن الليلة" الحديث. والقول الثالث قول أبي مسلم الأصفهاني. وقد رد المؤلف في فصل التمحيص القولين الأخيرين، وقال: "بقي القول الأول، وقد طعن فيه المتأخرون بأنه مأخوذ من أهل الكتاب، وأن في تلك القصص شناعات وتناقضات في بعض الجزئيات. وقد صدقوا, ولكن ذلك لا يمنع من قوة ما اتفقت عليه الروايات القوية، ولم يكن فيه شناعة، وكان ظاهر الانطباق على الآية". ثم ذكر صورًا محتملة للقصة خالية من الشناعة.

(10) رسالة في تفسير قوله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} [الحشر: 7]، ومعنى "أهل البيت" في قوله تعالى: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت} [الأحزاب: 33]

وقال: "وقد يكون الواقع هو هذا أو نحوه، ولكن اليهود تناقلوا القصة، وزادوا فيها ونقصوا على عادتهم، وزعموا أن ذلك الجسد شيطان وأنه وأنه". ثم يأتي فصل "تدبر" أشار فيه الشيخ إلى فوائد ذكر القصة، ثم فوائد هذا الإجمال المقصود في ذكرها. وفي الفصل الأخير "المحصل" لخص خمسة أمور من هذا البحث. (10) رسالة في تفسير قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، ومعنى "أهل البيت" في قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [الأحزاب: 33] قيَّد المؤلف رحمه الله في هذه الرسالة نص مذاكرة جرت بينه وبين الشيخ صالح بن محسن الصيلمي (ت 1349) حول قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، والمقصود بأهل البيت في قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [الأحزاب: 33] وبآل النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم في الأحاديث كما صرح رحمه الله في مقدمة الرسالة. لم يشر المؤلف إلى المسألة التي جر الكلام عليها إلى هذا البحث، غير أنه ذكر أن العلامة الصيلمي استدل في أثناء كلامه بقوله تعالى في سورة الحشر: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} على معنى طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فاحتج الشيخ بسياق الآية على أنها في الفيء، والمراد بالإيتاء

والأخذ هنا ما يفهم منهما في الأشياء المحسوسة، وليس بمعنى الأمر والامتثال. وأنكر الشيخ الصيلمي الاستدلال بالسياق، فإنه لو صحّ هذا الاستدلال هنا لزم أن يكون دليلاً في قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} على أن أمهات المؤمنين من أهل البيت، وهو أمر غير مقبول عنده! فردّ عليه الشيخ ردًّا جميلاً، وقال: "إن أمهات المؤمنين داخلات في أهل البيت قطعًا، فإن السياق أمره واضح، وارتباط الآية المعنوي بما قبلها جهله فاضح، وهذا كلام يأخذ بعضه برقاب بعض، فكيف يفصل بينه بجملة لا تعلق لها به؟ ". ومن هنا انفتح باب الكلام على المراد بأهل البيت وآل النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأحاديث، والتوفيق بينها. وخلص إلى أن لأهل البيت استعمالين: أحدهما بمعنى أهل بيت السكنى فتدخل فيه الأزواج، بل من أول من يدخل فيه بعد الزوج، والآخر لمن حرم الصدقة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -. قد وقفنا على رسالة للقاضي عبد الله بن علي العمودي (ت 1398) أشار في أولها إلى هذه المذاكرة، وقال: إنه تحصل له بعد البحث أن محط نزاعهما ينحصر في مقامين. ثم تكلم في المقام الأول على معنى الآل لغةً وشرعًا، ونقل من كلام ابن القيم وغيره. وفي المقام الثاني تكلم على معنى أهل البيت، ونقل أقوال العلماء في تفسير الآية وشرح الأحاديث. وختم الرسالة بقوله: "نقلته مؤازرةً لسيدي الأخ العلامة الوجيه القاضي عبد الرحمن بن يحيى المعلمي حفظه الله تعالى، وساق إليه أشتات

(11) رسالة في إعراب قوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} [النجم: 39]

الفضائل. وهو معروض على سيدي الحجة الهادي الناس إلى المحجة قطب التحقيق شيخنا السيد محمَّد بن علي بن إدريس أمتعنا الله به آمين". والرسالة بخط القاضي نفسه، وهي محفوظة في مكتبة الحرم المكي برقم 4708. لم يذكر القاضي العمودي أطلب ابن إدريس إليه إعداد هذا البحث وعرضه عليه، أم هو الذي تطوع لذلك؟ ثم أجرت المذاكرة بين الشيخ المعلمي والشيخ الصيلمي أمام ابن إدريس أو نمى خبرها إليه؟ ومع أن القاضي حشد في رسالته نقول العلماء، وزعم أنه لخص فيها البحث، لم أر حاجة إلى نشرها لما فيها من الإسهاب مع الخلط. ثم كلام الشيخ المعلمي رحمه الله في رسالته مختصر ودقيق، ويغني عن مؤازرة القاضي. وأصل رسالة الشيخ المعلمي ضمن مجموع برقم 4707، وهي في 6 صفحات، وفي إحداها كَتَب بضعة أسطر بالحمرة. (11) رسالة في إعراب قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39] أصل هذه الرسالة في صفحة ونصف [ل 30 - 31]، ضمن مجموع برقم 4696. وقد كتب في أوله: "رسائل علمية وردود في مواضيع شتى يوم أن كان في دولة الأدارسة في منطقة عسير". وهذا يدل على زمن تقييد هذه الرسالة.

(12) رسالة في إعراب قوله تعالى: {أن كان ذا مال وبنين} [القلم: 14]

وبين يديّ نسخة أخرى مختصرة من هذه الرسالة، ولكن لم أعثر على أصلها الذي نسخت منه، لأتمكن من مقابلتها عليه، فآثرت أن أنشر النسخة الأولى. الجدير بالذكر أن المؤلف رحمه الله كتب اسمه في آخر النسخة المختصرة: "الحقير عبد الرحمن بن يحيى المعلمي". ويظهر منه أنه علّق إعراب الآية إجابة لسؤال من بعض معاصريه أو امتثالًا لأمر الإمام محمَّد بن علي بن إدريس. وقد بني جوابه أولاً على نصوص طويلة نقلها من كتاب "همع الهوامع" للسيوطي، ثم بدا له أن يحذفها، ويقتصر على خلاصتها مما يتعلق بإعراب الآية. (12) رسالة في إعراب قوله تعالى: {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} [القلم: 14] أصل هذه الرسالة أيضًا في صفحتين ضمن المجموع المذكور (ل 14 - 15) آنفًا، فعلقها المؤلف أيام اتصاله بالإمام ابن إدريس. تكلم المؤلف في هذه الرسالة على "أنْ" في الآية: أمصدرية هي أم مخففة من الثقيلة؟ والظاهر أن نقاشًا دار بينه وبين بعض العلماء في ذلك، وذهب الخصم إلى أن نونها مخففة، واستدل على قوله باختصاص النواصب بالمضارع، ثم عدم دخول المصدرية إلا على الفعل المتصرف. فنقح الشيخ المسألة، وذكر أقوال النحاة ومناقشاتهم ليؤكد أنها في الآية مصدرية لا غير.

(13) رسالة في إعراب قوله تعالى: {الحاقة (1) ما الحاقة} ونحوه.

(13) رسالة في إعراب قوله تعالى: {الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ} ونحوه. هذه الرسالة أيضًا ضمن المجموع المذكور آنفًا، وهي في صفحة واحدة (ل 8). وقد افتتحها المؤلف رحمه الله بقوله: "مما اقتطفه كاتبه من ثمرات المعارف الإدريسية الطيبة اليانعة الجنية، لا زال جناها دانيًا علينا، وبركتها مسوقة إلينا، آمين". وهي عبارة عن مذاكرة جرت بينه وبين الإِمام محمَّد بن علي بن إدريس في إعراب قوله تعالى: {الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ}، و {الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ}، ونحوهما، فنقل الشيخ المعلمي ما دار بينهما من الكلام، فذكر قوله بعد "قلت"، وكلام الإدريسي بعد "قال سيدنا". المشهور في إعراب {الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ} ونحوها أن (الحاقة) مبتدأ و (ما) اسم استفهام مبتدأ ثان، و (الحاقة) الثانية خبر ما، وهذه الجملة خبر المبتدأ الأول، والرابط إعادة المبتدأ بلفظه. والشيخ المعلمي لا يرى مانعًا من أن يكون خبر المبتدأ الأول محذوفًا تقديره: أمر عظيم، و (ما الحاقة) مبتدأ وخبر على حاله. وناقشه الإدريسي في ذلك، ثم انتهى بهما الكلام إلى أن تعرب (ما الحاقة) على أن (ما) خبر مقدم و (الحاقة) مبتدأ مؤخر. وأخيرًا راجعا تفسير سورة الحاقة في روح المعاني للألوسي فوجداه يقول في إعرابها: " (ما) مبتدأ والحاقة خبر، أو عكسه، ورجح معنى"، فوافقهما في ترجيح الوجه الثاني من ناحية المعنى.

(14) رسالة في تفسير آيات خلق الأرض والسماوات

ومما يستغرب أن المؤلف رحمه الله تعالى بدأ هذه الرسالة بقوله: "قوله تعالى: (الواقعة ما الواقعة)، {الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ}، {الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ}، ونحوها ... ". فجعل (الواقعة ما الواقعة) آية من القرآن الكريم، وأدار الكلام كلّه عليها, ولم يخطر بباله ولا بال سيّده أنها ليست بآية، فاستمر النقاش بينهما في إعرابها، إلى أن قيد الشيخ الحوار، وهو يوردها مرة بعد أخرى على أنها من قول الله عزَّ وجلَّ. ولا ريب أن ذلك من أمثلة الذهول الشديد الذي يعتري البشر الذين من طبيعتهم النقص والسهو، والكمال لله وحده. (14) رسالة في تفسير آيات خلق الأرض والسماوات هذه الرسالة مما عُثِر عليه أخيرًا، وصُوِّرت في 24/ 5/ 1433 برقم 4925. وهي في ثلاث ورقات، وفي كلِّ صفحة نحو 18 سطرًا. وقد كتب المؤلف فيها أولاً الآيات التي قصد تفسيرها من سورة البقرة وسورة فصلت وسورة النازعات بحروف كبيرة، وترك بعدها أو بعد جزء منها بياضًا بقدر سطر أو أقل أو أكثر. فلمَّا أخذ في تفسيرها وضاق الفراغ المقدَّر لها ذهب يكتب يمينًا وشمالًا وأعلى الصفحة وأسفلها، فملأت الكتابة كلَّ جوانب الصفحة. موضوع هذه الرسالة حلُّ إشكال قوله تعالى في سورة النازعات: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 27 - 30] مع قوله تعالى في سورة البقرة: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ

سَمَاوَاتٍ} [29]. وهذا يدلُّ على أنَّ خلق الأرض مقدَّم على خلق السماء. وكذلك قوله تعالى في سورة فصلت: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [9 - 11] ولكن آية النازعات توهم خلاف ذلك. وقد استُشكل ذلك قديمًا. فقد أخرج البخاري عن سعيد بن جبير قال: قال رجل لابن عباس: إني أجد في القرآن أشياء تختلف عليَّ. ثم ذكر أربعة أسئلة، منها سؤال عن آيات فصلت والنازعات، فأجاب ابن عباس بأنَّ الله خلق الأرض في يومين، ثم خلق السماء، ثم استوى إلى السماء فسوَّاهن في يومين آخرين، ثم دحا الأرضَ. ودَحوُها: أن أخرج منها الماء والمرعى، وخَلَق الجبال والآكام وما بينهما في يومين آخرين .. إلخ (فتح الباري 8/ 555). وذكر ابن قتيبة في "تأويل مشكل القرآن" (27، 67) أنَّ ذلك مما احتجَّ به الملحدون للطعن في كتاب الله، ثم ردَّ عليهم بنحو قول ابن عباس مع ذكر قول مجاهد: إنَّ (بعد) في آية النازعات بمعنى (مع). ولكن نقل الواحدي في البسيط (9/ 430) عن مقاتل أنه ذهب إلى أنَّ السماء خلقت قبل الأرض، واتبعه في ذلك جماعة من أهل العلم. بل ذكر الآلوسي في "روح المعاني" (1/ 218) أنَّه اختيار المحققين، ثم ختم كلامه بقوله (1/ 219): "وبعد هذا كلِّه لا يخلو البحث من صعوبة، ولا زال الناس يستصعبونه من عهد الصحابة رضي الله عنهم إلى الآن".

كان الشيخ المعلمي رحمه الله - كما يظهر من رسائله في التفسير - كثير المراجعة لـ "روح المعاني"، ولا يبعد أن يكون كلام الآلولسي هذا أو نحوه هو الذي دفعه إلى النظر في الآيات المذكورة وتفسيرها وحلِّ ما أشكل منها، وإن لم يكن تفسير الآلوسي بين يديه عند كتابة هذه الرسالة. وقد ناقش الشيخ أقوال ابن الأنباري والفخر الرازي والجلالين، وذهب في تفسير كلمة "الدحو" في آية النازعات إلى أنها ليست بمعنى البسط، بل المراد به: "إزالة شيء كان على وجه الأرض يمنع إخراج مائها ومرعاها، بدليل أنَّ الله تعالى فسَّره بذلك". وقد اقتصر المؤلف رحمه الله عند تحرير الرسالة على النظر في تفاسير الشَّربيني والجلالين والنسفي، وكتاب "الأضداد" لابن الأنباري، و"مختار الصحاح"؛ فلم يتفق له مراجعة "روح المعاني" (12/ 357) فضلاً عن "تفسير ابن جرير"، ليعلم أنَّ ما ذهب إليه هو قول ابن عباس بعينه، فليس بحاجة إلى تأييد كلامه بإشارة في "تفسير النسفي". وقد حاول الشيخ أن يفسِّر "الدحو" بالمعنى المذكور في قول ابن عباس تفسيرًا لغويًّا، واستدلَّ بما ورد في "مختار الصحاح": "دحا المطرُ الحصى عن وجه الأرض"، وقول أوس بن حجر: ينفي الحصى عن جديد الأرض مُبْتَرِكٌ ... كأنَّه فاحصٌ أو لاعبٌ داحي فلما شَعَر بأنَّ الاستدلال ليس بذاك قال: "فإن ضاقت الحقيقة فالمجاز واسع. وهذا القول متعيَّن لأنَّ الله تعالى فسَّره به, وكفى بتفسيره تعالى حجَّة". وفي الرسالة نكات وفوائد أخرى.

(15) رسالة في معنى {أغنى عنه}

(15) رسالة في معنى {أَغْنَى عَنْهُ}: هذه الرسالة في تحقيق معنى {أَغْنَى عَنْهُ}، والأساس الذي جرى عليه استعمالها في القرآن. وقد أيَّد الشيخ المعلمي رحمه الله ما ذهب إليه بمواقعها الكثيرة في القرآن الكريم وسياقها فيه، وردَّ ما اختلفوا في تفسيره إلى ما قرره. وخلاصة ما أحكمه أن الإغناء: إعدام الحاجة، ومن الأشياء ما يحتاج الإنسان إلى حصوله كالمال، ومنها ما يحتاج إلى دفعه كالعذاب. والإنسان مع المال كالطالب مع المطلوب، ولكنه مع العذاب كالمطلوب مع الطالب. ففي القسم الأول يكون الإنسان منصوبًا والمال مجرورًا بـ "عن" كقولك لأخيك: "قد أغناني الله عن مالك". وفي القسم الثاني يكون العذاب الواقع أو المتوقع منصوبًا والإنسان مجرورًا كقوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ}. وغالب ما في القرآن من استعمالات "أغنى عنه" وارد على هذا القسم الثاني. ولكنه قد يترك المنصوب، وقد يترك المجرور بـ "عن" أو يترك كلاهما، ويقع الاختلاف في التفسير. ثم ذكر أن من أعرب "شيئًا" في قوله تعالى: {لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} على أنه مفعول مطلق فإنه قد غفل عن الأساس الذي تقدم بيانه. وهكذا تفسير "من" في قوله تعالى: {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} في سورة النجم، إذ فسره الجمهور بمعنى أن الظن لا يغني بدل العلم، أي لا

يقوم مقامه، ولكن الشيخ المعلمي رحمه الله خالفهم، وفسره بأن الظن لا يدفع شيئًا من الحق. ثم تكلم على بعض الآيات بشيء من التفصيل، وكأن الإشكال فيها هو الذي دفعه إلى هذا البحث. ومنها قوله تعالى: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36] وقد فسر بأن الظن لا يغني بدل العلم إغناء ما، أي إنما يُعتدّ بالعلم، وأما الظن فلا اعتداد به. قال الشيخ: "وبهذا قال كثيرون أو الأكثرون، وعليه مشى ابن جرير. ثم يخصون الآية بمعرفة الله وما وليها من العقائد". ثم قال: "وأنت ترى أن هذا التفسير يخالف الأساس في كلمة "يغني"، ويخالف مواقعها الكثيرة في القرآن". ثم فسّر الآية. وقد وردت هذه الجملة {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} في سورة النجم، وقد يتعين فيها المعنى الذي قاله الجمهور، ولا يحتمل المعنى الذي ذكره الشيخ. فتكلم عليها، وبيّن أن السياق يؤيد تفسيره المطابق لأساس الكلمة ولمواقعها الكثيرة في القرآن، خلافًا لتفسير الجمهور. والظاهر أن الشيخ عني هذه الرسالة حينما قال في كتابه "الأنوار الكاشفة" (193): "أما قوله تعالى: {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}، فلي فيه بحث طويل، حاصله: أنَّ تدبُّرَ مواضع "يغني" في القرآن وغيره، وتدبُّرَ سياق الآية = يقضي بأن المعنى أن الظن لا يدفع شيئًا من الحق". وانظر أيضًا الكتاب المذكور (335 - 337). وانظر أيضًا رسالته في حجيَّة أخبار الآحاد في مجموع رسائل أصول الفقه (93 - 99) ثم (109 - 112). هذه الرسالة في 14 صفحة (19 - 33) ضمن مجموع، رقمه في مكتبة

(16) حول تفسير الفخر الرازي وتكملته

الحرم المكي 4645، والجدير بالذكر أن المؤلف رحمه الله سوّد هذا المبحث سبع مرات، وفي كل مرة يكتب صفحة واحدة أو يزيد، ثم يعيد كتابته من جديد. وأخيرًا في المرة السابعة أتمّه في خمس صفحات. وقد رأينا في بعض الرسائل أن الشيخ التزم في تخريج الآيات بذكر اسم السورة ثم رقمها ورقم الآية. ولكنه في هذه الرسالة لا يذكر اسم السورة، وإنما يكتفي بذكر رقم السورة ورقم الآية. وقد تعودنا هذا الأسلوب في كتب المستشرقين. (16) حول تفسير الفخر الرازي وتكملته طبع التفسير الكبير لفخر الدين الرازي (ت 606) أول ما طبع في المطبعة الأميرية المصرية (1278 - 1289) في ستة مجلدات، دون إشارة إلى أن الرازي لم يتمه، فضلاً عن التمييز بين الأصل والتكملة وتسمية صاحب التكملة. وتلتها طبعات أخرى على نمطها، مما أوهم أن التفسير كله للرازي. وقد صرح ابن خلكان في ترجمة الرازي أن تفسيره "كبير جدًّا، لكنه لم يكمله". وذكر ابن أبي أصيبعة في ترجمة شمس الدين الخويي (ت 637) أن له تتمة لتفسير الرازي. وهكذا ذكر ابن السبكي وغيره في ترجمة نجم الدين القمولي (ت 727) أن له تكملة على تفسيره أيضًا. فهنا ثلاث قضايا: الأولى: هل أكمل الرازي تفسيره؟ وبعبارة أصح هل التفسير المطبوع بكماله للرازي؟ فإن الصفدي ذكر في الوافي أن الرازي "أكمل التفسير على المنبر إملاءً". والقضية الثانية: من صاحب التكملة

المطبوعة مع الأصل، آلخويي أم القمولي؟ والثالثة: التمييز بين الأصل والتكملة. قد أدار الشيخ المعلمي رحمه الله بحثه على هذه القضايا الثلاث، وكان أصعبها وأشدها تعقيدًا هي القضية الأخيرة، إذ تبين له من دراسة التفسير أن الرازي لم يفسر القرآن على ترتيبه ليتوقف في موضع، فيبدأ منه من يكمله. وقد أحوجه ذلك إلى تتبع وتدقيق وإنعام نظر في منهج التفسير وأسلوب المفسر وغيره من الشواهد الداخلية. وقد توصل أخيرًا إلى النتائج الآتية: 1 - التفسير المطبوع ليس بكماله للرازي. 2 - التكملة المطبوعة مع التفسير لشمس الدين الخويي، لا نجم الدين القمولي. 3 - الأصل منه، وهو الذي فسره الرازي: من أول الكتاب إلى آخر تفسير القصص، ثم من أول تفسير سورة الصافات إلى آخر تفسير سورة الأحقاف، ثم تفسير سور الحديد والمجادلة والحشر، ثم من أول تفسير سورة الملك إلى آخر الكتاب. وهو بحث نفيس يشهد بما أوتي الشيخ المعلمي رحمه الله من أدوات البحث من سعة العلم، ودقة الملاحظة، وتذوق البيان، والحرص على التتبع والاستقصاء دون كلل أو ملل. وقد انفرد هذا البحث عن الرسائل الأخرى التي تضمها هذه المجموعة بأمرين: الأول: أنه قد طبع في حياة المؤلف رحمه الله في مجلة الحج الصادرة

في مكة المكرمة سنة 1376 في ثلاث حلقات (السنة العاشرة، الأجزاء: العاشر ص 670 - 675، الحادي عشر ص 751 - 756، الثاني عشر ص 811 - 815). وقد صدره محرر المجلة بقوله: "هذا بحث علمي جديد قام به العالم الباحث الأستاذ عبد الرحمن المعلمي حول التفسير المشهور للإمام الفخر الرازي، وقد كشف فيه القناع عن القسم الذي لم يكمله الرازي من هذا التفسير". والأمر الثاني: أن هذا البحث ترجم إلى اللغة الأردية، ونشرف الترجمة أيضًا في حياته رحمه الله في أشهر مجلات الهند، وهي مجلة "معارف" الشهرية الصادرة عن "دار المصنفين" بمدينة أعظم كره (في عددي أغسطس وسبتمبر من سنة 1957 م). والمترجم هو الأستاذ ضياء الدين الإصلاحي رحمه الله أحد الباحثين في دار المصنفين ثم مديرها فيما بعد، وقد توفي العام الماضي (1429). وقد صرح المعلمي رحمه الله في مطلع البحث بأن الذي بعثه على تحقيق هذه القضية هو الشيخ العلامة محمَّد بن عبد العزيز بن مانع رحمه الله، وكان من أجلة علماء نجد، وقد توفي سنة 1385 قبل وفاة المعلمي رحمه الله بسنة. وكان الشيخ المعلمي قد غادر الهند إلى مكة سنة 1371، وعُيّن أمينًا لمكتبة الحرم المكي سنة 1372. والشيخ ابن مانع الذي كان مقيمًا بمكة قد رحل إلى قطر سنة 1374، وطبع البحث في مجلة الحج سنة 1376، فكان تحرير هذا البحث إذن في خلال السنوات (1372 - 1375). أصل هذا البحث محفوظ في مكتبة الحرم المكي، ورقم مصورته فيها

(17) فوائد من تفسير الرازي

4745، وفيها 13 ورقة، والكتابة في وجه واحد من كل ورقة، وفي كل صفحة 24 سطرًا. وكتب بعضهم في ورقة أضافها إلى الأصل: "بحث قيم حول تفسير الفخر الرازي للعلامة الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي رحمه الله"، وهو مكتوب بخط واضح، ولا نجد فيه إلحاقًا أو تصحيحًا إلا قليلاً. بدأ البحث في الأصل بالبسملة دون عنوان، وقد طبع في مجلة الحج بعنوان "حول تفسير الفخر الرازي"، ولعله من وضع محرر المجلة. ولما كان عمود البحث تكملة التفسير زدت في عنوانه: "وتكملته". وقد نشر البحث مرة أخرى ضمن مجموع لرسائل المعلمي رحمه الله صدر عن المكتبة المكية في مكة المكرمة سنة 1417، ولكن ناشره إذ لم يرجع إلى الأصل واعتمد على مجلة الحج، وقع في نشرته ما وقع في المجلة من الخطأ والسقط، ثم زاد من عنده أخطاء أخرى. (17) فوائد من تفسير الرازي ليست هذه الفوائد رسالة مستقلة ألفها الشيخ المعلمي رحمه الله، وإنما وجدت ضمن مجموع برقم 4645 (ص 38 - 40)، فرأينا أن نلحقها البحث السابق عن تفسير الرازي، وخاصة لأن المعلمي رحمه الله قد علق في بعض المواضع تعليقات قيمة. ومن ذلك تفصيله لجملة من الحكم في كتابة الملائكة لأعمال العباد، إذ لاحظ أن الرازي قد قصر في بيانها عندما فسر قوله تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ} [الانفطار:10 - 11].

ومنه تفسير المراد من "الذين كفروا" في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} الآية [المدثر: 31]. ومنه تفسيره لقوله تعالى: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: 13] بأن الرَّجاء باق على معناه المعروف، والمقصود: ما لكم لا ترجون ثواب تعظيم الله عزَّ وجلَّ؟ **** الرسائل التي يحتوي عليها هذا المجموع أصولها محفوظة - كما سبق - في مكتبة الحرم المكي الشريف، وكلها بخط المؤلف رحمه الله. ومعظمها مصورة على فُلَيمات. وقد تولى بعض الإخوان قديمًا نسخ عدد من هذه الرسائل من مصوراتها أو أصولها، فقابلت ما نسخوه على النسخ المصورة مقابلة دقيقة لاستدراك ما وقع في النسخ من سقط أو سهو أو تصحيف. وقد اضطررت بعض الأحيان إلى مراجعة الأصول الخطية المحفوظة في المكتبة، لعدم وضوح النسخ المصورة من جراء سوء التصوير أو غير ذلك. وبعد قراءة النص وتصحيحه, عنيت بضبطه وتخريج نقوله والتعليق عليه عند الاقتضاء، ثم أعددت فهارس تفصيلية. وقد تولَّى تخريج بعض الأحاديث الأخ الفاضل الشيخ نبيل بن نصار السندي، فجزاه الله خير الجزاء. والجدير بالذكر أنني قد فرغت من تحقيق 13 رسالة من رسائل هذا المجموع والتقديم لها في 21 شعبان عام 1430، ثم عُثِر بأخرة على أربع

رسائل جديدة، فحقَّقتها أيضًا وأضفتها بأرقام 3، 5، 7، 14، وقدَّمت لها. وأرى من واجبي هنا أن أشكر القائمين على مكتبة الحرم المكي الشريف والعاملين فيها جميعًا، إذ لم يألوا جهدًا في تيسير سبل الاستفادة من مخطوطات المكتبة ومصوراتها. وقد تمّ تصوير كثير من مخطوطات الشيخ المعلمي رحمه الله في عهد مديرها السابق الدكتور يوسف الوابل سنة 1423، ثم صوِّرت مجموعة منها في عهد المدير الحالي الدكتور محمَّد بن عبد الله باجودة، فجزاهما الله خير الجزاء. وصلّى الله وسلّم على نبينا محمَّد وعلى آله وأصحابه أجمعين. محمد أجمل أيوب الإصلاحي الرياض 10/ 6/ 1433

نماذج من النُّسخ الخطية

ورقة من تفسير البسملة

نموذج من تفسير سورة الفاتحة

نموذج من تفسير قوله (حافظوا على الصلوات ...)

نموذج من تفسير قوله (هو الذي خلق لكم ما في الأرض ..)

نموذج من إعراب قوله (الحاقة ما الحاقة ..)

نموذج من رسالة "حول تفسير الرازي وتكملته"

نموذج من تفسير أوائل سورة المائدة

نموذج من تفسير (وما أتاكم الرسول فخذوه ...)

نموذج من تفسير (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى)

نموذج من تفسير قوله (أن كان ذا مالٍ وبنين)

آثار الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي (7) مجموع رسائل التفسير تأليف الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني 1312 هـ - 1386 هـ تحقيق محمد أجمل الإصلاحي وفق المنهج المعتمد من الشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد (رحمه الله تعالى) تمويل مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

الرسالة الأولى في تفسير البسملة

الرسالة الأولى في تفسير البسملة

[42/ أ] بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، نحمده على أن جعلنا من عباده المسلمين، وقسم لنا حظًّا من فهم كتابه المبين، ونسأله أن يرزقنا كمال اليقين، ويجعلنا من خيار المتقين، ويثبِّت قلوبنا على دينه، ويهدينا لما اختُلِف فيه من الحق بإذنه، ويثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وينجينا من القوم الظالمين. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله. اللهم صل على محمَّد وعلى آل محمَّد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنَّك حميد مجيد، اللهم بارك على محمَّد وعلى آل محمَّد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنَّك حميد مجيد. أما بعد: فقد كثر الكلام على هذه الكلمة الشريفة {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وأُلّفَتْ فيها رسائل، ولا يكاد يخلو شرح من شروح الكتب عن الكلام عليها، ولكنني مع ذلك لم أجد كلامًا عليها يقتصر على إيضاح معناها إيضاحًا تامًّا يُسَهِّل على الطالب الإحاطةَ به، ليستظهره عند ذكرها. فسَمَتْ بي الهمّةُ إلى محاولة ذلك. فإذا يسَّر الله تبارك وتعالى لي الوفاء بذلك، فمن محض فضله العظيم، وإلا فعذري القصور والتقصير، وقلة العلم الذي يتوقف عليه التحقيق، وقلة العمل المقتضي لحسن التوفيق. وأستغفر الله العظيم، اللهمَّ إنَّي ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرةً من عندك، وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم.

الفصل الأول

الفصل الأول ينبغي أن يستحضر الإنسان قبل البسملة أمورًا: الأول: أنه يقول لها امتثالًا لأمر الله عَزَّ وَجَلَّ؛ لأنه سبحانه وتعالى أمرنا بقولها. أمَّا في أول القراءة، فيقول عزَّ وجلَّ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1] فإنَّ الراجح في تفسيرها أنَّ المعنى: اقرأ القرآن مُسَمَّيًا ربَّك، أي ذاكرًا اسمه، كما يأتي إن شاء الله. ثم بيَّن لنا كيف نذكر اسمه بقوله: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وأما عند ذكاة الحيوان، فالآيات في ذلك كثيرة، كقوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا} [الحج: 36]، وقوله: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121]. والأحاديث في ذلك كثيرة أيضًا. وفي بقية الأمور بالفهم من الآيات والأحاديث والإجماع. الثاني: أن {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} من كلام الله عزَّ وجلَّ، فأما استحضار ذلك عند القراءة فواضح، وأما عند التسمية على الذبيحة وغيرها فليس بشرط، ولكن يظهر أنَّ استحضار ذلك أكمل. الأمر الثالث: أن يعبر بها عن نفسه، كما في غيرها من الأذكار من الكتاب والسنة، كقوله تعالى: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً .......} الآية [البقرة: 201] , وفي الفاتحة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا}. ولا

منافاة بين ذلك وبين تلاوتها على أنها من القرآن، ولا سيما في البسملة، وقوله في الفاتحة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} إلخ؛ لأن الله تبارك وتعالى تكلم بها وأنزلها وأمر الإنسان أن يقولها معبرًا بها عن نفسه. وكذلك في {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} والمعوذتين. وقد استشكل فيها ثبوت كلمة {قُل}، وجاء عن بعض الصحابة أنه قرأ بدونها، وزعم بعضهم أنه ينبغي للإنسان أن ينوي بكلمة {قُلْ} أمر نفسه (¬1). وهو بعيد، ولا يدفع الإشكال. والذي يظهر أنه ينبغي أن يستحضر عند كلمة {قُلْ} أنها أمر من الله تعالى له بقول ما بعدها، ثم ينوي بما بعدها التعبير عن نفسه، فكأنه يقدر ما يأتي: يقول الله تعالى: {قُلْ} ما يأتي، فأنا أقول {أَعُوذُ ...} إلخ. [42/ ب] الأمر الرابع: أنَّ الباء في قوله: (بسم ...) حرف جرّ، وحرف الجرّ يحتاج إلى كلمة يتعلق بها، فإذا وقع في الكلام: "من البيت" أو "بالقلم" أو "بسلاحه" فلا يتم الكلام إلا بكلمة تدل على الأمر الواقع من البيت وبالقلم وبسلاحه. فإذا قيل: زيد خرج أو يخرج أو خارج من البيت، فا لجارُّ والمجرور وهو قولك: "من البيت" متعلق بخرج، أو يخرج، أو خارج؛ لأن الواقع من البيت هو الخروج. وقس عليه: كتبت بالقلم، وخرج زيد بسلاحه. ¬

_ (¬1) انظر: "روح المعاني" (30/ 273). ونسبت القراءة المذكورة إلى ابن مسعود وأبي بن كعب. انظر: "إعراب ثلاثين سورة من القرآن الكريم" لابن خالويه (228)، و"الكشاف" (4/ 817).

وكثيرًا ما يحذف المتعلق، إما لعمومه كقولهم: العَصَا من العُصَيَّة (¬1)، أي كائنة؛ وإما لدلالة الحال عليه، كأن يرى رجلاً يضرب ولده بيده، فيقول: بالعصا، أي اضْرِبْه بالعصا. ومتعلَّق (بسم الله) في القراءة محذوف لدلالة الحال عليه، وهو: "أقرأ". وفي غيرها يقدره الإنسان بحسب ما يسمَّي عليه. والغالب حذفه لدلالة الحال، ففي الأكل: آكل، وفي الشرب: أشرب، وفي الوضوء: أتوضأ، وهكذا. هذا هو المشهور، وسيأتي في تقرير المعنى احتمال غيره. هذا، والأصلُ في الكلمة التي يتعلق بها الجار والمجرور تقدُّمُها عليه، ولكن المختار في تسمية الإنسان عن نفسه تأخير المتعلق؛ لأن الحال التي تدل عليه من شأنها التأخير. فإن أراد أن يقوم فقال: "بسم الله" وقام، فالقيام إنما يشاهدَ بعد التسمية، فكذلك ينبغي تقدير الفعل الذي دلَّ عليه القيام، وهو "أقُوم". = ولوجوه أخرى أهمها أنَّ التأخير يبيَّن أن في الكلام اختصاصًا، ومعنى الاختصاص أن يكون الكلام يدل مع ثبوت الأمر للشيء على انتفائه عن غيره، كقولك: ما جاء إلا زيدٌ، أثبتَّ المجيء لزيد، ونفيتَه عن غيره. وهذا المعنى يفيده تقدم الجار والمجرور على متعلقه، كقولك: بقلمي أكتبُ، وبسلاحي أخرج. فيكون معنى الأول: أكتب بقلمي، ولا أكتب بغيره؛ ¬

_ (¬1) العصا فرس جَذيمة الأبرش، والعُصَيّة أمُّها. يضرب في مناسبة الشيء أصله. انظر: "نسب الخيل" للكلبي (54)، و"أسماء الخيل" للغندجاني (169)، و"المستقصى" (1/ 334). وللمثل تفسير آخر ذكره الزمخشري وغيره, وهو أن الشيء الجليل يكون في بدئه حقيرًا.

ومعنى الثاني: أخرج بسلاحي، ولا أخرج بغيره. وهذا المعنى مقصود في البسملة، ردًّا على الشيطان الذي يوسوس لك أن لا تذكر اسم الله، أو بأن تذكر غيره دونه أو معه، وفيه مع ذلك تعريض بمن يطيع الشيطان من المشركين وغيرهم. ولذلك فموضعه بعد تمام البسملة حيث ذكرت بتمامها، وبعد "بسم الله" حيث اقتصر عليها. والله أعلم. ***

الفصل الثاني

الفصل الثاني باء الجرِّ تأتي لعدة معاني (¬1)، اقتصر الأكثر هنا على معنيين، وذكروا أن غيرها لا يأتي إلا بتعسف: أحدهما: الاستعانة. الثاني: المصاحبة. قالوا - والعبارة للصبَّان في "رسالة البسملة" -: "وباء الاستعانة هي الداخلة على واسطة الفعل المذكور معها التي يتوقف وجوده عليها، كما في كتبت بالقلم، وتسمى باء الآلة ... وباء المصاحبة هي التي يصلح موضعها "مع" ويغني عنها وعن مصحوبها الحال، كما في {اهْبِطْ بِسَلَامٍ} [هود: 48] أي مع سلام، أو مسلِّمًا" (¬2). أقول: أما باء الاستعانة، فظاهر عباراتهم اختصاصها بالدخول على الآلات، نحو كتبتُ بالقلم، ونَجَرتُ بالقَدُوم، وخِطْتُ بالإبرة؛ ولكن قد يُنَزَّل ما ليس بآلة منزلةَ الآلة. وفي ذلك نظر ليس هذا موضعه، وربما يأتي شيء منه عند تقرير المعنى، إن شاء الله تعالى. وأما المصاحبة، فهو معنى واضح، ولكن الأولى في تفسير {اهْبِطْ بِسَلَامٍ} أن يقال: اهبط معك سلام؛ [43/ أ] فإنَّ كلمة "مع" تُشعر بأنَّ ما تضاف إليه متبوع، تقول: حج الخادم مع سيَّده، ولا يحسن أن يقال: حجَّ ¬

_ (¬1) كذا في الأصل بثبوت الياء. (¬2) "الرسالة الكبرى" للصبان (8 - 9).

السيِّدُ مع خادمه، بل يقال: ومعه خادمه. والمراد: التبعية في المعنى المقصود، وقد يكون التابع أشرف، كما في قوله تعالى لموسى وهارون: {إِنَّنِي مَعَكُمَا} [طه: 46] فإنَّ الإنسان هو الأصل في التنقل والتحول، وعلمُ الله تعالى وحفظُه تبع له في ذلك، يعني: أنهما تصحبانه حيثما توجَّهَ. وأما باء المصاحبة، فعلى عكس ذلك، تقول: خرج زيد بسلاحه، فيحسن أن يقدَّر: معه سلاحه، ومع ذلك فإنما يحصل الاتفاق في أصل المعنى كما لا يخفى. وأما قوله: "ويغني عنها وعن مصحوبها الحال"، فالمراد كما يوضحُه المثال: حال مشتقة من المجرور. ولكن قد لا يتأتى ذلك، إما بأن لا يمكن الاشتقاق، كما في قولك: خرج العالم بكتبه، أو يمكن ولكن يتغير المعنى، كأن تقول: خرج بعمامته في يده؛ ففي هاتين الصورتين يحتاج إلى تقدير حال تغني عن الباء فقط. والأكثر أن تشتق من لفظ الصحبة، كأن يقال: مستصحبًا كتبه، ومستصحبًا عمامته. إذا علمت ذلك فحقُّ تقدير الحال في التسمية أن يقال: "مسميًا"، إلا أن يتغير المعنى. وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى. ***

الفصل الثالث "اسم"

الفصل الثالث "اسم" لفظ "اسم" في المعروف المتواتر من اللغة: هو اسم للفظ الدالِّ على المسمَّى. وأقرب ما يضبط به أنه اللفظ الذي يصلح جوابًا مطابقًا للسؤال عن اسم الشيء، كان يقال: ما اسم هذا الرجل؟ فيقال: زيد. أي لفظ "زيد". وما اسم الإنسان في بطن أمه؟ فيقال: جنين. وما اسم الواحد من بني آدم؟ فيقال: إنسان. وما اسم الواحد من هذه التي تلمع في السماء؟ فيقال: نجم أو كوكب. وما اسم هذا الفعل؟ فيقال: قيام. وقس على ذلك. وتقول: كتبت اسم محمد، تريد كتبت هذا اللفظ "محمد". واسم الله هو هذه الكلمة "الله"، وله سبحانه الأسماء الحسنى، كالرحمن والرحيم وغيرهما. وها هنا أقوال مشهورة، لا بأس بذكرها: الأول: زعم ابن جرير أنَّ كلمة "اسم" هنا بمعنى التسمية، كما يطلق "عطاء" بمعنى إعطاء، و"كلام" بمعنى تكليم (¬1). وهذا قول لا حجة عليه، ولا حاجة إليه. الثاني: زعم ابن عبد السلام (¬2) أن لفظ "اسم" قد يطلق بمعنى "مسمى" ¬

_ (¬1) "تفسير ابن جرير" (شاكر 1/ 115 - 118). وقد نصر قوله الأستاذ محمود شاكر. (¬2) لم أجده في موضعه من كتابه "مجاز القرآن". نعم ذكر أمثلة للتعبير بالمصدر عن المفعول في موضع آخر، وأولها قوله تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} [لقمان: 11] أي مخلوق الله (ص 116) ولم يذكر آية الإسراء.

كما يطلق "خَلْق" بمعنى "مخلوق"، كقول الله عزَّ وجلَّ: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} [الإسراء: 50، 51]. واحتج على ذلك بأمور سنعقد لها فصلاً، ونبين إن شاء الله تعالى أنه لا حجة فيها. ويردُّ قولَه هذا أمور: منها: أن كلمة "اسم" ليست بمصدر. ومنها: أن اسم المفعول وما في معناه أكثر ما يضاف إلى الفاعل، مثل: خلق الله، بمعنى مخلوقه. وقد يضاف إلى غير ذلك، ولكن إضافة لفظ "مسمَّى" إلى الاسم الدالِّ على المسمَّى لا أراها تصح. نعم، استعمل المولدون قولهم: "مسمَّى زيد" يريدون مسمَّى هذا الاسم. وهذا مع أني لا أُثبِتُ صحته لا يأتي في نحو "بسم الله"؛ لظهور أنه ليس المراد هنا بلفظ الجلالة نفس اللفظ، بل المراد مدلولها، وهو الربّ عزَّ وجلَّ. وجعل ابن عبد السلام (¬1) من هذا قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] قال: "معناه: سبح ربك الأعلى". وكذلك صنع في أمثلة بحذف لفظ "مسمى" (¬2)، كأنه رأى أن الكلام يسمح بالتصريح به. الثالث: قال البغوي في أوائل تفسيره في الكلام على البسملة: "والاسم هو المسمَّى وعينُه وذاتُه، قال الله تعالى: {إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى} [مريم: 7] ثم نادى الاسم فقال: {يَحْيَى} [مريم: 7]. وقال: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ ¬

_ (¬1) "مجاز القرآن" - طبعة طرابلس (197). (¬2) كذا في الأصل.

إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا} [يوسف: 40] وأراد الأشخاص المعبودة؛ لأنهم كانوا يعبدون المسمَّيات. وقال: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] و {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} [الرحمن: 18]. ثم يقال للتسمية أيضًا: اسم، فاستعماله في التسمية أكثر من المسمَّى" (¬1). [43/ ب] أقول: ينبغي أن يحقَّق أولاً المراد بقولهم: "الاسم عين المسمى"، هل المراد لفظ "اسم" أو مدلوله في كل كلمة دالة على مسمًّى مثل زيد ورجل ونخلة وفهم؟ فإن كان الأول، فما المراد بلفظ "مسمَّى"؟ أهذا اللفظ على نحو ما مرَّ عن ابن عبد السلام، وهذا الوجه الأول. أو ذاته صاحب الاسم، فيكون لفظ "اسم" بمعنى ذات، وهو الثاني. أو الاسم الخاص، بأن يقال: إن لفظ "اسم" في قولنا: اسم الله، هو لفظ الله. وهذا الثالث. أو صاحب الاسم عينه، فيقال: إن لفظ "اسم" في قولنا: اسم الله، هو الربُّ عزَّ وجلَّ. وهذا الرابع. أما الأول: فقد مرَّ ما فيه، ولا حجة عليه في قوله تعالى: {يَا يَحْيَى} [مريم: 12]؛ لأن لفظ "يحيى" ليس بمصدر، ولا بينه وبين ذات الرجل اشتقاق، كما بين لفظي "خَلْق"، و"مخلوق". وعجيب من ابن عبد السلام أنه قرَّر التجوَّز على هذا الوجه على ما مر عنه، ثم قال: "واستدل بعضهم على ذلك بقوله تعالى: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ...} [مريم: 12] ". وأما الثاني، فلا دليل عليه، والأمثلة التي ذكرها هو وغيره سيأتي الكلام عليها، إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) "معالم التنزيل" (1/ 1 - 2).

وأما الثالث، فبطلانه واضح؛ لأنه إذا كان لفظ "اسم" بمعنى الله، فكيف أضيف إلى الله؟ إلا أن يريد أن مدلول اسم الله هو هذه الكلمة "الله"، فهذا لا نزاع فيه، وليس مراده؛ لأنه يقول في {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1]: إنَّ المعنى سَبِّحْ رَبَّكَ. ولو كان ذاك مراده، لكان المعنى: سبح اللفظ الذي هو اسم ربك، مثل لفظ "الله"، ولفظ "الرحمن"، وهو لا يقول ذلك. وأما الرابع، فبطلانه واضح. وإن كان الثاني، أي أن المراد بالاسم مدلوله من كل لفظ دالٍّ على مسمًّى، مثل زيد ورجل ونخلة وفهم، فهذا حقٌّ، فإن من قال: بايعت زيدًا، إنما يريد بقوله: "زيد" الرجلَ عينَه، وكذلك الباقي. هذا هو الحقيقة، وقد يطلق الاسم ويراد به نفسه، كقولك: كتبت "زيد"، وقوله تعالى: {اسْمُهُ يَحْيَى} [مريم: 7]، وغير ذلك. فإذا كان المعنى الثاني هو مراد من قال: الاسم عين المسمى، فمراده أن ذلك هو الحقيقة. وهذا حق لا ريب فيه، ولكنه لا دليل فيه على أن لفظ "اسم" في قوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] أريد به الرب تعالى؛ لأن لفظ "اسم" هو في نفسه فرد من أفراد الاسم، فإنك تقول: ما اسم اللفظ الذي يوضع للشخص ليعرف به؟ فيقال: اسم. ومقتضى القاعدة أن لفظ "اسم" حيث يطلق فالمراد به مدلوله إذا كان الكلام على حقيقته، ومدلول لفظ "اسم" هو اللفظ الموضوع للشيء ليعرف به، وهذا حق، فإننا نقول لزيد: كتبنا اسمك، أي كتبنا لفظ: "زيد".

فقضية القاعدة أن لفظ "اسم" في قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] أريد به اللفظ الذي تسمى به الله عزَّ وجلَّ، كلفظ الله، ولفظ الرحمن. وهذا عكس مراده. وإيضاح هذا أن للفظ "اسم" مسمًّى هو لفظ يحيى مثلًا, وللفظ "يحيى" مسمًّى هو الرجل، فإذا أريد بالقاعدة أن لفظ يحيى إذا أطلق على وجه الحقيقة، فالمراد به الرجل، فقضية ذلك أن لفظ "اسم" إذا أطلق على وجه الحقيقة، فالمراد به لفظ "يحيى" مثلاً، فأما إطلاق لفظ "اسم" على الرجل، فلو أريد لقيل: الاسم هو المسمى بالمسمى به؛ فتدبَّرْ هذا، فإنّ فيه شبه غموض. ومن العجب أن في كلام ابن عبد السلام (¬1) ما يظهر منه أن إطلاق الاسم وإرادة مدلوله، كقوله تعالى: {يَا يَحْيَى} وقوله: {يَا زَكَرِيَّا}، وقولك: ركبت الفرس، بل وقولنا: عبدت الله = مجاز غالب، وإنما الحقيقة هي أن يراد بالكلمة نفسها كيحيى في قوله تعالى: {اسْمُهُ يَحْيَى} [مريم: 7]، وقولك: كتبت "جعفر"، تريد كتبت هذا اللفظ؛ ونحو ذلك. لكنه مع ذلك عاد فقال: إن إطلاق الأسماء على الألفاظ المسمى بها حقيقة. وكأن ذلك منه مبني على أصل الوهم، وهو أن وزان لفظ "اسم" إلى الرجل، كوزان لفظ "يحيى" إلى الرجل. وبالجملة، ففي كلامه تخليط، ولكن هذا القول - أعني أن إطلاق الاسم مثل "يحيى" مرادًا به مدلوله مجاز - قد يفسر لنا أصل النزاع في ¬

_ (¬1) الإشارة إلى الإيجاز، طبعة دار الكتب العلمية (49).

الاسم والمسمى، فإنه اشتهر أنَّ مذهب أهل السنة أنَّ الاسم عين المسمى، ومذهب المعتزلة والخوارج - كما قال الأشعري في كتاب المقالات - أن الاسم غير المسمى (¬1). وقد تحير المتأخرون في معنى الخلاف. قالوا: لأنه إن أريد بالاسم لفظه، فهو غير المسمى قطعًا, ولا يقول عاقل - فضلاً عن أهل السنة - إنه عينه. وإن أريد مدلوله فهو عين المسمى، ولا يخالف في ذلك المعتزلة ولا الخوارج. أقول: لا يبعد أن يكون أول الأمر زعم بعض المبتدعة أنَّ الدلالة الحقيقية للألفاظ إنما هي على أنفسها، كما في قوله تعالى: {اسْمُهُ يَحْيَى} [مريم: 7]، وأما دلالتها على المسمى فإنما هي مجاز، وروَّج ذلك بأن دلالة الشيء على نفسه أسبق وأوضح من دلالته على غيره، فالدخان مثلًا يدل على نفسه ثم على النار، ودلالته على نفسه أسبق وأوضح. [44/ أ] ثم عبَّر عن ذلك بقوله: "الاسم غير المسمى" أي هو غيره في نفس الأمر، فإن لفظ "يحيى" غير ذات الرجل قطعًا، أي فينبغي أن يكون كذلك في حقيقة الدلالة. وكأن غرض ذلك المبتدع أن يوصل بهذا القول إلى ترويج تأويلاتهم لنصوص الكتاب والسنة قائلاً: المعاني التي تحملون عليها النصوص - معشر أهل الحديث - كلها مجازات، والتي نحملها نحن عليها هي أيضًا مجازات، فلا مزية لكم علينا من هذا الوجه. ¬

_ (¬1) حكى الأشعري في "المقالات" من جملة قول أصحاب الحديث وأهل السنة "أن أسماء الله لا يقال إنها غير الله كما قالت المعتزلة والخوارج" (290) وأنهم "يقولون: أسماء الله هي الله" (293). وانظر: "روح المعاني" (1/ 52).

ثم يقول: لا ريب أنه لا يمكن تركيب جملة واحدة مفيدة سالمة عن المجاز، فثبت بذلك أنَّ جميع نصوص الكتاب والسنة مجاز، ووجوه المجاز كثيرة، فقد يمكن احتمال عدة مجازات في الكلمة الواحدة، بعضها ينقض بعضًا. غاية الأمران مجازًا أقرب من مجاز، وهذا رجحان ظني، إنما يكفي فيما يكفي فيه الظن من فروع الأحكام. فأما ما يطلب فيه القطع - وهو العقائد - فلا، فدعوا نصوصكم، وهلموا إلى العقل. فأجاب أهل السنة بقولهم: "الاسم عين المسمى" أي أن دلالته الحقيقية التي لا يجوز العدول عنها إلا بقرينة واضحة، هي دلالته على عين المسمى، أي والمعاني التي تحمل عليها النصوص هي حقائقها، وما يزعمه المبتدعة من قرينة العقل باطلة كما هو مبين في موضعه. ثم كأن المبتدعة رأوا أنَّ دعواهم تلك واضحة البطلان، فحولوا العبارة إلى معنى آخر، وهو قولهم: إن المراد بالاسم هو الصفة التي يدل عليها بعض الأسماء كالعليم والقدير، فقالوا: مرادنا أن العلم والقدرة ونحوهما مما تثبتونه لربكم عَزَّ وَجَلَّ هي غيره سبحانه، وأنتم تقولون: إنها قديمة، فقد أثبتم عدة قدماء غير الله تعالى. فأجابهم أهل السنة بالتفصيل المعروف. هذا، والقول بأن الألفاظ إنما تدل حقيقة على أنفسها مختلٌّ كما مر، وقد ظهر من كلام ابن عبد السلام القول به، فلا بأس بأن نبين الحجة على بطلانه، فأقول: قد تقرر أن الحقيقة هي الكلمة المستعملة فيما وُضِعت له، والمجاز بخلافها، وقد وجدنا الألفاظ تستعمل للدلالة على معانيها، كقوله تعالى {يَا يَحْيَى} وللدلالة على أنفسها، كقوله سبحانه {اسْمُهُ يَحْيَى}. فحاصل القول

المتقدم أن الواضع إنما وضع الألفاظ للدلالة على أنفسها، وأنها إنما استعملت للدلالة على معانيها على سبيل المجاز. فيقال لمن يلتزم ذلك القول: حاصل قولك أن الواضع بدأ فركب الألفاظ ورتّبها، ثم استعملت في المعاني تجوُّزًا. وقد علمنا أن المجاز يعتمد العلاقة الواضحة، فأي علاقة بين المعاني وبين الألفاظ التي لا معاني لها إلا دلالتها على أنفسها. وافرض أن أحدنا ركَّب ألف لفظ مخترع، ثم أراد أن يستعملها في المعاني تجوزًا، فأنّى ذلك، وما العلاقة؟ فإن تشبث بما يذكره المدققون في بعض الألفاظ الدالة على الأصوات، أو على ما يُفهم الصوت، من أنها مناسبة لتلك الأصوات، كما في: صرَّ، وصرصر، ودقَّ، وجرَّ؛ وفي بعض الألفاظ من مناسبة بين صفات حروفها من الشدة والهمس وغيرهما، وبين معانيها. قيل له: إن الألفاظ التي يُدَّعى فيها ذلك قليلة جدًّا بالنسبة إلى غيرها، وتلك المناسبات تعتمد في الغالب التوهم والتخيل، وذلك مما يختلف باختلاف الناس، وأجمع الناس على أنه لا يجوز اعتماد هذه المناسبة في إثبات اللغة بدون سماع. فإن قال: من أصلي في المعقولات أنه يستحيل الترجيح بدون مرجح، فإن لم تسلموا ذلك فناظروني فيه. وإنْ سلمتم، فمن قولكم إن الواضع إنما كان يتصور المعنى، ثم يضع له لفظًا، فيلزمكم أن تقولوا: إنه إنما رجح لفظًا على آخر لمرجِّح، فأنا أقول: إن ذلك المرجح هو العلاقة. قلنا: إنه يمكن أحدنا أن يعمد إلى المعاني ويضع لها ألفاظًا مخترعة، فيجمع مائة لفظ لمائة معنى، أو يبدأ فيركب مائة لفظ مخترع ثم يعين لكل

لفظ معنى، ولعله يقضي عمله هذا في بضع دقائق، كل هذا بدون تصور مرجَّح في غالب تلك الألفاظ. بل لو فكر بعد ذلك العمل أيامًا ليبين لكل لفظ من تلك الألفاظ مرجحًا لما أمكنه ذلك، والذي يمكنه من ذلك يغلب فيه التعسف بحيث يعلم قطعًا أنه عند التعيين لم يستحضر ذلك المرجح، وهذا أمر يمكنك أن تجربه إن شككت فيه، فماذا ترى في تفسير ذلك؟ [44/ ب] فإن قال: لا بد من مرجح، إلا أنه في مثل هذا يكفي المرجح العارض والوهمي الذي يؤثر أثره في النفس بدون أن يثبته العقل. قلنا: فلا علينا إن نسلم لك هذا، ثم نقول: إن هذه هي حال الواضع إذا كان من البشر في وضع الألفاظ للمعاني، ولا يمكنك أن تجعل ذلك علاقة للمجاز, لأنها غير معلومة ولا مستقرة. فلو اقتصرالواضع على تركيب الألفاظ وتعيينها، ثم قال للناس: يجوز لكم أن تستعملوها في المعاني للمناسبات، لما أمكنهم أن يعتمدوا ذاك المعنى في المناسبة لعدم العلم، وعدم استقراره، وغلبة الاختلاف فيه. وبيان ذلك: أننا لو عيَّنَّا معنى، ثم قلنا لمائة رجل: ليضع كل منكم لهذا المعنى لفظًا مخترعًا لاختلفوا، حتى لقد يندر أن يتفق ثلاثة منهم على لفظ. وكذلك لو اخترعنا لفظًا، ثم قلنا لهم: ليضعه كل منكم لمعنى. فإن قال: أنا أقول إن الواضع لم يَكِلْ هذا التجوز إلى الناس، بل نص عليه، وقال: هذا اللفظ يصح أن يُتجوَّز به عن هذا المعنى، وهذا عن هذا، وهكذا.

قلنا: فإذا فعل الواضع هذا، فهذا وضع، لا تجوُّز. فإن قال: لكني أسمِّيه تجوّزًا. قلنا: سمِّه ما شئت، فقد ثبت وضع الألفاظ للمعاني، ولم يبق إلا دعواك أن الواضع بدأ فوضع الألفاظ لأنفسها، فنسألك: ما فائدة وضع الألفاظ لأنفسها، والناس لا يحتاجون إلى ذلك، وإنما احتاجوا إليه في الجملة بعد أن وضعت الألفاظ للمعاني؟ فإنه بعد أن تقرر أن لكل شجرة اسمها دعت الحاجة إلى أن يقال: ما اسم هذه الشجرة؟ فيقال: نخلة، وغير ذلك، فأما قبل أن تعرف علاقة ما بين الألفاظ والمعاني فأي حاجة بالإنسان إلى أن يقول لصاحبه: "نخلة"، ليعرف صاحبه أن لفظ "نخلة" يدل على هذا اللفظ "نخلة"؟ أولا ترانا لا نكاد نحتاج إلى ذكر الألفاظ المهملة؟ وهل تذكر أنك نطقت، أو سمعت من نطق بلفظ: "ضصقح"؟ ولهذا لما احتاج علماء اللغة إلى ذكر الألفاظ المهملة استعانوا بالمستعملة، فمثلّوها بقولهم: "ديز" مقلوب "زيد". ثم أي حاجة بالألفاظ في دلالتها على نفسها إلى الوضع؟ فإن المقصود من الوضع إنما هو أن يعرف العلاقة بين الشيئين، حتى إذا أريد إحضار أحدهما في ذهن المخاطب توصل إلى ذلك بإحضار الآخر. وهذا إنما هو في وضع الألفاظ للمعاني، مثاله: أن الإنسان قد يحتاج إلى أن يخاطب صاحبه بشيء يتعلق بهذا الطائر الأسود، ولا يستطيع في كل وقت إحضار الطائر نفسه والإشارة إليه، فوضع له لفظ "غراب"، حتى إذا عرف ذلك كفاك أن تقول: "غراب" فيحضر ذاك الطائر في ذهن صاحبك.

فأما اللفظ نفسه، فإنه يكفيك أن تنطق به، فيحضر في ذهن صاحبك. وها نحن نحضر الألفاظ المهملة بذلك كما نقول: "ضصقح لفظ مهمل". فإن قال: إنما أريد بوضع الألفاظ لأنفسها أولاً أن الواضع بدأ فانتقى الألفاظ، وركَّبها، وجمعها. قلنا: فهذا ليس بوضع (¬1)، فكيف يقتضي أن دلالتها على أنفسها هي الحقيقة؟ ثم ما الحاجة إلى أن يبدأ الواضع بجمع الألفاظ وهي عرضة له، يمكنه أن يكتفي بعمل واحد، هو أن يتصور المعنى، ثم يقتطع له لفظًا، وهكذا. فإن قال: دعوا هذا, ولكني أقول: إن دلالة الألفاظ على أنفسها طبيعية، بمعنى أن الإنسان إذا نطق باللفظ حضر ذاك اللفظ في ذهن صاحبه بدون حاجة إلى شيء آخر. وهذه الدلالة مقدمة على الدلالة الوضعية، فأنا أسمي الدلالة الطبيعية حقيقة، والوضعية مجازًا. قلنا: هذا خلاف ما عليه الناس في تعريف الحقيقة والمجاز. ثم قد بينَّا أن حاجة الناس إلى الألفاظ إنما هي من جهة دلالتها على المعاني، وأنه إنما احتيج إليها للدلالة على أنفسها للاستعانة بذلك على معرفة الدلالة على المعاني، كما في قوله تعالى: {اسْمُهُ يَحْيَى}. وإذا كان الأمر كذلك علم أن المعتمد في فهم كلام الناس وفهم دلالات الألفاظ إنما هو دلالتها على المعاني. ومثال ذلك: المرايا، فإن المرآة تدل على نفسها، بمعنى أن الإنسان إذا ¬

_ (¬1) في الأصل: "يوضع".

رآها علم أنها مرآة، ولكن هل تجد أحدًا يشتري مرآة لتكون عنده فقط، أو إنما يشتري الناس المرايا ليروا فيها صورهم؟ وإنما نزاعنا معك في فهم الألفاظ في كلام الناس، وقد عُلِم مما مرَّ أن الأصل في ذلك هو أن يفهم منها معانيها، فلا يضرُّها بعد ذلك أن تسميها مجازًا. [45/ أ] واعلم أن المحققين من علماء الوضع اتفقوا على أن الواضع إنما قصد وضع الألفاظ للمعاني، ولكنهم اختلفوا في دلالة الألفاظ على أنفسها حيث وقعت في الكلام، كقول النحاة: "قام" فعل ماض، و"من" حرف جر، وأشباه ذلك، فقال السعد التفتازاني وجماعة: إنها دلالة وضعية وضعًا تبعيًّا. وأنكر السيد الشريف الجرجاني وجماعة ذلك، وقالوا: لا يدل صحة استعمالها في الكلام على الوضع لأنه يصح استعمال المهمل، كأن يقال: "ديز" مقلوب "زيد"، وأشباه ذلك. والذي أراه أن الخلاف صوري، والتحقيق مع السعد، وذلك أن الواضع لما وضع الألفاظ للمعاني دعت الحاجة إلى استعمالها في الدلالة على أنفسها، فأقرَّها الواضع، ونطق بها العرب كذلك حيث احتاجوا إليها، فكان هذا وضعًا تبعيًّا. أَوَلا ترى أن الإنسان إذا نطق باللفظ المستعمل كان متكلّمًا بالعربية، سواء أراد به معناه أم لفظه، كقول القائل: طلع القمر، وقوله: كتبت "قمر"؛ وأنه إذا نطق باللفظ الأعجمي كان خارجًا عن العربية، كقولك: طلعتْ "جانْدْ" (¬1) (اسم للقمر بالفارسية)، وكتبت "جاند"؟ ¬

_ (¬1) كلمة "جانْدْ" بالجيم الفارسية وإخفاء النون: كلمة هندية تستعمل باللغة الأردية. أما =

وإنما يستثنى من هذا الألفاظ الأعجمية التي تقبلها العرب، فصارت في حكم العربية، فلفظ "قمر" له علاقة بالوضع العربي، سواء أعُبِّر به للدلالة على معناه أم على نفسه، ولفظ "جاند" لا علاقة له بالوضع العربي. القول الرابع: زعم بعضهم أن لفظ "اسم" قد يأتي بمعنى الصفة كما مرَّ عن المتكلمين. وذكر ابن عبد السلام (¬1) قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن لله تسعةً وتسعين اسمًا" (¬2)، وقوله تعالى: {فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110] وقوله: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180] ثم قال: "ويجوز أن يراد بالأسماء الحسنى الصفات، فيكون تعبيرًا بالأسماء عن المسميات, فإنّ الحسن والشرف إنما يتحقق في المسميات دون التسميات, لأنها ألفاظ، ولا تتصف الألفاظ بالحسن إلا إذا كانت خفيفة على اللسان، فصيحةً في البيان. وكذلك لا تتصف الأجرام بالشرف والحسن، إلا إذا قامت بها الصفات الشراف الحسان". أقول: لم يقم دليل على صحة إطلاق الاسم بمعنى الصفة. وقوله: "تعبيرًا بالأسماء عن المسميات" قد مرَّ ما فيه. وقوله: "إن الألفاظ لا تتصف بالحسن إلا لخفة على اللسان، وفصاحة في البيان" من عثراته التي لا تقال، فإن الألفاظ تكتسب الحسن والشرف من ¬

_ = اللغة الفارسية فيقال للقمر فيها: "ماه". ولا أدري لماذا أنَّث الفعل "طلعتْ"، فإن الاسم المذكور مذكر. (¬1) "مجاز القرآن" (199). (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الشروط، باب ما يجوز من الأشراط ... (2736) ومسلم في كتاب الذكر، باب في أسماء الله تعالى (2677) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

معانيها ومدلولاتها والمتكلم بها، وعلى التنزُّل فيمكن أن يقال: إن حسنها باعتبار معانيها، فكأنه قيل: "الحسنى معانيها". ولو فرضنا أن الاسم قد يطلق بمعنى الصفة، فسياق الحديث والآيات يأبى هذا المعنى، ولا حاجة للإطالة ببيان ذلك. والله المستعان. القول الخامس: إن لفظ "اسم" قد يقحم في الكلام، فيكون زائدًا. وقد حكى ابن جرير هذا عن بعضهم، وردَّه (¬1). والبصريون من النحاة يمنعون زيادة الأسماء. وقد ذكر ابن هشام ذلك في "المغني" في الكلام على "مَنْ" بفتح الميم (¬2). وقال في الكلام على "ماذا": "التحقيق أن الأسماء لا تزاد" (¬3). وقد أنكر بعض أهل العلم أن يكون في القرآن لفظ زائد حرفًا أو غيره. وأجاب المحققون بأنَّ المراد الزيادة بحسب صناعة الإعراب، وأما في المعنى فما من لفظ يقال بزيادته إلا ولذكره معنى وفائدة لا تحصل بدونه. وأقول: إن ثبت ما زعمه بعضهم من جواز زيادة الأسماء، فذاك في أسماء تُشبه الحروف مثل "مَنْ". ولو ثبت في غيرها فليس في فصيح ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير ابن جرير" (1/ 119 - 120). والذي ردّ عليه ابن جرير هو أبو عبيدة معمر بن المثنى الذي قال في "المجاز" (1/ 16): " (بسم الله) إنما هو الله, لأن اسم الشيء هو الشيء بعينه". ونقل اللالكائي عن الأصمعي وأبي عبيدة قولهما: "إذا رأيت الرجل يقول: الاسم غير المسمى، فاشهد عليه بالزندقة". "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" (2/ 207) (¬2) "المغني" (433). (¬3) "المغني" (397).

الكلام، ولو ثبت في فصيح الكلام فليس مما يقاس عليه. وحملُ القرآن على ما لم يثبت لا يجوز، ما دام يحتمل غيره. وسنبيَّن إن شاء الله تعالى أن الآيات التي زعموا زيادة لفظ "اسم" فيها لا حاجة بها إلى ذلك. [45/ ب] القول السادس: إن لفظ "اسم" في نحو {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] بمنزلة المجلس والحضرة في قولهم: سلام على المجلس العالي, والحضرة الشريفة (¬1). أقول: هاتان الكلمتان من تنطعات المولَّدين تبعًا للأعاجم. ونظير ذلك أو أقرب منه قول بعضهم (¬2) في قوله عزَّ وجلَّ: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] واحتجاجه ببيت الشماخ: ذعرتُ به القطا ونفيتُ عنه ... مقامَ الذئبِ كالرجلِ اللَّعينِ (¬3) وليس بشيء، فقد فسّر السلف ومن يقرب منهم {مَقَامَ رَبِّهِ} بما يليق به. وأما بيت الشماخ، فـ "مقام" فيه بمعنى "قيام"، يريد: أزلت عنه قيام الذئب، أي وقوفه. وأما المولدون، فيستعملون "المقام" بمعنى مكان الإقامة، ثم يقولون: سلام على ذلك المقام، ونحو ذلك. والعارف منهم يشبه هذا بقول ¬

_ (¬1) وهو قول أبي حامد الغزالي في كتابه "المقصد الأسنى" (38). (¬2) انظر: "روح المعاني" (25/ 4) و (27/ 116). (¬3) "ديوان الشمَّاخ" (321).

العربي (¬1): إنَّ السَّماحةَ والمروءةَ والندى ... في قُبَّةٍ ضُرِبتْ على ابنِ الحَشْرَجِ ويقول: إذا سلَّمتُ على المحلّة التي يقيم فيها، فكأني قد غمرتُه بالسلام من جميع جوانبه. هذا, ولا يتجه نحو هذا في لفظ "اسم"، وأقرب ما يُدَّعى فيه مما يقرب من هذا أن يقال: إن في الكلام كناية، كما يقول الرجل: إني أحبُّ اسم علي، يكني بذلك عن حبه لعلي بن أبي طالب عليه السلام. ومن شأن الكناية أنه يصلح معها إرادة المعنى الحقيقي بأن يكون هذا الرجل لشدة حبه لعلي عليه السلام قد أحبَّ هذا الاسم لأنه يذكر به. وهذا يلاقي المعنى المختار في قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1]، كما يأتي إن شاء الله تعالى. ... ¬

_ (¬1) هو زياد الأعجم، وممدوحه عبد الله بن الحشرج كان سيَّدًا من سادات قيس. انظر: "الأغاني" (12/ 20) و (15/ 312).

تتمة في الأمثلة التي يحتج بها أصحاب هذه الأقوال أو بعضهم وتحقيق معناها

تتمة في الأمثلة التي يحتج بها أصحاب هذه الأقوال أو بعضهم وتحقيق معناها الأول: قوله تعالى: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً} [يوسف: 40]. وهذه الآية من جملة ما قصه الله تعالى من محاورة يوسف عليه السلام لصاحبي السجن، وهما من المصريين، والقوم - كما دللت عليه في رسالة "العبادة" (¬1) - كانوا يعتقدون وجود ذوات علوية، ينعتونها بنعوت غير نعوت الملائكة، ثم سمَّوها بأسماء اخترعوها، وكانوا يدعونها بتلك الأسماء، ويتضرَّعون إليها. فبيَّن يوسف عليه السلام أنَّ ما توهموه من وجود ذواتٍ بالصفة التي يزعمون لا حقيقة له، وأنه لا يوجد من تلك الذوات إلا أسماؤها التي اخترعوها، كما نقول نحن في العَنْقاء: إنه اسم بلا مسمًّى وإنه لا يوجد منها إلا اسمها، وفي الأثر في حال آخر الزمان: أنه لا يبقى من الدين إلا اسمه (¬2). ولمَّا كانوا إنما يعبدون من تلك الذوات ما هو في ظنّهم موجود، والموجود منها أسماؤها فقط، وهم مع ذلك يعلَّقون العبادة بالأسماء= قيل لهم: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً} [يوسف: 40]. ¬

_ (¬1) (ص625، 687 وما بعدها). (¬2) أخرجه البيهقي في "الشعب" عن علي موقوفًا (1910)، وعنه مرفوعًا (1908، 1909).

فحملُ الأسماءِ هنا على المسمَّيات أو الأشخاص نقيض قصد القرآن. والذي أوقع هؤلاء فيه إنما هو عدم تدبر القرآن، والجهل بما عليه المشركون. ونظير هذه قوله تعالى فيما قصَّه عن هود عليه السلام: {أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا} [الأعراف: 71]، وقوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا} [النجم: 23] وقد أوضحتُ ذلك بأدلته في رسالة "العبادة" (¬1). وقد ذهب بعض المفسرين إلى نحو هذا, ولكنَّه توهم أنّ المراد أسماء الأصنام، وأنّ ذواتِ الأصنام نُزَّلَتْ منزلةَ العدم. وقد عرفتَ - بحمد الله تعالى - الحقيقة. المثال الثاني: قوله عزَّ وجلَّ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1]. قالوا: وقد أخرج الإمام أحمد وغيره عن ابن عباس: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قرأ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} قال: سبحان ربي الأعلى" (¬2). وعن عقبة بن عامر: أنها لما نزلت قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اجعلوها في سجودكم" (¬3). ومعلوم أنه يقال في السجود: سبحان ربي الأعلى. ¬

_ (¬1) إيضاح ذلك في القسم المفقود من رسالة العبادة. وانظر (ص 685) منها. (¬2) "المسند" برقم 2066 (3/ 495). وأخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب الدعاء في الصلاة (883) وقال: "خولف وكيع في هذا الحديث. رواه أبو وكيع وشعبة عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس موقوفًا". (¬3) أخرجه أحمد في "المسند" برقم 17414 (28/ 630) وأبو داود في كتاب الصلاة، باب ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده (869) وابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة باب التسبيح في الركوع والسجود (887).

وعن علي رضي الله عنه: أنه قرأها في الصلاة، فقال: سبحان ربي الأعلى. فقيل له في ذلك، فقال: إنما أمرنا بشيء (¬1). وروي نحو هذا عن غيره (¬2). قالوا: ومعقول أن التسبيح هو قول "سبحان". والمعروف في الشريعة "سبحان الله" [46/ أ] ونحوه، ولا يعرف فيها "سبحان اسم الله"، أو نحوه. أقول: أصل التسبيح في اللغة: التنزيه، ثم أكثر استعماله في النطق بـ "سبحان". وجاء ها هنا على أصله بقرينة أنه لم يعرف: "سبحان اسم الله"، كما قلتم. وتنزيه أسماء الله عَزَّ وَجَلَّ حق لا ريب فيه، ومنه أن لا يسمى غيره بما اختص به أو غلب، كلفظ الله والرحمن والقدوس والحكيم العلم، وغير ذلك، وأن لا تذكر أسماؤه في الهزل واللعب، ولا تذكر عند ملامسة القاذورات، إلى غير ذلك. والأمر بتنزيه الاسم يدل بفحواه على الأمر بتنزيه المسمَّى؛ لأن تنزيهه سبحانه أوجب وأولى، فقد دلت الآية على كلا الأمرين. فأما تنزيه الرب عَزَّ وَجَلَّ فإنه يكون بالقول، وقد جعل له الشارع علمًا، وهو لفظ "سبحان". وأما تنزيه الاسم فإنه يكون بالعمل، كما تقدم. فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم أصحابه يمتثلون الأمر الثابت بالأولى بقول ¬

_ (¬1) عزاه السيوطي في "الدر المنثور" (8/ 483) إلى الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وغيرهم. (¬2) انظر المصدر السابق.

"سبحان ربي الأعلى"، ويمتثلون الأمر بتنزيه الاسم بعملهم، كما نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقال لإنسان: "ملك الأملاك" (¬1). وغيَّر كنية من كان يكنى "أبا الحكم"، وقال: "الحَكَم الله" (¬2). وغيَّر اسم من كان يسمَّى "عزيزًا" (¬3). بل جاء عنه أنه جاءه رجل، فذكر له أنه طبيب، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنت رفيق، والله هو الطبيب" (¬4). وأن قومًا جاؤوه, وقالوا: أنت سيدنا, فقال: "السيد الله" (¬5). وتبعه أصحابه رضي الله عنهم، بل جاء عن عمر أنه كره التسمِّي بأسماء الملائكة والأنبياء (¬6). ¬

_ (¬1) يشير إلى حديث أبي هريرة الذي أخرجه البخاري في الأدب، باب أبغض الأسماء إلى الله (6206) ومسلم في الأدب، باب تحريم التسمّي بملك الأملاك (2143). (¬2) وكناه أبا شريح. أخرجه أبو داود في الأدب، باب تغيير الأسماء (4955) والنسائي في آداب القضاة، باب إذا حكّموا رجلاً فقضى بينهم (5402) بإسناد صحيح. (¬3) ذكره أبو داود في باب تغيير الاسم القبيح (4956) مع أسماء أخرى غيّرها النبي - صلى الله عليه وسلم - وترك أسانيدها للاختصار. (¬4) أخرجه أبو داود في كتاب الترجل، باب الخضاب (4207) بإسناد صحيح. (¬5) أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب في الرفق (4808) بإسناد صحيح. (¬6) أخرج إسحاق بن راهويه في "مسنده" (كما في "المطالب العالية": 12/ 131، و"إتحاف المهرة": 6/ 43) عن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن أبيه قال: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جمع كل غلام اسمه اسم نبي، فأدخلهم دارًا، وأراد أن يغيَّر أسماءهم، فشهد آباؤهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سماهم ... وإسناده حسن. وأخرج ابن سعد (5/ 6) أن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام كان اسمه إبراهيم، فدخل على عمر في ولايته حين أراد أن يغيِّر اسم مَن تسمَّى بأسماء الأنبياء, فغيَّر اسمه, فسمَّاه "عبد الرحمن"، فثبت اسمه إلى اليوم. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ (العظمة: 4/ 1480) وغيرهم عن =

وفي هذا كفاية لمن يفهم. المثال الثالث: قوله تعالى: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 78]. وقد قرأ ابن عامر وأهل الشام: "ذو" (¬1). قالوا: ولفظ "تبارك" يجيء في الغالب مسندًا إلى الله عزَّ وجلَّ، كقوله تعالى: {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54]. {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14] وغير ذلك. وكذلك في السنَّة، كما في حديث: "تباركت ربنا وتعاليت" (¬2). والجواب: أن إسناده إلى الاسم نفسه قد جاء في الكتاب، كهذه الآية وغيرها، وفي السنّة كما في الدعاء الآخر: "تبارك اسمك وتعالى جدُّك" (¬3). ¬

_ = عمر أنه سمع رجلاً ينادي بمنى: يا ذا القرنين. فقال له عمر: اللهم غفرًا! ها أنتم قد سميتم بأسماء الأنبياء، فما بالكم وأسماء الملائكة! وانظر: "الروض الأنف": (2/ 66)، و"تحفة المودود" (185). (¬1) الإقناع في القراءات السبع (779). (¬2) أخرجه أحمد برقم 1718 (3/ 245) وأبو داود في الصلاة، باب القنوت في الوتر (1425) والترمذي في أبواب الوتر، باب ما جاء في القنوت في الوتر (463) والنسائي في قيام الليل، باب الدعاء في الوتر (1745) من حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما. (¬3) أخرجه أصحاب السنن الأربعة عن أبي سعيد الخدري وعائشة وغيرهما. انظر الترمذي في أبواب الصلاة، باب ما يقول عند افتتاح الصلاة (242, 243)، وأبو داود في كتاب الصلاة، باب من رأى الاستفتاح بسبحانك (775، 776) والنسائي في الافتتاح، باب القراءة في العشاء الآخرة بالشمس وضحاها (898)، وابن ماجه في إقامة الصلاة، باب افتتاح الصلاة (804).

ولا داعي إلى تأويله؛ لأن معنى "تبارك": تكاثرت بركته أي خيرُه. وأسماء الله تبارك وتعالى كثيرة البركة، فبها تستفاد الخيرات، إذ بها يدعى سبحانه فيجيب، ويُستعان فيعين، ويُستغاث فيغيث، ويُستغفر فيغفر، وبه يُوحَّد ويُمجَّد ويُحمَد ويُسبَّح، إلى غير ذلك. وقد قال ابن الأنباري: "تبارك الله: أي يتبرك باسمه في كل شيء". ذكره صاحب لسان العرب وغيره (¬1). فإن قيل: لكن السورة من أولها إنما عددت نعم الرب وبركاته وخيراته عزَّ وجلَّ، ولا يظهر فيها ما يتعلق بالاسم. قلت: هذا سؤال قوي، وجوابه بحمد الله عَزَّ وَجَلَّ سهل، وهو أن تلك النعم تتعلق باسمين من أسمائه سبحانه, أحدهما: الرحمن، والثاني: الربّ. ودلّ على ذلك بناؤه السورة على الأول: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) ...}. ثم عقب تفصيلها بعنوان الثاني، وذلك قوله: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}. ومعنى الرحمن والرب موافق لذلك، فقد يكون أحد هذين أو كلاهما هو المراد بالاسم. فإن قلت: إن النعم لا تتعلق بالاسم نفسه، وإنما تتعلق بالصفة التي دلَّ ¬

_ (¬1) "اللسان" (برك 10/ 396). ونص كلامه في"الزاهر" (1/ 147 - 148): "وقولهم (تبارك اسمك وتعالى جدك) فيه قولان: معنى تبارك: تقدس أي تطهر ... وقال قوم: معنى تبارك اسمك, تفاعل من البركة, أي البركة تكتسب وتنال بذكر اسمك".

عليها، وهي الرحمانية والربوبية. قلت: لا مانع من أن يقال: تبارَكَ الاسم الدالُّ على تلك الصفة. هذا، وإذا أسند التبارك إلى الاسم، فثبوته للصفة من باب أولى، وللربِّ عَزَّ وَجَلَّ أولى وأولى. وهذا معنى مقصود فيه زيادة في الحمد والثناء والتعظيم. والخروج عن الظاهر بالقول بزيادة لفظ "اسم"، أو بما يصير في معنى الزائد، يلزمه نقص في ذلك المعنى العظيم. فأما قراءة ابن عامر وأهل الشام، فإن استكثرت على اسم الله عزَّ وجلَّ أن يوصف بأنه ذو الجلال والإكرام، فاجعل قوله: {ذُو} خبرًا لمبتدأ محذوف، تقديره: هو، أي الرب، وبهذا توافق هذه القراءة معنى قراءة الجمهور. وإن شئت فاجعل {ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)} بيانًا للاسم، أي تبارك هذا الاسم، وهو "ذو الجلال والإكرام" لدلالته على ما تضمنته السورة من عظم جلال الله عزَّ وجلَّ، وكثرة إكرامه بالنعم. وهذا اسم عظيم الشأن، حتى قيل: إنه الاسم الأعظم. وفي حديث رواه أهل السنن وصححه الحاكم على شرط مسلم (¬1): "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في الدعوات (3776) وأبو داود في الصلاة باب الدعاء (1495) والنسائي في السهو، باب الدعاء بعد الذكر (1299) وابن ماجه في الدعاء، باب اسم الله الأعظم (3858)، والحاكم في المستدرك (1856) من حديث أنس رضي الله عنه. وأخرجه أحمد في "المسند" (12611) وقال محققه: إن الحاكم قد وهم في =

رجلاً: "اللهم إني أسألك بأنَّ لك الحمد، لا إله إلا أنت الحنَّان المنَّان، بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم". فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "دعا الله باسمه الأعظم ... " الحديث. وفي حديث صححه الحاكم أيضًا (¬1): "ألِظُّوا بيا ذا الجلال والإكرام". والإلظاظ: اللزوم والمثابرة. والله أعلم. المثال الرابع: في الدعاء النبوي: "باسم الله الذي لا يضرُّ مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم" (¬2). قالوا: إنما المعنى: "لا يضرُّ معه" أي مع الله عزَّ وجلَّ, لأنَّ هذا هو الواقع، وذلك أنه سبحانه وتعالى هو المدبر للسماوات والأرض، [46/ ب] فما لم يقدِّر الضرر لم يقع، فهو الضار النافع. وأما الاسم نفسه، فأنى له ذلك! ومعية الاسم أظهر ما يتحقق بذكره، وكثيرًا ما يذكر الإنسان اسم الله تعالى، ومع ذلك يصيبه الضرر. ¬

_ = تصحيحه على شرط مسلم، فإن حفصًا لم يخرَّج له مسلم شيئًا (20/ 63). ولم أجد لفظ "الحنّان" في السنن والمستدرك، ولعل المؤلف نقل الحديث من "المشكاة" (2290) وفيه: "الحنان المنان". (¬1) "المستدرك" (1836, 1837) من حديث ربيعة بن عامر وأبي هريرة رضي الله عنهما. (¬2) أخرجه أحمد في "المسند" (446) والترمذي في الدعوات، باب ما جاء في الدعاء إذا أصبح وإذا أمسى (3612) وأبو داود في الأدب، باب ما يقول إذا أصبح (5088) وابن ماجه في الدعاء، باب ما يدعو به الرجل إذا أصبح وإذا أمسى (3869) من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب.

والجواب: أنَّ المعنى على قولكم يصير حاصله: أنه لا ضارَّ إلا أنت يا ربنا. ولا يخفى ما فيه، وبعده عن الأدعية النبوية التي منها: "الخير كله بيديك، والشر ليس إليك" (¬1). وقال بعض [أهل] (¬2) العلم: المعنى: "لا يضر مع ذكر اسمه شيء" (¬3). ويجاب عما تقدم: بأن المراد الذكر الكامل، وهو ما كان على وفق المشروع، مع صدق خشوع وقوة يقين. وقد يشهد لهذا تمامُ الحديث وقصته، ففي المشكاة (¬4): " [فكان أبان (راوي الحديث عن أبيه عثمان) قد أصابه طرفُ فالجٍ، فجعل الرجل (الذي سمع الحديث من أبان) ينظر إليه، فقال له أبان: ما تنظر إلي؟ أمَا، إنَّ الحديث كما حدَّثتك، ولكنَّي لم أقُله يومئذ ليُمضي الله عليَّ قدرَه] ". ولعل الأولى أن يكون المراد: لا يضرُّ مع بركة اسمه شيء، وذلك أنَّ من ذكر اسم الله تعالى على وفق المشروع، مع صدق الخشوع وقوة اليقين، استحقَّ أن يحُفَّه الله تعالى ببركة لا يضرُّه معها شيء ما دامت معه. ولما كانت تلك البركة مسبَّبةً عن ذكر الاسم نُسِبت إليه، ثم نزلت معيتها منزلة معية الاسم نفسه. وأرى هذا تحقيقًا بالغًا. والحمد لله رب العالمين. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صلاة المسافرين، باب الدعاء في صلاة الليل (771) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه. (¬2) ساقط من الأصل سهوًا. (¬3) "مرقاة المفاتيح" (8/ 259). (¬4) "مشكاة المصابيح" (2391). وقد ترك المؤلف بعده بياضًا نحو سطرين مع وضع علامة التنصيص، لينقل القصة فيما بعد، فنقلناها.

المثال الخامس: في الدعاء النبوي: "اللهم باسمك أحيا، وباسمك أموت". ذكره ابن عبد السلام، وقال: "معناه: اللهم بك أحيا، وبك أموت، أي: بقدرتك" (¬1). أقول: هذا الدعاء كان النبي - صلى الله عليه وسلم -[يقوله] (¬2) عند اضطجاعه للنوم كما في "صحيح مسلم" عن البراء (¬3): أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أخذ مضجعه قال: "اللهم باسمك أحيا وباسمك أموت"، وإذا استيقظ قال: "الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا، وإليه النشور". فالحياة والموت فيه بمعنى اليقظة والنوم، والإنسان عند أخذ مضجعه بين يقظة حاضرة ونوم منتظر عن قرب، فكان - صلى الله عليه وسلم - يذكر اسم الله تعالى على الأمرين معًا. وقد فسّره صاحب "فتح الباري" بقوله: "بذكر اسمك أحيا، وعليه أموت" (¬4). وأقول: هذا، وقوله في المثال السابق: "بسم الله" وأمثلة أخرى ذكروها كلها من أفراد التسمية، كقول من بدأ الأكل: بسم الله. وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) "مجاز القرآن" (198). (¬2) زيادة يقتضيها السياق. (¬3) في كتاب الذكر والدعاء، باب ما يقول عند النوم (2711). وأخرجه البخاري في الدعوات، باب ما يقول إذا نام (6312) من حديث حذيفة رضي الله عنه. (¬4) "فتح الباري" (11/ 113).

المثال السادس: البيت المنسوب إلى لبيد (¬1): إلى الحول ثم اسمُ السلامِ عليكما ... ومَن يبكِ حولًا كاملًا فقدِ اعْتَذَرْ أقول: هذا البيت في قطعة ذكرها صاحب الأغاني (14/ 98) (¬2) في قصة ذكر فيها أن لبيدًا لما حضره الموت جرى له كيت وكيت، وفيها ذكر قصيدة طويلة. والقطعة التي فيها هذا البيت زعم الراوي أنَّ لبيدًا قالها في تلك الحال. وفي رجال السند من لم أعرفه (¬3). والمشهور أنَّ لبيدًا لم يقل شعرًا بعد إسلامه، وقد ذكر صاحب الأغاني ذلك عن أبي عبيدة، إلا أنه استثنى بيتًا واحدًا، وهو: الحمد لله إذ لم يأتني أجلي ... حتى اكتسيتُ من الإسلام سربالًا (¬4) ¬

_ (¬1) ديوانه (214). (¬2) يعني: طبعة بولاق. وانظر: طبعة الثقافة (15/ 305 - 306). (¬3) رواها أبو الفرج عن أحمد بن عبد العزيز عن عمر بن شبة عن عبد الله بن محمد بن حكيم عن خالد بن سعيد. ولعل الذي ذكر المؤلف أنه لم يعرفه هو عبد الله بن محمد بن حكيم الطائي البصري. وقد ذكره ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (728) ولكن لم يزد على أنه روى عن خالد بن سعيد عن عمرو بن سعيد بن العاص وأنه روى عنه عمر بن شبة. وكذلك ذكره في "تهذيب الكمال" في ترجمة خالد (618) ممن روى عنه. (¬4) "الأغاني" طبعة الثقافة (15/ 29) ورجح ابن عبد البر في "الاستيعاب" (3/ 307) أن البيت المذكور لقَرَدة بن نُفَاثة السَّلولي، وهو ثالث أبيات ثلاثة له ذكرها ابن عبد البر في ترجمته (3/ 260). هذا، ويرى إحسان عباس أن أكثر من عشر قصائد قالها لبيد في الإسلام. انظر: مقدمته لديوان لبيد (27).

وفي كتاب "الشعر والشعراء" لابن قتيبة (¬1): " [ولم يقل في الإسلام إلا بيتًا واحدًا. واختُلِف في البيت، قال أبو اليقظان: هو ... " وذكر البيت السابق، ثم قال: "وقال غيره: بل هو قوله: ماعاتَبَ المرءَ الكريمَ كنفسِه ... والمرءُ يُصلِحُه الجليسُ الصالحُ وقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنشدْني (من شعرك) فقرأ سورة البقرة، وقال: ما كنت لأقول شعرًا بعد إذ علّمني الله (سورة) البقرة وآل عمران ...] ". وهَبْ أن نسبة هذا البيت: "إلى الحول ... " إلخ صحت إلى لبيد، أو إلى غيره ممن يحتج بكلامه، فقد حمله ابن جرير على أن قوله: "السلام" أراد به الاسم المعروف من أسماء الله عزَّ وجلَّ، ثم يقول: إما أن يكون أراد: ثم عليكما اسم السلام، أي: ثم الزما اسم الله. يريد: الزما ذكر اسم الله، ودعا ذكري. وإما أن يكون أراد التبريك عليهما، أي: ثم بركة اسم الله عليكما (¬2). وأقول: لو فرضنا أنه لم يكن له وجه إلا ما حملوه عليه من الزيادة، فهو شذوذ وضرورة، فلا يجوز حمل كلام الله عَزَّ وَجَلَّ عليه. وهب أن ذلك صحيح فصيح غير ضرورة، فلا شك أنه خلاف الأصل. وقد ذكرنا الأمثلة التي ذكروها من الكتاب والسنة، وظهر أنه لا حاجة بها إلى الحمل على هذا. والله أعلم. ¬

_ (¬1) (1/ 275 - 276). وقد وضع المؤلف رحمه الله علامة التنصيص وترك بعدها بياضًا لنقل كلام ابن قتيبة فأوردناه. (¬2) "تفسير الطبري" (شاكر 1/ 120 - 121).

الفصل الرابع لفظ "الله"

[47/ أ] الفصل الرابع لفظ "الله" هذا اللفظ اسم لربنا عزَّ وجلَّ، وهو عَلَم، وقد اختلفوا في علميته: أبالوضع، أم بالغلبة التقديرية؟ وفي كونه مشتقًّا أم لا، وعلى الاشتقاق، فمن أي مادة؟ ولا أرى ضرورةً هنا إلى تفصيل ذلك، فإنه لا يتوقف عليه معرفة المعنى. وظاهر أن المراد من هذا اللفظ بالتسمية مدلوله، فمعنى: "باسم الله": باسم رب العالمين تبارك وتعالى. وزعم بعضهم أنه يحتمل أن يكون المراد به لفظه، وتكون الإضافة بيانية، أي: باسمٍ هو هذا اللفظ: "الله". وليس هذا القول بشيء. نعم، مدلول "اسم الله" إما لفظ "الله", لأنه هو اسم الله؛ وإما جميع أسماء الله عزَّ وجلَّ, لأن المفرد المضاف قد يعمُّ، تقول (¬1): ابن آدم ضعيف. أي: كل أحد من بني آدم. وستعلم المختار من هذين في الفصل الآتي إن شاء الله تعالى. ... ¬

_ (¬1) في الأصل: "يقول"، وهو سبق قلم.

الفصل الخامس معنى "باسم الله"

الفصل الخامس معنى "باسم الله" قد عرفت أن المنصور عند المتأخرين في الباء قولان: أحدهما: أنها للاستعانة. والآخر: أنها للمصاحبة. فأما على الاستعانة، فقالوا في تسمية الآكل مثلاً: إن التقدير: باسم الله آكل، وإنها على وزان: "بالقلم أكتب". فاسم الله بمنزلة القلم، أي أنه يتوقف وجود الأكل عليه، كما يتوقف وجود الكتابة على القلم. قالوا: والمتوقف في الحقيقة هو سلامة الأكل عن النقصان, على ما في الحديث: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم، فهو أجذم" (¬1). ومعنى "أجذم": ناقص البركة، ولكن نُزِّل الأجذمُ منزلةَ المعدوم، فأقيم توقف سلامة الفعل من النقصان مقام توقف وجوده. وفيه: أن إفادة السلامة ليس (¬2) هي أثرًا من آثار الاسم من حيث هو، بل هي أثر بركة يجعلها الله عَزَّ وَجَلَّ لذاكره إذا شاء. ¬

_ (¬1) بهذا اللفظ أخرجه الخطيب في "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" (1219) مرفوعًا من حديث أبي هريرة. وهو ضعيف، والمحفوظ لفظ: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله ... " مع كونه مرسلاً. انظر: "تخريج الكشاف" للزيلعي (1/ 24) و"التحجيل" للطريفي (ص3). (¬2) كذا في الأصل.

فإن قيل: وكذلك الكتابة ليست أثرًا للقلم من حيث هو، وإنما توجد بأخذه باليد وغمسه في المداد، ثم إمراره على الكاغد مثلًا على الوجه المخصوص، فكما لا يقدح هذا هناك، فلا يقدح ما ذكرتم هنا. قلنا: الفرق واضح، وهو أن الفعل في "كتبت بالقلم" ينبئ عن بقية الأمور، بخلاف الفعل في قوله: "باسم الله آكل". ولو سلم ما ذكرتم لم يغن عن الاحتياج إلى توضيح المعنى، فإن المعنى في قولك: "كتبت بالقلم" واضح، ولا كذلك في "باسم الله آكل". فلا بد لتوضيح المعنى من أن يقال: أصل الكلام: ببركة ذكر اسم الله التي أرجو أن يمنَّ الله عليَّ بها أدفع النقصان عن أكلي. وأما على المصاحبة، فقد عرفت قولهم: "إن باء المصاحبة هي التي يصلح موضعها "مع"، ويغني عنها وعن مصحوبها الحال". فيقال في "باسم الله آكل": مع اسم الله آكل، ومسمِّيًا الله آكل. ولكن لما كانت التسمية تطلق على وضع الاسم، وعلى ذكره، والمقصود هنا الثاني، كان الواضح أن يقال في تقدير الحال: ذاكرًا اسم الله آكل. وقد قالوا في قوله تعالى: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ} [هود: 41]: "الباء للملابسة، والملابسة هي المصاحبة، ولما كانت ملابسة اسم الله عز اسمه بذكره, قالوا: المعنى: اركبوا مسمِّين الله" (¬1). لكن يتراءى هنا فرق ما بين قولنا: "مع اسم الله آكل"، وقولنا: "مسمِّيًا الله آكل"، أو "ذاكرًا اسم الله آكل". وقد يوفَّق بينهما بأن المراد بمعية اسم الله ¬

_ (¬1) "روح المعاني" (12/ 56).

معيَّةُ ذكره، كما تقدم عنهم، فالمعنى: "مع ذكر اسم الله آكل". لكنهم عدلوا عن هذا، وقالوا: المعنى: "مع اسم الله آكل"، أو "مصاحبًا اسمَ الله آكل". فيقال لهم: وما معنى معية اسم الله ومصاحبته؟ فإن قالوا: بذكره، كما قالوه في {ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ} [هود: 41] فقد عاد الأمر إلى: "مع ذكر اسم الله"، أو "ذاكرًا اسم الله". وهو الموافق لقولهم في باء المصاحبة: يغني عنها وعن مصحوبها الحال. وإن قالوا: معية بركته ومصاحبتها. قلنا: إن أردتم البركة الموعود بها في حديث: "كل أمر ذي بال ... " ونحوه، فهي بركة يجعلها الله تعالى إذا شاء لمن ذكر اسمه. وعلى هذا، فينبغي أن يتركوا التقدير على أصله: ذاكرًا اسم الله آكل، [47/ ب] ويقولوا: المعنى: ذاكرًا اسمَ الله رجاءَ البركة الموعود بها. أو يقولوا: المعنى: مستصحبًا بركة ذكر اسم الله آكل، ومعنى "مستصحبًا": سائلًا الصحبة، فكأنه يقول: سائلًا الله تعالى أن تصحبني بركة ذكر اسمه. وقد قدَّر ابن عبد السلام التسمية بقوله: "أتبرك بذكر اسم الله" (¬1)، وهو يلاقي ما ذكرنا. وزعم ابن جرير أن الاسم هنا بمعنى التسمية، وأن المعنى: أقرأ بتسمية الله (¬2). وقد عرفت أن المراد من التسمية ذكر الاسم، فيصير التقدير: أقرأ ¬

_ (¬1) "مجاز القرآن" (197). (¬2) "تفسير الطبري" (شاكر 1/ 115 - 118).

بذكر اسم الله، وهو يقارب ما ذكرنا. وزعم أن ذلك معنى ما رواه عن ابن عباس (¬1)، والمقصود هنا: إنما هو الموافقة على تقدير "ذكر". وإن أردتم بركة اسم الله مطلقًا، وقلتم: إنَّ لأسماء الله عَزَّ وَجَلَّ بركةً يمنُّ اللهُ بها على من يشاء، ممن ذكر الأسماء اسمًا اسمًا، وممن لم يذكرها، فيصح أن يقول الداعي: اللهم أصحِبْني بركةَ أسمائك. قلنا: هذا يحتاج إلى إثبات من الشريعة، والذي نعرفه أن بركة أسماء الله عَزَّ وَجَلَّ إنما يُتوسَّلُ إلى حصولها بذكر الأسماء على الوجه المشروع. فإن ثبت ما قلتم، بقي التقدير على هذا المعنى: "مستصحِبًا بركةَ اسم الله"، أي سائلًا الله أن يصحبني بركة أسمائه. ثم نقول لهم: ما الذي اضطركم إلى العدول عن تقدير المعنى بأن تقولوا: "مسمِّيًا اللهَ آكل"، أي: "ذاكرًا اسمَ الله آكل" على ما هو الأصل في باء المصاحبة، وقد قلتم به في قوله تعالى: {ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ} (¬2) [هود: 41]؟ وعسى أن يكون جوابكم أن المعنى يختل بذلك. أولاً: لأن المسمَّي عن نفسه يقول: "باسم الله" على سبيل الدعاء والتبرك، وتقدير: "مسمَّيًا الله آكل"، أو "ذاكرًا اسم الله آكل"، ليس فيه إلا الإخبار عن نفسه بأنه يأكل ذاكرًا اسم الله. ¬

_ (¬1) وهو قوله: "اقرأ بذكر الله ربك، وقم واقعد بذكر الله". (¬2) "فيها" ساقط من الأصل سهوًا.

ثانيًا: بأنه لا يعرف في الأدعية والأذكار الشرعية نظير لهذا، وعامة الأدعية والأذكار الشرعية كل منها يكون لفظه بنفسه وحده، أو مع ما تدلُّ القرائن على تقديره دالاًّ على التعظيم أو السؤال. وقد قال بعض الأجِلَّة (¬1): إن ذكر كلمة الجلالة أو تكرارها ليس بذكر شرعي, لأن الاسم وحده لا يفيد معنًى. ثالثًا: هذا الخبر - وهو "ذاكرًا اسم الله" - يحتاج إلى ما يصدق عليه، والغالب أن المسمّي يقتصر من ذكر الله على قوله "باسم الله"، فإذا جعلناها خبرًا فأين المخبَر عنه. وإيضاحه: أن قول القائل: "ذاكرًا (¬2) اسم الله آكل" إنما يكون صادقًا إذا وقع منه حال أكله ذكر لاسم الله غير هذه الجملة، إذ لا يمكن أن يكون الجملة الواحدة مخبرًا بها عن نفسها، أي هي الخبر، وهي المخبر عنه. [48/ أ] والجواب عن الأمر الأول: أن "باسم الله" على معنى "ذاكرًا اسم الله" أقيمت عند الشروع في الأمور مقام جميع الأذكار والأدعية التي تناسب الحال. ونوضح ذلك بمثال: وهو أن يجتمع أربعة، ويقدَّم لكل منهم طعامه، فأما أحدهم فنصراني شرع يذكر اسم يسوع، شاكرًا له على أن رزقه الطعام بزعمه، ويتضرع إليه أن يهنئه أكله، وأن يبارك له فيه، وأن يصرف عنه ضرَّه، وأن ينفعه به، إلى غير ذلك من المطالب. ¬

_ (¬1) لعل المقصود شيخ الإسلام ابن تيمية. انظر كلامه في "مجموع الفتاوى" (10/ 226)، وانظر: "طريق الهجرتين" لابن القيم (739). (¬2) في الأصل: "ذاكر".

وأما الثاني، فشرع يذكر اسم الله، واسم غيره، بنحو ذلك. وأما الثالث، فشرع يأكل بدون ذكر. وأما الرابع، فموحِّد قد رأى وسمع صنيع أولئك الثلاثة، وحضر طعامه، وهو على عجل، فقال: باسم الله، أي: ذاكرًا اسم الله آكل، أي: أذكر اسم الله لهذه المطالب التي تقدمت ونحوها, ولا آكل بغير ذكر اسمه، ولا بذكر اسم غيره، ولا دونه ولا معه. غاية الأمر أنك قد تتردد في قوله: "أذكر اسم الله لجميع المطالب المناسبة للحال"، هل يقوم هذا مقام التفصيل، كأن يقول: اللهم لك الحمد على ما رزقتني، اللهم أعذني من الشيطان، اللهم هنئني طعامي، اللهم بارك لي فيه، اللهم اصرف عني ضرره، اللهم انفعني به، اللهم ... اللهم ... فنقول: لا بدع في أن يرحم الله عباده، ويخفف عنهم، فيقيم تلك الكلمة مقام تلك الكلمات كلها، وهذا هو الواقع، ولكن بلفظ "باسم الله". وبهذا عرف الجواب عن الأمر الثاني، فقد عرف من قرائن الحال، وقصد الشارع، وما ينويه المسلم = ما يتم به الكلام، كما تقولون أنتم: إن تقدير المعنى: مصاحبًا اسم الله، وإن القرينة تدل على التبرك. وأما الأمر الثالث؛ فقد علمت أنّ قولنا: "ذاكرًا اسم الله" قد صار من حيث الدلالة على الدعاء شبيهًا بقولهم: "متبرِّكًا باسم الله"، بل أوضح منه في ذلك وأجمع. وقد اعترض على تقديرهم بنحو ما ذكر في الوجه الثالث، فأجاب بعضهم بأنَّ ذلك خبر عن نفسه "قياسًا على ما قيل في قولك: أتكلم أنه يجوز أن يكون خبرًا عن تكلم حاصل بهذا القول".

والذي ارتضاه الصبَّان، وقرره البناني في "حواشيه على شرح جمع الجوامع" (¬1): أن قوله: "باسم الله أو متبركًا باسم الله" إنشاءٌ. قال البناني: "لصدق حد الإنشاء عليه، هو ما يتحقق مدلوله بذكر دالِّه فقط ... والتبرك لا يتحقق مدلوله بدون ذكر اللفظ الدال عليه". وقد نظر فيه بعضهم بما اشتهر أن الحال لا تكون إنشاء. والجواب: أنّ ذلك في الجملة الحالية، والإنشاء اللفظي، أي: أنَّ الجملة الحالية لا تكون إنشائية لفظًا، فلا يقع فعل الأمر مثلاً، أو الفعل المنقول إلى الإنشاء لإيقاع العقود مثل بعت وطلَّقت حالاً. فأما الإنشاء المعنوي فقط، فلا مانع من وقوعه حالاً مفردة، كقوله تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ} [غافر: 14]، وجملة كقوله: {فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132]. ومن الأول قوله تعالى: {ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ} [هود: 41]، وقد قدروه: "مسمَّين الله"، كما علمت، والمعنى: أمرهم بالتسمية عند الركوب. وأمثلة ذلك أكثر من أن تحصى. ... ¬

_ (¬1) طبعة دار الفكر (1/ 3).

الفصل السادس

[48/ ب] الفصل السادس إن قيل: لا يزال في النفس من كلمة "اسم" شيء، إذ قد يقال: فلو قيل: "بالله" على معنى "ذاكرًا الله"، لكان أخصر. والجواب: أنه لو قيل: "بالله" لما ظهر ذاك المعنى، بل يكون الظاهر حينئذٍ أن المعنى: بقدرة الله آكل. فإن قيل: قد يدعى دلالة القرائن على أن المعنى: "بذكر الله". قلت: ليست القرائن بغاية القوة حتى تكفي لدفع ذاك المعنى الظاهر: "بقدرة الله آكل"، وإنما كانت كافية في "باسم الله" بتقدير (¬1) احتمال ذاك المعنى، أعني بتقدير القدرة. فإن قيل: فلم لم يقل: "بذكر الله"؟ قلت: لو قيل ذلك لكان على تقدير: "بذكر اسم الله", لأن الذكر هنا هو اللساني، وما دام على أصله، فإنما يقع على الاسم، إلا أنه كثيرًا ما يحذف الاسم لظهور المعنى، أو يضمن الذكر معنى المدح والتعظيم، كما في قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ} [البقرة: 203]، أو الذم ونحوه كما في قوله تعالى فيما قصه عن قوم إبراهيم: {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ} [الأنبياء: 60] أي: يذكر الأصنام، أي: يتوعدها أو يذمّها. وقد جاء في القرآن الإثبات وعدمه، قال تعالى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ ¬

_ (¬1) في الأصل: "تقدير".

تَبْتِيلًا} [المزمل: 8]. {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الإنسان: 25]. وقال عزَّ وجلَّ: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا} [آل عمران: 41]. {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [الأعراف: 205]. فإن قيل: فكلٌّ من لفظ "ذكر", ولفظ "اسم" إذا اقتصر عليه، اقتضى تقدير الآخر، فلماذا أوثر "باسم الله" على "بذكر الله" هنا، وعكس في مواضع مثل قوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]؟ قلت: لكل مقام مقال، فقوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} المراد بالذكر: الصلاة والخطبة، من إطلاق الجزء وإرادة الكل، والجزء هو الذكر، لا نفس الاسم. والمقصود في التسمية على الأكل ونحوه: هو أن يقع من الإنسان كلام هو في نفسه ذكر، و"باسم الله" أدلُّ على ذلك من "بذكر الله"، ولأنه دار الأمر بين أن يترك لفظ "ذكر" أو أن يترك لفظ "اسم"، والأولى في مثل هذا حذف "ذكر". أما أولاً: فلأن الأصل "ذكر اسم الله" والمعروف في الحذف هو حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه. وعليه، يبقى لفظ الجلالة على أصله. ولو قيل: "بذكر الله" لكان المعنى أن لفظ "اسم" حذف، وأقيم لفظ الجلالة مقاومه, والتنازع إنما كان بين لفظي ذكر واسم؛ فلأن يحذف أحدهما ويقام الآخر مقامه أولى من أن يحذف أحدهما ويقام لفظ ثالث مقامه. وأما ثانيًا: فلأن ذكر الاسم ينحل إلى شيء من الإنسان، وهو الذكر، وشيء لله عزَّ وجلَّ، وهو الاسم، فاطراح الأول أولى.

وأما ثالثًا: فلأن باء المصاحبة في "باسم الله" بمنزلة العوض عن لفظ "ذكر"، لما مر أن التقدير يكون: "مسميًا الله"، والتسمية هنا هي ذكر الاسم، فيكون التقدير: "ذاكرًا اسم الله". ولو قيل: "بذكر الله" لما كان هناك ما يكون بمنزلة العوض عن لفظ "اسم". وأما رابعًا: فلأنه - كما تقدم - يقصد بالتسمية الرد على المشركين، فلو قيل: "بذكر الله" لكان المتبادر الرد على من يذكر غير الله تعالى، أي من الذوات، فلا يظهر منه الرد على من يذكر من المشركين أسماء لا مسمى لها، كما تقدم، بخلاف "باسم الله" فإن فيها إشارة إلى ذلك. ولنكتف بهذا القدر، فإن أمثال هذه الأسئلة لا نهاية لها, ولا ينبغي التشاغل بها إلا بما هو كالأنموذج مما يكون إيراده ظاهرًا. والله أعلم. ***

الفصل السابع

[49/ أ] الفصل السابع قد ينطق بالمتعلق، فمن ذلك ما جاء في صحيح مسلم (¬1) من حديث أبي سعيد: أن جبريل (¬2) أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا محمد اشتكيت؟ فقال: نعم. قال: بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك، ومن شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك، بسم الله أرقيك". والأولى في هذا الموضع أن تكون الباء للإلصاق، على تضمين "أرقيك" معنى "أستشفي لي (¬3) "، فكأنه قال: أسأل الله باسمه أن يشفيك. وسؤال الله تعالى باسمه وارد كما في الدعاء النبوي: "اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك، سمَّيت به نفسك ... " (¬4). ويجوز أن تكون للاستعانة، على معنى: أرقيك بذكر اسم الله، فإن الرقية تكون بالكلام، كما تقول: أرقيك بـ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ...}. وتقرأ السورة. وفي "صحيح مسلم" (¬5) أيضًا من حديث عائشة قالت: "كان إذا اشتكى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رقاه جبريل، قال: بسم الله يبريك، ومن كل داء يشفيك، ومن ¬

_ (¬1) في كتاب السلام، باب الطب والمرض والرقى (2186). (¬2) في الأصل: "جبر". (¬3) كذا في الأصل، ولعل المقصود: لك. (¬4) أخرجه أحمد (6/ 246) برقم 3712 وغيره. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/ 136): رجال أحمد وأبي يعلى رجال الصحيح غير أبي سلمة الجهني وقد وثقه ابن حبان. (¬5) في كتاب السلام، باب الطب والمرض والرقى (2185).

شر حاسد إذا حسد، وشر كل ذي عين". وسند حديث أبي سعيد أثبت. وقوله في هذا: "بسم الله يبريك" يحتمل أن المتعلق محذوف، والتقدير: "باسم الله أرقيك، هو يبريك" ليوافق الرواية الأولى. ويحتمل غير ذلك. وقد تقدم في الفصل الثالث دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - عند النوم: "اللهم باسمك أحيا، وباسمك أموت" (¬1). وتقدم أن المراد بالحياة والموت فيه: اليقظة والنوم، ومعنى الباء المصاحبة، على ما قدمناه، أي: ذاكرًا اسمك أُتِمّ يقظتي، وذاكرًا اسمك أنام، أي: أذكر اسمك لكل ما يهمني في يقظتي ونومي. وفي حديث آخر: "باسمك ربي وضعت جنبي، وبك أرفعه" (¬2). والمعنى أيضًا: ذاكرًا اسمَك ربَّي وضعتُ جنبي. وأما قوله: "وبك أرفعه" فالمعنى - والله أعلم -: وبمشيئتك أرفعه. وقد جاء في رواية: "بك وضعت جنبي" وهو من تصرف الرواة. وبقيت أحاديث غير هذه، فينبغي أن يفسَّر كلٌّ منها بما هو الظاهر فيه، ولا ملجئ إلى تكلف جعل الجميع على وتيرة واحدة. ¬

_ (¬1) سبق في (ص 37). (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الدعوات, بعد باب التعوذ والقراءة عند المنام (6320) ومسلم في كتاب الذكر والدعاء، باب ما يقول عند النوم (2714) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

مهمة

مهمة جاء من حديث عائشة وغيرها فيمن نسي أن يسمِّي أول طعامه أنه ينبغي له أن يقول حين يذكر: "باسم الله أوله وآخره" (¬1). ولم أر من تعرض لتوجيهه، والذي يظهر لي أن "بسم الله" على أصلها، والمعنى: ذاكرًا اسم الله آكل. وقوله: "أوله وآخره" ظرف، والتقدير: أقولها أوله وآخره، أي: قضاءً لقولها أوله، وأداءً لقولها آخره. والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) حديث عائشة أخرجه الترمذي (1920) وأبو داود (3767) وابن ماجه (3264) كلهم في كتاب الأطعمة, باب التسمية على الطعام. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

الفصل الثامن {الرحمن الرحيم}

[49/ ب] الفصل الثامن {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} هما اسمان مشتقان من الرحمة، وقد كثر الكلام فيهما، والذي يتلخص لي أنهما اسمان مشتقان من الرحمة، يدلَّان على المبالغة، إلا أن "الرحمن" اشتق من (رحم) معتبرًا فيه اللزوم، حملًا له على ضدَّه: "خشي". قال سيبويه: وأما خشيتُه، فأنا خاشٍ، والقياس خشٍ، فالأصل أيضًا: خشيت منه، فحمل على رحِمْتُه، حملَ الضدَّ على الضدَّ. ولهذا جاء الفاعل منه على خاشٍ والقياس: خشٍ, لأن قياس صفة اللازم من هذا الباب "فَعِل". وكذا كان قياس مصدره "خَشىً"، فقيل: خشية، حملًا على رحمة (¬1). أقول: وقد عرف من عادتهم أنهم إذا حملوا لفظًا على آخر في شيء عادوا فحملوا الآخر عليه في شيء آخر. فلما حملوا "خشي" على "رحم" في تعديته بنفسه، وفي صيغة الصفة منه، والمصدر = عادوا فحملوا "رحم" على "خشي" في اعتباراته كأنه لازم حتى اشتقوا منه صيغة فعلان، فقالوا: رحمان، كما قالوا: رجل خشيان. ولا يلزم من حمل اللفظ على اللفظ حمله عليه في كل شيء. ¬

_ (¬1) هذا النص منقول من "شرح شافية ابن الحاجب" للرضي (1/ 73). ولفظ سيبويه في "كتابه" (4/ 19): "وقالوا: خشيتُه خَشْيةً وهو خاشٍ، كما قالوا: رحِمَ وهو راحِم، فلم يجيئوا باللفظ كلفظ ما معناه كمعناه, ولكن جاؤوا بالمصدر والاسم على ما بناءُ فعله كبناء فعله".

هذا، وصيغة "فعلان" فيها مبالغة، فإن من مواقعها عندهم أن تكون من المواد التي تدل على الامتلاء، مثل شبعان، وريّان. ثم قد يعتبرون الامتلاء المعنوي، فتجيء المبالغة، وذلك في قولهم: غضبان، وقد قالوا: غضب كفرح. ومن قواعدهم أن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى، فغضبان أبلغ من غَضِب. وقال الصغاني: "امرأة خشيانة: تخشى كل شيء" (¬1). وذاك هو المبالغة. ... ¬

_ (¬1) "التكملة والذيل والصلة" (6/ 408).

فصول ملحقة

فصول ملحقة (¬1) [ل55/ أ] فصل [تعجرُف المشركين في اسم "الرحمن"] وقع من مشركي قريش تعجرُفٌ في شأن الاسم الكريم "الرحمن". قال الله تبارك وتعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا} [الفرقان: 60]، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [الإسراء: 110]. أخرج ابنُ جرير وغيره (¬2) عن ابن عباس قال: صلَّى [رسولُ] (¬3) الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة ذات يوم، فدعا الله تعالى، فقال في دعائه: يا اللهُ، يا رحمنُ، فقال المشركون: انظروا إلى هذا الصابئ! ينهانا أن ندعو إلهين، وهو يدعو إلهين! وفي "الصحيحين" وغيرهما (¬4) عنه قال: نزلت ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - مختفٍ بمكة، فكان إذا صلَّى بأصحابه رفع صوته بالقرآن. فإذا سمع ذلك ¬

_ (¬1) الفصول الآتية مأخوذة من مسودة أخرى للمصنف في تفسير البسملة. انظر: مقدمة التحقيق. (¬2) عزاه السيوطي في "الدر المنثور" (9/ 461) إلى ابن جرير وابن مردويه. والمصنف صادر عن "روح المعاني" (8/ 180). وانظر "تفسير الطبري" (15/ 123). (¬3) زيادة لازمة. (¬4) البخاري (4722)، ومسلم (446).

المشركون سبُّوا القرآن، ومَن أنزله، ومَنْ جاء به. فقال الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {وَلَا تَجْهَرْ}. وفي بعض الآثار: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يرفع صوته ببسم الله الرحمن الرحيم، وكان مسيلمة قد تسمَّى الرحمنَ، فكان المشركون إذا سمعوا ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا: قد ذكر مسيلمة [إله اليمامة، ثم عارضوه بالمكاء والتصدية والصفير، فأنزل الله تعالى هذه الآية] (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة كما في "روح المعاني" (¬2). وقال تعالى: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد: 30]. في "روح المعاني" (4/ 185) (¬3): "وعن قتادة وابن جريج [ومقاتل أن الآية نزلت في مشركي مكة لما رأوا كتاب الصلح يوم الحديبية. وقد كتب فيه عليٌّ كرَّم الله تعالى وجهه: "بسم الله الرحمن الرحيم"، فقال سهيل بن عمرو: ما نعرف الرحمن إلا مسيلمة] (¬4). ¬

_ (¬1) ما بين الحاصرتين مكانه في الأصل نقاط، ولعل المصنف أجَّل تكملة كتابة الأثر لحين التبييض. (¬2) "روح المعاني" (8/ 183). وقد أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" عن سعيد (1884). (¬3) طبعة دار الكتب العلمية (7/ 145). (¬4) ترك المصنف هنا بياضا في الأصل فأكملناه من مصدره. وانظر الأثر في "تفسير البغوي" (2/ 531).

وقال تعالى: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ} [الأنبياء: 36]. وفي "روح المعاني" (5/ 358) (¬1): "وقيل: المراد بذكر الرحمن: ذكرُه - صلى الله عليه وسلم - هذا اللفظَ وإطلاقه عليه، والمراد بكفرهم به قولهم: ما نعرف الرحمن إلا رحمان اليمامة ... ". وفي "صحيح البخاري" في كتاب الشروط - باب الشروط في الجهاد إلخ (¬2): " ... فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - الكاتب، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اكتب بسم الله الرحمن الرحيم" فقال سهيل (أي ابن عمرو، وكان يومئذ مشركًا، وهو سفير المشركين للصلح): أما الرحمن فوالله ما أدري ما هي، ولكن اكتب: باسمك اللهم، كما كنت تكتب .... ". وقد أشكل وجهُ هذا التعجرف، فقيل: إن القوم لم يكونوا يعرفون هذه الكلمة لا عَلمًا ولا وصفًا. وهذا مردود بأمور: الأول: أنَّ الله عزَّ وجلَّ قد أخبر عنهم بقوله في شأن عبادتهم الملائكة: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف: 20]. كما أخبر عنهم بقوله: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} ¬

_ (¬1) طبعة العلمية (9/ 46). (¬2) برقمي (2731, 2732).

[الأنعام: 148] (¬1). وقال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26]. وفي "صحيح مسلم" وغيره (¬2) في قصة غزوة ذي قَرَد: أنَّ عبد الرحمن الفزاري أغار على إبل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنَّه قتَل بعضَ الفرسان من الصحابة، ثم قتله أبو قتادة. فهذا الرجل كان مشركًا، والغالب أن يكون ولد قبل المبعث ثم قُتل مشركًا. [ل55/ ب] قال ابن جرير (¬3): وقد أُنشِد لبعض الجاهلية الجهلاء (¬4): ألا ضربت تلك الفتاةُ هجينَها ... ألا قضَب الرحمنُ ربِّي يمينَها قال: وقال سلامة بن جَندل الطُّهَوي (¬5): عجِلتم علينا عجلتَينا عليكم ... وما يشأ الرحمنُ يعقِدْ ويُطلقِ الثاني: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يجوز أن يخاطبهم بما لا يعرفون بنحو: ¬

_ (¬1) تخريج الآية من المصنف. (¬2) "صحيح مسلم" (1807) وأخرجه الإمام أحمد في "المسند" (16518) وأبو داود (2754) وابن حبان (7173) وغيرهم. وانظر: "مفردات القرآن" للفراهي (187). (¬3) في "تفسيره" (1/ 131). (¬4) البيت للشنفرى. انظر: "الاشتقاق" لابن دريد (59) وروايته في "ديوانه" (40) خالية من الشاهد. (¬5) انظر: "ديوانه" (184) و"الأصمعيات" (152). وانظر شواهد أخرى في "مفردات القرآن" للفراهي (186 - 189).

{اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ} [الفرقان: 60]. الثالث: أنَّ الله تعالى ذمَّهم على قولهم: "وما الرحمن". ولو كانوا غير عارفين معناه ما استحقُّوا الذمَّ. وقال الأكثر: إنَّ تعجرفهم من تعنُّتهم. وهذا هو الظاهر، ولكنه يحتاج إلى بيان. فأقول: قد أخبر الله تبارك وتعالى عنهم بقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26]. فبان بهذا أنَّ القوم لم يكونوا يراعون في معارضة النبي - صلى الله عليه وسلم - الإنصافَ ولا ما يقرب منه، بل إن تيسَّرت لهم شبهة قد ينخدع بها من لم يسمع كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - بتمامه طاروا بها فرحًا، ورقصوا لها طربًا. وإن لم يتيسَّر لهم ذلك تشبثوا بمغالطة يعرفون بطلانها كأن يحملوا كلامه على ما يعرفون أنه غير مراده، ثم يلغَون بذلك، ويشنِّعون به، ويبنُون عليه. وكان يلذُّ لهم ذلك لعلمهم أنَّ ذلك يُحزن النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى يكاد يبخَع نفسَه - بأبي هو وأمي - لأنَّ الناصح الشفيق لا يُحزنه أن يعارضه المنصوح بشبهة قد يظنها المنصوح حقًّا، كما يُحزنه أن يشغب عليه بمغالطة يعرف الشاغبُ نفسه بطلانها, ولا سيما إذا نسب إلى الناصح ما ينافي نصحه، ولكن القوم - كما هو متواتر عنهم - لم يبلغوا في الوقاحة إلى درجة المكابرة المكشوفة أو الكذب المكشوف. إذا تقرر هذا، فالظاهر أنَّ بعض سفهائهم سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يا الله، يا رحمن"، كما في الأثر السابق أو نحو ذلك، فأوحى الشيطان إلى ذلك

السفيه أن يشغب بأنَّ معنى ما سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما هو إثباتُ أنَّ الرحمن إله آخر غيرُ الله عزَّ وجلَّ، فأخذها منه السفهاء ولَغَوا بها. وأكثرهم يعلم حقيقة الحال، ولكنَّ مقصودَهم الغلَبُ بأيِّ وجه كان، كما أخبر الله تعالى عنهم لما قيل لهم: {اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ} بنوا على ذلك الشغب المتقدم، فقالوا: {وَمَا الرَّحْمَنُ} زاعمين أنه قد عُرِف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يعني بالرحمن إلهًا غير الله، وأنهم لا يدرون ما ذلك الإله. ثم صاروا يشغبون ويستهزئون كلَّما سمعوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - كلمة "الرحمن" زاعمين أنه قد عُرِف عنه أنه يعني بها غير الله. وكان مما يغيظهم من هذا الاسم وقوعُه في البسملة المخالفة لتسميتهم. فإنهم كانوا يقولون في أوائل كتبهم ونحوها: "باسمك اللهم"، فخالفهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: "بسم الله الرحمن الرحيم"، فيقولون في أنفسهم: إنَّ هذا الرجل إنما يريد خلافنا، هَبْه اضطُرَّ إلى مخالفتنا في عبادة غير الله تعالى لأنه يراها باطلاً، فما باله يخالفنا في هذه الكلمة التي مضى عليها سلفُنا, وليس في معناها شيء ينكره محمد، وهي: "باسمك اللهم"! فمخالفته لنا ولسلفنا فيها دليل ظاهر على أنه يحبُّ خلافَنا وهدمَ كلِّ ما نحن عليه، وإن كان يعلم أنه حقٌّ. وهذه شبهة من شبههم تؤثِّر على من لم يكثُر منهم سماعُ القرآن أو سماعُ كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -. فأمر الله تبارك وتعالى رسوله أن لا يجهر في صلاته بأصحابه بقراءته، ولا سيما ما كان فيه ذكرُ الرحمن، ولا سيما البسملة التي يشتدُّ إنكار المشركين بها. وذلك لئلا يسمعوه، فيلغَوا، وينغِّصوا عليه وعلى أصحابه صلاتهم.

ويظهر أنَّ هذا أصلُ مشروعية الإسرار بالبسملة في الصلاة، بقيتْ على رأي من يقول بذلك، كما بقي الرمل والاضطباع في الطواف وغيره من الأعمال التي شُرعت لمعنًى، ثم زال ذلك المعنى، وبقيت لحِكَمٍ أخرى، منها: تذكير المسلمين بما كان عليه أول هذا الدين. [ل56/ أ] وأما ما في "الصحيح" من كلام سهيل بن عمرو، فقد اختلفت الروايات في حكاية قوله. والذي عند ابن إسحاق عن الزهري في هذه القصة: "ثم دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، فقال: اكتب "بسم الله الرحمن الرحيم". قال: فقال سهيل: لا أعرف هذا. ولكن اكتب "باسمك اللهم" (¬1). فظاهر هذا مع ما تقدَّم أنَّ سهيلاً إنما أنكر البسملة لمخالفتها ما مضوا عليه من قولهم: "باسمك اللهم". وقوله: "لا أعرف هذا" يعني أنَّ السنة التي نعرفها هي: "باسمك اللهم". و"بسم الله الرحمن الرحيم" غير معروفة عندهم، أي غير معروف الابتداء بها. فأما ما وقع في "الصحيح" من قوله: "أما الرحمن فوالله ما أدري ما هي" (¬2) ربما يكون من الرواية بالمعنى، كأنَّ بعض الرواة فهم أنَّ إنكار سهيل ¬

_ (¬1) "سيرة ابن هشام" (2/ 317). وقد وضع المصنف تخرجة بعد كلمة "هذا" وكتب في الحاشية: "وصله في مسند أحمد (4/ 325) ". وهو برقم (18910) في طبعة الرسالة. أخرجه من طريق يزيد بن هارون عن ابن إسحاق عن الزهري عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم. (¬2) "فتح الباري" (5/ 331).

لـ "بسم الله الرحمن الرحيم" إنما هو لما عُرِف عنهم من الشغب في هذا الاسم الشريف "الرحمن". ويحتمل أن يكون من إطلاق الجزء وإرادة الكل. أُطلق "الرحمن"، وأُريد البسملة كلها. وقد يشهد له قوله: "ما هي" كما في أكثر روايات "الصحيح" وأوثقها. وما وقع في بعض الروايات "ما هو" من تصرُّف الرواة (¬1). ظنَّ أنَّ الضمير [عائد] على الاسم "الرحمن" بمعناه الحقيقي. والحديث في "الصحيح" من رواية عبد الله بن محمد عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري. وقد رواه الإمام أحمد عن عبد الرزاق، فوقع في نسخة المسند المطبوعة (4/ 330) (¬2): "فقال سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو. وقال ابن المبارك: ما هو". كذا، والظاهر أن الأولى: "ما هي". وهي [رواية] (¬3) عبد الرزاق عن معمر. وتكون رواية ابن المبارك عن معمر: "ما هو". ورواية عبد الرزاق أثبت؛ لأنه لزم معمرًا، وسمع من كتبه. وسماعُ [ابن] (¬4) المبارك من معمر كان من حفظه كما يعرف من ترجمة معمر. وقوله: "فوالله لا أدري ما هي" - يريد والله أعلم البسملة - محملُه: أنه لا يدري أينبغي أن يصدَّر بها الكتب أم لا، أو أحقٌّ هي أم باطل. ¬

_ (¬1) "فتح الباري" (7/ 502). (¬2) وكذا في طبعة مؤسسة الرسالة (31/ 249) برقم (18928). (¬3) زيادة لازمة. (¬4) ساقط من الأصل.

وبالجملة، فالظاهر أنَّ سهيلاً إنما أنكر البسملة، والله أعلم. وأما ما في بعض الآثار أنهم كانوا يقولون: لا نعرف الرحمن إلا رحمان اليمامة (¬1)، فإن صحَّ فمرادهم: لا نعرف الرحمن الذي هو غير الله. ... ¬

_ (¬1) رُوي ذلك عن مجاهد عند ابن المنذر - كما في "الدر المنثور" (9/ 514 - 515) -, وعن عطاء عند ابن أبي حاتم في "تفسير" (8/ 2715).

فصل [اختصاص "الرحمن" بالله تبارك وتعالى]

فصل [اختصاص "الرحمن" بالله تبارك وتعالى] اشتهر بين أهل العلم أنَّ "الرحمن" مختصٌّ بالله تبارك وتعالى، فاعتُرض بإطلاق أهل اليمامة على مسيلمة، فأجيب بأنَّ ذاك من تعنُّتهم في كفرهم، فتوهَّم بعضُ الناس أنَّ معنى الاختصاص أنَّ الله تعالى منع بقدرته التسمِّيَ فلا يستطاع أن يسمَّى به غيرُه، كما قيل به في "الله". وتوهَّم غيرُه أنَّ المعنى أنه لم يُطلَق في لغة العرب على غيره، فاعترضوا ذاك الجواب وطوَّلوا. وإنما معنى الاختصاص ما قاله ابن جرير (¬1): "لله جلَّ ذِكرُه أسماءٌ قد حرَّم على خلقه أن يتسمَّوا بها، خصَّ بها نفسه دونهم، وذلك مثل الله والرحمن والخالق. وأسماءٌ أباح لهم أن يسمِّي بعضهم بعضًا بها، وذلك كالرحيم والسميع والبصير ... ". وقد كان ذلك محرَّمًا قبل بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - بما قام على الناس من الحجة وبلغهم من شرائع الأنبياء من وجوب تعظيم الربِّ عزَّ وجلَّ والتأدُّب مع أسمائه وصفاته. فقد علم أهل اليمامة أنَّ "الرحمن" اسم لله عزَّ وجلَّ، وأنه لم يتسمَّ به غيرُه ممن سبق، فصار بذلك مختصًّا به. فإقدامُهم مع ذلك على التسمية به مخالفٌ لما قامت عليهم الحجةُ به من وجوب تعظيم الله عزَّ وجلَّ. فذاك معنى التعنُّت في كفرهم. ¬

_ (¬1) في "تفسيره" (1/ 133).

وأما المنع، فقال ابن جرير (¬1): " ... ثم ثنَّى باسمه الذي هو الرحمن، إذ كان قد منع أيضًا خلقَه التسمِّي به ... ". ... ¬

_ (¬1) المصدر السابق.

الرحمة

[ل 56/ ب] الرحمة العرب بلسانها وفطرتها تعرف معنى الرحمة، وتصف بها الخالق عزَّ وجلَّ مع علمها بأنه سبحانه ليس من جنس البشر ولا غيرهم من الخلق. وجاء الكتاب والسنة مملوئين بوصف الرب تعالى بالرحمة. وجاء أول كتابه: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. وسمَّى نفسه: الرحمن، الرحيم، الرؤوف، أرحم الراحمين. ولم يشتبه معنى ذلك على أحد من العرب، ولا شكَّ فيه أو تأوَّله أحد من الصحابة والتابعين، فثبت أنَّ وصفَ الله تبارك وتعالى بالرحمة على ما يفهمه الناس بفِطَرهم حتى لا يجوز أن يرتاب فيه مؤمن بالله وكتبه ورسوله. ولكن كثيرًا من الناس أبوا ذلك، وقالوا: "الرحمة" لغة: رقَّة القلب، كما فسَّرها بذلك أهل اللغة، وهذا مستحيل في حقِّ الله تبارك وتعالى. والمتكلمون يعرِّفونها تعريفًا يُعلم منه أنها مستحيلة في حق الله تبارك وتعالى، فلا بد من تأويل الرحمة إذا وُصف بها الرب عزَّ وجلَّ بالإحسان أو إرادته. فيقال لهم: أما تفسيرها برقة القلب فهو تفسير غير محقَّق، وإنما رقة القلب كناية عن الرحمة. وإنما فسَّرها بذلك المتكلِّفون من أهل اللغة وغيرهم، فإنَّ معنى الرحمة أظهر من أن يحتاج إلى تفسير. ولذلك لم يتعرَّضْ لها الأوائل كابن جرير وغيره. وهذه الألفاظ الواضحة المعنى إذا تكلَّف الإنسان تفسيرَها وقع غالبًا في التخليط؛ على أننا نعلم أنَّ أهلَ اللغة ولا سيما المتأخرين منهم يتسامحون كثيرًا في تفسير الألفاظ.

ونحن نجد من بقي على الفطرة من العرب يصفون الرجل بالرحمة مع ذهولهم عن القلب ورقَّته، ويصفون الربَّ عزَّ وجلَّ بالرحمة ولا يتصورون له قلبًا ولارقَّةَ قلب. وأما تفسير المتكلمين إياها، فينظر فيه، فإن كان ظاهر الاختصاص بالمخلوق فهو تفسير لرحمة المخلوق فقط. والمعنى المطلق إذا فُسِّر باعتبار تقيُّده كان التفسير مقيَّدًا. ولا ينافي ذلك ثبوتَ الرحمة لله عزَّ وجلَّ بغير ذاك التفسير المقيَّد. وإن كان تفسيرًا مطابقًا للرحمة المطلقة على الحقيقة فلا بد أن يكون ثابتًا لله تبارك وتعالى. وأما تأويلكم إياها بالإحسان أو إرادته، فمردودٌ عليكم. فإننا نعلم أنَّ العرب الذي سمعوا القرآنَ وصحبوا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانوا يفهمون من رحمة الله عزَّ وجلَّ معنًى وراء ذلك. فإن قلتم: وما هو؟ قلنا: هو الرحمة. فإن قلتم: وما هي الرحمة؟ قلنا: إن كنتم تعرفون العربية حقَّ معرفتها، فسؤالُكم تعنُّت؛ وإلا فأخبرونا: أيَّ لسانٍ تتقنونه حتى ننظر من يترجم لكم به! فإن قلتم: نحن نعرف اللسان المنطقي الذي يفسِّر بالحدِّ المبني على الجنس والفصل، كقولنا في الإنسان: حيوان ناطق. قلنا: قولكم هذا رأس مالكم في الحدود، وليس هو عندكم حدًّا صحيحًا، وقد ملأتم الكتب بالاعتراضات عليه والأجوبة! ومع ذلك فهو بألفاظ عربية، والعربي يفهم المقصود بالإنسان أوضحَ مما يُفهِم قولُكم: "حيوان ناطق".

فكذلك الرحمة المطلقة، لو حاولنا أن نحُدَّها بمنطقكم فقد لا يتأتَّى، وإن تأتَّى فقد يحتمل المناقشات. ولو سلِمَ لكان أخفى في الدلالة على المعنى من لفظ الرحمة! وأنتم تسمُّون الحدَّ: "القول الشارح"، والشرح إنما يُحتاج إليه فيما ليس بالواضح، وإنما يكون بأوضح من المشروح، ومعنى الرحمة بيِّن بنفسه. فإن أبيتم وقلتم: قلوبُنا غُلْف عن فهم الرحمة حتى تحدُّوها لنا حدًّا منطقيًّا. قلنا: فدعوها لأهلها، وهم المؤمنون بها! وهذا آخر الكلام معكم هنا. والله المستعان. ***

مسألة

مسألة اختلف الناس في البسملة، فقال بعضهم: هي آية من الفاتحة. وقال بعضهم: ليست من نفس السورة، وإنما هي آية نزلت للفصل بين السور. وتفصيلُ الأقوال وحججها (¬1) وبيانُ الراجح منها, له موضع آخر. وإنما أذكر هنا الحجج التي من نفس النظم الكريم، فأقول: مما احتج به النفاة على أنها ليست آية من الفاتحة بأنها لو كانت منها لكان الظاهر أن يقال: "والحمد لله رب العالمين" بالعطف؛ وبأن فيها "الرحمن الرحيم"، ثم جاء هذان الاسمان في الفاتحة. ومثل هذا التكرار إنما يقع في السورة الواحدة بعد فصلٍ بكلام تكون فيه مناسبة لذلك. فأما الحجة الأولى فليست بقائمة؛ لأنَّ للوصل شروطًا لم تجتمع هنا، واذكر قول الله عزَّ وجلَّ: {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [غافر: 65] (¬2)، وقوله فيما أخبر به من دعاء إبراهيم عليه السلام: {رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لىِ} [إبراهيم: 38، 39] (¬3)، وقوله تعالى فيما أخبر به عن بلقيس: {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل: 29 - 31]. ¬

_ (¬1) في الأصل: "حجاجها"، وكذلك فيما بعد: "الحجاج التي". وهو من سبق القلم. (¬2) تخريج الآية من المصنف. والمقصود سورة غافر، وكذا اسمها في المصاحف الهندية. (¬3) هذا التخريج أيضًا من المصنف.

وأما الحجة الثانية، فإن ابن جرير مع أنه يرى أن البسملة ليست من الفاتحة حكاها متبرِّئًا منها (¬1). وهي أيضًا غير سديدة، إذ قد يقال: إن الاسمين الكريمين ذُكِرا في البسملة تقريرًا لاستحقاق الله عزَّ وجلَّ البداءةَ باسمه، وإشارةً إلى حصول مطالب المبتدئ التي تقدمت الإشارة إليها. وذُكرا بعد الحمد لما يأتي. وقد حكى ابن جرير عن المحتجين أنهم يزعمون أن أصل التركيب: الحمد لله الرحمن الرحيم رب العالمين، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله (¬2). ولو صح لما أفادهم؛ لأن الاسمين الكريمين بعد الحمد لله على كل حال. ¬

_ (¬1) "تفسير الطبري" (1/ 146). (¬2) انظر ما يأتي في تفسير سورة الفاتحة (ص 93).

الرسالة الثانية في تفسير سورة الفاتحة

الرسالة الثانية في تفسير سورة الفاتحة

{الحمد لله}

بسم الله الرحمن الرحيم • [ل 57/ أ] {الْحَمْدُ لِلَّهِ} ذكر ابن جرير وغيره (¬1) أن هّذا تعليم من الله تعالى لعباده، فكأنه قيل: قولوا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ}. فعلى المسلم إذا تلا الفاتحة أن يستحضر أنه مع تلاوته كلامَ الله عزَّ وجلَّ متكلمٌ عن نفسه، كما علَّم اللهُ نبيَّه بقوله: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]، فكان - صلى الله عليه وسلم - يقول: "رب زدني علمًا" (¬2). وينوي بضمير المتكلم نفسه. وإذا قالها غيره نوى بضمير المتكلم نفسه. ولا خلاف بين أهل العلم في هذا. وإنما استشكل بعضهم ثبوت كلمة "قل" في أول الإخلاص والمعوِّذتين في القراءات المتواترة، إذ قد جاء عن بعض الصحابة تركُها، فكانوا يقرؤون: "بسم الله الرحمن الرحيم، هو الله أحد" (¬3). وأجاب الماتريدي بأنَّ "قل" في ذلك أمرٌ لكل أحد (¬4)، وعلى هذا فينبغي للتالي أن يستحضر أن كلمة "قل" أمرٌ من الله عزَّ وجلَّ له بقول ما يأتي، ثم يقول: "أعوذ برب الفلق" إلى آخرها عن نفسه. ¬

_ (¬1) "تفسير الطبري" - شاكر (1/ 139). وانظر: "معاني القرآن" للنحاس (1/ 23)، و"تفسير البغوي" (1/ 4) و"القرطبي" (1/ 209). (¬2) أخرجه ابن ماجه (251) والترمذي (3599) من حديث أبي هريرة. (¬3) انظر ما سبق في أول رسالة البسملة. (¬4) ومصدر المؤلف: "روح المعاني" للآلوسي (15/ 511).

وقيل: بل ينبغي أن يستحضر أنه مأمور بأن يقول: "قل أعوذ" أي قل لنفسك: قل. فيستحضر بقوله: "قل" أنه يأمر نفسه (¬1). وهذا بعيد، والأول هو الظاهر. ويؤيده ما صحّ عن أُبي بن كعب أنه سُئل عن المعوذتين، فقال: "سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "قيل لي، فقلت". فنحن نقول كما قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم" -. كذا أخرجه البخاري في تفسير سورة الفلق (¬2). وقد أخرجه الإمام أحمد وغيره (¬3). وفي بعض الروايات: "قيل لي: قل، فقلت، فقولوا. فنحن نقول" إلخ (¬4). وواضح أن التقدير: "قيل لي: قل أعوذ إلخ، فقلت: أعوذ إلخ، فقولوا، أي فليقل كل أحد منكم: أعوذ إلخ. والجمع بين هذا وبين قراءة "قل" هو ما قدَّمت، والله أعلم. فأما الفاتحة، فلا إشكال فيها. قال ابن جرير (¬5): "لدخول الألف واللام في "الحمد" معنًى لا يؤديه قول القائل: "حمدًا" بإسقاط الألف والسلام. وذلك أن دخولها (¬6) في "الحمد" مبني على (¬7) أن معناه: جميع المحامد". ¬

_ (¬1) "روح المعاني" (15/ 511). (¬2) برقم (4977) (¬3) أخرجه الإمام أحمد في "المسند" (21189) والنسائي في "الكبرى" (11653) وابن حبان (4429) وغيرهم. (¬4) "الدر المنثور" (15/ 784) والمصنف صادر عن "روح المعاني" (15/ 517). (¬5) في "تفسيره" - شاكر (1/ 138). (¬6) في الأصل: "دخولهم" سبق القلم. (¬7) كذا في مطبوعة التفسير التي كانت بين يدي المصنف. والصواب: "منبئ عن" كما أثبته الأستاذ محمود شاكر.

وهذا معنى ما يقوله النحاة وغيرهم أن "أل" للاستغراق وأنها هي التي يصلح محلَّها "كُلّ"، كما في قوله تعالى: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28]، أي خُلِق كلُّ إنسان. ولذلك يصح الاستثناء من مدخولها (¬1)، كقوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [العصر: 2، 3]. فالمعنى إذن: كلُّ حمدٍ. وقد روي عن ... (¬2). والحمد: مصدر حمِد يحمَد. ويأتي في اللغة نفسيًّا وقوليًّا. أمَّا النفسي، فكقولك لمن أهدى إليك عسلاً: طعمتُ من عسلك، فحمدتُه؛ ولمن أعطاك دواءً: استعملتُ دواءك، فحمدتُه. وتقول: جالستُ فلانًا، فحمدته. وقال الراجز (¬3): عند الصباح يحمد القومُ السُّرَى وأهل اللغة يفسرون هذا بالرضا والموافقة ونحو ذلك، وذلك تقريب. ولم أظفر بكلمة تؤدي معناه، ولكني أقول: إن معنى "حمدتُ العسل": رضيتْه نفسي، واستلذَّتْه، واستطابته، واستجادته. ثم في كل شيء بحسبه، إلا أنَّ هنا فرقًا لطيفًا، وهو أنّ الظاهر أن المزكوم إذا شَمَّ الوردَ الجيَّد فضَرَّه، والمريضَ إذا ذاق الطعامَ الجيِّدَ ¬

_ (¬1) في الأصل: "مدخولهم"، سهو. (¬2) في الأصل بياض بقدر ثلاثة أسطر تقريبًا. (¬3) قال المفضل: إن أول من قال ذلك خالد بن الوليد. وذكر الخبر. انظر: "مجمع الأمثال" (2/ 318) وذكر أبو عبيد أن المثل للأغلب العجلي. وقيل: للجليح الثعلبي. انظر: "فصل المقال" (254، 334). و"ديوان الشماخ" (384).

فتكرَّهه؛ لا يحسن به أن يقول: شممتُ الوردَ، فلم أحمده؛ ولا ذقت ذاك الطعام، فلم أحمده. فكأنه يشرط مع رضا النفس واستلذاذها واستطابتها واستجادتها أن يكون ذاك الشيء في نفسه أهلًا لذلك. فإذا انتفى أحد الأمرين لم يحسن أن يُطلق الحمدُ، فتدَّبرْ. فكأنَّك إذا قلت: طعمتُ من ذاك العسل، فحمدتُه؛ تقول: رضيته نفسي، واستطابته، وهو حقيق بالرضا والاستطابة عند النفوس السليمة. وأما القوليُّ، فمنهم من يفسِّره بالشكر وبالثناء وبالمدح. وأكثر المتأخرين يقول: إنه يوافق كلاًّ من هذه في شيء، ويفارقه في شيء. وأطالوا في ذلك. والذي نختاره أنَّ حمدَك لزيد مثلًا هو ثناؤك عليه (¬1) بذكر صفة له أو فعل تحمده القلوب السليمة والعقول المستقيمة. فالحمد النفسي واللساني مرتبطان، وكأنَّ الأصل هو النفسي، والمراد هنا إن كان ما يشملهما فذاك، وإن كان أحدهما فالآخر لازم له, لأن المعتَدَّ به من الحمد القولي هو ما طابق النفسيَّ. فإذا كان النفسيُّ كلُّه لله لزم أن يكون القولي كذلك. والحمد النفسي قد عُبِّر عن الكثير منه بالقول، وباقيه معرض لذلك، فإذا كان القوليُّ كلُّه لله لزم أن يكون النفسيُّ كذلك. على أنه إن كان المرادُ القوليَّ، فالمراد به ما كان، وما يكون، وما يمكن أن يكون. فيدخل في ذلك ما هو مقدر من الحمد على ما لم يعلمه الخلق، ولو علموه لحمدوه رضًا وقولاً، والحمد المقدر بما لم يعلموه [ل 3/ ب]، ولو علموه لحمدوا به. ¬

_ (¬1) في الأصل: "عليك"، سهو.

وأيًّا ما كان، فإنه يستلزم الحمد الفعلي، وهو فعل يقوم في الدلالة على الحمد النفسي مقامَ الحمد القولي كالتعظيم. ويستلزم أيضًا الحمدَ الحاليَّ، وهو كون الشيء على حال تدل على الحمد. وما من موجود إلا وهو على حال تنبئ عن حمد الله تعالى. وقد قيل: إن هذا معنى قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44]. وسيأتي تمام هذا إن شاء الله تعالى. واللام في {لِلَّهِ} للاستحقاق، والجملة تفيد القصر، كما تقرر في علم المعاني. والتقدير: الحمد أي كل حمد أو جميع المحامد مستحَقٌّ لله دون غيره. وعبارة ابن جرير (¬1): " {الْحَمْدُ لِلَّهِ} أي الشكر خالصًا لله جل ثناؤه، دون سائر ما يُعبد من دونه، ودون كل ما يرى (لعله: برأ) (¬2) من خلقه". والحاصل أن الجملة مع إثباتها استحقاقَ الحمد لله عزَّ وجلَّ تنفي أن يكون لغيره دونه أو معه. ثم أقام الله تعالى الحجة على ذلك بقوله: • {رَبِّ الْعَالَمِينَ} و"الرَّبُّ" هنا بمعنى المالك المدبِّر التدبيرَ التامَّ، لا كما يرى أحدنا شجرةً يغرسها أو سَخْلةً ينتجها، فإنَّ أحدنا عاجز عن تمام التربية، إذ لا يعلم بكل ما يصلح للتربية، ولا يقدر على كل ما يعلم. والله عزَّ وجلَّ هو اللطيف الخبير الملك القدير. ¬

_ (¬1) في "تفسيره" (1/ 135). (¬2) هو الصواب، و"يرى" تصحيف.

و"العالمين": جمع أو اسم جمع لِعالَم (¬1). وجاء عن بعض السلف أنَّ المراد بهم الإنس، على أنَّ كل صنف منهم عالَم، وكل قَرْن منهم عالَم. وعن جماعة من السلف قالوا: الجنُّ والإنس، على نحو ما تقدَّم. وقال غيرهم: الجنّ والإنس والملائكة. وقال آخرون: بل كلُّ صنفٍ من أصناف الخلق. أخرج ابن جريرُ (¬2) عن ابن عباس قال: "الحمد لله الذي له الخلقُ كلُّه: السماواتُ كلهن ومن فيهن، والأرض كلهن ومن فيهن، وما بينهنَّ مما يُعلَم ومما لا يُعلم". وهذا هو الظاهر المناسب للسياق، كما لا يخفى. وإذ كان سبحانه وتعالى هو ربَّ العالمين، فإنَّ كل حمد يقع في العالمين فهو سبحانه وتعالى المستحقُّ له. فإذا كان مثلًا يُحمد العسلُ لحلاوتِه ونفعِه وغير ذلك، فالمستحقُّ للحمد هو الذي خلَقَه وهيَّأه وأقدرَه ويسَّرَه. وها هنا إشكالان (¬3): الأول: أن يقال: قد أثنى الله تبارك وتعالى على بعض خلقه، وأمرهم بالثناء على بعضهم، وكان الأنبياءُ يثنون على بعض الخلق؛ فإذا كان لا ¬

_ (¬1) "روح المعاني" (1/ 81). (¬2) في "تفسيره" (1/ 144) وانظر الأقوال السابقة فيه، وفي "زاد المسير" (1/ 12) وغيرهما. (¬3) وسيذكر إشكالًا ثالثًا ويجيب عنه.

يستحقُّ شيئًا من الحمد إلا اللهُ عزَّ وجلَّ لزم أن يكون ذلك الثناءُ باطلاً؛ لأنه حمدٌ لمن لا يستحقُّه. وقد ظهر لي جوابان: الأول: أن يقال: إن الثناء على المخلوق هو في الحقيقة ثناء على الخالق، كما أنَّ الثناء على العسل بالحلاوة والنفع ونحو ذلك هو في الحقيقة ثناءٌ على الخالق الذي جعله كذلك. أو لا ترى أنَّ الثناء على الخط بالحسن والإتقان إنما هو ثناء على كاتبه؟ فكذلك الثناء على الكاتب إنما هو ثناء على ربِّه الذي خلقه ويسَّره وعلَّمه وأقدَره. هذا حكم الثناء في ذاته. فأما الأجر والثواب فإنه يتوقف على النية وموافقة الشرع. فلا يُعَدُّ الثناءُ على الكاتب بحسن الخطِّ وجودته ثناءً على الله عزَّ وجلَّ باعتبار الأجر والثواب إلا أن ينوي المُثْني ذلك ويشير إليه. فلا يُشكِلْ عليك هذا! وقد قال بعض المدققين: إن عبادة المشركين لآلهتهم هي في الحقيقة عبادة لله. ووجهه ما سمعت، فإنَّ العبادة داخلة في الحمد، وليس المراد أن حكمها حكم عبادة الله، بل هي في الحكم عبادةٌ لغير الله وشركٌ، فلا تغفلْ. هذا، والتحقيق في عبادة غير الله عزَّ وجلَّ الاكتفاءُ بأنها حمدٌ لغير مستحقه، فهي باطلة البتة. ولا حاجة للتعمق، فإنَّ معنى "الحمدُ لله": الحمد مستحَقٌّ لله، لا أنه لا يقع إلا لله. الجواب الثاني: أن المراد بالاستحقاق الاستحقاق الذاتي. فالذي يستحق أن يُحمَد استحقاقًا ذاتيًّا هو الله عزَّ وجلَّ وحده، ولكنه سبحانه

وتعالى قد يجعل لبعض خلقه حقًّا في أن يُحمَد، فيُثني هو سبحانه عليه أو يأمر بحمده أو يأذَن فيه. فإن قيل: فهل يجعل الله تبارك وتعالى الحقَّ لغير المستحق؟ قلت: أما على إثبات الحكمة، فالجواب أن الله تبارك وتعالى إنما يجعل لبعض خلقه حقًّا في أن يُحمد إذا اقتضت حكمته سبحانه وتعالى أن يجعل له ذلك، واقتضاء الحكمة لا أسمَّيه استحقاقًا. فإن أبيتَ إلا أن تسمِّيه فهو استحقاق لأن يجعل له حقًّا أن يُحمد. وليس ذلك باستحقاق لأن يُحمد، وإنما يستحق أن يُحمد بجعل الله عزَّ وجلَّ له حقًّا؛ على أنَّ الاقتضاءَ التامَّ لا يتخلَّف عن الجعل. وهذا كما تقول في التحريم مثلاً: إن الله تبارك وتعالى إنما حرَّم لحم الخنزير لاقتضاء حكمته تحريمَه، وإن اقتضاء الحكمة ليس هو نفسُه موجِبًا للحرمة، وإنما هو مقتضٍ لأن يحرَّمه الله، فلا يكون حرامًا حتى يحرِّمه الله عزَّ وجلَّ. ثم تقول: إنه إذا تمَّ اقتضاءُ الحكمة للتحريم، فلا بد أن يقع التحريم. ثم اختلف القائلون بهذا، فزعم بعض الناس أن الإنسان قد يدرك بعقله تمامَ اقتضاء الحكمة لتحريم شيء مثلاً، فيَعلم بذلك حكمَ الله تعالى بتحريمه، فيكون حرامًا عليه، لا لمجرد اقتضاء الحكمة، بل لقيام البرهان على أن الله تعالى حرَّمه. وأهل الحق على خلاف هذا القول، لقول الله عزَّ وجلَّ: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] وغيرها من الأدلة. ووجه ذلك أن العقل البشري لا يتهيأ له إدراكُ تمامِ اقتضاء الحكمة، ولكننا نقول: إذا تمَّ

اقتضاءُ الحكمة لتحريم شيء، فإن الله تبارك وتعالى يحرِّمه بواسطة رسوله، وقدرةُ الله تبارك وتعالى محيطة، وتدبيرُه شامل. فلمَّا تمَّ اقتضاءُ الحكمة لتحريم الخمر حرَّمها الله تعالى بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -. واختلفت الحكمة باختلاف الناس، فمن كان من الناس بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد تمَّ اقتضاءُ الحكمة تحريمَها عليهم حين إنزال التحريم. ومن كان في بيته فإنما تمَّ اقتضاءُ التحريم عليه حين يسَّر الله تعالى بلوغَ الخبر إليه، وهكذا. فإن قلتَ: فالأحكام التي لا يُعذَر بجهلها؟ قلتُ: الذي لا يُعذَر بالجهل لا بدّ أن يكون مقصِّرًا، فتعلقُ الأحكام به يكون عند ثبوت تقصيره؛ على أن التحقيق أن عقوبته إنما هي على تقصيره وإن اعتبرت بغيرها. كما أقوله في السكران إذا أُخِذ بمعاصي ارتكبها حالَ زوالِ عقله بسكره: أن مؤاخذته بذلك هي في الحقيقة عقوبةٌ على تناوله المسكِر. فإنَّ عقوبةَ الذنب تزداد بازدياد ما ترتَّب عليه من الفساد. ولإيضاح هذا موضع آخر، والله أعلم. الإشكال الثاني: أن يقال: نفيُ استحقاقِ المخلوق للحمد الذاتي البتة إنما يتخرَّج على قول المجبرة الذين يقولون: ليس للإنسان فعل ولا اختيار، وإنما الله تعالى هو الذي يحرِّكه ويسكَّنه ويتصرَّف فيه كما يشاء، لا فرق بينه وبين الجماد في ذلك. والجواب - بعون الله وله الحمد -: أنَّ الله تبارك وتعالى إنما خلق الخلقَ لعبادته. قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] , وهم

وأجسامهم وقواهم وأموالهم وكل شيء لهم مِلكُه. ووجودهم وأجسامهم وأرواحهم وعقولهم وأسماعهم وأبصارهم وغير ذلك نعمةٌ عليهم منه سبحانه وتعالى. وكذلك هدايتُه لهم وتيسيرُه إياهم للخير وغيرُ ذلك نعمةٌ منه عليهم. قال تعالى: [ل 57/ ب] {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل: 18]. ثم وعدهم سبحانه من الثواب بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. وتوعَّدهم من العقاب بما لا يكاد أحدهم يقوَى على تصوُّرِ وصفه، فضلاً عن مشاهدته، فكيف بالوقوع فيه، فكيف بالخلود. فلما كانوا مِلكًا له، وإنما خلقهم لعبادته، فالمحمود من أعمالهم هو ما كان عبادةً لربَّهم عزَّ وجلَّ. وعبادتهُم لربهم لا تفي بأداء ما عليهم من شكر نعمه، ومع ذلك فإنهم يعملونها راجين عليها الثوابَ، خائفين من العقاب أو النقصان. ولا تلتفِتْ إلى تنطُّعاتِ بعض المتصوفة! وإذا كان الأمر كذلك، فالمؤدِّي ما عليه طامعًا بالثواب العظيم على فعله، خائفًا من العقاب أو النقصان إن لم يفعله = لا يستحقُّ استحقاقًا ذاتيًّا أن يُحمد، ولكن الله تبارك كما تفضَّل على الخلق بخلقهم، وتفضَّل عليهم بما لا يُحصَى من النعم التي منها: هدايةُ من هداه منهم، وتوفيقه وتيسيره للعمل الصالح؛ تفضَّلَ عليهم بأن أثنى عليهم، وأمر أو أذِن بحمدهم. فله الحمد في الأولى والآخرة. الإشكال الثالث: أن يقال: إذا كان كلُّ شيءٍ محمودٍ في العالم إنما يستحقُّ الحمدَ عليه استحقاقًا ذاتيًّا اللهُ عزَّ وجلَّ؛ لأنه ربُّ العالمين ومالكُهم ومدبِّرُهم، فإنَّ الشيطان يلقي في أنفسنا السؤال عن الذمِّ، فهل عندك من بيانٍ دامغٍ لوسوسته؟

والجواب بتوفيق الله تبارك وتعالى: أنَّ الله تبارك وتعالى ربُّ العالمين، وهو العليّ القدير الحكيم العليم، فلا يقع في العالم حركةٌ ولا سكون إلا والحكمةُ اقتضت أن يقع، حتى الفواحش التي يبغضها الله عزَّ وجلَّ ويعذِّب عليها, لولا أن الحكمة اقتضت أن تقع لما وقعَتْ. وقد أوضحتُ هذا في (الفرائد) (¬1). ولْنقرِّبْ ذلك بمثال، فنقول: إذا علم الحاكم من إنسان أنه خائن، ثم أراد أن يجازيه بما يستحقُّ، ولم تكن قد ظهرت خيانته ظهورًا يقف عليه الأشهاد فيعرفوا استحقاقه العقوبةَ، فرأى الحاكم أن يقيم شهودًا من حيث لا يعلم الرجل، ويأتمنه على شيء يريد لذلك أن يخون، فتظهر خيانته، ويعرف الأشهاد استحقاقَه للعقاب. ألا ترى فعل الحاكم هذا، وهو تعريضُه الرجلَ للخيانة وتمكينه له منها فعلًا تقتضيه الحكمة؟ أَوَلا ترى أنَّ وقوعَ الخيانة من الرجل أوفقُ لمقتضى الحكمة، وأنَّ ذلك لا ينافي أن تكون تلك الخيانةُ بالنظر إلى ذلك الخائن قبيحةً يستحقُّ أن يعاقب عليها؟ فتدبَّرْ وأمعِنْ النظرَ يتبيَّنْ لك إن شاء الله أنَّ جميع الحركات والسكنات التي تقع في العالم إنما تقع على مقتضى الحكمة، فهي بالنظر إلى تعلُّقِها بخلق الله عزَّ وجلَّ وتمكينِه وقضائه وقدرِه محمودةٌ لا يلصق بها الذمُّ البتة، وإنما يعلَق الذمُّ ما يعلَقه منها من جهة الخلق. ولا بدع أن يخفى على الإنسان وجهُ الحكمة في أمور كثيرة، فأين علمه من علمِ عالمِ الغيب والشهادة اللطيفِ الخبير! وأين حكمته من حكمة أحكمِ الحاكمين! ¬

_ (¬1) قوله: "وقد أوضحت ... الفرائد" أضافه المؤلف فيما بعد، ولكن لم نجد في المخطوط شيئًا من الفرائد التي أحال عليها.

وبهذا يتبيَّن أنَّ لله الحمدَ على كلَّ شيء، وفي كلِّ حال. وأنَّ المسلم إذا أصابته مصيبة، فقال: الحمد لله على كل حال، فليس ذلك من باب قول العامة: "يدٌ ما تقدِرُ على كسرها قبَّلْها" (¬1)، وإنما هو من باب العلم أن كل ما يقع فعلى مقتضى حكمة الله تعالى وَقَع، وأنه من تلك الجهة محمودٌ ينبغي حمدُ الله تعالى عليه. وقد قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44]. وقال بعضُ السلف في حق الكفار: "إنهم يدخلون النار وحمدُ الله في قلوبهم"، وذلك لأنه انكشف لهم أنَّ دخولهم النار هو الذي تقتضيه الحكمة والعدل المحض. ولولا الطمع في الرحمة وعدم الصبر على الألم لرضُوا بمقامهم في النار. ولولا انكشافُ الحقيقة لأهل الجنة لما طاب لهم عيش، وأقاربُهم في النار، بل ولا غيرُ أقاربهم؛ فإنَّ نفوسَ أهل الجنة بغاية الطهارة، فما بالهم كما قال الله عزَّ وجلَّ: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المطففين: 34 - 36]. إنما ذلك لأنه انكشف لهم حقيقة الأمر، وهي أنَّ تعذيبَ الكفار هو الأمر المطابق للحكمة، الموافق للعدل، الذي تفرح النفوس الطاهرة بوقوعه. وقد يقع شيء من ذلك في الدنيا، فإنك لو رأيت أخاك وأحبَّ الناس إليك أخذ يتعدَّى على الضعفاء والأرامل والأيتام، وأكثر من ذلك، ولم يُصغِ إلى لوم لائم، حتى تعدَّى على بعض الضعفاء [ل 58/ أ] فاغتصبَه حليلتَه، ¬

_ (¬1) ورد في "الأمثال المولدة" للخوارزمي (124) بلفظ: "يدٌ لا يمكنك قطعُها قبَّلْها".

وعلى بعض اليتامى فذبحه كما تُذبح الشاة، وغير ذلك من القبائح التي تعقل النفوس قبحَها، ثم رأيت بعد ذلك كلِّه الحاكمَ قد أخذ أخاك، وأمر بعقوبته = فإنك إن كان في قلبك حبٌّ للحق وفرحٌ بالخير تفرَحْ بعقاب أخيك، وتلتذَّ به. هذا مع تراكمِ الحجب في الدنيا، وخفاءِ الحقائق، ودنسِ النفوس. فما بالك بأهل الجنة الذين هُذِّبوا ونُقُّوا! والظاهر أن تمام الطهارة وانكشاف الحقائق إنما يقع بعد دخول الجنة. وعلى هذا فمن فضل الله تعالى ورحمته أن أذن للمؤمنين في الشفاعة قبل دخولهم الجنة كما في الأحاديث الصحيحة المفسرة. وانظر الحديث الصحيح: "يَلقَى إبراهيمُ أباه، فيقول: يا ربِّ إنَّك وعدتَني أن لا تُخزيني يومَ يُبعثون، وأيُّ خزي أخزَى من أبي الأبعد؟ فيقول الله: إني حرَّمتُ الجنة على الكافرين. ثم يقالً لإبراهيم: ما تحت رجليك؟ انظر. فينظر، فإذا هو بذِيخٍ مُتلطِّخٍ، فيؤخَذ بقوائمه، فيُلْقَى في النار". هكذا في "صحيح البخاري" (¬1). وثبت في الروايات الصحاح عند غيره: "فينظر، فإذا ذيخٌ متلطخٌ في نتنه" (¬2). وفي أخرى: "فيمسخ الله أباه ضبعًا، فيأخذ بأنفه، فيقول: يا عبدي، أبوك هو؟ فيقول: لا، وعزَّتك! ". ¬

_ (¬1) برقم (3350). (¬2) كذا في الأصل. ومصدر المؤلف: فتح الباري، كما سيأتي. وفيه: "فإذا ذيخ يتمرَّغ في نتنه". وهو ما ورد في "السنن الكبرى" للنسائي (11375). وانظر: "تغليق التعليق" (4/ 274).

وفي أخرى: "فإذا رآه كذا تبرَّأ منه، قال: لست أبي". راجع "فتح الباري" في تفسير سورة الشعراء، باب {وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} [الشعراء: 87] (¬1). وتأويل الحديث أنَّ الله تبارك وتعالى يكشف لخليله إبراهيم عليه السلام عن حقيقة حال آزر، فإذا انكشفت له علِمَ أنه لا يصلح إلا للنار، ولا يصلح لإبراهيم إلا أن يرضى له بها ويبالغ في البراءة منه. وقول إبراهيم - وقد قيل: أبوك هو؟ -: "لا وعزتك"، وفي الرواية الأخرى: "لستَ أبي" = إنما هو - والله أعلم - مبالغة في البراءة منه، كما يقول الرجل لابنه الذي أكثَرَ من مخالفته وعصيانه: لستَ ابني. والله أعلم. وبقية الكلام على هذا الحديث لها موضع آخر. وفي قوله تعالى: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} ردٌّ على المشركين الذين يزعمون أنَّ لمعبوداتهم تدبيرًا غيبيًّا فوَّضه الله تعالى إليها. فبيَّن سبحانه أن الربوبية والتدبير له وحده. وبيان ذلك أن التصرفات التي تقع في الكون على وجهين: الأول: ما يكون بمجرد أمر الله عزَّ وجلَّ. الثاني: ما يكون على يد مخلوق من خلقه. وانفرادُه سبحانه بالأول ظاهر. وأما الثاني فهو إما غيبي، وإما عادي. ¬

_ (¬1) "فتح الباري" (8/ 500).

والمراد بالغيبي ما هو خارج عن الحسِّ والمشاهدة، ومنه: تصرُّف الملائكة. وقد بيَّن الله عزَّ وجلَّ بآيات أخر أنه بيده، وأن الملائكة إنما يتصرفون بأمره، فلا شأن لهواهم وإرادتهم فيه، على أنَّ هواهم وإرادتهم طاعةُ خالقهم وتنفيذُ أمره ومحبتُه وتعظيمُه ومحبةُ من يوحِّده، وبغضُ من يدعو غيره حتى من يدعوهم وعبادتهم. قال تعالى: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 26 - 29]. وقوله سبحانه: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ} الآية من باب الفرض، كقوله تعالى لرسوله: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 64 - 65]. وقال تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 49 - 50]. وأكثر المشركين يتوهمون أن حال الملائكة كحال البشر في تصرُّفهم باختيارهم ظاهرًا وبهواهم ورغبتهم، ولذلك يزعمون أنه يقع منهم الطاعة والعصيان، وأنهم يتغالبون ويتحاربون، ويتسالبون ويتناهبون وغير ذلك. ثم

يبنُون على هذا أنه كما أنَّ للناس أن يستعين بعضها بعضًا، ويسأل بعضهم بعضًا، ويعظِّم بعضهم بعضًا، لأجل ما أوتوه من الاختيار في النفع والضرّ؛ فدعاؤهم الملائكة سائغ من باب أولى؛ لأنهم على كل حال أعلى من البشر وأعظم قدرة. وقد أبطل الله تعالى ذلك بما مضى وبقوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] على ما حققته في "رسالة العبادة" (¬1). والفرق بين البشر والملائكة واضح. وهو أنَّ البشر في دور الابتلاء ليظهر من يطيع منهم ممن يعصي. وذلك يتوقف على التمكين والاختيار، فلذلك جعله الله تعالى لهم. والملائكة في دور الطاعة المحضة والعبادة الخالصة، إلى غير ذلك من الفروق، كما أوضحته في "رسالة العبادة" (¬2). أما مشركو العرب فكانوا يعترفون بأنَّ التدبير الغيبي لله وحده. وإنما يثبتون للملائكة الشفاعة ويعبدونهم لأجلها. قال الله عزَّ وجلَّ: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس: 31، 32]. وقال سبحانه: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ ¬

_ (¬1) رسالة "العبادة" (ص 348 - 361، 518 - 521). (¬2) رسالة "العبادة" (ص 520، 789 - 794).

الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون:84 - 89]. في آيات أخر قد ذكرتُ طائفة منها، ونبَّهتُ على الباقي في "رسالة العبادة" (¬1). وبعد اعترافهم بما ذكر كانوا يفرُّون إلى {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، فأبطل الله تعالى ما يتوهَّمونه من الشفاعة، وبيَّن أنَّ ما هو حقٌّ منها لا يقتضي أن يدعوا من دونه، وتمام هذا في "رسالة العبادة" (¬2). ومنه: تصرُّفُ الجن، وقد بسطت الكلام عليه في "رسالة العبادة" (¬3)، وحاصله: أن الجن وإن كانوا في دور الابتلاء كالإنس، إلا أن تصرُّفهم لا يتعدى إلى الإنس، وإنما سلَّطهم الله تعالى على الوسوسة، ثم شرع لنا ما ندفعها به. فأما تسليطهم على الإيذاء فإنه نادر، ويكون بتسليطٍ خاصٍّ من الله تعالى عقوبةً لمن يستحقه من الإنس، ثم شرع له ما يتمكن به من دفع ذلك من التوبة والاستغفار والتعوذ. فتصرُّفُهم المتعلِّقُ بالإنس في غير الوسوسة شبيهٌ بتصُّرف الملائكة، وإنما يخالفه في أنه قد يكون معصية، وإنما أذن لهم فيها إذنَ تسليطٍ كما يسلِّط الله تعالى الظالمَ من الإنس على الظالم. ومنه: تصرُّفُ أرواح الصالحين الموتى، وهذا إن قام برهان على ثبوت ¬

_ (¬1) رسالة "العبادة" (ص 715 - 724). (¬2) رسالة "العبادة" (ص 348 - 361، 851 وما بعدها). (¬3) رسالة "العبادة" (ص 817 - 820، 877 - 878).

بعض الجزئيات منه، فحالهم كحال الملائكة، بل أولى بالتوقف على أمر الله عزَّ وجلَّ، كما أوضحته في "رسالة العبادة" (¬1). ومنه: [تصرُّفُ] (¬2) أرواحِ الأحياء بالسحر ونحوه. وقد قال تعالى في السحر: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 102]، يريد والله [أعلم] (¬3) الإذنَ الخاصَّ، وهو التسليطُ الخاصُّ لحكمةٍ تقتضي ذلك. وبالجملة فالتصرُّفُ الغيبيُّ كلُّه بيد الله. وسيأتي لهذا مزيد إن شاء الله تعالى (¬4). • {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} في الإتيان بهما زيادةُ إيضاحٍ لاستحقاقه سبحانه وتعالى الحمدَ، وبيانُ أنَّ عظمتَه التي دلَّ عليها قولُه: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} لا تنافي رحمتَه، وأنَّ تدبيرَه للعالمين قائمٌ على الرحمة العامة، وإن اقتضت السخطَ في بعض الأشياء. وفي الحديث القدسي: "إن رحمتي سبقت غضبي". وفي رواية: "غلبت غضبي". والحديث في الصحيحين (¬5). ¬

_ (¬1) رسالة "العبادة" (ص 816، 878). (¬2) زيادة يقتضيها السياق. (¬3) زيادة يقتضيها السياق. (¬4) لم أجد هذا المزيد في الأصل. (¬5) البخاري (7553) ومسلم (2751) من رواية أبي هريرة.

وفيه ردٌّ لبعض شبهات المشركين الذين يشركون بالله، فيجعلوا (¬1) بعض الحمد المختص به لغيره بدون إذنه. قال بعضهم كقدماء المصريين: إن ربَّ العالمين في نهاية العظمة والجلالة والكبرياء، والناسُ في غاية الحقارة، فلا ينبغي لهم أن يتعرضوا لأن يعبدوه، بل ولا أن يذكروا اسمه؛ لأن ذلك إخلالٌ بحقِّ عظمته، وإنما قصاراهم أن يعبدوا الملائكة، ثم الملائكة يعبدون الله (¬2). وقال بعضهم: إننا لكثرة ذنوبنا وخطايانا لا نطمع في أن يجيب الله تعالى دعاءنا، فدعَوا الملائكة وغيرهم {وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18]. وتمام هذا في رسالة "العبادة" (¬3). هذا، وقد زعم بعضهم - كما تقدم في الكلام على البسملة (¬4) - أن "الرحمن الرحيم" مؤخران عن تقديم، وأن التقدير: "الحمد لله الرحمن الرحيم رب العالمين". ولا أدري ما الباعث على هذا إلا أن يكونوا رأوا اسمي الرحمة متصلين بالجلالة في البسملة، فتوهَّموا أنه يلزم اتصالهما بها هنا أيضًا. وهذا وهمٌ تكفي حكايتُه عن ردِّه! ومناسبة اسمه "الرحمن" لاسم "الرب" واضحة، وقد قال تعالى: {جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ} [النبأ: 36، 37]. ¬

_ (¬1) كذا في الأصل. (¬2) رسالة "العبادة" (ص 688 وما بعدها). (¬3) (ص 851 وما بعدها). (¬4) انظر (ص 71).

• {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} في "مالك" عدة قراءات فصَّلها في "روح المعاني" (¬1). والذي في السبع منها: "مَلِك" بفتح، فكسر، وبالجرِّ، و"مالك" بإثبات الألف والجرِّ أيضًا (¬2). وكلا الوصفين ثابت لله تبارك وتعالى. ويوم الدين هو يوم القيامة، كما فسّره القرآن في آخر سورة الانفطار وغيرها. والدين هنا: المجازاة. وشواهده من الكتاب والسنة والآثار وكلام العرب كثيرة. أخرج ابن جرير (¬3) عن ابن عباس: "يوم الدين" قال: يوم حساب الخلائق، وهو يوم القيامة، يدينهم بأعمالهم، إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشرٌّ، إلا من عفا عنه، فالأمرُ أمرُه. ثم قال: {لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54] (1/ 51) (¬4). ومن فوائد هذه الصفة: تقريرُ استحقاقِ الربِّ عزَّ وجلَّ للحمد واختصاصِه به، فإنَّ ظهورَ الفضل والعدل يومئذ أتمُّ، واختصاصَه بالرب تعالى أظهر، كما قال سبحانه: {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ ¬

_ (¬1) (1/ 85). (¬2) وهي قراءة عاصم والكسائي. وقرأ الباقون: "مَلِك". انظر: كتاب "الإقناع" لابن الباذش (595) وغيره. (¬3) في "تفسيره" (1/ 156). (¬4) أحال على نسخة التفسير التي كانت عنده.

لِلَّهِ} [الانفطار: 19]، فإنَّ الخلق في الدنيا (¬1) متمكنون من كثير من الأعمال التي يُحمدون عليها، وإن كان في الحمد ما تقدم، وتكون منهم باختيارهم؛ فأما يوم القيامة فليس فيه شيء من ذلك. وإنما فيه الشفاعة، وهي نفسها لله عزَّ وجلَّ. قال سبحانه: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر: 44]. ولا تكون إلا بعد إذنه ورضاه. قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه: 109]. [ل 58/ ب] وقال تعالى في الملائكة: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]. والآيات في ذلك كثيرة، والأحاديث الصحيحة في الشفاعة مبيِّنة لذلك. ومن فوائدها: تقريرُ ربوبيته عزَّ وجلَّ، فإنَّ ظهورَ مُلكه بالضم وملكه بالكسر واختصاصَه بهما وظهورَ تدبيرِه المتقَن يكون يوم القيامة أوضحَ وأظهَر. ومنها: تقريرُ رحمته عزَّ وجلَّ. وفي "الصحيحين" (¬2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن لله مائة رحمة أنزل منها رحمةً واحدةً بين الجن والإنس والبهائم والهوامِّ، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطِف الوحشُ على ولدها. وأخَّر الله تسعًا وتسعين رحمةً يرحم بها عبادَه يوم القيامة". ومنها: تقريرُ توحيده، والردُّ على المشركين الذين يعبدون الملائكة وغيرهم لينفعوهم يوم القيامة. فمنهم من يقول: إن معبوده يأخذ يوم القيامة ¬

_ (¬1) في الأصل: "الدين"، من سبق القلم. (¬2) من حديث أبي هريرة. وهذا لفظ مسلم (2752). وانظر: البخاري (6000).

بيده ويُدخله الجنة. ومنهم من يقول: إنه يشفع له، ولا بدَّ، على معنى أنه يشفع لمن شاء وهوِي، وأنه يهوى من كان يدعوه ويلتجئ إليه ويعظِّمه، وأنَّ شفاعته مقبولة حتمًا، سواء في ذلك أكان المشفوع له مستحقًّا في حكم الله أن يشفع له أم لا. ولهم في هذا تخاليط وأغاليط قد سرى كثير منها إلى المسلمين. والله المستعان. وتمام الكلام على هذا في "رسالة العبادة". [ل 59/ أ] والعبادة: اختلفت عباراتهم في تفسيرها. فقيل: الطاعة. وقيل: الخضوع والتذلُّل. وقيل: الطاعة والخضوع مع المحبة. وهذه العبارات صالحة لتفسير عبادة الله عزَّ وجلَّ، فأما العبادة المطلقة، فلا؛ لأنَّ الخادم مثلًا يطيع مخدومه، ويخضع له، ويتذلَّل، وهو مع ذلك يحبُّه، ولا يكون ذلك عبادةً منه لمخدومه اتفاقًا. وقيل: أقصى درجات الخضوع. وكاد المتأخرون يطبقون عليه، مع أنه لا يفسِّر لنا العبادة المطلقة. أما أولاً فلأنَّ للخضوع درجات، فما المراد بالأقصى منها؟ وأما ثانيًا فلأنه إن أريد الخضوع الحسِّي فنحن نرى بعض درجاته عبادة، ثم نرى أبلغ منها بكثير ليس بعبادة. فالطائف بالبيت راكبًا إذا مرَّ على الحجر الأسود، فوضع مِحجَنَه عليه، ثم استلم طرفَ المِحجن؛ كان ذلك عبادة لله. والفقير إذا أخذ نعلَ الغني، فقبَّل ظاهرها، ووضعها على عينيه ورأسه؛ لا يكون ذلك عبادة.

وإن أريد الخضوع النفسي، فإن أريد به الخشوعُ وجمع الهمة، فحاله كحال الحسِّي؛ فإنا نجد كثيرًا من الناس يدخل على الأمير الكبير، فيقف أو يجلس خاشعًا جامعًا نفسه على استماع كلام الأمير والإقبال عليه، لا يكاد يخطر له خاطر إلا في الإقبال عليه. ونجد كثيرًا من الناس يقوم في صلاته مناجيًا ربَّه، ولا يخشع ذلك الخشوع. والخشوع في الصلاة عبادة وإن قلَّ، وكذلك إذا وقع في الاعتكاف والذكر وغيرها. والخشوعُ للأمير ليس بعبادة. وإن أريد ما يجمع الحسِّي والنفسي بالمعنى المذكور، فحاله كما تقدم والمثال السابق آتٍ فيه. وإن أُريد أمر آخر، فما هو؟ وقيل: العبادة: التأليه، فمن اتخذ شيئًا إلهًا فقد عبَدَه. وهذه أقرب عباراتهم، ولكن كلمة "إله" غير مكشوفة المعنى، وقد اختلفت العبارات في تفسيرها. وفيها نحو ما في هذه العبارات التي في تفسير العبادة. وسنذكر ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى. وأقرب العبارات وأشهرها في تفسير "الإله" هو: المعبود، أو المعبود بحق. فكلٌّ من العبادة والإله غيرُ بيِّن المعنى. ثم فسَّروا كلاًّ منهما بما يتوقَّف على معرفة الآخر. وقد اعتنيتُ بهذه المسألة، وجمعتُ فيها "رسالة العبادة"، ونظرتُ في مواقع هاتين الكلمتين وما يُقصد بهما في الكتاب والسنة، وتتبعتُ ما تيسر من معرفة أحوال من حكم الله عليه بالشرك، وفتَّشتُ عما كانوا عليه اعتقادًا وقولًا وعملاً، وتلخصت في تفسير هاتين الكلمتين.

ثم وقفتُ على عبارة لبعض (¬1) المشاهير من المعاصرين (¬2)، وهي أن العبادة هي: "كلُّ تعظيمٍ وتقرُّبٍ قوليٍّ أوعمليٍّ لصاحب السلطان العلوي والقدرة الغيبية". وذكر أن هذا تحقيقٌ لمعنى "العبادة" أو حدٌّ لها. وكلُّ ما قيل غيره في تعريفها فهو رسم (¬3). وذكر في موضع آخر سبب تسمية مشركي العرب دعاء الأصنام وغيرها "عبادة"، وتسميتها "آلهة". قال: "وهو أنهم كانوا أهل اللغة، وكلُّ ما يُدعى ويُعتقد أنَّ له سلطةً وتأثيرًا وراء الأسباب المشتركة بين جميع المخلوقات، فاسمه في لغتهم إله ... وهذا الدعاءُ وكلُّ تعظيمٍ وعملٍ يُوجَّه إلى من يُعتقد فيه ما ذُكر، فاسمه في لغتهم عبادة" (¬4). ثم قال بعد كلام: "وينفرد اسم الإله بإطلاقه على ما عبد ولم يُعتقَد أنَّ له تأثيرًا في الخلق والتدبير كأصنام جاهلية قريش وغيرها؛ فإنهم لم يتخذوهم أربابًا، وإنما عبدوهم بالدعاء والذبائح ونحو ذلك، ليقرَّبوهم إلى الله تعالى ويشفعوا لهم عنده". ثم قال بعد قليل: "فشرك الإلهية هو: كل دعاء وتعظيم وعمل باعثُه اعتقادُ تأثيرِ المعظَّمِ الموقَّرِ عند الله تعالى بحمله على جلب نفع أو دفع ضر، لولاه لم يفعله تعالى بمحض إرادته، فيكون له اشتراكٌ في حصول ذلك ¬

_ (¬1) في الأصل: "وقفت لعبارة على بعض" من سبق القلم. (¬2) الظاهر أنه السيد رشيد رضا صاحب المنار. (¬3) انظر: "تفسير المنار" (11/ 201) و"الوحي المحمدي" (ص 174). (¬4) لم أجد هذه العبارة والعبارة الآتية في "تفسير المنار" و"الوحي المحمدي".

بتأثيره في إرادة الله، تعالى الله عن تأثير المؤثرات الحادثة". فتحصَّل من عبارته الثانية أن قوله في الأولى: "لصاحب السلطان العلوي والقدرة الغيبية" المراد بها أن يكون كذلك في ادعاء واعتقاد الذي يدعوه ويتقرب إليه، سواء أكان في نفس الأمر [59/ ب] كذلك أم لا. وبهذا يندفع بعض الاعتراض على عبارته، ولكنه يبقى عدة اعتراضات. منها: أنه إن أراد بالسلطان العلوي والقدرة الغيبية مطلق القدرة على التصرف الغيبي ورَدَ عليه أن الملائكة والجن لهم قدرة يتصرفون بها, وليسوا بآلهة اتفاقًا، ولا اعتقاد ذلك فيهم قولًا بأنهم آلهة. وإن أراد القدرة الذاتية أي التي ليست بموهوبة ورَدَ عليه أنَّ المشركين لم يعتقدوا في أصنامهم بل ولا في الملائكة ذلك. وإن أراد القدرة التي يصرفها صاحبها باختياره ورَدَ عليه أن الجن كذلك في الجملة. وإن أراد التي يصرفها صاحبها باختياره، وليس غيره مهيمنًا عليه، ورَدَ عليه أنَّ المشركين لم يعتقدوا في معبوداتهم ذلك. وقد تقدمت الآيات في ذلك. فإن قيل: قد تقدم عنه أنهم اعتقدوا أنَّ معبوداتهم لها سلطة بشفاعة تَحْمِل بها اللهَ عزَّ وجلَّ على جلب نفع أو دفع ضر، لولا شفاعتهم لم يفعله تعالى بمحض إرادته. قلت: الظاهر أنه يريد ما اشتهر عن المشركين من العرب في شأن شفاعة الملائكة، فإن أراد أنهم (¬1) كانوا يزعمون أنَّ الملائكة يُكرهون الله تعالى على قبول شفاعتهم، أو لا يُكرهونه، ولكنه لقربهم منه يقبل شفاعتهم، ¬

_ (¬1) في الأصل: "أنها" سبق قلم.

وإن لم يسبق في علمه وإرادته ذلك، فيكون في ذلك اعتقاد البَداء. وهو أنه سبحانه قد يكون يريد شيئًا، ثم يبدو له شيء لم يكن يعلمه قبل، فيدعه؛ أو أنه لا ذا ولا ذاك، ولكنه قد علم أنه في أصل إرادته يريد شيئًا، وأن الملائكة يشفعون بخلافه، وأنه لا بد حينئذ من قبول شفاعتهم؛ فليس في اعتقاد مشركي العرب شيء (¬1) من هذا، كما دلَّت الآيات السابقة وغيرها، ممّا سُقتُه في "رسالة العبادة" (¬2). والذي يتحصَّل مما كانوا يقفون عنده في شفاعة الملائكة أنهم مقرَّبون عند الله عزَّ وجلَّ، وأنه إن لم يأذن لهم بالشفاعة في شيء أذِن لهم في غيره، وإذا لم يقبل شفاعتهم في شيء قَبِلها في غيره، وأنَّ شفاعتهم من جملة الأسباب التي اعتدَّت بها الشرائع، كدعاء الله عزَّ وجلُّ والتضرع إليه وطاعته، فإنَّ ذلك كلَّه مما يُرجى به رضوانُ الله وعفوُه وغيرُ ذلك من تفضُّل بنفعٍ أو دفع ضرًّ ومعلومٌ أنَّ اعتقادَ ذلك لا يلزم منه القولُ بالبداء، ولا إنكارُ سبقِ علم الله عزَّ وجلَّ بكل ما يكون. وكيف يلزم ذلك، وبه بعثت الرسل ونزلت الكتب وشرعت الشرائع؟ وإنما كان يبقى عند المشركين أنهم يزعمون أنَّ ذلك القدر الباقي للملائكة من الشفاعة مسوَّغ لأن يدعوهم الإنسان ويعظَّمهم ويسأل منهم الشفاعة وأن الله تعالى يرضى ذلك، وأن الملائكة يشفعون لمن فعل ذلك. وجاء الإسلام بأنَّ ذلك القدر لا يسوَّغ ما ذُكِر، وأنَّ الله لا يرضاه ولا يأذن فيه، وأنَّ الملائكة أنفسهم يتبرؤون ممن فعله، ويبغضونه ويعادونه. ¬

_ (¬1) في الأصل: "شيئًا", سهو. (¬2) انظر (ص 714 وما بعدها).

ثم يَرِد عليه أيضًا أنَّ المشركين لم يكونوا يعتقدون للأصنام قدرةً ما ولا تأثيرًا، وإنما هي عندهم تماثيل للملائكة، فيقولون: إنَّ الصنم إذا جُعل تمثالًا للملَك ورمزًا له صار له علقةٌ معنويةٌ بالملك، بحيث يكون تعظيمُ الصنم تعظيمًا لذلك الملك، كما جرت به العادة في احترام تماثيل البشر العظماء أنه معدود عند الناس احترامًا لصاحب التمثال، ومع ذلك سميت الأصنام آلهة، وتعظيمها عبادة. وقد بقي وجوه أخرى لا أطيل بها. والذي تلخَّص لي في "رسالة العبادة" (¬1) بعد النظر في النصوص القرآنية ومقابلة بعضها ببعض، والنظر في أحوال المشركين من الأمم المختلفة وغير ذلك = أن العبادة هي: خضوعٌ يُطلَب به نفعٌ غيبيٌّ. وأردت بالخضوع ما يشمل الطاعة والتعظيم، وبالنفع الغيبي ما هو وراء الأسباب العادية. ثم إن كان ذلك الخضوع مأذونًا فيه من الله تعالى بسلطان بيِّن وبرهان واضح، فلا يكون إلا عبادةً له سبحانه وتعالى، سواء كان في الصورة له كالالتجاء والتضرع إليه، أم كان في الصورة لغيره كالطواف بالكعبة وتقبيل الحجر الأسود ووضع الجبهة عليه، وكلَّ ما كان عليه برهان من الله وسلطان منه، من الثناء على الملائكة والصلاة عليهم، والثناء على الأنبياء والصالحين واحترامهم وغير ذلك. وإن لم يكن به برهانٌ من الله عزَّ وجلَّ ولا سلطانٌ منه، فهو عبادةٌ لغيره، ولا يكون شيء [ل 60/ أ] من هذا إلا وفيه خضوع لغير الله عزَّ وجلَّ. ومن ذلك: الأحبار والرهبان والرؤساء والآباء والشيطان والهوى. ¬

_ (¬1) رسالة "العبادة" (ص 733).

ولا فرق في كون الخضوع طلبًا للنفع الغيبي عبادةً بين أن يكون النفع مطلوبًا من المخضوع له نفسه، أم من غيره بواسطة شفاعته، أم من غيره بسبب الخضوع له. فمن الحقِّ في الصورة الأولى: التضرُّعُ إلى الله عزَّ وجلَّ طلبًا للنفع منه. ومنه في الثانية: القدرُ الذي عليه سلطانٌ من الله عزَّ وجلَّ من احترام الأنبياء والصالحين. ومنه في الثالثة: القدرُ الذي عليه سلطان من احترام الكعبة والحجر الأسود. ومن الباطل في الصورة الأولى: التضرعُ إلى الملائكة لينفعوا، على زعم أنهم يفعلون (¬1) ما يشاؤون. ومنه في الثانية: التضرعُ إليهم ليشفعوا كما كان مشركو العرب يصنعونه. ومنه في الثالثة: تعظيم الأصنام. وكل ما ادُّعِي له أو اعتُقِد أنه يستحق أن يُعبد، فقد ادُّعِيٍ له أو اعتُقِد أنه إله. فالإله هو الذي يستحق أنَّ يُعبَد. فإن كان استحقاقه حقًّا فهو إله حق. وهو الله وحده لا شريك له. وإن كان استحقاقه باطلاً، فهو إله باطل. وكلُّ مَن عبد شيئًا من دون الله، أي خضع له طلبًا لنفع غيبي بدون سلطان من الله تبارك وتعالى، فقد اتخذه إلهًا وسوَّاه بربِّ العالمين في استحقاق أن يُعبَد. وذلك أنَّ العقولَ والفِطَر كافيةٌ في العلم بأنَّ الله تبارك وتعالى مستحقٌّ أن يُخضع له طلبًا للنفع الغيبي، فمن ادَّعى لغيره ذلك بغير سلطان من الله تعالى، فلا بدَّ أن يكون مستندًا إلى الكذب على العقل، ولو بواسطة أو وسائط. فكأنه يقول: إن العقل كافٍ في العلم بأنَّ هذا الروح أو ¬

_ (¬1) في الأصل: "ما يفعلون"، سهو.

غيره مستحق أن يخضع له طلبًا للنفع الغيبي، فتلك تسويةٌ له بربِّ العالمين، فاعلم ذلك. وقد أقمت - بحمد الله تبارك وتعالى - البراهين على هذا التفصيل في "رسالة العبادة" (¬1). وإذا يسَّر الله تبارك وتعالى فسيأتيك كثير منه في مواضعه. وهذه أمور يجب استحضارها: الأمر الأول: أن هذا المعنى كان بيِّنًا في الجملة عند العرب الذين خوطبوا بالقرآن، إلا أنَّ هناك دقائقَ قد كان يخفى على كثير منهم أنها عبادة وتأليه. فمن ذلك: الخضوع بالطاعة. فقد روى ابن جرير وغيره (¬2) عن عدي بن حاتم أنه لما سمع قول الله تعالى في أهل الكتاب: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31]، قال عدي: قلت: يا رسول الله إنا لسنا نعبدهم. فقال: "أليس يُحرِّمون ما أحلَّ الله فتحرِّمونه، ويُحِلُّون ما حرَّم الله فتُحِلُّونه؟ " قال: قلت: بلى. قال: "فتلك عبادتهم". وقد ذكرتُ هذا الحديث والكلام عليه وشواهده من كلام الصحابة ¬

_ (¬1) رسالة "العبادة" (ص 731 وما بعدها). (¬2) "تفسير الطبري" (14/ 210). وأخرجه الترمذي (3095) وقال: "حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب، وغطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث". وحسَّنه الألباني.

والتابعين في "رسالة العبادة" (¬1). فالقوم أطاعوا أحبارهم ورهبانهم في التحريم والتحليل، وعدُّوا ذلك دينًا ينفعهم الله تعالى به ويجازيهم بحسبه. فتلك الطاعةُ خضوعٌ يُطلَب به نفعٌ غيبي، ولم ينزل الله تعالى به سلطانًا، فهو عبادة لغيره. وقد خفي هذا المعنى على عدي بن حاتم رضي الله عنه حتى فسَّره له النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم خفي هذا المعنى على بعض رواة هذا الحديث نفسه حسبما رواه الترمذي (¬2) بلفظ: "أما، إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلُّوا لهم شيئًا ستحلُّوه، وإذا حرَّموا عليهم شيئًا حرَّموه". وأخبر الله تعالى عن المشركين بأنهم يعبدون الشيطان. ولذلك وجهان. فأما الوجه الأول، فهو طاعتهم إياه فيما يوسوس لهم به من شرع الدين، واتخاذهم ذلك دينًا يرجون به النفع من الله عزَّ وجلَّ. وتلك عبادة، ولا سلطان لهم، فهي عبادة لغير الله تعالى. وقد خفي هذا عن الخوارج، فتوهموا أنَّ طاعة الشيطان شرك مطلقًا، فحكموا على عصاة المسلمين بأنهم مشركون، مع أنَّ عصاة المسلمين وإن أطاعوا الشيطان فلم يتخذوا ما وسوس لهم به دينًا، وإنما أطاعوا لهوى أنفسهم عالمين معترفين بأن ذلك معصية لله عزَّ وجلَّ يخافون عقابه عليها، فلم يطلبوا بتلك الطاعة نفعًا غيبيًّا. وخفي كذلك على أكثر المفسِّرين، فقالوا: إنَّ ما جاء في القرآن من ذكر ¬

_ (¬1) رسالة "العبادة" (ص 654 وما بعدها). (¬2) برقم (3095).

عبادة الشيطان والشرك به ليس على حقيقته، وإنما المراد بذلك مطلق الطاعة المذمومة التي لا تكون عبادةً ولا شركًا على الحقيقة. أما الوجه الثاني، فقد بينته في "رسالة العبادة" (¬1)، ولعله يأتي في موضع آخر إن شاء الله تعالى. ونحو (¬2) هذا وقع فيما جاء في القرآن من ذكر تأليه الهوى. ومما كان يخفى على بعض منهم أنه عبادة أو قد يكون عبادة: القسَم بغير الله، والطِّيَرة، وقولهم: ما شاء الله وشاء فلان، والتمائم، والتِّوَلة، وغيرها. وقد بسطت الكلام على ذلك في "رسالة العبادة" (¬3) والحمد لله. وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعذرهم فيما يخفى عليهم، ويبيِّنه لهم. وهكذا أصحابه رضي الله عنهم. والحاصل أنَّ الخفاء قد يكون في كون الفعل خضوعًا، وقد يكون في كونه يُطلَب به نفع، وقد يكون في كون النفع غيبيًّا، وقد يكون في كونه لا سلطان عليه. ولهذا جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الشرك في أمتي أخفى من دبيب النمل" (¬4). وقد ذكرت هذا الحديث في "رسالة العبادة" بطرقه وشواهده، ¬

_ (¬1) رسالة "العبادة" (ص 714 وما بعدها). (¬2) في الأصل: "ونحوه"، سبق قلم. (¬3) رسالة "العبادة" (ص 947 وما بعدها). (¬4) أخرجه أحمد (4/ 403) والطبراني في "الكبير" (1567) و"الأوسط" (3479) من حديث أبي موسى الأشعري. وأخرجه أبو بكر المروزي في "مسند أبي بكر" (18) والبخاري في "الأدب المفرد" (716) وأبو يعلى (58 - 60) من حديث أبي بكر =

والدليل على أنه أراد به الشرك الحقيقي لا مجرد الرياء (¬1). [60/ ب] الأمر الثاني: أنه لا يلزم من كون الفعل في نفسه عبادةً لغير الله وشركًا أن يكون الفاعل مشركًا. بل لا يُحكَم بشركه حتى يُعلم أنه ليس له عذر، وأنَّ الحجة قد قامت عليه. وقد بسطتُ هذا حقَّ البسط في "رسالة العبادة" (¬2)، ودلَّلت عليه بالكتاب والسنة وأقوال السلف ومَن بعدهم من أهل العلم. وبيَّنتُ أنه قد يكون الفعل في نفسه شركًا، والفاعلُ من خيار عباد الله تعالى وأوليائه، لعذره في ذلك الفعل وصلاحه في نفسه. الأمر الثالث: أنَّ البدع في الدين كلها تؤول إلى عبادة غير الله، ولولا العذرُ لكان كلُّ مبتدع مشركًا. وقد بسطتُ هذا في موضعه، ولله الحمد. الأمر الرابع: أنَّ السلطانَ المذكورَ في تعريف العبادة: المرادُ به البرهانُ المفيدُ للقطع، إما بنفسه، وإما بأصله. فالذي بنفسه فكصريح القرآن والسنة القطعية. وأما بأصله فكالدلائل الظنية التي قام البرهان القطعي على وجوب العمل بجنسها. وذلك كدلالة ظنية من الكتاب، فإنَّ كونَ ظواهِر الكتاب حجةً ثابتٌ قطعًا، وكونَه يلزم العالم العمل بما ظهر له من الكتاب بعد النظر والاجتهاد ثابتٌ قطعًا. الأمر الخامس: أنَّ هذا التفسير الذي فسرتُ به العبادةَ مقتبَس من نصوص لا تحصى من الكتاب والسنة وأقوال أهل العلم. ومن أقوالهم ما هو ¬

_ = الصديق. وله شواهد أخرى. وانظر "المسند" (19606) للكلام عليه. (¬1) (ص 143 وما بعدها). (¬2) رسالة "العبادة" (ص 914 وما بعدها).

صريح فيه أو مستلزم (¬1) له حتمًا؛ ولكنها خبايا في الزوايا، وشذَرات في الفلَوات، قد التقطتُ ما عثرتُ عليه منها في "رسالة العبادة" (¬2). الأمر السادس: أنني أعترف بأنَّ العقل يستبعد بل يكاد يُحيل أن يكون هذا الأمر الذي هو أسُّ الإسلام وجوهرُه وهو معنى عقد أنه لا إله إلا الله غفل عنه أكثر العلماء، إن لم نقل: كلُّهم، حتى آل إلى ما نراه من الخفاء، فصارت تفسيراتهم للإله والعبادة على ما سمعت، وصار الكلام في التفاسير وشروح الحديث وكتب الفقه على ما يعرفه من طالعها. ولكني لما قام عندي من البراهين مع ما التقطتُه من خبايا الزوايا من كلام العلماء لا أجبُنُ عن إظهار هذا الأمر. وقد بان لي السببُ المؤدِّي إلى تلك الغفلة. وهي أنَّ السلف من الصحابة وعلماء التابعين كانوا يرون أنَّ معنى الإله والعبادة واضح، فقد كان المشركون أنفسهم يعرفونه. وما خفي من دقائقه يُعذَر مَن جَهِله حتى يبيَّن له. ثم إنَّ العلماء اصطدموا بالكلام فيما يتعلق بالعقائد في صفات الله تعالى وغيرها من جهة، وبتقديم الرأي والقياس على السنة من جهة أخرى؛ فانصرفت وجوههم إلى دفع ذلك. ولما حدثت البدع التي هي في نفسها شرك كانوا ربما يفرغون للشيء بعد الشيء منها، فيزجروا عنه ويبيِّنوا (¬3) أنه بدعة، ويرون أن صاحبه لا يُعدُّ مشركًا لعذره. ¬

_ (¬1) في الأصل: "مستلزمًا"، سهو. (¬2) رسالة "العبادة" (ص 737 وما بعدها). (¬3) كذا ورد الفعلان في الأصل بحذف النون.

ثم انفردت طائفة منهم لحفظ العقائد، وطائفة للفقه، وطائفة لحفظ الحديث، إلى غير ذلك، فاقتصر أهل العقائد على ما اشتهر فيه الخلاف، فذكروا التوحيد في كتبهم، يعنون أنه ليس مع الله ربٌّ غيره قديم، وأهملوا مسألة العبادة لعدم اشتهار الخلاف فيها. وصرَّح بعضهم كالسعد التفتازاني بأنها مسألة شرعية (¬1)، يعني وهُم إنما يبحثون بالعقليات، فاتَّكلوا فيها على الفقهاء. والفقهاء يقولون: هذه أساس العقائد ورأس الإسلام، فيتَّكلون على علماء العقائد. وأما علماء التفسير وشُرَّاح الحديث فاتكالُهم أظهر. وبعد هذا الاتكال صار من يبحث عن معنى لا إله إلا الله يراجع كتب العقائد، فيجد فيها الكلام على توحيد الربوبية، أي أنه ليس مع الله تعالى ربٌّ قديمٌ غيره. وقد عبَّروا عنها بقولهم: "الإله واحد، هو الله عزَّ وجلَّ، ويمتنع وجود إلهين أو أكثر"، أو نحو ذلك. فيظن هذا المسكين أنَّ معنى (لا إله إلا الله): لا واجب الوجود إلا الله، ثم يظن أن العبادة هي الخضوع والطاعة لمن يعتقد أنه واجب الوجود، إلى أمور أخرى قد شرحتُ بعضها في "رسالة العبادة" (¬2). والحاصل أنَّ ذلك الاستبعاد العقلي [ل 61/ أ] في محلَّه، ولكن الغفلة واقعة يقينًا. وأظهر شواهدها: عباراتهم في تفسير العبادة، وقد رأيتها، ومن نظر وتدبَّر ازداد يقينًا. والشأن إنما هو في تحقيق ما غفل عنه، وقد ذكرتُ هنا ما تيسَّر، وإذا أذن الله تعالى فسترى كثيرًا من ذلك في مواضعه. وقد استوعبتُ أكثر ذلك في "رسالة العبادة" (¬3)، أسأل الله تعالى من فضله تيسير ¬

_ (¬1) انظر: "شرح المقاصد" (1/ 10). (¬2) رسالة "العبادة" (ص 332 وما بعدها). (¬3) انظر رسالة "العبادة" (ص 731 وما بعدها).

إتمامها ونشرها. والحمد لله أولًا وآخرًا. [ل61/ ب] وإذ قد اتضح إن شاء الله معنى العبادة، فليتمَّمْ تفسيرُ الجملة. فاعلم أنَّ فيها احتمالات، الصحيح منها أنها إنشائية، أريد بها إنشاء معنى يوجد (¬1) بهذه العبارة، وذاك حقيقة الإنشاء. وذلك أن المؤمن إذا تلا من أول السورة إلى هنا متدبِّرًا حق التدبر امتلأ قلبُه بتعظيم ربِّه عزَّ وجلَّ، واستغرق في ذلك حتى كأنه يرى الأمر مشاهدةً، وانجلى له حقَّ الانجلاء أنه لا يستحق العبادة غيره تعالى، فيقبل (¬2) القلب إلى الربِّ عزَّ وجلَّ مصدِّقًا ما قام بالقلب وسرى إلى الجوارح، فينشئها بهذه الجملة. فتدل هذه الجملة أولًا وبالذات على العبادة المنشأة بها، ثم تدلُّ بمعونة ما تقدم على العبادة القائمة بالقلب ثم بالجوارح، وتدلُّ بواسطةِ أن المقتضي لما ذكر هو ما تقدَّم من أول السورة إلى هنا، وهي حقائق ثابتة لا تحول ولا تزول، ولا تتغيَّر ولا تتبدَّل= على التزام التالي أن يعبد الله تعالى دون غيره في بقية عمره. وبعد ما كتبتُ ما تقدَّم، أردتُ أن انظر في وجه التعبير بلفظ الجمع، فرأيتُ ما قدَّمتُه هنا يرشد إلى نكتة لا بأس بذكرها. وهي أنه - كما تقدَّم - ورد الخضوعُ أولاً على القلب، ثم سرى إلى الجوارح، ثم تلاها اللسان، فأشير إلى ذلك بصيغة الجمع، حتى كأنَّ اللسان عبَّر عن نفسه وعن القلب والجوارح. ونكتة أخرى، وهي أنَّ مِن شأن الإنسان المتواضع الذي يعرف قدر نفسه أنه إذا اتفق له ظهورٌ بمظهر يدلُّ على العظمة زاده ذلك خضوعًا في ¬

_ (¬1) تكررت في الأصل. (¬2) قبل هذه الكلمة: "أن تعبد الله كأنك تراه". وقد نسي المؤلف رحمه الله أن يضرب عليها ضمن العبارة المضروب عليها.

نفسه وتمسكنًا، كما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما دخل [مكة] يوم فتحها دخل وذقنُه على رحله متخشِّعًا (¬1). فالتالي الممتلئ خضوعًا وتذللًا إذا جاء إلى قوله: {نَعْبُدُ} ورأى ما في ظاهر الكلمة من مظهر العظمة زاده ذلك خضوعًا وتخشُّعًا، كأنه يقول في نفسه: ومَنْ أنا! ومَنْ أكون! وهذه وكثير من أمثالها من مُلَح العلم، والذي ينبغي اعتماده أن السورة تعليم من الله عزَّ وجلَّ لعباده، فكأنه قال لهم: قولوا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} إلخ، كما مرَّ عن ابن جرير، فجاء "نعبد ونستعين" على حسب ذلك. وإذا قال العبد مع ما صار فيه من حال الخضوع والخشوع: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}، وقد سبق أنها بمعونة المقام تدلُّ على التزام العبادة لله تعالى دون غيره في المستقبل، علِمَ ما هو عليه من الضعف والعجز والظلم والجهل، فاضطُرَّ إلى أن يقول: • {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فينشئ بهذه الجملة استعانة بربه دون غيره على ما التزمه من العبادة. وفي "الكشاف" (¬2): "والأحسن أن يراد الاستعانة به وبتوفيقه على أداء العبادة، ويكون قوله تعالى: {اهْدِنَا} بيانًا للمطلوب من المعونة، كأنه قيل: كيف أعينكم؟ فقالوا: اهدنا الصراط المستقيم، وإنما كان أحسنَ لتلاؤمِ ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم في "المستدرك" (4365) ومن طريقه البيهقي في "دلائل النبوة" (5/ 68 - 69) من حديث أنس، وقال: "صحيح على شرط مسلم"، وسكت عنه الذهبي. وأصله في "صحيح البخاري" (1846). (¬2) (1/ 15).

الكلام وأخذِ بعضِه بحجزةِ بعض". حكاه في "روح المعاني" (¬1)، ثم قال: "ووجه التخصيص حينئذ كمالُ احتياج العبادة إلى طلب الإعانة، لكونها على خلاف مقتضى النفس. {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} [يوسف: 53]. [ل 62/ أ] والقرينة مقارنة العبادة، ولا خفاء في وضوحها". ثم قال: "والإنصاف عندي أنَّ الحمل على العموم أولى ... ". والحاصل أنه اختار العموم، ثم اختار أن الصراط عامٌّ، فقال: "فإنه أعمُّ من العبادات والاعتقادات والأخلاق والسياسات والمعاملات والمناكحات وغير ذلك من الأمور الدينية، والنجاة من شدائد القبر والبرزخ والحشر والصراط والميزان، ومن عذاب النار، والوصول إلى دار القرار والفوز بالدرجات العُلى. وكلُّها مفتقِرٌ إلى إعانة الله تعالى وفضله. وأيضًا طرقُ الضلالات التي يستعاذ منها بغير المغضوب عليهم ولا الضالِّين لا نهاية لها ... ". قال عبد الرحمن: لا خفاءَ أنَّ المقام إنما يقتضي الاستعانة على العبادة التي التزموها. وكلُّ الصيد في جوف الفَرا (¬2). فإنَّ الاعتقادات الدينية ترجع إلى العبادة، فإنَّ في اعتقاد الحق طاعةً لله وخضوعًا له إذا خالف الهوى، وذلك عبادة. والأخلاق المحمودة مع حسن النية عبادة، والأحاديث في فضائل حسن الخلق معروفة. والسياسات المحمود منها ما كان المقصودُ منه إقامةَ الحق والعدل وتنفيذَ أحكام الله عزَّ وجلَّ، وما قُصِد به ذلك كان عبادة. والمعاملات ¬

_ (¬1) (1/ 93). (¬2) الفَرا: الحمار الوحشي. وانظر المثل في "مجمع الأمثال" (3/ 11).

إذا التُزِم فيها الأخذُ بالحلال، واجتنابُ الحرام والشبهات، والقيامُ بمصالح المسلمين، والاستعانةُ على طاعة الله عزَّ وجلَّ = كانت عبادة. وكذلك المناكحات. وفي الحديث: "وفي بُضْعِ أحدكم أجرٌ" (¬1). وعلى هذا القياس. على أنَّ مِن لازمِ الإعانة على العبادة تيسيرَ المعيشة والأمن وغير ذلك، فإنَّ مَن نكِدَ عيشُه انشغل قلبُه عن العبادة، كما هو معروف. وأما الأمور الأخروية فتبعُها للعبادة واضح. وكأنه غلب على أبي الثناء (¬2) ما جرى به العرفُ الحادثُ من اختصاص العبادات بما يذكر في صدور كتب الفقه، وهو الصلاة والزكاة والصيام والحج. وهو وهْمٌ حتمًا، وقد عرفت حقيقة العبادة. هذا، وكثير من الناس يستشكل ما اقتضته الآية من نفي الاستعانة بغير الله عزَّ وجلَّ، ويقولون: إنَّ مصالح الدنيا وكثيرًا من مصالح الدين إنما تقوم بتعاون الناس، وما من أحدٍ إلا وهو يحتاج إلى أن يستعين غيره من الناس، حتى على العبادة. وهذا مبني على أن الجملة خبر، والمضارع للاستمرار، أي أن من عادتنا المستمرَّة أن لا نستعين إلا بك؛ أو عن الحال، والاستقبال، أي لا نستعين ولن نستعين إلا بك؛ أو عن المستقبل فقط. وليس الأمر كذلك. وإنما هي إنشائية لطلب المعونة، والطلب يُوجَد بنفس الجملة، كما لا يخفى على من عرف الفرق بين الخبر والإنشاء. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1006) من حديث أبي ذر. وفيه: "صدقة" مكان "أجر". (¬2) يعني صاحب "روح المعاني".

والنفي إنما هو بحسب ذلك. فكأنهم قالوا: استعانتنا هذه بك، وليست بغيرك. وحَسُنَ ذلك لأن تلك الاستعانة نفسها طلب للنفع الغيبي، فهي عبادة، فناسب أن تُقصَر، كما قُصِرت العبادة، تقريرًا للتوحيد الذي بنيت عليه السورة. وثَمَّ مناسبات أخرى لا أطيل بذكرها، فتدبَّرْ. ونسأل الله التوفيق والهداية. • {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} تقدم عن صاحب الكشاف - وتبعوه في توجيه ترك العطف إذ لم يقل: "واهدنا" مع أن الجملتين إنشائيتان متناسبتان، كما لا يخفى - أن هذه الجملة استئناف بياني. ومعناه أن تكون الجملة الثانية جواب سؤالٍ من شأن مَن يسمع الأولى أن يسأله. فقال كما مرَّ: "كأنه قال: كيف أعينكم؟ فقالوا: اهدنا". وفي النفس من هذا، فإنَّ وجه الحسن في الاستئناف البياني على ما ذكروه إنما يتحقق في خطاب الناس. فالأولى أن تكون هذه الجملة بدلاً من الأولى. وفي "مغني اللبيب": [الجملة السابعة: التابعةُ لجملةٍ لها محلٌّ. ويقع ذلك في بابي النسق والبدل خاصة ... والثاني شرطُه كونُ الثانيةِ أوفى من الأولى بتأدية المعنى المراد نحو {وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُون} [الشعراء: 132 - 134]، فإنَّ دلالةَ الثانيةِ على نعم الله مفصَّلةٌ بخلاف الأولى، وقوله:

أقولُ لَه ارْحَلْ لا تُقيمنَّ عندَنا (¬1) فإنَّ دلالة الثانية على ما أراده من إظهار الكراهية لإقامته بالمطابقة، بخلاف الأولى (¬2)] (¬3). ولا خفاء أنَّ هذا الشرط مُتحقِّق هنا. وفي البدلية هنا نكتة لطيفة، فإنه اشتهر أن المبدَل منه على نية الطرح. وهذا مناسب هنا لأن مِن لازمِ طلب الإعانة إثباتَ قدرة للنفس. وذاك وإن كان حقًّا في الجملة، ولكنَّ المقامَ مقامُ خضوع وتذلُّل، وهو يستدعي إظهار تمام العجز. وهذا تُعبِّر عنه هذه الجملة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}، فتأمَّلْ! والله أعلم. [ل62/ ب] والهداية: من هداية الطريق. وقد جاء عن العرب إطلاقُ الهُدَى على الطريق (¬4). فإما أن يكون هذا هو الأصل، وإن كاد يُنسَى، والهداية مشتقَّة منه وإن اشتهرت؛ وإما العكس، والله أعلم. وهداية الطريق في الجملة: الإرشاد إليها, ولكنها تكون على أوجه: فافْرِضْ أنه رأيتَ عبدًا تائهًا في فلاةٍ فيها سُبُل، وتعلم أنَّ خيره وصلاحه ¬

_ (¬1) عجزه: وإلاَّ فكُنْ في السَّرِّ والجَهرِ مُسْلِما قال البغدادي في "شرح أبيات المغني" (6/ 301) إنه لم يقف على قائله. (¬2) "مغني اللبيب" (557). (¬3) ترك المصنف هنا بياضًا, ولعل المقصود ما أثبتناه بين الحاصرتين. (¬4) ومنه قول الشمَّاخ يصف أتانًا: قد وَكَّلَتْ بالهُدَى إنسانَ صادقةٍ ... كأنه من تمام الظِّمْءِ مسمولُ انظر: "ديوانه" (281).

في الذهاب إلى سيِّده، فقد تكتفي بأن تدلَّه على رأس الطريق التي ينبغي له سلوكُها لِيصلَ إلى بيت سيده، فتقول له: هذه أو تلك هي الطريق التي توصلك. فهذا الوجه الأول. وقد يكون العبد أحمق يستكبر عن قبول إرشادك، أو يكون هناك من يريد به الشرَّ، يشير له إلى طريق أخرى، فيميل إليه، فتأخذ بيد العبد، وتجرُّه إلى الطريق الموصلة إلى بيت سيِّده، وتقيمه عليها، وتحمله على سلوكها، ثم لا تزال تلطُف به مرة وتشتدُّ عليه أخرى، حتى يذعن أخيرًا لسلوكها. فهذا الوجه الثاني. ثم بعد قيامه أو إقامتك إياه على رأس الطريق قد تنعتُ له الطريق من هناك إلى بيت سيِّده. فهذا الوجه الثالث. وقد تتقدَّمه، وتسير معه، تدلُّه على الطريق، تاركًا الخيرة له في كل موضع. فإن استمرَّ على موافقتك لم تفارقه حتى توصله إلى بيت سيِّده. وإن أدركه الحمق في بعض الطريق، فأبى إلا الخروج منها، تركتَه وشأنَه. فهذا هو الوجه الرابع. وقد تتقدَّمه، وتسير معه أيضًا عازمًا أن تُوصِلَه ولا بدّ، فأنت تأخذه بالوعد والوعيد، وتُبعد عنه ما من شأنه أن يحمله على المخالفة، وتحرُسُه ممن يريد أن يُضِلَّه، وتَصرِفه عن المخالفة بالإكراه أو قريبٍ منه في بعض الأوقات. وهكذا حتى تُوصلَه. وهذا هو الوجه الخامس. والهداية إلى صراط الحق جارية على نحو هذا. فالوجه الأول يقع من الله عزَّ وجلَّ بإرساله الرسل، ومن الرسل ثم من أتباعهم بالدعوة.

قال تعالى لرسوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ} [الشورى: 52، 53]. وقال سبحانه: {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} [المؤمنون: 73 - 74]. والوجه الثاني لا يكون إلا من الله سبحانه وتعالى بتصريفه قلبَ مَن يريد حتى يُدخله في الدين. ولو تركه واختيارَه لما فعَل. وهذا المعنى هو المراد في قول الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56] وآيات أخر. والوجه الثالث من الله تبارك وتعالى بما أوحى إلى رسوله من البيِّنات في العقائد والأحكام، ومِن رسله، ثم من أتباعهم، بالبيان. والوجه الرابع إن كان فإنما يكون من الله تبارك وتعالى في حقَّ العبد الذي يكثر خلافه. والله أعلم. والوجه الخامس: إنما يكون من الله تبارك وتعالى فيمن أراد به الخير، ولا يكاد يرجى ذلك إلا لمن يكون الغالب عليه الخير، وإنما تقع منه الفلتة بعد الفلتة. والمؤمنون يسألون ربهم الهداية التامَّة، وهي الوجه الخامس، وهي المرادة هنا. ولذلك أخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس أنه قال في تفسيرها: يقول: ألْهِمْنا الطريق الهادي (¬1). ¬

_ (¬1) "تفسير الطبري" (1/ 166).

والإلهام هو الإلقاء في القلب. ومعلومٌ أنَّ تصرفاتِ الإنسان كلها تبعٌ لما يقع في قلبه. فإذا كان الله تعالى يلهمه في كلِّ شيء حبَّ الحق والرغبةَ فيه، وبغضَ الباطل والنفرةَ عنه، جرت أعمالُه كلُّها على الحق. وذلك هو غاية الهداية على الوجه الخامس. وقد تكون بإلقاء خاطر آخر كخوفٍ من الناس وحياءٍ منهم وتذكيرٍ لأمر آخر، أو بإنساء موعد، أو بإقامة مانعٍ يصرف الله تعالى بذلك عن المعاصي، وقد تكون بغير ذلك؛ فإنَّ التدبير بيده عزَّ وجلَّ، فلا يمكن إحصاءُ الأسباب. التي يهدي بها مَن أحبَّ هدايتَه. [ل64/ أ] (¬1) والصراط المستقيم: قال ابن جرير (¬2): "أجمعت الحجة من أهل التأويل جميعًا على أنَّ الصراط المستقيم هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه". وقد اختلفت عبارات السلف في المراد به هنا (¬3). فعن علي وابن مسعود أنه كتاب الله. وجاء هذا مرفوعًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ورُوي عن جابر وابن عباس وغيرهما، قالوا: هو الإسلام. وعن أبي العالية والحسن: هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحباه من بعده أبو بكر وعمر. في عبارات أخر لا اختلاف بينها بحمد الله عزَّ وجلَّ، فإنَّ امتثال ما في كتاب الله تعالى هو الإسلام، والذي كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحباه هو ¬

_ (¬1) اللوحة (63) مكررة. (¬2) في "تفسيره" (1/ 170). (¬3) انظر الأقوال الآتية في "تفسير الطبري" (1/ 171 - 176).

الإسلام. هذا، وقد عُرِفَ أن لكل إنسان سيرة يسيرها في عمره في اعتقاده وأخلاقه وآدابه وأعماله وأقواله (¬1)، فهي طريقُه. فمن أَتبع في ذلك كلِّه كتابَ الله وسنةَ رسوله والسلف الصالح فهو على الصراط المستقيم. ومن أخلَّ في شيء من ذلك كان في طريقه من العِوج بمقدار إخلاله. ويمكنك أن تتصَّور الصراطَ العامَّ الذي هو الإسلام، وتتصوَّر وسطه طريقًا للتقوى العامة، وتتصوَّر عن يمين طريق التقوى وشمالها طريقين للتقصير في الفضائل دون ما بعده، وعن يمين ذلك وشماله طريقين لارتكاب المكروهات، وعن يمين ذلك وشماله طريقين لارتكاب الصغائر دون ما بعده، وعن يمين ذلك وشماله طريقين لارتكاب الكبائر دون البدع، وعن يمين ذلك وشماله طريقين للبدع. وذلك حدُّ السِّراط (¬2) يَمنةً ويَسرةً، وليس بعده إلا الكفر. وتمام الكلام على هذا يطول، فله موضع آخر. وعسى أن أبسطه في الفرائد إن شاء الله تعالى (¬3). هذا، والدعاءُ نفسه عملٌ ينبغي أن يكون على الصراط المستقيم. وذلك بأن يكون عن يقينٍ صادقٍ وافتقارٍ وخضوعٍ إلى غير ذلك. والذي يجب التنبيه عليه ههنا أن يكون الداعي باذلًا جهدَه في حصول ما يدعو به ساعيًا ¬

_ (¬1) في الأصل: "واقو" لم يكمل كتابة الكلمة. (¬2) كذا كتب بعض الأحيان بالسين. (¬3) لم أجد "الفرائد" المشار إليها في الأصل.

في تحصيل أسبابه العادية جهده. فقارئ الفاتحة إذا كان بغاية الحرص على تعرُّف الصراط المستقيم لازمًا جهدَه ما عرف منه، متباعدًا عن خلافه، مؤثِرًا له على هواه؛ وسلطانُ الهوى شديدٌ، ومسالكُه كثير= فبشِّرُه بالإجابة إذا قال: اهدنا السراط المستقيم. وأرى أنَّ الله تبارك وتعالى نبَّهنا على هذا، وأجاب هذا الدعاء في الجملة، فهدانا نوعًا عظيمًا من الهداية بقوله سبحانه: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}. فإنَّ هذا وإن كان من تتمة الدعاء، ولكن هذه سنَّة معروفة للأذكار والأدعية الواردة في الكتاب والسنة، كما في دعاء الاستغفار الثابت في الصحيح: "سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك" (1). فلا بدَّ أن يعرف الإنسان معاني هذه الكلمات، ويتحقق بها، وإلا كان كاذبًا. مثلًا إذا لم يعزم التوبة، فكيف يقول: "وأتوب إليك"! وكذلك في الحديث الآخر في "صحيح البخاري" عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "سيِّدُ الاستغفار أن تقول: اللهمَّ أنتَ ربَّي [لا إله إلا أنت] خلقتَني وأنا عبدُك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعتُ" (¬2). فإذا كان الداعي لهذا مخِلًّا بما يستطيعه مما عاهد عليه ربَّه، ووعد من نفسه من الطاعة والاتباع؛ فكيف يقول هذا! وكذلك إذا تلا قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ ¬

_ 1) أخرجه الترمذي (3433) عن أبي هريرة, وأبو داود (4859) عن عبد الله بن عمرو بن العاص، والنسائي (1344) عن عائشة. (¬2) أخرجه البخاري (6306) من حديث شدَّاد بن أوس.

رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162] أو دعا بها في الافتتاح مع أنَّ الظاهر أن المعنى: لله أصلِّي، ولله أنسُكُ، ولله أحيا, ولله أموت = فمن كان يحيى ليأكل ويشرب ويلهو ويلعب في معصية الربِّ، فكيف يقول هذا! وكذلك من كان يكره أن يموت في سبيل الله، وله هوى أو عصبية أو غير ذلك، ولا يكره أن يموت في الدفع عنها. فهذه الأذكار والأدعية وأمثالها، فيها تنبيهٌ للعبد وحملٌ له على أن يُجهد نفسَه أولاً على التحقُّق بما فيها، وعلى الأقلِّ يعقدُ عزمَه وهمتَه، ويُخلِصَ نيتَه للتحقُّقِ بذلك في الحال والتزامِه في الاستقبال، ثم يقولُها. ففي قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} تنبيهٌ لنا أنَّ على المسلم أن يكون حريصًا على اتِّباعِ المنعَمِ عليهم ومخالفةِ المغضوبِ عليهم والضالِّين. فإذا كان ذلك وتلا الفاتحة، وذكر ما فيها من الدعاء، كان شرطُه - وهو بذلُ [ل64/ ب] وسعِه فيما يستطيعه مما دعا به - حاصلًا، فيستحقُّ الإجابة. وإلَّا كان بمنزلة من يرى حريقًا في جانب البلد، وهو يقدر على أن يباعدَ نفسه عنه، فلا يفعل، بل يقتصر على الدعاء؛ فكيف إذا كان يسعى إلى الحريق، ويدنو منه، ويقول مع ذلك: اللهمَّ باعِدْني عن الحريق! وأما ما في قوله: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (¬1) إلخ من الهداية، فهو الدلالة على أنَّ الصراط المستقيم هو سراطُ هؤلاء دون أولئك. وهذا أصل عظيم، ولا سيما بعد القرن الأول؛ فإنَّ البدع والضلالات انتشرت وأُلصِقت بالدين، وأصبح كثير منها عند كثيرٍ من الناس، أو أكثرِهم، حتى كثيرٍ من ¬

_ (¬1) كذا كتب هنا "سراط" بالسين، وهي قراءة قنبل. انظر: "الإقناع" لابن الباذش (595).

المشهورين بالعلم والولاية= هو من نفس الدين، بل من صلبه! بل عند جماعة منهم هو الدين! وتمييزُ هذا بمجرد العقل والاستحسان، أو بالنظر في كتب المتأخرين، أو بسؤال أكثرهم= لا مطمع فيه. وإنما يتميَّز ذلك بالرجوع إلى صراط المنعَم عليهم. وكذلك مناظرةُ أصحاب البدع لا تكاد تغني شيئًا إلا بالرجوع إلى هذا الأصل. وبما ذكرته من التنبيه والهداية يندفع إشكالٌ (¬1) ليس بالهيَّن. وهو أن يقال: إن المتبادر إلى الفهم أنَّ مثل هذا التركيب إنما يُقصَد به بيانُ الصراط المستقيم وتمييزُه حتى يتبيَّن للمخاطب ولا يشتبه عليه. وهذا محال هنا (¬2)، لأن الله تبارك وتعالى عالم الغيب والشهادة، فإذا دعاه العبد بقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} فهو سبحانه أعلم به. فما الحاجة إلى البيان والتمييز؟ وقد علمتَ بحمد الله أنَّ الأمر هنا بالعكس، وإنَّما هذا في المعنى بيان من الله عزَّ وجلَّ، أراد أن يُبيِّن للتالي ويُميِّز له ما هو الصراط المستقيم، فتدبَّرْ. وقد ذكروا في إعراب "صراطَ" أنه بدل من "الصراطَ" قالوا، والعبارة للبيضاوي (¬3): "وهو في حكم تكرير العامل من حيث إنه المقصود بالنسبة. وفائدته: التوكيد والتنصيص على أنَّ طريقَ المسلمين هو المشهودُ عليه ¬

_ (¬1) وقفت بأخرة في مكتبة الحرم المكي الشريف على دفتر صغير ضمن أوراق متفرقة للمؤلف رحمه الله، تكلم فيه (ص 5 - 8) على هذا الإشكال، وأجاب بنحو جوابه هذا. (¬2) في الأصل: "هذا" سبق القلم. (¬3) في "تفسيره" (1/ 73).

بالاستقامة، على آكدِ وجهٍ وأبلَغِه, لأنه جُعِل كالتفسير والبيان له ... ". قال الشيخ زاده (¬1): " ... وأنه علم في الاتصاف بها, لأنه لو لم يكن كذلك لما صحَّ جعلُه كالتفسير والبيان للصراط المستقيم، وكالمزيل لما فيه من الإجمال والإبهام". أقول: أما النكتة الأولى، فقد يعارضها ما اشتهر عندهم أن البدل على نية الطرح والرمي. وأما الثانية، فيقال لهم: وما فائدة هذا التنصيص هنا؟ والحاصل أنَّ القوم عرفوا أنَّ الظاهرَ هو التفسير والبيان وإزالةُ الإجمال والإبهام، ولكنهم رأوا أن هذا لا يصح في خطاب الله عزَّ وجلَّ، فتكلَّفوا ما سمعتَ. وقد علمتَ ما عندي، والله يتولَّى هداك! هذا، وقد اختلفت عبارات السلف (¬2) في بيان مَن هم المنعَم عليهم. فعن ابن عباس: أنهم الملائكة والنبيُّون والصدَّيقون والشهداء والصالحون. وهذا مأخوذ من قول الله عزَّ وجلَّ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء: 66 - 69]. وعن ابن عباس أيضًا: أنهم المؤمنون. ¬

_ (¬1) في "حاشيته" على البيضاوي (1/ 47). (¬2) انظر الأقوال الآتية في "تفسير الطبري" (1/ 178 - 179).

وعن الربيع: النبيون. وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: أنهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ومَنْ معه. وقد مرَّ عن أبي العالية والحسن ما يفيد أنهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر. أقول: لا تخالُفَ بحمد الله بين هذه الأقوال. فأما في مقام الدعاء، فهم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون، وكلُّهم مؤمنون مسلمون لربَّهم عزَّ وجلَّ. ومن قال: النبيون، فلأنهم الأصل. وأما في مقام التنبيه على الاتباع والبيان، فعلى التالي أن ينظر من يعرف بسيرتهم من المنعَم عليهم قطعًا، فيتأثرها. فإنه إذا علم أنَّ فلانًا من المنعَم عليهم قطعًا، فلا بدَّ أن يكون صراطُه هو صراطَ جميعهِم، وهو الصراط المستقيم. [ل65/ أ] فقد سمَّى الله تعالى لنبيِّه جماعةً ممن قبله من الأنبياء، ثم قال: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]. وأما أصحابه - صلى الله عليه وسلم -، ورضي عنهم، فقد علموا أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - منعَم عليه قطعًا، وأنَّ صراطَه هو صراطُ المنعَم عليهم، وأنه الصراط المستقيم، فكان التنبيه في حقهم والدلالة على اتباعه. وهكذا من جاء بعدهم. ويزاد في حقِّهم بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابُه الذين تحقَّق أنهم منعَم عليهم. فإذا لم يُعرَف الحكم أو السنة أو الأدب أو نحو ذلك من الكتاب والسنة نُظِرَ في إجماع الصحابة. ولذلك خصَّ أبو العالية (¬1) أبا بكر وعمر لِتيسُّر معرفةِ إجماع الصحابة في عهدهما. وإذا لم ¬

_ (¬1) في الأصل: "أبا العالية"، سهو، وقد سبق قوله.

يكن إجماعٌ فقولُ الواحد من الصحابة، فقولُ الصحابي أولى من غيره، ولا سيَّما من قامت الحجة على أنه بخصوصه من المنعَم عليهم كالخلفاء الأربعة وغيرهم. وقِسْ على هذا. ومن إجماعهم: تركُهم لكثير من الأمور التي انتشرت بين المسلمين بعدَهم على أنها من الدين. فنقول: هذا الفعل بدعة؛ لأنه لم يكن في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. ولو كان من الدين لما اتَّفقوا على تركه. والله أعلم. • {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} قال أهل العربيّة: إن كلمة "غير" لا تتعرف بالإضافة إلى المعرفة لتوغُّلها في الإبهام. واستثنى جماعة من محققيهم (¬1) ما إذا وقعت بين متضادين معرفتين، وذلك لزوال الإبهام؛ وهي ههنا كذلك. فمن قال: لا تتعرَّف، حمَلَها في هذا الوضع على أنها بدل من "الذين". وإبدالُ النكرة من المعرفة جائز عند البصريين بشرط حصول الفائدة. وقال الكوفيون: لا يجوز إلا إذا اتَّحد اللفظُ ونُعِتت النكرةُ (¬2)، كما في ¬

_ (¬1) ومنهم ابن السرَّاج والسيرافي. انظر: "توضيح المقاصد" (791) و"حاشية الصبان" (1/ 366). (¬2) الشرط الأول وهو اتحاد اللفظ نقله ابن مالك عن الكوفيين في "شرح التسهيل" (3/ 331). ولكن إعرابَ الكسائي والفراء لكلمة "قتال" في قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} [البقرة: 217] بأنَّ خفضه على نية "عن" مضمرة = لا يؤيد ما نقله. انظر: "معاني القرآن" للفراء (1/ 141) و"إعراب القرآن" للنحاس (1/ 107). ونبَّه على ذلك أبو حيان في "ارتشاف الضرب" (1962) وقال: "ونسب =

قوله تعالى: {بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ} [العلق: 15، 16]. وقال جماعة - وعليه جرى ابن جرير (¬1) -: إن الموصول مع صلته يضعف تعريفه، فيصح إبدالُ النكرة منه. وقال بعضهم: هي نعت لِـ "الذين"، إما بأن تكون هي معرفة لوقوعها بين متضادَّين معرفتين، وإما لضعف تعريف الموصول. والذي يظهر أنه على فرض أن "غير" لا تتعرف بوقوعها بين متضادين معرفتين، فعلى الأقل تقرب من المعرفة. فهي قريبة من المحرفة، و"الذين" بصلته قريب من النكرة، فالتقيا، فيصح البدل والنعت (¬2). هذا، والأولى هنا البدل, لأن البصريين - والاعتماد عليهم - لم يشترطوا له إلا حصول الفائدة. وصحته هنا قائمةٌ الحجةُ بها على الكوفيين بما ذكرنا. هذا، والفائدة على نحو ما تقدم. أي أنَّ في هذا تنبيهًا للمؤمنين على أخذ أنفسهم باجتناب ما عليه المغضوب عليهم والضالُّون. وفيه هدايةٌ لهم بأنَّ المغضوب عليهم والضالِّين وإن كانوا في الأصل أو بزعمهم متَّبِعين صراطَ الأنبياء المنعمَ عليهم، فهم أنفسُهم غيرُ منعَم عليهم، فطريقُهم مخالفٌ لصراط المنعَم عليهم، فهو مخالفٌ للصراط المستقيم. ¬

_ = بعض أصحابنا ما نقله ابن مالك عن الكوفيين إلى نحاة بغداد لا إلى نحاة الكوفة". (¬1) الذي جرى عليه ابن جرير في "تفسيره" (1/ 180) هو أن "غير" صفة للاسم الموصول. وهو الوجه الثاني من القول التالي. (¬2) انظر: "التبيان في إعراب القرآن" للعكبري (1/ 10).

وقوله: {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} كان الظاهر أن يقال: الذين غضبتَ عليهم. ومن الحكمة - والله أعلم - في العدول عن ذلك هنا أنَّ الفاتحَة سورةُ رحمةٍ مكرَّرةٍ وحمدٍ وثناءٍ، والتصريحُ بنسبة الغضب [إلى] (¬1) الله تعالى لا يساعد ذلك في بادي النظر، وإن كان غضبُ الله على من غضِبَ عليه هو من لوازم الرحمة العامَّة، وهو مقتضٍ لحمد الله تعالى عليه؛ لأنه مع صرف النظر عن الرحمة العامَّة مقتضى الحكمة البالغة. ومن الحكمة في ذلك - والله أعلم - تنبيهُ المتدبِّر على أنَّ المدار على الرحمة، وأنَّ الغضب كالعارض. ولذلك اشتَقَّ اللهُ لنفسه أسماءً من الرحمة والرأفة ونحوها, ولم يشتقَّ لنفسه اسمًا من الغضب. وفي "الصحيحين" في الحديث القدسي: "إنَّ رحمتي سبقت غضبي" (¬2). ومن الحكمة - والله أعلم - تعليمُ العبادِ حسنَ الأدب مع ربَّهم عزَّ وجلَّ، فلا ينسبون إليه تصريحًا ما قد يُوهِم. ومنها - والله أعلم - تأنيسُ المؤمن؛ لأنه إذا تلا هذه السورة متدِّبرًا حقَّ التدبُّر، فقد صار على حالٍ عظيمةٍ من الخضوع والتعظيم لربِّه عزَّ وجلَّ والتوحيدِ والحرصِ على الاهتداء واتباعِ الصراط المستقيم وصدقِ الإقبال على ربه عزَّ وجلَّ وغير ذلك، فاستحقَّ إيناسَه بأن لا يقع بعد ذلك كلِّه تصريحٌ بنسبة الغضب إلى ربَّه عزَّ وجلَّ. فإنْ تدبَّر وعرَفَ أنَّ المعنى على ذلك آنسه العدولُ عن التصريح لما فيه من التنبيه على الحِكَم المذكورة. ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق. (¬2) سبق تخريجه.

وقوله: {وَلَا الضَّالِّينَ} أي وغيرِ الضالِّين. والضلالُ خلاف الاهتداء. فالمعنى: وغيرِ الذين ضلُّوا عن سبيل الحق. ولم يقل: "ولا الذين أضللتَ"، لنحو ما تقدَّم، وللتنبيه على أنَّ أصلَ الضلال إنما يجيء من العبد نفسه، فأما إضلالُ الربِّ عزَّ وجلَّ لمن شاء، فإنما يقع عقوبةً لمن اختار الضلال لنفسه وأصرَّ عليه. قال تعالى: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة: 26]. وسيأتي - إن شاء الله تعالى - الكلام على ذلك (¬1). هذا وقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن جماعة ممن بعده من الصحابة والتابعين أنَّ المراد بالمغضوب عليهم: اليهود، وبالضالِّين: النصارى (¬2). وفي القرآن ما يشهد لذلك. وهو الذي يقتضيه السياق, لأنه قد تقدَّم ذكرُ الذين أنعم الله عليهم، وبيَّن أنَّ رؤوسهم الأنبياء ثم أتباعهم وقد عُرف أنَّ اليهودَ كان أوائلُهم من أتباع الأنبياء كموسى وهارون، وكان فيهم بعد ذلك عدد من الأنبياء، وأنَّ النصارى من أتباع عيسى مع اتباعهم لموسى وهارون ومَن بعدهما، وأواخر الأمتين يزعمون أنهم كأوائلهم ومعروفون بين الناس أنهم في الجملة من أتباع الأنبياء = فقد يُتوهَّم دخولُ اليهود والنصارى في المنعَم عليهم، فربَّما يحمل ذلك على اتباعهم في بعض الأشياء توهُّمًا من الصراط المستقيم. هذا مع كثرة ملابسة المسلمين لهاتين الأمتين. ¬

_ (¬1) لم أجده في الأصل. (¬2) انظر: "تفسير الطبري" (1/ 185 - 188)، (1/ 193 - 195).

[ل65/ ب] فاقتضت الحكمةُ أن يبيَّن الله عزَّ وجلَّ لعباده خروجَ اليهود والنصارى عن المنعَم عليهم، وبيِّنٌ سببُ ذلك، وهو أنَّ اليهود خرجوا في الواقع عن الصراط المستقيم الذي كان عليه موسى وهارون ومَن بعدهما من الأنبياء خروجًا أوجَبَ عليهم الغضبَ، وأنَّ النصارى خرجوا عن الصراط المستقيم الذي كان عليه عيسى والأنبياء من قبله، وضلُّوا الضلالَ البعيدَ. فعُلِمَ بذلك أنَّ ما هم عليه مخالفٌ للصراط المستقيم وأنَّ ما بأيديهم من الكتب لا يوثق بها. وزعم جماعة من المتأخرين (¬1) أن الأَولى حملُ المغضوب عليهم والضالين على العموم، أي كُلِّ مغضوب عليه وكلِّ ضالًّ. وأقول: لا حاجة إلى هذا؛ لأنه مع مخالفته للمأثور، ومخالفته للسياق، وإخلاله ببعض الفوائد المتقدمة، ليس فيه فائدة. على أنَّ حاصله حاصلٌ أيضًا مع التفسير المأثور، فإنه إذا عُلِمَ أنَّ اليهودَ مغضوبٌ عليهم، لا منعَم عليهم، فصراطُهم مخالفٌ للصراط المستقيم، فعلى المسلم الحذرُ مما هم عليه؛ وأنَّ النصارى ضالُّون غيرُ منعَم عليهم، فكذلك كان في ذلك تنبيه (¬2) على أنَّ كلَّ من تحقَّق أنه مغضوب عليه أو ضالٌّ، فالحال فيه كذلك. والله الموفق، لا إله إلا هو. **** ¬

_ (¬1) في الأصل: "المتأخرون"، سهو. (¬2) في الأصل: "تنبيهًا"، سهو.

مسألة

مسألة قال ابن جرير (¬1): "اختُلِف في صفة الغضب من الله جلَّ ذكرهُ، فقال بعضهم: غضبُ الله على من غضِبَ عليه من خلقه إحلالُ عقوبته بمن غضِبَ عليه ... وقال بعضهم: غضبُ الله على من غَضِب عليه من عباده ذمٌّ منه لهم [ولأفعالهم] (¬2) وشتمٌ منه لهم بالقول. وقال بعضهم: الغضب معنى مفهوم كالذي يُعرف من معاني الغضب، غيرَ أنه وإن كان كذلك من جهة الإثبات، فمخالفٌ معناه [منه] معنى ما يكون مِن غضب [الآدميين] الذين يُزعجهم ويُحرِّكهم ويَشُقُّ عليهم ويؤذيهم, لأنَّ الله جلَّ ثناؤه لا تحلُّ ذاتَه الآفاتُ، ولكنه له صفة، كما العلمُ له صفةٌ، والقدرة له صفة، على ما يُعقَل من جهة الإثبات، وإن خالفتْ معاني ذلك معانيَ علوم العباد، التي هي معارف القلوب وقواهم التي تُوجَد مع وجود الأفعال وتُعدَم مع عدمها". أقول: القولان الأولان كأنهما لبعض معاصريه أو متقدِّميه قليلاً ممن خاض في هذه الأشياء. فأمَّا السلفُ فلم يشتبه عليهم الأمر, لأنَّ معنى الغضب في حدِّ ذاته معنى مكشوف، والعرب تفهمه مطلقًا، ثم تنسبُه وتفهم نسبتَه إلى من اتصف به على حسب ما يليق به. وقد علموا أنَّ الربَّ عزَّ وجلَّ ليس من جنس خلقه، فلا يفهمون من نسبة الغضب إليه سبحانه أنَّ غضبه كغضب الإنسان من كل وجه، حتى يلزمَه كلُّ ما يلزم غضبَ الإنسان. ¬

_ (¬1) في "تفسيره" (1/ 188 - 189). (¬2) ما بين الحاصرتين هنا وفيما يأتي زدته من "تفسير الطبري".

ومَن تأمَّل المواقع التي نُسب الغضبُ فيها إلى الربِّ عزَّ وجلَّ في الكتاب والسنَّة علم أنَّ غالبها لا يحتمل التأويل. والله الهادي إلى سواء السبيل.

الرسالة الثالثة في تفسير أول سورة البقرة (1 - 5)

الرسالة الثالثة في تفسير أول سورة البقرة (1 - 5)

[1/ ب] بسم الله الرحمن الرحيم {لَا رَيْبَ فِيهِ}: الريبُ - والله أعلم - شكٌّ في صدق الخبر ونحوه، فإذا شككت في صدق مخبر فذاك ريب، وكذا إذا شككت في عفة مَن يتظاهر بالعفة؛ حتى لقد يقال فيما إذا شككت في نزول المطر، وقد ظهرت أماراته من تراكم السحاب والرعد والبرق. {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}: أي هدى لهم بالفعل، به اهتدوا، وبه يهتدون. فلا ينافي أن يكون هدى لغيرهم بالقوة, لأنّ المتقين قد كانوا غير متقين، وإنّما استفادوا التقوى والهدى منه. فإن لم تستفد منه التقوى والهدى فذاك نقصٌ فيك. ثم يتفاوت الهدى بتفاوت التقوى. {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ ...}: صفات كاشفة. وللصفة الكاشفة فوائد: الأولى: إحضار المعنى في ذهن السامع مفصَّلاً، إذ قد لا يتدبر المجملَ، كقول الأم لولدها: أنا أمُّك التي حملتك تسعة أشهر ثقلاً، ووضعتك كرهًا، وفعلت، وفعلت؛ فإنّها لو اقتصرت على قولها: أنا أمك، لم يؤثّر كلامها فيه كما يؤثر التفصيل؛ فتدبر. الثانية: النصُّ على صفة قد يجهل المخاطب، أو يجحد، أو يشك أنَّها ملازمة للموصوف؛ كقوله في الآيات: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} فإنَّ أهل الكتاب يجحدون [2/ أ] التلازم بينها وبين التقوى.

الثالثة: إخراج صفة قد يزعم المخاطب أو يجوِّز وجودها في الموصوف. {بِالْغَيْبِ}: قيل: إنَّ الباء بمعنى (في)، أي: يؤمنون غائبين. وقيل: إنها للاستعانة، أي: يؤمنون بالقلوب. وكلا القولين ضعيف، والصواب أنّ الباء هي التي يوصف بها الإيمان في نحو: آمنت بالله. وعليه فإن حُملت (ال) على الجنس لزم أن يكون الظاهر أنّه يكفي الإيمان بشيءٍ ما من الغيب وهو باطل، وإن حُملت على الاستغراق لزم اشتراط الإيمان بكل غيب؛ وهو غير صحيح. فالصواب أنّها للعهد أي: بالغيب الذي دعت الرسل إلى الإيمان به، وذلك الإيمان بالله وملائكته واليوم الآخر وسائر ما عُلِم أنّ الرسل أخبرت به. {... وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ}: هذا كالتفسير للغيب، ولذلك - والله أعلم - أعاد لفظ "والذين"، فإن الإيمان بما أُنزل إليه وما أُنزل من قبل يتضمن الإيمان بكل ما يجب الإيمان به من الغيب. وقوله: {بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} يحتمل أن يكون خاصًّا بالقرآن وتدخل السنة بما في القرآن من الشهادة لها، ويحتمل أن يعمَّ القرآن والسنة بالنظر إلى معانيها، فإنَّ معانيها منزَّلة. ونحوه يقال في قوله: {وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ}. [2/ ب] {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}: إنما نصَّ عليها مع دخولها في جملة ما أُنزل إليه وما أُنزل من قبله لأهميتها، فإن الانقياد للشريعة يتوقف على الرغبة والرهبة، وإنما يحصل ما يعتدُّ به منهما لمن آمن بالآخرة. فإنَّ الرغبة والرهبة لما في الدنيا ضعيفتان، لما يُشاهد كثيرًا من ابتلاء المؤمن وتنعيم الكافر.

وفي قوله: {هُمْ يُوقِنُونَ} قَصرٌ للإيمان بالآخرة عليهم، فأفاد أن غيرهم كاليهود والنصارى لا يوقنون بالآخرة، وإن زعموا ذلك. وجاء هنا بقوله: {يُوقِنُونَ} إشارة إلى أن غيرهم قد يمكن أنه يؤمن بها ولكنه لا يوقن، وإلي أن المطلوب في حق الآخرة الإيقان بها. ولا يكفي التصديق الخالي عن اليقين, لأنه لا يكفي لحصول الرغبة والرهبة اللتين يدور عليهما الانقياد للشرع. {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى}: أتى باسم الإشارة ليلتفت المخاطب إلى الصفات السابقة، فيستحضرها مُفصَّلة - وقد تقدَّم ما في ذلك من الفائدة - وليعلم أن الموجِب لكونهم على هدًى هو اتصافهم بتلك الصفات، وليشهد بأنهم إذا اتصفوا بها حقيقون بأن يقال: إنهم على هدى. وقوله: {عَلَى هُدًى} أرى أنّ فيه استعارة بالكناية، حيث شبَّه الهدى بالسراط، وطوى ذكر المشبَّه به، ورمز له بشيءٍ من لوازمه، وهو "على". [3/ أ] وأرى أن الهدى هنا غير الهدى السابق في قوله: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}. فالأول بمعنى الدلالة، وهذا بمعنى التوفيق والإرشاد. وكلاهما قد تضمنهما قوله في الفاتحة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}. والآيات من البقرة كأنها إجابة لذاك الدعاء في الفاتحة ببيان السراط المستقيم، وبيان المنعَم عليهم من غيرهم. {مِنْ رَبِّهِمْ} فيه فوائد:

الأولى: الإشارة إلى أن هذا الهدى من الله تعالى محضًا، أي: بخلاف الهدى السابق في قوله: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}، فإنه وإن كان منه تعالى لكن اختيارهم فيه كان أقوى من اختيارهم في الثاني، فإن من اختار الهدى بقدر إمكانه فتح الله تعالى له من الهدى أضعاف ذلك. الثانية: الإشارة إلى أن هذا الهدى حصل لهم بمقتضى الربوبية، فيفهم من ذلك أن هذا الهدى متوجِّه إلى كل مربوب، وإنَّما يمتنع حصوله للكفار لقصورٍ فيهم. الثالثة: الإشارة إلى أن هذا الهدى داخل في إجابة قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} لأن هذا الدعاء مبنيٌّ على قوله في الفاتحة: {رَبِّ الْعَالَمِينَ}؛ لأنها أول الصفات العليا فيها، إذ لم يتقدمها بعد البسملة إلا اسم الجلالة، وهو عَلَم لا يشعر البناء عليه بالعلة. الرابعة: الإشارة إلى أنّ العناية التي تُفهم من لفظ "الرب" لها مزيدُ اختصاص بمن اتصف بالصفات السابقة، فهو سبحانه رب العالمين، وعنايته شاملة لهم جميعًا, ولكن حظ هؤلاء من العناية أتم. ولنقتصر على هذا. [3/ ب] {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}: أعاد اسم الإشارة ليعود المخاطب فيلتفت إلى الصفات السابقة، فيستحضرها تفصيلاً لنحو ما تقدَّم.

الرسالة الرابعة في ارتباط الآيات في سورة البقرة

الرسالة الرابعة في ارتباط الآيات في سورة البقرة

سورة البقرة

بسم الله الرحمن الرحيم [2/ أ] الحمد لله، وسلامٌ (¬1). سورة الفاتحة ارتباط آياتها ظاهر، وارتباطها بسورة البقرة سيأتي - إن شاء الله تعالى - بيانه عند الكلام على الآية (142) من البقرة. وأيضًا، النتيجة المطلوبة في الفاتحة: هداية الصراط المستقيم، صراط المُنْعَم عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين. وفي أول البقرة: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [2]، ثم بيَّن فيها أحوال الفرق الثلاث، فكأنه في سورة البقرة شرع في إجابة الدعاء الذي في الفاتحة من وجهٍ، والله أعلم. سورة البقرة بدأ الله - عزَّ وجلَّ - بذكر القرآن، ووصفه بأنه لا ريب فيه وأنه هدى؛ فاقتضى ذلك قسمة الناس إلى قسمين: مهتدٍ، وغير مهتدٍ. فقدَّم سبحانه وتعالى المهتدين لفضلهم، وبيَّن صفتهم إلى تمام خمس آيات، ختمها ببيان ثوابهم إجمالًا، وهو قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [5]. ثم عقبه بذكر غير المهتدين، وقسمهم إلى قسمين: كافر صريح، ومنافق. وقدَّم الكافر لأمرين: ¬

_ (¬1) كذا في الأصل. وقد افتتح المؤلف عددًا من رسائله هكذا.

الأول: أنه أقل شرًّا من المنافق. والثاني: لأنه في الطرف الآخر من الأقسام، والمنافق مذبذب، كما تقول: "طويل، وقصير، ومتوسط". فبيَّن تعالى صفة الكافر في آيتين (6 - 7) ختمهما ببيان عقوبتهم إجمالًا، وهو قوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [7]. ثم عقَّبه بذكر المنافقين، فذكر وصفهم في ثلاث آيات (8 - 10) ذكر في آخرها عقوبتهم إجمالًا، وهو قوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [10]. وخُصَّ الأولون بـ {عَظِيمٌ} لعظمة ذنبهم ظاهرًا لمجاهرتهم. والمنافقون بـ {أَلِيمٌ} لأنّ كفرهم غير عظيم في الصورة، ولكنه أشد ضررًا وإيذاءً، [2/ ب] وذلك يناسب الإيلام. ولما كان من المنافقين ذنبان: أحدهما الكفر الذي هو التكذيب، وثانيهما: الكذب = بيَّن الله تعالى أنهم يستحقون على كل منهما عذابًا أليمًا. فنبَّه على الأول بقوله: {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} على قراءة من قرأ بالتشديد، وعلى الثاني بقوله: {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [10] على قراءة من قرأ بالتخفيف (¬1). ولما كان كذبهم لم يتقدم منه إلا قولهم: {آمَنَّا بِاللَّهِ} [8]، وقد أراد ¬

_ (¬1) قرأ الكوفيون من السبعة بالتخفيف، والباقون منهم بالتشديد. انظر: "الإقناع" في القراءات السبع (597).

الله عَزَّ وَجَلَّ بقوله: {يَكْذِبُونَ} [10] ما هو أعمُّ من ذلك، وقد تقدم في وصفهم: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [9]، وهذا مجمل = اقتضت الحكمة أن يفصل كذبهم ومخادعتهم، خصوصًا والسورة مدنية، وفتنة المنافقين بالمدينة، وذلك يقتضي الإفاضة في شأنهم. فبيَّن الله عَزَّ وَجَلَّ كذبهم ومخادعتهم، وأفاض في شأنهم إلى تمام عشرين آية من السورة (11 - 20). ثم وجَّه الله عَزَّ وَجَلَّ الخطاب إلى عامة الناس - الشامل للثلاث الفرق - بالأمر بعبادته، أي: وحده، كما يدل عليه السياق، ونبهنا على حكمة عدم التصريح به في الفوائد (¬1). وبيَّن مقتضيات إفراده بالعبادة في آيتي (21 - 22)، ثم قال: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا ..} [23 - 24]. وهذا مع اتصاله بما قبله مرتبط بأول السورة: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ} [1 - 2]. [3/ أ] وهذا من عجائب القرآن: تجد السورة كالشجرة لها أصل ولها فروع، فإذا طال فرع من الفروع، وانتهى منه، وأراد الشروع في فرعٍ آخر = لم يكتف بالرجوع إلى الأصل، بل يربط أول الفرع الثاني بآخر الفرع الأول؛ فيكون الارتباط من جهتين. ولما جاء في آية (24): {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}، وكان فيه تفصيل لما أجمل سابقًا من عذاب الكفار والمنافقين ¬

_ (¬1) لم نجدها في الأصل.

في قوله: {عَذَابٌ عَظِيمٌ}، {عَذَابٌ أَلِيمٌ} = اقتضى الحال أن يفصل أيضًا نعيم المؤمنين الذي أجمل بقوله في أول السورة: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، ففصله في آية (25)، وذكر فيها ثمر الجنة وتشابهه والأزواج المطهرة؛ ليرتبط بما بعده من قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ...} [آيتي: 26 - 27]؛ [3/ ب] فإن الثمرة وتشابهها، والأزواج وطهارتها، يصدق عليهما أنهما مثل لنعيم الجنة. قال تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} [الرعد: 35]. وقال تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} [محمد: 15]. هذا مع أن قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا} موجه بالذات إلى إنكار المنافقين المثلين المتقدمين فيهم في أول السورة - كما جاء عن ابن مسعود وجماعة من الصحابة (¬1) - ولكن لم يكتف بهذا الربط لما قدمنا. وعبر في آية (26) بقوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} ولم يقل: (نافقوا)، وإن كان السياق يبين أنهم المراد؛ لأمرين: الأول: الإشارة إلى أن الكفار المصرحين قد يشاركون المنافقين في ذلك. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" (شاكر 1/ 398).

الثاني: أن يربط الآيتين بآية: (28)، وهي قوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ}، ولم يكتف بارتباطها بما قبل ذلك لما تقدم. وقال في هذه الآية: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ...}، اختار هذه الأوصاف ليربط الآية [4/ أ] بآية (29) قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ ...} [29]، مع أن هذه الآية مرتبطة بقوله في آية (22): {جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً}. ثم قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ...} [30]، وهذا مرتبط بما قبله من حيث خلق الناس، وخلق السماء والأرض. ثم أفاض في قصة خلق آدم إلى آية: (39)، وجاء في آيتي (38 - 39) ما هو من تمام القصة، ويصلح للارتباط بما بعده، وهو قوله: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}. وبعده: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ... (40) وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} [40 - 41]. وارتباط ذلك بما قبله ظاهر؛ فإن بني إسرائيل ممن دخل تحت قسم الكفار الماضي أول السورة ثم المتكرر - كما بينَّا - إلى أن ذكر متصلًا بهذه الآية.

وأيضًا، فقد مر أول السورة في صفة المتقين: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [4]. وأيضًا، فإن في صفة الجنة ما يتعلق بأهل الكتاب، فإنهم زعموا أن ليس فيها أكل ولا شرب ولا نكاح. وكذا في قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا ...} [26] إلخ؛ ففي "إنجيل متى" إصحاح (13): "10: فتقدم التلاميذ وقالوا له: لماذا تكلمهم بأمثال؟ 11: فأجاب، وقال: لأنه قد أُعطي لكم أن تعرفوا أسرار ملكوت السماوات، وأما لأولئك فلم يُعطَ. 12: فإنَّ من له سيُعطى ويزاد، وأما من ليس له فالذي عنده سيؤخذ منه". وكذا في قصة خلق آدم ما يتعلق بأهل الكتاب، فإن القصة في كتابهم، وقد بدَّلوا فيها وحرَّفوا، ففيما تقدم تصديق القرآن ما معهم، مع إصلاح ما ضلُّوا عنه. ومع هذا، فقوله هنا: {وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ} في وصف الكتاب؛ فهو مرتبط بأول السورة. وهنا احتمالان: الأول: أن يكون قسم الكفار المتقدم شاملًا لأهل الكتاب، ثم خصَّهم بذكر هنا وفيما سيأتي، لما يختصُّ بهم من العبر. الثاني: أن يكون المراد بالكفار سابقًا المشركون خاصة، وأخَّر ذكر أهل الكتاب إلى هنا.

وعلى كل حال، فقد تمت الأقسام العقلية بالنسبة إلى الإيمان بالكتاب، وهي أربعة: مصدق ظاهرًا وباطنًا، وهم المؤمنون. مرتاب ظاهرًا وباطنًا، وهم المشركون. مصدق ظاهرًا فقط، وهم المنافقون. مصدق باطنًا فقط، وهم أهل الكتاب. والله أعلم. ثم أفاض في شأن بني إسرائيل، [4/ ب] والارتباط ظاهر، إلى آية (103). وأما آية (104): {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} فارتباطها ببني إسرائيل أن العرب تستعمل هذه الكلمة بمعنى: انظرنا، وهي بلسان اليهود شَتْم؛ فكان الصحابة ربما خاطبوا النبي - صلى الله عليه وسلم - بها، بمعنى "انظرنا"، فاهتبلها اليهود، فكانوا يخاطبونه هم بها مُسرِّين في أنفسهم معنى الشتم، فنهى الله تعالى المؤمنين عن مخاطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - بها أصلًا؛ ليقطع دسيسة اليهود. آية (105) ارتباطها بأهل الكتاب ظاهر. وأما بالآية قبلها فلأن إنزال الله تعالى الأمر بترك {رَاعِنَا} واستبدالها بـ {انْظُرْنَا} خير أنزله الله، ولا بد أن يكرهه أهل الكتاب لحسمه دسيستهم. ولما كان الحكم عامًّا ضمَّ إلى أهل الكتاب المشركين. وفي الآية تمهيد لنسخ القبلة؛ فإن استقبال الكعبة من الخير والرحمة الذي اختص الله تعالى به المسلمين. [5/ أ] (106) قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ

مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}: ارتباطها بالذي قبلها من جهة أن المنع من قول {رَاعِنَا} نسخ في الجملة، فإن قولها كان جائزًا قبل ذلك؛ بدليل إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - عليها مدة، ثم نسخ ذلك بالآية المتقدمة (104)، وذلك لمَّا اتخذها اليهود وصلة إلى الاستهزاء. ولها ارتباط بالآية التي قبلها؛ لما قدمنا أن فيها تمهيدًا لنسخ القبلة. ولها تعلق بالفرع، وهو شأن بني إسرائيل، من حيث إن فيها ردًّا عليهم لأنهم ينكرون النسخ. وهي مع ذلك متعلقة بأصل السورة، قوله تعالى: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} [1 - 2]. وفيها تمهيد لما يأتي من نسخ القبلة، وجعلت قبل ذلك بمدة حتى لا ينزل نسخ القبلة إلا وقد استقر في نفوس المسلمين حكم النسخ، واطمأنوا به، فلا يرد عليهم نسخ القبلة بغتة، فينفروا منه، والله أعلم. فأما تمام الآية، وهو قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، فالذي يحضرني أنه يظهر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم شقَّ عليهم النسخ؛ لأنه يفتح للكفار من أهل الكتاب والمشركين باب الشغب والطعن في القرآن، كما يشير إليه ربط الآية بأول السورة، وربما يكون ذلك سببًا لامتناع جماعة عن الإسلام، أو ارتداد جماعة من المسلمين. فسلَّى الله عزَّ وجلَّ رسوله - صلى الله عليه وسلم -[5/ ب] بقوله: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، أي: فهو يقدر على هداية الناس جميعًا، ويقدر على منعهم من الشغب، ويقدر على إقامة

البرهان على بطلان شغبهم، ويقدر على دفع ما خشيته من كون النسخ ربما يمنع جماعة من الإسلام أو حمل بعض المسلمين على الارتداد. وأكد ذلك بآية (107)، وقال في آخرها: {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ}، علاقتها بما قبلها أن من جملة ما خشوه أن يشغب عليهم الكفار، وأن يمتنع جماعة من الإسلام، ولو أسلموا لكثر المسلمون وتقوَّوا بهم؛ وأن يرتدّ بعض المسلمين، فيقلَّ المسلمون ويذلُّوا. فأخبرهم تعالى أنه ليس لهم ولي ولا نصير غيره، وإذًا فلا معنى لخشيتهم أن لا يكثر أولياؤهم وأنصارهم. وعبَّر بضمير الجمع في هذا على معنى: لك ولأصحابك. وبذلك تتصل الآية بما بعدها. آية (108): {أَمْ تُرِيدُونَ} خطابٌ للصحابة لتضمن قوله: {لَكُمْ} إياهم. ففي الآية هذه اللطيفة، وهو أنه بخطاب واحد وجَّهَ ما يناسب حال النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه، وما يناسب حاله وحال الصحابة إليهم جميعًا، وما يناسب أصحابه فقط إليهم فقط، وميَّز بين الأخيرين بالقرائن. {أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} تشبيه السؤال بالسؤال في مطلق كون كل منهما سؤالًا فيه جرأة على الله تعالى وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -. فالسؤال الذي أنكره الله على المسلمين يتناول أن [6/ أ] يسألوه أن لا يقع في الشرع نسخ في القرآن ولا في الأحكام؛ لخشيتهم الأمور السابقة. وبهذا ظهر علاقة الآية بما قبلها.

وقوله تعالى في آخرها: {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} مرتبط بما قبله من جهتين: الأولى: الإشارة إلى أن الإصرار على السؤال المذكور بعد أن نهى الله تعالى عنه كفر. والثاني: تحذير الضعفاء أن يقع في أنفسهم ارتياب بسبب النسخ. (109) {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا} هذا يبين ما قدمنا أن الكفار طعنوا في القرآن والإسلام بسبب النسخ ليردُّوا المسلمين عن دينهم. وإخبار الله عَزَّ وَجَلَّ المسلمين بهذا يحملهم على بغض أهل الكتاب وحب الانتقام منهم، فعقبه تعالى بقوله: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، فيقدر على أن يهديهم أو يهلكهم أو يسلطكم عليهم. (110) {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ [6/ ب] مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} ارتباطها بما قبلها أن المعنى - والله أعلم -: أعرضوا عن أهل الكتاب، واشتغلوا عنهم بما كُلَّفتم؛ فإن اشتغالكم بذلك - مع ما فيه من الخير الذاتي - يغيظ أهل الكتاب ويحزنهم؛ لأنهم يكرهون لكم الخير، ويودون أن يردوكم عن دينكم، كما تقدم في آيتي (105) و (109).

وقوله: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ ...} (¬1) تمهيد للرد على أهل الكتاب فيما ادعوه في آية (111). وبذلك علم الربط. أما (112) ظاهر (¬2). (113) ارتباطها بما قبلها ظاهر أيضًا، وبيَّن بها اختلاف اليهود والنصارى تمهيدًا لما يأتي في شأن القبلة؛ فإن القبلة مما اختلفوا فيه، والمراد بالذين لا يعلمون: المشركون. (114) {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ} [7/ أ] ارتباطها بما قبلها أننا قدمنا أن في الآية التي قبلها إشارة إلى شأن القبلة، وذكر المساجد في هذه الآية إشارة إلى المسجد الحرام. فقد ثبت أن استقباله وحجّه من شريعة إبراهيم وموسى، ولكن اليهود والنصارى لكونهم بني إسحاق حسدوا بني أخيه إسماعيل، فحرفوا آيات التوراة وبدَّلوها، وبذلك منعوا قومهم أن يحجوه فيذكروا الله فيه، وأن يستقبلوه. وسعوا في خرابه، أي بإنكارهم أن يكون له فضل أو مزية. وَبَّخَهم سبحانه على جحدهم فضيلة المسجد الحرام، وحجه، واستقباله، بإشارة لا يتحققها إلا من قرأ التوراة، كرمًا منه تعالى؛ للمعنى الذي تقدم في آية (109) من الأمر بالعفو عنهم والصفح. ¬

_ (¬1) في الأصل: "وما تعملوا من خير ... "، وهو سهو. (¬2) كذا في الأصل دون فاء الجواب. وانظر: "شواهد التوضيح والتصحيح" لابن مالك (136).

وقد بيَّن الله تعالى هذا في عدة آيات، منها قوله: {... وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [المائدة: 15]. ومع هذا فالآية تشمل المشركين في إخراج المسلمين من مكة ومنعهم المسجد، وقد نبَّه على ذلك بذكر المشركين في الآية التي قبلها كما مر، والله أعلم. فلما أمكن أن يقول أهل الكتاب، أو من قرأ التوراة من غيرهم، أو من أوغل في تدبر القرآن: فما بال محمد وأصحابه مع هذا يستقبل بيت المقدس؟ = [7/ ب] قال تعالى: آية (115): {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} أي: فاستقبال موضع مخصوص ليس أمرًا مقصودًا لذاته، وإنما يتعيَّن الموضع المخصوص إذا عيَّنه الله عزَّ وجلَّ، فتجب طاعته. وقد أمر محمدًا وأصحابه باستقبال بيت المقدس لحكمةٍ يعلمها، فكان هو قبلتهم حينئذ طاعة لله تعالى، وذلك لا يقدح في كون الكعبة هي القبلة الأصلية. وبهذا علم الارتباط. ويؤيد التفسير المذكور آية (142) من هذه السورة. (116) {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا}: القائلون هم اليهود والنصارى في عزير، والنصارى في عيسى، والمشركون في الملائكة. وقد مر ذكر الثلاث الفرق في آية (113)؛ فإن المراد بالذين لا يعلمون: المشركون. والله أعلم. وبهذا علم الارتباط.

(117) ظاهر. (118) المراد بالذين لا يعلمون: المشركون، كما تقدم، وبالذين من قبلهم: اليهود، وكذا النصارى. والله أعلم. وبهذا علم الارتباط. (119) الآية ردٌّ عليهم في قولهم في الآية السابقة، وإرشادٌ للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن لا يحرص على إحداث آية، ومثله في القرآن كثير، والارتباط ظاهر. [8/ أ] (120) ظاهر. (121) {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ...} ارتباطها بما قبلها ظاهر، والآية إشارة إلى كتمانهم شأن الكعبة ومحمد - صلى الله عليه وسلم -. (122) و (123) مناشدة لأهل الكتاب أن لا يكتموا شأن الكعبة ومحمد - صلى الله عليه وسلم -. (123) إلى (141): بعد أن لاطفهم الله عَزَّ وَجَلَّ فيما تقدم بأن عاتبهم في شأن ما يعلمونه في الكعبة ومحمد - صلى الله عليه وسلم - بكلام لا يكاد يفهمه غيرهم، كما هي الطريقة المحمودة في النصيحة أن تكون سرًّا = لم ينجع ذلك فيهم، فتعين أن يصارحهم ويكشف الغطاء عن حقيقة الأمر؛ فكان ذلك في هذه الآية وما بعدها. فظهر تمام الارتباط بحمد الله تعالى. وذكر الفاضل المعلِّم عبد الحميد الفراهي في كتابه "الرأي الصحيح في مَن هو الذبيح" - وهو كتاب نفيس - أن في الآيات إشارة إلى أن الذبيح هو إسماعيل عليه السلام، [8/ ب] وأن الله تعالى لم يصرِّح بذلك عفوًا عن أهل الكتاب - كما قدمناه - وكراهية أن يؤدي التصريح به إلى فتح باب المناقشة في أمرٍ غيرُه أهمُّ منه. انظر التفصيل في الكتاب المذكور (¬1). ¬

_ (¬1) (ص 90 - 105).

(142) {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}: ارتباطها بما قبلها ظاهر مما ذكرناه، فقد مهَّد الله تعالى للقبلة فيما قبل - ونبهنا على ذلك في آية (105) و (106) وغير ذلك بما ذكرناه - إلى أن أتم التمهيد بقصة إبراهيم عليه السلام. وقوله في الآية: {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ظاهر في أنَّ الكعبة هي القبلة الأصلية. وسيأتي في هذه السورة، وفي هذا السياق، عدة أحكام مما بدله أهل الكتاب، أو اختلفوا فيه، أو كان مشدَّدًا عليهم وخُفَّف عن هذه الأمة، أو نحو ذلك (¬1). وربما يذكر مع بعضها ما يناسبه مما بدَّله المشركون من شريعة إبراهيم عليه السلام (¬2). وذكر في أوائل هذا الباب هذه الجملة: {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [142]، وفي آخره: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [213]. وهذا كالتفصيل لقوله أول السورة: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [2]. وبهذا علم ارتباط الفاتحة بسورة البقرة, وعلم صحة تفسير المغضوب ¬

_ (¬1) انظر تحت الآيات (178، 183، 189). (¬2) انظر تحت الآيات (189 - 203).

عليهم والضالين باليهود والنصارى. والله أعلم. (143) أولها بيان لاستحقاق هذه الأمة الهداية إلى الصراط المستقيم، وآخرها بيان لحكمة أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أولاً باستقبال بيت المقدس، مع أن الكعبة هي القبلة الأصلية. وقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} أي: ومنه صلاتكم إلى بيت المقدس. (144) الحكم باستقبال الكعبة، وفضيحة أهل الكتاب [9/ أ] بأنهم يعلمون أنه الحق. (145) الارتباط ظاهرٌ. (146) إيضاح لمعرفة أهل الكتاب بأن استقبال الكعبة هو الحق. (147) ظاهرٌ. (148) يريد - والله أعلم -: {وَلِكُلٍّ} من المسلمين {وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} في استقبال المسجد الحرام، فالشرقيُّ وجهته الغرب، والغربيُّ وجهته الشرق، وهكذا، فأنتم سواء في استقبال المسجد الحرام، وتختلفون بالأعمال، {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ}. فتضمن هذا أمرين: الأول: تفرقهم في البلاد. الثاني: اجتماعهم في استقبال موضعٍ واحد.

فقال تعالى: {أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا} أي - والله أعلم -: أنكم متفرقون في البلاد، وقد جمعكم بتوجهكم إلى المسجد الحرام، وسيجمعكم بذواتكم يوم القيامة {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. وذكر الجمع الأخروي ههنا لمناسبة التفرق والجمع الحكمي وللحض على استباق الخيرات، فظهر الارتباط في الآية. (149) و (150) الارتباط ظاهرٌ. [9/ ب] (151) أي - والله أعلم - جعلنا لكم قبلة في بلادكم {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا} بلسانكم. (152) {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} أي: فإن النعم المتقدمة تستدير منكم ذكري وشكري، على أن ذكركم وشكركم لا أخليه عن ثوابٍ جديد، ولا أكتفي بكونه لي في مقابل تلك النعم. بيَّن هذا بقوله: {أَذْكُرْكُمْ}، واستغنى به وبآيات آخر عن أن يقول: "واشكروني أزدكم". (153) يريد - والله أعلم -: استعينوا على الذكر والشكر المأمور بهما في الآية السابقة. وفي الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ: "إني أحب لك ما أحب لنفسي، فلا تترك أن تقول عند كل صلاة: اللهم أعِنِّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك" (¬1) أو كما قال. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة, باب في الاستغفار (1522)، والنسائي في كتاب السهو، باب نوع آخر من الدعاء (1303)، وأحمد (36/ 430، 443) برقم =

ومناسبته للآية ظاهر (¬1). فأما الاستعانة بالصبر فظاهر، وأما الاستعانة بالصلاة فلأن من شرائطها وأركانها ما يساعد على ذلك. وأيضًا، فقد أخبر الله تعالى أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر. ولما أمرهم في هذه الآية بالصبر، وأخبر أنه مع الصابرين، ضرب لهم مثلاً لتلك المعية، وجعل المثل في أشرف مواطن الصبر وأشرف المعيَّات، وهو آية (154)، فالربط ظاهر. (155) فصل فيها مواطن الصبر، وبيَّن فيها وفي آية (156) صفة الصبر الظاهرة، وهي الاسترجاع [10/ أ] عند المصيبة. وليس المراد - والله أعلم - قول هذه الكلمة مجرَّدًا، بل قولها مع استحضار معناها ورسوخه في القلب، وأن لا يعمل ما يخالفه، إلا ما أذن فيه الشرع مما يغلب الإنسان من البكاء بغير نَوح ولا صوت ولا شكوى. (157) ذكر فيها أجر الصابرين. (158) قد مضى ذكر استقبال البيت الحرام، وآخر آية فيها ذكره (150). ثم فرع عن ذلك الامتنان بهذه النعمة، وذكر نعمٍ أخرى تشابهها وتتصل بها. ثم نبههم على شكر ذلك، وبيَّن لهم طريق الشكر، على حسب ما قدمنا. وفي هذه الآية (158) رجع إلى ما يناسب استقبال البيت ويتصل ¬

_ = (22119، 22125)، والحاكم (1010) وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. (¬1) كذا في الأصل.

به ويشبهه في كتمان بني إسرائيل إياه، وتبديلهم له، وهدى الله سبحانه المسلمين إلى صراط مستقيم. راجع الكلام على آية (242). وهذا الأمر هو شأن الصفا والمروة. وقد حقق هذا البحث المعلِّم عبد الحميد الفراهي في كتاب "الرأي الصحيح"، فانظره (¬1). وقد مر قبل آيات ذكر إبراهيم عليه السلام، وفيها ذكر المناسك. (159) ذكر فيها إثم الذين يكتمون ما أنزل من البينات والهدى. وعلاقتها بما قبلها ما قدمنا أن أمر الصفا والمروة مما كتموه. [10/ ب] (160) تتمة ما قبلها. (161) هي في معنى التعليل للآيتين قبلها؛ فإن في اللتين قبلها لعن الكاتمين لما أنزل إلا من تاب، وفي هذه أن من كفر ولم يتب بأن مات كافرًا استحق اللعن والخلود في العذاب. فكأنه قال: إن الكتمان المذكور كفرٌ، والإصرار عليه إلى الموت موت على الكفر، ومن كفر ومات على الكفر فهذا جزاؤه. (162) تتمة لما قبلها. (163) علاقتها بما قبلها أن الشر كفرٌ، وقد مضى فيما قبلها ذكر الكفر وجزائه، وأبطل في هذه بعض أنواع الكفر، وهو الشرك. ولها علاقة أمتن من هذه، وهو الإشارة إلى بني إسرائيل بأنهم لم يكتفوا من الكفر بكتمان ما أنزل الله، بل كفروا أيضًا بالشرك. ¬

_ (¬1) انظر: "الرأي الصحيح في من هو الذبيح" (ص 54، 97).

وقد بين تعالى هذا المعنى في آية (165) أي: عقب هذه الآية وتتمتها. (164) تتمة للتي قبلها. (165) بيان لنوع من الشرك، وهو شرك بني إسرائيل، كما صرح به تعالى في قوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31]. [11/ أ] وقال تعالى لرسوله أن يقول لهم: {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران: 64]. وفسَّر الصحابة وغيرهم هذه الآية - أعني (165) من البقرة - بمثل تفسير الآيتين المذكورتين: أن المراد بالأنداد المتبوعون من البشر، المطاعون في شرع الدين، ولا ينبغي أن يطاع فيه إلا الله تعالى (¬1). وجاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تفسير اتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابًا بنحو ذلك (¬2). ويدل عليه آية (166) فإنها مبينة أن الأنداد هم المتبوعون. وكذا آية (167)؛ فإنها تتمة للتي قبلها. (168) قد تبين أنّ في الآيات التي قبلها بيان أن طاعة غير الله تعالى في شرع الدين شرك. وفي هذه الآية النهي عن نوع من ذلك وقع فيه العرب وغيرهم وبدَّلوا شرع إبراهيم، كما بدل أهل الكتاب ما في الكتاب؛ وهو: تحريم ما أحل الله تعالى بغير سلطانٍ منه؛ وبيان أن ذلك من اتباع خطوات ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" (شاكر 3/ 280). (¬2) انظر: "تفسير الطبري" (شاكر 14/ 209 - 211).

الشيطان أي: واتباعه في ذلك عبادة له، كما كان اتباع بني إسرائيل لأحبارهم ورهبانهم في نحو ذلك عبادة لهم. راجع الكلام على آية (142). (169) تتمة للتي قبلها. (170) بيان لتمام مشابهة المشركين لليهود، فإن المشركين يعرضون عما أنزل الله اتباعًا لآبائهم، كما أن اليهود [11/ ب] يعرضون عما أنزل الله اتباعًا لآبائهم وأحبارهم. (171) بيانٌ لجهل المشركين في ذلك الفعل، وهو الإعراض عما أنزل الله تعالى مع دعاء الرسول إليه اتباعًا لآبائهم. (172) تحذير للمؤمنين أن يصنعوا كما صنع الكفار من تحريم ما أحل الله تعالى، وبيان أن ذلك شرك. (173) تفصيل لما حرمه الله؛ ليقف المؤمنون عنده فلا يحرموا غيره بغير سلطان من الله تعالى. (174) وعيدٌ للذين يكتمون ما أنزل الله تعالى في الكتاب من الحلال والحرام وغيره، وهو شاملٌ لأهل الكتاب وغيرهم. وكأن أهل الكتاب - والله أعلم - كانوا يعلمون من الكتاب بطلان تحريم ما حرمه المشركون ويكتمونه. وثَمَّ ارتباط أقوى من هذا، وهو أنه عدَّ في الآية السابقة في المحرمات لحم الخنزير، والنصارى يستحلونه، مع أنه حرامٌ في التوراة والإنجيل، وكأنهم كانوا يكتمون ذلك. (175) تتمة التي قبلها.

(176) تعليل لما تقدم بأن الله نزل الكتاب بالحق، {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس: 32] (¬1)، وبيان ضلال أهل الكتاب الذين اختلفوا فيه. ومما اختلفوا فيه: الحلال والحرام، كلحم الخنزير - الماضي قريبًا - فهدى الله الذين آمنوا إلى صراط مستقيم. وفي ذلك تحذير للمسلمين من مثل فعلهم. (177) ارتباط الآية بالتي قبلها أن مسألة القبلة مما اختلف فيه أهل الكتاب، فهدى الله الذين آمنوا إلى صراط مستقيم. وهي مع ذلك منبهة للمسلمين أن لا يغتروا بكون الله تعالى هداهم للقبلة الحق، فيقصروا في البر وعمل الخير. [12/ أ] (178) فيها حكم القصاص. وارتباطها بما قبلها: أن حكم القصاص كان مشددًا على بني إسرائيل، والآيات السابقة متعلقة بهم كما علمت. وقد نبه الله تعالى على ذلك بقوله: {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} أي - والله أعلم - تخفيفًا (¬2) بالنسبة إلى ما كان عليه الحكم في بني إسرائيل، من تعيُّن القَوَد. صح هذا عن ابن عباس وغيره (¬3). انظر الكلام على آية (142). (179) تتمة للتي قبلها. (180) ... (¬4). ¬

_ (¬1) في الأصل بين القوسين: "وماذا ... "، وهو سهو. (¬2) كذا في الأصل. (¬3) انظر: "تفسير الطبري" (شاكر 3/ 373). (¬4) بياض في الأصل بقدر ثمانية أسطر.

[12/ ب] (183) إلى (187) حكم الصيام مما كان ثابتًا على بني إسرائيل، وقد نصَّ الله تعالى على ذلك بقوله: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}. وهو مما اختلفوا فيه، فهدى الله الذين آمنوا إلى صراط مستقيم. راجع الكلام على آية (142). (188) علاقة الآية بآيات الصيام أن الصيام منعٌ موقَّت عن أكل الطعام مطلقًا، وهذا منعٌ مؤبد عن أكل الأموال بالباطل. وهذا يشبه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "المسلم من سَلِم المسلمون من لسانه ويده, والمؤمن من أمِنَه الناس على دمائهم وأموالهم، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه" (¬1). وأمثلة ذلك في الحديث كثيرة. فكأنه قيل هنا: الصائم من صام عن أموال الناس بالباطل. وعلاقتها ببني إسرائيل أن الرشوة كانت فاشيةً فيهم. (189) أحكام الأهلَّة مما بدله بنو إسرائيل. وفي "الزبور" الذي بأيدي اليهود والنصارى الآن، مزمور (81) فقرة 3 - 4: "انفخوا في رأس الشهر بالبُوق عند الهلال لِيوم عِيدِنا؛ لأن هذا فريضة لإسرائيل [حكمٌ لإله ¬

_ (¬1) قوله: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه" أخرجه البخاري في كتاب الإيمان من حديث عبد الله بن عمرو (10)، واقتصر مسلم على الجزء الأول منه (42). وقوله: "المسلم ... وأموالهم" أخرجه أحمد (14/ 499) والترمذي في أبواب الإيمان, (2762) انظر: "تحفة الأحوذي" (7/ 317)، والنسائي في كتاب الإيمان باب صفة المسلم من حديث أبي هريرة. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

يعقوب] (¬1)، جعله شهادةً في يوسف عند خروجه على أرض مصر". ومن مزمور (104) فقرة 19: "صَنَع [الربُّ] (¬2) القمرَ للمواقيت". وهذان النصان ظاهران في أن حكم شريعتهم اعتبار الشهور بالهلال نفسه، كما هو عند المسلمين، ولكنهم بدلوا ذلك وتأولوا. ومما بدَّله المشركون (¬3) من شريعة إبراهيم عليه السلام، والتبديل أخو التبديل، فهدى الله الذين آمنوا إلى صراط مستقيم. انظر الكلام على آية (142). وقوله: {وَلَيْسَ الْبِرُّ ...} إلخ: الصحيح أنه في شأن الحج، كان الأنصار إذا (¬4). [13/ أ] (190) الآية في القتال في الأشهر الحرم. (191) إلى (194): كما منع عن الاعتداء في الأشهر الحرم، فكذلك نهى عنه في المسجد الحرام. (195) مر في الآيات السابقة الأمر بالقتال في الجملة، فنبه على أمرٍ لا بد منه فيه. ¬

_ (¬1) زيادة منّي من المزمور المذكور، للإيضاح. (¬2) زيادة من المؤلف. (¬3) سياق الكلام: أحكام الأهلة مما بدّله بنو إسرائيل ... ومما بدّله المشركون. (¬4) كتب بعدها: "أحرم أحدهم"، ثم ضرب عليه ولم يكمل. ولعله أراد أن ينقل ما أخرجه البخاري (1803) عن البراء يقول: " ... كانت الأنصار إذا حجُّوا فجاؤوا لم يدخلوا من قبل أبواب بيوتهم، ولكن من ظهورها. فجاء رجل من الأنصار، فدخل من قبل بابه، فكانه عُيَّر بذلك، فنزلت: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا}. وانظر الحديث برقم (4512) أيضًا.

(196) إلى (203): قد بيَّن في آية (189) أن الأهلة مواقيت للناس في الحج، فبيَّن في الآيات السابقة من أحكامها ما بدله المشركون في شأن الأشهر الحرم. وبيَّن في هذه الآيات أحكام الحج؛ لأنه مما بدله أهل الكتاب، وبدل المشركون بعض أحكامه. (204) إلى (207): هذه الآيات كالتكملة للتقسيم المذكور في آية (200)؛ فإنه أمر فيها بذكر الله تعالى عند قضاء المناسك، ثم قال: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا} [البقرة: 200 - 202]. [13/ ب] والأول حال المشركين الذين لا يرجون الآخرة، فكانوا إذا دعوا الله تعالى دعوه لدنياهم، والثاني شأن المؤمنين. وهو تقسيم تامٌّ بالنسبة للدعاء. ولكن التقسيم بحسب الدعاء يتحول إلى التقسيم المطلق، والتقسيم المطلق أن يقال مثلاً: منهم كافر صريح، ومنهم منافق، ومنهم مؤمن يحب الدنيا، ومنهم مؤمن لا يبالي بها. فالمنافق لم يدخل في آية (200) أصلاً؛ لأنها مبنيَّة على دعاء المرء بينه وبين ربه، والنفاق عن هذا بمعزل. وأما المؤمن الذي لا يبالي بالدنيا، فإنه وإن دخل فيها لأنه أيضًا يقول: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}، إلا أنه كالخارج عنها؛ لما يوهمه ظاهرها من استواء الدنيا والآخرة عند الداعي.

فبدأ الله عَزَّ وَجَلَّ بما يتعلق بالسياق من أحكام الحج، [14/ أ] لأنه الأولى، ولأن الكلام على شأن المنافق يستدعي إطالة. والكلام على المؤمن الذي لا يبالي بالدنيا، الأنسب أن يكون بعد حال المنافق؛ ليتبين فضله، كما يقال: ما يعرف قدر النعمة إلا من قاسى الشدائد قبلها. ثم بين سبحانه وتعالى شأن المنافق في آية (204) إلى (206)، وبيَّن حال المؤمن الذي لا يبالي بالدنيا في آية (207). (208): (السَّلْم) (¬1): الإسلام، و (كافة) حال منه. أي: ادخلوا في جميع شرائعه. أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباسٍ قال في الآية: "يعني مؤمني أهل الكتاب؛ فإنهم كانوا مع الإيمان بالله مستمسكين ببعض أمر التوراة والشرائع التي أنزلت فيها. يقول: ادخلوا في شرائع دين محمد، ولا تدعوا منها شيئًا ... " (¬2). وأخرج ابن جرير عن عكرمة قال: "نزلت في ثعلبة وعبد الله بن سلام و ... ، وكلهم من يهود، قالوا: يا رسول الله! يوم السبت كنا نعظمه، فدعنا فَلْنُسْبِتْ فيه، وإن التوراة كتاب الله، فدعنا فلنقم بها بالليل. فنزلت" (¬3). انظر ¬

_ (¬1) كذا ضبط المؤلف (السَّلْم) بفتح السين، وهي قراءة نافع وابن كثير والكسائي من السبعة. وقرأ الباقون بكسرها. انظر: "الإقناع في القراءات السبع" لابن الباذش (608). (¬2) "تفسير ابن أبي حاتم" (1981، 1982). (¬3) "تفسير الطبري" (شاكر 4/ 256).

الكلام على آية (213). ذكرهما في "الدر المنثور" (¬1)، وذكر آثارًا أخرى توافق ذلك وتوضحه، منها ... (¬2). قد يقال: لا مانع من بقاء الآية على عمومها، ويكون الذين آمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم -[14/ ب] من أهل الكتاب داخلين فيها دخولًا أوّليًّا بمعونة السياق؛ فإن الأحكام السابقة كلها لها علاقة بأهل الكتاب، كما قدمناه، وسيأتي ذكرهم قريبًا وبيان أنهم بدَّلوا نعمة الله كفرًا. وبهذا ظهر الارتباط. (209) و (210) تتمة لما قبلهما. (211) قد تقدم ذكر بني إسرائيل، ولم يزل الكلام متصلاً بهم إلى هنا، كما قدمنا. والمراد بالآيات ما يعمُّ ما تقدَّم تفصيله، فكأنه قال: هذه الآيات التي تقدمت من جملة الآيات التي آتيناهم إياها، وأنعم الله عليهم بها، فبدَّلوا نعمة الله كفرًا. (212) هي بيانٌ لسبب ما تقدم في الآية قبلها، من تبديل بني إسرائيل نعمة الله كفرًا. (213) هذا الكلام جامعٌ لما تقدم تفصيله وغيره مما كان من جنسه، فقد تقدم أن بعض الأشياء بدلت من شريعة إبراهيم عليه السلام فمن بعده ¬

_ (¬1) (1/ 579). (¬2) ترك المؤلف هنا بياضًا.

من الأنبياء عليهم السلام. والمراد بقوله في هذه الآية: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} آدم عليه السلام وذريته؛ فإنهم كانوا كل الناس، وكانوا أمة واحدة مؤمنة، إلى مدة من الزمان، الله أعلم بها. وقوله: {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ ...} يريد - والله أعلم -: فاختلفوا، فبعث الله ... كما يدل عليه تعليله [15/ أ] بقوله: {لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} وقوله: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ} أي في الكتاب، كما هو ظاهر. كأنه قال - والله أعلم -: فاختلفوا في الكتاب، {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ} وهم بنو إسرائيل، {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} محمدًا وأمته {لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} أي: بنو إسرائيل {مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}. انظر ما تقدم من الكلام على آية (142). وقد تقدم في الكلام على آية (208) أن الذين أسلموا من اليهود استأذنوا النبي صلَّى الله عليه وسلم أن يسبتوا، فنهاهم الله عزَّ وجلَّ. وفي "الدر المنثور" (¬1): "وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي هريرة في قوله: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: نحن الأولون والآخرون. الأولون يوم القيامة, وأول الناس دخولًا الجنة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم؛ فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق. وهذا يومهم الذي اختلفوا ¬

_ (¬1) (1/ 583).

فيه، فهدانا الله؛ فالناس [15/ ب] لنا فيه تبع، فغدًا لليهود وبعد غدٍ للنصارى". والحديث في "الصحيح" (¬1) من طريق عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن همام بن منبه، أخي وهب بن منبه، قال: هذا ما حدثنا [به] أبو هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة" فذكره بمعناه. وهو ثابت في "الصحيح" (¬2) أيضًا من طرق أخرى عن أبي هريرة. وثبت في "الصحيح" (¬3) أيضًا عن حذيفة. [16/ أ] وفي التوراة التي بأيدي أهل الكتاب الآن ما يشهد لمعناه، وإن كان غنيًّا عن الشهادة. وهكذا في الأناجيل التي بأيدي النصارى الآن بشارة بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وأمته وأنهم الآخرون الأولون. وهذا مبسوط في موضع آخر مع بسط معنى الحديث، والمقصود هنا بيان الارتباط. (214) تعلقها بما قبلها ظاهر، ولها نظر إلى الآيات التي ذكر فيها القتال (190 - 195). بيَّن الله عَزَّ وَجَلَّ بالآيات المتقدمة هدايته هذه الأمة إلى ما اختلف فيه من قبلهم، ثم أعقبه بأن هذه الهداية إنما ثمرتها دخول الجنة، ولكن دخول الجنة لا بد له من سعي، وكان مقتضى ذلك أن يكون السعي أعظم من سعي الذين قبلنا؛ لأن الهداية التي منحت لنا أعظم من الهداية التي ¬

_ (¬1) البخاري: كتاب الأيمان والنذور، باب قول الله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} (6624). (¬2) البخاري: كتاب الوضوء، باب البول في الماء الدائم (238)، ومواضع أخرى. (¬3) مسلم: كتاب الجمعة، باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة (856).

كانت لهم، ولكن الله عَزَّ وَجَلَّ خفف عن هذه الأمة فلم يبتلهم بأعظم مما كان على من قبلها، بل جعله مثله. (215) ذكر الله عَزَّ وَجَلَّ في الآية السابقة الابتلاء بالبأساء والضراء وزلزال الخوف، [16/ ب] ثم عقبه في هذه بنوعٍ من الابتلاء بالبأساء والضراء وهو إنفاق المال. ولذلك - والله أعلم - أعرض عن إجابتهم ببيان المقدار الذي ينفقونه، وبين لهم المصرف، فكأنه أحال التقدير إلى اختيارهم؛ لأن ذلك أظهر في الابتلاء. ألا ترى أن الابتلاء بعمل معين، إذا عمله العبد، لا يظهر به إلا امتثاله. فأما محبته لسيده وتفانيه في رضاه، فإنه لا يظهر إلا بأن يرغبه في عملٍ ويدع له فيه طرقًا للاعتذار إن لم يوفه. فإنه إن لم يكن صادق المحبة لسيده، والتفاني في رضاه، لم يبالغ في الشق على نفسه، بل يتكل على أن له معاذير. وإن وفي ذلك العمل، وبالغ فيه جهده، ولم يجنح إلى ما يلوح له من الرخصة، فهو الغاية. وأنت إذا تأملت وجدت هذا الابتلاء بهذه الصفة من أشد الابتلاء. فإن قلت: فماذا صنع الصحابة؟ قلت: [17/ أ] في "الدر المنثور" (¬1): "أخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن ابن عباس: أنَّ نفرًا من الصحابة حين أمروا بالنفقة في سبيل الله أتوا النبي ¬

_ (¬1) (1/ 607).

- صلى الله عليه وسلم - فقالوا: إنا لا ندري ما هذه النفقة التي أمرنا بها في أموالنا، فما ننفق منها؟ فأنزل الله: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219]، وكان قبل ذلك ينفق ماله حتى ما يجد ما يتصدق به ومالا يأكل (¬1)، حتى يتصدق عليه". وفيه (¬2): "وأخرج عبد بن حميد عن الحسن في قوله: {قُلِ الْعَفْوَ}، قال: ذلك أن لا تجد (كذا) (¬3) مالك، ثم تقعد تسأل الناس". وأخرج الشيخان (¬4) وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وابدأ بمن تعول". وفي رواية لمسلم (¬5) وغيره: "أفضل الصدقة ما ترك غنًى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول" تقول المرأة: إما أن تطعمني وإما أن تطلقني، ويقول العبد: أطعمني واستعملني، ويقول الابن: أطعمني، إلى من تدعني؟ ¬

_ (¬1) كذا في الأصل وفي "الدر المنثور"، وصوابه: "ولا ما يأكل" كما في "تفسير ابن أبي حاتم" (2048). (¬2) "الدر المنثور" (1/ 607). (¬3) صوابه: "أن لا تجهد"، كما في "تفسير ابن كثير" (1/ 243) عن عبد بن حميد. (¬4) البخاري: كتاب الزكاة, باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى (1426). ولم يخرجه مسلم عن أبي هريرة وإنما أخرجه عن حكيم بن حزام في كتاب الزكاة، باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى (1034). (¬5) بل في رواية البخاري: كتاب النفقات، باب وجوب النفقة على الأهل والعيال (5355). وقوله: "تقول المرأة ... إلى من تدعني" ليس من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - بل هو من كلام أبي هريرة رضي الله عنه.

[17/ ب] وهذه الآية أعني: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} تأتي بعد ثلاث آيات؛ فعلم بذلك أن الصحابة رضي الله عنهم بعد نزول آية (215) بذلوا أقصى مجهودهم، حتى كان أحدهم ينفق جميع ماله ولا يدع لنفسه وأهله شيئًا. وبذلك ظهر حبهم لله عزَّ وجلَّ، وتفانيهم في رضاه، وتمَّ لهم النجاح في ذلك الابتلاء، ولذلك ردهم الله عزَّ وجلَّ إلى الاعتدال ثانية، والله أعلم. (216) ذكر في هذه الآية ما يتعلق بالابتلاء بزلزال الخوف، وهو وجوب القتال المارُّ في آية (214). (217) هي كالتتمة للتي قبلها، مع إيضاح الابتلاء، ولكن أن يكون بيان حكم القتال في الشهر الحرام على هذا الأسلوب فيه ابتلاءٌ أيضًا؛ فإنه قال: {قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} أي: مفسدة كبيرة، {وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} يريد - والله أعلم - أن هاتين المفسدتين متعارضتان، وهما: ابتداء المسلمين القتال في الشهر الحرام، واستمرار المشركين على الصد عن سبيل الله وما معه. ففي هذا التنبيهُ على حلِّ القتال في الشهر الحرام؛ لأنه وإن كان معه مفسدة ففي تركه مفسدة أكبر. ولكن بقي مجالٌ للتكاسل عن القتال فيه، بأن يقال: قد أخبر الله تعالى أنه كبير. وأما مفسدة استمرار المشركين على ما هم عليه، فإنها وإن كانت أكبر إلا أنه بعد انقضاء الشهر الحرام يكون السعي في دفعها. (218) هي تتمة للتي قبلها. وفيها تعرض لبيان ثواب الثابتين، وفي التي قبلها جزاء المرتدين.

[18/ أ] (219) أولها في شأن الخمر والميسر، قال تعالى: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}. وهذا ابتلاء أيضًا، وحاله كحال القتال في الشهر الحرام، فقد بيَّن هناك أن في القتال فيه مفسدة، وفي عدم القتال مفسدة أكبر، وترك هناك طريقًا للعذر. وكذا هنا، بيَّن أن في الخمر والميسر منافع للناس، وفيهما إثم كبير، وكان محتملًا أن المراد بالإثم فيهما الإثم في مجرد تعاطيهما، أو المتوقع مما يؤديان إليه من العداوة والبغضاء والصد عن الصلاة وغير ذلك. ويمكن الترخُّص بأن يقول قائل: سأتعاطاهما مع الاحتراز عما ينشأ عنهما مما فيه إثم. وبذلك اتضح لك ما قدَّمناه من الابتلاء في شأنهم، وأنه كالابتلاء بالقتال في الشهر الحرام. وقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} هذا متعلق بالابتلاء في النفقة المتقدمة، [18/ ب] وقد مرَّ البيان في الكلام على آية (215). وأخره إلى هنا إشارة إلى تأخر نزوله مدة؛ ليظهر أن الابتلاء استمر مدة غير قصيرة، وأنهم تماروا فيه. ولذلك لما لم يطل الابتلاء بتقديم الصدقة بين يدي النجوى عقب الأمر بها بنسخه. وليكون فيه تنبيه على ما ينبغي للمؤمنين من الثبات عند الابتلاء، كأن قال: إني ابتليتكم في النفقة فوفيتم وأبلغتم، فلما تحملتم ذلك فرَّجتُ عنكم وخفَّفتُ، فكذلك ينبغي أن تعملوا في الابتلاءات الأخرى، فلا تجنحوا إلى جانب الرخصة، فإنكم إن لم تجنحوا أمكن أن يخفف الله عنكم شيئًا ما، كما خفف عنكم في النفقة.

ولهذا عقب هذا بقوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}. ويمكن أن يكون في جعلها - أعني قوله: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} في هذا الموضع ابتلاء آخر؛ فإن المائل إلى الرخصة قد يتشبث بها قائلًا: إن الله تعالى يريد منا اليسر، ولهذا لما شددنا على أنفسنا في النفقة لم يرض لنا ذلك، بل ردَّنا إلى الاعتدال، فكذلك ينبغي أن لا نشدد في القتال في الشهر الحرام، وفي الخمر والميسر. فإن قلت: فهل نجحوا في الابتلاء في القتال في الشهو الحرام، وفي الخمر والميسر، كما نجحوا في الابتلاء بالإنفاق؟ [19/ أ] قلت: الذي يظهر لي أنهم نجحوا في شأن القتال، ونجح غالبهم في شأن الخمر والميسر. فإن قلت: فهل خفَّف الله عنهم، كما وعدهم بوضعه آية العفو عقب الابتلاء؟ قلت: أما في شأن القتال في الشهر الحرام فنعم، فقد جاء في الروايات أنهم قاتلوا فيه، ثم نزلت بعد ذلك آيات النهي عن القتال في الشهر الحرام، بعضها في سورة التوبة، وبعضها في سورة المائدة، وكان نزولها بعد هذا. وأما في الخمر والميسر فلم يخفف. والسبب في ذلك - والله أعلم - أولًا: أن بعضهم ترخَّص في الخمر بعد ذلك، ولعل بعضهم ترخَّص في الميسر أيضًا. وثانيًا: أن الذين لم يترخصوا تبيَّن لهم عظمُ المفسدة في الخمر والميسر، فحرصوا بأنفسهم على أن يحرِّمهما الله عزَّ وجلَّ البتة، كما ثبت

ذلك عن عمر وغيره (¬1)، والله أعلم. وليس فيما قدمنا ما ينافي الحكمة المشهورة في تحريم الخمر؛ فإن الله تعالى حرمه تدريجًا، فأنزل أولًا الآية المذكورة، ولم يصرح فيها بالتحريم، إلى آخر ما تبين به هذه الحكمة، وعدم المنافاة ظاهرٌ بأدنى تأمل، والله أعلم. (220) أولها متعلق بالتي قبلها، وقوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} الآية رخصة أخرى تشبه التي قبلها. أخرج أبو داود (¬2) والنسائي (¬3) [19/ ب] وابن جرير (¬4) وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لما أنزل الله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152] و {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى} الآية [النساء: 10] انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه، وشرابه من شرابه، فجعل يفضل له الشيء من طعامه فيحبس له، حتى يأكله أو يفسد، فيرمى به. فاشتد ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنزلت". (221) هي متعلقة بآية (217) أعني قوله: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا}؛ لأن مناكحة المشركين مما يدعو إلى الردة، وقد علل تعالى النهي عن المناكحة بذلك، إذ قال: {أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ}. ¬

_ (¬1) انظر: "إرشاد الساري" (7/ 301). (¬2) في كتاب الوصايا، باب مخالطة اليتيم في الطعام (2871). (¬3) في كتاب الوصايا، باب ما للوصي من مال اليتيم إذا قام عليه (3671). (¬4) نشرة شاكر (4/ 350).

أما علاقتها بالتي قبلها - أعني (220) - فهي والله الأعلم - أن في آية (220) الإذن بمخالطة اليتامى، وتعليلها بقوله: {فَإِخْوَانُكُمْ} أي: في الدين. وفي هذه - أعني آية (221) - النهي عن مناكحة المشركين، والمناكحة تقتضي المخالطة، وعللها بكونهم يدعون إلى النار؛ فالعلاقة كعلاقة أحد الضدين بالآخر، [20/ أ] كما في السماء والأرض، والأبيض والأسود، ونحو ذلك. (222) علاقتها بالتي قبلها ظاهرة، ولها نظر إلى الأمور التي اختلف فيها أهل الكتاب، كما تقدم الكلام عليه؛ فإن مخالطة الحائض مما اختلفوا فيه، وشَدَّد فيه اليهود أو شُدَّد عليهم. (223) علاقتها بالتي قبلها ظاهرةٌ، من حيث خصوص قربان النساء، ومن حيث الهداية لما اختلف فيه أهل الكتاب، كما يعلم من سبب النزول. (224) علاقتها بالتي قبلها ظاهرة. فهذه - أعني آية (224) - كالمقدمة للتي بعدها، أي آية (225)، وعلاقة هذه بآية (223) واضحة. (225 - 237) ارتباط الآيات بما قبلها، والارتباط بينها واضح. ولآيات الطلاق نظرٌ إلى ما تقدم من الأحكام التي اختلف فيها أهل الكتاب، فهدى الله الذين آمنوا الصراط المستقيم فيها؛ فإن الطلاق مما اختلفوا فيه. [20/ ب] (238 - 239) في الآية الثانية صلاة الخوف، وإنما يكون ذلك في الجهاد؛ فلها نظرٌ إلى آية (218) وما قبلها التي في شأن الجهاد، والأولى كالمقدمة لها. ثم علاقة الأمر بالصلاة بأحكام النكاح: أولًا: ما يظهر من آخر الآية الثانية: {كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}، كأنه قال: فكما علمكم الله تعالى من

أحكام النكاح ما فيه صلاحكم، ولم تكونوا تعلمون ذلك، وهداكم لما اختلف فيه الذين من قبلكم = فاشكروه، وأعظم الشكر المحافظة على الصلاة. وفي "الصحيح" (¬1): "ما تقرَّب إليَّ عبدي بأفضل من أداء ما افترضته عليه". وفيه (¬2): "خير أعمالكم الصلاة". وثانيًا: أن في آيات الطلاق والنكاح بيان العدل في معاملة النساء، وفي بعضها التخفيف عنهن، وفي بعضها تشديد ما, ولكن الباري عزَّ وجلَّ يرشدنا إلى العفو. ثم في آية (237): {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}، وفي (239) بيان عفو الله عَزَّ وَجَلَّ عنا بأن لم يكلِّفنا ما يشقُّ علينا من المحافظة على صفة الصلاة في حال الخوف. وأما آية (238) فهي كالمقدمة للتي بعدها، كما مر. فكأنه تعالى يقول: كما عفوت عنكم فاعفوا أنتم أيضًا، وكما خففت عنكم فخففوا أنتم أيضًا. وبهذا عُلِمَ وجهٌ لتوسيط (¬3) هاتين الآيتين بين أحكام الطلاق وما معه ممَّا يتعلق بالأزواج. [21/ أ] وها هنا نكتة لطيفة لتوسيط هاتين الآيتين، مع ما يظهر من بعد المناسبة. وهي الإشارة إلى عظم شأن الصلاة, لأن عادة الناس أن المتكلم ¬

_ (¬1) صحيح البخاري: كتاب الرقاق، باب التواضع (6502) من حديث أبي هريرة. (¬2) أخرجه أحمد (22378) وابن ماجه (277) وابن حبان (1037) وغيره من حديث ثوبان رضي الله عنه، ولم أجده في "الصحيح". (¬3) كذا في الأصل.

إذا كان في أثناء كلامٍ مهمًّ، أن يحرص على اتصاله، فلا يقطعه بكلام آخر، ثم يعود، إلا إذا كان ذلك الكلام الآخر أعظم أهمية. (240 - 242) من تمام أحكام الأزواج، وقد تقدم وجه توسيط آيتي (238 - 239). ولهاتين ارتباط بهما أيضًا، من جهة أن في تينك إرشادًا إلى شكر تلك النعمة - كما مر - وفي هاتين نوع من الشكر، وهو الوصية للأزواج، وتمتيع من طلق منهن. وفي تينك ذكر القتال عند الخوف، وفي هاتين ذكر الوفاة (¬1). (243 - 252) هذه الآيات مرتبطة بآية (239)، ثم بالآيات المتقدمة في شأن الجهاد. ولها نظرٌ إلى شأن بني إسرائيل، كما لا يخفى. وقوله تعالى (251): {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} تنبيه على حكمة الجهاد. قد علم الله عَزَّ وَجَلَّ ما سيحدث من طعن بعض الملحدين في الجهاد، وعلم أن منهم [21/ ب] من لا يؤمن بالأنبياء، فأجابه بما ذكر؛ وأن منهم من يدعي الإيمان بالأنبياء، ويطعن علي المسلمين في الأمر بالجهاد، فأجابه سبحانه وتعالى بأن الأنبياء الذين يدعي الإيمان بهم كانوا يجاهدون أيضًا. وأوضح هذا بقوله في آخر آية (252): {وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} أي: فلا بدع أن تؤمر بمثل ما أُمِروا به. وكما أن في هذا ردًّا على الطاعنين، ففيه تحريض للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأمته على الجهاد، كما لا يخفى. ¬

_ (¬1) وانظر الرسالة الآتية في ارتباط الآيتين (238 - 239).

وعلم سبحانه وتعالى أن الطاعنين ربما يقولون: إن الجهاد في شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - أوسع مما كان أمر به الأنبياء الأولون عليهم السلام، فأجابهم تعالى بقوله: (253): {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} كأنه تعالى يقول: فإن فضلك الله تعالى بشيء، كالرسالة إلى الخلق كافة، والأمر بجهاد جميع الأمم؛ فلا بدع في ذلك، فإنه تعالى كذلك فضَّل بين الأنبياء السابقين في الشرائع والأحكام والآيات. [22/ أ] وعلم عزَّ وجلَّ أن الطاعنين ربما يقولون: سلمنا ظهور الحكم في مشروعية جهاد الوثنيين، فأي حجة لمشروعية جهاد أتباع الأنبياء السابقين؟ فأجابهم تعالى بقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ}، فكأنه تعالى يقول: إن المنتسبين إلى الأنبياء، كاليهود والنصارى، قد قاتل بعضهم بعضًا، وحجتهم أن المؤمنين منهم قاتلوا الكافرين منهم أيضًا، فتبين بهذا اعتراف من يدعي الإيمان منهم بوجوب قتال من كفر منهم. فثبت بذلك صحة قتال محمد - صلى الله عليه وسلم - وأمته لمن ثبت لديهم كفره من أهل الكتاب، وقد ثبت أن كل من لم يؤمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم - منهم فهو كافر. وقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} فيه رد على الطاعنين في الجهاد، مع اعترافهم بربوبية الله عزَّ وجلَّ؛ فإن اعترافهم بربوبيته تعالى يتضمن اعترافهم بأن اقتتال أهل الكتاب كان بقضائه وقدره، لحكمة يعلمها عزَّ وجلَّ. وإذا كان كذلك فاستبعادهم أن يأمر بالقتال مع

ظهور ... (¬1)، كيف وهو سبحانه عزَّ وجلَّ يفعل ما يريد؟ [22/ ب] (254) علاقتها بما قبلها ظاهرة؛ لأن ما قبلها في شأن الجهاد، وهي في الإنفاق في الجهاد وإن شملت الإنفاق في غيره. ولها ارتباط بآخر الآية التي قبلها، أعني قوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}؛ فإن هذا كالتمهيد لقوله في آية (254): {يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ}. والمراد - والله أعلم - خلة وشفاعة تخالف ما يريد الله تعالى. دل عليه السياق، وقوله في الآية التي بعدها: {إِلَّا بِإِذْنِهِ}، وآيات أخرى. ثم إنّ نفي الخلة والشفاعة (أي: بالقيد المذكور) عامٌّ في حقِّ المؤمنين وغيرهم. أما المؤمنون فالخطاب لهم، وأما غيرهم فنبه الله تعالى عليه بقوله: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}. وتضمنت هذه الجملة ردًّا على الطاعنين في الجهاد أيضًا، فإنهم يزعمون أنه ظلم، فبين تعالى أن الكافرين هم الظالمون بإلجائهم المسلمين إلى قتالهم. وتضمنت أيضًا الحض على الإنفاق، وأن البخل بالمال عن سبيل الله هو من شأن الكافرين، فلا ينبغي للمؤمنين. (255) آية الكرسي علاقتها بما قبلها أن في تلك نفي الخلة والشفاعة ¬

_ (¬1) هنا كلمات لم تظهر في الأصل.

التي يرجوها المشركون، كما علمت؛ وفي هذه - آية الكرسي - البرهان على انقضائها. [23/ أ] وقوله في أولها: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} ان كان المشركون لا يعترفون به، فإنه لم يلتفت إلى إنكارهم؛ لأنه عقبه بالبرهان على ذلك. وقوله: {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} الآية مما يعترف به المشركون، كما نص تعالى عليه في آيات أخرى، وبسطناه في موضعه. وقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} مما يعترف به المشركون، كما بينه تعالى بقوله: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 88 - 89]. ولهذا - والله أعلم - ذكره في آية الكرسي بالاستفهام. ولعل في هذا إشارة إلى حقَّيَّة جهادهم؛ لأنه ظهر به أنه لا عذر لهم في البقاء على الشرك. وهذا لا يشمل أهل الكتاب، ولكن قد بيَّن في آيات أخر ما يماثله في حق أهل الكتاب، بل هو أقوى منه. وذلك قوله تعالى فيما تقدم من هذه السورة: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ... الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ...} [البقرة:144 - 146]. وقوله: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} الضمير للشفعاء المفهومين مما

سبق، وخصه ابن عباس ثم مقاتل بالملائكة (¬1)؛ لأمور: الأول: أن المشركين إنما يرجون شفاعة الملائكة. الثاني: أن نظائره في القرآن هي في شأن الملائكة؛ كقوله تعالى: [23/ ب] {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 26 - 28]. الثالث: قوله تعالى: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا}، وهذا دفع لما يتوهم أنه محتاج إلى من يعينه على حفظهما، وإنما يتوهم احتياجه في حفظهما إلى الملائكة. وقد يكون في قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} إشارة إلى معنى يدفع شبهات الطاعنين على الجهاد؛ لأن فيها بيان إحاطة علمه تعالى، وقصور علم ملائكته، فضلًا عن غيرهم. فكأنه يقول: هَبُوا يا معشر الطاعنين أنكم لم تفهموا حكمة الجهاد وعدله، فذلك لا يدل على عدم الحكمة والعدل فيه؛ لأن علمكم قاصر، وعلم الله تعالى - وهو شارع الجهاد - محيط. فينبغي لكم أن تنظروا في الأدلة الأخرى القاضية بأن هذا الجهاد من أمر الله تعالى، وتقنعوا بذلك، وإن لم يظهر لكم حكمة الجهاد وعدله في نفسه. ¬

_ (¬1) انظر: "الدر المنثور" (2/ 10)، و"زاد المسير" (1/ 302).

(256) {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ...} قد علمت مما تقدم في الكلام على الآيات المتقدمة، من آية (243) إلى هنا، أنها تدور على بيان حكمة الجهاد، ودفع المطاعن التي ربما تورد عليه. وأيضًا، [24/ أ] فهذه قرينة توجب حمل هذه الجملة {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} على ما لا ينافي الجهاد، ما دام يمكن حملها على ذلك، ولو بنوعٍ من التجوُّز. هذه هي القاعدة العقلية المطردة في فهم الكلام، ولا ينكرها أحد من العقلاء. وأيضًا، الكلام بعد هذه الجملة كله مما يؤيد الأمر بالجهاد، كما يأتي إن شاء الله. وهاك تفصيل ذلك: أولًا: حكمة الجهاد التي تقدمت في آية (215). 2 - ما تقدم من كونه كان مشروعًا في الشرائع المتقدمة. 3 - ما تقدمت الإشارة إليه في آية (254). 4، 5 - ما تقدمت إليه الإشارة في الكلام على آية الكرسي (255). 6 - قوله تعالى عقب هذه الجملة: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. 7 - قوله تعالى عقب ذلك: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا} (¬1) على ما يأتي إيضاحه أيضًا إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) في الأصل: " ... فقد هدي إلى صراط مستقيم"، وهو سهو.

8 - قوله تعالى عقب ذلك: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة: 257] على ما يأتي إيضاحه أيضًا إن شاء الله تعالى. [24/ ب] 9 - الآيات الآتية في الأمر بالإنفاق، وهي في هذا السياق، كما يأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى. وختام العشرة: ختام هذه السورة: {فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (¬1) [البقرة: 286]. وهناك وجوه أخرى تدل على ما قدمناه, أو على تخصيص الجملة المذكورة، أو نسخها؛ فيترجح دلالتها على المعنى الأول لموافقته بقية الأدلة. منها: أن نزول سورة البقرة كان عقب الهجرة، وقد نزل بعدها سور وآيات في الأمر بالجهاد، وجاهد النبي - صلى الله عليه وسلم - بنفسه، واستمر حكم الجهاد إلى وفاته - صلى الله عليه وسلم -، فإنه عند وفاته كان قد جهز جيشًا مع أسامة بن زيد، ولم يزل يحض على تنفيذه إلى آخر رمق. دع جهاد الصحابة وإجماعهم - والأمة من بعدهم - على الجهاد. إذا علمت ما تقدم (¬2) فاعلم أن المفسرين متفقون - فيما أعلم - على أن المعنى: لا إكراه على الدخول في الدين. واختار الصاوي في "حواشيه على الجلالين" بأن (¬3) (في) بمعنى (على)، ¬

_ (¬1) في الأصل: "وانصرنا ... "، وهو أيضًا سهو. (¬2) الكلام من "فاعلم" إلى "نتكلم على هذا المعنى" ألحقه المؤلف في أعلى الأوراق (24/ ب -32/ أ). (¬3) كذا "بأن" في الأصل.

كما في قوله: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] (¬1)؛ فالمعنى: لا إكراه على الدين. ولكن من يقول بأن استعمال (في) موضع (على) لا يكون إلا لنكتة يطلب النكتة هنا, ولم أستحضر نكتة. وعندي أن في الكلام تضمينًا، ضمن الإكراه معنى الإدخال لتؤدي الكلمة المعنيين معًا، ونبه على ذلك بتعدية الإكراه بـ (في) التي يعدى بها الإدخال، فصار المعنى: لا إدخال في الدين بالإكراه. والتضمين كثير في القرآن وغيره. والمراد بالنفي عندي ظاهر (¬2)، أي: لا يمكن الإدخال في الدين بالإكراه. والمراد بالدين هنا الإيمان, بدليل قوله في السياق: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ ...} [البقرة: 256]. ودليل ثانٍ وهو: أن الإيمان هو الذي لا يمكن الإدخال فيه بالإكراه. ودليل ثالث وهو قوله تعالى: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99] كما يأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى. ولك أن تبقي كلمة "الدين" على عمومها الشامل للإيمان والإسلام ¬

_ (¬1) "حاشية الصاوي" (1/ 121) فسره الجلال بمعنى "على الدخول فيه"، وقال الصاوي: "والمعنى: لا يكره أحد أحدًا على الدخول في الإسلام" دون التصريح بأن "في" بمعنى "على" والاستشهاد بقوله تعالى: {فِي جُذُوعِ النَّخْلِ}. (¬2) في الأصل: "ظاهرة".

والإحسان, كما في حديث جبريل (¬1). والإيمان هو الأعظم. مع أن الإسلام والإحسان لا يمكن الإدخال فيه بالإكراه؛ لأن تحققه متوقف على الإيمان, فغير المؤمن لا يمكن أن يصلي أو يصوم أو يحج أو يعمل شيئًا من الأعمال الدينية؛ لأنه إذا عمل الأعمال التي تسمى في الظاهر صلاةً لم تكن أعماله تلك صلاة شرعية التي هي من الدين. وهكذا. وأيضًا، فالأعمال الدينية يتوقف الاعتداد بها من الدين على النية، والنية لا يمكن تحصيلها بالإكراه. فإن قلت: فما وجه ارتباط هذه الجملة بما قبلها؟ فالجواب: أن الله عزَّ وجلَّ لما قدم بيان حكمة الجهاد، وكونه حقًّا من عنده - كما تقدم بيانه - وبيَّن وضوح الحق وسقوط أعذار الكفار، وأنهم هم الظالمون= كان ذلك مظنة لأن يحمل المسلمين على الغلو في الجهاد حبًّا للحق ورغبة في قبول الناس به، فدفع الله تعالى هذا ببيانه أن الدين لا يحصل بالإكراه. فدل بذلك على أن الجهاد ليس المقصود منه الإكراه على الدين، وإنما المقصود منه حكم أخرى بيَّن الله تعالى بعضها فيما سبق، وبعضها يفهمه العقلاء، وباقيها يعلمها الله تعالى، كما تقدمت الإشارة إليه في آية الكرسي. فإذا كان كذلك فعلى المسلمين أن يقتصروا من الجهاد على ما شرعه الله تعالى، ولا يغلوا فيه؛ فإن الغلو إنما يبعثهم عليه الرغبة في دخول الناس ¬

_ (¬1) البخاري: كتاب الإيمان, باب سؤال جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان والإسلام والإحسان (50)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام (9، 10).

في الدين، ودخول الناس في الدين لا يحصل بالجهاد. وقوله تعالى: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} كأنه - والله أعلم - جوابٌ عن سؤال مقدر، كأن المسلمين قالوا: فكيف نصنع في حمل الناس على الحق؟ فأجابهم تعالى بذلك، أي: إنه ليس عليكم إلا البلاغ. وقوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ ...} من تتمة الجواب، أي إن من قبل الإيمان برضاه واختياره, فنفسَه نَفَعَ، ومن أبى فنفسه ضرَّ. والله أعلم. ويمكن بيان الارتباط بأكثر من هذا, ولكن يحتاج إلى إطالة، وفي هذا كفاية إن شاء الله تعالى. فإن قال قائل: أنا لا أسلِّم أن معنى {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}: لا إكراه على الدين - كما قلت - وإن اتفق عليه المفسرون، بل الظاهر عندي أن المعنى: ليس في أحكام الدين حكم بالإكراه. أي أعم من أن يكون إكراهًا على الإيمان أو على عملٍ ما من الأعمال مطلقًا. قلت: السياق يأبى هذا, ولا سيما قوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ}، وقوله في آية يونس: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}. ومع ذلك، فلا بأس أن نتكلم على هذا المعنى (¬1)، فأقول: المتبادر إلى ¬

_ (¬1) هنا تم اللحق الذي بدأ في أعلى الورقة (24/ ب).

الأذهان أن الإكراه ظلمٌ مذموم؛ فلو قيل لك: إن في إقليم كذا ملكًا يكره الناس، [25/ أ] تبادر إلى ذهنك أنه ظالم. فإذا وافقت على هذا ساغ لنا أن ندعي أن الإكراه الحقيقي هو ما يكون ظلمًا، بدليل التبادر المذكور. فلا يشمل ما يسمى إكراهًا وليس بظلم، كإكراه المريض على الدواء، والصبي على التعليم. ولو قيل لك - بدل المثال المتقدم -: إن في بلد كذا ملكًا يكره الأطفال على التعلم، ويكره العامَّة على تعلُّم الصنائع المفيدة، ويكره الرعية على القيام بما تتوقف عليه مصلحة شرف الأمة واستقلالها من النفقات، ويُكره الصالحين للقتال على القتال في الدفاع عن الأمة وشرفها، وأشباه ذلك = لم يتبادر إلى ذهنك من هذه الصفات أن الملك ظالم، بل بالعكس نفهم أن الواصف يصفه بالحكمة والعدل. فإن سلمت هذا، قلنا: إن الإكراه في الآية المراد به الإكراه الحقيقي، وهو ما يكون ظلمًا. [25/ ب] وإن بقي في نفسك شيء من هذا، فلا بأس أن نفرض أن الإكراه يشمل الضربين حقيقة، ولكن نقول: أريد منه ها هنا الضرب الأول خاصة، بمعونة القرائن والأدلة التي قدمناها، وذلك على سبيل المجاز، لما كان الضرب الثاني المقصود منه المصلحة والعدل والمنفعة مما يحسَّنه العقل، فكان ينبغي للناس أن يقبلوه برضاهم واختيارهم، ولا يلجئوا المصلح إلى إكراههم عليه. ولذلك صح تخصيص الإكراه بالضرب الأول، وكان الثاني غير معتدًّ به ولا منظورٍ إليه.

وعليه فالمعنى: وليس في أحكام الدين إكراه يكون ظلمًا. وهذا صحيح، بل ليس فيها ظلمٌ البتة، والحمد لله. وقوله تعالى: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} الآية يؤيد ذلك (¬1). ¬

_ (¬1) هنا انتهت مسودة هذه الرسالة.

الرسالة الخامسة في ارتباط قوله تعالى: {حافظوا على الصلوات ...} بما قبله وما بعده

الرسالة الخامسة في ارتباط قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ ...} بما قبله وما بعده

بسم الله الرحمن الرحيم (238 - 239) {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}. في الآية الثانية صلاة الخوف، وإنما يكون ذاك في الجهاد، فلها نظر إلى آية (218) وما قبلها، فإنها في شأن الجهاد. وأما الآية الأولى فهي كالمقدمة للثانية. وللآيتين علاقة بآيات النكاح والطلاق من وجهين: الأول: أن في آيات النكاح والطلاق بيان العدل في معاملة النساء. وفي بعضها التخفيف عنهن، وفي بعضها تشديدٌ ما مع إرشاد الرجال إلى العفو. وفي آية (237): {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}. وفي آية (239) بيان عفو الله عزَّ وجلَّ وتخفيفه عنَّا بأن لم يكلَّفنا ما يشقُّ علينا من المحافظة على إتمام صفة الصلاة عند الخوف. فكأنه تعالى يقول: كما عفوت عنكم، وخفَّفت عليكم؛ فاعفوا أنتم عن أزواجكم، وخفَّفوا عليهن. وأما الآية الأولى، فكالمقدمة للثانية, كما مرَّ. الوجه الثاني: أن أحكام النكاح والطلاق من عظيم نعم الله علينا، فعلينا أن نشكره، والمحافظة على الصلاة هي أعظم الشكر. وقد نبَّه على ذلك بقوله في آخر الآيتين: {كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}. فكأنه تعالى قال: كما علَّمكم من أحكام النكاح والطلاق ما فيه صلاحكم،

وهداكم لما اختلف فيه الذين من قبلكم من الحقِّ، وخفَّف عنكم بعض ما كان مشدَّدًا عليهم؛ فاشكروه، وأعظم الشكر: المحافظة على الصلاة. ثم قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ} إلى أن قال: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [240 - 241] علاقة هاتين الآيتين بآيات النكاح والطلاق واضحة. وأما علاقتهما بآيتي (238 - 239) فمن أوجه: الأول: أنَّ للأوليين تعلُّقًا بالخوف والقتال كما مرَّ. وفي آية (240): {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ ... وَصِيَّةً}. ومعنى "يتوفون": أي يشارفون الوفاة؛ لأنَّ المتوفَّى حقيقةً لا يمكن أن يوصي. فكأنه قيل: إنَّكم معرَّضون للجهاد والقتل، وبذلك تكونون دائمًا مشارفين للوفاة، وينبغي لمن كان مشارفًا للوفاة أن يوصي لزوجته. وأما المتعة للمطلقة، فكأنها في مقابل الوصية للمتوفى عنها. الوجه الثاني: أنَّ في الأوليين الإشارة إلى الترغيب في العفو والتخفيف عن النساء كما مرَّ، وفي الأخريين الترغيب في الإحسان إليهن بالوصية والمتعة. الوجه الثالث: أنَّ في الأوليين الإشارة إلى الأمر بشكر الله عزَّ وجلَّ على ما علَّم وذلك بالصلاة؛ وفي هاتين شكر الأزواج على ما كان من خلطتهن وخدمتهن وغير ذلك، بأن يوصي لها بعد موته أو يمتِّعها إذا طلَّقها.

وفي الحديث: "من لم يشكر الناس لم يشكر الله" (¬1). [ص2] هذا، وفي سَوقِ الكلام هذا المساقَ الذي يتراءى منه أنَّ آيتي الصلاة مقحمتان بين آيات النكاح: نكتة، وذلك أنَّ المعروف من سنَّة الكلام أنَّ المتكلَّم لا يقطع كلامه ما لم يتمَّ غرضُه، ولا يفصل بين أجزائه بكلام أجنبيٍّ إلاَّ إذا عرض أمر مهم، كالخطيب يكون في أثناء خطبته، ثم يرى جماعةً يتكلمون، فيُقحم في خطبته كلامًا يتعلَّق بالزجر عن الكلام وقتَ سماع الخطبة. وبالجملة يبين بهذا أنَّ إقحام الحكيم كلامًا بين أجزاء كلامه إنما يكون لأهمية ذلك المقحَم. وإذ كان يتراءى من آيتي الصلاة أنهما مقحمتان، ففي ذلك دلالة عِظَمِ أهمية الصلاة؛ وهذا بحسب ما يتراءى، والله أعلم. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (7504)، والبخاري في "الأدب المفرد" (218)، والترمذي (1954)، وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله عنه. وقال الترمذي: هذا حديث صحيح.

الرسالة السادسة في تفسير قوله تعالى: {وآتوا اليتامى أموالهم ...} الآيات

الرسالة السادسة في تفسير قوله تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ ...} الآيات

التفسير

[ص 1] بسم الله الرحمن الرحيم قال الله تعالى في سورة النساء: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3) وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ..} [النساء: 2 - 4]. وقال سبحانه فيها: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127) وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا} [النساء: 127 - 130] التفسير: {الْيَتَامَى}: جمع يتيم، وهو مَنْ دون البلوغ إذا كان قد مات أبوه، ويشمل الذكور والإناث.

وإيتاؤهم أموالهم: يشمل - والله أعلم - الإنفاق عليهم منها قبل بلوغ الرشد، وتسليم بقيتها إليهم بعده. وتبدل الخبيث بالطيب: أخذ الخبيث، والمراد به الحرام، وإعطاء الطيب، والمراد به الحلال. [ص 2] وذلك أخذُ الولي الجيدَ من مال اليتيم، وإبداله بالرديء من مال نفسه، قائلاً: إن كنتُ أخذتُ من ماله، فقد عوَّضتُه. قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ} الأصل في "إن" كما قاله علماء المعاني: "عدم الجزم بوقوع الشرط" (¬1)، وذلك يقتضي أن يكون خوف عدم الإقساط غير مجزوم بوقوعه. والأصل في "الخوف" أن يكون لما يتوقع - أي يظن - وقوعه، لا لما يجزم بوقوعه، لا يقول الشيخ الهرم: أخاف أن لا يعود لي شبابي في الدنيا. وهذا يقتضي أن يكون عدم الإقساط غير مجزوم بوقوعه. وقوله: {أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} حَمَله جماعة على العموم، فقال بعضهم (¬2): المعنى: كما تخافون أن لا تقسطوا في اليتامى، فكذلك خافوا أن لا تقسطوا في النساء {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} إن لم تخافوا أن لا تعدلوا {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً}. وقال غيره (¬3): المعنى: كما تخافون من الجور، فكذلك خافوا من الزنا ¬

_ (¬1) انظر: "الإيضاح في علوم البلاغة" (88). (¬2) انظر: "تفسير الطبري" (6/ 362). (¬3) "تفسير الطبري" (6/ 366).

{فَانْكِحُوا ...}. وحمله الأكثر على الخصوص، على اختلاف بينهم، وذلك على أقوال: 1 - [ص 3] في "الصحيحين" (¬1) - واللفظ لمسلم - من طريق الزهري عن عروة عن عائشة: ذكرت الآية الثالثة، ثم قالت: "هي اليتيمة تكون في حِجْر وليها، تشاركه في ماله، فيعجبه مالُها وجمالُها، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يُقسط في صداقها، فيعطيها مثلَ ما يعطيها غيره، فنُهُوا أن ينكحوهن، إلا أن يُقسطوا لهن، ويبلغوا بهن أعلى سُنَّتهن من الصداق، وأُمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن". 2 - وفي "صحيح مسلم" (¬2) من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة في قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى}، قالت: "أنزلت في الرجل تكون له اليتيمة، وهو وليها ووارثها, ولها مال، وليس لها أحد يخاصم دونها، فلا يُنكحها لمالها، فيُضِرُّ بها، ويسيء صحبتها، فقال: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} يقول: ما أحللت لكم، ودع هذه التي تُضِرُّ بها". وفي "صحيح البخاري" ما يوافقه (¬3). ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري": كتاب الشركة، باب شركة اليتيم وأهل الميراث (2494)، و"صحيح مسلم"، كتاب التفسير (3018 - 6). (¬2) كتاب التفسير (3018 - 7). (¬3) كتاب التفسير، باب قوله: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} (4600).

الزهري أجلُّ من هشام، لكن قد ينظر فيما في روايته من وجهين: الأول: أن صداق المثل، وهو المعبَّر عنه بـ "أعلى سنتها" لا بد أن يكون معروفًا، فإن بذله الولي فقد وُجد الإقساط يقينًا، فلا محل لخوف عدمه. وإن نقص عنه فقد وجد عدم الإقساط يقينًا، وذلك [ص 4] خلاف الأصل في "إن"، وفي "الخوف" كما تقدم. الثاني: أن اليتيمة إذا أعجب وليَّها جمالُها ومالُها، فهو بنكاحه لها يرى أنه قد احتفظ بمالها له أو لورثته، فيبعد مع هذا أن ينقصها من مهر المثل، وهو يرى أن سبيله كسبيل أصل مالها، أي أنه محفوظ له ولورثته، فاحتمال النقص هنا كأنّه نادر، والأولى حمل القرآن على ما يكثر وقوعه. وقد يزاد وجه ثالث: وهو أن نكاحه إياها إنما يكون برضاها بعد بلوغها، فإذا رضيت بدون مهر المثل، فأي حرج على الولي في ذلك؟ وهي لو وهبته جميع مالها برضاها لحلَّ له أخذه بلا شبهة. لكن قد يقال: لعلها لم تسمح بنقص المهر ابتداءً، ولكنه عضلها عن أن تنكح غيره، ولم يكن لها من يخاصم عنها، فرأت أنها إذا لم تسمح بقيت عانسًا، فاضطرت إلى السماح. وفي الوجهين الأولين كفاية. وما في رواية هشام أقرب إلى ظاهر الآية، إلا أن قوله: "وليس لها أحد يخاصم عنها، فلا يُنكحها (بضم الياء) "، لا أرى له حاجة. فالأولى أن تشمل الآية هذا، بأن كان أجنبي قد رغب فيها، فعضلها الولي؟ وتشمل ما إذا لم يرغب فيها أجنبي بعد، وأحب الولي أن يبادر إلى خطبتها ونكاحها؛ ليحتفظ بمالها، فرضيت المسكينة متوهمةً أنها قد أعجبت الولي لنفسها، وعدَّت ذلك غنيمةً؛ لأنها لعدم جمالها تشكُّ في رغبة غيره فيها.

وفي "تفسير البغوي" (¬1): "قال الحسن: كان الرجل من أهل المدينة تكون عنده الأيتام، وفيهن من يحل له نكاحها، فيتزوجها لأجل مالها، وهي لا تعجبه، كراهية أن يدخل غريب فيشاركه في مالها، ثم يسيءُ صحبتها، ويتربص أن تموت، فيرثها، فعاب الله تعالى ذلك، وأنزل الله هذه الآية". هذا يوافق رواية هشام، مع شموله للصورتين. [ص 5] وقوله في رواية الزهري: (ما طاب لهم من النساء سواهن) معناه كما هو واضح: سوى اليتامى اللاتي لا يقسطون في صداقهن، ومثله ما في رواية هشام: (ودع هذه التي تضرّ بها). ومثله يفهم مما روي عن الحسن. فأما ما أخرجه ابن جرير (¬2) بسند صحيح عن الحسن: {مَا طَابَ لَكُمْ} أي ما حلَّ لكم من يتاماكم من قراباتكم مثنى وثلاث ورباع ... " فكأنه أراد: "ولو من يتاماكم اللاتي لا تخافون ألا تقسطوا إليهن"، ولم يصرح به استغناءً بدلالة الآية على ذلك. وأحسن من هذا عندي أن يلحظ في معنى الطيب: الطيب طبعًا، كما اختاره جمع من المتأخرين، وفسروه بقولهم: "ما مالت له نفوسكم واستطابته" (¬3). ثم إما أن يقال: المعنى: ما طاب شرعًا وطبعًا. ¬

_ (¬1) "تفسير البغوي" (1/ 473). (¬2) انظر: "تفسيره" (6/ 367). (¬3) "روح المعاني" (4/ 190).

وإما أن يقال: الخطاب مع المؤمنين، والمؤمن لا يطيب له طبعًا نكاح محرمة، كبنت ابنه، أو بنت أخيه. هذا، وطريقة المحققين من أئمة التفسير والحديث تحرَّي الجمع بين الروايات، وإذا كانت الآية ظاهرة في العموم لم تصرف عنه إلى الخصوص لظاهر تفسير بعض السلف. فقد حقق شيخ الإِسلام ابن تيمية أن كثيرًا من تفسيرات السلف إنما أريد بها النصُّ على أنَّ ما ذكره مما يدخل في الآية، لا أنه المعنى كله (¬1). فعلى هذا، يمكن تقرير معنى الآية [ص 6] على ما يشمل ما تقدم وغيره من صور خوف عدم الإقساط، وتسلم مع ذلك عن كثرة الحذف والتقدير، ودونكه: 3 - قال الله عَزَّ وَجَلَّ أولاً: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} فهذا خطاب للناس جميعًا، فكذلك قوله في الآية الثانية: {وَآتُوا ... وَلَا تَتَبَدَّلُوا ... وَلَا تَأْكُلُوا ...} وكذلك قوله في الثالثة: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا ...} فالناس جميعًا مكلفون بالإقساط إلى اليتامى، كلٌّ بحسبه، فالولي يقسط في معاملة اليتيم، وسائر الناس يأمرونه بذلك، ويحثونه عليه، ويمنعونه من الجور. وهناك صور يعلم فيها وجه القسط، فأمرها بيَّن. وهناك صور يشتبه فيها وجه القسط، فيقول الولي: إن فعلت كذا خفت عدم الإقساط، وإن فعلت كذا فكذلك. وهكذا يلتبس الأمر على غيره، فلا يدري بماذا يأمره؟ وعلى ماذا يعينه؟ ¬

_ (¬1) مقدمة التفسير في "مجموع الفتاوى" (13/ 337).

يقول الولي: إن نكحت هذه اليتيمة فلعلِّي لا أقسط لها, ولعلِّي لو أبقيتها تيسَّر لها أجنبي يبذل في صداقها أكثر مما أبذل، ولعلي إذا نكحتها أن لا أحسن معاملتها، وكذلك إذا فكر في إنكاحها ابنه، أو ابن أخيه مثلًا. ثم يقول: ولعلي إذا تركتها لا يرغب فيها أجنبي فتتضرر، وإن رغب فلعله يحتال على مالها فيأكله، ولعله يتمتع بشبابها ثم يجفوها، ويضرّ بها؛ لأنه أجنبي، لا يعطفه عليها إلا جمالها ومالها. وهكذا يلتبس الأمر على غيره، فلا يدري بماذا يأمره؟ فأرشدهم الله عزَّ وجلَّ إلى أولى الأوجه، وأقربها إلى القسط، وهو تحري الطيب في النكاح، والطيب أن تكون المرأة مع حِلّها للرجل معجِبة له خَلْقًا وخُلُقًا، بحيث يغلب على الظن أنه إذا نكحها عاش معها عيشة طيبة، ولن يكون ذلك حتى يكون معجبًا لها خَلْقًا وخُلُقًا، وحتى تكون راضية بنكاحه رضًا تامًّا، فلن تطيب لمن هي كارهة له، ولن تطيب لمن هواها في غيره. [ص 7] ولن تطيب إذا عرض عليها الوليُّ مهرًا دونًا، فتمنعت، فعضلها حتى ألجأها إلى القبول لنكاحه، أو نكاح ابنه، أو ابن أخيه مثلاً. ومتى تحرَّى الولي وغيره إنكاح اليتيمة مَن تطيب له ذاك الطيب، سواء أكان هو الولي، أم ابنه، أو ابن أخيه، أم أجنبيًا؛ فقد أدوا ما عليهم من رعاية الإقساط، فلا يمنعهم عنه تخوُّف من عدم الإقساط. ولما كان الطيب بهذا المعنى هو مظنة استقامة النكاح، وائتلاف الزوجين مطلقًا، أي في اليتيمة وغيرها، سيقت الآية هذا المساق {فَانْكِحُوا مَا

طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} أي لينكح الولي ما طاب له، ولينكح ابنه أو ابن أخيه ما طاب له، ولينكح كل منكم ما طاب له، وليأمر الناس بعضهم بعضًا بذلك، وليتعاونوا عليه. وعلم بذلك أنه ينكح اليتيمة من طابت له، سواء أكان هو الولي، أم أحد أقاربه، أم أجنبيًا؛ وأن من نكح امرأة لا تطيب له ذلك الطيب، أو أنكحها من لا تطيب له ذاك الطيب، أو أمر بذلك، أو أعان عليه، فلم يقسط، حتى الأب إذا أنكح ابنته من لا تطيب له ذاك الطيب فلم يقسط إليها, ولا إلى الزوج، ولا إلى نفسه؛ لأن الثلاثة معرضون للإثم، ولما ينشأ عن مثل ذلك النكاح من الخصومة والنكد. وكذلك من ألجأ ابنه إلى نكاح امرأة لا تطيب له، أو منعه من نكاح امرأة تطيب له، أو ألجأه إلى فراقها، فلم يقسط إلى ابنه، ولا إلى المرأة، ولا إلى نفسه. وكذلك من أمر، أو أعان على نكاح رجل لامرأة لا تطيب له، أو منعه من نكاح من تطيب له، أو التفريق بينهما، فلم يقسط إلى الرجل، ولا إلى المرأة، ولا إلى نفسه. فتدبر لو أن المسلمين راعوا هذا الأمر، فكلما وُجد الطيب بادروا إلى النكاح، والأمر به، والإعانة عليه؛ وكلما عُدم الطيب امتنعوا عن النكاح، ومنعوا منه= كيف يكون حالهم؟ هذا، والآخذون بظاهر أحد القولين الأولين يعذرون؛ لما يأتي: {وَإِنْ خِفْتُمْ} يا معشر الأولياء {أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} وإذا نكحتموهن

{فَـ} لا تنكحوهن، و {انْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} سواهن. والمعنى الثالث غني عن تلك التقديرات، وإنما تحتاج إلى تفسير يكشف [ص 8] المعنى، وبيان أن التعليق منحوٌّ به نحو اللازم، فكأنه قيل: {وَإِنْ} ألبس عليكم سبيل الإقساط إلى اليتامى في قضية نكاحهم فَـ {خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَـ} هذا سبيل الإقساط في ذلك وفي النكاح كله {انْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} إلى آخر ما تقدم. وقوله تعالى: {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} يفيد أن الأصل في سبيل الإقساط هو الجمع بين اثنتين أو ثلاث أو أربع، ومما يوجَّه به ذلك أن الرجل قد يكون عنده المرأة، ثم تطيب له أخرى، فإذا امتنع، أو مُنِع من الجمع فهو بين أمرين: إما أن يطلِّق الأولى، فيسيء إليها، وإلى أطفالها، وإلى أهلها، وإلى نفسه. ثم لعل النوبة تصل إلى هذه الأخرى، بأن يطلقها إذا طابت له ثالثة. وإما أن لا ينكح الأخرى، فتبقى بغير زوج، فتتضرر، وقد تسقط أو تضطر إلى نكاح من لا يطيب لها؛ فيكون المانع من نكاحها قد أساء إليها، وإلى أهلها، وإلى الذي تطيب له، وإلى الذي يتزوجها وهي لا تطيب له. ثم لعل الرجل امتنع من طلاق الأولى وهي لا تغنيه، وإنما أبقاها لأجل أولادها أو غير ذلك، فيحتاج إلى التعرض للفجور، فيفسد بعض النساء، فيسيء بذلك إليهن، وإلى أهلهن، وإلى المجتمع كله، وإلى المرأة التي عنده أيضًا.

والمرأة تحيض، وتحمل، وتنفس، وترضع، وتمرض، وتكبر، وتكون (¬1) عاقرًا، ويغيب عنها الزوج، وغير ذلك مما يجعل الزوج بحاجة إلى غيرها. وقد يكون الرجل قويًّا غنيًّا يمكنه أن يعف ويغني أكثر من واحدة، والإقساطُ تمكينُه من ذلك لينتفع جماعة من النساء، وإن نال بعضهن أو كلا منهن بعض الضرر، فذلك أولى من أن تستبدّ به واحدة [ص 9] ويحرم غيرها من خيره كله، على أن هذه الواحدة معرضة للضرر، كما مرَّ. ولا ريب أن المرأة تحب أن تستبد بالرجل، لكن كثيرًا منهن ترى مصلحتها في أن ينكحها فلان، وإن كان عنده غيرها: واحدة أو اثنتان أو ثلاث، ولهذا يمكن الجمع، فإن النكاح مشروط فيه رضا المرأة، ولولا رضا الكثيرات بما ذُكِر لم يمكن الجمع. ولا ريب أن المرأة تكره غالبًا أن يتزوج عليها زوجها, ولكن لو خُيِّرت بين ذلك، وبين أن يطلقها لاختارت البقاء على ما فيه، والعاقلة منهن إذا كانت تحب زوجها، ورأت أنها لا تحمل، تحبُّ أن ينكح زوجها عليها غيرها, لعل الله يرزقه ولدًا (¬2)، كما أنها إذا رأت أنها لا تغنيه لمرضها أو كبرها، أحبّت أن ينكح غيرها عليها، خوفًا من أن يميل إلى الفجور، فيخرب البيت كله. وبالجملة، إن المرأة التي ينكحها رجل عنده غيرها، إنما ينكحها برضاها وطيب نفسها، فلا وجه لعدِّ ذلك مخالفًا للإقساط إليها. وأما التي تكون عند الرجل فينكح غيرها، فإذا رأت أن ذلك مخالف للإقساط إليها، فإنها تستطيع أن تسأله الطلاق، فإن أبى شاقَّته، ورفعت الأمر إلى الحاكم، ¬

_ (¬1) في الأصل: "يكون" (¬2) في الأصل: "ولد".

فيبعث حكمًا من أهله، وحكمًا من أهلها، فتصل إلى الطلاق إن أحبت. وإن قالت: لا أرضى أن ينكح عليّ، ولا أحبّ فراقه، قيل لها: قد تكون مصلحتك في ذلك، ولكن في المنع من غيره ضرر على غيرك، بل قد يعود الضرر عليك، وعلى أولادك إن كانوا. قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ} قد تقدم بيان الأصل في "إن"، وفي "الخوف". ولا مانع أن يكون الخطاب على عمومه، أي للأزواج وغيرهم؛ لأن الناس كلهم مأمورون بالإقساط، كما تقدم. والخوف قد يكون من الزوج، أو من الزوجة، أو وليها، أو من غيرهم ممن يتمكن من أمرهم ونهيهم، ومعونتهم. [ص 11] (¬1) {أَلَّا تَعْدِلُوا} إذا لم يعدل الزوج كانت تبعة ذلك عليه، وعلى كل من أمره بالزواج، أو أعانه عليه، أو لم ينهه عنه، إذا علموا أن ذلك الزوج مظنة أن لا يعدل. وكذا من قصّر بعد وقوع الزواج عن أمره بالعدل، ونهيه عن الجور، ومنعه منه، ولكن أصل المدار على عدل الزوج. [ص 12] والعدل على ضربين: الأول: في الحقوق المالية. والثاني: في الحبَّ والعشرة. وكل منهما يطلب من جهة في النساء، بتوفيتهن حقوقهن، وهذا يأتي في حال الجمع، وفي حال الواحدة. ومن جهة يطلب بين النساء، بأن لا يزيد واحدة، وينقص أخرى مثلاً، وهذا إنما يأتي حال الجمع. ¬

_ (¬1) الصفحة (10) مضروب عليها.

وخوف الزوج من أن لا يعدل يقتضي أنه يحب العدل، ويحرص عليه، ومن كان كذلك فإنما يخاف أن لا يعدل إذا كان يتوقع وجود مانع يمنعه من العدل. والعادة المستمرة أن ينكح الرجل واحدة، ثم قد يبدو له، فينكح أخرى، وهكذا. فمن كانت عنده واحدة، وفكر في نكاح أخرى، وطابت له، فلماذا يخاف أن لا يعدل؟ لا ريب أنه إذا كان قليل المال، ضعيف الكسب، فإنه يخاف إذا نكح الثانية أن لا يتمكن من الوفاء بالحقوق المالية، بل إما أن يقصر بكل من المرأتين، وإما أن يفي لواحدة، ويقصر بالأخرى، كما أنه إذا كان عزبًا، وأراد أن يتزوج حرّة، وطابت له، فقد يخاف أن لا يتمكن من الوفاء بحقوقها المالية، فينطبق على هذا أن يؤمر بمملوكة، على ما يأتي بيانه. وقد يأتي نحو هذا فيما يتعلق بالعشرة، وذلك أن يكون الرجل ضعيف الشهوة، يخاف أن لا تفي قوّته بما يرضي امرأتين مثلاً، وقد يشتد ضعفه فيخاف أن لا يفي بما يرضي الواحدة. فحال هذا في حقوق العشرة كحال قليل المال، ضعيف الكسب في الحقوق المالية. وهل ثمَّ مانعٌ آخر يتصور في الغني القوي؟ [ص 13] لا ريب أن من جمع بين امرأتين مثلاً، لا بد أن يميل إلى إحداهما؛ لقول الله عزَّ وجلَّ: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} (¬1) [النساء: 129]. ¬

_ (¬1) في الأصل: "كالمطلقة"، وهو سبق قلم.

وفسَّر السلف ما لا يستطاع بالحب والجماع، فالحب لا يملك الإنسان التصرف فيه، والجماع ليس في ملكه دائمًا، فقد ينشط مع التي يحبها، ويعيا مع الأخرى. لكن ذاك العدل الذي لا يستطاع لا يمكن أن يفسَّر به العدل هنا في قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا}؛ لوجوه: الأول: أن انتفاء ذاك مجزوم بوقوعه، وانتفاء هذا غير مجزوم بوقوعه؛ لقوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ} وقد تقدم إيضاح ذلك. [ص 14] الوجه الثاني: أن انتفاء ذاك لا يحتمل في الواحدة، وانتفاء هذا محتمل فيها لدليلين: أحدهما: قوله: {فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} والمعنى على ما قاله ابن جرير وأسنده عن سعيد بن جبير وقتادة والربيع: فإن خفتم ألا تعدلوا في الحرة الواحدة فما ملكت أيمانكم (¬1). وثانيهما: قوله: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} ومعناه - كما لا يخفى -: "الاقتصار على واحدة حرة أو مملوكة أقرب إلى أن لا تعولوا"، وكونه أقرب فقط يقتضي أن العول فيه، أي في الاقتصار على واحدة حرة أو مملوكة، محتمل. وتفسير العول بكثرة العيال أو بالافتقار ظاهر في أن العدل في الآية هو الوفاء بالحقوق المالية. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" (شاكر 7/ 537، 539) قول قتادة برقم 8468، وقول الربيع برقم 8474. أما سعيد بن جبير (8469 - 8471) فلم يقل بذلك.

وتفسيره بالجور قابل لذلك، أو يصدق على ترك الوفاء للواحدة بحقوقها أنه جور عليها. وكذلك تفسيره بالميل إذا أريد به الميل عن الاستقامة. فأما إذا أريد الميل عن بعضهن إلى غيرها، فهو مردود بما تراه. الوجه الثالث: أن في أول الآية الترغيب في الجمع؛ لأن أصل صيغة الأمر للوجوب، لكن لا قائل - فيما أعلم - بوجوب الجمع، فعلى الأقل يكون للترغيب؛ إذ هو أقرب إلى الوجوب الذي هو الأصل، من الإباحة؛ لأن السياق يدل على [أن] قوله: {فَانْكِحُوا} بيان سبيل الإقساط، والإقساط واجب، فأقل الحال في سبيله أن يكون مرغبًا فيه. وفي قوله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا} الآية إقرار الناس على الجمع، مع بيان عدم استطاعتهم لذلك العدل، ووجود الميل الشديد منهم، وإنما نهوا فيها عن الميل كل الميل. وفي الآية التي قبلها إرشاد المرأة إلى ملاطفة الزوج، بأن تدع له بعض حقها. وفي الآية التي بعدها: إرشاد المرأة التي لا تصبر على الميل إلى سؤالها الطلاق. في ذلك كله [ص 15] تأكيد لإقرار الجمع، وأقر الله عَزَّ وَجَلَّ ورسوله كثيرًا من الصحابة على الجمع، وشرعت لذلك عدة أحكام، ومضت الأمة على ذلك إلى اليوم. وفي بعض هذا - فضلاً عن كلّه - ما يمنع من حمل قوله: {أَلَّا تَعُولُوا} على ما يناقض ذلك ما دام غيره محتملاً، بل هو الظاهر البين، بل المتعين. فالعدل في قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا} هو العدل الذي يستطيعه

الغني القوي، وقد يعجز عنه الفقير أو الضعيف، ويأتي في الجمع، وفي الواحدة، وهو الوفاء بالحقوق الواجبة. والعدل في قوله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا} [النساء: 129] هو العدل الذي لا يستطيعه أحد، وهو التسوية بين النساء في الحب والجماع، وإنما يأتي في حال الجمع.

الرسالة السابعة في تفسير أول سورة المائدة (1 - 3)

الرسالة السابعة في تفسير أول سورة المائدة (1 - 3)

سورة المائدة [1 - 3]

[ص 19] سورة المائدة [1 - 3] {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} بينكم وبين الله والناس. ومما بينكم وبين الله إحلالُ ما أحَلَّ وتحريمُ ما حرَّم، وهاكم إيضاح ما أحلَّ وحرَّم من البهائم: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} وهي الإبل والبقر والغنم {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} في قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ} وغيرها من الآيات، وذلك: الميتة والدم المسفوح وما أهل لغير الله به {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} حال من ضمير "أوفوا" فيما يظهر. ثم رأيت الزمخشري (¬1) نقله عن الأخفش (¬2). {إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)}. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ} من إحرامكم {فَاصْطَادُوا} كلَّ ما يسمَّى أخْذُه في اللغه صيدًا {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)} ثم رجع إلى بقية إيضاح المحرمات، فقال: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} المراد بها ما يقال لها في اللغة: "ميتة" وأهل اللغة يطلقون الميتة على ما مات بغير ذكاة، فيدخل فيها المنخنقة وما يأتي معها. وإنما عُطِفن على الميتة من باب ¬

_ (¬1) انظر: "الكشاف" (1/ 601) و"معاني القرآن" للأخفش (1/ 271). (¬2) عبارة "ثم رأيت ... الأخفش" ألحقها في الحاشية.

عطف الخاص على العام دفعًا لما يتوهم من قياس الخنق ونحوه على الذبح. قال: {وَالدَّمُ} المسفوح {وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} واللحم يتناول الشحم كما بُيِّن في موضعه {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ} في "القاموس" (¬1): "وأهَلَّ: نظر إلى الهلال. والسيفُ بفلان: قطع منه". وعليه فقوله في الآية: "أُهِلَّ به" معناه: ذُبِحَ أو نُحِرَ، وليس من الإهلال الذي هو رفع الصوت. وهكذا في سائر الآيات التي في هذه الجملة. وقوله: {لِغَيْرِ اللَّهِ} يتناول كلَّ ما لم يُذبَح له. وقد بيَّن الشرع معنى الذبح لله بأنه ما لم يُذكر عليه اسمُه (¬2). قال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا [ص21] لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121]. {وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} أي صاده. هذه داخلة في الميتة كما تقدَّم، وأعيدت على سبيل عطف الخاص على العام دفعًا لتوهم أنها كالمذكَّاة لأنها لم تمت حتف أنفها. نعم، قوله: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} يتناول لفظًا ما أدرك حيًّا فذُكِّيَ، وما كان أكل السبعُ منه ذكاةً، وسيأتي تفصيله. وهذان ليسا داخلين في الميتة، فقال: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ}. وفيه إجمال سيأتي تفصيله. {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} وإن ذُكِر اسمُ الله عليه {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا ¬

_ (¬1) انظر: "تاج العروس" (31/ 150). (¬2) كذا في الأصل، وهو معنى الذبح لغير الله.

بِالْأَزْلَامِ} على ذبح بهيمة أو صيد، فإنَّ تلك البهيمة أو الصيد لا تحلُّ لكم وإن ذكَّيتموها، أو اصطدتموها، أو ذكرتم اسم الله عليها؛ لأن استقسامكم بالأزلام فيها شركٌ كالذبح على النصب. {ذَلِكُمْ فِسْقٌ} شرك. {الْيَوْمَ} وهو يوم الجمعة يوم عرفة من حجة الوداع {يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا [ص22] مِنْ دِينِكُمْ} أن يبطلوه، أو يُحلُّوا بعضَ ما حُرِّم أو يحرِّموا بعضَ ما أُحِلَّ {فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الإكمالَ المطلقَ بحيث بيَّنتُ لكم جميع الأحكام التي تحتاجون إليها في دينكم إلى يوم القيامة في شأن الحلال والحرام من اللحوم وغيره من جميع الأحكام {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} بإكمال الدين وإظهاره حتى لم يحجَّ (¬1) مشرك وغير ذلك. {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} لا أرضى غيره في الحلال أو الحرام أو غيره. {فَمَنِ اضْطُرَّ} إلى تناول شيء مما حرَّمتُه عليه {فِي مَخْمَصَةٍ} أي جوع. وربما كان التقييد بها لإخراج المضطر للتداوي وغيره، فتأمَّلْ {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ} مائل {لِإِثْمٍ} معصيةٍ بأن تكون المعصية هي سبب اضطراره {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)} لا يعاقبه إن أكل. {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ} من صيد السِّباع كما يُعرف من السياق [ص 23] فقد تقدَّم تحريمُ ما أكل السبع، واستثناءُ ما ذُكِّي، وهذا مجمل - كما تقدَّم - يُسأل عن بيانه وتفصيله. والبيان والتفصيل الآتي خاصٌّ بذلك، كما سترى إن ¬

_ (¬1) كذا في الأصل.

شاء الله. ويدلُّ على ذلك سبب نزول الآية. أخرج ابن جرير (¬1) من طريق الشعبي أنَّ عدي بن حاتم الطائي قال: أتى رجلٌ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2) يسأله عن صيد الكلاب، فلم يدر ما يقول له، حتى نزلت هذه الآية: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ الله}. وأخرج ابن أبي حاتم (¬3) عن سعيد بن جبير أنَّ عدي بن حاتم وزيد بن المهلهل الطائيين سألا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالا: يا رسول الله، إنَّا قوم نصيد بالكلاب والبُزاة، وإنَّ كلاب آل ذريح تصيد البقر والحمير والظباء، وقد حرَّم الله الميتة، فماذا يحلُّ لنا منها؟ فنزلت: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ}. وأخرج الحاكم (¬4) وقال: صحيح - وأقرَّه الذهبي - عن أبي رافع قال: أمَرَنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بقتل الكلاب. قالوا: يا رسولَ الله، ما أحل لنا من هذه الأمة التي أمرتَ بقتلها؟ فأنزل الله: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ}. وروى الطبراني والحاكم والبيهقي وغيرهم عن أبي رافع أيضًا نحوه مطوَّلًا (¬5). ¬

_ (¬1) في "تفسيره" - شاكر (9/ 553)، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" (5/ 193) إليه وإلى عبد بن حميد. (¬2) في الأصل هنا وفيما يأتي حرف الصاد اختصار الصلاة والسلام. (¬3) انظر: "الدر المنثور" (5/ 192). (¬4) في "المستدرك" (2/ 311). (¬5) عزاه السيوطي في "الدر المنثور" (5/ 191) إلى الفريابي وابن جرير وابن المنذر =

وأخرج ابن جرير (¬1) عن عكرمة نحوه. [ص 24] {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} المراد به - والله أعلم - ما هو داخل تحت المُحَلِّ بما تقدَّم، وذلك غير الخنزير وغير الميتة. والمراد بالميتة ما لم يدرَكْ حيًّا فيُذَكَّى أو كان أخذ السبع له ذكاة. ولما كان في هذا الخبر إجمال بيَّنه الله عَزَّ وَجَلَّ بقوله: {وَمَا} شرطية {عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} مُضَرِّين [ص 25] {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} من حيل الصيد وآدابه {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} بخلاف ما أمسكن على أنفسهن. وعلامة إمساكها على نفسها أن تأكل منه كما في "الصحيحين" (¬2) {وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} عند الإرسال كما بيَّنتْه السنة الصحيحة {وَاتَّقُوا اللَّهَ} فلا تتعدوا حدوده {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)}. {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} المتقدِّم بيانها. أعاده تأكيدًا, وليبني عليه ما يأتي؛ فإن إحلال المذكَّاة يصدُق بما ذكَّاه المسلم، وما ذكَّاه المشرك، وما ذكَّاه الكتابي. فأما ما ذكَّاه المسلم، فلا شبهة في حلِّه إذا ذكر اسم الله عليه. وأما ما ذكَّاه المشرك، فلا شبهة في حرمته لأنه إن لم يكن على نصب أو ¬

_ = وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم والبيهقي. ورواية الحاكم هي السابقة. وأخرجه الطبراني (965) والبيهقي في "السنن" (9/ 235). (¬1) في "تفسيره" - شاكر (9/ 546). (¬2) من حديث عدي بن حاتم. البخاري (5483, 5487) ومسلم (1929).

مع الاستقسام بالأزلام أو مع ذكر اسم إله عليه، فإنه لا يذكر اسم الله. وإنْ ذكَره، فذكرُه له غير معتبر [ص 26] , لأنه مشرك لا عبرة بعبادته. وأما ما ذكَّاه الكتابي، فهو مفتقر إلى البيات، فبيَّنه الله عزَّ وجلَّ بقوله: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} فكلوا مما بأيديهم من اللحوم المستوفية لشروط الحل المتقدمة بأن لا تكون ميتة ولا لحم خنزير ولا غير ذلك مما تقدَّم بيان حرمته. {وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} فائدة هذا - والله أعلم - بيان أنه يجوز لنا إطعامهم. ولما ذكر حكم طعام أهل الكتاب أراد أن يذكر حكم نسائهم، وقدَّم قبلهن المؤمنات إشارةً إلى أنَّ الاختيارَ الاقتصارُ عليهن، فقال (¬1): ¬

_ (¬1) انتهت المسودة هنا.

الرسالة الثامنة في تفسير قوله تعالى: {كلوا من ثمره إذا أثمر ...} الآية

الرسالة الثامنة في تفسير قوله تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ ...} الآية

بسم الله الرحمن الرحيم فائدةٌ في بحثٍ جرى فحرّرتُ ما عَلِق بفكري منه بالمعنى بحسب ما بلغ إليه فهمي، والله الهادي. دعاني سيدنا الإِمام (¬1) أيده الله تعالى ليلةً، وعنده السيد العلَّامة محمَّد بن عبد الرحمن الأهدل، وأخبرني أنهما تذاكرا في قوله تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141]، فذكر - أيَّده الله - وجهًا، وذكر السيد محمَّد بن عبد الرحمن وجهًا، وأمرني بنظر "الجلَالَيْن"، فنظرته، فإذا السيوطي يقول في قوله تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} قبل النضج {وَآتُوا حَقَّهُ} زكاته {يَوْمَ حَصَادِهِ} ... {وَلَا تُسْرِفُوا} بإعطاء كله، فلا يبقى لعيالكم شيء" (¬2). فخَطَر للحقير أنَّ قوله تعالى: {وَلَا تُسْرِفُوا} يرجع إلى الأكل؛ لأنه المحتاج إلى التقييد؛ لأنَّ البعض الذي يستفاد مِنْ (مِنْ) مطلقٌ يصدق على الربع فما فوقه، ما دام لم يستغرق؛ فاحتاج إلى تقييد الإذن بعدم الإسراف، كما احتاج الأكل والشرب للتقييد بعدم الإسراف، والإذنُ بالوصيّة إلى التقييد بعدم المضارَّة (¬3). وقدَّر النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا بالربع أو الثلث، والثلثُ هو الغاية (¬4)، كما ¬

_ (¬1) محمَّد بن علي الإدريسي. (¬2) "تفسير الجلالين" (146). (¬3) يعني في سورة النساء: 12. (¬4) انظر حديث سعد بن أبي وقاص في البخاري (2744) ومسلم (1628)، وحديث ابن عباس في البخاري (2743) ومسلم (1629).

أنَّ الأكل والشرب والوصية كذلك. ثم لمحتُ على الحواشي (¬1) ما كتبه سيِّدُنا أيَّده الله، فإذا هو هذا الوجه، أعني: رجوع {وَلَا تُسْرِفُوا} إلى الأكل. قال: ويؤيِّده قوله تعالى في آية: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31]. فعلمتُ أنَّ الخاطر الذي خطر لي إنما هو من توجُّه قلب سيِّدنا أيَّده الله تعالى (¬2). ثم قرَّر سيّدنا - أيَّده الله - هذا الوجه، وقال: إنه رَجَح بوجهين: الأول: آية {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا}. فقوله: {وَلَا تُسْرِفُوا} فيها راجع إلى الأكل والشرب مطلقًا، ففي آية البحث الأَوْلى موافقتها. الثاني: أنَّ إعطاء الكلّ ليس ممّا يُنهى عنه، لقوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9]، وقصةِ سيِّدنا أبي بكر (¬3)، وغير ذلك. وإنما يُنهى عن إعطاء الكل في حقَّ أهل القصور عن اليقين. وحملُ القرآن على الأوّل أولى، بل يتعيَّن؛ لأنه الأشرف، والقرآن يُحمل ¬

_ (¬1) يعني حواشي الجلالين. (¬2) كذا جرت هذه العبارة على قلم الشيخ في هذا الموضع، ولم يتكرر مثلها في كتبه. وهذه الرسالة مما قيَّده الشيخ في مقتبل شبابه حين اتصاله بالإدريسي. وكان الإدريسي متصوفًا، وتوجُّه القلب مصطلح معروف عند الصوفية شائع في مجالسهم. (¬3) أخرجها أبو داود (1680) وغيره عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وخلاصتها: أنَّ عمر رضي الله عنه أراد أن يسابق أبا بكر رضي الله عنه في الصدقة، فجاء بنصف ماله. وجاء أبو بكر رضي الله عنه بكل ما عنده، فقال له عمر: لا أسابقك إلى شيء أبدًا.

على أحسن المحامل وأكملها. ثالثًا: أنَّ الأكل هو المحتاج إلى التقييد، ولذلك قدَّر النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يدعه الخارص بالثلث أو الربع (¬1). فقلت: وأيضًا: المأمور بإيتائه معلوم مقدَّر، وهو الحقّ الذي قد بيَّنه الشارع، فتقييده بعدم الإسراف خالٍ عن الفائدة. فقال سيّدنا أيَّده الله: هو كذلك مع الإيتاء المذكور، فأمّا أن يرجع إلى صدقة التطوّع فهو بعيد، مع أنه قد مرَّ أنَّ إعطاء الكل مطلوب في حقِّ أهل اليقين، والأولى حملُ القرآن على حالهم، كما مرّ. أقول: وأيضًا: إنَّ جَعْلَ {وَلَا تُسْرِفُوا} قيدًا لشيء غير مذكور - وهو صدقة التطوع - بعيد، إن لم يكن ممتنعًا, ولا سيَّما مع وجود ما يحتاج إلى التقييد وهو الأكل، مع غير ذلك من الأدلة. ثم قال سيّدنا أيَّده الله تعالى: وهل في الآية دليل على جواز الأكل بعد تتمُّرِ الرُّطَب ونحوه، أو حظره أو لا؟ ثم أخذ يقرِّر أن الظاهر ليس له ذلك. فقلت: قد يقال: إنَّ قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} يُفهِم أنَّ ما تمَّ صلاحُه حتى صار مستحقًّا للحصاد لا يجوز الأكل منه إن لم يُحْصَد بالفعل. ¬

_ (¬1) أخرجه الإِمام أحمد (5713) وأبو داود (1607) والترمذي (643) والنسائي (2491) وغيرهم من حديث سهل بن أبي حثمة.

فقال أيَّده الله: فسَّرتَ مقصودي. أقول: وأمّا أمرُ النبي - صلى الله عليه وسلم - الخرَّاصين أن يدَعوا الثلث أو الربع، فذلك قبل حلول الحصاد، ليأكلوا منه ويتصدَّقوا ويُهدوا؛ لأنَّ ما قد خُرِص فقد لزمت الزكاة بقدر الخرص. ولو بقي من هذا الثلث المتروك لهم شيء إلى حلول الحصاد، فهل تجب فيه الزكاة أو لا؟ الظاهرُ: نعم، للآية وتكون فائدة السنَّة في أنه لو أكله لم تلزمه زكاته. والظاهر: أنَّ ما جاز له أن يأكله جاز له أن يتصرَّف فيه بغير ذلك. والظاهر: استمرارُ الجواز إلى استحقاق الحصاد كما هو ظاهر الآية. وإيَّاه رجَّح سيّدُنا أيَّده الله. وأما السيد محمَّد بن عبد الرحمن فقال: إن قوله تعالى: {وَلَا تُسْرِفُوا} ليس قيدًا في شيء مما قبله، بل هو جملة مستأنفة عامّة؛ لمجيء الفعل في حيَّز النهي، والنهي كالنفي، والفعل كالنكرة؛ فيشمل كلَّ إسراف. فقال سيدنا أيَّده الله: ويقوِّيه أنهم يقولون: حذفُ المعمول يُؤذِن بالعموم. فقلت: وحينئذ يدخل تحت عمومه إعطاءُ الكل في صدقة التطوّع، فيحتاج إلى تخصيص كون ذلك محمودًا في حقَّ أهل اليقين بأدلّته، كآية {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الحشر: 9] وغيرها. فقال سيّدنا أيَّده الله: وحينئذ لا يبقى محملٌ للإطلاق إلاَّ على ضعفاء اليقين بالنظر إلى صدقة التطوع

فيَرِد عليه ما ورد على الوجه الذي ذكره المفسِّر (¬1)، هذا مع أنَّ ظاهر السياق لا يحُدُّه" (¬2). ثم قلت: ومع كون الوجه الأول هو الراجح نظرًا، فهو المتبادر، وحكيتُ ما خطر لي أوّلًا. وبعد ذلك قال سيِّدنا أيَّده الله: قد سبق لي مثل هذا في قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3] , فقال الخطيب (¬3): إنَّ المجيء بِـ (مِنْ) التبعيضيّة إشارةٌ إلى منع إعطاء الكلّ (¬4). فقلت: كلا، وإنما فائدتها تعريف المخاطبين أن الأجر والمدح يحصل بإعطاء البعض، ولا يتوقف على إعطاء الكلّ، كما في قوله عليه أفضل الصلاة والسلام: "اتقوا النار ولو بشق تمرة" (¬5)، وغيره. فقلت: فنصُّه على أن البعض موجبٌ للأجر والثواب يدلُّ على أن الكلّ من باب أولى. ولو نصَّ على الكلِّ لكان الظاهر توقُّف المدح عليه دون البعض، والأمر بخلافه. أقول: وعلى ما تقرّر، فيكون هذا من مفهوم الموافقة لا مفهوم المخالفة، فإن مفهوم المخالفة شرطه كما في "اللبّ" أن لا يظهر لتخصيص المنطوق ¬

_ (¬1) يعني الجلال السيوطي في تفسير الجلَالين، كما سبق. (¬2) الكلمة في الأصل تشبه ما أثبت. (¬3) يعني الرازي، وهو معروف بابن الخطيب أو ابن خطيب الري. (¬4) "مفاتيح الغيب" (2/ 35). (¬5) أخرجه البخاري (6023) ومسلم (1016) من حديث عدي بن حاتم.

بالذكر فائدةٌ غير نفي حكم غيره (¬1). وها هنا قد ظهرت فائدةٌ غير نفي حكم غيره، وهي ما قرّره سيّدنا أيَّده الله تعالى. قال في "شرح اللّبّ" بعد أن حكى بعض الصور لِما يظهر لتخصيص المنطوق بالذكر فائدة غير نفي حكم غيره - ما لفظه: "والمقصود ممّا مرّ أنه لا مفهوم للمذكور في الأمثلة المذكورة، ونحوها. ويُعْلَم حكم المسكوت فيها من خارج بالمخالفة، كما في الغنم المعلوفة؛ أو بالموافقة كما في آية الرَّبيبة (¬2)، للمعنى، وهو أنَّ الرَّبيبة حرمت لئلا يقع بينها وبين أمّها التباغض لو أبيحت، نظرًا للعادة في مثل ذلك، سواء كانت في حِجْر الزوج أم لا" (¬3) اهـ. أي: فقد ظهرت فيه لتخصيص المنطوق بالذكر فائدة غير نفي حكم غيره، ودلّ المعنى على موافقة المسكوت للمنطوق في الحكم. وكذلك قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3]، فإنها ظهرت فيها لتخصيص المنطوق بالذكر فائدة غير نفي حكم غيره، ودلّ المعنى على موافقة المسكوت للمنطوق؛ إذ المعنى أنَّ المدح تسبَّب عن البذل والإنفاق، ومن المعلوم أنه كلما أكثر البذل والإنفاق زاد المدح. بل هو في هذه أوضح منه في آية الربيبة, لأنَّ ذلك مساوٍ، وهو المسمَّى بـ "لحن الخطاب"، وهذا بالأَوْلى، وهو المسمَّى بـ "فحوى الخطاب" (¬4)، والله أعلم. ¬

_ (¬1) "غاية الوصول شرح لبِّ الأصول" (39). (¬2) النساء: 23. (¬3) "غاية الوصول" (40). (¬4) انظر: "غاية الوصول" (39).

بعد هذا رأيتُ في "حاشية العلامة الصاوي على الجلَالَيْن" (¬1) ما لفظه: "قوله: {وَلَا تُسْرِفُوا} أي: تتجاوزوا الحدّ بإخراج كلّه للفقراء، أو بعدم الإخراج من أصله، أو بإنفاقه في المعاصي. والأقربُ الأوّل الذي اقتصر عليه المفسِّر؛ لأن سبب نزولها أنَّ ثابت بن قيس صرم خمسمائة نخلة يوم أُحُد، ففرَّقها ولم يترك لأهله شيئًا". وفي "أسباب النزول" للسيوطي (¬2) ما لفظه: "قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا} الآية: أخرج ابن جرير عن أبي العالية، قال: كانوا يعطون شيئًا سوى الزكاة، ثم تسارفوا، فنزلت هذه الآية. وأخرج عن ابن جريج أنها نزلت في ثابت بن قيس بن شماس، جَدَّ نخله، فأطعَمَ حتى أمسى وليست له ثمرة". وعلى صحة هذا، فلا مانع من أن يكون قوله: {وَلَا تُسْرِفُوا} عائد (¬3) إلى قوله: {كُلُوا}، كما قررناه. وتكون مناسبة سبب النزول في قوله: {حَقَّهُ}، أو يكون {وَلَا تُسْرِفُوا} عائد (¬4) إليهما معًا: إلى {كُلُوا} وإلى {وَآتُوا} تأكيدًا لمفهوم {حَقَّهُ}. ويُجْمَع بين هذا وبين أدلَّة الإيثار بأنَّ الإيثار مستحبٌّ إذا كان على النفس، ¬

_ (¬1) (2/ 45 - 46). (¬2) على حاشية "تفسير الجلَالَين" (207). وانظر: "تفسير الطبري" (12/ 174). (¬3) كذا في الأصل بدلاً من "عائدًا". (¬4) كذا في الأصل.

وأمَّا إذا كان على المتصدِّق حقٌّ لأهله فتصدَّق بالكلِّ بغير رضاهم، فإنه حينئذ ظالم لهم. وعلى الأول يُحمَل حال من نزلت فيه: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الحشر: 9]، ونحوها، وقصَّة الصِّدِّيق، وعلى الثاني تُحَمل هذه الآية - على صحّة السبب في حقِّ ثابت بن قيس -, وحديث: "لا صدقة إلاَّ عن ظهر غنًى، وابدأ بمَن تعول" (¬1)، ونحو ذلك، والله أعلم. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1426) من حديث أبي هريرة.

الرسالة التاسعة في تفسير قوله تعالى: {ولقد فتنا سليمان ...} الآية

الرسالة التاسعة في تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ ...} الآية

أجزاء الآية

[ص 1] بسم الله الرحمن الرحيم قال الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ ...} الآيات [ص: 34 - 36]. أجزاء الآية 1 - {فَتَنَّا} معناه: بلونا، اختبرنا، امتحنا. قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35]، ففتنة الله عَزَّ وَجَلَّ لعبده هو أن يعرضه لأمر يعترك فيه خوفه من الله عَزَّ وَجَلَّ وهواه، بأن يكون في ذلك الأمر ما تميل إليه النفس وتشتهيه وترغب فيه مما نهى الله عَزَّ وَجَلَّ عنه. فالخير كالغنى - مثلاً - فتنة, لأن نفس الغني تميل إلى الأشر والبطر والشهوات المحظورة. والشر كالفقر - مثلاً - فتنة, لأن نفس الفقير تميل إلى طلب المال، ولو من غير حِلِّه. وإذا فتن الله عَزَّ وَجَلَّ عبدًا، أي بلاه بشيء، فقد يغلب إيمانه وتقواه هواه فيفوز، وقد يغلب هواه تقواه فيسقط. فيتحصّل من هذا: أن الله عَزَّ وَجَلَّ إذا أخبر أنه فتن عبدًا، فليس في هذا الخبر وحده ما يدل على وقوع العبد في المعصية، وإنما يدل على أنه سبحانه عرّض العبد لأمرٍ، كما مرَّ، فليس في كلمة {فَتَنَّا} في هذه الآية ما

يدل على وقوع معصية من سليمان عليه السلام. 2 - {جَسَدًا} معناه - والله أعلم -: جسم إنسان أو حيوان لا روح فيه (¬1). قال الله عَزَّ وَجَلَّ في شأن الأنبياء: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} [الأنبياء: 8]. [ص 2] أخرج ابن جرير (¬2) عن الضحاك يقول: "لم أجعلهم جسدًا ليس فيهم أرواح لا يأكلون الطعام، ولكن جعلناهم جسدًا فيها أرواح يأكلون الطعام". وقال تعالى في شأن بني إسرائيل: {عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} [الأعراف: 148, وطه: 88]. وقد اختلف في عجل السامري: أصار حيًّا، أم لا؟ وجاء نفي حياته عن بعض التابعين (¬3)، ونصره أكثر المتأخرين، وهو الذي يقتضيه تعقيب الله عزَّ وجلَّ قوله: {عِجْلًا} بقوله: {جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ}. وقول صاحب القاموس (¬4): "الجسد محركة: جسم الإنسان والجنّ والملائكة" لا أرى ذكر الجنِّ والملائكة إلا مبنيًّا على ما قيل في تفسير آية الأنبياء: إن المعنى: "وما جعلناهم ملائكة .. "، وما قيل من أن الملقى على كرسي سليمان شيطان، وليس في هذا ما تقوم به حجة، وليته فُصِل في ¬

_ (¬1) وهو قول الزجاج في "معاني القرآن" (2/ 377) وابن الأنباري (زاد المسير 3/ 261). (¬2) "تفسيره" (16/ 230). (¬3) انظر قول مجاهد في "تفسير القرطبي" (14/ 121). (¬4) (348 جسد).

المعاجم بين ما هو ثابت قطعًا، وما فُهِمَ من سياق آية أو حديث أو شعر أو كلام فصيح، وبُيِّن في الثاني مأخذ الاجتهاد، ليتمكن طالب الحق من التمحيص. 3 - {ثُمَّ أَنَابَ}: قال الراغب (¬1): "الإنابة إلى الله تعالى: الرجوع إليه بالتوبة وإخلاص العمل". وتدبُّر مواقع الإنابة في القرآن يقضي بأن بين الإنابة والتوبة فرقًا، فالتوبة تقتضي سبقَ مخالفةٍ لها بال، والإنابة تصدُق بالتوجه إليه سبحانه بعد غفلة، ولو بغير معصية. 4 - {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي} سؤال المغفرة لا يستلزم سبق معصية، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام يكثرون من الاستغفار؛ لأنهم لا يأمنون أن يكون وقع منهم شيء من التقصير أو الاشتغال عن ذكر الله عَزَّ وَجَلَّ [ص 3] ونحو ذلك، وقد قال الله عَزَّ وَجَلَّ لخاتم أنبيائه: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 3]. فكان - صلى الله عليه وسلم - يُكثر من قول: "سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه" كما في "مسند أحمد" (¬2)، و"صحيح مسلم" (¬3) عن عائشة. والأدلة على هذا المعنى كثيرة. ¬

_ (¬1) "مفردات ألفاظ القرآن" (827). (¬2) برقم 24065 (40/ 75) ورقم 25508 (42/ 326). (¬3) كتاب الصلاة: باب ما يقال في الركوع والسجود برقم (484).

ما قيل في تفسير الآية

5 - {وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} وقوع هذه الجملة عقب ما تقدَّم يُشعِر بأنّ لقضية الفتنة وإلقاء الجسد والإنابة علاقةً بالمُلك. ويقوِّي ذلك أنه لم يؤتَ بين قوله: {أَنَابَ} وقوله: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي} بالواو، فدلَّ عدم الإتيان بها على أن قوله: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي} تفسير لإنابته، وقد وصل الإنابة بقوله: {وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي}. ما قيل في تفسير الآية القول الأول منقول عن المتقدمين. في "الدر المنثور" ج 5 ص 310: أخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أربع آيات من كتاب الله لم أدر ما هي حتى سألت عنهن كعب الأحبار ... وسألته عن قوله: {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} قال: الشيطان أخذ خاتم سليمان عليه السلام الذي فيه ملكه ... ". وجاء نحو هذا عن جماعة، فذكر بعضهم: أنه جرى من سليمان تقصير، فمنهم من قال: احتجب عن مصالح الناس ثلاثة أيام. ومنهم من قال: سألته امرأته أن يأمر بصنع تمثال لأبيها، فأمر به، وكان جائزًا في شريعته، لكن المرأة أخذت التمثال عندها، وصارت تسجد له هي وجواريها، وغفل سليمان عن ذلك، ثم فطن وخرَّب [ص 4] التمثال، وعاقب المرأة، فكان تقصيرُه الغفلةَ تلك المدة. ومنهم من قال: خاصم أهل امرأته قومًا إليه، فودّ أن يكون الحق لهم. ومنهم من قال: سألته امرأته أن يقضي لأخيها، فقال: نعم، ولم يفعل.

وذكروا ما حاصله: أن ملكه كان في خاتمه، فوقع الخاتم إلى شيطان، فتمثَّل بصورة سليمان، وقعد على الكرسي مستوليًا على الملك، وأنكر الناس سليمان، وطردوه، فذهب يكدح طلبًا للقوت مدة، ثم وجد خاتمه في بطن سمكة، فلبسه، فعاد إليه ملكه. وفي القصص طول، فراجعها في "الدر المنثور" إن أحببت. القول الثاني: زعم النقاش - واسمه محمَّد بن الحسن بن زياد، توفي سنة 351 - أن هذه القصة هي التي ورد فيها الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "قال سليمان بن داود: لأطوفنَّ الليلة على سبعين (وفي رواية: تسعين، وفي أخرى: مئة) امرأة، تحمل كل امرأة فارسًا يجاهد في سبيل الله. فقال له صاحبه: إن شاء الله. فلم يقل، ولم تحمل شيئًا إلا واحدًا ساقطًا أحد شِقَّيه". فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لو قالها لجاهدوا في سبيل الله" لفظ البخاري في ذكر سليمان من أحاديث الأنبياء (1). قال ابن حجر في "الفتح" (¬2): حكى النقاش في تفسيره أن الشقّ المذكور هو الجسد الذي ألقي على كرسيه، وقد تقدم قول غير واحد من المفسرين أن المراد بالجسد المذكور: شيطان، وهو المعتمد، والنقاش صاحب مناكير". القول الثالث لأبي مسلم محمَّد بن بحر الأصبهاني المعتزلي، قال: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ} بسبب مرض شديد ألقاه الله عليه {وَأَلْقَيْنَا [ص5] عَلَى ¬

_ 1) باب قول الله تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} (3424). (¬2) (6/ 461).

تمحيص

كُرْسِيِّهِ} منه {جَسَدًا} وذلك لشدة المرض، والعرب تقول في المريض: إنه لحم على وَضَم، وجسم بلا روح، {ثُمَّ أَنَابَ} أي: رجع إلى حال الصحة. ذكره الرازي في "تفسيره" (¬1) ولم ينسبه، وفي "روح المعاني" (¬2) أنه يُروى عن أبي مسلم. والرازي كثيرًا ما يأخذ عن أبي مسلم هذا. تمحيص هذا ما ظفرت به من الأقوال، ولو كان الحديث المتقدم في القول الثاني أشار إلى أنه في هذه القصة، أو كان انطباقه عليها ظاهرًا، لوجب الوقوف عنده، لكن ليس فيه إشارة، ولا هو ظاهر الانطباق على القصة، بل يحتاج حملها عليه إلى تعسُّف. وأما القول الثالث فحَدْس محض، وهو مع ذلك متعسف. بقي القول الأول، وقد طعن فيه المتأخرون بأنه مأخوذ عن أهل الكتاب، وأن في تلك القصص شناعات وتناقضات في بعض الجزئيات، وقد صدقوا, ولكن ذلك لا يمنع من قوة ما اتفقت عليه الروايات القوية، ولم يكن فيه شناعة، وكان ظاهر الانطباق على الآية. وحكاية نفرٍ من السلف له تدل على أنهم لم ينكروه، وعدم إنكارهم له أقوى في النفس من حَدْس النقاش وأبي مسلم، وموافقة مَن وافقهما. فعلى هذا الأساس يمكن أن يقال: لعله جرى من سليمان عليه السلام ¬

_ (¬1) "مفاتيح الغيب" (26/ 209). (¬2) (23/ 199).

تقصير مما لا تمنع العصمة صدوره من مثله، وذلك كاحتجابه ثلاثة أيام، فابتلاه ربه عَزَّ وَجَلَّ بأن أبعده عن ملكه، وذلك كأن يكون خرج وحده للصيد - مثلاً - فألقى الله تعالى على كرسيه جسدًا يشبه جسد سليمان، خلقه الله تعالى كذلك، وليس بإنسان ولا ملك ولا شيطان، فظن أصحاب سليمان أن ذاك الجسد هو سليمان [ص 6] نفسه على كرسيه. وربما كان له عادة أن يستغرق مدة فلا يجسر أحد أن يدنو منه، كما قد يؤخذ من قول الله عزَّ وجلَّ: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [سبأ: 14]. وإذا أراد الله تعالى أمرًا هيَّأ أسبابه. ثم قد يكون الله عَزَّ وَجَلَّ حال بين سليمان وبين الرجوع إلى أصحابه، أو رجع ولكن غيَّر الله تعالى صورته فلم يعرف، أو عرفت صورته، ولكن لما كانوا يعتقدون أن سليمان هو الذي على كرسيه اعتقدوا أن هذا رجل آخر يشبه سليمان وليس به، فلم يقبلوه، وكأن هذا الأخير أقرب. ولعل الأمر بقي هكذا مدة اضطرب فيها حبل الملك لضعف التدبير، وخاف سليمان أن يقوم متغلِّب فيستولي على الملك ويفسد أمر الدين والدنيا، فأناب إلى ربه واستغفره، وسأله ملكًا يجمع بين العظمة والأمن من أن يصير إلى متغلب. وذلك - والله أعلم - معنى قوله: {لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي}، فإن الملك الذي لا ينبغي من حيث الجملة لأحد بعده إلى يوم القيامة لا بدَّ أن يكون بغاية العظمة، كأنه عليه السلام قال: ليعط الله تعالى أيَّ مَلِك بعدي من الملك ما شاء، ولكني أطلب أن يعطيني أعظم مما قدر سبحانه لأي إنسان كان إلى يوم القيامة. فلم يقصد عليه السلام حرمان غيره، وإنما قصد عظمة نصيبه.

تدبر

والفرق واضح بين أجير يقول لمؤجِّره: أعط غيري من أجرائك ما شئت، وزدهم ما شئت، لكني أسألك أن تعطيني أكثر مما تعطيهم. وآخر يعطيه سيده أجره، فيقول: أسألك أن لا تعطي أحدًا غيري إلا أقل مما أعطيتني. [ص 7] وإذا كان الملك بحيث لا ينبغي لأحد غيره عليه السلام، فقد أمن أن يتغلب عليه متغلب. وقد يكون الواقع هو هذا أو نحوه، ولكن اليهود تناقلوا القصة، وزادوا فيها ونقصوا على عادتهم، فزعموا أن ذلك الجسد شيطان وأنه وأنه ... تدبر كما أن الله تعالى إنما ذكر هذه القصة في كتابه لحكمة بالغة، فكذلك هذا الإجمال الذي نراه لا بد أن يكون لحكمة بالغة. فأما ذكر القصة، فيظهر من فوائده الكف عن القنوط، وعن احتقار من أذنب ثم تاب، وعن الغلو في الاعتقاد أو التعظيم، وعن الغلو في تقليد العلماء. وبيان ذلك أنه يعلم من القصة أن الزلّة لا تُقصي صاحبها عن بلوغ أعلى درجات الفضل إذا تاب وأناب، وأن الأنبياء عباد الله فقراء إليه، لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا، وأنه قد يقع من أحدهم - فضلاً عمن دونهم - ما لا ينبغي لغيره الاقتداء به فيه. فأما هم فإنه إن وقع من أحدهم شيءٌ من ذلك فلا بد أن يعقبه بيان أنه ليس مما يشرع فيه الاقتداء، وأما من دونهم من العلماء والصالحين، فلا يعرف زللهم إلا بالعرض على الكتاب والسنة.

المحصل

وأما الإجمال، فمن فوائده - والله أعلم - رعاية ما تقدم، إذ لعله لو فصل لضعفت بعض الفوائد السابقة. ومنها: تعليمنا أنه إذا دعت المصلحة لذكر مسلم بزلل وقع منه أن يقتصر على الإجمال، وأن يشفع ببيان توبته إن تاب، وبالثناء عليه بما فيه من الخير، وقد جرى على هذا أئمة الحديث في كثير من كلامهم في الرواة. [ص 8] المحصل تحصل مما تقدم أمور: الأول: أن الأقوال المعروفة في تفصيل القصة ليس منها ما تقوم به الحجة. الثاني: أننا إذا حاولنا التفحص لم تكد تخرج عن الإجمال إلا يسيرًا على وجه الاحتمال. الثالث: أنها على إجمالها محصِّلة للمقصود من قصِّ الله تعالى القصص في القرآن من الذكرى والعبرة والتبصرة من عدة أوجه. الرابع: أن للإجمال فوائد يجدر أن يكون مقصودًا لأجلها. الخامس: أن إعادة النظر في هذه الأمور كلها يدل دلالة واضحة على أن الإجمال مقصود.

الرسالة العاشرة في تفسير قوله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} ومعنى "أهل البيت" في قوله: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت}

الرسالة العاشرة في تفسير قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ومعنى "أهل البيت" في قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ}

[ل 15] بسم الله الرحمن الرحيم اللهم وفق بفضلك وكرمك يا أرحم الراحمين جرتِ المذاكرة بين الحقير وبين السيد العلامة الضياء صالح بن محسن الصيلمي - عافاه الله - في بعض المسائل، فاستدلّ بقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]. فقلتُ له: قَدْرُ النبي - صلى الله عليه وسلم - عظيم، وطاعته من طاعة الله تعالى، وكلُّ ما ورد عنه ولم يختصَّ به فنحن مأمورون باتباعه. والآيات في ذلك كثيرة، منها قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] وغيرها. وإنما لو قال قائلٌ: إنّ قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] الظاهر أنّها خاصة الدلالة في الفيء؛ لأنَّ السياق فيه = قيل: هذه الآية وكذا بعدها على قول من قال: إنّ قوله تعالى {لِلْفُقَرَاءِ ...} [الحشر: 8] عائدٌ إلى الفيء، كأنَّه تقييدٌ لقوله تعالى: {... وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ...} [الحشر: 7]. وهذا القول ذكره التاج السبكي في "طبقات الشافعية" (¬1) بعنوان: (أنه ليس للرافضيِّ حقٌّ في الفيء)؛ لأنَّ المهاجرين والأنصار قد مضوا, ولم يبق إلا القسم الثالث، وقد قيدهم تعالى بكونهم: {يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ ¬

_ (¬1) نشرة الحلو والطناحي (2/ 117). وليس فيها العنوان المذكور، وإنما نقل في ترجمة أبي علي الزعفراني أنه قال: قال الشافعي في الرافضي يحضر الوقعة: لا يُعطى من الفيء شيئًا، واستدل بالآية المذكورة.

لَنَا ...} الآية [الحشر: 10]، والرافضي بمعزل عن ذلك. وعليه فالتقدير: ذلك للفقراء إلخ. وإن قلنا: إن التقدير "اعجبوا للفقراء" كما في الجلَالَين وغيره (¬1)، فذلك مستأنفٌ. وقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ} إلخ في سياق تقسيم الفيء، وإن لم يذكر بعدها. وأيضًا قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} الإيتاء والأخذ حقيقةٌ في الأشياء المحسوسة، والأصل في الكلام الحقيقة، وإن كان قد وردا في غيرها مجازًا في القرآن وغيره (¬2). فقال المُحاوِر: أما السياق فلا نسلم دلالته، وأمَّا الإيتاء والأخذ فهما بمعنى الأمر والامتثال، لقوله في مقابل ذلك: {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}. وإنما عَدَل عن لفظ الأمر والامتثال، لوجود ذلك المقابل. فقلتُ له: أمَّا دلالة السياق فلا يصح إنكارها فإنها لا تخفى، وأمَّا جوابك عن الإيتاء والأخذ فلا يكفي، بل لو وقع ذلك في كلام الناس بالمعنى الذي تقول لربما اختير لفظ الأمر والائتمار [ل 16/ أ] على الإيتاء والأخذ لأجل المقابلة. وأيضًا لفظ "الإيتاء والأخذ" هل المقصود به هنا الحقيقة أو المجاز؟ فإن قلتم: الحقيقة، فإمَّا أن يكون خاصًّا بالفيء، وهذا قول؛ وإمَّا عامًّا فيه وفي الغنيمة ونحوه. وإن قلتم: المجاز، فما هو؟ ¬

_ (¬1) "تفسير الجلالين" (731)، و"التبيان" للعكبري (1215). (¬2) وانظر: "فوائد المجاميع" للمعلمي (ص 69).

فإن قلتم: الأمر والامتثال، قلنا: فحينئذٍ لا تدل على الأموال التي يصدق فيها الإيتاء والأخذ حقيقةً. فإن قلتم: دَلَّا على الحقيقة والمجاز معًا، أو على القدر المشترك بين ما يصدق عليه الإيتاء والأخذ حقيقةً وغيره، فقولوا: حتى ننظر (¬1). ثم رأيت في "حاشية العلامة الصاوي على الجلَالَين" ما لفظه: " (قوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} ... إلخ) أي: ما أعطاكم من مال الغنيمة، وما نهاكم عنه من الأخذ والقول فانتهوا. وقيل في تفسيرها: ما آتاكم من طاعتي فافعلوا، وما نهاكم عنه من معصيتي فاجتنبوه. فالآية محمولةٌ على العموم في جميع أوامره [ونواهيه] (¬2)، لأنَّه لا يأمر إلاَّ بإصلاح، ولا ينهى إلا عن ¬

_ (¬1) علّق المؤلف العبارة الآتية من "قلت" إلى آخر النقل من شرح اللبّ (45 - 46) في وريقة مستقلة، ووضع علامة عليها وهنا في المتن للربط بينهما: قلت: وكلاهما جائز. قال شيخ الإِسلام في اللب: "مسألة: الأصح أن المشترك واقع جوازًا وأنه يصح لغةً إطلاقه على معنييه معا مجازًا، وأن جمعه باعتبارهما مبنيٌّ عليه، وأنّ ذلك آت في الحقيقة والمجاز، وفي المجازين فنحو: (افعلوا الخير) يعمُّ الواجب والمندوب". هـ. قال في الشرح بعد المندوب ما لفظه: "حملًا لصيغة افعل على الحقيقة والمجاز في الوجوب والندب بقرينة كون متعلقهما كالخير شاملًا للواجب والمندوب، وقيل: يختص بالواجب بناءً على أنه لا يراد المجاز مع الحقيقة، وقيل: هو للقدر المشترك بين الواجب والمندوب أي: مطلوب الفعل بناءً على القول الآتي إن الصيغة حقيقة في القدر المشترك بين الوجوب والندب أي: طلب الفعل، وإطلاق الحقيقة والمجاز على المعنى - كما هنا - مجازي من إطلاق اسم الدالّ على المدلول". هـ. (¬2) زيادة من حاشية الصاوي.

إفساد. فينتج من هذه الآية أنّ كل ما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرٌ من الله، وأنّ كلَّ ما نهى عنه النبي نهيٌ من الله، فقد جمعت أمور الدين، كما هو معلوم. هـ (¬1) فالقول الأول وهو الذي اعتمده لتقديمه وتضعيف مقابله بـ (قيل) هو القول الثاني المذكور آنفًا، ومراده بالغنيمة ما يشمل الفيء. والثاني هو الأول لأنَّه يعمُّ الفيء الذي السياق فيه, فلم يطرح السياق. وإذا لوحظ أحد الوجهين اللذين نقلنا عليهما كلام "اللُّبِّ" اتّضح الأمر، ولله الحمد. وقال المحاوِرُ: لو استُدِلَّ بالسياق هنا لزم أن يكون دليلاً في قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33]. ودلالة السياق غير مسلَّمة. فقلتُ له: إنَّ أمهات المؤمنين داخلاتٌ في أهل البيت قطعًا، فإنَّ السياق أمره واضح، وارتباط الآية المعنوي بما قبلها جهله فاضح، وهذا كلام يأخذ بعضُه برقاب بعض، فكيف يُفصل بينه بجملةٍ لا تعلّق لها به؟ فقال: قد يُفصل بين أجزاء الكلام المترابط، كما إذا كنتُ أكلمك، فناداني رجلٌ، فأجبتُه، ثم أتممتُ كلامي. فقلتُ: هذا لعارضٍ. فقال: والآية لعارضٍ. قلتُ: ما هو؟ قال: لمّا أثنى تعالى على الأزواج أراد أن لا يتوهم [ل 16/ ب] أنهنَّ ¬

_ (¬1) "حاشية الصاوي" (4/ 189).

أفضلُ من أهل البيت، فعجَّل بذكرهم. فقلتُ: وهذا عندك مقبول! قال: هو الحقُّ. قلتُ: أمَّا إذا [وصل] (¬1) الحال إلى هنا فلا كلام معك. أقول: إنه يظهر أن المراد هنا بأهل البيت من كان في بيت النبي - عليه وآله الصلاة والسلام - وهم: هو - صلى الله عليه وسلم - وأزواجه وابنته وبعلها، ومن كان موجودًا من ذريتهما، فإنهم كانوا في بيوته - صلى الله عليه وسلم -. فالبيت المراد به هنا المسكن لا القرابة، كما هو كذلك في قوله تعالى في خطاب الملائكة لزوج إبراهيم عليه السلام: {قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} [هود: 73]. فأصلُ الخطاب للزوجة، وعمَّ جميع أهل البيت. وأصل الخطاب في آية البحث للزوجات، وعمَّ جميع أهل البيت، فهما من باب واحد (¬2). والصلاة الإبراهيمية مبنيّةٌ على هذا، فالصلاة والبركات، كما في الصيغ الصحيحة المشهورة - وما في بعض الروايات من زيادة الترحم والتحنّن والتسليم فيعود إليهما - فالصلاة هي الرحمة كما عليه الجمهور، والدلالة هنا عليه واضحة، إذ قوله: "كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد" يلحظ الآية إلا أنه أبدل لفظ الرحمة بالصلاة, وهو في حكم المرادف ¬

_ (¬1) هذا الموضع متأكل، ولعل الصواب ما أثبتنا. (¬2) وانظر: "فوائد المجاميع" للمؤلف (ص 58).

لها. وختمها بقوله: "إنك حميد مجيد" (¬1). ثم قال: "وبارك على محمَّد وعلى آل محمَّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد"، فأتى بلفظ البركة، وهو بنصِّه في الآية. وختمها أيضًا بـ "حميد مجيد". وفي ذلك دليل على دخول إبراهيم في لفظ أهل البيت، إذ ليس في الآية إلا قوله في خطاب الزوجة: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ}، وفي الصلاة: "على إبراهيم وعلى آل إبراهيم". وأيضًا يدل على أنَّ الآل وأهل البيت في الصلاة بمعنىً، إذ الذي في الصلاة: "على إبراهيم وعلى آل إبراهيم"، وفي الآية: {عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ}. وفي صيغةٍ متَّفقٍ عليها عن أبي حميد الساعدي قال: قالوا: يا رسول الله كيف نصلّي عليك؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قولوا: اللهم صلَّ على محمَّد وأزواجه وذريته، كما صلَّيت على آل إبراهيم. وبارِكْ على محمَّد وأزواجه وذريته، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد" (¬2). فوضع "آل إبراهيم" موضع {أَهْلَ الْبَيْتِ} في الآية، وهو شامل لإبراهيم إذْ يبعُد خلافُه، ووضع "وأزواجه وذريته" موضع "آله" في بقية الصيغ، و"اسمه وأزواجه وذريته" في مقابل "آل إبراهيم" الذي هو في مقابل {أَهْلَ الْبَيْتِ} في الآية. ولا يخفى ما في هذا من الدلالة على أنَّه هو وأزواجه وذريته أهل ¬

_ (¬1) تأكل ما بعد هذه الكلمة فلا أدري هل بقي شيء من كلام المؤلف. (¬2) أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3369)، ومسلم في كتاب الصلاة، باب الصلاة على النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم بعد التشهد (407).

البيت، ولا يُزاد عليهم إلا بدليل، كما في حقِّ سيدنا علي عليه السلام. وسيأتي حديث أبي هريرة عند أبي داود إن شاء الله تعالى. وحديث أبي حميد غير حديث كعب بن عُجْرة (¬1)، [ل 17/ أ] وإن حُمِلت رواية مسلم على رواية البخاري في زيادتها، فإنَّ الراوي هنا أخَّر. وفي أوّل حديث كعب: "كيف الصلاة عليكم أهل البيت؟ فإنَّ الله قد علَّمنا كيف نسلّم عليك". وصيغة الصلاة فيه: "على محمَّد وعلى آل محمَّد"، ولا يمكن الجمع مع ذلك كلّه، ولا حاجةَ إليه. وأصل المقابلة بين الآية والصلاة الإبراهيمية استفدته من إملاء سيدنا الإِمام أيَّده الله آمين. وأمَّا قولكم: دلالة السياق غير مسلّمة، فعجيب: وليس يصحُّ في الأذهانِ شيءٌ .............................. إلخ (¬2) ولا سيّما في الآية فإنَّ الخطاب قبلها وبعدها لنساء النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيها ضمير خطاب، وغاية ما فيه أنَّه مذكَّر. فنقول: وفي آية إبراهيم مذكّر مجموع مع أنَّ الخطاب لامرأةٍ واحدة، فحيث قيل هناك خطاب للمخاطبة وغيرها، فغُلَّبَ التذكير لوجود الذَّكَر في مَن دخل في لفظ أهل البيت، وغُلِّبَ الحاضر في مخاطبته مع غائبين = فهنا كذلك، فإنَّ إبراهيم من أهل ¬

_ (¬1) البخاري (3370)، مسلم (406). (¬2) كذا في الأصل. وهو من الأبيات السائرة لأبي الطيب وعجزه (شرح الواحدي: 497): إذا احتاج النهارُ إلى دليلِ

بيته، ومحمدًا من أهل بيته، كما سبق البرهان على ذلك (¬1). وممَّا يدلّ عليه: حديث "الصحيحين" (¬2) عن كعب بن عجرة قال: سألنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلنا: كيف الصلاة عليكم أهل البيت ... الحديث، وحديث أبي هريرة عند أبي داود (¬3) قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن سرَّه أن يكتال بالمكيال الأوفى إذا صلَّى علينا أهلَ البيت فليقلْ: اللهم صلِّ على محمَّد النبي الأمِّي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته، كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد". وقوله: "وأهل بيته" مِن عطف العام على الخاص إذْ قد قام الدليل على أنَّه وذريته من أهل بيته داخلون بالاتفاق، وأزواجه كذلك. وكأنَّ حكمةَ تقديمه لهنَّ على الذرية وأهل البيت هي أنهنَّ أول مَنْ تدلُّ عليه الآية، مع كونهنّ موردَ الخطاب. ثم ظهر لي أنَّ قوله في حديث أبي هريرة: "وأهل بيته" [ل 17/ ب] هو بالاستعمال الذي بمعنى القرابة، فيشمل من حرُمت عليه الزكاة. وهذا أولى ممَّا مرَّ. وهو بهذا الاستعمال في حديث الترمذي (¬4) عن زيد بن أرقم قال: قال ¬

_ (¬1) وقد كثر في كلام العرب مخاطبة المرأة الواحدة بضمير الجمع المذكر. انظر شواهده في "مفردات القرآن" للفراهي (ص 260). (¬2) سبق تخريجه آنفًا. (¬3) كتاب الصلاة باب ما يقول بعد التشهد (982). (¬4) في أبواب المناقب، باب مناقب أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - (4040).

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إني تارك فيكم ما إن تمسَّكتم به لن تضلُّوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي. ولن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوضَ فانظروا كيف تخلفوني فيهما". ثم رأيت أصله في "صحيح مسلم" (¬1) عن زيد بن أرقم، وفيه: قال: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا فينا خطيبًا بماءٍ يُدعى خُمًّا - بين مكة والمدينة - فحمد الله، وأثنى عليه، ووعظ، وذكَّر، ثم قال: "أمَّا بعد، ألا أيُّها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسولُ ربِّي فأجيب، وأنا تاركٌ فيكم ثَقَلَين: أولهما كتابُ الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به". فحثَّ على كتاب الله ورغَّب فيه، ثم قال: "وأهل بيتي أذكِّركم اللهُ في أهل بيتي، أذكِّركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي". فقال له حصين: ومَن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته مَنْ حُرم الصدقة بعده. قال: ومَن هم؟ قال: هم آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس. قال: كلُّ هؤلاء حُرِمَ الصدقةَ؟ قال: نعم". وفي رواية: "كتاب الله فيه الهدى والنور، من استمسك به وأخذ به كان على الهدى، ومَن أخطأه ضلَّ". وفي رواية: "ألا وإني تارك فيكم ثقلين أحدهما كتاب الله هو حبل الله، من اتبعه كان على الهدى، ومَن تركه كان على ضلالة". وفيه: "فقلنا: مَن أهل بيته؟ نساؤه؟ قال: لا، وأيمُ الله إن المرأة تكون مع الرجل العصرَ من الدهر، ثم يطلِّقها، فترجع إلى أبيها وقومها. أهلُ بيته أصلُه وعُصْبَتُه الذين حُرموا الصدقة بعده". ¬

_ (¬1) كتاب فضائل الصحابة, باب فضائل علي رضي الله عنه (2408).

فقوله: "نساؤه من أهل بيته" [ل 18/ أ] أي: يطلق عليهم "أهل بيتٍ" في الجملة. وقوله: "ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده"، أي المراد بأهل البيت في هذا الحديث [مَنْ] (¬1) حُرِمَ الصدقة بعده. فاتَّضح من هذا الحديث أنَّ لأهل البيت استعمالين: أحدهما: بمعنى أهل بيت السكنى، فتدخل فيه الأزواج، بل هنَّ أول من يدخل فيه بعد الزوج. وليس مرادًا في حديث زيد، ولذا أثبت دخول الأزواج في "أهل البيت" في الجملة، ثم نفى ذلك باعتبار حديثه. وفي الرواية الأخرى نفاه، واقتصر الراوي على النفي لأنَّ زيدًا إنما سئل عن لفظ "أهل البيت" الذي ذُكِرَ، فيكفي في الجواب نفي دخولهن فيه؛ إذْ لا يلزم من نفي دخولهن فيه نفيُ دخولهن في لفظ "أهل البيت" باستعمال آخر، فافهم. فقد اتضح ما قلناه، ولله الحمدُ، وبه يُردُّ ما قاله التُّورِبِشْتي: "إنَّ العترة تستعمل على أنحاء كثيرة، وقد بيَّنها - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "أهل بيتي" ليُعلم أنَّه أراد بذلك نسله وعصابته الأدنين وأزواجه" (¬2). ¬

_ (¬1) تأكلت في طرف الورقة. (¬2) انظر "مرقاة المفاتيح" (11/ 307).

الرسالة الحادية عشرة في إعراب قوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى}

الرسالة الحادية عشرة في إعراب قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى}

بسم الله الرحمن الرحيم [ل 30] قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39]، الواو حرف عطف، عطفت المصدر المؤول من أن واسمها وخبرها على ما قبلها، وهو {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [النجم: 38]. والمعطوف عليه إما في محل رفع، خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هو، فيكون هنا استئناف بياني، كأنه عندما قيل له: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 36، 37]، قال قائل: وما هو الذي فيها؟ فقال: هو أن لا تزر إلخ (¬1). وإما في محل جر عطف بيان، أو بدل شيء من شيء، من (ما) من قوله: {بِمَا فِي صُحُفِ ...} إلخ. (أن) مخففة من الثقيلة، وعبارة السيوطي عنها في "همع الهوامع": "تخفف أنَّ المفتوحة، وفي إعمالها حينئذ مذاهب: أحدها: أنها لا تعمل شيئًا، لا في ظاهر ولا في مضمر، وتكون حرفًا مصدريًّا مهملًا كسائر الحروف المصدرية، وعليه سيبويه والكوفيون. الثاني: أنها تعمل في المضمر وفي الظاهر، نحو: علمت أن زيدًا قائم، وقرئ {أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا} [النور: 9] عليه طائفة من المغاربة. الثالث: أنها تعمل جوازًا في مضمر، لا ظاهر، وعليه الجمهور. ¬

_ (¬1) في النسخة المختصرة ذكر وجهًا آخر أيضًا في الرفع، وهو أن يكون "مبتدأ لخبر محذوف، كأنه قيل: وما فيها؟ فقال: فيها ألا تزر ... إلخ".

وقال (¬1) ابن مالك: فإن قيل: ما الذي دعا إلى تقدير اسم لها محذوف، وجعلِ الجملة بعدها في موضع خبرها؟ وهلَّا قيل: إنها ملغاة ولم يتكلف الحذف! فالجواب: أن سبب عملها الاختصاص بالاسم، فما دام الاختصاص ينبغي أن يعتقد أنها عاملة، وكون العرب تستقبح وقوع الفعل (¬2) بعدها إلا بفصل. ثم لا يلزم أن يكون ذلك الضمير المحذوف ضمير الشأن، كما زعم بعض المغاربة، بل إذا أمكن عوده إلى حاضر أو غائب معلوم كان أولى. ولذا قدَّر سيبويه في {أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات: 104، 105] أنْك. ولا يكون خبرها مفردًا، بل جملة إما اسمية مجردة صدرها المبتدأ نحو {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} [يونس: 10] أو الخبر نحو: أنْ هَالِكٌ كلُّ مَنْ يَحْفى وَيَنْتَعِلُ (¬3) أو مقرونة بـ "لا" نحو {وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [هود: 14] أو بأداة شرط نحو {أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ} [النساء: 140] أو بـ "رُبَّ" نحو: ¬

_ (¬1) لا توجد الواو في مطبوعة "الهمع". (¬2) كذا في الأصل. وفي مطبوعة الهمع: "الأفعال". (¬3) من شواهد سيبويه (2/ 137)، (3/ 74، 454)، وصدره: في فتية كسيوف الهند قد علموا والبيت للأعشى، وسيأتي كاملاً في ص (271).

تَيَقّنْتُ أنْ رُبَّ امْرئ خِيلَ خَائِنًا ... أمينٌ، وخَوّانٍ يُخَالُ أَمِينَا (¬1) أو فعلية، فإن كان فعلها جامدًا أو دعاء لم يحتج إلى اقتران شيء نحو {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39] {وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ} [الأعراف: 185]. أّنْ نِعْم مُعْتَركُ الجيَاع إذَا (¬2) {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا} [النور: 9]. وإن كان متصرفا غير دعاء قُرن غالبًا بنفي نحو {أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا} [طه: 89] {أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} [القيامة: 3] {أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ} [البلد: 7]. قال أبو حيان: ولم يحفظ في (ما) ولا في (لما)، فينبغي أن لا يقدم على جوازه حتى يسمع. أو بـ "لو" نحو {أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ} [الأعراف: 100] {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ} [الجن: 16] {أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ} [سبأ: 14] {أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ} [الرعد: 31] أو بـ "قد" نحو {وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا} [المائدة: 113]. ¬

_ (¬1) استشهد به ابن مالك في "شرح التسهيل" (2/ 42) دون عزو. وانظر "ارتشاف الضرب" (3/ 1276، 4/ 1741). (¬2) عجزه: خبَّ السفيرُ وسابئُ الخمرِ والبيت لزهير بن أبي سلمى في "ديوانه" (78).

أو بحرف تنفيس نحو {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ} [المزمل: 20]. وندر خلوُّها من جميع ما ذكر كقوله: عَلِمُوا أَنْ يُؤَمَّلُونَ فجَادُوا (¬1) وخُرِّج عليه قراءة {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] بالرفع (¬2). وكذا ندر إعمالها في بارز كقوله: فلو أنْكِ في يَوْم الرخَاء سَألْتنِي (¬3) هـ بحروفه (¬4). وقد أطلنا بذكره لعظم نفعه. أقول: فقد علمت أنّ (أن) إذا خففت فالجمهور أنها تعمل في ضمير محذوف، فإن أمكن عوده على حاضر أو غائب فذاك، وإلا فهو ضمير الشأن، ففي الآية هو ضمير الشأن. والخبر جملة فعلية غير مقترنة بشيء لأن الفعل جامد، كما مثّل بنفس ¬

_ (¬1) عجزه: قبل أن يُسألوا بأعظم سُولِ استشهد به ابن مالك في "شرح التسهيل" (2/ 44، 4/ 10) دون عزو. وانظر "شرح ابن عقيل" (1/ 388) وغيره. (¬2) نسبت إلى مجاهد. انظر "البحر المحيط" (2/ 499). (¬3) عجزه: طلاقَكِ لم أبخَلْ وأنتِ صديقُ أنشده الفراء في "معانيه" (2/ 90) دون عزو. وانظر "الخزانة" (5/ 426). (¬4) "همع الهوامع" (2/ 184 - 187).

الآية في كلام "الهمع". و {لَيْسَ} فعل جامد ناقص يعمل [عمل] (¬1) كان: يرفع الاسم وينصب الخبر. {لِلْإِنْسَانِ} جار ومجرور. وما العامل في الجارِّ والمجرور؟ اختُلِفَ (¬2). [ل 31] قال في "الهمع" (¬3): "إذا وقع الظرف أو الجار والمجرور خبرًا فشرطه أن يكون تامًّا، نحو: زيد أمامك، وزيد في الدار؛ بخلاف الناقص، وهو ما لا يفهم بمجرد ذكره وذكر معموله ما يتعلق به، نحو: زيد بك، أو فيك، أو عنك، أي واثق بك، وراغب فيك، ومعرض عنك فلا معه خبر (¬4)، إذ لا فائدة فيه. ثم هنا مسائل: الأولى: اختلف في عامل الظرف والمجرور الواقعين خبرًا. فالأصح أنه كونٌ مقدَّر. وقيل: المبتدأ، وعليه ابن خروف، ونسبه ابن أبي العافية إلى سيبويه. وأنه عمل فيه النصب لا الرفع, لأنه ليس الأول في المعنى. ورُدَّ بأنه مخالف للمشهور من غير دليل، وبأنه يلزم منه تركيب كلام من ناصب ومنصوب بدون ثالث. وقيل: المخالفة (¬5)، وعليه الكوفيون. وإذا قلت: زيد أخوك، فالأخ هو زيد، أو زيد خلفك، فالخلف ليس بزيد، فمخالفته له ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق. (¬2) كلمة مهملة يشبه رسمها: "اقلب"، ولعل الصواب ما قرأت. (¬3) (2/ 21 - 23). (¬4) كذا في الأصل من الطبعة الأولى. وفي نشرة الأستاذ عبد العال: فلا يقع خبرًا. (¬5) كذا في الأصل من الطبعة الأولى. وفي نشرة الأستاذ عبد العال: بالمخالفة.

عملت النصب. ورُدَّ بأن المخالفة معنى لا يختص إلا بالأسماء دون الأفعال، فلا يصح أن يكون عامله, لأن العامل اللفظي شرطه أن يكون مختصًّا، فالمعنوي الأضعف أولى. وعلى الأول يجوز تقدير الكون باسم الفاعل وبالفعل، فالتقدير في زيد عندك أو في الدار: زيد كائن، أو مستقر، أو كان، أو استقر. واختلف في الأولى منهما، فرجح ابن مالك وغيره تقدير اسم الفاعل, لأن الأصل في الخبر الإفراد، والتصريح به في قوله: فأنْتَ لدَى بُحْبُوحَةِ الهُون كَائنُ (¬1) ولتعينه في بعض المواضع، وهو ما لا يصلح فيه الفعل (¬2) نحو: أمّا عندك فزيد، وخرجت فإذا عندك زيد, لأن (أمّا) و (إذا الفجائية) لا يليهما فعل. ورجَّح ابن الحاجب تبعًا للزمخشري والفارسي تقدير الفعل, لأنه الأصل في العمل، ولتعيُّنه في الصلة. وأجيب بالفرق، فإنه في الصلة واقع موقع الجملة، وفي الخبر واقع موقع المفرد. ثم إن قدَّرت اسم الفاعل كان من قبيل الخبر المفرد، وإن قدَّرت الفعل كان من قبيل الجملة، فلا يخرج ¬

_ (¬1) صدره: لك العزُّ إن مولاك عزَّ وإن يَهُنْ والبيت من شواهد "شرح التسهيل" (1/ 317)، ولم يذكر قائله. وانظر شرح أبيات "المغني" (6/ 342). (¬2) في نشرة عبد العال: فيه خبرا الفعل.

الخبر عن القسمين. وقيل: هو قِسْم برأسه مطلقًا وعليه ابن السرَّاج. الثانية: ذهب ابن كيسان إلى أن الخبر في الحقيقة هو العامل المحذوف، وأن تسمية الظرف خبرًا مجاز. وتابعه ابن مالك. هذا هو التحقيق. وذهب الفارسي وابن جني إلى أن الظرف [هو الخبر] (¬1) حقيقة، وأن العامل صار نسيًا منسيًّا. والقولان (¬2) جاريان في عمله الرفع: هل هو له حقيقة أو للمقدَّر؟ وفي تحمله الضمير: هل هو فيه حقيقة أو في المقدر؟ والأكثرون في المسائل الثلاث على أن الحكم للظرف حقيقة. الثالثة: البصريون على أن الظرف يتحمل ضمير المبتدأ كالمشتق سواء تقدم أم تأخر. وقال الفراء: لا ضمير فيه إلا إذا تأخر، فإن تقدم فلا، وإلا جاز أن يؤكد ويعطف عليه ويبدل منه، كما يفعل ذلك مع التأخير. ومن تأكيده متأخرًا قوله: فإنّ فؤادي عِنْدكِ الدَّهْرَ أَجْمَعُ (¬3) ". (¬4) إذا تأملت ذلك علمت أن {لِلْإِنْسَانِ} جار ومجرور تام، والعامل فيه على الأصح كونٌ مقدَّر. وهو على ترجيح ابن مالك: كائن، أو مستقر. وعلى ¬

_ (¬1) ساقط من الأصل تبعًا للطبعة الأولى. (¬2) في نشرة عبد العال: وأجمعوا أن القولين. (¬3) صدره: فإن يكُ جُثماني بأرضٍ سواكمُ والبيت لجميل في "ديوانه" (118). وانظر "لخزانة" (1/ 395). (¬4) انتهى النقل من "همع الهوامع".

ترجيح ابن الحاجب: كان أو استقر. ثم العامل هو الخبر على رأي ابن كيسان - قال السيوطي: وهو التحقيق - أو نفس الجار والمجرور على رأي الفارسي وابن جني والأكثرين. ثم في الجار والمجرور أو العامل على الخلاف المذكور ضمير يعود على اسم (ليس) عند البصريين لقولهم: تقدم أو تأخر. ولا ضمير فيه على قول الفراء لتقدمه (¬1). ثم اعلم أن الخبر هنا واجب التقديم لأن في الاسم ضميرًا يعود عليه. {إِلَّا} عبارة "الهمع": "ثم المستثنى منه تارة يكون محذوفًا، وتارة يكون مذكورًا. فالأول يجري على حسب ما يقتضيه العامل قبله من رفع ونصب وجر (¬2) بحرفه، لتفريغه له، ووجود (إلا) كسقوطها" (¬3) إلخ. فقد علمت أن (إلا) أداة استثناء ملغاة. {مَا سَعَى} عبارة "جمع الجوامع" في الموصول الحرفي: "و (أن) توصل بمبتدأ وخبر. و (لو) التالية غالبًا مُفْهِمَ تمنًّ أثبت مصدريتها الفراء والفارسي والتبريزي وأبو البقاء وابن مالك، ومنعه الجمهور. و (ما)، وزعمها قوم اسمًا. ويوصلان بمتصرف غير أمر، والأكثر بماضٍ" (¬4) إلخ. ¬

_ (¬1) في الأصل هنا: "هـ", ولعله يشير بها إلى انتهاء البحث السابق، لا انتهاء النقل من "الهمع" فإنه انتهى قبل أسطر. (¬2) في نشرة عبد العال: رفع أو نصب أو جر. (¬3) "همع الهوامع" (3/ 250). (¬4) "الهمع" (1/ 279).

فعلمنا أن (ما) مصدرية حرف على الأصح. و (سعى) فعل ماض صلتها، والمصدر المنسبك منها، والفعل في محل رفع، اسم "ليس" مؤخر. وجملة ليس ومعموليها في محل رفع خبر أن. وأن ومعمولاها في محل رفع خبر، أو جرّ على ما مرّ (¬1). فإن قلت: أما يقتضي كون خبر (أن) جملةً احتياجَ الخبر إلى رابط يربطه بالمبتدأ؟ قلت: قال في "الهمع": "السابع: ضمير الشأن، فإن مفسره الجملة بعده. قال أبو حيان: وهو ضمير غائب يأتي صدر الجملة الخبرية دالًّا على قصد المتكلم استعظامَ السامع حديثَه. وتسميه البصريون ضمير الشأن والحديث إذا كان مذكرًا، وضمير القصة إذا كان مؤنثًا. قدّروا من معنى الجملة اسمًا جعلوا ذلك الضمير يفسِّره ذلك الاسم المقدر، حتى يصح الإخبار بتلك الجملة عن الضمير. ولا يحتاج فيها إلى رابط به لأنها نفس المبتدأ في المعنى" (¬2) هـ. ¬

_ (¬1) في النسخة المختصرة: "وأن ومعمولاها معطوفة على {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}، فمحلها الرفع على وجهيه، أو الجر على وجهيه، كما مرّ". (¬2) "همع الهوامع" (1/ 232).

الرسالة الثانية عشرة في إعراب قوله تعالى: {أن كان ذا مال وبنين}

الرسالة الثانية عشرة في إعراب قوله تعالى: {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ}

بسم الله الرحمن الرحيم [ل 14] قولُه سبحانه وتعالى: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} [القلم: 10 - 14]. هل (أنْ) هذه المصدريّة، أو المخفّفةُ من الثقيلة؟ أقول: لم يزدْ في "الجلَالَين" على أنْ قال: "أي: لأنْ". وقال في الجَمَل في حواشيه على قول الجلال بعد ذلك: "وفي قراءةٍ: أَأَنْ بهمزتين مفتوحتين" (¬1) ما لفظُه: "الأولى همزة الاستفهام التقريعي التوبيخي، والثانية همزة أنْ المصدريّة، واللام مقدّرة كما سبق ... " إلخ. وفي آخره: هـ شيخنا هـ (¬2). وقول العبّاس بن مِرْداس: أبا خُراشةَ أمَّا أنت ذا نَفَرٍ ... فإنَّ قوميَ لم تأكلْهُمُ الضَّبُعُ (¬3) على ما قرَّره س (¬4) والجمهور من أنَّ (أمَّا) أصلها: أنْ ما، (أنْ) المصدرية و (ما) العوضُ عن كان، والأصل: أَلِأنْ كنتَ. حُذِفت همزة ¬

_ (¬1) انظر "الكشف" لمكي (2/ 231)، و"الإقناع" (369). (¬2) "حاشية الجمل" (4/ 385). (¬3) "ديوان العباس بن مرداس" (106). وأبو خراشة كنية خفاف بن ندبة، وكان بينهما مهاجاة. (¬4) "كتاب سيبويه" (1/ 193).

الاستفهام، ولام التعليل، فصار: (أنْ كنتَ) ثم حُذفت (كان)، فانفصل الضميرُ، وعُوّضت (ما) عنْ (كان) فصار: (أمَّا أنتَ) (¬1). وكذا في قوله: أما أنت، من قول الشاعر (¬2): إمَّا أقمتَ وأمَّا أنتَ مُرْتحلاً ... فاللهُ يكلأُ ما تأتي وما تذرُ (¬3) وأمَّا قول الكوفيين: إنّها شرطيّة، وتقويةُ الرضيِّ وابن هشام له (¬4)، فلا يردُّ دليلنا, لأنّهم لم يقولوه من حيث إنّ المصدريّة لا تدخل على (كان) بل لأدلّةٍ أخرى، وقد ردّها الدمامينيُّ (¬5). وناقض ابن هشام نفسه في فَصْل (ما) (¬6). فإنْ قيل: والمخففة أيضًا مصدريّة فلعله أرادها. قلنا: ذلك ممنوع, لأنّها لا يطلق عليها ذلك في الاستعمال. فإنْ قيل: فكيف دخلت (أنْ) المصدريّة على الماضي مع أنّها ناصبةٌ، والأصل اختصاصُ النواصب بالمضارع كـ (لن)؟ قلت: قال في "المغني" في بابها (¬7): "وتُوصل بالفعل المتصرّف مضارعًا ¬

_ (¬1) "شرح الكافية" للرضي، (1/ 806 - 807). (¬2) كذا في الأصل. (¬3) قال البغدادي في "الخزانة" (4/ 19): "وهذا البيت مع استفاضته في كتب النحو لم أظفر بقائله ولا تتمته". (¬4) انظر: "شرح الرضي" (1/ 807) و"المغني" (53). (¬5) وقال البغدادي في "الخزانة" (4/ 21): "وقد ناقش الدماميني كلام ابن هشام في الأدلة الثلاثة بالتعسف، كما لا يخفى على من تأمله". (¬6) "المغني" (410). (¬7) "المغني" (43 - 44). وقارن المحكي عن سيبويه بالكتاب (3/ 162).

كان - كما مرَّ - أو ماضيًا نحو: {لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} [القصص: 82]، {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ} [الإسراء: 74]، أو أمرًا كحكاية س: كتبتُ إليه بأنْ قُمْ. هذا هو الصحيح". ثم ذكر أنَّ ابن طاهر (¬1) خالف في كون الموصولة بالماضي والأمر هي عين الموصولة بالمضارع أي: مدّعيًا أنها غيرها، وذكر دليله، وردَّ عليه. ثم ذكر أنَّ أبا حيّان خالف في كونها توصل بالأمر، وادّعى أن ما سُمِعَ من ذلك فهي فيه تفسيرية، ثم ردَّ عليه. وقد ذكر السيوطيُّ أنَّ أبا حيّان ناقضَ نفسه بقوله في البحر: إنَّ (أنْ) مصدريةٌ من قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ} [المائدة: 49] عطفًا على الكتاب أو الحقّ أو محذوفة الخبر أي: من الواجب حُكْمُكَ (¬2). وفي "حاشية الأمير": "قال ابن جنّي: إنّما لم توصل بالحال؛ لأنّه يؤخذ من المصدر الصريح أي: لأنّ الأصل أنّه الحدث الواقعُ في الحال، ولمّا أرادوا الاستقبال أو المضيّ احتاجوا لأن والفعل الدالّ على الزمن المراد. قال: ونظير ذلك (ذو) تُجلب للوصف بالجواهر؛ إذ لا يمكن الوصف بها نحو: مررتُ برجل ذي مالٍ، فإن كان معنىً لم يحتج لـ (ذي)؛ تقول في الوصف بالصلاح: صالحٌ. وكذلك (الذي) يؤتى به لوصف المعرفة ¬

_ (¬1) أبو بكر محمَّد بن أحمد بن طاهر الأنصاري الإشبيلي المعروف بالخِدَبّ، شيخ ابن خروف، أبو بكر رئيس النحويين بالمغرب في زمانه. توفي سنة 580 هـ. "الذيل والتكملة" للمراكشي، القسم الخامس (2/ 648)، "بغية الوعاة" (1/ 28). (¬2) "حاشية الأمير" (1/ 28). وانظر "البحر المحيط" (4/ 285).

بالجمل، ولو كان الموصوف نكرةً لم يحتج لـ (الذي)؛ لأنّ النكرة توصف بالجملة. قال: ويناسب عدم وصلها بالحال أنّها لا تقع بعد اليقين لأنّ شأن الحال التيقّن بالمشاهدة" (¬1). هـ وبه يُعلم ما نقله المحشّي عن الشارح بعد ذلك، وأشرنا إليه في السؤال من أنّ الأصل أنَّ نواصب المضارع لا تدخل على غيره كـ (لن). فإن قيل: بين مطلق الفعل الماضي وبين (كان) فرقٌ. قلتُ: إن أريد أنّ (كان) ناقصة لا تدلُّ على الحدث، فهذا الفرقُ لا يؤثّر على هذا الحكم مع ما فيه. وإن أريد أنّ كان الناقصة لا مصدر لها، كما يقوله آباء عباس وبكر وعلي والفتح (¬2)، فمع ضعفه لورود ذلك كقوله: ببذلٍ وحلمٍ ساد في قومه الفتى ... وكونك إيّاه عليك ثقيلُ (¬3) مع أنّ الأصل في الفعل التصرف، ولا سيّما ما قد سلم أكثر تصرّفه، فقد نقل الأمير في "حاشيته على المغني" عند قوله: (فَصْلٌ في أن المصدرية: وأن ¬

_ (¬1) "حاشية الأمير" (1/ 27 - 28). (¬2) يعني المبرد، وابن السرّاج، والفارسي، وابن جني. وهؤلاء وغيرهم منعوا دلالتها على الحدث كما في "الهمع" (2/ 74). (¬3) كذا في الأصل، والصواب في قافية البيت: "يسير". وقد استشهد به ابن مالك في "شرح التسهيل" (1/ 339) ثم شراح "الألفية". انظر: "أوضح المسالك" (1/ 244)، و"المقاصد الشافية" (2/ 182) و"شرح الأشموني" مع حاشية الصبان (1/ 231). ولم يعرف قائل البيت.

هذه موصول حرفيٌّ وتوصل بالفعل المتصرف) عن ابن الحاجب أنّه قد يدخل المصدريّ على الجامد نحو: {وَأَنْ عَسَى ...} [الأعراف: 185] (¬1) فيكون المصدر من المعنى" (¬2). ويظهر أنّ مراده بالمصدريّ (أنْ) الخفيفة. فأمّا المخففة فإنها تدخل حتى على الاسميّة كقول الأعشى: وقد غدوتُ إلى الحانوتِ يَتبَعُني ... شاوٍ مِشَلٌّ شَلولٌ شُلْشُلٌ شُلُلُ (¬3) في فتيةٍ كسيوف الهند قد عَلِموا ... أنْ هالكٌ كلُّ مَنْ يحفَى وينتعِلُ (¬4) ولكن قد صرّح الرضيُّ وغيره أن الخفيفة لا تدخل إلا على المتصرّف (¬5)، وأنّ (أنْ) من قوله تعالى: {وَأَنْ عَسَى ...} [الأعراف: 185] وقوله: {وَأَنْ لَيْسَ ...} [النجم: 39] (¬6) هي المخففة (¬7). فلينظر ما مذهبُ آباء ¬

_ (¬1) تمام الآية: {وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ}. (¬2) "حاشية الأمير" (1/ 27). (¬3) "شلل" كذا في الأصل، والرواية شَوِلٌ. ويروى: شُوَل وشَمِلُ. (¬4) البيت من شواهد سيبويه (2/ 137، 3/ 74، 454) ورواية العجز في "الديوان" (109): أنْ ليس يدفَعُ عن ذي الحيلة الحِيَلُ وانظر: "الخزانة" (8/ 391 - 392). (¬5) "شرح الرضي" (2/ 1384). (¬6) تمام الآية: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى}. (¬7) "شرح الرضي" (2/ 1384). وفيه بدلاً من آية النجم قوله تعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا} [الجن: 16].

عباس وبكر وعلي والفتح في (أنْ) الداخلة على الفعل الجامد؟ فإنّهم إن كانوا موافقين لما صرّح به الرضيُّ وغيره فـ (أن) عندهم في الآية المتكلّم عليها مخففة، ولكن الجمهور على خلافه. نعم (أنْ) في هذه الآية لم تُسبق بعلمٍ ولا ظنًّ، وقد قال الرضيُّ ما لفظُه: "فنقول: إنَّ (أنْ) التي ليست بعد العلم ولا ما يؤدي معناه، ولا ما يؤدّي معنى القول ولا بعد الظنّ فهي مصدريّة لا غير، سواءً كانت بعد فِعْل الترقُّب كحسبتُ، وطمعتُ، ورجوت، وأردت، أو بعد غيره من الأفعال ... " إلى أن قال: "أو لا بعد فِعْل كقوله تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ ...} [الحشر: 3] (¬1). هذا، وقد استدلّ ابن هشام على ترجيح مذهب الكوفيين أنَّ الخفيفة قد تجيء شرطيّة بأنّه قد قرئ قوله تعالى: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} [الزخرف: 5] بكسر الهمزة وفتحها (¬2)، واستدلالهم بذلك يشعر أنّ البصريين يجعلونها في حال الفتح مصدرية، كما في بقيّة الأمثلة. وهو ما في التفاسير والأعاريب. [ل 15] واعلم أنّ الأصل في (أنْ) المفتوحة الهمزة الساكنة النون أن تكون كذلك أصلاً، فمن ادّعى أنها مخففة من الثقيلة فعليه الدليل. ولا يكفي مجرّدُ الاحتمال، ولا سيّما مع أنّ القول بأنّها مخففة يستلزم أنّ اسمها ضمير الشأن محذوفًا، ودعوى الحذف خلافُ الأصل، فمن ادعاها فعليه البرهان، ¬

_ (¬1) "شرح الرضي" (2/ 834 - 835). (¬2) قرأ بكسر الهمزة من السبعة نافع وحمزة والكسائي. "الإقناع" لابن الباذش (760).

ولا يكفي مجرد الاحتمال. وإذا دار الأمر بين الحذف وعدمه تعيّن عدمُ الحذف، ولله ابنُ المُتْقِنة حيث يقول (¬1): وإن تكن من أصلها تصحُّ ... فتركُ تطويل الحسابِ ربْحُ فإن قيل: تعارض بأنَّ الأصل أنّ نواصبَ المضارع تختصُّ به كـ (لنْ). قلنا: قد سبق نَقْضُه، مع أنَّه إذا دار الأمرُ بين أن يخالف أصلاً، وأن يخالف أصلين، فخلاف الأصل الواحد أولى من خلاف الأصلين كما هو ظاهرٌ. فائدة: الماضي بعد أنْ المصدرية لا محل له، كما قد يتوهم. قال في "المغني" حاكيًا ما استدلّ به ابنُ طاهرٍ على أنّ الداخلة على الماضي غير الداخلة على المضارع: "والثاني: أنها لو كانت الناصبة لَحُكِمَ على موضعها بالنصب، كما حكم على موضع الماضي بالجزم بعد (إنْ) الشرطية، ولا قائل به". هـ (¬2). قال الأمير في "الحاشية: "قوله: (ولا قائل به) منه يُعلم فساد قول الشيخ خالد في شرح الآجرومية: وهي تنصب المضارع لفظًا، والماضي محلاًّ" (¬3). ¬

_ (¬1) في أرجوزته المشهورة بالرحبية في الفرائض. (¬2) "المغني" (43 - 44). (¬3) "حاشية الأمير" (1/ 28).

الرسالة الثالثة عشرة في إعراب قوله تعالى: {الحاقة (1) ما الحاقة} ونحوه

الرسالة الثالثة عشرة في إعراب قوله تعالى: {الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ} ونحوه

بسم الله الرحمن الرحيم ممَّا اقتطفه كاتبُه من ثمرات المعارفِ الإدريسيّةِ الطيّبة اليانعة الجنيَّة، لا زال جناها دانيًا علينا، وبركتها مسوقةً إلينا، آمين. قوله تعالي: "الواقعةُ ما الواقعة" (¬1)، {الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ}، {الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ} ونحوها يقول فيه المعربون: "الواقعةُ" مبتدأٌ، وما: اسمُ استفهام مبتدأٌ، و"الواقعة" الثانية: خبرُ ما، والمبتدأ الثاني وخبره خبرُ الأول، والرابطُ إعادة المبتدأ بلفظه (¬2). فقلتُ: ما المانعُ أنْ يقال: "الواقعةُ" مبتدأٌ، وخبرُه محذوفٌ يدلّ عليه ما بعده، والتقديرُ: أمرٌ عظيمٌ، و"ما الواقعةُ" مبتدأٌ وخبرٌ على حاله؟ ويكون في نحو قوله تعالي: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ} [الواقعة: 41، 42] "أصحابُ" الأول مبتدأ و"ما أصحاب الشمال": مبتدأٌ وخبرٌ - جملةٌ معترضةٌ بين المبتدأ وخبره - وقوله: {فِي سَمُومٍ}: خبرُ "أصحاب" الأول. وبذلك نَسْلمُ من إعادة الظاهر عوضًا عن المضمر الذي هو خلافُ الأصل. فقال سيِّدُنا: لا بأسَ، ولكنَّ الحذفَ خلافُ الأصل، والخبر الذي تريدُ أنْ تقدَّره قد عُلِمَ مِن (ما)، فإنَّ المقصودَ بها التهويل والتعظيم. فقلتُ: ففي قوله تعالي: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ} لا ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، وقد وهم المؤلف رحمه الله. فلم يرد في القرآن "الواقعة ما الواقعة". (¬2) انظر: "التبيان" للعكبري (1203)، و"البحر المحيط" (10/ 254، 532).

حذفَ، بل المعربون يقولون بالحذفِ للمبتدأ؛ لأنهم يجعلون قوله: {فِي سَمُومٍ} خبر مبتدأ محذوف. قال: إذا سَلِمْتَ من الحذفِ ورد عليك ادّعاءُ الاعتراض بين المبتدأ والخبر، وهو خلاف الأصل. قلتُ: يَرِدُ عليّ هذا، ويَرِدُ عليهم حذف المبتدأ في قوله: {فِي سَمُومٍ} مع إعادةِ الظاهر مكان المضمر. فواحدةٌ تُقاوِم، وواحدة ترجَّح. ثم قال سيّدنا: خبرُ المبتدأ إذا كان جملةً، ورابطه (¬1) الإشارة: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26]، أو إعادتُه لفظًا: "الواقعة ما الواقعة"، أو كونه إيّاه في المعنى: {هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} = فإنَّ خبر المبتدأ الثاني هو خبر المبتدأ الأول في المعنى، وإنّما جُعل خبرًا للثاني صناعةً. وأمَّا المبتدأ الثاني، فلم يُجَأْ به إلاَّ لإفادة معنىً غير الإسناد. ألا ترى أنّه لو قيلَ في غير القرآن: "ولباس التقوى خيرٌ"، وقلتَ: "الواقعةُ أمرٌ مَهولٌ"، "وهو أحدٌ" = كان المعنى بحاله. وعلى هذا فقولهم: إنَّ (ما) مبتدأ، و"الواقعة" الثاني خبره، فيه نظرٌ لمَا قررناه؛ إذ المبتدأ الثاني في هذه الثلاثة إنّما هو وُصْلةٌ في المعنى بين المبتدأ الأوّل وخبره. فقلتُ: ويلزم على قولهم أن يُخْبَرَ بالشيء عن نَفْسه. قال: نعم، وذلك باطلٌ. وممَّا يرجّحه كون (ما) ها هنا نكرة مسوِّغة لكونها موصوفةً معنى، والواقعة معرفةٌ، وفي مثل ذلك يترجّح للابتداء ¬

_ (¬1) في الأصل: "ربطه".

المعرفةُ. قلتُ: فإذا قال قائلٌ: إذا جعلتم (ما) خبرًا للواقعةِ الثانية، فما المانعُ أنْ تجعلوها للأولى؟ يُجاب عليه: بأنَّ (ما) اسمُ استفهامٍ لها الصدرُ، فلا يصحُّ الإخبار بها عمَّا قبلها. قال: نعم. ثم نظرنا في "تفسير الآلوسيّ"، فإذا هو قال: {الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ}: (ما) مبتدأٌ، و (الحاقة) خبر، أو عكسه، ورجح معنىً، والجملة خبر الأوّل (¬1). ولله الحمد سبحانه وتعالى. ¬

_ (¬1) "روح المعاني" (29/ 40).

الرسالة الرابعة عشرة في تفسير آيات خلق الأرض والسماوات

الرسالة الرابعة عشرة في تفسير آيات خلق الأرض والسماوات

[1/ ب] الحمد لله. * [البقرة: 28]: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} بأن خلقها، وجعل فيها رواسي، وبارك فيها، وقدَّر فيها أقواتها؛ كما تبيِّنه آية حم السجدة (¬1)، وسيأتي تفسيرها إن شاء الله. {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} أي وهي دخان، فقال لها وللأرض: ائتيا طائعين؛ كما في آية حم السجدة. {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} هو كقوله في آية [حم] السجدة: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [12]، وكقوله في آية النازعات: {بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} [27، 28]. * [فصلت: 9 - 12]: {أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9)} ظاهره أنَّه سبحانه خلقها قطعة واحدة في هذين اليومين، وأنَّ خلق الجبال هو فيما بعد ذلك لقوله: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا} أي أوجد فيها الجبال بأن أمر بعضها أن يرتفع ويصلب إلى غير ذلك. وهذا وما بعده يستلزم دحوَ الأرض بمعنى بسطها. {وَبَارَكَ فِيهَا} بأن جعلها صالحة لعيش الحيوانات، وتوليد المعادن، وإنبات النباتات، وغير ذلك. {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} بأن خصَّ كلَّ قطعة بالصلاحية لتوليد معدن ¬

_ (¬1) يعني سورة فصلت، وكذا تسمى في المصاحف الهندية.

خاصٍّ، وإنبات نبات خاصٍّ، ونحو ذلك، بالقدر الذي اقتضته حكمته. وهذا كلُّه قدَّره في باطن الأرض، لم يبرز منه شيء، وإنما أبرزه تعالى بعد خلق السماوات، كما سيأتي. {فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} قال المفسرون: أي في تمام أربعة أيام، ليكون اليومان اللذان خلق فيهما السماء تمام ستَّ، فتوافق قوله تعالى في سورة السجدة: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [4]. قال صاحب "الأضداد" (¬1): "فإن قال قائل: كيف يدخل يومَا الخلق في هذه الأربعة حتى يصيرا بعضَها، وقد فصَل الله اليومين من الأربعة؟ قيل له: لما كان الإرساء من الخلق، وانضمَّ إليه تقدير الأقوات؛ نُسِقَ الشيءُ على الشيء للزيادة الواقعة معه، كما يقول الرجل للرجل: قد بنيتُ لك دارًا في شهر، وأحكمتُ أساساتها، وأعليتُ سقوفها، وأكثرتُ ساجَها، ووصلتُها بمثلها في شهرين؛ فيدخل الشهر الأول في الشهرين، ويعطف الكلام الثاني على الأول لما فيه من معنى الزيادة. أنشد الفرَّاء (¬2): فإنَّ رُشَيدًا وابنَ مروان لم يكن ... لِيفعلَ حتى يُصدر الأمرَ مُصْدَرا فرُشَيد هو ابن مروان، نُسِق عليه لما فيه من زيادة المدح. ¬

_ (¬1) يعني محمَّد بن قاسم الأنباري. انظر كتابه "لأضداد" (ص 109 - 110). (¬2) في "معاني القرآن" (2/ 345) ومنه في "تفسير الطبري" - هجر (19/ 131) و "الضرائر" لابن عصفور (ص 71).

وقال الآخر (¬1): يظنُّ سعيدٌ وابنُ عمرو بأنني ... إذا سامني ذُلًّا أكون به أرضى فلستُ براضٍ عنه حتى يُنيلني ... كما نال غيري من فوائده خفضا فسعيد هو ابن عمرو (¬2)، نُسِق عليه لما فيه من زيادة المدح (¬3) " هـ. قال الشَّرْبيني (¬4): "فإن قيل: إنَّه تعالى ذكر خلق الأرض في يومين، فلو ذكر أنه خلق هذه الأنواع الثلاثة الباقية في يومين [آخرين] كان أبعد عن الشبهة وعن الغلط، فلم ترك التصريح بذكر الكلام الجمل؟ أجيبَ بأنَّ قوله تعالي: {فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً} أي استوت الأربعة استواءً لا يزيد ولا ينقص = فيه فائدة زائدة على ما إذا قال: خلقت هذه الثلاثة في يومين؛ لأنه لو قال تعالى: خلقت هذه الأشياء في يومين لا يفيد هذا الكلام كونَ اليومين مستغرقين بتلك الأعمال, لأنه قد يقال [2/ أ]: عملتُ هذا العمل في يومين، مع أن اليومين ما كانا مستغرقين بذلك العمل، بخلافه لما ذكر خلق الأرض وخلق هذه الأشياء، ثم قال: {فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً} = دلَّ على أن هذه الأيام الأربعة صارت مستغرقة في تلك الأعمال من غير زيادة ولا نقصان" هـ. وقد يقال: كان يمكن أن يقال عند ذكر اليومين الأولين: "سواء"، ثم ¬

_ (¬1) نقل ابن الجوزي في "زاد المسير" (4/ 95) البيت الأول. (¬2) في "زاد المسير" أنه سعيد بن عمرو بن عثمان بن عفان. (¬3) في مطبوعة "الأضداد": "نُسِق عليه لأن فيه زيادة مدح". (¬4) في "السراج المنير" (3/ 599).

يقال بدل "في أربعة": "في يومين سواءً"، فتحصل الفائدتان: والجواب: أنَّ خلق الأرض كان في اليومين الأولين غير مستغرقين، ثم كان جعلُ الرواسي في بقية اليومين وفيما بعدهما. فلا يصح أن يقال في اليومين الأولين "سواء" لوجود النقص، ولا أن يقال بدل "أربعة أيام": "يومين سواءً" لوجود الزيادة. فإن قيل: فلمَ لم يقل بدل {فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ}: "في يومين"، ثم يقال: "فتلك أربعة سواء"؛ كما قال تعالي: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196]؟ فالجواب: أنَّ هذه العبارة لا تدل على أنَّ خلق الأرض في اليومين الأولين غير مستغرقين، إلى آخر ما مرَّ، فتعيَّن للتعبير عنه ما في الآية فتأمَّلْ. {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} أي سوَّاهن. {فِي يَوْمَيْنِ} هذان اليومان تمام الستة الأيام المذكورة في سورة السجدة وغيرها. {وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} الظاهر أنَّ هذا كان بعد انتهاء الستة الأيام. قال في "الجلالين" (¬1): " {أَمْرَهَا} الذي أمَرَ به مَن فيها من الطاعة والعبادة". والظاهر أنَّه أعمُّ من ذلك، وأنَّ المراد: أوحى في كلَّ سماء شأنَها الذي ¬

_ (¬1) (ص 478).

أراد كونه فيها، فيشمل جميع الشؤون التي تتعلَّق بكلِّ سماءٍ من مخلوقات أجرام وملائكة وغيرها، ومن أوامر بعبادات ووظائف (¬1) تتعلَّق بعمارة الكون وغير ذلك. فـ "أمر" هنا عامٌّ, لأنه مفرد مضاف. {وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا} الظاهر أنَّ هذا دخَلَ في قوله تعالى: {وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا}، ولذلك - والله أعلم - كان الالتفات. وإنما خصَّه تعالى بالذكر لأنه أعظم ما يشاهده أهل الأرض من أحوال السماء. {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}. * [النازعات: 27 - 32] {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27)} ثم فسَّر البناء بقوله تعالى: {رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28)} قال الجلال: "تفسيرٌ لكيفيَّة البناء" (¬2) {وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ} أي بعد خلق السماء وما فيها {دَحَاهَا (30)} أي أزال عن وجهها شيئًا كان مانعًا من إخراج مائها ومرعاها. فلذلك فسَّره تعالى بقوله: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31)}. وقال الجلال: " {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30)} بسطها، وكانت مخلوقة قبل السماء من غير دحو" (¬3) أي: وبذلك يتبيَّن اتفاق الآيات. وفي الشَّربيني (¬4): "قال الرازي: وهذا الجواب مشكل لأن الله تعالى ¬

_ (¬1) رسمها في الأصل بالضاد. (¬2) "تفسير الجلالين" (ص 584). (¬3) المصدر نفسه. (¬4) "السراج المنير" (3/ 598).

خلق الأرض في يومين، ثم إنه في اليوم الثالث جعل فيها رواسي من فوقها، وبارك فيها، وقدَّر فيها أقواتها. وهذه الأحوال لا يمكن إدخالها في الوجود إلا بعد أن صارت الأرض منبسطة. ثم إنه تعالى قال. بعد ذلك: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} فهذا يقتضي أنَّ الله تعالى خلق السماء بعد خلق الأرض، وبعد أن جعلها مدحوَّة؛ وحينئذ يعود السؤال. ثم قال: والمختار عندي أن يقال: خلقُ السماء مقدَّم على خلق الأرض. وتأويل الآية أن يقال: الخلق ليس عبارة عن التكوين والإيجاد. والدليل عليه قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59]. فلو كان الخلق عبارة عن الإيجاد لصار تقديرُ الآية: أوجده من تراب، ثم قال له: كن، فيكون؛ وهذا محال. فثبت أنَّ الخلق ليس عبارة عن الإيجاد، والتقدير في حق الله تعالى هو كلمته بأن سيوجده. إذا ثبت هذا فنقول: قوله تعالى: {خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} معناه أنه قضى بحدوثها في يومين وقضاءُ الله تعالى أنه سيحدث كذا في مدَّة كذا لا يقتضي حدوثَ ذلك الشيء في الحال. فقضاءُ الله تعالى بحدوث الأرض في يومين قد تقدَّم على إحداث السماء، وحينئذ يزول السؤال" (¬1). [2/ ب] أقول: هذا الوجه بعيد جدًّا؛ لأن الله يقول في سورة البقرة: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [29]. وقال في حم السجدة: {خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ... وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [فصلت: 9 - 11]. ¬

_ (¬1) انظر: "مفاتيح الغيب" (27/ 546، 549).

فالآيتان ظاهرتان في تقدُّم خلق الأرض. وجعلُ "خلَقَ" بمعنى "قضى" ضعيف. فأما قوله تعالى: {كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59] فالمراد - والله أعلم -: ثم قال له: كن بشرًا حيًّا سويًّا. وهذا ظاهر. فإن قلت: إنَّ تقدير الخلق سببٌ له، فلم لا يجوز إطلاقُه عليه مجازًا من إطلاق المسبَّب وإرادة السبب؟ قلت: الأصل الحقيقة، ولا يُعدل عنه إلا بدليل، ولا سيَّما والسياق يؤيد الحقيقة. فإن قلت: فالدليل آية النازعات. قلت: لا نسلِّم أنَّها تدلُّ على أنَّ بسط الأرض كان بعد خلق السماء. وذلك أنَّا نقول: إنَّ المراد بالدحو في قوله تعالى: {دَحَاهَا} إزالةُ شيءٍ كان على وجه الأرض يمنع إخراج مائها ومرعاها، بدليل أن الله تعالى فسَّره بذلك. قال تعالى: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا}. وقد أشار في "المدارك" (¬1) إلى هذا. وهو كقوله تعالى قبل: {السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28)} وقد مرَّ. ¬

_ (¬1) فسَّر النسفي الدحو بمعنى البسط ثم قال: "وكانت مخلوقة غير مدحوة فدحيت من مكة بعد خلق السماء بألفي عام. ثم فسَّر البسط فقال: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا} بتفجير العيون {وَمَرْعَاهَا} كلأها ... ". "مدارك التنزيل" (3/ 598 - 599).

فإن قلت: إنَّ اللغة تأبى هذا، فإنَّ الدحو إنما عُرِف في اللغة بمعنى البسط، وأيُّ بسط في إخراج الماء والمرعى؟ قلت: قال في "المختار": ودحا (¬1) المطرُ الحصى عن وجه الأرض (¬2). وقال الشاعر (¬3): ينفي الحصَى عن جديد الأرض مُبْتَرِكٌ ... كأنَّه فاحصٌ أو لاعبٌ داحي وهو يدل على صحة ما قلنا: فإن ضاقت الحقيقة فالمجاز واسع. وهذا القول متعيَّن لأن الله تعالى فسَّره به، وكفى بتفسيره تعالى حجة. فإن قلت: لا نسلِّم أنَّ قوله تعالى: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} تفسير لـ {دَحَاهَا (30)}، وإنما هو - كما قال الجلال (¬4) -: "حال بإضمار "قد" أي مُخْرِجًا". قلت: هذا باطل, لأنَّ قوله: "حال بإضمار قد" يريد أن التقدير عليه: والأرض بعد ذلك دحاها، والحالُ أنه قد أخرج منها ماءها ومرعاها؛ فتكون حالاً محكيَّة لأنَّ ماضِويَّة الفعل ولا سيَّما مع تقدير "قد" صريحة في أنَّ إخراج الماء والمرعى وقع قبل الدحو، وهذا ظاهر الفساد. ¬

_ (¬1) رسمها في الأصل: "دحى". والفعل من باب دعا، وعليه اقتصر الجوهري. ومن باب سعى لغة. (¬2) "مختار الصحاح" (ص 84). يعني: نزَعَه كما في "المحكم" (3/ 275). (¬3) هو أوس بن حجر، من قصيدة تعزى إلى عبيد بن الأبرص أيضًا. انظر: "ديوان أوس" (16) و"ديوان عبيد" (35). والمؤلف صادر عن "أضداد ابن الأنباري" (111). (¬4) "تفسير الجلالين" (ص 584).

وإن حاول التفصِّي منه بقوله: أي مُخرِجًا. ومراده الاعتذار بأن الحال تكون مقدَّرة، أي والأرض بعد ذلك دحاها مقدَّرًا أنه سيُخرج منها ماءها ومرعاها. وهذا (¬1) باطل لما مرَّ، فإنَّ أول الكلام صريح في أنَّ التقدير: والأرضَ بعد ذلك دحاها، والحالُ أنه قد أخرج منها ماءها ومرعاها. وهذا صريح في تقدُّم الإخراج، فمن أين تصحُّ دعوى جعلها حالاً مقدَّرة؟ وكيف يصحُّ أن تكون الحال محكيَّةً مقدَّرةً باعتبار واحد؟ هذا خُلْف. [3/ أ] فالحقُّ - إن شاء الله تعالى - ما قلناه: أنَّ معنى {دَحَاهَا}: أزال عن وجهها شيئًا كان مانعًا لها عن إخراج مائها ومرعاها. وقد قال في "الأضداد" (¬2) في {بَعْدَ}: "ويكون بمعنى (قبل)، قال الله عزَّ وجلَّ: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} [الأنبياء: 105] فمعناه عند بعض الناس: من قَبل الذكر, لأنَّ الذكر: القرآن. وقال أبو خِراش (¬3): حمِدتُ إلهي بعدَ عروةَ إذ نجا ... خِراشٌ وبعضُ الشرِّ أهَونُ من بعضِ أراد: قبل عروة, لأنَّهم زعموا أنَّ خِراشًا نجا قبل عروة (¬4). وقال الله عزَّ وجلَّ: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} " إلى أن قال: "ويجوز أن ¬

_ (¬1) كذا في الأصل بدلًا من "فهذا" لأنه جواب الشرط. (¬2) (ص 108). (¬3) انظر: "شرح أشعار الهذليين" (1230) و"حماسة أبي تمام" (1/ 385). (¬4) وكذا في "تفسير الطبري" - هجر (24/ 93). وفي قتل خراش روايتان: إحداهما في "الكامل" للمبرد (712) والأخرى في "الأغاني" (21/ 242) والثانية صريحة في أن عروة قُتِل قبل خراش، وليس في الأولى ما يخالف ذلك.

يكون معنى الآية: والأرض مع ذلك دحاها (¬1)، كما قال عزَّ وجلَّ: {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [القلم: 13] أراد: مع ذلك. وقال الشاعر (¬2): فقلتُ لها فِيئي إليكِ فإنَّني ... حرامٌ وإنَّي بعد ذاك لبيبُ أراد: مع ذلك". وتأوَّلها بعضهم بأنَّ (ثم) ليست للترتيب (¬3). وهذه الأوجه كلُّها بعيدة. ولا ضرورة إليها بحمد الله. {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32)} أي ثبَّتها، فلا ينافي أنه قد سبق إيجادُها. وهذا أولى من إنكار الترتيب، والله أعلم. ¬

_ (¬1) روى ذلك عن مجاهد وغيره. انظر: "تفسير الطبري" - هجر (24/ 94). (¬2) هو المضرَّب بن كعب بن زهير. أنشده له أبو عبيدة في "مجاز القرآن" (2/ 300). وأنشده أيضًا في (1/ 145) دون عزو. (¬3) انظر "مفاتيح الغيب" (2/ 143).

الرسالة الخامسة عشرة في معنى: {أغنى عنه}

الرسالة الخامسة عشرة في معنى: {أَغْنَى عَنْهُ}

بسم الله الرحمن الرحيم [ص 29] الغنى: عدم الحاجة، والإغناء: إعدام الحاجة، ثم من الأشياء ما يحتاج الإنسان إلى حصوله كالمال، ومنها ما يحتاج إلى دفعه كالعذاب. فإذا نظرنا إلى حالك مع المال، وجدناك طالبًا، والمال مطلوبًا، فأنت محتاج، والمال محتاج إليه. وإذا نظرنا إلى حالك مع العذاب حين يُخشى أن ينالك، وجدنا الأمر كأنه عكس ما مضى، كأن العذاب هو الطالب المحتاج، وكأنك أنت المطلوب المحتاج إليك. على هذا الأساس جرى استعمال كلمة "أغنى" ومشتقاتها في الكلام. يأتي الطالب مفعولاً به منصوبًا، والمطلوب مجرورًا بـ "عن"، فانقسمت إلى ضربين: الأول: ما كان على ظاهره، كالإنسان والمال. يأتي الإنسان منصوبًا، والمال مجرورًا بـ "عن"، كقولك لأخيك: قد أغناني الله عن مالك. وقال تبارك وتعالى (9/ 82): {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}. قال ابن إسحاق: "قالوا لَتُقطَعنّ عنا الأسواقُ، ولَتهلكنّ التجارة، ولَيذهبنّ عنا ما كنا نصيب فيها من المرافق" (¬1). فكأنه قال: فسوف يغنيكم ¬

_ (¬1) "سيرة ابن هشام" (2/ 547)، "تفسير الطبري" (شاكر 14/ 197).

الله عن الأموال التي كانت تحصل لكم من التجارة مع المشركين. الضرب الثاني: ما جاء على الاعتبار الآخر، كالإنسان والعذاب الواقع، أو المتوقع. يأتي العذاب منصوبًا، والإنسان مجرورًا بـ "عن". قال الله تبارك وتعالى (40/ 47): {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ}. وغالب ما في القرآن من كلمة "أغنى" أو مشتقاتها وارد على هذا الضرب الثاني، [ص 30] ولكنه قد يترك المنصوب، وقد يترك المجرور بـ "عن"، وقد يتركان معًا؛ ويقع الاختلاف في التفسير. وقد فصلت العرب بين الضربين، فجعلت مصدر "أغنى" من الضرب الثاني "الغَناء" بالفتح والمد. وفي "لسان العرب" (¬1): "قال ابن بري: الغَناء: مصدر أغنى عنك أي كفاك". ثم قال بعد: "أغْنِها عنَّا أي اصرِفْها وكُفَّها". ثم قال: "يقال: أغْنِ عنّي شرَّك، أي اصرِفْه وكُفَّه. ومنه قوله تعالى: {لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [الجاثية: 19]. وأرى أنه إذا فُهِمَ ما تقدّم، ورُوعي في الفهم والتقدير كان أجدر بالإصابة. ولا ريب أنه إذا حذف المفعول المنصوب، كما في قوله تعالى: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ} [المسد: 2] صح تفسير {أَغْنَى عَنْهُ} بقولك: نفعه، ولذلك ¬

_ (¬1) (15/ 138 - 139 غني).

يفسّر كثير منهم المصدر وهو "الغناء" بالنفع. وكأنهم لهذا يستغربون نصب الكلمة للمفعول به، فيجعلون {شَيْئًا} في الآية السابقة مفعولاً مطلقًا، يقولون: أي شيئًا من الإغناء، أو نحو ذلك. وهذه - فيما أرى - غفلة عن الأساس الذي تقدم بيانه. فنرى الزمخشري يقدرها في بعض المواضع بما يقتضيه السياق، فيقول: "من عذاب الله" كما في "تفسيره" (58/ 17) (¬1) و (66/ 10) (¬2). مع أنه أولَ ما وقعت (3: 10) {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ}، قال: " (من) في قوله: {مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} مثله في قوله: {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28] والمعنى: لن تغني عنهم من رحمة الله، أو من طاعة الله {شَيْئًا} أي بدل رحمة الله وطاعته، وبدل الحق" (¬3). وهذا تعسّف وغفلة عن السياق وعن الأساس الذي مرّ بيانُه. ¬

_ (¬1) يعني تفسير قوله تعالى في سورة المجادلة (17): {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا}. قال في "الكشاف" (4/ 495): " {مِنَ اللَّهِ} من عذاب الله {شَيْئًا} قليلاً من الإغناء". (¬2) وذلك قوله تعالى في سورة التحريم (10): {فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا}. قال الزمخشري: "لم يغن الرسولان عنهما ... إغناءً ما من عذاب الله". "الكشاف" (4/ 571). (¬3) "الكشاف" (1/ 339).

وذكر الآلوسي (¬1) في الآية [ص 31] أوجهًا، أولاها بالصواب أن أصل الكلام: شيئًا من عذاب الله، فقوله: "من عذاب الله" في الأصل نعت لقوله: {شَيْئًا}، ولكن تقدم النعت فكان حالاً (¬2). هذا، وقد تُفسَّر "أغنى" في الضرب الثاني بقولهم: دفع، كفّ، صرف، أبعد؛ تُحْمل؛ بحسب اختلاف المواضع. وهذه كلُّها تُبقي الكلام على نظمه. وقد تفسر بقولهم: "كفى"، وهذه تغيّر نظم الكلام. وكذلك "نفع". وأرى أن كلمة "دفع" تصلح في جميع المواضع، وهي الموافقة لما قدمت في الأساس، وإن كان غيرها في بعض المواضع أنسب منها. وكذلك كلمة "كفى" تصلح، ولكنها تُغيِّر نظم الكلام، وتُوقع في اشتباه المعنى. فأما قوله تعالى (10/ 31): {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} إلى قوله (10/ 36): {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} (¬3) فقد تقدّم عن الكشاف أن المعنى: إن الظن لا يغني بدلَ الحقِّ إغناءً ما. ويفسر الحقّ ¬

_ (¬1) "روح المعاني" (3/ 93). (¬2) انظر: "البحر المحيط" (3/ 35). و"شيئًا" في هذا الوجه مفعول به، و"من" للتبعيض. (¬3) وانظر الكلام على الآية في "الأنوار الكاشفة" للمؤلف (ص 336).

بالعلم. وحاصله: أن الظن لا يغني بدل العلم إغناءً ما، أي أنه إنما يُعتدُّ بالعلم، وأما الظن فلا اعتداد به. وبهذا قال كثيرون، أو الأكثرون، ثم يخصصون الآية بمعرفة الله، وما وليها من العقائد. ويقولون: المعتبر فيها العلم القطعي، ولا يفيد الظن فيها شيئًا، فأما ما عدا ذلك كالأحكام الفقهية فهي مخصوصة من هذا، فإن الظن معتبر فيها. ومنهم من يقول: الظن الذي ثبت شرعًا الاعتداد به يرجع إلى أصول قطعية، فمن قضى بشهادة عدلين [ص 32] فإنما قضى بالدليل القطعي الذي يوجب القضاء بشهادة عدلين. وكذا من اعتدَّ بدلالة ظنية من القرآن، إنما عمل بالدليل القطعي القاضي بوجوب الأخذ بمثل ذلك. وهكذا من أخذ بحديث صحيح، إنما عمل بالدليل القاطع الموجب العملَ بمثل ذلك. وأنت ترى أن هذا التفسير يخالف الأساس في كلمة "يغني" ويخالف مواقعها الكثيرة في القرآن. ومشى ابن جرير على ذلك المعنى (¬1). واقتصر ابن كثير على قوله: "لا يغني عنهم شيئًا" (¬2). وقال البغوي: "لا يدفع عنهم من عذاب الله شيئًا، وقيل: لا تقوم مقام العلم" (¬3). ¬

_ (¬1) "تفسير ابن جرير" (شاكر 15/ 89). (¬2) "تفسير ابن كثير" (2/ 399). (¬3) "معالم التنزيل" (2/ 363).

وقوله: "لا تقوم مقام العلم" هو المعنى المتقدم، فأما قوله: "لا يدفع عنهم من عذاب الله شيئًا"، فهو في الجملة المعنى الذي يقتضيه الأساس المتقدم، ومواقع الكلمة في القرآن، إلا أن قوله: "من عذاب الله" لا يخلو من بعد؛ لأن كلمة "الحق" إما أن يكون حملها على أنها اسم الله عزَّ وجلَّ، ثم قدر كلمة "عذاب"؛ وإما أن يكون حملها على أن المراد بها العذاب. والذي يقتضيه السياق أن تكون كلمة "الحق" هنا هي ما تقدم في الآيات في قوله: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس: 32] فالحق هو الأمر الثابت قطعًا. فتوحُّد الله تعالى باستحقاق العبادة أمر ثابت قطعًا، كما تقتضيه الآيات السابقة، وهو حق يُطالَب العباد ليعترفوا به، ويعملوا بحسبه. والمشركون يحاولون دفع هذا الحق بتخرُّصاتهم التي غايتها في نفسها أن تفيد ظنًّا ما، والظن لا يدفع شيئًا من الحق اليقيني، فيتحصَّل من هذا أن الظن لا يعارض القطع. وهذا المعنى - مع كونه موافقًا لأساس كلمة "يغني" ولمواقعها في أكثر الآيات ولمقتضى السياق - حق في نفسه، لا يرد عليه شيء مما تقدم، ولا ما يورد على ذلك من إنكار بعض أئمة العربية مجيء كلمة "من" للبدلية، ولا غير ذلك. ولكن يبقى علينا أن هذه الجملة: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36] [ص 33] وردت في موضع آخر من القرآن، قد لا يحتمل هذا المعنى، بل قد يتعين فيها المعنى الذي قاله الجمهور، فلننظر في ذلك. قال الله تبارك وتعالى (53/ 20): {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا

قِسْمَةٌ ضِيزَى} إلى أن قال: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} إلى قوله: {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}. جرى الجمهور هنا على ذلك المعنى: أن الظن لا يغني بدل العلم، أي لا يقوم مقامه. وذكر البغوي ما يوافقه، ثم قال: "وقيل: الحق بمعنى العذاب، أي إن ظنهم لا ينقذهم من العذاب" (¬1). وقد يقال: إن السياق يعيِّن قول الجمهور دون القول الذي قدمناه: أنّ الظنّ لا يدفع شيئًا من الحق. والصواب: أنّ السياق يوافق هذا المعنى، فكلمة "الهدى" من قوله: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} مثل كلمة الحق في قوله تعالى هناك: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} فالهدى هو الحق الثابت قطعًا، فهو المراد في قوله: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}. وكأنه قيل: وجاءهم من ربهم الحق الثابت اليقيني في أنه لم يلد ولم يولد، وأن الملائكة عباد من عباده، ليسوا بنات له ولا إناثًا، وهم في زعمهم أن الملائكة بنات الله ليس لهم علم يستندون إليه سوى الظن، وهوى النفوس. فيتبعون الظن، ويحاولون أن يدفعوا به ذلك الحق اليقيني؛ وإن الظن لا يدفع شيئًا من اليقين، فالظن لا يعارض القطع. ¬

_ (¬1) "معالم التنزيل" (4/ 259).

فقد بان أنه ليس في هذا الموضع ما يدفع المعنى المختار المطابق لأساس كلمة "يغني" في العربية، ولمواقعها الكثيرة في القرآن مع موافقته للسياق، وأنه لا يرد عليه شيء، كما تقدم.

الرسالة السادسة عشرة حول تفسير الفخر الرازي وتكملته

الرسالة السادسة عشرة حول تفسير الفخر الرازي وتكملته

[ق 1/ أ] بسم الله الرحمن الرحيم أفادني فضيلة العلامة الجليل الشيخ محمَّد بن عبد العزيز بن مانع (¬1) - حفظه الله - أن صاحب "كشف الظنون" ذكر أن تفسير الفخر الرازي المسمى بـ "مفاتيح الغيب" لم يكمله الفخر، وأنه أكمله نجم الدين أحمد بن محمَّد القَمُولي، وأن في ترجمة القمولي من "طبقات ابن السبكي" ومن "الدرر الكامنة" أن له تكملة لتفسير الفخر الرازي. وكأن فضيلة الشيخ - حفظه الله - ندبني لتحقيق هذه القضية, لأن هذا التفسير مطبوع بكماله منسوبًا إلى الفخر الرازي، وليس فيه تمييز بين أصل وتكملة، وآخره جارٍ على طريقة أوله. هذا ولم تكن سبقت لي مطالعة التفسير ولا مراجعة، ولي عنه صوارف، فرجوت أن أجد في كتب التاريخ والتراجم والفهارس ما يغني عن تصفح التفسير، فلم أجد ما يفيد التحديد إلا في بعض الفهارس الحديثة أنه وجد بخط السيد مرتضى الزبيدي عن "شرح الشفاء" للخفاجي أن الرازي وصل إلى سورة الأنبياء، فأحببت أن أقف على عبارة الخفاجي، وشرحه للشفاء مطبوع في أربعة مجلدات كبار، ولم تسبق لي مطالعة له أيضًا، فنظرت أولاً في فهارس مجلداته الأربعة، وراجعت ما رأيت أنه مظنة للعبارة المذكورة، فلم أجد. فتجشمت تصفح ذاك الشرح من أوله، ولم يكلفني ذلك كبير تعب؛ ¬

_ (¬1) من كبارعلماء نجد. ولد سنة 1300 في عنيزة، وتوفي سنة 1385 في بيروت، ودفن في قطر. انظر ترجمته في: "علماء نجد خلال ثمانية قرون" (6/ 100 - 113).

لأنني وجدت العبارة في ص 267 من المجلد الأول طبع القسطنطينية سنة 1267 هـ - وسيأتي نصها - فرابني قوله: "الثابت في كتب المؤرخين"، فإني قد تتبعت ما وجدته من كتبهم، فلم أجد فيها ذلك التحديد، ولو كان ظاهرًا لنبَّه عليه بعضهم. ثم كيف خفي ذلك على صاحب "كشف الظنون" مع سعة اطلاعه وكثرة تتبعه؟ وكيف خفي على الزبيدي حتى احتاج إلى تعليقه عن كتاب الخفاجي، ثم خفي على من بعده حتى لم يجدوا إلا النقل عن خط الزبيدي عن كتاب الخفاجي؟ إذن لا بد من النظر في التفسير نفسه، في تفسير سورة الأنبياء وما قبلها وما بعدها. فزادني ارتيابًا بقول الخفاجي أنني وجدت الروح واحدة والأسلوب واحدًا، حتى إنني كدت أجزم أو جزمت بأن تفسير سورة الأنبياء وسورٍ بعدها من هذا التفسير هو تصنيف مفسر سورة الكهف وسورة مريم وسورة طه منه. وراجعت مواضع من تفسير البقرة وآل عمران، ونظرت نظرة في أواخر التفسير، فوجدته أيضًا موافقًا لذلك. وعثرت على إحالة في تفسير سورة الإخلاص لفظها: "وقد استقصينا في تقرير دلائل الوحدانية في تفسير قوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] "، وهذه الآية في سورة الأنبياء، فخطر لي احتمال أن يكون قائل: "إن الرازي وضل إلى سورة الأنبياء" إنما أخذ ذلك من هذه العبارة مضمومةً إلى نصوص المؤرخين أن الرازي لم يكمل التفسير، وإنما أكمله غيره؛ فإن العادة في تصنيف التفاسير أن يبدأ المفسر من أول القرآن ثم يجري على الترتيب. والظاهر أن الرازي هكذا صنع، وقد نصُّوا على أنه لم

يكمل التفسير، إذن فلا بد [2/ أ] (¬1) أن يكون هناك موضع انتهى إليه الأصل، وشرعت منه التكملة. وعباراتهم تعطي أنه بقي على الرازي مقدار له شأن، فتفسير الإخلاص لن يكون إلا من التكملة، فكلمة "وقد استقصينا ... " من كلام المكمل، فتفسير الآية المحال عليها من كلامه. دع هذا، ودع مناقشته، فالمقصود أن الريبة في قول الخفاجي استحكمت، بل اتضح بطلانه، كما سيأتي. واصلت النظر في تفسير سورة الحج والمؤمنين والنور والفرقان والشعراء والقصص متفهمًا تارة، متصفحًا أخرى، وأنا لا أنكر شيئًا من الروح والأسلوب، مع وجود شواهد تدل أن الكلام كلام الرازي، لكن لم أكد أشرع في النظر في تفسير العنكبوت حتى شعرت بأن هذه روح أخرى، وأسلوب يحاول محاكاة السابق وليس به، فأنعمت النظر، فتأكد ذلك وتأيد بوجود عدة فوارق، فقفزت إلى تفسير سورة الروم، ثم إلى تفسير سورة لقمان، فالسجدة، فأجد الطريقة الثانية مستمرة. فرأيت أني قد اكتشفت الحقيقة، وأن الرازي بلغ إلى آخر تفسير القصص، فما بعد ذلك هو التكملة. لكنني تابعت تصفحي لأوائل تفسير سورة سورة، فلما بلغت تفسير الصافات إذا بالطريقة الأولى ماثلة أمامي. فجاوزتها إلى السورة الخامسة أو السادسة بعدها، فوجدت الطريقة الأولى باقية، فجاوزت ذلك إلى السابعة والثامنة فإذا بالطريقة الثانية. وهكذا أجد كلتا الطريقتين تغيب ثم تعود، فعلمت أنه لا بد من استقصاء النظر على الترتيب. وسألخص البحث من أوله مرتبًا على أسئلة، كل منها مع جوابه. ¬

_ (¬1) الكتابة في الأصل في وجه واحد من الورقة.

السؤال الأول ألم يكمل الفخر الرازي تفسيره؟

السؤال الأول ألم يكمل الفخر الرازي تفسيره؟ الجواب يعلم مما يأتي: في "عيون الأنباء" لابن أبي أصيبعة (2/ 29) في ترجمة الفخر، في بيان مؤلفاته: "كتاب التفسير الكبير المسمى "مفاتيح الغيب"، اثنتا عشرة مجلدة بخطه الدقيق سوى الفاتحة، فإنه أفرد لها كتاب تفسير الفاتحة مجلد، تفسير سورة البقرة من الوجه العقلي لا النقلي مجلد ... ". ظاهر هذا أن الفخر أكمل التفسير، لكن ذكر ابن أبي أصيبعة نفسه في كتابه المذكور (2/ 171) في ترجمة شمس الدين أحمد بن خليل الخُوَيَّي أن له "تتمة تفسير القرآن لابن خطيب الري". وابن خطيب الري هو الفخر الرازي. وذكر ابن أبي أصيبعة في ترجمة الخويي أنه - أعني ابن أبي أصيبعة - أخذ عن الخويي، وأن الخويي أدرك الفخر الرازي وأخذ عنه. والفخر توفي سنة 606 هـ كما هو معروف، وتوفي ابن أبي أصيبعة سنة 668 هـ. وفي "تاريخ ابن خلكان" (1/ 474) في ترجمة الفخر في ذكر مؤلفاته: "منها تفسير القرآن الكريم جمع فيه كل غريب وغريبة، وهو كبير جدًّا لكنه لم يكمله، وشرح سورة الفاتحة في مجلد". توفي ابن خلكان سنة 681 هـ. وذكر ابن السبكي في "طبقاته" (5/ 35) في ترجمة الفخر تفسيره، ولم يبين أكمل أم لا، لكنه قال (5/ 179) في ترجمة نجم الدين أحمد بن محمَّد القَمولي: "وله تكملة على تفسير الإِمام فخر الدين". توفي ابن السبكي سنة 771 هـ.

[3/ أ] وفي "شذرات الذهب" (6/ 75) في ترجمة القمولي: "قال الأسنوي: وكمّل تفسير ابن الخطيب". وابن الخطيب هو الفخر، توفي الأسنوي سنة 772 هـ. وفيها (5/ 21) في ترجمة الفخر: "قال ابن قاضي شهبة: ومن تصانيفه تفسير كبير لم يتمه في اثني عشر مجلدًا كبارًا ... " (¬1). توفي ابن قاضي شهبة سنة 851 هـ. وفي "الدرر الكامنة" لابن حجر (1/ 304) في ترجمة القمولي: "وأكمل تفسير الإِمام فخر الدين". توفي ابن حجر سنة 852 هـ. **** ¬

_ (¬1) انظر: "طبقات ابن قاضي شهبة" طبعة حيدراباد (2/ 333).

السؤال الثاني إن لم يكمله فمن أكمله؟

السؤال الثاني إن لم يكمله فمَنْ أكمله؟ الجواب: قد علم مما مرَّ أنه أكمله كلٌّ من الخويي والقَمولي. فأما الأول فهو شمس الدين قاضي القضاة أحمد بن خليل الخويي توفي سنة 637 هـ. هذا هو الصواب في اسمه ولقبه ونسبته ووفاته، ووقع في عدة كتب تخليط في ذلك. راجع "عيون الأنباء" (2/ 171) و"المرآة" لسبط ابن الجوزي (8/ 730)، و"طبقات ابن السبكي" (5/ 8)، و"السلوك" للمقريزي (1/ 273)، و"تذكرة الحفاظ" للذهبي (4/ 200). و"البداية والنهاية" لابن كثير (13/ 155)، و"الشذرات" (5/ 183). وراجع "شرح القاموس" (خ وي)، و"كشف الظنون" (مفاتيح الغيب)، و"الشذرات" (5/ 423)، و"فهرس الأزهر" (1/ 299)، و"فهرس الخزانة التيمورية" (1/ 235)، و"معجم المطبوعات". وله ابن اسمه شهاب الدين قاضي القضاة محمَّد بن أحمد بن خليل الخويي، كان محدثًا فاضلاً، توفي سنة 693 هـ. ذُكِرَ في مواضع من "سلوك المقريزي" و"تاريخ ابن الفرات"، وله ترجمة حسنة في "البداية والنهاية" لابن كثير (13/ 337)، و"فوات الوفيات" (2/ 182)، و"الوافي بالوفيات" (2/ 137)، و"الشذرات" (5/ 423) على تخليط في "الشذرات". ولما كان الغالب أن يُلقب من اسمه محمَّد: شمس الدين، ومن اسمه أحمد: شهاب الدين، اشتبه الأمر على صاحب "كشف الظنون"، فجعل لقب الأب: شهاب الدين.

وأما الثاني فهو نجم الدين أحمد بن محمَّد القمولي، توفي سنة 727 هـ, كما في "طبقات ابن السبكي" (5/ 179)، و"الدرر الكامنة" (1/ 304)، و"الشذرات" (6/ 75)، و"كشف الظنون" (مفاتيح الغيب). ووقع في "فهرس الأزهر"، و"فهرس الخزانة التيمورية" ذكر وفاته سنة 777 تبعًا لنسخة "كشف الظنون" الطبعة الأولى، وذلك خطأ. وزعم بعضهم أنّ للسيوطي تكملة على تفسير الفخر، كتب منها من سورة سبح إلى آخر القرآن في مجلد، وإنما ذكر صاحب "كشف الظنون" أن للسيوطي تفسيرًا اسمه "مفاتيح الغيب" كتب منه ذاك المقدار، وهذا هو الظاهر أنه تفسير مستقل، وسيأتي ما يؤكد ذلك إن شاء الله. ****

السؤال الثالث إذا لم يكمل الفخر تفسيره فهذا التفسير المتداول الكامل مشتمل على الأصل والتكملة، فهل يعرف أحدهما من الآخر؟

[4/ أ] السؤال الثالث إذا لم يكمل الفخر تفسيره فهذا التفسير المتداول الكامل مشتمل على الأصل والتكملة، فهل يُعرَف أحدهما من الآخر؟ الجواب عن هذا يحتاج إلى إطالة. فقد قال الشهاب الخفاجي المتوفى سنة 1069 هـ في شرحه لشفاء القاضي عياض (1/ 267) معترضًا على من نقل عن "التفسير الكبير" للفخر الرازي: "الثابت في كتب التاريخ أن التفسير الكبير وصل إلى سورة الأنبياء وكمَّله تلميذه الخويي". وقد ذكرت ارتيابي في هذا القول ثم نظري في التفسير نفسه، وسألخص ذلك محيلاً على النسخة المطبوعة بمصر سنة 1278 هـ, وهي في ستة مجلدات، وله نسخة مخطوطة محفوظة بمكتبة الحرم المكي. أولاً: في آخر تفسير البقرة من المخطوطة "حكاية تأريخ المصنف": "وقد تم يوم الخميس في المعسكر المتاخم للقرية المسماة بأرصف، سنة أربع وتسعين وخمسمائة". وفي آخر تفسير آل عمران من المخطوطة: "قال رضي الله عنه: تم تفسير هذه السورة يوم الخميس". ونحوه في المطبوعة، وزاد: "أول ربيع الآخر سنة خمس وتسعين وخمسمائة". وهكذا ثبت التأريخ في أكثر السور الآتية إلى آخر سورة الكهف حيث ثبت في النسختين: "قال المصنف رحمه الله: تم تفسير هذه السورة يوم الثلاثاء السابع عشر من صفر سنة اثنتين وستمائة في بلدة غزنين".

ثم انقطعت السلسلة إلى سورة يس، ثم شرعت من آخر تفسير الصافات حيث وقع هناك في المطبوعة: "تم تفسير هذه السورة ضحوة يوم الجمعة السابع عشر من ذي القعدة سنة ثلاث وستمائة". ثم استمر التأريخ فيما بعد ذلك من السور إلى آخر تفسير الأحقاف حيث وقع في النسختين: "قال المصنف رضي الله عنه: تم تفسير هذه السورة يوم الأربعاء العشرين من ذي الحجة سنة ثلاث وستمائة". ولم يثبت شيء آخر القتال، ووقع في المطبوعة آخر تفسير سورة الفتح: "قال المصنف رحمه الله تعالى: تم تفسير هذه السورة يوم الخميس السابع عشر من شهر ذي الحجة سنة ثلاث وستمائة ... ". كذا وقع مع أن أول ذي الحجة تلك السنة "الجمعة" كما تصرح به تواريخ السور السابقة. وفي "الشذرات" (5/ 10) ما يدل على أن أول شوال تلك السنة كان الاثنين، فإذا تم شوال ثلاثين كان أول ذي القعدة الأربعاء كما تقدم، فإذا تم أيضًا ثلاثين - ولا مانع من ذلك - كان أول ذي الحجة الجمعة. ثانيًا: وقع في القسم الذي زعم الخفاجي أنه التكملة - في مواضع منه - نصوص تبين أن تلك المواضع من تصنيف الفخر. فمنها ما هو صريح كقوله في تفسير سورة الأنبياء - التفسير (4/ 521): "أما المأخذ الأول فقد تكلمنا فيه في الجملة في كتابنا المسمى بالمحصول في الأصول". وفي تفسير الزمر - التفسير (5/ 415): "الثالث: كان الشيخ الوالد ضياء الدين عمر رحمه الله يقول ... ".

وفي تفسير الزمر - التفسير (5/ 448): "لنا كتاب مفرد في تنزيه الله ... سميناه تأسيس التقديس". [5/ أ] وفي تفسير سورة الحشر - التفسير (6/ 275): "اعلم أنا قد تمسكنا بهذه الآية في كتاب المحصول في أصول الفقه". وفي تفسير المدثر - التفسير (6/ 404): "والاستقصاء فيه قد ذكرناه في المحصول من أصول الفقه". وفي تفسير سورة الفجر - التفسير (6/ 547): "وجواب المعارضة بالنفس مذكور في كتابنا المسمى بلباب الإشارات". وكتاب "المحصول في أصول الفقه"، وكتاب "تأسيس التقديس في العقائد"، وكتاب "لباب الإشارات" - ملخص من إشارات ابن سينا - ثلاثتها من مصنفات الفخر الرازي المشهورة. وضياء الدين عمر هو والد الفخر الرازي وشيخه. ومنها ما هو دون ذلك كقوله في تفسير سورة الفرقان - التفسير (5/ 28): "وفي تحقيقه وبسط كلام دقيق يرجع فيه إلى كتبنا العقلية". وفي تفسير سورة القصص - التفسير (5/ 135): "وهذه طريقة ركيكة بينا سقوطها في الكتب الكلامية". وفي تفسير سورة فصلت - التفسير (5/ 449): "لأنا قد دللنا في المعقولات .. ". وفي تفسير سورة القيامة - التفسير (6/ 415): "بينا في الكتب العقلية ضعف تلك الوجوه فلا حاجة هنا إلى ذكرها".

والذي نسبت إليه التكملة لم تعرف له كتب عقلية وكتب كلامية يتأتَّى منه أن يحيل عليها بمثل هذه الكلمات، وإنما ذلك للفخر الرازي. فأما ما وقع في التفسير (5/ 317) في تفسير سورة يس، وهو من القسم الثالث: "قد ذكرنا الدلائل على جواز الخلاء في الكتب العقلية"، فالصواب كما في المخطوطة: "قد ذكر الدلائل .. ". ومنها ما هو دون ذلك كقوله في تفسير سورة النور - التفسير (4/ 620): "فقد بينا في أصول الفقه". ونحوه في تفسير النور أيضًا - التفسير (4/ 637)، و (4/ 709) وفي تفسير الفرقان (5/ 21) وسورة النمل (5/ 93). وفي تفسير الدخان - التفسير (5/ 583): "وهذا الدليل في غاية الضعف على ما بيناه في أصول الفقه". وفي تفسير سورة الحديد - التفسير (6/ 232): "سمعت والدي رحمه الله ... ". وفي تفسير سورة الحشر - التفسير (6/ 275): " ... أن المسلم لا يقتل بالذمي، وقد بينا وجهه في الخلافات". وحمل هذه الإحالات على أنها من كلام الفخر هو الظاهر. ثالثًا: الطريقة التي جرى عليها الرازي في الشطر المقطوع بأنه تصنيفه من هذا التفسير استمرت إلى آخر سورة القصص، ومن ثم خلفتها طريقة أخرى في تفسير العنكبوت وما بعدها إلى آخر سورة يس، يتبين ذلك لمن أنعم النظر في القسمين. وهذه طائفة من وجوه الفرق التي يتيسر بيانها:

الأول: أطال الرازي في أول تفسير البقرة القول في الحروف المقطعة أوائل السور، واختار أنها أسماء للسور، واستمر مقتضى هذا القول في أول آل عمران والأعراف ويونس وهود ويوسف والرعد وإبراهيم والحجر ومريم وطه، وكذا في أول سورة الشعراء والنمل والقصص. [6/ أ] فأما أول العنكبوت فابتدأ المفسر بكلام طويل في تثبيت قول جديد حاصله أن الحروف المقطعة إنما أتي بها لتنبيه السامع، قال: "الحكيم إذا خاطب من يكون محل الغفلة ... يقدم على الكلام المقصود شيئًا غيره ليلتفت المخاطب ... وقد يكون ذلك المقدم على المقصود صوتًا غير مفهوم، كمن يصفر خلف إنسان ليتلفت إليه، وقد يكون ذلك الصوت بغير الفم كما يصفق الإنسان بيديه ليقبل السامع عليه. فنقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان يقظان الجنان لكنه إنسان يشغله شأن عن شأن، فكان يحسن من الحكيم أن يقدم على الكلام المقصود حروفًا هي كالمنبهات، ثم إن تلك الحروف إذا لم تكن بحيث يفهم معناها تكون أتم في إفادة المقصود الذي هو التنبيه ... ". ثم قال في إعراب "الم": "قد ذكر تمام ذلك في سورة البقرة مع الوجوه المنقولة في تفسيره ونزيد ها هنا أن على ما ذكرنا في الحروف [من أنها للتنبيه] لا إعراب لها [أي الم] , لأنها جارية مجرى الأصوات المنبهة". نقلت هذه العبارة الأخيرة من النسخة المخطوطة، وزدت الكلمات المحجوزة إيضاحًا، والعبارة في المطبوعة مغيرة تغييرًا موهمًا. وواضح أنه لا ينكر إحالة صاحب التكملة على الأصل بنحو "قد تقدم ... "، وجرى أول تفسير سورة الروم على هذا القول الجديد، وأحال على العنكبوت، وسكت

في أول لقمان، واقتصر أول السجدة على قوله: "قد علم ما في قوله: {الم} وقوله: {لَا رَيْبَ فِيهِ} من سورة البقرة وغيرها"، وقال أول يس: "قد ذكرنا كلامًا كليًّا في حروف التهجي في سورة العنكبوت". الوجه الثاني: لم يعن في القسم الأول ببيان ارتباط السورة بالتي قبلها، وعني به في القسم الثاني - العنكبوت ويس وما بينهما. الثالث: يكثر في القسم الأول التعرض للقضايا الكلامية ولو لغير مناسبة يعتد بها، بخلاف القسم الثاني. الرابع: يكثر في القسم الأول النقل عن رؤوس المعتزلة كالأصم والجبائي والقاضي عبد الجبار والكعبي وأبي مسلم الأصفهاني، ويظهر من عدة مواضع أن تفاسيرهم كانت عند الرازي. ولا يوجد ذلك في القسم الثاني. الخامس: يكثر في القسم الأول نقل احتجاجات المعتزلة مشروحة، فربما أجاب عنها، وربما اقتصر على المعارضة، وربما اجتزأ بالإشارة إلى الجواب، وربما سكت. ويندر ذلك في القسم الثاني. السادس: يكثر في القسم الأول الألفاظ الجدلية مثل: سلَّمنا، فلم قلتم، ونحوها؛ بخلاف القسم الثاني. السابع: يكثر في القسمين النقل عن الكشاف، والتزم في الأول: "قال صاحب الكشاف" ونحوه. وفي الثاني غالبًا: "قال الزمخشري" ونحوه. الثامن: يغلب في الأول عند إكمال تفسير الآية وإرادة الشروع في غيرها أن يقال: "قوله تعالى ... "، وفي القسم الثاني: "ثم قال تعالى".

التاسع: يكثر في الأول جدًّا تصدير كل مقصد بقوله: "اعلم"، ويندر ذلك في القسم الثاني. العاشر: يندر في الأول تحري السجع، ويكثر في الثاني. [7/ أ] الحادي عشر: يقع في القسم الأول التعرض لما يتعلق بقواعد العربية باعتدال. أما في القسم الثاني فنجد كثيرًا محاولة التعمق في ذلك، والتدقيق والإيغال في التعليل، والإغراب بما لا يوجد في كتب العربية نفسها. الثاني عشر: يقع في الأول التعرض للنكات البلاغية باعتدال، ويكثر ذلك في الثاني. عرفنا أن القسم الأول - وهو من أول التفسير إلى آخر سورة القصص - جرت فيه الطريقة الأولى، وأن القسم الثاني - وهو من أول تفسير العنكبوت إلى آخر تفسير يس - جرت فيه الطريقة الثانية، فماذا بعد ذلك؟ عادت الطريقة الأولى من أول تفسير الصافات إلى آخر تفسير الأحقاف، فهذا قسم ثالث. ثم رجعت الطريقة الثانية من أول سورة القتال إلى آخر تفسير الواقعة، فهذا قسم رابع. ثم عادت الطريقة الأولى في تفسير الحديد والمجادلة والحشر فقط، فهذا قسم خامس. ثم رجعت الطريقة الثانية من أول تفسير سورة الممتحنة إلى آخر تفسير سورة التحريم، إلا أنه يتبين فيه الاستعجال وترك التدقيق، ويكاد يقتصر فيه على الأخذ من تفسير الواحدي والكشاف، فهذا قسم سادس. ثم عادت الطريقة الأولى من أول تفسير الملك إلى آخر القرآن، فهذا قسم سابع.

ولا ريب أن القسم الأول من تصنيف الفخر، والطريقة الأولى طريقته، إذن فالقسم الثالث والخامس والسابع من تصنيفه. وهذا مطابق للنصوص المتقدمة تحت قولي: "ثانيًا ... "، فإن تلك النصوص كلها في هذه الأقسام. ومطابق أيضًا للأمر الأول، وهو التواريخ في أواخر تفسير السور؛ فإن السلسلة الأولى في أواخر سور القسم الأول، والسلسلة الثانية هي في أواخر سور القسم الثالث خلا التاريخ الذي في آخر تفسير سورة الفتح، فإن تفسير سورة الفتح من القسم الرابع، لكن ذلك التاريخ مخدوش كما تقدم، ويذفِّف عليه أن تفسير سورة الفتح جارٍ على الطريقة الثانية. قد تضافرت الأدلة على أن القسم الأول والثالث والخامس والسابع من تصنيف الفخر الرازي، وبقي النظر في بقية الأقسام، وهي الثاني والرابع والسادس، ويدل على أنها من تصنيف غيره أمور: الأول: اختلاف الطريقة كما تقدم. الثاني: في التفسير (5/ 182) في تفسير سورة الروم، وهو من القسم الثاني: " فأخبرني الشيخ الورع الحافظ الأستاذ عبد الرحمن بن عبد الله بن علوان بحلب ... ". وعبد الرحمن هذا توفي سنة 623 كما في "الشذرات" وغيرها. وفي التفسير (5/ 255) في تفسير سورة سبأ، وهو من القسم الثاني أيضاً: "أخبرني تاج الدين عيسى بن أحمد بن الحاكم البندهي، قال: أخبرني والدي، عن جدي، عن محيي السنة، عن عبد الواحد المليحي، عن أحمد بن عبد الله النعيمي، عن محمَّد بن يوسف الفربري، عن محمَّد بن إسماعيل البخاري ... ".

[8/ أ] لم أجد ترجمة لعيسى هذا، والظاهر أنه متأخر عن الفخر، فإن بين الراوي عن عيسى وبين محيي السنة ثلاثة. والفخر - كما في ترجمته من "طبقات ابن السبكي" - أخذ عن أبيه ضياء الدين، وضياء الدين من أصحاب محيي السنة. وفي التفسير (6/ 18) في تفسير سورة ق، وهو من القسم الرابع: "الظلّام بمعنى الظالم كالتمّار بمعنى التامر ... وهذا وجه جبد مستفاد من الإِمام زين الدين أدام الله فوائده". لم يتبين لي من زين الدين هذا؟ وظاهر العبارة أنه كان حيًّا حين التصنيف، وربما كان هو ابن معطي صاحب الألفية، توفي سنة 628 هـ. وفي التفسير (6/ 143) في تفسير سورة القمر، وهو من القسم الرابع أيضًا: "روى الواحدي في تفسيره، قال: سمعت (الصواب: في تفسيره ما سمعته على، كما في المخطوطة) الشيخ رضي الدين المؤيد الطوسي بنيسابور قال: سمعت عبد الجبار، قال: أخبرنا الواحدي، قال: أخبرنا أبو القاسم عبد الرحمن بن محمَّد السراج .. ". والمؤيد الطوسي محدث توفي سنة 617 هـ. هذا وقد عرفت أن هؤلاء الذين روى عنهم المفسر متأخرون عن الفخر، والفخر ليس براوٍ كما في ترجمته من "طبقات ابن السبكي"، ولم أجد في الأقسام الأربعة التي قامت الأدلة على أنها من تصنيفه تعرضًا للرواية, ولا نقلاً عن عالم من أهل عصره غير والده. والظاهر أن المفسر الراوي عن هؤلاء هو أحمد بن خليل الخويي، فهو صاحب هذه التكملة.

فأما القمولي (¬1) فمتأخر لم يدرك هؤلاء، وفي ترجمة الخويي من "طبقات ابن السبكي" أنه أدرك المؤيد الطوسي وسمع منه. وفي التفسير (6/ 54) في تفسير الذاريات - وهو من القسم الرابع - كلام في مسألة اعتقادية، ثم قال: "والاستقصاء مفوض في ذلك إلى المتكلم الأصولي لا إلى المفسر". وهذا لا يشبه كلام الفخر بل فيه تعريض به، وعادة الفخر أن يستقصي أو يحيل على كتبه العقلية أو الكلامية أو يسمي بعضها. وفي التفسير (6/ 147) وهو في تفسير سورة القمر، وهو من القسم الرابع: "سادسها ما قاله فخر الدين الرازي في تفسير قوله تعالى: {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} [فصلت: 11] ... وأخذ هذا المفهوم اللغوي ... وهو قريب إلى اللغة لكنه بعيد الاستعمال في القرآن". وقع في المخطوطة: "سادسها ما قلنا"، وهو من إصلاح الناسخ بزعمه، والسياق يشهد لما في المطبوعة. والآية التي ذكرها في تفسير فصلت، وفيه المعنى الذي حكاه، وتفسير فصلت من القسم الثالث الذي قامت الأدلة على أنه من تصنيف الفخر الرازي، فهذا مما يؤكد ذلك. وفي التفسير (6/ 196) وهو في تفسير الواقعة، وهو من القسم الرابع أيضًا: " ... وشيء من هذا رأيته في كلام الإِمام فخر الدين رحمه الله بعد ما فرغت من كتابه هذا مما وافق خاطري خاطره على أني معترف بأني أصبت منه فوائد لا أحصيها" [9/ أ] هكذا في النسختين إلا أنه سقط من المخطوطة ¬

_ (¬1) في الأصل: "القونوي"، وهو سبق قلم.

قوله: "معترف بأني"، والبحث متعلق بقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وهي في سورة الشورى، وفي تفسيرها بعض ما ذكره هنا، وتفسير الشورى من القسم الثالث الذي قامت الأدلة على أنه من تصنيف الفخر، فهذا مما يؤيد ذلك. وفي التفسير بعد ما تقدم بقليل: "وفيه مسائل. الأولى: أصولية ذكرها الإِمام فخر الدين رحمه الله في مواضع كثيرة، ونحن نذكر بعضها، فالأولى: قالت المعتزلة ... وقد أجاب الإِمام فخر الدين رحمه الله بأجوبة كثيرة، وأظن به أنه لم يذكر ما أقوله فيه". هكذا في المطبوعة، ووقع في المخطوطة: "وفيه مسائل أصولية. المسألة الأولى: قالت المعتزلة ... وقد أجاب عنه الإِمام فخر الدين الرازي بأجوبة كثيرة وأظن أنه لم يذكر ما أقول فيه". الأمر الثالث: الإحالات، أعني قوله: "قد ذكرنا في ... " ونحوه، وأرى أن أبسط القول في الإحالات بوجه عام. وقعت الإحالات في جميع الأقسام خلا السادس، وذلك من أثر الاستعجال فيه كما سبق. ولا تنكر الإحالة في قسم على ما تقدم منه، أو من قسم آخر لمصنفه، ولا الإحالة في التكملة على الأصل بلفظ "قد تقدم" ونحوه. وإنما الذي يستنكر ضربان مشككان: الأول: الإحالة في التكملة على الأصل بلفظ "قد ذكرنا" ونحوه؛ إذ يقال: كيف ينسب إلى نفسه ما هو من كلام غيره؟ الضرب الثاني: الإحالة فيما هو من الأصل على ما هو من التكملة؛ إذ يقال: كيف يحال على ما لم يوجد بعد بلفظ يفيد أنه قد وجد؟

فأما الضرب الأول فاصطدمت أولاً بعدد من تلك الإحالات في القسم الثاني، فراعني قوله في موضعين أو أكثر من أوائل تفسير العنكبوت: "قد ذكرنا مرارًا" ونحو هذا؛ فإن الدلائل تقضي بأن ما قبل العنكبوت كله من تصنيف الرازي، وأن تفسير العنكبوت من التكملة، وإحالات أخرى في ذاك القسم أعني الثاني على تفسير البقرة وغيرها من سور القسم الأول. حيرني ذلك أولاً لقوَّة جزمي بأن مصنف تفسير العنكبوت غير مفسر ما قبلها، فذهبت أتلمَّس الاحتمالات، وكان أقربها أن صاحب التكملة رأى أنه وصاحب الأصل شريكان في الجملة في هذا التفسير، وأنه يسوغ أن يُنسب فعل أحد الشريكين إليهما، فهو يقول: "ذكرنا" يريد: ذكر مصنف الأصل. ثم بدا لي أن أتتبع المواضع المحال عليها، وانظر أيوجد فيها المعاني المحال بها عليها أم لا؟ فإذا بي أخلص من إشكال وأقع في آخر. ففي التفسير (5/ 201): "وذكرنا في تفسير الأنفال في أوائلها أن الصلاة ترك التشبه بالسيد .. ". وفيه (5/ 220): "المسألة الرابعة: لِمَ قدم السمع هنا والقلب في قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} [البقرة: 7] ... وقد ذكرنا هناك ما هو السبب في تأخير الأبصار ... وهو أن القلب والسمع سلب قوتهما بالطبع ... ". وليس لما أحال به في هاتين الإحالتين وجود في الموضعين المحال عليهما، وهاتان في القسم الثاني. وفيه إحالات أخرى يوجد في المواضع المحال عليها فيها طرف من المعنى المحال به فقط.

وهذه أمثلة من القسم الرابع: [10/ أ] في التفسير (6/ 22) في تفسير سورة "ق": "ذكرنا ذلك في تفسير الفاتحة حيث قلنا: قال: بسم الله الرحمن الرحيم إشارة إلى كونه رحمانًا (¬1) في الدنيا حيث خلقنا، رحيمًا في الدنيا حيث رزقنا رحمة، ثم قال مرة [أخرى] (¬2) بعد قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} أي هو رحمان مرة أخرى في الآخرة بخلقنا ثانيًا. واستدللنا عليه بقوله بعد ذلك: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} أي بخلقنا ثانيًا، ورحيم برزقنا، ويكون هو المالك في ذلك اليوم إذا علمت هذا ... ". وليس في تفسير الفاتحة أثر لهذا الكلام بلفظه، ولا بمعناه. وفي التفسير (6/ 30) في تفسير الذاريات: "المسألة الأولى: قد ذكرنا الحكمة في القسم من المسائل الشريفة والمطالب العظيمة في سورة والصافات، ونعيدها ها هنا، وفيها وجوه: الأول ... واستوفينا الكلام في سورة الصافات". ساق كلامًا طويلًا ليس له أثر في تفسير الصافات، وإنما يوجد بعضه في تفسير يس. هذا وتفسير الصافات من القسم الثالث، وهو من تصنيف الرازي، فأما تفسير يس فمن القسم الثاني، وهو من تصنيف مصنف الرابع. وفي التفسير (6/ 72) في تفسير الطور: "المسألة الرابعة: هذا يدل على أنه لم يطلب منهم أجرًا ما، وقوله تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي ¬

_ (¬1) كذا في الأصل و"تفسير الرازي". (¬2) زيادة من "تفسير الرازي".

الْقُرْبَى} [الشورى: 23] المراد من قوله: "إلا المودة في القربى" هو أني لا أسألكم عليه أجرًا يعود إلى الدنيا، وإنما أجري المحبة في الزلفى إلى الله تعالى ... وقد ذكرناه هناك". يعني في تفسير الشورى، وتفسير الشورى من القسم الثالث، وليس فيه هذا الذي قال. وفي التفسير (6/ 76) في تفسير الطور أيضًا: "ويكون مستثنًى منهم كما قال تعالى: {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر: 68]، وقد ذكرنا هناك أن من اعترف بالحق، وعلم أن الحساب كائن، فإذا وقعت الصيحة يكون كمن يعلم أن الرعد يرعد ويستعد لسماعه، ومن لا يعلم يكون كالغافل ... ". وآية "فصعق ... " في سورة فصلت، وهي من القسم الثالث، وليس في تفسيرها ما أحال به عليه. نعم يوجد نحوه في تفسير سورة "ق"، وهو من القسم الرابع. وبقيت إحالات من هذا القبيل لا أرى ضرورة لاستيفائها. في هذا دلالة بينة على أن لهذه السُّوَر المحال عليها سوى تفسيرها هذا تفسيرًا آخر عليه وقعت الإحالة، والظاهر أنه من تصنيف المحيل نفسه، فيصح قوله: "ذكرنا" ونحوه على ظاهره، فانحل الإشكال، وصح أن مصنف القسم الثاني والرابع والسادس غير مصنف بقية الأقسام. لكن نشأ إشكال جديد هذا حلُّه: قد مر ما يدل على أن مصنف القسم الثاني والرابع والسادس هو الخويي، والمعروف كما سبق أن للخويي تكملة على تفسير الفخر، فكأن تكملة الخويي عبارة عن كتاب يتضمن تعليقًا على السور التي فسرها الفخر

وتفسيرًا تامَّا للسور التي لم يفسرها الفخر، فهو يحيل في التفسير على التعليق لأنهما كتاب واحد. ويشهد لهذا فقدان خطبته لأنها كانت أول الكتاب، ويليها التعليق على القسم الأول، فعمد من بعده إلى تفسيره للسور التي لم يفسرها الفخر، فاقتطعه من التكملة، ووصل به تفسير الفخر، وأهمل التعليق، فذهبت الخطبة معه. [11/ أ] الضرب الثاني من الإحالات المشككة ما وقع فيما تبين لنا أنه من تصنيف الرازي على تفسير سور تبين لنا أن تفسيرها في هذا الكتاب من تصنيف غيره. ففي القسم الثالث إحالة واحدة من هذا الضرب، مع أن فيه من الإحالات غير المشككة زهاء سبعين، وهذه الواحدة هي ما في التفسير (5/ 602): "تقدم الكلام في نظير هذه الآية في سورة العنكبوت وفي سورة لقمان". وفي القسم الخامس منها واحدة، وهي ما في التفسير (6/ 233) بعد ذكر آية: "وهو مفسَّر في سبأ". وفي السابع منها عشر إحالات. وأكثر هذه الإحالات مجمل كما رأيت، فلا يمكن أن نستفيد شيئًا من مقابلة الإحالتين السابقتين على تفسير تينك الآيتين في العنكبوت ولقمان وسبأ من هذا التفسير. بلى وجدت إحالتين من العشر الأخيرة أفادت مقابلتهما!

فالأولى في التفسير (6/ 330) في سورة "ن". قال: "المسألة الثانية: القراء مختلفون في إظهار النون وإخفائها من قوله: {ن وَالْقَلَمِ} ... وقد ذكرنا هذا في (طس) و (يس) ". وتفسير (يس) من القسم الثاني، وليس فيه تعرض لهذه المسألة. وكذلك لا ذكر لها في (طس) مع أنها من القسم الأول، ولعله يأتي النظر في هذا. الإحالة الثانية في التفسير (6/ 586) في تفسير (اقرأ): "قد مر تفسير النادي عند قوله: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} [العنكبوت: 29] ". وهذه الآية في سورة العنكبوت، وهي في هذا التفسير (5/ 155) وليس ثمة تفسير للنادي. فهذا يدلك أن هذه الإحالات ليست على هذا التفسير الذي بأيدينا. ويؤكد ذلك أن في تفسير القيامة إحالتين على تفسير الواقعة مع أنه قد تقدم في النصوص النص القاطع على أن تفسير الواقعة لغير الرازي، والنص الواضح على أن تفسير القيامة من تصنيفه، عدا الأدلة الأخرى التي تقضي بذلك. فاتضح أن هذه الإحالات لا تخدش فيما قضت به الأدلة من أن القسم الأول والثالث والخامس والسابع من تصنيف الرازي، وأن القسم الثاني والرابع والسادس من تصنيف غيره بل تؤكد ذلك. وهناك احتمالان: الأول: أن يكون الفخر صنف التفسير كاملًا, ولكن فقدت منه قطع هي التي أكملها الخويي وغيره. الثاني: أن لا يكون فسر تلك السور أصلاً، أعني التي اشتمل عليها القسم الثاني والرابع والسادس.

قد يستدل للأول بأمرين: الأول: الإحالات التي مر ذكرها قريبًا. الثاني: أن العادة على العموم أن يبدأ المفسر من أول القرآن ثم يجري على الترتيب، وأي سبب يحمل الرازي على أن يطفِر، ثم يطفر، ثم يطفر؟ ويستدل للثاني بأمور: الأول: أن الظاهر أنه لو فقد شيء من تفسير الرازي لنقل ذلك. الثاني: أن ابن أبي أصيبعة تلميذ الخويي ذكر تفسير الرازي، وأنه في اثنتي عشرة مجلدة بخطه الدقيق، ولم يذكر فقد شيء منه، وذكر تكملة الخويي. الثالث: أن ابن خلكان مع سعة اطلاعه وتحريه وتثبته ذكر أن الرازي لم يكمل تفسيره. [12/ أ] أما الإحالات السابقة ففيها قرائن توهي دلالتها على أن الرازي قد كان فرغ من تفسير جميع السور التي بما قبلها. القرينة الأولى: قلة تلك الإحالات. القرينة الثانية: أن عبارته في أكثرها قريبة الاحتمال لأن يكون إنما أحال على ما عزم عليه، لا على ما قد فرغ منه. وذلك كقوله: "مفسر في سورة سبأ"، "مفسرة في سورة الطور"، "مفسرة في آخر سورة الطور"، "مفسر في سورة النجم". وقوله في بعضها: "قد ذكرنا" ونحوه يحتمل التجوُّز بأن يكون نزَّل

المعزوم عليه منزلة ما قد وقع. وهوَّن عليه ذلك أن تلك السور التي يحيل على تفسيرها متقدمة في ترتيب القرآن، ويرى أنه إذا فسرها بعد ذلك سيكون تفسيره لها متقدمًا في الترتيب على موضع الإحالة، فاستثقل أن يكون في كتابه إحالة على ما تقدم فيه بلفظ "سيأتي" ونحوه. فأما الاستدلال بالعادة واستبعاد الظفر، فيخفف من قوتها أننا نجد في تفسير الرازي إحالات عديدة على تفسير سور مستقبلة بألفاظ صارخة بأنه قد فسرها قبل ذلك. ففي نفس الآية السابعة من سورة البقرة - التفسير (1/ 192): "المسألة الثامنة: واستقصينا في بيانه ... في سورة الشعراء". وفي تفسير الآية السادسة من المائدة - التفسير (2/ 592): "وقد حققنا الكلام في هذا الدليل في تفسير قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ} فليرجع إليه". والآية في سورة البينة. وفي تفسير الآية 54 من الأعراف - التفسير (3/ 236): "وهذا الوجه قد أطلنا في شرحه في سورة طه، فلا نعيده هنا". عثرت على هذه الأمثلة عثورًا، فإني لم أتصفح الشطر الأول من التفسير، ولعلك إن تتبعت تجد فيه كثيرًا من هذا الضرب. وفي التفسير (5/ 340) في تفسير الصافات: "ولعلنا قد شرحنا هذا الكلام في تفسير {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} في تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} ". ثم قال في صفحة 341: "الاستقصاء فيه مذكور في قوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} ". ثم قال ص 342: "إذا

أضيف ما كتبناه ها هنا إلى ما كتبناه في سورة الملك ... ". وفي التفسير (5/ 521): "يؤكد هذا أنا بيَّنا في تفسير {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ...}. وفي مواضع من القسم السابع إحالات على مواضع أخرى منه، منها من هذا القبيل: قوله في تفسير سورة تبارك (الملك): "ونظير هذه الآية قوله: {سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ} وقد تقدم الكلام فيه". وهذا في سورة "ن". وقوله في تفسير المعارج: "فقد قررنا هذه المسألة في تفسير قوله: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا} ". وهذه في سورة النبأ. وإحالة مجملة، وهي قوله في آخر تفسير الحاقة: "وأما تفسير قوله: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ} فمذكور في أول {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} ". وإحالتان على المتأخر على أنه مستقبل: ففي تفسير الحاقة: "سنذكره في أول سورة القيامة". وفي "التين" بعد الإشارة إلى قصة الفيل: "على ما يأتيك شرحه". وعدة إحالات على المتقدم منه بلفظ: "قد تقدم" ونحوه. ففي المعارج على الملك، وفي المدبر و"هل أتى" على المزمل، وفي التكوير والمطففين والانشقاق على القيامة، وفي المطففين على "هل أتى"، وفي البروج على التكوير، وفي البلد على الجن، وفي العاديات على الانفطار وعلى الغاشية، وفي القارعة على المعارج [13/ أ] وعلى الحاقة، وفي التكاثر على الضحى.

ملخص الجواب عن السؤال الثاني

وفيه إحالات عديدة على بعض سور القسم الأول: الفاتحة والبقرة والأنعام والأعراف والتوبة والكهف وطه والأنبياء والحج والمؤمنون والفرقان وطس (النمل). وهذه الأخيرة قد تقدم ذكرها في أوائل "الضرب الثاني من الإحالات المشككة"، وأنه لا يوجد في تفسير طس من هذا الكتاب المعنى المحال به عليه. وبهذا وغيره يتبين أن إحالته على تفسير سورة متقدمة في الترتيب بلفظ "قد تقدم" ونحوه لا يتم دليلًا على أنه عند كتابة الإحالة قد كان فسر تلك السورة المتقدمة، بل يحتمل أنه لم يكن فسرها، وإنما كان عازمًا على تفسيرها فيما بعد، فتجوَّز. ثم من المحتمل أن يكون فسرها بعد ذلك كما في هذا الموضع، وأن يكون مات قبل أن يفسرها كما هو الظاهر في سور القسم الثاني والرابع والسادس على ما تقدم. وفيه إحالة على الزمر وأخرى على الأحقاف، وهما من سور القسم الثالث. هذا، ومقصودي إثبات أن جري الفخر غير المعتاد واقع في الجملة. فأما كيف؟ ولماذا؟ فأدعه لمن يهمّه. ملخص الجواب عن السؤال الثاني (¬1): الأصل من هذا الكتاب، وهو القدر الذي هو من تصنيف الفخر الرازي، هو: من أول الكتاب إلى آخر تفسير سورة القصص، ثم من أول تفسير الصافات إلى آخر تفسير سورة الأحقاف، ثم تفسير سورة الحديد والمجادلة ¬

_ (¬1) كذا في الأصل وهو سهو، والمقصود: الثالث.

والحشر، ثم من أول تفسير سورة الملك إلى آخر الكتاب. وما عدا ذلك فهو من تصنيف أحمد بن خليل الخويي، وهو بعض التكملة المنسوبة إليه؛ فإن تكملته تشمل زيادة على ما ذكر تعليقًا على الأصل. هذا ما ظهر لي، والله أعلم.

الرسالة السابعة عشرة فوائد من تفسير الرازي مع التعليق على بعضها

الرسالة السابعة عشرة فوائد من تفسير الرازي مع التعليق على بعضها

بسم الله الرحمن الرحيم * [ص 38] الرازي في تفسير سورة النبأ من تفسيره (6/ 456): "واعلم أن مثل هذه الآية لا تقبل التأويل" (¬1). * وفيه (6/ 493) في سورة الانفطار أورد شُبَهًا على الحكمة في وجود الملكين الكاتبين، وفي الحكمة في كتابة الأعمال، وأجاب عنها كالمعذر. ومن الحكمة في الكتابة أمور: الأول: أن يعلم المكلف بذلك، فيتحرَّز؛ لأنه إذا ظن أنه لا يراه أحد من الخلق، وإنما يراه الله تبارك وتعالى وحده، فقد يقول: إن الله تعالى يحب الستر، ولذلك رغَّبَنا فيه، فهو سبحانه أكرم من أن يكون منه ما يخالف الستر، ومن ذلك أن يعاقبني على ذنب لم يطلع عليه إلا هو عزَّ وجلَّ. الثاني: أن الإنسان وإن كان مؤمنًا بعلم الله عزَّ وجلَّ، فقد يغفل عن استحضار ذلك، فإذا علم أن معه كاتبين ملازمين له كان هذا مما يساعد على تنبيهه. الثالث: أن الله عَزَّ وَجَلَّ خلق الملائكة لعبادته، وشرع لهم أعمالًا يطيعونه فيها، فيكون ذلك عبادة لهم. فحَمَلة العرش - مثلاً - إنما يحملونه بقدرة الله عزَّ وجلَّ، ولو شاء الله ثبت العرش بدون حَمَلة، فعلم من ذلك أنه إنما كلفهم بذلك ليكون عبادة يعبدون بها ربهم تعالى، وكفى بذلك حكمة، ¬

_ (¬1) يعني دلالة قوله تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا} [النبأ: 29] على كونه عزَّ وجلَّ عالمًا بالجزئيات.

فكذلك يأتي في الكاتبين. * [ص 39] تفسير الرازي (6/ 400): "لما نزل قوله تعالى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر: 30] قال أبو جهل ... وقال أبو الأشدّ ... قال المسلمون: ويحكم لا تقاس الملائكة بالحدادين! " ثم قال: "والحداد: السَّجَّان" (¬1). (400) "لما كان العالم محدَثًا، والإله قديمًا، فقد تأخر العالم عن الصانع بتقدير مدة غير متناهية ... ". في هذا أن التقدم زماني، فينظر مع كلامه في تفسير {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ ..} [الحديد: 3] (¬2). * قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} [المدثر: 31]. ذكروا فيها وجهين، وفي كل منهما نظر، ولاح لي وجه أحسبه لا يكون دونهما، إن لم يكن أحسن منهما. وهو أن يحمل قوله: {لِلَّذِينَ كَفَرُوا} على جميع الناس الذين بعث فيهم محمَّد - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه ما منهم [إلا] من تلبس بكفر. فكأنه قيل: للذين سبق منهم كفر، فيعم ذلك من بقي على كفره، ومن آمن بلسانه، ومن آمن حقًّا. وعلى هذا فقوله: {لِيَسْتَيْقِنَ ...} على ظاهره، تعليل ¬

_ (¬1) وقد جرى قول المسلمين هذا مثلاً، انظره بلفظ "نقيس الملائكة إلى الحدّادين! " في "مجمع الأمثال" للميداني (1/ 238)، وانظر "اللسان" (حدد 3/ 142). (¬2) انظر تفسير سورة الحديد (3) في "تفسير الرازي" (29/ 210 - 212).

للفتنة بتلك العدّة، والفتنة هي الاختبار. ففتنة أهل الكتاب من جهة أن هذا أمرٌ يعرفون أنه حق، وبذلك يتبين من منهم في قلبه خير وحب للحق من غيره، وذلك بأن يؤمن الأول، ويعاند الثاني. وقوله: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا ...} أي آمنوا إيمانًا حقًّا. وقوله: {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ...} أي الذين أظهروا الإيمان, ولم يَحُقُّوه. * [ص 40] وفي تفسير الرازي بحث طويل في سورة الجن، فيه ردّ القول بأن الأجسام متماثلة. * في تفسير الفجر في بحث النفس: "وقال آخرون: هو جوهر جسماني ... مخالف بالماهية لهذه الأجسام السفلية". * وفي تفسير: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} بيان أن أولئك الأفواج (¬1) قال: "مع أنَّا نعلم قطعًا أنهم ما كانوا يعرفون (¬2) حدوث الأجساد بالدليل، ولا إثبات كونه تعالى منزهًا عن الجسمية والمكان والحيز ... والعلم عند الله بأن أولئك الأعراب ما كانوا عالمين بهذه الدقائق ضروري ... فإما أن يقال: إن أولئك الأعراب كانوا عالمين بجميع مقدمات دلائل هذه المسائل بحيث ما شذَّ عنهم من تلك المقدمات واحدة، وذلك مكابرة؛ أو ما كانوا كذلك، وحينئذٍ ثبت أنهم كانوا مقلدين". ¬

_ (¬1) كذا في الأصل. ولعل المقصود: بيان إيمان أولئك الأفواج. (¬2) في الطبعة التي بين يديّ (32/ 156): "ثم إنا نعلم ... كانوا عالمين".

* في تفسير سورة الملك من تفسير الرازي في الكلام على قوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16]: قال أبو مسلم [الأصفهاني]: كانت العرب مقرين بوجود الإله، لكنهم كانوا يعتقدون أنه في السماء، على وفق قول المشبهة، فكأنه تعالى قال لهم: أتأمنون مَنْ قد أقررتم بأنه في السماء، واعترفتم له بالقدرة على ما يشاء، أن يخسف بكم الأرض". * استعمال الفخر الرازي مثل: "بعد خراب البصرة" (تفسيره 6/ 337) في تفسير المعارج (¬1). * وفي تفسيره (6/ 362) بعد أن حكى في قوله تعالى: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: 13] أن الرجاء بمعنى الخوف قال: عندي غير جائز؛ لأن الرجاء ضد الخوف في اللغة المتواترة الظاهرة. فلو قلنا: إن لفظة الرجاء في اللغة موضوعة بمعنى الخوف، لكان ذلك مرجحًا للرواية الثابتة بالآحاد على الرواية المنقولة بالتواتر، وهذا يفضي إلى القدح في القرآن؛ فإنه لا لفظ فيه إلا ويمكن جعل نفيه إثباتًا، وإثباته نفيًا بهذا الطريق". يظهر لي أن "الوقار" هنا بمعنى التوقير، أي التعظيم، والمقصود: ما لكم لا ترجون ثواب تعظيم الله عَزَّ وَجَلَّ (¬2). وذلك أنهم لو رجوا ثوابه لما أهملوه، فإهمالهم دليل عدم رجائهم. ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، والصواب: في تفسير سورة القلم، الآية (29). انظر "تفسير الرازي" (30/ 90). والرازي صادر عن "الكشاف" (4/ 590). (¬2) وهو قول ابن كيسان. انظر: "تفسير البغوي" (4/ 476).

رسالة في التعقيب على تفسير سورة الفيل للمعلم عبد الحميد الفراهي

آثَارالشّيخ العَلّامَة عبَد الرّحمن بن يحيى المعَلِّمي (8) رسالة في التعقيب على تفسير سورة الفيل للمعلم عبد الحميد الفراهي تأليف الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني 1312 هـ - 1386 هـ تحقيق محمد أجمل الإصلاحي وفق المنهج المعتمد من الشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد (رحمه الله تعالى) تمويل مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

بسم الله الرحمن الرحيم

راجَعَ هذا الجزء عبَد الرَّزاق بن مُوسى أبو البصل علي بن محمد العمران

مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية SULAIMAN BIN ABDUL AZIZ AL RAJHI CHARITABLE FOUNDATION حقوق الطبع والنشر محفوظة لمؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الطبعة الأولى 1434 هـ دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع مكة المكرمة - هاتف 5473166 - 5353590 فاكس 5457606 الصف والإخراج دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

مقدمة التحقيق

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة التحقيق الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد، فهذه رسالة قيمة للشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي رحمه الله، تعقّب فيها ما ذهب إليه العلامة المعلِّم عبد الحميد الفَراهي رحمه الله في تفسير سورة الفيل. وإذا كان المعلمي رحمه الله من العلماء المشهورين، وقد عرفه أهل العلم بتحقيقاته البارعة ومؤلفاته النفيسة، وقد ترجم ترجمة مفصلة في مقدمة هذا المشروع، فإن المعلَّم رحمه الله - على عبقريته وجلالة قدره - ظل مغمورًا في البلاد العربية إلى عهد قريب، إذ لم يقف أهل العلم فيها على مؤلفاته التي صدرت في الهند أيام الاحتلال الإِنجليزي، وبعضها بعد الاستقلال، ثم نفدت قبل أن تصل إلى أيدي القراء العرب، إلا نسخًا قليلة متفرقة سقطت في أيدي بعض العلماء والباحثين، فأشادوا بها، وأفادوا منها. ومن ثَمّ لما أخرجتُ كتابه "مفردات القرآن" صدَّرْته بترجمة مفصلة بعض التفصيل (¬1)، ومقتضى المقام أن أقتصر هنا على إيراد لُمَع من سيرته. ¬

_ (¬1) انظر: مفردات القرآن (طبعة دار الغرب الإِسلامي، بيروت، 1422)، ترجمة المؤلف (11 - 41). وبالعربية قد ترجم له العلامة السيد سليمان الندوي في آخر كتاب "إمعان في أقسام القرآن" (طبعة السلفية بالقاهرة)، وصاحب نزهة الخواطر (الإعلام بمن في تاريخ الهند من الأعلام) طبعة الهند (8/ 248 - 249). ويراجع للتفصيل =

(1) ترجمة المعلم رحمه الله

(1) ترجمة المعلِّم رحمه الله: هو عبد الحميد بن عبد الكريم، حميد الدين، أبو أحمد، الأنصاري، الفراهي. ولد صبيحة يوم الأربعاء سادس جمادى الآخرة سنة 1280 في الهند، في قرية من أعمال "أعظَمْ كَرْهْ" أحد الأضلاع الشرقية من الإقليم الشمالي المسمى الآن "أُتَّرَبَرَدِيش" (¬1). اشتهر في الهند بلقبه "حميد الدين"، ولعله سُجل بهذا الاسم عندما التحق بالتعليم الرسمي، فكان يوقع به في المكاتبات والأوراق الرسمية، ولكنه آثر أن يكتب اسمه في أول كتبه العربية: "المعلم عبد الحميد الفراهي". أما "الفراهي" فنسبة معربة إلى قريته. وأما لقب "المعلم" فيظهر لي أنه لما كانت العلماء ورثة الأنبياء، ومن وراثة النبوة تعليم الكتاب والحكمة، وكان تدبر كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ ودراسة ما فيه من الأحكام والحكم ثم تعليمه للناس هو عمود حياة الفراهي العلمية، وذلك حظه من وراثة النبوة = اتخذ لنفسه لقب "المعلم". ولد رحمه الله في بيت علم ودين وشرف، وقرأ القرآن الكريم في منزله على مؤدبه الأول الشيخ أحمد علي وحَفِظه. ثم أخذ اللغة الفارسية في منزله ¬

_ = كتاب "ذكر فراهي" بالأردية للدكتور شرف الدين الإصلاحي، الذي صدر من الدائرة الحميدية في الهند في 840 صفحة، و"مختصر حيات حميد" بالأردية طبعة الدائرة الحميدية. (¬1) الجمهورية الهندية مقسمة إلى ولايات، وكل ولاية إلى "أضلاع" جمع ضلع، وهو من مصطلحات العهد الإِسلامي في الهند وما زال رائجًا حتى الآن، وضلع "أعظم كره" هو الذي ينتسب إليه الأعظميون في الهند. وكل ضلع يشتمل على مدن صغيرة وقرى، ومن المدن التابعة لضلع "أعظم كرمه: "مبارك فور" التي ينتسب إليها المباركفوريون.

أيضًا عن مؤدبه الثاني الشيخ محمَّد مهدي. ثم انتقل من قريته إلى مدينة "أعظم كره"، ودَرَس فيها اللغة العربية والكتب المتداولة في الفنون المختلفة على ابن عمته العلامة المؤرخ الأديب شِبْلي النعماني (ت 1332)، وكان من أشهر أعلام الهند في القرن الماضي. ثم رحل إلى مدينة "لَكْنَؤُو" عاصمة الإقليم الشمالي، وحضر دروس العلامة الفقيه المحدث الشيخ عبد الحي اللَّكْنَوي (ت 1304)، وأخذ المعقولات عن الشيخ فضل الله بن نعمة الله الأنصاري (ت 1312). ثم سافر إلى مدينة "لاهور" عاصمة البنجاب، وتلمذ لأديب العربية وشاعرها وشارح الحماسة والمعلقات الشيخ فيض الحسن السَّهَارَنْفُوري (ت 1304)، وهو من شيوخ العلامة شبلي النعماني أيضًا، فقرأ عليه كتب الأدب العربي وبعض كتب المعقولات. وبعد ما تخرج في العلوم الشرعية والأدبية والمعقولات، وهو ابن عشرين سنة، اتجه إلى دراسة اللغة الإِنجليزية والعلوم الحديثة، فالتحق بالمدرسة الثانوية، ثم كلية عَلِيكَرْهْ التي صارت فيما بعد جامعة، وهي الآن من أشهر جامعات الهند. وقد أعفي في الكلية من مادتي العربية والفارسية لطول باعه فيهما، بل كُلّف ترجمة كتابين من العربية إلى الفارسية ليقرَّر تدريسهما في كليته هو. وقد اعتنى بدراسة الفلسفة الحديثة، وحصل على درجة الامتياز فيها. وبعد ما نال شهادة البكالوريوس، درس القانون (الحقوق) سنتين، ولكنه لم يكمل دراسته لكراهية الاشتغال بمهنة "الوكالة"، وكلمة الوكالة هي المستعملة في الأردية حتى الآن للمحاماة, والمحامي يسمى وكيلاً.

وبدأ الفراهي حياته الوظيفية سنة 1314 بتعيينه مدرسًا في "مدرسة الإِسلام" بمدينة "كراتشي" وكانت مدرسة حكومية مرموقة، وأقام فيها أكثر من تسع سنوات. ثم عُيّن سنة 1324 أستاذًا مساعدًا للغة العربية في كلية عليكره. وبعد سنتين عُيّن أستاذًا للعربية بجامعة "إلاهاباد"، ودرّس فيها ست سنوات إلى أن استعارت وظيفته دولة حيدراباد الدكن ليكون مديرًا لدار العلوم الشرقية فيها، فرحل إليها سنة 1332. وأمضى خمس سنوات هناك، ثم استقال وعاد إلى وطنه سنة 1337. وقد زاره الدكتور تقي الدين الهلالي المراكشي رحمه الله سنة 1342، وطلب إليه أن يكتب له تر جمته، فكان مما كتب: "ولما كانت هذه المشاغل تمنعني عن التجرد لمطالعة القرآن المجيد، ولا يعجبني غيره من الكتب التي مللت النظر في أباطيلها، غير متون الحديث وما يعين على فهم القرآن، تركت الخدمة، ورجعت إلى وطني، وأنا بين الخمسين والستين من عمري. فيا أسفا على عُمُرٍ ضيَّعتُه في أشغال ضرُّها أكبر من نفعها! ونسأل الله الخاتمة على الإيمان" (¬1). فانقطع إلى تدبر القرآن الكريم، وتأليف كتبه في علوم القرآن، بالإضافة إلى الإشراف على "مدرسة الإصلاح" التي قد أسستها جمعية إصلاح المسلمين سنة 1327، ورسم لها الفراهي بعد عودته من حيدراباد منهجًا دراسيًّا فريدًا لتعليم اللغة العربية والعلوم الإِسلامية. وكان رئيسًا لمؤسسة دار المصنفين في مدينة أعظم كره التي قد أسسها مع العلامة السيد سليمان الندوي وغيره من تلامذة العلامة شبلي النعماني بعد وفاة شيخهم سنة ¬

_ (¬1) مجلة الضياء، المجلد الثاني، العدد السابع، ص 260.

1332، وهي أشهر مجمع علمي في شبه القارة الهندية، وقد أخرجت كتبًا نفيسة كثيرة باللغة الأردية في السيرة والتاريخ والتراجم والأدب. وتوفي رحمه الله في تاسع عشر جمادى الآخرة سنة 1349 على إثر عملية جراحية. وكان رحمه الله في أخلاقه مثالاً للسلف الصالح، فقد أجمع الذين جالسوه وعاشروه من شيوخه ومعاصريه على ورعه، وزهده في الصيت والسمعة، وتجنبه فضول القول وسفاسف الأمور. وكان غاية في اتباع السنة، والمحافظة على الصلوات، والغيرة على الدين، والحمية لشعائر الإِسلام. وكان راتبه عاليًا، فيذهب جزء كبير منه في الإنفاق على الأقارب وذوي الحاجات، وقسم منه لشراء الكتب المطبوعة في مصر وأوربا. وقد انفرد المعلَّم رحمه الله من بين معاصريه من علماء الهند بأنه أول مَن تلقَّى الثقافة الغربية من موردها، فاتقن اللغة الإِنجليزية، ودرس العلوم الحديثة فيها، ثم حاضر بها وألّف، فله رسالة مطبوعة باللغة الإِنجليزية في الرد على عقيدة النصارى في الشفاعة والكفارة. ومعرفته للغة الإِنجليزية قد فتحت له بابًا واسعًا للاطلاع على كل ما صدر فيها مما يهمّه من كتب الأدب والشعر والبلاغة والفلسفة وتاريخ اليهود والنصارى وما كتبه المستشرقون عن القرآن الكريم والعلوم الإِسلامية. وقد تعلم اللغة العبرانية يوم كان أستاذًا في كلية عليكره، فنظر في صحف أهل الكتاب المتداولة وقرأها بالعبرانية. وقد أعانه ذلك على الكشف عن تحريفاتهم وتفسير بعض الإشارات الواردة في القرآن الكريم في الرد على اليهود مما يخفى على غير المطلع على كتبهم.

وفي دراسة الفلسفة والمنطق لم يقتصر الفراهي على التراث العربي، بل كان يتابع ما يصدر في الغرب من أحدث المطبوعات في الفلسفة والمنطق، ويقرؤها قراءة بحث ونقد ومقارنة. ومن ثم كان أعلم الناس بمضرة كتب الفلسفة وانحرافات الفلاسفة القدماء والمُحدَثين. اقرأ ما قاله في ذكر أحد الأسباب السبعة التي بعثته على تأليف كتابه "حجج القرآن": "والثاني: ما تعلق بالذين معظم همهم المعقول من المنطق والفلسفة، فإنهم قد ابتلوا بعقليات سافلة زائغة عن طريق الفطرة والهدى، مفضية إلى الحيرة وصريح العمى، كما لا يخفى على من نظر في خزعبلات المتفلسفين العاشين عن نور الوحي والكتاب. ولذلك حذَّر السلف من الاشتغال به، ولكن أبى الناس إلا النظر فيه، والولوع به، والإخلاد إليه؛ ثم بعد التجربة عرفوا مضارها. فمنهم من أبطل بعض أباطيلها، وأبقى بعضها محسنًا به ظنه كأبي حامد رحمه الله، فإنه بيّن تهافت ما في إلهيات اليونانيين، ولكنه هو الذي أدخل منطقهم في الإِسلام، فكان كمن قتل الأفعى وربّى أولادها. وكذلك اتخذ أخلاقياتهم، وبنى عليها كتابه "ميزان العمل"، فلم يخرج عن اتباع الفلاسفة مع غلوه في ردهم. وأما ابن مسكويه والطوسي وأمثالهما فهم مجاهرون بتقليد اليونانيين في الأخلاقيات. ومنهم من انتبه لأكثر من ذلك كابن تيمية رحمه الله، فردّ على المنطقيين ردًّا طويلاً، ودل على زيغ نهج المتكلمين ... " (¬1). ولكن الكتاب الذي ملك عليه عقله وقلبه هو كتاب الله الذي كان ألذ كتاب وأحبه إليه. وقد بدأ تدبره أيام طلبه في كلية عليكره، وانكشف له ¬

_ (¬1) حجج القرآن (20). والجدير بالذكر أن الفراهي قد نسخ بيده كتاب "الرد على المنطقيين" لشيخ الإِسلام ونسخته هذه محفوظة في مكتبة "دار المصنفين" بأعظم كره.

حينئذ نظام بعض السور، وظل القرآن هو المحور لجهوده الفكرية والعلمية. وقد اجتهد في الحصول على جميع أنواع المعارف التي تعين على فهم القرآن، وسخَّر كل الوسائل التي تُيسر الوصول إلى تلك الغاية. وقد أقام على هذا التدبر المتصل لكتاب الله ودراسته العميقة إلى آخر حياته، وخطط لتأليف اثني عشر كتابًا في علوم القرآن غير تفسيره الذي سماه "نظام القرآن وتأويل الفرقان بالفرقان"، وبعض مقدمات التفسير التي أفردها لتوسع مباحثها. ولكن المؤسف أن معظم مشروعاته العلمية لم تكتمل لأسباب منها: طريقته في التأليف (¬1)، وأعمال علمية معترضة، وأشغال إدارية، وأمراض مزمنة. وأكبر ميزة لكتاباته أنها نتائج الفكر، فهي تحمل مناهج جديدة وأفكارًا مبتكرة ونظرات دقيقة، وفيها غذاء للعقل والقلب معًا، ثم إنها كما قال العلامة أبو الكلام آزاد رحمه الله (ت 1377): "تشتمل على مقاليد العلوم" (¬2). وقد اختار لمؤلفاته في علوم القرآن وغيره اللغة العربية لأنه ألّفها لعلماء العالم الإِسلامي، وكان يرى أن لغة العالم الإِسلامي هي العربية لا غير. ومن مؤلفاته في التفسير وعلوم القرآن التي أكملها ونشرها في حياته: الرأي الصحيح فيمن هو الذبيح، وإمعان في أقسام القرآن، وتفسير السور الآتية: الذاريات، والتحريم، والقيامة, والمرسلات، وعبس، والشمس، والتين، والعصر، والكوثر، والكافرون، والمسد. ¬

_ (¬1) انظر شرحها في ترجمته في صدر "مفردات القرآن" (31). (¬2) انظر "ذكر فراهي" للدكتور شرف الدين الإصلاحي (536).

(2) تفسير سورة الفيل

وكان للمعلم رحمه الله منهج خاص في التفسير يقوم على دعامتين: الكشف عن نظام السور والآيات، وتفسير القرآن بالقرآن، ولذلك سمى تفسيره "نظام القرآن وتأويل الفرقان بالفرقان". ولكن الحقيقة أن الأصل الأصيل هو تفسير القرآن بالقرآن, لأن مرجعه في الكشف عن نظام السور ورباط الآيات أيضًا هو القرآن لا غير، وقد انكشف له نظام بعض السور أول ما انكشف من داخل القرآن لا من خارجه. وكان يرى أن مراعاة النظام تقلل من الاحتمالات العديدة التي ينقلونها في تأويل الآيات، وتقرِّب إلى التأويل الصحيح الموافق للسياق. (2) تفسير سورة الفيل: قد ترك المعلِّم رحمه الله بعد وفاته مسودات كثيرة، أخرج تلامذته منها كتاب مفردات القرآن، وفاتحة نظام القرآن (وهي مقدمة تفسيره) وجمهرة البلاغة، وكلها كتب ناقصة. والمسودة الوحيدة التي كانت شبه كاملة هي مسودة تفسير سورة الفيل، فنشروها سنة 1354، وكانت طبعة حجرية بالخط الفارسي اشتملت على 43 صفحة. وكانت النية أن ينشر تفسير سورة الفيل كاملًا في ذيل هذا الكتاب, لأنه قد نفد قبل زمن طويل، وليكون الأصل أيضًا بين يدي القارئ مع نقده (¬1). ولكن تبين أن ذلك سيضاعف حجم الكتاب، فرأينا أن نكتفي هنا بإعطاء صورة من كتاب المعلِّم رحمه الله. يحتوي هذا التفسير على الفصول الآتية: 1 - في تفسير كلمات السورة. ¬

_ (¬1) كتبت هذا قبل سنتين. وقد صدرت أخيرًا مجموعة تفسير الفراهي "نظام القرآن وتأويل الفرقان بالفرقان" عن دار الغرب الإِسلامي، وتفسير سورة الفيل ضمن المجموعة (ص 717 - 775).

2 - في تعيين المخاطب بهذه السورة. 3 - عمود السورة وربطها بالتي قبلها والتي بعدها. 4 - بيان ما فضل الله به هذا البيت وأهله على سائر المعابد وذويه. 5 - أمور مهمة مما يتعلق بتقديس مسجد وحفظه. 6 - إجمال القصة حسب ما نص عليه القرآن. 7 - النظرة الأولى، وهي فيما زعموا من سبب مجيء أبرهة وفرار أهل مكة وما جرى بينه وبين عبد المطلب. 8 - النظرة الثانية، وهي في رمي أصحاب الفيل بالحجارة، وكونها من الآيات العظام. 9 - النظرة الثالثة، وهي فيما كان من أمر الطير التي أرسلت على أصحاب الفيل. 10 - الاستدلال بكلام العرب على أن الرمي كان من السماء والريح. 11 - في أكل الطير أصحاب الفيل تصديق لبشارة عظيمة في نبينا - صلى الله عليه وسلم -. 12 - أسباب صارفة عن التأويل الراجح. 13 - بيان معنى الرمي بالحجارة، وتمهيد للنظر في أصل رمي الجمار بمنى. 14 - أصل سنة رمي الجمار. 15 - أثر هذا التأويل في القلوب عند عمل رمي الجمار. قد انفرد المعلِّم رحمه الله - مثل غيره من أفذاذ العلماء وكبار الأئمة - بمسائل ومذاهب في علوم العربية والتفسير وغيره، لكنه - كما قال الذهبي

في ترجمة شيخ الإِسلام ابن تيمية - لم يكن ينفرد بالتشهي، ولا يطلق لسانه بما اتفق (¬1)، بل يستدل على ما يذهب إليه بالمعقول والمنقول، ويخطئ كغيره ويصيب، وكلٌّ يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ومما انفرد به رحمه الله تفسيره لسورة الفيل، إذ ذهب إلى أن العرب لم يتخلوا عن بيت الله، بل نافحوا عنه، وقاتلوا جيش أبرهة بما استطاعوا وبما تيسر لهم، وهو أنهم رموهم بحجارة من سجيل، ولكن رميهم هذا لم يكن ليدفع ذلك الجيش الجرار، فأرسل الله سبحانه عليهم حاصبًا أهلكهم، كما أهلك به الأمم الطاغية الأخرى، وكانت تلك آية عظيمة من آيات الله. وقد شبَّه رمي العرب جيش أبرهة بالحجارة ورمي الله إياهم بالحاصب في الوقت نفسه بما وقع في غزوة بدر إذ أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "حفنة من الحصباء فاستقبل بها قريشًا، ثم قال: شاهت الوجوه، ثم نفحهم بها وقال لأصحابه: شدّوا. فلم يبق كافر إلا شغل بعينه كما جاء في سورة الأنفال: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} ... فكان هناك رميان: رمي من النبي - صلى الله عليه وسلم - رأوه ورمي من الله تعالى لم يروه ولكن رأوا أثره ولذلك جاء النفي والإثبات معًا ... وكما نسب الله الرمي في بدر إلى نفسه في قوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} فهكذا ها هنا نسب إلى نفسه أنه جعلهم كعصف مأكول، فلا شك أنها كانت من الآيات البينات فإن منافحة قريش كانت أضعف من أن يفل هذا الجيش، فكيف يحطمهم حتى صاروا كعصف مأكول؟ " (تفسير سورة الفيل ص 20). ¬

_ (¬1) انظر: الجامع لسيرة شيخ الإِسلام ابن تيمية خلال سبعة قرون (540).

واستدل في ذلك أيضًا بكلام العرب الذين شهدوا الواقعة، وذكروا في شعرهم ما رأوه من "جنود الإله بين ساف وحاصب". وأيد ذلك أيضًا بقول ذي الرمة: وأبرهةَ اصطادت صدورُ رماحنا ... جهارًا وعُثنونُ العجاجةِ أكدَرُ تنحَّى له عمروٌ فشكَّ ضلوعَه ... بنافذةٍ نجلاءَ والخيلُ تَضْبِرُ فقال: "فصرح بأنه طعنه رجل من قومه وبأنه كان في يوم ذي غبار كثير مرتفع إلى السماء، وذلك بأن الله أرسل عليهم ريحًا حاصبًا فحصبتهم" (ص 17). وقوله تعالى: {تَرْمِيهِمْ} عند المعلِّم رحمه الله حكاية حال ماضية، والضمير المستتر في (ترمي) للخطاب راجع إلى الخطاب العام في (ألم تر) أي كنت ترميهم أيها المخاطب، ولكن رميك لم يكن ليغني شيئًا، فالله سبحانه هو الذي جعلهم كعصف مأكول. وأما الطير فأرسلت عنده لأكل الجثث، وأيد ذلك بما ورد في كلام الشعراء وما فهمه من بعض الروايات. ثم ذهب إلى أن رمي الجمرات في الحج تذكار لرمي جيش أبرهة، وخصص لبيان ذلك الفصول الثلاثة الأخيرة. والأمور التي بعثت الفراهي رحمه الله على هذا التفسير أهمها فيما يظهر لي من خلال كلامه أمران: الأول: أن بيت الله كان أعز شيء عند العرب ولا سيما عند قريش، وكل شرفهم وفخارهم منوط به، والأمم مهما كانت من الذلّ والضعة لا ترضى بإهانة معبدها، بل تضحي بنفسها ونفيسها في الدفاع عنها، فكيف يتخلى العرب عن بيت الله، ويفرِّطون في محاربة العدو القادم لهدمه ويفرُّون إلى

شعف الجبال، وهم الذين يضرب المثل بإقدامهم وبسالتهم وأنفتهم وحمايتهم للجار، وقد نشبت الحروب المتطاولة لأدنى سبب من ذلك. والثاني: الرواية التي وردت في لقاء عبد المطلب لأبرهة تعظِّم أبرهة، وتصفه بالحلم، وتلصق كل مهانة وذل بعبد المطلب سيد قريش. فبدا للمعلم رحمه الله أن الرواية مما وضعه أعداء العرب. ثم وجد بعض الشعراء الذين شهدوا الواقعة يذكرون السافي والحاصب، فتأكد عنده أن الله تعالى أرسل عليهم الرياح الذاريات وأمطر عليهم الحجارة كما فعل بقوم لوط وغيرهم. ورأى في كلام العرب أيضًا ذكر الطير التي كانت تصحب الجيوش لتأكل القتلى كما قال النابغة: إذا ما غزوا بالجيش حلَّق فوقهم ... عصائبُ طيرٍ تهتدي بعصائب وفهم من قول سعيد بن جبير: "إن الطير كانت خضرًا لها مناقير تختلف عليهم" أنها كانت تأكلهم، فذهب إلى ما ذهب في تفسير السورة. ولما صدر تفسير المعلِّم رحمه الله هذا تعرض للرد والتعقيب، مع الاعتراف بجلالة قدره، وغزارة علمه، وتورعه وتقواه (¬1). غير أن بعض شيوخنا لما تصدى لنقد هذا التفسير أنكر شجاعة العرب أصلاً، وزعم أنها من أكاذيب الشعراء والأخباريين، وكأنه - غفر الله له - قاس شعراء الجاهلية على الشعراء المتأخرين من العرب وشعراء الفارسية والأردية المولعين بالغلو والإغراق في المدح والافتخار. ¬

_ (¬1) انظر: قصص القرآن للشيخ محمَّد حفظ الرحمن (3: 361)، وتفهيم القرآن للأستاذ أبي الأعلى المودودي (6: 471).

(3) تعقيب المعلمي رحمه الله

(3) تعقيب المعلمي رحمه الله: صدر تفسير سورة الفيل للمعلم رحمه الله سنة 1354 كما سبق، وكان المعلمي رحمه الله حينئذ في حيدراباد، وقد ذهب إليها بعد سنة 1345، وغادرها سنة 1371. وقد عرفت في ترجمة المعلَّم رحمه الله أنه عاش في حيدراباد خمس سنوات (1332 - 1337)، وكان عميدًا لدار العلوم، ومعدودًا من الشخصيات العلمية المرموقة، ولما غادر حيدراباد ترك وراءه أصدقاء وتلامذة، وثناء وافرًا, ولسان صدق عليًّا في مجالس العلم ودوائر الحكم، لما أوتي من فضائل علمية وعملية قلما تجتمع في شخص واحد، ولما تحلى به من الورع والزهد وغنى النفس مع علو منصبه وراتبه. فكان من الطبيعي أن يسمع الشيخ المعلمي رحمه الله في حيدراباد باسم المعلِّم رحمه الله ونعوته وفضائله، وقد وقف على بعض مؤلفاته، واستفاد منها، وعرف عبقريته، كما ذكر في مطلع رسالته هذه. ومن ذلك أنه لمَّا تكلَّم في كتاب العبادة له على حقيقة القسم قال: "وألَّف الأستاذ حميد الدين الفراهي الهندي رسالةً سمَّاها "الإمعان في أقسام القرآن" أجاد فيها. وسألخِّص ها هنا ما استفدته منها ومن غيرها وما ظهر لي" (ص 821). وانظر أيضًا (ص 826). وللمعلمي رحمه الله رسالة في بيان ارتباط الآيات في سورة البقرة، أحال فيه على كتاب الرأي الصحيح فيمن هو الذبيح، فقال في موضع: "وقد حقق هذا البحث المعلِّم عبد الحميد الفراهي في كتاب الرأي الصحيح، فانظره". وفي موضع آخر، وهو يذكر ارتباط الآية (144)، وصفه بأنه "كتاب نفيس".

ترتيب الرسالة ومطالبها

ولم يتفق له لقاء المعلَّم رحمه الله، وأنّى له ذلك، وهو مقيم في حيدراباد في جنوبي الهند، والمعلم مقيم في وطنه في شمالي الهند، وبينهما مسافة شاسعة جدًّا! ولو أراد المعلمي رحمه الله ذلك لما تحمَّل راتبه القليل نفقات مثل هذه الرحلة الطويلة الشاقَّة. فلما طبع تفسير سورة الفيل، ووصلت نسخه إلى حيدراباد، وقف عليه الشيخ المعلمي رحمه الله، ورأى أن الدلائل التي احتج بها المعلَّم رحمه الله أضعف من أن تقوم بما ذهب إليه في تفسير السورة، فعزم على تعقبه ونقده بمنهجه العلمي الرصين، فقال في مقدمة رسالته: "أما بعد، فإني قد كنت وقفت على بعض مؤلفات العلامة المحقق المعلَّم عبد الحميد الفراهي - تغمده الله برحمته - كالإمعان في أقسام القرآن، والرأي الصحيح فيمن هو الذبيح، وتفسير سورة الشمس؛ وانتفعت بها وعرفت عبقرية مؤلفها. ثم وقفت أخيرًا على تفسيره لسورة الفيل، فألفيته قد جرى على سنته من الإقدام على الخلاف إذا لاح له دليل، وتلك سيرة يحمدها الإِسلام، ويدعو إليها أولي الأفهام. غير أن الخلاف هنا ليس لقول مشهور، ولا لقول الجمهور، ولكنه لقول صرح به الجماهير، ولم ينقل خلافه عن كبير ولا صغير ... وقد بدا لي أن أتعقب المعلِّم رحمه الله وأشرح ما يتبين لي من وفاق أو خلاف". ترتيب الرسالة ومطالبها أشار المعلمي رحمه الله في مقدمة الرسالة إلى المنهج الذي سلكه في ترتيبها أولًا، ثم ما بدا له من العدول عنه إلى منهج آخر، فقال: "وقد كنت جريت على ترتيب المعلَّم رحمه الله مساوقًا له، ثم رأيت الأولى أن أسلك

ترتيبًا آخر، فأبني رسالتي هذه على قسمين: الأول فيما يتعلق بالقصة رواية ودراية، الثاني: في تفسير السورة". أما القسم الأول فيشتمل على ثمانية فصول، وقد رقّمها رحمه الله بحروف الأبجد من الألف إلى الحاء دون أن يضع لها عناوين. وقد سبق أن رأينا أن تفسير المعلِّم رحمه الله يحتوي على 15 فصلاً، فالمعلمي رحمه الله تجاوز في هذا القسم الفصول الخمسة الأولى منها، وبدأ بالكلام على ما ورد في الفصل السادس وما بعده إلى الفصل الخامس عشر، إلاَّ ما ذهب إليه المعلَّم رحمه الله في تفسير {تَرْمِيهِمْ} فإنه أخّره كما قال إلى القسم الثاني. والفصول الخمسة المذكورة من تفسير المعلِّم رحمه الله منها فصلان نفيسان - وهما الرابع والخامس - في بيان ما فضّل الله به بيت الله وأهله على سائر المعابد وذويها، وأمور مهمة تتعلق بتقديس المسجد وحفظه، ولم يكن فيهما شيء ينقده المعلمي رحمه الله، فلم يتعرض لهما. أما الفصول الثلاثة الأولى فهي في تفسير ألفاظ السورة وعمودها وارتباطها بما قبلها وما بعدها وتعيين الخطاب فيها. وقد خالف المعلمي رحمه الله بعض ما جاء فيها, ولكنه تكلم عليه عندما فسر هو السورة في القسم الثاني. - عقد المعلَّم رحمه الله الفصل السادس بعنوان "إجمال القصة حسب ما نص عليه القرآن"، وقال: "إن قصة أصحاب الفيل لها إجمال وتفصيل، أما مجملها فهو الذي نص عليه القرآن، وأما تفصيلها فأخذوها من الروايات المختلفة المتفاوتة

في الصحة والضعف، والمفسرون يذكرون تفاصيل القصص من غير بحث عما ثبت وعما لم يثبت، وهذا ربما يعظم ضرره، وربما يصرف عن صحيح التأويل. فلا بد أولاً من الفرق بين المنصوص وبين المأخوذ من الروايات، ثم لا بد ثانيًا من التمييز بين ما ثبت وبين ما لم يثبت" (ص 15). ثم نظر المعلِّم رحمه الله في الروايات ثلاث نظرات: الأولى فيما زعموا من سبب مجيء أبرهة ومما جرى بينه وبين أهل مكة، والثانية فيما كان من رمي أصحاب الفيل، والثالثة في أمر الطير. وافتتح النظرة الأولى بقوله: "كل ما ذكروا من سبب مجيء أبرهة لغضبه على العرب ومن فرار أهل مكة ومما جرى بين أبرهة وعبد المطلب لم يثبت من جهة السند، فإن كل ذلك لا يجاوز ابن إسحاق، ومعلوم عند جهابذة أهل الحديث أنه يأخذ الروايات من اليهود وممن لا يوثق به. ثم يبطل هذه الأمور روايات أخر، ويبطله ما ثبت عندنا من عادات العرب. ومما يدل على كونها من أكاذيب الأعداء أنها ما تعمدت إلا غضاضة من العرب وحميتهم، وإهانة لرئيسهم عبد المطلب القرشي، وتنويهًا بحسن خلق أبرهة الحبشي ومسبة على من هيجه على هدم الكعبة، وبسطًا لعذره إذا انتصر لكنيسته. فلم يترك الكذابون شيئًا من الذلة والمنقصة والعار والشنار إلا نسبوها إلى العرب وقريش ورئيسها، فلا نكتفي ها هنا بإرسال القول فيها بل نذكر لك الوجوه التي تدل على كذب هذه الروايات" (ص 16). ثم ذكر سبعة وجوه تدل عنده على كذب الرواية, والسادس منها أنهم زعموا أن أبرهة كان رجلاً حليمًا، وإنما هيجه أحد بني فقيم إذ دخل كنيسته

ونجّسها. وعلّق المعلِّم رحمه الله على ذلك بأنه يبطل "هذه الرواية سائر أحوال أبرهة وتعصبه في دينه ... " (ص 18). بدأ الشيخ المعلمي رحمه الله رسالته بنقد هذا الوجه السادس، فذكر في الفصل الأول (ألف) أن ابن إسحاق لم ينفرد بقصة تقذير الكنيسة، وأنه ليس فيها ما يُعدّ غضاضة من العرب أو عذرًا لأبرهة، غير أن القضية لم تثبت من جهة الرواية. - وقد استدل المعلِّم رحمه الله في الوجه الثاني بما ورد في القصة أن أبرهة أكرم عبد المطلب غاية الإكرام، لكن لما كلمه عبد المطلب في إبله قال له أبرهة: أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك، وتترك بيتًا هو دينك ودين آبائك، قد جئت لهدمه، فلا تكلمني فيه! وعلق المعلِّم عليه قائلاً: "فهل يمكن أن يترك عبد المطلب التكلم في أمر البيت بعد ما رأى وسمع من أبرهة ما يستيقن به أنه لو سأله الانصراف عن هدم البيت لفعل، ثم إنه لم يترفع عن المجيء إليه والسؤال لإبله" (ص 17). تكلم المعلمي رحمه الله على هذا الوجه في الفصل الثاني (ب) وقال: "ليس في القصة ما يحصل به الاستيقان بل ولا الظن ... " وذكر احتمالات أخرى تكون سببًا لما جرى بينهما، وأخيرًا لم يستبعد أن في القصة مبالغة في تصوير احترام أبرهة لعبد المطلب. والوجوه الأخرى التي تدل عند المعلِّم رحمه الله على كذب الرواية, ومنها ما استدل به على وقوع القتال بين العرب وأبرهة، قد تكلم عليها المعلمي رحمه الله في الفصلين (ج، د)، وردّها، وكشف عن وهم المعلِّم رحمه الله في بعضها. ثم ذكر هو عدة أدلة على أن أهل مكة لم يقاتلوا أبرهة، ومنها:

"أن كل من له إلمام بأخبار العرب يعرف شدة حرصهم على رواية أخبار أيامهم وحفظها وتردادها في الأسمار وتقييدها بالأشعار ... وبين أيدينا أخبارهم في حرب البسوس وحرب داحس وغير ذلك نجدها مروية بتفصيل بأسماء فرسانهم وخيلهم وقاتلهم ومقتولهم، وكيف كان القتال، وكم استمر، إلى غير ذلك من الجزئيات ... فكيف يعقل مع هذا أن يكونوا قاتلوا أبرهة، وقتلوه في المعركة، ثم لا يوجد لذلك في أخبارهم وأشعارهم أثر؟ ... " (ص 30 - 31). - وقد ذهب المعلِّم رحمه الله إلى أن الطير أرسله الله تعالى لتطهير ناحية مكة من جيف القتلى، وقال: إن النظر في الروايات يكشف عن فريقين متباينين في تصوير هذه القصة، ثم ذكر مواضع الاختلاف، ورجح ما نسبه إلى الفريق الأول، وأيَّده مستدلاًّ بكلام العرب على أن الرمي كان من السماء والريح. استعرض المعلمي رحمه الله الروايات المذكورة، وأثبت أن الرواة ليسوا فريقين مختلفين، وإنما وقع الاختلاف في بعض الأمور الجزئية، ورمي الطير قد أشار إليه الفريقان معًا، بل لم ينفه أحد قبل المعلِّم رحمه الله. ثم أورد من مخطوطة كتاب "المنمق" لابن حبيب (¬1) شعرًا فيه تصريح برمي الطير كقول نفيل بن حبيب الذي شهد الواقعة: ¬

_ (¬1) قد استنسخت دائرة المعارف العثمانية بحيدراباد نسخة من كتاب "المنمق" بعد اللتيا والتي من أصله الفريد المحفوظ في مكتبة ناصر حسين الشيعي بمدينة (لكنَؤُو). وذلك سنة 1932 م، بعد وفاة المعلَّم رحمه الله بسنتين. وقد رجع الشيخ المعلمي رحمه الله إلى هذه النسخة التي ظلت محفوظة في خزانة الدائرة إلى أن نشرته سنة 1384 = 1964 م.

حتى رأينا شعاع الشمس يستره ... طيرٌ كرَجْلِ جرادٍ طار منتشرِ يرميننا مقبلاتٍ ثم مدبرةً ... بحاصب من سواء الأفق كالمطر وكان المعلِّم رحمه الله قد استدل بما جاء في رواية سعيد بن جبير أنها "طير خضر لها مناقير صفر تختلف عليهم" بأنها أكلت جثث الموتى، فردّ عليه المعلمي رحمه الله بأن الجملة (تختلف عليهم) صفة للطير، وليست صفة للمناقير، والمقصود باختلافها مجيئها وذهابها. - عقد المعلمي رحمه الله الفصل السابع (ز) لبيان ما يكون - فيما يظهر له - باعثًا للمعلَّم رحمه الله على إنكار رمي الطير. وذكر ثلاثة أمور: الأول أن يتهيأ له دعوى أن قوله تعالى: {تَرْمِيهِمْ} للخطاب، فيستدل بذلك على أن أهل مكة قاتلوا. والثاني ما ذكره المعلَّم رحمه الله بقوله: "من ينظر في مجاري الخوارق يجد أن الله تعالى لا يترك جانب التحجب في الإتيان بها، كما هي سنته في سائر ما يخلق, لأن حكمته جعلت لنا برزخًا بين عالمي الغيب والشهادة، وسنَّ لنا التشبث بالأسباب مع التوجه إلى ربها, ليبقى مجال للامتحان والتربية لأخلاقنا". وعلق المعلمي رحمه الله على ذلك بقوله: "تحقيق هذا البحث يستدعي النظر في حكمة الخلق، وقد أشار إليها الكتاب والسنة، وتكلم فيها أهل العلم، وأوضحتُ ذلك في بعض رسائلي، وألخص ذلك هنا". وهذا بحث نفيس، ذكر فيه المعلمي رحمه الله أن الخوارق كلها لا يكون فيها حجاب، بل عنها ما يكون مكشوفًا لحكمة تقتضي ذلك، ومن ذلك الآيات القاضية التي تقترحها الأمم المعاندة على أن يعاجلها العذاب إن لم تؤمن. ومن ذلك الآيات التي يقع بها العذاب، فإنها ليست لإقامة حجة

فيناسبها الحجاب. ودلل على أن الرمي في واقعة الفيل لم يكن لإقامة حجة، وإنما كان آية عذاب. ومثل ذلك لا يستدعي الحجاب، بل كان هناك مانعان من الحجاب والتسبب والمباشرة. والأمر الثالث الذي يرى المعلمي رحمه الله أنه قد يكون باعثًا على إنكار رمي الطير "أن بعض فلاسفة الإفرنج وكُتَّابهم وأذنابهم من الملحدين ينكرون الخوارق، ويسخرون منها، ويعدّون ذكرها في القرآن برهانًا على اشتماله على الكذب. وعلماء المسلمين شديدو الغيرة على القرآن، والحرص على تبرئته عن المطاعن، فقد يحمل بعضهم ذلك على أن يتأول بعض النصوص القرآنية، ويحمله على معنى لا ينكره القوم". ثم قال: "لست أقول: إن المعلِّم رحمه الله تعالى ممن يمكن أن يختار تأويلًا يعلم ضعفه، ولكن قد لا يبعد أن تكون شدة غيرته على القرآن، وحرصه على دفع الطعن عنه، مما قرّب ذاك التأويل إلى فهمه". وهنا أريد أن أضيف أن المعلِّم رحمه الله لم يكن من ذلك الصنف من العلماء الذين يتأثرون بكلام الإفرنج والملحدين، بل كان من العلماء الراسخين، ولم يزده تضلعه من الإِنجليزية ودراسته للعلوم الحديثة إلا استقامة ورسوخًا، كما شهد بذلك أصدقاؤه ومعارفه. وهو الذي قال في خطبة تفسيره: "فكأني نذرت نذرًا: أن أتمسك بآيات الله ونظامها، فلا أجاوز عنها شبرًا ... مجتنبًا غلوًّا في الدين، فلم أكن متخذ الباطنية بطانةً, ولا الظاهرية ظهرًا. مفارقًا من لم يفرق بين سنّة الله وسنن المخلوقات، فكذّب ببينات القرآن، وحرّف آياته زورًا ومكرًا. قائلًا للمبتدعة كلّهم: حِجْرًا, وللملحدين جميعهم: بَهْرا" (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "نظام القرآن وتأويل الفرقان بالفرقان" للفراهي، طبعة دار الغرب الإِسلامي (12).

والمقصود بالبينات هنا: المعجزات، فلم يكن رحمه الله ممن يضيق صدره، وينتفخ سحره بها. وانظر إلى قوله في فصل بعنوان "مغالطة من أنكر بالمعجزات": "وأخطأ من ظنّ أن الطبائع من سنة الله ... وهذا الخطأ منهم انجر إلى عثرةٍ كبيرةٍ، وهي أن خرق عادات الأشياء محال، فأنكروا بصريح القرآن والكتب السماوية، وحرفوا النصوص الواضحة إلى الأباطيل الفاضحة" (¬1). وقال في موضع آخر: "ظنوا أن المراد من سنة الله طبائع الخلق كلها، فالنار مثلاً لا بد أن تحرق الإنسان ... وعلى هذا أنكروا المعجزات. وغرَّهم أقوال من سمى هذه الطبائع سنة الله، وأول من استعمل كلمة (سنة الله) في هذا المعنى هم أصحاب رسائل إخوان الصفاء ... " (¬2). ومن هنا لما سُئل المعلِّم رحمه الله يوم كان طالبًا في كلية عليكره ترجمة تفسير السيد أحمد خان مؤسس الكلية (1232 - 1315)، وقد أوّل فيه جميع الآيات التي ذكر فيها الخوارق = أبى قائلاً: "لن أشارك في نشر هذا الإثم" (¬3). - وقد ذهب المعلِّم رحمه الله إلى أن رمي الجمرات في الحج تذكار لرمي أصحاب الفيل، سواء كان الرمي من العرب أو من الطير وقال: "ولم أجد في صحاح الأخبار ذكرًا في سبب سنة رمي الجمار، فلو ثبت فيه شيء ¬

_ (¬1) القائد إلى عيون العقائد (161). (¬2) القائد إلى عيون العقائد (165). (¬3) ذكر فراهي (119).

من طريق الخبر لأخذنا به، وقرَّت به العينان، ولكنه لم يثبت، وأمر الدين ليس بهيّن، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع"، فعمدنا إلى طريق الاستنباط، فإن المستنبط من الصحيح الثابت أولى بالصواب من الصريح الذي لم يثبت". ثم ذكر أمارات ووجوهًا تبين أن مناسبة رمي الجمار لرمي أصحاب الفيل أظهر من مناسبته لرمي الشيطان. تكلم المعلمي رحمه الله على هذه المسألة في الفصل الثامن (ح)، وذكر بعض الروايات الجيدة التي وردت في رمي الجمار، ورجح أن تعرض الشيطان لإبراهيم كان ليصده عن معرفة المناسك والإتيان بها. وذكر أن ما جاء في بعض روايات الابتلاء بالذبح أن الشيطان تعرض لإبراهيم فلم يجده من وجه يثبت، فإن صح فهي قصة أخرى غير هذه. ثم تناول الشيخ الأمارات والوجوه التي ذكرها المعلِّم رحمه الله بنقد مفصل. أما القسم الثاني من الرسالة فرتبه المعلمي رحمه الله على مقدمة وبابين. المقدمة في عمود السورة وربطها بالتي قبلها والتي بعدها، ورجح أن عمودها - يعني موضوعها، وهو من مصطلحات المعلِّم رحمه الله - تهديد العصاة الذين ألهاهم التكاثر عن الآخرة, بينما يرى المعلَّم رحمه الله أن عمودها هو الامتنان على قريش. وجعل عنوان الباب الأول: "في تفسير السورة على ما أفهم وفاقًا لأهل العلم"، وفسر السورة آية آية، وتحت كل آية فصول رقّمها بالعدد لا بحروف الجمّل كما فعله في القسم الأول. وفسر الآية الأولى في ثمانية فصول أولها عن دلالة الاستفهام في الآية، فبيّن أصل معنى الاستفهام والمعاني الأخرى المجازية، وتكلم عليها كلامًا حسنًا.

والفصل الثالث تحت هذه الآية في الخطاب فقال: "اتفق المفسرون - فيما أعلم - على أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، إلا أن الآلوسي أشار إلى احتمال خلاف ذلك ... واختار المعلَّم رحمه الله تعالى أولاً عموم الخطاب، قال: (فاعلم أن الخطاب هنا متوجه إلى جميع من رأى هذه الواقعة أو أيقن بها من طريق تواتر الحكاية ممن رآها). وأطال في تقريره". وعقب على ذلك بقوله: "أرى أن المعلِّم رحمه الله تعالى أجاد باختيار هذا الوجه, وإن لم يُنقل عمن تقدم ... وهو مع ذلك الأوفق بما يقتضيه المقام من تقرير الواقعة، وبيان ظهورها واشتهارها، والإبلاغ في الوعيد والتهديد والامتنان". وهكذا فسر المعلمي رحمه الله سورة الفيل كاملة، وبيّن في أثناء تفسيره ما خالف فيه المعلِّم رحمه الله. - وخصص الباب الثاني من هذا القسم للبحث مع المعلِّم رحمه الله فيما ذهب إليه في تفسير قوله تعالى: {تَرْمِيهِمْ} وقال: "قد نبهت في مقدمة هذا القسم الثاني وأثناء الباب الأول منه على مواضع مما خالفت فيه المعلم، ووجهت ذلك بما فيه كفاية إن شاء الله تعالى. وأخرت الكلام في {تَرْمِيهِمْ} لطوله. وأرى أن أقدم فوائد وقواعد ينبني عليها البحث معه، فهاكها". وهي ست عشرة فائدة وقاعدة تتعلق بمسائل الحال، والاستئناف البياني، وجواز وضع الماضي موضع المضارع، ووقوع المجاز وإنكاره. وقد سقط منها ثلاث فوائد كاملة وهي: 11، 12، 13 مع جزء من أول الفائدة 14، إذ وقع في النسخة خرم (ص 17 - 30) ذهب بأربع عشرة صفحة.

(4) نسخة الرسالة

وقد استغرقت هذه الفوائد الصفحات (143 - 182)، وبدأ البحث من (ص 183)، ولكن قال في حاشية الصفحة (189): "انظر الفائدة الـ من الذيل" (كذا). ونحوه في (ص 198) قال: "انظر الفائدة العاشرة من الفوائد الآتية في الذيل"، وكذلك الحاشية التي تليها. وقد زاد المؤلف هذه الحواشي فيما بعد، فالظاهر أنه بدا له عند مراجعة ما كتبه أن يؤخر الفوائد السابقة إلى آخر الرسالة، ولكن ذلك كان يقتضي التعديل في مقدمة القسم الثاني وتقديم الفصل التالي للفوائد عليها. ومع أن جملة الكلام على المسألة قد تمت، ولكن يظهر أن المؤلف رحمه الله لم يكمل رسالته، إذ لم يختمها بكلمة تدل عدى الفراغ منها. - أما أسلوب المعلمي رحمه الله في مناقشته وتعقبه، فهو أسلوب علمي هادئ رصين، لا تهجم فيه، ولا تجريح، ولا اتهام. فهو يحترم المنقود، ويحسن الظن به، ويلتمس له العذر، ويتحرى النصفة. (4) نسخة الرسالة: النسخة التي بين أيدينا هي مصورة من فُليم (ميكروفلم) محفوظ في مكتبة الحرم المكي الشريف برقم 3557 ف، وعنوانها: "رسالة في التعقيب على المعلَّم عبد الحميد الفراهي"، وقد رقمت صفحاتها فبلغت 116 صفحة، وقد تجاوز الترقيم ورقتين بعد الصفحة الخامسة عشرة, لأنهما ليستا جزءًا من هذه الرسالة. وقد سقطت في التصوير الصفحتان 34 و35، فنسختهما من الأصل المخطوط. ورقم الأصل 4645، وهو دفتر فيه ستون ورقة وقد جلّد معه دفتر آخر،

والترقيم المتسلسل بلغ 82 ورقة. وتشتمل النسخة على عدة رسائل أولها هذه الرسالة. وهذه مبيضة وبخط المؤلف. وكتب في صفحة الغلاف بخط آخر: "رسالة في التفسير وتفسير قوله تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} الآية". وتبدأ رسالتنا في الورقة الثانية/ أ، ورقمت بالمرسام برقم 1، وقد استغرقت أوراق الدفتر الأول. وهي مبيضة كما قلنا, ولكن ظل المؤلف رحمه الله يأخذها بالحذف والإضافة والتعديل والاستدراك والإلحاق. فقد ضرب على الصفحات 47، 48، 109، 116 كاملة، وعلى نصف الصفحة 46، وكذلك على نصف الصفحة 49. ونجد إلحاقات طويلة في الصفحتين 74 - 75. وانظر ص 27, 28, 29, 57, 58. هذه النسخة تشتمل على القسم الأول ومن القسم الثاني على المقدمة والباب الأول فقط. فلا يوجد فيها الباب الثاني الذي تكلم المؤلف رحمه الله فيه على تفسير {تَرْمِيهِمْ}. وكنا نظن أن هذا الباب إما أن المؤلف رحمه الله لم يتمكن من كتابته، أو أنَّه قد كتبه ولكنه ضاع، فإن الأستاذ عبد الله بن عبد الرحمن المعلمي لم يذكر في معجمه إلا نسخة واحدة وذكر رقم فُلَيمها 3557 ف (¬1). فلما صدر أخيرًا الفهرس المختصر لمخطوطات المكتبة رأيت فيه ذكر نسخة أخرى برقم 4785 تفسير، وأنها مختلفة الأسطر في دفترين (¬2). فراجعتها في المكتبة، والدفتران من مشتريات حيدراباد. والدفتر الأول منهما ¬

_ (¬1) معجم مؤلفي مخطوطات مكتبة الحرم المكي الشريف (460). (¬2) الفهرس المختصر لمخطوطات مكتبة الحرم المكي الشريف (1/ 543).

يشتمل على مسودة التعقيب (وهي في 46 صفحة من أولها) ومسائل أخرى. وفي الدفتر الثاني ظفرنا بمبيضة الباب الثاني من القسم الثاني وهي في 66 صفحة، فاكتملت الرسالة بحمد الله. ولعل المفهرس السابق ظن أن ما في الدفترين كليهما مسودة بيَّضها المؤلف في النسخة السابقة، فاكتفى بتصويرها, ولم يدر أن التي أهملها تتضمن جزءًا مهمًّا من الرسالة. فطلبت إلى المسؤولين أن يتفضلوا بتصوير الباب الثاني من هذه النسخة. وجزى الله خير الجزاء الدكتور محمَّد بن عبد الله باجودة مدير مكتبة الحرم المكي الشريف، والشيخ محمَّد بن سيد أحمد مطيع الرحمن مدير قسم المخطوطات فيها على استجابتهما لطلبنا، ثم إتاحة الفرصة لمراجعة الأصول أكثر من مرة. هذه المبيضة أيضًا بخط المؤلف، وهي كالمبيضة الأولى في الحذف والإضافة والاستدراك والتعديل، والتقديم والتأخير فأشبهت المسودة. ومن منهج المؤلف في الإحالات أنه يذكر اسم الكتاب في الحاشية فإذا كان في مجلدين أو أكثر يتبعه رقم المجلد ورقم الصفحة بين القوسين، وإلا يذكر رقم الصفحة بعد حرف الصاد دون قوسين. وقد ترك أحيانًا بعد اسم الكتاب بياضًا بين قوسين، ليكمل الإحالة على المجلد والصفحة فيما بعد. وقد يذكر رقم المجلد ويترك رقم الصفحة، وخاصة في الإحالة على سيرة ابن هشام بهامش الروض الأنف لعلمه بوجود المبحث المذكور في المجلد الأول. وفي تخريج الآيات التزم الشيخ الإحالة على اسم السورة ثم رقمها

(5) طريقة العمل في نشر هذه الرسالة

ورقم الآية كليهما مثل: "سورة الطلاق (65/ 1) ". وفي الصلاة والسلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - التزم ذكر آله: "صلى الله عليه وآله وسلم". والجدير بالذكر أنه التزم هذه الصيغة في النقول التي يوردها من كلام غيره، وكذلك التزمها في الأحاديث التي نقلها مع أنها لم ترد فيها هذه الصيغة. (5) طريقة العمل في نشر هذه الرسالة سرت في تصحيح هذه الرسالة والتعليق عليها على المنهج الآتي: 1 - سُلِّمت إليّ للتصحيح نسخة منقولة من مصورة المبيضة، فقرأتها وقابلتها على المصورة. وقد وجدت فيها ورقة ناقصة، فسافرت إلى مكة المكرمة، وزرت مكتبة الحرم المكي الشريف في 29/ 3/ 1428، ونسخت الورقة من الأصل المحفوظ في المكتبة. ثم اكتشفت نسخة الباب الثاني من القسم الثاني، فصورتها من المكتبة، وكانت مواضع كثيرة لم تظهر في الصورة، فزرت المكتبة مرة أخرى في 17/ 11/ 1429، وصححت تلك المواضع واستدركتها من الأصل. 2 - أُثبتت تعليقات المؤلف في أماكنها وخُتمت بكلمة [المؤلف] بين حاصرتين. وحاولت أن لا أعلق إلا عند الضرورة، وإذا زدت ضمن تعليق المؤلف مصدرًا أو طبعة غير التي أحال عليها هو وضعت الزيادة بين حاصرتين. 3 - الطريقة المتبعة في تخريج الآيات في كتب المشروع أن يذكر اسم السورة ورقم الآية بعد الآية في داخل النص، وكان المؤلف رحمه الله قد

خرجها في الحاشية وذكر بعد اسم السورة رقمها أيضًا كما سبق، ولكنه لما لم يلتزم هذه الطريقة في كتبه الأخرى بل كان أحيانًا يقتصر على رقم السورة ورقم الآية، أو اسم السورة ورقم الآية = تقرَّر أن يكون تخريجها في جميع كتبه على الطريقة المتبعة في المشروع. 4 - في بعض الإحالات لم يذكر المؤلف رقم الصفحة أو رقم المجلد ورقم الصفحة كليًّا، فتركتها كما هي, لأن الطبعة التي اعتمدها ليست بين يدي، وزدت بين حاصرتين طبعة أخرى مع رقم المجلد والصفحة. 5 - لم يضع المؤلف رحمه الله عنوانًا لهذه الرسالة، وقد سماه المفهرس في خانة عنوان المخطوط: "رسالة في التعقيب على المعلِّم عبد الحميد الفراهي". وبهذا العنوان ذكره الأستاذ عبد الله بن عبد الرحمن المعلمي في معجمه (¬1). وكذا في الفهرس الجديد الذي صدر قريبًا لمخطوطات مكتبة الحرم المكي (¬2). وقد اخترت هذا العنوان مع زيادة: "تفسير سورة الفيل" للتوضيح. وفي الأصل كتب في صفحة العنوان: "رسالة في التفسير". وفي الدفتر الأول من المسودة كتب في ورقة صغيرة: "رسالة في الرد على العلامة المحقق المعلِّم عبد الحميد الفراهي في تفسير سورة الفيل لعبد الرحمن بن يحيى المعلمي". وفي هذا الدفتر نفسه كتب بعضهم فيما بعد: "بحث في تفسير سورة الفيل". وهذا الكاتب نفسه كتب في الدفتر الثاني: "بحث في تفسير سورة الفيل والرد على عبد الحميد". وكل أولئك اجتهاد ¬

_ (¬1) معجم مؤلفي مخطوطات مكتبة الحرم المكي الشريف (460). (¬2) الفهرس المختصر لمخطوطات مكتبة الحرم المكي الشريف (1/ 543).

من المفهرسين أخذًا من مضمون الرسالة، وليس شيء منها بخط المعلمي رحمه الله. هذا، وقد وقفت على فُلَيم الرسالة برقم 4645 ف في مكتبة الحرم المكي الشريف سنة 1418، وكانت حينئذ في مقرها الموقت في شارع المنصور، ثم علمت أن أحد الباحثين معنيّ بنشرها، فانتظرت نشرته. ولما تقرر نشر مؤلفات المعلمي رحمه الله ضمن هذا المشروع المبارك، وارتبطت به، وُكل إليّ إخراجها، وكان من فضل الله وتوفيقه أن أوقفنا على باب من الرسالة لم يكن معروفًا من قبل، وهو الباب الثاني من القسم الثاني، ويبلغ نحو الربع من صفحات الرسالة، وبإضافته اكتملت الرسالة في جملتها، والحمد لله، ولم يبق فيها غير خرم واحد مقداره أربع عشرة صفحة، كما سبقت الإشارة إليه. وبعد، فقد فرغت من تحقيق الكتاب وتحرير هذه المقدمة في سلخ شعبان سنة 1430، ثم شُغلت بأعمال أخرى. وبأخرة عثر أخي الشيخ علي العمران على عشر صفحات (21 - 30) من الخرم المذكور ضمن مجموع برقم 4706، وقد وردت فيه الصفحات (27 - 30) قبل (21 - 26) لأن الذي رتَّب الأوراق لم يعرف طريقة المؤلف في كتابة الرقم (2)، فظنَّه (3)، فلما ظنَّ أنَّ (21) هو (31) وضع (ص 27 - 30) قبل (ص 21). هذه الصفحات تضمنت فائدتين: الثالثة عشرة، وقد استغرقت النصف الأول من (ص 21)، ثم بدأت الفائدة الرابعة عشرة.

ويلحظ الناظر في هذه الصفحات: 1 - أن الفائدة الرابعة عشرة قد تمت في السطر السادس من (ص 24) وترك المؤلف سائر الصفحة فارغًا. 2 - موضوع هذه الفائدة: الفرق بين الجملتين الحاليتين في قولك: "جئتَ تسرع", و"جئتَ وأنت تسرع". 3 - بدأت (ص 25) برقم (14) مرة أخرى، وكان من قبل رقم (11)، فغيَّره المؤلف، ثم كتب: "تقرير المجاز في استعمال ما هو للحال فيما هو ماضٍ أو مستقبل". وهذا بحث طويل مستقل لا علاقة له بالفائدة السابقة، ثم هو الوحيد الذي وضع المؤلف له عنوانًا، وإن لم يكتبه بخط بارز في وسط الصفحة. 4 - استمرَّ هذا المبحث إلى آخر (ص 30) وتلاه في أول (ص 31) من الأصل: "فمن أمثلتهم المشهورة ... ". وهذه أمثلة المجاز المذكور. وقد يقال: لعل المؤلف كتب أولاً رقم (14) ثم غيَّره إلى (11)، والصفحات الأربع الضائعة تتضمن الفائدة الثانية عشرة فقط. أستبعد ذلك لأن إحالة المؤلف على الفائدة (11) تدل على أن موضوعها ليس استعمال ما هو للحال فيما هو ماضٍ أو مستقبل. (انظر ص 198). ثم إحالاته رحمه الله على الفائدة الرابعة عشرة تصدق على الفائدة الواردة في (ص 21 - 24) ومبحث "تقرير المجاز ... " جميعًا (انظر ص 199، 206). ومن ثم رأينا إبقاءهما كما وردا في الأصل إلى أن يأذن الله بالعثور على الصفحات الأربع الباقية من الخرم (17 - 20).

أسأل الله سبحانه أن ينفع بهذه الرسالة، وأن يتغمد برحمته الناقد والمنقود، وأن يجزل لهما المثوبة على اجتهادهما في تدبر كتابه الحكيم، وأن يكتبهما في أهل القرآن: أهل الله وخاصته. وصلى الله وسلم على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين. الرياض محمد أجمل أيوب الإصلاحي سلخ رجب 1433

نماذج مصورة من الأصل

الورقة الأولى من المخطوط الأول

الورقة الثانية من المخطوط الأول

الورقة الأولى من المخطوط الثاني

الورقة الأخيرة من المخطوط الثاني

النص المحقق

آثَار الشّيخ العَلّامَة عبَد الرّحمن بن يحيى المعَلِّمي (8) رسالة في التعقيب على تفسير سورة الفيل للمعلم عبد الحميد الفراهي تأليف الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني 1312 هـ - 1386 هـ تحقيق محمد أجمل الإصلاحي وفق المنهج المعتمد من الشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد (رحمه الله تعالى) تمويل مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

[ص 1] بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أنزل الكتاب قرآنًا عربيًّا غير ذي عوج، وندب إلى تدبره، واتباع ما فهم منه، ولم يجعل في الدين من حرج. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. اللهم صلِّ على محمَّد وعلى آل محمَّد، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. وبارِكْ على محمَّد وعلى آل محمَّد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وسلَّم تسليمًا كثيرًا. أما بعد، فإني قد كنت وقفتُ على بعض مؤلفات العلامة المحقق المعلِّم عبد الحميد الفراهي - تغمده الله برحمته - كـ "الإمعان في أقسام القرآن" (¬1)، و"الرأي الصحيح فيمن هو الذبيح" (¬2)، و"تفسير سورة الشمس" (¬3)؛ وانتفعتُ بها، وعرفتُ عبقرية مؤلفها. ثم وقفتُ أخيرًا على تفسيره لسورة الفيل (¬4)، فألفيتُه قد جرى على ¬

_ (¬1) صدرت طبعته الأولى سنة 1329 هـ من المطبعة الأحمدية في (عليكره)، والثانية من المطبعة السلفية بالقاهرة سنة 1349 هـ. وصدر أخيرًا من دار القلم بدمشق سنة 1415 هـ. (¬2) صدرت طبعته الأولى سنة 1338 هـ من مطبعة معارف في (أعظم كره). وصدر أخيرًا من دار القلم بدمشق سنة 1420 هـ. (¬3) طبع سنة 1326 هـ في مطبعة (فيض عام) في (عليكره). (¬4) طبع بعد وفاة المؤلف في مطبعة معارف في (أعظم كره) سنة 1354 هـ.

سنته، من الإقدام على الخلاف إذا لاح له دليل. وتلك سيرة يحمدها الإِسلام، ويدعو إليها أولي الأفهام؛ غير أن الخلاف هنا ليس لقولٍ مشهورٍ، ولا لقول الجمهور، ولكنه لقولٍ صرّح به الجماهير، ولم ينقل خلافه عن كبير ولا صغير. ومثل هذا القول إن جاز خلافه في بعض المواضع، فإنه لا يكفي للإقدام على الخلاف فيه لائحة دليل، ولا رائحة تعليل؛ بل لا يغني فيه إلا حجة تزداد وضوحًا بتكرار النظر، ولا تلين لتأويل مقبول "حتى يلين لضرس الماضغ الحجر" (¬1). [ص 2] إذا عضّ الثَّقافُ بها اشمأزّتْ ... ووَلَّتْه عَشَوزَنةً زَبُونا عَشَوزَنةً إذا انقلبتْ أرنَّتْ ... تشُجُّ قَفا المثقِّف والجَبينا (¬2) وقد تدبرتُ ما ذكره المعلِّم من الدلائل, فلم أرها كذلك، ولا قريبًا من ذلك إلا في بعض الفروع. وقد بدا لي أن أتعقب المعلِّم رحمه الله، وأشرح ما يتبين لي من وفاقٍ أو خلافٍ. وأسأل الله تعالى التوفيق. هذا، وقد كنت جريت على ترتيب المعلِّم رحمه الله مساوقًا له، ثم ¬

_ (¬1) شطر سائر ضمَّنه الفرزدق وغيره. ولعل قائله عبد الله بن الزَّبِير الأسدي، وصدر بيته في الإمتاع والمؤانسة (3/ 104): ولا ألينُ لغير الحقَّ أتبعُه وانظر: مجموعة المعاني (1/ 236)، والتمثيل والمحاضرة (70). (¬2) البيتان من معلقة عمرو بن كلثوم. انظر: جمهرة أشعار العرب (1/ 403)، وشرح القصائد السبع الطوال (404).

رأيت الأولى أن أسلك ترتيبًا آخر، فأبني رسالتي هذه على قسمين: الأول: فيما يتعلق بالقصة رواية ودراية. الثاني: في تفسير السورة. ***

القسم الأول [فيما يتعلق بالقصة رواية ودراية]

القسم الأول [فيما يتعلق بالقصة رواية ودراية]

(ألف) قال ابن إسحاق: "ثم إن أبرهة بني القُلَّيس (¬1) بصنعاء، فبنى كنيسةً لم يُر مثلُها ... ثم كتب إلى النجاشي: إني قد بنيتُ لك أيها الملك كنيسةً لم يُبن مثلُها لملك كان قبلك، ولستُ بمنتهٍ حتى أصرف إليها حجَّ العرب. فلما تحدثت العرب بكتاب أبرهة ذلك إلى النجاشي غضب رجل من النَّسَأة ... حتى أتى القُلَّيس، فقعد فيها ... فغضب عند ذلك أبرهة، وحلف لَيَسيرنّ إلى البيت حتى يهدمه" (¬2). أنكر المعلِّم قضية القعود في الكنيسة، وذكر قول أهل العلم: إن ابن إسحاق يأخذ عن اليهود وعمن لا يوثق به، وجزم بأن القصة من أكاذيب الأعداء، قصدوا بها عيب العرب، واختلاق عذر لأبرهة (¬3). [ص 3] قال عبد الرحمن: قد جاء عن الواقدي وابن الكلبي ما يشهد لقضية تقذير الكنيسة (¬4). وليس في ذلك ما يعدّ عيبًا للعرب، ولا عذرًا لأبرهة؛ لأن فعل رجل واحد لعله لا يدري ما النصرانية، وإنما علم أن ذلك الحبشي بني بيتًا يضارّ به بيت الله عزَّ وجلَّ، لا يُعدّ ذنبًا لجميع العرب. ولو أذنب جميع العرب لما كان ذلك ذنبًا لبيت الله تعالى. ولكن القضية لم تثبت من جهة الرواية. فالله أعلم. ¬

_ (¬1) معرب "كليسا"، وهي الكنيسة. [المؤلف] (¬2) سيرة ابن هشام بهامش الروض الأنف. [المؤلف]. انظر: السيرة طبعة السقا (1/ 43 - 45). (¬3) راجع تفسير سورة الفيل (ص 16). [المؤلف] (¬4) راجع طبقات ابن سعد (1/ 1/ 55 - 56) [طبعة صادر (1/ 91)]، وتاريخ ابن جرير (2/ 110) [المؤلف] طبعة دار المعارف (2/ 131).

(ب) ذكر ابن إسحاق أن أبرهة أرسل يستدعي سيد أهل مكة وشريفها، فذهب إليه عبد المطلب، قال: "فأذن له أبرهة. قال: وكان عبد المطلب أوسم الناس وأجملهم وأعظمهم، فلما رآه أبرهة أجلَّه وأعظمه وأكرمه عن أن يجلس (¬1) تحته، وكره أن تراه الحبشة يجلس معه على سرير ملكه، فنزل أبرهة عن سريره، فجلس على بساطه، وأجلسه معه عليه إلى جنبه، ثم قال لترجمانه: قل له: حاجتك ... فقال: حاجتي أن يردَّ عليّ الملكُ مائتي بعير أصابها لي" (¬2). قال المعلم: "فهل يمكن أن يترك عبد المطلب التكلم في أمر البيت بعد ما رأى وسمع من أبرهة ما يستيقن به أنه لو سأله الانصراف عن هدم البيت لفعل، ثم إنه لم يترفع عن المجيء إليه، والسؤال لإبله" (¬3). قال عبد الرحمن: ليس في القصة ما يحصل به الاستيقان، بل ولا الظن، فلعل عبد المطلب [ص 4] رأى أن غرض أبرهة من إظهار احترامه أن يستميله ليرضى بهدم البيت، فيقول أبرهة للعرب: إنما هدمته برضا أهله. وقد يكون عبد المطلب صمم على التوكل على الله عزَّ وجلَّ، ولم يستجز أن يكدِّر توكله بسؤال ذلك الحبشي في شأن البيت. وقد يكون رأى أن ترك السؤال في شأن البيت أبلغ في تخويف أبرهة، إذ يقول في نفسه: ما ترك هذا الشريف السؤال في شأن البيت إلا لشدة وثوقه بحماية الله عزَّ وجلَّ له، وإنما ¬

_ (¬1) في السيرة طبعة السقا: "يجلسه". (¬2) هامش الروض الأنف. [المؤلف]. طبعة السقا (1/ 49). (¬3) (ص 17). [المؤلف]

يحصل له الوثوق بسوابق قد جرّبها وعرفها. وفي سياق القصة ما يؤيد هذا، فإن فيها: "قال أبرهة لترجمانه: قل له: قد كنتَ أعجبتَني حين رأيتك، ثم قد زهدتُ فيك حين كلَّمتني أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك، وتترك بيتًا هو دينك ودين آبائك ... ؟ قال له عبد المطلب: إني أنا ربُّ الإبل، وإنّ للبيت ربًّا سيمنعه. قال: ما كان ليمتنع مني. قال: أنت وذاك! ". أما سؤال عبد المطلب ردَّ إبله، فلم يكن شحًّا بالمال، وإنما كان أراد أن يقلِّدها، ويجعلها هديًا. ففي رواية الواقدي: "فلما قبضها قلَّدها النعال، وأشعرها، وجعلها هديًا، وبثّها في الحرم، لكي يصاب منها شيء، فيغضب ربّ الحرم" (¬1). وقد جاء في رواية: أن أبا مسعود الثقفي كان بمكة، وكان شيخًا كبيرًا قد كُفَّ بصرُه، وله رأي وتجربة، فقال له عبد المطلب: ماذا عندك من الرأي؟ فهذا يوم لا يستغنى فيه عن رأيك. فقال أبو مسعود لعبد المطلب [ص 5]: اعمد إلى مائة من الإبل، فقلَّدها نعلاً، واجعلها لله، ثم ابثثها في الحرم، فلعل بعض السودان يعقر منها شيئًا، فيغضب رب البيت فيأخذهم (¬2). فلعل هذه المشورة كانت قبل أن يُستدعى عبد المطلب إلى أبرهة، وكان الحبشة قد استاقوا الأموال، فلم يكن عنده إبل، فلما استدعاه أبرهة عزم أن يسأل ردّ إبله ليعمل ما أشار به أبو مسعود. والله أعلم. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد (1/ 1/ 56). [المؤلف] طبعة صادر (1/ 92). (¬2) سيرة ابن هشام بهامش الروض. [المؤلف]. هذه الإحالة سهو. وانظر للرواية المذكورة: تفسير البغوي (4/ 688).

هذا, ولا يبعد أنه وقع في حكاية القصة مبالغة في تصوير احترام أبرهة لعبد المطلب. وقد قال ابن إسحاق بعد ما تقدم: "وكان - فيما يزعم بعض أهل العلم - قد ذهب مع عبد المطلب إلى أبرهة، حين بعث إليه حُناطةَ، يعمَرُ بن نُفاثة بن عدي بن الديل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، وهو يومئذٍ سيد بني بكر، وخويلدُ بن واثلة الهذلي، وهو يومئذٍ سيد هذيل، فعرضوا على أبرهة ثلث أموال تهامة على أن يرجع عنهم، ولا يهدم البيت، فأبى عليهم. والله أعلم أكان ذلك، أم لا" (¬1). وأخرج الحاكم في "المستدرك" بسند جيد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "أقبل أصحاب الفيل حتى إذا دنوا من مكة استقبلهم عبد المطلب فقال لملكهم: ما جاء بك إلينا؟ ما عناك؟ ... ألاّ بعثت إلينا فنأتيك بكل شيء أردت؟ فقال: أُخبِرتُ بهذا البيت الذي لا يدخله أحد إلا أمِنَ، فجئتُ أخيف أهله. فقال: إنا نأتيك بكل شيء تريد، فأرجع. فأبى إلا أن يدخله، وانطلق يسير نحوه. [ص 6] فتخلّف عبد المطلب، فقام على جبل، فقال: لا أشهد مهلك هذا البيت وأهله، ثم قال: ... (الأبيات الدعائية محرفة). فأقبلت مثلُ السحابة من نحو البحر حتى أظلّتهم طيرٌ أبابيلُ التي قال الله عزَّ وجلَّ: {تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ}. قال: فجعل الفيل يعِجُّ عجًّا {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} ". قال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد"، وقال الذهبي في "تلخيص المستدرك": "صحيح" (¬2). ¬

_ (¬1) سيرة ابن هشام بهامش الروض. [المؤلف]. ط السقا (1/ 50). (¬2) المستدرك (2/ 535) [3974]. [المؤلف]

وسيأتي في فصل (هـ) رواية أخرى عن ابن عباس، قال الحافظ: إن سندها حسن. (ج) قال ابن إسحاق: "فلما نزل أبرهة المغمّس بعث رجلاً من الحبشة يقال له: الأسود بن مفصود على خيل له حتى انتهى إلى مكة، فساق إليه أموال أهل تهامة ... فهمّت قريش وكنانة وهذيل ومن كان بذلك الحرم بقتاله، ثم عرفوا أنهم لا طاقة لهم به، فتركوا ذلك وبعث أبرهةُ حُناطةَ الحميري إلي مكة، وقال له: سل عن سيد هذا البلد وشريفها، ثم قل له: إن الملك يقول لك: إني لم آت لحربكم، إنما جئت لهدم هذا البيت ... فقال له عبد المطلب: والله ما نريد حربه، وما لنا بذلك منه طاقة (¬1). هذا بيت الله الحرام ... فلما انصرفوا عنه انصرف عبد المطلب إلى قريش فأخبرهم الخبر، وأمرهم بالخروج من مكة، والتحرُّز في شَعَف الجبال والشعاب؛ تخوفًا عليهم من معرة الجيش ... وانطلق هو ومن معه إلى شَعَف الجبال، فتحرزوا فيها ... " (¬2). [ص 7] اشتد نكير المعلَّم رحمه الله تعالى على هذه القصة، وردّها بأمور: الأول: أنها لم تثبت من جهة الرواية. الثاني: أن ابن إسحاق كان يأخذ عن كل أحد. الثالث: "ورود خلاف ذلك بروايات أخرى". الرابع: ما عرف عن العرب من النجدة والحمية. ¬

_ (¬1) "منه طاقة" كذا في أصول السير, وفي تاريخ الطبري (2/ 133): "من طاقة". نبه عليه في حاشية طبعة السقا (1/ 48). (¬2) سيرة ابن هشام بهامش الروض. [المؤلف]. ط السقا (1/ 48 - 52).

الخامس (¬1): أن العلم بأن البيت بيت الله يقتضي الدفاع عنه، لا إسلامه. السادس: أن أهل السير يروون أن القبائل قاتلت أبرهة في طريقه، فكيف جبنت قريش ومن معها، وهم أهل البيت وشرفه. السابع: أن أهل السير يذكرون أن قدوم أبرهة كان في موسم الحج. وأيده المعلِّم بقول قائلهم، وقد ذكره ابن إسحاق في هذه القصة: اللهمَّ أخْزِ الأسودَ بن مقصود ... الآخذَ الهجمةِ فيها التقليدْ يعني: فقوله: "فيها التقليد" يصرح بأن الإبل كانت مقلَّدة، وإنما تُقلَّد إذا كانت هديًا، وإنما يُساق الهدي في موسم الحج. وأيده أيضًا بأن القرآن ذكر كيد أصحاب الفيل، والكيد: هو المكر، والتدبير الخفي. وإنما يتحقق ذلك بقدومهم في الأشهر الحرم رجاءَ أن لا يقاتلهم العرب, لأنهم كانوا يحرمون القتال في الأشهر الحرم؛ وبعزمهم على دخول مكة حين يخليها أهلها مشتغلين بالحج، وعلى أن يكون هجومهم أيام التشريق، والعربُ حينئذٍ إما واقفون بمنى، أو مسرعون إلي أوطانهم. فإذا ثبت أن قدوم أبرهة كان في الموسم، فالعرب حينئذٍ مجتمعون للحج، فكيف يقاتل بعض قبائلهم في الطريق، ولا يقاتل جميعهم عند البيت؟ الثامن: "أنهم عابوا [ص 8] ثقيفًا لفرارهم عن حماية الكعبة، كما قال ضِرار بن خطّاب: وفرّت ثقيفُ إلى لاتها ... بمنقلَب الخائبِ الخاسرِ ¬

_ (¬1) في الأصل: "الرابع" كرّره سهوًا، ومشى عليه في الترقيم بعده، فأصلحناه.

والروايات متفقة على موافقة ثقيف بأبرهة، ورجم قبر أبي رِغال الثقفي الذي صار دليلاً لجيشه. فلو فرّت العرب كلُّها مثل ثقيف لما عابوا ثقيفًا، ولا لعنوا رئيسها أبا رِغال، وظنّوا لعله كان قد أُكرِه". هذا خلاصة ما ذكره المعلِّم في هذا المعنى (¬1). قال عبد الرحمن: لم ينفرد ابن إسحاق بذكر ما يدل على عزم قريش أن لا يقاتلوا، فقد وافقه الواقدي عن شيوخه (¬2)، وغيره، ودل حديث ابن عباس الذي تقدم عن "المستدرك" أنهم كانوا لا يرون فائدة للدفاع. وأما ورود روايات أخرى مخالفة، فلم أقف على شيء منها، إلا ما في "السيرة الحلبية": "ويقال: إن عبد المطلب جمع قوّته وعقد راية، وعسكر بمنى ... ثم ركب عبد المطلب لما استبطأ مجيء القوم إلى مكة ينظر ما الخبر، فوجدهم قد هلكوا" (¬3). وما أكثر ما في تلك السيرة من الأباطيل محكية بـ "يقال"، و"قيل"! وأما نجدة العرب وحميتهم فحق، ولكن لكل شيء حد. كان أبرهة ملكًا مسلّطًا باليمن، [ص 9] وقد تناول ملكه غير اليمن من بلاد العرب، فقد جاء أنه طلع نجدًا، وتناول أطراف العراق. "قال أبو عمرو الشيباني: كان أبرهة حين طلع نجدًا أتاه زهير بن جناب، فأكرمه أبرهة، وفضّله على من أتاه من العرب، ثم أمّره على ابني وائل: تغلب ¬

_ (¬1) ص (16 - 19). [المؤلف] (¬2) طبقات ابن سعد (1/ 1/ 55 - 56). [المؤلف]. ط صادر (1/ 92). (¬3) السيرة الحلبية (1/ 79 و80). [المؤلف]

وبكر، فوليهم ... " (¬1). وقال ابن قتيبة: "زهير بن جناب هو من كلب، جاهلي قديم، ولما قدمت الحبشة تريد هدم الكعبة بعثه ملكهم إلى أرض العراق، ليدعو من هناك إلى طاعته ... " (¬2). وقال أبو حاتم السجستاني: "قال الشرقي بن قطامى ... قال: وقال المسيّب بن الرَّفِل الزهيري من ولد زهير بن جناب: وأبرهةُ الذي كان اصطفانا ... وسوَّسَنا وتاجُ الملك عالي وقاسَمَ نصفَ إمرته زهيرًا ... ولم يك دونه في الأمر والي وأمّره على حيَّيْ معدٍّ ... وأمَّره على الحيّ المُعالي على ابني وائل لهما مهينًا ... يردُّهما على رغم السِّبالِ بحبسهما بدار الذلّ حتّى ... ألمّا يهلكان من الهزالِ (¬3) وفي قصيدة للنَّمِر بن تَولَب: أتى حصنَه ما أتى تُبّعًا ... وأبرهةَ الملِكَ الأعظما (¬4) ¬

_ (¬1) الأغاني (21/ 64). [المؤلف]. ط الثقافة (18/ 303). (¬2) الشعر والشعراء (ص 85). [المؤلف]. ط شاكر (379) مع اختلاف يسير في اللفظ. (¬3) كتاب المعمرين (ص 28 - 29). [المؤلف]. وانظر: معجم الشعراء للمرزباني (300). (¬4) شواهد المغني للسيوطي (ص 66)، وفي الشرح (ص 77): "أبرهة ملك الحبشة". [المؤلف]. وانظر: الاختيارين (284)، وشرح أبيات المغني 1/ 391.

وقال لبيد: لو كان حيٌّ في الحياة مخلَّدًا ... في الدهر أدركه أبو يكسومِ والحارثان كلاهما ومحرّقٌ ... أو تُبَّعٌ أو فارسُ اليحمومِ (¬1) وقد اكتُشِفَت أخيرًا نقوش على سدّ مأرب كُتبت بأمر أبرهة الأشرم، وفيها نعته بأنه: "ملك سبأ ورَيدان وحضرموت ويمنات وعرب النجاد وعرب السواحل" (¬2). [ص 10] كان أبرهة بهذه المكانة، ومن ورائه الحبشة، وكان جيشه الذي ساقه إلى مكة ستين ألفًا على ما جاء في شعر ابن الزِّبَعْرَى: ستون ألفًا لم يؤوبوا أرضَهم ... ولم يعِشْ بعد الإياب سقيمُها (¬3) ولعل الفرسان منهم عشرة آلاف على الأقل. ومعهم الفيلة، وهي ثلاثة عشر فيلاً، على ما قيل (¬4). وفي "الخصائص الكبرى" للسيوطي: "وأخرج أبو نعيم عن وهب قال: كانت الفيلة معهم، فشجع منها قيل، فحُصِب" (¬5). وفي "دلائل النبوة" لأبي نعيم في قصة نسب فيها إلى عبد المطلب ¬

_ (¬1) البيان والتبيين للجاحظ (1/ 220). [المؤلف]. ط هارون (1/ 267)، وانظر: ديوان لبيد (108). (¬2) دائرة المعارف الإِسلامية (1/ 61). (¬3) سيرة ابن هشام بهامش الروض. [المؤلف] ط السقا (1/ 58). (¬4) طبقات ابن سعد (1/ 1/ 57). [المؤلف] ط صادر (1/ 92). (¬5) الخصائص (1/ 43). [المؤلف]

شعرًا يحمد الله تعالى به، وفيه: أنت منعتَ الجيش والأفيالا (¬1) ويرى كُتّاب الإفرنج كما في "دائرة المعارف الإِسلامية" وغيرها: أن أبرهة كان مزمعًا في سيره ذلك غزو فارس مددًا للروم. وعلى هذا، فلا بد أن يكون استعداده عظيمًا. هذا، والعرب يومئذٍ متمزقون، والكثير منهم في طاعة أبرهة، حتى كان معه فريق منهم في جيشه، كما جاء في شعر أمية بن أبي الصلت أو أبيه يذكر الفيل: حوله من ملوك كندة أبطا ... لٌ ملاويثُ في الحروب صقورُ (¬2) وقد انخذلت ثقيف كما يأتي، والذين قاتلوا أبرهة في طريقه غُلبوا واستسلموا. وعامة أهل الأخبار يذكرون أن قدوم أبرهة كان في نصف المحرم، فالذين حجّوا [ص 11] من العرب قد عادوا إلى أوطانهم. وإن صح ما ادعاه المعلِّم أن قدوم أبرهة كان في أيام الحج، فلا بد أن يكون الحاجّ عامئذٍ قليلاً؛ لأنّ الكثير من العرب في طاعة أبرهة، ومن حجّ منهم فإنهم يحجّون على عادتهم في الأشهر الحرم، غير مستعدّين لقتال. وانضاف إلى ما تقدم تأثّم العرب من القتال في الأشهر الحرم. ¬

_ (¬1) دلائل النبوة (ص 44). [المؤلف] (¬2) سيرة ابن هشام (1/) [المؤلف]. ط السقا (1/ 60).

هذا، والمقاتلة يومئذٍ من قريش ومن حولها إنما يجتمع منهم بضعة آلاف، بأسلحة رثّة، والخيل فيهم قليلة. وقد أعلن أبرهة على ما جاء في الروايات أنه لا يريد قتالهم، وإنما يريد هدم البيت؛ وكان لهم وثوق بالله عزَّ وجلَّ أن يحمي بيته. ثم لعلهم يقولون: هب أن الله تعالى مكَّنه من هدم البيت، فكان ماذا؟ يعود أبرهة، فنعيد بناءه أحسن مما كان. وفوق هذا، فقد كانت حياة قريش موقوفة على التجارة، ويرون أن مقاتلة أبرهة تضرُّهم من الجهتين؛ إما أن يغلبوا، وإما أن تنقطع تجارتهم إلى اليمن والحبشة والشام. أما اليمن والحبشة فظاهر، وأما الشام فلأنها كانت يومئذٍ تابعة للروم، وقد عرفوا الارتباط بين الروم والحبشة. إذا أمعنت النظر فيما تقدم عرفت أنه لا بُعد في إحجام قريش عن قتال أبرهة، وأنه لا عار يلزمهم لذلك، ولا غضاضة، ولا منافاة لما عرف منهم من النجدة والحمية. [ص 12] وأما قوله: إن العلم بأن البيت بيت الله إنما يقتضي الدفاع عنه، لا إسلامه. فجوابه: أنه قد يصحب العلمَ بأنه بيت الله وثوقٌ متمكنٌ بحفظ الله له، فإذا حصل هذا الوثوق ضعفت داعية القتال. وقد تكون قوة العدو عظيمة جدًّا، بحيث تقتضي العادة أنه لا فائدة للقتال إلا هلاك المدافع. وتلك حال قريش كما تقدم، فقد رأوا أن ذلك العدو أكثر منهم عددًا وعدةً. أما العدد فلعله أكثر منهم بعشرة أضعاف أو أزيد، وأما العدة فلعله أكثر منهم بمائة

ضعف؛ فرأوا أنه ليس من العقل ولا الشجاعة الإقدام على قتاله. وهم مع ذلك واثقون بحماية الله تعالى لبيته، فكأنهم قالوا: لا نرى أن الله عزَّ وجلَّ يكلفنا القتال في هذه الحال، وعندنا وثوق بأنه سيحمي بيته، فإن حماه وكفانا الأمر فهو على كل شيء قدير، وإن مكنهم من هدمه أمكننا أن نعيد بناءه. وأما ما روي أن القبائل قاتلت أبرهة في طريقه، فإنما جاء في تلك الروايات التي ينكرها المعلم، وإنما ذكروا قبيلتين: الأولى: رجل من أقيال اليمن، يقال له: ذو نفر. والثانية: قبيلة خثعم. وقتال هؤلاء لا يستغرب, لأنهم ليسوا مجتمعين في بلد يخافون خرابه، ولا لهم تجارة يخافون انقطاعها. على أن هاتين القبيلتين لم تلبثا أن غُلبتا، واستسلم رؤساؤهما، وذلك مما يزهِّد غيرهما في القتال. وأما قدوم أبرهة، فالمشهور أنه كان في النصف الثاني من المحرم (¬1). وما احتج به المعلَّم على أنه كان في أيام الحج لا حجة فيه. أما قول شاعرهم: الآخذ الهجمة فيها التقليد [ص 13] فقد كانوا يقلّدون غير الهدي، كانوا يقلدون البُهْم من لحاء شجر الحرم، يحمونها بذلك من النهب والسرقة، فإن العرب كانت ¬

_ (¬1) قال السهيلي: "كانت قصة الفيل في أول المحرّم ... " الروض الأنف (1/ 270).

لاحترامها الحرم تتجنب نهب الإبل وسرقتها إذا كانت مقلَّدة بلحاء شجر الحرم، يرون أنها في حماية الحرم. جاء معنى ذلك عن جماعة من السلف في تفسير قول الله عزَّ وجلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ} [المائدة: 2] وراجع "تفسير ابن جرير" (¬1). وأما ما قدمته أن عبد المطلب قلّد الإبل وجعلها هديًا، فجعلُ الإبل هديًا لا يختص بأيام الحج، ولا ندري هل كان النحر عندهم مختصًّا بأيام النحر والتشريق؟ فإن كان كذلك فلا مانع من جعل الإبل هديًا في المحرم على أن لا تنحر إلا في أيام الحج القادم. وأما ما ذكره القرآن من كيد أصحاب الفيل، فالكيد هو التدبير المحكم الذي يكون فيه غرابة. قال الله تعالى في آل فرعون في شأن موسى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} [غافر: 25]. وقال في قصة إبراهيم: {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ} [الصافات: 97 - 98]. وقال سبحانه في هذه القصة: {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} [الأنبياء: 70]. ¬

_ (¬1) (6/ 32) و (7/ 47) [المؤلف]. ط شاكر (9/ 468). والمذكور في الموضع الثاني (11/ 94) غير المقصود.

سمى قتل أولاد من آمن كيدًا؛ لأنه تدبير محكم غريب، إذ من شأنه بحسب العادة أن يصدّ عن الإيمان, ويردّ إلي الكفر، ولم يكن قتل الأطفال معروفًا قبل. [ص 14] وسمى الإلقاء في النار العظيمة كيدًا, لأنه تدبير محكم غريب، إذ من شأنه بحسب العادة أن يُهلك من يلقى في النار، ولم يكن مثل ذلك معروفًا قبل. فيكفي في تقرير كيد أبرهة سَوقُه الفيلة، وقدومُه في المحرم. أما سوق الفيلة فهو تدبير محكم غريب، إذ من شأنه إدخال الرعب في قلوب العرب، إذ لم يكونوا يعرفون قتال الفيلة، وأكثرهم لم يرها قط. ولهذا طلب أبرهة من النجاشي فيله الأعظم - كما سيأتي - ليكون أبلغ في الإرهاب. وأما قدومه في المحرم، فلأن من شأن العرب أن يتأثموا من القتال في المحرم، ويكون قدومه بعد قفول من يحج تلك السنة، فلا يبقى بمكة إلا أهلها. ويكفي في تضليل الله تعالى لكيدهم حبسُه الفيل، فإن حبسه من شأنه أن يصدّهم عن التقدم؛ إذ يعلمون أن ذلك آية من آيات الله، فإن لم ينزجروا وقع الاختلاف والاختلال فيهم. وقد كان الأمر كذلك، فلما أصرّوا عذبهم الله عزَّ وجلَّ. وسيأتي بسط الكلام في تفسير السورة، إن شاء الله تعالى. وأما ما ذكره من عيبهم ثقيفًا لفرارها عن حماية الكعبة، ورجمهم قبر رئيسها أبي رِغال، فلم يثبت عيب منهم لثقيف على ذلك. وإنما اغترّ المعلِّم ببيت ضِرار بن الخطّاب:

وفرّت ثقيفُ إلى لاتها ... بمنقلَب الخائب الخاسرِ وسبب اغتراره رحمه الله أن ابن هشام ساق القصة عن ابن إسحاق إلى أن ذكر وصول أبرهة إلي الطائف، وقول ثقيف له: "أيها الملك إنما نحن عبيدك، سامعون لك مطيعون، ليس عندنا لك خلاف، وليس بيتنا هذا البيت الذي تريد. قال ابن إسحاق: [ص 15] يعنون اللات". ثم ذكر إرسالهم معه أبا رِغال يدلّه. ثم قال ابن إسحاق: "واللات: بيت لهم بالطائف، كانوا يعظّمونه نحو تعظيم الكعبة". فكمل ابن هشام تفسير "اللات" فقال: قال ابن هشام: "وأنشدني أبو عبيدة النحوي لضِرار بن الخطّاب الفهري ... " فذكر البيت. ثم قال: "وهذا البيت في أبيات له. قال ابن إسحاق: فبعثوا معه أبا رِغال يدلّه على الطريق إلى مكة ... " (¬1). فمقصود ابن هشام إنما هو الاستشهاد على ما ذكره ابن إسحاق أن اللات كانت لثقيف، فظن المعلِّم أن البيت قيل في شأن ثقيف في قصة الفيل، وليس الأمر كذلك، وإنما هو في فرار ثقيف في حرب الفجار التي كانت بين قريش وسائر كنانة، وبين ثقيف وسائر قيس عيلان. وذلك بعد أن بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أربع عشرة أو خمس عشرة، أو عشرين سنة. والقصة مذكورة في "السيرة" (¬2) مختصرة, وهي مبسوطة في "الأغاني" (¬3)، ¬

_ (¬1) راجع سيرة ابن هشام بهامش الروض الأنف. [المؤلف]. ط السقا (1/ 47). (¬2) أيضًا. [المؤلف]. ط السقا (1/ 184 - 187). (¬3) (19/ 73 - 82). [المؤلف]. ط الثقافة (22/ 75).

وفيها: عن أبي عبيدة قال: لما هزمت قيس لجأت إلى خباء سبيعة ... وقال ضِرار بن الخطّاب الفهري: ألم تسأل الناس عن شأننا ... ولم يُثبتِ الأمرَ كالخابرِ غداةَ عكاظَ إذ استكملت ... هوازنُ في كفّها الحاضرِ إلى أن قال: فلما التقينا أذقناهمُ ... طعانًا بسمر القَنا العائرِ ففرّت سُلَيمٌ ولم يصبروا ... وطارت شَعاعًا بنو عامرِ [ص 16] وفرّت ثقيفُ إلى لاتها ... بمنقلَب الخائبِ الخاسرِ فأما أبو رِغال، فلم يكن رئيس ثقيف (¬1)، وإنما في القصة أنه كان رجلاً منهم. وإنما رجمت العرب قبره لأنه - كما يظهر من سياق القصة - خرج طائعًا، على أنه لم يثبت أنه كان دليل أصحاب الفيل. بل قد قيل: إنه كان قبل ذلك بزمان، حتى قيل: إنه كان في عهد صالح النبي عليه السلام. وقد بسط ذلك في "معجم البلدان" (¬2)، وسيأتي ترجيح ذلك، والدليل عليه في الكلام على رمي الجمار، فصل (ح). ¬

_ (¬1) لعل المعلِّم رحمه الله أخذه من قول أمية بن أبي الصلت: وهم قتلوا الرئيس أبا رغال ... بنخلة إذ يسوق بها الظعينا كذا في الحيوان (6/ 156) ومروج الذهب (2/ 79). ولكن المقصود هنا أبو رِغال القديم الذي قتله قسيّ بن منبّه, وهو ثقيف جدّ قبيلة أميّة. (¬2) (4/ 263 - 264). [المؤلف]. ط بيروت (3/ 53 - 54). وقد رجح ياقوت قول ابن إسحاق، وفيه أن مسعود بن معتّب قال لأبرهة: " ... ونحن نبعث معك من يدلّك عليه، فتجاوز عنهم، وبعثوا معه بأبي رِغال رجل منهم يدلّه على مكة ... ". وانظر: (5/ 161).

(د) لو اقتصر المعلِّم رحمه الله تعالى على دعوى أن أهل مكة كانوا مستعدين لقتال أبرهة إذا حاول دخول مكة، فكفاهم الله عزَّ وجلَّ، لكان الأمر قريبًا، وأمكن أن يجاب عما تقدم، وأن يتأول ما جاء في الروايات بأنهم أظهروا أنهم لا يريدون قتالًا لأغراض دعت، وهم في نفس الأمر عازمون على القتال. ولكنه لم يقتصر، بل زعم أن أهل مكة قاتلوا أبرهة، وقتلوه في المعركة، واستدل على ذلك بأمور: الأول: الوجوه التي تقدمت في الفصل السابق، وقد علمت حالها. ولو استحال عزمهم على عدم القتال لم يلزم من ذلك أنه وقع قتال، فإن الله عزَّ وجلَّ عذّب أصحاب الفيل قبل أن يصلوا إلى مكة. الدليل الثاني: قول الله عزَّ وجلَّ في السورة: {تَرْمِيهِمْ} زاعمًا أن معناه: ترميهم أيها المكي، أو نحو ذلك. وهذه دعوى سيأتي ردّها في تفسير السورة، إن شاء الله تعالى. [ص 17] الدليل الثالث: ما أبداه من المناسبة لرمي الجمار، وسيأتي تزييفها. الرابع - وهو أشبه أدلته - قول ذي الرمة: وأبرهةَ اصطادت صدورُ رماحنا ... جهارًا وعُثنونُ العَجاجةِ أكدرُ تنحّى له عمروٌ فشكَّ ضلوعَه ... بنافذةٍ نجلاءَ والخيلُ تَضبِرُ والبيتان في "ديوان ذي الرمة" المطبوع بأوربا (¬1). ¬

_ (¬1) بيت (40 و41)، قصيدة (30). [المؤلف]. ط مجمع دمشق (637).

وعلى الديوان تفسير لبعض القدماء، وفيه: "أبرهة بن الصباح ملك من ملوك حمير". وفي آخر الديوان صورة سند روايته، وفيه من طريق أبي يعقوب يوسف بن يعقوب بن خُرَّزاذ النَّجَيرَمي قال: "قرأته على أبي الحسين علي بن أحمد المهلّبي قال: قرأته على أبي العباس أحمد بن محمَّد بن ولاّد، [عن أبيه] (¬1) عن أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب، عن أبي نصر أحمد بن حاتم ... وقال أبو يعقوب: وقرأته أيضًا على أبي القاسم جعفر بن شاذان القُمّي، عن أبي عمر محمَّد بن عبد الواحد الزاهد، عن أبي العباس ثعلب، عن أبي نصر ... وقرأت على ابن شاذان الشعر مجردًا عن التفسير". قال عبد الرحمن: وهذه العبارة الأخيرة تدل أنه في الطريق الأولى سمع الشعر مع التفسير (¬2)، وذلك يدل أن التفسير متناقل، وفي أثناء التفسير ما يدل على ذلك، [ص 18] غاية الأمر أن المفسر الأخير جمع ما نقل عمن قبله، وزاد من عنده. وأبو نصر أحمد بن حاتم هو صاحب الأصمعي وراوية كتبه، والمذكورون في السند كلهم من أئمة اللغة والأدب، توجد تراجمهم في "بغية الوعاة"، وغيره. هذا، وقصة الفيل مشهورة، وديوان ذي الرمة مشهور، وعامة علماء الأخبار علماء بالشعر، فلولا أنهم علموا أن أبرهة ذي الرمة غير صاحب الفيل، لما سكتوا عن بيانه. ¬

_ (¬1) زيادة لازمة من طبعة مجمع دمشق (4). وانظر ص (1658). (¬2) انظر تعليق محقق الديوان في مقدمته (58) على العبارة الأخيرة. [المؤلف].

وقد كان جماعة من أئمة الأخبار يسمعون شعر ذي الرمة من فيه، وكانوا أحرص شيء على تلقف الأخبار، والاستشهاد عليها بما يتعلق بها من الشعر، كما مرّ في سيرة ابن هشام في واقعة الفيل. وكما ترى في "الأغاني" في قصة حرب يوم جبلة كما يأتي، وكذلك في قصة الحرب يوم الكلاب، وذكر أبياتًا لذي الرمة من هذه القصيدة نفسها تتعلق بيوم الكلاب (¬1). ولعل العلماء سألوا ذا الرمة عن أبرهة هذا، فأجابهم بأنه ملك من ملوك حمير، وحكى لهم إشاعة مجملة لم يجدوا لها أصلاً، ولا رأوا لنقلها فائدة. والله أعلم (¬2). واعلم أن التسمي بأبرهة معروف في اليمن قديمًا، فقد عدوا في ملوكهم أبرهة ذا المنار ابن الرائش، وكان قبل بلقيس، فإنها بلقيس ابنة الهدهاد بن شرحبيل بن عمرو بن الرائش (¬3). وزعموا أن "أبرهة" كلمة حبشية، معناها: الأبيض (¬4). والأقرب أنها كلمة [ص 19] حميرية، فإنهم استعملوها قديمًا كما عرفت. ¬

_ (¬1) راجع الأغاني (15/ 69 - 75). [المؤلف]. ط الثقافة (16/ 262). (¬2) في معجم البكري (461): قال المخبل السعدي يفخر بنصرتهم أبرهة بن الصباح ملك اليمن، وكانت خندف حاشيته: ضربوا لأبرهة الأمور محلُّها ... حُلُبانُ فانطلقوا مع الأقوالِ ومحرّق والحارثان كلاهما ... شركاؤنا في الصهر والأموالِ (¬3) راجع مروج الذهب بهامش نفح الطيب (1/ 573)، وفي غيره من الكتب ما يخالفه. [المؤلف]. (¬4) انظر: التيجان (136)، والاشتقاق لابن دريد (532). وفي المعجم الجعزي المقارن (103 - 104) أن معنى أبره: أنار، أضاء، وضّح.

والمادة مستعملة في العربية، وفي "القاموس": "وبَرِه كسمع بَرَهًا: ثاب جسمه بعد علة، وابيضّ جسمه، وهو أبره" (¬1). وقد تجيء في العربية أفعَلة بالتاء، قالوا: أرملة، وقالوا للحيّة: أسوَدة، ولعل لغة حمير كانت تتسع في ذلك. فأما الأشرم أبو يكسوم فاسمه "أبراهام". وفي "دائرة المعارف الإِسلامية" في ترجمة الأشرم: "أبرهة هو أبراهام باللغة الأثيوبية" (¬2). يعني الحبشية. ولم يخف هذا عن العرب، فقد ذكر ابن عبد ربه أبرهة بن الصباح رجلاً من حمير أدرك الإِسلام، فقال: "أبرهة بن الصباح، كان ملك تهامة، وأمه ريحانة بنت إبراهيم الأشرم، ملك الحبشة" (¬3). وقد ذكر أهل الأخبار في ملوك حمير: أبرهة بن الصباح. زاد بعضهم: "بن وليعة بن مرثد"، قيل: إنه ملك خمسًا وثلاثين سنة، وقيل: ثلاثًا وسبعين، وقيل: ثلاثًا وتسعين. ثم ملك بعده رجل اختلفوا في اسمه قيل: سبع عشرة سنة، وقيل: سبعًا وخمسين، وقيل: تسعًا وثمانين. ثم ملك لخيعة سبعًا وعشرين، وقيل: تسعًا وعشرين، أو ثلاثين، وقيل: أربعًا وثمانين، ثم ملك ذو نواس، قيل: ثمانيًا وستين، وقيل: ثمانين، وقيل: مائتين وستين، وانتهى ملكه باستيلاء الحبشة على اليمن، فملك فيهم أرياط، ثم أبرهة الأشرم أبو يكسوم (¬4). ¬

_ (¬1) القاموس، مادة "ب ر هـ". [المؤلف]. والحبشية كالحميرية أخت العربية. (¬2) دائرة المعارف الإِسلامية (1/ 61) [المؤلف]. (¬3) العقد الفريد (2/ 71). [المؤلف]. لم أجده في العقد. (¬4) راجع مروج الذهب (1/ 575 - 576 و587)، والتيجان لابن هشام (ص 300)، =

والذي يهمنا من هذا إنما هو القدر المشترك، وهو أن أبرهة بن الصباح [ص 20] ملك من ملوك اليمن قبل استيلاء الحبشة بمدة. وقد وجدت آخرين يقال لكل منهم: أبرهة بن الصباح. أحدهم جد أبرهة بن شرحبيل، ففي أسماء الصحابة: أبرهة بن شرحبيل بن أبرهة بن الصباح بن شرحبيل بن لهيعة بن مرثد الخير ... (¬1). ويحتمل أن يكون هو الأول. والثاني: أبرهة بن الصباح، ذكره في الإصابة عقب أبرهة بن شرحبيل. قال: وما أدري هو جد الذي قبله، أو غيره. ثم ظهر لي أنه غيره، فقد ذكره ابن الكلبي فقال: إنه كان ملك تهامة، وأمه بنت أبرهة الأشرم الذي غزا الكعبة (¬2). وقد خلط جماعة من المؤلفين كل واحد من هؤلاء بالآخر، بل خلط بعضهم، فسمى الأشرم: أبرهة بن الصباح، وزعم أنه حميري. الثالث: كندي متأخر، كان من أصحاب أبي حمزة الخارجي، قتل معه بمكة سنة (130) (¬3). والذي عناه ذو الرمة هو الأول المعدود في الملوك، أو جد أبرهة بن شرحبيل، إن كان غيره، أو آخر من أقيال اليمن، فإنهم كثير. وقد كانت ¬

_ = وصبح الأعشى (5/ 24)، والمعارف لابن قتيبة (ص 213)، وما بعدها، وغيرها. [المؤلف]. (¬1) الإصابة رقم (14). [المؤلف]. (¬2) أيضًا رقم (15). [المؤلف]. وانظر: نسب معدّ واليمن الكبير (542). (¬3) راجع الأغاني (20/ 109). [المؤلف]. ط الثقافة (23/ 143).

الحرب متواصلة بين نزار واليمن، قد يكون أحد الأباره قتل في بعضها، وقدم العهد، فلم يصل إلينا من خبر القصة إلا بيت ذي الرمة. وقد لا يكون قتل، وإنما أصابته طعنة، وقد يكون المقتول أو المطعون آخر، فأشيع أنه أبرهة، ووصلت هذه الإشاعة [ص 21] إلى ذي الرمة. هذا، ومن الأدلة على أن أهل مكة لم يقاتلوا أبرهة الروايات الثابتة عن علماء الأخبار كابن إسحاق، والواقدي، وابن الكلبي، وغيرهم. معها رواية ابن عباس التي تقدمت عن "المستدرك" وصححها الحاكم والذهبي، وروايته الأخرى التي رواها ابن مردويه وحسنها ابن حجر في "شرح البخاري"، وستأتي. ومنها: أن كل من له إلمام بأخبار العرب يعرف شدة حرصهم على رواية أخبار أيامهم، وحفظها، وتردادها في الأسمار، وتقييدها بالأشعار. ولا يكاد يقتل رجل منهم قتيلًا إلا قال في ذلك شعرًا، وإلا افتخرت به قبيلته في أشعارها. ولا يكاد يُقتَل منهم قتيل إلا يُرثى بعدَّة مراثٍ. وبين أيدينا أخبارهم في حرب البسوس، وحرب داحس، وغير ذلك. نجدها مروية بتفصيل بأسماء فرسانهم وخيلهم، وقاتلهم ومقتولهم، وكيف كان القتال، وكم استمر، إلى غير ذلك من الجزئيات. وإن شئت فراجع قصة يوم شِعْب جَبَلَة في "الأغاني"، فإنك ترى العجب من التفصيل الذي يخيل إليك أن القصة كتبت في ذلك اليوم، وقد كانت تلك الحرب قبل المولد النبوي بتسع عشرة سنة على ما في "الأغاني" (¬1). ¬

_ (¬1) (10/ 33 - 45). [المؤلف]. ط الثقافة (11/ 125 - 152).

نعم، إن العصبية قد تلاعبت بكثير من الأخبار، ولكن سلطانها على بعض الجزئيات، كالاختلاف فيمن أشار بدخول الشعب، وفيمن قتل لَقيط بن زُرارة، ونحو ذلك. وأصل القصة وأكثر جزئياتها متفق عليها. وترى في تلك القصة نموذجًا من [ص 22] أشعارها في وقائعهم. فكيف يعقل مع هذا أن يكونوا قاتلوا أبرهة، وقتلوه في المعركة، ثم لا يوجد لذلك في أخبارهم وأشعارهم أثرٌ؟ مع أن ذلك لو وقع لكان أعظم واقعة تعهدها العرب في أرضها، فإنه لا يعهد في أيامها قبل الإِسلام ملك أجنبي غزاها في قلب بلادها بجيش عظيم، وفيلة عديدة، فقاتلوه، وقتلوه في المعركة، وهزموا جنده. فلو وقع ذلك لكان أحق الوقائع بأن تتواتر أخباره، وتكثر أشعارهم فيه، وافتخارهم به، وتنازعهم في القاتل من هو، ورثاء قتلاهم، وغير ذلك. ومن الأدلة أن جماعة من التابعين وأتباعهم حكوا القصة، وأعلنوا بها، مصرّحين بأن أهل مكة أحجموا عن القتال، وتحرزوا بشَعَف الجبال، ولم يقع قتال ألبتة، فلا يقوم أحد من العرب يرد عليهم، ويبين خلاف ما قالوه. فهب أن العرب تركوا عادتهم في نقل الأخبار، وتقييدها بالأشعار، وكثرة الافتخار؛ أفلم يكن لهم من غيرتهم وحميتهم، والحرص على ردِّ الباطل عنهم، ما يحملهم على أن يصرخوا في وجوه الحاكين لما تقدم عندهم، قائلين: كذبتم، بل قاتل العرب أبرهة, وقتلوه في المعركة، وجرى كيت وكيت. ومن الأدلة: أن تجارة قريش إلى اليمن والحبشة لم تزل مستمرة، ولو كانوا قاتلوا أبرهة، وقتلوه، لانقطع متجرهم إلي اليمن والحبشة.

ومن الأدلة: أنهم قد قالوا أشعارًا في الواقعة، ترى طرفًا منها في سيرة ابن هشام، [ص 23] وليس فيها أمر القتال ولا قتل، بل كلها ثناء على الله عزَّ وجلَّ في حمايته بيته ومنها قول طالب بن أبي طالب: ألم تعلموا ما كان في حرب داحسٍ ... وجيشُ أبي يكسومَ إذ ملؤوا الشِّعْبا فلولا دفاعُ الله لا شيءَ غيرُه ... لأصبحتمُ لا تمنعون لكم سِرْبا (¬1) ومن الأشعار طرف في "المنمق" لابن حبيب, وليس فيها أثر للقتال. (هـ) ذهب المعلِّم - عفا الله عنه - إلى أن الطير لم ترم أصحاب الفيل، وإنما أرسلها الله عزَّ وجلَّ لأكل جثث موتاهم؛ كيلا يتغير الهواء بجيفهم. واضطرّه ذلك إلي دعوى أن قول الله تعالى في السورة: {تَرْمِيهِمْ} خطابٌ، أي ترميهم أيها المكي. وتصرّف في الروايات المصرحة برمي الطير بردّ بعضها، وتغليط بعضها، وحاول الاحتجاج على أن لم ترمهم، وعلى أنها أكلت جثثهم. فأما الكلام على قول الله سبحانه: {تَرْمِيهِمْ} فسيأتي في تفسير السورة. وأما الروايات، فزعم أن الرواة فريقان مختلفان: فريق في روايته ستة أمور، وفريق في روايته خمسة أمور. ورجح ما نسبه إلي الفريق الأول، ثم ساق بعض الروايات من "تفسير ابن جرير"، ثم ذكر أشعارًا للجاهليين تتعلق بالقصة، واستخلص منها أربعة أمور، يؤيد بها ما نسبه إلى الفريق الأول. ¬

_ (¬1) سيرة ابن هشام (1/ 59)، (2/ 26).

الأمور التي نسبها المعلم إلى الفريق الأول

[ص 24] قال عبد الرحمن: تدبرت تلك الروايات والأشعار، وقابلتها بما ذكر المعلِّم أنه لخصه منها، فرأيت فرقًا كبيرًا. ولإيضاح ذلك أسوق الأمور التي ذكر المعلم، وأذكر مع كل أمر ما يوافقه من الروايات التي في "تفسير ابن جرير"، فإن ذكرتُ غيرها نبّهتُ عليه. الأمور التي نسبها المعلِّم إلى الفريق الأول: 1 - " أن الطير كانت جوارح كبارًا". لم أره صريحًا, ولكن في رواية ابن عباس: "كانت طيرًا لها خراطيم كخراطيم الطير، وأكفّ كأكفّ الكلاب". وفي رواية عكرمة: "كانت طيرًا خضرًا، خرجت من البحر، لها رؤوس كرؤوس السباع، كانت ترميهم بحجارة معها، قال: فإذا أصاب أحدهم خرج به الجدري". 2 - "أن لها لونًا وشكلاً كذا وكذا". مر في رواية عكرمة: "كانت طيرًا خضرًا". وجاء في رواية سعيد بن جبير: "طير خضر، لها مناقير صفر، تختلف عليهم". وفي "مصنف ابن أبي شيبة": "ثنا أبو أسامة عن محمَّد بن إسماعيل عن سعيد بن جبير قال: أقبل أبو يكسوم صاحب الحبشة، ومعه الفيل، فلما انتهى إلى الحرم برك الفيل، فأبى أن يدخل الحرم. قال: فإذا وُجِّه راجعًا أسرع راجعًا، وإذا أريد على الحرم أبى، فأرسل عليهم طير صغار بيض، في أفواهها حجارة أمثال الحمص لا تقع على أحد إلا هلك". والسند صحيح على شرط مسلم.

وعن عبيد بن عمير: "هي طير سود بحرية، في مناقرها وأظفارها الحجارة". وعن قتادة: "هي طير بيض خرجت من قبل البحر، مع كل طير ثلاثة أحجار، حجران في رجليه، وحجر في منقاره، لا يصيب شيئًا إلا هشمه". وفي رواية ابن إسحاق: "وأرسل الله عليهم طيرًا من البحر أمثال الخطاطيف. مع كل طير ثلاثة أحجار: حجر في منقاره، وحجران في رجليه، مثل الحمص والعدس، لا يصيب أحدًا منهم إلا هلك، وليس كلهم أصابت. وخرجوا هاربين ... فخرجوا يتساقطون بكل طريق، ويهلكون على كل منهل". 3 - "وأنها أكلت أصحاب الفيل". استنبطه المعلِّم من الأمر الأول، ومن قول سعيد بن جبير: "تختلف عليهم". وسيأتي ما فيه قريبًا، إن شاء الله تعالى. [ص 25] 4 - وأن الحجارة أصابتهم من كل جانب". لم أره في شيء من الروايات. 5 - "وأنها أحدثت الجدري بإصابتها أجسامهم". مرت رواية عكرمة في الأمر الأول، وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح": "وأخرج ابن مردويه بسند حسن عن عكرمة عن ابن عباس قال: جاء أصحاب الفيل حتى نزلوا الصِّفاح - وهو بكسر المهملة ثم فاء ثم مهملة موضع خارج مكة من جهة طريق اليمن - فأتاهم عبد المطلب فقال: إن هذا بيت الله لم يسلط عليه أحدًا. قال: لا نرجع حتى نهدمه، فكانوا لا يقدّمون

فيلهم إلا تأخر، فدعا الله الطير الأبابيل، فأعطاها حجارة سوداء، فلما حاذتهم رمتهم، فما بقي منهم أحد إلا أخذته الحكة، فكان لا يحك أحد منهم جلده إلا تساقط لحمه" (¬1). وعن الحارث بن يعقوب بلغه: "أن الطير التي رمت الحجارة كانت تحملها بأفواهها، فإذا ألقتها نفِط لها الجلد". وعن يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس حدَّث "أن أول ما رئيت الحصبة والجدري في أرض العرب في ذلك العام". وعن عثمان بن أبي سليمان وعبد الرحمن بن البيلماني وعطاء بن يسار وأبي رزين العقيلي وابن عباس رضي الله عنهما - دخل حديث بعضهم في بعض -: " ... فأقبلت الطير من البحر أبابيل، مع كل طائر ثلاثة أحجار: حجران في رجليه، وحجر في منقاره. فقذفت الحجارة عليهم، لا تصيب شيئًا إلا هشمته، وإلا نفي ذلك الموضع. فكان ذلك أول ما كان الجدري، والحصبة، والأشجار المرة. فأهمدتهم الحجارة. وبعث إليه سيلاً أتيًّا، فذهب بهم، فألقاهم في البحر. قال: وولّى أبرهة ومن بقي معه هُرّابًا ... " أخرجه ابن سعد عن الواقدي (¬2). 6 - "وأنهم أهلكوا حينًا فحينًا في فرارهم حتى تساقطوا على كل منهل". ¬

_ (¬1) فتح الباري، كتاب الديات، باب من قتل له قتيل فهو بخير النظرين. [المؤلف]. (12/ 207). (¬2) الطبقات (1/ 55 - 56). [المؤلف]. ط صادر (1/ 91 - 92).

الأمور التي نسبها المعلم إلى الفريق الثاني

تقدم ذلك في رواية ابن إسحاق في الأمر الثاني، ونحوه في رواية الواقدي عن أشياخه في الأمر الخامس. وقال ابن إسحاق: "حدثني عبد الله بن أبي بكر عن عمرة ابنة عبد الرحمن بن سعد بن زرارة عن عائشة [ص 26] قالت: لقد رأيت قائد الفيل وسائسه بمكة أعميين مقعدين يستطعمان الناس" (¬1). قال عبد الرحمن: عبد الله بن أبي بكر وعمرة من الثقات الأثبات، مخرج حديثهما في الصحيحين. وفي الأشعار التي ذكرها ابن إسحاق (¬2): قول ابن الزبعرى يذكر أصحاب الفيل: ستون ألفًا لم يؤوبوا أرضَهم ... ولم يعِشْ بعد الإياب سقيمُها وقول أبي قيس: فولَّوا سراعًا هاربين ولم يَؤُبْ ... إلى أهله ملْجَيشِ غيرُ عصائبِ وقول ابن قيس الرقيات: كاده الأشرمُ الذي جاء بالفيـ ... ـل فولَّى وجيشُه مهزومُ الأمور التي نسبها المعلِّم إلى الفريق الثاني: 1 - و2 - "أن الطير كانت ترميهم بالحجارة, وأنها حملت هذه الحجارة بمناقيرها وأظافيرها". ¬

_ (¬1) سيرة ابن هشام بهامش الروض الأنف (1/). [المؤلف]. ط السقا (1/ 57). (¬2) أيضًا (1/). [المؤلف]. ط السقا (1/ 58).

تقدم ذلك في رواية عكرمة في الأمر الأول من أمور الفريق الأول، وفي روايته عن ابن عباس في الأمر الخامس، وفي رواية سعيد بن جبير وعبيد بن عمير وقتادة وابن إسحاق في الأمر الثاني. وفي رواية عن قتادة: "كانت مع كل طير ثلاثة أحجار، حجران في رجليه، وحجر في منقاره، فجعلت ترميهم بها". وتقدم في رواية الحارث بن يعقوب والواقدي عن أشياخه في الأمر الخامس. وعن سعيد بن أبي هلال "بلغه أن الطير التي رمت بالحجارة أنها طير تخرج من البحر". وتقدم في الأمر الثاني قول سعيد بن جبير: "كانت طيرًا خضرًا لها مناقير صفر، تختلف عليهم". فالمعلِّم رحمه الله تعالى حملها على [ص 27] معنى أنها تختلف على جثث موتاهم، تأكل منها. ولم يقنع حتى زعم أنها صريحة في ذلك؛ لأنه يجعل الضمير المستتر في "تختلف" للمناقير، أي: تختلف مناقيرها عليهم. قال عبد الرحمن: الضمير للطير، كما هو الظاهر. ومعنى الاختلاف هنا - كما لا يخفى على من يعرف طرفًا من اللغة - إنما هو أن يجيء بعضها، ثم يذهب ويخلفه غيره، وهكذا. فيصح أن يقال: وضع الأمير طعامًا فظل الناس يختلفون عليه، ويصح أن يقال: ظلت طياراتنا تختلف على جيش العدو. وبالقرينة يفهم من الأول الأكل، ومن الثاني الرمي. والظاهر من كلمة سعيد بن جبير إرادة الرمي؛ لأن الاختلاف مجمل كما علمت، فإنما يترك تفسيره لظهوره. والظاهر إنما هو الرمي لظهور دلالة

القرآن عليه، واشتهاره بين الرواة، كما علمت. بخلاف أكل الجثث، فإنه لم يصرح به في شيء من الروايات، بل ولا دلّت عليه رواية من الروايات دلالة قوية، بل ولا أعلم أحدًا قبل المعلِّم ذكر أن تلك الطير أكلت جثثهم. والاختلاف بالمعنى المذكور إنما يظهر نسبته إلى الطير, لأنها هي التي يجيء بعضها، ثم يذهب، ويخلفه غيره؛ لا إلى مناقيرها، كما قال المعلم. على أنه قد ثبت حمل الطير الحجارة، ورميها عن سعيد بن جبير نفسه، كما تقدم في الأمر الأول في رواية ابن أبي شيبة، وسندها على شرط مسلم. وقد تقدم أواخر فصل (ب) حديث ابن عباس الذي صححه الحاكم والذهبي، وفيه: "فأقبلت مثلُ السحابة من نحو البحر حتى أظلّتهم طير أبابيل التي قال الله عزَّ وجلَّ: {تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ}، قال: فجعل الفيل يعِجُّ عجًّا، {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ}. ولا يخفى دلالة هذا على أن الطير رمتهم بالحجارة. بل وتقدم في الأمر الخامس من أمور الفريق الأول رواية عكرمة عن ابن عباس، وفيها التصريح يحمل الطير الحجارة، ورميهم بها. وتقدم عن الحافظ ابن حجر أن سنده حسن. وفيما ذكره ابن إسحاق (¬1) قول ابن قيس الرقيات - وهو تابعي - يذكر البيت: كاده الأشرمُ الذي جاء بالفيـ ... ـل فولّى وجيشُه مهزومُ واستهلّت عليهم الطيرُ بالجَنْـ ... ـدَلِ حتّى كأنه مرجومُ ¬

_ (¬1) سيرة ابن هشام بهامش الروض الأنف (1/). [المؤلف]. ط السقا (1/ 61).

[ص 28] وفي "المنمَّق" لابن حبيب (¬1) في قصيدة لعمرو بن الوحيد بن كلاب: سطا الله بالحُبشان والفيل سطوةً ... أرى كلَّ قلب واهيًا فهو خائفُ ويومُ ذباب السيف كان نذيرَه ... ويومٌ على جنب المغمَّس كاسفُ أُميرَ لهم رَجْلٌ من الطير لم يكن ... نفاقًا لها من الحجارة واكفُ (¬2) كأنّ شآبيبَ السماء هُوِيّةً ... وقد أُشعلت بالمُجْلِبين النَّفانفُ تدقُّهم من خلفِهم وأمامِهم ... وعارضَهم فوجٌ من الريح قاصفُ إلى أن قال: وكان شفاءً لو ثوى في عِقابها ... نُفَيلٌ وللآجال آتٍ وصارفُ قال: فأجابه نفيل بن حبيب الخثعمي فقال: ماذا ترى في عِقابي لو ظفرتَ به ... يا بن الوحيد من الآيات والعبرِ قِلْنا المغمَّسَ يومًا ثم ليلتَه ... في عالج كثُؤاج النِّيب والبقرِ حتى رأينا شعاعَ الشمس تستره ... طيرٌ كرَجْلِ جرادٍ طار منتشرِ يرميننا مقبلاتٍ ثم مدبرةً ... بحاصبٍ من سَواء الأفق كالمطرِ وفي القصيدة ذكر الريح أيضًا. وفي "السيرة" وغيرها أبيات لنفيل، فيها: حمدتُ الله إذ عاينتُ طيرًا ... وخفتُ حجارةً تُلقَى علينا ¬

_ (¬1) ص (77 - 78). (¬2) في المطبوعة: "أميرهم رجل"، وفيها أيضًا: "نِقافًا"، وهو الصواب.

هكذا هو في "السيرة" و"تاريخ ابن جرير" وغيرها: "خفت" (¬1). ووقع في "تفسير الخازن": "وحصب" (¬2)، وكذا أورده المعلم (¬3). وعلى كلًّ، فإن كانت الرواية "تلقي" بكسر القاف، فهو صريح في رمي الطير، وإن كانت "تلقى" بفتح القاف، فهو ظاهر في رمي الطير أيضًا؛ لأنه إنما حمد الله على معاينة الطير, لأن الفرج كان بواسطتها، وأوضح ذلك بتعقيبه ذكر معاينة الطير بإلقاء الحجارة. وفي كلام المعلِّم ما قد يكون فيه جواب عن هذا، فإنه قال (ص 27): "إن شاعرهم ربما يصف جيشًا عظيمًا، فيذكر أن الطير تصحبه، لعلمها بكثرة القتلى" وذكر قول النابغة (¬4): إذا ماغزَوا بالجيش حلّق فوقهم ... عصائبُ طيرٍ تهتدي بعصائبِ وقول أبي نواس (¬5): ¬

_ (¬1) السيرة (1/ 53)، تاريخ ابن جرير (2/ 136) عن ابن إسحاق. (¬2) تفسير الخازن (4/ 293). (¬3) لعل المعلِّم رحمه الله نقل من الحيوان للجاحظ (7/ 199)، وكذا في المروج (2/ 129). وفي رواية يونس بن بكير عن ابن إسحاق: "وقذف حجارة ترمى" (سيرة ابن إسحاق: 41). وفي المنمق: "وسفي حجارة تسفى". (¬4) ديوانه (42). وصلة البيت بعده: يُصاحِبنَهم حتى يُغِرنَ مُغارَهم ... من الضَّاريات بالدماء الدَّواربِ تراهنّ خلفَ القوم خُزْرًا عيونُها ... جلوسَ الشيوخ في ثياب المرانبِ جوانحَ قد أيقنَّ أنّ قبيله ... إذا ما التقى الجمعان أوّلُ غالبِ لهنَّ عليهم عادةٌ قد عرفنَها ... إذا عُرِّض الخطّيُّ فوق الكواثبِ (¬5) ديوانه (431).

تتأيّا الطيرُ غُدوتَه ... ثقةً بالشِّبْع من جَزَرِهْ قال عبد الرحمن: هذا الشعر، وما يشبهه كقول [أبي تمام] (¬1): وقد جُلِّلتْ عِقْبانُ أعلامه ضحىً ... بعِقْبان طيرٍ في الدماء نواهلِ أقامت مع الرايات حتى كأنها ... من الجيش إلاَّ أنّها لم تقاتلِ إنما ذكر فيه أن الطير تصحب الجيش الغالب. فمعاينة نفيل الطير على جيش أصحاب الفيل يقتضي على هذا أن يدلّه على أن ذلك الجيش غالب، أو قل: إنما يدل على أنه يتوقع أن يقع قتل كثير منه، أو من عدوه، أو قل - وهو الحق -: لا يدل على شىء، فإن الطير - إن صدق الشعراء - إذا رأت [ص 29] الجيش الذي اعتادت أنها إذا رأته لم يلبث أن يكون مقتلة عظيمة، حلّقت فوقه، ومعلوم أنه لا يلزم من تحليقها فوق الجيش أن يقع قتال، فقد بان أن رؤية نفيل تحليق الطير على أصحاب الفيل لا يقتضي - وحده - أن يستبشر نفيل. فظهر أنه إنما استبشر وحمد الله تعالى لما رآها ترميهم بالحجارة. وقد صرح بذلك في قصيدته الأخرى، كما نقلناه من "المنمق". ويأتي في الأمر الثالث روايات أخرى فيها ذكر رمي الطير، وهي وإن كانت ضعيفة، فإنها تؤيد الروايات السابقة فيما وافقتها فيه. ويأتي في تفسير السورة مزيد لذلك إن شاء الله تعالى. 3 - "وأن هذه الحجارة نفذت في أجسام الراكبين، حتى نفذت في أجسام الفيل". ¬

_ (¬1) زيادة مني، وفي الأصل بياض. وانظر ديوان أبي تمام (3/ 82). وفيه: "وقد ظلّلت".

ليس في "تفسير ابن جرير" شيء من ذلك، فلأذكر بعض ما وقفت عليه في غيره. قد تقدم في الأمر الثاني من أمور الفريق الأول أثر عبيد بن عمير، أخرجه ابن جرير عن ابن حميد عن مهران، وعن أبي كريب عن وكيع، كلاهما عن سفيان عن الأعمش عن أبي سفيان عن عبيد. وأخرجه أبو نعيم من طريق الواقدي عن قيس بن الربيع عن الأعمش بنحوه، وزاد: "فجاءت حتى صفّت على رؤوسهم، وصاحت، وألقت ما في أرجلها ومناقيرها. فما على الأرض حجر وقع على رجل منهم إلا خرج من الجانب الآخر، إذا وقع على رأسه خرج من دبره" (¬1). وأخرجه ابن أبي شيبة عن أبي معاوية عن الأعمش، وزاد فيه: "ولا يقع على شيء من جسده إلا خرج من الجانب الآخر. وبعث الله ريحًا شديدةً، فضربت الحجارة، فزادها شدةً، فأهلكوا جميعًا". [ص 30] ونسب البغوي بعض هذا الكلام إلى ابن مسعود قال: "قال ابن مسعود: صاحت الطير، ورمتهم بالحجارة، فبعث الله ريحًا، فضربت الحجارة فزادتها شدة، فما وقع من حجر على رجل إلا خرج من الجانب الآخر، وإن وقع على رأسه خرج من دبره" (¬2). كذا قال. وأخرج أبو نعيم من طريق ابن وهب: "أخبرني ابن لهيعة عن عقيل بن خالد عن عثمان بن المغيرة بن الأخنس ... " (¬3). فساق القصة مطولة، ¬

_ (¬1) دلائل النبوة (ص 45). [المؤلف]. (¬2) تفسير البغوي بهامش الخازن (7/ 246). [المؤلف]. (¬3) دلائل النبوة (ص 43 - 44). [المؤلف].

وفيها: "وخرجت عليهم طير من البحر، لها خراطيم كأنها البلس (¬1)، شبيهة بالوطاويط، حمر وسود ... فرمتهم بحجارة مدحرجة كالبنادق، تقع في رأس الرجل، وتخرج من جوفه". وفيما ذكره البغوي عن مقاتل: " ... وكان يقع الحجر على بيضة أحدهم فيخرقها حتى يقع في دماغه، ويخرق الفيل والدابة، ويغيب الحجر في الأرض من شدة وقعه" (¬2). قال عبد الرحمن: أما الزيادة في أثر عبيد بن عمير، فالواقدي متروك (¬3)، وقيس ضعيف (¬4)، وأبو معاوية والأعمش مدلسان. وأما نسبة بعض ذلك الكلام إلي ابن مسعود، فلا أدري ما مستنده. وأما رواية ابن لهيعة عن عقيل عن عثمان، فابن لهيعة ضعيف ويدلس (¬5). نعم، ¬

_ (¬1) كذا في الدلائل. والبلَسَ: ثمر كالتين، والتين نفسه. والبُلُس: العدس. وفي سيرة ابن هشام (1/ 53): " ... طيرًا من البحر أمثال الخطاطيف والبلسان". وفي المجموع المغيث (1/ 185): "في حديث ابن عباس: بعث الله الطير ... كالبلسان". وفي شرح السيرة للخشني (18): "والخطاطيف والبَلَشون: ضربان من الطير". والبلشون: مالك الحزين (الحيوان للدميري (3/ 713) عن ابن برّي). والظاهر أن البلسان بالمهملة لغة فيه كالبلشان بالمعجمة والبلزان بالزاي. انظر معجم الحيوان لمعلوف (20, 125). أما "البلس" في الدلائل فلعله تحريف "البلسان". هذا، وقال عبّاد بن موسى في شرح البلسان: "أظنها الزرازير" كما في المجموع المغيث، ومنه في النهاية لابن الأثير (1/ 152) وأراه بعيدًا. (¬2) تفسير البغوي بهامش الخازن (7/ 344). [المؤلف]. (¬3) راجع تهذيب التهذيب (9/ 363 فما بعدها). [المؤلف]. (¬4) أيضًا (5/ 391 فما بعدها). [المؤلف]. (¬5) أيضًا (5/ 373 فما بعدها). [المؤلف].

ذكروا أن ما رواه ابن وهب عن ابن لهيعة قوي، وهذا بالنسبة إلى التخليط الذي عرض له، فأما التدليس فلم يزل [ص 31] يدلس أولاً وآخرًا. وعثمان بن المغيرة لم أجده، وأراه عثمان بن محمَّد بن المغيرة بن الأخنس، وثّقه ابن معين، وليّنه ابن المديني والنسائي (¬1). وبالجملة، فسند هذه الرواية متماسك، ولكن في متنها تخليط، ومخالفة لعامة الروايات. ومع ذلك فعثمان بن محمَّد بن المغيرة من أتباع التابعين، ولم يسند القصة إلى من فوقه. وأما مقاتل فكان مجازفًا فيما يحكيه (¬2). 4 - "ولا بد أنهم هلكوا حيث كانوا". - ظاهر هذه العبارة أن هذا استنتاج من الأمر الثالث، وفيه نظر؛ إذ ليس في الحكاية أن الحجارة أصابت كل واحد منهم، ولا فيها أن كل من أصابته إنما وقعت على وسط رأسه. وإنما فيها أن كل من أصابته في موضع نفذت من الجانب الآخر. وعلى هذا، فلعل بعضهم لم تصبه، وبعضهم أصابته في ذراعه أو كفه أو قدمه، وهذان القسمان لا يلزم فيهما الهلاك العاجل. فلا يكون في هذه الرواية مخالفة لما تقدم في الأمر السادس من أمور الفريق الأول. وما وقع من الزيادة في رواية عبيد بن عمير: "فأهلكوا جميعًا" ليس فيه أنهم أهلكوا جميعًا في مكانهم ذلك. 5 - "وأن سيلاً جاء، فذهب بجثث القتلى". ¬

_ (¬1) تهذيب التهذيب (7/ 125). [المؤلف]. (¬2) أيضًا (10/ 279 فما بعد).

الأمور التي لخصها من الأشعار

جاء هذا في رواية ابن سعد عن الواقدي عن أشياخه، كما تقدم في الأمر الخامس من أمور الفريق الأول. وفي "مصنف ابن أبي شيبة" عن أبي أسامة قال: فحدثني أبو مكين عن عكرمة قال: "فأطلقهم من السماء، فلما جعلهم الله كعصف مأكول أرسل الله غيثًا، فسأل بهم حتى ذهب بهم إلى البحر". [ص 32] الأمور التي لخصها من الأشعار: 1 - " ذكروا الطير، وحصب الحجارة معًا، لكنهم لم ينسبوا الحصب إليهم". كذا والمراد: إليها، أي إلى الطير. ومن الأشعار التي ذكرها المعلِّم واستنبط منها هذه الأمور أبيات لأبي قيس بن الأسلت، وليس فيها تصريح بالطير، وإنما فيها الحاصب، وهو قوله: فأرسل من فوقهم حاصبًا ... يلفُّهمُ مثلَ لفِّ القَزَمْ هكذا في السيرة (¬1)، وسياق الأبيات يشهد لذلك بالصحة، والضمير المستتر في "أرسل" يعود على الله عزَّ وجلَّ. وذكر المعلِّم هذا البيت بلفظ: "فأُرسل من ربهم حاصبٌ ... " (¬2) وذكر أبياتًا أخرى له، وليس فيها تصريح بالطير، وإنما فيها: فلما أجازوا بطنَ نعمان ردَّهم ... جنودُ الإله بين سافٍ وحاصبِ ¬

_ (¬1) سيرة ابن هشام بهامش الروض الأنف. [المؤلف]. ط السقا (1/ 58). (¬2) كذا في كتاب الحيوان ط الحميدية التي اعتمد عليها المعلِّم رحمه الله.

وذكر أبيات نفيل، وفيها: حمدتُ الله إذ عاينتُ طيرًا ... وحَصْبَ حجارةٍ تُلقَى علينا وقد تقدم في الأمر الأول والثاني من أمور الفريق الثاني أن الذي في السيرة وأكثر الكتب: "وخفت حجارة". 2 - "بل نسبوه إلى سافٍ وحاصبٍ". إنما جاء في قول أبي قيس: "بين سافٍ وحاصب"، وقوله: "فأرسل من فوقهم حاصبًا"، وقد مرَّ. فأما قول نفيل: "وحصب حجارة"، [ص 33] فالرواية: "وخفت حجارة"، كما مرّ (¬1). قال: "والحاصب يستعمل للهواء والريح الشديدة التي ترمي بالحصباء ... وفي حديث علي رضي الله عنه قال للخوارج: أصابكم حاصب. وقال أهل اللغة في تفسيره: أي عذاب من الله، وأصله: رُميتم بالحصباء من السماء". قال عبد الرحمن: لا خلاف بين أهل اللغة أن لفظ: "حاصب" اسم فاعل من حصبه: أي رماه بالحصباء. فيحمل في بيتي أبي قيس على الطير، لأنها جند من جنود الله حصب أصحاب الفيل، فهو حاصب. ولا يمكن حمله على الريح، فإن قوله: "جنود الإله بين سافٍ وحاصب" ذكر فيها جندين: أحدهما سافٍ، وهو الريح، وآخر حاصب، فهو غير الريح؛ إذ لو ¬

_ (¬1) انظر تعليقنا في (ص 40).

الجمع أو الترجيح فيما اختلفت فيه الروايات

كان إياها لكان السافي هو الحاصب، فهو جند واحد سافٍ حاصب، فلا معنى لجعله جندين، أو جنودًا. والمعلِّم رحمه الله تعالى يحاول تفسير الحاصب برمي من الهواء بقدرة الله عزَّ وجلَّ بدون أن يكون هناك رامٍ محسوس. وهذا قد يحتمله اللفظ، ولكن قد تكاثرت الروايات برمي الطير، وهو ثابت بظاهر القرآن إن لم نقل بنصّه، واتفق عليه الناس قبل المعلم، فالحمل عليه هو المتعين. وقد تقدم عن "المحبّر" (¬1) في قصيدة نفيل بن حبيب الذي شهد الواقعة قوله: حتى رأينا شعاعَ الشمس يستُره ... طيرٌ كرَجْلِ جَرادٍ طار منتشرِ يرميننا مقبلاتٍ ثم مدبرةً ... بحاصبٍ من سواء الأفق كالمطرِ 3 - "ثم إنهم نسبوه إلى سافٍ، ومحال أن يحمل هذا اللفظ على الطير ... ". في هذا إشارة إلى صحة حمل الحاصب على الطير، وهو المتعين كما مر. فأما السافي فظاهر أنه الريح التي تسفي التراب. [ص 34] ولا مانع من اجتماع رمي الطير وسفي الريح كما ذكر في بعض الروايات والأشعار. الجمع أو الترجيح فيما اختلفت فيه الروايات: 1 - اختلفت الروايات في صفة الطير ولونها. وقد جمع بعض أهل العلم بين ذلك. قال الخازن: "ووجه الجمع بين هذه الأقاويل في اختلاف أجناس هذه الطير أنه كانت فيها هذه الصفات كلها. فبعضها على ما حكاه ¬

_ (¬1) سهو، والمقصود: المنمَّق.

ابن عباس، وبعضها على ما حكاه غيره، فأخبر كلُّ واحد بما بلغه من صفاتها" (¬1). وإيضاح ذلك أن الطير كانت كما قال الله عزَّ وجلَّ: {أَبَابِيلَ}، وفسّرها أهل العلم بأنها كانت جماعات. فعن ابن مسعود قال: "فِرَق"، وعن أبي سلمة: "الزُّمَر"، وعن إسحاق بن عبد الله: "الأقاطيع"، وعن مجاهد: "شتّى متتابعة مجتمعة"، وعن ابن زيد: "المختلفة تأتي من ها هنا، وتأتي من ها هنا، أتتهم من كل مكان" (¬2). فوصف كلُّ رجل الفرقة التي جاءت من ناحيته، وحكى كلُّ من الرواة ما سمعه. ومع إمكان الجمع لا محلّ للترجيح، على أننا إن رجّحنا رواية ابن عباس: "لها خراطيم كخراطيم الطير، وأكفّ كأكفّ الكلاب"، مع قول عكرمة: "لها رؤوس السباع"، لم يلزم من ذلك أنها من جوارح الطير، لوجهين: الأول أن جوارح الطير المعروفة كالعقبان والنسور معروفة عند العرب، فلو كانت منها لما احتاج العرب أن ينعتوها، بل كانوا [ص 35] يذكرونها باسمها المعروف. الثاني: أن الراجح في اللون قول عكرمة وسعيد بن جبير - وروايتهما من الروايات التي يرجحها المعلِّم - إنّها كانت خُضْرًا, وليس في سباع الطير وجوارحها ما لونه أخضر. ¬

_ (¬1) تفسير الخازن (7/ 246). [المؤلف]. (¬2) راجع لأسانيد هذه الآثار مع آثار أخرى: تفسير ابن جرير (30/ 164 - 165). [المؤلف].

وبهذا تعلم سقوط قول المعلِّم رحمه الله (ص 27): "فجلب العقبان والرخم والقشاعم من صحارى إفريقية". 2 - في رواية عكرمة، والحارث بن يعقوب، ويعقوب بن عتبة وما يوافقها - كما تقدّم في الأمر الخامس من أمور الفريق الأول - أن الحجارة أثّرت في أصحاب الفيل الجدريَّ ونحوه. وقد يوافقها أثر عائشة الذي تقدم في الأمر السادس أنها رأت قائد الفيل وسائسه بمكة أعميين، فإنّ العمى كثيرًا ما يكون عن الجدري. وفي رواية عكرمة عن ابن عباس التي تقدمت في الأمر الخامس من أمور الفريق الأول أنها أصابتهم الحكّة: "فكان لا يحكّ أحد منهم جلده إلا تساقط لحمه". والجمع بينه وبين ما تقدم أنه أصابهم الجدري والحصبة والحكّة، فكل منهم ابتلي بداء من الأدواء الجلدية. وفي رواية قتادة: "لا يصيب شيئًا إلا هشمه"، وفي رواية ابن سعد عن الواقدي عن أشياخه، وهي ملفّقة من رواياتهم: "لا تصيب شيئًا إلا هشمته، وإلا نفي ذلك الموضع". وفي الروايات التي ذكرناها في الأمر الثالث من أمور الفريق الثاني أن الحجارة كانت إذا أصابت موضعًا من الجسد نفذت من الجانب الآخر. قال عبد الرحمن: رواية التجدير وما في معناه من الحصبة والحكّة والنفط أرجح. والجمع بينها وبين الهشم ممكن بأن يقال إنها كانت لشدّة وقعها تجرح الموضع الذي تقع فيه، فإن وقعت على الرأس هشمت، ثم يتقرّح ذلك الموضع، ويكون الجدري ونحوه، وهذا موافق للعادة في تلقيح الجدري ونحوه. فيقرب في النظر أن تكون تلك الحجارة ملطخة بمادة

مَرَضيّة قوية، فكانت الحجارة تجرح، فتتصل المادة [ص 36] بالدم، فينشأ المرض. والله أعلم. فأما روايات النفوذ ففيها مقال كما تقدم، ومع ذلك فالجمع ممكن، فيقال: منهم من أصابه الحجر في رأسه فنفذ من الجانب الآخر، فأقعصه. ومنهم من أصابه في ذراعه، أو كفه، أو قدمه، ونحو ذلك، فنفذ من الجانب الآخر. ولا يلزم من ذلك الموت حالا، ولكن تقرح مدخل الحجر ومخرجه فكان الجدري ونحوه. ولعل منهم من لم يصبه حجر، ولكن جُدِر بالعدوى العادية. ولعل بعضهم سلم فنجا، وبعض من جُدِر لم يمت، كالرجلين اللذين رأتهما أم المؤمنين بمكة. 3 - عامة الروايات التي وصفت الحجارة بيّنت أنها كانت حصًى صغارًا نحو الحمص. وشذّت رواية ذكرها الألوسي في تفسيره أنها كانت كبارًا، منها ما هو كالإبل البوارك (¬1). وهذه الرواية غلط، كأن راويها سمع من ينعت {حِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ} [هود: 82، الحجر: 74] في قصة قوم لوط، فتوهم أن ذلك في قصة أصحاب الفيل، أو توهم أن ذلك الكبر لازم لكل حجارة من سجيل. وذكر ابن إسحاق (¬2) قصيدة لامرأة تعظ ابنها، وفيها: والفيلُ أُهلِكَ جيشُه ... يُرمَون فيها بالصخورْ ¬

_ (¬1) روح المعاني (9/). [المؤلف]. ط دار إحياء التراث (30/ 237). (¬2) سيرة ابن هشام. [المؤلف]. ط السقا (1/ 26).

استنتاج المعلم

وأخشى أن يكون هذا البيت مدرجًا في القصيدة، وأنها قيلت قبل قصة الفيل. فإن صح فإنما اطلقت على تلك الحصى صخورًا تجوزًا، نظرًا إلى أنها أثرت في أصحاب الفيل من الهلاك - ولو بعد مدة - ما لو كانت صخورًا لما زادت. [ص 37] استنتاج المعلم: قال (ص 23): "فالرواية عن عكرمة وابن عباس تخبر بأن الطير كانت جوارح كبارًا، كالعقبان والرخم. وفي رواية ابن جبير تصريح بأنها كانت تأكلهم، وليس في هذه الروايات أنها حملت الحجارة. ثم نجد رواية عن قتادة وعبيد بن عمير أنها حملت الحجارة في أظفارها ومناقيرها, ولا تذكر صفة تدل على كونها جوارح. وأما الروايات التي جمعت الأمرين، فليس إلا من إدخال بعض الرواية في بعض، فإن الرواة ربما كانوا يلفقون، وصرح به ابن جرير في تاريخه حيث بدأ هذه القصة بقوله: دخل حديث بعضهم في [حديث] (¬1) بعض". قال عبد الرحمن: حاصل كلامه أنه يستنتج من رواية الفريق الأول أن الطير أكلت جثث أصحاب الفيل، ومن رواية الفريق الثاني أنها حملت الحجارة ورمتهم بها. فأما النتيجة الأولى فلا تثبت. أما بالنظر إلى رواية ابن عباس وعكرمة، فقد تقدم الكلام في الأمر الأول من أمور "الجمع أوالترجيح" وهَبْ أن ذلك الشكل يدل على أن تلك الطير تشبه الجوارح المعروفة كالعقبان، فمن أين لنا أنها أكلت جثث القوم؟ ¬

_ (¬1) ما بين الحاصرتين زيادة من تفسير سورة الفيل.

تحرير البحث

وأما بالنظر إلى رواية سعيد بن جبير، فقد تقدم الكلام عليها في الأمر الأول والثاني من أمور الفريق الثاني. وأما النتيجة الثانية فحقٌّ، وهي ثابتة عن هؤلاء الثلاثة الذين جعلهم فريقًا أول. فقد ثبتت عن ابن عباس كما تقدم في الأثر الذي صححه الحاكم والذهبي، وهو في آخر فصل (ب)، وفي الأثر الذي حسنه الحافظ ابن حجر، تقدم في الأمر الخامس من أمور الفريق الأول؛ وعن سعيد بن جبير كما تقدم في الأمر الثاني من أمور الفريق الأول، وعن عكرمة، فإن لفظ روايته: "كانت طيرًا ... كانت ترميهم بحجارة معها، فإن أصاب [ص 38] أحدهم خرج به الجدري". والرواية التي حسّنها الحافظ ابن حجر هي من رواية عكرمة عن ابن عباس. والمعلِّم - عفا الله عنَّا وعنه - حكى رواية عكرمة، وحذف منها قوله: "كانت ترميهم ... "، ثم أشار إلي ذلك بقوله: "وأما الروايات التي جمعت الأمرين ... ". فقد اتضح بحمد الله عزَّ وجلَّ أن الرواة ليسوا فريقين مختلفين، وإنما وقع الاختلاف في بعض الأمور الجزئية. وقد قدمنا ذلك مع الجمع والترجيح. تحرير البحث: مقصود المعلِّم رحمه الله أن يثبت أن الطير أكلت جثث الهلكى، وأنها لم ترم بالحجارة. فحقّ الكلام أن يقال: إن الرواية عن بعض الصحابة والتابعين بدون نظر إلى أشخاص الرواة جاءت بأمرين: أحدهما: أن الطير

أكلت جثث الموتى، والآخر: أنها رمت أصحاب الفيل بالحجارة. ثم يثبت الأول، ويرد الثاني. وقد حاول المعلِّم - رحمه الله - ذلك. أما الأول: فبادعاء أن رواية سعيد بن جبير صريحة في الأكل، وأن رواية ابن عباس التي ذكرها ابن جرير تُشعر به، ويوافقها جزء من رواية عكرمة، وأكد ذلك بقوله (ص 23): "الإخبار بشكل الطير ولونها، وأن مناقيرها الصفر كانت تختلف عليهم، لا يكون إلا برؤية العين". قال عبد الرحمن: قد علمت أن رواية سعيد بن جبير ظاهرة في الرمي، وأن الضمير في "تختلف عليهم" إنما هو للطير، لا لمناقيرها. وعلمت أن رواية ابن عباس والجزء الذي أخذه المعلِّم من رواية عكرمة إنما تدل على أن في شكل تلك الطير ما يشبه شكل الجوارح، وأن ذلك [ص 39] لا يقتضي الأكل. ثم علمت أنها جاءت عن ابن عباس رواية مصحَّحة ظاهرة في الرمي، وأخرى محسَّنة صريحة فيه، وأن رواية سعيد بن جبير ظاهرة فيه، وصحت عنه رواية مصرحة به، وأن الجزء الأخير من رواية عكرمة مصرح بالرمي. وعلى هذا، فلا بد للمعلم من أحد أمرين: إمّا أن يقول: إن ابن عباس وعكرمة لم يفهما مما ذكروه من وصف الطير ما يقتضي أكلها للجثث. وإمّا أن يقول: إنهما فهما ذلك، ولكن لم يريا فيه مخالفة لكون الطير رمت بالحجارة. فإن اختار الأول، قيل له: كفى بذلك ردًّا لما زعمتَه من أن تلك الصفة تُشعر بالأكل.

وإن اختار الثاني، بقي عليه أن يثبت الأكل بحجة واضحة، وأنى ذلك! ويكفي في رده أن أهل العلم من لدن الصحابة إلى الآن لم يذكروه. وهَبْ أنه أقام عليه حجة واضحة، فإنه لا ينافي ما قامت عليه الحجج الواضحة من رميها بالحجارة، وسيأتي تمام هذا إن شاء الله تعالى. وأما الثاني، فقال المعلِّم (ص 23): "وأما الإخبار بحملها الحجارة في مناقيرها وأظفارها، فقصارى أمره أن يكون إما ممن رأى نزول الحجارة من السماء، وظن من بعيد أنها تأتي من الطير، أو ممن ظن أن الضمير في قوله تعالى: {تَرْمِيهِمْ} يرجع إلى الطير، فروى القصة حسبما فهم من تأويل الآية". وقال في موضع آخر (ص 32) (¬1): "ويمكن أيضًا أن بعض الشاهدين أنفسهم لم يفهموا إلا أن الطير رمتهم، فذكروا حسبما ظنوا. وعذرهم بيّن، فإن رمي أهل مكة لم يكن جديرًا بما رأوا من الآثار على الأعداء، فأيقنوا برمي من السماء، ولم يروا في السماء إلا طيرًا أبابيل، فنسبوا هذا الرمي إليهن". قال عبد الرحمن: حاصل الاحتمال الأول أن الطير حلّقت عليهم، ثم رُجموا، وهي محلّقة. وهذا موافق لما دل عليه القرآن، كما يأتي أن إرسال الطير كان قبل الرمي، وموافق لما أطبقت عليه الروايات، ومنها قول نفيل: حمدتُ الله إذ عاينتُ طيرًا ... وخفتُ حجارةً تُلقَى علينا ¬

_ (¬1) في الأصل: "ص 23", وهو سهو.

[ص 40] وقد يلزم المعلِّم أن يقول: إن نفيلاً ممن اشتبه عليه الأمر، وإن لم يكن بعيدًا، بل كان مع أصحاب الفيل، ولهذا خاف أن يقع عليه بعض الحجارة. وعلى هذا الاحتمال مناقشات: الأول: أن يقال: وما فائدة إرسال الله عزَّ وجلَّ للطير قبل نزول العذاب؟ فإن قيل: على ما جرت به عادة الطير من التحليق فوق الجيوش، على ما تقدم في الأمر الأول والثاني من أمور الفريق الثاني. قلت: تلك الطير العادية التي اعتادت من رؤية الجيش أن تكون مقتلة، وهذه طير غريبة كما يعلم من صفاتها، وعظَّم الله تعالى شأنها بذكر أنه أرسلها. وإن قيل: لتكون حجابًا لرمي الله عزَّ وجلَّ - على ما يأتي في فصل (ز) - قلت: إذا صححت جعلَها حجابًا، فاجعل الرمي منها، واسترح من العناء والتعسف، ومخالفة الناس جميعًا، وغير ذلك مما يلزمك. الثاني: أن مثل هذا الاحتمال إنما يلجأ إليه إذا امتنع الظاهر، ورمي الطير بأمر الله عزَّ وجلَّ ليس بممتنع. وسيأتي ذكر شبهة المعلَّم في امتناعه، وردّها. وحسبك أنها لم تخطر ببال أحد من الصحابة والتابعين وسائر أهل العلم من جميع الفرق حتى أثيرت أخيرًا، على ما يأتي. الثالث: أن رمي الطير ثابت بدلالة القرآن، كما يأتي إن شاء الله تعالى. وأما الاحتمال الثاني، وهو أن يكون "ممن ظن أن الضمير في قوله تعالى: {تَرْمِيهِمْ} يرجع إلي الطير"، فسياق الروايات يأباه، على أنه يقتضي

أن أهل العلم من الصحابة والتابعين، وهلم جرًّا إلى عهد المعلِّم لم يفهموا من قول الله تعالى: {تَرْمِيهِمْ} إلا أن المعنى ترميهم الطير، فمخالفتهم كلهم [ص 41] في هذا الفهم إما أن لا تجوز ألبتة، وإما أن تجوز بشرط أن تقوم حجة قاهرة تلجئ إلى مخالفتهم. وليس للمعلم حجة إلا الشبهة التي سلف ذكرها، وسيأتي ردَّها إن شاء الله تعالى. وفوق ذلك، فإن أول السورة يردّه، فإن معناه - كما يعترف به المعلِّم -: "قد علمت أيها المخاطب، أي كلّ من يصلح أن يخاطب {كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} علمًا مساويًا لعلم المشاهد". فكيف يجوز أن يقال هذا، وعامة الذين شاهدوا الواقعة وغيرهم ممن قرب منهم لا يعلمون أصل الكيفية، بل يجهلونه جهلاً مركبًا، يرون أنه كان يرمي الطير، والواقع أنه لم يكن رمي من الطير؟ قال المعلِّم (ص 24): "ثم كأن بعض من أخذ بهذا الرأي تفطن لما فيه من الإشكال، فإن جثث الفيلة والقتلى ملأت ناحية بطحاء مكة، فكيف أمكن لأهل هذه البقاع أن يسكنوها؟ ففزعوا إلى رأي آخر، وهو أن الله تعالى أرسل سيلاً فطهر الأرض. ولا يخفى أن السيل الذي يذهب بجثث هذه الأفيال وهذا الجند الكثيف لا يترك سكان هذه البطحاء ... ثم ... وجدوا إشكالاً آخر، وهو أن الحجارة النازلة من مناقير الطير وأظافيرها تنزل مستقيمة، فكيف تصيب الفيل مع أن جسمه حتى رأسه محفوف بالراكبين، فزعموا أن الحجارة نفذت الراكبين ... ثم لا بد لهم أن يفرضوا أن الحجارة أصابت جند أبرهة، وأهلكه على مكانه، وأن ينسبوا الإهلاك إلى محض جراحات الحجارة. ولكن رواية الفريق الأول تصرح بأن من أصابته

الحجارة رمي بالحصبة ... وجعلوا يتساقطون على كل منهل. فتبين أن كل ما ذهب إليه الفريق الثاني ليس إلا ما يتفرع على رأي رمي الطير". قال عبد الرحمن: أما رمي الطير فقد أثبته الفريقان معًا كما علمت، بل لم ينفه أحد من المسلمين قبل المعلِّم رحمه الله. ولا يلزم من إثباته أن تملأ الجثث بطحاء مكة أولاً, لأن رمي أصحاب الفيل كان بعيدًا عن مكة، كما يأتي. ثانيًا: لأن الروايات الثابتة التي تثبت رمي الطير لم تقل: إنّ [ص 42] الحجارة أصابت الفيلة وجميع أفراد الجيش، فأقعصتهم. بل الأثبت منها يقول: إنها من أصابته نَفِط موضعُ إصابتها، وكان الجدري والحصبة والحكّة، وذكر بعضها الهشم. ولا يلزم منه هلاك الفيلة وهلاك الجيش كلّه في محلّه. وبعض الروايات التي فيها نظر ذكرت النفوذ، ولم تقل: إنها أصابت الفيلة، ولا إنها أصابت جميع أفراد الجيش، ولا إن كل من أصابته إنما أصابته في رأسه، فيلزم أن يموت للحال. وأما أنها كانت تصيب البيضة فتخرقها، وتخرق الراكب والمركوب، وتغوص في الأرض، فإنما رأيت هذا في كلام مقاتل، وهو مجازف لا يعتدّ بقوله. ولا يلزم من رد قوله ردُّ جميع الروايات التي أثبتت رمي الطير. غاية ما يلزم أن يكون جماعة من أصحاب الفيل هلكوا في موضعهم، وفرّ الباقون يتساقطون على كل منهل، كما ذكره ابن إسحاق. وعليه، فلا إشكال؛ لأن الذين هلكوا في موضعهم قد لا يكونون كثيرًا، بحيث يتغير هواء مكة، مع بُعدها عنهم.

وخبر السيل لم ينفرد به الواقدي، فقد جاء عن عكرمة كما تقدم. ولا مانع من صحته، ويكون سيلاً متوسطًا، لا يطمي على مكة، مع أن في الروايات: أن أهل مكة قد كانوا تحرزوا بشعف الجبال، فلعل السيل جاء قبل نزولهم، ولأهل مكة عادة بنزول السيول. وهب أنه لم ينزل سيل، فقد عرفت أن الذين هلكوا من الجيش في مكانهم إنما هم بعضهم، فلعلهم كانوا قليلاً بحيث إن أهل مكة استطاعوا أن يحفروا لهم الحفر، ويواروهم فيها، فإن كان لا بد من أكل الطير، فالطير المعروفة في بلاد العرب كالعقبان والرخم والنسور تكفي كل جثث الذين هلكوا في ذلك الموضع. وقد كانت في الجاهلية والإِسلام [ص 43] وقائع عظيمة، هلك فيها ألوف من الناس، ولم يمتنع سكنى البلاد المجاورة لها, ولا أرسل الله تعالى طيرًا غريبة، وذلك كحرب الكلاب، وذي قار، واليرموك، والقادسية. وهَبْ أنه ثبت أن تلك الطير التي أرسلها الله تعالى أكلت من جثث الهلكى، فمن أين يلزم من ذلك أنها لم ترمهم؟ بل نقول حينئذٍ: إن الله تعالى أرسلها لعذاب أصحاب الفيل، بأن ترميهم بالحجارة، كما اقتضته السورة، وصرحت به معظم الروايات، وأطبق عليه الناس، ففعلتْ ما أُرْسِلَت له، ثم بقيت حتى أكلت جثث الموتى. وكان ذلك من الله عزَّ وجلَّ إتمامًا للنعمة على أهل مكة بتعجيل التنظيف، ومكافأةً منه سبحانه للطير التي أطاعته، فأطعمها من صيدها. ولم يتعرض القرآن ولا الروايات كل تلك الطير من الجثث, لأنه أمر عادي. والله أعلم.

(و) الباعث للمعلم - رحمه الله - على دعوى أن أهل مكة قاتلوا أهل الفيل أمران: الأول: استبعاده أن ينكُلوا عن القتال دون البيت، مع ما لهم فيه من حسن الاعتقاد، وما لهم به من الشرف، وما عُرفوا به من الغيرة والنجدة. وقد تقدم الكلام على هذا في فصل (ج). الثاني: استشعاره - فيما يظهر - أن اعتقاد نكول قريش عن القتال قد يؤدي إلى عيبهم، وقد يتخذه بعض الكفار والملحدين ذريعة إلى عيب خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم لأنهم قومه. وقد خفي هذا عن بعض أهل العلم في عصرنا [ص 44] لا يزال يكرر في مواعظه أن العرب كانوا على غاية من الجبن، أرعبتهم دابة - يعني الفيل - فأسلموا بيت الله، وهو رأس دينهم وشرفهم. ويتفنن في هذا المعنى، ومقصوده إثبات أنّ الإِسلام هو الذي أكسبهم الشجاعة. وكان عليه أن يدع هذا البحث لمخالفته الواقع، وضعف النتيجة التي يحاولها منه، ولأنّه سرعان ما يسري في النفوس عيب الأمة إلى عيب كل فرد منها، فيجرُّ ذلك إلى عيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويتخذه الكفار والملحدون ذريعة إلى ذلك. فكأن المعلِّم رحمه الله حاول اقتلاع هذا الأمر من أصله. وأنا أقول: إن الحق أعز وأظهر من أن يضطرّ المنتصر له إلى الخروج عنه من جهة أخرى. وقد قدمت في فصل (ج) ما فيه أوضح العذر لأهل مكة في كفّهم عن قتال أبرهة. فمن تعامى عن ذلك وأبى إلا أن ينسبهم إلى الجبن، فهو وما اختار لنفسه!

(ز) والباعث له - فيما يظهر - على إنكار رمي الطير أمور: الأول: أن يتهيأ له دعوى أن قوله تعالى: {تَرْمِيهِمْ} للخطاب فيستدل بذلك على أن أهل مكة قاتلوا. الثاني (¬1): ما ذكره بقوله (ص 20): "من ينظر في مجاري الخوارق يجد أن الله تعالى لا يترك جانب التحجب في الإتيان بها، كما هي سنته في سائر ما يخلق؛ لأن حكمته جعلت لنا برزخًا بين عالمي الغيب والشهادة، وسنّ لنا التشبث بالأسباب مع التوجه إلى ربها, ليبقى مجال [ص 45] للامتحان والتربية لأخلاقنا". قال عبد الرحمن: تحقيق هذا البحث يستدعي النظر في حكمة الخلق، وقد أشار إليها الكتاب والسنة، وتكلم فيها أهل العلم، وأوضحتُ ذلك في بعض رسائلي (¬2)، وألخص ذلك هنا: إن الله تبارك وتعالى جواد حميد، اقتضى جوده أن يجود بالكمال إلى الحد الممكن، فاقتضى ذلك أن يخلق خلقًا يكون محلًّا للكمال. وعلم أنه لا يكون للمخلوق كمال يعتدّ به إذا خُلق مجبورًا على الخير، أو غير ممكَّن من العمل، أو مسهَّلًا له عملُ الخير بأن لا تكون فيه مشقة ألبتة. فخلق تبارك وتعالى الخلق قابلين للكمال وضده، مختارين ممكَّنين، عليهم في الخير مشقة وكلفة، {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2]. ¬

_ (¬1) الأمر الثالث سيأتي في (ص 79). (¬2) انظر: كتاب "العبادة" (ص 56 وما بعدها) بعنوان "حجج الحقِّ شريفة عزيزة كريمة".

وقضاؤه وقدره من وراء ذلك، فلا منافاة بينه وبين الاختيار والتمكن، خلافًا للجبرية وللقدرية من المعتزلة وغيرهم. ثم أمرهم بالخير، ونهاهم عن الشر، فانحصر كمالهم في طاعته. وعليه قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. وأُسّ الكمال ورأس العبادة معرفة الحق، فلو جعل سبحانه حجج الحق مكشوفةً لما كان في معرفتها مشقة. فلا تكون عبادة ولا كمالاً. فلم يكن بدّ أن يكون دون حجج الحقّ حجاب، فلا تدرك إلا بكلفة ومشقة. مثال ذلك: معرفة الله عزَّ وجلَّ. الطريق العام فيها هو الاستدلال بالأثر على المؤثر، وللآثار أسباب حسية فهي الحجاب. [ص 46] فإذا نظرنا إليها، وعرفنا ما هي عليه من الإتقان، ومطابقة الحكمة، كانت تلك حجة على أن لها خالقًا حيًّا عليمًا قديرًا حكيمًا. ثم ننظر، فنجد منها ما هو عارض، يسميه بعضهم اتفاقيًّا, ولكننا إذا أمعنّا النظر وجدناه على وفق العدل والحكمة والإحسان, فتكون هذه حجة. ومنها: ما يتسلسل، فإذا مشينا مع سلسلته انتهينا إلى حلقة لا نجد بعده حلقة، إلا أن نربطها بإرادة الرب وقدرته، وهذه حجة. وإن أبينا إلا أن نفرض حلقات أخرى تشبه هذه الحلقات الكونية، فمهما فرضنا لا بد أن تنتهي الحلقات إلى حلقة لا يكون وراءها إلا إرادة الرب وقدرته، وهذه حجة. فمن كان قلبه عامرًا بحب الحق، فإنه تكفيه حجة من هذه الحجج أو غيرها، يتقبلها بقبول حسن، فيمدّه الله عزَّ وجلَّ باليقين من حيث لا يشعر.

ومن كان دون هذا إلا أنه محب للحق في الجملة، فإنه إذا لم تقنعه الحجة حفظها، وضمّها إلى غيرها، فيستفيد من المجموع اليقين، أو ما يقرب منه، فيقبله، ويكمل الله تعالى له اليقين بفضله. ومن استحوذ عليه الباطل لا تقنعه الحجة وحدها، فيتشكك فيها، ثم يطرحها نسيًا منسيًّا، فإذا عرضت له الأخرى فكذلك. فإذا حاولت إحدى الحجج أن تغلب هواه، وتضطره إلي الإيمان بوجود الخالق، فزعت نفسه إلى التفكر في الخالق قائلة: [ص 46] وما هو؟ وكيف هو؟ وأين هو؟ فيتخبط في هذا العماء بدون اهتداء بالأدلاّء - وهم الأنبياء - لسابق سوء ظنه بهم، فلا يحصل إلا على الحيرة. وربما يكون قد تقدمه من يرى أنه أعلم منه، ولم يؤمن، فيهاب خلافه. أو يكون قد سبق منه ومن الذين ينسبهم إلى العقل والعلم عيب للعامة التي تؤمن بالله عزَّ وجلَّ، واستهزاء منها، وسخرية بها، وحكم عليها بأن أساس جهلها وأوهامها وخرافاتها هو الإيمان, فيأنف أن يعود إلى مساواتها. وقد تشعر نفسه أنه إذا آمن بالله عزَّ وجلَّ ألجمها وكبحها عن كثير من شهواتها، فهي تعارضه في ذلك، وتغالطه، ولا تألو جهدًا في صرفه عنه إلى أسباب أخرى. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. [ص 49] (¬1) وأما قول المعلم: "وسن لنا التشبث بالأسباب"، وقوله: "تربية لأخلاقنا"، فإنه أصل آخر، حاصله: أنه كما جعل الله تعالى الأمور الدنيوية مبنية في الظاهر على الأسباب الحسية، سترًا لحجج الحق كما علمت، فإنه شرع لعباده أن يتشبثوا بالأسباب، وذلك لوجوهٍ: ¬

_ (¬1) الصفحتان (47، 48) وأكثر من نصف ص 49 مضروب عليها.

منها: أن الله عزَّ وجلَّ لو أغنى المؤمنين عن الأسباب لكان ذلك كشفًا لحجج الحق، وهو خلاف الحكمة كما علمت. ومنها: أن العمل بالأسباب تحت الإذن الشرعي كله خير موجب للكمال، بقدر ما فيه من المشقة، فتوسيع دائرة الأعمال تهيئة لأسباب الكمال. [ص 50] ومنها: أن الله تبارك وتعالى قد آتى العبد قدرة، وأمره أن يستعملها فيما ينفعه. فإن أحب أن لا يستعملها في مصالحه الدنيوية، فإن كان الباعث له على ذلك هو الإخلاد إلى البطالة، فالبطالة خلّة سوء، لا يرضاها الله تعالى لعباده الذين خلقهم ليكملوا. فإن كان مع ذلك يطلب حوائجه من ربه عزَّ وجلَّ فتلك حماقة، يعطل ما آتاه الله عزَّ وجلَّ، ويطلب ما عنده. وإن كان الباعث له هو التفرغ للصلاة والصيام فهو جهل. اسْعَ في مصالحك الدنيوية داخل الحدود الشرعية، حافظًا لحدود الله تعالى، مجتنبًا للحرام والشبهات، يكن لك أجران: أجر الساعي على نفسه، والعابد لربه. بل هي أجور كثيرة، لعل صلاة النافلة وصيامها لا تُعْشِرُها. بل إذا تشاغل عن السعي في ضرورياته الدنيوية بصلاة النفل وصيامه كان تاركًا لما أمر به، متشاغلًا بما لم يؤمر به، فلعله لا أجر له ألبتة. بل لعله لا يسلم من الإثم، وحسبك من ذلك أنه بدعة مخالف لما جرى عليه عمل النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، والراسخين في العلم ممن بعدهم. ومنها: أن في ذلك ضرب مثل للعباد. يقال لهم: إذا كان ربكم أجرى العادة على أنه لا تُنال المنافع الدنيوية إلا بالسعي لها، هذا مع هوان الدنيا عليه، فمن باب أولى أن تكون المنافع الأخروية لا تُنال إلا بالسعي لها، فاجتهدوا في العمل، ولا تغرنّكم الأماني.

واعلم أن الشريعة أبلغت في هذا الأمر حتى ألزمت المكلف إذا عجز عن السبب العادي أن يعمل ما يشبهه، وبينت أنه لا يستحق الإغاثة من الله عزَّ وجلَّ إلا بذلك. فمن هذا [ص 51] قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا كان جنح الليل أو أمسيتم فكُفُّوا صبيانكم ... وأغلقوا الأبواب، واذكروا اسم الله، فإن الشيطان لا يفتح بابًا مغلقًا، وأَوكُوا قِرَبَكم، واذكروا اسم الله، وخَمِّروا آنيتكم، واذكروا اسم الله ... ". وفي رواية: "فإن الشيطان لا يحُلّ سقاءً، ولا يفتح بابًا, ولا يكشف إناءً، فإن لم يجد أحدكم إلا أن يعرض على إنائه عودًا، ويذكر اسم الله، فليفعل" (¬1). ولا يخفى أن إغلاق الباب، وإيكاء السقاء، وعرض عود على الإناء، ليس بمانعٍ طبعي للشيطان، وإنما يمنعه الله عزَّ وجلَّ؛ لتعوذ المؤمن بذكر اسمه ومع ذلك شرط للإعاذة أن يعمل الإنسان ما يقدر عليه مما من شأنه أن يمنع في الجملة، وإن كان ليس بمانع طبعي للشيطان. ومن ذلك حديث: "إذا صلى أحدكم فليصلِّ إلى سترة، وليدنُ منها, لا يقطع الشيطان عليه صلاته" (¬2). وفيه: "إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئًا، فإن لم يجد فلينصب عصًا، فإن لم يكن معه عصًا، فليخطط خطًّا، ثم لا يضره ما مر أمامه" (¬3). ¬

_ (¬1) صحيح مسلم، كتاب الأشربة، باب الأمر بتغطية الإناء .. إلخ. [المؤلف]. (2012). (¬2) المستدرك (1/ 251). [المؤلف]. (922). (¬3) سنن أبي داود، كتاب الصلاة, باب الخط إذا لم يجد عصًا. [المؤلف]. (689).

وفيه: "إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحدًا يمر بين يديه، فإن أبى فليقاتله، فإن معه القرين". وفي رواية: "إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره ... " (¬1). أحاديث السترة وقطع الصلاة تدل أن المقصود من السترة منع الشيطان الجني من المرور. وإيضاح ذلك وبيان وجهه، له موضع آخر. والمقصود هنا: أن الجدار والعصا [ص 52] أمام المصلي ليس من شأنها أن تمنع الشيطان عن المرور منعًا طبيعيًّا، وإنما الذي يمنعه الله عزَّ وجلَّ بقدرته، فشرط الله عزَّ وجلَّ لمنعه أمرين: التعوذ، مع فعل الإنسان ما يقدر عليه مما من شأنه أن يمنع في الجملة، على نحو ما مرّ. ولهذا إذا تعوذ الإنسان ونصب السترة، ثم ترك إنسانًا يمرّ بين يديه مرّ الشيطان معه؛ لأن المصلي قد قصّر فيما يقدر عليه من منع المارّ. وهناك شواهد أخرى على هذا الأصل، وهو أن على الإنسان أن يسعى ويجتهد في جلب النفع، ودفع الضرر بالأسباب العادية أو ما يشبهها. فإذا فعل ذلك، والتجأ إلي ربه، أغاثه الله. وإن قصّر فيما يقدر عليه، لم يستحق أن يغيثه. وفيما ذكر كفاية. والله الموفق. وبقي أمر ثالث، لم ينبه عليه المعلِّم رحمه الله. وهو أن الله عزَّ وجلَّ إذا أظهر معجزة لنبيٍّ جعل لذلك النبي صلة بها, ليعلم الناس أنها معجزة له. فهذه ثلاثة أمور: 1 - الحجاب. 2 - بذل الوسع من الأسباب العادية. 3 - بيان أن هذا الخارق معجزة لهذا النبي. ¬

_ (¬1) صحيح مسلم، كتاب الصلاة، باب منع المار بين يدي المصلي. [المؤلف]. (506).

وقد ذكر المعلِّم لتثبيت ما أصّله شواهد، وذكر أن قصة الفيل نظيرها. قال: "الأول: ما وقع في غزوة بدر، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخذ حفنة من الحصباء، فاستقبل بها قريشًا، ثم قال: شاهت الوجوه. ثم نفحهم بها، وقال لأصحابه: شدّوا. فلم يبق كافر إلا شغل بعينه, كما جاء في سورة الأنفال: {وَمَا رَمَيْتَ [ص 53] إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17]. فجعل الله تعالى رمي النبي صلى الله عليه وآله وسلم سببًا ظاهرًا لما رماهم حتى شغل كل واحد منهم بعينه. فكان هناك رميان: رمي من النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأوه. ورمي من الله تعالى لم يروه، ولكن رأو أثره، ولذلك جاء النفي والإثبات معًا ... ". قال: "والثاني: ... في سفر الخروج (ص 9: 8 - 11) (¬1): ثم قال الرب لموسى وهارون: خذا ملء أيديكما من رماد الأتّون، وليُذَرِّه موسى نحو السماء أمام عيني فرعون، ليصير غبارًا على كل أرض مصر؛ فيصير على الناس، وعلى البهائم دماملَ طالعةً ببثور ... ". قال: "والثالث: ... في سفر الخروج (ص 10: 12 - 15): ثم قال الرب لموسى: مُدَّ يدك على أرض مصر لأجل الجراد، ليصعد على أرض مصر، ويأكل كلَّ عشب الأرض ... وأكل جميع عشب [الأرض] (¬2)، وجميع ثمر الشجر الذي تركه البرَد ... ". ¬

_ (¬1) في الأصل: "ص 5 ... "، والصواب ما أثبتنا من تفسير سورة الفيل. (¬2) ما بين الحاصرتين ساقط من تفسير سورة الفيل. وقد زدناه من الترجمة العربيّة للتوراة.

قال عبد الرحمن: هذه الشواهد لا تناسب الأصل الأول، وهو الحجاب، وإنما الحجاب ما يستر الحجة، فيشبّه على الناظر حتى يحقق النظر، ويخلص للحق، فتنكشف له بقدر إخلاصه واجتهاده. ورمي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالكف من الحصباء لا يستر تلك الحجة، إذ لا يتوهم عاقل أن رمي الإنسان بملء كفٍّ يكفي عادة لأن يبلغ إلى كل فرد من أفراد جيش العدو مع تباعد بعضهم، ثم يملأ عيونهم. ولا يتوهم عاقل أن ملء كفين من الرماد يذرّه رجل نحو السماء يكفي عادة لأن يصير غبارًا على أرض مصر كلها. ولا يتوهم عاقل أن مدّ الإنسان يده سبب [ص 54] عادي لمجيء الجراد. فالمناسب في هذه الشواهد إنما هو الأمر الثالث، وهو أن يعلم أن ذلك الخارق معجزة لذلك النبي، وقد يناسب الأمر الثاني وهو بذل الوسع في التسبب. فإن قلت: فإن المعجزات من حجج الحق، فكيف جاءت مكشوفة. قلت: أما المعجزات التي في هذه الشواهد فلا أراها مكشوفة، ولكن الحجاب فيها غير ما ظنه المعلَّم من الرمي باليد، والإشارة بها. وإنما الحجاب في قصة بدر هو توهم الاتفاق، فيقول الملحد: رمى محمَّد بملء يده من التراب والحصى، فصادف أن هبت ريح شديدة سفت التراب. وأما في قضيتي موسى، فهو ما كانوا يتوهمونه من السحر. ولكن ليس الخوارق كلها كذلك، بل منها ما يكون مكشوفًا لحكمة تقتضي ذلك، من ذلك ما يطلع الله تعالى النبي عليه وحده كإحياء الطير لإبراهيم عليه السلام، والإسراء والمعراج بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم. فلم يكن المقصود بذلك إقامة حجة حتى تقتضي الحكمة حجابًا،

وإنما المقصود تطييب نفس إبراهيم عليه السلام، وتطييب نفس محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم، وتكريمه. وذلك لا يدعو إلى الحجاب، بل ينافيه. وقد يحصل شيء من ذلك لغير الأنبياء تبعًا، كما شاهده الصحابة من البركة في الماء، والطعام؛ وما سمعوه من تسبيح الطعام، وحنين الجذع، وغير ذلك. وقد يكون منه ما في قوله تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة: 60]. ومن ذلك الآيات القاضية التي تقترحها الأمم المعاندة على أن يعاجلها العذاب [ص 55] إن لم تؤمن، فإنه لا يترك لهم مهلة للنظر، حتى تقتضي الحكمة حجابًا, ولو جعل حجاب لما حصل مقترحهم، فمن ذلك ما يروى أن قريشًا اقترحوا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبًا، فأوحى الله إليه: إن شئت أصبح الصفا ذهبًا، فإن لم يؤمنوا عذّبتُهم. فقال: لا، بل أنتظر بهم، أو كما قال (¬1). ومما يشبهه اقتراح الحواريين على عيسى نزول مائدة من السماء فقال الله تعالى: {إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 115]. ¬

_ (¬1) راجع مسند أحمد (1/ 242، 258) [2166، 2333]، والمستدرك (2/ 362) [3225، 3379]. [المؤلف].

ومن ذلك الآيات التي يقع بها العذاب، فإنها ليست لإقامة حجة، فيناسبها الحجاب. وقد تجتمع عدة أسباب كما في فلق البحر لموسى عليه السلام، قال تعالى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ} [الشعراء: 61 - 66]. فكان في فلق البحر تطييب لنفس موسى وهارون ومن معهما من المؤمنين، ونجاة لهم، وإقامة حجة على من كان في قوم موسى من المرتابين، وإقامة للحجة القاضية على فرعون وقومه وتهيئة عذاب لهم. [ص 56] ولعل وراء ما ذكرت أسبابًا أخرى تقتضي أن لا يكون دون المعجزة حجاب. والله أعلم. ولننظر الآن في قصة الفيل: الرمي في واقعة الفيل لم يكن المقصود منه إقامة حجة، لا على أهل مكة، ولا على الحبشة. أما أهل مكة فإنهم لم يُقصدوا بها، وكانوا مصدّقين بقدرة الله عزَّ وجلَّ، وحرمة البيت. وأما الحبشة فكانوا يعلمون قدرة الله تعالى، ويرى المعلَّم أنهم كانوا يعرفون حرمة البيت. ثم قد أقام الله تبارك وتعالى عليهم الحجة بحبسه الفيل، كما تقدم في رواية ابن عباس وغيره. قال ابن إسحاق: "فبرك الفيل، فضربوا رأسه

بالطَّبَرْزِين ليقوم فأبى، فأدخلوا محاجن لهم في مراقِّه، فبزغوه بها ليقوم فأبى. فوجهوه راجعًا إلى اليمن، فقام يهرول. ووجهوه إلي الشام، ففعل مثل ذلك. ووجهوه إلى المشرق، ففعل مثل ذلك. ووجهوه إلى مكة، فبرك. فأرسل الله عليهم الطير ... " (¬1). وقد ذكر ذلك في أشعارهم، وذكرها المعلم (¬2). منها قول أبي قيس: ومن صنعه يوم فيل الحبو ... ش إذ كلَّما بعثوه رَزَمْ محاجنُهم تحت أقرابه ... وقد شرَّموا أنفَه فانخرَمْ وقد جعلوا سوطَه مِغولاً ... إذا يمّموه قفاه كَلَمْ فولى وأدبر أدراجه ... وقدباء بالظلم مَن كان ثَمْ فأرسل من فوقهم حاصبًا ... فلفَّهم مثلَ لفِّ القَزَمْ تحضُّ على الصبر أحبارُهم ... وقد ثأجوا كثُؤاج الغنمْ [ص 57] وقول أبي الصلت أو ابنه أمية: إنَّ آياتِ ربَّنا ثاقباتٌ ... لا يماري فيهنَّ إلا الكفورُ حَبَسَ الفيلَ بالمغمَّس حتى ... ظلَّ يحبو كأنه معقورُ لازمًا حلقةَ الجِرانِ كما قُطْـ ... طِرَ من صخرِ كبكبٍ محدورُ (¬3) ¬

_ (¬1) سيرة ابن هشام بهامش الروض الأنف (1/). [المؤلف]. ط السقا (1/ 52 - 53). (¬2) زدت البيت الرابع والخامس من القطعة الأولى من السيرة، واتبعت رواية السيرة، وانظر الأشعار وشرح غريبها في الروض الأنف (1/). [المؤلف]. (¬3) في كتاب الحيوان 7/ 198: "قطِّر صخرٌ من كبكبٍ محدورُ".

وقول المغيرة بن عبد الله المخزومي: أنت حبستَ الفيل بالمغمَّسْ ... حبستَه كأنه مكردَسْ محتَبسٌ تزهق فيه الأنفسْ (¬1) وأنشد المعلِّم لطفيل: ترعى مذانبَ وسميًّ أطاع له ... بالجِزع حيث عصى أصحابَه الفيلُ (¬2) وفي "الصحيح" في قصة الحديبية: "وسار النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته، فقال الناس: حَلْ حَلْ، فألحَّتْ، فقالوا: خَلأَت القَصْواء. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ما خلأت القَصْواء، وما ذاك لها بخُلُق، ولكن حبسها حابس الفيل. ثم قال: والذي نفسي بيده لا يسألونني خُطَّةً يعظَّمون فيها حرماتِ الله إلا أعطيتُهم إياها. ثم زجرها فوثبت .... " (¬3). وفي "الصحيح" من حديث أبي هريرة: "أنه عام فتح مكة قتلت خزاعة رجلاً من بني ليث بقتيل لهم في الجاهلية، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلّط عليهم رسوله ¬

_ (¬1) رواية الأزرقي (156): "بمحبس". (¬2) في الأصل: "مذالف وسمي"، وكذا في تفسير سورة الفيل عن كتاب الحيوان طبعة الحميدية. وهو تحريف صوابه ما أثبتناه من ط هارون 7/ 197 والأزرقي (155). وفي الديوان (56): "منابت". (¬3) صحيح البخاري، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد ... إلخ. [المؤلف]. (2731، 2732).

والمؤمنين ... " (¬1). وقد تقدم في فصل (ج) ما روي عن وهب: "كانت الفيلة معهم فشجُع منها قيل فحُصِبَ". وهذا يقتضي أن الفيلة كلها امتنعت عن التقدم إلى مكة إلا واحدًا منها فحصب، وقد تقدم هناك أنها كانت ثلاثة عشر فيلاً. [ص 58] فحبس الفيل على الصفة المذكورة آيةٌ، أقام الله تعالى بها الحجة على أبرهة، تؤكد له حرمة البيت ومكانه من ربه عزَّ وجلَّ. فلو اعتبر بها ورجع بجيشه عن قصد البيت لما أصابهم العذاب، ولكن لما أصرّوا رمتهم الطير، كما بينته القصة والأشعار، من أن الرمي كان بعد حبس الفيل بمهلة. والسورة تدل على ذلك، كما يأتي في تفسيرها إن شاء الله تعالى. فاتضح بما تقدم أن الرمي لم يكن لإقامة حجة، وإنما كان آية عذاب، ومثل ذلك لا يستدعي الحجاب، كما تقدم. فإن قيل: فإن فيه إقامة حجة على من تبلغه القصة، وهو لا يصدق بقدرة الله تعالى، أو بحرمة البيت. قلت: الحجاب في حق هؤلاء أنهم لم يشاهدوا الواقعة، فيمكنهم التكذيب، وإنكار التواتر، وأن يتأولوا، كما فعل الناس بفلق البحر وغيرها. وقد فعلوا ذلك بهذه الآية نفسها، كما ترى، ويأتي له مزيد. ولم يكن المقصود مما فعل الله تعالى بأصحاب الفيل إغاثة أهل مكة حتى تستدعي الخارقة تسببًا منهم، وإنما المقصود من ذلك حفظ البيت عن ¬

_ (¬1) صحيح البخاري، كتاب الديات، باب من قتل له قتيل فهو بخير النظرين [6880]. صحيح مسلم، كتاب الحج، باب تحريم مكة [1355]. [المؤلف].

أن يهان، وعقوبة الحبشة، والإرهاص للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. فإنه بُعث بتعظيم حرمات البيت والحرم، وتطهيره عما دنسه به المشركون من رجس الأوثان. وكان الله تعالى يرشّح عرب الحجاز للقيام بأعباء الإِسلام، فاقتضت حكمته أن يبقَوا قَراحًا لم تطأهم ذِلّة، ولم تجأهم مَلَكة؛ لأن ذلك شرط عادي لقيامهم بالإِسلام. ولهذا لما كان بنو إسرائيل على غير هذه الصفة لم يصلحوا لحمل الدين حتى حبسوا أربعين سنة في التِّيه، فنشأ منهم قرن صالح. ولم يكن أهل مكة حين واقعة الفيل دون الحبشة في الكفر، فإن الحبشة نصارى أهل كتاب، وأهل مكة أهل شرك وأوثان. ولم يكن ذلك الخارق معجزة ولا كرامة لأهل مكة، أو لواحد من أحيائهم حتى يحتاج إلى مباشرة منهم، كما في رمي النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر، ورمي موسى بالرماد، ومدّ يده للجراد. فرمي الحبشة خارق لا يستدعي رميًا من أهل مكة ألبتة، فاندفع ما حاوله المعلِّم رحمه الله. ثم أسوق عبارته في تطبيق واقعة الفيل على الشواهد الثلاثة التي ذكرها، وقد تقدمت. [ص 59] طبقها على الشاهد الأول، وهو رمي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في يوم بدر بقوله: "وكذلك في هذه السورة كانت قريش ترميهم بحجارة، ينفحونهم بها عن الكعبة، فجعلها الله حجابًا لما أرسل على أصحاب الفيل من الحجارة من السماء، وكما نسب الله تعالى الرمي في بدر

إلى نفسه في قوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17]، فهكذا ها هنا نسب إلى نفسه أنه جعلهم كعصف مأكول. فلا شك أنها كانت من الآيات البينات، فإن منافحة قريش كانت أضعف من أن يفُلَّ هذا الجيش، فكيف يحطِّمهم حتى صاروا كعصفٍ مأكول؟ ". قال عبد الرحمن: قد علمت أن فعل الله تعالى بأصحاب الفيل لا يحتاج إلى حجاب. وأزيدك ههنا أنه كان هناك مانع من الحجاب والتسبب والمباشرة، بل مانعان: الأول: أنه لو قدر الله تعالى أن يكون منهم رمي، لكان ظاهر الأمر أنّ الله عزَّ وجلَّ نصرهم، وأعانهم، وأمدّهم بآية من آياته، وفي ذلك ما يُشعرهم بأنهم على حقًّ يرضاه الله عزَّ وجلَّ ويحبّه. وإذًا لقالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم - حين دعاهم إلي التوحيد، ونبذ الأوثان، وبيَّن لهم ما هم عليه وآباؤهم من الضلال والبهتان -: إن الله تبارك وتعالى أيَّدنا ونصرنا وأعاننا إذ رمينا أصحاب الفيل شيئًا من الرمي، فكثَّره الله تعالى حتى هزم ذلك الجيش العظيم، وحطّمه وكنا حينئذٍ على ما نحن عليه الآن من عبادة الأوثان وغيرها، فلولا أنَّ ذلك مرضي عند الله سبحانه لما صنع بنا ذلك. فلما لم يقدر الله عزَّ وجلَّ رميًا منهم، بل قدر - على ما جاء في الروايات - تأمين أبرهة لهم، ونكولهم عن القتال [ص 60] علموا أن الله عزَّ وجلَّ إنما فعل بأصحاب الفيل ما فعل حمايةً لبيته. وليس في ذلك ما يدل على رضا الله تعالى بشركهم، فلم يمكنهم أن يحتجوا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم. المانع الثاني: أن معيشة أهل مكة قائمة على تجارتهم إلى اليمن والحبشة والشام، كما هو مبين في تفسير سورة قريش، فلو وقع منهم رمي

وقتال لأبرهة لانقطعت تجارتهم من تلك الجهات، كما تقدم في فصل (ج). ولم يشأ الله عَزَّ وَجَلَّ قطع متاجرهم؛ لأنه قد أجاب فيهم دعوة خليله إبراهيم عليه السلام، وهو يُعِدُّهم لبعثة محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم فيهم، ويريد أن يمتنَّ عليهم بذلك، كما جاء في سورة قريش. لهذه العلاقة - والله أعلم - أعقب الله تعالى هذه السورة بسورة قريش. وأما قول المعلم: "وكما نسب الله تعالى الرمي إلى نفسه ... "، فهذه محاولة فاشلة. يخاطب الله تعالى رسوله بقوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17]، فيصرح له بأن الأثر لم يكن لرميه، مع أنه صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون معه يعلمون أنه لا حول لهم ولا قوة إلا بالله، فكيف يعقل مع هذا أن يكون أهل مكة رموا الحبشة، فأمدّهم الله تعالى برمي من عنده، ثم يذكرهم بذلك بعد تكذيبهم لرسوله وكتابه، وفعلهم العظائم؛ فيذكر رميهم مثبتًا غير منفي، ويطوي ذكر رميه، فلا يصرح به؟ وهل هذا إلا عكس الحكمة؟ فإن الأمر الواضح الذي لا يخفى أن يقال: إذا اقتضت الحكمة التصريح بنفي رمي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإثبات رمي الله تعالى لإثبات أنه المؤثر في خطاب النبي صلى الله عليه وآله سلم، مع أنه - والمؤمنون معه - لا يرتاب في ذلك، فبالأولى والأحرى [ص 61] أنه إذا كان من أهل مكة رمي لأصحاب الفيل أن يصرح الله تعالى لهم بنفي رميهم، وإثبات رميه؛ فإنهم مشركون. فإن قيل: فقد أشار إلى فعله بقوله: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ}، كما ذكره المعلم.

قلت: فإنّ في كلامه ما يردّ هذا، وأنه يرى أن جعلهم كعصف مأكول إنما هو نتيجة لأكل الطير. قال في الشاهد الثالث: "فكذلك أكلت هذه الطيور جثث تلك الملحدين فكانوا كعصف أكلته جراد موسى". فإن سلمنا أن هناك إشارةً ما، فهي إشارةٌ ضعيفةٌ؛ لاحتمال أن يكون المعنى: جعلهم كذلك برميكم إياهم، فإن المشركين كانوا مما يقولون نحو ذلك. تقاتل القبيلة عدوها فتغلبها، وتكثر فيها القتل، وتهزمها، ثم تقول الغالبة: قد قتل الله عدونا، وهزمهم، وأهلكهم. فمن ذلك قول بعض تيم الرباب لعبد يغوث، وقد قاتلوا قومه، فأثخنوا فيهم، وأسروه: جمعتَ أهل اليمن، وجئتَ لتصطلمنا، فكيف رأيتَ الله صنع بك؟ (¬1). ومع ذلك فقد تقدم أن التصريح بالنفي في رمي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يبطل أن يكتفى في رمي المشركين - إن كان - بالإشارة. وذكر المعلِّم في الشاهد الثاني أثر الرماد الذي ذرَّه موسى عليه السلام، وفيه: "فيصير على الناس وعلى البهائم دمامل طالعة ببثور". ثم طبق عليها قصة الفيل: "فهكذا كان الأثر من الحجارة على أصحاب الفيل، فروي عن عكرمة أنه من أصابته أصابه جدري. وهكذا قول ابن عباس وسعيد بن [ص 62] جبير ولكن دمامل المصريين لم تكن مهلكة ... ". قال عبد الرحمن: قد تقدم قول عكرمة، ومن وافقه في شأن الجدري، وقول ابن عباس في الحكّة، ولم أجد ذلك عن سعيد بن جبير. ثم لا يلزم من تشابه الآيتين من وجه أو وجهين تشابههما من جميع الوجوه. فكما اختلفت الآيتان في أن الذي نثره موسى رماد، والذي جعله الله تعالى على ¬

_ (¬1) الأغاني (15/ 72). [المؤلف]. ط الثقافة 16/ 259.

أهل مصر غبار؛ وأثره فيهم دماميل غير مهلكة، والذي رمى به قريش - على دعوى المعلِّم - حجارة، والذي سلطه الله على أصحاب الفيل حجارة، وأثرها فيهم جدري مهلك = فما المانع من اختلافها في أنه كان من موسى ذرو للرماد، ولم يكن من أهل مكة فعل ما، وكان جعل الغبار بغير واسطة، ورمي أصحاب الفيل بواسطة الطير؟ وقد علمت أن حال موسى تناسب أن يكون منه فعل، ليعلم أن ما يكون عقب ذلك معجزة له، وللتسبب؛ وأن حال أهل مكة على خلاف ذلك. وذكر في الشاهد الثالث ما وقع في آية موسى من مدّ يده بعصاه، وخروج الجراد، وأكله ما تركه البرد من العشب والثمر، ثم دعاء موسى في دفع الجراد: "فردَّ الربُّ ريحًا غربيّة شديدة جدًّا، فحملت الجراد وطرحته إلى البحر الأحمر". ثم طبق المعلِّم آية الفيل عليها بقوله: "فهكذا جاءت الطير من جهة البحر، ولم ير مثلها ... وكما أكلت الجراد مما حطّمه البرد، فكذلك أكلت هذه الطيور جثث تلك الملحدين، فكانوا كعصف أكلته جراد موسى". قال عبد الرحمن: ليس من الواجب في آيات الله عزَّ وجلَّ أن تتشابه صورها، بل قد تتضاد، كأن تكون آية فيها إحياء ميت، وأخرى فيها إماتة حي. وقد تتشابه من وجهٍ، وتختلف من غيره، كما تقدم [ص 63] في آية الرماد مع آية الفيل. فكذلك هنا لا يلزم من مدّ موسى عليه السلام يده بعصاه في تلك أن يكون هنا فعل من أهل مكة. وقد علم مما تقدم أن الحكمة مختلفة، فهناك اقتضت الحكمة أن يكون من موسى عليه السلام فعل، وهنا اقتضت أن لا يكون من أهل مكة فعل، على ما سلف.

وكذلك لا يلزم من أكل الجراد ما أبقاه البرد من عشب مصر وغيرها أن تأكل الطير جثث من أهلكه الله تعالى من أصحاب الفيل بالحجارة، ولا أن يكون ما شبّه به ما صار إليه حال أصحاب الفيل من عصف مأكول أريد به ما أكلته جراد موسى. وبالجملة، فإن كان في كلام المعلِّم رحمه الله في هذا الفصل استدلال، ففيما يتعلق بالحجاب، وما معه، وقد علمت الجواب. وأما ما بقي فإنما هي صناعة شعرية قد علمت حالها. ويلحق بذلك ما ذكره المعلِّم رحمه الله تعالى مما وقع في مكاشفات يحيى، مما يراه المعلِّم رحمه الله - بحقٍّ - بشارةً بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه: "ثم رأيت السماء مفتوحة، وإذا فرس أشهب، والجالسُ عليه يُدعى أمينًا وصادقًا، وبالعدل يحكم ويحارب، وعيناه كلهب نار، وعلى رأسه تيجان كثيرة، وله اسم مكتوب ليس يعرفه إلا هو، وهو متسربل بثوب مغموس بدم ... وجنود السماء كانوا يتبعونه على خيل بيض، لابسين بزًّا أبيض نقيًّا. ومن فمه يخرج سيفٌ ماضٍ، لكي يضرب به الأمم، وهو سيرعاهم بعصا من حديد ... ورأيت ملاكًا واحدًا واقفًا في الشمس، فصرخ بصوت عظيم قائلاً لجميع الطيور الطائرة في وسط السماء: هلمَّ اجتمعي إلى عشاء الله العظيم، لكي تأكلي لحوم ملوك، ولحوم قواد، ولحوم أقوياء، ولحوم خيل، [ص 64] والجالسين عليها، ولحوم الكلّ، حرًّا وعبدًا، وصغيرًا وكبيرًا" (¬1). قال عبد الرحمن: الأنسب بسياق الكلام أن يكون ذلك العشاء مما ¬

_ (¬1) تفسير سورة الفيل (28 - 29).

يقتله المبشَّر به في سبيل الله، وقد كان كذلك. فكم قتل المسلمون في محاربتهم فارس والروم والترك وغيرهم من ملوك وقواد، وخيل وفرسان، أكلتهم طيور السماء! وذلك أنسب بالعشاء العظيم، فإنهم أضعاف أضعاف من هلك من أصحاب الفيل، وأنسب بجميع طيور السماء، فإن الطير الأبابيل كانت من نوع خاص لم يعرفه العرب. على أننا قد بينا أنه لا مانع أن يكون الله عزَّ وجلَّ أطعم الطير الأبابيل من لحوم صيدها, ولم يصرح بذلك في القرآن والروايات؛ لأنه في نفسه أمر عادي. فإن ثبت ذلك لم يكن فيه ما ينفي ما دل عليه الكتاب والرواية, واتفق عليه الناس من رمي الطير. الأمر الثالث (¬1) من البواعث على إنكار رمي الطير: أن بعض فلاسفة الإفرنج وكُتَّابهم وأذنابهم من الملحدين ينكرون الخوارق، ويسخرون منها، ويعدّون ذكرها في القرآن برهانًا على اشتماله على الكذب. وعلماءُ المسلمين شديدو الغيرة على القرآن، والحرص على تبرئته عن المطاعن، فقد يحمل بعضَهم ذلك على أن يتأول بعض النصوص القرآنية، ويحمله على معنى لا ينكره القوم. ومتى لم يفحش التأويل فالخطأ فيه - إن شاء الله تعالى - مغفور، والباعث عليه أمرٌ محمودٌ؛ إلا أن الحقَّ أحقُّ أن يتبع، وأعزُّ من أن يُضطرَّ المنتصر له إلى ترك بعضه. فالواجب على أهل العلم أن يبحثوا عن مستند القوم في إنكار الخوارق، فيهدموه بالحجة والبرهان. [ص 65] فأما ترضّيهم بتأويل بعض النصوص، فخطلٌ من الرأي. ¬

_ (¬1) الأمر الثاني تقدّم في (ص 60).

{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 120]. {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217]. لست أقول: إن المعلِّم رحمه الله تعالى ممن يمكن أن يختار تأويلاً يعلم ضعفه، ولكن قد لا يبعد أن تكون شدة غيرته على القرآن، وحرصه على دفع الطعن عنه، ممّا قرّب ذاك التأويل إلى فهمه. ولذلك نظائر لا تنكر، فإننا نجد في علماء المذاهب الفقهية جماعة من الأكابر لا يُرتاب في علمهم ودينهم وورعهم، ومع ذلك ترى في انتصارهم لمذاهبهم العجب العجاب. فأما المتكلمون في العقائد فشأنهم أوضح. فإن قلت: أما المعلِّم رحمه الله تعالى ففي كلامه ما يرد هذه التهمة، فإنه وإن أنكر رمي الطير، فقد أثبت ما هو أعظم، وهو الرمي من السماء. قلت: أنا لم أجزم باتهامه رحمه الله، وإنما مقصودي تحذير أهل العلم من التساهل في هذا المعنى. على أنه قد يقال: يمكن أن يكون رأى إثبات الرمي من السماء أخفَّ من إثبات رمي الطير؛ لأنه إذا أثبت رمي الطير كان منصوصًا بالقرآن، فالمنكرون له يطعنون في القرآن. وأما الرمي من السماء فإنما [ص 66] قاله المعلِّم رحمه الله برأيه، وليس منصوصًا في القرآن؛ علمًا أن منكري الخوارق لا ينكرون أن تمطر السماء رملاً وحجارةً، وهو عندهم أمر عادي، ففي "دائرة المعارف" للبستاني تحت عنوان "الشهب الساقطة أي النيازك" ما لفظه:

"وقد نشرت جريدة إيزان الفلكية جدولاً للرجم ... قالت: سقط أحدها في لوديانا ... وسقط مجموع كثير من رجم حجرية، بلغ عددها (1300) حجر، ثقل واحد منها (160) ليبرة، وآخر (60) ليبرة، في بادوا سنة (1510 ب. م.). وانهمرت أمطار كبريتية ... وأمطار نارية في كوسنوى في 4 ك 1 (ديسمبر) سنة (1717)، وأخرى من الرمل دامت (15) ساعة في الأتلانتيك في 6 نيسان (1719)، وأمطار شديدة من الحجارة في آدن في 24 تموز (يوليو) سنة (1790)، وفي فرنسا في 15 أيار (مايو) سنة (1864) (¬1). هذا، وأساس الإلحاد إنما هو الارتياب في الله وملائكته ورسله، ومن شأن الخوارق أن تدفع هذا الارتياب، وهي الدليل العام على نبوة الأنبياء، ولا يعرف السواد الأعظم سواه. فمحاولة تأويلها مع أنه باطل في نفسه فهو من أعظم ما يروِّج الإلحاد، فعلى العالِم أن لا يرتكب هذه المفسدة العظيمة، لمصلحة متوهمة، وهي تخفيف سخرية الملحدين. وقد قلتُ: ومَن يَرَ نصرَ الحقِّ في هَدْمِ بعضِه ... فذاك أضرُّ من خَذُولٍ ومن خَصْمِ ويُوشِكُ أن يختارَ تحطيمَ أُسِّه ... فيا لكَ تشييدًا أضرَّ مِنَ الهَدْمِ [ص 67] (ح) استنبط المعلِّم رحمه الله مما اختاره من رمي العرب لأصحاب الفيل مناسبةً لرمي الجمار، وصاغ ذلك صياغة تصلح أن تكون استدلالاً على ما اختاره، قال: "قد دلّت الأمارات الكثيرة على أن رمي الجمار بمنى كان ¬

_ (¬1) دائرة المعارف للبستاني (10/ 607). [المؤلف].

تذكرة لرمي أصحاب الفيل، ولكن الروايات الضعيفة ضربت أسدادًا دونه" (¬1). ثم ذكر بعض الروايات، ثم قال: "ولم أجد في صحاح الأخبار ذكرًا في سبب سنة رمي الجمار، فلو ثبت فيه شيء من طريق الخبر لأخذنا به، وقرّت به العينان، ولكنه لم يثبت، وأمرُ الدين ليس بهيّن، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "كفى بالمرء كذبًا أن يُحدِّثَ بكل ما سمع" (¬2). فعمدنا إلى طريق الاستنباط، فإن المستنبط من الصحيح الثابت أولى بالصواب من الصريح الذي لم يثبت". قال عبد الرحمن: أما الأمارات، فستأتي. وأما الروايات فإنه ذكر بعضها، وكأنه لم يقف على الروايات الجيدة. فمنها: ما أخرجه سعيد بن منصور في سننه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن رمي الجمار فقال: "الله ربكم تكبرون، وملة أبيكم إبراهيم تتبعون، ووجه الشيطان ترمون" (¬3). وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا حماد بن سلمة عن أبي عاصم الغنوي عن أبي الطفيل قال: قلت لابن عباس: يزعم قومك ... قلت: يزعم قومك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد سعى بين الصفا والمروة، وأن ذلك سنة؟ قال: صدقوا، إن إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - لما أري المناسك، عرض له شيطان عند المسعى [ص 68] فسابقه، فسبقه إبراهيم ثم انطلق به جبريل عليه السلام حتى أتى به منى، فقال: مناخ الناس هذا. ثم انتهى إلى جمرة العقبة، فعرض له ¬

_ (¬1) تفسير سورة الفيل (35). (¬2) أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه (5). (¬3) حاشية إيضاح المناسك لابن حجر (177). [المؤلف].

شيطان، فرماه حتى ذهب. (ثم أتى به) (¬1) إلى الجمرة الوسطى، فعرض له شيطان، فرماه بسبع حصيات حتى ذهب. ثم أتى الجمرة القصوى، فعرض له شيطان، فرماه بسبع حصيات حتى ذهب. ثم أتى به جمعًا، فقال: هذا المشعر الحرام، ثم أتى به عرفة فقال: هذه عرفة ... " (¬2). قال عبد الرحمن: أبو الطفيل صحابي، وأبو عاصم الغنوي وثَّقه ابن معين، وحماد بن سلمة إمامٌ، والحديث أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه"، كما يعلم من "فتح الباري" (¬3). وأخرجه الإِمام أحمد في مسنده من طرق عن حماد، زاد بعد ذكر الجمرة الوسطى: "وثم تلَّ إبراهيمُ إسماعيلَ للجبين ... " فذكر القصة، ثم قال: "قال: ثم ذهب به جبريل إلى الجمرة القصوى، فعرض له الشيطان، فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ... " (¬4). ¬

_ (¬1) الزيادة مني، والظاهر أنها سقطت، أو نحوها من الأصل. [المؤلف]. في المطبوع: "فرماه بسبع حصيات حتى ذهب به إلى الجمرة ... ". (¬2) مسند الطيالسي (ص 351). [المؤلف]. (2697). (¬3) كتاب الحج، باب ما جاء في السعي بين الصفا والمروة. [المؤلف]. (3/ 503). قال الحافظ ابن حجر: "وروى ابن خزيمة والفاكهي من طريق أبي الطفيل قال: سألت ابن عباس عن السعي، فقال: لما بعث الله جبريل إلى إبراهيم ليريه المناسك عرض له الشيطان بين الصفا والمروة، فأمر الله أن يجيز الوادي" قلت: لم أجد ذكر المناسك وعرض الشيطان لإبراهيم في الحديث الذي رواه ابن خزيمة من طريق أبي الطفيل (2779). نعم ذكر هذا في حديث آخر من طريق عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس (2967) وسينقله المصنف من المستدرك. (¬4) مسند أحمد (1/ 297 و298). [المؤلف]. (2707).

قال عبد الرحمن: يظهر لي أن قوله في هذه الرواية: "ثم تَلَّ إبراهيمُ ... " إلى آخر ما يتعلق بالذبح جملة معترضة، كأنه قال: "وهناك كان في وقت آخر كيت وكيت". فتعليم المناسك كان في وقت غير وقت الابتلاء بالذبح، إما قبله بمدّة وإما بعده بمدة. والذي يدلّ على ذلك بقية الروايات مع ما ثبت في "الصحيح" أن إبراهيم عليه السلام عقب إتيانه بإسماعيل وأمه - وإسماعيلُ طفلٌ - دعا بقوله: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ...} [إبراهيم: 37]. [ص 69] وفي القصة تردد أمّ إسماعيل بين الصفا والمروة، وأن ذلك مبدأ السعي، وفيها أن إسماعيل كبر وتزوج، وأن إبراهيم جاءه ولم يجده ثم فارق إسماعيل زوجته، ونكح أخرى، فجاء إبراهيم فلم يجده، ثم بعد مدة جاء إبراهيم وبنى البيت (¬1). ففي هذه القصة أن البيت كان محرمًا، مشروعًا احترامه من قبل مجيء إبراهيم بإسماعيل، وأن بعض المناسك تجدد بعد ذلك كالسعي، وأن إبراهيم إنما بنى البيت بعد أن صار إسماعيل رجلاً. فتعليم المناسك يمكن أن يكون عند مجيء إبراهيم بإسماعيل، أو قبل ذلك، ويمكن أن يكون تأخر إلى بناء البيت، والابتلاء بالذبح كان بين ذلك. وههنا دليل على أن تعليم المناسك إنما كان بعد بناء البيت، وهو قول الله تبارك وتعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ¬

_ (¬1) راجع صحيح البخاري، كتاب الأنبياء، باب قوله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا}. [المؤلف]. (3364).

وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 127 - 128]، فقولهما: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} يدل أنهما لم يكونا قد علماها. والله أعلم. وعلى كل حال، فليس في القصة أن تعرض الشيطان لإبراهيم كان ليصده عن الذبح، وإنما المفهوم منها أنه تعرض له ليصده عن معرفة المناسك، والإتيان بها. وهذا كما تعرض لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو يصلي، ليقطع عليه صلاته (¬1). فأما ما جاء في بعض روايات الابتلاء بالذبح أن الشيطان تعرض لإبراهيم، فلم أجده من وجه يثبت. فإن صحّ فهي قصة أخرى غير هذه. والله أعلم. وقد روي الحديث من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس، أخرجه الحاكم في "المستدرك" من طريق أبي حمزة عن عطاء بن السائب عن سعيد، ولفظه: "جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، [ص 70] فذهب به ليريه المناسك، فانفرج له ثبير، فدخل منى، فأراه الجمار، ثم أراه عرفات، فنبغ الشيطان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عند الجمرة، فرمى بسبع حصيات حتى ساخ. ثم نبغ له في الجمرة الثانية، فرماه بسبع حصيات حتى ساخ. ثم نبغ له في جمرة العقبة، فرماه بسبع حصيات حتى ساخ، فذهب". قال الحاكم: "صحيح الإسناد". وقال الذهبي: "صحيح" (¬2). ¬

_ (¬1) راجع صحيح البخاري، أواخر كتاب الصلاة، باب ما يجوز من العمل في الصلاة 1210 وصحيح مسلم، كتاب الصلاة، باب جواز لعن الشيطان في أثناء الصلاة. [المؤلف]. (541). (¬2) المستدرك (1/ 477). [المؤلف]. (1754).

وأخرجه الإِمام أحمد من طريق حماد عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال "إن جبريل ذهب بإبراهيم إلى جمرة العقبة، فعرض له الشيطان، فرماه بسبع حصيات فساخ. ثم أتى الجمرة الوسطى، فعرض له الشيطان، فرماه بسبع حصيات، فساخ. ثم أتى الجمرة القصوى، فعرض له الشيطان، فرماه بسبع حصيات، فساخ. فلما أراد إبراهيم أن يذبح ابنه إسحاق ... " (¬1). قال عبد الرحمن: عطاء بن السائب اختلط بأخرة، وهذا من ذاك. فإنه جعل في الرواية الأولى الواقعة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمعروف أنها لإبراهيم عليه السلام. وذكر في الثانية أن الذبيح إسحاق، والصحيح أنه إسماعيل. وعكس فيهما ترتيب الجمرات، فبدأ بالقصوى، وبقية الروايات تعبداً بجمرة العقبة. فإنما يحتج من روايته بما يوافق بقية الروايات. والله أعلم. [ص 71] وأخرج الحاكم في "المستدرك" الحديث من طريق سالم بن أبي الجعد عن ابن عباس رفعه قال: "لما أتى إبراهيم خليل الله المناسك عرض له الشيطان عند جمرة العقبة، فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض. ثم عرض له عند الجمرة الثانية، فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض. ثم عرض له عند الجمرة الثالثة، فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض. قال ابن عباس: الشيطان ترجمون، وملة أبيكم تتبعون". قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ¬

_ (¬1) مسند أحمد (1/ 306). [المؤلف]. (2794).

واقتصر الذهبي على علامة مسلم (¬1). والحديث أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه"، وغيره (¬2). قال عبد الرحمن: الحديث مصحح كما ترى، وله طرق وشواهد، وهو المشهور بين أهل العلم والعامة إلى زماننا هذا، والنظر لا يأباه على ما يأتي، فلا ينبغي الإعراض عن هذا كله إلى استنباط مدخول. والله أعلم. أما الأمارات التي أشار إليها المعلِّم رحمه الله، فذكر أربعًا: الأولى: أنه لم يجد في أشعار الجاهلية ذكرًا لرمي الجمار، قال: "فالأقرب أنه أمر جديد، ولم يكن إلا بعد واقعة الفيل. وأبقاه الإِسلام لما فيه تذكار نعمة عظيمة، وآية بينة ... " (¬3). [ص 72] الثانية: أن أصحاب الفيل رُمُوا بموضع رمي الجمرات، واحتجَّ بقول نفيل - وهو ممن شهد الوقعة -: رُدَينةُ لو رأيتِ ولَنْ تَرَيه ... لدى جَنْبِ المحصَّبِ ما رأينا قال: "وفي "لسان العرب": قال الأصمعي: المحصب حيث يرمى الجمار، وأنشد: (أقام ثلاثًا بالمحصَّب من منى) ... ونجد هكذا في قول عمر بن أبي ربيعة: (نظرتُ إليها بالمحصَّب من منى) ... " (¬4). ¬

_ (¬1) المستدرك (1/ 466). [المؤلف]. (1713). (¬2) راجع منتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد (2/ 399). [المؤلف]. وانظر: صحيح ابن خزيمة (2967)، والمعجم الكبير (12291 - 12293). (¬3) تفسير سورة الفيل (36). (¬4) تفسير سورة الفيل (36).

الثالثة: مناسبة اسم الجمرة، قال: " .... الجمرة: اسم لجماعة مستقلّة لم تنضمَّ إلى أحد من القبائل، لاعتمادها على قوتها وبأسها. فعلى هذا نقول: إن جيش أبرهة كانت أولى بهذا الاسم، فإنها جاءت مخالفة لجميع العرب، ولم تنضمّ إلى أحد من القبائل، والجمرات عند منى لما كانت علامة لهم سُمِّيت بذلك الاسم" (¬1). الرابعة: أنه روي أن العرب رجموا قبر أبي رِغال, لأنه كان دليل أصحاب الفيل. قال: "فهذا نظير رجم أصحاب الفيل، وحمل الأمور على النظائر أولى. وإنما تُرِك رَجمُ قبر أبي رِغال لأن الإِسلام ترفّع عن رجم القبور ... " (¬2). قال عبد الرحمن: كلام المعلِّم رحمه الله تعالى في توجيه هذه الأمارات مبسوط، فمن شاء فليراجعه في رسالته، وإنما لخصت ما لا بدَّ منه، ودونك الجواب: أما الأمارة الأولى: فهي أمارة ضعيفة، لا تصلح لبناء هذا الأمر العظيم المخالف للحجج الواضحة، على أنَّ في بيت نفيل - إن صح بلفظ: "لدى جنب المحصَّب"، وأن المراد بالمحصّب موضع رمي الجمار - ما يهدم هذه الأمارة. فإنه قاله في واقعة الفيل، إذ كان شاهدها، [ص 73] فأطلق حينئذٍ على موضع الجمرات اسم المحصب، والمحصَّب في الأصل مأخوذ من التحصيب، إما اسم مكان، أي المكان الذي يحصَّب فيه، وإما اسم مفعول، أي المكان الذي يحصّب. والتحصيب في المكان هو الحصب المتكرر فيه، ¬

_ (¬1) تفسير سورة الفيل (39). (¬2) تفسير سورة الفيل (40).

والحصب هو الرمي بالحصباء، وتحصيب المكان هو حصبه كثيرًا، أي إلقاء الحصباء فيه، وفرشه بها، كما في أثر عمر أنه أمر بتحصيب المسجد (¬1). والأول هو المتعين هنا, لأنه لم ينقل أن الناس نقلوا الحصباء إلى موضع الجمار، وفرشوه بها, ولا يظهر غرض لذلك. فالمحصب اتفاقًا اسم مكان حقيقي، فليكن اسم مكان صناعيًّا، لا اسم مفعول. وعبارة الأصمعي واضحة في ذلك، إذ قال: "المحصَّب حيث يُرمى الجمار" إذ الرمي هو الحصب. فثبت بهذا أن رمي الجمار كان معروفًا قبل واقعة الفيل، حتى اشتهر اشتقاق اسم المكان منه، وصار علمًا مشهورًا، أو كالعلم، فاستعمله نفيل. فإن قلت: فقد ذكروا أن الأبطح، وهو خيف بني كنانة يسمى "المحصب" أيضًا، وأنه سمي بذلك لكثرة الحصباء في أرضه. قلت: لا أعرف لهذا وجهًا، والشيء إذا كثر بالمكان إنما يشتق له اسم على وزن مَفْعَلَة، كما قالوا: مأسدة، ومسبعة، ومبطخة. بل وقالوا: أرض محصبة، أي كثيرة الحصباء. فأما أن يشتق له منه اسم بوزن مُفعَّل، فلا أعرفه. وإطلاقهم على الأبطح "المحصَّب" يحتمل وجوهًا أخرى: منها: أن يكون هذا الاسم في الأصل للموضع الذي يحصب فيه الجمار، ويدخل ما قارب موقع الجمار، كالأبطح. ثم لما اختصّ [ص 74] الأبطح باسم الأبطح، وخيف بني كنانة، توهم أن المحصب اسم مشترك للموضعين. ¬

_ (¬1) انظر: النهاية في غريب الحديث (1/ 393).

ومنها: أن يكون أطلق على الأبطح "المحصب" تشبيهًا بالموضع الذي تحصب فيه الجمار في معنى غير الحصب، كما أطلق على النساء "القوارير" (¬1) تشبيهًا بالقوارير في معنى غير القرار. فإن أبيت إلا اتباع من قال: إن الأبطح سمي محصبًا لكثرة الحصى فيه، فأنت وذلك، لكنه اشتقاق على خلاف القياس، فلا يجوز أن يحمل عليه تسمية موضع حصب الجمار، بل يتعين حمله على اسم المكان من التحصيب؛ لأن ذلك على وفق القياس. وقد سلك ياقوت هذه الطريقة قال: "المحصب: ... موضع بين مكة ومنى، وهو إلى منى أقرب .. وحدّه من الحجون ذاهبًا إلى منى ... وهذا من الحصباء التي في أرضه. والمحصب أيضًا موضع رمي الجمار بمنى، وهذا من رمي الحصباء" (¬2). وأما الأمارة الثانية: ففي بعض الكتب كمعجم البلدان (المغمَّس) إنشاد بيت نفيل بلفظ: "لدى جنب المغمس". ولعله الصواب، لموافقته ما تقدم في الأشعار من قول نفيل نفسه، وعمرو بن الوحيد، وأبي الصلت أو ابنه، والمغيرة بن عبد الله بن مخزوم. وعلى فرض صحة: "لدى جنب المحصب"، فجنب المحصب: ما يقرب منه، لا هو نفسه. والمشهور بين أهل الحجاز أن عذاب أصحاب الفيل كان بوادي محسِّر، وقال النووي ¬

_ (¬1) في حديث أنس رضي الله عنه أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب ما يجوز عن الشعر والرجز ... (6149) ومسلم في الفضائل، باب رحمة النبي - صلى الله عليه وسلم - للنساء (2323). (¬2) معجم البلدان (7/ 395). [المؤلف].

- وقد ذكر وادي محسِّر -: "سمي بذلك لأن فيل أصحاب الفيل حَسَر فيه، أي أعيا، وكلّ عن المسير، وهو وادٍ بين منى والمزدلفة" (¬1). قال ابن حجر الهيتمي في "حاشيته": "قوله: لأن فيل أصحاب الفيل ... الخ جزم به المحب الطبري، وشيخه ابن خليل، لكن نظر فيه الفاسي بقول ابن الأثير: إن الفيل لم يدخل الحرم". [ص 75] وفي "الحاشية" في بيان حكمة الإسراع في محسِّر: "وقيل - ومشى عليه المصنف فيما مر -: لأنه محل هلاك أصحاب الفيل ... واعترض الثاني بأن نزول العذاب على أصحاب الفيل إنما كان بمحلٍّ محاذٍ لعرفة، يسمى المغمَّس - بفتح الميم الثانية، وقد تكسر - بل المعروف أن الفيل المذكور لم يدخل الحرم أصلاً، كما مر عن ابن الأثير" (¬2). قال عبد الرحمن: أما الفيل فإنه حبس بالمغمس، كما في القصة عند ابن إسحاق في "السيرة"، و"منمق" ابن حبيب، و"تاريخ مكة" للأزرقي. وكذلك جاء في الأشعار كما تقدم في شعر أبي الصلت وابنه، وفي شعر المغيرة بن عبد الله بن مخزوم، وفي شعر عمرو بن الوحيد بن كلاب، وفي جواب نفيل بن حبيب الخثعمي شاهد القصة، وغير ذلك. والمغمس الذي حبس فيه الفيل عند حد الحرم في طريق الطائف، فإن الفيل لم يدخل الحرم، وقد بركت ناقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الحديبية دون الحرم، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "حبسها حابس الفيل". فمن الممتنع أن تحبس ناقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم دون ¬

_ (¬1) إيضاح المناسك (ص 146). [المؤلف]. (¬2) حاشية إيضاح المناسك (ص 151). [المؤلف].

الحرم، ويمكّن الفيل من دخول الحرم. وقد تقدم في رواية سعيد بن جبير: "فلما انتهى إلى الحرم برك الفيل، فأبى أن يدخل الحرم". وفي القصة في "منمق" ابن حبيب (¬1): "ثم أقبلوا حتى إذا طعنوا في المغمس ليدخلوا الحرم ... ". قال عبد الرحمن: قد جاء ذكر المغمس في الروايات والأشعار، والظاهر أنه في حدود الحرم من طريق الطائف، لكن نقل السهيلي - وتبعه ياقوت - عن كتاب السنن لسعيد بن السكن: " [أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أراد حاجة الإنسان خرج إلى المغمس] " (¬2). كذا وقع عنده. وعليه فالمغمس أقرب إلى مكة من منى. ولا أدري ما صحة هذه الرواية, وعسى - إن صح سندها - أن يكون فيها خطأ من بعض الرواة في اسم المكان، أو في ذكر مكة، كأن يكون بدل مكة: "منى"، أو يكون أطلق مكة وأراد منى، أو يكون هذا موضعًا آخر غير مغمس الفيل، والله أعلم. فقد تقدم في فصل (هـ) في الأمر الخامس من أمور الفريق الأول الرواية التي ذكر ابن حجر في "الفتح" أن سندها حسن، وهي عن عكرمة عن ¬

_ (¬1) المنمق (76). (¬2) هنا في الأصل بياض، وما بين الحاصرتين من معجم البلدان (5/ 162). وقد وردت حاشية للمؤلف في ص (73) نصّها: "وقد جاء في ذكر ذاك الموضع ذكر الصفاح، والمبرك، وقبر أبي رِغال، ونعمان الأراك. وهذه كلها في حدود الحرم من طريق الطائف، فأما ما ذكره السهيلي، وتبعه ياقوت عن "سنن سعيد بن السكن" أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان ... إن صح هذا، فهذا موضع آخر حتمًا".

ابن عباس، وفيها: "أن أصحاب الفيل بلغوا الصفاح". ومثله في "تفسير ابن جرير" عن قتادة، وظاهر سياقهم أن فيلهم حبس هناك، ورمتهم الطير هناك. وهذا يوافق قول ابن حجر الهيتمي، فقد ذكر ياقوت أن الصفاح "موضع بين حنين وأنصاب الحرم، على يسرة الداخل إلي مكة من مُشاش" (¬1). وقال: " ... ويتصل بجبال عرفات جبال الطائف، وفيها مياه كثيرة أوشال وعظائم قني (¬2)، منها المشاش، وهو الذي يجري بعرفات، ويتصل إلى مكة" (¬3). لكن قد يقال: ليست الرواية بصريحة أن القوم لم يجاوزوا الصفاح، فلعلهم جاوزوه إلى بطن محسر، لقول نفيل: "إلى جنب المحصب". نعم، تقدم في رواية سعيد بن جبير: "ومعه الفيل، فلما انتهى إلى الحرم برك الفيل، فأبى أن يدخل الحرم". وفي القصة في "منمق" ابن حبيب: "ثم أقبلوا حتى إذا طعنوا في المغمس ليدخلوا الحرم ... " (¬4). ¬

_ (¬1) معجم البلدان (5/ 367). [المؤلف]. (¬2) كذا في معجم البلدان في رسم (المشاش)، و"عظائم" تحريف. وفي كتاب عرّام (نوادر المخطوطات 2/ 419) الذي نقل منه ياقوت: "كظائم فُقُر"، والفقُر والقنا واحد، وواحد الفقُر: فقير. كذا في كتاب عرام (2/ 413). والكظائم جمع كِظامة، قال أبو عبيد: سألت الأصمعي عن الكظامة وغيره من أهل العلم فقالوا: هي آبار تُحفر ويباعَد ما بينها، ثم يُخرق ما بين كل بئرين بقناة تؤدي الماء إلى التي تليها حتى يجتمع الماء إلى آخرهن. وإنما ذلك من عوز الماء، ليبقى في كل بئر ما يحتاج إليه أهلها للشرب وسقي الأرض، ثم يخرج فضلها إلى التي تليها، فهذا معروف عند أهل الحجاز. انظر: تهذيب اللغة (10/ 161). (¬3) أيضًا (7/ 60). [المؤلف]. (¬4) المنمق (76).

وقال ياقوت: "لُبنان ... تثنية لُبْن، جبلان قرب مكة، يقال لهما: لُبْن الأسفل، ولُبْن الأعلى، وفوق ذاك جبل يقال له: المبرك، به برك الفيل بعُرَنة، وهو قريب من مكة". (7/ 320). وقال: "مبرك: .... موضع بتهامة برك فيه الفيل لما قصد به مكة بعرنة، وهو بقرب مكة، عن الأصمعي". (7/ 379) (¬1). وبالجملة فالمشهور أنه بوادي محسر، ووادي محسر بجنب المحصب، وهو منى. وقد رأيت في شعر عمر بن أبي ربيعة ذكر وادي المغمس (¬2)، فلعله كان يقال لمحسر، أو لموضع منه: "المغمس"، ثم اشتهر بمحسر. ولعل المغمس هو أعلى الوادي قريبًا من مزدلفة، والصفاح خارج الحرم. فما ادعاه المعلِّم أن أصحاب الفيل رموا عند الجمرات لا أصل له، ولا دليل، بل الدليل على خلافه، كما رأيت. والله أعلم. وأما الأمارة الثالثة: وهي مناسبة اسم الجمرة، فالذين ذكروا جمرات العرب ذكروا أنها [ص 76] قبائل مخصوصة منهم، كل منها ذات نجدة وشدة ومنعة، لم تحالف غيرها. وجيش أبرهة ليسوا من تلك القبائل، ولا هم قبيلة، ولا كانوا خالصين، بل فيهم من الحبشة وكندة وحمير وخثعم وغيرهم، كما في كتب الأخبار، فلا وجه لتسميته جمرة. ¬

_ (¬1) "وقال ياقوت ... " إلى هنا ورد في حاشية الأصل (ص 73)، ولعل موقعه هنا. (¬2) ديوانه (ص 32). [المؤلف]. وهو قوله: ألم تسأل الأطلال والمتربعا ... ببطن حليّات دوارس بلقعا إلى السرح من وادي المغمس بُدِّلت ... معالمه رملاً ونكباءَ زعزعا وانظر: معجم ما استعجم (1249).

فالصواب هو المشهور: أنها سميت جمارًا باسم الحصى، فإن الحصى يقال لها: جمار، وقيل غير ذلك من وجوه الاشتقاق، والمقصود بيان أن ما ذكره المعلِّم لا وجه له. وأما الأمارة الرابعة: فقد اختلف في أبي رِغال، كما تراه في "معجم البلدان" (¬1). وقد أخرج الحاكم في "المستدرك" من طريق عاصم بن عمر بن قتادة عن قيس بن سعد بن عبادة ... فذكر الحديث، وفيه: "فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ... ولا تكن كأبي رغال. فقال سعد: وما أبو رغال؟ قال: مصدق بعثه صالح ... " فذكر القصة، وفيها قتل أبي رغال. قال: "فأتى صاحب الغنم صالحًا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأخبره، فقال صالح: اللهم العن أبا رغال ... ". قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. فتعقبه الذهبي قال: عاصم لم يدرك قيسًا (¬2). قال عبد الرحمن: هذا التعقب مبني على قول خليفة بن خياط وغيره: إن قيسًا توفي آخر خلافة معاوية. وليس بمتفق عليه، فقد قال ابن حبان: إنه بقي إلى خلافة عبد الملك، وعلى هذا فسماع عاصم منه ممكن، لكن صحح الحافظ في "الإصابة" القول الأول (¬3). والله أعلم. [ص 77] وعلى كل حال فهذا الحديث أحسن ما في الباب. وأكثر ¬

_ (¬1) (4/ 263 - 264). [المؤلف]. (¬2) المستدرك (1/ 398). [المؤلف]. (1450). (¬3) راجع الإصابة رقم (7177). [المؤلف].

الحكايات في شأن أبي رِغال تدلُّ أنه قديم، وأشعارهم تدلّ على ذلك، وبعضها في "المعجم". وعلى هذا، فلم يُرجَم قبرُه لأنه حُصِبَ في حياته، وإنما رُجِمَ إشارةً إلى لعنه، فإن اللعن - كما قال الراغب - هو: "الطرد والإبعاد على سبيل السخط" (¬1). ويكنى عن اللعن بالرجم، كأنه مأخوذ من طرد الكلب، فإنه يكون في الغالب برجمه. قال الراغب: "والشيطان الرجيم: المطرود عن الخيرات، وعن منازل الملأ الأعلى" (¬2). فرجم القبر إشارة إلى لعن صاحبه. إذ كأنه رجم له، ولهذا حسن قول جرير: إذا مات الفرزدق فارجموه ... كما ترمون قبر أبي رغال (¬3) لم يرد بقوله: "فارجموه" ارجموا جسده، كما لا يخفى، وإنما أصل المعنى: فارجموا قبره، لكن حسن المجاز هنا، لما كان رجم القبر إنما هو إشارة إلى لعن صاحبه. فتطبيق الجمار على هذا أن يقال: إنه هلك في مواضعها، أو رئي عندها من يستحق اللعن والسخط. والأول قد رده المعلِّم رحمه الله بحق، إذ قال: "إن الإِسلام ترفع عن رجم القبور"، فتعين الثاني. ولا يمكن أن يكون من ¬

_ (¬1) مفردات الراغب (ل ع ن). [المؤلف]. (¬2) أيضًا (ر ج م). [المؤلف]. (¬3) سيرة ابن هشام. [المؤلف]. لم يرد في سيرة ابن هشام، وهو في معجم البلدان ط بيروت (3/ 53). وانظر ديوانه: (547).

أصحاب الفيل، وإلا لزم أن ترجم طريقهم كلها من اليمن إلى حيث بلغوا. فتعين أنه الشيطان كما جاءت به الروايات، واشتهر بين أهل العلم وغيرهم. وهو أحقّ بالرجم, لأن الله تبارك وتعالى سماه رجيمًا. وذكر المعلِّم رحمه الله تعالى أربعة أوجه أخرى، يبين بها أن مناسبة رمي الجمار لرمي أصحاب الفيل أظهر من مناسبتها لرمي الشيطان (¬1). الأول: قال: "من الثابت المتفق عليه أن النحر تذكار لسنة قربان إبراهيم بابنه، فلو كان أصل الرمي - كما زعموا - رمي الشيطان لكان النحر في اليوم الثالث أو الرابع ... فلماذا يرجم الشيطان في اليوم الثاني والثالث، وقد طرده [ص 78] إبراهيم عليه السلام قبل ذلك، وقرب ابنه، واستراح من مكره؟ وأما أصحاب الفيل، فلما رموا أول يوم وأصيبوا وحبسوا عن التقدم، رجع الحجاج إلى رحالهم ومواقفهم بمنى، وشكروا الله ونحروا وكبروا. ثم لما لم ييأس أبرهة كل اليأس، وتشجع وأراد الخروج إلى مكة في اليوم الثاني، رمى الحجاج جيشه مرة أخرى، وهكذا في اليوم الثالث". الثاني: قال: "في اليوم الأول من أيام الرمي لا ترمى إلا الجمرة التي تلي العقبة، وهي أقرب الجمرات إلى مكة، ولا يتعرض في هذا اليوم للجمرتين الدنيا والوسطى. وهذا أحسن مطابقة بحال تقدم أصحاب الفيل إلى مكة في اليوم الأول، فإنهم لما أصيبوا في ذلك اليوم دخلهم الفشل، وتشجعت العرب، فمنعوهم وراء المقام الأول". الثالث: قال: "الجمرة التي ترمى في اليوم الأول هي أكبرهن. وهذا ¬

_ (¬1) تفسير سورة الفيل (37 - 38).

أحسن مطابقة بحال الجيش، فإنهم لما أصيبوا وضعفوا قل عدد المتقدمين منهم، وأما الشيطان فهو الذي تراءى لإبراهيم في اليوم الأول، فبعيد أن يكون علامته متفاوتة في الحجم". الرابع: قال: "بعد الرمي في اليوم الأول والثاني استقبال إلى الكعبة، ووقوف ودعاء طويل، ولا وقوف بعد الرمي في اليوم الثالث، فلو كان الرمي على الشيطان لم يكن هذا الاهتمام بالدعاء في اليومين، وتركه في الثالث. فإنَّ إبراهيم عليه السلام قد كان صمم العزم ... وأما ... جيش أبرهة فإنه كان جيشًا عظيمًا ... فالتضرع إلى الله تعالى، وطلب النصر منه على [ص 79] هذا الجيش أقرب إلى المعقول ... ". قال عبد الرحمن: ينبغي أن تستحضر أن الجمار ثلاث: الدنيا إلى مكة - ويقال لها: جمرة العقبة، والجمرة الكبرى - ثم الوسطى، ثم القصوى، وهي أقربهن إلى جهة المزدلفة. والمشروع - كما في كتب السنة وكتب الفقه وكتب المناسك - أن يقدم الحاج من مزدلفة يوم النحر فيرمي الجمرة الدنيا إلى مكة بعد طلوع الشمس، ولا يقف عندها للدعاء، ثم يرجع إلى داخل منى فينحر، ويحلق. فيحل له كل شيء حرم عليه بالإحرام إلا النساء، ثم يذهب فيطوف بالبيت فيحل له النساء أيضًا، ثم يرجع فيبيت بمنى. فإذا أصبح أول أيام منى وزالت الشمس ذهب فرمى الجمرة القصوى، ويقف ويدعو، ثم الوسطى فكذلك، ثم الدنيا إلى مكة، ولا يقف للدعاء. ثم كذلك في اليوم الثاني في أيام منى، ثم الثالث إن لم يكن نفر في الثاني. فقول المعلِّم رحمه الله: "ولا وقوف بعد الرمي في اليوم الثالث" وهم،

انتقل ذهنه من الجمرات إلى الأيام! ودونك الآن الجواب: أما الوجه الأول: فهو مبني على أن الرواية تقول: إن تعرض الشيطان لإبراهيم عليه السلام إنما كان ليصده عن ذبح ابنه. والروايات الجيدة لا تقول ذلك، بل المفهوم منها أن تعرضه له كان ليدخل عليه الخلل في تعلم المناسك، كما تقدم. فرواية سالم بن أبي الجعد عن ابن عباس لا ذكر فيها لقصة الذبح، وكذلك رواية أبي داود الطيالسي عن حماد عن أبي عاصم عن أبي الطفيل عن ابن عباس، ورواية أبي حمزة عن عطاء بن السائب [ص80] عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. وذكرت في الرواية الأخرى عن حماد عن أبي عاصم عن أبي الطفيل، ولكن ليس فيها أن تعرض الشيطان كان ليصد عن الذبح، فإنه ذكر فيها قصة الذبح بعد ذكر الجمرة الوسطى، ثم ذكر تعرض الشيطان بعد ذلك عند الجمرة القصوى، ولفظه في قصة الذبح يصلح أن تكون جملة معترضة، كما قدمته عند ذكر الروايات، ويؤيده عدم ذكر القصة في الروايات الأخرى. وذكرت أيضًا في رواية حماد عن عطاء بن السائب، وإنما ذكرت فيها بعد ذكر الجمرات الثلاث، ومع ذلك فلفظهما صالح لأن تكون قصة أخرى غير مرتبطة برمي الجمرات، وهو الواقع كما تقدم. هذا، مع ما في رواية عطاء من الضعف لاختلاطه. فقد اتضح أن الروايات المصححة تفيد أن تعرض الشيطان لإبراهيم عليه السلام عند الجمرات إنما كان ليدخل عليه خللاً في تعلم المناسك.

هذا، والروايات المصححة تفيد أن تعرض الشيطان ورمي إبراهيم عليه السلام له كان وإبراهيم خارج من مكة ذاهب إلى عرفة، وليس ذلك وقت رمي الجمرات المشروع. فالظاهر أن رمي إبراهيم عليه السلام للشيطان لم يكن لأن الرمي من المناسك، ولكنه بعد أن أفاض من عرفة أمره الله عزَّ وجلَّ أن يرمي تلك المواضع التي تراءى له الشيطان فيها أولاً تذكارًا لنعمة الله عزَّ وجلَّ عليه بتسليطه على الشيطان، وإعاذته منه. وصار ذلك من المناسك شكرًا لذلك، وتعليمًا للناس أنه إذا وسوس لهم الشيطان في طريقهم إلى ربهم عزَّ وجلَّ زجروه، وأخسؤوه، وطردوه، واستعانوا الله تعالى عليه؛ ووعدًا لهم بأنهم إذا فعلوا [ص 81] ذلك أعاذهم الله تعالى. فإن قلت: فعلى ما ذكرته يكون المشروع من رمي الجمار غير موافق رمي إبراهيم عليه السلام للشيطان، وهو مخالف له من جهات: الأولى: أنه على قولك، يكون رميه للشيطان يوم التروية. الثانية: أنه رماه أولاً عند جمرة العقبة ثم الوسطى ثم القصوى. الثالثة: أنه كان ذلك مرة واحدة، لم يتكرر الرمي عند كل جمرة في يومين، أو ثلاثة. الرابعة: أنه لم يتكرر عند جمرة العقبة مع أنها في المشروع فضلت برمي يوم، فلا أعجب منك، فررت من وجهين، فوقعت في وجوه! قلت: إنك إذا تدبرت علمت أن المقصود في شرع رمي الجمار في الادكار والاعتبار، على ما تقدم، لا يتوقف على مشابهة رمي إبراهيم عليه السلام للشيطان من كل وجه.

وإذا لم يكن كذلك، فأي غرابة في أن تتصرف الحكمة فيما اقترن بالرمي من وقت وكيفية وغير ذلك؟ فشَرَطَ الشارعُ ما تقتضي المصلحة اشتراطه، وغَيَّر ما اقتضت الحكمة تغييره، واستحبَّ ما تقتضي الحكمة استحبابه، ووكل ما عدا ذلك إلى اختيار المكلف. وهذا الرمل، سببُ شرعه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما اعتمر هو وأصحابه عمرة القضية أحب أن يري المشركين قوة في أصحابه، فأمرهم بالرمل. ثم كان ذلك مبدأ لشرع الرمل في الحج والعمرة في أي وقت كانت، ولم يقتصر على مثل تلك الأيام التي كانت فيها عمرة القضية. وهكذا مبدأ السعي بين الصفا والمروة، وهو تردد أم إسماعيل بينهما، فإن الله تعالى شرع لنا السعي في الحج والعمرة، ولم يقيده بمثل ذلك اليوم الذي سعت فيه أم إسماعيل. ورأي المعلِّم لا يتخلص من مثل هذه المخالفات، وإن جهد [ص 82] نفسه. فإنه ليس من المعقول، إن كان وقع رمي من العرب لأصحاب الفيل، أن يكون أول يوم وقع في موضع جمرة العقبة، لم يتعدها من جهة من الجهات الأربع، ثم وقع كذلك في أول أيام مني بعد الزوال، ولم يتعدها الرمي أيضًا، ثم وقع عقب ذلك عند الجمرة الوسطى ولم يتعدها، ثم عند الجمرة القصوى ولم يتعدها، ثم تلا ذلك اليوم الثاني من أيام منى، فاتفق أن كان الرمي على ما كان في اليوم الأول لم يتغير، ثم كذلك في اليوم الثالث، ثم اتفق أن كان كل يوم عند كل جمرة بسبع حصيات من كل شخص، إلى غير ذلك مما أرى التشاغل بذكره ضربًا من العبث لوضوح الأمر.

فمن الحكمة في تأخير الرمي عن يوم التروية أن لا يحتاج من يأتي من جهة عرفة أن يتعب أولاً إلى منى للرمي، ثم يرجع إلى عرفة، ثم إلى منى. ومنها: أن يكون الحاج قد أقام البرهان من نفسه على صحة عزمه، وحسن استعداده لطرد الشيطان فيما يعرض له فيه. وإقامته البرهان إنما هي بتحمله مشاق السفر، وحفظ حرمة الإحرام مدة تستدعي مثلها المشقة غالبًا، وغير ذلك. ولهذا شرع للحاج إذا رمى جمرة العقبة يوم النحر أن يدع التلبية، ويأخذ في التكبير، وأن يشرع في التحلل، ولم يبق عليه إلا الحلق وهو نفسه من الاستمتاع. فكأن الله تبارك وتعالى يقول: إن العبد إذا فعل ما أمر به إلى يوم النحر، ثم عاهد الله عزَّ وجلَّ عند الجمرة برميها، إذ الرمي - كما تقدم - طرد للشيطان، وإبعاد له، وتأكيد للعزم على زجره وطرده وإبعاده في كل ما يعرض فيه للرامي حتى يلقى الله = إذا فعل ذلك فقد صدق في إجابة داعي الله عزَّ وجلَّ، ولم تبق حاجة للتلبية، فليشرع في التكبير، [ص 83] إذ هو شعار تعظيم الله عزَّ وجلَّ عند استحضار الحضور بين يديه، كما في الصلاة. ولذلك لم تبق حاجة لاختباره وترويضه بمحرمات الإحرام، فقد آن أن يؤذن له في التحلل. وأكد ذلك أنه الآن معدود ضيفًا لربه عزَّ وجلَّ، وحق الضيف أن لا يضيَّق عليه. وأما عكس الترتيب، فمن المناسبة له أن رمي إبراهيم عليه السلام للشيطان كان وهو مصعد إلى عرفة، فلما اقتضت الحكمة تأخير رمي الجمار إلى العود من عرفة ناسب عكس الترتيب. وأشير إلى أصل ترتيب رمي الشيطان بالاقتصار يوم النحر على جمرة العقبة، كما يأتي.

وأما التكرير، فمن الحكمة فيه أن رمي إبراهيم عليه السلام كان للشيطان وهو يشاهده، فكان المعنى المقصود - وهو مجانبته وطرده وإبعاده - واضحًا. ورمي الجمار ليس كذلك، فإن كثيرًا من الناس يرمي، ولا يدري لماذا يرمي، فكان ذلك داعيًا إلى تكرير رمي الجمار، ليظهر بذلك نحو ما ظهر من إبراهيم عليه السلام من صدق العزم على طرد الشيطان ومجانبته. أما من عرف المعنى فإنه يستحضره كلما رمى، فيتقوى استحضاره في نفسه، ويرجى أن يثبت فيها، فينتفع به إلى قابل على الأقل. وأما من لم يعرف المعنى فيكفيه خضوعه لأمرٍ ظاهره العبث، إيمانًا منه بربِّه، وتصديقًا لنبيِّه، وإذا تكرر الرمي قوي هذا المعنى. وأنت خبير أن الإنسان لو حجَّ ألف حَجَّة لكان عليه في كل منها أن يرمي، مع أن الرمي الذي كان المبدأ - وهو رمي الشيطان - لم يكن إلا في سنة واحدة. وكذلك رمي أصحاب الفيل على رأي المعلم، لو صح. فإذا لم يبعد التكرار بتكرار السنين، فنحوه التكرار في عدة أيام. [ص 84] وكما أن إبراهيم عليه السلام لو حج سنة أخرى بعد حجته التي رمى فيها الجمرات لكان عليه أن يرمي الجمرات، وإن لم ير الشيطان. فكذلك لا مانع أن يكون الأمر على ما قدمته: أنه رمى الشيطان مصعدًا إلى عرفة، ثم شرع له الرمي عند عوده منها. وأما الاقتصار يوم النحر على رمي جمرة العقبة، وتقديم وقته، فمن الحكمة فيه - والله أعلم - التخفيف عن الحاج، فإنه متأذًّ بطول الإحرام، وعليه في هذا اليوم أعمال كثيرة، سوى الرمي، كالنحر والحلق والتنظف وصلاة العيد وطواف الإفاضة، وغير ذلك. فلو كُلَّف بأن ينتظر حتى تزول

الشمس، ثم يذهب فيرمي الجمار على نحو ما يفعله في أيام التشريق، لشقّ ذلك عليه. فأذن له بتقديم الرمي بعد طلوع الشمس ليتعجل التحلل، وأمر بالاقتصار على جمرة واحدة، وجعلت جمرة العقبة لأن أول ما تراءى الشيطان لإبراهيم عليه السلام عندها، فيكون في الاقتصار عليها إشارة إلى ذلك، كما مر. ولم يؤمر بالوقوف عندها للدعاء تخفيفًا عليه، لاحتياجه إلى التخفيف كما مر. وبهذا علم الجواب عن الوجه الثاني والثالث من الوجوه التي يرجح بها المعلِّم ما رآه. وأما الرابع: فقد علمت وهم المعلِّم رحمه الله، وأن المشروع هو أن لا يوقف للدعاء عند جمرة العقبة، لا بعد رميها وحدها يوم النحر، ولا بعد رميها بعد أختيها في أيام منى، وأن يطال الوقوف والدعاء عند القصوى وعند الوسطى في سائر أيام منى، فانهدم بناء المعلم. فأما الحكمة في عدم شرع الوقوف للدعاء عند جمرة العقبة، ففي يوم النحر الحكمة ظاهرة على ما تقدم من احتياج الحاج فيه إلى التخفيف. وأما في أيام منى، فمن الحكمة في ذلك - والله أعلم - موافقة [ص 85] الواقع يوم النحر، ولأنها قد عوضت عن الوقوف عندها (¬1) بزيادة رمي يوم مقدم. ومن المحتمل أن يكون إبراهيم عليه السلام لما تراءى له الشيطان عند جمرة العقبة، فرماه, استهان به، وظن أنه قد اندحر؛ فلم يكن هناك باعث له على طول الوقوف للدعاء. فلما تراءى له ثانيًا عند الجمرة الوسطى استشعر إبراهيم عليه السلام خبث هذا الرجيم، وشدة لجاجه في الكيد، وعدم يأسه من ¬

_ (¬1) كذا في الأصل. والمقصود عدم الوقوف عندها.

التمكن من المكر، فظهر له شدة افتقار الإنسان إلى الاستغاثة بالله عزَّ وجلَّ والاستعانة به، فأطال الوقوف هنا للدعاء، وهكذا عند القصوى. والله أعلم. ثم ختم المعلِّم رسالته بفصلِ مبنيٍّ على هذا الفصل، قال (¬1): "إن صح ما ذكرنا من أصل سنة رمي الجمار، سواء كان الرمي من الطير، أو من العرب، بعد أن كان على أصحاب الفيل ... فلا بد أن تكون نيتنا ... الذي يرى في رميه أنه يرمي الشيطان، لا يحسّ بداعية قوية خاصة، فإنه يعلم أنه إنما يرمي بحصياته حجرًا, ولا يرجو بذلك أنه ينجو به من مكر الشيطان، ويبعده عن نفسه لمدة، أو أن ذلك أشد تأثيرًا من تلاوة المعوذتين، أو حوقلة، أو التأذين ... وأما إذا علم أنه يتذكر برميه هذا نصرة الله التي خصّها لأهل هذا البيت، فإنه يتذكر أمرًا عظيمًا، ويجمع همته، ويرى أن الله تعالى قادر أن ينصرهم على أعدائهم مع ضعف السبب .. ثم إنهم إذا قاموا للدعاء بعد الرمي لم يخرجوا عن تلك الحال ... تذكرة تهدي إلى كون الحج كلّه [ص 86] من الجهاد ... ذبح البهيمة علامة ذبح النفس، والأضحية فدية، وحقيقة الجهاد هي ذبح النفس، وإنقاذها من النار. ثم هذه رحلة الحجاج وحلولهم ... أشبه شيء بتمرينٍ عسكري ... كأن حالة الحجاج في هذه المنازل تنادي جهارًا إلى ضرورة نظم عسكري ... فإذا صحح المسلمون نياتهم للجهاد، وكابدوا مشقة هذا التمرين، فكأنهم أشهدوا على تهيُّئهم لذلك إذا دعوا إليه. وأين في نية رمي الشيطان هذه الحكمة؟ ". قال عبد الرحمن: قوله: "سواء كان الرمي من الطير أو من العرب" يسفر لك عما في نفسه من عدم الوثوق بأن الطير لم ترمِ، مع أنه في آخر ¬

_ (¬1) تفسير سورة الفيل (40 - 41).

فصل من رسالته. وهذا هو الظن به رحمه الله تعالى، فإن دلائل رمي الطير بغاية الوضوح، وما عورضت به كسراب بقيعة. وقد أغناني بكلمته هذه عن بيان أنه لو ثبت أن رمي الجمار تذكار لرمي أصحاب الفيل، لما لزم نفي الرمي عن الطير وإثباته لأهل مكة، بل يكون حينئذٍ تذكارًا لنعمة الله عزَّ وجلَّ بتسليطه الطير على رمي أصحاب الفيل. وقوله: "الذي يرى في رميه أنه يرمي الشيطان لا يحس بداعية قوية ... ". صوابه أن الرامي إن كان يعلم مبدأ الرمي وحكمته، فإنه يناجي نفسه قائلاً: إن الشيطان للإنسان عدو مضل مبين، لم ييأس من إبراهيم نبي الله ورسوله وخليله، ثم لم يكفه أن طرده مرة حتى تعرض له ثانية، ثم ثالثة. وعَلِمَ إبراهيم عليه السلام الاضطرارَ إلى الاستعانة بالله عزَّ وجلَّ، فأطال الوقوف [ص 87] بعد ما رماه ثانيًا ثم ثالثًا. وقد شرع الله لعباده أن يتشبهوا بإبراهيم عليه السلام في الصورة الظاهرة تحقيقًا للتشبه به في الحال النفسية. فهذه يدي كأنها تطرد الشيطان برميه بالحصباء، وهذا قلبي يطرد الشيطان عن أن يؤثر فيه إعراضًا عن سبيل الله، أو تقصيرًا فيه. ولا شك أن طرد القلب للشيطان لا يتحقق بالإعراض عنه في الحال، بل لا بد من عقد النية، وتأكيد العزم على إبعاد الشيطان، ومخالفته ومجانبته. إذن، فهذا في المعنى عهدٌ وميثاقٌ أوتيه ربي عزَّ وجلَّ على الاستمرار في سبيله، ومخالفة الشيطان؛ على أنني لست بمستعظم كيد الشيطان، ولا معتمد على نفسي، فإن الله أكبر، وأنا أسأله كذا وكذا ... فهذه الداعية تنفع المؤمن في جميع أموره، ويدخل فيها الجهاد، فإنه من سبيل الله الذي يصد عنه الشيطان.

وفوق هذا فإنه ينبغي أن يفهم أن الله تعالى لم يصرف الشيطان عن إبراهيم حتى دفعه بأقصى ما يمكنه حينئذٍ، وهو الرمي بالحصى، فيستفيد وجوب السعي، وبذل المجهود {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60]. ويتأكد ذلك باستحضار أن ما شرع لنا من الرمي بالحصى فيه إشارة إلى وجوب بذل المجهود، مما هو من جنس التسبب، وإن لم يكن - بحسب الطبع - كافيًا في السببية، على نحو ستر الإناء ولو بعود، والاستتار في الصلاة ولو بخط، على ما تقدم إيضاحه في فصل (ز). والله أعلم. وأما من يرمي، ولا يعلم مبدأ الرمي وحكمته، فإنه يعتاض بمعنى آخر. وذلك أن الشيطان لا يفتأ يوسوس له قائلاً: ما هذا الجهل؟ وما هذا الحمق؟ تتعبون من المسافات البعيدة، فتجيئون تعملون هذه (¬1) الأعمال؟ أي فائدة في أن يرمى بحصيات في موضع؟ وكيف يتصور أن يكون نبي صادق النبوة يأمر بمثل هذا؟ وأنى يتوهم أن يكلف الله تبارك وتعالى عباده بهذا العبث .. ؟ فإذا لم يُصْغِ الإنسان إلى هذه الوسوسة ورمى الجمرات كما أمر، كان ذلك مخالفة للشيطان، وطردًا له. وكان في تكرار ذلك ما يقوم مقام العزم على المخالفة للشيطان بقية حياته. فأما من يتصور أن مبدأ رمي الجمار رمي أهل مكة أصحاب [ص 88] الفيل، فيوشك أن يقول له الشيطان: أي حاجة بالمسلمين إلى الاستعداد للجهاد؟ ويكفيهم التوكل على الله عزَّ وجلَّ. وهو إذا أراد أن يهلك عدوهم ¬

_ (¬1) في الأصل: "هذا"، وهو سبق قلم.

تتمة

أهلكه بغير تسبب منهم، أو بأدنى تسبب، كالرمي بالحصى. فقد أهلك الله تعالى عدو أهل مكة كذلك، مع أنهم كانوا مشركين، يعبدون الأوثان. فاتضح أن استحضار من يرمي الجمار أن مبدأ ذلك رمي إبراهيم عليه السلام للشيطان هو أقرب إلى إعداده للجهاد: جهاد الكفار، وجهاد النفس والشيطان. ويمكن بسط هذا المعنى بأكثر من هذا الكلام، وإيراد نكات ومناسبات أخرى، وفيما ذكرت كفاية إن شاء الله تعالى. تتمة: وههنا وجوه تبطل ما افترضه المعلِّم من أن رمي الجمار أحدثه العرب تذكارًا لرمي أصحاب الفيل: الأول: أن هذا الصنيع بعيد عن أفكار العرب، ولا نظير له في أفعالهم. فأما رجمهم قبر أبي رِغال، فذاك ضرب من التشفي، أو اتباع سنة وجدوا عليها العمل قديمًا، إن صح أن رجم ذلك القبر سنة سنَّها صالح النبي عليه السلام لتنفير الناس عن مثل عمل ذلك الرجل. وليس في رمي المواضع التي رمي فيها أصحاب الفيل تشفٍّ. الثاني: أن من شأن العرب أن تبقى فيهم ذكر الوقائع إلى أمدٍ بعيد. فلو كان أصحاب الفيل رجموا في موضع الجمار، وتعمق العرب فأحدثوا رمي الجمار تذكارًا لذلك، لبقي هذا الخبر محفوظًا فيهم إلى أجيال. فما بال الصحابة والتابعين لم يكونوا يعرفون ذلك، كما تدل عليه الروايات المحفوظة عنهم، مع أن المدة كانت قريبة؟

[ص 89] الثالث: لو كان الأمر على ما افترضه المؤلف، لكان الظاهر أن لا يختص الرمي بعدة السبعة، فإن هذا العدد لا أثر له في رمي الإنسان. وإنما يظهر أن له أثرًا في رجم الشيطان، فإن تعيينه في كثير من الأمور الدينية في الحج وغيره يشعر بأن له خاصية معنوية. ويمكن إبداء وجوهٍ أخرى، وقد علم بعضها مما تقدم، والأمر أوضح من ذلك. والله أعلم. ***

القسم الثاني تفسير السورة

[ص 90] القسم الثاني تفسير السورة وفيه: مقدمة وبابان

المقدمة

المقدمة قال المعلِّم رحمه الله: "عمود السورة، وربطها بالتي قبلها والتي بعدها ... " (¬1). قال عبد الرحمن: لا حاجة إلى سياق عبارته، بل أذكر ما عندي، وأنبه على ما يخالفها (¬2) من كلامه، وأبين ما فيه. قرّع الله عزَّ وجلَّ في سورة التكاثر عباده بأنه ألهاهم التكاثر في الأعداد والأموال والأولاد والعزة والجاه وغير ذلك من الأغراض الدنيوية عن الآخرة، وأكد إنذارهم بالآخرة وعذابها. ثم دعاهم في سورة العصر إلى تدبر ما مضى في العصور من أحوال الأمم كعاد وثمود وقوم فرعون وغيرهم، فإنها واضحة الدلالة على أن الناس كلهم خاسرون، إلا من لم يلهه التكاثر عن الآخرة؛ وهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق، وتواصوا بالصبر. ثم أعلن في سورة الهمزة بهلاك كل من ألهاه مكاثرة الناس في الفخر والمال، واستعان على الأول بكثرة الهمز واللمز للناس، لينقصوا في العيون، ويكثر هو؛ وعلى الثاني بجمع المال وتعديده، ألهاه ذلك عن الآخرة، حتى كأنه يحسب أنَّ ماله مُخْلِدُه ولا بد. فزجر الله عزَّ وجلَّ من كان كذلك، وتوعده بالعذاب الشديد في الآخرة. ¬

_ (¬1) تفسير سورة الفيل (6). (¬2) كذا في الأصل.

والكلام في هذه السور الثلاث كلُّه على العموم، وفي سورة الهمزة: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ ...} ولا أصرح في العموم من كلمة "كل". ولا ينافي ذلك ما روي أنها نزلت في أبي بن خلف، [ص 91] أو أخيه أمية، أو جميل بن عامر، أو الوليد بن المغيرة، أو العاص بن وائل، وغير ذلك؛ فإن العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب. وقد ساق ابن جرير بعض تلك الأقوال، ثم روى عن مجاهد أنه قال: "ليست بخاصة لأحد". ثم قال ابن جرير: "والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله عمّ بالقول كلَّ همزة لمزة, كلَّ من كان بالصفة التي وصف هذا الموصوف بها سبيله، كائنًا من كان من الناس" (¬1). ثم ذكر الله تعالى في سورة الفيل يومًا من أيامه التي تقدمت الإشارة إليها في سورة العصر، كأنه قال: هب أيها الإنسان أنك لم تسمع، أو لم توقن بأيام ربك في عاد وثمود وغيرهم مما تقادم عهده، فهذا يوم قريب، قد علمه كل أحد، وهو واقعة أصحاب الفيل. ألم تعلم كيف فعل ربك بهم؟ أوَلا يردّك عن الاغترار بما تُكاثِر به أنه لم يُغْنِ عنهم كثرةُ عَددهم، وعُددهم، وشدةُ كيدهم؟ أوَلا تخاف أن يعذبك ربك بذنبك، كما عذبهم بذنبهم؟ والخطاب يتناول أهل مكة عمومًا كما هو ظاهر، وخصوصًا لوجوه: الأول: لأنهم أول من تليت عليه السورة. الثاني: أن الواقعة كانت أمام أعينهم. ¬

_ (¬1) تفسير ابن جرير (30/ 162)، والعبارة كما ترى، ولكن المعنى ظاهر. [المؤلف]. صواب العبارة كما في ط التركي (24/ 620): "كلُّ من كان بالصفة ... سبيلُه سبيلُه".

الثالث: أن ذنبهم أشبه بذنب أصحاب الفيل، وأشد منه. فإن ذنب أصحاب الفيل هو أنهم عمدوا لهدم البيت الحرام انتهاكًا لحرمته، وصدًّا عن عبادة الله فيه. ومن ذنب أهل مكة: انتهاك حرمة البيت بما نجسوه به من رجس الأوثان التي نصبوها في جوفه، وعلى ظهره، وحواليه؛ [ص 92] وأشركوا بالله فيه، وسعوا في خرابه بمنع أن يعبد الله فيه. ففي "الصحيح" من حديث أبي هريرة قال: "قال أبو جهل: هل يعفّر محمَّد وجهه بين أظهركم؟ قال: فقيل: نعم! فقال: واللات والعزى، لئن رأيته يفعل ذلك لأطأنَّ على رقبته، أو لأعفّرنَّ وجهه في التراب! قال: فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يصلي، زعم ليطأ على رقبته، قال: فما فجئهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه، ويتقي بيديه .. " (¬1). وكان صلى الله عليه وآله وسلم مرة يصلي عند البيت، فجاء بعضهم، فألقى ثوبًا في عنقه، وخنقه به خنقًا شديدًا. وكان مرة أخرى يصلي، فلما سجد جاؤوا بِسَلَا جَزور، فألقَوه على ظهره (¬2). وكذبوا الرسول الذي دعاهم إلى الحنيفية دين إبراهيم الذي بنى البيت وأمرهم بتطهير البيت واحترامه، إلى غير ذلك مما كان منهم. الرابع: أن في واقعة الفيل منة لربهم عزَّ وجلَّ عليهم، نالتهم بسبب هذا البيت. صرف الله عزَّ وجلَّ أصحاب الفيل أن يدخلوا مكة، ويهدموا البيت، ¬

_ (¬1) صحيح مسلم، كتاب صفات المنافقين، باب قوله: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى}. [المؤلف]. (2797). (¬2) راجع صحيح البخاري، كتاب الفضائل، باب ما لقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم ... إلخ [المؤلف]. (3854).

فكان لقريش بذلك شرف وفخر. قال ابن إسحاق: "فلما ردَّ اللهُ الحبشة عن مكة، وأصابهم بما أصابهم به من النقمة، أعظمت العرب قريشًا، وقالوا: [هم] أهل الله، قاتل الله عنهم، وكفاهم مؤنة عدوهم" (¬1). وكان من تمام النعمة أن الله تبارك وتعالى لم يحوجهم إلى قتال، بل ثبطهم عنه، لئلا تنتقض [ص 93] مؤالفتهم لليمن والحبشة، فتنقطع تجارتهم. بل لا بد أن يكون بعد ذلك إعظام وإجلال لهم من ملوك الحبشة في الحبشة واليمن، فكان ذلك زيادة في تسهيل تجارتهم. ولهذا - والله أعلم - عقب الله هذه السورة بسورة قريش، فامتنَّ عليهم فيها بما يسَّره لهم من الإيلاف لرحلة الشتاء والصيف إلى اليمن والحبشة وغيرها {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ}. فقد اتضح بما قدمناه أن عمود السورة هو تهديد العصاة الذين ألهاهم التكاثر عن الآخرة، ولم يعتبروا بأيام الله تعالى في العصور، فلم يؤمنوا، بل تشاغلوا بهمز الناس ولمزهم، وجمع المال وتعديده؛ وخاصة أهل مكة الذين كان ذنبهم شبيهًا بذنب أصحاب الفيل، وأشد منه كما مرَّ. واتصل بهذا التهديد الامتنان على أهل مكة كما علمت. فبالتهديد ارتبطت السورة بما قبلها، وبالامتنان ارتبطت بما بعدها. ¬

_ (¬1) سيرة ابن هشام بهامش الروض الأنف. [المؤلف]. ط السقا (1/ 57) وما بين الحاصرتين منها.

فهذا الذي قررته هو الذي يتبين به حسن الانتظام، وقوة ارتباط الكلام. وهذا هو المقصود الأعظم للمعلم رحمه الله حتى سمى تفسيره: "نظام القرآن". ولكنه رحمه الله ضحى بهذا المقصد في سبيل نفي الرمي عن الطير، فتعسف وتردد، فإنه ذكر أولاً فصلاً يقرر به أن الخطاب في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ} ليس للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. [ص 94] قال فيه (¬1): "فهؤلاء المشركون أولى بأن ينبهوا على ما غفلوا عنه، كأنه قيل لهم: هلّا تعبد رب هذا البيت، وتوكل عليه، وتدع الشرك، فإنّه هو الذي نصرك ... فإن صرف [هذا] (¬2) الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا بد أن يراد به تسليته من الله تعالى، وأنه كما هزم جنود أعداء هذا البيت، فكذلك سيهزم هؤلاء المشركين ... فهذا المحمل، وإن صحّ خطابًا بالنبي (؟) صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن إذا قرأه النبي صلى الله عليه وآله وسلم [عليهم] صار حجة لهم، فإنهم حينئذٍ يقولون: نحن أولى بنصر الله، فإنا ولاة بيته ... فلا يحسن تأويل السورة إلى تهديدهم، وإنما يحسن تأويلها إلى تحريضهم على التوحيد بشكر النعمة (¬3) ... ". ثم ذكر عمود السورة، وربطها بالتي قبلها فقال: " [ذكر القرآن] في السورة السابقة كل همزة لمزة ... ففي هذه السورة إشهاد على ما فعل بأمثاله ... فذكّر القرآن هذا الغني المختال هذه الواقعة التي شهدها بعينه، فإنه من ¬

_ (¬1) تفسير سورة الفيل (5 - 6). (¬2) ما بين الحاصرتين هنا وفيما يأتي زيادة من كتاب المعلم. (¬3) كذا في الأصل. وفي كتاب المعلِّم (6): "بذكر النعمة ... ".

كفرة قريش، والظاهر أنه أبو لهب ... فكأنه قيل له: ألم تر كيف حطم الله أمثالك ... وقد علمت أنك لم تغلب عليهم بقوتك، بل بنصر من الله ... فاتضح مما قدمنا أن عمود هذه السورة تمهيد وجوب الشكر لله تعالى، بذكر ما جعل لأهل مكة خصوصًا، والعرب عمومًا من العزة والكرامة ... ". قال عبد الرحمن: حاول رحمه الله تعالى أن ينفي التهديد، فلم يزل به الحق حتى اضطره إلى إثباته، كما ترى. فأما قوله: "فهؤلاء المشركون أولى بأن ينبهوا ... " فهذا التنبيه حاصل على ما قررته كما عرفت، فالسورة فيها وعد، أو قل: تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتهديد للمسرفين، ولا سيما أهل مكة. وامتنان على أهل مكة، ولا تنافي بين هذه المعاني، فلا ضرورة إلى قصر السورة على واحد منها. وقوله: "صار حجة لهم ... " ليس بشيء، فإن التهديد إنما هو بأن يصيبهم [ص 95] رب البيت بعذاب ما، لا خصوص أن يسلط عليهم جيشًا من غيرهم. وخصمهم عند نزول السورة ثلاثة: الأول: رب البيت عزَّ وجلَّ, لأنهم محاربون له أشد من محاربة أصحاب الفيل. الثاني: البيت نفسه، فإن المقصود الأعظم مما فعل الرب عزَّ وجلَّ بأصحاب الفيل هو حماية البيت، وهم قد أهانوه أشد من إهانة أصحاب الفيل، فنجسوه بالأوثان، وأشركوا بالرب فيه، وسعوا في خرابه، ومنعوا من عبادة الله عنده.

الثالث: الرسول والذين آمنوا معه، وهم من ولاة البيت، وأحق به؛ لأنهم يدعون إلى تطهيره، وتوحيد الرب عنده. وقوله: "فذكر القرآن هذا الغني المختال ... والظاهر أنه أبو لهب" فيه أمران: الأول: أنك قد علمت أن الكلام في سورة الهمزة عام، ولا أصرح في العموم من كلمة "كل". الثاني: أن هذه العبارة كالصريحة في أن المعلِّم يرى أن الخطاب في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ} لشخص معين، الظاهر عنده أنه أبو لهب. وهذا - مع بطلانه في نفسه - مخالف لما قرره المعلِّم في فصل "تعيين المخاطب في هذه السورة". قال هناك: "فاعلم أن الخطاب ههنا متوجه إلى جميع من رأى هذه الواقعة، أو أيقن بها من طريق تواتر الحكاية". وقرر ذلك تقريرًا بالغًا. ثم قال في موضع آخر (ص 15): "الواقعة كانت على غاية الاشتهار ... وإصدار الكلام بقوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ} يناسب هذا الأمر، فإنه لا يخاطب به إلا فيما لا يخفى على أحد، كأنه رآه كل من يخاطب به، وإن لم يره بعينه. وهكذا ينبغي عند طلب الإقرار بشيء، كما هو معلوم عند أهل العربية". ثم عاد فخص الخطاب بأهل مكة كما يأتي، فكأن له في المخاطب ثلاثة أقوال. والله المستعان. وقوله: "ألم تر كيف حطم الله أمثالك ... وقد علمت أنك لم تغلب عليهم بقوتك، بل بنصر الله" نزول منه رحمه الله على الحق في قصد

التهديد، ولكنه يخالف ذلك، فيقول: إن عمود السورة هو الامتنان. والصواب ما اقتضاه قوله: "ألم تر كيف حطم الله ... " من أن عمود السورة هو التهديد، وبذلك يتم ارتباطها بما قبلها، وأن الامتنان فيها حاصل تبعًا. والله الموفق. ***

الباب الأول في تفسير السورة على ما أفهمه وفاقا لأهل العلم

[ص 96] الباب الأول في تفسير السورة على ما أفهمه وفاقًا لأهل العلم بسم الله الرحمن الرحيم {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1)} 1 - الهمزة موضوعة للاستفهام، وحقيقته عندهم طلب الفهم، ومتى جاءت - ولا طلب فهم - فمجاز بمعنى آخر، وقد يجتمع معنيان أو أكثر. فمن المعاني: التقرير أي الحمل على الإقرار، والتقرير بمعنى تثبيت الحكم وتحقيقه، والإنكار الإبطالي، والإنكار التوبيخي أو التعجبي، والوعد، والوعيد، والتهديد، والامتنان، وغير ذلك. أنهاها السيوطي في "الإتقان" (¬1) إلى اثنين وثلاثين معنى، وفي تلخيص المفتاح وشروحه طائفة منها. قال السعد التفتازاني: "والحاصل أن كلمة الاستفهام إذا امتنع حملها على الحقيقة تولد منه بمعونة القرائن ما يناسب المقام. ولا تنحصر المتولدات فيما ذكره المصنف، ولا ينحصر أيضًا شيء منها في أداة دون أداة، بل الحاكم في ذلك هو سلامة الذوق، وتتبع التراكيب. فلا ينبغي أن تقتصر في ذلك على معنى سمعته، أو مثال وجدته، من غير أن تتخطاه. بل عليك بالتصرف، واستعمال الروية، والله الهادي" (¬2). ¬

_ (¬1) (2/ 79 - 80) [المؤلف]. (¬2) المطول المطبوع بمصر مع حواشي عبد الحكيم وتقرير الشربيني (3/ 279). [المؤلف].

[ص 97] قال عبد الرحمن: يلوح لي أن الأصل في الاستفهام المجازي تنزيل المتكلم نفسه منزلة خالي الذهن عن الحكم الطالب للفهم، فيأتي بصورة الاستفهام، كما يأتي بها هذا؛ ليريك أنه لم يتحكم عليك، بل ترك الحكم إليك. فإن هذا أدعى لك إلى التدبر والتبصر، وليعلم من سمع الكلام وعرف حقيقة حال المتكلم أنه إنما أتى بهذا الأسلوب لوثوقه بأنك إذا تدبرت وتبصرت وافقته في الحكم، وأنه يرى أن الأمر بغاية الظهور إن احتاج إلى شيء فإلى التدبر والتبصر. وهذا هو التقرير بمعنى الحمل على الإقرار. ثم إن كان الحكم عند المتكلم الإثبات، فالأغلب أن يؤتى عقب الهمزة بأداة نفي، كقوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1]. وإن كان النفي فالغالب أن لا يؤتى بأداة نفي كقوله تعالى: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل: 61 و63 و64]. والسر في ذلك - والله أعلم - هو تأكيد المعنى المتقدم, لأن الاستفهام إذا جاء في الصورة عن الإثبات كان فيه إيهام أن المتكلم يريد حملك على الإثبات، كما أشار إليه الشُّمُنِّي قال: "لأن الحكمة اقتضت أن يذكر تقرير الإثبات بصورة النفي، قصدًا إلى الدلالة على أنَّ المُقِرَّ على يقين مما أقرَّ به، وأنه لم يتلقن ذلك من تقرير المتكلم (¬1). والتقرير الذي يعلم منه الإثبات نحو {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} قد يطلق عليه أنه تقرير بمعنى آخر، وهو تقرير الحكم بمعنى تثبيته وتحقيقه. والذي يقصد منه النفي يسمى إنكاريًّا إبطاليًّا، وقد يطلق على نحو {أَلَمْ نَشْرَحْ} إنكار إبطالي على معنى أنه إنكار يبطل نفي الشرح. ¬

_ (¬1) حواشي الشمني على مغني اللبيب (1/ 38). [المؤلف].

[ص 98] وقد يتوصل بصورة تقرير يظهر منه الإثبات أو النفي إلى إفادة شدة بعد الانتفاء في الأول، والثبوت في الثاني، ليفاد بالاستبعاد قوة المقتضي في الأول، والمانع في الثاني. ثم إن كان المقتضي أو المانع طبيعيًا - ولا لوم - فذاك الاستفهام التعجبي، كقول من يعتقد حياة الخضر: ألم يمت الخضر بعد؟ وقول الذي كلمه الذئب: أذئب يتكلم؟ وإن كان هناك لوم فهو الإنكار التوبيخي. فإن لم يمكن التدارك فهو لمجرد التقريع، كقولك لمن مات عنده إنسان جوعًا: ألم تطعمه حتى مات؟ وقول الله عزَّ وجلَّ: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [آل عمران: 106]. وإن أمكن التدارك فهم منه الأمر أو النهي، فالأول: كقوله تعالى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ} [آل عمران: 20]، أي فأسلموا الآن، وما أخبر به سبحانه من قول إبراهيم لقومه: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} [الصافات: 95] أي فمن الآن لا تفعلوا. وكثيرًا ما يقترن التوبيخ بالتعجب، كما في هذا المثال، وكما أخبر الله عزَّ وجلَّ عن المشركين: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5]. واعلم أن من الوجوه التي مثل لها بما صورته استفهام عن النفي قد تأتي بصورة الإثبات، وعكسه، كقول معتقد حياة الخضر: آلخضر حي إلى الآن؟ وقولك لكافر: ألم تسلم؟

واعلم أن التوبيخ أريد به ما يعم اللوم والعتاب، فلا تغفل! [ص 99] فأما الوعد، والوعيد والتهديد، والامتنان، فيلوح لي أنها إنما تفهم من فحوى الكلام. فمثال الوعد قول الله تبارك وتعالى: {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى ...} الآيات [الضحى: 1 - 6]. أي فسوابق العناية تدل على لواحقها. وعليه قول الشاعر (¬1): اللهُ عوَّدك الجميـ ... ـلَ فقِسْ على ما قد مضى وهذا هو الوعد، لكنه إنما أخذ من فحوى الكلام، لا من خصوص الاستفهام، ولو قيل: "وجدك ربك يتيمًا فآوى ... " بدون استفهام، لكان الوعد حاصلاً. ومثاله مع الوعيد والتهديد قوله عزَّ وجلَّ {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} [المرسلات: 15 - 18]، فأصل الاستفهام للتقرير، وفُهِمَ من الكلام: الوعد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بإهلاك عدوهم، والوعيد والتهديد للمكذبين؛ فإن إهلاك الله تعالى للمكذبين من الأولين والآخرين ظاهر الدلالة على أن تلك سنته. ومثال الامتنان قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ ¬

_ (¬1) هو الصفيّ الحِلّي انظر: الكشكول 1/ 273.

النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} [العنكبوت: 67]. فقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا ....}. الاستفهام للتقرير، والامتنان مفهوم من فحوى الكلام، وأوضحه بقوله: {وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ}. ولأقتصر في هذا الموضع على هذا القدر، فإنه كافٍ لتوضيح الاستفهام في سورة الفيل. والله أعلم. [ص 100] فالاستفهام في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ} للتقرير. أما إن كان الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فواضحٌ, لأنه كان قد علم بقصة الفيل، والمراد بالرؤية في الآية العلم كما يأتي. وأما إن كان الخطاب عامًّا على ما يأتي توضيحه، كأنه قيل: ألم تر أيها الإنسان؟ فلأن مثل هذا إنما هو كناية عن شدة ظهور الواقعة واشتهارها. يقال: هذا أمر قد علمه القاصي والداني، فلا يفهم من هذا إلا الوصف بشدة الظهور والاشتهار، فلا تسمع أحدًا يناقش في مثل ذلك بأن من القاصين من لم يعلم. فكذلك هنا لا يقدح في القول بالتقرير بأن من الناس من لم يسمع بواقعة الفيل البتة. فإن لم تقنع بهذا فاجعل الاستفهام يتنوع بتنوع المخاطبين. فمن بلغته الآية وقد علم، فالاستفهام في حقه للتقرير. ومن بلغته ولما يعلم وهو مقصر، فللتوبيخ، وإلا فللتعجب. وعلى كل حال، فالوعد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، والوعيد والتهديد للناس عامة، ولأهل مكة خاصة، والامتنان على أهل مكة، كل ذلك حاصل من فحوى الكلام، كما سبق.

2 - اتفق المفسرون على أن الرؤية في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ} بمعنى العلم, لأن الواقعة كانت قبل المولد النبوي، ولم يشاهدها كل من يصلح للخطاب. ثم منهم من قال: الرؤية بمعنى العلم مباشرة، ومنهم من قال: بل هي التي بمعنى الإبصار، تجوّز بها عن العلم، مبالغةً في تقريره وتثبيته وتحقيقه، كما يقتضيه المقام. وقد يقال: من بلغته السورة وكان قد شاهد الواقعة، فالرؤية في خطابه بصرية على حقيقتها، ويكون هذا من النكت في العدول عن "ألم تعلم". وفيه الجمع بين الحقيقة والمجاز، لكن باعتبارين. 3 - اتفق المفسرون - فيما أعلم - على أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، إلا أن الآلوسي [ص 101] أشار إلى احتمال خلاف ذلك، وعبارته: "والظاهر أن الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم" (¬1). واختار المعلِّم رحمه الله تعالى أولاً عموم الخطاب، قال: "فاعلم أن الخطاب ههنا متوجه إلى جميع من رأى هذه الواقعة، أو أيقن بها من طريق تواتر الحكاية ممن رآها". وأطال في تقريره. وحاصله - مع إيضاحٍ - أنه كثيرًا ما يأتي الكلام بلفظ خطاب الواحد، ولا يقصد به واحد معيّن، بل كل واحد صالح للخطاب. وذلك كما يقع في كلام المؤلفين كثيرًا: "اعلم"، "فتأمل"، "فتنبه"، "قد علمت" وأشباه ذلك، ولا يقصد به المؤلف قصد واحد معين، بل يقصد كل واحد يقرأ كتابه، أو يقرأ عليه. ¬

_ (¬1) روح المعاني (9/ 455). [المؤلف].

وذكر المعلِّم أمثلة من القرآن أصرحها قول الله عزَّ وجلَّ: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 23 - 24]. فالخطاب في قوله: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ} وما بعده لواحد لا بعينه، كأنه قيل: "إما يبلغن عندك أيها الإنسان" على حد قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار: 6]. قال عبد الرحمن: أرى أن المعلِّم رحمه الله تعالى أجاد باختيار هذا الوجه، وإن لم ينقل عمن تقدم. فإنه ليس في القول به زيادة في الدين، ولا نقص منه، ولا ردّ رواية صريحة، ولا تعسف في التأويل، ولا مداهنة للمرتابين، ولا فتح باب للتحريف، ولا غير ذلك مما قد يكون في نفي رمي الطير. وهو مع ذلك الأوفق بما يقتضيه المقام من تقرير الواقعة، وبيان ظهورها واشتهارها، [ص 102] والإبلاع في الوعيد والتهديد والامتنان. فإن الإنسان إذا تلا السورة، أو تليت عليه، واستحضر المعنى المذكور، شعر بأنه يخاطب بها مباشرة، فكان أجدر أن يعمل فيه ما فيها من الوعيد والامتنان، إن كان من أهله. ثم رجع المعلِّم رحمه الله تعالى فخص الخطاب بقريش، فكأنه قيل: قد علمت أيها القرشي. ولا أحفظ لهذا نظيرًا في الخطاب بلفظ الواحد بدون تقييده بما يخصصه، بل إما أن يكون لواحد معين، وإما أن يكون لكل أحد يصلح أن يخاطب.

ثم أوهم في ذكر عمود السورة أن الخطاب خاص بفرد واحد، يظن أنه أبو لهب. وهذا كما ترى! وعلى ما قدمت، فالخطاب لكل إنسان إلى يوم القيامة. وإنما يصير الإنسان مخاطبًا بالفعل حين تبلغه السورة، وهو أهل أن يخاطَب، كما يكتب الرجل إلى غائب عنه، فيصير ذلك الغائب مخاطبًا بالفعل حين يبلغه الكتاب، فيقرؤه، أو يقرأ عليه، وهو أهل للخطاب. وربما حضرت الرجل الوفاة، وامرأته حامل، فيكتب كتابًا يخاطب به من في بطنها، فإذا ولد وبلغ سن التمييز فقرأ الكتاب، أو قرئ عليه، صار مخاطبًا به بالفعل. ولو كتب رجل كتابًا إلى كل من يولد بعده من ذريته ما تناسلوا، أو إلى كل من يولد في قومه، لكان كلما ولد مولود، فبلغ حدّ التمييز، فقرأ ذلك الكتاب أو قرئ عليه، يصير مخاطبًا به بالفعل. وهكذا حكم الرسالة والوصية بدون كتاب. وبهذا تنحلُّ مغالطة بعض الأصوليين كالآمدي (¬1)، والله أعلم. وكما أن من كتب إليه جدُّه بنصيحة لا تتقيد بوقت مثل: "احذر قرناء السوء" يتصور تكرر الخطاب كلما قرأ الكتاب، فكذلك ينبغي لك حين تذكر قول ربك سبحانه {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار: 6]، وأشباهها، ومنها سورة الفيل. [ص 103] 4 - "كيف" في الآية في موضع نصب على أنها مفعول مطلق، قاله ابن هشام في المغني قال: "إذ المعنى: أيَّ فِعْل فَعَلَ ربُّك"؟ ¬

_ (¬1) راجع الأحكام للآمدى. [المؤلف]. (1/ 199 وما بعدها).

قال المحشي: "أي ألم تر أيَّ فِعْلٍ فَعَلَ ربُّك بأصحاب الفيل؟ أي ألم تر جوابَ هذا الاستفهام؟ وجوابه: فَعَلَ فعلاً عظيمًا، فكأنه قيل: ألم تر أن ربك فعل فعلاً عظيمًا بأصحاب الفيل؟ " (¬1). 5 - قال الراغب: "الربُّ في الأصل: التربية، وهو إنشاء الشيء حالاً فحالاً إلى حد التمام ... فالربُّ مصدر مستعار مستعمل للفاعل. ولا يقال "الربّ، مطلقًا إلا لله تعالى المتكفل بمصلحة الموجودات" (¬2). قال عبد الرحمن: معنى قوله: {رَبِّكَ} مدبرك بما تقتضيه الحكمة. والحكمة تقتضي أن ينصر رسله والذين آمنوا، وأن يعذب الظالمين. ومن جملة تدبيره بسطه النعم. فالكلمة تناسب الوعد والوعيد والامتنان، وقد جاءت في سياق كل منها. فمن الأول: قوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5]، وقوله سبحانه: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ} [الأعراف: 129]. ومن الثاني: قوله تعالى: {أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [طه: 86]. ومن الثالث: قوله تعالى: {رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [الإسراء: 66]. فهذه الكلمة في سورة الفيل تُقرِّر في حقِّ كلَّ قارئ أو سامع المعنى الذي يليق به. ¬

_ (¬1) راجع مغني اللبيب مع حواشي الدسوقي (1/ 217). [المؤلف]. (¬2) مفردات الراغب (ر ب ب). [المؤلف].

6 - ذكر القوم بعنوان "أصحاب الفيل" لفوائد: منها: وضوحه في التعريف، مع وجازته، فقد كان هذا اللفظ صار كالعلم على ذلك الجيش. ومنها: الإيماء إلى سبب عذابهم، فإن أبرهة طلب الفيل لذلك الغرض المذموم، وهو هدم الكعبة كما يأتي. ومنها: الإشارة إلى عظمة ذلك الجيش، فإنه كان [ص 104] أهول ما فيه الفيلة، وذلك الفيل الأعظم. فإن العرب كانت تعرف كثرة العدد، وتعرف الخيل والإبل والسيوف والرماح والدروع وغير ذلك، ولم تكن تعرف قتال الفيلة، بل غالبهم لم يكن قد رأى الفيل ألبتة. ولذلك حرص أبرهة على التهويل من هذه الجهة، ففي رواية الواقدي في شأن أبرهة لمّا تألَّى ليهدمنّ البيت: "وكتب إلى النجاشي أن يبعث إليه بفيله محمود (¬1). وكان فيلاً لم ير مثله في الأرض عظمًا وجسمًا وقوة ... وقيل: كانت ثلاثة عشر فيلاً" (¬2). ومنها: الإشارة إلى الآية الأولى، وهي حبس الله تعالى الفيل، فقد زادتها غرابته عند العرب غرابة. ولذلك كثر ذكرها في أشعارهم، كما تقدم في فصل (ز) من القسم الأول. 7 - "ال" في {الْفِيلِ} للعهد، أريد به ذلك الفيل الأعظم محمود، واكتفى به عن ذكر بقية الفيلة؛ لأن العارف بالقصة يتذكرها بتذكره. ¬

_ (¬1) استظهر صديقي الدكتور محمَّد حميد الله، أستاذ الجامعة العثمانية بحيدراباد الدكن في بعض مقالاته أن أصل الكلمة مَمُّوت، أو مَمُّود (mammoth) اسم لنوع من الفيلة. [المؤلف]. (¬2) طبقات ابن سعد (1/ 1/ 55) [المؤلف]. ط صادر (1/ 91 - 92).

وقال المعلّم: "أما الفيل فواحد، ولكن أضيف إليه الجمع فأريد به الصنف، وهذا كثير، كقولك: أصحاب الرأي، وأصحاب الحديث. قال تعالى: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ} [المزمل: 11]. فاللفظ محتمل للواحد والأكثر، وبكليهما جاءت الروايات، والكثرة أقرب، والله أعلم". قال عبد الرحمن: في قاعدته هذه نظر، وليس في الأمثلة ما يشهد لها، فإنك تقول: فلان يحفظ الحديث، ويعرف الرأي، ولا يحب النعمة؛ فيكون الجنس بحاله، ولا إضافة. وتقول: عند فلان حديث كثير، وله رأي صائب، وله نعمة ظاهرة؛ فترى الجنس بحاله. بقي أن يقال: إن "ال" في [ص 105] {الْفِيلِ} للجنس، ولم يتبين لي، ولا ملجئ إليه، لما علمت أن بقاء الكلمة على ظاهرها من العهد لا ينفي ما جاءت به الروايات من تعدد الفيلة. والله أعلم. 8 - قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} إجمال يحيط بكل ما فعله الله تعالى بالقوم. وإذ كان عمود السورة هو التهديد - كما تقدم - فإنما يدخل في هذا الإجمال ما فعله الله بالقوم مما فيه توهين لقوتهم، وتعذيب لهم. ولفظ "فعل" الموصول بالباء يساعد ذلك، وكأنه إنما جاء كذلك في القرآن للعذاب ونحوه. قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} إلى قوله: {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} [الفجر: 6 - 13]. وقال سبحانه فيما حكاه من خطاب يوسف لإخوته: {هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ} [يوسف: 89]، أي من إلقائه في الجب، ثم بيعه، وغير ذلك، وذاك

نوع من التعذيب. وقال حكاية عن قوم إبراهيم {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا} [الأنبياء: 59] يعنون حطمها حتى جعلها جذاذًا، وذاك عذاب شديد لو كانت تعقل. وقال تعالى: {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ} [إبراهيم: 45] , أي من العذاب. وقال سبحانه: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ} [سبأ: 54]. **** {أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2)} 1 - هذا - كما قاله المفسرون - شروع في تفصيل ما أجملته الآية الأولى، ولذلك لم تعطف هذه الجملة على الأولى, لأن بينهما كمال الاتصال، على وزان قوله تعالى: {وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الشعراء: 132 - 134]. 2 - الهمزة لتقرير الجعل، أو لإبطال نفيه. وعلى الثاني بني ابن هشام، قال: "ومن جهة إفادة هذه الهمزة نفي ما بعدها, لزم ثبوته إن كان نفيًا؛ لأن نفي النفي إثبات .. ولهذا عطف {وَوَضَعْنَا} على {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ} لما كان معناه: شرحنا، ومثله: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى: 6 - 7] , {أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ} [الفيل: 2 - 3] " (¬1). ¬

_ (¬1) مغني اللبيب مع شرح الدماميني وحواشي الشمني (1/ 34). [المؤلف].

فقوله سبحانه: {أَلَمْ يَجْعَلْ ...} في قوة "جعل كيدهم في تضليل". [ص 106] 3 - تقدم في فصل (ج) من القسم الأول تفسير "الكيد"، وأنه يكفي في تقرير كيد أصحاب الفيل: سوقهم الفيلة، وقدومهم في المحرم؛ وأن تضليل الله عزَّ وجلَّ لكيدهم هو حبس الفيل، ومنعهم من التقدم. والتضليل من قولهم: ضلَّ الشيء إذا ضاع، وضلَّ سعيهم: ذهب باطلاً، وضلَّله: جعله يضِلُّ. فالمعنى أنه سبحانه جعل كيدهم ضائعًا ذاهبًا في غير شيء، لم يحصل به مطلوبهم. **** {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4)} 1 - عطفت هذه الجملة على التي قبلها للتوسط بين الكمالين. فإن الأولى خبرية كما علمت، تقديرها: جعل كيدهم في تضليل. وهذه خبرية، والتناسب قائم؛ لأن كلا الأمرين من جملة ما فعله الله تعالى بأصحاب الفيل. وليست الثانية كأنها الأولى, لأن المفاد بالأولى حبس الفيل والجيش، والمفاد بهذه غير ذلك، كما لا يخفى. 2 - إرسال الله تعالى إذا وصل بكلمة "على" كان في القرآن للعذاب، إما مطلقًا، وإما غالبًا، كما يعلم من مواقعه في القرآن، كقوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا} [الأعراف: 162]، {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} [الذاريات: 41]. {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً} [القمر: 31]، {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا} [القمر: 34]، {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ} [الذاريات: 33]، {وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا} [الكهف: 40]، {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ} [الرحمن: 33]،

{فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ} [الإسراء: 69] وغيرها. [ص 107] ومنه قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [مريم: 83] فإن هذا التسليط نوع من العذاب استحقه الكفار بعنادهم وإصرارهم. والظاهر أن "أرسل" في هذه الآيات ونحوها - ومنها آية الفيل - ضُمِّن معنى "سلط"، فلذلك عُدِّي بـ (على). والتضمين كثير في القرآن، وذكر منه ابن عبد السلام نحو خمسين مثالاً (¬1). وقد ذكر أهل اللغة في معاني "أرسل" سلَّط، قاله الزجاج وغيره في الآية الأخيرة. (راجع اللسان) (¬2). فأما قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا} [الأنعام: 6]، فيمكن أن يكون الجار والمجرور متعلقًا بقوله: {مِدْرَارًا}، لا بـ (أرسل) والتقدير: وأرسلنا السماء مدرارًا عليهم. ونحوها في ذلك آيات أخرى، منها قوله تعالى: {فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء: 80]، وقوله سبحانه {وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} [المطففين: 33]، وقوله عزَّ وجلَّ: {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً} [الأنعام: 61] وغيرها. فهذان دليلان على أن إرسال الطير كان لتعذيب أصحاب الفيل: الأول: وقوع هذه الجملة في تفصيل فعل الرب بأصحاب الفيل. ¬

_ (¬1) الإشارة والإيجاز ص 54 - 58. [المؤلف]. (¬2) (11/ 285 - رسل). وانظر: معاني الزجاج (3/ 345).

الثاني: تعدية الإرسال بـ "على" كما سمعت. 3 - الأبابيل: تقدم تفسيره في فصل (ج) من القسم الأول، وحاصله أنه الجماعات، وتقدم ما جاء في وصف الطير. 4 - {تَرْمِيهِمْ} على ظاهره، والمعنى: ترميهم تلك الطير. والجملة نعت لـ {طَيْرًا} على حد قوله تعالى: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ} [المائدة: 31]، أو حال منها لتخصيصها بالنعت لقوله: {أَبَابِيلَ}. قال الرضى: "واعلم أنه يجوز تنكير ذي الحال إذا اختص بوصف، كما جاء في الحديث: "سابق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين الخيل، فجاء فرس له سابقًا" وكذا تقول: مررت برجل ظريفًا قائمًا" (¬1). لا يقال: إن الرمي هنا لم يقارن الإرسال, لأننا نقول: إن لم يقارنه من أوله فهو مقارن له دوامًا, لأن الإرسال لم ينته إلا برجوع الطير، على أن الإرسال مضمن معنى التسليط، فلا إشكال، على أنه قد سبق قريبًا آية النساء، وآية التطفيف. ومما حسَّنه ههنا أنه فعل مضارع، وأنه المقصود من الإرسال. والحال المقدرة جائزة عندهم. [ص 108] وقد يجوز أن يحمل قوله: {تَرْمِيهِمْ} على أنه استئناف بياني. كأنه - والله أعلم - لمّا مضى التشويق والتهويل، ثم جاء: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ}، وهو يدل أنها أرسلت لعذابهم - كما علمت - كان مما تقتضيه العادة أن يسأل من لم يعلم الواقعة من المخاطبين: وما صنعت بهم ¬

_ (¬1) شرح الكافية (1/ 204). [المؤلف].

الطير؟ فأجيب بقوله: {تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ}. وقد قيل مثله في: {تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [مريم: 83]. وزاده حسنًا ههنا أن الجملة الأولى تمت برأس آية من شأنها أن يوقف عليها. وستعلم تمام هذا في الفائدة (15) من الباب الثاني إن شاء الله تعالى. ولكنه يضعف ها هنا بأن مبنى السورة على تحقيق العلم كما تقدّم كأنه قيل: "قد علمه كل من يخاطب" وكانت الواقعة والكيفية بغاية الشهرة، فلا يحسن مع هذا فرض السؤال، والله أعلم. واختير الفعل المضارع تصويرًا لتلك الحال الغريبة، والهيئة العجيبة. وسيأتي إيضاح ذلك في الفوائد آخر الرسالة إن شاء الله تعالى. وقد ذكر الآلوسي (¬1) في تفسير آية النساء الماضية آنفًا أن بعض أهل العلم جوَّز أن يكون قوله: (حفيظًا) مفعولًا ثانيًا لـ (أرسلنا) على أنه ضمن معنى "جعلنا". قال عبد الرحمن: ويؤيده قول الله تعالى في نظير الآية {وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [الأنعام: 107]. وللخفاجي بحث نفيس في التضمين (¬2)، قد يظهر بمراجعته احتمال وجه رابع في {تَرْمِيهِمْ} وهو أنه مفعول ثانٍ لـ (أرسلنا) على أن يكون المعنى: جعلنا الطير ترميهم مسلطةً عليهم. فراجعه إن شئت. ¬

_ (¬1) راجع روح المعاني (2/ 136). [المؤلف]. (¬2) طراز المجالس ص 20 - 29. [المؤلف].

[ص 110] (¬1) 5 - قوله: {مِنْ سِجِّيلٍ} نعت لحجارة، وذلك ظاهر في أنها ليست من الحجارة المتعارفة، بل هي من سجيل. ومعناه اللفظي: طين متحجر، كما قاله السلف، بل فسره القرآن نفسه، فإنه ذكر في قصة لوط: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود: 82 - 83]، وفي موضع آخر: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} [الحجر: 74]، وفي الثالث: {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ} [الذاريات: 33 - 34]. ولعل النكتة في اختيار هذا الوصف {مِنْ طِينٍ} في هذا الموضع الثالث: أن العبارة فيه محكية عن الملائكة في إخبارهم لإبراهيم عليه وعليهم السلام، وكان أواهًا حليمًا رؤوفًا رحيمًا، يشق عليه أن يعذب أولئك القوم، فإنه جادل في شأنهم كما في سياق القصة، فاختار الملائكة في محاورته وصفها بأنها من طين؛ لأنه أخفُّ من سجيل في التصور، وإن كان المآل واحدًا. هذا، وتفسير السجيل بحجارة من طين لا يعين أنها مما تحجر من طين الأرض، فإن الآيات تعطي أنه نوع خاصّ معدّ عند الله عزَّ وجلَّ، أي حيثُ يُعلَمُ، ليعذّب به من يشاء. وقوله: {مُسَوَّمَةً} يشهد لذلك، قال ابن عباس: "المسومة: الحجارة المختومة، يكون الحجر أبيض فيه نقطة سوداء، أو يكون الحجر أسود فيه نقطة بيضاء، فذلك تسويمها عند ربك يا إبراهيم للمسرفين" (¬2). ¬

_ (¬1) الصفحة (109) مضروب عليها. (¬2) تفسير ابن جرير (27/ 2). [المؤلف].

[ص 111] وعن مجاهد وغيره: "المسومة: المعلمة". زاد ابن جريج: "لا تشاكل حجارة الأرض". ونحوه عن قتادة (¬1). وفي بعض التفاسير عن ابن عباس: أنه رأى منها عند أم هانئ نحو قفيز مخططة بحمرة كالجَزْع الظَّفاري (¬2). وقال الآلوسي: "وأخرج أبو نعيم عن نوفل بن أبي معاوية أنه قال: رأيت الحصى التي رمي بها أصحاب الفيل: حصى مثل الحمص، وأكبر من العدس [حُمْر] بحُتْمة (¬3)، كأنها جَزْع ظَفار. وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس أنه قال: حجارة مثل البندق. وفي رواية ابن مردويه عنه: مثل بعر الغنم" (¬4). ثم ذكر ما قيل: إن الحجارة كانت كبارًا، وقد تقدم بيان وهمه في فصل (هـ) من القسم الأول. قال: وروى ابن مردويه وأبو نعيم عن أبي صالح: "أنه مكتوب على الحجر اسم من رمي به، واسم أبيه، وأنه رأى ذلك عند أم هانئ". قال عبد الرحمن: إن صح السند إلى أبي صالح، فكأنه رأى تلك الخطوط التي وصفها غيره، فحدس أنها كتابة بلسان غير العربي، ورأى أنها ¬

_ (¬1) تفسير ابن جرير (13/ 54 - 55) [المؤلف]. (¬2) تفسير النيسابوري بهامش تفسير ابن جرير (30/ 164)، تفسير الخطيب. [المؤلف]. (32/ 97). (¬3) كذا ضُبطت في الأصل. وكذا في روح المعاني (ط المنيرية 30/ 237)، وقال في الحاشية: "بالضم: السواد". وفي مطبوعة دلائل النبوة لأبي نعيم (88): "مختَّمة". وكذا في إمتاع الأسماع (4/ 79) وسبل الهدى والرشاد (1/ 221). (¬4) روح المعاني (9/ 458 - 459). [المؤلف].

إن كانت كتابة فهي اسم من رمي بتلك الحصاة. وهذا حدس لا مستند له. والله أعلم. [ص 112] 6 - تقدم في فصل (هـ) من القسم الأول ما جاء في تأثير الحجارة فيهم، وأن الراجح أنها كانت تجرح من أصابته جرحًا ما، فيتقرح ذلك الموضع، ويصيب صاحبه الجدري والحكة ونحو ذلك. ومن لم تصبه جُدر بالعدوى العادية، ففرّوا يتساقطون عند كل منهل. **** {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)} 1 - الفاء عاطفة سببية، أي فجعلهم الله بما أصابهم من الحجارة التي رمتهم بها الطير وما أحدثته فيهم من الآثار كعصف مأكول. 2 - "العصف" في أكثر الروايات عن السلف هو التبن، وفي بعضها أنه ورق الزرع، وفي بعضها أنه الورق مطلقًا (¬1). وكأنه مأخوذ من عصفت الريح, لأنها تعصف به، أي تذهب به. 3 - اختلف في قوله: {مَأْكُولٍ} قيل: إن المراد: أصابه الأُكال، أي أكلته الدود، فالمعنى: كورق الزرع الذي أكلته الدود، فتفرق وتمزق، وعصفت به الريح، فذهب شذر مذر. وقيل: المراد: أكلته البهائم، أي أكلت منه، وداسته، فهو فضلة ما أكلته، فإنه أشد هوانًا له على الناس. وقيل: المراد: أكلته البهائم فراثته، ولكن القرآن ترفَّع عن التصريح. ¬

_ (¬1) راجع تفسير ابن جرير (27/ 64) و (30/ 169). [المؤلف].

وقيل: كعصف أكل حبه، فإن ورق الزرع ما دام على حبه لا يتفرق، ولا يهون على الناس. والقول الثالث هو الظاهر. والثاني قوي، والنفس إليه أميل. والله أعلم. [ص 113] وقال المعلِّم رحمه الله (ص 3): "المأكول: ما من شأنه أن يؤكل، تسمية الشيء بما يؤول إليه. وهذا الأسلوب عام في الكلام، قال تعالى: {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال: 42، 44] ". قال عبد الرحمن: هذا التأويل يجعل الكلمة لغوًا، فإنه معلوم أن من شأن العصف أن يؤكل، فأي فائدة في وصفه بما لا يخفى، ولا ينكر، ولا مقتضى لتنزيله منزلة الخفي، أو المنكر. فأما قوله تعالى: {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا}، فالقضاء هنا بمعنى التنفيذ بالفعل، فيما يظهر. كان ذلك الأمر مفعولاً: مقدرًا في علم الله أنه سيفعل، فقضاه، أي نفذه ونجزه ذلك اليوم، أي يوم بدر. لا يقال: إن كل ما قضاه الله تعالى بالفعل، فمعلوم أنه كان مقدرًا فعله في علمه، وهذا يشبه ما اعترضت به قول المعلِّم في "مأكول". لأني أقول: لا يستحضر كل إنسان ولا يصدق كل أحد بأن كل ما يقع فقد سبق في علم الله أنه واقع. فتدبر! 4 - قال المعلِّم رحمه الله (ص 3): "إنما شبه أصحاب الفيل بالعصف المأكول لما أنهم هُزموا وكُسروا ومُزِّقوا كلَّ ممزَّق، وذهبت سلطنتهم بعيد ذلك. وهذا تشبيه معروف، قال عدي بن زيد في قصيدته المشهورة (¬1): ¬

_ (¬1) ديوان عدي (90).

ثم صاروا كأنهم ورقٌ جَفْـ ... ـفَ فألوَتْ به الصَّبا والدَّبورُ وهكذا في القرآن {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ [ص 114] نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} [الكهف: 45] أي: جعلهم كهباء منثور ... ثم زاد هذا التشبيه حسنا أن أصحاب الفيل تناثرت أعضاؤهم، وأكلتهم سباع الطير - كما سيأتيك بيانه - فصدق عليهم صورة ومعنى أنهم صاروا كعصف مأكول". قال عبد الرحمن: التشبيه يعطي ثلاثة أمور: الأول: الهلاك، وقد جاء نحوه في قصة ثمود، قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} [القمر: 31]. الثاني: الهوان على الناس، فإن ما تُسْئِره الدواب من العصف أو تروثه لا يلتفت إليه أحد، ولا سيَّما إذا تفرق، وقد يأتي نحو هذا في {كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ}. الثالث: التفرق، وذلك من شأن العصف الملقى أن تذهب به الرياح شذر مذر. يظهر أن اختيار كلمة "عصف" يشير إلى ذلك، فإنها مأخوذة من عصفت الريح، كما مر. فإن قيل: فقد تقدم أن القوم لم يهلكوا جميعًا، بل نجا بعضهم. قلت: يكفي في صدق التشبيه هلاك أكثرهم، فإن من نجا منهم إنما نجا مصابًا، كالأعميين المقعدين اللذين أدركتهما عائشة بمكة، وذلك ضرب من الهلاك، قد يكون أشد من الموت. ومن لم يصب منهم - إن كان - فإنه رجع

خاسئًا ذليلاً، وذاك ضرب آخر من الهلاك. على أن حكاية القصص والوقائع لا يجب أن تدقق فيها العبارة تدقيقها في العقائد والأحكام، فقد يطلق فيها العام مرادًا به الخاص، اكتفاءً بقرينة ليست بغاية القوة، كأن يكون اكتفى ههنا بمشاهدة العرب، ونقلهم [ص 115] أن بعض أفراد ذلك الجيش نجوا، والله أعلم. ويكفي في صحة الوجه الثالث - وهو التفرق - تفرق أفرادهم، كما في القصة أنهم ذهبوا يتساقطون عند كل منهل؛ إذ لا يلزم من تشبيه شيء بشيء مساواته به من كل وجه. كيف، ولو قلنا بتساقط أعضائهم، وأكل الطير لحومهم لبقيت عظامهم، فهل يلزم أن يدعى أن عظامهم تهشمت حتى صارت في قدر العصف؟ فأما ما جاء من تساقط أعضائهم بالداء الذي أصابهم، فلعله كان ذلك في بعضهم، فقد جاء أن أبرهة جرى له كذلك. ويمكن أن يكون أصاب عتاة أصحابه مثل ما أصابه. وأما أكل الطير فقد تقدم البحث فيه مستوفى في القسم الأول. والله أعلم. فانظر إلى هذا النظام البديع في هذه السورة: الآية الأولى: أجملت ما فعل الرب بأصحاب الفيل، وشوقت إلى معرفته. والآية الثانية: بيّنت أول ما فعله الربُّ بهم، وهو تضليله كيدهم. والثالثة: بينت مقدمة العذاب، والواسطة فيه. والرابعة: بينت صفة العذاب. والخامسة: بينت ما ختمت به الواقعة، وهو هلاك القوم.

الباب الثاني في البحث مع المعلم رحمه الله تعالى في: {ترميهم}

[ص 1] الباب الثاني في البحث مع المعلِّم رحمه الله تعالى في: {تَرْمِيهِمْ} قد نبّهتُ في مقدمة هذا القسم الثاني وأثناء الباب الأول منه على مواضع مما خالفتُ فيه المعلم، ووجّهتُ ذلك بما فيه كفاية إن شاء الله تعالى، وأخّرتُ الكلام في {تَرْمِيهِمْ} لطوله. وأرى أن أقدِّم فوائد وقواعد ينبني عليها البحث معه، فهاكها: (1) قال ابن الشجري: "قال أبو الفتح عثمان بن جنّي: قال لي أبو علي: سألت يومًا أبا بكر - يعني ابن السرّاج - عن الأفعال يقع بعضها موقع بعض، فقال: كان ينبغي للأفعال كلها أن تكون مثالاً واحدًا, لأنها لمعنى واحد، ولكن خولف بين صيغها لاختلاف أحوال الزمان. فإذا اقترن بالفعل ما يدل عليه من لفظ أو حال جاز وقوع بعضها في موقع بعض. قال أبو الفتح: وهذا كلام من أبي بكر عالٍ سديد" (¬1). قال عبد الرحمن: هؤلاء كلهم نحاة، ووضع الماضي موضع المضارع وعكسه لا يجوز إلا بأمرين: زوال المانع، وقيام المقتضى للعدول عن الأصل، والمانع هو الإلباس والإيهام، والمقتضي سيأتي بيانه عن أهل البيان. والنحاة إنّما يهتمّون بدفع الإلباس والإيهام كما سيأتي، ولا شأن لهم ¬

_ (¬1) أمالي ابن الشجري (1/ 304)، ونقله البغدادي في خزانة الأدب. [المؤلف]. وانظر: الأمالي نشرة الطناحي (2/ 35)، ونقله ابن الشجري في (2/ 453) أيضًا. وانظر: (1/ 68). وراجع: خزانة الأدب (10/ 4). والنص في الخصائص (3/ 331) بلفظ مختلف، ولعل مصدر ابن الشجري غير الخصائص.

بالمقتضي، إذ هو من فنّ آخر، فإجازتهم وضع الماضي موضع المضارع وعكسه إذا كانت قرينة تدل على حقيقة الزمان، إنما معناه أنه ليس هناك مانع نحوي إذ قد زال الإلباس والإيهام. ولا يلزم من زوال المانع النحوي الجواز مطلقًا, ولكن القوم إنما تكلموا بحسب فنّهم. [ص 2] فممّا يمنعه النحاة لأجل الإلباس والإيهام: تقديم خبر المبتدأ إذا كانا معرفتين أو نكرتين ولا قرينة, لأنّ الأصل تقديم المبتدأ، فالسامع يحمل الكلام عليه، فمنعوا تقديم الخبر حينئذ لما فيه من الإيهام. ومن ذلك أنهم اتفقوا على منع "زيدٌ بكرٌ ضاربُه" إذا أريد أنّ زيدًا هو الضارب، وأحبّوا أن يقال: "زيدٌ بكرٌ ضاربُه هو". وإذا قيل هكذا وجب أن تكون الهاء في "ضاربه" لبكر، وكلمة "هو" لزيد (¬1). ومنه منعهم تخفيف "إنّ" مكسورة الهمزة مشدّدة النون إذا خُشِيَ التباسها بـ "إنْ" الساكنة النافية. ومنه منعهم تقديم المفعول حيث يلتبس بالفاعل نحو "ضربتْ سُعدى لُبنى". ومن ذلك منعهم تقديم المبتدأ في نحو "إنما في الدار زيد"، والخبر في نحو "إنما زيد في الدار"، بل يجب تقديم المقصور على المقصور عليه. ومثله "إنما ضرب زيدٌ بكرًا"، و"إنما ضرب بكرًا زيدٌ". وقالوا في كلِّ ما تجيز الصناعة حذفه كالمفعول به: إنما يجوز حيث لا إلباس. ومسائلهم المبنية على هذا الأصل كثيرة. ¬

_ (¬1) انظر: همع الهوامع (2/ 12).

والمقصود أن الحكاية السابقة المراد بالجواز فيها عدم المانع النحوي، وذلك لا يقتضي الجواز مطلقًا، بل لا بدّ من قيام المقتضي. وبيانه موكول إلى فنّ البيان، وسيأتي طرف منه إن شاء الله تعالى. (2) حكي عن الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني إنكار المجاز، وقال: كل ما يظن مجازًا فهو حقيقة. وحكى بعضهم مثله عن أبي علي الفارسي، وهو غلط عليه (¬1). وحكي عن الظاهرية وابن القاصّ وابن خُوَيز مَنْداد إنكار وقوع المجاز في القرآن (¬2). وقد يتوهم أن مِن رأي هؤلاء جواز وقوع كل من الماضي والمضارع موقع الآخر مطلقًا، أو منعه مطلقًا، أو تأويل ما سمع منه بالحذف والتقدير. وليس الأمر كذلك، [ص 3] بل يفسّر هؤلاء كل ما وقع من ذلك في القرآن وغيره نحو تفسير الجمهور، إلاَّ أنَّهم يأبون أن يُسمّوا ذلك مجازًا. وقد تكلم العلماء في تفسير مذهب هؤلاء، فمنهم من رماهم بالجهل، ومنهم من رماهم بالمكابرة، ومنهم من يرى أنهم إنّما استشنعوا هذا الاصطلاح، إذ يلزمه أن يقال: إن في الكتاب والسنة كثيرًا من الألفاظ والجمل ليست على حقيقتها. والذي يلوح إلى أن الأستاذ سمع من كلام الذين اصطلحوا على تسمية هذا حقيقةً وهذا مجازًا ما فهم منه أنهم يرون أن المجاز لا حظّ له في الوضع العربي، كقولهم في استعمال الكلمة: "إن كان فيما وضعت له فهي حقيقة، ¬

_ (¬1) راجع: المزهر (1/ 175). [المؤلف]. نشرة البجاوي وزميليه (1/ 364، 366). (¬2) راجع: الإتقان (2/ 36). [المؤلف].

وإن كان في غير ما وضعت له فهي مجاز"، فرأى أن معنى هذا أنّ المجاز لا حظّ له في الوضع العربي البتة. وإذا كان كذلك فالألفاظ المجازية ليست بعربية، وقد ثبت أن القرآن عربي، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم عربي، وكل ما ثبت عن فصحاء العرب فهو عربي، فلا مجاز إذن في ذلك. والقوم يثبتون للمجاز حظًّا في الوضع العربي، ولكنهم قسموا الوضع إلى تحقيقي كوضع "أسد" للسبع المعروف، ووضع "مضروب" لمن وقع عليه الضرب؛ وتأويلي وهو المجاز كوضع "أسد" للرجل الشجاع. قالوا: وأما إطلاقنا أنّ المجاز مستعمل فيما لم يوضع له، فمرادنا بالوضع هنا الوضع التحقيقي، وأطلقنا لأنّه المتبادر من كلمة الوضع (¬1). قال عبد الرحمن: فظنّي أنّ الأستاذ لو وقف على هذا البيان لما كان عنده خلاف، والله أعلم. وأما الظاهرية ومن وافقهم فقد يكون حالهم كحال الأستاذ، فإن صحّ ما حكي عنهم [ص 4] من قولهم: المجاز شبيه بالكذب، والاستعارة إنما يفزع إليها من عجز عن الحقيقة، فكأنهم يخصّون اسم المجاز بما فقدت قرينته أو ضعفت، أو فقدت علاقته أو ضعفت، أو لم يكن للعدول إليه فائدة لا تحصل بالحقيقة. فإن كان هذا فلا خلاف، فإن أهل العلم معهم على أن مثل هذا لم يقع في القرآن. وإنما الواقع فيه ما ظهرت قرينته، وقويت علاقته، وجلّت فائدته. فإن كانوا لا يسمّونه مجازًا فلا مشاحّة في الاصطلاح. نعم، توسعت المبتدعة في دعوى المجاز، فحرّفوا كثيرًا من نصوص الكتاب والسنة، وزعموا أن نصوصهما لا تفيد إلا الظنّ. ويكفي في دحض ¬

_ (¬1) راجع: المطول (4/ 122 و136). [المؤلف].

شبهتهم بيان حقيقة المجاز وأنه لا بدّ فيه مع قوة العلاقة وحصول الفائدة من ظهور القرينة عند المخاطب، فإن المخاطب لا يجوز أن يلقى إليه مجاز ليست قرينته ظاهرة له، وإلا كان الكلام كذبًا. وقد ذهب أكثر أهل العلم إلى أن المجمل الذي له ظاهر لا يجوز تأخير بيانه عن وقت الخطاب، والباقون أجازوا التأخير إلى وقت الحاجة فقط. ولا خلاف عند التحقيق في النصوص التي ينبني عليها اعتقاد، فإن وقت الحاجة فيها هو وقت الخطاب. فهذا وحده كافٍ لدفع ضلالات المبتدعة، كيف ومعه حجج أخرى ليس هذا محل بسطها. والمقصود أنه لا حاجة بأهل السنّة إلى تعسّف الطعن في المجاز والتشكيك فيه، فإنه يخشى من ذلك ضرر أكبر مما يتراءى فيه من النفع، وذلك شأن كل باطل يتوصل به إلى دفع باطل آخر، والله أعلم. [ص 5] (3) في وضع المضارع للحال أو للاستقبال أقوال ذكرها في الهمع، وفيه: "الثالث - وهو رأي الجمهور وسيبويه أنه صالح لهما حقيقة، فيكون مشتركًا بينهما, لأن إطلاقه على كل منهما لا يتوقف على مسوّغ وإن ركب، بخلاف إطلاقه على الماضي فإنه مجاز لتوقفه على مسوغ. الرابع: أنه حقيقة في الحال، مجاز في الاستقبال، وعليه الفارسي وابن أبي رُكَب. وهو المختار عندي بدليل حمله على الحال عند التجرد من القرائن، وهذا شأن الحقيقة. ودخول السين عليه لإفادة الاستقبال. ولا تدخل العلامة على الفروع كعلامات التثنية والجمع والتأنيث والنسب" (¬1). ¬

_ (¬1) الهمع (1/ 7). [المؤلف]. ط عبد العال (1/ 17 - 18) وليس فيها كلمة "النسب".

وقال الرضي بعد ذكر القول بوضعه للحال: "وهو أقوى, لأنه إذا خلا عن القرائن لم يحمل إلا على الحال، ولا يصرف إلى الاستقبال إلا بقرينة، وهذا شأن الحقيقة والمجاز" (¬1). قال عبد الرحمن: ومما يحتج به لقول الجمهور أن الإخبار عن الأفعال المستقبلة مما تدعو إليه الحاجة كثيرًا، فيبعد اكتفاء الواضع فيها بالمجاز. وبالجملة فلكلا القولين حجة قوية، فإن أمكن الجمع بينهما فهو الصواب. فقد يقال: كما أن المضارع مع (لم) موضوع للماضي ولا مجاز، فكذلك هو مع السين وسوف وغيرها من الأدوات الموضوعة لصرفه إلى الاستقبال موضوع إلى الاستقبال (¬2) ولا مجاز، والفرعية لا تستلزم المجاز ولا تستدعي مسوِّغًا. وإن كان مجردًا عن تلك الأدوات فهو حقيقة في الحال، وإذا استعمل في غيره بقرينة من غير تلك الأدوات فمجاز لا بدّ له من مسوِّغ. [ص 6] (4) ظاهر كلامهم أن المراد بالحال التي وضع لها المضارع حال التكلم، ولكن قال السيد الجرجاني: "الأفعال إذا وقعت قيودًا لحالة اختصاص بأحد الأزمنة فُهِمَ منها استقباليتها وحاليتها وماضويتها بالقياس إلى ذلك القيد، لا بالقياس إلى زمان التكلم" (¬3). قال عبد الرحمن: الذي يهمّنا هنا هو المضارع، فاعلم أنه يكون لحال غير حال التكلم في مواضع: ¬

_ (¬1) شرح الشافية (2/ 229). [المؤلف]. (¬2) كذا في الأصل، والمقصود: للاستقبال. (¬3) حواشي الشمني على المغني (2/ 9). [المؤلف].

منها: أن يكون خبرًا لكان أو غيرها من النواسخ، فالحالية هنا هي بالنظر إلى زمن الكون. ومنها: أن يكون حالاً نحوية، أو في جملة حالية، فالحالية المضارعية هنا هي بالنظر إلى زمن العامل. ومنها: أن يكون نعتًا ولا صارف، فإن حاليّة الفعل تكون بالنسبة إلى العامل في المنعوت. هذا هو الظاهر فيه، وإن لم يلزم. ومثله كونه مفعولاً ثانيًا لنحو جعل. والله أعلم. [ص 7] (5) الحال الذي هو زمن التكلم هي اللحظة التي تسع الخبر، والخبر يدل على بقاء الفعل ثلاث لحظات: لحظةً قبل الخبر لأنك قبل أن ترى زيدًا مشتغلاً بالكتابة لا تخبر عنه بقولك: "زيد يكتب". فهذه لحظة تسع رؤيتك إياه آخذًا في الكتابة. ولحظةً أخرى تسع الخبر؛ لأن الظاهر أنك لو شرعت في الخبر فرأيته قَطَعَ الكتابة أن تقطع كلامك إن أردت الحقيقة. ولحظةً ثالثةً بعد الخبر، إذ قلّما يتفق أن ينتهي الفعل مع انتهاء الخبر. (6) من الأفعال ما يسع الفرد الواحد منه هذه اللحظات الثلاث، ومنها ما أسرع من ذلك كطرف العين، ومنها ما يقصر تارة ويطول أخرى كالنفخ، ومنها ما يستغرق مدّة أكثر من ذلك كالصلاة. وعلى كل حال فلا بد من دوام الفعل تلك اللحظات كما مرّ. فإن كان الفرد الواحد منه أقصر أفهَمَ الكلامُ التكرار كقولك: عينُ زيدٍ تَطْرَف، وإن كان قد يطول وقد يقصر كان الكلام محتملًا للامتداد والتكرار. وإن كان أطول من ذلك فإنما يفهم من الكلام أنه كان مشتغلاً به تلك اللحظات الثلاث، كما في قولك: زيد يصلّي، لا بدّ أن يكون قد شرع في الصلاة قبل لحظة من الخبر، ثم استمرّ إلى عقب انتهاء

الخبر. وأما ما قبل هذه اللحظات وما بعدها فالخبر ساكت عنه. فأما إذا كانت الحالية بالنسبة إلى العامل، فقد يفهم امتداد الفعل أطول مما ذكر، كقولك: جاءنا زيد يمشي، فإن ظاهر هذا أنه استمرّ على المشي منذ خروجه عامدًا إليكم إلى أن وصل. (7) كثيرًا ما يستعمل المضارع للدلالة على الاستمرار من الماضي البعيد إلى المستقبل البعيد، إمّا دواميًّا نحو "زيد يحبُّنا"، وإمَّا تجدُّديًّا نحو "زيد يزورنا". [ص 8] ولما كان الاستمرار من الماضي إلى المستقبل كان حكم هذا المضارع في الحالية على ما تقدم. تقول: "زيد يحبّنا" ما دام مستمرًّا على محبتكم، قد ثبت عليها إلى الحال ويتوقع ثبوته عليها في المستقبل. فإذا كان خبرًا لـ "كان" كانت حاليته بحسبها. تقول بعد موت زيد بزمان: "كان زيد يحبّنا، وكان يزورنا". وكذلك إذا كان جملة حالية أو في جملة حالية فبحسب العامل. تقول بعد موت زيد: مكث زيد بالمدينة عشر سنين يطلب العلم، أو وهو يطلب العلم. وكذلك إذا كان مفعولاً ثانيًا لنحو جعل. ولما كان من مدلوله التكرار في الماضي قطعًا، وأما في المستقبل فلعله إنما يكون ظنًّا, ولا يلزم حصول فرد منه في الحال، وذلك في قولك: "زيد يزورنا" المتحقق أنه قد زاركم مرارًا، ولا يلزم أن يكون فرد من الزيارة حاصلاً حال التكلم بالفعل، وإن كان كالحاصل بالقوة لثبوت أن الزيارة عادة له وخلق؛ وأما في المستقبل فذلك متوقع على سبيل الظن = لما كان الأمر كذلك أطلق بعضهم أنه للماضي.

قال سيبويه: "قد تقع (نفعل) موضع (فعلنا) في بعض المواضع، ومثل ذلك قوله لرجل من بني سلول [ص 9]: ولقد أمرُّ على اللئيم يسبُّني ... فمضيتُ ثُمَّتَ قدتُ لا يَعْنيني واعلم أن (أسير) بمعنى (سرت) (¬1) إذا أردت بـ (أسير) معنى (سرت) " (¬2). وبالهامش: "قوله: واعلم أن أسير بمعنى سرت الخ. قال أبو سعيد (السيرافي): إنما يستعمل ذلك إذا كان الفاعل قد عرف منه ذلك الفعل خلقًا وطبعًا, ولا ينكر منه في المضي والاستقبال، ولا يكون لفعل فَعَلَه مرّةً من الدهر". قال عبد الرحمن: والاستمرار في كل شيء بحسبه، فقد يكون دواميًّا كقولك: "زيد يحبّنا"، وقد يكون تجدّديًّا كقولك: "زيد يزورنا"، ولا بدّ أن يكون تكرَّر في الماضي تكرُّرًا صار به عادة. وذلك يختلف، فالزيارة تحتاج إلى مرار عديدة، وأما في نحو قولك: "زيد يبارز الأسد" فيكفي أن يكون قد وقع منه مرتين فصاعدًا لأن العادة في مثل هذا تثبت بذلك. (8) يأتي المضارع للتكرار بعد (ربما) كقوله: ربّما تجزع النفوسُ من الأمـ ... ـرِ له فَرْجَةٌ كحلِّ العِقالِ (¬3) ¬

_ (¬1) في طبعة هارون: "بمنزلة (سرت) ". (¬2) كتاب سيبويه (1/ 416). [المؤلف]. ط هارون (3/ 24). (¬3) من شواهد سيبويه (2/ 109، 315)، وينسب إلى أمية بن أبي الصلت وغيره. انظر ديوانه (444، 586).

وقال الأعشى: ثم أذهلتُ عقلَها ربما يُذْ ... هَلُ عقلُ الفتاةِ شبهِ الهلالِ (¬1) وكذلك بعد (قد)، وهو كثير جدًّا. ومنه قول عمرو بن معد يكرب: ولقد أجمع رِجلَيَّ بها ... حذَرَ الموتِ وإنّي لَفَرورُ ولقد أعطفُها كارهةً ... حين للنفس من الموت هريرُ كلُّ ما ذلك منّي خُلُقٌ ... وبكُلٍّ أنا في الرَّوعِ جديرُ (¬2) [ص 10] وينظر في دلالة الفعل هنا على التكرار، أبسبب (ربما) و (قد) أم من نفس الفعل، كما تقدم في نحو "زيد يزورنا"؟ الذي يلوح لي في (ربما) أنها هي المفيدة للتكرار لأنها تفيده مع الماضي كقول جَذِيمة: رُبّما أوفيتُ في عَلَمٍ ... ترفعَنْ ثَوبي شَمَالاتُ (¬3) وتفيده (ربّ) بدون (ما) كقول الأعشى: رُبَّ رَفْدٍ هَرَقْتَه ذلك اليو ... مَ وأسْرَى من معشرٍ أقْتالِ (¬4) ¬

_ (¬1) في جمهرة أشعار العرب ط الهاشمي (1/ 342): "ربما أذهلت". والبيت ليس في الديوان، وهو من الأبيات الزائدة التي ذكر في إحدى نسخ الجمهرة أن أبا عبيدة قال: إنها لعمرو بن سرية المرادي. انظر: الجمهرة (1/ 341) الحاشية 3. (¬2) حماسة أبي تمام مع شرح التبريزي (1/ 93 - 94). [المؤلف]. وانظر: شرح المرزوقي (1/ 181 - 182) وشعر عمرو (117). (¬3) طبقات فحول الشعراء (1/ 38). (¬4) جمهرة أشعار العرب ص (133). [المؤلف]. وانظر: ط الهاشمي (1/ 338)، وديوان الأعشى (63).

وقوله: رُبَّ حَيٍّ سقيتَهم جُرَعَ المو ... تِ وحيٍّ سقيتَهم بسجالِ (¬1) إلاَّ أنّها مع الماضي تفيد التكرر في الماضي، وأمّا مع المضارع فتفيد التكرر في الماضي والمستقبل لأنّ أصل المضارع للحال. وأما (قد) فيلوح لي أن التكرار معها من الفعل. فإن أصل معنى (قد) أن تكون للتحقيق مع الماضي كقولك: "قد خرج زيد". وتفيد التوقّع على شكٍّ مع المضارع، كقولك: "قد يقدم زيد غدًا". فإذا استعملت مع المضارع للتكرار فقد تكون للتقليل. ومن أمثالهم: "قد يَبلغُ القَطوفُ الوَساعَ، قد يُبْلَغُ الخَضْمُ بالقَضْمِ، قد تَقْطَع الدَّوِّيَّةَ النَّابُ، قد يُؤتَى على يَدَي الحريصِ، قد يُدْرِك المُبطِئُ من حَظِّه" (¬2). وقد تكون للتكثير كبيت العروض: قد أشهدُ الغارةَ الشَّعواءَ تَحمِلُني ... جَرْداءُ معروقةُ اللَّحْيَيْنِ سُرْحُوبُ (¬3) [ص 11] فكأن التي للتقليل هي التي للتوقع في المستقبل، دخلت على المضارع الاستمراري فأفادت أنه لا يزال متوقَّعًا على شكٍّ، فجاء التقليل، وتحقق الوقوع في الماضي مع التوقع في المستقبل. وذلك أنه لو لم يقع البتة أو ¬

_ (¬1) جمهرة أشعار العرب ص (133). [المؤلف]. وانظر ط الهاشمي (1/ 339)، وديوان الأعشى (59) وروايته: رُبّ حيًّ أشقاهُمُ آخر الدَّهْـ ... ـرِ وحَيًّ سقاهُمُ بِسِجالِ (¬2) انظر: مجمع الأمثال (2/ 478، 497، 505، 506). (¬3) لامرئ القيس في ديوانه (225)، ويقال: إنها لإبراهيم بن بشير الأنصاري.

وقع مرة واحدة فقط لكان كالميؤوس منه، ولو كان يتكرر بكثرة لَما ناسبته قد التوقعية لأن التوقع على شك كما سبق. وأما التي للتكثير، فكأنها قد التحقيقية دخلت لتحقيق الاستمرار، ولذلك يكثر دخول اللام عليها، كما يأتي. هذا، وذهب الجمهور إلى أنّ (ربما) تصرف المضارع إلى المضيّ مطلقًا، وقال بعضهم: بل غالبًا. والظاهر أنَّ مرادهم أنها تفيد التكرار المتحقق في الماضي، المظنون في المستقبل، كما تقدم عن السيرافي في الفائدة السابعة، وذلك ظاهر في قوله: "ربما تجزع النفوس الخ". وأما (قد) فنقلوا عن سيبويه أنها قد تكون بمنزلة (ربما)، وأنشد بيت: قد أتركُ القِرْنَ مصفرًّا أناملُه ... كأنّ أثوابَه مُجَّتْ بِفِرْصَادِ (¬1) ففسّره ابن مالك بأنها بمنزلتها في التقليل والصرف إلى المضي، فخالفه أبو حيان قال: "بل مراده في التكثير فقط" (¬2). قال عبد الرحمن: ليس معنى الصرف إلى المضيّ أن يصير ماضيًا البتة، فإن هذا ليس مرادًا في (ربّما) نفسها كما مرّ، وإنما المراد الاستمرار المتحقق في الماضي، المظنون في المستقبل، على نحو ما تقدم في (ربما)، وما ذكره السيرافي كما مرّ في الفائدة السابعة. وهذا ثابت للمضارع مع قد التقليلية أو التكثيرية، فلا وجه لإنكاره. [ص 13] (¬3) (9) المصادر من حيث مدلولها على ضربين: الأول ما ¬

_ (¬1) كتاب سيبويه (4/ 224)، والبيت لعبيد بن الأبرص في ديوانه (49). (¬2) راجع: حواشي المغني. [المؤلف]. (¬3) الصفحة (12) مضروب عليها.

الغالب فيه أن لا تدعو الحاجة إلى ذكر حدوثه، وإنما تدعو إلى ذكر وجوده كالطول والقصر، ومن هذه تشتقّ الصفات المشبهة كطويل وقصير، ومعناهما: متصف بالطول والقصر. والضرب الثاني: ما تدعو الحاجة إلى ذكر حدوثه كالقيام والقعود. والأصل في هذه: الدلالة على الحدث، فالقيام اسم للتحرك من الجلوس إلى الانتصاب، والقعود بعكسه، ولكن هذه كثيرًا ما تطلق على الهيئة الحاصلة عن الحدث. فنهوض المصلِّي من التشهد إلى الانتصاب قيام بالمعنى الأول، والهيئة التي يبقى عليها عقب ذلك قيام بالمعنى الثاني. واسم الفاعل يشتق من الأول وهو اسم الفاعل الحقيقي؛ ومن الثاني وهو منحوٌّ به منحى الصفة المشبهة. ولذلك لا ينصب المفعول إلا إذا كانت الهيئة مستمرة على ملابسة المفعول. وبيانه أن الحجّ في الشرع والعرف العام اسم للأعمال المخصوصة، فالحاجّ هو المتلبّس بها, ولكن الناس يطلقون كلمة "حاجّ" على من قد حجّ، فكأنهم تصوّروا أن الإنسان بعد أن يحجّ ينشأ له هيئة تلزمه أبدًا سمّوها حجًّا، واشتقّوا منها "حاجّ". وهذه الهيئة ليست ملابسة للبيت. ولُبس القميص اسم للفعل الذي حدث به اللبس بعد أن لم يكن، ثم يطلق على الهيئة التي تحصل بذلك. فإذا لبس زيد في بيته قميصًا، ثم خرج، فرأيته، قلت: هو لابس قميصًا، فلابس هنا بمنزلة قولك [ص 14] "حاجّ" لمن قد حجّ، ولكن "لابس" ينصب المفعول لأن الهيئة الحاصلة عن الفاعل لا تزال ملابسة للمفعول. وقال الله عزَّ وجلَّ: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} [الكهف: 18]،

و"باسط" هنا مثل "لابس" في المثال الماضي، إذ ليس المعنى أنه يحدث البسط، بل على أنه كائن على تلك الهيئة، فتدبَّرْ. واعلم أن الصفات كلها مثل المضارع في أنها للحال، فعند الإطلاق يكون لحال الكلام. تقول: "زيد حسن الوجه"، فيفهم أنه حال كلامك متصف بحسن الوجه، وقس على ذلك. وإذا كانت خبرًا لـ "كان" كانت حاليتها باعتبار كان، وكذا إذا كانت حالاً نحوية أو في جملة حالية، فحاليتها باعتبار عامل الحال. وكذا في الباقي على نحو ما تقدم في المضارع. [ص 15] (10) الحال النحوية من شرطها الاقتران بعاملها في الزمن، أي بأن يكون تلبُّس العامل بصاحبها في وقت مدلولُها فيه حاصل. قال ابن مالك في الخلاصة: الحالُ وصفٌ فضلةٌ منتصِبُ ... مُفْهِمُ في حال كفردًا أذهبُ فإذا جاء ما يظهر منه عدم الاقتران فهو متأوَّل بما يحصل به الاقتران. فقولهم: "جاء زيد راكبًا" المراد بالركوب الهيئة الحاصلة عن أصل الفعل، وهي مستمرّة تقارن المجيء، وليس المراد به إحداث الركوب. ولهذا إذا أتيت بالفعل الماضي غير المقارن وجب أن تأتي بـ (قد)، فتقول: "جاء زيد قد ركب". والمقارنة حينئذ مأخوذة من معنى (قد) وهو التحقيق، فكأنه قيل: جاء متحققًا أنه ركب، أو في حال تحقق أنه ركب. وهذا معنى قولهم: إنّ (قد) تقرّب الماضي من الحال، فاحفظه. فإن لم تكن (قد) مذكورة وجب تقديرها في المثال المذكور. فأما إذا كان الفعل مقارنًا بنفسه فلا حاجة لـ (قد)، بل لا يجوز الإتيان بها، وذلك كقولك: "أبصرت زيدًا صلّى الظهر" إذا كانت صلاته الظهر

مقارنة للإبصار. ولو قلت: "أبصرت زيدًا قد صلّى الظهر" لَفُهِم منه أن الإبصار كان بعد الصلاة. هذا، وإنما يحسن حذف (قد) لنكتة، كما في قوله تعالى في إخوة يوسف: {وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا} [يوسف: 65]. لم يعلموا بردّها إلا حينئذ، فكأنها إنما رُدَّت حينئذ. ونحوه في قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} [النساء: 90]، فإن الحصر يتجدد، فيوجد حال المجيء. [ص 16] ويلوح إلى أنه عندما يكون الفعل سابقًا، إن قرب العهد به أتي بـ (قد) وحدها، وإلاّ أتي بها مع الواو، والقرب والبعد في كل شيء بحسبه. تقول: "جاء زيد قد حجّ" إذا كان مجيئه عقب الحج، فإن تأخر قيل: "وقد حجّ". والله أعلم. وقولهم: "خرج فلان إلى الحجاز حاجًّا" فيه مجاز بإطلاق كلمة "الحاجّ" على العامد له، ولهذا يقال إذا خرج المسافرون إلى الحج: "خرج الحجاج اليوم"، وحاصل المعنى: خرج ناويًا أن يحجّ، ولهذا يسميها بعضهم "حالاً منويّةً". وقد يطلق عليها في نحو المثال: "مقدّرة"، من قولهم: قدّرت كذا، أي نويته وعقدت عليه، كما في اللسان (¬1). وقوله سبحانه: {فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73] , فيه مجاز أيضًا، وذلك أن ¬

_ (¬1) قدر (5/ 76)، وأصله في تهذيب اللغة (9/ 24).

الله عزَّ وجلَّ قدّر أن يخلدوا فيها حتمًا، فكأنه حاصل لهم حين الدخول، ولهذا تسمّى "حالاً مقدّرة"، وتفسَّر بقولهم: "ادخلوا مقدّرًا خلودُكم". ويمكن أن يكون المجاز في قوله (ادخلوا) بتضمينه معنى "اسكنوها" أو نحوه. وهكذا يقال في قوله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27]. كذا قالوه، وهو مبنيّ على أن المراد بالدخول: دخولهم حال القدوم، ومحلقين ومقصرين: فاعلين ذلك. ويمكن أن يقال: إن المراد بالدخول: دخول المسجد بعد تمام العمرة، وبمحلقين ومقصرين: كائنين على الهيئة التي تحدث عن الفعل على نحو ما تقدم في الفائدة التاسعة. والذي يدلّ على هذا مع ظهور المقارنة فيه أن الآية حكاية لرؤيا مناميَّة، فكأنه صلى الله عليه وآله وسلم رأى نفسه وأصحابه في المسجد الحرام أو داخلين فيه آمنين ما بين محلق ومقصر. وهذه الصفة تنطبق على بعض دخلاتهم في عمرة القضاء بعد أن قضوا عمرتهم، فإنهم أقاموا بمكة ثلاثًا, ولا بدّ أنهم دخلوا المسجد بعد قضاء عمرتهم مرارًا، فتأمَّلْ. ................................................................. (¬1) [ص 21] (13) لا شبهة في مجيء "تفعل" الخطابي حالاً من ضمير المخاطب به تارة هكذا، وتارة مع الابتداء "وأنت تفعل". وستأتي أمثلة ذلك وتوجيه الفرق بين الصيغتين في الفائدة الآتية إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) وقع هنا خرم في الأصل ذهب بأربع عشرة صفحة (ص 17 - 30) تضمنت ثلاث فوائد (11، 12، 13) وجزءًا من الفائدة الرابعة عشرة. ثم عثرنا بأخرة على الصفحات (21 - 30) ضمن مجموع برقم 4706، فأثبتناها فيما يأتي.

والكلام هنا في صحة مجيء "تفعل" بدون "أنت" حالاً من غير ضمير المخاطب، فإني لم أجده صريحًا في الكلام الفصيح، وإنما وجدته مع "وأنت" (¬1)، كقوله عزَّ وجلَّ: {وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [البقرة: 50]. وأجد الذوق يستنكر أن يقال: "مررنا يزيد تحدِّثه". وقد يقال في هذا المثال: إن الواجب - على ما تقدَّم في الفائدة السابقة عن الهمع - أن يقال: "مررنا يزيد تحدَّثه أنت", ولكنني أجد الذوق لا يطمئن إلى هذه كما لا يطمئن إلى قولك: "مررنا يزيد تحدِّثانه". وإنما يطمئن إلى "مررنا يزيد وأنت تحدِّثه" أو "وأنتما تحدِّثانه". فإن صحَّ نحو "مررنا يزيد تحدِّثه" فالظاهر أنه لا يخلو من ضعف. والله أعلم. (14) قال الله تبارك وتعالى: {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6]، وقال سبحانه: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} [الشعراء: 128]. وقال عزَّ وجلَّ: {لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا} [آل عمران: 99]. وقال تعالى: {وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [البقرة: 85]. قوله: {تَسْتَكْثِرُ} حال من ضمير المخاطب، وكذلك {تَعْبَثُونَ} ¬

_ (¬1) في أصل الجزء الثاني في الصفحة التالية للصفحة الخمسين: "فأمَّا إذا أتى حالاً من غير ضمير المخاطب، فإنما وجدته مع "وأنت"، كقوله تعالى: {وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} ولم أجد للنحاة ما يصرح بجواز نحو "مررنا بزيد تحدِّثه" ولا ما هو ظاهر في منعه، ولكني لم أجده في الكلام الفصيح، وأجد الذوق يستنكره ويرى حقَّ الكلام أن يقال: "وأنت تحدِّثه"، ويتردَّد في "تحدِّثه أنت". ولم يرقم المؤلف هذه الصفحة لكونها غير متعلقة بالسابق واللاحق.

و {تَبْغُونَهَا} و {تَظَاهَرُونَ}. وقال سبحانه وتعالى: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 42]. [ص 22] وقال عزَّ وجلَّ: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ} [البقرة: 42]. قوله: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} حال من ضمير الخطاب، وكذا قوله: {وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ}. فينبغي النظر في الفرق بين الموضعين، ومتى ينبغي أن يقال: "تفعل"، ومتى ينبغي أن يقال: "وأنت تفعل"، وكلٌّ منهما حال من ضمير الخطاب؟ قال الشيخ عبد القاهر رحمه الله: " .... فاعلم أنَّ كلَّ جملة وقعت حالاً ثم امتنعت من الواو، فذاك لأجل أنَّك عمدتَ إلى الفعل الواقع في صدرها فضممتَه إلى الفعل الأول في إثبات واحد. وكلُّ جملة جاءت حالاً ثم اقتضت الواو، فذاك لأنك مستأنف بها خبرًا ... " (¬1). ثم شرح الفرق بين "جاءني زيد يسرع" و"جاءني زيد وهو يسرع". وحاصله بإيضاح: أنَّ المثال الأول موضعه حيث تكون الفائدة إنما تحصل من مجموع الفعلين، كأن يكون مجيء زيد إليك معلومًا للمخاطب، أو أمرًا عاديًّا، لا تحصل بالإخبار به وحده فائدة تُذكر، أو يكون إسراع زيد غير مستغرب فلا تكون لذكره وحده فائدة تُذكر، أو غير ذلك. وموضع المثال الثاني: حيث يكون لكل من الفعلين فائدة لها وقع، بحيث لو علم المخاطب أحدهما لم يستغن عن أن يخبر بالثاني. ¬

_ (¬1) دلائل الإعجاز (213).

فالحال في المثال الأول شبيهة بالنعت، وفي المثال [ص 23] الثاني قريبة من العطف. وكأنك تقول في الأول: حصل من زيد مجيء إليَّ فيه إسراع. وقد أشار الشيخ إلى هذا بقوله: "تثبت مجيئًا فيه إسراع". وكأنك في الثاني تقول: "جاءني زيد"، ثم بعد علم المخاطب بذلك تقول: "جاءني زيد يسرع"، ولكنك لمَّا أردت أن تجمع الخبرين استغنيت عن "جاءني" الثانية بالأولى، وجعلت بدل "زيد" ضميره "هو"، ولم يمكنك إسقاط الضمير لئلا يلتبس بالضرب الأول، فربطتَ الجملتين بالواو. قال الشيخ: "وتسميتُنا لها واو حال لا يخرجها عن أن تكون مجتَلَبةً لضمِّ جملة إلى جملة. ونظيرها في هذا: الفاء في جواب الشرط، نحو: إن تأتني فأنت مكرم، فإنَّها وإن لم تكن عاطفة، فإنَّ ذلك لا يخرجها من أن تكون بمنزلة العاطفة .... وذلك أن إعادتك ذكر زيد لا يكون حتى تقصد استئنافَ الخبر بأنه يسرع ... " (¬1). فارجع إلى الآيات السالف ذكرها. فقوله عزَّ وجلَّ: {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} المنُّ كما قال ابن عباس وغيره: الإعطاء. ولا ريب أن الآية لا تنهى عن الإعطاء، وإنما تنهى عن إعطاءٍ يُقصد به الاستكثار. وهذا شبيه بقولك في النعت: "لا تلبس ثوبًا نجسًا"، فظهر أن الفائدة إنما تحصل من مجموع الفعلين. وكذلك قوله سبحانه: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} فإنها لا تنهى عن البناء، وإنما تنهى عن بناء لا فائدة فيه، وذلك معنى العبث. ¬

_ (¬1) راجع "دلائل الإعجاز" (ص 115) فما بعد. [المؤلف]. طبعة محمود شاكر (214 - 216).

وقوله سبحانه: {لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ص 24] مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا} بغيُ السبيل عوجًا لازمٌ للصدِّ عنها، فهو بمنزلة النعت الذي يؤتى به للذمِّ، نحو أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وكذلك التظاهر مع الإخراج في الآية الرابعة. وهذا ما يتعلق بالضرب الأول. فأما الثاني: فقوله تعالى: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} فذنب العالم - كما قيل - ذنبان، فكأنه تعالى وبَّخهم على الذنب من حيث هو، ثم وبَّخهم عليه من حيث إنهم يعلمون أي: ليسوا من الجهال. ونحو ذلك يقال في الآية الثانية. والله أعلم (¬1). [ص 25] تقرير المجاز في استعمال ما هو للحال فيما هو ماضٍ أو مستقبل (¬2) اعلم أنَّ للأمر الواقع في الحال خواصَّ بملاحظتها يكون التجوُّز: منها: الاستمرار من الحال إلى الاستقبال. أعني تلك اللحظات الثلاث التي تقدَّم بيانها في الفائدة الخامسة والسادسة. وكأنه بملاحظتها كان التجوُّز في استعمال المضارع للاستمرار من الماضي البعيد إلى المستقبل البعيد، كما مرَّ في الفائدة السابعة. ويمكن تقريره بوجوه لا تخفى على المتأمل. ومنها: الملابسة للحال، فإنَّ الواقع في الحال ملابس له بالظرفية، فيشبَّه ¬

_ (¬1) ترك بعده بقية الصفحة بيضاء. (¬2) كتب أولاً قبل هذا العنوان رقم (11)، ثم غيَّره إلى (14).

به ما وقع في الماضي القريب، أو يقع في المستقبل القريب، لملابستهما الحال بالمجاورة. وهذا في الزمان شبيه بما يقع من التجوُّز في المكان نحو قوله تعالى حكاية عن فرعون: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71]. شبه الإلصاق بالجذوع بالإدخال فيها. ويوضِّحه أنَّ كلمة "الآن" موضوعة لزمن التكلم، ثم تجدها تُستعمل في الماضي القريب، كقول زياد الأعجم يرثي المغيرة بن المهلب: الآن لمَّا كنتَ أكرمَ مَن مشَى ... وافترَّ نابُكَ عن شباة القارح (¬1) أي الآن تموت؟ مع أنه إنما رثاه بعد موته. ويستعجلك صاحبك فتقول: الآن أخرج إليك، تريد: عن قرب. وقد حمل عليه قوله عزَّ وجلَّ: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} [البقرة: 187]، وقوله سبحانه حكاية عن الجن: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [الجن: 9] , لأنَّ مَن الشرطية تُخلص المضارع للمستقبل، وفي هذا بحث. وقد تطلق كلمة "الآن" على ما يحيط بزمن التكلم متسعًا، كقولك: كنت قبل سنة مهاجرًا لزيد، أما الآن فإننا نتزاور. وانظر هذا مع المضارع الاستمراري. [ص 27] (¬2) ومنها: التحقق، فإنَّ من شأن الواقع في الحال أن يكون ¬

_ (¬1) ستأتي الحوالة. [المؤلف]. (¬2) الصفحة (26) كتب فيها سطرًا، ثم ضرب عليه, فهي فارغة.

مُدْرَكًا بالحسِّ مشاهَدًا بالعين، وكفى بذلك تحقُّقًا. وإنما يكثر عند إرادة تحقيق المستقبل تشبيهه بالماضي, لأنه إذا شُبِّه بالحال كان التعبير بالمضارع، والمضارع يُستعمل في المستقبل حقيقةً أو مجازًا شائعًا ذائعًا، فلا تظهر إرادة المجاز، وإذا لم تظهر لم يُتنبَّه لِما قُصِد من التحقق، مع أنه قد جاء منه مواضع كما يأتي. فبالنظر إلى هذه الصفة يشبَّه ما تحقَّق أنه وقع في الماضي أو أنه سيقع في المستقبل بما هو واقع في الحال بجامع التحقق. وقد يقع التشبيه بهاتين الصفتين معًا، والتشبيه الصريح يقع غالبًا على سبيل الكناية كقولهم "كأنك بالشتاء مقبل، وكأنك بالفرج آتٍ". الصواب أنَّ قوله "مقبل" خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: هو مقبل، ومثله قوله "آت"؛ وأن الباء بعد (كأنك) كالباء في قوله صلى الله عليه وآله وسلم في قصة أم إسماعيل: "فإذا هي بالمَلَك" (¬1)، وفي حديث آخر: "فإذا أنا بموسى آخذٌ" (¬2)، وفي حديث الإسراء: "فإذا هو في السماء الدنيا بنهرين ... فإذا هو بنهر آخر" (¬3). وفيه: "فإذا أنا بآدم ... فإذا أنا بابني الخالة ... فإذا أنا بيوسف ... فإذا أنا بإدريس ... فإذا أنا بهارون ... فإذا أنا ¬

_ (¬1) صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [المؤلف]. من حديث ابن عباس [3364]. (¬2) أيضًا باب قوله تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى} [المؤلف]. من حديث أبي سعيد [3398]. (¬3) أيضًا كتاب التوحيد، باب ما جاء في قوله عزَّ وجلَّ: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [المؤلف]. من حديث أنس [7517].

بموسى ... فإذا أنا بإبراهيم" (¬1). [ص 28] فأصل التشبيه في هذين أنه شبَّه حلولَ الشتاء في المستقبل القريب بحلولٍ له في الحال، بجامع ملابسة الحال. وشبَّه وقوعَ الفرج في المستقبل القريب بوقوع منه في الحال، بجامع ملابسة الحال والتحقق. ولكنه عدل عن هذا إلى لازمه، وهو تلبُّس المخاطب بهما في الحال، فإنه إنما يتلبَّس في الحال بما هو واقع فيه. ومنه: قوله صلى الله عليه وآله وسلم في شأن الكعبة: "كأنِّي به أسودَ أفحَجَ يقلعها حجرًا حجرًا" (¬2). شبَّه هدمَ ذلك الحبشي في المستقبل بهدمٍ يقع منه في الحال بجامع التحقُّق، وعدل إلى الكناية فقال: "كأنَّي به" أي: كأني ملتبِّس به أي: أُبصِره، لأنه إنما يُبصره يَهدِم في الحال إذا كان الهدم واقعًا في الحال. ومنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم - وقد مرَّ بوادي الأزرق -: "كأني انظر إلى موسى - صلى الله عليه وسلم - فذكر من لونه وشعره - واضعًا إصبعيه في أذنيه، له جُؤارٌ إلى الله بالتلبية، مارًّا بهذا الوادي ... ". ثم قال عندما مرَّ بثنيَّة هَرْشَى (¬3): "كأنَّي انظر إلى يونس على ناقة حمراء، عليه جبة صوف، خطامُ ناقته لِيفٌ خُلْبَةٌ مارًّا بهذا الوادي ملبِّيًا" (¬4). ¬

_ (¬1) صحيح مسلم، كتاب الإيمان, باب الإسراء [المؤلف]. من حديث أنس [259]. (¬2) صحيح البخاري، كتاب الحج، باب هدم الكعبة. [المؤلف]. من حديث ابن عباس [1595]. (¬3) رسمها في الأصل: "هرشا". (¬4) صحيح مسلم، كتاب الإيمان, باب الإسراء. [المؤلف]. من حديث ابن عباس [269].

شبَّه مرور موسى ويونس عليهما السلام بذلك الوادي في الماضي، بمرور يقع منهما في الحال بجامع التحقُّق، وكنى عن ذلك بقوله: "كأني أنظر ... "، لأنه إنما ينظر في الحال إليهما مارَّين، إذا كان مرورهما واقعًا في الحال. فأما ما يُروى فيمن قال: "أصبحت مؤمنًا حقًّا، فقيل له: ما حقيقة إيمانك؟ فقال: كأني انظر إلى عرش ربِّي بارزًا" (¬1) يُريد: يوم القيامة؛ فليس فيه كناية، [ص 29] وإنما شبَّه حاله في تصديقه بأمور القيامة بحاله على فرض أنه ينظر إليها. فأمور القيامة ثابتة عند السائل، وإنما مقصود المسؤول إثبات إيمانه بها. وأما مرور موسى ويونس عليهما السلام حاجَّين، فلم يكن ثابتًا عند المخاطبين، فمقصود النبي صلى الله عليه وآله وسلم تثبيت المرور، لا تثبيت تصديقه بالمرور. فلهذا كان ما يظهر من الكلام من إثبات التصديق بالمرور كناية، على ما سمعت، والله أعلم. فأما العبارة المشهورة: "كأنك بالدنيا لم تكن"، ففيها تشبيه مع الكناية ومجاز. والأصل تشبيه ما يتوقع من زوال الدنيا بزوال واقع في الحال بجامع القرب والتحقُّق، وتشبيهها عند زوالها بها لو لم تُوجد أصلاً، بجامع عدم النفع. أما الأول فظاهر. وأما الثاني فإنَّ الرجل إذا عاش مدة، ثم مات، ولم يبق بعد موته نفعٌ يتسبَّب عن حياته = قيل كأنه لم يُخْلَق, لأنه لما خُلِق، وعاش ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني في "الكبير" (3367) من حديث الحارث بن مالك الأنصاري. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (1/ 221): "وفيه ابن لهيعة، وفيه من يحتاج إلى الكشف عنه".

مدَّةً ولم يتسبَّب عن حياته نفعٌ = كان من هذه الجهة كأنه لم يُخْلَق، فإنه لو لم يُخْلَق يكون الحال كذلك، أي أنه لا يوجد نفعٌ يُنسَب إلى خلقه وعيشه. فحلُّ العبارة هكذا: كأنَّ الدنيا زائلة، أي: الآن، وكأنها إذا زالت لم تكن. ثم طُوي التشبيه الثاني، واستعيرت الصفة للدنيا، فقيل: "لم تكن" وجُعل هذا اللفظ بدل حقيقته في التشبيه الأول، فصار: "كأن الدنيا لم تكن" -أي: الآن، ثم كُني عنه على ما سمعت أولاً. وقس عليه بقية العبارة، وهي "وبالآخرة لم تَزُل". واعلم أنك إذا قلت - وزيد غائب -: "كأنك يزيد قادم". فقد تمَّ الكلام بقولك: كأنك يزيد, لأن التقدير: كأنك متلبِّس يزيد في الحال، فقولك: "قادم" خبر لمبتدأ محذوف. وإذا قلت - وزيد حاضر -: "كأنك يزيد مسافرًا" فلا يتم الكلام إلا بقولك: مسافرًا، فـ "مسافرًا" حال، فتدبَّرْ. هذا تحقيق هذا التركيب، وقد أطالوا فيه بما في بعضه تخليط (¬1). وتردد التقي السبكي في صحته قال: " [وقد استعملتُ في كلامي هذا: "وكأني بك" لأن الناس يستعملونه، ولا أدري هل جاء في كلام العرب أم لا، إلا أن في الحديث: "كأنَّي به"، فإنْ صحَّ فهو دليل الجواز. وفي كلام بعض النحاة ما يقتضي منعه ... "] (¬2). ¬

_ (¬1) راجع "المغني مع حواشي الدسوقي" (1/ [280])، و"لأشباه والنظائر النحوية للسيوطي (4/). [المؤلف] طبعة مجمع اللغة العربية بدمشق (4/ 20 - 31). (¬2) بيَّض المؤلف هنا نحو أربعة أسطر لنقل كلام السبكي ووضع في أولها علامة التنصيص، فأوردناه من "الأشباه والنظائر" للسيوطي (4/ 188 - 189).

[ص 30] هذا، والغالب في تشبيه غير الواقع في الحال بالواقع فيه طيُّ التشبيه واختيارُ المجاز على سبيل الاستعارة. والغالب أنه ينضاف إلى التقريب والتحقيق أو أحدهما فائدة أخرى قد تكون هي المقصود بالذات، وهي حملُ السامع على إنعام النظر في الواقعة، ورسمُ صورتها في ذهنه، لأن صورة الكلام تُصوِّرها له كأنها حاضرة تجري أمام عينيه، فيدعوه إلى أن يتصوَّرها بحسب ذلك، وكأنه يتخيلها تجري أمام عينيه، فيكون ذلك أوقع لها عنده، وأبلغ في تربية الأثر المقصود من حكايتها في نفسه. وهذا هو المعروف عند أهل العلم بحكاية الحال. قال الرضي: - "قال جار الله - ونعم ما قال -: معنى حكاية الحال أن يُقَدَّر أنَّ ذلك الفعل الماضي واقع في حال التكلم كما في قوله تعالى: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ} [البقرة: 91]، وإنَّما يُفعل هذا في الفعل الماضي المستغرب، كأنك تُحضِره للمخاطب وتُصوِّره له ليتعجب منه. تقول: رأيت الأسد، فآخذُ السيفَ، فأقتلُه" (¬1). وقال السكاكي بعد ذكر أمثلة: "كما في قوله تعالى: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا ...} [فاطر: 9] إذ قال: "فتثير" استحضارًا لتلك الصورة البديعة الدَّالة على القدرة الربانية، من إثارة السحاب مسخَّرًا بين السماء والأرض، متكوِّنًا في المرأى تارةً عن قزع وكأنها قطعُ قطن مندوف، ثم تتضامُّ متقلِّبةً بين أطوار حتى يَعُدْن ركامًا. وإنّه طريق للبلغاء ... وأمثال هذه ¬

_ (¬1) شرح الكافية (2/ 20). [المؤلف] طبعة جامعة الإِمام (2/ 728).

اللطائف لا تتغلغل فيها إلا أذهان الرَّاضَة من علماء المعاني" (¬1). وقال ابن هشام "القاعدة السادسة: "أنهم يُعبِّرون عن الماضي والآتي كما يعبِّرون عن الشيء الحاضر قصدًا لإحضاره في الذهن، حتى كأنه مُشاهَد حالةَ الإخبار ... " (¬2). [ص 31] فمن أمثلتهم المشهورة في هذا قول تأبط شرًّا: فإنّي قد لقيتُ الغُولَ تهوي ... بسَهْبٍ كالصحيفةِ صَحْصَحانِ فأضربُها بلا دَهَشٍ فخرَّتْ ... صريعًا لِليدين وللجِرانِ فتقرير الاستعارة - على ما حققه السيد الشريف (¬3) وغيره - أن يقال: شبّه الضرب منه للغول في الماضي بضرب يقع منه لها في الحال بجامع التحقّق في كلّ في نفسه، ثم استعار اللفظ الدالّ على المشبّه به للمشبّه، واشتقّ منه "أضرب". ونظيره - والواقعة مستقبلة - قوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [النحل: 126]. قال في "المغني": "لأن لام الابتداء للحال" (¬4). فتقدير الاستعارة أن يقال: شبّه الحكم الذي سيقع يوم القيامة بحكم يقع في الحال بجامع التحقق إلخ. ¬

_ (¬1) مفتاح العلوم (ص 107 - 108) [المؤلف]. (¬2) تمت القطعة المضافة. (¬3) تقرير الشريفين على هوامش عبد الحكيم على المطول (4/ 171). [المؤلف]. (¬4) المغني مع حواشي الأمير (2/ 196). [المؤلف].

وكثيرًا ما تبنى الاستعارة على التشبيه مع الكناية، فتكون الاستعارة بالكناية. فمنه - والواقعة ماضية - قوله عزَّ وجلَّ في قصة أصحاب الكهف: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} [الكهف: 17]. شبه التزاور الواقع في الماضي بتزاور يقع في الحال، واستعير اللفظ الدّال على المشبّه للمشبّه به، وطوي ذلك، ورمز إليه بأن أثبت للمشبه شيء من لوازمه وهو رؤية واقعة في الحال، فإنه يلزم من رؤيته في الحال أن يكون واقعًا في الحال. [ص 32] وإثبات الرؤية في الحال تخييل، كما يقوله البيانيون في بحث الاستعارة بالكناية. ومنه - والواقعة مستقبلة - قوله تعالى في صفة يوم القيامة: {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر: 75]. شبّه حفوف الملائكة بالعرش يوم القيامة بحفوف واقع منهم في الحال، واستعير لفظ المشبه به للمشبه في النفس، ورمز إليه بأن أثبت للمشبه شيء من لوازمه، وهي الرؤية في الحال، وإثبات الرؤية في الحال تخييل. ومنه - والواقعة متكررة في الماضي والمستقبل - قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} [النور: 43]. وقال عزَّ وجلَّ: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ

سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} [الروم: 48]. الأفعال في هاتين الآيتين إما للاستمرار وإما للحال، والأولى في قوله: {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} أنه للحال، شبه خروج الودق من خلال السحاب فيما يتكرر في الماضي والمستقبل بخروج منه يقع في الحال إلخ، وإثبات الرؤية في الحال تخييل. [ص 33] وفي القرآن أسلوب آخر قريب من هذا، وهو التعبير بقوله: {وَلَوْ تَرَى}، كقوله عزَّ وجلَّ: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} الآيات [سبأ: 31]. قد يتراءى أن هذا الأسلوب دون الأول في البلاغة، ولكنه عوّض بأن حذف جواب لو، وذلك يعطي أن الجواب يُفهَم مما ذكر في سياق الشرط، وهذا يحمل السامع على أن يكرر النظر والتدبر فيما ذكر حرصًا على أن يفهم الجواب. وبهذا يحصل المقصود، فتدبَّرْ. وهناك فائدة أخرى للتعبير بما هو للحال عما ليس في الحال، وهو إيهام المتكلم أن يعتقد الحصول في الحال، وأكثر ما يقع ذلك في المراثي. وتوجيهه أن المحبّ لشدّة حرصه عل بقاء حبيبه، وإشفاقه من موته، يبادر إلى ردَّ خبر الموت، كما وقع لعمر رضي الله عنه عند وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم (¬1). فإذا تحقق الخبر بقي عنده شبه تردُّد قد يغلبه بعض ¬

_ (¬1) كما في حديث عائشة، أخرجه البخاري في كتاب فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لو كنت متخذًا خليلاً" (3667).

الأوقات حتى يتخيل أن حبيبه لا يزال حيًّا، وربما يتخيّله معه. وقد يسلك هذا المجاز في كلمة، ويصرّح بالموت في أخرى، لإيهام أنه لشدة جزعه كأنه قد خولط في عقله. قالت الخنساء في تكذيب الخبر بقتل أخيها: كذَّبتُ بالحقِّ وقد راعني ... حتى عَلَتْ أبياتَنا الواعيَهْ (¬1) وقال أعشى باهلة يرثي المنتشر الباهلي (¬2) [ص 34]: إنّي أتتْني لسانٌ ما أُسَرُّ بها ... مِنْ عَلْوَ لا عَجَبٌ فيها ولا سَخَرُ جاءت مُرَجَّمةً قد كنتُ أحذرها ... لو كان ينفعني الإشفاق والحذَرُ تأتي على الناس لا تَلْوي على أحدٍ ... حتى أتتنا وكانت دوننا مُضَرُ إذا يُعادُ لها ذِكرٌ أكذّبُه ... حتى أتتني بها الأنباءُ والخَبَرُ وشرحه المتنبي، فقال (¬3): طوى الجزيرةَ حتى جاءني خبرٌ ... فزعتُ فيه بآمالي إلى الكذِبِ حتى إذا لم يَدَعْ إلى صدقُه أملاً ... شرِقتُ بالدمع حتى كاد يشرَقُ بي ولذلك تراهم في مراثيهم يكثرون من مخاطبة الميّت، ويقولون له: "لا تبعد". وآخر مرثية أعشى باهلة السابق ذكرها: ¬

_ (¬1) ديوان الخنساء (402). وفيه: "وقد رابني". (¬2) القصيدة في جمهرة أشعار العرب ص 270 وما بعدها. [المؤلف]. طبعة الهاشمي (714). وانظر: الأصمعيات (88)، والكامل (1431)، والخزانة (1/ 191). (¬3) ديوانه مع شرح العكبري (1/ 58). [المؤلف]. الشرح المذكور لزكي الدين الأنصاري المتوفى سنة 639، انظر بحث عبد الرحمن بن إبراهيم الهليل في مجلة الدراسات اللغوية (3: 2) عدد ربيع الآخر 1422.

فإن سلكتَ سبيلاً كنتَ سالكها ... فاذهَبْ فلا يُبْعِدَنْكَ اللهُ منتشرُ وفي قصيدة مالك بن الريب (¬1) التي يرثي بها نفسه، وهو يجود بها، يذكر ما يقال بعده، ويتعجب من قولهم: "لا تبعد": يقولون لا تبعَدْ وهم يدفنوني ... وأين مكانُ البعد إلاَّ مكانيا وفي مرثية أعشى باهلة مما استعمل فيه ما يدل على الحال لما مضى وانقضى: إنّ الذي جئتَ من تثليثَ تندُبُه ... منه السَّماحُ ومنه الجودُ والغِيَرُ تنعى امرًا لا تُغِبُّ الحيَّ جفنتُه ... إذا الكواكبُ خوَّى نوءَها المطرُ وفيها: لا تأمنُ البازلُ الكوماءُ ضربتَه ... بالمشْرَفيِّ إذا ما اخروَّطَ السَفَرُ قد تكظِمُ البُزْلُ منه حين يَفْجؤُها ... حتى تقطَّعَ في أعناقها الجِرَرُ [ص 35] أخو رغائبَ يُعطِيها وُيسْألُها ... يأبَى الظُّلامةَ منه النَّوفَلُ الزُّفَرُ ومنها: يَمشي ببَيْداءَ لا يمشي بها أحدٌ ... ولا يُحَسُّ خلا الخافي بها أثَرُ ومنها: أخو حُروبٍ ومِكسابٌ إذا عَدِموا ... وفي المخافةِ منه الجِدُّ والحذَرُ ¬

_ (¬1) القصيدة في الجمهرة ص 285، وما بعدها، وخزانة الأدب (1/ 317 -). [المؤلف]. انظر: الجمهرة طبعة الهاشمي (759 - 767) والخزانة طبعة هارون (2/ 203).

مِرْدى حُروبٍ شهابٌ يُستضاءُ به ... كما أضاءَ سوادَ الطِّخيةِ القمرُ مُهَفْهَفٌ أهضَمُ الكَشْحَين مُنْخرِقٌ ... عنه القميصُ لسير الليل محتقِرُ ضخمُ الدَّسيعةِ مِتْلافٌ أخو ثقةٍ ... حامي الحقيقةِ منه الجودُ والفخَرُ طاوي المصيرِ على العَزَّاءِ منجردٌ ... بالقوم ليلةَ لا ماءٌ ولا شجَرُ لا يتأرّى لِما في القِدْر يرقُبُه ... ولا يعَضُّ على شُرْسُوفِه الصَّفَرُ تكفيه فِلْذَةُ لحمٍ إنْ ألَمَّ بها ... من الشِّواء ويُروي شُرْبَه الغُمَرُ وأفعال الاستمرار داخلة في المجاز، كأنه شبَّه ما كان فيما مضى مستمرًّا من الماضي إلى المستقبل بما هو مستمرّ في الحال بجامع ملابسة الحال والتحقق، وانضمَّ إلى ذلك حكاية الحال والإيهام، وقِسْ على ذلك. وهكذا الصفات في هذه الأبيات، فإنّ حقّها أن تطلَق للحال كما تقدم في الفائدة التاسعة، ووقوعها مرفوعةً يردّ ما قد توهم أن الأفعال على تقدير كان، فتدبَّرْ. ومن مراثيهم التي كثُر فيها التجوّز المذكور مرثية زياد الأعجم للمغيرة بن المهلَّب (¬1): قل للقوافل والغُزاة إذا غزَوا ... لِلباكرِينَ وللمُجِدِّ الرائحِ [ص 36] إن الشجاعةَ والمروةَ ضُمِّنا ... قبرًا بمروَ على الطريقِ الواضحِ ¬

_ (¬1) القصيدة في ذيل الأمالي للقالي ص 8 - 11. وبعضها في تاريخ ابن خلكان (2/ 147) في ترجمة المهلّب [طبعة إحسان عباس (5/ 354 - 355)]، وفي أمالي الشريف المرتضى (4/ 107 - 108) [طبعة أبي الفضل (2/ 199)]، والأغاني (14/ 99)، وخزانة الأدب (4/ 152) [طبعة هارون (10/ 4)]. وفي بعض الأبيات اخلف بين الروايات. [المؤلف].

فإذا مررتَ بقبرِه فاعقِرْ به ... كُومَ الجِلادِ وكلَّ طِرْف سابحِ وانْضَحْ جوانب قبرِه بدمائها ... فلقد يكون أخا دَمٍ وذبَائحِ ومنها: لله درُّ منيَّةٍ فاتَتْ به ... فلقد أراه يرُدُّ غربَ الجامِحِ ولقد أراه مُجَفِّفًا أفراسَه .... يغشى الأسنّةَ فوقَ نَهْدٍ قارحِ ومنها: ولقد أراه مقدِّمًا أفراسَه .... يُدْني مَرَاجِحَ في الوغى لِمَراجحِ ويقرب من المراثي ما يقع في تحسّر الشيوخ على ماضي أعمارهم. فمنه قول الأعشى (¬1): ولقد أسْتَبي الفتاةَ فتعصي ... كلَّ واشٍ يريدُ صَرْمَ حبالي لم تكن قبلَ ذاك تلهو بغيري ... لا ولا لهوُها حديثُ الرّجالِ ثم أذهلتُ عقلَها ربّما يذ ... هل عقلُ الفتاة شبهِ الهلالِ ولقد أغتدي إذا صقع الدّيـ ... ـكُ بمُهْرٍ مشذَّبٍ جَوّالِ ثم نعت المهر إلى أن قال: فعَدَونا بمُهْرنا إذ غَدَونا ... قارِنِيه ببازلٍ ذَيّالِ ¬

_ (¬1) القصيدة عدّها صاحب جمهرة أشعار العرب في المعلّقات (122) فما بعدها. [المؤلف]. طبعة الهاشمي (321 - 344). وصاحب الجمهرة لم يسمّها "معلقات" وإنّما سمّاها "سموطًا". هذا، والأبيات المذكورة مما ألحق بقصيدة الأعشى وليست له، كما سبق في تعليقنا في (ص 152). ولم ترد الأبيات في ديوان الأعشى.

وفي آخرها: ذاك عيشٌ شهدتُه ثم ولَّى ... كلُّ عيشٍ مصيرُه لِلزَّوالِ وقال النَّمِر بن تَوْلَب (¬1): لَعمري لقد أنكرتُ نفسي ورابني ... مع الشَّيبِ أبدالي التي أتبدّلُ [ص 37] فضولٌ أراها في أديميَ بعد ما ... يكون كفافَ اللَّحم أو هو أفضلُ (¬2) الشاهد في قوله: "يكون". وقال هُبَل بن عبد الله بن كنانة يذكر نفرًا قعدوا يضحكون منه بعد ما هرِمَ (¬3): ربَّ يومٍ قد يُرى فيه هُبَلْ ... ذا سَوامٍ ونَوَالٍ وجَذَلْ لا يُناجيه ولا يخلو بِهِلْ ... عبدُ ودٍّ وجبيلٌ وحَجَلْ وقال عبّاد بن شلّماد اليربوعي لما هرم (¬4): يا بؤسَ للشيخ عبّاد بن شدّادِ ... أضحى رهينةَ بيتٍ بينَ عُوّادِ وتهزأ العِرْسُ منّي أن رأت جسدي ... أحدبَ لم يبق منه غيرُ أجلادِ فإن تراني ضعيفًا قاصرًا عنقي ... فقد أُكعكِعُ منه عَدوةَ العادي ¬

_ (¬1) من قضيدة في الجمهرة ص 216 فما بعدها. [المؤلف]. طبعة الهاشمي (531 - 542). (¬2) قوله: "أو هو أفضل" أي أو اللحم أفضل من الجلد. والبيت في المعمّرين للسجستاني (55). وفيه "أو هو أجمل". (¬3) المعمرين (26). وفيه قول أبي حاتم: "بهل" يريد: به, واللام زائدة. (¬4) المعمرين (55).

وقد أفيء بأثواب الرئيس وقد ... أغدو على سَلْهَبٍ للوحش صيّادِ ويقع نحوه لمن فارق ما يهواه وإن لم ييأس من عوده. وقد يكون منه قول النابغة في معلقته (¬1): عُوجُوا فَحَيُّوا لِنُعْمٍ دمنةَ الدارِ ... ماذا تحيُّون من نُؤْيٍ وأحجارِ يقول فيها: وقد أراني ونُعْمًا لاهيَين بِها ... والدهرُ والعيشُ لم يَهْمُمْ بإمرارِ وقد يُعطف على المضارع الاستمراري فعل ماضٍ بالفاء أو ثمّ، فيحتمل وجهين: الأول أن يكون المعنى على استمرار ماضٍ منقطع، وأطلق المضارع بدون تقييد بالماضي حكاية للحال. الثاني: أن يكون الاستمرار مطلقًا، والفعل الماضي أصله مضارع استمراري مطلق عبّر عنه [ص 38] تفنّنًا في إفادة التحقق. فمن ذلك: البيت الذي أنشده سيبويه كما تقدم في الفائدة السابعة: ولقد أمُرُّ على اللئيم يسُبُّني ... فمضيتُ ثمّتَ قلتُ لا يعنيني قال البغدادي: "وعبّر بالمضارع حكايةً للحال الماضية كما في الخصائص لابن جنّي، أو للاستمرار التجدّدي. و"مضيتُ" معطوف على ¬

_ (¬1) انظر: جمهرة أشعار العرب (304) فهذه القصيدة فيها من "السموط". ولكن النحاس والتبريزي أثبتا مكانها قصيدة أخرى للنابغة, وهي التي مطلعها: يا دارَ ميّةَ بالعَلْياءِ فالسَّنَدِ ... أقوتْ وطال عليها سالفُ الأبدِ وانظر: ديوان النابغة (202).

"أمرُّ" بمعنى "أمضي"، وعبّر به للدلالة على تحقّق إعراضه عنه" (¬1). وقوله: "حكاية للحال الماضية كما في الخصائص لابن جنّي" هو الوجه الأول على أن ذلك استمرار قد انقطع. وقوله: "أو للاستمرار ... " هو الوجه الثاني على أن الاستمرار باقٍ، وما عطف عليه من المضي والقولِ مثله في بقاء الاستمرار، وإنما عدل إلى الماضي لأن الاستمرار يتناول المستقبل وهو محتاج إلى التحقيق، فحققه بالتعبير بالفعل الماضي، فتدبّر. هذا، والصواب في هذا البيت هو الوجه الثاني, لأن انقطاع الاستمرار مع بقاء القائل حيًّا إنما يكون بتبدّل خلقه من الحلم إلى ضدّه، وهذا ينافي غرضه. وقال امرؤ القيس في معلقته (¬2): وقد أغتدي والطيرُ في وُكناتها ... بمنجردٍ قيدِ الأوابدِ هيكلِ ثم أفاض في نعت الفرس إلى أن قال: فعَنَّ لنا سِرْبٌ كأنّ نِعاجَه ... عذارى دُوارٍ في مُلاءٍ مذيَّلِ وقال قَطَريّ بن الفجاءة (¬3): ¬

_ (¬1) خزانة الأدب (1/ 173). [المؤلف]. طبعة هارون (1/ 358)، وانظر قول ابن جنّي في الخصائص (3/ 332). (¬2) من معلقته في الجمهرة ص 87 فما بعدها، وهي أشهر من ذلك. [المؤلف]. (¬3) القطعة في حماسة أبي تمام بشرح التبريزي. [المؤلف]. (68)، وشرح المرزوقي (1/ 136 - 138).

لا يركَنَنْ أحدٌ إلى الإحجامِ ... يومَ الوغى متخوِّفًا لحِمامِ [ص 39] فلقد أراني لِلرّماح دَريئةً ... مِن عَن يميني مرّةً وأمامي حتى خضبتُ بما تحدَّر من دمي ... أكنافَ سَرْجي أو عِنانَ لجامي ثم انصرفتُ وقد أصَبتُ ولم أُصَبْ ... جَذَعَ البصيرةِ قارحَ الإقدامِ [ص 40] (15) الجملة الواقعة بعد أخرى تنقسم عند النحاة إلى مستأنفة وغيرها. ومعنى استئنافها عندهم هو انقطاعها عن الأولى بالنظر إلى التركيب النحوي، هذا هو الاستئناف النحوي. قال ابن هشام: "ويخصّ البيانيّون الاستئناف بما كان جواب سؤال مقدّر" (¬1). وهذا يقال له الاستئناف البياني، وإيضاحه كما قال السكّاكي: "أن يكون الكلام السابق بفحواه كالمورد للسؤال، فينزل ذلك منزلة الواقع، ويطلب بهذا الثاني وقوعه جوابًا له، فينقطع عن الكلام السابق لذلك. وتنزيل السؤال بالفحوى منزلة الواقع لا يصار إليه إلا لجهات لطيفة: إما لتنبيه السامع على موقعه، أو لإغنائه عن أن يسأل، أو لئلا يسمع منه شيء، أو لئلا ينقطع كلامك بكلامه ... " (¬2). قال عبد الرحمن: هذا وغيره من عباراتهم مع تدبر مواقع هذا الاستئناف في الكلام البليغ يوضح أنه إنما يصلح حيث يكون اقتضاءُ الجملة الأولى للسؤال الذي تكون الثانية جوابًا له اقتضاءً ظاهرًا بحيث يغلب أن من سمع الجملة الأولى متفهّمًا يعرض له في نفسه ذلك السؤال. ولهذا يكثر في القرآن أن تختم الجملة الأولى برأس آية, لأن من شأنها أن ¬

_ (¬1) المغني وعليه حواشي الأمير (2/ 46). [المؤلف]. (¬2) مفتاح العلوم ص 110. [المؤلف].

يوقف عندها، فيستقرّ في نفس السامع ذلك السؤال ويلذعه الشوق إلى جوابه، فيقع الجواب موقعه، ويصير الكلام شبه محاورة. وللمحاورة من اللذة وموافقة النفس ما ليس في السماع المجرّد، فإنّ أحدنا إذا سمع خطبة أو محاضرة لا يجد من اللذة ما يجده للمحاورة مع الفاضل بأن تسمعه، فيعرض لك السؤال، فتسأله, فيجيبك، وهكذا. ولهذا - والله أعلم - كثر هذا الاستئناف في القرآن, لأن المحاورة الحقيقية لا تمكن فيه. [ص 41] فمن ادعى في جملة أنها استئناف بياني احتاج أن يثبت أن الجملة التي قبلها يغلب فيمن سمعها متفهمًا أن يقع له السؤال الذي تكون الثانية جوابًا له. ومع هذا فإنه إذا كانت الثانية بحيث يصحّ صحّةً ظاهرةً ربطُها بالأولى على معنى آخر، فالربط أولى من الاستئناف, لأن الربط هو الأصل الغالب. 16 - خبر المبتدأ قد يتعدّد صورةً مثل "هذا حلو حامض" أي مُزٌّ، و"زيد أعسَرُ يَسَرٌ" أي أضبَطُ. وقد يتعدد حقيقةً مثل "زيد شاعر كاتب"، ويجوز في هذا العطف "زيد شاعر وكاتب". وقد يكون الخبر جملة "ولا بد لها من رابط بالمبتدأ، والغالب أن يكون ضميرًا فيها يعود عليه" مثل "زيد سافر أخوه". وقد يُكتفى بضمير في جملة أخرى مربوطةٍ بالأولى بالفاء كقولهم: "زيدٌ يَطير الذبابُ فيَغضب"، وقول الشاعر (¬1): ¬

_ (¬1) هو ذو الرمّة، انظر ديوانه (460). قال ابن هشام: والبيت محتمل لأن يكون أصله: "يحسر الماء عنه"، أي "ينكشف عنه" المغني (651). وقيل: الرابط (ال) في الماء، لنيابتها عن الضمير، والأصل: ماؤه. انظر الخزانة (2/ 192).

وإنسانُ عيني يحسِرُ الماءُ تارةً ... فيبدو وتاراتٍ يجُمُّ فيَغْرَقُ وحقّق ابن هشام (¬1) أن هذه الفاء لمحض السببية، ليست بعاطفة، وأنها صيّرت الجملتين جملة واحدة هي الخبر. قال عبد الرحمن: إذا قلت: "زيد يغضب إذ يطير الذباب" فجملة "يغضب" هي الخبر النحوي، لكنها لا تتمّ إلا بما بعدها؛ إذ ليس المقصود الإخبار عنه بأنه يغضب مطلقًا، فإذا عكستَ وقدّمتَ لغرض "يطير الذباب" فإنها تحتاج إلى رابط يربطها بقولك: "يغضب"، و (إذ) لا تأتي ههنا, لأنّ من شأنها أن يكون قبلها المسبب وبعدها السبب، فلهذا جعل مكانها الفاء لأنها تفيد السببية كـ (إذ)، وهي عكسها في الترتيب: يكون قبلها السبب وبعدها المسبب، فقيل: "زيد يطير الذباب فيغضب". فلا يحسن أن يقال: إن جملة "يطير الذباب" [ص 42] هي الخبر النحوي, لأنها أجنبية، ولا يمكن أن يقال: إن جملة "يغضب" هي الخبر كما لا يخفى. فتعيَّن أن يقال: إن جملة "يطير الذباب فيغضب" هي الخبر كأنه قيل: "زيدٌ طيرانُ الذباب يُغْضِبُه". ونستطيع أن نقول: إن "يطير الذباب" دخلت في الخبرية بشفاعة الفاء. هذا، وكما يتعدد الخبر المفرد، كذلك يتعدد الخبر الجملة. وتكون تارة من باب "حلو حامض" و"أعسر يسر"، كقولك: "هذا الرمان في طعمه حلاوة، وفيه حموضة"، و"زيد يعمل بيمينه، ويعمل بيساره". وتارةً من باب "شاعر وكاتب"، كما تقول: "زيد يشعر ويكتب"، و"زيد أبوه مسافر، وعمه مقيم". والعطف هنا هو الجادَّة في النوعين، وكل جملة من الجمل المتعاطفة ¬

_ (¬1) مغني اللبيب مع حواشي الأمير (2/ 700). [المؤلف]. طبعة دار الفكر (555).

تحتاج إلى رابط. وقد يجيء بعضها مثل "يطير الذباب فيغضب"، كما تقول: "زيد يؤذي الجليس، ويسيء إلى العشير، ويطير الذباب فيغضب". ولما دخلت هنا "يطير الذباب" في الخبرية بشفاعة الفاء استحقّت العطف. هذا، وقد عرفت بدل البعض وأنه يحتاج إلى ضمير يربطه بالمبدل منه، وإنما أنبّهك على أنه قد يتعاطف بعضان فأكثر، فيكون ذلك شبيهًا بالخبر في قولك: "هذا حلو حامض"، وذلك كقولك: "أعطيته الدار ربعها وثمنها" كأنك قلت: ثلاثة أثمانها. واعلم أن الجملة المفسّرة قد تشبه بدل البعض، فإذا قلت: "أحسنت إلى زيد: علّمته"، فجملة "علّمته" مفسرة لقولك: "أحسنت إلى زيد". وتحتاج المفسّرة هنا إلى ثلاثة أمور: الأول أن يكون فيها معنى الإحسان. الثاني كونها من فعل المتكلم. الثالث علاقتها بزيد. وقد تتعدد الجمل فتكون شبيهة بتعدد بدل البعض أو بتعدد الجمل الخبرية [ص 43] التي هي من باب "حلو حامض". وذلك كقولك: "أحسنت إلى زيد كثيرًا: ربيّته، وأدّبته، وعلّمته، وموّلته"، فتتعاطف وتكون كل منها بحيث تصلح وحدها للتفسير كما ترى. وقد تجيء جملة لا تصلح للتفسير، ولكنها تدخل فيه بشفاعة الفاء الرابطة لها بجملة أخرى صالحة له، على حدّ ما تقدم في الجملة الخبرية. تقول: "أحسنت إلى زيد كثيرًا: ربيّته، وعلّمته، وخاصم أقوى منه فنصرته". ونظيره: "قد علمت كيف فعل الملك ببني فلان: حبسهم، وأخافهم، وشكوتهم فعاقبهم". فقولك: "شكوتهم" لا تصلح للتفسير، ولكنها دخلت فيه بشفاعة الفاء، فعطفت بالواو كما رأيت.

فصل

[ص 44] فصل قال المعلِّم رحمه الله تعالى: "ظنّوا أنّ الخطاب في السورة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلم يمكنهم تأويل {تَرْمِيهِمْ} إلى الخطاب؛ فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يرميهم، ولكنا بيّنا في الفصل الأول أن الخطاب ههنا إلى أفراد أهل مكة، وكلمة {تَرْمِيهِمْ} حال من المجرور في (عليهم)، أو جملة مستأنفة. والمعنى على الحالية يكون: ألم تر أيها المخاطب كيف أرسل ربك عليهم طيرًا أبابيل حالَ أنت ترميهم بالحجارة؟ وعلى الاستئناف يكون: كنت ترميهم بحجارة، فجعلهم الربّ كعصف مأكول ... فعسى أن يتوهم أن الحال إنما تبيّن هيئة الفاعل أو المفعول، والضمير في (عليهم) إنما هو مجرور لا فاعل ولا مفعول. فنقول: إنما مراد النحويين أن الحال يبين هيئة الشيء عند حدوث أمر، والحدوث يعبّر عنه بالفعل، فإذا وجدوا الحال عن غير الفاعل أو المفعول فزعوا إلى تقديرات شتى". ثم ذكر شواهد على مجيء الحال من المجرور، ثم قال: "فعلى تأويل {تَرْمِيهِمْ} إلى الاستئناف عسى أن يتوهم أن مقتضى المعنى أن يؤتى بالماضي، و {تَرْمِيهِمْ} مضارع، فنقول: نعم، ولكن {تَرْمِيهِمْ} أصله: "كنت ترميهم"، وحذف الأفعال الناقصة قبل المضارع أسلوب عام، وله مواقع لا يحسن فيها إلا الحذف، كما بينّاه في كتاب الأساليب ... قال تعالى: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} (¬1). أي فلو كنت هناك أيها المخاطب لظللت ترى ¬

_ (¬1) وقع في رسالته: "وسخرنا" سهوًا. والآية في سورة الحاقة (69/ 7). [المؤلف].

القوم الخ. وقال متمم بن نويرة (¬1): تقول ابنةُ العمريِّ مالك بعدَ ما ... أراك قديمًا ناعمَ الوجهِ أفرعا [ص 45] أي بعد ما كنت أراك. وقال خِداش بن زهير بن ربيعة (¬2): قِفارٍ وقد ترعى بها أمُّ رافع ... مَذانبَها بين الأسِلَّةِ والصَّخرِ أي وقد كانت ترعى. وقال أعشى بكر بن وائل (¬3): فلئن شطَّ بي المزارُ لقد أُضْـ ... ـحي قليلَ الهموم ناعمَ بالِ أي لقد كنتُ أضحي. وقال القُطامي (¬4): كانت منازلَ منّا قد نحُلُّ بها ... حتى تغيّر دهرٌ خائنٌ خَبِلُ أي كنا نحلّ بها. وقال الحطيئة (¬5): تركتَ المياهَ من تميم بلاقعًا ... بما قد تَرى منهم حُلُولاً كَراكِرا ¬

_ (¬1) جمهرة أشعار العرب (753)، وسيأتي الكلام على روايته. (¬2) جمهرة أشعار العرب (524). (¬3) جمهرة أشعار العرب (325)، وديوان الأعشى (53). (¬4) جمهرة أشعار العرب (805)، وديوان القطامي (193). (¬5) ديوان الحطيئة (269).

أي بما قد كنتَ ترى". (1) قال عبد الرحمن: قوله: "ظنوا ... فلم يمكنهم ... " يعطي أن أهل العلم يرون أنّ هناك مانعًا قويًّا من رمي الطير، ولكنهم اضطرّوا إلى قبوله إذ لم يجدوا مساغًا للتأويل. والمعلَّم رحمه الله يرى أن هذا حسن ظنّ بأهل العلم، ولو فكّر لَعلِم أنه سوء ظنّ بهم؛ فإننا قد أسلفنا إبطال ما ذكره المعلِّم رحمه الله تعالى من الشبهة، وبيّنّا أنه لا مانع إلاَّ أن يستبعد رجل رمي الطير من جهة مخالفته للعادة، وإنما يقع هذا لمن ضاق صداره من سخرية الملحدين بالخوَارق، وانتفخ سحره من تهاويلهم، ولم يفزع إلى ما يعلمه من قدرة الله عزَّ وجلَّ وما قصّه في كتابه من الخوارق، وما تواتر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منها؟ ولا حقّق النظر في المعقول والعلوم الكونية، فينكشف له أنه ليس فيها شبهة قوية تنفي الخوارق، بل فيها ما يقضي بصحتها ووقوعها. [ص 46] (2) وقوله: "ولكنّا بينّا في الفصل الأول أن الخطاب ههنا إلى أفراد أهل مكة" فيه أمران: الأول: أنا قد أسلفنا أنه رحمه الله قال أولاً: "اعلم أن الخطاب ههنا متوجه إلى جميع من رأى هذه الواقعة أو أيقن بها من طريق تواتر الحكاية"، وقال في موضع آخر: "فإنه لا يخاطب به إلا فيما لا يخفى على أحد، كأنه رآه كل من يخاطب به وإن لم يره بعينه". ووافقته في الجملة على هذا، وأوضحت أن السورة خطاب لكل من يصلح للخطاب إلى يوم القيامة، وأن لا وجه لتخصيص الخطاب بأهل

مكة. وعلى هذا فلو كان {تَرْمِيهِمْ} خطابًا مبنيًّا على الخطاب في أول السورة كان معناه نسبة الرمي إلى كل أحد إلى يوم القيامة، وهذا واضح البطلان. فإن نسبة العلم بتلك الواقعة الشهيرة إلى كل أحد حسن مقبول، على ما تقدم بيانه، فأما نسبة الرمي إلى كل أحد فلا وجه له. الأمر الثاني: أنه على فرض صحة ما رجع إليه المعلِّم رحمه الله من أن الخطاب في أول السورة لكل أحد من أهل مكة عند نزول السورة، فبناء الخطاب في {تَرْمِيهِمْ} على هذا لا يستقيم أيضًا؛ إذ على فرض وقوع الرمي من أهل مكة، فليس كل أحد ممن يصلح للخطاب عند نزول السورة ممن رَمَى، بل لعله لم يبق ممن كان صالحًا للرمي عند الواقعة إلا أفراد قليل أدركوا نزول السورة. [ص 47] فإن الذي يصلح للرمي في القتال لا بدّ أن يكون سنّه على الأقل نحو خمس عشرة سنة، فمن بقي من هؤلاء إلى نزول السورة يكون سنه حينئذ بين ستين سنة إلى تسعين سنة. وذلك بالنظر إلى الاختلاف في عام الواقعة، فالمشهور أنها كانت في عام المولد، وقيل: "إنها كانت قبلُ بعشر سنين، أو بخمس عشرة سنة، أو بثلاث وعشرين سنة، أو بثلاثين سنة، أو بأربعين سنة، أو بسبعين سنة، الأقوال المذكورة في كتب السير" (¬1). والقولان الأخيران ظاهرا البطلان، وما قبلهما محتمل، فقد ذكر المؤرخون أنه بعد هلاك أبرهة تملّك على اليمن ابنه يكسوم، ثم ابنه الآخر مسروق، ثم كانت حملة الفرس على اليمن مع ابن ذي يزن. فمنهم من لم ¬

_ (¬1) روح المعاني (9/ 455). [المؤلف].

يبيّن مدة ملك يكسوم ومسروق كابن إسحاق (¬1)، ومنهم من بيّنها، ففي "الأغاني" (¬2) أنها إحدى وثلاثون سنة، وفي "مروج الذهب" (¬3) أنها ثلاث وعشرون. ولم أر عن أحد إنكار ملكهما أو زعم أنه إنما كان بضعة أسابيع أو أشهر أو سنة أو سنتين. وإنما يرى القائلون بالمشهور أن ملكهما امتدّ تلك المدّة بعد المولد النبوي حتى كانت حملة الفرس مع ابن ذي يزن بعد المولد بتلك المدة: بثلاثين أو ثلاث وعشرين سنة. ويخالفه ما أخرجه "البيهقي وأبو نعيم وابن عساكر من طريق عفير بن زرعة بن سيف بن ذي يزن عن أبي أبيه قال: لما ظهر سيف بن ذي يزن على الحبشة، وذلك بعد مولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بسنتين، أتاه وفود العرب لتهنئته، وأتاه وفد قريش فيهم عبد المطلب ... وأخرج أبو نعيم والخرائطي وابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس مثله سواء" (¬4). وقضية هذا أن تكون حملة الحبشة (¬5) على اليمن عام المولد أو بعده بقليل، فإن فيه أن وفود العرب [ص 48] للتهنئة كان بعد المولد بسنتين، وإنما ¬

_ (¬1) سيرة ابن هشام بهامش الروض الأنف (1/ 54). [المؤلف]. (¬2) (16/ 72). [المؤلف]. (¬3) (2/ 80 - 82). (¬4) الخصائص الكبرى للسيوطي (1/ 82). [المؤلف]. (¬5) كذا في الأصل، وهو سبق قلم، والمراد: حملة الفرس.

يكون ذلك بعد تمام الغلبة على الحبشة واستقامة الأمر. فيؤخذ منه تقدم الحملة قبل ذلك بسنة أو سنتين. وقضية هذا، مع القول بأن يكسوم ومسروقًا ملكا مدّةً لها قدر، أن تكون واقعة الفيل قبل المولد بمدة لها قدر. وفي "دائرة المعارف الإِسلامية" من مقالة لبعض كتاب الإفرنج: "وعام هذا الحادث الذي يعرف بعام الفيل ... هو عام (570 م)، كما تقول المصادر المتأخرة. ويعتبر هذا العام في العادة عام مولد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا أن نُلدِكه قد اعترض بحقًّ على ما تقدّم؛ لأننا إذا قبلنا ذلك لما كانت هناك بين حملة أبرهة على مكة وغزو الفرس للبلاد العرب الجنوبية (اليمن) عام 570 م فسحة من الوقت يحكم فيها أبرهة وأولاده" (¬1). والمقصود هنا أن الذين أدركوا الواقعة وكانوا بحيث يقع منهم في العادة أن يقاتلوا برمي ونحوه لم يبق منهم عند نزول السورة إلا قليل في حال الشيخوخة. وغالب الموجودين عند نزول السورة ممن لم يدرك الواقعة، أو أدركها صغيرًا، فكيف يصح خطاب كل واحد من الموجودين بنسبة الرمي إليه؟ [ص 49] فإن قيل: يمكن أن يحمل قوله: {تَرْمِيهِمْ} على معنى: يرميهم قومك، فقد خاطب الله تعالى اليهود بعد بعثة محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ... وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ ¬

_ (¬1) دائرة المعارف الإِسلامية (1/ 62). [المؤلف].

فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [ص 50] ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} الآيات [البقرة: 47 - 51]. ومثل هذا كثير في الكلام. قلت: الجواب عن هذا من أوجه: الأول: أن هذا الاستعمال مجاز، إنما يحمل الكلام عليه حيث ظهرت قرينته كما في الآيات (¬1). وليست في قوله تعالى: {تَرْمِيهِمْ} قرينة ما، بل الظاهر الواضح - إن لم نقل المتيقن - أنه ليس بخطاب، بل المعنى: ترميهم تلك الطير. فإن قيل: كانت القرينة قائمة عند المخاطبين بالسورة، وهم الذين كانوا من قريش في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإنهم كانوا يعلمون أن آباءهم رموا، وأنّ الطير لم ترمِ. قلت: هذه دعوى فارغة، فقد تقدم في فصل (هـ) من القسم الأول الروايات عن الصحابة والتابعين بإثبات رمي الطير وأنه لم يكن من أهل مكة قتالٌ ما. وتقدم قول المعلم: "قصارى أمره أن يكون إما ممن رأى نزول الحجارة من السماء وظنّ من بعيد أنها كانت من الطير ... " وقوله: "ويمكن أيضًا أن بعض المشاهدين أنفسهم لم يفهموا إلا أن الطير رمتهم ... فأيقنوا الرمي من السماء، ولم يروا في السماء إلا طيرًا أبابيل، فنسبوا هذا الرمي إليهن". ¬

_ (¬1) انظر الفائدة الـ ... من الذيل. [المؤلف]. كذا في الأصل دون رقم الفائدة, وانظر ما سبق في (ص 158). وقال: "من الذيل" لأنه بدا له فيما بعد أن يؤخر الفوائد السابقة إلى آخر الرسالة.

وذكرت هناك قول نفيل وكان مع الحبشة: حمدتُ الله إذ عاينتُ طيرًا ... وخفتُ حجارةً تُلقَى علينا وقوله بعد ذكر الطير: يرميننا مقبلاتٍ ثم مدبرةً ... بحاصبٍ من سَواء الأفقِ كالمطرِ وأنه إن كان هناك اشتباه، فقد اشتبه الأمر على نفيل - مع أنه ليس ببعيد، بل هو مع الحبشة حتى خاف أن تقع عليه الحجارة التي يرى أن الطير تلقيها كما مرّ - والتابعين وكذلك على الصحابة، فلو كان اشتباه لكان عامًّا ولكان ينبغي أن يكشفه القرآن، لا أن يزيد الناس جهلاً إلى جهلهم. والمقصود هنا أنّ ما ادعى من علم أهل مكة في [ص 51] (¬1) وقت نزول السورة بأن الطير لم ترم، ليس بصحيح. وإذا كان الأمر كذلك، فاستعمال المجاز بدون قرينة ظاهرة ضرب من الكذب يتنزه القرآن عنه. فإن قيل: هناك قرينة أخرى، وهي استحالة أو بعد أن يقع رمي الطير. قلت: الاستحالة العقلية لا يمكن ادعاؤها، والعادية إنما تصرف عن الحقيقة في مواضع ليس هذا منها. وذلك كأن يكون المتكلم لا يجوّز خرق العادة، أو يكون المخاطب كذلك والمقصود خطابه بما يعترف به، أو تكون القصة عادية محضة لا تناسب الخرق كما قصّه الله عزَّ وجلَّ من قول إخوة يوسف: {يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا ¬

_ (¬1) بين ص 50 و51 صفحتان لم يرقمهما المؤلف رحمه الله لكونهما غير متعلقتين بالسابق واللاحق.

لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [يوسف: 81 - 82]. فإنه لا داعي ههنا إلى أن يحمل قولهم على سؤال عرصة القرية وجدرانها, لأن سؤال الناس يكفي، بل لو قالوا: سل العرصة والجدران، لقد يكون ذلك موهمًا أنهم لا يثقون بأن يشهد لهم أهل القرية، ولكان هذا مما يريب في صدقهم، وذلك خلاف مقصودهم. وليس الأمر في سورة الفيل كذلك، فإن القرآن يثبت لله عزَّ وجلَّ القدرة على كل شيء، ويقصّ كثيرًا من الخوارق، كقلب العصا حيَّةً (¬1)، وفلق البحر حتى كان كل فرق منه كالطود العظيم (¬2)، وإنباع اثنتي عشرة عينًا من حجر يضربه عصا (¬3)، وحمل المرأة وولادتها بدون أن يمسّها بشر (¬4)، وإحياء الموتى (¬5)، وأمثال ذلك. والعرب كانوا يؤمنون بقدرة الله عزَّ وجلَّ وبالخوارق، ويرون الواقعة منها كما تقدم في أشعارهم. [ص 52] والواقعة تناسب الخارقة، فإنّ جبّارًا ساق جيشًا عظيمًا ليهدم أعظم بيت لله عزَّ وجلَّ في أرضه، وكان جيشه أكثر من أنصار ذلك البيت بأضعاف مضاعفة في العَدد والعُدد. وأراد الله عزَّ وجلَّ آية تزجره فلم ينزجر، ¬

_ (¬1) سورة طه (20/ 20). [المؤلف]. (¬2) سورة الشعراء (26/ 63). [المؤلف]. (¬3) سورة البقرة (2/ 60) [المؤلف]. (¬4) سورة مريم (19/ 16 - 33). وفيها الكلام في المهد وغيره من الآيات. [المؤلف]. (¬5) سورة البقرة (55 - 56 و72 - 73 و242 و259 - 260). سورة آل عمران (3/ 49). سورة المائدة (5/ 110). وفيها خلق الطير وإبراء الأكمه والأبرص وغير ذلك من الآيات. [المؤلف].

وهي حبس الفيل، كما سلف بيان ذلك كله، وتباشير الكلام وبوارقه تؤذن بالخارقة كما تقدم في تفسير السورة. وبالجملة، فليس ههنا قرينة ما تصرف الكلام عن رمي الطير، فتحمل على تكلف الخطاب المجازي، بل القرائن الحالية والقالية كلها تؤيد رمي الطير بعضها بالخصوص، وبعضها بالدلالة على الخارقة. والمعلِّم - عفا الله تعالى عنّا وعنه - اطّرح الأول، وحاول التخلص من الثاني بافتراض خارقة أخرى، هي الرمي من السماء. والسورة والواقعة تستغيثان: دع لنا خارقتنا، وخلاك ذمّ: عذيريَ ممّن قام عنّي محاميًا ... أقرَّ بداري وادّعى غيرَها ليا ألا ليس لي في غير داريَ حاجةٌ ... فحَسْبيَ نَصْرًا منك تركي وداريا الوجه الثاني: أن المعروف استعمال المجاز المذكور في الخطاب بلفظ الجمع، كما في الآيات، ولم أره بلفظ الواحد. وهو أن النسبة إلى كل فرد في نحو "ولو ترى" أظهر في العموم منها في نحو "فعلتم". والعموم في نحو "فعلتم" يضعف إذا كان الخطاب لقبيلة وقوم، لكثرة ما يأتي بمعنى "فعل بعضكم"، أو "فعل أسلافكم". فإن قلت: قد أسلفت أن معنى قوله تعالى {أَلَمْ تَرَ}: "قد علمت"، وأنه لكل من يصلح للخطاب، وأنه لا يقدح فيه أن مِن الأفراد مَن لم يعلم. قلتُ: ذاك لأن في الكلام [ص 53] هناك مبالغة، وهو كناية عن ظهور الواقعة واشتهارها، كما تقدم، ولا يتأتى مثل ذلك في "ترمي" على زعم أنه خطاب.

الوجه الثالث: أن نسبة ما وقع للآباء إلى الأبناء إنما يحسن فيما تتوارث نتيجته، فيكون بوقوعه للآباء كأنه وقع لأبنائهم، كأن يكون فيه فخر أو عار أو استحقاق شكر أو نحو ذلك. تقول لشيباني: "أنتم حُماةُ الذِّمار يومَ ذي قار". ويقول من ينتسب إلى الأنصار لمن ينتسب إلى المهاجرين: "آويناكم وواسيناكم" ونحو ذلك. وذلك أن يوم ذي قار (¬1) فخر لكل شيباني إلى يوم القيامة، وإذا ثبت الفخر لمن لم يشهده منهم، فكأنه شهده. وهكذا شكر الأنصاري حق على المهاجري إلى يوم القيامة. وقس على ذلك. وأنت إذا تدبرت آيات البقرة في خطاب بني إسرائيل التي تقدّم التمثيل به (¬2) لهذا الأسلوب، وجدتها مطابقة لهذا المعنى. ولو قيل لرومي أو فارسي: أنتم الذين كتب إليكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعوكم إلى الإِسلام، لرأيت كلامًا يمجُّه السمع وينفر عنه الطبع، حتى يقال للرومي: فأكرمتم رسوله، وحفظتم كتابه؛ وللفارسي فمزَّقتم كتابه؛ فإذا بالكلام قد نفخت فيه الروح، وعادت الأسماع تعطف عليه، والطباع تعتذر إليه! ما ذاك إلا لأن حفظ الكتاب وإكرامه مكرمة يبقى فخارها، وتمزيقه مسبّة يتوارث عارها. وإذا عرفت هذا، فانظر في رمي أهل مكة لأصحاب الفيل [ص 54] بالحجارة على فرض وقوعه، لا تجد فيه ما يسوّغ نسبة الرمي إلى أبنائهم. أما ¬

_ (¬1) انظر حديث يوم ذي قار في نقائض جرير والفرزدق (638 - 648). (¬2) كذا في الأصل، والمقصود: بها.

الفخر فإن العرب لا ترى رمي العدوّ بالحجارة فخرًا، بل قال الأعشى (¬1): ولا نُقاتل بالعِصِيـ ... يِ ولا نُرامي بالحجاره مع أن المقام ليس مقام مدح ولا ذم. فإن قلتَ: قد يقال إن الخطاب في {تَرْمِيهِمْ} جاء تبعًا للخطاب في {أَلَمْ تَرَ}، فيقبل هذا بشفاعة ذاك. قلتُ: إنما يسوغ هذا لو كان الخطاب في {أَلَمْ تَرَ} من هذا الأسلوب، وهو أن ينسب إلى الأبناء ما وقع من الآباء، وليس كذلك، فإن {أَلَمْ تَرَ} بمعنى "قد علمت"، والعلم ثابت للمتأخر نفسه. فإن قيل: فاجعل الرؤية بصرية على ظاهرها، فيكون المعنى: "قد أبصرت"، كما في قوله في آيات البقرة التي تقدم التمثيل بها: {وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [البقرة: 50]. قلتُ: هذا إنما يقوم على دعوى أن يكون قوله {أَلَمْ تَرَ} من هذا الأسلوب، أعني أن ينسب إلى الأبناء ما وقع للآباء، فيرِد عليه الوجهان السابقان، وثالث وهو مخالفته لظاهر ارتباط السورة بما قبلها ببنائها على الوعيد والتهديد. [ص 55] واعلم أنّ المعلِّم رحمه الله إنما اعتنى بتطبيق ما قاله من الخطاب في {تَرْمِيهِمْ} على الخطاب في {أَلَمْ} لأن السورة كلام واحد، ¬

_ (¬1) الخزانة (1/ 83). [المؤلف]. طبعة هارون (1/ 173)، وانظر: ديوان الأعشى (209).

وما بعد الآية الأخرى تفسير لها. والكلام الواحد إذا كان في أوله خطاب، ثم تلاه خطاب آخر، فلا يكون الثاني إلا للمخاطب بالأول، إلاَّ أن يكون الثاني أعمّ من الأول، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [لطلاق: 1]، أي إذا طلقت أنت أو أحد من أمتك. ومثلها قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفتح: 8، 9]. والنبي صلى الله عليه وآله وسلم مكلّف بالإيمان بأنه رسول الله. والتعزير هنا: النصر، كما روي عن جابر مرفوعًا (¬1). والتوقير: التعظيم، كما روي عن قتادة وغيره (¬2). والضميران عائدان إلى الله عزَّ وجلَّ، كما هو الحال في قوله: {وَتُسَبِّحُوهُ}. وفي الآية وجوه أخرى تنفي ما توهمه بعضهم من مخالفة القاعدة المذكورة (¬3). فأما قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [هود: 13 - 14]، فالخطاب في قوله: {فَأْتُوا} وما بعده كله للكفار، والمعنى كما هو ظاهر: ¬

_ (¬1) أخرجه ابن عدي، وابن مردويه، والخطيب، وابن عساكر في تاريخه. قاله السيوطي في الدر المنثور (7/ 516) ط دار الفكر. (¬2) المرجع السابق، وتفسير الطبري (21/ 251) ط دار هجر. (¬3) راجع: روح المعاني (8/ 143).

"فإن لم يستجِب لكم الذين تدعونهم من دون الله". ومن زعم أن الخطاب في قوله: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ} للمسلمين على معنى: "فإن لم يستجب لكم الكفار"، فقد غفل غفلةً شديدةً. وانظر القاعدة في طراز المجالس للخفاجي (¬1). والمقصود أن المعلِّم رحمه الله موافق على القاعدة المذكورة، ولذلك اعتنى بتطبيق الخطاب في {تَرْمِيهِمْ} على الخطاب في {أَلَمْ تَرَ}، واعتذر عمن تقدمه القائلين بان المعنى: "ترميهم تلك الطير" بأنهم رأوا أن الخطاب في {أَلَمْ تَرَ} للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلم يمكنهم أن يحملوا {تَرْمِيهِمْ} على الخطاب. فإذا تقرر هذا، وظهر ما تقدم أنه لا يمكن انطباق الخطاب المزعوم في {تَرْمِيهِمْ} على الخطاب في {أَلَمْ تَرَ}، ثبت بذلك بطلان الخطاب المزعوم في {تَرْمِيهِمْ}. [ص 56] وإنما يمكن التطابق بوجهين: الأول: زعم أن المعنى في {أَلَمْ تَرَ}: "ألم تر آباؤكم"، وفي {تَرْمِيهِمْ}: "يرميهم آباؤكم". وقد مرّ إبطاله. الثاني: زعم أن المعنى: "ألم تر يا أبا لهب ... ترميهم يا أبا لهب" وهذا لم يقل به أحد، ولم يقل به المعلم، وإن أشار إليه، وسبق في مقدمة القسم الثاني ردّه من كلامه. ويردّه أيضًا إخلالُه بارتباط السورة بما قبلها، ومنافاته للظاهر الذي هو ... (¬2) قطعًا لا يخرج عنها إلا بحجة واضحة؛ وأنه ليس في ¬

_ (¬1) ص 16 - 20. [المؤلف]. (¬2) هنا كلمة في طرف الورقة ذهب بها البلى.

القرآن كلام مستأنف ابتدئ بخطاب كافر، وأنه يلزمه أن يكون رمي أبي لهب هو الذي به جُعل أصحاب الفيل كعصف مأكول، وغير ذلك مما لا حاجة للإطالة به. ويعرف كثير منه مما تقدّم ومما سيأتي إن شاء الله تعالى. وكذا إذا جعل بدل أبي لهب شخص آخر كالعاص بن وائل أو الوليد بن المغيرة. الوجه الرابع: أن التركيب على زعم الخطاب لا يجري على قانون العربية على ما يأتي قريبًا إن شاء الله. [ص 57] (3) قوله: "وكلمة {تَرْمِيهِمْ} حال من المجرور في {عَلَيْهِمْ} "، وقوله: "فعسى أن يتوهم أن الحال ... ". قال عبد الرحمن: الذي يُدرس في الهند من كتب النحو غالبًا: "كافية ابن الحاجب"، وابنُ الحاجب حَدَّ الحالَ بقوله: "الحال ما يبيّن هيئة الفاعل أو المفعول به لفظًا أو معنىً". والمجرور بالحرف مفعول به في المعنى، فهو داخل في الحدّ، فلا حاجة لما أطال به المعلِّم رحمه الله من الشواهد. وفوق ذلك فإن أكثر النحاة يحدُّون الحال بغير هذا الحدّ، فقول المعلم: "إنما مراد النحويين ... فإذا وجدوا الحال عن غير الفاعل والمفعول فزعوا إلى تقديرات شتى" يحتمل أمرين: الأول أن يكون تساهل فأطلق "النحويين" ومراده بعضهم. الثاني أن يكون إنما راجع من كتب النحو كافية ابن الحاجب وظنّ أنّ الحدّ المذكور فيها متفق عليه بين النحويين. فليته سكت عن هذا، ونظر إلى الوجوه الأخرى التي تبطل الحالية هنا: الوجه الأول: ما تقدم من إبطال الخطاب.

[ص 58] الوجه الثاني (¬1): أن الحال لا بد أن تقارن عاملها في الزمان (¬2). وتقدم في فصل (هـ) من القسم الأول أنه لو كان إرسال الطير إنما هو لأكل جثث الهلكى لكان الظاهر أن يتأخر إرسالها عن رمي أهل مكة، على فرض وقوعه، فعلى فرض تأخره تنتفي المقارنة. الوجه الثالث: أن {تَرْمِيهِمْ} يلي {طَيْرًا أَبَابِيلَ}، والأصل والظاهر أنه لها حالاً منها أو نعتًا لها (¬3). فلا يجوزأن يكون حالاً من الهاء في {عَلَيْهِمْ} متعلّقًا بالخطاب في أول السورة، إذ لا قرينة على ذلك، بل القرائن القوية تؤيد رمي الطير، وقد تقدم بيان ذلك. [ص 59] الوجه الرابع: أنّ {تَرْمِيهِمْ} لو كان خطابًا على أنه حال من الهاء في {عَلَيْهِمْ} لكان جاريًا على غير من هو له، وإذن لوجب على قانون العربية أن يقال: "ترميهم أنت" (¬4). الوجه الخامس: أنني أشكّ في صحة "مررنا بزيد تحدثه" أو "تحدثه أنت"، وإن صحّ فهو ضعيف. وهو نظير {تَرْمِيهِمْ} حالاً من الهاء في ¬

_ (¬1) كتب المؤلف أولاً: "الوجه الثاني: تقدم في الفائدة العاشرة أنّ الحال ... ". ثم حذف قوله: "تقدم في الفائدة العاشرة" من المتن وأثبته في الحاشية الآتية. ونحوه في الحواشي التالية. (¬2) انظر: الفائدة العاشرة من الفوائد الآتية في الذيل. [المؤلف]. انظر التعليق في (ص 189). (¬3) انظر: الفائدة الحادية عشرة من الذيل. [المؤلف]. سقطت هذه الفائدة من الأصل كما سبق. (¬4) انظر: الفائدة الثانية عشرة. [المؤلف]. ذهب الخرم بهذه الفائدة.

{عَلَيْهِمْ} (¬1). الوجه السادس: أنه لو كان المعنى: "ترميهم أنت" لكان جملة {تَرْمِيهِمْ} مستقلة عما قبلها ومناسبة لها. وهذا من التوسط بين الكمالين، وهو من مواضع الوصل. فحقه أن يقال فيه: "وأنت ترميهم"، ويتأكد ذلك هنا بدفعه الإلباس (¬2). فلما قال تعالى: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ} تعيّن أن يكون المراد: ترميهم تلك الطير. فإن قيل: قد ذكروا أن الحال قد تجيء مقدرة بأن تكون متأخرة عن عاملها، ومثّلوا له بقول الله عزَّ وجلَّ: {فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73]. قالوا: التقدير: ادخلوها مقدَّرًا خلودكم. قلت: حاصله أنّ قوله: {خَالِدِينَ} مجاز، لما كانوا مقطوعًا بخلودهم في المستقبل أطلق عليهم {خَالِدِينَ} في الحال من باب تنزيل ما عُلِم أنه سيقع، فإنما حاصل الخلود الاستمرار على الحال الحاصلة بالدخول. ولا يتأتى مثل هذا في {تَرْمِيهِمْ}. أيضًا فقد يحتمل أن يكون قوله: {فَادْخُلُوهَا} ضمّن معنى "اسكنوها". وعلى هذا فالمقارنة أبين, لأن معنى الخلود فيها هو إنما هو دوام سكناها. فإن قيل: فقد ذكروا من أمثلة الحال المقدر قول الله عزَّ وجلَّ: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ ¬

_ (¬1) انظر: الفائدة الثالثة عشرة. [المؤلف]. (¬2) انظر: الفائدة الرابعة عشرة. [المؤلف].

مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27]، فإن التحليق والتقصير متأخر عن الدخول. ولا يتأتى فيه ما ذكرته في {خَالِدِينَ}. قلت: قد يكون النبي صلى الله عليه وسلم رأى نفسه وأصحابه داخلين المسجد الحرام محلقين ومقصرين، أي مع المقارنة الحقيقية. ويكون تأويل هذه الرؤيا بإحدى دخلاتهم المسجد الحرام بعد إتمامهم عمرة القضاء، فإنهم أتمّوا العمرة فحلقوا وقصروا، ثم كانوا يدخلون المسجد بعد ذلك (¬1). على كل حال، فالأصل في الحال هو المقارنة الواضحة، وإنما يحمل على خلاف ذلك عند تعذر الأصل. ولم يتعذر الأصل في قوله تعالى: {تَرْمِيهِمْ}، والله الموفق. [ص 60] قوله: "وعلى الاستئناف يكون: كنت ترميهم"، وقوله: "عسى أن يتوهم أن مقتضى المعنى أن يؤتى بالماضي و {تَرْمِيهِمْ} مضارع" إلى آخر ما تقدم. قال عبد الرحمن: إن أراد بالاستئناف: الاستئناف البياني، وهو ما يكون جوابًا لسؤال ينشأ من الجملة السابقة، فلا يصلح هنا على جعل {تَرْمِيهِمْ} خطابًا. فإن السامع إذا سمع قوله تعالى: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ} ولم يكن يعلم القضية، إنما يقع في نفسه السؤال عما فعلت بهم الطير. فإنه يفهم من أول السورة إنزال الله تعالى بالقوم عذابًا شديدًا، ويفهم من إرسال ¬

_ (¬1) انظر ما سبق في (ص 158).

المعدّى بـ (على) العذاب، وقد تقدم بيان ذلك (¬1)، فيفهم أن الطير أرسلت لعذابهم، فيقع في نفسه السؤال عما فعلت بهم الطير. فكيف يسأل عما فعلت بهم الطير، فيجاب بقوله: "رميتهم أنت" أو "كنت ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول"؟ ليس الشمس رابعة النهار أنه لو كان هنا استئناف بياني لوجب أن يكون المعنى: "ترميهم تلك الطير" ليكون جوابًا للسؤال المذكور؟ وإن كان ذلك ضعيفًا من وجه آخر، كما تقدّم في تفسير السورة. فإن قيل: المعلِّم رحمه الله يرى أن إرسال الطير كان لأكل جثث الهلكى، ويرى أن قوله تعالى: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ} يُشعر بذلك على ما جرت به العادة من تحليق الطير على رؤوس الجيش. وإذا فهم السامع ذلك أوشك أن يسأل: "وكيف هلكوا؟ "، فيجاب بقوله: "كنت ترميهم ... ". قلت: قد تقدم إبطال إشعار الآية بأكل الطير للجثث. وحسبك في إبطاله أنه لم يشعر بذلك أحد من الناس منذ نزلت. [ص 61] ولو شئت لحلفت بين الركن والمقام أن المعلِّم رحمه الله لم يشعر بذلك منها، وإنما كسعها به لاستبعاده رمي الطير، وقد تقدّم ما فيه. والاستئناف إنما يصلح حيث كان السؤال مما يشعر به كل سامع متفهم. وعلى فرض توقع السؤال المذكور فممّن؟ أمن الذين رموا؟ كلّا، أم من غيرهم؟ فكيف. يصح أن يجاب بقوله: "كنت ترميهم". ¬

_ (¬1) انظر (ص 133).

فإن قيل: قد يحمل قوله: {تَرْمِيهِمْ} على معنى "يرميهم قومك"، على ما تقدم في الخطاب، وعليه فقد يمكن السؤال المذكور من كثير من أهل مكة الموجودين عند نزول السورة, لأنهم لم يدركوا الواقعة. قلت: قد تقدم ردّ هذا التأويل في الكلام على الخطاب. ومع ذلك فهو يقتضي أن أهل مكة لم يكونوا يعرفون كيف هلك القوم. فإنهم كانوا يرون أنهم هلكوا برمي الطير كما تقدم غير مرّة. ولو كان من آبائهم رمي وكان هلاك القوم به في الظاهر لما خفي عليهم، مع ما جرت به عادتهم من حفظ وقائعهم. والضربة القاضية على هذا أنّ أول السورة {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ}، ومعناه كما يعترف به المؤلف: "قد علمت كيف فعل ربّك بأصحاب الفيل علمًا مساويًا لعلم المشاهد". فإن لم يكن أهل مكة عند نزول السورة عالمين بكيفية الواقعة، فليت شعري مَنْ عسى أن يكون عالمًا بها حتى يخاطَب بما ذكر، فتدبَّرْ. فإن قيل: إنّك جوَّزت الاستئناف على معنى "ترميهم الطير"، وهذا الوجه يرد عليه أيضًا. قلتُ: إنّما جوَّزتُه على أن يكون السؤال ممن لم يعلم بالواقعة كأهل البلدان البعيدة عن مكة وأهل العصور المتأخرة. وقد مرّ الجواب [ص 62] عن دخولهم في الخطاب بقوله: {أَلَمْ تَرَ} مع جهلهم، فلا تغفل، على أني بينت أنه مع ذلك ضعيف.

فإن قيل: المعلِّم وإن وافق على معنى أول السورة ما ذكرتَ، إلاَّ أنه ذكر بعد ذلك أن كثيرًا من الشاهدين أنفسهم لم يكونوا يعلمون الحقيقة، وكانوا يرون أنّ الطيرَ رَمَتْه، وقد قدّمتَ أنت أن ذلك كان الاعتقاد العام، فعلى قوله يكون الجهل متحقّقًا، وذلك مظنّة السؤال. قلتُ: قد تقدّم إبطال احتمال الجهل، وكفى بأول السورة مبطلاً له. ومع ذلك فالسؤال إنما مظنّة الجهل البسيط، والجهل المدَّعَى هنا مركّب. وإن أراد الاستئناف النحوي، فقد شرح علماء المعاني في باب الفصل والوصل المواضعَ التي يصلح فيها, وليس منها موضع يصلح هنا. بل لو كان المعنى على ما قاله المعلِّم رحمه الله لكان هذا من مواضع العطف بالواو، فيقال: "وأرسل عليهم طيرًا أبابيل ورميتهم"، أو "وترميهم"، أو "وكنت ترميهم" (¬1). قوله: "حذف الأفعال الناقصة قبل المضارع أسلوب عام" يشمل على دعاوى: الدعوى الأولى: جواز حذف الأفعال الناقصة. وأئمة العربية لا يجيزون حذف ما عدا (كان) من النواسخ، إلا في موضع أو موضعين ليس منها ما قاله المعلِّم في الآية التي استشهد بها. ويجيزون [ص 63] حذف (كان) في مواضع لا يصلح منها شيء في آية الفيل ولا في شيء من الشواهد التي أوردها. ¬

_ (¬1) انظر: الفائدة 11. [المؤلف]. كذا ظهر لي رقم الفائدة, وقد ذهب بها الخرم الواقع في الأصل.

وذكر ابن هشام في بعض رسائله حذف (كان) مع اسمها وأنه ليس بقياس. قال: "إلا بعد أن ولو، ومن ثم قال سيبويه رحمه الله: لا تقل: "عبدَ الله المقتولَ"، بتقدير: كن عبد الله المقتول. وخالف المحققون الكسائيَّ في تخريجه قوله تعالى: {انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ} [النساء: 171] على تقدير: "يكن الانتهاء خيرًا لكم" (¬1). قال عبد الرحمن: وممن خالف الكسائي في ذلك: أصحابه الفرَّاء وغيره، مع أن الحذف في {انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ} أقرب بكثير من الحذف في الآية التي استشهد بها المعلَّم وفي آية الفيل والشواهد؛ لوجود دلالة في {انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ}. وهو أن {خَيْرًا} منصوب، فلا بدّ له من ناصب، فإذا قدّرت "يكن" بان وجه النصب، فيكون ظهور النصب دليلاً على الحذف. ومع ذلك فالمعنى مفهوم، لا يحصل بحذف "يكن" إلباس، ولا بتقديرها معنى يخالف الظاهر. وهذا بخلاف التقدير في {تَرْمِيهِمْ}. واعلم أن العلماء حتى النحاة كثيرًا ما يفسّرون الكلام بما يشرح أصل معناه، مع صرف النظر عن التقدير النحوي، فربما يقع في كلامهم ما يوافق تقدير المعلم، فلا تغترَّ بذلك. وقد عقد ابن جنّي في الخصائص بابًا لنحو ذلك (¬2). وتجد أمثلة كثيرة, فلا حاجة للإطالة بها. ¬

_ (¬1) الأشباه والنظائر النحوية، طبعة ثانية (4/ 27). [المؤلف]. (¬2) الخصائص (1/ 288). وراجع: شرح الكافية (2/ 397)، ومغني اللبيب مع حواشي الأمير (2/ 24)، وما تقدم في التفسير في (كيف). [المؤلف].

الدعوى الثانية: دعوى الحذف قبل {تَرْمِيهِم}. ومن الأصول المتفق عليها ما قال ابن هشام: "الكلام إذا أمكن حمله على [التمام امتنع حملُه على] (¬1) الحذف, لأنه دعوى خلاف الأصل بغير بيّنة. ولهذا امتنع أن يدّعى في نحو (جاء الذي في الدار) أن أصله: الذي هو في الدار" (¬2). وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: "والاختصار هو الاقتصار على ما يدل على الغرض مع حذف أو إضمار. والعرب لا يحذفون ما لا دلالة عليه ولا صلة [ص 64] إليه, لأن حذف ما لا دلالة عليه منافٍ لغرض وضع الكلام من الإفهام. وفائدة الحذف تقليل الكلام، وتقريب معانيه إلى الأفهام" (¬3). قال عبد الرحمن: فالحذف الذي يخالف ذلك، إذا تعمدّه المتكلم كان لحنًا في العربية، ومن جهة أخرى قد يكون كذبًا. فلو كان قبل {تَرمِيهِم} حذف يصرفها إلى الخطاب لكان من هذا. وقد مرّ إبطال ما توهم من قرينة حاليّة أو عاديّة، وبيان القرائن التي تؤيّد رمي الطير. فأما الشواهد التي ذكرها المعلم، فإنّ لها محلاًّ صحيحًا بليغًا لا يحُوج إلى الحذف. ودعوى الحذف والتقدير فيها ينزل بالكلام عن بلاغته كما سترى. هذا، مع ما تقدم أن هذا ليس من المواضع التي يجوز فيه (¬4) حذف (كان). وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) ما بين الحاصرتين ساقط من الأصل. (¬2) الأشباه (4/ 7). [المؤلف]. (¬3) الإشارة والإيجاز ص 2. [المؤلف]. (¬4) كذا في الأصل، والوجه: فيها.

الدعوى الثالثة: أن المحذوف "كنت". فلو صحّ حذف (كان) في هذا الموضع، وجوّزنا الاستئناف، وقلنا: إن المضارع إذا وضع موضع الماضي كان بتقدير "كان"، فلنا أن نقدر "كانت". وبذلك يوافق ما عرف عن القصة، وما يفهم من السورة، وما مضى عليه الناس جميعًا قبل المعلم، وتخلص به الكلام عن الإلباس والإيهام وعن اللحن والكذب وغير ذلك مما تقدم. [ص 65] فأما الشواهد، فقوله تعالى: {فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى} [الحاقة: 7]، نظير قوله: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ} [الكهف: 17]. وسيأتي الكلام عليه في الذيل (¬1). وفي ذاك التوجيه ما يوافق ما يشعر به المتفهم من بلاغة الكلام وعلوّ درجته، بخلاف التقدير الذي قاله المعلم. وأما بيت متمم، فإن البغدادي أنشده في "الخزانة": تقول ابنةُ العمري مالكَ بعدَما ... أراك حديثًا ناعمَ البالِ أفرعا وقال في شرحه: "ابنة العمري زوجته، والحديث: القريب، والأفرع: الكثير شعر الرأس. تقول: مالك اليوم متغيرًا بعد أن كنت منذ قريب ناعم البال أفرع؟ " (¬2). وفي "حماسة أبي تمام" تحت عنوان "وقال آخر": ألا قالت العصماءُ يوم لقيتُها ... أراك حديثًا ناعمَ البال أفرعا فقلتُ لها لا تنكريني فقلّما ... يسودُ الفتى حتى يشيبَ ويصلَعا ¬

_ (¬1) انظر الفائدة 14. [المؤلف]. انظر ما علقته في (ص 178). (¬2) خزانة الأدب (1/ 235). [المؤلف]. طبعة هارون (2/ 23).

قال التبريزي: "ويروى: كبرتَ ولم تجزع من الشيب [مجزعا] (¬1) " (¬2). ويظهر أن هذه الرواية في هذا الشعر هي الصواب، وأن قوله: "أراك حديثًا ناعم البال أفرعا" انتقل إلى ذهن الراوي من شعر متمّم. وقصيدة متمم في "جمهرة الأشعار" (¬3) كما ذكره المعلم، وفي حاشيتها التنبيه على رواية "الخزانة" (¬4). والنظر يقتضي أن يكون الصواب "حديثًا ناعمَ الوجه". أما "حديثًا" فلأن المرأة مع زوجها، فلا بد أن تنكر تغيُّره حداثةَ وقوعه. وأما "ناعم الوجه"، فلأنه المناسب لقوله "أفرعا"، وللبيت الذي يليه، وهو كما في "الخزانة" و"الجمهرة": فقلتُ لها طولُ الأسى إذ سألتِني ... ولوعةُ حُزنٍ تترك الوجهَ أسفعا [ص 66] ثم إن صحّت رواية "الجمهرة"، فالتعبير بالمضارع لإفادة الاستمرار وترك تقييده بنحو "كنت" من باب حكاية الحال، كما سنوضحه في الذيل (¬5). ¬

_ (¬1) مكان الحاصرتين بياض في الأصل. (¬2) شرح التبريزي على "الحماسة" (1/ 168). [المؤلف]. وانظر شرح البيت على رواية "الحماسة" في "الخزانة" طبعة هارون (3/ 13). (¬3) "الجمهرة" ص 283. [المؤلف]. طبعة الهاشمي (753). (¬4) يعني "حديثًا"، وهي رواية المفضليات - وذكر ابن الأنباري في الشرح (538) رواية "قديمًا" أيضًا - و"الكامل" (1440)، و"المنتخب" (205)، و"الحماسة البصرية" (629). ورواية "قديمًا" في "أمالي اليزيدي" (76)، و"جمهرة أشعار العرب" (753)، و"الأشباه والنظائر" للخالد (2/ 348)، و"منتهى الطلب" (6/ 385). (¬5) انظر الفائدة 14. [المؤلف]. انظر تعليقي في (ص 189).

وإن صحت رواية "الخزانة" ففيه مع حكاية الحال الدلالة على القرب، وسيأتي شرح ذلك (¬1). وقول صاحب "الخزانة": "بعد أن كنت" تفسير لأصل المعنى، لا تقدير للإعراب، وقد تقدّم التنبيه على ذلك. وأما بيت خِداش وبقية الشواهد، فالمضارع فيها مقترن بـ (قد). فإن قلنا بظاهر كلام ابن مالك ومن تبعه أن (قد) تصرف المضارع إلى المضي سقط الاستشهاد البتة. وإن قلنا إن معنى صرفها المضارع إلى المضي أنه معها للاستمرار من الماضي البعيد إلى المستقبل، فاستعماله في الاستمرار المنقطع من باب حكاية الحال والدلالة على القرب وإيهام التوهم، وستأتي نظائر ذلك مشروحة. هذا, ولو جاز أن يكون {تَرْمِيهِم} خطابًا واستئنافًا لأمكن توجيه العدول عن الماضي إلى المضارع توجيهًا صحيحًا بغير دعوى الحذف، ولكن لا ينفعه ذلك لما علمت (¬2). ¬

_ (¬1) انظر الفائدة 14. [المؤلف]. انظر تعليقي في (ص 189). (¬2) هذا آخر ما وجد من كلام المؤلف بخطّه.

فهرس مراجع التحقيق

فهرس مراجع التحقيق - الإحكام في أصول الأحكام للآمدي، دار الكتاب العربي، بيروت، 1404. - الاختيارين للأخفش الأصغر، تحقيق فخر الدين قباوة، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1404. - أسماء جبال تهامة وسكانهان عرّام بن الأصبغ السلمي، تحقيق عبد السلام هارون، مكتبة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، 1394. - الأشباه والنظائر للخالديين، تحقيق السيد محمَّد يوسف، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1965 م. - الأشباه والنظائر للسيوطي، طبعة مجمع اللغة العربية بدمشق. - الاشتقاق لابن دريد، تحقيق عبد السلام هارون، دار المعارف، القاهرة، 1979 م. - الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني، دار الثقافة، بيروت. - أمالي ابن الشجري، تحقيق محمود الطناحي، مكتبة الخانجي، القاهرة. -أمالي الشريف المرتضى، تحقيق محمَّد أبو الفضل إبراهيم، مكتبة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، 1373. - أمالي اليزيدي، تحقيق محمَّد نبيل طريفي بعنوان "المراثي"، وزارة الثقافة، دمشق، 1991 م. - البيان والتبيين للجاحظ، تحقيق عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1405 هـ. - تاريخ الطبري، تحقيق محمَّد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة،

1979 م. - تاريخ مكة للأزرقي، دار الأندلس، بيروت، 1403. - تفسير البغوي، تحقيق محمَّد عبد الله النمر وزميليه، دار طيبة، الرياض، 1427. - تفسير الخازن، دار الفكر، بيروت. - تفسير الرازي، دار الفكر، بيروت، 1405. - تفسير الطبري، تحقيق محمود شاكر (16 مجلدا)، دار المعارف، القاهرة. - تفسير الطبري، أشرف على تحقيقه عبد الله بن عبد المحسن التركي، القاهرة، 1422. - التمثيل والمحاضرة للثعالبي، تحقيق عبد الفتاح الحلو، الدار العربية للكتاب. - تهذيب اللغة للأزهري، تحقيق جماعة، الدار المصرية للتأليف والترجمة والنشر، القاهرة. - التيجان في ملوك حمير، عن وهب بن منبه، رواية ابن هشام، مركز الدراسات والأباحث اليمنية، صنعاء 1979 م. - جمهرة أشعار العرب للقرشي، تحقيق محمَّد علي الهاشمي، دار القلم بدمشق، 1406. - الحماسة البصرية، تحقيق عادل سليمان جمال، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1420. - حماسة أبي تمام بشرح التبريزي، مطبعة بولاق، 1296. - حماسة أبي تمام بشرح المرزوقي، تحقيق عبد السلام هارون، لجنة التأليف

والترجمة والنشر، القاهرة، 1387. - حياة الحيوان الكبرى للدميري، تحقيق إبراهيم صالح، دار البشائر، دمشق، 1426. - الحيوان للجاحظ، المطبعة الحميدية، القاهرة 1323 - 1324. - الحيوان للجاحظ، تحقيق عبد السلام هارون. - خزانة الأدب للبغدادي، تحقيق عبد السلام هارون، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة الثانية 1979 م. - الخصائص لابن جني، تحقيق محمَّد علي النجار، دار الكتب المصرية، 1952 - 1957 م. - ديوان الأعشى، تحقيق محمَّد محمَّد حسين، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1403. - ديوان امرئ القيس، تحقيق محمَّد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة، 1984 م. - ديوان أمية بن أبي الصلت، صنعة عبد الحفيظ السطلي، دمشق، 1977 م. - ديوان أبي تمام بشرح الخطيب التبريزي، تحقيق محمَّد عبده عزام، دار المعارف، القاهرة، 1964 م. - ديوان الحطيئة، تحقيق نعمان محمَّد أمين طه، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1407. - ديوان الخنساء، تحقيق أنور أبو سويلم، دار عمار، عمان، 1409. - ديوان ذي الرمة، تحقيق عبد القدوس أبو صالح، مجمع اللغة العربية، دمشق، 1392 - 1394.

- ديوان طفيل الغنوي، تحقيق محمَّد عبد القادر أحمد، دار الكتاب الجديد، بيروت، 1968 م. - ديوان عدي بن زيد العبادي، تحقيق محمَّد جبار المعيبد، بغداد، 1965 م. - ديوان الفرزدق، دار بيروت للطباعة والنشر، 1400. - ديوان القطامي، تحقيق محمود الربيعين الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2001 م. - ديوان لبيد بن ربيعة، تحقيق إحسان عباس، وزارة الإعلام، الكويت، 1984 م. - ديوان النابغة الذبياني، تحقيق محمَّد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة، 1977 م. - روح المعاني للألوسي، دار إحياء التراث العربي، بيروت. - سنن أبي داود، تحقيق محمَّد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية، بيروت. - سيرة ابن هشام، تحقيق مصطفى السقا وزميليه، مؤسسة علوم القرآن، بيروت. - شرح أبيات مغني اللبيب للبغدادي، تحقيق عبد العزيز رباح وأحمد يوسف الدقاق، دار المأمون للتراث، دمشق، 1393 - 1401. - شرح سيرة ابن هشام لأبي ذكر الحنشني، نشرة بولس برونله، تصوير دار الكتب العلمية، بيروت. - شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات لابن الأنباري، تحقيق عبد السلام هارون، دار المعارف، 1980 م.

- شرح المفضليات لابن الأنباري، تحقيق ليال، جامعة أكسفورد 1919 - 1924 م. - شعر عمرو بن معديكرب الزبيدي، صنعة مطاع الطرابيشي، مجمع اللغة العربية بدمشق، 1405. - الشعر والشعراء لابن قتيبة، تحقيق أحمد محمَّد شاكر، دار المعارف، القاهرة، 1982. - صحيح البخاري، دار السلام للنشر والتوزيع، الرياض، 1417. - صحيح ابن خزيمة، تحقيق محمَّد مصطفى الأعظمي، المكتب الإِسلامي، بيروت، 1390. - صحيح مسلم بشرح النووي، مكتبة المعارف، الرياض، 1407. - طبقات ابن سعد، دار صادر، 1377 - 1380. - طبقات فحول الشعراء لابن سلام، تحقيق محمود شاكر، مطبعة المدني، القا هرة 1974. - العقد الفريد لابن عبد ربه، تحقيق أحمد أمين وغيره. دار الكتاب العربي، بيروت، 1406. - فتح الباري لابن حجر، طبعة محب الدين الخطيب، تصوير دار الفكر، بيروت. - الكامل للمبرد، تحقيق محمَّد أحمد الدالي، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1406. - كتاب سيبويه، تحقيق عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة. - كتاب عرّام = أسماء جبال تهامة.

- الكشكول لبهاء الدين العاملي، بعناية الطاهر أحمد الزاوي، عيسى البابي الحلبي، القاهرة، 1961 م. - لسان العرب لابن منظور، دار صادر، بيروت. - مجمع الأمثال للميداني، تحقيق محمَّد أبو الفضل إبراهيم، عيسى البابي الحلبي، القاهرة، 1977 م. - مروج الذهب، للمسعودي، تحقيق محمَّد محيي الدين عبد الحميد، مكتبة الرياض الحديثة، الرياض. - المزهر للسيوطي، تحقيق البجاوي ورفيقيه، دار التراث، القاهرة. - مسند أحمد، المكتب الإِسلامي، بيروت. - مسند الطيالسي، دائرة المعارف النظامية، حيدراباد الدكن، 1321. - معاني القرآن وإعرابه للزجاج، تحقيق عبد الجليل عبده شلبي، عالم الكتب، بيروت، 1408. - معجم البلدان لياقوت الحموي، دار إحياء التراث العربي، بيروت. - المعجم الجغرفي المقارن. - معجم الحيوان للفريق أمين معلوف، دار الرائد العربي، بيروت. - معجم الشعراء للمرزباني، تحقيق عبد الستار فراج، عيسى البابي الحلبي، القاهرة 1960 م. - المعجم الكبير للطبراني، تحقيق مهدي بن عبد المجيد السلفي، مكتبة العلوم والحكم، الموصل، 1404. - معجم ما استعجم للبكري، تحقيق مصطفى السقا، عالم الكتب، بيروت. - مغني اللبيب لابن هشام، تحقيق مازن المبارك ومحمد علي حمد الله، دار

الفكر، بيروت، 1979 م. - المنتخب في محاسن أشعار العرب لمجهول، تحقيق عادل سليمان جمال، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1414. - منتهى الطلب من أشعار العرب لابن ميمون، تحقيق محمَّد نبيل طريفي، دار صادر، بيروت، 1999 م. - المنمق في أخبار قريش لابن حبيب، تحقيق خورشيد أحمد فارق، عالم الكتب، بيروت، 1405. - نسب معدّو اليمن الكبير لابن الكلبي، تحقيق ناجي حسن، عالم الكتب، بيروت، 1408. - نقائض جرير والفرزدق، نشرة بيغان، ليدن، 1905 م. - النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير، تحقيق طاهر أحمد الزاوي ومحمود الطناحي، المكتبة العلمية، بيروت. - همع الهوامع للسيوطي، تحقيق عبد العال سالم مكرم، عالم الكتب، القاهرة، 1421. ***

طليعة التنكيل

آثَار الشّيخ العَلّامَة عبَد الرّحمن بن يحيى المعَلِّمِيّ (9) طليعة التنكيل ويليه: تعزيز الطليعة ويليه: شكر الترحيب تأليف الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني 1312 هـ - 1386 هـ تحقيق علي بن محمد العمران وفق المنهج المعتمد من الشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد (رحمه الله تعالى) تمويل مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

بسم الله الرحمن الرحيم

راجع هذا الجزء محمد أجمل الإصلاحي عادل بن عبد الشكور الزرقي

مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية SULAIMAN BIN ABDUL AZIZ AL RAJHI CHARITABLE FOUNDATION حقوق الطبع والنشر محفوظة لمؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الطبعة الأولى 1434 هـ دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع مكة المكرمة - هاتف 5473166 - 5353590 فاكس 5457606 الصف والإخراج دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

مقدمة التحقيق

مقدمة التحقيق الحمد لله، والصلاة والسلام على نبيّنا محمَّد وعلى آله وصحبه. وبعد، فهذا مجموع يضم بين دفتيه ثلاثة كتب من تأليف الشيخ العلامة عبد الرحمن المعلمي رحمه الله، يربطها ببعضها رابط وثيق، ولكل منها دور في تكميل الآخر وتعزيزه، والثلاثة جميعًا تعتبر كالتوطئة للكتاب العظيم "التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل". * ملخّص قصة تأليفها ودافعه: ألف الشيخ محمَّد زاهد الكوثري (ت 1371 هـ) كتابًا عنونه بـ "تأنيب الخطيب على ما ساقه في ترجمة أبي حنيفة من الأكاذيب" انتقد فيه ما ساقه الحافظ الخطيب البغدادي (ت 463 هـ) في ترجمة أبي حنيفة من كتابه "تاريخ بغداد" من المثالب عن السالفين. وطبع كتابه في مصر عام 1360 هـ. فلما اطلع عليه المؤلف بطلب من أحدهم - بعد أن اعتذر أول مرة من النظر فيه - رأى أنه بحاجة إلى جوابٍ مفصل عما وقع فيه الكوثري من الأخطاء العلمية والطعن في أئمة السنة ورواتها، فألف كتابًا - وهو في الهند - سماه "التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل" (¬1) وقسمه إلى أربعة أقسام: قسم القواعد، وقسم الرواة، وقسم الفقهيّات، وقسم العقائد. ولما كان كتاب "التنكيل" على وشك التمام رأى المؤلف أن يقتضب نموذجًا منه فيه أهم ما وقع فيه الكوثري من الأخطاء، وسماه "طليعة التنكيل ¬

_ (¬1) وكان قد سماه بادئ الأمر "النقد البري".

بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل" طُبع بمصر سنة 1368 هـ. في نحو 100 ص من القطع المتوسط. بيَّن فيه مغالطات الكوثري فيما يتعلّق برواة الحديث خاصةً، وجعلها أنواعًا هي: أ - الأوابد: تبديل الرواة. ذكر فيه اثني عشر مثالًا (ص 5 - 31) وذكر باقيها في "التنكيل". ب - العوامد: كلام لا علاقة له بالجرح يجعله جرحًا. ذكر فيه سبعة أمثلة. (ص 32 - 37). ج - العجائب: اهتبال التصحيف والغلط. ذكر فيه سبعة أمثلة. (ص 39 - 49). د - الغرائب: تحريف نصوص أئمة الجرح والتعديل. ذكر ستة أمثلة. (ص 50 - 54). هـ - الفواقر: تقطيع نصوص أئمة الجرح والتعديل. ذكر اثني عشر مثالاً. (ص 54 - 59). و- العواقر: جرحٌ لم يثبت يحكيه بصيغة الجزم. ذكر ستة أمثلة. (ص 59 - 66). ز - التجاهل والمجازفة: تجهيل الثقات، ذكر سبعة أمثلة (ص 66 - 77). ح - الأعاجيب: يطلق صيغ الجرح مفسَّرةً وغير مفسرةٍ بما لا يوجد في كلام الأئمة. ذكر ستة أمثلة (ص 77 - 87). وأحال على البقية في "التنكيل". فهذه ثمانية فروع، ثم ذكر عنواناتِ ستةِ فروعٍ أخرى استوفى ذِكرها في

التنكيل. فلما اطَّلع الكوثري على "الطليعة" كتب ردًّا عليها سماه "الترحيب بنقد التأنيب" بناه على أمرين: الأول: الطعن في قصد المؤلف، واتهامه بالطعن في أبي حنيفة، والتعليق على عبارات قاسية وردت في متن الكتاب وتعليقاته. الثاني: ناقش ما أورده الشيخ من أمثلة وحاول أن يتملّص من عُهدة التغيير والتبديل التي أثبتها المؤلف عليه. فما كان من المعلمي حين وقف على "الترحيب" إلا أن أردف "الطليعة" برسالتين يجيب فيهما عما أورده الكوثري، وهما: "تعزيز الطليعة" و"شكر الترحيب" ولم يطبعا في حياة المؤلف ولا بعده. أما الرسالة الأولى - تعزيز الطليعة -: فقد شرح المؤلف في أولها سبب تأليفها، وبين الظروف التي طبعت فيها "الطليعة" مما أدى إلى وقوع بعض الأخطاء المطبعية، وزيادات في المتن والتعليقات ليست منه وإنما ممن قام على طبع الرسالة ... وقسّم الرسالة إلى بابين: الباب الأول: مطالب متفرّقة. وفيه أربعة فصول: الأول: شرح فيه أمورًا تتعلق بكتاب "التنكيل" وخطورة ما فعله الكوثري على السنة. (ص 5 - 8) الثاني: تعليقه على محاولة الكوثري التبرؤ مما نسبه إليه. (ص 9 - 19)

الثالث: تكلم على مسألة الغلو في الأفاضل. (ص 20 - 32). الرابع: في تفريق الكوثري الأمة إلى حنفية وعامة المسلمين (ص 33). ثم خلص إلى تحرير قاعدة التهمة (ص 34 - 44). ثم دلف إلى عدة قواعد خلّط فيها الكوثري، ومع أنه لم يعنونها - سهوًا كما أظن - إلا أنها هي الباب الثاني من الكتاب، وما زال يشير إليها في مواضع عدة بالقواعد، ولذا فقد وضعت لها عنوانًا بين معكوفين هكذا: [الباب الثاني: في قواعد خلّط فيها الكوثري]، وذكر فيه أربع قواعد: 1 - رمي الراوي بالكذب في غير الحديث النبوي (45 - 50). 2 - التهمة بالكذب (ص 51 - 62). 3 - رواية المبتدع (ص 63 - 84). 4 - قدح الساخط ومدح المحب (ص 85 - 96). ويلاحظ هنا أن المؤلف قد ذكر جميع هذه القواعد في التنكيل، لكنه صرح بأنه أعادها هنا للحاجة إليها، قال (ص 33): "فالنظر في شأنهم يتوقف على تحرير قاعدة التهمة، وقد كنت بسطته في التنكيل ثم دعت الحاجة إلى تلخيصه هنا". وكذلك في (ص 38) وضرب عليها. أما الرسالة الثانية - شكر الترحيب -: فقد بدأها المؤلف بمقدمة شرح فيها سبب تأليف التنكيل، وأنه لخص نموذجًا منه وطبعه، ثم رأى رسالة الكوثري في الرد عليها، ثم شرح ما وقع من ملاحظات على طبعة الطليعة في ثلاث نقاط. وقد جعل الرسالة في بابين:

مقارنة بين "تعزيز الطليعة" و"شكر الترحيب"

[الباب الأول] (¬1): النظر في خطبة الكتاب وما للكوثري فيها من الوهم (7 - 26). الباب الثاني: النظر في أجوبة الكوثري على ما أورده في الطليعة، وذكر ما وقع في كل فرع على حدة. (27 - 81). مقارنة بين "تعزيز الطليعة" و"شكر الترحيب": كلتا الرسالتين ردٌّ على رسالة الكوثري "الترحيب بنقد التأنيب"، فموضوعهما إذًا واحد، وكلتاهما قد قسمهما المؤلف إلى مقدمة وبابين. أما المقدمة في كلتا الرسالتين فقريبة المادة، وإن كانت مقدمة "شكر الترحيب" أبسط في شرح ظروف وملابسات طباعة "الطليعة". أما من جهة الفرق بينهما؛ فإن "التعزيز" مناقشة كليّة لمقاصد الكوثري وأخطائه وما يترتب على القول بها من مخاطر على السنة. وذلك واضح من عنوانات فصول الباب الأول من الرسالة التي سقناها سابقًا (ص 7 - 8)، أما الباب الثاني فهو في ذكر قواعد خلّط فيها الكوثري فردّ على تخليطه، وحرر القول فيها وحققه، وذكر فيه أربع قواعد. أما "شكر الترحيب" فهو تتبع لكلام الكوثري وجواب عنه بحسب سياقه له في كتابه، فنظر المؤلف أولاً في خطبة كتابه، يسوق كلامَه ويعلّق عليه بقوله: "لا أوافق" ويشرح مقاصده، أو يوافقه عليه، ويشرح غرضه. هذا في الباب الأول، أما الثاني، فتتبّع المعلمي جواب الكوثري عن الأمثلة التي ¬

_ (¬1) ذهل المؤلف عن وضع هذا العنوان فوضعته بين معكوفين، وانظر ما سلف (ص 8) في ذهوله عن وضع الباب الثاني في رسالة "التعزيز".

أوردها المؤلف في "التنكيل" فرعًا فرعًا وترجمة ترجمة، وبه ينتهي الكتاب. وعند النظر نجد أن الرسالتين يكمّل بعضهما الآخر،؛ إذ إن كل رسالة انتحت طريقةً في الرد، الأولى في التقعيد والتحرير، والأخرى في التتبُّع والاستدراك على الترتيب. وأما أيهما تقدمت على الأخرى في التأليف فمما لا يمكن الجزم به، ولم أقف على قرائن يستفاد منها لتحديد أيهما المتقدم، ولا يبعد أن يكون قد شرع فيهما معًا، وعليه فلا ضير إنْ قدّمنا إحداهما على الأخرى في الترتيب في هذا المجموع، ورأيت أن تتقدم رسالة "تعزيز الطليعة" على "شكر الترحيب" لكونها من حيث العنوان أقرب إلى نصرة "الطليعة" فناسب أن تليها في الترتيب. ويبدو أن المؤلف لم ينشط لطباعتهما في حياته خوفَ أن يصيبهما ما أصاب "الطليعة" من الأخطاء المطبعية أو التصرف بالتعليق ونحوه. وقد صرح بأن هذا سبب تأخره في طباعة التنكيل أيضًا (¬1). **** ¬

_ (¬1) انظر "شكر الترحيب" (ص 6).

وصف نسخ الرسائل الثلاث

وصف نسخ الرسائل الثلاث * أولاً: نسخة الطليعة له نسختان، مبيّضة ومسوَّدة، أما المبيضة فهي من مخطوطات جامعة الملك عبد العزيز - قسم المجموعات الخاصة، ضمن مكتبة الشيخ محمَّد نصيف رقم (2813)، وهي بخط المؤلف وتقع في (76 ص) بترقيم المؤلف، في كل صفحة 15 سطرًا غالبًا. كتب على ورقة العنوان بخط المؤلف "طليعة التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل" لمؤلفه عبد الرحمن بن يحيى المعلمي العُتمي اليماني عفا الله عنه. ثم كتب تحته بخط الشيخ محمَّد نصيف: "تأليف العلامة المفضال الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي العتمي اليماني المقيم بحيدراباد الدكن بالهند" ثم كتب: "أحسن الله إليه في ا (¬1) " وضرب عليها. وكتب بجواره ثم ضرب عليه: "أرسله مؤلفه الشيخ عبد الرحمن من حيدراباد الدكن ليُطبع، وأذن بالتعليق عليه. وكتبه محمَّد نصيف" (¬2). والنسخة كاملة مبيَّضة قليلة الضرب والتصويب، واضحة الخط على خلاف عامة رسائل المؤلف. ¬

_ (¬1) كذا، وكأنه أراد أن يكتب "في الدارين". (¬2) وكان نصيف قد علَّق تعليقًا واحدًا على (ص 2) عند ذكر الكوثري معرّضًا ومعرَّفًا به، ثم ضرب على التعليق.

* ثانيا: نسخة تعزيز الطليعة

وكان ينبغي أن تكون الطبعة الأولى للكتاب موافقة تمامًا لما في هذه النسخة؛ إذ عنها صدرت، لكن الذي قام على طبع الكتاب غيَّر في عبارات عدة غالبًا في التهجّم على الكوثري، مما اضطر المؤلف رحمه الله لحذفها في الطبعة الثانية، والاعتذار عنها في تعزيز الطليعة، وفي شكر الترحيب، وفي التنكيل. ومع ذلك فلم يستطع المؤلف تعديل كلِّ العبارات المغيَّرة، خاصة كلمة "الأستاذ" التي التزمها المؤلف في أغلب صفحات الكتاب، وحُذفت من الطبعة الأولى، فأعدناها في طبعتنا هذه لتطابق ما كتبه المؤلف أول مرة. كما أمر المؤلف أيضًا في "التنكيل" وفي "شكر الترحيب" بإصلاح أو تغيير بعض العبارات، كما أثبتّ ذلك في مواضعه من "الطليعة" انظر (ص 7، 8، 9، 78، 79). والظاهر أن هذه النسخة المبيّضة بقيت بعد طبعها عند الشيخ محمَّد نصيف ولم تعد إلى مؤلفها، وإلا لوجدت ضمن كتبه التي خلّفها في غرفته في مكتبة الحرم المكي الشريف، كما هو واضح. وأما المسوَّدة، فهي محفوظة في مكتبة الحرم المكي الشريف برقم (4250) وتقع في (32 ص) بخط مؤلفها، وكتب عنوانها في أول الرسالة كما هو مثبت على المبيّضة، والنسخة ناقصة قرابة النصف. * ثانيًا: نسخة تعزيز الطليعة تحتفظ مكتبة الحرم المكي الشريف بالنسخة الوحيدة منها برقم (4697)، وتقع في (43 ص) بخط المؤلف.

* ثالثا: نسخة شكر الترحيب

وعلى ورقة العنوان بخط مؤلفها عنوان الكتاب: "تعزيز الطليعة لراجي عفو ربه الكريم عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني غفر الله له". والنسخة شبه تامة وإن كان قد اعتورها النقص من آخرها، وتبدأ الصفحات الثلاث الأولى بخط جميل معتنى به ثم تعود سيرتها الأولى في الضرب والتخريج والإضافة والتحويلات، بما صعب معه جدًّا تخليص الكتاب، لولا أن عدة من مباحثه قد أعادها المؤلف في "التنكيل" أو لخّصها من "التنكيل" هنا، كما أنه قد يستخدم قلم الرصاص أحيانًا كما في (ص 11) فلا يظهر في التصوير مما دعا إلى مراجعة الأصل الخطي مرارًا، وقد أكثر المؤلف فيها من التحويل من صفحة إلى صفحة، فيكتب ربع الصفحة 25 مثلًا ويحيل إلى باقي الكلام إلى ص 21، وفي أثناء ص 21 يحيل إلى ص 35 ثم يعود إلى ص 25، هكذا. فنرجو أن نكون قد تتبعنا هذه المواضع وأثبتناها في أماكنها على ما أراد المؤلف، على أنه قد استخدم القلم الأحمر في تمييز هذه الإشارات وإن لم تظهر في مصوَّرته الورقية. وكان المؤلف قد أحال على كتابه هذا في رسالة "الاستبصار" (ص 42 هامش 1) في بعض الإلحاقات ثم ضرب عليه وأحال على "التنكيل". * ثالثًا: نسخة شكر الترحيب له نسختان، مبيَّضة ومسوَّدة، أما المبيضة فهي من محفوظات مكتبة الحرم المكي الشريف برقم (4699) وتقع في (53 ص) مكتوبة بخط المؤلف، وهي أقرب إلى المسوَّدة من حيث كثرة الضرب والتخريج. تبدأ الورقة الأولى بمقدمة الكتاب وكتب فوقها "شكر الترحيب شرح مقاصد لبعض كتب التراجم"! وهذا العنوان يبدو أنه للمفهرس أو لأحد

المطالعين، والذي يظهر أن العنوان كان في ورقة مستقلة فمُزِع أو تلف، فاستدركه المفهرس لكنه أضاف من عند نفسه باقي العنوان، فأخطأ. أما المسوَّدة فتقع في (18 ص) أولها غير موجود، تبدأ بقوله: "فيتألمون من الخطيب ... "، ومن ميزاتها أن فيها كلامًا مهمًّا في بيان الباعث على تأليف التنكيل والطليعة، وفيها أيضًا التصريح بتسمية الرسالة إذ قال: "ثم وقفت الآن على رسالة للأستاذ ... ردًّا على الطليعة سماها "الترحيب بنقد التأنيب" فبدا لي أن أقدِّم شكرًا لهذا الترحيب". وأتوجّه بالشكر إلى أخويّ الكريمين: الشيخ أسامة الحازمي إذ تولّى نسخ "تعزيز الطليعة"، والشيخ عبد الرحمن قائد إذ نسخ "شكر الترحيب" فجزاهما الله خيرًا. والحمد لله رب العالمين. وكتب علي بن محمد العمران في 15/ 1/ 1433 هـ

صور المخطوطات

الورقة الأولى من "الطليعة"

ورقة العنوان من "الطليعة"

الورقة الأولى من "تعزيز الطليعة"

الورقة قبل الأخيرة من "تعزيز الطليعة"

الورقة الأولى من "شكر الترحيب"

[نص الطليعة]

آثَار الشّيخ العَلّامَة عبَد الرّحمن بن يحيى المعَلِّمِيّ (9) طليعة التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل تأليف الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني 1312 هـ - 1386 هـ تحقيق علي بن محمد العمران وفق المنهج المعتمد من الشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد (رحمه الله تعالى) تمويل مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

[ص 2] بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وأشهد ألاّ إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل على محمَّد وعلى آل محمَّد، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمَّد وعلى آل محمَّد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. أما بعد، فإني وقفت على كتاب "تأنيب الخطيب" للأستاذ العلامة محمَّد زاهد الكوثري، الذي تعقَّب فيه ما ذكره الحافظ المحدث (¬1) الخطيب البغدادي في ترجمة الإِمام أبي حنيفة من "تاريخ بغداد" (¬2) من الروايات عن الماضين في الغَضِّ من أبي حنيفة. فرأيتُ الأستاذ تعدَّى ما يوافقه عليه أهلُ العلم من توقير أبي حنيفة وحُسْن الذبّ عنه إلى ما لا يرضاه عالم متثبِّت من المغالطات المضادّة للأمانة العلمية، ومن التخليط في القواعد، والطعن في أئمة السنة ونَقَلَتها، حتى تناول بعضَ أفاضل الصحابة والتابعين، والأئمة الثلاثة مالكًا والشافعي وأحمد وأضرابهم، وكبار أئمة الحديث وثقات نَقَلَته، والردّ لأحاديث صحيحة ثابتة، والعيب للعقيدة السلفية، وأساء في ذلك جدًّا حتى إلى الإِمام أبي حنيفة نفسه، فإنه من [ص 3] يزعم أنه لا يتأتَّى الدفاع عن أبي حنيفة إلا بمثل ذلك الصنيع فساء ما يُثْني عليه (¬3). ¬

_ (¬1) "الحافظ المحدث" من (ط 2). (¬2) (13/ 323 - 454). (¬3) كذا الأصل، وفي الطبعة الأولى: "بمثل الطعن في هؤلاء الأكابر، فقد فضح وأساء إلى من يريد الذب عنه بسوء صنيعه".

فدعاني ذلك إلى تعقُّب (¬1) الأستاذ فيما تعدَّى فيه، فجمعتُ في ذلك كتابًا أسميته "التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل"، ورتبته على أربعة أقسام: القسم الأول: في تحرير القواعد التي خَلَّط فيها الأستاذ. الثاني: في تراجم الأئمة والرواة الذين طعن فيهم الأستاذ، وهم ثلاثمائة ونيّف، فيهم أنس بن مالك رضي الله عنه، وهشام بن عروة بن الزبير بن العوام، والأئمة الثلاثة، وفيهم الخطيب. وأدرجتُ في ذلك تراجم أفراد مطعون فيهم حاول توثيقهم، ورتبت التراجم على حروف المعجم. الثالث: في الفقهيَّات، وهي مسائل انتُقِدت على أبي حنيفة وأصحابه، حاول الأستاذ الانتصار لمذهبه. الرابع: في الاعتقاديات، ذكرتُ فيه الحُجّةَ الواضحةَ لصحة عقيدة أئمة الحديث إجمالًا. وعدة مسائل تعرَّض لها الأستاذ. ولم أقتصر على مقصود التعقّب، بل حَرَصت على أن يكون الكتاب جامعًا لفوائد عزيزة في علوم السنة، مما يعين على التبحُّر والتحقيق فيها. وحَرَصت على توخِّي الحق والعدل، واجتناب ما كرهته للأستاذ، خلا أن إفراطه في إساءة القول في الأئمة جَرَّأني على أن أصرِّح ببعض ما يقتضيه صنيعه. وأسأل الله تعالى التوفيق لي وله. ¬

_ (¬1) (ط): "تعقيب".

[ص 4] والكتاب على وشك التمام (¬1)، وهذه "طليعة" له أُعَجّلها للقراء، شرحتُ فيها أمثلة من مغالطات الأستاذ ومجازفاته، وذلك أنواع: - أ - فمن أوابد الأستاذ: تبديل الرواة. يتكلَّم الأستاذ في الأسانيد التي يسوقها الخطيب طاعنًا في رجالها واحدًا واحدًا، فربما مرَّ به الرجل الثقة الذي لا يجد فيه طعنًا مقبولاً، فيفتِّش الأستاذ عن رجل آخر يوافق ذاك الثقة في الاسم واسم الأب ويكون مقدوحًا فيه، فإذا ظفر به زعم أنه هو الذي في السند (¬2). فمن أمثلة ذلك: 1، 2 - صالح بن أحمد، ومحمد بن أيوب. قال الخطيب في "التاريخ" (13/ 394 (¬3) [412 - 413]): "أخبرنا محمَّد بن عيسى بن عبد العزيز البزاز بهمذان حدثنا صالح بن أحمد ¬

_ (¬1) تمّ الكتاب بحمد الله تعالى، وطبع بعد وفاة الشيخ رحمه الله أواخر سنة 1386 بتصحيح الشيخ الألباني وعلى نفقة الشيخ محمَّد نصيف جزاهما الله خيرًا، وتغمدهما برحمته. (¬2) وقع له هذا في "تأنيبه" في اثني عشر موضعًا أو أكثر كلها تروّج رأيه، ولم يقع له فيما يخالف رأيه موضع واحد. وهكذا في الضروب الأخرى، فمن السخرية بعقول الناس أن يقال: أخطأ ووهِم! [المؤلف]. (¬3) كذا الأصل، وكذا في "التأنيب". وهو مخالف لرقم النسخة المتداولة اليوم من "التاريخ" الطبعة الأولى سنة 1349 بمصر، وانظر التعليق على "التنكيل" (1/ 149). أقول: من أجل ذلك أضفتُ رقم الصفحة من الطبعة المتداولة اليوم بين معكوفين [] بعد رقم الصفحة التي أحال إليها المؤلف والكوثري. ثم رجعت للطبعة الجديدة التي حققها د. بشَّار عوّاد للتثبّت، وقيّدت ما وجدته من فروق أو فوائد فيها.

التميمي الحافظ حدثنا القاسم بن أبي صالح حدثنا محمَّد بن أيوب أخبرنا إبراهيم بن بشَّار قال: سمعت سفيان بن عيينة ... ". تكلَّم الأستاذ في هذه الرواية (ص 97) من "التأنيب" فقال: "في سنده صالح بن أحمد التميمي، وهو ابن أبي مُقاتل القيراطي، هرويّ الأصل، ذكر الخطيب عن ابن حبان أنه كان يسرق الحديث ... ، والقاسم بن أبي صالح الحذَّاء ذهبت كتبه [ص 5] بعد الفتنة، فكان يقرأ من كتب الناس، وكُفّ بصره، [كما] (¬1) قاله العراقي، ونقله ابن حجر في "لسان الميزان". ومحمد بن أيوب بن هشام الرازي كذَّبه أبو حاتم ... ، ولا أدري كيف يسوق الخطيب مثل ذلك الخبر بمثل ذلك السند المذكور؟ ولعل الله سبحانه طمس بصيرته، ليفضحه فيما يدَّعي أنه المحفوظ عند النقلة، بخذلانه المكشوف في كل خطوة". أقول: أما صالح فصالح بن أحمد الواقع في السَّنَد موصوف في السَّند نفسه بأنه: (1) تميمي. (2) حافظ. (3) يظهر أنه هَمَذاني لأن شيخه والراوي عنه همذانيان. (4) يروي عن القاسم بن أبي صالح. (5) يروي عنه محمَّد بن عيسى بن عبد العزيز. (6) ينبغي بمقتضى العادة أن يكون توفَّي بعد القاسم بمدة. (7) ينبغي بمقتضى العادة أن لا يكون بين وفاته ووفاة الراوي عنه مدة طويلة مما يندر مثله. ¬

_ (¬1) من (ط 2) وكتاب الكوثري.

وهذه الأوجه كلها منتفية في حق القيراطي، فلم يوصف بأنه تميمي، ولا بأنه حافظ وإن قيل: كان يُذكر بالحفظ، فإن هذا لا يستلزم أن يطلق عليه (الحافظ). ولم يُذكر أنه همذاني، بل ذكروا أنه هَرَوي الأصل سكن بغداد، ولم تُذْكَر له رواية عن القاسم (¬1)، ولا لمحمد بن عبد العزيز رواية عنه (¬2)، [والظاهر أنه جيءَ به إلى بغداد طفلاً، أو ولد بها؛ فإن في ترجمته من "تاريخ بغداد" ذكر جماعة من شيوخه وكلهم عراقيون من أهل بغداد والبصرة ونواحيها، أو ممن ورد على بغداد، وسماعه منه قديم، فمن شيوخه البغداديين: يعقوب الدورقي المتوفى سنة 252 (¬3)، ويوسف بن موسى القطان المتوفى 253، ومن البصريين: محمَّد بن يحيى بن أبي حزم القِطَعي المتوفى سنة 253، وصرّح الخطيب في ترجمة فَضْلك الرازي (¬4) بأن ابن أبي مقاتل بغدادي، فلا شأن له من جهة السماع بهمذان ولا بهراة] (¬5). وكانت وفاته سنة 316، أي قبل وفاة القاسم باثنتين وعشرين سنة، وقبل وفاة ¬

_ (¬1) والقيراطي متهم بسرقة الحديث، وإنما يحمله على ذلك ترفعه أن يروي عن أقرانه فمَن دونهم، وشيوخه توفوا سنة 252 أو نحوها، وأقدم شيخ سمي للقاسم توفي سنة 277، وشيخه في هذه الحكاية توفي سنة 294، فكيف يروي سارق الحديث عن أصغر منه بنحو خمس عشرة سنة عن أصغر من شيوخ السارق بنحو أربعين سنة؟ [المؤلف]. (¬2) بل لم يدركه، فإن شيوخ محمَّد توفوا سنة 375 فما بعدها إلا واحدًا منهم يظهر أنه توفي قبلها بقليل، وذلك بعد وفاة القيراطي بنحو ستين سنة. [المؤلف]. (¬3) وقع في "التنكيل" (202) خطأ. (¬4) "التاريخ": (12/ 367). (¬5) زيادة استدركها المصنف رحمه الله في "التنكيل" (رقم 109) وأمر أن تُزاد هنا.

محمَّد بن عيسى بن عبد العزيز (¬1) بمائة وأربع عشرة سنة (¬2)، فكيف يروي محمَّد عمن مات قبله بأزيد من مائة سنة عمن مات بعد الشيخ باثنتين وعشرين سنة؟! [ص 6] ومن اطلع على "التأنيب" وغيره من مؤلفات الأستاذ عَلِم أنه لا يُؤتى من جهلٍ بطريق الكشف عن تراجم الرجال الواقعين في الأسانيد، ومعرفة كيف يُعلم انطباق الترجمة على المذكور في السند وعدم انطباقها، ولا يُؤتَى من بخلٍ بالوقت ولا سآمة للتفتيش، فلا بد أن يكون الأستاذ قد عرف أكثر هذه الوجوه إن لم نَقُل جميعَها، وبذلك عَلِم لا محالة أن صالح بن أحمد الواقع في السند ليس بالقيراطي، فيحمله ذلك على المواصلة للبحث، فيجد في "تاريخ بغداد" (¬3) نفسه في الصفحة اليسرى التي تلي الصفحة التي فيها ترجمة القيراطي - وقد نقل الأستاذ عنها - يجد ثَمّة ترجمة رجل آخر "صالح بن أحمد بن محمَّد ... أبو الفضل التميمي الهمذاني قَدِم بغداد وحدَّث بها عن ... والقاسم بن بندار (وهو القاسم ابن أبي صالح كما في ترجمته من "لسان الميزان" (¬4)، وقد نقل الأستاذ عنها) وكان حافظًا فهمًا ثقة ثبتًا ... ". لهذا الحافظِ ترجمةٌ في "تذكرة الحفاظ" (3/ 181) وفيها في أسماء ¬

_ (¬1) لم أقف على تاريخ وفاة محمَّد بن عيسى، ولكن الخطيب أدركه بهمذان، فبان أنه كان حيًّا عند دخول الخطيب همذان. [المؤلف]. (¬2) الأصل: "بأزيد من مائة سنة" وأمر المؤلف في "التنكيل": (رقم 109) بإصلاحها بما أثبت. (¬3) (9/ 317). (¬4) (6/ 371).

شيوخه "القاسم بن أبي صالح" وفيها ثناء أهل العلم عليه، وفيها أن وفاته سنة 384. وذكره ابنُ السمعاني في "الأنساب" (¬1) الورقة 592، وذَكَر في الرواة عنه: أبا الفضل محمَّد بن عيسى البزاز. وإذ كانت وفاة هذا الحافظ سنة 384 فهي متأخرة عن وفاة القاسم بست وأربعين سنة، ومتقدمة على وفاة محمَّد بن عيسى بستٍّ وأربعين سنة (¬2)، ومثل هذا يكثُر في العادة في الفرق بين وفاة الرجل ووفاة شيخه ووفاة الراوي عنه، فاتضح يقينًا أن هذا الحافظ الفهم الثقة الثبت هو الواقع في السند. [ص 7] وقد عرف الأستاذ هذا حقّ معرفته، والدليل على ذلك: أولاً: ما عرفناه من معرفة الأستاذ وتيقّظه. ثانيًا: أن ترجمة التميمي قريبة من ترجمة القيراطي التي طالعها الأستاذ. ثالثًا: أن من عادة الأستاذ - كما يُعْلَم من "التأنيب" - أنه عندما يريد القدح في الراوي يتتبع التراجم التي فيها ذاك الاسم واسم الأب فيما تصل إليه يده من الكتب، ولا يكاد يقنع بترجمة فيها قدح، لطمعه أن يجد أخرى فيها قدح أشْفَى لغيظه. رابعًا: في السند "الحافظ" وذلك يدعو الأستاذ إلى مراجعة "تذكرة الحفاظ" (¬3). خامسًا: في عبارة الأستاذ: "والقاسم بن أبي صالح الحذّاء ذهبت كتبه بعد ¬

_ (¬1) (13/ 425 - 426). (¬2) الأصل: "بنيف وثلاثين" وأمر المؤلف في "التنكيل": (رقم 109) بتغييرها بما هو مثبت. (¬3) "رابعًا ... الحفاظ" من الأصل فقط.

الفتنة، فكان يقرأ من كتب الناس وكُفّ بصره، قاله العراقي، ونقله ابن حجر في "لسان الميزان"". والذي في "لسان الميزان" (4/ 460) (¬1): " (ز) - قاسم بن أبي صالح بندار ... الحذاء ... روى عنه إبراهيم بن محمَّد بن يعقوب وصالح بن أحمد الحافظ ... قال صالح: كان صدوقًا متقنًا لحديثه، وكتبه صحاح بخطه، فلما وقعت الفتنة، ذهبت عنه كتبه، فكان يقرأ من كتب الناس وكُفّ بصره، وسماع المتقدمين عنه أصح". وحرف (ز) أول الترجمة إشارة إلى أنها من زيادة ابن حجر. كما نبه عليه في خطبة "اللسان" (¬2)، وذكر هناك أن لشيخه العراقي ذيلًا على "الميزان"، وأنه زاد تلك التراجم وغيرها في "اللسان" فما كان من ذيل شيخه العراقي جعل في [ص 8] أول الترجمة حرف (ذ) وما كان من غيره جعل حرف (ز)، فعُلِم من هذا أن ترجمة القاسم من زيادة ابن حجر نفسه لا من ذيل العراقي. هب أن الأستاذ وهمَ في هذا، فالمقصود هنا أن الذي في الترجمة من الكلام في القاسم هو من كلام الراوي عنه صالح بن أحمد الحافظ، فلماذا عَدَل عنه الأستاذ (¬3) ونسبه إلى العراقي؟ ¬

_ (¬1) (6/ 371 - 372). (¬2) (1/ 193). (¬3) (ط): "فلماذا دلّس الكوثريُّ النقلَ وحرَّفَه". والظاهر أنها من زيادات المصحح التي تبرّأ المؤلف من عُهدتها في "تعزيز الطليعة" (ص 94 هامش 1)، وفي "شكر الترحيب" (ص 190 - 191).

الجواب واضح، وهو أن الكوثري خشي إن نَسَب الكلام إلى صالح بن أحمد الحافظ أن يتنبَّه القارئ فيقول: الظاهر أن صالح بن أحمد الحافظ هذا هو الواقع في سند الخطيب والظاهر أنه غير القيراطي لوجهين: الأول: أن القيراطي مطعون فيه، فلم يكن الحفَّاظ ليعتدُّوا بكلامه في القاسم، وكذلك الأستاذ الكوثري لم يكن ليعتدَّ بكلام القيراطي. الثاني: أن كلام صالح في الترجمة يدل أنه تأخر بعد القاسم، والقيراطي توفي قبل القاسم باثنتين وعشرين سنة، وبهذا يتبين أيضًا أن الكلام في القاسم لا يضره بالنسبة إلى رواية الخطيب, لأنها من رواية صالح بن أحمد الحافظ نفسه عنه وهو المتكلم فيه، فلم يكن ليروي عنه إلا ما سمعه منه من أصوله قبل ذهابها، فأعرض الأستاذ لهذين الغرضين عن صالح بن أحمد الحافظ، ونسبَ كلامه إلى العراقي، وحذف من العبارة ما فيه ثناء على القاسم. وهذه عادةٌ له، ستأتي أمثلة منها إن شاء الله تعالى. [ص 9] والمقصود هنا إثبات أن الأستاذ قد عرف يقينًا أن صالح بن أحمد الواقع في السند ليس هو بالقيراطي، بل هو ذاك الحافظ الفهم الثقة الثبت (¬1)، ولكن كان الأستاذ مضطرًا إلى الطعن في تلك الرواية، ولم يجد في ذاك الحافظ مغمزًا، ووقعت بيده ترجمة القيراطي المطعون فيه، وعرف أن هذا الفن أصبح بغاية الغُربة، فغلب على ظنه أنه إذا زعم أن الواقع في السند هو القيراطي لا يردّ ذلك عليه أحد، فأما الله تبارك وتعالى فله معه حساب آخر، والله المستعان. ¬

_ (¬1) وليس من شأن الأستاذ تقليد معظمه ولا لجنته، وقد انتقدهما ص 56 في "تأنيبه" حيث لم يكن له هوى في موافقتهما. [المؤلف]. وهذا التعليق مما زاده المؤلف في (ط. الثانية).

وأما محمَّد بن أيوب؛ فالأستاذ يعلم أن المشهور بهذا الاسم في تلك الطبقة، والمراد عند الإطلاق في الرواية هو الحافظ الجليل الثقة الثبت محمَّد بن أيوب بن يحيى بن الضريس، ترجمته في "تذكرة الحفاظ" (3/ 195). وقد احتجّ الأستاذ (ص 114) في معارضة ما رواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن ابن أبي سريج بما رواه الخطيب عن البرقاني عن أبي العباس بن حمدان عن محمَّد بن أيوب عن ابن أبي سريج، وذلك بناء من الأستاذ على أن شيخ ابن حمدان هو محمَّد بن أيوب بن يحيى بن الضريس لشهرته، هذا مع أنه لا يُعرف لابن الضريس رواية عن ابن أبي سريج، فأما روايته عن إبراهيم بن بشَّار فنصّ عليها المِزّي في ترجمة إبراهيم من "تهذيبه" (¬1) قال: "روى عنه .. ومحمد بن أيوب بن يحيى بن الضريس". فأما محمَّد بن [ص 10] أيوب بن هشام فمُقِلّ مرغوب عن الرواية عنه، لا تُعرف له رواية عن إبراهيم بن بشار ولا للقاسم بن أبي صالح رواية عنه. فقد بدَّل الأستاذ عمدًا في ذاك السند حافظين جليلين برجلين مطعون فيهما، وصنع ما صنع في شأن القاسم بن أبي صالح، وقد بان أنه ثقة، وأن هذه الرواية من صحيح روايته. ومن العجائب أن الأستاذ ارتكب هذه الأفاعيل (¬2) وهو يعلم أن ذلك لا يغني عنه شيئًا، ولو لم تتبين الحقيقة؛ لأن ذلك الأثر نفسه ثابت عن ¬

_ (¬1) (1/ 103). (¬2) (ط): "الأباطيل".

إبراهيم بن بشَّار من غير هذه الطريق، فقد ذكره ابن عبد البر في "الانتقاء" (ص/ 148) (¬1) عن "تاريخ ابن أبي خيثمة" قال: "حدثنا إبراهيم بن بشار ... " و"الانتقاء" تحت نظر الكوثري كل وقت، كما يدل عليه كثرة نقله عنه في "التأنيب". وأعجب من هذا كلِّه وأغرب قول الكوثري بعد تلك الأفاعيل: "ولا أدري كيف يسوق الخطيب ... ولعل الله سبحانه طمس بصيرته ليفضحه بخذلانه المكشوف في كل خطوة". وهذا المترجَّى واقع ولكن بمن؟ هكذا تكون الأمانة عند الأستاذ (¬2)! [ص 11] 3 - أحمد بن الخليل. قال الخطيب (13/ 375 [380]): "أخبرنا ابن الفضل أخبرنا عبد الله بن جعفر حدثنا يعقوب بن سفيان حدثنا أحمد بن الخليل حدثنا عبدة ... ". ذكر الأستاذ هذه الرواية (ص 46) وقال: "وأحمد بن الخليل هو البغدادي المعروف بجور، توفي سنة ستين ومائتين، قال الدارقطني: ضعيف لا يحتج به. وهكذا يكون المحفوظ عند الخطيب". أقول: الصواب في لقب البغدادي الذي تكلم فيه الدارقطني "حور" بالحاء المهملة كما ضبطه أصحاب "المشتبه" (¬3). والذي في "الميزان" ¬

_ (¬1) (ص 275 - المحققة). (¬2) "هكذا ... الأستاذ" من الأصل فقط. (¬3) انظر "المؤتلف والمختلف": (1/ 499) للدارقطني، و"الإكمال": (2/ 167)

و"اللسان" (¬1) في وفاته: "بقي إلى ما بعد الستين ومائتين" ولم يذكروا له رواية عن عبدة، ولا ليعقوب بن سفيان رواية عنه، وقد قال يعقوب بن سفيان كما في ترجمة أحمد بن صالح من "تهذيب التهذيب" (¬2): "كتبتُ عن ألف شيخ وكسر كلهم ثقات". وقبل ترجمة (حور) في "تاريخ بغداد" (¬3) ترجمة رجل آخر: "أحمد بن الخليل أبو علي التاجر البغدادي ... روى عنه ... ويعقوب بن سفيان". وهذا التاجر له ترجمة في "التهذيب" (¬4)، وفيها رواية يعقوب بن سفيان عنه، وتوثيق الأئمة له، وفيها: "قلت: لم أر له في أسماء شيوخ النسائي ذِكرًا، بل الذي فيه أحمد بن الخليل، نيسابوري، كتبنا عنه، لا بأس به، وقد قال الدارقطني: قديم، لم يحدِّث عنه من البغداديين أحد وإنما حديثه بخراسان، فلعله سكن خراسان". أقول: فكأنَّ النسائي نَسَبه إلى مسكنه. فهذا هو الواقع في سند الخطيب؛ لأنه هو الذي يروي عنه يعقوب بن سفيان، ولأنه ثقة، ويعقوب كتب عن الثقات، ولأنه سكن خراسان. [ص 12] وشيخه في السند عبدة، وهو خراساني، ولا ريب أن الأستاذ عند تفتيشه عن أحمد بن الخليل وقف أوّلاً على ترجمة هذا التاجر، وعرف ¬

_ لابن ماكولا، و"توضيح المشتبه": (2/ 538). (¬1) "الميزان": (1/ 96)، و"اللسان": (1/ 453). (¬2) (1/ 40). (¬3) (4/ 129). (¬4) (1/ 27).

أنه هو الواقع في السند، ولكنه رآه ثقة، وهو بالحاجة إلى الطعن في تلك الرواية, فعَدَل عنه إلى ذاك الضعيف "حور". نعوذ بالله من الحَوْر بعد الكَوْر، وهكذا تكون الأمانة عند الأستاذ (¬1)! 4 - محمد بن جَبُّويه. قال الخطيب (3/ 370 [371 - 372]): "جبريل بن محمَّد المعدل بهمذان حدثنا محمَّد بن حيويه (كذا) النخاس حدثنا محمود بن غيلان ... ". ذكر الأستاذ هذه الرواية (ص 34) وقال: " ... في الطبعات الثلاث: "حَيّويه" والصحيح "جَبّويه"، هو ابن جبويه النخاس الهمذاني، وقد كذَّبه الذهبي في "تلخيص المستدرك" حيث قال في حديث مِيناء: ابن جبويه متهم بالكذب ... ". وذكر الخطيب (13/ 381 [390]) أثرًا آخر بمثل السند المتقدم، فقال الأستاذ (ص 64): "ووقع في الطبعات الثلاث بلفظ "حيويه"، وهو تصحيف كما سبق، متهم بالكذب ... ، وقال الذهبي في "مشتبه النسبة" (كذا) (¬2): ومحمَّد بن جبويه الهمذاني عن محمود بن غيلان. اهـ. لكن لا يمكن إدراكه لابن غيلان ... والخبر كذب مُلفَّق". أقول: قول الأستاذ: "لا يمكن إدراكه لابن غيلان" واضح الدلالة على أن الأستاذ اطلع على وفاة هذا الرجل، وليست مذكورة في "تلخيص [ص 13] المستدرك" ولا في "المشتبه"، وإنما هي مذكورة في ترجمته من الكتب، إذنْ فقد اطّلع الأستاذ على ترجمته، وهذا واضح فإنه يبعد أن يعثر الأستاذ ¬

_ (¬1) "عند الأستاذ" من الأصل. (¬2) يشير المصنف رحمه الله إلى خطأ الكوثري في تسمية كتاب الذهبي، وإنما اسمه الصحيح "المشتبه".

على ما في "تلخيص المستدرك" بدون أن يقف على الترجمة، وهَبْه عثر على ذلك قبل النظر في الترجمة، فمن عادة الأستاذ أنه لا يشتفي بمثل ذلك الطعن، بل يفتِّش عن الترجمة لعله يجد فيها طعنًا أشد من ذلك. وكأنني بالأستاذ أوَّلَ ما نظر في هذا الرجل راجع "الميزان" و"اللسان"، فوجد في الأول بين ترجمتي محمَّد بن حنيفة ومحمد بن حيدرة "محمَّد بن حيويه بن المؤمّل الكَرَجي ... قال الخطيب ... "، ووجد في الثاني بين ترجمتي محمَّد بن حويطب ومحمد بن حيدرة كما في الأول، وزاد: "وروى أيضًا عن الدَّبَري ... مات سنة 373، وأورد له الحاكم في "المستدرك" حديثًا في مناقب فاطمة. فقال الذهبي: ... محمَّد بن حيويه الكرجي متهم بالكذب"، ولمّا وجد الأستاذ فيهما "قال الخطيب ... " راجع "تاريخ بغداد" فوجد فيه (5/ 233) في أواخر حرف الحاء المهملة من أبناء المحمدين ترجمة هذا الرجل، ولما وجد في "اللسان" ذِكْر "المستدرك" راجع فضائل فاطمة عليها السلام من "المستدرك"، فوجد فيه (3/ 160): "حدثنا أبو بكر محمَّد بن حيويه بن المؤمل الهمذاني حدثنا إسحاق ... ". وفي "تلخيصه" للذهبي: "ثنا محمَّد بن حيويه الهمذاني حدثنا إسحاق الدبري ... " ثم قال الذهبي: "ابن حيويه متهم بالكذب". ولم يجد الأستاذ في هذه المراجع كلها ما يشعر بأن هذا هو الواقع [ص 14] في سند تينك الروايتين عند الخطيب، بل وجد ما يدفع ذلك، فإنهم أرّخوا وفاة هذا الرجل سنة 373 وشيخ الواقع في السند محمود بن غيلان وفاته سنة 239، ومن هنا أخذ الأستاذ أنه لم يدركه، ثم راجع الأستاذ "مشتبه الذهبي" لعله يجد فيه ذِكْرًا للواقع في السند، فظفر بذلك "محمَّد بن جبويه الهمذاني عن

محمود بن غيلان" فعلم أن هذا هو الواقع في السند وأنه غير الكرجي. أولاً: لأنهم اتفقوا على أن أول اسم والد الكرجي حاء مهملة، وكلهم من أئمة (المشتبه)، ومنهم الذهبي نفسه في "الميزان" وهو الذي ضبطَ والدَ الراوي عن محمود بن غيلان بالجيم والموحَّدة. وثانيًا: لأن الذهبي يقول في ابن جبويه "عن محمود بن غيلان" والكَرَجي لم يدرك محمودًا، فانقسم الأستاذ شطرين، شطره حقق أن الصواب في الواقع في السند (محمَّد بن جبويه) بالجيم والموحدة، وشطره مال مع الهوى، فزعم أن الواقع في السند هو الذي اتهمه الذهبي! وكنتُ كذي رِجلين رجلٍ صحيحة ... ورجلٍ رمى فيها الزمانُ فشَلَّتِ (¬1) وقد ذكر ابن ماكولا في "الإكمال" (¬2) الرجلين قال: "أما جَبُّويه أوله جيم معجمة بعدها باء مشددة معجمة بواحدة، فهو محمَّد بن جبويه بن بندار أبو جعفر الهمذاني النخاس، يروي عن محمود بن غيلان ... حدث عنه ... وجبريل بن محمَّد". وقال فيمن أوله حاء مهملة: "وأما حَيُّويه بياء قبل الواو معجمة باثنتين من تحتها فهو ... ومحمد بن حيويه أبو بكر الكرجي، [ص 15]، يعرف بابن أبي روضة، حدَّث عن ... وإسحاق الدَّبَري". وعُذْر الأستاذ أن ابن جبويه لم يَطْعن فيه أحد، والأستاذ مضطرّ إلى الطعن في تينك الروايتين، وهكذا تكون الأمانة عند الأستاذ! هذا، والأثر الأول رواه محمود بن غيلان عن وكيع، فقال الأستاذ بعد ما ¬

_ (¬1) البيت لكثيّر عزة "ديوانه" (ص 55). (¬2) (2/ 364 و360 - 361 على التوالي).

تقدم: "فلا يصح هذا الخبر عن وكيع بمثل هذا السند، والذي صحّ عنه هو ما أخرجه الحافظ أبو القاسم بن أبي العوَّام صاحب النسائي والطحاوي في كتابه "فضائل أبي حنيفة وأصحابه" المحفوظ بدار الكتب المصرية وعليه خطوط كثير من كبار العلماء الأقدمين وسماعاتهم، وهو من مرويات السَّلَفي حيث قال: حدثني محمَّد بن أحمد بن حماد قال: حدثنا إبراهيم بن جُنيد قال: حدثنا عُبيد بن يعيش قال حدثنا وكيع ... اهـ. وأين هذا من ذاك؟ فبذلك تبين ما في رواية الخطيب بطريق ابن جبويه الكذاب من الدخائل. هكذا يكون المحفوظ عند الخطيب، نسأل الله العافية". أقول: المشهور من آل أبي العوام أحمد بن محمَّد بن عبد الله بن محمَّد بن أحمد، ولَّاه العُبيديون الباطنية القضاء بمصر، فكان يقضي بمذهبهم، ولم أر من وثَّقه، روى عنه الشهاب القضاعي هذا الكتاب الذي ذكره الأستاذ، رواه أحمد عن أبيه عن جده على أنه تأليف الجد عبد الله بن محمَّد. وقد فتشت عن تراجمهم؛ فأما أحمد بن محمَّد فله ترجمة في "قضاة مصر" (¬1) وفي "الجواهر المضيئة في طبقات الحنفية" (¬2) لعبد القادر القرشي، ووعد القرشيُّ أن يذكر أباه وجدَّه، ثم ذكر الجد (¬3) فقال: "عبد الله بن محمَّد بن أحمد جدّ أحمد بن محمَّد بن عبد الله الإِمام المذكور في حرف الألف، ويأتي ابنه محمد". ¬

_ (¬1) "رفع الإصر عن قضاة مصر" (ص 101 - 106). (¬2) (رقم 210). (¬3) (رقم 722).

هذا نص الترجمة بحذافيرها، [ص 16] ولم أجد فيها (¬1) ترجمةً لمحمد، فعبد الله هذا هو الذي يقول الأستاذ فيه: "الحافظ ... صاحب النسائي والطحاوي". كأنه أخذ ذلك من روايته عنهما في ذاك الكتاب. فأما أحمد فقد عُرِف بعضُ حاله، وأما أبوه وجدّه فلم أجد لهما أثرًا إلا من طريقه، وأما محمَّد بن أحمد بن حماد فترجمته في "لسان الميزان" (5/ 41) (¬2). وأما إبراهيم بن جُنيد، فإن كان هو الرَّقِّي فمجهول كما في "لسان الميزان" (1/ 45) (¬3). وإن كان هو إبراهيم بن عبد الله بن الجُنيد الخُتَلي البغدادي - نُسِب إلى جده - فثقة، لكن لم أر في ترجمته من "تاريخ بغداد" (¬4) ذِكْر عُبيد بن يعيش في شيوخه، ولا محمَّد بن أحمد بن حماد في الرواة عنه (¬5). وأما عُبيد بن يعيش فذكره ابن حبان في "الثقات" (¬6) وقال: "كان يخطئ". وعلى فرض صحة هذه الرواية فليس فيها ما ينافي رواية الخطيب، بل هما متفقتان في أصل المعنى، غاية الأمر أن في رواية الخطيب زيادة، وقد يكون وكيع قال مرة كذا، وقال مرة كذا. وعلى فرض التنافي فرواية الخطيب ¬

_ (¬1) أي "الجواهر المضيئة" [المؤلف]. وكذا ذكر محققها عبد الفتاح الحلو. (¬2) (6/ 506). (¬3) (1/ 260). (¬4) (6/ 120). (¬5) محمَّد بن أحمد بن حماد أبو بشر الدولابي من تلاميذ إبراهيم بن الجنيد، روى عنه في مواضع كثيرة من كتابه "الكنى والأسماء". (¬6) (8/ 431).

أثبت، والأستاذ يتحقق ذلك، ولكنه يفعل الأفاعيل، ثم يبالغ في التهويل، ثم يقول: "نسأل الله العافية"! 5 - أبو عاصم. قال الخطيب (13/ 391 [409]): " ... الأبار حدثنا الحسن بن علي الحُلْواني حدثنا أبو عاصم عن أبي عَوانة ... ". فذكر الأستاذ هذه الرواية (ص 92) ثم قال: " ... وفيه أيضًا أبو عاصم العبَّاداني وهو منكر الحديث". أقول: الأستاذ يعلم أن الواقع في السند هو أبو عاصم النبيل الضحّاك بن مَخْلد الثقة المأمون؛ لأنه هو المشهور بأبي عاصم في تلك [ص 17] الطبقة، والمراد عند الإطلاق، وعنه يروي الحُلواني كما في ترجمة الضحاك من "تهذيب التهذيب" (¬1) وترجمة الحُلواني من "تهذيب المزي" (¬2). ولكن هكذا تكون الأمانة عند الأستاذ! وذكر الخطيب (3/ 423) أثرين، أحدهما من طريق أبي قلابة الرَّقاشي، والآخر من طريق مُسدَّد، كلاهما عن أبي عاصم عن سفيان الثوري، فذكرهما الأستاذ (ص 169) ثم قال: "وربما يكون أبو عاصم في السندين هو العبَّاداني وحاله معلومة". أقول: قد عَلِم الأستاذ أنه الضحَّاك بن مَخْلد النبيل الثقة المأمون، فإنه المعروف بالرواية عن الثوري كما في ترجمته من "تهذيب التهذيب" (¬3)، ¬

_ (¬1) (4/ 451). (¬2) (2/ 152 - 153). (¬3) (4/ 450).

وترجمة الثوري من "تهذيب المِزي" (¬1). وعنه يروي أبو قِلابة الرَّقاشي كما في ترجمته من "تاريخ بغداد" (10/ 425). وقد تغلَّب الأستاذ هنا على هواه إلى حدًّ ما، إذ اقتصر على قوله: "وربما ... " ولم يجزم كعادته. 6 - أحمد بن إبراهيم. قال الخطيب (13/ 381 [389]): " ... الأبار أخبرنا أحمد بن إبراهيم قال: قيل لشريك ... ". ذكر الأستاذ هذه الرواية (ص 61)، ثم قال: " ... وأما أحمد بن إبراهيم فهو النُّكْري، ولفظه لفظ الانقطاع، ولم يدرك شريكًا إلا وهو صبي". أقول: أول مذكور ممن يقال له: أحمد بن إبراهيم في "تاريخ بغداد" (¬2)، [ص 18] و"تهذيب التهذيب" (¬3): "أحمد بن إبراهيم بن خالد الموصلي". وذكر سماعَه من شريك, وذكر المزيّ في "التهذيب" (¬4) شريكًا في شيوخه (¬5). ويُعْلَم من تاريخ وفاته والنظر في مولد الأبار أن الأبار أدركه إدراكًا واضحًا، وهو معه في بلد، وبذلك يُعلم أنه هو الواقع في السند، ولكن الأستاذ رأى هذا ثقةً فالتمس غيره ممن تتهيَّأ له المغالطة به، ويكون فيه مطعن، فلم يجد إلا النكري، وهو ثقة أيضًا لكن كان صغيرًا عند وفاة شريك، ولم تُذْكر له رواية عن شريك، فقنع به الأستاذ، وهكذا تكون الأمانة عند الأستاذ! ¬

_ (¬1) (3/ 219). (¬2) (4/ 5). (¬3) (1/ 9) وليس فيه ذكر شريك. (¬4) (1/ 25). (¬5) "وذكر ... شيوخه" من (ط 2).

وأما قول الأستاذ: "لفظ انقطاع" فيردُّه أن أحمد بن إبراهيم الموصلي ثقة، وقد ثبت سماعُه من شريك، ولم يكن مدلّسًا، فروايته عن شريك محمولة على السماع، كما هو معروف في علوم الحديث، وأصول الفقه. وسيأتي شرح هذه القاعدة وبعض دقائقها في القسم الأول من "التنكيل" (¬1) إن شاء الله تعالى. 7 - أبو الوزير. قال الخطيب (13/ 384 [397]): " ... عبد الله بن محمود المروزي، قال: سمعت محمَّد بن عبد الله بن قُهْزاذ يقول: سمعت أبا الوزير أنه حضر عبد الله بن المبارك ... ". ذكر الأستاذ هذه الرواية (ص 69) ثم قال: "عبد الله بن محمود مجهول الصفة، وكذا أبو الوزير عمر بن مطرّف". أقول: عبد الله بن محمود من الحفاظ الأثبات كما يأتي في فرع (¬2) (ز) من هذه "الطليعة" إن شاء الله تعالى. [ص 19] وأما أبو الوزير فكيف يزعم الأستاذ أنه عمر بن مطرِّف؟ مع أن عمر بن مطرف لم يُعرف بروايةٍ أصلاً، وإنما ذُكِر اسمه في نسب ابنيه إبراهيم ومحمَّد. وقد قال الأستاذ (ص 83): "قاعدة ابن المبارك في الفقه ... " وإنما أخذ ذلك مما رواه الخطيب (13/ 343): " ... أبو حمزة المروزي قال: سمعتُ ¬

_ (¬1) انظر (1/ 135 فما بعدها). (¬2) كذا في الأصل وانظر (ص 77)، وإن كان المؤلف قد سماها أحيانًا "أنواعًا". وسمّاها في "شكر الترحيب": "فروعًا" في مواضع عدة.

ابن أعْيَن أبا الوزير ... ". وعادة الأستاذ في الصبر على التنقيب تقضي بأنه قد راجع "الكنى" للدولابي فوجد فيه (2/ 147): "أبو الوزير محمَّد بن أعين المروزي، روى عن ابن المبارك" فبادر الأستاذ إلى نظر هذا الاسم في "تهذيب التهذيب" فوجد فيه (9/ 66): "محمَّد بن أعْيَن أبو الوزير المروزي خادم ابن المبارك، روى عنه وعن ابن عُيينة وفُضيل بن عياض ... وخَلْق، وعنه أحمد وإسحاق و ... ومحمد بن عبد الله بن قهزاذ وآخرون، قال أبو علي محمَّد بن علي بن حمزة المروزي: يقال إن عبد الله أوصى إليه، وكان من ثقاته وخواصه، وذكره ابن حبان في "الثقات" (¬1)، وقد ذكره ابنُ أبي حاتم (3/ 2/ 207) فقال: "وَصِيُّ ابن المبارك". فعلم الأستاذ يقينًا أن هذا هو الواقع في السند، ولكنه لم يجد فيه مغمزًا؛ لأن ثقة ابن المبارك به واعتماده عليه توثيق، ورواية الإِمام أحمد عنه توثيق؛ لمِا عُرِف من توقّي أحمد (¬2)، ومع ذلك توثيق ابن حبان، ولم يعارض ذلك شيءٌ، ففزع الأستاذ إلى التبديل كعادته، فزعم أن أبا الوزير [ص 20] الواقع في السند هو عمر بن مطرف؛ وذلك أنه لم يجد في كنى "التهذيب" ذكرًا لأبي الوزير، فطمع أن من يتعقبه لا يهتدي إلى ترجمة محمَّد بن أعين! ¬

_ (¬1) (9/ 65) (¬2) كان ابن المبارك رجل دين ودنيا، فلم يكن ليثق في شؤونه في حياته وفي مخلفاته بعد وفاته إلا بعدل أمين يقظ، وهذا توثيق عملي قد يكون أقوى من القولي، والإمام أحمد لا يروي إلا عن ثقة عنده، صرح به شيخ الإِسلام ابن تيمية، والسبكي في "شفاء السقام" والسخاوي في "فتح المغيث" ص 134، ويقتضيه ما في "تعجيل المنفعة" ص 15 و19. وفي ترجمة عامر بن صالح ما يدل على ذلك. [المؤلف].

ثم رأى في الأبناء من "التهذيب" (¬1): "ابن وزير جماعة منهم محمَّد ... " فرجع إلى من يقال: (محمَّد بن الوزير) فوجد جماعة، ووجد معهم: "محمَّد بن أبي الوزير هو محمَّد بن عمر، تقدم"، فنظر ترجمته فإذا هو محمَّد بن عمر بن مطرف، فمن هنا أخذ الأستاذ اسم عمر بن مطرَّف، والله أعلم. وهكذا تكون الأمانة عند الأستاذ! 8 - محمَّد بن أحمد بن سهل. قال الأستاذ (ص 63): "وهناك رواية ... وهي ما رواه هبة الله الطبري في "شرح السنة" عن محمَّد بن أحمد بن سهل (الأصباغي) عن محمَّد بن أحمد بن الحسن (أبي علي بن الصواف) ... ". كذا فسر الأستاذ من عنده بقوله: "الأصباغي"، مع أن الأصباغي سكن دمشق، وهو مُقِلّ لا يعرف له رواية عن ابن الصوَّاف، ولا لهبة الله رواية عنه ولا لقاء، واقتصر الخطيب في ترجمته (1/ 307) على قوله: " ... سكن دمشق وحدّث بها عن محمَّد بن الحسين البُسْتَنْبان، وروى عنه أبو الفتح بن مسرور". ومعرفة الأستاذ ويقظته تقتضي أن يكون قد شعر بهذا وفتَّش، فعلم أن شيخ هبة الله في السند هو محمَّد بن أحمد بن فارس بن سهل أبو الفتح بن أبي الفوارس الحافظ الثقة الثبت، وترجمته في "تاريخ بغداد" (1/ 352) وفيها: "سمع من ... وأبي علي بن الصوَّاف ... حدث عنه ... وهبة الله بن ¬

_ (¬1) (12/ 316).

الحسن الطبري". [ص 21] وإنما أسقط هبةُ الله في ذاك السند اسمَ الجد على ما عُرف من عادة المحدِّثين في تفننهم في ذِكْر شيوخهم الذين أكثروا عنهم. 9 - محمد بن عمر. قال الخطيب (13/ 405 [430]): "محمَّد بن الحسين بن حميد بن الربيع حدثنا محمَّد بن عمر بن دليل قال: سمعت محمَّد بن عُبيد الطنافسي ... " ذكر الأستاذ هذه الرواية (ص 126) وقال: "محمَّد بن عمر هو ابن وليد التيمي، وقد تصحَّف "وليد" إلى "دليل" في الطبعات كلها، ويقول عنه ابن حبان: يروى عن مالك ما ليس من حديثه ... ". أقول: لم يذكروا في ترجمة محمَّد بن عمر بن وليد التيمي الذي تكلم فيه ابن حبان وغيره أنه يروي عن محمَّد بن عُبيد الطنافسي، ولا أنه يروي عنه محمَّد بن الحسين بن حميد بن الربيع، وأُراه أقدم من ذلك، فإنه يروي عن المتوفَّين حوالي سنة 180، كمسلم بن خالد، ومالك، وهُشيم، فيبعد أن ينزل إلى محمَّد بن عبيد المتوفى سنة 204، ولم يذكروا راويًا عن التيمي هذا إلا أبا زرعة المولود سنة 200، ويبعد أن يكون أدركه - أعني التيمي هذا - محمدُ بن الحسين بن حميد الذي أقدمُ من سُمِّي من شيوخه موتًا أبو سعيد الأشج المتوفى سنة 257، فالأقرب أن يكون الواقع في السند هو محمَّد بن عمر بن وليد الكندي الكوفي، يروي عن الكوفيين المتوفَّين حوالي سنة مائتين، وأقدم من سَمّوا من شيوخه محمَّد بن فُضَيل المتوفى سنة 195.

وذكر [ص 22] ابن أبي حاتم (¬1) هذا الكنديَّ فقال: "كتب عنه أبي في الرحلة الثالثة بالكوفة، وقَدِمنا الكوفة سنة 255 وهو حي فلم يُقْض لنا السماع منه". وقال النسائي: "لا بأس به"، وذكره ابن حبان في "الثقات" (¬2). فهذا كوفيّ يروي عن أقران محمَّد عبيد، ومحمد بن عبيد كوفيّ وقد أدركه - أعني الكندي - محمَّد بن حسين بن حميد بن الربيع وهو كوفي أيضًا. وهذا لا يخفى على الأستاذ، لكنه لم يجد في هذا مغمزًا فعَدَل إلى التيمي المطعون فيه لحاجة الأستاذ إلى الطعن في تلك الرواية, والله المستعان. 10 - محمد بن سعيد. قال الخطيب (13/ 375 [381]): " ... محمود بن غيلان حدثنا محمَّد بن سعيد عن أبيه ... ". فذكر الأستاذ هذه الرواية (ص 47) ثم قال: "محمَّد بن سعيد هو ابن سَلْم (¬3) الباهلي، وقد قال ابن حجر عنه (¬4) في "تعجيل المنفعة": منكر الحديث مضطربه، وقد تركه أبو حاتم ووهَّاه أبو زرعة فقال: ليس بشيء. اهـ. وإلى الله نشكو من هؤلاء الرواة الذين لا يخافون الله ... وهكذا يكون المحفوظ عند الخطيب". أقول: هذا يصلح أن يُعدّ نوعًا مستقلًّا من مغالطات الأستاذ، وهو اغتنام الخطأ الواقع في بعض الكتب إذا وافق غرضَه، والذي في "تعجيل المنفعة" ¬

_ (¬1) (8/ 22). (¬2) (9/ 142). (¬3) (ط): "مسلم" تصحيف. (¬4) أي "فيه" [المؤلف].

(ص 324) (¬1): "محمَّد بن سعيد الباهلي البصري الأثرم عن سلام بن سليمان القارئ، وعنه أبو بكر محمَّد بن عبد الله جار عبد الله بن أحمد وشيخه، ويعقوب [ص 23] بن سفيان ومحمد بن غالب تَمْتام وجماعة، منهم أبو حاتم، ثم تركه، وقال: هو منكر الحديث مضطرب الحديث، ووهّاه أبو زرعة، فقال: ليس هو بشيء". فهذه الترجمة فيها تخليط لا أدري أَعَن سقطٍ نشأ أم عن غلط، وهذا الذي تكلموا فيه ليس هو محمَّد بن سعيد بن سلم، ولا هو باهلي، بل هو محمَّد بن سعيد بن زياد أبو سعيد القرشي الكُرَيزي البصري الأثرم، ذكره البخاري في "التاريخ" (1/ 1/ 96): "محمَّد بن سعيد القرشي البصري ... ". وذكره ابن أبي حاتم في كتابه (3/ 2/ 264): "محمَّد بن سعيد بن زياد القرشي أبو سعيد المصري (البصري؟) (¬2) الأثرم سكن بغداد ... سمع منه أبي ولم يحدِّث عنه، سمعته يقول: هو منكر الحديث مضطرب الحديث ... ، سألت أبا زرعة ... فقال: ضعيف الحديث ... وليس بشيء". وله ترجمة في "تاريخ بغداد" (5/ 305) وفي "الميزان" و"اللسان". ¬

_ (¬1) (2/ 181 - ط. المحققة)، والنص فيها كما هو في الطبعة القديمة، فإن كان التخليط نشأ عن سقط أو غلط كما قال المؤلف، فمن مؤلفها لا من النسخ، وقد جاء اسمه في "مسند أحمد - زيادات عبد الله" (16703) كما ساقه الحسيني في "الإكمال" وابن حجر في "التعجيل". فالمؤلف يرى أن الذي تكلّم عليه الأئمة هو: محمَّد بن سعيد القرشي، والذي جاء في المسند: محمَّد بن سعيد الباهلي. فهما مفترقان لا متفقان. لكن لم أجد مَن عدَّهما اثنين في كتب الرجال، فالله أعلم. (¬2) تصحيح من المؤلف، وقد جاء على الصواب في الصفحة التي تليها من "الجرح والتعديل": (7/ 265).

ولا أشكُّ أن الأستاذ قد عرف ذلك، وعرف أن ما في "التعجيل" تخليط، ولكن إذا كان الأستاذ يصطنع المغالطات اصطناعًا كما مرَّ، فكيف لا يغتنم ما جاء عفوًا؟! والذي يظهر أن هناك محمَّد بن سعيد الباهلي يروي عن سلام بن سليمان القارئ، وعنه محمَّد بن عبد الله جار عبد الله بن أحمد، فاختلطت في "التعجيل" ترجمة هذا بترجمة محمَّد بن سعيد بن زياد القرشي الكُرَيزي البصري الأثرم، فأما الواقع في السند فهو كما قال الأستاذ محمَّد بن سعيد بن سَلْم الباهلي، ولم يطعن فيه أحد. وتأمل قول الأستاذ: "وإلى الله نشكو ... "! [ص 24] 11 - أبو شيخ الأصبهاني. قال الخطيب (13/ 384 [396]): " ... محمَّد بن عبد الله الشافعي قال: حدثني أبو شيخ الأصبهاني حدثنا الأثرم ... ". وقال (13/ 411 [438]): " ... محمَّد بن عبد الله بن إبراهيم الشافعي حدثنا أبو شيخ الأصبهاني حدثنا الأثرم ... ". أشار الأستاذ (ص 69) إلى الرواية الأولى وقال: "في سنده أبو شيخ الأصبهاني، ضعَّفه بلديُّه الحافظ أبو أحمد العسَّال، وله ميل إلى التجسيم". وأشار (ص 141) إلى الرواية الثانية وقال: "وفي سنده أبو الشيخ الأصبهاني، وقد ضعَّفه العسَّال" (¬1). وذكر الأستاذ (ص 49) حكايةً في سندها أبو محمَّد بن حيان فقال: ¬

_ (¬1) انظر ما سيأتي في "التنكيل": (1/ 517 - 519) بخصوص تضعيف العسّال لأبي الشيخ وأنه لم يثبت. وحاشيتَه بخصوص سؤال الشيخ سليمان الصنيع للكوثري عن مصدره في نقل هذا التضعيف، فلم يذكر له شيئًا. وقد كان للمؤلف اهتمام بالغ بهذه المسألة؛ ففي رسالة منه إلى الشيخ أحمد شاكر يسأله عن مسائل منها هذه وفيها: "أن الكوثري =

"وأبو محمَّد بن حيان هو أبو الشيخ ... وقد ضعّفه بلديُّه الحافظ العسَّال". أقول: أما أبو الشيخ وهو أيضًا أبو محمَّد عبد الله بن محمَّد بن جعفر بن حيان الأصبهاني فتأتي ترجمته في "التنكيل" (¬1) إن شاء الله تعالى. وأما هذا الراوي عن الأثرم وعنه أبو بكر محمَّد بن عبد الله الشافعي فهو رجل آخر ترجمته في "تاريخ بغداد" (2/ 326): "محمَّد بن الحسين بن إبراهيم بن زياد بن عجلان أبو شيخ الأصبهاني ... ، سكن بغداد وحدَّث بها عن ... وأبي بكر الأثرم ... ، روى عنه أبو بكر الشافعي ... ، ... وكان ثقة". فلا أدري أَعَرَف الأستاذ هذا وفَعَل ما فَعَل عمدًا، أم استعجل هنا على خلاف عادته، فلم يبحث حتى يتبين له أن أبا شيخ هذا غير أبي الشيخ المشهور. فالله أعلم (¬2). ¬

_ = يقول في أبي الشيخ هذا: "ضعفه بلديُّه الحافظ أبو أحمد العسّال بحق" فأحب أن أعرف مستند الكوثري في ذلك. وفي ذهني قصة فيها: أن رجلاً من المحدثين هجر صاحبًا له في حكاية عن الإِمام أحمد تتعلق ببعض أحاديث الصفات, وقال الهاجر ما معناه: لا أزال هاجرًا له حتى يخرج تلك الحكاية من كتابه. هذه حكاية وقفت عليها قديمًا. ولم أهتد الآن لموضعها، ويمكن أن تكون الواقعة لأبي الشيخ والعسال وأن تكون هي مستند الكوثري". (¬1) (رقم 129). (¬2) قال الكوثري في "الترحيب" (ص 329) تعليقًا على هذا الموضع: "وأما إفادة الأستاذ اليماني عن أن المراد بأبي شيخ هو محمَّد بن الحسين فأتقبّلها شاكرًا وداعيًا له بالمزيد ... ".

[ص 25] 12 - أبو الحسن بن الرزَّاز. في "تاريخ بغداد": (3/ 121) ترجمة لمحمد بن العباس بن حيويه أبي عمر الخَزَّاز، وفيها: "حدثني الأزهري قال: كان أبو عمر بن حَيُّويه مكثرًا وكان فيه تسامح، ربما أراد أن يقرأ شيئًا ولا يُقَرَّب أصلَه منه فيقرؤه من كتاب أبي الحسن بن الرزَّاز لثقته بذلك الكتاب، وإن لم يكن فيه سماعه، وكان مع ذلك ثقة". فاحتاج الأستاذ إلى الطعن في ابن حيويه هذا، فذكر (ص 21) بعضَ هذه العبارة وقال: " ... على أن أبا الحسن بن الرزَّاز الذي كان يثق بكتابه هو علي بن أحمد المعروف بابن طيب الرزاز، وهو معمَّر متأخر الوفاة ... نص الخطيب ... على أن ابنًا له كان أدخل في أصوله تسميعات طريَّة. فماذا تكون قيمة تحديث من يثق بها فيحدَّث من تلك الأصول! ". أقول: في "تاريخ بغداد" (11/ 330): "علي بن أحمد ... أبو الحسن المعروف بابن طيب الرزاز ... له دكان في سوق الرزازين ... حدثني بعض أصحابنا قال: دفع إليَّ علي بن أحمد الرزاز ... وحدثني الخلال قال: أخرج إليَّ الرزاز ... قلت: وقد شاهدت جزءًا من أصول الرزاز، وكان الرزاز مع هذا كثير السماع ... ". ثم ذكر أنه ولد سنة 335 ومات سنة 419، فالذي كان ابن حيويه ربما يقرأ من كتابه هو "أبو الحسن بن الرزاز" وعليُّ بن أحمد هذا هو أبو الحسن الرزاز كما تكرر في ترجمته. فأما قوله في أولها "المعروف بابن طيب الرزاز" فقوله: "الرزاز" من وصف عليًّ نفسه لا من وصف [ص 26] "طيب". وسياق الترجمة يبين ذلك، وأيضًا فعليّ بن أحمد أصغر من ابن حَيُّويه بأربعين سنة، فيبعد جدًّا أن يحتاج ابن حيويه في قراءة حديثه إلى كتاب هذا

المتأخر، وأيضًا فلا يعرف بين الرجلين علاقة. وفي "تاريخ بغداد" (12/ 85): "علي بن محمَّد بن سعيد ... أبو الحسن الكندي الرزاز ... قال العَتيقي: وكان ثقة أمينًا مستورًا، له أصول حِسان". وذكر أنه توفي سنة 372، فهذا أقرب إلى أن يكون هو المراد، لكنه (الرزّاز) لا ابن الرزّاز. وفي "تاريخ بغداد" (12/ 113): "علي بن موسى بن إسحاق أبو الحسن، يعرف بابن الرزاز سمع ... روى عنه ابن حَيُّويه والدارقطني، وكان فاضلاً أديبًا ثقة عالمًا". فهذا هو الذي يتعيَّن أن يكون المراد بقول الأزهري: " ... فيقرؤه من كتاب أبي الحسن بن الرزاز لثقته بذلك الكتاب وإن لم يكن فيه سماعه". فكأنَّ بعض كتب علي بن موسى هذا صارت بعد وفاته إلى تلميذه ابن حيويه، وكان فيها ما سمعه ابن حيويه، لكن لم يقيَّد سماعه في تلك النسخة التي هي من كتب الشيخ، وبهذا تبين أنه لا يلحقُ ابن حيويه عيب، ولا يوجب صنيعه أدنى قدح، وسيأتي بسط ذلك في ترجمة محمَّد بن العباس من "التنكيل" (¬1) إن شاء الله تعالى. والمقصود هنا أن أبا الحسن بن الرزَّاز هو عليّ بن موسى بن إسحاق، لا عليّ بن أحمد كما زعم الأستاذ. وقد بقي غير هذه الأمثلة تأتي في مواضعها من "التنكيل" إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) رقم (208).

[ص 27]- ب - ومن عوامده: أنه يعمد إلى كلام لا علاقة له بالجرح فيجعله جرحًا، فمن أمثلة ذلك: 1 و2 - جرير بن عبد الحميد، وأبو عَوانة الوضَّاح بن عبد الله اليشكري. قال الذهبي في خطبة "الميزان" (¬1): "وفيه - يعني "الميزان" - من تُكُلِّم فيه مع ثقته وجلالته بأدنى لِين وبأقل تجريح، فلولا أن ابن عدي أو غيره من مؤلِّفي كتب الجرح ذكروا ذلك الشخص لما ذكرته لثقته". وهكذا قد يَذْكر في الترجمة عبارةً لا قَدْح فيها ولا مدح، وإنما ذَكَرها لاتصالها بغيرها، فمن ذلك أنه ذكر جرير بن عبد الحميد فقال في أثناء الترجمة: "قال ابن عمار: كان حجة وكانت كتبه صحاحًا. قال سليمان بن حرب: كان جرير وأبو عَوانة يتشابهان، ما كان يصلح إلا أن يكونا راعيين. وقال ابن المديني: كان جرير بن عبد الحميد صاحب ليل ... وقال أبو حاتم: جرير يُحتجّ به، وقال سليمان بن حرب: كان جرير وأبو عوانة يصلحان أن يكونا راعيي غنم، كانا يتشابهان في رأي العين، كتبت عنه أنا وابن مهدي وشاذان بمكة". لم يتعرض صاحب "التهذيب" مع محاولته استيعاب كل ما يقال من جرح أو تعديل لقضية التشابه ولا الصلاحية لرعي الغنم؛ لأنه لم ير فيها ما يتعلق بالجرح والتعديل. ¬

_ (¬1) (1/ 2).

وأما الذهبي فذكر ذلك لاتصاله بغيره، ولأنّ ذِكْر الصلاحية لرعي الغنم إنما فائدته تحقيق التشابه في رأي العين، وبيان أنهما كانا يتشابهان ربما تكون له فائدة ما. والمقصود أن [ص 28] مراد سليمان من بيان صلاحية الرجلين لرَعْي الغنم هو تحقيق تشابههما في رأي العين كما يبينه السياق، ووجه ذلك: أنّ من عادة الغنم أنها تنقاد لراعيها الذي قد عَرَفَتْه وأَلِفَته وأَنِسَت به وعرفت صوته، فإذا تأخَّر ذاك الراعي في بعض الأيام، وخرج بالغنم آخر لم تَعْهَدْه الغنم لقي منها شدَّة لا تنقاد له، ولا تجتمع على صوته، ولا تنزجر بزجره، لكن لعلَّه لو كان الثاني شديد الشبه بالأول لانقادت له الغنم، تتوهَّم أنه صاحبها الأول، فأراد سليمان أنَّ تشابه جرير وأبي عوانة شديد بحيث لو رعى أحدُهما غنمًا مدة حتى أَلِفَتْه وأَنِسَت به، ثم تأخّر عنها وخرج الآخر لانقادت له الغنم، تتوهم أنه الأول. وقد روى سليمان بن حرب عن جرير (¬1)، وقال أبو حاتم: "كان سليمان بن حرب قلَّ من يرضى من المشايخ، فإذا رأيته قد روى عن شيخ فاعلم أنه ثقة". أما الأستاذ فإنه احتاج إلى الطعن في هذين الحافظين الجليلين جرير وأبي عوانة، فكان مما تمحَّله للطعن فيهما تلك الكلمة، وقَطَعها وفَصَلها بحيث يَخْفى أصلُ المراد منها، فقال في (ص 101) في جرير: "مضطرب ¬

_ (¬1) كتب المؤلف أولاً: "الرجلين" ويبدو عليها آثار ضرب وكتب في طرّة الصفحة ما هو مثبت، وعلق في الهامش: "وأُراه قد روى عن أبي عوانة ولكن لم أر من صرّح بذلك" اهـ.

الحديث لا يصلح إلا أن يكون راعي غنم عند سليمان بن حرب ... ". وقال (ص 92) في أبي عوانة: " ... كان يراه سليمان بن حرب لا يصلح إلا أن يكون راعي غنم". وأعاد نحو ذلك (ص 118). هب أن الأستاذ لا يعرف عادة الغنم فقد كان ينبغي أن ينبّهه السياق، ولعله قد تنبه ولكن تعمَّد المغالطة، ولذلك قَطَع العبارة وفَصَلها. والله المستعان (¬1). [ص 29] 3 - محمَّد بن عبد الوهاب أبو أحمد الفرَّاء. قال الأستاذ (ص 135): "معلول عند أبي يعلى الخليلي في الإرشاد". أقول: إطلاق كلمة "معلول" على الراوي من بدع الأستاذ، والذي في ترجمة محمَّد بن عبد الوهاب من "تهذيب التهذيب" (¬2): "قال الخليلي في "الإرشاد" (¬3) عَقِب حديث عليّ بن عثام عن سُعير بن الخِمْس عن مغيرة عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله - في الوسوسة -: قال لي عبد الله بن محمَّد الحافظ: أعجب من مسلم كيف أَدْخَل هذا الحديث في "الصحيح" عن محمَّد بن عبد الوهاب وهو معلول وفرد. انتهى. ولم أر الحديث المذكور في "صحيح مسلم" (¬4) إلا عن يوسف بن يعقوب الصفَّار عن علي بن عثَّام، فالله تعالى أعلم". ¬

_ (¬1) وراجع "التنكيل" (رقمي 63 و216). (¬2) (9/ 319). (¬3) (2/ 809). (¬4) (133).

أقول: مقصود ابن حجر من ذِكْر هذه الحكاية التنبيه على ما فيها من رواية مسلم في "الصحيح" عن محمَّد بن عبد الوهاب، فإن ذلك غير ثابت، إلا أن يصح هذا بأن يكون وقع في بعض النسخ من "صحيح مسلم" روايته الحديث عن محمَّد بن عبد الوهاب. وقد رواه أبو عوانة في "صحيحه" (1/ 79) عن محمَّد بن عبد الوهاب عن علي بن عثّام. وقول عبد الله بن محمَّد: "وهو معلول وفرد" يريد الحديث كما لا يخفى، وعِلَّته جاءت من فوق، ففي ترجمة سُعير بن الخِمْس من "تهذيب التهذيب" (¬1) أن مسلمًا أخرج له هذا الحديث الواحد، قال ابن حجر: "قلت: رفعه هو وأرسله غيره". وإنما قال عبد الله بن محمَّد: "عن محمَّد بن عبد الوهاب"؛ لأن محمدًا من معاصري مسلم وعاش بعد [ص 30] مسلم إحدى عشرة سنة، ومن عادة المحدثين اجتناب رواية ما ينزل سندهم فيه، والنزول في رواية مسلم عن محمَّد بن عبد الوهاب واضح، فتعجَّب عبد الله بن محمَّد من إخراج مسلم الحديثَ في "الصحيح"، مع أن هناك مانِعَين من إخراجه: الأول: نزول سنده. الثاني: أنه معلول وفرد. فبان أنه ليس في تلك الكلمة غضّ من محمَّد بن عبد الوهاب، وهو من الحفاظ الثقات الأثبات، ولم يجد الأستاذ فيه مغمزًا، فاضطر إلى تلك المغالطة القبيحة، والله المستعان. ¬

_ (¬1) (4/ 105 - 106).

4 - عبد الله بن محمَّد بن عثمان بن السقاء. قال الأستاذ (ص 147): "هجره أهل واسط لروايته حديث الطير كما في "طبقات الحفاظ للذهبي"". أقول: الذي في ترجمة هذا الحافظ من "تذكرة الحفاظ" (3/ 165) من قول الحافظ خميس الحوزي: " .. من وجوه الواسطيين وذوي الثروة والحفظ ... وبارك الله في سِنّه وعِلْمه، واتفق أنه أملى حديث الطير، فلم تحتمله نفوسهم، فوثبوا به وأقاموه وغَسَلوا موضعه، فمضى ولزم بيته". أقول: الأستاذ يعلم أن هذه حماقة من العامة وجهل، لا يلحق ابن السقاء بها عيب ولا ذمّ ولا ما يشبه ذلك. وحديث الطير مشهور رُوي من طرق كثيرة، ولم ينكر أهل السنة مجيئه من طرق كثيرة، وإنما ينكرون صحته، وقد صححه الحاكم (¬1)، وقال غيره: إن طرقه كثيرة يدل مجموعها أن له أصلاً (¬2)، وممن رواه النسائيُّ في "الخصائص" (¬3)، [ص 31] لكن الأستاذ يقول: كما أن عامة ذاك العصر اشتد نكيرهم على هذا الحافظ، وظنوا أن روايته لذاك الحديث توجب سقوطه، فلعل عامة هذا الزمان إذا رأوا الأستاذ الكوثريَّ قد ذكر الحكاية في معرض الطعن في ذاك الحافظ = أن يظنوا أن في القصة ما يُعدُّ جرحًا! والله المستعان. ¬

_ (¬1) في "المستدرك": (3/ 130 - 131). (¬2) قاله غير واحد منهم الهيتمي في "شرح الهمزية"، والسيوطي. (¬3) (8341) ضمن السنن الكبرى. وأخرجه الترمذي أيضًا (3721).

5 - سالم (¬1) بن عصام. قال الخطيب (13/ 410 [436]): "أخبرنا أبو نعيم الحافظ، ثنا أبو محمد عبد الله بن محمَّد بن جعفر بن حيان، ثنا سالم (¬2) بن عصام، ثنا رسته، عن موسى بن المساور قال: سمعت جَبَّر، وهو عصام بن يزيد يقول: سمعت سفيان الثوري ... ". قال الأستاذ (ص 136): "وسالم بن عصام صاحب غرائب". أقول: ذَكَره الراوي عنه هنا وهو أبو محمَّد ويُقال أبو الشيخ عبد الله بن محمَّد بن جعفر بن حيان في كتابه: "طبقات الأصبهانيين" (¬3) وقال: "وكان شيخًا صدوقًا صاحب كتاب وكتبنا عنه أحاديث غرائب، فمن حِسان ما كتبنا عنه ... ". وقال أبو نعيم الحافظ الأصبهاني في "تاريخ أصبهان" (¬4): "صاحب كتاب كثير الحديث والغرائب". أقول: ومن كثر حديثه لا بد أن تكون عنده غرائب، وليس ذلك بموجب ¬

_ (¬1) كذا في الأصل و (ط) وكتاب الكوثري، ووقع في كل المواضع الآتية كذلك حتى النقل عن "تاريخ بغداد" مع أنه فيه على الصواب في طبعتيه. وصوابه "سَلْم" كما في مصادر ترجمته وغيرها. (¬2) كذا وانظر الحاشية السالفة. (¬3) منه نسخة محفوظة في المكتبة الآصفية بحيدراباد دكن الهند. [المؤلف]. أقول: وقد طبع في أربع مجلدات بتحقيق د. عبد الغفور البلوشي عن مؤسسة الرسالة. وترجمته في (3/ 509). (¬4) منه نسخة محفوظة في المكتبة الآصفية بحيدراباد دكن - الهند. [المؤلف]. وترجمته في (1/ 396 - ط. دار الكتب العلمية).

للضعف، وإنما الذي يضرّ أن تكون تلك الغرائب منكرة، وأبو الشيخ وأبو نعيم التزما في كتابيهما النص على الغرائب، حتى قال أبو الشيخ في ترجمة الحافظ الجليل أبي مسعود أحمد بن الفرات: "وغرائب حديثه وما ينفرد به كثير" (¬1). والغرائب التي كانت عند سالم ليست بمنكرة كما يعلم من قول أبي الشيخ: "كان شيخًا صدوقًا صاحب كتاب". [ص 32] ومع هذا فقد توبع سالم على الأثر الذي ساقه الخطيب، قال أبو الشيخ في ترجمة موسى بن المساور من "الطبقات" (¬2): "حدثنا محمَّد بن عَمرو، قال: حدثنا رسته، قال: حدثنا موسى بن المساور قال: سمعت عصام بن يزيد ... ". فذكر مثل ما ذكر سالم، ومحمد بن عَمرو أُراه محمَّد بن أحمد بن عَمرو الأبهري، ذكر أبو الشيخ في ترجمته (¬3) أنه من شيوخه وأنه يروي عن رسته، فإما أن يكون نسبه إلى جده وإما أن يكون سقط (بن أحمد) من النسخة. 6 - الهيثم بن خلف الدوري. قال الأستاذ (ص 47): "يروي الإسماعيليُّ عنه في "صحيحه" إصرارَه على خطأ، وفي الاحتجاج برواية مثلِه وقْفَة". أقول: الخطأ الذي يضرّ الراوي الإصرارُ عليه هو ما يُخْشى أن تترتَّب عليه مفسدة، ويكون الخطأ من المصِرّ نفسه، وذلك كمن يسمع حديثًا بسند ¬

_ (¬1) (2/ 254). (¬2) (2/ 154). (¬3) (4/ 113). وهو كما حَدَس المؤلف رحمه الله، فإن (بن أحمد) ثابتة في النسخة المحققة.

صحيح فيغلط، فيركِّب على ذاك السند متنًا موضوعًا، فينبِّهه أهلُ العلم فلا يرجع. وليس ما وقع للهيثم من هذا القبيل، إنما وقع عنده في حديث الزهري عن محمود بن (¬1) الربيع عن عِتْبان، وقع عنده "محمَّد بن الربيع" بدل "محمود بن الربيع" وثَبَت على ذلك، وهذا لا مفسدة فيه، بل ثبات الهيثم يدل على عِظَم أمانته وشدّة تثبته، إذ لم يستحلّ أن يغيِّر ما في أصله، وقد وقع لمالك بن أنس الإِمام نحو هذا، كان يقول في عَمرو بن عثمان: "عُمر بن عثمان" وثبت على ذلك. وقد قال الإسماعيليّ نفسه في الهيثم: إنه "أحد الأثبات". 7 - محمَّد بن عبد الله بن عمَّار. انظر ما يأتي (هـ/ 11). **** - ج - [ص 33] ومن عجائبه: اهتبال التصحيف أو الغلط الواقع في بعض الكتب إذا وافق غرضَه! فمن أمثلة ذلك: 1 - وضَّاح بن عبد الله أبو عوانة. ذكروا في ترجمة عليِّ بن عاصم مما عابوا به عليَّ بن عاصم أنه كان يغلط فيُبيَّن له مخالفة الحفَّاظ له فلا يعبأ بذلك، بل ينتقص أولئك الحفاظ، ففي "تاريخ بغداد": (11/ 450) في ترجمة عليِّ بن عاصم عن عليِّ بن المديني مراجعةٌ دارت بينه وبين عليِّ بن عاصم وفيها: " .... فقلت له: إنما ¬

_ (¬1) "بن" ساقطة من الأصل، وهي في (ط 2) فلعل المؤلف استدركها بعد ذلك.

هذا عن مغيرة رأي حماد، قال: فقال من حدَّثكم؟ قلت: جَرير، قال: ذاك الصَّبِي (¬1)! قال: مر شيء آخر، فقلت: يخالفونك في هذا، فقال: مَن؟ قلت: أبو عوانة، قال: وضَّاح ذاك العبد! قال: وقال لشعبة: ذاك المسكين ... ". فوقعت هذه الحكاية في ترجمة علي بن عاصم من "تهذيب التهذيب" (¬2) المطبوع ووقع فيها: "وضّاع ذاك العبد" ولم يَخْف على ذي معرفة أن هذا تصحيف وأن الصواب "وضَّاح ... " كما في "تاريخ بغداد"، وعلى ذلك قرائن: منها: السياق، فإنه إنما قال في جرير "ذاك الصبي"، وفي شعبة "ذاك المسكين". فلم يجاوز حد الاستحقار، فكذلك ينبغي في حق أبي عوانة. ومنها: أن الذهبي لخَّص تلك الحكاية بقوله في "الميزان" (¬3): "وقيل: كان يستصغر الفضلاء". ومنها: أن أبا عوانة من الأكابر، وعلي بن عاصم مغموز، [ص 34] فلو تجرَّأ عليُّ بن عاصم فرمى أبا عوانة بالكذب لقامت عليه القيامة. ومنها: أنه لم يُعرف لعلي بن عاصم كلام في الرواة بحق أو بباطل، وإنما كان راويةً، ومع ذلك فلم يُحْمَد في روايته. ¬

_ (¬1) كذا في الأصل و (ط)، ومطبوعة تاريخ بغداد وغيرها، وأصلحها محقق الطبعة الجديدة من التاريخ: (13/ 411) إلى "الضّبَّي" وأن ما وقع في المطبوعة تصحيف. (¬2) (7/ 345)، ووقع على الصواب في أصله "تهذيب الكمال": (5/ 266). (¬3) (4/ 55). ولعل الذهبي أخذها من قول عفّان: ما نذكر له إنسانًا إلا استصغره. كما في "تهذيب الكمال": (5/ 266) في قصةٍ له.

ومنها: أنه لو كان في عبارة علي بن عاصم ما يُعدُّ جرحًا لأبي عوانة، لكان حقه أن يُذْكَر في ترجمة أبي عوانة. وبالجملة فلا يشكُّ عارف أن الصواب: "وضَّاح ذاك العبد" كما في "تاريخ بغداد". ولا أشك أن الأستاذ لا يخفى عليه ذلك، حتى ولو لم يطّلع على ما في "تاريخ بغداد"، مع أنه قد طالع الترجمة فيه ونقل عنها، ولكنه كان محتاجًا إلى أن يطعن في أبي عوانة، ووقعت بيده تلك الغنيمة الباردة فيما يُرِيه الهوى، فلم يتمالك أن وقع، فقال (ص 92): "وأما أبو عوانة ... لكن يقول عنه علي بن عاصم: وضَّاع ذاك العبد"، وقال (ص 71): "بلغ به الأمر إلى أن كَذَّبه عليُّ بن عاصم". كذا صنع الأستاذ الذي يقيم نفسَه مُقام من يتكلم في الصحابة والتابعين، ويكثر من كتابة: "نسأل الله السلامة، نسأل الله العافية" ونحو ذلك! وهكذا تكون الأمانة عند الأستاذ. 2 - أبو عَوانة أيضًا. أبو عَوانة الوضَّاح بن عبد الله، اتفق الأئمة على الثناء عليه والاحتجاج بروايته، وأخرج له الشيخان في "الصحيحين" أحاديث كثيرة، ويأتي [ص 35] بعض ثناء الأئمة عليه في ترجمته من "التنكيل" (¬1) وصحَّ أنه أدرك الحسنَ البصري وابنَ سيرين، وحفظ بعض أحوالهما. قال البخاري في ترجمته من "التاريخ" (4/ 3/ 181): "سمع الحكم بن عُتيبة وحماد بن أبي سليمان وقتادة .... قال لنا عبد الله بن ¬

_ (¬1) رقم (259).

عثمان: أرنا (¬1) يزيد بن زُرَيع قال: أرنا أبو عوانة قال: رأيت محمَّد بن سيرين في أصحاب السكّر فكلما رآه قوم ذكروا الله ... وقال لنا موسى بن إسماعيل: قال لي أبو عوانة: كل شيء حدثتك فقد سمعته". يعني أنه لا يدلس ولا يروي عمن لم يسمع منه. وقال ابن سعد في "الطبقات": (7/ 2/ 43) (¬2): "أخبرنا هشام أبو الوليد الطيالسي، قال: حدثنا أبو عوانة قال: رأيت الحسن بن أبي الحسن يوم عرفة خرج من المقصورة فجلس في صحن المسجد وجلس الناس حوله". وهذه الأسانيد بغاية الصحة. وفي "الصحيحين" من رواية أبي عوانة عن قتادة أحاديث، كحديث: "ما من مسلم يغرس غرسًا .... " (¬3)، وحديث: "من نسي صلاةً .... " (¬4)، وحديث: "تسحَّروا فإن في السحور بركة" (¬5). وأخرج له مسلم في "صحيحه" (¬6) من حديثه عن الحكم بن عُتَيبة كما ذكره المزي في "تهذيبه" (¬7). ووفاة الحسن وابن سيرين سنة 110، والحَكَم سنة 115، وقتادة سنة ¬

_ (¬1) اختصار: "أخبرنا". [المؤلف]. (¬2) (9/ 288 - دار الخانجي). (¬3) البخاري (2320)، ومسلم (1553). (¬4) أخرجه مسلم (684). (¬5) أخرجه مسلم (1095). (¬6) (1934). (¬7) (7/ 456). و"في تهذيبه" من (ط).

117، وحماد سنة 120 وقيل قبلها، وذكر ابن حبان في ترجمة قتادة من "الثقات" (¬1) وفاته [ص 36] سنة 117، وذكر في ترجمة أبي عوانة (¬2) روايته عن قتادة ثم قال في أبي عوانة: "وكان مولده سنة اثنتين وتسعين، ومات في شهر ربيع الأول سنة ست وسبعين ومائة". هكذا في النسخة المحفوظة في المكتبة الآصفية في حيدراباد الدكن تحت رقم 1 - 4 من فن الرجال المجلد الثالث الورقة 218 الوجه الأول، ومثله في نسخة أخرى جيدة محفوظة في المكتبة السعيدية بحيدراباد (¬3). وكانت عند ابن حجر من "ثقات ابن حبان" نسخة يشكو في كتبه من سُقْمها، قال في "تهذيب التهذيب" (8/ 403): " .... ذكره ابن حبان في (الثقات) .... وقال: روى عنه حبيب، كذا في النسخة وهي سقيمة". وقال في "لسان الميزان": (2/ 442) (¬4): "رافع بن سلمان .... ذكره ابن حبان في (الثقات)، لكن وقع في النسخة - وفيها سقم -: رافع بن سنان". فوقع في تلك النسخة السقيمة تخليط في ترجمة أبي عوانة، فذكره ابن حجر في "تهذيب التهذيب" (¬5) وبيَّن أنه خطأ قطعًا، ومع ذلك ففي عبارة ابن حجر تخليط في النسخة من "تهذيب التهذيب" المطبوع، ففيه (11/ 118): "وذكره ابن حبان في "الثقات" وقال: كان مولده سنة اثنتين ¬

_ (¬1) (5/ 322). (¬2) (7/ 562 - 563). (¬3) "ومثله ... بحيدراباد" من (ط). (¬4) (3/ 441). (¬5) (11/ 116 - 120).

وعشرين ومائة، وقال: هو خطأ للشك فيه, لأنه صح أنه رأى ابن سيرين .... ". وقوله: "وقال هو خطأ للشك فيه" صوابه والله أعلم: "كذا قال، وهو خطأ لا شك فيه"، وقد علمتَ أن البلاء من نسخة "الثقات" التي كانت عند ابن حجر. [ص 37] وليس الأستاذ ممن يخفى عليه هذا ولا ما هو أخفى منه، لكنه كان محتاجًا إلى الطعن في أبي عوانة ظلمًا وعدوانًا. فقال (ص 118) في أبي عوانة: "فعلى تقدير ولادته سنة 122 كما هو المشهور - كذا - لا تصح رؤيته للحسن ولا لابن سيرين .... ". فليفرض القارئ أن الأستاذ في مقام إثبات سماع أبي عوانة من الحكم بن عتيبة أو قتادة أو حماد، وأن بعض مخالفي الأستاذ حاول دفع ذلك فقال: "فعلى تقدير ... " عبارة الأستاذ نفسها، فما عسى أن يقول الأستاذ في ذلك المخالف؟ أما نحن فنَجْتزئ بأن نقول: هكذا تكون الأمانة عند الأستاذ! 3 - أبو عوانة أيضًا. انظر ما يأتي (ح/ 1). 4 - محمَّد بن سعيد. راجع ما تقدم (أ/ 10). 5 - أيوب بن إسحاق بن سافري. في ترجمته من "تهذيب تاريخ ابن عساكر" (3/ 200) عن ابن يونس " .... وكان في خُلقه زَعارَّة، وسأله أبو حميد في شيء يكتبه عنه فمطله .... ". ومعروف في اللغة ومتكرر في التراجم أن يقال: "في خُلُق فلان زَعارَّة" أي شراسة، وهذا وإن كان غير محمود فليس مما يقدح في العدالة

أو يخدش في الرواية، لكن وقع في "تاريخ بغداد": (7/ 10) في هذه الحكاية: "وكانت في خلقه دعارة" كذا! وهذا تصحيف لا يخفى مثله على الأستاذ. أولاً: لأنه ليس في كلامهم "في خلق فلان دعارة" وإنما [ص 38] يقولون: فلان داعر بَيَّن الْدعارة، إذا كان خبيثًا أو فاسقًا. ثانيًا: لأن ابن يونس عَقَّب كلمته بقوله: "سأله أبو حميد في شيء من الأخبار يكتبه عنه فمَطَله .... ". وهذه شراسة خلق لا خُبْث أو فسق. ثالثًا: لأن المؤلفين في المجروحين لم يذكروا هذا الرجل، ولو وُصِف بالخُبْث أو الفِسْق لما تركوا ذكره، ولكن الأستاذ احتاج إلى الطعن في هذا الرجل فقال (ص 137): "ذاك الداعر .... تكلم فيه ابن يونس". كذا قال! ولم يتكلم فيه ابن يونس بما يقدح، وقد ذكره ابن أبي حاتم في كتابه (¬1) وقال: "كتبتُ عنه بالرملة وذكرته لأبي فعرفه وقال: كان صدوقًا". 6 - عبد الله بن عمر بن الرمّاح. هو عبد الله بن عمر بن ميمون بن بحر بن الرمّاح، واسم الرماح سعد، له ولأبيه ترجمتان في "طبقات الحنفية" (¬2)، وهما معروفان عندهم، وللأب ترجمة في "تهذيب التهذيب" (7/ 498)، وفي "تاريخ بغداد" (11/ 182) وفي كتاب ابن أبي حاتم (¬3) وغيرها، ووقع في "تاريخ بغداد" (13/ 386) ¬

_ (¬1) (2/ 241). (¬2) "الجواهر المضيّة" (2/ 319، 662) الابن ثم الأب. (¬3) (6/ 109).

في سند حكاية "عبد الله بن عثمان بن الرماح" فاحتاج الأستاذ إلى ردّها والتي قبلها فقال (ص 73): "وفي سند الخبر الأول الخزاز وفي الثاني ابن الرماح فلا يصحَّان مع وجودهما في السندين" اقتصر على قوله: "ابن الرماح" ولم ينبِّه على أن "عثمان" تصحيف والصواب "عمر". [ص 39] كما ذكر الأستاذ نفسُه في اسمٍ آخر قال (ص 93): "فلعل لفظ - عمر - صُحِّف إلى "عثمان" حيث يشبه هذا ذاك في الرسم عند حذف الألف المتوسطة في عثمان كما هو رسم الأقدمين". وكأنه خشي أن ينبِّه القارئ على أن ابن الرمَّاح هو ذاك العالم الحنفي، لم يتكلم فيه أحدٌ بما يردّ روايته، بل تَرَكه يتوهّم أن هذا رجل مجهول؛ لأنه لا يجد في الكتب ترجمةً لعبد الله بن عثمان بن الرماح، بل يتوهم أنه ضعيف، وقف الأستاذُ على تضعيفه في الكتب التي لم تُطْبَع، ولذلك قال ما قال! 7 - أحمد بن المعذل. ذكر الأستاذ (ص 95) قوله: إن كنتِ كاذبة الذي حدثتني ... فعليك إثم أبي حنيفة أو زُفَر المائلين إلى القياس تعمُّدًا ... والراغبين عن التمسك بالأثر ثم قال: "وهو الذي كان أخوه عبد الصمد بن المعذل يقول فيه: أضاع الفريضة والسنهْ ... فتاه على الإنس والجِنَّهْ" أقول: إنما قال عبد الصمد: "أطاع .... " هكذا في "الديباج المُذْهَب" (ص 30) و"لآلئ البكري" (ص325) والسياق يُعيّنه، كان عبد الصمد ماجنًا، وكان أحمد عالمًا صالحًا تقيًّا؛ فكان يَعِظ عبد الصمد ويزجره، فقال

اعتبار

عبد الصمد: "أطاع .... " البيت، وبعده: [ص 40] كأنَّ لنا النار من دونه ... وأفرده الله بالجنه يريد أن أحمد معجب بتقواه وورعه، فأدَّاه ذلك إلى أن تاه على غيره. فإن قيل: إنما أراد الأستاذ التنكيتَ والتبكيت مقابلة للإساءة بمثلها. قلت: رأس مال العالم الصدق، ومن استحلَّ التحريف في موضع ترويجًا لرأيه لم يؤمَن أن يحرِّف في غيره. **** اعتبار لكن الأستاذ عند ما تخالف الألفاظُ هواه، كثيرًا ما يدَّعِي أنها مصحَّفة؛ فيزعم أن "الدين" محرّف عن "أرى" وأن "يكذب" محرّف عن "يكتب" و"للفرس .... وللرجل" عن "وللفارس .... وللراجل" وغير ذلك. في "تاريخ بغداد": (13/ 386 [401]) " .... محبوب بن موسى قال: سمعت يوسف بن أسباط يقول: قال أبو حنيفة: لو أدركني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو أدركته لأخذ بكثير من قولي، قال: وسمعت أبا إسحاق يقول: كان أبو حنيفة يجيئه الشيء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيخالفه إلى غيره". ذكر الأستاذ هذا (ص 75) وذكر أن في النسخة الخطية زيادة سوق الخبر بسند آخر. وفي "تاريخ بغداد" (13/ 390 [407]) " .... أبو صالح الفراء قال: سمعت يوسف بن أسباط يقول: ردَّ أبو حنيفة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أربعمائة حديث أو أكثر .... وقال أبو حنيفة: لو

أدركني [ص 41] النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأدركته لأخذ بكثير من قولي، وهل الدين إلا الرأي الحسن". ذكر الأستاذ هذا (ص 85). وهذه الكلمة "لو أدركني ... " لها تأويل قريب ذكرته في "التنكيل" (¬1) ولم يقع عليه الحنفية بل ذهبوا يتعسَّفون، فروى عبد الله بن محمَّد بن يعقوب الحارثي: حدثني أبو طالب سعيد بن محمَّد بن أبان البرذعي في مسجد أبي الحسن الكرخي ببغداد حدثني أبو جعفر ... الطحاوي أبنا بكَّار بن قتيبة أبنا هلال بن يحيى الرأي البصري، سمعت يوسف بن خالد السمتي ... " فذكر قصةً طويلة فيها عجائب، تراها في "مناقب أبي حنيفة" للموفق المكي (2/ 101 - 109)، وقد أشرت إلى بعضها في "التنكيل". وهذه الحكاية لا يشكُّ عارفٌ في أنها مكذوبة على الطحاوي، فعبد الله بن محمد ترجمته في "لسان الميزان" (3/ 348) (¬2). وشيخه لا يُعْرَف، وإنما ذكره صاحب "الجواهر المضيئة" (¬3) بما تضمَّنته هذه الحكاية، فلم يُسْمَع به إلا فيها، ويغلب على الظن أنه لا يوجد منه إلا اسمه، ولو كان للقصة أثر عند الطحاوي لما فاتت ابن أبي العوَّام. ومن تدبَّر القصة لم يشك في اختلاقها، وفيها: "لو أدركني البَتَّي لترك كثيرًا من قوله" مع أنه يعلم منها ومن غيرها أن البتِّي وهو عثمان بن مسلم البصري الفقيه كان يومئذ حيًّا يرزق! وذكر الأستاذ (ص 113) ما رُوي عن "حمَّاد بن زيد قال: ذُكِر أبو حنيفة ¬

_ (¬1) ترجمة رقم (158). (¬2) (4/ 579 - 580). (¬3) (2/ 224).

عند البتّي فقال: ذاك رجل أخطأ عصم دينه كيف يكون حاله؟ ". ثم قال الأستاذ: "عثمان بن مسلم البتّي ... توفي سنة 143 ... وكانت تجري بينه وبين أبي حنيفة مراسلات ... وكان [ص 42] يوسف بن خالد السمتي بعد أن تفقه على أبي حنيفة رجع إلى البصرة وأخذ يجابه البتي ... ". وفي تلك الأخلوقة أن أبا حنيفة قال: "لو أدركني البتي ... " أول ما اجتمع به يوسف بن خالد. فمن تدبَّر علم أن تلك الأخلوقة المنسوبة إلى يوسف بن خالد إنما اختُلِقت لما شاعت حكاية يوسف بن أسباط، فأراد المختلقُ علاجَها فوقع فيما وقع فيه، ثم أن الأستاذ لم يقتصر على ما قيل قبله من دعوى التصحيف في "النبي" بل زاد أمرين: الأول: أنه على فرض أن أبا حنيفة قال تلك الكلمة بلفظ "النبي" فقوله: "لأخذ" المراد به "لأخذني". الثاني: أنه رأى أن مَن تقدَّمه لم يتعرَّضوا لما وقع في إحدى الروايات: "وهل الدّين إلا الرأي الحسن" فقال الأستاذ (ص 88): "فلا أشك أن "الدين" مصحف من "أرى ... "" وذهب يوجِّه احتمال العادة بمثل ذلك. وهذا موضع الاعتبار، بينما ترى الأستاذ يصنع ما تقدم في الأمثلة، فيغضّ النظر عن التصحيف الواضح والخطأ المكشوف؛ إذا به يحاول دعوى التصحيف التي لا يشك في بطلانها، ولا عجب في ذلك إذ مغزى الأستاذ إنما هو الانتصار لهواه. وقد قدمت أن الكلمة المنقولة عن أبي حنيفة تأويلاً قريبًا بدون دعوى التصحيف ولا التحريف، وستجده في "التنكيل" (¬1) إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) ترجمة رقم (158).

- د - [ص 43] ومن غرائبه: تحريف نصوص أئمة الجرح والتعديل، تجيء عن أحدهم الكلمة فيها غضٌّ من الراوي بما لا يضره أو بما فيه تليين خفيف لا يُعَدُّ جرحًا، فيحتاج الأستاذ إلى الطعن فيمن قيلت فيه، فيحكيها بلفظٍ آخر يفيد الجرح، فمن أمثلة ذلك: 1 - إبراهيم بن سعيد الجوهري. هو من شيوخ مسلم في "صحيحه" ومن كبار الحفّاظ، قال فيه أحمد بن حنبل: "كثير الكتاب، كتب فأكثر". وقال الأستاذ نفسه (ص 151): "كان إبراهيم بن سعيد الجوهري يقول: كلُّ حديث لم يكن عندي من مائة وجه فأنا فيه يتيم". وتجد الحكاية بتمامها في ترجمة إبراهيم من "الميزان" (¬1). وكان من عادة المكثرين أن يتردّدوا إلى كبار الشيوخ ليسمعوا منهم، فربما جاء أحدهم إلى شيخ قد سمع منه الكثير يرجو أن يسمع منه ما لم يسمعه من قبل، فيتفق أن يشرع الشيخ يحدَّث بجزء قد كان ذاك المكثر سمعه منه قبل ذلك، فلا يعتني باستماعه ثانيًا أو ثالثًا, لأنه يرى ذلك تحصيل حاصل. فكأنه اتفق لإبراهيم هذا واقعةٌ من هذا القبيل، فحكى عبد الرحمن ابن خراش قال: "سمعتُ حجاج بن الشاعر يقول: رأيت إبراهيم بن سعيد عند أبي نعيم وأبو نعيم يقرأ وهو نائم. وكان الحجاج يقع فيه". وسيأتي إيضاح الجواب في ترجمة إبراهيم من "التنكيل" (¬2). ¬

_ (¬1) (1/ 35 - 36). (¬2) (رقم 5).

والمقصود [ص 44] هنا أن الأستاذ ذكر تلك المقالة فحرَّفها تحريفًا قبيحًا. قال (ص 75): "كان يتلقى وهو نائم، كما قال الحافظ حجاج بن الشاعر، فحجَّاجٌ هذا ممن جرحه لا يندمل". وقال (ص 119): "رماه الحافظ حجَّاج بن الشاعر بأنه كان يتلقَّى وهو نائم". فعبارة حجّاج تحتمل ما قدَّمنا، بل إن ذلك (¬1) ليس فيها ما يدل على أن إبراهيم صار بعد ذلك المجلس يروي عن أبي نعيم أحاديث يزعم أنه تلقاها في ذاك الوقت الذي كان إبراهيم فيه نائمًا، وعبارة الأستاذ تفيد هذا. وعبارة حجّاج إنما تدلُّ على مرة واحدة عند أبي نعيم، وعبارة الأستاذ تدل أن التلقي في حال النوم كان من عادة إبراهيم عند أبي نعيم وغيره! فتدبَّر. 2 - مؤمّل بن إهاب. قال الأستاذ (ص 65): "ضعَّفه ابن معين على ما حكاه الخطيب". أقول: إنما حكى الخطيب (13/ 181) عن إبراهيم بن عبد الله بن الجنيد قال: "سئل يحيى بن معين وأنا أسمع عن مؤمّل بن إهاب، فكأنه ضعَّفه" فتدبر، وقد قال أبو حاتم: "صدوق". وقال النسائي: "لا بأس به". وقال مرةً: "ثقة". وقال مسلمة بن قاسم: "ثقة صدوق". 3 - أحمد بن سلمان النجاد. قال الأستاذ (ص 65): "يقول عنه (¬2) الدارقطني [ص 45]: يحدِّث من كتاب غيره بما لم يكن في أصوله". ¬

_ (¬1) "بل إن ذلك" كتبت بين الأسطر يشبه اللحق بخط باهت، ورسمه أقرب شيء لما أثبتّه، ولا يزال السياق قلقًا. (¬2) يريد: "فيه". [المؤلف].

أقول: إنما قال الدارقطني: "حدث .... " كما في "تاريخ بغداد" و"الميزان" و"اللسان" (¬1)، وذاك يصدُق بمرة واحدة كما حمله الخطيب وغيره، كما يأتي في ترجمة النجاد من "التنكيل" (¬2) وفيها بَسْط عذر النجاد. وعبارة الأستاذ تفيد بأن ذاك كان من شأن النجاد، تكرر مرارًا! 4 - أحمد بن كامل. قال الأستاذ (ص 43): "فيه يقول الدارقطني .... ربما حدث بما ليس عنده، كما رواه الخطيب". أقول: عبارة الدارقطني كما في "تاريخ بغداد" (¬3) وغيره: " .... بما ليس عنده في كتابه". وهذا القيد "في كتابه" يدفع القدح، فإنه لا يلزم من عدم كون الحديث عند أحمد في كتابه أن لا يكون عنده في حفظه، وتأتي ترجمة أحمد في "التنكيل" (¬4). 5 - عبد الله بن علي المديني. قال الأستاذ (ص 168): "وهو لم يسمع من أبيه على ما يقال". أقول: يريد الأستاذ بهذا قول الدارقطني، وعبارة الدارقطني كما في "تاريخ بغداد" (¬5): "أخذ كتبه وروى أخباره مناولة، قال: وما سمع كثيرًا من أبيه". ¬

_ (¬1) "تاريخ بغداد": (4/ 191)، و"الميزان": (1/ 101)، و"اللسان": (1/ 475). (¬2) (رقم 19). (¬3) (4/ 357). (¬4) (رقم 29). (¬5) (10/ 9).

فقوله: "وما سمع كثيرًا من أبيه" واضح في أنه سمع منه، إلا أنه لم يكثر، وأول عبارته يفيد أن ما لم يسمعه من كتب أبيه وأخباره أخَذَه منه مناولةً، وهي من طرق التلقّي، [ص 46] فعلى هذا تكون روايته عن أبيه متَّصلة صحيحة إن صرَّح بالسماع فسماعٌ، وإلا احتمل أن يكون سماعًا وأن يكون مناولة، والرواية التي ذكرها الخطيب من طريقه - ولأجلها تعرَّض له الأستاذ - قد بيَّن فيها السماع. هذا، والسماعُ أصلُه أن يملي الشيخ بلفظه والتلميذ يسمع، لكن قد يطلق السماع على ما هو أعمّ من ذلك، وهذا هو المتبادر من قولهم: فلان لم يسمع من فلان، فيفهم منه أن روايته عنه منقطعة حتى ولو صرّح بالاتصال يكون كذبًا، وهذا هو مفهوم عبارة الأستاذ؛ لأنه قصد بها الطعن في رواية هذا الرجل التي بيَّن فيها السماع، فانظر تحريفه لعبارة الدارقطني! 6 - محمَّد بن أحمد الحكيمي. قال الأستاذ (ص 114): "قال البرقاني: في حديثه مناكير". أقول: لفظ البرقاني كما في "تاريخ بغداد" (1/ 269) و"لسان الميزان" (5/ 45) (¬1): "ثقة إلا أنه يروي مناكير" وبين العبارتين فرقٌ عظيم فإن "يروي مناكير" يقال في الذي يروي ما سمعه مما فيه نكارة ولا ذنب له في النكارة، بل الحَمْل فيها على مَنْ فوقه، فالمعنى أنه ليس من المبالغين في التنقّي والتوقِّي، الذين لا يحدِّثون مما سمعوا إلا بما لا نكارةَ فيه، ومعلوم أن هذا ليس بجرح. [ص 47] وقولهم: "في حديثه مناكير" كثيرًا ما تُقال فيمن ¬

_ (¬1) (6/ 511).

تكون النكارة من جهته جزمًا أو احتمالًا فلا يكون ثقة. وهذا المعنى هو الذي أراد الأستاذ إفهامه، ولذلك حذف كلمة "ثقة". وقد تعقَّب الخطيبُ كلمةَ البرقاني بقوله: "وقد اختبرتُ أنا حديثه فقلّما رأيت فيه منكرًا". فثبت أن هذا الرجل مع ثقته غير مقصِّر في التنقَّي والتوقِّي، وإنما وقع في روايته مما يُنكر قليل جدًّا. وقال ابن حجر في "لسان الميزان": "ذكرته - يعني زيادة على "الميزان" - لأن المصنف ذكر عثمان بن أحمد الدقاق الصدوق الثقة بسبب كونه يروي المناكير". أقول: لا عذر لابن حجر في هذا. أولاً: لأنه أنكر على الذهبي ذكره لعثمان، كما يأتي في ترجمته من "التنكيل" (¬1). ثانيًا: لأن المناكير في مرويات عثمان كثيرة، والله المستعان. - هـ - [ص 48] ومن فواقره: تقطيعُ نصوص أئمة الجرح والتعديل، يختزل منها القطعة التي توافق غرضَه، وقد يكون فيما يدعه من النصّ ما يبين أن معنى ما يقتطعه غير المتبادر منه عند انفراده، فمن أمثلة ذلك: 1 - القاسم بن أبي صالح. راجع ما تقدم (أ: 2). 2 و3 - جرير بن عبد الحميد وأبو عوانة الوضَّاح. راجع ما تقدم (ب - 1 و2). ¬

_ (¬1) رقم (155).

4 - عبد الله بن علي ابن المديني. راجع ما تقدم (د: 5). 5 - محمَّد بن أحمد الحكيمي. راجع ما تقدم (د: 6). 6 - محمَّد بن يحيى بن أبي عمر. قال الأستاذ (ص 166): "قال عنه أبو حاتم: كان به غفلة، حدّث حديثًا موضوعًا عن ابن عيينة". أقول: عبارة أبي حاتم كما في كتاب ابنه (¬1) و"التهذيب" (¬2) وغيرهما: "كان رجلاً صالحًا وكان به غفلة، رأيت عنده حديثًا موضوعًا قد حدث به عن ابن عيينة، وكان صدوقًا". هذا وابن أبي عمر مكثر جدًّا عن ابن عيينة، فإذا اشتبه عليه حديث واحد لم يضره، ولعل أبا حاتم نبَّهه عليه فترك روايته، وقد يكون أبو حاتم أخطأ في ظنِّ الحديث موضوعًا. وسُئل الإِمام أحمد: عمن نكتب؟ فقال: أما بمكة فابن أبي عمر. وقد أكثر مسلم في "صحيحه" عن ابن أبي عمر، له عنده على ما حكي عن "الزهرة" مائتا حديث وستة عشر حديثًا (¬3). 7 - [ص 49] محبوب بن موسى. قال الأستاذ (ص 17): "يقول عنه أبو داود لا تُقبل حكاياته إلا من كتاب". أقول: عبارة أبي داود كما في "التهذيب" و"الميزان" (¬4): "ثقة، لا يُلتفت إلى حكاياته إلا من كتاب". ويأتي تحقيق حال محبوب في ترجمته من ¬

_ (¬1) "الجرح والتعديل": (8/ 124 - 125). (¬2) (9/ 518 - 520). (¬3) ذكره في "التهذيب" وهو صادر عن "إكمال تهذيب الكمال": (10/ 390) لمغلطاي. (¬4) "التهذيب": (10/ 52 - 54)، و"الميزان": (4/ 362).

"التنكيل" (¬1) إن شاء الله تعالى. 8 - سعيد بن عامر. قال الأستاذ (ص 109): "في حديثه بعض الغلط كما قال ابن أبي حاتم". أقول: عبارة ابن أبي حاتم نقلاً عن أبيه كما في كتابه (¬2) وغيره: "كان رجلاً صالحًا وكان في حديثه بعض الغلط، وهو صدوق" وتأتي ترجمة سعيد في "التنكيل" (¬3). 9 - سليمان بن حسَّان الحلبي. قال الأستاذ (ص 109): "قال أبو حاتم عنه (¬4): سألت ابن أبي غالب عنه فقال: لا أعرفه ولا أرى البغداديين يروون عنه". أقول: تتمة عبارة أبي حاتم كما في كتاب ابنه (¬5) و"تاريخ بغداد" (9/ 21): "وروى عنه من الرازيين أربعة أو خمسة" قال ابن أبي حاتم: "قلت لأبي: ما تقول فيه؟ قال: هو صحيح الحديث". 10 - محمَّد بن العباس أبو عَمرو بن حَيُّويه. راجع ما تقدم (أ: 12) وتأتي ترجمة محمَّد في "التنكيل" (¬6). ¬

_ (¬1) (رقم 184). (¬2) (4/ 48 - 49). (¬3) (رقم 97). (¬4) الأستاذ يأتي بلفظ "قال عنه" بمعنى "قال فيه". [المؤلف]. وقد سبق التنبيه عليها. (¬5) "الجرح والتعديل": (4/ 107). (¬6) (رقم 209).

11 - محمَّد بن عبد الله بن عمَّار الموصلي. قال الأستاذ (ص 133): "قال ابن عدي: رأيت أبا يعلى يسيء القولَ فيه، ويقول: شهد على خالي بالزور. وله عن أهل الموصل أفراد وغرائب اهـ. وأبو يعلى من أعرف الناس به، وكلامُه فيه قاضٍ على كلام الآخرين". أقول: آخر ما حكاه ابن عدي عن أبي يعلى قوله: "بالزور" (¬1)، وعقب ذلك كما في "التهذيب" (¬2): [ص 50] قال ابن عدي: وابن عمار ثقة (¬3) حسن الحديث عن أهل الموصل؛ معافى بن عمران وغيره، وعنده عنهم أفراد وغرائب، وقد شهد أحمد بن حنبل أنه رآه عند يحيى القطان، ولم أر أحدًا من مشايخنا يذكره بغير الجميل، وهو عندهم ثقة". فحذف الأستاذ توثيق ابن عدي وجميع مشايخه لابن عمار، وحذف الدليلَ على أن المرادَ بالأفراد والغرائب: الأفرادُ والغرائب الصحيحة التي يُمْدَح صاحبها لدلالتها على إكثاره وعنايته ومهارته في الفن، كما تقدم شيء من ذلك (ب/ 5). وحَذَف الدليلَ على أن أبا يعلى كان عنده نُفْرة عن ابن عمار توجب أن لا يُعْتَدّ بكلامه المذكور فيه، كما يأتي إيضاح ذلك في ترجمة ابن عمار من "التنكيل". والأستاذ يتشبَّث بهذه القاعدة ويتوسّع فيها جدًّا، فيردّ كثيرًا من الروايات المحقّقة والجرحَ المفسَّر المحقَّق بدعوى انحراف الراوي أو الجارح عن المجروح، وإن كان الراوي أو الجارح جماعةً من الأئمة، ولم ¬

_ (¬1) "الكامل في الضعفاء": (6/ 272). (¬2) (9/ 266)، و"تهذيب الكمال": (6/ 377). (¬3) تحرفت في "الكامل" إلى: "هو".

يثبت ما يعارض قولهم، بل مع ثبوت ما يوافق قولهم عمن كان موافقًا للمجروح مائلًا إليه، كما يأتي بعض ذلك في ترجمة أحمد بن محمَّد بن الصلت بن المغلس من "التنكيل" (¬1). ثم يناقض الأستاذ ذلك ها هنا فيزعم أن تلك الكلمة المحتملة الصادرة من أبي يعلى - مع تبيّن نفرته عن ابن عمار - يردّ بها توثيق الجمهور لابن عمار. وسيأتي في القسم الأول من "التنكيل" (¬2) تحقيق هذه. القاعدة، وفي القسم الثاني ترجمة ابن عمار وبيان إمامته وجلالته. 12 - [ص 51] محمَّد بن فُضَيل بن غزوان. قال الأستاذ (ص 39) في الكلام في القاسم التمار: "وقال ابن سعد عن (¬3) محمَّد بن فُضيل الراوي عنه: بعضهم لا يحتج به". أقول: عبارة ابن سعد كما في "طبقاته" (¬4) و"التهذيب" (¬5) وغيرها: "كان ثقة صدوقًا كثير الحديث متشيّعًا، وبعضهم لا يحتج به". فحذف الأستاذُ التوثيقَ الصريحَ، والدليلَ على أن عدم احتجاج بعضهم بابن فضيل إنما هو لتشيُّعه، وقد وثقه ابن معين ويعقوب بن سفيان والعجليّ وغيرهم، ولم يطعن أحد في روايته، وقال ابن شاهين: "قال علي ابن ¬

_ (¬1) (رقم 34). (¬2) (1/ 88 - 99)، وترجمة ابن عمار رقم (214). (¬3) بمعنى في. [المؤلف]. (¬4) (5/ 511). (¬5) (9/ 407).

المديني: كان ثقة ثبتًا في الحديث"، وقال الدارقطني: "كان ثبتًا في الحديث إلا أنه كان منحرفًا عن عثمان". وقد جاء ما يَدْفَعْ هذا (¬1). قال أبو هشام الرفاعي: "سمعت ابن فضيل يقول: رحم الله عثمان ولا رحم من لا يترحَّم عليه". وذكر ابن حجر في "مقدمة الفتح" (¬2) كلام ابن سعد ثم قال: "قلت: إنما توقَّف فيه من توقف لتشيُّعه". ثم ذكر كلام أبي هشام ثم قال: "احتجَّ به الجماعة". يعني الشيخين في "صحيحهما" وبقية الستة، ولا أدري من هو الذي لم يحتج بابن فضيل أو توقف فيه؟ ولعل المراد بذلك بعض المتشدِّدين في السنة لم يرو عن ابن فضيل لأنه يراه متشيِّعًا، ويرى في الرواية عنه ترويجًا للتشيع فتوقف لذلك، لا لأنَّ ابن فضيل ليس بحجة. ويأتي في القسم الأول من "التنكيل" (¬3) تحقيق حكم رواية المبتدع بما يُعْلَم منه أن مثل ابنَ فُضيل حجة على الإطلاق. [ص 52]- و- ومن عواقره: أنه يعمد إلى جرح لم يثبت فيحكيه بصيغة الجزم محتجًّا به، فمن أمثلة ذلك: 1 - الحسن بن الربيع. قال الأستاذ (ص 151): "يقول فيه ابن معين لو كان يتقي الله لم يكن يحدِّث ¬

_ (¬1) أعني انحرافه عن عثمان. [المؤلف]. (¬2) (ص 441). (¬3) (1/ 72 - 87).

بالمغازي، ما كان يُحْسِن يقرؤها". أقول: هذا الكلام إنما رواه بكر بن سهل الدمياطي عن عبد الخالق بن منصور عن ابن معين، وبكر بن سهل لم يوثقه أحد، بل ضعفه النسائي، ورماه الذهبي في "الميزان" (¬1) بالوضع. 2 - ثعلبة بن سُهيل القاضي. قال الأستاذ (ص 110): "ضعيف". أقول: هذا يصلح أن يُعدّ من أمثلة الفرع الثامن (خ) لكن أظن الأستاذ اعتمد على ما حكاه أبو الفتح محمَّد بن الحسين الأزدي عن ابن معين أنه قال في ثعلبة: "ليس بشيء". وهذه حكاية منقطعة كما قاله الذهبي في "الميزان" (¬2) , لأن بين الأزدي وابن معين مَفازَة، ومع ذلك فالأزدي نفسه مُتَّهم، له ترجمة في "تاريخ بغداد" و"الميزان" و"اللسان" (¬3). ثم لو فُرِض صحة تلك الكلمة عن ابن معين، فابن معين مما يطلق "ليس بشيء" لا يريد بها الجرح وإنما يريد أن الرجل قليل الحديث. وقد ذكر الأستاذ ذلك ¬

_ (¬1) (1/ 346). لكن ليس فيه رميه بالوضع، ولفظه هناك: "حَمَل الناسُ عنه، وهو مقارب الحال" وذكر تضعيف النسائي. فلعل نسخة المؤلف كان فيها "حمل الناس عليه" أو توهّم المؤلف قراءتها كذلك. والله أعلم. وبنحوه قال في "المغني" (1/ 113)، و"السير": (13/ 427). (¬2) (1/ 371). (¬3) انظر "اللسان" (5 رقم 464 و465) فإنهما ترجمة واحدة. وقوله في سطر 15: "فإما" إلى قوله في سطر 18: "انتهى" كلام معترض. [المؤلف]. وانظر "تاريخ بغداد": (2/ 243)، و"الميزان": (4/ 443)، و"اللسان": (7/ 90).

(ص 129) ويأتي تحقيق ذلك في ترجمة ثعلبة من "التنكيل" (¬1) وحاصله: أن ابن معين قد يقول "ليس بشيء" على معنى قلّة الحديث فلا تكون جرحًا، وقد يقول لها على وجه الجرح - كما يقول لها غيره - فتكون جرحًا، [ص 53] فإذا وجدنا الراوي الذي قال فيه ابن معين: "ليس بشيء" قليلَ الحديث وقد وُثِّق، وجب حَمْل كلمة ابن معين على معنى قلة الحديث لا الجرح، وإلا فالظاهر أنها جرح. فلما نظرنا في حال ثعلبة، وجدناه قليلَ الحديث، ووجدنا ابن معين نفسه قد ثبت عنه أنه قال في ثعلبة: "لا بأس به". وقال مرة: "ثقة"، كما في "التهذيب" (¬2). وممن قال ابنُ معين فيه: "ليس بشيء" أبو العطوف الجرّاح بن المنهال، فنظرنا في حاله، فإذا له أحاديث غير قليلة ولم يوثّقه أحد بل جرَّحوه، قال ابن المديني: "لا يُكتب حديثه"، وقال البخاري ومسلم: "منكر الحديث"، وقال النسائي والدارقطني: "متروك"، وقال أبو حاتم والدولابي الحنفي: "متروك الحديث ذاهب لا يكتب حديثه"، وقال النسائي في "التمييز": "ليس بثقة ولا يكتب حديثه" وذكره البرقي فيمن اتُّهِمَ بالكذب، وقال ابن حبان: "كان يكذب في الحديث ويشرب الخمر .... ". والكلام فيه أكثر من هذا (¬3). فعرفنا أن قول ابن معين فيه: "ليس بشيء" أراد بها الجرح كما هو المعروف عند غيره في معناها. فتدبَّر ما تقدم، ثم انظر حال الأستاذ إذ يبني على حكاية الأزدي عن ابن ¬

_ (¬1) (رقم 61). (¬2) (2/ 23). (¬3) انظر "الميزان": (1/ 390)، و"اللسان": (2/ 246).

معين أنه قال في ثعلبة: "ليس بشيء" ويعلم حال الأزدي، وأنه كان بعد ابن معين بمدّة، ويعرف أن ابن معين قد يطلق تلك الكلمة لا على سبيل الجرح، وأنّ الحجةَ قائمةٌ على أن هذا من ذاك، ومع ذلك كله يقول الأستاذ في ثعلبة: "ضعيف". وفي أبي العطوف يرى [ص 54] الأستاذ جرح الأئمة له وأن له أحاديث غير قليلة، وأن ذلك مبيّن أن قول ابن معين فيه: "ليس بشيء" إنما أراد بها الجرح، ولكن الأستاذ يقول (ص 129): "وقال ابن معين: ليس بشيء، وهو كثيرًا ما يقول هذا فيمن قلَّ حديثه"! وعذر الأستاذ أنه بحاجة إلى ردّ رواية رواها ثعلبة وإلى تقوية أبي العطوف، هكذا تكون الأمانة عند الأستاذ! 3 - عبد الله بن جعفر بن دُرُستويه. قال الأستاذ (ص 39): "كان يحدَّث عمن لم يدركه لأجل دُريهمات يأخذها، فادْفَع إليه درهمًا يصطنع لك ما شئت من الأكاذيب". ذكر الأستاذ هذه التهمة في عدة مواضع كلّها بالجزم، بل نبز هذا العالم الفاضل الذي لا ذنب له إلا أنه روى كتابًا مشهورًا وهو "تاريخ يعقوب بن سفيان"، وقد ثبت سماعه له، حتى إن الذي كان أنكر عليه رجع أخيرًا فقصَدَه فسمع منه، كما في ترجمته من "تاريخ بغداد" (¬1)، نبزه الأستاذ بلقب "الدراهمي" مع أنه لا مستند للأستاذ في ذلك، إلا ما حكاه الخطيب عن هبة الله الطبري أنه ذكر ابن درستويه وضعَّفه وقال: "بلغني أنه قيل له: حَدِّث عن عباس الدوري حديثًا ونحن نعطيك درهمًا، ففعل، ولم يكن سمع من عباس". ¬

_ (¬1) (9/ 428).

ولا يخفى على عالم أن هذه الحكاية لا يصح الاستناد إليها لجهالة المبلِّغ للطبري، والأستاذ مِن أعْلَم الناس بهذا، بل يجاوزه كثيرًا فيقول رادًّا لروايات الثقات الأثبات عمن يصرِّحون باسمه وقد ثبتت صحبتهم له وهم مع ذلك أبرياء من التدليس فيقول الأستاذ: "اللفظ لفظ انقطاع" حتى أحوجني ذلك إلى أن بينت في القسم الأول من "التنكيل" (¬1) شرح قاعدة [ص 55] الاتصال والانقطاع، وتحقيق الحكم فيما يشتبه منها، ومع هذا فقد قال الخطيب: "هذه الحكاية باطلة .... ". هكذا تكون الأمانة عند الأستاذ! ويأتي بقية الكلام في ترجمة عبد الله بن جعفر من "التنكيل" (¬2). 4 - الأصمعي عبد الملك بن قُرَيب. قال الأستاذ (ص 54): "كذَّبه أبو زيد الأنصاري". أقول: حاكي ذلك عن أبي زيد هو أحمد بن عبيد بن ناصح، وهو مطعون فيه، وفي "الميزان" (¬3) في ترجمة الأصمعي: "أحمد بن عبيد ليس بعمدة". ونقل الأستاذُ نفسُه هذا (ص 42) حين احتاج إلى ردّ رواية لأحمد بن عبيد. قال الأستاذ: "فلم يكن بعمدة كما ذكره الذهبي في ترجمة عبد الملك الأصمعي من الميزان". يجزم الأستاذ هنا بأنه ليس بعمدة، ثم يعتمده فيقول في الأصمعي: "كَذَّبه أبو زيد الأنصاري". هكذا تكون الأمانة عند الأستاذ! ¬

_ (¬1) (1/ 135 - 144). (¬2) (رقم 119). (¬3) (3/ 376).

5 - جرير بن عبد الحميد. قال الأستاذ (ص 110): "تفرَّد برواية حديث الأخرس الموضوع". أقول: مستند الأستاذ حكاية سليمان الشاذكوني، والشاذكوني هالك. ويأتي شرح الحال في ترجمة جرير من "التنكيل" (¬1). 6 - سُلَيم بن عيسى القارئ. قال الأستاذ (ص 60): "كان ضعيفًا في الحديث .... وقد روى عن الثوري خبرًا منكرًا، ساقه العقيلي". أقول: لا مستند للأستاذ في قوله: "كان ضعيفًا في الحديث" إلا ذِكْر العُقيليَّ - ومَن تَبِعه - سليمَ بن عيسى في كتب الضعفاء (¬2)، مع رواية ذاك الحديث من طريق سُليم بن عيسى. [ص 56] فأما ذِكْر الراوي في بعض كتب الضعفاء فلا يضره ما لم يكن فيما ذكر به ما يوجب ضعفه، وذلك أنهم كثيرًا ما يذكرون الرجل لكلامٍ فيه لا يثبت أو لا يقدح أو نحو ذلك. وأما ذاك الحديث فرواه العقيلي عن يحيى بن صالح (¬3)، عن أبي صالح كاتب الليث، عن سُليم بن عيسى أبي يحيى، عن سفيان الثوري. ويحيى بن صالح مُتكلَّم فيه، وأبو صالح كاتب الليث ليس بعمدة، تأتي ترجمته في ¬

_ (¬1) (رقم 63). (¬2) انظر "الضعفاء" للعقيلي: (2/ 163)، و"الضعفاء": (2/ 13) لابن الجوزي. (¬3) كذا في الأصل، وصوابه "يحيى بن عثمان بن صالح" كما في "الضعفاء" للعقيلي (2/ 163) و"الميزان": (6/ 70) للذهبي، أو لعل المؤلف نسبه إلى جده، ويأتي قريبًا على الصواب.

"التنكيل" (¬1)، فعلى هذا لا يثبت أن سُليمًا روى ذاك الحديث. ومع هذا فسُليم الذي ذكره العقيلي، وروى عنه ذاك الحديث ليس هو بالقارئ صاحب حمزة الواقع في سند الخطيب، وإيضاحُ ذلك: أن العُقيلي قال: "سُليم بن عيسى، مجهول في النقل، حديثه منكر غير محفوظ. حدثناه يحيى ... " كما مرَّ، فقول العقيلي: "مجهول في النقل حديثه منكر" واضح في أنه عنده غير القارئ، فإن القارئ معروف مشهور، وهذا مجهول لا يعرف إلا بذاك الحديث كما تقتضيه عبارة العقيلي. ويؤكِّد هذا أن الذي ذكره العُقَيلي وروى عنه ذاك الحديث، كنيته "أبو يحيى" كما في السند، هكذا هو في كتاب العقيلي في النسخة المحفوظة بالمكتبة الآصفية في حيدراباد الدكن (¬2)، وهكذا هو في "الميزان" (¬3) وليست هذه كنية القارئ، أما القارئ فقال ابن الجزري في ترجمته من "طبقات القراء" (1/ 318): "كنيته أبو عيسى ويقال: أبو محمد" (¬4). [ص 57] والذهبي وإن بدأ في "الميزان" فزعم أنه القارئ فإنه رجع بعد ذلك ولفظه: "سليم بن عيسى الكوفي القارئ، إمام في القراءة، روى عن الثوري خبرًا منكرًا ساقه العقيلي، ولعل هذا الرجل غير القارئ .... ". فقد اتضح أن سُليم بن عيسى القارئ الواقع في سند الخطيب لا يناله ¬

_ (¬1) (رقم 124). (¬2) قلت: وكذلك هو في النسخة المحفوظة في المكتبة الظاهرية بدمشق. [ن]. وهو كذلك في المطبوعة. (¬3) (6/ 70). (¬4) وذكره بالكنيتين الذهبي في "معرفة القراء": (1/ 157).

اعتبار

وهنٌ ما مما ذكر العقيلي ثم الذهبي؛ لأنه إن لم يكن هو الذي روى العقيلي عن يحيى بن عثمان عن كاتب الليث عنه ذاك الحديث فواضح، وإن كان إياه فلا يثبت عنه رواية ذاك الحديث للكلام في كاتب الليث وفي الراوي عنه. ولنكتف بهذه الأمثلة هنا، ويأتي لها في قسم التراجم من "التنكيل" نظائر منها في ترجمة حمَّاد بن سلمة (¬1)، ومنها في ترجمة محمَّد بن حسين بن حميد بن الربيع (¬2). اعتبار كما رأيت الأستاذ حيث يكون له غرض في الطعن في الراوي، قد يعمد إلى جرحٍ يعلمُ أنه لا يثبت فيجزم به، فكذلك حيث يكون له غرض في تقوية الراوي، قد يعمد إلى ثناء عليه يعلم أنه لا يثبت فيجزم به، كما يأتي في ترجمة أحمد بن محمَّد بن الصلت بن المغلس الحِمَّاني من "التنكيل" (¬3) والله المستعان. - ز - [ص 58] ومن تجاهله ومجازفاته: قوله في المعروف الموثَّق: "مجهول" أو "مجهول الصفة" أو "لم يوثَّق" أو نحو ذلك، فمن الأمثلة: 1 - عبد الله بن محمود. روى الخطيب (13/ 384 [397]) من طريق "عبد الله بن محمود ¬

_ (¬1) (رقم 85). (¬2) (رقم (202). (¬3) (رقم 34).

المروزي قال. سمعت محمَّد بن عبد الله بن قُهْزاذ .. ". فقال الأستاذ (ص 70): "وعبد الله بن محمود مجهول الصفة". أقول: في ترجمة محمَّد بن عبد الله بن قُهْزاذ من "تهذيب التهذيب" (9/ 271): "روى عنه .... وعبد الله بن محمود السعدي". ولعبد الله بن محمود السعدي المروزي ترجمة في كتاب ابن أبي حاتم (¬1) وقال: "كتب إليَّ (¬2) بمسائل ابن المبارك من تأليفه". وله ترجمة في "تذكرة الحفاظ" (2/ 257). قال الذهبي: "الحافظ الثقة محدِّث مرو، أبو عبد الرحمن عبد الله بن محمود بن عبد الله السعدي ... قال الحاكم: ثقة مأمون ... ". 2 - محمد بن مسلمة. روى الخطيب (13/ 395 [415]) من طريق البخاري "حدثنا صاحب لنا [عن حمدويه] (¬3) قال: قلت لمحمد بن مسلمة .. ". فقال الأستاذ (ص 103) في الحاشية: "مجهول، وليس هو بكاتب الحارث بن مسكين فإنه محمَّد بن سلمة .... ". أقول: قد قرأ الأستاذ ترجمته في "الانتقاء" لابن عبد البر الذي بثّ الأستاذُ عقاربَه في تعليقاته عليه (ص 56) (¬4). [ص 59] وفي "تاريخ ¬

_ (¬1) (5/ 183). (¬2) وقع في الأصل و (ط): "إلى أبي" سهو، والمثبت من كتاب ابن أبي حاتم. (¬3) مستدركة من "تاريخ بغداد" وكتاب الكوثري. (¬4) (ص 102 - المحققة).

البخاري": (1/ 1/ 240): "محمَّد بن مسلمة أبو هشام المخزومي المدني .... سمع مالكًا .... وقيل لمحمد بن مسلمة: ما لرأي فلان ... " فذكر الحكاية التي ذكرها الخطيب. وقال ابن حبان في "الثقات" (¬1): "محمَّد بن مسلمة بن هشام بن إسماعيل أبو هشام المخزومي ... يروي عنه هارون بن عبد الله الحمَّال والناس، وكان ممن يتفقَّه على مذهب مالك ويفرّع على أصوله، ممن صنف وجمع". وذكره ابن أبي حاتم في كتابه (¬2) وقال: " .... روى عنه عبد الرحمن بن عبد الملك بن شيبة وأبي .... سألت أبي عنه فقال: كان أحد فقهاء المدينة من أصحاب مالك، وكان من أفقههم، ... سئل أبي عنه فقال: مديني ثقة". وفي "الديباج المذهب" (ص 227): "محمَّد بن مسلمة .. روى محمدٌ هذا عن مالك وتفقَّه عنده، وكان أحد فقهاء المدينة من أصحاب مالك وكان أفقههم، وهو ثقة، وله كتب فقه أُخِذَت عنه، وهو ثقة مأمون حجة، جمع العلم والورع، توفي سنة 206". ويبعد جدًّا أن يكون هذا كلُّه خفي على الأستاذ مع ما عرفناه منه من النشاط في التفتيش عن التراجم، بل في سياق كلامه ما يُشْعِر بأنه عرف هذا الرجل، فإنه قال (ص 104): "ونهمس في أذن هذا المتعصّب الهاذي: إن كنت ... فما رأيك في مذهب إمامك ... " يعني مالكًا، والله المستعان. ¬

_ (¬1) (9/ 55). (¬2) (8/ 71).

[ص 60] 3 - طاهر بن محمَّد. ذكر الخطيب (13/ 373 [378]) حكاية من طريق "طاهر بن محمَّد ثنا وكيع ... ". فقال الأستاذ (ص 43): "طاهر بن أحمد مجهول". أقول: بل معروف موثَّق، هو طاهر بن أبي أحمد محمَّد بن عبد الله الزُّبَيري، ذكره المِزّي في "تهذيبه" (¬1) في الرواة عن وكيع، وذكره ابن أبي حاتم في كتابه (¬2) وقال: "روى عنه محمَّد بن عبد الله الحضرمي وموسى بن إسحاق القاضي"، وذكره ابن حبان في "الثقات" (¬3) وقال: "يروي عن وكيع وأبي أسامة، حدثنا عنه محمَّد بن إدريس الشامي، مستقيم الحديث". وهذا من توثيق ابن حبان الذي لا مَغْمَز فيه، كما يأتي شرحه في ترجمة ابن حبان من "التنكيل" (¬4). 4 - إسماعيل بن حمدويه. ذكر الخطيب (13/ 414 [442]) أثرًا من طريق "سلامة بن محمود القيسي: حدثنا إسماعيل بن حمدويه البيكندي، قال: سمعت الحميدي ... ". فقال الأستاذ (ص 150): "إسماعيل بن حمدويه مجهول". ¬

_ (¬1) (7/ 462). (¬2) (4/ 499). (¬3) (8/ 328). (¬4) (رقم 200).

أقول: ذكره ابن حبان في "الثقات" (¬1) - ووقع في النسخة "السكندري" (¬2) - وقال: "يروي عن أبي نُعيم وأبي الوليد وأهل البصرة، حدثنا عنه محمَّد بن المنذر شَكَّر (¬3)، كان مقيمًا بالرملة زمانًا، وكتب عنه شَكَّر". أقول: فقد عَرَفه ابنُ حبان وعرفَ حديثَه. وتوثيقُه لمن عرفه وعرف حديثَه مقبولٌ، كتوثيق غيره من الأئمة، ويأتي شرح ذلك في ترجمة ابن حبان من "التنكيل" (¬4). [ص 61] 5 - عبد الرحمن بن داود بن منصور. ذكر الأستاذ (ص 184) روايةً لأبي نعيم الأصبهاني، عن أبي الشيخ، عن عبد الرحمن بن داود بن منصور. فقال الأستاذ: "عبد الرحمن بن داود مجهول". أقول: ذكره أبو الشيخ، وأبو نعيم أنفسُهما في كتابيهما، فقال أبو الشيخ (¬5): "عنده حديث الشام ومصر، أكثر الناس حديثًا عنهم، كان من الفقهاء، صاحب أصول ثقة مأمون". وذكر أبو نعيم في "تاريخ أصبهان" (¬6) نحو ذلك. ¬

_ (¬1) (8/ 105). (¬2) ثم رأيته في نسخة أخرى جيدة (البيكندي). [المؤلف]. وهو كذلك في المطبوعة. (¬3) كذا في الأصل، وفي مطبوعة الثقات: " ... بن المنذر [بن] سعيد ... ". (¬4) (رقم 200). (¬5) "طبقات المحدثين بأصبهان": (4/ 96). (¬6) (2/ 78).

وهذان الكتابان قد وقف عليهما الأستاذ، فإنه قال (ص 59) عند ذكر عمر بن قيس الماصر: "له ولذويه ذكر واسع في "تاريخ أصبهان" لأبي الشيخ"، وقال (ص 151) في أحمد بن عبد الله الأصبهاني: المترجم في "تاريخ أصبهان" لأبي نعيم". وفي كلا النقلين نظر، لكن المقصود هنا بيان وقوف الأستاذ على الكتابين، وقد دلَّ على ذلك كلامه في سالم (¬1) بن عصام كما مرّ (ب/ 5)، ولا يخفى على الأستاذ أن عبد الرحمن هذا أصبهاني، فالظن به أنه راجع ترجمته في الكتابين المذكورين. 6 - أحمد بن الفضل بن خزيمة. قال الأستاذ (ص 111): "لم يوثَّق". أقول: هو أحمد بن الفضل بن العباس بن خزيمة، ترجمته في "تاريخ بغداد" (4/ 347) وفيها: "وكان ثقة". 7 - جعفر بن محمَّد الصندلي. قال الأستاذ (ص 141): " [الذي] (¬2) أثنى ابنُ حَيُّويه عليه وحده لا يكون إلا من هذا الصنف". أقول: ابن حَيّويه هو محمَّد بن العباس أبو عمر بن حيويه الخزَّاز، [ص 62] ستأتي ترجمته في "التنكيل" (¬3)، وهو أحد الثقات الأثبات العارفين، ومع ذلك ففي ترجمة جعفر هذا من "تاريخ بغداد" ¬

_ (¬1) كذا وقد تقدم (ص 37) أن الصواب "سَلْم". (¬2) من كتاب الكوثري يستقيم بها السياق. (¬3) (رقم 209).

اعتبار

[(7/ 221)] (¬1): "وكان ثقة صالحًا ديّنًا، سكن باب الشعير. أخبرنا أحمد بن أبي جعفر، حدثنا يوسف بن عمر القوَّاس، حدثنا أبو الفضل جعفر بن محمَّد الصندلي الأطروش سنة سبع عشرة وثلاثمائة ومات فيها، وكان يقال: إنه من الأبدال". ثم ذكر الخطيب أن الصحيح أنه مات سنة 318، وقال ابن الجوزي في "المنتظم" (6/ 234) في ترجمة جعفر هذا: "وكان ثقة صالحًا دينًا ... ، وكان يقال: إنه من الأبدال". اعتبار كما أن الأستاذ يتجاهل المعروفين الثقات حين يكون هواه ردّ روايتهم، فكذلك يتعارف المجاهيل ويحتجّ بروايتهم إذا كانت روايتهم توافق هواه، وسيأتي في "التنكيل" أمثلة لذلك. ومنها: في ترجمة أحمد بن عبد الله الأصبهاني، ذكر الخطيب (¬2) أثرًا من طريق علي بن حَمْشاذ عنه واستنكره، فقال الأستاذ (ص 151) "سعى الخطيب ... بأن يقول: إن أحمد بن عبد الله الأصفهاني مجهول، كيف وهو من ثقات شيوخ ابن حمشاذ، مترجَم في "تاريخ أصفهان" لأبي نعيم". كذا قال، وقد فتّشتُ "تاريخ أبي نعيم" فوجدت فيه ممن يقال له "أحمد بن عبد الله" جماعة ليس في ترجمة واحد منهم ما يشعر بأنه هذا، وفوق ذلك فجميعهم غير موثَّقين (¬3). ¬

_ (¬1) بيَّض المؤلف للجزء والصفحة فاستدركتها. (¬2) "التاريخ": (3/ 439). (¬3) وادّعى الأستاذ أن عليَّ بن حمشاذ لا يروي إلا عن الثقات, فبينت هناك كذب هذه =

ومنها: في ترجمة أحمد بن محمَّد بن الصلت بن المغلّس [ص 63] الحِمَّاني، ذَكَر الخطيب (¬1) بسنده حكاية عن ابن أبي خيثمة، وردَّها بنكارتها وبأنّ في السند مجاهيل. فاحتجَّ الأستاذ بتلك الحكاية جازمًا بها، ودفع كلام الخطيب بقوله: "وهذا مما يغيظ الخطيب جدًّا، ويحمله على ركوب كل مركب للتخلص منه بدون جدوى". كذا قال، ثم لم يبيَّن ما يعرِّف به أولئك الذين جَهَّلهم الخطيب (¬2). ومنها: في ترجمة الإِمام الشافعي فيما يتعلق بكتاب "التعليم" المنسوب لمسعود بن شيبة، هذا الكتيّب فيه جهالات في الطعن في مالك والشافعي، وذكر ابن حجر في "لسان الميزان" (¬3) مسعودَ بن شيبة وقال: "مجهول لا يُعرف عمن أخذ العلم ولا من أخذ عنه، له مختصر سماه "التعليم" ... ". فزعم الأستاذ في حاشية (ص 3) "أنه معروف عند الحافظ عبد القادر القرشي و ... وغيرهم، فنعُدّ صنيع ابن حجر هذا من تجاهلاته المعروفة لحاجة في النفس، وقانا الله اتباع الهوى". كذا قال! والقرشيُّ وغيره لم يُعَرِّفوا من حال مسعود بن شيبة إلا بما أخذوه من كتاب "التعليم" نفسِه، وليس في ذلك ما يدل أنهم عرفوه المعرفةَ التي تنافي الجهالة، والواقع أن كتاب "التعليم" ألَّفه حنفيّ مجهول متعصِّب، ¬

_ = الدعوى، وسقت عدة من الروايات التي فيها رواية علي بن حمشاذ عن الضعفاء والمتهمين. [المؤلف]. (¬1) "التاريخ": (4/ 209). (¬2) وقد عرف غيرُه بعضَهم بالضعف الشديد، كما ستراه في "التنكيل". [المؤلف]. (¬3) (8/ 46).

وكتب على ظاهره ذاك الاسم المستعار "مسعود بن شيبة" (¬1)، ولكن الأستاذ مع معرفته بالحقيقة يَلْدَغ ويَصئي (¬2) ويرمي الأئمة بدائه، ثم يقول: "وقانا الله اتباع الهوى"! [ص 64] ومما يدخل في هذا الضرب: قول الكوثري (ص 16) عند نقله ما ذكره الخطيب في موضع قبر أبي حنيفة: "كان من المناسب أن يذكر الخطيب هنا ما ذكره في (1/ 123) من تبرُّك الشافعي بأبي حنيفة حيث قال: أخبرنا القاضي أبو عبد الله الحسين بن علي الصيمري قال: أنبأنا عمر بن إبراهيم المقرئ قال: أنبأنا مكرم بن أحمد قال: أنبأنا عمر بن إسحاق بن إبراهيم قال: أنبأنا علي بن ميمون قال: سمعت الشافعي يقول: إني لأتبرَّك بأبي حنيفة وأجيء إلى قبره في كل يوم - يعني زائرًا - فإذا عَرَضت لي حاجة صليت ركعتين وجئت إلى قبره وسألت الله تعالى الحاجة عنده فما تبعد عني حتى تُقْضى اهـ. ورجال هذا السند كلهم موثقون عند الخطيب". أقول: أما الصَّيمري وشيخه فموثَّقان عند الخطيب - أي في "تاريخه" كما هو الظاهر - ومع ذلك فالظاهر أن هذه الحكاية من كتاب "مناقب أبي حنيفة" الذي جمعه مُكْرَم بن أحمد، وكان كتابًا معروفًا، ولعله كان عند الخطيب نسخة منه، وكان سماعه له من الصيمري، ومعظم الاعتماد في مثل هذا على صحة النسخة، ولم يكن الخطيب ليعتمد عليها إلا وهي صحيحة، ¬

_ (¬1) تكلم المؤلف على "مسعود بن شيبة" في "التنكيل": (رقم 189) في ترجمة الشافعي بما يشفي، وفي رسالة "تنزيه الإِمام الشافعي عن مطاعن الكوثري". (¬2) "يلدغُ ويصئي" مَثَل يُضرب لمن يبتدئ بالأذى ثم يشكو. انظر "المثل السائر" (2/ 345)، و"اللسان": (14/ 449 صأي). ووقع رسمها في الأصل: "ويصيء" وفي (ط): "ويصئ".

فالصيمري وشيخه من الوسائط السَّنَدية - فلا يضر تلك الرواية أن يكون فيهما أو في أحدهما كلام - على أنه لا كلام فيهما فيما أعلم. وأما مُكْرَم فقد قال الخطيب في ترجمته (¬1): [ص 65] "وكان ثقة"، ولم أر ما يخالف ذلك سوى ما ذكره الخطيب (4/ 209) في ترجمة أحمد بن محمَّد بن الصلت بن المغلِّس الحِمَّاني قال: "حدثني أبو القاسم الأزهري قال: سئل أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني وأنا أسمع عن جَمْع مُكْرَم بن أحمد "فضائل أبي حنيفة"؟ فقال: موضوع، كله كذب، وضَعَه أحمد بن المغلّس الحِمّاني .... ". فهذه العبارة تحتمل أوجهًا: الأول: أن يكون الدارقطني تجوَّز في قوله: "كله" وإنما أراد أن الموضوع بعض ما تضمّنه ذاك المجموع، وهو ما فيه رواية عن أحمد بن محمَّد بن الصلت بن المغلس. الثاني: أن تكون عبارة الدارقطني على ظاهرها، ويكون ما في ذلك المجموع من غير الحِمَّاني أصله من وَضْع الحِمَّاني، ولكن كان لمُكْرَم إجازات من أولئك الشيوخ، فأسقط اسم الحمّاني من تلك الروايات ورواها عن أولئك المشايخ بحق الإجازة، كما قيل: إن الحافظ أبا نعيم الأصبهاني ربما صنع مثل ذلك كما يأتي في ترجمته من "التنكيل" (¬2). الثالث: أن يكون مُكْرَم واطأ الحِمَّاني، فوضع له الحماني تلك ¬

_ (¬1) "تاريخ بغداد": (13/ 221). (¬2) (رقم 21).

الحكايات عن الشيوخ الذين أدركهم مُكرم، فرواها مُكرمٌ عنهم. وهذا الوجه الثالث هو الموافق لظاهر سؤال الأزهري للدارقطني وجواب الدارقطني، لكن يدفعه توثيق الخطيب لمُكْرم، وأنه لم يذكره أحد في "الضعفاء"، والوجه الثاني أيضًا موافق لظاهر سؤال الأزهري وجواب الدارقطني، وهو أدنى أن [ص 66] لا يدفعه ما يدفع الثالث. وعلى كلّ حال فلم ينحلّ الإشكال، فدعه وافرض أن الراجح هو الوجه الأول، وأن هذه الرواية صحيحة عن عمر بن إسحاق بن إبراهيم، فمن عمر هذا؟ ومن شيخه؟ أموثَّقان هما عند الخطيب كما زعم الأستاذ؟ أما أنا فقد فتشت "تاريخ بغداد" فلم أجدهما فيه، لا موثَّقَين ولا غير موثَّقَين، بل ولا وجدتهما في غيره، نعم في غيره علي بن ميمون الرّقِّي يروي عن بعض مشايخ الشافعي ونحوهم، وهو موثَّق، لكن لا تُعرف له رواية عن الشافعي، وقد راجعت "توالي التأسيس" (¬1) لابن حجر لأنه حاول فيها استيعاب الرواة عن الشافعي، فلم أجد فيهم علي بن ميمون لا الرّقَّي ولا غيره، انظر "توالي التأسيس" (ص 81). هذا حال السند، ولا يخفى على ذي معرفة أنه لا يثبت بمثله شيء، ويؤكِّد ذلك حالُ القصة، فإن زيارته قبر أبي حنيفة كلَّ يومٍ بعيدٌ في العادة، وتحرِّيه قصده للدعاء عنده بعيد أيضًا، إنما يُعْرَف تحري القبور لسؤال الحوائج عندها (¬2) بعد عصر الشافعي بمدة، فأما تحري الصلاة عنده فأبعد وأبعد. ¬

_ (¬1) كذا وصواب اسمه "توالي التأنيس" بالنون. (¬2) الأصل: "عندنا". وفي (ط 2) على الصواب.

والمقصود إنما هو المقابلة بين قول الأستاذ: "ورجال هذا السند كلهم موثقون عند الخطيب" مع الأمثلة السابقة، وبين الأمثلة المتقدمة في الفرع (¬1). وبيان أن الأستاذ إن تجاهل المعروفين الموثَّقين من رواة ما يخالف هواه، فإنه يتعارف المجهولين من رواة ما يوافقه، والله المستعان. [ص 67]- ح - ومن أعاجيبه: أنه يطلق صِيَغ الجرح مفسَّرة وغير مفسّرة بما لا يوجد في كلام الأئمة، ولا له عليه بيّنة، فمن أمثلة ذلك: 1 - أنس بن مالك صاحب رسول اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم. قال الأستاذ (ص 80): "وأما حديث الرّضْخ فمرويّ عن أنس بطريق هشام بن زيد، وأبي قِلابة عنعنة، وفيه القتل بقول المقتول من غير بيِّنة، وهذا غير معروف في الشرع، وفي رواية قتادة عن أنس إقرار القاتل، لكن عنعنة قتادة متكلَّم فيها، وقد انفرد برواية الرّضْخ أنس رضي الله عنه في عهد هَرَمِه، كانفراده برواية شرب أبوال الإبل في رواية قتادة (زاد في الحاشية - كما في "الكفاية" للخطيب (ص 74) برغم حَمَلات البدر العيني على الإتقاني وصاحب "العناية" في ذلك) وبحكاية معاقبة العُرَنيين تلك العقوبة للحجاج الظالم المشهور، حينما سأله عن أشدّ عقوبة عاقب بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حتى استاء الحسن البصري من ذلك ... ومن رأي أبي حنيفة: أن الصحابة رضي الله عنهم مع كونهم عدولاً ليسوا بمعصومين مِن مثل قِلّة الضبط الناشئة عن الأُمية، أو كبر السنن، فيرجِّح رواية الفقيه منهم على رواية غيره عند التعارض، ورواية غير الهَرِم منهم على رواية الهَرِم ... ". أقول: المقصود هنا ما في هذه العبارة من زعم أن أنسًا رضي الله عنه ¬

_ (¬1) غيرت في (ط) إلى: "النوع".

هَرِم واختلّ ضبطُه! [ص 68] ولا أعرف أحدًا قبل الأستاذ زعم هذا. نعم ذكروا أنه رضي الله عنه لما كبر نسيَ بعضَ حديثه، لكن لا يلزم من النسيان اختلال الضبط؛ فإن الناسي إن نسي الحديث أصلاً لم يحدِّث به البتة، وكيف يحدِّث به وهو ناسٍ له؟ وإن عَرَض له تردُّد في قصة أو في بعضها، فإنه إذا كان ضابطًا لم يحدّث بها، أو يحدِّث بها ويبين التردد والشك، فالضابط هو الذي لا يحدِّث إلا بما يتقنه، فما لم يتقنه لم يحدَّث به أو حدَّث به وبين شكَّه، سواء أكان عدم الإتقان لذاك الحديث من أول مرة عند التلقي أم عارضًا. وزعمه أنه هَرِم غيرُ قويم؛ لأن الهرم أقصى الكبر، ولم يبلغ أنس أقصى الكبر، أما من جهة كبر السنن فقد قيل: إنه لم يجاوز المائة، وقيل: بل جاوزها بثلاث سنين، وغلّطوا من قال: إنه جاوزها بسبع سنين وقد كان في عصره مِنْ قومه وغيرِهم من عاش فوق ذلك، فبلغ حسَّان مائة وعشرين سنة، وكان سُويد بن غَفَلة يؤمُّ الناسَ في قيام رمضان وقد أتى عليه مائة وعشرون سنة، ثم عاش حتى تمّ له مائة وثلاثون سنه، وبلغ أبو رجاء العُطاردي مائة وسبعًا وعشرين سنه، وبلغ أبو عمرو سعد بن إياس الشيباني مائة وعشرين سنة، وبلغ المعرور بن سويد مائة وعشرين سنة، وبلغ زِرُّ بن حُبيش مائة وسبعًا وعشرين سنة، وبلغ أبو عثمان النهدي مائة وثلاثين، وقيل: مائة وأربعين سنة (¬1) وحسَّانٌ صحابي من قوم أنس، والستة ¬

_ (¬1) من قوله: "وبلغ زر ... " إلى هنا من (ط 2) استدركها المؤلف، وقد أمر في "شكر الترحيب" (ص 265) أن تضاف هنا مع تعديل في العبارة. وقد ألَّف في المعمّرين غير واحد منهم: أبو حاتم السجستاني، والذهبي في جزئه "أهل المئة فصاعدًا".

الباقون (¬1) [ص 69] كلهم ثقات أثبات مُجْمع على الاحتجاج بروايتهم مطلقًا، ولم يطعن أحدٌ في أحدٍ منهم بأنه تغيّر بأخرة. وأما من جهة قوة البدن؛ فلم يزل أنس صالحًا حتى مات لم يعرض له وهن شديد. وأما من جهة كمال العقل، وحضور الذهن؛ فلم يزل أنس كامل العقل حاضر الذهن حتى مات. وأحبُّ أن أتتبّع عبارة الأستاذ السابقة ليتضح للقارئ تحقيق الأستاذ وتثبته! أما هشام فهو ابن زيد بن أنس بن مالك، وليس هو بمدلِّس، والراوي عنه شعبة، وهو معروف بالتحفُّظ عن رواية ما يُخْشى فيه التدليس، والحديث في "الصحيحين". وأما أبو قِلابة فهو عبد الله بن زيد الجَرْمي، وقد قال أبو حاتم (¬2): "لا يعرف له تدليس". وسماعه من أنس ثابت كما في حديث العُرَنيين وغيره، فعنعنة هذين محمولة على السماع باتفاق أهل العلم. وقوله: "وفيه القتل بقول المقتول" إنما يكون فيه ذلك لو صرَّح بنفي الاعتراف، ولم يصرَّح به (¬3)، وإذ لم يصرّح به فالواجب في مثل ذلك إذا كان ¬

_ (¬1) الأصل: "وسويد وأبو رجاء وأبو عمرو". وغيَّرها في الطبعة الثانية إلى ما هو مثبت بعد زيادة مَن ذكرهم مِن المعمرين. وأمر بنحو ذلك في "شكر الترحيب" (ص 77). (¬2) "الجرح والتعديل": (5/ 58). (¬3) ولو صرّح به لوجب قبوله إلا أن يتبين أنه منسوخ، هذا بالنسبة للأخذ بقول المقتول. فأما الحكم الذي الكلام فيه، وهو وجوب القَوَد على القاتل عمدًا بمثقّل يَقْتُل مثلُه، فالحديث حجة فيه على كل حال. [المؤلف].

الظاهر باطلاً أن يبني على أنه وقع الاعتراف، وهذا كما في دلالة الاقتضاء المشروحة في أصول الفقه، وهي أنه إذا لم يصح المعنى الظاهر عقلاً أو شرعًا وجب إضمار ما يصح به الكلام، ولا يعدّ عدم صحة الظاهر مسوِّغًا لردِّه رأسًا، فكذلك هنا، بل الأمر هنا أوضح، فإنَّ تَرْك الراوي لبعض الجزئيات، مما يرى أنه لا يخفى ثبوتُه على أحد، أسهل من الحذف في التركيب. هذا كلّه على فرض أنه لم ينقل الاعتراف وهو منقول ثابت في رواية قتادة. [ص 70] قوله: "عنعنة قتادة متكلَّم فيها". أقول: دع عنعنتَه وخذ تصريحَه، قال البخاري في "الصحيح" (¬1) في "باب إذا أقرَّ بالقتل مرة قُتِل به": "حدثني إسحاق، أخبرنا حَبَّان، حدثنا همام، حدثنا قتادة، حدثنا أنس بن مالك: أن يهوديًّا رَضَّ رأسَ جاريةٍ بين حجرين ... فجيء باليهودي فاعترف، فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرضَّ رأسه بالحجارة - وقد قال همام: بحجرين". وفي "مسند الإِمام أحمد" (3/ 269) (¬2): حدثنا عفَّان، حدثنا همَّام قال: أنا قتادة أن أنسًا أخبره: " ... فأخذ اليهوديّ فجيء به فاعترف". فهل في هذا عنعنة يا أستاذ؟ (¬3). ¬

_ (¬1) (6884). (¬2) (13840). (¬3) ليس هذا من الزيادة. إنما هو من تبيين المجمل وتعيين المحتمل، ومن يحتج بالمرسل كيف يعقل أن يرد مثل هذا؟! [المؤلف]. أقول: وهذا جواب من المؤلف على ما أورد الكوثري في "الترحيب" كما سيأتي. وانظر ترجمة أنس بن مالك رضي الله عنه في "لتنكيل" (رقم 56).

قوله: "وقد انفرد برواية الرَّضْخ أنسٌ في عهد هَرَمِه". أقول: أما الانفراد فليس بمانع من الاحتجاج عند أهل السنة، بل بإجماع الصحابة والتابعين، بل الأدلة في ذلك أوضح، ولم يشترط التعدّد إلا بعضُ أهل البدع، نعم قد يُتَوقَّف في بعض الأفراد لقيام قرائن تُشْعِر بالغلط، والمرجع في ذلك إلى أئمة الحديث، وليس ههنا قرينة، وأئمة الحديث قد صحَّحوا هذا الحديث كما علمت. وأما قوله: "في عهد هَرَمِه" فقد تقدَّم أنه لم يهرم، وليس هناك دليل أنه لم يحدَّث بهذا الحديث إلا بعد كبره، فالجزم بذلك مجازفة. قوله: "كانفراده برواية شرب أبوال الإبل في رواية قتادة". أقول: في "فتح الباري" (¬1): " ... وروى ابن المنذر عن ابن عباس مرفوعًا: في أبوال الإبل شفاء للذَّرِبَة بطونُهم". والحديثُ في "الصحيحين" (¬2) وغيرهما عن قتادة مصرّحًا في بعض طرقه بالسماع من أنس، ولم ينفرد به قتادة، بل ثبت في "الصحيحين" (¬3) وغيرهما من رواية [ص 71] أبي قِلابة مصرّحًا في بعض طرقه بالسماع من أنس، وثبت في "صحيح مسلم" (¬4) من رواية عبد العزيز بن صُهَيب وحُميد عن أنس. وفي ¬

_ (¬1) (10/ 143). والحديث أخرجه أحمد (2677)، والطبراني في "الكبير" (12/ 238)، والبيهقي في "معرفة السنن": (2/ 235). وفي سنده حَنَش وابن لهيعة، وهما ضعيفان. (¬2) البخاري (1501، 4192، 5686، 5727)، ومسلم (1671/ 14). (¬3) البخاري (4610، 6804، 6899)، ومسلم (1671/ 10). (¬4) (1671).

"تفسير ابن جرير" (6/ 119 - 120) (¬1) بسند صحيح عن سعيد بن جبير ذكر القصة بسياق آخر وفيها: "فاشربوا أبوالهَا وألبانها" (¬2). وما في "الكفاية" (ص 74) حاصله: أن الخطيب عقد بابًا لما استثبتَ فيه الراوي غيرَه وميَّزه، فذكر في جملة الأمثلة عن حُميد عن أنس: " ... فشربتم من ألبانها، قال حميد: وقال قتادة عن أنس: وأبوالها". فمقصود الخطيب أن حميدًا لم يحفظ في الحديث "وأبوالها"، وإنما أخذه من قتادة، فهذا حجة على أن حميدًا ليس في محفوظه عن أنس (وأبوالها)، وليس فيه ما يدلّ أن قتادة تفرّد بها، وقد ثبت من رواية أبي قلابة وعبد العزيز بن صهيب، ثم لو فرض تفرُّد قتادة فقتادة أحفظهم. قوله: "وبحكاية معاقبة العُرَنيين". أقول: كان اجتماع أنس بالحجّاج لما كان الحجاج بالبصرة وذلك سنة 75 (¬3) قبل وفاة أنس ببضع عشرة سنة، وليس في الحديث ما يصلح أن يكون شبهة للحجّاج على ظلمه، ولو كان فيه ذلك فلم يكن الحجاج ليحتاج في ظلمه إلى شُبْهة، ومع هذا فلأنس عُذْر، وهو أنه قد كان حدَّث بالحديث قبل ذلك، فلعله لما سأله الحجَّاج خشي أن يكون قد بلغ الحجّاجَ تحديثه به، فإذا كتمه عند سؤاله إياه اتخذ الحجاجُ ذلك ذريعة إلى إيذاء أنس. ثم أقول: إن كان مقصود الأستاذ أن تحديث أنسٍ للحجاج بتلك القصة ¬

_ (¬1) (8/ 362 - ط. دار هجر) وفيه: "فاشربوا من أبوالها ... ". (¬2) قوله: "وفي تفسير ... وألبانها" استدركها المؤلف في الطبعة الثانية. (¬3) راجع أخبار هذه السنة من التواريخ. [المؤلف].

يدل على اختلال ضبط أنس، فلا يخفي بطلان هذا، [ص 72] وإن كان مقصوده أن ذلك موجب لفسق أنس، فليصرِّحْ به. قوله: "قلة الضبط الناشئة من الأمية أو كبر السن". أقول: أما الأُميّة فليست مما يوجب قلّة الضبط، وإنما غايتها أن يكون في رواية صاحبها كثير من الرواية بالمعنى، وليس ذلك بقادح، ومع ذلك فلم يكن أنسٌ أميًّا، ولا يُخْشى في حديث الرَّضْخ، ولا حديث العرنيين رواية أنس بالمعنى، أما عدم الأمية ففي "الإصابة" (¬1): "قال محمَّد بن عبد الله الأنصاري: حدثنا ابن عَون عن موسى بن أنس: أن أبا بكر لما اسْتُخْلف بعث إلى أنس ليوجِّهه إلى البحرين على السّعاية، فدخل عليه عمر فاستشاره فقال: ابعثه فإنه لبيب كاتب". وأما الرواية بالمعنى فإنما تُخْشى في الأحاديث القولية، والحديثان فعليان. قوله "فيرجح ... ". أقول: الترجيح إنما يكون عند قيام المعارض، ولم يعارض حديثَي أنسٍ - ولا سيما حديث الرضخ - شيءٌ يُعْتَدّ به، وليس مما يوهن الدليل أن يكون بحيث لو عارضه ما هو أرجح منه لقدّم الراجح، فإن هذا الوهن إنما يحصل عند وجود المعارض الأقوى، فإذا لم يكن هناك معارض أقوى لم يكن هناك وهن. هذا، وسيأتي بسط الكلام على حديث الرَّضْخ في الفقهيات من ¬

_ (¬1) (1/ 128).

"التنكيل" (¬1)، وتأتي ترجمة أنس في قسم التراجم هناك (¬2)، والله الموفق. [ص 73] 2 - أبو عوانة الوضَّاح. قال الأستاذ (ص 92): " .... وما رواه في ست سنوات في آخر عمره، لا يعتد به لاختلاطه". أقول: فتشت المظانّ فلم أر أحدًا زعم أن أبا عوانة اختلط، وكأنَّ الأستاذ تشبَّث بما في "تاريخ بغداد" (13/ 465 [494]) " .... محمَّد بن غالب حدثنا أبو سلمة (¬3) قال: قال لي أبو هشام المخزومي: من لم يكتب عن أبي عوانة قبل سنة سبعين ومائة فإنه لم يسمع منه"، ثم عقب ذلك بذكر وفاة أبي عوانة سنة 175، أو سنة 176، وحمل الأستاذ قوله: "فلم يسمع منه" على المجاز، أي فلم يسمع منه سماعًا يُعتدّ به، ثم تخرَّص أن ذلك لأجل اختلاطه. ويدفع هذا: أن مثل أبي عَوانة في إمامته وجلالته، وكثرة حديثه، وكثرة الآخذين عنه لو اختلط لاشتهر ذلك وانتشر، فكيف لو دام ذلك سنوات؟ وقد اعتنى الأئمة بجمع أسماء الذين اختلطوا، فلم يذكروا أبا عَوانة، واعتنى المؤلفون في الضعفاء بذكر الذين اختلطوا، فلم يذكروا أبا عوانة، ومن ذكره منهم لم يذكر أنه اختلط، وإنما ذكر أنه كان إذا حدَّث من حفظه يغلط، ومع ذلك فهذه الرواية لا وجود لها (¬4) في "تهذيب التهذيب" (¬5) مع حرصه على ¬

_ (¬1) (2/ 127 وما بعدها). (¬2) (رقم 56). (¬3) "حدثنا أبو سلمة" استدركها المؤلف في الطبعة الثانية. (¬4) الأصل: "له" سهو، والمثبت من (ط 2). (¬5) (11/ 116 - 120) ترجمة أبي عوانة.

ذِكْر كلّ ما فيه مدح أو قدح، وظهر من ذلك أنها ليست في أصوله (¬1). والذي يظهر أنهم حملوها على أن المقصود بها بيان تاريخ الوفاة (¬2)؛ لأن الخطيب عقَّبَها بما هو صريح في ذلك، فإما أن يكونوا أعرضوا عنها لشذوذها وإجمالها، وإما أن يكون وقع في نسخة "التاريخ" المطبوع سقط والأصل: "قبل سنة (ست و) سبعين"، فرأوا أنها مع إجمالها محتملة للوجهين المصرَّح بهما، فإن كان ولا بدّ فقد يكون المراد بها معنى ما رُوي عن الإِمام أحمد: أن أبا عوانة كان في آخر عمره يقرأ من كتب الناس، يعني اعتمادًا على حفظه، مع قول أحمد: "إذا حدَّث أبو عوانة من كتابه فهو أثبت، وإذا حدّث من غير كتابه ربما وهم"؛ فيكون أبو هشام بالغ في قوله: "فلم يسمع منه". فأما الاختلاط فلا وجه له البتة. [ص 74] 3 - محمَّد بن علي بن الحسن بن شقيق. في "تاريخ بغداد" (13/ 414 [443]) من طريق "أحمد بن محمَّد بن الحسين البلخي يقول: سمعت محمَّد بن علي بن الحسن بن شقيق يقول: سمعت أبي يقول: سمعت عبد الله بن المبارك يقول: لَحَديثٌ واحد من حديث الزهري أحبّ إليّ من جميع كلام أبي حنيفة". فذكر الأستاذ (ص 151) أثرًا قبل هذا، ثم قال: "وفي سند الخبر الذي بعده ¬

_ (¬1) يعني "الكمال" للمقدسي، و"تهذيب الكمال" للمزي، و"إكمال تهذيب الكمال" لمغلطاي. (¬2) هذا هو المتعين ولا حاجة لما بعده فقد صرح الحافظان الجليلان أبو بكر الإسماعيلي وأبو أحمد بن عدي بأن أبا عوانة مات سنة سبعين ومائة، كما في "تاريخ جرجان" ص 438. [المؤلف]. وهذا التعليق مما أضافه المؤلف في الطبعة الثانية.

محمَّد بن شفيق (كذا) وليس بذاك، ومتن الخبر لحديث واحد ... ". فمحمد بن علي بن الحسن بن شقيق وثَّقه النسائي وغيرُه، وقال الحاكم: "كان محدَّث مرو". ولم يغمزه أحد، فأما أبوه فمن جِلّة أصحاب ابن المبارك، احتجَّ به الشيخان في "الصحيحين" وبقية الستة (¬1). 4 - حُسين بن حُرَيث أبو عمَّار المروزي. قال الأستاذ (ص 83) "كثير الإغراب". أقول: لم أجد للأستاذ سَلَفًا في هذا، والحسين بن حريث من شيوخ الشيخين في "الصحيحين"، وأبي داود والترمذي والنسائي في كتبهم، ووثقه النسائي وغيره، ولم يغمزه أحد (¬2). 5 - علي بن محمَّد بن مهران السوّاق. قال الأستاذ (ص 156): "من ضعفاء شيوخ الدارقطني". كذا قال، وهذا الرجل روى عنه الدارقطني، ووثَّقه الخطيب ولم يغمزه أحد، وتأتي ترجمته في "التنكيل" (¬3). 6 - جعفر بن محمَّد بن شاكر. قال الأستاذ (ص 109): "بلغ تسعين [سنة] (¬4) واختلّ ضبطُه". أقول: أما العمر فذكروا أن جعفرًا قارب التسعين، وأما اختلال الضبط ¬

_ (¬1) ترجمته في "تهذيب التهذيب": (9/ 349 - 350). (¬2) ترجمته في "تهذيب التهذيب": (2/ 333 - 334). (¬3) (رقم 167). (¬4) المعكوفان من المؤلف.

فمن مجازفات الأستاذ، قال الخطيب (7/ 176): "كان عابدًا زاهدًا ثقة صادقًا متقنًا ضابطًا". [ص 75] وأسند عن ابن المنادي: "كان ذا فضل وعبادة وزهد، انتفع به خلقٌ كثير في الحديث". وعنه أيضًا: "كان من الصالحين، أكثر الناسُ عنه لثقته وصلاحه، بلغ تسعين سنة غير يسير". وبلوغ التسعين لا يستلزم اختلال الضبط، كما مرّ في ترجمة أنس (¬1)، ويتأكد ذلك في هؤلاء المتأخرين؛ لأن اعتمادهم على أصول مثبتة منقَّحة محفوظة، لا على الحفظ، والله الموفق. فهذه ثمانية من فروع مغالطات الأستاذ ومجازفاته، وبقي بعض أمثلتها، وسترى ذلك في "التنكيل"، وكذلك بقيت فروع أخرى ستراها في "التنكيل " إن شاء الله تعالى. منها: أنه قد يكون في الرجل كلام يسير لا يضر، فيزعمه الأستاذ جرحًا تُردّ به الرواية، كما قال في الحسن بن علي الحُلْواني، والحسن بن أبي بكر، وعثمان بن أحمد بن السماك، ومحمد بن عباس بن حَيّويه (¬2). ومنها: أن الأستاذ قد يحكي كلامًا في الرجل مع أنه لا يضره بالنسبة إلى الموضع الذي يتكلّم عليه، كأن يروي الخطيب عن رجل كلامًا قاله برأيه، فيحكي الأستاذ في ذلك الرجل كلامًا حاصله أنه كان سيء الحفظ، كما قال في إبراهيم بن محمَّد أبي إسحاق الفزاري، ويوسف بن أسباط، وسفيان بن وكيع، وقيس بن الربيع، ومؤمَّل بن إسماعيل، ومحمد بن ¬

_ (¬1) (ص 77). (¬2) انظر تراجمهم في "التنكيل" على التوالي (رقم 77، 73، 155، 209).

ميمون أبي حمزة، ومحمد بن جعفر بن الهيثم (¬1). ومنها: أن الخطيب كثيرًا ما ينقل بعض الروايات عن بعض المصنفات المشهورة، ولكنه على عادة أقرانه لا يصرَّح بالنقل، بل يرويها بسنده الذي سمع به ذاك الكتاب، فيتكلّف الأستاذ الكلام في بعض مَنْ بين الخطيب وبين مؤلِّف الكتاب، مع أن هذا لا يقدح في الرواية، إذ معظم الاعتماد في مثل هذا على صحة النسخة؛ [ص 76] ككلامه في عبد الله بن جعفر بن درستويه، والحسن بن الحسين بن دوما، ومحمد بن أحمد رزق، وأحمد بن كامل (¬2). ومنها: أن الأستاذ يعمد إلى كلامٍ قد ردّه الأئمة، فيتجاهل الأستاذ ردَّهم ويحتج بذلك الكلام، ككلامه في عليّ بن عبد الله بن المديني، وبشر بن السَّرَي، وأحمد بن صالح، ومحمد بن بشَّار، وإسماعيل بن إبراهيم أبي معمر الهذلي، وأبي مُسْهِر عبد الأعلى بن مسهر، وعبد الله بن محمَّد بن أبي الأسود، ومحمد بن عبد الله بن عمّار (¬3). ومنها: أنه يعمد إلى ما يعلم أنه لا يُعدّ جرحًا البتة، فيعتدّ به ويهوَّل، مثل كلامه في عبد الله بن الزّبير الحميدي، والحسن بن أبي بكر بن شاذان، ورجاء بن السندي (¬4). ¬

_ (¬1) انظر "التنكيل" (رقم 8، 268، 100، 182، 253، 236، 198). (¬2) انظر تراجمهم في "التنكيل" (رقم 119، 74، 187، 29). (¬3) انظر "التنكيل" (رقم 163، 58، 20، 195، 47، 137، 128، 214). (¬4) انظر "التنكيل" (رقم 121، 73، 92).

ومنها: أنه يتهم بعض الحفاظ الثقات بتُهَم لا أصل لها، كما قاله في الحميدي، وأحمد بن عليّ الأبّار, إلى غير ذلك (¬1). وسترى إن شاء الله تعالى هذا كلَّه وغيره في "التنكيل". وحسبي الله ونعم الوكيل، وصلى الله على خاتم أنبيائه محمَّد وآله وصحبه. ¬

_ (¬1) انظر "التنكيل" (رقم 121، 27).

تعزيز الطليعة

آثَار الشّيخ العَلّامَة عبَد الرّحمن بن يحيى المعَلِّمِيّ (9) تعزيز الطليعة تأليف الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني 1312 هـ - 1386 هـ تحقيق علي بن محمد العمران وفق المنهج المعتمد من الشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد (رحمه الله تعالى) تمويل مؤسسة سليمان عبد العزيز الراجحي الخيرية دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

[ص 1] بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أنزل الميزان, وأمر بالعدل والإحسان, وزجر عن الجور والعدوان، بالعدل أقام السموات والأرض، وبه شَرَع النهي والأمر، قال - وقوله الحق -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135]. وقال عزَّ وجلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8]. وأشهد ألاَّ إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلَّ على محمَّد وعلى آل محمَّد، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمَّد وعلى آل محمَّد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10]. أما بعد، فهذه رسالة أردفتُ بها رسالتي "طليعة التنكيل" [ص 2] لمَّا وقفتُ على رسالة الأستاذ العلامة محمَّد زاهد الكوثريّ التي سمّاها

"الترحيب بنقد التأنيب"، يردُّ بها على "الطليعة" (¬1). وأسأل الله - تبارك وتعالى - أن يوفقنا جميعًا لما يحبه ويرضاه. ... ¬

_ (¬1) طبعت "الطليعة" بعيدًا عني، وبعد مدة وصلت إليّ منها بضع نسخ مطبوعة، وكنت عند إرسال المسوّدة إلى الناشر أذنت بالتعليق، ويمكن أني أذنتُ بالإصلاح، وكنت أعتقد أن ذلك لن يتعدى زيادة فائدة، أو التنبيه على خطأ، فلما وقفت على المطبوع وجدت خلاف ذلك، رأيت تعليقات وتصرفات في المتن إنما تدور على التشنيع الذي يسوء الموافق من متثبتي أهل العلم، ويعجب المخالف. هذا مع كثرة الأغلاط في الطبع، فكتبتُ إلى الناشر في ذلك على أمل استدراك التنبيه على الأغلاط، وعلى ما يدفع عني تَبِعة ذلك التشنيع، وإلى الآن لم يصلني منه جواب، هذا مع علمي أنه ساءه ذلك التصرف كما ساءني. والكلمة التي طبعت كمقدمة للطليعة إنما هي كلمة كنت كتبتها قبل تلخيص الطليعة بمدة, لما طلب بعض فضلاء الهند أن أشرح له موضوع كتابي، ولا أدري كيف وقعت إلى المعلق أو الطابع، فأدرجها كمقدمة للطليعة، ولم يتنبه لما فيها مما كنت غيرته، كما يدل عليه ما في خطبة "الطليعة"، ومع هذا لم تنجُ تلك الكلمة من التصرف أيضًا. [المؤلف].

الباب الأول: في مطالب متفرقة

الباب الأول: في مطالب متفرقة - 1 - فصل رسالتي "طليعة التنكيل" قدّمتها بين يدي كتابي "التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل"، رددتُ به على الأستاذ أشياء تعرَّض لها في كتابه "تأنيب الخطيب على ما ساقه في ترجمة أبي حنيفة من الأكاذيب". [ص 3] والذي سمّاه "أكاذيب"، ويسميه في كلامه "المثالب" عامته كلمات رُويت عن بعض المتقدمين، يظهر منها غضٌّ من أبي حنيفة، فعَمَد الأستاذ إلى مصحّح "تاريخ الخطيب"، فأنحى عليه، وعلى أبي الفضل بن خيرون - أحد رواة التاريخ عن الخطيب -, فحطَّ عليه، وعلى الخطيب، فحاول إسقاطه، ثم يقتصّ في كلّ إسنادٍ رجالَ الإسناد، فلا يكاد يدع منهم أحدًا إلا تكلّم فيه، ثم يساور قائل الكلمة، ويتعرَّض في الأثناء لمن يعْلَمه أثنى على واحد من أولئك الذين يتكلم فيهم الأستاذ، وربما يتعدَّى إلى غير هؤلاء، كما فعل في كلامه في ابن أبي حاتم صاحب كتاب "الجرح والتعديل"، فعَرَض لحرب الكرماني صاحب الإِمام أحمد بن حنبل بِعِلَّة أن ابن أبي حاتم أخذ عنه في الاعتقاد - زعم الأستاذ -! ولا يكاد يترك من هؤلاء إلا من كان حنفيًّا، فإنه يحاول أن يبرِّئه من تلك الرواية. وأصل المقصود من كتابي "التنكيل" إنما هو تعقُّب كلام الأستاذ في

الرجال، فبينت ثقةَ كثيرٍ ممن حاول جرحهم، وجَرْحَ أفراد حاول توثيقهم، ووافقتُه في مَن رأيت كلامه فيه في محلِّه، ورتبت كتابي كما في الطليعة (ص 10 - 11) (¬1) على أربعة أقسام: الأول: في تحرير القواعد التي خلط فيها الأستاذ، وعامتها في أحكام الجرح والتعديل. الثاني: في التراجم مرتبًا على حروف المعجم، وهذا هو أصل المقصود. الثالث: في الفقهيات، وهذا ليس مما ينكر الأستاذ. الرابع: في الاعتقاديات. والذي دعا إليه: أن الأستاذ طعن في أئمة الحديث بأنهم مُجَسِّمة. فالقسم الأول والرابع متمِّمان للثاني، وأما الثالث فليس مما ينكره الأستاذ، ولم يزل أهل العلم ينظرون فيه، وليس في الحقيقة من موضوع الكتاب، لكن تعرَّض الأستاذ في "التأنيب" لمسائل فقهية أيَّدَ فيها مذهبه، فأحببت أن أنظر فيها. والذي اضطرّني إلى التعقيب: أن السنة النبوية وما تفتقر إليه من معرفة أحوال رواتها، ومعرفة [ص 4] العربية، وآثار الصحابة والتابعين في التفسير، وبيان معاني السنة والأحكام وغيرها، والفقه نفسه = إنما مدارها على النقل، ومدار النقل على أولئك الذين طعن فيهم الأستاذ وأضرابِهم، فالطعن فيهم يؤول إلى الطعن في النقل كلِّه، بل في الدين من أصله. ¬

_ (¬1) (ص 4).

وحسبك أنّ من المقرر عند أهل العلم أنه إذا نُقِل عن جماعة من الصحابة القول بتحريم شيء، ولم ينقل عن أحدٍ منهم أو ممن عاصرهم من علماء التابعين قولٌ بالحلّ عُدّ ذاك الشيء مُجْمَعًا على حُرمته، لا يسوغ لمجتهد أن يذهب إلى حِلّه، فإن ذهب إلى حلّه غافلًا عن الإجماع كان قوله مردودًا، أو عالمًا بالإجماع فمِنْ أهل العلم من يضلِّله، ومنهم من قد يكفِّره. لكنه لو ثبت عن رجل واحد من الصحابة قولٌ بحلِّ ذلك الشيء = كانت المسألة خلافية، لا يُحْظَر على المجتهد أن يقول فيها بقول ذاك الصحابي، أو بقولٍ مفصّل يوافق هذا في شيء وذاك في شيء. ولا يحرم على المقلِّد الذي مذهب إمامه الحرمة أن يأخذ بالحل، إما على سبيل الترجيح والاختيار - إن كان أهلًا - وإما على سبيل التقليد المحض إن احتاج إليه. وثبوت ذاك القول عن ذاك الصحابي يتوقف على ثقة رجال السند إليه، والعلم بثقتهم يتوقّف على توثيق بعض أئمة الجرح والتعديل لكلّ منهم، والاعتدادُ بتوثيق الموثِّق يتوقف على العلم بثقته في نفسه وأهليته، ثم على صحّة سَنَد التوثيق إليه، وثقته في نفسه تتوقف على أن يوثِّقه ثقةٌ عارف، وصحّة سند التوثيق تتوقف على توثيق بعض أهل المعرفة والفقه لرجاله، وهلمّ جرًّا. والسعيُ في توثيق رجل واحد من أولئك بغير حق، أو في الطعن فيه بغير حق سعيٌ في إفساد الدين بإدخال الباطل فيه، أو إخراج الحق منه. فإن كان ذاك الرجل واسع الرواية أو كثير البيان لأحوال الرواة، أو جامعًا للأمرين، كان الأمر أشدّ جدًّا، كما يعلمه المتدبِّر.

ولولا أن أُنْسَب إلى التهويل لشرحت ذلك، فما بالك إذا كان الطعن بغير حق في عدد كثير من الأئمة والرواة؟ يترتّب على الطعن فيهم إسقاط رواياتهم، زيادةً على محاولة توثيق جمًّ غفير ممن جرحوه، وجرح جمٍّ غفير ممن وثقوه؟! [ص 5] ففي "التأنيب" الطعن في زُهاء ثلاثمائة رجل، تبيَّن لي أن غالبهم ثقات، وفيهم نحو تسعين حافظًا، وجماعة من الأئمة، فكم ترى يدخل في الدين من الفساد لو مشى للأستاذ ما حاوله من جرحهم بغير حق؟! على أنَّ الأمر لا يقف عندهم، فإن الأستاذ يحاول الرد بالاتهام، والتُّهَم غير محصورة، فيمكن كلّ مَن يهوى ردَّ شيءٍ من النقل أن يبدي تهمةً في رواته وموثَّقيهم، فيحاول إسقاطهم بذلك. بل يعدّ الملحدون الإِسلامَ نفسَه ذريعةً لاتهام كلّ من روى من المسلمين ما يثبت النبوةَ والقرآنَ ونحو ذلك، ولا يقنعون بالآحاد، بل يُساورون المتواترات، بزعم إمكان التواطؤ والتتابع لاتفاق الغرض. ولو كان هذا الطعن من رجل مغمور أو غير مشهور بالعِلْم الديني، لهان الخطب، ولكنه من رجل يَصِف نفسَه أو يصفه بعضُ خواصّه - كما في لوح "التأنيب" - بقوله: "الإِمام الفقيه المحدث والحجة الثقة المحقق العلامة الكبير ... ". ومكانته في العلم معروفة، والحنفيةُ - وهم السواد الأعظم كما يقول - يتلقَّون كلامَه بالقبول، وكذلك كثير من غيرهم ممن يعظم الأستاذ؛ لدفاعه عن جهمية الأشعرية، وعن القبورية.

فصل

- 2 - فصل حاول الأستاذ في "الترحيب" (¬1) التبرُّؤ مما نُسِب إليه في "الطليعة" من الطعن في أنس رضي الله عنه، وفي هشام بن عروة (¬2)، وفي الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد. أما كلام الأستاذ في الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد فسيأتي - إن شاء الله تعالى - في تراجمهم (¬3). ويكفي تدبر العبارة التي قالها في "التأنيب" في معرض الثناء عليهم - زعم -, ونقلها في "الترحيب" في معرض التبرُّؤ من الطعن فيهم. وحقيقة الحال أن الأستاذ يرى أو يتراءى أو يعرض على الناس أن يروا أن منازل الأئمة هي كما يتحصَّل من مجموع كلامه في "التأنيب"، ويرى أنه قد تفضَّل على الأئمة الثلاثة، وجامل أتباعَهم بأن أوهمهم في بعض عباراته أنه رفعهم عن تلك المنزلة قليلاً. فلما رآني لم أعتدّ بذاك الإيهام الفارغ، كان أقصى ما عنده أن يوهم الجهال براءته - ومعهم العلماء - أن تلك منازلهم عنده، رضوا أم كرهوا. فأما كلامه في أنس، فتراه وما عليه في "الطليعة" (ص 98 - 106) (¬4)، ¬

_ (¬1) (ص 351 - مع التأنيب". (¬2) "وفي هشام بن عروة" ملحقة بين الأسطر ولعل هذا مكانها. (¬3) يعني من "التنكيل" وهم فيه بالأرقام (183، 189، 32). (¬4) (ص 77 - 83).

ويأتي تمامه في ترجمته (¬1). وينبغي أن يُعْلَم أن منزلة أنس رضي الله عنه عندنا غير منزلته التي يجعله الأستاذ فيها، فلسانُ حال الأستاذ يقول: ومَن أنس؟ وما عسى أن تكون قيمة رواية أنس في مقابلة الإِمام الأعظم وعقليته الجبارة؟! كما أشار إلى ذلك في "الترحيب" (ص 24) (¬2) إذ قال: "وأسماء الصحابة الذين رغب الإِمام عما انفردوا به من الروايات مذكورة في "المؤمَّل" لأبي شامة الحافظ. وليس هذا إلا تحريًّا بالغًا في المرويات يدل على عقلية أبي حنيفة الجبارة". فزادنا مع أنس جماعةً من الصحابة رضي الله عنهم، وإلى ما يغالط به من "الترجيح" - الذي دفعته في "الطليعة" (ص 105 - 106) (¬3) - التصريح بأنه يكفي في تقديم رأي أبي حنيفة على السنة أن ينفرد برواية السنة بعضُ أولئك الصحابة. هذا مع أن رواية أنسٍ في الرّضْخ تشهد لها أربعُ آيات من كتاب الله عزَّ وجلَّ، بل أكثر من ذلك، كما يأتي في "الفقهيات" (¬4) إن شاء الله تعالى. ومعها القياس الجلي، ولا يعارض ذلك شيء، إلا أن يقال: إنّ عقلية أبي حنيفة الجبارة كافية لأن يقدّم قوله على ذلك كلّه! وعلى هذا فينبغي للأستاذ أن يتوب [ص 6] من قوله في "التأنيب" (ص 139) عند كلامه على ما رُوي عن الشافعي من قوله: أبو حنيفة يضع ¬

_ (¬1) من "التنكيل" رقم (56). (¬2) (ص 317 - مع التأنيب). (¬3) (ص 82 - 83). (¬4) (2/ 127 وما بعدها).

أوَّلَ المسألة خطأ ثم يقيس الكتاب كلَّه عليها. قال الأستاذ هناك: "ولأبي حنيفة بعض أبواب الفقه من هذا القبيل، ففي كتاب الوقف أخذ بقول شريح القاضي، وجعله أصلاً، ففرَّع عليه المسائل، فأصبحت فروع هذا الباب غير مقبولة، حتى ردَّها صاحباه، وهكذا فعل في كتاب المزارعة، حيث أخذ بقول إبراهيم النخعي فجعله أصلاً، ففرَّع عليه الفروع". إلا أن يقول الأستاذ: إن أبا حنيفة لم يستعمل عقليته الجبارة في تلك الكتب أو الأبواب، وإنما قلّد فيها بعضَ التابعين، كشريح وإبراهيم. فعلى هذا يختص تقديم العقلية الجبارة بما يقوله من عند نفسه غير متبع فيه لأحد. فعلى هذا نطالب الأستاذ أن يطبِّق مسألة القَوَد على هذه القاعدة. أما نحن فلا نَعْتد (¬1) على أبي حنيفة بقول الأستاذ، ولا بحكاية أبي شامة الشافعي الذي بينه وبين أبي حنيفة نحو خمسمائة سنة، بل نقول: لعلّ أبا حنيفة لم يرغب عن انفراد أحدٍ من الصحابة، بل هو موافقٌ لغيره في أن انفراد الصحابي مقبول على كلِّ حال، وإنما لم يأخذ ببعض الأحاديث؛ لأنه لم يبلغه من وجه يثبت، أو لأنه عارضه من الأدلة الشرعية ما رآه أرجح منه. وإذا كان أبو حنيفة قد يأخذ برأي رجل واحد من التابعين، كشُرَيح في الوقف، وإبراهيم في المزارعة، فكيف يترك سنةً لتفرُّد بعضِ الصحابة بها؟! فأما التحرّي البالغ، فإن كان هو الذي يؤدِّي إلى قبول ما حقّه أن يُقْبَل، وردّ ما حقّه أن يُرَدّ، فلا موضع له هنا، وإن كان هو الذي يؤدَّي إلى قبول ما حقّه الرد كرأي شُريح في الوقف، ورأي إبراهيم في المزارعة، وإلى ردّ ما ¬

_ (¬1) تحتمل: "نعقد".

حقّه القبول كما ينفرد به بعض الصحابة، ولا يعارضه من الأدلة الشرعية ما هو أقوى منه، أو كردَّ حديث الرضخ مع شهادة القرآن والقياس الجلي له = فهذا تجرًّ - بالجيم - لا تحرًّ - بالحاء -, أو قل: تحرًّ للباطل لا للحق. فإن كان المقصود التخييل السحري، فيستطيع من يردّ انفراد الصحابي - أيّ صحابيًّ كان - أن يقول: إن ذلك تحرًّ بالغ، بل ومن يردّ السنن كلّها سوى المتواتر، بل ومَن يردّ المتواتر أيضًا فيقول: بل التحرِّي البالغ يقضي أن لا ينسب إلى شرع الله إلاَّ ما نصَّ عليه كلامه، بل ومن يردّ الدلالة الظنية من القرآن، ويردّ الإجماع قد يقول ذلك، ولم يبق إلا الدلالات اليقينية من القرآن. وشيوخُ الأستاذ من المتكلمين ينفون وجودها، كما يأتي في "الاعتقاديات" (¬1) إن شاء الله تعالى. فأما القياس فهو بأن يسمى إلغاؤه تحرّيًا واحتياطًا في دين الله أولى من ذلك كله فإنه بالنسبة إلى ذلك كما قيل: ويذهب بينها المرئيُّ لغوًا ... كما ألغيتَ في الديةِ الحُوارا (¬2) والمقصود هنا أن منزلة أنس عندنا غير منزلته التي يجعله الأستاذ فيها بلا تحرًّ، وإن زعم الأستاذ أنه ليس في كلامه ما ينتقد. وفي "فتح الباري" (¬3) في باب المُصَرَّاة: "قال ابنُ السمعاني في "الاصطلام": التعرُّض إلى جانب الصحابة علامة على خذلان فاعله، بل هو ¬

_ (¬1) انظر "التنكيل": (2/ 485 وما بعدها). (¬2) البيت لذي الرمة "ديوانه" (2/ 1379) وفيه: "ويهلك بينها ... ". (¬3) (4/ 365 - ط السلفية).

بدعة وضلالة". ذكر ذلك في صدد ردِّ كلام بعض الحنفية في رواية أبي هريرة حديث المصرَّاة. وأما هشام بن عروة بن الزبير بن العوام، فهذه قصته: روى هشام عن أبيه عروة - وفي رواية للدارمي (1/ 51) (¬1): هشام عن محمَّد بن عبد الرحمن بن نوفل عن عروة - قال: "لم يزل أمر بني إسرائيل معتدلًا حتى ظهر فيهم المولَّدون أبناء سبايا الأمم، فقالوا فيهم بالرأي، فضلّوا وأضلّوا". فذكرها الأستاذ في "التأنيب" (ص 98) ثم قال: "وإنما أراد هشام النكاية في ربيعة وصاحبه (مالك) لقول مالك فيه [ص 7] بعد رحيله إلى العراق فيما رواه الساجي، عن أحمد بن محمَّد البغدادي، عن إبراهيم بن المنذر، عن محمَّد بن فُليح قال: قال لي مالك بن أنس: هشام بن عروة كذَّاب. قال: فسألت يحيى بن معين فقال: عسى أراد في الكلام، فأما في الحديث فهو ثقة". وعلَّق في الحاشية: "هذا من انفرادات الساجي. وأهلُ العلم قد تبدُر منهم بادرة، فيتكلّمون في أقرانهم بما لا يقبل، فلا يُتّخذ ذلك حجة، على أن ما يؤخذ به هشام بعد رحيله إلى العراق أمرٌ يتعلق بالضبط في التحقيق، وإلا فمالك أخرج عنه في الموطأ". ففهمتُ من قوله: "وإنما أراد هشام النكاية .... " أنه يريد أن هشامًا افترى هذه الحكاية لذاك الغرض، وأنّ ذلك مِن الكذب الذي عُني (¬2) في الكلمة ¬

_ (¬1) (122). (¬2) غير محررة في الأصل، ولعلها ما أثبتّ.

المحكيّة عن مالك: "هشام بن عروة كذاب"، ومِن الكذب في الكلام على ما في الحكاية عن ابن معين، ومن البوادر التي لا تقبل كما ذكره في الحاشية. وبنيتُ على ذلك ما قلتُه في الكلمة التي كنتُ كتبتها إلى بعض الإخوان، فاتفق أن وقعت بيد المعلَّق أو الطابع، فطبعها كمقدمة للطليعة - بدون علمي - قلت فيها كما في "الطليعة" المطبوعة (ص 4) (¬1): "وفي هشام بن عروة بن الزبير بن العوام، حتى نَسَب إليه الكذب في الرواية". فتعرَّض الأستاذ لذلك في "الترحيب" (ص 48) (¬2)، وتوهَّم أو أوهم أنني إنما بنيتُ على ما في الحكاية التي نقلها مما نُسِب إلى مالك من قوله: "كذاب"، فأعاد الأستاذ الحكاية هناك ثم قال: "أهذا قولي أم قول مالك، أيها الباهت الآفك". فأقول: أما قولك، فقد قدمتُ ما فيه من إفهام أن هشامًا افترى تلك الحكاية انتقامًا من مالك، وأما قول مالك فلم يصح، بل هو باطل. ومن لطائف الأستاذ: أنه اقتصر في ما تظاهر به في صدر (¬3) الحاشية مِن محاولة تليين الحكاية عن مالك على قوله: "وهذا من انفرادات الساجي"، فكأنه لا مَطعن فيها إلا ذلك، وهو يعلم أن زكريا الساجي حافظٌ ثقة ثبت، وإن حاول هو في موضع آخر أن يتكلّم فيه، كما يأتي في ترجمته (¬4) إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) (ص 3 - 4) بنحوه ولم أجده بنصه. (¬2) (ص 338 - مع التأنيب). (¬3) غير محررة في الأصل. (¬4) من "التنكيل" رقم (94).

هذا مع جزمه في المتن بقوله: "القول مالك فيه". [ص 8] والحكايةُ أخرجها الخطيب في "تاريخ بغداد" (1/ 223) وتعقَّبها بقوله: "فليست بالمحفوظة إلا من الوجه الذي ذكرناه، وراويها عن إبراهيم بن المنذر غير معروف عندنا". يعني: أحمد بن محمَّد البغدادي. وبغداديٌّ لا يعرفه الخطيب الذي صرف أكثرَ عمره في تتبُّع الرواة البغداديين لا يكون إلا مجهولاً، فهذا هو المُسْقِط لتلك الحكاية من جهة السند. ويُسقطها من جهة النظر: أن مالكًا احتجّ بهشام في "الموطأ"، مع أن مالكًا لا يجيز الأخذ عمن جُرِّب عليه كذبٌ في حديث الناس، فكيف الرواية عنه؟ فكيف الاحتجاج به؟ وصحَّ عن مالك أنه قال: "لا تأخذ العلم من أربعة، وخذ ممن سوى ذلك، لا تأخذ من سفيه مُعلنٍ بالسَّفَه وإن كان أروى الناس، ولا تأخذ عن كذَّاب يكذب في أحاديث الناس إذا جُرِّب ذلك عليه، وإن كان لا يُتّهم أن يكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .... ". أسنده الخطيب في "الكفاية" (ص 116)، وذكره ابن عبد البر في "كتاب العلم" (¬1)، كما في مختصره (ص 122)، وقال: "وقد ذكرنا هذا الخبر عن مالك من طرق في كتاب التمهيد (¬2) .... ". ¬

_ (¬1) (2/ 821). (¬2) (1/ 66).

وكأنَّ الأستاذ يحاول إثبات أن الأئمة كمالك وابن معين يوثّقون الرجل إذا رأوا أنه لا يكذب في الحديث النبوي، وإن علموا أنه يكذب في الكلام، ويحاولُ أن يُدْخِل في الكلام ما يرويه الثقات مما فيه غضٌّ من أبي حنيفة، وهكذا ما يرويه أحدهم عن غيره مما فيه غضّ من أبي حنيفة، ولو مِن بُعْد، كرواية هشام المذكورة. وعلى هذا فيدخل في الكلام الذي لا يمتنع الأئمة من توثيق الكاذب فيه كلُّ كلامٍ إلا ما فيه إسناد خبر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولو - والعياذ بالله تعالى - تم هذا للأستاذ لسقطت المرويات كلها، ويأبى الله ذلك والمؤمنون. أما السنة فإنها لا تثبت إلا بثقة رواتها، وتوثيقُ الأئمة للرواة كلامٌ ليس فيه إسنادُ خبرٍ إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وهكذا روايةُ مَن بَعْد الأئمة لكلام الأئمة هي كلام، ويدخل في ذلك سائرُ كلماتِ الجرح والتعديل، والمدح والقدح: قولُها، وروايتُها، وحكايةُ مقتضيها، وروايتُه. فإذا كانوا يرون أن الكذب في ذلك لا ينافي الثقة لم نأمن من أن يكذبوا فيه، وتوثيق مَن بعدهم لهم لا يدفع أن يكونوا يكذبون مثل هذا الكذب، بل يجوز أن يكون ذاك التوثيق نفسه كذبًا، وإن كان قائله ثقةً. وأما ما عدا السنة من آثار الصحابة والتابعين ونحو ذلك، فكلّه كلام، والمعروف بين أهل العلم أنّ تعمُّد الكذب يوجب ردَّ رواية صاحبه مطلقًا. [ص 9] وقد قال الخطيب (ص 117): "باب في أن الكاذب في غير

حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ترد روايته. قد ذكرنا آنفًا قولَ مالك بن أنس، ويجب أن يُقبل حديثه إذا ثبتت توبته". ولم يذكر في ذلك خلافًا، وقد روى ابنُ أبي حاتم عن أبيه: أن يحيى بن المغيرة سأل جريرَ بن عبد الحميد عن أخيه أنس بن عبد الحميد، فقال: قد سمع من هشام بن عروة، ولكنه يكذب في حديث الناس، فلا تكتب عنه". وفي "النخبة" وشرحها (¬1) ما يفيد أن الكذب في الكلام أشدّ إسقاطًا للراوي من الزنا مثلًا. فأما القبول بعد ثبوت التوبة فقد خالف فيه الصيرفي - فيما قيل - وهو من أجلّة النُّظار، فعنه أن الكاذب في غير الحديث النبوي كالكاذب فيه في أن لا تُقبل روايته أبدًا وإن تاب (¬2). ويتأكّد هذا في الكذب في الرواية لأقوال أهل العلم من الصحابة والتابعين وغيرهم من أهل العلم، وما يتصل بذلك مما فيه توثيق راوٍ أو جرحه، أو ذمّ عالمٍ أو مدحه، وقريبٌ من هذا قول تابع التابعي. وتوثيق الراوي يكون تثبيتًا لمروياته، فإن كان فيها كذب كان التوثيق تثبيتًا للكذب في عدة أحاديث نبوية، فالكذب في ذلك التوثيق أشدّ من الكذب في حديث واحد. ¬

_ (¬1) "نزهة النظر" (ص 88). (¬2) انظر "علوم الحديث" (ص 116) لابن الصلاح فقد نقل ذلك عن الصيرفي فيما فهمه من كتاب شرح رسالة الشافعي. وخالفه العراقي في "التقييد والإيضاح": (1/ 589 - 590) وقال: إنما أراد الصيرفي الكذب في الحديث.

والجرح إسقاط للراوي، فإذا كان في نفس الأمر ثقة، ففي جرحه إسقاط لعدة من الأحاديث النبوية. وليس الكذب المسقط لأحاديث نبوية صحيحة بأخفّ من الكذب المثبت لأحاديث باطلة. ومدحُ العالمِ تثبيت لمروياته ولأقواله أنها أقوالُ عالمٍ تصيرُ بها المسألةُ خلافية، ويكون للعاميّ الأخذ بها تقليدًا. وذمُّه على العكس من ذلك، أعني: أنه قد يكون فيه إسقاط المرويات والأقوال، بل قد يقال: الرواية بابٌ واحدٌ، فالكذب في ضربٍ منها يجرُّ إلى الكذب في الضرب الآخر. هذا، وإطلاقهم أن الكاذب في غير الحديث النبوي لا تُقبل روايته يتناول الكذبة الواحدة [ص 10] في غير الرواية، وإن لم يُخْش منها ضرر. فأما على القول بأنها مسقطة للعدالة مطلقًا - وفي الزواجر (2/ 169): أنه ظاهر الأحاديث أو صريحها - فظاهر. وأما على القول بأنها وحدَها حيث لا ضرر فيها لا تسقط العدالة، فقد يقال: هذا خاصٌّ بما إذا وقعت ممن لا يتعانى الرواية, فأما الراوي فالأمر فيه أشدّ؛ لأنّ عِماد الرواية الصدق، والكذب خلقٌ واحد، فمن كَذَب في غير الرواية لم يُؤمَن أن يجرّه ذلك إلى الكذب في الرواية. وأيضًا فالشهادة يُحتاج إلى التسمح فيها؛ لأن التشديد في عدالة الشهود قد يؤدِّي إلى ضياع الحقوق بخلاف الرواية، فإنما يتعاناها أفراد من أهل العلم، والغالب فيها بعد زمن الصحابة أن يوجد الحديث عند جماعة. ويشدّ هذا قولُ الحنفية: إنه يجوز القضاء بشهادة فاسِقَين، ولا يجوز قبول

الرواية إلا مِنْ عَدْل. وعلى كلّ حال فالكذب في الرواية قد لا يتأتي أن يقال: إن منه ما لا ضرر فيه ولا مفسدة. فعلى هذا فلا يكون إلا كبيرةً قطعًا، فيكون مسقطًا لعدالة صاحبه ألبتة، حتى لو فرضنا أنّ من الأئمة من قد يوثِّق مَن يعلم أنه قد كَذَب في كلام الناس كذبةً لا ضرر فيها ولا مفسدة، فلا يلزم من ذلك أن يوثِّق مَن يرى أنه قد يكذب في الرواية لغير الحديث النبوي. وهكذا ما يتعلّق بالجرح والتعديل، والمدح والقدح، فإن الكذب فيه ضارٌّ، مشتملٌ على المفاسد حتمًا، فلا ينافي أن قال: إنه لا (¬1) يسقط العدالة. والمقصود هنا إيضاح أنك إذا نسبتَ إلى راوٍ تعمُّدَ الكذب في رواية - ولو لغير الحديث النبويّ - أو جرح أو تعديل = فقد زعمت أنه فاسق ساقط العدالة، مردود الرواية مطلقًا. فمحاولة الأستاذ نِسْبة هشام إلى تعمُّد الكذب في تلك الرواية محاولة لإسقاط هشام ألبتة. ولهذا نظائر في كلام الأستاذ ستأتي، ويأتي الكلام على التهمة قريبًا إن شاء الله تعالى (¬2). وأما كلام الأستاذ في أئمة الفقه: مالك والشافعي وأحمد، فسيأتي في تراجمهم (¬3). ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولعل الصواب حذف "لا". (¬2) انظر (ص 34 فما بعدها). (¬3) في "التنكيل".

فصل

- 3 - فصل من أوسع أودية الباطل الغلوّ في الأفاضل، ومن أَمْضى أسلحته أن يرمي الغالي كلَّ من يحاول ردَّه إلى الحق ببغض أولئك الأفاضل ومعاداتهم. يرى بعضُ أهل العلم أن النصارى أول ما غَلَوا في عيسى عليه السلام كان الغلاة يرمون كلَّ من أنكر عليهم بأنه يبغض عيسى ويحقره، ونحو ذلك؛ فكان هذا من أعظم ما ساعد على انتشار الغلو؛ لأن بقايا أهل الحق كانوا يرون أنهم إذا أنكروا على الغلاة نُسِبوا إلى ما هم أشدّ الناس كراهية له مِن بُغْض عيسى وتحقيره. ومَقَتهم الجمهورُ، وأوذوا، فثبَّطَهم هذا عن الإنكار، وخلا الجوُّ للشيطان. وقريب من هذا حال غلاة الروافض، وحال القبوريين، وحال غلاة المقلدين. وعلى هذا جرى الأمر في هذه القضية؛ فإن الأستاذ غلا في أبي حنيفة حتى طعن في غيره من أئمة الفقه، وفي أئمة الحديث، وثقات رواته، بل تناول بعض الصحابة والتابعين. وأُسْكِتَ أهلُ العلم [ص 11] في مصر وغيرها برَمْي كلِّ مَن يهمّ أن ينكر عليه ببغض أبي حنيفة ومعاداته، ولما اطّلع الأستاذ على "الطليعة" جرَّد على صاحبها ذلك السلاح. ومن تصفَّح "الترحيب" عَلِم أن ذلك - بعد المغالطة والتهويل - هو سلاحه الوحيد، فهو يُبْدئ فيه ويُعيد، ونفسُه تقول له: هل من مزيد! فمن جهة يقول في "الترحيب" (ص 15): "أخبار الآحاد على فرض ثقة

رواتها لا تناهض العقل ولا النقل المستفيض فضلاً عن المتواتر، وقد ثبتت إمامة أبي حنيفة وأمانته ومناقبه لدى الأُمة بالتواتر". ويقول بعد ذلك: "خبر الآحاد يكون مردودًا عند مصادمته لما هو أقوى منه من أخبار الآحاد، فضلاً عن مصادمته لما تواتر". ويقول (ص 17): "وأما الخبر المصادم لذلك من بين أخبار الآحاد، فيردّ حيث لا تمكن مناهضته للعقل والخبر المتواتر على تقدير سلامة رجاله من المآخذ". ويقول (ص 26): "ومن المقرر عند أهل العلم أن صحة السند بحسب الظاهر لا تستلزم صحة المتن". ويعد حسناتي ذنوبًا فيقول (ص 19): "وحذفه للمتون لأجل إخفاء مبلغ شناعتها عن نظر القارئ، فلو ذكرها كلها مع كلام الكوثري في موضوع المسألة، لنبذ السامع نقد هذا الناقد في أول نظرة، لما حوت تلك المتون من السخف البالغ الساقط بنفسه من غير حاجة إلى مُسقط، فيكون ذكر المتون قاصمًا لظهره". ويقول (ص 25): "ولو كان الناقد ذكر في صُلب نقده متن الخبر المتحدّث عنه، كان القارئ يحكم بكذب الخبر بمجرَّد سماعه، لكن عادة الناقد إهمال ذكر المتن إخفاءً لحاله". ومن جهة أخرى يعود فيقول في "الترحيب" (ص 16): "وعادتي أيضًا في مثل تلك الأخبار تطلُّب ضعفاء بين رجال السند بادئ ذي بدء، ضرورةَ أن الخبر الذي ينبذه العقل أو النقل لا يقع في رواية الثقات". ويقول (ص 19): "ومن المضحك تظاهره (اليماني) بأنه لا يعادي النعمان مع سعيه سعي المستميت في توثيق رواة الجرح، ولو بالتحاكم إلى الخطيب نفسه المتهم فيما عمله، مع أنه لوثبتت ثقة حملتها ثبت مقتضاها".

فلأدع الاستنتاج إلى القارئ، وأقول: أما الباعث لي على تعقّب "التأنيب" فقد ذكرتُه أول "الطليعة" (¬1)، وتقدّم شرحه في الفصل الأول، وهب أنّ غرضي ما زعمه الأستاذ، وأنه يلزم من صنيعي تثبيت مقتضى تلك الحكايات، فلا يخلو أن يكون كلامي مبنيًّا على الأصول المألوفة والقواعد المعروفة، أو يكون خلاف ذلك. فإن كان الأول، فلازم الحقَّ حقٌّ، وإن كان الثاني، ففي وُسْع الأستاذ أن يوضّح فسادَه بالأدلة المقبولة. فعلى أهل المعرفة أن يحاكموا بين "الطليعة"، و"الترحيب" حتى يتبين لهم أقام الأستاذ ببعض كلامي بأدلة مقبولة عند أهل العلم، أم أردف ما في "التأنيب" من التهويل والمغالطة والتمحل بمثلها؟! ولم يكد يضيف إلى ذلك إلاَّ رمي اليماني ببغض أبي حنيفة! كأنَّ الأستاذ يرى أن تلك المهاجمة لا تُتَّقى إلا بالهوى، بإثارة ما استطاع في نفوس أتباعه الذين يهمّه شأنهم ليضرب به بينهم وبين "الطليعة، و"التنكيل" حجابًا لا تخرقه حجّة، ولا يزيده الله تعالى بعد استحكامه إلا شدّة. والواقع أن مقصودي هو ما شرحته في الفصل السابق، ولذلك أهملت ذِكر المتون لأنها خارجة عن مقصودي، ومع ذلك ففي ذكرها مفاسد: الأولى: ما أشار إليه الأستاذ في الجملة، وهو أن يطلع عليها حنفي متحمِّس، فيحمله ذِكْر المتن على أن يعرض عن كلامي البتة، ولا يستفيد إلاَّ بُغْض مَن نُسِب إليه المتن من الأئمة. ¬

_ (¬1) (ص 4).

الثانية: أن يطلع عليها رجلٌ مِن خصوم الحنفية، فيجتزئ (¬1) بذاك المتن، ويذهب يعيب أبا حنيفة بتلك المقالة، غير مبالٍ أصح ذلك أم لا؟ الثالثة: أن يطلع عليها عاميٌّ لا يميز، فيقع في نفسه أن أئمة السلف كان بعضهم يطعن في بعض، ويكبر ذلك عليه، ويسيء الظنَّ بهم جميعًا. فإهمال ذِكْر المتن يمنع هذه المفاسد كلّها, ولا يبقى أمام الناظر إلا ما يتعلق بتلك القضايا الخاصة التي ناقشتُ فيها الأستاذ. والواقع أيضًا أنه لا يلزم من صنيعي تثبيت الذم، ولا يلزمني قَصْد ذلك، ومن تأمَّل عبارات الأستاذ في الجهة الأولى - كما قدمتها - بأن له صحة قولي. وأزيد ذلك إيضاحًا وشرحًا وتتميمًا، فأقول: عامة مناقشتي للأستاذ إنما هي في الأسانيد، في كلامه في بعض رجال تلك الأسانيد، وقد وافقته (¬2) على ضعف جماعةٍ منهم، ولا يلزم من تثبيتي ثقةَ رجلٍ من رجال السند ثبوت ثقةِ غيره، بل الأمر أبعد من ذلك، فإنَّ المقالةَ المسندة إذا كان ظاهرها الذمّ أو ما يقتضيه لا يثبت الذمُّ إلا باجتماع عشرة أمور: الأول: أن يكون هذا الرجل المعيَّن الذي وقع في الإسناد ووقعت فيه المناقشة ثقة. الثاني: أن يكون بقية رجال الإسناد ثقات. الثالث: ظهور اتصال السند. ¬

_ (¬1) تحتمل: "فيجترئ". (¬2) غير محررة في الأصل.

الرابع: الأمن من أن يكون هناك عِلّة خفية يتبين بها انقطاع أو خطأ أو نحو ذلك مما يوهن الرواية. الخامس: الأمن من أن يكون وقع في المتن تصحيف أو تحريف أو تغيير، قد يوقع (¬1) فيه الرواية بالمعنى. السادس: الأمن من أن يكون المراد بالكلام غير ظاهره. [ص 12] السابع: الأمن من أن يكون الذامُّ بني ذمَّه على غير حجة، كأن يبلغه إنسان أنَّ فلانًا قال: كذا، أو فعل كذا، فيحسبه صادقًا وهو كاذب، أو غالط. الثامن: الأمن من أن يكون الذامُّ بنى ذمَّه على أمرٍ حَمَله على وجه مذموم، وإنما وقع على وجهٍ سائغ. التاسع: الأمن مِنْ أن يكون للمتكلّم فيه عذر أو تأويل فيما أنكره الذامّ. العاشر: ظهور أن ذلك المقتضي للذمِّ لم يرجع عنه صاحبه. وقد يُزاد على هذه العشرة، وفيها كفاية. فهذه الأمور إذا اختلَّ واحدٌ لم يثبت الذم، وهيهات أن تجتمع على باطل. والذي تصدّيتُ لمناقشة الأستاذ فيه إنما يتعلق بالأمر الأول، ولا يلزم من تثبيته تثبيت الثاني، فضلاً عن الجميع. وقد يلزم من صنيعي في بعض المواضع تثبيت الثاني، ولا يلزم من ذلك تثبيت الثالث، فضلاً عمّا بعده. ¬

_ (¬1) شبه مطموسة في الأصل، ولعلها ما أثبت.

وما قد يتفق في بعض المواضع من مناقشتي للأستاذ في دعوى الانقطاع أو التصحيف، فالمقصود من ذلك كَشْف مغالطته، ولا يلزم من ذلك تلك الأمور كلها. وأذكر ههنا مثالاً واحدًا: قال إبراهيم بن بشار الرمادي: "سمعت سفيان بن عيينة يقول: ما رأيت أحدًا أجرأ على الله من أبي حنيفة، ولقد أتاه رجل من أهل خراسان، فقال: يا أبا حنيفة، قد أتيتك بمائة ألف مسألة، أريد أن أسألك عنها، قال: هاتها. فهل سمعتم أحدًا أجرأ على الله من هذا". هذه الحكاية أوّل ما ناقشت الأستاذ في سندها في "الطليعة" (ص 12 - 20) (¬1)، فإنه خَبَط في الكلام في سندها إلى الرمادي بما ترى حاله في "الطليعة". فتكلَّم في الرمادي - وستأتي ترجمته (¬2) - وزاد الأستاذ في "الترحيب" (¬3)، فتكلّم في ابن أبي خيثمة بما لا يضرّه (¬4)، وذَكَر ما قيل: إن ابن عيينة اختلط بأخَرَة، وهو يعلم ما فيه، وستأتي ترجمتُه (¬5). [ص 13] وقد ذكر الأستاذ في "التأنيب" جوابًا معنويًّا جيدًا، ولكنه مزجه ¬

_ (¬1) (ص 6 - 12). (¬2) "التنكيل" رقم (2). (¬3) (ص 322 - مع التأنيب). (¬4) "بما لا يضره" ضرب عليها المؤلف، ثم كتب فوقها علامة التصحيح إشارة إلى إبقائها وعدوله عن الضرب عليها. (¬5) "التنكيل" رقم (99).

بالتخليط، فقال - بعد أن تكلّم في السند بما أوضحتُ حاله في "الطليعة" (¬1) -: "وابن عيينة بريء من هذا الكلام قطعًا بالنظر إلى السند" كذا قال! ثم قال بعد ذلك: "وأما من جهة المتن، فتكذِّب شواهدُ الحال الأخلوقةَ تكذيبًا لا مزيد عليه ... رجلٌ يُبعث من خراسان ليسأل أبا حنيفة عن مائة ألف مسألة بين عشية وضحاها، ويجيب أبو حنيفة عنها بدون تلبُّث ولا تريّث ... ". كذا قال! وليس في القصة أن الرجل سأل عن مسألة واحدة، فضلاً عن مائة ألف، ولا أن أبا حنيفة أجاب عن مسألةٍ واحدة، فضلاً عن مائة ألف، فضلاً عن أن يكون ذلك كله بين عشية وضحاها. وكان يمكن الأستاذ أن يجيب بجوابٍ بعيد عن الشَّغَب، كأن يقول: يبعد جدًّا أو يمتنع أن تجمع في ذاك العصر مائةُ ألف مسألة ليأتي بها رجل من خراسان ليسأل عنها أبا حنيفة، وهذا يدل على أحد أمرين: إما أن يكون السائل إنما أراد: أتيتك بمسائل كثيرة، فبالغ. وإما أن يكون بطَّالًا لم يأت ولا بمسألة واحدة، وإنما قصد إظهار التشنيع أو التعجيز، فأجابه أبو حنيفة بذلك الجواب الحكيم. فإن كان الرجل إنما قصد التشنيع أو التعجيز، ففي ذاك الجواب إرغامه، وإن كان عنده مسائل كثيرة، نَظَر فيها أبو حنيفة بحسب ما يتسع له الوقت، ويجيب عندما يتضح له وجه الجواب. فأما ابن عيينة، فكان من الفريق الذين يكرهون أن يفتوا (وقد بيَّن ¬

_ (¬1) (ص 6 - 12).

الأستاذ ذلك في "التأنيب" (¬1)) فكأنه كره قولَ أبي حنيفة: "هاتها"، لما يُشْعِر به من الاستعداد لما يكرهه ابن عيينة. وكان أبو حنيفة من الفريق الذين يرون أن على العالِم إذا سُئل عما يتبين له وجه الفتوى فيه أن يفتي؛ للأمر بالتبليغ، والنهي عن كتمان العلم، ولئلّا يبقى الناس حيارى لا يدرون ما حكم الشرع في قضاياهم، فيضطرَّهم ذلك إلى ما فيه فساد العِلْم والدين. ولا ريب أن الصواب مع الفريق الثاني، وإن حَمِدنا الفريق الأول حيث [ص 14] يكفّ أحدهم عن الفتوى مبالغةً في التورع، واتكالًا على غيره حيث يوجد. فأما الجرأة فمعناها الإقدام، والمقصود هنا - كما يوضِّحه السياق وغيره - الإقدام على الفتوى، فمعنى "الجرأة على الله" هنا هو الإقدام على الإفتاء في دين الله، وهذا إذا كان عن معرفةٍ موثوقٍ بها فهو محمود، وإن كرهه المبالغون في التورُّع كابن عيينة، وقد جاء عن ابن عمر أنه قال: "لقد كنتُ أقول: ما يعجبني جرأة ابن عباس على تفسير القرآن، فالآن قد علمت أنه أوتي علمًا". وعنه أيضًا أنه قال: "أكثر أبو هريرة. فقيل له: هل تنكر شيئًا مما يقول؟ قال: لا, ولكنه اجترأ وجَبُنَّا. فبلغ ذلك أبا هريرة فقال: فما ذنبي إن كنتُ حفظتُ ونسوا". راجع "الإصابة" (¬2)، ترجمة ابن عباس، وترجمة أبي هريرة. ¬

_ (¬1) (ط القديمة ص 97، والجديدة ص 156). (¬2) (4/ 147، 7/ 441 على التوالي).

وإقدام أبي حنيفة كان من الضرب المحمود، وإن كرهه ابن عيينة. وقد روى الخطيبُ نفسُه ... (الحكايتين اللتين ذكرهما الأستاذ في "التأنيب"). فهذا وغيره يدلُّ على بُعد أبي حنيفة عن الجرأة المذمومة. فأمّا إذا علمنا أنّ ابنَ عيينة كان يطيب الثناء على أبي حنيفة، فإن ذلك يرشدنا إلى حَمْل تلك المقالة على معنًى آخر أدنى إلى الصواب، مع ما فيه من الحكمة البالغة التي تهدينا إلى بابٍ عظيم النفع في فهم ما يُنقل عن أهل العلم من كلام بعضهم في بعض. وحاصله: أن أكثر الناس مُغْرَون بتقليد من يعظم في نفوسهم، والغلو في ذلك، حتى إذا قيل لهم: إنه غير معصوم عن الخطأ، والدليل قائم على خلاف قوله في كذا، فدلَّ ذلك على أنه أخطأ، ولا يحلُّ لكم أن تتبعوه على ما أخطأ فيه = قالوا: هو أعلم منكم بالدليل، وأنتم أولى بالخطأ منه، فالظاهر أنه قد عرف ما يدفع دليلكم هذا. فإن زاد المنكرون فأظهروا حسنَ الثناء على ذاك المتبوع، كان أشدّ لغلوِّ متبعيه. خطب عمّار بن ياسر في أهل العراق قبل وقعة الجمل ليكفَّهم عن الخروج مع أم المؤمنين عائشة [ص 15]، فقال: "والله إنها لزوجة نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم في الدنيا والآخرة، ولكن الله تبارك وتعالى ابتلاكم؛ ليعلم إيَّاه تطيعون، أم هي". أخرجه البخاري في "الصحيح" (¬1) من ¬

_ (¬1) (7100).

طريق أبي مريم الأسدي عن عمار، وأخرج (¬1) نحوه من طريق أبي وائل عن عمار. فلم يؤثِّر هذا في كثير من الناس، بل رُوي أن بعضهم أجاب قائلاً: "فنحن مع من شهدت له بالجنة يا عمار". فلهذا كان من أهل العلم والفضل من إذا رأى جماعةً اتبعوا بعض الأفاضل في أمر يرى أنه ليس لهم اتباعه فيه، إما لأن حالهم غير حاله، وإما لأنه يراه أخطأ أطلق (¬2) كلمات منفِّرة، يظهر منها الغضّ من ذاك الفاضل، لكي يكفّ الناس عن الغلو فيه، الحاملِ لهم على اتباعه فيما ليس لهم أن يتبعوه فيه. فمن هذا ما في "المستدرك" (ج 2 ص 329): " ... عن خيثمة قال: كان سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه [في نفرٍ]، فذكروا عليًّا فشتموه، فقال سعد: مهلًا عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .... فقال بعضهم: فوالله إنه كان يبغضك ويسمّيك الأخنس. فضحك سعدٌ حتى استعلاه الضحك، ثم قال: أليس قد يجد المرء على أخيه في الأمر يكون بينه وبينه، ثم لا يبلغ ذلك أمانته ... " (¬3). قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. وأقره الذهبي. ¬

_ (¬1) (7101). (¬2) غير محررة في الأصل ولعلها ما أثبت. (¬3) وأخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده - كما في المطالب العالية (4273) - وقال الحافظ ابن حجر: إسناد صحيح.

وفي "الصحيحين" (¬1) وغيرهما عن علي رضي الله عنه قال: "ما سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم جمع أبويه إلاّ لسعد بن مالك (هو سعد بن أبي وقاص) فإنه سمعته يقول يوم أحد: يا سعد ارمِ، فداك أبي وأمي" ويُرْوى عن عليًّ كلمات في ذا وذاك. وكان سعد قد تقاعد عن قتال البغاة، فكان عليّ إذا كان في جماعةٍ يخشى أن يتبعوا سعدًا في القعود ربما أطلق - غير كاذبٍ - كلماتٍ توهم الغضَّ من سعد، وإذا كان مع من لا يَخْشى منه القعود، فذكر سعدًا، ذَكَر فضله. ومنه ما يقع في كلام الشافعي في بعض المسائل التي يخالف فيها مالكًا من إطلاق كلمات فيها غضٌّ من مالك، مع ما عُرِف عن الشافعي من تبجيل أستاذه مالك. وقد روى حرملة عن الشافعي أنه قال: "مالكٌ حجة الله على خلقه بعد التابعين" (¬2). كما يأتي في ترجمة مالك (¬3)، إن شاء الله تعالى. ومنه ما تراه في كلام مسلم في "مقدمة صحيحه" (¬4) مما يظهر منه الغضُّ الشديد من مخالفه في مسألة اشتراط العلم باللقاء، والمخالف هو ¬

_ (¬1) البخاري (2905)، ومسلم (2411). وأخرجه الترمذي (2829)، وأحمد (1147). (¬2) انظر "تهذيب التهذيب": (10/ 8). (¬3) في "التنكيل" (رقم 183). (¬4) (1/ 28 - 30).

البخاري، وقد عُرِف عن مسلم تبجيله للبخاري. وأنت إذا تدبّرتَ تلك الكلمات وجدت لها مخارج مقبولة، وإن كان ظاهرها التشنيع الشديد. وفي ترجمة الحسن بن صالح بن حيّ من "تهذيب التهذيب" (¬1) كلمات قاسية أطلقها بعضُ الأئمة فيه، مع ما عُرِف من فضله، ومنها (¬2): "قال أبو صالح الفراء: "ذكرتُ ليوسف بن أسباط عن وكيع شيئًا من أمر الفتن، فقال: ذاك يشبه أستاذه - يعني: الحسن [بن صالح] بن حيّ - فقلت ليوسف: أما تخاف أن تكون هذه غيبة؟ قال: لِمَ يا أحمق؟ أنا خيرٌ لهؤلاء من آبائهم وأمهاتهم، أنا أنهى الناس أن يعملوا بما أحْدَثوا، فتتبعهم أوزارهم، ومَن أطراهم كان أضرَّ عليهم". [ص 16] أقول: الأئمة غير معصومين عن الخطأ والغلط، وهم إن شاء الله تعالى معذورون مأجورون فيما أخطؤوا فيه، كما هو الشأن فيمن أخطأ بعد بَذْل الوسع في تحرِّي الحق، لكن لا سبيل إلى القطع بأنه لم يقع منهم في بعض الفروع تقصير يؤاخذون عليه، أو تقصير في زجر أتباعهم عن الغلوِّ في تقليدهم. على أن الأستاذ إذا أحبَّ أن يسلك هذه الطريق لا يضطر إلى الاعتراف بأنّ ابن عيينة اعتقد أن أبا حنيفة أخطأ في بعض مقالاته، بل يمكنه أن يقول: لعلَّ ابنَ عيينة رأى أناسًا قاصرين عن رتبة أبي حنيفة يتعاطَون مثل ما كان يقع ¬

_ (¬1) (2/ 285). (¬2) تحتمل قراءتها: "وفيها".

منه مِن الإكثار من الفتوى والإسراع بها غير معترفين بقصورهم؛ اغترارًا منهم بكثرة ما جمعوا من الأحاديث والآثار، فاحتاج ابنُ عيينة في رَدْعِهم إلى تلك الكلمة القاطعة لشَغَبِهم. والله أعلم. ****

فصل

- 4 - فصل يفرّق الأستاذُ الأمةَ بعد ظهور أبي حنيفة فريقين: الأول: أبو حنيفة وأصحابه المخلصون. الثاني: سائر المسلمين. ثم لا يكاد يعرض له أحدٌ من الفريق الثاني بما يخالفه إلا رماه بمعاداة أبي حنيفة وأصحابه؛ لأجل الاختلاف في بعض العقائد وأصول الفقه، ولازم ذلك أن يكون الفريق الثاني كلهم عنده كذلك، وإن سكت عمن لم يعرض له بما يضطره إلى اتهامه. ثم يقسِّم مَن يَعْرِض له مِن الفريق الثاني قسمين: القسم الأول: الذين يحاول الأستاذ إسقاطهم البتة. القسم الثاني: الذين يحاول إسقاطهم فيما يتعلق بالغضِّ من أبي حنيفة وأصحابه. فيقول: إنهم متهمون في ذلك، فلا يُقبل منهم، ولكنه يقبل منهم ما عداه. فأما القسم الأول؛ فقد نظرتُ في شأنهم في تراجمهم من "التنكيل"، وأشرتُ إلى بعضهم في "الطليعة". وأما القسم الثاني؛ فالنظر في شأنهم يتوقَّف على تحرير قاعدة التهمة، وقد كنتُ بسطته في "التنكيل" (¬1)، ثم دعت الحاجةُ إلى تلخيصه هنا. فأستعين الله تبارك وتعالى، وأقول: ¬

_ (¬1) (1/ 60 - 71).

قاعدة في التهمة

[ص 17] قاعدة في التهمة في "المصباح" (¬1): "والتهمة بسكون الهاء وفتحها: الشكّ والرَّيبة ... وأتهمته: ظننت به سوءًا ... واتَّهمتُه بالتثقيل على افتعلت مثله". والكلام هنا في اتهام المحدِّث والراوي، ويتّصل به اتهام الشاهد. والأمر المتَّهَم به نوعان: الأول: ما يكون - على فَرْض ثبوته - غير مسقطٍ للعدالة، فهذا النوع لا حَجْر على الأستاذ الكوثري فيه، وإن افتقر إلى دليل. وذلك كنسبة المحدّث أو الراوي أو المخبر إلى الخطأ والغلط، أو إلى التسامح الذي لا يقدح، كأنْ يقال فيمن روى عمن لم يدركه أو لم يصرح بالسماع وهو معروف بالتدليس: "كأنه سمعه من غير ثقة". أو إلى فلتة اللسان التي تصدر حال الغضب لا يقصد بها ظاهرها، أو لا يقصد بها الحكم، أو إلى إيهام الذمّ بدون إرادته، وذلك في كلمات التنفير التي تقدم بيانها في الفصل الثاني (¬2)، وما يشبه ذلك. النوع الثاني: ما يكون - على فرض ثبوته - مسقطًا للعدالة، كتعمّد الكذب في الرواية، ولو لغير الحديث النبوي، أو في الإخبار بجرح أو تعديل أو بما يقتضي الجرح، وكالإقدام على جرح مَن لا يعلمه مجروحًا، وتعديل من لا يراه عدلاً، على ما سلف في القاعدة الأولى (¬3). ¬

_ (¬1) (ص 30). (¬2) (ص 9). (¬3) كذا في الأصل، والقاعدة ستأتي (ص 45). فلعلّ هذا المبحث كان متأخرًا عنها =

فاجتناب الكذب في هذه الأمور من أركان العدالة، بل هو ركنها الأعظم (¬1). وإذا ثبت في راوٍ أنه قد كذب في رواية، أو ثبت في جارحٍ أنه قد تعمَّد جرحًا يعلم بطلانه، أو ثبت في معدَّل أنه قد تعمَّد تعديلاً يعلم بطلانه، فذلك كما لو ثبت في شاهد أنه قد تعمّد شهادة زور (¬2). فإذا نسب الأستاذ إلى إمام أو محدِّث أو راوٍ شيئًا مما ذكر جازمًا بالنسبة، فقد جزم بنفي الركن الأعظم من عدالته، فإن زعم أنه مع ذلك يبقى المنسوب إليه ذلك عدلاً مقبول القول والرواية فيما لم يتَّهِمه فيه فقد زعم أنه غير عدل، فإن اقتصر الأستاذ على الاتهام بما ذكر أو اعترف بأن جزمه بالنِّسْبة لم يكن عن دليل تقوم به الحجة، وإنما هو عن قرينة تورث التهمة، فاتهام المحدِّث أو الراوي بشيء مما ذكر يلزمه ظنُّ أنه ليس بعدل، بل في "النخبة" وشرحها (¬3) ما يفيد أن التهمة بالكذب أشدّ من ثبوت الزنا ونحوه، كما مر في القاعدة الأولى (¬4). فقوله مع ذلك: إنه يبقى عدلاً مقبولًا [ص 18] في غير ما يتهمه فيه = حاصله: أنه يظنه عدلاً غير عدل. فإن اكتفى الأستاذ بالاحتمال بدون ترجيحٍ لأحد الطرفين لزمه أن لا يجزم بأن الرجل عدل ولا يظن، فإن قال مع ذلك: ¬

_ = فقدّمه المؤلف هنا. وسيأتي نظيرها (ص 35). (¬1) كتب المؤلف بعدها: "ظاهر ص 20". يقصد أن بقية الكلام هناك. (¬2) كتب المؤلف فوق السطر: "الورقة الرابعة, الصفحة اليمنى". (¬3) "نزهة النظر" (ص 88). وانظر ما سيأتي في التعليق على هذا الموضع. (¬4) (ص 45). وانظر ما سلف (ص 34 حاشية 3).

إنه يكون عدلاً مقبولًا في غير ما يتهمه فيه= فحاصل ذلك أنه يظنه عدلاً ولا يظنه عدلاً!! ولا أعلم خلافًا أن الرجل إذا ثبت أنه تعمَّد شهادةَ زورٍ لصديقه على عدوه سقطت عدالته ألبتة، فلا يكون عدلاً في شهادة أخرى، ولو كانت لعدوِّه على صديقه. وكذلك لا أعلم خلافًا أن من تظن به ما ينافي العدالة ليس لك أن تعدِّله، ومثله من يحتمل عندك احتمالًا غير راجحٍ ولا مرجوح أنه ارتكب ما ينافي العدالة، وذلك أن التعديل يتضمَّن الجزم بأنه لم يكن ولن يكون منه ما ينافي العدالة، وهذا الوازع هو المَلَكة التي ذكروها في قولهم في تعريف العدالة: "مَلَكة تمنع من اقتراف الكبائر ... " (¬1). فأما أن تتهم أنت رجلاً أو تشك فيه، ويعدِّله غيرُك فلا مانع من ذلك، وإذا ثبت التعديل سقطت التهمة، فضلاً عن الشك، ولا سيما إذا كان الاتهام أو الشك ممن هو دون المعدِّل في الخبرة، فأما إذا كان له هوًى في ردّ الشهادة ونحوها فالأمر أوضح، فإن اتهام المخبِر كثيرًا ما يكون من أماني الهوى، كما قال أبو الطيب (¬2): شقَّ الجزيرةَ حتى جاءني نبأ ... فَزِعتُ منه بآمالي إلى الكذب وكأنه أخذه من قول الأول (¬3): ¬

_ (¬1) انظر "التنكيل": (1/ 73 - 74)، ورسالة "الاستبصار في نقد الأخبار" (ص 15 فما بعدها). (¬2) سيأتي تخريجه (ص 144). (¬3) الأبيات من قصيدة لأعشى باهلة يرثي بها أخًا له يقال له: المنتشر. انظر "جمهرة أشعار العرب": (2/ 714)، و"الكامل": (3/ 1431) للمبرد.

إني أتتني لسانٌ ما أُسرُّ بها ... مِن عُلوَ لا عجبٌ فيها ولا سَخَرُ جاءت مرجَّمةً قد كنتُ أحذرها ... لو كان ينفعنى الإشفاقُ والحَذَر تأتي على الناس لا تلوي على أحدٍ ... حتى أتتنا وكانت دوننا مُضَر إذا يُعاد له ذكرٌ أُكذِّبه .... حتى أتتني بها الأنباءُ والخَبَر [ص 19] وهناك أمور قد يتشبَّث بها الأستاذ: منها: ردّ شهادة العدل لنفسه، وكذا لأصله أو فرعه أو زوجه، وعلى عدوِّه في قول جماعةٍ من أهل العلم. ومنها: رد شهادة صاحب العصبية، فيما ذكره الشافعي. ومنها: حكاية عن شريك القاضي قد يُؤخد منها أنه يرى أن الرجل قد يكون عدلاً إذا شهد بمائة دينار مثلًا, ولا يكون عدلاً إذا شهد بمائة ألف دينار. ومنها: فرعٌ للشافعي في السؤال عن الشاهد، قد يُفْهَم منه نحو ذلك. ومنها: ما في "لسان الميزان" (1/ 16) (¬1) في جرح المحدِّث لمن يخالفه في الاعتقاد، كجرح الجُوزجاني الناصبي للكوفيين المنسوبين إلى التشيُّع. ومنها: ما نُقِل عن الجوزجاني هذا أنه لا يؤخَذ عن المبتدع الثقة ما فيه تقوية لبدعته. وصرَّح به ابن قتيبة، ومال إليه بعض المتأخرين. ومنها: ما ذكروه في جرح المحدِّث لمن هو ساخط عليه، كالنسائي ¬

_ (¬1) (1/ 212).

لأحمد بن صالح، وككلمة مالك في ابن إسحاق. فلننظر في هذه الأمور (¬1): أما الشهادة للنفس، فجاء الشرع بعدم قبولها, وليس ذلك حكمًا بِتَحقُّقِ التهمة في كلّ شاهد لنفسه، أي: أنه حقيق بأن يظن به عارفوه أنه لا يتورَّع عن أن يشهد لنفسه زورًا (¬2). ألا ترى في كبار الصحابة وخيار التابعين أن أحدهم لو شهد لنفسه بمالٍ مثلًا لجزمنا بأنه غير مفترٍ، ولا سيما إذا كان غنيًّا، وكان المال نزرًا، والمشهود عليه معروفًا بجَحْد الحقوق. ولو كان العدل حقيقًا بأن يُتّهم بأنه شهد لنفسه زورًا، لكان حقيقًا أن يتهم في شهادته لغيره، إذ كيف تتهمه فيما لو شهد لنفسه بدرهم بأنه شهد زورًا حرصًا على أن يحصل له درهم، ولا تتهمه إذا شهد لغيره بعشرة دراهم بأنه شهد زورًا لتحصل له ثلاثة دراهم مثلًا حيث يحتمل أن يكون المدّعي رشاه. وفي أصحابنا من لا نتهمه، ولو حصل له بسبب شهادته مائة أو أكثر، وذلك كأن يدّعي على فاجر بمائة فيجحده، ثم تجري للفاجر قضية، فيجيء إلى صاحبنا، ويقول له: أنت عارف بالقضية، فاحضر فاشهد بما تعلم، فيقول: نعم أنا عارف بها، ولكنك ظلمتني مائة، فإن دفعت لي المائة شهدت بما أعلم، فيدفع له مائة فيشهد، فإننا لا نتهم صاحبنا في دعواه ولا شهادته. ¬

_ (¬1) كتب المؤلف: "وقد كنت بسطت الجواب عن هذه الأمور في "التنكيل" والآن دعت الحاجة إلى تلخيصه هنا". ثم ضرب عليها. (¬2) كتب المؤلف بعدها هكذا: "ص 20 () " فنقلناه إلى مكانه.

فإن قيل: إذا كانت العدالة تنافي التهمة، ويغلب على الظن لو شهد العدل لنفسه أنه لم يشهد زورًا. فلماذا لم يقبل الشرع شهادة العدل لنفسه؟ قلت: أكتفي في هذا بأنّ التهمة تجوز في كثير من الناس، فالتهمة هنا منظورٌ إليها غير مبنيٍّ عليها، كالمشقّة في حكم قَصْر الصلاة، ونظائر ذلك مما يكون المعنى المستدعي للحكم خفيًّا أو غير منضبط، فيعدل الشارع عن بناء الحكم عليه إلى بنائه على معنى ظاهر منضبط، يكون مَظنة للأول في الجملة، ثم يكون مدار الحكم على الثاني، ثم لا يلزم من وجود الثاني مع الحكم وجود الأول، ولا من وجود الأول وجود الحكم. فالمسافر المترفِّه يقصر الصلاة مع عدم المشقَّة التي تستدعي التخفيف، والمقيمون العمَّال في المناجم ونحوها عليهم مشقَّة شديدة ولا يقصرون، فكذلك هنا لا يلزم مِن ردِّ شهادة الرجل لنفسه أن يكون حقيقًا بأن يُتَّهم بشهادة الزور، ولا من وجود التهمة في شهادة لغير النفس أن تردّ بمجرَّد وجود التهمة، وإنما تردّ لعدم ثبوت العدالة الثابت اشتراطها [ص 20] بنص آخر. فالعدل الثابت العدالة لا تُقبل شهادته لنفسه، لا لأجل أنه حقيق بأن يُتَّهم، فإن العدالة تدفع ذلك، بل العلة كون الشهادة للنفس أو كونها دعوى. ولهذا لما حاول الشافعي (¬1) قياس الشهادة للفرع والأصل على الشهادة للنفس لم يعرِّج على التهمة، بل عوَّل على أن الفرع من الأصل، فشهادة أحدهما للآخر كأنها شهادة لنفسه، ولم يخفَ عليه ضعف هذا، فعضده ¬

_ (¬1) في "الأم": (8/ 114 - 115).

بقوله: "وهذا مما لا أعرف فيه خلافًا". ولما عرف أصحابه وجود الخلاف، ذهب بعضُ حُذَّاقهم - كالمزني وأبي ثور - إلى القبول. فإن قيل: وما المانع من اتهام العدل؟ قلت: أما أن يتهمه من لا يثق بعدالته، أو من له هوًى في تكذيبه، فلا مانع منه، وإنما الممنوع أن يكون العدل حقيقًا بأن يُتَّهم. هذا, وللحُكْم المذكور (¬1) حِكَم تُدْرَك بالتدبّر، منها: أن الشهادة للنفس أظهر مظان التهمة، فكأنّ في عدم قبولها تنزيه للعدل عن أن يتهمه أكثر الناس؛ لأن أكثرهم لا يعرفون عدالته حقّ المعرفة. ومنها: أنها لو كانت الشهادة للنفس تُقَبل من العدل لتهاون أكثر العدول في الإشهاد على معاملاتهم، ثقةً بأن شهادتهم لأنفسهم مقبولة، فيؤدي هذا إلى أن تكثر القضايا التي تكون فيها شهادة المدعي لنفسه، فيرتاب فيها القاضي؛ لأنه لا يعرف عدالة العدول معرفة خبرة، وإذا ارتاب القاضي كان عليه أن يتريّث في فصل القضية، فيؤدّي ذلك إلى أن تتراكم القضايا عند القضاة، ويتأخّر الفصل فيها، وذلك يضرّ بالناس. ومنها: أن المعدّل قد يخطئ ويتساهل أو يداهن، فيعدّل من ليس بعدل، فلو كانت شهادة العدل لنفسه تُقبل لاغتنم هؤلاء الذين عُدّلوا بغير حقٍّ ذلك، فأكثروا من الدعاوى الباطلة، فقد يضيع بسبب ذلك من الحقوق أكثر ¬

_ (¬1) كتب المؤلف بعدها: "ص 21". يعني أن باقي الكلام هناك، وقد كان ضرب على الكلام هناك، ثم بدا له أن يلحق في هذا الموضع.

مما يضيع بسبب عدم قبول شهادة العدل لنفسه. هذا، وقد جاء الشرع بعدم قبول شهادة النساء في الحدود ولو كُنّ من ذوات العدالة. ومعلوم أن عدم قبولهن ليس لأجل التهمة، بل له حكمة أخرى لا يضرها أن لا يفهمها بعض الناس بل ولا جميعهم. أما الشهادة للفرع والأصل والزوج، فمختلف فيها، فإذا بنينا على عدم القبول، فالجواب نحو ما تقدم. فأما الشهادة على العدوّ، فالقائلون بأنها لا تُقبل يخصّون ذلك بالعداوة الدنيوية التي تبلغ أن يحزن لفرحه، ويفرح لحزنه، فأما العداوة الدينية والدنيوية التي لم تبلغ ذاك المبلغ، فلا تمنع من القبول عندهم. والمنقول عن أبي حنيفة - كما في كتب أصحابه - أن العداوة لا تقتضي رد الشهادة إلا أن يبلغ أن تسقط بها العدالة. أقول: وإذا بلغت ذلك لم تقبل شهادة صاحبها حتى لعدوِّه على صديقه. ويقوِّي هذا القول أن القائلين بعدم القبول يشترطون أن تبلغ أن يحزن لفرحه، ويفرح لحزنه، وهذا يتضمن أن يفرح لذبح أطفاله ظلمًا، وللزنا ببناته [ص 22] وارتداد زوجاته، ونحو ذلك. وقس على ذلك الحزن لفرحه. وهذا مسقط للعدالة حتمًا. فإن قيل: قد يفرح بذلك من جهة أنه يُحْزِن عدوَّه، ومع ذلك يَحزن من جهة مخالفته للدين. قلت: إن لم يغلب حزنه فرحه فليس بعدل، وإن غلب فكيف يظن به أن يوقع نفسه في شهادة الزور التي هي من أكبر الكبائر، وفيها أعظم الضرر

على نفسه في دينه، ولا يأمن أن يلحقه لأجلها ضرر شديد في دنياه، كلُّ ذلك ليضرّ المشهود عليه في دنياه ضررًا قد يكون يسيرًا، كعشرة دراهم مثلًا. وهَبْه صح الردُّ بالعداوة مع بقاء العدالة، فالقائلون بالردِّ يشرطون أن تكون عداوةً دنيوية تبلغ أن يحزن لفرحه، ويفرح لحزنه، وهذا لا يتأتَّى للأستاذ إثباته في أحدٍ ممن يتهمهم؛ لأنه إن ثبت انحرافهم عن أبي حنيفة وأصحابه، وثبت أن ذلك الانحراف عداوة فهي عداوة دينية، وهب أنه ثبت في بعضهم أنها عداوة دنيوية، فلا يتأتَّى للأستاذ إثبات بلوغها ذاك الحدّ، أي: أن يحزن لفرحه، ويفرح لحزنه، وهَبْه بلغ فقد تقدَّم أن الرواية لا تردُّ بالعداوة. وأما ما ذكره الأستاذ من كلام الشافعي في أصحاب العصبية، فالشافعي إنما عنَى العصبية لأجل النسب، كما هو صريحٌ في كلامه، وذلك أمر دنيوي، وكلامُه ظاهرٌ في أنها بشرطها تُسقط العدالة، ولا ريب أنه إذا بلغت العصبية أو العداوة إسقاط العدالة لم تقبل لصاحبها شهادةٌ ولا رواية البتة سواء أكانت دنيوية أم مذهبية أم دينية، كمن يُسْرف في الحنق على الكفار، فيتعدّى على أهل الذمة والأمان بالنهب والقتل، ونحو ذلك، بل قد يكفر .. فقد اتضح بما تقدم الجواب عن بعض ما يمكن أن يُتشبَّث به في ردّ رواية العدول. وبقي حكاية عن شريك (¬1) ربما يُؤخذ منها أنه قد تقبل شهادة بعض ¬

_ (¬1) أما أثر شريك ففي تاريخ بغداد (13/ 499): عن شريك أن رجلاً قدّم إليه رجلاً فادّعى عليه مائة ألف دينار قال: فأقرّ به قال: فقال شريك: أما إنه لو أنكر لم أقبل عليه شهادةَ أحدٍ بالكوفة إلا شهادة وكيع بن الجراح وعبد الله بن نُمير.

العدول في القليل، ولا تقبل في الكثير، وفرعٌ للشافعي قد يتوهّم منه نحو ذلك، وما يقوله أصحاب الحديث في رواية المبتدع، وما يقوله بعضهم في جَرْح المحدِّث لمن هو ساخط عليه. فأما الحكاية عن شَريك فمنقطعة، ولو ثبتت لوجب حملها على أن مراده القبول الذي تطمئن إليه نفسه. [ص 23] فإن القاضي قد لا يكون خبيرًا بعدالةِ الشاهدين وضَبْطِهما وتيقُّظِهما، وإنما عدّلهما غيرُه، فإذا كان المال كثيرًا جدًّا بقي في نفسه ريبة. وقد بَيَّن أهلُ العلم أن مِثل هذا إنما يقتضي التروِّي والتثبُّت، فإذا تروَّى وبقيت الحالُ كما كانت وجب عليه أن يقضي بتلك الشهادة، ويعرض عما في نفسه. وأما الفرع المذكور عن الشافعي (¬1)، فليس من ذاك القبيل، وإنما هو من باب الاحتياط للتعديل، ومع ذلك فقد ردَّه إمامُ الحرمين، وقال: إن أكثر الأئمة على خلافه (¬2). ¬

_ = وعلق عليه المصنف في رسالة له في "العدالة" بقوله: "يعني أن المال عظيم، فلا ينبغي تهمة الشاهد فيه حتى يكون عظيم العدالة، ولو كان ألف دينار فقط لكان بالكوفة يومئذٍ ألف عدل أو أكثر من [لا] ينبغي التهمة بشهادة رجلين منهم فيه". (¬1) ذكر الشافعي في "الأم": (6/ 309) أنه ينبغي للقاضي إذا سأل عن الشهود مَن يطلب منه بيان حالهم أن يبين للمسؤول مقدار ما شهدوا فيه، قال: "فإن المسؤول عن الرجل قد يعرف ما لا يعرف الحاكم من أن يكون الشاهد ... وتطيب نفسه على تعديله في اليسير، ويقف في الكثير". (¬2) في "نهاية المطلب": (18/ 492).

وأما رواية المبتدع وجَرْح المحدِّث لمن هو ساخط عليه، فأفرد كلًا منهما بقاعدة (¬1). وأما ما في "لسان الميزان" (1/ 16) (¬2) فمقبول، والجوزجاني ناصبيّ، يرى أنّ التشيُّع - وإن خف - مذهب رديء، وزيغ عن القصد، فيطلق على من يراه متشيِّعًا ما يعتقده فيه، كأن يقول: "رديء المذهب، زائغ عن القصد". ونحو ذلك. وقول ابن حجر: إنه إذا جَرَح بعض الكوفيين ممن يراه متشيعًا، وخالفه غيره ممن هو مثله أو فوقه، فوثَّق ذلك الرجل، قُدِّم التوثيق = قولٌ صحيح. لكنه إذا بنى جَرْحَه على دليل وصرَّح به، فلا بدَّ من الاعتداد بدليله؛ لأنه غير متهم بأن يتعمَّد الكذب ونحوه، ولو كان متهمًا بذلك لما قبلنا جرحه البتة، ولو لم يخالفه غيره. ... ¬

_ (¬1) من قوله: "فأما الشهادة على العدو ... " إلى هنا سيعيده المؤلف (ص 59 - 62) فأبقيناه على حاله، ولعله ذهل أن يضرب عليه من أحد الموضعين. (¬2) (1/ 212).

[الباب الثاني: قواعد خلط فيها الكوثري]

[الباب الثاني: قواعد خلط فيها الكوثري] (¬1) 1 - رمي الراوي بالكذب في غير الحديث النبوي تقدم في الفصل الثاني (¬2) قول مالك: "لا تأخذ العلم من أربعة، وخذ ممن سوى ذلك: لا تأخذ عن سفيه مُعْلن بالسَّفَه وإن كان أروى الناس. ولا تأخذ عن كذّاب يكذب في حديث الناس إذا جُرِّب عليه ذلك، وإن كان لا يتهم أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ... ". أسنده الخطيب في "الكفاية" (ص 116) إلى مالك كما تقدم، ثم قال (ص 117): "باب في أن الكاذب في غيرِ حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تُرَدُّ روايته - قد ذكرنا آنفًا قولَ مالك بن أنس. ويجب أن يقبل حديثه إذا ثبتت توبته". ولم يذكر ما يخالف مقالة مالك. وأسند (ص 23 - 24) إلى الشافعي: " ... ولا تقوم الحجة بخبر الخاصة حتى يجمع أمورًا، منها: أن يكون من حدَّثَ به ثقةً في دينه معروفًا بالصدق في حديثه ... ". وهذه العبارة ثابتة في "رسالة الشافعي" (¬3). وفي "لسان الميزان" (ج 1 هـ 469) (¬4): "قال ابن أبي حاتم عن أبيه أن يحيى بن المغيرة سأل جريرًا (ابن عبد الحميد) عن أخيه أنس فقال: قد ¬

_ (¬1) زيادة من المحقق, لأنه قد تقدم الباب الأول (ص 5)، وفيه الفصول الأربعة التي ذكرها المؤلف، وهذا هو الباب الثاني وفيه القواعد التي خلط الكوثري فيها. (¬2) (ص 15). ووقع في الأصل: "الثالث". (¬3) (ص 370). (¬4) (2/ 223).

سمع من هشام بن عروة، ولكنه يكذب في حديث الناس، فلا يُكْتَب عنه". وفي "النخبة وشرحها" (¬1): " (ثم الطعن) يكون بعشرة أشياء ... ترتيبها على الأشدّ فالأشدّ في موجِب الردّ على سبيل التدلَّي ... (إما أن يكون بكذب الراوي) في الحديث النبويّ ... (أو تُهْمتِه بذلك) ... وكذا مَن عُرِف بالكذب في كلامه وإن لم يظهر منه وقوع ذلك في الحديث النبوي، وهو (¬2) دون الأول. (أو فحش غلطه)، .. (أو غفلته) ... (أو فسقه) ... (أو وهمه) ... (أو مخالفته) أي الثقات (¬3) (أو جهالته) ... (أو بدعته) ... (أو سوء حفظه) ... ". هذه النقول تعطي أن الكذب في الكلام تُرَدُّ به الرواية مطلقًا، وذلك يشمل الكذبة الواحدة التي لا يترتّب عليها ضرر ولا مفسدة. وقد ساق صاحب "الزواجر" الأحاديث في التشديد في الكذب ثم قال (ج 2 ص 169): "عَدُّ هذا [هو ما صرحوا به. قيل: لكنه مع الضرر ليس كبيرة مطلقًا، بل قد يكون كبيرة كالكذب على الأنبياء، وقد لا يكون - انتهى -. وفيه نظر بل الذي يتجه أنه حيث اشتدّ ضررُه بأن لا يحتمل عادة كان كبيرة. بل صرَّح الروياني في "البحر" بأنه كبيرة وإن لم يضر، فقال: مَن كذب قصدًا رُدّت شهادته وإن لم يضر بغيره, لأن الكذب حرام بكل حال؛ وروى فيه حديثًا. وظاهر الأحاديث السابقة أو صريحها يوافقه، وكأن وجه عُدولهم عن ذلك ابتلاء أكثر الناس به، فكان] كالغيبة على ما مرَّ فيها عند جماعة". ¬

_ (¬1) (ص 87 - 89 - ط. العتر). (¬2) في "النزهة": "وهذا". (¬3) في "النزهة": "للثقات".

أقول: لا يلزم من التسامح في الشاهد أن يُتسامح في الراوي لوجوه: الأول: أن الرواية أقرب إلى حديث الناس من الشهادة، فإن الشهادة تترتب على خصومة، ويحتاج الشاهد إلى حضور مجلس الحكم، ويأتي باللفظ الخاص الذي لا يحتاج إليه في حديث الناس، ويتعرَّض للجرح فورًا. فمن جُرِّبت عليه كذبة في حديث الناس لا يترتب عليها ضرر، فخوفُ أن يجرَّه تساهلُه في ذلك إلى التساهل في الرواية أشدُّ من خوف أن يجرَّه إلى شهادة الزور. الثاني: أن عماد الرواية الصدق، فمعقول أن يشدَّد فيها فيما يتعلق به ما لم يشدَّد في الشهادة. وقد خُفِّف في الرواية في غير ذلك ما لم يخفَّف في الشهادة. تقومُ الحجةُ برواية الواحد والعبد والمرأة وجالبِ منفعةٍ إلى نفسه أو أصله أو فرعه، أو ضررٍ على عدوّه - كما يأتي - بخلاف الشهادة. فلا يليق بعد ذلك أن يخفَّف في الرواية فيما يمسُّ عمادَها. الثالث: أن الضرر الذي يترتب على الكذب في الرواية أشدُّ جدًّا من الضرر الذي يترتّب على شهادة الزور، فينبغي أن يكون الاحتياط للرواية آكد. وقد أجاز الحنفية قبول شهادة الفاسق دون روايته. والتخفيف في الرواية بما تقدّم من قيام الحجة بخبر الواحد وحده وغير ذلك لا ينافي كونها أولى بالاحتياط؛ لأن لذلك التخفيف حِكمًا أخرى، بل ذلك يقتضي أن لا يخفف فيها فيما عدا ذلك، فتزداد تخفيفًا على تخفيف. الرابع: أن الرواية يختص بها قوم محصورون ينشؤون عادةً على العلم والدين والتحرُّز عن الكذب، والشهادة يحتاج فيها إلى جميع الناس؛ لأن المعاملات والحوادث التي تحتاج إلى الشهادة فيها تتفق لكل أحد، ولا

يحضرها غالبًا إلا أوساط الناس وعامتهم الذين ينشؤون على التساهل، فمعقولٌ أنه لو رُدَّت شهادةُ كلَّ من جُرِّبت عليه كذبة لضاعت حقوق كثيرة جدًّا، ولا كذلك الرواية. هذا كله في كذب يسير في حديث الناس لا تترتب عليه مفسدة. فأما الكذب في رواية ما يتعلق بالدين ولو غير الحديث النبوي، فلا خفاء في إسقاط صاحبه؛ فإن الكذب في روايةِ أثرٍ عن صحابي قد يترتب عليه أن يحتج بذلك الأثر من يرى قول الصحابي حجة، ويحتج هو وغيره به على أن مثل ذلك القول ليس خرقًا للإجماع، ويستند إليه في فهم الكتاب والسنة، ويردّ به بعض أهل العلم حديثًا رواه ذاك الصحابي يخالف ذلك القول. ويأتي نحو ذلك في الكذب [في] رواية قولٍ عن تابعي، أو عالم ممن بعده، وأقلُّ ما في ذلك أن يقلّده العامي. وهكذا الكذب في روايةِ تعديلٍ لبعض الرواة، فإنه يترتب عليها قبول أخبار ذلك الراوي، وقد يكون فيها أحاديث كثيرة غير صحيحة، فيترتب على هذا من الفساد أكثر مما يترتب على كذب في حديث واحد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وكذلك الكذب في رواية الجرح، فقد يترتب عليها إسقاط أخبار كثيرة صحيحة، وذلك أشد من الكذب في حديث واحد. وهكذا الإخبار عن الرجل بما يقتضي جرحه. وهكذا الكذب في الجرح والتعديل كقوله: "هو ثقة"، "هو ضعيف"، أو نحو ذلك. فالكذب في هذه الأبواب في معنى الكذب في الحديث النبوي أو قريب منه، وتترتب على ذلك مضارُّ شديدة ومفاسد عظيمة. فلا يتوهم محلٌّ للتسمُّح فيه، على فرض أن بعضهم تسامح في حديث الناس فلم يجرح

تنبيه

الراوي بما قد يقع له فيه من كذب يسير لا يترتب عليه ضرر. والأستاذ يرمي بعض أئمة السنة فمَن دونهم مِن ثقات الرواة بتعمّد الكذب في الرواية وفي الجرح والتعديل كذبًا يترتب عليه الضرر الشديد والفساد الكبير، ثم يزعم أنه إنما يقدح بذلك فيما لا يقبله هو منهم، فأما ما عداه فإنهم يكونون فيه عدولًا مقبولين ثقات مأمونين. وكأنه يقول: وإذا لزم أن يسقطوا البتة فليسقطوا جميعًا! وليت شعري مَن الذي يعادي أبا حنيفة؟ أمن يقتضي صنيعه أنه لا يمكن الذبُّ عنه إلا بمثل هذا الباطل، أم مَن يقول: يمكن المتحرِّي للحق أن يذبَّ عنه بدون ذلك؟ تنبيه: ليس من الكذب ما يكون الخبر ظاهرًا في خلاف الواقع، محتملاً للواقع احتمالًا قريبًا، وهناك قرينة تدافع ذاك الظهور، بحيث إذا تدبرها السامعُ صار الخبر عنده محتملًا للمعنيين على السواء، كالمجمل الذي له ظاهر ووقت العمل به لم يجيء، وكالكلام المرخَّص فيه في الحرب، وكالتدليس، فإن المعروف بالتدليس لا يبقى قوله: "قال فلان" - ويسمي شيخًا له - ظاهرًا في الاتصال بل يكون محتملاً، وهكذا من عُرِف بالمزاح إذا مَزَح بكلمة يعرف الحاضرون أنه لم يُرِدْ بها ظاهرها، وإن كان فيهم من لا يعرف ذلك، إذا كان المقصود ملاطفته أو تأديبه على أن ينبَّه في المجلس. وهكذا فلتات الغضب، وكلمات التنفير عن الغلو - وقد مرت الإشارة إليها في الفصل الثالث (¬1) -, على فرض أنه وقع فيها ما يظهر منه خلاف الواقع. ¬

_ (¬1) (ص 20 - 32). ووقع في الأصل: "الثاني".

وقد بسطت هذه الأمور وما يشبهها في "رسالتي في أحكام الكذب" (¬1). فأما الخطأ والغلط، فمعلوم أنه لا يضرُّ وإن وقع في رواية الحديث النبوي، فإذا كثر من الراوي أو فحش قدَحَ في ضبطه ولم يقدح في صدقه وعدالته. والله الموفق. **** ¬

_ (¬1) واسمها "إرشاد العامِه إلى الكذب وأحكامه" وهي مطبوعة ضمن هذا المشروع - قسم الفقه.

2 - التهمة بالكذب

[ص 34] 2 - التهمة بالكذب تقدم (¬1) أن أشدَّ موجبات ردِّ الراوي كذبُه في الحديث النبوي، ثم تهمته بذلك، وفي درجتها كذبه في غير الحديث النبوي. فإذا كان في الرواية والجرح والتعديل بحيث يترتب عليه من الفساد نحوُ ما يترتب على الكذب في الحديث النبوي فهو في الدرجة الأولى، فالتهمة به في الدرجة الثانية أو الثالثة. وقد ذكر [علماء] الحديث بعد درجة الكذب في الحديث النبوي ودرجة التهمة به درجتين بل درجات، ونصوا على أن مَن كان مِن أهل درجة من الأربع الأولى فهو ساقط البتة في جميع رواياته، سواء منها ما طُعِن فيه بسببه وغيره. والأستاذ يطعن في جماعة من أئمة السنة والموثَّقين من رواتها، فيرمي بعضهم بتعمّد الكذب، وبعضهم بالتهمة بذلك، ويجمع لبعضهم الأمرين: يكذِّب أحدَهم في خبر، ويتهمه في آخر؛ ويجزم بأنهم متهمون في كلَّ ما يتعلق بالغضّ من أبي حنيفة وأصحابه، ولو على بعد بعيد، كما يأتي في ترجمة أحمد بن إبراهيم (¬2)؛ ويصرِّح في بعضهم بأنهم مقبولون فيما عدا ذلك. فهل يريد أنهم عدول مقبولون ثقات مأمونون مطلقًا، ولا يُعتدُّ عليهم بتكذيب الأستاذ ولا اتهامه؛ لأنه خَرْق للإجماع في بعضهم ومخالف للصواب في آخرين، ولأنَّ الأستاذ لم يتأهل للاجتهاد في الكلام في القدماء، ولأنّ كلامه فيهم أمر اقتضته مصلحة مدافعة [اللا] مذهبية التي ¬

_ (¬1) (ص 34). (¬2) رقم (11).

يقول: إنها قنطرة اللادينية (¬1)! كما يقول بعض سلفه من المتكلّمين: إن كثيرًا من نصوص الكتاب والسنة المتعلقة بصفات الله عَزَّ وَجَلَّ ونحوها صريحة في الباطل مع علم الله عَزَّ وَجَلَّ ورسوله بالحق في نفس الأمر، ولكن دعت إلى ذلك مصلحةُ اجترار العامة إلى قبول الشريعة العملية (¬2)! فإن كان هذا مراد الأستاذ فالأمر واضح، وإلا فإن أراد بالقبول القبول على جهة الاستئناس في الجملة انحصر الكلام معه في دعوى الكذب والتهمة، وسيأتي إن شاء الله تعالى. وإن أراد أنهم في ما يتعلق بتلك الشجرة الممنوعة - وهي الغضّ من أبي حنيفة وأصحابه - كذابون ومتهمون، وفيما عدا ذلك عدول مقبولون ثقات مأمونون، فهذا تناقض وخرق للإجماع فيما نعلم. نعم، هناك أمور قد يتشبَّث بها في دعوى اجتماع التهمة والعدالة، وقد أشار الأستاذ إلى بعضها. وينبغي أن يُعلم أن التهمة تقال على وجهين: الأول: قول المحدّثين: "فلان متهم بالكذب". وتحرير ذلك أن المجتهد في أحوال الرواة قد يثبت عنده بدليل يصح الاستناد إليه أن الخبر لا أصل له وأن الحَمْل فيه على هذا الراوي، ثم يحتاج بعد ذلك إلى النظر في الراوي أتعمَّد الكذبَ، أم غلِط؟ فإذا تدبر وأنعم النظر فقد يتجه له الحكم بأحد الأمرين جزمًا، وقد يميل ظنُّه إلى أحدهما إلا أنه لا يبلغ أن ¬

_ (¬1) للكوثري مقال بهذا العنوان ضمن "مقالاته" (ص 106). (¬2) ترى الكلام عن ذلك في الاعتقاديات [2/ 411 وما بعدها] إن شاء الله تعالى. [المؤلف]. وانظر "الحموية" (ص 267 - 268) لشيخ الإِسلام.

يجزم به. فعلى هذا الثاني إذا مال ظنه إلى أن الراوي تعمد الكذب قال فيه: "متهم بالكذب"، أو نحو ذلك مما يؤدي هذا المعنى. ودرجة الاجتهاد المشار إليه لا يبلغها أحدٌ من أهل العصر فيما يتعلق بالرواة المتقدمين، اللهم إلا أن يتهم بعضُ المتقدمين رجلاً في حديث يزعم أنه تفرَّد به، فيجد له بعضُ أهل العصر متابعات صحيحة، وإلا حيث يختلف المتقدمون فيسعى في الترجيح. فأما مَن وثَّقه إمام من المتقدمين أو أكثر، ولم يتهمه أحد من الأئمة، فيحاول بعض أهل العصر أن يكذِّبه أو يتهمه، فهذا مردود؛ لأنه إن تهيَّأ له إثبات بطلان الخبر وأنه ثابت عن ذلك الراوي ثبوتًا لا ريب فيه، فلا يتهيأ له الجزم بأنه تفرَّد به، ولا أن شيخه لم يروه قط، ولا النظر الفني الذي يحق لصاحبه أن يجزم بتعمد الراوي للكذب أو يتهمه به. بلى قد يتيسر بعض هذه الأمور فيمن كذَّبه المتقدمون، لكن مع الاستناد إلى كلامهم، كما يأتي في ترجمة أحمد بن محمَّد بن الصلت (¬1)، وترجمة محمَّد بن سعيد البورقي (¬2)؛ وإن كان الأستاذ يخالف في ذلك، فيصدِّق من كذَّبه الأئمة وكذبُه واضح، كما يكذِّب أو يتَّهم من صدَّقوه وصدقُه ظاهر، شأنَ المحامين في المحاكم، معيارُ الحق عند أحدهم مصلحةُ موكِّله! هذا، والأستاذ فيما يهوِّل بدعوى دلالة العقل والتواتر والنقل الراجح، حيث لا ينبغي له دعوى ذلك. وليس من شأني أن أناقشه في كلِّ موضع، ولكني أقول: حيث تصح دعواه، فلا يصح ما بناه عليها من تكذيب الثقات واتهامهم. وحيث يلزم من صحة الدعوى صحة البناء، فالدعوى غير ¬

_ (¬1) رقم (34). (¬2) رقم (207).

صحيحة. وإنما كتبتُ هذا بعد فراغي من النظر في التراجم، وأسأل الله التوفيق. الوجه الثاني: مقتضى اللغة. والتهمة عند أهل اللغة مشتقة من الوهم، وهو كما في "القاموس" (¬1): "من خَطَرات القلب أو مرجوح طَرَفَي المتردَّدِ فيه". والتهمة (¬2) بهذا المعنى تعرض في الخبر إذا كان فيه إثبات ما يظهر أن المخبر يحبّ أن يعتقد السامع ثبوته. وذلك كشهادة الرجل لقريبه وصديقه، وعلى من بينه وبينه نُفْرة، وكذلك إخباره عن قريبه أو صديقه بما يُحْمَد عليه، وإخباره عمن هو نافر عنه بما يُذَمّ عليه. وقس على ذلك كلَّ ما من شأنه أن يدعو إلى الكذب. وتلك الدواعي تخفى، وتتفاوت آثارها في النفوس وتتعارض، وتُعارِضُها الموانعُ من الكذب. [ص 35] وقد تقدمت الإشارة إليها في الفصل الخامس (¬3). فلذلك اكتفى الشارع في باب الرواية بالإِسلام والعدالة (¬4)، فمَن ثبتت عدالته وعُرف بتحرّي الصدق من المسلمين فهو على العدالة والصدق في أخباره، لا يقدح في أخباره أن يقوم به بعض تلك الدواعي، ولا أن يتهمه من لا يعرف عدالته، أو من لا يعرف أثر العدالة على النفس، أو مَن له هوى مخالف لذاك الخبر فهو يتمنّى أن لا يصح، كما قال المتنبي (¬5): ¬

_ (¬1) (ص 1507 - الرسالة). (¬2) بعده في الأصل: "في" ولا مكان لها، وليست في "التنكيل". (¬3) لم يعقد المؤلف سوى أربعة فصول، إلا إن اعتبر مبحث التهمة بالكذب فصلاً خامسًا فنعم، وانظر (ص 34). (¬4) في "التنكيل" زيادة: "والصدق". (¬5) كذا في الأصل هنا وفي (ص 126). والرواية: "طوى الجزيرة حتى جاءني خبر ... فزعت فيه ..................... "

شقَّ الجزيرةَ حتى جاءني نبأ ... فزعتُ منه بآمالي إلى الكذِبِ وكأنه أخذه من قول الأول (¬1): إنّي أتَتني لِسانٌ ما أُسَرُّ بها ... من عَلْوَ لاعَجَبٌ فيها ولا سَخَرُ جاءَتْ مُرَجَّمَةً قد كنتُ أَحْذَرُها ... لو كان يَنفعُني الإشفاقُ والحَذَرُ تأْتي على النّاس لا تَلوي على أَحدٍ ... حتى أتَتْنا، وكانت دوننا مُضَرُ إذا يُعَادُ لها ذِكْرٌ أُكَذِّبُهُ ... حتى أتَتْني بِهَا الأنْبَاءُ وَالخَبَرُ وجماعة من الصحابة روى كلٌّ منهم فضيلة لنفسه يرون أن على الناس قبول ذلك منهم، فتلقَّت الأمةُ ذلك بالقبول. وكان جماعة من الصحابة والتابعين يقاتلون الخوارج، ثم روى بعض أولئك التابعين عن بعض أولئك الصحابة أحاديث في ذمِّ الخوارج، فتلقت الأمة تلك الأحاديث بالقبول. وكثيرًا ما ترى في تراجم ثقات الرواة من التابعين فمن بعدهم إخبارَ الرجل منهم بثناء غيره عليه، فيتلقى أهل ذلك بالقبول. وقبلوا من الثقة دعواه ما هو ممكن من صحبته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو لأصحابه، أو إدراكه لكبار الأئمة وسماعه منهم وغير ذلك، مما فيه فضيلة للمدعي، وشرف له، وداع للناس إلى الإقبال عليه، وتبجيله، والحاجة إليه. ولم يكن أهل العلم إذا أرادوا الاستيثاق من حال الراوي يسألون إلاَّ ¬

_ انظر: شرح الواحدي لديوان المتنبي (608) وغيره. وفي "التنكيل" زاد بيتًا بعده وهو: حتى إذا لم يَدَعْ لي صدقُه أملًا ... شرِقتُ بالدمع حتى كاد يشرَقُ بي (¬1) تقدم تخريج الأبيات (ص 36 - 37).

عما يمسّ دينه وعدالته. ونص أهل العلم على أن الرواية في ذلك مخالفة للشهادة. وفي "التحرير" لابن الهمام الحنفي مع "شرحه" لابن أمير حاج (ج 2 ص 245) (¬1): " (وأما الحرية والبصر وعدم الحدّ في قذف و) عدم (الولاء) [أي القرابة من النسب أو النكاح ...] (و) عدم (العداوة) الدنيوية (فتختص بالشهادة) أي تشترط فيها، لا في الرواية". فأما الشهادة فإن الشرع شَرَط لها أمورًا أخرى مع الإِسلام والعدالة، كما أشار إليه ابن الهمام، وشرط في إثبات الزنا أربعة ذكور وفي غيره من الحدود ونحوها ذَكَرين، وفي الأموال ونحوها رجلاً وامرأتين إلى غير ذلك. فأما الشهادة للنفس فمتفق على أنها لا تقبل. وأما الشهادة للأصل وللفرع وللزوج وعلى العدوّ ففيها خلاف. وفي بعض كتب [الفقه] (¬2) أن الردّ في ذلك لأجل التهمة، وظاهر ذلك أن التهمة هي العلة، فيُبنى عليها قياسُ غير المنصوص عليه. وهذا غير مستقيم (¬3)، إذ ليس كلُّ شاهدٍ لنفسه حقيقًا بأن يتّهم. ألا ترى أن كبار الصحابة وخيار التابعين لو شهد أحدُهم لنفسه لم نتهمه، ولا سيّما إذا كان غنيًّا والمشهود به يسيرًا كخمسة دراهم، والمشهود عليه معروفًا بجحد الحقوق. أقول هذا لزيادة الإيضاح، وإلا ¬

_ (¬1) (3/ 46) وما بين المعكوفين منه. (¬2) زيادة ذهل المؤلف عن كتابتها. وانظر "المحيط البرهاني": (9/ 189)، و"حاشية العدوي": (7/ 207)، و"الحاوي": (11/ 328). (¬3) كتب المؤلف أولاً: "وهذا فاسد" ثم غيَّرها في (ص 41) إلى ما هو مثبت.

فالواقع أننا لا نتهمهم مطلقًا حتى لو شهد أحدهم لنفسه على آخر منهم وأنكر ذاك لم نتهم واحدًا منهما، بل نعتقد أن أحدهما نسي أو غلط. وليس ذلك خاصًّا بهم، بل كل من ثبتت عدالته لا يتهمه عارفوه الذين يعدِّلونه ولا الواثقون بتعديل المعدِّلين. فإن اتهمه غيرهم كان معنى ذلك أنه غير واثق بتعديل المعدّلين، ومتى ثبت التعديل الشرعيّ لم يُلتفت إلى من لا يثق به. ولو كان لك أن تعدِّل الرجل وأنت لا تأمن أن يدعي الباطل ويشهد لنفسه زورًا بخمسة دراهم مثلاً، لكان لك أن تعدِّل من تتهمه بأنه لو رشاه رجل عشرة دراهم أو أكثر لشهدوا له زورًا. وهذا باطل قطعًا، فإن تعديلك للرجل إنما هو شهادة منك له بالعدالة، والعدالة "مَلَكة تمنع صاحبها عن اقتراف الكبائر وصغائر الخسة ... " فكيف يسوغ (¬1) أن تشهد بهذه المَلَكة لمن تتهمه بما ذكر؟ ولو كان كلُّ عدل حقيقًا بأن يتهمه عارفوه بنحو ما ذكر لما كان في الناس عدل. وفي أصحابنا من لا نتهمه في شهادته ولو حصل له بسببها مائة درهم أو أكثر، كأن يدعي صاحبنا على فاجر مائة درهم فيجحده، ثم تتفق للفاجر خصومة أخرى، فيجيء إلى صاحبنا فيقول له: أنت تعرف هذه القضية، فاحضر، فاشهد بما تعلم، فيقول صاحبنا: نعم أنا أعرفها، ولكنك ظلمتني مائة درهم، فأدِّها إليَّ إن أردت أن أشهد، فيدفع له مائة درهم، فيذهب فيشهد = فإننا لا نتهم صاحبنا في دعواه ولا شهادته. [ص 36] وفي أصحابنا مَن لو ائتمن على مئات الدراهم، ثم بعد مدة ¬

_ (¬1) في "التنكيل": "يسوغ لك".

ادعى ما يحتمل من تلفها، أو أنه ردَّها على صاحبها الذي قد مات، لَما اتهمناه. نعم قد يتهمه مَن لا يعرفه كمعرفتنا، أو من لا يعرف قدر تأثير الموانع عن الخيانة في نفس من قامت به. فالفاسق المتهتك لا يعرف قدر العدالة، فتراه يتهم العدول، بل لا يكاد يعرف عدالتهم، وإن كانوا جيرانه. فإن قيل: يكفي في التعليل أن ذلك مظنة التهمة، ولا يضر التخلُّف في بعض الأفراد، كما قالوا في قصر الصلاة في السفر: إنه لأجل المشقة وإن تخلفت المشقة في بعض المسافرين كالمَلِك المترَفِّه. قلت: العلة في قصر الصلاة هي السفر بشرطه لا المشقَّة، فكذلك تكون العلة في رد الشهادة للنفس هي أنها شهادة للنفس، أو أنها دعوى كما يومئ إليه حديث: "لو يُعطى الناسُ بدعواهم لادّعى ناسٌ دماءَ رجالٍ وأموالهم ... " (¬1). فعلى هذا لا يتَّأتى القياس، ألا ترى أن في أعمال العمّال المقيمين ما مشقَّته أشدّ من مشقة السفر العادي، ذلك كالعمل في المناجم ونحوها، ومع ذلك ليس لهم أن يقصروا الصلاة؟ فإن قيل: الشهادة للأصل والفرع مظنة للتهمة، كما أن الشهادة للنفس مظنة لها. قلت: فالعمل في المناجم مظنة للمشقة، بل المشقة فيه أشقّ وأغلب، والتهمة في الشهادة للأصل والفرع أضعف وأقل من التهمة في الشهادة للنفس، فإنَّ حِرص الإنسان على نفع نفسه أشدّ غالبًا من حرصه على نفع أصله أو فرعه، وقد يكون الرجل منفردًا عن أصله أو فرعه وبينهما عداوة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4552)، ومسلم (1711) مختصرًا من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

والشافعي ممن يقول برد الشهادة للأصل والفرع، ولم يعرِّج على التهمة، ولكنه لما علم أن جماعةً ممن قبله ذهبوا إلى الردّ ولم يَعْلَم لهم مخالفًا، هاب أن يقول ما لا يعلم له فيه سلفًا، فحاول الاستدلال بما حاصله: أن الفرع من الأصل فشهادة أحدهما للآخر كأنها شهادة لنفسه، ثم قال كما في "الأم" (ج 7 ص 42) (¬1): "وهذا مما لا أعرف فيه خلافًا". كأنه ذكر هذا تقويةً لذاك الاستدلال، واعتذارًا عما فيه من الضعف. ولما علم بعض حُذّاق أصحابه كالمزني وأبي ثور أن هناك خلافًا ذهبوا إلى القبول (¬2). ثم أقول: لو كان هناك نص أو إجماع على عدم قبول الشهادة للأصل أو الفرع أو الزوج لكانت العلة فيها أنها شهادة لمن ذُكر، ولم تكن العلة هي التهمة. فأما الشهادة على العدوّ، فالقائلون بأنها لا تُقبل يخصون ذلك بالعداوة الدنيوية التي تبلغ أن يحزن لفرحه ويفرح لحزنه. فأما العداوة الدينية والدنيوية التي لم تبلغ ذاك المبلغ، فلا تمنع من القبول عندهم. والمنقول عن أبي حنيفة كما في كتب أصحابه (¬3) أن العداوة لا تقتضي ردّ الشهادة إلا أن تبلغ أن تَسْقُطَ بها العدالة. أقول: وإذا بلغت ذلك لم تقبل شهادة صاحبها حتى لعدوِّه على صديقه. ويقوِّي هذا القول أن القائلين بعدم القبول يشرطون أن تبلغ أن يحزن لفرحه ¬

_ (¬1) (8/ 114). (¬2) انظر "البيان": (13/ 311) للعمراني. (¬3) انظر "رد المحتار": (8/ 225 - 226).

ويفرح لحزنه. وهذا يتضمن أن يفرح لذبح أطفاله ظلمًا، والزنا ببناته، وارتداد زوجاته ونحو ذلك، وقس على ذلك الحزن لفرحه، وهذا مسقط للعدالة حتمًا. فإن قيل: قد يفرح بذلك من جهة أنه يُحْزن عدوَّه، ومع ذلك يحزن من جهة مخالفته للدين. قلت: إن لم يغلب حزنُه فرحَه فليس بعَدْل، وإن غلب فكيف يظن به أن يوقع نفسه في شهادة الزور التي هي من أكبر الكبائر، وفيها أعظم الضرر على نفسه في دينه، ولا يأمن أن يلحقه لأجلها ضرر شديد في دنياه، كلُّ ذلك ليضر المشهود عليه في دنياه ضررًا قد يكون يسيرًا كعشرة دراهم مثلًا؟ وهَبْه صحّ الردّ بالعداوة مع بقاء العدالة فالقائلون بالرد يشرطون أن تكون عداوة دنيوية تبلغ أن يحزن لفرحه ويفرح لحزنه، وهذا لا يتأتّى للأستاذ إثباته في أحدٍ ممن يتهمهم؛ لأنه إن ثبت انحرافهم عن أبي حنيفة وأصحابه وثبت أن ذلك الانحراف عداوة فهو عداوة دينية. وهب أنه ثبت في بعضهم أنها عداوة دنيوية فلا يتّأتى للأستاذ إثبات بلوغها ذاك الحدّ، أي أن يحزن لفرحه ويفرح لحزنه. وهبه بلغ، فقد تقدم أن الرواية لا تردّ بالعداوة. وأما ما ذكره الشافعي في أصحاب العصبية (¬1)، فالشافعي إنما عنى العصبية لأجل النسب، كما هو صريح في كلامه. وذلك أمر دنيوي، وكلامه ظاهر في أنها بشرطها تسقط العدالة. ولا ريب أنه إذا بلغت العصبية أو العداوة إسقاط العدالة لم تقبل لصاحبها شهادة ولا رواية ألبتة، سواء أكانت ¬

_ (¬1) في "الأم": (7/ 512).

دنيوية، أم مذهبية، أم دينية؛ كمن يسرف في الحنق على الكفار فيتعدَّى على أهل الذمة والأمان بالنهب والقتل ونحو ذلك، بل قد يكفر. فقد اتضح بما تقدّم الجوابُ عن بعض ما يمكن التشبُّث به في ردَّ رواية العدول. وبقي حكاية عن شريك ربما يُؤخَذ منها أنه قد يقبل شهادة بعض العدول في القليل ولا تُقبل في الكثير (¬1)، وفرعٌ للشافعي قد يتوهّم منه نحو ذلك (¬2)، وما يقوله أصحاب الحديث في رواية المبتدع، وما قاله بعضهم في جرح المحدِّث لمن هو ساخط عليه. فأما الحكاية عن شريك فمنقطعة (¬3)، ولو ثبتت لوجب حملها على أن مراده القبول الذي تطمئنّ إليه نفسه، فإن القاضي قد لا يكون خبيرًا بعدالة الشاهدين وضبطهما وتيقّظهما، وإنما عدَّلهما غيره، فإذا كان المال كثيرًا جدًّا بقي في نفسه ريبة. وقد بيَّن أهل العلم أن مثل هذا إنما يقتضي التروِّي والتثبت، فإذا تروّى وبقيت الحال كما كانت وجب عليه أن يقضي بتلك الشهادة، ويعرض عما في نفسه. وأما الفرع المذكور عن الشافعي فليس من ذاك القبيل، وإنما هو من باب الاحتياط للتعديل. ومع ذلك فقد ردَّه إمامُ الحرمين وقال: إن أكثر الأئمة على خلافه (¬4). ¬

_ (¬1) تقدم ذكره (ص 132). (¬2) تقدم ذكره (ص 133). (¬3) لأن راوي القصة عن شريك هو ابن عباد لم يسمعها منه بل قال: "أُخْبِرتُ عن شريك". (¬4) انظر "نهاية المطلب في دراية المذهب": (18/ 492).

وأما رواية المبتدع، وجرح المحدَّث لمن هو ساخط عليه، فأُفردُ كلاًّ منهما بقاعدة (¬1). **** ¬

_ (¬1) انظر التعليق على (ص 134) هامش (1).

3 - رواية المبتدع

[ص 37] 3 - رواية المبتدع لا شبهة أن المبتدع إن خرج ببدعته عن الإِسلام لم تقبل روايته, لأن من شرط قبول الرواية: الإِسلام. وأنه إن ظهر عناده، أو إسرافه في اتباع الهوى، والإعراض عن حجج الحق، ونحو ذلك مما هو أدلّ على وهن التدين من كثير من الكبائر كشرب الخمر وأخذ الربا، فليس بعدل فلا تقبل روايته؛ وشرط قبول الرواية: العدالة. وأنه إن استحلَّ الكذب، فإما أن يكفر بذلك، وإما أن يفسق. فإن عذرناه فمِنْ شرط قبول الرواية: الصدق، فلا تقبل روايته. وأن من تردّد أهلُ العلم فيه، فلم يتجه لهم أن يكفَّروه أو يفسِّقوه، ولا أن يعدِّلوه، فلا تقبل روايته, لأنه لم تثبت عدالته. ويبقى النظر فيمن عدا هؤلاء. والمشهور الذي نقل ابن حبان والحاكم (¬1) إجماع أئمة السنة عليه أن المبتدع الداعية لا يُقبل البتة، وأما غير الداعية فكالسُّنّي. واختلف المتأخرون في تعليل ردّ الداعية، والتحقيق إن شاء الله تعالى: أن ما اتفق أئمة السنة على أنها بدعة، فالداعية إليها الذي حقّه أن يسمى داعية لا يكون إلا من الأنواع الأولى، إن لم يتجه تكفيره اتجه تفسيقه، فإن لم يتجه تفسيقه فعلى الأقل لا تثبت عدالتُه. ¬

_ (¬1) كلام ابن حبان في "المجروحين": (3/ 63). وكلام الحاكم في "معرفة علوم الحديث" (ص 133).

وإلى هذا أشار مسلم في "مقدمة صحيحه" (¬1) إذ قال: "اعلم - وفقك الله - أن الواجب على كلّ أحدٍ عرفَ التمييزَ بين صحيح الروايات وسقيمها وثقات الناقلين لها من المتهمين أن لا يروي منها إلا ما عَرف صحة مخارجه والسَّتارة في ناقليه، وأن يتقي منها ما كان عن أهل التُّهَم والمعاندين من أهل البدع. والدليل على أن الذي قلنا في هذا هو اللازم دون ما خالفه قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6] وقال جل ثناؤه: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] وقال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]. فدل بما ذكرنا من هذه الآي أن خبر الفاسق ساقط غير مقبول، وأن شهادة غير العدل مردودة. والخبر وإن فارق معناه معنى الشهادة في بعض الوجوه فقد يجتمعان في أعظم معانيهما، إذ كان خبر الفاسق غير مقبول عند أهل العلم، كما أن شهادته مردودة عند جميعهم". هذا، وإذا كانت حجج السنة بينةً، فالمخالف لها لا يكون إلا معاندًا، أو متبعًا للهوى معرضًا عن حجج الحق. واتباعُ الهوى والإعراضُ عن حجج الحق قد يفحش جدًّا حتى لا يحتمل أن يُعذَر صاحبه. فإن لم يجزم أهل العلم بعدم العذر، فعلى الأقل لا يمكنهم تعديل الرجل. وهذه حال الداعية الذي الكلام فيه، فإنه لولا أنه معاند، أو منقاد لهواه انقيادًا فاحشًا، معرض عن حجج الحقّ إعراضًا شديدًا؛ لكان أقلّ أحواله أن يحمله النظر في حجج الحقِّ على الارتياب في بدعته، فيخاف إن كان متدينًا أن يكون على ضلالة، ¬

_ (¬1) (1/ 8).

ويرجو أنه إن كان على ضلالة فعسى الله تبارك وتعالى أن يعذره. فإذا التفت إلى أهل السنة علم أنهم إن لم يكونوا أولى بالحق منه، فالأمر الذي لا ريب فيه أنهم أولى بالعذر منه، وأحقُّ إن كانوا على خطأ أن لا يضرَّهم ذلك؛ لأنهم إنما يتبعون الكتاب والسنة، ويحرصون على اتباع سبيل المؤمنين، ولزوم سراط المنعَم عليهم: النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وخيار السلف. فيقول في نفسه: هب أنهم على باطل، فلم يأتهم البلاء من اتباع الهوى وتتبع السبل الخارجة. ولا ريب أن من كانت هذه حاله فإنه لا يكفِّر أهلَ السنة ولا يضلِّلهم، ولا يحرص على إدخالهم في رأيه، بل يشغله الخوف على نفسه، فلا يكون داعية. فأما غير الداعية؛ فقد مرَّ نقلُ الإجماع على أنه كالسُّنّي، إذا ثبتت عدالته قُبِلت روايته. وقد ثبت عن مالك ما يوافق ذلك، ومن أصحابه مَن ينقل عنه أنه لا يُروى عنه أيضًا، والعمل على الأول. وذهب بعضهم إلى أنه لا يُروى عنه إلا عند الحاجة، وهذا أمر مصلحي لا ينافي قيام الحجة بروايته بعد ثبوت عدالته. وحكى بعضُهم أن غير الداعية إذا روى ما فيه تقوية لبدعته لم يؤخَذ عنه (¬1). ولا ريب أن ذلك المرويّ إذا حَكَم أهل العلم ببطلانه فلا حاجة إلى روايته إلا لبيان حاله. ثم إن اقتضى جرح صاحبه بأن ترجّح أنه تعمّد الكذب أو أنه متهم بالكذب عند أئمة الحديث سقط صاحبه البتة، فلا يؤخذ عنه ذاك ولا غيره، وليس هذا خاصًّا بالمبتدع. وإن ترجّح أنه إنما أخطأ، فلا وجه ¬

_ (¬1) انظر للأقوال في المسألة "علوم الحديث" (ص 114 - 115) لابن الصلاح، و"فتح المغيث": (2/ 58 - 70).

لمؤاخذته بالخطأ. وإن ترجح صحة ذلك المروي، فلا وجه لعدم أخذه. نعم قد تدعو المصلحة إلى عدم روايته حيث يخشى أن يغترَّ بعض السامعين بظاهره، فيقع في البدعة. قرأت في جزء قديم من "ثقات العجلي" (¬1) ما لفظه: "موسى الجهني قال جاءني عمرو بن قيس المُلائي وسفيان الثوري فقالا (¬2): لا تحدّث بهذا الحديث بالكوفة أن النبي عليه السلام قال لعَليّ: "أنت منى بمنزلة هارون من موسى" (¬3). كان في الكوفة جماعة يغلون في التشيّع ويدعون إلى الغلو، فَكَرِه عمرو بن قيس وسفيان أن يسمعوا هذا الحديث، فيحملوه على ما يوافق غلوَّهم، فيشتدّ شرُّهم. وقد يمنع العالمُ طلبةَ الحديث عن أخذ مثل هذا الحديث، لعلمه أنهم إذا أخذوه ربما رووه حيث لا ينبغي أن يُروى. لكن هذا لا يختص بالمبتدع، وموسى الجهني ثقة فاضل لم يُنسب إلى بدعة. هذا، وأول من نسب إليه هذا القول إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني، وكان هو نفسه مبتدعًا منحرفًا عن أمير المؤمنين عليّ، متشددًا في الطعن على المتشيِّعين، كما يأتي في القاعدة الآتية. للجوزجاني كتاب في الجرح والتعديل. قال في مقدمته (¬4) - كما نقله السخاوي في "فتح المغيث" ¬

_ (¬1) من هذا الجزء نسخة في المكتبة الآصفية (رقم 54 - رجال)، وانظر ترتيبه (2/ 183 - تحقيق البستوي). (¬2) الأصل: "فقال" والمثبت من كتاب العجلي. (¬3) أخرجه البخاري ومسلم. (¬4) (ص 11 - ت البستوي). واسم كتابه "الشجرة" وطبع باسم "أحوال الرجال".

(ص 142) (¬1): "ومنهم زائغ عن الحق، صدوق اللهجة، قد جرى في الناس حديثُه، لكنه مخذول (¬2) في بدعته، مأمون في روايته، فهؤلاء ليس فيهم حيلة إلا أن يؤخذ من حديثهم ما يُعرف وليس بمنكر، إذا لم تقوَ به بدعتُه، فيتَّهمونه (؟) بذلك" (¬3). والجوزجاني فيه نَصْب، وهو مولع بالطعن في المتشيّعين كما مرّ، ويظهر أنه إنما يرمي بكلامه هذا إليهم، فإن في الكوفيين المنسوبين إلى التشيع جماعة أجلّة، اتفق أئمة السنة على توثيقهم، وحُسْن الثناء عليهم، وقبول رواياتهم، وتفضيلهم على كثير من الثقات الذين لم يُنسبوا إلى التشيُّع، حتى قيل لشعبة: حَدِّثنا عن ثقات أصحابك. فقال: إن حدثتكم عن ثقات أصحابي فإنما أحدثكم عن نفرٍ يسير من هذه الشيعة: الحكم بن عُتيبة، وسَلَمة بن كُهيل، وحبيب بن أبي ثابت، ومنصور (¬4). راجع تراجم هؤلاء في "التهذيب" (¬5). فكأنَّ الجوزجاني لما علم أنه لا سبيل إلى الطعن في هؤلاء وأمثالهم مطلقًا، حاول أن يتخلّص مما يكرهه من مرويّاتهم، وهو ما يتعلق بفضائل أهل البيت. وعبارته المذكورة تعطي أن المبتدع الصادق اللهجة، المأمون في ¬

_ (¬1) (2/ 66 - ط السلفية بالهند). (¬2) في "الشجرة": "إذ كان مخذولًا". (¬3) في "الشجرة": "إذا لم يُقوِّ به بدعته، فيُتَّهم عند ذلك". (¬4) الخبر في "تقدمة الجرح والتعديل": (1/ 138). (¬5) (2/ 432 - 434 و4/ 155 - 157 و2/ 178 و10/ 312 - 315) على التوالي.

الرواية, المقبول حديثه عند أهل السنة، إذا روى حديثًا معروفًا عند أهل السنة غير منكر عندهم، إلا أنه مما قد تَقوَى به بدعتُه، فإنه لا يؤخَذ وأنه يُتَّهم. فأما اختيار أن لا يؤخذ، فله وجه رعاية للمصلحة كما مرَّ. وأما أنه يُتَّهم راويه، فلا يظهر له وجه بعد اجتماع تلك الشرائط. إلا أن يكون المراد أنه قد يتهمه مَن عَرَف بدعته ولم يعرف صدقه وأمانته، ولم يعرف أن ذاك الحديث معروف غير منكر، فيسيء الظن به وبمروياته. ولا يبعد من الجوزجاني أن يصانع عما في نفسه بإظهار أنه إنما يحاول هذا المعنى، فبهذا تستقيم عبارتُه. أما الحافظ ابن حجر، ففهم منها معنًى آخر قال في "النخبة وشرحها" (¬1): "الأكثر على قبول غير الداعية، إلا أن يروي ما يقوِّي مذهبه، فيُرَدُّ على المذهب المختار. وبه صرح الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني شيخ أبي داود والنسائي". وسيأتي الكلام معه إن شاء الله تعالى (¬2). ولابن قتيبة في كتاب "تأويل مختلف الحديث" (¬3) كلام حاصله أن المبتدع الصادق المقبول لا يُقبل منه ما يقوِّي بدعتَه، ويُقبل منه ما عدا ذلك. قال: "وإنما يَمنع من قبول قول الصادق فيما وافق نحلته وشاكل هواه لأن نفسه تريه أن الحقَّ فيما اعتقده، وأن القربة إلى الله عَزَّ وَجَلَّ في تثبيته بكل وجه. ولا يؤمَن مع ذلك التحريف والزيادة والنقص". كذا قال، واحتجّ بأن شهادة العدل لا تُقبل لنفسه وأصله وفرعه. وقد مر الجواب عن ذلك (¬4). ولا أدري كيف ¬

_ (¬1) (ص 104). (¬2) (ص 73 فما بعدها). (¬3) (ص 141). (¬4) (ص 58 - 59).

ينعت بالصادق من لا يؤمَن منه تعمدُ التحريف والزيادة والنقص؟ وإنما يستحق النعت بالصادق من يوثَق بتقواه، وبأنه مهما التبس عليه من الحق فلن يلتبس عليه أن الكذب - بأيّ وجه كان - منافٍ للتقوى، مجانبٌ للإيمان. ولا ريب أن فيمن يتسم بالصلاح من المبتدعة - وأهل السنة - من يقع في الكذب إما تقحُّمًا في الباطل، وإما على زعم أنه لا حرج في الكذب في سبيل تثبيت الحق. ولا يختص ذلك بالعقائد، بل وقع فيما يتعلق بفروع الفقه وغيرها، كما يُعلَم من مراجعة كتب الموضوعات. وأعداءُ الإِسلام وأعداءُ السنة يتشبثون بذلك في الطعن في السنة، كأنهم لا يعلمون أنه لم يزل في أخبار الناس في شؤون دنياهم الصدق والكذب، ولم تكن كثرة الكذب بمانعة من معرفة الصدق إما بيقين وإما بظن غالب يجزم به العقلاء ويبنون عليه أمورًا عظيمة. ولم يزل الناس يغُشُّون الأشياء النفيسة ويصنعون ما يشبهها كالذهب والفضة والدر والياقوت والمسك والعنبر والسمن والعسل والحرير والخز والصوف وغيرها، ولم يَحُل ذلك دون معرفة الصحيح. والخالقُ الذي هيَّأ لعباده ما يحفظون به مصالح دنياهم هو الذي شرع لهم دين الإِسلام، وتكفّل بحفظه إلى الأبد. وعنايتُه بحفظ الدين أشدّ وآكد, لأنه هو المقصود بالذات من هذه النشأة الدنيا، قال الله عزَّ وجلَّ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. ومن مارس أحوال الرواية وأخبار رواة السنة وأئمتها علم أن عناية الأئمة بحفظها وحراستها ونفي الباطل عنها والكشف عن دخائل الكذابين والمتهمين كانت أضعاف عناية الناس بأخبار دنياهم ومصالحها. وفي "تهذيب التهذيب" (1/ 152): "قال إسحاق بن إبراهيم: أخذ الرشيد

[زنديقًا، فأراد قتله، فقال: أين أنت من ألف حديث وضعتُها! فقال له: أين أنت يا عدوَّ الله من أبي إسحاق الفَزاري وابن المبارك ينخُلانها حرفًا حرفًا! "] (¬1). وقيل لابن المبارك: هذه الأحاديث المصنوعة؟ قال: تعيش لها الجهابذة. وتلا قول الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (¬2) [الحجر: 9]. والذكر يتناول السنة بمعناه، إن لم يتناولها بلفظه؛ بل يتناول العربية وكلّ ما يتوقّف عليه معرفة الحق. فإن المقصود من حفظ القرآن أن تبقى الحجةُ قائمةً والهدايةُ دائمةً إلى يوم القيامة, لأن محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم خاتم الأنبياء، وشريعته خاتمة الشرائع، والله عَزَّ وَجَلَّ إنما خلق الخلق لعبادته، فلا يقطع عنهم طريق معرفتها. وانقطاعُ ذلك في هذه الحياة الدنيا انقطاعٌ لعلَّة بقائهم فيها. قال العراقي في "شرح ألفيته" (ج 1 ص 267) (¬3): "رُوِّينا عن سفيان قال: ما ستر الله أحدًا يكذب في الحديث. ورُوّينا عن عبد الرحمن بن مهدي أنه قال: لو أن رجلاً هَمَّ أن يكذب في الحديث لأسقطه الله. ورُوِّينا عن ابن المبارك قال: لو هَمَّ رجل في السَّحَر أن يكذب في الحديث لأصبح والناس يقولون: فلان كذاب". والمقصود هنا أن من لا يؤمَن منه تعمّدُ التحريف والزيادة والنقص - على أيّ وجهٍ كان - فلم تثبت عدالتُه. فإن كان كلّ من اعتقد أمرًا ورأى أنه ¬

_ (¬1) ترك المؤلف باقي القصة بياضا فأكملناه من المصدر. (¬2) "تقدمة الجرح والتعديل": (1/ 3 و2/ 18)، "التعديل والتجريح": (1/ 33). (¬3) (ص 124).

الحق وأن القُربة إلى الله تعالى في تثبيته لا يؤمَن منه ذلك، فليس في الدنيا ثقة. وهذا باطل قطعًا، فالحكم به على المبتدع إن قامت الحجة على خلافه بثبوت عدالته وصدقه وأمانته فباطل، وإلا وجب أن لا يحتجّ بخبره البتة، سواء أوافق بدعته أم خالفها. والعدالة: "مَلَكة تمنع من اقتراف الكبائر ... " وتعديل الشخص شهادةٌ له بحصول هذه المَلَكة، ولا تجوز الشهادة بذلك حتى يغلب على الظن غلبة واضحة حصولها له. وذلك يتضمن غلبة الظن بأن تلك المَلَكة تمنعه من تعمُد التحريف والزيادة والنقص، ومن غلب على الظن غلبةً يصح الجزم بها أنه لا يقع منه ذلك، فكيف لا يؤمَن أن يقع منه؟ ومن لا يؤمَن أن يقع منه ذلك، فلم يغلب على الظن أن له مَلَكةً تمنعه من ذلك. ومن خيف أن يغلبه ضربٌ من الهوى، فيوقعه في تعمُّد الكذب والتحريف، لم يؤمَن أن يغلبه ضرب آخر، وإن لم نشعر به. بل الضربُ الواحدُ من الهوى قد يوقع في أشياء يتراءى لنا أنها متضادة. فقد جاء أن موسى بن طريف الأسدي كان يرى رأي أهل الشام في الانحراف عن عَليّ رضي الله عنه، ويروي أحاديث منكرة في فضل عليّ، ويقول: "إني لأسخر بهم" يعني بالشيعة، راجع ترجمته في "لسان الميزان" (¬1). وروى محمَّد بن شجاع الثلجي الجهمي، عن حَبَّان بن هلال أحد الثقات الأثبات، عن حماد بن سلمة أحد أئمة السنة، عن أبي المهزِّم، عن أبي هريرة مرفوعًا: "إن الله خلق الفرس، فأجراها، فعرقت ثم خلق نفسه منها" (¬2). وفي ¬

_ (¬1) (8/ 205). (¬2) أخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات" (231).

"الميزان" (¬1) أن غرض الجهمية من وضع هذا الحديث أن يستدلوا به على زعمهم أن ما جاء في القرآن من ذكر "نفس الله" عَزَّ وَجَلَّ إنما المراد بها بعض مخلوقاته. أقول: ولهم غرضان آخران: أحدهما: التذرُّع بذلك إلى الطعن في حماد بن سلمة، كما يأتي في ترجمته (¬2). الثاني: التشنيع على أئمة السنة بأنهم يروون الأباطيل. والشيعيُّ الذي لا يؤمَن أن يكذب في فضائل أهل البيت، لا يؤمَن أن يكذب في فضائل الصحابة على سبيل التقية، أو ليُري الناس أنه غير متشدّد في مذهبه، يُمهِّد بذلك لِيُقبَل منه ما يرويه مما يوافق مذهبه. وعلى كلّ حال فابن قتيبة - على فضله - ليس هذا فنُّه، ولذلك لم يعرج أحد من أئمة الأصول والمصطلح على حكاية قوله ذلك فيما أعلم. والله الموفق. وفي "فتح المغيث" (ص 140) (¬3) عن ابن دقيق العيد: "إن وافقه غيره فلا يلتفت إليه إخمادًا لبدعته وإطفاءً لناره. وإن لم يوافقه أحد، ولم يوجد ذلك الحديث إلا عنده - مع ما وصفنا من صِدْقه وتحرّزه عن الكذب، واشتهاره بالتدين، وعدم تعلق ذلك الحديث ببدعته - فينبغي أن تقدَّم مصلحةُ تحصيلِ ذلك الحديث ونشرِ تلك السنة على مصلحة إهانته وإطفاء ناره". ¬

_ (¬1) (5/ 24 - 25). (¬2) رقم (85). (¬3) (2/ 60 - 61) وكلام ابن دقيق العيد في كتابه "الاقتراح" (ص 294).

ويظهر أن تقييده بقوله: "وعدم تعلق ذلك الحديث ببدعته" إنما مغزاه: إذا كان فيه تقوية لبدعته لم تكن هناك مصلحة في نشره، بل المصلحة في عدم روايته، كما مرَّ. ويتأكد ذلك هنا بأن الفرض أنه تفرد به، وذلك يدعو إلى التثبت فيه. وإذا كان كلام ابن دقيق العيد محتملًا لهذا المعنى احتمالًا ظاهرًا، فلا يسوغ حمله على مقالة ابن قتيبة التي مرّ ما فيها. وقال ابن حجر في "النخبة وشرحها" (¬1): "الأكثر على قبول غير الداعية، إلا أن يروي ما يقوِّي مذهبه (¬2) فيُرَدُّ على المذهب المختار. وبه صرَّح الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني شيخ أبي داود والنسائي ... وما قاله متّجه, لأن العلة التي لها رُدَّ حديثُ الداعية واردة فيما إذا كان ظاهرُ المروي يوافق مذهبَ المبتدع، ولو لم يكن داعية. والله أعلم". أقول: الضمير في قوله: "فيُرَدُّ" يعود فيما يظهر على المبتدع غير الداعية، أوقَعَ الردَّ على الراوي في مقابل إطلاق القبول عليه. وقد قال قبل ذلك: "والتحقيق أنه لا يُرَدُّ كلُّ مكفَّر ببدعة" والمراد برد الراوي: رد مروياته كلها. وقد يقال: يحتمل عود الضمير على المرويّ المقوّي لمذهبه، وعلى هذا فقد يفهم منه أنه يُقبل منه ما عداه، وقد يُشعِر بهذا استناد ابن حجر إلى قول الجوزجاني. فأقول: إن كان معنى الردّ على هذا المعنى الثاني ترك رواية ذاك الحديث للمصلحة، وإن كان محكومًا بصحته؛ فهذا هو المعنى الذي تقدَّم أن به تستقيم عبارة الجوزجاني. وإن كان معناه رد ذاك الحديث اتهامًا ¬

_ (¬1) (ص 104). (¬2) في "النزهة": "بدعته".

لصاحبه، ويردُّ معه سائر رواياته؛ فهذا موافق للمعنى الأول، ولا تظهر موافقته لعبارة الجوزجاني. وإن كان معناه رد ذلك الحديث اتهامًا لرواية فيه، ومع ذلك يبقى مقبولاً فيما عداه؛ فليست عبارة الجوزجاني بصريحة في هذا ولا ظاهرة فيه كما مرَّ، وإنما هو قول ابن قتيبة. وسياق كلام ابن حجر - ما عدا استناده إلى قول الجوزجاني - يدل على أن مقصوده ردّ الراوي مطلقًا، أو رد ذاك الحديث وسائر روايات راويه، وذلك لأمور، منها: أن ابن حجر صرَّح بأن العلة التي رد بها حديث الداعية واردة في هذا، وقد قدَّم أن العلة في الداعية هي "أن تزيين بدعته قد يحمله على تحريف الروايات وتسويتها على ما يقتضيه مذهبه". ومن كانت هذه حاله فلم تثبت عدالته - كما تقدم - فيردّ مطلقًا. ومنها: أن هذه العلة اقتضت في الداعية الردّ مطلقًا فكذلك هنا، بل قد يقال على مقتضى كلام ابن حجر: هذا أولى، لأن الداعية يردّ مطلقًا، وإن لم يَروِ ما يوافق بدعته، وهذا قد روى. هذا، وقد وثَّق أئمة الحديث جماعةً من المبتدعة، واحتجوا بأحاديثهم، وأخرجوها في الصحاح. ومن تتبع رواياتهم وجد فيها كثيرًا مما يوافق ظاهرُه بدَعَهم. وأهلُ العلم يتأوّلون تلك الأحاديث غير طاعنين فيها ببدعة راويها، ولا في راويها بروايته لها (¬1). بل في رواية جماعة منهم أحاديث ¬

_ (¬1) كحديث مسلم [78] من طريق الأعمش، عن عدي بن ثابت، عن زر قال: قال علي: "والذي فَلَق الحبة وبرأ النَّسَمة، إنه لعهد النبي الأمي - صلى الله عليه وسلم - إليَّ أنه لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق". عديّ قال فيه ابن معين: "شيعي مفرط". وقال أبو حاتم: "صدوق وكان إمام مسجد الشيعة وقاصّهم". وعن الإمام أحمد: "ثقة إلا أنه كان =

ظاهرة جدًّا في موافقة بدعهم أو صريحة في ذلك إلا أن لها عللًا أخرى. ففي رواية الأعمش أحاديث كذلك ضعَّفها أهل العلم، بعضها بضعف بعض مَن فوق الأعمش في السند، وبعضها بالانقطاع، وبعضها بأن الأعمش لم يصرح بالسماع وهو مدلس. ومن هذا الأخير حديث في شأن معاوية ذكره البخاري في "تاريخه الصغير" (ص68) (¬1) ووهَّنه بتدليس الأعمش، وهكذا في رواية عبد الرزاق وآخرين. هذا، وقد مرَّ تحقيق علة رد الداعية، وتلك العلة ملازمة أن يكون بحيث يحق أن لا يؤمَن منه ما ينافي العدالة، فهذه العلة إن وردت في كل مبتدع روى ما يقوّي بدعته، ولو لم يكن داعية، وجب أن لا يُحتج بشيء مِن مرويات مَن كان كذلك، ولو فيما يوهن بدعته؛ وإلاّ - وهو الصواب - فلا يصح إطلاق الحكم، بل يدور مع العلة. فذاك المروي المقوِّي لبدعة راويه إما غير منكر، فلا وجه لرده، فضلاً عن ردّ راويه. وإما منكر، فحكم المنكر معروف، وهو أنه ضعيف. فأما راويه فإن اتجه الحمل عليه بما ينافي العدالة، كرميه بتعمّد الكذب أو اتهامه به، سقط البتة. وإن اتجه الحمل على غير ذلك، كالتدليس المغتفَر والوهم والخطأ، لم يجرح بذلك. وإن تردد ¬

_ = يتشيع". وعن الدارقطني: "ثقة إلا أنه كان غاليًا في التشيع". ووثقه آخرون. ويقابل هذا رواية قيس بن أبي حازم عن عَمرو بن العاص: عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - جهارًا غير سرًّ يقول: "ألا إن آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء، إنما وليي الله وصالح المؤمنين، إن لهم رحمًا سأبلها ببلالها". ورواه غندر عن شعبة بلفظ: "إن آل أبي ... " ترك بياضًا، وهكذا أخرجه الشيخان. وقيس ناصبي منحرف عن علي رضي الله عنه. ولي في هذا كلام. [المؤلف]. (¬1) (2/ 802 - ط الرشد) والصحيح أنه التاريخ الأوسط طبع خطأ باسم "الصغير".

الناظر وقد ثبتت العدالة وجب القبول، وإلا أخذ بقول مَن هو أعرف منه، أو وقف. وقد مرَّ أوائلَ القاعدة الثانية (¬1) بيان ما يمكن أن يبلغه أهل العصر من التأهل للنظر، فلا تغفل. وبما تقدم يتبين صحةُ إطلاق الأئمة قبولَ غير الداعية إذا ثبت صلاحُه وصدقه وأمانته. ويتبين أنهم إنما نصوا على ردّ المبتدع الداعية تنبيهًا على أنه لا يثبت له الشرط الشرعي للقبول، وهو ثبوت العدالة. هذا كله تحقيق للقاعدة. فأما الأستاذ، فيكفينا أن نقول له: هب أنه اتجه أن لا يقبل من المبتدع الثقة ما فيه تقوية لبدعته، فغالب الذين طعنتَ فيهم هم من أهل السنة عند مخالفيك وأكثر موافقيك، والآراء التي تعدُّها هوى باطلًا، منها ما هو عندهم حق، ومنها ما يسلِّم بعضهم أنه ليس بحق ولكن لا يعدُّه بدعة. وسيأتي الكلام في الاعتقاديات والفقهيات، ويتبين المحقّ من المبطل إن شاء الله تعالى. وفي الحق ما يُغنيك لو قنعتَ به، كما مرت الإشارة إليه في الفصل الثاني. ومن لم يقنع بالحق أوشكَ أن يُحرَم نصيبَه منه، كالراوي يروي أحاديثَ صادقةً موافقةً لرأيه، ثم يكذب في حديث واحد، فيفضحه الله تعالى، فتسقط أحاديثه كلُّها! {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279]. والمتبادر من عبارة الجوزجاني أنه يرى أنهم أحقَّاء [ص 24] بأن يتهموا فيما يروونه من ذلك، وإن كان معروفًا غير منكر عند أهل السنة وعند الناصبة أيضًا، وكان راويه منهم صدوق اللهجة مأمونًا في روايته، قد اتفق أئمة السنة على توثيقه وقبول حديثه. ¬

_ (¬1) (ص 53).

وهذا كما ترى، فإن كون المروي معروفًا غير منكر كافٍ في دفع التهمة، فكيف إذا كان راويه كما ذكر؟ فإن كان هذا المتبادر هو مراد الجوزجاني، فلا يخفى بُطلانُه، ويقال له: أما أن نتهم الثقات بالكذب في الروايات، فلا سبيل إليه، ولكن لا مانع أن نتهمهم بما لا ينافي العدالة إذا اقتضى الحال ذلك، ونبدأ بك أيها المبتدع، فنتهمك في رأيك هذا. ولولا قوله: "ما يعرف وليس بمنكر" لقلنا: إنه أراد ما يشكوه من بعضهم، كالأعمش وأبي إسحاق السبيعي من تدليس المنكرات، فيكون أراد المنع من رواية ذلك؛ لاتهام الراوي بأنه سمعه ممن ليس بثقة فدلَّسَه. ولولا ذِكْره الاتهام، لقلنا: لم يُرِد الحكم ببطلان ما منع من أخذه، فإنه إذا لم يكن له علة فهو صحيح ضرورةَ أنه معروف غير منكر، وأن راويه صدوق اللهجة، مأمون الرواية، مقبول عند أئمة السنة، ولكن منع من أخذه إرغامًا للمبتدع بأن لا يروى عنه ما يحبّ أن يروي، مع أنه لا حاجة إلى روايته لوجهين: الأول: أنه معروف من غير طريقه. الثاني: أنه يتعلق ببدعته، والمصلحة تقضي بعدم رواية ذلك، ولو عن السّنّي. ذكر العجلي - كما في جزء قديم من "ثقاته" (¬1) -: عن موسى الجهني قال: جاء عَمرو بن قيس المُلائي وسفيان الثوري، فقالا: لا تحدِّث بهذا ¬

_ (¬1) انظر ترتيبه: (2/ 183 - تحقيق البستوي). وانظر (ص 156) حاشية (1).

الحديث في الكوفة: أن النبي عليه السلام قال لعلي: "أنت مِنّي بمنزلة هارون من موسى" (¬1). وإلى هذا أشار ابن دقيق العيد. وقد يقال: لعل الجوزجاني لم يرد بذكر الاتهام إثبات أنهم أحقاء أن يتهموا، وإنما أراد أنه ينبغي أن لا يُروى ذلك عنهم خشية أن يسمعه من لا يعرف حالهم فيتهمهم، فيضر ذلك بهم وبمروياتهم، أو يقال: لم يرد الاتهام القادح وإنما أراد ما يوقعه موافقة ظاهر الخبر لمذهب راويه من الارتياب، وذلك كما إذا شهد رجلان لأخيهما، فإن القاضي يرتاب في شهادتهما، وقد يبقى أثر الريبة بعد أن يُعدَّلا، فكما أن للقاضي أن يقول للمدَّعي: زدني شهودًا، وإن كان إذا لم يجد المدعي غير أخويه يلزم القاضي أن يقضي بشهادتهما. وإذا سمى المدّعي شهودَه قبل أن يحضرهم، فسمى أخويه ورجالًا آخرين، فللقاضي أن يقول له: جئني بالذين سميتهم غير أخويك. فكذلك لأهل الحديث أن يعرضوا عما يرويه المبتدع الثقة مما يوافق ظاهره بدعته؛ لأن ذاك الارتياب - وإن كان لا ينافي ثبوت الخبر - قد أوقع فيه بعض الوهن، ومع ذلك فلا داعي إلى روايته، إذ الغرض أنه إنما يقضي بظاهره موافقة بدعة الراوي، فليس في روايته إلا مساعدة تلك البدعة، فيحتاج أهل السنة إلى تأويله وصرفه عن ظاهره، فالأولى أن لا يُروى رأسًا. وهذا المعنى في نظري أحسن ما تُحْمَل عليه عبارة الجوزجاني. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3706)، ومسلم (2404) من حديث سعد بن أبي وقاص.

وقد يحمل كلامه على معنى أن من أتى منهم بمنكر، أو بما يقوِّي به بدعته - وحقه أن يتهم فيه - فإنه يُترك ألبتة، ولا يُروى عنه ذلك الحديث، ولا غيره؛ لخروجه بذلك عن حَدِّ أن يكون صدوق اللهجة مأمونًا في روايته، ويأتي عن ابن حجر ما يظهر منه أنه حمل عبارة الجوزجاني على هذا المعنى. [ص 27] هذا والمنقول عن كبار أئمة السنة في شأن المبتدع إنما هو الامتناع والمنع من السماع منه والرواية عنه، وأكثرهم يخصُّون ذلك بالداعية، ومع ذلك فقد روى بعضُهم عمن جاء أنه كان داعية، ولم أرَ في نصوصهم ما يبين العلة، واختلف من بعدهم؛ فمنهم من قال: إن العلة هي كراهية ترويج البدعة، وعلى هذا فما دعت الحاجةُ إلى روايته عن المبتدع، فينبغي أن يروى عنه، كما مرَّ عن ابن دقيق العيد (¬1). وهذه العلة إنما تَقْوَى في الداعية؛ لأن أهل العلم إذا لم يمتنعوا ويمنعوا الناس من السماع منه، قَصَده الناسُ ليسمعوا منه، فدعاهم إلى بدعته ورغَّبهم فيها، وإذا لم يمتنع أهل العلم ويمنعوا الناس من الرواية عن الداعية لم يمتنع الناس من قصده، أو قصد مثله للسماع منه. [ص 28] ومنهم من قال: إن العلة هي أن المبتدع فاسق، وكثير من أهل العلم يستبعدون هذا بأن المبتدع قد يكون مخطئًا، غير مقصِّر تقصيرًا يعتدّ به، وقد قال الله عزَّ وجلَّ: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، في آيات أخرى. ¬

_ (¬1) (ص 72).

وأسلم ما يجاب به عن هذا: أن حجج السنة في العقائد ونحوها ظاهرة، فالمبتدع إما غير معتدًّ بها، كما يقول غُلاة المتكلمين: إن النصوص القرآنية والسنية لا تصلح حجة في صفات الله عزَّ وجلَّ، ونحوها من العقائد، وإما متهاون بها مسرف في إيثار هواه إيثارًا شديدًا لا يُعْذَر فيه، فإن لم يظهر كفرُه فعلى الأقل يتبين فسقه. أقول: ولك أن تنزل عن هذا فتقول: فإن لم يتبين فسقه فعلى الأقل لا يوثَق بعدالته، فلا يمكن تعديله. ومن يخص الداعية له أن يقول: قد يجوز أن تَقْوَى الشبهةُ في نفس من ليس بمؤثرٍ هواه إيثارًا شديدًا، ولكنه لا بد أن يبقى في نفسه تردد يحمله على أن يعذر مخالفيه فيما زاغ فيه، ويخشى أن يكون هو المخطئ لا هم، ويرى أنهم إن كانوا هم المخطئين فلم يأتهم ذلك من خارج، وإنما أتاهم من جهة وقوفهم عند ما فهموه من النصوص لقوة إيمانهم بها، واعتمادهم عليها. فمن تعدَّى هذا الحدّ، وضلَّل أهلَ السنة، ودعا إلى بدعته فقد بان عناده، وانقطع عذرُ من يحاول أن يعذره. ويشير إلى هذا قول مسلم رحمه الله في "مقدمة صحيحه" (¬1) إذ قال: "اعلم - وفقك الله - أن الواجب على كل أحدٍ عرف التمييز بين صحيح الروايات وسقيمها، وثقات الناقلين لها من المتهمين: أن لا يروي منها إلا ما عرف صحة مخارجه، والستارة في ناقليه، وأن يتقي منها ما كان عن أهل التهم والمعاندين من أهل البدع. والدليل على أن الذي قلنا في هذا هو اللازم دون ما خالفه: قول الله ¬

_ (¬1) (1/ 8).

تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6] وقال جل ثناؤه: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282]. وقال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]. فدلّ بما ذكرنا من هذه الآي أن خبر الفاسق ساقط غير مقبول، وأن شهادة غير العدل مردودة. والخبر وإن فارق معناه معنى الشهادة في بعض الوجوه، فقد يجتمعان في أعظم معانيهما، إذ كان خبر الفاسق غير مقبول عند أهل العلم، كما أن شهادته مردودة عند جميعهم". فالمبتدع الذي يتضح عناده إما كافر، وإما فاسق، والذي لم يتضح عناده ولكنه حقيق بأن يتهم بذلك هو في معنى الفاسق؛ لأنه مع سوء حاله لا تثبت عدالته، والداعية الذي الكلام فيه واحدٌ من هذين ولا بدّ. [ص 30] قد عَرَّف أهلُ العلم العدالة بأنها: "مَلَكَة تمنع عن اقتراف الكبائر وصغائر الخسة ... "، زاد التقي السبكي: "وهوى النفس". وقال: "لا بدّ منه، فإن المتقي للكبائر وصغائر الخسة مع الرذائل المباحة قد يتبع هواه عند وجوده لشيء منها فيرتكبه، ولا عدالة لمن هو بهذه الصفة". نقله المحليُّ في "شرح جمع الجوامع" (¬1) لابن السبكي، ثم ذكر أنه ¬

_ (¬1) (2/ 148 - 150 - مع حاشية البناني) وأشار المحليّ إلى أن هذه الزيادة موجودة في بعض نسخ "جمع الجوامع"، وهي مأخوذة من والده تقي الدين السبكي. وهي ثابتة في نسخة الأصل لشرح ابن حلولو. "الضياء اللامع": (2/ 216 - 218).

صحيح في نفسه، ولكن لا حاجة إلى زيادة القيد، قال: "لأنَّ مَن عنده ملكة تمنعه عن اقتراف ما ذكر ينتفي عنه اتباع الهوى لشيء منه، وإلا لوقع في المهوي، فلا يكون عنده ملكة تمنع منه". أقول: ما من إنسان إلا وله أهواء فيما ينافي العدالة، وإنما المحذور اتباع الهوى، ومقصود السبكي تنبيه المعدَّلين، فإنه قد يخفى على بعضهم معنى "الملكة"، فيكتفي في التعديل بأنه قد خَبَر صاحبه فلم يره ارتكب منافيًا للعدالة فيعدّله، ولعله لو تدبر لعلم أن لصاحبه هوى غالبًا، يخشى أن يحمله على ارتكاب منافي العدالة إذا احتاج إليه وتهيّأ له، ومتى كان الأمر كذلك فلم يغلب على ظنّ المعدّل حصول تلك المَلَكة، وهي العدالة لصاحبه. بل إما أن يترجح عنده عدم حصولها، فيكون صاحبه ليس بعدل، وإما أن يرتاب في حصولها لصاحبه، فكيف يشهد بحصولها له؟ (¬1)، وهذا هو معنى التعديل. وأهل البدع كما سماهم السلف "أصحاب الأهواء"، واتِّباعُهم لأهوائهم في الجملة ظاهر، وإنما يبقى النظر في العمد والخطأ، ومَن ثبت تعمّده أو اتهمه بذلك عارفوه، لم يؤمَن كذبُه. وفي الكفاية للخطيب (ص 123): "عن علي بن حرب الموصلي: كلّ صاحب هوى يكذب ولا يبالي". ¬

_ (¬1) بعده في الأصل: "بثبوت تلك الملكة لصاحبه" وهذه العبارة مما نسي المؤلف أن يضرب عليها، وبقاؤها يفسد المعنى.

يريد - والله أعلم - أنهم مظنة ذلك، فيُحْتَرَس من أحدهم حتى تتبيّن براءتُه. وأما ما ذكروه في كلام النسائي في أحمد بن صالح، فإنهم لم يرموا النسائي بتعمّد الباطل، ولا اتهموه، ولا قالوا: إن ذلك لا يؤمَن منه، بل برّؤوه من ذلك، وإنما أقاموا الأدلة على خطائه. ولمّا كان قد يُستغرب الخطأ من النسائي؛ لما عُرِف به من شدّة التحرّي والتثبت، ذكروا أنه كان ساخطًا على أحمد بن صالح، ومن شأن التسخُّط أن يورث سوء الظن، ومن وقفتَ على ما يقتضي بظاهره جرحه فإنك إن كنت حسن الظن به ارتبت في ذاك الظاهر، فاحتجت إلى التثبت، بل قد يقوى الظن فلا يؤثر عندك ذاك الظاهر، بل تجزم بحمله على ما لا ينافي ظنك. وإن كنت سيِّئ الظن به لم يكن هناك ما يدفع ذاك الظاهر، ولا ما يريب فيه، وحينئذٍ تبادر نفسك إلى قبوله. وفي "ألفية العراقي" (¬1): وربما رُدّ كلامُ الجارحِ ... كالنّسَئي في أحمدَ بنِ صالح فربما كان لجرحٍ مخرجُ ... غَطّى عليه السُّخْطُ حين يُحرجُ قال ابن الصلاح (¬2): "إلا أن ذلك لا يقع منهم تعمدًا للقدح مع العلم ببطلانه". ¬

_ (¬1) (ص 183). (¬2) في "علوم الحديث" (ص 391).

وقد شرحت القضية في ترجمة أحمد بن صالح (¬1)، كما يأتي إن شاء الله تعالى. **** ¬

_ (¬1) في كتاب "التنكيل" رقم (20).

4 - قدح الساخط ومدح المحب ونحو ذلك

4 - قدح الساخط ومدح المحب ونحو ذلك كلام العالِم في غيره على وجهين: الأول: ما يخرج مخرج الذمّ بدون قصد الحكم. وفي "صحيح مسلم" (¬1) وغيره من حديث أبي هريرة سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "اللهم إنما محمَّد بشر، يغضب كما يغضب البشر، وإني قد اتخذت عندك عهدًا لم تخلفنيه فأيما مؤمن آذيته أو سَبَبْته أو جلدته فاجعلها له صلاة ... ". وفيه (¬2) نحوه من حديث عائشة ومن حديث جابر. ولم يكن صلى الله عليه وآله ومسلم سبّابًا ولا شتّامًا ولا لعّانًا، ولا كان الغضب يخرجه عن الحق، وإنما كان كما نَعَتَه ربُّه عَزَّ وَجَلَّ بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] وقوله تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159] وقوله عزَّ وجلَّ: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]. وإنما كان يرى من بعض الناس ما يضرهم في دينهم أو يُخِلُّ بالمصلحة العامّة أو بمصلحة صاحبه نفسه، فيكره صلى الله عليه وآله وسلم ذلك وينكره، فيقول: "ما له تربت يمينه" (¬3) ونحو ذلك مما يكون ¬

_ (¬1) (2601). وأخرجه أحمد في "المسند" (10403). والرواية الأخرى عند مسلم أيضًا. (¬2) حديث عائشة رقم (2600) وحديث جابر (2602). (¬3) بهذا اللفظ أخرجه أبو يعلى (4220)، وأخرجه أبو داود (186) وأحمد (18212) =

المقصود به إظهار كراهية ما وقع من المدعوّ عليه وشدة الإنكار لذلك. وكأنه - والله أعلم - أطلق على ذلك سبًّا وشتمًا على سبيل التجوُّز بجامع الإيذاء. فأما اللعن فلعله وقع الدعاء به نادرًا عند شدة الإنكار. ومن الحكمة في ذلك إعلام الناس أن ما يقع منه صلى الله عليه وآله وسلم عند الإنكار كثيرًا ما يكون على وجه إظهار الإنكار والتأديب، لا على وجه الحكم. وفي مجموع الأمرين حكمة أخرى، وهي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد علم من طباع أكثر الناس أن أحدهم إذا غضب جرى على لسانه من السبّ والشتم واللعن والطعن ما لو سُئل عنه بعد سكون غضبه لقال: لم أقصد ذلك ولكن سبقني لساني، أو لم أقصد حقيقته ولكني غضبت، فأراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ينبه أمته على هذا الأصل ليستقر في أذهانهم، فلا يحملوا ما يصدر عن الناس من ذلك في حال الغضبِ على ظاهره جزمًا. وكان حذيفة ربما يذكر بعض ما اتفق من كلمات النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند غضبه، فأنكر سلمان الفارسي ذلك على حذيفة رضي الله عنهما، وذكر هذا الحديث (¬1). وسئل بعض الصحابة - وهو أبو الطفيل عامر بن واثلة - عن شيء من ذلك، فأراد أن يخبر، وكانت امرأته تسمع، فذكَّرتْه بهذا الحديث، فكفَّ (¬2). فكذلك ينبغي لأهل العلم أن لا ينقلوا كلمات العلماء عند الغضب، وأن يراعوا فيما نُقل منها هذا الأصل. ¬

_ = وغيرهما بلفظ: "تربت يداه" من حديث المغيرة بن شعبة، وأخرجه أحمد (12609) بلفظ: "تربت جبينه" من حديث أنس بن مالك. (¬1) أخرجه أحمد (23721) وأبو داود (4659). (¬2) أخرجه الطبراني في "الأوسط" (2309) وقال الهيثمي في "المجمع": (8/ 479): "فيه عبد الوهاب بن الضحاك وهو متروك".

بل قد يقال: لو فُرض أن العالم قصد عند غضبه الحكم لكان ينبغي أن لا يعتدَّ بذلك حُكْمًا. ففي "الصحيحين" (¬1) وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "لا يقضينَّ حَكَمٌ بين اثنين وهو غضبان" لفظ البخاري. والحكم في العلماء والرواة يحتاج إلى نظر وتدبُّر وتثبُّت أشدَّ مما يحتاج إليه الحكم في كثير من الخصومات. فقد تكون الخصومة في عشرة دراهم، فلا يخشى من الحكم فيها عند الغضب إلا تفويت عشرة دراهم. فأما الحكم على العالم والراوي، فيخشى منه تفويت علم كثير، وأحاديث كثيرة، ولو لم يكن إلا حديثًا واحدًا لكان عظيمًا. ومما يخرج مخرج الذم لا مخرج الحكم: ما يقصد به الموعظة والنصيحة. وذلك كأن يبلغ العالِمَ عن صاحبه ما يكرهه له، فيذمه في وجهه أو بحضرة من يبلغه، رجاء أن يكفَّ عما كرهه له. وربما يأتي بعبارة ليست بكذب، ولكنها خشنة موحشة، يقصد الإبلاغ في النصيحة ككلمات الثوري في الحسن بن صالح بن حي (¬2)، وربما يكون الأمر الذي أنكره أمرًا لا بأس به، بل قد يكون خيرًا، ولكن يخشى أن يجرَّ إلى ما يكره، كالدخول على السلطان، وولاية أموال اليتامى، وولاية القضاء، والإكثار من الفتوى. وقد يكون أمرًا مذمومًا، وصاحبه معذور، ولكن الناصح يحب لصاحبه أن يعاود النظر أو يحتال أو يخفي ذاك الأمر. وقد يكون المقصود نصيحة الناس لئلا يقعوا في ذلك الأمر؛ إذ قد يكون لمن وقع منه أولاً عذر ولكن يخشى أن يتبعه الناس فيه غير معذورين. ومن هذا: كلمات التنفير التي تقدمت الإشارة ¬

_ (¬1) البخاري (7158) ومسلم (1717) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه. (¬2) انظر "تهذيب التهذيب": (2/ 285).

إليها في الفصل الثاني (¬1). وقد يستسمح العالم فيما يحكيه على غير جهة الحكم، فيستند إلى ما لو أراد الحكم لم يستند إليه، كحكاية منقطعة، وخبر من لا يُعَدُّ خبرُه حجة، وقرينة لا تكفي لبناء الحكم ونحو ذلك. وقد جاء عن إياس بن معاوية التابعي المشهور بالعقل والذكاء والفضل أنه قال: "لا تنظر إلى عمل العالم، ولكن سله يصدقك" (¬2). وكلام العالم - إذا لم يكن بقصد الرواية، أو الفتوى، أو الحكم - داخل في جملة عمله الذي ينبغي أن لا يُنظر إليه. وليس معنى ذلك أنه قد يعمل ما ينافي العدالة، ولكن قد يكون له عذر خفي، وقد يترخَّص فيما لا ينافي العدالة، وقد لا يتحفظ ويتثبت، كما يتحفظ ويتثبت في الرواية والفتوى والحكم. هذا، والعارف المتثبت المتحرَّي للحق لا يخفى عليه - إن شاء الله تعالى - ما حقُّه أن يُعَدَّ من هذا الضرب، مما حقُّه أن يعَدَّ من الضرب الآتي. وأن ما كان من هذا الضرب، فحقه أن لا يُعتدَّ به على المتكلَّم فيه ولا على المتكلَّم. والله الموفق. [ص 43] الوجه الثاني: ما يصدر على وجه الحكم فهذا إنما يُخشى فيه الخطأ. وأئمة الحديث عارفون، مُتَحَرُّون، متيقظون يتحرَّزون عن الخطأ جهدهم، لكنهم متفاوتون في ذلك. ومهما بلغ الحاكِم من التحري فإنه لا يبلغ أن تكون أحكامه كلها مطابقة لما في نفس الأمر. فقد تسمع رجلاً يخبر بخبر، ثم تمضي مدة، فترى أن الذي سمعته منه هو فلان، وأن خبره الذي ¬

_ (¬1) تقدمت الإشارة إلى ذلك وغيره (ص 29 - 31). (¬2) انظر "تهذيب الكمال": (1/ 308) للمزي.

سمعته منه هو كيت وكيت، وأن معناه كذا، وأن ذاك المعنى باطل، وأن المخبِرَ تعمَّد الإخبار بالباطل، وأنه لم يكن له عذر، وأن مثل ذلك يوجب الجرح. فمن المحتمل أن يشتبه عليك رجل بآخر، فترى أن المخبر فلان، وإنما هو غيره. وأن يشتبه عليك خبر بآخر، إنما سمعت من فلان خبرًا آخر، فأما هذا الخبر فإنما سمعته من غيره. وأن تخطئ في فهم المعنى، أو في ظن أنه باطل، أو أن المخبر تعمَّد، أو أنه لم يكن له عذر، أو أن مثل ذلك يوجب الجرح، إلى غير ذلك. وغالب الأحكام إنما تُبنى على غلبة الظن، والظن قد يخطئ، والظنون تتفاوت. فمن الظنون المعتدّ بها: ما له ضابط شرعي، كخبر الثقة. ومنها: ما ضابطه أن تطمئن إليه نفسُ العارف المتوقي المتثبت بحيث يجزم بالإخبار بمقتضاه طيّبَ النفس منشرحَ الصدر والنفوس تختلف في المعرفة والتوقِّي والتثبُّت؛ فمن الناس من يغتر بالظن الضعيف، فيجزم. وهذا هو الذي يطعن أئمة الحديث في حفظه وضبطه، فيقولون: "يحدث على التوهم - كثير الوهم - كثير الخطأ - يهم - يخطئ". ومنهم المعتدل، ومنهم البالغ التثبُّت. كان في اليمن في قَضاء الحُجَرية قاض كان يجتمع إليه أهل العلم ويتذاكرون، وكنت أحضر مع أخي، فلاحظتُ أن ذلك القاضي - مع أنه أعلم الجماعة فيما أرى - لا يكاد يجزم في مسألة، وإنما يقول: "في حفظي كذا، في ذهني كذا" ونحو ذلك. فعلمت أنه ألزم نفسه تلك العادة حتى فيما يجزم به، حتى إن اتفق أن أخطأ كان عذره بغاية الوضوح. وفي ثقات المحدّثين مَن هو أبلغ تحرّيًا مِن هذا ولكنهم يعلمون أن الحجة إنما تقوم بالجزم، فكانوا يجزمون فيما لا يرون للشكِّ فيه مدخلاً،

ويقفون عن الجزم لأدنى احتمال. روي أن شعبة سأل أيوب السختياني عن حديث فقال: أشكُّ فيه. فقال شعبة: شكُّك أحبُّ إليَّ من يقين غيرك (¬1). وقال النضر بن شُميل عن شعبة: لأن أسمع من ابن عون حديثًا يقول فيه: "أظن أني سمعته" أحبُّ إليَّ من أن أسمع من ثقة غيره يقول: قد سمعت (¬2). وعن شعبة قال: "شكُّ ابنِ عون وسليمانَ التيمي يقين" (¬3). وذكر يعقوبُ بن سفيان حمادَ بن زيد، فقال: معروف بأنه يقصر في الأسانيد، ويوقف المرفوع، كثير الشك بتوقّيه، وكان جليلًا. لم يكن له كتاب يرجع إليه، فكان أحيانًا يذكر فيرفع الحديث، وأحيانًا يهاب الحديث ولا يرفعه (¬4). وبالغ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب فكان إذا سئل عن شيء لا يجيب حتى يرجع إلى الكتاب. قال أبو طاهر السَّلَفي: سألت أبا الغنائم النَّرْسي عن الخطيب فقال: "جبل، لا يُسأل عن مثله، ما رأينا مثله. وما سألته عن شيء فأجاب في الحال إلا يرجع إلى كتابه" (¬5). وإذا سبق إلى نفس الإنسان أمر - وإن كان ضعيفًا عنده - ثم اطلع على ¬

_ (¬1) انظر "تهذيب التهذيب": (1/ 349). (¬2) "الجرح والتعديل": (5/ 131). (¬3) "تهذيب التهذيب": (4/ 176). (¬4) "تهذيب التهذيب": (3/ 11). (¬5) "كتاب الأربعين" (ص 537) لعلي بن المفضل، و"السير": (18/ 575).

ما يحتمل موافقة ذلك السابق ويحتمل خلافه، فإنه يترجح في نفسه ما يوافق السابق، وقد يقوَى ذلك في النفس جدًّا وإن كان ضعيفًا. وهكذا إذا كانت نفس الإنسان تهوى أمرًا فاطلع على ما يحتمل ما يوافقه ويحتمل ما يخالفه، فإن نفسه تميل إلى ما يوافق هواها. والعقل كثيرًا ما يحتاج عند النظر في المحتملات والمتعارضات إلى استفتاء النفس لمعرفة الراجح عندها. وربما يشتبه على الإنسان ما تقضي به نفسه بما يقضي به عقله. فالنفس بمنزلة المحامي عند ما تميل إليه، ثم قد تكون هي الشاهد، وهي الحَاكم. والعالم إذا سخط على صاحبه، فإنما يكون سخطه لأمر ينكره، فيسبق إلى النفس ذاك الإنكار، وتهوى ما يناسبه, ثم تتبع ما يشاكله، وتميل عند الاحتمال والتعارض إلى ما يوافقه، فلا يؤمَن أن يقوَى عند العالم جرحُ مَن هو ساخط عليه لأمرٍ، لولا السخط لَعلِمَ أنه لا يُوجب الجرح. وأئمة الحديث متثبتون، ولكنهم غير معصومين عن الخطأ. وأهل العلم يمثِّلون لجرح الساخط بكلام النسائي في أحمد بن صالح (¬1). ولَمَّا ذكر ابن الصلاح ذلك في "المقدمة" (¬2) عقَّبه بقوله: "قلت: النسائي إمام حجة في الجرح والتعديل، وإذا نُسِب مثله إلى مثل هذا كان وجهه أنّ عين السُّخْط تبدي مساوئ، لها في الباطن مخارج صحيحة تَعْمى عنها بحجاب السُّخْط، لا أن ذلك يقع من مثله تعمّدًا لقدح يعلم بطلانَه". وهذا حق واضح، إذ لو حُمل على التعمّد سقطت عدالة الجارح، ¬

_ (¬1) انظره في "تهذيب التهذيب": (1/ 37). (¬2) (ص 391).

والفرض أنه ثابت العدالة. هذا، وكلّ ما يُخشى في الذمّ والجرح يخشى مثله في الثناء والتعديل. فقد يكون الرجل ضعيفًا في الرواية, لكنه صالح في دينه، كأبان بن أبي عياش، أو غيور على السنة كمؤمَّل بن إسماعيل، أو فقيه كمحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى. فتجد أهل العلم ربما يثنون على الرجل من هؤلاء، غير قاصدين الحكم له بالثقة في روايته. وقد يرى العالم أن الناس بالغوا في الطعن، فيبالغ هو في المدح، كما يروى عن حماد بن سلمة أنه ذُكِر له طعن شعبة في أبان بن أبي عياش، فقال: أبان خير من شعبة (¬1). وقد يكون العالم وادًّا لصاحبه، فيأتي فيه نحو ما تقدم، فيأتي بكلمات الثناء التي لا يقصد بها الحكم، ولا سيما عند الغضب له، كأن تسمع رجلاً يذمّ صديقك أو شيخك أو إمامك، فإن الغضب قد يدعوك إلى المبالغة في إطراء من ذمه، وكذلك تقابل كلمات التنفير بكلمات الترغيب. وكذلك تجد الإنسان إلى تعديل من يميل إليه ويُحسِن به الظن أسرع منه إلى تعديل غيره. واحتمالُ التسَمُّح في الثناء أقرب من احتماله في الذمّ, لأن العالم يمنعه من التسمُّح في الذمّ الخوفُ على دينه لئلّا يكون غيبة، والخوفُ على عرضه، فإن مَن ذمَّ الناس فقد دعاهم إلى ذمَّه. ومن دعا الناسَ إلى ذمَّه ... ذمُّوه بالحقّ وبالباطل (¬2) ¬

_ (¬1) "من اختلف العلماء ونقاد الحديث فيه" (ص 40) لابن شاهين. (¬2) من أبيات في "الأغاني": (14/ 157)، وهو في "رسائل الجاحظ": (1/ 355)، و"الحماسة البصرية" (854) ونُسِب لغير واحد.

ومع هذا كله، فالصواب في الجرح والتعديل هو الغالب، وإنما يحتاج إلى التثبت والتأمل فيمن جاء فيه تعديل وجرح. ولا يسوغ ترجيح التعديل مطلقًا بأن الجارح كان ساخطًا على المجروح، ولا ترجيح الجرح مطلقًا بأن المعدِّل كان صديقًا له، وإنما يستدل بالسخط أو الصداقة على قوَّة احتمال الخطأ إذا كان محتملًا. فأما إذا لزم من اطراح الجرح أو التعديل نسبةُ مَن صَدَر منه ذلك إلى الكذب أو تعمّد الباطل أو الغلط الفاحش الذي يندر وقوع مثله مِنْ مثله، فهذا يحتاج إلى بيِّنة أخرى، لا يكفي فيه إثبات أنه كان ساخطًا أو محبًّا. وفي "لسان الميزان" (ج 1 ص 16) (¬1): "وممن ينبغي أن يُتوقَّف في قبول قوله في الجرح: مَن كان بينه وبين مَن جرحه عداوة، سببُها الاختلاف في الاعتقاد. فإن الحاذق إذا تأمل ثَلْبَ أبي إسحاق الجوزجاني لأهل الكوفة رأى العجب! وذلك لشدّة انحرافه في النّصب، وشهرة أهلها بالتشيع. فتراه لا يتوقف في جرح مَن ذَكَره منهم بلسان ذَلْق وعبارة طَلْقة، حتى إنه أخذ يليِّن مثلَ الأعمش وأبي نعيم وعبيد الله بن موسى وأساطين الحديث وأركان الرواية. فهذا إذا عارضه مثلُه أو أكبرُ منه، فوثَّق رجلاً ضعَّفه قُبِلَ التوثيق. ويلتحق به عبد الرحمن بن يوسف بن خِراش المحدّث الحافظ، فإنه من غلاة الشيعة بل نُسِب إلى الرفض، فيُتأنَّى في جرحه لأهل الشام؛ للعداوة ¬

_ (¬1) (1/ 212). ذكر المؤلف أول النقل وآخره هكذا "وممن ينبغي ... ويُتأمل" ونقلناه بتمامه من مصدره.

البينة في الاعتقاد. ويلتحق بذلك ما يكون سببُه المنافسةَ في المراتب، فكثيرًا ما يقع بين العصريين الاختلاف والتباين لهذا وغيره. فكلُّ هذا ينبغي أن يُتأنَّى فيه ويُتأمَّل". أقول: قول ابن حجر: "ينبغي أن يتوقف" مقصوده - كما لا يخفى - التوقّف على وجه التأنّي والتروَّي والتأمل. وقوله: "فهذا إذا عارضه مثله ... قبل التوثيق" محلّه ما هو الغالب من أن لا يلزم من اطراح الجرح نسبةُ الجارح إلى الكذب، أو تعمّدِ الحكم بالباطل، أو الغلطِ الفاحش الذي يندر وقوعُه. فأما إذا لزم شيء من هذا، فلا محيص عن قبول الجرح، إلا أن تقوم بينة واضحة تثبت تلك النسبة. وقد تتبّعتُ كثيرًا من كلام الجوزجاني في المتشيِّعين، فلم أجده متجاوزًا الحدَّ. وإنما الرجل - لما فيه من النَّصْب - يرى التشيُّع مذهبًا سيئًا، وبدعةَ ضلالةٍ، وزيغًا عن الحقّ وخذلانًا؛ فيطلق على المتشيِّعين ما يقتضيه اعتقاده، كقوله: "زائغ عن القصد - سيَّئ المذهب"، ونحو ذلك. وكلامه في الأعمش ليس فيه جرح، بل هو توثيق، وإنما فيه ذمّ بالتشيع والتدليس. وهذا أمر متفق عليه: أن الأعمش كان يتشيَّع ويدلّس، وربما دلس عن الضعفاء, وربما كان في ذلك ما يُنْكَر. وهكذا كلامه في أبي نعيم. فأما عُبيد الله بن موسى فقد تكلم فيه الإِمام أحْمد وغيره بأشدّ من كلام الجوزجاني. وتكلم الجوزجاني في عاصم بن ضَمْرة. وقد تكلم فيه ابن المبارك وغيره، واستنكروا من حديثه ما استنكره الجوزجاني. راجع "سنن البيهقي" (ج 3 ص 51). غاية الأمر أن الجوزجاني هوَّل، وعلى كلِّ حال فلم يخرج

من كلام أهل العلم. وكأنّ ابن حجر توهّم أن الجوزجاني في كلامه في عاصم (¬1) يُسِرُّ حَسْوًا في ارتغاء (¬2). وهذا تخيّل لا يُلتفت إليه. وقال الجوزجاني في يونس بن خباب: "كذاب مفتر" (¬3). ويونس وإن وثقه ابن معين، فقد قال البخاري: "منكر الحديث". وقال النسائي مع ما عرف عنه: "ليس بثقة". واتفقوا على غلوّ يونس، ونقلوا عنه أنه قال: إن عثمان بن عفان قتل ابنتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ وأنه روى حديث سؤال القبر ثم قال: ههنا كلمة أخفاها الناصبة. قيل له ما هي؟ قال: إنه ليسأل في قبره: مَن وليّك؟ فإن قال: عليٌّ، نجا! فكيف لا يُعذر الجوزجاني مع نَصْبه أن يعتقد في مثل هذا أنه كذاب مفتر؟ وأشدُّ ما رأيته للجوزجاني هو ما تقدم عنه في القاعدة الثالثة من قوله: "ومنهم زائغ عن الحق ... " (¬4). وقد تقبل ابن حجر ذلك، على ما فهمه من معناه، وعظَّمه، كما مرَّ، وذكر نحو ذلك في "لسان الميزان" نفسه (ج 1 ص 11) (¬5). وإني لأعجب من الحافظ ابن حجر رحمه الله يوافق ¬

_ (¬1) انظر كلام الجوزجاني في "الشجرة" (ص 34 - 42) وتعقب الحافظ في "التهذيب": (5/ 45). (¬2) "يُسِرُّ حسوًا في ارتغاء" مثلٌ يضرب لمن يُظهِر أمرًا وهو يريد خلافه. انظر "مجمع الأمثال": (3/ 525) و"فصل المقال" (ص 76). يريد أن الحافظ توهّم أن الجوزجاني أراد اتهام عاصم بالكذب وإن لم يفصح في كلامه بذلك. (¬3) (ص 50). (¬4) (ص 11) (¬5) (1/ 204).

الجوزجاني على ما فهمه من ذلك، ويعظمه، مع ما فيه من الشدة والشذوذ - كما تقدم - ويشنِّع عليه ههنا ويهوِّل فيما هو أخفُّ من ذلك بكثير عندما يتدبر! والله المستعان.

شكر الترحيب

آثَار الشّيخ العَلّامَة عبَد الرّحمن بن يحيى المعَلِّمِيّ (9) شكر الترحيب تأليف الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني 1312 هـ - 1386 هـ تحقيق علي بن محمد العمران وفق المنهج المعتمد من الشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد (رحمه الله تعالى) تمويل مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

[ص 1] الحمد لله الآمر بالقسط على كل حال، وتحري الصدق في كلَّ مقال. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135]. وقال عزَّ وجلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8]. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان. {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10]. أما بعد، فإني كنتُ قبل سنوات شرعتُ في تأليف كتاب في تتبُّع مطاعن الأستاذ العلامة محمَّد زاهد الكوثري في أئمة الحديث، وثقات رواته في كتابه "تأنيب الخطيب"؛ لباعثٍ يأتي شرحه إن شاء الله تعالى، ورأيت (¬1) تلخيص نموذج منه يشتمل على ما أراه أهم تلك المناقشات؛ ليطلع الناس على ذلك، فلا يغترُّوا بمطاعن الأستاذ. ¬

_ (¬1) غير محررة في الأصل ولعلها ما أثبت.

وطُبع ذاك النموذج باسم "طليعة التنكيل"، ثم رأيت الآن رسالةً للأستاذ في الجواب عن ذلك، سماها "الترحيب بنقد التأنيب". فأحبّ أن أنبه أولاً على ما وقع في طبع "الطليعة" مما لا ذنب لي فيه: - 1 - كنت أولاً تحدثت إلى بعض الإخوان عن اشتغالي بتأليف الكتاب، فسألني أن أكتب له وُرَيقة تشرح مقاصد الكتاب، فكتبت كلمةً اتفق أن وصلَتْ بعد ذلك إلى المعلّق على "الطليعة" (¬1)، فأثبتها - بدون تأمل - كمقدمة لـ "الطليعة"، وذلك عن غير أمري، وفيها ما يخالف ما في خطبة "الطليعة" نفسها، من تسمية الكتاب وترتيبه. - 2 - [ص 2] أرسلت "الطليعة" إلى رجل من سراة السلفيين بالحجاز (¬2)؛ ليطلع عليها، وإن رأى أن يقوم بنشرها فعل، وأذنت في التعليق عليها إذا لزم. فدفع ذلك السريُّ "الطليعةَ" إلى الأستاذ الفاضل عبد الرزاق حمزة المدرس بالمسجد الحرام، فأولُ ما صنع الأستاذ عبد الرزاق حمزة أن أثبت الورقة التي سبق ذكرُها كمقدمة لـ "الطليعة"، ولم يتدبَّر ما فيها من بعض المخالفة، كما مر. ثم علق على "الطليعة" تعليقاتٍ هو المسئول عنها، ولم أرتضها، وزاد ¬

_ (¬1) علق على "الطليعة" ط الأولى: الشيخ محمَّد عبد الرزاق حمزة رحمه الله، كما سيذكر المؤلف. (¬2) هو الشيخ الوجيه محمَّد حسين نصيف (ت 1392) رحمه الله.

مع ذلك فأصلح (في زعمه) مواضع في صُلب الكتاب، بتغيير بعض الكلمات، وزيادة بعض الكلمات والجُمَل، كلّ ذلك لأجل التشنيع والنكاية، إظهارًا لغضبه لما يعتقد أنه الحق. وكأنه استجاز ذلك لإذني المطلق في التعليق، ولأنه لم يتضح له قراءة خطي في بعض المواضع، أو رأى العبارةَ غير واضحة، فأصلح برأيه، ولظنِّه أن التشنيع والنكاية من مقصودي، فظنَّ أنه كلما كان أبلغ في ذلك كان أرضى عندي. وقد يكون بعضُ ذلك من صنيع من وَكَل إليه مراجعة "الطليعة" في مصر، ولا أدري من هو! وقد كنتُ عرضت النسخةَ التي أرسلتها إلى الحجاز على بعض أفاضل أهل العلم هنا (¬1)، فلما وصلت النسخة المطبوعة، ورأيناها استنكرنا جميعًا هذا الصنيع. وأطْلَعتُ بعضَ أهل العلم من الحنفية على النسخة المطبوعة، وقد كان اطلع على الأصل الذي بخطي. وبالجملة، فإني تألّمْت وتأسَّفت لذلك الصنيع المسئول عنه الأستاذ عبد الرزاق حمزة. ومع ذلك فإنني أقول: كما أنني أحبُّ أن يعذرني الناس في زللي، وكذلك الأستاذ محمَّد زاهد يحبّ أن يعذره الناس، فعلينا - معًا -[ص 3] أن لا نَضُنَّ على الأستاذ عبد الرزاق حمزة - بتسليم أن له حقًّا - أن يرى أن له عذرًا فيما صنعه. ¬

_ (¬1) يعني في الهند.

- 3 - الطبع وقع بمصر بعيدًا عني، وعن الناشر، والمعلّق (¬1)، فلم تتيسر العناية بالتصحيح المطبعي، فوقعت في الطبعة أغلاط نعى الأستاذ الكوثري عليَّ بعضها (ص) (¬2) من "الترحيب"، ولم يوازن بين حالي وحاله. هذا، وما وقع في "الطليعة" مما شرحته دعاني إلى التوقف عن إرسال "التنكيل" للطبع على تلك الطريقة. وآمُلُ أن يتيسر لي ما هو أضبط من ذلك، إن شاء الله تعالى. **** ¬

_ (¬1) كان الشيخ لا يزال في الهند، والناشر محمَّد نصيف في جدة, والمعلّق محمَّد عبد الرزاق حمزة في مكة المكرمة. (¬2) لم يذكر المؤلف الصفحة من الترحيب، وانظر (ص 324 - مع التأنيب).

[الباب الأول] النظر في خطبة "الترحيب"

[الباب الأول] (¬1) النظر في خطبة "الترحيب" تكلم الأستاذ فيها عن تأليفي، وتظنّى أنني شرعتُ فيه عَقِب نشر "التأنيب"، ثم تظنَّى في سبب تأليفي، وسبب علاقتي بالناشر، وسبب تعجيل طبع "الطليعة"، وأشار إلى الطعن في الشيخ محمَّد نصيف، والأستاذ عبد الرزاق حمزة. وقال (ص 5): "فربما يكون هذا الناقد من اللامذهبية الحُدَثاء ... ". ثم قال: "والواقع أنه لا يهمني لا هذا التعجُّل، ولا ذلك التمهُّل". أقول: وأنا - بحمد الله عزَّ وجلَّ - لا ألتفت إلى مناقشة الأستاذ في تلك التظنّيات، غير أن الواقع الذي يعرفه جماعة هنا، أن "التأنيب" لم يصل إلى الدائرة إلى الآن، وأني إنما وقفت عليه في شهر ربيع الثاني سنة (1366)، جاء بعض الأفاضل بنسخة منه، وعرض عليّ أن انظر فيها، فأبيت؛ لأنني كنت أكره الخوض في تلك القضية، وقد عرفتُ مما اطلعت عليه قبلُ من تعاليق الأستاذ على بعض الكتب أنه كثيرًا ما يتطرَّف في نظري. فألحَّ عليّ ذلك الفاضل، فأطعته، وهنالك رأيت ما هالني! فبدا لي أن أكتب شيئًا، فشرعت في ذلك - لعله - الأربعاء لعشر بقين من شهر ربيع الثاني سنة (1366). ومع ذلك، لم أكن أواصل العمل، وربما يمضي الشهر وأكثر لا أنشط ¬

_ (¬1) زيادة أرشد إليها صنيع المؤلف من ناحيتين، الأولى: إحالته على "الباب الأول" كما في (ص 35 و45). الثانية: أنه عقد الباب الثاني (ص 27) ولم نجده عقد الباب الأول، فدلّ على أن النظر في الخطبة هو الباب الأول.

لكتابة شيء، وأنا إلى الآن لم أكمل قسم العقائد (¬1). هذا هو الواقع، أحوجني الأستاذ إلى شرحه، وإن كان لا تتعلق به فائدة! ثم ذكر (ص 6) الكلمات النابية التي وقعت في التعليق على "الطليعة"، وبعضها في "الطليعة" نفسها، منها عدة أسطر في (ص 20). وقد قدمتُ أنه لا ذنب لي فيها، ولو كانت مما عَمِلت يدي لما أنكرتها، بل إن كنت أرى لي مبررًا في الإقدام عليها ذكرته، وإلا اعترفت بزللي. والله المستعان. ثم ذكر الأستاذ (ص 6 - 7) وَصْفي له ببالغ التيقظ، وسَعَة الاطلاع؛ لأتوصَّل بذلك إلى دفع احتمال أن يكون مخطئًا في المواضع التي انتقدتها من "التأنيب"، وإثبات أنه تعمَّد ذلك. فأقول - عالمًا أن الله تبارك وتعالى رقيب حسيب -: أما ثنائي على معرفة الأستاذ وتيقُّظه، [ص 4] فذاك ما لا ريب فيه. ومن تأمل تأليفاته عَلِم ذلك حقّ العلم. وأما نسبتي له إلى التعمّد، فإنني بنيتُها على قرائن عِلْمية، مَنْ عَرَف فنّ الرجال والتراجم، وعرف معرفة الأستاذ، وأنصف = لا يسعه أن (¬2) يرميني بالمجازفة. ¬

_ (¬1) قد كمل بحمد الله، وهو آخر الأقسام من التنكيل، وسماه المؤلف "القائد إلى تصحيح العقائد". (¬2) كانت العبارة: "لا يسعه إلا أن يوافقني عليها" ثم غيَّرها المؤلف إلى: "لا يسعه أن يرميني" وفي الضرب على "إلا" فحذفناها.

وأذكر هنا من ذلك مثالاً واحدًا، وهو ما نقلته في "الطليعة" (ص 11 - 43) من تبديل الرواة، وأن الأستاذ ربما مرَّ به في الأسانيد الرجل، نعرف بالدلائل الفنيّة (¬1) أنه فلان الثقة، فيفتش عن رجل آخر ضعيف يوافق ذاك الثقة في الاسم واسم الأب، أو نحو ذلك، فيزعم أنه هو الواقع في السند. ثم ذكرتُ مِن ذلك اثني عشر رجلاً وقعوا في نحو عشرين رواية، وأقمتُ الدليل على ذلك، كما يراه المنصف في "الطليعة". وقد اعترف الأستاذ في "الترحيب" (¬2) ببعض ذلك، ومع هذا لم أجد له في الكتاب كله مثالاً واحدًا عكس هذا! بأن يقع في سندِ روايةٍ في المغامز رجلٌ ضعيف، فيخطئ الأستاذ فيبدله بثقة!! فهذا مثال واحد للأمور التي أقفلت دوني باب الاقتصار على القول بأن الأستاذ غلط. هذا مع علمي بأني معرَّض للخطأ والغفلة. والله المستعان. [ص 5] أقول: الأستاذ حرّ أن يظنّ بي ما شاء، أما الواقع، فهو أن الذي غاظني وأنكرتُه من صنيع الأستاذ هو ما أنكره غيري من أهل العلم المستبصرين، من الحنفية وغيرهم. وذلك هو طعن الأستاذ في أكابر أهل العلم، وإساءته القول فيهم بدون حجة علمية. وقد شرحتُ ذلك في تراجمهم من "التنكيل"، وأفردت كلامه في الإِمام الشافعي (¬3)؛ لطوله. ¬

_ (¬1) هكذا رسمها، ولعله يعني دلائل فن علم الحديث. (¬2) انظر (ص 321). (¬3) في رسالته "تنزيه الإِمام الشافعي عن مطاعن الكوثري" وهي ضمن هذه الموسوعة بتحقيقي.

ولما علمتُ أن الأستاذ كثير الأتباع، مسموع الكلمة، مقبول القول، رأيت أن مطاعنه الباطلة في الأئمة لا يسهل محو أثرها السيئ من صدور الناس إلا بيانُ تعدياته العلمية، سواءً أكانت مغالطة منه - كما ظننت - أم خطأ، كما يقول. وبعد، فلأستاذ - كما يعترف به هو - حريصٌ أشدَّ الحرص على إسقاط روايات المغامز. فلينظر المنصف في الأمثلة التي ذكرتها في "الطليعة"، وليتدبرها، وليراجع "التأنيب"، ويراجع هذا الرد "الترحيب"، ثم ليقض بالعدل، أَكَبَحَ الأستاذُ حرصَه على الإحجام عن الباطل، وقَصَره على تلمّس وجوه الحق، أم طمح وتعدّى؟ وأعترف أنا أنني فيما كتبته من "الطليعة" كنت حريصًا على بيان مغالطات الأستاذ. فليقضِ المنصف: أتعديتُ وجُرت، أم حاولت جهدي الاقتصار على وجوه الحق؟ [ص 6] ثم ذكر الأستاذ (ص 9 - 11) مقدَّمة في الأحداث التي اكتنفت نشر "تاريخ الخطيب"، وضمَّنها بعض الثناء على الإِمام أبي حنيفة رحمه الله. وذلك لا يتعلق بما أنكرته عليه، وناقشته فيه. خلا أنه أشار إلى نبز المخالفين لأبي حنيفة بالبدعة، وهو يعلم أن فيهم مَن مقامه في صدور أهل العلم بالكتاب والسنة أعظم من مقام غيره من الأئمة. ومن عادة الأستاذ أنه يلجأ إلى التهويل، وتكثير السواد، والتشبث بالمشهورات - وإن لم تصح -، وبالأمور المؤثَّرة على العوام، وأشباه ذلك.

ولو كان يقتصر على الحجج العلمية، لكان خيرًا له. ومع ذلك، فأنا لا أناقشه في ذاك القبيل، على شرط أن لا يتعدّى إلى إساءة القول في الأئمة الذين مقامهم عند أتباعهم من المسلمين لا يقلّ عن مقام أبي حنيفة عند أتباعه. ومقامهم عند أهل العلم المحققين الأبرياء من الهوى - من الحنفية وغيرهم - عظيم جدًّا. حتى سمعت من بعض أهل العلم من الحنفية، وبُلِّغت عن غيره منهم الإنكار الشديد على الأستاذ. ثم ذكر الأستاذ (ص 12 - 15) بعض أسباب طعن بعضهم في أبي حنيفة، كالقول بالرأي، والإرجاء، والقول بخلق القرآن. وهذا لا تعلُّق له بمناقشتي، فأما المسائل الاعتقادية، فقد نظرت فيها في قسم الاعتقاد (¬1) تحرِّيًا لما هو الحقّ إن شاء الله، لا بقصد الطعن في المخالف. ثم ذكر (ص 15) شَرْح طريقته في البحث عن أسانيد المثالب، فقال: "منها أن أخبار الآحاد - على فرض ثقة رواتها - لا تناهض العقل، ولا النقل المستفيض، فضلاً عن المتواتر". [ص 7] أقول: هذا مما أوافقه عليه، ولكن ذلك لا يبيح المغالطة وسوء الطعن في الثقات، بل يقال - مثلًا -: هذا سند رجاله ثقات، ولكن متنه باطل؛ لمعارضته المعقول، أو المتواتر، أو نحو ذلك. ¬

_ (¬1) من كتاب التنكيل واسمه "القائد إلى تصحيح العقائد". وقد سبقت الإشارة إليه (ص 8).

ولو اكتفى الأستاذ بهذا لما احتجت إلى أن أتعب في مناقشته. وكذلك من يريد مناقشته في الموضوع، يكفيه أن ينازعه - إن أمكنه - في صحة دلالة العقل، أو في ثبوت التواتر. وبذلك يتوفَّر الوقت على الأستاذ ومخالفيه، ويسهل الوصول إلى الحق عن قرب، ولا نكون ضُحْكة بين الناس، يقول أحدنا: إذا طعنوا في إمامي طعنت في إمامهم، وإذا طعنوا في مشايخي طعنت في مشايخهم، وإذا طعنوا في مذهبي طعنت في مذهبهم، وهكذا يؤول حال أهل العلم إلى المهاترة، ولا يوصل إلى حقيقة علمية. نعم، إن المدَّعى عليه إذا كان قابضًا للدار أو الأرض - مثلًا -، قد يحب المشاغبة وطول المنازعة، والخروج عن موضوع الدعوى، على أمل أن تخور قُوى المدَّعي؛ لطول المصابرة، فيسكت، كما أن المدّعي قد يحبّ مثل ذلك، على أمل أن يسأم المدَّعَى عليه طولَ النزاع، فيصالحه على الأقل. لكن هذا إنما يكون في أهل الباطل، فأما إذا كان المدَّعي والمدَّعَى عليه محبين للحق، فما عليهما إلا مفاوضة ساعة، بأن ينظر كلٌّ منهما في حجة صاحبه، فإن لم يتفقا رجعا إلى قاضٍ أو محكَّمٍ، وشرحا له الواقع كما هو. لكن حالنا - كما لا يخفى - حال أهل الباطل، والله أعلم بالمُبْطِل، فأحد المختلفين رمى صاحبه بأنه مبطل مشاغب له، وصاحبه يكيل له أضعاف ذلك. وإلى الله المشتكى. [ص 8] قال الأستاذ (ص 15) أيضًا: "ومنها أن بين علماء الجرح والتعديل من يسجل أسماء المجهولين في عداد الثقات".

أقول: وهذا مما أوافقه عليه، وقد أفضتُ في شرح هذا في ترجمة ابن حبان من "التنكيل" (¬1)، وبينتُ أن توثيقه لمن لم تثبت معرفته له لا يرفع عنه الجهالة، وذكرتُ حالَ غيره من الأئمة. ثم قال الأستاذ (ص 15): "ومنها: أنه تقرَّر عند أهل العلم أن فاقد الشيء لا يعطيه". أقول: هذا مما أوافقه عليه، على معنى أنّ مَن ثبت أنه ليس بثقة، فلا يقبل منه توثيق لغيره، لكن بنى الأستاذ على هذا قوله: "فأمثال أبي نعيم، والبيهقي، والخطيب، ممن ثبتت شدة تعصبهم الموجبة لرد أنبائهم فيما يمس تعصبهم = لا يقبل قولهم في توثيق رجال المثالب". أقول: هذا لا أوافق عليه، بل أقول: مَن ثبت عند أهل العلم المتثبِّتين الذين لم يغلب عليهم سلطان الهوى أنه بلغ من حاله في الوقوع في غيره ما يُسقط عدالتَه، فهو مجروح لا يقبل توثيقه لموافقٍ ولا مخالف. غايةُ الأمر أن يُستأنس بثنائه على مخالفه استئناسًا. فأما مَنْ لم يبلغ ذلك، ولكن عُرِف بمَيلٍ، فإنما يجب التثبُّت في قوله الذي يوافق ميله، ويُتَروَّى فيه، فإن ظهر ما يدلّ على خطائه أو تساهله أو تسرُّعه، وخالفه مَنْ هو مثله في العلم والفضل، أو أقوى منه = ترجح قول المخالف. وأما إذا لم يكن هناك مرد لقوله إلا اتهامه بأنه كذب أو تعمَّد الحكمَ بالباطل؛ فلا سبيل إلى هذا بعد تسليم أنه ثقة في نفسه. ¬

_ (¬1) (رقم 200).

وهذه القاعدة قد حررتُها في قسم القواعد من "التنكيل" (¬1)، وحشدتُ هناك ما حضرني من النقل والنظر والشواهد. والخطيب إذا اتفق أنه وثَّق بعضَ الرواة الذين اتفق أنْ كانوا من رواة المغامز= فليس هذا عند الإنصاف من مَظنَّة ميله؛ لأن الراوي لم يقتصر على تلك الرواية, بل له روايات [ص 9] أخرى كثيرة قد يكون فيها ما يخالف ميل الخطيب. فاتهام الخطيب أنه وثقه لأنَّ عنده رواية موافقة لميله إسرافٌ وتعدٍّ. على أنني قد بسطت ترجمة الخطيب في "التنكيل" (¬2) بما يَعْرِف به المنصف جليَّة الحال. والتوسُّع في ردّ رواية العالم لما فيه غضّ من مخالفه، يلزمه ردّ رواية العالم فيما فيه مدحٌ لموافقه، ثم يجرُّ هذا إلى ما لا نهاية له إلا إسقاط السنة النبوية ألبتة، فضلاً عن غيرها من علوم الرواية، حتى الفقه نفسه. وهذا ما لا سبيل إليه. فعلى المتثبت أن يقف عند الحق، ومن لم يَسَعْه الحقّ، فلا وسَّع الله عليه! فإن غالبته نفسُه على التطرُّف بدا (¬3) فنظر ما يجر إليه تطرُّفه. قال: "ومثل أبي الشيخ صاحب كتاب "العَظَمة"". أقول: هذا مما لا أوافق الأستاذ عليه، وترى ترجمة أبي الشيخ في "التنكيل" (¬4). ¬

_ (¬1) (1/ 88 - 99). (¬2) (رقم 26). (¬3) كذا. (¬4) (رقم 129).

قال: "ومرادي من كون الرجل غير موثَّق كونه غير موثَّقٍ مِن أهل الشأن". أقول: أما مَنْ لم يكن عندك ولا عند غيرك من أهل الشأن - أي ممن يقبل ثوثيقهم -، فقد يسوغ لك أن تقول فيمن لم يوثقه غيره: "غير موثَّق". وأما من كان عند غيرك من أهل الشأن، فإنه إذا وثَّق رجلاً لم يسغ لك أن تطلق تلك الكلمة. على أنه لعلك إذا راجعت كلامك تبين لك أن جماعةً ممن تزعم - عند حاجتك - أنه لا يعتدّ بتوثيقهم، قد احتججتَ أنتَ مرّةً أخرى - أو مرارًا - بتوثيقهم! فإن لم يكن هذا قد وقع منك، فعسى أن تحتاج إليه فيما بعد، فتحرِّي الحقّ خيرٌ وأسلم. قال (¬1): "وكم من راوٍ يوثق ولا يحتج به، كما في كلام يعقوب الفسوي". أقول: سيأتي ما في هذا. قال: "بل كم ممن يوصف بأنه صدوق ولا يعدّ ثقةً, كما قال ابن مهدي: أبو خَلْدة صدوق مأمون، الثقة سفيان وشعبة". أقول: لا ريب أن كلمة "صدوق" دون كلمة "ثقة". هذا هو الاصطلاح الغالب، فإذا قام دليل اتبع. فكلمة ابن مهدي التي ذكرها الأستاذ حملها أهلُ العلم على أن ابن مهدي أراد بالثقة هنا ما هو أجل وأكبر مما عليه الاصطلاح الغالب، ولهذا ضرب المثل بـ "شعبة"، و"سفيان"، وهما الغاية في الثقة. ¬

_ (¬1) كتب على طرة الصفحة تجاهها: "مقدمة"، وكذا مقابل كلامه الآتي بعد سطر.

وقد قال يزيد بن زُرَيع، والنسائي، وابن سعد، والعجلي، والدارقطني، في أبي خلدة: "ثقة". وقال ابن عبد البر: "هو ثقة عند جميعهم، وكلام ابن مهدي لا معنى له في اختيار الألفاظ" (¬1). وقد تتبع كلام جماعة من الأئمة في الجرح والتعديل، ليعرف اصطلاحهم، [ص 10]، فوجدت منهم مَن يطلق "ثقة" على معنى أنه صالح في دينه، حتى ربما صرَّح بعضهم فقال في الرجل: "ثقة ضعيف الحديث"، أو "ثقة ضعيف جدًّا". وسترى ذاك الفصل في "التنكيل" (¬2)، إن شاء الله تعالى. قال (ص 15 - 16): "ومنها: أن خبر الآحاد يكون مردودًا عند مصادمته لما هو أقوى منه ... ففي هذا الموضع لا داعي للبحث عن رجال السند من كل ناحية ... ". أقول: قد تقدم ما هو قريب من هذا، ونبَّهتُ على ما فيه، وأنا فلم أناقش الأستاذ في عدم ذكره روايات التوثيق فيمن يريد جرحه، لكن إذا كان فيما سكت عنه ما يدفع ما ذَكَرَه، فلا بدّ من المناقشة، وذلك ليُعْطَى ذاك الراوي ما هو حقه في نفس الأمر، ويبين مع ذلك أن روايته معارضة لما هو أقوى منها، ويبين ذاك الأقوى؛ ليعرف الناظر ما له وما عليه. قال (ص 16): "وأما مراعاة حرفية الجرح فغير ميسورة كل وقت، وكفى الاحتفاظ بجوهر المعنى". أقول: الأستاذ يعلم ما في الرواية بالمعنى عن الكتب المؤلفة المتيسِّر الوقوف عليها كل وقت! فإن أبى إلا الرواية بالمعنى، فعلى الأقل يحافظ ¬

_ (¬1) انظر الأقوال فيه في "تهذيب التهذيب": (3/ 88). (¬2) (1/ 120 - 123).

على جوهر المعنى تمامًا. قال (ص 16) أيضًا: "فطريقتي على هذا في البحث عن رجال المثالب: النظر أولاً في متن الخبر، لأستجلي مبلغ مخالفته للعقل (¬1) ... فإن كان الخبر ظاهر السقوط، بمخالفته للعقل أو للنقل، فلا أرى داعيًا إلى التوسع في إبداء وجوه الخلل في السند، بل أكتفي ببعض مآخذ في الرجل، مدونة في كتب أهل الشأن ... غير مستقصٍ". أقول: قد أحسن الأستاذ بالتصريح بهذا، أما أنا فإني في نقد "التأنيب" لم ألتفت إلى متون الحكايات، وإنما كنت انظر كلام الأستاذ في السند، ثم أراجع المظان، وأكتب ما تبين لي. هذا، وقد كان الأولى بالأستاذ أن يبيَّن البرهان العقلي أو النقلي، لسقوط المتن، ثم يكتفي به، فإن لم يكن وثوقه بقوة تلك الحجة فعلى الأقل يلزمه تحرَّي الحقّ في الكلام في الرواة، فإن رأى أن تحرِّي الحق لا يكفي لسقوط السند، قال: رجال السند ثقات، والمتن باطل؛ لمعارضته الحجة القطعية، أو نحو ذلك. [ص 11] قال (ص 16) أيضًا: "وعادتي أيضًا في مثل تلك الأخبار تطلُّب ضعفاء بين رجال السند بادئ بدء، ضرورةَ أنّ الخبر الذي ينبذه العقل أو النقل لا يقع في رواية الثقات". أقول: لك الحقّ في ذلك، ولكن لكل شيء حدّ، وعلى العاقل المتثبَّت أن لا يغلو في حسن الظن بنفسه في مظنة هواه، فلعل بعض ما ترى أن العقل ¬

_ (¬1) في "الترحيب": "أو".

ينبذه لو عرضته على معتدل المزاج، عارف بأحوال الناس، لما وافقك على رأيك، فأما مخالفك فأبعد وأبعد. وأنت أيها الأستاذ تكرر قولك: "إنا ننظر إلى فلان بغير العين التي تنظرون إليه". هذا أو معناه. وهو حقّ لا ريب فيه. فمخالفك إذا رآك تسامحت لا يعذرك، كما أنه إذا وقع منه مثل ذلك لا تعذره، فأما إذا بلغ الأمر المغالطة فالأمر واضح. قال: "ومجرد التوافق في الاسم لا يبرَّر نسبة الخبر التالف إلى الثقات، لأجل تصحيح الأخبار الكاذبة". أقول: لا ريب أن التوافق في الاسم لا يجوَّز تعيين أحدهما بغير حجة، وأبعد من ذلك وأَبْطَل تعيين أحدهما والدلائل العلمية والقرائن المستند إليها في مثل تلك المباحث تقضي بأنه غيره. أما قولك: "لأجل تصحيح الأخبار الكاذبة" فهذه تهمة ترميني بها، والله عزَّ وجلَّ أعلم بحقيقة الحال. وأما أنت أيها الأستاذ فشدّة حرصك على إسقاط تلك الروايات مما تعترف به، ولا ألومك في ذلك، ولكن لكلَّ شيء حد! قال (ص 17): "وإني أرى الأصل في أنباء أبي حنيفة هو الفضل والنبل ... بخلاف الأستاذ اليماني، فإنه يرى الأصل هو الشر، فيحاول إثبات كلّ شر .... ". أقول: أما الفضل والنبل فمما أعتقده إلى الحدِّ الذي يعتقده مَنْ لا هوى له في التعظيم بغير حق، ويزعم - والله رقيبه وحسيبه -[ص 12] أنه لا هوى له في الغضّ، وإنما يستقي معلوماته من المصادر التي يرى صحتها، ويثق

بصحّة دلالتها. فقولك: "إني أرى الأصل هو الشر، فأحاول إثبات كل شر" لا أوافقك عليه. على أنك إنما رأيت من كلامي "الطليعة"، وهي في متناول أهل العلم، فلينظروا فيها، وليوازنوا بين حالي وحال غيري، والله المستعان. قال (ص 17): "والمسيء حقًّا إلى نفسه وإلى الأئمة هو الناقد المنتهج منهج تركيز المثالب على أكتاف أبي حنيفة، بتصحيح الكلمات النابية على ألسنة أئمة كبار، بمحاولة توثيق رواتها ... ". أقول: أما أنا فقد قدمت أني لم ألتفت إلى وزن الروايات بعقلي ولا هواي، وإنما كان همي مناقشة الأستاذ في طعنه في أئمة السنة. على أني أزعم أني لو وقفت على كلمة أرى أنها تضرُّ قائلها، كالشافعي - إمام مذهبي -، أو الحميدي، أو غيرهما، فإنه لا يجرمني ذلك على أن أحيف في النظر في رجال السند، وأتخبَّط في الكلام فيهم، بل أقول ما يقتضيه النظر، فإن ظهر لي أنهم ثقات، قلت: إنهم ثقات، ثم إن احتجت إلى أن أنظر في حال قائل تلك الكلمة، حَرَصت على توخي العدل، إن شاء الله تعالى. ولست أدَّعي براءتي من الهوى، ولا تمكّني من التغلُّب عليه كما يجب، ولكن الناس متفاوتون في اتباع الهوى، فعلى المنصف أن يتدبر "الطليعة"، ثم ينظر نسبة حظي من اتباع الهوى إلى حظ غيري. [ص 13] ثم قال الأستاذ (ص 17 - 18): "ثم إن محاولة الاختفاء وراء الرجال في معامع الجدل ليست من شأن الأبطال ... ثم إن كل واحد من الأمة فيه ما يؤخذ أو يرد، فمحكّ القول هو الحجاج في كلِّ موقف، ومنزلة كلَّ عالم إنما تتبين بقرع

الحجة بالحجة ... ". والذي فهمته من هذا الكلام: أن التمسك في الغضَّ من أبي حنيفة بالمقالات المروية، وبتوثيق رواتها، عجزٌ من صاحبه، وطريق معرفة منزلته إنما هو قرع الحجة بالحجة. فأقول: قد علمت أنه لا شأن لي في الغضِّ من أبي حنيفة، وإنما اضطرني إلى مناقشة "التأنيب" ما فيه من الغضَّ من أئمة السنة بما لا أرى له مسوِّغًا. هذا هو مقصودي، ولو كان لي هوًى في الغضِّ من أبي حنيفة لكان لي شأن آخر. لكن الأستاذ يحرص - كما يتراءى لي - في أن يضطرني إلى سلوك تلك الطريق، لمغزًى يرمي إليه! ولا يدري لعله لولا أن ديني يحجزني عن ذلك للبّيْتُ طلبه، ثم لعله لا يحمد مغبَّة ذلك. ومَن ظنّ ممن يلاقي الحروبَ ... بأنْ لا يُصابَ فقد ظنّ عجزا (¬1) فأما الدنيا فالأستاذ يعلم أن لكلَّ بضاعة سوقًا! ذكر قال (ص 18 - 19): " ... يحتم على الناقد ... أن يدرس ملابسات فتنة القول بخلق القرآن، وما ترتَّب عليها ... ". وحاصل هذه العبارة - فيما أفهم - أن الخلاف الاعتقادي بين أتباع أبي حنيفة وأهل الحديث أدَّى إلى كلام بعضهم في أبي حنيفة، واختلاق بعضهم الروايات عن السابقين، ثم غلوّ بعض المشاهير من أهل الحديث في المقالات التي يسميها الأستاذ "التجسيم"، وحشد الروايات فيها. ¬

_ (¬1) البيت للخنساء "الديوان" (ص 273 - دار عمار).

وأقول: فتنة القول بخلق القرآن المشؤومة لم يقتصر أثرها على أحد الجانبين، بل عملت عملها هنا وهنا، ولعل عملها في جانب الأستاذ أشد. ولا أحبّ أن أخوض في ذلك هنا، فأما المعتقد فقد أودعتُ قسم الاعتقاد من "التنكيل" ما فيه كفاية لاستقاء الحقِّ من معدنه، والله ولي التوفيق. ثم ذكر كلامًا، قد تقدم حاصله، فلا أعيده. ثم قال: "ومن المضحك تظاهره (يعنيني) بأنه لا يعادي النعمان، مع سعيه سَعْي المستميت في توثيق رواة الجروح، [ص 14] ولو بالتحاكم إلى الخطيب نفسه المتهم فيما عمله". أقول: يأبى الأستاذ إلا أن يستغلَّ محبّة الناس لأبي حنيفة، وتوقيرهم له، في قطع ألسنة الصِّدق عن الدفاع عن أئمة السنة، كأنه لا يبالي أن يسقطوا، أو تسقط بسقوطهم السنة النبوية، وتسقط علوم الرواية، حتى الفقه نفسه. أما أنا فقد قدمتُ أن غاية مقصودي تبرئة أئمة السنة عما نسبه إليهم الأستاذ وهم في نظري براء منه، وأحوجني ذلك - كما قدمت - إلى تتبع عثرات الأستاذ؛ ليُعْلَم مقدار تحرِّيه وتثبُّته. فأما الاستماتة، فإن كانت في حشد الأدلة لإحقاق الحق، فلا حرج فيها، والمذموم هو الاستماتة الموقعة في التهوّر والمغالطة. والخطيب - في نظري ونظر أئمة الحديث في عصره وما بعده - غير متهم بتعمّد الكذب، أو تعمّد حكم بباطل. وهواه له حدّ لا يقتضي اتهامه بما

ذكر، وقد بسطت ترجمته في "التنكيل" (¬1). قال الأستاذ: "مع أنه لو ثبتت ثقة حَمَلتها ثبت مقتضاها". أقول: هذا ينافي ما ادعاه الأستاذ مرة بعد مرة، من معارضة تلك الروايات للمعقول والمتواتر، أو على الأقل لما هو أقوى منها؛ فإن الرواية إذا كانت مخالفة لما هو أقوى منها رُدَّت، ولم يلزم من ذلك جرح رواتها، إذا كان قد عُرِف أنهم ثقات، بل تُحْمَل على سهو أو خطأ، أو رواية بالمعنى، أو حمل على معنى غير ظاهر، أو غير ذلك مما هو معروف. لكني كما لم أُعْنَ بالغض لم أُعْنَ بالذبّ. قال الأستاذ (ص 19 - 20): "وحذفه للمتون لأجل إخفاء مبلغ شناعتها عن نظر القارئ، فلو ذكرها كلها مع كلام الكوثري في موضوع المسألة لنبذ السامع نقد هذا الناقد في أول نظرة". [ص 15] أقول: إذا محاسنيَ اللّاتي أُدِلّ بها .... عُدّت ذنوبًا فقلْ لي كيفَ أعتذرُ (¬2) كأنّ الأستاذ يظنُّ الناسَ كلّهم حنفيةً متحمَّسين، ولا يدري أن في الناس كثيرون (¬3) ليسوا بحنفية، وكثيرون منهم حنفية غير ناضجين، وفيهم وفيهم. وقد سمعت من أهل العلم والرزانة من يقول: إن الأستاذ أساء إلى أبي حنيفة وأصحابه بنقله نصوص تلك الروايات في "التأنيب"، فإن تلك ¬

_ (¬1) رقم (26). (¬2) البيت للبحتري "ديوانه" (2/ 308). (¬3) كذا في الأصل، والوجه "كثيرين".

الروايات كان معظمها مدفونًا في "تاريخ بغداد"، حتى بعد أن طبع "تاريخ بغداد"؛ فإنه كتاب كبير لا يتيسر تحصيله إلا لأفراد قليلين. لكن الأستاذ أثبت تلك الكلمات في كتاب صغير، وسعى في تكثير نسخه، وزيادة انتشاره، فوصل إلى أيدي أناس كثير، فإن كان منهم الموافق الذي لا يتأثر بذلك، فمنهم غيره ممن ذكرت سابقًا، وكثير منهم لا يقنعهم ردّ الأستاذ، وهب (¬1) أنهم لا يميلون إلى بطلانه، لكنهم متوقفون، وتفعل تلك الكلمات في أنفسهم فعلها. وبعد، فلو أني ذكرت تلك المقالات لكان للأستاذ أن يتهمني بأنني ذكرتها تشفيًا وتشنيعًا، ولا ريب أن قوله هذا يكون أولى بالقبول. فأما ذكرها مع كلام الأستاذ فيها، فقد أوضحتُ أن ذلك ليس من مقصودي، على أنه ليس من الضروري أن أوافق الأستاذ في كلِّ كلام تكلم به في تلك المقالات، فذكري لها يستدعي أن أناقش الأستاذ فيما لا أوافقه عليه. وهذا أبعد عن مقصودي وأبعد. ثم قال (ص 20): "وهو يسعى في تحميل الروايات الكاذبة على أكتاف ثقات يضعهم في الأسانيد بدل الضعفاء, وأنا أسعى في رد البضاعة الزائفة إلى أصحابها المتهمين ... ". [ص 16] أقول: قد قدّمتُ أنه لا شأن لي بمتون الروايات أكاذبة زائفة، أم على خلاف ذلك، وإنما اعتنيت بإثبات تطرُّف الأستاذ. وعلى فَرْض أن تلك الروايات - أو بعضها - كاذبة زائفة، فإنما الحق تركها لصاحبها الذي هي له في نفس الأمر، وإن ضرته أو ضرت غيره. ¬

_ (¬1) رسمها في الأصل: "وهم" ولعله سبق قلم.

فأما جعلها لغيره، انتصارًا للهوى، فعدوان لا ريب فيه، سواء أكان الهوى حقًّا أم باطلاً. هذا رأيي، فإن كان الأستاذ يستحلُّ مثل هذا العدوان، اتباعًا للمثل العصري: "الغاية تبرر الواسطة"، فله رأيه! وأقول ما قال الأستاذ في خاتمة هذا الفصل: "هذا طريق، وذاك طريق، والله المستعان". ثم ذكر الأستاذ (ص 21 - 23) الفصل الثاني في تتبُّع اعتراضاتي. قال: "فمن ذلك رميه إياي في مفتتحي القسمين من طليعته بالطعن في الأئمة، من غير ذكر أي دليل". [ص 17] وفي (ص 36، 143) من "التأنيب" شيء عن أحمد، وكفى بالطعن في اعتقاد أخصّ الناس به، كابنه عبد الله، وخواصّ أصحابه، مع محاولة استيعابهم = محاولة للطعن فيه. وفي الكلام في محنة خلق القرآن من الرمز والهمز ما لا يسع المناقش أن لا يعتدّ به. وفي (ص 116، و100، و105) من "التأنيب" بعض ما يتعلق بمَالِك، وكلامُه في الشافعيّ لا يقلُّ عن ذلك، بل لعله أكثر، وحسبك بطعنه في نَسَبِه. وقد شرحتُ ذلك في ترجمة الشافعي من "التنكيل" (¬1)، ورأيت أن أفردها عن "التنكيل" لطولها (¬2). ¬

_ (¬1) (رقم 189). (¬2) تقدمت إشارة المؤلف إلى ذلك (ص 9).

وكأنَّ الأستاذ يتجاهل هنا أن الإسراف في رفع إحدى الكفتين إبلاغ في حط الأخرى. والإسراف في رفع أحد العِدْلين إسقاط للآخر، قد يؤدّي إلى إسقاطهما معًا. أولا يسمح لي الأستاذ - وأنا شافعي - بأن أعتقد رُجحان الشافعي على ما قرره الفقهاء؟! وإن صحّ ما تظنَّاه أنني من اللامذهبية الحدثاء، يعني الذين يقولون: لا تقلد أحدًا، أو الذين ينتسبون إلى مذهب، ولكن إذا بان لهم رُجحانُ دليلِ غيره اختاروه؛ فالغالب في هؤلاء اتباع النصوص. وتفاوت الأئمة فيما يتعلق بالرواية, ومعرفة النصوص - على ما هو الظاهر المشهور - معروف. ومن المعلوم أن الفريقين لا يوافقون الأستاذ على استنباطاته، بل يعدون بعضها مكابرة. هذا، وقد ضاق الأستاذ ذرعًا بتقديم (¬1) ابن عبد البر في "الانتقاء" مالكًا، فالشافعي، على أبي حنيفة في الذِّكْر، فذهب يتمحَّل لذلك وجهًا في تعليقه عليه، غير مبالٍ بمخالفته للظاهر الذي يدلّ عليه حال ابن عبد البر وقاله. وقد غضب الأستاذ على إمام الحرمين تلك الغضبة، لسعيه في ترجيح مذهب الشافعي. [ص 18] وإن كلفني الأستاذ أن أكتفي بإظهاره الثناء على الأئمة في بعض المواضع، على ما فيه من دخائل، وأغضُّ النظر عمّا وراء ذلك = فهلّا حَجَزه ¬

_ (¬1) تفشى المداد عند هذه الكلمة ولعلها ما أثبت.

ما يراه في "الطليعة" (ص 4) (¬1): "فرأيت الكوثري تعدّى ما يوافقه عليه أهل العلم من توقير أبي حنيفة، وحسن الذبِّ عنه، إلى ما لا يرضاه عالم متثبِّت"؟! هلَّا حَجَزه هذا عن رميي بمعاداة أبي حنيفة، وأنني إنما بينت ما وقع في "التأنيب" من تبديل الثقة بالضعيف، ونحو ذلك؛ لتثبيت تلك المتون؟! مع أنه لو لم يكن لي مغزى في ذلك إلا بيان الواقع لكفاني عذرًا، كيف ولي مغزى آخر كما تقدم؟! ثم قال (ص 24): "وكذلك ليس من معتقد أهل الحق رفع الصحابة رضي الله عنهم إلى مستوى العصمة". أقول: ولا أنا ادعيتُ ذلك. ولم يقتصر الأستاذ في كلامه في أنس على أن يقول: "ليس بمعصوم"، بل قال ما تراه في "الطليعة" (ص 99) (¬2). ... ¬

_ (¬1) (ص 3). (¬2) (ص 77).

الباب الثاني في النظر في أجوبته عن اعتراضاتي في "الطليعة"

الباب الثاني في النظر في أجوبته عن اعتراضاتي في "الطليعة" جواباته عن الفرع الأول، وتحته اثنا عشر مثالاً وموضوع هذا الفرع: تبديل الأستاذ في الأسانيد التي يجب الطعن فيها الراوي الثقة بسَمِيًّ له متكلَّم فيه. * المثال: (1 و2). راجع "الطليعة" (ص 11 - 20) (¬1). حاول الأستاذ (ص 24 - 30) الجواب عما في "الطليعة" (12 - 20)، ودعاه إلى التطويل أنها أول صدمة! ولا بأس بأن أسايره، ليتبين مقدار فوزه أو خيبته! أصل السند في "تاريخ الخطيب" (¬2) هكذا: "أخبرنا محمَّد بن عيسى بن عبد العزيز البزاز بهمذان، حدثنا صالح بن أحمد التميمي الحافظ، حدثنا القاسم بن أبي صالح، حدثنا محمَّد بن أيوب، أخبرنا إبراهيم بن بشار، قال: سمعت سفيان بن عيينة". فقال الأستاذ في "التأنيب" (ص 97): "في سنده صالح بن أحمد التميمي، وهو ابن أبي مقاتل القيراطي، هروي الأصل، ذكر الخطيب عن ابن حبان: أنه كان يسرق الحديث ... والقاسم بن أبي صالح الحذَّاء: ذهبت كتبه بعد الفتنة، فكان يقرأ من كتب ¬

_ (¬1) (ص 5 - 13). (¬2) (13/ 412).

الناس، وكُفّ بصره. قاله العراقي. ونقله ابن حجر في "لسان الميزان" (¬1). ومحمَّد بن أيوب بن هشام الرازي: كذَّبه أبو حاتم ... ". [ص 19] وفي "الطليعة" (ص 13): "أما صالح المذكور في السند فهو صالح بن أحمد، وهو موصوف في السند نفسه بأنه: 1 - تميمي. 2 - وحافظ. 3 - ويظهر أنه هَمَذاني؛ لأن شيخه والراوي عنه هَمَذانيان. 4 - ويروي عن القاسم بن أبي صالح. 5 - ويروي عنه محمَّد بن عيسى بن عبد العزيز. 6 - وينبغي بمقتضى العادة أن يكون توفي بعد القاسم بمدة. 7 - وينبغي بمقتضى العادة أن [لا] (¬2) يكون بين وفاته، ووفاة الراوي عنه مدة طويلة مما يندر مثله. وهذه الأوجه كلها منتفية في حق القيراطي، فلم يوصف بأنه تميمي، ولا بأنه حافظ، وإن قيل: كان يُذكر بالحفظ، فإن هذا لا يستلزم أن يطلق عليه لقب "الحافظ"، ولم يذكر أنه همذاني، بل ذكروا أنه هروي الأصل سكن بغداد، ولم تُذكر له رواية عن القاسم، ولا لمحمد بن عبد العزيز رواية عنه. وكانت وفاته سنة (316)، أي: قبل وفاة القاسم باثنتين وعشرين سنة، وقبل وفاة محمَّد بن عيسى بن عبد العزيز بأزيد من مائة سنة". ¬

_ (¬1) (6/ 371). (¬2) أسقطت في الطبع. [المؤلف].

ولم أكن وقفت على وفاة محمَّد بن عيسى، وإنما بنيت ما تقدم على ما صرحوا به من أن الخطيب أدركه بهمذان، وتاريخ رحلة الخطيب معروف، ثم بعد الإرسال للطبع وقفت على الترجمة في "تاريخ بغداد" نفسه (ج 2/ ص 406)، وفيها أنه قتل سنة (430). ووقع هناك "محمَّد بن عيسى بن العزيز"، وقد أشار إليه الأستاذ (ص 29) من "الترحيب"، ولكن يظهر أنه عرف أني لم أكن وقفت على الترجمة، فضنَّ عليّ بالتصريح! بل قال: "على أن زيادة "عبد" على جد محمَّد بن عيسى، المدوَّن في "تاريخ الخطيب" باسم "العزيز"، ليكون: ابن عبد العزيز، المتأخر الوفاة، ربما تكون مما لا يقتنع به سوى الأستاذ الناقد الذي لا يرى بأسًا في جعل "الصواف" هو "السواق"". وهذه العبارة موجَّهة، يمكن حمل قوله: "المدون في تاريخ الخطيب" على ما وقع في السند، فقد يكون الأستاذ قصد هذا الإيهام، لكي أردَّ عليه بأن الذي في السند "محمَّد بن عيسى بن عبد العزيز"، وأنه نفسه أثبته كذلك في "التأنيب"، وفي "الترحيب"، فحينئذٍ يتضاحك الأستاذ قائلاً: "هذا اليماني يتغالط، ليرميني بدائه، [ص 20] فقيسوا سائر كلامه على هذا"! وفي الترجمة في "التاريخ": "سمع ... ، وصالح بن أحمد الهمذاني الحافظ، ... وكتبت أنا عنه بهمذان". والأستاذ يرى ... (¬1) أنه هو الذي في السند، سقط من نسخة "التاريخ" لفظ "عبد"، ولذلك اقتصر في التوقف عن ذلك على قوله: "ربما". ¬

_ (¬1) هنا كلمة لم تتبين كتبت فوق السطر.

أقول: فعلى هذا، يبدل مكان قولي في آخر العبارة السابقة المنقولة عن "الطليعة": "بأزيد من مائة سنة"، بلفظ "بمائة وأربع عشرة سنة". فأنا إنما احتججت بسبعة أوجه، كما أثبته مع الأرقام، ومعلوم أنه إذا كان منها ما لا يكفي بمفرده لإثبات الدعوى، ولكن المجموع كافٍ، لم ينبغِ لعالم المناقشة بأن منها ما لا يكفي وحده. على أنّ مَن تتبع صنيع أهل العلم في التمييز بين المتفقين وجدهم كثيرًا ما يفزعون إلى قرينة إنما تفيد الرجحان. راجع "فتح المغيث" (ص 449 - 450) (¬1). ومما قاله هناك: "ويزول الإشكال عند أهل المعرفة بالنظر في الروايات ... أو باختصاص الراوي بأحدهما، إما بأن لم يرو إلا عنه فقط ... أو بأن يكون من المكثرين عنه، الملازمين له، دون الآخر ... أو بكونه - كما أُشير إليه في معرفة أوطان الرواة - بَلَديّ شيخه، أو الراوي عنه إن لم يُعْرَف بالرحلة، فإن بذلك وبالذي قبله يغلب على الظن تبيين المهمل. ومتى لم يتبين ذلك بواحد منها ... فيرجع فيه إلى القرائن والظن الغالب". ومعلوم أن المعروفين بصحبة جابر بن عبد الله الصحابي، إذا قال أحدهم - وإن كان مدلسًا -: "سمعت جابرًا يقول: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ... " = لا يتردَّد أهل العلم - قديمًا وحديثًا - في حمله على جابر بن عبد الله الصحابي، وإن عرفوا أنه كان في عصر الراوي أو بلده كثيرون اسم كل منهم "جابر". وهكذا الحال في "أنس" وغيره، وأمثلة ذلك أكثر من أن تحصى. ¬

_ (¬1) (4/ 283 - طبعة الجامعة السلفية).

والأستاذ نفسه يجري على ذلك حيث لا يخالفه هواه. ونظير ذلك صنيع أهل العلم في الترجيح بين النصوص المتعارضة، فإنهم يكتفون بأدنى مرجِّح. [ص 21] ثم بينتُ بعد ذلك أن تلك الأوجه السبعة إنما تنطبق على الحافظ صالح بن أحمد بن محمَّد أبي الفضل التميمي الهمذانى، روى عن جماعة، منهم: القاسم بن أبي صالح، وروى عنه جماعة، منهم: محمَّد بن عيسى، وكانت وفاته سنة (384)، ووقع في "الطليعة" (ص 15): "وإذ كانت وفاة هذا الحافظ سنة (384)، فهي متأخرة عن وفاة القاسم بستة (كذا) وأربعين سنة، ومتقدمة على وفاة محمَّد بن عيسى بنيف وثلاثين سنة". أما إذا تبين أن وفاة محمَّد بن عيسى كانت سنة (430) - على ما مر - فينبغي أن تُجْعَل هذه العبارة هكذا: " .... فهي متأخرة عن وفاة القاسم بست وأربعين سنة، ومتقدّمة على وفاة محمَّد بن عيسى بست وأربعين سنة ... ". ثم قلت: "ومثل هذا يكثر في العادة ... ". فاعترض الأستاذ في "الترحيب" أولاً جزمي بأن المذكور في السند هو صالح بن أحمد بن محمَّد أبو الفضل التميمي الهمذاني الحافظ الثقة المأمون، لا صالح بن أحمد بن أبي مقاتل الهروي المطعون. قال الأستاذ (ص25): "فيقول [اليماني] في شخص اكتنفه راويان من أعلى وأسفل همذانيان: ينبغي أن يكون ذلك الشخص همذانيًّا أيضًا. وينبغي أيضًا أن لا يحدِّث هرويٌّ في همذان، ولا همذاني في هراة". أقول: هذا حله في الوجه الثالث من السبعة، وحاصل ذاك الوجه: أنا إذا

وجدنا رواية لمحمد بن عيسى الهمذاني عن صالح بن أحمد عن القاسم بن أبي صالح الهمذاني، ثم وجدنا في الرواة "صالح بن أحمد" رجلين، أحدهما همذاني دون الآخر، فالأقرب أن يكون الهمذاني هو الواقع في السند. وأنت خبير أن كون هذا أقرب لا يدفع أن يكون خلافه محتملاً احتمالاً قريبًا، وهو الذي أبداه الأستاذ. فالنتيجة أن احتمال "صالح بن أحمد" في المثال المذكور لأن يكون هو غير الهمذاني قريب، واحتمال أن يكون هو الهمذاني أقرب. فبقيت دعواي سالمة. قال: "وينبغي - أيضًا - أن لا ينسب من هو تميمي نسبًا إلى هراة بلدًا". أقول: يريد بهذا الخدش في الوجه الأول، وأنت خبير أن حاصل الوجه الأول أنَّا إذا وجدنا [ص 22] لمحمد بن عيسى رواية عن صالح بن أحمد التميمي عن القاسم بن أبي صالح، ثم وجدنا رجلين: نُسِب أحدهما في ترجمته في الكتب بأنه تميمي، ولم يُنْسَب الآخر في ترجمته، على تعدد مواضعها هذه النسبة = فإنه يكون الأقرب أن الواقع في السند هو المصرَّح في ترجمته بأنه تميمي. واعتراض الأستاذ ها هنا أبعد من الذي قبله، كما لا يخفى على المتدبِّر. وإنما يكون في هذا احتمالٌ قريبٌ، واحتمالٌ بعيدٌ، لا قريب وأقرب. قال الأستاذ: "وينبغي - أيضًا - أن لا يدعى حافظًا من يذكر بالحفظ". أقول: يريد بهذا الخدش في الوجه الثاني.

وحاصله: أننا إذا وجدنا رواية لمحمد بن عبد العزيز عن صالح بن أحمد الحافظ عن القاسم بن أبي صالح، ففتشنا، فوجدنا رجلين يقال لكل منهما: صالح بن أحمد، أحدهما منعوت في ترجمته حيث وقعت بـ "الحافظ"، ولا يُكاد يُذكر في غيرها إلا مع هذا النعت، وهو مذكور في طبقات الحفاظ. والآخر لم يُطْلَق عليه هذا اللقب، لا في ترجمته حيث وقعت، ولا حيث يذكر، وإنما في ترجمته أن بعض أهل العلم ذكره وقال: "كان يُذْكَر بالحفظ". والحال في هذا الوجه كالحال في وجه "الهمذاني"، إن لم يكن كوجه "التميمي". قال الأستاذ: "فيبني [اليماني] على هذه الانبغاءات البتّ في الرجل الثقة الذي يحاول إحلاله محل الضعيف". أقول: قد علمت أنني لو بنيتُ الحكمَ على واحدٍ من هذه الثلاثة، بناء على أنه الأرجح، لكان لذلك وجه، لكني لم أبنِ على واحدٍ منها، ولا على تلك الثلاثة، بل على مجموع سبعة، هذه الثلاثة أضعفها! فشاغب الأستاذ في تلك الثلاثة، ثم ذكر أنه لا فائدة للمشاغبة في رجل أو رجلين!! ثم ذكرت في "الطليعة" (¬1) أن الأستاذ زعم أن "محمَّد بن أيوب"، الواقع في السند، هو محمَّد بن أيوب بن هشام - الضعيف -. والنظرُ يقتضي أنه محمَّد بن أيوب بن يحيى بن الضريس الحافظ الثقة. وذلك لوجهين: الأول: أن المشهور في ذلك العصر، والمتبادر عند الإطلاق، إذا أطلق ¬

_ (¬1) (ص 12).

"محمَّد بن أيوب" هو ابن الضريس الحافظ. الثاني: أن الواقع في السند يروي عن إبراهيم بن بَشّار الرمادي، وأن المِزِّي ذكر في ترجمة إبراهيم في الرواة عنه: محمَّد بن أيوب بن يحيى بن الضريس. وعضدتُ ذلك بقولي: "وقد احتج الكوثري (ص 114) في معارضة ما رواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن ابن أبي سريج بما رواه الخطيب عن البرقاني عن أبي العباس بن حمدان عن محمَّد بن أيوب عن ابن أبي سريج، وذلك بناءً من الكوثري على أن شيخ ابن حمدان هو محمَّد بن أيوب بن يحيى بن الضريس؛ لشهرته، هذا مع أنه لا يُعْرَف لابن الضريس رواية عن ابن أبي سريج". ثم ذكرتُ ما ظهر لي من القرائن التي تدلُّ أن التبديل كان عمدًا. ثم ذكرتُ أنه لم يكن للأستاذ فائدة في كلامه في هذا السند؛ فإن تلك المقالة نفسها ثابتة عن إبراهيم بن بشار من غير هذه الطريق. ذكرها ابنُ عبد البر في "الانتقاء" (ص 148) (¬1) عن "تاريخ ابن أبي خيثمة" قال: حدثنا إبراهيم بن بشار ... و"الانتقاء" تحت نظر الكوثري كل وقت ... قال الأستاذ (ص 25) من "الترحيب": "ولم يدر [اليماني] المسكين أن ذلك الخبر في السقوط بحيث لا يمكن أن يقوم على قدم، فضلاً عن قدمين ... لاستحالة المتن، ووجود ما يسقط الخبر سوى هذا الرجل" يعني: صالح بن أحمد. ¬

_ (¬1) (ص 275 - المحققة).

[ص 24] (¬1) وقال (ص 27): "ومحمَّد بن أيوب: أعدُّه ابن هشام الرازي - المضعَّف -، وهو يجعله ابن الضريس - الموثَّق -، فماذا يفيد ذلك؟ ". وقال (ص 25): "فما الفائدة المرجوَّة من المشاغبة في رجل أو رجلين في السند، بعد استحالة المتن في العادة، ووجود إبراهيم بن بشار الرمادي ... ". [ص 25] أقول: أما أنا فقد بينتُ مقصودي في الباب الأول (¬2)، والذي ينبغي أن يُسأل هو الأستاذ، فيقال له: فما الذي دعاك إلى تلك المغالطة، ثم إلى هذه المكابرة؟! [ص 26] ثم ذكر في (ص 26) أنه قد سبقه إلى القول بأن صالحَ بن أحمد في السند [هو المضعّف] (¬3) الملكُ المعظّم، واللجنة الأزهرية القائمة بالتعليق على "تاريخ الخطيب". قال: "ولا أدري كيف فات الأستاذ الناقد كل هذا؟ ". أقول: لم أقف إلى الآن على رد الملك عيسى، ولا على الطبعة الثانية للمجلد الثالث عشر من "تاريخ بغداد"، وإنما تيسر لي الوقوف على الطبعة الأولى. ثم أقول: أما الملك عيسى، فقد شرحتُ بعض حاله في ترجمة الشافعي (¬4)، وقد عهدتُ من الأستاذ لا يقلده، بل خالفه في بعض المواضع. قال (ص 56) من "التأنيب" في ذِكْر مسدَّد بن قطن: "وأبو مسدد قطن بن ¬

_ (¬1) ضرب المؤلف على أغلب صفحتي 24 و25. (¬2) (ص 9 - 10). (¬3) زيادة يستقيم بها السياق، وانظر "الترحيب" (ص 320 - 321). (¬4) "التنكيل" (رقم 189).

إبراهيم ... ، وليس المراد: قطن بن نسير كما ظن ذلك الملك المعظم، وما وقع في كتاب الملك المعظم - المطبوع - من ذكر "بشير" بدل "نسير" تصحيف، وكذلك ما وقع في تعليق الطبعة الثانية من ذكر "بشر" بدل "نسير" تصحيف آخر، ومتابعة للواهم في "قطن"، ولا شأن لابن نسير هنا، وإنما المراد هو أبو مسدد قطن بن إبراهيم، لما ذكرنا، ولم يكن لقطن بن نسير ابن يُسمَّى مسدّدًا". وفي هذا بيانٌ لقيمة كلام الملك عيسى في زعمه أن صالحًا هو ابن أبي مقاتل، ولقيمة متابعة اللجنة الأزهرية - إن كانت تابعت الملك عيسى، ولم تقلد الأستاذ -، وبيان لأن الأستاذ لا يقلد عيسى ولا اللجنة. وفي "الطليعة" قرائن استدللت بها على معرفة الأستاذ بالواقع وتغافله عنه، والعلم عند الله عزَّ وجلَّ. ثم أعاد الأستاذ (ص 28) ذِكْر سَبْق الملك عيسى واللجنة الأزهرية إلى ما ذكر، ثم قال: "ومع هذا .. لا مانع لدي من قبول تحقيق الأستاذ اليماني في عدَّ صالح بن أحمد في السند هو الموثَّق، مقدّرًا بحثه, شاكرًا فضله، ومعترفًا بأني كنت وهمت". أقول: لا جَرَم لو بدأ الأستاذ بهذا ونحوه، ثم عَدَل في قوله، وجرى على هذا المنهاج؛ لاتهمت نفسي فيما زعمت من أنه فعل ما فعل عن عمد، ولتلقيت صنيعه بغاية الشكر والتقدير، والتبجيل والتوقير، لا لأن في ذلك إظهار مزية لي، فإن قدري عند نفسي حقير، ولكن لشرف الرجوع إلى الحق إذا تبين، وفضيلة الاعتراف بسبق الوقوع فيما لا يُسْتَحسن، ثم لبعثني ذلك على تغيير كثير من عبارات [ص 27] "التنكيل". لكن جاء هذا الاعتراف مدفونًا فيما لا يناسبه، فقد قال الأستاذ عقب

ذلك: "لكن قبولي لتحقيقه هكذا لا يوصله إلى نتيجة يتوخَّاها من إثبات أن أبا حنيفة جريء في دين الله". أقول: قد علمتَ أن المتن لم يكن يهمني، وأنه إذا ثبت كان له محامل سائغة. ثم حاول الأستاذ الرجوع فيما وهب! فقال: "على أن صالح بن أحمد المضعَّف عند الملك المعظَّم واللجنة العلمية الأزهرية، وصالح بن أحمد الموثَّق عند الأستاذ الناقد، كلاهما من طبقة واحدة، على تأخُّر وفاة أحدهما، وبعد ثبوت المعاصرة بينهما لا يقبل في الطبقات المتأخرة ادعاء أن هذا أخذ عن فلان، وعنه فلان، بخلاف ذاك، إلا من جِهْبِذ خِرِّيت، وأين هو؟ ". أقول: يأبى الأستاذ إلا أن يعيدها جَذَعة! فأقول: بين وفاتي الرجلين ثماني وستون سنة، فإن ساغ للأستاذ مع ذلك أن يعدَّهما من طبقة واحدة، فبين وفاة الراوي عن صالح بن أحمد ووفاة القيراطي مائة وأربع عشرة سنة! وقد عَلِم الأستاذ - وعَلِم كلُّ عارفٍ بعلوم الرواية - أن الجِهْبِذ الخِرِّيت - إن كان هناك من الأئمة من يعترف له الأستاذ بهذا اللقب! - كان يجزم بنحو ما جزمت به لدليل دون مجموع تلك الأوجه السبعة بكثير. ثم ذكر (ص 29) أنه لا يبعد سقوط اسم بين اسمي الراويين. يعني أن يكون الأصل: محمَّد بن عبد العزيز البزاز بهمذان ... حدثنا صالح بن أحمد التميمي الحافظ. فيكون بين محمَّد وصالح رجل سقط، ويكون صالح هو القيراطي.

وذهب الأستاذ يُقَرِّب احتمال ذلك! [ص 28] وأقول: ذكَّرني هذا كلمة لأبي حنيفة في شأن المناظرة (¬1)، والأستاذ يعلم أن هذا الاحتمال الذي أبداه يحتاج مُدَّعيه إلى حجة، ولا حجة هنا، ولا شبهة، بل الأدلة متوفّرة على نفي ذلك، كما سبق. ثم ذكر (ص 26 - 27) حال القاسم بن أبي صالح. وفي كلامي في "الطليعة" (ص 16 - 17) (¬2) ما يُعْلَم به وهن كلام الأستاذ هنا وسقوطه، فلا حاجة لإعادته. ثم قال (ص 29): * المثال 3. "الطليعة" (ص 20 - 122) (¬3). قال الأستاذ (ص 30): "فمن أين له أن يزعم أن من روى عنه التاجر لم يرو عنه حور؟ " أقول: جواب هذا في "الطليعة" نفسها. ثم قال (ص 31): "على أن التاجر على فرض أنه هو شيخ يعقوب الفسوي، يكون ممن لا يحتج به في نظر يعقوب، حيث يقول: كتبتُ عن ألف شيخ وكسر، كلهم ثقات، ما أحد منهم أتخذه عند الله حجة إلا أحمد بن صالح بمصر، وأحمد بن حنبل في العراق ... فماذا يفيد توثيق من لا يحتج به. وقد حذف الأستاذ [اليماني] عجز كلام الفسوي هذا؛ لئلا يخدش في الاحتجاج به". ¬

_ (¬1) لم أتبين الكلمة المقصودة. (¬2) (ص 10 - 11). (¬3) (ص 13 - 15).

أقول: الذي في السند من رواية يعقوب عن أحمد بن الخليل. فزعم الأستاذ أن أحمد بن الخليل هو الملقَّب "حور"، وهو ضعيف جدًّا. وبينت أنا أنه أحمد بن الخليل الكاتب، وأقمتُ الدليلَ على ذلك. فمن ذلك: أن رواية يعقوب عن أحمد بن الخليل الكاتب معروفة مذكورة في الكتب، دون "حور". وأكدتُ ذلك بأن يعقوب إنما كتب عن الثقات، فالظاهر أن لا يروي عن "حور" الذي ليس بثقة. [ص 29] وذكرتُ شاهدًا لهذا المعنى الأخير عبارة يعقوب المذكورة، إلى قوله: "كلهم ثقات". وذلك محصّل لمقصودي على كلِّ حال؛ لأن بقية العبارة، وهو قوله: "ما أحد منهم أتَّخِذه عند الله حجة إلاَّ أحمد بن صالح بمصر، وأحمد بن حنبل في العراق" = لا ينافي مقصودي قطعًا، فإن مقصودي أنه يبعد أن يكون أحمد بن الخليل الواقع في السند هو "حور"؛ لأن "حور" غير ثقة، ويعقوب كتب عن الثقات. والقطعة التي تَرَكْتُها من عبارة يعقوب لا تنافي هذا، ضرورة أنها لا تعطي أن شيوخ يعقوب سوى الأحمدين ليسوا بثقات. ودعوى الأستاذ في "الترحيب" أنه يصير المعنى: أن شيوخ يعقوب سوى الأحمدين ثقات لا يحتج بهم = مغالطة جديدة. أما أولاً: ففي شيوخ يعقوب أمثال حِبَّان بن هلال، وأبي نُعيم الفضل بن دُكَين، وأبي الوليد الطيالسي، ممن هم عند أهل العلم أثبت من أحمد بن صالح، وقد احتجَّ بهم أحمد بن حنبل وأحمد بن صالح - معًا -،

بل مدار السنة عليهم وعلى مَنْ هو مثلهم أو دونهم. فكيف يُعْقَل أن يزعم يعقوب أنه لا يحتج بهم؟! وأما ثانيًا: فالعبارة بظاهرها - فضلًا عن حقيقتها - لا تعطي هذا المعنى، إذ لا يلزم من كون الراوي ليس بحجة أن لا يكون ثقة؛ لأن كلمة "حجة" أبلغ من كلمة "ثقة"، وقولهم: "فلان ليس بحجة"، وإن كانت معدودةً من صيغ الجرح، فليس مثلها قولهم: "فلان ثقة وليس بحجة". وقد قال عثمان بن أبي شيبة في أحمد بن عبد الله بن يونس: "ثقة وليس بحجة" (¬1). وروي عن أبي داود أنه سُئل عن رجل فوثقه، فقيل له: هو حجة؟ قال: الحجة أحمد بن حنبل (¬2). ولا يخفى أن أبا داود يحتج بكثير جدًّا من الرواة غير أحمد بن حنبل. وأما ثالثًا: فالذي يظهر من فحوى العبارة - مع ما قدمته - أن يعقوب لم يرد بقوله: "أتخذه عند الله حجة" الاحتجاج بروايته، وإنما أراد بها الاقتداء في العقيدة، والهدي، والسيرة، والفقه، والورع. هذا، ولو وفق الأستاذ لما لا يبعد عن الصواب ذاك البعد، لقال: عبارة يعقوب إنما تعطي [ص 30] أن العدد الذي ذكره من شيوخه "ألف شيخ وكسر" ثقات، ولا يلزم من ذلك أن يكون شيوخه كلهم ثقات؛ أما أولاً: فلأن العدد لا مفهوم له، فقوله: "كتبت عن ألف شيخ وكسر" لا يلزم منه أنه لم ¬

_ (¬1) انظر "تهذيب التهذيب": (1/ 50). (¬2) رواه عنه الآجرّي. انظر "تهذيب الكمال": (3/ 290)، و"تهذيب التهذيب" (4/ 207 - 208) في ترجمة سليمان بن عبد الرحمن بن عيسى التميمي.

يكتب عن غيرهم، فلعل العدد المذكور هم الذين يقول يعقوب: إنهم ثقات. ويكون قد كتب عن جماعة من الضعفاء. ثم يستدل الأستاذ على إثبات هذا بأن يراجع ترجمة يعقوب في الكتب، ويتتبع شيوخه، فيجد فيهم بعض الضعفاء. ومن هذا احترزت في "الطليعة"، فلم أقل: "شيوخ يعقوب ثقات"، ولا "شيوخ يعقوب كلهم ثقات"، وإنما قلت (ص 21) (¬1): "وقد قال يعقوب بن سفيان ... ". وقلت (ص 22) (¬2): "ويعقوب كتب عن الثقات". وذلك أنني لم أراجع في ذاك الوقت شيوخ يعقوب، بل قلت في نفسي: إن كان فيهم مَنْ هو ضعيف، فإن ذلك لا يدفع مقصودي، إذ غاية الأمر أن يبقى أن في شيوخ يعقوب ضعفاء، وغالب شيوخه ثقات، فيحصل مقصودي بأن الأولى الحمل على الغالب. وهذا كافٍ لما قصدته من تأييد الدلائل الأخرى، فتدبر. ولم يكن مقصودي هناك إثبات أن أحمد بن الخليل التاجر ثقة في نفسه، ومع ذلك أشرت إليه بقولي (ص 21) (¬3): "وتوثيق الأئمة له، وفيها". أي في ترجمته من "التهذيب". * المثال 4. في "الطليعة" (ص 22 - 29) (¬4). ¬

_ (¬1) (ص 14). (¬2) (ص 14). (¬3) (ص 14). (¬4) (ص 15 - 20).

اعترف الأستاذ (ص 33) على جمجمة لا أناقشه فيها!، فمن أحب فليقابل كلامه بما في "الطليعة". * [ص 31]. المثال 5. من "الطليعة" (ص 29 - 30) (¬1). تعرض الأستاذ لهذا (ص 33)، وثبت على دعواه، فلا بأس بالإيضاح. فأقول: هناك رواية عن الحسن بن علي الحُلْواني: حدثنا أبو عاصم، عن أبي عوانة. فزعم الأستاذ أن أبا عاصم هو العبَّاداني الضعيف، لا النبيل الثقة، فدفعت ذلك بأن النبيل "هو المشهور بأبي عاصم في تلك الطبقة، والمراد عند الإطلاق، وعنه يروي الحُلْواني، كما في ترجمة الضحاك من "تهذيب التهذيب" (¬2)، وترجمة الحلواني من "تهذيب التهذيب" (¬3) ". وهناك رواية ثانية من طريق أبي قِلابة الرقاشي عن أبي عاصم عن سفيان الثوري. وثالثة عن مسدد عن أبي عاصم عن الثوري. ذكرهما الأستاذ في "التأنيب"، وقال: "وربما يكون أبو عاصم في السندين هو العباداني"، فدفعتُ ذلك بنحو ما تقدم، وبأن النبيل هو المعروف بالرواية عن الثوري، كما في ترجمة النبيل من "تهذيب التهذيب" (¬4)، وترجمة ¬

_ (¬1) (ص 20 - 21). (¬2) (4/ 451). (¬3) (2/ 302) ولم يذكره ضمن من روى عنه، وذكره في "تهذيب الكمال": (2/ 153). (¬4) (4/ 451).

الثوري من "تهذيب المزي" (¬1)، وعنه يروي أبو قلابة الرقاشي كما في ترجمته من "تاريخ بغداد" (¬2). فاقتصر الأستاذ - فيما يظهر من كلامه - على الكلام في الأثر الأول، واعتذر عن قول: "هو المشهور في تلك الطبقة، والمراد عند الإطلاق" بقوله: "عادة أصدقائنا هؤلاء أن يذكروا كنية لضعيف يشاركه فيها ثقة, تمهيدًا لادعاء أنها في سند المثالب لذلك الثقة". وكأنه يشير بهذا إلى أن الرواة أطلقوا حيث كان ينبغي لهم أن يقيدوا، قصدًا منهم لإيهام أن أبا عاصم هو النبيل. ولم يتعرّض لبقية ما استدللت به، لكن عارضه بأن أبا عاصم "من كبار المناضلين عن مذهب أبي حنيفة بالبصرة، بكل ما أوتي من حول وطول، وقد امتلأت الكتب بما قاله ورواه في مناقب أبي حنيفة ومآثره". أقول: لا شأن لي بتتبع ما روي عن أبي عاصم في المناقب؛ لئلا يهيج إخواننا ويموجوا قائلين: لم يقتصر اليماني على السعي في تثبيت المثالب [ص 32] حتى أخذ يسعى في تقويض روايات المناقب! بل أقتصر هنا على لَفْت نظر العارف إلى أمرين: الأول: هل يسوغ اتهام الرواة الثقات بذاك التدليس الشنيع؟ الثاني: هل تثبت رواية الحُلْواني والرقاشي ومسدَّد عن أبي عاصم العبَّاداني، ورواية العباداني عن الثوري، بمجرد استبعاد أن يروي النبيل عن ¬

_ (¬1) (3/ 219). (¬2) (10/ 425).

غيره ما فيه غضّ من أبي حنيفة؟ * المثال 6. "الطليعة" (ص 30 - 31) (¬1). حاصل هذا المثال: أنها جاءت رواية عن "الأبَّار: أخبرنا أحمد بن إبراهيم قال: قيل لشريك .... ". فذكر الأستاذ أن أحمد بن إبراهيم هو النُّكْري، ولفظه لفظ انقطاع، ولم يدرك شريكًا إلا وهو صبي. فقلت في "الطليعة" (30 - 31): "أول مذكور ممن يقال له أحمد بن إبراهيم في "تاريخ بغداد"، و"تهذيب التهذيب": أحمد بن إبراهيم بن خالد الموصلي، وذكر الخطيب سماعه من شريك". هذا هو الصواب، ووقع في المطبوع: "وذكر إسماعه من شريك". ونبه الأستاذ على أنه ليس في "تهذيب التهذيب" ذكر سماعه من شريك. وصدق الأستاذ. قال الأستاذ في "الترحيب" (ص 33): "وجود النكري في سند الخبر أو عدم وجوده لا يقدم ولا يؤخر"! أقول: المقصود بيان الواقع. وراجع "الطليعة". وقلت في "الطليعة" - أيضًا -: "وأما قوله: "لفظ انقطاع" فيردُّه أن أحمد بن إبراهيم الموصلي ثقة، وقد ثبت سماعه من شريك، ولم يكن مدلسًا ... ، وسيأتي شرح هذه القاعدة، وبعض دقائقها في القسم الأول من "التنكيل"، إن شاء الله تعالى". ¬

_ (¬1) (ص 21 - 22).

فقال الأستاذ: "ليس "قيل" مثل "عن" عندهم". أقول: هذا من تلك الدقائق التي شرحتها في قسم القواعد من "التنكيل" (¬1) بأدلتها وشواهدها، فلا أطيل بذلك هنا. وذكر الأستاذ هنا أن الخطيب لا يحتج به فيما هو متهم فيه. يعني في شأن سماع الموصلي من شريك. وقد تقدم الكلام على هذا في الفصل ... (¬2) من الباب الأول. وبعد .. فهب أنه لم يثبت السماع، فالنكري الذي اختاره الأستاذ - مع تأخر ترجمته في "تاريخ بغداد"، و"التهذيب" - لم يُذْكر له سماع من شريك، فلماذا اختاره الأستاذ؟! * المثال 7. "الطليعة" (ص 31 - 34) (¬3). ذكر الأستاذ في "الترحيب" (34) ما يتعلق بعبد الله بن محمود، وسيأتي في موضعه في المثال الأول من الفرع السابع (¬4)، إن شاء الله. والمقصود هنا إنما هو شأن "أبي الوزير"، فاعترف الأستاذ بما ذكرتُه، ¬

_ (¬1) (1/ 135 - 144). (¬2) ترك المؤلف هنا - وفي مواضع أخرى - بياضًا بمقدار كلمة أملًا في إلحاقها، والموضع المشار إليه في (ص 13)، لكن لم يكتب المؤلف فصولًا، ولا وضع "الباب الأول" مع أنه قد عقد الباب الثاني، والظاهر أنه عني بالباب الأول الكلام على خطبة الكتاب كما سبقت الإشارة إليه (ص 7). (¬3) (ص 22 - 24). (¬4) (ص 260).

أنه أبو الوزير محمَّد بن أعين، لا أبو الوزير عمر بن مطرِّف. ثم ناقش في توثيق محمَّد بن أعين. وكنت قلت في "الطليعة" النقل (¬1): "إنه كان من ثقات ابن المبارك وخواصه، وأنه وصيه، وأن أحمد بن حنبل روى عنه، وأن ابن حبان ذكره في الثقات". فقال الأستاذ: "توثيق ابن حبان على طريقته في توثيق المجاهيل ... ، وكون المرء خادمًا أو كاتبًا أو وصيًّا أو معتمدًا عنده في شيء ليس بمعنى توثيقه في الرواية عندهم ... وقول الناقد: أحمد بن حنبل لا يروي إلا عن ثقة رأي مبتكر، وروايته عن مثل عامر بن صالح معروفة". أقول: أصل المقصود أن أبا الوزير الذي في السَّند ليس بعمر بن مطرف المجهول، بل محمَّد بن أعين الذي سمعتَ الثناء عليه. فهب أنه لم يثبت بما ذكرتُه أن ابن أعين ثقة في الرواية، فقد ثبت - على الأقل - ما يقرب من ذلك، وثبت اختصاصه بابن المبارك، وروايته في تلك الحكاية هي عن ابن المبارك. فهذا كافٍ لمقصودي في "الطليعة". على أن في جواب الأستاذ مناقشة: أما ابن حبان، فالنظر في توثيقه مستوفىً في ترجمته من "التنكيل" (¬2) وبه يُعْلَم أن توثيقه هنا ليس كتوثيقه لبعض أتباع التابعين - مثلًا -، ممن يظهر أنه لم يعرف حديثه ولا سَبَره. ¬

_ (¬1) غير محررة في الأصل، وما أثبته أقرب إلى رسمها. (¬2) (رقم 200).

وأما ثقة ابن المبارك بمحمد بن أعين واختصاصه له، واختياره لوصايته، فأقلّ ما يدلُّ عليه ذلك أنه كان عند ابن المبارك عدلاً غير مغفّل. وأما أحمد بن حنبل، فمعروف أنه لا يروي إلا عن ثقة عنده. وعامرُ بن صالح الذي روى عنه هو عامر بن صالح بن عبد الله بن عروة، [ص 34] وهو مختلَف فيه، وثقه أحمد، وضعفه غيره. وهذا لا ينافي أن أحمد لا يروي إلا عن ثقة، إذ المقصود: "عن ثقة عنده". وهذا هو معنى قولي: "ورواية الإِمام أحمد عنه توثيق"، كما لا يخفى. فغاية ما يخشى أن يخطئ أحمد، فيظنّ من ليس بثقة ثقة، لكن هذا خلاف الغالب. فإذا روى أحمد عن رجلٍ ولم يجرحه غيرُه، حُمِل على الغالب. وهذا معنى ما في "فتح المغيث" (134) (¬1) قبيل الكلام في المجهول، الخلاف فيمن روى عنه ثقة، أيكون ذلك توثيقًا له؟ فقال: "والثالث: التفصيل، فإن عُلِم أنه لا يروي إلا عن عدل كانت روايته عن الراوي تعديلاً، وهذا هو الأصح عند الأصوليين ... ". ثم قال: "تتمة: مَن كان لا يروي إلا عن ثقة - إلا في النادر -: الإمامُ أحمد، وبقي بن مخلد ... ". وقوله: "إلا في النادر" يشير - والله أعلم - إلى من يخطئ فيه، فيروي عنه يراه ثقة، وهو عند غيره غير ثقة. ¬

_ (¬1) (2/ 41).

فعلم بهذا أن ما قلته ليس بقولٍ مبتكر، كما ادعى الأستاذ! وقد اعتمد الأستاذ على ابن أعين في رواية أخرى. راجع "الطليعة" (ص 32) (¬1). * المثال 8. "الطليعة" (ص 34 - 35) (¬2). ذكر الأستاذ في "التأنيب" حكاية عن هبة الله الطبري عن محمَّد بن أحمد بن سهل عن محمَّد بن أحمد بن الحسن، فذكر الأستاذ أن محمَّد بن أحمد بن سهل هو الأصباغي، وأن شيخه هو أبو علي بن الصواف. فاعترضته في "الطليعة" بأن الأصباغي مُقِلّ، لا يعرف له رواية عن ابن الصواف، ولا للطبري رواية عنه، واقتصر الخطيب في ترجمته على قوله: "سكن دمشق وحدَّث بها عن محمَّد بن الحسين البستنبان، روى عنه أبو الفتح بن مسرور". وبينتُ أن شيخ الطبري هو محمَّد بن أحمد بن فارس بن سهل، نَسَبه هبةُ الله إلى جده، على ما جرت به عادتهم في التفنُّن في أسماء شيوخهم الذين أكثروا عنهم، كما يصنع البخاري في اسم محمَّد بن يحيى وغيره. وكما يصنع الإسماعيلي في اسم الغِطْريفي، وأشباه ذلك كثيرة جدًّا. والدليل على ذلك - مع ما مر -: أن في ترجمة محمَّد بن أحمد بن فارس بن سهل من "تاريخ بغداد" ذكر روايته عن ابن الصوَّاف، ورواية هبة الله الطبري عنه. ¬

_ (¬1) (ص 23). (¬2) (ص 24 - 25).

[ص 35] فذكر الأستاذ ذلك في "الترحيب" (ص 35)، وهاج وماج! قال: "فزاد الناقد قبل "سهل" فارسًا ... تزيدًّا منه لما شاء هواه". ثم ذكر القصة، وفيها بعد (الصواف): "عن محمَّد بن عثمان عن محمَّد بن عمران بن أبي ليلى، قال: حدثنا أبي، قال: لما قدم ذاك الرجل (يعني أبا حنيفة) إلى محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، شهد عليه حماد بن أبي سليمان ... ، فحدثني خالد بن نافع قال: كتب ابن أبي ليلى إلى أبي جعفر وهو بالمدينة ... ". ثم قال الأستاذ: "فعلى هذا تكون استتابته قبل وفاة حماد بن أبي سليمان، قبل سنة (120) من الهجرة، عندما كان أبو جعفر المنصور العباسي بالمدينة في عهد هشام بن عبد الملك الأموي، قبل تأسيس الدولة العباسية بدهر". أقول: قد قدّمتُ أن مقصودي في هذا الفرع الأول: إنما هو إظهار ما وقع من المغالطة في بعض الأسانيد، ولا شأن لي بالمتن، أيصح أم يبطل، بل إذا كان هناك ما يدلُّ على بطلانه فاعتراضي أشد؛ لأن وجود دليل صحيح على البطلان لا يغني الأستاذ عن المغالطة! فكيف بما ليس معه في إبطاله دليل؟! ومع هذه، فقد ذكرتُ هذه القصة في ترجمة محمَّد بن عثمان بن أبي شيبة من "التنكيل" (¬1)؛ لأنها مما يُقْدَح بها فيه، ثم بينت هناك أن الزيادة التي زادها خالد بن نافع لا يُسأل عنها محمَّد بن عثمان؛ لأن خالدًا ضعيف، ويشبه أن يكون خالد أراد أبا جعفر محمَّد بن علي بن الحسين بن أبي طالب، زعم خالد أن ابن أبي ليلى كتب إليه يستشيره، كما يستشير القاضي ¬

_ (¬1) (رقم 219).

أكابر العلماء في زمانه. وهو الذي كان بالمدينة، أما المنصور فكان بعد خلافته ببغداد. وهذا وإن كان أقلّ شناعةً، لكنه باطل أيضًا؛ لأن وفاة الباقر متقدمة. على كل حال، فزيادة خالد في عنقه، ويبقى الكلام في شهادة حماد مع أنه توفي سنة (120). وتمام الكلام في "التنكيل". * المثال 9. "الطليعة" (ص 35 - 37) (¬1). راجع "الطليعة" لتعلم ما استدللتُ به، أما الأستاذ فقال (ص 37): "هل الكوثري في حاجة في إسقاط تلك الرواية, بعد أن نص على أنها رواية الكذَّاب بن الكذّاب محمَّد بن الحسين بن حميد بن الربيع، ومعه محمَّد بن عُبيد الطنافسي الذي يقول فيه أحمد: إنه يخطئ ولا يرجع عن خطئه، كما في رواية ابن أبي حاتم". [ص 36] أقول: مِن عادة الأستاذ أن لا يكتفي في القدح في الرواية بوجهٍ ولا وجهين، ولا أكثر، بل يذكر من الوجوه ما يمكنه، ولا سيما إذا كان غير واثق بما يورده، ومن طالع "التأنيب" عرف صحة قولي. فطَعْنه في محمَّد بن الحسين لم يكن ليصدَّه عن تطلُّب وجهٍ آخر أو أكثر، ولو بطريق المغالطة. وقد شرحت ذلك في "الطليعة" (¬2). أما محمَّد بن الحسين؛ فترجمته في "التنكيل" (¬3)، وكلمة "الكذاب بن الكذاب" لم تثبت، ومحمد بن الحسين قد وُثَّق، وتمام الكلام في ترجمته. ¬

_ (¬1) (ص 25 - 26). (¬2) (ص 25). (¬3) (رقم 202).

أما محمَّد بن عبيد؛ ففي "مقدمة الفتح" (¬1): "وثّقه أحمد - في رواية الأثرم -، وكذا وثقه ابن معين، والعجلي، والنسائي، وابن سعد، وابن عمار ... ، احتج بمحمد الأئمةُ كلُّهم ... ". أقول: والذي يظهر من سياق ترجمته أن خطأه إنما كان في اللحن. والله أعلم. * المثال 10. "الطليعة" (ص 37 - 39) (¬2). لم يتعرَّض الأستاذ لمعارضة ما أثبته من الأدلة على ما وقع في ترجمة محمَّد بن سعيد في "تعجيل المنفعة" من التخليط. فليراجع القارئ كلامي في "الطليعة"، ثم ليراجع كلام الأستاذ، ليتضح له حقيقة الحال. * المثال 11. "الطليعة" (ص 39 - 40) (¬3). اعترف الأستاذ (ص 38) بأنه أخطأ. * المثال 12. "الطليعة" (ص 40 - 43) (¬4). موضوع هذا المثال: ما في "تاريخ بغداد" (¬5): "حدثني الأزهري، قال: ¬

_ (¬1) (ص 441). (¬2) (ص 26 - 28) وانظر التعليق على هذا الموضع. (¬3) (ص 28 - 29). (¬4) (ص 30 - 31). (¬5) (3/ 122).

كان أبو عمر بن حيويه مكثرًا، وكان فيه تسامح، ربما أراد أن يقرأ شيئًا ولا يقرب أصله منه، فيقرؤه من كتاب أبي الحسن بن الرزاز؛ لثقته بذلك الكتاب، وإن لم يكن فيه سماعه، وكان مع ذلك ثقة". فقال الأستاذ في "التأنيب": "على أن أبا الحسن بن الرزاز [ص 37] هذا الذي كان يثق (ابن حيويه) بكتابه هو علي بن أحمد المعروف بابن طيب الرزاز ... ". فبينتُ في "الطليعة" أن الذي في كلام الأزهري هو أبو الحسن بن الرزاز، وعلي بن أحمد هذا لا يقال له: ابن الرزاز، وإنما يقال له: "الرزاز"، كما تكرر في ترجمته وغيرها في مواضع كثيرة. وكان له دُكّان لبيع الأرز. ومع ذلك فهو أصغر من ابن حيويه بأربعين سنة، ولا يعرف بينهما علاقة. ثم ذكرتُ أن هناك ثانيًا يقال له: أبو الحسن الرزاز، وهو أكبر من ابن حيويه قليلاً، ولكن هو أيضًا "الرزاز"، والذي في كلام الأزهري "ابن الرزاز". ثم ذكرتُ ثالثًا يقال له: "علي بن موسى أبو الحسن ابن الرزاز"، وهو من شيوخ ابن حيويه، فيتعيَّن أن يكون هو المراد في كلام الأزهري. ثم قلتُ: "فكأنَّ بعض كتب علي بن موسى هذا صارت بعد وفاته إلى تلميذه ابن حيويه، لكن لم يقيَّد سماعَه في تلك النسخة التي هي من كتب الشيخ". فأشار الأستاذ إلى هذا المثال في "الترحيب" (ص 38 - 40)، وتغافل رأسًا عن الدليل الواضح، وهو أن الذي في كلام الأزهري "ابن الرزاز"، وعلي بن أحمد هو نفسه "الرزاز".

وذهب الأستاذ يصارع ما أيدت به ذاك الدليل من صِغَر عليَّ بن أحمد، وكونه لا يعرف له علاقة بابن حيويه! فذكر (ص 40): "أنهما من أهل بغداد، وعاشا هناك متعاصِرَين سبعًا وأربعين سنة، فماذا كان يمنع هذا من الاجتماع بذاك، وهما من بلد واحد؟ ". أقول: المدار في هذه الأمور على اختيار الأقرب فالأقرب، كما تقدم في المثال الأول. فههنا يدلُ كلام الأزهري أن ابن حيويه إنما كان يروي من كتاب ابن الرزاز؛ "لثقته بذلك الكتاب"، [ص 38] وليس مما يقرب أن يثق ابن حيويه بكتاب رجل أصغر منه بأربعين سنة، لم يُعرف بشدّة الضبط والتيقّظ. هذا مع اشتهار ابن حيويه بالتثبت والتيقظ. قال العتيقي: "كان ثقة متيقظًا". وقال البرقاني: "ثقة ثبت حجة". ويدلّ كلام الأزهري أيضًا أن كتاب ابن الرزاز كان في متناول ابن حيويه متى أراد، فلو كان ذلك وابن الرزاز صاحب الكتاب حيّ لما كان ما ذكر إلا وهو ملازم لابن حيويه. وكونهما في بغداد نحو سبع وأربعين سنة إنما يُقرِّب أن يكونا اجتمعا في الجملة، فأما أن يكونا متلازمين فيحتاج إلى دليل. ويدلُّ كلام الأزهري أيضًا أنه لم يكن يقع لابن حيويه قراءة من غير أصله إلا من ذاك الكتاب، وهو كتاب ابن الرزَّاز. ولو كان ابن حيويه بحيث يثق بكتاب علي بن أحمد، لكان أولى من ذلك أن يثق بكتاب غيره ممن هو أكبر وأوثق وأثبت وأضبط من علي بن أحمد. فلماذا اختص وثوقه بكتاب ابن الرزاز؟!

ويدلُّ كلام الأزهري أيضًا أن وثوق ابن حيويه في محلَّه، لقوله: "وكان مع ذلك ثقة"، فدل ذلك على أن قوله: "كان فيه تسامح" إنما أراد به تسامحًا يسيرًا لا ينافي الثقة. وعلى هذا يُحمَل قول ابن أبي الفوارس: "كان فيه تساهل". كما يدلُّ عليه توثيق الأكثرين له، مع قول البرقاني - وهو أعلم الجماعة وأتقنهم -: "ثقة ثبت حجة". فهذه الأمور تؤكَّد الدليل الأول الذي تغافل عنه الأستاذ، وهو من أقوى الأدلة كما لا يخفى. [ص 39] قال الأستاذ (ص 39): "رواية الخزاز لو كانت عن كتاب أحد شيوخه لكانت روايته عن أصل شيخه، ولَمَا كان يُرمى بالتسامح". أقول: بلى، يظهر في هذا تسامح، وذلك أن ذاك الكتاب لم يكن هو أصل ابن حيويه الذي سمع فيه، ومن المحتمل أنه كان فيه مخالفةٌ ما لأصل شيخه، بنقصٍ أو زيادة، أو نحو ذلك، لم يتنبَّه لها عند السماع. فإذا تحقق ذلك فيما بعد، فالاحتياط أن يروي كما في أصله، ثم يقول: "هكذا في أصل سماعي، ولكن رأيت في أصل شيخي كذا". وترى لذلك أمثلة في الكتب، منها في "تاريخ جرجان" لحمزة السهمي (ص) (¬1). ومع ذلك، فإن أصل الشيخ بقي عند الشيخ مدة، لا يثق ابن حيويه بالاحتياط في حفظه، كما يمكنه يثق بالاحتياط في أصل نفسه. ومن ¬

_ (¬1) ترك المؤلف رقم الصفحة غُفلاً، وانظر منه (ص 164، 175، 222).

المحتمل أن يكون أصل الشيخ بقي بعد موته عند أهله، فلا يوثق بأنهم احتاطوا لحفظه كما يثق ابن حيويه بالاحتياط في أصل نفسه. فمثل هذه الأمور كافية لأن يقال: "فيه تسامح"، "فيه تساهل"، إلا أنه لما كان الأصل عدم المخالفة، وكان ابن حيويه - مع كونه ثقة ثبتًا حجة متيقظًا - واثقًا بانتفاء المخالفة = لم يخدش ذلك في ثقته؛ لاحتمال أنه أعاد مقابلة أصله على ذلك الكتاب، أو صار إليه، فعلم تطابقهما. وبعد ثبوت ثقة الرجل وتيقّظه لا يصح الخدش فيه بأمر محتمل. والقاعدة محرَّرة في قسم القواعد من "التنكيل" (¬1). والأستاذ يقول بها، ويغلو فيها! قال الأستاذ: "وكان ينبغي أن يذكر في السند اسم شيخه الذي ناوله أصله". كذا قال! ورواية ابن حيويه على الوجه المذكور ليست عن مناولة، وإنما كان يروي عن ابن الرزَّاز بحقِّ سماعه منه. غاية الأمر أنه بدل أن يقرأ من أصل نفسه قرأ من أصل شيخه. قال الأستاذ: "مع أنه لا ذِكْر للرزاز مطلقًا في طبقة شيوخ الخزاز في أسانيد المثالب التي تولى كبرها الخزاز في كتاب الخطيب. وليس بمعقولٍ أن يهمل التلميذ ذِكْر شيخه في سندٍ ما حَمَله وتلقَّاه مِن طريقه". أقول: ومَن الذي قال لك: إن ابن حيويه لم يرو شيئًا قط إلا من ذاك الكتاب الذي كان ربما يقرأ منه إذا بعد منه أصله؟! ومَن الذي قال لك: إن الخزَّاز لم يرو إلا عن ابن الرزَّاز؟! ¬

_ (¬1) (1/ 130 - 134).

إنما ذاك كتاب خاص، يظهر أنه ليس من الكتب التي روى منها الخزاز في كتاب الخطيب، كما يدلّ عليه أن ابن الرزاز المذكور - مع أنه محدِّث معروف موثَّق، وهو من شيوخ ابن حيويه، كما نص عليه - لا رواية له في تلك المقالات أصلاً! فدل ذلك أن الكتب المأخوذة منها تلك المقالات لم تكن من مروياته، يقول: "حدثنا أبو الحسن بن الرزاز"، ويقرأ من الكتاب. فإن قيل: عبارة الأزهري كأنها تبعد عن هذا. قلت: فغاية الأمر أن يكون ابن حيويه سمع بعض المؤلفات من غير ابن الرزاز، ثم وقعت إليه نسخة ابن الرزاز، [ص 40] فكان يقرأ منها، فالنسخة أصل شيخه، لكن ليس ذاك الكتاب مسموعًا له من الشيخ نفسه، بل مسموعًا له من شيخ آخر. ففي هذا صار ابن الرزاز كالأجنبي عن ابن حيويه؛ لأنه وإن كان شيخه ففي غير ذاك الكتاب. فإن قيل: أفلا يخدش هذا في ثقة ابن حيويه؟ قلت: كلا، وبَسْط ذلك في ترجمته من "التنكيل" (¬1)، وفيما تقدّم ما يكفي. على أن مقصودي في "الطليعة" في هذا الموضع إنما هو إثبات أن ابن الرزاز المذكور في عبارة الأزهري ليس هو علي بن أحمد الرزاز، كما زعم الأستاذ. **** ¬

_ (¬1) (رقم 209).

جواباته عن الفرع الثاني، وفيه سبعة أمثلة

جواباته عن الفرع الثاني، وفيه سبعة أمثلة وموضوعه: أن الأستاذ يعمد إلى كلام لا علاقة له بالجرح، فيجعله جرحًا. * المثال 1، و2، و3. في "الطليعة" (ص 43 - 48) (¬1). ذكر الأستاذ في "الترحيب" (ص 40) أنه لم ير فيما ذكرته في هذه الأمثلة شيئًا يجدر التحدُّث عنه. أقول: هذا اعتراف في مكابرة! فليراجع القارئ "الطليعة". * المثال 4. "الطليعة" (ص 48 - 50) (¬2). موضوع هذا المثال: أن الحافظ عبد الله بن محمَّد بن السقاء وقع في سند، فقدح فيه الأستاذ بقوله: "هجره أهل واسط لروايته حديث الطير". وإنما أخذ ذلك من قول الحافظ خميس الحوزي في ذكر ابن السقاء: "من وجوه الواسطيين، وذوي الثروة والحفظ، وبارك الله في سنه وعلمه، واتفق أنه أملى حديثَ الطير، فلم تحتمله نفوسهم فوثبوا به، فأقاموه، وغسلوا موضعه، فمضى ولزم بيته". فبينت في "الطليعة" أنه ليس في هذا ما يقدح في ابن السقاء، وأن ذاك الإنكار إنما يكون مِن جَهَلة العامة. [ص 41] فتجلَّد الأستاذ وقال في "الترحيب" (40): "مطاردةُ محدَّث لأجل حديثٍ حدَّثه ليست من شأن العامة، بل من شأن العلماء ... "! ¬

_ (¬1) (ص 32 - 35). (¬2) (ص 36).

أقول: فليخرج الأستاذ إلى بعض المواضع البارزة، وليحك قصةً تخالف بظاهرها معتقد العامة، فلينظر هل ينكرون عليه أم لا؟! وثناءُ الحافظ خميس الحوزي حاكي القصة على ابن السقاء كافٍ. * المثال 5. "الطليعة" (ص 50 - 51) (¬1). موضوع المثال: قول الأستاذ في "التأنيب": "سالم (¬2) بن عصام صاجا غرائب". فذكرتُ في "الطليعة" أن ذلك مأخوذ من عبارة أبي الشيخ وأبي نعيم، وأصل عبارة أبي الشيخ: "وكان شيخًا صدوقًا، صاحب كتاب، وكتبنا عنه أحاديث غرائب، فمن حِسان ما كتبنا عنه ... ". وعبارة أبي نعيم: "صاحب كتاب، كثير الحديث والغرائب". وليس ذلك بموجبٍ للضعف، وإنما الذي يضر أن تكون تلك الغرائب منكرة، أي: ويكون الراوي تفرَّد بها، بحيث يتجه الحمل فيها عليه، وعبارة أبي الشيخ تدفع هذا. وقد قال أبو الشيخ في الحافظ الجليل أبي مسعود أحمد الفرات: "وغرائب حديثه وما يتفرد به كثير". ثم ذكرتُ أن سالمًا قد توبع على تلك الرواية، فعَدَل الأستاذ في "الترحيب" (ص 40 - 41) عن الكلام في الغرائب إلى ما حاصله: أن أبا ¬

_ (¬1) (ص 37). (¬2) كذا في الأصل في جميع المواضع، ووقع مثله في "الطليعة" وكتاب الكوثري، وصوابه "سَلْم". وانظر التعليق على "الطليعة" (ص 64).

الشيخ ليس بأهل لأنْ يُقبل منه التوثيق، وأن كلمة "صدوق" دون كلمة "ثقة"، وأن المتن "أبو حنيفة ضال مضل" يعني: وهذا باطل قطعًا، وأن في السند جماعة آخرين تكلم فيهم الأستاذ في "التأنيب". ثم وجَّه الحَمْلةَ عليَّ بتهمة أنني أسعى لتصحيح المطاعن في أبي حنيفة. وأعاد ذلك (ص 43 - 44). فأقول: أما أبو الشيخ فحافظ جليل، ثقة ثبت، وترجمته في "التنكيل" (¬1). وكذلك بقية رجال السند تراجمهم في "التنكيل" (¬2)، وكلامي في "الطليعة" إنما هو فيما يتعلَّق بسالم بن عصام، فأما ما يتعلق بغيره ففي تراجمهم من "التنكيل". وأما بطلان المتن لمعارضته للعقل أو التواتر، فلا شأن لي به، كما قدمت في الفصل ... (¬3) من الباب الأول. * المثال 6. "الطليعة" (ص 51 - 52) (¬4). موضوع هذا المثال قول الأستاذ في الحافظ الثبت الهيثم بن خلف الدوري: "يروي الإسماعيلي عنه في صحيحه إصراره على خطأ، وفي الاحتجاج برواية مثله وقفة". فشرحت في "الطليعة" القصة، وأوضحت أن ما فعله الهيثم لا يضره، ¬

_ (¬1) (رقم 129). (¬2) بالأرقام (21، 139، 252). (¬3) تركه المؤلف بياضًا. وانظر التعليق السالف (ص 45). (¬4) (ص 38 - 39).

بل يدل على شدة تثبته، وقد قال الإسماعيلي - نفسه - في الهيثم: "أحد الأثبات". فقال الأستاذ (ص 41) من "الترحيب": "إن كان إصرار الهيثم بن خلف الدوري على خطأ في اسم غير مضرّ، فلماذا هذا التهويل والتضليل في ذكر الكوثري أسماءً بدل أسماء، على فرض أنه مخطئ في ذلك". أقول: هكذا فليكن الشَّغَب! الهيثم وقع في أصله اسم خطأ، فأبى الهيثمُ أن يغيِّر ما في أصله، كأنه يقول: إن كان خطأ فالخطأ ممن قبلي، ومع ذلك فذاك الخطأ لا يترتب عليه مفسدة أصلاً. وقد وقع للإمام مالك بن أنس (¬1) نحو ما وقع للهيثم، فأين هذا مما صنعه الأستاذ؟! قال الأستاذ: "مع أن الكوثري غير مخطئ فيها". يعني: في أمثلة الفرع الأول! وقد سبق اعترافُه الصريح في المثال الأول والرابع والسابع والحادي عشر، وقريب من ذلك في الثاني. ورجع الآن إلى الإنكار! ومثل هذا لا يستغرب! * المثال 7 (¬2). يتعلق بما يأتي في المثال الحادي عشر من الفرع الخامس (¬3). **** ¬

_ (¬1) انظر "تهذيب الكمال": (5/ 374 - 375) في ترجمة عُمر بن عثمان بن عفان. (¬2) (ص 39). (¬3) (ص 73) واكتفى هناك بالإحالة على "الطليعة".

الفرع الثالث في اهتبال التصحيف أو الغلط الواقع في بعض الكتب إذا وافق غرضه

الفرع الثالث في اهتبال التصحيف أو الغلط الواقع في بعض الكتب إذا وافق غَرَضَه * المثال الأول. "الطليعة" (ص 53 - 55) (¬1). موضوع هذا المثال: أنه وقع في ترجمة علي بن عاصم في الكتب حكاية في احتقاره للأئمة، وأنه قال في أبي عَوانة الوضَّاح بن عبد الله اليشكري: "وضّاح، ذاك العبد"، وفي جرير: "ذاك الصَّبِي"، وفي شعبة: "ذاك المسكين". [ص 43] هكذا وقع في "تاريخ بغداد" (¬2): "وضّاح ذاك العبد"، ووقع في "تهذيب التهذيب" (¬3) المطبوع: "وضاع ذاك العبد". فاعتمد الأستاذ في "التأنيب" هذه الثانية عندما حاول الطعن في أبي عَوانة حتى قال: "بلغ به الأمر إلى أن كذَّبه عليُّ بن عاصم". فبينت في "الطليعة" أن ما وقع في "تهذيب التهذيب" المطبوع تصحيف لا يخفى على مثل الأستاذ، ولا من هو دونه، ورُحْتُ أوضِّح الواضح، فذكرت خمس قرائن تبين ذلك؛ فقال الأستاذ (ص 41): "والذي أراه أن قول الأستاذ [اليماني] في دائرة الاحتمال، لكن قول علي بن عاصم في جرير بن عبد الحميد: "ذاك الصبي"، وفي شعبة: "ذاك المسكين"، من غير ذكر ¬

_ (¬1) (ص 39 - 41). (¬2) (11/ 450). (¬3) (7/ 345) ووقع على الصواب في أصله "تهذيب الكمال": (5/ 266).

اسميهما يبعد احتمال ذكر اسم أبي عوانة، على أن الغالب في اسمه "الوضاح" باللام، بل يكون علي بن عاصم أسرف في رميه أبا عوانة بالوضع والكذب". أقول: ليس في هذا ما يدفع (¬1) الحق، فمن المعروف أن ذِكْر الرجل بكنيته إكرام له، وكان أبو عوانة مشهورًا بكنيته، لا يكاد يُذْكَر إلا بها، فنصَّ عليُّ بن عاصم على اسمه تأكيدًا لاحتقاره له، كأنه يقول: ليس بأهل أن يُذكر بكنيته. بخلاف شعبة وجرير، فإنهما كان مشهورَين باسميهما، فليس في ذكرهما باسميهما ما يشعر باحتقار. وهكذا ترك اللام، فإنّ ذِكْره بقوله: "الوضاح" فيه تفخيم، بخلاف قوله: "وضاح" - إذا كان الغالب "الوضاح" -, فإن العدول عنه إلى "وضَّاح" يُشْعِر بزيادة الاحتقار، كأنه يقول: ليس بأهل أن أفخّم اسمه. وبالجملة، فمن كان ممارسًا لكتب الرجال، عارفًا بعلوم الأدب، فإنه يعرف الصواب بذوقه لأول مرة، فكيف إذا رأى ما في "تاريخ بغداد"؟ ومن لم يكن كذلك فيراجع ما ذكرته في "الطليعة"، مع ما هنا. هذا، والذي أوقع مصحح [ص 44] "تهذيب التهذيب" في التصحيف - فيما يظهر - أنه لم يكن من الممارسين للفن، وكانت النسخة واحدة، رأى الكلمة في الأصل مشتبهة .... (¬2) "وضاع"، ولو على بُعد، ولم يكن مستحضرًا اسم أبي عوانة، لغرابته، ولأن أبا عونة لا يكاد يُذكر إلا بكنيته، وكانت كلمة "وضّاع" حاضرة في ذهنه لتكرُّر ذكر الوضع في التراجم. ¬

_ (¬1) تحتمل: "يدافع". (¬2) كلمتان تفشّى المداد فوقهما فلم تتبيّنا.

والأستاذ وغيره من أهل العلم لا يخفى عليهم ما وقع من الخطأ في مطبوعات الدائرة القديمة, مثل "التهذيب" و"اللسان"، و"تعجيل المنفعة". ولا يكاد يخلو عن مثل ذلك كتاب في تراجم الرجال؛ لما أصبح فيه هذا الفن من الغرابة. وفي مطبوعات مصر كـ "الإصابة"، و"الميزان" ما يُقضى منه العجب! ومن أحبَّ أن يعرف ترقِّي التصحيح في دائرة المعارف، فليراجع "التاريخ الكبير" للبخاري. وذكر الأستاذ هنا ما يتعلق بخطأ أبي عوانة إذا حدَّث من حفظه، وقد أفضت في ذلك في ترجمته من "التنكيل" (¬1). * المثال 2. "الطليعة" (ص 55 - 59) (¬2). هو من أوضح الأمثلة على ما قصدتُ بيانه في "الطليعة"، فأعرض الأستاذ في "الترحيب" عما يتعلق به، ورجع يعيد الكَرَّة على ما يتعلق بالمثال الخامس من الفرع الثاني، ويرميني بمعاداة أبي حنيفة، ويكلّفني ما ليس من موضوع كلامي في "الطليعة" بالنظر إلى مقصودي. وقد مر الجواب في محله، فليواجع القارئ هذا المثال في "الطليعة". * المثال 3. يتعلق بما يأتي في المثال الثاني من الفرع الثامن (¬3). ¬

_ (¬1) رقم (259). (¬2) (ص 41 - 44). (¬3) (ص 80 - 81).

* المثال 4. يتعلق بما تقدم في المثال العاشر من الفرع الأول (¬1). * المثال 5. "الطليعة" (ص 59 - 60) (¬2). موضوعه: أنه وقع في "تاريخ بغداد" عن ابن يونس في شأن أيوب بن إسحاق بن سافري: "وكان في خُلقه دعارة، وسأله أبو حميد في شيء يكتبه عنه فمطله". [ص 45] فاعتمد الأستاذ عند حاجته إلى الطعن في أيوب هذا تلك الكلمة، فقال: "ذاك الداعر ... تكلم فيه ابن يونس". فبينت في "الطليعة" أن المعروف في الاستعمال أن يقال: "في خلق فلان زَعارَّة". وهذا هو اللائق؛ لأن الزَّعارَّة هي الشراسة، وهي تتعلق بالخلق. والدعارة: الخبث والفسق. ثم أيدت أن الصواب: "زَعارَّة" بدلالة السياق، وبأن هذا الرجل لو وُصِف بالخبث والفسق لذكره المؤلفون في المتكلَّم فيهم من الرواة. وبأنّ في "تهذيب تاريخ ابن عساكر" (¬3) في هذه القصة: "زعارة". وأكدت ذلك بأن ابن أبي حاتم ذكر أيوب هذا، وقال: "كتبت عنه بالرملة، وذكرته لأبي فعرفه، وقال: كان صدوقًا". فتعرض الأستاذ لهذا (ص 44) من "الترحيب"، فأخذ يطعن في مُهَذَّب ¬

_ (¬1) (ص 51). (¬2) (ص 44 - 45). (¬3) (3/ 200).

"تاريخ ابن عساكر"، وفي أمانته، وأنه "مجسِّم" (¬1)، وأن اعتماد اليماني عليه يدل على توافقهما في المشرب، وراح يطوِّل بما ليس من صلب الموضوع، إلا أنه قال: "ولم يكن السافري إلا داعرًا، سافر الوجه، أصبحت الدعارة خلقًا فيه، وملكة عنده، رغم أنف هذا الناقد". وهذا فرارٌ منه إلى التأويل، وتجاهل الأستاذ أنني لم أعتمد على ما في "تهذيب تاريخ دمشق"، وإنما أيدت به ما يقتضيه النظر، ونسي أنه - نفسه - مما ينقل عن "تهذيب تاريخ دمشق"، ويستند إليه. هذا، مع أن مُهَذِّب الكتاب لا غرض له هنا في الخيانة، كما يدعي الأستاذ، حتى يبدل "دعارة" بـ "زعارة". ومن شأن الأستاذ الخلط في الموضوع، فلما رآني أُجرِّد بعض الأشياء لتحقيق النظر فيها على حِدَة، لم يرقه ذلك! * المثال 6. "الطليعة" (ص 60 - 61) (¬2). ذكرت في "الطليعة" ما حاصله: أنه وقع في "تاريخ بغداد" في سند حكاية: "عبد الله بن عثمان بن الرماح"، فاقتصر الأستاذ في "التأنيب" على أن في السند "ابن الرماح"، فلا يصح. فذكرتُ في "الطليعة" [ص 46] أن هذا الرجل هو عبد الله بن عمر بن ميمون بن بحر بن الرمَّاح، هو وأبوه حنفيان معروفان. تصحف "عمر" إلى "عثمان"، كما ذكره الأستاذ - نفسه - في اسم آخر. نقلتُ كلامه في "الطليعة" ¬

_ (¬1) وهو العلامة عبد القادر بن بدران الحنبلي (ت 1346)، ترجمته في "الأعلام": (4/ 37). (¬2) (ص 45 - 46).

ثم قلت: "وكأنه خشي أن ينبه القارئ على أن ابن الرمَّاح هو ذاك العالم الحنفي ... ". فقال الأستاذ في "الترحيب" (ص 44 - 45): "ومن عجائب صنع هذا الباحث (اليماني) أيضًا: رميه إياي بأخص أوصافه، من ادعاء التصحيف فيما لا يروقه من الروايات، فيجعل عبد الله بن عثمان بن الرماح، المجهول في سند الخطيب، في صدد رمي أبي حنيفة ... = عبد الله بن عمر، متزيّدًا في نسبه ما شاء من الأسماء، ومبدّلًا "عثمان" بـ "عمر"، ليلقي في روع السامع أن هذا الراوي حنفي يقبل قوله عند أصحاب أبي حنيفة، فيلصق بالإمام هذا الاتهام، بل ابن عمر هذا أيضًا مجهول الصفة، فلا يناهض خبره ما تواتر ... ". أقول: أما دعوى تصحيف "عمر" إلى "عثمان"، فقد استدللت على قرب وقوعه بكلام الأستاذ نفسه، وأما الحمل عليه هنا فإنه لا يعرف في تلك الطبقة، ولا في الرواة، ولا الفقهاء، ولا غيرهم، من يقال له: "عبد الله بن عثمان بن الرماح"، وإنما المعروف في تلك الطبقة "عبد الله بن عمر" المذكور. وأما التزيُّد في الأسماء، فلأن "عمر" والد هذا الرجل كثيرًا ما يُنْسَب إلى جده "الرماح". وقد قال الترمذي (¬1) في باب ما جاء في الصلاة على الدابة في الطين والمطر: "حدثنا يحيى بن موسى، حدثنا شبابة بن سوَّار، حدثنا عمر بن الرمَّاح البلخي، عن كثير بن زياد، عن عمرو بن عثمان بن يعلى (¬2) بن مُرّة، ¬

_ (¬1) (2/ 266 حديث 411). (¬2) الأصل: "بن يعلى بن عثمان" سبق قلم.

عن أبيه عن جده ... ". ثم قال الترمذي: "غريب، تفرد به عمر الرماح". وعمر الرمّاح هذا هو والد عبد الله المذكور. وفي "تهذيب التهذيب" (¬1) في ترجمة عثمان بن يعلى، ذكر ذاك الحديث، وقال: "روى الترمذي هذا الحديث الواحد من رواية عمر بن الرماح عن كثير بن زياد ... ". وفيه أيضًا (ج 7/ ص 447): "عمر بن الرمَّاح البلخي، هو ابن ميمون، يأتي". وراجع ترجمة عمر في "تاريخ بغداد" (¬2). وراجع ترجمة عبد الله في "طبقات الحنفية" (¬3). فأما ما رماني به الأستاذ فذلك غفلة أو تغافل عن مقصودي بنشر "الطليعة"، وقد قدمتُ بيان ذلك في الفصل ... (¬4) من الباب الأول. * [ص 47] المثال 7. "الطليعة" (ص 61 - 62) (¬5): حكي أن أحمد بن المعذل الفقيه المالكي كان عالمًا (¬6) صالحًا تقيًّا، وكان أخوه عبد الصمد ماجنًا، فكان أحمد يعظ عبد الصمد ويزجره، فقال ¬

_ (¬1) (7/ 159 - 160). (¬2) (11/ 182). (¬3) "الجواهر المضيَّة": (6/ 662). (¬4) تركه المؤلف بياضًا. وانظر ما سبق (ص 45). (¬5) (ص 46 - 47). (¬6) الأصل: "علمًا" سبق قلم والتصحيح من "الطليعة".

عبد الصمد: أطاع الفريضةَ والسنهْ ... فتاه على الإنس والجِنَّه كأنّ لنا النارَ مِن دونه ... وأفرده الله بالجنهْ غضب الأستاذ على أحمد بن المعذّل! فذكر البيت الأول، وجعل الكلمة الأولى "أضاع". فنبهتُ في "الطليعة" على أن الرواية "أطاع"، كما في غير واحد من الكتب، والسياق يُعَيّنه. فقال الأستاذ في "الترحيب" (ص 45): "هذا تمحُّل! لو كان مراده هذا لقال: أقام .. ، وإنما الطاعة لله ولرسوله، لا للعمل، وهذا ظاهر". كذا قال الأستاذ! وكنت أظن أنه وجد ذاك الشعر في بعض الكتب بلفظ "أضاع"، فغضَّ النظرَ عنه، وحكاه، كما في "وضّاع" و"دعارة"، وأن ذلك منه على وجه التنكيت والتبكيت. لكن عبارته في "الترحيب" خيَّبت ظني، وزادت الأمر شدة! ولو لم يوجد هذا الشعر إلا في كتاب واحد، وفيه "أطاع"، وليس هناك ما يدلّ على صحتها، ولا عدم صحتها؛ لما جاز للعالم تغييرها؛ لأن العربية لا تضيق عنها، فتحتمل أن تكون على حذف المفعول، أو قَصْر الفعل عنه، ثم تنتصب "الفريضة" إما على المفعول المطلق، كأنه قيل: أطاع الطاعة المفروضة والمسنونة، وإما على التضمين، وإما على نزع الخافض الذي سماه الأستاذ "الحذف والإيصال"، وتبجَّح بمعرفته في كلامه على أثر: "لا تعقل العاقلة عمدًا ... ".

وإما على التجوُّز بـ "أطاع" عن "أدى"، فإن الطاعة تستلزم أداء الفرائض، أو غير ذلك. فكيف إذا وُجد الشعر بلفظ "أطاع" في كتب مختلفة، فكيف بالتغيير إلى "أضاع"، مع إبطال الأدلة المعنوية له؟! فمنها: عجز البيت في الأول، فإن إضاعة الفرائض والسنن [ص 48] لا يظهر أن تكون سببًا وباعثًا على التِّيْه، وإنما الذي قد يكون سببًا له أداؤها والمحافظة عليها، لما يُداخِل الإنسان من العجب. ومنها: البيت الثاني، فإن المضيع للفرائض والسنن لا يمكن أن يظن أنه من أهل الجنة دون غيره، وإنما الذي قد يُظَنُّ به ظنّ ذلك مَن كان مؤديًا للفرائض والسنن، محافظًا عليها، فإنه قد يظن أن الجنة له دون العُصاة. ومنها: سبب قول عبد الصمد هذين البيتين. ومنها: ما هو معلوم من حال أحمد من الديانة. والله الموفق. ****

الفرع الرابع في تغيير نصوص أئمة الجرح والتعديل والتعبير عنها بما يخالف معناها

الفرع الرابع في تغيير نصوص أئمة الجرح والتعديل والتعبير عنها بما يخالف معناها * المثال 1. "الطليعة" (ص 66 - 68) (¬1). أشار الأستاذ (ص 50) إلى هذا، فادَّعى أن عبارته هي بمعنى النص المنقول عن حجاج الشاعر، قال: "لأنه لا يتصوَّر مِن مثل ابن الشاعر أن يقع فيه من غير أن يتكرر ذلك منه". كذا قال! وحجاج بن الشاعر إنما رُويت عنه تلك العبارة، وأنه كان يقع، والوقوع لا يُدْرَى ما هو، فالمدار على تلك العبارة، وإذا كانت لا تعطي إلا مرة واحدة، فكيف يجوز أن يتوهّم على ابن الشاعر أنه لم يقلها إلا وقد يكرر ابن الشاعر. فإن لابن الشاعر نفسه أن ينكر هذا، ويقول: لماذا تحمّلونني ما لا تحمل عبارتي؟! نعم، للأستاذ فهمه، ولكن ليس له أن يبني على هذا الفهم تغيير الألفاظ في حال أن الكتب التي هي فيها في متناول يده كلّ وقت، على فرض أنه قد يحكي من حفظه. وأما إذا كان ينظر في الكتاب، فيرى العبارة، فيغيرها قصدًا، فالأمر أشد. * المثال 2. "الطليعة" (ص 68) (¬2). ¬

_ (¬1) (ص 50 - 51). (¬2) (ص 51).

حاصل المثال أن ابن الجنيد قال: سُئل يحيى بن معين وأنا أسمع عن مُؤمّل بن إهاب، فكأنه ضعَّفه. فقال الأستاذ في "التأنيب" (¬1) في مؤمل: "ضعفه ابن معين". فقال في "الترحيب" (ص 45) [ص 49]: "على أن الذاكرة قد تخون في استذكار المعنى الحرفي، فقول القائل: "كأنه ضعفه" لا يفرُق كثيرًا من قوله: "ضعّفه"، لكون الحكم على الأحاديث بالصحة والضعف، وعلى الرجال بالثقة أو الضعف - في أخبار الآحاد - مبنيًّا على ما يبدو للناقد، لا على ما في نفس الأمر. فظهر أن ذلك [عبارة عن] (¬2) غلبة الظن فيما لا يقين فيه، وسبق أن نقلنا عن أحمد في "الرمادي": "كأنه يغيّر الألفاظ"، وقد بنى عليه الذم الشديد". أقول: لا يخفى ما في هذا من التعسُّف، فإنه مما لا يخفى! فإن الخبر شرط صحته الجزم، فهل للأعمى الصائم إذا سأل بصيرًا عن غروب الشمس، فقال البصير: "كأنها قد غربت" = أن يفطر؟! وهل على من عهد ثوبًا طاهرًا فقال له قائل: "كأنه وقد تنجَّس" أن يعدّه نجسًا؟! وهل لامرأة غاب عنها زوجها مدة، فلقيها ثقتان - مثلًا - فقالا (¬3): "كأنه قد مات" أن تعتد وتتزوج؟! ¬

_ (¬1) (ص 106). (¬2) سقطت من الأصل، والاستدراك من "الترحيب". (¬3) الأصل: "قال".

إلى غير ذلك من الأمثلة. فهكذا قول ابن الجنيد: "فكأنه ضعفه", فإن الناقد هنا هو ابن معين، وابن الجنيد مخبر عما شاهده وسمعه، فقوله: "فكأنه ضعّفه" نظير الأمثلة التي قدمنا، فلا يثبت بها حكم. وهذا واضح. فأما ما وقع في الرواية عن أحمد: "كأنه يغير الألفاظ"، فهذه إن كانت من الراوي عن أحمد، فهي تفسير لقول أحمد: "يملي عليهم ما لم يسمعوا". وإن كانت من أحمد، فهي تَظَنًّ لوجه صنيع الرمادي، وترجمة الرمادي في "التنكيل" (¬1). * المثال 3، و4، و5، و6. "الطليعة" (69 - 73) (¬2). * المثال 3. "الطليعة" (ص 69). لم يذكر الأستاذ ما يحتاج إلى زيادة عما في "الطليعة". * المثال 4. "الطليعة" (ص 69). قال الأستاذ (ص 51): "ليس عادة النقاد أن يقولوا لما ليس في كتاب الراوي: إنه عنده، فلا يكون سقوط (في كتابه) مغيّرًا للمعنى، ولا مقصودًا، فَهِم الناقد أم لم يفهم". أقول: راجع "الطليعة"، وتدبر! **** ¬

_ (¬1) (رقم 2). (¬2) (ص 51 - 54).

الفرع الخامس تقطيع نصوص أئمة الجرح والتعديل

[ص 50] الفرع الخامس تقطيع نصوص أئمة الجرح والتعديل * المثال 1 - 12. "الطليعة" (ص 72 - 78) (¬1). اكتفى الأستاذ بما حاصله: أنه إنما يأخذ محلّ الحاجة، فراجع "الطليعة". **** الفرع السادس يعمد إلى جرح لم يثبت فيحكيه بصيغة الجزم محتجًّا به * المثال 1 - 3. "الطليعة" (ص 79 - 82) (¬2). لم يتعرّض لها الأستاذ بما يحتاج إلى مناقشته فيه زيادة على ما في "الطليعة". * المثال 4. "الطليعة" (ص 82) (¬3). عدل الأستاذ عن موضع المناقشة إلى كلام آخر، ترى حاله في ترجمة الأصمعي من "التنكيل" (¬4). * المثال 5، و6. "الطليعة" (ص 83 - 86) (¬5). لم يتعرض لها الأستاذ بما يحتاج إلى زيادة على ما في "الطليعة". ¬

_ (¬1) (ص 54 - 59). (¬2) (ص 59 - 63). (¬3) (ص 63). (¬4) (رقم 146). (¬5) (ص 64 - 66).

الفرع السابع قوله في المعروف الموثق: "مجهول"، ونحوها

الفرع السابع قوله في المعروف الموثّق: "مجهول"، ونحوها * المثال 1. "الطليعة" (ص 86 - 87) (¬1). عبد الله بن محمود المروزي، قال الأستاذ في "التأنيب": "مجهول الصفة". فاعترضته بأن هذا الرجل حافظ مصنّف معروف. قال ابن أبي حاتم (¬2): "كتب إلى أبي بمسائل ابن المبارك، من تأليفه". وذكره الذهبي في "تذكرة الحفاظ" (¬3): "الحافظ الثقة، محدث مرو ... قال الحاكم: ثقة مأمون". أجاب الأستاذ بما حاصله: أنه لا يعتدّ بتوثيق الحاكم، وأما الذهبي فمتابع للحاكم. وقد مر الكلام على هذا المعنى في الفصل ... (¬4) من الباب الأول. وترجمة الحاكم في "التنكيل" (¬5)، ولم يطعن أحد في كلامه في الرواة، وإنما نسبوه إلى التشيّع، وإلى التساهل في تصحيح بعض الأحاديث الضعاف. ¬

_ (¬1) (ص 66 - 67). (¬2) "الجرح والتعديل": (5/ 183). (¬3) (2/ 257). (¬4) تركه المؤلف بياضًا. وانظر ما سبق (ص 45). (¬5) (رقم 215).

أما (¬1) جرحه وتعديله؛ فمأخوذ به من عهده، وهلم جرًّا. * [ص 51]. المثال 2. "الطليعة" (ص 87) (¬2). ذكر الأستاذ (ص 47) أنه تنبَّه فيما بعد لأن محمَّد بن مسلمة هو المخزومي، ثم قال: "رُوي عن أبي حاتم توثيقه، لكن تحاماه أصحاب الأصول الستة وأحمد". أقول: هذا خارج عن الموضوع، وترجمة الرجل في "التنكيل" (¬3). * المثال 3، و4. "الطليعة" (ص 89 - 90) (¬4). أشار الأستاذ إلى أن من عادة ابن حبان توثيق المجاهيل. أقول: قد أجبتُ عن هذا في "الطليعة"، وتمامه في ترجمة ابن حبان من "التنكيل" (¬5). * المثال 5. "الطليعة" (90 - 91) (¬6). أجاب الأستاذ بالكلام في أبي الشيخ وتوثيقه. وترجمة أبي الشيخ في "التنكيل" (¬7). ¬

_ (¬1) الأصل "أم" سهو. (¬2) (ص 67). (¬3) لم أجدها، فلعل المؤلف اكتفى بما في الطليعة. (¬4) (ص 69 - 70). (¬5) (رقم 200). (¬6) (ص 70 - 71). (¬7) (رقم 129).

* المثال 6، و7. "الطليعة" (91 - 92) (¬1). يجيب الأستاذ بأن الخطيب لا يحتجّ به فيما هو متّهم فيه، وقد تقدم كشف ما في هذا من المغالطة (¬2). **** ¬

_ (¬1) (ص 71 - 72). (¬2) (ص 13).

الفرع الثامن في إطلاقه صيغ الجرح بما لا يوجد في كلام الأئمة

الفرع الثامن في إطلاقه صِيَغ الجرح بما لا يوجد في كلام الأئمة * المثال 1. "الطليعة" (ص 98 - 102) (¬1). قال الأستاذ (ص 48): "غاية ما عملت في أنس رضي الله عنه هو نَقْل مذهب أبي حنيفة في تخيّر بعض رواياته، وهذا مشهور في كتب أهل العلم، وليس في هذا مساس بأنس، وكبر السن أمرٌ لا مهرب منه ... ، وإن كان لا يدع حافظة المرء على ما كانت عليه في عهد الشباب". أقول: راجع "الطليعة"، وأَضِفْ إلى الجماعة الذين ذكرتُهم آخر (ص 100): أبو عثمان النهدي، بلغ مائة وثلاثين. وقيل: وأربعين سنة. وزِرّ بن حُبيش بلغ مائة وسبعًا وعشرين سنة. ومعرور بن سويد بلغ مائة وعشرين سنة. ويُجْعَل السطر الأول من (ص 101) هكذا: "وسويد، وأبو عثمان، وأبو رجاء، وزِرّ، وأبو عَمرو، ومعرور، كلهم ثقات أثبات مُجْمَع على ... ". ثم ذكر (ص 49): "من مذهب أبي حنيفة أيضًا، كما يقول ابن رجب في "شرح علل الترمذي": رد الزائد إلى الناقص في الحديث متنًا وسندًا". ثم راح يفرِّع على هذا أنه إذا [ورد] (¬2) في رواية عن راوٍ لفظ "عن"، وفي أخرى "سمعت"، فالمعتمد العنعنة؛ لأنها الناقصة. ¬

_ (¬1) (ص 77 - 84). (¬2) زيادة يستقيم بها السياق.

كذا قال! ولا أدري لماذا يفزع الأستاذ إلى ابن رجب، وهل ابن رجب أَعْرَف بمذهب أبي حنيفة من الحنفية أنفسهم؟! ثم ما مستند ابن رجب؟ فأما أخذ الأصول من الفروع وبناؤها عليها، كما هو شأن الحنفية، فليس بمقنع. ولهم في ذلك من المناقضات والتعسُّفات [ص 52] ما هو معروف في أصول الفقه. ومع ذلك، لا يظهر دخول مسألة العنعنة تحت القاعدة، وإنما رد الزائد إلى الناقص أن تأتي رواية منقطعة قطعًا ورواية موصولة، ففي المنقطعة نقص راوٍ - مثلًا -, وفي الموصولة زيادته، وهكذا إذا أتت رواية موقوفة ورواية مرفوعة، وأما النقص في المتن فواضح. وفوق هذا .. فهذه القاعدة غير مجمع عليها، فتحتاج إلى دليل. والاكتفاء بأنها "احتياطٌ لدين الله" لا يكفي. أرأيت لو قال قائل: لا أحتج إلا بما ثبت يقينًا، بأن يكون قطعي المتن، قطعي الدلالة، احتياطًا لدين الله أن أثبته بالظن. أيكفيه هذا؟ أو رأيت لو قال قائل: لا أحتج بالرأي والقياس البتة، احتياطًا لدين الله أن أثبته برأيي. أيكفيه هذا؟ ومسألة القصاص في القتل بالمثقَّل قد توسَّعت فيها في الفقهيات من "التنكيل" (¬1)، واحتججت بأربع آيات من كتاب الله عزَّ وجلَّ. وذكر الأستاذ هنا (ص 48) ما قلت في مقدمة "الطليعة" (¬2): إنه تكلم ¬

_ (¬1) (2/ 127 وما بعدها). (¬2) (ص 4).

في هشام بن عروة حتى نَسَبه إلى الكذب. فزعم أن مقصودي ما نقله عن الخطيب، مما أخرجه عن الساجي بسنده إلى مالك. ثم قال الأستاذ: "أهذا قولي أم قول مالك، أيها الباهت الآفك؟ ". أقول: لا أحبّ أن أجاري الأستاذ في حِدَّته، وإنما أقول: ليس مقصودي ما زعمتَه، إنما مقصودي قول الأستاذ في "التأنيب" (ص 98) - بعد ذكره رواية هشام عن أبيه قال: "لم يزل أمر بني إسرائيل ... " - قال الأستاذ: "إنما أراد هشام بذلك النكاية في ربيعة وصاحبه، لقول مالك فيه ... ". ففهمت من قوله: "إنما أراد ... " أن مقصوده أن هشامًا (¬1) اختلق هذه الحكاية، ورواها عن أبيه لذاك الغَرَض. فإن كان هذا مراد الأستاذ في "التأنيب" فذاك، وإن زعم أنه لم يُرِد هذا فأمره إلى الله، وأستغفر الله وأتوب إليه. أما رواية الساجي؛ فقد ردَّها الخطيب نفسُه (1/ 223) [ص 53] بأنّ شيخ الساجيّ لا يُعْرَف، فعَدَل الأستاذ عن ذلك: "هذا من انفرادات الساجي، وأهل العلم قد تبدر ... ". فأوهم أنه لا علة للحكاية إلا انفراد الساجي، والساجي حافظ جليل، ترجمته في "التنكيل" (¬2)! وقول الأستاذ: "وأهل العلم قد تَبْدُر ... " يوهم أن الحكاية ثابتة، فيحتاج إلى الاعتذار عنها! ¬

_ (¬1) الأصل: "هشام". (¬2) (رقم 94).

* المثال 2. "الطليعة" (ص 106 - 108) (¬1). لم أر في "الترحيب" تعرُّضًا لهذا، وقد وقفت على نسخة أخرى جيدة من "ثقات ابن حبان" محفوظة في المكتبة السعيدية بحيدراباد، وفيها كما نقلته عن نسخة الآصفية. ورأيت في "تاريخ جرجان" (¬2) لحمزة السهمي ترجمة لأبي عوانة، وفيها عن ابن عدي والإسماعيلي أنه توفي سنة سبعين ومائة. وهذا يؤيد ما ظننته في "الطليعة" (ص 107) (¬3) سطر (8). والله أعلم. * المثال 3. "الطليعة" (ص 108) (¬4). قال الأستاذ (ص 50): "وأما قولي في محمَّد بن علي بن الحسن بن شقيق: ليس بالقوي. فيكفي في إثباته إعراض الشيخين عن إخراج حديثه في الصحيح مع روايتهما عنه خارج الصحيح". أقول: لم يحتاجا إلى ما عنده؛ لأن سِنّه قريب من سنهما، وروايتهما عنه خارج الصحيح في صحتها وقفة، وربما يكونان رويا عنه بعض الحكايات مما لم يجداه عند من هو أعلى إسنادًا منه. وقد وثَّقه النسائي، وهو في توثيق المتأخرين أشدّ احتياطًا من الشيخين، فربّ رجلٍ فيهما أو في أحدهما يضعّفه النسائي، وغيره. ¬

_ (¬1) (ص 84 - 85). (¬2) (ص 481 - بتحقيق المؤلف). (¬3) (ص 85). (¬4) (ص 85).

وليس (¬1) كلُّ مَن لم يروِ عنه الشيخان غير قوي. والأستاذ نفسه لا يلتزم هذا. * المثال 4. "الطليعة" الطليعة (ص 108) (¬2). نبَّهني الأستاذ على أن لفظ "وأبو عمار" استدرك الضرب عليه في جدول الإصلاح. وصدق الأستاذ. * المثال 5. "الطليعة" (ص 109) (¬3). قال الأستاذ (ص 50): "السواق غير الصواف". أقول: ترجمته في "التنكيل" (¬4). * المثال 6. "الطليعة" (ص 109) (¬5). قال الأستاذ: "لا أريد التكلم عن ابن المنادي، فإنه معروف". أقول: أحسن الأستاذ إلى نفسه! ¬

_ (¬1) الأصل: "وليس كان ... " فالظاهر أن "كان" كتبها المؤلف قبل تعديل العبارة ثم ذهل عن الضرب عليها. (¬2) (ص 86). (¬3) (ص 86). (¬4) (رقم 167). (¬5) (ص 86 - 87).

التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل

آثَار الشّيخ العَلّامَة عبَد الرّحمن بن يحيى المُعَلِّمِيّ (10) التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل تأليف الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني 1312 هـ - 1386 هـ تحقيق علي بن محمد العمران ومحمد أجمل الإصلاحي المجلد الأول وفق المنهج المعتمد من الشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد (رحمه الله تعالى) تمويل مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

بسم الله الرحمن الرحيم

راجع هذا الجزء عادل بن عبد الشكور الزرقي

مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية SULAIMAN BIN ABDUL AZIZ AL RAJHI CHARITABLE FOUNDATION حقوق الطبع والنشر محفوظة لمؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية الطبعة الأولى 1434 هـ دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع مكة المكرمة - هاتف 5473166 - 5353590 فاكس 5457606 الصف والإخراج دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

مقدمة التحقيق

مقدمة التحقيق الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد، فإن كتاب "التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل" أهم وأكبر كتاب ألفه الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي (ت 1386) رحمه الله. وهو بأقسامه الثلاثة (الحديث- والفقه - والعقائد) يعدّ من المؤلفات النادرة المعدودة في القرون المتأخرة؛ من حيث التدقيقُ والتحقيقُ وكثرةُ الفوائد، أفصح فيه مؤلفه عن نفَسٍ عالٍ من القدرة على البحث، والتمكّن من نواصي العلوم، والبراعة النادرة فيها، والخوض في لُجَج المشكلات العلمية، وحلها بتحقيق بالغ وتجرّد نادر، يحيط بذلك ويؤازره: قوة الحجة، وإنصاف الخصم، وعلوّ الأسلوب، ولغة معتدلة في النقد والمناظرة. وهذا الكتاب الجليل هو الذي عرّف الشيخَ المعلمي رحمه الله إلى قرّائه، فيه عرفوا قوّتَه العلمية وتحقيقه النادر، إذ إنه لم يطبع من كتبه في حياته إلا ثلاثة كتب هي (طليعة التنكيل، والأنوار الكاشفة، ومقام إبراهيم) الأول والثالث كتابان لطيفان، و"الأنوار" جرى فيه أيضًا على الاختصار وردّ الشُّبَه بلا توسع بل بما يكفي في رد الشبهة. ولم يطبع كتاب "التنكيل" في حياة مؤلفه، بل بعد وفاته في سنة 1386 هـ وهي السنة التي توفي فيها، مع أنه كان قد انتهى منه في حدود سنة 1370 هـ, بدليل أن "طليعتَه" طبعت سنة 1368 هـ، وذكر فيها أن كتاب "التنكيل" على وشك التمام.

ومع ما لهذا الكتاب من مكانة علمية يشهد بها كل من وقف عليه من العلماء والباحثين = فقد ألَّفه الشيخ في مدة وجيزة لا تتعدى سنتين، مع عدم التفرغ لذلك، بل ربما مكث الشهر أو أكثر مشغولًا عنه، كما سيأتي إيضاحه. وسنعقد مفْتَتَح تحقيقه عدة مباحث تقودنا إلى التعرّف على الكتاب، وهي: - عنوان الكتاب. - سبب تأليفه. - تاريخ تأليفه. - أقسام الكتاب ومنهج المؤلف فيها. - قيمة الكتاب العلمية. - الكتب التي لها علاقة بالتنكيل. - مبيّضة الكتاب ومسوّداته. - طبعات الكتاب. - منهج التحقيق. - نماذج من المخطوطات. ثم أتبعنا الكتاب بفهارس متنوعة للآيات والأحاديث والآثار والأعلام والكتب والأشعار والموضوعات، قام على صنعها الشيخ نبيل بن نصار السندي والشيخ مصطفى بن سعيد إيتيم. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

* عنوان الكتاب

* عنوان الكتاب سماه مؤلفه (التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل) كما هو ثابت في مقدمة الكتاب، وكما هو ثابت أيضًا بخطّه وفي مقدمة طليعته (ص 3) التي سماها (طليعة التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل) وطُبعت في حياته. وكان المؤلف قد سماه أول الأمر (النقد البريء) كما في ورقة كتبها لبعض من طلب منه رأيه في كتاب "تأنيب الخطيب"، وطبعت خطأً على أنها مقدمة للطليعة في طبعتها الأولى، كما أشار إلى ذلك المؤلف في "الترحيب" (ص 190). * سبب التأليف نص المؤلفُ على ذلك في مقدمة الكتاب باختصار (ص 3)، وبأوسع منه في "طليعة التنكيل" (ص 3 - 4) فقال: "فإني وقفت على كتاب "تأنيب الخطيب" للأستاذ العلامة محمَّد زاهد الكوثري، الذي تعقَّب فيه ما ذكره الحافظ المحدث الخطيب البغدادي في ترجمة الإِمام أبي حنيفة من "تاريخ بغداد" (¬1) من الروايات عن الماضين في الغَضِّ من أبي حنيفة. فرأيتُ الأستاذ تعدَّى ما يوافقه عليه أهلُ العلم من توقير أبي حنيفة وحُسْن الذبّ عنه إلى ما لا يرضاه عالم متثبِّت من المغالطات المضادّة ¬

_ (¬1) (13/ 323 - 454).

* تاريخ التأليف

للأمانة العلمية، ومن التخليط في القواعد، والطعن في أئمة السنة ونَقَلَتها، حتى تناول بعضَ أفاضل الصحابة والتابعين، والأئمة الثلاثة مالكًا والشافعي وأحمد وأضرابهم، وكبار أئمة الحديث وثقات نَقَلَته، والردّ لأحاديث صحيحة ثابتة، والعيب للعقيدة السلفية، وأساء في ذلك جدًّا حتى إلى الإِمام أبي حنيفة نفسه، فإنه من يزعم أنه لا يتأتَّى الدفاع عن أبي حنيفة إلا بمثل ذلك الصنيع فساء ما يُثْني عليه. فدعاني ذلك إلى تعقُّب الأستاذ فيما تعدَّى فيه، فجمعتُ في ذلك كتابًا ... ". وشرَحَ ذلك أيضًا في مقدمة "شكر الترحيب" (ص 189 - 191). * تاريخ التأليف للمؤلف كلام مفيد في تاريخ تأليف الكتاب ذكره في "شكر الترحيب" (ص 193 - 194) قال: "الواقع الذي يعرفه جماعةٌ هنا (¬1): أن "التأنيب" لم يصل إلى الدائرة إلى الآن، وأني إنما وقفت عليه في شهر ربيع الثاني سنة (1366)، جاء بعض الأفاضل بنسخة منه، وعرض عليّ أن أنظر فيها، فأبيت؛ لأنني كنت أكره الخوض في تلك القضية، وقد عرفتُ مما اطلعتُ عليه قبلُ من تعاليق الأستاذ على بعض الكتب أنه كثيرًا ما يتطرَّف في نظري. فألحَّ عليّ ذلك الفاضل، فأطعتُه، وهنالك رأيتُ ما هالني! فبدا لي أن أكتب شيئًا، فشرعتُ في ذلك - لعله - الأربعاء لعشر بقين من شهر ربيع الثاني سنة (1366). ¬

_ (¬1) يعني في "الهند".

* أقسام الكتاب، ومنهج المؤلف فيها

ومع ذلك، لم أكن أواصل العمل، وربما يمضي الشهر وأكثر لا أنشط لكتابة شيء، وأنا إلى الآن لم أكمل قسم العقائد. هذا هو الواقع، أحوجني الأستاذ إلى شرحه, وإن كان لا تتعلق به فائدة" اهـ. فهذا فيه دلالة واضحة على أنه بدأ به في أواخر شهر ربيع الثاني سنة 1366 هـ، وأرسل "الطليعة" للطبع سنة 1368 هـ وطبعت في تلك السنة، وكان قد أتمّ الكتابَ إلا القسم الأخير منه المتعلق بالعقائد بقيت فيه بقية. وهذا يدلّنا على الوقت الذي استغرقه في تأليف الكتاب، إذ يكون أقل من سنتين، مع عمله الوظيفي في دائرة المعارف، والانقطاعات التي أشار إليها التي قد تمتد إلى أكثر من شهر. وفي هذا دليل على قوة المؤلف العلمية واكتمال ملَكَة الاجتهاد لديه في العلوم المختلفة، وقُدرته على البحث والمطالعة والجَلَد عليهما. * أقسام الكتاب، ومنهج المؤلف فيها ذكر المؤلف في مقدمة الكتاب أنه قسمه إلى أربعة أقسام، هي: القسم الأول: القواعد. القسم الثاني: التراجم. القسم الثالث: الفقهيات (البحث مع الحنفية في سبع عشرة قضيّة). القسم الرابع: العقائد (القائد إلى تصحيح العقائد). وسنتكلم على كل قسم منها، ومنهج المؤلف فيه فنقول:

قدّم المؤلف خمسة فصول قبل أن يشرع في القسم الأول من الكتاب، وهي أشبه بالتوطئة والتمهيد للكتاب؛ ذكر في الفصل الأول الغرضَ الأهمَّ من تأليف كتاب التنكيل، وهو ردّ المطاعن الباطلة عن أئمة السنة ورواتها، ثم شرح الأمر الذي اضطرّه إلى ذلك وخطورة هذا الأمر على السّنة. وفي الفصل الثاني تكلم على الغلوّ في الأفاضل، وأنه هو الذي جرّ الكوثريَّ إلى الطعن في غيره، واتهامهم جميعًا بمعاداة أبي حنيفة. ثم تكلم على كلام العلماء بعضهم في بعض، وما يقع أحيانًا من الشدة في كلامهم، وتخريج ذلك على معنى لطيف، مع عدة أمثلة تشهد لما ذهب إليه المؤلف من المعنى. وفي الفصل الثالث تكلم على محاولة الكوثري التبرّؤ مما نُسِب إليه من الطعن في أنس بن مالك رضي الله عنه، وفي هشام بن عروة بن الزبير. وفي الرابع بحَثَ معه في العُذر الذي ذكره الكوثري في أثَر مسألة القول بخلق القرآن، وأنها هي السبب الذي أوغر صدور المحدّثين على أبي حنيفة، باعتبار أن من قام فيها ينتسبون لمذهب أبي حنيفة. وقد أجاب المؤلف عن ذلك بخمسة أمور. وفي الخامس تكلم المؤلف عن ميول الكوثري المذهبية والثقافية وكيف أثّرت على كتاباته، فهو من أهل الرأي ومن غُلاة المقلّدين في الفقه، ومن مقلّدي المتكلمين، ومن المجارين لكُتّاب العصر، ثم تكلم على كل صفة من هذه الصفات وكيف أثرت على الكوثري فكرًا وسلوكًا. ثم شرع في القسم الأول من الكتاب، وهو قسم القواعد، فذكر تحته

تسع قواعد تتعلق بعلم الجرح والتعديل والكلام على الرواة، نذكر عنواناتها هنا: 1 - رمي الراوي بالكذب في غير الحديث النبوي. 2 - التهمة بالكذب. 3 - رواية المبتدع. 4 - قدح الساخط ومدح المحبّ ونحو ذلك. 5 - هل يشترط تفسير الجرح؟ 6 - كيف البحث عن أحوال الرواة؟ 7 - إذا اجتمع جرح وتعديل فبأيهما يعمل؟ 8 - قولهم: من ثبتت عدالته لم يقبل فيه الجرح إلا ... 9 - مباحث في الاتصال والانقطاع. وهذه القواعد صدّر بها المؤلف الكتاب لغرضين: الأول: لأن الكوثري خلّط فيها في مواضع عديدة من كتابه، فأراد المؤلف أن يجمع الكلام فيها في مكان واحد، ويتكلم عليه على وجه التحرير والتحقيق. الثاني: لكيلا يضطر المؤلف لإعادة الكلام في هذه المسائل في كل موضع يجيء مقتضى الكلام عليها، فنرى المؤلف يحيل في استيفاء الكلام على هذه القواعد كلّما احتاج إلى ذلك.

والسبب الذي اقتضى من المؤلف الكلام على هذه القواعد التسع دون غيرها من قواعد الجرح والتعديل ومعرفة الرجال هو أن الكوثري في كلامه على الرواة في كتابه موضوع النقد = قد أكثر من الاعتماد على مجموع هذه القواعد؛ إما على خلاف الراجح المعروف عند أهل الحديث والنقد، أو على وجهٍ فيه تَعْمِية وتلبيس على القارئ غير الممارس، أو بإلحاق راوٍ بما لا يناسبه من هذه القواعد، أو بتنزيل قاعدة على راوٍ لا يصح أن تنزّل عليه، وهكذا. وقد لخَّص المؤلف كل هذه التصرّفات من الكوثري بـ "التخليط في القواعد". وقد جرى المؤلف في هذه القواعد على طريقته المعهودة من التأصيل والتحرير والمناقشة والترجيح، وصارت هذه القواعد مصدرًا ثرًّا لمن كتب فيها بعد ذلك من الدارسين. ثم شرع في القسم الثاني من الكتاب، وهو قسم التراجم. وقد صدّره ببيان أن هؤلاء الرواة هم الذين تكلم عليهم الكوثري في كتابه، وقد يذكر غيرهم لاقتضاء الحال، وأن ما لم ينسبه من الأقوال في الرواة فهو من "تهذيب التهذيب" أو "اللسان"، وما كان من غيرهما فإنه يسمي الكتاب والجزء والصفحة غالبًا. وهذا القسم هو أكبر أقسام الكتاب، وهو الغرض الأساسي والأهم من تأليف "التنكيل" كما سلف. ويمكننا أن نلخص طريقة المؤلف في هذا القسم في عدة نقاط: 1 - عدد التراجم المذكورة في هذا القسم ثلاث وسبعون ومِئَتا ترجمة. 2 - رتبهم المؤلف على حروف المعجم، مع رقم تسلسلي لكل ترجمة.

3 - طريقته في سياق الترجمة: أنه يذكر أولاً اسم الراوي، ثم عبارة الخطيب من "تاريخ بغداد" - بالجزء والصفحة - التي انتقدها الكوثري وورد فيها اسم الراوي، ثم ينقل كلام الكوثري من كتابه "التأنيب" بالصفحة قائلاً: "قال الأستاذ"، ثم يبدأ بتعقّبه ومناقشته والردّ عليه. هذه طريقته في جميع تراجم الكتاب. 4 - لم يقتصر المؤلف على مقصود التعقّب، بل حرَص أن يكون الكتاب جامعًا لفوائد عزيزة في علوم السنة مما يعين على التبحّر والتحقيق فيها، كما صرّح بذلك في "الطليعة" (ص 4). 5 - حرَص أيضًا على توخّي الحق والعدل واستعمال لغة العلم بعيدًا عن الأسلوب العنيف الذي انتهجه الكوثري في كتابه، غير أن إفراط الكوثري في إساءة القول في الأئمة جرّأه على التصريح ببعض ما يقتضيه صنيعه، كما نص على ذلك أيضًا. 6 - كانت تعقّبات المؤلف تختلف من ترجمة إلى أخرى طولاً وقصرًا وبحثًا ونظرًا بحسب ما يقع من الكوثري من الوهم أو الإيهام، وقد لخص المؤلف أوجه النقد الموجّهة إلى الكوثري في كتابه هذا في ثمانية من صور التغيير والمغالطات والمجازفات، وهي كما لخّصها في "طليعة التنكيل": أ - أوابده في تبديل الرواة. ب - عوامده في جعل ما لا علاقة له بالجرح جرحًا. ت - عجائبه في اهتبال التصحيف أو الغلط الواقع في بعض الكتب إذا ما وافق هواه.

ث - غرائبه في تحريف نصوص أئمة الجرح والتعديل. ج - فواقره في تقطيع نصوص أئمة الجرح والتعديل. ح - عواقره في الاحتجاج بجرح لم يثبت وحكايته بصيغة الجزم. خ - تجاهله ومجازفاته. د - أعاجيبه في اختلاق صيَغ الجرح من غير بيّنة. هذه الأنواع الثمانية التقط منها المؤلف نماذج، ولخّصها في "الطليعة" ثم ذكر في "الطليعة" (ص 87) أنه بقيت ستة فروع أخرى ذكرها بالتفصيل في "التنكيل"، وهي: ذ - أنه قد يكون في الرجل كلام يسير لا يضرُّ، فيزعمُه الأستاذُ جرحًا تُردّ به الرواية. ر - أن الأستاذ قد يحكي كلامًا في الرجل مع أنه لا يضره بالنسبة إلى الموضع الذي يتكلّم عليه. ز - تكلّفه الكلام في أسانيد بعض الكتب بالصحة والثبوت بما لا يقدح في ثبوت الكتاب. س - أن الأستاذ يعمد إلى كلامٍ قد ردّه الأئمة، فيتجاهل الأستاذ ردَّهم ويحتج بذلك الكلام. ش - أنه يعمد إلى ما يعلم أنه لا يُعد جرحًا البتة، فيعتدّ به ويهوِّل. ص - أنه يتهم بعض الحفاظ الثقات بتُهَم لا أصل لها، كما قاله في الحميدي وغيره.

فهذه الأنواع من المغالطات والمجازفات هي أغلب ما ناقش المؤلف الكوثريَّ فيه، وبيَّن تهافتَ كتابه، وسقوطَ حججه أمام التحقيق والبرهان، وأظهر بجلاء أن صياغة الكوثري المُحْكمة لكتابه ما هي إلا ستر خفيف للتغطية على بناء مهلهل من الداخل. 7 - جرى المؤلف في كتابه على نمطٍ صعب من التحليّ بأدب النقاش، وجمال العبارة، ومنهاج ثابت من الخلق الحسن والإنصاف للخصم. فقد جرى في طول الكتاب وعرضه على وصف الكوثري بـ (الأستاذ)، وكان عفيف العبارة لم يجرح ولم يبكّت ولم يُجار الكوثريَّ حتى فيما يمكن مجاراته فيه من باب {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]. غير أنه قد يشتد في مواضع نادرة جرّأه عليها إساءةُ الأستاذ القول في أئمة السنة، كما قال في "الطليعة" (ص 4)، وكما هو واقع في "التنكيل" في التراجم ذوات الأرقام (23 و98 و189 و191). 8 - صرّح المؤلف في ترجمة البخاري رقم (191) أنه سلك في هذا الكتاب سبيل المجاملة، قال: "وليس هذا موضع استيفاء الحق"، وأنه قد أعدّ لاستيفاء الحق عدّته إن لزم الأمر. أما القسم الثالث الخاص بالفقه، فقد بحث فيه سبع عشرة مسألة، وكان سبب الكلام عليها تعقب الأستاذ الكوثري في كتابه "التأنيب" على الخطيب البغدادي لإيراده أحاديث في ترجمة الإِمام أبي حنيفة من "تاريخ بغداد"، ونقل إنكار بعض المتقدمين على الإِمام بسبب ترك العمل بها وردّها. والمسائل الواردة في الكتاب كما يلي:

1 - إذا بلغ الماء قلتين لم ينجس. 2 - رفع اليدين في الصلاة. 3 - أفطر الحاجم والمحجوم. 4 - إشعار الهدي. 5 - المحرم لا يجد إزارًا أو نعلين يلبس السراويل والخف ولا فدية عليه. 6 - درهم وجوزة بدرهمين. 7 - خيار المجلس. 8 - رجل خلا بأجنبية ثم قالا: نحن زوجان. 9 - الطلاق قبل النكاح. 10 - العقيقة مشروعة. 11 - سهام الخيل من الغنيمة. 12 - القتل بالمثقّل. 13 - لا تعقل العاقلة عبدًا. 14 - تقطع اليد في ربع دينار. 15 - القضاء بشاهد ويمين. 16 - نكاح الشاهد امرأة شهد بطلاقها زورًا. 17 - القرعة. ومنهج الشيخ في بحث كل مسألة: أنه ينقل أولاً ما في "تاريخ بغداد"،

ثم يذكر كلام الكوثري، ثم يعقب عليه بما له وما عليه. وقد فصل الكلام حول بعض المسائل، مثل قطع اليد في ربع دينار (رقم 14)، والقضاء بشاهد ويمين (رقم 15)، ومسألة رفع اليدين (رقم 2)، وإذا بلغ الماء قلتين لم ينجس (رقم 1)، وخيار المجلس (رقم 7)، والقتل بالمثقل (رقم 12). وأطال في نقد الأحاديث الواردة في الباب وبيان فقهها ومذاهب العلماء فيها، وناقش الكوثري وبين ما في كلامه من التعسف ومجانبة الحق والصواب، ورد على تضعيفه للأحاديث الصحيحة وتأويلها. كل ذلك بأسلوب علمي هادئ رصين يقنع الباحث المنصف، وينبغي أن يقتدى به في بحث المسائل الفقهية دون همز أو لمز أو جناية على الآخرين. وقد نظر المؤلف في الأحاديث والآثار التي احتج بها الأستاذ الكوثري ومَن سبقه، وبين درجتها من الصحة والضعف، وتكلم على أسانيدها ومتونها وما يستنبط منها، وذكر وجوه التوفيق بين الأحاديث التي ظاهرها التعارض، ورد على دعوى الاختلاف والاضطراب فيها. ونثر في أثنائها فوائد حديثية ودقائق علمية قد لا توجد في المطوَّلات. أما القسم الرابع من التنكيل فهو "القائد إلى تصحيح العقائد"، ألفه الشيخ ردًّا على الكوثري عند ما تعرض في كتابه "تأنيب الخطيب" للطعن في عقيدة أهل الحديث، ونبزهم بالمجسمة والمشبهة والحشوية، ورماهم بالجهل والبدعة والزيغ والضلالة، وخاض في بعض المسائل الاعتقادية كمسألة الكلام والإرجاء، فتعقبه الشيخ في هذا كما تعقبه في غيره. ويتكون الكتاب من مقدمة وأربعة أبواب وخاتمة، أما المقدمة فقد بدأها بذكر أن الله غني عن العالمين، وقد خلق الخلق لعبادته وطاعته بامتثال

ما أمر به واجتناب ما نهى عنه، وجعل مدار كمال المخلوق على حب الحق وكراهية الباطل، فخلق الله الناس مفطورين على ذلك، وقدَّر لهم ما يؤكد تلك الفطرة وما يدعوهم إلى خلافها، ليكون عليهم في اختيار الكمال مشقة وتعب، ولهم في خلاف ذلك شهوة وهوى. والمقصود أن يتبين حال الإنسان، فيفوز مَنْ صبر على تحمل المشاق، ويخسر من يلجأ إلى الباطل فرارًا من تلك المشاق أو من شدتها، فمدار الفوز أو الخسران على إيثار الحق أو الباطل. وعقد فصلاً ذكر فيه أن الدين على درجات: كفٌّ عما نهي عنه، وعمل بما أمر به، واعتراف بالحق، واعتقاد له وعلم به. وبيَّن كيف يكون مخالفة الهوى للحق في هذه الأمور، ولم يجعل الله جميع حجج الحق مكشوفة قاهرة لا تشتبه على أحد, لأنها لو كانت كذلك لكان الناس مجبورين على اعتقاد الحق، فلا يستحقون عليه حمدًا ولا كمالًا ولا ثوابًا، وكذلك اقتضت الحكمة أن لا تكون الشبهات غالبة حتى لا توقع الناس كلهم في الكفر، بل اقتضت أن تكون هناك بينات وشبهات، فمن جرى مع فطرته وآثر مقتضاها وتفقد مسالك الهوى فاحترس منها تتجلى له البينات وتتضاءل عنده الشبهات، ومن أَتبع الهوى وآثر الحياة الدنيا تبرقعت دونه البينات واستهوته الشبهات. ثم عقد فصلاً ذكر فيه أن المطالب على ثلاثة أضرب: الأول: العقائد التي يُطلَب الجزم بها ولا يسع جهلها. الثاني: بقية العقائد. الثالث: الأحكام.

فأما الضرب الأول فالنظر فيه ميسر لكل أحد، والنظر العقلي المتعمق فيه لا حاجة إليه، بل هو مثار الشبهات. وأما الضرب الثاني فمن كان قائلًا بشيء منه عن حجة صحيحة فإن الاستجابة لا تزيد تلك الحجة إلا وضوحًا مع الخلاص عن الهوى. وإلا فالجهل بهذا الضرب خير من القول فيه بغير حجة. وأما الضرب الثالث فالمتواتر منه والمجمع عليه لا يختلف حكمه، وما عداه قضايا اجتهادية يكفي فيها بذل الوسع لتعرف الراجح أو الأرجح أو الأحوط، فيؤخذ به. وفي الفصل الخامس الأخير من المقدمة ذكر عشرة أمور ينبغي للإنسان أن يقدم التفكر فيها ويجعلها نصب عينيه. عليه أن يفكر في شرف الحق وضعة الباطل، ويفكر في نسبة نعيم الدنيا إلى رضوان رب العالمين ونعيم الآخرة، ويفكر في حاله بالنظر إلى أعماله من الطاعة والمعصية، ويفكر في حاله مع الهوى، ويستحضر أنه على فرض أن يكون فيما نشأ عليه باطل، لا يخلو من أن يكون قد سلف منه تقصير أو لا، فعلى الأول إن استمر على ذلك كان مستمرًّا على النقص ومصرًّا عليه، وذلك هو هلاك الأبد، وإن نظر فتبين له الحق فرجع إليه حاز الكمال. ويستحضر أن الذي يهمه ويسأل عنه هو حاله في نفسه، فلا يضره عند الله ولا عند أهل العلم والدين والعقل أن يكون معلمه أو أسلافه أو أشياخه على نقص. ويتدبر ما يرجى لمؤثر الحق من رضوان الله والفوز العظيم الدائم في الآخرة، وما يستحقه متبع الهوى من سخطه والمقت في الدنيا والعذاب الأليم الخالد في الآخرة.

ويأخذ نفسه بخلاف هواها فيما يتبين له، فلا يسامحها في ترك واجب ولا في ارتكاب معصية ولا في هجوم على مشتبه، ويروضها على التثبت والخضوع للحق. ويأخذ نفسه بالاحتياط فيما يخالف ما نشأ عليه، فإذا كان فيما نشأ عليه أشياء يقول أهل العلم: إنها شرك أو بدعة أو حرام، فليأخذ نفسه بتركها، حتى يتبين له بالحجج الواضحة صحة ما نشأ عليه. والأمر الأخير أن يسعى في التمييز بين معدن الحجج ومعدن الشبهات، فإنه إذا تم له ذلك هان عليه الخطب. والباب الأول في الفرق بين معدن الحق ومعدن الشبهات، وبيان مآخذ العقائد الإِسلامية ومراتبها. ذكر فيه أن مآخذ العقائد أربعة: سلفيان وهما الفطرة والشرع، وخلفيان وهما النظر العقلي المتعمَّق فيه والكشف الصوفي. وفصّل الكلام عليها، وبين أن الله فطر الناس على الهيئة التي ترشحهم لمعرفة الحق، والشرع هو كلام الله وكلام رسوله، لا يخشى فيه جهل ولا خطأ، ولا كذب ولا تلبيس، ولا تقصير في البيان، فهل يقول مسلم بعد هذا: إن المأخذين السلفيين غير كافيين في معرفة الحق في العقائد، وأن ما يؤخذ من علم الكلام والفلسفة مقدم على المأخذين السلفيين ومهيمن عليهما؟! أما المأخذ الخلفي الأول (وهو النظر العقلي المتعمَّق فيه) فلا حاجة إليه في معرفة العقائد في الإِسلام، وهو مثار للشبهات والتشكيك، ولذا وجب التنفير عنه والتحذير منه. وقد كشف المؤلف عواره وهتك أستاره بسلاح أهل الكلام والفلسفة، فنقل كلامهم وبين اختلافهم، وقدح بعضهم في الحسيات والبديهيات وجواب بعضهم عنه وتناقضهم في ذلك. ثم

تطرق المؤلف إلى ذكر القادحين في إفادة النظر العلم، والوجوه التي تمسكوا بها وما أجيب به عنها. وذكر في آخر هذا الفصل بعض أئمة المتكلمين الذين رجعوا قبل وفاتهم إلى تمني الحال التي عليها عامة المسلمين، مثل الشيخ أبي الحسن الأشعري، والجويني، والغزالي، والفخر الرازي. فرجوع هؤلاء الأكابر وقضاؤهم على النظر المتعمَّق فيه بعد أن أفنوا فيه أعمارهم من أوضح الحجج على من دونهم. ثم تكلم المؤلف عن المأخذ الخلفي الثاني وهو الكشف الصوفي، فذكر أن أول من مزج التصوف بالكلام الحارث المحاسبي، ثم اشتد الأمر في الذين أخذوا عنه فمن بعدهم، حتى جاء ابن عربي وابن سبعين والتلمساني، ومقالاتهم معروفة، ومن تتبع ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة وأئمة التابعين، وما يصرح به الكتاب والسنة وآثار السلف، وأنعم النظر في ذلك، ثم قارن ذلك بمقالات هؤلاء القوم، علم يقينًا أنه لا يمكنه أن يصدق الشرع ويصدقهم معًا. والشرع يقضي بأن الكشف ليس مما يصلح الاستناد إليه في الدين، ونجد في كلام المتصوفة أن الكشف قد يكون حقًّا، وقد يكون من الشيطان، وقد يكون تخيلًا موافقًا لحديث النفس، وصرحوا بأنه كثيرًا ما يُكْشَف للرجل بما يوافق رأيه حقًّا كان أو باطلاً، فالكشف إذن تبع للهوى، فغايته أن يؤيد الهوى ويرسخه في النفس ويحول بين صاحبه وبين الاعتبار والاستبصار، فكأن الساعي في أن يحصل له الكشف إنما يسعى في أن يضلَّه الله عزَّ وجلَّ. وما يزعمه بعض غلاتهم من أن لهم علامات يميزون بها بين ما هو حق من الكشف وما هو باطل، دعوى فارغة.

وختم المؤلف كلامه على المأخذين الخلفيين بقوله: "مهما يكن في المأخذين الخلفيين من الوهن فإننا لا نمنع أن يُستَند إليهما فيما ليس من الدين ولا يدفعه الدين، وكذلك لا نرى كبير حرج في الاستئناس بما يوافق المأخذين السلفيين بعد الاعتراف بأنهما كافيان شافيان، وإنما الممنوع الباطل هو زعم أنهما غير وافيين ببيان الحق في الدين". أما الباب الثاني فقد عقده لبيان تنزيه الله ورسله عن الكذب، قصد به الرد على طوائف المتكلمين الذين يردون نصوص الكتاب والسنة في العقائد، فمنهم من ردها مع تصريحه بأن كثيرًا منها لا يحمل إلا المعاني التي يزعم أنها باطلة، ويزعم أن الشرع أتى بها مجاراةً لعقول الجمهور، ومنهم من زعم أنها غير صالحة للحجة في العقائد مطلقًا. ومنهم من لم يصرح بذلك، ولكنه قدّم غيرها عليها وتعسّف في تأويلها تعسفًا مخرجًا عن قانون الكلام. فتحصل من كلامهم حملهم تلك النصوص على الكذب. وقد فصَّل الكلام على تنزيه الله والأنبياء عن الكذب، وبين معنى حديث ثلاث كذبات وغيره مما يورَد على هذا الأصل، وللمؤلف رسالة مستقلة بعنوان "إرشاد العامِه إلى الكذب وأحكامه"، شرح فيها حقيقة الكذب والفرق بينه وبين المجاز، وما هي المعاريض؟ وما هو الذي يصح الترخيص فيه؟ وغير ذلك، وهي مطبوعة ضمن رسائل الأصول في هذه الموسوعة. وقد أشار إليها الشيخ في آخر هذا المبحث. والباب الثالث في الاحتجاج بالنصوص الشرعية في العقائد، وهو أطول أبواب الكتاب، ذكر فيه أن التعمق في النظر العقلي أدى إلى ترك الاحتجاج بالنصوص وردّها أو تأويلها، وصرح بعضهم بأن أخبار الآحاد إذا

خالفت المعقول يجب تأويلها أو ردُّها، ثم نشأ المتوغِّلون في الفلسفة كالفارابي وابن سينا، وكان مما خالفوه من العقائد الإِسلامية أمر المعاد، فاحتج عليهم المتكلمون بالنصوص، فغافصهم ابن سينا مغافصة شديدة. وقد نقل المؤلف بعض عباراته، ولخص المقصود منها في عشرة مقاصد، ثم عقد مجلسًا للنظر في هذه المقاصد، حضره متكلم وسلفي وناقد، وأجرى الحوار على لسانهم في هذه الموضوعات، ليبين الحق والصواب فيها ويرد على ابن سينا وأتباعه في إنكار الاحتجاج بالنصوص الشرعية. وتطرق في أثنائها إلى أبحاث وتحقيقات، مثل الكلام على معنى آية {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، وبيان معنى اسم الله تعالى الواحد والرد على تفسير ابن سينا له، والرد عليه في زعمه أن ذات الله ليست منفصلة عن العا لم ولا متصلة به، وبيان أن حاصل كلامه نسبة الكذب إلى الله والرسول، والموازنة بين كذبات إبراهيم عليه السلام وبين النصوص التي زعم بطلان معانيها من وجوه. وختم المؤلف كلامه في الرد على ابن سينا بمبحث في حشر الأجساد هل هو بجميع أجزائها المتفرقة أم بإنشاء أجساد أخرى؟ بعد الرد على ابن سينا انتقل إلى كلام الفخر الرازي في الاحتجاج بالنصوص الشرعية، ولخصه في ثلاثة مطالب: الأول: ما يتوقف ثبوت الشرع على ثبوته (كوجود الله وعلمه بالمعلومات كلها، وصدق الرسول)، فهذا يستحيل أن يعلم بإخبار الشارع. الثاني: ثبوت أو انتفاء ما يقطع العقل بإمكان ثبوته وإمكان انتفائه، إذا لم يجده الإنسان من نفسه ولا أدركه بحسه، استحال العلم به إلا من جهة الشرع.

الثالث: وجوب الواجبات وإمكان الممكنات واستحالة المستحيلات يُعلَم من طريق العقل، فأما العلم به بإخبار الشارع فمشكل, لأن خبر الشارع في هذا المطلب إن وافقه عليه العقل فالاعتماد على العقل، وخبر الشارع فضل، وإن خالفه العقل وجب تقديم العقل وتأويل الخبر، وإن لم يعلم موافقة العقل الخبر ولا مخالفته له كان محتملًا أن يكون العقل مخالفًا له فيجب تأويله، ومع هذا الاحتمال لا يفيد العلم. ناقش المؤلف رأي الرازي، ورد عليه بتفصيل في منعه الاحتجاج بالنصوص في العقائد، وألزمه بإلزامات لا مفرَّ منها، وذكر أن كثيرًا من النصوص التي ينكر المتعمقون ظواهرها كانت عقول المخاطبين الأولين تقطع بوجوب ما دل عليه بعضها وجواز ما دل عليه الباقي. ثم ذكر المؤلف كلام العضد وغيره في هذه المسألة، ورد عليه وعلى الشريف الجرجاني والسعد التفتازاني في قولهم: إن الأدلة النقلية لا تفيد اليقين، وتَوصَّل في النهاية إلى أن من تدبر القرآن والسنة وآثار السلف لم يَخْفَ عليه الحق في كثير منها، وأنه لا يمنعه من القطع والاستيقان - إن منعه - إلا الشبهات المحدثة المبنية على التعمق، فأما من يقوى إيمانه ولا يبالي بتلك الشبهات، فإنه يقطع بدلالة كثير من تلك النصوص ويؤمن بها، وأما من لا إيمان له وهو مفتون بالشبهات فإنه لا يقطع بتلك الدلالة ويكفر بها. وفي آخر الباب الثالث بحث نفيس عن المحكم والمتشابه، تطرق إليه المؤلف لأن كثيرًا من المتكلمين يسترون تكذيبهم للنصوص بدعوى أن ما يخالفونه منها هو من المتشابه المنهي عن اتباعه. ذكر المؤلف في معنى المحكم والمتشابه قولين عن السلف:

الأول: أن المحكم كل آية بينة بنفسها، والمتشابهات ما تحتاج إلى أن يبينها غيرها، كالمنسوخ والمجمل. الثاني: أن المحكمات كل آية يتهيأ للسامع (مع معرفة معناها الذي سيقت لبيانه) أن يعرف ما تتوق إليه نفسه مما يتعلق بما اشتملت عليه، والمتشابهات ما عدا ذلك. شرح المؤلف ذلك بالأمثلة، وذكر أن القولين يمكن تطبيقهما على سياق الآية، وبين وجه تسمية بعض الآيات متشابهات، وتكلم على جواز الوقوف على قوله تعالى: {إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7] وتركه، وتحدث عن معنى التأويل مع ذكر أمثلة من القرآن، ورد على المتكلمين في تعلُّقهم بهذه الآية. أما الباب الرابع الأخير فهو في بيان عقيدة السلف والكلام على عدة مسائل منها. ذكر فيه أن السلف لم يكن لهم مأخذ لعقائدهم غير المأخذين السلفيين الفطرة والشرع، وأنهم كانوا يقطعون بما يفيدان فيه القطع، وأن كلمة العقل فيها تدليس، فهناك العقل الفطري الصريح الذي لا التباس فيه، وهو الذي كان حاصلًا للأمم التي بعث الله فيها رسله وأنزل فيها كتبه، وهو الذي كان حاصلًا للصحابة ومن بعدهم من السلف، فهذا هو الذي يسوغ أن يقال: إن ما أثبته قطعًا فهو حق. وهناك نظر متعمَّق فيه، مبني على تدقيق وتخرُّص ومقاييس يلتبس فيها الأمر في الإلهيات ويشتبه، ويكثر الخطأ واللغط، فهذا هو الذي اعتمده المتكلمون مع اعترافهم بوهنه ورجوع بعض أكابرهم عنه. ثم درس المؤلف بعض المسائل من عقيدة السلف التي انتقدها الكوثري،

* قيمة الكتاب العلمية

وهي: الأينية أو الفوقية (أو كما يقولون: الجهة)، والقرآن كلام الله غير مخلوق، والإيمان قول وعمل يزيد وينقص، وقول: أنا مؤمن إن شاء الله. وبين ما كان عليه السلف، ورد على الكوثري بنصوص الكتاب والسنة وأقوال السلف. وفي آخر الكتاب خاتمة فيما جاء في ذم التفرق، وأنه لا تزال طائفة قائمة بالحق، وما يجب على أهل العلم في هذا العصر. نصح فيها أهل العلم أن يبدأ كل منهم بنفسه فيسعى في تثبيتها على الصراط المستقيم، وإفرادها عن اتباع الهوى، ثم يبحث عن إخوانه، ويتعاون معهم على الرجوع بالمسلمين إلى سبيل الله، ونبذ الأهواء التي فرقوا لأجلها دينهم وكانوا شِيَعًا. وختم المؤلف الكتاب بذكر البرنامج العملي لذلك. * قيمة الكتاب العلمية تتجلى أهمية هذا الكتاب من بين الكتب التي ألفت في العصر الحديث أنه جمع بين دفتيه بيان منهج أهل الحديث في تقرير العقيدة، وبحث المسائل الفقهية، وتحرير قواعد الجرح والتعديل، ورد المطاعن عن أئمة السنة وثقات رواتها. وهو فريد في هذا الباب، لا نجد له نظيرًا في منهجه وأسلوبه، سواء في علوم الحديث والجرح والتعديل وتراجم الرجال، أو تحقيق الكلام في المسائل الفقهية، أو تقرير صحة عقيدة أهل الحديث بالحجج الواضحة إجمالًا ثم دراسة عدة مسائل منها. فالكتاب مرجع مهم للباحثين في علوم مختلفة، يجدون نظرات دقيقة، وتنبيهات على نكت وفوائد، واستنباطات لم يُسبق إليها المؤلف.

وتحتوي الفصول الخمسة التي تعتبر تمهيدًا للكتاب على بيان أن السنة مدارها على النقل، ومدار النقل على أولئك الثقات الذين طعن فيهم الكوثري، وأن الغلوّ في الأفاضل من أوسع أودية الباطل، وأنه يؤدي إلى الطعن في الأئمة الآخرين وبيان حقيقة ما روي من المثالب في الإِمام أبي حنيفة، وطريقة نقد الروايات في المدح والقدح، والموقف الحكيم تجاه ما أورده الخطيب من الحكايات في تاريخ بغداد، وبيان أن السنة لا يمكن الإحاطة بها، واجتهاد أصحاب الحديث في جمعها، وتشددهم في قبولها، ومنهج أهل الرأي والمتكلمين في رد الأحاديث الصحيحة التي تخالفهم وتكلفهم في تأويلها، واستنباطهم لأصول بمقابل أهل الحديث. وقد قصد المؤلف بهذه الفصول بيان المنهج الذي يجب أن يسير عليه كل من يخوض في هذه الموضوعات, فالدفاع عن إمام أو عالم لا يتم بالغلو فيه والقدح في الأئمة الآخرين، وعلى الباحث أن يدرس الروايات وينقدها في ضوء أصول أهل الحديث، ولا يتبع قواعد أهل الرأي وأصول المتكلمين لرد الأحاديث الصحيحة أو تأويلها. ومن الخصائص التي يتميز بها الكتاب: تحرير قواعد في علوم الحديث والجرح والتعديل بما لا يوجد مثله في عامة المؤلفات، منها: رمي الراوي بالكذب في غير الحديث النبوي، والتهمة بالكذب وأنها على وجهين، ورواية المبتدع وتفصيل القول فيها مع التحقيق، وبيان أن قدح الساخط ومدح المحب وغير ذلك في كلام العالم على وجهين، وهل يشترط تفسير الجرح؟ وذكر عشرة أمور يجب على من نظر في كتب الجرح والتعديل أن يراعيها، وإذا اجتمع جرح وتعديل فبأيهما يعمل؟ ومعنى قولهم:

من ثبتت عدالته لم يقبل فيه الجرح، ومباحث في الاتصال والانقطاع وهذه الأبحاث يتكون منها القسم الأول من الكتاب، وفي أثناء الكتاب ضمن الأقسام الأخرى أبحاث أخرى حقق المؤلف الكلام فيها مما يدل أنه من المجددين في علوم الحديث والجرح والتعديل، ولا نجد بعد الحافظين الذهبي وابن حجر من تكلم في هذه الموضوعات مثل المعلمي الذي راعى الجانب النظري والتطبيقي، وتتبع كلام أئمة الحديث والجرح والتعديل وصنيعهم في الحكم على الأحاديث والرجال، وذكر من الأدلة والشواهد على ما قاله ورجحه ما يقنع الباحث المنصف. ومما يدل على أهمية الكتاب أن فيه ردًّا على شبهات أهل الكلام وأهل الرأي التي يرددونها دائمًا في كتب الكلام والأصول، وقد أطال المؤلف فيه مناقشتهم، ونقل كلام أئمتهم وعقب عليه بما يبطله ويبين وهاءه. وفي القسم الرابع من الكتاب (القائد) وغيره أمثلة من هذه الردود والمناقشات للدفاع عن منهج أهل الحديث لا توجد بعد شيخ الإِسلام ابن تيمية وابن القيم بمثل هذه القوة إلا عند المؤلف. وفي الكتاب حل مشكلات في علوم الحديث والفقه والأصول والعقيدة والجرح والتعديل، وتفسير بعض الآيات القرآنية، وتحقيق الكلام على بعض الأحاديث، مما لا يوجد مثله في المصادر المعروفة، وأغلبه من بنات فكر المؤلف واجتهاده. وبعضه استدراك وتعقيب على كلام الآخرين. ونجد في "القائد" تأصيل منهج أهل الحديث في مسائل الاعتقاد، ونقد مناهج المتكلمين والفلاسفة بسلاحهم، وبيان تناقضهم وتهافتهم، والكلام على مآخذ العقائد ومراتبها، وهي الفطرة والشرع عند السلف وأهل

الحديث، والنظر العقلي المتعمَّق فيه والكشف التصوفي عند الخلف من المتكلمين والفلاسفة والصوفية، وموقفهم من الاحتجاج بالنصوص الشرعية في العقائد، ونقد أقطاب الفلسفة والكلام (مثل ابن سينا والغزالي والرازي والعضد وغيرهم) في هذا الباب، والاحتجاج لصحة عقيدة السلف ودراسة بعض المسائل منها. أما معالجته للقضايا الفقهية فقد توسع في الكلام على بعضها، ودراسة الأحاديث الواردة فيها وتخريجها، ودفع إيرادات الكوثري وغيره عليها، والنظر في أدلة الحنفية والكلام عليها. وللمؤلف نفس حديثي وفقهي، فكما أنه يتكلم على الأحاديث والآثار الواردة في الباب، ينظر في تعليل وتوجيه المسائل عند الفقهاء ويبين سبب الخلاف بينهم، مع الاحترام للجميع. والكتاب أكبر شاهد على تعدد معارف المؤلف وسعة اطلاعه على المكتبة الإِسلامية في كافة الفنون، وعدم اقتصاره على النقل منها، بل الاستدراك عليها والإضافة إليها من فكره واجتهاده، ويظهر ذلك بمقارنة ما عند المؤلف هنا بغيره من الكتب، فهو يبحث الجوانب التي لم يفصل فيها السابقون، ويناقش المؤلفين فيما ذهبوا إليه ويعقَّب عليهم. ومن أهمِّ ما يميِّز الكتاب والمؤلف أيضًا: الأسلوب العلمي القائم على الأدلة والبراهين، دون تجريح شخص أو القدح في آخر. وقد كان المؤلف يرد على الكوثري الذي عُرِف بعدائه لأهل الحديث والطعن فيهم بشتى الطرق، ولكن المؤلف التزم المنهج العلمي في مناقشته وبيان تناقضه، ولم

* الكتب التي لها علاقة بالتنكيل

يقدح في شخصيته، فاحتار الكوثري في "الترحيب" كيف يرد على المعلمي، الذي هدم كل ما بناه في "التأنيب" بإظهار تناقضه وبيان تدليسه وإيهام القراء خلاف الحق والصواب، دون أن يمسَّ ذاته وشخصه. ومما يتصل بالأمر السابق الإنصاف في البحث، والأمانة العلمية، ونسبة كل قول إلى قائله، وعدم تقويله ما لم يقله، ودون تحوير الكلام وتحريف معناه (كما هو صنيع الكوثري). كان غرض المؤلف دائمًا أن يصل إلى الحق، ويبين ما في كلام الخصم من الخطأ والصواب مع ذكر الأدلة والقرائن على ذلك، وقد يعذره إذا خفي عليه الأمر. والقسم الثاني الخاص بالتراجم شاهد لما ذكرناه، ومن الخير للباحثين في الجرح والتعديل أن يضمُّوا كلام المؤلف على هؤلاء الرجال (الذين عددهم 273 شخصًا) إلى مصادر ترجمتهم، لتتم الفائدة المرجوة، ولا يغتروا ببعض الأقوال فيهم، ويفهموها على حقيقتها. هذه بعض الجوانب المضيئة للكتاب، تبين أهميته ومكانته بين الكتب التي ألفت في بابه، ويكفي أن المؤلف قَصَد من كتابه هذا بما فيه من تحقيق وتحرير: أن يعين على التبحّر في العلم، كما نص عليه في "الطليعة" وحسبك بهذه الكلمة من مثل المعلمي رحمه الله. * الكتب التي لها علاقة بالتنكيل 1 - " تأنيب الخطيب على ما ساقه في ترجمة أبي حنيفة من الأكاذيب" ألَّف الشيخ محمَّد زاهد الكوثري (ت 1371 هـ) كتابًا عنونه بـ "تأنيب الخطيب على ما ساقه في ترجمة أبي حنيفة من الأكاذيب" انتقد فيه ما ساقه

2 - "طليعة التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل"

الحافظ الخطيب البغدادي (ت 463 هـ) في ترجمة أبي حنيفة من كتابه "تاريخ بغداد" من المثالب عن السالفين. وطبع كتابه في مصر عام 1360 هـ. في 189 صفحة، ثم طبع طبعات أخرى فيها تصحيحات وتعليقات للكوثري كان علّقها على نسخته، وتعليقات لتلميذه أحمد خيري. فلما اطلع عليه المؤلف بطلب من أحد الأفاضل - بعد أن اعتذر أول مرة من عدم النظر فيه - رأى أنه بحاجة إلى جوابٍ مفصّل عما وقع فيه الكوثري من الأخطاء العلمية والطعن في أئمة السنة ورواتها، فألف كتابًا - وهو في الهند - سماه "التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل" وقسمه إلى أربعة أقسام: قسم القواعد، وقسم الرواة، وقسم الفقهيّات، وقسم العقائد. 2 - " طليعة التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل" ولما كان كتاب "التنكيل" على وشك التمام رأى المؤلف أن يقتضب منه نموذجًا يذكر فيه أهم ما وقع فيه الكوثري من الأخطاء، وسماه "طليعة التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل". طُبع لأول مرة بمصر سنة 1368 هـ في نحو 100 ص من القطع المتوسط. بيّن فيه مغالطات الكوثري فيما يتعلّق برواة الحديث خاصةً، وجعلها أنواعًا ثمانية، ذكرناها بالتفصيل عند التعريف بموضوعات الكتاب ص 13 - 14. وقد طبع الكتاب والمؤلف في الهند فلم يطلع على بروفاته الأخيرة، فوقعت فيه جملة من الأخطاء المطبعية، وتصرف وزاد المعلَّق عليه الشيخُ محمَّد عبد الرزاق حمزة بعض العبارات القاسية نكاية بالكوثري، فلم يرتضها المؤلف، واستغلّها الكوثري في نقده الآتي ذكره.

3 - "الترحيب بنقد التأنيب"

3 - " الترحيب بنقد التأنيب" فلما اطلع الكوثري على "الطليعة" كتب ردًّا عليها سماه "الترحيب بنقد التأنيب" وهو جزء لطيف، بناه على أمرين: الأول: الطعن في قصد المؤلف، واتهامه بالطعن في أبي حنيفة، والتعليق على عبارات قاسية وردت في متن الكتاب وتعليقاته. الثاني: ناقش ما أورده الشيخ من أمثلة وحاول أن يتملّص من عُهدة التغيير والتبديل التي أثبتها المؤلف عليه. وقد أُلْحِق فيما بعد بكتاب "التأنيب" في طبعة تلميذه أحمد خيري. 4 - " تعزيز الطليعة" فما كان من المعلمي حين وقف على "الترحيب" إلا أن أردف "الطليعة" برسالتين يجيب فيهما عما أورده الكوثري، وهما: "تعزيز الطليعة" و"شكر الترحيب" ولم يطبعا في حياة المؤلف ولا بعد ذلك. أما تعزيز الطليعة: فقد شرح المؤلف في أولها سبب تأليفها، وبيَّن الظروف التي طبعت فيها "الطليعة" مما أدى إلى وقوع بعض الأخطاء المطبعية، وزيادات في المتن والتعليقات ليست منه وإنما ممن قام على طبع الرسالة. وقسّم الرسالة إلى بابين: الباب الأول: مطالب متفرّقة. وفيه أربعة فصول: الأول: شرح فيه أمورًا تتعلق بكتاب "التنكيل" وخطورة ما فعله

الكوثري على السنة. الثاني: تعليقه على محاولة الكوثري التبرُّؤ مما نسبه إليه. الثالث: تكلم على مسألة الغلو في الأفاضل. الرابع: في تفريق الكوثري الأمة إلى حنفية وعامة المسلمين ثم خلص إلى تحرير قاعدة التهمة. ثم دلف إلى عدة قواعد خلّط فيها الكوثري، ومع أنه لم يعنونها - سهوًا كما أظن - إلا أنها هي الباب الثاني من الكتاب، وما زال يشير إليها في مواضع عدة بالقواعد، ولذا فقد وضعت لها عنوانًا بين معكوفين هكذا: [الباب الثاني: في قواعد خلّط فيها الكوثري]، وذكر فيه أربع قواعد: 1 - رمي الراوي بالكذب في غير الحديث النبوي. 2 - التهمة بالكذب. 3 - رواية المبتدع. 4 - قدح الساخط ومدح المحب. ويلاحظ هنا أن المؤلف قد ذكر جميع هذه القواعد في التنكيل، لكنه صرح بأنه أعادها هنا للحاجة إليها، قال (ص 33): "فالنظر في شأنهم يتوقف على تحرير قاعدة التهمة، وقد كنت بسطته في "التنكيل" ثم دعت الحاجة إلى تلخيصه هنا". وكذلك في (ص 38) وضرب عليها.

5 - "شكر الترحيب".

5 - " شكر الترحيب". وقد بدأه المؤلف بمقدمة شرح فيها سبب تأليف "التنكيل"، وأنه لخص نموذجًا منه وطبعَه، ثم رأى رسالة الكوثري في الرد عليها، ثم شرح ما وقع من ملاحظات على طبعة "الطليعة" في ثلاث نقاط. وقد جعل الرسالة في بابين: [الباب الأول] (¬1): النظر في خطبة الكتاب وما للكوثري فيها من الوهم. الباب الثاني: النظر في أجوبة الكوثري على ما أورده في الطليعة، وذكر ما وقع في كل فرع على حدة. 6 - " حول ترحيب الكوثري بنقد تأنيبه" وهو كتاب لطيف ألفه الشيخ محمَّد عبد الرزاق حمزة رحمه الله رد فيه على كتاب الكوثري "الترحيب ... "، وناقشه في عشر مسائل رئيسة، غالبها في قضايا الاعتقاد، أو ما أخذَه الكوثريُّ على الشيخ المعلمي في "الطليعة". وقد طبعت طبعته الأولى في حياة مؤلفه، ثم طبعها وعلق عليها تلميذه عبد الله بن صالح المدني بعد وفاته سنة 1393 هـ، عن مكتبة العلوم. واختار لها أحد العنوانين اللَّذين اختارهما المؤلف، وهو "المقابلة بين الهدى والضلال (ثم بخط أصغر) حول ترحيب الكوثري بنقد تأنيبه". فائدة: صرح مؤلف الكتاب (ص 85 - 87) أن الألفاظ الجارحة الواقعة ¬

_ (¬1) ذهل المؤلف عنه فأضفناه.

* مبيضة الكتاب ومسوداته

في الطبعة الأولى من "الطليعة" هو الذي زادها وليست من المؤلف ولا من الطابع، وذَكَر أن غرضه من ذلك: أن يلفتَ الكوثري عن أعراض الأئمة الكبار الحفاظ، فيشتغل الكوثري بالرد عليه وتتوفّر أعراض الأئمة التي يبيح فيها عرضَه من أجل أن تُصان أعراضُهم. * مبيضة الكتاب ومسوَّداته طُبع الكتاب بالاعتماد على مبيضة المؤلف التي كانت شاملةً للأقسام الأربعة، والتي قرأ القسم الرابع منها الشيخ محمَّد عبد الرزاق حمزة وعلَّق على مواضع منه، وفرغ من قراءته بالطائف في 25 ذي الحجة سنة 1370، كما هو مثبت في آخر المطبوع (2/ 393). ثم نظر المؤلف في تعليقاته، وعقَّب عليه في مواضع لتوضيح المراد. وهذه المبيضة هي التي اعتمد عليها الشيخ محمَّد ناصر الدين الألباني سنة 1386 في إخراجه للكتاب والتعليق عليه برغبة من فضيلة الشيخ محمَّد نصيف. ولم نعرف مصير هذه النسخة (الأصل) بعد طباعة الكتاب، فلا وجود لها في مكتبة الشيخ محمَّد نصيف التي آلت إلى مكتبة الملك عبد العزيز بجدة، ولا في مكتبة الشيخ الألباني التي آلت إلى مكتبة الجامعة الإِسلامية بالمدينة المنورة، ولا عند الشيخ زهير الشاويش صاحب المكتب الإِسلامي الذي قام بنشره لأول مرة، وكنّا قد راسلنا الشيخ زهير الشاويش عن مصير هذه النسخة، فأجاب بأنه أعادها إلى الشيخ محمَّد نصيف ولم يدرِ مِن خبرها بعد ذلك شيئًا، فالله أعلم أين وُضِعت هذه النسخة فاختفت عن الأنظار. وقد بقي من الكتاب مسوَّدات وقِطع بخط المؤلف في مكتبة الحرم

المكي، تختلف عن المطبوع اختلافًا كثيرًا في السياق والترتيب والزيادة والنقص، وفيما يلي وصفها وبيان محتوياتها: 1) قطعة في دفتر كبير في 194 ورقة برقم [4710]، تمثّل الإخراج الأول للكتاب، وقد كشفت لنا هذه المسودة أمرًا مهمًّا عن الكتاب، وهو أن المؤلف كان قد قسم "التنكيل" إلى خمسة أقسام، الأقسام الأربعة المعروفة، أما القسم الخامس (وهو الأول في هذه المسودة) فهو ما طبعه المؤلف في حياته كمقدمة وتمهيد وسماه "طليعة التنكيل". وهذه القطعة تحتوي على ثلاثة أقسام من خمسةٍ كان المؤلف قد قسّم الكتابَ إليها على هذا النحو: الباب الأول: في تقييد أبوابده من المغالطة والتجاهل ونحوهما. (ق 1 - 57). وقد تبيّن بالمقارنة أن هذا الباب هو ما أفرده المؤلف وطبعه باسم "طليعة التنكيل". الباب الثاني: في تحرير القواعد التي بني عليها الكلام في جماعة منهم. (ق 49 - 110). ذكر في هذا الباب سبع قواعد، وفي المبيضة ذكر تسع قواعد، وقد توسّع في المسوّدة في مسألة الاتصال والانقطاع أكثر من المبيضة. الباب الثالث: في المسائل الفقهية التي تعرّض الأستاذ للبحث فيها. (ق 111 - 194) وهذا القسم أكثر الأقسام ضربًا وتغييرًا. الباب الرابع: في نظم فرائد التراجم على ترتيب الحروف. ثم ختم بتقرير العقائد التي طعن باعتقادها في جماعة من أئمة السنة.

2) قطعة من قسم التراجم برقم [4661] في 173 ورقة، كتب عليها المفهرس "تحقيقات في بعض مرويات الأحاديث"! في أولها ثلاث صفحات تحتوي على فهرس للرجال المتكلم فيهم مع ذكر الصفحة، ثم شطب الشيخ على كل واحدٍ منها. ولما تأملنا فيها وجدنا أنها إشارة إلى صفحات "تأنيب الخطيب"، والشطب يدلُّ على أن الشيخ فرغ من الكلام على ذلك الرجل ومناقشة الكوثري فيه في هذه المسوَّدة. وفي هذه الصفحات إشارة أيضًا إلى موضوعات أخرى غير التراجم، مثل: - ص 53 مسألة القرآن وزعم تحقيقها (لم يشطب عليها الشيخ لأنه لم يكتب في هذا الموضوع في هذه المسودة، وتكلم عليها في "القائد"). - ص 181 حملة شديدة على الخطيب. - نسب الشافعي ص 101. وفيها ذكر بعض الأعلام الذين تكلم فيهم الكوثري في صفحات مختلفة من "التأنيب"، ولم يكتب الشيخ فيهم شيئًا في هذه المسودة، ولذا لم يشطب على أسمائهم، مثل: - الشافعي 3، 4، 21، 26، 27، 101، 139. - أحمد 6، 76، 141. - مالك 27، 100, 105, 117.

وهذه القطعة هي المسوَّدة الأولى للكتاب، تُبين لنا طريقة تأليف الشيخ له، وقد بدأها بترجمة الدارقطني، ثم أحمد بن الحسن بن خيرون، ثم عثمان بن سعيد الدارمي، ثم ابن أبي داود ... وهكذا بدون ترتيب في الغالب، وأحيانًا بشيء من الترتيب بداخل حرف معين، وآخر ترجمة فيها: ترجمة عمرو بن سعيد بن سالم. وكأن الشيخ كان ينشط للبحث في ترجمة معينة ومراجعتها في المصادر ثم الكتابة عنها، وينتقل إلى ترجمة أخرى، وكلما انتهى من ترجمة رجلٍ شطب على اسمه في فهرس الرجال المتكلم فيهم في "التأنيب". ثم رأى الشيخ أن الكشف عن ترجمة شخص معين في هذه المسوَّدة يصعب، ويحتاج إلى تقليب كثير من الصفحات فيها، فصنع فهرسًا للتراجم على الحروف بقيد الصفحات في آخرها (في تسع صفحات). ولما أراد تبييض هذه المسوَّدة استفاد منها في الترتيب، وزاد ونقص في كل ترجمة، وصاغها صياغةً جديدة، وأدمج بعض التراجم في بعض، وكتب التراجم التي كان يريد أن يطيل فيها أكثر، مثل ترجمة الإِمام الشافعي، وأحمد بن حنبل، ومالك بن أنس، والخطيب البغدادي، وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، ومسعود بن شيبة، وغيرهم، فليس في المسوَّدة من تراجمهم شيء، وكأنه أرجأ الكتابة فيها إلى وقت آخر. وبعد مقابلة الفهرس الذي صنعه الشيخ بالفهرس في النسخة المطبوعة نجد أن هناك تراجم ذُكرت في المسوَّدة لا توجد في المطبوع، فإما أنها أُدمجت في تراجم أخرى، أو حذفها الشيخ ولم يَرَ داعيًا للكلام فيها عند تبييض المسوَّدة. وهذه التراجم فيما يلي مع ذكر الصفحات:

34 سعد بن مرزوق. 148 سلم بن سالم. 148 سلم بن عبد الله. 41 سليم بن عيسى. 38 سليمان بن الحسان الحلبي. 43 سوَّار بن عبد الله. 154 عبد الرحمن بن داود. 154 عبد الملك بن محمَّد. 154 عتيبة الدباب. 155 عمر بن مطرف. 155 عمر بن الهيصم. 44 عمرو بن أبي عثمان الشمري. 87 القاسم بن أبي صالح. 149 محمَّد بن أحمد بن إبراهيم الحليمي. 89 محمَّد بن أحمد بن سهل. 162 محمَّد بن إسماعيل التمار. 162 محمَّد بن أيوب الذارع.

90 محمَّد بن بشر الرقي. 92 محمَّد بن حيويه. 162 محمَّد بن جعفر الخزاعي. 96 محمَّد بن سعيد الباهلي. 98 محمَّد بن شجاع ابن الثلجي. 43 محمَّد بن عبد الله بن إبراهيم، أبو بكر الشافعي. 99 محمَّد بن عبد الوهاب الفراء الحافظ. 76 محمَّد بن علي البلخي. 102 محمد بن مسلمة. 57 محمَّد بن يحيى بن أبي عمر العدني. 170 نوح بن أبي مريم. 172 الهيثم بن خلف الحافظ. 50 أبو عاصم العباداني. 107 أبو محمَّد. 34 ابن سختويه. 130 ابن أبي يعلى. 73 البربهاري.

وعلى كلًّ فهذه المسوَّدة تفيدنا كيف بدأ الشيخ كتابة قسم التراجم، وما هي التعديلات والزيادات التي قام بإدخالها في المبيضة، وما هي التراجم التي حذفها أو أدمجها في تراجم أخرى. ويمكن الاستئناس بكلامه فيها، والاستفادة منها عند دراسة هذه التراجم، ولا يغني المطبوع عنها. 3) دفتر برقم [4681] كتب عليه أحد المفهرسين "بعض المسائل الفقهية الجنائية"! وهو في الواقع مسوَّدة القسم الثاني من "التنكيل" (البحث مع الحنفية في سبع عشرة قضية) في 115 ورقة، ويختلف ترتيبها ومادتها عن النسخة المطبوعة، وفيما يلي ذِكْر عناوين المسائل من المسودة ورقمها في المطبوع: 1 - أقل ما يقطع سارقه: الورقة 1 - 73 (= رقم 14). 2 - القتل بالمثقّل: الورقة 9 ب - 23 ب (= رقم 12) كتب في صفحات (ب) منها فقط، أما (أ) فالكلام فيها مستمر على المسألة السابقة. 3 - المحرم لا يجد إزارًا أو نعلين يلبس السراويل والخف، ولا فدية عليه: الورقة 74 (= رقم 5). 4 - العقيقة: الورقة 74 (= رقم 10). 5 - الطلاق قبل النكاح: الورقة 76 (= رقم 9). 6 - درهم وجوزة بدرهمين: الورقة 79 (= رقم 6)، وفي آخر الدفتر صفحتان في هذه المسألة، وقد شطب على كثير منهما. 7 - القضاء بشاهد ويمين: الورقة 82 - 111 (= رقم 15). 8 - لا تعقل العاقلة عبدًا: الورقة 112 - 115 (= رقم 13).

وبهذا الاستعراض يظهر أن المؤلف لم يتكلم في هذه المسوّدة على جميع المسائل السبع عشرة المذكورة في المطبوع، وإنما تناول ثمانيًا منها، وأطال الكلام في مسألتي أقل ما يقطع فيه السارق، والقضاء بشاهد ويمين. وكثير من صفحات المسوَّدة مضروب عليها، وفي مواضع منها إشارة إلى اللحق والتكملة. وقد كتب الشيخ في أكثر المسائل من جديد، وصاغها صياغةً تختلف اختلافا كبيرًا عن المسوَّدة بالزيادة والنقص، ولذا ينبغي الاعتماد على ما أقرَّه أخيرًا وطُبع. إلاَّ أن هذا لم يمنعنا من مراجعة هذه المسوّدة في مواضع عديدة كان فيها خطأ أو خلل في المطبوع، فاستفدنا التصحيح منها ونبَّهنا عليه غالبًا. 4) قطعة برقم [4706] تحتوي على مباحث البابين الأول والثاني من "القائد"، في أولها سبع ورقات متفرقة من الباب الأول (2/ 210 - 231)، ثم 12 صفحة من أول الباب (= 2/ 203 - 210)، ثم 7 ورقات (= 2/ 237 - 244)، ثم أوراق متفرقة ومتناثرة من البابين (= 2/ 245 - 261). وفي أثنائها بعض الأوراق التي لا علاقة لها بالكتاب، مثل الورقتين (27 و48) اللتين من "أصول التصحيح"، والأوراق (28 - 31) من "التعقيب على تفسير سورة الفيل للفراهي". وقد كتب المفهرس في المكتبة عنوان هذه القطعة: "أوراق من كتاب العبادة ورسائل متفرقة"! وهو غلط محض، فلا علاقة لها بكتاب "العبادة". 5) دفتر برقم [4657] تتعلق عشرون صفحة منه بالقسم الرابع من الكتاب (القائد)، وتشتمل على تمهيد ومقدمة وفصل بعنوان "نصوص

الكتاب والسنة وما كان عليه السلف". تبدأ هذه القطعة بعد البسملة بقول المؤلف: "الأستاذ مولع بالطعن في عقيدة أهل الحديث، فتعرَّض في "التأنيب" لذلك في مواضع، تارةً لأنه جاء في بعض الروايات نسبة ما يخالف ذلك إلى أبي حنيفة، فزعم الأستاذ أن الطعن إنما يلزم الطاعن. وتارةً في القدح في بعض الرواة بقوله "مجسّم"، "زائغ"، "حشوي" ونحو ذلك. فأحببتُ أن ألخّص شيئًا من ذلك، راجيًا أن يوفقني الله تعالى للاعتصام بالحق، وينفع بذلك مَن شاء مِن خلقه". ثم عنون بقوله "مقدمة" ذكر فيها أن الاعتقاد هو جزم الإنسان في نفسه بثبوت أمر أو انتفائه، وهذا الجزم على ثلاثة أضرب: الأول ما يحصل للناس عادةً بدون حاجة إلى فضل نظر. الثاني: ما يحصل بفضل نظر تكفي في مثله العقول الفطرية. الثالث: ما يحصل بنظر دقيق لا تكفي لمثله العقول الفطرية، بل لا بد من تربية العقل وتمرينه شيئًا فشيئًا حتى يتأهل لذلك النظر. فصَّل المؤلف الكلام على هذه الأقسام، وبيَّن ضرر القسم الثالث، وانتقد منهج المتكلمين. ثم عنون بقوله "نصوص الكتاب والسنة وما كان عليه السلف". ذكر فيه منهج السلف في الاعتماد على نصوص الكتاب والسنة في العقيدة، وقرَّر ذلك من ستة وجوه، وبيَّن الفرق بين منهجهم ومنهج المتكلمين. وبه تنتهي هذه القطعة. وفي هذا الدفتر أيضًا 45 ورقة تبدأ بعنوان "الخاتمة في الاعتقاديات" قال فيه: "تعرَّض الأستاذ في "التأنيب" للكلام في مسائل من العقائد، وطعن بها في جماعة من الأئمة وحفّاظ الآثار ونَقَلَتها، ووعدتُ النظر في ذلك. فها

أنا أتجشم الوفاء بما وعدتُ، سائلًا الله تبارك وتعالى أن يعصمني بالحق بفضله ورحمته". ثم كتب "مقدمة فيها فوائد"، وشطب على "مقدمة فيها". ذكر فيها تسع فوائد، منها الكلام على قول أهل العلم: لا يجوز التقليد في العقائد، وأن المطلوب في العقائد اليقين القاطع، وبيان منهج المتكلمين في دفع حجة المخالف، وادعاؤهم الاعتماد على البراهين القاطعة. ثم ذكر ستة فصول تحدث فيها عن منهج السلف ومنهج المتكلمين في تقرير العقيدة، وبيَّن أن الله تعالى لم يكلِّف عبادَه الخوض في المعقولات والتعمق فيها، واستعرض تاريخ نشوء البدع إلى زمن المأمون وما وقع في عهده من المحنة وآثارها فيما بعد، وتأليف كتب السنة للرد على الجهمية وغيرهم وغرض المؤلفين فيها. ثم عنون بقوله: "مطالب: آرَاء الخائضين في الاعتقاديات في نصوص الكتاب والسنة هل يُحتجُّ بها فيها"، ذكر فيه رأي ابن سينا والفخر الرازي وغيرهما، وردَّ عليهم بتفصيل. وفي آخر الدفتر أوراق في الكلام على مسألة العلو والاستواء وكلام الله تعالى. ويبدو أن ما في هذا الدفتر كتابة أولية لبعض المباحث المتعلقة بالعقائد وبيان منهج السلف فيها، والفرق بينه وبين منهج المتكلمين الخائضين في المعقولات. ثم أراد الشيخ أن يبسط هذه الموضوعات ويتوسع في الكلام عليها، فألَّف القسم الرابع من الكتاب (القائد)، ووفّى الموضوعات السابقة حقَّها من الدراسة والبحث. وفيه مناقشة آراء الفلاسفة والمتكلمين في

* طبعات الكتاب

الاحتجاج بنصوص الكتاب والسنة في مباحث العقيدة، مثل ابن سينا والغزالي والرازي وغيرهم. * طبعات الكتاب طبع الكتاب أول مرة سنة 1386 في المكتب الإِسلامي بدمشق، وقام على طبعه وتحقيقه والتعليق عليه الشيخ محمَّد ناصر الدين الألباني رحمه الله، كما سبق. وقد طبعت معه طليعة التنكيل أيضًا. ثم صدرت عدة طبعات من الكتاب مصورة من الطبعة الأولى أو مأخوذة عنها، دون إذن من ناشره ومحققه، غير أن إحداها جعلته بتحقيق الشيخ الألباني والشيخ محمَّد عبد الرزاق حمزة، وأثبتت الاسمين على الغلاف، كما ذكر الشيخ الألباني في مقدمة الطبعة الثانية الصادرة من مكتبة المعارف بالرياض. وفي سنة 1406 أخرج المكتب الإِسلامي بدمشق الطبعة الثانية من الكتاب، مع التغيير في ملامحه الخارجية والتصرف في محتواه الداخلي على الوجه الآتي: 1 - أثبت على الغلاف الخارجي بعد عبارة "مع تخريجات وتعليقات" ثلاثة أسماء في سطر واحد على هذا الترتيب: محمَّد ناصر الدين الألباني، زهير الشاويش، عبد الرزاق حمزة. لكن الغريب أن هذا الترتيب انقلب في الغلاف الداخلي للجزء الأول هكذا: عبد الرزاق حمزة، محمَّد ناصر الدين الألباني، زهير الشاويش؛

فصار الشيخ عبد الرزاق حمزة هو المحقق الأول! 2 - أضيف إلى هذه الطبعة شيئان: الأول مقال للشيخ محمَّد بهجة البيطار نشره في مجلة الرابطة العربية بمصر سنة 1357 بعنوان "الكوثري وتعليقاته". والثاني رسالة "المقابلة بين الهدى والضلال حول ترحيب الكوثري بنقد تأنيبه" للشيخ محمَّد عبد الرزاق حمزة بتحقيق عبد الله صالح المدني الفقيه، بعد حذف مقدمته. وقد أشار إلى ذلك الأستاذ زهير الشاويش في مقدمته لهذه الطبعة قائلا: "فهذه الطبعة الثانية من التنكيل .. .أقدمها للقراء بعد العناية المتوجبة لهذا الكتاب القيم، الذي بذل فيه مؤلفه وأساتذتي العلامة الشيخ عبد الرحمن المعلمي، والعلامة الشيخ عبد الرزاق حمزة، والعلامة الشيخ محمَّد بهجة البيطار، والمحدث الشيخ محمَّد ناصر الدين الألباني، ما بذلوه فيه من جهد، مضيفًا إلى جهدهم الكريم بعض التيسير والتعليق والإضافة، مع إعادة صف الكتاب بحروف جديدة واضحة، وتصحيح وترتيب يتناسب والأهمية التي يستحقها". 3 - حذف من الكتاب الباب الرابع منه، وهو الذي عنوانه: "القائد إلى تصحيح العقائد" بحجة "أنه بحث خاص، وعمل غير مرتبط بما سبق". وقد أشار الشيخ الألباني إلى هذه التغييرات التي حصلت في هذه الطبعة التي صدرت دون استئذان منه، ثم قال: "وأما ما يتعلق بما في داخلهما (يعني هذه وطبعة أخرى ذكرها) من الأخطاء المطبعية، فهذا بحر لا ساحل له، فإنها من طبيعة الطبعات التجارية المسروقة".

وهذا ما دفع الشيخ لإعادة طبع الكتاب في جهة أخرى، فطبعته مكتبة المعارف في الرياض مصورًا من الطبعة الأولى، وسميت بالطبعة الثانية مع التنبيه على كونها "مصححة منقحة"، وصدرت في سنة 1406، وهي السنة التي صدرت فيها طبعته "الثانية" من المكتب الإِسلامي. ثم صدرت الطبعة الثالثة من مكتبة المعارف بالرياض سنة 1426، وهي مصورة من الثانية، فلا فرق بينهما. وقد جاءت طبعتا مكتبة المعارف على غرار الطبعة الأولى، فاشتملت بعد مقدمة المحقق على ترجمة المؤلف (ص 9 - 14) بقلم الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الرحيم المعلمي، وعليها تعليقات للشيخ محمَّد نصيف؛ ثم كتاب "طليعة التنكيل" (15 - 77)، ثم كتاب "التنكيل" الذي استغرق مع الفهرس من الجزء الأول 548 صفحة، ومن الجزء الثاني 414 صفحة. ونبَّه الشيخ الألباني رحمه الله في مقدمته على أنه ميَّز تعليقاته على الكتاب بالرمز لها بحرف النون، وأن في القسم الرابع من الكتاب تعليقات للشيخ محمَّد عبد الرزاق حمزة، وقد رمز لها بحرفي (م ع)، وربما صرَّح باسمه. أما التعليقات التي لا رمز لها، فذكر الشيخ أنها للمؤلف غالبًا. قد استعمل الشيخ كلمة "غالبا"، فهل بعض التعليقات الغُفْل لشخص مجهول غير المؤلف والمحقق والشيخ محمَّد عبد الرزاق حمزة؟ أو يقصد أن بعضها له هو، ولكن فاته وضع الرمز في آخرها؟ مثل هذه التعليقات التي ليست للمؤلف وليس في آخرها رمز النون

يبلغ عددها نحو ثلاثين تعليقًا بين طويل وقصير. وكثير منها لا يخفى أنها للشيخ الألباني فإنه أشار فيها إلى بعض مؤلفاته، ومنها ما يقطع نصه بأنه ليس للمؤلف، ولكن لا يدل على صاحبه. ومنها ما قد يشتبه أمرها على القارئ، فلا يبعد أن ينسبه إلى المؤلف. ومن أمثلة هذه التعليقات الغفل: تعليقان في أول الكتاب (1/ 5): التعليق الأول على كلمة "يعيد" الواردة في كلام المؤلف: "بل يعيد الملحدون الإِسلام نفسه ذريعة لاتهام كل من روى ... "، فقال المعلق: "كذا في الأصل، ولعله (يتخذ) ". لا شك أن هذا التعليق للمحقق، لا للمؤلف. والتعليق الثاني على قول المؤلف في وصف "تأنيب الخطيب": "ويلي ذلك كلمة الناشر وترجمة المؤلف بتلك الألقاب الضخمة والعبارات الفخمة". قال المعلق: "مع أنه يشير في صفحة 14 من (الترحيب) إلى كتب ابن خزيمة وعثمان بن سعيد الدارمي وعبد الله بن أحمد بن حنبل ويقول: "طبع كثير منها تحت ظلال الحرية ... بعد نسج هالات من التبجيل حول أسماء مؤلفيها تمهيدًا للإضلال بأقاويلهم"! ". هذا التعليق يجوز أن يكون للمؤلف، ولكن نرجح أنه للمحقق، فإنه ختم التعليقات التي قبل هذين في ص 3 وص 7 بكلمة "المؤلف" بين هلالين صغيرين، فكأنه أراد في بداية أمره أن يميز بهذه الطريقة تعليقات المؤلف، ويترك تعليقاته هو دون رمز. ثم غيَّر رأيه، وعكس الأمر، فختم تعليقاته بحرف النون، وترك تعليقات المؤلف دون رمز. ولكن ليته التزم منهجه، فلم يترك نحو ثلاثين تعليقًا منها غُفْلاً! ثم إن كان فاته وضع الرمز في الطبعة الأولى، فما الذي منعه من استدراك الأمر في الطبعة الثانية "المصححة المنقحة"؟

فإن قيل: إن التعليقات الغفل المذكورة ظاهرة الدلالة على أنها للمحقق، لا للمؤلف، ومن ثم لا يضرها عدم وجود الرمز. قلنا: ليس الأمر كذلك، بل قد يشتبه بعضها على القارئ كما سبق، ثم إن التعليقات التي حرص الشيخ على إثبات الرمز في آخرها، كثير منها أشد ظهورًا من تلك الغفل على كونها للمحقق. وقد بذل الشيخ الألباني رحمه الله جهدَه في تصحيح النص، ومع ذلك لا يستغرب أن تندّ أخطاء من أخطاء الطبع وغيره، وإليكم نماذج منها: - المجلد الأول ص 38 س 14 "إلى صدقه". الصواب: لي صدقُه. وقد صحح هذا الخطأ في الطبعة الثانية الصادرة من المكتب الإِسلامي. - ص 64 س 4: "على ابن معين". الصواب: عن ابن معين. - ص65 س 13: "سئل عن إسحاق". الصواب: سئل عن ابن إسحاق. - ص 81 س 14: "عاصم وغيره عن قتادة". الصواب: عاصم وغيره عن معاذة. - ص 110 س 2: "عبد الله أبان الهيتي". الصواب: عبد الله بن أبان الهيتي. - ص 130 السطر الأخير: "دخل بغداد نخلًا". الصواب: نخَلَ بغداد نخلًا. - ص 133 السطر الأخير: نقل المؤلف عبارة من "تذكرة الحفاظ"

جاء فيها: "دار الشريف ابن أبي الحسن العلوي". "الحسن" تحريف طريف لكلمة "الجنّ". انظر: سير أعلام النبلاء 18/ 282. - ص 154 س 10: "من طريق ابن عبد الحكيم". الصواب: من طريق ابن عبد الحكم. وقد تكرر هذا التحريف في عدة مواضع. انظر هذا المجلد ص 155 س 15، ص 291 س 9، ص 454 س 8. - ص 173 س 15 "وبذلك علل [و] أمر ابنه بالكتابة عنه". زاد المحقق واو العطف بين معكوفين، إذ ظن "أمر" فعلًا ماضيًا، وهو مصدر مفعول به للفعل "علَّل" مضاف إلى "ابنه". - ص 202 س 2: "كتب عن الحسن بن محمَّد الخلال". الصواب: كتب عنه الحسن .... - ص 239 س 21: "من أقال نادمًا عثرته". سقط هنا بعد "نادمًا": أقال الله. - ص 288 س 4: "سمعت هبة الدين ... ". الصواب: هبة الله. - ص 303 س 9: "يبالغون في سبيل ... ". الصواب: يبالون .... - ص 350 س 8: "علي بن جرير البارودي". الصواب في نسبه: الباوردي، بتقديم الواو على الراء. - ص 350 س 13: "بن قهزاز". الصواب: بن قهزاد، بالدال مكان الزاي الثانية. - ص 411 س 9: "أبي عمر الزاهي". الصواب: أبي عمر الزاهد.

- المجلد الثاني ص 103 س 5: "وفي (مسند أحمد) ج 2 ص 18". والصواب: "ج 2 ص 180". - ص 108 س 12: "سفيان عن الحكم". والصواب: "سفيان عن منصور عن الحكم". - ص 109 س 9: "عن أيمن بن أم أيمن - قال أبو الوليد ... ". سقط بعد "أيمن بن أم أيمن" سطران لانتقال النظر، فاستدركناهما من المخطوط. - ص 116 س 6 - 7: "لأن ابن عيينة كان يحدّث من كتابه". والصواب: "كان يحدث من حفظه، وشجاع كان يحدث من كتابه". وهذا السقط استدركناه من المخطوط. - ص 143 س 7: "وذلك يدرء الحدَّ ... ". والصواب: "وذلك بِدَرْء الحدِّ ... ". - ص 165 س 18: "ولكن هل قلتم ... ". والصواب: "ولكن هلَّا قلتم ... ". - ص 189 س 13: "وملجأ الهدى ... ". والصواب: "وملجأ الهوى". - ص 300 س الأخير: "لو كانت لما يزعم". والصواب: "كما يزعم". - ص 347 س 7: "لم يعتمدوا الباطل". والصواب: "لم يتعمَّدوا الباطل". وقد بقيت هذه الأخطاء دون تصحيح في الطبعة الثانية "المصححة المنقَّحة" أيضًا.

* منهج التحقيق

* منهج التحقيق اشتركنا نحن الثلاثة في تحقيق الكتاب والتعليق عليه، وقد قام أولاً محمَّد أجمل الإصلاحي بمقابلة النص على الطبعة الأولى للكتاب وضبطه، ووضع علامات الترقيم وتغيير الفقرات، ثم قام ثانيًا علي بن محمَّد العمران بتحقيق المجلد الأول منه بمراجعة نصوصه في المصادر وتخريج أحاديثه والتعليق عليه بما يلزم، وقام محمَّد عزير شمس بتحقيق المجلد الثاني كذلك، وشارك في التصحيح والمقابلة والمراجعة أخبرنا الشيخ نبيل بن نصار السندي. ومنهجنا في التحقيق هو الذي سِرنا عليه في بقية الكتب التي أصدرناها في هذه الموسوعة وغيرها، من الاهتمام بتحقيق النصّ وضبطه بالاعتماد على الأصول، مع الإشارة إلى ما فيه من وهم أو خطأ، والتعليق عليه بما يفيد، وتخريج الأحاديث والأخبار والأشعار والنصوص من المصادر باختصار، وربط كلام المؤلف بعضه ببعض، وغير ذلك من الأمور التي تدعو إليها الحاجة. ولما لم نجد مبيضة المؤلف للكتاب اعتمدنا على طبعة الكتاب الأولى، مع الاستفادة من المسوَّدات التي سبق وصفها، والتي تختلف اختلافًا كبيرًا عن المطبوع. وقد كان الشيخ محمَّد ناصر الدين الألباني علَّق على الكتاب تعليقات قليلة متفرقة، وعزا بعض الأحاديث وحكم عليها، وعلَّق الشيخ محمَّد عبد الرزاق حمزة على مواضع من "القائد"، فأبقينا من هذه التعليقات ما ينسجم مع المنهج الذي سرنا عليه، ونسبناه لصاحبه.

وكان في مواضع من النصّ بين معكوفين زيادات على كلام المؤلف، لم نُثبت أكثرها, لأن النصّ واضح ويُعطي المعنى بدونها، إلاَّ في بعض المواضع التي لا يستقيم الكلام بدونها، وقد قمنا بمراجعة المسوَّدات فيها واستفدنا منها في التصحيح. وقد جعلنا كلام الكوثري الذي ينقله المؤلف بين هلالين () بخط أصغر لتمييزه عن كلام المؤلف، وقمنا بمراجعة كتاب "التأنيب" للتأكد من نصّه المنقول، وصححنا بعض التطبيعات الواقعة فيه. وقد كان المؤلف رحمه الله يضيف بعض التصحيحات أو التنبيهات في كلام الكوثري ويجعلها بين معكوفين [] هكذا. وهكذا صنع أيضًا في النقول التي ينقلها من "تاريخ بغداد"، وكنا نحن بدورنا نراجع "التاريخ" بطبعتيه: القديمة، والطبعة التي بتحقيق د. بشار عوّاد، وننبّه إلى ما يقتضيه المقام. وكان عزو الكوثري والشيخ إلى الطبعة الأولى من الكتاب قبل إضافة التعليقات إلى المجلد الثالث عشر الذي فيه ترجمة أبي حنيفة، فألحقنا بين معكوفين [] أرقام الصفحات للطبعة المتداولة، وهي تزيد على الطبعة الأولى بنحو 10 إلى 25 صفحة تقريبًا. وقد اقتضى كل قسمٍ من الأقسام الأربعة للكتاب عنايةً خاصّة، فالقسم الأول (القواعد) احتاج إلى مراجعة كتب المصطلح والرجال، لتوثيق أقوال أئمة الجرح والتعديل ونقّاد المحدثين في هذه الموضوعات, وزيادة توضيحها، وتأييد كلام المؤلف فيها. أما قسم (التراجم) فقد قمنا فيه بمراجعة جميع المصادر التي أحال إليها المؤلف، وغيرها من كتب الجرح والتعديل والتاريخ والتراجم، واستفدنا منها في التصحيح والتعليق، وبيَّنا إذا

كان في الكتاب أو في المصادر خطأ أو وهم. وفي قسم (الفقه) تمت مراجعة كتب الفقه والحديث للمحدثين والحنفية، للتأكد من صحة النصّ وسلامته من التصحيف والتحريف. أما القسم الرابع (القائد) فقد تطلَّب منا الرجوع إلى كتب الفلاسفة والمتكلمين وكتب شيخ الإِسلام ابن تيمية وابن القيم وغيرهما، بالإضافة إلى المصادر التي نقل منها المؤلف. وبعد الفراغ من تحقيق الكتاب أُعِدّت له فهارس لتيسير الاستفادة منه، وسرعة الوصول إلى المطلوب، وهو مليء بالأبحاث والتحقيقات النادرة التي قلّما توجد في غيره بهذا التحرير والتنقيح. وفي الختام نرجو أننا قد وُفِّقنا لخدمة هذا الكتاب الجليل وإخراجه كما ينبغي، وندعو الله أن ينفع به طلّاب العلم وأهله، ويهدينا جميعًا إلى الحق والصواب فيما اختُلف فيه، إنه سميع مجيب.

نماذج من النُّسخ الخطية

مقدمة التنكيل، نماذج من النسخ الخطية

النص المحقق

آثَار الشّيخ العَلّامَة عبَد الرّحمن بن يحيى المعَلِّمِيّ (10) التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل تأليف الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني 1312 هـ - 1386 هـ تحقيق علي بن محمد العمران ومحمد أجمل الإصلاحي المجلد الأول وفق المنهج المعتمد من الشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد (رحمه الله تعالى) تمويل مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

[1/ 3] (¬1) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. اللهم صلِّ على محمَّد وعلى آل محمَّد كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمَّد وعلى آل محمَّد كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10]. أما بعد: فهذا كتاب "التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل"، تعقّبتُ فيه ما انتقدته من كتاب "تأنيب الخطيب" للأستاذ العلامة محمَّد زاهد الكوثري مما يتعلق بالكلام في أئمة السنة ورواتها، غير عامد إلى ذبًّ عَن الإِمام أبي حنيفة ولا خلافه. ورتبتُه على أربعة أقسام: الأول: في تحرير قواعد خلط فيها الأستاذ. الثاني: في تراجم الأئمة والرواة الذين تكلّم فيهم الأستاذ، وأفرادٍ حاول الدفاع عنهم. الثالث: في النظر في مسائل فقهية تعرّض لها. الرابع: في تثبيت عقيدة السلف التي طعن الأستاذ فيها وفي المعتصمين بها، ومسائل اعتقادية تعرّض لها. ¬

_ (¬1) ما بين المعكوفين إشارة إلى رقم الجزء والصفحة من الطبعة الأولى للكتاب.

وقد قدَّمتُ قبل هذا نموذجًا من مغالطاته طبع بمصر بعنوان "طليعة التنكيل" (¬1)، [1/ 4] وأجاب عنها برسالة سماها "الترحيب بنقد التأنيب" (¬2)، سأنظر فيما يُلتفت إليه مما فيها في مواضعه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى، وأسأل الله التوفيق. وأقدِّم فصولًا. ¬

_ (¬1) انتقد الأستاذ في "الترحيب" كلمات نابية - كما يقول - وقعت في متن "الطليعة" والتعليق عليها. وقد انتقدتُها قبله، وهي من تصرف المعلق الأستاذ محمَّد عبد الرزاق حمزة باجتهاده، وقد صرح بذلك في رسالته "حول ترحيب الكوثري" (ص 37). وذكر لي بعض المطلعين أن عامة تلك الكلمات كانت على وجه التعليق، لكن التبس الأمر عند الطبع، فأدرجت في المتن. [المؤلف]. (¬2) كتب المؤلف رسالةً سمّاها "تعزيز الطليعة" ذكر فيها أن العبارات النابية ليست منه وإنما من المعلّق على الكتاب، وشرح أمورًا أخرى، ثم صنف رسالة في الرد على "ترحيب الكوثري" سمّاها "شكر الترحيب"، وقد جعلنا هذه الكتب الثلاثة "الطليعة، وتعزيزها، وشكر الترحيب" في موسوعتنا هذه في مجلد قبل "التنكيل".

فصول

1 - فصل المقصود الأهمّ من كتابي هذا هو ردُّ المطاعن الباطلة عن أئمة السنة وثقات رواتها. والذي اضطرني إلى ذلك أن السنة النبوية وما تفتقر إليه من معرفة أحوال رواتها، ومعرفة العربية، وآثار الصحابة والتابعين في التفسير، وبيان معاني السنة والأحكام وغيرها، والفقه نفسه = إنما مدارها على النقل، ومدارُ النقل على أولئك الذين طعن فيهم الأستاذ وأضرابِهم؛ فالطعنُ فيهم يؤول إلى الطعن في النقل كله، بل في الدين من أصله. وحسبك أنَّ مِن المقرّر عند أهل العلم: أنه إذا نُقِل عن جماعة من الصحابة القولُ بتحريم شيء، ولم يُنقَل عن أحد منهم أو ممن عاصرهم من علماء التابعين قولٌ بالحِلِّ، عُدَّ ذاك الشيء مُجمعًا على حُرمته، لا يسوغ لمجتهد أن يذهب إلى حِلِّه. فإن ذهب إلى حِلِّه غافلًا عن الإجماع كان قوله مردودًا، أو عالمًا بالإجماع فمِن أهل العلم من يضلِّله، ومنهم من قد يكفِّره. لكنه لو ثبت عن رجل واحد من الصحابة قولٌ بحلِّ ذلك الشيء كانت المسألة خلافية، لا يُحظَر على المجتهد أن يقول فيها بقول ذلك الصحابي، أو بقول مفصّل يوافق هذا في شيء، وذاك في شيء؛ ولا يحرم على المقلد الذي مذهب إمامه الحرمة أن يأخذ بالحل، إما على سبيل الترجيح والاختيار إن كان أهلاً، وإما على سبيل التقليد المحض إن احتاج إليه. وثبوتُ ذاك القول عن ذاك الصحابي يتوقَّف على ثقة رجال السند إليه، والعلمُ بثقتهم يتوقّف على توثيق بعض أئمة الجرح والتعديل لكلٍّ منهم، والاعتدادُ بتوثيق الموثَّق يتوقَّف على العلم بثقته في نفسه وأهليته، ثم على

صحة سند التوثيق إليه، وثقتُه في نفسه تتوقف على أن يوثّقه ثقةٌ عارف، وصحةُ سند التوثيق تتوقف على توثيق بعض أهل المعرفة والثقة لرجاله، وهلم جرًّا. والسعيُ في توثيق رجل واحد من أولئك بغير حق، أو الطعنُ فيه بغير حق سعيٌ في إفساد [1/ 5] الدين بإدخال الباطل فيه، أو إخراج الحق منه. فإن كان ذاك الرجل واسع الرواية، أو كثير البيان لأحوال الرواة، أو جامعًا للأمرين كان الأمر أشدَّ جدًّا كما يعلم بالتدبر. ولولا أن أُنسب إلى التهويل لشرحت ذلك، فما بالك إذا كان الطعن بغير حق في عدد كثير من الأئمة والرواة، يترتب على الطعن فيهم - زيادةً على محاولة إسقاط رواياتهم - محاولةُ توثيق جمًّ غفير ممن جَرّحوه، وجرحُ جمًّ غفير ممن وثّقوه. ففي "التأنيب" الطعن في زُهاء ثلاثمائة رجل، تبيّن لي أن غالبهم ثقات، وفيهم نحو تسعين حافظًا، وجماعةٌ من الأئمة، فكم ترى يدخل في الدين من الفساد لو مشى للأستاذ ما حاوله من جرحهم بغير حق؟! على أن الأمر لا يقف عندهم، فإن الأستاذ يحاول الرد بالاتهام، والتهم غير محصورة، فيمكن كلَّ من يهوى ردَّ شيء من النقل أن يبدي تهمة في رواته وموثّقيهم، فيحاول إسقاطهم بذلك. بل يعدُّ (¬1) الملحدون الإِسلامَ نفسَه ذريعةً لاتهام كلّ مَن روى مِن المسلمين ما يثبت النبوة والقرآن ونحو ذلك، ولا يقنعون بالآحاد، بل يساورون المتواترات بزعم التواطؤ والتتابع لاتفاق الغرض. ¬

_ (¬1) في (ط): "يعيد" وعلّق عليها في الهامش: "كذا الأصل، ولعله يتخذ". ولم يرمز بعد التعليق بـ[ن]. وما أثبتناه هو المناسب، ولعله القراءة الصحيحة للكلمة.

ولو كان هذا الطعن من رجل مغمور أو غير مشهور بالعلم أو غير متبوع لهان الخطب، ولكنه من رجل مشهور ينعتُه أصحابه بأمثال ما كُتِب على لوح كتابه "تأنيب الخطيب" الذي طبع تحت إشرافه بتصحيحه: "تأليف الإِمام الفقيه المحدث، والحجة الثقة المحقق العلامة الكبير ... ". ويلي ذلك كلمة الناشر وترجمة المؤلف بتلك الألقاب الضخمة والعبارات الفخمة (¬1). ويتبعه الحنفية وهم - كما يقول - السواد الأعظم، ويتابعه في الجملة كلّ مَن تخالف السنةُ هواه من غلاة المقلدين وأتباع المتكلمين وعُبّاد القبور، ويعتضد بكلامه الملحدون. بلى إن في أفاضل علماء الحنفية أنفسهم جماعة يمقتون تصرف الأستاذ، ولكن تصدهم عن رفع أصواتهم بالإنكار عليه موانع هم أعلم بها. والله المستعان. **** ¬

_ (¬1) مع أنه يشير في (صفحة 14) من "الترحيب" إلى كتب ابن خزيمة وعثمان بن سعيد الدارمي وعبد الله بن أحمد بن حنبل ويقول: "طبع كثير منها تحت ظلال الحرية ... بعد نسج هالات من التبجيل حول أسماء مؤلفيها تمهيدًا للإضلال بأقاويلهم"! [المؤلف].

2 - فصل

[1/ 6] 2 - فصل من أوسع أودية الباطل: الغلوُّ في الأفاضل. ومِن أمضى أسلحته: أن يرمي الغالي كلَّ من يحاول ردَّه إلى الحق ببغض أولئك الأفاضل ومعاداتهم. يرى بعضُ أهل العلم أن النصارى أولَ ما غلوا في عيسى عليه السلام، كان الغلاة يرمون كلَّ من أنكر عليهم بأنه يبغض عيسى ويحقره ونحو ذلك، فكان هذا من أعظم ما ساعد على انتشار الغلوّ؛ لأن بقايا أهل الحق كانوا يرون أنهم إذا أنكروا على الغلاة نُسبوا إلى ما هم أشدُّ الناس كراهيةً له، من بغض عيسى وتحقيره، ومَقَتهم الجمهور، وأوذوا؛ فثبَّطهم هذا عن الإنكار، وخلا الجو للشيطان. وقريب من هذا حال الغلاة الروافض، وحال القبوريين، وحال غلاة المقلّدين. وعلى هذا جرى الأمر في هذه القضية. فإن الأستاذ غلا في أبي حنيفة حتى طعن في غيره من أئمة الفقه وفي أئمة الحديث وثقات رواته، بل تناول بعض الصحابة والتابعين، وأسْكَتَ أهلَ العلم في مصر وغيرها برمي كلّ من يهمُّ أن ينكر عليه ببغض أبي حنيفة ومعاداته. ولما اطلع الأستاذ على "الطليعة" جرَّد على صاحبها ذلك السلاح. ومَن تصفَّح "الترحيب" علم أن ذلك - بعد المغالطة والتهويل - هو سلاحه الوحيد، فهو يبدئ فيه ويعيد، ونفسه تقول: هل من مزيد! ومع ذلك يضطرب، فمن جهةٍ يقول في "الترحيب" (ص 15): "أخبار الآحاد على فرض ثقة رواتها لا تناهض العقل ولا النقل المستفيض فضلاً عن المتواتر، وقد ثبتت إمامة أبي حنيفة وأمانته ومناقبه لدى الأمة بالتواتر".

ويقول بعد ذلك: "خبر الآحاد يكون مردودًا عند مصادمته لما هو أقوى منه من أخبار الآحاد فضلاً عن مصادمته لما تواتر". ويقول (ص 17): "وأما الخبر المصادم لذلك من بين أخبار الآحاد فيُرَدُّ، حيث لا تمكن مناهضته للعقل والخبر المتواتر، على تقدير سلامة رجاله من المآخذ". ويقول (ص 39): "من المقرّر عند أهل العلم أن صحة السند بحسب الظاهر لا تستلزم صحة المتن". ويعدُّ حسناتي ذنوبًا، فيقول (ص 99): "وحذفه للمتون لأجل إخفاء مبلغ شناعتها عن نظر القارئ، [1/ 7] فلو ذكرها كلّها مع كلام الكوثري (¬1) في موضوع المسألة لنبذ السامعُ نقدَ هذا الناقد في أول نظرة، لما حوت تلك المتون من السخف البالغ الساقط بنفسه من غير حاجة إلى مُسقط، فيكون ذكر المتون قاصمًا لظهره". ويقول (ص 25): "ولو كان الناقد ذكر في صلب متنه الخبر المتحدَّث عنه، كان القارئ يحكم بكذب الخبر بمجرّد سماعه، لكن عادة الناقد إهمال ذكر المتن إخفاءً لحاله". ومن جهة أخرى يقول (ص 19): "وعادتي أيضًا في مثل تلك الأخبار تطلُّب ضعفاء بين رجال السَّنَد (¬2) بادئ ذي بدء، ضرورة أن الخبر الذي ينبذه العقل أو النقل لا يقع في رواية الثقات". ¬

_ (¬1) "التأنيب" مطبوع، والأستاذ أقدر على إعادة طبعه. وسواء أكان مقصودي ما شرحته في أول "الطليعة" في الفصل الأول، أم الغرض الذي يرميني به الأستاذ، أم كلاهما؛ فعلى كل حال لا داعي لي إلى ما اقترحه الأستاذ من نقل كلامه. [المؤلف]. (¬2) أرجو من القارئ أن يتدبر قول الأستاذ: "وعادتي ... "، مع مراجعة "الطليعة" (ص 11 - 43) [المؤلف]. [ص 5 - 31].

ويقول (ص 19): "ومن المضحك تظاهره بأنه لا يعادي النعمان، مع سعيه سعي المستميت في توثيق رواة الجروح، ولو بالتحاكم إلى الخطيب نفسه المتهم فيما عمله، مع أنه لو ثبتت ثقة حملتها ثبت مقتضاها". وأقول: أما الباعث لي على تعقُّب "التأنيب" فقد ذكرته في أول "الطليعة" (¬1)، وتقدم شرحه في الفصل الأول (¬2). وهب أن غرضي ما زعمه الأستاذ، وأنه يلزم من صنيعي تثبيت مقتضى تلك الحكايات، فلا يخلو أن يكون كلامي مبنيًّا على الأصول المألوفة والقواعد المعروفة، أو يكون على خلاف ذلك. فإن كان الأول، فلازم الحقِّ حقٌّ. وإن كان الثاني، ففي وُسْع الأستاذ أن يوضّح فساده بالأدلة المقبولة. فعلى أهل المعرفة أن يحاكموا بين "طليعتي" و"ترحيبه" حتى يتبين لهم أقام بنقض كلامي بأدلة مقبولة عند أهل العلم أم أردف ما في "التأنيب" من تهويل ومغالطة وتمحُّل بمثلها؟ ولم يكد يضيف إلى ذلك إلا رمي مؤلف "الطليعة" ببغض أبي حنيفة! كأنَّ الأستاذ يرى أن تلك المهاجمة لا تُتّقى إلاَّ بالهوى، فأثاره ما استطاع في نفوس أتباعه الذين يهمه شأنهم، ليضرب به بينهم وبين "الطليعة" و"التنكيل" حجابًا لا تمزِّقه حجة، ولا يزيده الله تعالى بعد استحكامه إلا شدّة. [1/ 8] والواقع أن مقصودي هو ما شرحته في الفصل السابق، ولذلك أهملتُ ذِكْر المتون لأنها خارجة عن مقصودي. ومع ذلك ففي ذكرها مفاسد: ¬

_ (¬1) (ص 3 - 4). (¬2) (ص 5 - 7).

الأولى: ما أشار إليه الأستاذ في الجملة، وهو أن يطّلع عليها حنفيٌّ متحمّس، فيحمله ذكرُ المتن على أن يعرض عن كلامي البتة، ولا يستفيد إلا بُغض من نُسِب إليه المتن من الأئمة. الثانية: أن يطلع عليها رجلٌ من خصوم الحنفية، فيجتزئ بذاك المتن، ويذهب يعيب أبا حنيفة غير مبال أصحّ ذاك المتن أم لم يصح. الثالثة: أن يطلع عليها عامّي لا يميز، فيقع في نفسه أن أئمة السلف كان بعضهم يطعن في بعض، ويكبر ذلك عليه، ويسيء الظنَّ بهم جميعًا. فإهمال ذكر المتن يمنع هذه المفاسد كلها, ولا يبقى أمام الناظر إلا ما يتعلق بتلك القضايا الخاصة التي ناقشتُ فيها الأستاذ. والواقع أيضًا أنه لا يلزم من صنيعي تثبيت الذمّ، ولا يلزمني قصد ذلك، ومن تأمّل عبارات الأستاذ في الجهة الأخرى كما قدَّمتها بان له صحة قولي. وأزيدُ ذلك إيضاحًا وشرحًا وتتميمًا، فأقول: وعامة مناقشتي للأستاذ إنما هي في بعض رجال تلك الأسانيد، وقد وافقته على ضعف جماعة منهم، ولا يلزم من تثبيتي ثقةَ رجلٍ مِن رجال السند، ثبوتُ ثقةِ غيره، بل الأمر أبعد من ذلك، فإن المقالة المسندة، إذا كان ظاهرها الذم أو ما يقتضيه، لا يثبت الذمُّ [بها] (¬1) إلا باجتماع عشرة أمور: الأول: أن يكون هذا الرجل المعيَّن الذي وقع في الإسناد ووقعت فيه المناقشة ثقة. ¬

_ (¬1) زيادة يستقيم بها السياق.

الثاني: أن يكون بقية رجال الإسناد كلّهم ثقات. الثالث: ظهور اتصال السند ظهورًا تقوم به الحجة. الرابع: ظهور أنه ليس هناك علة خفية يتبين بها انقطاع، أو خطأ، أو نحو ذلك مما يوهن الرواية. الخامس: ظهور أنه لم يقع في المتن تصحيف أو تحريف أو تغيير قد تُوقع فيه الروايةُ بالمعنى. [1/ 9] السادس: ظهور أن المراد في الكلام ظاهره. السابع: ظهور أن الذامَّ بنى ذمه على حجة، لا نحو أن يبلَّغه إنسان أن فلانًا قال كذا أو فعل كذا، فيحسبه صادقًا، وهو كاذب أو غالط. الثامن: ظهور أن الذامَّ بنى ذمه على حجة، لا على أمر حمله على وجه مذموم، وإنما وقع على وجه سائغ. التاسع: ظهور أنه لم يكن للمتكلم فيه عذر، أو تأويل فيما أنكره الذام. العاشر: ظهور أن ذلك المقتضي للذمّ لم يرجع عنه صاحبه. والمقصود بالظهور في هذه المواضع الظهور الذي تقوم به الحجة. وقد يزاد على هذه العشرة، وفيها كفاية. فهذه الأمور إذا اختلّ واحدٌ منها لم يثبت الذم، وهيهات أن تجتمع على باطل. والذي تصدّيتُ لمناقشة الأستاذ فيه إنما يتعلق بالأمر الأول، ولا يلزم

من تثبيته تثبيت الثاني، فضلاً عن الجميع. وقد يلزم من صنيعي في بعض المواضع تثبيت الثاني، لكن لا يلزم من ذلك تثبيت الثالث، فضلاً عن الجميع. وما قد يتفق في بعض المواضع من مناقشتي للأستاذ في دعوى الانقطاع أو التصحيف، فالمقصود من ذلك كشف مغالطته، ولا يلزم من ذلك تثبيت تلك الأمور كلها. وقد يتهم الأستاذ رجلاً في رواية مع علمه بأنه قد توبع متابعة تبيِّن صدقه في تلك الرواية, فيضطرني إلى التنبيه على تلك المتابعة. وقد يشنِّع على الخطيب بإيراده روايةَ مَن فيه كلام في صدد ما زعم أنه المحفوظ عنده، ويتبين لي سقوط الشناعة من هذه الناحية، إما لأنه إنما ذكر رواية ذلك الراوي في المتابعات، وإما لأن الراوي إنما غُمز بأنه يخطئ أو يَهِم، وليس تلك الرواية مما يُخشى فيه الخطأ أو الوهم، فأحتاج إلى بيان ذلك. وكلّ هذا لا يلزم منه تثبيت تلك الأمور كلها، وأذكر هنا مثالاً واحدًا: قال إبراهيم بن بشّار الرمادي: "سمعت سفيان بن عيينة يقول: ما رأيت أحدًا أجرأ على الله من أبي حنيفة. ولقد أتاه رجل من أهل خراسان، فقال: يا أبا حنيفة قد أتيتك بمائة ألف مسألة، أريد أن أسألك عنها. قال: هاتها. فهل سمعتم أحدًا أجرأ على الله من هذا! ". هذه الحكاية [1/ 10] أول ما ناقشت الأستاذ في بعض رجال سندها في "الطليعة" (ص 12 - 20) فإنه خبط في الكلام في سندها إلى الرمادي بما ترى حاله في "الطليعة". وتكلم في الرمادي، وستأتي ترجمته. وزاد في "الترحيب" فتكلم في ابن أبي خيثمة بما لا يضره. وذكر ما قيل أن ابن عيينة اختلط بأخرة، وهو يعلم ما فيه، وستأتي ترجمته. وقد ذكر الأستاذ في

"التأنيب" جوابًا معنويًّا جيدًا، ولكنه مزجه بالتخليط، فقال بعد أن تكلّم في السند بما أوضحت ما فيه في "الطليعة": "وابن عيينة بريء من هذا الكلام قطعًا بالنظر إلى السند". كذا قال. ثم قال بعد ذلك: "وأما من جهة المتن فتكذِّب شواهدُ الحال الأخلوقةَ تكذيبًا لا مزيد عليه ... رجل يبعث من خراسان ليسأل أبا حنيفة عن مائة ألف مسألة بين عشية وضحاها، ويجيب أبو حنيفة عنها بدون تلبُّث ولا تريّث". كذا قال. وليس في القصة أن الرجل سأل عن مسألة واحدة، فضلاً عن مائة ألف. ولا أن أبا حنيفة أجاب عن مسألة واحدة، فضلاً عن مائة ألف، فضلاً عن أن يكون ذلك كلّه بين عشية وضحاها. وكان يمكن الأستاذ أن يجيب بجواب بعيد عن الشَّغَب كأن يقول: يبعد جدًّا أو يمتنع أن تُجمع في ذاك العصر مائة ألف مسألة، ليأتي بها رجل من خُراسان، ليسأل عنها أبا حنيفة. وهذا يدل على أحد أمرين: إما أن يكون السائل إنما أراد: أتيتك بمسائل كثيرة، فبالغ. وإما أن يكون بطَّالاً لم يأت ولا بمسألة واحدة، وإنما قصد إظهار التشنيع والتعجيز، فأجابه أبو حنيفة بذاك الجواب الحكيم. فإن كان الرجل إنما قصد التشنيع أو التعجيز، ففي ذاك الجواب إرغامه. وإن كان عنده مسائل كثيرة نظر فيها أبو حنيفة على حسب ما يتسع له الوقت، ويجيب عندما يتضح له وجه الجواب. فأما ابن عيينة فكان من الفريق الذين يكرهون أن يفتوا (وقد بين الأستاذ ذلك في "التأنيب" (¬1)) فكأنه كره قول أبي حنيفة: "هاتها"، لما يشعر به من ¬

_ (¬1) (ص 156).

الاستعداد لما يكرهه ابن عيينة. وكان أبو حنيفة من الفريق الذين يرون أن على العالم - إذا سئل عما يتبين له وجه الفتوى فيه - أن يفتي، للأمر بالتبليغ والنهي عن كتمان العلم، ولئلّا يبقى الناسُ حيارى لا يدرون ما حكم الشرع في [1/ 11] قضاياهم، فيضطرهم ذلك إلى ما فيه فساد العلم والدين. ولا ريب أن الصواب مع الفريق الثاني، وإن حمدنا الفريق الأول حيث يكفّ أحدُهم عن الفتوى مبالغةً في التورُّع واتكالًا على غيره حيث يوجد. فأما الجرأة فمعناها الإقدام، والمقصود هنا كما يوضّحه السياق وغيره: الإقدام على الفتوى؛ فمعنى الجرأة على الله هنا هو الإقدام على الإفتاء في دين الله. وهذا إذا كان عن معرفةٍ موثوقٍ بها فهو محمود، وإن كرهه المبالغون في التورُّع كابن عيينة. وقد جاء عن ابن عمر أنه قال: "لقد كنت أقول: ما يعجبني جرأة ابن عباس على تفسير القرآن، فالآن قد علمتُ أنه أوتي علمًا" (¬1). وعنه أيضًا أنه قال: أكثر أبو هريرة. فقيل له: هل تنكر شيئًا مما يقول؟ قال: لا, ولكنه اجترأ وجَبُنَّا. فبلغ ذلك أبا هريرة فقال: فما ذنبي إن كنت حفظت ونسوا (¬2)؟ راجع "الإصابة" (¬3) (ترجمة ابن عباس وترجمة أبي هريرة). وإقدام أبي حنيفة كان من الضرب المحمود. وقد روى الخطيب نفسه ... الحكايتين اللتين ذكرهما الأستاذ في "التأنيب". فهذا وغيره يدلّ على ¬

_ (¬1) أخرجه أبو نعيم في "الحلية": (1/ 320). (¬2) أخرجه أبو داود (1261)، وابن خزيمة (1120)، والبيهقي (3/ 45). (¬3) (4/ 147 و 7/ 441).

بُعد أبي حنيفة عن الجرأة المذمومة. فأما إذا علمنا أن ابن عيينة كان يطيب الثناء على أبي حنيفة، فإن ذلك يرشدنا إلى حمل تلك المقالة على معنى آخر أدنى إلى الصواب، مع ما فيه من الحكمة البالغة التي تهدينا إلى باب عظيم النفع في فهم ما يُنقل عن أهل العلم من كلام بعضهم في بعض. وحاصله: أن أكثر الناس مُغْرَون بتقليد من يعظُم في نفوسهم والغلوَّ في ذلك، حتى إذا قيل لهم: إنه غير معصوم عن الخطأ، والدليل قائم على خلاف قوله في كذا، فدلَّ ذلك على أنه أخطأ، ولا يحلّ لكم أن تتبعوه على ما أخطأ فيه = قالوا: هو أعلم منكم بالدليل، وأنتم أولى بالخطأ منه، فالظاهر أنه قد عَرف ما يدفع دليلَكم هذا. فإن زاد المنكرون فأظهروا حُسْن الثناء على ذلك المتبوع كان أشد لغلوّ متبعيه. خطب عمار بن ياسر في أهل العراق قبل وقعة الجمل ليكفَّهم عن الخروج مع أم المؤمنين عائشة، فقال: "والله إنها لزوجة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا والآخرة، ولكن الله تبارك وتعالى ابتلاكم ليعلم إيَّاه تطيعون أم هي". أخرجه البخاري في "الصحيح" (¬1) من طريق أبي مريم الأسدي عن عمار، وأخرج نحوه من طريق أبي وائل عن عمار. [1/ 12] فلم يؤثِّر هذا في كثير من الناس، بل رُوي أن بعضهم أجاب قائلاً: "فنحن مع من شهدْتَ له بالجنة يا عمار" (¬2). فلهذا كان من أهل العلم والفضل مَن إذا رأى جماعةً اتبعوا بعض ¬

_ (¬1) (7100, 7101). (¬2) أخرجه الطبري في "تاريخه": (3/ 27) وفي سنده سيف بن عمر الضبّي أخباريّ متروك.

الأفاضل في أمر يرى أنه ليس لهم اتباعه فيه - إمّا لأنّ حالهم غير حاله، وإما لأنه يراه أخطأ - أطلق كلمات يظهر منها الغضُّ مِن ذاك الفاضل، لكي يكفَّ الناس عن الغلوِّ فيه الحامل لهم على اتباعه فيما ليس لهم أن يتبعوه فيه. فمِنْ هذا ما في "المستدرك" (2 ص 329) " .... عن خيثمة قال: "كان سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في نفر، فذكروا عليًّا، فشتموه، فقال سعد: مهلًا عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... فقال بعضهم: فوالله إنه كان يبغضك ويُسَمِّيك (¬1) "الأخنس". فضحك سعد حتى استعلاه الضحك، ثم قال: أليس قد يجد المرء على أخيه في الأمر يكون بينه وبينه ثم لا تبلغ ذلك أمانته .... ". قال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين"، وأقرَّه الذهبي. وفي "الصحيحين" (¬2) وغيرهما عن عَليّ رضي الله عنه قال: "ما سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم جمع أبويه إلا لسعد بن مالك (هو سعد بن أبي وقاص) فإني سمعته يقول يوم أحد: "يا سعد ارمِ فداك أبي وأمي". وتُروى عن عَليّ كلمات أخرى من ذا وذاك. وكان سعد قد قعد عن قتال البغاة، فكان عَليّ إذا كان في جماعة يخشى أن يتّبعوا سعدًا في القعود ربما أطلق غير كاذب كلماتٍ تُوهم الغضَّ من سعد. وإذا كان مع مَن لا يخشى منه القعود، فذكر سعدًا، ذَكَر فضله. ومنه ما يقع في كلام الشافعي في بعض المسائل التي يخالف فيها مالكًا من إطلاق كلمات فيها غضٌّ من مالك، مع ما عُرف عن الشافعي من تبجيل ¬

_ (¬1) في المطبوعة: "وسميك". والصواب ما أثبتنا من المستدرك. (¬2) البخاري (4059)، ومسلم (2411).

أستاذه مالك. وقد روى حرملة عن الشافعي أنه قال: "مالك حجة الله على خلقه بعد التابعين" (¬1) كما يأتي في ترجمة مالك إن شاء الله تعالى (¬2). ومنه ما تراه في كلام مسلم في مقدمة "صحيحه" (¬3) مما يظهر منه الغضُّ الشديد من مخالفه في مسألة اشتراط العلم باللقاء، والمخالف هو البخاري، وقد عُرِف عن مسلم تبجيلُه للبخاري. وأنت إذا تدبّرتَ تلك الكلمات وجدتَ لها مخارج مقبولة، وإن كان ظاهرها التشنيع الشديد (¬4). وفي ترجمة الحسن بن صالح بن حيّ من "تهذيب التهذيب" (¬5) كلمات قاسية أطلقها بعض [1/ 13] الأئمة فيه مع ما عُرِف من فضله، وفيها: "قال أبو صالح الفراء: ذكرت ليوسف بن أسباط عن وكيع شيئًا من أمر الفتن فقال: ذاك يشبه أستاذه يعني الحسن (بن صالح) بن حيّ، فقلت ليوسف: أما تخاف أن تكون هذه غيبة؟ قال: لِمَ يا أحمق؟ أنا خير لهؤلاء من آبائهم وأمهاتهم، أنا أنهى الناس أن يعملوا بما أحدثوا، فتتبعهم أوزارهم؛ ومن أطراهم كان أضرَّ عليهم". أقول: والأئمة غير معصومين من الخطأ والغلط، وهم إن شاء الله تعالى ¬

_ (¬1) انظر "تهذيب التهذيب": (10/ 8). (¬2) من كتابنا هذا برقم (183). (¬3) (1/ 28 - 32). (¬4) وقد ذكر المصنف هذا المعنى أيضًا في كتاب "العبادة" (ص 82 - 84). (¬5) (2/ 286).

معذورون مأجورون فيما أخطؤوا فيه، كما هو الشأن فيمن أخطأ بعد بذل الوسع في تحرِّي الحق؛ لكن لا سبيل إلى القطع بأنه لم يقع منهم في بعض الفروع تقصير يؤاخذون عليه، أو تقصير في زجر أتباعهم عن الغلوَّ في تقليدهم. على أن الأستاذ إذا أحبَّ أن يسلك هذه الطريق لا يضطر إلى الاعتراف بأن ابن عيينة كان يعتقد أن أبا حنيفة أخطأ في بعض مقالاته، بل يمكنه أن يقول: لعلّ ابن عيينة رأى أناسًا قاصرين عن رتبة أبي حنيفة، يتعاطَون مثل ما كان يقع منه من الإكثار من الفتوى والإسراع بها، غير معترفين بقصورهم، اغترارًا منهم بكثرة ما جمعوا من الأحاديث والآثار؛ فاحتاج ابن عيينة في ردعهم إلى تلك الكلمة القاطعة لشغبهم. والله أعلم. ****

3 - فصل

3 - فصل حاول الأستاذ في "الترحيب" (¬1) التبرّؤ مما نُسِب إليه في "الطليعة" من الكلام في أنس رضي الله عنه وفي هشام بن عروة بن الزبير، وفي الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد. فأما كلامه في أنس، فتراه وما عليه في "الطليعة" (ص 98 - 106) (¬2) ويأتي تمامه في ترجمته إن شاء الله تعالى (¬3). وينبغي أن يُعلَم أن منزلة أنس رضي الله عنه عندنا غير منزلته التي يجعله الأستاذ فيها، فلسان حال الأستاذ يقول: ومَن أنس؟ وما عسى أن تكون قيمة رواية أنس في مقابلة الإِمام الأعظم وعقليته الجبارة؟ كما أشار إلى ذلك في "الترحيب" (ص 24) إذ قال: "وأسماء الصحابة الذين رغب الإِمام عما انفردوا به من الروايات مذكورة في "المؤمل" لأبي شامة الحافظ، وليس هذا إلا تحرِّيًا بالغًا في المرويات يدلّ على عقلية أبي حنيفة الجبارة". [1/ 14] فزادنا مع أنس جماعةً من الصحابة رضي الله عنهم، وإلى ما غالط به من الترجيح الذي دفعتُه في "الطليعة" (ص 105 - 106) (¬4) التصريحَ بأنه يكفي في تقديم رأي أبي حنيفة على السنة أن ينفرد برواية السنة بعضُ أولئك الصحابة. ¬

_ (¬1) (ص 315 - 316 و337 - 338). (¬2) (ص 77 - 83) من طبعتنا. (¬3) من كتابنا هذا رقم (56). (¬4) (ص 83).

هذا مع أن رواية أنس في الرَّضْخ (¬1) تشهد لها أربع آيات من كتاب الله عزَّ وجلَّ، بل أكثر من ذلك كما يأتي في "الفقهيات" (¬2) إن شاء الله تعالى، ومعها القياس الجلي. ولا يعارض ذلك شيء إلاَّ أن يقال: إن عقلية أبي حنيفة الجبارة كافية لأن يقدَّم قوله على ذلك كله. وعلى هذا فينبغي للأستاذ أن يتوب عن قوله في "التأنيب" (ص 139) عند كلامه على ما رُوي عن الشافعي من قوله: أبو حنيفة يضع أول المسألة خطأ ثم يقيس الكتاب كله عليها. قال الأستاذ هناك: "ولأبي حنيفة بعض أبواب في الفقه من هذا القبيل. ففي كتاب الوقف أخذ بقول شريح القاضي، وجعله أصلاً، ففرّع عليه المسائل، فأصبحت فروع هذا الباب غير مقبولة، حتى ردَّها صاحباه. وهكذا فعل في كتاب المزارعة حيث أخذ بقول إبراهيم النخعي، فجعله أصلاً ففرَّع عليه الفروع ... ". إلا أن يقول الأستاذ: إن أبا حنيفة لم يستعمل عقليته الجبارة في تلك الكتب أو الأبواب، وإنما قلّد فيها بعضَ التابعين كشريح وإبْراهيم. فعلى هذا يختصّ تقديم العقلية الجبارة بما قاله من عند نفسه، فعلى هذا نطالب الأستاذ أن يطبق مسألة القَوَد على هذه القاعدة. أما نحن فلا نعتد على أبي حنيفة بقول الأستاذ، ولا بحكاية أبي شامة الشافعيّ الذي بينه وبين أبي حنيفة نحو خمسمائة سنة، بل نقول: لعل أبا حنيفة لم يرغب عن انفراد أحد من الصحابة، بل هو موافق لغيره في أن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5295) ومسلم (1672). (¬2) (2/ 128 - 130).

انفراد الصحابيّ مقبول على كلّ حال؛ وإنما لم يأخذ ببعض الأحاديث, لأنه لم يبلغه من وجهٍ يثبت، أو لأنه عارضه من الأدلة الشرعية ما رآه أرجح منه. وإذا كان يأخذ برأي رجل من التابعين، فيجعله أصلاً لباب عظيم من أبواب الشرع، كشريح في الوقف، وإبْراهيم في المزارعة = فكيف يرغب عن سنة لتفرّد بعض الصحابة بها؟ ثم راجعت "المؤمل" (¬1) فرأيت عبارته تُشعر بأن الكلام فيما تفرّد أنس ومن معه يقوله برأيه، لا في ما كان روايةً عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. فأما التحرّي البالغ، فإن كان هو الذي يؤدّي إلى قبول ما حقُّه أن يُقبَل ورَدِّ ما حقُّه أن يُرَدَّ، [1/ 15] فلا موضع له هنا. وإن كان هو الذي يؤدّي إلى قبول ما حقُّه الردُّ، كرأي شريح في الوقف، ورأي إبْراهيم في المزارعة؛ وإلى ردَّ ما حقُّه القبول، كما يتفرّد به بعض الصحابة ولا يعارضه من الأدلة الشرعية ما هو أقوى منه، أو كردِّ حديث الرّضْخ مع شهادة القرآن والقياس الجليّ له = فهذا إن وقع ممن لم يقف على الأدلة المخالفة له أو ذَهَل عنها وعن دلالتها، له اسم آخر لا يضر صاحبه إن شاء الله. وإن وقع ممن عرف ذلك كلّه، فهو تجرٍّ بالجيم لا تحرٍّ بالحاء، أو قل: تحرٍّ للباطل، لا للحق. فإن كان المقصود التخييل الشعري فيستطيع من يردُّ انفرادَ الصحابي - ¬

_ (¬1) (ص 62 - 63 ت مقبول)، وهذا النص ليس في الطبعة الجديدة, بتحقيق د. جمال عزّون (ص 133 - 134)، فهل سقط منها أو ليس في الأصول التي اعتمدها؟ وقد نقد المؤلف هذا الخبر في "الأنوار الكاشفة" (ص 241 - 242) ثم قال - بما يؤيد كلامه هنا -: "والحكاية لا تتعرض للأحاديث التي يرويها الصحابة، وإنما تتعلّق بقول الصحابي الموقوف عليه هل يجوز لمن بعده مخالفته برأيه؟ فحاصلها أن أبا حنيفة يقول: إنه لا يخالف قول أحدٍ من الصحابة برأيه سوى أولئك الثلاثة .. ".

أيَّ صحابي كان - أن يقول: إن ذلك تحرًّ بالغ. بل من يردّ السننَ كلّها سوى المتواتر، بل من يرد المتواتر أيضًا، فيقول: إن التحرّي البالغ يقضي أن لا يُنسب إلى شرع الله إلا ما نصّ عليه كلامه. بل من يردّ الدلالات الظنية من القرآن، ويردّ الإجماع، ولم يُبق إلا الدلالات اليقينية من القرآن (¬1)، وشيوخ الأستاذ من المتكلمين ينفون وجودها، كما يأتي في (الاعتقاديات) (¬2) إن شاء الله تعالى. فأما القياس فهو بأن يسمّى إلغاؤه تحريًّا واحتياطًا في دين الله أولى من ذلك كلّه، فإنه بالنسبة إلى ذلك كما قيل: ويذهبُ بينها المرئيُّ لغوًا ... كما ألغيتَ في الدية الحُوارا (¬3) والمقصود هنا أن منزلة أنس رضي الله عنه عندنا غير منزلته التي يجعله الأستاذ فيها، فلا غرو أن يزعم الأستاذ أنه ليس في كلامه فيه ما يُنتقد! وفي "فتح الباري" (¬4) في باب المصرَّاة: "قال ابن السمعاني (¬5) في "الاصطلام": التعرض إلى جانب الصحابة علامة على خذلان فاعله، بل هو بدعة وضلالة". ذكر ذلك في صدد ردّ كلام بعض الحنفية في رواية أبي هريرة ¬

_ (¬1) كذا، والكلام مفهوم، وتقديره: يزعم أيضًا أنه تحرًّ بالغ. (¬2) (2/ 336، 503). (¬3) من قصيدة لذي الرمة في هجاء هشام بن قيس المرئي. انظر "ديوان ذي الرمة" (1379)، و"الأمالي": (2/ 141). (¬4) (4/ 365). (¬5) هو أبو المظفر منصور بن عبد الجبار. كان أهل بيته حنفية, ونشأ على ذلك، ومهر في المذهب، ثم تشفَّع تديّنًا. وترجمته في "طبقات ابن السبكي" (ج 4 ص 21). وقد أسرف الشافعية في التبجّح بذلك كما تراه هناك. [المؤلف].

حديث المصرَّاة. وأما هشام بن عروة بن الزبير بن العوام، فهذه قصته: روى هشام عن أبيه عروة - وفي رواية للدارمي (ج 1 ص 51) (¬1): هشام، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن نوفل، عن عروة (¬2) - قال: "لم يزل أمر [1/ 16] بني إسرائيل معتدلاً، حتى ظهر فيهم المولّدون أبناء سبايا الأمم، فقالوا فيهم بالرأي، فضلُّوا وأضلُّوا". فذكرها الأستاذ في "التأنيب" (ص 98) ثم قال: "وإنما أراد هشام النكاية في ربيعة وصاحبه مالك، لقول مالك فيه بعد رحيله إلى العراق فيما رواه الساجي، عن أحمد بن محمَّد البغدادي، عن إبراهيم بن المنذر، عن محمَّد بن فليح قال: قال لي مالك بن أنس: هشام بن عروة كذاب. قال: فسألت يحيى بن معين؟ فقال: عسى أراد في الكلام، فأما في الحديث فهو ثقة". وعلَّق في الحاشية: "هذا من انفرادات الساجي، وأهلُ العلم قد تبدُر منهم بادرة، فيتكلمون في أقرانهم بما لا يُقبل، فلا يتخذ ذلك حجة. على أنَّ ما يؤخذ به هشام بعد رحيله إلى العراق أمرٌ يتعلق بالضبط في التحقيق، وإلا فمالك أخرج عنه في الموطأ". ففهمت من قوله: "وإنما أراد هشام النكاية ... " أنه يريد أن هشامًا أفترى هذه الحكاية لذاك الغرض، وأن ذلك من الكذب الذي عني بالكلمة المحكية عن مالك: "هشام بن عروة كذاب"، ومن الكذب في الكلام على ما في الحكاية عن ابن معين، ومن البوادر التي لا تقبل كما ذكره في ¬

_ (¬1) رقم (122) - تحقيق حسين أسد. (¬2) وهكذا في ترجمة عبد الرحمن بن مهدي من مقدمة كتاب "الجرح والتعديل" [1/ 254] لابن أبي حاتم. [المؤلف].

الحاشية. وبنيت على ذلك في الكلمة التي كنت كتبتها إلى بعض الإخوان، فاتفق أن وقعت بيد المعلق على "الطليعة" أو طابعها، فطبعت كمقدمة للطليعة بدون علمي. قلت فيها كما في "الطليعة" المطبوعة (ص 4): "وفي هشام بن عروة بن الزبير بن العوام، حتى نَسَب إليه الكذب في الرواية". فتعرّض الأستاذ لذلك في "الترحيب" (ص 48) وتوهَّم أو أوهم أنني إنما بنيتُ على ما في الحكاية التي ينقلها مما نسب إلى مالك من قوله: " ... كذاب"، فأعاد الأستاذ الحكاية هنالك، ثم قال: "أهذا قولي أم قول مالك أيها الباهت الآفك؟! ". فأقول: أما قولك، فقد قدَّمتُ ما فيه من إفهام أن هشامًا افترى تلك الحكاية انتقامًا من مالك. وأما قول مالك، فلم يصح، بل هو باطل. ومن لطائف الأستاذ أنه اقتصر فيما تظاهر به في صدر الحاشية من محاولة تليين الحكاية عن مالك على قوله: "من انفرادات الساجي" وهو يعلم أن زكريا الساجي حافظ ثقة ثبت، وإن حاول في موضع آخر أن يتكلم فيه كما يأتي في ترجمته إن شاء الله تعالى (¬1). هذا مع جزمه في المتن بقوله: "لقول مالك فيه". والحكاية أخرجها الخطيب في "تاريخ بغداد" (ج 1 ص 223)، وتعقبها بقوله: [1/ 17] "فليست بالمحفوظة إلا من الوجه الذي ذكرناه، وراويها عن إبراهيم بن المنذر غير معروف عندنا". يعني أحمد بن محمَّد البغدادي. وبغداديٌّ لا يعرفه الخطيب الذي ¬

_ (¬1) من هذا الكتاب رقم (94).

صرف أكثر عمره في تتبع الرواة البغداديين لا يكون إلا مجهولاً، فهذا هو المسقط لتلك الحكاية من جهة السند. ويسقطها من جهة النظر أن مالكًا احتج بهشام في "الموطأ" مع أن مالكًا لا يجيز الأخذ عمن جُرِّب عليه كذب في حديث الناس، فكيف الرواية عنه؟ فكيف الاحتجاج به! صح عن مالك أنه قال: "لا تأخذ العلم من أربعة، وخذ ممن سوى ذلك: لا تأخذ عن سفيه معلِن بالسَّفَه وإن كان أروى الناس. ولا تأخذ عن كذّاب يكذب في أحاديث الناس، إذا جُرِّب ذلك عليه، وإن كان لا يُتهم أن يكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... ". أسنده الخطيب في "الكفاية" (ص 116) وذكره ابن عبد البر في "كتاب العلم" كما في "مختصره" (ص 122) (¬1)، وقال: "وقد ذكرنا هذا الخبر عن مالك من طرق في كتاب "التمهيد" (¬2) ... ". وكأنّ الأستاذ يحاول إثبات أن الأئمة كمالك وابن معين يوثقون الرجل إذا رأوا أنه لا يكذب في الحديث النبويّ، وإن علموا أنه يكذب في الكلام، ويحاول أن يدخل في الكلام ما يرويه الثقات مما فيه غضٌّ من أبي حنيفة. وهكذا ما يرويه أحدهم عن غيره مما فيه غضٌّ من أبي حنيفة، ولو مِن بُعْد، كرواية هشام المذكورة. وعلى هذا فيدخل في الكلام الذي لا يمتنع الأئمة من توثيق الكاذب فيه كلُّ كلام إلا ما فيه إسناد خبر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولو - والعياذ بالله - تمَّ هذا للأستاذ لسقطت المرويات كلها، ويأبى الله ذلك ¬

_ (¬1) "جامع بيان العلم": (2/ 821). (¬2) (1/ 66).

والمؤمنون. أما السنة فإنها لا تثبت إلا بثقة رواتها، وتوثيقُ الأئمة للرواة كلامٌ ليس فيه إسناد خبر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا كانوا يرون أن الكذب في ذلك لا ينافي الثقة لم نأمن أن يكذبوا فيه. وتوثيق مَنْ بعدَهم لهم لا يدفع أن يكونوا يكذبون مثل هذا الكذب، بل يجوز أن يكون ذاك التوثيق نفسه كذبًا وإن كان قائله ثقة. وهكذا رواية مَن بعد الأئمة لكلام الأئمة هي كلام. وبالجملة فيشمل ذلك سائر كلمات الجرح والتعديل، والمدح [1/ 18] والقدح: قولها وروايتها، وحكاية مقتضيها وروايته. وأما ما عدا السنة من آثار الصحابة والتابعين وغير ذلك، فكلُّه كلام. وسيأتي تمام الكلام في القاعدة الأولى من قسم القواعد إن شاء الله تعالى (¬1). وأما كلام الأستاذ في الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد، فسيأتي إن شاء الله تعالى في تراجمهم (¬2). ويكفي العبارة التي قالها في "التأنيب" (¬3) في معرض الثناء عليهم زَعَم، ونقلها في "الترحيب" (¬4) في معرض التبرّؤ عن الطعن فيهم. ¬

_ (¬1) (ص 53 - 58). (¬2) في هذا الكتاب رقم (183، 189، 32) على التوالي. وقد أفرد المؤلف الرد على مطاعن الكوثري في الإِمام الشافعي برسالة مستقلة سماها "تنزيه الإِمام الشافعي عن مطاعن الكوثري" وهي ضمن هذه الموسوعة. (¬3) (ص 11 - 15). (¬4) (ص 31 - 317 - مع التأنيب).

وحقيقة الحال أن الأستاذ يرى، أو يتراءى، أو يفرض على الناس أن يروا أن منازل الأئمة هي كما يتحصَّل من مجموع كلامه في "التأنيب". ويرى أنه قد تفضَّل على الأئمة الثلاثة، وجامل أتباعَهم بأن أوهم في بعض عباراته رفعَهم عن تلك المنزلة قليلاً. فلما رآني لم أعتدّ بذاك الإيهام الفارغ كان أقصى ما عنده أن يوهم الجهالَ براءَته، ويُفهم العلماء أن تلك منازلهم عنده، رضوا أم كرهوا. وتمام الكلام في التراجم إن شاء الله تعالى. ****

4 - فصل

4 - فصل ذكر الأستاذ في "التأنيب" (¬1) أسبابًا اقتضت المنافرة بين الحنفية ومخالفيهم، وأطنب في فتنة القول بخلق القرآن. ثم ذكر في "الترحيب" (ص 18 - 19) أنه يتحتم عليَّ أن أدرس ملابسات تلك الفتنة. يريد أن الدعاة إليها كانوا من أتباع أبي حنيفة كبِشْر المريسى وابن أبي دُواد، ونسبوا تلك المقالة إلى أبي حنيفة، وساعدهم حفيده إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة، واستحوذوا على الدولة، فسعت في تنفيذ تلك المقالة بكلّ قواها في جميع البلدان. فكان علماء السنة يكلَّفون بأن يقولوا: إن القرآن مخلوق، فمن أجاب مظهرًا الرضا والاعتقاد صار له منزلة وجاه في الدولة، وأُنعِمَ عليه بالعطاء وولاية القضاء وغير ذلك. ومن أبى حُرم عطاءه، وعُزل عن القضاء أو الولاية، ومُنع من نشر العلم. وكثير منهم سُجنوا، ومنهم من جُلد، ومنهم من قُتل. وأسرف الدعاة في ذلك، حتى كان القضاة لا يجيزون شهادة شاهد حتى يقول: إن القرآن مخلوق، فإن أبى ردوا شهادته، ومن أجاب مكرهًا ربما سجنوه وربما أطلقوه مسخوطًا عليه. وفي كتاب "قضاة مصر" (¬2) طرفٌ من وصف تلك المحنة. فيرى الأستاذ أن ذلك أوغر صدور أصحاب الحديث على أبي حنيفة، فكان فيهم من يذمه، ومنهم من يختلق الحكايات في ثلبه. [1/ 19] فأقول: ليس في ذلك ما يبرر صنيع الأستاذ. ¬

_ (¬1) (ص 16 - 20). (¬2) للكندي (ص 445 - 447).

أما أولاً: فلأن أصحاب الحديث منهم من صرَّح بأنه لم يثبت عنده نسبة تلك المقالة إلى أبي حنيفة، كما رواه الخطيب من طريق المرُّوذي عن أحمد بن حنبل. ومنهم من وقعت له روايات تنسب إلى أبي حنيفة القول بأن القرآن غير مخلوق، وتلك الروايات معروفة في "تاريخ بغداد" و"مناقب أبي حنيفة" وغيرها. فكيف يُظن بهم أن يحملوا على أبي حنيفة ذنبًا يرونه بريئًا منه، ويخرجوه من صَفّهم - مع عدم استغنائهم عنه - إلى صفِّ مخالفهم؟ وأما ثانيًا: فهل يريد الأستاذ أن يستنتج من ذلك أن أصحاب الحديث صاروا كلُّهم بين سفيه فاجر كذّاب، وأحمق مغفَّل يستحلُّ الكذب الذي هو في مذهبه من أكبر الكبائر وأقبح القبائح؟ فليت شعري عند من بقي العلم والدين؟ أعند الجهمية الذين يعزلون الله وكتبه ورسله عن الاعتداد في عَظْم الدين وهو الاعتقاديات، ويتبعون فيها الأهواء والأوهام! يقال لأحدهم: قال الله عزَّ وجلَّ ... ، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ فتلتوي عنقه، ويتقبَّض وجهُه تبرُّمًا وتكرُّهًا. ويقال له: قال ابن سينا ... ، فيستوي قاعدًا، ويسمو رأسه، وينبسط وجهه، وتتسع عيناه، وتصغي أذناه، كأنه يتلقى بشرى عظيمة كان يتوقعها. فهل هذا هو الإيمان الذي لا يزيد ولا ينقص يا أستاذ! وأما ثالثًا: فإن ما يسميه الأستاذ "مثالب أبي حنيفة" أكثرها كان معروفًا قبل المحنة. ولهذا احتاج الأستاذ إلى مُساورة كبار الأئمة وأركان الدين وجبال الأمة مثل أبي إسحاق إبراهيم بن محمد الفَزَاري، وسفيان بن سعيد الثوري، وحماد بن سلمة.

وأما رابعًا: فقد أثبتها في كتبه، أو أثبت مقتضاها مَنْ عاصر المحنة وعرف ما لها وما عليها كيعقوب بن سفيان والبخاري، وهل يتَّهم البخاريَّ إلا مجنون! وأما خامسًا: فإن تلك المشادّة لم تقتصر على أصحاب الحديث، بل كان لأصحاب أبي حنيفة النصيب الأوفر من اختلاق الحكايات في مناقبه. بل جاوزوا ذلك إلى وضع الأحاديث كحديث: "يكون في أمتي رجل اسمه النعمان، وكنيته أبو حنيفة. هو سراج أمتي، هو سراج أمتي، هو سراج أمتي". وزاد بعضهم فيه: "وسيكون في أمتي رجل يقال [1/ 20] له محمد بن إدريس، فتنته على أمتي أضرُّ من إبليس" (¬1). وتناول الأعاجم هذه الفرية، فاختلقوا لها عدة طرق، وقبلها علماء الحنفية واحتجُّوا بها، حتى إن البدر العيني شارح "صحيح البخاري" الذي يحاول الأستاذ تفضيله على الحافظ الشهاب ابن حجر، ويقول في تفضيل شرحه على "فتح الباري": "وليس الشهاب كلّ حين بثاقب، بينما البدر ملتمع الأنوار من كل جانب" (¬2). ذكر العيني تلك الطرق ثم قال كما نقله الأستاذ في "التأنيب" (ص 30): "فهذا الحديث - كما ترى - قد رُوي بطرق مختلفة (بل مختَلَقة) ومتون متباينة ورواة متعدّدة عن النبي عليه الصلاة والسلام. فهذا يدل على ¬

_ (¬1) أخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات" (870 و871) وغيره، وهو متفق على وضعه. (¬2) لا أحب أناقش الأستاذ في هذا، فإنه يعرف حقيقة الحال، والله المستعان. [المؤلف]. أقول: ذكر هذا الكوثري في تعليقه على "لحظ الألحاظ ذيل تذكرة الحفاظ" لابن فهد (ص 334).

أن له أصلًا وإن كان بعض المحدّثين بل أكثرهم ينكرونه، وبعضهم يدّعون أنه موضوع. وربما كان هذا من أثر التعصب. ورواةُ الحديث أكثرهم علماء وهم من خير الأمم فلا يليق بحالهم الاختلاق على النبي عليه الصلاة والسلام ... ". ولا أدري أأقول: هذا مبلغ علم العيني، أم مبلغ تعصّبه؟ وقد سعى الأستاذ في تأييد كلام العيني، وسيأتي الكلام في ذلك في ترجمة محمد بن سعيد البورقي (¬1) إن شاء الله تعالى. والذي تفنن في طرق تلك الفرية هو يونس بن طاهر النضري الملقب شيخ الإِسلام. ومن جملة رواياته ما ذكر الموفق في "مناقبه" (ج 1 ص 16) من طريق النضري بسنده: "رأى أبو حنيفة في المنام ... فارتحل إلى البصرة، فسأل محمد بن سيرين عن هذه الرؤيا، فقال: لستُ بصاحب هذه الرؤيا، صاحب هذه الرؤيا أبو حنيفة. فقال: أنا أبو حنيفة. فقال: اكشف عن ظهرك. فكشف، فرأى بين كتفيه خالًا، فقال له محمد بن سيرين: أنت أبو حنيفة الذي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يخرج في أمتي رجلٌ يقال له أبو حنيفة، بين كتفيه خال، يُحيي الله على يديه السنة". ولا يخفى ما في ذكر الخال بين الكتفين من المضارعة لخاتم النبوة. فالأستاذ - عافانا الله وإياه - يأخذ روايات الحنفية في مناقب أبي حنيفة كأنها مسلَّمة، بل يصرّح بأنها متواترة، ويتجلّد حقّ التجلّد، فيدافع عن أحمد بن محمد بن الصّلْت، كما سيأتي في ترجمته إن شاء الله تعالى (¬2). ¬

_ (¬1) من هذا الكتاب رقم (207). (¬2) رقم (34).

ويطعن في أئمة الدين كأبي إسحاق إبراهيم بن محمد الفزاري، وعبد الله بن الزبير الحميدي، وأضرابهما، كما يأتي في التراجم إن شاء الله تعالى (¬1)؛ مع أن ابن الصّلْت مُجمَع [1/ 21] على تكذيبه، والفزاريّ والحميدي وجماعة من أضرابهما الذين طعن فيهم الأستاذ مُجمَع على أنهم أئمة أثبات. ولا ريب أن في أَتْباع أصحاب الحديث جهّالًا ومغفّلين وفجّارًا، وأنه وقع مِن هؤلاء الكذب؛ ولولا أن الخطيب اجتهد فلم يورد في حكايات الغضّ ما بان له سقوطه لجاء بالعجب العجاب. لكن الجهل في الجانب الآخر أعمّ وأطمّ، لغلبة الجهل بالسنة، وقلة الرواية التي يراقب صاحبها ألسنة النقاد صباح مساء، ويخاف أن يفقد رأس ماله بكلمة واحدة منهم. وكان مقتضى الحكمة اتّباع ما مضى عليه أهل العلم منذ سبعمائة سنة تقريبًا مِن سَدْل الستار على تلك الأحوال، وتقارض الثناء، واقتصار الحنفية في بعض المناسبات على التألُّم من الخطيب بأنه أورد حكايات لا تصح. فيقتصرون على هذا الإجمال ونحوه، ولا يطعنون في الخطيب، ولا في راوٍ بعينه، ويعوضون أنفسهم بالاستكثار من روايات المناقب؛ فإن جاوز بعضهم ذلك، فعلى قدرٍ ومراعاةٍ للجانب الآخر. فليت الأستاذ اكتفى بما يقرب من ذلك، وطوى الثوب على غَرِّه (¬2). فإن أبت نفسُه إلاَّ بعثرة القبور، فليتحرَّ الحق إما تدينًا، وإما علمًا بأن في الناس بقايا، وفي الزوايا خبايا (¬3)! ¬

_ (¬1) رقم (8 و121). (¬2) في (ط): "غرة" وهو خطأ. (¬3) ومنهم من يقول: =

أما أنا فقدَّمتُ بيان مقصودي، ولا شأن لي بما عداه. ولو أُلجئت إلى نقد الروايات من الجانبين لتحريت الحق إن شاء الله تعالى. وذلك بالنظر في أحوال الرواة من الفريقين، فمن وثقه أهل العلم فلا بد من قبوله، ولا يُعدُّ ميلُه إلى أبي حنيفة ولا انحرافُه عنه مسوغًا لاتهامه بالكذب، كما سيأتي في قاعدة التهمة إن شاء الله تعالى. ولا يلزم من ثقته بنفسه توجُّهُ الذمّ ولا تحقُّقُ المدح، لما تقدم في الفصل الثاني (¬1). كما لا يلزم من اتجاه عدم قبول المرويّ سقوطُ رجال السند كلهم، بل ولا سقوطُ المتفرَّد به، وإن كان مَنْ فوقه في السند كلّهم ثقاتٍ أثباتًا؛ لاحتمال الخطأ والغلط والتأويل وغير ذلك، كما يعترف الأستاذ. نعم قد لا يكون مساغ لشيء من ذلك، ويتحقّق البطلان؛ لكن الحكم بمثل هذا يحتاج إلى معرفة بالغة، واطلاع واسع، وصدر غنيّ بالتقوى بعيد عن الهوى. وسترى في التراجم ما ترى إن شاء الله تعالى. **** ¬

_ = فإن تمنعوا عنا السلاحَ فعندنا ... سلاحٌ لنا لا يُشترى بالدراهم جنادلُ أملاءُ الأكفِّ كأنها ... رؤوسُ رجالٍ حُلِّقَتْ بالمواسم [المؤلف]. (¬1) (ص 11 - 12).

5 - فصل

[1/ 22] 5 - فصل الأستاذ من أهل الرأي، ويظهر أنه من غلاة المقلِّدين في فروع الفقه، ومن مقلِّدي المتكلّمين، ومن المجارين لكُتَّاب العصر إلى حدٍّ ما. وكلّ واحدة من هذه الأربع تقتضي قلَّةَ مبالاة بالمرويات، ودربةً على التمحُّل في ردِّها، وجرأةً على مخالفتها واتهام رواتها. أما أهل الرأي، فهذه بدايتهم: في "الصحيح" (¬1) عن أبي هريرة قال: "إنكم تزعمون أن أبا هريرة يُكثر الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والله الموعد. إني كنتُ امرأً مسكينًا أصحَب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على مِلء بطني، وكان المهاجرون يشغلهم الصفَقُ بالأسواق، وكانت الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم ... ". ومَن تتبّع السيرة والسنة علم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان ربما يقضي بالقضية، أو يحدِّث بالحديث، أو يفتي في مسألة، وليس عنده من أصحابه إلا الواحد أو الاثنان. ثم كان معظم أصحابه لا يحدِّثون بالحديث عنه صلى الله عليه وآله وسلم إلّا عندما تدعو الحاجة (¬2)، ومِن لازمِ ما تقدّم مع احتمال نسيان بعضهم، أو موته قبل أن يخبر بالحديث: أن يكون كثير من السنن ينفرد بسماعها أو بحفظها أو بروايتها آحادُ الصحابة. ثم تفرَّق الصحابةُ في الأقطار، فمنهم من هو في باديته، ومنهم مَن صار إلى الشام والعراق ومصر واليمن، فكان عند أهل كلّ جهة أحاديث من السنة لم تكن ¬

_ (¬1) البخاري (7354، 2350، 2047) ومسلم (2492). (¬2) وانظر "الأنوار الكاشفة" (ص 58 وما بعدها) للمؤلف.

عند غيرهم في أول الأمر، كما رُوي عن مالك (¬1)؛ ثم اجتهد أصحاب الحديث في جمع السنة من كلّ وجه. وقد عُلِم من الشريعة أنه ليس على العالم الإحاطة بالعلم كله، وأن مَنْ شهد له أهلُ العلم بأنه عالم، فإنما عليه إذا احتاج إلى قضاء أو فتوى أن ينظر في كتاب الله عزَّ وجلَّ وفيما يعلمه من السنة، فإن لم يجد فيهما النصَّ على تلك المسألة سأل مَن يَسْهُل عليه ممن يرجو أن يكون عنده دليل. فإن لم يجد وعَرَف أن لبعض الصحابة قولًا في تلك المسألة لم يَعْلَم له مخالفًا أخذ به، وإن علم خلافًا رجَّح. فإن لم يجد قول صحابيّ ووجد قول تابعيّ ممن تقدمه لم يعلم له مخالفًا فيه أخذ به، وإن علم خلافًا رجَّح. [1/ 23] وكان الغالب في الترجيح أن يرجِّح العالمُ قولَ مَن كان ببلده من الصحابة أو التابعين، لمزيد معرفته بهم المقتضية لزيادة الوثوق، هذا مع ما للإلف والعادة من الأثر الخفيّ. فإن لم يجد شيئًا مما تقدّم اجتهد رأيه، وقضى وأفتى بما يظهر له. ثم إذا قضى أو أفتى مستنِدًا إلى شيء مما تقدم، ثم وجد دليلًا أقوى مما استند إليه يخالف ما ذهب إليه سابقًا، أخذ من حينئذ بالأقوى. على هذا جرى الخلفاء الراشدون وغيرهم، كما هو مبسوط في مواضعه، ومنها: "إعلام الموقعين" (¬2). ¬

_ (¬1) في قصته مع أبي جعفر المنصور، لما عزم أن يلزم الناس بما في "الموطأ" فقال مالك: "لا تفعل فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل وسمعوا أحاديث ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم وعملوا به ... " إلخ. أخرجه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم": (1/ 532). (¬2) (2/ 153 - 158).

وكان كثير من أهل العلم من الصحابة وغيرهم يتَّقون النظر فيما لم يجدوا فيه نصًّا، وكان منهم من يتوسّع في ذلك. ثم نشأ من أهل العلم ولا سيَّما بالكوفة من توسَّع في ذلك، وتوسّع في النظر في القضايا التي لم تقع، وأخذوا يبحثون في ذلك، ويتناظرون ويصرفون أوقاتهم في ذلك. واتصل بهم جماعة من طلبة العلم تشاغلوا بذلك، ورأوه أشهى لأنفسهم وأيسر عليهم من تتبع الرواة في البلدان، والإمعان في جمع الأحاديث والآثار، ومعرفة أحوال الرواة وعاداتهم والإمعان في ذلك؛ ليعرف الصحيح من السقيم، والصواب من الخطأ، والراجح من المرجوح، ويعرف العام والخاص، والمطلق والمبين وغير ذلك. فوقعوا فيما رُوي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "إياكم والرأي، فإن أصحاب الرأي أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يَعُوها، وتفلّتت منهم أن يحفظوها، فقالوا في الدين برأيهم". راجع "إعلام الموقعين" طبعة مطبعة النيل بمصر (ج 1 ص 62) (¬1)، وراجع "كتاب العلم" (¬2) لابن عبد البر. فوقع فيما ذهبوا إليه وعملوا به وأفتوا مسائلُ ثبتت فيها السنةُ مخالفةً لما ذهبوا إليه، لم يكونوا اطلعوا عليها، فكان الحديث من تلك الأحاديث إذا بلغهم ارتابوا فيه؛ لمخالفته ما ذهب إليه أسلافُهم واستمرَّ عليه عملُهم، ورأوا أنه هو الذي يقتضيه النظر المعقول (القياس). فمِن تلك الأحاديث ما كان من الثبوت والصراحة بحيث قَهَرهم، فلم يجدوا بدًّا من الأخذ به. وكثير منها كانوا يردُّونها، ويتلمَّسون المعاذير، مع أن منها ما هو أثبت وأظهر ¬

_ (¬1) (2/ 102 - دار ابن الجوزي). (¬2) (2/ 1042).

وأقرب إلى القياس من أحاديث قد أخذوا بها. لكن هذه التي أخذوا بها - مع ما فيها من الضعف ومخالفة القياس - وردت عليهم قبل أن يذهبوا إلى خلافها، فقبلوها اتباعًا. وتلك التي ردُّوها مع [1/ 24] قوة ثبوتها إنما بلغتهم بعد أن استقرَّ عندهم خلافُها، واستمروا على العمل بذلك، ومضى عليه أشياخهم. وربما أخذوا بشيء من النقل، ثم بلغهم من السنة ما يخالفه، فأعجزهم أن ينظروا كما ينظر أئمة الحديث لمعرفة الصحيح من السقيم، والخطأ من الصواب، والراجح من المرجوح؛ فقنعوا بالرأي، كما ترى أمثلة لذلك في قسم الفقهيات، ولا سيَّما في مسألة ما تقطع فيه يد السارق (¬1). وهذا ديدنهم، وعليه يعتمد الطحاوي وغيره منهم. ولهذا بينما تجد الحنفية يتبجَّحون بأن مذهب أبي حنيفة وسائر فقهاء العراق تقديم الحديث الضعيف على القياس - وقد ذكر الأستاذ ذلك في "التأنيب" (ص 161) - إذا بهم يردُّون كثيرًا من الأحاديث الصحيحة, لمخالفتها آراءَ سلفهم، وآراءَهم التي أخذوا بها. وقد كان الشافعي ينعى عليهم ذلك. ومن كلامه كما في "سنن البيهقي" (ج 1 ص 148): "والذي يزعم أن عليه الوضوء في القهقهة يزعم أن القياس أن لا ينتقض، ولكنه يتبع الآثار. فلو كان يتبع منها الصحيح المعروف كان بذلك عندنا حميدًا، ولكنه يردّ منها الصحيح الموصول المعروف، ويقبل الضعيف المنقطع". فالحنفية يعرفون شناعة ردِّ السنة بالرأي، ولكنهم يتلمَّسون المعاذير، فيحاولون استنباط أصول يمكنهم إذا تشبثوا بها أن يعتذروا عن الأحاديث ¬

_ (¬1) (2/ 156 - 238).

التي ردُّوها بعذر سوى مخالفة القياس، وسوى الجمود على اتباع أشياخهم. ولكن تلك الأصول مع ضعفها لا تطَّرد لهم؛ لأن أشياخهم قد أخذوا بما يخالفها؛ ولهذا يكثر تناقضهم. وفي مناظرات الشافعي لهم كثير من بيان تناقضهم، بل من تدبَّر ما كتبوه في أصول الفقه بأن له كثير من التناقض. كما ترى المتأخر منهم يخالف المتقدم حتى إن الأستاذ الكوثري ذكر في "التأنيب" (ص 152 - 153) عدة أصول لمحاربة السنن الثابتة، ومنها ما خالف فيه مَن تقدَّمه منهم. ولما تعقبته في "الطليعة" (ص 102) (¬1) في قوله: "عنعنة قتادة متكلم فيها" بأن ذلك الحديث في "صحيح البخاري" (¬2) وفيه: "حدثنا قتادة حدثنا أنس ... "، وفي "مسند أحمد" (¬3) وفيه: "أنا قتادة أن أنسًا أخبره ... " أجاب في "الترحيب" (ص 49) بقوله: "مِنْ مذهب أبي حنيفة أيضًا كما يقول ابن رجب في "شرح علل الترمذي" ردُّ الزائد [1/ 25] إلى الناقص في الحديث متنًا وسندًا. وهذا احتياط بالغ في دين الله ... فهل عرفت الآن يا معلِّمي مذهب الإِمام لتقلع عن نسج الأوهام؟ ". هذا، والأستاذ يعلم أولًا: أن النسبة إلى أبي حنيفة لا يكفي في إثباتها قول رجل حنبليّ بينه وبين أبي حنيفة عدة قرون! ويعلم ثانيًا: ما في كتب مذهبه مما يخالف هذا. ويعلم ثالثًا: أن قول الراوي: "قتادة عن أنس"، وقوله مرة أخرى أو قول ¬

_ (¬1) (ص 80). (¬2) (6884). (¬3) (13840).

غيره: " قتادة حدثنا أنس"، ومرة أخرى: "قتادة أن أنسًا أخبره" ليس من باب النقص والزيادة، وإنما هو من باب المحتمل والمعيَّن، أو المجمل والمبيَّن. ويعلم رابعًا: أن من أصل الحنفية الاحتجاج بالمنقطع، فما لم يتبين انقطاعه بل هو متردّد بين الاتصال والانقطاع أولى، فإذا ثبت مع ذلك اتصاله من وجه آخر فآكد. ويعلم خامسًا: أنه لا ينبغي له أن يدافع عن نفسه بإلقاء التُّهَم على إمامه. فأما الاحتياط البالغ في دين الله الذي يموِّه به الأستاذ، فالتحرِّي (¬1) البالغ الذي سبق ما فيه في الفصل الثالث، فلا نعيده. هذا، وحديث الرّضْخ سيأتي بسط الكلام فيه في الفقهيات إن شاء الله تعالى (¬2). والمقصود هنا أن أصحاب الرأي لهم عادة ودُرْبة في دفع الروايات الصحيحة, ومحاولة القدح في بعض الرواة، حتى لم يسلم منهم الصحابة رضي الله عنهم؛ على أن الأستاذ لم يقتصر على كلام أسلافه وما يقرب منه، بل أربى عليهم جميعًا، كما تراه في "الطليعة" (¬3) ويأتي بقيته في التراجم إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) كذا في (ط) ولعلها: "فكالتحرِّي .. " يعني: أن ما زعمه الأستاذ هنا من الاحتياط البالغ فهو مثل التحرَّي المزعوم الذي سبق كشفه، وبيان أن نتيجته ردّ السنة. انظر (ص 22 - 23). (¬2) (2/ 147 وما بعدها). وتقدم تخريجه. (¬3) (ص).

وأما غلاة المقلّدين، فأمرهم ظاهر. وذلك أن المتبوع قد لا تبلغه السنة، وقد يغفل عن الدليل أو الدلالة، وقد يسهو أو يخطئ أو يزلّ، فيقع في قول تجيء الأحاديث بخلافه، فيحتاج مقلِّدوه إلى دفعها والتمحّل في ردها. ولو اقتصر الأستاذ على نحو ما عُرِف عنهم لهان الخطب، ولكنه يعدُّ غلوّهم تقصيرًا! وأما المتكلِّمون، فأول مَن بلغنا أنه خاض في ذلك عمرو بن عبيد. ذُكر له حديث يخالف [1/ 26] هواه، رواه الأعمش، عن زيد بن وهب، عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال عمرو: "لو سمعت الأعمش يقول هذا لكذَّبته، ولو سمعته من زيد بن وهب لما صدَّقته، ولو سمعت ابن مسعود يقوله لما قبلته، ولو سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول هذا لرددته، ولو سمعت الله عزَّ وجلَّ يقول هذا لقلت: ليس على هذا أخذتَ ميثاقنا" (¬1). وتعدّى إلى القرآن، فقال في: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1]، وقوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدثر: 11]: "لم يكونا في اللوح المحفوظ" (¬2). كأنه يريد أن الله تبارك وتعالى لم يكن يعلم بما سيكون من أبي لهب ومن الوحيد. ثم كان في القرن الثاني جماعة ممن عُرف بسوء السيرة، والجهل بالسنة، ورقة الدين، كثمامة بن أشرس، والنظَّام، والجاحظ؛ خاضوا في ¬

_ (¬1) أخرجه الخطيب في "تاريخ بغداد": (12/ 170) في ترجمته. (¬2) أخرجه الخطيب في "تاريخ بغداد": (12/ 170).

ذلك كما أشار إليه ابن قتيبة (¬1) وغيره. وجماعة آخرون كانوا يتعاطون الرأي والكلام يردُّون الأخبار كلَّها. وآخرون يردُّون أخبار الآحاد أي ما دون المتواتر، كسر الله تعالى شوكتهم بالشافعي، حتى إن شيوخه ومن في طبقتهم من الأكابر كيحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي انتفعوا بكتبه. قال الشافعي في "الأم" (ج 7 ص 250) (¬2): "باب حكاية قول الطائفة التي ردَّت الأخبار كلها"، ثم ذكر مناظرته لهم. ثم قال بعد ذلك: "باب حكاية قول من رد خبر الخاصة"، فذكر كلامه معهم. وبسط الكلام في ذلك في "الرسالة"، وفي "كتاب اختلاف الحديث". ثم كانت المحنة (¬3) وويلاتها. وكان دعاتها لا يجرؤون على ردِّ الحديث، وسيأتي في ترجمة علي بن عبد الله ابن المديني (¬4) بعض ما يتعلّق بذلك. ثم جاء محمد بن شجاع بن الثلجي فلم يجرؤ على الردّ، وإنما لفَّق ما حاول به إسقاط حماد بن سلمة - كما يأتي في ترجمة حماد (¬5) إن شاء الله تعالى - وجمع كتابًا تكلَّف فيه تأويل الأحاديث، وتَبِعه من الأشعرية ابنُ فُورَك في كتابه المطبوع (¬6). ثم اشتهر بين المتكلمين أن النصوص الشرعية من الكتاب والسنة لا تصلح حجة في صفات الله عزَّ وجلَّ ونحوها ¬

_ (¬1) في "تأويل مختلف الحديث" (ص 61 وما بعدها). (¬2) (9/ 5 - 19). (¬3) يعني محنة القول بخلق القرآن. (¬4) في هذا الكتاب رقم (163). (¬5) رقم (85). (¬6) يعني كتابه "مشكل الحديث وبيانه".

من الاعتقاديات، وصرَّحوا بذلك في كتب الكلام والعقائد كـ "المواقف" و"شرحها". والأمر أشدُّ من ذلك، كما يأتي في الاعتقاديات (¬1) إن شاء الله تعالى. والأستاذ يدين بالكلام ويتشدّد. ومع هذا كله، فغالب أصحاب الرأي وغلاة المقلدين وأكثر المتكلمين لم يُقدِموا على [1/ 27] اتهام الرواة الذين وثَّقهم أهلُ الحديث، وإنما يحملون على الخطأ والغلط والتأويل، وذلك معروف في كتب أصحاب الرأي والمقلدين. أما الأستاذ، فبرَّز على هؤلاء جميعًا! وأما كُتَّاب العصر، فإنهم مقتدون بكُتَّاب الإفرنج الذين يتعاطون النظر في الإِسلاميات ونحوها، وهم مع ما في نفوسهم من الهوى والعداء للإسلام إنما يعرفون الدواعي إلى الكذب، ولا يعرفون معظم الموانع منه (¬2). فمن الموانع: التديُّن والخوف من رب العالمين الذي بيده ملكوت الدنيا والآخرة، وقد قال سبحانه: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} [النحل: 105]. وفي "الصحيح" (¬3) عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "علامة المنافق ثلاث، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم: إذا حدَّث كذَب، وإذا اؤتُمِن خان، وإذا وعد أخلَفَ". وإخلاف الوعد أغلب ما يكون ¬

_ (¬1) (2/ 411 وما بعدها). (¬2) وانظر "الأنوار الكاشفة" (ص 397 - 399) للمؤلف. (¬3) أخرجه مسلم رقم (59) بنحوه من حديث أبي هريرة، وروي بألفاظ أخرى في الصحيحين وغيرهما.

إذا كان الوعد كذبًا، والخيانة تعتمد الكذب كما لا يخفى. وقال أبو بكر الصديق: "الكذب مجانب للإيمان" (¬1). فأما توهُم حِلّ الكذب في مصلحة الدين، فلا يكون إلا من أجهل الناس وأشدّهم غفلة؛ لأن حَظْر الكذب مطلقًا هو من أظهر الأحكام الشرعية. وأولئك الكُتَّاب لا يعرفون هذا المانع, لأنهم لا يجدونه في أنفسهم، ولا يجدون فيمن يخالطونه مَن تقهرهم سيرتُه على اعتقاد اتصافه بهذا المانع؛ لضعف الإيمان في غالب الناس ورقَّة التديُّن. ولا يعرفون من أحوال سلف المسلمين ما يقهرهم على العلم باتصافهم بذلك المانع, لأنهم إنما يطالعون التواريخ وكتب الأدب كـ "الأغاني" ونحوها. وهذه الكتب يكثر فيها الكذب والحكايات الفاجرة، كان فَجَرةُ الأخباريين يضعون تلك الحكايات لأغراض منها: دفع الملامة عن أنفسهم. يقولون: ليس هذا العيب خاصًّا بنا، بل كان مَن قبلنا كذلك حتى المشهورون بالفضل. ومنها: ترويج الفجور والدعاية إليه، ليكثر أهلُه، فيجد الداعي مساعدين عليه؛ ويقوى عذرُه. ومنها: ترغيب الأمراء والأغنياء في الفجور، وتشجيعهم عليه ليجد الدعاة المتأدِّبون مراعي خصبة يتمتّعون فيها بلذّاتهم وشهواتهم. ومنها: التقرُّب إلى الأمراء والأغنياء بالحكايات الفاجرة التي يلذّ لهم سماعُها، إلى غير ذلك. وما يوجد في تلك [1/ 28] الكتب من الصدق إنما يصوِّر طائفةً مخصوصة كالأمراء المترفين، والشعراء والأدباء ونحوهم. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "المسند" (16)، ووكيع في "الزهد" (399) وغيرهما. وهو صحيح.

ولو عكف أولئك الكُتَّاب على كتب السنة ورجالها وأخبارهم، لعلموا أن هذه الطائفة - وهي طائفة أصحاب الحديث - كان ذلك المانع غالبًا فيهم. وقد احتجّ بعضُهم بما في "الأغاني" في أخبار عُمر بن أبي ربيعة من طريق عبد العزيز بن أبي ثابت (وهو عبد العزيز بن عمران) عن محمد بن عبد العزيز، عن ابن أبي نهشل، عن أبيه قال: قال لي أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام .... ولو راجع تراجم هؤلاء في كتب رجال الحديث، وفكَّر في أحوالهم وفي حال القصة، لعَلِم بطلان القصة حتمًا. ومن الموانع: خوف الضرر الدنيوي. وأولئك الكُتَّاب يعرفون شطر (¬1) هذا المانع، وهو الضرر المادي؛ فإنهم يعلمون أن أرباب المصانع والمتاجر الكبيرة يتجنَّبون الخيانةَ والكذبَ في المعاملات خوفًا من أن يسقط اعتماد المعاملين عليهم، فيعدلوا إلى معاملة غيرهم. بل أصحاب المصانع والمتاجر الصغيرة يجرون على ذلك غالبًا، وإلا لكانت الخصومات مستمرة في الأسواق، بل لعلها تتعطل الأسواق؛ فليتدبر القارئ ذلك. فأما الشطر المعنويّ فإن أولئك الكُتَّاب لا يقدرون قدره. فأقول: كان العرب يحبون الشرف، ويرون أن الكذب من أفحش العيوب المسقطة للرجل. وفي أوائل "صحيح البخاري" (¬2) في قصة أبي سفيان بن حرب أن هرقل لما جاءه كتاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم دعا بمن كان بالشام من تجّار قريش، ¬

_ (¬1) (ط): "شرط" تحريف. (¬2) (7).

فأُتي بأبي سفيان ورهطٍ معه. قال: "ثم دعاهم ودعا ترجمانه فقال: أيكم أقرب نسبًا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ قال أبو سفيان: قلت: أنا أقربهم نسبًا. قال أدنُوه مني، وقرِّبوا أصحابه، فاجعلوهم عند ظهره. ثم قال لترجمانه: قل لهم: إني سائل هذا عن هذا الرجل، فإن كذَبني فكذِّبوه. قال: فوالله لولا الحياء من أن يأثُروا عليَّ كذبًا لكذبتُ عليه". قال ابن حجر في "فتح الباري" (¬1): "وفي قوله: "يأثروا" دون قوله "يكذبوا" دليل على أنه كان واثقًا منهم بعدم التكذيب أن لو كَذَب؛ لاشتراكهم معه في عداوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لكنه ترك ذلك استحياءً وأنَفَةً من أن يتحدّثوا بعد أن يرجعوا، فيصير عند سامعي ذلك كذابًا. وفي رواية ابن إسحاق التصريحُ بذلك". أقول: وهذا هو الذي أراده هرقل. ثم جاء [1/ 29] الإِسلام، فشدَّد في تقبيح الكذب جدًّا حتى قال الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} [النحل: 105]. ورُوي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن رجلًا كذب عليه، فبعث عليًّا والزبير، وقال: "اذهبا، فإن أدركتماه فاقتلاه" (¬2). ¬

_ (¬1) (1/ 35). (¬2) بهذا اللفظ أخرجه عبد الرزاق في "المصنف": (5/ 308) عن معمر عن رجل عن سعيد بن جبير مرسلًا، وفي إسناده رجل لم يسمّه. وأخرجه بنحوه الطبراني في "طرق حديث من كذب عليّ" (178) وابن الجوزي في "الموضوعات" (44) عن عطاء بن السائب عن عبد الله بن الحارث. وروي بألفاظ وطرق أخرى كلها ضعيفة. قال الذهبي: "لم يصح بوجه". وأخرجه ابن شاهين في "الناسخ والمنسوخ" (550)، وابن عدي في "الكامل": (4/ 53 - 54) وابن الجوزي في "الموضوعات" (41، =

وتوهَّم رجل من صغار الصحابة أمرًا، فأخبر بما توهّمه وما يقتضيه، ففضحه الله عزَّ وجلَّ إلى يوم القيامة، إذ أنزل فيه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} (¬1) [الحجرات: 6]. ثم كان الصحابيُّ يرى من إكرام التابعين له وتوقيرهم وتبجيلهم ما لا يخفى أثره على النفس، ويعلم أنه إن بان لهم منه أنه كذب كذبة سقط من عيونهم، ومقتوه، واتهموه بأنه لم يكن مؤمنًا، وإنما كان منافقًا. وقد كان بين الصحابة ما ظهر واشتهر من الاختلاف والقتال، ودام ذلك زمانًا، ولم يبلغنا عن أحد منهم أنه رمى مخالفه بالكذب في الحديث. وكان التابعون إذا سمعوا حديثًا من صحابي سألوا عنه غيره من الصحابة، ولم يبلغنا أن أحدًا منهم كذَّب صاحبه، غاية الأمر أنه قد يخطِّئه. وكان المهلَّب بن أبي صُفرة في محاربته الأزارقة يعمل بما رُخِّص فيه للمحارب من التورية الموهمة، فعاب الناس عليه ذلك حتى قيل فيه: أنت الفتى كلُّ الفتى ... لو كنتَ تصدق ما تقولُ (¬2) ثم كان الرجل من أصحاب الحديث يرشَّح لطلب الحديث وهو طفل، ¬

_ = 42) من طريقهما من حديث بريدة مرفوعًا في سياق أطول. وفي سنده صالح بن حيان وهو ضعيف. (¬1) وهي قصة الوليد بن عقبة لما أرسله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الحارث الخزاعي لأخذ الزكاة، أخرجه أحمد (18459)، والطبراني في "الكبير" (3395) وغيرهما، وفي سنده كلام، وله شواهد يعتضد بها. وانظر حاشية المسند (30/ 405). (¬2) انظر "الكامل" (1249). والبيت لزياد الأعجم. انظر "الشعر والشعراء" (443).

ثم ينشأ دائبًا في الطلب والحفظ والجمع ليلًا ونهارًا، ويرتحل في طلبه إلى أقاصي البلدان، ويقاسي المشاقَّ الشديدة، كما هو معروف في أخبارهم، ويصرف في ذلك زهرة عمره إلى نحو ثلاثين أو أربعين سنة؛ وتكون أمنيته الوحيدة من الدنيا أن يقصده أصحاب الحديث، ويسمعوا منه، ويرووا عنه. وفي "تهذيب التهذيب" (ج 11 ص 183): "قال عبد الله بن محمود المروزي: سمعت يحيى بن أكثم يقول: [1/ 30] "كنت قاضيًا وأميرًا ووزيرًا، ما ولج سمعي أحلى من قول المستملي (¬1): مَنْ ذَكَرت؟ رضي الله عنك". وفيه (ج 6 ص 314): "روي عن عبد الرزاق أنه قال: حججت، فمكثت ثلاثة أيام لا يجيئني أصحاب الحديث، فتعلّقت بالكعبة وقلت: يا ربِّ ما لي؟ أكذاب أنا؟ أمدلس أنا؟ فرجعت إلى البيت فجاؤوني". وقد عَلِم طالب الحديث في أيام طلبه تشدُّدَ علماء الحديث وتعنُّتهم، وشدة فحصهم وتدقيقهم، حتى إن جماعة من أصحاب الحديث ذهبوا إلى شيخ ليسمعوا منه، فوجدوه خارج بيته يتبع بغلة له قد انفلتت، يحاول إمساكها، وبيده مخلاة يُريها البغلةَ، ويدعوها لعلها تستقر فيمسكها. فلاحظوا أن المخلاة فارغة، فتركوا الشيخ وذهبوا، وقالوا: إنه كذاب. كذب على البغلة بإيهامها أن في المخلاة شعيرًا، والواقع أنه ليس فيها شيء (¬2). ¬

_ (¬1) كان إذا كثر الجمع عند المحدث يقوم رجل صيِّت يسمع إملاء الشيخ الحديث، ويستفهمه فيما يخفى، ثم يعيد ذلك بصوت عال ليسمعه الحاضرون. فهذا الرجل يقال له "المستملي". [المؤلف]. (¬2) ذكرها المؤلف أيضًا في "الأنوار الكاشفة" (ص 112) بنحوها.

وفي "تهذيب التهذيب" (ج 11 ص 284): "وقال هارون بن معروف: قدم علينا بعض الشيوخ من الشام، فكنت أول من بَكَّر عليه، فسألته أن يملي عليَّ شيئًا، فأخذ الكتاب يملي؛ فإذا بإنسان يدق الباب، فقال الشيخ: من هذا؟ ... فإذا بآخر يدق الباب، قال الشيخ: من هذا؟ قال: يحيى بن معين. فرأيت الشيخ ارتعدت يده، ثم سقط الكتاب من يده. وقال جعفر الطيالسي عن يحيى بن معين: "قدم علينا عبد الوهاب بن عطاء، فكتب إلى أهل البصرة: وقدمتُ بغداد، وقَبِلني يحيى بن معين، والحمد لله". فمن تدبَّر أحوال القوم بان له أنه ليس العجب ممن تحرَّز عن الكذب منهم طول عمره، وإنما العجب ممن اجترأ على الكذب. كما أنه من تدبّر كثرة ما عندهم من الرواية, وكثرة ما يقع من الالتباس والاشتباه؛ وتدبَّر تعنُّت أئمة الحديث، بان له أنه ليس العجب ممن جرحوه، بل العجب ممن وثقوه. ومن العجب أن أولئك الكُتَّاب يلاحظون الموانع في عصرهم هذا بل في وقائعهم اليومية، فيعلمون من بعض أصحابهم أنه صدوق، فيثقون بخبره، ولو كان مخالفًا لبعض ما يظهر لهم من القرائن (¬1)، بحيث لو كان المدار على القرائن، لكان الراجح خلاف ما في الخبر؛ ويعرفون آخر بأنه لا يتحرّز عن الكذب، فيرتابون في خبره، ولو ساعدته قرائن لا تكفي وحدها لحصول الظن [1/ 31] وهكذا يصنعون في أخبار مكاتبي الصحف وفي الصحف أنفسها، فمن الصحف ما تعوَّد الناس منها أنها لا تكاد تنقل إلا الأخبار الصحيحة, فيميلون إلى الوثوق بما يقع فيها وإن خالف القرائن، ¬

_ (¬1) (ط): "القرآن" خطأ.

وفيها ما هو على خلاف ذلك. وبالجملة فلا يرتاب عاقل أن غالب مصالح الدنيا قائمة على الأخبار الظنية، ولو التزم الناس أن لا يعملوا بخبر مَن عرفوا أنه صدوق، حتى توجد قرائن تغني في حصول الظن عن خبره، لاستغنوا عن الأخبار، بل لفسدت مصالح الدنيا. ولست أجهل ولا أجحد ما في طريقة الكُتَّاب من الحقّ، ولكنني أقول: ينبغي للعاقل أن يفكر في الآراء التي يتظنَّاها العقلاء في عصرهم نفسه بناء على العلامات والقرائن، أليس يكثر فيها الخطأ؟ هذا مع تيسر معرفتهم بعصرهم، وطباع أهله وأغراضهم، وسهولة الاطلاع على العلامات والقرائن؛ فما أكثر ما يقع لأحدنا كل يوم من الخطأ يتراءى أن القرائن والأمارات تقتضي وقوع الأمر ثم لا يقع، وتقتضي أن لا يقع ثم يقع! فما بالك بالأمور التي مضت عليها قرون، ولا سيَّما إذا لم يتهيّأ للناظر تتبُّع ما يمكن معرفته من القرائن والأمارات، ولم يلاحظ الموانع؛ فأما إذا كان له هوى فالأمر أوضح. والناظر إنما يشتدّ حرصه على الإصابة في القضايا العصرية، لأنه يخشى انكشاف الحال فيها على خلاف ما زعم، فأما التي مضت عليها قرون، والباحثون عنها قليل، فإنه لا يبالي، اللهم إلا أن يكون متدينًا محترسًا من الهوى. على أن الأستاذ لم يخلص لطريقة الكُتَّاب، بل كثيرًا ما يرمي بالقرائن القوية والدلالات الواضحة خلف ظهره، ويحاول اصطناع خلافها وسدَّ الفراغ بالتهويل والمغالطة، كما سترى أمثلة من ذلك في هذا الكتاب، وأسأل الله لي وله التوفيق.

القسم الأول في القواعد

القسم الأول في القواعد

1 - رمي الراوي بالكذب في غير الحديث النبوي

1 - رمي الراوي بالكذب في غير الحديث النبوي تقدم في الفصل الثالث (¬1) قول مالك: "لا تأخذ العلم من أربعة، وخذ ممن سوى ذلك: لا تأخذ عن [سفيه] مُعْلن بالسَّفَه وإن كان أروى الناس. ولا تأخذ عن كذّاب يكذب في حديث الناس إذا جُرِّب عليه ذلك، وإن كان لا يتهم أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ... ". أسنده الخطيب في "الكفاية" (ص 116) إلى مالك كما تقدم، ثم قال (ص 117): "باب في أن الكاذب في غيرِ حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تُرَدُّ روايته - قد ذكرنا آنفًا قولَ مالك بن أنس. ويجب أن يقبل حديثه إذا ثبتت (¬2) توبته". ولم يذكر ما يخالف مقالة مالك. وأسند (ص 23 - 24) إلى الشافعي: " ... ولا تقوم الحجة بخبر الخاصة حتى يجمع أمورًا، منها: أن يكون من حدَّثَ به ثقةً في دينه معروفًا بالصدق في حديثه ... ". وهذه العبارة ثابتة في "رسالة الشافعي" (¬3). وفي "لسان الميزان" (ج 1 ص 469) (¬4): "قال ابن أبي حاتم عن أبيه أن يحيى بن المغيرة سأل جريرًا (ابن عبد الحميد) عن أخيه أنس فقال: قد سمع من هشام بن عروة، ولكنه يكذب في حديث الناس، فلا يُكْتَب عنه". ¬

_ (¬1) (ص 26). (¬2) (ط): "ثبت" والمثبت من الكفاية. (¬3) (ص 370). (¬4) (2/ 223). وهو في "الجرح والتعديل": (2/ 289 - 290).

وفي "النخبة وشرحها" (¬1): " (ثم الطعن) يكون بعشرة أشياء ... ترتيبها على الأشدّ فالأشدّ في موجِب الردّ على سبيل التدلِّي ... (إما أن يكون بكذب الراوي) في الحديث النبويّ ... متعمِّدًا لذلك (أو تُهْمتِه بذلك) بأن لا يُروى ذلك الحديث إلا من جهته، ويكون مخالفًا للقواعد المعلومة. وكذا مَن عُرِف بالكذب في كلامه وإن لم يظهر منه وقوع ذلك في الحديث [1/ 33] النبوي، وهو (¬2) دون الأول. (أو فحش غلطه) أي: كثرته (أو غفلته) عن الإتقان (أو فسقه) ... (أو وهمه) بأن يروي على سبيل التوهّم (أو مخالفته) أي الثقات (¬3) (أو جهالته) ... (أو بدعته) ... (أو سوء حفظه) ... ". هذه النقول تعطي أن الكذب في الكلام تُرَدُّ به الرواية مطلقًا، وذلك يشمل الكذبة الواحدة التي لا يترتّب عليها ضرر ولا مفسدة. وقد ساق صاحب "الزواجر" الأحاديث في التشديد في الكذب ثم قال (ج 2 ص 169): "عَدُّ هذا هو ما صرحوا به. قيل: لكنه مع الضرر، ليس كبيرة مطلقًا، بل قد يكون كبيرة كالكذب على الأنبياء، وقد لا يكون - انتهى -. وفيه نظر بل الذي يتجه أنه حيث اشتدّ ضررُه بأن لا يحتمل عادة كان كبيرة. بل صرَّح الروياني في "البحر" بأنه كبيرة وإن لم يضر، فقال: مَن كذب قصدًا رُدّت شهادته وإن لم يضر بغيره, لأن الكذب حرام بكل حال؛ وروى فيه حديثًا. وظاهر الأحاديث السابقة أو صريحها يوافقه، وكأن وجه عُدولهم عن ذلك ابتلاء أكثر الناس به، فكان كالغيبة على ما مرَّ فيها عند جماعة". ¬

_ (¬1) (ص 87 - 89 - ط. العتر). (¬2) في "النزهة": "وهذا". (¬3) في "النزهة": "للثقات".

أقول: لا يلزم من التسامح في الشاهد أن يُتسامح في الراوي لوجوه: الأول: أن الرواية أقرب إلى حديث الناس من الشهادة، فإن الشهادة تترتب على خصومة، ويحتاج الشاهد إلى حضور مجلس الحكم، ويأتي باللفظ الخاص الذي لا يحتاج إليه في حديث الناس، ويتعرَّض للجرح فورًا. فمن جُرِّبت عليه كذبة في حديث الناس لا يترتب عليها ضرر، فخوفُ أن يجرَّه تساهلُه في ذلك إلى التساهل في الرواية أشدُّ من خوف أن يجرَّه إلى شهادة الزور. الثاني: أن عماد الرواية الصدق، ومعقول أن يشدَّد فيها فيما يتعلق به ما لم يشدَّد في الشهادة. وقد خُفِّف في الرواية في غير ذلك ما لم يخفَّف في الشهادة. تقومُ الحجةُ بخبر الثقة ولو واحدًا أو عبدًا أو امرأةً أو جالبَ منفعةٍ إلى نفسه أو أصله أو فرعه، أو ضررٍ على عدوّه - كما يأتي - بخلاف الشهادة. فلا يليق بعد ذلك أن يخفَّف في الرواية فيما يمسُّ عمادَها. الثالث: أن الضرر الذي يترتب على الكذب في الرواية أشدُّ جدًّا من الضرر الذي [1/ 34] يترتّب على شهادة الزور، فينبغي أن يكون الاحتياط للرواية آكد. وقد أجاز الحنفية قبول شهادة الفاسق دون روايته. والتخفيف في الرواية بما تقدّم من قيام الحجة بخبر الرجل الواحد وغير ذلك لا ينافي كونها أولى بالاحتياط؛ لأن لذلك التخفيف حِكمًا أخرى، بل ذلك يقتضي أن لا يخفف فيها فيما عدا ذلك، فتزداد تخفيفًا على تخفيف. الرابع: أن الرواية يختص لها قوم محصورون ينشؤون على العلم والدين والتحرُّز عن الكذب، والشهادة يحتاج فيها إلى جميع الناس؛ لأن

المعاملات والحوادث التي يحتاج إلى الشهادة عليها تتفق لكل أحد، ولا يحضرها غالبًا إلا أوساط الناس وعامتهم الذين ينشؤون على التساهل. فمعقولٌ أنه لو رُدَّت شهادةُ كلَّ من جُرِّبت عليه كذبة لضاعت حقوق كثيرة جدًّا، ولا كذلك الرواية. نعم الفلتة والهفوة التي لا ضرر فيها ويعقبها الندم، وما يقع من الإنسان في أوائل عمره ثم يقلع عنه ويتوب منه، وما يدفع به ضرر شديد ولا ضرر فيه، وصاحبه مع ذلك مستوحش منه = ربما يُغتفر. والله أعلم. فأما الكذب في رواية ما يتعلق بالدين ولو غير الحديث النبوي، فلا خفاء في سقوط صاحبه؛ فإن الكذب في روايةِ أثرٍ عن صحابي قد يترتب عليه أن يحتج بذلك الأثر من يرى قول الصحابي حجة، ويحتج هو وغيره به على أن مثل ذلك القول ليس خرقًا للإجماع، ويستند إليه في فهم الكتاب والسنة، ويردّ به بعض أهل العلم حديثًا رواه ذاك الصحابي يخالفه ذلك القول. ويأتي نحو ذلك في الكذب في رواية قولٍ عن التابعي، أو عالم ممن بعده، وأقلُّ ما في ذلك أن يقلّده العامي. وهكذا الكذب في روايةِ تعديلٍ لبعض الرواة، فإنه يترتب عليه قبول أخبار ذلك الراوي، وقد يكون فيها أحاديث كثيرة، فيترتب على هذا من الفساد أكثر مما يترتب على كذب في حديث واحد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وكذلك الكذب في رواية الجرح، فقد يترتب عليها إسقاط أحاديث كثيرة صحيحة، وذلك أشد من الكذب في حديث واحد. وهكذا الإخبار عن الرجل بما يقتضي جرحه. وهكذا الكذب في الجرح والتعديل كقوله: "هو ثقة"، "هو ضعيف".

تنبيه

فالكذب في هذه الأبواب في معنى الكذب في الحديث [1/ 35] النبوي أو قريب منه، وتترتب عليه مضارُّ شديدة ومفاسد عظيمة. فلا يتوهّم محلٌّ للتسامح فيه، على فرض أن بعضهم تسامح في بعض ما يقع [في] حديث الناس. فالأستاذ يرمي بعض أئمة السنة فمَن دونهم مِن ثقات الرواة بتعمّد الكذب في الرواية وفي الجرح والتعديل كذبًا يترتب عليه الضرر الشديد والفساد الكبير، ثم يزعم أنه إنما يقدح بذلك فيما لا يقبله هو منهم، فأما ما عداه فإنهم يكونون فيه مقبولين، كذا يقول (¬1)! وكأنه يقول: وإذا لزم أن يسقطوا البتة فليسقطوا جميعًا. وليت شعري مَن الذي يعادي أبا حنيفة؟ أمن يقتضي صنيعه أنه لا يمكن الذبُّ عنه إلا بمثل هذا الباطل، أم مَن يقول: يمكن المتحرِّي للحق أن يذبَّ عنه بدون ذلك؟ تنبيه: ليس من الكذب ما يكون الخبر ظاهرًا في خلاف الواقع، محتملًا للواقع احتمالًا قريبًا، وهناك قرينة تدافع ذاك الظهور، بحيث إذا تدبر السامعُ صار الخبر عنده محتملًا للمعنيين على السواء، كالمجمل الذي له ظاهر ووقت العمل به لم يجئ، وكالكلام المرخَّص به في الحرب، وكالتدليس، فإن المعروف بالتدليس لا يبقى قوله: "قال فلان" - ويسمي شيخًا له - ظاهرًا في الاتصال بل يكون محتملًا، وهكذا من عُرِف بالمزاح إذا مَزَح بكلمة يعرف الحاضرون أنه لم يُرِدْ بها ظاهرها، وإن كان فيهم من لا يعرف ذلك، ¬

_ (¬1) وسيأتي ما فيه في القاعدة الآتية. [المؤلف].

إذا كان المقصود ملاطفته أو تأديبه على أن ينبَّه في المجلس. وهكذا فلتات الغضب، وكلمات التنفير عن الغلو - وقد مرت الإشارة إليها في الفصل الثاني (¬1) -، على فرض أنه وقع فيها ما يظهر منه خلاف الواقع. وقد بسطت هذه الأمور وما يشبهها في "رسالتي في أحكام الكذب" (¬2). فأما الخطأ والغلط، فمعلوم أنه لا يضرُّ وإن وقع في رواية الحديث النبوي، فإذا كثر وفحش من الراوي قدَحَ في ضبطه ولم يقدح في صدقه وعدالته. والله الموفق. **** ¬

_ (¬1) (ص 16 وما بعدها). (¬2) واسمها "إرشاد العامه إلى الكذب وأحكامه" انظرها في "مجموع رسائل أصول الفقه" ضمن هذه الموسوعة.

2 - التهمة بالكذب

[1/ 36] 2 - التهمة بالكذب تقدم (¬1) أن أشدَّ موجبات ردِّ الراوي: كذبُه في الحديث النبوي، ثم تهمته بذلك، وفي درجتها كذبه في غير الحديث النبوي. فإذا كان في الرواية والجرح والتعديل بحيث يترتب عليه من الفساد نحوُ ما يترتب على الكذب في الحديث النبوي فهو في الدرجة الأولى، فالتهمة به في الدرجة الثانية أو الثالثة. وقد ذكر علماء الحديث بعد درجة الكذب في الحديث النبوي ودرجة التهمة به درجتين بل درجات، ونصوا على أن مَن كان مِن أهل درجة من الأربع الأولى فهو ساقط البتة في جميع رواياته، سواء منها ما طُعِن فيه بسببه وغيره. والأستاذ يطعن في جماعة من أئمة السنة والموثَّقين من رواتها، فيرمي بعضهم بتعمّد الكذب، وبعضهم بالتهمة بذلك، ويجمع لبعضهم الأمرين: يكذِّب أحدَهم في خبر، ويتهمه في آخر؛ ويجزم بأنهم متهمون في كلِّ ما يتعلق بالغضّ من أبي حنيفة وأصحابه، ولو على بعد بعيد، كما يأتي في ترجمة أحمد بن إبراهيم (¬2)؛ ويصرِّح في بعضهم بأنهم مقبولون فيما عدا ذلك. فهل يريد أنهم عدول مقبولون ثقات مأمونون مطلقًا، ولا يُعتدُّ عليهم بتكذيب الأستاذ ولا اتهامه؛ لأنه خَرْق للإجماع في بعضهم ومخالف للصواب في آخرين، ولأنَّ الأستاذ لم يتأهل للاجتهاد في الكلام في القدماء، ولأنّ كلامه فيهم أمر اقتضته مصلحة مدافعة اللامذهبية التي يقول: ¬

_ (¬1) (ص 54). (¬2) رقم (11).

إنها قنطرة اللادينية (¬1)! كما يقول بعض سلفه من المتكلّمين: إن كثيرًا من نصوص الكتاب والسنة المتعلقة بصفات الله عزَّ وجلَّ ونحوها صريحة في الباطل مع علم الله عزَّ وجلَّ ورسوله بالحق في نفس الأمر، ولكن دعت إلى ذلك مصلحةُ اجترار العامة إلى قبول الشريعة العملية (¬2)! فإن كان هذا مراد الأستاذ فالأمر واضح، وإلا فإن أراد بالقبول القبول على جهة الاستئناس في الجملة انحصر الكلام معه في دعوى الكذب والتهمة، وسيأتي إن شاء الله تعالى. وإن أراد أنهم في ما يتعلق بتلك الشجرة الممنوعة - وهي الغضّ من أبي حنيفة وأصحابه - كذابون ومتهمون، وفيما عدا ذلك عدول مقبولون ثقات مأمونون، فهذا تناقض وخرق للإجماع فيما نعلم. نعم، [1/ 37] هناك أمور قد يتشبَّث بها في دعوى اجتماع التهمة والعدالة، وقد أشار الأستاذ إلى بعضها، وسأكشف عنها إن شاء الله. وينبغي أن يُعلم أن التهمة تقال على وجهين: الأول: قول المحدّثين: "فلان متهم بالكذب". وتحرير ذلك أن المجتهد في أحوال الرواة قد يثبت عنده بدليل يصح الاستناد إليه أن الخبر لا أصل له وأن الحَمْل فيه على هذا الراوي، ثم يحتاج بعد ذلك إلى النظر في الراوي أتعمَّد الكذبَ، أم غلِط؟ فإذا تدبر وأنعم النظر فقد يتجه له الحكم بأحد الأمرين جزمًا، وقد يميل ظنُّه إلى أحدهما إلا أنه لا يبلغ أن ¬

_ (¬1) للكوثري مقال بهذا العنوان ضمن "مقالاته" (ص 106). (¬2) ترى الكلام عن ذلك في الاعتقاديات [ص] إن شاء الله تعالى. [المؤلف]. وانظر "الحموية" (ص 267 - 268) لشيخ الإِسلام.

يجزم به. فعلى هذا الثاني إذا مال ظنه إلى أن الراوي تعمد الكذب قال فيه: "متهم بالكذب"، أو نحو ذلك مما يؤدي هذا المعنى. ودرجة الاجتهاد المشار إليه لا يبلغها أحدٌ من أهل العصر فيما يتعلق بالرواة المتقدمين، اللهم إلا أن يتهم بعضُ المتقدمين رجلًا في حديث يزعم أنه تفرَّد به، فيجد له بعضُ أهل العصر متابعات صحيحة، وإلا حيث يختلف المتقدمون فيسعى في الترجيح. فأما مَن وثَّقه إمام من المتقدمين أو أكثر، ولم يتهمه أحد من الأئمة، فيحاول بعض أهل العصر أن يكذِّبه أو يتهمه، فهذا مردود؛ لأنه إن تهيَّأ له إثبات بطلان الخبر وأنه ثابت عن ذلك الراوي ثبوتًا لا ريب فيه، فلا يتهيأ له الجزم بأنه تفرَّد به، ولا أن شيخه لم يروه قط، ولا النظر الفني (¬1) الذي يحق لصاحبه أن يجزم بتعمد الراوي للكذب أو يتهمه به. بلى قد يتيسر بعض هذه الأمور فيمن كذَّبه المتقدمون، لكن مع الاستناد إلى كلامهم، كما يأتي في ترجمة أحمد بن محمد بن الصلت (¬2)، وترجمة محمد بن سعيد البورقي (¬3)؛ وإن كان الأستاذ يخالف في ذلك، فيصدِّق من كذَّبه الأئمة وكذبُه واضح، كما يكذِّب أو يتَّهم من صدَّقوه وصدقُه ظاهر، شأنَ المحامين في المحاكم، معيارُ الحق عند أحدهم مصلحةُ موكِّله! هذا، والأستاذ فيما يهوِّل بدعوى دلالة العقل والتواتر والنقل الراجح، ¬

_ (¬1) كذا في (ط) وأخشى أن تكون مصَحّفة. (¬2) رقم (34). (¬3) رقم (207).

حيث لا ينبغي له دعوى ذلك. وليس من شأني أن أناقشه في كلِّ موضع، ولكني أقول: حيث تصح دعواه، فلا يصح ما بناه عليها من تكذيب الثقات واتهامهم. وحيث يلزم من صحة الدعوى صحة البناء، [1/ 38] فالدعوى غير صحيحة. وإنما كتبتُ هذا بعد فراغي من النظر في التراجم، وأسأل الله التوفيق. الوجه الثاني: مقتضى اللغة. والتهمة عند أهل اللغة مشتقة من الوهم، وهو كما في "القاموس" (¬1): "من خَطَرات القلب أو مرجوح طَرَفَي المتردَّدِ فيه". والتهمة بهذا المعنى تعرض في الخبر إذا كان فيه إثبات ما يظهر أن المخبر يحبّ أن يعتقد السامع ثبوته. وذلك كشهادة الرجل لقريبه وصديقه، وعلى من بينه وبينه نُفْرة، وكذلك إخباره عن قريبه أو صديقه بما يُحْمَد عليه، وإخباره عمن هو نافر عنه بما يُذَمّ عليه. وقس على هذا كلَّ ما من شأنه أن يدعو إلى الكذب. وتلك الدواعي تخفى، وتتفاوت آثارها في النفوس وتتعارض، وتُعارِضُها الموانعُ من الكذب. وقد تقدمت الإشارة إليها في الفصل الخامس (¬2). فلذلك اكتفى الشارع في باب الرواية بالإِسلام والعدالة والصدق، فمَن ثبتت عدالته وعُرف بتحرّي الصدق من المسلمين فهو على العدالة والصدق في أخباره، لا يقدح في إخباره (¬3) أن يقوم به بعض تلك الدواعي، ولا أن يتهمه من لا يعرف عدالته، أو لا يعرف أثر العدالة على النفس، أو مَن له هوى مخالف لذلك الخبر فهو يتمنّى أن لا يصح، كما قال المتنبي: ¬

_ (¬1) (ص 1507 - الرسالة). (¬2) (ص 43 - 50). (¬3) كذا في (ط) بفتح الهمزة في الأولى وكسرها في الثانية.

شقَّ الجزيرةَ حتى جاءني نبأ ... فزعتُ منه بآمالي إلى الكذِبِ (¬1) حتى إذا لم يَدَع لي (¬2) صدقُه أملًا ... شرِقتُ بالدمع حتى كاد يشرَقُ بي وكأنه أخذه من قول الأول (¬3): إنّي أتَتني لِسانٌ ما أُسَرُّ بها ... من عَلْوَ لا عَجَبٌ فيها ولا سَخَرُ جاءَتْ مُرَجَّمَةً قد كنتُ أَحْذَرُها ... لو كان يَنفعُني الإشفاقُ والحَذَرُ تأْتي على النّاس لا تَلوي على أَحدٍ ... حتى أتَتْنا، وكانت دوننا مُضَرُ إذا يُعَادُ لها ذِكْرٌ أُكَذِّبُهُ ... حتى أتَتْني بهِا الأنْبَاءُ وَالخَبَرُ وجماعة من الصحابة روى كلٌّ منهم فضيلة لنفسه يرون أن على الناس قبول ذلك منهم، فتلقَّت الأمةُ ذلك بالقبول. وكان جماعة من الصحابة والتابعين يقاتلون الخوارج، ثم روى بعض أولئك التابعين عن بعض أولئك الصحابة أحاديث في ذمِّ الخوارج، فتلقت الأمة تلك الأحاديث بالقبول. وكثيرًا ما ترى في تراجم ثقات الرواة من التابعين فمن بعدهم إخبارَ الرجل منهم بثناء [1/ 39] غيره عليه، فيتلقى أهل ذلك بالقبول. وقبلوا من الثقة دعواه ما يمكن من صحبته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو لأصحابه، أو إدراكه لكبار الأئمة وسماعه منهم وغير ذلك، مما فيه فضيلة للمدعي، ¬

_ (¬1) كذا في (ط). والرواية: "طوى الجزيرة حتى جاءني خبر ... فزعت فيه ..... ". انظر: شرح الواحدي لديوان المتنبي (608) وغيره. (¬2) (ط): "إلى". (¬3) هو أعشى باهلة. والأبيات بهذه الرواية في جمهرة أشعار العرب - طبعة البجاوي (568 - 569). وانظر طبعة الهاشمي (714) والأصمعيات (88).

وشرف له، وداع للناس إلى الإقبال عليه، وتبجيله، والحاجة إليه. ولم يكن أهل العلم إذا أرادوا الاستيثاق من حال الراوي يسألون إلّا عما يمسّ دينه وعدالته. ونص أهل العلم على أن الرواية في ذلك مخالفة للشهادة. وفي "التحرير" لابن الهمام الحنفي مع "شرحه" لابن أمير حاج (ج 3 ص 245) (¬1): " (وأما الحرية والبصر وعدم الحدّ في قذف و) عدم (الولاء) [أي القرابة من النسب أو النكاح ...] (و) عدم (العداوة) الدنيوية (فتختص بالشهادة) أي: تشترط فيها، لا في الرواية". فأما الشهادة فإن الشرع شَرَط لها أمورًا أخرى مع الإِسلام والعدالة، كما أشار إليه ابن الهمام، وشرط في إثبات الزنا أربعة ذكور وفي غيره من الحدود ونحوها ذَكَرين، وفي الأموال ونحوها رجلاً وامرأتين إلى غير ذلك. فأما الشهادة للنفس فمتفق على أنها لا تقبل. وأما الشهادة للأصل وللفرع وللزوج وعلى العدوّ ففيها خلاف. وفي بعض كتب الفقه (¬2) أن الردّ في ذلك لأجل التهمة، وظاهر هذا أن التهمة هي العلة، فيُبنى عليها قياسُ غير المنصوص عليه. وهذا غير مستقيم، إذ ليس كلُّ شاهدٍ لنفسه حقيقًا بأن يتّهم. ألا ترى أن كبار الصحابة وخيار التابعين لو شهد أحدُهم لنفسه لم نتهمه، ولا سيّما إذا كان غنيًّا والمشهود به يسيرًا كخمسة دراهم، والمشهود ¬

_ (¬1) (3/ 46) وما بين المعكوفين منه. (¬2) انظر "المحيط البرهاني": (9/ 189)، و"حاشية العدوي": (7/ 207)، و"الحاوي": (11/ 328).

عليه معروفًا بجحد الحقوق. أقول هذا لزيادة الإيضاح، وإلا فالواقع أننا لا نتهمهم مطلقًا حتى لو شهد أحدهم لنفسه على آخر منهم وأنكر ذاك لم نتهم واحدًا منهما، بل نعتقد أن أحدهما نسي أو غلط. وليس ذلك خاصًّا بهم، بل كل من ثبتت عدالته لا يتهمه عارفوه الذين يعدِّلونه ولا الواثقون بتعديل المعدِّلين. فإن اتهمه غيرهم كان معنى ذلك أنه غير واثق بتعديل المعدّلين، ومتى ثبت التعديل الشرعيّ لم يُلتفت إلى من لا يثق به. ولو كان لك أن تعدِّل الرجل وأنت لا تأمن أن يدعي الباطل ويشهد لنفسه زورًا بخمسة دراهم مثلًا، لكان لك أن تعدِّل من تتهمه بأنه لو رشاه رجل عشرة دراهم أو أكثر لشهدوا له زورًا. وهذا باطل قطعًا، فإنَّ تعديلك للرجل إنما هو شهادة منك له بالعدالة، والعدالة "مَلكة تمنع صاحبها من اقتراف الكبائر وصغائر الخسة ... " فكيف [1/ 40] يسوغ لك أن تشهد بهذه المَلَكة لمن تتهمه بما ذكر؟ ولو كان كلُّ عدل حقيقًا بأن يتهمه عارفوه بنحو ما ذكر لما كان في الناس عدل. وفي أصحابنا من لا نتهمه في شهادته ولو حصل له بسببها مائة درهم أو أكثر، كأن يدعي صاحبنا على فاجر بمائة درهم فيجحده، ثم تتفق للفاجر خصومة أخرى، فيجيء إلى صاحبنا فيقول له: أنت تعرف هذه القضية، فاحضر، فاشهد بما تعلم، فيقول صاحبنا: نعم أنا أعرفها، ولكنك ظلمتني مائة درهم، فأدِّها إليَّ إن أردت أن أشهد، فيدفع له مائة درهم، فيذهب فيشهد= فإننا لا نتهم صاحبنا في دعواه ولا شهادته. وفي أصحابنا مَن لو اؤتُمِن على مئات الدراهم، ثم بعد مدة ادعى ما

يحتمل من تلفها، أو أنه ردَّها على صاحبها الذي قد مات، لَما اتهمناه. نعم قد يتهمه مَن لا يعرفه كمعرفتنا، أو من لا يعرف قدر تأثير الموانع عن الخيانة في نفس من قامت به. فالفاسق المتهتك لا يعرف قدر العدالة، فتراه يتهم العدول، ولا يكاد يعرف عدالتهم، ولو كانوا جيرانه. فإن قيل: يكفي في التعليل أن ذلك مظنة التهمة، ولا يضر تخلُّفها في سض الأفراد، كما قالوا في قصر الصلاة في السفر: إنه لأجل المشقة وإن تخلفت المشقة في بعض المسافرين كالمَلِك المترَفِّه. قلت: العلة في قصر الصلاة هي السفر بشرطه لا المشقَّة، فكذلك تكون العلة في رد الشهادة للنفس هي أنها شهادة للنفس، أو دعوى كما يومئ إليه حديث: "لو يُعطى الناسُ بدعواهم لادّعى ناسٌ دماءَ رجالٍ وأموالهم ... " (¬1). فعلى هذا لا يتأتَّى القياس، ألا ترى أن في أعمال العمّال المقيمين ما مشقَّته أشدّ من مشقة السفر العادي، ذلك كالعمل في المناجم ونحوها، ومع ذلك ليس لهم أن يقصروا الصلاة؟ فإن قيل: الشهادة للأصل والفرع مظنة للتهمة، كما أن الشهادة للنفس مظنة لها. قلت: فالعمل في المناجم مظنة للمشقة، بل المشقة فيه أشقّ وأغلب، والتهمة في الشهادة للأصل أو الفرع أضعف وأقل من التهمة في الشهادة للنفس، وقد يكون الرجل منفردًا عن أصله أو فرعه وبينهما عداوة. والشافعي ممن يقول برد الشهادة للأصل والفرع، ولم يعرِّج على ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4552)، ومسلم (1711) مختصرًا من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

التهمة، ولكنه لما علم أن [1/ 41] جماعةً ممن قبله ذهبوا إلى الردّ ولم يَعْلَم لهم مخالفًا، هاب أن يقول ما لا يعلم له فيه سلفًا، فحاول الاستدلال بما حاصله: أن الفرع من الأصل فشهادة أحدهما للآخر كأنها شهادة لنفسه، ثم قال كما في "الأم" (ج 7 ص 42) (¬1): "وهذا مما لا أعرف فيه خلافًا". كأنه ذكر هذا تقويةً لذاك الاستدلال، واعتذارًا عما فيه من الضعف. ولما علم بعض حُذّاق أصحابه كالمزني وأبي ثور أن هناك خلافًا ذهبوا إلى القبول (¬2). وليس المقصود هنا إبطال القول بردِّ الشهادة للأصل والفرع والزوج، وإنما المقصود أن الاستدلالَ عليه بقياس مبنيٍّ على أن التهمة علة غيرُ مستقيم. فأما الشهادة على العدوّ، فالقائلون أنها لا تُقبل يخصون ذلك بالعداوة الدنيوية التي تبلغ أن يحزن لفرحه ويفرح لحزنه. فأما العداوة الدينية، والدنيوية التي لم تبغ ذاك المبلغ، فلا تمنع من القبول عندهم. والمنقول عن أبي حنيفة كما في كتب أصحابه (¬3) أن العداوة لا تقتضي ردّ الشهادة إلا أن تبلغ أن تَسْقُطَ بها العدالة. أقول: وإذا بلغت ذلك لم تقبل شهادة صاحبها حتى لعدوِّه على صديقه. ويقوِّي هذا القول أن القائلين بعدم القبول يشرطون أن تبلغ أن يحزن لفرحه ويفرح لحزنه. وهذا يتضمّن (¬4) أن يفرح لذبح أطفاله ظلمًا، والزنا ببناته، ¬

_ (¬1) (8/ 114). (¬2) انظر "البيان": (13/ 311) للعمراني. (¬3) انظر "رد المحتار": (8/ 225 - 226). (¬4) (ط): "يتمنى" تصحيف، والإصلاح من "تعزيز الطليعة" (ص 70).

وارتداد زوجاته ونحو ذلك؛ وقس على ذلك الحزن لفرحه، وهذا مسقط للعدالة حتمًا. فإن قيل: قد يفرح بذلك من جهة أنه يُحْزن عدوَّه، ومع ذلك يحزن من جهة مخالفته للدين. قلت: إن لم يغلب حزنُه فرحَه فليس بعَدْل، وإن غلب فكيف يظن به أن يوقع نفسه في شهادة الزور التي هي من أكبر الكبائر، وفيها أعظم الضرر على نفسه في دينه، ولا يأمن من أن يلحقه لأجلها ضرر شديد في دنياه، كلُّ ذلك ليضر المشهود عليه في دنياه ضررًا قد يكون يسيرًا كعشرة دراهم؟ وهَبْه صحّ الردّ بالعداوة مع بقاء العدالة فالقائلون بذلك يشرطون أن تكون عداوة دنيوية تبلغ أن يحزن لفرحه ويفرح لحزنه، وهذا لا يتأتّى للأستاذ إثباته في أحدٍ ممن يتهمهم؛ لأنه إن ثبت انحرافهم عن أبي حنيفة وأصحابه وثبت أن ذلك الانحراف عداوة فهو عداوة دينية. وهب أنه ثبت في بعضهم أنها عداوة دنيوية فلا يتأتَّى للأستاذ إثبات بلوغها ذاك الحدّ، أي: أن يحزن لفرحه ويفرح لحزنه. وهبه بلغ، فقد تقدم أن الرواية لا تردّ بالعداوة. هذا على فرض مجامعة ذلك للعدالة، وإلا فالردّ لعدم العدالة. [1/ 42] وأما ما ذكره الشافعي في أصحاب العصبية (¬1)، فالشافعي إنما عنى العصبية لأجل النسب، كما هو صريح في كلامه. وذلك أمر دنيوي، وكلامه ظاهر في أنها بشرطها تسقط العدالة. ولا ريب أنه إذا بلغت العصبية أو العداوة إسقاط العدالة لم تقبل لصاحبها شهادة ولا رواية البتة، سواء ¬

_ (¬1) في "الأم": (7/ 512).

أكانت دنيوية، أم مذهبية، أم دينية؛ كمن يسرف في الحنق على الكفار فيتعدَّى على أهل الذمة والأمان بالنهب والقتل ونحو ذلك، بل قد يكفر. فقد اتضح بما تقدّم الجوابُ عن بعض ما يمكن التشبُّث به في ردِّ رواية العدل. وبقي حكاية عن شريك ربما يُؤخَذ منها أنه قد يقبل شهادة بعض العدول في القليل ولا يقبلها في الكثير (¬1)، وفرعٌ للشافعي قد يتوهّم فيه نحو ذلك (¬2)، وما يقوله أصحاب الحديث في رواية المبتدع، وما قاله بعضهم في جرح المحدِّث لمن هو ساخط عليه. فأما الحكاية عن شريك فمنقطعة (¬3)، ولو ثبتت لوجب حملها على أن مراده القبول الذي تطمئنّ إليه نفسه. فإن القاضي قد لا يكون خبيرًا بعدالة الشاهدين وضبطهما وتيقّظهما، وإنما عدَّلهما غيره، فإذا كان المال كثيرًا جدًّا ¬

_ (¬1) أما أثر شريك ففي تاريخ بغداد (13/ 499): عن شريك أن رجلًا قدّم إليه رجلًا فادّعى عليه مائة ألف دينار قال: فأقرّ به قال: فقال شريك: أما إنه لو أنكر لم أقبل عليه شهادةَ أحدٍ بالكوفة إلا شهادة وكيع بن الجرّاح وعبد الله بن نُمير. وعلق عليه المصنف في رسالة له في "العدالة" بقوله: "يعني أن المال عظيم، فلا تنتفي تهمة الشاهد فيه حتى يكون عظيم العدالة، ولو كان ألف دينار فقط لكان بالكوفة يومئذٍ ألف عدل أو أكثر مِمَّن تنتفي التهمة بشهادة رجلين منهم فيه". (¬2) ذكر الشافعي في "الأم": (6/ 309) أنه ينبغي للقاضي إذا سأل عن الشهود مَن يطلب منه بيان حالهم أن يبين للمسؤول مقدار ما شهدوا فيه، قال: "فإن المسؤول عن الرجل قد يعرف ما لا يعرف الحاكم من أن يكون الشاهد ... وتطيب نفسه على تعديله في اليسير، ويقف في الكثير". (¬3) لأن راوي القصة عن شريك هو ابن عباد لم يسمعها منه بل قال: "أُخْبِرتُ عن شريك".

بقي في نفسه ريبة. وقد بيَّن أهل العلم أن مثل هذا إنما يقتضي التروِّي والتثبت، فإذا تروّى وبقيت الحال كما كانت وجب عليه أن يقضي بتلك الشهادة، ويعرض عما في نفسه. وأما الفرع المذكور عن الشافعي فليس من ذاك القبيل، وإنما هو من باب الاحتياط للتعديل. ومع ذلك فقد ردَّه إمامُ الحرمين وقال: إن أكثر الأئمة على خلافه (¬1). وأما رواية المبتدع، وجرح المحدِّث لمن هو ساخط عليه، فأُفردُ كلًّا منهما بقاعدة. **** ¬

_ (¬1) انظر "نهاية المطلب في دراية المذهب": (18/ 492).

3 - رواية المبتدع

3 - رواية المبتدع لا شبهة أن المبتدع إن خرج ببدعته عن الإِسلام لم تقبل روايته, لأن من شرط قبول الرواية: الإِسلام. وأنه إن ظهر عناده، أو إسرافه في اتباع الهوى، والإعراض عن حجج الحق، ونحو ذلك مما هو أدلّ على وهن التدين من كثير من الكبائر كشرب الخمر وأخذ الربا، فليس بعدل فلا تقبل روايته؛ لأن من شرط قبول الرواية: العدالة. [1/ 43] وأنه إن استحلَّ الكذب، فإما أن يكفر بذلك، وإما أن يفسق. فإن عذرناه فمِنْ شرط قبول الرواية: الصدق، فلا تقبل روايته. وأن من تردّد أهلُ العلم فيه، فلم يتجه لهم أن يكفِّروه أو يفسِّقوه، ولا أن يعدِّلوه؛ فلا تقبل روايته, لأنه لم تثبت عدالته. ويبقى النظر فيمن عدا هؤلاء. والمشهور الذي نقل ابن حبان والحاكم (¬1) إجماع أئمة السنة عليه أن المبتدع الداعية لا تقبل روايته، وأما غير الداعية فكالسُّنّي. واختلف المتأخرون في تعليل ردّ الداعية، والتحقيق إن شاء الله تعالى: أن ما اتفق أئمة السنة على أنها بدعة، فالداعية إليها الذي حقّه أن يسمى داعية لا يكون إلا من الأنواع الأولى، إن لم يتجه تكفيره اتجه تفسيقه، فإن لم ¬

_ (¬1) كلام ابن حبان في "المجروحين": (3/ 63). وكلام الحاكم في "معرفة علوم الحديث" (ص 133).

يتجه تفسيقه فعلى الأقل لا تثبت عدالتُه. وإلى هذا أشار مسلم في "مقدمة صحيحه" (¬1) إذ قال: "اعلم - وفقك الله - أن الواجب على كلّ أحدٍ عرفَ التمييزَ بين صحيح الروايات وسقيمها وثقات الناقلين لها من المتهمين: أن لا يروي منها إلا ما عَرف صحة مخارجه والسِّتارة في ناقليه، وأن يتقي منها ما كان [منها] عن أهل التُّهَم والمعاندين من أهل البدع. والدليل على أن الذي قلنا في هذا هو اللازم دون ما خالفه قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6] وقال جل ثناؤه: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] وقال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]. فدل بما ذكرنا أن خبر الفاسق ساقط غير مقبول، وأن شهادة غير العدل مردودة. والخبر وإن فارق معناه معنى الشهادة في بعض الوجوه فقد يجتمعان في أعظم معانيهما، إذ كان خبر الفاسق غير مقبول عند أهل العلم، كما أن شهادته مردودة عند جميعهم". فالمبتدع الذي يتضح عناده إما كافر وإما فاسق. والذي لم يتضح عناده ولكنه حقيق بأن يتّهم بذلك فهو (¬2) في معنى الفاسق؛ لأنه مع سوء حاله لا تثبت عدالته. والداعية - الذي الكلامُ فيه - واحدٌ من هذين ولا بد. وقد عرَّف أهلُ العلم العدالةَ بأنها: "مَلَكَة تمنع عن اقتراف الكبائر ¬

_ (¬1) (1/ 8). (¬2) (ط): "وهو".

وصغائر الخسة ... ". زاد السبكي: "وهوى النفس"، وقال: "لا بد منه [1/ 44] فإن المتقي للكبائر وصغائر الخسة مع الرذائل المباحة قد يتبع هواه عند وجوده لشيء منها، فيرتكبه. ولا عدالة لمن هو بهذه الصفة". نقله المحلي في "شرح جمع الجوامع" (¬1) لابن السبكي، ثم ذكر أنه صحيح في نفسه ولكن لا حاجة إلى زيادة القيد. قال: "لأن من عنده مَلَكة تمنعه عن اقتراف ما ذكر ينتفي عنه اتباع الهوى لشيء منه، وإلا لوقع في المهوي، فلا يكون عنده مَلَكَة تمنع منه". أقول: ما من إنسان إلا وله أهواء فيما ينا في العدالة، وإنما المحذور اتباع الهوى. ومقصود السبكي تنبيه المعدِّلين، فإنه قد يخفى على بعضهم معنى "المَلكة"، فيكتفي في التعديل بأنه قد خَبَر صاحبَه فلم يره ارتكب منافيًا للعدالة، فيعدِّله. ولعله لو تدبَّر لعلم أن لصاحبه هوًى غالبًا يخشى أن يحمله على ارتكاب منافي العدالة إذا احتاج إليه وتهيّأ له، ومتى كان الأمر كذلك فلم يغلب على ظنّ المعدِّل حصولُ تلك المَلَكة - وهي العدالة - لصاحبه، بل إما أن يترجح عنده عدم حصولها فيكون صاحبه ليس بعدل، وإما أن يرتاب في حصولها لصاحبه، فكيف يشهد بحصولها له كما هو معنى التعديل؟ وأهل البدع كما سماهم السلف "أصحاب الأهواء"، واتّباعُهم لأهوائهم ¬

_ (¬1) (2/ 148 - 150 - مع حاشية البناني) وأشار المحليّ إلى أن هذه الزيادة موجودة في بعض نسخ "جمع الجوامع"، وهي مأخوذة من والده تقي الدين السبكي. وهي ثابتة في نسخة الأصل لشرح ابن حلولو. "الضياء اللامع": (2/ 216 - 218).

في الجملة ظاهر، وإنما يبقى النظر في العمد والخطأ، ومَن ثبت تعمّده أو اتهمه بذلك عارفوه لم يؤمَن كذبُه. وفي "الكفاية" للخطيب (ص 123) عن عليّ بن حرب الموصلي: "كل صاحب هوى يكذب ولا يبالي". يريد - والله أعلم - أنهم مظنة ذلك، فيُحْتَرس من أحدهم حتى يتبين براءته. هذا، وإذا كانت حجج السنة بينةً، فالمخالف لها لا يكون إلا معاندًا، أو متبعًا للهوى معرضًا عن حجج الحق. واتباعُ الهوى والإعراضُ عن حجج الحق قد يفحش جدًّا حتى لا يحتمل أن يُعذَر صاحبه. فإن لم يجزم أهل العلم بعدم العذر، فعلى الأقل لا يمكنهم تعديل الرجل. وهذه حال الداعية الذي الكلام فيه، فإنه لولا أنه معاند، أو منقاد لهواه انقيادًا فاحشًا، معرض عن حجج الحقّ إعراضًا شديدًا؛ لكان أقلّ أحواله أن يحمله النظر في الحقِّ على الارتياب في بدعته، فيخاف إن كان متدينًا أن يكون على ضلالة، ويرجو أنه إن كان على ضلالة فعسى الله تبارك وتعالى أن يعذره. فإذا التفت إلى أهل السنة علم أنهم إن لم يكونوا أولى بالحق منه، فالأمر الذي لا ريب فيه أنهم أولى بالعذر منه، وأحقُّ إن كانوا على خطأ أن لا يضرَّهم ذلك؛ لأنهم إنما [1/ 45] يتبعون الكتاب والسنة، ويحرصون على اتباع سبيل المؤمنين، ولزوم صراط المنعَم عليهم: النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وخيار السلف. فيقول في نفسه: هب أنهم على باطل، فلم يأتهم البلاء من اتباع الهوى وتتبع السبل الخارجة. ولا ريب أن من كانت هذه حاله فإنه لا يكفِّر أهلَ السنة ولا يضلِّلهم، ولا يحرص على إدخالهم في رأيه، بل يشغله الخوف على نفسه، فلا يكون داعية. فأما غير الداعية؛ فقد مرَّ نقلُ الإجماع على أنه كالسُّنّي، إذا ثبتت عدالته

قُبِلت روايته، وثبت عن مالك ما يوافق ذلك، وقيل عن مالك إنه لا يُروى عنه أيضًا، والعمل على الأول. وذهب بعضهم إلى أنه لا يُروى عنه إلا عند الحاجة، وهذا أمر مصلحي لا ينافي قيام الحجة بروايته بعد ثبوت عدالته. وحكى بعضُهم أنه إذا روى ما فيه تقوية لبدعته لم يؤخَذ عنه (¬1). ولا ريب أن ذلك المرويّ إذا حَكَم أهل العلم ببطلانه فلا حاجة إلى روايته إلا لبيان حاله. ثم إن اقتضى جرح صاحبه بأن ترجّح أنه تعمّد الكذب أو أنه متهم بالكذب عند أئمة الحديث سقط صاحبه البتة، فلا يؤخذ عنه ذاك ولا غيره. وإن ترجّح أنه إنما أخطأ، فلا وجه لمؤاخذته بالخطأ. وإن ترجح صحة ذلك المروي، فلا وجه لعدم أخذه. نعم قد تدعو المصلحة إلى عدم روايته حيث يخشى أن يغترَّ بعض السامعين بظاهره، فيقع في البدعة. قرأت في جزء قديم من "ثقات العجلي" (¬2) ما لفظه: "موسى الجهني قال: جاءني عمرو بن قيس المُلائي وسفيان الثوري فقالا (¬3): لا تحدّث بهذا الحديث بالكوفة أن النبي عليه السلام قال لعَليّ: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى" (¬4) ". كان في الكوفة جماعة يغلون بالتشيع ويدعون إلى الغلو، فَكَرِه عمرو بن قيس وسفيان أن يسمعوا هذا الحديث، فيحملوه على ما يوافق غلوَّهم، فيشتدّ شرُّهم. ¬

_ (¬1) انظر للأقوال في المسألة "علوم الحديث" (ص 114 - 115) لابن الصلاح، و"فتح المغيث": (2/ 58 - 70). (¬2) (2/ 183 - تحقيق البستوي). (¬3) (ط): "فقال" والمثبت من كتاب العجلي. (¬4) أخرجه البخاري (3706)، ومسلم (2404).

وقد يمنع العالمُ طلبةَ الحديث عن أخذ مثل هذا الحديث، لعلمه أنهم إذا أخذوه ربما رووه حيث لا ينبغي أن يُروى. لكن هذا لا يختص بالمبتدع، وموسى الجهني ثقة فاضل لم يُنسب إلى بدعة. هذا، وأول من نسب إليه هذا القول إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني، وكان هو نفسه مبتدعًا [1/ 46] منحرفًا عن أمير المؤمنين عليّ، متشددًا في الطعن علي المتشيِّعين، كما يأتي في القاعدة الآتية. ففي "فتح المغيث" (ص 142) (¬1): "بل قال شيخنا: إنه قد نص على هذا القيد في المسألة الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني شيخ النسائي، فقال في مقدمة كتابه في الجرح والتعديل (¬2): ومنهم زائغ عن الحق، صدوق اللهجة، قد جرى في الناس حديثُه، لكنه مخذول (¬3) في بدعته، مأمون في روايته. فهؤلاء ليس فيهم حيلة إلا أن يؤخذ من حديثهم ما يُعرف وليس بمنكر، إذا لم تقوَ به بدعتُهم، فيتهمونه بذلك" (¬4). والجوزجاني فيه نَصْب، وهو مولع بالطعن في المتشيِّعين كما مرّ. ويظهر أنه إنما يرمي بكلامه هذا إليهم، فإن في الكوفيين المنسوبين إلى التشيُّع جماعة أجلة اتفق أئمة السنة على توثيقهم، وحسن الثناء عليهم وقبول رواياتهم، وتفضيلهم على كثير من الثقات الذين لم ينسبوا إلى ¬

_ (¬1) (2/ 66). (¬2) (ص 11 - ت البستوي). واسم كتابه "الشجرة" وطبع باسم "أحوال الرجال". (¬3) في كتاب الجوزجاني: "إذ كان مخذولًا ... ". (¬4) في كتاب الجوزجاني: "إذا لم يقوِّ به بدعتَه، فيتهم عند ذلك".

التشيع، حتى قيل لشعبة: حدِّثنا عن ثقات أصحابك، فقال: "إن حدثتكم عن ثقات أصحابي، فإنما أحدِّثكم عن نفرٍ يسير من هذه الشيعة: الحَكَم بن عُتيبة، وسَلَمة بن كُهيل، وحبيب بن أبي ثابت، ومنصور" (¬1). راجع تراجم هؤلاء في "تهذيب التهذيب" (¬2). فكأنَّ الجوزجاني لما علم أنه لا سبيل إلى الطعن في هؤلاء وأمثالهم مطلقًا حاول أن يتخلّص مما يكرهه من مرويّاتهم، وهو ما يتعلق بفضائل أهل البيت. وعبارته المذكورة تعطي أن المبتدع الصادق اللهجة، المأمون في الرواية، المقبول حديثه عند أهل السنة، إذا روى حديثًا معروفًا عند أهل السنة غير منكر عندهم، إلا أنه مما قد تُقوّى به بدعتُه، فإنه لا يؤخذ وأنه يُتَّهم. فأما اختيار أن لا يؤخذ، فله وجه رعاية للمصلحة كما مرَّ. وأما أنه يُتَّهم، فلا يظهر له وجه بعد اجتماع تلك الشرائط، إلا أن يكون المراد أنه قد يتهمه مَن عَرَف بدعته ولم يعرف صدقه وأمانته، ولم يعرف أن ذاك الحديث معروف غير منكر، فيسيء الظن به وبمروياته. ولا يبعد من الجوزجاني أن يصانع عما في نفسه بإظهار أنه إنما يحاول هذا المعنى، فبهذا تستقيم عبارتُه. أما الحافظ ابن حجر، ففهم منها معنًى آخر قال في "النخبة وشرحها": "الأكثر على قبول غير الداعية، إلا أن يروي ما يقوِّي مذهبه، فيُرَدُّ على المذهب المختار. وبه صرح الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني شيخ أبي داود والنسائي". وسيأتي [1/ 47] الكلام معه إن شاء ¬

_ (¬1) "تقدمة الجرح والتعديل": (1/ 138). (¬2) على التوالي: (2/ 432 - 434 و4/ 155 - 157 و2/ 118 و10/ 312 - 315).

الله تعالى (¬1). ولابن قتيبة في كتاب "تأويل مختلف الحديث" (¬2) كلام حاصله أن المبتدع الصادق المقبول لا يُقبل منه ما يقوِّي بدعتَه، ويُقبل منه ما عدا ذلك. قال: "وإنما يَمنع من قبول قول الصادق فيما وافق نحلته وشاكل هواه أن نفسه تريه أن الحقَّ فيما اعتقده، وأن القربة إلى الله عزَّ وجلَّ في تثبيته بكل وجه. ولا يؤمَن مع ذلك التحريف والزيادة والنقص". كذا قال، واحتجّ بأن شهادة العدل لا تُقبل لنفسه وأصله وفرعه. وقد مر الجواب عن ذلك، ولا أدري كيف ينعت بالصادق من لا يؤمَن منه تعمدُ التحريف والزيادة والنقص؟ وإنما يستحق النعت بالصادق من يوثَق بتقواه، وبأنه مهما التبس عليه من الحق فلن يلتبس عليه أن الكذب - بأيّ وجه كان - منافٍ للتقوى، مجانبٌ للإيمان. ولا ريب أن فيمن يتسم بالصلاح من المبتدعة - وكذا من أهل السنة - من يقع في الكذب إما تقحُّمًا في الباطل، وإما على زعم أنه لا حرج في الكذب في سبيل تثبيت الحق. ولا يختص ذلك بالعقائد، بل وقع فيما يتعلق بفروع الفقه وغيرها، كما يُعلَم من مراجعة كتب الموضوعات. وأعداءُ الإِسلام وأعداءُ السنة يتشبثون بذلك في الطعن في السنة، كأنهم لا يعلمون أنه لم يزل في أخبار الناس في شؤون دنياهم الصدق والكذب، ولم تكن كثرة الكذب بمانعة من معرفة الصدق إما بيقين وإما بظن غالب يجزم به ¬

_ (¬1) (ص 83 وما بعدها). (¬2) (ص 141).

العقلاء ويبنون عليه أمورًا عظامًا. ولم يزل الناس يغُشُّون الأشياء النفيسة ويصنعون ما يشبهها كالذهب والفضة والدر والياقوت والمسك والعنبر والسمن والعسل والحرير والخز وغيرها, ولم يَحُل ذلك دون معرفة الصحيح. والخالقُ الذي هيَّأ لعباده ما يحفظون به مصالح دنياهم هو الذي شرع لهم دين الإِسلام، وتكفّل بحفظه إلى الأبد. وعنايتُه بحفظ الدين أشدّ وآكد، لأنه هو المقصود بالذات من هذه النشأة الدنيا. قال الله عزَّ وجلَّ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. ومن مارس أحوال الرواية وأخبار رواة السنة وأئمتها علم أن عناية الأئمة بحفظها وحراستها ونفي الباطل عنها والكشف عن دخائل الكذابين والمتهمين كانت أضعاف عناية الناس بأخبار دنياهم ومصالحها. وفي "تهذيب التهذيب" (ج 1 ص 152): "قال إسحاق بن إبراهيم: أخذ الرشيد زنديقًا، فأراد قتله، فقال: أين أنت من ألف حديث وضعتُها! فقال له: أين أنت يا عدوَّ الله [1/ 48] من أبي إسحاق الفَزاري وابن المبارك ينخُلانها حرفًا حرفًا! ". وقيل لابن المبارك: هذه الأحاديث المصنوعة؟ قال: تعيش لها الجهابذة. وتلا قول الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (¬1) [الحجر: 9]. والذكر يتناول السنة بمعناه، إن لم يتناولها بلفظه؛ بل يتناول العربية وكلّ ما يتوقّف عليه معرفة الحق. فإن المقصود من حفظ القرآن أن تبقى الحجةُ قائمةً والهدايةُ دائمةً إلى يوم القيامة، لأن محمدًا صلى الله عليه ¬

_ (¬1) "تقدمة الجرح والتعديل": (1/ 3 و2/ 18)، "التعديل والتجريح": (1/ 33).

وآله وسلم خاتم الأنبياء، وشريعته خاتمة الشرائع، والله عزَّ وجلَّ إنما خلق الخلق لعبادته، فلا يقطع عنهم طريق معرفتها. وانقطاعُ ذلك في هذه الحياة الدنيا انقطاعٌ لعلَّة بقائهم فيها. قال العراقي في "شرح ألفيته" (ج 1 ص 267) (¬1): "رُوِّينا عن سفيان قال: ما ستر الله أحدًا يكذب في الحديث. ورُوّينا عن عبد الرحمن بن مهدي أنه قال: لو أن رجلًا هَمَّ أن يكذب في الحديث لأسقطه الله. ورُوِّينا عن ابن المبارك قال: لو هَمَّ رجل في السَّحَر أن يكذب في الحديث لأصبح والناس يقولون: فلان كذاب". والمقصود هنا أن من لا يؤمَن منه تعمّدُ التحريف والزيادة والنقص - على أيّ وجهٍ كان - فلم تثبت عدالتُه. فإن كان كلّ من اعتقد أمرًا ورأى أنه الحق وأن القُربة إلى الله تعالى في تثبيته لا يؤمَن منه ذلك، فليس في الدنيا ثقة. وهذا باطل قطعًا، فالحكم به على المبتدع إن قامت الحجة على خلافه بثبوت عدالته وصدقه وأمانته فباطل، وإلا وجب أن لا يحتجّ بخبره البتة، سواء أوافق بدعته أم خالفها. والعدالة: "مَلَكة تمنع من اقتراف الكبائر ... " وتعديل الشخص شهادةٌ له بحصول هذه المَلَكة، ولا تجوز الشهادة بذلك حتى يغلب على الظن غلبة واضحة حصولها له. وذلك يتضمن غلبة الظن بأن تلك المَلَكة تمنعه من تعمُد التحريف والزيادة والنقص، ومن غلب على الظن غلبةً يصح الجزم بها أنه لا يقع منه ذلك، فكيف لا يؤمَن أن يقع منه؟ ومن لا يؤمَن أن يقع منه ¬

_ (¬1) (ص 124).

ذلك، فلم يغلب على الظن أن له مَلَكةً تمنعه من ذلك. ومن خيف أن يغلبه ضربٌ من الهوى، فيوقعه في تعمُّد الكذب والتحريف، لم يؤمَن أن يغلبه ضرب آخر، وإن لم نشعر به. بل الضربُ الواحدُ من الهوى قد يوقع في أشياء يتراءى لنا أنها متضادة. فقد جاء أن موسى بن طريف الأسدي كان يرى رأي أهل الشام في الانحراف عن عَليّ رضي الله [1/ 49] عنه، ويروي أحاديث منكرة في فضل عليّ، ويقول: "إني لأسخر بهم" يعني بالشيعة، راجع ترجمته في "لسان الميزان" (¬1). وروى محمد بن شجاع الثلجي الجهمي، عن حَبَّان بن هلال أحد الثقات الأثبات، عن حماد بن سلمة أحد أئمة السنة، عن أبي المهزِّم، عن أبي هريرة مرفوعًا: "إن الله خلق الفرس، فأجراها، فعرقت ثم خلق نفسه منها" (¬2). وفي "الميزان" (¬3) أن غرض الجهمية من وضع هذا الحديث أن يستدلوا به على زعمهم أن ما جاء في القرآن من ذكر "نفس الله" عزَّ وجلَّ إنما المراد بها بعض مخلوقاته. أقول: ولهم غرضان آخران: أحدهما: التذرُّع بذلك إلى الطعن في حماد بن سلمة، كما يأتي في ترجمته (¬4). ¬

_ (¬1) (8/ 205). (¬2) أخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات" (231). (¬3) (5/ 24 - 25). (¬4) رقم (85).

الثاني: التشنيع على أئمة السنة بأنهم يروون الأباطيل. والشيعيُّ الذي لا يؤمَن أن يكذب في فضائل أهل البيت، لا يؤمَن أن يكذب في فضائل الصحابة على سبيل التقية، أو ليرى الناس أنه غير متشدّد في مذهبه، يُمهِّد بذلك لِيُقبَل منه ما يرويه مما يوافق مذهبه. وعلى كلّ حال فابن قتيبة - على فضله - ليس هذا فنَّه، ولذلك لم يعرج أحد من أئمة الأصول والمصطلح على حكاية قوله ذلك فيما أعلم. والله الموفق. وفي "فتح المغيث" (ص 140) (¬1) عن ابن دقيق العيد: "إن وافقه غيره فلا يلتفت إليه إخمادًا لبدعته وإطفاءً لناره. وإن لم يوافقه أحد، ولم يوجد ذلك الحديث إلا عنده - مع ما وصفنا من صِدْقه وتحرّزه عن الكذب، واشتهاره بالتدين، وعدم تعلق ذلك الحديث ببدعته - فينبغي أن تقدَّم مصلحةُ تحصيلِ ذلك الحديث ونشرِ تلك السنة على مصلحة إهانته وإطفاء ناره". ويظهر أن تقييده بقوله: "وعدم تعلق ذلك الحديث ببدعته" إنما مغزاه: أنه إذا كان فيه تقوية لبدعته لم تكن هناك مصلحة في نشره، بل المصلحة في عدم روايته، كما مرَّ. ويتأكد ذلك هنا بأن الفرض أنه تفرد به، وذلك يدعو إلى التثبت فيه. وإذا كان كلام ابن دقيق العيد محتملًا لهذا المعنى احتمالًا ظاهرًا، فلا يسوغ حمله على مقالة ابن قتيبة التي مرّ ما فيها. ¬

_ (¬1) (2/ 60 - 61) وكلام ابن دقيق العيد في كتابه "الاقتراح" (ص 294).

وقال ابن حجر في "النخبة وشرحها" (¬1): [1/ 50] "الأكثر على قبول غير الداعية، إلا أن يروي ما يقوَّي مذهبه (¬2) فيُرَدُّ على المذهب المختار. وبه صرَّح الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني شيخ أبي داود والنسائي ... وما قاله متّجه, لأن العلة التي لها رُدَّ حديثُ الداعية واردةٌ فيما إذا كان ظاهرُ المروي يوافق مذهبَ المبتدع، ولو لم يكن داعية. والله أعلم". أقول: الضمير في قوله: "فيُرَدُّ" يعود فيما يظهر على المبتدع غير الداعية، أوقَعَ الردَّ على الراوي في مقابل إطلاق القبول عليه. وقد قال قبل ذلك: "والتحقيق أنه لا يُرَدُّ كلُّ مكفَّر ببدعة" والمراد برد الراوي: رد مروياته كلها. وقد يقال: يحتمل عود الضمير على المرويّ المقوّي لمذهبه، وعلى هذا فقد يفهم منه أنه يُقبل منه ما عداه، وقد يُشعِر بهذا استناد ابن حجر إلى قول الجوزجاني. فأقول: إن كان معنى الردّ على هذا المعنى الثاني ترك رواية ذاك الحديث للمصلحة، وإن كان محكومًا بصحته؛ فهذا هو المعنى الذي تقدَّم أن به تستقيم عبارة الجوزجاني. وإن كان معناه رد ذاك الحديث اتهامًا لصاحبه، ويردُّ معه سائر رواياته؛ فهذا موافق للمعنى الأول، ولا تظهر موافقته لعبارة الجوزجاني. وإن كان معناه رد ذلك الحديث اتهامًا لراويه فيه، ومع ذلك يبقى مقبولًا فيما عداه؛ فليست عبارة الجوزجاني بصريحة في هذا ولا ظاهرة فيه كما مرَّ، وإنما هو قول ابن قتيبة. ¬

_ (¬1) (ص 104). (¬2) في "النزهة": "بدعته".

وسياق كلام ابن حجر - ما عدا استناده إلى قول الجوزجاني - يدل على أن مقصوده ردّ الراوي مطلقًا، أو رد ذاك لحديث وسائر روايات راويه، وذلك لأمور، منها: أن ابن حجر صرَّح بأن العلة التي رد بها حديث الداعية واردة في هذا، وقد قدَّم أن العلة في الداعية هي "أن تزيين بدعته قد يحمله على تحريف الروايات وتسويتها على ما يقتضيه مذهبه". ومن كانت هذه حاله فلم تثبت عدالته - كما تقدم - فيردّ مطلقًا. ومنها: أن هذه العلة اقتضت في الداعية الردّ مطلقًا فكذلك هنا، بل قد يقال على مقتضى كلام ابن حجر: هذا أولى, لأن الداعية يردّ مطلقًا، وإن لم يَروِ ما يوافق بدعته، وهذا قد روى. هذا، وقد وثَّق أئمة الحديث جماعةً من المبتدعة، واحتجوا بأحاديثهم، وأخرجوها في الصحاح. ومن تتبع رواياتهم وجد فيها كثيرًا مما يوافق ظاهرُه بدَعَهم. وأهلُ العلم يتأوّلون تلك [1/ 51] الأحاديث غير طاعنين فيها ببدعة راويها, ولا في راويها بروايته لها (¬1). بل في رواية جماعة منهم ¬

_ (¬1) كحديث مسلم [78] من طريق الأعمش، عن عدي بن ثابت، عن زر قال: قال علي: "والذي فَلَق الحبة وبرأ النَّسَمة، إنه لعهد النبي الأمي - صلى الله عليه وسلم - إليَّ أنه لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق". عديّ قال فيه ابن معين: "شيعي مفرط". وقال أبو حاتم: "صدوق وكان إمام مسجد الشيعة وقاصّهم". وعن الإِمام أحمد: "ثقة إلا أنه كان يتشيع". وعن الدارقطني: "ثقة إلا أنه كان غاليًا في التشيع". ووثقه آخرون. ويقابل هذا رواية قيس بن أبي حازم عن عَمرو بن العاص: عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - جهارًا غير سرًّ يقول: "ألا إن آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء، إنما وليي الله وصالح المؤمنين، إن لهم رحمًا سأبلها ببلالها". ورواه غندر عن شعبة بلفظ: "إن آل أبي ... " ترك بياضًا، وهكذا أخرجه الشيخان. وقيس ناصبي منحرف عن علي رضي الله عنه. ولي في هذا كلام. [المؤلف].

أحاديث ظاهرة جدًّا في موافقة بدعهم أو صريحة في ذلك إلا أن لها عللًا أخرى. ففي رواية الأعمش أحاديث كذلك ضعَّفها أهل العلم، بعضها بضعف بعض مَن فوق الأعمش في السند، وبعضها بالانقطاع، وبعضها بأن الأعمش لم يصرح بالسماع وهو مدلس. ومن هذا الأخير حديث في شأن معاوية ذكره البخاري في "تاريخه الصغير" (ص 68) (¬1) ووهَّنه بتدليس الأعمش، وهكذا في رواية عبد الرزاق وآخرين. هذا، وقد مرَّ تحقيق علة رد الداعية، وتلك العلة ملازمة أن يكون بحيث يحق أن لا يؤمَن منه ما ينافي العدالة. فهذه العلة إن وردت في كل مبتدع روى ما يقوّي بدعته، ولو لم يكن داعية، وجب أن لا يُحتج بشيء مِن مرويات مَن كان كذلك، ولو فيما يوهن بدعته؛ وإلاّ - وهو الصواب - فلا يصح إطلاق الحكم، بل يدور مع العلة. فذاك المروي المقوِّي لبدعة راويه إما غير منكر، فلا وجه لرده، فضلًا عن ردّ راويه. وإما منكر، فحكم المنكر معروف، وهو أنه ضعيف. فأما راويه فإن اتجه الحمل عليه بما ينافي العدالة، كرميه بتعمّد الكذب أو اتهامه به، سقط البتة. وإن اتجه الحمل على غير ذلك، كالتدليس المغتفَر والوهم والخطأ، لم يجرح بذلك. وإن تردد الناظر وقد ثبتت العدالة وجب القبول، وإلا أخذ بقول مَن هو أعرف منه، أو وقف. وقد مرَّ أوائلَ القاعدة الثانية (¬2) بيان ما يمكن أن يبلغه أهل العصر من التأهل للنظر، فلا تغفل. ¬

_ (¬1) (2/ 802 - ط الرشد) والصحيح أنه التاريخ الأوسط طبع خطأ باسم "الصغير". (¬2) (ص 61).

[1/ 52] وبما تقدم يتبين صحةُ إطلاق الأئمة قبولَ غير الداعية إذا ثبت صلاحُه وصدقه وأمانته. ويتبين أنهم إنما نصوا على ردّ المبتدع الداعية تنبيهًا على أنه لا يثبت له الشرط الشرعي للقبول، وهو ثبوت العدالة. هذا كله تحقيق للقاعدة. فأما الأستاذ، فيكفينا أن نقول له: هب أنه اتجه أن لا يقبل من المبتدع الثقة ما فيه تقوية لبدعته، فغالب الذين طعنتَ فيهم هم من أهل السنة عند مخالفيك وأكثر موافقيك، والآراء التي تعدُّها هوى باطلًا، منها ما هو عندهم حق، ومنها ما يسلَّم بعضهم أنه ليس بحق ولكن لا يعدُّه بدعة. وسيأتي الكلام في الاعتقاديات والفقهيات، ويتبين المحقّ من المبطل إن شاء الله تعالى. وفي الحق ما يُغنيك لو قنعتَ به، كما مرت الإشارة إليه في الفصل الثاني. ومن لم يقنع بالحق أوشكَ أن يُحرَم نصيبَه منه، كالراوي يروي أحاديثَ صادقةً موافقةً لرأيه، ثم يكذب في حديث واحد، فيفضحه الله تعالى، فتسقط أحاديثه كلُّها! {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279]. ****

4 - قدح الساخط ومدح المحب ونحو ذلك

4 - قدح الساخط ومدح المحب ونحو ذلك كلام العالِم في غيره على وجهين: الأول: ما يخرج مخرج الذمّ بدون قصد الحكم. وفي "صحيح مسلم" (¬1) وغيره من حديث أبي هريرة سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "اللهم إنما محمد بشر، يغضب كما يغضب البشر، وإني قد اتخذت عندك عهدًا لم تخلفنيه، فأيما مؤمن آذيته أو سَبَبْته أو جلدته فاجعلها له كفارةً وقُربةً تُقرِّبه بها إليك يوم القيامة". وفي رواية: "فأيّ المسلمين آذيته شتمته لعنته جلدته فاجعلها له صلاة ... ". وفيه (¬2) نحوه من حديث عائشة ومن حديث جابر، وجاء في هذا الباب عن غير هؤلاء، وحديث أبي هريرة في "صحيح البخاري" (¬3) مختصرًا. ولم يكن صلى الله عليه وآله ومسلم سبّابًا ولا شتّامًا ولا لعّانًا، ولا كان الغضب يخرجه عن الحق، وإنما كان كما نَعَتَه ربُّه عزَّ وجلَّ بقوله: [1/ 53] {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] وقوله تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159] وقوله عزَّ وجلَّ: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ ¬

_ (¬1) (2601). وأخرجه أحمد في "المسند" (10403). والرواية الأخرى عند مسلم أيضًا. (¬2) حديث عائشة رقم (2600) وحديث جابر (2602). (¬3) (6361).

رَحِيمٌ} [التوبة: 128]. وإنما كان يرى من بعض الناس ما يضرهم في دينهم أو يُخِلُّ بالمصلحة العامّة أو مصلحة صاحبه نفسه، فيكره صلى الله عليه وآله وسلم ذلك وينكره، فيقول: "ما له تربت يمينه" (¬1) ونحو ذلك مما يكون المقصود به إظهار كراهية ما وقع من المدعوّ عليه وشدة الإنكار لذلك. وكأنه - والله أعلم - أطلق على ذلك سبًّا وشتمًا على سبيل التجوُّز بجامع الإيذاء. فأما اللعن فلعله وقع الدعاء به نادرًا عند شدة الإنكار. ومن الحكمة في ذلك إعلام الناس أن ما يقع منه صلى الله عليه وآله وسلم عند الإنكار كثيرًا ما يكون على وجه إظهار الإنكار والتأديب، لا على وجه الحكم. وفي مجموع الأمرين حكمة أخرى، وهي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد علم من طباع أكثر الناس أن أحدهم إذا غضب جرى على لسانه من السبّ والشتم واللعن والطعن ما لو سُئل عنه بعد سكون غضبه لقال: لم أقصد ذلك ولكن سبقني لساني، أو لم أقصد حقيقته ولكني غضبت. فأراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ينبه أمته على هذا الأصل ليستقر في أذهانهم، فلا يحملوا ما يصدر عن الناس من ذلك حالَ الغضبِ على ظاهره جزمًا. وكان حذيفة ربما يذكر بعض ما اتفق من كلمات النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند غضبه، فأنكر سلمان الفارسي ذلك على حذيفة رضي الله عنهما، وذكر هذا الحديث (¬2). وسئل بعض الصحابة - وهو أبو الطفيل ¬

_ (¬1) بهذا اللفظ أخرجه أبو يعلى (4220)، وأخرجه أبو داود (186) وأحمد (18212) وغيرهما بلفظ: "تربت يداه" من حديث المغيرة بن شعبة، وأخرجه أحمد (12609) بلفظ: "تربت جبينه" من حديث أنس بن مالك. (¬2) أخرجه أحمد (23721) وأبو داود (4659).

عامر بن واثلة - عن شيء من ذلك، فأراد أن يخبر، وكانت امرأته تسمع، فذكَّرتْه بهذا الحديث، فكفَّ (¬1). فكذلك ينبغي لأهل العلم أن لا ينقلوا كلمات العلماء عند الغضب، وأن يراعوا فيما نُقل منها هذا الأصل. بل قد يقال: لو فُرض أن العالم قصد عند غضبه الحكم لكان ينبغي أن لا يعتدَّ بذلك حُكْمًا. ففي "الصحيحين" (¬2) وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "لا يقضينَّ حَكَمٌ بين اثنين وهو غضبان" لفظ البخاري. والحكم في العلماء والرواة يحتاج إلى نظر وتدبُّر وتثبُّت أشدَّ مما يحتاج إليه الحكم في كثير من الخصومات. فقد تكون الخصومة في عشرة دراهم، فلا يخشى من الحكم فيها عند الغضب إلا تفويت عشرة [1/ 54] دراهم. فأما الحكم على العالم والراوي، فيخشى منه تفويت علم كثير، وأحاديث كثيرة، ولو لم يكن إلا حديثًا واحدًا لكان عظيمًا. ومما يخرج مخرج الذم لا مخرج الحكم: ما يقصد به الموعظة والنصيحة. وذلك كأن يبلغ العالِمَ عن صاحبه ما يكرهه له، فيذمه في وجهه أو بحضرة من يبلغه، رجاء أن يكفَّ عما كرهه له. وربما يأتي بعبارة ليست بكذب، ولكنها خشنة موحشة، يقصد الإبلاع في النصيحة، ككلمات الثوري في الحسن بن صالح بن حيّ (¬3)، وربما يكون الأمر الذي أنكره أمرًا لا بأس ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني في "الأوسط" (2309) وقال الهيثمي في "المجمع": (8/ 479): "فيه عبد الوهاب بن الضحاك وهو متروك". (¬2) البخاري (7158) ومسلم (1717) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه. (¬3) انظر "تهذيب التهذيب": (2/ 285).

به، بل قد يكون خيرًا، ولكن يخشى أن يجرَّ إلى ما يكره، كالدخول على السلطان، وولاية أموال اليتامى، وولاية القضاء، والإكثار من الفتوى. وقد يكون أمرًا مذمومًا، وصاحبه معذور، ولكن الناصح يحب لصاحبه أن يعاود النظر أو يحتال أو يخفي ذاك الأمر. وقد يكون المقصود نصيحة الناس لئلا يقعوا في ذلك الأمر؛ إذ قد يكون لمن وقع منه أولًا عذر ولكن يخشى أن يتبعه الناس فيه غير معذورين. ومن هذا: كلمات التنفير التي تقدمت الإشارة إليها في الفصل الثاني (¬1). وقد يتسمَّح العالم فيما يحكيه على غير جهة الحكم، فيستند إلى ما لو أراد الحكم لم يستند إليه، كحكاية منقطعة، وخبر من لا يُعَدُّ خبرُه حجة، وقرينة لا تكفي لبناء الحكم ونحو ذلك. وقد جاء عن إياس بن معاوية التابعي المشهور بالعقل والذكاء والفضل أنه قال: "لا تنظر إلى عمل العالم، ولكن سله يصدقك" (¬2). وكلام العالم - إذا لم يكن بقصد الرواية، أو الفتوى، أو الحكم - داخل في جملة عمله الذي ينبغي أن لا يُنظر إليه. وليس معنى ذلك أنه قد يعمل ما ينافي العدالة، ولكن قد يكون له عذر خفي، وقد يترخَّص فيما لا ينافي العدالة، وقد لا يتحفظ ويتثبت، كما يتحفظ ويتثبت في الرواية والفتوى والحكم. هذا، والعارف المتثبت المتحرِّي للحق لا يخفى عليه - إن شاء الله تعالى - ما حقُّه أن يُعَدَّ من هذا الضرب، مما حقُّه أن يعَدَّ من الضرب الآتي. ¬

_ (¬1) تقدمت الإشارة إلى ذلك وغيره (ص 13 - 19). (¬2) انظر "تهذيب الكمال": (1/ 308) للمزي.

وأن ما كان من هذا الضرب، فحقه أن لا يُعتدَّ به على المتكلَّم فيه ولا على المتكلِّم. والله الموفق. الوجه الثاني: ما يصدر على وجه الحكم فهذا إنما يُخشى فيه الخطأ. وأئمة الحديث عارفون، [1/ 55] متبحرون، متيقظون يتحرَّزون من الخطأ جهدهم، لكنهم متفاوتون في ذلك. ومهما بلغ الحاكِم من التحري فإنه لا يبلغ أن تكون أحكامه كلها مطابقة لما في نفس الأمر. فقد تسمع رجلًا يخبر بخبر، ثم تمضي مدة، فترى أن الذي سمعت منه هو فلان، وأن الخبر الذي سمعته منه هو كيت وكيت، وأن معناه كذا، وأن ذاك المعنى باطل، وأن المخبِرَ تعمَّد الإخبار بالباطل، وأنه لم يكن له عذر، وأن مثل ذلك يوجب الجرح. فمن المحتمل أن يشتبه عليك رجل بآخر، فترى أن المخبر فلان، وإنما هو غيره. وأن يشتبه عليك خبر بآخر، إنما سمعت من فلان خبرًا آخر، فأما هذا الخبر فإنما سمعته من غيره. وأن تخطئ في فهم المعنى، أو في ظن أنه باطل، أو أن المخبر تعمَّد، أو أنه لم يكن له عذر، أو أن مثل ذلك يوجب الجرح، إلى غير ذلك. وغالب الأحكام إنما تُبنى على غلبة الظن، والظن قد يخطئ، والظنون تتفاوت. فمن الظنون المعتدّ بها: ما له ضابط شرعي، كخبر الثقة. ومنها: ما ضابطه أن تطمئن إليه نفسُ العارف المتوقي المتثبت بحيث يجزم بالإخبار بمقتضاه طيّبَ النفس منشرحَ الصدر. [والنفوس تختلف في المعرفة والتوقي والتثبُّت] (¬1) فمن الناس من يغتر بالظن الضعيف، فيجزم. وهذا هو الذي يطعن ¬

_ (¬1) ما بين المعكوفين استدركناه من "تعزيز الطليعة" (ص 179).

أئمة الحديث في حفظه وضبطه، فيقولون: "يحدث على التوهم - كثير الوهم - كثير الخطأ - يهم - يخطئ". ومنهم المعتدل، ومنهم البالغ التثبُّت. كان في اليمن في قَضاء الحُجَرية قاض كان يجتمع إليه أهل العلم ويتذاكرون، وكنت أحضر مع أخي، فلاحظتُ أن ذلك القاضي - مع أنه أعلم الجماعة فيما أرى - لا يكاد يجزم في مسألة، وإنما يقول: "في حفظي كذا، في ذهني كذا" ونحو ذلك. فعلمت أنه ألزم نفسه تلك العادة حتى فيما يجزم به، حتى إذا اتفق أن أخطأ كان عذره بغاية الوضوح. وفي ثقات المحدّثين مَن (¬1) هو أبلغ تحرّيًا مِن هذا ولكنهم يعلمون أن الحجة إنما تقوم بالجزم، فكانوا يجزمون فيما لا يرون للشكِّ فيه مدخلًا، ويقفون عن الجزم لأدنى احتمال. روي أن شعبة سأل أيوب السختياني عن حديث فقال: أشكُّ فيه. فقال شعبة: شكُّك أحبُّ إليَّ من يقين غيرك (¬2). وقال النضر بن شُميل عن شعبة: لأن أسمع من ابن عون حديثًا يقول فيه: "أظن أني سمعته" أحبُّ إليَّ من أن أسمع من ثقة غيره يقول: قد سمعت (¬3). وعن شعبة قال: "شكُّ ابنِ عون وسليمانَ التيمي يقين" (¬4). وذكر يعقوبُ بن سفيان حمادَ بن زيد، فقال: معروف بأنه يقصر في ¬

_ (¬1) (ط): "مع" خطأ. (¬2) انظر "تهذيب التهذيب": (1/ 349). (¬3) "الجرح والتعديل": (5/ 131). (¬4) "تهذيب التهذيب": (4/ 176).

الأسانيد، ويوقف المرفوع، [1/ 56] كثير الشك بتوقّيه، وكان جليلًا. لم يكن له كتاب يرجع إليه، فكان أحيانًا يذكر فيرفع الحديث، وأحيانًا يهاب الحديث ولا يرفعه (¬1). وبالغ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب فكان إذا سئل عن شيء لا يجيب حتى يرجع إلى الكتاب. قال أبو طاهر السِّلَفي: سألت أبا الغنائم النَّرْسي عن الخطيب فقال: "جبل، لا يُسأل عن مثله، ما رأينا مثله. وما سألته عن شيء فأجاب في الحال إلا يرجع إلى كتابه" (¬2). وإذا سبق إلى نفس الإنسان أمر - وإن كان ضعيفًا عنده - ثم اطلع على ما يحتمل موافقة ذلك السابق ويحتمل خلافه، فإنه يترجح في نفسه ما يوافق السابق، وقد يقوَى ذلك في النفس جدًّا وإن كان ضعيفًا. وهكذا إذا كانت نفس الإنسان تهوى أمرًا فاطلع على ما يحتمل ما يوافقه وما يخالفه، فإن نفسه تميل إلى ما يوافق هواها. والعقل كثيرًا ما يحتاج عند النظر في المحتملات والمتعارضات إلى استفتاء النفس لمعرفة الراجح عندها. وربما يشتبه على الإنسان ما تقضي به نفسه بما يقضي به عقله. فالنفس بمنزلة المحامي عند ما تميل إليه، ثم قد تكون هي الشاهد، وهي الحَاكم. والعالم إذا سخط على صاحبه، فإنما يكون سخطه لأمر ينكره، فيسبق إلى النفس ذاك الإنكار، وتهوى ما يناسبه، ثم تتبع ما يشاكله، وتميل عند الاحتمال والتعارض إلى ما يوافقه. فلا يؤمَن أن يقوَى عند العالم جرحُ مَن ¬

_ (¬1) "تهذيب التهذيب": (3/ 11). (¬2) "كتاب الأربعين" (ص 537) لعلي بن المفضل، و"السير": (18/ 575).

هو ساخط عليه لأمرٍ، لولا السخط لَعلِمَ أنه لا يُوجب الجرح. وأئمة الحديث متثبتون، ولكنهم غير معصومين عن الخطأ. وأهل العلم يمثِّلون لجرح الساخط بكلام النسائي في أحمد بن صالح (¬1). ولَمَّا ذكر ابن الصلاح ذلك في "المقدمة" (¬2) عقَّبه بقوله: "قلت: النسائي إمام حجة في الجرح والتعديل، وإذا نُسِب مثله إلى مثل هذا كان وجهه أنّ عين السُّخْط تبدي مساوئ، لها في الباطن مخارج صحيحة تَعْمى عنها بحجاب السُّخْط، لا أن ذلك يقع من مثله تعمّدًا لقدح يعلم بطلانَه". وهذا حق واضح، إذ لو حُمل على التعمّد سقطت عدالة الجارح، والفرض أنه ثابت العدالة. هذا، وكلّ ما يُخشى في الذمّ والجرح يخشى مثله في الثناء والتعديل. فقد يكون الرجل ضعيفًا في الرواية، لكنه صالح في دينه، كأبان بن أبي عياش، أو غيور على السنة كمؤمَّل بن إسماعيل، أو فقيه كمحمد بن أبي ليلى؛ فتجد أهل العلم ربما يثنون على الرجل من هؤلاء، غير قاصدين الحكم [1/ 57] له بالثقة في روايته. وقد يرى العالم أن الناس بالغوا في الطعن، فيبالغ هو في المدح، كما يروى عن حماد بن سلمة أنه ذُكِر له طعن شعبة في أبان بن أبي عياش، فقال: أبان خير من شعبة (¬3). وقد يكون العالم وادًّا لصاحبه، فيأتي فيه نحو ما تقدم، فيأتي بكلمات الثناء التي لا يقصد بها الحكم، ولا سيما عند الغضب، كأن تسمع رجلًا يذمّ صديقك أو شيخك أو إمامك، فإن الغضب قد يدعوك إلى المبالغة في إطراء ¬

_ (¬1) انظره في "تهذيب التهذيب": (1/ 37). (¬2) (ص 391). (¬3) "من اختلف العلماء ونقاد الحديث فيه" (ص 40) لابن شاهين.

من ذمه، وكذلك يقابل كلمات التنفير بكلمات (¬1) الترغيب. وكذلك تجد الإنسان إلى تعديل من يميل إليه ويُحسِن به الظن أسرع منه إلى تعديل غيره. واحتمالُ التسَمُّح في الثناء أقرب من احتماله في الذمّ، فإن العالم يمنعه من التسمُّح في الذمّ الخوفُ على دينه لئلّا يكون غيبة، والخوفُ على عرضه، فإن مَن ذمَّ الناس فقد دعاهم إلى ذمِّه. ومن دعا الناسَ إلى ذمِّه ... ذمُّوه بالحقّ وبالباطل (¬2) ومع هذا كله، فالصواب في الجرح والتعديل هو الغالب، وإنما يحتاج إلى التثبت والتأمل فيمن جاء فيه تعديل وجرح. ولا يسوغ ترجيح التعديل مطلقًا بأن الجارحٍ كان ساخطًا على المجروح، ولا ترجيح الجرح مطلقًا بأن المعدِّل كان صديقًا له، وإنما يستدل بالسخط والصداقة على قوَّة احتمال الخطأ إذا كان محتملًا. فأما إذا لزم من اطراح الجرح أو التعديل نسبةُ مَن صَدَر منه ذلك إلى افتراء الكذب أو تعمّد الباطل أو الغلط الفاحش الذي يندر وقوع مثله مِنْ مثله، فهذا يحتاج إلى بيِّنة أخرى، لا يكفي فيه إثبات أنه كان ساخطًا أو محبًّا. وفي "لسان الميزان" (ج 1 ص 16) (¬3): "وممن ينبغي أن يُتوقَّف في قبول قوله في الجرح: مَن كان بينه وبين مَن ¬

_ (¬1) الأصل: "كلمات" [ن]. (¬2) من أبيات في "الأغاني": (14/ 157)، وهو في "رسائل الجاحظ": (1/ 355)، و"الحماسة البصرية" (854) ونُسِب لغير واحد. (¬3) (1/ 212).

جرحه عداوة، سببُها الاختلاف في الاعتقاد. فإن الحاذق إذا تأمل ثَلْبَ أبي إسحاق الجوزجاني لأهل الكوفة رأى العجب! وذلك لشدّة انحرافه في النّصْب، وشهرة أهلها بالتشيع. فتراه لا يتوقف في جرح مَن ذَكَره منهم بلسان ذَلْق (¬1) وعبارة طَلْقة، حتى إنه أخذ يليِّن مثلَ الأعمش وأبي نعيم وعبيد الله بن موسى وأساطين الحديث وأركان الرواية. فهذا إذا عارضه مثلُه أو أكبرُ منه، [1/ 58] فوثَّق رجلًا ضعَّفه قُبِلَ التوثيق. ويلتحق به عبد الرحمن بن يوسف بن خِراش المحدّث الحافظ، فإنه من غلاة الشيعة بل نُسِب إلى الرفض، فيُتأنَّى في جرحه لأهل الشام؛ للعداوة البينة في الاعتقاد. ويلتحق بذلك ما يكون سببُه المنافسةَ في المراتب، فكثيرًا ما يقع بين العصريين الاختلاف والتباين [لهذا] (¬2) وغيره. فكلُّ هذا ينبغي أن يُتأنَّى فيه ويُتأمَّل". أقول: قول ابن حجر: "ينبغي أن يتوقف" مقصوده - كما لا يخفى - التوقّف على وجه التأنّي والتروِّي والتأمل. وقوله: "فهذا إذا عارضه مثله ... قبل التوثيق" محلّه ما هو الغالب من أن لا يلزم من اطراح الجرح نسبةُ الجارح إلى افتراء الكذب، أو تعمّدِ الحكم بالباطل، أو الغلطِ الفاحش الذي يندر وقوعُه. فأما إذا لزم شيء من هذا، فلا محيص عن قبول الجرح، إلا أن تقوم بينة واضحة تثبت تلك النسبة. وقد تتبّعتُ كثيرًا من كلام الجوزجاني في المتشيِّعين، فلم أجده ¬

_ (¬1) (ط): "ذلقة". والمثبت من "اللسان". (¬2) من "اللسان"، وهو ساقط من الطبعة القديمة التي ينقل منها المؤلف.

متجاوزًا الحدَّ. وإنما الرجل - لما فيه من النَّصْب - يرى التشيُّع مذهبًا سيئًا، وبدعةَ ضلالةٍ، وزيغًا عن الحقّ وخذلانًا؛ فيطلق على المتشيِّعين ما يقتضيه اعتقاده، كقوله: "زائغ عن القصد - سيِّئ المذهب"، ونحو ذلك. وكلامه في الأعمش ليس فيه جرح، بل هو توثيق، وإنما فيه ذمّ بالتشيع والتدليس. وهذا أمر متفق عليه: أن الأعمش كان يتشيَّع ويدلّس، وربما دلس عن الضعفاء, وربما كان في ذلك ما يُنْكَر. وهكذا كلامه في أبي نعيم. فأما عُبيد الله بن موسى فقد تكلم فيه الإِمام أحمد وغيره بأشدّ من كلام الجوزجاني. وتكلم الجوزجاني في عاصم بن ضَمْرة. وقد تكلم فيه ابن المبارك وغيره، واستنكروا من حديثه ما استنكره الجوزجاني. راجع "سنن البيهقي" (ج 3 ص 51). غاية الأمر أن الجوزجاني هوَّل، وعلى كلِّ حال فلم يخرج من كلام أهل العلم. وكأنّ ابن حجر توهّم أن الجوزجاني في كلامه في عاصم (¬1) يُسِرُّ حَسْوًا في ارتغاء (¬2). وهذا تخيّل لا يُلتفت إليه. وقال الجوزجاني في يونس بن خباب: "كذاب مفتر" (¬3). ويونس وإن وثقه ابن معين، فقد قال البخاري: "منكر الحديث". وقال النسائي مع ما ¬

_ (¬1) انظر كلام الجوزجاني في "الشجرة" (ص 34 - 42) وتعقب الحافظ في "التهذيب": (5/ 45). (¬2) "يُسِرُّ حسوًا في ارتغاء" مثلٌ يضرب لمن يُظهِر أمرًا وهو يريد خلافه. انظر "مجمع الأمثال": (3/ 525) و"فصل المقال" (ص 76). يريد أن الحافظ توهّم أن الجوزجاني أراد اتهام عاصم بالكذب وإن لم يفصح في كلامه بذلك. (¬3) (ص 50).

عرف عنه: "ليس بثقة". واتفقوا على غلوّ يونس، ونقلوا عنه أنه قال: إن عثمان بن عفان قتل ابنتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ وأنه روى حديث سؤال القبر ثم قال: ههنا كلمة أخفاها الناصبة. قيل له: ما هي؟ قال: إنه ليسأل في قبره: مَن وليّك؟ فإن [1/ 59] قال: عليٌّ، نجا! فكيف لا يُعذر الجوزجاني مع نَصْبه أن يعتقد في مثل هذا أنه كذاب مفتر؟ وأشدُّ ما رأيته للجوزجاني ما تقدم عنه في القاعدة الثالثة من قوله: "ومنهم زائغ عن الحق ... " (¬1). وقد تقبل ابن حجر ذلك، على ما فهمه من معناه، وعظَّمه، كما مرَّ، وذكر نحو ذلك في "لسان الميزان" نفسه (ج 1 ص 11) (¬2). وإني لأعجب من الحافظ ابن حجر رحمه الله يوافق الجوزجاني على ما فهمه من ذلك، ويعظمه، مع ما فيه من الشدة والشذوذ - كما تقدم - ويشنِّع عليه ههنا ويهوِّل فيما هو أخفُّ من ذلك بكثير عندما يتدبر! والله المستعان. **** ¬

_ (¬1) (ص 76). (¬2) (1/ 204).

5 - هل يشترط تفسير الجرح؟

5 - هل يشترط تفسير الجرح؟ اعلم أن الجرح على درجات: الأولى: المجمل وهو ما لم يبيَّن فيه السبب كقول الجارح: "ليس بعدل"، "فاسق". ومنه - على ما ذكره الخطيب في "الكفاية" (ص 108) عن القاضي أبي الطيب الطبري -: قول أئمة الحديث: "ضعيف"، أو "ليس بشيء". وزاد الخطيب قولهم: "ليس بثقة". الثانية: مبيَّن السبب، ومثَّل له بعض الفقهاء بقول الجارح: "زان"، "سارق"، "قاذف". ووراء ذلك درجات بحسب احتمال الخلل وعدمه، فقوله: "فلان قاذف" قد يحتمل الخلل من جهة أن يكون الجارح أخطأ في ظنه أن الواقعَ قَذْف، ومن جهة احتمال أن يكون المرمي مستحقًّا للقذف، ومن جهة احتمال أن لا يكون الجارح سمع ذلك من المجروح وإنما بلغه عنه، ومن جهة أن يكون إنما سمع رجلًا آخر يقذف فتوهَّم أنه الذي سمّاه، ومن جهة احتمال أن يكون المجروح إنما كان يحكي القذف عن غيره، أو يفرض أن قائلًا قاله فلم يسمع الجارح أول الكلام، إلى غير ذلك من الاحتمالات. نعم إنها خلاف الظاهر، ولكن قد يقوى المعارض جدًّا فيغلب على الظن أن هناك خللًا وإن لم يتبين. واختلف أهل العلم في الدرجة الأولى - وهي الجرح المجمل - إذا صدر من العارف بأسباب الجرح، فمنهم مَن قال: يجب العمل به، ومنهم من قال: لا يعمل به؛ لأن الناس اختلفوا في أشياء يراها بعضهم فسقًا ولا

يوافقه غيره. وفصَّل الخطيبُ - فيما نقله عنه العراقي والسخاوي (¬1) - قال: "إن كان الذي يرجع إليه [في الجرح] عدلًا مرضيًّا في اعتقاده وأفعاله، عارفًا بصفة العدالة والجرح [1/ 60] وأسبابهما، عالمًا باختلاف الفقهاء في أحكام ذلك؛ قُبِلَ قوله فيمن جَرَحه مجملًا، ولا يُسأل عن سببه" (¬2). يريد أنه إذا كان عارفًا باختلاف الفقهاء، فالظاهر أنه لا يُجرَح إلا بما هو جرح باتفاقهم. وأقول: لا بدّ من الفرق بين جرح الشاهد وجرح الراوي، وبين ما إذا كان هناك ما يخالف الجرح، وما إذا لم يكن هناك ما يخالفه. فأما الشاهد فله ثلاث أحوال: الأولى: أن يكون (¬3) قد ثبتت عدالتُه في قضية سابقة وقضى بها القاضي، ثم جُرح في قضية أخرى. الثانية: أن لا يكون قد ثبتت عدالتُه، ولكن سئل عنه عارفوه، فمنهم من عدَّله، ومنهم من جَرَّحه. الثالثة: أن لا يكون قد ثبتت عدالته، وسئل عنه عارفوه، فجرَّحه بعضهم، وسكت الباقون. ¬

_ (¬1) انظر "شرح العراقي للألفية" (ص 151)، و"فتح المغيث": (2/ 28). (¬2) كلام الخطيب في "الكفاية" (ص 101). وما بين المعكوفين منه ومن المصادر التي عزا إليها المؤلف. (¬3) (ط): "تكون" وكذا في الموضع الثاني. والصواب بالياء كما في الموضع الثالث.

فأما الثالثة: فإن كان القاضي لا يقبل شهادة من لم يعدَّل، فأي فائدة في استفسار الجارح؟ وإن كان يقبلها فلضعفها يكفي الجرح المجمل. وأما الثانية: فقد يكثر الجارحون فيغلب على الظن صحة جرحهم وإن أجملوا، وقد لا تحصل غلبة الظن إلا بالدرجة الثانية من الجرح وهي بيان السبب، وقد لا تحصل إلا بأزيد منها مما مر بيانه. وإذا كان القاضي متمكِّنًا من الاستفسار لحضور الجارح عنده، أو قُرْبه منه، فينبغي أن يستوفيه على كل حال؛ لأنه كلما كان أقوى كان أثبت للحجة وأدْفَع للتهمة. وأما الأولى: فينبغي أن لا يكفي فيها جرح مجمل ولو مع بيان السبب، بل يحتاج إلى بيان المستند بما يدفع ما يحتمل من الخلل. وأما الراوي فحاله مخالفة للشاهد فيما نحن فيه من أوجه: الأول: أن الذين تكلّموا في الرواة أئمة أجلّة، والغالب فيمن يجرح الشاهد أن لا يكون بتلك الدرجة ولا ما يقاربها. الثاني: أن الذين تكلموا في الرواة منصبهم منصب الحكّام، وقد قال الفقهاء: إن المنصوب لجرح الشهود يُكتفى منه بالجرح المجمل. الثالث: أن القاضي متمكّن من استفسار جارح الشاهد كما مرّ، والذين جرحوا الرواة [1/ 61] يكثر في كلامهم الإجمال، وأن لا يستفسرهم أصحابهم، ولم يبقَ بأيدي الناس إلا نقل كلامهم، ولم يزل أهل العلم يتلقّون كلماتهم ويحتجون بها. وبعد أن اختار ابن الصلاح اشتراط بيان السبب قال: "ولقائل أن يقول:

إنما يعتمد الناس في جرح الرواة وردِّ حديثهم على الكتب التي صنفها أئمة الحديث ... وقلَّما يتعرّضون [فيها] لبيان السبب، بل يقتصرون على ... "فلان ضعيف"، و"فلان ليس بشيء" ونحو ذلك ... ، فاشتراط بيان السبب يُفضي إلى تعطيل ذلك، وسدِّ باب الجرح في الأغلب الأكثر. وجوابه: أن ذلك وإن لم نعتمده في إثبات الجرح والحكم به، فقد اعتمدناه في أن توقَّفْنا عن قبول حديث مَن قالوا فيه مثل ذلك، بناءً على أن ذلك أوقع عندنا فيهم ريبةً قويةً يُوجِب مثلُها التوقّف. ثم مَن انزاحت عنه الريبة منهم ببحْثٍ عن حاله أوجبَ الثقة بعدالته قبِلنا حديثه، ولم نتوقف؛ كالذين احتج بهم صاحبا "الصحيحين" وغيرهم (¬1) ممن مسَّهم مثل هذا الجرح من غيرهم. فافهم ذلك، فإنه مَخْلَص حسن" (¬2). وتبعه النووي في "التقريب" (¬3) و"شرح صحيح مسلم" (¬4) ولفظه هناك: "على مذهب من اشترط في الجرح التفسيرَ نقول: فائدة الجرح فيمن جُرِحَ مطلقًا أن يتوقّف عن الاحتجاج به إلى أن يبحث عن ذلك الجرح ... ". وذكر العراقي في "ألفيته" و"شرحها" (¬5) بعض الذين أشار ابن الصلاح إلى أن صاحبي "الصحيحين" احتجَّا بهم وقد جُرِحوا، فذكر ممن روى له البخاري: عكرمةَ مولى ابن عباس، وعمرو بن مرزوق الباهلي، وممن روى ¬

_ (¬1) في "المقدمة": "وغيرهما". (¬2) "مقدمة ابن الصلاح" (ص 108 - 109). (¬3) (1/ 360 - 361 - مع تدريب الراوي). (¬4) (1/ 62). (¬5) (ص 148 - 149).

له مسلم: سويدَ بن سعيد. وهؤلاء قد سبق جرحهم ممن قَبْل صاحبي "الصحيح"، وكذلك سبق تعديلهم أيضًا. فهذا يدل أن التوقف الذي ذكره ابن الصلاح والنووي يشمل مَن اختُلف فيه، فعدَّله بعضهم، وجَرَحه غيره جرحًا غير مفسر. وسياق كلامهما يقتضي ذلك، بل الظاهر أن هذا هو المقصود؛ فإن مَن لم يعدَّل نصًّا أو حُكمًا ولم يُجرح يجب التوقف عن الاحتجاج به، ومَن لم يعدَّل وجُرح جرحًا مجملًا فالأمر فيه أشدّ من التوقف والارتياب. فالتحقيق: أن الجرح المجمل يثبت به جرحُ مَن لم يعدَّل نصًّا ولا حُكمًا، ويوجب التوقُّف فيمن قد عدِّل، حتى يسفر البحث عما يقتضي قبوله أو ردّه. وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى (¬1). **** ¬

_ (¬1) (ص 125 وما بعدها).

6 - كيف البحث عن أحوال الرواة؟

[1/ 62] 6 - كيف البحث عن أحوال الرواة؟ مَن أحبّ أن ينظر في كتب الجرح والتعديل عن حال رجل وقع في سند، فعليه أن يراعي أمورًا: الأول: إذا وجد ترجمة بمثل ذاك الاسم فليتثبّت حتى يتحقق أن تلك الترجمة هي لذاك الرجل، فإن الأسماء كثيرًا ما تشتبه، ويقع الغلط والمغالطة فيها، كما يأتي في الأمر الرابع. وراجع "الطليعة" (ص 11 - 43) (¬1). الثاني: لِيستوثقْ من صحة النسخة ولْيراجعْ غيرها - إن تيسَّر له - ليتحقق أن ما فيها ثابت عن مؤلف الكتاب. راجع "الطليعة" (ص 55 - 59) (¬2). الثالث: إذا وجد في الترجمة كلمة جرح أو تعديل منسوبة إلى بعض الأئمة، فلينظر: أثابتة هي عن ذاك الإِمام أم لا؟ راجع "الطليعة" (ص 78 - 86) (¬3). الرابع: ليستثبِتْ أن تلك الكلمة قيلت في صاحب الترجمة، فإن الأسماء تتشابه. وقد يقول المحدّث كلمة في راو، فيظنها السامع في آخر، ويحكيها كذلك. وقد يحكيها السامع فيمن قيلت فيه، ويخطئ بعض من ¬

_ (¬1) (ص 5 - 31 من طبعتنا). (¬2) (ص 39 - 47). (¬3) (ص 59 - 66).

بعده فيحملها على آخر. ففي الرواة: [المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عيَّاش المخزومي، و] (¬1) المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، والمغيرة بن عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد بن حزام الحِزَامي، والمغيرة بن عبد الرحمن بن عوف الأسدي. حكى عبّاس الدوري (¬2) عن يحيى بن معين توثيق الأول وتضعيف الثالث. وحكى (¬3) ابن أبي حاتم (¬4) عن الدوري عن ابن معين توثيق الثاني، ووهمَّه المزي (¬5). ووثَّق أبو داود الثالث وضعَّف الأول، فذُكِرَت له حكاية الدوري عن ابن معين فقال: غلط عباس (¬6). وفي الرواة: محمد بن ثابت البناني، ومحمد بن ثابت العبدي وغيرهما. فحكى ابن أبي حاتم (¬7) عن ابن أبي خيثمة، عن ابن معين أنه قال في الأول: "ليس بقوي ... ". وذكر ابن حجر (¬8) أن الذي في "تاريخ ابن أبي ¬

_ (¬1) إضافة لازمة يدلّ عليها كلام المؤلف بعدها في الإشارة إلى ترتيب الأسماء، ولعلها سقطت أثناء الطبع ظنًّا من الطابع أنها تكرار وليس كذلك. (¬2) في "التاريخ" (928 و929). (¬3) (ط): "فحكى". (¬4) في "الجرح والتعديل": (8/ 225). (¬5) في "تهذيب الكمال": (7/ 199). (¬6) انظر "تهذيب الكمال": (7/ 199)، ولم أجده في سؤالاته المطبوعة. (¬7) في "الجرح والتعديل": (7/ 217). (¬8) في "تهذيب التهذيب": (9/ 83).

خيثمة" حكاية تلك المقالة في الثاني. وحكى عثمان الدارمي (¬1) عن ابن معين في الثاني أنه ليس به بأس. وحكى معاوية بن صالح عن ابن معين أنه يُنكَر على الثاني [1/ 63] حديث واحد (¬2). وحكى الدوري (¬3) عن ابن معين أنه ضعَّف الثاني، وقال الدوري: "فقلت له: أليس قد قلت مرة: ليس به بأس؟ قال: ما قلت هذا قط". وفي الرواة: عمر بن نافع مولى ابن عمر، وعمر بن نافع الثقفي. حكى ابن عدي (¬4) في ترجمة الأول عن ابن معين أنه قال: "ليس حديثه بشيء" فزعم ابن حجر (¬5) أن ابن معين إنما قالها في الثاني. وفي الرواة: عثمان البَتِّي، وعثمان البُرِّي. حكى الدوريّ (¬6) عن ابن معين في الأول: "ثقة". وحكى معاوية بن صالح عنه فيه: "ضعيف" (¬7). قال النسائي: "وهذا عندي خطأ، ولعله أراد عثمان البُرِّي". وفي الرواة: أبو الأشهب جعفر بن حيّان، وأبو الأشهب جعفر بن الحارث. وثَّق الإِمام أحمد الأول، فحكى ابن شاهين ذلك في الثاني، كما ¬

_ (¬1) في "تاريخه" (ص 216). (¬2) كما في "تهذيب التهذيب": (9/ 85). (¬3) في "تاريخه" (4537). (¬4) في "الكامل": (5/ 46). (¬5) في "التهذيب": (7/ 499 - 500). ونقل التوهيم عن الذهبي. انظر "الميزان": (4/ 146). (¬6) في "تاريخه" (3682). (¬7) كما في "التهذيب": (7/ 153 - 154) ونقل قول النسائي من كتاب "الكنى".

في نبذة من كلامه طبعت مع "تاريخ جرجان" (¬1). وضعَّف جماعة الثاني، فحكى ابن الجوزي (¬2) كلماتهم في ترجمة الأول. وفي الرواة أحمد بن صالح ابن الطبري الحافظ، وأحمد بن صالح الشُّمومي. حكى النسائي (¬3) عن معاوية بن صالح عن ابن معين كلامًا عدَّه النسائي في الأول، فذكر ابن حبان (¬4): إنما قاله ابن معين في الثاني. وفي الرواة: معاذ بن رفاعة الأنصاري، ومُعان بن رفاعة السلَامي. نقل الناسُ عن الدوريّ (¬5) أنه حكى عن ابن معين أنه قال في الثاني وهو معان: "ضعيف". ونقل أبو الفتح الأزدي (¬6) عن عباس أنه حكى عن ابن معين أنه قال في الأول وهو معاذ: "ضعيف". فكأنه تصحَّف على الأزدي. وفي الرواة: القاسم العمري، وهو ابن عبد الله بن عمر بن حفص؛ والقاسم المعمري، وهو ابن محمد. فحكى عثمان الدارمي (¬7) عن ابن معين ¬

_ (¬1) (ص 554) وانظر تعليق المؤلف هناك بما يقضي بتوهيم السهمي. (¬2) في "الضعفاء والمتروكين": (1/ 170). ونبّه عليه الحافظ في "التهذيب": (2/ 89). (¬3) ذكره الحافظ في "التهذيب": (1/ 41). (¬4) في "الثقات": (8/ 24 - 25). (¬5) انظر "تاريخه" (5134) وتصحفت فيه "معان" إلى "معاذ" مع أن أحد قرّاء النسخة قد كتب فوقها (معان) على الصواب. وانظر "الكامل": (6/ 3)، و"الضعفاء": (4/) للعقيلي، و"تهذيب الكمال": (7/ 149)، و"تهذيب التهذيب": (10/ 201). (¬6) نقله الحافظ في "التهذيب": (10/ 190). (¬7) في "تاريخه" (ص 193).

أنه قال: "قاسم المعمري كذاب خبيث". قال الدارمي: "وليس كما قال يحيى". والمعمري قد وثَّقه قتيبة. أما العمري فكذَّبه الإمام أحمد، وقال الدوري (¬1) عن ابن معين: "ضعيف ليس بشيء". فيشبه أن يكون ابن معين إنما قال: "قاسم [1/ 64] العمري كذاب خبيث" فكتبها عثمان الدارمي، ثم بعد مدَّة راجعها في كتابه، فاشتبه عليه، فقرأها: "قاسم المعمري ... ". وفي الرواة: إبراهيم بن أبي حَرّة، وإبراهيم بن أبي حيَّة. روى ابن أبي حاتم (¬2) من طريق عثمان الدارمي عن (¬3) ابن معين توثيق الثاني. ومن تدبَّر الترجمتين كاد يجزم بأن هذا غلط على ابن معين، وأنه إنما وثَّق الأول. وحكى أبو داود الطيالسي قصة لأبي الزبير محمد بن مسلم بن تَدْرُس المكي (¬4)، وحكى هو عن شعبة قصّةً نحو تلك لمحمد بن الزبير التميمي البصري (¬5). وأخشى أن يكون الطيالسي وهِم في أحدهما. وذكر ابن أبي خيثمة في كلامه في فِطْر بن خليفة ما لفظه: "سمعت قُطْبة بن العلاء يقول: تركت فطرًا, لأنه روى أحاديث فيها إزراء على عثمان" (¬6). ¬

_ (¬1) في "تاريخه" (686). (¬2) في "الجرح والتعديل": (2/ 96 و149)، والرواية في "تاريخ الدارمي": (ص 73). (¬3) في (ط): "على". (¬4) انظر "تهذيب التهذيب": (9/ 442). (¬5) انظر "تهذيب التهذيب": (9/ 167). (¬6) انظر "تهذيب التهذيب": (8/ 302).

وذكر هو في كلامه في فُضيل بن عياض: "سمعت قُطبة بن العلاء يقول: تركتُ حديث فضيل, لأنه روى أحاديث فيها إزراء على عثمان" (¬1). وأخشى أن تكون كلمة قُطبة إنما هي في "فِطْر"، فحكاها ابن أبي خيثمة مرة على الصواب، ثم تصحّفت عليه "فطر" بـ "فضيل" فحكاها في فضيل بن عياض. وحكى محمد بن وضَّاح القرطبي أنه سأل ابن معين عن الشافعي فقال: "ليس بثقة" (¬2). فحكاها ابن وضَّاح في الشافعي الإِمام، فزعم بعض المغاربة أن ابن معين إنما قالها في أبي عبد الرحمن أحمد بن يحيى بن عبد العزيز الأعمى المشهور بالشافعي، فإنه كان ببغداد، وابن وضَّاح لقي ابن معين ببغداد، فكأنه سأل ابنَ معين عن الشافعيّ - يريد ابن وضَّاح الإِمام - فظنّ ابن معين أنه يريد أبا عبد الرحمن لأنه كان حيًّا معهما في البلد. وفي ترجمة والد أبي عبد الرحمن من "التهذيب" (¬3) أن ابن معين قال: " .. ما أعرفه، وهو والد الشافعي الأعمى". الخامس: إذا رأى في الترجمة "وثَّقه فلان"، أو "ضعَّفه فلان"، أو "كذَّبه فلان" فليبحث عن عبارة فلان، فقد لا يكون قال: "هو ثقة" أو "هو ضعيف"، ¬

_ (¬1) انظر "تهذيب التهذيب": (8/ 296). (¬2) انظر "جامع بيان العلم": (2/ 1114 - 1115) لابن عبد البر، و"تهذيب التهذيب": (9/ 31). وانظر رسالة المؤلف "تنزيه الإِمام الشافعي عن مطاعن الكوثري" (ص 32 فما بعدها)، وترجمة الشافعي في كتابنا هذا رقم (189). (¬3) (11/ 251).

أو "هو كذاب". ففي "مقدمة الفتح" (¬1) في ترجمة إبراهيم بن سويد بن حيّان المدني: "وثَّقه ابن معين وأبو زرعة". [1/ 65] والذي في ترجمته من "التهذيب" (¬2): "قال أبو زرعة: ليس به بأس". وفي "المقدمة" (¬3) في ترجمة إبراهيم بن المنذر الحزامي: "وثَّقه ابن معين ... ، والنسائي". والذي في ترجمته من "التهذيب" (¬4): "قال عثمان الدارمي: رأيتُ ابنَ معين كتب عن إبراهيم بن المنذر أحاديث ابن وهب، ظننتها المغازي. وقال النسائي: ليس به بأس". وفي "الميزان" و"اللسان" (¬5) في ترجمة معبد بن جمعة: "كذَّبه أبو زرعة الكَشّي". وليس في عبارة أبي زرعة الكَشّي ما يعطي هذا، بل فيها أنه ثقة في الحديث (¬6). وقد شرحتُ ذلك في ترجمة معبد من قسم التراجم (¬7). السادس: أصحاب الكتب كثيرًا ما يتصرفون في عبارات الأئمة بقصد الاختصار، أو غيره؛ وربما يخلّ ذلك بالمعنى، فينبغي أن يراجع عدة كتب، فإذا وجد اختلافًا بحث عن العبارة الأصلية ليبني عليها. ¬

_ (¬1) (ص 388). (¬2) (1/ 126). (¬3) (ص 388). (¬4) (1/ 167). (¬5) "الميزان": (5/ 265)، و"اللسان": (8/ 104). (¬6) انظر عبارته في "سؤالات حمزة السهمي" (369)، و"تاريخ جرجان" (ص 475). (¬7) رقم (248).

السابع: قال ابن حجر في "لسان الميزان" (ج 1 ص 17) (¬1): "وينبغي أن يتأمل أيضًا أقوال المزكّين ومخارجها ... فمن ذلك أن الدوريّ قال: [سُئل ابن معين عن محمد بن إسحاق فقال: ثقة، فحكى غيره] (¬2) عن ابن معين أنه سئل عن ابن (¬3) إسحاق، وموسى بن عبيدة الرَّبَذي: أيهما أحب إليك؟ فقال: ابن إسحاق ثقة. وسئل عن محمد بن إسحاق بمفرده فقال: صدوق وليس بحجة. ومثله أن أبا حاتم قيل له: أيهما أحب إليك: يونس، أو عُقيل؟ فقال: عُقيل لا بأس به، وهو يريد تفضيله على يونس. وسئل عن عُقيل، وزَمْعة بن صالح، فقال: عُقيل ثقة متقن. وهذا حكم على (¬4) اختلاف السؤال. وعلى هذا يُحْمل أكثر ما ورد من اختلاف أئمة الجرح (¬5) والتعديل ممن وثَّق رجلًا في وقت، وجرَّحه في وقت آخر ... " (¬6). أقول: وكذلك ما حكوا من كلام مالك في ابن إسحاق (¬7)، إذا حُكِيت القصة على وجهها تبيَّن أن كلمة مالك فلتةُ لسان عند سَورة غضب، لا يقصد بها الحكم. وكذلك ما حكوه عن ابن معين أنه قال لشجاع بن الوليد: "يا ¬

_ (¬1) (1/ 213). (¬2) ما بينهما ساقط من (ط) والاستدراك من "اللسان". (¬3) سقطت من (ط) وهي ثابتة في "اللسان". (¬4) في "اللسان - المحققة": "على حكم ... ". (¬5) في "اللسان - المحققة": "كلام أئمة أهل الجرح ... ". (¬6) في مقدمة "رجال البخاري" للباجي باب في هذا المعنى. [المؤلف]. (¬7) انظر "تهذيب التهذيب": (9/ 41).

كذاب". فحملها ابن حجر على المزاح (¬1). ومما يدخل في هذا أنهم قد يضعِّفون الرجل بالنسبة إلى بعض شيوخه، أو إلى بعض الرواة [1/ 66] عنه، أو بالنسبة إلى ما رواه من حفظه، أو بالنسبة إلى ما رواه بعد اختلاطه؛ وهو عندهم ثقة فيما عدا ذلك. فإسماعيل بن عياش ضعَّفوه فيما روى عن غير الشاميين (¬2). وزهير بن محمد ضعَّفوه فيما رواه عنه الشاميون (¬3). وجماعة آخرون ضعَّفوهم في بعض شيوخهم، أو فيما رووه بعد الاختلاط. ثم قد يُحكى التضعيف مطلقًا، فيتوهَّم أنهم ضعَّفوا ذلك الرجل في كل شيء. ويقع نحو هذا في التوثيق. راجع ترجمة عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود (¬4). قال أحمد مرة: ثقة. وكذا قال ابن معين. ثم بيَّن كلٌّ منهما مرة أنه اختلط. وزاد ابن معين، فبيَّن أنه كان كثير الغلط عن بعض شيوخه، غير صحيح الحديث عنهم. ومن ذلك أن المحدِّث قد يُسأل عن رجل، فيحكم عليه بحسب ما عَرف من مجموع حاله. ثم قد يسمع له حديثًا، فيحكم عليه حكمًا يميل فيه إلى حاله في ذاك الحديث. ثم قد يسمع له حديثًا آخر، فيحكم عليه حكمًا يميل فيه إلى حاله في هذا الحديث الثاني. فيظهر بين كلامه في هذه ¬

_ (¬1) في "هُدى الساري" (ص 409). (¬2) انظر "تهذيب التهذيب": (1/ 324). (¬3) انظر "تهذيب التهذيب": (3/ 349). (¬4) انظر "تهذيب التهذيب": (6/ 210 - 212).

المواضع بعض الاختلاف. وقع مثل هذا للدارقطني في "سننه" (¬1) وغيرها، وترى بعض الأمثلة في ترجمة الدارقطني من قسم التراجم (¬2). وقد يُنْقَل الحكم الثاني أوالثالث وحده، فيتوهم أنه حكمٌ مُطْلق. الثامن: ينبغي أن يُبْحَث عن معرفة الجارح أو المعدِّل بمن جرَّحه أو عدَّله، فإن أئمة الحديث لا يقتصرون على الكلام فيمن طالت مجالستُهم له وتمكَّنت معرفتُهم به، بل قد يتكلم أحدُهم فيمن لقيه مرة واحدة وسمع منه مجلسًا واحدًا أو حديثًا واحدًا، وفيمن عاصره ولم يلقه ولكنه بلغه شيءٌ من حديثه، وفيمن كان قبله بمدّة قد تبلغ مئات السنين إذا بلغه شيء من حديثه، ومنهم من يجاوز ذلك. فابن حبان قد يذكر في "الثقات" من يجد البخاريَّ سمَّاه في "تاريخه" من القدماء وإن لم يَعرف ما روى، وعمّن روى، ومَن روى عنه. ولكن ابن حبان يشدّد، وربما تعنَّت فيمن وجد في روايته ما استنكره، وإن كان الرجل معروفًا مكثرًا. والعجليُّ قريب منه في توثيق المجاهيل من القدماء، وكذلك ابن سعد. وابنُ معين والنسائي وآخرون غيرهما يوثّقون مَن كان من التابعين أو أتباعهم، إذا وجدوا رواية أحدهم مستقيمة؛ بأن يكون له فيما يروي متابع أو ¬

_ (¬1) كما في (1/ 62 و3/ 135) عند ذكر إبراهيم بن أبي يحيى، و (1/ 320 و4/ 96) عند ذكر إسحاق بن أبي فروة ... وغير ذلك. (¬2) رقم (164).

شاهد (¬1)، وإن لم يرو عنه إلّا واحد، ولم يبلغهم عنه إلا حديث [1/ 67] واحد. فممن وثّقه ابنُ معين مِن هذا الضّرْب: الأسقع بن الأسلع، والحَكَم بن عبد الله البلَوي، ووهب بن جابر الخَيواني وآخرون. وممن وثقه النسائيُّ: رافع بن إسحاق، وزهير بن الأقمر، وسعد بن سمرة وآخرون. وقد روى العوّام بن حَوشب، عن الأسود بن مسعود، عن حنظلة بن خويلد، عن عبد الله بن عَمرو بن العاص حديثًا (¬2). ولا يُعرف الأسود وحنظلة إلا في تلك الرواية، فوثَّقهما ابن معين (¬3). وروى همام، عن قتادة، عن قدامة بن وَبَرة، عن سمرة بن جندب حديثًا (¬4). ولا يُعرف قدامة إلا في هذه الرواية، فوثَّقه ابن معين (¬5)، مع أن الحديث غريب وله علل أخرى راجع "سنن البيهقي" (ج 3 ص 248). ومن الأئمة من لا يوثِّق مَن تقدَّمه حتى يطلع على عدة أحاديث له تكون مستقيمة، وتكثُر حتى يغلب على ظنه أن الاستقامة كانت مَلَكة لذاك الراوي. وهذا كله يدل على أن جلَّ اعتمادهم في التوثيق والجرح إنما هو على سَبْر حديث الراوي. وقد صرّح ابنُ حبان بأن المسلمين على الصلاح والعدالة، ¬

_ (¬1) (ط): "مشاهد" خطأ. (¬2) الحديث أخرجه أحمد (6538، 6929)، والنسائي في "الكبرى" (8498)، وغيرهما. (¬3) كما في رواية الدارمي (ص 65 و88). (¬4) الحديث أخرجه أحمد (20087)، وأبو داود (1053، 1054)، والنسائي (1372) وغيرهم. (¬5) في رواية الدارمي (ص 191).

حتى يتبين منهم ما يوجب القدح. نص على ذلك في "الثقات" (¬1). وذكره ابن حجر في "لسان الميزان" (ج 1 ص 14) (¬2) واستغربه. ولو تدبَّر لوجد كثيرًا من الأئمة يبنون عليه، فإذا تتبَّع أحدُهم أحاديثَ الراوي، فوجدها مستقيمة تدل على صدق وضبط، ولَم يبلغه ما يوجب طعنًا في دينه = وثَّقه، وربما تجاوز بعضهم هذا كما سلف (¬3) وربما يبني بعضهم على هذا حتى في أهل عصره. وكان ابن معين إذا لقي في رحلته شيخًا فسمع منه مجلسًا، أو ورد بغدادَ شيخٌ فسمع منه مجلسًا، فرأى تلك الأحاديث مستقيمة، ثم سئل عن الشيخ = وثَّقه. وقد يتفق أن يكون الشيخ دجالًا استقبل ابنَ معين بأحاديث صحيحة، ويكون قد خلَّط قبل ذلك، أو يخلِّط بعد ذلك. ذكر ابن الجنيد (¬4) أنه سأل ابنَ معين عن محمد بن كثير القرشي الكوفي، فقال: "ما كان [1/ 68] به بأس". فحكى له عنه أحاديث تُستنكر، فقال ابن معين: "فإن كان هذا الشيخ ¬

_ (¬1) (1/ 11 - 13). (¬2) (1/ 208 - 209). (¬3) يشير إلى ابن حبان، فإنه قد يوثق الرجال بإيراده إياه في الكتاب المذكور "الثقات" مع أنه لا يعرفه. ويؤيد ذلك أنني رأيته قال في بعض المترجمين عنده: "لا أعرفه، ولا أعرف أباه"! وعلى مثل هذا التوثيق أقام كتابه "الصحيح" المعروف به، فأحفظ هذا، فإنه مهم، لم يتنبه له إلا أهل التحقيق في هذا العلم الشريف، منهم المصنف رحمه الله وجزاه خيرًا، كما تقدم (وانظر كلامه الآتي في آخر الصفحة التالية: الأمر التاسع) وقد بسطت القول في هذه المسألة في "الرد على التعقيب الحثيث" (ص 18 - 21) فليراجع. [ن]. (¬4) "سؤالاته" (ص 887). وانظر "تراجم منتخبة" رقم (267) للمؤلف.

روى هذا فهو كذّاب، وإلا فإني رأيت الشيخ مستقيمًا". وقال ابن معين في محمد بن القاسم الأسدي: "ثقة وقد كتبت عنه" (¬1). وقد كذَّبه أحمد، وقال: "أحاديثه موضوعة". وقال أبو داود: "غير ثقة ولا مأمون، أحاديثه موضوعة" (¬2). وهكذا يقع في التضعيف، ربما يجرح أحدهم الراوي لحديث واحد استنكره، وقد يكون له عذر. ورد ابنُ معين مصر، فدخل على عبد الله بن [عبد] الحكم، فسمعه يقول: حدثني فلان وفلان وفلان. وعدَّ جماعةً روى عنهم قصة. فقال ابن معين: "حدَّثك بعضُ هؤلاء بجميعه وبعضُهم ببعضه؟ " فقال: "لا، حدثني جميعُهم بجميعه"، فراجعه، فأصرَّ. فقام يحيى، وقال للناس: "يكذب" (¬3). ويظهر لي أن عبد الله إنما أراد أن كلًّا منهم حدَّثه ببعض القصة، فجمع ألفاظهم. وهي قصة في شأن عمر بن عبد العزيز، ليست بحديث، فظن يحيى أن مراده أن كلًّا منهم حدَّثه بالقصة بتمامها على وجهها، فكذَّبه في ذلك. وقد أساء الساجيُّ إذ اقتصر في ترجمة عبد الله على قوله: "كذّبه ابنُ ¬

_ (¬1) هذه رواية ابن أبي خيثمة عنه، نقلها عنه ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل": (8/ 65) وغيره. وهذه من مفردات ابن أبي خيثمة عن يحيى، فكل الرواة عن يحيى على تضعيفه بل تكذيبه؛ ففي رواية الدوري (3082): "ذَكَر محمد بن القاسم ... فلم يرضه"، وفي رواية ابن الجنيد (534): "ليس بشيء"، وفي رواية ابن محرز (3): "ليس بشيء، كان يكذب، قد سمعت منه". (¬2) انظر "تهذيب التهذيب": (9/ 407). (¬3) "تهذيب التهذيب": (5/ 289 - 290).

معين" (¬1) وبلغ ابنَ معين أن أحمد بن الأزهر النيسابوري يحدِّث عن عبد الرزاق بحديث استنكره يحيى، فقال: "من هذا الكذاب النيسابوري الذي يحدِّث عن عبد الرزاق بهذا الحديث؟ " وكان أحمد بن الأزهر حاضرًا، فقام فقال: "هو ذا أنا". فتبسَّم يحيى، وقال: "أما إنك لست بكذاب ... " (¬2). وقال ابن عمار في إبراهيم بن طهمان: "ضعيف مضطرب الحديث" فبلغ ذلك صالح بن محمد الحافظ الملقب جَزَرة، فقال: "ابن عمار من أين يعرف إبراهيم؟ إنما وقع إليه حديث إبراهيم في الجمعة ... والغلط فيه من غير إبراهيم" (¬3). التاسع: ليبحث عن رأي كلِّ إمام من أئمة الجرح والتعديل واصطلاحه، مستعينًا على ذلك بتتبع كلامه في الرواة، واختلاف الرواية عنه في بعضهم، مع مقارنة كلامه بكلام غيره. فقد عرفنا في الأمر السابق (¬4) رأيَ بعضِ من يوثِّق المجاهيل من ¬

_ (¬1) فائدة عن كتاب الساجي: قال ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام": (5/ 405): "كان لابن حزم اعتناء بكتاب أبي يحيى الساجي - أي الضعفاء - حتى اختصره، ورتَّبه على الحروف، وشاع اختصاره المذكور لِنُبْلِهِ، وكان في كتاب الساجي تخليط لم يأْبَه له ابن حزم حين الاختصار، فجرَّ لغيره الخطأ" اهـ. (¬2) انظر "تهذيب التهذيب": (1/ 12). (¬3) انظر "تهذيب التهذيب": (1/ 130). (¬4) (ص 113 وما بعدها).

القدماء إذا وَجَد حديثَ الراوي منهم مستقيمًا، ولو كان حديثًا واحدًا لم يروه عن ذاك المجهول إلا واحد. فإن شئتَ فاجعل [1/ 69] هذا رأيًا لأولئك الأئمة كابن معين، وإن شئت فاجعله اصطلاحًا في كلمة "ثقة"، كأن يُراد بها استقامة ما بلغ الموثِّقَ من حديث الراوي، لا الحكم للراوي نفسه بأنه في نفسه بتلك المنزلة. وقد اختلف كلام ابن معين في جماعة، يوثِّق أحدهم تارة ويضعِّفه أخرى. منهم: إسماعيل بن زكريا الخُلقاني، وأشعث بن سوَّار، والجرَّاح بن مليح الرؤاسي، وحَرْب (¬1) بن أبي العالية، والحسن بن يحيى الخُشَني، والزبير بن سعيد، وزهير بن محمد التميمي، وزيد بن حِبّان الرقي، وسَلْم العلوي، وعافية القاضي، وعبد الله بن (¬2) الحسين أبو حَريز، وعبد الله بن عقيل أبو عقيل، وعبد الله بن عمر بن حفص العمري، وعبد الله بن واقد أبو قتادة الحراني، وعبد الواحد بن غياث، وعبيد الله بن عبد الرحمن بن موهب، وعتبة بن أبي حكيم، وغيرهم. وجاء عنه توثيق جماعة ضعَّفهم الأكثرون. منهم: تمام بن نجيح، ودَرَّاج بن سمعان، والربيع بن حبيب الملاح، وعبَّاد بن كثير الرملي، ومسلم بن خالد الزَّنْجي، ومسلمة بن علقمة، وموسى بن يعقوب الزَّمْعي، ومؤمَّل بن إسماعيل، ويحيى بن عبد الحميد الحِمَّاني. وهذا يشعر بأن ابن ¬

_ (¬1) (ط): "جرير" تصحيف. انظر "تهذيب التهذيب": (2/ 225)، و"تاريخ الدوري" (2750). (¬2) سقطت من (ط). وترجمته في "الجرح والتعديل": (5/ 34).

معين كان ربما يطلق كلمة "ثقة"، لا يريد بها أكثر من أن الراوي لا يتعمّد الكذب. وقد يقول ابن معين في الراوي مرة: "ليس بثقة"، ومرة: "ثقة" أو: "لا بأس به"، أو نحو ذلك. (راجع تراجم جعفر بن ميمون التميمي، وزكريا بن منظور، ونوح بن جابر). وربما يقول في الراوي: "ليس بثقة" ويوثقه غيرُه. (راجع تراجم عاصم بن علي، وفُلَيح بن سليمان، وابنه محمد بن فُليح، ومحمد بن كثير العبدي". وهذا قد يشعر بأن ابن معين قد يطلق كلمة "ليس بثقة" على معنى أن الراوي ليس بحيث يقال فيه: "ثقة" على المعنى المشهور لكلمة "ثقة". فأما استعمال كلمة "ثقة" على ما هو دون معناها المشهور، فيدل عليه - مع ما تقدم - أن جماعة يجمعون بينها وبين التضعيف. قال أبو زرعة في عمر بن عطاء بن وَرَاز: "ثقة لين" (¬1). وقال العجلي (¬2) في القاسم أبي عبد الرحمن الشامي: "ثقة يُكتب حديثه، وليس بالقوي". وقال ابن سعد في جعفر بن سليمان الضُّبَعي: "ثقة وبه ضعف" (¬3). وقال ابن معين في عبد الرحمن بن زياد بن أنْعُم: "ليس به بأس، وهو ضعيف" (¬4). وقد ذكروا ¬

_ (¬1) "الجرح والتعديل": (6/ 126) في إحدى النسخ، وعنها نقل الحافظ المزي: (5/ 376)، والحافظ: (7/ 4). (¬2) تصحّف في (ط) إلى: "الكعبي"، وانظر عبارة العجلي في "الثقات": (2/ 212)، و"التهذيب": (8/ 2). (¬3) "الطبقات الكبرى": (9/ 289). (¬4) رواية الدوري (5075) وفيه: "وفيه ضعف".

أن ابن معين يطلق كلمة: "ليس به بأس" بمعنى "ثقة" (¬1). وقال يعقوب بن شيبة في ابن أنْعُم هذا: "ضعيف الحديث، وهو ثقة صدوق، [1/ 70] رجل صالح" (¬2). وفي الربيع بن صَبيح: "صالح صدوق ثقة، ضعيف جدًّا" (¬3). وراجع تراجم إسحاق بن يحيى بن طلحة، وإسرائيل بن يونس، وسفيان بن حسين، وعبد الله بن عمر بن جعفر بن عاصم، وعبد الأعلى بن عامر الثعلبي، وعبد السلام بن حرب، وعليّ بن زيد بن جُدعان، ومحمد بن مسلم بن تَدْرُس، ومؤمَّل بن إسماعيل، ويحيى بن يمان. وقال يعقوب بن سفيان في أجْلَح: "ثقة، حديثه لين" (¬4). وفي محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى: "ثقة عدل، في حديثه بعض المقال، ليِّن الحديث عندهم" (¬5). وأما كلمة "ليس بثقة" فقد روى بشر بن عمر عن مالك إطلاقها في جماعة، منهم صالح مولى التوأمة، وشعبة مولى ابن عباس. وفي ترجمة مالك من "تقدمة الجرح والتعديل" (¬6) لابن أبي حاتم عن يحيى القطان أنه سأل مالكًا عن صالح هذا، فقال: "لم يكن من القُرّاء". وسأله عن شعبة هذا ¬

_ (¬1) انظر "علوم الحديث" (ص 124) لابن الصلاح. (¬2) "تاريخ بغداد": (10/ 217). (¬3) "تهذيب الكمال": (2/ 463). (¬4) "تهذيب التهذيب": (1/ 190). (¬5) "المعرفة والتاريخ": (3/ 94) ليعقوب بن سفيان. (¬6) (ص 23) وفيه كلامه على شعبة، أما كلامه في صالح مولى التوأمة ففي "تهذيب التهذيب": (4/ 405).

فقال: "لم يكن من القراء". فأما صالح فأثنى عليه أحمد وابن معين وذكر أنه اختلط بأخرة، وأن مالكًا إنما أدركه بعد الاختلاط. وأما شعبة مولى ابن عباس فقال أحمد: "ما أرى به بأسًا". وكذا قال ابن معين. وقال البخاري: "يتكلم فيه مالك ويحتمل منه". قال ابن حجر (¬1): "قال أبو الحسن ابن القطان الفاسي: قوله: "ويحتمل منه". يعني من شعبة، وليس هو ممن يُترك حديثه. قال: ومالك لم يضعِّفه، وإنما شح عليه بلفظة ثقة. قلت: هذا التأويل غير شائع، بل لفظة: "ليس بثقة" في الاصطلاح توجب الضعف الشديد. وقد قال ابن حبان: "روى عن ابن عباس ما لا أصل له حتى كأنه ابن عباس آخر". أقول: ابن حِبّان كثيرًا ما يهوِّل مثل هذا التهويل في غير محلِّه، كما يأتي في ترجمته وترجمة محمد بن الفضل من قسم التراجم (¬2). وكلمة: "ليس بثقة" حقيقتها اللغوية نفيُ أن يكون بحيث يقال له: "ثقة". ولا مانع من استعمالها بهذا المعنى، وقد ذكرها الخطيب في "الكفاية" (¬3) في أمثلة الجرح غير المفسر. واقتصار مالك في رواية يحيى القطان على قوله: "لم يكن من القراء" يُشعر بأنه أراد هذا المعنى. نعم، إذا قيل: "ليس بثقة ولا مأمون" تعيَّن الجرح الشديد. وإن اقتصر على "ليس بثقة" فالمتبادر جرح شديد، ولكن إذا كان هناك ما يُشعر بأنها اسْتُعملت في المعنى الآخر حُمِلت عليه. ¬

_ (¬1) "التهذيب": (4/ 347). (¬2) برقم (200 و228). (¬3) (ص 111 - 112).

وهكذا كلمة: "ثقة"، معناها المعروف: التوثيق التام، [1/ 71] فلا تُصرف عنه إلا بدليل، إما قرينة لفظية كقول يعقوب: "ضعيف الحديث وهو ثقة صدوق" وبقية الأمثلة السابقة. وإما حالية منقولة، أو مستدَلّ عليها بكلمة أخرى عن قائلها، كما مرَّ في الأمر السابع عن "لسان الميزان"، أو عن غيره، ولا سيّما إذا كانوا هم الأكثر. فتدبَّرْ ما تقدَّم، وقابِلْه بما قاله الكوثري في "الترحيب" (ص 15) قال: "وكم من راو يوثّق ولا يحتج به، كما في كلام يعقوب الفسوي. بل كم ممن يوصف بأنه صدوق، ولا يُعَدُّ ثقة، كما قال ابن مهدي: أبو خَلْدة صدوق مأمون، الثقة سفيان وشعبة". وعلى الأستاذ مؤاخذات: الأولى: أنه ذكر هذا في معرض الاعتذار، وأنا لم أناقشه فيما قام الدليل فيه. الثانية: أن كلمة يعقوب التي أشار إليها هي قوله: "كتبتُ عن ألف شيخ وكسر، كلهم ثقات، ما أحد منهم أتخذه عند الله حجة، إلا أحمد بن صالح بمصر، وأحمد بن حنبل بالعراق" (¬1). أوردتها في "الطليعة" (ص 21) إلى قوله: "ثقات". ذكرت ذلك من جملة الشواهد على أن شيخ يعقوب في ذاك السند هو أحمد بن الخليل الموثَّق، لا أحمد بن الخليل المجروح، فزعم الأستاذ في "الترحيب" أنني اقتصرت على أول العبارة، لأوهم أن شيخ يعقوب في ذاك السند ثقة يحتج به! وهذا كما ترى: ¬

_ (¬1) في "المعرفة والتاريخ": (3/ 361).

أولًا: لأن سياق كلامي هناك واضح في أني إنما أردت تعيين شيخ يعقوب، فأما الاحتجاج وعدمه فلا ذِكْر له هناك. ثانيًا: لأن بقية عبارة يعقوب لا تعطي أن شيوخه كلهم غير الأحمدين لا يحتج بأحد منهم في الرواية. كيف وفيهم أئمة أجلة قد احتج براويتهم الأحمدان أنفسهما، بل قام الإجماع على ذلك؟ وإنما أراد يعقوب بالحجة عند الله مَن يؤخذ بروايته ورأيه وقوله وسيرته. الثالثة: أن كلمة ابن مهدي لا توافق مقصود الأستاذ، فإنها تعطي بظاهرها أن كلمة "ثقة" إنما تطلق على أعلى الدرجات كشعبة وسفيان. ومع العلم بأن ابن مهدي وجميع الأئمة يحتجون برواية عدد لا يحصون ممن هم دون شعبة وسفيان بكثير، فكلمته تلك تعطي بظاهرها أن من [1/ 72] كان دون شعبة وسفيان فإنه وإن كان عدلًا ضابطًا تقوم الحجة بروايته فلا يقال له: "ثقة"، بل يقال: "صدوق" ونحوها. وأين هذا من مقصود الأستاذ؟ الرابعة: أن كلمة ابن مهدي بظاهرها منتقدة من وجهين: الأول: أنه وكافة الأئمة قبله وبعده يطلقون كلمة "ثقة" على العدل الضابط، وإن كان دون شعبة وسفيان بكثير. الثاني: أن أبا خَلْدة قد قال فيه يزيد بن زُرَيع والنسائي وابن سعد والعجلي والدارقطني: "ثقة". وقال ابن عبد البر: "هو ثقة عند جميعهم، وكلام ابن مهدي لا معنى له في اختيار الألفاظ". وأصل القصة: أن ابن مهدي كان يحدِّث فقال: "حدثنا أبو خلدة". فقال له رجل: "كان ثقة؟ " فأجاب ابن مهدي بما مر. فيظهر لي: أن السائل فخَّم

كلمة: "ثقة"، ورفع يده وشدَّها، بحيث فهم ابن مهدي أنه يريد أعلى الدرجات، فأجابه بحسب ذلك. فقوله: "الثقة شعبة وسفيان" أراد به الثقة الكامل الذي هو أعلى الدرجات. وذلك لا ينفي أن يقال في مَن دون شعبة وسفيان: "ثقة" على المعنى المعروف. وهذا بحمد الله تعالى ظاهر، وإن لم أر مَن نبَّه عليه. وقريب منه أن المرُّوذي (¬1) قال: "قلت لأحمد بن حنبل: عبد الوهاب بن عطاء ثقة؟ فقال: ما تقول؟ إنما الثقة يحيى القطان". وقد وثَّق أحمد مئات من الرواة يعلم أنهم دون يحيى القطان بكثير. الخامسة: أن قيام الدليل على إطلاق بعضهم في بعض المواضع كلمة: "ثقة" - كما قدمت أنا أمثلته - لا يسوِّغ أن تحمل على ذلك المعنى حيث لا دليل. العاشر: إذا (¬2) جاء في الراوي جرح وتعديل فينبغي البحث عن ذاتِ بين الراوي وجارحه أو معدِّله من نُفرة أو محبة. وقد مرَّ إيضاح ذلك في القاعدة الرابعة (¬3). **** ¬

_ (¬1) في "سؤالاته لأحمد" (48). (¬2) "الأصل: "إذ". [ن]. (¬3) (ص 87 - 98).

7 - إذا اجتمع جرح وتعديل فبأيهما يعمل؟

[1/ 73] 7 - إذا اجتمع جرح وتعديل فبأيهما يعمل؟ قد ينقل في راو جرح وتعديل، ولكننا إذا بحثنا بمقتضى القاعدة السابقة سقط أحدهما، أو تبين أنه إنما أريد به ما لا يخالف الآخر، فهاتان الصورتان خارجتان عن هذه القاعدة. فأما إذا ثبت في الرجل جرح وتعديل متخالفان، فالمشهور في ذلك قضيتان: الأولى: أن الجرح إذا لم يبيَّن سببه فالعمل على التعديل. وهذا إنما يطرد في الشاهد, لأن معدِّله يعرف أن القاضي إنما يسأله ليحكم بقوله، ولأن شرطه معرفته بسيرة الشاهد معرفة خبرة، ولأن القاضي يستفسر الجارح كما يجب؛ فإذا أبى أن يفسِّر كان إباؤه موهنًا لجرحه. فأما الراوي فقد يكون المثني عليه لم يقصد الحكم بثقته، وقد يكون الجرح متعلقًا بالعدالة مثل: "هو فاسق". والتعديل مطلق، والمعدِّل غير خبير بحال الراوي، وإنما اعتمد على سبر ما بلغه من أحاديثه. وذلك كما لو قال مالك في مدني: "هو فاسق"، ثم جاء ابن معين فقال: "هو ثقة". وقد يكون المعدِّل إنما اجتمع بالراوي مدة يسيرة، فعدَّله بناء على أنه رأى أحاديثه مستقيمة؛ والجارح من أهل بلد الراوي. وذلك كما لو حجَّ رازيّ، فاجتمع به ابن معين ببغداد، فسمع منه مجلسًا، فوثَّقه، ويكون أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان قد قالا فيه: "ليس بثقة ولا مأمون". ففي هذه الأمثلة لا يخفى أن الجرح أولى أن يؤخذ به. فالتحقيق أن كلًّا من التعديل والجرح الذي لم يبيَّن سببُه يحتمل وقوع الخلل فيه. والذي ينبغي أن يؤخذ به منهما هو ما كان احتمال الخلل فيه أبعد

من احتماله في الآخر، وهذا يختلف ويتفاوت باختلاف الوقائع. والناظر في زماننا لا يكاد يتبين له الفصل في ذلك إلا بالاستدلال بصنيع الأئمة، كما إذا وجدنا البخاري ومسلمًا قد احتجّا أو أحدُهما براو سبق ممن قبلهما فيه جرحٌ غير مفسَّر، فإنه يظهر لنا رجحان التعديل غالبًا، وقس على ذلك. وهذا تفصيل ما تقدم في القاعدة الخامسة (¬1) عن ابن الصلاح وغيره. لكن ينبغي النظر في كيفية رواية الشيخين عن الرجل، فقد يحتجّان أو أحدُهما بالراوي في شيء دون شيء، وقد لا يحتجان به، وإنما يُخرِّجان له ما توبع عليه. ومن تتبع ذلك وأنعم فيه النظر علم أنهما في الغالب لا يهملان الجرح البتة، [1/ 74] بل يحملانه على أمر خاص، أو على لينٍ في الراوي لا يحطه عن الصلاحية به فيما ليس مظنة الخطأ، أو فيما توبع عليه ونحو ذلك. راجع الفصل التاسع من "مقدمة فتح الباري" (¬2). القضية الثانية: أن الجرح إذا كان مفسَّرًا، فالعمل عليه. وهذه القضية يُعرَف ما فيها بمعرفة دليلها، وهو ما ذكره الخطيب في "الكفاية" (ص 105) (¬3) قال: "والعلةُ في ذلك أن الجارح يخبر عن أمر باطن قد عَلِمه، ويصدِّق المعدّل، ويقول له: قد علمتَ من حاله الظاهرة ما علمتَها، وتفردتُ بعلمٍ لم تعلمه من اختبار أمره. وإخبارُ المعدِّل عن العدالة الظاهرة لا ينفي صدق قول الجارح ... ¬

_ (¬1) (ص 99 - 103). (¬2) (ص 384 وما بعدها). (¬3) (ص 105 - 107).

ولأن مَن عمل بقول الجارح لم يتهم المزكِّي، ولم يخرجه بذلك عن كونه عدلًا. ومتى لم نعمل بقول الجارح كان في ذلك تكذيب له ونقض لعدالته، وقد علم أن حاله في الأمانة مخالفة لذلك". أقول: ظاهر كلام الخطيب أن الجرح المبيَّن السبب مقدَّم على التعديل، بل يظهر مما تقدم عنه في القاعدة الخامسة (¬1) من قبول الجرح المجمل إذا كان الجارح عارفًا بالأسباب واختلاف العلماء أنَّ الجارح إذا كان كذلك قُدِّم جرحُه الذي لم يبيِّن سببَه على التعديل، لكن جماعة من أهل العلم قيدوا الجرحَ الذي يقدَّم على التعديل بأن يكون مفسّرًا. والدليل المذكور يرشد إلى الصواب، فقول الجارح العارف بالأسباب والاختلاف: "ليس بعدل"، أو "فاسق"، أو "ضعيف"، أو "ليس بشيء"، أو "ليس بثقة"، هل يجب أن لا يكون إلا عن علم بسببٍ موجِب للجرح إجماعًا؟ أوَ لا يحتمل أن يكون جهِلَ، أو غفل، أو ترجح عنده ما لا نوافقه عليه؟ أوَ ليس في كلّ مذهب اختلافٌ بين فقهائه فيما يوجب الفسق؟ فإن بيَّن السبب فقال مثلًا: "قاذف"، أو قال المحدث: "كذاب"، أو "يدعي السماع ممن لم يسمع منه"، أفليس إذا كان المتكلَّم فيه راويًا قد لا يكون المتكلِّم قصد الجرحَ، وإنما هي فلتة لسان عند ثورة (¬2) غضب، أو كلمة قصد بها غير ظاهرها بقرينة الغضب؟ أوَ لم يختلف الناس في بعض الكلمات أقَذْفٌ هي أم لا؟ حتى إن فقهاء المذهب الواحد قد يختلفون في بعضها. أوَ ليس قد يستند الجارح إلى شيوع خبر قد يكون أصله كذبة فاجر ¬

_ (¬1) (ص 100). (¬2) كذا في (ط)، وفي الصفحة الآتية: "سَورة" وهو الأشبه.

أو قرينة واهية كما في قصة الإفك؟ وقد يستند المحدِّث إلى خبر واحد يراه ثقة، وهو عند غيره غير ثقة. أوَ ليس قد يبني المحدَّث كلمة: "كذاب"، أو "يضع الحديث"، أو "يدعي السماع ممن لم يسمع منه" على اجتهاد يحتمل الخطأ؟ فإن فصَّل الجارحُ القذفَ [1/ 75] أفليس قد يكون القذف لمستحقه؟ أوَ ليس قد يكون فلتة لسان عند سورة غضب، كما وقع من محمد بن الزبير، أو من أبي الزبير محمد بن مسلم بن تدرُس على ما رواه أبو داود الطيالسي عن شعبة (¬1)، وكما وقع من أبي حصين عثمان بن عاصم فيما ذكره وكيع وإن كانت الحكاية منقطعة؟ (¬2). إذا تدبرتَ هذا علمتَ أنه لا يستقيم ما استدل به الخطيب إلا حيث يكون الجرح مبيَّنًا مفسَّرًا مثبتًا مشروحًا بحيث لا يظهر دفعه إلا بنسبة الجارح إلى تعمّد الكذب، ويظهر أن المعدَّل لو وقف عليه لما عدَّل. فما كان هكذا، فلا ريب أن العمل فيه على الجرح، وإن كثر المعدِّلون. وأما ما دون ذلك فعلى ما تقدم في القضية الأولى. **** ¬

_ (¬1) انظر ما سبق (ص 108). (¬2) انظرها في "تهذيب التهذيب": (7/ 127).

8 - قولهم: من ثبتت عدالته لم يقبل فيه الجرح إلا ...

8 - قولهم: من ثبتت عدالته لم يقبل فيه الجرح إلا ... قال البخاري في "جزء القراءة" (¬1): "والذي يُذكر عن مالك في ابن إسحاق لا يكاد يبين ... ولو صح ... فلربما تكلم الإنسان فيرمي صاحبه بشيء واحد، ولا يتهمه في الأمور كلها. وقال إبراهيم بن المنذر عن محمد بن فُليح: نهاني مالك عن شيخين من قريش، وقد أكثر عنهما في "الموطأ"، وهما مما يحتج بحديثهما. ولم ينج كثير من الناس من كلام بعض الناس فيهم نحو ما يُذكر عن إبراهيم من كلامه في الشعبي، وكلام الشعبي في عكرمة، وفيمن كان قبلهم، وتأويل بعضهم في العرض والنفس. ولم يلتفت أهل العلم في هذا النحو إلا ببيانٍ وحجة، ولم يسقط عدالتهم إلا ببرهان (¬2) وحجة ... وقال بعضُ أهل المدينة: إن الذي يذكر عن هشام بن عروة قال: كيف يدخل ابن إسحاق على امرأتي؟ لو صح عن هشام جائز أن تكتب إليه ... وجائزٌ أن يكون سمع منها وبينهما حجاب، وهشام لم يشهد". وفي "فتح المغيث" للسخاوي (ص 130) (¬3) عن محمد بن نصر المروزي: "كل رجل ثبتت عدالته لم يقبل فيه تجريح أحد حتى يبيِّن ذلك بأمر لا يحتمل أن يكون غير جرحة". وفي ترجمة عكرمة من "مقدمة فتح الباري" (¬4) عن ابن جرير: "من ¬

_ (¬1) (ص 36 - 37). (¬2) في "الجزء": "ببرهان ثابت". (¬3) (2/ 30). (¬4) (ص 429).

ثبتت عدالته لم يقبل فيه الجرح، وما تسقط العدالة بالظن وبقول فلان لمولاه: [1/ 76] "لا تكذب عليَّ"، وما أشبهه من القول الذي له وجوه وتصاريف ومعان غير الذي وجَّهه إليه أهل الغباوة". وقال ابن عبد البر (¬1): "الصحيح في هذا الباب: أن مَن صحت عدالته، وثبتت في العلم أمانته (¬2)، وبانت ثقته وعنايته بالعلم؛ لم يُلتفت فيه إلى قول أحد، إلا أن يأتي في جرحته ببيّنة عادلة تصح بها جرحته على طريق الشهادات والعمل فيها (¬3) من المشاهدة والمعاينة". قال السخاوي في "فتح المغيث" (¬4): " .. ليس المراد إقامة بينة على جرحه، بل المعنى أنه يستند في جرحه إلى ما يستند إليه الشاهد في شهادته، وهو المشاهدة ونحوها". قد يقال: إن كان المراد بثبوت العدالة أن يتقدم التعديل والحكم به والعمل بحسبه على الجرح، فهذا إنما يكثر في الشهود. وإن كان المراد بثبوتها حصول تعديل على أيِّ حالٍ كان، فهذا لا وجه له. فقد تقدم في القاعدة السادسة (¬5) ما يعلم منه أن التعديل يتفاوت، ويحتمل كثير منه الخلل، كما يحتمله الجرح الذي لم يُشرح كل الشرح، أو أشد. ومن تتبع ¬

_ (¬1) في "جامع بيان العلم": (2/ 1093). (¬2) كذا في الطبعة التي نقل منها المؤلف، وفي المحققة و"فتح المغيث": "إمامته". (¬3) في "فتح المغيث": "بما فيها". (¬4) (2/ 30). (¬5) (ص 104 وما بعدها).

صنيع أهل العلم تبين له أنهم كثيرًا ما يقدّمون الجرح الذي لم يُشرح كل الشرح على التوثيق، كما في حال إبراهيم بن أبي يحيى والواقدي وغيرهما. وكثيرًا ما يقع للبخاري وغيره القدحُ فيمن لم يدركوه، وقد سبق أن عدَّله معدِّل أو أكثر، ولم يسبق أن جرحه أحد. فأقول: الذي يتحرر أن للعدالة جهتين: الأولى: استقامة السيرة. وثبوت هذا بالنظر إلى هذه القاعدة يظهر (¬1) فيمن تظهر عدالته، ويعدَّل تعديلًا معتمدًا، وتمضي مدة، ثم يجرح. فأما ما عدا ذلك فالمدار على الترجيح، وقد مرَّ في القاعدة السابقة. الجهة الثانية: استقامة الرواية. وهذا يثبت عند المحدِّث بتتبعه أحاديثَ الراوي، واعتبارِها، وتبيُّن أنها كلّها مستقيمة تدل على أن الراوي كان من أهل الصدق والأمانة. وهذا لا يتيسر لأهل عصرنا، لكن إذا كان القادحون في الراوي قد نصوا على ما أنكروه من حديثه، بحيث ظهر أن ما عدا ذلك من حديثه مستقيم، فقد يتيسر لنا أن ننظر في تلك الأحاديث؛ فإذا تبين أن لها مخارج قوية تدفع التهمة عن الراوي فقد ثبتت استقامة روايته. وقد حاولتُ العمل بهذا [1/ 77] في بعض الآتين في قسم التراجم كالحارث بن عمير والهيثم بن جميل (¬2). فأما ما عدا هذا، فإننا نحتاج إلى الترجيح، فقد يترجح عندنا استقامة رواية الرجل باحتجاج البخاري به في "صحيحه"؛ لظهور أن البخاري إنما احتجَّ به بعد أن تتبع أحاديثه وسَبَرها ¬

_ (¬1) (ط): "تظهر". (¬2) انظر رقم (68 و263).

وتبيّن له استقامتها. وقد علمنا مكانة البخاري، وسعة اطلاعه، ونفوذ نظره، وشدّة احتياطه في "صحيحه". وقس على ذلك، وراجع ما تقدم في القواعد السابقة. والله الموفق. هذا وقد تعرَّض ابنُ السبكي في ترجمة أحمد بن صالح من "طبقات الشافعية" (¬1) لهذه القاعدة، وزاد فيها فقال: "فنقول مثلًا: لا يُلتفت إلى كلام ابن أبي ذئب في مالك، وابن معين في الشافعي، والنسائي في أحمد بن صالح؛ لأن هؤلاء أئمة مشهورون، صار الجارح لهم كالآتي بخبر غريب لو صحَّ لتوفرت الدواعي على نقله، وكان القاطع قائمًا على كذبه ... ومعنا أصلان نستصحبهما إلى أن نتيقن خلافهما: أصل عدالة الإِمام المجروح ... ، وأصل عدالة الجارح ... فلا نلتفت إلى جرحه، ولا نجرحه بجرحه. فاحفظ هذا المكان فهو من المهمات ... فنحن نقبل قول ابن معين ... ولا نقبل قوله في الشافعي، ولو فسَّر وأتى بألف إيضاح؛ لقيام القاطع على أنه غير مُحِقٍّ بالنسبة إليه". أقول: هوَّل على عادته، والإنصاف أن الشافعي لم يكن معصومًا، ولم يقم القاطعُ اليقينيُّ على أنه لم يقع منه ما إذا وقع من الرجل صح أن يُجرح به. ولم يكن الشافعي طول عمره في جميع أحواله لا يزال بحضرته جمٌّ غفير، تقضي العادةُ حتمًا بأنه لو وقع منه شيء مما ذُكِر لتوفّرت الدواعي على نقله. نعم، لو فرضنا أن الجارح ذكر أمرًا يصح أن يقال فيه: لو وقع لتوفرت الدواعي على نقله تواترًا, ولم يكن ذلك، فإنه لا يقبل منه. ولو أن السبكيَّ ¬

_ (¬1) (2/ 9 - 22).

ترك أن يفرض ما لم يقع، واعتنى بما وقع في الأمثلة التي ذكرها، وبيَّن وجوهها؛ لأجاد وأفاد. وقد تعرضتُ لما وقفت عليه من ذلك في تراجم أولئك الثلاثة من قسم التراجم (¬1)، ولله الحمد. **** ¬

_ (¬1) انظر الأرقام (183 و189 و20) مالك، والشافعي، وأحمد بن صالح.

9 - مباحث في الاتصال والانقطاع

[1/ 78] 9 - مباحث في الاتصال والانقطاع المبحث الأول: في رواية الرجل بصيغة محتملة للسماع عمن عاصره، ولم يثبت لقاؤه له. ذكر مسلم في مقدمة "صحيحه" (¬1) عن بعض أهل عصره: أنه شَرَط أن يثبت لقاء الراوي للمروي عنه ولو مرة، فإن لم يثبت لم يُحكم لما يرويه عنه بالاتصال. وذكروا أن الذي شَرَط ذلك هو البخاري وشيخه عليُّ بن المديني (¬2). وحكى مسلم إجماعَ أهل العلم سَلَفًا وخَلَفًا على الاكتفاء بالمعاصرة وعدم التدليس، وألزم مخالفَه أن لا يَحكم بالاتصال فيما لم يصرِّح فيه الراوي بالسماع، وإن ثبت اللقاء في الجملة، ولم يكن الراوي مدلسًا. وتوضيح هذا الإلزام: أنه كما أن الراوي الذي [لم] (¬3) يُعرَف ويشتهر بالإرسال عمن عاصره ولم يلقه قد يقع له شيء من ذلك، فكذلك الراوي الذي لم يُعرَفْ ويشتهِرْ بالإرسال عمن لقيه وسمع منه قد يقع له شيء من ذلك. فإن كان ذلك الوقوع يوجب التوقف عن الحكم بالاتصال في الأول، فلْيوجِبْه في الثاني. وإن لم يوجبه في الثاني فلا يوجبه في الأول. أجاب النووي (¬4) بما إيضاحه: أن رواية غير المدلس بتلك الصيغة عمن ¬

_ (¬1) (1/ 28 - 35). (¬2) انظر "الإكمال": (1/ 164) للقاضي عياض. وعنه نقله غالب من بَعْده. (¬3) سقطت من (ط). (¬4) في "شرح مسلم": (1/ 128).

قد لقيه وسمع منه، الظاهر منها السماع، والاستقراء يدلّ أنهم إنما يطلقون ذلك في السماع إلا المدلِّس. أقول: فمُسْلِم يقول: الحال هكذا أيضًا في رواية غير المدلس عمن عاصره. والرواية عن المعاصر على وجه الإيهام تدليسٌ أيضًا عند الجمهور، ومَن لم يطلق عليها ذلك لفظًا لا ينكر أنها تدليس في المعنى، بل هي أقبح عندهم من إرسال الراوي على سبيل الإيهام عمن قد سمع منه. هذا، وصنيع مسلم يقتضي أن الإرسال على أي الوجهين كان إنما يكون تدليسًا إذا كان على وجه الإيهام. ويوافقه ما في "الكفاية" للخطيب (ص 357). وذَكَر مسلم (¬1) أمثلةً فيها إرسال جماعة بالصيغة المحتملة عمن قد سمعوا منه، ولم تُعَدَّ تدليسًا ولا عُدُّوا مدلسين. ومحمل ذلك أن الظن بمن وقعت منهم أنهم لم يقصدوا الإيهام، وأنهم اعتمدوا على قرائن خاصة كانت قائمة عند إطلاقهم تلك الرواية تدفع ظهور الصيغة في السماع. وقد كنتُ بسطتُ ذلك، ثم رأيت هذا المقام يضيق عنه. ولا يخالف ذلك ما ذكروه عن [1/ 79] الشافعي أن التدليس يثبت بمرة (¬2) , لأنا نقول: هذا مسلَّم، ولكن محلّه حيث تكون تلك المرة تدليسًا بأن تكون بقصد الإيهام. والأمثلة التي ذكرها مسلم لم تكن كذلك، بدليل إجماعهم على أن أولئك الذين وقعت منهم تلك الأمثلة ليسوا مدلسين. ¬

_ (¬1) في مقدمة "صحيحه": (1/ 33 - 35). (¬2) انظر "الرسالة" (ص 379) للشافعي.

وزعم النووي في "شرح صحيح مسلم" (¬1) أنه لا يحكم على مسلم بأنه عمل في "صحيحه" بقوله المذكور. وهذا سهو من النووي، فقد ذكر مسلم في ذلك الكلام أحاديثَ كثيرة زعم أنه لم يُصرَّح فيها بالسماع ولا عَلِمَ اللقاء، وأنها صحاح عند أهل العلم، ثم أخرج منها في أثناء "صحيحه" تسعة عشر حديثًا كما ذكره النووي نفسه، ومنها ستة في "صحيح البخاري" كما ذكره النووي أيضًا. هذا، ولم يجيبوا عن تلك الأحاديث إلّا بأن نفيَ مسلمٍ العلمَ باللقاء لا يستلزم عدم علم غيره. وهذا ليس بجواب عن تصحيح مسلم لها، وإنما هو جواب عن قوله: إنها عند أهل العلم صحاح. وقد دفعه بعض علماء العصر (¬2) بأنه لا يكفي في الردّ على مسلم، مع العلم بسعة اطلاعه. أقول: قد كان على المجيبين أن يتتبعوا طرق تلك الأحاديث وأحوال رواتها، وعلى الأقل كان يجب أن يعتنوا بالستة التي في "صحيح البخاري". وكنتُ أظنهم قد بحثوا، فلم يظفروا بما هو صريح في ردّ دعوى مسلم، فاضطروا إلى الاكتفاء بذاك الجواب الإجمالي. ثم إنني بحثتُ، فوجدت تلك الستة قد ثبت فيها اللقاء، بل ثبت في بعضها السماع، بل في "صحيح مسلم" نفسه التصريح بالسماع في حديث منها (¬3). وسبحان من لا يضل ولا ¬

_ (¬1) (1/ 14). (¬2) لعله يقصد الشيخ شبّير العثماني في كتابه "فتح الملهم بشرح صحيح مسلم": (1/ 109 و402). فإنه أشار إلى مثل ذلك. (¬3) للمؤلف بحث في الأحاديث التي استشهد بها مسلم في بحث الخلاف في اشتراط =

ينسى! وأما بقية الأحاديث، فمنها ما يثبت فيه السماع واللقاء فقط، ومنها ما يمكن أن يجاب عنه جواب آخر، ولا متسع هنا لشرح ذلك. وزعم بعضُ علماء العصر (¬1) أن اشتراط البخاري العلم باللقاء إنما هو لما يخرِّجه في "صحيحه" لا للصحة في الجملة. كذا قال، وفي كلام البخاري على الأحاديث في عدّة من كتبه كـ "جزء القراءة" وغيره ما يدفع هذا. والله الموفق. المبحث الثاني: في ضبط المعاصرة المعتدّ بها على قول مسلم. ضَبَطها مسلم بقوله: "كل رجل ثقة روى عن مثله حديثًا، وجائزٌ ممكن له لقاؤه والسماعُ منه لكونهما كانا في عصر واحد ... " (¬2). وجمعُه بين "جائز وممكن" يُشعر بأن المراد الإمكان الظاهر الذي يقرب [1/ 80] في العادة، والأمثلة التي ذكرها مسلم واضحة في ذلك. والمعنى يؤكَّد هذا، فإنه قد ثبت أن الصيغة بحسب العُرف - ولا سيما عُرف المحدّثين وما جرى عليه عملهم - ظاهرة في السماع. فهذا الظهور يحتاج إلى دافع، فمتى لم يُعلم اللقاء، فإن ¬

_ = العلم باللقاء، وهو ضمن هذه الموسوعة - الرسائل الحديثية. وللمؤلف أيضًا بحث في مسألة اشتراط العلم باللقاء عَقَده على صورة مناظرة بين فريقين. انظره في آخر رسالة "عمارة القبور في الإِسلام - المسوّدة" (ص 94 - 108). واختصره في "المبيّضة" (ص 93 - 99). (¬1) وقد ذكر ذلك قديمًا الحافظ ابن كثير في "اختصار علوم الحديث" (1/ 169) والبلقيني في "محاسن الاصطلاح" (ص 158). وردّه الحافظ ابن حجر في "النكت": (2/ 595 فما بعدها) وأطال. (¬2) "الصحيح": (1/ 29 - 30).

كان مع ذلك مستبعدًا، الظاهر عدمه، فلا وجه للحمل على السماع؛ لأن ظهور عدم اللقاء يدافع ظهور الصيغة. وقد يكون الراوي عدَّ ظهورَ عدم اللقاء قرينةً على أنه لم يُرد بالصيغة السماع. وإن احتمل اللقاء احتمالًا لا يترجّح أحدُ طرفيه، فظهور الصيغة لا معارض له. فأما إذا كان وقوع اللقاء ظاهرًا بينًا، فلا محيص عن الحكم بالاتصال، وذلك كمدني روى عن عمر، ولم يُعلم لقاؤه له نصًّا، لكنه ثبت أنه ولد قبل وفاة عمر بخمس عشرة سنة مثلًا، فإن الغالب الواضح أن يكون قد شهد خطبة عمر في المسجد مرارًا. فأما إذا كان الأمر أقوى من هذا، كرواية قيس بن سعد المكي عن عمرو بن دينار، فإنه يُحكم باللقاء حتمًا. والحكم به في ذلك أثبت بكثير من الحكم به لشاميٍّ روى عن يمانٍ، لمجرّد أنه وقع في رواية واحدة التصريح بالسماع. وانظر ما يأتي في الفقهيّات في مسألة القضاء بالشاهد واليمين (¬1). المبحث الثالث: لا يكفي احتمال المعاصرة، لكن إذا كان الشيخ غير مسمًّى، ففي كلامهم ما يدلّ على أنه يحكم بالاتصال. وذلك فيما إذا جاءت الرواية عن فلان التابعي "عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم .. " ونحو ذلك. راجع "فتح المغيث" (ص 62) (¬2). والفرق بين التسمية والإبهام: أن ظاهر الصيغة السماع. والثقةُ إذا استعملها في غير السماع ينصب قرينة، فالمدلّس يعتدّ بأنه قد عُرِف منه ¬

_ (¬1) (2/ 253). (¬2) (1/ 178).

التدليس قرينة. وأما غيره فإذا سمّى شيخًا، ولم يثبت عندنا معاصرته له، فمن المحتمل أنه كان معروفًا عند أصحابه أنه لم يدركه، فاعتدَّ بعلمهم بذلك قرينةً. وأهلُ العلم كثيرًا ما ينقلون في ترجمة الراوي بيان مَن حدّث عنهم ولم يلقهم، بل أفردوا ذلك بالتصنيف كـ "مراسيل ابن أبي حاتم" وغيره، ولم يعتنوا بنقل عدم الإدراك لكثرته، فاكتفوا باشتراط العلم بالمعاصرة. فأما إذا أبهم، فلم يسمِّ، فهذا الاحتمال منتف؛ لأن أصحاب ذاك التابعي لم يعرفوا عينَ ذلك الصحابي، فكيف يعرفون أنه لم يدركه أو أنه لم يلقه؟ ففي هذا تنتفي القرينة، وإذا انتفت ظهر السماع، وإلا لزم التدليس، والفرضُ عدمُه. هذا ما ظهر لي، وعندي فيه توقّف. [1/ 81] المبحث الرابع: اشتراط العلم باللقاء أو بالمعاصرة، إنما هو بالنظر إلى من قُصدت الرواية عنه. فأما من ذُكر عَرَضًا، فالظاهر أنه يكفي فيه الاحتمال. فإذا كان غير مسمّى فالأمر أوضح، لما مرَّ في المبحث السابق، وذلك كما في حديث "الصحيحين" (¬1) من طريق عبد العزيز بن صُهيب قال: سأل رجل أنس بن مالك: ما سمعتَ نبيَّ الله صلى الله عليه وآله وسلم يذكر في الثوم؟ فقال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ... " لفظ مسلم. ولفظ البخاري: "سئل أنس عن الثوم، فقال: قال النبي صلى الله عليه ... " عبد العزيز معروف بصحبة أنس، ولا ندري مَن السائل؟ ومِن ذلك ما في "صحيح مسلم" (¬2) من طريق حنظلة قال: "سمعت ¬

_ (¬1) البخاري (856)، ومسلم (562). (¬2) (16).

عكرمة بن خالد يحدث طاوسًا أن رجلًا قال لعبد الله بن عمر: ألا تغزو؟ فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه ... ". وأخرجه البخاري (¬1) من طريق حنظلة: "عن عكرمة بن خالد عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه ... ". وقد يأتي شبه هذا، ويكون المبهَم هو الراوي نفسه، وإنما كنّى عن نفسه لغرض؛ كحديث "الصحيحين" (¬2) عن معاذة: "أن امرأة قالت لعائشة: أتُجْزي (¬3) إحدانا صلاتُها إذا طهرت؟ فقالت: أحَرُوريّة أنت؟ ... " لفظ البخاري. وفي "الفتح" (¬4): "بيَّن شعبةُ في روايته عن قتادة أنها هي معاذة الراوية. أخرجه الإسماعيلي من طريقه، وكذا لمسلم من طريق عاصم وغيره عن معاذة (¬5) ". أقول: في "صحيح مسلم" (¬6) من طريق يزيد الرِّشْك: "عن معاذة أن امرأة سألَتْ ... ". ومن طريق عاصم عن معاذة قالت: "سألتُ عائشة فقلتُ ... ". وقد يجيء نحو ذلك، والراوي لم يشهد القصة، ولكنه سمعها بتمامها ¬

_ (¬1) (8). (¬2) البخاري (321)، ومسلم (335). (¬3) (ط): "أيجزي" والمثبت من البخاري. (¬4) (1/ 421 - 422). (¬5) (ط): "قتادة" تصحيف. (¬6) (335/ 67 و69).

ممن قصد الرواية عنه؛ كما في حديث البخاري (¬1) من طريق علقمة قال: "كنا بحمص، فقرأ ابن مسعود سورة يوسف، فقال رجل: ما هكذا نزلت (¬2)! فقال: قرأت على رسول الله صلى الله عليه ... ". ورواه مسلم (¬3) من وجه آخر عن علقمة: "عن عبد الله قال. كنتُ بحمص، فقال لي بعض القوم: اقرأ علينا، فقرأتُ عليهم قال: فقال لي رجل من القوم: والله ما هكذا أنزلت ... ". فإن لم يكن التصرف من الرواة، فالجمع بين الروايتين: أن علقمة كان مع عبد الله بن مسعود بحمص، ولكنه لم يشهد القصة، وإنما سمعها من عبد الله؛ ولما كان المقصود الرواية عنه هو [1/ 82] عبد الله لم يلتفت إلى ما وقع في الرواية الأولى من إيهام شهود علقمة للقصة. وهكذا ما في قول معاذة: "أنّ امرأة سألَتْ ... " من إيهام أن السائلة غيرها، فإن مثل ذلك لا يضع حكمًا ولا يرفعه. والسرُّ في حمل تلك الأمثلة على السماع ما قدمناه. ومَن شكّ في هذا لزمه أن يشكّ في اتصالِ قولِ ثقةٍ غيرِ مدلِّس قد عُرف بصحبة ابن المبارك: "طار غراب، فقال ابن المبارك ... "، أو "هبت ريح، فقال ابن المبارك ... "، وهذا لا سبيل إليه، فكذا ذاك. والله الموفق. المبحث الخامس: اشتهر في هذا الباب "العنعنة"، مع أن كلمة "عن" ليست من لفظ الراوي الذي يذكر اسمه قبلها، بل هي لفظ مَن دونه. وذلك ¬

_ (¬1) (5001). (¬2) في البخاري: "أنزلت". (¬3) (801).

كما لو قال هَمَّام: "حدثنا قتادة عن أنس" فكلمة "عن" من لفظ همام، لأنها متعلقة بكلمة "حدثنا"، وهي من قول همّام. ولأنه ليس من عادتهم أن يبتدئ الشيخ فيقول: "عن فلان" وإنما يقول: حدثنا أو أخبرنا أو قال أو ذَكَر أو نحو ذلك. وقد يبتدئ فيقول: "فلان .. " كما ترى بعض أمثلة ذلك في بحث التدليس من "فتح المغيث" (¬1) وغيره. ولهذا يكثر في كتب الحديث إثبات "قال" في أثناء الإسناد قبل "حدثنا" و"أخبرنا". وذلك في نحو قول البخاري: "حدثنا الحميدي قال: حدثنا سفيان قال: حدثنا يحيى بن سعيد". وكثيرًا ما تُحذَف، فيزيدها الشرّاح أو قرّاء الحديث، ولا تثبت قبل كلمة "عن". وتصفَّح إن شئت "شرح القسطلاني على صحيح البخاري" فبهذا يتضح أنه في قول همام: "حدثنا قتادة عن أنس" لا يُدرَى كيف قال قتادة، فقد يكون قال: "حدثني أنس"، أو "قال أنس"، أو "حدَّث أنس"، أو "ذكر أنس"، أو "سمعتُ أنسًا"، أو غير ذلك من الصِّيَغ التي تصرِّح بسماعه من أَنَس أو تحتمله. لكن لا يحتمل أن يكون قال: "بلغني عن أنس"، إذ لو قال هكذا لزم همامًا أن يحكي لفظه أو معناه كأن يقول: "حدثني قتادة عمن بلغه عن أنس"، وإلا كان همام مدلّسًا تدليس التسوية، وهو قبيح جدًّا، وإن خفَّ أمره في هذا المثال؛ لما يأتي في قسم التراجم في ترجمة الحجاج بن محمد (¬2). والمقصود هنا أنه لو قال راوٍ لم يُعرف بتدليس التسوية: "حدثني ¬

_ (¬1) (1/ 212). (¬2) رقم (71).

عبد العزيز بن صهيب عن أنس" كان متصلًا، لثبوت لقاء عبد العزيز لأنس وأنه غير مدلّس، مع أننا لا ندري كيف قال [1/ 83] عبد العزيز، فقد يكون قال: "قال أنس"، أو "ذكر أنس"، أو "حدَّث أنس"، أو ابتدأ فقال: "أنس". فالحمل على السماع في العنعنة يستلزم الحمل على السماع في هذه الصيغ وما أشبهها. وقد صرَّحوا بذلك كما تراه في "فتح المغيث" (ص 69) (¬1) وغيره. وما ذكروه (¬2) من الخلاف في كلمة "أنّ" إنما هو في نحو أن يجيء "عن عبد العزيز أنّ أنسًا سأل النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم". ومعلوم أن عبد العزيز لم يدرك ذلك. ومَن حَمَله على السماع إنما مال إلى أن الظاهر أن عبد العزيز سمع القصة من أنس، فكأنه قال: "حدثني أنس أنه سأل النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم .. ". وفي هذا المثال لا مزيَّة لكلمة "أن"، بل لو قال عبد العزيز: "سأل أنسٌ النبيَّ صلى الله عليه .. " لكان هذا كقوله: "عن عبد العزيز أن أنسًا سأل ... ". بل إن كلمة "أنّ" في المثال ليست من لفظ عبد العزيز، وإنما هي من لفظ الراوي عنه، فقوله: "حدثني عبد العزيز أنّ أنسًا سأل" إنما تقديره: "حدثني عبد العزيز بأن أنسًا سأل"، وقد يكون عبد العزيز قال: "سأل أنس"، وقد يكون قال غير ذلك. والله أعلم. انتهى القسم الأول ويليه القسم الثاني في التراجم. ¬

_ (¬1) (1/ 196 - 197). (¬2) انظر "فتح المغيث": (1/ 197 - 198).

القسم الثاني في التراجم

القسم الثاني في التراجم

[1/ 84] القسم الثاني في التراجم أسوقُ في هذا القسم - على الحروف - تراجم الأئمة والرواة الذين تكلّم فيهم الأستاذ في "التأنيب"، وربما ذكرتُ غيرَهم لاقتضاء الحال. فأذكر في كلّ ترجمة كلامَ الأستاذ وما له وما عليه متحرّيًا إن شاء الله تعالى الحقَّ. فما لم أنسبه من أقوال أئمة الجرح والتعديل إلى كتاب فهو من "تهذيب التهذيب" أو "لسان الميزان" (¬1)، وعادةُ مؤلّفهما أن لا يجزم بالنقل فيما لم يثبت عنده (¬2)، فإن تبين لي خلاف ذلك نبَّهتُ عليه؛ وما عدا ذلك فإني أسمّي الكتاب وأبيّن الجلد والصفحة غالبًا إن كان مطبوعًا. وأعوذ بالله من شرِّ نفسي وسيِّئ عملي، وأسأله التوفيق، فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله. 1 - أَبان بن سفيان. في "تاريخ بغداد" (13/ 399 [420] (¬3)): " ... علي بن حرب، حدثنا أبان بن سفيان، حدثنا حماد بن زيد ... ". قال الأستاذ في "التأنيب" (ص 113): "في سنده أبان بن سفيان، قال ابن ¬

_ (¬1) رجعنا إلى هذين الكتابين لمزيد التوثق، ولم نعز إليهما بالجزء والصفحة اكتفاءً بإشارة المؤلف هذه إلا إن وجدنا فرقًا أو بدت ملاحظة. (¬2) وانظر كتابنا هذا (1/ 693)، و"تنزيه الإِمام الشافعي" (ص 303 - ضمن الرسائل الحديثية) للمؤلف. (¬3) انظر التنبيه الآتي في الصفحة التالية حاشية رقم (2) من كلام الشيخ الألباني رحمه الله تعالى.

2 - إبراهيم بن بشار الرمادي

حبان: يروي عن الثقات أشياءَ موضوعة. وقال الدارقطني: متروك". أقول: في "الميزان" و"اللسان" (¬1) ذكر رجلين يقال لكلٍّ منهما: أبان بن سفيان. أحدهما بصريّ نزل الموصل من بلاد الجزيرة، روى عن أبي هلال محمد بن سُليم البصري. قال فيه الدارقطني: "جَزَريّ متروك". والثاني مقدسيّ، روى عن الفُضيل بن عياض وعبيد الله بن عمر. روى عنه محمد بن غالب الأنطاكي. قال فيه ابن حبان: "روى أشياء موضوعة" وأورد له حديثين وقال: "هذان موضوعان". وناقشه الذهبيُّ في "الميزان"، ثم استظهر الذهبيّ أن الرجلين واحد. وذكر ابن حجر أن النَّباتي فرَّق بينهما. أقول: والفرق هو الظاهر. فأما الذي في سند الخطيب فإن كان غير هذين فلا نعرفه، وإن كان أحدهما فالظاهر أنه الأول؛ فإن حماد بن زيد بصريّ من طبقة محمد بن سُليم، وعليُّ بن حرب موصلي. والله أعلم. 2 - [1/ 85] إبراهيم بن بشّار الرمادي. في "تاريخ بغداد" (13/ 389 (¬2) [405]): " ... إبراهيم بن بشّار ¬

_ (¬1) "الميزان": (1/ 7 - 8)، و"اللسان": (1/ 222 - 224). (¬2) كذا الأصل، وكذا في "التأنيب". والظاهر أنهما ينقلان عن نسخة غير النسخة المتداولة اليوم من "التاريخ" الطبعة الأولى سنة 1349 بمصر، فإن الرواية فيها (13/ 405)، وكذلك الأرقام في سائر التراجم الآتية تختلف عن الواقع في هذه الطبعة، فزد على كل رقم نحو عشرة تجد الرواية فيها إن شاء الله. وسبب هذا التفاوت بين النسخ - فيما بلغني - أن هذا الجزء الثالث عشر من "التاريخ" لما نزل إلى السوق واطلع عليه بعض المتعصبين لأبي حنيفة رحمه الله هالهم ما جاء في ترجمته من طعون رواها الخطيب بأسانيده، فكُلِّف الشيخُ الكوثري بالتعليق عليها، =

الرمادي، حدثنا سفيان بن عُيينة ... ". قال الأستاذ (ص 82): "عنه يقول ابن أبي حاتم: أنبأنا عبد الله بن أحمد بن حنبل فيما كتب إليَّ قال: سمعت أبي وذكر إبراهيم بن بشّار الرمادي فقال: كان يحضر معنا عند سفيان، ثم يملي على الناس ما سمعوه من سفيان، وربما أملى عليهم ما لم يسمعوا -كأنه يغيِّر الألفاظ، فتكون زيادة ليس في الحديث - فقلت له: ألا تتقي الله؟ تملي عليهم ما لم يسمعوا! وذمَّه في ذلك ذمًّا شديدًا". أقول: وقال ابن معين: "ليس بشيء، ولم يكتب عند سفيان، وكان يملي على الناس ما لم يقله سفيان". وقال النسائي: "ليس بالقوي"، وقال أبو حاتم: "صدوق". وقال أبو عوانة في "صحيحه": "ثقة من كبار أصحاب ابن عيينة وممن سمع منه قديمًا". وقال الحاكم: "ثقة مأمون من الطبقة الأولى من أصحاب ابن عيينة". وقال يحيى بن الفضل: "كان والله ثقة". وقال ابن حبان في "الثقات" (¬1): "كان متقنًا ضابطًا، صَحِب ابنَ عيينة سنين كثيرة، وسمع أحاديثه مرارًا ... ولقد (¬2) حدثنا أبو خليفة، ثنا إبراهيم بن بشار ¬

_ = ففعل؛ وأعيد طبع الجزء مع التعليقات المذكورة. [ن]. نقول: من أجل هذا أضفنا رقم الصفحة من الطبعة المتداولة اليوم بين معكوفين [] بعد رقم الصفحة التي أحال إليها المؤلف والكوثري. ثم رجعنا للطبعة الجديدة التي حققها د. بشَّار عوّاد للتثبّت، وقيّدنا ما وجدناه من فروق أو فوائد فيها. وقول الشيخ الألباني: إن الذي علّق على هذا الجزء الكوثري ليس بدقيق، بل الذي علق لجنة من علماء الأزهر تحت إشراف شيخ الأزهر. انظر "الترحيب" (ص 305 - مع التأنيب). (¬1) (8/ 72 - 73). (¬2) كذا، وهو كذلك في النسخة الخطية التي ينقل منها المؤلف وفي "التهذيب". ووقع في مطبوعة "الثقات" عن نسخة أخرى: "واحد" تابع للجملة قبلها ...

الرمادي قال: حدثنا سفيان بمكة وعبَّادان، وبين السماعَين أربعون سنة. سمعت أحمد بن زنجويه يقول: سمعت جعفر بن أبي عثمان الطيالسي يقول: سمعت يحيى بن معين يقول: كان الحُمَيدي لا يكتب عند سفيان بن عيينة، وإبراهيمُ بن بشار أحفظهما". أقول: يتحصَّل من مجموع ما ذُكر أن إبراهيم كان قد سمع من سفيان بن عُيينة قديمًا، ثم كان يحضر مجالسه، فربما حدَّث سفيانُ ببعض تلك الأحاديث، فربما أبدل كلمة بأخرى أو نحو ذلك - على ما هو معروف من عادة سفيان في الرواية بالمعنى - وكان بعض الحاضرين لا يتمكَّنون من الحفظ أو الكتابة وقت السماع، فإذا فرغ المجلس رغبوا إلى إبراهيم فيملي عليهم ذاك المجلس، فربما أملى عليهم كما حفظ سابقًا، ويكون في ذلك ألفاظ مغايرة للألفاظ التي عبَّر بها سفيان في ذاك المجلس. فذاك [1/ 86] الذي أنكره عليه أحمد ويحيى. وقد يقال: إن كان إبراهيم لم يشعر بالاختلاف، فالخَطْب سهل، وإن شعر به فغايته أن يكون استساغ للجماعة أن يذهب أحدهم فيروي عن سفيان كما حدَّث سفيان قديمًا، وإن كان هو إنما سمعه بتغييرٍ ما في الألفاظ؛ كما ساغ لسفيان أن يروي ما سمعه تارة كما سمعه، وتارة بتغييرٍ ما في الألفاظ؛ بل هذا أسوغ، فإن اللفظين كلاهما صحيح عن سفيان. وبالجملة فهذا توسُّعٌ في الرواية بالمعنى لا يوجب جرحًا. وظاهر قول أحمد: "كأنه يغير الألفاظ" أنه جوَّز أن إبراهيم يغيِّر الألفاظ من عنده، وذلك أشدّ. وهكذا ما يُروى عن ابن معين أنه قال في إبراهيم: "رأيته ينظر في كتاب - وابن عيينة يقرأ - ولا يغيِّر شيئًا، ليس معه ألواح ولا دواة". فالكتاب الذي

كان ينظر فيه سماعُه القديم من ابن عيينة، فكان يعيد سماعه ليتثبت. وقد عَرَف عادة ابن عيينة في الرواية بالمعنى، فلم يكن يلتفت إلى اختلاف بعض الألفاظ، ولعله لو رأى اختلافًا معنويًّا لراجع ابن عيينة إما في المجلس وإما بعده. وقد جاء عن يحيى القطان أنه ذكر لابن عيينة ما قد يقع في حديثه من الاختلاف، فقال ابن عيينة: "عليك بالسماع الأول، فإني قد سئمت". كما في "فتح المغيث" (ص 492) (¬1). وفي "التهذيب" (¬2): "وقال أحمد: كأنَّ سفيان الذي يروي عنه إبراهيم بن بشار ليس هو سفيان بن عيينة. يعني: مما يُغرِب عنه، وكان مكثرًا عنه". أقول: وحق لمن لازم مثل ابن عيينة في كثرة حديثه عشرات السنين أن يكون عنده عنه ما ليس عند غيره ممن صحبه مدة قليلة. نعم قال البخاري (¬3) في إبراهيم: "يهم في الشيء بعد الشيء، وهو صدوق". وأورد له حديثًا رواه ابن عيينة مرفوعًا، وغيره يرويه عن ابن عيينة مرسلًا (¬4). قال الن عدي: "لا أعلم أُنكِر عليه إلا هذا الحديث الذي ذكره البخاري، وباقي حديثه مستقيم، وهو عندنا من أهل الصدق" (¬5). ¬

_ (¬1) (4/ 386). (¬2) (1/ 109). (¬3) "التاريخ الكبير": (1/ 277). (¬4) المصدر نفسه: (2/ 140). (¬5) "الكامل": (1/ 267).

3 - إبراهيم بن الحجاج.

أقول: فإن كان وَهِم في هذا، فهو وهمٌ يسير في جانب ما روى. فالرجل ثقة ربما وَهِم. والسلام. هذا، وقد توبع إبراهيم على الرواية التي ساقها الخطيب، وذكر الأستاذ نفسه متابعةَ عليِّ ابن المديني له. غاية الأمر أن بين اللَّفظين اختلافًا ما، وجهه أن ابن عيينة قال مرة كما ذكره إبراهيم، ومرة كما ذكره ابن المديني. راجع (ص 4) (¬1) والله أعلم. 3 - [1/ 87] إبراهيم بن الحجاج. في "تاريخ بغداد" (13/ 392 [410]). " ... الحسن بن سفيان عن إبراهيم بن الحجاج عن حماد (¬2) بن زيد ... ". قال الأستاذ (ص 94): "قدري، ففي قبول قوله في أئمة السنة وقفة". أقول: في ترجمة إبراهيم بن الحجاج السامي من "تهذيب المزي" (¬3) أنه يروي عن حماد بن زيد، ويروي عنه الحسن بن سفيان. وكذا في ترجمة إبراهيم بن الحجاج النيلي (¬4)، وكلاهما موثَّق. ولم أجد نسبة أحدهما إلى القَدَر، وليس كل بصريٍّ قدريًّا، ولا غالبهم قدرية؛ بل غالبهم غير قدرية كما ¬

_ (¬1) الظاهر أن الإحالة على النسخة التي بخط المؤلف، ولعل الإحالة على ما سبق في أول الكتاب (ص 13 - 14). (¬2) نص "التاريخ": "قُرئ على الحسن بن سفيان حدثكم إبراهيم بن الحجاج حدثنا حماد ... ". (¬3) (1/ 106). (¬4) (1/ 106)

4 - إبراهيم بن راشد الأدمي.

يأتي في ترجمة طلق بن حبيب (¬1). وعلى فرض أن الرجل قدري، فلم يكن داعيةً، والمخالفةُ في المذهب لا تخدش في الرواية، كما مرَّ في القواعد (¬2). والله الموفق. 4 - إبراهيم بن راشد الأَدَمِيّ. في "تاريخ بغداد" (13/ 406 [432]): " ... إبراهيم بن راشد الأدميّ قال: سمعت أبا ربيعة فهد (¬3) بن عوف ... ". قال الأستاذ (ص 129): "المتهم عند ابن عدي، كما ذكره الذهبي". أقول: تعقّبه ابن حجر في "اللسان" (¬4) قال: "لم أر في "كامل ابن عدي" ترجمته". وقد قال ابن أبي حاتم: "صدوق". وذكره ابن حبان في "الثقات" وقال: "كان من جلساء يحيى بن معين". وفي ترجمة علي بن صالح الأنماطي من "الميزان" (¬5) حديث ساقه الذهبي من طريق أبي نعيم الأصبهاني: "أنا عمر بن شاهين، ثنا أحمد بن محمد بن يزيد الزعفراني، ثنا إبراهيم بن راشد الأدمي، ثنا علي بن صالح الأنماطي ... " استنكره الذهبي وقال: "المتهم بوضعه علي، فإن الرواة ثقات سواه". تعقَّبه ابن حجر في ¬

_ (¬1) رقم (114). (¬2) (1/ 71 فما بعدها). (¬3) في "التاريخ": "محمد" تحريف، ووقع على الصواب في الطبعة المحققة: (15/ 560). وانظر الترجمة رقم (177) من هذا الكتاب. (¬4) (1/ 278). (¬5) (4/ 53).

5 - إبراهيم بن سعيد الجوهري.

"اللسان" (¬1) بأن عليًّا ذكره ابن حبان في "الثقات" (¬2) وقال: "مستقيم الحديث". قال ابن حجر: "وينظر فيمن دون صاحب الترجمة". أقول: أخاف أن يكون هذا من بلايا الإجازة، فإن أبا نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني ربما تكون له إجازة عامة من شيخ، ثم يسمع الشيء ويرويه رجل عن ذاك الشيخ، فيرويه أبو نعيم عن الشيخ نفسه بلفظ "أخبرنا" على اصطلاحه في الإجازة - كما يأتي شرحه في ترجمته (¬3) - فيكون البلاء في هذا الحديث من الرجل الذي بين أبي نعيم وابن شاهين، ويبرأ غيره. والله أعلم. 5 - إبراهيم بن سعيد الجوهري. راجع "الطليعة" (ص 66 - 68) (¬4). قال الأستاذ [1/ 88] في: "الترحيب" (ص 50): "لا يتصور من مثل ابن الشاعر أن يقع فيه، من غير أن يتكرر ذلك منه". أقول: أما كلمة حجاج فلا تقتضي إلا مرة واحدة، وأما قول ابن خراش: "وكان حجاج يقع فيه"، فإن عنى تلك الكلمة فقد بان حالها. وإن عناها وغيرها، فالوقيعة في الإنسان معناها مطلق الذم، كأن يكون قال مرة تلك الكلمة، وقال مرة: "لم يكن بالذكي"، وقال أخرى: "مغرم بالكتابة عن كل ¬

_ (¬1) (5/ 550). (¬2) (8/ 470 - 471). (¬3) رقم (22). (¬4) (ص 50 - 51).

6 - إبراهيم بن شماس.

أحد ليقال: مكثر" ونحو ذلك من الكلمات التي لا توجب جرحًا. ثم مال الأستاذ إلى الإنصاف، فذكر أنه يجب الذب عن إبراهيم بن سعيد، ولكنه جعل الحَمْل على عبد الرحمن بن خراش، وستأتي ترجمته (¬1). 6 - إبراهيم بن شَمَّاس. في "تاريخ بغداد" (13/ 414 [443]): " ... إبراهيم بن شماس يقول: كنت مع ابن المبارك في الثغر، فقال: لئن رجعت [من هذه] (¬2) لأُخرِجنَّ أبا حنيفة من كتبي". وفيه بعد ذلك: " ... إبراهيم بن شماس يقول: سمعت ابن المبارك يقول: اضربوا على حديث أبي حنيفة". قال الأستاذ (ص 150): "إبراهيم بن شماس ذلك المتعبَّد الغازي ... على علوّ طبقته لم يُخرج عنه أحد من أصحاب الأصول الستة ... بطل مغوار متعبد متعصب ... مِلءُ إهابه التعصّب، على زهده". أقول: أما العبادة والزهد والجهاد والبطولة، فنعم. وأما التعصُّب، فإنما وصفه به بعض مَن لم يدركه، وهو الإدريسي الذي ولد بعد إبراهيم بأكثر من مائة سنة، وإنما قال: "كان شجاعًا بطلًا ثقة ثبتًا متعصبًا لأهل السنة". فأما الذين أدركوه فإنما وصفوه بالسنة. قال الإِمام أحمد: "كان صاحب سنة". وقال أحمد بن سَيَّار: "كان صاحب سنة وجماعة، كتب العلم، ¬

_ (¬1) لم نجد ترجمة مفردة لابن خراش، فلعل المؤلف ذهل عن إفرادها. (¬2) من "التاريخ".

وجالس الناس، ورأيت إسحاق بن إبراهيم [ابن راهويه] يعظم من شأنه ويحرِّضنا على الكتابة عنه". وممن روى عنه: الإِمام أحمد، وأبو زرعة، والبخاري في غير "الصحيح"، وأحمد لا يروي إلا عن ثقة عنده، كما يأتي في ترجمة محمد بن أَعْين (¬1). وأبو زُرعة من عادته أن لا يروي إلا عن ثقة، كما في "لسان الميزان" (ج 2 ص 416) (¬2). والبخاري نحو ذلك، كما يأتي في ترجمة أحمد بن عبد الله [1/ 89] أبو عبد الرحمن (¬3). ووثَّقه الدارقطني وابن حبان وغيرهما. وتحريض ابن راهويه على الكتابة عنه يدلُّ على مكانته في الصدق والثبت، وقال ابن حبان في "الثقات" (¬4): "كان متقنًا ... سمعت عمر بن محمد البحيري يقول: سمعت محمد بن سهل بن عسكر يقول: سمعت إبراهيم بن شماس يقول: رأيت ابن المبارك يقرأ كتابًا على الناس في الثغر، فلما مرَّ على ذكر أبي حنيفة قال: اضربوا عليه. وهو آخر كتاب قرأ على الناس ثم مات". فأما عدم إخراج البخاري عنه في "صحيحه" فكأنَّه إنما لقيه مرة، فإن إبراهيم كان دائبًا في الجهاد، فلم يسمع منه البخاري ما يحتاج إلى إخراجه في "الصحيح"، وقد أدرك البخاريُّ مَن هو أكبر من إبراهيم وأعلى إسنادًا. ¬

_ (¬1) رقم (194). (¬2) (3/ 396). (¬3) رقم (23). وهكذا وقع في (ط): "أبو". (¬4) (8/ 69 - 70).

وكم من ثقة ثبت لم يتفق أن يُخرج عنه البخاري في "صحيحه"، وأخرج عمن هو دونه بكثير. فأما بقية الستة، فأبو داود ولد سنة 202 فقد أدرك إبراهيم، فإن إبراهيم استشهد سنة 220، ولكن لعلّه لم يلقه، وإنما روى في مسائل مالك (¬1) عن رجل عنه على ما يظهر من "التهذيب". وقد سمع أبو داود جماعةً ممن هو أكبر وأعلى إسنادًا من إبراهيم. ومسلم ولد سنة 204، والباقون بعد ذلك. وجامعو الكتب الستة يتحرَّون علوَّ الإسناد والاختصار، ولا ينزلون إلّا لحاجة. والرواية عن إبراهيم قليلة، لاشتغاله بالجهاد، ولأنه لم يعمَّر حتى يحتاج إليه. وقد روى عنه مَن هو أجلّ من أصحاب الكتب الستة، كما مرَّ. وقد ساق الأستاذ في تعليقه على "شروط الأئمة" (¬2) كلامًا طويلًا فيه ما فيه، وقال في أواخره: "ومن ظن أن ثقات الرواة هم رواة الستة فقط، فقد ظن باطلًا. وجرَّد الحافظ العلامة قاسم بن قطلوبغا الثقات من غير رجال الستة في مؤلف حافل يبلغ أربع مجلدات". ¬

_ (¬1) كذا، والذي في "تهذيب الكمال": (1/ 114)، و"تهذيب التهذيب": (1/ 127) الرمز قبل اسمه بـ "ل، فق" و"ل" هو رمز مسائل أبي داود للإمام أحمد. وقد صرّح المزي بذلك في آخر الترجمة بقوله: "روى له أبو داود في كتاب المسائل في باب زيادة الإيمان ونقصانه". وانظر كتاب "المسائل" (ص 364 - 365) روى عن الإِمام أحمد عنه ثلاث مسائل، ولعل المؤلف ذهل إلى رمز (كد) وهو علامة ما أخرجه أبو داود في مسند حديث مالك بن أنس. والله أعلم. (¬2) "شروط الأئمة الخمسة" (ص 63 - 64).

7 - إبراهيم بن أبي الليث.

فأما المخالفة في المذهب والتعصُّب للسنة، فلا يخدش في الرواية, كما مرَّ في القواعد (¬1). بقي أن الأستاذ قال بعد ما تقدم: "ويقضي على مختَلَقات الخصوم في هذا الكتاب كثرةُ رواية ابن المبارك عن أبي حنيفة في "المسانيد السبعة عشر" له ... فأنَّى تصح رواية ضرب ابن المبارك على حديث أبي حنيفة قبل أن يموت بأيام يسيرة! ". أقول: الأستاذ يتذرَّع بهذا إلى الطعن في جماعة من الثقات الأثبات: إبراهيم وغيره، كما يأتي في تراجمهم. وذلك يضطرنا إلى مناقشته هنا، فأقول: [1/ 90] المسانيد السبعة عشر لأبي حنيفة، منها ما جامِعُه مجروح، وما كان جامعه ثقة ففي أسانيده إلى ابن المبارك مجروح أو أكثر، وما عساه يصح إلى ابن المبارك لا يصح (¬2) حَمْله على أنه مما حدَّث به ابن المبارك قديمًا، فإنه لا يلزم من تركه الروايةَ عن أبي حنيفة قبل أن يموت بأيام يسيرة أن لا يروي الناسُ عنه ما سمعوه قبل ذلك، ولا سيما الذين لم يحضروا أمره بالضرب أولم يعملوا به، والله المستعان. 7 - إبراهيم بن أبي الليث. في "تاريخ بغداد" (13/ 417 [447]): " ... إبراهيم بن أبي الليث قال: سمعت الأشجعي غير مرة ... ". قال الأستاذ (ص 160): " ... عنه يقول ابن معين: لو اختلف إليه ثمانون كلهم ¬

_ (¬1) (1/ 71 فما بعدها). (¬2) كذا في (ط)! ولا يستقيم المعنى، وتصح العبارة بحذف "لا".

مثل منصور بن المعتمر ما كان إلا كذابًا. وكذَّبَه غير واحد". أقول: ترجمة إبراهيم هذا في "تاريخ بغداد" (ج 6 ص 191). فأما هذه الكلمة التي ذكرها الأستاذ، فإنما رواها الخطيب من طريق أحمد بن محمد بن القاسم بن محرِز (¬1)، وترجمة ابن محرِز هذا في "تاريخ بغداد" (ج 5 ص 83) ليس فيها تعريف بحاله وإنما فيها: "يروي عن يحيى بن معين. حدث عنه [عبد الله بن] جعفر بن درستويه بن المرزبان الفارسي". وكلمة ابن الدَّورقي المذكورة في "اللسان" (¬2) و"التعجيل" (¬3) هي في قصة طويلة رواها الخطيب من طريق أبي الفتح محمد بن الحسين الأزدي الحافظ. والأزدي اتهموه، ونحتاج إلى الاعتذار عن ابن حجر في جزمه بها مع أنها من طريق الأزدي (¬4). وما في "اللسان" تبعًا لأصله (¬5) أن ابن معين قال في إبراهيم: "ثقة، لكنه أحمق" إنما رواها الخطيب من طريق بكر بن سهل عن عبد الخالق بن منصور، عن ابن معين. وبكر بن سهل هذا إن كان هو الدمياطي المترجَم في "الميزان" و"اللسان" - كما بنيتُ عليه في "الطليعة" (ص 78) (¬6) وتأتي الإشارة إليه في ترجمة الحسن بن الربيع (¬7) - ففيه كلام ¬

_ (¬1) انظر "معرفة الرجال" (366) لابن محرز. (¬2) (1/ 337). (¬3) (1/ 273 - 275). (¬4) يعني وقد تقرر أن ابن حجر لا يجزم إلا بما ثبت عنده. (¬5) أي "الميزان": (1/ 54). (¬6) (ص 60). (¬7) رقم (75).

شديد، وعقَّبها الخطيب بقوله: "وهذا القول من يحيى في توثيقه، كان قديمًا ثم أساء القول فيه بعدُ، وذمَّه ذمًّا شديدًا". والذي يتلخَّص من مجموع كلامهم: أنهم لم ينقموا عليه شيئًا في سيرته، وأنه كانت عنده أصول الأشجعي التي لا شك فيها، وكان يذكر أنه سمعها من الأشجعي إلا مواضع كان يعترف أنه لم يسمعها. فقَصَده الأئمة: أحمد، ويحيى، وابن المديني، وغيرهم؛ يسمعون منه كتب الأشجعي. [1/ 91] فكانوا يسمعون منه، ثم حدَّث بأحاديث عن هُشيم وشَريك وغيرهما مِن حِفْظه، فاستنكروا من روايته عن أولئك الشيوخ أحاديث تفرَّد بها عنهم، وكان عندهم أنها مما تفرد به غيرُ أولئك الشيوخ. منها: حديث رواه عن هشيم، عن يعلي بن عطاء. وكان عندهم أنه من أفراد حماد بن سلمة عن يعلى. فتوقف فيه أحمد لهذا الحديث، حتى بان له أن غير حماد قد حدَّث به. وعذَره أحمدُ في بقية الأحاديث. وأما ابن معين فشدَّد عليه، وتبعه جماعة. واختلف عن ابن المديني؛ فقيل: لم يزل يحدِّث عنه حتى مات. وقيل: بل كَفَّ بأَخَرةٍ. وقال أبو حاتم: "كان أحمد يُجْمِل القول فيه، وكان يحيى بن معين يحمل عليه، وعبيد الله القواريري (وهو ثقة عندهم من رجال الصحيحين) أحبُّ إليَّ منه" (¬1). وذكره ابن حبان في "الثقات" (¬2). وقال أبو داود عن ابن معين: "أفسد نفسه ¬

_ (¬1) "الجرح والتعديل": (2/ 141). (¬2) لم أجده في المطبوع منه، والمؤلف اعتمد على عزو الحافظ في "اللسان" و"التعجيل"، فلعلها كانت في نسخته.

8 - إبراهيم بن محمد بن الحارث بن أسماء بن خارجة بن حصن بن حذيفة بن بدر أبو إسحاق الفزاري.

في خمسة أحاديث" فذكرها. قال ابن حجر في "التعجيل" (¬1): "وهذا عندي أَعْدَل الأقوال فيه". أقول: قد ظهرت عدالةُ الرجل أولًا، ثم عرضت تلك الأحاديث فاختلفوا فيها، فمنهم مَن عَذَره، ومنهم من رماه بسرقتها. فالذي ينبغي: التوقفُ عن سائر ما رواه عن غير الأشجعي، وقبولُ ما رواه عن الأشجعي، فإن ذلك من أصول الأشجعي باعترافهم جميعًا، ولم ينكروا منها شيئًا. وأحسب أن رواية الإِمام أحمد وابنه عبد الله عن إبراهيم، إنما هي مما رواه من كتب الأشجعي. وقد يكون هذا رأي الأستاذ الكوثري، فقد احتجَّ (ص 99): "حدثنا ... قال حدثني إبراهيم ابن أبي الليث قال حدثني الأشجعي .. ". فأما روايته هنا فهي عن الأشجعي، لكنها حكاية لا يظهر أنها كانت من أصول الأشجعي. والله أعلم. 8 - إبراهيم بن محمد بن الحارث بن أسماء بن خارجة بن حصن بن حذيفة بن بدر أبو إسحاق الفزاري. في "تاريخ بغداد" (13/ 373 [376]): " ... سمعت أبا إسحاق الفزاري يقول: سمعت أبا حنيفة يقول: إيمان أبي بكر الصديق وإيمان إبليس واحد. قال إبليس: يا رب، وقال أبو بكر الصديق: يا رب ... ". قال الأستاذ (ص 40): "الفزاري كان يطلق لسانه في أبي حنيفة ويعاديه، من جهة أنه كان أفتى أخاه على موازرة إبراهيم القائم في عهد المنصور، فقتل في الحرب ... وحكمُ شهادة العدو في مذهب الشافعي ... معروف ... ويقول ابن سعد ¬

_ (¬1) (1/ 275).

في "الطبقات الكبرى": [1/ 92] كان كثير الغلط في حديثه. ويقول ابن قتيبة في "المعارف": إنه كان كثير الغلط في حديثه. ومثله في "فهرست محمد بن إسحاق النديم". لكن ذلاقة لسانه في أبي حنيفة وأصحابه نفعته في رواج رواياته بين أصحاب الأغراض ... مع أن الواجب فيمن كان كثير الخطأ في حديثه الإعراض عن انفراداته ... ". وقال الأستاذ (ص 71): "سامح الله أبا إسحاق الفزاري كأنه فَقَد اتزانه من فَقْد أخيه، فأصبح يطلق لسانه في فقيه الملة في كل مجلس ومحفل، حتى في مجلس الرشيد، كما تجد ذلك في "تقدمة الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم .... غاية ما فعل أبو حنيفة أن أفتى أخاه بما أراه الله حين استفتاه". وقال الأستاذ (ص 73): "إنما شأنه في السير والمغازي، ولم يكن ابن سعد يرضاه فيها، ويذكره بكثرة الغلط، وابن سعد ذلك الإِمام الكبير في السير والمغازي ... ". وقال (ص 77): "قال ابن سعد في الفزاري: كان ثقة فاضلًا صاحب سنة وغزو، كثير الخطأ في حديثه". أقول: مدار كلام الأستاذ في أبي إسحاق على أمرين: الأول: قوله: إنه كان يعادي أبا حنيفة لإفتائه أخاه بالخروج، فخرج، فقتل. الثاني: كثرة الخطأ. فأما العداوة فيحاول الأستاذ أن يجعلها عداوة دنيوية لأجل الفتوى، مع أن ذكر الفتوى لم يقع إلا في روايةٍ ذُكِرت في "تاريخ بغداد" (13/ 384 [397]) في سندها يزيد بن يوسف الشامي، فتكلم الأستاذ فيها (ص 70):

قال: "يزيد بن يوسف الشامي يقول ابن معين فيه: ليس بثقة. ويقول النسائي: متروك". والكلام فيه أكثر من ذلك، حتى قال ابن شاهين في "الضعفاء" (¬1): "قال ابن معين: كان كذابًا". وقال ابن حبان: "كان سيئ الحفظ، كثير الوهم، يرفع المراسيل [ولا يعلم]، ويسند الموقوف ولا يفهم. فلما كثر ذلك منه سقط الاحتجاج بأفراده" (¬2). فهذه الرواية ساقطة، والثابت رواية أخرى في "تاريخ بغداد" (13/ 384 [398]) فيها عن أبي إسحاق: "قُتل أخي مع إبراهيم الفاطمي بالبصرة، فركبت لأنظر في تركته، فلقيت أبا حنيفة فقال لي: من أين أقبلت؟ وأين أردت؟ فأخبرته أني أقبلت من المَصِّيصة وأردت أخًا [1/ 93] لي قُتل مع إبراهيم، فقال أبو حنيفة: لو أنك قُتِلت مع أخيك كان خيرًا لك من المكان الذي جئتَ منه ... ". وهناك رواية ثالثة في "تقدمة الجرح والتعديل" (¬3) هي التي وقع فيها ما أشار إليه الأستاذ من إطلاق اللسان. وفي إسنادها نظر، ولا ذِكْر فيها للفتوى، ولو صحت لكانت أدلّ على عدم الفتوى. فالحاصل أن الثابت أن أبا إسحاق بلغه قتلُ أخيه مع إبراهيم بن عبد الله بن الحسن الخارج على المنصور، فقَدِم فلقي أبا حنيفة، فسأله ¬

_ (¬1) (ص 198). (¬2) "المجروحين": (3/ 106). وما بين المعكوفين منه. (¬3) (1/ 284).

أبو حنيفة، فأجابه أنه جاء من المَصِّيصة - الثغر الذي كان أبو إسحاق يرابط فيه لجهاد الروم ودَفْعهم عن بلاد الإِسلام - فقال أبو حنيفة: "لو أنك قُتِلْت مع أخيك كان خيرًا لك من المكان الذي جئتَ منه". ومن المعلوم أن أبا إسحاق حَبَس نفسَه غالبَ عمره على المرابطة في الثغر، والتعرّض للشهادة صباح مساء، فلم يكن ليغمَّه قتلُ أخيه إلا لكونه في فتنة، ولا لينقم على من رضي بقتل أخيه إلا لرضاه بما يراه فتنة، ولا ليستعظم قول من قال له: "لو أنك قتلت مع أخيك ... " إلا لما فيه من تفضيل قتال المسلمين في غير كُنْهِه عنده على الرباط والجهاد ودفع الكفار عن بلاد الإِسلام. فهذا وغيره - مما يوجد في الروايات الأخرى، منها الرواية التي تقدمت أول الترجمة - هو الذي أحْفَظ أبا إسحاق على أبي حنيفة. فإن بلغ ذلك أن يسمَّى عداوة، فهي عداوة دينية، لا تُرَدّ بها الرواية بإجماعهم، كما تقدم في القواعد (¬1). وسواء أكان الصواب استحسان الخروج مع إبراهيم بن عبد الله بن الحسن وتفضيله على الجهاد والرباط كما رأى أبو حنيفة، أم خلافه كما كان يعتقده أبو إسحاق؟ فإن أبا إسحاق إما مصيب مشكور، وإما مخطئ مأجور. ولا بأس بالإشارة إلى وجهتي النظر: كان أبو حنيفة يستحبّ أو يوجب الخروج على خلفاء بني العباس لما ظهر منهم من الظلم، ويرى قتالهم خيرًا من قتال الكفار؛ وأبو إسحاق ينكر ¬

(¬1) (1/ 67).

ذلك. وكان أهل العلم مختلفين في ذلك، فمَنْ كان يرى الخروج يراه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام بالحق، ومن كان يكرهه يرى أنه شقٌّ لعصا المسلمين، وتفريق لكلمتهم، وتشتيت لجماعتهم، وتمزيق لوحدتهم، وشغلٌ لهم بقتل بعضهم بعضًا؛ فتَهِنُ قوتُهم وتقوى شوكةُ عدوهم، وتتعطل ثغورهم فيستولي عليها [1/ 94] الكفار ويقتلون من فيها من المسلمين ويُذِلُّونهم، وقد يستحكم التنازع بين المسلمين فتكون نتيجته الفشل المخزي لهم جميعًا. وقد جرَّب المسلمون الخروج، فلم يروا منه إلا الشرَّ. خرج الناس على عثمان يرون أنهم إنما يريدون الحق، ثم خرج أهل الجمل يرى رؤساؤهم ومعظّمهم (¬1) أنهم إنما يطلبون الحق، فكانت ثمرة ذلك بعد اللَّتيا والتي أن انقطعت خلافة النبوة وتأسست دولة بني أمية، ثم اضطر الحسين بن علي إلى ما اضطر إليه، فكانت تلك المأساة، ثم خرج أهل المدينة فكانت وقعة الحَرّة، ثم خرج القُرّاء مع ابن الأشعث فماذا كان؟ ثم كانت قضية زيد بن عليّ، وعرض عليه الروافض أن ينصروه على أن يتبرأ من أبي بكر وعمر، فأبى، فخذلوه، فكان ما كان. ثم خرجوا مع بني العباس فنشأت دولتهم التي رأى أبو حنيفة الخروجَ عليها. واحتشد الروافض مع إبراهيم الذي رأى أبو حنيفة الخروج معه، ولو كُتب له النصر لاستولى الروافض على دولته، فيعود أبو حنيفة يفتي بوجوب الخروج عليهم! هذا، والنصوص التي يحتجُّ بها المانعون من الخروج والمجيزون له ¬

_ (¬1) كذا في (ط) وربما كانت: "ومعظّموهم".

معروفة. والمحققون يجمعون بين ذلك بأنه إذا غلب على الظنّ أن ما ينشأ عن الخروج من المفاسد أخفُّ جدًّا مما يغلب على الظن أنه يندفع به، جاز الخروج، وإلا فلا. وهذا النظر قد يختلف فيه المجتهدان، وأولاهما بالصواب مَن اعتبر بالتاريخ، وكان كثيرَ المخالطة للناس، والمباشرة للحروب، والمعرفة بأحوال الثغور، وهكذا كان أبو إسحاق. وأما حال أبي إسحاق في الرواية، فنبدأ بتلك الكلمة: "كثير الخطأ في حديثه". هذه الكلمة نقلها الأستاذ عن ابن سعد، وابن قتيبة، وابن النديم. فأقول: ابن قتيبة وابن النديم لا شأن لهما بمعرفة الرواية والخطأ والصواب فيها وأحوال الرواة ومراتبهم. وإنما فنّ ابن قتيبة معرفة اللغة والغريب والأدب. وابن النديم رافضيّ ورَّاق، فنُّه معرفة أسماء الكتب التي كان يَتَّجِر فيها؛ وإنما أخذا تلك الكلمة من ابن سعد. وابن سعد هو محمد بن سعد بن منيع كاتب الواقدي، روى الخطيب (¬1) في ترجمته: أن مصعبًا الزبيري قال لابن معين: "حدثنا ابن سعد الكاتب بكذا وكذا" فقال ابن معين: "كذَب". [1/ 95] واعتذر الخطيب عن هذه الكلمة وقال: "محمد عندنا من أهل العدالة، وحديثه يدلّ على صدقه .. ". وقال أبو حاتم: "يصدق" (¬2). ووفاة ابن سعد سنة 230، فقد أدركه أصحاب الكتب الستة إدراكًا واضحًا، وهو مقيم ببغداد حيث كانوا يتردَّدون، وهو مُكثر من الحديث ¬

_ (¬1) (5/ 321). (¬2) "الجرح والتعديل": (7/ 262).

والشيوخ، وعنده فوائد كثيرة؛ ومع ذلك لم يُخرجوا عنه شيئًا، إلا أن أبا داود روى عن أحمد بن عبيد - وستأتي ترجمته (¬1) - عن ابن سعد عن أبي الوليد الطيالسي أنه قال: "يقولون: قبيصة بن وقّاص له صحبة" (¬2). وهذه الحكاية ليست بحديث ولا أثر، ولا ترفعُ حكمًا ولا تضعُه. والأستاذ كثيرًا ما يتشبَّث في التليين بعدم إخراج أصحاب الكتب الستة للرجل مع ظهور العذر، كما تقدّم في ترجمة إبراهيم بن شَمَّاس. فأما ابن سعد، فلا مظنة للعذر إلا أنهم رغبوا عنه. وأظن الأستاذ أول من منح ابن سعد لقب: "الإِمام"، ولم يقتصر عليه بل قال: "الإِمام الكبير"، وتغاضى الأستاذ عن قول ابن سعد في أبي حنيفة، فإنه ذكره في موضعين من "الطبقات" (ج 6 ص 256) (¬3) و (ج 7 قسم 2 ص 67) (¬4) وقال في كلا الموضعين: "وكان ضعيفًا في الحديث" ولم يقرن هذه الكلمة بشيء مما قرن به كلمته في أبي إسحاق، فلم يقل: "ثقة"، ولا "فاضل"، ولا "صاحب سنة"! ومع ذلك فليس ابن سعد في معرفة الحديث ونقده ومعرفة درجات رجاله في حدَّ أن يُقبَل منه تليينُ مَنْ ثبَّته غيرُه، على أنه في أكثر كلامه إنما ¬

_ (¬1) رقم (25). (¬2) هذه العبارة ذكرها المزي في "تحفة الأشراف": (8/ 276)، و"تهذيب الكمال": (6/ 99)، وليست في "سنن أبي داود" عند حديث قبيصة (434). (¬3) (8/ 489). (¬4) (9/ 324).

يتابع شيخه الواقدي، والواقدي تالف. وفي "مقدمة الفتح" (¬1) في ترجمة عبد الرحمن بن شريح: "شذَّ ابن سعد فقال: منكر الحديث. ولم يلتفت أحد إلى ابن سعد في هذا، فإن مادته من الواقدي في الغالب، والواقدي ليس بمعتمد". وفيها (¬2) في ترجمة مُحارب بن دِثار: "قال ابن سعد: لا يحتجّون به. قلت: بل احتجَّ به الأئمة كلُّهم ... ولكن ابن سعد يقلِّد الواقدي". وفيها (¬3) في ترجمة نافع بن عمر الجمحي: "قد قدمنا أن تضعيف ابن سعد فيه نظر، لاعتماده على الواقدي". وقد ردَّ الأستاذ (ص 168) قول إمام النقَّاد عليِّ ابن المديني في أبي حنيفة: "روى خمسين حديثًا أخطأ فيها". فقال الأستاذ: "لم يذكر وجه تخطئته في الحديث حتى يحتاج إلى الجواب، [1/ 96] وهو على كل حال جرح غير مفسَّر". وذكر (ص 158) قول ابن أبي داود: "إن أبا حنيفة أخطأ في نصف أحاديثه". فقال الأستاذ: "فلا نشتغل بالرد على هذا الكلام المرسل منه جزافًا من غير أن يبيّن ما هو خطؤه، وفي أي حديث كان ذلك الخطأ". وذكر الأستاذ (ص 90) قول ابن حبان (¬4) في أبي حنيفة: "كان أجلَّ في نفسه من أن يكذب، ولكن لم يكن الحديث شأنه، فكان يروي فيخطئ من ¬

_ (¬1) (ص 417). (¬2) (ص 443). (¬3) (ص 447). (¬4) عزا الكوثري هذا النقل إلى "الضعفاء" لابن حبان، ولم أجد في ترجمته في "المجروحين": (3/ 63) هذه العبارة بهذا النص بل بنحوها.

حيث لا يعلم، ويقلب الإسناد من حيث لا يفهم. حدَّث بمقدار مائتي حديث أصاب منها في أربعة أحاديث، والباقية إما قلَبَ إسنادها أو غيَّر متنها". فأجاب الأستاذ جوابًا إجماليًّا يأتي مع النظر فيه في ترجمة ابن حبان (¬1) إن شاء الله. يدفع الأستاذ هذه النصوصَ وأضعافَها بأنها لم تفسَّر، ويتشبث في الغضِّ من أبي إسحاق بتلك الفخارة النيئة "كثير الخطأ في حديثه" محاولًا أن ينطح بها ذلك الجبل الشامخ! وإذ قد تحطمت تلك الفخارة على رأس حاملها، فلنذكر تقريظ الأئمة لأبي إسحاق (¬2): أما ثقته، فقال ابن معين: "ثقة ثقة". وقال أبو حاتم: "الثقة المأمون الإِمام". وقال النسائي: "ثقة مأمون أحد الأئمة". ووثقه جماعة غير هؤلاء واحتج به الشيخان في "الصحيحين" وبقية الستة والناس. وأما فقهه، فقال ابن المبارك: "ما رأيت رجلًا أفقه من أبي إسحاق الفزاري". وقال عبد الله بن داود الخُرَيبي: "لَقول أبي إسحاق أحبُّ إليَّ من قول إبراهيم النخعي". وأثنى عليه آخرون في الفقه. وأما معرفته بالسير، فقال ابن عيينة: "ما ينبغي أن يكون رجل أبصر بالسير (وفي نسخة: بالسنن) منه". وقال الخليلي: "أبو إسحاق يقتدى به ¬

_ (¬1) رقم (200). (¬2) من "تقدمة الجرح والتعديل" [1/ 281] لابن أبي حاتم و"تذكرة الحفاظ" [1/ 273] الذهبي و"تهذيب التهذيب" [1/ 151]. [المؤلف].

وهو صاحب "كتاب السير". نظر فيه الشافعي وأملى كتابًا على ترتيبه ورَضِيَه". وقال الحميدي: "قال لي الشافعي: لم يصنِّف أحد في السير مثله". وأما إمامته وفضله، فقال سفيان بن عيينة: "كان إمامًا". وقال أيضًا: "والله ما رأيت [1/ 97] أحدًا أقدِّمه عليه". وقال الفضيل بن عياض: "ربما اشتقتُ إلى المَصِّيصة، وما بي فضل الرباط، بل لأرى أبا إسحاق". وقال أبو داود الطيالسي: "مات أبو إسحاق الفَزاري وليس على وجه الأرض أفضل منه". وقال عبد الرحمن بن مهدي: "إذا رأيت شاميًّا يحب الأوزاعي وأبا إسحاق فاطمئنّ إليه، كانا إمامين في السنة". وقال أبو أسامة: "سمعت فضيل بن عياض يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في النوم وإلى جنبه فرجة، فذهبت لأجلس، فقال: هذا مجلس أبي إسحاق الفزاري". والثناء على أبي إسحاق كثير، وفي هذا كفاية. فهؤلاء الأئمة ونظراؤهم الراضون عن أبي إسحاق والموافقون والمثنون عليه هم الذين سماهم الأستاذ فيما تقدم من عبارته "أصحاب الأغراض". وقال الأستاذ (ص 66) في شأن أبي إسحاق: "حاله في عِلْمه كما علمت، وإنما وقعت ذلاقة لسانه في الوقوع في الناس موقع الإعجاب عند كثير ممن يحبون الوقوع في خصومهم بألسنة أناس آخرين، فرفعوه إلى غير مرتبته"! أقول: إذا كان هؤلاء ساخطين على أبي حنيفة هذا السخطَ الذي يصوِّره الأستاذ، فليت شعري من بقي غيرهم من أئمة الدين يسوغ أن يقال: إنه راض

عن أبي حنيفة؟ وهل بقي إلا كُسَير وعُوَير، وثالث ما فيه خير! وقال الأستاذ (ص 77): "قال الحافظ (؟) ابن أبي العوّام: حدثني ... سمعت إسماعيل بن داود يقول: كان عبد الله بن المبارك يذكر عن أبي حنيفة، فكانوا إذا اجتمعوا بالثغر - يعني المَصَّيصة - لم يحدِّث ابن المبارك عن أبي حنيفة بشيء، ولا يذكر أبو إسحاق الفزاري أبا حنيفة بسوء حتى يخرج ابن المبارك". أقول: إن صحت هذه الحكاية، فإنما تدلُّ على أدب كل من الإمامين مع صاحبه، وحُسْن اعتقاده فيه. ولو كان ابن المبارك يرى أن أبا إسحاق يكذب على أبي حنيفة، ويحكي عنه ما لم يكن، ويتكلم فيه بالهوى؛ ما ساغ لابن المبارك أن يسكت. وإن تعجب فعجبٌ ما في التعليق على صفحة (387) من المجلد (13) من "تاريخ بغداد" (¬1)، ونص ذلك: "أبو إسحاق الفزاري منكر الحديث، وهذان الخبران من مناكيره". أما إني لا أكاد أصدِّق أن مثل هذا يقع في مصر تحت سمع الأزهر وبصره! وقريب من هذا ما يأتي في [1/ 98] ترجمة صالح بن أحمد (¬2)، فإن القضية التي كشفتُ عنها في "الطليعة" (ص 12) (¬3) يعتذر عنها الأستاذ في "الترحيب" (¬4) بأنه قد سبقته إليها اللجنة ¬

_ (¬1) لم نجد هذا التعليق في الطبعة الثانية من التاريخ, وقد تقدم (ص 376) في التعليق قوله: "وفي الروايتين أبو إسحاق الفزاري، وهو منكر الحديث". وجاء في (ص 401) قوله: "في هذه الروايات أبو إسحاق الفزاري، وقد تقدَّم القول في ضعفه". (¬2) رقم (109). (¬3) (ص 5 - 11). (¬4) (ص 321 - مع التأنيب).

9 - إبراهيم بن محمد بن يحيى أبو إسحاق المزكي النيسابوري.

الأزهرية. والله المستعان. 9 - إبراهيم بن محمد بن يحيى أبو إسحاق المزكِّي النيسابوري. في "تاريخ بغداد" (13/ 385 [398]): "أخبرنا الحسن بن أبي بكر، أخبرنا إبراهيم بن محمد بن يحيى المزكّي النيسابوري، حدثنا محمد بن المسيب .. ". قال الأستاذ (ص 71): "لم يكن البَرقاني يرضاه، وتفصيل أحواله عند الخطيب". أقول: قال الخطيب في "التاريخ" (6/ 168): " ... وكان ثقة ثبتًا مكثرًا مواصلًا للحج ... وكان عند البَرقاني عنه سَفَط أو سَفَطان، ولم يخرج عنه في "صحيحه" شيئًا، فسألته عن ذلك، فقال: حديثه كثير الغرائب، وفي نفسي منه شيء، فلذاك لم أرو عنه في "الصحيح". فلما حصلت بنيسابور في رحلتي إليها سألت أهلها ... فأثنوا عليه أحسن الثناء، وذكروه أجمل الذِّكْر. ثم لما رجعت إلى بغداد ذكرت ذلك للبرقاني فقال: قد أخرجت في "الصحيح" أحاديث كثيرة بنزول، وأعْلَم أنها عندي بعلوّ عن أبي إسحاق المزكي، إلا أني لا أقدر على إخراجها؛ لكبر السن، وضعف البصر، وتعذُّر وقوفي على خطي لِدِقّته، أو كما قال". أقول: فزال ما كان في نفس البرقاني من المزكّي، وعاد فَرضِيَه. وكانت نيسابور في ذاك العصر دار الحديث. وحكى الخطيب عن الحاكم قال: "كان إبراهيم بن محمد بن يحيى المزكي من العُبّاد المجتهدين ... عُقد له

10 - إبراهيم بن يعقوب أبو إسحاق الجوزجاني.

الإملاء بنيسابور سنة 336، وهو أسود الرأس واللحية، وزُكِّيَ في تلك السنة. وكنا نعدُّ في مجلسه أربعة عشر محدِّثًا، منهم أبو العباس الأصم، وأبو عبد الله بن الأخرم، وأبو عبد الله الصفار، ومحمد بن صالح، وأقرانهم". وكثرة الغرائب إنما تضر الراوي في أحد حالين: الأولى: أن تكون مع غرابتها منكرةً عن شيوخ ثقات بأسانيد جيدة. الثانية: أن يكون مع كثرة غرائبه غير معروف بكثرة الطلب. ففي الحال الأولى: تكون تَبِعة النكارة على الراوي نفسه، لظهور براءة من فوقه عنها. وفي الحال الثانية: يقال: من أين له هذه الغرائب الكثيرة مع قلة طلبه؟ فيتهم بسرقة الحديث كما [1/ 99] قال ابن نُمير في أبي هشام الرفاعي: "كان أضعفنا طلبًا، وأكثرنا غرائب" (¬1). وحُفَّاظ نيسابور كانوا يعرفون صاحبهم بكثرة الطلب والحرص عليه وطول الرحلة وكثرة الحديث، ولازِمُ ذلك كثرةُ الغرائب. وعرفوه مع ذلك بالأمانة والفضل والثَّبْت، فلم يشكُّوا فيه، وهم أعرف به. ولذلك رجع البَرْقاني إلى قولهم. 10 - إبراهيم بن يعقوب أبو إسحاق الجُوزَجاني. قال الأستاذ (ص 115): "في كتاب "الجرح والتعديل": أخبرنا إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني - فيما كتب إليَّ - عن أبي عبد الرحمن المقري قال: كان أبو حنيفة يحدّثنا، فإذا فرغ من الحديث قال: هذا الذي سمعتم كله ريح وأباطيل. ثم قال: أخبرنا ¬

_ (¬1) انظر "الجرح والتعديل": (8/ 129).

إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني - فيما كتب إليَّ - حدثني إسحاق بن راهويه قال: سمعت جريرًا يقول: قال محمد بن جابر اليمامي: سرق أبو حنيفة كتب حماد مني". ثم قال الأستاذ: "وابن أبي حاتم من أعرف الناس أن الجوزجاني منحرف عن أهل الكوفة، حتى استقرَّ قول أهل النقد فيه على أنه لا يُقبل له قول في أهل الكوفة. وكان ناصبيًّا خبيثًا حريزي المذهب. أخرجت جارية له فروجة لتذبحها فلم تجد من يذبحها، فقال: سبحان الله! فروجة لا يوجد من يذبحها، وعليٌّ يَذبح في ضحوة نيفًا وعشرين ألف مسلم. فمثل هذا الخبيث يصدِّقه ذلك التقي في أبي حنيفة". أقول: أما الحكاية الأولى، فقد عُرف عن أبي حنيفة أنه يترك العمل بكثير من الأحاديث، كما يأتي في قسم الفقهيات إن شاء الله تعالى (¬1). والحنفية - ومنهم الأستاذ - يعتذرون عن ذلك بما هو معروف. وأما تركه العمل بكثير من الآثار عن الصحابة والتابعين فواضح، فأيُّ مانع أن يحدِّث بأشياء من ذلك، ثم يقول تلك الكلمة؟ وأما الحكاية الثانية فيأتي النظر فيها في ترجمة محمد بن جابر إن شاء الله تعالى (¬2). وأما الجوزجاني فحافظ كبير متقن عارف، وثَّقه تلميذه النسائي جامع "خصائص علي" وقائل تلك الكلمات في معاوية، ووثقه آخرون. فأما ميل الجوزجاني إلى النَّصْب، فقال ابن حبان في "الثقات" (¬3): "كان حَرِيزيّ المذهب ولم يكن بداعية، وكان صلبًا في السنة ... إلا أنه [1/ 100] من صلابته ربما كان يتعدَّى طورَه". وقال ابن عدي: "كان شديد الميل إلى ¬

_ (¬1) (2/ 6، 30، 62، 77، 92، 102، 104، 147، 276). (¬2) رقم (196). (¬3) (8/ 81).

مذهب أهل دمشق في الميل على عليّ" (¬1). وليس في هذا ما يبيِّن درجته في الميل. فأما قصة الفروجة فقال ابن حجر في "تهذيب التهذيب" (¬2): "قال السلمي عن الدارقطني بعد أن ذكر توثيقه: لكن فيه انحراف عن علي، اجتمع على بابه أصحاب الحديث، فأخرجت جارية له فروجةً ... ". فالسلمي هو محمد بن الحسين النيسابوري. ترجمته في "لسان الميزان" (ج 5 ص 140) (¬3)، تكلموا فيه حتى رموه بوضع الحديث. والدارقطني إنما ولد بعد وفاة الجوزجاني ببضع وأربعين سنة، وإنما سمع الحكاية على ما في "معجم البلدان" (جوزجانان) (¬4) من عبد الله بن أحمد بن عَدَبَّس. ولابن عدبَّس ترجمة في "تاريخ بغداد" (ج 9 ص 384) و"تهذيب تاريخ ابن عساكر" (ج 7 ص 288) (¬5) ليس فيهما ما يبيِّن حاله، فهو مجهول الحال، فلا تقوم بخبره حجة. وفوق ذلك فتلك الكلمة ليست بالصريحة في البغض، فقد يقولها من يرى أن فعل عليّ عليه السلام كان خلاف الأولى، أو أنه اجتهد فأخطأ. وفي "تهذيب التهذيب" (ج 10 ص 391) عن ميمون بن مهران قال: "كنت أفضِّل عليًّا على عثمان، فقال عمر بن عبد العزيز: أيهما أحبّ إليك: ¬

_ (¬1) "الكامل": (1/ 310). وفيه: "في التحامل على ... ". (¬2) (1/ 181). (¬3) (7/ 92). (¬4) (2/ 183). (¬5) وانظر أصله: (27/ 61).

11 - أحمد بن إبراهيم.

رجل أسرعَ في المال أو رجل أسرعَ في كذا - يعني الدماء؟ - قال: فرجعتُ وقلت: لا أعود". وهذا بيِّن في أن عمر بن عبد العزيز وميمون بن مهران كانا يريان فعل عليّ خلاف الأولى أو خطأ في الاجتهاد. ولا يُعدُّ مثل هذا نصبًا، إذ لا يستلزم البغض، بل لا ينافي الحبّ. وقد كره كثير من أهل العلم معاملة أبي بكر الصديق لمانعي الزكاة معاملة المرتدين ورأوا أنه أخطأ، وهم مع ذلك يحبونه ويفضِّلونه. فأما حطُّ الجوزجاني على أهل الكوفة، فخاصٌّ بمن كان شيعيًّا يبغض بعض الصحابة أو يكون ممن يُظَنُّ به ذلك، وليس أبو حنيفة كذلك. ثم قد تقدم في القاعدة الرابعة من قسم القواعد (¬1) النظر في حَطِّ الجوزجاني على الشيعة، واتضح أنه لا يجاوز الحدّ، وليس فيه ما يسوِّغ اتهامه بتعمّد الحكم بالباطل، أو يخدش في روايته ما فيه غضّ منهم أو طعن فيهم. وتوثيق أهل العلم له يدفع ذلك البتة، كما تقدم في القواعد. والله الموفق. 11 - أحمد بن إبراهيم. راجع "الطليعة" (ص 31 - 32) (¬2). وقع في "الطليعة" (ص 31): [1/ 101] "وذكر سماعه من شريك". اعترَضَها الأستاذ في "الترحيب" (¬3) بأنه ليس في "تهذيب التهذيب" ذِكْر ¬

_ (¬1) (1/ 96 - 98). (¬2) (ص 21 - 22). (¬3) (ص 325).

12 - أحمد بن جعفر بن حمدان بن مالك أبو بكر القطيعي.

ذلك. وصدق الأستاذ، وقع الوهم في "الطليعة" لسبب الاختصار، وصواب العبارة هكذا: "ذكر الخطيب سماعه من شريك، وذكر المزي في "التهذيب" شريكًا في شيوخه". ثم ذكر الأستاذ أنه لا يحتج بالخطيب فيما هو متّهم فيه. وأقول: قد تقدم في القواعد الكلام في التهمة (¬1)، والخطيب حجةٌ على كلّ حال، على أن نص الخطيب على سماع أحمد بن إبراهيم من شريك إنما وقع في ترجمة أحمد بن إبراهيم (¬2)، حيث لا عين لذكر أبي حنيفة ولا أثر، وبين تلك الترجمة وترجمة أبي حنيفة تسعة مجلدات، والخطيب لا يعلم الغيب! ولو علمه لنصَّ على السماع عند تلك الحكاية نفسها. وكأن هَمّ الأستاذ في "الترحيب" أن يقال: قد أجاب، لا أن يقال: لعله قد أصاب! 12 - أحمد بن جعفر بن حمدان بن مالك أبو بكر القَطِيعي. في "تاريخ بغداد" (13/ 411 [438]): "أخبرنا بشرى بن عبد الله الرومي، ثنا أحمد بن جعفر بن حمدان ... ". قال الأستاذ (ص 141): "مختلط فاحش الاختلاط .... ". أقول: قضية الاختلاط ذكرها الخطيب في "التاريخ" (ج 4 ص 73) قال: "حدثت عن أبي الحسن بن الفرات .... "، وذكرها الذهبي في "الميزان" (¬3) ¬

_ (¬1) (1/ 59 فما بعدها). (¬2) (4/ 5). (¬3) (1/ 87 - 88).

عن ابن الصلاح قال: "اختلّ في آخر عمره حتى كان لا يعرف شيئًا مما يُقرأ عليه. ذكر هذا أبو الحسن بن الفرات". والظاهر أن ابن الصلاح إنما أخذ ذلك مما ذكره الخطيب، ولا ندري من حدَّث الخطيب، ومع الجهالة به لا تثبت القصة، لكن ابن حجر شدَّها بأن الخطيب حكى في ترجمة أحمد بن أحمد السِّيبي أنه قال: "قدمت بغداد، وأبو بكر بن مالك حي .... فقال لنا ابن الفرضي: لا تذهبوا إلى ابن مالك، فإنه قد ضَعُف واختلَّ، ومنعتُ ابني السماع منه". وهذه الحكاية في "التاريخ" (ج 4 ص 4)، لكن ليس فيها ما في تلك المنقطعة مما يقتضي فحش الاختلاط، وقد قال الذهبي في "الميزان" بعد ذكر الحكاية الأولى: "فهذا القول غلوّ وإسراف". [1/ 102] أقول: ويدل على أنه غلوّ وإسراف: أن المشاهير من أئمة النقد في ذلك العصر، كالدارقطني والحاكم والبرقاني، لم يذكروا اختلاطًا ولا تغيُّرًا. وقد غمزه بعضهم بشيء آخر. قال الخطيب: "كان بعض كتبه غرق، فاستحدث نسخَها من كتاب لم يكن فيه سماعه، فغمزه الناس؛ إلا أنَّا لم نر أحدًا امتنع من الرواية عنه، ولا ترك الاحتجاج به. وقد روى عنه من المتقدمين الدارقطني وابن شاهين ... سمعت أبا بكر البرقاني سئل عن ابن مالك فقال: كان شيخًا صالحًا ... ثم غرقت قطعة من كتبه بعد ذلك، فنسَخَها من كتاب ذكروا أنه لم يكن سماعه فيه، فغمزوه لأجل ذلك، وإلا فهو ثقة". قال الخطيب: "وحدثني البرقاني قال: كنت شديد التنقير عن حال ابن مالك، حتى ثبت عندي أنه صدوق لا يُشكُّ في سماعه، وإنما كان فيه بَلَه. فلما غرقت القطيعةُ بالماء الأسود غرق شيء من كتبه، فنسخ بَدَل ما غرق من

كتابٍ لم يكن فيه سماعه". أقول: أجاب ابن الجوزي في "المنتظم" (ج 7 ص 93) عن هذا بقوله: "مثل هذا لا يُطعَن به عليه، لأنه يجوز أن تكون تلك الكتب قد قُرئت عليه وعُورض بها أصله، وقد روى عنه الأئمة كالدارقطني وابن شاهين والبرقاني وأبي نعيم والحاكم" (¬1). أقول: وقال الحاكم: "ثقة مأمون". ونَسخُه ما غرق من كتبه من كتاب ليس عليه سماعه يحتمل ما قال ابن الجوزي، ويحتمل أن يكون ذاك الكتاب كان أصل ثقةٍ آخر كان رفيقه في السماع، فعرف مطابقته لأصله. والمدار على الثقة بصحة النسخة، وقد ثبت أن الرجل في نفسه ثقة مأمون. وتلك الحكاية تحتمل ما لا ينافي ذلك، فكان هو الظاهر. ولا أدري متى كان غرق القطيعة بالماء الأسود، وقد فتشتُ أخبار السنين في "المنتظم" فلم أره ذكر غرقًا بالماء الأسود (¬2)، وإنما ذكر أنه في شهر رمضان سنة 367 غرق بعض المحال منها قطيعة أم جعفر. فإن كان ذلك هو المراد، فإنما كان قبل وفاة القطيعي بنحو سنة واحدة، وقد سمع ¬

_ (¬1) وبنحوه أجاب الحافظ ابن كثير في "البداية والنهاية": (15/ 391). (¬2) ذكر الخطيب في "التاريخ": (1/ 76، والجديدة 1/ 386) قال: "حدثني عليّ بن المُحَسِّن، قال: قال لي القاضي أبو بكر بن أبي موسى الهاشمي: انبَثَق البَثْق من قُبَيِّن وجاء الماء الأسود فهدم طاقات باب الكوفة، ودَخَل المدينة فهدم دورَنا، فخَرَجنا إلى المَوْصل وذلك في سني نَيِّفٍ وثلاثين وثلاث مئة، وأقمنا بالمَوْصل سنين عدة ثم عُدنا إلى بغداد فسكنَّا طاقات العَكَّيّ". وعليه فيكون هذا الغرق قد وقع قبل وفاة القطيعي بثلاثين سنة.

الناس منه الكتب كلها قبل ذلك مرارًا، وأُخِذت منها عدة نسخ. والذين ذكروا الاستنساخ لم يذكروا أنه روى مما استنسخه [1/ 103]، ولو علموا ذلك لذكروه؛ لأنه أبين في التليين وأبلغ في التحذير. وليس من لازم الاستنساخ أن يروي عما استنسخه، ولا أن يعزم على ذلك؛ وكأنهم إنما ذكروا ذلك في حياته لاحتمال أن يروي بعد ذلك عما استنسخه. وقد قال الخطيب في "الكفاية" (ص 109): "ومذاهب النقَّاد للرجال غامضة دقيقة، وربما سمع بعضهم في الراوي أدنى مغمز، فتوقف عن الاحتجاج بخبره، وإن لم يكن الذي سمعه موجبًا لردِّ الحديث ولا مسقطًا للعدالة. ويرى السامع أن ما فعله هو الأولى؛ رجاءَ إن كان الراوي حيًّا أن يحمله على التحفُّظ وضبط نفسه عن الغميزة، وإن كان ميتًا أن ينزِّله مَنْ نَقَل عنه منزلتَه، فلا يُلحقه بطبقة السالمين من ذلك المغمز. ومنهم من يرى أن من الاحتياط للدين إشاعةُ ما سَمِع من الأمر المكروه الذي لا يوجب إسقاط العدالة بانفراده، حتى يُنْظَر هل [له] من أخوات ونظائر ... ". فلما ذكروا في حياة القطيعي أنه تغيّر، وأنه استنسخ من كتاب ليس عليه سماعُه، كان هذا على وجه الاحتياط، ثم لما لم يذكروا في حياته ولا بعد موته أنه حدَّث بعد تغير شديد، أو حدَّث مما استنسخه من كتاب ليس عليه سماعه، ولا استنكروا له رواية واحدة، وأجمعوا على الاحتجاج به كما تقدم = تبيَّن بيانًا واضحًا أنه لم يكن منه ما يخدش في الاحتجاج به. هذا، وكتب الإِمام أحمد كـ "المسند" و"الزهد" كانت نسخها مشهورة متداولة قد رواها غير القطيعي، وإنما اعتنوا بالقطيعي واشتهرت رواية

13 - أحمد بن جعفر بن محمد بن سلم.

الكتب من طريقه لعلوِّ السند. ويأتي لهذا مزيد في ترجمة الحسن بن علي بن المُذْهِب (¬1). والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. 13 - أحمد بن جعفر بن محمد بن سلم. في "تاريخ بغداد" (13/ 369 [370]): "أخبرنا محمد بن أحمد بن رزق، أخبرنا أبو بكر أحمد بن جعفر بن محمد بن سلم [الخُتَّلي] قال: أملى علينا أبو العباس أحمد بن علي بن مسلم الأبَّار ... ". قال الأستاذ (ص 32): "فابن رزق ... وأقل ما يقال في شيخه أنه متعصب أعمى البصيرة". أقول: ترجمة ابن سلم هذا في "التاريخ" (ج 4 ص 71) وفيها: "كان صالحا ديِّنًا مكثرًا ثقة ثبتًا، كتب عنه الدارقطني. ثم نقل عن ابن أبي الفوارس قال: "توفي أبو بكر بن سلم ... سنة 369، وكان ثقة". [1/ 104] والخطيب يروي بهذا السند من مصنفات الأبَّار، وكذلك يروي عن الحسن بن الحسين ابن دوما، عن ابن سلم، عن الأبَّار. فكل ما أسنده عن هذين عن ابن سلم عن الأبَّار، فهو ثابت عن الأبَّار حتمًا، لا شأن لهؤلاء الثلاثة ابن رزق وابن دوما وابن سلم فيه، فإن كانت تبعة فعلى الأبَّار، وستأتي ترجمته (¬2). ¬

_ (¬1) رقم (78). (¬2) رقم (27).

14 - أحمد بن الحسن بن جنيدب أبو الحسن الترمذي الحافظ الرحال صاحب أحمد ابن حنبل

14 - أحمد بن الحسن بن جنيدب أبو الحسن الترمذي الحافظ الرحَّال صاحب أحمد ابن حنبل: في "تاريخ بغداد" (13/ 418 [448]): " ... أحمد بن الحسن الترمذي قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول ... ". قال الأستاذ (ص 163): "وأحمد بن الحسن الترمذي من أصحاب أحمد، لا يقلّ تعصّبًا من عبد الله بن أحمد، وإن روى عنه البخاري حديثًا واحدًا في المغازي. وكم بين رجال البخاري من يؤخذ عنه شيء دون شيء". أقول: هذا الرجل معروف بالحفظ والمعرفة. أثنى عليه أبو حاتم وابن خزيمة، وهما ممن روى عنه. وروى عنه أبو زُرعة، ومن عادته أن لا يروي إلا عن ثقة كما في "لسان الميزان" (ج 2 ص 416) (¬1). ولم يذكر بشيء من التعصب، لكن كونه من أصحاب أحمد وروى عنه تلك الكلمة كافٍ عند الأستاذ لرميه بشدَّة التعصب. وقد تقدم تحقيق حكم التعصّب في القواعد (¬2). أما قلة رواية البخاري عنه, فلأنه من أقرانه، والبخاري كغيره من الأئمة يتحرَّى علوَّ الإسناد، فلا يكاد يروي في "الصحيح" عمن هو أكبر منه بقليل، فضلًا عن أقرانه؛ إلا ما أعوزه أن يجده عند مَنْ هو في طبقة كبار شيوخه. وإذا كان الرجل بحيث يؤخذ عنه الحديث في "الصحيح" فلأن تُؤخذ عنه الحكايات أولى. ¬

_ (¬1) (3/ 396). (¬2) (1/ 87 - 98).

15 - أحمد بن الحسن بن خيرون.

15 - أحمد بن الحسن بن خيرون. قال الأستاذ (ص 31): "تكلم الحافظ أبو الفضل بن طاهر في أحمد بن الحسن المعروف بابن خيرون الذي كان [وصيَّ الخطيب عند وفاته وكأن] (¬1) الخطيب سلَّم إليه كتبه، فاحترقت تلك الكتب في بيت هذا الوصي، وبينها نسخة الخطيب من "تاريخ بغداد" حتى روى الناس "تاريخ الخطيب" من نسخة ابن خيرون لا عن [خط] الخطيب، وبَلَوْا فيها زيادات على ما كانوا سمعوه من الخطيب فقالوا: إن ابن خيرون هو الذي زادها [1/ 105] حتى رمى أبو الفضل [ابن طاهر] (¬2) المقدسي ابنَ خيرون بكل سوء؛ وإن لم يعجب ذلك الذهبي، وقد نقل في "ميزان الاعتدال" عن ابن الجوزي أنه قال: سمعت مشايخنا يقولون: إن الخطيب أوصى [إلى] ابن خيرون أن يزيد وُرَيقات في "تاريخه" وكان لا يحب أن تظهر منه في حياته. فبذلك تعلم أن الزيادة فيه لا شكّ فيها، لكن هناك رواية أنها كانت بوصية من الخطيب، فتكون تَبِعة الزيادة على عاتق المؤلف نفسه؛ أو الزائد هو ابن خيرون، فيسقط ابن خيرون من مرتبة أن يكون مقبول الرواية على رأي أبي الفضل [ابن طاهر] المقدسي ... ومن الغريب أن المثالب الشنيعة المتعلقة بأبي حنيفة في "تاريخ الخطيب" لم تُذَعْ إلا بعد أن تحنَّف عالمُ الملوك الملك المعظَّم عيسى الأيوبي، ولذلك كان هو أول من ردّ عليها. ولو ذاعت المثالب قبل ذلك لما تأخر العلماء من الرد عليها، كما فعلوا مع عبد القاهر البغدادي وابن الجويني وأبي حامد الطوسي وغيرهم. وسبط ابن الجوزي ردَّ على الخطيب أيضًا في عصر الملك المعظَّم ... ". أقول: ابن خيرون ذكره ابن الجوزي في "المنتظم" (ج 8 ص 87) وقال: "روى عنه أبو بكر الخطيب، وحدَّثنا عنه أشياخنا، وكان من الثقات. وشهد ¬

_ (¬1) من "التأنيب" وكذا ما سيأتي إلا ما نبَّهت على أنه من المؤلف نفسه. (¬2) "ابن طاهر" من زيادات المؤلف وكذا في الموضع الثاني.

عند أبي عبد الله الدامغاني [قاضي القضاة الحنفي المشهور] (¬1) ثم صار أمينًا له". وفي "تذكرة الحفاظ" (ج 4 ص 7): "ذكره السمعاني فقال: ثقة عدل متقن واسع الرواية ... سمعت عبد الوهاب بن خيرون يقول: ما رُئيَ مثل أبي الفضل بن خيرون، لو ذكرت كتبه وأجزاءه التي سمعها يقول لك عمن سمع وبأي طريق سمع، وكان يذكر الشيخ وما يرويه وما ينفرد به ... ، قال أبو طاهر السلفي: كان كيحيى بن معين في وقته ... ، وقد ذكرتُ في "ميزان الاعتدال" كلام ابن طاهر فيه بكلام مردود، وأنه كان يُلحق بخطه أشياء في "تاريخ الخطيب"، وبيَّنَّا أن الخطيب أذن له في ذلك. وأما خطه فمشهور، وهو بمنْزلة الحواشي، فكان ماذا؟ ". وفي "الميزان" (¬2): "أحمد بن الحسن بن خيرون أبو الفضل الثقة الثبت محدِّثُ بغداد. تكلم فيه ابن طاهر بقول زائف (¬3) سَمِج، فقال: حدثني ابن مرزوق، حدثني عبد المحسن بن محمد قال: سألني ابن خيرون أن أحمل إليه الجزء الخامس من "تاريخ الخطيب" فحملته إليه، فردَّه [عليَّ] [1/ 106] وقد ألحَقَ فيه في ترجمة محمد بن علي رجلَين لم يذكرهما الخطيب، وألحق في ترجمة قاضي القضاة الدامغاني [الحنفي] (¬4): "كان ¬

_ (¬1) المعكوفان من المؤلف. (¬2) (1/ 92). (¬3) في "الميزان": "زيف". (¬4) المعكوفان من المؤلف.

نَزِهًا عفيفًا". وقال ابن الجوزي: قد كنت أسمع من مشايخنا أن الخطيب أمر ابن خيرون أن يُلحق وُرَيقات في كتابه ما أحبَّ الخطيبُ أن تظهر عنه. قلت: وكتابته لذلك كالحاشية، وخطه معروف لا يلتبس بخط الخطيب أبدًا، وما زال الفضلاء يفعلون ذلك. وهو أوثق من ابن طاهر بكثير، بل هو ثقة مطلقًا ... ". أقول: "تاريخ الخطيب" قُرئ عليه في حياته، ورواه جماعة. ويظهر أنها أُخِذت منه عدة نسخ في حياة الخطيب، على ما جرت به عادة المُثْرين من طلبة العلم والمجتهدين منهم، أن يستنسخ كلٌّ منهم الكتاب قبل أن يسمعه على الشيخ، ثم يسمع في كتاب نفسه ويصحح نسخته. وكثير منهم يستنسخ قبل كلّ مجلسٍ القطعةَ التي يتوقع أن تُقرأ في ذلك المجلس إلى أن يتمّ الكتاب. وعبد المحسن الذي روى ابن طاهر من طريقه ذكر الزيادة هو عبد المحسن بن محمد الشيحي. وفي ترجمته من "المنتظم" (ج 9 ص 100): "أكثر عن أبي بكر الخطيب بصُور، وأهدى إليه الخطيب "تاريخ بغداد" بخطه، وقال: لو كان عندي أعزُّ منه لأهديته له". ومن الواضح أن الخطيب لا يهدي نسخته الوحيدة من تاريخه الجليل ويبقى بلا نسخة، فلا بدَّ أن تكون عنده نسخة أخرى. ومن البيِّن أن العالم لا يزال يحتاج إلى الزيادة في تآليفه، فلعله زاد في النسخة التي بقيت عنده أشياء لم تكن في النسخة التي أهداها لعبد المحسن. فإذا كانت هذه النسخة الأخيرة صارت لابن خيرون - كما يقول الأستاذ - فطلب ابن خيرون من عبد المحسن أن يبعث إليه بالجزء الخامس من نسخته، فألْحَقَ ما ألْحَق؛ فإن كان ألحق على

أنه من الكتاب، فإنما ألحق ذلك من نسخة الخطيب الأخيرة، وإن كان إنما كتب حاشية كما قال الذهبي فالأمر أوضح. وما ذكره الأستاذ: أن كتب الخطيب احترقت عند ابن خيرون، لا أتحققه. نعم، ذكروا احتراقًا، ولكن لم أجد نصًّا على أن نسخة الخطيب من "تاريخه" احترقت، ولا أن الناس إنما رووا "التاريخ" بعد ذلك عن نسخة لابن خيرون لا عن خط الخطيب؛ بل هذا باطل حتمًا. وقد علمتَ أنه كان عند عبد المحسن نسخة أخرى بخط الخطيب، ولا بد أن تكون عند غيره نُسَخ مما صُحِّح على نسخة الخطيب عند القراءة عليه. وقد روى جماعة منهم ابن الجوزي، وأبو [1/ 107] اليُمْن الكندي أستاذُ الملك المعظَّم، وخليلُه سبطُ ابنِ الجوزي "تاريخ بغداد" عن أبي منصور عبد الرحمن بن محمد القزاز يقول: "أخبرنا الخطيب" أو نحو ذلك. وفي ترجمته من "المنتظم" (ج 10 ص 90): "سَمَّعه أبوه وعمُّه الكثير، وكان صحيح السماع". ولا بدّ أن تكون عنده نسخة أخرى سمع فيها من الخطيب وإلا لطعنوا فيه بأنه يروي مما ليس عليه سماعه. ثم رأيت في "معجم الأدباء" (ج 4 ص 38) (¬1): "قال السمعاني: لما رجعت إلى خراسان حصل لي "تاريخ الخطيب" بخط شجاع بن فارس الذهلي [الحافظ الثبت] الأصل الذي كتبه بخطه لأبي غالب محمد بن عبد الواحد القزاز، وعلى وجه كل واحد من الأجزاء: سماع لأبي غالب ولابنه أبي منصور عبد الرحمن ... ". ¬

_ (¬1) (1/ 390 - دار الغرب).

فهذه النسخة كتبها ذاك الحافظ الثبت بخطه، وسمع فيها القزّاز وولده على الخطيب، وصُححت على نسخته. ولا أدري أكانت عند الابن نسخة أخرى مما سمع على الخطيب فكان يروي منها، أم كان قد استنسخ من هذه التي بخط شجاع الذهلي نسخةً أخرى قوبلت على الأصل، وكتب العلماء شهادتهم بذلك ونقلوا سماعه إلى نسخته الجديدة، وباع الأصل حتى صار لابن السمعاني. وعلى كل حال فالنسخة التي كانت عند القزاز صحيحة عن الخطيب، ولا شأن لها بنسخة عبد المحسن، ولا بالنسخة التي كانت عند ابن خيرون، ولا بنسخة ابن خيرون، ونسختا ابن الجوزي والكندي أستاذ المعظم مأخوذتان عن نسخة القزاز، ونسختا سبط ابن الجوزي والمعظم تبع لذلك، وكان المعظم ملكًا مسلَّطًا متعصّبًا، وصاحبه سبط ابن الجوزي جوّالًا متفانيًا في هواه، وهما أول مَن ردّ على الخطيب كما ذكر الأستاذ، ولعلهما قد وقفا على عدة نسخ أخرى، فلو عرفا أن بين النسخ اختلافًا في الموضع الذي ردَّا عليه؛ لما سكتا عن بيان ذلك. فأما سكوت من قبلهما من علماء الحنفية عن الردِّ على الخطيب مع ردهم على غيره، فلأنهم أعقل منهما ومن الأستاذ، إنما ردوا على رسائل صغيرة من شأنها أن تشيع وتذيع. فأما ما في ذاك الموضع من "تاريخ بغداد" فرأوا أنه مدفون في كتاب كبير، لا يقف عليه إلا الأفراد، فتكلُّفُ الجواب إنما هو سعيٌ في انتشار ذلك واشتهاره، فعلموا أن السكوت أسلم. ولما خالفهم [1/ 108] الأستاذ وقع فيما تراه، وعلى أهلها تجني براقش! وقد ذكر ابن عساكر نسختين أخريين انظر "تاريخ دمشق" (ج 1 ص 45 -

16 - أحمد بن خالد الكرماني.

46) (¬1). وقد حَقَّر الأستاذُ ابنَ خيرون، وعظَّم ابنَ طاهر والملكَ عيسى. فأما محمد بن طاهر فترجمته في "الميزان" و"لسانه" (¬2) و"المنتظم" (ج 9 ص 157) ويأتي له ذكر في ترجمة الخطيب (¬3). ومن طالع ذلك وتدبر ما يعتمده الأستاذ علم أن ابن طاهر لو وقع في إسناد حكاية فيها غضٌّ من أبي حنيفة أو أحد أصحابه لحطَّ الأستاذ عليه أشنع حطٍّ، ولعله لا يتحاشى عن تكفيره، فضلًا عن تفسيقه. وأما الملك عيسى فحسبك أن تتتبع ما يحكيه عنه خليله (¬4) في المجلد الأخير من تاريخه "مرآة الزمان" في مواضع متعددة، ويمنعني من نقل ذلك هنا أنه كان له مشاهد في قتال الكفار، وأنه حكي عنه ما يدلّ على محافظته على الصلاة حتى في مرض موته. والله أعلم. 16 - أحمد بن خالد الكرماني. في "تاريخ بغداد" (2/ 178) "محمد بن إسماعيل التمار الرقي قال: ¬

_ (¬1) ذكر ابن عساكر روايته عن رجلين كل منهما عن الخطيب ثم قال: "كذا في النسختين من تاريخ بغداد ... ". ووقع هناك "في الشيخين" وهو خطأ ظاهر. وفي "تذكرة الحفاظ" (4/ 61) في ترجمة أبي بكر السمعاني أنه سمع "تاريخ بغداد" من أبي محمد بن الأبنوسي. وأبو محمد من الرواة عن الخطيب. [المؤلف]. (¬2) "الميزان": (5/ 33)، و"اللسان": (7/ 211). (¬3) رقم (26). (¬4) يعني سبط ابن الجوزي.

17 - أحمد بن الخليل.

حدثني أحمد بن خالد الكرماني قال: سمعت المُقَدَّمي بالبصرة يقول: قال الشافعي ... ". قال الأستاذ (ص 183): "الكرماني مجهول". أقول: وأنا أيضًا لم أظفر له بترجمة ولا خبر إلا في هذه الرواية، أو ذكره في شيوخ التمار (¬1)، لكن مثل هذا لا يسوِّغ لأمثالنا أن يقول: "مجهول". وراجع "الطليعة" (ص 86 - 98) (¬2). 17 - أحمد بن الخليل. راجع "الطليعة" (ص 20 - 22) (¬3)، وما تقدم في القواعد أواخر القاعدة السادسة (¬4). (¬5) 18 - أحمد بن سعد بن أبي مريم. في "تاريخ بغداد" (13/ 420 [450]): " ... أحمد بن سعد بن أبي مريم قال: وسألته - يعني يحيى بن معين - عن أبي حنيفة فقال: لا تكتب حديثه". ¬

_ (¬1) في "تاريخ بغداد": (2/ 45). (¬2) (ص 66 - 77). (¬3) (ص 13 - 15). (¬4) (1/ 122). (¬5) أحمد بن أبي خيثمة زهير بن حرب: يأتي في ترجمة صالح بن أحمد [رقم 109]. [المؤلف]

[1/ 109] قال الأستاذ (ص 168): "كثير الوهم وكثير الاضطراب في مسائله، مع مخالفة روايته هذه لرواية الثقات عن ابن معين، ويبدو عليه أنه غير ثقة، حيث يخالف ثقات أصحاب ابن معين فيما يرويه عنه في أبي حنيفة وأصحابه". أقول: ممن روى عن أحمد هذا: النسائيُّ وقال: "لا بأس به". وأبو داود وهو لا يروي إلا عن ثقة عنده، كما في "تهذيب التهذيب" (¬1) في ترجمة الحسين بن علي بن الأسود، وترجمة داود بن أمية. وبقي بن مخلد وهو لا يروي إلا عن ثقة عنده، كما في ترجمة أحمد هذا من "تهذيب التهذيب" (¬2). فأما كثرة وهمه وكثرة اضطرابه في مسائله فلم أعرفه، وكان على الأستاذ أن ينقل ذلك عمن يُعتدّ بقوله، أو يذكر عدة أمثلة لما زعمه. وقد ردَّ الأستاذ قول إمام النقاد علي ابن المديني في أبي حنيفة: "أخطأ في خمسين حديثًا" بأنه لم يفصِّل ذلك، كما سلف مع نظائره في ترجمة إبراهيم بن محمد بن الحارث (¬3)، فكيف يطمع الأستاذ أن نقبل من مثله هذه المجازفة؟ وأما دعوى مخالفة روايته هذه لروايات الثقات عن ابن معين، فالجواب من أوجه: الأول: المطالبة بتثبيت تلك الروايات. الثاني: أنه - كما يعلم الأستاذ - قد جاءت عن ابن معين روايات أخرى ¬

_ (¬1) (2/ 344، 3/ 180) على التوالي. (¬2) (1/ 30). (¬3) رقم (8).

19 - أحمد بن سلمان النجاد.

في التليين لعلها أثبت من روايات التوثيق. الثالث: أن ابن معين كثيرًا ما تختلف أقواله، وربما يطلق الكلمة يريد بها معنى غير المشهور، كما سلف في القواعد في القاعدة السادسة (¬1). الرابع: أن كلمة "لا تَكْتب حديثَه" ليست بصريحة في الجرح، فقد يكون ابن معين - مع علمه برأي غيره من المحدِّثين - عَلِم أن أحمد قد استكثر من سماع الحديث، ويمكنه أن يشتغل بما هو أنفع له من تتبُّع أحاديث أبي حنيفة. وعلى كل حال فأحمدُ هذا قد قَبِله الأئمة واحتجوا به، ولم يطعن فيه أحد منهم. والله الموفق. 19 - [1/ 110] أحمد بن سلمان النجَّاد. في "تاريخ بغداد" (13/ 383 [393]): "أخبرنا محمد بن عبد الله [ابن] أبان الهِيتي، حدثنا أحمد بن سلمان النجَّاد، حدثنا عبد الله ... ". قال الأستاذ (ص 65): "يقول فيه الدارقطني: يحدِّث من كتاب غيره بما لم يكن في أصوله". وفي "تاريخ بغداد" (13/ 404 [429]) خبر آخر من طريق النجَّاد. فقال الأستاذ (ص 125): "والنجاد ممن يروي عما ليس عليه سماعه، كما نص على ذلك الدارقطني، كما في (4/ 191) من "تاريخ الخطيب". وليس قول ¬

_ (¬1) (1/ 118 - 120).

الدارقطني فيه: قد حدَّث أحمد بن سلمان من كتاب غيره بما لم يكن في أصوله، مما يُزال بلعل ولعل". أقول: لفظ الدارقطني: "حدَّث ... "، كما في "تاريخ بغداد" في الموضع الذي أحال عليه الأستاذ، وهكذا في "تذكرة الحفاظ" وفي "الميزان" و"اللسان" (¬1). وهذه الكلمة تصدق بمرَّة واحدة كما حملها عليه الخطيب إذ قال: "كان قد كُفَّ بصره في آخر عمره، فلعل بعض طلبة الحديث قرأ عليه ما ذكر الدارقطني"؛ بخلاف ما نسبه الأستاذ إلى الدارقطني أنه قال: "يحدِّث من كتاب غيره ... "، "ممن يروي عما ليس عليه سماعه"، فإن هاتين العبارتين تعطيان أن ذلك كان من شأنه، تكرر منه مرارًا! وقد تصرَّف الأستاذ مثل هذا التصرُّف وأشدّ منه في مواضع، راجع "الطليعة" (ص 66 - 72) (¬2)، ويعتذر الأستاذ في "الترحيب" (ص 16) بقوله: "وأما مراعاة حرفية الجرح فغير ميسورة كلّ وقت، وكفى بالاحتفاظ بجوهر المعنى". أقول: على القارئ أن يراجع تلك الأمثلة في "الطليعة" ليتبين له هل احتفظ الأستاذ بجوهر المعنى؟ ولا أدري ما الذي عسَّر عليه المراعاة؟ ألعله كالط بعيدًا عن الكتب، فلم يتيسر له مراجعتها، وإنما اعتمد على حفظه؟ أَوَ لا يحقُّ لي أن أقول: إن الذي عسَّر عليه ذلك هو أنه رأى كلمات الأئمة التي ¬

_ (¬1) "تذكرة الحفاظ": (3/ 868)، و"الميزان": (1/ 101)، و"اللسان": (1/ 475) وكلام الدارقطني في "سؤالات السلمي" (رقم 12). (¬2) (ص 50 - 54).

تصرف فيها ذاك التصرُّف لا تشفي غيظه ولا تفي بغرضه، فاضطُرَّ إلى ما وقع منه. ويدل على هذا أني لم أر كلمة واحدة من كلمات التليين في الذين يريد جرحهم تصرَّف فيها، فجاءت عبارته أخفَّ من أصلها، بل رأيته يحافظ على حرفية الجرح حيث يراه شافيًا لغيظه، [1/ 111] كما يأتي في الترجمة رقم (23) وغيرها! وعلى هذا يكون اعتذاره المذكور اعترافًا بما قلته في "الطليعة" (ص 66) (¬1). وقول الأستاذ: "مما يُزال بلعل ولعل" يريد به قول الخطيب: " .. فلعل بعض الطلبة ... ". وقد مر. ولولا شدة غيظ الأستاذ على المحدِّثين لاكتفى بنص عبارة الدارقطني وعبارة الخطيب قائلًا: فعلى هذا ينبغي التثبُّت فيما يرويه عن النجاد مَنْ لم يكن في عصره معروفًا بالتيقظ، وراوي تينك الحكايتين عن النجاد هو محمد بن عبد الله بن أبان الهِيتي قال فيه الخطيب: " ... وكان مغفَّلًا مع خلوِّه عن علم الحديث ... ". وإذا كانت هذه نهايته فما عسى أن تكون بدايته؟ فلا يؤمَن أن يكون سمع تينك الحكايتين من النجاد في ذاك المجلس الذي حدَّث فيه النجاد من كتاب غيره بما ليس في أصوله. أقول: لو كان الأستاذ يكفكف من نفسه لاكتفى بهذا أو نحوه. فإذا قيل له: القضية النادرة لا يعتدُّ بها في حمل غيرها عليها، وإنما الحمل على الغالب؛ فقد يمكنه أن ينازع في هذا. أما أنا فأقول: إنما قال الدارقطني: "بما ¬

_ (¬1) (ص 50).

لم يكن في أصوله"، ولم يقل: "بما لم يكن من حديثه" أو نحو ذلك، فدل هذا على احتمال أن يكون ما حدَّث به من ذلك الكتاب كان من حديثه أو روايته، وإن لم يكن في أصوله. وذلك كأن يكون سمع شيئًا فحفظه، ولم يثبته في أصله، ثم رآه في كتاب غيره كما حفظه، فحدَّث به. أو يكون حضر سماع ثقة غيره في كتاب، ولم يثبت اسمه فيه، ثم رأى ذلك الكتاب وهو واثق بحفظه، فحدَّث منه بما كان سمعه. أو تكون له إجازة بجزء معروف ولا أصل له به، ثم رأى نسخة موثوقًا بها منه، فحدَّث منها. نعم، كان المبالغون في التحفُّظ في ذاك العصر لا يحدِّث أحدهم إلا بما في أصوله، حتى إذا طولب أبرز أصله. ولا ريب أن هذا أحوط وأحزم، لكنه لا يتحتم جرح من أخلَّ بذلك، إذا كانت قد ثبتت عدالته وأمانته وتيقظه، وكان ما وقع منه محتملًا لوجه صحيح. وقد قال أبو علي ابن الصواف: "كان النجاد يجيء معنا إلى المحدثين، ونعلُه في يده، فيقال له في ذلك، فيقول: أحبُّ أن أمشي في حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حافيًا". وقال أبو إسحاق الطبري: "كان النجاد يصوم الدهر، ويفطر كل ليلة على رغيف ويترك منه لقمة، فإذا كان ليلة الجمعة تصدَّق بذلك [1/ 112] الرغيف، وأكل تلك اللقم التي استفضلها". وكان ابن رزقويه يقول: "النجاد ابن صاعدنا". قال الخطيب: "عنى بذلك أن النجاد في كثرة حديثه واتساع طرقه وأصناف فوائده لمن سمع منه كابن صاعد لأصحابه، إذ كل واحد من الرجلين كان واحد وقته". وقال الخطيب: "كان صدوقًا عارفًا، صنف كتابًا كبيرًا في السنن، وكان له بجامع المنصور حلقة قبل الجمعة للفتوى، وحلقة

20 - أحمد بن صالح أبو جعفر المصري المعروف بابن الطبري.

بعدها للإملاء". هكذا في "تذكرة الحفاظ" (ج 3 ص 80) (¬1). وقال الذهبي أول الترجمة: "النجاد الإِمام الحافظ الفقيه شيخ العلماء ببغداد". وقد روى عنه الأئمة كالدارقطني وابن شاهين والحاكم - وأكثرَ عنه في المستدرك - وابن منده وابن مردويه وغيرهم، ولم يُنكَر عليه حديث واحد. الثقة تثبت بأقل من هذا، ومن ثبتت عدالته لم يقبل فيه الجرح إلا ببينة واضحة لا احتمال فيها، كما تقدم في القواعد (¬2). والله الموفق. 20 - أحمد بن صالح أبو جعفر المصري المعروف بابن الطبري. في "تاريخ بغداد" (8/ 422): " ... أحمد بن صالح، حدثنا عنبسة بن خالد ابن أبي النجاد، حدثنا يونس - يعني ابن يزيد (¬3) - قال: رأيت أبا حنيفة عند ربيعة بن أبي عبد الرحمن، وكان مجهود أبي حنيفة أن يفهم ما يقول ربيعة". قال الأستاذ في حاشية (ص 173): "أحمد بن صالح مختلف فيه". أقول: اقتصارك في صدد القدح في الرواية على قولك في الراوي: "مختلف فيه" ظاهر في أنه لم يتبين لك رجحان أحد الوجهين. والأستاذ يعلم إجماع أهل العلم على رد كلام الموهن لأحمد بن صالح هذا، حتى نصوا على ذلك في متون المصطلح. قال العراقي في "ألفيته" (¬4): ورُبّما رُدَّ كلامُ الجارحِ ... كالنَّسَئي في أحمدَ بن صالحِ ¬

_ (¬1) (3/ 868)، وانظر "السير": (15/ 502 - 506). (¬2) (1/ 99 - 103). (¬3) (ط): "زيد" تصحيف، وهو يونس بن يزيد الأيلي. (¬4) (ص 183).

فرُبّما كان لِجَرحٍ مَخرجُ ... غطَّى عليه السُّخْطُ حين يُحْرِجُ وقد لجأ الأستاذ إلى هذه القاعدة، وزاد عليها وبالغ، واتخذها عكازة يتوكأ عليها في ردِّ كلام كثير من الأكابر، وتخطى ذلك إلى رد روايتهم، وتعدَّاه إلى الطعن فيهم. فأما ابن الطبري، فوثَّقه الجمهور وعظَّموا شأنه. وقال النسائي: "غير ثقة ولا مأمون، تركه [1/ 113] محمد بن يحيى، ورماه يحيى بالكذب". وبيَّن رمي يحيى بقوله: "حدثنا معاوية بن صالح سمعت يحيى بن معين يقول: أحمد بن صالح كذاب يتفلسف". وأنكر عليه أحاديث زعم أنه تفرد بها أو خالف. فأما قوله: "غير ثقة ولا مأمون" فمبنية على ما بعدها. وأما قوله: "تركه محمد بن يحيى" فوهم، فإن رواية محمد بن يحيى عن أحمد بن صالح موجودة. وقال ابن عدي: "حدَّث عنه البخاري والذهلي [محمد بن يحيى] واعتمادهما عليه في كثير من حديث الحجاز". وكأنَّ الذهلي لما سمع منه النسائيُّ لم يحدِّثْه عن أحمد بن صالح، فظن النسائي أنه تركه. ولعله إنما لم يحدثه عنه لأنه كان حيًّا، ورأى الذهلي أن النسائي كغيره من طلبة الحديث إنما يرغبون في العوالي. وأما رواية معاوية بن صالح عن ابن معين، فقد قال البخاري في أحمد بن صالح ابن الطبري: "ثقة صدوق، وما رأيت أحدًا يتكلم فيه بحجة، كان أحمد بن حنبل وعلي [ابن المديني] وابن نمير وغيرهم يثبِّتون أحمد بن صالح، وكان يحيى [بن معين] يقول: سلوا أحمد فإنه أثبت. فإن كان هناك وهم في النقل، فالظاهر أنه في رواية معاوية؛ لأن

21 - أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق أبو نعيم الأصبهاني الحافظ.

البخاري أثبت منه، ولموافقة سائر الأئمة. وإن كان ليحيى قولان، فالذي رواه البخاري هو المعتمد لموافقة سائر الأئمة. وزَعَم ابنُ حبان أن أحمد بن صالح الذي كذَّبه ابن معين رجل آخر غير ابن الطبري يقال له الأُشمُومي كان يكون بمكة. ويقوِّي ذلك ما رواه البخاري من تثبيت ابن معين لابن الطبري، وأن ابن الطبري معروف بالصدق لا شأن له بالتفلسف. وقد تقدم في القواعد في أوائل القاعدة السادسة (¬1) أمثلة للخطأ الذي يوقع فيه تشابه الأسماء. وأما الأحاديث التي انتقدها النسائي على ابن الطبري فقد أجاب عنها ابن عدي (¬2)، وراجع ما تقدم في القواعد القاعدة الرابعة (¬3). 21 - أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق أبو نُعيم الأصبهاني الحافظ. في "تاريخ بغداد" (13/ 325): "أخبرنا أبو نعيم الحافظ حدثنا أبو أحمد الغِطْريفي ... ". قال الأستاذ (ص 17): "قد أخرج رحلة منسوبة إلى الإِمام الشافعي رضي الله عنه في "حلية الأولياء" بسند فيه أحمد بن موسى النجار، وعبد الله بن محمد البلوي، وهما كذابان معروفان ... ويذكر الخبر الكاذب وهو يعلم أنه كذب، ويعلم أيضًا ما يترتب على ذلك من اغترار جهلة أهل مذهبه بذكره الخبر المذكور وسعيهم في الفتنة سعي الموتور في الثأر. نسأل الله الصون. [1/ 114] ومن المعروف أن عادة ¬

_ (¬1) (1/ 104 - 109). (¬2) في "الكامل": (1/ 180 - 184). (¬3) (1/ 87 فما بعدها).

أبي نعيم سَوق الأخبار الكاذبة بأسانيده بدون تنبيه على كذبها. وهو أيضًا ممن يسوق ما يرويه بإجازة فقط مع ما سمعه في مساق واحد ويقول في الاثنين: حدثنا. وهذا تخليط فاحش، وليس جرح ابن منده فيه مما يُتغاضى عنه بهوى الذهبي". أقول: أما الرحلة، فباطلة بذلك السياق حتمًا، وهل تنبَّه أبو نعيم لبطلانها؟ الله أعلم. وأما سياقه في مؤلفاته الأخبار والروايات الواهية التي ينبغي الحكم على كثير منها بالوضع، فمعروف. ولم ينفرد بذلك، بل كثير من أهل عصره ومَنْ بعدهم شاركوه في ذلك، ولا سيَّما في كتب الفضائل والمناقب، ومنها مناقب الشافعي ومناقب أبي حنيفة. ثم يجيء مَن بعدهم، فيحذفون الأسانيد، ويقتصرون على النسبة إلى تلك الكتب (¬1)، وكثيرًا ما يتركون هذه النسبة أيضًا كما في "الإحياء" وغيره. وفي "فتح المغيث" (ص 106) (¬2) في الكلام على رواية الموضوع: "لا يبرأ من العهدة في هذه الأعصار بالاقتصار على إيراد إسناده بذلك، لعدم الأمن من المحذور به، وإن صَنَعه أكثرُ المحدّثين في الأعصار الماضية من سنة مائتين وهلمَّ جرًّا، خصوصًا الطبراني، وأبو نعيم، وابن منده، فإنهم إذا ساقوا الحديث بإسناده اعتقدوا أنهم برئوا من عهدته ... قال شيخنا: وكأنَّ ذِكْر الإسناد عندهم من جملة البيان ... ". ¬

_ (¬1) بعده في (ط): "وكثيرًا ما يتركون هذه النسبة إلى تلك الكتب" وهو تكرار وانتقال نظر. (¬2) (1/ 296). وكلام الحافظ في "النكت": (2/ 638).

أقول: مدار التشديد في هذا على الحديث الصحيح: "مَنْ حدَّث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين" (¬1). ومَن تدبَّر علم أنه إنما يكون كاذبًا على أحد وجهين: الأول: أن يرسل ذاك الحديث جازمًا كأن يقول: "قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ... ". الثاني: أن يكون ظاهر حاله في تحديثه أن ذاك الخبر عنده صدق، أو محتمل أن يكون صدقًا، فيكون موهمًا خلاف الواقع، فيكون بالنظر إلى ذاك الإيهام كاذبًا. وقد عَلِمنا أن قول مَن صَحِب أنسًا: "قال أنس ... " موهم بل مفهم إفهامًا تقوم به الحجة أنه سمع ذلك من أنس، إلا أن يكون مدلّسًا معروفًا بالتدليس. فإذا كان معروفًا بالتدليس فقال فيما لم يسمعه من أنس: "قال أنس ... " لم يكن كاذبًا ولا مجروحًا، وإنما يلام على شرَهِه ويُذْكَر بعادته لتُعْرَف، فلا تُحمل على عادة غيره. وذلك أنه لما عُرِف بالتدليس لم يكن ظاهر حاله أنه لا يقول: [1/ 115] "قال أنس ... " إلا فيما سمعه من أنس، وبذلك زال الإفهام والإيهام، فزال الكذب. فهكذا وأولى منه مَنْ عُرِف بأنه لحرصه على الجمع والإكثار والإغراب وعلوِّ الإسناد يروي ما سمعه من أخبار وإن كان باطلًا ولا يبيِّن، فإنه إذا عُرِف بذلك لم يكن ظاهر حاله أنه لا يحدِّث غير مبيِّن إلا بما هو عنده صدق، أو محتمل للصدق. فزال الإيهام، فزال الكذب، فلا يجرح ولكن يلام على شَرَهِه ويُذْكَر بعادته لتُعرف. وكما ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه, وأحمد (20163)، وابن ماجه (39)، وابن حبان (29) من حديث سمرة بن جندب، وله شاهد من حديث المغيرة بن شعبة أخرجه أحمد (18368)، ومسلم في المقدمة، والترمذي (2662). ومن حديث علي رضي الله عنه أخرجه ابن ماجه (38)، وعبد الله بن أحمد في "زوائد المسند" (903).

يكفي المدلس أن يعرفَ عادتَه أهلُ العلم وإن جهلها غيرهم، فكذلك هذا، لأن الفرض على غير العلماء مراجعة العلماء؛ على أن العامة يشعرون في الجملة بما يدفع اغترارهم الذي هوَّل به الأستاذ، ولذلك كثيرًا ما نسمعهم إذا ذكر لهم حديث قالوا: هل هو في البخاري؟ فعلى هذا نقول في أبي نعيم ومَن جرى مجراه: إن احتمل أنهم لانهماكهم في الجمع لم يشعروا ببطلان ما وقع في روايتهم من الأباطيل، فعذرهم ظاهر. وهو أنهم لم يحدِّثوا بما يرون أنه كذب، وإنما يلامون على تقصيرهم في الانتقاد والانتقاء. وإن كانوا شعروا ببطلان بعض ذلك، فقد عُرفت عادتُهم، فلم يكن في ظاهر حالهم ما يوجب الإيهام؛ فلا إيهام، فلا كذب. فإن اغترَّ ببعض ما ذكروه مَن قد عرف عادتهم من العلماء بالرواية فعليه التَّبعَة، أو مَن لم يعرف عادتهم ممن ليس من العلماء بالرواية فَمِن تقصيره أُتي، إذ كان الفرض عليه مراجعة العلماء بالرواية. ولذلك لم يجرح أهل العلم أبا نعيم وأشباهه، بل اقتصروا على لومهم والتعريف بعادتهم. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. قول الأستاذ: "وهو ممن يسوق ما يرويه بإجازة فقط مع ما سمعه في مساق واحد، ويقول في الاثنين: حدثنا". أقول: يشير إلى ما في "تذكرة الحفاظ" (¬1): "قال يحيى بن منده الحافظ: سمعت أبا الحسين القاضي يقول: سمعت عبد العزيز النَّخْشَبي يقول: لم يسمع أبو نعيم "مسند الحارث بن أبي أسامة" بتمامه من ابن خلَّاد، فحدَّث به كلِّه". ¬

_ (¬1) (3/ 1096).

أقول: عقب هذا في "التذكرة": "قال ابن النجار: وهم [النخشبي] في هذا، فأنا [1/ 116] رأيت نسخة الكتاب عتيقة، وعليها خط أبي نعيم يقول: سمع منى فلان إلى آخر سماعي في هذا المسند من ابن خلّاد، فلعله روى باقيه بالإجازة". أقول: وقول النخشبي "فحدَّث" إنما تعطي أن أبا نعيم حدَّث السامعين عنه، لا أنه ذكر في كل حديث من "المسند" أن ابن خلَّاد حدَّثه. وابن منده ومَن فوقه مِن خصوم أبي نعيم، كانت بين الفريقين نُفْرة شديدة كما يأتي، فلا يُقبل ما قالوه فيه مما يطرقه الاحتمال، على ما سلف في القواعد (¬1). بقي أمران: أحدهما: يتعلق برواية أبي نعيم لجزء محمد بن عاصم، ويكفي في هذا ما أوضحه الذهبي في "تذكرة الحفاظ" (¬2). الثاني: قال الذهبي: "قال الخطيب: قد رأيت لأبي نعيم أشياء يتساهل فيها. منها: أنه يقول في الإجازة: أخبرنا، من غير أن يبيّن". قال الذهبي: "فهذا ربما فعله نادرًا، فإني رأيته كثيرًا ما يقول: كتب إليَّ جعفر الخُلْدي، وكتب إلي أبو العباس الأصم، وأنا أبو الميمون بن راشد في كتابه. لكني رأيته يقول: أنا عبد الله بن جعفر فيما قُرئ عليه، فالظاهر أن هذا إجازة". وفي "فتح المغيث" للسخاوي (ص 222) (¬3) عن شيخه ابن حجر أن هذا اصطلاح لأبي نعيم قد صرَّح به، فقال: إذا قلتُ: "أخبرنا" على الإطلاق ¬

_ (¬1) (1/ 87 فما بعدها) القاعدة الرابعة. (¬2) (3/ 1095). (¬3) (2/ 307 - 308).

من غير أن أذكر فيه إجازة، أو كتابة، أو كتب إليَّ، أو أذن لي = فهو إجازة؛ أو: "حدثنا" فهو سماع. قال ابن حجر: "ويقوّي التزامه لذلك أنه أورد في "مستخرجه على علوم الحديث للحاكم" عدة أحاديث رواها عن الحاكم بلفظ الإخبار مطلقًا، وقال في آخر الكتاب: الذي رويته عن الحاكم بالإجازة ... ". أقول: وإذ قد عُرف اصطلاحه فلا حرج، ولكن من أقسام الإجازةِ: الإجازةُ العامة، بأن يجيز الشيخ للطالب جميع مروياته، أو جميع علومه، فينبغي التثبت في روايات العاملين بهذه الإجازة. فإذا ثبت في أحدهم أنه لا يروي بها إلا ما ثبت عنده قطعًا أنه من مرويات المجيز، فهذا ممن يوثق بما رواه بالإجازة. وإن بان لنا أو احتمل عندنا أن الرجل قد يروي بتلك الإجازة ما يسمع ثقةً عنده يحدِّث به عن المجيز، فينبغي أن يتوقف فيما رواه بالإجازة؛ لأنه بمنزلة قوله: [1/ 117] حدثني ثقة عندي. وإن بان لنا في رجل أنه قد يروي بتلك الإجازة ما يسمع غيرَ ثقة يحدِّث به عن المجيز، فالتوقف في المروي أوجب، فأما الراوي فهو بمنزلة المدلس عن غير الثقات. فإن كان قد عُرف بذلك فذاك، وإلا فهو على يَدَي عدل (¬1). وإذا تقرّر هذا فقد رأيت في "تاريخ بغداد" (ج 8 ص 345): "أخبرنا أبو نعيم الحافظ، أخبرنا جعفر الخُلْدي في كتابه قال: سألت خير ¬

_ (¬1) "على يدي عدل" كناية عن الضعف والسقوط. قال الحافظ ابن حجر في "تهذيب التهذيب": (9/ 142): "قوله: "على يدي عدل" معناه قرب من الهلاك، وهذا مثل للعرب كان لبعض الملوك شرطي اسمه "عَدْل" فإذا دفع إليه من جنى جناية جزموا بهلاكه غالبًا، ذكره ابن قتيبة وغيره, وظن بعضهم أنه من ألفاظ التوثيق فلم يصب" اهـ.

النسَّاج ... ". فذكر قصة غريبة، ثم قال الخطيب: "قلت: جعفر الخُلْدي ثقة، وهذه الحكاية طريفة جدًّا يسبق إلى القلب استحالتها. وقد كان الخلدي كتب إلى أبي نعيم يجيز له رواية جميع علومه، وكتب أبو نعيم هذه الحكاية عن أبي الحسن بن مِقْسَم عن الخُلْدي، ورواها عن الخلدي نفسه إجازة، وكان ابن مقسم غير ثقة. والله أعلم". أقول: فقول أبي نعيم: "أخبرنا الخُلْدي في كتابه" أراد به أن الخلدي كتب إليه بإجازته له جميع علومه، فأما القصة فإنما سمعها من ابن مقسم عن الخلدي، وابن مقسم غير ثقة. فهذا أشدّ ما يقدح به في أبي نعيم، لكن لعله اغترَّ بما كان يظهره ابن مقسم من النُّسُك والصلاح، فظنه ثقة. فإن ابن مقسم - وهو أحمد بن محمد بن الحسن بن مقسم - ترجمته في "تاريخ بغداد" (ج 4 ص 429) وفيها: "حدثنا عنه أبو نعيم الحافظ، ومحمد بن عمر ... وكان يظهر النسك والصلاح، ولم يكن في الحديث بثقة". وقد تكلم الدارقطني وغيره في ابن مقسم. والله المستعان. والحق أن أبا نعيم وضع من نفسه ومن كتبه، فجزاؤه أن لا يُعتدَّ بشيء من مروياته إلا ما صرَّح فيه بالسماع الواضح، كقوله في الحكاية المارة أول الترجمة: "حدثنا أبو أحمد الغِطْريفي". بخلاف ما استدل به الأستاذ (ص 107) وفيه عن أبي نعيم: "أخبرني القاضي محمد بن عمر وأذن لي". فإن هذه الصيغة مما يستعمله أبو نعيم في الإجازة، ومع ذلك فالقاضي محمد بن عمر هو الجِعَابي مُتكلَّم فيه. ولكن كما أن لأبي نعيم اصطلاحًا خاصًّا في صيغة "أخبرنا"، فكذلك

للأستاذ اصطلاح خاص في كلمتي "العقل" و"التواتر"؛ وإنما الفرق أن أبا نعيم بيَّن اصطلاحه، والأستاذ لم [1/ 118] يبيِّن، بل يعامل ما يطلق عليه تينك الكلمتين كما ينبغي أن يعامل به العقل والتواتر بمعناهما المعروف، فيحتج بما يوافق ذلك، وإن كان سنده ساقطًا؛ ويردُّ ما يخالفه وإن كان بغاية القوة. فإذا رأى أن مخالفيه يظلمونه، فلا يقبلون منه ذلك، استحلَّ أن يكيلَ لهم الكيل الذي كشفتُ عنه في "الطليعة". والله المستعان. وأما كلام ابن منده في أبي نعيم، فقد مرَّ بعضُه وتبيَّن حاله. ولن يكون باقيه إلا طعنًا في العقيدة، أو من كلمات النفرة والتنفير، أو ما لا يتحصَّل منه - إذا نُظر فيه كما ينبغي على ما سلف في القواعد - ما يثبُت به الجرح؛ إذ قد عرف الناس أنه كان بين آل منده وأبي نعيم اختلاف في العقيدة، جرَّ إلى عداوة شخصية شديدة؛ وعند الأستاذ: أن الحقَّ فيما اختلف فيه الفريقان مع أبي نعيم. وقد ذكر الذهبي في "التذكرة" (ج 3 ص 377) (¬1) عن السِّلَفي: "سمعت محمد بن عبد الجبار الفرساني: حضرت مجلس أبي بكر بن أبي علي المعدَّل في صِغَري، فلما فرغ من إملائه قال إنسان: من أراد أن يحضر مجلس أبي نعيم فليقم، وكان مهجورًا في ذلك الوقت بسبب المذهب، وكان بين الحنابلة والأشعرية تعصُّب زائد يؤدِّي إلى فتنة وقال وقيل وصداع = فقام إلى ذلك الرجل أصحابُ الحديث بسكاكين الأقلام، وكاد أن يُقتل". ¬

_ (¬1) (3/ 1095).

22 - أحمد بن عبد الله الأصبهاني.

والذهبي معروف بالميل إلى الحنابلة فهواه مع ابن منده، فلم يكن للأستاذ أن ينسبه إلى عكس ذلك. 22 - أحمد بن عبد الله الأصبهاني. قال الأستاذ (ص 151) في طعنه في عبد الله بن حنبل وستأتي ترجمته (¬1) إن شاء الله: "مثله لا يصدَّق في أبي حنيفة، وقد بُلي فيه الكذب (!) وقد روى علي بن حَمْشاذ - وأنت تعرف منزلته في العلم - أنه سمع أحمد بن عبد الله الأصبهاني يقول: أتيت عبد الله بن [أحمد بن] (¬2) حنبل فقال: أين كنت؟ فقلت: في مجلس الكُدَيمي، فقال: لا تذهب إلى ذاك فإنه كذاب. فلما كان في بعض الأيام مررت به، فإذا عبد الله يكتب عنه! فقلت: يا أبا عبد الرحمن أليس قلت: لا تكتب عن هذا فإنه كذاب؟ قال: فأومأ بيده إلى فيه أن اسْكُت. فلما فرغ وقام من عنده قلت: يا أبا عبد الرحمن أليس قلت: لا تكتب عنه؟ قال: إنما أردت بهذا أن لا يجيء الصبيان فيصيروا معنا في الإسناد واحدًا. اهـ. وإن سعى [1/ 119] الخطيب في إعلاله في (3/ 439) بأن يقول: إن أحمد بن عبد الله الأصبهاني مجهول. كيف وهو من ثقات شيوخ ابن حمشاذ، مترجم في "تاريخ أصفهان" لأبي نعيم؟ وليس ابن حمشاذ الحافظ الثقة ممن يروي عن المجاهيل، ولا هو ممن يعوِّل على من لا يعوَّل عليه. وإن تجاهله الخطيب لحاجة في النفس، فليس ذلك بضائره". أقول: في هذا الكلام أمور: الأول: قوله في عبد الله بن أحمد: "وقد بُلي فيه الكذب". ثم ساق القصة ¬

_ (¬1) رقم (118). (¬2) من "التأنيب".

لإثبات ذلك، وستعلم مَن الكاذب! الثاني: قوله: "قد روى علي بن حَمْشاذ" بصيغة الجزم والتحقيق مع أنه إنما أخذ الحكاية من "تاريخ الخطيب"، وإنما قال الخطيب: "حُدّثت عن أبي نصر محمد بن أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي قال: سمعت علي بن حمشاذ يقول ... ". فلم يذكر الخطيب من حدَّثه، فكيف يجزم الأستاذ ويحقق؟ فإن قيل: إن الخطيب أعلّ القصة بالأصبهاني، فدلَّ ذلك على ثقة الخطيب بمن حدَّثه. قلت: ليس هذا بلازم، فقد لا يكون الخطيب وثق بمن حدَّثه حق الثقة، ولكن رأى إعلال الحكاية بالأصبهاني كافيًا. ومع ذلك فقد ذكر الأستاذ (ص 56) قول الحِمَّاني: سمعت عشرة كلهم ثقات يقولون: سمعنا أبا حنيفة يقول: القرآن مخلوق. فقال الأستاذ: "قول الراوي: سمعت الثقة، يُعَدُّ كرواية عن مجهول، وكذا الثقات". فهل يستثني الأستاذ أبا بكر الخطيب من هذه القاعدة، ويزيد فيرى أنه إذا لم يسمِّ شيخه وأشار إلى أنه لم يتهمه ثبت بذلك ثقةُ شيخه؛ فتقوم الحجة بقول الخطيب: "حُدِّثت عن فلان"، ولا تقوم بقول غيره: "حدثني عشرة كلهم ثقات"؟! الثالث: قوله: "بأن يقول [الخطيب]: إن أحمد بن عبد الله الأصبهاني مجهول". وإنما قال الخطيب: "قلت: كان عبد الله بن أحمد أتقى لله من أن يكذِّب من هو عنده صادق، ويحتجَّ بما حكى عنه هذا الأصبهاني. وفي هذه

الحكاية نظر من جهته". وليس في العبارة كلمة "مجهول" ولا هي صريحة في معناها؛ إذ يحتمل أن يكون الخطيب عرف الأصبهاني بالضعف، ويحتمل أنه لم يعرفه، ولكن استدل بنكارة حكايته على ضعفه. ولا يلزم من [1/ 120] عدم معرفته له أن يجزم بأنه مجهول، فإن المتحري مثل الخطيب لا يطلق كلمة: "مجهول" إلا فيمن يئس من أن يعرفه هو أو غيره من أهل العلم في عصره، وإذا لم ييأس فإنما يقول: "لا أعرفه". ومن لم يراع هذا وقع فيما وقع فيه الأستاذ في مواضع تقدمت أمثلة منها في "الطليعة" (ص 86 - 93) (¬1). الرابع: قوله: "كيف وهو من ثقات شيوخ ابن حمشاذ". لا أضايق الأستاذ في إطلاقه أن هذا الرجل من شيوخ ابن حمشاذ، وإن لم يعرف لابن حمشاذ عنه إلا هذه الحكاية، إن صحَّ أن ابن حمشاذ حكاها؛ ولا في جزمه بذلك مع ما مرَّ في الأمر الثاني. وإنما النظر في جزمه بأن هذا الرجل من الثقات، فمن أين لك ذلك؟ أنقلًا؟ فلماذا لم يذكره؟ أم اجتهادًا؟ فما حجته؟ أم مجازفة؟ فالله حسيبه. والذي يظهر - إن كان ابن حمشاذ حكى هذه الحكاية - أن الأصبهاني أصغر منه. فإن كان ابن حمشاذ - كما يأتي - يروي فيكثر عن عبد الله بن أحمد وعن الكُديمي، وسماعه منهما ببغداد كما هو ظاهر، فلو سمع الحكاية حين كان ببغداد أو قبل ذلك لكان الظاهر أن يستثبت عبد الله بن أحمد، ولو فعل لحكى ذلك مع الحكاية. فدل هذا على أنه إن كان حكاها ¬

_ (¬1) (ص 66 - 72).

فإنما سمعها بعد ذلك، كأنَّ هذا الأصبهاني زعم له أنه دخل بغداد بعده، وجرى له ما حكاه. الخامس: قوله: "مترجم في "تاريخ أصبهان" لأبي نعيم" قد ذكرت هذا في "الطليعة" (ص 92 - 93) (¬1) وقلت هناك: "كذا قال! وقد فتشت "تاريخ أبي نعيم" فوجدت فيه ممن يقال له: (أحمد بن عبد الله) جماعة ليس في ترجمة واحد منهم ما يُشعر بأنه هذا، وفوق ذلك فجميعهم غير مُوثَّقين". فتحامى الأستاذ في "الترحيب" التعرُّض لذاك الموضع البتة! السادس: قوله: "وليس ابن حمشاذ ممن يروي عن المجاهيل ولا هو ممن يعوِّل على مَن لا يعوَّل عليه". إن أراد بالتعويل الاعتماد، فمن أين عرف أن ابن حمشاذ اعتمد على تلك الحكاية؟ وها نحن نجده يروي عن عبد الله بن أحمد، وعن الكُديمي. فمن روايته عن عبد الله في "المستدرك" (ج 1 [1/ 121] ص 63 و301، و453)، و (ج 2 ص 165)، و (ج 3 ص 269، و612) وغيرها. ومن روايته عن الكُدَيمي في "المستدرك" (ج 1 ص 68)، (ج 3 ص 556)، و (ج 4 ص 13)، وغير ذلك. وإن أراد بالتعويل مطلق الرواية, أي: أن ابن حَمْشاذ لا يروي إلا عن ثقة، فمن أين عرف ذلك؟ وقد وجدنا ابن حمشاذ يروي عن جماعة ممن يكذبهم الأستاذ ظلمًا، فمنهم أحمد بن علي الأبَّار كما في "المستدرك" (ج 1 ص 33 و227). ومنهم محمد بن عثمان بن أبي شيبة كما في ¬

_ (¬1) (ص 72). ووقع في (ط): "مما يقال" والمثبت من "الطليعة" وهي بخط المؤلف.

"المستدرك" (ج 3 ص 146 و395). وكذلك يروي عن جماعة تكلموا فيهم والعمل على التوثيق، كالحارث بن أبي أسامة، وإبراهيم بن ديزيل، والحسن بن علي المَعْمري. وعن جماعة متكلَّمٍ فيهم، كالكُديمي وقد مرَّ، ومحمد بن منده الأصبهاني كما في "المستدرك" (ج 1 ص 359) و (ج 2 ص 315)، و (ج 3 ص 107 و507)، و (ج 4 ص 593)، وقد كذَّبوا محمد بن منده هذا، راجع "لسان الميزان" (ج 5 ص 393) (¬1)، وعليَّ بن صقر السكري كما في "المستدرك" (ج 1 ص 240)، وراجع "لسان الميزان" (ج 4 ص 235) (¬2)، وعبد الله بن أيوب بن زاذان الضرير كما في "المستدرك" (ج 1 ص 187)، وراجع "لسان الميزان" (ج 3 ص 262) (¬3)، وهناك: "قال الدارقطني: متروك". ولم يذكر في الترجمة ما يخالف ذلك، وإسحاق بن إبراهيم بن سنين كما في "المستدرك" (ج 3 ص 210) وراجع "لسان الميزان" (ج 1 ص 348) (¬4)، وجنيد بن حكيم الدقاق كما في "المستدرك" (ج 3 ص 61)، ومحمد بن المغيرة السُّكّري كما في "المستدرك" (ج 2 ص 53، و189، و330، و483، و541)، وراجع "لسان الميزان" (ج 5 ص 386) (¬5). ولعل ابن حمشاذ قد روى عمن هو أضعف من هؤلاء، فتجنب الحاكم ¬

_ (¬1) (7/ 526). (¬2) (5/ 551). (¬3) (4/ 440). (¬4) (2/ 35). (¬5) (7/ 514).

23 - أحمد بن عبد الله أبو عبد الرحمن العكي.

الرواية عن ابن حمشاذ عنهم في "المستدرك على الصحيحين". فابن حمشاذ كغالب محدِّثي عصره، يروي عن الثقات وعن الضعفاء الأحاديث النبوية، فما بالك بالحكايات! السابع قوله: "وإن تجاهله الخطيب لحاجة في النفس، فليس ذلك بضائره". الظاهر أنه يعني ابن حمشاذ، ولا أدري من أين أخذ أن الخطيب تجاهل ابن حمشاذ؟ إن كان أراد أن الخطيب تجاهل أن ابن حمشاذ لا يروي إلا عن ثقة، فقد علمتَ ما فيه. وإن كان [1/ 122] أراد أنه لم يورد له ترجمة في "التاريخ" فليس على شرطه، وإنما التزم أن يذكر من الغرباء من دخل بغداد وحدَّث بها، ولا دليل على أن ابن حمشاذ حدَّث ببغداد. فليتدبر العاقل: هل يسوغ لعالم يصفه أصحابه - أو قُل: يصف نفسه - بما في عنوان "التأنيب": "الإِمام الفقيه المحدّث والحجة الثقة المحقق العلامة" أن يُقْدِم على تكذيب عبد الله بن أحمد بن حنبل الإِمام ابن الإِمام في الحق حقًّا، محتجًّا في زعمه بهذه الحكاية؛ ثم يخلِّط هذا التخليط مع التخاليط الأخرى مما ترى الكشف عن بعضه في "الطليعة"، وفي مواضع أخر في هذا الكتاب؟ أو أن يرمي مثل أبي بكر الخطيب فيما قاله في هذه الحكاية بأنه: "لحاجة في النفس"، ولا يلتفت إلى ما في نفسه! 23 - أحمد بن عبد الله أبو عبد الرحمن العكي (؟). في "تاريخ بغداد" (13/ 406 [431]): " ... الأبَّار حدثنا أحمد بن عبد الله العكي أبو عبد الرحمن - وسمعت منه بمرو - قال: حدثنا مصعب بن خارجة بن مصعب سمعت حمادًا ... ".

قال الأستاذ (ص 127): "أحمد بن عبد الله هو الفِرياناني المروزي، قال أبو نعيم: مشهور بالوضع. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال ابن عدي: يروي عن الفضيل وعبد الله بن المبارك وغيرهما المناكير. وقال الدارقطني: متروك الحديث. وقال ابن حبان: يروي عن الثقات ما ليس في حديثهم، وعن الأثبات ما لم يحدِّثوا به. وقال ابن السمعاني: وكان ممن يروي عن الثقات ما ليس من أحاديثهم، وكان محمد بن علي الحافظ سيئ الرأي فيه". ثم قال: "الصواب: العتكي، كما في "أنساب ابن السمعاني"". أقول: ذكره ابن السمعاني في (الفرياناني) (¬1)، ووقع في النسخة: "العتكي الهاشمي" (¬2) كذا، والهاشمي لا يجتمع في حقّ النسب مع العتكي ولا مع العكي، وليس في "الميزان" ولا "اللسان" (¬3) أنه هاشمي ولا عتكي ولا عكي، وليس فيهما ولا في "الأنساب" أنه يروي عن مصعب بن خارجة ولا أنه يروي عنه (¬4) الأبَّار؛ لكن لم أجد غيره يصلح أن يكون هو الواقع في السند، فالظاهر أنه هو. ومما قاله ابن السمعاني أن (فريانان) خَرِبت قال: "وبقي قبر أبي عبد الرحمن بها يزوره الناس ويدورون حوله، زُرْته غير مرة". قال: "وسئل أحمد بن سيَّار عنه، فقال: لا سبيل إليه". وهذا يدل أن الرجل كان له شهرة وصيت في تلك الجهات، وقد روى ¬

_ (¬1) "الأنساب": (9/ 293). (¬2) في مطبوعة "الأنساب" قال محققه إنه لم يستطع قراءة هذه الكلمة فأسقطها من النص. (¬3) "الميزان": (1/ 108)، و"اللسان": (4/ 196). (¬4) (ط): "عن" خطأ.

عنه الحسن بن سفيان وغيره كما في "الميزان"، وقال الذهبي: "وقد رأيت البخاري يروي عنه في كتاب "الضعفاء"". أقول: في باب الإِمام ينهض بالركعتين من "جامع الترمذي" (¬1): "قال محمد بن إسماعيل [البخاري]: ابن أبي ليلى هو صدوق، ولا أروي عنه، لأنه لا يدري صحيح حديثه من سقيمه، وكلّ من كان مثل هذا فلا أروي عنه شيئًا". والبخاري لم يدرك ابن أبي ليلى، فقوله: "لا أروي عنه" أي: بواسطة. وقوله: "وكل من كان مثل هذا فلا أروي عنه شيئًا" يتناول الرواية بواسطة وبلا واسطة، وإذا لم يرو عمن كان كذلك بواسطة فَلَأن لا يروي عنه بلا واسطة أولى؛ لأن المعروف عن أكثر المتحفظين أنهم إنما يتقون الرواية عن الضعفاء بلا واسطة، وكثيرًا ما يروون عن متقدمي الضعفاء بواسطة. وهذه الحكاية تقتضي أن يكون البخاري لم يرو عن أحد إلا وهو يرى أنه يمكنه تمييزُ صحيح حديثه من سقيمه. وهذا يقتضي أن يكون الراوي على الأقل صدوقًا في الأصل، فإن الكذاب لا يمكن أن يعرف صحيح حديثه. فإن قيل: قد يُعرف بموافقته الثقات. قلت: قد لا يكون سَمِع، وإنما سرق من بعض أولئك الثقات. ولو اعتدَّ البخاري بموافقة الثقات لروى عن ابن أبي ليلى ولم يقل فيه تلك الكلمة، فإن ابن أبي ليلى عند البخاري وغيره صدوق، وقد وافق الثقات في كثير من أحاديثه، ولكنه عند البخاري كثير الغلط بحيث لا يؤمَن غلطُه حتى فيما وافق عليه الثقات. وقريب منه من عُرف بقبول التلقين، فإنه قد يلَقَّن من أحاديث شيوخه ما حدَّثوا به ولكنه لم ¬

_ (¬1) عقب حديث (364). وما بين المعكوفين بعده من المؤلف.

يسمعه منهم. وهكذا من يحدِّث على التوهُّم، فإنه قد يسمع من أقرانه عن شيوخه، ثم يتوهم أنه سمعها من شيوخه، فيرويها عنهم. فمقصود البخاري من معرفة صحيح حديث الراوي من شيوخه لا تحصل بمجرد موافقة الثقات, وإنما تحصل بأحد أمرين: إما أن يكون الراوي ثقةً ثبتًا، فيُعرف صحيح حديثه بتحديثه. وإما أن يكون صدوقًا يغلط، ولكن يمكن معرفة ما لم يغلط فيه بطريق أخرى، كأن يكون له أصول جيدة، وكأن يكون غلطه خاصًّا بجهة كيحيى بن عبد الله بن بكير روى عنه [1/ 124] البخاري، وقال في "التاريخ الصغير" (¬1): "ما روى يحيى [بن عبد الله] بن بكير عن أهل الحجاز في التاريخ فإني أتقيه" ونحو ذلك. فإن قيل: قضية الحكاية المذكورة أن يكون البخاري التزم أن لا يروي إلا ما هو عنده صحيح، فإنه إن كان يروي ما لا يرى صحته فأيُّ فائدة في تركه الرواية عمن لا يدري صحيحَ حديثه من سقيمه؟ لكن كيف تصح هذه القضية مع أن في كتب البخاري غير "الصحيح" أحاديث غير صحيحة، وكثير منها يحكم هو نفسه بعدم صحتها؟ قلت: أما ما نَّبه على عدم صحته، فالخطب فيه سهل. وذلك بأن يُحْمَل كونه لا يروي ما لا يصح على الرواية بقصد التحديث أو الاحتجاج، فلا يشمل ذلك ما يذكره ليبين عدم صحته. ويبقى النظر فيما عدا ذلك، وقد ¬

_ (¬1) لم أجده في المطبوع منه، وهو مطبوع باسم "الأوسط" على الصحيح. والنص في "تهذيب التهذيب": (11/ 238) والمؤلف صادر عنه.

يقال: إنه إذا رأى أن الراوي لا يعرف صحيحُ حديثه من سقيمه تَرَكه البتةَ ليعرف الناسُ ضعفَه مطلقًا، وإذا رأى أنه يمكن معرفة صحيح حديثه من سقيمه في باب دون باب ترك الرواية عنه في الباب الذي لا يعرف فيه كما في يحيى بن بكير، وأما غير ذلك فإنه يروي ما عَرَف صحته وما قاربه أو أشبهه مبيِّنًا الواقع بالقول أو الحال. والله أعلم. والمقصود هنا أن رواية البخاري عن الفِرياناني تدلّ أنه كان عنده صدوقًا في الأصل. وقد لقيه البخاري، فهو أعرف به ممن بعده، وقد تأيَّد ذلك بأن الرجل كان مشهورًا في تلك الجهة بالخير والصلاح كما مرَّ. وأن أحمد بن سيار على جلالته لما سئل عنه قال: "لا سبيل إليه"، كأنه يريد أنه لا ينبغي الكلام فيه بمدحٍ لضعفه في الرواية، ولا قدحٍ لصلاحه في نفسه؛ على أن أكثر الذين تكلموا فيه لم يرموه بتعمّد الكذب. فأما أبو نعيم فمتأخر، وقد تتبعنا كلام من تقدمه فلم نجد فيه ما تحْصُل به النسبة إلى الوضع فكيف الشهرة؟ هذا، والحكاية التي ذكرها الخطيب عن أحمد بن عبد الله ليست من طريق البخاري، وإنما هي من طريق الأبَّار، والأبَّار ناقل لا ناقد. ولكن الأستاذ لم يقنع بتوهين تلك الحكاية، بل قال: "ومن يعوِّل على الوضاع لا يكون إلا من طراز الأبَّار المأجور". ولا يبعد أن يكون أراد التعريض بالبخاري، وما أوهن رأيًا يضطرُّ الجَدِل النِّحرير في الدفاع عنه إلى الطعن في مثل البخاري! [1/ 125] فأما الأبَّار، فهو أحمد بن علي بن مسلم حافظ فاضل تأتي

24 - أحمد بن عبد الرحمن بن الجارود.

ترجمته (¬1). وقول الأستاذ: "المأجور" كلمة فاجرة مبنية على خيال كاذب، وسوء ظن صدَّقه الأستاذ على عادته! حاصل ذلك الخيال: أن الأستاذ زعم أن الحافظ الفاضل دَعْلَج بن أحمد السِّجْزي - وستأتي ترجمته (¬2) - كان يصل الأبَّار بالمال الوافر، فكان الأبَّار يجمع الروايات الموافقة لهوى دَعْلج. وسيأتي في ترجمة الأبَّار ما يتضح به أنه ليس هناك أيّ دلالة على أن دعلجًا وصل الأبَّار بفَلْس واحد. وهَبْ أنه ثبت أنه وصله بمال كثير، فمثلُ ذلك لا يسوِّغ اتهام ذينك الحافظين تهمة ما، فضلًا عن هذه التهمة الخبيثة. كيف وقد ثبتت عدالتهما وفضلهما، وكانا من أول عمرهما إلى آخره على مذهب واحد، وهو مذهب أهل الحديث المعروف؟ أفرأيت إذا ثبت أن بعض تجَّار الحنفية يَصِل الأستاذ، أيحلّ لمخالفي الأستاذ أن يطلقوا عليه تلك الكلمة؟ هذا مع أن بين الرجلين بُعْدَ المشرقَين، وكذلك بين صنيعيهما. فالأبَّار لم يزد على رواية ما سمع، والأستاذ يتصرف التصرفات التي ترى الكشف عن بعضها في "الطليعة" وهذا الكتاب. وإنما يحق أن يسمَّى مأجورًا مَن يأتي ما يرى أنه مخالف للدين والشرف والمروءة طمعًا في المال ونحوه. بلى، إن الأبَّار لمأجور أجرًا عظيمًا إن شاء الله تعالى على صدقه وحُسن قصده ونيل الكوثري من عرضه! 24 - أحمد بن عبد الرحمن بن الجارود. ذكر الأستاذ (ص 125) رواية للخطيب من طريق عبد الله بن محمد بن ¬

_ (¬1) رقم (27). (¬2) رقم (90).

25 - أحمد بن عبيد بن ناصح أبو عصيدة النحوي.

جعفر، وستأتي ترجمته (¬1)، ثم قال: "وقد فعل مثل ذلك في أحمد بن عبد الرحمن بن الجارود الرَّقَّي الذي كذَّبه هو ... ". أقول: كذَّب الخطيب أحمد هذا، وروى في غير ترجمة أبي حنيفة من طريقه حكايتين غير منكرتين. ولا عيب في ذلك على الخطيب، فقد روى السفيانان، وابن جريج، وابن المبارك وغيرهم من الأئمة عن الكلبي مع اشتهاره بالكذب، وفي ترجمته من "الميزان" (¬2): "يعلي بن عبيد قال: قال الثوري: اتقوا الكلبي، فقيل: فإنك تروي عنه، قال: أنا أعرفُ صدقَه من كذبه". 25 - أحمد بن عُبيد بن ناصح أبو عَصيدة النحوي. في "تاريخ بغداد" (13/ 373 [378]): "أحمد بن عبيد ثنا طاهر بن محمد ... ". قال الأستاذ (ص 42): "فلم يكن بعمدة، كما ذكره [1/ 126] الذهبي في ترجمة عبد الملك الأصمعي من "الميزان". وقال الخطيب (2/ 260): "قال ابن عدي: يحدَّث بمناكير. وقال أبو أحمد [الحاكم الكبير]: لا يتابعَ في جُلِّ حديثه". أقول: لفظ ابن عدي على ما في "تهذيب التهذيب" (¬3): "حدَّث عن الأصمعي ومحمد بن مصعب بمناكير". قال ابن حجر: "قال الحاكم ¬

_ (¬1) رقم (130). (¬2) (5/ 3). (¬3) (1/ 60). ونصه في "الكامل": (1/ 188): "يحدّث عن الأصمعي ومحمد بن مصعب ما لا يحدّث به غيره".

26 - أحمد بن علي بن ثابت أبو بكر الخطيب البغدادي، مؤلف "تاريخ بغداد".

أبو عبد الله: هو إمام في النحو، وقد سكت مشايخنا عن الرواية عنه، وقال ابن حبان في "الثقات" (¬1): "ربما خالف". وقال ابن عدي: "هو عندي من أهل الصدق". أقول: كأنَّ ابن حبان وابن عدي رأيا أنه لا يتعمَّد الكذب، ولكن يخطئ ويَهِم؛ مع احتمال أن يكون البلاء في كثير من مناكيره من محمد بن مصعب، فإنه ضعيف يروي المناكير، واتهمه بعضهم. فأما الأصمعي فثقة. ويأتي إن شاء الله تعالى في ترجمته (¬2) ذِكْر الحديث الذي أورده الأزدي من طريق أحمد بن عبيد هذا عن الأصمعي، واستنكره هو وغيره، فأجاب الذهبي بأن أحمد بن عبيد ليس بعمدة. فأخذها الأستاذ هنا، وأعرض عنها عندما احتاج إلى الكلام في الأصمعي! والله المستعان. 26 - أحمد بن عليّ بن ثابت أبو بكر الخطيب البغدادي، مؤلف "تاريخ بغداد" (¬3). قال ابن الجوزي في "المنتظم" (ج 8 ص 267): "كان أبو بكر الخطيب قديمًا على مذهب أحمد بن حنبل، فمال عليه أصحابنا [الحنابلة] لِمَا رأوا ¬

_ (¬1) (8/ 43). (¬2) رقم (146). (¬3) اطلعت بعد كتابة هذه الترجمة وغيرها ببضع سنين على ترجمة للخطيب بقلم الدكتور يوسف العش، أجاد فيها، فاستفدت منها فائدتين سألحقهما في موضعهما وأنبه على ذلك. [المؤلف].

من ميله إلى المبتدعة وآذوه، فانتقل إلى مذهب الشافعي". أقول: أقدِّم النظر في عقيدة الخطيب. زعم بعضهم أنه كان يذهب إلى مذهب الأشعري، فردَّ الذهبي ذلك بقوله: "قلت: مذهب الخطيب في الصفات أنها تُمَرُّ كما جاءت، صرَّح بذلك في تصانيفه" (¬1). فاعترضه ابن السبكي في "طبقات الشافعية" (ج 3 ص 13) (¬2) بقوله: "قلت: هذا مذهب الأشعري ... وللأشعري قول آخر بالتأويل". أقول: الذي شهَّره المتعمِّقون عن الأشعري التأويل، وإن كان آخر مصنفاته "كتاب [1/ 127] الإبانة" أعلن فيه اعتماده مذهب الإِمام أحمد وأهل الحديث. فالقائل: إن الخطيب كان يذهب مذهب الأشعري أَوْهَم أنه كان من المتأوّلين، ولم يزد الذهبي على دفع هذا الإيهام ولكن ابن السبكي لغلوَّه شديد العقوق لأستاذه الذهبي. وقد نقل الذهبي في "تذكرة الحفاظ" (ج 3 ص 319) (¬3) فصلًا من كلام الخطيب في الاعتقاد (¬4) ينفي عنه التأويل والتعطيل. قال الخطيب: "أما الكلام في الصفات، فإن ما روي منها في السنن الصحاح مذهبُ السلف: ¬

_ (¬1) الزاعم هو عبد العزيز الكتاني، ذكره الذهبي في "السير": (18/ 277) وتعقّبه بنحو ما ذكره المؤلف. والمؤلف ينقل من "طبقات الشافعية" للسبكي كما سيأتي. (¬2) (4/ 33). (¬3) (3/ 1142 - 1143). (¬4) كلام الخطيب هذا محفوظ في بعض مجاميع الظاهرية. [أن].

إثباتُها، وإجراؤها على ظواهرها، ونفيُ الكيفية (¬1) والتشبيه عنها. وقد نفاها قوم، فأبطلوا ما أثبته الله. وحقَّقها قوم من المثبتين، فخرجوا بذلك إلى ضرب من التشبيه والتكييف. والفصل إنما هو سلوك الطريقة المتوسطة بين الأمرين ... ". ويظهر أن ابن الجوزي أَمْيَل إلى المبتدعة من الخطيب. قال شيخ الإِسلام ابن تيمية في "شرح العقيدة الأصفهانية" (ص 68) (¬2): "وأما الانتساب، فانتسابُ الأشعري وأصحابه إلى الإِمام أحمد خصوصًا وسائر أئمة الحديث عمومًا ظاهر مشهور في كتبهم كلها. وما في كتب الأشعري مما يوجد مخالفًا للإمام أحمد وغيره من الأئمة، فيوجد في كلام كثيرٍ من المنتسبين إلى أحمد - كأبي الوفاء بن عقيل وأبي الفرج ابن الجوزي، وصدقة بن الحسين، وأمثالهم - ما هو أبعد عن قول أحمد والأئمة من قول الأشعري وأئمة أصحابه". وإذ قد بان أن عقيدة الخطيب كانت مباينةً لعقائد المبتدعة، فلننظر في انتقاله عن مذهب أحمد في الفروع. الظاهر أن معنى أنه كان على مذهب أحمد: أن والده وأهله كانوا على مذهب أحمد، وأنه هو انتقل إلى مذهب الشافعي في صغره زمان طلبه ¬

_ (¬1) مراده كغيره: نفيُ الكيفية المدركة بالعقول كما جاء عن ربيعة الرأي ومالك وغيرهما: "الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول". وليس المراد نفي أن يكون في نفس الأمر كيفية، كيف وذلك من لوازم الوجود؟ [المؤلف]. (¬2) (ص 517 - 518 - ط المنهاج).

العلم. فما الباعث له على الانتقال؟ يقول ابن الجوزي: [1/ 128] إن ذلك لميل الحنابلة عليه وإيذائهم له. فلماذا آذوه؟ يقول ابن الجوزي: لما رأوا من ميله إلى المبتدعة. قد تقدم إثبات أن عقيدة الخطيب كانت مباينة لعقائد المبتدعة، وذلك ينفي أن يكون ميلُه إليهم رغبةً منه في بدعتهم أو موافقةً عليها، فما معنى الميل؟ وما الباعث عليه؟ كان الحنابلة في ذاك العصر ينفرون بحقٍّ مِن كلِّ مَن يقال: إنه أشعري أو معتزلي، وينفرون عن الحنفية والمالكية والشافعية لشيوع البدعة فيهم. وكان كثير من الحنابلة يبالغون في النفرة ممن نفروا عنه، فلا يكادون يروون عنه إذا كان من أهل الرواية، ولا يأخذون عنه غير ذلك من العلوم؛ وإذا رأوا الطالب الحنبلي يتردَّد إلى حنفي أو مالكي أو شافعي سخطوا عليه. وقد ذكر ابن الجوزي نفسه في "المنتظم" (ج 9 ص 213) عن أبي الوفاء بن عقيل الحنبلي قال: "وكان أصحابنا الحنابلة يريدون منى هجرانَ جماعة من العلماء، وكان ذلك يحرمني علمًا نافعًا". وتقدم (¬1) في ترجمة أحمد بن عبد الله أبي نعيم الأصبهاني ما لفظه: "قال إنسان: من أراد أن يحضر مجلس أبي نعيم فليفعل - وكان مهجورًا في ذلك الوقت بسبب المذهب، وكان بين الحنابلة والأشعرية تعصُّب زائد يؤدي إلى فتنة وقال وقيل وصداع - فقام إلى ذلك الرجل أصحاب الحديث بسكاكين الأقلام، وكاد أن يُقتل". مع أن مجلس أبي نعيم إنما كان لسماع الحديث، لا للدعوة إلى الأشعرية. وقد قال ابن الجوزي في "المنتظم" (ج 8 ص 267) في وصف ¬

_ (¬1) (رقم 22). والنص من "تذكرة الحفاظ" كما سبق.

الخطيب: "كان حريصًا على علم الحديث، وكان يمشي في الطريق وفي يده جزء يطالعه". وقال قبل ذلك بورقة: "أول ما سمع الحديث في سنة 403 وهو ابن إحدى عشرة سنة ... وأكثَرَ من السماع من البغداديين، ورحل إلى البصرة، ثم إلى نيسابور، ثم إلى أصبهان، ودخل في طريقه همذان والجبال، ثم عاد إلى بغداد، وخرج إلى الشام وسمع بدمشق وصور، ووصل إلى مكة ... وقرأ "صحيح البخاري" على كريمة ... في خمسة أيام". أقول: فحرصُه على تحصيل العلم وولوعُه به هو الذي كان يحمله على أن يقصد كلَّ من عُرِف بالعلم مهما كان مذهبه وعقيدته، وكان الحنابلة إذ ذاك يخافون عليه بحقٍّ أن يقع في البدعة، وإذ كانت نَهمتُه تَضطرُّه إلى الانطلاق في مخالفتهم، وغيرتُهم تضطرُّهم إلى المبالغة في كفِّه = بلغ [1/ 129] الأمر إلى الإيذاء. وكان - وهو حنبلي - لا يرجو من غيرهم أن يعطف عليه، ويحميه، وينتصر له؛ فاحتاج أن يتحوَّل إلى مذهب الشافعي، ليحميه الشافعيون، ولا يعارضوه في الاختلاف إلى من شاء من أهل العلم مهما كان مذهبه وعقيدته؛ لأن الشافعية لم يكونوا يضيِّقون في ذلك، مع أنهم إنما استفادوا الخطيب، فهم أشدّ مسامحةً له. وهذا، وإن نفعه من جهة الظفر بأنصار أقوياء يتمكن في حمايتهم من طلب العلم كيف شاء، لكن من شأنه أن يزيد حنقَ الحنابلة عليه وغيظَهم منه. وكانت بغداد مقرَّ الحنابلة، وأكثر العامة معهم، والعامة كما لا يخفى إذا اتصل بهم السخط على رجل تسارعوا إلى إيذائه وبالغوا. قال الكوثري في "التأنيب" (ص 12): "وفي "مرآة الزمان" لسبط ابن الجوزي: وقال ابن طاهر: جاء جماعة من الحنابلة يوم الجمعة إلى حلقة الخطيب بجامع

المنصور، فناولوا حَدَثًا صبيحَ الوجه دينارًا، وقالوا له: قِفْ بإزائه ساعة وناوِلْه هذه الرقعة. فناوله الصبيُّ وإذا فيها (ما ذكره السبط مما لا حاجة إلى ذكره هنا) ثم قال: وكانوا يعطون السقَّاء قطعة يوم الجمعة، فكان يقف من بعيد بإزائه، ويُميل رأس القربة، وبين يديه أجزاء، فيبتلُّ الجميع، فتتلف الأجزاء. وكانوا يطيِّنون عليه باب داره في الليل، فربما احتاج إلى الغسل لصلاة الفجر، فتفوته ... ". قال الكوثري: "وفي ذلك عِبَر من ناحية الخطيب وأحوال الحنابلة في آن واحد". أقول: السبط ليس بعمدة، كما يأتي (¬1)؛ وابن طاهر لم يدرك الخطيب، لكن ما تضمنته القصة من تتبُّع أولئك العامة للخطيب وإيذائه يوافق في الجملة ما تقدم عن ابن الجوزي. وكذلك يوافق ما في "تذكرة الحفاظ" (ج 3 ص 318) (¬2) عن الحافظ المؤتَمَن الساجي: "تحاملت الحنابلة على الخطيب حتى مال إلى ما مال إليه". وابن الجوزي نفسه يتألم آخر عمره من أصحابه الحنابلة حتى قال في "المنتظم" (ج 10 ص 253) بعد أن ذكر تسليم المدرسة إليه وحضور الأكابر وإلقاءه الدرس: "وكان يومًا مشهودًا لم يُر مثلُه، ودخل على قلوب أهل المذهب غمٌّ عظيم". وزاد سبطه في "المرآة" عنه: "لأنهم حسدوني". قال السبط: "وكان جدِّي يقول: والله لولا أحمد والوزير ابن هُبيرة لانتقلت عن المذهب، فإني لو كنت حنفيًّا أو شافعيًّا لحملني القوم على رؤوسهم". ¬

_ (¬1) (1/ 232 - 233). (¬2) (3/ 1142).

فصل

وليس السبط بعمدة، لكن عبارة "المنتظم" تُشعر بصحة الزيادة. هذا حال [1/ 130] ابن الجوزي في آخر عمره، فأما الخطيب فإنه كان انتقاله في حداثته؛ ليتمكَّن من طلب العلم، لا ليُحمل على الرؤوس. وكأنَّ كلام ابن الجوزي هذا مما جرَّأ السبط على الانتقال إلى مذهب أبي حنيفة تقرُّبًا إلى الملك عيسى بن أبي بكر الأيوبي. وقد دافع عنه صاحب "الذيل" على كتابه "المرآة" - كما في "لسان الميزان" (¬1) - بقوله: "وعندي أنه لم ينتقل عن مذهبه إلا في الصورة الظاهرة". وهذا العذر يدفع احتمال أن يكون انتقل تديُّنًا، ويعيِّن أنه إنما انتقل لأجل الدنيا. فصل قد علمتَ بعض ما كان يلقاه الخطيب من إيذاء العامة حتى في الجامع وقت إملاء الحديث، وفي بيته إذ كانوا يطيِّنون عليه بابه، فيحُولون بينه وبين شهود الجماعة. عاش الخطيب في هذا الوسط إلى أن ناهز الستين من عمره، وأولئك المؤذون يتعاقبونه نهارًا وليلًا يتمنَّون أن يقفوا له على زلَّة، أو يعثروا له على عثرة، فيشيعوها ويذيعوها، ويدوِّنها خصومه في كتبهم وتواريخهم، لكنه لم يكن من ذلك شيء. أفليس في هذا الدلالة القاطعة على نزاهة الخطيب وطهارة سيرته؟ اللَّهم إلا أن في "معجم الأدباء" لياقوت (ج 4 ص 29) (¬2) عن ابن السمعاني عن عبد العزيز النخشبي أنه قال في "معجم شيوخه": "ومنهم ¬

_ (¬1) (8/ 565). (¬2) (1/ 390 - 391).

أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب ... حافظ فَهِم، ولكنه كان يُتَّهم بشرب الخمر. كنت كلما لقيته بدأني بالسلام، فلقيته في بعض الأيام، فلم يسلِّم عليَّ، ولقيته شبه المتغير، فلما جاز عني لحقني بعض أصحابنا وقال لي: لقيتَ أبا بكر الخطيب سكران؟ فقلت له: قد لقيتُه متغيرًا، واستنكرتُ حاله، ولم أعلم أنه سكران. ولعله قد تاب إن شاء الله تعالى". قال ابن السمعاني: "ولم يذكر عن (¬1) الخطيب رحمه الله هذا إلا النخشبي، مع أني لحقتُ جماعة كثيرة من أصحابه". أقول: النخشبي لم يكن من أهل بغداد، وإنما دخلها في رحلته. وابن السمعاني نَخَل (¬2) بغداد [1/ 131] نَخْلًا، وجمع تاريخًا لها، ولقي جماعةً لا يُحصَون من موافقي الخطيب ومخالفيه وأصدقائه وأعدائه من المتثبتين والمجازفين. ومعروف في العادة أنه لا يشرب المسكِر فيتغير، ثم يخرج يجول في الشوارع إلا من صار شربُ المسكر عادةً له، لا يبالي أن يطلع عليها الناس، وإذا صار عادة استمرَّ زمانًا. فلو كانت هذه حال الخطيب لَما خفيت على جميع أهل بغداد، وفيهم من أعداء الخطيب جماعة يراقبون حركاته وسكناته، ويطيِّنون عليه باب داره بالليل، ويتعطَّشون إلى أن يظفروا له بعثرة ليذيعوها، فيشتفوا بدلًا مما يسيئون به إلى أنفسهم وإلى مَن ينتسبون إليه أكثر من إساءتهم إلى الخطيب. وفي ذلك مع ظاهر سياق عبارة النخشبي أنه إنما أخذ التهمة من ¬

_ (¬1) (ط): "من" ولعله كذلك في طبعة المؤلف، والتصحيح من الطبعة الجديدة. (¬2) (ط): "دخل" تحريف والسياق يقتضي ما أثبت.

القصة (¬1) التي حكاها. وحاصلها: أنه كان يعرف من عادة الخطيب أنه إذا لقيه بدأه بالسلام، حتى لقيه مرة، فلم يبدأه بالسلام. والظاهر أن النخشبي بدأ هو بالسلام، فردَّ عليه الخطيب، ولم ينبسط إليه؛ فإن النخشبي من أهل العلم، فلم يكن ليترك السلام معتذرًا بأن الخطيب لم يبدأه، مع أن الظاهر أن النخشبي أصغر من الخطيب وإن مات قبله، والسنَّةُ أن الأصغر أولى أن يبتدئ بالسلام. ولو سلَّم على الخطيب فلم يردَّ عليه لحكى ذلك، فإنه أدلُّ على مقصوده، فاستنكر النخشبي من الخطيب أنه لم يبدأه بالسلام، ولا انبسط إليه على عادته، فعدَّ ذلك شبهَ تغيُّر، ومعلوم أن الإنسان قد يعرض له ما تضيق به نفسه مِن هَمٍّ أو غم، أو تفكير في حل مشكل، أو تكدُّر خاطر من سماع مكروه، أو إيذاء مؤذٍ؛ فيقصِّر عما جرت به عادته من الانبساط وحُسن الخلق. والنخشبي يقول: "لحقني بعض أصحابنا وقال لي: لقيتَ الخطيب سكران؟ " أحسبه يعني بقوله: "أصحابنا" الحنابلة. فكأنه لقي الخطيب بعض العامة الذين يتعاقبون الخطيب ويؤذونه كما سلف، وكأنه آذى الخطيب وأسمعه المكروه، فأعرض الخطيب وتغافل متكدِّرًا، وأسرع في المشي، فمرَّ بالنخشبي - وهو حديث عهد بسماع المكروه من بعض أصحابه - فلم ينبسط إليه، وكذلك صنع باللاحق. فهذا هو شبه التغير الذي رآه النخشبي، وهو السكر الذي أطلقه ذلك اللاحق (¬2). هذا كله دفع للاحتمال، فأما ¬

_ (¬1) (ط): "الفقيه" تحريف. (¬2) هذا إذا كانت كلمتا "لقي" و"لحق" في عبارة النخشبي على ظاهرهما، وإلا فيحتمل أن ذلك اللاحق هو المؤذي نفسه. [المؤلف].

فصل

الثبوت الشرعي فلا حظَّ [1/ 132] لتلك الحكاية فيه بحال (¬1). فصل بعد أن قضى الخطيب قريبًا من ستين سنة على الحال التي تقدمت من الانهماك في العلم ليلًا ونهارًا، حتى كان يمشي في الطريق وبيده جزء يطالعه، وفي تلك الصيانة والنزاهة التي أعجز بها أولئك المؤذين، فلم يعثروا له على عثرة = خرج من بغداد في أيام الفتن، وقصد دمشق وأقام بها. وكانت إذ ذاك تحت ولاية العُبيديين الرافضة الباطنية، ولكن كانوا يتظاهرون بعدم التعرُّض لعلماء السنة، فاستمرّ الخطيب على أعماله العلمية إلى أن بلغ عمره خمسًا وستين سنة. وحينئذ أمر أمير دمشق من جهة العبيديين الرافضة الباطنية بالقبض على الخطيب ونفيه عن دمشق. فأما مؤرخ دمشق الحافظ الثبت ابن عساكر فقال: "سعى بالخطيب حسين الدميني إلى أمير الجيوش، وقال: هو ناصبي يروي فضائل الصحابة والعباس في جامع دمشق". فهذا سبب واضح لنفي الخطيب، فإن العُبيديين رافضة باطنية يكفِّرون الصحابة والعباس، ويسرفون في بغضهم، ويرون في نشر فضائل الصحابة والعباس على رؤوس الأشهاد بجامع دمشق تحدِّيًا لهم، وتنفيرًا عنهم، ودعوةً إلى الخروج عليهم، ودعايةً لخصومهم بني العباس الذين كانوا ينازعونهم الخلافة ويقاتلونهم عليها. وأما ابن طاهر - وما أدراك ما ابن طاهر - فحكى سببًا آخر، وقبل أن ¬

_ (¬1) ولا حاجة بنا هنا إلى نحو ما يأتي في ترجمة الحسن بن [أحمد بن] إبراهيم رقم (73). [المؤلف].

أشرحه أذكر شيئًا من حال ابن طاهر. يقول ابن الجوزي في ترجمة ابن طاهر من "المنتظم" (ج 9 ص 178): " ... فمن أثنى عليه فلأجل حفظه للحديث، وإلا فالجرح أولى به. ذكره أبو سعد ابن السمعاني وانتصر له بغير حجة بعد أن قال: سألت شيخنا إسماعيل بن أحمد الطلحي عن محمد بن طاهر، فأساء الثناء عليه، وكان سيئ الرأي فيه، وقال: سمعت أبا الفضل محمد بن ناصر يقول: محمد بن طاهر لا يُحتجُّ به، صنَّف كتابًا في جواز النظر إلى المُرْد، وأورد فيه حكاية عن يحيى [1/ 133] بن معين قال: رأيت جاريةً بمصر مليحةً صلى الله عليها، فقيل له: تصلي عليها؟ فقال صلى الله عليها وعلى كل مليح! ثم قال: كان يذهب مذهب الإباحة. قال ابن السمعاني: وذكره أبو عبد الله محمد بن الواحد الدقَّاق الحافظ، فأساء الثناء عليه جدًّا، ونسبه إلى أشياء. ثم انتصر له ابن السمعاني فقال: لعله قد تاب. فوا عجبًا ممن سيرته (¬1) قبيحة فيترك الذمَّ لصاحبها لجواز أن يكون قد تاب! ما أبله هذا المنتصر! ويدلُّ على صحة ما قاله ابن ناصر من أنه كان يذهب مذهب الإباحة: ما أنبأنا به أبو المعمر المبارك بن أحمد الأنصاري قال: أنشدنا أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي لنفسه: دع التصوفَ والزهدَ الذي اشتغلتْ ... به جوارحُ أقوامٍ من الناسِ وعُجْ على دير داريا فإن به الرْ ... رُهبانَ ما بين قِسِّيس وشَمَّاسِ فاشرَبْ معتَّقةً من كفِّ كافرةٍ ... تسقيك خمرَين من لحظ ومن كاسِ ¬

_ (¬1) وقع في (ط) و"المنتظم": "سيره"، فلعل الصواب ما أثبت. وفي العبارة خلل ما، فلعلّ في الكلام سقطًا.

ثم استمِعْ رنَّةَ الأوتار من رشَأٍ ... مهفهَفٍ لحظُه أمضَى من الماسِ" وذكره الذهبي في "تذكرة الحفاظ" (4/ 37) (¬1) وذبَّ عنه. قال: "الرجل مسلم، معظِّم للآثار، وإنما كان يرى إباحة السماع [يعني سماع الغناء والملاهي] لا الإباحة المطلقة ... معلوم جواز النظر إلى المِلاح عند الظاهرية، فهو منهم". وذكر ثناء جماعة عليه، وله ترجمة في "لسان الميزان" (¬2). والمقصود أن ابن طاهر كان له ولوع بالجمال وتعلُّق به وتسمُّح فيه، وإن لم يخرجه إن شاء الله تعالى إلى ما يوجب الفسق. وإنما ذكرته هنا, لأن له أثرًا على حكايته الآتية، كما سترى. في "تذكرة الحفاظ" (ج 3 ص 318) (¬3): "قال ابن طاهر في "المنثور": أخبرنا مكي الرملي [صوابه الرُّمَيلي] قال: كان سبب خروج الخطيب من دمشق أنه كان يختلف إليه صبيٌّ مليح، فتكلَّم فيه الناس، وكان أمير البلد رافضيًّا متعصبًا، فجعل ذلك سببًا للفتك بالخطيب، فأمر صاحبَ شرطته أن يأخذ الخطيب بالليل ويقتله، وكان سنِّيًّا، فقصده تلك الليلة في جماعته، فأخذه، وقال له بما أُمر به، ثم قال: لا أجد لك حيلةً إلا أنك تفرُّ منَّا وتهجم دار الشريف ابن أبي الحسن العلوي ... ففعل ذلك. فأرسل الأمير إلى الشريف أن يبعث به، فقال له: أيها [1/ 134] الأمير ... ليس في قتله مصلحة ... أرى أن تُخرجه من بلدك. فأمر بإخراجه، فذهب إلى صُورٍ، وأقام بها مدة". ¬

_ (¬1) (4/ 1244). (¬2) (7/ 211 - 216). (¬3) (3/ 1141).

وذكر ياقوت في "معجم الأدباء" (ج 4 ص 34) (¬1) عن ابن طاهر نحو ذلك وفيه: " ... كان يختلف إليه صبيّ مليح الوجه - قد سمّاه مكيٌّ، وأنا نكَبتُ عن ذكره -". أقول: قد عرفتَ ابن طاهر. فأما مكّي الرميلي الذي حكى ابن طاهر القصة عنه، فحافظ فاضل شافعي كالخطيب، ومن تلامذة الخطيب المعظِّمين له. ترجمته في "تذكرة الحفاظ" (ج 4 ص 22) (¬2)، و"الطبقات الشافعية" (ج 4 ص 20) (¬3). وذكروا أنه سمع من الخطيب بصُور، ثم سمع منه ببغداد كما يعلم من "ترجمة الخطيب"، وكان مبجِّلًا للخطيب. روى ابن عساكر عنه أنه رأى في المنام لما كانوا يقرؤون على الخطيب "تاريخه" ببغداد أنه حضر مجلس الخطيب لقراءة التاريخ على العادة، فرأى رجلًا لم يعرفه، فسأل عنه، فقيل له: هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاء ليسمع "التاريخ". انظر الرؤيا مبسوطة في "طبقات الشافعية" (ج 3 ص 15) (¬4) وذكرها الذهبي في "تذكرة الحفاظ" (ج 3 ص 321) (¬5) قال: "قال غيث الأَرْمَنازي: قال مكي الرُّميلي: كنت ببغداد نائمًا في ليلة ثاني عشر في ربيع الأول سنة ثلاث وستين، فرأيت كأنا عند الخطيب لقراءة "تاريخه" على العادة ... ". ¬

_ (¬1) (1/ 393). (¬2) (4/ 1229). (¬3) (5/ 332). (¬4) (4/ 36). (¬5) (3/ 1145).

ويؤخذ مما تقدَّم أن الرُّميلي لم يلق الخطيب إلا بعد خروج الخطيب من دمشق، فلم يحضر الرميلي ذلك الخروج، فهل أخبره الخطيب بسبب إخراجه؟ قد عرفنا الخطيب، وعرفنا الرميلي، وعرفنا ابن طاهر؛ فما الذي يُتوقّع من الخطيب بعد شيخوخته؟ وما الذي يتوقع أن يخبر به عما جرى له؟ وما الذي يتوقع أن يخبر به الرميلي عن أستاذه المبجَّل؟ وما الذي يتوقع من ابن طاهر؟ أما السؤال الأول: فالعادةُ قاضيةٌ أن العالم الفاضل المستغرق في العلم، الذي قضى عامة عمره في صيانة ونزاهة، يمتنع أن يعرض له بعد شيخوخته داء العلاقة بالصبيان. وأما الثاني: فمن عرف الخطيب ونزاهته وصيانته وعقله وتحفُّظَه، علم امتناع أن يخبر في شيخوخته بما يشينه شَينًا مُزرِيًا. [1/ 135] وأما الثالث: فيبعد جدًّا أن يحكي الرميلي ما يشين أستاذه الذي يبجِّله ذاك التبجيل. وأما الرابع: فقد طهَّر الله ابن طاهر من اختلاق الكذب، ولكن لا مانع أن يسمع حكايةً لها علاقةٌ ما بالجمال الذي كان مولعًا به متسمِّحًا في شأنه، فتصطبغ في نفسه صبغةً تناسب هواه، فيحكيها بتلك الصبغة على وجه الرواية بالمعنى. فعسى أن يكون بعض أعداء الخطيب في دمشق لما سعوا به إلى ذاك الأمير الرافضي - على ما تقدَّم عن ابن عساكر - توقَّف؛ لأن أكثر أهل الشام أهل سنة، ويخشى أن يعلموا أنه تعرَّض للخطيب لأجل

المذهب، ففكَّر أولئك السُّعاة في حيلة، فرأوا في طلبة العلم الذين كانوا يختلفون إلى الخطيب فتى صبيحًا، فتكلموا بين الناس بأن في اختلاف مثله إلى الخطيب ريبة، وربما اختلقوا ما يوقع الريبة عند بعض الناس، ثم قالوا للأمير: تأخذ الخطيب على أنك إنما أخذته بهذه التهمة التي قد تحدَّث بها الناس. فإذا كانت الواقعة هكذا فهي معقولة، فقد يقع مثلها لأفضل الناس، ويُخبر بوقوعها له أعقلُ الناس وأحزمُهم إذا كان يعلم أن معرفتهم بحاله تحجزهم عن أن يتخرَّصوا منها ما يكره، ويحكي وقوعها لأستاذه أبرُّ الناس وأوفاهم، لكن ابن طاهر لما سمعها اصطبغت في فهمه ثم في حفظه ثم في عبارته بميله وهواه ورأيه الذي ألَّف فيه. ويؤيد هذا أن الرميلي لما حكى القصة سمَّى ذاك الفتى ولم ير في ذكر اسمه غضاضةً عليه، فلما حكاها ابن طاهر لم يسمِّه، بل قال: "قد سماه مكي وأنا نكَبتُ عن ذكره"؛ لأن لونها عند ابن طاهر غير لونها عند مكي. ولم يحتج ابن طاهر إلى تسميته كما احتاج إلى ذكر وقوع القصة للخطيب لتكون شاهدًا لابن طاهر على ما يميل إليه، كما استشهد بما حكاه عن ابن معين من قصة الجارية. فتدبَّرْ ما تقدَّم، ثم استمِعْ لسبط ابن الجوزي وتصرُّفه! قال الذهبي في "الميزان" (¬1): "يوسف بن قِزُغْلي (¬2) الواعظ المؤرّخ شمس الدين ¬

_ (¬1) (6/ 145). (¬2) (ط): "فرغلي" تصحيف، انظر في ضبطه "الأعلام": (8/ 246) للزركلي، وحاشية الجواهر المضية (2/ 441)، وترجمته فيها: (4/ 633 - 635). وقِزُغْلي لفظ تركي معناه "ابن البنت".

أبو المظفر سبط ابن الجوزي. روى عن جده وطائفة، وألَّف "مرآة الزمان" فتراه يأتي فيه بمناكير الحكايات، وما أظنه بثقة فيما ينقله بل يَجْنِفُ ويجازف. ثم إنه ترفَّض وله في ذلك مؤلف ... قال الشيخ محيي الدين .... : لما بلغ جدِّي موتُ سبط ابن الجوزي قال: لا رحمه الله! كان رافضيًّا. قلت: كان بارعًا في الوعظ ومدرسًا للحنفية". [1/ 136] أقول: قد تقدم أنه كان حنبليًّا، ثم تحنَّف في الصورة الظاهرة على ما قاله مذيِّلُ "مرآته" (¬1)؛ لأجل الحظوة عند الملك عيسى بن أبي بكر بن أيوب، الذي يلقبه الكوثري: "عالم الملوك الملك المعظَّم". فإن هذا الملك كان أهله شافعية، فتحنَّفَ وتعصَّبَ. قال فيه المُلَّا عليّ القاري الحنفي - كما في "الفوائد البهية في مناقب الحنفية" (ص 152) -: "كان متغاليًا في التعصّب لمذهب أبي حنيفة. قال له والده يومًا: كيف اخترتَ مذهب أبي حنيفة، وأهلك كلهم شافعية؟ فقال: أترغبون عن أن يكون فيكم رجل واحد مسلم! ". وهذا الملك قد أثنى عليه خليلُه السِّبْط في "المرآة"، ومع ذلك ذكَرَه في مواضع متفرقة بفظائع. وقد سبق له ذكر في ترجمة أحمد بن الحسن بن خيرون (¬2)، وذكرتُ المانع من تتبّع هفواته. فأما السِّبْط، فقد مرَّ عن الذهبي ما علمتَ، ومَن طالع "المرآة" علم ¬

_ (¬1) يعني اليافعي في "ذيل مرآة الزمان": (1/ 39 - 43). (¬2) رقم (15).

صدق الذهبي فيما يتعلق بالحكايات المنكرة، والمجازفات ولا سيما فيما فيه مدح لنفسه. ويظهر من "المرآة" ما يوافق قول صاحب "الذيل عليها" أنه إنما تحنَّف في الصورة الظاهرة. وكذلك لا يظهر منها أنه رافضي، فكأنه إنما ألَّف كتابه في الترفُّض تقربًا إلى بعض الرافضة من أصحاب الدنيا. فهذا المجازف اتصل بالملك عيسى، وقد عرفتَ بعضَ حاله في التعصّب، فتحنَّف السِّبطُ إرضاءً له، وألَّف كلّ منهما ردًّا على الخطيب، كما مرَّ في ترجمة أحمد بن الحسن بن خيرون. وحاول السِّبْط التقرّبَ إلى عيسى بذمِّ الخطيب، وذكر حكاية ابن طاهر، فزاد فيها. قال الأستاذ (ص 12): "قال سبط ابن الجوزي في "مرآة الزمان": قال محمد بن طاهر المقدسي: لما هرب الخطيب من بغداد عند دخول البساسيري إليها قدم دمشقَ، فصحبه حَدَثٌ صبيحُ الوجه كان يختلف إليه، فتكلم الناس فيه وأكثروا، حتى بلغ واليَ المدينة - وكان من قبل المصريين شيعيًّا - فأمر صاحبَ الشرطة بالقبض على الخطيب وقتله، وكان صاحب الشرطة سُنِّيًّا فهجم عليه، فرأى الصبي عنده، وهما في خلوة، فقال للخطيب: قد أمر الوالي بقتلك، وقد رحمتُك ... فأخرجوه فمضى إلى صُور، واشتد غرامه بذلك الصبي، فقال فيه الأشعار فمن شعره ... ". فيقال لهذا الجانف المجازف: توفي ابن طاهر قبل أن يولد جدُّك، فمن أين لك هذه الحكاية عنه على هذا اللون؟ قد حكاها غيرك عن ابن طاهر، حتى ياقوت مع شدة غرامه بالحكايات [1/ 137] الفاجرة حتى في ترجمة الكسائي، فلم يذكروا فيها ما ذكرت. بل نقلها خليلُك الملك عيسى في "رده على الخطيب" (ص 277) من خط ابن طاهر - كما قال - ولم يذكر هذه

الزيادة ولا ما يشير إليها. استفدتُ هذه من ترجمة الخطيب للدكتور يوسف العُش (¬1). وكانت القصة وابن طاهر في سنِّ تسع سنين، ولم يكن بدمشق، فممَّن سمع الحكاية؟ لم يسمعها على هذا الوجه من مكّي الرميلي، فإنه حكى ما سمعه من مكي على غير هذا، وقد تقدم حال مكيّ بما يُعْلَم أنه يمتنع أن يحكيها على هذا الوجه أو ما يقرب منه، مع أن مكيًّا لم يشهد القصة، فممن سمعها؟ وفي أقل من هذا ما يتضح به نكارة القصة على هذا الوجه وبطلانها. ولو كان السبط ثقة لاتجه الحملُ على ابن طاهر وتثبيت مجازفته، لكن حال السِّبْط كما علمت، وقد حكاها غيره عن ابن طاهر على وجه يُغتفر في الجملة، فالحملُ على السِّبط. أما الأشعار المنسوبة إلى الخطيب، فلا أدري ما يصح منها. وما وُجد منها بخطه قد يكون لغيره، وما عسى أن يكون له فذاك على عادة العلماء الذين أخذوا بحظٍّ من الأدب؛ يقول أحدهم الأبياتَ على طراز ما عُرِف من شعراء زمانه، كما ينقل عن ابن سُريج وغيره. وما في "معجم الأدباء" (¬2) عن أبي العز ابن كادش لا يُعبأ به. ترجمة ابن كادش في "لسان الميزان" (ج 1 ص 218) (¬3) وفيها عن ابن النجار: "كان مخلِّطا كذَّابًا لا يُحتجُّ بمثله". وتكلم فيه ابن ناصر وغيره. وذكر ابن ¬

_ (¬1) انظر ترجمته في "الأعلام": (8/ 230 - 231)، وقال: إن الفصيح في (العش) ضمّ العين لكن الدارج كسرها. (¬2) (1/ 394) وهي أبيات من الشعر نقلها عن الخطيب. (¬3) (1/ 532).

عساكر أن ابن كادِش أخبره أنه وضع حديثًا في فضل أبي بكر وتبجَّح بذلك قائلا: "بالله أليس فعلت جيدًا؟ ". فقد اتضح بحمد الله عزَّ وجلَّ سلامةُ الخطيب في عقيدته، ونزاهته في سيرته، وأنَّ ما ظُنَّ غمزًا في سيرته - مع وضوحِ أنه ليس مما يُعتدُّ به شرعًا - ليس مما يسوغ احتماله تخرُّصًا، بل تقضي القرائن وشواهد الأحوال وقضايا العادات ببطلانه. ومن المضحك المبكي صنيع الأستاذ الكوثري يقول (ص 10) في الخطيب: "على سوء سلوكٍ يُنسب إليه، ويجعله في عداد أمثال أبي نواس في هُجر القول وسوء الفعل". ويقول (ص 51): "إذًا فماذا يكون حاله حينما اقترف ذلك الذنب في دمشق"، ويورد عن سبط ابن الجوزي القصة محتجًّا بها. وفي مقابل ذلك يرى كلام الأئمة في الحسن بن زياد اللؤلؤي الذي كذَّبه [1/ 138] ابن معين وابن نُمير وأبو داود وأبو ثور ويعقوب بن سفيان وغيرهم، وقال صالح بن محمد الحافظ الملقب جَزَرة: "ليس بشيء، لا هو محمود عند أصحابنا ولا عند أصحابهم، يُتهم بداء سوء، وليس في الحديث بشيء". وفي "لسان الميزان" (ج 2 ص 209) (¬1): "قال أبو داود عن الحسن بن علي الحُلْواني: رأيت اللؤلؤي قبَّل غلامًا وهو ساجد، ... وقال أحمد بن سليمان الرُّهاوي: "رأيته يومًا في الصلاة، وغلام أمرد إلى جانبه في الصف، فلما سجد مدَّ يده إلى خدِّ الغلام فقرَصَه". وصالح والحُلواني والرُّهاوي كلهم من الحفاظ الثقات الأثبات= فيضِجُّ الأستاذ من هذا ويعِجُّ، ¬

_ (¬1) (3/ 49).

ويقول (ص 188): "والعجب من هؤلاء الأتقياء الأطهار استهانتهم بأمر القذف الشنيع هكذا فيما لا يتصور قيام الحجة فيه، مع علمهم بحكم الله في القَذَفة؛ ولا يكون ذلك إلا من قلة الدين واختلال العقل". يقول هذا، ثم يرمي الخطيب بما رماه، ويصرِّح أو يكاد، مع أن القصة - ولو كما حكاها سبط ابن الجوزي - ليس فيها ما هو ظاهر في التقبيل، فضلًا عن غيره، ومع علمه بحال سبط ابن الجوزي وحال ابن طاهر، وأن السبط لم يدرك ابن طاهر ولم يذكر سنده إليه، وأن ابن طاهر لم يدرك القصة، ولا ذكر في رواية السبط مَن أخبره بها، وأن الرميلي الذي ذكر ابن طاهر القصة عنه على الوجه المذكور في "تذكرة الحفاظ" لم يشهد القصة، ولم يذكر عمن أخذها، ومع طعن الأستاذ في الرميلي إذ قال (ص 121): "تجد بينهم من يجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحضر مجلس إقراء الخطيب لتاريخه .... ولا يكون منشأ ذلك إلا رقة الدين والنفاق الكمين"! فليتدبر القارئ: أيهما أولى بأن يكون قذفًا شرعيًّا، أكلمات الأستاذ بانيًا على ما ليس بشيء، أم قول صالح بن محمد الحافظ المبني على ما سمعه من الناس من اتهامهم اللؤلؤي: "يتهم بداء سوء"، وإخبار الحافظَين الآخرَين بما شاهداه من اللؤلؤي في حال سجوده من التقبيل وقرص الخد! وأيهما أولى بأن يكون استهانة بأمر القذف الشنيع فيما لا يُتصور قيام الحجة فيه مع العلم بحكم الله في القَذَفة! وأيّهما أولى وأحق بأن يقال فيه: "لا يكون ذلك إلا من قلة الدين واختلال العقل"! وكذلك الرُّميلي الحافظ الفاضل ليس يترتب على صدقه فيما حكى ما تقوم به حجة [1/ 139] شرعية على أن "تاريخ الخطيب" كلّه حق، فأيّ حجة

فصل

أو شبهة تُبعد أن يكون صادقًا فيما حكى؟ فمَن الأولى برقَّة الدين والنفاق الكمين! فصل قال ابن الجوزي في "المنتظم" (ج 8 ص 266) بعد أن عدَّد جملة من مصنفات الخطيب: "فهذا الذي ظهر لنا من مصنفاته. ومَن نظر فيها عرف قدرَ الرجل وما هُيِّئ له مما لم يتهيأ لمن كان أحفظ منه كالدارقطني وغيره. وقد روي لنا عن أبي الحسين ابن الطيوري أنه قال: أكثر كتب الخطيب مستفادة من كتب الصُّوري ابتدأ بها". قال ابن الجوزي: "وقد يضع الإنسان طريقًا فيُسْلَك، وما قصَّر الخطيب على كل حال". أقول: لم يسمِّ ابن الجوزي من حكى له ذاك القول عن ابن الطيوري. وابن الطيوري هذا هو المبارك بن عبد الجبار، وثَّقه جماعة، وكذَّبه المؤتمن الساجي الحافظ. والصُّوري هو محمد بن عبد الله الساحلي، ترجمته في "التذكرة" (ج 3 ص 293) (¬1)، وفيها: أن مولده سنة ست أو سبع بعد السبعين وثلاثمائة، ووفاته سنة 441، فهو أكبر من الخطيب بنحو خمس عشرة سنة. ومع حفظه ففي "التذكرة" (ج 3 ص 298) (¬2) في ترجمة أبي نصر السِّجْزي المتوفى سنة 444: "قال ابن طاهر: سألت الحافظ أبا إسحاق الحبَّال عن أبي نصر السِّجزي والصُّوري: أيهما أحفظ؟ فقال: كان السِّجزي ¬

_ (¬1) (3/ 1114). (¬2) (3/ 1119).

أحفظ من خمسين مثل الصُّوري". وفي "التذكرة" (ج 3 ص 314) (¬1): "قال ابن ماكولا: كان أبو بكر الخطيب آخر الأعيان ممن شاهدناه معرفةً وحفظًا وإتقانًا وضبطًا لحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتفنّنًا في علله وأسانيده، وعلمًا بصحيحه وغريبه وفَرْده ومنكره ومطروحه. ثم قال: ولم يكن للبغداديين بعد الدارقطني مثله، وسألت الصُّوري عن الخطيب وأبي نصر السِّجْزي، ففضَّل الخطيبَ تفضيلًا بيِّنًا". وقد علمتَ أن الصُّوري توفي سنة 441 أي: قبل وفاة الخطيب باثنتين وعشرين سنة، ووفاةُ السِّجزي سنة 444، وابنُ طاهر لقي الحبَّال سنة 470 كما في "التذكرة" (ج 3 ص 363) (¬2). فتفضيلُ الحبَّال بين السِّجزي والصُّوري كان بعد موتهما، فهو بحسب ما انتهى إليه أمرهما. وأما تفضيل الصوري [1/ 140] بين الخطيب والسِّجزي ففي حياتهما، لكن أحدهما وهو السِّجزي كان في أواخر عمره، والآخر وهو الخطيب في وسط عمره؛ لأن الصوري مات سنة 441 كما مرَّ، فالسؤال منه وجوابه يكون قبل ذلك. فإذا فرضنا أنه قبل ذلك بشهر مثلًا، حيث كان سنُّ السائل وهو ابن ماكولا نحو عشرين سنة فإن مولده 422، كان قبل وفاة السّجزي بنحو ثلاث سنين، وقبل وفاة الخطيب بنحو اثنتين وعشرين سنة. فيخرج مما تقدم أن الخطيب - باعتراف الصوري - كان قبل موته باثنتين وعشرين سنة بحيث يفضَّل تفضيلاً بيّنًا على مَنْ هو بحكم الحبَّال ¬

_ (¬1) (3/ 1137). ووقع في (ط): (ج 1) خطأ. (¬2) (3/ 1194).

أحفظ من خمسين مثل الصُّوري، فما عسى أن يكون بلغ بعد ذلك؟ وإذا كانت النسبة بينهما هي هذه، فما معنى ما حكي عن ابن الطيوري؟ هل معناه أن الصوري ابتدأ في أكثر الكتب التي تُنسب إلى الخطيب ولم يُتمَّ شيئًا منها؟ يقول ابن السمعاني: إن مؤلفات الخطيب ستة وخمسون مصنفًا. فهل ابتدأ الصوري في عمل ثلاثين مصنفًا أو نحوها ولم يتمّ شيئًا منها؟ فإن كان أتمَّ شيئًا منها أو قارب، أو على الأقل كتب منه كراسة مثلًا، فقد كان ابن الطيوري من أخصِّ الناس بالصوري - كما يؤخذ من "لسان الميزان" (ج 5 ص 10) (¬1) - أفلم يكن عنده شيء من ابتداءات الصوري، فيُبرزه للناس تصديقًا لقوله؟ ولعل أصل الحكاية على ما يؤخذ من "معجم الأدباء" (¬2): أن الكتب التي كانت في ملك الصُّوري صار جملةٌ منها بعد موته إلى الخطيب، فاستفاد منها الخطيب. لكن قد علمنا أن الخطيب لا يكاد يورد شيئًا إلا بأسانيده المعروفة، ومَن تدبَّر مؤلفاته علم أنها من مشكاة واحدة أوائلها وأواخرها (¬3). هذا، وفي رواية عن ابن الطيوري أن الصُّوري كان ترك كتبه عند أختٍ له بصُور، وأن الخطيب أخذها عند خروجه إلى الشام (كأنه يعني: عند ¬

_ (¬1) (6/ 453). (¬2) (1/ 387 - 388). (¬3) وعلق الذهبي على الخبر بقوله: "ما الخطيبُ بمفتقرٍ إلى الصوري، هو أحفظ وأوسع رحلة وحديثًا ومعرفة". "السير": (16/ 228).

فصل

دخوله صور، وذلك بعد إقامته بدمشق). واحتج الدكتور (¬1) بهذا على بطلان زعم ابن الطيوري من أصله، لأن أكثر كتب الخطيب ثبت تأليفه لها قبل خروجه إلى الشام - وذكر دليل ذلك -، وبأن الصُّوري أقام (¬2) ببغداد نيفًا وعشرين سنة وبها مات، فكيف يُعقل أن لا يطلب كتبًا تركها عند أخته! [1/ 141] فصل قال ابن الجوزي في "المنتظم" (ج 8 ص 267) بعد أن ذكر ميل الحنابلة على الخطيب حتى انتقل عن مذهبهم ما لفظه: "وتعصَّب في تصانيفه عليهم، فرمز إلى ذمِّهم، وصرَّح بقدر ما أمكنه. فقال في ترجمة أحمد بن حنبل: "سيد المحدثين"، وفي ترجمة الشافعي: "تاج الفقهاء"، فلم يذكر أحمد بالفقه. وقال في ترجمة حسين الكرابيسي أنه قال عن أحمد: أيَّ شيء نعمل بهذا الصبي؟ إن قلنا: لفظنا بالقرآن مخلوق، قال: بدعة. وإن قلنا: غير مخلوق، قال: بدعة. وله دسائس في ذمهم، من ذلك: أنه ذكر مهنأ بن يحيى ... ومال الخطيب على أبي الحسن [عبد العزيز بن الحارث] التميمي ... ومال الخطيب على أبي [عبد الله] عبيد الله بن [محمد بن] بطة ... ومال الخطيب على أبي علي [الحسن بن علي] ابن المُذْهب. وكان في الخطيب شيئان: أحدهما: الجري على عادة عوامِّ المحدثين في الجرح والتعديل، فإنهم يجرحون بما ليس بجرح؛ وذلك لقلة فهمهم. والثاني: ¬

_ (¬1) يعني يوسف العش في كتابه عن الخطيب، وسبقت إشارة المؤلف إليه. (¬2) (ط): "إمام" تحريف.

التعصب على مذهب أحمد وأصحابه ... ". أقول: رحمك الله يا أبا الفرج! لا أدري، أجاوزتَ الحدَّ في غبطة الخطيب على مصنفاته التي أنت عيال عليها - كما يظهر من مقابلة كتبك بكتبه - فدعتك نفسُك إلى التشعيث منه والتجني عليه؟ أم أردت التقرب إلى أصحابك الذين دخل في قلوبهم من يومك المشهود الذي لم يُرَ مثلُه غمٌّ عظيم؟ أم كنت أنت المتصف بما ترمي به المحدّثين من قلة الفهم؟ أما ما قاله الخطيب في ترجمتَي أحمد والشافعي، فلفظه في المطبوع (ج 4 ص 412) في ترجمة أحمد: " ... إمام المحدثين، الناصر للدين، والمناضل عن السنة، والصابر في المحنة ... ". وفي آخر الترجمة (ج 4 ص 423): "قد ذكرنا مناقب أبي عبد الله أحمد بن حنبل مستقصاة في كتاب أفردناه لها، فلذلك اقتصرنا في هذا الكتاب على ما أوردناه منها". وعبارته في ترجمة الشافعي (ج 2 ص 56): " ... زين الفقهاء، وتاج العلماء .. ". فعلى هذا للشافعية أن يعاتبوا الخطيب قائلين: لم تذكر الشافعي بالحديث، فإن كنت لا تراه مُحدِّثًا فقد سلبتَه أعظم الفضائل، ولزم [1/ 142] من ذلك سلبُه الفقهَ والعلمَ الذي يعتدّ به، وإن كنت تراه محدِّثًا فقد جعلتَ أحمد إمامًا له أو سيِّدًا للمحدثين مطلقًا، فشمل ذلك الفقهاء منهم، فلزم أن يكون إمامَ الفقهاء أو سيِّدَهم مطلقًا. ومع ذلك لم تذكر الشافعيَّ بنصرة الدين، ولا النضال عن السنة، فأما قولك: "زين الفقهاء وتاج العلماء" فلا يدفع ما تقدم، لأن المتزين أفضل من الزينة، ولابس التاج أفضل من التاج. والصواب: أن المناقشة في مثل هذا ليست من دأب المحصِّلين، وإنما

الحاصل أن المترجِم يتحرَّى في صدر الترجمة أشهر الصفات. فأحمدُ لِتبحُّره في معرفة الحديث وتجرُّده لنصر السنة كان أشهر بذلك منه بالفقه، والشافعي لِتجرُّده للفقه كان أشهر به. وأما قضية الكرابيسي، فإن الخطيب روى بسنده في ترجمته (ج 8 ص 64) عن يحيى بن معين أنه: "قيل له: إن حسينًا الكرابيسي يتكلم في أحمد بن حنبل. قال: ما أحوجه أن يُضرَب". وروى عن يحيى أيضًا أنه قال: "ومَنْ حسين الكرابيسي لعنه الله ... "، ثم ذكر القصة التي فيها تلك الكلمة، ثم ذكر روايات عن أحمد في تبديع الكرابيسي والتحذير منه. ثم ذكر قصةً فيها غضُّ الكرابيسي من فضل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وأن رجلًا رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكذِّب الكرابيسي. فالخطيب ذكر تلك الكلمة لفائدتين: الأولى: تفسير ما تقدَّم إجماله من أن الكرابيسي كان يتكلم في أحمد، ليتبين أنه كلام فارغ. الثانية: زيادة التشنيع على الكرابيسي. فمن توهَّم أن الخطيب حاول انتقاص أحمد فهو كمن يتوهم أن ذكره القصة التي فيها غضُّ الكرابيسي من فضل علي بن أبي طالب محاولةٌ من الخطيب لانتقاص علي! وابنُ الجوزي يرمي الخطيب وعامة المحدثين بقلة الفهم، وهذه حاله! وأما ما زعمه ابن الجوزي من ميل الخطيب على مُهَنّأ والجماعة الذين سماهم، فقد أفردت لكل منهم ترجمة تأتي في موضعها إن شاء الله تعالى، وتتضح براءة الخطيب مما تخيله ابن الجوزي. وقد وثَّق الخطيبُ جمعًا كثيرًا بل جمعًا غفيرًا من الحنابلة، وأطاب

فصل

الثناء عليهم. فإن ساغ أن يُرمى بالتعصّب على الحنابلة لذكره القدح في أفرادٍ منهم، فليسُغْ رميُه بالتعصب لهم لتوثيقه أضعاف أضعاف أولئك، وليسُغْ رميه بالتعصب على الشافعية لذكره القدح في كثير منهم. وقد [1/ 143] مرَّ قريبًا ما ذكره في الكرابيسي، وهكذا حال بقية المذاهب. فهل يسوغ أن يقال: إن الخطيب كان يتعصّب لأهل مذهب وعليهم؟ فإن قيل: بل ينظر في كلامه. قلت: فستراه في التراجم. فصل قال ابن الجوزي (¬1): "وقد ذكر في "كتاب الجهر" أحاديث يعلم أنها لا تصح، وفي "كتاب القنوت" أيضًا. وذكر في مسألة صوم يوم الغيم حديثًا يدري أنه موضوع، فاحتجَّ به ولم يذكر عليه شيئًا. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "من روى حديثًا يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين" (¬2). وذكر الكوثري في "التأنيب" (ص 10) عبارات أخرى لابن الجوزي تشتمل على زيادة، فذكر مما أخرجه الخطيب في "كتاب الجهر بالبسملة": "مثل حديث عبد الله بن زياد بن سمعان، وقد أجمعوا على ترك حديثه، قال مالك: كان كذابًا. ومثل حديث حفص بن سليمان، قال أحمد: هو متروك ¬

_ (¬1) في كتاب "المنتظم": (8/ 268 - 269)، وكذلك في "التحقيق": (1/ 464، 2/ 77). (¬2) تقدم تخريجه (ص 199).

الحديث". ومما يتعلق بـ "كتاب القنوت": "ما أخرجه عن دينار بن عبد الله عن أنس قال: ما زال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقنت في صلاة الصبح حتى مات. قال: وسكوته عن القدح في هذا الحديث واحتجاجه به وقاحة عظيمة، وعصبية باردة، وقلة دين؛ لأنه يعلم أنه باطل، قال ابن حبان: دينار يروي عن أنس آثارًا موضوعة لا يحل ذكرها في الكتب إلا على سبيل القدح فيه". أقول: الجواب من أوجه: الأول: أن الخطيب إن كان قَصَد بجَمْع تلك الرسائل جمعَ ما ورد في الباب فلا احتجاج. وإن كان قصد الاحتجاج، فبمجموع ما أورده، لا بكل حديث على حِدَة. الثاني: أننا عرفنا من ابن الجوزي تسرُّعَه في الحكم بالوضع والبطلان، وترى إنكار أهل العلم عليه في كتب المصطلح في بحث "الموضوع" (¬1). الثالث: أن من جملة ما أورده في "الموضوعات" وحدها أكثر من ثلاثين حديثًا رواها [1/ 144] الإِمام أحمد في "مسنده"، ولعله أورد في "الأحاديث الواهية" أضعاف ذلك، فيقال له: إن كنت ترى أنه خفي على الإِمام أحمد ما علمتَه من كون تلك الأحاديث موضوعة أو باطلة، فما نراك أحسنتَ الثناء عليه، وعلى ذلك فالخطيب أولى أن يخفى عليه. وإن كنت ¬

_ (¬1) انظر "علوم الحديث" (ص 99) لابن الصلاح، و"النكت": (2/ 847 - 850) للحافظ.

ترى أن الإِمام أحمد علم أنها موضوعة أو باطلة، ومع ذلك أثبتها في "مسنده" ولم ينبِّه عليها، فكفى به أسوة للخطيب. الرابع: لا يلزم مِن زَعْم ابن الجوزي أن الحديث موضوع (¬1) باطل، أن يكون الخطيب يرى مثل رأيه. الخامس: قد يجوز أن يكون الحديث موضوعًا أو باطلًا، ولم يتنبه الخطيب لذلك. السادس: إذا رُوي الحديث بسند ساقط، لكنه قد رُوي بسند آخر حسن أو صالح أو ضعيف ضعفًا لا يقتضي الحكم ببطلانه، لم يجز الحكم ببطلان المتن مطلقًا، ولا يدخل مَنْ رواه بالإسنادين معًا في حديث: "من حدَّث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين"؛ لأنه لا يرى الحديث نفسه كذبًا. وقد يُتوسع في هذا، فيُلحق به ما إذا كان المتن المرويّ بالسند الساقط، ولم يُرو بسندٍ أقوى، لكن قد رُوي معناه بسند أقوى. ويقَّوي هذا أن المفسدة إنما تعظُم في نسبة الحكم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع ظن أنه كذب لا في نسبة اللفظ، وشاهدُ هذا جواز الرواية بالمعنى. الأمر السابع: قوله في عبد الله بن زياد بن سمعان: "أجمعوا على ترك حديثه" فيه نظر، فقد أكثر عنه ابنُ وهب ووثَّقه على ما في "مختصر كتاب العلم لابن عبد البر" (ص 199) (¬2)، ومجموعُ كلامهم فيه يدل أنه صدوق ¬

_ (¬1) كذا ولعله سقط "أو" كما سيأتي في "الخامس". (¬2) انظر أصله "جامع بيان العلم وفضله": (2/ 1106).

في الأصل، فلا بأس بإيراد حديثه في المتابعات والشواهد (¬1). [1/ 145] وأما حفص، فروى عبد الله وحنبل عن أحمد: "متروك الحديث". وروى عبد الله أيضًا عن أبيه: "صالح"، وروى حنبل عن أحمد أيضًا "ما به بأس". فيأتي في حديثه نحوُ ما مرَّ (¬2). وإنما ذكر الخطيب رواية هذين مع عدة روايات عن غيرهما، والروايات في ذلك معروفة تراها في "سنن الدارقطني"، و"سنن البيهقي" وغيرهما. وفي ذلك آثار عن الصحابة منها الصحيح فما دونه. وحديث أنس النافي للجهر قد أُعِلَّ بعدة علل، كما ترى ذلك في بحث المعلَّل من "تدريب الراوي" (¬3). وجمع الشيخُ تقي الدين ابن تيمية (¬4) بأن الأصل عدم الجهر، ولكن كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ربما جهر ليعلِّم أصحابه، وكذلك ¬

_ (¬1) ترجمته في "التاريخ الكبير": (5/ 96)، و"الأوسط" (798)، و"الجرح والتعديل": (5/ 60 - 61)، و"الضعفاء": (2/ 254) للعقيلي، و"الكامل": (4/ 125)، و"المجروحين": (2/ 7)، و"لسان الميزان": (4/ 496). (¬2) ترجمته في "التاريخ الكبير": (2/ 363)، و"الأوسط" (1268)، و"الجرح والتعديل": (3/ 173 - 174)، و"الضعفاء": (1/ 270) للعقيلي، و"الكامل": (2/ 380). (¬3) (1/ 297 - 302)، وانظر "النكت على ابن الصلاح": (2/ 753 - 756) للجواب عن بعض ما أُعِلّ به. (¬4) في "مجموع الفتاوى": (22/ 410 - 437).

أصحابه كان أحدهم ربما جهر ليعلم مَن [1/ 146] يسمعه. وفي "الصحيح" (¬1) عن أبي قتادة: "كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ في الركعتين من الظهر والعصر بفاتحة الكتاب وسورةٍ سورةٍ ويُسْمِعنا الآيةَ أحيانًا". وللنسائي (¬2) عن البراء: " .. فنسمع منه الآيةَ بعد الآيةِ .. ". ولابن خزيمة (¬3) عن أنس نحوُه كما في "فتح الباري" (¬4). فإسماعه إياهم البسملة في الجهرية آكد, لأنه إذا أسرَّ بها وجهَر بما بعدها توهموا أنه تركها البتة. فمن لم يقع له هذا الجمع، أو لم يقوَ عنده، وقوي عنده ما ورد في الجهر، فأخذ به مطلقًا كالشافعي، فلا لوم عليه. ومن احتجَّ من أتباعه بما ورد في الجهر بالأسانيد القوية، وألحق بها ما يوافقها مما في سنده نحو ابن سمعان وحفص بن سليمان، فلا حرج عليه. [1/ 147] وأما حديث: "ما زال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقنت في الصبح حتى مات" (¬5)، فقد ورد من وجهين آخرين أو أكثر عن ¬

_ (¬1) (759). (¬2) (971). (¬3) (503). (¬4) (3/ 245). (¬5) أخرجه عبد الرزاق (3/ 110)، وأحمد (12657)، والدارقطني: (2/ 370)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار": (1/ 145)، والبيهقي في "الكبرى": (2/ 201) وغيرهم. قال البيهقي: قال أبو عبد الله [الحاكم]: هذا إسناد صحيح سندُه، ثقة رواتُه، والربيع بن أنس تابعي معروف. وتعقبه ابن التركماني بتضعيف أبي جعفر عيسى بن ماهان الرازي. وانظر "البدر المنير": (3/ 620 - 627)، و"تنقيح =

أنس، صحح بعضُ الحفاظ بعضَها. وجاء نحو معناه من وجوه أخرى. راجع "سنن الدارقطني"، و"سنن البيهقي". وبمجموع ذلك يقوى الحديث. وقد جمع ابن القيم بينه وبين ما جاء في ترك القنوت (¬1). فإذا أخرج الخطيبُ الحديثَ من تلك الأوجه القوية، ثم ألحق بها رواية دينار؛ لم يلزمه أن يبيَّن في ذاك الموضع حالَ دينار، لما مرَّ في الوجه السادس. على أنه قد بيَّن الخطيب في موضع آخر حال دينار، وبيَّنه غيرُه، واشتهر ذلك. وقد بيَّن الأئمة كالثوري وابن المبارك وغيرهما حالَ الكلبي، ثم كانوا يروون عنه ما لا يرونه كذبًا ولا يذكرون حاله. [1/ 148] وأما النهي عن صوم يوم الشك، فلم أعثُر عليه (¬2)، غير أن الأدلة على ذلك معروفة في "الصحيحين" وغيرهما. وعن الإِمام أحمد في صوم يوم الشك إذا كان غيمٌ رواية أنه لا يصام، واختارها بعض المحققين من أصحابه. فعند الخطيب أن الحكم ثابت بأحاديث صحيحة، وبقية الكلام يُعلم مما مرَّ. ¬

_ = التحقيق": (2/ 439 - 443)، و"السلسلة الضعيفة" (1238). (¬1) "زاد المعاد" (1/ 273 - 274). (¬2) لعله أراد حديث عمار: "من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم". ذكره ابن طاهر في "تذكرة الموضوعات" (ص 71) نقلًا عن الفيروزابادي في الخلاصة. قال الشوكاني في "الفوائد المجموعة" (ص 92): "وهو مجازفة، فإنه أخرجه أهل السنن وأحمد والبخاري تعليقًا، وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم". وانظر "البدر المنير": (5/ 691 - 692).

فصل

وأما قول ابن الجوزي: "وقاحة عظيمة وعصبية باردة وقلة دين" فابن الجوزي أحوج إلى أن يجيب عنها! غفر الله للجميع. فصل في "تاريخ بغداد" (2/ 177): "أخبرنا محمد بن أحمد بن رزق قال: أنبأنا عثمان بن أحمد الدقاق قال: ثنا (¬1) محمد بن إسماعيل التمار قال: حدثني الربيع بن سليمان (¬2) قال: سمعت الشافعي يقول: ما ناظرتُ أحدًا إلا تمعَّر وجهه، ما خلا محمد بن الحسن. أخبرنا محمد بن الحسين القطان قال: أنبأنا دَعْلَج بن أحمد قال: أنبأنا أحمد بن علي الأبَّار قال: حدثني يونس - يعني ابن عبد الأعلى - قال سمعت الشافعي يقول: ناظرتُ محمدَ بن الحسن وعليه ثياب رِقاق، فجعل تنتفخ أوداجُه، ويصيح حتى لم يبق له زِرٌّ إلا انقطع. قلت: (الصواب: قال) ما كان لصاحبك أن يتكلم، ولا كان لصاحبي أن يسكت. قال: قلت له: نشدْتُك بالله هل تعلم أن صاحبي كان عالمًا بكتاب الله؟ قال: نعم. قال: قلت: فهل كان عالمًا بحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: نعم. قال: قلت: أفما كان عاقلًا؟ قال: نعم. قلت: فهل كان صاحبك جاهلًا بكتاب الله؟ قال: نعم. قلت: وبما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: نعم. قلت: أوَ كان (¬3) عاقلًا؟ قال: نعم. قال: قلت: صاحبي فيه ثلاث خصال لا يستقيم لأحد أن يكون ¬

_ (¬1) كذا في (ط) وفي "التاريخ": "أنبأنا" (¬2) "بن سليمان" ليست في "التاريخ". (¬3) (ط): "وكان" والمثبت من "التاريخ".

قاضيًا إلا بهن - أو كلامًا هذا معناه -". قال الأستاذ (ص 180) في جملة الكلام على الحكاية الثانية في شأن تغير محمد بن الحسن: [1/ 149] "هذا خلاف ما صح عنه في "انتقاء ابن عبد البر" ص 24، وخلاف ما ثبت عن الشافعي بطرق أنه لم ير من لا يتغير عند المناظرة سواه". أقول: الذي في "الانتقاء" في تلك الصفحة (¬1): "حدثنا خلف بن قاسم قال: نا الحسن بن رشيق قال: نا محمد بن الربيع بن سليمان ومحمد بن سفيان بن سعيد قالا: نا يونس بن عبد الأعلى قال: قال لي الشافعي: ذاكرتُ محمد بن الحسن يومًا، فدار بيني وبينه كلام واختلاف، حتى جعلت أنظر إلى أوداجه تَدُرّ (¬2) وتنقطع أزرارُه، فكان فيما قلت له يومئذ: نشدتُك بالله هل تعلم أن صاحبنا - يعني مالكًا - كان عالمًا بكتاب الله؟ قال: اللهم نعم. قلت: وعالمًا باختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: اللهم نعم". فالاختلاف بين الروايتين بالنسبة إلى تغيُّر محمد اختلاف يسير، لا تكاد تخلو عن مثله حكايةٌ تُروى من وجهين مختلفين. أما قول الأستاذ: "وخلاف ما ثبت عن الشافعي بطرق ... " فقد قدَّم الخطيبُ روايته في ذلك، وفي سندها محمد بن إسماعيل التمار. قال الأستاذ: إنه غير موثَّق، كما يأتي في ترجمته (¬3). ولا منافاة، بل معنى قوله: ¬

_ (¬1) (ص 57 - المحققة). (¬2) (ط): "تدور" تحريف، والمثبت من "الانتقاء". (¬3) لم يَذْكُر في الكتاب إلا محمد بن إسماعيل الترمذي أبا إسماعيل رقم (193).

"ما ناظرت أحدًا إلا تمعَّر وجهه" على العموم، فيعمُّ كلَّ مناظر في كل مناظرة. فقوله: "ما خلا محمد بن الحسن" يصح أن يراد أنه لم يكن يتمعّر وجهه في كل مناظرة، فلا ينافي ذلك أنه تغير في مناظرة واحدة مثلًا. ثم ذكر الأستاذ بقية القصة ثم قال: "لا أدري متى كان أبو حنيفة أو مالك قاضيًا .. ". أقول: هذا هيِّن، فإنَّ مِن لازم أهلية القضاء أهلية الاجتهاد. ثم قال: "وتلك العبارة لم ترد في رواية من الروايات أصلًا، بل هذه تغيير من الخطيب حتمًا، وقد زاد في الآخر: "أو كلامًا هذا معناه" ليتمكَّن من التملُّص من تبعة هذا التحريف الشنيع حينما يهتك ستر وجهه بأن قيل له: استقصينا طرق تلك الحكاية من طريق يونس بن عبد الأعلى وغيره استقصاءً لا مزيد عليه، فلم نجد تلك العبارة في شيء منها، فتكون أنت غيَّرتَ وبدَّلتَ! فيجيب الخطيب قائلًا: ما ادعيتُ أن ما سبق ذكره هو نصُّ عبارة الرواية، بل هذا معناه. وكفى أن نقول لمثل هذا المحرِّف المنحرف: أفليس في روايتك: "ما كان [1/ 150] لصاحبك أن يتكلم ولا كان لصاحبي أن يسكت"؟، فكيف تتصور أن يُوجب محمدُ بن الحسن الكلامَ والإفتاءَ على من هو جاهل بكتاب الله وسنة رسوله، ويحرِّم ذلك على العالم بهما، فيكون مع الخبر ما يبطله؛ على أن من اطلع على كتب محمد بن الحسن ... عَلِمَ عِلْمَ اليقين منزلة صاحبه عنده من معرفة الكتاب والسنة". أقول: قولك: "لم ترد في رواية من الروايات أصلًا" إن أردت الإطلاق، فهذه مجازفة، فإن كثيرًا من كتب الحديث - فضلًا عن كتب الحكايات - منها ما قد فُقد، ومنها ما ليس في متناول الأيدي. وحسبك أنك ادعيت الاستقصاء الذي لا مزيد عليه، ومع ذلك فاتك في كلامك أثبَتُ الطرق،

وهي رواية ابن أبي حاتم عن ابن عبد الحكم، وهي في موضعين من كتاب "تقدمة الجرح والتعديل" (¬1) الذي نقلتَ عنه في غير موضع، منها ما مرَّ في ترجمة إبراهيم بن محمد بن الحارث (¬2). وفي "تهذيب التهذيب" (¬3) في ترجمة مالك التنبيه عليها، وهو في متناول يدك كلّ وقت. وهذا لفظ ابن أبي حاتم: "حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال: سمعت الشافعي يقول: قال لي محمد بن الحسن: أيهما أعلم بالقرآن (¬4): صاحبنا أو صاحبكم؟ يعني أبا حنيفة ومالك بن أنس. قلت: على الإنصاف؟ قال: نعم. قلت: فأنشدك الله، مَن أعلم بالقرآن: صاحبنا أو صاحبكم؟ قال: صاحبكم، يعني: مالكًا. قلت: فأنشدك الله، مَن أعلم بالسنة: صاحبنا أو صاحبكم؟ قال: اللهم صاحبكم. قلت: فأنشدك الله، مَن أعلم بأقاويل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمتقدمين: صاحبنا أو صاحبكم؟ قال: صاحبكم. قال الشافعي: فقلت: لم يبق إلا القياس، والقياس لا يكون إلا على واحد من هذه الأشياء؛ فمن لم يعرف الأصول، فعلى أي شيء يقيس؟ ". فاتت الأستاذَ - مع زعمه أنه استقصى استقصاءً لا مزيد عليه - هذه الرواية، مع أن في ترجمة مالك من "تهذيب التهذيب": "وقال ابن أبي حاتم: ثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، سمعت الشافعي يقول: ... ". نعم، نقل الأستاذ متنَ هذه الرواية عن كتابٍ لم تُسْنَد فيه ولا أشير إلى ¬

_ (¬1) (1/ 4، 12 - 13). (¬2) (رقم 8). (¬3) (10/ 8). (¬4) "بالقرآن" كذا وقع في هذه الرواية, وفي الرواية الأولى بدونها، ولعلها الأشبه.

إسنادها فقال: "ولفظ أبي (¬1) إسحاق الشيرازي في "طبقات الفقهاء" (ص 42) بدون سند: قال الشافعي ... ". وذكر الأستاذ رواية ابن عبد الحكم من وجهين آخرين: الأول: عن (ص 23) (¬2) من "انتقاء ابن عبد البر" من طريق "إبراهيم بن نصر سمعت محمد بن [1/ 151] عبد الله بن عبد الحكم يقول: سمعت الشافعي يقول: قال لي محمد بن الحسن: صاحبنا أعلم، أم صاحبكم؟ - يعني أبا حنيفة ومالكًا - وما كان على صاحبكم أن يتكلم، وما كان على صاحبنا أن يسكت، قال: فغضبت، وقلت: نشدتك الله، من كان أعلم بسنة رسول - صلى الله عليه وسلم -: مالك أو أبو حنيفة؟ قال: مالك، لكن صاحبنا أَقْيَس. فقلت: نعم، ومالك أعلم بكتاب الله تعالى وناسخه ومنسوخه وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أبي حنيفة، فمن كان أعلم بكتاب الله وسنة رسوله كان أولى بالكلام". الثاني: عن "مناقب أحمد" لابن الجوزي (ص 498) من طريق "محمد بن يحيى بن آدم الجوهري قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال: سمعت الشافعي يقول: سمعت محمد بن الحسن يقول: صاحبنا أعلم، أم صاحبكم؟ قلت: تريد المكابرة أم الإنصاف؟ قال: بل الإنصاف. قلت: فما الحجة عندكم؟ قال: الكتاب والإجماع والسنة والقياس. قال: قلت: أنشدك، أصاحبنا أعلم بكتاب الله، أم صاحبكم؟ قال: إذ نشدتَني بالله ¬

_ (¬1) (ط): "ابن أبي" خطأ، وهو على الصواب في "التأنيب". (¬2) (ص 55 - 57).

فصاحبكم. قلت: فصاحبنا أعلم بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أم صاحبكم؟ قال: صاحبكم، قلت: فبقي شيء غير القياس؟ قال: لا، قلت: فنحن ندّعي القياس أكثر مما تدعونه، وإنما يقاس على الأصول فيعرف القياس، قال: ويريد بصاحبه مالك بن أنس". ثم نقل عن "كتاب ذم الكلام" (¬1) للهروي رواية أخرى من طريق الربيع عن الشافعي، وبين الألفاظ اختلاف كما هو شأن الرواية بالمعنى. ومثل ذلك يكثر في رواية الأحاديث النبوية، كما سترى أمثلته في "قسم الفقهيات" من هذا الكتاب، فما بالك بالحكايات! وأثبَتُ هذه الروايات وأولاها بأن يكون متنها هو اللفظَ الذي قاله الشافعي: روايةُ ابن أبي حاتم، لجلالته ولأنه أثبتَها في موضعين من كتابه بلا فرق، فدلَّ ذلك أنه أثبتها في أصله عند تلقيها من ابن عبد الحكم، ثم نقلها بأمانتها إلى كتابه المصنَّف. فأما بقية الروايات، فلم تُقيَّد في كتاب إلا بعد زمان، بعد أن تداولها جماعة من الرواة، وذلك مظنة للتصرُّف على جهة الرواية بالمعنى. نعم، رواية الخطيب من طريق الأبَّار عن يونس مقيّدة في مصنَّف للأبار يرويه الخطيب بذاك السند، لكن لم يقم دليل على أن الأبَّار أثبتها في أصله عند السماع، إلا أن رواية ابن [1/ 152] عبد البر دلت على ضبط الأبَّار. وإنما الظاهر أن يونس لم يكتب الحكاية عند سماعها من الشافعي، ولم يتقن حفظها، فاتسع في روايتها بالمعنى واحتاط. ¬

_ (¬1) (1/ 129 - 130).

وإيضاح ذلك: أن القصة مبنية على المفاضلة، والمفاضلة قد يعبَّر عنها بالجمع كأن يقال: "أيهما أعلم"، وقد يعبر عنها بالتفريق كأن يقال: "أما كان فلان كذا؟ "، ثم يقال في الآخر: "فهل كان فلان كذا؟ " على الوجه الذي يؤدي التفضيل. فرواية ابن عبد الحكم من طرقها الثلاث - وكذا رواية الربيع - سلكت طريق الجمع "أيهما أعلم". أما يونس فسلك طريق التفريق، فوقع في روايته عند الخطيب وابن عبد البر: "هل تعلم أن صاحبي - أو صاحبنا - عالم ... ؟ "، فلزم من هذا بحسب الظاهر أن يقال في المقابل: "فهل كان صاحبك جاهلًا؟ ". فجرى الأمر على ذلك كما في رواية الخطيب. وكأنَّ يونس أحسّ بالخلل في الظاهر، فقال في رواية الخطيب: "أو كلامًا هذا معناه". فأما في رواية ابن عبد البر، فقد يكون الاقتصار من يونس لشعوره بعدم إتقانه للقصة، فكما أنه لأجل ذلك لما حدَّث الأبَّار واستوفى القصة قال: "أو كلامًا هذا معناه"، فكذلك لما حدَّث محمد بن الربيع ومحمد بن سفيان اقتصر على أولها، وترك ما يتبين به الخلل. وقد يكون - وهو الظاهر - الاقتصار من عبد البر، وذلك لأسباب: الأول: أن بقية الحكاية ليس من مقصوده في الموضع الذي ذكرها فيه. الثاني: أن ذكر بقيتها مناف لمقصوده في "الانتقاء" من الإجمال والمجاملة. الثالث: أنه شعر أن في بقيتها خللًا بحسب الظاهر. أما قولي بأن الخلل بحسب الظاهر فقط، فلأن القرائن تدل أن المقصود بكلمة "جاهل" الجهل النسبي. وفي "فتح المغيث"

(ص 162) (¬1): "فقد يقولون: فلان ثقة أو ضعيف، ولا يريدون أنه ممن يحتجّ به ولا ممن يُرَدُّ، إنما ذاك بالنسبة لمن قُرِن معه ... قال عثمان الدارمي: سألت ابن معين عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه ... فقال: ليس به بأس. قلت: هو أحب إليك أو سعيد المقبري؟ قال: سعيد أوثق، والعلاء ضعيف. فهذا لم يُرد به ابن معين أن العلاء ضعيف مطلقًا، بدليل قوله: إنه لا بأس به. وإنما أراد أنه ضعيف بالنسبة لسعيد المقبري". وأما احتمال أن يكون الاقتصار من ابن عبد البر، فمثل ذلك جائز عند الجمهور في الحديث [1/ 153] النبوي، فكيف الحكايات! وفي "تدريب الراوي" (¬2): "قال البُلْقيني: يجوز حذف زيادةٍ مشكوك فيها بلا خلاف، وكان مالك يفعله كثيرًا تورُّعًا". وأما قولي: إن التغيير من يونس، فلوجهين: الأول: أن رواية ابن عبد الحكم بطرقها الثلاث ورواية الربيع قد دلت أن القصة مطوَّلة، وأن موضوعها المفاضلة بين مالك وأبي حنيفة، ورواية ابن عبد البر من طريق يونس لا تفي بذلك. الثاني: أن رواية ابن عبد البر قد وافقت رواية الخطيب في التغيير في ذِكْر مالك بلفظ "عالم" وذلك من يونس اتفاقًا، وهو مقتض - كما تقدم - أن يقال في مقابله "جاهل"، فبان أن هذا أيضًا من يونس. ولولا رواية ابن عبد البر لجاز أن يكون التغيير من الأبَّار، بأن يكون لما سمع القصة لم يُثبتها ¬

_ (¬1) (2/ 127 - 128). (¬2) (1/ 541)، وكلام البلقيني في كتابه "محاسن الاصطلاح" (ص 336 - 337).

في أصله، ولم يُتقن حفظها، فلما احتاج إلى ذكرها في مصنَّفه رواها بالمعنى، ولما أحسَّ بالخلل بحسب الظاهر قال: "أو كلامًا هذا معناه". فأما احتمال أن يكون التغيير من الخطيب خطأً، فباطل لأوجه: الأول: ما تقدم من الدلالة على أن التغيير من فوق. الثاني: أن الخطيب إنما يروي بذلك السند من كتاب معروف للأبار. الثالث: أن الخطيب لم يكن يتساهل في الرواية من حفظه. وفي "تذكرة الحفاظ" (ج 4 ص 4) (¬1): "قال الحميدي: ما راجعت الخطيب في شيء إلا أحالني على الكتاب، وقال: حتى أكشفه". وفي الصفحة التي تليها عن السِّلَفي: "سألت أبا الغنائم النَّرْسي عن الخطيب؟ فقال: جبل لا يُسأل عن مثله، ما رأينا مثله، وما سألته عن شيء فأجاب في الحال إلا يرجع إلى كتابه". وفيها (ج 3 ص 318) (¬2) عن عبد الوارث الشيرازي: "كنا إذا سألنا عن شيء أجابنا بعد أيام، وإن ألححنا عليه غضب، كانت له بادرة وحشة". الرابع: أن الخطيب يعلم عادة المحدثين في تتبُّع عثرات المحدِّث، مع أنه قد أوغر قلوب كثير منهم، فلو تساهل بالرواية من حفظه لِما أخذه من مصنَّف معروف - كما صنع الأستاذ ذلك في مواضع معتذرًا بما تقدم في ترجمة أحمد بن سلمان (¬3) - لقالوا له: هذا كتاب معروف [1/ 154] متداول، ¬

_ (¬1) (4/ 1203). (¬2) (3/ 1142). (¬3) (رقم 19).

وليس فيه كما ذكرت. فإن قال: قد قلت: "أو كلامًا هذا معناه" قالوا: لم تبيِّن أن هذا من عندك، ومع ذلك فعادتك التثبت الزائد حتى إذا سُئلت عن شيء أحلتَ على الكتاب، فكيف يُعقل أن تتساهل فيما تثبته في مصنَّفك! هذا، وقد علمنا أن الأئمة وثَّقوا الخطيب وثبَّتوه، وبالغوا في إطرائه، ولم يعثر له المتعنَّتون على أدنى خلل في الرواية. وقد علمت محاولة ابن الجوزي الغضَّ من الخطيب، فلم يظفر بشيء من باب الرواية، وإنما تعنَّتَ في أمور أُخر قد مرَّ ما فيها. فمحاولة الأستاذ أن ينسب التغيير إلى الخطيب وأنه تعمده تَناوُشٌ من مكان بعيد. قول الأستاذ: "أليس في روايتك: ما كان لصاحبك أن يتكلم ... فكيف تتصور ... ". أقول: قد يكون هذا من جملة التغيير، ويكون الصواب في رواية ابن الجوزي من طريق ابن عبد الحكم (¬1): "ما كان على صاحبكم أن يتكلم". لكن في رواية الهروي من طريق الربيع: "قد رأيت مالكًا، وسألته عن أشياء، فما كان يحل له أن يفتي". وقد مرّ بيان أن كلمة "جاهلًا" في رواية الخطيب المراد به الجهل النسبي، وحاصله أنه دون مالك في العلم بالكتاب والسنة. ومعروف عن أهل الرأي أنهم يؤكّدون أمر الرأي والقياس، ويقولون: مَن كان عنده من العلم بالكتاب والسنة ما يكفيه، وكان جيّد النظر في الرأي والقياس كان عليه أن يفتي. ومن كان ضعيف النظر في الرأي والقياس لم يكن له أن يفتي، وإن كان أعلم من الأول بالكتاب والسنة. ¬

_ (¬1) (ط): "عبد الحكيم" تحريف.

وقد أشار الشافعي في عدة مواضع من كتبه إلى زعم أهل العراق ضعفَ مالك في القياس. ففي "الأم" (ج 4 ص 6) (¬1): "أرأيت من نسبتم إليه الضعف من أصحابنا وتعطيل النظر وقلتم: إنما يتخرَّص، فيلقي ما جاء على لسانه ... ". وفيها (ج 7 ص 257) (¬2): "فسمعت بعض من يفتي منهم يحلف بالله: ما كان لفلان أن يفتي، لنقص عقله وجهالته؛ وما كان يحلّ لفلان أن يسكت [يعني] آخر من أهل العلم". على أن المحاجَّة والملاجَّة التي تبلغ بالحليم الوقور أن تنتفخ أوداجه وتنقطع أزراره مظنةٌ للإسراف في القول. قول الأستاذ: "على أن من اطلع على كتب محمد بن الحسن ... ". أقول: قد سلف أنه ليس في تلك الرواية ولا غيرها نفيُ محمد أن يكون لأبي حنيفة علمٌ بالكتاب والسنة، وإنما في الروايات كلها أنه دون مالك في ذلك. فأما العلم بالسنة، فيكفي [1/ 155] في الشهادة لذلك الموازنة بين ما روى محمد عن أبي حنيفة وما روى عن مالك. وأما العلم بالكتاب، فإن كان في كتب محمد ما ينافي اعترافه، فالأستاذ أحوج إلى أن يجيب عن هذا جوابًا معقولًا. ولقائل أن يقول: إن محمدًا لما ضايقه الشافعي، وسأله بالله عزَّ وجلَّ وناشده إياه، وشرط عليه الإنصاف = راجع نفسه، فلم يسعه إلا الاعتراف. ولعله جرى في بعض كتبه على الاسترسال في الميل إلى أبي حنيفة، والحق إن شاء الله تعالى أنه ليس في كتب محمد ما هو صريح في منافاة اعترافه. ¬

_ (¬1) (5/ 157). (¬2) (9/ 28) وما بين المعكوفين منه، وكان مكانه في (ط): "-".

قال الأستاذ: "ملازمة الشافعي لمالك إلى وفاته لم ترد إلا في خبر منكر ... والمعروت أنه صحبه إلى أن أتم سماع "الموطأ" منه في نحو ثمانية أشهر. وأما محمد بن الحسن، فقد لازم مالكًا ما يزيد على ثلاث سنين، فلا يتصور أن يسأل محمدُ بن الحسن الشافعيَّ عن مبلغ علم أبي حنيفة ومالك كما وقع في رواية الشيرازي؛ لأن أبا حنيفة لم يدركه الشافعي حتى يُتحاكم في علمه إليه، وكذلك لم يلازم مالكًا أكثر من محمد بن الحسن. فالمفاضلة بين الإمامين بصيغة صاحبنا وصاحبكم والحالة هذه غير مستساغة". أقول: الذي وقع في رواية الشيرازي هو الواقع في أثبَتِ الروايات، وهي رواية ابن أبي حاتم التي فاتت الأستاذ، مع زعمه أنه استقصى استقصاءً لا مزيد عليه. وكذلك هي في الوجهين الآخرين عن ابن عبد الحكم (¬1). والشافعي حجازي، فلعله عاد إلى المدينة بعد قراءته "الموطأ" وخروجه منها، بل لعله تردد مرارًا. وكان الشافعي يدين أوّلًا بقول مالك ويذبُّ عنه، فإن لم يكن تلقَّى جميع ذلك منه، فقد تلقى بعضه منه وبعضه من أصحابه، ومعرفة الشافعي بمبلغ علم أبي حنيفة يكفي فيها نظرة في كتبه وكتب أصحابه. وسؤال محمد للشافعي ليس على وجه التحكيم، بل على وجه السؤال عن رأيه. والشافعي حجازي كمالك كان أولًا يدين بقوله، ثم صار ربما خالفه مع انتسابه إليه، وحينئذٍ وقعت القصة. وإنما كثر خلافه لمالك بعد دخوله مصر، وذلك بعد موت محمد بن الحسن. ومحمدُ بن الحسن عراقيّ كأبي حنيفة، ينتسب إليه، ويتَّبعه في أصوله، ويذبُّ عن قوله غالبًا. فأي غبار على أن يقول محمد للشافعي: "صاحبكم" يريد مالكًا، و"صاحبنا" يريد أبا حنيفة؟ ¬

_ (¬1) (ط): "عبد الحكيم" خطأ.

فصل

[1/ 156] هذا، وقد أشار الأستاذ فيما علَّقه على "الانتقاء" لابن عبد البر (ص 24) (¬1) إلى الروايات واختلافها. ثم قال: "والمخلص من ذلك: النظر في الأسانيد، والمقارنة بينها، وضربُ ما يروى بغير إسناد عرض الحائط". ثم حاول عبثًا الرجوع عن هذا القضاء العدل في "التأنيب" (183) إذ قال: "ولعل الصواب في الأمر هو ما حكاه القاضي أبو عاصم محمد بن أحمد العامري في "مبسوطه" حيث قال في كتابه المذكور: إن الشافعي سأل محمدًا: أيما أعلم: مالك أو أبو حنيفة؟ فقال محمد: بماذا؟ قال: بكتاب الله. قال: أبو حنيفة. فقال: من أعلم بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: أبو حنيفة أعلم بالمعاني، ومالك أهدى للألفاظ"! منًى إن تكن حقًّا تكن أحسنَ المنى ... وإلَّا فقد عِشْنا بها زمنًا رَغْدا (¬2) فصل قال الخطيب (13/ 369) بعد ذكر المناقب: "قد سقنا عن أيوب السختياني وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة وأبي بكر بن عياش وغيرهم من الأئمة أخبارًا كثيرة تتضمن تقريظ (¬3) أبي حنيفة والمدح له والثناء عليه، والمحفوظُ عند نقلة الحديث عن الأئمة المتقدمين - وهؤلاء المذكورون (¬4) منهم - في أبي حنيفة خلاف ذلك". ¬

_ (¬1) (ص 56) وتعليقات الكوثري أبقاها محقق الطبعة الجديدة الشيخ أبو غدة بعجرها وبجرها. (¬2) البيت لرجل من بني الحارث، انظر "الحماسة": (2/ 144) لأبي تمام. (¬3) الأصل (تقريض) والتصويب من "الخطيب". [ن]. (¬4) (ط): "المذكورين" والمثبت من "التاريخ" بطبعتيه.

فأخذ الأستاذ يتكلم على الروايات ثم يقول: "وهذا من المحفوظ عند الخطيب" ويشنِّع. فأقول: قال ابن حجر في "النخبة" (¬1)، وقرره السخاوي في "فتح المغيث" (ص 82) (¬2): "فإن خولف - أي: الراوي - بأرجحَ منه لمزيد ضبطٍ، أو كثرة عددٍ أو غير ذلك من وجوه الترجيحات، فالراجح يقال له: المحفوظ، ومقابله وهو المرجوح يقال له: الشاذ". فالمحفوظ عندهم ما كان أرجح من مقابله، فنَقْد كلمة الخطيب إنما هي بالموازنة، فإن بان رُجْحان ما ذكره أخيرًا صحَّ كلامه حتى على فرض أن يكون الثاني ضعيفًا، فإن الضعيف أرجح من الأضعف. ولا يضرُّه أن يكون فيما ذكره أخيرًا رواية ساقطة توافق أخرى قوية، أو [1/ 157] تكون عمن لم يتقدم في المناقب عنه شيء. ولا يحتسب على الخطيب ولا له بما عند غيره، ولا يؤاخذ في أحوال الرواة بخلاف اعتقاده واجتهاده، فإن مدار صدق كلمته على الرجحان عنده. وقد كنتُ جمعتُ ما في الترجمة عن أيوب والسفيانين وأبي بكر بن عيّاش ونظرتُ فيها، ثم كرهت شرح ذلك هنا لطوله، وإن كان فيه إظهار حجة الخطيب وتصديق كلمته. وأقتصرُ في ترجمة الخطيب على هذا القَدْر، وأدَعُ الكلمات المفرقة في "التأنيب"، وسينكشف حال غالبها إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) (ص 71 - مع شرحها). (¬2) (1/ 230).

27 - أحمد بن علي بن مسلم أبو العباس الأبار.

27 - أحمد بن علي بن مسلم أبو العباس الأبَّار. في "تاريخ بغداد" (13/ 325): "أخبرنا محمد بن أحمد بن رزق، أخبرنا أحمد بن جعفر بن محمد بن سَلْم الخُتَّلي، حدثنا أحمد بن علي الأبَّار ... ". قال الأستاذ (ص 19): "والأبَّار من الرواة الذين كان دَعْلَج التاجر يُدِرُّ عليهم الرزق، فيدوِّنون ما يروقه للنكاية في مخالفيه في الفروع والأصول، فللأبَّار قلم مأجور ولسان ذَلْق في الوقيعة في أئمة أهل الحق. وكفى ما يجده القارئ في روايات الخطيب عنه في النيل من أبي حنيفة وأصحابه، لتعرف مبلغ عداوته وتعصبه، وروايةُ العدوّ المتعصب مردودة عند أهل النقد، كيف وهو يروي عن مجاهيل بل الكذابين في هذا الباب ما ستراه، فلا يحتاج القارئ الكريم في معرفة سقوط هذا الراوي إلى شيء سوى استعراض مروياته فيمن ثبتت إمامته وأمانته، فكفى الله المؤمنين القتال". أقول: في "تذكرة الحفاظ" للذهبي (ج 2 ص 192) (¬1): "الأبَّار الحافظ الإِمام أبو العباس أحمد بن علي بن مسلم محدِّث بغداد، يروي (¬2) عن مسدَّد، وعلي بن الجعد، وشيبان بن فرّوخ، وأمية بن بسطام، ودُحيم، وخلق كثير. حدَّث عنه دَعْلَج، وأبو بكر النجَّاد، وأبو سهل بن زياد، والقطيعي، وآخرون. قال الخطيب: كان [ثقة] حافظًا متقنًا حسن المذهب. قال جعفر الخُلْدي: كان الأبَّار أزهد الناس. استأذن أمّه في الرحلة إلى قتيبة، فلم تأذن له، فلما ماتت رحل إلى بلخ، وقد مات قتيبة، وكانوا يعزُّونه على هذا. قلت: ¬

_ (¬1) (2/ 639) وما بين المعكوفين منه. (¬2) في "التذكرة": "حدّث".

وله تاريخ وتصانيف. مات يوم نصف شعبان سنة تسعين ومائتين". [1/ 158] رأى الأستاذُ في الرواة عن الأبَّار دَعْلَج بن أحمد السِّجزي، ورأى في ترجمة دَعْلج أنه كان تاجرًا كثير المال كثير الإفضال على أصحاب الحديث وغيرهم، وأنه أخذ عن ابن خزيمة مصنفاته وكان يفتي بقوله = فاستنبط الأستاذ أن دَعْلجًا كان متعصِّبًا لابن خزيمة في الأصول - يعني العقائد - وفي الفروع، وابن خزيمة عند الأستاذ مجسِّم، وأبو حنيفة عنده منزِّه - التنزيه الذي يسمِّيه خصومُه تعطيلًا وتكذيبًا - فعلى هذا كان دعلج متعصبًا على أبي حنيفة للعقيدة وللمذهب معًا! ثم استنبط الأستاذ في شأن الأبَّار أنه جمع ما جَمَعَه في الغضِّ من أبي حنيفة تقرُّبًا إلى دعلج المُثْري المنفق، وأن دعلجًا كان يوسع العطاء للأبّار لأجل ذلك! فأقول: لا يخفى على عارف بالفقه والحديث أنه يكفي في ردِّ هذه التهمة أن يبيَّن أن الأبَّار ودَعْلجًا من الحفّاظ المعروفين، روى عنهما أئمة الحديث العارفون بالعدالة والرواية، ووثَّقوهما، وأثنوا عليهما. ولم يطعن أحد في عدالتهما ولا روايتهما، ولم يذكر أحد دعلجًا بتعصب، بل كان فضله وإفضاله كلمة وفاق. ولم يذكر أحدٌ الأبَّار بحرص على الدنيا كما ذكروا الحارث بن أبي أسامة وعلي بن عبد العزيز البغوي وغيرهما، بل وصفه شيخ الزهاد وراوية أخبارهم جعفر بن محمد بن نصير الخُلْدي بأنه كان أزهد الناس، كما سلف. ومع هذا فالأبَّار كان ببغداد، وسُكْنى دَعْلج بها، وحصولُ الثروة له، وما عُرف به من الإنفاق، وتجردُ ابن خزيمة للكلام في العقائد، وأخذُ دَعلجٍ كتبَه واتَّباعُه له = كلُّ ذلك إنما كان بعد وفاة الأبَّار بمدة. فإن أقدم من سُمِّي

من شيوخ الأبَّار مسدَّد المتوفى سنة 228، فعليّ بن الجعد المتوفى سنة 230، فأمية بن بسطام المتوفى سنة 231. وبذلك يظهر أن مولد الأبَّار كان بعد سنة 210، وتوفي سنة 290 كما مرَّ. ومولد دَعْلج سنة 260 بسجستان، وبها نشأ، ثم كان يطوف البلدان لطلب العلم والتجارة. ويظهر أن أول دخوله بغداد كان في أواخر سنة 282 أو أوائل التي تليها، فإن أعلى من سمع دعلج منه ببغداد - كما يؤخذ من ترجمته في "تذكرة الحفاظ" (¬1) - محمد بن رِبْح البزَّاز ومحمد بن غالب تمتام، وكانت وفاتهما سنة 283. وقد كان ببغداد الحارث بن أبي أسامة وهو أسنُّ منهما وأعلى إسنادًا وأشهر ذكرًا، وتوفي يوم عرفة سنة 282، ولم يذكروا لدعلج عنه روايةً، ولو أدركه ما فاته. فعلى هذا أول ما لقي دعلج الأبَّار سنة 283، وسنُّ الأبَّار يومئذ نحو [1/ 159] سبعين سنة، وسنُّ دعلج نحو ثلاث وعشرين سنة. ولم يكن دعلج حينئذ ذا ثروة ولا إنفاق, لأنه أقام بعد ذلك بمكة زمانًا، وسمع بها من الحافظ المعمَّر عالي الإسناد علي بن عبد العزيز البغوي المتوفى سنة 286. وكان البغويُّ بغاية الفقر حتى كان يُضطر إلى أخذ الأجرة على الحديث، ويقول - كما في "تذكرة الحفاظ" (ج 2 ص 179) (¬2) -: "يا قوم أنا بين الأخشبَين، وإذا ذهب الحُجَّاج نادى أبو قبيس قُعَيقعانَ يقول: من بقي؟ ¬

_ (¬1) (3/ 881 - 884). (¬2) (2/ 623).

فيقول: المجاورون. فيقول: أطبِقْ! ". وبقي على ذلك إلى أن مات، إذ لو كَفَّ قبل موته، لكان الظاهر أن يذكر ذلك تلامذتُه الأجلَّاء، وهم كثير، ولهم حرص على أن يدفعوا عن شيخهم ما عِيب به، فيقول واحد منهم أو أكثر: إنما كان يأخذ للضرورة ثم كفَّ عن ذلك. ولو كان دعلج تلك المدةَ قد اتسعت ثروته وإنفاقه لكان جديرًا بأن يعطي شيخه ما يخلَّصه من انطباق الأخشبَين والمشاحَّة على الدرهم والدرهمين. وفي "تاريخ بغداد" (ج 8 ص 390) قصة من سخاء دعلج، وفي آخرها أنه سُئل عن ثروته وإنفاقه، فقال: "نشأتُ وحفظتُ القرآن وسمعت الحديث، وكنت أتبزَّز، فوافاني رجل من تجار البحر، فقال لي: أنت دعلج بن أحمد؟ فقلت: نعم. فقال: قد رغبتُ في تسليم مالي إليك لتتَّجر فيه، فما سهَّل الله من فائدة فهي بيننا، وما كان من جائحة كانت في أصل مالي. وسلَّم إليّ البرنا مجات بألف ألف درهم ... ولم يزل يتردد إليّ سنة بعد سنة يحمل إليّ مثل هذا، والبضاعة تنمي، فلما كان في آخر سنة اجتمعنا فيها. قال لي: أنا كثير الأسفار في البحر، فإن قضى الله عليّ بما قضاه على خلقه، فهذا المال لك، على أن تتصدَّق منه، وتبني المساجد، وتفعل الخير". ففي أي سنٍّ ترى اشتهرت أمانة دعلج وديانته وحذقه بالتجارة، حتى يأتمنه تاجرٌ سمع به ولم يعرفه على مثل ذلك المال؟ ويكفيك النظر في عادات الناس، تعلمُ أن الرجل لا يكاد يرسخ في التجارة، ويتوفر رأس ماله، وتسخو نفسه بالإنفاق، إلا بعد الأربعين من عمره، فكيف إذا لاحظتَ أن دعلجًا لم يكن متجرِّدًا للتجارة، بل كان كثير التطواف لسماع الحديث؟ والأبَّار توفي سنة 290 أي: وسنُّ دعلج ثلاثون سنة, وعاش دعلج بعده فوق

ستين سنة، فإنه توفي سنة 351؛ والظاهر مما ذكروه من أنه أقام بمكة زمانًا أنه لم يسكن بغداد إلا بعد وفاة [1/ 160] الأبَّار بمدة = فبالنظر فيما تقدم يتبين أنه ليس هناك أدنى قرينة أن يكون دعلج وصل الأبَّار بفَلْس واحد. أما ابن خزيمة فإنه توفي سنة 311 أي: بعد وفاة الأبَّار بإحدى وعشرين سنة، وإنما تجرد للتأليف في العقائد في أواخر عمره. وفي "تذكرة الحفاظ" (ج 2 ص 262) (¬1) عن الحاكم عن جماعة: "لما بلغ ابن خزيمة من السن والرياسة والتفرُّد بهما ما بلغ، كان له أصحاب صاروا أنجم الدنيا .. فلما ورد منصور الطوسي كان يختلف إلى ابن خزيمة للسماع وهو معتزلي ... واجتمع مع أبي عبد الرحمن الواعظ وقالا: هذا إمام لا يسرع (؟) (¬2) من الكلام وينهى عنه، وقد نبغ له أصحاب يخالفونه وهو لا يدري، فإنهم على مذهب الكلابية (¬3) ... ". ثم ذكر كلامًا فيه أن ذلك الخلاف كان بعد ضيافةٍ عملها ابن خزيمة "في جمادى الأولى سنة تسع" يعني سنة 309، وكأن ذاك الخلاف هو الذي دعا ابن خزيمة إلى التأليف في العقائد. وعلى كلّ حال فالظاهر البيِّن أن أخذَ دعلجٍ كتبَ ابن خزيمة وإفتاءه بقوله إنما كان بعد وفاة الأبَّار بمدة. وإنما الثابت أن الأبَّار كان ساخطًا على أبي حنيفة سخطًا ما، كما يدل عليه جمعه ما جمع، وذلك شأن أهل الحديث في عصره كالبخاري ¬

_ (¬1) (2/ 724). (¬2) كذا وضعها المؤلف استشكالًا للكلمة وهي في "السير": (14/ 377): "لا يُسْرِع في ... ". وبه يستقيم السياق. (¬3) (ط): "الكلامية" خطأ، والمثبت من "التذكرة" و"السير".

28 - أحمد بن الفضل بن خزيمة.

ويعقوب بن سفيان وزكريا الساجي والعقيلي وغيرهم. فإن صح أن يسمَّى ذلك عداوةً وتعصبًا، فهي عداوة دينية لا تُرَدُّ بها الشهادة، فكيف الرواية؟ وقد مرَّ إيضاح ذلك في القواعد (¬1). قول الأستاذ: إن الأبَّار "يروي عن مجاهيل بل الكذابين". أقول: كلُّ من تكلم فيه الأستاذ ممن روى عنهم الأبَّار ترى تراجمهم في هذا الكتاب، فإن صح أن يكون منهم من هو مجهول أو كذاب، فلا اعتداد بروايته، ولا يضرُّ الأبَّار ذلك شيئًا؛ فقد روى السفيانان وابن جريج وابن المبارك وغيرهم عن محمد بن السائب، وهو من أشهر الناس بالكذب. قول الأستاذ: "فلا يحتاج القارئ الكريم ... ". أقول: الكريم من اتقى الله عزَّ وجلَّ، وثبوت الإمامة والأمانة كان في عصر الأبَّار وقبله محل النزاع، كما يعلم الأستاذ. والله أعلم. 28 - [1/ 161] أحمد بن الفضل بن خزيمة. راجع "الطليعة" (ص 91) (¬2). وفي "معجم الأدباء" (ج 4 ص 30) (¬3) عن ابن السمعاني: "والخطيب في درجة القدماء من الحفاظ والأئمة الكبار كيحيى بن معين وعلي ابن المديني .. وطبقتهم .. ". وراجع ترجمة أحمد بن إبراهيم (¬4) فيما مضى. ¬

_ (¬1) (1/ 67). (¬2) (ص 71). (¬3) (1/ 391). (¬4) (رقم 11).

29 - أحمد بن كامل القاضي.

29 - أحمد بن كامل القاضي. في "تاريخ بغداد" (13/ 374 [378 - 379]): "أخبرنا ابن الفضل، أخبرنا عبد الله بن جعفر، حدثنا يعقوب بن سفيان، حدثنا سليمان بن حرب. وأخبرنا ابن الفضل أيضًا، أخبرنا أحمد بن كامل القاضي، حدثنا محمد بن موسى البربري، حدثنا ابن الغلابي، عن سليمان بن حرب ... ". قال الأستاذ (ص 43): "وأحمد بن كامل القاضي فيه يقول الدارقطني: أهلكه العُجْب، كان متساهلًا في الرواية، ربما حدَّث من حفظه بما ليس عنده. كما رواه الخطيب". أقول: ذكرتُ في "الطليعة" (ص 69) (¬1) أن عبارة الدارقطني كما في "تاريخ بغداد" وغيره: " .. بما ليس عنده في كتابه". وهذا القيد "في كتابه" يدفع القدح، فإنه لا يلزم من عدم كون الحديث عند أحمد في كتابه أن لا يكون عنده في حفظه". فلأمْرٍ ما حذف الأستاذ ذاك القيد! أجاب الأستاذ في "الترحيب" (ص 51) بقوله: "ليس عادة النقاد أن يقولوا لما ليس في كتاب الراوي: إنه عنده، فلا يكون سقوط "في كتابه" مغيرًا للمعنى ولا مقصودًا، فهم الناقد [يعني المعلمي]، أم لم يفهم". أقول: لا يخفى أن الظاهر من قولهم "عنده" يتناول ما في كتابه وما في حفظه، وعادة النقَّاد جاريةٌ على هذا الظاهر. وتجد أمثلة من ذلك في "تهذيب التهذيب" (ج 1 ص 110) ولا حاجة إلى تتبع نظائر ذلك ما دام هو الموافق للظاهر، كما تقدم. وكفى دليلًا على ذلك تقييد الدارقطني بقوله: ¬

_ (¬1) (ص 52).

"في كتابه". فأما القصد فالله أعلم، ولكن القرائن تدل عليه كما مر في ترجمة أحمد بن سلمان (¬1). وعلى كل حال، فقد ثبت - كما اعترف به الأستاذ - أن كلمة الدارقطني فيما حدَّث به أحمد بن كامل: "وليس عنده في كتابه" لا تنفي أن يكون عنده في حفظه، بل قد تُثبت ذلك بمقتضى دليل الخطاب، وبذلك ثبت أنه لا قدح. غاية الأمر أن الدارقطني رأى أنه كان الأحوط لأحمد بن كامل أن لا يحدث بما ليس في كتابه، وإن كان يحفظه. وتَرْكُ الراوي للأحوط [1/ 162] لا يقدح فيه، بل إذا خاف أن يكون تركُه روايةَ ما حفظه ولم يثبته في كتابه الأصل كتمانًا للعلم وتعريضًا للضياع وجب عليه أن يرويه. وراجع ما تقدم في ترجمة أحمد بن جعفر بن حمدان (¬2). وأما قول الدارقطني: "أهلكه العُجْب". ففسرها الدارقطني بقوله: "فإنه كان يختار، ولا يضع لأحد من الأئمة أصلًا. فقيل له: كان جريري المذهب؟ فقال: "بل خالفه، واختار لنفسه، وأملى كتابًا في السنن وتكلم على الأخبار" (¬3). فحاصل هذا أنه لم يلتزم مذهبَ إمامٍ معيّن، بل كان ينظر في الحجج ثم يختار قول من رجح قولُه عنده. أقول: وهذا أيضًا ليس بجرح، بل هو بالمدح أولى. وقد قال الخطيب: ¬

_ (¬1) (رقم 19). (¬2) (رقم 12). (¬3) كلام الدارقطني في سؤالات السهمي (176).

30 - أحمد بن محمد بن الحجاج أبو بكر المروذي.

"كان من العلماء بأيام الناس والأحكام وعلوم القرآن والنحو والشعر وتواريخ أصحاب الحديث. قال ابن رزقويه: لم تر عيناي مثله". أقول: فيحق له أن ينشد: إن أكن مُعْجَبًا فعُجْبُ عجيبٍ ... لم يجد فوقَ نفسِه من مزيدِ (¬1) 30 - أحمد بن محمد بن الحجاج أبو بكر المرُّوذي. في "تاريخ بغداد" (13/ 411 [437]): "أخبرنا البرقاني، حدَّثني محمد بن العباس أبو عمر الخزّاز (¬2)، حدثنا أبو الفضل جعفر بن محمد الصندلي - وأثنى عليه أبو عمر جدًّا - حدثني المرُّوذي أبو بكر أحمد [بن محمد] بن الحجاج: سألت أبا عبد الله - وهو أحمد بن حنبل - عن أبي حنيفة وعمرو بن عبيد، قال: أبو حنيفة أشدّ على المسلمين من عمرو بن عبيد؛ لأن له أصحابًا". قال الأستاذ (ص 141): " ... المرُّوذي هو صاحب الدعوة إلى أن المقام المحمود هو إقعاد الرسول - صلى الله عليه وسلم - على العرش في جنبه تعالى، تعالى الله عما يقول المجسِّمة علوًّا كبيرًا ... فيا سبحان الله متى كان أحمد يقول: إن عمرو بن عبيد لا أصحاب له، وقد امتلأت البصرة وبغداد بأصحابه وأصحاب أصحابه، وهلم جرًّا، حتى أوقعوا أحمد في تلك المحنة، وكان أحمد يترحم على أبي حنيفة ويثني عليه، كما سبق من الخطيب (ص 327) ". ¬

_ (¬1) البيت للمتنبي في "ديوانه" (ص 21). (¬2) تصحفت في (ط) إلى "الخزندار". وتصحف "أبو عمر" في "التاريخ" إلى "أبو عمرو"، وهو على الصواب في الطبعة المحققة (15/ 567).

أقول: قد أفردت للاعتقاديات قسمًا من هذا الكتاب. والمقام المحمود قد اختلف السلف في تفسيره، وروى ابن جرير في "تفسيره" (ج 15 ص 92) (¬1): "عن مجاهد قال: يجلسه معه على عرشه"، ثم قال: "ما قاله مجاهد مِن أنّ الله يُقْعِد محمدًا - صلى الله عليه وسلم - على عرشه، قولٌ غير مدفوع صحته لا من جهة خبر ولا نظر .. ". وأطال في ذلك وأطاب، وقد أعطى الله رسوله في ليلة الإسراء ما أعطى، وقال له: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} [الضحى: 4]. ولم يُرِد أحمد أن عمرو بن عبيد لا أصحاب له البتة، وإنما أراد أنه ليس له أصحاب في مثل غُلوّه جادِّين في نشر شرِّهم. كان عمرو غاليًا جدًّا كما أشرت إليه في الاعتقاديات (¬2)، ولا أعرف أحدًا ممن لقيه وتأثر بكلامه كان غاليًا مثله. ولا أعرف أن عمرو بن عبيد تكلم إلا في القدر والوعيد، والمعتزلة الذين ينتسبون إليه لم يوافقوه في غلوه، ولكنهم تابعوا جهمًا في مسائل لم يتكلم فيها عمرو. والذين دعوا إلى المحنة كبِشر المريسي وابن أبي دواد معروفون بأنهم من أصحاب أبي حنيفة، واشتهروا بأنهم جهمية، ومسألة القول بخلق القرآن ليست من مسائل عمرو بن عبيد بل هي من مسائل جهم. نعم، إن المعتزلة المنتسبين إلى عمرو بن عبيد لاتِّباعهم له في الجملة وافقوا جهمًا فيها، ولعل من يقول: إن دعاة المحنة معتزلة اغترَّ بموافقتهم ¬

_ (¬1) (15/ 47 - دار هجر). (¬2) لم نجد الإشارة إليه في الاعتقاديات، وإنما سبقت في (ص 41).

31 - أحمد بن محمد بن الحسين الرازي.

المعتزلة في تلك القضية وقضايا أخرى تتفرع عن قول جهم. والصواب أن يُنظر في قولهم في القدَر والوعيد، فإن كانوا لا يوافقون المعتزلة فيهما، وهذا هو الظاهر، فهم جهمية ولا ينبغي أن يسمَّوا معتزلة. وقد كان لهم من إعلان ضلالتهم والدعوة إليها إلى أن جرى ما جرى ما لم يكن للمنتسبين إلى عمرو بن عبيد ما يقاربه. وكانوا ينسبون جهميَّتهم إلى أبي حنيفة، وفي روايات غيرهم عنه اضطراب. وقد روى الخطيب من طريق المرُّوذي عن أحمد أنه لم يَثبت عنده أن أبا حنيفة قال: إن القرآن مخلوق، فكأنه قَوِي عنده عدم الثبوت، فترحَّم، إن صح ما رواه الخطيب (ص 327)؛ وقوي عنده الثبوت مرةً، فشدَّد، والله أعلم. وعلى كل حال فصدقُ المرّوذي وأمانته وفضله كلمةُ وفاق قبل الأستاذ، كما يعلم من ترجمته في "تاريخ بغداد" (¬1) وغيره. 31 - أحمد بن محمد بن الحسين الرازي. يأتي مع محمود بن إسحاق (¬2) إن شاء الله تعالى. 32 - أحمد بن محمد بن حنبل أبو عبد الله الشيباني، إمام أهل السنة. قال أحمد الدورقي: [1/ 164] "من سمعتموه يذكر أحمد بسوء، فاتَّهِموه على الإِسلام". ومرَّ في ترجمة الخطيب (¬3) أن ابن معين بلغه أن ¬

_ (¬1) (4/ 423). (¬2) (رقم 242). (¬3) (ص 242).

الكرابيسي يتكلم في أحمد، فقال: "ومَن حسين الكرابيسي لعنه الله ... ". وعن سفيان بن وكيع قال: "أحمد عندنا محنة، من عاب أحمد عندنا فهو فاسق". وقال ابن أعْيَن: وإذا سمعتَ لأحمدٍ متنقَّصًا ... فاعلَمْ بأنَّ ستورَه ستُهَتَّكُ (¬1) عرض الأستاذ في مواضع بالطعن في عقيدة الإِمام أحمد، وتتبَّع أصحابه وأصحابهم طاعنًا في عقيدتهم؛ ليلجئ من يقرأ كتابه إلى اعتقاد الطعن في عقيدة أحمد نفسه. وقد أفردت البحث في العقائد بقسم خاص من هذا الكتاب، وهو بمثابة تتمة لترجمة الإِمام أحمد، وأقتصر هنا على ما عدا ذلك. قال الأستاذ (ص 4): "من تابع أحمد بن حنبل وذكره بكثرة الحديث فله ذلك، لكن كثرة الحديث بمجردها إذا لم تكن مقرونة بالتمحيص والغوص تكون قليلة الجدوى". أقول: نفيه عن أحمد التمحيص والغوص كذب مكشوف. فإن زعم الأستاذ أنه إنما أراد أن أبا حنيفة كان أبلغ في ذلك، قلنا: أما تمحيص الروايات لمعرفة الصحيح من السقيم، والراجح من المرجوح، والناسخ من المنسوخ؛ فأحمد أرجح الأئمة في ذلك, لأنه أوسعهم رواية، وأعلمهم بأحوال الرواة وعلل الحديث، وأعلمهم بآثار الصحابة والتابعين. وأما تمحيص النصوص لمعرفة معانيها، فأحمد من أحسن الأئمة ¬

_ (¬1) "تاريخ بغداد": (4/ 421) وفيه: "وإذا رأيت ... ". ونسبه في "سير النبلاء": (11/ 299) لمحمد بن عبد الله بن طاهر.

فصل

معرفةً لذلك. وهَبْ أن غيره قد يفوقه في هذا، فإنما يمحِّص الإنسان ما يعرفه، ويغوص فيما يَجده؛ فمن لم يبلغه النص، فأيَّ شيء يمحَّص؟ وفي أي شيء يغوص؟ وقد تقدم في ترجمة الخطيب (¬1) قول الشافعي لمحمد بن الحسن بعد اعتراف محمد بأن مالكًا كان أعلم بالكتاب والسنة والآثار من أبي حنيفة: "لم يبق إلا القياس، والقياس لا يكون إلا على واحد من هذه الأشياء، ومن لم يعرف الأصول على أيّ شيء يقيس؟ ". وقد ذكر الأستاذ (ص 139) ما نُقِل عن الشافعي: "أبو حنيفة يضع أول المسألة خطأ، ثم يقيس الكتاب كلَّه عليها". فقال الأستاذ: " ... ولأبي حنيفة بعض أبواب في الفقه من هذا القبيل، ففي كتاب الوقف أخذ بقول شريح القاضي وجعله أصلًا، ففرَّع عليه المسائل، [1/ 165] فأصبحت فروع هذا الكتاب غير مقبولة حتى ردَّها صاحباه. وهكذا فعل في كتاب المزارعة، حيث أخذ بقول إبراهيم النخعي، وجعله أصلًا، ففرَّع عليه الفروع ... ". أقول: فلم ينفعه في تلك الكتب تمحيصه وغوصه، إذ لم يطلع على ما ثبت من السنة وآثار الصحابة. فصل قال الأستاذ (ص 26): "وأما أحمد، فدونك "مسائل أبي داود"، ولا إسحاق بن منصور الكوسج"، و"عبد الله بن أحمد"؛ فيا ترى هل يمكنك أن تقرأ صفحة منها على صحة الأصول من غير أن تجابهك خطيئات في اللغة والنحو؟ ". ¬

_ (¬1) (ص 252).

فصل

أقول: أما أنا فلم أقف على نسخة من هذه المسائل (¬1)، فإن كان الأستاذ وقف عليها، فهل ما وقف عليه هو بخطوط هؤلاء الذين سمَّاهم؟ فإن لم تكن بخطوطهم ولا بخطوط تلامذتهم، بل تداولها النساخ والرواة، فمن أين يتجه أن يَعُدَّ ما فيها من خطأ هو من أحمد نفسه؟ ونحن نرى النساخ يغلطون كثيرًا حتى في كتابة القرآن، مع أنهم ينقلون من مصاحف واضحة الخط منقوطة مضبوطة. ولم أر أحدًا قبل الأستاذ حاول الطعن في عربيَّة أحمد، ولا نسب إليه شيئًا من اللحن، كما نُسب إلى غيره من الأئمة. فصل قال الأستاذ (ص 141): "تفقه أول ما تفقه على أبى يوسف القاضي وكتب عنه ثلاثة قماطر من العلم، كما في أوائل "سيرة ابن سيد الناس"، و"تاريخ الخطيب" (3/ 177) ". أقول: الذي في "تاريخ الخطيب" في ذاك الموضع: " ... إبراهيم بن جابر حدثني عبد الله بن أحمد قال: كتب أبي عن أبي يوسف ومحمد ثلاثة قماطر، فقلت له: كان ينظر فيها؟ قال: كان ربما نظر فيها، وكان أكثر نظره في كتب الواقدي". وهذا لا يُعطي أنه تفقه على أبي يوسف. فأما الكتابة عنه وعن محمد - إن صحَّت - فالظاهر أنه إنما كتب عنهما مما يرويانه من [1/ 166] الآثار، ومع ذلك لم يرو عن أحد منهما ولا بنى على روايته حكمًا. ¬

_ (¬1) وقد طبعت هذه المسائل جميعها ولله الحمد، وطبع غيرها من مسائل الإِمام كمسائل ابن هانئ، وبعض مسائل حرب الكرماني، ومسائل المرّوذي، وبعض الجامع للخلال.

فصل

وفي الحكاية أنه كان قليل النظر في كتبهما، كثير النظر في كتب الواقدي. هذا مع أنه من أسوأ الناس رأيًا في الواقدي، فلم يكن ينظر في كتبه ليعتمد عليه، بل رجاء أن يرى فيها الشيء مما يهمُّه، فيبحث عنه من غير طريق الواقدي، على حدِّ قول الله تبارك وتعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] فلم يأمر بإلغاء خبر الفاسق إذ لعله صادق، بل أمر بالتبيُّن، فخبر الفاسق يكون تنبيهًا يستدعي الالتفات إلى ما أخبر به، والاستعداد له، وعدم الاسترسال مع ما يقتضيه الأصل من عدمه، حتى يبحث عنه، فيتبيَّن الحال. فصل قال الأستاذ: "وكان يستخرج الأجوبة الدقيقة من كتب محمد بن الحسن، كما روى عنه إبراهيم الحربي على ما في "تاريخ الخطيب" (2/ 177) ". أقول: الراوي عن إبراهيم غير موثَّق، على أن محمدًا لمهارته في الحساب وشغفه بالدقة كان يفرض القضايا التي لا تكاد تقع، مما يحتاج إلى دقيق الحساب، فيضخِّم بها كتبَه. ومن عرف النصوص الشرعية وفهِمَها وعلِمَ الأحكام فهو الفقيه، فإن عرضت واقعةٌ يحتاج تفصيل الحكم فيها إلى حساب دقيق، فاستعان بحاسب، لم يكن في ذلك ما يُتوهم منه أنه تعلَّم الفقه من الحاسب. فصل ثم ذكر الأستاذ رواية أن أحمد: "كان يعيب أبا حنيفة ومذهبه". ثم قال: "يقول الملك المعظَّم: أنا أصدِّق هذا لأن أصحاب أحمد إلى يومنا هذا لم يفهم أحد منهم

"الجامع الكبير" ولا عرف ما فيه، ومتى وقف على ما فيه فلا شك أنه ينكره، فخلَّ عنك باقيَ كتب أصحاب أبي حنيفة". ثم قال الأستاذ: "ومن جهل شيئًا [أنكره و] (¬1) عاداه". [1/ 167] أقول: هذا موضع المثل: سألته عن أبيه ... فقال: خالي شعيب! (¬2) لم يعب أحمد كلَّ مسألة تكلم فيها أبو حنيفة، ولا عاب المسائل الحسابية الدقيقة التي ضخَّم بها محمدٌ كتبَه، وإنما عاب ما يراه مخالفًا للسنة. وهذا يتحقق عند أحمد، سواء أفَهِم أتباعُه "الجامع الكبير" لمحمد (¬3) وهل نظر فيه وتفهَّمه غيرهم من غير الحنفية؟ وقول الملك عيسى الذي تقدمت الإشارة إلى حاله في ترجمة الخطيب: "ومتى وقف على ما فيه فلا شك أنه (¬4) ينكره" مجازفة. نعم، ينكِر ما فيه مما يراه مخالفًا للسنة، وعسى أن يتوقف بعضهم في بعض المسائل الدقيقة. ¬

_ (¬1) سقطت من قلم المصنف رحمه الله تعالى، فاستدركتها من "التأنيب"، وقد سقطت منه في الموضع الآتي أيضًا، ولكنه تنبه لذلك هناك فاستدركه كما يدل عليه أثر الكشط، وفاته الاستدراك هنا. [ن] (¬2) ذكره الحصري في "جمع الجواهر" (ص 139) وأتبعه ببيت آخر هو: وما كنى عن أبيه ... إلا وثَمّ سُبيب (¬3) كذا، ولعله سقط "أم لم يفهموه". (¬4) (ط): "أن" وقد تقدمت على الصواب.

فصل

وقول الأستاذ: "ومن جهل شيئًا أنكره وعاداه" لا محل لها هنا، فإن دعوى أن أحمد كان يجهل طريق استدلال أبي حنيفة في القضايا التي ردَّ بها السنة دعوى باطلة، بل أكثر الناس يفهمون ذاك الاستدلال، ويعرفون بطلانه، كما ستراه في قسم الفقهيات. وسترى هناك بعض ما يُروى عن أبي حنيفة من مجابهة النصوص بتلك الكلمات التي تدل على ما تدل عليه، إن صحَّت. فصل قال الأستاذ: "وليس بقليل بين الفقهاء من لم يرض تدوين أقوال أحمد في عداد أقوال الفقهاء، باعتبار أنه محدَّث غير فقيه عنده، وأنَّى لغير الفقيه إبداء رأي متزن في فقه الفقهاء! ". أقول: يشير بهذا إلى أن ابن جرير لم ينقل أقوال أحمد في كتابه الذي ألَّفه في "اختلاف الفقهاء". ولَأن يُعاب بهذا ابن جرير أولى من أن يعاب به أحمد، ولكن عذره أنه - كما يُعْلَم من النظر في كتابه - إنما قصد الفقهاء الذين كانت قد تأسست مذاهبهم ورُتِّبت كتبهم. ولم يكن هذا قد اتضح في مذهب أحمد، فإنه رحمه الله لم يقصد أن يكون له مذهب ولا أتباع يعكفُون على قوله، وإنما كان يفتي كما يفتي غيره من العلماء، ويكره أن يُكتَب كلامه، فكانت فتاواه عند موته مبعثرةً بأيدي الطلبة والمستفتين، وأدركها ابن جرير كذلك، وإنما رتَّبها وجمَعها أبو بكر الخلَّال، وهو أصغر من ابن جرير بعشر سنين (¬1). ¬

_ (¬1) ولد ابن جرير سنة 224 وتوفي سنة 310، وولد الخلال سنة 234 أو بعدها بسنة، وتوفي سنة 311.

فصل

[1/ 168] وقول هذا الخائب: "وأنى لغير الفقيه ... " كلمةٌ أدَعُ جوابها إلى القارئ. وفقه أحمد أظهر وأشهر من أن يحتاج إلى ذكر شهادات الأكابر. ويغني في ذلك قول الشافعي: "خرجتُ من بغداد، وما خلَّفتُ بها أفقه ولا أزهد ولا أورع ولا أعلم من أحمد بن حنبل" (¬1). هذا رأي الشافعي في أحمد قبل أن يموت أحمد بنيِّف وأربعين سنة. فصل ذكر الأستاذ (ص 143) ما روي من قول أحمد: "ما قولُ أبي حنيفة والبعرُ عندي إلا سواء". قال الأستاذ: "المصدر المضاف من ألفاظ العموم عند الفقهاء، فيكون لذلك اللفظ خطورة بالغة؛ لأن أبا حنيفة يعتقد في الله تعالى ما يكون خلافه كفرًا أو بدعة شنيعة ... فيكون امتهان قوله في المسائل الاعتقادية والمسائل الفقهية التي ما نازعه فيها أحد من المسلمين محض كفر لايصدرعمن له دين". أقول: هذه مخاطرة فاجرة، ومحاولة خاسرة. أولًا: لأن من المعلوم قطعًا أن أحمد لا يمتهن الحق، وإنما روى الناس امتهان الحق عن غيره، كما ترى بعض ذلك في (قسم الفقهيات)، والعموم يُخَصُّ بما هو دون هذه الدلالة بكثير. ثانيًا: هَبْه سَلِم العمومُ، فمعلوم أن ما في تلك الكلمة إنما هو حكمٌ على القول من حيث هو قولُ ذاك القائل، فلا يتعدَّاها إلى حيثية أخرى. ¬

_ (¬1) انظر "تاريخ بغداد": (4/ 419).

ثالثًا: عموم القول لا يستلزم عموم التسوية للصفات. فإذا قيل: سواء زيدٌ والأسد، لم يُفهم منه إلا التسوية في بعض المعاني، وهي الشجاعة. فالتسوية بين القول والبَعَر إنما هي في عدم الاعتداد، فمعنى تلك الكلمة إنما هو أن أحمد لا يعتدُّ بقول أبي حنيفة دليلًا أو خلافًا، كما لا يعتدُّ بالبعر مالًا. فأما عدم اعتداده به دليلًا فلا غبار عليه، ولا يقول أحد: إن قول أبي حنيفة دليل شرعي يلزم مَن بعده من المجتهدين الأخذُ به. وأما عدم الاعتداد به خلافًا، فكما قاله بعضهم في قول داود الظاهري (¬1). فلو كلَّف الأستاذُ نفسَه الاتزانَ لَحمَلَ الكلمةَ على عدم الاعتداد دليلًا، ثم يقول: فإن أراد عدم الاعتداد بقول أبي حنيفة خلافًا، فغير مسلَّم له .... [1/ 169] هذا، وقد ثبت عمن لا يحصى من الأئمة من عظيم الثناء على أحمد ما لم يُثنوا به على أحد من الأئمة، كما يعلم من كتاب ابن الجوزي و"تاريخ بغداد" وغيرهما. وأكتفي ههنا ببعض ما في "تهذيب التهذيب" (¬2): قال إبراهيم بن شمَّاس: سمعت وكيع بن الجراح وحفص بن غياث يقولان: ما قدم الكوفةَ مثلُ ذاك الفتى - يعنيان أحمد. وقال القطان: ما قدم عليّ مثل أحمد. وقال مرّةً: حبر من أحبار الأمة ... وقال عبد الرزاق: ما رأيت أفقه منه ولا أورع. وقال أبو عاصم: ما جاءنا من ثمة أحدٌ غيره يحسن ¬

_ (¬1) يعني أنه لا يُعتدّ بقول الظاهرية، ذكره النووي غير مرة في كتبه, انظر "شرح مسلم": (7/ 92 و14/ 29). (¬2) (1/ 72 - 76).

33 - أحمد بن سعيد بن عقدة.

الفقه. وقال يحيى بن آدم: أحمد إمامنا. وقال الشافعي ... (قد مرَّ). وقال عبد الله [بن داود] الخُرَيبي: كان أفضل زمانه .... وقال قتيبة: أحمد إمام الدنيا. وقال أبو عبيد: لست أعلم في الإِسلام مثله .... وقال العباس بن الوليد بن مزيَد: قلت لأبي مُسْهِر: هل تعرف أحدًا يحفظ على هذه الأمة أمرَ دينها؟ قال: لا، إلا شابٌّ في ناحية المشرق - يعني أحمد. وقال بشر بن الحارث: أُدخِل الكِيرَ، فخرج ذهبًا أحمر. وقال حجاج بن الشاعر: ما رأت عيناي روحًا في جسدٍ أفضل من أحمد بن حنبل. وقال أحمد الدَّورقي: من سمعتموه يذكر أحمد بسوء، فاتَّهِموه على الإِسلام". 33 - أحمد بن سعيد بن عقدة. في "تاريخ بغداد" (13/ 387 [402 - 403]): " ... أحمد بن [محمد بن] (¬1) سعيد الكوفي حدثنا ... عن بشر بن مفضل قال: قلت لأبي حنيفة: نافع عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا". قال: هذا رجز. قلت: قتادة عن أنس أن يهوديًّا رضخ رأس جارية بين حجرين، فرضخ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - رأسه بين حجرين. قال: هذيان". وفيه (13/ 403 [426]): "عبد الله بن المبارك قال: من نظر في "كتاب الحيل" لأبي حنيفة أحلَّ ما حرَّم الله، وحرَّم ما أحلَّ الله". قال الأستاذ (ص 78): "وأحمد بن سعيد في السند هو ابن عُقْدة الكوفي، شيعي جَلْد. وكلام الخطيب فيه شديد، فيلزمه أن لا يعوِّل عليه". وقال (ص 122): "حاول بعض الكذابين رواية "كتاب الحيل" عن أبي ¬

_ (¬1) زيادة من "التاريخ".

حنيفة ... وهو أبو الطيب محمد بن الحسين ... وقد قال مطيَّن: إن محمد بن الحسين هذا كذاب بن كذاب. وأقرَّه [1/ 170] ابنُ عقدة ... وقد قوَّى ابن عدي أمر ابن عقدة وردَّ على الذين تكلموا فيه، بل قال السيوطي: ... من كبار الحفاظ، وثَّقه الناس، وما ضعَّفه إلا عصريٌّ متعصب". أقول: ما نقله عن السيوطي مجازفة (¬1). ولم أر في "الميزان" و"اللسان" ما نسبه إلى ابن عدي (¬2). وابن عقدة لا نزاع في سعة حفظه ومعرفته. قال البرقاني: "قلت للدارقطني: أيشٍ أكثرُ ما في نفسك من ابن عقدة؟ قال: الإكثار بالمناكير". وفي "الميزان" (¬3): "قرأت بخط يوسف بن أحمد الشيرازي: سئل الدارقطني عن ابن عقدة، فقال: لم يكن في الدين بالقوي، وأكذِّب من يتهمه بالوضع، إنما بلاؤه هذه الوجادات". وفيه: "قال ابن عدي: سمعت أبا بكر بن أبي غالب يقول: ابن عقدة لا يتديَّن بالحديث، لأنه كان يحمل شيوخًا بالكوفة على الكذب، يسوِّي لهم نسخًا ويأمرهم أن يرووها، ثم يرويها عنهم". وفي "اللسان" (¬4): "وقال ابن عدي أيضًا: سمعت أبا بكر الباغَندي يقول: كتب إلينا ابن عقدة: قد خرج شيخ بالكوفة عنده نُسَخ الكوفيين؛ فقدِمنا عليه، وقَصَدْنا الشيخ، فطالبناه بالأصول، فقال: ما عندي أصل، وإنما جاءني ابن عقدة بهذه النسخ، وقال لي: اروِ هذه يكون لك ذِكْر ¬

_ (¬1) كلام السيوطي في "التعقبات على الموضوعات" (ص 57). (¬2) ترجمه ابن عدي في "الكامل": (1/ 206) والذي فيه تأييد من اتهمه بتسوية النسخ ودفعها للشيوخ لروايتها وقد جرّب هو عليه ذلك. مع ثنائه عليه بالحفظ والمعرفة. (¬3) (1/ 138). (¬4) (1/ 605).

34 - أحمد بن محمد بن الصلت بن المغلس الحماني.

ويرحل إليك أهل بغداد. قال: وسمعت ابن مُكْرم يقول: كُنَّا (¬1) عند ابن عثمان بن سعيد في بيت، وقد وضع بين أيدينا كتبًا كثيرة، فنَزع ابن عقدة سراويله، وملأه منها سرًّا من الشيخ ومنَّا، فلما خرجنا قلنا: ما هذا الذي تحمله؟ فقال: دعونا من ورعكم هذا! ". وفيه أيضًا: "وقال ابن الهَرَواني (؟) (¬2): أراد الحضرمي أبو جعفر - يعني مُطيَّنًا - أن ينشر أن ابن عقدة كذَّاب، ويصنِّف في ذلك، فتوفي رحمه الله قبل أن يفعل". أقول: الذي يتحرَّر من هذه النقول وغيرها أن ابن عقدة ليس بعمدة، وفي سرقة الكتب، والأمر بالكذب، وبناء الرواية عليه = ما يمنع الاعتماد على الرجل فيما ينفرد به. وانظر ما يأتي في ترجمتي محمد بن حسين بن حميد، ومحمد بن عثمان (¬3). 34 - أحمد بن محمد بن الصَّلْت بن المغلِّس الحِمَّاني. وقد ينسب إلى جده وإلى أبي جده، ويقال له: أحمد بن عطية، وغير ذلك. أخرج الخطيب من طريقه في مناقب أبي حنيفة عدة حكايات، ثم أخرج عنه (13/ 419 [449 - 450]) حكايتين: ¬

_ (¬1) (ط): "لنا" تصحيف. (¬2) كذا وضع المؤلف علامة الاستفهام شكًّا في الاسم، وهو صحيح على الصواب، وهو محمد بن عبد الله بن الحسين أبو عبد الله القاضي الجعفي الكوفي (ت 402). ترجمته في ""تاريخ بغداد": (5/ 472 - 473)، و"الجواهر المضيئة": (3/ 186 - 187). وانظر ضبط (الهرواني) في "اللباب": (3/ 289). (¬3) (رقم 202 و219).

[1/ 171] الأولى: قوله: "سمعتُ يحيى بن معين وهو يُسأل عن أبي حنيفة: أثقةٌ هو في الحديث؟ قال: نعم، ثقة ثقة، كان والله أورع من أن يكذب، وهو أجلُّ قدرًا من ذلك". الثانية: قوله: "سُئل يحيى بن معين: هل حدَّث سفيان عن أبي حنيفة؟ قال: نعم، كان أبو حنيفة ثقة صدوقًا في الحديث والفقه، مأمونًا على دين الله". ثم قال الخطيب: "أحمد بن الصَّلْت هو أحمد بن عطية، وكان غير ثقة". قال الأستاذ (ص 165): "سبق أن تحدثتُ عن أحمد بن الصَّلْت هذا في هامش (ص 353) من "تاريخ الخطيب" ... ". أقول: عبارته هناك: "وعنه يقول ابن أبي خيثمة لابنه عبد الله: اكتب عن هذا الشيخ يا بني، فإنه كان يكتب معنا في المجالس منذ سبعين سنة. وفي شيوخه كثرة، وقد أخذ عنه أناس لا يحصون من الرواة. وتحامل ابنُ عديّ عليه كتحامله على البغوي، ولعل ذنبه كونه ألَّف في مناقب النعمان. وحديث ابن جزء لم ينفرد هو بروايته [بل له متابع] (¬1). والكلام في حقه طويل الذيل، ومن الغريب أنه إذا طعن طاعن في رجل تجد أسرابًا من ورائه يردِّدون صدى الطاعن، أيًّا كانت قيمة طعنه". أقول: أما الحكاية عن ابن أبي خيثمة، فأعادها الأستاذ في "التأنيب" (ص 167) ثم أتبعها بقوله: "وهذا مما يغيظ الخطيب جدًّا، ويحمله على ركوب كلِّ مركب للتخلُّص منه بدون جدوى". ¬

_ (¬1) مستدركة من هامش "التاريخ".

وقد نعيتُ على الأستاذ في "الطليعة" (ص 93) (¬1) أنه: "يتعارف المجاهيل ويحتج بروايتهم إذا كانت روايتهم توافق هواه"، ثم ذكرت (ص 93) هذه الحكاية، وقلت: "كذا قال، ثم لم يبيِّن ما يُعرف به أولئك الذين جهلهم الخطيب". فتعامى الأستاذ في "الترحيب" عن ذلك، فلم يذكر فيه شيئًا! فلننظر في سند هذه الحكاية أصحيح هو؟ حتى يسوغ للأستاذ أن يجزم بقوله: "يقول ابن أبي خيثمة". وماذا قال الخطيب في هذه الحكاية؟ أرَكِبَ كلَّ مركبٍ للتخلص منها بدون جدوى؟ قال الخطيب (ج 4 ص 209): "أخبرنا علي بن المحسِّن التنوخي، حدثني أبي، ثنا أبو بكر محمد بن [1/ 172] حمدان بن الصباح النيسابوري بالبصرة، حدثنا أبو علي الحسن بن محمد الرازي، قال: قال لي عبد الله بن أبي خيثمة: قال لي أبي أحمد بن أبي خيثمة: اكتب عن هذا الشيخ يا بُني، فإنه يكتب معنا في المجالس منذ سبعين سنة - يعني أبا العباس أحمد بن الصلت المغلِّس الحِمَّاني" قال الخطيب: "قلت: لا أُبعِد أن تكون هذه الحكاية موضوعة، وفي إسنادها غير واحد من المجهولين، وحالُ أحمد بن الصلت أظهر من أن يقع فيها الريبة". فلندع الجملة الأولى والثالثة، ولننظر في الوسطى، هل جميع رجال السند معروفون ثقات، حتى يسوغ للأستاذ أن يعوِّل بدون جدوى، وأن يجزم بنسبة ذاك القول إلى ابن أبي خيثمة؟ أما عليّ بن المحسِّن وأبوه ¬

_ (¬1) (ص 72).

فمعروفان. فمَن أبو بكر محمد بن حمدان بن الصباح النيسابوري؟ ومَن شيخه؟ وهل يُعرف لابن أبي خيثمة ابنٌ اسمه عبد الله؟ أما الأول ففي "لسان الميزان" (ج 5 ص 147) (¬1): "محمد بن حمدان بن الصباح النيسابوري عن الحسن بن محمد الرازي، وعنه علي بن الحسن (¬2) (صوابه: المحسِّن) التنوخي. قال الخطيب: مجهول". ولم يتعقبه بشيء. نعم، عرفنا محمد بن حمدان هذا بأنه يروي فيُكثِر عن ابن الصلت صاحب هذه الترجمة، وعنه التنوخي. أخرج الخطيب في مناقب أبي حنيفة بهذا الطريق عدة حكايات منها في (ص 339) مرتين، وفي (ص 340 وص 343 وص 345 (¬3) وص 346 وص 353 وص 358) وأكِلُ الاستنتاجَ إلى القارئ. وأما الثاني: ففي "لسان الميزان" (ج 2 ص 253) (¬4): "الحسن بن محمد بن نصر بن عثمان بن الوليد بن مدرك الرازي أبو محمد (كذا) المتطيب (¬5)، قال الحاكم: قدم نيسابور سنة 337، وكان يحدِّث عن ¬

_ (¬1) (7/ 104). (¬2) الذي وقع في "اللسان" بطبعاته المتعددة: "الحسن بن علي" فتصحّف "المحسِّن" إلى "الحسن". ويبدو أن الاسم انقلب على المؤلف فالثابت في "اللسان": "المحسّن بن علي" وهو الذي يروي عن محمد بن حمدان كما في الأسانيد التي أشار إليها المؤلف، وليس ابنه "عليّ بن المحسّن". (¬3) في (ط): (ص 443 وص 445) خطأ. (¬4) (3/ 118 - 119). (¬5) كذا في (ط) تبعًا للطبعة التي ينقل منها المؤلف، وفي المحققة: "المتطبّب".

الكُدَيمي وأقرانه بعجائب. فمنها: ... " فذكر حكايةً. قال ابن حجر: "قلت: هذا لا يحتمله الكُدَيمي وإن كان ضعيفًا. وروى الخطيب في "تاريخه" عن علي بن الحسن (كذا) بن علي التنوخي، عن أبيه، عن أبي بكر بن أحمد (كذا) (¬1) النيسابوري، عن الحسن بن محمد الرازي، عن محمد (كذا) (¬2) بن أحمد بن أبي خيثمة حكاية باطلة، وقال: في إسنادها غير واحد من المجهولين، وعنى بذلك الحسنَ بن محمد والراويَ عنه". أقول: وللحسن هذا عجائب في "مناقب أبي حنيفة" للموفَّق. [1/ 173] وأما الثالث: فلم أر أحدًا ذكر أن لأحمد بن أبي خيثمة ابنًا اسمه عبد الله، وما سبق عن ابن حجر مِن جعله بدل عبد الله "محمد". فهل وقع في نسخته من تاريخ الخطيب "محمد"، أم وقع فيها "أبو عبد الله" وهي كنية محمد، أم وقع فيها - كما في النسخ المطبوع عنها - "عبد الله"، ولكنه ظن أن الصواب "أبو عبد الله"، وأن كلمة "أبو" سقطت من الناسخ؟ الأشبه هذا الثالث، ولو تمَّ هذا لنجا الثالث من الجهالة والضعف، فإن أبا عبد الله محمد بن أحمد بن أبي خيثمة معروف ثقة، لكن وجدت الحكاية في "تهذيب تاريخ ابن عساكر" (ج 2 ص 57) وفيها "عبد الله"، فضعُفَ ما ظنَّه ابن حجر. هذا حال الإسناد، فكيف ترى حال الأستاذ! وهَبْ أن الحكاية صحَّت عن أحمد بن أبي خيثمة، فأيّ شيء فيها؟ لم ¬

_ (¬1) هذا الموضع والذي سبقه وقعا في الطبعة المحققة على الصواب "بن المحسن ... أبي بكر بن حمدان". (¬2) وهو كذلك في الطبعة المحققة.

يُعرف ابن أبي خيثمة بالتوقِّي عن الرواية عن الضعفاء, فضلًا عن الكتابة عنهم. بل عامة المحدِّثين يكتبون عن كل أحد، إلا أن منهم أفرادًا كانوا يتقون أن يرووا إلا عن ثقة، ويكتبون عن الضعفاء للمعرفة، كما مر في ترجمة الإمام أحمد (¬1) مِن نَظَرِه في كتب الواقدي. وأحمد بن أبي خيثمة وابنه محمد، لو اتجه ظنُّ ابن حجر، كانا مشتغِلَين بجمع "التاريخ"، والتاريخ يحتاج إلى موادَّ وتسامحٍ في الرواية عن الضعفاء، فلو صحت القضية لما كان فيها إلا شهادة ابن أبي خيثمة لابن الصلت أنه كان يكتب معهم من زمان طويل. وبذلك علَّل أمرَ ابنِه بالكتابة عنه، على ما جرت عادتهم من الحرص على الكتابة عن المعمَّر، ولو كان ضعيفًا، رغبةً في العلوِّ. وعلى كل حال فليس فيها توثيق. قول الأستاذ: "وفي شيوخه كثرة". أقول: سيأتي كلام الأئمة فيه، وبه تَعرف أن من كان في مثل حاله، فالناس كلهم شيوخه! قوله: "وقد أخذ عنه أناس لا يحصون". أقول: أما المذكورون في ترجمته فقليل، ومع ذلك فليس فيهم من عُرِف بأنه لا يروي عن الساقطين. وهذا الكلبي أشهر الرواة بالكذب، روى عنه السفيانان وابن جريج وابن المبارك وغيرهم من الأئمة، فلم ينفعه ذلك. [1/ 174] قوله: "وتحامل عليه ابنُ عدي كتحامله على البغوي". ¬

_ (¬1) (ص 276).

أقول: لا سواء، البغوي - وهو عبد الله بن محمد بن عبد العزيز تأتي ترجمته (¬1) - تحامل عليه ابن عدي بما ليس بجرح، ثم عاد فأثنى عليه، ووثَّقه الناس. وابن الصلت جَرَحه ابنُ عدي جرحًا صريحًا مفسّرًا، وجرحه الناس كما يأتي، ولم يثن عليه أحد. ومع ذلك فقد رجع الأستاذ حين احتاج إلى الكلام في البغوي، فلم يعدَّ كلام ابن عدي فيه تحاملًا، بل بنى على ذاك التحامل، وهوَّل، ورمى البغوي بالكذب! قوله: "ولعل ذنبه كونه ألَّف في مناقب النعمان". أقول: لم يخب رجاء الأستاذ، فإن من ذنب ابن الصلت عندهم أنه خلط في المناقب، كما يأتي. وذلك واضح لكل متدبر، وسيأتي أن أعلى الجارحين لابن الصلت حافظ حنفي! قوله: "وحديث ابن جزء لم ينفرد هو بروايته". وزاد في "التأنيب" (ص 166): "بل أخرجه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (ج 1 ص 45) بسند ليس فيه ابن الصلت". أقول: في الموضع المذكور من كتاب "العلم" (¬2): "وأُخبِرنا أيضًا عن أبي يعقوب يوسف بن أحمد الصيدلاني المكي قال: حدثنا أبو جعفر محمد بن عمرو بن موسى العُقَيلي وأبو علي عبد الله بن جعفر الرازي ومحمد بن سماعة، عن أبي يوسف قال: سمعت أبا حنيفة رحمه الله يقول: حججتُ مع أبي سنة ثلاث وتسعين ولي ست عشرة سنة .. ". ذكر ¬

_ (¬1) (رقم 133). (¬2) (1/ 203 - 204). وسلمت الطبعة المحققة من الأخطاء التي سيذكرها المؤلف.

القصة. فيُنظر في المخبِر لابن عبد البر مَن هو؟ وفي الصيدلاني، فإني لم أجد من وثَّقه. ومع هذا، ففي بقية السند تحريف لم يشر إليه الأستاذ رجاء أن يغترَّ به من لا معرفة له! فإن الصيدلاني لم يدرك ابن سماعة، والعقيلي لم يدرك أبا يوسف ولا ابن سماعة، وعبد الله بن جعفر هذا قد جاء - كما يأتي - هذا الخبر عنه عن أبيه عن ابن سماعة. فصواب هذه العبارة كما يعلم من "الجواهر المضيئة في تراجم الحنفية" للقرشي (1/ 273) (¬1): " ... العقيلي ثنا أبو علي عبد الله بن جعفر الرازي ثنا (أو: عن) محمد بن سماعة .. ". ترجم القرشيُّ عبدَ الله بن جعفر هذا أخذًا من هذا الموضع في "كتاب العلم" فقط، كما يتضح من مراجعة كلامه. ولما شعر أن عبد الله بن جعفر هذا لا يُدرى مَن هو، رأى حقًّا عليه أن يموِّه، فخلع عليه لقب "الإمام"! وفي "مناقب أبي حنيفة" للموفق (1/ 25) عن الجعابي: [1/ 175] "حدثني أبو علي عبد الله بن جعفر الرازي من كتاب فيه حديث أبي حنيفة، حدثنا أبي، عن محمد بن سماعة، عن أبي يوسف قال: "حججت مع أبي سنة ست وتسعين ولي ست عشرة سنة ... " وذكر القصة. زاد في السند كما مرَّ، وقال: "سنة ست وتسعين" وفي كتاب "العلم" و"الجواهر المضيئة" عنه: "سنة ثلاث وتسعين". تارةً حاول أن يقرِّب التاريخ من وفاة عبد الله بن الحارث، وتارةً راعى المعروف من مولد أبي حنيفة. ¬

_ (¬1) (2/ 300 - 301).

وفي "لسان الميزان" (¬1)، و"ذيل اللآلئ" (¬2) للسيوطي من طريق أبي علي الحسن بن علي الدمشقي، عن عبد العزيز بن حسن الطبري، عن مكرم بن أحمد، عن محمد بن أحمد بن سماعة، عن بشر بن الوليد، عن أبي يوسف، فذكر القصة. قال في "اللسان": وهو باطل أيضًا. وللحسن بن علي الدمشقي ترجمة في "لسان الميزان" (2/ 236) (¬3). وفي "شرح مسند أبي حنيفة" (¬4) لعلي قاري: "الأقرب ما ذكره أبو منصور البغدادي بإسناده عن بلال بن أبي العلاء عنه أنه قال: حملني أبي على عاتقه، وذهب إلى عبد الله بن الحارث ... ". ولا أدري ما ذاك السند؟ ومَن بلال بن أبي العلاء؟ وربما كان عند القوم غير هذا! قال الأستاذ: "فثبت أنه لم ينفرد بروايته, فيجب أن تزول نقمة الذهبي عليه بزوال سببها". أقول: هذا إذا كان سند المتابعة مقبولًا. أما إذا كان ساقطًا، فلا يدفع التهمة، بل يقال: بعضهم وضع، وبعضهم سرق أو وهِم أو لُقِّن أو أُدخل عليه، على أنه إذا كان مقبولًا والمروي منكرًا، فإن الراوي يبرأ وتلصق التهمة بمن فوقه. ومع ذلك، فلا ينفع ابنَ الصلت زوالُ تَبِعَة ذلك الحديث عنه إلى ¬

_ (¬1) (1/ 613). (¬2) (ص 110). وقال: وأخرجه ابن الجوزي في الواهيات وقال: الحماني كان يضع الحديث. (¬3) (3/ 91). (¬4) (ص 586).

[مَن] (¬1) فوقه, لأن له بلايا أُخر لا تحصى. قال الأستاذ: "ولكن لا يمكنهم أن يسامحوه, لأنه بروايته الحديث المذكور بطريق أبي حنيفة يثبت أن أبا حنيفة من التابعين حتى عند من لا يكتفي بالمعاصرة أو الرؤية في ذلك، وهذا مما لا يمكن مسامحته والصفح عنه ... ". أقول: لخصمك أن يقول: أنت أحقُّ بالتهمة وأهلُها، بل الأمر أوضح من أن يسمى تهمة. ومع ذلك لو جئت بحجة صحيحة لوجب قبولها، فكيف ترجو أن تُردَّ حججُ الأئمة باتهامك لهم؟ وفي "التأنيب" (ص 165) بعد الإشارة إلى قول الذهبي في هذا الحديث: "هذا كذب، [1/ 176] فابن جزء مات بمصر، ولأبي حنيفة ستُّ سنين"، قال الأستاذ: "تغافل الذهبي عن أن في مواليد رجال الصدر الأول ووفياتهم اختلافًا كثيرًا لتقدُّمهم على تدوين كتب الوفيات بمدة كبيرة، فلا يُبَتُّ في أغلب الوفيات برواية أحد النقلة. وها هو أُبيّ بن كعب رضي الله عنه من أشهر الصحابة، اختلفوا في وفاته من سنة 18 إلى سنة 32، والذهبي يُصرُّ على أن وفاته سنة 22 في كتبه جميعًا، مع أنه عاش إلى سنة 32، وشارك جمع القرآن في عهد عثمان كما يظهر من طبقات ابن سعد. وأين منزلة ابن جزء من منزلة أُبيّ حتى يُبَتَّ بوفاةٍ تُروى له عن ابن يونس وحده؟ وقد قال الحسن بن علي الغزنوي: إن وفاته سنة 99، كما في "شرح المسند" لعلي القاري، ولعل ذلك هو الصواب في وفاته". أقول: الجواب من وجوه: الأول: وقوع الاختلاف في ذلك في الجملة إنما هو بمنزلة وقوعه في ¬

_ (¬1) زيادة يستقيم بها السياق.

أدلَّة الأحكام، لا يبيح إلغاء الجميع جملة؛ بل يؤخذ بما لا مخالف له، وينظر في المتخالفين فيؤخذ بأرجحهما، فإن لم يظهر الرجحان أُخِذ بما اتفقا عليه. مثال ذلك: ما قيل في وفاة سعد بن أبي وقاص سنة 51، 54، 55، 56، 57، 58. فإن لم يترجَّح أحدها أُخِذ بما دلَّ عليه مجموعُها أنه لم يعش بعد سنة 58. فإن جاءت رواية عن رجل أنه لقي سعدًا بمكة سنة 65 مثلًا استنكرها أهل العلم، ثم ينظرون في السند، فإذا وجدوا فيه من لم تثبت ثقته حملوا عليه. فابن جَزء قيل في وفاته سنة 85, 86, 87، 88، وأرجحها الثاني؛ لأنه قول ابن يونس مؤرخ مصر، وهي مع ذلك مجتمعة على أنه لم يعش بعد سنة 88. فلما جاءت تلك الرواية أنه لقي بمكة سنة 96 أو 98 استنكرها أهل العلم، ووجدوا أحقَّ مَن يُحمل عليه ابن الصلت. فأما قول الغزنوي المتأخر: إن ابن جزء توفي سنة 99، فهو من نمط ما في "المناقب" للموفق (ج 1 ص 26) روى من طريق الجِعابي القصة، وفيها أن اللقاء كان سنة 96، ثم حكى عن الجِعابي أن ابن جزء مات سنة 97 = فهذان القولان مع تأخر قائليهما إنما حاولا بهما تمشية القصة. رأيا أن فيها أن اللقاء كان بالموسم، وأن المعروف في وفاة ابن جزء أنها بمصر بقرية يقال لها "سَفْط القُدور" كما جاء عن الطحاوي، وأن من شَهِد الموسم لا يمكن أن يصل إلى مصر إلا في السنة التالية [1/ 177] = فبنيا على ذلك، ولم تمكنهما الزيادة على ذلك لئلا تفحُش المخالفة لما نُقِل عن المؤرخين جدًّا. الوجه الثاني: ابن جَزء أقرب إلى عصر تدوين الوفيات من أُبي بن كعب، ففي "فهرست ابن النديم" (ص 281) أن لليث بن سعد تاريخًا،

وتواريخ المحدثين مدارها على بيان الوفيات، والليث ولد سنة 94، ومات سنة 175، ومن أشهر شيوخه يزيد بن أبي حبيب المتوفى سنة 128، وهو أشهر الرواة عن ابن جَزء. وفي "تدريب الراوي" (¬1) في شرح النوع الستين: "وقال سفيان الثوري: لما استعمل الرواة الكذبَ استعملنا لهم التاريخ" والثوري ولد سنة 97، ومات سنة 161. فيظهر أن البحث والسؤال عن الوفيات قد شُرع فيه في حياة الرواة عن ابن جزء، وهكذا غيره ممن تأخرت وفاته، فلم يكن بين الباحث وبين الصحابي إلا رجل واحد، يسأله فيُخبره عما أدركه؛ بخلاف الحال في متقدمي الوفاة كأُبيّ بن كعب. الوجه الثالث: كان الصحابة في عهد أُبيّ بن كعب متوافرين، فلم يكن لطلبة العلم كبير حرص على لقائه؛ لأنهم يجدون غيره من الصحابة، ويرون أنه إن مات لم يَفُتهم شيء لبقاء كثير من الصحابة. وهو لعلمه بذلك لم يكن يبذل نفسه، حتى نُسِب إلى شراسة الخلق، فلعله لم يكن يتجشم لقاءَه إلا ذوو الأسنان. فإذا نظرنا في الرواة عنه، فلم نجد فيهم إلا من كان رجلًا في عهد عمر؛ لم يكن في ذلك دلالة بينة على أنه توفي في عهد عمر. فأما ابن جزء فكان آخر الصحابة بمصر، فطلبةُ العلم بغاية الحرص على السماع منه؛ لأنهم يرون أنه إن مات لم يجدوا صحابيًّا آخر، ونزلوا طبقة عظيمة. وهو لعلمه بذلك يبذل نفسه لتحديث من يريد أن يسمع منه، صغيرًا كان أم كبيرًا، كما كان سهل بن سعد يقول: "لو متُّ لم تسمعوا أحدًا يقول: ¬

_ (¬1) (2/ 866). أخرجه عنه ابن عدي في "الكامل": (1/ 84).

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" كما في ترجمته من "الاستيعاب" (¬1)، يحرِّضهم بذلك - والله أعلم - على السماع منه. ولما مات أنس قال مورِّق العجلي: ذهب اليوم نصف العلم. قيل: كيف ذاك؟ قال: كان الرجل من أهل الأهواء إذا خالَفَنا في الحديث قلنا: تعال إلى من سمعه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم (¬2). فالظن بمن كان من طلبة العلم بمصر أنه إذا بلغ سنَّ الطلب في حياة ابن جزء كان أهمَّ شيء عنده أن يلقاه ويسمع منه. فلو عاش ابن جزء إلى سنة 97 أو 99 لكان في الرواة عنه من لم يبلغ سنَّ الطلب إلا قبل ذلك بقليل. ولو كان فيهم من هو كذلك لاشتهر أمره لعلو [1/ 178] سنده، ولما خفي على مثل ابن يونس وغيره ممن ذكر وفاة ابن جزء. وقد تتبعتُ الرواة عن ابن جزء، فإذا آخرهم وفاةً عبيد الله بن المغيرة بن معيقيب توفي سنة 131، وقد روى عبيد الله أيضًا عن ناعم مولى أم سلمة ووفاة ناعم سنة 80 على ما قيل، ولم يذكروا خلافه. الوجه الرابع: لو حجَّ ابن جَزء سنة ست وتسعين أو ثماني وتسعين، وحدَّث في الموسم، واجتمع الناس حواليه - كما تزعمه تلك الرواية - لكان من حضر الموسم من أهل العلم وطلبة الحديث أحرصَ الناس على لقائه والسماع منه؛ لأنه لم يبق حينئذ على وجه الأرض صحابيٌّ سمع من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحدَّث عنه إلا هو - على فرض صحة ¬

_ (¬1) (2/ 665). والخبر في "تاريخ ابن أبي خيثمة": (4/ 59)، و"التعديل والتجريح": (3/ 1131). (¬2) ذكره البخاري في "التاريخ الكبير": (2/ 28).

الرواية - ثم لتناقلوا ما يسمعون منه وتنافسوا فيه لعلوِّه، ولا سيَّما ذاك الحديث المذكور في تلك الرواية: "من تفقَّه في دين الله كفاه الله همَّه ورَزَقه من حيث لا يحتسب"؛ فإن فيه بشارةً عظيمةً لهم، وفضيلةً بيِّنةً وترغيبًا في طلب العلم، ولا يعرفونه من رواية غيره = فما بالنا لا نجد لذلك أثرًا إلا ما تضمَّنته تلك القصة! الوجه الخامس: لو لم يكن فيما يدل على تأخر وفاة أُبيّ بن كعب إلا ما أشار إليه الأستاذ من الرواية التي عند ابن سعد لاستنكرها أهل العلم، لكن لذلك شواهد وعواضد، منها ما روي عن عبد الرحمن بن أَبْزَى أنه قال: "قلت لأُبيّ لما وقع الناس في أمر عثمان: يا أبا المنذر ... " (¬1). ومنها: ما روي عن زِرِّ بن حبيش أنه لقي أُبيًّا في خلافة عثمان (¬2)، ومنها: ما روي عن الحسن البصري في قصة أن أُبيًّا مات قبل مقتل عثمان بجمعة (¬3). فأما الرواية في لُقِيّ ابن جزء بمكة سنة ست وتسعين أو ثماني وتسعين، فلا شاهد لها ولا عاضد. فإن قيل: أرأيت لو وُجِد لها شواهد وعواضد قوية، أتقبلونها؟ قلت: إن صحَّ سندها فنعم، وأيُّ شيء في هذا؟ أرأيت من قامت عليه البينة العادلة بما يوجب القتل، أيدرأ عنه القتلَ أن يقال: لو وُجِدتْ بينة عادلة بجرح الشهود لَما كان عليه قَتْل؟ ¬

_ (¬1) ذكره البخاري في "التاريخ الكبير": (2/ 39 - 40). (¬2) انظر "طبقات ابن سعد": (8/ 150). (¬3) انظر "الإصابة": (1/ 27).

الوجه السادس: متأخرو الوفاة من الصحابة قد يقع الاختلاف في تاريخ وفاتهم، لكنه لا يكاد يكون التفاوت شديدًا. فعبد الله بن أبي أوفى سنة 86، 87، 88، وسهل بن سعد الساعدي سنة 88، 91، وأنس سنة 91، 93، 95. وأشدُّ ما رأيته من التفاوت ما قيل في وفاة [1/ 179] السائب بن يزيد، وذلك نادر، مع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم توفي وللسائب نحو سبع سنين، وعامة روايته عن الصحابة، وقد يُرسل. أما ابن جزء فروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - سماعًا، ولم يذكروا له رواية عن غيره، فالحرص على السماع من ابن جزء محقَّق، بخلاف السائب. ثم قال الأستاذ: "على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم توفي عمن يزيد [عددهم] (¬1) على مائة ألف من الصحابة، ولم تَحْتوِ الكتب المؤلفة في الصحابة عشر معشار ذلك، ولا مانع من اتفاق كثير منهم في الاسم واسم الأب والنسب، لا سيّما المقلِّين في الرواية". أقول: حاصل هذا أنه يحتمل أن يكون هناك صحابي آخر وافق عبدَ الله بن الحارث بن جَزء الزُّبيدي في الاسم واسم الأب والنسب، فيكون هو الذي جاء في تلك القصة أن أبا حنيفة لقيه بمكة سنة 97 أو 98. ولا يخفى أن مثل هذا الاحتمال لا يكفي لدفع الحكم، مع أنه قد عُلم مما تقدم في الوجه الرابع وغيره ما يدفع هذا الاحتمال. فإن كان الأستاذ يشير بقوله: "في الاسم واسم الأب والنسب" - ولم يذكر اسم الجد - إلى عبد الله بن الحارث الزُّبيدي النجراني المُكْتِب، فذاك تابعي معروف. ¬

_ (¬1) سقطت من (ط) واستدركتها من "التأنيب".

ثم ذكر الأستاذ أن ابن عبد البر: "نص على أن أبا حنيفة رأى أنس بن مالك وعبد الله بن جَزء الزبيدي روايةً عن ابن سعد". أقول: يحكي الذهبي عن ابن سعد أنه روى عن سيف بن جابر عن أبي حنيفة أنه رأى أنسًا. ولم أر في "الطبقات" المطبوع لا ذا ولا ذاك، فلا أدري أفي كتاب آخر لابن سعد، أم حكاية مفردة رويت بسند (¬1)؟ فإن كان الثاني، فلا أدري ما حال ذاك السند؟ وكيف وقعت لابن عبد البر زيادة: "وعبد الله بن جَزء الزبيدي"؟ مع أني لم أعرف سيف بن جابر (¬2)، وما دام الحال هكذا فلا تقوم بذلك حجة. مع أن صنيع ابن عبد البر في "الاستيعاب" يقتضي أنه لم يعتدَّ بما حكاه في "كتاب العلم" من رؤية أبي حنيفة لابن جَزء، فإنه قال في ترجمة أنس (¬3) بعد أن ذكر أنه توفي سنة 91 و92 و93: "ولا أعلم أحدًا مات بعده ممن رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا أبا الطفيل". وقال في ترجمة ابن جزء (¬4): "كانت وفاته بعد الثمانين، وقد قيل: سنة ثمان أو سبع وثمانين، وقيل: سنة خمس وثمانين". ¬

_ (¬1) هذا الاحتمال هو ما وجدته، فقد ذكره أبو أحمد الحاكم في "الأسامي والكنى": (4/ 176) بإسناده إلى محمد بن سعد صاحب الواقدي حدثنا أبو الموفق سيف بن جابر ... به. (¬2) له ترجمة في "المقتنى": (2/ 106) للذهبي قال: "أبو الموفق سيف بن جابر قاضي واسط" وذكر روايته عن أبي حنيفة ورواية ابن سعد عنه. (¬3) (1/ 111). (¬4) (3/ 883).

فصل

[1/ 180] فصل في "تاريخ بغداد" (4/ 207) من طريق ابن الصلت: "حدثنا بِشر بن الوليد، حدثنا أبو يوسف، حدثنا أبو حنيفة قال: سمعت أنس بن مالك يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "طلب العلم فريضة على كل مسلم". ثم قال الخطيب: لم يروه عن بِشر غيرُ أحمد بن الصلت، وليس بمحفوظ عن أبي يوسف، ولا يثبت لأبي حنيفة سماع من أنس بن مالك. والله أعلم. حدثني علي بن محمد بن نصر قال: سمعت حمزة بن يوسف السهمي يقول: سئل أبو الحسن الدارقطني - وأنا أسمع - عن سماع أبي حنيفة من أنس يصح؟ قال: لا، ولا رؤيته. لم يلحق أبو حنيفة أحدًا من الصحابة". أشار الأستاذ إلى هذا، ثم قال: "مع أن أبا حنيفة كان أكبر سنًّا من أقلِّ سنِّ التحمل عند المحدثين بكثير في جميع الروايات في وفاة أنس، مع ثبوت قدومه إلى الكوفة قبل وفاته اتفاقًا". أقول: أما أنا فلم أعرف أن أنسًا قدم الكوفة في أواخر عمره. فإن بنى هذا على ما اشتهر من تحديثه للحَجَّاج بحديث العُرَنيين وإيذاء الحَجَّاج له وكتابة أنسٍ إلى عبد الملك يشكوه، فهذا كان بالبصرة سنة 75. على أن الحجاج انتقل من الكوفة إلى واسط سنة 86، وفيها مات عبد الملك كما هو معروف في التاريخ. وإن بنى على ما حكى عن ابن سعد في رؤية أبي حنيفة لأنس فقد مر ما فيه (¬1). ¬

_ (¬1) (ص 199).

وإن بنى على أن الدارقطني - على ما في "تبييض الصحيفة" عن حمزة السهمي - قال: "لم يلق أبو حنيفة أحدًا من الصحابة إلا أنه رأى أنسًا بعينه ولم يسمع منه"، كما نقله الأستاذ (ص 15)؛ وأن جماعة ممن بعد الدارقطني ذكروا رؤية أبي حنيفة لأنس كما ذكره (ص 15) أيضًا = فلا أرى في هذا حجة. أما ما حكاه السيوطي عن حمزة، فقد عارضه ما مر عن الخطيب. والخطيب يروي في مواضع كثيرة من "تاريخه" عن علي بن محمد بن نصر عن حمزة سؤالات حمزة للدارقطني وغيره، كما ترى شواهد ذلك في المقدمة لِـ "تاريخ جرجان" (¬1). فيعلم مما ذُكر مع النظر إلى عادة الخطيب وعادة أهل عصره التي أشرتُ إليها في "الطليعة" (ص 110) (¬2) أنه كان عنده نسخة من كتاب حمزة، وسمعها من علي بن محمد بن نصر، فما روى عن علي بن محمد بن نصر عن حمزة من سؤالات الدارقطني فهو من ذاك الكتاب، فرواية الخطيب ثابتة. وأما حكاية [1/ 181] السيوطي، فإن كان أخذها من نسخة من كتاب حمزة فنسخةُ الخطيب أثبتُ لقرب العهد وسماعه للكتاب بواسطة واحدة، ولِما عُرِف من تثبُّت الخطيب. وإن كان أخذها من مأْخَذ آخر فلا ندري ما حاله؟ وزعم الأستاذ أن ما وقع في "التاريخ": "مما غيَّرته يدٌ أثيمة، وكم لمصحِّح ¬

_ (¬1) (ص 18 - 19). (¬2) (ص 88).

الطبع من إجرام في الكتاب! وكان أصل الكلام " ... إلا رؤيته"، فغيَّرته اليد الأثيمة إلى: ولا رؤيته". أقول: الكتاب أي "تاريخ بغداد" طبع بمصر، ولعل الأستاذ إن كان شكَّ في تلك الكلمة قد راجع الأصل المطبوع عنه، أو روجع له، كما عُرف من عادته في الحرص على تأييد قوله والتنديد بمخالفيه كالمصحح الذي عناه. فلو وَجَد في الأصل "إلا رؤيته" لصرَّح به. فإن عاد فحمَل على الأصل نفسه، فما باله يذكر مصحِّحَ الطبع؟ هل أَذْكَرتْه كلمةُ "الطبع" قولهم: قيل للغراب: لم تسرق الصابون؟ قال: الأذى طبعي (¬1)! وعلى كلا الحالين، أليس لخصمه أن يعارضه باتهام مصحح "تبييض الصحيفة"، أو كاتب أصلها؟ ومع هذا فلا مانع من صحة الحكايتين معًا بأن يقال: كان الدارقطني استند فيما في "تبييض الصحيفة" من قوله: "إلَّا أنه رأى أنسًا بعينه" إلى رواية ليِّنة أو شهرة بين حنفية عصره تسمح بذلك, لأن ذكر الرؤية وحدها "من باب المناقب الذي يُتساهل فيه"، كما قال الأستاذ (ص 21) في قضية أخرى؛ فلما سُئل في رواية الخطيب عن الصحة نفاها. وقول الأستاذ (ص 15): "ونفيه لسماعه بعد إثباته لرؤيته دعوى مجردة وشهادة على النفي". يردُّ عليه أن دعوى الرؤية دعوى مجرَّدة أيضًا. ¬

_ (¬1) وعاد الأستاذ، فعلَّق على ص (167) قوله: "وما نسب إلى الدارقطني في (4/ 208) من نفي رؤيته لأنس من تصرُّف مصحح الطبع، كما سبق تحقيقه في صدر الردود على الخطيب ... ". كذا يجازف هذا الرجل هذه المجازفة، ثم يضجُّ ويعجُّ إذا نُسِب إلى بعض ذلك! [المؤلف]. قلت: المثل ذكره في "المستطرف": (1/ 86).

فصل

فإن قيل: الظاهر أنه لم يقل ذلك إلا عن حجة، قلنا: هذا الظاهر لا يبلغ أن يكون حجة، ولا سيما مع التساهل في المناقب. ومع هذا، فكذلك الظاهر أنه لم ينف السماع إلا عن حجة، قد تكون بنفيٍ خاصٍّ تُقبَل على مثله الشهادة. [1/ 182] فأما من ذكر الرؤية ممن بعد الدارقطني، فبنَوا على اشتهار ذلك بين متأخري الحنفية، وأنه "من باب المناقب الذي يتساهل فيه"، كما نص عليه الأستاذ. فصل قضية سماع أبي حنيفة ترتبط بقضية ميلاده، فلا بأس بالنظر فيها هنا. في "تاريخ بغداد" (13/ 330) من طريق ابن عُقْدة بسنده إلى: "مزاحم بن ذوَّاد بن عُلَيَّة يذكر عن أبيه أو غيره قال: ولد أبو حنيفة سنة إحدى وستين ... ". قال الخطيب: "لا أعلم لصاحب هذا القول متابعًا". قال الأستاذ (ص 19): "ألَّف في رواية أبي حنيفة الأحاديثَ عن جملة من الصحابة مباشرةً جماعةٌ من القدماء من أمثال أبي حامد محمد بن هارون الحضرمي ... وإلى هذه الرواية في ميلاده يكون ميل هؤلاء، وإلا ما ساغت روايتهم لبعض تلك الأحاديث في عداد مسموعاته ... ". أقول: ابن عُقْدة هو أحمد بن محمد بن سعيد، تقدمت ترجمته (¬1). ومزاحم وأبوه ضعيفان، على أنه لم يُدْرَ أعن أبيه أم عن غيره؟ فأما الذين ألَّفوا في رواية أبي حنيفة عن جملة من الصحابة، فليسوا متقدمين على عصر ¬

_ (¬1) (رقم 33).

الخطيب، ولا هم ممن يُعتدُّ به في هذا الشأن. بلغهم شيء، فرووه، ووكلوا النقد إلى أهله. ثم ذكر الأستاذ أنه رأى في نسخة قَلَمية من "ضعفاء ابن حبان" تاريخ ميلاد أبي حنيفة سنة سبعين، وأن بعض المطالعين صحَّح في الهامش: سنة ثمانين، وأن في "أنساب ابن السمعاني" المطبوع بالزنكوغراف في مادة "الخزاز": سنة سبعين، وفي موضع آخر من الكتاب: سنة ثمانين، وأن في "ملخصه" لابن الأثير في مادة "الخزاز": سنة ثمانين، وأن أبا القاسم السِّمناني عصريَّ الخطيب ذكر قولين: سبعين، ثمانين، وأن صاحب "الجواهر المضيئة" ذكر ثلاث روايات: 61، 63, 80، وأن العيني ذكر في "تاريخه" ثلاثًا أيضًا: 61, 70، 80. أقول: أما رواية 61، فقد مرَّ ما فيها. وأما رواية 63 فتفرَّد بذكرها في جملة ما قيل صاحب "الجواهر المضيئة" (¬1) المتوفى سنة 775، ولم يذكر من قالها. وأما رواية 70، فحكاها السِّمناني [1/ 183] عصريُّ الخطيب ولم ينسبها إلى قائل، ووقعت في نسخة من "الضعفاء" لابن حبان، وفي موضع من نسخة من "الأنساب" كما مرَّ عن الأستاذ مع ما فيه = فغاية الأمر أنه قيل بها في القرن الرابع. وأما سنة ثمانين فثبتت من طرق في "انتقاء ابن عبد البر" (ص 122 - 123) (¬2) و"تاريخ بغداد" (13/ 330) عن أبي نعيم الفضل بن دُكَين، وهو ¬

_ (¬1) (1/ 53). (¬2) (ص 188 - 192).

إمام جليل كوفي كأبي حنيفة، سمع منه وروى عنه. وكذلك في "تاريخ بغداد" عن زُفَر بن الهذيل صاحب أبي حنيفة، وفيه أيضًا (ص 325 - 326) عن إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة: "ولد جدِّي في سنة ثمانين، وذهب ثابت إلى علي بن أبي طالب ... ". وفي السند نظر، لكن الأستاذ احتجَّ بتلك الرواية في تعليقه على "مناقب أبي حنيفة" للذهبي (ص 7) فقال: "صحَّ عن إسماعيل بن حماد ... ". وكذلك في "الانتقاء" عن يحيى بن نصر بن حاجب، وهو حنفي توفي سنة 215. وفي "الانتقاء" آخِر (ص 123) من طريق أبي يعقوب يوسف بن أحمد بن يوسف المكي الذي يُكثِر الأستاذ من ذكر كتابه والثناء عليه ويعبِّر عنه بابن الدخيل تلميذ العقيلي قال: "سمعت القاضي أبا الحسن أحمد بن محمد النيسابوري قال: وأما أبو حنيفة فلا اختلاف في مولده أنه ولد سنة ثمانين ... ". والنيسابوري هذا متقدم على الذين ذكروا سنة سبعين. ومن العجب أن الأستاذ قال (ص 20): "قول ابن عبد البر: "وأما أبو حنيفة فلا اختلاف في مولده ... " يدل على أنه لم يطلع على تلك الروايات، وعذره أنه لم يرحل إلى الشرق ... ". ولا أدري أغلط هذا أم مغالطة! فإن ابن عبد البر لم يقل ذلك من عند نفسه، وإنما رواه عن شرقيٍّ متقدم كما رأيت. وعلى كل حال فتاريخ المولد يثبت ببعض ما ذُكِر فضلًا عن جميعه، ولم يعارض ذلك ما يستحق أن يُلتفت إليه، ولا يبعد أن تكون الأقوال الأخرى إنما بُنيت على رواية بعض تلك الأحاديث الواهية دفعًا لوضوح البطلان عنها كما تقدم في قول من قال: إن وفاة عبد الله بن الحارث بن جزء سنة 97 أو 99، ثم أخذها بعضُ من لم ينظر فيها!

ومن عجيب شأن التعصب أنه يبلغ بصاحبه من العمى أن يسعى جاهدًا في الإضرار بمن يتعصب له، متوهمًا أنه إنما يسعى في نفعه. لو كان مولد أبي حنيفة متقدمًا كما زعموا، بحيث أدرك [1/ 184] جماعةً من الصحابة وأكابر التابعين، كان الذي ينبغي له أن يتحرَّى السماعَ منهم لأحاديث كثيرة يحتج بها في كتبه، ويرويها عنه أصحابه كأبي يوسف ومحمد في كتبهم الثابتة عنهم. فلو ثبت مع ذلك أحاديث عن أولئك لكنها قليلة، وكان معظم روايته عمن سِنُّه قريب من سنِّه كحماد بن أبي سليمان، لكانت شُنْعةً عليه أن يتشاغل عن الاستكثار من أولئك حتى يبلغ عمره ثلاثين أو أربعين سنة أو أكثر، بالمخاصمة في الإرجاء والقدر كما يأتي. وسيأتي (¬1) في ترجمة أبي العطوف جرَّاح بن مِنهال عن سلمة بن سليمان أحد ثقات أصحاب ابن المبارك قال: "قال رجل لابن المبارك: هل كان أبو حنيفة عالمًا؟ قال: لا، ما كان خليقًا لذاك. ترك عطاء، وأقبل على أبي العطوف! ". وقد نازع الأستاذ في صحة هذه الحكاية عن ابن المبارك بما فيه ما فيه، وهَبْ أنها لم تصح عن ابن المبارك، فالشُّنْعةُ بحالها. ولذلك حاول الأستاذ أن يُثبت أن أبا حنيفة استكثر من عطاء، وربما أنظر في ذلك في ترجمة أبي العطوف، وعلى كل حال فهذه الشُّنعة أخفُّ بكثير من عدم الاستكثار من الصحابة وكبار التابعين، فكيف إذا لم تثبت عنه رواية واحدة عن صحابي أو تابعي كبير؟! فأولئك المساكين والأستاذ معهم يركبون - كما يعبَّر به الأستاذ - كلَّ مركب لمحاولة إثبات أن أبا حنيفة أدرك عدة من الصحابة، ويحتمل أن يكون قد سمع منهم، وفي ذلك عبرة! ¬

_ (¬1) (رقم 62).

قال الأستاذ: "والاختلاف شديد في مواليد رجال الصدر الأول". أقول: قد مرَّ ما فيه (¬1)، وهو على كلِّ حال لا يسوِّغ التشكُّك فيما قامت عليه الحجة من ذلك. قال: "والأكثرون على أن أبا حنيفة ولد سنة 80 ترجيحًا منهم لأحدث التواريخ المروية في المواليد وأقدمها في الوفيات، أخذًا بالأحوط في الحكم بالاتصال أو الانقطاع". أقول: لا أثر ههنا للاحتياط المذكور، بل القطع بسنة ثمانين أخذًا بالحجة الواضحة التي لم يعارضها ما يستحق أن يُلتفت إليه. قال الأستاذ: "هنا أمور تخدش ما اختاره الأكثرون". أقول: فلننظر فيها واحدًا واحدًا. قال: "منها ما فعله الحافظ أبو عبد الله محمد بن مَخْلَد العطَّار المتوفى سنة 331 في جزئه الذي [1/ 185] سماه: "ما رواه الأكابر عن مالك" حيث عَدَّ حماد بن أبي حنيفة من هؤلاء الأكابر، فساق حديثًا بطريق حماد بن أبي حنيفة عن مالك. وحماد هذا وإن توفي قبل مالك بنحو ثلاث سنين لكن عدَّه من الأكابر لا يتم إلا إذا كان ميلاده قبل ميلاد مالك أيضًا، فيجب أن يكون ميلاد أبي حنيفة قبل سنة 80 بمدة لا تقل عن عشر سنين ... وابن مخلد من الحفاظ البارعين من شيوخ الدارقطني، فلا يحيد عن التحقيق فيما يكتب. وجزؤه المذكور محفوظ بظاهرية دمشق في قسم المجاميع رقم 98، وعليه تسميعات وخطوط كثيرة من حملة الرواية". أقول: يكفي لحل هذه الشبهة أن الأستاذ نفسه قال في تعليقه على ¬

_ (¬1) (ص 293 - 298).

"الانتقاء" (¬1) لابن عبد البر: "وفي هذا الجزء رواية الزهري ... والثوري ... وحماد بن زيد، وإبراهيم بن طهمان، وورقاء وغيرهم". ومولد مالك سنة 93، والثوري سنة 97، وحماد بن زيد سنة 98، ولعل في الجزء مَن ولد بعد ذلك (¬2). وإبراهيم بن طهمان لم يذكروا ميلاده، ويظهر من أسامي شيوخه أنه أصغر من حماد بن زيد، لكنه صار من الأكابر في حياة مالك ومات قبله، فإن مالكًا عُمِّر. فإذا كان مولد أبي حنيفة أول سنة 80، فإنه يبلغ سنُّه آخر سنة 98 - وهي السنة التي ولد فيها حماد بن زيد - تسع عشرة سنة، فأيُّ مانع من أن يولد له في هذه السنة أو قبلها؟ والأقرب أن ابن مخلد - إن صح ما في ذاك الجزء - إنما نظر إلى أن حماد بن أبي حنيفة بلغ مبلغ الأكابر في حياة مالك، ومات قبله، ولم يدقَّق في ميلاده، لأنه غير معروف. وبالنظر إلى سن أبيه يحتمل أن يكون ولد سنة 97 كالثوري، أو سنة 98 كحماد بن زيد، أو قريبًا من ذلك. فاتضح أنه ليس فيما وقع في ذلك الجزء ما يخدش فيما قامت عليه الحجة الواضحة أن مولد أبي حنيفة سنة ثمانين. هذا كلُّه إذا بنينا على صحة ما وقع في ذلك الجزء، وإلا فالغالب على الظن خلاف ذلك؛ [1/ 186] فإن ذاك الحديث وقع في ذاك الجزء هكذا: "نا ¬

_ (¬1) (ص 42). (¬2) قلت: صدق ظن المؤلف رحمه الله تعالى، ففي الجزء المذكور رواية عبد الله بن وهب عن مالك في عدة مواضع منه (ق 205/ 2 - 207/ 2 و 208/ 2) ومولد ابن وهب سنة 125، وفيه (ق 206/ 2) رواية أشهب وهو ابن عبد العزيز عنه, ومولده 145. [ن].

أبو محمد القاسم بن هارون، نا عمران، نا بكار بن الحسن الأصبهاني، نا حماد بن أبي حنيفة، ثنا (¬1) مالك ... ". كما نقله الأستاذ فيما علَّقه على ¬

_ (¬1) كذا هو في تعليق الكوثري على "الانتقاء" (ص 13)، ولعله خطأ غير -[كذا ولعل الصواب حذف "غير" بدلالة سياق الكلام]- مقصود من الكوثري لغرض في نفسه، فإن الذي في الجزء المذكور من النسخة التي أشار إليها الكوثري نفسه (ق 204/ 2): " ... عن مالك ... ". ليس فيها تصريح حماد بالتحديث. وكذلك هو في نسخة أخرى محفوظة أيضًا في ظاهرية دمشق، وعليها سماعات كثيرة (ق 38/ 2)، وإسناد الرواية فيهما هكذا: "ثنا أبو محمد القاسم بن هارون بن جمهور بن منصور الأصبهاني - وكتبه لي بخطه - قال: ثنا أبو سعيد عمران بن عبد الرحيم الباهلي الأصبهاني، ثنا بكار بن الحسن الأصبهاني، ثنا حماد بن أبي حنيفة، عن مالك بن أنس ... ". فتأمل كيف تعمَّد الكوثري أن يسقط من السند نسبَ عمران "بن عبد الرحيم الباهلي" منع ثبوت ذلك في النسختين من الجزء! وما ذلك - والله أعلم - إلا تعميةً لحاله، وتمشيةً لحال إسناد روايته، ليتم له الاستدلال بها على ما رمى إليه من إثبات رواية حماد بن أبي حنيفة عن مالك، التي حاول أن يستنبط منها أن ميلاده كان قبل ميلاد مالك! وأن ميلاد أبي حنيفة كان قبل سنة 80! وهيهات هيهات، فإنها ظلمات بعضها فوق بعض، فقد كشف المؤلف رحمه الله تعالى أن عمران هذا هو ابن عبد الرحيم كما جاء في السند، وأنه متهم بالوضع، وأن ما استلزمه الكوثري من روايته - على فرض ثبوتها - غير لازم. وأزيد عليه فأقول: إن حماد بن أبي حنيفة نفسه ليس بحجة في الرواية، فقد ضعَّفه ابن عدي وغيره من قبل حفظه، ولهذا أورده الذهبي في كتاب "الضعفاء" وقال (ق 35/ 1): "مقل ضعيف الحديث". ثم إن ما استظهره المصنف رحمه الله تعالى من أن أصل الجزء المذكور إنما هو "حماد بن أبي حنيفة عن أبي حنيفة ... " وأن الناسخ زاغ نظره من "أبي حنيفة ... " لا يساعد عليه أن النسخة الأخرى متفقة مع الأولى في عدم ذكر أبي حنيفة، زد على =

"الانتقاء" (¬1)، وذكر هو أن ذاك الحديث قد رواه الدارقطني في "غرائب مالك"، وابن شاهين عن "محمد بن مخزوم، عن جده محمد بن الضحاك، ثنا عمران بن عبد الرحيم الأصبهاني، ثنا بكار بن الحسن، ثنا حماد بن أبي حنيفة، عن أبي حنيفة، عن مالك ... ". فعمران في سند ابن مخلد هو عمران بن عبد الرحيم في سند الدارقطني وابن شاهين، وفي ترجمته من "الميزان" عن السليماني: "هو الذي وضع حديث أبي حنيفة عن مالك". [1/ 187] فابن مخلد لم يشترط في ذاك الجزء الصحة، وإنما اكتفى بما قد رُوي، فلو وقع في روايته من طريق عمران بسقوط أبي حنيفة، لكان الظاهر أن يذكر الرواية الأخرى؛ فإنه لا بد أن يكون عند تأليفه ذاك الجزء تتّبَعَ ما يصلح أن يُذكر فيه، ويبعد أن لا يظفر بالرواية المشهورة عن عمران بثبوت أبي حنيفة وهي أدلُّ على مقصوده. وقد ذكر الأستاذ أنه ليس في ذلك الجزء من طريق أبي حنيفة عن مالك شيء، وبهذا يظهر أنه وقع في روايته كما وقع في رواية غيره: "حماد بن أبي حنيفة، عن أبي حنيفة, ثنا مالك"، فزاغ نظر ناسخ ذاك الجزء من (حنيفة) الأولى إلى الثانية. ولا يدفع ذلك ما على الجزء من التسميعات، وقد رأينا عِدَّة من الأصول القديمة عليها كثير من التسميعات والتصحيحات، وبقي فيها مثل هذا الخلل أو أشدُّ منه. راجع "التاريخ الكبير" للبخاري (ج 1 قسم 1 ص70, 79، 80، 101، 105، 154, 157). ¬

_ = ذلك أنه قد كتب ناسخ الأولى على الوجه الأول منها وتحت اسم الكتاب أكثر أسماء الرواة عن مالك، وفيهم حماد بن أبي حنيفة دون أبي حنيفة. فهذا وذاك يرجح أن لا زوغ من الناسخ، وأن الرواية هكذا وقعت لابن مخلد. والله أعلم. [ن]. (¬1) (ص 42).

ومن غرائب الأستاذ أن يحاول تثبيت ما وقع في الجزء المذكور مع احتماله كما رأيت، ثم يحاول في "التأنيب" (¬1) أن يخفي اصطلاح ابن مخلد في "الأكابر" ويثبت أنه إنما يعني بهم الذين ولدوا قبل مالك، ثم يبالغ في الثناء على ابن مخلد ليخدش بصنيعه المزعوم في نصوص المتقدمين الصريحة = كلُّ ذلك لِيثبتَ أن أبا حنيفة أدرك جماعةً من الصحابة وأكابر التابعين، ويحتمل أن يكون سمع منهم، مع علمه أنه لا تثبت عن أبي حنيفة رواية واحدة عن واحد منهم، ويغفل عن النتيجة التي سلفت الإشارة إليها! قال الأستاذ: "ومنها أن العُقيلي روى في ترجمة حماد بن أبي سليمان ما يفيد أن إبراهيم بن يزيد النخعي لما مات اجتمع خمسة من أهل الكوفة فيهم عمر بن قيس الماصر وأبو حنيفة، فجمعوا نحو أربعين ألف درهم، ثم أعطوه حماد بن أبي سليمان ليستعين به ويتفرغ لرياسة الجماعة في العلم. وكانت وفاة إبراهيم النخعي سنة 95، ولو كان ميلاد أبي حنيفة سنة ثمانين لكان سِنُّه عند وفاة النخعي خمس عشرة سنة، ومن يكون في مثل هذا السنِّ لا يتصوَّر أن يهتمَّ هذا الاهتمام بمن يخلف النخعي ... ". أقول: قال الأستاذ نفسُه فيما علَّقه على "مناقب أبي حنيفة" للذهبي (ص 7): "قال العُقَيلي في "الضعفاء": حدثنا أحمد بن محمد الهروي، قال: حدثنا محمد بن المغيرة البلخي، قال: حدثنا [1/ 188] إسماعيل بن إبراهيم، قال: حدثنا محمد بن سليمان الأصفهاني، قال: لما مات إبراهيم اجتمع خمسة من أهل الكوفة فيهم عمر بن قيس الماصر وأبو حنيفة، فجمعوا أربعين ألف درهم، وجاؤوا إلى الحكم بن عتيبة، فقالوا: إنا قد جمعنا أربعين ألف درهم نأتيك بها وتكون رئيسنا في ¬

_ (¬1) (ص 20 القديمة و38 الجديدة).

الإرجاء، فأبى عليهما الحكم. فأتوا حماد بن أبي سليمان فقالوا له، فأجابهم، وأخذ الأربعين ألف درهم"! لا أناقش الأستاذ في تمويهه، وإنما أنظر في الحكاية. فالهروي والبلخي لم أجدهما (¬1). وإسماعيل لم يتضح لي من هو؟ وابن الأصبهاني متكلَّم فيه، قال أبو حاتم: "لا بأس به يكتب حديثه ولا يحتج به" (¬2). وأخرج له النسائي حديثًا (¬3) ثم قال: "هذا خطأ، ابن الأصبهاني ضعيف". وقال ابن عدي (¬4): "مضطرب الحديث، قليل الحديث، مقدارُ ما له قد أخطأ في غير شيء [منه] ". وكانت وفاته سنة 181. ويظهر من وفَيَات شيوخه أنه لم يدرك موت إبراهيم. فإن صحّ سندُ الحكاية إليه، فممن سمع القصة؟ وما عسى أن يكون أخطأ في سياقها؟ ثم أيُّ شيء فيها؟! كان إبراهيم شديدًا على المرجئة، وفي ترجمته من "طبقات ابن سعد" (¬5) عدة حكايات في ذلك. منها عن الحارث العُكْلي عن إبراهيم قال: "إياكم وهذا الرأي المحدَث - يعني المرجئة". وعن مُحِلِّ بن مُحرِز عن إبراهيم قال: "كان رجل يجالس إبراهيم يقال له: محمد، فبلغ ¬

_ (¬1) أما الهروي أحمد بن محمد فيحتمل أنه ابن ياسين صاحب "تاريخ هراة" (ت 334) ترجمته في "سير النبلاء": (15/ 340). قال الخليلي: ليس بالقوي، وقال الدارقطني: متروك. (¬2) "الجرح والتعديل": (7/ 267 - 268). (¬3) رقم (1811). (¬4) في "الكامل": (6/ 229) وما بين المعكوفين منه. (¬5) (8/ 391 - 392).

إبراهيم أنه يتكلم في الإرجاء، فقال له إبراهيم: لا تجالسنا". وعن مُحِلِّ أيضًا: "قال لنا إبراهيم: لا تجالسوهم - يعني المرجئة". وعن حكيم بن جبير عن إبراهيم قال: "لأنا على هذه الأمة من المرجئة أخوَفُ عليهم من عِدَّتهم من الأزارقة". وعن غالب أبي الهذيل (¬1) أنه كان عند إبراهيم، فدخل عليه قوم من المرجئة قال: فكلَّموه، فغضب وقال: "إن كان هذا كلامكم فلا تدخلوا علَيَّ". وفي "تهذيب التهذيب" (¬2) في ترجمة ذرِّ بن عبد الله المُرْهِبي: "قال أبو داود: كان مرجئًا، وهَجَره إبراهيمُ النخعي وسعيد بن جبير للإرجاء". وفيه (¬3) في ترجمة محمد بن السائب الكلبي: "وقال ابن فضيل عن مغيرة عن إبراهيم أنه قال لمحمد بن السائب: ما دمتَ على هذا الرأي لا تقرَبْنا. وكان مرجئًا". [1/ 189] فكأنهم كانوا مقموعين في حياته، فلما مات خلا لهم الجوّ واستعانوا بالمال. وفي ترجمة إبراهيم من "تهذيب التهذيب" (¬4): "روى عنه الأعمش ومنصور وابن عون وزبيد اليامي وحماد بن أبي سليمان ومغيرة بن مِقسَم الضبَّي، وخلق". وهؤلاء سوى حماد منكرين (¬5) للإرجاء، ولما دخل فيه ¬

_ (¬1) (ط): "بن أبي الهذيل"، والتصحيح من "الطبقات" ومن ترجمته في "التاريخ الكبير": (7/ 99)، و"الجرح والتعديل": (7/ 47). (¬2) (3/ 218). (¬3) (9/ 179). (¬4) (1/ 177). (¬5) كذا في (ط) والوجه "منكرون" خبر هؤلاء.

حماد أنكروا ذلك عليه. وفي "تهذيب التهذيب" (¬1) في ترجمة حماد: "قال أبو حذيفة: ثنا الثوري قال: كان الأعمش يلقى حمادًا حين تكلَّم في الإرجاء، فلم يكن يسلِّم عليه، ... وقال شعبة: كنت مع زبيد فمررنا بحماد، فقال: تنحَّ عن هذا، فإنه قد أحدث". وفيه (¬2) في ترجمة عَمْرو بن مرة: "قال جرير عن مغيرة: لم يزل في الناس بقية حتى دخل عمرو في الإرجاء، فتهافت الناس فيه". وعلى فرض صحة سند الحكاية إلى ابن الأصبهاني وأنه سمعها من ثقة، فالظاهر أنها تأخرت عن موت إبراهيم مدة. وفي كتاب ابن أبي حاتم (ج 2 قسم 2 ص 146): "نا أحمد بن سنان الواسطي، نا أبو عبد الرحمن المقرئ، نا ورقاء، عن المغيرة قال: لما مات إبراهيم جلس الحكم وأصحابه إلى حماد، حتى أحدث ما أحدث. قال المقرئ: يعني الإرجاء". ورجاله ثقات. وعلى صحة تلك الحكاية وأنها على ظاهرها في أن القضية وقعت عقب موت إبراهيم، فقد يكون ذكر أبي حنيفة مدرَجًا أوقع فيه اشتهارُه بالإرجاء مقرونًا بعمر بن قيس الماصر، كما قُرنا في البيتين اللَّذين في "تاريخ بغداد" (13/ 380 [388])، و"التأنيب" (ص 59). وبعد اللَّتيَّا والَّتي، فإبراهيم توفي في أوائل سنة 96 (¬3)؛ وذلك أن ¬

_ (¬1) (3/ 17). (¬2) (8/ 103). (¬3) (ط): "97" خطأ لعله من الطباعة، وما بعده يدل على صواب ما أثبت.

أبا نعيم الفضل بن دكين قال: سنة 96، وقال ابن حبان: "مات بعد الحجاج بأربعة أشهر". والحجاج هلك في شوال سنة 95، وقيل: في رمضان منها، فإذا كان أبو حنيفة ولد أول سنة ثمانين، فإنه يتم له عند وفاة إبراهيم ست عشرة سنة، ومن كان في هذا السن وهو جَلْد ذكيّ لا يمتنع أن يستعين به أصدقاء أبيه في جمع المال ونحوه، ولا سيما إذا كان أبوه مرجئًا فإنه ينشأ متحمسًا لرأي أبيه جاهدًا فيه. قال الأستاذ: "ومنها: أنه قد تضافرت الروايات على أن أبا حنيفة قبل انصرافه إلى الفقه كان جدليًّا يشتغل بعلم الكلام، حتى هبط البصرة نحو عشرين مرة ليناظر القدرية وغيرهم. ثم [1/ 190] انصرف إلى الفقه، ومن تكون سِنه عند وفاة النخعي كما ذكرناه، لا يمكن له الاشتغال الطويل بالجدل قبل انصرافه إلى الفقه". أقول: ما تضافرت الروايات، بل تنافرت. ففي "تاريخ بغداد" (13/ 331) من طريق "محمد بن شجاع الثلجي، ثنا الحسن بن أبي مالك، عن أبي يوسف قال: قال أبو حنيفة: لما أردتُ طلبَ العلم جعلت أتخيَّر العلوم، وأسأل عن عواقبها ... قلت: فإن نظرتُ في الكلام ما يكون آخره؟ قالوا: لا يسلَم مَن نظر في الكلام من مشنَّعات الكلام، فيرُمى بالزندقة ... قلت: فإن تعلمت الفقه؟ قالوا: تُسأل وتفتي الناس، وتُطلب للقضاء وإن كنت شابًّا. قلت: ليس في العلوم شيء أنفعُ من هذا. فلزمت الفقة وتعلَّمته". والروايات المخالفة لهذه والموافقة لها يُعلم ما فيها بالنظر في أسانيدها. وهَبْ أنه صحَّ أن أبا حنيفة كان جدليًّا ثم انصرف إلى الفقه، فمتى انصرف؟ إن قيل: قد جاء عنه أنه لازم حمَّادًا ثماني عشرة سنة. قلت: إن

صح ذلك فلعله لازمَه أولًا للإرجاء، فإن حمادًا كان يقول به في الجملة كما مرَّ، ثم أكمل المدة للفقه. فإن صح هبوطه البصرةَ نحو عشرين مرة لمخاصمة القدرية، فليس مِن لازمِ انصرافه إلى الفقه هجرُه الكلامَ في القدر البتة، ولا مِن لازمِ ملازمته حمادًا أن لا يغيب عنه في السنة الأسبوع والأسبوعين، والشهر والشهرين للحج (¬1) والحاجة. على أن حمادًا توفي سنة 120 كما قاله أبو بكر ابن أبي شيبة، وحكى ابن سعد (¬2) إجماعَهم عليه. وقول البخاري - وتبعه ابن حبان - سنة 119 متأخر عن هذا الإجماع. وملازمة أبي حنيفة حمادًا ثماني عشرة سنة معناه إذا كان مولد أبي حنيفة أول سنة 80 (¬3) أنه ابتدأ في الملازمة وسِنُّه نحو ثلاث وعشرين سنة، فلا مانع أن يكون قد مَهَر في مسائل الكلام المعروفة حينئذ كالإرجاء والقدر. وهذا ابن سينا يزعم أنه أحكم المنطقَ وأقليدس والمِجَسْطي والطبيعي والإلهي والطبَّ، وألَّف فيها أو في أكثرها، وكان مع ذلك يتلقى الفقه ويناظر فيه، وأخذ الأدب = كلُّ ذلك وعمره إحدى وعشرون سنة! ولذلك نظائر. وبالجملة فلم يأتِ الأستاذ بعد اللَّتيَّا والَّتي بما يصح أن يُعَدَّ معارضًا لما ثبت من أن مولد أبي [1/ 191] حنيفة سنة ثمانين، ولم يستفد إلا تضييع وقته ووقت من يتعقَّبه، والسعي فيما لو صحَّ لأنتج نقيضَ مقصوده كما سلف! والله المستعان. ¬

_ (¬1) (ط): "للحجج" تحريف. (¬2) في "الطبقات": (8/ 452). (¬3) (ط): "180" خطأ.

فصل

فصل ولنعطف على ابن الصَّلْت. هَبْ أن أبا حنيفة ولد سنة 61 أو قبلها، وأنه سمع من أنس وروى عنه عدة أحاديث، فإن هذا لا يدفع إنكار الخطيب ذاك الحديثَ على ابن الصلت، من جهة أنه لم يروه غيرُه عن بِشْر، ولا يُحفظ عن أبي يوسف ولا يَثبت عن أبي حنيفة. وهذا الحديث مما تتوفر الدواعي على كثرة روايته واشتهاره، فلو كان عند أبي حنيفة لَكثُر تحديثُه به لعلوِّ السند، وإثباتِ السماع من الصحابي، والترغيبِ فيما كان يدعو إليه من طلب العلم. ولو حدَّث به لَكثُر تحديثُ تلامذته به وإثباتُه في كتبهم. فلو قال قائل: لو كان عنده لَتواتَرَ عنه، لَما أبعدَ. وأهل العلم من قديم يلهجون بمتن هذا الحديث، ويتطلَّبون له إسنادًا صحيحًا، فلا يجدونه. ولأجل ذلك وقع كثير من الناس في روايته بأسانيد مركَّبة أو مدلَّسة أو نحو ذلك، واحتاج أهل العلم إلى نقله من وجوه ضعيفة. ذكره ابن عبد البر في أوائل "كتاب العلم" (¬1) ثم قال: "هذا حديث يروى عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه كثيرة كلُّها معلولة، لا حجة في شيء منها عند أهل العلم بالحديث من جهة الإسناد". ثم ذكر (¬2) عن إسحاق بن راهويه المتوفى سنة 238 "أنه كان يقول: طلب العلم واجب، ولم يصح في الخبر". قال ابن عبد البر: "يريد إسحاق - والله أعلم - أن الحديث في وجوب طلب العلم في أسانيده مقال لأهل العلم ¬

_ (¬1) (1/ 23). (¬2) (1/ 52).

فصل

بالنقل، ولكن معناه صحيح عندهم ... ". فصل ثم روى الخطيب (¬1) من طريق ابن الصَّلْت: "حدثنا محمد بن المثنَّى صاحب بِشر بن الحارث قال: سمعت ابن عيينة قال: العلماء: ابن عباس في زمانه، والشعبي في زمانه، وأبو حنيفة [1/ 192] في زمانه [والثوري في زمانه] ". قال الخطيب: "قلتُ: ذِكْر أبي حنيفة في هذه الحكاية زيادةٌ من الحِمَّاني (ابن الصَّلت)، والمحفوظ ما أخبرناه عليُّ بن محمد بن عبد الله المقرئ الحذَّاء، أخبرنا أحمد بن جعفر بن سالم (صوابه: سَلْم) الخُتَّلي، حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عبد الخالق، حدثنا أبو بكر المروزي (صوابه: المرُّوذي) حدثني محمد بن أبي محمد (¬2) (صوابه: محمد بن أبي عمر، كما قاله الأستاذ) عن سفيان بن عيينة قال: علماء الأزمنة ثلاثة: ابن عباس في زمانه، والشعبي في زمانه، وسفيان الثوري في زمانه. ثم قال: "فإن قيل: ما أنكرتَ أن تكون رواية الحِمَّاني صحيحة، والرواية الثانية (¬3) فيها ذِكْر أبي حنيفة، وحَذَفه بعضُ النقَلَة؟ قلتُ: مَنَع من ذلك أمران: أحدهما: أن عبد الرزاق بن هارون (¬4) يروي عن ابن عيينة مثل ¬

_ (¬1) (4/ 208) وما بين المعكوفين منه. (¬2) ووقع هذا الخطأ أيضًا في الطبعة الجديدة من "تاريخ بغداد": (5/ 341). (¬3) (ط): "الثابتة" تحريف، والعبارة في الطبعة المحققة من التاريخ: "والرواية الثانية نقصَ منها ذِكر ... ". والنص واضح بدونها. (¬4) كذا في (ط) و"التاريخ" الطبعة القديمة، وصححها في المحققة إلى "همام".

هذا القول الثاني سواء. والأمر الآخر: أن المحفوظ عن ابن عيينة سوء القول في أبي حنيفة. من ذلك ما أخبرنا محمد بن عبد الله الحِنَّائي، أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن الصديق المروزي، حدثنا أحمد بن محمد المنكدري، حدثنا محمد بن أبي عمر قال: سمعت ابن عيينة يقول (ح) (¬1) وأخبرنا ابن الفضل، أخبرنا عبد الله بن جعفر بن درستويه: حدثنا يعقوب بن سفيان قال: حدثني محمد بن أبي عمر - يعني العدَني - قال: قال سفيان: ما وُلِد في الإِسلام مولود أضرُّ على أهل الإِسلام من أبي حنيفة. وهكذا روى الحميدي عن ابن عيينة. ولسفيان بن عيينة في أبي حنيفة كلام غير هذا كثير شبهه في المعنى. ثم (¬2) ذكرناه في أخبار أبي حنيفة". أشار الأستاذ (ص 166) إلى رواية ابن الصَّلْت عن محمد بن المثنى صاحب بِشر بن الحارث بقوله: " ... وبأنه روى عن محمد بن المثنى عن ابن عيينة ... ". وأشار إلى رواية ابن أبي عمر، وقال في الحاشية: "الفرق بين الروايتين عن ابن عيينة: فرقُ ما بين محمد بن المثنى ومحمد بن أبي عمر العدني، نسأل الله المعافاة، فبهذا اطلعت على جليِّة صنيع الخطيب هناك أيضًا". أقول: لا يكاد الأستاذ يقول: "نسأل الله الصون" أو "السلامة"، أو "المعافاة" إلا حيث يكون قد فعل إحدى الفَعَلات! والفَعْلة هنا أنه لم يسُقْ السند، وفيه: عن ابن الصلت "حدثنا محمد بن المثنى صاحب بشر بن الحارث". واقتصر في أصل "التأنيب" وفي "حاشيته" في [1/ 193] ذكره ¬

_ (¬1) زيادة من المؤلف. (¬2) كذا في (ط) تبعًا للطبعة القديمة، وفي المحققة: "يشبهه في المعنى قد ذكرناه ... " وهو أصح.

شيخ ابن الصلت على قوله: "محمد بن المثنى"، لم يقل: "صاحب بشر بن الحارث". وأشار إلى رجحان محمد بن المثنى على محمد بن يحيى بن أبي عمر، يريد إيهام أنه محمد بن المثنى بن عبيد بن قيس بن دينار العنَزي أبو موسى البصري الحافظ المعروف بالزَّمِن، فإنه هو الذي يُفهَم عند إطلاق "محمد بن المثنى". وليس في كتب أسماء الرجال المتداولة مَن يقال له: "محمد بن مثنى" غيره، وقد سمع من ابن عيينة وأدركه ابن الصَّلت. فعلم الأستاذ أن من يطالع "التأنيب"، ولا يقف على "تاريخ الخطيب"، أو لا يراجعه في ذاك الموضع؛ لا يقع إلا على هذا الحافظ. والواقع أن الذي في السند: "محمد بن مثنى صاحب بِشر بن الحارث" كما مضى. وهذا رجل آخر، ترجمته في "تاريخ بغداد" (ج 4 ص 286): "محمد بن المثنى بن زياد أبو جعفر السِّمسار، كان أحد الصالحين، صحِب بِشرَ بن الحارث وحفظ عنه، وحدَّث عن نوح بن يزيد وعفَّان بن مسلم وغيرهم ... ". ثم ذكر قول ابن أبي حاتم: "كتبت عنه مع أبي، وهو صدوق"، وأنه "مات سنة 260". وهذا دون ابن أبي عمر بكثير، ولم يخرِّج له أحد من الستة. وابن أبي عمر روى عنه مسلم في "صحيحه" مائتي حديث وستة عشر حديثًا على ما في "التهذيب" (¬1) عن كتاب "الزهرة". وستأتي ترجمته (¬2)، والنظر في كلام الأستاذ فيه. ¬

_ (¬1) (9/ 520). (¬2) لم أجد ترجمته في "التنكيل" فلعله كتبها في المسوّدة ثم ضرب عليها، أو ذهل عن كتابتها.

وفوق ذلك، فالسِّمسار يظهر أنه لم يدرك ابن عيينة، وأن ابن الصلت افتُضح في روايته عنه أنه قال: "سمعت ابن عيينة"؛ فإن ابن عيينة مات سنة 198، والمسمَّون من شيوخ السمسار ماتوا بعد ذلك بزمان. فبشر بن الحارث سنة 227، وعفان 220، ونوح بن يزيد قريبًا من ذلك، ولم أظفر بتاريخ وفاته، لكن ذكروا في الرواة عنه أحمد بن سعد بن إبراهيم أبا إبراهيم الزهري الذي ولد سنة 198 - كما في "تاريخ بغداد" (ج 4 ص 181) - وأحمد بن علي بن الفضيل أبا جعفر الخرَّاز المقرئ المتوفى سنة 286 كما في "تاريخ بغداد" (ج 4 ص 303) = فظهر بذلك أن وفاة نوح كانت سنة بضع عشرة ومائتين، أو بعد ذلك. أضف إلى ذلك أن من عادتهم أنهم يحرصون على أن يذكروا في ترجمة الرجل أقدم شيوخه وأجلَّهم، فلو عرفوا للسِّمسار سماعًا من ابن عيينة، أو أحد أقرانه، أو مَن قَرُب منهم؛ لكان أولى أن يذكروه في شيوخه من نوح وعفَّان. فإن قيل: إن كان ابن الصلت أراد الكذب، فما الذي منعه أن يسمِّي شيخًا أشهرَ من السمسار وأثبتَ، لا يُشَكُّ في سماعه من ابن [1/ 194] عيينة؟ قلت: منعه علمُه بأن الكذب على المشاهير سرعان ما يُفتضح، لإحاطة أهل العلم بما رووه، بخلاف المغمورين الذين لم يرغب أهلُ العلم في استقصاء ما رووه. ومع ما تقدَّم، فلا معنى للموازنة بين شيخ ابن الصَّلْت وبين ابن أبي عمر، ما دام ابن الصَّلْت فيه ما فيه. ومع ذلك فقد عضد الخطيب رواية ابن

أبي عمر برواية عبد الرزاق بن هارون (¬1)، وهي عنده في ترجمة سفيان من "التاريخ" (ج 9 ص 154) من وجهين بنحو رواية ابن أبي عمر. وقريب منها رواية العباس بن يزيد البحراني في "تاريخ بغداد" (ج 3 ص 227). فقد اتضح جدًّا صحة قول الخطيب: إن المحفوظ عنده اقتصار ابن عيينة على الثلاثة، لم يذكر أبا حنيفة؛ فإنَّ المحفوظ عندهم هو الطرف الراجح، كما مرَّ في ترجمة الخطيب (¬2). ولا يخفى على عارف اطلع على ترجمة ابن الصلت أنَّ روايتَه بالنسبة إلى ما قال الخطيب إنه المحفوظ عنده: نسبةُ الوهمِ إلى الظن! وأما قول الخطيب: "الأمر الآخر أن المحفوظ عن ابن عيينة ... " فالحكاية التي ذكرها ساقها بسندين في أحدهما المنكدريّ، وفي الآخر ابن درستويه، وستأتي ترجمتاهما (¬3). وحاصل الكلام فيهما: أن المنكدريّ ليس بعمدة، ولكنه أحسنُ حالًا من ابن الصلت بكثير؛ وأن ابن درستويه موثَّق لا يضرُّه ما قيل فيه. مع أن رواية الخطيب من طريقه عن يعقوب بن سفيان إنما يأخذها الخطيب من "تاريخ يعقوب بن سفيان"، فرجحانُ هذه الرواية وحدها على رواية ابن الصلت واضح جدًّا. فقول الأستاذ: "أفبمثل هذين الإسنادين يكون الخبر محفوظًا؟ " لا وجه له، على أن الخطيب ضمَّ إلى ذلك رواية الحميدي، وهي ¬

_ (¬1) كذا وقد تقدم (ص 318) أن صوابه: "همام". (¬2) (رقم 26). (¬3) (برقم 36 و119).

عنده في "التاريخ" (ج 13 ص 399 [419 - 420]) من وجهين رجالُ كلٍّ منهما ثقات، وإن تكلم الأستاذ في بعضهم بما بيَّنتُ حاله في تراجمهم. والحميدي إمام، وإن كره الأستاذ. ثم أشار الخطيب إلى الكلمات الأخرى وهي معروفة. ومن تأمل ما تقدَّم، وعرف ابنَ الصلت معرفة جيدة، ولم يُعمِه الهوى = لم يَرْتَبْ في صحة حكم الخطيب على ابن الصلت بأنه زاد تلك الزيادة من عنده. على أن المدار في هذه الأمور على غلبة الظن، فلا يُلتفت إلى الاحتمالات البعيدة؛ بل من تدبر ما يرويه ابن الصلت في [1/ 195] المناقب، وقارَنَ ذلك بما رواه الثقات فيها وفي غيرها = عرف تزيُّدَه في غير موضع. والله المستعان. ثم قال الأستاذ: "فكأنَّ ابن الصلت كَفَر في نظر الخطيب بذكره أبا حنيفة في عداد (¬1) هؤلاء الثلاثة ... وهذا هو محض الإجحاف. أبو حنيفة الذي ملأ ما بين الخافقين علمًا ... إذا ذُكِر في صفِّ هؤلاء الثلاثة يكون ذلك من أبرز الحجج على كذب ابن الصلت كذبًا بيِّنًا. هذا ما لا يقوله إلا من اعتلَّ قلبه اعتلالًا لا دواء له ... ". أقول: هذا ديدن الأستاذ: إذا أعْوَزته الحجة لجأ إلى التهويل على العامة! قد ذكر الخطيب حجَّتَه كما تقدم شرحه، وأئمة الحديث كثيرًا ما يطعنون مثل ذاك الطعن بنحو تلك الحجة، وإن كان المرويُّ فضيلةً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو لأحد كبار أصحابه، كما تراه في كتب الموضوعات وكتب الضعفاء, فهل يُرَدُّ كلامُهم بمثل هذا التهويل! فلينظر ¬

_ (¬1) (ط): "عدد".

فصل

الأستاذ، أو غيرُه من العارفين في "دلائل النبوة" لأبي نعيم، أو في "الخصائص الكبرى" للسيوطي، وليراجع نفسَه فيما يستنكره، وعمَّ نشأ استنكاره؟ أعن اعتقاده نقصًا في النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو بغضٍ له، أو حرصٍ على غمط فضله؟ فالخطيب لم يجعل زيادةَ ابن الصلت من أبرز الحجج على كذبه من جهة أنها منقبةٌ لأبي حنيفة، بل من الوجهين اللذين نصَّ عليهما، مع ما عُرِف من حال ابن الصلت بغير هذه الحجة. وماذا يغني الضجيج أمام الحجة إلا كما قيل: أوسعتُهم سبًّا، وأودَوا بالإبلْ (¬1)! أو كما قال الآخر: فلا تُكثِروا فيها الضِّجاجَ فإنه ... محا السَّيفُ ما قال ابنُ دارةَ أجمعا (¬2) فصل ثم ختم الأستاذ كلامه بقوله (ص 168): "ومن الغريب أنه إذا طعن طاعن في رجل تجد أسرابًا من الرواة يركضون وراءه، يردِّدون صدى الطاعن أيًّا كانت قيمة طعنه، ولهم موقف يوم القيامة رهيب لا يُغبَطون عليه". ¬

_ (¬1) مثل مشهور قاله كعب بن زهير في قصة له، انظر "الأمثال" (ص 321) لأبي عبيد، و"مجمع الأمثال": (3/ 426). (¬2) نسبه أبو عبيدة وابن الأعرابي والآمدي إلى الكميت بن ثعلبة. انظر: "المغتالين - نوادر المخطوطات" (2/ 157)، و"اللسان" (دور). وقال المرزباني في "معجم الشعراء" (238): "وغيرُ أبي عبيدة يروي هذه الأبيات للكميت بن معروف وهو أولى بالصواب"، وله في "الوحشيات" (116) و"البيان والتبين" (1/ 389).

[1/ 196] أقول: مات ابن الصلت سنة 308. ولم يذكروا مولده، لكن قال ابن عدي: "رأيته سنة 297، فقدّرت أن له سبعين سنة، أو أكثر". فلنجعل الزيادة المحتملة سبعًا، فيكون مولده سنة 220. لكنه يروي عمن مات سنة 228 كمسدَّد ويحيى الحِمَّاني، وسنة 227 كبشر بن الحارث وسعيد بن منصور وأحمد بن يونس، وسنة 226 كإسماعيل بن أبي أويس ومحمد بن مقاتل، وسنة 224 كأبي عبيد، وسنة 222 كمسلم بن إبراهيم، وسنة 221 كالقعنبي وعاصم بن علي، وسنة 220 كعفَّان، وسنة 219 كأبي نعيم وأبي غسان، وسنة 215 كثابت بن محمد الزاهد. ومِن هؤلاء مَن لم يكن بالكوفة منشأِ ابن الصلت، فلو كان أدركهم وطبقتَهم وسمع منهم لكان مولده تقريبًا على رأس المائتين، فيكون بلغ من العمر مائة سنة وثماني سنين. ولو صحَّ ذلك أو احتمل الصحة عند محدِّثي عصره لَفُتِنوا به، كعادتهم في الحرص على علوِّ الإسناد، ولو كان في الشيخ لِين. وقد تشبَّث الأستاذ بذلك في كلامه في عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي كما يأتي في ترجمته (¬1). فزُهْدُهم في ابن الصلت واضحُ الدلالة على أنهم كانوا يرون أنه لم يدرك أولئك القدماء الذين يحدِّث عنهم، وقد صرَّحوا بذلك كما يأتي. وليس بيد الأستاذ إلا تلك الحكاية عن ابن أبي خيثمة، وقد علمتَ حالها. فأما الطاعنون، فوقفتُ على جماعة منهم: الأول: حافظ الحنفية عبد الباقي بن قانع البغدادي (ولد سنة 265 أو في التي تليها، ومات سنة 351). وكان مع ابن الصلت في بغداد، ولما بلغ ¬

_ (¬1) (رقم 133).

أوانَ الطلب كان ابن الصلت على فرض صحة سماعه من أولئك القدماء في نحو ثمانين سنة من عمره، فلا بدّ أن يكون ابن قانع قد قَصَده وجالسه، وسمع منه؛ طلبًا للسماع مع علوّ السند والموافقة في المذهب. ولكنه بعد اختباره لابن الصلت قال فيه: "ليس بثقة". فهل كان ذنبُ ابن الصلت عند ابن قانع الحنفي ما قاله الأستاذ (ص 167): "لكن ذنبُ الرجل أنه ألَّف كتابًا في مناقب أبي حنيفة"! الثاني: أبو أحمد عبد الله بن عدي الجرجاني الحافظ الشافعي (277 - 365). ينظر تمام كلامه في ابن الصلت في "كامله" (¬1) والمنقول منه في "لسان الميزان" (¬2): "رأيته سنة سبع وتسعين ومائتين (¬3) ... ما رأيت في الكذَّابين أقلَّ حياءً منه. كان ينزل إلى (¬4) الورّاقين، فيحْمِل مِن عندهم [1/ 197] رِزَمَ الكتب، ¬

_ (¬1) (1/ 199). وتمام كلام ابن عدي: "رأيته في سنة سبع وتسعين ومائتين يحدث عن ثابت الزاهد، وعبد الصمد بن النعمان وغيرهما من قدماء الشيوخ، قومًا قد ماتوا قبل أن يولد بدهر. قال الشيخ: وما رأيت في الكذابين أقلَّ حياء منه. وكان ينزل عند أصحاب الكتب يحْمِل مِن عندهم رِزَمًا فيحدِّث بما فيها، وباسم من كتب الكتاب باسمه، فيحدث عن الرجل الذي اسمه في الكتاب، ولا يبالي ذلك الرجل متى مات، ولعله قد مات قبل أن يولد؛ منهم من ذكرت ثابت الزاهد، وعبد الصمد بن النعمان، ونظراؤهما. وكان تقديري في سِنّه لما رأيته سبعين سنة أو نحوه. وأظن ثابت الزاهد قد مات قبل العشرين بيسير أو بعده بيسير. وعبد الصمد قريب منه، وكانوا قد ماتوا قبل أن يولد بدهر" اهـ. (¬2) (1/ 612). (¬3) (ط): "وثلاثمائة" خطأ. (¬4) في (ط) تبعًا للطبعة القديمة: "يترك (؟) "، والمثبت من الطبعة المحققة. وفي =

ويحدِّث عمّن اسمُه فيها، ولا يبالي متى مات، وهل مات قبل أن يولد أو لا". قال ابن حجر: "ثم ذكر له أحاديث" يعني مما يبيِّن كذبه. الثالث: أبو حاتم محمد بن حِبَّان البُسْتي الحافظ (قبل 280 - 354). قال في ابن الصلت: "راودني أصحابنا على أن أذهب إليه فأسمع منه، فأخذت جزءًا لأنتخب فيه، فرأيته قد حدَّث عن يحيى بن سليمان بن نضلة، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعًا: "ردُّ دانِقٍ من حرام أفضل عند الله من سبعين حَجةً مبرورةً". ورأيته حدَّث عن هنّاد، عن أبي أسامة، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر: "لردُّ دانقٍ من حرام أفضل من مائة ألف يُنفق في سبيل الله"، فعلمتُ أنه يضع الحديث، فلم أذهب إليه. ورأيته يروي عن جماعة ما أحسبه رآهم! " (¬1). وابن عدي دخل بغداد سنة 297، وابن حبان دخلها بعد سنة 300، وكان أحمد بن علي الأبَّار قد توفي سنة 290؛ ولكن الأستاذ يقول: "ذنب الرجل أنه ألَّف كتابًا في مناقب أبي حنيفة حينما كان خصوم أبي حنيفة يتمنَّون أن يصفو الجوُ للأبَّار الذي كانوا حملوه على تدوين مثالب أبي حنيفة إفكًا وزورًا، فتحاملوا على الحِمَّاني هذا؛ ليُسقطوا رواياته"! الرابع: أبو الحسن علي بن عمر بن مهدي الدارقطني الحافظ (306 - 385). قال في ابن الصلت: "يروي عن ثابت الزاهد وإسماعيل ابن أبي أويس وأبي عبيد القاسم بن سلام ومَن بعدهم، يضع الحديث" هكذا في ¬

_ = "الكامل": "ينزل عند". (¬1) "المجروحين": (1/ 153).

"تاريخ بغداد" (ج 5 ص 104). وفيه (ج 4 ص 209): "حدثني أبو القاسم الأزهري قال: سُئل أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني - وأنا أسمع - عن جمع مُكْرَم بن أحمد فضائلَ أبي حنيفة، فقال: موضوع كلُّه كذب، وضعه أحمد بن المغلِّس الحِمَّاني". وراجع "الطليعة" (ص 96 - 97) (¬1). الخامس: أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم صاحب "المستدرك" (321 - 403). قال: "روى ابن الصَّلْت عن القعنبي ومسدَّد وابن أبي أويس وبِشر بن الوليد أحاديث وضعها، وقد وضع أيضًا المتون مع كذبه في لُقِيِّ هؤلاء" (¬2)، وبِشر بن الوليد مات سنة 238، فإن صح ما فرَضْناه من مولد ابن الصلت، فقد أدرك بشرًا، وعن بشر روى حديث: "طلب العلم فريضة" كما تقدم. [1/ 198] السادس: أبو بكر أحمد بن محمد بن غالب البَرْقاني الحافظ (333 - 425). عدَّ ابنَ الصلت فيمن وافق الدارقطني عليه من المتروكين. السابع: أبو نُعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني الحافظ (336 - 430). قال في ابن الصلت: "روى عن شيوخ لم يَلْقَهم بالمشاهير والمناكير" (¬3). الثامن: أبو الفتح محمد بن أحمد بن أبي الفوارس الحافظ (338 - 412). قال في ابن الصلت: "كان يضع". هكذا في "تاريخ بغداد" (¬4). وفي ¬

_ (¬1) (ص 74 - 76). (¬2) كلام الحاكم في كتاب "المدخل إلى الصحيح": (1/ 128 - ط العبيكان). (¬3) "الضعفاء" (ص 65). (¬4) (4/ 209).

"الميزان" و"اللسان": "كان يضع الحديث" (¬1). التاسع: أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب الحافظ (392 - 463). قال في ابن الصلت: "حدَّث عن ثابت بن محمد الزاهد وأبي نعيم ... أحاديثَ أكثرها باطلة هو وضَعها. وحكى أيضًا عن بشر بن الحارث، ويحيى بن معين، وعليّ ابن المديني أخبارًا جمعها بعد أن صنَّفها (في "اللسان": وضعها) (¬2) في مناقب أبي حنيفة". وذكر المثالين السابقين: حديث طلب العلم، والزيادةَ في الحكاية عن ابن عيينة. العاشر: أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي (673 - 748). قال في ابن الصلت مرةً: "هالك"، ومرةً: "وضَّاع"، ومرةً: "كذَّاب" (¬3). وأورد له الحكاية في لُقِيِّ أبي حنيفة لعبد الله بن الحارث بن جَزء، وقد مرَّ ذلك. الحادي عشر: أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (773 - 852). ذكر في "لسان الميزان" (¬4) كلام الأئمة في ابن الصلت، ثم قال: "ومن مناكيره: روايتُه عن بِشر الحافي، عن إسماعيل بن أبي أويس، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر رفعه: "ازهد في الدنيا يحبك الله ... " الحديث ... وهذا الحديث بهذا الإسناد باطل". ¬

_ (¬1) "الميزان": (1/ 140)، و"اللسان": (1/ 612). (¬2) في الطبعة المحققة: "صنعها" وهو أقرب. (¬3) انظر "الميزان": (1/ 140)، و"المغني": (1/ 55). (¬4) (1/ 612 وما بعدها).

فهؤلاء أحد عشر إمامًا طعنوا في ابن الصلت، وجرحوه جرحًا مفسَّرًا مشروحًا. ولو تتبعنا لوجدنا معهم غيرَهم كابن عساكر وابن السمعاني وآخرين، ولكن الأستاذ الذي جاء بعدهم بقرون يأبى إلا أن يجعلهم "أسرابًا يركضون وراءه يردِّدون صدى الطاعن أيًّا كانت قيمةُ طعنه، ولهم موقف يوم القيامة رهيب لا يُغبطون عليه" مع أنه قد عَرف حُججَهم، ولم يجد ما يصح [1/ 199] أن يُعَدَّ مخالفًا لهم، وينسى موقفه يوم القيامة كأنه مرفوع عنه القلم دونهم! ويذكر في ابن درستويه ما هو بالنسبة إلى ما في ابن الصلت كالهباءة بالنسبة إلى الجبل العظيم، ثم يقول: "وتضعف كواهلُ الخطيب وأذنابه عن حَمْلِ أثقال التهم التي رُكِّبت على أكتاف هذا الأخباري الهاذي"؛ ولكن لا تضعف كواهله عما على ابن الصلت، كأنَّ الخطيب وغيره من أئمة الحديث كما قال حسَّان (¬1): لو يدِبُّ الحوليُّ من ولد الذَّرْ ... رِ عليها لأندبتها الكلومُ لكنه هو "ثَهْلانُ ذو الهضَبات ما يتحلحلُ" (¬2)! ولو اكتفى بقوله (ص 165): "متكلَّم فيه، ولسنا بحاجة إلى رواياته في مناقب أبي حنيفة، وعندنا بطرقِ رجالٍ لم يُتكلَّم فيهم روايات كثيرة بمعنى ما رواه" لاستراح وأراح، لكنه عاد فدل على وثوقه بدعواه. وخير للحنفية أن يغسلوا أيديهم من ابن الصلت، فإن المدافعة عن مثله شهادة من المدافِع عن نفسه بماذا؟ ¬

_ (¬1) "ديوانه": (1/ 40) تحقيق وليد عرفات، دار صادر، 1974. (¬2) كذا أنشده أبو عبيد وغيره. انظر "تهذيب اللغة": (3/ 441) و"جمهرة ابن دريد": (1/ 188)، وقال الفرزدق "ديوانه": (2/ 157): فادفَع بكفِّك إن أردتَ بناءنا ... ثهلانَ ذا الهضبات هل يتحلحلُ

35 - أحمد بن محمد بن عبد الكريم أبو طلحة الفزاري الوساوسي

35 - أحمد بن محمد بن عبد الكريم أبو طلحة الفزاري الوساوسي: في "تاريخ بغداد" (13/ 390 [407]): " ... حدثنا أبو طلحة أحمد بن محمد بن عبد الكريم الوساوسي، حدثنا عبد الله ... ". قال الأستاذ (ص 85): "تكلموا فيه، فلا يُلتفت إلى وساوسه". أقول: سئل عنه الدارقطني، فقال: "تكلموا فيه". وقال الخطيب في "التاريخ" (ج 5 ص 58): "سألتُ البَرْقاني عن أبي طلحة الفَزاري، فقال: ثقة". فكلمة: "تكلموا فيه" ليست بجرح، إذ لا يُدرى من المتكلِّم، وما الكلام؟ والتوثيق صريح فالعمل عليه. 36 - أحمد بن محمد بن عمر المنكدري: تقدَّم في ترجمة أحمد بن محمد بن الصلت (¬1) رواية المنكدري، بمتابعة يعقوب بن سفيان. أشار إليها الأستاذ (ص 166) وقال: "أما المنكدري فكثير الانفراد والإغراب. قال الإدريسي: في حديثه المناكير. وأنكر عليه أيضًا أبو جعفر الأَرْزُنَاني. وقال الحاكم: كان له إفرادات وعجائب. وقال السمعاني: يقع في حديثه المناكير والعجائب والإفرادات". أقول: الذي في "الميزان" و"اللسان" (¬2) عن الإدريسي: "يقع في حديثه ¬

_ (¬1) رقم (34). (¬2) "الميزان": (1/ 147)، و"اللسان": (1/ 638).

37 - أحمد بن محمد بن يوسف بن دوست أبو عبد الله العلاف

المناكير، ومثلُه [1/ 200] إن شاء الله لا يتعمّد الكذب. سألت محمد بن أبي سعيد السمرقندي الحافظ، فرأيته حسَنَ الرأي فيه. وسمعته يقول: سمعت المنكدري يقول: أناظر في ثلاثمائة ألف حديث. فقلت: هل رأيت بعد ابن عُقدة أحفظ من المنكدري؟ قال: لا". ومن يضاهي ابنَ عُقدة في الحفظ والإكثار، فلا بد أن يقع في حديثه الأفراد والغرائب، وإن كان أوثق الناس. فأما المناكير، فقد يكون الحمل فيها على مَن فوقه. وعلى كل حال فلم يذكروا فيه جرحًا صريحًا ولا توثيقًا صريحًا، لكنهم قد أنكروا عليه في الجملة، فالظاهر أنه ليس بعمدة، فلا يحتج بما ينفرد به. والله أعلم. 37 - أحمد بن محمد بن يوسف بن دوست أبو عبد الله العلَّاف: في "تاريخ بغداد" (13/ 414 [442]): "أخبرنا الحسن بن أبي طالب، أخبرنا أحمد بن محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن جعفر المَطِيري ... ". قال الأستاذ (ص 150): "تكلَّم محمد بن أبي الفوارس في روايته عن المَطِيري، وطعن فيه. وقال الأزهري: ابن دوست ضعيف، رأيت كتبه كلها طريَّة، قيل: إنه كان يكتب الأجزاء ويترِّبها لِيُظَنَّ أنها عُتُق. والكلام فيه طويل. راجع "تاريخ الخطيب" (ج 5 ص 125) ". أقول: ذكر الخطيب ما حكاه الأستاذ عن ابن أبي الفوارس، ثم روى عن عيسى بن أحمد بن عثمان الهَمَذَاني كلامًا يتعلَّق بابن دوست، وفيه من قول عيسى: "كان محمد بن أبي الفوارس ينكر علينا مُضِينَّا إليه وسماعنا منه، ثم جاء بعد ذلك وسمع منه". فكأن ابن أبي الفوارس تكلَّم أولًا في سماع ابن دوست من المَطيري؛ لأنه كان عند موت المطِيري ابن اثنتي عشرة سنة، ثم كأنه تبيَّن لابن أبي الفوارس صحة السماع، فعاد، فقصد ابن دوست

وسمع منه. وذلك أن والد ابن دوست كان من أهل العلم والصلاح والرواية والثقة. ترجمته في "تاريخ بغداد" (ج 3 ص 409)، ووفاته سنة 381، ومولد أحمد سنة 323. فقد وُلد له في شبابه، فكأنه اعتنى به، فبكَّر به للسماع، وقيَّد سَماعه وضَبطه له على عادة أهل العلم في ذاك العصر، وقد صحَّح المحدِّثون سماع الصغير المميِّز. وأما الأزهري، فتمام عبارته: " ... وكان يذكر أن أصوله العُتُق غرقت، فاستدرك نسخها"، فالتضعيف مفسَّر بما بعده. واعلم أن المتقدمين كانوا يعتمدون على الحفظ، فكان النقَّاد يعتمدون في النقد عدالةَ الراوي واستقامةَ حديثه، فمن ظهرت عدالته وكان [201] حديثه مستقيمًا وثَّقوه. ثم صاروا يعتمدون الكتابة عند السماع، فكان النقاد إذا استنكروا شيئًا من حديث الراوي طالبوه بالأصل. ثم بالغوا في الاعتماد على الكتابة وتقييد السماع فشدَّد النقاد، فكان أكثرهم لا يسمعون من الشيخ حتى يشاهدوا أصله القديم الموثوقَ به المقيَّدَ سماعُه فيه، فإذا لم يكن للشيخ أصل لم يعتمدوا عليه، وربما صرَّح بعضهم بتضعيفه. فإذا ادعى السماع ممن يستبعدون سماعه منه كان الأمر أشد. ولا ريب أنَّ في هذه الحال الثالثة احتياطًا بالغًا، لكن إذا عُرِفت عدالة الرجل وضبطه وصدقه في كلامه، وادعى سماعًا محتملًا ممكنًا، ولم يُبرِز به أصلًا، واعتذر بعذر محتمل قريب، ولم يأت بما ينكَر = فبأيّ حجَّة يُرَدُّ خبرُه؟ وقد قال الخطيب: "حدثني أبو عبد الله الصوري قال: قال لي حمزة بن محمد بن طاهر: قلت لخالي أبي عبد الله بن دوست: أراك تملي المجالس من حفظك، فلم لا تملي من كتابك؟ فقال لي: انظر فيما أمليه، فإن كان لك فيه زلل أو خطأ لم أُمْلِ من حفظي. وإن كان جميعه صوابًا، فما الحاجة إلى

الكتاب؟ أو كما قال". فيظهر أن والده لم يكتف بتسميعه، بل اعتنى بتحفيظه ما سمع. فإذا كانت أصوله بعد حِفْظه ما فيها غرقت فابتلَّتْ، وخِيفَ تقطُّعُ الورق، وبقيت الكتابة تُقرأ، فاستنسخ منها، أو ذهبت فنسخ من حفظه، أو من كتبٍ قد كانت قوبلت على أصوله، أو لم تُقابَل ولكنه اعتبرها بحفظه فأيُّ حرج في ذلك؟ وإذ كان اعتماده على حفظه، فهَبْ أنه لم يكن له أصول البتة، أو كانت فتلِفَتْ، ولم يستدرك نسخها = ألا يكون له أن يروي من حفظه؟ أوَ لا تقوم الحجة بخبره إذا كان عدلًا ضابطًا؟ وأما قضية التتريب، فهي في عبارة للبرقاني. قال الخطيب: "سألت أبا بكر البرقاني عن ابن دوست؟ فقال: كان يسرد الحديث من حفظه، وتكلَّموا فيه. وقيل: إنه كان يكتب الأجزاء، ويُترَّبها لِيُظَنَّ أنها عُتُق". فقوله: "قيل: ... " لا يُدرَى من القائل؟ وعلى فرض صحة ذلك، فهو تدليس خفيف أراد به دفعَ تعنُّتِ بعض الطلبة. وكان إذا سئل يبيِّن الواقع، كما في بقية عبارة الأزهري التي تركها الأستاذ. وأما قول البرقاني: "تكلموا فيه" وما في الترجمة أن الدارقطني تكلم فيه، فمحمول على ما صرَّحوا به مما مرَّ، ومرَّ ما فيه. وبعد، فقد وصفوا ابن دوست بالحفظ والمعرفة. قال الخطيب: "كان مكثرًا من الحديث، [1/ 202] عارفًا به، حافظًا له. مكث مدةً يملي في جامع المنصور بعد وفاة أبي طاهر المخلِّص، ثم انقطع عن الخروج، ولزم بيته. كتب عنه الحسن بن محمد الخلَّال، وحمزة بن محمد بن طاهر الدقَّاق، وأبو القاسم الأزهري، وهبة الله بن الحسن (¬1) الطبري، وعامة أصحابنا، ¬

_ (¬1) في (ط) و"التاريخ" بطبعتيه: "الحسين" تصحيف.

38 - أحمد بن المعذل

وسمعت منه جزءًا واحدًا". ولم يغمزوه في دينه بشيء، ولا استنكروا له حديثًا واحدًا، فلا أرى أمره إلا قويًّا، والله أعلم. 38 - أحمد بن المعذَّل (¬1): في "تاريخ بغداد" (13/ 393 [411 - 412]) "أخبرنا القاضي أبو عبد الله الصَّيْمَري ... لأحمد بن المعذَّل: إن كنتِ كاذبةَ الذي حدَّثتِني ... ". قال الأستاذ (ص 95): "هو أول من قام بنشر مذهب مالك بالبصرة، بعد أن تفقه على عبد الملك بن الماجشون، وشيخه هذا حينما رحل إلى العراق من المدينة المنورة رحل ومعه مَن يُغَنِّيه، فزهد فيه أهل العلم ... وهو الذي كان أخوه عبد الصمد بن المعذَّل يقول فيه: أضاعَ الفريضةَ والسنَّهْ ... فتاهَ على الإنس والجِنَّهْ الأبيات". أقول: أما البيت، فالرواية فيه: "أطاع الفريضة ... " كما شرحته في "الطليعة" (ص 63) (¬2). فتجلَّد الأستاذ، وقال في "الترحيب" (ص 45): "هذا تمحُّل. لو كان مراده هذا لقال: أقام، .. وإنما الطاعة لله ولرسوله لا للعمل، وهذا ظاهر". كذا قال! ولو لم يوجد هذا الشعر إلا في كتاب واحد وفيه "أطاع"، ولم يكن في السياق ¬

_ (¬1) بفتح الذال المعجمة المشددة كما في "المشتبه" للذهبي، وقال: "من أئمة المالكية ... ". ولم ترد هذه النسبة في "أنساب السمعاني". ووقع في "تاريخ الخطيب": "ابن المعدل" بالدال المهملة، وهو تصحيف. [ن]. (¬2) (ص 47 - بتحقيقي).

وغيره ما يدلّ على صحة ذلك، ما ساغ لعالمٍ تغييرُه, لأن العربية لا تضيق بمن "أطاع الفريضة"، بل يمكن تخريجها على عدة أوجه كالمجاز والتضمين وغير ذلك؛ فكيف بالتغيير إلى: "أضاع"، مع إبطال الأدلة المعنوية، كعجز البيت، والبيت الثاني، وسبب قول ذلك الشعر، وما هو معلوم من حال أحمد! هذا كلُّه توضيح للواضح، وقابِلْ هذا بما يأتي في ترجمة الشافعي (¬1) في الكلام على ما وقع في "مختصر المزني": "وليست الأذنان من الوجه، فيغسلان". [1/ 203] وأما عبد الملك، فلم يزهَدوا فيه لاستجازته الغناء، فقد سبقه إليه إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، المُجْمَع على توثيقه. وإنما زهِدوا في عبد الملك لمنكرات في روايته، ولاتهامه برأي جهم، كما ترى ذلك في ترجمته من "التهذيب" (¬2). وأحمد بن المعذّل لم يطعن أحدٌ في روايته ولا عقيدته، ولا عُرِف بالترخيص في الغناء - فيما علمتُ - وقد وُثَّق. ولا يضرُّ العالمَ أن يكون في شيوخه مطعون فيه، ومن شيوخ أحمد من أصحاب مالك محمدُ بن مسلمة الذي تجاهله الأستاذ في "التأنيب"، ونبَّهتُ عليه في "الطليعة" (ص 87 - 89) (¬3) فاعترف الأستاذ في "الترحيب" (¬4). وسمع أحمد أيضًا من بشر بن ¬

_ (¬1) (رقم 189). (¬2) (6/ 408). (¬3) (ص 68 - 69). (¬4) (ص 47 - القديمة).

39 - أحمد بن موسى النجار

عمر وإسماعيل بن أبي أويس وغيرهما من أصحاب مالك. وذكر الأستاذ ما يتعلق بمذهب مالك من الأخذ بالقياس، وسأُلِمُّ بذلك في ترجمة مالك إن شاء الله تعالى (¬1). 39 - أحمد بن موسى النجَّار: قال الأستاذ (ص 17) في ذكر أبي نعيم الأصبهاني: "أخرج رحلة ... بسند فيه أحمد بن موسى النجار وعبد الله بن محمد البلوي، وهما كذَّابان معروفان". أقول: البلاء من البلوي، وهو الكذاب المعروف. فأما النجار فلم يُعرَف (¬2). (¬3) 40 - أحمد بن يونس: في "تاريخ بغداد" (13/ 379 [386]) من طريق "عباس بن عبد العظيم (¬4)، حدثنا أحمد بن يونس قال: اجتمع ابن أبي ليلى وأبو حنيفة ¬

_ (¬1) (رقم 183). (¬2) قال عنه الذهبي في "الميزان": (1/ 159 - 160): "حيوان وحشي ذكر محنةً مكذوبةً للشافعي فضيحة لمن تدبّرها". (¬3) أحمد بن نصر الذارع، يأتي في ترجمة محمد بن جعفر الراشدي. [المؤلف]. (¬4) كذا في (ط) تابع فيه المؤلف ما وقع في "التأنيب" (ص 56)، وهو وهم وانتقال نظر، فإن عباس بن عبد العظيم روى عن أحمد بن يونس رواية أخرى غير هذه، ثم ساق الخطيب هذه الرواية لكنها من طريق محمد بن العباس - المؤدب -، حدثنا أبو محمد - شيخ له - أخبرني أحمد بن يونس ... الحكاية.

41 - الأحوص بن الجواب أبو الجواب

عند عيسى بن موسى العباسي والي الكوفة ... ". قال الأستاذ (ص 56): "إن كان أحمد بن عبد الله بن يونس اليربوعي المتوفى سنة 227 فلم يكن في عهد عيسى بن موسى والي الكوفة في سنًّ تُمَكَنه من الحضور في مثل تلك المجالس، فيكون الخبر مقطوعًا. وإن كان أحمد بن يونس هذا غير اليربوعي، فمجهول". أقول: هو أحمد بن عبد الله بن يونس، فإنه غالبًا يُنسب إلى جدَّه، ولا يُفهم عند إطلاق أحمد بن يونس في تلك الطبقة غيره، ومولده سنة 133 أو في التي تليها. وقد صح عنه أنه قال: "مات الأعمش وأنا ابن أربع عشرة سنة، ورأيت أبا حنيفة ومسعرًا، وابن أبي ليلى يقضي خارج المسجد من أجل الحُيَّض". ومات الأعمش سنة 147، وقيل: في التي تليها، ومات ابن [1/ 204] أبي ليلى سنة 148. وعمرُ أحمد خمس عشرة سنةً على المشهور من وفاة الأعمش. وقد يبرز الأمير للناس، أو يأذن لهم إذنًا عامًّا، أو يدخل عليه الغلام ابن أربع عشرة سنة مع أبيه أو عمِّه مثلًا. والله أعلم. 41 - الأحوص بن الجوَّاب أبو الجوَّاب: في "تاريخ بغداد" (13/ 407 [433]) من طريق إسحاق بن إبراهيم البغوي: "حدثنا أبو الجوَّاب ... ". قال الأستاذ (ص 133): "لم يكن بالقوي عند ابن معين". أقول: في "تهذيب التهذيب" (¬1): "قال ابن معين: ثقة، وقال مرة: ليس ¬

_ (¬1) (1/ 192).

42 - إسحاق بن إبراهيم الحنيني

بذاك القوي". وهذا إنما يعطي أنه ليس غايةً في الإتقان (¬1)، فكأنّ ابن حبان فسَّر ذلك إذ قال في "الثقات": "كان متقنًا ربما وهم"؛ وهذا إنما يظهر أثره عندما يخالف مَن وثَّقوه مطلقًا. والأحوص من رجال مسلم في "صحيحه". 42 - إسحاق بن إبراهيم الحُنَيني: في "تاريخ بغداد" (13/ 396 [415]) من طريق: "الحسن بن الصباح، حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنيني قال: قال مالك .. ". قال الأستاذ ص 105: "ذكره ابن الجوزي في "الضعفاء"، وقال الذهبي: صاحب أوابد. وقال البخاري: في حديثه نظر - وهو من أشد كلمات الجرح عنده -. وقال الحاكم أبو أحمد: [في حديثه بعض المناكير. وقال البزَّار] (¬2): كُفَّ بصرُه، فاضطرب حديثه. وقال أبو حاتم: لم يرضه أحمد بن صالح. وقال النسائي: ليس بثقة". أقول: وقال الذهبي في "الميزان" (¬3): "كان ذا عبادة وصلاح. وقال عبد الله بن يوسف التِّنِّيسي: كان مالك يعظم الحُنيني". وفي "تهذيب "التهذيب" (¬4): "قال ابن حبان في "الثقات": كان يخطئ. وقال عبد الله بن يوسف: كان مالك يعظِّمه ويكرمه ... وقال ابن أبي حاتم عن أبي زرعة: صالح، يعني في دينه لا في حديثه". ¬

_ (¬1) (ط): "الاتفاق" تحريف. (¬2) ما بين المعكوفين زيادة من المؤلف تصحيحًا لنقل الكوثري. (¬3) (1/ 180). (¬4) (1/ 222).

وذكروا أن البخاري يقول: "فيه نظر"، أو "سكتوا عنه" فيمن هو عنده ضعيف جدًّا. قال السخاوي في "فتح المغيث" (ص 161) (¬1): "وكثيرًا ما يعبِّر البخاري بهاتين ... فيمن تركوا حديثه، بل قال ابن كثير: إنهما أدنى المنازل عنده وأردؤها". ولم يقل البخاري في الحُنيني: "فيه نظر"، إنما قال: "في [1/ 205] حديثه نظر" وبينهما فرق، فقوله: "فيه نظر" تقتضي الطعن في صدقه (¬2). وقوله: "في حديثه نظر" تُشعر بأنه صالح في نفسه، وإنما الخلل في حديثه لغفلة، أو سوء حفظ. ولعل الأستاذ يقول: هذا تمحُّل. فيقال له: ألم تقل (ص 48): "وأما قوله في "تاريخه الكبير": كان مرجئًا، سكتوا عنه وعن رأيه وعن حديثه، فبيانٌ لسبب إعراض من أعرض عنه". وقد علمت أن "سكتوا عنه" هي أخت "فيه نظر" بل هي الكبرى. والمقصود هنا أن الحنينيّ كان صالحًا في نفسه، وقد سقنا شواهد ذلك. فأما حديثه، فكلمةُ البخاري تقتضي أنه مُطَّرَح لا يصلح حتى للاعتبار، وكذلك كلمة النسائي. وصنيع ابن حبان يقتضي أنه يعتبر به، وكذا كلمة الحاكم أبي أحمد. ويوافقهما قول ابن عدي: "ضعيف، ومع ضعفه يكتب حديثه". وكلمةُ البزار تقتضي أن حديثه كان قبل عَماه مستقيمًا، فيُنظر متى عمي؟ ومتى سمع منه الحسن بن الصباح؟ وهل روايته التي ساقها الخطيب من مظان الغلط؟ ¬

_ (¬1) (2/ 122) (¬2) لكن قال الحافظ ابن حجر في "بذل الماعون" (ص 92): "إنها عبارته فيمن كان وسطًا".

43 - إسحاق بن إبراهيم الموصلي

43 - إسحاق بن إبراهيم الموصلي: في "تاريخ بغداد" (14/ 249) من طريق: "محمد بن أبي الأزهر، حدثنا حماد بن إسحاق الموصلي، حدثني أبي ... ". قال الأستاذ: (ص 176): "حماد بن إسحاق الموصلي ... هو وأبوه من رجال الأغاني ... ". أقول: تراجع ترجمتاهما في "تاريخ بغداد" (¬1). وزعم الأستاذ أن في القصة غضاضةً على أبي يوسف، وليس ذلك بظاهر. وفيما هو منقول عن الحنفية من الحيل المباحة عندهم ما هو أقرب إلى الإيحاش منها. أما الخطيب فلعله إنما قصد بإيراد تلك الحكاية الظريفة تزيين "التاريخ". 44 - إسحاق بن عبد الرحمن: في "تاريخ بغداد" (13/ 378 [384 - 385]). من طريق: "جعفر بن محمد الصَّنْدَلي، حدثنا إسحاق بن إبراهيم [بن عبد الرحمن البغوي] (¬2) ابن عم ابن منيع، حدثنا إسحاق بن عبد الرحمن، حدثنا حسن بن أبي مالك ... ". قال الأستاذ (ص 52): "وإسحاق بن عبد الرحمن لا يُعلَم" أقول: شيخ الصَّنْدَلي قديم، يروي عن إسماعيل ابن عُلَية المتوفى سنة 193، وعنه البخاري في "الصحيح" وغيره. والحسن بن أبي مالك توفي ¬

_ (¬1) ترجمة حماد في (8/ 159)، ووالده (6/ 338 - 344). (¬2) ما بين المعكوفين من زيادة المؤلف.

45 - إسحاق بن عبد الرحمن

سنة 204. فلو كان للأستاذ غرض في تصحيح تلك الرواية لربما جَزَم بأن لفظ: "حدثنا إسحاق بن عبد الرحمن" كان بهامش أصل [1/ 206] قديم على أنها نسخة بدل: "حدثنا إسحاق بن إبراهيم"، وذلك بنسبة إسحاق إلى جده، فتوهَّم الناسخ أن تلك الحاشية لَحَق، فأدرجها في المتن. ولذلك نظائر في النسخ الخطية! 45 - إسحاق بن عبد الرحمن: ذكر الأستاذ (ص 184) رواية أبي نعيم الأصبهاني، عن أبي الشيخ، عن عبد الرحمن بن داود، عن عبيد بن خلَف، عن إسحاق بن عبد الرحمن، عن الحسين الكرابيسي - فذكر قصة. قال الأستاذ: "إسحاق بن عبد الرحمن مجهول ... فلا يُجدي تكلُّفُ التاج ابن السبكي في ترقيع السند". أقول: إنما قال ابن السبكي في "طبقات الشافعية" (ج 1 ص 253) (¬1): "كذا في السند: عبيد عن إسحاق. وعبيد صاحب الكرابيسي، ولا يمتنع أن يسمع عنه كما سمع منه"، فأين الترقيع؟ 46 - أسد بن موسى بن إبراهيم المرواني الأموي: يقال له: أسد السنة. في "تاريخ بغداد" (13/ 383 [393]) من طريق: "الربيع بن سليمان يقول: سمعت أسد بن موسى قال ... ". قال الأستاذ (ص 65): "منكر الحديث عند ابن حزم". ¬

_ (¬1) (2/ 121 - المحققة).

47 - إسماعيل بن إبراهيم بن معمر أبو معمر الهذلي الهروي الكوفي

أقول: قد قال البخاري: "مشهور الحديث". وهذا بحسب الظاهر يُبطل قول ابن حزم، لكن يجمع بينهما قولُ ابن يونس: "حدَّث بأحاديث منكرة، وأحسب الآفة من غيره"، وقول النسائي: "ثقة، ولو لم يصنَّف كان خيرًا له". وذلك أنه لما صنَّف احتاج إلى الرواية عن الضعفاء, فجاءت في ذلك مناكير، فحمل ابن حزم على أسد، ورأى ابن يونس أن أحاديثه عن الثقات معروفة، وحقَّق البخاري فقال: "حديثه مشهور". يريد - والله أعلم - مشهورٌ عمن روى عنهم، فما كان فيه من إنكار فممن (¬1) قَبْلَه. وقد قال ابن يونس أيضًا والبزار وابن قانع حافظ الحنفية: ثقة. وقال العجلي: ثقة، صاحبُ سنة. وفي "الميزان" (¬2): "استشهد به البخاري، واحتجَّ به النسائي، وأبو داود. وما علمتُ به بأسًا". وقد أساء الأستاذ إلى نفسه جدًّا إذ يقتصر على كلمة ابن حزم في صدد الطعن، مع علمه بحقيقة الحال، ولكن! 47 - إسماعيل بن إبراهيم بن مَعْمَر أبو معمَر الهذلي الهروي الكوفي: في "تاريخ بغداد" (13/ 400 [421]) من طريق إبراهيم بن عبد الرحيم ثم من طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل [1/ 207] قال كل منهما: "حدثني أبو معمر ... ". قال الأستاذ (ص 114): "هو ممن أجاب في المحنة، وقال: كفرنا وخرجنا. ¬

_ (¬1) (ط): "فمن" والصواب ما أثبت. (¬2) (1/ 207).

ويقال: إن ابن معين قال: خرج الهذلي هذا إلى الرقة وحدّث بخمسة آلاف حديث أخطأ في ثلاثة آلاف منها". أقول: قال الله تبارك وتعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106]. فأبو معمر ممن أُكرِه، والأستاذ يعلم مَن هو الذي شرح صدره بتلك المقالة. وأما ما جاء عن الإِمام أحمد أنه كان ينهى عن الكتابة عن الذين أجابوا في المحنة، فليس ذلك على معنى جَرْحِ مَن أجاب مُكرهًا، بل أراد بذلك تثبيت أهل العلم والعامة. أما أهل العلم فخشية أن يبادروا بالإجابة قبل تحقّق الإكراه، وأما العامة فخشية أن يتوهموا أن الذين أجابوا أجابوا عن انشراح صدر. فإن كان مغزى الأستاذ الطعن علي أبي معمر، لإيمانه بأن القرآن غير مخلوق، وقوله: إن القول بأنه مخلوق كفر، فتلك شَكاةٌ ظاهر عنك عارُها (¬1). وأما الحكاية عن ابن معين، فقد أنكرها الخطيب وغيره من أئمة الحديث، ولكن الأستاذ مولَع بالتقاط السواقط. وما أحسب أحدًا أشدَّ إزراءً بأبي حنيفة من الأستاذ، فإنه مع إظهاره أنه متهالك في الدفاع عنه، يُكثر من التشبث بالأشياء المردودة والباطلة، ويلجأ إلى المغالطة والتهويلات الفارغة. وذلك يُلجئ الناظرَ إلى ما يلجئه، فيقول: لولا أن تلك المطاعن أو ¬

_ (¬1) من قول أبي ذؤيب الهذلي: وعيَّرها الواشون أني أحبُّها ... وتلك شَكاةٌ ظاهرٌ عنك عارُها انظر: شرح أشعار الهذليين (1/ 70).

48 - إسماعيل بن بشر بن منصور السليمي أبو بشر البصري

أكثرها حقٌّ لما اضطُرَّ مثلُ الكوثري في سعة اطلاعه وقوة عارضته إلى ما اضطرّ إليه في الإجابة عنها. والمعروف عن ابن معين توثيق أبي معمر. قال عباس الدوري (¬1): "سئل يحيى بن معين عن أبي معمر، وهارون بن معروف، فقال: أبو معمر أكيَس". هذا مع قوله هو وغيره في هارون: "ثقة". وقال ابن سعد في أبي معمر: "هو من هذيل أنفسِهم، صاحب سنة وفضل، وهو ثقة ثبت". وقال ابن قانع حافظ الحنفية: "ثقة ثبت". وروى عنه البخاري ومسلم في "الصحيحين". 48 - إسماعيل بن بِشر بن منصور السُّلَيمي أبو بِشر البصري: في "تاريخ بغداد" (13/ 396 [416]) من طريق: "عبد الله بن أحمد الجصاص، حدثنا إسماعيل بن بشر، قال: سمعت عبد الرحمن بن مهدي: يقول ... ". قال الأستاذ (ص 107): "قدَري يعادي مثبتي القدر، فلا يثبت بسند فيه مثلُه ومثلُ أبي المفضل عزوُ هذا القول إلى ابن مهدي، كما لا يثبت ما يعزوه إليه أبو نعيم في "الحلية" بطريق رُسْته لما سيأتي في رُسْته". أقول: قد تقدم في القواعد (¬2) أن العداوة الدينية لا تُرَدُّ بها الشهادة، فكيف الرواية؟ ولم يكن إسماعيل داعية، وقد قال أبو داود: "صدوق"، ¬

_ (¬1) " تاريخ الدوري" (4996). (¬2) (ص 64).

49 - إسماعيل بن أبي الحكم

وروى عنه في "سننه"، ولا يروي إلا عن ثقة، كما تقدم في ترجمة أحمد بن سعد بن أبي مريم (¬1). وكذلك روى عنه ابن خزيمة مع تثبُّته. وأخرج له النسائي في "السنن". وذكره ابن حبان في "الثقات" (¬2). ورُسْته هو عبد الرحمن بن عمر، تأتي ترجمته (¬3). 49 - إسماعيل بن أبي الحكم: في "تاريخ بغداد" (13/ 380 [387]) من طريق: "الأثرم، حدثني هارون بن إسحاق، قال: سمعت إسماعيل بن أبي الحكم يذكر عن عمر بن عبيد ... ". قال الأستاذ (ص 58): "فيكون إسماعيل هذا مجهولًا". أقول: ذكره المزَّي في شيوخ هارون (¬4). وفي كتاب ابن أبي حاتم (¬5) "إسماعيل بن أبي الحكم الثقفي روى عن عمران بن عيينة وعيسى بن يونس. روى عنه أبو زرعة. سئل أبي عنه فقال: شيخ". وفي "لسان الميزان" (ج 3 ص 416) (¬6): "فمن عادة أبي زرعة أن لا يروي إلا عن ثقة". ¬

_ (¬1) (رقم 18). (¬2) (8/ 103). (¬3) (رقم 139). (¬4) "تهذيب الكمال": (7/ 373). (¬5) (2/ 165). (¬6) (3/ 396).

50 - إسماعيل بن حمدويه

50 - إسماعيل بن حمدويه: ذكرتُه في "الطليعة" (ص 90) (¬1) وذكرت هناك أنه وقع في نسخة "الثقات": "السكندري". ثم وقفت على نسخة أخرى أصح من الأولى محفوظة في المكتبة السعيدية بحيدراباد دَكَن، وفيها "البِيكَنْدي" (¬2) على الصواب. 51 - إسماعيل بن عَرْعَرة: قال الأستاذ (ص 48): "وأما قول أبي عبد الله الجعفي [البخاري صاحب الصحيح] في "تاريخه الصغير": سمعت إسماعيل بن عَرعَرة يقول: قال أبو حنيفة: جاءت امرأة جهم إلينا فأدَّبتْ نساءنا، فليس بأحسن حالًا من سابقه، بالنظر إلى تأخر طبقة إسماعيل بن عَرعَرة، فبينه وبين أبي حنيفة انقطاع، وإسماعيل بن عرعرة هذا مجهول الصفة لم يذكره أحد من أصحاب التواريخ التي اطلعنا عليها حتى البخاري ... نعم، [1/ 209] له ذكر في كتاب "السنة" لعبد الله بن أحمد في (ص 27 و154) بما يدل أنه بصري معاصر لعباس بن عبد العظيم العنبري. وليس في هذا أدنى غَناء، بعد أن عُلِم أنه لم يرو أحد من أصحاب الأصول الستة عن ابن عرعرة هذا". أقول: في "إكمال ابن ماكولا" (¬3) "بِرِنْد": أن لعَرْعَرة (¬4) بن البِرِنْد ¬

_ (¬1) (ص 69). (¬2) وهو كذلك في النسخة المطبوعة (8/ 105). (¬3) (1/ 252). (¬4) (ط): "عروة" في الموضعين، تحريف.

52 - إسماعيل بن عياش الحمصي

البصري ابنًا اسمه إسماعيل. وعَرْعَرة ولد سنة 110، ومات سنة 193، فلا مانع أن يكون له ابن أدرك أبا حنيفة، ثم عاش حتمًا حتى أدركه البخاري. وقد مر في ترجمة أحمد بن عبد الله أبي عبد الرحمن (¬1) أن البخاري لا يروي إلا عن صدوق يتميَّز صحيح حديثه من سقيمه. وقد يكون الرجل ثقة مقلًّا من الرواية، إنما يروي قليلًا من الحكايات، فلا يعتني به أهل التواريخ، ولا يُحتاج إليه في الأمهات الست. وراجع ما مرَّ في ترجمة إبراهيم بن شمَّاس (¬2). 52 - إسماعيل بن عيّاش الحمصي: في "تاريخ بغداد" (13/ 394 [413]) من طريق: "محمد بن عوف، حدثنا إسماعيل بن عباس الحمصي، حدثنا هشام بن عروة ... ". قال الأستاذ (ص 100): "الصواب: إسماعيل بن عياش ... وروايته عن غير الشاميين مردودة عند أهل النقد". أقول: إسماعيل ثقة في نفسه، لكن عن غير الشاميين تخليط كثير، فحدُّه إذا روى عن غير الشاميين أن يصلح في المتابعات والشواهد. وتلك الحكاية تابعه عليها سفيانُ بن عيينة وغيرُه، كما يأتي في ترجمة هشام (¬3). وراجع (ص 9) (¬4). ¬

_ (¬1) (رقم 23). ووقع في (ط): "أبو عبد الرحمن". والوجه ما أثبت. (¬2) (رقم 6). (¬3) (رقم 261). (¬4) (1/ 12 - 13).

53 - إسماعيل بن عيسى بن علي الهاشمي

53 - إسماعيل بن عيسى بن علي الهاشمي: في "تاريخ بغداد" (13/ 387 [401]) من طريق: "عبد السلام بن عبد الرحمن، حدثني إسماعيل بن عيسى بن علي الهاشمي، قال: حدثني أبو إسحاق الفزاري ... ". قال الأستاذ (ص 77): "إسماعيل بن عيسى من المجاهيل". أقول: الصواب أن يقول: "لم أعرفه"، فإن عدم معرفة مثل الأستاذ بالرجل لا يستلزم أن يكون مجهولًا. راجع "الطليعة" (ص 86 - 98) (¬1). 54 - الأسود بن سالم: في "تاريخ بغداد" (13/ 409 [435]) من طريق أبي عبيد: "كنت جالسًا مع الأسود بن سالم في مسجد الجامع بالرصافة، فتذاكروا مسألة، فقلت: إن أبا حنيفة يقول فيها كيت وكيت. فقال لي الأسود: تذكر أبا حنيفة في المسجد! فلم يكلِّمني حتى [1/ 210] مات". قال الأستاذ (ص 134): "أين الأسود بن سالم من أبي عبيد الإِمام في كل علم! وكان الأسود بن سالم من العُبَّاد المتقشفين المقبلين على الله، ولم يكن له سعة في العلم ولا الالتفات إلى الفقه. كان يصعب عليه أن يشتغل في المسجد بغير ذكر الله، غير شاعر بأن مذاكرة الفقه من ذكر الله. وله رأيه، ولأهل العلم رأيهم، ولم يكن هو ممن يُحتجُّ بقوله في هذا الموضوع. ولا أدري لماذا تكلَّف الخطيب الرواية عنه، وحالُه معلومٌ مما رواه الخطيب نفسه في (ج 7 ص 36) حيث قال: أخبرنا ... سمعت حبش بن برد يقول: رُئي أسود بن سالم يغسل وجهه من غدوة ¬

_ (¬1) (ص 66 - 76).

إلى نصف النهار، فقيل له: أيشٍ خبرك؟ قال: رأيت اليوم مبتدعًا فأنا أغسل وجهي منذ رأيته إلى الساعة، وأنا أظنه لا ينقَى"! أقول: وأنا ما أدري لماذا تكلَّف الأستاذ التأويل المُسْتَكْره؟ فإنه لا يخفى أن الأسود لم ينكر المذاكرة من حيث هي، ولو كان كذلك لأنكرها عليهم عند شروعهم فيها، ولما كان لذِكْر أبي حنيفة وجه، ولما حكى أبو عبيد الإِمام في كلِّ فنًّ القصةَ على ما حكاها. فأما قصة غسل الوجه، فالذي في "التاريخ": حَبَش بن الورد، وكأنه حبش بن أبي الورد المترجَم في "التاريخ" (¬1) أيضًا باسم محمد بن الورد، ولقبه حَبَش، وهو من المذكورين بالعبادة والزهد يروي الحكايات، ولم يوثَّق. والأستاذ يعدُّ قول الراوي: "قيل لفلان"، أو "سئل فلان" منقطعًا، للجهل بالقائل أو السائل، وقد رددتُ عليه ذلك في القواعد وغيرها (¬2). وقولُ حَبَش: "رئي أسود" ظاهرٌ في الانقطاع، بخلاف "قيل" و"سئل"، فإن الراوي قد يحضر الواقعة ويكون القائل أو السائل غيره دونه، فأما أن يحضرها ويكون الرائي غيره دونه فلا، إلا أن يكون أعمى. فليبحث الأستاذ لعلَّه يجد نصًّا على أن حَبَشًا كان أعمى! فيصير قوله: "رئي أسود" بمنزلة قول غيره: "قيل لفلان"، و"سئل فلان" ونحو ذلك، كقول سلمة: "قال رجل لابن المبارك"! فإن صحَّت القصة، فالظنُّ بالأسود أنه إنما قصد تنفير الناس عن البدع وأهلها! ¬

_ (¬1) (3/ 335). (¬2) (ص 135 وما بعدها).

55 - أصبغ بن خليل القرطبي

55 - أصبغ بن خليل القرطبي: قال الأستاذ (ص 105): "روى الحافظ أبو الوليد ابن الفرضي عن أبي القاسم أصبغ بن خليل القرطبي الذي دارت عليه الفتوى في مذهب مالك [1/ 211] خمسين عامًا وتوفي سنة 273 أنه قال: لَأَنْ يكون في تابوتي رأسُ خنزيرٍ أحبُّ إليَّ من أن يكون فيه "مصنف ابن أبي شيبة""! أقول: "مصنف ابن أبي شيبة" مشتمل مع أحاديث صحاح على ضعاف، وعلى أقوال مختلفة محكية عن بعض الصحابة وبعض التابعين وبعض من بعدهم، والظنُّ بأصبغ أنه لم يقصد ذمَّ الأحاديث، كيف وكان هو يروي "الموطأ" وغيره؟ وبعدُ، فماذا على المالكية من أصبغ هذا، وقد كذَّبه أجِلَّتُهم كالقاسم بن أصبغ وابن الفَرَضي وعياض! ودوران الفتوى عليه إنما هو نتيجة أن العامة كانوا حريصين على الجمود على أقوال ابن القاسم صاحب مالك، والدولةُ موافقةٌ لهم على ذلك، وكان هو عارفًا بها جامدًا عليها. وفي المالكية من حفَّاظ الحديث والمتَّبعين له - إذا خالفه المنقول في مذهبهم - عددٌ غير قليل، لعلهم يَفْضُلون بذلك على بعض أصحاب المذاهب الأخرى! ومَن تأمَّلَ حالَ كثيرٍ من علماء المذاهب رأى أن كثيرًا منهم قد تكون حالهم عند التحقيق شرًّا من حال أصبغ. وذلك أنهم يُظهرون التديُّنَ بقبول الحديث وتعظيم "الصحيحين"، ويزيد بعضُهم - حتى من أهل عصرنا هذا - فيقول: إن الحديث إذا كان في "الصحيحين" أو أحدهما فهو مقطوع بصحته، فإذا جاؤوا إلى حديث مخالف لمذهبهم حرَّفوه أقبحَ تحريف (¬1). ¬

_ (¬1) لعله من أشار إليه المؤلف في قسم الفقهيات من هذا الكتاب (2/ 226 - 227) =

56 - أنس بن مالك صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم -

فالردُّ الصريحُ أخفُّ ضررًا على المسلمين وأهونُ مؤنةً على أهل العلم والدين من إثارة الشُّبَه والتطويل والتهويل الذي يغترُّ به كثيرٌ من الناس، ويَضطرُّ العالمَ إلى صَرْف وقته في كشف ذلك! والله المستعان. 56 - أنس بن مالك صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم -: تقدم ما يتعلق به في "الطليعة" (ص 98 - 106) (¬1)، وفي الفصلين الثاني والخامس من أوائل هذا الكتاب (¬2). وذكرت (ص 100 - 101) من "الطليعة" بعض المعمَّرين من ثقات التابعين المحتجِّ بهم مطلقًا إجماعًا، ويُزاد عليهم: معرور بن سويد، وزِرُّ بن حُبيش، وأبو عثمان النهدي. بلغ الأول مائة وعشرين سنة، والثاني مائة وسبعًا وعشرين سنة، والثالث مائة وثلاثين - وقيل: أربعين - سنة. وذكرت في (ص 103) من "الطليعة" شاهدًا لرواية أنس في أبوال الإبل، ثم رأيت في "تفسير ابن جرير" (ج 6 ص 119 - 120) (¬3): "حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق قال: سمعت أبي يقول: [1/ 212] أخبرنا أبو حمزة، عن عبد الكريم بن مالك الجزري، وسئل عن أبوال الإبل، فقال: حدَّثني سعيد بن حبير عن المحاربين، فقال: كان ناس أتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ... ثم قالوا: إنّا نجتوي المدينة. فقال النبي ¬

_ = وانظر التعليق عليه هناك. (¬1) (ص 77 - 84). (¬2) (ص 8 - 19 و35 - 49). (¬3) (8/ 362 - ط. دار هجر).

57 - أيوب بن إسحاق بن سافري

صلى الله عليه وآله وسلم: هذه اللقاح تغدو عليكم وتروح، فاشربوا أبوالها وألبانها ... " فذكر القصة. وسياقها مخالف لسياق رواية أنس، وفي آخرها الإشارة إلى حديث أنس، وذلك يدل أن سعيد بن جبير تلقَّاها من غير أنس من الصحابة. والحديث مرسل صحيح رجاله ثقات كلهم، وتأتي ترجمة محمد بن علي، وترجمة أبي حمزة محمد بن ميمون السُّكَّري (¬1). وعلي بن الحسن بن شقيق من متقدمي أصحاب أبي حمزة، يظهر أن سماعه منه كان قبل أن يعمى أبو حمزة. وعليٌّ من المتثبتين، وفي ترجمته من "تهذيب التهذيب" (¬2) أنه قيل له: "سمعتَ "كتاب الصلاة" من أبي حمزة السُّكَّري؟ " فقال: "نعم، سمعت، ولكن نهَقَ حمار يومًا، فاشتبه عليَّ حديثٌ، فلا أدري أيُّ حديث هو، فتركتُ الكتاب كلَّه". وكلام الأستاذ في "الترحيب" في العنعنة تقدَّم ما فيه في الفصل التاسع (¬3) من أوائل الكتاب. والله الموفق. 57 - أيوب بن إسحاق بن سافري: راجع "الطليعة" (ص 59 - 60) (¬4) أشار الأستاذ إلى ذلك في (ص 44) من "الترحيب"، فلم يأت بشيء؛ بل حاول الطعن في مهذِّب (¬5) "تاريخ ابن عساكر"، وذلك لا يغني عنه شيئًا. ثم قال: "لم يكن السافري إلا داعرًا سافر ¬

_ (¬1) (رقم 221 و236). (¬2) (9/ 486). (¬3) (ص 135 - 144). (¬4) (ص 44 - 45). (¬5) هو الشيخ العلامة عبد القادر بن بدران الحنبلي (ت 1346).

58 - بشر بن السري

الوجه، أصبحت الدعارة خلقًا فيه وملكةً عنده، رغم أنف هذا الناقد". أقول: أرغم اللهُ أنفَ من يكابر، ويدفع الحق بالباطل! وانظر "طبقات [ابن] أبي يعلى" (1/ 171). (¬1) 58 - بشر بن السَّرِيّ: في "تاريخ بغداد" (13/ 391 [408]) من طريق "رجاء بن السِّندي، سمعت بِشر بن السَّري قال: أتيت أبا عوانة .. ". قال الأستاذ (ص 92): "يقول عنه الحميدي: جهمي لا يحِلُّ أن يُكتَب عنه". أقول: ثبَّته عبد الرحمن بن مهدي جدًّا، وقال أحمد: "حدثنا بشر السري، وكان متقِنًا للحديث عجَبًا". ووثَّقه ابن معين وغيره، واحتجَّ به الشيخان في "الصحيحين" وبقية الستة (¬2). [1/ 213] فأما التجهُّم، فقال ابن معين في بشر: "رأيته يستقبل البيت يدعو على قوم يرمُونه برأي جهم، ويقول: معاذ الله أن أكون جهميًّا". وقال أحمد: "سمعنا منه، ثم ذكر حديث {نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23] فقال: ما أدري ما هذا، أيْشٍ هذا؟ فوثب به الحميدي وأهل مكة، فاعتذر، فلم يُقبل منه، وزهِدَ الناسُ فيه. فلما قدمتُ المرة الثانية كان يجيء إلينا، فلم نكتب عنه". أقول: لم ينصفوه، فلعله إنما كان سمع ما صحَّ عن مجاهد من تفسيره "ناظرة" في الآية بقوله: "تنتظر الثواب"، فلما سمع الوجه الآخر استنكره من جهة كونه تفسيرًا للآية، لا من جهة إنكار الرؤية. ¬

_ (¬1) بشار بن قيراط يأتي في ترجمة أبي زرعة عبيد الله بن عبد الكريم. [المؤلف]. (¬2) ترجمته في "التهذيب": (1/ 450 - 451).

59 - بقية بن الوليد

أما ما زاده محمد بن حميد في الحكاية عن مجاهد: "لا يراه من خلقه شيءٌ" فمحمد بن حميد مُتَّهَم (¬1). فإن كان بِشرٌ استنكر الرؤية، فقد كان حقُّهم أن يبيِّنوا له النصوص في إثباتها، فإذا أقرَّ تبيَّن أنه كان معذورًا فيما فَرَط منه، وإن أصرَّ هجروه عن بيِّنة. على أن الإجماع انعقد بعد ذلك على عذره والاحتجاج بروايته. 59 - بقيَّة بن الوليد: في "تاريخ بغداد" (2/ 179) من طريق "بقيّة يقول: قيل لإسماعيل بن عياش ... ". قال الأستاذ (ص 186): "حالُه إذا لم يقل: "سمعتُ" ردُّ روايته عند الجميع". أقول: بقية يدلِّس عن الضعفاء, فإذا لم يصرِّح بالسماع وجب التوقف؛ لاحتمال أنه إنما سمع من ضعيف. 60 - تمَّام بن محمد بن عبد الله الأَذَني: في "تاريخ بغداد" (13/ 419 [449]): "أخبرنا العتيقي، حدثنا تمَّام بن محمد بن عبد الله الأَذَني بدمشق، أخبرنا أبو الميمون عبد الرحمن بن عبد الله البجَلي ... ". ذكر الأستاذ (ص 164): بلفظ "تمام بن محمد بن عبد الله الرازي". وكتب في الحاشية: "وقع بدله (الأذني) في الطبعات الثلاث، وهو تحريف، ومبلغ تعصُّب تمَّام وشيخه معلوم عند من عرف أحوالهما". ¬

_ (¬1) ترجمته في "التهذيب": (9/ 127 - 131).

61 - ثعلبة بن سهيل التميمي الطهوي

أقول: ترجمتاهما في "تاريخ دمشق" (¬1)، ولتمَّام ترجمة في "تذكرة الحفاظ" (ج 3 ص 243) (¬2). ولم أر مَنْ نسبهما ولا أحدهما إلى تعصُّب، ولا عرفتُ من أحوالهما ما يدل على ذلك. والمخالفة للمذهب لا تستلزم التعصب. وقد تقدَّم الكلام في التعصب في القواعد (¬3). 61 - [1/ 214] ثعلبة بن سهيل التميمي الطُّهَوي: راجع "الطليعة" (ص 78 - 81) (¬4) وما ذكرتُه هناك من أن ابن معين قد يطلق كلمة "ليس بشيء" لا يريد بها التضعيف، وإنما يريد قلة الحديث، ترى مستنده في ترجمة عبد العزيز بن المختار من "مقدمة الفتح" (¬5)، وترجمة كثير بن شِنْظِير من "تهذيب التهذيب" (¬6). ويعترف به الأستاذ، كما ستراه في الترجمة الآتية. 62 - جرَّاح بن منهال أبو العطوف: في "تاريخ بغداد" (13/ 406 [432]) من طريق: "سلمة بن سليمان يقول: قال رجل لابن المبارك (¬7): أكان أبو حنيفة عالمًا؟ قال: لا، ما كان ¬

_ (¬1) (11/ 43 و35/ 57). (¬2) (3/ 1056 - 1058). (¬3) (ص 29 وما بعدها). (¬4) (ص 60 - 62). (¬5) (ص 420 - 421). (¬6) (8/ 418 - 419). (¬7) تكرر قوله: "سلمة بن ... المبارك" في (ط).

بخليق لذاك. ترك عطاءً، وأقبل على أبي العطوف! ". قال الأستاذ (ص 128): "فيه انقطاع ومجهول؛ لأنه لم يبيِّن أنه سمع الرجل يقول، وأنه حضر القصة، كما لم يبيِّن من هو هذا الرجل .... ثم من الغريب أن يزعم زاعم ... مع أنه ما من مسند من المسانيد السبعة عشر المؤلفة في أحاديث أبي حنيفة إلا وفيه روايته عن عطاء بكثرة. وأما أبو العطوف ... فهو متأخر الوفاة عن أبي حنيفة بنحو ثماني عشرة سنة، وقد قلَّت رواية أبي حنيفة عنه جدًّا، ولا مانع من الرواية عنه قبل طروء الغفلة به. وقد ذكره أحمد بالغفلة فقط. وقال ابن معين: ليس بشيء. وهو كثيرًا ما يقول هذا فيمن قلّ حديثه. ومن ظن بأبي حنيفة أنه لا يميِّز بين مَنْ به غفلة أو تهمة [وبين غيره] (¬1) فقد ظنَّ باطلًا. وأبو حنيفة يُكثر جدًّا عن عطاء ... بل ليس بين شيوخه بعد حماد بن أبي سليمان مَن يُكثِر عنه قدرَ إكثاره عن عطاء. وأما أبو العطوف فرواياته عنه كلُّها لا تزيد على نحو خمس روايات ... ". أقول: أما الانقطاع والمجهول فقد تقدم النظر فيه في القواعد (¬2). وأما قوله: "ما من مسند من المسانيد السبعة عشر ... إلا وفيه روايته عن عطاء بكثرة"، وقوله: "وأبو حنيفة يُكثِر جدًّا عن عطاء"؛ ففيه نظر ظاهر, لأن غالب الجامعين لتلك المسانيد متأخرون، وجماعة منهم متَّهَمون بالكذب، ومن لم يكن منهم متهمًا يكثر أن يكون في أسانيده إلى أبي حنيفة مَنْ لا يُعتدُّ بروايته. ومع ذلك فقد تصفَّحْتُ "جامع المسانيد" فلم أجد فيه عن أبي حنيفة عن عطاء إلا نحو ثلاثين رواية، لعله لا يصحُّ منها عن أبي حنيفة [إلّا] (¬3) خمسٌ ¬

_ (¬1) ساقط من (ط). والزيادة من التأنيب. (¬2) (ص 134 - 143). (¬3) زيادة يستقيم بها السياق.

أو ستٌّ، فأين الكثرة، فضلًا عن الإكثار جدًّا! على أن الحميدي قد قال: "حدثنا وكيع قال: حدَّثنا أبو حنيفة أنه [1/ 215] سمع عطاءً، إن كان سمعه! " أخرجه الخطيب (¬1)، ورواه ابن أبي حاتم في كتابه "تقدمة الجرح والتعديل" (¬2) في باب "ما ذكر من معرفة وكيع بن الجراح بناقلة الأخبار ورواة الآثار وكلامه فيهم" رواه عن أبيه عن الحميدي. وذكره الأستاذ (ص 130) فزعم أن كلمة: "إن كان سمعه" من قول الحميدي. ولم يصنع الأستاذ شيئًا، هي من قول وكيع، لكن ليس المقصود بها كما ذكر الأستاذ الشكّ في سماع أبي حنيفة مطلقًا، وإنما المقصود الشك في سماع خبر معيَّن ذكره وكيع ولم يذكره الحميدي، إذ كان قصد الحميدي إنما هو حكاية تلك الكلمة عن وكيع. وقد يحتمل أن الشك ليس من وكيع، وإنما هو من أبي حنيفة نفسه، كأن يكون قال في ذلك الخبر: سمعتُ عطاءً، إن كنت سمعته؛ فعبَّر وكيع بما تقدم. فإن كان هذا هو الواقع، فليس فيه طعن من وكيع في أبي حنيفة كما فهموه. والله أعلم. قوله: "ولا مانع من الرواية عنه قبل طروَّ الغفلة". هذه دعوى مجردة، فلم يذكر أحد قبل الأستاذ أن أبا العطوف طرأت عليه الغفلة، بل قدحوا فيه على الإطلاق، كما ترى بعض ذلك في "الطليعة" (ص 80) (¬3). ولو كان إنما بليَّته الغفلة وكانت طرأت عليه بعد أن سمع أبو حنيفة أو غيره لما طعنوا فيه، ¬

_ (¬1) في "التاريخ": (13/ 425). (¬2) (1/ 226) وانظر (8/ 449). (¬3) (ص 61).

بل كانوا يعدُّونه في جملة المختلطين الذين يوثِّقهم أهلُ العلم ويحتجُّون بما سمع منهم قبل الاختلاط. فأما قوله: "ذكره أحمد بالغفلة فقط"؛ فأحمد إمام ورع، إذا كفاه غيرُه الكلامَ في رجل، ورأى الناسَ قد تركوا حديثه؛ لم يستحسن أن يشيع الكلام فيه. ومع ذلك فلم يشر أحمد إلى أن الغفلة طرأت، كما زعم الأستاذ، بل قضية كلامه أن الرجل لم يزل كذلك. وأما قول ابن معين: "ليس بشيء"، فلا ريب أنه قد يقولها في الراوي بمعنى قلَّة ما رواه جدًّا، يعني أنه لم يسند من الحديث ما يُشْتَغَل به، كما مرت الإشارة إليه في ترجمة ثعلبة. فأما أنه كثيرًا ما يقول هذا فيمن قلَّ حديثه، فهذه مبالغة الأستاذ! وعلى ذلك، فقد مضى تحقيقُ ذلك في ترجمة ثعلبة من "الطليعة" (¬1). وحاصله: أن الظاهر المتبادر من هذه الكلمة الجرحُ، فلا يُعدَل عنه إلا بحجة، فلما كان ابن معين قد وثَّق ثعلبة، ولم يقدح فيه غيرُه، وثعلبة قليل الحديث جدًّا = تبيَّن أن مراد ابن معين بتلك الكلمة - لو ثبتت - قلة الحديث. وأبو العطوف لم يوثِّقه ابن معين ولا غيره، بل أوسعوه جرحًا، وحديثه غير قليل. فقد ذكر له الأستاذ خمسة، وفي [1/ 216] "لسان الميزان" (¬2) ثلاثة أخرى، لو لم يكن له غيرها لما كانت من القلة بحيث يصح أن يقال: إنها ليست بشيء. ولولا أنهم تركوه ولم يكتبوا حديثه لوجدنا له غيرَ ما ذُكر. ¬

_ (¬1) (ص 60 - 62). (¬2) (2/ 246).

63 - جرير بن عبد الحميد

ولعله لولا أن جامعي المسانيد السبعة عشر علموا أن أبا العطوف تالف لوجدنا له في تلك المسانيد عشرات الأحاديث. فمن الواضح أن قول ابن معين في أبي العطوف: "ليس بشيء" إنما محملها الجرح الشديد، فمحاولة الأستاذ أن يعكس القضيةَ قلبٌ للحقائق. 63 - جرير بن عبد الحميد: راجع "الطليعة" (ص 43 - 46) و (ص 83) (¬1). واقتصر الأستاذ في "الترحيب" (ص 40) على أنه ليس فيما ذكرتُه ما يجدر التحدُّثُ عنه. كذا قال! وقال في "التأنيب" (ص 110): "مضطرب الحديث ... وكان سيئ الحفظ، انفرد برواية حديث الأخرس الموضوع، والكلام فيه طويل الذيل، وليس هو ممن يساق خبرُه في صدد سرد المحفوظ عند النقَلة إلا في مذهب الخطيب". أقول: أما قوله: "مضطرب الحديث"، فكلمة لم يقلها أحد قبل الأستاذ، وليس هو ممن يُقبَل منه مثلُ هذا. غايةُ الأمر أن تُعَدَّ دعوى، فما البينة؟ ليس بيده إلا قصة طلاق الأخرس وعليه في ذلك أمران: الأول: أن القصة تفرَّد بها سليمان بن داود الشاذَكُوني، وليس بثقة. قال البخاري: "فيه نظر"، وهذه من أشد كلمات الجرح في اصطلاح البخاري، كما مرَّ في ترجمة إسحاق بن إبراهيم الحنيني (¬2). وقال أبو حاتم: "متروك الحديث". وقال النسائي: "ليس بثقة". وقال صالح بن محمد الحافظ: "كان ¬

_ (¬1) (ص 32 - 34 وص 64). (¬2) (رقم 42).

يكذب في الحديث". والكلام فيه كثير. وفي القصة ما يُنكَر، فإن الشاذكوني قال: "قدمتُ على جرير فأُعجب بحفظي، وكان لي مكرِمًا، فقدم يحيى بن معين والبغداديون الذين معه، وأنا ثَمَّ، فرأوا موضعي منه، فقال بعضهم: إن هذا بعثه ابن القطان وعبد الرحمن ليفسد حديثك ... ". وابن القطان وعبد الرحمن هما إماما عصرهما: يحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي، ومن الممتنع أن يكذب يحيى بن معين ورفقته عليهما هذا الكذب الفاحش. الأمر الثاني: أن القصة لا تفيد اضطرابًا، وإنما تفيد تدليسًا. زعم الشاذكوني أن جريرًا [1/ 217] ذكر أولًا عن مغيرة عن إبراهيم في طلاق الأخرس، ثم ذكره ثانيًا عن سفيان عن مغيرة، ثم ثالثًا عن ابن المبارك عن سفيان، ثم قال: "حدثنيه رجل خراساني عن ابن المبارك". فلو صحت القصة لما كان فيها إلا التدليس، بإسقاط ثلاثة، ثم بإسقاط اثنين، ثم بإسقاط واحد، ثم ذكره على وجهه. ولهذا قال ابن حجر في "تهذيب التهذيب" (¬1): "إن صحَّت حكاية الشاذكوني، فجريرٌ كان يدلِّس". ولم يذكره في طبقات المدلِّسين، لأن القصة لم تصحَّ، وقد ذكر أبو خيثمة جريرًا، فقال: "لم يكن يدلِّس". وقول الأستاذ: "كان سيئ الحفظ" لم يقلها أحد قبله أيضًا، وإنما المعروف أن جريرًا كان لا يحدِّث من حفظه إلا نادرًا، وإنما يحدِّث من كُتبه. ولم ينكروا عليه شيئًا حدَّث به من حفظه، وأثنوا على كتبه بالصحة. ¬

_ (¬1) (2/ 76).

فأما ما حكاه العقيلي (¬1) عن أحمد أنه قال: "لم يكن بالذكي، اختلط عليه حديث أشعث وعاصم الأحول، حتى قدِمَ عليه بَهْزٌ، فعرفه". فقد ذكر هذا لابن معين فقال: "ألا تراه قد بيَّنها". يعني أن جريرًا بيَّن لمن يروي عنه أن حديث أشعث وعاصم اختلط عليه حتى ميَّز له بهزٌ ذلك. وعلى هذا فلم يحدَّث عنهما حتى ميَّز له بهزٌ، فكان يحدِّث عنهما ويبيِّن الحال. وهذا هو محض الصدق والنصيحة والضبط والإتقان، فإنه لا يُطلب من المحدِّث أن لا يَشُكَّ في شيء، وإنما المطلوب منه أن لا يحدَّث إلا بما يتقنه؛ فإن حدَّث بما لا يتقنه بيَّن الحالَ، فإذا فعل ذلك فقد أمِنَّا من غلطه، وحصل بذلك المقصود من الضبط. فإن قيل: فإنه يؤخذ من كلامهم أنه لم يكن يحفظ، وإنما اعتماده على كتبه. قلت: هذا لا يعطي ما زعمه الأستاذ "أنه كان سمع الحفظ". فإن هذه الكلمة إنما تُطلق في صدد القدح فيمن لا يكون جيد الحفظ، ومع ذلك يحدِّث من حفظه فيخطئ، فأما من لا يحدِّث من حفظه إلا بما أجاد حفظه كجرير، فلا معنى للقدح فيه بأنه لم يكن جيِّد الحفظ. وأما قول الأستاذ: "انفرد برواية حديث الأخرس الموضوع"، فهذا تقليدٌ من الأستاذ للشاذَكوني، فإنه هو الذي حكم على ذلك الخبر بأنه موضوع، والشاذكوني قد عرفتَ حالَه. فأما الخبر، فإنما حدَّث به جرير عن ¬

_ (¬1) في "الضعفاء": (1/ 200).

مغيرة قوله، كما في "الميزان" (¬1) عن عثمان بن أبي شيبة، وليس [1/ 218] بموضوع ولا ضعيف، سواء أتوبع عليه جرير أم لم يتابع، فإنه لا يُنكَر لمثل جريرٍ أن يتفرّد بحديث مرفوع، فضلًا عن شيء من قول مغيرة بن مقسم. وأما قول الأستاذ: "والكلام فيه طويل الذيل"، فلم يبق إلا كلام الموثَّقين! قال الإِمام أحمد: "جريرٌ أقلُّ سقطًا من شريك، وشريك كان يخطئ". وقال ابن معين نحوه. وقال العجلي والنسائي: "ثقة". وقال ابن أبي حاتم (¬2): "سألت أبي عن أبي الأحوص وجرير في حديث حصين، فقال: كان جرير أَكْيَس الرجلين، وجرير أحبُّ إليّ. قلت: يُحتج بحديثه؟ قال: نعم، جرير ثقة، وهو أحبُّ إليَّ في هشام بن عروة من يونس بن بُكير". وقال ابن عمار: "حجة، كانت كتبُه صحاحًا". وقال أبو أحمد الحاكم: "هو عندهم ثقة". وقال الخليلي: "ثقة متفق عليه". وقال اللالكائي: "مجمع على ثقته". وقال قتيبة: "ثنا جرير الحافظ المقدَّم، لكني سمعته يشتم معاوية علانيةً". أقول: لم يبيِّن ما هو الشتم؟ ولم يضرَّه ذلك في روايته، بل أجمعوا على توثيقه كما رأيت، واحتجَّ به صاحبا "الصحيحين" وبقية الستة والناس. قول الأستاذ: "وليس هو ممن يساق خبره في صدد سرد المحفوظ عند النقلة إلا في مذهب الخطيب". ¬

_ (¬1) (1/ 396). (¬2) "الجرح والتعديل": (2/ 506).

64 - جعفر بن محمد بن شاكر

أقول: ومذهب أهل العلم كافة، كما رأيت! 64 - جعفر بن محمد بن شاكر: راجع "الطليعة" (ص 109) (¬1). قال الأستاذ في "الترحيب": "لا أريد التكلم عن ابن المنادي، وحاله معروف". أقول: نعم بالثقة والأمانة، ومعه إمام عصره أبو بكر الخطيب. 65 - جعفر بن محمد الصندلي: راجع "الطليعة" (ص 91 - 93) (¬2) ذكر الأستاذ في "الترحيب" أن الخطيب لا يُحْتجّ به فيما هو متهم فيه. أقول: الخطيب ثقة مأمون إمام، قد تقدمت ترجمته (¬3). وذكر ابن السمعاني أنه من نُظراء يحيى بن معين وعلي ابن المديني وأبي خيثمة وطبقتهم، كما تراه في ترجمته من "معجم الأدباء" (¬4) لياقوت. والكلام في التهمة قد تقدم في القواعد (¬5)، ومع الخطيب جماعة، كما في "الطليعة". 66 - [1/ 219] جعفر بن محمد الفِرْيابي: في "تاريخ بغداد" (13/ 418 [448]) من طريق العقيلي: "ثنا ¬

_ (¬1) (ص 86 - 87). (¬2) (ص 71 - 72). (¬3) (رقم 26). (¬4) (1/ 384 - 396). (¬5) (ص 59 وما بعدها).

سليمان بن داود العقيلي قال: سمعت أحمد بن الحسن الترمذي يقول: (قال الخطيب: ح) وأخبرنا عبيد الله بن عمر الواعظ، [حدثنا أبي] (¬1) حدثنا عثمان بن جعفر بن محمد السبيعي، حدثنا الفريابي جعفر بن محمد، حدثني أحمد بن الحسن الترمذي قال: سمعت أحمد ابن حنبل ... ". قال الأستاذ (ص 163): "جعفر بن محمد الفريابي كان يجتمع عليه في مجلس تحديثه ثلاثون ألف رجل، بينهم نحو عشرة آلاف أصحاب محابر، فإذا روى مثلُه شيئًا يسير به الركبان. وهو الذي أذَّن على أُذُن مجنون على ملأ الأشهاد، فنادى الجنيُّ هاربًا بحيث يسمع الجماعة: "مَنْ بِشَوَمْ محمد مَكُو" على لسان المجنون. بمعنى: أنا أنصرف ولا تقل محمد، كما في "تاريخ الخطيب". ومئل هذا الراوي لا نستطيع أن نقول فيه شيئًا، والله من ورائهم محيط". أقول: هذا الرجل من كبار الحفاظ والإثبات. فأما قصة التأذين في أذن المصاب، فقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرقي ويأمر بالرقية، وكثيرًا ما تظهر فائدة ذلك حالًا. ومن المعروف بين الناس سلفًا وخلفًا أن المصاب يتكلم بكلام كأنه كلام شخص آخر، فيقول الناس: إن ذاك كلام الجني على لسان المصاب. هذا، وذاك الكلام إنما سُمِع من المصاب، والقائلُ إنه كلام الجني هو راوي القصة، ولم يقع من الفريابي إلا التأذين في أذن المصاب اتِّباعًا لما ورد في الأثر، فأيُّ شيء في ذلك؟! ¬

_ (¬1) سقطت من (ط)، واستدركتها من "التاريخ".

67 - حاجب بن أحمد الطوسي

67 - حاجب بن أحمد الطوسي: في "تاريخ بغداد" (13/ 401 [423]): "أنبأنا القاضي [أبو بكر] أحمد بن الحسن الحَرَشي، أخبرنا أبو محمد حاجب بن أحمد الطوسي، حدثنا عبد الرحيم بن منيب قال: قال عفان ... ". قال الأستاذ (ص 117): "قال الحاكم: لم يسمع حديثًا قط، لكنه كان له عمٌّ قد سمع، فجاء البَلاذُري إليه، فقال: هل كنت تحضر مع عمِّك في المجلس؟ قال: بلى، فانتخب له من كتب عمِّه. ويقال: إنه كان ابن مائة وثماني سنين كما ذكره الذهبي، ولفظ عبد الرحيم لفظ انقطاع". أقول: تتمة الترجمة في "الميزان" (¬1) بعد قوله "من كتب عمه": "تلك الأجزاء الخمسة، قال الحاكم في "تاريخه": بلغني أن شيخنا أبا محمد البلاذري كان يشهد له بلُقِيَّ هؤلاء، وكان [1/ 220] يزعم أنه ابن مائة وثماني سنين، سمعتُ منه ولم يصل إلى ما سمعتُ منه ... ". فظهر بهذا أن قوله أولًا: "لم يسمع حديثًا قط". إنما أراد به أنه لم يتصدَّ للسماع بنفسه، وإنما كان عمُّه يُحضِره معه مجالسَ السماع. والبلاذري حافظ أثنى عليه الحاكم، انظر ترجمته في "تذكرة الحفاظ" (ج 3 ص 101) (¬2). ولم يغمزوا حاجبًا في عدالته، ولا أنكروا عليه شيئًا من مروياته. ويؤخذ مما تقدم أنه إنما كان يروي تلك الأجزاء التي انتخبها له البلاذري من أصول عمِّه لم يتعدَّها. وأحاديثه في "سنن البيهقي" أحاديث معروفة تدلّ ¬

_ (¬1) (1/ 429). (¬2) (3/ 892).

68 - الحارث بن عمير البصري نزيل مكة

على صدقه وأمانته. وقد روى عنه ابنُ منده، والقاضي أحمد بن الحسن الحَرَشي راوي هذه الحكاية، وهما من الثقات الأثبات. وعبد الرحيم ثقة غير مدلس. فقوله: "قال عفان" حكمه الاتصال، كما سلف في القواعد (¬1). 68 - الحارث بن عُمير البصري نزيل مكة: في "تاريخ بغداد" (13/ 370 [372]) من طريق: "الحميدي، حدثنا حمزة بن الحارث بن عمير، عن أبيه قال: سمعت رجلًا يسأل أبا حنيفة في المسجد الحرام ... ". قال الأستاذ (ص 36): "مختلَف فيه، والجرح مقدَّم. قال الذهبي في "الميزان": وما أراه إلا بيِّن الضعف، فإن ابن حبان قال في "الضعفاء": روى عن الأثبات الموضوعات. وقال الحاكم: روى عن حميد وجعفر الصادق أحاديث موضوعة. وفي "تهذيب التهذيب": قال الأزدي: منكر الحديث، ونقل ابن الجوزي عن ابن خزيمة أنه قال: الحارث بن عمير كذاب". أقول: الحارث بن عمير وثَّقه أهل عصره والكبار. قال أبو حاتم عن سليمان بن حرب: "كان حماد بن زيد يقدَّم الحارث بن عُمير ويُثني عليه". زاد غيره: "ونظر إليه مرة فقال: هذا من ثقات أصحاب أيوب". وروى عنه عبد الرحمن بن مهدي، وقد قال الأثرم (¬2) عن أحمد: "إذا حدَّث عبد الرحمن عن رجل فهو حجة". وقال ابن معين والعجلي وأبو حاتم وأبو زرعة والنسائي والدارقطني: "ثقة". زاد أبو زرعة: "رجل صالح". ¬

_ (¬1) (ص 135 وما بعدها). (¬2) (ط): "الأكرم" تحريف، وانظر الخبر في "تاريخ بغداد": (10/ 243).

وفي "اللآلئ المصنوعة" (ص 118 - 119) (¬1) عن الحافظ ابن حجر في ذكر الحارث: "استشهد به البخاري في "صحيحه"، وروى عنه من الأئمة عبد الرحمن بن مهدي وسفيان بن عيينة، واحتج به أصحاب السنن". وفيها بعد ذلك: "قال الحافظ ابن حجر في أماليه ... أثنى عليه حماد بن زيد ... وأخرج له البخاري تعليقًا ... ". [1/ 221] ولم يتكلم فيه أحد من المتقدمين، والعدالة تثبت بأقلَّ من هذا، ومن ثبتت عدالته لم يُقبل فيه الجرح إلا بحجة وبينة واضحة، كما سلف في القواعد. فلننظر في المتكلمين فيه وكلامهم: أما الأزدي، فقد تكلَّموا فيه حتى اتهموه بالوضع. راجع ترجمته في "لسان الميزان" (ج 5 رقم 464) (¬2) مع الرقم الذي يليه من "قال الخطيب" إلى آخر الترجمة فإنه كله متعلِّق بالأزدي. وقال ابن حجر في ترجمة أحمد بن شبيب في الفصل التاسع من "مقدمة الفتح" (¬3): "لا عبرة بقول الأزدي؛ لأنه هو ضعيف، فكيف يُعتمد في تضعيف الثقات! ". وذكر نحو ذلك في ترجمة خُثَيم بن عِراك وغيرها (¬4). وقال في ترجمة علي بن أبي هاشم: "قدَّمتُ غيرَ مرة أن الأزدي لا يُعتبر تجريحه لضعفه هو" (¬5). على أن ¬

_ (¬1) (1/ 229). (¬2) (7/ 90). (¬3) (ص 386). (¬4) (ص 400). (¬5) (ص 430).

الأزدي استند إلى ما استند إليه ابن حبان، وسيأتي ما فيه. وأما ابن خزيمة فلا تثبت تلك الكلمة عنه بحكاية ابن الجوزي المعضلة (¬1)، ولا نعلمُ ابنَ الجوزيّ التزمَ الصحةَ فيما يحكيه بغير سند. ولو التزم لكان في صحة الاعتماد على نقله نظر، لأنه كثير الأوهام. وقد أثنى عليه الذهبي في "تذكرة الحفاظ" (¬2) كثيرًا، ثم حكى عن بعض أهل العلم أنه قال في ابن الجوزي: "كان كثير الغلط فيما يصنفه، فإنه كان يفرغ من الكتاب ولا يعتبره". قال الذهبي: "نعم، له وهم كثير في تواليفه، يدخل عليه الداخل من العجلة والتحويل إلى مصنف آخر، ومن أنَّ جُلَّ علمِه (¬3) من كتُب صُحُفٍ ما مارس فيها أربابَ العلم كما ينبغي". وذكر ابن حجر في "لسان الميزان" (ج 3 ص 84) (¬4) حكاية عن ابن الجوزي، ثم قال: "دلت هذه القصة على أن ابن الجوزي حاطب ليل لا ينقُد ما يحدِّث به". وقد وقفتُ أنا على جملة من أوهامه: منها: أنه حكى عن أبي زرعة وأبي حاتم أنهما قالا في داود بن ¬

_ (¬1) وقد ذكره ابن الجوزي في "الضعفاء": (1/ 173) ولم ينقل كلمة ابن خزيمة. ونقلها عنه الحافظ في "التهذيب": (2/ 153)، وانظر "تراجم منتخبة" (80) للمؤلف. (¬2) (4/ 1342). (¬3) (ط): "ومن أجل أنّ علمه" لعله من تصرف الطابع، والمثبت من "التذكرة": (4/ 1347) بتحقيق المؤلف. (¬4) (2/ 400).

عمرو بن زهير: "منكر الحديث" (¬1). وإنما قالا ذلك في داود بن عطاء المدني، راجع التعليق على "تاريخ البخاري" (ج 2 قسم 1 ص 215). ومنها: أنه حكى (¬2) في إسحاق بن ناصح عن الإِمام أحمد كلامًا إنما قاله أحمد في إسحاق بن نَجِيح. راجع "لسان الميزان" (ج 1 ص 376) (¬3). ومنها: أنه قال في الربيع بن عبد الله بن خطَّاف: "كان يحيى بن سعيد يثني عليه، وقال ابن مهدي لا تَرْوِ عنه شيئًا" (¬4). وهذا مقلوب كما في ترجمة الربيع من "التهذيب" (¬5). ومنها: أنه حكى (¬6) في سوَّار بن عبد الله بن سوَّار أن الثوري قال فيه: "ليس بشيء"، مع أن سوارًا هذا إنما [1/ 222] وُلِد بعد موت الثوري. وإنما قال الثوري تلك الكلمة في جدَّه سوَّار بن عبد الله، كما في "التهذيب" (¬7). ومنها: أنه حكى (¬8) في صخر بن عبد الله بن حرملة الحجازي أن ابن عديّ وابن حبان اتهماه بالوضع، وإنما اتهما صخر بن محمد - ويقال ابن ¬

_ (¬1) "الضعفاء والمتروكين": (1/ 266). (¬2) المصدر نفسه: (1/ 104). (¬3) (2/ 79). (¬4) "الضعفاء": (1/ 282). (¬5) (3/ 249). (¬6) "الضعفاء": (2/ 31). (¬7) (4/ 269). (¬8) (2/ 53).

عبد الله - الحاجبي المروزي. راجع "التهذيب" و"اللسان" (¬1). ومنها: أنه حكى (¬2) في جعفر بن حيَّان أبي الأشهب البصري كلامًا عن الأئمة إنما قالوه في جعفر بن الحارث أبي الأشهب الواسطي. راجع "التهذيب" (¬3). ومنها: أنه ذكر معاوية بن هشام (¬4)، فقال: وقيل: هو معاوية بن أبي العباس، روَى ما ليس من سماعه، فتركوه. كذا قال! ومعاوية بن هشام من الثقات، لم يرو ما ليس من سماعه، ولم يتركه أحد. وإنما روى مروان بن معاوية الفزاري عن معاوية بن أبي العباس أحاديث عن شيوخ الثوري، وهي معروفة من حديث الثوري؛ فقال ابن نمير - وأخذه عنه أبو زرعة وغيره -: إن معاوية بن أبي العباس رجل متروك، كان جارًا للثوري، فلما مات الثوري أخذ معاوية كتبه، فرواها عن شيوخه، فسمعوا منه. ثم فطنوا لصنيعه، فافتضح، وتركوه؛ وبقي مروان يروي عنه. ورأى بعض الحفاظ أن معاوية بن هشام روى تلك الأحاديث عن الثوري، فسمعها منه مروان، ثم دلَّس مروان اسمه، وأسقط الثوريَّ من السند، فدلَّس مروانُ [تدليس] تسوية بعد تدليسه الاسم. وهذا القول على وهنه - كما بيَّنتُه في تعليقي على "الموضح" (¬5) - لا يفيد أن معاوية بن هشام ¬

_ (¬1) "التهذيب": (4/ 413)، و"اللسان": (4/ 308). (¬2) "الضعفاء": (1/ 170). (¬3) (2/ 89). (¬4) "الضعفاء": (3/ 128). (¬5) (2/ 426 - 427).

روى ما لم يسمع، ولا أنهم تركوه؛ ولكن ابن الجوزي جمع بين القولين. فإن القائل: إن ابن أبي العباس روى ما لم يسمع وتركوه، بنَى على أنه غيرُ معاوية بن هشام. والقائل: إنه هو، لم يقل إنه روَى ما لم يسمع ولا أنهم تركوه. ومنها: أنه ذكر في "موضوعاته" (¬1) حديثًا رواه الطبراني قال: "حدثنا أحمد، حدثنا إسحاق بن وهب العلَّاف، حدثنا بِشر بن عبيد الدّارسي (¬2) ... ". ثم قال ابن الجوزي: "إسحاق كذاب ... ". قال السيوطي في "اللآلئ" (1/ 206) (¬3): "إنما الكذاب إسحاق بن وهب الطُّهُرْمُسي، فالتبس على المؤلف ... " يعني ابن الجوزي. وصدق السيوطي، العلاف موثَّق، وهو من شيوخ البخاري في "صحيحه"، والطهرمسي كذَّبوه. إلى غير ذلك من أوهامه. وأما الحاكم، فأحسبه تَبِع ابنَ حبان؛ فإن ابن حبان ذكر الحارث في "الضعفاء" (¬4)، وذكر ما أنكره من حديثه. والذي يُستنكر من حديث الحارث حديثان: الأول: رواه [1/ 223] محمد بن زنبور المكي، عن الحارث، عن حميد. والثاني: رواه ابن زنبور أيضًا عن الحارث، عن جعفر بن محمد. ¬

_ (¬1) (452). (¬2) في (ط): "الفارسي" تحريف. (¬3) (1/ 204). (¬4) (1/ 223).

فاستنكرها ابن حبان، وكان عنده أن ابن زنبور ثقة، فجعل الحَمْل على الحارث. وخالفه آخرون، فجعلوا الحمل على ابن زنبور. قال مسلمة في ابن زنبور: "تُكُلِّم فيه، لأنه روى عن الحارث بن عمير مناكير لا أصول لها، وهو ثقة". وقال الحاكم أبو أحمد في ابن زنبور: "ليس بالمتين عندهم، تركه محمد بن إسحاق بن خزيمة". وهذا مما يدل على وهم ابن الجوزي. وساق الخطيب في "الموضِّح" (¬1) فصلًا في ابن زنبور، فذكر أن الرواة عنه غيَّروا اسمه على سبعة أوجه. وهذا يُشعِر بأن الناس كانوا يستضعفونه، لذلك كان الرواة عنه يدلِّسونه. وقال ابن حجر في ترجمة الحارث من "التهذيب" (¬2): "قال ابن حِبَّان: كان ممن يروي عن الأثبات الأشياء الموضوعات, وساق له عن جعفر بن محمد ... " فذكر الحديث الثاني وقولَ ابن حبان: "هذا موضوع لا أصل له". ثم ساقه ابن حجر بسنده إلى محمد بن أبي الأزهر عن الحارث. وكذلك ذكره السيوطي في "اللآلئ المصنوعة" (ج 1 ص 118) (¬3). وابن أبي الأزهر هو ابن زنبور. وأسند الخطيب في "الموضِّح" هذا الحديث في ترجمة ابن زنبور. ثم قال ابن حجر: "والذي يظهر لي أن العلة فيه ممن دون الحارث". يعني من ابن زنبور. وخالفهم جميعًا النسائي، فوثَّق الحارث، ووثَّق ابن زنبور أيضًا، وقال مرة: "ليس به بأس". ¬

_ (¬1) (2/ 369). (¬2) (2/ 153). (¬3) (1/ 228).

قال المعلمي: لو كان لا بدّ من جرح أحد الرجلين لكان ابن زنبور أحق بالجرح, لأن عدالة الحارث أثبت جدًّا وأقدَم؛ لكن التحقيق ما اقتضاه صنيع النسائي من توثيق الرجلين. ويُحمَل الإنكارُ في بعض حديث ابن زنبور عن الحارث على خطأ ابن زنبور، وقد قال فيه ابن حبان نفسه في "الثقات" (¬1): "ربما أخطأ". والظاهر أنه كان صغيرًا عند سماعه من الحارث، كما يُعلَم من تأمُّل ترجمتهما. وقد تقدم في ترجمة جرير بن عبد الحميد أنه اختلط عليه حديثُ أشعث بحديث عاصم الأحول، فكأنه اختلط على ابن زنبور بما سمعه من الحارث أحاديثُ سمعها من بعض الضعفاء, ولم ينتبه لذلك كما تنبه جرير. فكأنَّ ابن زنبور في أوائل طلبه كَتَب أحاديثَ عن الحارث، ثم سمع من رجل آخر أحاديثَ كتبها في تلك الورقة، ولم يسمِّ الشيخَ، ثقةً بأنه لن يلتبس عليه، ثم غَفَل عن ذاك الكتاب مدةً، ثم نظر فيه، فظنَّ أن تلك الأحاديث كلَّها مما سمعه [1/ 224] من الحارث. وقد وثَّق الأئمةُ جماعةً من الرواة، ومع ذلك ضعَّفوهم فيما يروونه عن شيوخ معيَّنين. منهم: عبد الكريم الجزري فيما يرويه عن عطاء. ومنهم: عثمان بن غياث وعمرو بن أبي عمرو وداود بن الحصين فيما يروونه عن عكرمة. ومنهم: عمرو بن أبي سلمة فيما يرويه عن زهير بن محمد. ومنهم: هشيم فيما يرويه عن الزهري. ومنهم: ورقاء فيما يرويه عن منصور بن ¬

_ (¬1) (9/ 116).

المعتمر. ومنهم: الوليد بن مسلم فيما يرويه عن مالك (¬1). فهكذا ينبغي مع توثيق ابن زنبور تضعيفُه فيما يرويه عن الحارث بن عمير. فإن قيل: فأين أنت عما في "الميزان" (¬2): "ابن حبان، ثنا الحسن بن سفيان، ثنا محمود بن غيلان، أنبأنا أبو أسامة، ثنا الحارث بن عمير، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس: قال العباس: لأعلَمَنَّ ما بقاءُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فينا؟ فأتاه، فقال: يا رسول الله لو اتخذنا لك مكانًا تكلِّم الناسَ منه. قال: "بل أصْبِر عليهم، ينازعوني ردائي، ويطؤون عقبي، ويصيبني غبارُهم، حتى يكون الله هو يُريحني منهم". رواه حماد بن زيد عن أيوب فأرسله، أو أن ابن عباس قاله - شك -". فهذا الحديث لا شأن لابن زنبور فيه، وليس في سنده من يتجه الحملُ عليه غير الحارث. قلتُ: ليس في هذا الحديث ما يُنكَر، وقد رواه حماد بن زيد غير أنه شك في إسناده، وقد قال يعقوب بن شيبة: "حمَّاد بن زيد أثبتُ من ابن سلمة، وكلٌّ ثقة، غير أن ابن زيد معروف بأنه يقصر في الأسانيد ويوقف المرفوع، كثيرُ الشكِّ بتوقِّيه، وكان جليلًا. لم يكن له كتاب يرجع إليه، فكان أحيانًا يذكر فيرفع الحديث، وأحيانًا يهاب الحديث ولا يرفعه". فأيُّ مانع من أن يكون هذا مما قصَّر فيه حماد، وحفظه الحارث؟ وقد كان حماد نفسه يثني على الحارث ويقدِّمه، كما مرَّ. فإن شدَّد مشدِّد، فغاية الأمر أن يكون الخطأ في وصله. ¬

_ (¬1) وانظر كتاب "الثقات الذين ضعَّفوا في بعض شيوخهم" للدكتور صالح الرفاعي. (¬2) (1/ 440)

69 - حبيب بن أبي حبيب كاتب مالك

وهل الخطأ من الحارث، أو ممن بعده؟ وعلى فرض أنه من الحارث، فليس ذلك مما يُوجب الجرح؛ ومثل هذا الخطأ وأظهرُ منه قد يقع للأكابر كمالك والثوري. والحُكْم المُجْمَع عليه في ذلك: أن من وقع منه ذلك قليلًا لم يضرَّه، بل يحتج به مطلقًا، إلا فيما قامت الحجة على أنه أخطأ فيه. فالحارث بن عمير ثقة حتمًا. والحمد لله ربِّ العالمين. 69 - [1/ 225] حبيب بن أبي حبيب كاتب مالك: في "تاريخ بغداد" (13/ 396 [416]) من طريق: "الأبَّار، حدثنا أبو الأزهر (¬1) النيسابوري، حدثنا حبيب كاتب مالك بن أنس، عن مالك ... ". قال الأستاذ (ص 106): "يقول عنه أبو داود: من أكذب الناس. وقال ابن عدي: أحاديثه كلها موضوعة. وقال أحمد: ليس بثقة. وقال ابن حبان: يروي عن الثقات الموضوعات". أقول: اتفقوا على جرحه، فلا معنى للرواية عنه، ولو في المتابعات. 70 - الحجاج بن أرطاة: في "تاريخ بغداد" (13/ 415 [445]) من طريق: "حماد بن زيد يقول: سمعت الحجاج بن أرطاة يقول: ومَن أبو حنيفة؟! .. ". قال الأستاذ (ص 155): "من فقهاء الكوفة ومحدثيها، ويتكلم النقاد في حديثه". ¬

_ (¬1) في "التاريخ": "الأزهري" تحريف.

71 - الحجاج بن محمد الأعور

أقول: ليس له هنا رواية، وإنما هو شيء من قوله. وحاصل كلامهم في حديثه: أنه صدوق مدلِّس يروي بالمعنى. وقد لخَّص ذلك محمد بن نصر المروزي قال: "والغالب على حديثه الإرسال والتدليس وتغيير الألفاظ". فإذا صرَّح بالسماع فقد أمِنَّا تدليسه، وهو فقيه عارف لا يُخشى من روايته بالمعنى تغييرُ المعنى، لكن إذا خالفه في اللفظ ثقةٌ يتحرَّى الروايةَ باللفظ، وكان بين اللفظين اختلافٌ ما في المعنى = قُدِّم فيما اختلفا فيه لفظُ الثقة الآخر. فأما محلُّ الحَجَّاج في علمه، فقال ابن عيينة: "سمعت ابن أبي نَجيح يقول: ما جاءنا منكم (يعني أهل الكوفة) مثلُه - يعني الحجاج بن أرطاة". وقال سفيان الثوري: "عليكم به، فإنه ما بقي أحد أعرفُ بما يخرج من رأسه منه". وقال حماد بن زيد: "قدِمَ علينا جرير بن حازم من المدينة، فكان يقول: حدثنا قيس بن سعد عن الحجاج بن أرطاة. فلبثنا ما شاء الله، ثم قدِمَ علينا الحجاجُ ابن ثلاثين أو إحدى وثلاثين، فرأيت عليه من الزحام ما لم أر على حماد بن أبي سليمان. رأيت عنده داود بن أبي هند، ويونس بن عبيد، ومطر الورَّاق = جُثاةً على أرجلهم يقولون: يا أبا أرطاة ما تقول في كذا؟ ". 71 - الحجاج بن محمد الأعور: في "تاريخ بغداد" (13/ 405 [430]) من طريق "سُنَيد بن داود حدثنا حجاج قال: سألت قيس بن الربيع عن أبي حنيفة قال: أنا [من] (¬1) أعلم الناس به ... ". قال الأستاذ (ص 126): "سُنَيد إنما روى عن الحجاج بعد أن اختلط اختلاطًا ¬

_ (¬1) زيادة من "التاريخ".

المبحث الأول: هل اختلط حجاج؟

شديدًا، وقد [1/ 226] رآه أهل العلم يلقَّن الحجاج فيتلقَّن منه، والملقِّن كالمتلقِّن في السقوط عند أهل الفقه، وقال النسائي (في سنيد): "غير ثقة"". أقول: أما سُنَيد، فستأتي ترجمته (¬1). وأما الحجاج، فمدار الكلام فيه على الاختلاط والتلقُّن، وها هنا مباحث: الأول: هل اختلط حجاج؟ وإن كان اختلط، فهل حدَّث بعد اختلاطه؟ قال ابن سعد: "كان قد تغيَّر في آخر عمره حين رجع إلى بغداد" (¬2). وقال إبراهيم الحربي: "أخبرني صديق لي قال: لما قدِمَ حجَّاج الأعور آخرَ قدمةٍ إلى بغداد خلَّط، فرأيت يحيى بن معين عنده، فرآه يحيى خلّط، فقال لابنه: لا تُدخِلْ عليه أحدًا. قال: فلما كان بالعشيّ دخل الناس، فأعطوه كتابَ شعبة فقال: حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عيسى بن مريم، عن خيثمة! فقال يحيى لابنه: قد قلت لك". فكلمة ابن سعد ليست بصريحة في الاختلاط, لأن التغيير (¬3) أعمّ من الاختلاط. وحكاية إبراهيم الحربي صريحة في الاختلاط، لكن لا ندري من هو صديقه؟ وسكوتُ الحفاظ الأيقاظ كابن معين وأحمد وأبي خيثمة - وكلهم بغداديون - عن نقل اختلاط حجَّاج، وبيان تاريخه، وبيان من سمع منه فيه؛ مع إطلاقهم توثيقَ حجاج، وتوثيق كثيرين ممن روى عن حجاج = ¬

_ (¬1) (رقم 107). (¬2) في "الطبقات الكبرى": (9/ 335 و395) وزاد في الموضع الثاني: "فمات على ذلك". (¬3) كذا في (ط) ولعلها: "التغيُّر".

يدلُّ حتمًا على أحد أمرين: إما أن لا يكون حجاج اختلط، وإنما تغيَّر تغيرًا يسيرًا لا يضر؛ وإما أن لا يكون سمع منه أحد في مدة اختلاطه. والثاني أقرب. فكأنّ يحيى بن معين ذهب إلى حجاج عقبَ قدومه، فأحسَّ بتغيره، فقال لابنه: لا تُدخِلْ عليه أحدًا. ثم عاد يحيى عشيَّ ذاك اليوم في الوقت الذي جرت العادة بالدخول فيه على القادم للسماع منه، خشيةَ أن لا يعمل ابن حجاج بما أمره به، فوجد الأمر كذلك: أذِنَ لهم الابنُ، فدخلوا، ويحيى معهم، فسكت أولًا، فلما أخذ حجَّاجٌ الكتابَ فخلَّط، قال يحيى للابن: ألم أقل لك؟ فكأنهم قطعوا المجلس، وحجبوا حجَّاجًا حتى مات، فلم يسمع منه أحد في الاختلاط. فلما وثِق يحيى وبقيةُ أهل العلم بذلك لم يروا ضرورة إلى أن يُشِيعوا اختلاط حجاج وبيان تاريخه، بل كانوا يوثِّقونه ويوثِّقون كثيرًا من الذين سمعوا منه مطلقًا؛ لعلمهم أن ما بأيدي الناس من روايته كلَّه كان في حال تمام ضبطه. وفي ترجمة حجاج من "مقدمة الفتح" (¬1): "أجمعوا على توثيقه، [1/ 227] وذكره أبو العرب الصقلي في "الضعفاء" بسبب أنه تغير في آخر عمره واختلط، لكن ما ضرَّه الاختلاط؛ فإن إبراهيم الحربي حكى أن يحيى بن معين منع ابنه أن يُدخِلَ عليه بعد اختلاطه أحدًا". فأما قوله في "التهذيب" (¬2): "وسيأتي في ترجمة سُنيد بن داود عن الخلال ... "، فستعلم ¬

_ (¬1) (ص 396). (¬2) (2/ 106).

المبحث الثاني: متى سمع سنيد من الحجاج؟

ما فيه قريبًا. المبحث الثاني: متى سمع سُنيد من الحجَّاج؟ روى الأثرم - وهو ثقة - عن الإِمام أحمد أنه قال: "سُنيد لزم حجَّاجًا قديمًا، قد رأيت حجَّاجًا يملي عليه، وأرجو أن لا يكون حدَّث إلا بالصدق". وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: "رأيت سُنيدًا عند حجاج بن محمد، وهو يسمع منه كتابَ "الجامع" لابن جريج (¬1): أخبِرتُ عن الزهري. وأخبِرتُ عن صفوان بن سليم. وغير ذلك. قال: فجعل سُنيد يقول لحجاج: يا أبا محمد قل: ابن جريج عن الزهري. وابن جريج عن صفوان بن سليم. قال: فكان يقول له هكذا". قال عبد الله: "ولم يحمده أبي فيما رآه يصنع بحجَّاج، وذمَّه على ذلك. قال أبي: وبعض تلك الأحاديث التي كان يرسلها ابن جريج أحاديث موضوعة، كان ابن جريج لا يبالي ممن أخذها". حكى هذا في "تهذيب التهذيب" ثم قال: "وحكى الخلَّال عن الأثرم نحو ذلك، ثم قال الخلَّال: وروى (؟ ونُرى) أن حجاجًا كان هذا منه في وقت تغيُّره، ويرى (؟ ونُرى) أن أحاديث الناس عن حجاج صحاح إلا ما روى سُنيد". أقول: هذا حَدْسٌ يردُّه نصُّ الإِمام أحمد، كما تقدم. ومبنى هذا الحدس على توهم أن في القصة ما يخدش في تثبيت حجاج، وإنما يكون الأمر كذلك لو كان إذا قيل: "ابن جريج عن فلان" يحمل على سماع ابن جريج من فلان، وليس الأمر كذلك؛ لأن ابن جريج مشهور بالتدليس. فإذا قيل: ¬

_ (¬1) كان بعده في (ط) بين معكوفين: [فيه] والظاهر أنها مقحمة من الناشر أو ممن قرأ الكتاب قبل طبعه.

المبحث الثالث: في التلقين.

"ابن جريج عن الزهري"، ولم يجيء بيان السماع من وجه آخر، فإنه لا يُحْكَم بالاتصال، بل يُبنى على أوهن الاحتمالين، وهو أن بين ابن جريج وبين الزهري واسطة، وذلك لاشتهار ابن جريج بالتدليس. وعلى هذا، فسيَّانِ قيل: "ابن جريج أخبِرتُ عن الزهري" و"ابن جريج عن الزهري". ولهذا قال الإِمام أحمد: أرجو أن لا يكون حدَّث إلا بالصدق. وإنما ذكر في رواية عبد الله كراهيته لذلك، لأنه رآه خلاف الكمال في الأمانة. وفي [1/ 228] "الكفاية" (ص 187) من طريق: "عبد الله بن أحمد قال: كان إذا مرَّ بأبي لحن فاحش غيَّره، وإذا كان لحنًا سهلًا تَرَكه، وقال: كذا قال الشيخ". فأنت ترى أحمد يمتنع من تغيير اللحن، فما ظنُّك بما تقدَّم! فإن قيل: فما الحامل لسُنيد على التماس ذلك من حجَّاج؟ قلت: طلب الاختصار والتزيين الصوري. فتدبَّرْ ما تقدم يتبيَّنْ لك أنه ليس في الحكاية ما يُشعر بوهنٍ في تثبُّت حجاج، حتى يقوى الحدس بأنها كانت في وقت تغيُّره، ويتضحْ لك أن ما تقدَّم من الدليل على أن حجَّاجًا لم يُحدِّث في وقت تغيُّرِه هو على إطلاقه. المبحث الثالث: في التلقين. التلقين القادح في الملقِّن هو أن يوقع الشيخَ في الكذب ولا يبيِّن، فإن كان إنما فعل ذلك امتحانًا للشيخ وبيَّن ذلك في المجلس لن يضرَّه. وأما الشيخ، فإن قبِلَ التلقين وكثُر ذلك منه فإنه يسقط. دخل حفص بن غياث ويحيى بن سعيد القطان على موسى بن دينار المكي، فوجدا عنده أبا شيخٍ جاريةَ بن هرِم الفُقَيمي، فجعل حفص يقول لموسى امتحانًا: حدَّثتْك عائشةُ

بنت طلحة عن عائشة بكذا، وحدَّثك القاسمُ بن محمد عن عائشة بكذا، وحدَّثك سعيد بن جبير عن ابن عباس بكذا؛ ويذكر أحاديث قد علِمَ أن موسى لم يسمعها ممَّن ذكر، فأجابه موسى بالإثبات. وكان أبو شيخ مغفَّلًا، فكتبها. فلما فرغ حفص مدَّ يده إلى ما كتبه أبو شيخ، فمحاه وبيَّن له الواقع. راجع ترجمة موسى وجارية في "لسان الميزان" (¬1). وما وقع من سُنَيد ليس بتلقين الكذب، وإنما غايته أن يكون تلقينًا لتدليس التسوية. وتدليس التسوية: أن يترك الراوي واسطة بعد شيخه، كما يُحكى عن الوليد بن مسلم أنه كان عنده أحاديث سمعها من الأوزاعي عن رجل عن الزهري، وأحاديث سمعها من الأوزاعي عن رجل عن نافع، فكان يقول فيها: حدثني الأوزاعي عن الزهري، وحدثني الأوزاعي عن نافع! وهذا تدليس قبيح، لكنه في قصة سُنَيد وحجَّاج لا محذور فيه، لاشتهار ابن جريج بالتدليس، كما مرّ. [1/ 229] وبذلك يتبيَّن أن حجَّاجًا لم يتلقَّن غفلةً ولا خيانةً، وإنما أجاب سُنيدًا إلى ما التمسه، لعلمه أنه لا محذور فيه. وكره أحمد ذلك لما تقدم. ومن ثناء الأئمة على الحجاج: قال الإِمام أحمد: "ما كان أضبطَه وأشدَّ تعاهُدَه للحروف". وقال المعلَّى الرازي: "قد رأيت أصحاب ابن جريج، ما رأيت فيهم أثبت من حجَّاج". وقال علي ابن المديني والنسائي: "ثقة". وكذا وثَّقه مسلم والعجلي وابن قانع ومسلمة بن قاسم وغيرهم، واحتج به الجماعة. ¬

_ (¬1) (8/ 196 - 198) و (2/ 413 - 415).

72 - حرب بن إسماعيل الكرماني السيرجاني

72 - حرب بن إسماعيل الكِرماني السِّيرجاني: لم ينقم عليه الأستاذ رواية، ولكنه علم أنه من أصحاب الإِمام أحمد، فتناوله من بُعد يُسِرُّ حَسْوًا في ارتغاء (¬1)! قال (ص 115) في ابن أبي حاتم: "أفسده حرب بن إسماعيل السِّيرجاني في المعتقد، حتى أصبح ينطوي على العداء لمتكلمي أهل الحق". وقال السُّها يا شمسُ أنتِ خفيَّةٌ ... وقال الدجى يا صبحُ لونُكَ حائلُ (¬2) وقد أفردتُ المعتقد بقسم. وحرب من ثقات أصحاب أحمد، لم يتكلم فيه أحد. (¬3) 73 - الحسن بن أحمد بن إبراهيم بن شاذان أبو علي بن أبي بكر: في "تاريخ بغداد" (13/ 399 [420]): "أخبرنا الحسن بن أبي بكر أخبرنا حامد بن محمد الهروي ... ". قال الأستاذ (ص 113): "يقول عنه الخطيب: إنه كان يشرب النبيذ". أقول: قال الخطيب (ج 7 ص 279): "كتبنا عنه، وكان صدوقًا صحيح الكتاب، وكان يفهم الكلام على مذهب الأشعري. وكان مشتهرًا بشرب النبيذ إلى أن تركه بأخرة. كتب عنه جماعة من شيوخنا كأبي بكر البَرْقاني ... سمعت أبا الحسن بن رزقويه يقول: أبو علي بن شاذان من أوثق من برأ الله ¬

_ (¬1) "يسرّ حسوًا في ارتغاء" مَثَل تقدم ذكره وعزوه (ص 97). (¬2) لأبي العلاء في "سقط الزند" (195) طبعة دار بيروت، 1400. (¬3) حريث بن عبد الرحمن أبو عمرو، يأتي مع محمود بن إسحاق. [المؤلف].

74 - الحسن بن الحسين بن العباس بن دوما النعالي

في الحديث، وسماعي منه أحبُّ إليَّ من السماع من غيره، أو كما قال". فسماع البرقاني وغيره منه يدل أنه إنما كان على مذهب العراقيين في الترخّص في النبيذ، ومثلُ ذلك لا يُجرَح به اتفاقًا؛ ومع ذلك فقد ترك ذلك بأخرة. وسماعُ الخطيب منه [1/ 230] متأخر، وغالب السماع أو جميعه في ذاك العصر من الكتب، وقد قال الخطيب: "كان صدوقًا صحيح الكتاب" (¬1). 74 - الحسن بن الحسين بن العباس بن دُوما النِّعالي: في "تاريخ بغداد" (13/ 374 [380]): "أخبرنا الحسن بن الحسين بن العباس النعالي، أخبرنا أحمد بن جعفر بن سَلْم، حدثنا أحمد بن علي الأبَّار، حدثنا أبو يحيى محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ، عن أبيه قال: دعاني أبو حنيفة إلى الإرجاء. أخبرنا ابن رزق، أخبرنا جعفر الخُلْدي، حدثنا محمد بن عبد الله بن سليمان الحضرمي قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد ... " بمثله، وزاد فيه: "فأبيت". قال الأستاذ (ص 46): "النَّعالي هو ابن دُوما المزوِّر، قال عنه الخطيب نفسه: أفسد أمرَه بأن ألْحَق لنفسه السماعَ في أشياء لم يكن عليها سماعُه، فكيف تكون روايةُ مثله في عِداد المحفوظ عند النقلة! هكذا يكون المحفوظ عند الخطيب! وكأن الخطيب استشعر تداعي هذا السند حتى ساق شاهدًا فيه ابن رزق والحضرمي. ولكن نعترف للخطيب ونقول له: قد يصدق الكذوب! ولا مانع من أن ¬

_ (¬1) أقول: من المعروف عن أبي حنيفة رحمه الله أنه كان يرخص في شرب النبيذ، فيكون هو سلف أبي علي في ذلك، فكيف يجعل الكوثري ذلك طعنًا في أبي علي، ثم ينسى أنه يصيب به إمامه! [ن].

يكون أبو حنيفة داعيًا إلى الإرجاء بالمعنى الذي سبق". أقول: ابن رزق هو محمد بن أحمد بن رزق ثقة، تأتي ترجمته (¬1). والحضرمي حافظ جليل تأتي ترجمته (¬2). فالسند الثاني لا غبار عليه، وإذا كان المتن محفوظًا بسند صحيح لم يزده سَوقُه مع ذلك بسندٍ فيه مقال إلا تأكيدًا. على أن المقال في ابن دُوما لا يضرُّ ها هنا، فإن كان الخطيب إنما يروي بذاك السند ما يأخذه من مصنَّف الأَبَّار، والعمدة في ذلك على أن تكون النسخة موثوقًا بها؛ كما لو روى أحدنا بسندٍ له من طريق البخاري حديثًا ثابتًا في "صحيحه"، فإنه لا يقدح في ذلك أن يكون في السند إلى البخاري مطعون فيه، وقد شرحتُ هذا في "الطليعة" (¬3) وغيرها، والأبَّار هو الحافظ أحمد بن علي بن مسلم تقدمت ترجمته (¬4)، والخطيب معروف بشدة التثبُّت، بل قد يبلغ به الأمر إلى التعنُّت = فلم يكن ليروي عن مصنَّف الأبَّار إلا عن نسخة موثوق بها بعد معرفته صحة سماع ابن دُوما. وفوق ذلك، فالطعن في ابن دوما فيه نظر. ذكره الخطيب [1/ 231] فقال: "كان كثير السماع إلا أنه أفسد نفسه ... ". العبارة التي حكاها الأستاذ، ثم قال الخطيب: "وذكرت للصُّوري جزءًا من حديث الشافعي حدثنا ابن دُوما، فقال لي: لما دخلت بغداد رأيت هذا الجزء، وفيه سماع ابن دوما الأكبر، وليس فيه سماع أبي علي، ثم سمع أبو علي فيه لنفسه وألحق اسمه ¬

_ (¬1) رقم (187). (¬2) رقم (212). (¬3) (ص 75 - 76). (¬4) رقم (27).

75 - الحسن بن الربيع أبو علي البجلي الكوفي

مع اسم أخيه". فمن الجائز أنهم كانوا يحضرونه مع أخيه، ولم يكتبوا إسماعه لصغره، فرأى أنه كان مميِّزًا وأن له حق الرواية بذلك. فإن كان كتب بخطه العادي أنه سمع، فلعله صادق. وإن كان قلَّد خط كاتب السماع الأول إيهامًا أنه كتب سماعه في المجلس، فهذا تدليس قبيح قد يكون استجازه بناءً على ما يقوله الفقهاء في مسألة الظفر ونحوها، بعلّة أنه لا يصل إلى حقه إلا بذلك. وعلى كل حال، فكما أن الخطيب لم يرو عنه من الجزء الذي ذكره من حديث أبي بكر الشافعي، فكذلك لم يرو عنه الخطيب شيئًا إلا مما ثبت عنده صحة سماعه له مع الوثوق بالنسخة. 75 - الحسن بن الربيع أبو علي البَجَلي الكوفي: في "تاريخ بغداد" (13/ 414 [443]) من طريق: "أبي بكر الأعيَن عن الحسن بن الربيع قال: ضرب ابن المبارك على حديث أبي حنيفة قبل أن يموت بأيام يسيرة". قال الأستاذ (ص 151): "يقول فيه ابن معين: لو كان يتقي الله لم يكن يحدِّث بالمغازي، ما كان يُحسن يقرؤها. ومع ذلك لفظه لفظ انقطاع". أقول: لم تصح هذه الكلمة عن ابن معين، راجع "الطليعة" (ص 78) (¬1). ولذلك لم تُذكر في "التهذيب"، ولا ذُكِر الحسن في "الميزان"، ولا ذكره ابن حجر في "مقدمة الفتح" فيمن فيه كلام من رجال البخاري، ومع ذلك فقد أجاب عنها الخطيب. وفي "التهذيب" (¬2): وقال ابن ¬

_ (¬1) (ص 60). (¬2) (2/ 278).

شاهين في "الثقات" (¬1): قال عثمان بن أبي شيبة: "الحسن بن الربيع صدوق وليس بحجة". وهذه الحكاية منقطعة لأن ابن شاهين إنما ولد بعد وفاة عثمان بنحو ستين سنة، ولا نعلمه التزم الصحة فيما يحكيه في "ثقاته" عمن لم يدركه، وعثمان على قلة كلامه في الرجال يتعنَّت. وكلمة "ليس بحجة" لا تنافي الثقة، فقد قال عثمان نفسه في أحمد بن عبد الله بن يونس الثقة المأمون: "ثقة وليس بحجة". وراجع "فتح المغيث" (ص 157) (¬2). والحسن قد وثَّقه الناس (¬3). قال أبو حاتم مع تشدُّده: "كان من أوثق أصحاب ابن إدريس". وقال العجلي: "كوفي ثقة [1/ 232] صالح متعبّد". وقال ابن خراش: "كوفي ثقة". وروى عنه البخاري ومسلم في "الصحيحين"، وأبو داود في "السنن" وهو لا يروي إلا عن ثقة، كما مرَّ في ترجمة أحمد بن سعد بن أبي مريم (¬4). وروى عنه أبو زرعة، ومن عادته أن لا يروي إلا عن ثقة، كما في "لسان الميزان" (ج 2 ص 416) (¬5). وأخرج له بقية الستة بواسطة. وقال ابن حبان في "الثقات" (¬6): "هو الذي غمَّضَ ابن المبارك ودَفَنه". وليس بمدلس، فقوله: "ضرب ابن المبارك" محكوم له ¬

_ (¬1) (ص 94) وفي النسخة تخليط. (¬2) (2/ 113). (¬3) راجع ترجمته في "التهذيب": (2/ 278). (¬4) رقم (18). (¬5) (3/ 396). (¬6) (8/ 172).

76 - الحسن بن الصباح أبو علي البزار الواسطي

بالاتصال، كما سلف في القواعد (¬1). (¬2) 76 - الحسن بن الصبَّاح أبو علي البزار الواسطي: في "تاريخ بغداد" (13/ 396 [415]) من طريق: "يعقوب بن سفيان، حدثني الحسن بن الصباح، حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنيني ... ". قال الأستاذ (ص 105): "ليس بقوي عند النسائي". أقول: عبارة النسائي: "ليس بالقوي"، وبين العبارتين فرق لا أراه يخفى على الأستاذ ولا على عارف بالعربية. فكلمة: "ليس بقوي" تنفي القوة مطلقًا، وإن لم تُثبِت الضعف مطلقًا. وكلمة: "ليس بالقوي" إنما تنفي الدرجة الكاملة من القوة. والنسائي يراعي هذا الفرق، فقد قال هذه الكلمة في جماعة أقوياء، منهم عبد ربه بن نافع وعبد الرحمن بن سليمان بن الغسيل، فبيَّن ابن حجر في ترجمتيهما من "مقدمة الفتح" (¬3) أن المقصود بذلك أنهما ليسا في درجة الأكابر من أقرانهما. وقال في ترجمة الحسن بن الصباح (¬4): "وثَّقه أحمد وأبو حاتم. وقال النسائي: صالح، وقال في الكنى: ليس بالقوي. قلت: هذا تليين هيِّن، وقد روى عنه البخاري وأصحاب "السنن" إلا ابن ماجه، ولم يُكثِر عنه البخاري". ¬

_ (¬1) (ص 135 وما بعدها). (¬2) الحسن بن زياد اللؤلؤي، يأتي في ترجمة محمد بن سعد العوفي. [المؤلف]. (¬3) (ص 416 - 417). (¬4) (ص 397).

77 - الحسن بن علي بن محمد الحلواني نزيل مكة

77 - الحسن بن علي بن محمد الحُلْواني نزيل مكة: في "تاريخ بغداد" (13/ 398 [418]) من طريق: "الأبَّار، حدثنا الحسن بن علي، حدثنا أبو توبة ... ". قال الأستاذ (ص 109): "لم يكن أحمد يحمده، كما ذكره الخطيب". أقول: إنما لم يحمده أحمد لأنه بلغه عنه أنه مع قوله: "القرآن كلام الله غير مخلوق، ما نعرف غير هذا" امتنع من إطلاق الكفر على القائلين بخلق القرآن. فكأنَّ أحمد رأى أن امتناع العالِم في ذاك العصر من إطلاق الكفر عليهم يكون ذريعةً لانتشار تلك البدعة التي جدَّ أهلها، والدولة معهم في نشرِها وحملِ الناس عليها. ولعل الحُلواني لم ينتبه لهذا، وعارَضَ ذلك عنده ما يراه مفسدة أعظم. فأما قول أحمد: "لا أعرفه بطلب الحديث، ولا رأيته يطلبه" فحق وصدق. أحمد في بلد، والحُلْواني في بلد آخر. وقد قال يحيى القطان في عبد الواحد بن زياد: "ما رأيته طلب حديثًا قط"، ولم يعدُّوا هذا تضعيفًا. والحلواني قال فيه يعقوب بن شيبة: "كان ثقة ثبتًا". وقال النسائي: "ثقة". وقال الترمذي: "كان حافظًا". وقال الخليلي: "كان يُشْبِه أحمد في سَمْته (¬1) وديانته". وقال الخطيب: "كان ثقة حافظًا". وروى عنه البخاري ومسلم في "صحيحهما"، وأبو داود مع أنه لا يروي إلا عن ثقة ومع شدة متابعته لأحمد (¬2). ¬

_ (¬1) (ط): "سمعته" تحريف. وفي "التهذيب": "كان يُشَبَّه بأحمد ... ". (¬2) انظر ترجمته في "التهذيب": (2/ 302 - 303).

78 - الحسن بن علي بن محمد أبو علي ابن المذهب التميمي

78 - الحسن بن علي بن محمد أبو علي ابن المُذْهِب التميمي: له ذِكْر في ترجمة الخطيب، وتكلم فيه الأستاذ في موضع آخر. وحاصل الكلام أن الخطيب قال في "التاريخ" (ج 7 ص 390): "كان يروي عن ابن مالك القطيعي "مسند أحمد بن حنبل" بأسره. وكان سماعه صحيحًا إلا لأجزاء منه، فإنه ألحق اسمَه فيها. وكذلك فعل في أجزاء من "فوائد ابن مالك". وكان يروي عن ابن مالك أيضًا كتاب "الزهد" لأحمد بن حنبل، ولم يكن له به أصل عتيق وإنما كانت النسخة بخطه كَتَبها بأخَرَة. وليس بمحلٍّ للحجة. حدثنا ابن المُذْهِب ... ثنا ابن مالك وأبو سعيد الحُرَقي قالا: ثنا أبو شعيب الحرَّاني، ثنا البابْلُتِّي ... وجميع ما كان عند ابن مالك عن أبي شعيب جزء واحد وليس هذا الحديث فيه. حدثني ابن المذهب، حدثنا محمد بن إسماعيل الوراق، وعلي بن عمر الحافظ، وأبو عمر بن مهدي قالوا: حدثنا الحسين بن إسماعيل ... فأنكرته عليه وأعلمتُه أن هذا الحديث لم يكن عند أبي عمر بن مهدي، فأخذ القلم وضرب على اسم ابن مهدي. وكان كثيرًا يَعرض عليَّ أحاديثَ في أسانيدها أسماءُ قوم غير منسوبين، ويسألني [1/ 234] عنهم، فأذكر له أنسابهم، فيلحقها في تلك الأحاديث، ويزيدها في أصوله موصولةً بالأسماء. وكنت أنكر عليه هذا الفعل، فلا ينثني عنه". أقول: أما الأمر الأول - وهو إلحاق السماع - فأجاب ابن الجوزي في "المنتظم" (ج 8 ص 155) بقوله: "هذا لا يوجب القدح، لأنه إذا تبين سماعَه للكتاب جاز أن يكتب سماعه بخطه. والعجب من عوام المحدثين كيف يجيزون قول الرجل: أخبرني فلان، ويمنعون أن يكتب سماعه بخط نفسه أو

إلحاق سماعه فيها بما يتقنه! ". أقول: جرت عادتهم بكتابة السماع وأسماء السامعين في كلّ مجلس، فمن لم يسمَّع له في بعض المجالس دلَّ ذلك على أنه فاته، فلم يسمعه. فإذا ادعى بعد ذلك أنه سمعه ارتابوا فيه، لأنه خلاف الظاهر. فإذا زاد فألحق اسمه أو تسميعه بخط يحكي به خطَّ كاتب التسميع الأول قالوا: زَوَّر. والظاهر أن هذا لم يقع من ابن المذهب، ولو كان وقع لبالغ الخطيب في التشنيع، وإنما ألحق ما ألحق بخطه الواضح. ولا ريب أن من استيقن أنه سمع جاز له أن يُخبرَ أو يكتبَ أنه سمع، وأن من ثبتت (¬1) عدالتُه وأمانتُه ثم ادعى سماعًا ولا معارض له، أو يعارضه ما مرَّ ولكن له عذر قريب كأن يقول: فاتني أولًا ذلك المجلس وكان الشيخ يعتني بي فأعاده لي وحدي، ولم يحضر كاتب التسميع = فإنه يُقبل منه. ولعل هذا هو الواقع، فقد دلَّ اعتمادُ الخطيب عليه في كتاب "الزهد" كما يأتي واقتصارُه في الحكم على قوله: "ليس بمحل للحجة" أنه كان عنده صدوقًا. وذكر ابن نقطة كما في "الميزان" (¬2) أن مسنَدَي فضالة بن عبيد وعوف بن مالك وأحاديث من مسند جابر لم تكن في كتاب ابن المذهِب، وهي ثابتة في رواية غيره عن شيخه. قال: "ولو كان يُلحق اسمه - كما زعم الخطيب - لألحَقَ ما ذكرناه". يعني لو كان يُلحق اسمه فيما لم يسمَع. والخطيب لم يقل ذلك، وإنما أطلق أنه ألحق اسمه؛ لأن ثبوت السماع ¬

_ (¬1) (ط): "تثبت" والصواب ما أثبت. (¬2) (2/ 34)، وكلام ابن نقطة في "التقييد لرواة السنن والمسانيد": (1/ 280).

بمجرّد الدعوى مع الصدق ليس في درجة ثبوته بالبينة. وقد قال الخطيب في "الكفاية" (ص 109): "ومذاهب النقاد للرجال غامضة دقيقة، وربما سمع بعضهم في الراوي أدنى مغمز، فتوقف عن الاحتجاج بخبره ... رجاء إن كان الراوي حيًّا أن يحمله ذلك على التحفظ ... وإن كان ميتًا أن يُنزِّله من ينقل عنه منزلته، فلا يُلحقه بطبقة السالمين من [1/ 235] ذلك المغمز ... ". وقال شجاع الذهلي: "كان شيخًا عسِرًا في الرواية, وسمع الكثير، ولم يكن ممن يُعتمد عليه في الرواية، كأنه خلط في شيء من سماعه". وقال السِّلَفي: "كان مع عُسْرِه متكلَّمًا فيه ... ". والعَسِرُ في الرواية هو الذي يمتنع من تحديث الناس إلا بعد الجهد، وهذه الصفة تنافي التزيُّد ودعوى سماع ما لم يسمع. إنما يدعي سماعَ ما لم يَسمع من له شهوة شديدة في ازدحام الناس عليه وتكاثُرهم حوله، ومن كان هكذا كان من شأنه أن يتعرض للناس يدعوهم إلى السماع منه ويرغِّبهم في ذلك. فأما من يأبى التحديث بما سمع إلا بعد جهد، فأيُّ داع له إلى التزيُّد؟ وأما الأمر الثاني: وهو قضية كتاب "الزهد"، فقد قال السِّلَفي عقب ما مرَّ عنه: "حدَّث بكتاب الزهد - بعد ما عدِمَ أصلَه - من غير أصله". فدل هذا على أنه كان لابن المُذْهِب أصل بكتاب "الزهد"، ولكن عدِمَه وبقيت عنده نسخة بخطه، فلعله كان قد عارضها بأصله أو أصل آخر علِمَ مطابقته لأصله. ويقوِّي ذلك أن الخطيب نفسه سمع منه كتاب "الزهد"، وروى منه أشياء. وأما الأمر الثالث: وهو قول الخطيب: "وليس بمحلٍّ للحجة"؛ فحاصله أنها لا تقوم الحجة بما يتفرد به. وهذا لا يدفع أن يُعتمد عليه في الرواية عنه من مصنَّف معروف: كـ "المسند"، و"الزهد". وسيأتي في ترجمة

عبد العزيز بن الحارث (¬1) طعنُهم فيه، وتشنيعُهم عليه، وتشهيرُهم به بسبب حديثين نسبهما إلى "المسند"، وهم يرون أنهما ليسا منه. ولم يغمزوا ابن المُذهِب بشيء ما من هذا القبيل، وذلك يدل أوضح دلالة على علمهم بمطابقة نسختيه اللتين كان يروي منهما "المسند" و"الزهد" لسائر النسخ الصحيحة. فالكلام فيه وفي شيخه لا يقتضي أدنى خَدْش في صحة "المسند" و"الزهد"، فليخسأ أعداء السنة! وأما الخبران اللذان ذكرهما الخطيب، فالذي يظهر لي أن ابن المُذْهِب كان يتعاطى التخريج من أصول بعض الأحاديث، فيكتب الحديث من طريق شيخ من شيوخه، ثم يتصفح أصوله؛ فإذا وجد ذاك الحديث قد سمعه من شيخ آخر بذاك السند كتَبَ اسم ذاك الشيخ مع اسم الشيخ الأول في تخريجه، وهكذا، وهذا الصنيع مظِنَّة للغلط، كأنْ يريد أن يكتب [1/ 236] اسم الشيخ على حديث، فيخطئ، فيكتبه على حديث آخر. أو يرى السند متفقًا، فيتوهم أن المتن متفق، وإنما هو متن آخر، وأشباه ذلك. وقد قال ابن معين: "من سمع من حماد بن سلمة الأصناف ففيها اختلاف، ومن سمع منه نسخًا فهو صحيح" (¬2). وقال يعقوب بن سفيان في سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي: "كان صحيح الكتاب إلا أنه كان يحوِّل، فإن وقع فيه شيء فمن النقل، وسليمان ثقة" (¬3). والمراد بأصناف حماد وتحويل سليمان نحوُ ما ذكرتُ من التخريج. وكأنّ ابن المُذْهِب شعر بهذا من نفسه، ولذلك ضرب ¬

_ (¬1) رقم (144). (¬2) انظر "التهذيب": (3/ 12). (¬3) انظر "التهذيب": (4/ 208).

79 - الحسن بن الفضل البوصرائي

على الاسم. وأما إلحاقه ما كان يذكر له الخطيبُ من أنساب غير المنسوبين، فتساهلٌ لا يوجب الجرح، ولكنه يدل على أن ابن المُذْهِب لم يكن بمتقن، وأنه كان فيه سلامة وحسن ظنٍّ بالخطيب ومعرفته. ولا نشكُّ أن الخطيب لم يكن يذكر له من الأنساب إلا ما يستيقنه، فالخَطْب - إن شاء الله تعالى - سهل. وعلى كل حال، فلم ينصف ابن الجوزي إذ ينقم على الخطيب ما ذكره في ابن المذهب، ويزعم أن هذه الأمور كلها ليس فيها ما يستحقّ الذكر في ترجمة الراوي، وأن الخطيب إنما جرى على عادة عوامِّ المحدِّثين يجرحون بما ليس بجرح، مع ميل من الخطيب على الحنابلة. كذا قال! فهو لا يتهم الخطيب فيما حكاه، وإنما يتهمه في اعتداده بهذه الأمور. ومن عرف وأنصف علم أن الخطيب لم يخرج عن طريق أئمة النقاد، وأنه مع ذلك لم يعتدَّ بهذه الأمور مُسقطًا للرواية البتة، وإنما قال: "ليس بمحل للحجة". وقد قدمت ما يُبيِّن ذلك ويُهوِّنه. والله المستعان. 79 - الحسن بن الفضل البُوصَرائي: في "تاريخ بغداد" (13/ 417 [447]): "أخبرنا البَرْقاني، أخبرنا محمد بن الحسن السِّراجي، أخبرنا عبد الرحمن (¬1) بن أبي حاتم الرازي، حدثني أبي قال: سمعت محمد بن كثير العبدي يقول ... ". فذكر حكاية، ثم ¬

_ (¬1) في "التاريخ": "عبد الله" تحريف، وفي النشرة المحققة على الصواب.

80 - الحسين بن أحمد الهروي الصفار

أردف ذلك بقوله: "أخبرنا محمد بن الحسين بن محمد المتُّوثي، أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار، حدثنا الحسن بن الفضل البُوصَرائي قال: حدثنا محمد بن كثير العبدي ... " فذكر نحوه. قال الأستاذ (ص 161): "قال ابن المنادي: أكثَرَ الناسُ عنه، ثم انكشف أمره، فتركوه، وخرقوا حديثه. قاله الذهبي. ومثله في كتاب الخطيب نفسه، وهكذا المحفوظ عنده". [1/ 237] أقول: قد روى عن البُوصَرائي جماعة من الأكابر كابن صاعد والصفار، وكلام ابن المنادي غير مفسَّر، وقد كانوا ربما يغضبون على المحدِّث، ويخرقون حديثه لغير موجِب كما مرَّ في "الطليعة" (ص 49) (¬1)، وكما تراه في ترجمة محمد بن بِشر الزَّنْبَري من "لسان الميزان" (¬2). والحكايةُ ثابتة بالسند الأول عن ابن أبي حاتم، وقد أثبتها في كتابه "الجرح والتعديل"، وفي المعنى المقصود منها روايات أخرى كثيرة، وبذلك يثبت أنه هو المحفوظ. فأما رواية البوصرائي فإن لم تؤكِّد ذلك لم توهِّنه، فلا وجه لقول الأستاذ: "وهكذا المحفوظ عنده". 80 - الحسين بن أحمد الهروي الصَّفَّار: في "تاريخ بغداد" (13/ 423 [453]): "أخبرنا محمد بن عمير بن بكير المقرئ، أخبرنا الحسين بن أحمد الهروي الصفار ... ". ¬

_ (¬1) (ص 36). (¬2) (7/ 13 - 14).

قال الأستاذ (ص 170): "قال البَرْقاني: ... عندي عنه رِزْمة، ولا أخرج عنه في "الصحيح" حرفًا واحدًا. سمع من أبي القاسم البغَوي ثلاثة أحاديث أو أربعة أحاديث، ثم حدَّث عنه بشيء كثير. كتبتُ عنه، ثم بأن لي أنه ليس بحجة. وقال الحاكم: كذَّاب لا يُشتغل به. فبرئتْ بذلك ذمةُ الثوري من مثل تلك الكلمة الساقطة، وركبتْ على أكتاف الخطيب الذي يَعلم كلَّ ذلك". أقول: الهروي هذا له مستخرج على "صحيح مسلم"، وروايته عن البغوي ما لم يسمعه منه قد تكون عملًا بالإجازة أو إعلام الشيخ. وعبارةُ البَرْقاني إنما فيها أن الرجل ليس بحجة، ولا يُخرِّج عنه في "الصحيح". وهذا يُشعر بأنه يروي عنه في غير "الصحيح" للاعتبار. فأما قول الحاكم: "كذاب"، فبناها على ظاهر روايته عن البغوي ما لم يسمعه منه، وقد مرَّ ما في ذلك. ثم قال الحاكم: " ... انصرف الرجل من الحج، ورفض الحشمةَ، وحدَّث بالمناكير". والتحديث بالمناكير إنما يضرُّه إذا كانت النكارة من جهته، والمقصود هنا أنه لا يثبت بما ذكر تعمُّدُ الهروي للكذب المسقِط، وهو - على ما اقتضاه كلام البرقاني - ممن يُكتَب حديثه وُيروَى عنه للاعتبار. وتلك الكلمة التي في حكايته توجد لها في الترجمة عند الخطيب عدةُ أخوات عن الثوري توافقها في المعنى الذي ادعاه الخطيب بقوله: "والمحفوظ ... ". أقربها إليها حكايتان قَبْلها عن أبي عاصم عن الثوري، وأبو عاصم هذا هو النبيل الثقة المأمون، حاول الأستاذ أن يجعله العبَّاداني المجروح، كما شرحته في "الطليعة" (ص 29 - 30) (¬1). ¬

_ (¬1) (ص 20 - 21).

81 - الحسين بن إدريس الهروي

81 - [1/ 238] الحسين بن إدريس الهروي: في "تاريخ بغداد" (13/ 408 [433]): "أخبرنا البَرْقاني، أخبرنا محمد بن عبد الله بن خَمِيرُويَه، أخبرنا الحسين بن إدريس قال: قال ابن عمار ... ". قال الأستاذ (ص 133): "يقول عنه ابن أبي حاتم بعد أن ذكر له أحاديث باطلة: لا أدري البلاءُ منه، أم من خالد بن هيَّاج. والهروي وخالد مذكوران في "ثقات ابن حبان" جهلًا منه بحالهما، وتساهلُه في التوثيق مردودٌ عند أهل النقد". أقول: الحسين بن إدريس يروي عن سعيد بن منصور، وعثمان بن أبي شيبة، وداود بن رُشَيد، وهشام بن عمار، وابن عمار - وهو محمد بن عبد الله بن عمار - وخلق، منهم خالد بن هيَّاج. وخالد بن هيَّاج يروي عن جماعة، منهم أبوه هيَّاج بن بسطام. وهيَّاج قال فيه الإِمام أحمد: "متروك الحديث". وقال يحيى بن معين: "ضعيف الحديث ليس بشيء". وقال أبو داود: "تركوا حديثه". وألان أبو حاتم القول فيه قال: "يُكتَب حديثه ولا يُحتَج به". وخالد بن هياج يروي عن أبيه مناكير كثيرة، روى عنه الحسين بن إدريس عدة منها. فتلك الأحاديث التي أنكرها ابن أبي حاتم يجوز أن يكون البلاء فيها من هيَّاج، ويبرأ منها خالد والحسين. ويجوز أن تكون من خالد، ويبرأ منها هيَّاج والحسين. ويجوز أن تكون من الحسين، ويبرأ منها هياج وخالد. فأما ابن أبي حاتم فكان عنده عن أبيه أن هياجًا "يُكتَب حديثه ولا يُحتَج به"، وهذه الكلمة يقولها أبو حاتم فيمن هو عنده صدوق ليس بحافظ،

يحدِّث بما لا يتقِنُ حفظَه، فيغلط ويضطرب، كما صرح بذلك في ترجمة إبراهيم بن المهاجر (¬1). فرأي ابن أبي حاتم أن تلك المناكير التي رآها فيما كتب به إليه الحسين لا يحتملها هياج، ولم يكن يعرف خالدًا ولا الحسين، فجعل الأمر دائرًا بينهما. ومقتضى كلام الإِمام أحمد ويحيى بن معين وأبي داود في هيَّاج أن تبرئته منها ليست في محلِّها. والطريق العلمي في هذا اعتبار ما رواه غير خالد من الثقات عن هيَّاج، وما رواه خالد عن الثقات غير هيَّاج، وما رواه الحسين عن الثقات غير خالد، وبذلك يتبين الحال. فإذا وجدنا غير خالد من الثقات قد رووا عن هيَّاج مناكيرَ يتجه الحملُ فيها عليه، ووجدنا خالدًا قد روى عن غير هيَّاج من الثقات [1/ 239] أحاديثَ عديدة كلُّها مستقيمة، ووجدنا الحسينَ قد روى عن الثقات غير خالد أحاديثَ كثيرة كلُّها مستقيمة = سقط هيَّاج، وبرئ خالد والحسين. وهذا هو الذي تبيَّن لابن حبان، فذكر هيَّاجًا في "الضعفاء"، وقال: "كان مرجئًا يروي الموضوعات عن الثقات". وذكر خالدًا في "الثقات"، وكذلك ذكر الحسين وقال: "كان ركنًا من أركان السنَّة في بلده"، وأخرج له في "صحيحه"، وقد عرفه حقَّ المعرفة. وتوثيقُ ابن حبان لمن عرفه حقَّ المعرفة من أثبت التوثيق، كما يأتي في ترجمة ابن حبان (¬2). وقد وافقه غيره على توثيق الحسين، فوثَّقه الدارقطني. وقال ابن ماكولا: "كان من الحفاظ ¬

_ (¬1) في كتاب "الجرح والتعديل": (2/ 133). (¬2) انظر ترجمة "محمد بن حبان". [المؤلف]. رقم (200).

82 - الحسين بن حميد بن الربيع

المكثرين". وقال ابن عساكر (¬1) عقب كلمة ابن أبي حاتم: "البلاء في الأحاديث المذكورة من خالد بلا شك". فإما أن يكون ابن عساكر يبرِّئ هيَّاجًا أيضًا، ويجعل الحمل على خالد، كما فعل الحاكم ويحيى بن أحمد بن زياد الهروي. وإما أن يكون مراده تبرئة الحسين، ويكون الأمر دائرًا بين خالد وهياج، فالحسين ثقة اتفاقًا. وأما خالد والهيَّاج، فالأشبه صنيع ابن حبان؛ فإن كبار الأئمة طعنوا في هيَّاج، كما مرَّ. وفي ترجمته من "الميزان" (¬2) أحاديث انتقدت عليه رواها غير خالد عنه، ولم يذكروا لخالد شيئًا من المناكير رواه عن غير هيَّاج. والمقصود هنا بيان حال الحسين وقد اتضح - بحمد الله تعالى - أنه ثقة. 82 - الحسين بن حُميد بن الربيع: ذكر الأستاذ (ص 122): محمدًا ولد الحسين هذا، فقال: "الكذاب ابن الكذاب ... وقد قال مطيَّن: إن محمد بن الحسين هذا كذاب ابن كذاب، وأقرَّه ابن عقدة، ثم أقرَّ ابنُ عدي وأبو أحمد الحاكم ابنَ عقدة في ذلك". أقول: الحكاية عن مطيَّن تفرَّد بها أحمد بن سعيد بن عقدة، وقد تقدَّم في ترجمته أنه ليس بعمدة (¬3). لكن ابن عدي قوَّى الحكاية فيما يتعلق بالحسين بقوله: "سمعت عَبْدان يقول: سمعت حسين بن حميد بن الربيع ¬

_ (¬1) في "تاريخه": (14/ 43). (¬2) (5/ 443). (¬3) رقم (33).

يقول: سمعت أبا بكر بن أبي شيبة يتكلَّم في يحيى بن معين يقول: من أين له حديث حفص بن غياث، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رفعه: "من أقال نادمًا [أقال الله] (¬1) عثرتَه"؟ هو ذا كتُبُ حفصِ بن غياث عندنا، وكتُب ابنهِ عمر بن حفص، ليس فيها من ذا شيء". وقال ابن عدي: "هذه الحكاية لم يحكها عن أبي بكر غيرُ حسين [1/ 240] هذا، وهو متهم فيها. ويحيى أجلُّ من أن يقال فيه مثل هذا ... وهذا الحديث قد رواه زكريا بن عدي عن حفص بن غياث ... ". ثم ذكر أنه قد رواه عن الأعمش أيضًا مالك بن سُعَير (¬2)، ثم قال: "الحسين متهم عندي كما قال مطيَّن". أقول: كلمة مطيَّن لم تثبت، وقد كان يحيى بن معين ينتقد على الرواة ما يراهم تفرَّدوا به، وربما شدَّد؛ فلعله بلغ أبا بكر بعضُ ذلك، فرآه تشديدًا في غير محلِّه، فذكر ما حكاه الحسين عنه، يريد أنه كما تفرد يحيى بهذا وليس في كتب حفص ولا ابنه، ومع ذلك نقبله من يحيى لثقته وأمانته = فكذلك ليس ليحيى أن يشدِّد في مثل ذلك على من عُرِفَتْ ثقتُه وأمانتُه. وعلى هذا لا يكون المقصود الطعن في يحيى، كما فهمه الحسين وابن عدي، وبنى عليه ابن عدي استنكارَ الحكاية واتهامَ الحسين، لكن ابن عدي علم أن يحيى تكلَّم في حُميد بن الربيع كلامًا شديدًا، قال مرة: "أخزى الله ذاك ومَن يَسأل عنه"، وقال أخرى: "أوَ يُكتَب عن ذاك! خبيث غير ثقة ولا ¬

_ (¬1) سقط من (ط). (¬2) في "اللسان" "قد رواه الأعمش أيضًا عن مالك بن سعير". خطأ. [المؤلف]. وهو على الصواب في الطبعة المحققة: (3/ 159).

83 - الحسين بن عبد الأول

مأمون، يشرب الخمر، ويأخذ دراهم الناس ويكابرهم عليها حتى يصالحوه". فوقع في نفس ابن عدي أن الحسين أراد الانتقام لأبيه من يحيى. وأقول: هذا وحده لا يوجب اتهام الحسين باختلاق الحكاية، بل يكفي اتهامه بأنه أبرزها في ذاك المعرض: "يتكلم في يحيى بن معين". وليس هذا بالكذب المُسقِط، على أنه قد يكون فهم ذلك ولم يتنبه لمقصود أبي بكر. والحسين مكثر عارف. قال الخطيب: "روى عن أبي نعيم، ومسلم بن إبراهيم، ومحمد بن طريف البَجَلي، وأحمد بن يونس وغيرهم ... وكان فهِمًا عارفًا، له كتاب مصنَّف في التاريخ". فإذا كانت هذه حاله، ولم يُنكَر عليه شيء إلا تلك الحكاية، فلا أرى اتهامه بالكذب لأجلها إلا ظلمًا. والله أعلم. 83 - الحسين بن عبد الأول: في "تاريخ بغداد" (13/ 379 [386]) من طريقه: "أخبرني إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة قال: هو قول أبي حنيفة: القرآن مخلوق". قال الأستاذ (ص 56): "قال أبو زرعة: لا أحدِّث عنه. وقال أبو حاتم: تكلم الناس فيه. وقال الذهبي: كذَّبه ابن معين". [1/ 241] أقول: ذكر الخطيب هذه الحكاية في أثناء الروايات عن أبي حنيفة في تلك المسألة، فذكر أولًا: رواياتٍ تبرِّئ أبا حنيفة عن تلك المقالة، ثم قال: "ذكر الروايات عمن حكى عن أبي حنيفة القولَ بخلق القرآن ... ". فساق رواياتٍ هذه واحدة منها، فلم يعتمد الخطيب على رواية الحسين هذه، ولا جزم بما تضمَّنَتْه هي والروايات القوية التي معها، بل قدَّم الروايات

84 - الحسين بن علي بن يزيد الكرابيسي

في نفي ذلك؛ على أن نسبة إسماعيل هذه المقالة إلى جدِّه مشهورة. انظر ترجمته في "تاريخ بغداد" و"لسان الميزان". والأستاذ وإن طعن في الراوي، فإنه يُثبت المرويَّ ويتبجَّح به. 84 - الحسين بن علي بن يزيد الكَرابيسي: قال الأستاذ (ص 184): "متكلَّم فيه". أقول: تكلَّموا فيه لخوضه في طرف من الكلام واسخفافه بالإمام أحمد بن حنبل، كما مرَّ في ترجمة الخطيب (¬1). أما الرواية, فلم أر مَن غمزه فيها، بل قال ابن حبان في "الثقات" (¬2): "كان ممن جمع وصنَّف، ممن يُحسن الفقه والحديث، أفسده قلة عقله". (¬3) (¬4) 85 - حماد بن سَلَمة بن دينار: في "تاريخ بغداد" (13/ 390 [408]) عنه: "أبو حنيفة هذا يستقبل السنَّة، يردُّها برأيه". وفيه (13/ 406 [432]) من طريق فهد (¬5) بن عوف: "سمعت حماد بن سلمه يكني أبا حنيفة: أبا جيفة". قال الأستاذ (ص 91): "حماد بن سلمة ليس ممن يفرَّق بين من يأخذ بالسنة ¬

_ (¬1) (رقم 26). (¬2) (8/ 189). (¬3) حسين بن محمد بن أيوب الذارع. انظر ترجمة عبد الله بن محمد العتكي. [المؤلف]. رقم (134). (¬4) حماد بن إسحاق بن إبراهيم الموصلي. مرَّ في ترجمة أبيه. [المؤلف]. رقم (43). (¬5) في "التاريخ": "محمد" تحريف، وهو على الصواب في المحققة: (15/ 560).

ومن يردُّها، وهو راوي تلك الطامَّات في الصفات، منها رؤية الله في صورة شاب. ومثله يجب أن يسكت عن الأئمة, حتى يسكت الناس عن تخليطه". وقال (ص 139): "يروي تلك الطامات المدوَّنة في كتب "الموضوعات"، وقد أدخل في كتبه ربيباه ما شاءا من المخازي، كما قال ابن الجوزي. وتحاماه البخاري، ولم يذكر مسلم من أحاديثه إلا ما سلم من التخليط من رواياته قبل أن يختلط. وكان المسكين على براعته في العربية وصِيته الطيِّب مبدأ أمره، ساءت سمعته وأصبح أداةً صمَّاءَ بأيدي الحشوية في أواخر عمره ... ". أقول: الكلام في حماد يعود إلى أربعة أوجه: الأول: أنه كان سيئ الحفظ يغلط (¬1). وهذا قد ذكره الأئمة، إلا أنهم خصُّوه بما يرويه [1/ 242] عن غير ثابت وحميد، واتفق أئمة عصرهم على أنه أثبت الناس في ثابت. قال أحمد: "أثبتهم في ثابت حماد بن سلمة"، وقال أيضًا: "حماد بن سلمة أعلم الناس بحديث حُمَيد وأصحُّ حديثًا". وقال في موضع آخر: "هو أثبت الناس في حميد الطويل ... ". وقال ابن معين: "من خالف حماد بن سلمة في ثابت، فالقول قول حماد"، وقال أيضًا: "من سمع من حماد بن سلمة الأصناف ففيها اختلاف، ومن سمع منه نسخًا فهو صحيح". يعني أن الخطأ كان يعرض له عندما يحوِّل من أصوله إلى مصنفاته التي يجمع فيها من هنا وهنا، فأما النسخ فصحاح. وقال علي ابن المديني: "لم يكن في أصحاب ثابت أثبت من حماد بن ¬

_ (¬1) انظر ترجمته في "التهذيب": (3/ 11 - 16).

سلمة، ثم بعده سليمان بن المغيرة، ثم بعده حماد بن زيد، وهي صحاح". الوجه الثاني: أنه تغيَّر بأَخَرة. وهذا لم يذكره إلا البيهقي، والبيهقي أرعبته شقاشقُ أستاذه ابنِ فُورَك المتجهِّم الذي حذا حذوَ ابن الثَّلْجي في كتابه الذي صنفه في تحريف أحاديث الصفات والطعن فيها. وإنما قال البيهقي: "هو أحد أئمة المسلمين إلا أنه لما كبر ساء حفظه، فلذا تركه البخاري. وأما مسلم، فاجتهد، وأخرج من حديثه عن ثابت ما سُمع منه قبل تغيُّره، وما سوى حديثه عن ثابت لا يبلغ اثني عشر حديثًا أخرجها في الشواهد" (¬1). أقول: أما التغيُّر فلا مستند له، ونصوص الأئمة تبيِّن أن حمادًا أثبتُ الناس في ثابت وحميد مطلقًا، وكأنه كان قد أتقن حفظَ حديثهما. فأما حديثه عن غيرهما فلم يكن يحفظه، فكان يقع له فيه الخطأ إذا حدَّث من حفظه، أو حين يحوِّل إلى الأصناف التي جمعها كما مرَّ. ولم يتركه البخاري، بل استشهد به في مواضع من "الصحيح" (¬2). فأما عدم إخراجه له في الأصول، فلا يوجب أن يكون عنده غيرَ أهلٍ لذلك. ولذلك نظائر، هذا سليمان بن المغيرة الذي تقدم أنه من أثبتِ الناس في ثابت، وأنه أثبتُ فيه من حماد بن زيد، وقد ثبَّته الأئمة جدًّا. قال أحمد: "ثبت ثبت". وقال ¬

_ (¬1) نقله مغلطاي في "إكمال تهذيب الكمال": (4/ 145) من كتاب "الخلافيات" للبيهقي، وعنه الحافظ في "التهذيب": (3/ 17). وانظر الذهبي في "السير": (7/ 452)، ووقع فيه تخليط فنُسِب بعض الكلام إلى أحمد بن حنبل! (¬2) انظر الأرقام (739، 1048، 2363, 2730 وغيرها).

ابن معين: "ثقة ثقة". والثناء عليه كثير، ولم يغمزه أحد. ومع ذلك ذكروا أن البخاري لم يحتجَّ به، ولم يُخرج له إلا حديثًا واحدًا مقرونًا بغيره (¬1). وقد عَتَب ابنُ حبان (¬2) على البخاري في شأن حماد بن سلمة، وذكر أنه قد أخرج في غير الشواهد لمن هو دون حماد بكثير، كأبي بكر بن عياش، وفُلَيح، وعبد الرحمن بن عبد الله بن دينار. واعتذر [1/ 243] أبو الفضل بن طاهر عن ذلك بكلام شريف، قال: "حماد بن سلمة إمام كبير مدحه الأئمة وأطنبوا، لما تكلَّم بعضُ منتحلي الصنعة (كما يأتي) أن بعض الكَذَبة أدخل في حديثه ما ليس منه، لم يخرج عنه البخاري معتمدًا عليه، بل استشهد به في مواضع ليبيِّن أنه ثقة، وأخرج أحاديثه التي يرويها من حديث أقرانه كشعبة وحماد بن زيد وأبي عوانة وغيرهم. ومسلم اعتمد عليه لأنه رأي جماعةً من أصحابه القدماء والمتأخرين لم يختلفوا، وشاهد مسلم منهم جماعة وأخذ عنهم، ثم عدالة الرجل في نفسه، وإجماع أئمة أهل النقل على ثقته وأمانته" (¬3). الوجه الثالث: زعم بعضهم أنه كان له ربيب يُدخِل في كتبه، وقيل: ربيبان. وصحَّف بعضهم "ربيب حماد" إلى "زيد بن حماد" راجع "لسان الميزان" (ج 2 ص 506) (¬4). ومدار هذه التهمة الفاجرة على ما يأتي. قال ¬

_ (¬1) رقم (509)، واستشهد به في عدة مواضع (63، 1303، 7241). (¬2) في كتاب "الثقات": (6/ 216 - 217). (¬3) نقله في "التهذيب": (3/ 14). (¬4) (3/ 553 - 554).

الذهبي في "الميزان" (¬1): "الدولابي، حدثنا محمد بن شجاع بن الثلجي، حدثني إبراهيم بن عبد الرحمن بن مهدي قال: كان حماد بن سلمة لا يُعْرَف بهذه الأحاديث - يعني التي في الصفات - حتى خرج مرةً إلى (عبَّادان)، فجاء وهو يرويها، فلا أحسب إلا شيطانًا خرج إليه من البحر فألقاها إليه. قال ابن الثلجي: فسمعتُ عبّاد بن صهيب يقول: إنَّ حمادًا كان لا يحفظ، وكانوا يقولون: إنها دُسَّتْ في كتبه، قد قيل: إن ابن أبي العوجاء كان ربيبه، فكان يدُسُّ في كتبه". قال الذهبي: "قلت: ابن الثلجي ليس بمصدَّق على حماد وأمثاله، وقد اتُّهِم. نسأل الله السلامة" (¬2). أقول: الدولابي حافظ حنفيّ له ترجمة في "لسان الميزان" (ج 5 ص 41) (¬3) وهو بريء من هذه الحكاية - إن شاء الله - إلا في قبوله لها من ابن الثلجي وروايتها عنه. كان ابنُ الثلجي من أتباع بشر المريسي جهميًّا داعيةً عدوًّا للسنة وأهلها. قال مرة: "عند أحمد بن حنبل كتب الزندقة". وأوصى أن لا يُعطَى من وصيته إلا من يقول: القرآن مخلوق. ولم أر من وثَّقه، بل اتهموه وكذَّبوه. قال ابن عدي: "كان يضع أحاديث في التشبيه، وينسُبُها إلى أصحاب الحديث، يثلِبهم بذلك". وذكر ما رواه عن حَبَّان بن هلال - وحبان ثقة - عن حماد بن سلمة، عن أبي المهزِّم، عن أبي هريرة مرفوعًا: "إن الله خلق الفرس، فأجراها فعرقت؛ ثم خلق نفسَه منها". وكذَّبه أيضًا الساجي والأزدي وموسى بن القاسم الأشيب. فأما ما نُسِب إليه من ¬

_ (¬1) (2/ 116). (¬2) وعلق الحافظ في "التهذيب": "وعبّاد أيضًا ليس بشيء". (¬3) (6/ 506).

التوسع في الفقه [1/ 244] وإظهار التعبد، فلا يدفع ما تقدَّم. وحكايته هذه يلوح عليها الكذب. إبراهيم بن عبد الرحمن بن مهدي ولد أبوه سنة 135، فمتى ترى ولد إبراهيم؟ ومولد ابن الثلجي - كما ذكر عن نفسه - سنة 181، فمتى تراه سمع من إبراهيم؟ وفي ترجمة قيس بن الربيع من "التهذيب" (¬1) شيء من رواية ابن المديني عن إبراهيم عن أبيه، وهذا يُشعِر بأنه عاش بعد أبيه، وأبوه مات سنة 198، فإذا كان إبراهيم مات سنة 200، فمتى تراه وُلد؟ وقد قال الخليلي: "مات وهو شاب. لا يُعرف له إلا أحاديث دون العشرة. يروي عنه الهاشمي جعفر بن عبد الواحد أحاديث أنكروها على الهاشمي وهو من الضعفاء". وحماد بن سلمة توفي سنة 167. ومقتضى ما تقدم أن يكون إبراهيم حينئذ إما صبيًّا صغيرًا وإما لم يولد، فمتى صَحِب حمادَ بن سلمة حتى عَرَف حديثه، وعرف أنه لم يكن يروي تلك الأحاديث حتى خرج إلى "عبَّادان"! وكيف عرف هذا الأمر العظيمَ، ولم يعرفه أبوه وكبار الأئمة من أقران حماد وأصحابه؟ وكلُّهم أبلغوا في الثناء على حماد كما يأتي. ولا داعي إلى الحمل على إبراهيم لأنه لم يوثقه أحد. وذِكْرُ ابن حبان له في "الثقات" (¬2) لا يُجدي، لأنه لم يثبت عنه أحاديث كثيرة يُعرف باعتبارها أثقة هو أم لا؟ ولا إلى أن يقال: لعل إبراهيم سمع ذلك من بعض الهلكى، بل الحملُ على ابن الثلجي كما ذكر الذهبي. ¬

_ (¬1) (8/ 393). (¬2) (8/ 67).

وكذلك ما ذكره عن عباد بن صهيب، مع أن عبَّادًا متروك. وقال عبدان: "لم يكذِّبه الناس، وإنما لقَّنه صهيب بن محمد بن صهيب أحاديثَ في آخر الأمر". فعلى هذا، فعبَّاد هو (¬1) المبتلى بابن أخيه يُدخِل عليه في حديثه. وفي "الميزان" (¬2) أحاديث من مناكيره. الوجه الرابع: أن حمادًا روى أحاديث سماها الكوثري: "طامات"، وأشار إلى أن أشدَّها حديث رؤية الله في صورة شاب. والجواب: أن لهذا الحديث طرقًا معروفةً، في بعضها ما يُشعر بأنها رؤيا منام، وفي بعضها ما يصرِّح بذلك. فإن كان كذلك اندفع الاستنكار رأسًا، وإلا فلأهل العلم في تلك الأحاديث كلام معروف. وفي "اللآلئ المصنوعة" (¬3) أن محقق الحنفية ابن الهمام سئل عن الحديث، فأجاب بأن ذلك "حجاب الصورة". وبقية الأحاديث إذا كانت من رواية حماد عن ثابت أو حميد [1/ 245] أو مما حدَّث به من أصوله، فهي كما قال الله تبارك وتعالى: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام: 89]. ولنختم بطرف من ثناء الأئمة على حماد في حياته وبعد وفاته، ليتبين هل ساءت سمعته في أواخر عمره كما زعم الأستاذ! قال ابن المبارك: "دخلتُ البصرة فما رأيت أحدًا أشبه بمسالك الأُوَل من حماد بن سلمة". وقال عفان: "قد رأيت من هو أعبد من حماد بن ¬

_ (¬1) (ط): "وهو". والصواب ما أثبت. (¬2) (3/ 81). (¬3) (1/ 31).

86 - حنبل بن إسحاق

سلمة، ولكن ما رأيت أشدَّ مواظبةً على الخير وقراءة القرآن والعمل لله من حماد بن سلمة". وقال رجل لعفان: أحدِّثك عن حماد؟ قال: مَن حماد ويلك؟ قال: ابن سلمة. قال: ألا تقول: أمير المؤمنين! وقال عبد الرحمن بن مهدي - والد إبراهيم الذي نسب إليه ابن الثلجي ما نسب -: "لو قيل لحماد بن سلمة: إنك تموت غدًا، ما قدَر أن يزيد في العمل شيئًا". وقال أيضًا: "حماد بن سلمة صحيحُ السماع، حسنُ اللُّقِيِّ، أدرك الناس، لم يُتهم بلون من الألوان، ولم يلتبس بشيء، أحسَنَ ملكةَ نفسه ولسانه ولم يطلقه على أحد، فسلِمَ، حتى مات". وقال حماد بن زيد: "ما كنا نرى أحدًا يتعلَّم بنيَّةٍ غير حماد بن سلمة، وما نرى اليوم من يعلِّم بنيةٍ غيرَه". وقال إسحاق بن الطبَّاع: قال لي ابن عيينة: العلماء ثلاثة، عالم بالله وبالعلم، وعالم بالله ليس بعالم بالعلم، وعالم بالعلم ليس بعالم بالله. قال ابن الطباع: "الأول كحماد بن سلمة ... ". وقال علي ابن المديني: "من تكلم في حماد بن سلمة فاتَّهِموه في الدين". 86 - حنبل بن إسحاق: في "تاريخ بغداد" (13/ 371 [372]) من طريقه: "حدثنا الحميدي، حدثنا حمزة بن الحارث بن عمير، عن أبيه قال: سمعت رجلًا يسأل أبا حنيفة في المسجد الحرام عن رجل قال: أشهد أن الكعبة حق، ولكن لا أدري هي هذه التي بمكة أم لا؟ فقال: مؤمن حقًّا. وسأله عن رجل قال: أشهد أن محمد بن عبد الله نبيّ، ولكن لا أدري هو الذي قبرُه بالمدينة أم لا؟ فقال: مؤمن حقًّا ... ".

87 - خالد بن عبد الله القسري

وفيه (13/ 389 [406]) من طريقه: "حدثنا الحميدي قال: سمعت سفيان قال: كنت في جنازة أمِّ خَصيب بالكوفة، فسأل رجل أبا حنيفة عن مسألة من الصرف، فأفتاه. فقلت: يا أبا حنيفة [1/ 246] إن أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم قد اختلفوا في هذه، فغضب، وقال للذي استفتاه: اذهَبْ فأعمل بها، فما كان فيها من إثم فهو عليَّ". قال الأستاذ (ص 36): "يتكلم فيه بعض أهل مذهبه، ويرميه ابن شاقْلا بالغلط في روايته، كما ذكره ابن تيمية في تفسير سورة القلم. لكن لا نلتفت إلى كلامهم، ونعدُّه ثقةً مأمونًا، كما يقول ابن نقطة في "التقييد"". وقال (ص 84): "غالِط، غيرُ مرضيٍّ عند بعض أهل مذهبه". أقول: قال الدارقطني: "كان صدوقًا". وقال الخطيب: "كان ثقة ثبتًا". وتخطئته في حكاية إنما تدلُّ على اعتقاد أنه لم يكن معصومًا من الخطأ، وليس هذا مما يوهن الثقةَ المُكثِر كحنبل. وقد خطَّأ أهلُ العلم جماعةً من أجلة الصحابة، بل قالوا: إن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قد يخطئون في أمور الدنيا، بل قال بعضهم: قد يعرض لهم الخطأ في شيء من أمر الدين، ولكن ينبَّهون في الحال لمكان العصمة في التبليغ. وقد تعرضتُ لذلك في قسم الاعتقاديات. والمقرر عند أهل العلم جميعًا أن الثقة الثبت قد يخطئ، فإن ثبت خطؤه في شيء فإنما يُترك ذاك الشيء. فأما بقية روايته، فهي على الصواب. ومن ادعى الخطأ في شيء، فعليه البيان. والأستاذ يعلم ذلك كله، ولكن ... والله المستعان. 87 - خالد بن عبد الله القَسْري: في "تاريخ بغداد" (13/ 381 [390]) من طريق: "محمد بن فُليح

المدني عن أخيه سليمان - وكان علَّامةً بالناس - أن الذي استتاب أبا حنيفة خالد القسري ... ". قال الأستاذ (ص 62): "هو الذي بنى كنيسةً لأمه تتعبد فيها، وهو الذي يقال عنه: إنه ذبح الجعد بن درهم يوم عيد الأضحى أضحيةً عنه ... ما كان العلماء ليسكتوا في ذلك العهد أمام استخفافه لشعيرة من شعائر الدين .. وسفكُ دمِ من وجب قتلُه شيء، وذبحُه على أن يكون أضحيةً شيء آخر. وكانت سيرة خالد وصمة عار في تاريخ الإِسلام". أقول: كان خالد أميرًا مسلمًا، خلط عملًا صالحًا - كإقامة الحدود - وآخَرَ سيئًا، الله أعلم ما يصح عنه منه. وقد جاء عن جماعة من الأئمة - كما في "التأنيب" نفسه - أن أبا حنيفة استتيب في الكفر مرتين. فإن كان خالد هو الذي استتابه في إحداهما، وقد شهد أولئك الأئمة أنها استتابة عن الكفر، فأيُّ معنى للطعن في خالد؟ هَبْه كان كافرًا! أيجوز أن يحنَق عليه مسلم, لأنه [1/ 247] رُفِع إليه إنسان يقول قولًا شهد علماء المسلمين أنه كفر، فاستتابه منه؟ وكان خالد يمانيَّ النسب، وكان له منافسون على الإمارة من المُضَريين، وأعداءٌ كثيرٌ يحرصون على إساءة سمعته. وكان القصاصون ولا سيما بعد أن نُكِب خالد يتقربون إلى أعدائه بوضع الحكايات الشنيعة في ثلبه، ولا ندري ما يصح من ذلك؟ وقضية الكنيسة إن صح فيها شيء فقد يكون برَّ أمَّه بمال، فبنى لها وكيلُها كنيسةً، فإنها كانت نصرانية. وليس في هذا ما يعاب به خالد، فقد أحلَّ الله عزَّ وجلَّ نكاحَ الكتابيات والتسرِّي بهن، ونهى عن إكراههن على

الإِسلام، وأمر بإقرارهن على دينهن، وأمر ببرِّ الأمهات. فأما قضية الجعد، فإن أهل العلم والدين شكروا خالدًا عليها ولا يزالون شاكرين له إلى يوم القيامة. ومغالطة الأستاذ في قضية التضحية مما يُضحِك ويُبكي. يُضحِك لتعجرفه، ويُبكي لوقوعه من رجل ينعته أصحابه أو ينعت نفسه: "الإِمام الفقيه المحدث والحجة الثقة المحقق العلامة الكبير ... "!! لا يخفى على أحد أن الأضحية الشرعية هي ذبح شاة أو بقرة أو بدنة بصفة مخصوصة في أيام الأضحى تقرُّبًا إلى الله تعالى بإراقة دمها، وليأكل منها المضحِّي وأهله، ويهدي من لحمها إلى أصحابه، ويتصدَّق منه على المساكين؛ وأن خالدًا لم يذبح الجعد ليأكل من لحمه ويُهدي ويتصدَّق، وإنما سماه تضحيةً لأنه إراقة دم يوم الأضحى تقرُّبًا إلى الله تعالى. فشبَّهه بالأضحية المشروعة من هذا الوجه، كما سمَّى بعضُ الصحابة وغيرهم قتلَ عثمان رضي الله عنه تضحيةً لأنه وقع في أيام الأضحى. فقال حسَّان (¬1): ضحَّوا بأشمطَ عنوانُ السجودِ به ... يُقطِّع الليلَ تسبيحًا وقرآنا وقال أيمن بن خُرَيم (¬2): ¬

_ (¬1) ديوان حسان (96). (¬2) كذا ورد البيت في "الجوهرة" للبرِّي (2/ 189) و"نهاية الأرب" للنويري (19/ 319)، وغيرها. وهو ملَّفق من بيتين روايتهما في "المعارف" لابن قتيبة (198): تفاقَدَ الذابحو عثمانَ ضاحيةً ... فأيَّ ذِبْحٍ حرامٍ وَيحَهم ذَبَحوا ضحَّوا بعثمانَ في الشهر الحرام ولَمْ ... يخشَوا على مطمحِ الكفرِ الذي طَمَحوا وانظر: "الكامل" للمبرد (919) و"التنبيه والإشراف" - طبعة ليدن (292).

88 - خالد بن يزيد بن عبد الرحمن بن أبي مالك

ضحَّوا بعثمانَ في الشهر الحرام ضحًى ... وأيَّ ذِبْحٍ حرامٍ وَيْلَهم ذَبَحوا وقال القاسم بن أمية (¬1): لَعَمْري لَبئس الذِّبْحُ ضحَّيتُمُ به ... وخُنْتُم رسولَ الله في قتل صاحبِهْ فإن قيل: لكن يظهر من القصة أن خالدًا لم يضحِّ، بل اجتزأ بذبح الجعد. قلت: ليس ذلك بواضح، وكان خالد يذبح كلَّ يوم عدة ذبائح، وهَبْ أنه لم يضحِّ ذاك اليوم، فغاية [1/ 248] الأمر أن يكون اجتزأ بإقامة ذلك الحدّ من جهة كونه قربةً إلى الله عزَّ وجلَّ وإقامةِ حدٍّ من حدوده. والأضحية عند جمهور أهل العلم ليست بواجبة، فلا إثم على من تركها. فإن كان مع تركه لها قد قام بقربة عظيمة، ورأى أن ما يفوته من أجر الأضحية وإقامة الشعائر بها (¬2) يَجبُره ما يرجوه على تلك القربة الأخرى، فهو أبعد عن الإثم. ولو ضحَّى الرجلُ ألف أضحية لَما بلغ من أجرها وإقامة الشعائر بها أن تُوازِنَ إقامةَ الحدِّ على الجعد، وإماتةَ فتنته. 88 - خالد بن يزيد بن عبد الرحمن بن أبي مالك: في "تاريخ بغداد" (13/ 412 [439]) عنه قال: "أحَلَّ أبو حنيفة ... ". ¬

_ (¬1) انظر: "الجوهرة" (2/ 190) و"نهاية الأرب" (19/ 320). وله بيت آخر من أبيات حائية في رثاء عثمان - رضي الله عنه - أيضًا. لَعَمْري لبئس الذِّبْحُ ضحَّيتُمُ به ... خلافَ رسولِ الله يومَ الأضاحي انظر: "تاريخ خليفة بن خياط" (177)، و"الإصابة" - طبعة التركي (9/ 10). (¬2) (ط): "بما".

89 - داود بن المحبر

قال الأستاذ (ص 145): "يقول عنه ابن معين: بالشام كتاب ينبغي أن يُدفن: "كتاب الديات" لخالد بن يزيد بن أبي مالك. لم يرض أن يكذب على أبيه، حتى كذب على الصحابة. قال ابن أبي الحواري: سمعت هذا الكتاب من خالد، ثم أعطيته للعطَّار، فأعطى الناسَ فيه حوائج. قال النسائي: غير ثقة. وقال أحمد: ليس بشيء". أقول: إنما ذكر خالد في هذه الحكاية مسائلَ فقهية انتُقِدَتْ على أبي حنيفة، قد نظرتُ فيها في قسم الفقهيات. ومع ذلك فقد وثَّقه أحمد بن صالح المصري، والعجلي، وبلديُّه أبو زرعة الدمشقي. وقال ابن عدي (¬1): "لم أر من أحاديث خالد هذا إلا كلَّ ما يُحتمَل في الرواية أو يرويه ضعيف عنه، فيكون البلاءُ من الضعيف لا مِنْه". وكتاب الديات قد يكون ما فيه مما استنكره ابن معين، مما أخذه خالد عن الضعفاء فأرسله. والله أعلم. (¬2) 89 - داود بن المحبَّر: في "تاريخ بغداد" (13/ 392 - 393 [409 - 410]) عدة روايات تتعلق بالمُحرِم إذا لم يجد إزارًا فلبس سراويل، أو لم يجد نعلًا فلبس خفَّين. وقد ذكرت المسألة في الفقهيات. تكلَّم الأستاذ (ص 94) في الروايات إلى أن قال: "وأما ما رواه ابن عبد البر في "الانتقاء" (ص 140) من أنه لما قيل لأبي حنيفة ... قال: لم يصح في هذا عندي ... وينتهي كل امرئ إلى ما سمع؛ فغير ثابت عنه، لأن في سنده داود بن المحبَّر، متروك ¬

_ (¬1) "الكامل": (3/ 13). (¬2) خلف بن بيان يأتي في ترجمة محمد بن الحسين بن حميد. [المؤلف]. رقم (202).

باتفاق .. بل حديث إباحة لبس الخفين ... مخرج في "مسانيد أبي حنيفة". ففي "مسند أبي محمد البخاري الحارثي" عن أبي سعيد بن جعفر، عن أحمد بن سعيد الثقفي، عن المغيرة بن عبد الله، عن [1/ 249] أبي حنيفة، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس .... فهذا الحديث بهذا السند يردُّ على من يقول: إنه لم يبلغه حديث في هذا الباب ... فينهار بهذا البيان جميعُ تلك المزاعم ... هكذا يفضح الله الأفَّاكين". أقول: داود وثَّقه ابن معين. وقال أبو داود: "ثقة شبه الضعيف، بلغني عن يحيى فيه كلام أنه يوثِّقه". وبهذا يُعلم ما في قول الأستاذ: "متروك باتفاق"، وإن كان الصواب ما عليه الجمهور أن داود ساقط. ومع ردِّ الأستاذ ذاك الخبرَ هنا، فقد احتج به (ص 74) إذ قال: "وأبو حنيفة الذي يقول: لعن الله من يخالف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... - كما في "الانتقاء" لابن عبد البر (ص 141) - كيف يخالف حديثًا صحَّ عن الرسول عليه الصلاة والسلام؟ ومن زعم ذلك فقد أبعَدَ في البَهْتِ، نسأل الله الصون". وقوله: "لعن الله ... ". قطعة من خبر داود الذي ردَّه الأستاذ هنا. وغرض الأستاذ في الموضعين واحد، وهو ردُّ الروايات القوية. فإنه احتج به في (ص 74) على ردِّ روايات قوية متعددة، وختم بقوله: "نسأل الله الصون"! وردَّه (ص 94) ليردَّ روايات قوية، ثم احتج على الردِّ بما هو أسْقَط من خبر داود، وهو خبر الحارثي بذاك الإسناد. والحارثي قد أشرتُ إليه في "الطليعة" ص 64 ويأتي له ذكر في ترجمة علي بن جرير. وترجمة الحارثي في "لسان الميزان" (ج 1 ص 27) (¬1) وفيها: "قال ابن ¬

_ (¬1) كذا وقعت هذه الإحالة في (ط)، وهي خطأ قطعًا، وصواب الإحالة على الطبعة التي =

الجوزي: قال أبو سعيد الروَّاس: يُتهم بوضع الحديث. وقال أحمد السليماني: كان يضع هذا الإسناد على هذا المتن، وهذا المتن على هذا الإسناد. وهذا ضرب من الوضع ... وقال الخليلي: ... له معرفة بهذا الشأن، وهو لين، ضعَّفوه. حدثنا عنه الملاحمي وأحمد بن محمد البصير بعجائب". وسترى ما يكشف بعضَ حاله في ترجمة علي بن جرير (¬1). وشيخه أبو سعيد بن جعفر هو أبَّا بن جعفر، ترجمته في "لسان الميزان" (ج 1 ص 27) (¬2). وفيها "قال ابن حبان: كان يقعد يوم الجمعة بحذاء مجلس الساجي ... ذهبت إلى بيته للاختبار ... فرأيته قد وضع على أبي حنيفة أكثر من ثلثمائة حديث ما حدَّث بها أبو حنيفة قط ... ". قال ابن حجر: "وقال حمزة (السهمي الحافظ) (¬3) عن الحسن بن علي بن غلام الزهري (الحافظ): أبّا بن جعفر كان يضع الحديث، وحدَّث بنسخة نحو المائة عن شيخٍ له مجهولٍ زعم أن اسمه أحمد بن سعيد بن عمرو المطوعي، عن ابن عيينة، عن إبراهيم بن [1/ 250] ميسرة، عن أنس. وفيها مناكير لا تعرف. وقد أكثر عنه أبو (محمد) الحارثي في "مسند أبي حنيفة"". وشيخه هنا أحمد بن سعيد الثقفي لا يُعرف أو لم يُخلَق! وهكذا ¬

_ = يعزو إليها المؤلف هو (3/ 348). وفي الطبعة المحققة (4/ 580). (¬1) رقم (159). (¬2) (1/ 231). (¬3) كلام حمزة في "سؤالاته" 176.

90 - دعلج بن أحمد السجزي

المغيرة بن عبد الله. ومن العجائب أن صاحب "جامع المسانيد" زعم أنه المغيرة بن عبد الله اليشكري الذي يروى عن المغيرة بن شعبة المتوفى سنة خمسين! وأعجب من ذلك قول الأستاذ: "فهذا الحديث بهذا السند يُرَدُّ ... ". وهذه سخرية من الأستاذ، لا أدري أبالعلم، أم بنفسه، أم بالذين يرى أنهم سيتلقَّون كلامه بالقبول والإعجاب! ثم ختم الأستاذ بقوله: "هكذا يفضح الله الأفاكين". ولا يخفى أين موضع هذه الكلمة! والله المستعان. 90 - دَعْلَج بن أحمد السِّجْزي: في "تاريخ بغداد" (13/ 379 [386 - 387]) من طريقه: "أخبرنا أحمد بن علي الأبَّار، حدثنا سفيان بن وكيع، قال: جاء عمر بن حماد ... ". قال الأستاذ (ص 57): "فدعلج تاجرٌ مُثْرٍ، كان عنده قِفافٌ مملوءة ذهبًا تَبهَر عيون من يبيت عنده من الرواة وتسلُب ألبابهم. يتعانى الرواية, ويواسي الرواة من أهل مذهبه في التشبيه. وكان عنده تعصُّب وتغفُّل. وكان الرواة الأظِنَّاء يبيتون عنده، ويُدخلون في كتبه أشياءَ، فيرويها بسلامة باطن. وذكر الذهبي من الوضاعين الذين كانوا يُدخلون في كتبه اثنين: أحدهما علي بن الحسين الرُّصافي، وقد قال عنه: يضع الحديث ويفتري على الله. قال الدارقطني: لا يوصف ما أدخل هذا على الشيوخ، ثم عُمِل محضرٌ بأحاديث أدخلها على دعلج. وكذا أدخل أبو الحسين العطار المخرِّمي أحاديث على دعلج أيضًا، كما ذكره الذهبي. ويجعلهما ابن حجر شخصًا واحدًا بدون حجة". أقول: قد سلف في ترجمة أحمد بن علي الأبَّار (¬1) أن دعلجًا ¬

_ (¬1) رقم (27).

سِجِستاني كان يطوف البلاد لسماع العلم وللتجارة، ودخل بغداد وسنُّه نيف وعشرون سنة، وسنُّ الأبَّار فوق السبعين، فسمع منه ومن غيره، ومات الأبَّار بعد ذلك بسنوات. وبقي دعلج في تطوافه، ثم سكن مكة مدة، ثم تحول إلى بغداد وأقام بها إلى أن مات سنة 351. وذلك بعد وفاة الأبَّار بإحدى وستين سنة. وتقدَّم أيضًا أن دعلجًا إنما أثرى بعد موت الأبَّار بدهر. فأما مطاعن الأستاذ في دعلج، فأولها: أنه كان يعتقد التشبيه! وإنما أخذ الأستاذ ذلك من ذكرهم أن دعلجًا أخذ عن ابن خزيمة كتبه، وكان يفتي بقوله، وابن خزيمة عند الأستاذ مشبِّه! وهَبْه ثبت أن دعلجًا كان [1/ 251] على عقيدة ابن خزيمة، وعقيدةُ ابن خزيمة هي في الجملة عقيدة أئمة الحديث، وهي محض الإيمان. وقد أفردتُ الاعتقاديات بقسم. وثانيها: أنه كان متعصبًا. وهذا تخرُّص من الأستاذ. فأما ما جاء من طريقه من الروايات، فشيء سمعه، فرواه. وقد عاش دعلج ببغداد عشرات السنين، كان الثناء عليه كلمةَ وفاقٍ بينهم على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم. وثالثها: أن الرواة الأظِنَّاء كانوا يبيتون عنده وُيدخلون في كتبه! وهذا تخرُّص أيضًا. نعم، حُكِي عن رجل غير ظنين أنه بات عنده وأراه ماله، ولم يقل إن كتبه كانت مطروحة له ولا لغيره ممن يُخشَى منه العبث بها. فأما إدخال بعضهم عليه أحاديث، فذلك لا يقتضي الإدخال في كتبه، بل إذا استخرج الشيخ أو غيره من أصوله أحاديثَ، وسلَّمها إلى رجل لِيرتِّبها وينسخها، فذهب الرجل، ونسَخها، وأدخل فيها أحاديث ليست [من] (¬1) ¬

_ (¬1) زيادة مناسبة ليست في (ط).

حديث الشيخ، وجاء بالنسخة، فدفعها إليه ليحدِّث بها = صَدَقَ أنه أدخل عليه أحاديثَ. ثم إذا كان الشيخ يقِظًا، فاعتبر تلك النسخة بحفظه أو بمراجعة أصوله، أو دفعها إلى ثقة مأمون عارف كالدارقطني، فاعتبرها، فأخرج تلك الزيادة، ولم يحدِّث بها الشيخُ = لم يكن عليه في هذا بأس. ولعله هكذا جرى، فقد قال الخطيب في دعلج: "كان ثقةً ثبتًا، قبِلَ الحكَّامُ شهادته وأثبتوا عدالته ... وكان أبو الحسن الدارقطني هو الناظر في أصوله والمصنِّف له كتبَه، فحدَّثني أبو العلاء الواسطي عن الدارقطني قال: صنفتُ لدعلج "المسند الكبير"، فكان إذا شكَّ في حديث ضرب عليه. ولم أر في مشايخنا أثبتَ منه ... حمزة بن يوسف السهمي يقول: سئل أبو الحسن الدارقطني عن دعلج بن أحمد، فقال: كان ثقةً مأمونًا، وذكر له قصة في أمانته وفضله ونبله". وقال الذهبي في "تذكرة الحفاظ" (ج 3 ص 92) (¬1): "دعلج بن أحمد بن دعلج الإِمام الفقيه محدث بغداد .... روى عنه الدارقطني، والحاكم، وابن رزقويه، وأبو إسحاق الإسفراييني (¬2)، وأبو القاسم بن بشران، وعدد كثير. وقال الحاكم: سمعت الدارقطني يقول: صنّفتُ لدعلج (¬3) "المسند الكبير" ولم أر في مشايخنا أثبتَ منه ... ". وجَعْلُ الأستاذ المُدْخِلِين جماعةً من أمانيه! والمعروف رجل واحد ¬

_ (¬1) (3/ 881). (¬2) (ط): "الإسفرائني" خطأ. (¬3) (ط): "صنف الدعلج" و"التذكرة": "صنف لدعلج"، والمثبت من "السير": (16/ 33).

ترجمته في "تاريخ بغداد" (ج 11 ص 385): "علي بن الحسين (¬1) بن جعفر أبو الحسين البزاز يعرف بابن [1/ 252] كَرْنِيب، وبابن العطار المُخَرِّمي ... بلغني عن الحاكم أبي عبد الله محمَّد بن عبد الله (¬2) النيسابوري قال: ذكر الدارقطني (¬3) ابنَ العطار، فذكر من إدخاله على المشايخ شيئًا فوق الوصف، وأنه أشْهَد عليه، واتخذ محضرًا بإدخاله أحاديث على دعلج". وذكره (¬4) الذهبي في "الميزان" (¬5)، واقتصر على قوله: "أدخل على دعلج أحاديثَ. قاله الدارقطني". ثم ذكر (¬6) "علي بن الحسين الرصافي"، وقال: "قال الدارقطني: لا يوصف ما أدخَل على الشيوخ، ثم عُمِلَ محضرٌ عليه بأحاديث أدخلها على دعلج". فقال ابن حجر في "اللسان" (¬7): "هذه صفة علي بن الحسن بن كَرْنِيب، وقد مرَّ". وحجته في ذلك أن القصة متفقة، والاسم متفق، واسم الأب متقارب؛ فإن اسم "الحسن" و"الحسين" يكثر تحرُّفُ أحدهما إلى الآخر، وليس في "تاريخ بغداد" إلا رجل واحد، والمخرِّم والرصافة محلَّتان ببغداد وقد يكون ¬

_ (¬1) كذا في (ط): "الحسين" وفي "تاريخ بغداد": "علي بن الحسن" وهو الصواب ومقتضى السياق كما يأتي. (¬2) (ط): "عبد" خطأ. (¬3) كذا في (ط) وتاريخ بغداد، وفي الطبعة المحققة: "ذكرتُ للدارقطني". (¬4) (ط): "وذكر". (¬5) (4/ 40). (¬6) (4/ 44). (¬7) (5/ 529).

91 - الربيع بن سليمان المرادي

مسكنُ الرجل بينهما فينسب إلى هذه وإلى هذه. وابن حجر مُطَّلِع على مآخذ الذهبي ولم يقف في شيء منها إلا على رجل واحد. وهذه الأمور إن لم تَكْفِ للجزم بأنه رجل واحد، فلا ريب أنها تكفي للتوقف عن الجزم بأنهما اثنان. وهب أنهما اثنان أو عشرة فإن ذلك لا يضرّ دعلجًا وروايتَه، ما لم يثبت أن ذلك كان على وجهٍ يُوجب القدحَ فيه. وذلك مدفوع بأن المُخبِر بذلك وكاتبَ المَحْضر أو المَحْضَرين أو المحاضر - كما يتمناه الأستاذ - هو الإِمام أبو الحسن الدارقطني، وهو الذي كان الناظر في أمور دعلج، والمصنِّف له كتبه، وهو الذي وثَّقه أثبتَ توثيق كما سلف. وفي ذلك ما يقطع نزاعَ مَنْ يخضع للحق. فأما المعاند، فلا يقطعه إلا أن تشهد عليه أعضاؤه! 91 - الربيع بن سليمان المرادي: في "تاريخ بغداد" (13/ 410 [437]) عنه: "سمعت الشافعي يقول: أبو حنيفة يضع أول المسألة خطأً، ثم يقيس الكتاب عليها". قال الأستاذ ص 139: "الربيع المرادي الذي يقول فيه أبو يزيد القراطيسي ما يقول". أقول: في ترجمته من "التهذيب" (¬1): "قال أبو الحسين الرازي الحافظ والد تمَّام: أخبرنا عليّ بن محمَّد بن أبي حسان الزيادي بحمص: سمعت أبا يزيد القراطيسي يوسف بن يزيد يقول: سماع الربيع بن سليمان من الشافعي ليس بالثَّبَت، وإنما أخذ أكثر الكتب من آل البُوَيطي بعد موت البُوَيطي. قال ¬

_ (¬1) (3/ 246).

أبو الحسين: وهذا لا يُقبل من أبي يزيد، بل البويطي كان يقول: الربيع [1/ 253] أثبَتُ منى. وقد سمع أبو زرعة الرازي كتب الشافعي كلَّها من الربيع قبل موت البويطي بأربع سنين". وقول القراطيسي: "ليس بالثبت" إنما مفاده نفيُ أن يكون غايةً في الثبت. ويُفهم من ذلك أنه ثَبَتٌ في الجملة، كما شرحته في ترجمة الحسن بن الصبَّاح (¬1). ويوضِّح ذلك هنا ما بعده. وحاصله أنه لم يكن للربيع في بعض مسموعاته من الشافعي أصولٌ خاصة محفوظة عنده؛ لأنه إنما أخذ أكثر الكتب من ورثة البويطي. وهذا تشدُّد من أبي يزيد في غير محَلّه، فقد يكون للربيع أصولٌ خاصة محفوظة عنده، ولا يمنعه ذلك من أخذ غيرها من ورثة البويطي ليحفظها. وعلى فرض أنه لم يكن له ببعض الكتب أصول خاصة، وإنما كان سماعه لها في كتب البويطي، وأن البويطي كان يخرجها لمن يريد سماعها من الربيع كأبي زرعة؛ فسماعُ الربيعِ لها ثابتٌ، وقد عرَفَ الكتبَ وأتقنها، فإذا وثِقَ بأنها لم تزل محفوظة في بيت البويطي حقَّ الحفظ حتى أخذها، فأيُّ شيء في ذلك؟ وقد قال الخليلي في الربيع: "ثقة متفق عليه، والمزني مع جلالته استعان على ما فاته عن الشافعي بكتاب الربيع". ووثَّقه آخرون، واعتمد الأئمة عليه في كتب الشافعي وغيرها. ومع هذا كله فالحكاية التي يحاول الأستاذ الجواب عنها حكاية مفردة، قال الربيع فيها: "سمعت الشافعي ... ". واعترف الأستاذ بمضمونها، كما ¬

_ (¬1) رقم (76).

92 - رجاء بن السندي

يأتي في ترجمة الشافعي (¬1). وقد روى الربيعُ عن البويطي عن الشافعي أشياء كما تراه بهامش "الأم" (ج 6 ص 57). وكان عُمر القراطيسيّ حين مات الشافعي ثماني عشرة سنة، ولم يأخذ عن الشافعي، وإنما رآه رؤيةً؛ فلا خبرة له بما سمعه الربيع، وإنما بنَى على الحدس، كما سلف. 92 - رجاء بن السندي: في "تاريخ بغداد" (13/ 391 [408]) عنه: "سمعتُ بِشْر بن السَّرِي قال: أتيت أبا عوانة ... ". قال الأستاذ (ص 92): "طويل اللسان، وقد أعرض عنه أصحاب الأصول الستة". أقول: أوهم الأستاذُ بهذه العبارة أن رجاءً كان بذيئًا، وأن أصحاب الأصول لم يرضوه. وليس الأمر كذلك، ولكن كان فصيحًا، قال بكر بن خلف: "ما رأيت أفصح منه". فهذا طول لسانه في اصطلاح الأستاذ الذي يقصد به الإيهام، فعَلَ ذلك في مواضع! وتوفي رجاء سنة 221، فلم يدركه الترمذي والنسائي وابن ماجه، وأدركوا من أقرانه ومن هو أكبر منه [1/ 254] مَن هو مثلُه أو أعلى إسنادًا منه، فلم يحتاجوا إلى الرواية عن رجل عنه؛ لإيثارهم العلوَّ. وأدركه أبو داود في الجملة, لأنه مات وسنُّ أبي داود نحو تسع عشرة سنة، ولكنه في بلد غير بلده، فالظاهر أنه لم يَلْقَه. ¬

_ (¬1) رقم (189).

فأما مسلم، فإنه كان له حين مات رجاء نحوُ ست عشرة سنة، وهو بلديُّه، ويمكن أن يكون سمع منه وهو صغير، فلم ير مسلم ذلك سماعًا لائقًا بأن يعتمده في "الصحيح". ويمكن أن يكون مسلم تشاغل أول عمره بالسماع ممن هو أسنُّ من رجاء، وأعلى إسنادًا، ففاته رجاء. وأما البخاري، فقد ذَكَر [في] (¬1) "الكمال" أنه روى عنه، لكن قال المزي: "لم أجد له ذكرًا في الصحيح" (¬2). فقد لا يكون البخاري لقيه، وقد يكون لقيه مرةً فلم يسمع منه إلا شيئًا عن شيوخه الذين أدرك البخاريُّ أقرانَهم، فلم يحتَجْ إلى النزول بالرواية عن رجاء. فتحصَّلَ من هذا أنهم إنما لم يُخرجوا عنه إيثارًا للعلوِّ من غير طريقه، على النزول من طريقه. وراجع ترجمة إبراهيم بن شمّاس (¬3). هذا، وقد روى عنه الإِمام أحمد، وهو لا يروي إلا عن ثقة، كما يأتي في ترجمة محمَّد بن أعيَن (¬4). وروى عنه أيضًا إبراهيم بن موسى وأبو حاتم وقال: "صدوق". وقال الحاكم: "ركن من أركان الحديث". ¬

_ (¬1) زيادة لازمة، و"الكمال في أسماء الرجال" لعبد الغني المقدسي (ت 600) لم يطبع بعد، وهو الذي هذَّبه المزَّي. (¬2) "تهذيب الكمال": (2/ 478) علق ذلك في هامش كتابه، وبقية كلامه: "ولا ذَكَره أحدٌ من المصنفين في رجاله، وإنما قال الحاكم في "تاريخ نيسابور": روى عنه البخاري، ولم يقل في "الصحيح"، فلعله روى عنه خارج الصحيح، وليس من شرط هذا الكتاب فإن له نظراء لم نذكرهم. والله أعلم" اهـ. (¬3) رقم (6). (¬4) رقم (194).

93 - رقبة بن مصقلة

93 - رَقَبة بن مَصْقَلة: في "تاريخ بغداد" (13/ 416 [446]) عن أبي أسامة "مرَّ رجل على رَقَبة فقال: من أين أقبلت؟ قال: من عند أبي حنيفة. قال: يمكنك من رأي (¬1) ما مضغت، وترجع إلى أهلك بغير ثقة". قال الأستاذ (ص 158): "ليس من رجال الجرح والتعديل, وإنما هو من رجالات العرب الذين يحبُّون التنكيت والتندّر. وهو الذي استلقى على ظهره في المسجد، وهو يتقلَّب ويقول لمن يسائله عما به: إني صريع الفالوذج! يعني أنه متخوم بأكله، أو مصروع بالتشوّق إليه. ومثل هذا الكلام موضعه كتب النوادر والمحاضرات .. ". أقول: رقبة روى عن أنس - فيما قيل - وعن أبي إسحاق، وعطاء، ونافع، وعبد العزيز بن صُهيب، وثابت البُناني، وطلحة بن مصرِّف، وغيرهم. وعنه جرير بن عبد الحميد، وأبو عَوانة، وابن عُيينة، وغيرهم. قال الإِمام أحمد: "شيخ ثقة من الثقات مأمون". وقال ابن معين والعجلي والنسائي: "ثقة". واحتج به الشيخان في "الصحيحين" وغيرهما. ومثلُه لو جَرَح أو عَدَّل لَقُبِل منه. فأما الدعابة، فلم تبلغ به بحمد الله عَزَّ وَجَلَّ ما يخدش في دينه وأمانته. وقصة الفالوذج - إن صحت -[1/ 255] إنما فيها أنه أكل فالوذجًا، فتأذَّى به، فقال ما قال تلطُّفًا ونصيحةً لغيره، فكان ماذا؟ ومع هذا كلِّه، فليس في كلمته التي ذكرها الخطيب جرحٌ لأبي حنيفة. وقوله: "ترجع إلى أهلك بغير ثقة" يعني: بالرأي, لأنه قد يرجع أبو حنيفة ¬

_ (¬1) في "الانتقاء" (ص 274): "يكفيك من رأيه ... " معزوّة إلى مسعر بن كدام.

94 - زكريا بن يحيى الساجي

عنه بعد ساعة. وقد قال حفص بن غياث: "كنت أجلس إلى أبي حنيفة، فأسمعه يُسأل عن مسألة في اليوم الواحد، فيفتي فيها بخمسة أقاويل. فلما رأيتُ ذلك تركتُه، وأقبلتُ على الحديث". ذكره الأستاذ (ص 123). وقال زفر صاحب أبي حنيفة: "كنا نختلف إلى أبي حنيفة ... فقال يومًا أبو حنيفة لأبي يوسف: ويحك يا يعقوب لا تكتُبْ كلَّ ما تسمعه مني، فإني قد أرى الرأي اليومَ فأتركه غدًا، وأرى الرأي غدًا فأتركه بعد غد". ذكره الأستاذ (ص 118). 94 - زكريّا بن يحيى السّاجي: في "تاريخ بغداد" (13/ 325) عنه: "سمعت محمَّد بن معاوية الزيادي يقول: سمعت أبا جعفر يقول: كان أبو حنيفة اسمه عتيك بن زَوْطَرة، فسمَّى نفسه النعمان، وسمَّى أباه ثابتًا". قال الأستاذ (ص 18): "شيخ المتعصبين، كان وقَّاعًا، ينفرد بمناكير عن مجاهيل، وتجد في "تاريخ بغداد" نماذج من انفراداته عن مجاهيل بأمور منكرة. ونضالُ الذهبي عنه من تجاهل العارف. وقال أبو الحسن ابن القطان: مختلف فيه في الحديث، وثَّقه قوم وضعَّفه آخرون. وقال أبو بكر الرازي بعد أن ساق حديثًا بطريقه: انفرد به السَّاجي ولم يكن مأمونًا. وكفى في معرفة تعصُّب الرجل الاطلاعُ على أوائل كتاب "العلل" له". أقول: أما التعصُّب، فقد مرَّ حكمُه في القواعد (¬1)، وبيَّنَّا أنه إذا ثبتت ثقةُ الرجل وأمانتُه لم يقدح ما يسمِّيه الأستاذ تعصُّبًا في روايته. ولكن ينبغي ¬

_ (¬1) (ص 87 فما بعدها).

التروِّي فيما يقوله برأيه، لا اتهامًا له بتعمُّدِ الكذب والحكمِ بالباطل، بل لاحتمال أنَّ الحنَقَ حال بينه وبين التثبُّت. وبهذه القاعدة نفسها نعامل ما حكاه الأستاذ عن أبي بكر الرازي - إن كان ممن ثبتت ثقته وأمانته - فلا نقبلها منه بغير مستند، مع مخالفته لمن هو أثبت منه وأعلم بالحديث ورجاله. ولأمرٍ ما سَتَر الأستاذُ على نفسه وعلى الرازي، فلم يذكر الحديث ولا بيَّن موضعه (*)! فأما قوله: "كان وقَّاعًا" فمن تصدَّى للجرح والتعديل والتنديد بمن يخالف السنة، احتاج [1/ 256] إلى ما يسمَّيه الأستاذ وقيعة، وإنما المذموم أن يقع الرجل في الناس بما لا يراه حقًّا، أو بما لا يُعذَر في جهلِ أنه باطل. وأما الانفراد بمناكير عن مجاهيل - إن صحَّ - فلا يضرُّه، وإنما الحَمْل على أولئك المجاهيل، ولا يترتب على ذلك مفسدة. ومثلُ ذلك ما يرويه عن الضعفاء, كالحديث الذي في ترجمته في "لسان الميزان" (¬1) سمعه من الساجي أبو داود وعَبْدان والبزَّار وغيرهم، رواه الساجي عن عبد الله بن هارون بن أبي علقمة الفَرْوي. وعبد الله هذا يقال له: "أبو علقمة الصغير" له ترجمة في "تهذيب التهذيب" (ج 12 ص 172). وفيها: "قال الحاكم أبو أحمد: منكر الحديث ... وقال ابن عدي: له مناكير ... وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: يخطئ ويخالف. وقال الدارقطني في "غرائب مالك": "متروك الحديث". فإن كان ذاك الحديث منكرًا، فالحملُ فيه على الفَرْوي، كالأحاديث الأخرى التي أُنكِرَت عليه. ¬

_ (¬1) (3/ 522).

وأما كلمة ابن القطان (¬1)، فلم يبيِّن مَنْ هم الذين ضعَّفوه؟ وما هو التضعيف؟ وما وجهه؟ ومثلُ هذا النقل المرسَل على عواهنه لا يُلتفت إليه أمام التوثيق المحقَّق. وأخشى أن يكون اشتبه على ابن القطان (¬2) بغيره ممن يقال له: "زكريا بن يحيى"، وهم جماعة (¬3). وابن القطان ربما يأخذ من الصحُف، فيصحِّف. فقد وقع له في موضعٍ تصحيفٌ في ثلاثة أسماء متوالية. راجع "لسان الميزان" (ج 2 ص 201 - 202) (¬4). قد قال ابن حجر في "اللسان" (¬5) متعقبًا كلمةَ ابن القطان: "ولا يغترَّ أحد بقول ابن القطان، قد جازف بهذه المقالة، وما ضعَّف زكريا الساجي هذا أحدٌ قط ... وذكره ابن أبي حاتم فقال: كان ثقة يعرف الحديث والفقه، وله مؤلفات حسان في الرجال واختلاف الفقهاء وأحكام القرآن ... وقال مسلمة بن القاسم: بصري ثقة". والذهبي إنما قال في "الميزان" (¬6): "أحد الأثبات، ما علمتُ فيه جرحًا أصلاً. قال أبو الحسن بن القطان ... ". فما الذي تجاهله الذهبيُّ؟ أما كلمة ابن القطان، فقد ذكرها. وأما ما حكاه الأستاذ عن الرازي، فليس الرازي ممن يُذكَر في هذا ¬

_ (¬1) في آخر كتابه "بيان الوهم والإيهام": (5/ 640). (¬2) (ط): "ابن قطان"! (¬3) يُستبعد هذا الاحتمال؛ لأن ابن القطان أفرده بالترجمة، وذكر نَسَبه وموطنه ووفاته، ونقل من كتابه في "الضعفاء" ... (¬4) (3/ 28). (¬5) (3/ 521). (¬6) (2/ 269).

95 - سالم بن عصام

الشأن، حتى يتتبعَ الذهبيُّ وغيره كلامَه، فيسوغَ أن يُظَنَّ بالذهبي أنه وقف على كلمته، وأعرض عنها لمخالفتها هواه، كما يتوهمه أو يوهمه الأستاذ! 95 - [1/ 257] سالم (¬1) بن عصام: ذكرته في "الطليعة" (ص 50 - 51) (¬2) فأشار إلى ذلك في "الترحيب" (ص 40 - 41) وتعرَّض لأبي الشيخ عبد الله بن محمَّد بن جعفر بن حيّان، وستأتي ترجمته (¬3). وهو حافظ ثقة جبل، وإن كره الأستاذ! وذكر أن كلمة "صدوق" دون كلمة "ثقة"، وصدق في ذلك، ولكن أبا الشيخ أردفها بقوله: "صاحب كتاب". وصاحب الكتاب يكفيه كونُه في نفسه صدوقًا وكونُ كتابه صحيحًا. وقد توبع سالم، كما ذكرته في "الطليعة". 96 - سعيد بن سَلْم بن قتيبة بن مسلم (¬4) الباهلي الأمير: في "تاريخ بغداد" (13/ 375 [380 - 381]) عنه (¬5): "قلت لأبي ¬

_ (¬1) كذا في (ط) وفي "الطليعة" (ص 37)، وصوابه "سَلْم"، وانظر تعليقي على "الطليعة" هامش (1). (¬2) (ص 37 - 38). (¬3) رقم (129). (¬4) كذا في (ط): "بن سَلْم .. بن مسلم ... " وانظر ما سيأتي. (¬5) الذي في "تاريخ بغداد": (13/ 380 - 381 القديمة و15/ 512 - 513 الجديدة): "حدثنا أبو جُزَي بن [سقطت من ط القديمة] عَمرو بن سعيد بن سالم، قال: سمعت جدي ... " فالذي وقع في السند هو "سعيد بن سالم"، وقد بحث الكوثري في "التأنيب" (ص 46) في تعيين مَن يكون، وكان من احتمالاته أن يكون هو "سعيد بن سلم عامل أرمينية في عهد الرشيد ... " وتكلّم عليه, فذكره المؤلف ودافع عنه من =

97 - سعيد بن عامر الضبعي

يوسف: أكان أبو حنيفة مرجئًا؟ قال: نعم. قلت: أكان جهميًا؟ قال نعم. قلت: فأين أنت منه؟ قال: إنما كان أبو حنيفة مدرِّسًا، فما كان من قوله حسنًا قبلناه، وما كان قبيحًا تركناه". قال الأستاذ (ص 46): "عامل أرمينية في عهد الرشيد، وقد حاق بالمسلمين ما حاق من البلايا هناك من سوء تصريف هذا العامل شؤونَ الحكم، وابتعادِه في الحكم عن الحكمة والسداد، كما في "تاريخ ابن جرير" وغيره. وليس هو ممن يُقبل له قولٌ في مثل هذه المسائل". أقول: حُسن السياسة شيء، والصدقُ في الرواية شيء آخر. ولسعيد ترجمة في "تاريخ بغداد" (ج 9 ص 74) وفيها: " ... قال العباس بن مصعب: قدم مروَ زمان المأمون ... وكان عالمًا بالحديث والعربية، إلا أنه كان لا يبذل نفسه للناس". ولو قال الأستاذ: "لم يوثَّق" لكفاه. 97 - سعيد بن عامر الضُّبَعي: في "تاريخ بغداد" (13/ 397 [417]) عنه: "حدثنا سلَّام بن أبي مطيع قال: كان أيوب قاعدًا في المسجد الحرام، فرآه أبو حنيفة، فأقبل نحوه، فلما رآه أيوب قد أقبل نحوه، قال لأصحابه: لا يُعْدِنا (¬1) بجَرَبه! قوموا، فتفرَّقوا". قال الأستاذ (ص 109): "في حديثه بعض الغلط، كما قال ابن أبي حاتم". ¬

_ = أجل ذلك لا جزمًا منه بأنه الذي في السند. وانظر تعليق بشار عوَّاد على هذا الموضع من طبعته من التاريخ. (¬1) كذا في (ط) و"التأنيب". وفي "التاريخ" بطبعتيه: "يَعرُّنا" يقال: فلان يَعُرُّ قومَه، أي: يُدخل عليهم مكروهًا يلطخُهم به. "مختار الصحاح" (ص 423).

98 - سفيان بن سعيد الثوري

أقول: إنما حكى ذلك ابن أبي حاتم عن أبيه قال: "كان رجلاً صالحًا، وكان في حديثه بعض الغلط" (¬1). وقد وقفتُ لسعيد على خطأ في إسناد حديث أو حديثين، وذلك لا يضرُّه، وإنما حدُّه أنه إذا خالف مَن هو أثبت منه ترجَّح قولُ الثبت. وقد أثنى عليه الإمامان ابن [1/ 258] مهدي والقطان. وقال ابن معين: "ثنا سعيد بن عامر الثقة المأمون". ووثقه أيضًا ابن سعد، والعجلي، وابن قانع حافظ الحنفية. وروى عنه الأئمة: ابن المبارك، وأحمد، ويحيى، وإسحاق، وأبو خيثمة، وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، وغيرهم. 98 - سفيان بن سعيد الثوري: في "تاريخ بغداد" في ترجمة أبي حنيفة عدة كلمات منسوبة إلى الثوري (¬2)، فيها غضٌّ من أبي حنيفة، تعقَّبها الأستاذ في "التأنيب" بما تعقَّبها. وفي بعض ذلك ما يؤول إلى الطعن في الثوري. فمن ذلك: ما يتعلق بالإرجاء (¬3)، وقد ذكرته في قسم الاعتقاديات (¬4). ومن ذلك: الروايات في أن أبا حنيفة استتيب من الكفر مرتين (¬5). جاءت تلك الروايات عن الثوري وجماعةٍ، فتكلم الأستاذ في الروايات بما لا شأن لنا به هنا. ¬

_ (¬1) "الجرح والتعديل": (4/ 49). (¬2) انظر: (13/ 391، 394، 399، 418، 419، 429، 430، 436، 447, 453). (¬3) (13/ 378، 399). (¬4) (2/ 555 وما بعدها). (¬5) (13/ 391 - 392).

وقال (ص 65): "روى ابن عبد البر بسنده عن عبد الله [بن] (¬1) داود الخُرَيبي الحافظ تكذيبَ استتابته مطلقًا. فليراجع "الانتقاء"". أقول: تلك الرواية في "الانتقاء" (ص 150) (¬2) وهي من طريق محمَّد بن يونس الكُدَيمي، وقد قال الأستاذ (ص 60): "الكُدَيمي متكلَّم فيه راجع "ميزان الاعتدال"". أقول: وراجع أيضًا "تهذيب التهذيب" (¬3)، وحاصل ذلك أن الكُدَيمي ليس بثقة، وقد كذَّبه جماعة. وقال الأستاذ (ص 66): "وهناك رواية أخرى ... وذلك ما حدَّثه ابن أبي العوَّام الحافظ (؟) عن الحسن بن حمَّاد سجَّادة قال: حدثنا أبو قَطَن عمرو بن الهيثم البصري ... ". ثم قال الأستاذ: "وفي ذلك القول الفصل, لأن أبا القاسم بن أبي العوام الحافظ (؟) - صاحبَ النسائي - وسجَّادة وأبا (¬4) قطن كلَّهم من الثقات الأثبات". أقول: ابن أبي العوام ذكرته في "الطليعة" (ص 27 - 28) (¬5) فراجعها. ولم يتعقب الأستاذ في "الترحيب" ذلك بشيء، وأي قيمة لتوثيق الكوثري! ومع ذلك فلم يدرك سجّادة, لأن سجادة توفي سنة 241، والنسائي نفسه يروي عن رجل عنه. ويظهر أنه إنما وقع في كتاب ابن أبي العوام "حُدِّثْتُ ¬

_ (¬1) سقطت من (ط). (¬2) (ص 287 - المحققة). (¬3) (9/ 539 - 544). (¬4) (ط): "وأبو" خطأ، والمثبت من "التأنيب". (¬5) (ص 18 - 20).

عن الحسن بن حماد سجادة". فقول الأستاذ: "وذلك ما حُدِّثه" حقُّها أن [1/ 259] تُقرأ هكذا بالبناء للمجهول. فعلى هذا لا يُدرى مَنْ شيخ ابن أبي العوّام، إن كان له شيخ غير نفسه، وصحَّ الخبر عنه. ومن ذلك أن الخطيب ساق عدة روايات (¬1) عن الثوري والأوزاعي قال: "ما وُلد في الإِسلام مولودٌ أشأمُ على هذه الأمة من أبي حنيفة". فقال الأستاذ (ص 72): "لو كان هذا الخبر ثبَتَ عن الثوري والأوزاعي لسقطا بتلك الكلمة وحدها في هُوَّة الهوى والمجازفة، كما سقط مذهباهما بعدهما سقوطًا لا نهوض لهما أمام الفقه الناضج. وقد ورد: "لا شؤم في الإِسلام". وعلى فرض أن الشؤم يوجد في غير الثلاث الواردة في السنة، وأن صاحبنا مشؤوم، فمن أين لهما معرفةُ أنه في أعلى درجات المشؤومين؟ ... ". أقول: لم يريدا الشؤم الذي نفاه الشرع، وإنما أرادا الشؤم الذي يُثبته الشرع والعقل. إذا كان في أخلاق الإنسان وأقواله وأفعاله ما من شأنه ديانةً وعادةً وقوعُ الضرر والمصائب بمن يصحبه ويتبعه، ويتعدّى ذلك إلى غيرهم، ووقع ذلك ولم يزل ينتشر، ودلَّت الحالُ على أنه لن يزال في انتشار = صحَّ أن يقال: إنه مشؤوم. وإذا ظُنّ أن ما يَلْحق الأمةَ من الضرر بسبب رجل [أكثر مما يلحقها بسبب رجلٍ] (¬2) آخر = صحَّ أن يقال: إنه لم يولد مولودٌ أشأَمُ على الأمة منه. كان الثوري والأوزاعي - كجمهور الأئمة قبلهما وفي عصرهما - يريان ¬

_ (¬1) (13/ 418 - 419). (¬2) زيادة يقتضيها السياق، لعلها سقطت بسبب انتقال النظر.

الإرجاءَ، وردَّ السنة بالرأي، والقولَ ببعض مقالات الجهمية = كلَّ ذلك ضلالةً، من شأنها أن يشتدَّ ضررُها على الأمة في دينها ودنياها، ورَأَيا صاحبَكم وأتباعَه - مخطئين أو مصيبين - جادِّين في نشر ذلك، ولا تزال مقالاتهم تنتشر وتجُرُّ إلى ما هو شرٌّ منها، حتى جرَّت قومًا إلى القول بأن أخبار الآحاد مردودة مطلقًا، وآخرين إلى ردِّ الأخبار مطلقًا، كما ذكره الشافعي. ثم جرَّت إلى القول بأن النصوص الشرعية لا يُحتجُّ بها في العقائد! ثم إلى نسبة الكذب إلى أنبياء الله عَزَّ وَجَلَّ وإليه سبحانه كما شرحته في قسم الاعتقاديات (¬1). شاهدَ الثوريُّ والأوزاعي طرفًا من ذلك، ودلَّتهما الحالُ على ما سيصير إليه الأمرُ، فكان كما ظنَّا. وهل كانت المحنة في زمن المأمون والمعتصم والواثق إلا على يدي أصحابكم ينسبون أقوالهم إلى صاحبكم؟ وفي كتاب "قضاة مصر" (¬2) طرف من وصف ذلك. وهل جرَّ إلى استفحال تلك المقالات إلا تلك المحنة؟ وأيُّ ضَرٍّ نزل بالأمة أشدُّ من هذه المقالات! [1/ 260] فأما سقوطُ مذهبيهما، فخِيرةٌ اختارها الله تبارك وتعالى لهما. فإن المجتهد قد يخطئ خطأً لا يخلو عن تقصير، وقد يقصَّر في زجر أتباعه عن تقليده هذا التقليدَ الذي نرى عليه كثيرًا من الناس منذ زمان طويل، الذي يتعسَّر أو يتعذَّر الفرقُ بينه وبين اتخاذ الأحبار والرهبان أربابًا من دون الله = فقد يلحق المجتهدَ كِفْلٌ من تلك التبعات؛ فسلَّم الله تعالى الثوري ¬

_ (¬1) (2/ 464 وما بعدها). (¬2) لمحمد بن يوسف الكندي (ص 445 وما بعدها).

والأوازعي من ذلك. فأما ما يرجى من الأجر على الاتباع في الحق، فلهما من ذلك النصيبُ الأوفر بما نشراه من السنة علمًا وعملًا. وهذه الأمهات الستُّ المتداوَلة بين الناس حافلةٌ بالأحاديث المروية من طريقهما, وليس فيها لصاحبكم ومشاهير أصحابه حديث واحد! وقد قال الإِمام أبو عبد الله محمَّد بن إسماعيل البخاري في "تاريخه الكبير" (¬1) في ترجمة الثوري: "قال لنا عبدان عن ابن المبارك: كنتُ إذا شئتُ رأيتُ سفيان مصلِّيًا، وإذا شئتُ رأيته محدثًا، وإذا شئتُ رأيته في غامض الفقه. ومجلسٌ [آخر] شُهِدَ (في "التاريخ الصغير" (¬2) ص 187: شهدته) ما صُلَّي فيه على النبي - صلى الله عليه وسلم - يعني: مجلس النعمان" ولهذه الحكاية طرف في "تاريخ بغداد" (¬3) و"تقدمة الجرح والتعديل" (¬4) لابن أبي حاتم وغيرهما. وقد علمنا كيف انتشر مذهبكم: أولاً: أولع الناس به لما فيه من تقريب الحصول على الرئاسة، بدون تعب في طلب الأحاديث وسماعها وحفظها والبحث عن رواتها وعللها وغير ذلك؛ إذ رأوا أنه يكفي الرجلَ أن يحصل له طرف يسير من ذلك، ثم يتصرَّف برأيه، فإذا به قد صار رئيسًا! ¬

_ (¬1) (4/ 92). (¬2) في "الأوسط": (3/ 600) طبع خطأً باسم الصغير. (¬3) (13/ 428). (¬4) (ص 65, 115 - 116).

ثانيًا: وليَ أصحابكم قضاءَ القضاة، فكانوا يحرصون على أن لا يولُّوا قاضيًا في بلد من بلدان الإِسلام إلا على رأيهم، فرغب الناس فيه ليتولوا القضاء. ثم كان القضاة يسعون في نشر المذهب في جميع البلدان. ثالثًا: كانت المحنة على يدي أصحابكم، واستمرت خلافةَ المأمون وخلافةَ المعتصم وخلافةَ الواثق. وكانت قوى الدولة كلُّها تحت إشارتهم، فسعوا في نشر مذهبهم في الاعتقاد وفي الفقه في جميع الأقطار. وعمدوا إلى من يخالفهم في الفقه، فقصدوه بأنواع الأذى. ولذلك تعمدوا [1/ 261] أبا مُسْهِر عبد الأعلى بن مسهر عالمَ الشام وارثَ فقه الأوزاعي (¬1)، والإمامَ أحمد بن حنبل حاملَ راية فقه الحديث (¬2)، وأبا يعقوب البُوَيطي خليفة الشافعي (¬3)، وابنَ عبد الحكم وغيرَه من المالكية بمصر. وفي كتاب "قضاة مصر" (¬4) طرف مما صنعوه بمصر. وفي ذلك يقول الشاعر يمدح قاضيكم بمصر: ولقد بجستَ العلمَ في طُلَّابه ... وفجَرتَ منه منابعًا لم تُفْجَرِ فحميتَ قولَ أبي حنيفة بالهدى ... ومحمدٍ واليوسفيِّ الأذكرِ وفتى أبي ليلى وقولَ قريعهم ... زُفرِ القياسِ أخي الحِجاج الأنظرِ ¬

_ (¬1) تأتي ترجمته [رقم 137]. وقد حُمِل إلى العراق، وهُدَّد بالقتل، ثم أودع السجن حتى مات. [المؤلف]. (¬2) قصته معروفة. [المؤلف]. (¬3) حُمل من مصر في القيود والأغلال، ثم أُودع السجن مقيدًا إلى أنصاف ساقيه مغلولةً يداه إلى عنقه إلى أن مات. [المؤلف]. (¬4) للكندي (ص 445 وما بعدها). وانظر "رفع الإصر عن قضاة مصر": (2/ 387 وما بعدها) للحافظ ابن حجر.

وحطَمتَ قولَ الشافعيِّ وصَحْبِه ... ومقالةَ ابنِ عليةٍ لم تُصْحِرِ ألزقتَ قولَهم الحصيرَ فلم يجُزْ ... عرضَ الحصيرِ فإنْ بدا لك فاشبُرِ والمالكيةُ بعد ذكرٍ شائعٍ ... أخملتَها فكأنَّها لم تُذْكَرِ ثم ذكر إكراه علماء مصر على القول بخلق القرآن وغير ذلك. راجع كتاب "قضاة مصر" (ص 452). رابعًا: غلبت الأعاجم على الدولة، فتعصَّبوا لمذهبكم لعلة الجنسية، وما فيه من التوسع في الرُّخَص والحيل! خامسًا: تتابعت دول من الأعاجم كانوا على هذه الوتيرة. سادسًا: قام أصحابكم بدعايةٍ لا نظير لها، واستحلُّوا في سبيلها الكذب حتى على النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما نراه في كتب المناقب. سابعًا: تمَّمُوا ذلك بالمغالطات التي ضرب فيها الكوثري المثل الأقصى في "تأنيبه" كما شرحتُ أمثلة من ذلك في "الطليعة" وفي هذا الكتاب، ومرَّ بعضها في هذه الترجمة نفسها. [1/ 262] فأما النضج الذي يدّعيه الأستاذ، فيظهر نموذج منه في قسم الفقهيات، بل في المسألة الأولى منها! وقد كان خيرًا للأستاذ ولأصحابه ولنا وللمسلمين أن يُطوَى الثوبُ على غَرِّه، ويُقَرَّ الطيرُ على مَكِناتها، ويدعَ ما في "تاريخ بغداد" مدفونًا فيه، ويذَر النزاع الضئيل بين مسلمي الهند مقصورًا عليهم، ويتمثَّل قول زهير (¬1): ¬

_ (¬1) شرح شعر زهير بن أبي سلمى، صنعة ثعلب (26 - 28).

وما الحربُ إلا ما علمتُمْ وذقتُمُ ... وما هو عنها بالحديث المُرَجَّمِ متى تَبعثُوها تَبعثُوها ذميمةً ... وتَضْرَ إذا أضريتموها فتَضْرَمِ فتَعْرُكُكُم عَرَكَ الرَّحى بِثفَالها ... وتَلْقَحْ كِشافًا ثم تُنْتَجْ فتُتْئِمِ فتنتَجْ لكم غلمانَ أشأمَ كلُّهم ... كأحمرِ عادٍ ثم تُرضِعْ فتَفْطِمِ فتُغْلِلْ لكم ما لا تُغِلُّ لأهلها ... قُرًى بالعراق مِن قفيزٍ ودرهمِ وقد جرَّني الغضبُ للسنة وأئمتها إلى طرف مما أكره، وأعوذ بالله من شرِّ نفسي وسيِّئ عملي {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10]. ومن أحب الوقوف على فضائل الثوري والأوزاعي، فليراجع تراجمهما في "تقدمة الجرح والتعديل" (¬1) لابن أبي حاتم، و"تهذيب التهذيب" (¬2) وغير ذلك. ولنتبرَّك بذكر طرف منها: قال شعبة وابن عيينة وابن معين وغير واحد من الأئمة: "سفيان أمير المؤمنين في الحديث". وقال عبد الله بن المبارك: "كتبتُ عن ألف ومائة شيخ، ما كتبتُ عن أفضل من سفيان"، ثم قال: "ما رأيت أفضل من سفيان". وقال عبد الله بن داود الخُرَيبي: "ما رأيت أفقه من سفيان". وقال أبو إسحاق الفَزاري: "ما رأيت مثل رجلين: الأوزاعي ¬

_ (¬1) (ص 55 - 125 و184 - 218). (¬2) (4/ 111 - 115 و6/ 238 - 242).

99 - سفيان بن عيينة

والثوري ... ولو خُيَّرتُ لهذه الأمة لاخترتُ لها الأوزاعي ... وكان والله إمامًا إذ لا نُصيب اليومَ إمامًا". وقال ابن المبارك: "لو قيل لي: اختر لهذه الأمة لاخترتُ الثوري والأوزاعي، ثم لاخترتُ الأوزاعي؛ لأنه أرفق الرجلين". وقال الخُريبي: "كان الأوزاعي أفضل أهل زمانه". 99 - [1/ 263] سفيان بن عُيينة: شارك الثوريَّ في بعض الكلمات التي نقَمَها الأستاذ، ولا حاجة لذكر ذلك هنا, ولعلك ترى طرفًا منه في مواضعه. وأكتفي بالنظر فيما ذكره الأستاذ في "الترحيب" (ص 27) قال: "لم أذكر في "التأنيب" أن سفيان بن عيينة نفسه كان قد اختلط قبل وفاته بسنة أو أكثر، فيمكن أن يقع منه هذا التخليط في عام الاختلاط". أقول: قال الذهبي في "الميزان" (¬1): "روى محمَّد بن عبد الله بن عمار الموصلي عن يحيى بن سعيد القطان قال: أشهد أن سفيان بن عيينة اختلط سنة سبع وتسعين ومائة، فمن سمع منه فيها فسماعُه لا شيء. قلتُ: سمع منه فيها محمَّد بن عاصم صاحب ذاك الجزء العالي. ويغلب على ظني أن سائر شيوخ الأئمة الستة سمعوا منه قبل سنة سبع. وأما سنة ثمان وتسعين ففيها مات، ولم يَلْقَه أحد فيها؛ لأنه توفي قبل قدوم الحاج بأربعة أشهر. وأنا أستبعد هذا الكلام من القطان، وأعُدُّه غلطًا من ابن عمار؛ فإن القطان مات في صفر من سنة ثمان وتسعين وقت قدوم الحاج، ووقت تحديثهم (¬2) عن ¬

_ (¬1) (2/ 360 - 361). (¬2) في "الميزان": "وتحدّثهم".

أخبار الحجاز، فمتى تمكَّن يحيى بن سعيد من أن يسمع اختلاط سفيان، ثم يشهد عليه بذلك، والموت قد نزل به؟ فلعله بلغه ذلك في أثناء سنة سبع، مع أن يحيى متعنِّت جدًّا في الرجال، وسفيان فثقة مطلقًا، والله أعلم". قال ابن حجر في "تهذيب التهذيب" (¬1): "ابن عمار من الأثبات المتقنين، وما المانع أن يكون يحيى بن سعيد سمعه من جماعة ممن حجَّ في تلك السنة، واعتمد قولَهم، وكانوا كثيرًا، فشهد على استفاضتهم؟ وقد وجدتُ عن يحيى بن سعيد شيئًا يصلح أن يكون سببًا لما نقله عن ابن عمار في حق ابن عيينة. وذلك ما أورده أبو سعد (¬2) ابن السمعاني في ترجمة إسماعيل بن أبي صالح المؤذن من "ذيل تاريخ بغداد" بسند له قوي إلى عبد الرحمن بن بشر بن الحكم قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول: قلت لابن عيينة: كنتَ تكتب الحديث، وتحدِّث اليوم وتزيد في إسناده أو تنقص منه! فقال: عليك بالسماع الأول، فإني قد سئمت. وقد ذكر أبو معين الرازي في زيادة "كتاب الإيمان" لأحمد أن هارون بن معروف قال له: إنّ ابن عيينة تغيّر أمرُه بأَخَرة، وإن سليمان بن حرب قال له: إن ابن عيينة أخطأ في عامة حديثه عن أيوب". أقول: كان ابن عيينة بمكة، والقطان بالبصرة، ولم يحج القطان سنة سبع؛ فلعله حجَّ سنة [1/ 264] ستٍّ، فرأى ابنَ عيينة قد ضعف حفظُه قليلاً، فربما أخطأ في بعض مظانَّ الخطأ من الأسانيد. وحينئذ سأله, فأجابه، كما أخبر بذلك عبد الرحمن بن بشر. ثم كأنه بلغ القطانَ في أثناء سنة سبع أو ¬

_ (¬1) (4/ 120 - 121). (¬2) (ط): "سعيد" تصحيف.

أوائل سنة ثمان أن ابن عيينة أخطأ في حديثين، فعَدَّ ذلك تغيُّرًا، وأطلق كلمة "اختلط" على عادته في التشديد. وقد كان ابن عيينة أشهر من نار على عَلَم، فلو اختلط الاختلاط الاصطلاحيّ لسارت بذلك الركبان، وتناقله كثيرٌ من أهل العلم وشاع وذاع. وهذا "جزء محمَّد بن عاصم" سمعه من ابن عيينة في سنة سبع، ولا نعلمهم انتقدوا منه حرفًا واحدًا. فالحق أن ابن عيينة لم يختلط، ولكن كبر سنُّه، فلم يبق حفظُه على ما كان عليه، فصار ربما يخطئ في الأسانيد التي لم يكن قد بالغ في إتقانها، كحديثه عن أيوب. والذي يظهر أن ذلك خطأ هيِّن، ولهذا لم يعبأ به أكثر الأئمة، ووثَّقوا ابن عيينة مطلقًا. ومع هذا فالحكاية التي تكلَّم فيها الأستاذ، هي واقعة جرَتْ لابن عيينة أخبر بها, وليس ذلك من مظان الغلط. وراويها عنه إبراهيم بن بشار الرمادي من قدماء أصحابه. قال أبو عَوانة في "صحيحه" (ج 1 ص 365): "كان ثقة من كبارأصحاب سفيان وممن سمع قديمًا منه". ومناقب ابن عيينة في الكتب المشار إليها في ترجمة الثوري وغيرها (¬1). ومن ذلك: قال ابن وهب صاحب الإِمام مالك: "ما رأيت أحدًا أعلم بكتاب الله من ابن عيينة". وقال الشافعي: "ما رأيت أحدًا من الناس فيه من آلة العلم ما في ابن عيينة، وما رأيت أحدًا أكفَّ عن الفُتْيا منه"، وقال أحمد: "ما رأيت أحدًا أعلمَ بالقرآن والسنن منه". ¬

_ (¬1) انظر "تقدمة الجرح والتعديل": (ص 32 - 54)، و"تهذيب التهذيب": (4/ 117 - 122).

100 - سفيان بن وكيع

100 - سفيان بن وكيع: في "تاريخ بغداد" (13/ 379 [387]) عنه قال: "جاء عمر بن حماد بن أبي حنيفة، فجلس إلينا فقال: سمعت أبي حمادًا يقول: بعث ابنُ أبي ليلى إلى أبي حنيفة فسأله عن القرآن فقال: مخلوق ... ". قال الأستاذ (ص 57): "كان ورَّاقه كذَّابًا يُدخِل في كتبه ما شاء من الأكاذيب فيرويها هو، فنبَّهوه على ذلك، وأشاروا عليه أن يغيِّر ورَّاقه، فلم يفعل؛ فسقط عن مرتبة الاحتجاج عند النقاد". أقول: حسَّن الترمذي بعضَ أحاديثه، وذكره ابن حبان في "الثقات" (¬1)، وقال: "كان شيخا فاضلًا صدوقًا إلا أنه ابتلي بورَّاقِ سَوءٍ .... وهو من الضرب الذين لَأَنْ يخِرَّ أحدُهم من [1/ 265] السماء أحبُّ إليهم من أن يكذبوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". وذكر له ابن عدي (¬2) خمسة أحاديث معروفة إلا أن في أسانيدها خللًا ثم قال: "إنما بلاؤه أنه كان يتلقَّن. يقال: كان له ورَّاق يُلقِّنه من حديثٍ موقوفٍ فيرفعه، أو مرسلٍ يُوصله، أو يبدِّل رجلاً برجل". والحكاية التي ساقها الخطيب ليست من مظنة التلقين، ولا من مظنة الإدخال في الكتب. فإذا صحَّ أن هذا الرجل صدوق في نفسه لم يكن في الطعنِ فيه بقصة الوراق فائدة هنا. وأكبرُ ما في الحكاية قولُ أبي حنيفة ¬

_ (¬1) بل في "المجروحين": (1/ 355) ونص كلامه هناك. والمؤلف نقل كلام ابن حبان من "تهذيب التهذيب": (4/ 124) ولم يعزه الحافظ إلى "الثقات" فسبق ظن المؤلف أنه فيه لأجل ثناء ابن حبان عليه ولم يكن كتاب "الثقات" قد طبع في ذلك الوقت. (¬2) (3/ 419).

101 - سلام بن أبي مطيع

المقالةَ المذكورة، والأستاذ يُثبت ذلك ويتبجَّح به. 101 - سلَّام بن أبي مُطيع: مرَّت الإشارة إلى روايته في ترجمة سعيد بن عامر (¬1). قال الأستاذ (ص 109): "قال ابن حبان: لا يجوز أن يحتج بما ينفرد به. وقال الحاكم: منسوب إلى الغفلة وسوء الحفظ". أقول: هذا رجل من رجال "الصحيحين" منسوب إلى العقل، لا إلى الغفلة؛ فكأنَّ الحاكم صحَّف (¬2). قال أبو داود: "كان يقال: هو أعقل أهل البصرة". وقال البزَّار: "كان من خيار الناس وعقلائهم". وقال أحمد وأبو داود: "ثقة". وقال ابن عدي: "لم أر أحدًا من المتقدمين نسبه إلى الضعف، وأكثر ما فيه أن روايته عن قتادة فيها أحاديث ليست بمحفوظة، وهو مع ذلك كلِّه عندي لا بأس به". فكأنَّ ابن حبان رأى بعض حديثه عن قتادة غريبًا، فأطلق. وروايته هنا ليست عن قتادة، وإنما هي قصةٌ جرت لأيوب شهدها سلَّام. وليس ذلك من ¬

_ (¬1) رقم (97). (¬2) كلام الحاكم في كتابه "المدخل إلى معرفة الصحيح": (2/ 723 - 724) ونصه: "هو منسوب إلى الغفلة في الأخْذ وإلى سوء الحفظ في الأداء" ثم ذكر قصة فيها أنه كان ينام وقت الإملاء ثم يقوم وينسخ من كتاب أقرانه. فهذا ما عناه الحاكم بالغفلة في الأخذ، ولم يقصد الغفلة التي هي ضد العقل. وبنحوه قال ابن حبان في "المجروحين": (1/ 341) وعبارته: "كان سيئ الأخذ كثير الوهم" ولعل الحاكم أخذها عنه بدليل أنه ساق القصة نفسها التي ساقها ابن حبان، وكثيرًا ما يتابعُ الحاكمُ ابنَ حبان في عبارات الجرح خاصة.

102 - سلامة بن محمود القيسي

مظنة الغلط. راجع (ص 9) (¬1). 102 - سلامة بن محمود القيسي: في "تاريخ بغداد" (13/ 374 [380]) عنه: "حدثنا عبد الله بن محمَّد بن عمرو قال: سمعتُ أبا مُسْهِر يقول: كان أبو حنيفة رأس المرجئة". قال الأستاذ (ص 45): "من الزهاد المستثنِين في كل شيء إلا في مثل هذا"! أقول: يعني أن الرجل منهم كان إذا قال: أنا مؤمن، قال: إن شاء الله. وليس هذا بقادح، وقد ذكرتُ هذه المسألة في قسم الاعتقاديات (¬2). (¬3) 103 - سلمة بن كُلْثوم: في "تاريخ بغداد" (13/ 397 [418]): من طريق أبي توبة: "حدثنا [1/ 266] سلمة بن كلثوم، وكان من العابدين، ولم يكن في أصحاب الأوزاعي أحيا منه. قال: قال الأوزاعي لما مات أبو حنيفة: الحمد لله، إن كان لينقضُ الإِسلامَ عروةً عروةً". قال الأستاذ (ص 109): "يقول عنه الدارقطني: كثير الوهم". ¬

_ (¬1) (ص 12 - 13). (¬2) (2/ 569 - 577). (¬3) سلم بن سالم الباهلي، لم أجده. سلم بن عبد الله، يأتي في سليمان بن عبد الله. [المؤلف]. رقم (104).

104 - سليمان بن عبد الله

أقول: عبارة الدارقطني على ما في "التهذيب" (¬1): "يهم كثيرًا". وليست حكايته هذه مظنة للوهم، وقد توبع عليها. وراجع (ص 9) (¬2). وقال أبو اليمان: "كان يقاس بالأوزاعي". (¬3) 104 - سليمان بن عبد الله: في "تاريخ بغداد" (13/ 382 [392]) من طريق: "أحمد بن مهدي، حدثنا أحمد بن إبراهيم، حدثني سَلْم (وفي طبعة الهند: سليمان) بن عبد الله، حدثنا جرير، عن ثعلبة ... ". وفيه: (13/ 398 [419]) مثل هذا السند، وفيه "سليمان بن عبد الله" باتفاق النسخ. قال الأستاذ (ص 65): "واه إن كان سَلْمَ بن عبد الله الزاهد. وليس بشيء إن كان سليمانَ بن عبد الله الرَّقِّي. وإن كان غيرَهما، فمجهول". وقال (ص 110): "هو أبو الوليد الرَّقَّي. قال ابن معين: ليس بشيء". أقول: ذكر الذهبي في "الميزان" (¬4) سليمان بن عبيد الله أبا أيوب الرَّقِّي، وذكر قول ابن معين: "سليمان بن عبيد الله الرَّقِّي ليس بشيء". وذكر قبله (¬5) بتراجم: "سليمان بن عبد الله أبو الوليد الرقي، قال ابن معين: ليس ¬

_ (¬1) (4/ 155). (¬2) (ص 12 - 13). (¬3) سليم بن عيسى. راجع "الطليعة" (ص 83 - 85 [65 - 67]). سليمان بن حسان الحلي. راجع "الطليعة" (ص74 [57]). [المؤلف]. (¬4) (2/ 404). (¬5) (2/ 402).

بشيء". تعقبه ابن حجر في "اللسان" (¬1) في هذا، فقال: "ما أعلم أن هذا غير أبي أيوب أم لا؟ بل لعله هو، فقد ذكر المؤلف في ترجمته قول ابن معين هذا". وابن حجر واسع الاطلاع، وقد استدرك على الذهبي عدة أوهام. ويظهر أن الذهبي كان إذا ظفر باسم في مطالعاته قيَّده في مذكِّرته ليلحقه في موضعه من "الميزان". فقد يقع التصحيف والوهم إما من المأْخَذ الذي نقل عنه الذهبي، وإما من سرعة كتابة الذهبي في مذكرته. وعلى كل حال، فقد جازف الأستاذُ بجزمه أنَّ الواقعَ في السند هو هذا الذي ذكره الذهبي؛ لأنه إن كان هذا الذي ذكره الذهبي لا وجود له فواضح، وإن كان موجودًا فلا يُدرَى في أيِّ عصر كان، وعمَّن روى، ومن روى عنه؟ وليس هو من بلد أحمد بن إبراهيم، ولا من [1/ 267] بلد جرير. وهذا الاسم "سليمان بن عبد الله" ليس بغريب حتى يقِلَّ الاشتراك فيه. أرأيت لو قال قائل: بل المذكور في السند هو سليمان بن عبد الله بن محمَّد بن سليمان بن عبد الله بن محمَّد بن سليمان بن أبي داود الحراني، لأنه موجود قطعًا، وكان في تلك الطبقة قطعًا؛ ألا يكون هذا أقرب من قول الأستاذ بكثير؟ وحينئذ يضِجُّ الأستاذ ويقول: هذا سَعْيٌ في تصحيح المثالب التي يأبى العقلُ صحتها. فنقول له: إن كان العقل الذي يعرفه الناس، فلا يضرُّك معه أن يكون هذا الواقع في السند هو الحرَّاني أو مَن هو أثبت منه؛ لأن الخبر المخالف للعقل لا يُقبل ولو من الثقة، كما ذكرتَه أنت في "الترحيب"، وإذا ¬

_ (¬1) (4/ 162).

105 - سليمان بن عبد الحميد البهراني

تفرد الثقة بما لا يُقبل حُمِلَ على الخطأ واسترحتَ منه. وإن كان المراد بالعقل ما يسمِّيه الناس "الهوى"، فليس لك أن تتبعه. فإن لم تستطع إلا اتباعه، فعلى الأقل لا تَرْمِ بِدائك مَن هو أقربُ إلى الحق منك. فإن صحَّ أن له هوى مضادًّا لهواك، فليس لك أن تلومه. هَبْ أن الناس أعطوك حكمَك أنَّ لك أن تتَّبعَ هواك، وتُنكِرَ على من خالفك، فهل يبلغ من ذلك أن يَدَعُوك تنكر على مخالفك ما هو حقٌّ لا شبهة فيه، ولا يمكنك أن تجحده بقلبك وإن جحدتَه بلسانك، كأن يقال: أن المتنَين المرويَّين بهذا السند قد رُويا وما في معناهما من طرق أخرى قوية، قد ذكرتَها أنت أو بعضها في "تأنيبك"؛ بل لعل أحدهما متواتر التواترَ في اصطلاح أهل العلم، لا في اصطلاحك الخاصَّ إنْ حَسَّنَّا الظن بك؛ فإنك تطلق كلمة "متواتر" على ما يشتهر في كتب المناقب، وإن كان أصله مما لا تقوم به الحجة! 105 - سليمان بن عبد الحميد البَهْراني: ذكر الخطيب من طريقه حكايةً في ترجمة محمَّد بن الحسن، فقال الأستاذ (ص 186): "مختلف فيه. يقول النسائي عنه: كذاب ليس بثقة". أقول: قد أحسن الأستاذ بقوله: "مختلف فيه"، فإن سليمان هذا وثَّقه مَسْلمة. وقال ابن أبي حاتم (¬1): "هو صديق أبي كتب عنه، وسمعتُ منه بحمص، وهو صدوق". وروى عنه أبو داود وهو لا يروي إلا عن ثقة عنده، كما مرَّ في ترجمة أحمد بن سعد بن أبي مريم (¬2). وذكره ابن حبان في ¬

_ (¬1) "الجرح والتعديل": (4/ 130). (¬2) رقم (18).

106 - سليمان بن فليح

"الثقات" (¬1) وقال: "كان ممن يحفظ الحديث ويتنصَّب". والنسائي رحمه الله نُسِب إلى طرف [1/ 268] من التشيُّع، وهو ضد التنصُّب؛ فلعله سمع سليمان يحكي بعض الكلمات الباطلة التي كان يتناقلها أهل الشام في تلك البدعة التي كانت رائجة عندهم، وهي النصب. وقد قال الأستاذ (ص 163): "فلا يُعتدُّ بقول من يقول: فلان يكذِب. ما لم يفسِّر وجهَ كذبه ... "! 106 - سليمان بن فُليَح: تقدمت من طريقه حكاية في ترجمة خالد القَسْري (¬2). وفي "تاريخ بغداد" (14/ 256) من طريق: "هارون بن موسى الفَرْوي، حدثني أخي عمران بن موسى قال: حدثني عمّي سليمان بن فُلَيح قال: حضرت مجلس هارون الرشيد ... ". قال الأستاذ (ص 62): "قال أبو زرعة: لا أعرفه، ولا أعرف لفليح ولدًا غير محمَّد ويحيى". وذكر نحو ذلك (ص 175)، وزاد: "قلت: وله أيضًا موسى إلا أنه في عداد المجاهيل. وأما ما يقوله ابن حجر في "اللسان" من احتمال كون الاسم مقلوبًا عن فليح بن سليمان، فبعيد عن القبول والاحتمال ... فسليمان بن فليح مجهول على كل حال. فمجردُ تصوُّرِ شخص يغشى مجلس الرشيد ويردُّ على مثل أبي يوسف ولا تكون شخصيته معلومة عند أهل العلم سلفًا وخلفًا كافٍ في معرفة أن الخبر مختلَق، والسند مركَّب". أقول: في "الأغاني" (ج 18 ص 73) من طريق: "أبي محمَّد اليزيدي ¬

_ (¬1) (8/ 281). (¬2) رقم (87).

قال: كان الرشيد جالسًا في مجلسه، فأُتي بأسير من الروم، فقال لذُفَافة العبسي: قم فاضرب عنقه. فضربه، فنبا سيفه. فقال لابن فليح المدني: قم فاضرب عنقه. فضربه، فنبا سيفه أيضًا. فقال: أصلح الله أمير المؤمنين تقدَّمَتْني ضَرْبة عَبَسية ... ". وفيها (ج 14 ص 59): "أخبرني الحَرَمي ابن أبي العلاء، ثنا الزبير بن بكَّار، عن عمه، عن فليح بن سليمان قال: مررنا يومًا مع خالصة (جارية للرشيد) في موكبها ... " (¬1). ¬

_ (¬1) أقول: ومما وقفت عليه من أخباره ما يلي: - قال العيني في "مغاني الأخيار": (1/ 443): "ذكره ابنُ يونس في العلماء الذين قدموا مصر، وقال: روى عنه عمرو بن الربيع بن طارق ولم يزد على هذا شيئًا ... قلت: روى له أبو جعفر الطحاوي". - وأخرج ابن عساكر في "تاريخ دمشق": (50/ 81) من طريق الزبير بن بكار حدثني عمران بن موسى بن فليح حدثني عمي سليمان بن فليح قال: استنشدني يومًا أمير المؤمنين هارون الرشيد لكثيّر فأنشدته نسيب قصيدة له ... ". - وفي "تاريخ الطبري": (4/ 455): "حدثني محمَّد بن يحيى قال: حدثني الحارث بن إسحاق قال: أغاروا على دار مروان ودار يزيد، وفيهما طعام كان حمل للجند في البحر، فلم يدعوا فيهما شيئًا، قال: وشَخَص سليمانُ بن فليح بن سليمان في ذلك اليوم إلى أبي جعفر، فقدم عليه فأخبره الخبر". - وله ابن اسمه محمَّد، ذكره ابن حبان في "الثقات": (9/ 146) وابن يونس في "تاريخه - المجموع": (2/ 206) وساق نسبه وقال: "محمَّد بن سليمان بن فليح ابن سليمان بن أبي المغيرة بن حنين الخزاعي يكنى أبا جعفر، مديني، قدم إلى مصر، له دار بمصر بناها في سنة إحدى وثمانين ومائة".

وفليح بن سليمان المشهور توفي سنة 168 قبل ولاية الرشيد الخلافة، ولا أحسبه دخل بغداد، ولو دخلها لما كان له شأن بمروره مع خالصة في موكبها، ومع ذلك فليس هو من آل أبي فروة. وهارون وعمران ابنا موسى لم أعرفهما. والأشبه - والله أعلم - أنه كان لفليح بن سليمان المعروف أربعة أبناء: محمَّد ويحيى وموسى وسليمان، وجهل أبو زرعة سليمان كما جهل موسى. ثم كان لموسى ابنان: هارون وعمران المذكوران في السند. فسليمان أخو محمَّد كما قال محمَّد، وعمُّ عمران كما قال عمران. وهو ابنُ فليح الذي ذكره اليزيدي. و (¬1) الواقع في [1/ 269] رواية "الأغاني" الثانية باسم "فليح بن سليمان" إما أن يكون انقلب، وإما أن يكون الأصل "ابن فليح بن سليمان"، فسقطت كلمة "ابن". ولم يكن لسليمان هذا اعتناء برواية الحديث، فيعرفه أهل الحديث، وإنما كان كما قال أخوه: "علاَّمة بالناس"، يعني: بأخبارهم، ويشهد لذلك قوله في رواية اليزيدي: "تقدمتني ضربة عَبَسية". يشير إلى قصة وَرْقاء بن زهير العبسي التي ذكرها الفرزدق في قوله: فسيفُ بني عبسٍ وقد ضَرَبوا به ... نبا بيدَيْ ورقاءَ عن رأسِ خالدِ (¬2) وكان منقطعًا إلى خدمة الرشيد وآله، وكثير من هذا الضرب وممن هو أولى بالاشتهار منه لا نكاد نعرف عنهم شيئًا، كما يأتي في ترجمة ¬

_ (¬1) (ط): "وهو" والصواب ما أثبتّ، والسياق يدلّ عليه. (¬2) انظر: النقائض (1/ 384).

107 - سنيد بن داود.

أبي جزي (¬1). ومثلُ هذا لا مانع أن تكون له دالَّة تُجَرِّئه على الكلام في مجلس الرشيد. وعلى كل حال فليس هو ممن يثبت بروايته خبر، فإن كان هناك ما يدفع صحة خبره - كما يقول الأستاذ - فالحمل عليه، ولا مسوِّغ للحكم على السند بأنه مركب، كما زعم الأستاذ. وراجع "الطليعة" (ص 27 - 28 و93 - 94) (¬2). 107 - سُنَيد بن داود. مرَّت حكايته وكلام الأستاذ فيه والجواب عن بعضه في ترجمة حجاج بن محمَّد (¬3). وبقي قول النسائي: "غير ثقة" وقول أبي داود: "لم يكن بذلك" وقول أبي حاتم: "ضعيف". كذا في كتاب ابنه (¬4). وقد ذكره ابن حبان في "الثقات" (¬5)، وروى عنه أبو زرعة ومن عادته أن لا يروي إلا عن ثقة، كما في "لسان الميزان" (ج 2 ص 416) (¬6). وقال الخطيب: "كان له معرفة بالحديث، وما أدري أي شيء غَمَصوا عليه؟ وقد ذكره أبو حاتم في شيوخه الذين يروي عنهم فقال: بغدادي صدوق". قال الخطيب: "كان له ¬

_ (¬1) رقم (270). (¬2) (ص 15 - 20 و72 - 73). ووقع في (ط) العزو إلى الطليعة (و93 - 64) خطأ. (¬3) رقم (71). (¬4) هذا القول نقله المؤلف من "تهذيب التهذيب": (4/ 244) والحافظ تَبَع للمزي في "تهذيب الكمال": (3/ 303)، والذي في "الجرح والتعديل": (4/ 326): "صدوق". (¬5) (8/ 43). (¬6) (3/ 396).

108 - شريك بن عبد الله النخعي القاضي

معرفة بالحديث وضبطه". أقول: ما أراهم غَمَصوا عليه إلا ما تقدَّم في ترجمة حجاج. ولعل من شدَّد لم يتدبر القصة، وقد تقدَّم الجواب الواضح عنها، وكفى بقول حاكيها نفسِه وهو الإِمام أحمد: "كان سنيد لزم حجاجًا قديمًا، وقد رأيت حجاجًا يملي عليه، وأرجو أن لا يكون حدَّث إلا بالصدق". 108 - شريك بن عبد الله النخعي القاضي: في "تاريخ بغداد" (13/ 372 [376]) عنه: "كفر أبو حنيفة بآيتين من كتاب الله تعالى ... " وفيه (13/ 381 [389]) عن أحمد بن إبراهيم قال: [1/ 270] "قيل لشريك: استتيب أبو حنيفة؟ قال: قد علم ذلك العواتقُ في خدورهنّ". وعن يحيى بن آدم: "سمعت شريكًا يقول: استتبتُ أبا حنيفة مرتين". وعن يحيى بن حمزة: "حدثني شريك بن عبد الله قاضي الكوفة أن أبا حنيفة استتيب من الزندقة مرتين". وعن أبي معمر (إسماعيل بن إبراهيم بن معمر) قال: "قيل لشريك: ممَّ استتبتم أبا حنيفة؟ قال: من الكفر". وفيه (3/ 397 [417]) عن شريك: "لو كان في كلِّ رُبْعٍ من أرباع الكوفة خمَّار يبيع الخمر كان خيرًا من أن يكون فيه من يقول بقول أبي حنيفة". قال الأستاذ (ص 40): "معروف أن شريكًا كان له لسان ذلق لا واخذه الله. وتشنيعه هذا تشنيع من لا يفرَّق بين مدلولَي الدين والإيمان, ولا يهتدي إلى وجه الجمع بين الظواهر المتضاربة في ذلك، وتَابعَ الخوارج أو المعتزلة من حيث لا يعلم". وقال (ص 61): "والتحقيق أن شريكًا ثقة في الحديث لكنه طويل اللسان في الناس".

وقال (ص 64): "الخبر كذب ملفَّق، وخاصةً بهذا اللفظ (استتبت أبا حنيفة) لأن شريكًا إنما ولي القضاء بعد وفاة أبي حنيفة بخمس سنين". وقال بعد ذلك: "وشريك يكاد (¬1) يكون ممن لا يعرف ما هي الزندقة؟ ". وقال (ص 108): "ولو فرضنا أن شريكًا قال هذا لكان آذى نفسه ... لأن أبا حنيفة وأصحابه على قولهم المعروف في الأشربة غير الخمر، كانوا يمنعون الناس من احتسائها بخلاف شريك ... فيكون شريك كأنه ما كان يعجبه منعُ أصحاب أبي حنيفة من احتساء النبيذ، حتى تمنّى أن يكون في كل حيّ من الأحياء خمَّار لينتشي كما يشاء ... وشريكٌ ممن عُرِف بطول اللسان، وقد اضطربت أقواله في أبي حنيفة بين مدح وقدح، وقولُ أهل النقد فيه معروف، وحسابُه على الله". أقول: أما القضية الأولى وهي في الإرجاء، فقد ذكرت المسألة في قسم الاعتقاديات (¬2). وأما حال شريك في نفسه، فمن أجلَّة العلماء وأكابر النبلاء. فأما في الرواية, فكثير الخطأ والغلط والاضطراب، فلا يُحتجُّ بما ينفرد به أو يخالف. ونَسَبه الدارقطني وابن القطان وعبد الحق إلى التدليس. وأما قوله: "استتبت أبا حنيفة"، وقولهم له: "استتبتم أبا حنيفة؟ " فلا مانع من صحته. وقد جاء نحو ذلك عن سفيان الثوري. وحقيقة الاستتابة أن يقال للرجل: "تُبْ". فقد يقول العالم وإن لم يكن قاضيًا ولا أميرًا ذلك لغيره، وقد يجتمع عالمان أو أكثر على [1/ 271] واحد، فيقولون له: "تُبْ"، وقد يهدِّدونه بأنه إذا لم يتب رفعوه إلى الحاكم، وقد يُحضر الحاكمُ بعضَ ¬

_ (¬1) (ط): "كان" والتصحيح من "التأنيب". (¬2) (2/ 555 فما بعدها).

109 - صالح بن أحمد

العلماء ويتساورهم (¬1) في رجل، فيستتيبونه بحضرته. وهذا واضح جدًّا. وأما ما قاله الأستاذ في قضية الأشربة فعبث، ومقصود شريك واضح (¬2)، والنبيذ عند أهل العراق الذين يرخَّصون فيه ليس بخمر عندهم، وشريك إنما ذكر الخمَّار لا النبَّاذ. ولو ذكر الأستاذ ما عنده عن شريك في المدح - كما أشار إليه - لكان أولى ممَّا ذكره هنا، بشرط أن يكون في روايته بعض القوة، ولكن الأستاذ يعرف بضاعته! 109 - صالح بن أحمد: راجع "الطليعة" (ص 12 - 18) (¬3). ووقع في آخر السطر السابع من صفحة (13) "أن"، والصواب "ألاَّ". ويزاد بعد السطر الثالث عشر هذه العبارة: "والظاهر أنه جيء به إلى بغداد طفلًا أو وُلِد بها فإن في ترجمته من "تاريخ بغداد" ذكر جماعة من شيوخه، وكلُّهم عراقيون من أهل بغداد والبصرة ونواحيها، أو ممن ورد على بغداد، وسماعُه منهم قديم. فمن شيوخه البغداديين: يعقوب الدَّورقي المتوفى سنة 252 (¬4)، ويوسف بن موسى القطان المتوفى سنة 253. ومن البصريين: محمَّد بن يحيى بن أبي حزم القِطَعي المتوفى سنة 253. وصرَّح الخطيب في ترجمة فَضْلَك الرازي بأن ابن أبي مقاتل بغدادي، فلا شأن له من جهة السماع بهمذان ولا بهراة". ¬

_ (¬1) كذا في (ط)، ولعلها: "ويشاورهم". (¬2) (ط): "واحد" والظاهر ما أثبتّ. (¬3) (ص 5 - 13). (¬4) وقع في (ط): "202" خطأ والصواب ما أثبت، وانظر "الطليعة" (ص 7).

ويبدل السطر السادس عشر بلفظ: "بمائة وأربع عشرة سنة". وتبدل كلمة "بنيف وثلاثين" في السطر الرابع من صفحة (15) بكلمة "بست وأربعين"، فإنّ محمَّد بن عيسى بن عبد العزيز قُتل سنة 430 كما في ترجمته من "تاريخ بغداد" (ج 2 ص 406). وسقط هناك لفظ "عبد" خطأً كما لا يخفى، وإن حاول الأستاذ أن يشكِّك فيه لإفلاسه. وفي "تاريخ بغداد" (1/ 214): "أخبرنا أبو منصور محمَّد بن عيسى بن عبد العزيز البزَّاز بهمذان قال: سمعت أبا الفضل صالح بن أحمد بن محمَّد التميمي الحافظ يقول ... ". ووقعت في الترجمة من "الطليعة" (¬1) أخطاء مطبعية لا بأس بأن أشير إليها هنا: ص 12 س 4: 1, و 20. س 10: ابن أبي مقاتل. س 14: بصره كما قاله. س 16: بمثل السند. ص 13 س 4: همذاني - همذانيان. س 7: العادة إلا. س 12: همذاني. [1/ 272] ص 14 س 11: أبو الفضل. س 14: عنها) ... وكان. س 15: ثبتا ... ". ص 15 س 1: 592. س 3: بست وأربعين. ص 16 س 5: الحذاء ... روى عنه. س 6: الحافظ ... قال. ص 17 س 11: باثنتين. ¬

_ (¬1) من الطبعة الأولى، وقد أصلحناها في طبعتنا هذه من "الطليعة" بعد وقوفنا على نسخةٍ منها بخط مؤلفها.

هذا ولما كانت قضية صالح بن أحمد وما معها أول انتقاد أتى في "الطليعة" رأى الأستاذ أنه لا يجدر به السكوت عليها مهما كلَّفه الكلامُ من التعسُّف والتعجرف. وكنت ذكرت في "الطليعة" (¬1) سبعة أوجه تُبيِّن أن صالح بن أحمد في السند هو أبو الفضل التميمي الهَمَذاني الحافظ الثقة المأمون، لا ابن أبي مقاتل القيراطي المطعون فيه؛ فحاول الأستاذ في "الترحيب" الاعتراض على الثلاثة الأوجه الأولى بما حاصله أن كلاًّ منها لا يقتضي البتَّ. فأقول: ما منها إلا ما لو بنيتُ الحكم عليه وحده لصحَّ، راجع "فتح المغيث" للسخاوي (ص 449) (¬2) طبعة الهند، فكيف بسبعة أوجه لعل تلك الثلاثة أضعَفُها! وقد قدمت هنا ما يؤيد تلك الأوجه. هذا، وشيوخ القيراطي قدماء كما مرَّ، وهو مرميٌّ بسرقة الحديث، والباعث على سرقة الحديث هو الغرام بدعوى العلوّ. فمن حمله غرامُه بالعلو على الكذب، فكيف بعد سماعه من الذين توفوا سنة 252 ينزل إلى الرواية عمن كان في تلك السنة طفلًا أو لم يولد، وهو القاسم بن أبي صالح المتوفى سنة 338؟ فإنّ أقدم مَن سُمِّي من شيوخ القاسم: أبو حاتم الرازي المتوفى سنة 277. بل لو روى القيراطي عن محمَّد بن أيوب شيخ القاسم في تلك الحكاية لكان نزولاً، فإن محمَّد بن أيوب توفي سنة 294. ثم ذكر الأستاذ في "الترحيب" (ص 26) أنه قد سبقه إلى القول بأن ¬

_ (¬1) (ص 6). (¬2) (4/ 268 وما بعدها) مبحث المتفق والمفترق.

صالح بن أحمد الواقع في السند هو القيراطي، الملِكُ عيسى، واللجنة الأزهرية التي علقت على الطبعة الثانية للمجلد الثالث عشر من "تاريخ بغداد". فأقول: أما أنا، فلم أكن وقفتُ على ذلك. وليس للأستاذ في ذلك عذر، إذ ليس هو ممن يقلِّد مثلَ مَنْ ذكره في هذه المواضع، وكلامه يدل على أنه لم يقلِّد، بل بحَثَ ونَظَر، فغاية الأمر أن يكون جرَّأه الغلطُ على التغالط، فيلحق ذلك بنظائره في "الطليعة" (ص 52 - 66) [1/ 273]. وقد ردَّ على عيسى واللجنة حيث لم يكن له هوًى في الموافقة، وذلك قوله (ص 56) من "التأنيب": "وأبو مسدد قَطَن بن إبراهيم ... وليس المراد قَطَن بن نُسَير كما ظن ذلك الملك المعظَّم، وما وقع في كتاب الملك المعظم المطبوع من ذكر (بشير) بدل (نسير) تصحيف. وكذلك ما وقع في تعليق الطبعة الثانية (¬1) من ذكر (بشر) بدل (نسير) تصحيف آخر ومتابعة للواهم في (قطن) ". ثم قال الأستاذ في "الترحيب" (ص 28): "ومع هذا لا مانع من قبول تحقيق الأستاذ اليماني في عدّ صالح بن أحمد في السند هو الموثَّق مقدِّرًا بحثه ... ". ثم عاد فأقام الحجة على أن في نفسه مانعًا أيَّ مانع فقال: "على أن صالح بن أحمد المضعَّف ... ". وذكر في (ص 29) أنه لا يبعد أن يكون بين محمَّد بن عيسى وبين صالح بن أحمد اسمُ راوٍ سقط من الأصل. يعني: فيكون محمَّد بن عيسى روى عن رجل عن صالح بن أحمد، وسقط اسم الرجل. ¬

_ (¬1) (13/ 385).

أقول: هذا التجويز يدلّ على مبلغ اضطرار الأستاذ. وإنني لأعجب من عقليته الجبّارة كيف يجمع بين هذا وأمثاله وبين التألُّم ممَّا فهمه من "الطليعة" من نسبته إلى تعمّد المغالطة! على أن هذا التجويز الذي استروح إليه لا يقتصر الحال على أنه لا دليل عليه، بل الدلائل قائمة على خلافه، كما يُعلم بتدبر ما في "الطليعة" وما هنا. وتعرَّض الأستاذ لما ذكرته في "الطليعة" (ص 19 - 20) (¬1) من أن الحكاية ثابتة أيضًا من وجه آخر عن إبراهيم بن بشار يعرفه الأستاذ، فقال (ص 25) من "الترحيب": "ولم يدر المسكين أن ذلك الخبر في السقوط بحيث لا يمكن أن يقوم على قدم، فضلاً عن قدمين، لاستحالة المتن". كأن القيام على قدم أيسر عند الأستاذ من القيام على قدمين، وثبوتَ الخبر بسند أقوى من ثبوته بسندين! أما الاستحالة، فقد مرَّ الكلام عليها في الفصل الثاني من المقدمة (¬2)، وتقدَّم الإشارة إليها قريبًا في ترجمة سليمان بن عبد الله (¬3). ثم ذكر أن ابن أبي خيثمة نُسِب إلى القدر، وكان مختصًّا بعلي بن عيسى، وأن إبراهيم بن بشّار متكلَّم فيه، وأن سفيان بن عيينة اختلط بأخَرَة. فأقول: أما إبراهيم وسفيان فقد تقدمت ترجمتاهما (¬4). وأما ابن أبي ¬

_ (¬1) (ص 12 - 13). (¬2) (ص 8 - 19). (¬3) رقم (104). (¬4) برقم (2 و99).

110 - صالح بن محمد التميمي الحافظ الملقب "جزرة"

خيثمة، فقال الدارقطني: [1/ 274] "ثقة مأمون"، وقال الخطيب: "كان ثقة عالمًا متقنًا حافظًا". هكذا في "تذكرة الحفاظ" (¬1) و"لسان الميزان" (¬2). ووقع في "تاريخ بغداد" (¬3): "متفننًا" بدل "متقنًا". وقال الذهبي في "تذكرة الحفاظ": "الحافظ الحجة الإِمام". فأما القَدَر فلو ثبت عنه لم يضرَّه، كما سلف في القواعد (¬4)، فكيف وهو غير ثابت! إذ لا يُدرى مَن الناس الذين نسبوه إليه وما مستندهم في تلك النسبة؟ وقد قال الأستاذ (ص 56) في قول الحِمَّاني: سمعت عشرة كلهم ثقات يقولون: سمعنا أبا حنيفة يقول: القرآن مخلوق. فقال الأستاذ: "قول الراوي: سمعت الثقة يُعَدُّ كرواية عن مجهول، وكذا الثقات". وأما اختصاصه بعلي بن عيسى، فالظاهر أن الفرغاني لم يذكرها على جهة الذم، إذ ليس فيها ما يقتضيه. فإنّ علي بن عيسى الوزير كان من خيار الوزراء مع مشاركته في العلم وعنايته بالعلماء. واختصاصُ ابن أبي خيثمة به إنما كان لِعُلْقة العلم. 110 - صالح بن محمَّد التميمي الحافظ الملقب "جَزَرة": ذكر الأستاذ (ص 187) قول صالح في الحسن بن زياد اللؤلؤي: "ليس بشيء، لا هو محمود عند أصحابنا ولا عندهم، يُتهم بداء سوء، وليس ¬

_ (¬1) (2/ 596). (¬2) (1/ 463). (¬3) (4/ 384)، ووقع في الطبعة المحققة: (5/ 265): "متقنًا" كما في التذكرة واللسان. (¬4) (ص 71 فما بعدها).

هو في الحديث بشيء". فقال الأستاذ: "جَزَرة على سعة علمه في الحديث كان بذيء اللسان مداعبًا أسوأ مداعبة. وهو القائل لمن رأى سوأته قد انكشفت: لا تَرْمَدْ عيناك أبدًا، بدل أن يخجل ويستتر. وقد قال مرة لمن سأله عن الثوري: كذَّاب. فكتب السائل قوله، فخاطبه أحدُ جلسائه مستنكرًا صنيعه: لا يحلُّ لك هذا، فالرجل يأخذه على الحقيقة فيحكيه عنك. فقال: أما أعجبَكَ؟ مَن يسأل مثلي عن مثل سفيان الثوري، يفكَّر فيه أنه (¬1) يحكي أو لا يحكي؟ كما في "تاريخ الخطيب" 9/ 326 و327. فيفيد جوابه هذا [1/ 275] أنه ممن لا يُقبل قولُه في الأئمة، لضياع كلامه بين الهزل والجد. والعجب من هؤلاء الأتقياء الأطهار استهانتهم بأمر القذف الشنيع هكذا فيما لا يُتصوَّر قيامُ الحجة فيه، مع علمهم بحكم الله في القَذَفة. ولا يكون ذلك إلا من قلة الدين واختلال العقل". أقول: قوله "بذيء اللسان" كلمة شنيعة لا مبرِّر لها. وقوله: "مداعبًا أسوأ مداعبة" إسراف لا مسوِّغ له، وقد ذكر أشهر ما يُحكى من مداعبة صالح، فليزِنْها القارئ وَلْيحكم أهي مما يسوغ لمثل الكوثري أن يقول في هذا الرجل الجليل: "بذيء اللسان مداعبًا أسوأ مداعبة"؟ ولفظ القصة: "كُنَّا نقرأ على صالح جزرة، وهو عليل، فتحرَّك، فبدت عورته، فأشار إليه بعض أهل المجلس بأن يجمع عليه ثيابه، فقال: رأيتَه؟ لا تَرْمَدْ عيناك أبدًا! "، فلا يشك عاقل أنه بادر فاستتر، ولوضوح ذلك لم يحتج الراوي إلى ذكره. فأما الخجل فهو حال نفسية ليس في القصة دليل على عدمه، على أن الذين حضروا وثقَّلوا عليه في مرضه بطلب السماع أولى بأن يخجَلوا. فأما هو، فمريض معذور. ¬

_ (¬1) كذا في "التأنيب" و (ط). وفي "التاريخ" بطبعتيه: "أن".

وأما قوله لمن سأله عن الثوري، فكان السائل - كما في القصة - "من أهل الرُّستاق" وفي ذلك مع جواب صالح ما يُعْلَم منه أن السائل كان جاهلاً مغفَّلاً، وثقَّل على صالح بالسؤال عن المحدثين حتى بلغ من جهله أن يسأل عن سفيان الثوري المجمَع على إمامته وجلالته إجماعًا صادقًا لا يخفى عن طالب العلم في تلك الأزمنة، وكان الحاضرون غير ذاك الجاهل يعرفون عادة صالح في التنكيت، ويشاهدون جهل السائل وتثقيله، ويعرفون اعتقاد صالح في الثوري، فتجوَّز صالح في تلك الكلمة عالمًا بأن الحاضرين سينبِّهون السائل على الحقيقة، ولو لم ينبِّهوه لنبَّهه صالح في المجلس. وما وقع في القصة "أمَا أعجبك" صوابه "ما أعجبك! " (¬1) كما يوضِّحه السياق. وقوله "من يسأل مثلي ... " يريد به أن الرجل مغفَّل، فلو فُرِض أنه لم ينبَّه في المجلس وذهب يحكي عن صالح أنه قال لمَّا سأله عن الثوري: "كذاب" لَمَا قَبِل منه ذلك أحد، ولا التفتوا إليه لظهور تغفيله، فضلاً عن العلم بحال الثوري وعقيدة صالح فيه. قول الأستاذ: "فيفيد جوابه هذا أنه ممن لا يُقبل قولُه في الأئمة"، إن أراد به أنه إذا حكى بعض المغفَّلين عن صالح مثل تلك الكلمة أنه قالها في مثل [1/ 276] الثوري فيما تقدَّم، لم يُلتفت إلى تلك الحكاية = فحقٌّ، وإن كنا لا نعلم شيئًا من هذا القبيل غير ما تضمنته تلك الحكاية. قوله: "لضياع قوله بين الهزل والجد" باطل. وأي شيء له من الهزل في هذا الباب غير تلك الحكاية الفذَّة التي مرَّ توجيهها؟ أما جِدُّه في هذا الباب - ¬

_ (¬1) وهو كذلك في الطبعتين.

أعني كلامه في الرواة جرحًا وتعديلًا - فأكثر من أن يحصى. وهو في قبول ذلك منه كغيره من أئمة الحديث بإجماع أهل العلم. قوله: "والعجب من هؤلاء الأتقياء الأطهار ... " إن أراد به قول صالح في الحسن بن زياد: "يتهم بداء سوء"، فليس بقذف، كما لا يخفى على ذي فقه. أولاً: لأن صالحًا لم يُثبت، وإنما ذكر أن الحسن يُتَّهم، أي: يتهمه بعض الناس. وفي كتب الحنفية أنفسهم: "إن قال: قد أُخْبِرْتُ بأنك زانٍ لم يكن فيه حد" (¬1). ثانيًا: لأنه لم يُثبت الفعل، وإنما أثبت اتهامَ بعض الناس. ثالثًا: لم يذكر صريح الزنا، وإنما قال: "بداء سوء"، وأدواء السوء كثيرة؛ بل لعل تلك الكلمة لا تعريض فيها بموجِب الحد، وإنما المراد بداء السوء ما دون الفاحشة. ولم تقتصر حال اللؤلؤي على التهمة بما دون الفاحشة، بل شهد عليه الأئمة الأثبات بفعله في الصلاة، كما سلف في ترجمة الخطيب (¬2)، وتراه في ترجمة اللؤلؤي من "لسان الميزان" (¬3) وغيره. وصالح مكلَّف شرعًا بإخبار سائله عن اللؤلؤي بحاله فيما يقتضي عدالتَه أو جرحَه. وقد نصَّ جماعة من أهل العلم على أن قاصد الجرح إذا قال في ¬

_ (¬1) انظر "المبسوط": (9/ 120)، و"بدائع الصنائع": (7/ 44). (¬2) رقم (26). (¬3) (3/ 48).

111 - الصقر بن عبد الرحمن بن مالك بن مغول

المسؤول عنه: "هو زانٍ" لم يكن قذفًا محرمًا، وإنما هو شهادة وجب عليه أداؤها فأدَّاها. فتدبَّرْ ما تقدَّم، ثم انظُرْ هل هناك كلمة يؤدي بها صالحٌ ما وجب عليه أعفُّ وأطهَرُ من قوله: "يتهم بداء سوء"؟ وقد حكى الحنفيّةُ أنفسُهم عن إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة كلمةً شنيعة قالها وليس في صدد جرح، بل في صدد مدح نفسه، وذمِّ مَنْ كان ينازعه في ولاية القضاء (¬1). وسبق في ترجمة الخطيب كلماتُ الكوثري في حقِّه. فالأستاذ يستحلُّ لنفسه ولأصحابه ما لا يكاد يحِلُّ لمن رُفِعَ عنه القلم، ويحاول التشنيع على هذا الحافظ المجمَع على ثقته وأمانته بكلمةٍ، هي أعفُّ وأطهرُ ما يمكنه أن يؤدِّي بها ما أوجب الله تعالى عليه؛ ثم يضِجُّ [1/ 277] ويعِجُّ من مخالفيه إذا نسبوه إلى تعمُّد المغالطة. وسيأتي شيء من حال اللؤلؤي في الرواية في ترجمة محمَّد بن سعد العوفي (¬2). 111 - الصقر بن عبد الرحمن بن مالك بن مِغْوَل: في "تاريخ بغداد" (13/ 332) "أخبرني البَرْقاني، أخبرنا محمَّد بن العباس الخزاز، حدثنا عمر بن سعد، حدثنا عبد الله بن محمَّد، حدثني أبو مالك بن أبي بَهْز البجَلي، عن عبد الله بن صالح عن أبي يوسف ... ". قال الأستاذ (ص 29): "أبو مالك هو محمَّد بن الصقر بن عبد الرحمن ابن بنت مالك بن مِغْوَل المعروف بابن مالك بن مِغْول، فالصقر وعبد الرحمن من ¬

_ (¬1) يقصد قوله لما ولي قضاء البصرة بعد يحيى بن أكثم ثم صُرِف فقيل له: عففتَ عن أموالنا. فقال: وعن أبنائكم! يُعرِّض بيحيى. انظر "لسان الميزان": (2/ 114). (¬2) رقم (206).

الكذابين المعروفين ... ". أقول: الصقر وعبد الرحمن لا شأن لهما بهذه الحكاية، ولا تزر وازرة وزر أخرى. والصقر ذكره أبو حاتم فقال: "صدوق" (¬1)، وذكره ابن حبان في "الثقات" (¬2) في موضعين سمَّاه في الأول "سقر" وقال: "يخطئ ويخالف"، وسماه في الثاني "صقر" وقال: "في قلبي من حديثه ما حدثنا أبو يعلى ثنا الصقر ... " فذكر حديثًا قد أنكره غيرُه على الصقر حتى رماه بعضهم لأجله بالكذب ووضع الحديث. وذاك الحديث رواه الصقر عن عبد الله بن إدريس أحد الثقات الأثبات عن المختار بن فُلْفُل. قال ابن حجر في "لسان الميزان" (¬3): "لم ينفرد الصقر بهذا، فقد رواه إبراهيم بن زياد السكوني عن بكر بن المختار بن فُلْفُل عن أبيه، وتقدم في ترجمة بكر. ورواه ابن أبي خيثمة في "تاريخه" عن عبد الأعلى بن أبي المساور عن المختار بن فُلْفُل، مثله، لكن ابن أبي المساور واهٍ، فالظاهر أن الصقر سمعه من عبد الأعلى أو بكر، فجعله عن عبد الله بن إدريس ليرُوْج له، أو سها". أقول: قد بان بصنيع أبي حاتم الرازي وأبي حاتم ابن حبان أنه لم يُنْكَر على الصقر إلا هذا الحديث، وأن بقية أحاديثه مستقيمة، فالحَمْل على السهو والغلط هو الأقرب. وكم من رجل وثَّقوه، وقد وقع له ما يشبه هذا. فأما عبد الرحمن بن مالك بن مِغْوَل، فتالف. والله أعلم. ¬

_ (¬1) (4/ 452). (¬2) (8/ 305 و322). (¬3) (4/ 323).

112 - ضرار بن صرد

112 - ضِرَار بن صُرَد: في "تاريخ بغداد" (13/ 380 [388]) من طريق "محمَّد بن يونس، ثنا ضرار بن صرد قال: حدثني سُلَيم ... " فذكر الحكاية. ومن طريق "عبد الأعلى بن واصل، ثنا أبو نعيم ضرار بن صرد قال: سمعت سُلَيم بن عيسى ... " فذكرها. وقال [1/ 278] البخاري في ترجمة سليم من "التاريخ الكبير" (¬1): "قال لي ضرار بن صرد: حدثنا سليم سمع سفيان: قال لي حماد بن أبي سليمان: أبلِغْ أبا حنيفة المشرك أني بريء منه. قال: وكان يقول: القرآن مخلوق". وفي رواية الخطيب الثانية: "قال سليم: كان يزعم أن القرآن مخلوق" وفي الرواية الأولى: " ... إني بريء منه حتى يرجع عن قوله في القرآن". وكأنَّ ذلك من تخليط محمَّد بن يونس الكُدَيمي. قال الأستاذ (ص 60): "ضرار بن صرد هو أبو نُعَيم الطحان الذي يقول عنه ابن معين: كذاب ... ". أقول: قال علي بن الحسن الهسِنْجاني عن ابن معين: "بالكوفة كذابان: أبو نُعَيم النخعي، وأبو نُعَيم ضِرار بن صُرَد". وظاهر هذا تعمُّد الكذب، لكن قال الأستاذ (ص 163): "الإخبار بخلاف الواقع هو الكذب، والكذب بهذا المعنى يشمل الغالط والواهم، فمن غلط أو وهم في شيء يمكن عدُّه كاذبًا على هذا الرأي ... فلا يُعتَدُّ بقول من يقول: فلان يكذب، ما لَم يفسَّر وجهَ كذبه. ولذا عُدَّ عند كثير من أهل النقد قولُ القائل: كذب فلان، من الجرح غير المفسَّر ... ". ¬

_ (¬1) (4/ 127).

أقول: وقد قال ابن معين لشجاع بن الوليد أبي بدر السكوني: يا كذاب. وقد قال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: "شجاع بن الوليد ثقة"، ووثَّقه غيُره، ولكنه يهم ويغلط. فلننظر كلام غير ابن معين في أبي نعيم النخعي - واسمه عبد الرحمن بن هانئ - ثم في أبي نعيم ضرار بن صرد. فأما النخعي، فقد قال العجلي: "ثقة". وقال أبو حاتم: "لا بأس به, يكتب حديثه". وروى عنه أبو زرعة ومِن عادته أن لا يروي إلا عن ثقة، كما في "لسان الميزان" (ج 2 ص 416) (¬1). وقال البخاري: "فيه نظر، وهو في الأصل صدوق" (¬2). وكلمة "فيه نظر" معدودة من أشد الجرح في اصطلاح البخاري، لكن تعقيبه هنا بقوله: "وهو في الأصل صدوق" يخفِّف من وطأتها (¬3). وأما ضِرار، فروى عنه أبو زرعة أيضًا. وقال البخاري والنسائي: "متروك الحديث". لكن البخاري روى عنه وهو لا يروي إلا عن ثقة كما صرَّح به الشيخ تقي الدين ابن تيمية (¬4)، ومرَّ النظر في ذلك في ترجمة ¬

_ (¬1) (3/ 396). (¬2) "التاريخ الأوسط": (4/ 942) في رواية الخفّاف وليست في "الكبير" ولا رواية زنجويه للأوسط. (¬3) أقول: هذا أمر قاله الذهبي في "الميزان": (3/ 130، 449) وتوبع عليه، لكن جَمَع عدد من الباحثين من قال فيهم البخاري: "فيه نظر" وقورن كلامه بكلام النقّاد فلم يظهر أنه يستعملها فيمن حاله بمنزلة المتروك، ولا أُثر عن البخاري بنقلٍ ثابت أنه يستعملها في التضعيف الشديد. وقد قال الحافظ ابن حجر في "بذل الماعون" (ص 92): إن هذه عبارته فيمن كان وسطًا. (¬4) في "تلخيص كتاب الاستغاثة": (1/ 77).

أحمد بن عبد الله أبو عبد الرحمن (¬1). والظاهر التوسط، وهو أن البخاري لا يروي إلا عمن هو صدوق في الأصل يتميَّز صحيحُ حديثهِ مِن سقيمه، كما صرَّح به في رواية الترمذي عنه (¬2)، كما تقدم في تلك الترجمة. فقوله في ضرار: [1/ 279] "متروك الحديث" محمول على أنه كثير الخطأ والوهم، ولا ينافي ذلك أن يكون صدوقًا في الأصل يمكن لمثل البخاري تمييز بعضِ حديثه. وقال أبو حاتم في ضرار: "صدوق صاحب قرآن وفرائض، يُكتبَ حديثه ولا يحتج به، روى حديثًا عن معتمر عن أبيه عن الحسن عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في فضيلة بعض الصحابة ينكره أهل المعرفة بالحديث" (¬3). أقول: متنه: "قال لعلي: أنت تبيِّن لأمتي ما اختلفوا فيه بعدي" أخرجه الحاكم في "المستدرك" (ج 3 ص 122)، وقال: "صحيح على شرط الشيخين". قال الذهبي: "بل هو - فيما أعتقده - من وضع ضِرار، قال ابن معين: كذاب". أقول: لا ذا ولا ذاك، والصواب ما أشار إليه أبو حاتم، فإنه أعرف بضِرار وبالحديث وعلله. فكأنَّ ضِرارًا لُقِّن أو أُدخِلَ عليه الحديث أو وهِمَ. فالذي يظهر أن ضِرارًا صدوق في الأصل، لكنه ليس بعمدة، فلا يُحتج بما رواه عنه من لم يُعرف بالإتقان. ويبقى النظر فيما رواه عنه مثلُ أبي زرعة أو ¬

_ (¬1) رقم (23). (¬2) "جامع الترمذي": (2/ 198 و4/ 214)، ونقل عنه في "العلل الكبير" (ص 394) قوله: "وكل رجل لا أعرف صحيح حديثه من سقيمه لا أروي عنه ولا أكتب حديثه ... ". (¬3) "الجرح والتعديل": (4/ 465 - 466).

113 - طريف بن عبيد الله

أبي حاتم أو البخاري. والله أعلم. ولضرار رواية في مناقب أبي حنيفة كما في "تاريخ بغداد" (¬1). (¬2) 113 - طريف بن عبيد الله: في "تاريخ بغداد" (13/ 413 [441]) عنه: "سمعت ابن أبي شيبة ... " قال الأستاذ (ص 147): "ضعيف عنده مناكير. قال الدارقطني: ضعيف. وقال أبو زكريا يزيد بن محمَّد بن إياس الموصلي في "تاريخه": لم يكن من أهل الحديث، توفي سنة 304". أقول: لم يتهموه بتعمُّد الكذب، ولكن يظهر أنه كان مغفَّلًا يحدِّث على التوهم. والله أعلم. 114 - طَلْق بن حبيب: في "تاريخ بغداد" (13/ 374 [378 - 380]) من طريقين عن "سليمان بن حرب قال: حدثنا حماد بن زيد قال: جلست إلى أبي حنيفة، فذكر سعيد بن جبير، فانتحله في الإرجاء، فقلت: يا أبا حنيفة من حدَّثك؟ قال: سالم الأفطس. قال: قلت: سالم الأفطس كان مرجئًا, ولكن حدثني أيوب قال: رآني سعيد بن جبير جلستُ إلى طَلْق فقال: [1/ 280] ألم أرك جلستَ إلى طلق؟ لا تجالسه. قال حماد: وكان طلق يرى الإرجاء. قال: فقال رجل لأبي حنيفة: ما كان رأي طلق؟ فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض ¬

_ (¬1) انظر (13/ 342 و357). (¬2) طاهر بن محمَّد. راجع "الطليعة" (ص 79 [69 - 70]). [المؤلف].

عنه، ثم قال: ويحك، كان يرى العدل". قال الأستاذ (ص 43): "وقع في الطبعات الثلاث: العدل. وهو مصحَّف من: القدر. وتصويبه من "الجواهر المضيئة" ... ولفظ ابن أبي العوام: حدثني أبو بكر محمَّد بن جعفر الإِمام قال: حدثنا هارون بن عبد الله بن مروان الحمال قال: حدثنا سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد قال: جلست إلى أبي حنيفة بمكة، فقلت له: حدثنا أيوب قال: رآني سعيد بن جبير قد جلستُ إلى طلق بن حبيب، فقال لي: ألم أرك جلست إلى طلق؟ لا تجالسه. قال أبو حنيفة: كان طلق يرى القدر ... وطلق بن حبيب بصري من أصحاب ابن عباس ... والإرجاء الذي يقول هو به بالمعنى الذي قال به جمهور أهل الحق. وقد أحسن أبو حنيفة صنعًا في تَرَوِّيه في نسبته إلى شيء من البدع الممقوتة على تقدير صحة المحادثة, لأن الواجب على مثله في مثله عدمُ التسرع، ولمَّا اضطُرَّ إلى الجواب بتكرير السؤال أجاب بأنه بصري كان يُنسب إلى القدر كغالب أهل البصرة. فيكون هذا هو السبب لقول سعيد بن جبير السابق لا الإرجاء الذي كان يقول به، فإنه رأي مشترك بينهم. وأبو حنيفة أعرَف بمذهب سعيد بن جبير, لأنه من أهل الكوفة وقد أدركه، بخلاف حماد بن زيد فإنه بصري متأخر". أقول: "تاريخ بغداد" مطبوع عن أصلين عتيقين جيدين بتصحيح جيِّد، وقد دلَّ اتفاقُ الثلاث الطبعات (¬1) على أن الكلمة فيها "العدل"، ومن عرف حرص الأستاذ على تقوية ما يقوله، يكاد يجزم بأنه قد راجع الأصلين أو روجعا له. واقتصار الأستاذ على قوله: "وتصويبه من "الجواهر المضيئة"" يجعلنا نشكّ في الواقع في أصل كتاب ابن أبي العوام، فإن كان وقع فيه ¬

_ (¬1) (ط): "الطبع (!) " وما أثبته هو مراد المؤلف. أقول: وكذلك هو في الطبعة المحققة: (15/ 511) وعلّق محقّقها: "أما قول الكوثري بأنها تصحيف، فغير صحيح".

"القدر" - كما قال الأستاذ - فالواقع في "تاريخ بغداد" أثبت. وحال ابن أبي العوام قد أشرتُ إليها في "الطليعة" (ص 27 - 28) (¬1). ومؤلف "الجواهر المضيئة" من أهل القرن الثامن ولم يشتهر بالضبط والإتقان (¬2)، ولا بيَّن مأْخَذَه، إنما ذكر أن أبا حنيفة قد تكلَّم في الجرح والتعديل، فأورد كلمات، منها أنه قال: "كان طلق يرى القدر" (¬3)، وقد يكون أخذ من كتاب ابن أبي العوام. وأصل كتاب "الجواهر المضيئة" وتصحيحه لا يوازي أصلَي "تاريخ بغداد" [1/ 281] وتصحَيحه (¬4). وتحريف كلمة "العدل" إلى "القدر" هو الجاري على طريقة التصحيف والتحريف، فإن القارئ أو الناسخ إنما يعدِل عما لا يعرفه إلى ما يعرفه، وقد شرحتُ طرفًا من ذلك في قسم الفقهيات في مسألة سُهْمان الخيل من الغنيمة (¬5). وقد يفهم بعضهم من قول أبي حنيفة: "كان يرى العدل" أنه أراد بالعدل القدر؛ لأن القدرية يسمُّون أنفسهم أهل العدل، فأبْدَلها ذاك الفاهم بكلمة "القدر"؛ لأنه يرى المعنى واحدًا، وكلمة "القدر" أوضح. وإنما أراد: القول العدل، أي: الحق في زعمه يعني الإرجاء. ومن عرف أبا حنيفة وقوة عارضته جزم أو كاد بأنه لو كان عنده أن طلقًا كان قدريًّا وأن سعيد بن جبير ¬

_ (¬1) (ص 18 - 19). (¬2) وقد وُصف خطّه بأنه حسن جدًّا، لكن قال الحافظ: "ولم يكن بالماهر". (¬3) "الجواهر المضيّة": (1/ 60). (¬4) لكن وقعت اللفظة كذلك في الطبعة المحققة من "الجواهر" كما سبق العزو إليها. (¬5) (2/ 104 فما بعدها).

إنما نهى عن مجالسته لذلك لَبادَرَ إلى ذكر ذلك دفعًا لحجة خصمه. والتروّي الذي ذكره الأستاذ لا وجه له، بل ربما يقال: لو كان أبو حنيفة إنما قال بعد أن ألجئ إلى الجواب: "كان يرى القدر" لكان هذا أطلق للسانِ مَن يعيبه، فإنَّ طلقًا لم يصفه أحد بالقدر، وقد وصفوه بالإرجاء، وهو كالمضاد للقدر. وَصَف طلقًا بالإرجاء حمادُ بن زيد وأبو حاتم وابن سعد، وقال البخاري في "تاريخه الكبير" (ج 2 قسم 2 ص 360): "حدثنا مسدد، ثنا حماد بن زيد، عن أيوب: "ما رأيت أحدًا أعبدَ من طَلْق بن حبيب، فرآني سعيد بن جبير جالسًا معه، فقال: ألم أَرَكَ مع طَلْق؟ لا تجالس طَلْقًا، وكان يرى الإرجاء". وهذا السند بغاية الصحة، ويبعد أن لا يبيِّن سعيد لأيوب سبب المنع، إلا وهو يرى أنه لا يعرفه. وكذلك الحال في أيوب وحماد. والذي كان يعرفه حماد أن السبب هو الإرجاء. وشدة أيوب على المرجئة معروفة. وفي "تذكرة الحفاظ" (ج 2 ص 76) (¬1) من طريق: "عبد الرحمن بن مهدي عن سلام بن أبي مطيع سمعت أيوب، وعنده رجل من المرجئة، فقال الرجل: أرأيت قوله عزَّ وجلَّ: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 106]، أمؤمنون أم كفار؟ قال: اذهب، فاقرأ القرآن. فكلُّ آية فيها ذكر النفاق، فإني أخاف على نفسي". قول الأستاذ: "قال به جمهور أهل الحق" قد كشفت حاله في ¬

_ (¬1) (2/ 501).

الاعتقاديات (¬1). وقد هَجَر سعيدُ بن جبير ذرَّ بن عبد الله المُرْهِبي لأجل الإرجاء كما في ترجمة ذر. "التهذيب" (¬2). [1/ 282] قوله: "بصري كان يُنسَب إلى القدر كغالب أهل البصرة" مردود عليه، فإن القدر إنما فشا في البصرة بعد سعيد بن جبير بمدة. ومع ذلك، فلم يبلغ أن يكون هو الغالب. وقد ذكر إبراهيم الحربي أبا قطن عمرو بن الهيثم، ثم قال: "ثنا عنه أحمد يومًا فقال له رجل: إن هذا تكلَّم بعدكم في القدر. فقال أحمد: إن ثلث أهل البصرة قدرية". هكذا في ترجمة أبي قطن من "التهذيب" (¬3) مع أن كلمة أحمد محتملة للمبالغة لأن المقام يقتضيها. قوله: "أبو حنيفة أعرف بمذهب سعيد بن جبير ... " مردود عليه أيضًا، فإن سعيدًا أُخرج من الكوفة عقب وقعة ابن الأشعث، وعمر أبي حنيفة سنتان أو ثلاث. وأيوب صحب سعيدًا مُدَّة، فكيف لا يكون أعرَفَ به؟ وحماد أعرَفُ الناس بأيوب، وهما أعرَفُ بطَلْق، فإنه بصري مثلهما، وقد جالسه أيوب. هذا، وقد عُرِف من القصة أنه لم يكن لأبي حنيفة حجة على نسبة الإرجاء إلى سعيد بن جبير إلا ما ذكر أن سالمًا الأفطس حدَّثه. ولا ندري ما قال سالم عن سعيد، وما الذي سمعه من سعيد، فظنَّه إرجاء؟ والمرجئة ¬

_ (¬1) (2/ 555 فما بعدها). (¬2) (3/ 218). (¬3) (8/ 114).

115 - عامر بن إسماعيل أبو معاذ البغدادي

يتمسكون بآيات وأحاديث يحملونها على معاني يخالفهم أهل السنة فيها، فلعل سالمًا سمع من سعيد كلامًا حمله على الإرجاء؟ ولو نقله بنصِّه لبان على خلاف ما حمله عليه. وسالمٌ وثَّقه جماعة (¬1)، ونسبوه إلى الإرجاء، وقال بعضهم: إنه كان داعية. وقال ابن حبان: "كان ممن يرى الإرجاء، ويقلب الأخبار، وينفرد بالمعضلات. اتُّهِمَ بأمرِ سَوءٍ، فقُتل صبرًا". قيل: اتهم بالممالأة على قتل إبراهيم الإِمام. 115 - عامر بن إسماعيل أبو معاذ البغدادي: في "تاريخ بغداد" (13/ 371 [374]) من طريقه عن مؤمَّل بن إسماعيل، عن سفيان الثوري، عن عبَّاد بن كَثِير: حكاية. قال الأستاذ (ص 38): "مجهول الحال، ولم يُخرج له أحد من أصحاب الأصول الستة". أقول: هو مُقِلٌّ، واغترب عن بغداد. وقد أدرك الأئمةُ الستةُ شيوخَه ومَن هو أكبر منهم. وقد روى الخطيب نحو حكايته من وجه آخر. وراجع ترجمة إبراهيم بن شماس (¬2). 116 - عبَّاد بن كَثِير: تقدم قريبًا الإشارة إلى حكايته. قال الأستاذ (ص 38): [1/ 283] "هو الثقفي البصري. كان الثوري يكذَّبه, ويحذِّر الناس من الرواية عنه، فكيف يُتصوَّر أن ¬

_ (¬1) ترجمته في "تهذيب التهذيب": (3/ 442). (¬2) رقم (6).

117 - عبد الله بن أبي القاضي

يروي الثوري عن مثله؟ ". أقول: هناك عبَّاد بن كَثِير آخر، هو الرَّملي (¬1). وثَّقه ابن معين وغيره، ووهَّنه الأكثرون. ولم يتبيَّن لي أيهما الواقع في السند؟ وتحذير الثوري من الثقفي معروف، فأما تكذيبه له، فإنما حكاه الحاكم وأبو نعيم الأصبهاني، ولا أدري من أين أخذاه. فإن صحَّ، فإنما أراد الوهم والغلط. وقد أثنى على الثقفي بالصلاح جماعة، منهم ابن المبارك وأحمد وابن معين وأبو زرعة والعجلي. ووصفوه مع ذلك بأنه ليس بشيء في الحديث، وأنه يحدِّث بما لم يسمَعْ لبَلَهه وغفلته. فانظر هل يتناول ذلك حكايته المذكورة (¬2)، وهي قَوْله: "قلت لأبي حنيفة ... "، فذكر سؤالاً وجوابًا. وقد تقدم أن الخطيب روى نحوها من وجه آخر. وعلى كل حال فلا مانع أن يحكي الثوري عن عباد ما يظهر له صحته، وفي ترجمة محمَّد بن السائب الكلبي من "الميزان" (¬3): "يعلي بن عبيد قال: قال الثوري: اتقوا الكلبي. فقيل: فإنك تروي عنه. قال: أنا أعرف صدقه من كذبه". 117 - عبد الله بن أُبيّ القاضي: في "تاريخ بغداد" [13/ 425] من طريقه: "سمعت محمَّد بن حماد يقول: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام ... ". ¬

_ (¬1) ترجمته في "التهذيب": (5/ 102). (¬2) (ط): "المذكور" خطأ. (¬3) (5/ 3).

قال الأستاذ (ص 121): "لم نر أحدًا وثَّقه من رجال هذا الشأن، وإن روى البخاري عنه في "الضعفاء". وأما من ظن أنه روى عنه في "الصحيح" فقد وهم، وليس هو من شرطه. ولم يخرج عنه أحد من أصحاب الأصول الستة". أقول: ذكره الذهبي في "تذكرة الحفاظ" (ج 2 ص 206) (¬1) قال: "عبد الله بن أُبَيّ الخوارزمي الحافظ قاضي خوارزم، رحَّال جوَّال مفضال. لحق أحمد بن يونس اليربوعي، وسعيد بن منصور، وقتيبة بن سعيد، وسليمان ابن بنت شُرحبيل، وإسحاق بن راهويه، وطبقتهم. حدَّث عنه الإِمام أبو عبد الله البخاري في "كتاب الضعفاء" و .... وقد روى البخاري في "صحيحه" (¬2): أنا عبد الله عن سليمان بن عبد الرحمن (وهو ابن بنت شرحبيل)، فقيل: إنه هو. مات سنة نيف وتسعين ومائتين عن سن عالية تقارب التسعين ... ". وفي ترجمته من "التهذيب" (¬3) ذكر الحديث المذكور قال: "فقيل: إنه ابن حماد الآمُلي، ويحتمل أن يكون [1/ 284] هذا؛ فإنه قد روى البخاري في "الضعفاء" عدة أحاديث عنه عن سليمان بن عبد الرحمن وغيره سماعًا وتعليقًا". وأشار المِزِّي (¬4) إلى ذلك في ترجمة عبد الله بن حماد، فذكر ابن حجر (¬5) عن جماعة أنهم جزموا بأنه ابن حماد وأنه وقع في بعض النسخ ¬

_ (¬1) (2/ 656 - 657). (¬2) (4640). (¬3) (5/ 139). (¬4) "تهذيب الكمال": (4/ 115). (¬5) في "التهذيب": (5/ 191).

منسوبًا كذلك. وفي هذا أمران: الأول: أن البخاري قد روى عنه في "كتاب الضعفاء" عدة أحاديث سماعًا وتعليقًا، وذلك يقضي بأنه عنده ثقة أو صدوق، كما سلف في ترجمة أحمد بن عبد الله أبي عبد الرحمن (¬1). الثاني: أن المزي والذهبي اتفقا على أنه يحتمل أن يكون هو الذي روى عنه في "الصحيح". وهذا يقضي بأنه عندهما أهل لأن يُخرج عنه البخاري في "صحيحه". وأقرَّهما ابن حجر على ذلك، غير أنه رجَّح أن الواقع في "الصحيح" غيره؛ لأنه قد جاء منسوبًا في بعض النسخ، وجزم به جماعة. فأما عدم إخراج البخاري له في "الصحيح" إن صح أنَّ راوي ذاك الحديث غيره، فهذا لا يدل على أنه ليس على شرط الصحيح؛ لاحتمال أن البخاري إنما لم يُخرج له في "الصحيح" لأنه أصغر من البخاري، ولم يَسمع منه حديثًا يُضْطرُّ إلى إخراجه في "الصحيح" بنزول. وقد سمع البخاري من شيوخ هذا الرجل، وممن هو أكبر منهم بكثير. فأما بقية الستة، فإنما لم يرووا عنه لأنه من أقرانهم، وأصغر من بعضهم، وقد سمعوا من شيوخه وممن هو أكبر من شيوخه. وبلده بعيد، فلم يحتاجوا إلى الرحلة إليه والرواية عنه بنزول. راجع ترجمة إبراهيم بن شماس (¬2). ¬

_ (¬1) رقم (23). (¬2) رقم (6).

118 - عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال الشيباني

118 - عبد الله بن أحمد بن محمَّد بن حنبل بن هلال الشيباني: في "تاريخ بغداد" (13/ 414 [443]) من طريقه عن أبي بكر الأعيَن الحكاية التي تقدمت في ترجمة الحسن بن الربيع (¬1). قال الأستاذ (ص 151): "وعبد الله بن أحمد صاحب "كتاب السنة"، وما حواه كتابه هذا كافٍ في معرفة الرجل. ومثلُه لا يُصدَّق في أبي حنيفة وقد بُلي فيه الكذب ... " إلى آخر ما مرَّ في ترجمة أحمد بن عبد الله (¬2) الأصبهاني (¬3). أقول: أما "كتاب السنة" فهو من مصنَّفات المحدثين التي لم يُلتزم بها صحةُ كل خبر على حدة. فقد يقع فيه ما في سنده ضعف، وما يكون في الأدلة الثابتة عند أئمة السنة ما يخصِّصه أو يقيِّده أو يبيِّنه ونحو ذلك، وبحسب هذا يكون اعتقاد جامعه وما يريد تثبيته. [1/ 285] ومع هذا فلا اعتداد باستنكار من استقى عقيدته من مستنقعات مقالات الراغبين عن السراط المستقيم إلى غيره، فإن هؤلاء يستنكرون معاني القرآن نفسه. وقد أشبعت الكلام في ذلك في قسم الاعتقاديات (¬4). وأما قوله: "لا يصدَّق في أبي حنيفة"، فمن أماني الأستاذ! وأما قوله: "وقد بُلي فيه بالكذب"، فإن كان المراد أنه قد بلي في أبي حنيفة الكذب - يعني: أن الناس قد كذبوا في شأنه؛ فجوابه أنه قد بلي فيه الصدق أيضًا، ¬

_ (¬1) رقم (75). (¬2) (ط): "عبد"! (¬3) رقم (22). (¬4) (2/ 411 فما بعدها).

119 - عبد الله بن جعفر بن درستويه

والحق إنما هو تصديق الصادق وتكذيب الكاذب. فأما ما سلكه الأستاذ من تصديق الكذَّابين كأحمد بن محمَّد [بن] (¬1) الصلت بن المغلِّس الحِمَّاني، وتكذيب الصدِّيقين كأبي إسحاق إبراهيم بن محمَّد الفَزَاري وأضرابه كعبد الله بن أحمد؛ فهذا طريق لا يرضاه مؤمن. وإن أراد أنه قد بُلي في عبد الله بن أحمد الكذب، أي: أنه قد جُرَّب عليه أنه يكذِب، فهذا من قبيل تكذيب الصدِّيقين، وقد تقدم الكلام في تلك الحكاية في ترجمة أحمد بن عبد الله الأصبهاني (¬2)، واتضح هناك من هو الكاذب! وقد كنتُ أشرت إلى طرف من ذلك في "الطليعة" (ص 92 - 93) (¬3) فلم يعرض الكوثري لها في "الترحيب" بشيء! وعبد الله قد أثنى عليه أبوه، ووثَّقه النسائي وابن أبي حاتم والدارقطني والخطيب وغيرهم، وأجمع أهل العلم على الاحتجاج به. والله الموفق. 119 - عبد الله بن جعفر بن دَرَسْتوَيه (¬4): كان يروي "تاريخ يعقوب بن سفيان"، فرواه عنه جماعة. ويروي الخطيبُ عن رجل عنه، فيأخذ الخطيبُ الحكايةَ من "تاريخ يعقوب" ولا ينصُّ على ذلك، بل يسوقها بالسند عن شيخه عن ابن درستويه عن ¬

_ (¬1) سقطت من (ط). (¬2) رقم (22). (¬3) (ص 73). (¬4) هكذا ضبطه ابن ماكولا، وضبطه السمعاني بضم الدال والراء والتاء وسكون الواو. انظر "الإكمال": (3/ 322)، و"وفيات الأعيان": (3/ 44).

يعقوب .. إلخ، على ما جرت به عادةُ محدّثي عصره. كما ترى في "سنن البيهقي" يأخذ من "سنن أبي داود" و"سنن الدارقطني" ومؤلفات أخرى كثيرة، فيسوق الحديث بسنده إلى أبي داود، ثم يصله بسند أبي داود، ويكرِّر ذلك في كل حديث. وقد قرَّر أهل العلم أنَّ جُلَّ الاعتماد في مثل هذا على الوثوق بصحة النسخة، فلا يضرُّ أن يكون مع ذلك في الوسائط التي دون مؤلف الكتاب رجلٌ فيه كلام؛ لأنه واسطة سَنَدية فقط، والاعتماد على صحة النسخة. وهذا كما لو أحبَّ إنسانٌ منَّا أن يسوق بسند له إلى البخاري، ثم يصله بسند البخاري لبعض الأحاديث في "صحيحه"، فإنه بعد ظهور أنه إنما يروي بذلك السند من "صحيح البخاري" لا يكون هناك معنًى لأن يُعترَض [1/ 286] عليه بأنَّ في سنده إلى البخاري رجلاً فيه كلام. والأئمة الأثبات كالبيهقي والخطيب قد عُرف عنهم كمالُ التحرّي والتثبت في صحة النسخ، وتأكَّدَ ذلك بأن مَن كان مِن أهل العلم والنقد في عصرهم وما بعده لم ينكروا عليهم شيئًا مما رووه من تلك الكتب، مع وجود نسخ أخرى عندهم. وكانوا بغاية الحرص على أن يجدوا للمحدِّث زلةً أو تساهلاً، فيشيعوا ذلك ويذيعوه نصيحةً للدين من وجه، وحبًّا للسمعة وللشهرة من وجه آخر، ولِما قد يكون في صدر بعضهم من الحَنَق على الرجل أو الحسد له من وجه ثالث. وقد كان القدماء كسعيد بن أبي عَروبة ووكيع وغيرهما يروون من حفظهم وتكون لأحدهم كتب ومصنفات لا تحيط بحديثه، فكثيرًا ما يحدِّث

من حفظه بما ليس في كتبه، مع ذلك كان الرجل إذا روى عن أحد هؤلاء ما ليس في كتبه أنكر الناس عليه ذلك قائلين: ليس هذا في كتب ابن أبي عروبة، ليس هذا في كتب وكيع؛ حتى تناول بعضهم يحيى بن معين إذ روى عن حفص بن غياث حديثًا لم يوجد في كتب حفص، كما تقدم في ترجمة حسين بن حميد (¬1). فما بالك بالمتأخرين الذين إنما يروون من الكتب! فما بالك بمثل الخطيب الذي قد عُرف أنه إنما يروي بذاك السند من كتاب يعقوب! فإذا لم يطعن أحد في شيء يرويه الخطيب بطريق ابن درستويه عن يعقوب، ولا قال أحد: هذه الحكاية ليست في "تاريخ يعقوب"، ولا: هذا السياق مخالف لما في "تاريخ يعقوب" بزيادة أو نقص أو تغيير = فقد ثبت بذلك وبغيره صحةُ نسخة الخطيب وثبوتُ ذلك عن يعقوب. وهكذا لم يطعن أحد في شيء رواه ابن درستويه عن يعقوب بأنه ليس في كتاب يعقوب إما البتة وإما بذلك السياق، فظهر بهذا أن كلَّ ما رواه ابن درستويه عن يعقوب فهو ثابت في كتاب يعقوب. وبهذا يتبين أن محاولة القدح في كل الحكايات التي يرويها الخطيب من طريق ابن درستويه عن يعقوب بمحاولة الطعن في ابن درستويه تعبٌ لا يجدي ولا يفيد، ولا يبدئ ولا يعيد. ومع ذلك فلننظر في حال ابن درستويه. قال الأستاذ (ص 35): "كان يحدَّث عمن لم يدركه، لأجل دريهمات يأخذها، فادفع إليه درهمًا يصطنع لك ما شئت من الأكاذيب! وروايته عن الدوري ويعقوب ¬

_ (¬1) رقم (82).

خاصة منكرة. وقول البرقاني واللالكائي فيه معروف. وتضعف كواهل الخطيب وأذنابه عن حمل أثقال [1/ 287] التهم التي رُكَّبت على أكتاف هذا الإخباري الهاذي. وقد أكثر الخطيبُ عن عبد الله بن جعفر هذا جدَّ الإكثار". أقول: قوله: "يحدِّث عمن لم يدركه" فرية، كما سترى. وقوله: "لأجل دريهمات يأخذها" فرية أخرى. وصار الأستاذ يكررها في مواضع وينبز هذا الرجل بقوله: "الدراهمي"، ويسيء القولَ فيه في عدة مواضع. وحقيقة الحال أن هذا الرجل كان يروي عن عباس الدوري أحاديثَ، ويروي عن يعقوب بن سفيان "تاريخَه"، وغير ذلك. وكانت ولادة هذا الرجل سنة [258، ووفاة عباس الدوري سنة] (¬1) 271، ووفاة يعقوب سنة 277. فقد أدركهما قطعًا. وكان سنُّه لما مات عباس ثلاث عشرة سنة. وقد ذكر الخطيب (¬2) أن جعفر بن درستويه والد عبد الله هذا كان "من كبار المحدثين وفهمائهم، وعنده عن علي ابن المديني وطبقته، فلا يُستنكر أن يكون بكَّر بابنه في السماع". أقول: بل هذا هو الظاهر، كما جرت عليه عادة المحدثين في ذاك العصر من التبكير بأبنائهم للسماع من المعمَّرين، على أَمَل أن يعيش الابن فيكون سنده عاليًا، فيكون له بذلك صيت وشهرة ويرحل الناس إليه، وتلك مرتبةٌ يحرص المحدِّث أن ينالها ابنه. وقد ولد أبو حنيفة سنة 80 بالكوفة ونشأ بها, ولم يُعْرَف والده بشيء ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق، ولعلها سقطت لانتقال النظر. (¬2) في "تاريخه": (9/ 435).

من العلم، ونشأ هو غير معنيًّ بطلب الحديث، كما يدل عليه النظر في وفيات شيوخه الذين تثبتُ روايته عنهم. وعاش أنس رضي الله عنه بالبصرة إلى أن مات سنة إحدى وتسعين وقيل: بعدها بسنة، وقيل: بسنتين - أي: وعمر أبي حنيفة ما بين إحدى عشرة إلى ثلاث عشرة، ولم يكن عادة الناس في ذاك العصر التبكير بالسماع. وفي "الكفاية" (ص 54): "قلَّ من كان يُثبت (وفي نسخة: يكتب) الحديث - على ما بلغنا - في عصر التابعين وقريبًا منه إلاَّ مَن جاوز حدَّ البلوغ، وصار في عداد من يصلح لمجالسة العلماء ومذاكرتهم وسؤالهم. وقيل: إن أهل الكوفة لم يكن الواحد منهم يسمع الحديث إلا بعد استكماله عشرين سنة". ثم روى بعد ذلك حكايات، منها: "أنه قيل لموسى بن إسحاق: كيف لم تكتب عن أبي نعيم؟ قال: كان أهل الكوفة لا يُخرجون أولادهم في طلب الحديث صغارًا حتى يستكملوا عشرين سنة". وروى الخطيب في "التاريخ" (¬1) من طريق حمزة السهمي قال: "سئل الدارقطني عن سماع أبي حنيفة من أنس هل يصح؟ قال: لا, ولا رؤيته". فذكر الأستاذ ذلك (ص 15) ونازع [1/ 288] في ذلك بما نظرتُ فيه في ترجمة أحمد بن محمَّد بن الصلت (¬2). وضجَّ الأستاذ في (ص 196) من إنكار سماع أبي حنيفة من أنس، قال: "مع أن أبا حنيفة كان أكبر سنًّا من أقلَّ سنَّ التحمل عند المحدثين بكثير في جميع الروايات في وفاة أنس". هذا كله مع أن أسطورة الدراهم والتحديث عمن لم يدركه، إنما أخذها ¬

_ (¬1) (4/ 208). (¬2) رقم (34).

الأستاذ من قول الخطيب: "سمعت هبة الله [بن] الحسن (¬1) الطبري (اللالكائي) ذكر ابن درستويه وضعَّفه وقال: بلغني أنه قيل له: حدِّثْ عن عباس الدوري حديثًا ونحن نعطيك درهمًا، ففعَلَ، ولم يكن سمع من عباس". قال الخطيب: "وهذه الحكاية باطلة, لأن أبا محمَّد بن درستويه كان أرفع قدرًا من أن يكذب لأجل العرض الكثير، فكيف لأجل التافه الحقير! وقد حدثَنا عنه ابنُ رزقويه بأمالي أملاها في جامع المدينة، وفيها عن عباس الدوري أحاديث عدة" (¬2). أقول: واللالكائي توفي سنة 418، وقد قال الخطيب في ترجمته: "عاجلته المنية، فلم يُنشر عنه كبير شيء". فهذا يدل أن مولد اللالكائي كان بعد وفاة ابن درستويه بمدة، فإن وفاته كانت سنة 347. وقوله: "بلغني ... " لا يُدرَى من الذي بلَّغه، ومثل هذا لا يثبت به حكمٌ ما. وقد قال الحِمَّاني: "سمعتُ عشرةً كلُّهم ثقات يقولون: سمعنا أبا حنيفة يقول: القرآن مخلوق". فردَّه الأستاذ (ص 56) بقوله: "قول الراوي: سمعت الثقة، يُعَدُّ كرواية عن مجهول، وكذا الثقات". ثم تراه يبني على قول اللالكائي "بلغني ... " القصورَ والعلالي جازمًا بذلك، مكرِّرًا نبزَ ابن درستويه بقوله "الدراهمي" وغير ذلك. ومع أنَّ المبلِّغَ اللالكائي إنما قال: "ولم يكن سمع من عباس"، فلم يقنع الأستاذ "الإِمام الفقيه المحدث والحجة الثقة المحقق العلامة الكبير ¬

_ (¬1) وقع في (ط): "هبة الدين الحسين" وفي هذا تصحيف وسقط، والصواب ما أثبت. (¬2) "تاريخ بغداد": (9/ 429).

صاحب الفضيلة مولانا الشيخ محمَّد زاهد الكوثري وكيل المشيخة الإِسلامية في الخلافة العثمانية سابقًا"، كما نَعَتَه صاحبُه على لوح "التأنيب" أو كما نعتَ نفسَه = لم يقنع بذلك، بل قال: "كان يحدِّث عمَّن لم يدركه لأجل دريهمات يأخذها". ثم مع هذا وأمثاله وما هو أشدُّ منه وكثرةِ ذلك، يضِجُّ ويعِجُّ ويُرغي ويُزبِد إذا نُسب إلى المغالطة. وليت شعري كيف يمكننا إحسان الظن به، وحملُه على الغلط والوهم من (¬1) أن تلك الزلات الكثيرة كلَّها فيما يؤيد به هواه، ولا أذكر له زلة واحدة فيما يخالف هواه! [1/ 289] هذا ولم ينكروا على ابن درستويه حديثًا واحدًا مما حدَّث به عن الدوري، فدلَّ ذلك على أن تلك الأحاديث ثابتة عن الدوري حتمًا، وإنما زعم من لا يُدرَى مَنْ هو أن ابن درستويه لم يسمع من الدوري، وقد علمتَ إمكانَ سماعه منه، فإن ثبت أن ابن درستويه ثقة - وسنُثبته إن شاء الله تعالى - ثبت السماع. وأما شأنه مع يعقوب بن سفيان، فقد عُلِم بما مرَّ أنه لما توفي يعقوب كان سنُّ ابن درستويه نحو عشرين سنة، لكن قال الخطيب: "سألت البَرْقاني عن ابن درستويه، فقال: ضعَّفوه؛ لأنه لما روى "التاريخ" عن يعقوب بن سفيان أنكروا عليه ذلك، وقالوا له: إنما حدَّث يعقوبُ بهذا الكتاب قديمًا، فمتى سمعتَه! ". ولم يبيِّنوا تاريخ تحديث يعقوب بـ "التاريخ"، فقد يكون حين كان سنُّ ابن درستويه اثنتي عشرة سنة أو نحوها، واستبعدوا أن يكون سمع حينئذ لصغره. وعلى هذا يدل قولُ الخطيب عقب ما حكاه عن ¬

_ (¬1) كذا الأصل. ولعل الصواب: "مع". [ن]

البرقاني، قال: "في هذا القول نظر, لأن جعفر بن درستويه من كبار المحدثين ... فلا يُستنكر أن يكون بكَّر بابنه في السماع من يعقوب بن سفيان". ثم استأصل الخطيبُ الشأفةَ واقتلع الجرثومة بقوله: "مع أن أبا القاسم الأزهري حدَّثني قال: رأيتُ أصل كتاب ابن درستويه بـ "تاريخ يعقوب بن سفيان" لمَّا بيع في ميراث ابن الآبَنُوسي (¬1)، فرأيته أصلاً حسنًا، ووجدت سماعه فيه صحيحًا". والأزهري من أهل المعرفة والتيقظ والثقة والأمانة. ترجمته عند الخطيب (ج 10 ص 385). فثبت السماع وبطل النزاع. فأما حال ابن درستويه، فتضعيف اللالكائي له قد بيَّن وجْهَه، وهو قوله: "بلغني ... ". وقد علمتَ أنه ليس في ذلك حجة. وقول البرقاني: "ضعَّفوه" قد بيَّن وجْهَه، وهو استبعادهم أن يكون سمع "التاريخ". وقد ثبت سماعه له، فزال سبب التضعيف. على أنه لو لم يتبين أن ذلك هو وجه التضعيف لكان تضعيفًا مجرَّدًا، وهو جرح غير مفسَّر، وقد ثبت التوثيق. قال الخطيب: "سألت أبا سعد الحسين بن عثمان الشيرازي عن ابن درستويه؟ فقال: ثقة [1/ 290] ثقة. حدَّثنا عنه أبو عبيد الله (¬2) (الصواب: أبو عبد الله. كما في "لسان الميزان" (¬3). وهو الحافظ محمَّد بن إسحاق بن منده من شيوخ ¬

_ (¬1) هكذا ضبطه السمعاني في "الأنساب": (1/ 67)، وذكر له وجهًا آخر بسكون الباء (الآبْنوسي). (¬2) ووقع كذلك في الطبعة المحققة: (11/ 86)! (¬3) (6/ 555).

الشيرازي هذا، كما في ترجمته من "التاريخ" (ج 8 ص 84)) ابن منده الحافظ بغير شيء، وسألته عنه، فأثنى عليه ووثَّقه". وقال الخطيب في ترجمة الشيرازي هذا (¬1): "كتبنا عنه وكان صدوقًا متنبهًا". وقد تقدَّم ثناءُ الخطيب على ابن درستويه. وذكر الأستاذ (ص 105) ما رواه الخطيب من طريق ابن درستويه، عن يعقوب، عن الحسن بن الصباح، عن إسحاق بن إبراهيم الحُنَيني قال: "قال مالك: ما ولد في الإِسلام مولودٌ أضرُّ على أهل الإِسلام من أبي حنيفة. وكان (مالك) يعيب الرأي، ويقول: قُبِضَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد تمَّ هذا الأمرُ واستكمل ... ". فذكر الأستاذ أن ابن عبد البر ذكر في "كتاب العلم" (¬2) عن "تهذيب الآثار" للطبري عن الحسن بن الصباح عن الحنيني أن مالكًا قال: "قُبِضَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... " ولم يذكر ما قبله. قال الأستاذ: "فيكون ابن درستويه الدراهمي هو الذي زاد في أول الخبر ما شاءه". أقول: ليس هذا بشيء، وإنما اقتصر ابن جرير أو ابن عبد البر على موضع الحجة. وقد جرت عادتهم بتقطيع الأحاديث النبوية، كما فعله البخاري في "صحيحه" وغيره، فما بالك بمثل هذا؟ وقال الخطيب في ترجمة ابن درستويه (¬3): "حُمِلَ عنه من علوم الأدب كتب عدَّة صنَّفها. منها: "تفسير كتاب الجَرْمي". ومنها: كتاب في النحو ¬

_ (¬1) (8/ 84). (¬2) (2/ 1069). (¬3) (9/ 428 - 429).

120 - عبد الله بن خبيق.

الذي يدعى "الإرشاد". ومنها: كتابه في الهجاء وهو من أحسن كتبه. وروى عنه محمَّد بن المظفر، والدارقطني، وابن شاهين ... حدثنا عنه أبو الحسن بن رزقويه، وأبو الحسين بن الفضل، وأبو علي بن شاذان ...... ". وفي "تاريخ ابن خلكان" (¬1): "تصانيفه في غاية الجودة والإتقان. منها ... " وزاد على ما ذكره الخطيب: "شرح الفصيح"، "الرد على المفضَّل الضبي في الرد على الخليل"، "كتاب الهداية"، "كتاب المقصور والممدود"، "كتاب غريب الحديث"، "كتاب معاني الشعر"، "كتاب الحي والميت"، "كتاب التوسط بين الأخفش وثعلب في تفسير [1/ 291] القرآن"، "كتاب خبر قُسّ بن ساعدة"، "كتاب الأعداد"، "كتاب أخبار النحويين"، "كتاب الرد على الفراء في المعاني". 120 - عبد الله بن خُبَيْق. في "تاريخ بغداد" (13/ 390 [407]) من طريقه "حدثنا أبو صالح الفراء ... ". قال الأستاذ (ص 85): "صالح، غير صالح لتلقي شيء منه غير القراءة". أقول: أما صلاحه فمشهور، وأما روايته فلم يغمزه فيها أحد، وقد ذكره ابن أبي حاتم فقال: "كتب إلى أبي بجزء من حديثه" (¬2). ¬

_ (¬1) (3/ 44). (¬2) (5/ 46).

121 - عبد الله بن الزبير أبو بكر الحميدي.

121 - عبد الله بن الزبير أبو بكر الحُمَيدي. تقدمت الإشارة إلى بعض حكاياته في ترجمة الحارث بن عمير (¬1) وغيرها. قال الأستاذ (ص 36): "الحميدي كذَّبه محمَّد بن عبد الله بن عبد الحكم (¬2) - في كلامه في الناس. راجع "طبقات السبكي" (ج 1 ص 224). وهو شديد التعصب، وقَّاع، مضطرب يروي مرةً عن حمزة بن الحارث, ومرةً عن الحارث مباشرة". أقول: أما التعصب، فحقيقته هنا نُفْرة دينية، وقد مرَّ حكمها في القواعد (¬3). وأما الوقيعة، ففيمن يراه من أهل البدع. قال يعقوب بن سفيان: "ثنا الحميدي، وما لقيتُ أنصحَ للإسلام وأهله منه" (¬4). وأما الاضطراب في تلك الحكاية، فقد أشار الخطيب (¬5) إلى أن الصواب عن الحميدي ثنا حمزة، وقولُ محمَّد بن محمَّد الباغندي عن أبيه عن الحميدي: "حدثني الحارث" وهمٌ من ابن الباغندي أو أبيه. وقد طعن الأستاذ فيهما، كما سيأتي في موضعه. وأما قصته مع ابن عبد الحكم، فهذه عبارة ابن السبكي التي استند إليها ¬

_ (¬1) رقم (68). (¬2) (ط): "عبد الحكيم" تصحيف. (¬3) (ص 67، 87 - 98). (¬4) في "المعرفة والتاريخ": (3/ 184). (¬5) (13/ 372 - 374).

الأستاذ جازمًا بقوله: "كذَّبه ... في كلامه في الناس"! قال ابن السبكي (¬1): "قال ابن خزيمة فيما رواه الحاكم عن الحافظ حُسَينَك التميمي عنه: كان ابن عبد الحكم من أصحاب الشافعي، فوقعت بينه وبين البويطي وحشةٌ في مرض الشافعي. فحدَّثني أبو جعفر السُّكَّري صديقُ الربيع قال: لمَّا مرض الشافعي جاء ابن عبد الحكم ينازع البويطيَّ في مجلس الشافعي، فقال البويطي: أنا أحقُّ به منك. فجاء الحميدي وكان بمصر، فقال: قال الشافعي: ليس أحدٌ أحقَّ بمجلسي من البويطي، وليس أحدٌ من أصحابي أعلمَ منه. فقال له ابن عبد الحكم: كذبتَ. فقال له الحميدي: كذبتَ أنت وأبوك وأمك! وغضِبَ ابنُ عبد الحكم، فترك مذهب الشافعي. فحدثني ابن عبد الحكم [1/ 292] قال: كان الحميدي معي في الدار نحوًا من سنة، وأعطاني كتاب ابن عيينة، ثم أبوا إلا أن يُوقِعوا بيننا ما وقع". فأول ما يجب البحث عنه هنا هو النظر في أبي جعفر السكري حاكي القصة أثقة هو أم لا؟ أما الأستاذ فلم يهمَّه هذا، إذ كان في القصة ما يوافق هواه. وأما أنا فقد فتشتُ عنه، فلم أعرفه (¬2). ورأيت القصة في "تاريخ بغداد" (ج 14 ص 301) وفيها: "صديق للربيع". وهذا يُشعِر بأنه ليس بالمعروف، فعلى هذا لا تثبت القصة. وإن دلَّت الشواهد على أن لها أصلاً في الجملة، فإن ذلك لا يُثبِت من تفاصيلها ما لا شاهد له. ¬

_ (¬1) "طبقات الشافعية الكبرى": (2/ 68). (¬2) يحتمل أن يكون هو المترجَم في "تاريخ بغداد": (5/ 49 - ط بشار) و"لسان الميزان": (1/ 405): أحمد بن إسحاق السكري أبو جعفر البغدادي. ولم يوثقه أحد غير أن ابن حبان ذكره في "الثقات".

وفي "توالي التأسيس" (ص 84) (¬1) عن الربيع صاحب الشافعي قال: "وجَّه الشافعيُّ الحميديَّ إلى الحلقة، فقال: الحلقة لأبي يعقوب البويطي. فمن شاء فليجلس، ومن شاء فليذهب". وكان البويطي أسنَّ أصحاب الشافعي وأفقهَهم، حتى كان الشافعي يعتمده في الفتيا ويحيل عليه إذا جاءته مسألة، كما في "الطبقات الشافعية" (¬2). وكان ابن عبد الحكم حينئذ فتًى ابنَ إحدى وعشرين سنة، فلم يكن قد استحكم علمُه ولا عقلُه، فمنازعته للبويطي طيشة من طيشات الشباب. وكان الحميدي أعلمهم بالحديث وأقدمهم صحبةً للشافعي, لأنه قدم معه من الحجاز إلى مصر، والباقون إنما صحبوه بمصر. والحميدي قرشي مكي، كما أن الشافعي كذلك، فهو أقربهم إلى الشافعي وألصقهم به. ولذلك - والله أعلم - لما ذهب أصحاب الشافعي في مرضه إلى الجامع تخلَّف الحميدي عنده، ثم خشي الشافعي أن يتنازعوا الحلقةَ، فأرسل الحميديَّ إليهم ليبلِّغهم عنه. فلو شكَّ ابنُ [عبد] الحكم في خبر الحميدي لكان حقُّه أن يذهب ليراجع الشافعيَّ، لكنه عرف صدقَه، فاضطرم في نفسه اليأس والحزن والغضب. فإنْ بدرت منه تلك الكلمة، فهي من فلتات الغضب كما لا يخفى، فلا يَتشبَّث بمثلها في الطعن في مثل الحميدي إلا مثلُ الأستاذ! وقد قال هو نفسه في حاشية (ص 99): "وأهل العلم قد تبدُر منهم بادرةٌ، فيتكلَّمون في أقرانهم بما لا يُقبل، فلا يتخذ ذلك حجة". ¬

_ (¬1) (ص 197). وقد طبع الكتاب بهذا الاسم وصوابه "توالي التأنيس" بالنون، كما في "الجواهر والدرر": (2/ 682) للسخاوي. (¬2) (2/ 163).

وقد أسلفتُ تحقيق هذا المعنى في القاعدة الرابعة من قسم القواعد (¬1). والأستاذ يقصِّر عن الحق تارة، ويتعدَّاه أخرى! صَعْدةٌ نابتةٌ في حائرٍ ... أينما الريحُ تُمَيِّلْها تَمِلْ (¬2) [1/ 293] وهكذا إن كان الحميديُّ لمَّا استقبله صديقُه الفتى الطياش بتلك الكلمة غلبه الغضب فأجاب بما أجاب، وحُقَّ للحميدي أن ينشقَّ غضبًا فإنه لو جاء بذاك الخبر أكذَبُ الناس لما ساغ لعاقل أن يكذِّبه فيه؛ لأن الشافعي حيٌّ يُرزق بالقرب منهم، تُمكِن مراجعتُه بالسهولة، فمَن الذي يجترئ أن يكذب عليه؟ مع علم الحميدي (¬3) بصدقه وأمانته وأنه لا هوى له، بل لو كان له هوًى لكان مع ابن عبد الحكم صديقِه الذي أضافه في بيتهم (¬4) نحوًا من سنة، كما نصَّ على ذلك ابنُ عبد الحكم نفسه. وعلى كل حال، فذاك الجواب فَلْتةُ غضبٍ أيضًا، كما لا يخفى. ولا عتب على الأستاذ في تشبُّثه بها أيضًا لمَّا احتاج إلى الكلام في ابن عبد الحكم، كما يأتي في ترجمته (¬5)! ولم يُبقِ الأستاذ على نفسه، بل أخذ يتكهَّن، فقال في (ص 130) في ¬

_ (¬1) (ص 87 فما بعدها). (¬2) لكعب بن جُعيل التغلبي. والبيت من "شواهد سيبويه": (3/ 113). وانظر: شرح شواهده لابن السيرافي: (2/ 196)، و"خزانة الأدب": (3/ 47). (¬3) كذا الأصل. ولعله سبق قلم من المؤلف، والصواب: "ابن عبد الحكم"، كما يدل عليه السياق. [ن]. (¬4) كذا في (ط) والصواب: "في بيته". (¬5) رقم (213).

الحميدي: "لما استصحبه الشافعي إلى مصر باعتبار أنه راوية ابن عيينة أخذ يطمع أن يخلُف الشافعيِّ بعد وفاته. ولما علم أن أصحابه لا يرضونه لبعده عن الفقه، حكى عن الشافعيَّ أن أحقَّ جماعته بمقامه هو البويطي، فكذَّبه محمَّد بن عبد الحكم. ولم يكن مثلُ الإِمام الشافعي لِيُسِرَّ إلى آحاد الآفاقيين بما يكتمه عن جماعته. ولو كان رأيه أن يكون البويطي خلفًا له لَجاهرَ بذلك أمام جماعته، لئلا يختلفوا بعده. وقد غرِمَ البويطيُّ ألفَ دينار - والألف كثير - إلى أن يُصلح قلوبَ الجماعة، كما حكى الحافظ ابن حجر في "توالي التأسيس"، وللبراطيل أفاعيل! وكان هوى الحميدي مع البويطي لتقاربهما في المنزع، وبُعدِهما عن الغوص على دقائق الفقه، بخلاف المزني وابن عبد الحكم. ولولا أنه كان راوية ابن عيينة لكان الناس استغنوا عنه وعن حديثه لبذاءة لسانه". أقول: الحميدي هو الذي اعتمد صحبةَ الشافعي. وفي كتاب ابن أبي حاتم (ج 3 قسم 2 ص 202) عن الحميدي أنه يقول: "كان أحمد بن حنبل قد أقام عندنا بمكة على سفيان بن عيينة، فقال لي ذات يوم: ها هنا رجل من قريش له بيان ومعرفة. قلت: ومن هو؟ قال: محمَّد بن إدريس الشافعي. وكان أحمد بن حنبل قد جالسه بالعراق، فلم يزل حتى اجترَّني إليه، ودارت مسائل. فلما قمنا قال لي أحمد بن حنبل: كيف رأيت؟ ألا ترضى أن يكون رجل من قريش يكون له هذه المعرفة وهذا البيان؟ فوقع كلامه في قلبي، فجالسته، فغلبتهم عليه ... [1/ 294] وخرجت مع الشافعي إلى مصر". وكان الشافعي قد استكثر من ابن عيينة، فلم يكن به حاجة إلى الحميدي ولا غيره. وزَعْمُ طمعِ الحميدي أن يخلُفَ الشافعيَّ بمصر من مخلوقات الأستاذ، ليس عليه أدنى شبهة. بل كان الحميدي مكينًا بمكة، مؤثِرًا لها. وإنما فارقها تلك المدة إلى مصر إيثارًا لصحبة الشافعي، فكان أقصى همِّه أن يعود إليها.

ودعوى بُعده عن الفقه مخلوق آخر! إنما كان الغالب على الحميدي الحديث، وقد صحب ابنَ عيينة، وأخذ من أخلاقه. وقد تقدَّم قول الشافعي في ابن عيينة: "ما رأيت أحدًا من الناس فيه من آلة العلم ما في ابن عيينة، وما رأيت أحدًا أكفَّ عن الفتيا منه". ولعل هذين الأمرين: إيثارَه الرجوع إلى مكة، وعدمَ التبسُّط في الفتوى = من الأسباب التي منعت ترشيحَه لخلافة الشافعي. وحكايتُه عن الشافعي أن البويطي أحقُّ الجماعة كانت برسالة من الشافعي، وهو حيٌّ بالقرب منهم يمكنهم مراجعته، كما تقدم في القصة نفسها. ومحاولة الأستاذ أن يري القارئ أن الحميدي إنما أخبر بذلك بعد وفاة الشافعي مخلوق آخر من مخلوقاته! وتكذيبُ ابن عبد الحكم له - إن صحَّ - طيشةُ فتًى غِرٍّ مُحنِق، كما سلف. والشافعي لم يُسِرَّ إليه، وإنما كان عنده وبقية الأصحاب بالجامع، فأرسله إليهم، وهم بحيث تمكنهم مراجعته. وقد جاء عن الربيع قال: "دخلنا على الشافعي عند وفاته أنا والبويطي والمزني وابن عبد الحكم، فنظر إلينا الشافعي فأطال، ثم التفت إلينا فقال: أما أنت يا يعقوب، فستموت في حديدك. وأما أنت يا مزني، فسيكون لك بمصر هنات وهنات، ولتدركنَّ زمانًا تكون أقيسَ أهل زمانك. وأما أنت يا محمَّد، فسترجع إلى مذهب أبيك. وأما أنت يا ربيع، فأنت أنفعهم لي في نشر الكتب. قال الربيع: فكان كما قال". ترى القصة بسندها في "توالي التأسيس" (ص 85) (¬1). ¬

_ (¬1) (ص 199 - 200).

والحميديُّ، وإن لم يكن مصريًّا، فقد كان أعلمَ الجماعة بالحديث، وأقدمَهم صحبةً للشافعي، ورفيقَه في سفره، وكان قرشيًّا مكيًّا كالشافعي؛ فأخَصِّيَّتُه به واضحة. والمجاهرة قد وقعت. وذاك الاختلاف كان في حياة الشافعي كما هو صريح في القصة. وغرامةُ البويطي ألفَ دينار لا شأن للحميدي بها, ولا لاختلاف الأصحاب؛ فإن الأستاذ إنما أخذ مما في "توالي التأسيس" (¬1): "قال زكريا الساجي: سمعت إبراهيم بن زياد يقول: سمعت البويطي يقول: لما مات الشافعي اجتمعنا في موضعه جماعة [1/ 295] من أصحابه، فجعل أصحاب مالك يسعون بنا عند السلطان، حتى بقيت أنا ومولى للشافعي. ثم صرنا بعد نجتمع ونتألَّف، ثم يسعون بنا حتى نتفرق، فلقد غرمتُ نحوًا من ألف دينار حتى تراجَعَ أصحابنا وتألَّفنا". فغرامةُ الألف كانت للسعي في إنقاذ من تحبسه الأمراء أو تنفيه من الأصحاب. فإن كان هناك برطيل، فللأمراء وأشياعهم. وزَعْمُ أنَّ البويطيَّ رشا الحميديَّ حتى شهد له زورًا بهتانٌ عظيمٌ لا يضرُّ في الدنيا والآخرة إلا مختلقَه! وزَعْمُ أنَّ هوى الحميدي كان مع البويطي مخلوق آخر! ولو كان للهوى مدخل لكان هواه مع ابن عبد الحكم صديقه ومضيفه. وكان آل عبد الحكم أهل الكلمة والمكانة والثروة بمصر، لا يكاد يُذكَر البويطيُّ في ذلك بالنسبة إليهم. وزَعْمُ التقارب في المنزع خلافُ الواقع، فإن الحميدي كان محدِّثًا قبل ¬

_ (¬1) (ص 197).

كل شيء، والبويطي كان فقيهًا قبل كل شيء (¬1). وبُعْدُ البويطي عن الغوصِ مخلوق آخر! فقد كان الشافعي يحيل عليه بالفتوى في حياته، وإن كان أقلَّ مخالفةً له من المزني. والمزني لم يكن عند وفاة الشافعي في حدِّ أن يصلح لخلافته، كما يعلم من قول الشافعي له: "وليأتين عليك زمان ... ". وكانت سنُّه عند وفاة الشافعي دون الثلاثين، وكأنه إنما صحب الشافعي بأَخَرة؛ فإنه استعان على ما فاته عن الشافعي بكتاب الربيع، كما مرَّ في ترجمة الربيع (¬2). فأما ابن عبد الحكم فكان دون ذلك بكثير، كما يعلم مما مرَّ. ولم ير الأستاذ في تخرُّصاته بعد عنائه الطويل ما يغترُّ به عاقل! فأردف ذلك بحاشية علَّقها على (ص 131) أعاد فيها بعض ما تقدَّم، وحاول الاستنتاج على ذلك الأسلوب! فلا أطيل بذكر ذلك وما عليه. لكن زاد فيها ما قيل: إن البويطي لما حُبِسَ قال: "برئ الناس من دمي إلا ثلاثة حرملة والمزني وآخر". وقال بعضهم: إنه أراد بالآخر ابن الشافعي. فالحكاية ذكرها ابن السبكي (¬3) بقوله: "قال أبو جعفر الترمذي: فحدثني الثقة عن البويطي أنه قال ... ". ولا أدري كيف سندها إلى أبي جعفر، ومَن شيخ أبي جعفر؟ أثقةً كان حقًّا أم لا؟ أسَمِع من البويطي، أم بلغه عنه؟ والحكاية ¬

_ (¬1) لعل الكوثري أراد بالمنزع الاعتقاد، فالحميديّ معروف بإمامته في السّنة، والبويطي معروف موقفه من القول بخلق القرآن وصلابته حتى إنه توفي في السجن من أجل ذلك كما سيأتي. (¬2) رقم (91). (¬3) في "طبقات الشافعية": (2/ 164).

منكرة, لأن أولئك الثلاثة إن كانوا سعوا به - كما قيل - فالمباشرُ لترحيلهِ من مصر وتقييدهِ وحبسهِ غيرُهم، فكيف يبرِّئ المباشرين لظلمه دون الساعين؟ وأيضًا فلا موضع للسعي, لأن قضاة مصر الحنفية الجهمية كانوا يتبعون كلَّ من عُرِف بعلم أو فقه، [1/ 296] فيُكرِهونه على القول بخلق القرآن، وشمل ذلك جميعَ علماء الشافعية والمالكية بمصر. وأشبَهُ ما تحمل عليه الحكايةُ - إن صحَّتْ - هو أن يكون الجهمية حينئذ إنما كانوا يتعرَّضون لمن جاهر بالإنكار عليهم وأعلن منابذتهم وتضليلهم، وكان البويطيُّ يؤثر عدمَ المجاهرة، فجاهر أولئك الثلاثة، فأدَّى ذلك إلى قبض الجهمية على البويطي باعتبار أنه رئيس الجماعة، والمعروفُ عن أولئك الثلاثة عقيدة أهل السنة. وكأنَّ الأستاذ يقيس أصحاب الشافعي على أصحاب أبي حنيفة، إذْ كذَّب أبو يوسف محمدًا تكذيبًا صريحًا فيما يرويه عنه، مع ما في كتب الحنفية كـ "شرح السير الكبير" (ج 1 ص 3) إذ ذكر الوحشة التي كانت بين أبي يوسف ومحمد، ثم قال: "وسببها الخاص ما يُحكى أنه جرى ذكر محمَّد رحمه الله في مجلس الخليفة، فأثنى عليه الخليفة، فخاف أبو يوسف أن يقرِّبه، فخلا به وقال: أترغب في قضاء مصر؟ فقال محمَّد: ما غرضك في هذا؟ فقال: قد ظهر علمنا بالعراق، وأحبُّ أن يظهر بمصر. فقال محمَّد: حتى أنظر. وشاور في ذلك أصحابَه، فقالوا له: ليس غرضه قضاؤك، ولكن يريد أن ينحِّيك عن باب الخليفة. ثم أمر الخليفةُ أبا يوسف أن يُحضِره مجلسه، فقال أبو يوسف: إن به داءً لا يصلح معه لمجلس أمير المؤمنين. فقال: وما ذاك؟ قال: به سلس البول بحيث لا يمكنه استدامة الجلوس. فقال

الخليفة: فأذن له بالقيام عند حاجته. ثم خلا بمحمد رحمه الله، وقال: إن أمير المؤمنين يدعوك، وهو رجل ملول فلا تُطِل الجلوس عنده، وإذا أشرتُ إليك فقم ... ولما مات أبو يوسف رحمه الله لم يخرج محمَّد رحمه الله في جنازته". لكن الفرق يا أستاذ واضح. كان أمام أبي يوسف ومحمد مجلسُ الرشيد، وملاذُّ الدنيا، وبِدَر الدنانير، وتخوت الثياب وغير ذلك. ولم يكن أمام البويطي شيء من ذلك، إنما أمامه مخالفة المالكية والجهمية والدولة، واحتاج أن يُنفق من صلب ماله وقوت عياله، حتى ختم الله تعالى له على أيدي أصحابك بالحسنى وزيادة. مِن ثناء الأئمة على الحميدي: قال الإِمام أحمد: "الحميدي إمام". وقال أبو حاتم: "هو أثبتُ الناس في ابن عيينة، وهو رئيس أصحابه، وهو ثقة إمام". وقال يعقوب بن سفيان: "ثنا الحميدي، وما لقيت أنصحَ للإسلام وأهله منه". [1/ 297] فأما شدةُ الحميدي على أبي حنيفة، فاضطرَّه إليها ما بلغه عنه مما ذُكِر بعضُه في الترجمة، وقد صرَّح الأستاذ نفسه (ص 36) في بعضها أنه كفر صراح، وتلك الحكاية سمعها الحميدي من حمزة بن الحارث بن عمير، يرويها عن أبيه أنه سمعها من أبي حنيفة. وقد روى رجاء بن السِّندي - وقد تقدمت ترجمته (¬1) - عن حمزة بن الحارث عن أبيه نحوها كما في الترجمة. وحمزة ثقة عندهم، وكذلك أبوه عند القدماء - كما تقدم في ¬

_ (¬1) رقم (92).

ترجمته (¬1) - فكان ثقة عند الحميدى، فكان عند الحميدى أن الحكاية صحيحة. وسمع الحميدي أبا صالح الفرَّاء - وهو محبوب بن موسى - يحدِّث عن الفزاري وهو أبو إسحاق إبراهيم بن محمَّد بن الحارث قال: قال أبو حنيفة: "إيمان آدم وإيمان إبليس واحد ... ". وقد قال عثمان بن سعيد الدارمي: ثنا محبوب بن موسى الأنطاكي قال: سمعت أبا إسحاق الفزاري يقول: سمعت أبا حنيفة يقول: "إيمان أبي بكر الصديق وإيمان إبليس واحد ... ". وقد مرت ترجمة الفزاري (¬2)، وتأتي ترجمة عثمان ومحبوب (¬3). وكان عند الحميدي أن هذه الحكاية صحيحة أيضًا. ومن تدبَّر الترجمة علم أنه كان عند الحميدي حكايات أخرى قد سمعها ممن هو عنده ثقة. وبهذا يتبين للعالم العاقل أن الحميدي إن كان مخطئًا فهو معذور مأجور إن شاء الله تعالى. وقد عذَرَ أهلُ السنة بعضَ من قاتل أميرَ المؤمنين عليَّ بن أبي طالب رضوان الله عليه، وجاهر بسبِّه ولعنه، فإن كان الحميديُّ مخطئًا، فهو أولى وأجدرُ بأن يُعذَر ويُؤجَر. فإن قيل: فكذلك ينبغي أن تعذروا الكوثريَّ، وإن اعتقدتم خطأه. قلت: أما في خطئه الذي يُعذَر به، فحبًّا وكرامة. وأما ما زاد على ذلك، فقد جعل الله لكل شيء قدرًا! ¬

_ (¬1) رقم (68). (¬2) رقم (8). (¬3) رقم (156 و184).

122 - عبد الله بن سعيد

122 - عبد الله بن سعيد: في "تاريخ بغداد" (13/ 380 [387 - 388]) من طريق أبي بكر الشافعي: "حدثني عمر بن الهيصم (¬1) البزَّاز، أخبرنا عبد الله بن سعيد بقصر ابن هبيرة، حدَّثني أبي، أنَّ أباه أخبره: أن ابن أبي ليلى كان يتمثّل ... ". قال الأستاذ (ص 60): "إن كان أبا عباد المقبري ... وإن كان أبا سعيد الأشج .. وإن كان غيرهما = يكون مجهولاً هو وأبوه وجدُّه". أقول: ما هو بأحدهما. والله أعلم. 123 - عبد الله بن سليمان بن الأشعث أبو بكر بن أبي داود السجستاني. في [1/ 298] "تاريخ بغداد" (13/ 383 [394]) عنه أنه قال لأصحابه: "ما تقولون في مسألة ... ". قال الأستاذ (ص 68): "كذَّبه أبوه، وابنُ صاعد، وإبراهيم ابن الأصبهاني، وابن جرير. وهو ناصبي مجسِّم خبيث. روى أخلوقةَ التسلُّق عن الزهري كذبًا وزورًا، وقد شهد عليه بذلك شهود عدول هم الحفّاظ: محمَّد بن العباس الأخرم، وأحمد بن علي بن الجارود، ومحمد بن يحيى بن منده، وكاد أن يراق دمه في أصبهان بيد أميرها أبي ليلى لولا سعيُ بعض الوجهاء ممن كان يُجِلُّ أباه في استنقاذه بالطعن في أمثال هؤلاء الشهود. وهذا حاله، وإن راج على من لم يعرف دخائله. وكان هو في صفِّ أبي عبد الله الجصَّاص المكشوف الأمر ضد ابن جرير". أقول: أما كلام أبيه، فقال ابن عدي (¬2) - على ما في "الميزان" ¬

_ (¬1) (ط): "الهيثم" وفي "التاريخ" بطبعتيه: "الهيصم". (¬2) "الكامل": (4/ 265).

و"لسانه" (¬1) -: "حدثنا عليُّ بن عبد الله الداهري، سمعت أحمد بن محمَّد بن عمر (وفي "تذكرة الحفاظ" (¬2): محمَّد بن أحمد بن عمرو) بن كُرْكُرة، سمعتُ علي بن الحسين بن الجنيد، سمعت أبا داود يقول: ابني عبد الله كذاب. قال ابن صاعد: كفانا ما قال أبوه فيه". الداهري وابن كُرْكُرة لم أجد لهما ذكرًا في غير هذا الموضع. وقول ابن صاعد: "ما قال أبوه فيه" إن أراد هذه الكلمة، فإن كانت بلغَتْه بهذا السند، فلا نعلمه ثابتًا. وإن كان له مستند آخر، فما هو؟ وإن أراد كلمة أخرى، فما هي؟ وقد ارتاب الذهبي في الحكاية، فقال في "تذكرة الحفاظ" (ج 2 ص 302) بعد ذكر الحكاية بسندها: "وأما قول أبيه فيه، فالظاهر أنه - إن صح عنه - فقد عني أنه كذاب في كلامه، لا في الحديث النبوي. وكأنه قال هذا وعبد الله شابٌّ طري، ثم كبِر وساد". وقال ابن عدي (¬3) - مع حَشْره كلَّ ما قيل في عبد الله - قال كما في "الميزان": "ولولا ما شرطنا (يعني: مِنْ ذكرِ كلِّ من تُكلِّم فيه، وإن كان الكلام غير قادح) [1/ 299] لَما ذكرتُه ... وهو معروف بالطلب. وعامةُ ما كتَبَ مع أبيه هو مقبول عند أصحاب الحديث، وأما كلام أبيه، فما أدري أيشٍ تبيَّن منه؟ ". أقول: لم تثبت الكلمة. وقال ابن عدي: "سمعتُ عبدان يقول: سمعت ¬

_ (¬1) "الميزان": (3/ 147)، و"اللسان": (4/ 491). (¬2) (2/ 772). وفي "الكامل": "أحمد بن محمَّد بن عَمرو بن عيسى كركرة [ط: كركر] ... " وهو كذلك في "تاريخ دمشق": (29/ 86) بإسناده إلى ابن عدي. (¬3) (4/ 266).

أبا داود السجستاني يقول: ومن البلاء أن عبد الله يطلب القضاء". كان أبو داود على طريقة كبار الأئمة من التباعد عن ولاية القضاء، فلما طلبه ابنه كره ذلك. ومن الجائز - إن صحَّ أنه قال: "كذاب" - أن يكون إنما أراد الكذب في دعوى التأهل للقضاء والقيام بحقوقه. ومن عادة الأب الشفيق إذا رأى من ابنه تقصيرًا أن يبالغ في تقريعه. وقد قال الأستاذ (ص 163): "الإخبار بخلاف الواقع هو الكذب، والكذبُ بهذا المعنى يشمل الغالط والواهم ... فلا يُعتدُّ بقول من يقول: فلان يكذب، ما لم يفسِّر وجهَ كذبه". وأما ابن صاعد وابن جرير، فلم أجد لهما كلامًا غير قول الأول: "كفانا ما قال أبوه فيه" وقد تقدم، وقولِ الثاني لما قيل له: إن ابن أبي داود يقرأ على الناس فضائل علي بن أبي طالب: "تكبيرة من حارس"، وهذا ليس بجرح، إنما مقصوده أنه كما أن الحارس قد يقول رافعًا صوته: الله أكبر، لا ينوي ذكر الله عزَّ وجلَّ، وإنما يقصد أن يسمع السُّرَّاق صوتَه فيعرفوا أنه موجود يقظان، فلا يُقدِموا على السرقة، فكذلك قد يكون ابن أبي داود يروي فضائل علي ليدفع عن نفسه ما رماه بعض الناس من النَّصْب، وهو بغض علي رضي الله عنه. وقد قال الذهبي في "التذكرة" (¬1): "لا ينبغي سماع قول ابن صاعد فيه، كما لم يُعتدَّ تكذيبه لابن صاعد، وكذا لا يُسمع قولُ ابن جرير فيه، فإن هؤلاء بينهم عداوة بينة". أقول: وقد قدَّمتُ تحقيق هذا البحث في القواعد (¬2). ¬

_ (¬1) (2/ 772). (¬2) (ص 87 فما بعدها).

وأما ابن الأصبهاني، فقال ابن عدي: "سمعت موسى بن القاسم الأشيَب يقول: حدثني أبو بكر، سمعتُ إبراهيم الأصبهاني يقول: أبو بكر بن أبي داود كذاب". أبو بكر شيخ الأشْيَب يحتمل أن يكون هو ابن أبي الدنيا, لأنه ممن يروي عن إبراهيم، وممن يروي عنه الأشيب. ويحتمل أن يكون غيره, لأن أصحاب هذه الكنية في ذاك العصر ببغداد كثيرون، ولم يشتهر ابن أبي الدنيا بهذه الكنية بحيث إذا ذُكِرتْ وحدها في تلك الطبقة ظهر أنه المراد. [1/ 300] فعلى هذا لا يتبيَّن ثبوتُ هذه الكلمة عن ابن الأصبهاني. وابن أبي داود إن كان سِنُّه عند وفاة الأصبهاني سنة 266 فوق الثلاثين، فلم يكن قد تصدَّى للرواية في زمانه. قال الخطيب (¬1): "أخبرنا أبو منصور محمَّد بن عيسى الهمذاني، حدثنا أبو الفضل صالح بن أحمد الحافظ قال: أبو بكر عبد الله بن سليمان إمامُ أهل العراق وعَلَمُ العِلْم في الأمصار، نصَب السلطانُ المنبرَ، فحدَّث عليه لفضله ومعرفته. وحدَّث قديمًا قبل التسعين ومائتين. قدم همذان سنة نيف وثمانين ومائتين، وكتب عنه عامة مشايخ بلدنا ذلك الوقت. وكان في وقته بالعراق مشايخُ أسنَدُ منه ولم يبلغوا في الآلة والإتقان ما بلغ هو". بلى كان يذاكر، وربما يتعرَّض لأكابر الحفاظ يذاكرهم، فيتفق أن يكون عنده حديثٌ ليس عندهم، فتُعجبُه نفسُه، ويتكلم بما يُعَدُّ جرأةً منه وسوءَ أدب، فيُغضبهم، كما فعل مع أبي زرعة. قال: "قلت لأبي زرعة: "أَلْقِ عليَّ حديثًا غريبًا من حديث مالك. فألقى عليَّ حديثَ وهب بن كيسان عن ¬

_ (¬1) في "تاريخه": (9/ 465).

أسماء: لا تُحصي فيُحْصَى عليك. رواه لي عن عبد الرحمن بن شيبة وهو ضعيف. فقلت له: يجب أن تكتبه عني، عن أحمد بن صالح، عن عبد الله بن نافع، عن مالك. فغضب، وشكاني إلى أبي، وقال: انظر إلى ما يقول لي أبو بكر". هكذا في "تهذيب تاريخ ابن عساكر" (¬1) وغيره. فلعله كان يتعرَّض بمثل هذا لابن الأصبهاني، فاتفق أن وهِمَ ولَجَّ، فقال ابن الأصبهاني ما قال، إن صحَّت الحكاية عنه. فأما بعد أن تصدَّى للحديث، فإن الناس أكثروا السماع منه، وكان كثير من الحفاظ يُعادُونه ويتعطَّشون إلى أن يقفوا له على زلَّةٍ في الرواية, فلم يظفروا بشيء، ولم ينكر أحد عليه حديثًا واحدًا. وكانوا كلما استغربوا شيئًا من حديثه أبرَزَ أصلَه بسماعه من أبيه. وهو القائل: إذا تَشاجَرَ أهلُ العلم في خبرٍ ... فَلْيطلبِ البعضُ من بعضٍ أصولَهُمُ إخراجُك الأصلَ فعلُ الصادقين فإن ... لم تُخرِج الأصلَ لم تسلُكْ سبيلَهُمُ فاصدَعْ بعلم ولا تَرْدُدْ نصيحتَهم ... وأظهِرْ أصولَكَ إن الفرعَ مُتَّهَمُ (¬2) وأما النَّصْب، فقال ابن عدي (¬3) - على ما في "تذكرة الحفاظ" (¬4) -: ¬

_ (¬1) انظر أصله: (29/ 78). (¬2) كذا "وأظهر أصولك" في تاريخ بغداد (9/ 466) وتاريخ دمشق (29/ 85). ويصح إذا قلنا إن الواو من الخزم. لكن يبدو أن الصواب: "وأَظِهْرِ الأصلَ" وهو أقعد في السياق (الأصل ... الفرع). (¬3) (4/ 366). (¬4) (2/ 771).

"نُسِبَ في الابتداء إلى شيء من النصب، ونفاه ابن الفرات من بغداد إلى واسط. ثم ردَّه عليُّ بن عيسى، فحدَّث، وأظهر فضائل علي. ثم تحنبَلَ، فصار شيخًا منهم. وهو مقبول عند أصحاب الحديث". ولم يتحقق مَنْ الذي نسبه [1/ 301] إلى النصب؟ وما حجته في ذلك؟ وكان الرجل شكِسَ الأخلاق تيَّاهًا, وله أعداء. فإن كان شيء، فقد تاب وأناب. قال أحمد بن يوسف الأزرق: "سمعت أبا بكر بن أبي داود غير مرة يقول: كلُّ مَن بيني وبينه شيء - أو قال: كلُّ مَنْ ذَكَرني بشيء - فهو في حِلٍّ، إلا مَن رماني ببغض علي بن أبي طالب". وأما أُخْلوقةُ التسلُّق، فقال ابن عدي: "سمعت محمَّد بن الضحَّاك بن عمرو بن أبي عاصم يقول: أشهَدُ على محمَّد بن يحيى بن منده بين يدي الله [أنه] قال: أشهَدُ على أبي بكر بن أبي داود بين يدي الله أنه قال: روى الزهري عن عروة قال: حفيتْ أظافرُ فلان من كثرة ما كان يتسلَّق على أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ". محمَّد بن الضحاك هذا له ترجمة في "تاريخ بغداد" (ج 5 ص 376) لم يذكر فيه توثيقًا ولا جرحًا. وابن منده هو أحد الذين شهدوا بأصبهان فجُرِحوا (¬1). وقد ذكر الحافظان الأصبهانيان الجليلان أبو الشيخ عبد الله بن محمَّد بن جعفر بن حَيّان وأبو نعيم في كتابيهما في "تاريخ علماء أصبهان والواردين عليها" (¬2) أبا بكر بن أبي داود، وأثنيا عليه، ولم ¬

_ (¬1) انظر ما سلف من كلام الكوثري في أول الترجمة. (¬2) "طبقات المحدثين بأصبهان": (3/ 533 - 536)، و"تاريخ أصبهان": (2/ 26 - 27).

يتعرضا في ترجمته للقصة، لكن ذكراها في ترجمة محمَّد بن عبد الله بن الحسن بن حفص، فقال أبو الشيخ (¬1): "كان ورد أصبهان أبو بكر بن أبي داود السجستاني، وكان من العلماء الكبار. فكان يجتمع معه حفاظ أهل البلد وعلماؤهم، فجرى منهم يومًا ذكرُ علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، فقال ابن أبي داود: إن الناصبة يروون عليه أن أظفاره حَفِيت من كثرة تسلُّقه على أم سلمة. فنسبوا الحكاية إليه، وألغَوا ذكر الناصبة، وألَّبوا عليه جعفر بن شريك وأولاده ... ". وساق أبو نعيم (¬2) القصة بأتمَّ من ذلك قال: "محمَّد بن عبد الله بن الحسن بن حفص الهَمَذاني ... وهو الذي عمِلَ وسعَى في خلاص عبد الله بن أبي داود لمَّا أمر أبو ليلى الحارث بن عبد العزيز بضرب عنقه لمّا تقوَّلوا عليه. وكان رحمه الله احتسب في أمر عبد الله بن أبي داود السجستاني لمّا امتُحِن، وتشمَّر في استنقاذه من القتل. وذلك أن أبا بكر بن أبي داود قدم أصبهان، وكان من المتبحِّرين في العلم والحفظ والذكاء والفهم، فحسَده جماعةٌ من الناس، وأجرى يومًا في مذاكرته ما قالت الناصبةُ في أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، فإنَّ الخوارج والنواصب نسبوه إلى أنَّ أظافيره قد حَفِيت من كثرة تسلُّقِه على أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -. ونسبوا الحكاية إليه، وتقوَّلوا عليه، [1/ 302] وحرَّضوا عليه جعفرَ بن محمَّد بن شريك، وأقاموا بعضَ العلوية خصمًا له. فأُحضِرَ مجلسَ أبي ليلى ¬

_ (¬1) "طبقات المحدثين": (3/ 302 - 306). (¬2) "تاريخ أصبهان": (2/ 181 - 182).

الحارث بن عبد العزيز، وأقاموا عليه الشهادةَ - فيما ذُكِر - محمَّد بن يحيى بن منده، وأحمد بن علي بن الجارود، ومحمد بن العباس الأخرم؛ فأمر الوالي أبو ليلى بضرب عنقه. واتصل الخبر بمحمد بن عبد الله بن الحسن، فحضر الواليَ أبا ليلى، وجرَحَ الشهودَ. فنسب محمدَ بن يحيى إلى العقوق وأنه كان عاقًّا لوالده، ونسب ابنَ الجارود إلى أنه مُرْبي يأكل الربا ويؤكِّل الناس، ونسب الأخرمَ إلى أنه مفتري (¬1) غيرُ صدوق. وأخذ بيد عبد الله بن أبي داود، فأخرجه وخلَّصه من القتل. فكان عبد الله بن أبي داود يدعو لمحمد بن عبد الله طول حياته، ويدعو على الذين شهدوا عليه. فاستجيب له فيهم، وأصابت كلَّ واحد منهم دعوتُه. فمنهم من احترق (¬2)، ومنهم من خلَّط وفقَد عقلَه". فهذان حافظان جليلان من أهل البلد الذي جرت القضية فيه، وهما أعرف بالقصة والشهود. وبعد أن قضى الحاكم ببراءة ابن أبي داود، فلم يبق وجهٌ للطعن فيه بما برَّأه منه الحكم. وقد شهد ثلاثة خيرٌ من هؤلاء على المغيرة بن شعبة، وتلكَّأ الرابعُ، فحدَّ الصحابةُ الشهودَ ونجا المغيرةُ (¬3). ثم اتفق أهل السنة على أنه ليس ¬

_ (¬1) كذا في (ط) و"تاريخ دمشق": (29/ 88)، و"تاريخ الإِسلام": (7/ 305) للذهبي، وفي مطبوعة "تاريخ أصبهان": "مقرئ". (¬2) (ط): "احترف (!) " وهو تحريف كما نبَّه عليه المؤلف بعلامة التعجب، والمثبت من المصادر السالفة. (¬3) قد ثبتت هذه القصة من طرق ذكرتُ أكثرها في "إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل" (ج 8 ص 28 رقم 2361) طبع المكتب الإِسلامي. [ن].

لأحد أن يطعن في المغيرة بما برَّأه منه الحكم. فإن كان أهل العلم بعد ذلك عدَّلوا الثلاثةَ الذين شهدوا على ابن أبي داود، فليس في ذلك ما ينفي أن يكونوا كانوا حين الشهادة مجروحين بما جُرحوا به في مجلس الحكم، بل يقال: تابوا مما جُرحوا به، فلذلك عدَّلهم أهلُ العلم. وبعد، فقد كانت أم سلمة رضي الله عنها أتمَّ أمهات المؤمنين ولاءً لفاطمة عليها السلام وللحسن والحسين وأبيهما، وكان علي رضي الله عنه يثق بعظم ولائها، وبعقلها ورأيها ودينها، فكان يستنصحها ويستشيرها. فقد يكون بعضُ الناس روى أن عليًّا كان يتردد عليها لذلك، فأخذ بعض أعداء الله تلك الحكايةَ، وغيَّرها ذاك التغيير الفاجر! كما غيَّر بعضُهم حديث "أنت مني بمنزلة هارون من موسى" (¬1) فجعل بدل "هارون": "قارون"، كما تراه في ترجمة حريز بن عثمان (¬2). وكان من عادة المحدثين التباهي بالإغراب، يحرص كلٌّ منهم على أن يكون عنده من الروايات ما ليس [1/ 303] عند الآخرين؛ لتظهر مزيَّته عليهم. وكانوا يتعنَّون شديدًا لتحصيل الغرائب، ويحرصون على التفرُّد بها، كما ترى في ترجمة الحسن بن علي المَعْمَري من "لسان الميزان" (¬3) وغيره. وكانوا إذا اجتمعوا تذاكروا، فيحرص كل واحد منهم على أن يذكر شيئًا يُغرِب به على أصحابه بأن يكون عنده دونهم. فإذا ظفِر بذلك افتخَر به ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3706)، ومسلم (2404) من حديث سعد بن أبي وقاص. (¬2) انظر "تهذيب التهذيب": (2/ 239). (¬3) (3/ 71).

عليهم، واشتدَّ سروره وإعجابه وانكسارهم. وقد حكى ابن فارس عن الوزير أبي الفضل ابن العميد قال: "ما كنت أظن في الدنيا كحلاوة الوَزارة والرياسة التي أنا فيها حتى شاهدتُ مذاكرةَ الطبراني وأبي بكر الجعابي ... "، فذكر القصة، وفيها غلبة الطبراني. قال ابن العميد: "فخجل الجعابي، فوددت أن الوزارة لم تكن، وكنتُ أنا الطبراني، وفرحتُ كفرَحه". راجع "تذكرة الحفاظ" (ج 3 ص 121) (¬1). ولم يكونوا يبالون في سبيل إظهار المزية والغَلَبة أكان الخبر عن ثقة أو غيره، صحيحًا أو غير صحيح؟ وقد كان عند زكريا الساجي حديث عن رجل واهٍ، ومع ذلك لمَّا لم يوجد ذاك الحديث إلا عند الساجي صار له به شأن! وفي "لسان الميزان" (¬2): "قال الساجي: كتب عني هذا الحديثَ البزَّارُ وعبدانُ وأبو داود وغيرهم من المحدثين. قال القرَّاب: هذا حديث الساجي الذي كان يُسأل عنه". وكانت طريقتهم في المذاكرة: أن يشير أحدُهم إلى الخبر الذي يرجو أنه ليس عند صاحبه، ثم يطالبه بما يدل على أنه قد عرفه، كأن يقول الأول: مالك عن نافع قال .... فإن عرفه الآخر قال: حدثناه فلان عن فلان عن مالك. وقد يذكر ما يعلم أنه لا يصح أو أنه باطل، كأن يقول: المقبري عن أبي هريرة مرفوعًا: "أبغَضُ الكلام إلى الله الفارسية"، أو يقول: أبو هريرة ¬

_ (¬1) (3/ 915). (¬2) (3/ 522).

مرفوعًا: "خلق الله الفرس" إلخ. وقد تقدَّم في ترجمة حماد بن سلمة (¬1). وكان ابن أبي داود صَلِفًا تيَّاهًا حريصًا على الغلبة، فكأنه سمع بعض النواصب يروي بسند فيه واحد أو أكثر من الدجَّالين إلى الزهري أنه قال: "قال عروة ... ". فحفظ ابن أبي داود الحكاية، مع علمه واعتقاده بطلانها، لكن كان يُعِدُّها للإغراب عند المذاكرة. ولما دخل أصبهان ضايقَ محدِّثيها في بلدهم، فتجمَّعوا عليه، وذاكروه، فأعوزه أن يُغرِبَ عليهم، ففزع إلى تلك الحكاية فقال: "الزهري عن عروة ... ". فاستفظع الجماعةُ الحكايةَ. ثم بدا لهم أن يتخذوها [1/ 304] ذريعةً إلى التخلُّص من ذلك التيَّاه الذي ضايقَهم في بلدهم، فاستقرَّ رأيهم على أن يرفعوا ذلك إلى الوالي ليأمر بنفي ابن أبي داود، فيستريحوا منه، إذ لا يرون في القضية ما يوجب القتل. فلما أمر أبو ليلى بما أمر سُقِط في أيديهم، ورأوا أنهم إن راجعوه عاد الشرُّ عليهم. فقيَّضَ الله تبارك وتعالى ذلك السّريَّ الفاضلَ محمدَ بن عبد الله بن الحسن فخلَّصهم جميعًا. ومن الجائز أن يكون ابن أبي داود قَبْل نَفْيه من بغداد وقعت له مثلُ هذه الواقعة، ولكن كان أهل بغداد أعقلَ من أهل أصبهان، فاقتصروا على نسبته إلى النَّصْب ونفيه من بغداد. وعلى كلِّ حال، فقد أساء جدَّ الإساءة بتعرُّضه لهذه الحكاية مِن دون أن يَقرُنها بما يصرِّح ببطلانها. ولا يكفيه من العذر أن يقال: قد جرت عادتهم في المذاكرة بأن يذكر أحدُهم ما يرجو أن يُغرِب به على الآخرين بدون ¬

_ (¬1) رقم (85).

التزام أن يكون حقًّا أم باطلاً. لكن الرجل قد تاب وأناب كما تقدَّم، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، ولو كان الذنب كفرًا صريحًا. وبعد التوبة لا يجوز أن يُطعن في الرجل بما قد تاب منه، ولو كان كفرًا. والذين كانوا يشنِّعون على أبي حنيفة بأنه اسْتُتيب من الكفر مرتين، إنما كانوا يستروحون إلى أن عَوده إلى ما استتيب منه حتى استتيب ثانيًا كأنه يَرِيب في صحة توبته الأولى، وأنه بقي عنده ما يناسب ما استتيب منه وإن لم يكن كفرًا. وهذا تعنُّت سوَّغه عندهم أنهم احتاجوا إليه للتنفير عن اتباع أبي حنيفة فيما لم يرجع عنه مما يرونه أخطأ فيه. وبعدُ، فقد أطبق أهل العلم على السماع من ابن أبي داود وتوثيقه والاحتجاج به، ولم يبق معنى للطعن فيه بتلك الحكاية وغيرها مما مرَّ. فروى عنه الحاكم أبو أحمد، والدارقطني، وابن المظفر، وابن شاهين، وعبد الباقي بن قانع حافظ الحنفية، وأبو بكر بن مجاهد المقرئ، وخلق لا يحصَون. وتقدَّم قول أبي الفضل صالح بن أحمد التميمي الهمذاني الحافظ فيه: "إمام العراق وعَلَم العلم في الأمصار ... ". وتقدَّم أيضًا ثناءُ أبي الشيخ وأبي نعيم. وذكر السُّلَمي أنه سأل الدارقطني عنه، فقال: "ثقة إلا أنه كثير الخطأ في الكلام على الحديث". وقال الخليلي: "حافظ إمامُ وقته عالم متفق عليه. واحتج به من صنَّف الصحيح: أبو علي النيسابوري، وابن [1/ 305] حمزة الأصبهاني. وكان يقال: أئمة ثلاثة في زمن واحد: ابن أبي داود، وابن خزيمة، وابن أبي حاتم"، وقد طعن الأستاذ في هؤلاء الثلاثة كلِّهم، وعدَّهم مجسِّمين، يعني أنهم على عقيدة أئمة الحديث، وقد ذكرتُ

124 - عبد الله بن صالح

ما يتعلق بذلك في قسم الاعتقاديات (¬1). وقال محمَّد بن عبد الله بن الشخِّير في ابن أبي داود: "كان زاهدًا عالمًا ناسكًا، رضي الله عنه وأسكنه الجنة برحمته". 124 - عبد الله بن صالح: مرت الإشارة إلى حكايته في ترجمة الصقر (¬2). قال الأستاذ (ص 29): "كاتب الليث المختلط". أقول: لم يتبين لي أهو هو، أم عبد الله بن صالح العجلي أحد الثقات، أم غيرهما؟ وكاتب الليث لم يختلط، ولكن أُدخلت عليه أحاديث. وترى شرحَ ذلك والفصلَ فيه في "مقدمة فتح الباري" (¬3). (¬4) 125 - عبد الله بن عدي أبو أحمد الجرجاني الحافظ مؤلف "الكامل" وغيره: تعرَّض له الأستاذ (ص 169) قال: "كان ابن عدي - على بُعدِه من الفقه والنظر والعلوم العربية - طويلَ اللسان في أبي حنيفة وأصحابه". أقول: أبو أحمد إمام في الحديث ورجاله وعلله، واشتغالُه بذلك عن التبسُّط في الفقه والنظر لا يدل على بُعده عن التأهل لذلك، وكان عنده من ¬

_ (¬1) (2/ 335 وما بعدها). (¬2) رقم (111). (¬3) (ص 413). (¬4) عبد الله بن عثمان: الصواب: عبد الله بن عمر. يأتي. [المؤلف].

126 - عبد الله بن عمر بن الرماح

معرفة اللسان ما يكفيه. وأما طول لسانه، فذلك مقتضى مقامه وله في ذلك أسوة بأكابر أئمة السنة. (¬1) 126 - عبد الله بن عمر بن الرمَّاح: راجع "الطليعة" (ص 60 - 61) (¬2). وفي "تهذيب التهذيب" (ج 7 ص 447 وص 160) أنه يقال لعمر بن ميمون بن بحر بن الرماح والد عبد الله هذا "عمر بن الرماح"، يُنسب إلى جدِّه الأعلى. وهكذا وقع في "سنن الترمذي" (¬3) في "باب ما جاء في الصلاة على الدابة في الطين والمطر". ومن لازم هذا أن يقال لعبد الله هذا: "عبد الله بن عمر بن الرماح". فزَعْمُ الأستاذ في "الترحيب" (ص 44 - 45) أنني أنا تزيَّدْتُ في نَسَبِه ما شئتُ من الأسماء تهمةٌ باطلة. إنما بيَّنتُ ما قام عليه الدليل، فأما تصحيف "عمر" [1/ 306] إلى عثمان كعكسه، فكثير في الكتب. وقد ذكرتُ في "الطليعة" (¬4) شاهدَه من كلام الأستاذ نفسه. وإذا ذكر صاحبُ العلم أنه وقع في العبارة تصحيف أو نسبة للرجل إلى جده أو غير ذلك، فالمدار على الدليل. فإن كان معه دليل، فحقُّه أن يُشكر، وإلا فحقُّه أن يُعاب ويُزجر، ولا سيَّما إذا كان الدليل يدفع ما ذكره. فلا يكفي الأستاذَ في دفع ما انتقدتُه عليه من هذا القبيل مما يخالف الدليل أن ينتقد على ما وقع مني من ذاك ¬

_ (¬1) عبد الله بن علي بن المديني. راجع "الطليعة" (ص 69 - 70 [53 - 54]). [المؤلف]. (¬2) (ص 46). (¬3) (411). (¬4) (ص 46).

127 - عبد الله بن عمرو أبو معمر المنقري

القبيل حيث يقتضيه الدليل! بقي أن الأستاذ زعم أن عبد الله بن عمر بن ميمون بن بحر بن الرمَّاح مجهول الصفة. فأقول: قال ابن حبان في "الثقات" (¬1): "عبد الله بن عمر بن ميمون بن الرماح السعدي أبو عبد الرحمن البلخي قاضي نيسابور. روى عن مالك، ووكيع، وأهل العراق. حدَّثَنا عنه الحسين بن إدريس الأنصاري وعبد الله بن محمَّد الأزدي. مستقيم الحديث إذا حدَّث عن الثقات. وقد قيل: كنيته أبو محمَّد، وكان مرجئًا. مات سنة أربع وثلاثين ومائتين". وهذا من ابن حبان توثيق مقبول، كما يأتي في ترجمته (¬2). قال الأستاذ: "فلا يناهض ما تواتر ... ". أقول: أجل، لا يناهض ما صحَّ تواترُه، بل لا يناهض ما هو أثبتُ منه وإن لم يتواتر. فإن كان الذي يناقض خبرَ عبد الله هذا متواترًا حقًّا أو أثبتَ من خبر عبد الله على الأقل، اندفع خبرُ عبد الله. وليس هذا موضع النظر في ذلك، وقد عرفنا الأستاذ ودعاويه. والله الموفق. 127 - عبد الله بن عَمْرو أبو معمر المِنْقَري: في "تاريخ بغداد" (13/ 382 [391]) من طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: "حدثني أبو معمر قال: قيل لشريك ... ". قال الأستاذ (ص 64): "فإن كان عبدَ الله بن عمرو المنقري البصري، فهو ¬

_ (¬1) (8/ 357). (¬2) رقم (200).

قدري لا تُقبل روايته في حقَّ مخالفه في المذهب. وإن كان الهروي، فقد سبق. على أن لفظ أبي معمر لفظ انقطاع". أقول: هو الهرويُّ حتمًا، واسمه إسماعيل بن إبراهيم بن معمر تقدمت ترجمته (¬1). وفي ترجمته من "تهذيب التهذيب" (¬2): " ... نزيل بغداد روى عن ... وشريك ... وعنه البخاري ومسلم ... وعبد الله بن أحمد ... قال عبد الله بن أحمد: سمعتُ أبا معمر يقول: من زعم أن [1/ 307] الله لا يتكلم ولا يسمع ولا يبصر - وذكر أشياء من الصفات - فهو كافر بالله ... مات ... سنة 236". فأما المنقري، فبصري مُقعَد توفي سنة 224، وعبد الله بن أحمد ولد ببغداد سنة 213. وليس في ترجمته من "التهذيب" (¬3) ذكر روايته عن شريك ولا رواية لعبد الله بن أحمد عنه. وهو مع ذلك ثقة جليل. وما ذُكر به من القَدَر لا يقدح فيه، وقول الأستاذ: "لا تقبل روايته في حق مخالفه" قد تقدم النظر في ذلك في القواعد (¬4)، وكذلك النظر فيما يتعلق بقوله: "لفظ انقطاع" (¬5). وكلا الرجلين أعني: المنقري، والهروي غير مدلِّس. والله الموفق. ¬

_ (¬1) رقم (47). (¬2) (1/ 273 - 274). (¬3) (5/ 335). (¬4) (1/ 87 - 98). (¬5) (1/ 135 - 144).

128 - عبد الله بن محمد بن حميد أبو بكر بن أبي الأسود

128 - عبد الله بن محمَّد بن حميد أبو بكر بن أبي الأسود: في "تاريخ بغداد" (13/ 387 [403]) عنه "عن بشر بن مفضّل قال: قلت لأبي حنيفة ... ". قال الأستاذ (ص 78): "قال ابن أبي خيثمة: كان ابن معين سيِّئ الرأي في أبي بكر بن أبي الأسود". أقول: هذا مجمل. وقد جاء عن ابن معين أنه قال: "ما أرى به بأسًا". وجاء عنه أيضًا أنه قال: "لا بأس به، ولكنه سمع من أبي عوانة وهو صغير وقد كان يطلب الحديث". فهذا يفسِّر رواية ابن أبي خيثمة. وقال ابن المديني: "بيني وبين أبي الأسود ستة أشهر. ومات أبو عوانة وأنا في الكُتَّاب". ومولد ابن المديني سنة 161، وذكر هو أن وفاة أبي عوانة سنة 175، وقال غيره: سنة 176. فعلى ذلك يكون سنُّ ابن أبي الأسود حين وفاة أبي عوانة خمس عشرة سنة أو أكثر. وكان ابنَ أخت عبد الرحمن بن مهدي، فقد يكون ساعَدَه هو أو غيره في الضبط، وقد صحَّح الجمهورُ السماعَ في مثل تلك السنِّ وفيما دونها. نعم، يؤخذ من كلام بعضهم أن أبا عوانة توفي سنة 170 (¬1)، ووقع في "تاريخ جرجان" (¬2) لحمزة السهمي حكايةُ ذلك عن بعض الحفاظ، كما يأتي في ترجمة أبي عوانة (¬3). فعلى هذا يكون سنُّ ابن أبي الأسود نحو تسع ¬

_ (¬1) وقع في (ط): "270" خطأ. (¬2) (ص 481). (¬3) رقم (259).

سنين. لكن ذاك القول شاذ، ومع ذلك فابن تسع سنين قد يصح سماعه عندهم. والذي يرفع النزاع من أصله أنه ليس في سماع الرجل وهو صغير ما يوجب الطعن فيه. وإنما يتوجَّه الطعنُ إذا كان السماع غير صحيح، ومع ذلك كان الرجل يَبني عليه ويَروي بدون أن يبيَّن، وهذا منتف ها هنا. أما أوّلاً، فلأن احتمال صحة سماعه من أبي عوانة ظاهر، ولا سيما على المعروف من أن وفاة أبي عوانة كانت سنة خمس أو ست وسبعين ومائة. وأما ثانيًا، فلأن البخاري وأبا داود والترمذي [1/ 308] أخرجوا لابن أبي الأسود، ولم يذكروا شيئًا من روايته عن أبي عوانة. وذلك يدل على أحد أمرين: إما أن يكون ابن أبي الأسود لم يرو عن أبي عوانة شيئًا، وإما أن يكون ربما روى عنه مع بيان الواقع. وعلى هذا فيكون كلام ابن معين وابن المديني إنما هو على سبيل الاحتياط، عَلِما أنه سمع من أبي عوانة وهو صغير، فخشيا أن يَعْتَمِد على ذلك، فيروي من غير بيان. فأما حاله في نفسه وفي روايته عن غير أبي عوانة، فلا مَطْعَن فيه، وقد روى عنه البخاري في "صحيحه" (¬1)، وروى عنه أبو داود وهو لا يروي إلا عن ثقة عنده، كما في ترجمة أحمد بن سعد بن أبي مريم (¬2). وقال الخطيب: "كان حافظًا متقنًا" (¬3). وحكايته المتقدمة أولَ ¬

_ (¬1) في مواضع كثيرة. (¬2) رقم (18). (¬3) "تاريخ بغداد": (10/ 63).

129 - عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان أبو الشيخ الأصبهاني الحافظ

الترجمة من روايته عن بشر بن المفضَّل المتوفى سنة 187، أي حين كان سنُّ ابن أبي الأسود ستًا وعشرين سنة أو أزيد. والله الموفق. 129 - عبد الله بن محمَّد بن جعفر بن حَيّان أبو الشيخ الأصبهاني الحافظ: قال الأستاذ (ص 49): "صاحب "كتاب العَظَمة" و"كتاب السنة" وفيهما من الأخبار التالفة ما لا آخر له، وقد ضعَّفه بلديُّه الحافظ العسَّال بحق". أقول: أما ما في كتبه من الأخبار الواهية فهو كغيره من حفاظ عصره وغيرهم. قال ابن حجر في "لسان الميزان" (ج 3 ص 75) (¬1) في ترجمة الطبراني: "عاب عليه إسماعيل بن محمَّد بن الفضل التيمي جَمْعَه الأحاديثَ بالأفراد مع ما فيها من النكارة الشديدة والموضوعات ... وهذا أمر لا يختصّ به الطبراني ... بل أكثر المحدِّثين في الأعصار الماضية من سنة مائتين وهلمَّ جرًّا إذا ساقوا الحديث بإسناده اعتقدوا أنهم برئوا من عهدته". وقد مرَّ النظر في ذلك في ترجمة أبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني (¬2). فأما العسال، فهو أبو أحمد محمَّد بن أحمد بن إبراهيم بن سليمان الأصبهاني. له أيضًا - كما في ترجمته من "تذكرة الحفاظ" (ج 3 ص 97) (¬3) - "كتاب العظمة"، و"كتاب المعرفة في السنة"، و"كتاب الرؤية" وغيرها، ¬

_ (¬1) (4/ 125). (¬2) رقم (22). (¬3) (3/ 887).

ولعل فيها نحوَ ما في كتب أبي الشيخ. وما زعم الأستاذ أن العسال ضعَّف أبا الشيخ، فلم أظفر بذلك، إلا أني أذكر أنني قبل مدة وقفتُ على قصةٍ (¬1) في كتاب - لا أذكر الآن أيُّ كتاب هو؟ - جرت بين عالمين. فإن كانا هما العسال وأبا الشيخ، [1/ 309] فحاصل القصة - على ما أذكر - أن أبا الشيخ كان عنده حكاية يرى العسال أنها خطأ من بعض الرواة أو أن فيها مقالةً رجع عنها صاحبُها، وذكر العسَّالُ أنه سيهجر أبا الشيخ حتى يُخرج الحكاية من كتابه. وليس في هذا تضعيف، ولا أذكر في القصة ما يصح أن يُعَدَّ تضعيفًا (¬2). وعلى العالم أن لا يُعمِّيَ مصدرَه، فيتعبَ الناسُ ويرتابوا فيه. بل ينبغي له أن ينصَّ على مصدره، اللهم إلا أن يكون على طرف الثُّمام، كأن يقول في راوٍ: ضعَّفه فلان، وذلك موجود في ترجمة الرجل من "الميزان" مثلاً = فهذا لا حرج فيه. فأما من يُعمِّي مصدَرَه - ولا سيَّما في عصرنا هذا - فإنما يدل على أنه لأمرٍ ما يكره أن يعرفه الناس. والكتب التي بأيدينا ليس فيها إلا الثناءُ على أبي الشيخ وتوثيقُه وإطراؤه. فلم يذكره الذهبي في "الميزان" ولا ابن حجر في "اللسان" ولا أشار الذهبي إلى تليين له في "تذكرة الحفاظ". وهكذا عدة كتب أخرى توجد فيها ترجمته. وذلك - مع تعمية الأستاذِ لمصدره - كافٍ في الدلالة على أن ما زعمه الأستاذ غير صحيح، إما لعدم صحة إسناده، وإما لأنه ليس ما وقع بتضعيف، وإما لغير ذلك. ¬

_ (¬1) (ط): "قصته" تصحيف. (¬2) بل صرَّح بمدحه. انظر "السير": (16/ 122).

هذا، وقد كنت كتبتُ إلى بعض أهل العلم (¬1) أسألهم، فلم أحصل على خبر, إلا أن أحدهم أخبرني أنه اجتمع بالأستاذ الكوثري نفسه (¬2). ¬

_ (¬1) يقصد الشيخ أحمد شاكر (ت 1371) رحمه الله، فقد أرسل له المؤلف يسأله عن مسائل منها هذه وفيها: "أن الكوثري يقول في أبي الشيخ هذا: "ضعَّفه بلديُّه الحافظ أبو أحمد العسّال بحق" فأحب أن أعرف مستند الكوثري في ذلك. وفي ذهني قصة فيها: أن رجلاً من المحدثين هجر صاحبًا له في حكاية عن الإِمام أحمد تتعلق ببعض أحاديث الصفات، وقال الهاجر ما معناه: لا أزال هاجرًا له حتى يخرج تلك الحكاية من كتابه. هذه حكاية وقفت عليها قديمًا. ولم أهتد الآن لموضعها، ويمكن أن تكون الواقعة لأبي الشيخ والعسال وأن تكون هي مستند الكوثري". انظر الرسائل المتبادلة (ص 92) في المجلد الأول من هذه الموسوعة. (¬2) كذا انتهى الكلام في (ط). والذي اجتمع بالكوثري هو الشيخ سليمان الصنيع (ت 1389) رحمه الله، فقد جاء ذلك في رسالة (حصلت على نسخة منها) أجاب فيها عن رسالة للشيخ محمَّد نصيف يسأل فيها عن هذا الموضع من كتابنا هذا، فأجاب الصنيع بقوله: " ... وجوابي على ذلك: أني اجتمعت بالكوثري عدة مرات في داره بمصر في ذلك الحين، وسألته عن ذلك، فلم أحصل على نتيجة منه، ولو كان صادقًا فيما نسبه إلى أبي أحمد العسال لأوضحه لي حين سؤالي له، والذي يظهر لي أن الرجل يرتجل الكذب ويغالط كما يظهر ذلك مما أوضحه الشيخ عبد الرحمن في الطليعة وفي التنكيل. يضاف إلى ذلك أن الحافظ الذهبي قد ترجم لأبي الشيخ الأصبهاني في "تذكرة الحفاظ" ج 3 ص 945 من الطبعة الثالثة وكذا في "شذرات الذهب" من 3 ص 69 ... " وذكر توثيق الأئمة له ثم قال: " .. وهذا من الأدلة الواضحة على عدم صحة ما ذكره الكوثري من تضعيف أبي الشيخ، وقد بحثت في جميع الكتب الموجودة لدي ككتاب "الأنساب" للسمعاني ومختصره "اللباب" وكل الكتب المطبوعة التي ترجمت لأبي الشيخ فلم أجد شيئًا مما ذكره الكوثري ... هذا ما لدي أكتبه إليكم ... وأعتقد أن الشيخ عبد الرحمن قد وفى الموضوع حقه من الرد في كتاب التنكيل ... ".

130 - عبد الله بن محمد بن جعفر القزويني

130 - عبد الله بن محمَّد بن جعفر القزويني: في "تاريخ بغداد" (13/ 404 [429]): أخبرني أبو نصر أحمد بن الحسين القاضي بالدِّينَوَر، أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمَّد بن إسحاق السنِّي الحافظ، قال: حدثني عبد الله بن محمَّد بن جعفر، حدثنا هارون بن إسحاق، سمعت محمَّد بن عبد الوهاب القنَّاد يقول: حضرتُ مجلس أبي حنيفة، فرأيتُ مجلسَ لغوٍ لا وقار فيه. وحضرتُ مجلس سفيان الثوري، فكان الوقار والسكينة والعلم، فلزمتُه". قال الأستاذ (ص 125): "ليس أبا الشيخ ابن حيان, لأنه لم يدرك هارون بن إسحاق الهَمْداني المتوفى سنة 258 بل هو القاضي القزويني الكذَّاب المشهور الذي وضع على لسان الشافعي نحو مائتي حديث، ولم يرو الشافعي شيئًا من ذلك أصلاً، لكن الخطيب لا يتورع أن يروي بطريقه في مثالب أبي حنيفة، كما لا يتحرج أن [1/ 310] يروي بطريقه في مناقب الشافعي ... ولولا مثل هذه الأمور المكشوفة لما كانت السهام المصوَّبة إلى نحو الخطيب لِتصيبَ المقتل منه". أقول: أما الجزم بأنه ليس أبا الشيخ، ففي محلَّه. وأما الجزم بأنه القزويني، فليس بجيد؛ لأنهم لم ينصُّوا على أنه يروي عن هارون، ولا على أن ابن السني يروي عنه. وكتب الرجال التي بين أيدينا لم تستوعب الرواة. نعم، يظهر من كلام الذهبي في خطبة "الميزان" (¬1) أنه استوعب المتكلَّم فيهم، وأن من لم يذكره فهو إما ثقة وإما مستور. ومعلوم أن ذلك بحسب ما وقف عليه ولم يغفل عنه. وقد استدرك عليه مَنْ بَعْده جماعةً، ووقفتُ أنا في ¬

_ (¬1) (1/ 3 - 4).

الكتب الأخرى على أفراد مضعَّفين لم يُذكَروا في "لسان الميزان". وحاول جماعة استيعاب الثقات. والموجود بين أيدينا من (¬1) كتاب ابن حبان، وهو مختصٌّ بالقدماء هارون بن إسحاق وطبقته ومَن قبلهم. وكثيرًا ما يوجد في أسانيد كتب الحديث التي لم يعتن أهل العلم باستيعاب رواتها وكتبِ التاريخ وغيرها مما تُذْكَر فيه الأخبار بأسانيدها أسماءُ رواة لا نجدهم في الكتب التي بأيدينا. ومنها أسماء تشبه الموجودين في الكتب، ولكن تقوم القرائن على أن المذكور في السند رجل آخر. فإن فرضنا أن الخطيب التزم أن لا يروي في "تاريخه" شيئًا عن مثل القزويني، فهذه قرينة على أنه كان يرى أن هذا الرجل غير القزويني. وإن كان الخطيب لم يلتزم ذلك، وفرضنا أن هذا الرجل هو القزويني، وأن الخطيب عرف ذلك = فعذرُ الخطيب واضح، وهو أنه لم يلتزم أن لا يروي عن مثله مثل تينك الحكايتين. أما الحكاية التي في مناقب الشافعي، فإنما هي رؤيا لا تضع حكمًا ولا ترفعه، والمناقب مما يتسامح فيها. وقد تسامح الحنفية في رواية الأكاذيب المكشوفة والأحاديث الموضوعة في مناقب إمامهم، كما يأتي في ترجمة محمَّد بن سعيد البُورقي (¬2) مع أمثلة أخرى لا تحصى، وتبعهم الخطيب نفسه، فروى في مناقب أبي حنيفة كثيرًا من ذلك. بل تسامح الحنفية في الكتب التي يسمِّيها الأستاذ "المسانيد السبعة عشر"، وزاد عليهم الأستاذ، فاحتجَّ بأشياء من ذلك. ¬

_ (¬1) كذا في (ط). (¬2) رقم (207).

وأما الحكاية التي في صدر هذه الترجمة، فما يتعلق منها بالثوري ثابتٌ من غير وجه، كما يُعلم من مراجعة ترجمته في "تقدمة الجرح التعديل" (¬1) لكتاب ابن أبي حاتم، و"تاريخ بغداد" (¬2) وغيرهما [1/ 311] "حتى كان الرجل يجيء إلى المكان الذي فيه الثوري وأصحابه، فيقرب من المكان، فيحسبه خاليًا، فإذا فتح البابَ وجده غاصًّا بالناس". وما يتعلق بأبي حنيفة إنما المراد باللغو رفعُ الأصوات في المناظرة بالرأي، والمراد بالوقار خفض الأصوات. وعلى هذا؛ فمعنى ذلك ثابت أيضًا بروايات أخرى. ومع هذا فالقزويني إنما خلَّط في آخر عمره. فإن كان هو الواقع في السند وعَرَف الخطيبُ ذلك، فلعله علم أن سماع ابن السنِّي من القزويني قديم. قال مسلمة بن قاسم في القزويني: "كان كثيرَ الحديث والرواية, وكان فيه بأوٌ شديد وإعجاب. وكان لا يرضى إذا عورض في الحديث أن يُخرج لهم أصوله، ويقول: هم أهون من ذلك. قال: فحدَّثني أبو بكر المأموني - وهو من أهل العلم العارفين بوجوهه - قال: ناظرته يومًا، وقلت له: ما عليك لو خرَّجتَ لهم أصلاً من أصولك؟ فقال: لا ولا كرامة. ثم قام فأخرجها، وعرض عليّ كل حديث اتهموه فيه مثبتًا في أصوله". وقال ابن يونس: "كان محمودًا في القضاء، وكانت له حلقة بمصر، وكان يظهر عبادة وورعًا. وثقل سمعُه جدًّا، وكان يفهم الحديث ويحفظ ويُملي ويجتمع إليه الخلق. فخلَّط في الآخر، ووضع أحاديث ... " ثم قال: "مات بعد أن افتضح بيسير" (¬3). ¬

_ (¬1) (ص 55 - 125). (¬2) (9/ 153 وما بعدها). (¬3) ترجمته في "لسان الميزان": (4/ 574 - 576). ووقع في (ط): "أبو بكر المأمون".

131 - عبد الله بن محمد بن جعفر، المعروف بصاحب الخان بأرمية

131 - عبد الله بن محمَّد بن جعفر، المعروف بصاحب الخان بأُرْمِيَة: في "تاريخ بغداد" (13/ 398 [419]): "أخبرنا أبو نصر أحمد بن إبراهيم المقدسي بسَاوة (¬1)، حدثنا عبد الله (كذا) محمَّد (¬2) بن جعفر المعروف بصاحب الختان بأُرْمِيَة قال: حدثنا محمَّد بن إبراهيم الدَّيْبلي ... ". قال الأستاذ ص 111: "والله أعلم بحال من لا يعرف إلا بصاحب الخان بأرمية". أقول: وأنا لم أعرفه، ولا أدري ما الساقط أكلمة "بن" بعد عبد الله، أم كلمة "أبو" قبلها (¬3)؟ 132 - عبد الله بن محمَّد بن سيَّار الفَرْهَيَاني، ويقال: الفَرْهَاذاني: في "تاريخ بغداد" (13/ 412 [440]) من طريقه: "سمعت القاسم بن عبد الملك أبا عثمان يقول: سمعت أبا مُسهِر يقول: كانت الأئمة تلعن أبا فلان على هذا المنبر - وأشار إلى منبر دمشق. قال الفَرْهَياني: وهو أبو حنيفة". قال الأستاذ (ص 145): "من شيوخ ابن عدي ومحمَّد بن الحسن النقاش، ومن طرازهما في المعتقد، فلا يوثِّقه إلا مثلُه". وقال قبل ذلك: "لعنُ شخصٍ معيَّن ¬

_ (¬1) (ط): "بسادة" تحريف. (¬2) في الطبعة المحققة: (15/ 548): "عبد الله بن محمد". (¬3) الراجح هو الاحتمال الأول؛ لأنه جاء كذلك في موضع آخر من "التاريخ": (10/ 156)، وساقه ابن عساكر كذلك في "تاريخه": (32/ 425).

لا يكون فيه نصٌّ في الشرع على أنه من أهل النار يُعَدُّ ذنبًا عظيمًا في هذا الدين الحنيف ... على أن ... في رواية أبي مسهر [1/ 312] ... كانت الأئمة تلعن أبا فلان ... فجعل الفراهيناني (¬1) الخبيث أبا فلان أبا حنيفة من غير دليل ... ". أقول: قال الذهبي في "تذكرة الحفاظ" (ج 2 ص 255) (¬2): "الحافظ الإِمام الثقة ... روى عنه محمَّد بن الحسن النقاش المقرئ، وأبو أحمد بن عدي، وأبو بكر الإسماعيلي، وبشر بن أحمد الإسفرايني، وأبو عمرو بن حمدان، وغيرهم. قال ابن عدي: كان رفيقَ النسائي. وكان ذا بصر بالرجال، وكان من الأثبات. سألته أن يملي عليّ عن حرملة، فقال: حرملة ضعيف. ثم أملى عليّ ثلاثة أحاديث ولم يزدني". وقد حاول الأستاذ (ص 66) أن يجعل ابن أبي العوّام من الثقات الأثبات, لأنه روى عن النسائي، مع أن الرواية عن مثل النسائي أو مَن هو خير منه لا تدل على إسلام الراوي، فكيف عدالته! فكيف أن يكون من الثقات الأثبات! فأما مرافقة مثل النسائي في العلم وطلبه، فدلالتها على حُسْن حال المرافق ظاهرة. وابن عدي من أجلة أئمة الفن، وإن كره الأستاذ. ومعتقده هو السنة، بل هو الإِسلام، وإن رغم الجهمية! وقد تقدم الإشارة إلى هذا في قسم ¬

_ (¬1) كذا قال الأستاذ، وقال: "وقع في الطبعات الثلاث بدل (الفراهيناني): (الفرهياني)، وهو غلط". كذا قال. وفراهينان من قرى مرو، ليس منها هذا الرجل. وإنما هو من فرهاذان، فيقال له: "الفرهاذاني" على الأصل، و"الفرهياني" على التغيير كما في "معجم البلدان". [المؤلف]. (¬2) (2/ 716).

133 - عبد الله بن محمد بن عبد العزيز أبو القاسم البغوي ابن بنت أحمد بن منيع، وابن منيع، والمنيعي

القواعد (¬1)، وبسطت الكلام في العقائد في قسم الاعتقاديات (¬2). وأما لعن المعيَّن، فالخلاف فيه مشهور. ولعل من شدَّد في المنع منه إنما ذهب إلى سدِّ الذريعة لئلا يتوصل إلى لعن بعض الصحابة. على أنه قد كان يبلغ علماءَ دمشق عن أبي حنيفة كلماتٌ يرونها كفرًا وبعضُها مسطَّر في "التأنيب" نفسه، وظاهر أسانيدها الصحة. فلا مانع أن يبنُوا على ظاهر ذلك، ومن بنى على الظاهر فأخطأ، فهو معذور. وقول الفرهياني: "وهو أبو حنيفة" لم يقلها بغير دليل، وقد مرَّ في (الترجمة) نفسها من "تاريخ بغداد" (13/ 378 [385]) من طريق أبي مسهر نفسه: "قال سلمة بن عمرو القاضي على المنبر: لا رحم الله أبا حنيفة، فإنه أول من زعم أن القرآن مخلوق". والدعاء بعدم الرحمة هو معنى الدعاء بالإبعاد عنها، وهو معنى اللعن. فأما قول الأستاذ: "الخبيث"، فأدع حسابها إلى الله عزَّ وجلَّ. 133 - [1/ 313] عبد الله بن محمَّد بن عبد العزيز أبو القاسم البغوي ابن بنت أحمد بن منيع، وابن منيع، والمنيعي: في "تاريخ بغداد" (13/ 378 [385]): "أخبرنا العتيقي، أخبرنا جعفر بن محمَّد بن [علي] (¬3) الطاهري، حدثنا أبو القاسم البغوي، حدثنا زياد بن أيوب، حدثني حسن بن أبي مالك - وكان من خيار عباد الله - قال: ¬

_ (¬1) (1/ 87 - 98). (¬2) (2/ 283 وما بعدها). (¬3) سقط من (ط).

قلت لأبي يوسف القاضي: ما كان أبو حنيفة يقول في القرآن؟ قال: فقال: كان يقول: القرآن مخلوق. قال: قلت: فأنت يا أبا يوسف؟ فقال: لا. قال أبو القاسم: فحدَّثتُ بهذا الحديث القاضي البِرْتي، فقال لي: وأيّ حَسَنٍ كان! وأيّ حسن كان! يعني: الحسن بن أبي مالك. قال أبو القاسم: فقلت للبِرْتي: هذا قول أبي حنيفة؟ قال: نعم المشؤوم. قال: جعل يقول: أحدث بخلقي" (¬1). قال الأستاذ (ص 54): "هذه كذبة متراكبة على ألسنة أبي يوسف وابن أبي مالك وأحمد بن القاسم البِرْتي (*)، وثلاثتهم من أغْيَر أهل العلم على مذهب أبي حنيفة، وأرطبهم لسانًا في الثناء على أبي حنيفة. ولا أتهم بهذه الرواية السخيفة سوى أبي القاسم البغوي، إن كان الخطيب سمعها من العتيقي. وقد قال ابن عدي عن حاله عند أهل بغداد: وجدتُ الناس أهلَ العلم والمشايخَ مجمعين على ضعفه. وتجد بعد هذا الإجماع مَن يروي عنه. وكم أوقع الرواةَ تطلُّبُ العلوَّ في الرواية عن الضعفاء والهَلْكى! ولولا أن البغوي الحنبلي عاش وعلت سنُّه لما كان يروي عنه أحد ممن له شأن، لظهور مبدأ أمره كما سبق". أقول: أما غيرة أولئك الثلاثة على مذهب أبي حنيفة وثناؤهم عليه، فما يصحُّ من ذلك لا يمنع أن يخالفوه في تلك المقالة، كما خالفه أبو يوسف في مسائل لا تحصى، ولا مانع من أن يخبر بعضهم بعضًا بها, ولا أن يُخبر بها (¬2) الحسنُ زيادًا ليعلمه براءة أبي يوسف من تلك المقالة، ولا سيَّما إذا عُلم أنها مستفيضة عن أبي حنيفة. وكان حفيده إسماعيل بن حماد يصرخ ¬

_ (¬1) كذا في (ط) و"التاريخ" ط القديمة، وفي المحققة (15/ 519): "أحدث بِحَلْقي". (¬2) (ط): "يخبرها".

بها صراخًا أيام المحنة، وأنها دين أبيه وجدِّه (¬1). وجاء عن الحِمَّاني أنه حدَّثه عشرة كلُّهم ثقات أنهم سمعوا أبا حنيفة يقول هذه المقالة. والأستاذ وإن تكلم في الرواة، فهو يعترف، بل يتبجَّح بأن أبا حنيفة كان يقول ذلك. وكذلك لا مانع أن يخبر البِرْتيُّ البغويَّ، لعلمه بأنه قد علم ذلك وليعلمه براءته، مع أن الحسن والبِرْتي كانا من الاعتدال والاستقامة وحبِّ السنة بمكان، ولذلك أطاب أهلُ الحديث أنفسُهم الثناء عليهما. وأما البغوي، فإن أهل العلم بعده أجمعوا على توثيقه. هذا ابن عدي (¬2) بعد أن حطَّ عليه بما [1/ 314] لا يوجب جرحًا، لم ينكر عليه إلا حديثًا واحدًا أشار إلى أنه غلط في إسناده. فأثبت ابن حجر في "لسان الميزان" (¬3) أن الغلط من شيخ البغوي، وأن البغويّ بعد اطلاعه على أنه غلطٌ كفَّ عن روايته. ثم عاد ابن عدي، فأنصف وقال: "ولولا أني شرطتُ أن كلَّ من تُكُلِّمَ فيه (يعني ولو بكلام يسير لا يقدح) أذكره وإلا كنت لا أذكره". وأعرض الخطيب (¬4) عن كلام ابن عدي رأسًا. وذكره ابن الجوزي في "المنتظم" (ج 6 ص 229) وذكر بعض كلام ابن عدي، وأجاب عنه وقال: "هذا كلام لا يخفى أنه صادر عن تعصُّب". وقال الذهبي في "الميزان" (¬5): "تكلَّم فيه ابنُ عدي بكلام فيه تحامُل، ثم في أثناء الترجمة أنصف، ورجع عن الحطِّ عليه". ¬

_ (¬1) انظر "لسان الميزان": (2/ 114). (¬2) في "الكامل": (4/ 267). (¬3) (4/ 565 - 567). (¬4) في ترجمته: (10/ 110 - 115). (¬5) (3/ 206)

وإنما كان البغويّ عالي الإسناد، حديد اللسان، يفتخر على المحدثين في عهده في بلده، ويتكلم فيهم، فيتكلمون فيه بما ليس بموجبٍ جرحًا. وروى الخطيب أن ابن أبي حاتم سئل عن البغوي: يدخل في الصحيح؟ قال: نعم. وعن أبي بكر أحمد بن عبدان أنه سُئِلَ عن البغوي فقال: "لا شك أنه يدخل في الصحيح". وعن الدارقطني أنه سئل عن البغوي فقال: "ثقة جبل إمام من الأئمة ثبت أقلُّ المشايخ خطأ". وعن موسى بن هارون أنه سئل عن البغوي، فقال: "ثقة صدوق، لو جاز أن يقال لإنسان: إنه فوق الثقة، لقيل له". وقال الخطيب في أول الترجمة: "كان ثقة ثبتًا مكثرًا فهمًا عارفًا". وقال الذهبي في "التذكرة" (¬1): "واحتج به عامةُ من خرَّج الصحيح كالإسماعيلي والدارقطني والبَرْقاني ... وقال أبو يعلى الخليلي: البغوي شيخ معمَّر ... حافظ عارف، صنَّف مسندَ عمَّه، وقد حسدوه في آخر عمره، فتكلَّموا فيه بشيء لا يقدح فيه". ووثَّقه أيضًا مسلمة بن قاسم، كما في "لسان الميزان". فهذا هو الإجماع يا أستاذ! وهل يضرُّ البغويَّ بعد ذلك أن يتهمه مثلُك! وأما الخطيب، فقد تقدمت ترجمتُه (¬2)، وأنت تعرف صدقَه وثبتَه حقَّ المعرفة، وإن أظهرت التشكك! والله المستعان. (¬3) ¬

_ (¬1) (2/ 739). (¬2) رقم (26). (¬3) عبد الله بن محمَّد بن عثمان المزني الحافظ المعروف بابن السقاء. راجع "الطليعة" (ص 48 - 49 [36 - 37]). وراجع "تذكرة الحفاظ" (ج 3 ص 231 [965]). [المؤلف].

134 - عبد الله بن محمد العتكي

134 - عبد الله بن محمد العَتَكي: في "تاريخ بغداد" (13/ 325) من طريق [1/ 315] "الأبَّار، حدثنا عبد الله بن محمَّد العتكي البصري، حدثنا محمَّد بن أيوب الذارع قال: سمعت يزيد بن زُريع ... ". قال الأستاذ (ص 16): "العتكي والذارع مجهولان". أقول: لم أعرفهما بعد. وفي الرواة: حسين بن محمَّد بن أيوب الذارع، يروي عن يزيد بن زُرَيع وغيره، كما في ترجمته من "التهذيب" (¬1)، وهو بصري ثقة. فالله أعلم. 135 - عبد الله بن محمود: راجع "الطليعة" (ص 86 - 87) (¬2). زعم الأستاذ في "الترحيب" أنه لم يوثِّقه أحد من أهل عصره (¬3)، وأن الحاكم متأخر عنه، مع أن الحاكم لا يعتد به. فأما الذهبي فمتابع للحاكم. ثم أومأ الأستاذ إلى أن بعض أهل عصره وثَّقه، وأنني إذا فتَّشتُ وجدتُه. فأقول: لا حاجة إلى التفتيش، والحاكم أقرب إلى عبد الله بن محمود من ابن معين إلى أبي حنيفة! فضلاً عن التابعين وأتباعهم الذين يوثِّقهم ابن معين، ويعمل أهلُ العلم بتوثيقه لهم. والحاكم إمام مقبول القول في الجرح ¬

_ (¬1) (2/ 366). (¬2) (ص 67 - 68). (¬3) انظر ما يأتي في ترجمة عبيد الله بن عبد الكريم. [المؤلف].

136 - عبد الله بن معمر

والتعديل ما لم يخالفه مَن يَرْجَح عليه، وستأتي ترجمته (¬1). ولم يقتصر الذهبي على حكاية كلمة الحاكم، بل قال من عنده: "الحافظ الثقة". وفوق ذلك، فعبد الله من شيوخ ابن خزيمة كما في "تذكرة الحفاظ" (¬2)، ولعله روى عنه في "صحيحه"؛ ومن شيوخ ابن حبان كما في "معجم البلدان" (بُسْت) (¬3)، وذكره في "ثقاته" (¬4)، وذكر تاريخ وفاته. وتوثيق ابن حبان لمن عرفه حقَّ المعرفة من أثبت التوثيق، كما يأتي في ترجمته (¬5). 136 - عبد الله بن معمر: في "تاريخ بغداد" (13/ 382 [392]) من طريق أحمد بن مهدي، حدثنا عبد الله بن معمر، حدثنا مؤمّل بن إسماعيل ... ". قال الأستاذ (ص 65): "متروك، كما في (الميزان) ". أقول: الذي في "الميزان" (¬6) لا يتبين أهذا هو أم غيره. والحكاية التي ساقها الخطيب لها عنده عدة طرق أخرى. ¬

_ (¬1) رقم (215). (¬2) (2/ 718 - 719). (¬3) (1/ 415). (¬4) لم أجده في المطبوع منه. وقد أخرج له في "صحيحه" أحاديث منها (483، 827، 955، 1500 وغيرها). (¬5) رقم (200). (¬6) (3/ 221).

137 - عبد الأعلى بن مسهر أبو مسهر الدمشقي

137 - عبد الأعلى بن مُسْهِر أبو مُسْهِر الدمشقي: في "تاريخ بغداد" (13/ 372 [374]) من طريق "يعقوب بن سفيان، حدثني علي بن عثمان بن نفيل، حدثنا أبو مسهر، حدثني يحيى بن [1/ 316] حمزة ... ". قال الأستاذ (ص 39): "ممن أجاب في المحنة، فتُرَدُّ روايته مطلقًا عند من يَرُدُّ رواية من أجاب في المحنة". أقول: هذا إمام جليل من الشهداء في سبيل السنة، ومن فرائس الحنفية الجهمية؛ لمخالفته لهم في الفقه والعقيدة. ولم يُجِب بحمد الله تعالى، ومن زعم أنه أجاب فقد صرَّح بأن ذلك بعد تحقُّق الإكراه. قال ابن سعد (¬1): "أُشخِصَ من دمشق إلى المأمون في المحنة، فسئل عن القرآن، فقال: كلام الله. فدعي له بالسيف ليُضرب عنقُه، فلما رأى ذلك فقال: مخلوق. فأمر بإشخاصه إلى بغداد، فحُبِس بها. فلم يلبث إلا يسيرًا حتى مات". وقال أبو داود: "كان من ثقات الناس. لقد كان من الإِسلام بمكان، حُمِل على المحنة، فأبى. وحُمِل على السيف، فمدَّ رأسه. وجُرِّد السيفُ فأبى أن يجيب. فلما رأوا ذلك منه حُمِل إلى السجن، فمات" (¬2). وأبو داود أثبَتُ من عددٍ مثل ابن سعد، والظاهر أنه لم يحضر الواقعة واحد منهما، ولكن بعض الحاضرين لها من الجهميَّة أخبر بما ذكر ابن سعد، وبعض الحاضرين من أهل السنة أخبر بما ذكر أبو داود. ¬

_ (¬1) في "الطبقات": (9/ 477). (¬2) انظر "تاريخ بغداد": (11/ 74)، و"تاريخ دمشق": (33/ 436).

138 - عبد الرحمن بن الحكم بن بشير بن سلمان

والمشدِّد على الذين أجابوا في المحنة هو الإِمام أحمد، ومع ذلك لم يقل: لا تُقبل روايتُهم، وإنما كره الكتابة عنهم. وقد سلف بيان الوجه في ذلك في ترجمة إسماعيل بن إبراهيم بن معمر (¬1). ثم الظاهر أن ذاك خاصٌّ بمن أجاب قبل تحقُّق الإكراه. فأما أبو مسهر، فإن كان أجاب فبعد تحقُّق الإكراه. وقد أثنى عليه بعد موته الإِمام أحمد نفسه، قال أبو داود: "سمعت أحمد يقول: رحم الله أبا مسهر، ما كان أثبَتَه! ". 138 - عبد الرحمن بن الحكم بن بشير بن سلمان: في "تاريخ بغداد" (13/ 381 (¬2) [388]) من طريق "علي بن ياسر، حدثني عبد الرحمن بن الحكم بن شتر (؟ بشير) (¬3) بن سلمان، عن أبيه أو غيره - وأكبر ظني أنه عن غير أبيه - قال: كنت عند حماد بن أبي سليمان ... ". قال الأستاذ (ص 61): "ولم أر من وثقه". أقول: ذكر ابنُ أبي حاتم (¬4) في جملة من روى عن عبد الرحمن هذا أبا زرعة، ومن عادة أبي زرعة أن لا يروي إلا عن ثقة، كما في "لسان الميزان" (ج 2 ص 416) (¬5). وذكر ابن أبي حاتم عن إبراهيم بن موسى قال: ما رأيت ¬

_ (¬1) رقم (47). (¬2) وقع في (ط): (181) خطأ. (¬3) وهو كما صححه المؤلف في الطبعة المحققة: (15/ 522). (¬4) "الجرح والتعديل": (5/ 227). (¬5) (3/ 396).

139 - عبد الرحمن بن عمر الزهري أبو الحسن الأصبهاني الأزرق، المعروف برسته

أحدًا أفهَمَ لمشيخة أبي إسحاق الهَمْداني من عبد الرحمن [1/ 317] بن الحكم". قال ابن أبي حاتم: "سمعت محمَّد بن مسلم (بن وارة) يقول: كان عبد الرحمن بن الحكم أعلمَ الناسِ بشيوخ الكوفيين". ورأيت ابن أبي حاتم ينقل أشياء من كلامه جرحًا وتعديلاً (¬1)، وهذا يقتضي أنه عنده ممن يُقبل منه ذلك. (¬2) 139 - عبد الرحمن بن عمر الزّهْري أبو الحسن الأصبهاني الأزرق، المعروف برُسْته: في "تاريخ بغداد" (13/ 410 [436]) عنه، عن جَبَّر - وهو عصام بن يزيد الأصبهاني -: "سمعت سفيان الثوري يقول: أبو حنيفة ضال مضل". قال الأستاذ (ص 136): "رُسْته أصبهاني، ميلاده سنة 188 في رواية ابن أخيه قبل وفاة ابن مهدي بعشر سنين فقط، ويستبعد أن يجهل ابن أخيه ميلاده. ومع هذا يقال: إنه روى عن ابن مهدي ثلاثين ألف حديث، فلا يتصور هذا الإكثار لابن عشر. وقد انفرد ابن ماجه من أصحاب الأصول الستة بالرواية عنه. قال أبو موسى المديني: تكلم فيه أبو مسعود - وهو الحافظ البارع أحمد بن الفرات الرازي - كتب إلى أهل الري ينهاهم عن الرواية عنه. ويكثر الغريب في حديثه، وقال أبو محمَّد بن حيان: غرائب حديثه تكثر". ¬

_ (¬1) انظر "المزكون لرواة الأخبار" (ص 79) للحلّاف. (¬2) عبد الرحمن بن داود بن منصور. راجع "الطليعة" (ص 90 - 91 [70 - 71]). عبد الرحمن بن عبد الله بن راشد أبو الميمون البجلي. تقدم في ترجمة تمام [رقم 60]. [المؤلف].

أقول: في "تهذيب التهذيب" (¬1): "قال محمَّد بن عبد الله بن عمر بن يزيد (¬2): ولد عمِّي عبد الرحمن سنة 188، ومات سنة 255، وقال أبو الشيخ: مات سنة 246، ويقال: سنة 50". قال ابن حجر: "في صحة ما ذكر من مولده نظر، فإن أبا نعيم في "تاريخ أصبهان" وصفه بأنه كان راوية يحيى القطان وابن مهدي ... وابن مهدي مات سنة 198 ... ويحيى القطان مات أيضًا في أوائل سنة 98". أقول: وقفت على نسخة قلمية من "كتاب أبي الشيخ" ونسخة قلمية من "تاريخ أبي نعيم"، وفي كلٍّ منهما أنه مات سنة 246 (¬3)، ويقال: سنة 50. ولم يذكرا خلاف ذلك، ولا ذكرا مولده (¬4). ولم أجد فيهما ترجمة لابن أخيه. وذكرا أخاه عبدَ الله (¬5)، وأنه أيضًا راويةٌ لابن مهدي والقطان، وأنه توفي سنة 252. زاد أبو نعيم: "ولد سنة سبع وثمانين ومائتين" كذا (¬6)، وفي المطبوعة: سبع وثمانين ومائة. وذكر أبو نعيم (¬7) أخاهما محمَّد بن عمر، وقال: "توفي سنة [1/ 318] ثلاث وستين ومائتين، وله اثنتان وتسعون سنة، ¬

_ (¬1) (6/ 235). (¬2) (ط): "مزيد" تحريف والتصويب من "التهذيب" ومن سياق نسب عمّه. (¬3) وقع في (ط) مصحّفًا (346). (¬4) وهو كذلك في المطبوع من "طبقات المحدثين": (2/ 385)، و"تاريخ أصبهان": (2/ 72). (¬5) "طبقات المحدثين": (2/ 389)، و"تاريخ أصبهان": (2/ 8 - 9). (¬6) يعني في النسخة الخطية التي وقف عليها. (¬7) (2/ 157).

وكان أصغر الإخوة"! وكنت أخشى أن يكون في العبارة تصحيفًا (¬1)، لكن في النسخة المطبوعة (1/ 187) ما يوافقها, ولفظه: "توفي سنة ثلاث وستين ومائتين في الوباء، وله اثنتان وتسعون سنة". فعلى هذا يكون مولده سنة 171. فعلى أقل تقدير يكون مولد عبد الرحمن سنة 170. وذكر أبو الشيخ وأبو نعيم (¬2) ترجمةً لابن عبد الرحمن - وهو الحسن بن عبد الرحمن بن عمر - وأنه سمع من عثمان بن الهيثم، وعثمان بن الهيثم توفي سنة 220. وروى أبو نعيم (¬3) من طريق الحسن: "نا العلاء بن عبد الجبار"، والعلاء توفي سنة 212، وهو بصري نزل مكة، ومن البعيد أن يكون عبد الرحمن تزوَّج ووُلد له ورحل بابنه من أصبهان إلى مكة فسمع الحديث = كلُّ هذا وعمرُ عبد الرحمن نحو أربع وعشرين سنة. وروى أبو الشيخ (¬4) عن إبراهيم بن محمَّد بن الحارث عن أحمد بن حنبل قال: "ما ذهبتُ يومًا إلى عبد الرحمن بن مهدي إلا وجدتُ الأخوين الأزرقين عنده، يعني عبد الرحمن وأخاه". ولإبراهيم هذا عند أبي الشيخ وأبي نعيم ترجمة حسنة (¬5)، وإن لم يصرِّحا بتوثيقه. وفي "التهذيب" (¬6) في ترجمة عبد الرحمن هذا: "قال أحمد: ما ذهبت ¬

_ (¬1) كذا في الأصل. (¬2) "طبقات المحدثين": (3/ 124)، و"تاريخ أصبهان": (1/ 308 - 309). (¬3) لم أجد هذه الرواية في المطبوع فلعلها سقطت منه، إذ المؤلف ينقل من المخطوط. (¬4) (2/ 385). (¬5) "طبقات المحدثين": (3/ 356)، و"تاريخ أصبهان": (1/ 230). (¬6) (6/ 235).

إلى ابن مهدي إلا وجدته عنده". وابن مهدي قدم بغداد سنة ثمانين ومائة وفي التي تليها، وأخذ أحمد يتردد إليه من حينئذ. وربما كان الصواب في عمر محمَّد "اثنتان وسبعون سنة"، فلا يلزم أن يكون مولد عبد الرحمن على أقل تقدير سنة 170 كما مرّ. ومع ذلك فكلمة الإِمام أحمد وما تقدَّم من رواية الحسن بن عبد الرحمن: "حدثنا العلاء بن عبد الجبار" يدفع أن يكون مولد عبد الرحمن سنة 188. ولولا ذلك لقلت: لعله ولد أول سنة 188، وكان أخوه عبد الله أكبر منه بسنة، فوردا بغداد في سنة 196، وأحدهما في التاسعة، والآخر في العاشرة. وكان الوارد بهما رجل ثقة ثَبْت ذو جاه، فحظي عند ابن مهدي والقطان، فأقبلا على الإملاء على الغلامين بحضرة كلٍّ منهما، وضبط لهما سماعهما في أصول محققة، فاطلع أبو زرعة وأبو حاتم وابن وارة على تلك الأصول، فوجدوها مثبتة محققة، فاعتمدوا عبد الرحمن. والله أعلم بحقيقة الحال. وقال أبو موسى المديني: "تكلم فيه أبو مسعود، وخرج إلى الريّ فكتب إليهم فيه، فلم يبالوا بكتابه، وحضر مجلسه أبو حاتم وأبو زرعة وابن وارة". وقال ابن أبي حاتم (¬1): [1/ 319] "روى عن عبد الرحمن بن مهدي ويحيى بن سعيد القطان ... روى عنه أبي وأبو زرعة ... سئل أبي عنه، فقال: صدوق". ومن عادة أبي زرعة أن لا يروي إلا عن ثقة، كما في "لسان الميزان" (ج 2 ص 416) (¬2). وكلٌّ من أبي زرعة وأبي حاتم وابن وارة أجلُّ من أبي مسعود وأثبَتُ وأيقَظُ وأعرَفُ، فما رووا عن هذا الرجل عن ابن ¬

_ (¬1) "الجرح والتعديل": (5/ 263). (¬2) (3/ 396) وتقدمت الإشارة إلى ذلك مرارًا.

140 - عبد الرحمن بن محمد بن إدريس أبو محمد بن أبي حاتم الرازي

مهدي والقطان إلا وقد عرفوا صحة سماعه منهما. وأما الغرائب، فمَن كثر حديثُه كثرت غرائبُه، وليس ذلك بقدحٍ ما لم تكن مناكيرَ الحملُ فيها عليه، وليس الأمر هنا كذلك. وقد قال أبو الشيخ في أبي مسعود: "وغرائب حديثه وما ينفرد به كثير" (¬1). ويقول نحو هذا في تراجم آخرين وثَّقهم هو وغيره. وذكر ابنُ حبان عبدَ الرحمن هذا في "الثقات" (¬2). وفي ترجمة جبَّر من "كتاب أبي الشيخ" (¬3) من طريق [أبي] (¬4) سفيان صالح بن مهران عن جَبّر عن الثوري كلمة أخرى أشدُّ مما رواه عبد الرحمن، فهي في معنى المتابعة له، والله أعلم. (¬5) 140 - عبد الرحمن بن محمَّد بن إدريس أبو محمَّد بن أبي حاتم الرازي: في "تاريخ بغداد" (13/ 400 [421]) عنه: "حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي سريج قال: سمعت الشافعي يقول: سمعت مالك بن أنس، وقيل له: تعرف أبا حنيفة؟ فقال: نعم، ما ظنُّكم برجل لو قال: هذه السارية [من] ذهب، لقام دونها حتى يجعلها من ذهب (¬6)، وهي من خشب أو حجارة! قال ¬

_ (¬1) "طبقات المحدثين": (2/ 257). (¬2) (8/ 381). (¬3) (2/ 113). (¬4) سقطت من (ط) والاستدراك من كتاب أبي الشيخ، وترجمة صالح في "الجرح والتعديل": (4/ 413). (¬5) عبد الرحمن بن مالك بن مغول. تقدم في ترجمة الصقر [رقم 111]. [المؤلف]. (¬6) بعده في (ط): "أو فضة" ولا وجود لها في "التاريخ" ولا في "التأنيب".

أبو محمَّد: يعني أنه كان يثبت على الخطأ [ويحتجُّ دونه] (¬1) ولا يرجع إلى الصواب إذا بان له". تكلم الأستاذ في هذا (ص 114 - 116) وهو كلام طويل، فلنلخِّص مقاصده: الأول: أن المعروف في الحكاية "لقام بحجته" بدل "لقام دونها ... ". كذلك في "تاريخ بغداد" (13/ 335 [338]) و"المنتظم" لابن الجوزي. وكذلك في رواية أبي الشيخ عن أبي العباس الجمال عن [ابن] (¬2) أبي سريج. ومثلها في "طبقات الفقهاء" للشيرازي. الثاني: أن مقصود مالك مدح أبي حنيفة بقوّة العارضة. وقد روى ابن عبد البر من طريق "أحمد بن خالد الخلال: سمعت الشافعي يقول: سئل مالك ... قيل له: فأبو حنيفة؟ [1/ 320] قال: لو جاء إلى أساطينكم هذه - يعني السواري - فقايسكم على أنها من خشب لظننتم أنها خشب". الثالث: أن ابن أبي حاتم مع اعترافه بأنه يجهل علم الكلام - كما في "الأسماء والصفات" (ص 296) - يدخل في مضايق علم أصول الدين مباعدًا التفويض والتنزيه، كما يُعلم من كتابه "الرد على الجهمية"، ويقول: بأن قول: "لفظي بالقرآن مخلوق" كفرٌ مُخرِجٌ عن الملة. الرابع: أنه روى عن إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني ما فيه غضٌّ من أبي ¬

_ (¬1) مستدركة من "التاريخ" و"التأنيب"، وكذا ما قبلها. (¬2) سقطت من (ط).

حنيفة، مع علمه بانحراف الجوزجاني عن أهل الكوفة. الخامس: قال الأستاذ: "لو كشفنا الستار عما ينطوي ابن أبي حاتم عليه من الاعتقاد الرديء الحامل له على عِداء أهل الحق لطال بنا الكلام. فلنكتفِ بهذه الإشارة، ليعلم أنه لا يؤخذ منه إلا فنُّه فيما لا يكون مثارَ تعصبه". أقول: أما حكاية ابن أبي سريج عن الشافعي عن مالك، فرواية ابن أبي حاتم أثبتُ إسنادًا، فإنه حافظ ثقة ثبت قيَّدها في كتاب مصنَّف، وأبوه إمام. فأمَّا رواية الخطيب التي أشار إليها الأستاذ، فرواها عن البرقاني عن أبي العباس أحمد بن محمَّد بن حمدان، عن محمَّد بن أيوب، عن ابن أبي سريج. وشيخُ البَرْقاني هو - على اصطلاح الأستاذ -: مجهولُ الصفة، إنما ذكروا أن البرقاني سمع منه في أول أمره. ومحمد بن أيوب في تلك الطبقة وذاك البلد: اثنان، أحدهما: محمَّد بن أيوب بن يحيى بن الضريس الحافظ الثقة، والثاني: محمَّد بن أيوب بن هشام، كذَّبه أبو حاتم. ولا تُعرف لواحد منهما روايةٌ عن ابن أبي سريج، ولا عن واحد منهما رواية لابن حمدان. وقد روى الخطيب (13/ 394 [413]) من طريق القاسم بن أبي صالح، حدثنا محمَّد بن أيوب، أخبرنا إبراهيم بن بشار ... فقال الأستاذ (ص 97): "محمَّد بن أيوب بن هشام الرازي كذَّبه أبو حاتم". هذا مع أن ابن هشام هذا لا تُعْرَف له رواية عن إبراهيم، وإنما الذي يروي عن إبراهيم هو محمد بن أيوب بن يحيى بن الضريس، كما في ترجمة إبراهيم من "تهذيب المزي" (¬1). فإن أحبَّ الأستاذ فليعترف بأن محمَّد بن أيوب هناك ¬

_ (¬1) (1/ 103).

هو ابن يحيى بن الضريس، فنعترف له بأن الظاهر هنا أنه هو أيضًا، وإن لم نعرف له رواية عن ابن أبي سريج، لكن هو المشهور في تلك الطبقة [1/ 321] والمتبادر عند الإطلاق. ويبقى النظر في ابن حمدان. فأما رواية أبي الشيخ، فلم أقف عليها. فإن ثبتت عنه بقي النظر في حال أبي العباس الجمال. وقد ذكره أبو الشيخ وأبو نعيم (¬1)، فوصفاه بالعلم، ولم يوثقاه (*). فأما ما في "المنتظم"، فمأخوذ من رواية الخطيب. وكذلك ما في "طبقات الفقهاء" مأخوذ من رواية أبي الشيخ. فابن حمدان والجمال - على اصطلاح الأستاذ -: مجهولا (¬2) الصفة، فأين هما من ابنِ أبي حاتم؟ ومحمدُ بن أيوب بن يحيى الضريس وإن كان ثقة ثبتًا إلا أنه دون أبي حاتم، مع أن هناك احتمالاً أن محمَّد بن أيوب هو ابن هشام، وهذا الاحتمال وإن كان خلاف الظاهر لكنه لا يُهدر عند الحاجة إلى الترجيح. فأما رواية ابن عبد البر، ففي سندها أحمد بن الفضل، وهو - كما قال الأستاذ - "الدِّينَوَري". له ترجمة في "لسان الميزان" (ج 1 ص 246) (¬3) وفيها عن الحافظ ابن الفرضي " ... وكان عنده مناكير، وقد تسهَّل فيه الناسُ وسمعوا منه كثيرًا. وقال أبو عبد الله محمَّد بن يحيى: لقد كان بمصر يلعب به الأحداث ويسرقون كتبه، وما كان ممن يُكتَب عنه". وفيها عن أبي عمرو ¬

_ (¬1) "طبقات المحدثين": (4/ 220)، و"تاريخ أصبهان": (1/ 161). (¬2) (ط): "مجهول" والصواب ما أثبت. (¬3) (1/ 577).

الداني أنه بلغه أن أبا سعيد ابن الأعرابي كان يضعِّف أحمد بن الفضل هذا، ويتهمه. ومع ذلك فليست هذه الرواية من طريق ابن أبي سريج. فقد اتضح أن رواية ابن أبي حاتم هي الثابتة. وأما ما هو مقصود مالك، فالله أعلم. فقوله في رواية ابن أبي حاتم: "حتى يجعلها ذهبًا" يحتمل معاني: الأول: أن تكون "حتى" بمعنى "إلى"، و"يجعل" على حقيقته. أي: لقام دونها، وبقي على دعواه ومناظرته إلى أن يصير السارية ذهبًا، وذلك ما لا يكون. فالمعنى: أنه لا يرجع عن دعواه ومجادلته أبدًا، كما قال الله عَزَّ وَجَلَّ: {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40]. المعنى الثاني: أن تكون "حتى" بمعنى"إلى" أيضًا، و"يجعل ... " بمعنى يجعل في ظن السامع، أي: لا يزال يورد الشبهات إلى أن يخيِّل للسامع أن السارية ذهب. المعنى الثالث: أن تكون "حتى" بمعنى "كي"، و"يجعل ... " بمعنى يجعل في ظن السامع، أي: لقام يستدلُّ على أنها ذهب لكي يخيِّل إلى السامع ذلك. والمعنى الأول هو الذي فهمه ابن أبي حاتم، وهو ذم. والمعنى الثاني وصفٌ بقوة العارضة والقدرة على الجدل. والمعنى الثالث [1/ 322] وصفٌ باستمرار الموصوف على ما سبق أن قاله، ومحاولةِ أن يخيِّل للسامع صحته. وقوله في الرواية الأخرى: "لقام بحجته" ظاهر في المعنى الثاني، فإنه لا يمكن أن تكون هناك حجة حقيقة على أن الحجر أو الخشب ذهب،

وإنما قد يمكن أن تورَد شبهة يتوهم السامع أنها حجة. وهذا المعنى - كما تقدَّم - وصفٌ بقوة العارضة والقدرة على الجدل، وهو فيما بين الناس مدح. فأما بالنظر إلى الأحكام الشرعية، فيحتمل المدح بأن يكون المقصود أن أبا حنيفة كان من القدرة على بيان الحق وإقامة الحجة عليه غايةً، بحيث لو فُرِضَ أنه ادعى الباطل لأمكنه أن يخيِّل للسامع أنه حقٌّ، فما بالك بالحق؟ ويحتمل الذمَّ بأن يكون المقصود أنه كان ماهرًا في الجدل والمخاصمة بحيث يُري الباطلَ حقًّا والحقَّ باطلاً. وزَعْمُ الأستاذ أن ابن أبي حاتم إنما سمع الحكاية بلفظ: "لقام بحجته"، فغيَّرها إلى ما وقع في روايته ليصرفَها إلى الذم = تهمة باطلة، وفرية كاذبة، وبهتان عظيم! أولاً: لما ثبت من ديانة ابن أبي حاتم وأمانته وصدقه وورعه. ثانيًا: لأن اللفظ الواقع في روايته يحتمل أن يكون مدحًا كما مرَّ، فلو كان ممن يستحلُّ التغيير لغَيَّر إلى لفظ صريح في الذم، واستغنى عن التفسير الذي يمكن أن يُنازَع فيه. ثالثًا: لفظ: "لقام بحجته" يحتمل أن يكون ذمًّا أيضًا كما مرَّ، فلو كان ابن أبي حاتم حريصًا على أن يحمل الحكاية على الذم لأمكنه أن يفسِّر هذا اللفظ بما يقتضي الذم، ويحتجَّ بقول الله عزَّ وجلَّ: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58] وبعدَّة أحاديث معروفة. فما الذي يُلجئ ابنَ أبي حاتم إلى أن يضحِّي بأمانته في النقل - وهي رأسُ مالِ مثلِه - لأجل غرضٍ يمكنه تحصيله بدون تلك التضحية؟

ولو فرضنا أن الحكاية رويت عن ابن أبي سريج من عدة أوجه صحيحة وثيقة يجب ترجيحها على رواية ابن أبي حاتم لما ساغ أن يُتَّهم، بل يحمل على أنه سمع الحكاية، ففهم منها المعنى الذي يظهر من اللفظ الذي عبَّر به، ولم يكتبها. ثم مضت عليها مدة، فاحتاج إلى أن يذكر الحكاية، فلم يتذكر لفظها، فعبَّر عنها بما يراه يؤدِّي ذلك المعنى الذي فهمه. واحتاط، فلم يأت بلفظ صريح، بل أتى بلفظ محتمل، ثم فسَّره بالمعنى الذي فهمه. ومثلُ هذا أو [1/ 323] أشدُّ منه قد يتفق في الأحاديث النبوية لمن هو أجلُّ من [ابن] (¬1) أبي حاتم، ثم لا يكون موجبًا وَهْنًا ما في الراوي. أما الأمر الثالث، فقد أجبتُ عنه في قسم الاعتقاديات (¬2). وإن صح عن ابن أبي حاتم إطلاق أن قول: "لفظي بالقرآن مخلوق" كفرٌ مُخرج عن الملة، فمرادُه بذلك قولُ تلك الكلمة معنيًّا بها أن القرآن مخلوق. وأهل العلم قد يحكمون على الأمر بأنه كفر، ولا يحكمون بأن كل من وقع منه خارج عن الملة؛ لأن شرط ذلك أن لا يكون له عذر مقبول. ويأتي مثل هذا في الزنا والربا وغيرهما. وقد جاء في الحديث تعريف الغيبة بأنها ذكرُك أخاك بما يكره، وقد يذكر المؤمنُ أخاه بما يكره غيرَ شاعرٍ بأنه يكرهه بل ظانًّا أنه يحبه، فلا يلحقه الإثم، وإن صح أن يسمَّى ما وقع منه غيبة، وصح أن يقال: الغيبة حرام يأثم صاحبها. وقد قال الله تبارك وتعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ ¬

_ (¬1) سقطت من (ط). (¬2) (2/ 334 - 336).

أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106]. المختار في معنى الآية أن التقدير: "من كفر بالله بعد إيمانه فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم، إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان,، فحذف هذا الجواب، وهو قولنا "فعليهم غضب ... " لدلالة ما بعد ذلك عليه. فدل الاستثناء على أن من أُكره، فأظهر الكفرَ، وقلبُه مطمئنٌّ بالإيمان, فقد كفر من بعد إيمانه، وإن كان لا غضب عليه ولا عذاب. ومع هذا فقد أُطلق في القرآن في مواضع كثيرة ترتُّبُ العقوبة على الكفر. فعُلِمَ بذلك جوازُ ذاك الإطلاق، وإن كان الحكم مختصًّا بغير المكره؛ لأنه قد قام الدليل على إخراج المكره، فلا محذور في الإطلاق. فكذلك هنا لا حرج في إطلاق أن قول تلك الكلمة كفر مخرج عن الملة. وإن كان هذا الحكم مختصًّا بمن ذكرنا. وأما الأمر الرابع، فقد سلف الجواب عنه في ترجمة الجوزجاني (¬1). وأما الأمر الخامس، فجوابه في قسم الاعتقاديات (¬2)، وفي القاعدة الثالثة من قسم القواعد (¬3). أما قوله: "لا يؤخذ منه إلاَّ فنه فيما لا يكون مثار تعصُّبه" إن أراد به ردَّ ما ¬

_ (¬1) رقم (10). (¬2) (2/ 531 وما بعدها). (¬3) (1/ 71 - 86).

141 - عبد الرزاق بن عمر البزيعي.

يرويه ابن [1/ 324] أبي حاتم مما فيه غضٌّ من أبي حنيفة وأصحابه فقد أبطل، وأتى بما لا يستحق أن يُذْكَر، فكيف أن يقبل؟! وإن أراد ردَّ رأي ابن أبي حاتم، كقوله في تفسير تلك الكلمة: "يعني أنه كان يثبت على الخطأ ... "، فلا وجه للرد، ولكن ينبغي التثبت والتدبر. فإن تبيَّن خطأ ابن أبي حاتم رُدَّ عليه خطؤه، كما يُرَدُّ على غيره. وإن تبيَّن صوابه وجب القبول. وإن لم يظهر ذا ولا ذا نظرنا، فإن كان ذاك حكمًا منه في جرح أو تعديل كقوله: "فلان ثقة" أو "فلان ضعيف" وجب قبوله إلا أن يعارضه ما هو أولى بالقبول منه. وراجع ترجمة ابن أبي حاتم في "تذكرة الحفاظ" (ج 3 ص 46) (¬1). وفي مقدمتي لكتابه "الجرح والتعديل" (¬2). (¬3) 141 - عبد الرزاق بن عمر البَزِيعي. في ترجمة أبي يوسف من "تاريخ بغداد" (14/ 256) حكاية من طريقه عن ابن المبارك. قال الأستاذ (ص 178): "ليس في ترجمة أبي يوسف عند الخطيب كلمة تُعْزى إلى ابن المبارك إلا في سندها من لا يجوز الاحتجاج به، ومن هو غير ثقة، مثل ... وعبد الرزاق بن عمر". أقول: قال الراوي عنه محمَّد بن عبيد بن عتبة الكندي: "كان من خيار ¬

_ (¬1) (3/ 829 - 832). (¬2) (1/ ص د - ط). وهي ضمن المقدمات في هذه الموسوعة المباركة. (¬3) عبد الرحمن بن هانئ أبو نعيم البجلي. في ترجمة ضِرار بن صُرَد [رقم 112]. [المؤلف].

142 - عبد السلام بن عبد الرحمن الوابصي.

الناس"، وذكره ابن حبان في "الثقات" (¬1). 142 - عبد السلام بن عبد الرحمن الوابصي. في "تاريخ بغداد" (13/ 387 [401]) من طريقه: "حدثني إسماعيل بن عيسى بن عليّ الهاشمي قال: حدثني أبو إسحاق الفَزَاري قال: كنت آتي أبا حنيفة أسأله عن الشيء من أمر الغزو، فسألته عن مسألة، فأجاب فيها ... ". قال الأستاذ (ص 77): "عَزَله يحيى بن أكثم لسبب لا بد أن يكون غير ضعفه في الفقه، ثم أعاده الحشوية إلى القضاء حينما قامت لهم سوق". أقول: روى عنه مسلم في مقدمة "صحيحه" (¬2)، وأبو داود في "سننه" (¬3)، وأبو داود لا يروي إلا عن ثقة، كما تقدم في ترجمة أحمد بن سعد (¬4). وذكره ابن حبان في "الثقات" (¬5). وفي "التهذيب" (¬6): "قال أبو علي بن خاقان: أحسن أحمدُ القولَ فيه [و] قال: ما بلغني إلاَّ خير. وقال أحمد بن كامل: كان عفيفًا، قال: وبلغني أن المتوكل قال ليحيى: لم عزلته؟ قال: أراه [1/ 325] ضعيفًا في الفقه. قال: فكتب المتوكل إلى أهل بغداد ¬

_ (¬1) (8/ 412). (¬2) (1/ 27). (¬3) (948). (¬4) رقم (18). (¬5) (8/ 428). (¬6) (6/ 323).

143 - عبد السلام بن محمد الحضرمي.

كتابًا، وكتب عهدًا, ولم يسمِّ القاضي، وأمر أن يُسأل عن الوابصي، فإن رضوا به وقع اسمه في العهد، فأجمعوا على الرضا به. وقال طلحة بن محمَّد بن جعفر: "كان جميل الطريقة". كان الوابصي سُنِّيًّا، فكأنَّ الجهميةَ ألحُّوا على يحيى بن أكثم في عزله، فعزله اتقاءً لشرّهم. فلما كان في خلافة المتوكل بعد ارتفاع المحنة كانوا ربما يسألون الإِمام أحمد عمن يريدون توليته القضاء، فسألوه عن محمَّد بن شجاع ابن الثلجي الجهميّ الذي تقدم شيءٌ من حاله في ترجمة حماد بن سلمة (¬1)، فقال أحمد: لا ولا على حارس. وكأنه سئل عن الوابصي، فقال: ما علمتُ إلا خيرًا. فقال المتوكل ليحيى بن أكثم: لِمَ عزلته؟ فكأنه خاف أن يقول: إرضاءً للجهمية، فأجاب بما تقدم. فكأن الأستاذ أشار إلى هذا، كأنه أراد أن الوابصي - كما يقول - من الحشوية. وأراد بالحشوية أهلَ السنة الإمامَ أحمد وأصحابَه وموافقيه. ولا أجازي الأستاذ على هذا, ولكني أقول: الموفَّق حقًّا من وُفِّق لمعرفة الحقّ واتباعه ومحبته، والمحروم من حُرِمَ ذلك كلَّه، فما بالك بمن وقع في التنفير من الحق وعيب أهله! 143 - عبد السلام بن محمَّد الحضرمي. مرت الإشارة إلى روايته في ترجمة بقية (¬2). قال الأستاذ (ص 186): "يقول عنه أبو حاتم: صدوق. إلا أن هذا اللفظ مصطلح عنده فيمن يجب النظر في أمره، فيكون مردود الرواية إذا لم يتابَع. ولم ¬

_ (¬1) رقم (85). (¬2) رقم (59).

144 - عبد العزيز بن الحارث أبو الحسن التميمي.

يتابع". أقول: أبو حاتم رحمه الله معروف بالتشدّد، قلّما وجدته يقول في رجل: "هو صدوق" إلا وقد وثَّقه غيرُه، وعبد السلام هذا ذكره ابن حبان في "الثقات" (¬1). وتفرّدُه بتلك الحكاية لا يضرُّه. والله الموفق. 144 - عبد العزيز بن الحارث أبو الحسن التميمي. مرّ في ترجمة الخطيب أحمد بن علي بن ثابت (¬2) تجنَّي ابن الجوزي على الخطيب أنه مال على أبي الحسن، ووعدتُ أن أفرد له ترجمةً أوضِّح فيها ما ظهر لي أن الخطيب إما مصيب مشكور وإما مخطئ معذور. ترجمة أبي الحسن في "تاريخ بغداد" (10/ 461) وذكر فيها أمرين، وذكر في ترجمة ابنه عبد الوهاب (11/ 33) ثالثًا، وهي هذه: الأول: قال: "حدثني الأزهري قال: قال لي أبو الحسن بن رزقويه: وضع أبو [1/ 326] الحسن التميمي في "مسند أحمد بن حنبل" حديثين، فأنكر أصحابُ الحديث عليه ذلك، وكتبوا محضرًا أثبتوا فيه خطوطهم بشرح حاله. قال الأزهري: ورأيت المحضر عند ابن رزقويه، وفيه خطُّ الدارقطني وابن شاهين وغيرهما". الثاني: قال الخطيب: "حدثني أبو القاسم عبد الواحد بن علي العُكْبري قال: حدثني الحسن بن شهاب عن عمر بن المسلم قال: حضرت ¬

_ (¬1) (8/ 427 - 428). (¬2) رقم (26).

مع عبد العزيز بن الحارث الحنبلي بعض المجالس، فسئل عن فتح مكة أكان صلحًا أو عَنوة؟ فقال: عَنوة. فقيل: ما الحجة في ذلك؟ فقال: ثنا أبو علي محمَّد بن أحمد بن الصواف، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني أبي، حدثنا عبد الرزاق، عن مالك - أو معمر قال عبد الواحد: أنا أشك - عن الزهري، عن أنس: أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اختلفوا في فتح مكة أكان صلحًا أو عَنوة؟ فسألوا عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "عَنوة". قال ابن المسلم: فلما خرجنا من المجلس قلت له: ما هذا الحديث؟ قال: ليس بشيء، وإنما صنعتُه في الحال لأدفع به الخصم". الثالث: قال الخطيب في ترجمة عبد الوهاب: "حدثنا عبد الوهاب بن عبد العزيز بن الحارث بن أسد بن الليث بن سليمان بن الأسود بن سفيان بن يزيد بن أكينة بن عبد الله التميمي قال: سمعت أبي يقول ... ". فساق السند مسلسلاً بالآباء إلى أكينة "يقول: سمعت عليًّا، وسئل عن الحنّان المنّان ... ". وساق الذهبي في ترجمة أبي الحسن من "الميزان" (¬1) بالسند إليه قال: "سمعت أبي ... " بسلسلة الآباء إلى "أكينة يقول: سمعت أبي الهيثم يقول: سمعت أبي عبد الله يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما اجتمع قوم على ذِكْر إلا حفَّتْهم الملائكة، وغشيَتْهم الرحمة". قال الذهبي: "المتَّهَمُ به أبو الحسن. وأكثر أجداده لا ذكر لهم في تاريخ ولا في أسماء رجال". فأما الأمر الأول، فأجاب عنه ابن الجوزي في "المنتظم" (ج 7 ¬

_ (¬1) (3/ 339).

ص 110) بقوله: "يجوز أن يكون قد كتب في بعض المسانيد من مسند آخر، ومن مسموعاته من غير ذلك المسند. متى كان الشيء محتملًا لم يجُز أن يُقطَع على صاحبه بالكذب، نعوذ بالله من الأغراض الفاسدة، على أنها تحول على صاحبها" (¬1). [1/ 327] أقول: يقع في بعض مسانيد الصحابة من "المسند" أحاديث لصحابي آخر. ففي مسند ابن عباس من "المسند" (ج 1 ص 258) (¬2) حديث من رواية أبي هريرة مرفوعًا، وفي الصفحة التي تليها (¬3) حديث من رواية أنس مرفوعًا, ولذلك نظائر. فكأنَّ مقصود ابن الجوزي أنه يجوز أن يكون أبو الحسن حوَّل الحديثين المذكورين مثلاً، فألحق الأول في مسند أبي هريرة، والثاني في مسند أنس. ولا يخفى بعدُ هذا الاحتمال، إذ لو كان هذا هو الواقع لما كان هناك ما يدعو الحفّاظ الأثبات كالدارقطني وابن شاهين إلى شدة الإنكار وكتابة المحضر، ولَمَا عبَّر ابن رزقويه بقوله: "وضع أبو الحسن". فأما قول ابن الجوزي: "ومن مسموعاته"، فكأنه أراد به أنه إن لم يكن ذانك الحديثان من "المسند" فيجوز أن يكون سمعهما أبو الحسن خارج "المسند" بسند "المسند"، كأن يكون "المسند" عنده من روايته عن ابن ¬

_ (¬1) أقول: وهناك احتمال ثالث لم يذكره ابن الجوزي، وهو أن يكون قد وقعت له أحاديث من بعض نسخ "المسند" أو رواياته، فألحقها في نسخته أو في الرواية التي لم تقع فيها تلك الزيادات ولم يبين مصدر هذه الأحاديث الزائدة. (¬2) رقم (2342). (¬3) رقم (2346).

الصواف عن عبد الله بن أحمد عن أبيه، وسمع بهذا السند نفسه حديثين مفردين، فألحقهما في "المسند". وهذا الاحتمال أقرب من الأول، وعليه فلم يكن من أبي الحسن وضعٌ ولا افتراء. ويبقى النظر في صورة إلحاقه، فإن كان إنما علَّقهما في الحاشية على سبيل الفائدة الزائدة لا على إيهام أنهما من "المسند"، فهذا لا محذور فيه أصلاً. وإن كان أدرجهما في "المسند" موهمًا أنهما منه، فقد أساء، إلا أنه لا يكون ذلك وضعًا للحديث وافتراءً له. وإنكار الحفاظ وكتابة المحضر وقول ابن رزقويه: "وضع ... في (مسند أحمد) " يدلُّ أن الواقع لم يقتصر على الكتابة في الحاشية بدون إيهام. وقد وقع التقصير من الجانبين؛ قصَّر الأزهري عن تفصيل القضية، فلم يذكر ما هما الحديثان، وما قال الحفّاظ؟ وقصَّر محدّثو الحنابلة، فلم يراجعوا عند كتابة المحضر، ولم ينقلوا بيان الحال إن كان الواقع على وجه لا يضرُّ صاحبَهم أبا الحسن. فلو ساغ لابن الجوزي أن يتهم الخطيبَ بالميل لساغ لمن يدافع عصر الخطيب أن يقول: لو كان هناك ميلٌ لتداركه محدثو الحنابلة في عصر الخطيب عندما سمعوا ما ذكره الخطيب في "تاريخه". ولعلهم كانوا قد علموا بالقضية، أو سألوا عنها، فعرفوها، ورأوا أن السكوت عنها أولى؛ لأن ذكرها مفصلةً لا ينفع صاحبهم، بل لعله يكون أضرَّ عليه. وقد كان ابن الجوزي قريبًا من عصر الواقعة، فإن لم يعتن بالبحث عنها والسؤال فقد قصَّر. وإن بحث وسأل، فعرفها، فما باله اقتصر [1/ 328] على التجويزات البعيدة والتجنِّي على الخطيب؟ ولا يُظَنُّ به أنه بحث وسأل، فلم

يجد خبرًا ولا أثرًا إلا ما ذكره الخطيب؛ لأنه لو كان الأمر هكذا لكان الظاهر أن يذكره ابن الجوزي، فإنه أقوى للدفاع مما اقتصر عليه. وبعدُ، فالأسلم للجانبين والأحقن لدم الأخوين أن يقال: لعل أبا الحسن سمع ذينك الحديثين مفردين ليسا من "المسند"، ولكنهما بسنده، فألحقهما في الحاشية أو بين السطور غير قاصد الإيهام، ولكن كانت صورة الإلحاق موهمة. فأبو الحسن معذور لعدم قصده، والمنكرون معذورون لبنائهم على الظاهر. والله أعلم. وأما الأمر الثاني، فأجاب عنه بأن عبد الواحد "لا يُعوَّل على قوله ... ". وستأتي ترجمة عبد الواحد (¬1)، فلا هو بالذي تقوم الحجة بما ينفرد به ولا هو بمن يُظَنُّ به أن يختلق محل هذه القصة اختلاقًا. وإذ كان الأمر كذلك، فلا مانع من إبداء احتمال يخفُّ به الاستبعاد، كأن يقال: لعل صاحب القصة رجل آخر غير أبي الحسن، ويكون ابن المسلم لم يُسمِّه، بل قال مثلاً: "بعض الفقهاء" أو "بعض الشيوخ"، ولعله ذكر مذهبه، فظن عبد الواحد أنه أبو الحسن، فسمَّاه. وأما الأمر الثالث، فلم يذكره الخطيب في ترجمة عبد العزيز، وإنما الذي اتَّهم به عبدَ العزيز هو الذهبي، ولا حجة للذهبي على ذلك إلا أن عبدَ الوهاب موثَّق، وعبدُ العزيز قد قيل فيه ما تقدَّم في الأمرين السابقين. وقد علمتَ أن الأمر الثاني لم يثبت ولا قارب، وأن الأمر الأول لا يخلو عن احتمال، فالأَولى في هذا الأمر الثالث الحملُ على أحد الآباء المجاهيل. ¬

_ (¬1) رقم (149).

145 - عبد الملك بن حبيب القرطبي. أحد مشاهير المالكية

ومع أن ابن الجوزي دافع عن أبي الحسن، فلم يذكر أن أحدًا من حفاظ الحنابلة أو غيرهم وثَّقه، ولا وثقه هو، بل اقتصر على أنه لا يجوز القطع عليه بالكذب. وإنما ذَكَر قولَ أبي يعلى ابن الفراء الحنبلي: "رجل جليل القدر، وله كلام في مسائل الخلاف، وتصنيف في الأصول والفرائض" (¬1). والذي يتحصَّل هنا: أنه لم يثبت ما يُقطع به على أبي الحسن أنه وضع الحديث، لكنه مع ذلك لم يثبت على قواعد الرواية ما يقتضي أن تجبَ الحجةُ بروايةٍ ينفرد بها. فأمَّا الخطيب، فمَنْ أنصفَ علِمَ بأنه لم يتعدَّ ما يوجبه عليه فنُّه ومقامُه. والله أعلم. 145 - [1/ 329] عبد الملك (¬2) بن حبيب القرطبي. أحد مشاهير المالكية: ذكر الأستاذ (ص 6) عن الباجي: "روى عبد الملك بن حبيب، أخبرني مطرَّف: أنهم سألوا مالكًا عن تفسير الداء العضال ... ". وفيه قول الباجي: "وعندي أن هذه الرواية غير صحيحة ... ". قال الأستاذ (ص 8): "ووجهُ حكمه يظهر من ترجمة مطرِّف ... وعبد الملك في كتب الضعفاء". أقول: كان ابن حبيب فقيهًا جليلًا نبيلًا صالحًا في نفسه، لكن لم تكن الرواية من شأنه، كان يتساهل في الأخذ، ويروي على التوهُّم. هذا محصَّل ¬

_ (¬1) نقله عنه الخطيب في "تاريخه": (10/ 461)، وذكره ابن أبي يعلى في "طبقات الحنابلة": (3/ 246 - 248). (¬2) وقع في (ط) محرفًا "عبد الله"!

146 - عبد الملك بن قريب الأصمعي

ما ذكروه في ترجمته (¬1). وقد توبع في هذه الحكاية، كما يأتي في ترجمة مُطرِّف (¬2). 146 - عبد الملك بن قُريب الأصمعي: ذكر الأستاذ (ص 24) ما حكي عن الأصمعي في قول الشعبي: "لا تعقل العاقلة ... "، وأن الأصمعي قال: "كلمتُ أبا يوسف بحضرة الرشيد، فلم يفرِّق بين عقلتُه وعقلتُ عنه حتى فهَّمتُه". فقال الأستاذ (ص 25): "لا نقيم لكلامه وزنًا. فإن كنت لا تكتفي بما في الكتب المؤلفة في الضعفاء من قول مثل أبي زيد الأنصاري فيه، فعليك بكتاب "التنبيهات على أغاليط الرواة" لأبي القاسم علي بن حمزة البصري، لتطلع على أغلاط هذا المتقعر وكلام الناس في أمانته في النقل". وذكر الأستاذ (ص 54) عن "تاريخ بغداد" (¬3) حكاية من طريق الأصمعي، فقال: "كذَّبه أبو زيد الأنصاري. وذكر علي بن حمزة .... ورماه بأمور تؤيد رأي أبي زيد فيه. وليس بقليلٍ ما ذكره الخطيب من نوادره. ومن جملة نوادره: أن الأصمعي لما توفي سنة 215 قال أبو قِلَابة الجَرْمي في جنازته: ... " فذكر البيتين. أقول: أما الحكاية الأولى، فمسألة لغوية قد ذكرتها في الفقهيات (¬4). والحكاية الثانية لم ينفرد بها الأصمعي، ومعناها مشهور إن لم يكن متواترًا. ¬

_ (¬1) انظر "ترتيب المدارك": (4/ 122 - 148)، و "السير": (12/ 102 - 107) و"لسان الميزان": (5/ 255 - 259). (¬2) رقم (247). (¬3) (13/ 378 [385]). (¬4) (2/ 152 - 156).

وأما ما روى عن أبي زيد فلم يصحَّ، كما أوضحته في "الطليعة" (ص 82 - 83) (¬1). ولو صحَّ لما أوجب جرحًا, لأنه لم يفسَّر. ويحتمل أن يراد به النسبة إلى الخطأ والغلط، كما ذكره الأستاذ (ص 163). ويؤيده أنه كان بين أبي زيد والأصمعي منافسة دنيوية واختلاف في الاعتقاد، مع أن بعض أئمة الحديث تكلَّم في أبي زيد، كما تراه في ترجمته من "التهذيب" (¬2). والأصمعي وثَّقه [1/ 330] الأئمة، كما يأتي. وقال الأستاذ في "الترحيب" (¬3): "وأما الأصمعي، فقد وثَّقه غيرُ واحد في الحديث. وأما أخباره ونوادره المدونة في الكتب، ففيها كثير مما يُرفَض، وقد قال ابن أخي الأصمعي عبد الرحمن بن عبد الله وقد سئل عن عمه: هو جالس يكذب على العرب. وقال أبو رياش: كان الأصمعي مع نَصْبه كذّابًا. وقال: سأله الرشيد: لم قطع عليٌّ يدَ جدِّك أصمع؟ فقال: ظلمًا يا أمير المؤمنين. وكذب عدوُّ الله، إنما قطعه في سرقة. وأطال أبو القاسم علي بن حمزة .... ومما قال فيه: كان مجبِرًا شديدَ البغض لعليّ كرَّم الله وجهه. وتكذيبه ليس بمنحصر فيما يروى عن أبي زيد الأنصاري". أقول: كأنَّ الأستاذ يحسب الكلام في الأصمعي كما قالت الأعراب (¬4): قد هدَم اليربوعُ بيتَ الفارهْ ... فجاءت الزُّغْبُ من الوِبارَه (¬5) ¬

_ (¬1) (ص 64). (¬2) (4/ 3 - 5). (¬3) (ص 340 - ملحق بالتأنيب). (¬4) انظر: "الحيوان": (6/ 370) للجاحظ، و"المعاني الكبير": (2/ 681) لابن قتيبة. (¬5) في "الحيوان": "فجاءت الرُّبْيَة والوِبارة".

وكلُّها (¬1) يشتدُّ بالحجارَه مَنْ عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي يا أستاذ؟! وهل عرفه الناس إلاَّ بكلمات يرويها عن الأصمعي! ومَنْ جعله بحيث تُعارَض بما حُكي عنه نصوصُ أئمة الإِسلام في توثيق الأصمعي؟! ولعلها - إن صحت الكلمة عنه - كلمةٌ قالها في صباه وهو يلعب مع الأطفال، فاستُظْرِفَتْ من ذاك الصبيِّ، فنُقِلَتْ. وأما أبو رياش، فمَن أبو رياش؟ أذَكَروه بأكثَر من أنه كان حُفَظةً للأشعار، أو أنه كان يتشيَّع، أو أنه كان وسخًا دنسًا إلى الغاية؟ وهل يَحتجُّ بكلامه في الأصمعي عاقل! ولمعرفتنا بحاله لا نطالبك بتصحيح النقل عنه، وكان بعد الأصمعي بزمان طويل. أما علي بن حمزة، فمعدود من علماء اللغة، بينه وبين الأصمعي زمان طويل. حدُّه أن يُقبل منه تخطئةُ مَن قبله إذا أقام الحجة. وقوله: "إن الأصمعي كان مجبِرًا" دليل على أنه هو كان قدريًّا، والقدرية تسمِّي أهل السنة "مُجْبِرة". وقوله: "شديد البغض لعلي كرم الله وجهه" قولٌ لا حجة عليه، ولا نعلم عن الأصمعي شيئًا يَثبُت عنه يسوِّغ أن يُنسَب لأجله إلى النصب. ¬

_ (¬1) كذا "وكلُّها" في الأصل. وكان في أصل "المعاني الكبير": "وحلم"، فرأى الشيخ المعلمي أنه تصحيف "وكلُّهم"، وأثبت ذلك في المتن مع الإشارة في الحاشية إلى أن في نسخة كرنكو المنقولة من المخطوط: "وحلم (بفتح فسكون) تشتدُّ". قلت: والصواب ما ورد في المخطوط: "وحَلَمٌ تشتدُّ". و"الحَلَم" ضرب من القِرْدان. وفي "الحيوان": "وحَلَمٌ يَشُدُّ" وشَدَّ واشتدَّ بمعنًى. [الإصلاحي].

ودونك ثناءَ الأئمة على الأصمعي. قال الإِمام الشافعي بعد أن فارق بغداد: "ما رأيت بذلك العسكر أصدقَ لهجةً من الأصمعي". فتدبر هذه الكلمة، وانظر من كان ببغداد من الأكابر الذين رآهم الشافعي بها. وقال أبو أمية الطَّرْطُوسي: "سمعت أحمد ويحيى يثنيان على [1/ 331] الأصمعي في السنَّة. قال: وسمعتُ عليَّ ابن المديني يثني عليه"، وقال عباس الدُّوري: "قلت لابن معين: أريد الخروج إلى البصرة، فعمَّن أكتب؟ قال: عن الأصمعي فهو صدوق". وقال أبو داود: "صدوق". وقال نصر بن علي: "كان الأصمعي يقول لعفَّان: اتَّقِ الله، ولا تُغيِّرْ حديثَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقولي". قال نصر بن علي: "كان الأصمعي يتَّقي أن يفسِّر حديثَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما يتقي أن يفسِّر القرآن". وذكره ابن حبان في "الثقات" (¬1)، وقال: "ليس فيما يروي عن الثقات تخليط إذا كان دونه ثقة". أقول: وتجد في كتب اللغة ومعاني الشعر مواضع كثيرة يتوقف عنها الأصمعي، وذلك يدل على توقَّيه وتثبُّته. وكأنَّ ابن جني أشار إلى كلام علي بن حمزة إذ قال في "الخصائص" (¬2): "وهذا الأصمعي - وهو صَنَّاجة الرُّواة والنقَلة، وإليه محطُّ الأعباء والثقَلة، ومنه تُجنَى الفِقَر والمُلَح، وهو ريحانُ (¬3) كلِّ مغتَبَق ومصطَبَح - كانت مشيَخةُ القراء وأماثلُهم تحضره - ¬

_ (¬1) (8/ 389). (¬2) (3/ 311 - تحقيق النجار). ويبدو أن المؤلف نقل النص من طبعة غير التي نعزو إليها وقد أثبت الفروق في الهامش وهي مهمة في تصحيح بعض عبارات النص. (¬3) في "الخصائص": "ريحانة".

وهو حَدَث - لأخذ قراءةِ نافع عنه. ومعلومٌ قدرُ ما حذِقَ (¬1) من اللغة فلم يُثْبِته لأنه لم يقوَ عنده إذ لم يسمعه ... فأما إسفافُ مَن لا علمَ له وقولُ من تمسَّك به (¬2): إن الأصمعي كان يزيد في كلام العرب، ويفعل كذا، ويقول كذا، فكلامُ معفوٍّ عنه، غير معبوءٍ به، ولا متقدم في (¬3) مثله؛ حتى كأنه لم يتأدَّ إليه توقفُه عن تفسير القرآن وحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتحرُّزُه (¬4) من الكلام في الأنواء". وأما ما يُحكى عن الأصمعي من النوادر، فقد نَحَله الناسُ حكايات كثيرة جدًّا، وكلُّ من أراد أن يضع حكايةً نسبها إلى الأصمعي، فلا يلتفت من ذلك إلاَّ لما صحَّ سندُه، ولن يوجد في ذلك إلاّ ما هو حق وصدق، أو يكون الحمل فيه (¬5) على مَنْ فوق الأصمعي. ومحاولة الأستاذ التفرقة بين الحديث والحكايات محاولة فاشلة، والصدقُ الذي يُثْنَى به على الراوي شيء واحد، إمَّا أن يثبتَ للأصمعيِّ كلُّه، وهو الواقع كما صرّحَتْ به كلمةُ الشافعي السابقة، واقتضته كلمات غيره، وإمَّا أن يسقط كلُّه. وقد تقدم شرح ذلك في القواعد (¬6). ¬

_ (¬1) في "الخصائص": "كم قدر ما حذف". (¬2) في "الخصائص": "وقول من لا مُسْكة به". (¬3) في "الخصائص": "ولا منقومٍ من مثله". (¬4) في "الخصائص": "وتحوّبه". (¬5) (ط): "منه". (¬6) (1/ 59 - 70).

وأما قول الأستاذ: "ومن جملة نوادره: أن الأصمعي لما توفي ... "، فهذا من العجائب، كيف تكون من نوادره وقد مات؟! أوَ لم يستطع الأستاذ تخلُّصًا إلى ذينك البيتين اللذين هُجي بهما الأصمعي بعد موته لتعطّش الأستاذ إلى ذكرهما؟ والحكاية من رواية أبي العيناء، [1/ 332] وحالُه معروف، يأتي له ذكر في ترجمة الإِمام مالك (¬1)، مع أن تمام الحكاية: "قال أبو العيناء: وجذبني من الجانب الآخر أبو العالية الشامي فأنشدني: لِلّه درُّ بناتِ الدهر إذ فَجَعَتْ ... بالأصمعيِّ لقد أبقَتْ لنا أسَفَا عِشْ ما بدا لك في الدنيا فلستَ ترى ... في الناس منه ولا مِنْ عِلْمِه خَلَفا لم أورد هذه التتمة منكرًا على الأستاذ إعراضه عنها. ولكن كان الأجدر به - وهو يعلم أن هذه تمام الحكاية - أن يُعرض عن أولها, لئلا يكون - أو لئلّا يقال: إنه - ممن يُرضيه القول الزور الفاجر، ويُسخطه القول الصادق البار. هذا وقد كان الأصمعي أوائل أمره يخالط الخلفاء والأمراء، ثم انقطع عن ذلك، ولزم بيته ومسجده، حتى إن المأمون الخليفة حَرَص جهدَه على أن يصير الأصمعي إليه، فأبى. فكان المأمون يجمع المسائل ثم يبعث بها إلى الأصمعي بالبصرة ليجيب عنها. وليس للأصمعيّ ذنب إلا أنه من أهل السنة. والله المستعان. ¬

_ (¬1) رقم (183).

147 - عبد الملك بن محمد أبو قلابة الرقاشي

147 - عبد الملك بن محمَّد أبو قِلابة الرقاشي: في "تاريخ بغداد" (13/ 423 [453]) من طريق الأصم: "حدثنا أبو قلابة الرقاشي، حدثنا أبو عاصم قال: سمعت سفيان الثوري بمكة، وقيل له: مات أبو حنيفة، فقال: الحمد لله الذي عافانا مما ابتلى به كثيرًا من الناس". ومن طريق الأصم أيضًا: "حدثنا محمَّد بن علي الوراق، حدثنا مسدد قال: سمعت أبا عاصم يقول: ذُكِر عند سفيان موتُ أبي حنيفة، فما سمعته يقول: رحمه الله، ولا شيئًا، قال: الحمد لله الذي عافانا مما ابتلاه به". قال الأستاذ (ص 169): "أبو قلابة الرقاشي كثير الخطأ في الأسانيد والمتون، على ما نقله الخطيب عن الدارقطني". أقول: قال الدارقطني: "لا يحتج بما تفرَّد به. بلغني عن شيخنا أبي القاسم ابن بنت منيع (هو عبد الله بن محمَّد بن عبد العزيز البغوي، تقدمت ترجمته (¬1)) أنه قال: عندي عن أبي قلابة عشرة أجزاء ما منها حديث مُسلَّم، إما في الإسناد وإما في المتن، كان يحدِّث من حفظه فكثرت الأوهام فيه". ولا حاجة بنا - ولله الحمد - إلى مضايقة الأستاذ بأن نقول: أنت لا تثق بالبغوي، فليس لك أن تعوَّل عليه هنا. بل نقول: قال ابن جرير: "ما رأيت أحفظ منه". وقال مسلمة بن قاسم عن ابن الأعرابي: " ... ما رأيت أحفظ منه، وكان من الثقات ... " [1/ 333] قال مسلمة: "وكان راوية للحديث متقنًا ثقة ... ". وقال أبو داود: "رجلُ صدق أمين مأمون، كتبت عنه بالبصرة". وقال ابن خزيمة: "ثنا أبو قلابة بالبصرة قبل أن يختلط ويخرج إلى بغداد". ¬

_ (¬1) رقم (133). وانظر كلام الكوثري في تضعيفه بلا حق هناك.

148 - عبد المؤمن بن خلف أبو يعلى التميمي النسفي الحافظ

فاتضح أن أبا قلابة كان ثقة متقنًا إلا أنه تغيَّر بعد أن تحوَّل إلى بغداد، وفيها سمع منه البغوي. فإن كان سماع الأصم منه بالبصرة ثبتت الحكاية، وإلاَّ فقد تابعه عليها جبل من الجبال (¬1) كما رأيت. قال البخاري في "صحيحه" (¬2) في "باب من أين يخرج من مكة": "كان يقال: هو مسدّد كاسمه ... سمعت يحيى بن معين يقول: سمعت يحيى بن سعيد يقول: لو أن مسدّدًا أتيته في بيته لاستحقَّ ذلك، وما أبالي كتبي كانت عندي أو عند مسدّد". 148 - عبد المؤمن بن خلف أبو يعلى التميمي النسفي الحافظ: ذكر الأستاذ (ص 187) أن الخطيب روى (¬3) من طريقه عن صالح بن محمَّد جزرة (¬4) الحافظ كلامًا في الحسن بن زياد اللؤلؤي، فقال الأستاذ: "عبد المؤمن ليس ممن يصدَّق فيه, لأنه كان ظاهريًّا طويل اللسان على أهل القياس". أقول: قد سلف في القواعد (¬5) أن المخالفة في المذهب لا تُرَدُّ بها الرواية, كالشهادة، وهذا ما لا أرى عالمًا يشكّ فيه. ومن حكم له أهلُ العلم بالصدق والأمانة والثقة فقد اندفع عنه أن يقال: "لا يُصدَّق في كذا" اللهم إلا ¬

_ (¬1) يعني مسدَّد بن مسرهد. (¬2) (2/ 145 رقم 1576). (¬3) "التاريخ": (7/ 315). (¬4) (ط): "بن جرزة" خطأ. (¬5) (1/ 87 - 98).

149 - عبد الواحد بن علي بن برهان العكبري

أن تقام الحجة الواضحة على أنه تعمَّد كذبًا صريحًا، فيزول عنه اسم الصدق والأمانة البتة. والأستاذ يمرُّ بالجبال الرواسي، فينفخ ويخيِّل لنفسه وللجهال أنه قد أزالها أو جعلها هباء! والذي جرَّأه على ذلك كثرة الأتباع، وغربة العلم، وما لا أحبّ ذكره. والله المستعان. 149 - عبد الواحد بن عليّ بن بَرْهان العكبري: هذا الرجل روى عنه الخطيب أشياء تتعلق برواة الحديث، ومن جملة ذلك ما تقدم في ترجمة عبد العزيز بن الحارث أبي الحسن التميمي (¬1)، وما يأتي في ترجمة عبيد الله بن محمَّد بن بطة العُكْبري (¬2). فاعترضه ابن الجوزي، فقال في ترجمة أبى الحسن: "هذا العكبري لا يعوَّل على قوله، فإنه لم يكن من أهل الحديث والعلم، إنما كان [1/ 334] يعرف شيئًا من الحديث. كذلك ذكر عنه الخطيب. وكان أيضًا معتزليًّا يقول: إن الكفار لا يخلدون في النار" (¬3). وذكر نحو ذلك في ترجمة ابن بطة (¬4)، ثم قال: فمن كان اعتقاده يخالف إجماع المسلمين فهو خارج عن الإِسلام، فكيف يقبل جرحه؟ وقال محمَّد بن عبد الملك الهمذاني: كان ابن بَرْهان يميل إلى المُرْد ويقبِّلهم". وقال في ترجمة عبد الواحد من "المنتظم" (ج 8 ص 236): "كان ¬

_ (¬1) رقم (144). (¬2) رقم (153). (¬3) "المنتظم": (7/ 110). (¬4) المصدر نفسه: (7/ 194).

مجوّدًا في النحو، وكان له أخلاق شرسة، ولم يلبس سراويل قط، ولا قبل عطاء أحد، وكان لا يغطي رأسه. وذكر محمَّد بن عبد الملك: كان ابن برهان يميل إلى المُرْد الصِّباح ويقبِّلهم من غير ريبة. وقوله: "من غير ريبة" أقبح من التقبيل, لأن النظر إليهم ممنوع منه إذا كان بشهوة، فهل يكون التقبيل بغير شهوة؟ ... ". وفي "لسان الميزان" (ج 4 ص 82) (¬1): "قال ابن ماكولا: كان فقيهًا حنفيًّا قرأ اللغة، وأخذ الكلام من أبي الحسين البصري. قلت: وقد بالغ محمَّد بن عبد الملك الهمذاني في "تاريخه" فقال: كان يمشي مكشوف الرأس، وكان يميل إلى المُردان من غير ريبة. ووقف مرةً على مكتب عند خروجهم، فاستدعى واحدًا واحدًا فيقبِّله ويدعو له ويسبَّح الله، فرآه ابن الصبَّاغ، فدسَّ له واحدًا قبيحَ الوجه، فأعرض عنه وقال: يا أبا نصر لو غيرك فعل بنا هذا". وفي ترجمة عبد الواحد من "تاريخ بغداد" (ج 11 ص 17): "كان يذكر أنه سمع من أبي عبد الله ابن بطة وغيره إلا أنه لم يرو شيئًا. وكان مضطلعًا بعلوم كثيرة منها النحو واللغة ومعرفة النسب والحفظ لأيام العرب وأخبار المتقدمين، وله أُنْسٌ شديد بعلم الحديث". أقول: فقد كان ابن بَرْهان على بدعته من أهل العلم والزهد والمنزلة بين العلماء. ومحمد بن عبد الملك الهَمَذاني لا أعرف ما حاله (¬2)؟ وقد ذكر ¬

_ (¬1) (5/ 294). (¬2) هو: محمَّد بن عبد الملك بن إبراهيم الهَمَذاني المقدسي أبو الحسن الشافعي =

ابن حجر أنه بالغ. وقد تصرَّف ابن الجوزي في عبارة الهمذاني، ففي موضع زاد فيها "ويقبِّلهم" وحذف "من غير ريبة". وفي موضع زاد "الصِّباح فيقبِّلهم"، وإنما أخذ الصباحةَ والتقبيلَ من قصة المكتب. وقد كان ببغداد في ذاك العصر عدد كثير من مشاهير العلماء ما منهم إلا من يخالف عبد الواحد في العقيدة والمذهب أو أحدهما. وكان عبد الواحد على غاية الصيانة. ذكروا أنه "لما ورد الوزير عميد الدين إلى بغداد استحضره فأعجبه كلامه، فعرض عليه مالاً، فلم يقبله. فأعطاه مصحفًا بخط ابن البواب وعكازةً [1/ 335] حُمِلت إليه من الروم، فأخذهما. فقال له أبو علي ابن الوليد المتكلِّم: أنت تحفظ القرآن، وبيدك عصا تتوكأ عليها، فلِمَ تأخذ شيئًا فيه شبهة؟ فنهض ابن بَرْهان في الحال إلى قاضي القضاة ابن الدامغاني وقال له: لقد كدتُ أهلك حتى نبَّهني أبو علي ابن الوليد، وهو أصغر سنًّا منِّي، وأريد أن تعيد هذه العكازة والمصحف على عميد الدين، فما يصحباني. فأخذهما، وأعادهما إليه". أفما كان في ذاك الجمّ الغفير من أهل العلم من ينكر على ابن برهان ما نسبه ابن الجوزي إليه؟! وما كان فيهم من يعيبه بذلك على الأقل، مع مخالفتهم له كما سلف؟ فما بالنا لا نعرف عنهم كلمة واحدة في ذلك إلاَّ تلك الشاذَّة من ذاك الهَمَذاني؟ ¬

_ = (463 - 521)، قال ابن النجار: "كان فاضلاً حسن المعرفة بالتواريخ والدول ... وبه خُتِم هذا الفن". وقال ابن كثير: "صاحب التاريخ من بيت الحديث والأئمة". وذكر ابن الجوزي عن شيخه عبد الوهاب ما يوجب الطعن فيه. ترجمته في "تاريخ الإِسلام": (11/ 375)، و"البداية والنهاية": (16/ 276)، و"طبقات الشافعية": (6/ 135).

وليس المقصود ردَّ كلمة الهمذاني، وإنما المقصود تجريدها عما فيها من المبالغة التي أشار إليها ابن حجر. فأقول: كانت المكاتب في ذاك العصر خاصةً بالأطفال، إنما هي لتعليم القراءة والكتابة؛ فأما ما زاد عن ذلك من العلم فكان محلُّه الجوامع والمساجد ومجالس العلماء في بيوتهم والمدارس الكبيرة. فمرَّ - على ما يقول الهمذاني - ابنُ بَرْهان مع جماعة من أهل العلم وغيرهم، فيهم الإِمام أبو نصر ابن الصبّاغ الشافعي، بمكتب من مكاتب الأطفال، فصادف وقت خروجهم، فأخذ ابن برهان يقبِّلهم ويدعو لهم تنشيطًا لهم ورجاءَ أن يصيروا رجالًا صالحين. فمازحه ابن الصباغ بأن قدَّم إليه واحدًا منهم قبيح الصورة، فأعرض عنه ابن برهان علمًا بأنه لا مجال هناك لأدنى ريبة، ولو كان هناك مجال لريبة لكان الظاهر أن يقبِّل ذاك القبيح كغيره. وأيُّ عقل يميز أن يكون فيما جرى شيء من الريبة، ويقرُّه الحاضرون من أهل العلم وغيرهم، ويقتصر ابن الصباغ على تلك الملاطفة؟ فأما أهل بغداد المخالفون لابن بَرْهان في العقيدة أو المذهب أو كليهما، فلم يروا فيما جرى ما يسوِّغ أن يُعاب به ابن برهان. وأما ذلك الهَمَذاني فدعته نفرته عن ابن برهان لمخالفته في العقيدة والمذهب إلى أن عبَّر بقوله: "يميل إلى المردان"، فنازعه واعظُ الله تعالى في قلبه، فدافعه بقوله: "من غير ريبة"، وذكروا (¬1) قصة المكتب، فجاء ابن الجوزي، فصنع ما تقدَّم. ولا أدري ما صنع سِبْطه، فإنه كثير التصرف في مثل هذا! فوقع التزيُّد في الحكاية، كما تراه في "بغية الوعاة" (¬2) وغيرها. ¬

_ (¬1) كذا في (ط). (¬2) (2/ 120 - 121).

150 - عبد الوارث بن سعيد أبو عبيدة التنوري

أما العقيدة فذكروا أن ابن برهان كان معتزليًّا، ولا أدري ما الذي كان يوافق فيه المعتزلة. فأما قوله بأن الكفار لا يخلدون في العذاب، فهي مسألة مشهورة. ولو رأى علماء بغداد أن قول ابن برهان فيها مُخرج عن [1/ 336] الإِسلام لسعوا في إقامة الحدِّ عليه، فما بالهم أعرضوا عن ذلك، وكانوا يُجِلُّون ابن برهان ويحترمونه؟ نعم، ابن برهان لم يوثقه أحد فيما نعلم، ومن المحتمل أنه كان يهِم فيما يرويه من الحكايات أو يبني على الظن، فحقُّه أن لا تقوم الحجة بما ينفرد به، ولكنه يُذكر في المتابعات والشواهد كما صنع الخطيب. والله الموفق. 150 - عبد الوارث بن سعيد أبو عبيدة التنُّوري: في "تاريخ بغداد" (13/ 388 [403 - 404]) عنه حكايتان في ردِّ أبي حنيفة حديثَ "أفطر الحاجم والمحجوم" بقوله: "هذا سجع"، وردِّه قولاً لعمر بن الخطاب في الولاء بقوله: "هذا قول شيطان". قال الأستاذ في حاشية (ص 81): "قدريّ كما ذكره الخطيب في "الكفاية"، وقدرية البصرة في غاية من الانحراف عن أبي حنيفة لكثرة هبوطه البصرة للردِّ عليهم في مبدأ أمره". أقول: هبوط أبي حنيفة البصرة للمخاصمة في القَدَر لم يثبت. وقول عبد الوارث بالقَدَر في ثبوته نظر، قال ابنه عبد الصمد - وهو من الثقات الأثبات -: "إنه لمكذوب على أبي، وما سمعت منه يقول قطُّ في القَدَر وكلامِ عمرِو بن عبيد" (¬1). فإن كان في نفسه منه شيء، فلم يكن يرى خلافه ¬

_ (¬1) انظر "تهذيب التهذيب": (6/ 443).

151 - عبد بن أحمد أبو ذر الهروي

ضلالة فيعادي مخالفيه، وإلا لكان أهمّ شيء عنده أن يدعو ولده. وقد شهد له ابن المبارك أنه لم يكن داعية. ذكره الذهبي في ترجمته من "تذكرة الحفاظ" (ج 1 ص 237) (¬1). فليس هنا ما يتشبَّث به في دفع رواية عبد الوارث، وهو مُجمع على ثقته وجلالته. 151 - عَبْد بن أحمد أبو ذر الهروي: تأتي له حكاية في ترجمة عبيد الله بن محمَّد ابن بطة، فقال ابن الجوزي في "المنتظم" (ج 7 ص 194): "كان من الأشاعرة المبغضين، وهو أول من أدخل الحرمَ مذهبَ الأشعري، ولا يقبل جرحه لحنبليٍّ يعتقد كفرَه". أقول: قال ابن الجوزي نفسه في ترجمة أبي ذر من "المنتظم" نفسه (ج 8 ص 115): "كان ثقة ضابطًا فاضلاً ... وقيل: إنه كان يميل إلى مذهب الأشعري". ويظهر من هذه العبارة الأخيرة أن الميل لم يثبت، فإن ثبت فما مقداره؟ وقد كان ابن الجوزي نفسه مائلاً، بل يوجد في كلامه وكلام كثير من الحنابلة ما هو أبعد عن قول أحمد والأئمة من كلام الأشعري [1/ 337] وأصحابه. هكذا قاله أعرف الناس بهم، وهو رجل منهم (¬2)، كما تقدم في ترجمة الخطيب (¬3). ¬

_ (¬1) (2/ 257). (¬2) هو شيخ الإِسلام ابن تيمية. وقد سبق نقل كلامه من "شرح العقيدة الأصفهانية" (ص 517 - 518). (¬3) رقم (26).

152 - عبيد الله بن عبد الكريم أبو زرعة الرازي

هَبْ أن أبا ذر كان أشعريًّا، فما تفصيل ذلك؟ والنقل عن الأشعري مختلف، وأصحابه مختلفون. وعلى كل حال فلا يكفِّرون الحنابلة، نعم قد يبدّعونهم. ولكن عقلاءهم ولا سيما العارفين بالرواية منهم كالبيهقي لا يرون ذلك مُوهنًا للرواية ولا مسوَّغًا للبغض والعداوة. وقد مرَّت الإشارة إلى ذلك في القواعد (¬1)، وأشبعت القول في قسم الاعتقاديات (¬2). فالحق الذي لا معدل عنه أن أبا ذر ثقة تُقبل روايته, ويُرَدُّ عليه من قوله ورأيه ما أخطأ فيه الحق. (¬3) 152 - عُبيد الله بن عبد الكريم أبو زُرْعة الرازي: حكى الأستاذ (ص 42) عن كتاب ابن أبي العوام: "حدثني إبراهيم بن أحمد بن سهل الترمذي قال: حدثنا عبد الواحد بن أحمد الرازي بمكة قال: أنبأنا بشار بن قيراط عن أبي حنيفة ... ". وعلَّق الأستاذ في الحاشية على بشار بن قيراط: "مقبول عند الحنفية بنيسابور، كما قال الخليلي في "الإرشاد"، وإن طال لسان أبي زُرْعة فيه لكونه من أهل الرأي". أقول: ابن أبي العوّام قد تعرّضت له في "الطليعة" (ص 27 - 28) (¬4). فأعرض الأستاذ في "الترحيب" عن ذلك، ولنا أن نسأله: مَن إبراهيم بن أحمد في السند؟ ومن شيخه؟ فما بال الأستاذ أعرض عن ذلك كلِّه وتناول بشارًا؟ أَلِيوهم أن بقية السند ثقات إجماعًا؟ أم ليتوصّل إلى الغضِّ من أبي ¬

_ (¬1) (1/ 87 - 98). (¬2) (2/ 411 وما بعدها، 529 وما بعدها). (¬3) عبدة بن عبد الله الخراساني. يأتي في "عبيدة" [رقم 154]. [المؤلف]. (¬4) (ص 18 - 19).

زُرْعة؟ بشار قديم، سمع من أبي حنيفة المتوفى سنة 150، كذَّبه أبو زُرْعة الذي ولد سنة 200. وقال أبو حاتم الذي ولد سنة 195: "هو نيسابوري قدم الري، مضطرب الحديث، يُكتب حديثه ولا يحتج به" (¬1). وقال ابن عدي المولود سنة 277: "روى أحاديث غير محفوظة، وهو إلى الضعف أقرب منه إلى الصدق" (¬2). وقال الخليلي المولود بعد ذلك بزمان فإنه توفي سنة 446: "كان يتفقه على رأي أبي حنيفة. رضيَتْه الحنفية بخراسان، ولم يتفق عليه حُفَّاظ خراسان" (¬3). وقد سبق في ترجمة عبد الله بن محمود (¬4) ذكرُ ما زعمه الأستاذ من أن من لم يوثِّقه أهلُ عصره [1/ 338] يكون مجهول الصفة، وتراه هنا يردُّ جرح المتقدمين لبشار ويتشبث بقول المتأخر عنه بقريب من مائتي سنة: "رضيَتْه الحنفية بخراسان"! ويزيد الأستاذ فيزعم أن أبا زُرْعة إنما كذَّبه لأنه مخالف له في المذهب. وقد عُلِم مما سلف في القواعد أن من شهد له أهلُ العلم أنه "صدوق" لا يُقْبَل من أحد أن يقول: إنه تعمَّد الكذبَ أو الحُكْمَ بالباطل إلا أنْ يقيم على ذلك حجة صارمة، فما بالك بمن شهدوا له بأنه ثقة؟ فما بالك بمثل أبي زُرْعة في إمامته وجلالته وتثبته؟ ¬

_ (¬1) "الجرح والتعديل": (2/ 418). (¬2) (2/ 23). (¬3) "الإرشاد في معرفة علماء الحديث": (3/ 925). (¬4) رقم (135).

153 - عبيد الله بن محمد بن حمدان أبو عبد الله ابن بطة العكبري.

والخليلي متأخر جدًّا عن زمن بشار كما مرَّ، ولا ندري إلى ماذا استند في قوله: "رضيَتْه الحنفية بخراسان". وهَبْه ثبَتَ الرضا، فمَنْ حنفيةُ خراسان في ذلك الزمان؟ وقد يكونون رضوه في رأيه، ولا يدرون ما حاله في الحديث؛ كما رضي أهل المغرب أصبغ بن خليل، وقد مرَّت ترجمته (¬1). وقد كان يمكن الأستاذ أن يقول: ذكروا أن أبا زُرْعة الرازي كذّبه، ولا ندري ما الذي اعتمده في تكذيبه. وكلام أبي حاتم يعطي أن بشارًا صدوق إلا أنه مضطرب الحديث. ويقوِّي ذلك رضا حنفية خراسان به، والتصديق يقدَّم على التكذيب المبهم. والله أعلم. لكن الأستاذ لا يرى لأئمة السنة حقًّا ولا حُرْمة، ولا يرقُبُ فيهم إلاَّ ولا ذمة. لا يرعى تقوى ولا تقية، ولا يرى أن في أهل الحق بقية، فيدع للصلح بقية، فلندعه يصرِّح أو يَكْني، وعلى أهلها براقشُ تَجْني! 153 - عبيد الله بن محمَّد بن حمدان أبو عبد الله ابن بطة العكبري. في "تاريخ بغداد" (13/ 413 [441]) عنه: "حدثنا محمَّد بن أيوب بن المعافى البزاز قال: سمعت إبراهيم الحربي يقول: وضع أبو حنيفة أشياء في العلم مضغُ الماء أحسن منها. وعرضت يومًا شيئًا من مسائله على أحمد بن حنبل، فجعل يتعجب منها، ثم قال: كأنه هو يبتدئ الإِسلام". قال الأستاذ (ص 148): "من أجلاد الحشوية. له مقام عندهم إلا أنه لا يساوي ¬

_ (¬1) رقم (55).

فلسًا! وهو الذي روى حديث ابن مسعود: "كلم الله تعالى موسى عليه السلام يوم كلَّمه وعليه جبة صوف، وكساء صوف، ونعلان من جلد حمار غير ذكي"، فزاد فيه: "فقال: من ذا العبراني الذي يكلِّمني من الشجرة؟ قال: أنا الله". والتهمة لاصقه به لا محالة، لانفراده بتلك الزيادة، كما يظهر من طرق الحديث في "لسان [1/ 339] الميزان" وغيره. وما فعل ذلك إلا ليلقي في رُوع السامع أن كلام الله تعالى من قبيل كلام البشر، بحيث يلتبس على السامع كلامه تعالى بكلام غيره. تعالى الله عن مزاعم المشبَّهة في إثبات الحرف والصوت له تعالى. وكُتُبه من شرَّ الكتب، وله طامات". أقول: أما ذاك الحديث فيظهر أن ابن بطة لم يذكر تلك الزيادة على أنها من الحديث، وإنما ذكرها على جهة الاستنباط والتفسير أخذًا من الحديث ومن قول الله تبارك وتعالى في شأن موسى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص: 30]. وقوله عزَّ وجلَّ: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} [طه: 11 - 12]. وقوله سبحانه: {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [النمل: 8 - 9]. وابن بطة كغيره من أئمة السنة بحق يعتقدون أن الله تبارك وتعالى يتكلم بحرف وصوت. وقد نقل بعضُ الحنفية اتفاقَ الأشاعرة والماتريدية على أن الله تعالى كلَّم موسى بحرف وصوت، كما نقلته في قسم الاعتقاديات (¬1). وذكر ¬

_ (¬1) (2/ 553). والذي نقله هو الآلوسي صاحب "روح المعاني".

الحنفية في كتابهم المنسوب إلى أبي حنيفة باسم "الفقه الأكبر" (¬1) ما لفظه: "وسمع موسى عليه السلام كلام الله تعالى"، قال المغنيساوي في "شرحه": "والله تعالى قادر أن يكلِّم المخلوق من الجهات أو الجهة الواحدة بلا آلة ويسمعه بالآلة كالحرف والصوت لاحتياجه إليها في فهمه كلامه الأزلي، فإنه على ذلك قدير, لأنه على كل شيء قدير". وكما يحتاج موسى إلى الحرف والصوت، يحتاج إلى أن يكون بلغته وأن يكون على وجه يأنس به. فعلى كل حال قد دل الكتاب والسنة كالآيات المتقدمة وسياق الحديث على أن الله تعالى كلَّم موسى بحرف وصوت، وظهر بما تقدَّم أنه كلَّمه بلسانه العبراني على الوجه الذي يأنس به. ودلت الآية الثالثة على أن موسى سمع الكلام، فقال في نفسه إن لم يقل بلسانه: "من ذا العبراني الذي يكلمني من الشجرة؟ " فأجيب بقول الله تعالى: {إِنَّهُ (¬2) أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [النمل: 9]. فذكر ابنُ بطة ذلك على وجه الاستنباط والتفسير، واعتمد في رفع الالتباس على [1/ 340] قرينة حالية مع علمه بأن الحديث مشهور؛ فجاء مَن بعده، فتوهَّم أنه ذكر ذاك الكلام على أنه جزء من الحديث. ولابن بطة أسوة فيمن اتفق له مثل ذلك من الصحابة وغيرهم، كقول ابن مسعود مع حديث الطِّيَرة: "وما مِنّا إلاَّ"، ومع حديث التشهد: "إذا قلتَ هذا ... "، ومع حديث آخر: "ومن مات يشرك بالله شيئًا ¬

_ (¬1) (ص 20 - مع شرح المغنيساوي). (¬2) الأصل: "إني". [ن].

دخل النار". وأمثال هذا كثير، قد أُفردت بالتأليف، كما تراه في الكلام على قسم المدرج من "تدريب الراوي" (¬1) وغيره. قول الأستاذ: "تعالى الله عن مزاعم المشبّهة في إثبات الحرف والصوت له تعالى". جوابه: بل تعالى الله عن العجز والكذب، وتفصيل هذا في قسم الاعتقاديات (¬2). قوله: "وكتبه من شر الكتب". جوابه: بل شر الكتب ما تضمن تكذيب خبر الله تعالى وخبر رسوله كذلك. قوله: "وله طامات". إن كان يريد ما يتعلق بالعقائد فقد عُلِم جوابه مما مرَّ، وإن أراد ما يتعلق بالرواية فدونك النظرَ فيه: ذكر الخطيب في "تاريخه" (¬3) ابنَ بطة وحكى أشياء انتقدت عليه في الرواية, فتعقبه ابن الجوزي في "المنتظم" (¬4) وأنحى باللائمة على الخطيب. ¬

_ (¬1) (2/ 322). (¬2) (2/ 552 - 554). (¬3) (10/ 370). (¬4) (7/ 193 - 197).

قال الخطيب في أول الترجمة: "كان أحد الفقهاء على مذهب أحمد بن حنبل ... أخبرني الحسن بن شهاب بن الحسن العكبري (بها) حدثنا عبيد الله بن محمَّد بن حمدان ابن بطة، حدثنا أبو القاسم حفص بن عمر بن الخليل بأردبيل، حدثنا رجاء بن مرجَّى بسمرقند ... ". ثم حكى عن عبد الواحد بن علي بن بَرهان، وقد مرَّت ترجمته (¬1) "قال: لم أر في شيوخ أصحاب الحديث ولا في غيرهم أحسن هيئة من ابن بطة". [1/ 341] ثم حكى عن أبي حامد أحمد بن محمَّد الدَّلْوي وهو أشعري "قال: لما رجع أبو عبد الله ابن بطة من الرحلة لازم بيته أربعين سنة، فلم يُرَ خارجًا منه في سوق ولا رُئي مفطرًا إلا في يوم الأضحى والفطر. وكان أمّارًا بالمعروف، ولم يبلغه خبر منكر إلا غيَّره - أو كما قال". وفي أواخر الترجمة: "أخبرنا العتيقي قال: سنة 387 فيها توفي بعكبرا أبو عبد الله ابن بطة في المحرم، وكان شيخًا صالحًا مستجاب الدعوة". وذكر الخطيب أمورًا انتقدت على ابن بطة فيما يتعلق بالرواية. الأول: أنه روى عن حفص بن عمر الأردبيلي عن رجاء بن مرجَّى "كتاب السنن" له. فذكر الخطيب أن أبا ذر عَبْد بن أحمد الهروي كتب إليه من مكة أنه سمع نصر الأندلسي - قال: وكان يحفظ ويفهم - فذكر قصةً حاصلها أنه سمع من ابن بطة "كتاب السنن" لرجاء بن مرجَّى من ابن بطة عن الأردبيلي عن رجاء، فذكر ذلك للدارقطني، فقال: "هذا محال. دخل رجاء بن مرجَّى بغداد سنة أربعين، ودخل حفص بن عمر الأردبيلي سنة ¬

_ (¬1) رقم (149).

سبعين ومائتين، فكيف سمع منه؟ ". وذكر الخطيب عن ابن برهان قصةً حاصلها: أن ابن بطة ورد بغداد، فحدَّث عن حفص بن عمر الأردبيلي عن رجاء بن مرجَّى بـ "كتاب السنن" قال: "فأنكر ذلك أبو الحسن الدارقطني، وزعم أن حفصًا ليس عنده عن رجاء، وأنه يَصْغُر عن السماع منه، فأبردوا بريدًا إلى (أردبيل)، وكان ابن حفص بن عمر حيًّا هناك، وكتبوا إليه يستخبرونه عن هذا الكتاب، فعاد جوابه بأن أباه لم يرو عن رجاء بن مرجَّى ولا رآه قط، وأنَّ مولده كان بعد موته بسنين". قال ابن بَرهان: "فتتبع ابنُ بطة النسخ التي كُتبت عنه، وغيَّر الرواية, وجعلها عن ابن الراجيان عن (فتح بن) شُخْرُف (¬1) عن رجاء. أجاب ابن الجوزي بأن أبا ذرّ أشعري، وأن ابن بَرْهان مبتدع على ما تقدَّم في ترجمتيهما (¬2). ولا يخفى سقوط هذا الجواب، فإن أبا ذرّ ثقة كما مرَّ، وابن بَرهان يدلُّ سياقُه للحكاية على أنه صادق فيها، ورواية ابن بطة عن الأردبيلي عن رجاء ثابتة، كما تقدم أن الخطيب روى عن الحسن بن شهاب عن ابن بطة بهذا السند، والحسن بن شهاب حنبلي ثقة. ورجاء توفي ببغداد وكان قد [1/ 342] أقام بها آخر عمره مدة، والأردبيلي توفي سنة 339، وبين وفاتيهما تسعون سنة، يضاف إليها مدة إقامة رجاء ببغداد آخر عمره؛ لأن الأردبيلي ¬

_ (¬1) الفتح بن شُخْرُف الكشي أبو نصر (ت 373). ترجمته في "تاريخ بغداد": (12/ 384 - 388)، و"تاريخ الإِسلام": (6/ 585 - 586). (¬2) برقم (151، 149).

إنما سمع منه - إن كان سمع - بسمرقند على ما رواه الخطيب عن الحسن بن شهاب. وأضف إلى ذلك مقدار سنّ الأردبيلي الذي مكَّنه أن يرحل من بلده إلى سمرقند حيث سمع رجاء، وهذان المقداران يمكن حزرهما بعشرين أو ثلاثين سنة تضاف إلى التسعين التي بين الوفاتين. وعلى هذا يكون الأردبيلي بلغ من العمر مائة وبضع عشرة سنة على الأقل، فيكون مولده قريبًا من سنة 220 على الأقل، وهذا باطل حتمًا. وبيانُه: أن عادة الذهبي في "تذكرة الحفاظ" أن يذكر من مشايخ الرجل أقدمهم، وإنما قال في ترجمة الأردبيلي: "سمع أبا حاتم الرازي، ويحيى بن أبي طالب، وعبد الملك بن محمَّد الرقاشي، وإبراهيم بن ديزيل" (¬1). وهؤلاء كلهم ماتوا بعد سنة 274، فهل رحل الأردبيلي وسمع سنة 230، فسمع من رجاء بسمرقند، ثم رقد بعد ذلك أربعين سنة، ثم استيقظ فسمع من الذين سمَّاهم الذهبي؟! فالوهم لازمٌ لابن بطة حتمًا، وسببه: أنه ساح في أول عمره، فكان يسمع ولا يكتب، ولم يكن يؤمّل أن يحتاج آخر عمره إلى أن يروي الحديث، ولهذا لم تكن له أصول. وفي "لسان الميزان" (¬2): "قال أبو ذر الهروي: جهدتُ على أن يخرج لي شيئًا من الأصول فلم يفعل، فزهدتُ فيه". وبعد رجوعه من سياحته انقطع في بيته مدة، ثم احتاج الناس إلى أن يسمعوا منه، فكان يتذكَّر ويروي على حسب ظنه، فيَهِم. وكأنه سمع "سنن رجاء بن ¬

_ (¬1) "تذكرة الحفّاظ": (3/ 850 - 851). (¬2) (5/ 342).

مرجَّى" من الأردبيلي عن رجل، فتوهم بأخرة أن الأردبيليَّ رواها عن رجاء نفسه. وقد رجع ابن بطة عن هذا السند لما تبيَّن له أنه وهم. والله أعلم. الأمر الثاني: ذكر الخطيب عن ابن بَرهان قال: "قال لي الحسن بن شهاب سألت: أبا عبد الله ابن بطة: أسمعت من البغوي حديث علي بن الجعد؟ فقال: لا". قال ابن بَرْهان: "وكنت قد رأيت في كتب ابن بطة نسخةً بحديث علي بن الجعد قد حكَّكها وكتب بخطه سماعه عليها". أقول: تفرد بهذا ابن بَرْهان، ولم يرو ابن بطة حديثَ عليِّ بن الجعد عن البغوي، وابن بَرْهان لا يقبل منه ما تفرّد به، ولعله وَهِم، كأن كان الخط غير خط ابن بطة فاشتبه على ابن برهان. [1/ 343] وكأن يكون ابن بطة إنما كتب "هذا الكتاب من مسموعاتي" أو نحو ذلك، يعني أنه سمعه من غير البغوي، فوهم ابن برهان. الثالث: ذكر الخطيب عن ابن برهان قال: وروى ابن بطة عن أحمد بن سلمان النجَّاد عن أحمد بن عبد الجبار العطاردي نحوًا من مائة وخمسين حديثًا، فأنكر ذلك عليه علي بن محمَّد بن ينال، وأساء القول فيه، وقال: إن النجاد لم يسمع من العطاردي شيئًا، حتى همَّت العامة أن توقع بابن ينال، واختفى. قال: وكان ابن بطة قد خرَّج تلك الأحاديث في تصانيفه، فتتبَّعها، وضرب على أكثرها، وبقي بقيتها على حاله". أقول: قد مرَّ الكلام في ابن بَرْهان، ولكن دخول الوهم عليه في هذا بعيد. والنجاد يقال: إنه ولد سنة 253، وسمع من الحسن بن مُكْرَم المتوفى سنة 274، ورحل إلى البصرة وسمع بها من أبي داود المتوفى سنة 275.

ووفاة العطاردي سنة 272، فلا مانع من أن يكون النجَّاد سمع من العطاردي. فإن قبلنا ما حكاه ابن برهان عن ابن ينال، فلا مانع من أن يكون للنجَّاد إجازة من العطاردي، ولابن بطة إجازة من النجاد، فروى ابن بطة تلك الأحاديث بحق الإجازة، فكان ماذا؟ فأما حكُّه لبعضها، فلعله وجدها أو ما يغني عنها عنده بالسماع من وجه آخر، فحكَّ ما رواه بالإجازة، وأثبت السماع. الرابع: قال الخطيب: "حدثني أحمد بن الحسن بن خيرون قال: رأيت كتاب ابن بطة بـ "معجم البغوي" في نسخة كانت لغيره، وقد حكَّك اسمَ صاحبها وكتب اسمه عليها". وفي "لسان الميزان" (¬1) عن ابن عساكر قال: "وقد أراني شيخنا أبو القاسم السمرقندي بعضَ نسخة ابن بطة بـ "معجم البغوي"، فوجدت سماعه فيه مُصْلَحًا بعد الحكِّ، كما حكاه الخطيب عن ابن خيرون". أجاب ابن الجوزي بقوله: "أتراه إذا حصلت للإنسان نسخة، فحكَّ اسم صاحبها وكتب سماع نفسه - وهي سماعه - أن يوجب هذا طعنا؟ ". أقول: هذا بمقتضى العادة يدلّ أنه لم يكن لابن بطة أصلٌ بسماعه "المعجم" من البغوي، فإنه لو كان له أصل به لكان اسمُه كُتِبَ وقتَ السماع. فإن كان سمع في ذاك الأصل مع آخر؛ فإنه يُكتَب سماعُهما معًا، فما الحاجة إلى الحكِّ ثم الكتابة مرة أخرى؟ ¬

_ (¬1) (5/ 342). والمقصود بـ "معجم البغوي": "معجم الصحابة" وهو مطبوع مرتين، أتمّها في أربعة مجلدات نشرتها مبرّة الآل والأصحاب سنة 1432 هـ.

وقد قال الخطيب: "قال [1/ 344] إلى أبو القاسم الأزهري: ابن بطة ضعيف ضعيف ليس بحجة، عندي عنه "معجم البغوي" ولا أخرج عنه في الصحيح شيئًا. قلت له: كيف كان كتابه بـ "المعجم"؟ فقال: لم نر له أصلاً، وإنما دفع إلينا نسخة طريَّة بخط ابن شهاب، فنسخنا منها، وقرأنا عليه". وتقدم عن أبي ذر الهروي أنه جهد أن يُخرج له ابن بطة شيئًا من أصوله فلم يفعل. وذكر ابن بطة فيما رواه ابن الجوزي قصة سماعه "المعجم" من البغوي وفيها: "ثم قرأنا عليه "المعجم" في نفر خاص في مدة عشرة أيام أو أقل أو أكثر، وذلك في سنة خمس عشرة أو ست عشرة" والظاهر أنه لو كان أصل سماعه عنده لكان التاريخ مقيدًا فيه فلا يحتاج إلى الشك. فأما قول ابن الجوزي: "قرأت بخط أبي القاسم ابن الفراء ... قابلت أصل ابن بطة "المعجم" فرأيت سماعه في كل جزء إلا أني لم أر الجزء الثالث أصلاً" = فذاك هو السماع الملْحَق الذي ذكره ابن خيرون وابن عساكر. فالذي يتحصل أنه لم يكن عند ابن بطة أصل سماعه بـ "المعجم"، فإما أن يكون كان له أصل فضاع أو تلف، وإما أن يكون سمع في نسخة لغيره لم تَصِرْ إليه، وكأنه ظفر بنسخة أخرى وثِقَ بصحتها، فتسمَّح في الرواية عنها. والله أعلم. الخامس: ذكر الخطيب عن أبي القاسم التنوخي عن أبي عبد الله بن بكير قال: "ابن بطة لم يسمع "المعجم" من البغوي. وذلك أن البغوي حدَّث به دفعتين: الأولى منها قبل سنة ثلاثمائة (قبل مولد ابن بطة) في مجلس عام، والأخرى بعد سنة ثلاثمائة في مجلس خاص لعلي بن عيسى (الوزير)

وأولاده". قال الخطيب: "وفي هذا القول نظر؛ لأن محمَّد بن عبد الله بن الشخِّير قد روى عن البغوي "المعجم"، وكان سماعه بعد الثلاثمائة بسنين عدة. ولعل ابن بكير أراد بالمرتين قبل سنة عشر وثلاثمائة وبعدها ... ومما يدل على ذلك أن أبا حفص ابن شاهين كان من المكثرين عن البغوي، وكذلك أبو عمر بن حَيَّوَيْه وابن شاذان، ولم يكن عند أحد منهم "المعجم"، فهذا يدل على أن رواية العامة كانت قبل العشر بسنين عدة". أجاب ابن الجوزي بأن التنوخي كان معتزليًّا يميل إلى الرفض. أقول: هو صدوق، ولكن قد دل ما ذكره الخطيب أن سماع ابن الشخِّير كان بعد [1/ 345] الثلاثمائة بسنين عدة على أن البغوي حدَّث بـ "المعجم" دفعة ثالثة، ولعلها كانت لنفرٍ خاص، فلم يقف عليها ابن بكير، ولم يحضرها ابن شاهين وابن حَيَّوَيه وابن شاذان. وقد تكون هناك دفعة رابعة خاصة أيضًا. وقد ذكر ابن بطة - فيما رواه ابن الجوزي - قصةً حاصلها: أن أباه بعثه وهو صغير مع شريكٍ له من أهل بغداد، فأدخله على البغوي واسترضوه أن يحدِّثهم بـ "المعجم" في نفر خاص. قال: "ثم قرأنا عليه المعجم ... " إلى آخر ما تقدم آنفا. وفي القصة: "وأذكره وقد قال: حدثنا إسحاق بن إسماعيل الطالقاني سنة 224 (¬1)، فقال المستملي: خذوا، هذا قبل أن يولد كل محدِّث على وجه الأرض! وسمعت المستملي وهو أبو عبد الله بن مهران يقول له: من ذكرت يا ثلث (¬2) الإِسلام؟ ". والظاهر أن هذا كان في مجلس ¬

_ (¬1) (ط): "244" خطأ. (¬2) كذا في (ط)، و"المنتظم": (7/ 196) و"طبقات الحنابلة": (2/ 145)، ونسخة من =

عام حدَّث فيه البغوي بأحاديث غير المعجم الذي اختص به ابن بطة ومن معه. ويشهد لذلك أن ابن بطة قد روى عن البغوي أحاديث ليست في "المعجم" كما يأتي. والله أعلم. السادس: قال الخطيب: شاهدت عند حمزة بن محمَّد بن طاهر الدقَّاق نسخةً بكتاب محمَّد بن عُزَيز في (غريب القرآن) وعليها سماع ابن السُّوسَنْجِردي من ابن بطة عن ابن عُزَيز، فسألت حمزة عن ذلك؟ فأنكر أن يكون ابن بطة سمع الكتاب من ابن عُزَيز، وقال: ادَّعى سماعه ورواه". أقول: ليس هناك ما يدفع دعواه، فقد أدرك ابنَ عُزَيز إدراكًا بيّنًا. السابع: قال الخطيب: "قلت: وكذلك ادّعى سماع كتب أبي محمَّد بن قتيبة ورواها عن شيخ سماه: ابنَ أبي مريم. وزعم أنه دينَوَري حدَّثه عن ابن قتيبة. وابن أبي مريم هذا لا يعرفه أحد من أهل العلم، ولا ذكره سوى ابن بطة. والله أعلم". أقول: كأن ابن بطة لقي في سياحته رجلاً دينَوَريًّا ذكر له أنه سمع كتب ابن قتيبة، ويكون هذا الدينوري سياحًا لم يتصدّ للرواية وإنما اتفق أن لقيه ابن بطة في سياحته. الثامن: ذكر الخطيب عن ابن بَرهان قال: "قال لي محمَّد بن أبي الفوارس: روى ابن بطة عن البغوي عن مصعب بن عبد الله عن مالك عن الزهري عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: طلب العلم فريضة على كل مسلم". قال ¬

_ = "تاريخ دمشق": (38/ 112). ووقع في نسخة من "تاريخ ابن عساكر"، و"تاريخ الإِسلام": (8/ 612) للذهبي، و"السير": (16/ 530): "يا ثَبْت الإِسلام".

الخطيب: "قلت: هذا الحديث باطل من حديث مالك، [1/ 346] ومن حديث مصعب، ومن حديث البغوي عن مصعب. وهو موضوع بهذا الإسناد، والحملُ فيه على ابن بطة" (¬1). أقول: تقدم أن ابن بَرْهان ليس بعمدة، ولعله سمع من [ابن] (¬2) أبي الفوارس يقول: بلغني عن ابن بطة، أو نحو ذلك. ولو روى ابن بطة هذا الحديث لكان الظاهر أن يشتهر عنه وينتشر. ولو صح عنه لحُمِل على الوهم، فإنه سمع من البغوي وهو صغير، ولم يكن له أصول، إنما كان يحمل على حفظه فيَهِم، فيحتمل أن يكون سمع الحديث من البغوي بسند آخر، وسمع منه حديثًا أو أكثر بهذا السند، فوهم. التاسع: قال الخطيب: "حدثني أحمد بن محمَّد العتيقي بلفظه من أصل كتابه وكتبه لي بخطه قال: حدثنا عبيد الله بن محمَّد بن حمدان الفقيه (ابن بطة) بعكبرا، حدثنا عبد الله بن محمَّد البغوي، حدثنا مصعب بن عبد الله الزبيري، حدثنا مالك بن أنس، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا" الحديث. وهذا الحديث أيضًا باطل من رواية البغوي عن مصعب. ولم أره عن مصعب عن مالك أصلاً. والله أعلم". ¬

_ (¬1) قال الذهبي معلقًا على هذا الموضع في "السير": (16/ 531): "قلت: أفحشَ العبارة، وحاشى الرجل من التعمّد لكنه غلط، ودخل عليه إسناد في إسناد". وبنحوه قال في "تاريخ الإِسلام": (8/ 614). وهو ما خلص إليه المؤلف. (¬2) سقطت من (ط).

أقول: الحديث في "الصحيحين" وغيرهما (¬1) من رواية جماعة عن مالك، ولا يبعد أن يكون عند مصعب أيضًا فلا يرويه عنه إلا البغوي. لكن يبعد جدًّا أن يكون الحديث كان عند البغوي من هذا الوجه العالي، فلا يرويه عنه إلا ابن بطة الذي حُمِل إليه وهو صغير، ولم يطل مقامه عنده. فالحكم بوهم ابن بطة في هذا واضح. ولَنِعْم ما قال الذهبي في "الميزان" (¬2): "إمام ذو أوهام ... ومع قلة إتقان ابنِ بطة في [1/ 347] الرواية كان إمامًا في السنة، إمامًا في الفقه، صاحب أحوال وإجابةِ دعوة (¬3) رضي الله عنه" (¬4). وعليك أن لا تقصر نظرك على هذه الأمور، فترى في اجتماعها واستضعافك لبعض الأجوبة ما يحملك على سوء الظن بابن بطة؛ بل ينبغي لك أن تنظر أيضًا إلى حاله في نفسه، وقدِّم قولَ ابن بَرهان المعتزلي نفسه: "لم أر في شيوخ أصحاب الحديث ولا غيرهم أحسن هيئة من ابن بطة". وقولَ أبي حامد الدلوي الأشعري: " ... ولا رئي مفطرًا إلا في يوم الأضحى والفطر. وكان أمَّارًا بالمعروف، لم يبلغه خبرُ منكر إلا غيَّره". وقولَ العتيقي: " ... كان شيخًا صالحًا مستجاب الدعوة". ¬

_ (¬1) البخاري (100)، ومسلم (2673)، والترمذي (2652)، وأحمد (6511)، وابن ماجه (52). (¬2) (3/ 412). (¬3) (ط): "ودعوة". (¬4) وقال في "السير": "قلت: لابن بطة مع فضله أوهام وغلط". وقال في "العلو للعلي الغفار" (ص 141 طبع الأنصار): "صدوق في نفسه، وتكلموا في إتقانه". [المؤلف].

154 - عبيدة الخراساني

وقال أبو الفتح بن القَوَّاس: "ذكرت لأبي سعد الإسماعيلي ابنَ بطة وعلمه وزهده، فخرج إليه، فلما عاد قال: هو فوق الوصف". وقال ابن الجوزي في "المنتظم" (ج 7 ص 164): "أنبأنا أبو بكر محمَّد بن عبد الباقي، عن أبي محمَّد الحسن بن علي الجوهري قال: سمعت أخي [أبا] (¬1) عبد الله الحسين بن علي يقول: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام فقلت: يا رسول الله قد اختلفَتْ علينا المذاهب، فبمن نقتدي؟ فقال لي: عليك بأبي عبد الله ابن بطة. فلما أصبحتُ لبست ثيابي وأصعدت إلى عكبرا، فدخلت إليه. فلما رآني تبسَّم وقال: صدق رسول الله، صدق رسول الله، صدق رسول الله. يقولها ثلاثًا". فالذي يتحصَّل أن ابنَ بطة مع علمه وزهده وفضله وصلاحه البارع كثيرُ الوهم في الرواية, فلا يُتهم بما ينافي ما تواتر من صلاحه، ولا يُحتج بما ينفرد بروايته. ولا يُشنَّع على الخطيب فيما صنعه وفاءً بواجب فنه وإظهارًا لمقتضى نظره. والله الموفق. 154 - عُبيدة الخراساني: في "تاريخ بغداد" (14/ 257): "أبو داود سليمان بن الأشعث، ثنا عَبْدة بن عبد الله الخراساني قال: قال رجل لابن المبارك ... ". قال الأستاذ (ص 178): " ... من لا يجوز الاحتجاج به ومن هو غير ثقة مثل ... وعُبيدة الخراساني ... ". أقول: في الرواة عن ابن المبارك "عتبة بن عبد الله"، و"عبدة بن سليمان". وكلاهما [1/ 348] مروزيان، ومرو من خراسان، وهما ثقتان. فإن ¬

_ (¬1) سقطت من (ط).

155 - عثمان بن أحمد أبو عمرو بن السماك الدقاق.

كان هذا غيرهما فقد تقدَّم في ترجمة أحمد بن سعد بن أبي مريم (¬1) أن أبا داود لا يروي إلا عن ثقة. 155 - عثمان بن أحمد أبو عَمرو بن السَّمَّاك الدقَّاق. في "تاريخ بغداد" (13/ 389 [406]) من طريقه "حدثنا حنبل بن إسحاق ... " مرت الحكاية في ترجمة حنبل (¬2). قال الأستاذ (ص 84): "المغموز عند الذهبي برواية الفاضحات". أقول: عبارة الذهبي في "الميزان" (¬3): "صدوق في نفسه لكن روايته لتلك البلايا عن الطيور (¬4) كوصية أبي هريرة، فالآفة من بعده (يعني في سياق السند). أما هو فوثَّقه الدارقطني، وينبغي أن يُغمز ابن السماك بروايته لهذه الفضائح". قال ابن حجر في "اللسان" (¬5): "لو فتح المؤلف على نفسه ذِكْر من روى خبرًا كذبًا آفته من غيره ما سَلِم معه سوى القليل من المتقدمين فضلاً عن المتأخرين. وإني لكثير التألم من ذكره لهذا الرجل الثقة في هذا الكتاب بغير مستند (¬6). وقد عظَّمه الدارقطني، ووصفه بكثرة الكتابة والجد ¬

_ (¬1) رقم (18). (¬2) رقم (86). (¬3) (3/ 428). (¬4) كذا في الأصل، وكذا نقله في "اللسان"، وغيِّر في بعض الطبعات إلى "الطيوري" وهو خطأ. وهذا التعبير يستخدمه الذهبي في وصف الضعفاء والمجاهيل كما في الميزان: (3/ 430، 4/ 290، 5/ 308، 335)، فقد وصفهم بـ: "طير غريب"، أو: "طير طرأ". (¬5) (5/ 374). (¬6) في "اللسان" زيادة: "ولا سلف".

156 - عثمان بن سعيد الدارمي الحافظ

في الطلب، وأطراه جدًّا. وقال الحاكم في "المستدرك" (¬1) حدثنا أبو عمرو ابن السماك الزاهد حقًّا ... ". وأقول: نعم ينبغي أن يُغمز بما يناسب حاله، فلا يُركن إلى ما يرويه بدون النظر في رجاله، كما يركن إلى ما يرويه يحيى بن سعيد القطان مثلاً، وأنت إذا نظرت إلى سنده في هذه الحكاية وجدتهم ثقات. 156 - عثمان بن سعيد الدارمي الحافظ: في "تاريخ بغداد" (13/ 324) من طريقه "سمعت محبوب بن موسى يقول: سمعت ابن أسباط يقول: ولد أبو حنيفة وأبوه نصراني". قال الأستاذ (ص 16): "صاحب "النقض" مجسِّم مكشوف الأمر يعادي أئمة التنزيه، ويصرِّح بإثبات القيام والقعود والحركة والثقل والاستقرار المكاني والحد ونحو ذلك لله تعالى. ومثله يكون جاهلاً باللهِ سبحانه، بعيدًا عن أن تقبل روايته". أقول: كان الدارمي من أئمة السنة الذين يصدِّقون الله تعالى في كلِّ ما أخبر به عن نفسه، [1/ 349] ويصدِّقون رسولَه في كلِّ ما أخبر به عن ربه، بدون تكييف، ومع إثبات أنه سبحانه ليس كمثله شيء. وذلك هو الإيمان, وإن سماه المكذِّبون جهلًا وتجسيمًا. وقد بسطت الكلام في قسم الاعتقاديات (¬2)، ومرَّ في القواعد (¬3) أن مثل هذا الاعتقاد ليس ممَّا يقدح في الرواية. وكذلك مرَّ فيها ما يتعلق بما يرويه الرجل مما فيه غضٌّ من مخالفه ¬

_ (¬1) (3/ 17). (¬2) (2/ 529 وما بعدها). (¬3) (1/ 87 - 98).

157 - علي بن أحمد أبو الحسن المعروف بابن طيبة الرزاز

في الاعتقاد أو المذهب. وهذه الحكاية منقطعة, لأن يوسف بن أسباط أصغر من أبي حنيفة بأربعين سنة، ولا ندري ممن سمعها. 157 - عليّ بن أحمد أبو الحسن المعروف بابن طيبة الرزَّاز: في "تاريخ بغداد" (13/ 385 [399]): "أخبرني علي بن أحمد الرزاز أخبرنا علي بن محمَّد بن سعيد الموصلي قال: حدثنا الحسن بن الوضاح المؤدب ... ". فذكر حكاية قد جاءت من غير هذا الوجه. قال الأستاذ (ص 72): "كان له ابنٌ أدْخَل في أصوله تسميعات طرية على ما حكاه الخطيب، فكيف يعوِّل الآن على روايته؟ ". أقول: قال الخطيب في ترجمة الرزاز (¬1): "شاهدت أنا جزءًا من أصول الرزّاز بخط أبيه ... ثم رأيته قد غُيِّر فيه بعد وقت ... وكان الرزاز مع هذا كثير السماع، كثير الشيوخ، وإلى الصدق ما هو". فهذه الحكاية مما رآه الخطيب في أصول الرزاز الموثوق بها، كما هو معروف من تحرِّي الخطيب وتثبُّته. 158 - علي بن إسحاق بن عيسى بن زاطيا: في "تاريخ بغداد" (13/ 381 [390]) من طريقه: "حدثنا أبو معمر القطيعي .... ". قال الأستاذ (ص 63): "لم يكن بالمحمود كما أقرَّ به الخطيب". أقول: حكى الخطيب هذه الكلمة عن ابن المنادي (¬2). وهذه الكلمة ¬

_ (¬1) (11/ 329). (¬2) في "التاريخ": (11/ 349).

159 - علي بن جرير الباوردي

تُشعر بأنه محمود في الجملة، كما مرَّ نظيره في ترجمة الحسن بن الصبّاح (¬1)، فإن عُدّت جرحًا فهو غير مفسَّر، وقد قال ابن السني: "لا بأس به". 159 - [1/ 350] عليّ بن جرير الباوردي: في "تاريخ بغداد" (13/ 413 [441 - 442]) من طريق محمَّد بن المهلب السرخسي: "حدثنا علي بن جرير قال: كنت في الكوفة، فقدمت البصرة وبها ابن المبارك، فقال لي: كيف تركت الناس؟ قال: قلت: تركت بالكوفة قومًا يزعمون أن أبا حنيفة أعلم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... ". ومن طريق محمَّد بن أبي عتاب الأعيَن: "حدثنا علي بن جرير الأبِيوَرْدي قال: قدمتُ على ابن المبارك فقال له رجل: إن رجلين تماريا عندنا في مسألة، فقال أحدهما: قال أبو حنيفة، وقال الآخر: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال الأول: كان أبو حنيفة أعلم بالقضاء ... ". قال الأستاذ (ص 148): "لا نجد لعلي بن جرير روايةً مطلقًا عن ابن المبارك في غير هذين الخبرين، وعلي بن جرير الباوردي هذا زائغ لم يستطع ابن أبي حاتم أن يذكر شيخًا له ولا راويًا عنه، وجعله بمنزلة من يُكتب حديثه ويُنظر فيه - روايةً عن أبيه - لا في عِداد مَن يُحتَج به. ونحن قد نظرنا فيه, فوجدناه باهتًا ... ". أقول: ذكره ابن حبان في "الثقات" (¬2) قال: "علي بن جرير من أهل (أبِيوَرْد) يروي عن حماد بن سلمة وابن المبارك، وكان يخضب لحيته. ¬

_ (¬1) رقم (76). (¬2) (8/ 464).

روى عنه أحمد بن سيَّار. سمعت محمَّد بن محمود بن عدي يقول: سمعت (محمَّد بن عبد الله) بن قهزاد (¬1) يقول: سمعت عليَّ بن جرير يقول: قلت لابن المبارك: رجل يزعم أن أبا حنيفة أعلم بالقضاء من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال عبد الله: هذا كفر. قلت: يا أبا عبد الرحمن بك نفَذَ الكفر، قالوا: رويتَ فروى الناس (¬2). قال: ابتُليتُ به. ودمعت عيناه". فقد روى علي بن جرير عن إمامين (¬3)، وروى عنه أربعة من الثقات. وفي ترجمة عمر بن صبح من "التهذيب" (¬4): "قال البخاري في "التاريخ الأوسط": حدثني يحيى اليشكري عن علي بن جرير ... ". فهذا خامس (¬5). وقال أبو حاتم: "صدوق" (¬6)، ولم يكن ليقول ذلك حتى يعرفه كما ينبغي. وأبو حاتم معروف بالتشدد، قد لا تَقِلُّ كلمة "صدوق" منه عن كلمة "ثقة" من غيره، فإنك لا تكاد تجده أطلق كلمة "صدوق" في رجل إلا وتجد غيره قد وثَّقه. هذا هو الغالب. ثم ذكَرَه ابن حبان في "الثقات" (¬7)، وأورَدَ له ¬

_ (¬1) (ط): "قهزاز" خطأ. (¬2) في "الثقات": "رويتَ عنه فروى الناس عنه". (¬3) وروى أيضًا عن مالك بن أنس وإسماعيل بن عياش. (¬4) (7/ 463). (¬5) وروى عنه أيضًا: حُميد بن زنجويه, ويوسف بن موسى، والخرائطي، وسليمان بن حريش، فصاروا تسعة. (¬6) (6/ 178). (¬7) (8/ 464).

تلك الحكاية التي يستنكرها الأستاذ، ولا يضرُّه بعد ذلك أن لا يعرفه ابن أبي حاتم. وما أكثر الذين لم يعرفهم، وقد عرفهم غيره. فأما قول [1/ 351] الأستاذ "فوجدناه باهتًا"، فأطال في محاولة توجيهه بما أشعر أنه يمتنع أن يقول مسلم: إن أبا حنيفة أعلم بالقضاء من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن أقدم جاهل على ذلك امتنع أن لا يُرفع إلى الحاكم ليقيم عليه حكم الشرع. فأقول: أما امتناع القول، فإن كان المراد أن قائل ذلك لا يبقى مسلمًا فهذا لا يدفع هذه الحكاية. وإن كان المراد امتناع أن يقول ذلك إنسان ينتحل الإِسلام، فهذا لا وجه له، فقد غلا كثير من منتحلي الإِسلام في أفراد، فادَّعوا لهم العصمة أو النبوة أو الألوهية، وذلك معروف مشهور. وقد حُكيت عن أبي حنيفة كلمات لا يبعد أن يسمعها بعضُ جهلةِ معظِّميه، فيتوهّم أن الأحكام التي مردُّها إلى القضاة بمنزلة الرأي في مصالح الدنيا كتدبير الحروب والمعايش. وقد قال الله تبارك وتعالى لرسوله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159] وجاء عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أنتم أعلم بأمر دنياكم" (¬1)، وأنه ربما كان يرى الرأي في تدبير الحرب، فيخبره بعض أصحابه بأن غيره أولى، فيرجع إلى قوله. فمن تلك الكلمات ما حكي عنه في تلقَّيه من يذكر له حديثًا يخالف قوله بمثل: "من أصحابي من يبول قلتين. هذا حديث خرافة. لا آخذ به. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2363) من حديث عائشة وأنس بن مالك رضي الله عنهما.

دعنا من هذا. هذا رجز. هذا سجع. هذيان. حُكَّ هذا بذنَبِ خنزير". وما عزي إليه من قوله: "لو أدركني النبي (وفي رواية: رسول الله) - صلى الله عليه وسلم - لأخذ بكثير من قولي". زاد في رواية: "وهل الدين إلا الرأي الحسن؟ ". وقد ذكرها الأستاذ ص 75 و85. وهذه الكلمة قد يكون أُريد بها: إن كثيرًا مما أقوله باجتهادي موافق للحق، فلو كنتُ في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلم صحة كثير من قولي، وصوَّبه، وحكم بما يوافقه، كما يُروى من موافقات عمر أنه قد كان يرى الرأي أو يقول القول فينزل القرآن بموافقته. فأما قوله: "وهل الدين إلا الرأي الحسن"، فالرأي الحسن حقًّا هو المطابق للحكمة الحقة حقَّ المطابقة، وكذلك الدين مطابق للحكمة الحقَّة حقَّ المطابقة. فالرأي الحسن حقًّا لا يخالف الدين، ولا يخالفه الدين. وقد زعم بعضهم أن أبا حنيفة إنما قال: "لو أدركني البَتِّي ... " فصحَّف بعضهم فقال: "النبي"، ثم رواها بعضهم بالمعنى فقال: "رسول الله". وجرى الأستاذ على هذا, ولا بأس بالنظر فيه. قال الأستاذ: "وأما [1/ 352] أصل الحكاية ... " فذكر طرفًا مما في "مناقب أبي حنيفة" للموفق المكي (ج 2 ص 101 - 109). والرواية هناك من طريق عبد الله بن محمَّد بن يعقوب الحارثي قال: "حدثني أبو طالب سعيد بن محمَّد البرذعي في مسجد أبي الحسن الكوفي ببغداد، حدَّثني أبو جعفر ... الطحاوي، أبَنا بكّار بن قتيبة، أبنا هلال بن يحيى الرأي البصري، سمعت يوسف بن خالد السَّمْتي قال: اختلفتُ إلى عثمان البَتِّي فقيه أهل البصرة - وكان يذهب مذهب الحسن وابن سيرين ومذهب

البصريين - فأخذتُ من مذاهبهم وناظرت عليها ثم استأذنته في الخروج إلى الكوفة ... فأذن لي. فلما قدمتُ الكوفة ... فإذا أنا بكهل قد أقبل ... وخلفه غلام أشبه الناس به ... فتوسَّمت أنه أبو حنيفة ... فقال: كنتَ من المختلفة إلى البتِّي؟ قلت: نعم. قال: لو أدركني البتي لترك كثيرًا من قوله ... " إلى أن قال يوسف: "كنت اختلف إلى أبي حنيفة، فكنت أمرُّ بنادي قوم، فمن كثرة مروري بهم صاروا إلى أصدقاء. ثم انقرضوا، فصار أولادهم إلى أصدقاء. ثم استأذنت بالخروج إلى البصرة ... ". وفي القصة عجائب. وقد ذكر الأستاذ البتِّيَّ والسمتيَّ في (ص 113) قال: "عثمان بن مسلم البتِّي هو فقيه البصرة توفي سنة 143 كما سبق. وكانت تجري بينه وبين أبي حنيفة مراسلات ... وكان يوسف بن خالد السَّمْتي بعد أن تفقه على أبي حنيفة رجع إلى البصرة وأخذ يُجابه البتِّيَّ وأصحابَه ... حتى ثاروا ضده ... ولكن لما حلَّ زُفَر بالبصرة جرى على الحكمة في مناظرتهم ... ". يشير الأستاذ إلى ما في كتاب ابن أبي العوام عن الطحاوي بسنده كما في "لسان الميزان" (ج 2 ص 477) (¬1): "قدم زُفَر بن الهُذيل البصرة فكان يأتي حلقه عثمان البتِّي ... فلم يلبث أن تحولت الحلقة إليه، وبقي عثمان البتي وحده". فقد اتَّضح أن البتيَّ أدرك أبا حنيفة. ويقول الأستاذ: إنه كانت تجري بينهما مراسلات، وصرحت القصةُ نفسُها أن البتيَّ كان حيًّا يرزق حين لقي يوسفُ السمتيُّ أبا حنيفة، وقال له أبو حنيفة كما تزعم القصة: "لو أدركني ¬

_ (¬1) (3/ 503).

البتي ... ". ويُعْلَم من كلام الأستاذ أن البتي عاش بعد ذلك إلى أن أكمل السمتي تفقُّهَه ورجع إلى البصرة، ثم إلى أن ظهر إخفاق السمتي وورد زفرُ البصرةَ. فليتدبر القارئ: هل يقول أبو حنيفة والبتيُّ حيٌّ يرزق يراسله ويكاتبه: "لو أدركني البتِّي ... "؟ ثم ليحزر ما أقلُّ ما يحتمل بحسب العادة أن [1/ 353] يكون عمُر السمتي حين استأذن البتِّيَّ، وذلك بعد اختلاف السمتي إليه وأخذه من مذاهبهم ومناظرته عليها؟ ثم ليحزر ما عسى أن يكون عمُر أبي حنيفة وعمر ولده حماد حين رآهما السمتي؟ والقصة تقول: "فإذا أنا بكهل قد أقبل ... وخلفه غلام أشبه الناس به". ثم تصرَّح بعد ذلك بأن الكهل أبو حنيفة وأن الغلام ابنه حماد. ثم ليحزر ما عسى أن تكون مدة عكوف السمتي على الأخذ من أبي حنيفة، والقصة تقول: "أمر بنادي قوم فمن كثرة مروري بهم صاروا لي أصدقاء، ثم انقرضوا فصار أولادهم لي أصدقاء، ثم استأذنت ... ". فكم المدة إلى أن استأذن في العود إلى البصرة واحتفل له أبو حنيفة بتلك الوصية الطويلة العريضة؟ ثم ليحزر ما عسى أن تكون مدة بقاء السمتي بالبصرة حتى تبيَّن إخفاقه إلى أن ورد زفر، فسحر أهلَ البصرة وبقي البتي وحده؟ ثم ليعرض النتائج على الحقائق التاريخية. مولد السَّمتي سنة 120 (¬1) كما في "طبقات ابن سعد" (ج 7 قسم 2 ص 47) (¬2)، أو بعد ذلك بسنتين على ما في "التهذيب" (¬3) عن ابن سعد. ¬

_ (¬1) تحرفت في (ط) إلى (330)! (¬2) (9/ 294 - دار الخانجي). (¬3) (11/ 412).

ومولد أبي حنيفة سنة ثمانين على الأصح، وسنة سبعين أو ستين على رأي الأستاذ كما تقدم في ترجمة أحمد بن محمَّد بن الصلت (¬1). ومولد حماد حول سنة 100 على ما يظهر، وعلى رأي الأستاذ مولد حماد قبل مولد مالك، ومالك ولد سنة ثلاث وتسعين، وقيل قبل ذلك، ووفاة البتِّي سنة 143 كما تقدم. والقصة تقول: إن السَّمْتي الذي ولد سنة عشرين ومائة أو سنة اثنتين وعشرين ومائة كان يختلف إلى البتي ويأخذ من مذاهبهم حتى صار يناظر عليها، ثم قدم الكوفة فلقي الأعمش وجرت بينهما محاورة، ثم لقي أبا حنيفة وجرت بينهما محاورة. فلنفرض أن ذلك كان وعُمُر السمتي دون عشرين سنة، فليكن حول سنة أربعين ومائة، وعُمُر أبي حنيفة حينئذ على قولنا ستون سنة، وعلى رأي الأستاذ سبعون أو ثمانون. وعمر حماد على ما يظهر أربعون سنة، وعلى رأي الأستاذ خمسون سنة. لكن القصة ذكرتهما بقولها: "فإذا أنا بكهل قد أقبل ... وخلفه غلام أشبه الناس به"! ثم لا أدري كم نفرض بقاء السمتي مع أبي حنيفة، وهي مُدّة. كان أولاً يمر بقوم فصاروا له أصدقاء، ثم انقرضوا فصار أبناؤهم له أصدقاء، ثم رجع إلى البصرة فوجد البتِّي حيًّا إلى آخر ما ذكر الأستاذ. وقد علمتَ متى توفي البتي! وأدع البقية إلى القارئ. وإن أحب فليراجع القصة ليزداد بصيرة! والأستاذ عافانا الله وإياه يعمد إلى أمور [1/ 354] نسبتُها إلى هذه نسبة الخيال إلى الحقيقة، فيردُّ بها روايات الثقات الأثبات. ومنها ما يُروى من ¬

_ (¬1) رقم (34).

وجهين أو أكثر، ومنها ما هو متواتر على الحقيقة. فأما هذه الحكاية، فتفرَّد بها الحارثي، وهو تالف مرمي بالوضع. راجع ترجمته في "لسان الميزان" (ج 3 ص 348) (¬1). وشيخه لا يُذكر إلا في هذه الحكاية، وقد ذكره صاحب "الجواهر المضيئة في تراجم الحنفية" (ص 249) (¬2) بما يؤخذ من هذه الحكاية فقط. فإما أن يكون اسمًا اختلقه الحارثي، وإما أن يكون رجلاً مغمورًا هلك، فاختلق الحارثي هذه الحكاية ونسبها إليه. فإن القصة تدل على اطلاع وتفيهق، وهذه صفة الحارثي، يمتنع أن يكون شيخه بهذه الصفة ثم لا يُذكر إلا في هذه الحكاية. فأما الطحاوي فبريء منها حتمًا, ولو كان عنده شيء منها لما فات ابن أبي العوام، والظاهر أن الحارثي سمع ما حُكي عن أبي حنيفة من قوله: "لو أدركني النبيُّ ... " فحاول أن يعالجها، فوقع فيما وقع فيه. وكأنَّ الأستاذ شعر بذلك، فحاول التأويل. فزعم أن معنى قول أبي حنيفة "لأخذ بكثير من قولي": لأخذني أي للامني ووبَّخَني! ولا يخفى حال هذا التأويل. على أنه ناقضَه بما أجاب به عن قوله: "وهل الدين إلا الرأي الحسن"، فزعم أن كلمة "الدين" محرفة عن "أرى"، وأن الأصل "وهل أرى إلا الرأي الحسن". ولنقتصر على هذا القدر. فأما امتناع أن يقول قائل: "أبو حنيفة أعلم ... " ولا يُرْفع إلى الحاكم ليقيم عليه حكم الشرع، فإنما يتجه إذا قاله على رؤوس الأشهاد. وليس فيما ¬

_ (¬1) (4/ 579 - 580). (¬2) (2/ 224).

160 - علي بن زيد الفرائضي

رواه عليُّ بن جرير ما يقتضي ذلك. وقد مرَّ علي بن جرير بالكوفة غريبًا، فإذا سمع رجلاً يقول ذلك، ولم يكن هناك جمع كثير، رأى أنه لا فائدة في الذهاب إلى القاضي؛ إذْ لعله لو قال للقائل: تعال معي إلى القاضي امتنع، فإنْ ذهب علي إلى القاضي قال له القاضي: ومن القائل؟ فلا يعرفه. فإن عرفه فلعلَّ القائل يجحد، بل لعلهم يعكسون القضية على ذاك الغريب ويؤذونه! بقي ما وقع من اختلاف ألفاظ الحكاية. فأقول: ذاك من جهة الرواية بالمعنى، ومثله كثير، وفي "صحيح مسلم" (¬1) في أحاديث لا تقضي الحائض الصلاة، من طريق "يزيد الرِّشْك عن معاذة أن امرأة سألت عائشة ... "، ومن طريق "عاصم عن معاذة قالت: سألتُ عائشة فقلتُ ... ". ولهذا نظائر. فأما قول الأستاذ [1/ 355] في علي بن جرير "زائغ. السفيه. الخبيث. النذل. الخبيث" فحسابها إلى الله عزَّ وجلَّ. 160 - علي بن زيد الفرائضي: في "تاريخ بغداد" (13/ 398 [419]) من طريقه قال: "حدثنا علي بن صدقة قال: سمعت محمَّد بن كثير قال: سمعت الأوزاعي ... ". قال الأستاذ (ص 111): "تكلموا فيه". أقول: كذا قال ابن يونس، ولم يبيَّن من المتكلَّم، ولا ما هو الكلام؟ وقد قال مسلمة بن قاسم: "ثقة"، والتوثيق مقدَّم على مثل هذا الجرح كما لا ¬

_ (¬1) (335).

161 - علي بن صدقة

يخفى. 161 - علي بن صدقة: تقدمت الإشارةْ إلى روايته في الذي قبله. قال الأستاذ (ص 111): "كثير الإغراب". أقول: ذكره ابن حبان في "الثقات" (¬1) وقال: "يُغرب". وابن حبان قد يقول مثل هذا لمن يستغرب له حديثًا واحدًا أو زيادة في حديث. فقول الأستاذ: "كثير الإغراب" من تصرفاته، والحكاية التي ذكرها الخطيب بهذا السند معروفة جاءت من عدة طرق. 162 - علي بن عاصم: في "تاريخ بغداد" (13/ 387 [402]) عنه قال: "حدَّثْنا أبا حنيفة بحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. فقال: لا آخذ به. فقلت: عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال: لا آخذ به". قال الأستاذ (ص 78): "أبو حنيفة كغيره من أهل العلم في عدم الأخذ بحديث علي بن عاصم الذي يكتبه الورَّاقون ويحدِّث هو به بدون سماع ولا مقابلة بأصل صحيح. والكلامُ فيه طويل الذيل في كتب الضعفاء, فتبًّا لمن يقيم نفسه مقام الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ويجعل الرد عليه ردًّا على المصطفى صلوات الله وسلامه عليه. وأبو حنيفة الذي يقول: لعن الله من يخالف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، به أكرمنا الله، وبه استنقذنا، كما في "الانتقاء" لابن عبد البر (ص 141) كيف يخالف حديثًا صح عن الرسول عليه الصلاة والسلام. ومن زعم، فقد أبعد في البهت، نسأل الله الصون". ¬

_ (¬1) (8/ 471).

163 - علي بن عبد الله ابن المديني

أقول: أما ما في "الانتقاء" (¬1)، فطرف من حكاية ردَّها الأستاذ نفسه (ص 94)، وقال في حاكيها داود بن المحبّر: "متروك باتفاق"، فكيف يستند إليها هنا جازمًا بقوله: "الذي يقول"؟ وظاهر قول علي بن عاصم "حدَّثْنا أبا حنيفة ... " أنه وافقه غيره على التحديث. وهَبْه لم يوافقه أحد، أفما كان ينبغي أن يجيبه أبو حنيفة بقوله: "من روى هذا معك؟ " أو نحو ذلك، [1/ 356] وهَبْه علِمَ تفرُّدَه، أفما كان الأولى أن يجيبه بقوله: "لم يثبت عندي" أو نحو ذلك. [1/ 356] بل لو قال له: لا أثق بروايتك لكان أولى من قوله: "لا آخذ به". فأما عليّ بن عاصم فالذي يظهر من مجموع كلامهم فيه أنه خَلّط في أول أمره، ثم تحسنت حاله، وبقي كثرة الغلط والوهم. فما حدَّث به أخيرًا ولم يكن مظنة الغلط فهو جيد (¬2). 163 - علي بن عبد الله ابن المديني: تقدم في ترجمة إبراهيم بن بشار الرمادي (¬3) متابعة ابن المديني له في حكايته عن ابن عيينة. أشار الأستاذ (ص 82) إلى ذلك ثم قال: "لو فكّر ابن المديني في مسايرته لابن أبي دُواد ... وسعى في إعداد الجواب ... لكان أحسن له، ونحسب أنه لم يُعِدَّ ولن يُعِدَّ ... ". ¬

_ (¬1) (ص 259). (¬2) ترجمته في "التهذيب": (5/ 49 - 51)، و"الميزان": (4/ 55 - 58). (¬3) رقم (2).

وفي "تاريخ بغداد" (13/ 420 [450]) من طريق عبد الله بن علي ابن المديني أنه سأل أباه عن أبي حنيفة؟ "فضعَّفه جدًّا، وقال: لو كان بين يدي ما سألته عن شيء، وروى خمسين حديثًا أخطأ فيها". قال الأستاذ (ص 168): "إن كان ابن المديني كما نهش الخطيبُ عرضَه في (11/ 459) وابن الجوزي في "مناقب أحمد" لا يكون لكلامه قيمة". ثم أشار الأستاذ إلى أن ابن المديني تناقض، قال: "ينافي ما ذكره أبو الفتح الأزدي في "كتاب الضعفاء" حيث قال: قال علي ابن المديني: أبو حنيفة روى عنه ... وهو ثقة لا بأس به". ثم قال الأستاذ: "نسأل الله السلامة". وفي "تاريخ بغداد" (13/ 423 [454]) عنه: "قال لي بشر بن أبي الأزهر النيسابوري: رأيت في المنام ... ". قال الأستاذ (ص 170): "ليس بقليل ما ذكره الخطيب عن ابن المديني في "تاريخه"، ومن جملة ذلك صلته الوثيقة بأحمد بن أبي دُواد في محنة أهل الحديث ... وقد ترك أبو زرعة وأحمدُ الروايةَ عنه بعد المحنة، وبشر بن [أبي] الأزهر من أخص أصحاب أبي يوسف، ... ومن أتبع أهل العلم لأبي حنيفة وأرعاهم لجانبه، فلا أشك أن هذه الرواية مختلَقة". أقول: أما مسايرته لابن أبي دُواد، فقد أجاب عنها مرارًا بأنه مُكْرَه، وكان في أيام المحنة إذا خلا بمن يثق به من أهل السنة ذكر له ذلك، وأنه يرى أن الجهمية كفار. جاء ذلك من طرق. فإن قيل: لم يكن الدعاة يُكرهون أحدًا أن يكون معهم، وإنما كانوا يُكْرِهون على قول مثل مقالتهم، كما فعلوا بيحيى بن معين وغيره. فكيف أكرهوا ابنَ المديني على [1/ 357] مسايرتهم؟

قلت: كان الدعاة يرون أنه لا غنى لهم عن أن يكون بجانبهم من يعارضون به الإِمام أحمد، ولم يكن هناك إلا ابن المديني أو يحيى بن معين. فأما ابن معين فإنه وإن كان أضعف صبرًا وأقل ثباتًا من أحمد بحيث إنه أجاب عند الإكراه إلى إجراء تلك المقالة على لسانه، فلم يكن من الضعف بحيث إذا هدَّدوه وخوَّفوه على أن يسايرهم ليجيبهم إلى ذلك. ولعلهم قد حاولوا ذلك منه فأخفقوا، فما بقي إلا ابن المديني، وكان هو نفسه شهد على نفسه بالضعف قال: "قويَ أحمدُ على السوط ولم أقوَ". وقال لابن عمار: "خفتُ أن أقتل، وتعلم ضعفي أني لو ضُربتُ سوطًا واحدًا لمتُّ" أو نحو هذا. وقال لأبي يوسف القُلُوسي لما عاتبه: "ما أهون عليك السيف! ". وقال لعلي بن الحسين: "بلِّغْ قومك عني أن الجهمية كفار، ولم أجد بدًّا من متابعتهم؛ لأني حبست في بيت مظلم وفي رجلي قيد حتى خفت على بصري". وذُكِر عند يحيى بن معين فقال: "رجل خافَ". وإنما أنكر عليه في طول مسايرته للجهمية ما جرى في حديث الوليد بن مسلم. كان الوليد يروي عن الأوزاعي عن الزهري عن أنس عن عمر أنه قرأ قولَه تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 31] فتردد في معنى الأبّ، ثم قال: "أيها الناس خذوا بما بُيِّن لكم فاعملوا به، وما لم تعرفوه فَكِلُوه إلى عالمه"، فأخطأ الوليد مرةً فقال: "إلى خالقه". كأنه جعل الضمير للأبّ ونحوه مما ذكره الله عَزَّ وَجَلَّ من مخلوقاته، فكان أهل العلم يروونه عن الوليد على الصواب، وربما ذكروا أنه أخطأ فقال: "إلى خالقه". ورواه ابن المديني بالبصرة: "إلى عالمه"، ونبَّه على الخطأ فيما يظهر، ثم كأن الجهمية عرفوا ذلك، فألزموا ابن المديني أن يرويه بلفظ "إلى خالقه" قائلين: إنك قد

سمعت مرة كذلك، فإذا رويته كذلك لم يكن فيه كذب. فاضطُرَّ إلى إجابتهم، فسأله عباس العنبري، فأجابه بقوله: "قد حدثتكم بالبصرة" وذكر أن الوليد أخطأ فيه. فذكروا للإمام أحمد أن ابن المديني روى بلفظ "إلى خالقه"، فقال: "كذب" يريد أحمدُ أن ابن المديني يعلم أن الصواب "إلى عالمه" وأن كلمة: "إلى خالقه" كذب وقع من الوليد خطأً. وفي الحديث الصحيح: "من حدَّث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين" (¬1)، فقيل لأحمد: "إن عباسًا العنبري قال لما حدَّث به عليٌّ بـ (العسكر) قلت: إن الناس أنكروه عليك، فقال: قد حدثتكم به بالبصرة. وذكر [1/ 358] أن الوليد أخطأ فيه". فغضب أحمد وقال: "نعم، قد علم أن الوليد أخطأ فلِمَ أراد أن يحدِّثهم به؟ يعطيهم الخطأ". وعذره في هذا ما قدمناه. فأما تركُ أحمد وأبي زرعة الروايةَ عن عليّ بعد أن وقعت المحنة، فقد تقدم الجواب عنه في ترجمة إسماعيل بن إبراهيم بن معمر (¬2). وأما قول الأستاذ: "ونحسب أنه لم يُعِدَّ ولن يُعِدَّ" فكأنه يشير إلى أن الدعاة كانوا على حق وأن ابن المديني سايرهم عارفًا أنهم على حق، والحق لا يحتاج الإنسان إلى أن يُعِدَّ عن اختياره له جوابًا. فإن كان هذا مغزى الأستاذ، فالكلام فيه مشروح في قسم الاعتقاديات. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (903 - زوائد عبد الله)، وابن ماجه (38) من حديث علي رضي الله عنه، وإسناده صحيح. وأخرجه أحمد (18184)، ومسلم في مقدمة "صحيحه": (1/ 8)، والترمذي (2662)، وابن ماجه (41) من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه. قال الترمذي: حسن صحيح. (¬2) رقم (47).

وأما ما ذكره الأزدي، فالأزدي نفسه متَّهم، ولا ندري مع ذلك ما سنده إلى ابن المديني. وهبْ أن ذلك صحَّ، فلا يدفع رواية ولد ابن المديني عن أبيه، فإن كثيرًا من الأئمة تختلف أقوالهم في الرجل توثيقًا وجرحًا، إما لتغيير الاجتهاد، وإما لأن إحدى الكلمتين أريد بها خلاف ما يظهر منها، وإما لغير ذلك، كأن يقال هنا: كان دعاة المحنة حنفية، وكانوا ينسبون مقالتهم التي امتحنوا الناسَ فيها إلى أبي حنيفة، ويدعون إلى مذهبه في الفقه كما مرت الإشارة إلى طرف منه في ترجمة سفيان الثوري (¬1)، فكأنهم استكرهوا ابنَ المديني على أن يثني على أبي حنيفة ويوثقه، فاضطُر إلى أن يوافقهم. وقد يكون ورَّى، فقصد بكلمة: "ثقة" معنى أنه لم يكن يكذب، ثم لما سأله ابنه أخبره بما يعتقده. وأما استبعاد أن يخبر بِشْر وهو من أتباع أبي حنيفة في الفقه بتلك الرؤيا، فلا يكفي لدفع الرواية إذا صح سندها. فقد يعترف الرجل على نفسه، فإذا أخبر بذلك عنه ثقة قُبِل، فما الظن بما يخبر به عن أستاذه أو أستاذ أستاذه؟ وقد يكون بِشْر مع متابعته لأبي حنيفة في الفقه يخالف في بعض العقائد، كما روي عن أبي يوسف أنه قال: "إنما كان مدرسًا، فما كان من قوله حسنًا قبلناه، وما كان قبيحًا تركناه" تراه في "التأنيب" (ص 46). وقد يكون بِشْر يرى أن تلك الرؤيا أضغاث أحلام، فلا يقيم لها وزنًا، وإنما أخبر بها تعجّبًا. وقد يكون يرى أن لها تأويلاً تكون بحسبه فضيلة وبشارة لأبي حنيفة وأصحابه. فيتأول السواد بالسؤدد، وصحبة القسيسين بالإشارة إلى ¬

_ (¬1) رقم (98).

164 - علي بن عمر بن أحمد بن مهدي أبو الحسن الدارقطني

قول الله تبارك وتعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ [1/ 359] لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 82 - 85]. ولو قيل: إن الخطيب إنما ختم ترجمة أبي حنيفة بهذه الرؤيا نظرًا إلى هذا التأويل كعادته في ختم التراجم بالرؤى التي فيها بشارة لأصحابها، كما فعل في ترجمة محمَّد بن الحسن وغيرها, لكان أقوى بكثير من كثير من دعاوي الأستاذ. والله الموفق. 164 - علي بن عمر بن أحمد بن مهدي أبو الحسن الدارقطني: ذكر الأستاذ (ص 167) ما روي عن الدارقطني من نفيه سماع أبي حنيفة من أنس ثم قال: "وهو الذي يستبيح أن يقول: إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة ثلاثتهم ضعفاء. وأين هو من محمَّد بن عبد الله الأنصاري الذي يقول في إسماعيل: ما ولي القضاء من لدن عمر بن الخطاب إلى اليوم أعلم من إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة. يعني بالبصرة؟ وأين هو أيضًا من محمَّد بن مخلد العطار الحافظ الذي ذكر حماد بن أبي حنيفة في عداد الأكابر الذين رووا عن مالك؟ وأين هو أيضًا من هؤلاء الذين أثنوا على أبي حنيفة ... ؟ والدارقطني هو الذي يهذي في أبي يوسف بقوله: أعور بين عميان. وهو الأعمى المسكين بين عُور، حيث ضلَّ في المعتقد، وتابع الهوى في الكلام على الأحاديث واضطرب". وقال (ص 178): "ومن طرائف صنيع الخطيب أيضًا روايته عن الدارقطني أنه

قال عن أبي يوسف: أعور بين عميان، بعد أن ذكر عنه من رواية البرقاني أنه قال: هو أقوى من محمَّد بن الحسن. والدارقطني هو الذي يذكر محمَّد بن الحسن في عداد الثقات الحفاظ حيث يقول في "غرائب مالك" عن حديث الرفع عند الركوع: حدث به عشرون نفرًا من الثقات الحفاظ منهم محمَّد بن الحسن الشيباني. كما تجد نص هذا النقل منه في "نصب الراية" (1/ 408) كما سبق. وقد اعترف الدارقطني في رواية البرقاني بأن أبا يوسف أقوى من محمَّد، فيكون أبو يوسف حافظًا ثقةً وفوق الثقة عنده. فإذا قال في بعض المجالس في حق مثله: أعور بين عميان - كما حكى الخطيب - يكون قوله هذيانًا بحتًا وسفهًا صرفًا. فلو عارضه أحد [1/ 360] أصحابنا قائلاً: بل هو الأعمى بين عُور، ما بعد عن الصواب؛ لأن الله سبحانه أعمى بصيرة هذا المتسافه في صفات الله سبحانه حتى دوَّن في صفات الله سبحانه ما لا يدوِّنه إلا مجسِّم، وهو حديث الشاب الجعد القطط، وحديث الإقعاد الذي يلهج هو به؛ كما أعمى بصيرة كثير من زملائه وهو معهم في الفروع، فإذن هو فاقد البصر في المعتقد كما أنه فاقد البصر في الفروع. ومن يكون فاقد البصرين يكون هو الأعمى بين أناس عُور لم يفقدوا إلا إحداهما بفقدهم التبصر في بعض الفروع فقط. راجع ما ذكره المحدث البارع الشيخ عبد العزيز الفَنْجابي الهندي مؤلف "نبراس الساري في أطراف البخاري" في حاشيته على "نصب الراية" (3/ 8) لتطلع على جلية أمر الدارقطني في الثقة والأمانة، نسأل الله السلامة". والذي في تلك الحاشية مع إصلاح بعض الأخطاء: "من مارس كتابَه علم أنه قلما يتكلم على الأحاديث، إلا حديثًا خالف الشافعيَّ فيُظهِر عَواره، أو وافقه فيصححه إن وجد إليه سبيلًا. لا أقول: إنه يفعل ذلك بهوى النفس، ولكن إذا كان ثقةً ضعَّفه بعضهم، أو ضعيفًا فيه كلام لبعضهم، أو ضعيفًا وثَّقه بعضهم، أو وجد مجهولاً = لا يترقب، ويُظهر طرفه الموافق لإمامه ... وهذا محمَّد بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى القاضي رجل واحد يوثقه في حديث

طهارة المني (ص 46) ويقول: ثقة في حفظه شيء. ويشدِّد القولَ فيه في حديث شَفْع الإقامة (ص 89) ويقول: ضعيف سيّئ الحفظ. وفي حديث القارن يسعى سعيين (ص 273) يقول: رديء الحفظ كثير الوهم، كأنه عليه غضبان وله غائظ" أقول: أما استباحة أبي الحسن قولَه: "ثلاثتهم ضعفاء" فلم ينفرد بها والكلام في أبي حنيفة أشهر من أن نحتاج إلى ذكره. وحماد ترجمته في "لسان الميزان" (ج 2 ص 346) (¬1). ودعوى أن ابن مخلد ذكره في الأكابر الذين رووا عن مالك فيها نظر, كما مرَّ في ترجمة أحمد بن محمَّد بن الصلت (¬2). فإن ثبت ذلك فكِبَرُ العمر لا يستلزم الثقة في الرواية, وذاك الحديث باطل لم يروه حماد ولا أبوه, فإن كان خفي على ابن مخلد بطلانُه دلَّ ذلك على ضعف نقده، وإن [1/ 361] كان عَرَف ذلك وتسامح فلأن يتسامح في ذكر حماد أقرب. وكذلك إسماعيل ترجمته في "اللسان" (ج 1 ص 398) (¬3). وقد زعم مصحّحه الحنفي أنه أخرج له أبو داود والترمذي كأنه يزعم أنه هو إسماعيل بن حماد بن أبي سليمان! وهذا من عجائب هؤلاء القوم! والأنصاري - إن صح أنه قال تلك الكلمة - تغير تغيرًا شديدًا في آخر عمره، فلعله قال تلك الكلمة حين تغيره؛ على أنه كان مضطربًا في ميله إلى الرأي، كان ¬

_ (¬1) (3/ 267). (¬2) رقم (34). (¬3) (2/ 114).

يتعصب له حتى يلي القضاء، فإذا ولي (¬1) القضاء قضى بالحديث. وكان بينه وبين معاذ بن معاذ نفرة، ذكروا له قضية لمعاذ بن معاذ فأفتى بخلافها، فلما ولي القضاء قضى بقول معاذ! فقيل له في ذلك فقال: "كنت انظر في كتب أبي حنيفة، فإذا جاء دخول الجنة والنار لم نجد القول إلا ما قال معاذ". وأخرج الدارقطني في "السنن" (ص 214) (¬2) حديثًا من طريق محمَّد بن موسى الحارثي (الإصطخري)، عن إسماعيل بن يحيى بن بحر الكرماني، عن الليث بن حماد الإصطخري، عن أبي يوسف، عن غورك بسنده. قال الدارقطني: "تفرد به غورك عن جعفر، وهو ضعيف جدًّا، ومن دونه ضعفاء". فروى الخطيب عن بعضهم أنه لما كانت "السنن" تقرأ على الدارقطني بلغ هذا الموضع فقيل له: إن فيهم أبا يوسف فقال: "أعور بين عميان" يريد أن أبا يوسف وإن كان فيه ضعف ما فهو أحسن حالاً من غورك، والليث بن حماد ومن معهما في السند من الضعفاء. فأما قوله مرة أخرى: إن أبا يوسف أقوى من محمَّد، فذلك - والله أعلم - بالنظر إلى حال محمَّد مطلقًا؛ فإن من الأئمة من يتكلم في محمَّد، ومنهم من قوَّاه في روايته عن مالك خاصة، كما قاله الذهبي في "الميزان" (¬3). فمحمد قويّ في روايته "الموطأ" عن مالك خاصة، فأما في بقية حديثه فيرى الدارقطني أن أبا يوسف أقوى منه. ¬

_ (¬1) (ط): "أولي". (¬2) (2/ 125). (¬3) (4/ 433).

وأما ما حكاه الزيلعي عن كتاب "غرائب الرواة عن مالك" من قوله: "حدَّث به عشرون نفرًا من الثقات الحفاظ منهم محمَّد بن الحسن ... " فالجواب عنه من وجهين: الأول: ما تقدم أن محمدًا قويّ عندهم فيما يرويه في "الموطأ" عن مالك وليِّن فيما عدا ذلك، فلا مانع أن يعده الدارقطني في ذاك الحديث الذي هو عنده في "الموطأ" عن مالك من جملة الثقات الحفاظ، ثم يليَّنه في سائر شيوخه، ويقول: إن أبا يوسف أقوى منه مع لين أبي يوسف [1/ 362] عنده. غاية الأمر أن كلمات الدارقطني تحتاج إلى تقييد بعضها ببعض، وليس في ذلك ما يضره؛ فإن النصوص الشرعية أنفسها قد تحتاج إلى تقييد بعضها ببعض، على أن سياق كلامه في "الغرائب" يدل على التقييد، ولعله كان مع كلمته الأخرى ما يدل على ذلك. الوجه الثاني: أن قول المحدث: "رواه جماعة ثقات حفاظ" ثم يعدُّهم لا يقتضي أن يكون كلُّ من ذكره بحيث لو سئل عنه ذاك المحدثُ وحدَه لقال: "ثقة حافظ". هذا ابن حبان قصد أن يجمع الثقات في كتابه، ثم قد يذكر فيهم من يليِّنه هو نفسه في الكتاب نفسه. وهذا الدارقطني نفسه ذكر في "السنن" (ص 35) (¬1) حديثًا فيه مسح الرأس ثلاثًا، وهو موافق لقول أصحابه الشافعية، ثم قال: "خالفه جماعة من الحفاظ الثقات ... " فعدَّهم وذكر فيهم شَريكًا القاضي، وأبا الأشهب جعفر بن الحارث، والحجاج بن أرطاة، وجعفر الأحمر. مع أنه قال ¬

_ (¬1) (1/ 89).

(ص 132) (¬1): "شريك ليس بالقوي فيما يتفرد به". وجعفر بن الحارث لم أر له كلامًا فيه، ولكن تكلم فيه غيره من الأئمة كابن معين والنسائي. وحجاج بن أرطاة قال الدارقطني نفسه في مواضع من "السنن": "لا يحتج به" (¬2)، وفي بعض المواضع: "ضعيف" (¬3). وجعفر الأحمر اختلفوا فيه. وقال الدارقطني كما في "التهذيب" (¬4): "يعتبر به". وهذا تليين كما لا يخفى. ونحو هذا قول المحدّث: "شيوخي كلهم ثقات" أو "شيوخ فلان كلهم ثقات". فلا يلزم من هذا أن كل واحد منهم بحيث يستحق أن يقال له بمفرده على الإطلاق: "هو ثقة". وإنما إذا ذكروا الرجل في جملة من أطلقوا عليهم ثقات، فاللازم أنه ثقة في الجملة، أي له حظ من الثقة. وقد تقدم في القواعد (¬5) أنهم ربما يتجوزون في كلمة "ثقة"، فيطلقونها على من هو صالح في دينه، وإن كان ضعيف الحديث أو نحو ذلك. وهكذا قد يذكرون الرجل في جملة من أطلقوا [1/ 363] أنهم ضعفاء، وإنما اللازم أن له حظًّا ما من الضعف، كما تجدهم يذكرون في كتب الضعفاء كثيرًا من الثقات الذين تُكُلِّم فيهم أيسر كلام. هذا كله مع أن الدارقطني لو تناقضت بعض كلماته البتة لم يكن في ذلك ما يبيح سوء الظن به، فإن غيره من الأئمة اتفق لهم ذلك. وما أكثر ما ¬

_ (¬1) (1/ 345). (¬2) (1/ 78). (¬3) (2/ 206). (¬4) (2/ 93). (¬5) (1/ 112 - 113).

تجده من التناقض في كلمات ابن معين، كما تقدم في القواعد (¬1). وأما الفَنْجابي الذي يخلع عليه الأستاذ لقب (المحدِّث البارع) وينوِّه بكتابه "نبراس الساري" الذي لا أجحد إفادته وإن كان يتمكن من ترتيبه الطالب العادي، فما يظهر من كلامه أن الدارقطني إنما يصحح ما يوافق مذهب الشافعي وإنما يضعف ما يخالفه، ليس كما قال. وقد تقدم ردُّ. الدارقطني خبر مسح الرأس ثلاثًا، وهو موافق لمذهب الشافعي. وذكر (ص 42) (¬2) خبرًا فيه الأمر بغسل الإناء من ولوغ الهر فصحَّحه، وهو خلاف مذهب الشافعي. ولذلك نظائر لا أرى حاجةً لتتبعها. وأما ما ذكره من اختلافِ ظاهرِ كلامه في ابن أبي ليلى، فذلك لاختلاف مقتضى الحال. ينبغي أن تعلم أن كلام المحدِّث في الراوي يكون على وجهين: الأول: أن يُسأل عنه، فيجيل فكره في حاله في نفسه وروايته، ثم يستخلص من مجموع ذلك معنى يحكم به. الثاني: أن يستقرّ في نفسه هذا المعنى، ثم يتكلم في ذاك الراوي في صدد النظر في حديث خاص من روايته. فالأول هو الحكم المطلق الذي لا يخالفه حكم آخر مثله إلا لتغير الاجتهاد. وأما الثاني فإنه كثيرًا ما ينحى به نحو حال الراوي في ذاك ¬

_ (¬1) (1/ 106 - 110). (¬2) (1/ 63).

الحديث. فإذا كان المحدث يرى أن الحكم المطلق في الراوي أنه صدوق كثير الوهم، ثم تكلم فيه في صدد حديث من روايته، ثم في صدد حديث آخر وهكذا، فإنه كثيرًا ما يتراءى اختلافٌ ما بين كلماته. فمن هذا أن الحجاج بن أرطاة عند الدارقطني صدوق يخطئ فلا يحتج بما ينفرد به. واختلفت كلماته فيه في "السنن" فذكره (ص 35) (¬1) في صدد حديث وافق فيه جماعةً من الثقات، فعدَّه الدارقطني [1/ 364] في جملة "الحفاظ الثقات" كما مرَّ (¬2). وذكره (ص 531) (¬3) في صدد حديث أخطأ فيه وخالف مسعرًا وشريكًا فقال الدارقطني: "حجاج ضعيف" وذكره في مواضع أخرى فأكثر ما يقول: "لا يحتج به". وعلى هذا يُنزَّل كلامه في ابن أبي ليلى، فإنه عنده صدوق سيئ الحفظ. ففي (ص 46) (¬4) ذكر حديثًا رواه إسحاق الأزرق، عن شريك، عن ابن أبي ليلى، عن عطاء، عن ابن عباس مرفوعًا في طهارة المني. وذكر أن وكيعًا رواه عن ابن أبي ليلى عن عطاء عن ابن عباس من قوله. وقد رواه الشافعي عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار وابن جريج كلاهما عن عطاء عن ابن عباس من قوله. فالحديث صحيح عن ابن عباس من قوله. وقد رواه وكيع - وهو من الثقات الأثبات - عن ابن أبي ليلى كذلك. ورواه شريك عن ابن أبي ليلى ¬

_ (¬1) (1/ 78). (¬2) (1/ 607). (¬3) (4/ 250). (¬4) (1/ 124 - 125).

فرفعه. فحال ابن أبي ليلى في هذا الحديث جيدة, لأنه في أثبت الروايتين عنه وافق الأثبات، وفي رواية الأزرق عن شريك عنه رفعه، وقد يحتمل أن يكون الخطأ من الأزرق أو من شريك، فإن الأزرق ربما غلط، وشريكًا كثير الخطأ أيضًا. وقد رواه وكيع عن ابن أبي ليلى على الصواب، فلهذا اقتصر الدارقطني على قوله: "لم يرفعه غير إسحاق الأزرق عن شريك. محمَّد بن عبد الرحمن هو ابن أبي ليلى ثقة في حفظه شيء". وفي (ص 89) (¬1) ذكر حديثًا رواه الجبلان سفيان وشعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى مرسلاً، وخالفهما محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى فرواه موصولاً، فحاله في هذا الحديث رديئة، فظهر أثر ذلك في كلمة الدارقطني فقال: "ضعيف سيئ الحفظ". وفي (ص 273) (¬2) ذكر أحاديث في القارن يطوف طوافًا واحدًا ويسعى سعيًا واحدًا. وهناك روايات عن علي وابن مسعود أنهما قالا: طوافين وسعيين. ثم ذكر من طريق ابن أبي ليلى عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي أنه "جمع بين الحج والعمرة فطاف لهم طواف واحد (كذا) وسعى لهما سعيين، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل". ولا يخفى ما في هذا من التخليط، فهذا هو الذي أغضب الدارقطني، وغاظه يا (¬3) أستاذ! فلذلك قال: "رديء الحفظ كثير الوهم". فأين اتباع الهوى وأين ¬

_ (¬1) (1/ 241). (¬2) (2/ 261 - 263). (¬3) مكانها بياض في (ط) ولعله سقط أثناء الطبع.

165 - علي بن عمر بن محمد

الاضطراب؟ وماذا أفادتكم الحذلقة والانتحال؟ [1/ 365] وأما حديث الشاب الجعد القطط، فقد تقدم الجواب عنه في ترجمة حماد بن سلمة (¬1). وحديث الإقعاد تقدم الجواب عنه في ترجمة أحمد بن محمَّد بن الحجاج (¬2). وأما ما زعم الأستاذ من ضلال الدارقطني وأئمة الحديث في المعتقد وعمى البصيرة فيه وعمى بصيرة المخالفين لأبي حنيفة في الفروع، فيعلم ما فيه من قسم الاعتقاديات وقسم الفقهيات. وأدع ما بقي موفورًا على الأستاذ! 165 - عليّ بن عمر بن محمَّد: في "تاريخ بغداد" (13/ 373 [377 - 378]): "أخبرني الخلال، حدثنا علي بن عمر بن محمَّد المُشْتري، حدثنا محمَّد بن جعفر الأَدَمي ... ". قال الأستاذ (ص 42): "علي بن عمر بن محمَّد المشتري لم أجد من وثَّقه". أقول: أما أنا فلم أجده، إلا أن يكون هو علي بن عمر بن محمَّد الحميري يقال له: السكري، والصيرفي، والكيال، والختلي، والحربي. ترجمته في "تاريخ بغداد" (12/ 40) وذكر في الرواة عنه الخلال. وذكر عن البرقاني أنه قال فيه: "لا يساوي شيئًا"، وعن الأزهري قال: "صدوق كان سماعه في كتب أخيه، لكن بعض أصحاب الحديث قرأ عليه شيئًا منها لم يكن فيه سماعه، وألحق فيه السماع، وجاء آخرون فحكُّوا الإلحاق وأنكروه. ¬

_ (¬1) رقم (85). (¬2) رقم (30).

166 - علي بن محمد بن سعيد الموصلي

وأما الشيخ فكان في نفسه ثقة". وعن عبد العزيز الأَزَجي قال: "كان صحيح السماع، ولما أضرَّ قرأ عليه بعض طلبة الحديث شيئًا لم يكن فيه سماعه، ولا ذنب له في ذلك". وعن العتيقي: "حدَّث قديمًا، وأملى في جامع المنصور، وذهب بصره في آخر عمره، وكان ثقة مأمونًا". أقول: فحاصل القصة أن الرجل لم يكن يحفظ، وكان سماعه مقيَّدًا في كتب أخيه، وكان من الكتب ما لم يقيَّد سماعُه فيه. فلما عمي كان يُخرج الكتب، فينظر المحتاطون ما سماعُه فيه، فيقرؤونه عليه. فاتفق أن جاء بعض من لا خير فيه، فطلب إخراج الكتب، فاتفق أن رأى جزءًا ليس عليه سماع الشيخ، فعلم أنه لم يروه قبل ذلك، فألحق فيه سماعًا للشيخ، والشيخ لا يدري، وقال للشيخ: أحبّ أن أقرأ عليك هذا الجزء فإن سماعك فيه. فظنه الشيخ صادقًا فقال: اقرأ. ثم عثر أهل الحديث على ذاك الجزء، فمنهم من لم يحقِّق كالبَرْقاني ظن أن ذلك الإلحاق برضى الشيخ فتكلم فيه. ومنهم من حقَّق، فعلم أن الشيخ بريء من ذلك كما رأيت. فالقول [1/ 366] فيه أن ما سمع منه قبل عماه صحيح، فأما بعد عماه فما رواه عنه المحتاطون كالخلال، أو سمع منه بحضرة واحد من المحتاطين فهو صحيح. والله أعلم. 166 - عليّ بن محمَّد بن سعيد الموصلي: تقدمت الإشارة إلى روايته في ترجمة علي بن أحمد الرزاز (¬1). قال الأستاذ (ص 72): "كذَّبه أبو نعيم، وقال ابن الفرات: مخلِّط غير محمود". ¬

_ (¬1) رقم (157).

167 - علي بن محمد بن مهران السواق

أقول: تسمَّح الخطيب، فروى من طريقه ما جاء من طرق أخرى قوية. والله المستعان. 167 - علي بن محمَّد بن مهران السوّاق: تقدم له ذكر في "الطليعة" (ص 109) (¬1) فأشار الأستاذ في "الترحيب" (ص 39) و (ص 60) إلى أني جعلتُ السواق الصواف. وصدق الأستاذ، وهو الذي سبقني إلى ذلك! وذلك أنه وقع في "تاريخ بغداد" (13/ 416 [445]): "أخبرنا الخلال، حدثنا أحمد بن إبراهيم بن شاذان، أخبرنا علي بن محمَّد بن مِهران السوّاق، حدثنا محمَّد بن حماد المقرئ ... " فقال الأستاذ (ص 156): "علي بن محمَّد بن مهران السواق من ضعفاء شيوخ الدارقطني" مع أنه لا ذِكْر للدارقطني في السند، ففتشتُ عن علي بن محمَّد بن مهران فلم أجد، إلا أنني وجدت في "تاريخ بغداد" (12/ 71) "علي بن محمَّد بن يحيى بن مهران أبو الحسن الصوّاف الضرير، حدَّث عن أحمد بن محمَّد بن عيسى السكوني ... روى عنه الدارقطني. وكان ثقة"، فحدستُ أن الأستاذ يرى أن المذكور في السند هو هذا. ومن عادتهم في الأسانيد أن يختصروا فيحذفوا بعض الأسماء في النسب، كما يقولون "أحمد بن حنبل"، ثم يقولون في ابنه "عبد الله بن أحمد بن حنبل"، ومثل هذا كثير. بقي أن الذي في السند "السواق" والذي في الترجمة "الصواف"، فراجعت ترجمة السكوني وهي في "تاريخ بغداد" (5/ 59) فإذا فيها "روى عنه ... وعلي بن ¬

_ (¬1) (ص 87).

168 - علي بن مهران الرازي

محمَّد بن يحيى بن مهران السواق" فقوي الظن. ثم راجعت "سنن الدارقطني" فوجدت فيها (ص 255) (¬1): "نا علي بن محمَّد يحيى بن مهران السواق" وفيها (ص 57) (¬2): "أنا الحسين بن إسماعيل وعلي بن محمَّد بن مهران" وفيها (ص 409) (¬3): "نا علي بن محمَّد بن مهران السواق". فوضح الأمر وبان أن الواقع في سند الخطيب هو صاحب تلك الترجمة الذي قيل فيه: "روى عنه الدارقطني. وكان ثقة"، وأن ما وقع في الترجمة "الصواف" تحريف، والصواب [1/ 367] "السواق" وأنّ ذِكرَ الأستاذ أن الواقع في السند من شيوخ الدارقطني كان عن تحقيق، فأما زعمُه أنه من ضعفائهم فمن عنده! 168 - عليّ بن مِهران الرازي: في "تاريخ بغداد" (14/ 257) من طريقه: "ثنا ابن المبارك ... ". قال الأستاذ (ص 178): " ... وفي سندها من لا يجوز الاحتجاج به ومن هو غير ثقة، مثل سلم بن سالم وعلي بن مهران". أقول: قال إبراهيم بن يعقوب الجَوزجاني: "كان رديء المذهب غير ثقة" (¬4). وقد تقدمت ترجمة الجوزجاني (¬5) وتبيَّن أنه يميل إلى النصب، ¬

_ (¬1) (2/ 218). (¬2) (1/ 157). (¬3) (3/ 284) وكذلك في (1/ 185). (¬4) "الشجرة" (ص 351). (¬5) رقم (10).

169 - عمار بن زريق

ويطلق هذه الكلمة "رديء المذهب" ونحوها على من يراه متشيّعًا وإن كان تشيُّعه خفيفًا. وتحقّق في ترجمته في القواعد (¬1) أنه إذا جرح رجلاً ولم يذكر حجةً، وخالفه من هو مثله أو فوقه فوثَّق ذلك الرجل، فالعمل على التوثيق. وعليٌّ هذا ذكره ابن حبان في "الثقات" (¬2)، وقال ابن عدي: "لا أعلم فيه إلا خيرًا, ولم أر له حديثًا منكرًا، وقد كان راويةً لسَلَمة بن الفضل" (¬3). 169 - عمار بن زُرَيق: في "تاريخ بغداد" (13/ 407 [433]) من طريق أبي الجوَّاب قال: "قال لي عمار بن زُرَيق: خالِفْ أبا حنيفة فإنك تصيب". قال الأستاذ (ص 133): "يقول السليماني عنه: إنه كان من الرافضة". أقول: هذا حكاه الذهبي في "الميزان" (¬4) قال: "ثقة، ما رأيت لأحد فيه تليينًا إلا قول السليماني: إنه من الرافضة. والله أعلم". ولم يذكر المزي ولا ابن حجر هذه الكلمة في ترجمة عمار بن زريق. والسليمانيُّ مع تأخره وانزوائه في (بِيكند) ممن (¬5) ينسب المتقدمين إلى نحو هذا. وفي "لسان ¬

_ (¬1) (1/ 77 - 87). (¬2) (8/ 469). (¬3) (5/ 202). (¬4) (4/ 84) وتمام عبارته: "فالله أعلم بصحة ذلك". (¬5) (ط): "مما".

170 - عمر بن الحسن أبو الحسين الشيباني القاضي المعروف بابن الأشناني

الميزان" (ج 3 ص 433) (¬1) عنه أنه قال: "ذكر أسامي الشيعة من المحدِّثين ... الأعمش، النعمان بن ثابت، شعبة بن الحجاج ... ". والمتقدمون الذين هم أعرف بعمار اعتمدوه ووثقوه ولم يعيبوه بشيء. قال الإِمام أحمد: "كان من الأثبات". ووثَّقه ابن معين وابن المديني وأبو زرعة وغيرهم. وأخرج له مسلم وأبو داود والنسائي. 170 - عمر بن الحسن أبو الحسين الشيباني القاضي المعروف بابن الأُشناني: في "تاريخ بغداد" (13/ 378 [385]): "أخبرني الحسن بن محمَّد الخلال قال: حدثنا أحمد بن إبراهيم بن [1/ 368] الحسن حدثنا عمر بن الحسن القاضي ... ". قال الأستاذ (ص 54): "عمر بن الحسن الأشناني القاضي متكلَّم فيه. وقد ضعَّفه الدارقطني، وكذَّبه الحاكم، وكان يساوي بين السماع والإجازة". أقول: حكى الخطيب عن أبي عبد الرحمن السلمي أنه سأل الدارقطني عن هذا الرجل فقال: "ضعيف" (¬2). وعن الخلال أنه قال: "ضعيف تكلموا فيه". فأما السلمي فأراهم يحتملون حكاياته عن الدارقطني مع أنه على يدي عَدْلٍ، راجع ترجمته في "لسان الميزان" (ج 5 ص 140) (¬3). ومع ذلك لم ¬

_ (¬1) (5/ 130). وعلق الذهبي على صنيعه هذا بقوله: "فبئس ما صنع"! (¬2) "سؤالات السلمي للدارقطني" (221). (¬3) (7/ 92).

يفسر السبب. وكذلك كلمة الخلال. وقال الخطيب (¬1): "بلغني عن الحاكم أبي عبد الله بن البيِّع النيسابوري قال: سمعت أبا الحسن الدارقطني يذكر ابن الأشناني فقلت: سألت عنه أبا علي الحافظ فذكر أنه ثقة. فقال: بئس ما قال شيخنا أبو علي! دخلت عليه وبين يديه كتاب "الشُّفْعة"، فنظرت فيه فإذا فيه: عن عبد العزيز بن معاوية، عن أبي عاصم، عن مالك، عن الزهري عن سعيد وأبي سلمة، عن أبي هريرة في الشُّفْعة. وبجنبه عن أبي إسماعيل الترمذي، عن أبي صالح، عن عبد العزيز بن عبد الله الماجشون، عن مالك، عن الزهري. وذلك أنه بلغه أن الماجشون جوَّده، فتوهَّم أنه عبد العزيز. قال: فقلت له: قطع الله يدَ مَن كتب هذا ومن حدَّث به! ما حدَّث به أبو إسماعيل ولا أبو صالح ولا الماجشون. وما زال يداريني ... ورأيت في كتابه عن أحمد بن سعيد الجمال عن قبيصة عن الثوري عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر: نهى عن بيع الولاء، وكان يكذب". ولم يذكر الخطيب من بلَّغه عن الحاكم (¬2). وقال الذهبي في "الميزان" (¬3): "يُروَى عن الدارقطني أنه كذاب، ولم يصح هذا". والظاهر أن الذهبي عني هذه الحكاية وأنها لم تصح للجهالة بمن بلَّغ الخطيب (¬4). ¬

_ (¬1) في "التاريخ": (11/ 238)، وكلام الحاكم في "سؤالاته للدارقطني" (252). (¬2) كلام الحاكم ثابت في "سؤالاته للدارقطني" وسلف العزو إليه. وكتاب "السؤالات" من مصادر الخطيب في "تاريخه"، وقد أكثر النقل عن الحاكم فيه، ويعبر عن ذلك تارة بقوله: "روى الحاكم" أو "ذكر الحاكم" وغير ذلك. (¬3) (3/ 185). (¬4) انظر الحاشية رقم (2).

أما ابن حجر فقال في "اللسان" (¬1): "قال الحاكم: قلت للدارقطني: سألت أبا علي الحافظ عنه، فذكر أنه ثقة. فقال: بئس ما قال شيخنا أبو علي" كذا جزم مع أن من عادته أن لا يجزم بما لا يصح. ثم قال ابن حجر: "وقال أيضًا: دخلت عليه يعني الأشناني - وبين يديه كتاب الشفعة ... " ساق القصة التي مضت. وقوله: "وقال أيضًا" يوهم السياق أن مراده: "وقال الحاكم". وعلى ذلك بني الأستاذ قولَه: "كذَّبه الحاكم"، وقد علمت أن الذي في "تاريخ بغداد" [1/ 369] أنها من جملة ما بلغ الخطيبَ عن الحاكم عن الدارقطني. ومع جَزْم ابن حجر هنا فإنه قال في ترجمة عبد الله بن محمَّد بن عبد العزيز البغوي: "قال موسى بن هارون ... " (¬2)، فجزم، مع أن راوي تلك الكلمة عن موسى هو ابن الأُشناني هذا كما في "تاريخ بغداد" (¬3). وكذلك قال الذهبي في ترجمة محمَّد بن محمَّد بن سليمان الباغندي من "الميزان" (¬4)، وأقرَّه ابن حجر في "اللسان" (¬5): "قال محمَّد بن أحمد بن أبي خيثمة ... " مع أن الخطيب إنما أسند تلك الكلمة من طريق ابن الأُشناني؛ فجَزْمُ ابنِ حجر في هذين الموضعين يقتضي بمقتضى التزامه توثيق ¬

_ (¬1) (6/ 80). (¬2) (4/ 567). (¬3) (10/ 115). (¬4) (5/ 152). (¬5) (7/ 473).

ابن الأشناني. والذي يتجه هنا هو ما أشار إليه الذهبي أن الحكاية التي قال فيها الخطيب: "بلغني عن الحاكم ... " لا تثبت لجهالة من بلَّغ الخطيب. ويزيدها وهنًا أن الدارقطني يروي عن ابن الأُشناني هذا كما يأتي، وأن الخطيب يعتمد عليه في مواضع، وذكر في ترجمة عبد الله بن محمَّد بن عبد العزيز البغوي (¬1) حكايةً فيها ذِكْر موسى بن هارون ثم قال: "والمحفوظ ... " فذكر حكاية من طريق ابن الأشناني. وهَبْ أنها ثبتت، فما فيها من قوله: "بئس ما قال شيخنا أبو علي" وقوله: "وكان يكذب" مبنيّ على ما ظهر له من حال ذينك الحديثين: حديث الشفعة، وحديث الولاء. وسيأتي الجواب عنهما. وقال الخطيب أيضًا (¬2): "أخبرني محمَّد بن أحمد بن يعقوب، أخبرني محمَّد بن نعيم الضبِّي (هو الحاكم) قال: سمعت أبا علي الهروي يحدث عن عمر بن الحسن الشيباني القاضي. فسألته عنه، فقال: صدوق. قلت: إني رأيت أصحابنا ببغداد يتكلمون فيه، فقال: ما سمعنا أحدًا يقول فيه أكثر من أنه يرى الإجازة سماعًا، وكان لا يحدِّث إلا من أصوله". أقول: هذه الحكاية مسندة صحيحة. وقوله: "يرى الإجازة سماعًا"، يريد به الإجازة الخاصة بدليل قوله: "وكان لا يحدَّث إلا من أصوله" وهي قوية. فإن كان معنى أنه يراها سماعًا، هو أنه يعتدُّ بها ويروي ما أجيز له عمَّن ¬

_ (¬1) (10/ 115). (¬2) (11/ 238).

أجازه، فليس في هذا إلاَّ أنه يصحِّح الإجازة الخاصة، وهو قول أكثر أهل العلم. وإن كان معناه أنه يروي ما أجيز له بلفظ "حدَّثنا"، فاصطلاح له قد عُرف، ولا محذور فيه. وقول أبي علي: "وكان لا يحدِّث إلا من أصوله" عظيم القيمة كما سترى. فأما حديث الشفعة فهو في "الموطأ" (¬1) مرسل، ورواه أبو عاصم الضحاك بن مخلد، والماجشون عبد الملك بن عبد العزيز بن عبد الله، عن مالك، فوصلاه بذكر أبي هريرة. وفي تلك الحكاية: أنه رُئي في [1/ 370] كتاب الأُشناني من طريق أبي عاصم، فعُرف ذلك ولم يُنكَر. ورئي إلى جنبه عن أبي إسماعيل الترمذي، عن أبي صالح، عن عبد العزيز بن عبد الله الماجشون، عن مالك، فاستنكِر هذا. وحدس المستنكر أن ابن الأشناني بلغه أن الماجشون وافق أبا عاصم في تجويده أي وَصْله، فظنَّ أن الماجشون هذا هو عبد العزيز، فركَّب السندَ إليه. والجواب: أنه قد روى غيرُه هذا الحديث عن أبي إسماعيل الترمذي، عن يحيى بن عبد الرحمن بن أبي قتيلة، عن مالك، فذكره موصولاً كما في "سنن البيهقي" (ج 6 ص 103)، فمن المحتمل أن يكون ابن الأشناني سمع هذا من الترمذي في جملة ما سمع، ولم يكتبه أو كتبه ولم يهتد إلى موضعه من كتبه، وبقي عالقًا بذهنه أنه سمع الحديث من الترمذي من طريق أخرى غير طريق أبي عاصم. فلما بلغه أن الماجشون رواه موصولاً ظن أنه عبد العزيز، وكان قد سمع من الترمذي عن أبي صالح عن عبد العزيز ¬

_ (¬1) (2079).

أحاديثَ، فحدس أن هذا الحديث منها، فكتبه كذلك ليتذكره ثم يبحث في أصوله لعله يجده. ولم يكن من نيته أن يرويه قبل أن يجده في أصوله، فقد تقدم أنه كان "لا يحدِّث إلا من أصوله". وليس في هذا ما يُغمز به، على أنه لو كان كَتَبه في بعض مسوداته وهو يعلم بطلانه، فإنه لا يلزمه اسم الكذب حتى يحدِّث به. وإذْ قد عُلِم أن من عادته أن لا يحدّث إلا من أصوله، فقد عُلِم أنه لم يكن يريد أن يحدَّث بذلك الذي كتبه، فكانت كتابته له ضربًا من العبث. وأما حديث الولاء فهو متواتر عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر، رواه الثوري، وعبيد الله بن عمر، وجَمْع كثير عن عبد الله بن دينار. ثم رواه يحيى بن سليم الطائفي، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر. فظنوا أنه وهم، لكن رواه أبو ضَمْرة، ويحيى بن سعيد الأموي، عن عبيد الله، عن عبد الله بن دينار ونافع معًا، عن ابن عمر. وعلى ما في الحكاية: رُئي في كتاب ابن الأُشناني، عن أحمد بن سعيد الجمال، عن قبيصة، عن الثوري، عن عبيد الله، عن نافع. فاستنكر هذا لأنه لم يعرف رواه عن الثوري كذلك. والجواب: أنه يحتمل أن يكون الوهم من أحمد بن سعيد الجمال، فقد عُرِف له شِبْهُ ذلك. ففي ترجمته في "تاريخ بغداد" (ج 4 ص 170) روايته عن قَبيصة، عن الثوري، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر مرفوعًا: "من أريد ماله بغير حق فقاتل دونه فهو [1/ 371] شهيد". وذكر الخطيب أن المحفوظ عن الثوري، عن عبد الله بن الحسن، عن إبراهيم بن محمَّد بن طلحة، عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعًا.

وقال الذهبي في "الميزان" (¬1): "أحمد بن سعيد الجمّال، بغداديّ صدوق ... تفرّد بحديث منكر، رواه عنه أحمد بن كامل وغيره: حدثنا أبو نعيم، ثنا هشيم، حدثنا عوف، عن محمَّد، عن أبي هريرة مرفوعًا: ابن السبيل أول شارب - يعني من زمزم" وهذا أخرجه الطبراني في "الصغير" (ص 50) (¬2): "ثنا إبراهيم بن علي الواسطي المستملي ببغداد، ثنا أحمد بن سعيد الجمال، ثنا أبو نعيم ... ". قال الطبراني: "لم يروه عن عوف إلا هشيم، ولا عن هشيم إلا أبو نعيم، تفرد به أحمد بن سعيد الجمال". فإذ قد عُرِف للجمال مثلُ هذا، فالأولى حَمْلُ حديث الولاء عليه. وابن الأُشناني مكثر لا يُستنكر لمثله التفرّدُ عن الجمال هذا. وذكر الذهبي (¬3) لابن الأشناني حديثًا ثالثًا قال: "قال الدارقطني: حدثنا عمر بن الحسن بن علي، ثنا محمَّد بن هشام المروزي - هو ابن أبي الدُّمَيك موثَّق - ثنا محمَّد بن حبيب الجارودي، ثنا سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد، عن ابن عباس ... ". قال الذهبي: "فآفة هذا هو عمر، ولقد أثِمَ الدارقطنيُّ بسكوته عنه، فإنه بهذا الإسناد باطل. ما رواه ابن عيينة قط ... ". تعقبه ابن حجر في "اللسان" (¬4) فقال: "لم ينفرد بهذا، تابعه عليه في "مستدركه" الحاكم، ولقد عجبتُ من قول المؤلف: ما رواه ابن عيينة قط؛ ¬

_ (¬1) (1/ 100). (¬2) (252). (¬3) في "الميزان": (3/ 185). (¬4) (6/ 79).

171 - عمر بن قيس المكي

مع أنه رواه عنه الحميدي، وابن أبي عمر، وسعيد بن منصور، وغيرهم من أصحابه، إلا أنهم وقفوه على مجاهد لم يذكروا ابن عباس فيه. فغايته أن يكون محمَّد بن حبيب وهِم في رفعه". [1/ 372] وذكر الخطيب في ترجمة ابن الأُشناني تحديثه في حياة إبراهيم الحربي، ثم قال: "تحديث ابن الأشناني في حياة إبراهيم الحربي له فيه أعظم الفخر وأكبر الشرف، وفيه دليل على أنه كان في أعين الناس عظيمًا ومحلُّه كان عندهم جليلًا. أخبرنا علي بن المُحسِّن أخبرنا طلحة بن محمَّد بن جعفر قال ... واستقضى في هذا اليوم أبا الحسين ... المعروف بابن الأشناني ... وهذا رجل من جِلَّة الناس ومن أصحاب الحديث المجوِّدين، واحد الحفاظ له، وحسن المذاكرة بالأخبار ... وقد حدَّث حديثًا كثيرًا، وحمل الناس عنه قديمًا وحديثًا". أقول: ولم يُنْكَر عليه مما حدَّث به وسمعه الناس منه خبر واحد، فلا أُراه إلا قويًّا. والله أعلم. 171 - عمر بن قيس المكي: في "تاريخ بغداد" (13/ 407 [433]) من طريق "مؤمل بن إسماعيل قال: قال عمر بن قيس: من أراد الحق فليأت الكوفة، فلينظر ما قال أبو حنيفة وأصحابه، فليخالفهم". قال الأستاذ (ص 133): "منكر الحديث ساقط على ما ذكره غير واحد من النقاد".

172 - عمر بن محمد بن عمر بن الفياض

أقول: صدق الأستاذ (¬1)، ولم يحسن الخطيب بذكر هذه الحكاية. 172 - عمر بن محمَّد بن عمر بن الفياض: في "تاريخ بغداد" (13/ 390 [407]) حكاية من طريقه قد توبع على أكثر ما فيها. قال الأستاذ (ص 85): "غير موثق". 173 - عمر بن محمَّد بن عيسى السَّذابي الجوهري: في ترجمة أبي حنيفة من "تاريخ بغداد" حكايات من طريقه عن الأثرم منها (ص380 [387] و384 [396] و405 [428] و417 [446]). قال الأستاذ (ص 58): "قال الذهبي: في حديثه بعض النكرة. تفرد برواية ذاك الحديث الموضوع: القرآن كلامي ومني خرج ... ". [1/ 373] أقول: روى السَّذابي هذا الحديث عن الحسن بن عَرَفة، فقد يكون رواه من حفظه، فوهم أو أدخله عليه بعض الجهال. فأما روايته عن (¬2) الأثرم فالظاهر أنها من كتابٍ مؤلّف، والاعتماد في ذلك على صحة النسخة، كما مر في ترجمة عبد الله بن جعفر (¬3) وغيرها. ولذلك تجد تلك الحكايات مستقيمة قد توبع عليها. (¬4) ¬

_ (¬1) وقال المؤلف في "تعليقه على الفوائد المجموعة" (ص 214): "متروك، كذّبه مالك، وهو أهلٌ لذلك". (¬2) (ط): "من". (¬3) رقم (119). (¬4) عمر بن مطرف أبو الوزير. راجع "الطليعة" (ص 31 - 34 [22 - 24]) وستأتي =

174 - عمرو بن علي بن بحر أبو حفص الفلاس

174 - عَمْرو بن علي بن بحر أبو حفص الفلَّاس: في "تاريخ بغداد" (13/ 382 [391]) من طريق إبراهيم بن سعيد الجوهري، ثم من طريق عَمرو بن عليّ يقول كل منهما: سمعت معاذ بن معاذ يقول: سمعت سفيان الثوري يقول: استتبتُ أبا حنيفة من الكفر مرتين". قال الأستاذ (ص 65): "شديد التعصب وشديد الانحراف عن أهل الكوفة". أقول: لا أعرفه بالتعصب، ولو عُرف به ما كان ذلك خادشًا في روايته مع ما ثبت من ثقته وأمانته. والحكاية مشهورة بل متواترة حقًّا. 175 - عمران بن موسى الطائي: في "تاريخ بغداد" (13/ 389 [405]) من طريق سلامة بن محمود القيسي: "حدثنا عمران (¬1) بن موسى الطائي، حدثنا إبراهيم بن بشار الرمادي ... ". قال الأستاذ (ص 82) في الحاشية: "قد أعلَّ الدارقطني حديثًا في "السنن" لانفراد هذا الطائي به، وعدَّه منكرًا. راجع "سنن الدارقطني" (ج 1 ص 225) ". أقول: الذي في ذاك الموضع من "سنن الدارقطني" (¬2): "حدثنا محمَّد بن مخلد، حدثنا أحمد بن محمَّد بن نصر الأشقر أبو بكر، ثنا ¬

_ = ترجمة محمَّد بن أعين [رقم 194]. [المؤلف]. (¬1) (ط): "عمر" تحريف. (¬2) (2/ 151).

عمران بن موسى الطائي بمكة، ثنا إسماعيل بن سعيد الخراساني، ثنا إسحاق بن سليمان الرازي قال: قلت لمالك بن أنس: يا أبا عبد الله كم وَزْن صاع النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: خمسة أرطال وثلث بالعراقي أنا حررته، قلت: يا أبا عبد الله خالفت شيخ القوم. قال من هو؟ قلت: أبو حنيفة، يقول: ثمانية أرطال. فغضب غضبًا شديدًا وقال: [1/ 373] قاتله الله، ما أجرأه على الله! ثم قال لبعض جلسائه: يا فلان هات صاع جدِّك، ويا فلان هات صاع عمِّك، ويا فلان هات صاع جدَّتك. قال إسحاق: فاجتمعت آصع ... ". ولم يتكلم الدارقطني عليه بشيء، وإنما في الحاشية: "قال صاحب التنقيح: إسناده مظلم وبعض رجاله غير مشهور ... ". وفي كتاب ابن أبي حاتم (ج 3 قسم 1 ص 306): "عمران بن موسى الطرسوسي وهو أبو موسى، روى عن روّاد (¬1) بن الجراح، وفيض بن إسحاق، وعبد الصمد بن يزيد خادم الفضيل. روى عنه أبي ... سئل أبي عنه فقال: صدوق ثقة" ربما يكون هذا. وقد توبع على الحكاية التي ذكرها الخطيب. رواها ابن أبي خيثمة في "تاريخه" عن إبراهيم بن بشار الرمادي شيخ عمران، وزاد في آخرها: "قال سفيان: هل سمعتم بشرٍّ من هذا؟! " لما. نقله ابن عبد البر في "الانتقاء" (ص 149) (¬2). ¬

_ (¬1) هكذا في نسخة مصورة عن نسخة كوبريلي. ووقع في المطبوع: "داود" خطأ. [المؤلف]. (¬2) (ص 275 - المحققة).

176 - عنبسة بن خالد

176 - عنبسة بن خالد: قال الأستاذ (ص 173) في الحاشية: "قال ابن أبي حاتم عنه: إنه كان على خراج مصر، وكان يعلِّق النساء بثُدِيِّهن. وقال ابن القطان: كفى بهذا في تجريحه. وكان أحمد يقول: ما لنا ولعنبسة ... هل روى عنه غير أحمد بن صالح؟ وقال يحيى بن بكير: إنما يحدَّث عن عنبسة مجنون أحمق، لم يكن بموضع للكتابة عنه". أقول: الذي في كتاب ابن أبي حاتم (ج 3 قسم 1 ص 402): "سألت أبي عن عنبسة بن خالد فقال: كان على خراج مصر، وكان يعلِّق النساء بثُدِيّهِنّ". وأبو حاتم ولد سنة 195، وأول طلبه الحديث سنة 209، وإنما دخل مصر بعد ذلك بمدة. فلم يدرك عنبسة ولا ولايته الخراج؛ لأن عنبسة توفي سنة 198. ولا يُدْرَى مَن أخبر أبا حاتم بذلك؟ فلا يثبت ذلك ولا ما يترتب عليه من الجرح. وقال ابن أبي حاتم: "سمعت محمَّد بن مسلم (ابن وارة يقول: روى ابن وهب عن عنبسة بن خالد. قلت لمحمد بن مسلم: فعنبسة بن خالد أحب إليك أو وهب الله بن راشد؟ فقال: سبحان الله! ومن يقرن عنبسة إلى وهب الله؟ ما سمعت بوهب الله إلاَّ الآن منكم". فقد روى عن عنبسة أحمد بن صالح على إتقانه، وعبد الله بن وهب على جلالته وتقدمه، وكلٌّ منهما أعقل وأفضل من مائة مثل يحيى بن بكير. وروى عنه أيضًا محمَّد بن [1/ 375] مهدي الإخميمي وغيرهم كما في "التهذيب" (¬1). فأما الإِمام أحمد فكأنه سمع بأن عنبسة كان يجبي الخراج، فكرهه لذلك. وليس في ذلك ما يثبت به الجرح. وقد ذكره ابن حبان في ¬

_ (¬1) (8/ 154).

177 - فهد بن عوف أبو ربيعة، اسمه زيد ولقبه فهد

"الثقات" (¬1)، وأخرج له البخاري في "الصحيح" مقرونًا بغيره، وأخرج له أبو داود في "السنن" وقال الآجري عن أبي داود: "عنبسة أحب إلينا من الليث بن سعد. سمعت أحمد بن صالح يقول: عنبسة صدوق". كنت استعظمت هذه الكلمة للاتفاق على جلالة الليث وإمامته، ثم تبيَّن لي كما يرشد إليه السياق أن مراده تفضيل عنبسة على الليث في أمر خاص، وهو روايتهما عن يونس بن يزيد الأيلي (¬2). فإن أصول يونس كانت صحيحة كما قاله ابن المبارك وغيره، وكان إذا حدَّث من غيرها ربما يخطئ. وكان الليث سمع من يونس من غير أصوله، وعنبسة سمع من عمه يونس من أصوله وكانت أصوله عند عنبسة. ويدل على هذا أن أبا داود قال عقب كلمته تلك: "سألت أحمد بن صالح قلت: كانت أصول يونس عنده أو نسخه؟ قال: بعضها أصول وبعضها نسخه". فعنبسة يروي عنه ابن وهب، ويصدِّقه أحمد بن صالح، ويثني عليه ابن وارة، ويثبته أبو داود، ويستشهد به البخاري، ويوثقه ابن حبان. (¬3) 177 - فهد بن عوف أبو ربيعة، اسمه زيد ولقبه فهد: في "تاريخ بغداد" (13/ 406 [432]) من طريق "إبراهيم بن راشد الأَدَمي قال: سمعت أبا ربيعة محمَّد (¬4) (؟) بن عوف يقول: سمعت ¬

_ (¬1) (8/ 515). (¬2) وهو ما استظهره الإِمام الذهبي في "تاريخ الإِسلام": (4/ 1177). (¬3) عيسى بن عامر. يأتي في ترجمة محمَّد بن الفضل [رقم 228]. [المؤلف]. (¬4) كذا في الطبعة القديمة، وفي الطبعة المحققة: (15/ 560) "فهد" على الصواب.

حماد بن سلمة ... ". قال الأستاذ (ص 129): "وأبو ربيعة فهد بن عوف، وقد كذَّبه ابن المديني". أقول: قال ابن أبي حاتم (¬1): "سمعت أبي يقول: ما رأيت بالبصرة أكيس ولا أحلى من أبي ربيعة فهد بن عوف، وكان ابن المديني يتكلم فيه ... قيل لأبي: ما تقول فيه؟ فقال: تعرف وتنكر، وحرَّك يدَه". ثم ذكر عن أبي زرعة قصةً حاصلها: أن أبا إسحاق الطالقاني ورد البصرة، فحدَّث من حديث ابن المبارك بحديثين غريبين؛ أحدهما عن وُهيب بسنده، والآخر عن حماد بن سلمة بسنده. فبعد مدة يسيرة حدَّث فهد بالحديث الأول عن وهيب بن خالد بذاك السند، والثاني عن حماد بن سلمة بسنده، فرموا فهدًا بسرقة الحديثين، وأنه إنما سمعهما من الطالقاني [1/ 376] عن ابن المبارك عن وهيب وعن حماد، فحدَّث بهما عن وهيب وعن حماد. وغلط مع ذلك فروى الأول عن وهيب بن خالد، وإنما وهيب شيخ ابن المبارك وهيب بن الورد. والحجة في رميه بسرقة الحديث الثاني أنه حديث غريب لم يكن في كتب حماد بن سلمة ولا رواه عنه غير ابن المبارك، حتى حدَّث به الطالقاني عن ابن المبارك، فوثب عليه فهد. وقد يحتمل في هذا أن يكون فهد قد سمعه من حماد بن سلمة ثم غفل عنه، فلما حدَّث به الطالقاني واستفاده الناس وأعجبوا به، فتَّش فهدٌ في كتبه فوجده عنده عن حماد بن سلمة، ولكن في هذا الاحتمال بُعْد. فأما الحديث الأول، فالتهمة فيه أشد؛ لأنه ليس من حديث وهيب بن ¬

_ (¬1) "الجرح والتعديل": (3/ 570).

خالد أصلاً، وإنما هو من حديث وهيب بن الورد. ولا يخفى أنه ليس من الممتنع أن يكون الحديث عند وهيب بن خالد أيضًا ولم يسمعه منه إلا فهد، لكن في هذا من البعد ما فيه. فالظاهر أن هذين الحديثين هما - ولا سيما الأول - بليَّة هذا الرجل. ولأجل ذلك كذَّبه ابن المديني، وتكلم فيه غيره. لكن يظهر من كلمة أبي حاتم أنه متوقف، وقال ابن أبي حاتم: "قلت لأبي زرعة: يُكتَب حديثه؟ فقال: أصحاب الحديث ربما أراهم يكتبونه". وأسْنَد إلى ابن معين أنه سئل عنه فقال: "ليس لي به علم، لا أعرفه، لم أكتب عنه". وقد يبعد أن لا تكون القصة بلغت ابن معين، ومع ذلك توقَّف. وقال العجلي: "لا بأس به" (¬1). وذكره ابن حبان في "الثقات" (¬2) وقال: "مات يوم الاثنين لأربع خلون من المحرم سنة تسع عشرة ومائتين". والذي يتجه أنه إن كان صرَّح في الحديث الأول بسماعه من وهيب بن خالد فقد لزمته التهمة، وإن لم يصرِّح وإنما رواه بصيغة تحتمل التدليس، فقد يقال: لعله دلَّسه. ولكن يبقى أنهم لم يذكروه بالتدليس، والمدلس إنما يسلم من الجرح بالتدليس إذا كان قد عُرف عنه أنه يدلِّس، فإن ذلك يكون قرينة تخلُّصه من أن يكون تدليسه كذبًا. وقد يقال: كان جازمًا بصحة الخبرين عن وهيب وحماد، فاستجاز تدليسهما، وإن لم يكن قد عُرِف بالتدليس. وفي هذا نظر. والله أعلم. ¬

_ (¬1) في "الثقات": (2/ 209). (¬2) (9/ 13).

178 - القاسم بن حبيب

178 - القاسم بن حبيب: في "تاريخ بغداد" (13/ 373 [377]) من طريق "ابن فضيل عن القاسم بن حبيب قال: وضعت نعلي في الحصى، ثم قلت لأبي حنيفة: أرأيت رجلاً صلى لهذه النعل حتى مات إلا أنه يعرف الله بقلبه؟ فقال: مؤمن". قال الأستاذ (ص 39): "هو راوي [1/ 377] حديث ذم القدرية والمرجئة عند الترمذي. وقال ابن معين: ليس بشيء، ولفظ ابن أبي حاتم: ذكر أبي عن إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين أنه قال: القاسم بن حبيب الذي يحدِّث عن نزار بن حبان لا شيء اهـ. يعني حديث المرجئة والقدرية عند الترمذي. وتوثيقُ ابن حبان لا يناهضه بل الجرح مقدَّم". أقول: أفاد الأستاذ أن كلمة ابن معين مدارها على حديث المرجئة والقدرية، وكلمة ابن معين تحتمل أوجهًا: الأول: أن يكون قوله: "الذي ... " قصد به تمييز هذا الرجل عن آخر يقال له: القاسم بن حبيب أيضًا. وهذا بعيد, لأننا لا نعرف آخر يقال له: "القاسم بن حبيب". الثاني: أن يكون أراد بقوله: "الذي" الحديث كأنه قال: "حديثه الذي يحدث به ... " وهذا كأن فيه بعدًا عن الظاهر. الثالث: أن يكون ذلك إيحاء إلى العلة كأنه قال: "لا شيء، لأجل حديثه الذي حدَّث به عن نزار". وقول الأستاذ: "يعني حديث المرجئة والقدرية عند الترمذي" ظاهره أنه يحمل كلمة ابن معين على الوجه الثاني، وأيًّا ما كان فالمدار على ذاك

الحديث. فإذا تبين أن القاسم بريء من عُهدته، أو معذور فيه، تبيَّن أنه لا مطعن فيه. فإنه يروي عن جماعة منهم عكرمة، ومحمد بن كعب القرظي، وسلمة بن كُهَيل وغيرهم، ولم يُنكَر عليه خبر واحد إلا ذاك الخبر الذي رواه عن نزار، وحينئذ يصفو له توثيق ابن حبان، فلننظر في ذلك. نزار بن حيّان (¬1) لم يوثقه أحد، وذكره ابن حبان في "الضعفاء" (¬2) وقال: "يأتي عن عكرمة بما ليس من حديثه حتى يسبق إلى القلب أنه المتعمد لذلك". والقاسم إنما روى هذا الحديث عن نزار عن عكرمة، فكأن ابن حبان يشير إليه. والقاسم قد روى عن عكرمة كما مرَّ، فلو أراد الكذب لروى ذاك الحديث عن عكرمة رأسًا، وربح العلوَّ وشهادة نزار له. وقد تابع القاسم على رواية هذا الحديث عن نزار: ابنُه علي بن نزار، وقال ابن معين في علي بن نزار: "ليس حديثه بشيء" لعله أراد هذا الحديث. وعلي بن نزار قد روى عن عكرمة، فلو أراد الكذب [1/ 378] لروى هذا الحديث عن عكرمة رأسًا ويربح العلوَّ والشهادة لأبيه. وقال ابن عدي (¬3) في ترجمة علي في هذا الحديث "أنكروه على علي وعلى والده". ويؤخذ من "الميزان" (¬4) أن بعضهم رواه عن [ابن] (¬5) فُضيل ¬

_ (¬1) (ط): "حبان" تصحيف. (¬2) (3/ 56 - 57). (¬3) "الكامل": (5/ 194). (¬4) (4/ 79). (¬5) سقطت من (ط).

عن نزار وابنه عن عكرمة، ولكن أشار الذهبي إلى أن المحفوظ: "عن ابن فضيل عن القاسم بن حبيب وعلي بن نزار" يعني كلاهما عن نزار عن عكرمة كما في "سنن الترمذي" (¬1). فالذي يتجه اتجاهًا واضحًا أن الحَمْل في هذا الحديث على نزار، له غُنْمه وعليه غُرْمه. وقد قال الترمذي بعد أن رواه من طريق القاسم بن حبيب وعلي بن نزار، عن نزار، عن عكرمة: "وفي الباب عن عمر وابن عمر ورافع بن خديج، وهذا حديث غريب حسن صحيح" (¬2). ثم قال عقبه: "حدثنا محمَّد (¬3) بن رافع، حدثنا محمَّد بن بشر، حدثنا سلام بن أبي عمرة، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه". فهذا سلام بن أبي عمرة قد تابع نزارًا، لكن تكلموا في سلام، فقال ابن معين: "ليس بشيء"، وقال ابن حبان (¬4): "يروي عن الثقات المقلوبات، لا يجوز الاحتجاج بخبره، وهو الذي روى عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعًا: صنفان من أمتي ليس لهما في الإِسلام نصيب: المرجئة والقدرية" والترمذي يقول: إن الحديث "حسن صحيح" كما مرّ. والذي يهمنا هنا شأن القاسم بن حبيب، وقد تبين براءته من تَبِعة هذا الحديث، فارتفعت عنه كلمة ابن معين، وَصَفا له توثيق ابن حبان. ¬

_ (¬1) (2149). (¬2) في بعض النسخ "حسن غريب" فقط. وانظر "تحفة الأشراف": (5/ 143). (¬3) (ط): "محمود" تحريف، وليس في شيوخ الترمذي مَن يقال له "محمود بن رافع". (¬4) "المجروحين": (1/ 341 - 342).

179 - القاسم بن عثمان

ومع هذا فحكايته التي حكاها عن أبي حنيفة، قد روى نحوها يحيى بن حمزة، وهو ثقة، وستأتي ترجمته (¬1) ولفظه: "إن أبا حنيفة قال: لو أن رجلاً عبد هذه النعل يتقرب بها إلى الله لم أر بذلك بأسًا" (¬2). ذكره الأستاذ (ص 39) أيضًا. وهناك كلمات أخرى تلاقي هذا في المعنى، وقد أشرت إلى الجواب الذي يرفع معرَّةَ تلك الكلمات عن أبي حنيفة في موضع آخر (¬3). والله المستعان. (¬4) 179 - القاسم بن عثمان: في "تاريخ بغداد" (13/ 373 [377]): "حدثنا أبو طالب يحيى بن علي بن الطيب الدَّسْكري لفظًا بحلوان، أخبرنا أبو يعقوب يوسف بن إبراهيم بن موسى بن إبراهيم السهمي بجرجان، حدثنا أبو شافع معبد بن جمعة الرُّوياني، حدثنا أحمد بن هشام بن طويل قال: سمعت القاسم بن عثمان يقول: مرَّ أبو حنيفة بسكران يبول قائمًا، فقال أبو حنيفة: لو [1/ 379] بلت جالسًا. قال: فنظر في وجهه وقال: ألا تمرُّ يا مرجئ؟ قال أبو حنيفة: هذا جزائي منك، صيَّرتُ إيمانك كإيمان جبريل! ". قال الأستاذ (ص 41): "صيغة القاسم بن عثمان الرحال صيغة انقطاع، وعنه ¬

_ (¬1) رقم (264). (¬2) "تاريخ بغداد": (13/ 375). (¬3) لم أهتد إليه. (¬4) القاسم بن أبي صالح، راجع "الطليعة" (ص 16 - 17 [8 - 10]). [المؤلف].

يقول العقيلي: لا يتابع [على] (¬1) حديثه، ومعبد بن جمعة كذَّبه أبو زرعة الكَشِّي، وفي السند رجال مجاهيل. هكذا يكون المحفوظ عند الخطيب! والذي أخرجه الحافظ أبو بشر الدولابي عن إبراهيم بن جنيد عن داود بن أمية المروزي قال: سمعت عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي روّاد يقول: جاء رجل إلى أبي حنيفة وهو سكران فقال له: يا مرجئ، فقال له أبو حنيفة: لولا أني أثبتُّ لمثلك الإيمان ما نسبتَني إلى الإرجاء، ولولا أن الإرجاء بدعة ما باليتُ أن أُنسَب إليه اهـ. رواه ابن أبي العوام عن الدولابي ... ". أقول: قوله: "الرحال" تبع فيه ابنَ حجر في "اللسان" (¬2)، والمعروف أن القاسم الرحّال آخر، اسم أبيه يزيد، له ترجمة في "اللسان" (¬3) أيضًا. وكلاهما يروي عن أنس، وذكرهما ابن حبان في "الثقات" (¬4). والقاسم بن عثمان الذي في "اللسان" تكلم فيه البخاري والدارقطني ولم يتبين أنه هو الواقع في سند الحكاية. ومعبد بن جمعة لم يكذَّبه الكشي، بل وثقه كما يأتي في ترجمته (¬5). ويوسف بن إبراهيم السهمي موثّق، والحكاية التي ذكرها الأستاذ في كتاب ابن أبي العوام قد نظرتُ في بعض رجالها في "الطليعة" (ص 27 - 28) (¬6)، وعبد المجيد مرجئ متكلَّم فيه. ¬

_ (¬1) سقطت من "التأنيب" بطبعتيه، واستدركت من "الضعفاء" للعقيلي: (3/ 480) و"اللسان": (6/ 376). (¬2) (6/ 376). (¬3) (6/ 386 - 387). (¬4) (9/ 17 و5/ 306). (¬5) رقم (248). (¬6) (ص 18 - 19).

180 - القاسم بن محمد بن حميد المعمري

ومع ذلك لا تنافي بين الحكايتين، وقد جاء عن أبي حنيفة أشدّ من ذلك، والحنفية والأستاذ في آخرهم يعترفون بأن أبا حنيفة يقول: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، فإذا أثبت لذاك السكران الإيمان, فقد أثبت له أن إيمانه كإيمان جبريل، وهم لا ينكرون هذا، فأيُّ وجه لإنكار الحكاية؟ 180 - القاسم بن محمَّد بن حميد المَعْمري (¬1): ذكر الأستاذ (ص 62) ما روي في ذبح الجعد بن درهم، ثم قال: "والخبر على شيوعه وانتشاره وذيرعه غير ثابت، لانفراد القاسم بن محمَّد بن حميد المعمري بروايته، ويقول عنه ابن معين: كذاب خبيث، كما في "ميزان الذهبي"". [1/ 380] أقول: عبارة "الميزان" (¬2): "وثَّقه قتيبة، وقال يحيى بن معين: كذاب خبيث. قال عثمان الدارمي: ليس هو كما قال يحيى، وأنا أدركته ببغداد". وفي "التهذيب" (¬3): "قال عثمان بن سعيد: سمعت ابن معين يقول: قاسم المعمري كذاب خبيث. قال عثمان: وليس كما قال يحيى. ثم ذكر توثيق قتيبة له ثم قال: "وذكره ابن حبان في "الثقات" (¬4) ". وذكره ابن أبي حاتم في كتابه (ج 3 قسم 2 ص 119) وذكر مقالة عثمان: "سمعت يحيى بن معين يقول: قاسم المعمري خبيث كذاب. قال عثمان: وقد أدركت قاسمًا ¬

_ (¬1) (ط): "العمري" خطأ. (¬2) (4/ 298). (¬3) (8/ 336). (¬4) (9/ 15).

181 - قطن بن إبراهيم

المعمري، وليس كما قال يحيى". وذكره البخاري في "تاريخه" (ج 4 قسم 1 ص 158) فقال: "سمع عبد الرحمن بن محمَّد بن حبيب، روى عنه قتيبة". وأخرج القصة من طريقه في كتاب "خلق أفعال العباد" (¬1)، ورواية البخاري من طريقه تقوِّيه، كما مرَّ في ترجمة أحمد بن عبد الله أبو عبد الرحمن (¬2). وأحسب ابن معين لم يتكلم في هذا، وإنما تكلم في قاسم العمري (¬3)؛ ولكن الدارمي خَطْرَفَ الكتابة أولاً، ثم صحَّف، ثم رجع يخالف، كما تقدمت الإشارة إليه في القاعدة السادسة (¬4). ولعل الأستاذ يحرص على أن لا تصح قصة الجعد، لتتوفر عليه الأولية، مع أنه لا منافاة! والله المستعان. 181 - قَطَن بن إبراهيم: في "تاريخ بغداد" (13/ 379 [386]) من طريق "مسدَّد بن قطن يقول: سمعت أبي يقول: سمعت يحيى بن عبد الحميد ... ". قال الأستاذ (ص 56): "حدَّث بحديث إبراهيم بن طهمان عن أيوب عن نافع عن ابن عمر في الدباغ، فطالبوه بالأصل، فأخرجه وقد كتبه على الحاشية، فتركه مسلم بعد أن صار إليه وكتب عنه جملة. وهو متَّهم بسرقة حديث حفص عن ¬

_ (¬1) (ص 8). (¬2) رقم (23). (¬3) (ط): "المعمري" تصحيف، وصوابه ما أثبتّ، وهو قاسم بن عبد الله بن عمر العمري، فقد قال عنه ابن معين في رواية الدوري: ضعيف ليس بشيء، وكذّبه أحمد. ترجمته في "الميزان": (4/ 291) و"التهذيب": (8/ 320 - 321). (¬4) (1/ 104 - 125).

محمَّد بن عقيل". أقول: هو حديث واحد رواه محمَّد بن عقيل، عن حفص بن (¬1) عبد الله السلمي، عن إبراهيم بن طَهْمان. وكان قَطَن قد سمع من حفص كثيرًا. ثم ذكر محمَّد بن عقيل أن قطنًا سأله: أي حديث عندك من حديث إبراهيم بن طهمان أَغْرب؟ فذكر له هذا الحديث. فذهب قَطَن، فحدَّث به بالعراق عن حفص، فبلغ محمَّد بن عقيل فأنكر ذلك وقال: "لم يكن حفِظَ هذا الحديث - يعني عن حفص - إلا أنا ومحمود أخو خُشْنام (¬2) "، واتهم قَطنًا أنه سرقه منه، ثم حدَّث [1/ 381] به قطن بنيسابور، فطالبوه بالأصل، فدافعهم، ثم أخرجه، فرأوا الحديث مكتوبًا على الحاشية, فأنكروا ذلك. هذا حاصل القصة. وقَطَنٌ مكثر عن حفص وغيره. وقد قال الحاكم أبو أحمد: "حدَّث بحديثين لم يتابع عليهما ويقال: دخل له حديث في حديث، وكان أحد الثقات النبلاء". وذكره ابن حبان في "الثقات" (¬3) وقال: "يخطئ أحيانًا، يعتبر حديثه إذا حدَّث من كتابه". وروى عنه أبو حاتم وأبو زرعة، ومن عادة أبي زرعة أن لا يروي إلا عن ثقة كما في "لسان الميزان" (ج 2 ص 416) (¬4). وقال النسائي: "فيه نظر" ثم روى عنه في "السنن". وقال الذهبي في "الميزان" (¬5): "صدوق". فإذا كانت هذه حاله ولم يُنقَم عليه مع إكثاره إلا ¬

_ (¬1) (ط): "عن" تصحيف. (¬2) (ط): "خشتام" تصحيف. (¬3) (9/ 22). (¬4) (3/ 396). (¬5) (4/ 310).

182 - قيس بن الربيع

ذاك الحديثُ فلعل الأولى أن يُحمل على العذر، فلا يمتنع أن يكون قد سمع الحديث من حفص، ثم نسيه أو خفي عليه أنه غريب، أو طمع أن يدلَّه محمَّد بن عقيل على حديث غريب آخر، ثم ذكره وتنبَّه لفرديته، فرواه. وقد يكون كتبه - بعد أن سمعه - في الحاشية أو لا يكون [كتبه] (¬1) أولاً ثم لما ذكر أنه سمعه أو عرف أنه غريب ألحقه في الحاشية. وكان مع حفص في بلد واحد، فلا مانع أن يكون سمع منه الحديث في غير المجلس الذي سمع فيه محمَّد بن عقيل وصاحبه. وأهل الحديث - جزاهم الله خيرًا - ربما يشدِّدون على الرجل، وهم يرون أن له عذرًا، خشيةَ أن يتساهل غيرُه طمعًا في أن يعذروه كما عذروا ذاك. والله أعلم. 182 - قيس بن الربيع: في "تاريخ بغداد" (13/ 405 [430]): " .... سئل قيس بن الربيع عن أبي حنيفة فقال: من أجهل الناس بما كان وأعلمه بما لم يكن! ". ومن وجه آخر: "أنا من أعلم الناس به، كان أعلم الناس بما لم يكن، وأجهلهم بما كان! ". قال الأستاذ (ص 126): "تركه غير واحد، وكان ابنه يأخذ أحاديث الناس، فيُدخلها في كتابه، فيرويها أبوه قيس بسلامة باطن". أقول: وثَّقه جماعة منهم سفيان الثوري وشعبة، وأثنوا عليه بالعلم والفضل، وتكلموا في روايته. وليس ما هنا من روايته حتى ننظر فيها. ¬

_ (¬1) زيادة يستقيم بها السياق.

183 - مالك بن أنس الأصبحي الإمام

183 - مالك بن أنس الأصبحي الإِمام: قال الأستاذ (ص 100) عند ذكر الموالي: "حتى إن مالكًا منهم عند الزهري ومحمَّد بن إسحاق". وفي الحاشية: "حيث قال البخاري ... [1/ 382] بسنده إلى ابن شهاب الزهري: حدثني ابن أبي أنس مولى التيميين. وابن أبي أنس [نافع بن] (¬1) مالك هذا عمُّ مالك بن أنس رضي الله عنه". أقول: كلمة "مولى" تطلق في لسان العرب على معاني مختلفة منها الحليف، وذلك معروف مشهور في كلامهم وأشعارهم، وهو المراد هنا كما بيَّنه مالك وغيره. وابن أبي أنس الذي روى عنه الزهري هو نافع بن مالك بن أبي عامر، وقال البخاري في "تاريخه" (¬2) في ترجمة نافع هذا: "الأصبحي حليف بني تيم من قريش". وقال في ترجمة أبيه مالك بن أبي عامر: "الأصبحي حليف عثمان بن عبيد الله التيمي" (¬3)، وهكذا قال في ترجمة مالك الإِمام (¬4). فأما ابن إسحاق فيظهر أنه إنما كان يطلق أن مالكًا مولى، يريد أنه حليف، ولكن يُحبّ أن يوهم خلاف ذلك لكدورةٍ كانت بينه وبين مالك. ولا نلوم الأستاذ في التشبُّث بالشبهات، فإنه أقام نفسه مُقامًا يضطره إلى ذلك. ولكننا كنا نودّ لو أعرض عن الشبهات التي قد سُبِقَ إليها فحُلَّت ¬

_ (¬1) سقطت من (ط)، وهي في "التأنيب". (¬2) (8/ 86). (¬3) (7/ 305). (¬4) (7/ 310).

وانحلَّت واضمحلَّت، واقتصر على الشبهات الأبكار التي يجد لذّةً في اختراعها، ويجد أهلُ العلم لذةً في افتراعها! وذكر الأستاذ (ص 116) ما روي عن مالك أنه ذكر أبا حنيفة فقال: "كاد الدينَ، كاد الدينَ". قال الأستاذ: "لست أدري كيف يرميه من يرميه بكيد الدين مع أنه لم يكن متساهلاً في أمر الطهور، ولا متبرئًا من المسح على الخفين في رواية من الروايات، ولا منقطعًا عن الجمعة والجماعات .... ". ذكر الأستاذ أمورًا تُنسَب إلى مالك ليس فيها ما يداني ما عِيبَ به غيرُه، بل ليس فيما يصحُّ منها بحمد الله عَزَّ وَجَلَّ ما يسوِّغ لذي علم أن يذكره في معرض العيب. وأشفُّها لزومُ البيت وتركُ حضور الجماعة، وقد روي عن مالك أنه قيل له في ذلك فقال: "ليس كلُّ الناس يقدر أن يتكلم بعذره". فعرف الناس أن له عذرًا، وعلموا أنه مؤتمن على دينه، ما كان ليمنعه من ذلك إلا عذر شديد. وقد يكون ذلك كراهية الصلاة خلف أصراء الجور، ومثل هذا العذر لو باح به بطشوا به وأفقدوا الأمة علمه وإمامته، وفي ذلك من الضرر على الدين والأمة ما فيه. وقال الأستاذ (ص 67): "ذكر المبرد في كتاب "اللحنة" عن محمَّد بن القاسم التمائمي عن [1/ 383] الأصمعي قال: دخلت المدينة على مالك بن أنس، فما هِبتُ أحدًا هيبتي له، فتكلم، فلحن، فقال: مُطرنا البارحةَ مطرًا أيَ مطرًا. فخفَّ في عيني فقلت .... فقال: فكيف لو رأيتم ربيعة؟ كنا نقول له: كيف أصبحت؟ فيقول: بخيرًا بخيرًا". أقول: هذه الحكاية منكرة عن الأصمعي، فيُنظر مَن حكاها عن كتاب المبرّد. وعلى فرض ثبوتها عن المبرّد ففيه كلام معروف. ومحمد بن

القاسم التمائمي لم أعرفه، ولعله محمَّد بن القاسم اليمامي وهو أبو العيناء، أصله من اليمامة، وليس بثقة. قد اعترف بوضع الحديث، فما بالك بالحكايات. ومما يدل على بطلان هذه الحكاية أمور: الأول: أن الأصمعي كان من أشدِّ الناس توقيرًا لأئمة السنة. الثاني: أنه كان مبجِّلاً لمالك حتى رُوي عنه أنه كان يفتخر بأن مالكًا روى عنه. الثالث: أن فيها قَرْنَ مالكٍ بشيخه ربيعة، وهذا يدل على تحري الطعن في علماء المدينة، وليس ذلك دأب الأصمعي، إنما هو دأب أصحاب الرأي. الرابع: أن اللحن الذي تضمنته الحكاية خارج عن المعتاد؛ فإن العامة فضلاً عن العلماء يقفون بالسكون. وهذا كله يدل أن هذه الحكاية فِرْية قُصِد بها الغضُّ من علماء المدينة. وقال الأستاذ (ص 106): "ومالك هو القائل في أبي حنيفة ... عرقت مع أبي حنيفة، إنه لفقيه يا مصري ... وهو الذي كان عنده عن أبي حنيفة فقط نحو ستين ألف مسألة، كما رواه الطحاوي بسنده عن عبد العزيز الدراوردي ونقله مسعود بن شيبة في "كتاب التعليم"، وكان يستفيد من كتب أبي حنيفة كما ذكره أبو العباس بن أبي العوام بسنده .... وكان يذاكره العلمَ في المسجد النبوي كلما قدم، كما ذكره الموفق الخوارزمي وغيره". أقول: الحكاية الأولى لم يذكر سندها. والثانية منكرة ولم يذكر سند الطحاوي، ثم إن لم توجد إلا في "كتاب التعليم" فكتاب التعليم حديث

خرافة كما بينته في "الطليعة" (¬1) وغيرها. والثالثة يُعْلَم حالها من حال ابن أبي العوام (¬2) وسنده. والرابعة يراجع ما قد يفيدها في "مناقب أبي حنيفة" للموفق (ج 2 ص 33) - ليعرف ما في تلك الأسانيد المظلمة. وليت الأستاذ جاء بخبرٍ واحد قوي يمكنه أن يَثْبت قليلاً أمام الأخبار التي يضج منها الأستاذ! [1/ 384] وقال الأستاذ (ص 105): "وكان مالك صاحب القِدْح المعلَّى في الرأي .... وما ردَّه من الأحاديث التي رواها هو بأصح الأسانيد عنده في "الموطأ" ولم يعمل هو به يزيد على سبعين حديثًا ... عن الليث بن سعد قال: أحصيتُ على مالك بن أنس سبعين مسألة كلُّها مخالفة لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - مما قال فيها مالك برأيه ... وما دوَّنه أبو العباس محمَّد بن إسحاق السراج الثقفي من مسائله البالغة سبعين ألفًا كما في "طبقات الحفاظ" للذهبي (ج 2 ص 269) صريح في أنه كان من أهل الرأي ...... ". أقول: أما الأحاديث فقد توقف مالك عن الأخذ ببعضها, وليس ما توقف عنه وقد رواه بأصح الأسانيد عنده في "الموطأ" بكثير كما زعم الأستاذ بدون أن يذكر مستندًا. ومع ذلك فلم يردَّ مالك حديثًا واحدًا بمحض الرأي، ولا ذُكِر له حديثٌ فقال: هذا سجع، أو هذا رجز، أو حُكَّ هذا بذنب خنزير، أو نحو ذلك من الكلمات المروية عن غيره. بل اشتهر عنه قوله: "ما من أحد إلا ويؤخذ من كلامه ويترك إلا صاحب هذا القبر" يعني النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقوله: "إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في ¬

_ (¬1) (ص 73 - 74). (¬2) انظر "الطليعة" (ص 18 - 19).

رأيي فما وافق السنة فخذوا به". وكان يأخذ بالرأي عند الضرورة، وجاء عنه من وجوه أنه كان يُسأل عن مسائل فيجيب عن بعضها ويدع سائرها. ولو جاءه رجل فقال: جئتك بمائة مسألة لبادر إلى الأمر بإخراجه، فكيف يقاس إلى من قيل له: "جئتك بمائة ألف مسألة" فقال: "هاتها"! (¬1). فأما ما حُكِي عن الليث، فالأفهام في السنة تختلف، يختلف العالمان في فهم الحديث أو في ترجيح أحد الحديثين على الآخر، فيرى كل منهما أن قول صاحبه مخالف للسنة. وقصة سبعين ألف مسألة حكاها الذهبي (¬2) بقوله: "وعن السراج .... " ولا ندري كيف سندها إلى السراج (¬3). ومع ذلك فقول الأستاذ: "صريح في أنه كان من أهل الرأي" مجازفة. وهذه كتب الظاهرية موجودة فليتصفحها الأستاذ وليحْصِ المسائل التي فيها, ليعلم بطلان ما زعمه من الصراحة. وأوضح من هذا أن الظاهرية وأهل الحديث يجيبون عن كل مسألة حدثت أو تحدث [1/ 385] وذلك يزيد عن سبعين ألفًا ¬

_ (¬1) راجع "تاريخ بغداد": (13/ 413). (¬2) "تذكرة الحفاظ": (2/ 732). وقال في "السير": (4/ 392): "رُوي عن أبي العباس السرّاج ... ". (¬3) ذكر سندها إلى السّراج الخطيب في "تاريخه": (1/ 250 - 251) فقال: "أخبرنا القاضي أبو العلاء محمَّد بن علي بن أحمد الواسطي، قال: أنبأنا محمَّد بن جعفر التميمي الكوفي، قال: سمعتُ أبا حامد أحمد بن محمَّد الفقيه يقول: سمعت أبا العباس السرّاج به". وفيه شيخ الخطيب أبو العلاء محمَّد بن علي الواسطي ترجمته في "تاريخ بغداد": (3/ 95 - 99) ذكر عن جماعة أنهم يقدحون فيه ويطعنون عليه فيما يرويه. وذكر له الخطيب أخبارًا تدل على قلة ضبطه وضعف تحريه.

مضروبة في مثلها بدون أن يكونوا من أهل الرأي. وخاصةُ أهل الرأي هي الرغبة عن العناية بالسنة استغناءً بالرأي، وردُّ السنن الصحيحة بمحض الرأي، ومالك رحمه الله تعالى بريء من هذا. قال أبو مصعب عن مالك: "ما أفتيت حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك". وقال حرملة عن الشافعي: "مالك حجة الله على خلقه بعد التابعين". واتفق الشافعي ومحمد بن الحسن على أن مالكًا أعلم من أبي حنيفة بالكتاب والسنة وآثار الصحابة. وقال ابن عيينة وعبد الرزاق في حديث أبي هريرة مرفوعًا: "يوشك أن يَضْرب الناسُ أكبادَ الإبل يطلبون العلم، فلا يجدون أعلم من عالم المدينة" (¬1): هو مالك. وما روي عن ابن عيينة أنه قال مرة: "هو العمري العابد" لا وجه له, لأن العمري العابد - وهو عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الله بن عمر - لم يشتهر بالعلم بالمعنى المعروف، بل لم يُعرف به. بل قال ابن حبان: "لعل كل شيء حدَّث في الدنيا لا يكون أربعة أحاديث" (¬2). وليس له في الأمهات الست ولا في الكتب الأخرى لأصحابها التي أخذ رجالها في "التهذيب" إلا حديث واحد مرسل في "مراسيل أبي داود" (¬3). ولم تُضرب إليه أكباد الإبل، بل لعله لم يرحل إليه بعيرٌ واحد! وإنما كان هو رحمه الله يخرج إلى البراري لتعليم ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (2680) وحسّنه، والنسائي في "الكبرى" (4277) والحميدي (1147)، وابن حبان (3736) وغيرهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) "الثقات": (7/ 19 - 20). (¬3) (392).

184 - محبوب بن موسى أبو صالح الفراء

الأعراب ضروريات الدين، فكيف ينطبق عليه هذا الحديث؟ فأما انطباقه على مالك فكالشمس وضوحًا, ولم يثبت في فضل غيره من الأئمة ما يظهر انطباقه مثلَ هذا الظهور ولا قريبًا منه. والله الموفق. 184 - محبوب بن موسى أبو صالح الفراء: جاءت من طريقه روايات تقدم بعضُها في ترجمة عبد الله بن الزبير الحميدي، وبعضها في ترجمة عثمان بن سعيد الدارمي (¬1). قال الأستاذ (ص 17): "صاحب تلك الحكايات التالفة الذي يقول عنه أبو داود: لا تُقبل حكاياته إلا من كتاب". أقول: لفظ أبي داود: "ثقة لا يلتفت إلى حكاياته إلا من كتاب"، كما تقدم في "الطليعة" (ص 73) (¬2). فقوله: "ثقة" يدفع عنه الكذب والمجازفة والتساهل الفادح، ويعيِّن أن [1/ 386] المقصود أنه كان لا يتقن حفظ الحكايات كما يحفظ الحديث، فكان إذا حكاها من حفظه يخطئ. فلا يحتج من حكاياته إلا بما رواه من كتابه، أو توبع عليه، أو ليس بمظنةٍ للخطأ. وقد قال العجلي: "ثقة صاحب سنة" (¬3). وقال ابن حبان في "الثقات" (¬4): "متقن فاضل". وقال أبو حاتم: "هو أحب إلي من المسيب بن واضح" (¬5). ¬

_ (¬1) رقم (121 و156). (¬2) (ص 55). (¬3) "الثقات": (2/ 266). (¬4) (9/ 205). (¬5) "الجرح والتعديل": (8/ 389).

185 - محمد بن إبراهيم بن جناد المنقري

185 - محمَّد بن إبراهيم بن جناد المنقري: في "تاريخ بغداد" (13/ 414 [443]) من طريقه قال: "حدثنا أبو بكر الأعين، حدثنا إبراهيم بن شماس قال: سمعت ابن المبارك يقول: اضربوا على حديث أبي حنيفة". قال الأستاذ (ص 150): "لم يوثَّقه غيرُ ابن خراش، ولعله كان على مذهبه". أقول: قد روى عنه موسى بن هارون الحمَّال الحافظ الجليل وغيره، ولم يغمزه أحد. وقال ابن خراش: "ثقة مأمون". وقد توبع على هذه الحكاية، وجاء معناها من وجوه. وقال ابن حبان في ترجمة إبراهيم بن شماس من "الثقات" (¬1): "سمعت عمر بن محمَّد البحيري يقول: سمعت محمَّد بن سهل بن عسكر يقول: سمعت إبراهيم شماس يقول: رأيت ابنَ المبارك يقرأ كتابًا على الناس في الثغر، وكلما مرَّ على ذِكْر أبي حنيفة قال: اضربوا عليه. وهو آخر كتاب قرأ على الناس، ثم مات". وقال أبو حاتم في ترجمة النعمان (¬2): "تركه ابن المبارك بأخرة" ومع تضافر الروايات بذلك حاول الأستاذ (ص 124) و (ص 150) أن يدفعه فذكر أوجهًا: أحدها: أن ابن مهدي لما أُنشِدَ مرثية أبي تُمَيلة لابن المبارك فبلغ المنشد قوله: وبرأي النعمان كنت بصيرًا ... حين يؤتى مقايس النعمان ¬

_ (¬1) (8/ 69 - 70). (¬2) (8/ 449).

قاطعه قائلاً: "اسكت فقد أفسدت الشعر، وليس لابن المبارك ذنب بالعراق غير روايته عن أبي حنيفة". قال الأستاذ: "ولو كان ابن مهدي يعلم أنه رجع عن الرواية عن أبي حنيفة لصارحه بذلك. ومثلُه في انحرافه عن أبي حنيفة واهتمامه بابن المبارك جديرٌ بأن يعلم رجوعه لو كان رجع. وكذلك لو صح رجوع ابن المبارك عن الأخذ والرواية عن أبي حنيفة ما صح لأبي تُميلة أن يمدح في مرثيته بكونه بصيرًا برأي النعمان، وأهل بلدة الرجل أعرف بأحواله". [1/ 387] الثاني: أن في "مسانيد أبي حنيفة" أحاديث كثيرة من طريق ابن المبارك عنه. الثالث: كثرة ما يُروى من ثناء ابن المبارك على أبي حنيفة. أقول: أما الوجه الأول فلا يخفى وهنه، فإنّ تَرْك ابن المبارك الروايةَ عن أبي حنيفة كان في أواخر عمره كما صرَّحت به الروايات، فقد لا يكون ذلك بلغ ابن مهدي حين أنشد المرثية، وقد يكون بلغه، ولكنه رأى أن الرواية قد وقعت، ووقع ما يترتب عليها من المفسدة، وتركُها بأخرة لا يمحو تلك المفسدة. ولم يكن المنشد في مقام الاحتجاج بأن ابن المبارك كان يروي عن أبي حنيفة حتى يحتاج ابن مهدي إلى أن يقول له: قد تركه بأخرة، وإنما سمع شعرًا فأنشده. وأبو تُميلة لم يُثْن على ابن المبارك بأنه كان يروي عن أبي حنيفة، وإنما أثنى عليه بأنه كان بصيرًا برأيه، والبصرُ بالرأي فضيلة على كلّ حال لا يُعاب بها أحد، وإنما يعاب الرغبةُ عن السنة وردُّها بالرأي، وكان ابن المبارك بحمد الله عَزَّ وَجَلَّ بريئًا من ذلك أولاً وآخرًا.

وأما أن أهل بلدة الرجل أعرف بأحواله فلا يجدي شيئًا؛ لأن أبا تُميلة لم يُشِر أدنى إشارة إلى نفي الترك، ولو أشار أو صرَّح لم يكن في ذلك ما يدفع روايه المثبتين، ومنهم من كان أخصَّ بابن المبارك من أبي تُميلة، كالحسن بن الربيع الذي غمَّض ابنَ المبارك عند موته. وأما مسانيد (أبي حنيفة) فقد تقدم الكلام فيها في ترجمة الجراح بن منهال (¬1)، فإنْ صح عن ابن المبارك شيء من روايته عن أبي حنيفة فهو مما رواه سابقًا، فإنه لا يلزم من تركه الرواية عنه بأخرة أن يمحى ما رواه سابقًا من الصدور والدفاتر، ولا يتحتّم على من بَلَغه التركُ بأخرة أن لا يروي ما سمعه سابقًا. وأما ما يُروى عن ابن المبارك من الثناء، فحاله تُعرف بالنظر في أسانيده ومتونه، كتلك الأبيات السخيفة التي يلهج بها الحنفية، ومنهم الأستاذ. وقوم لم يتورَّعوا عن الكذب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مناقب إمامهم، كيف يُستبعد منهم الكذب على ابن المبارك؟! فإن قوي شيء من تلك الروايات فليوازَن بينه وبين روايات الذمّ، على أنه لا مانع من أن يُثنى على رجل لمعنى، ويُذم لمعنى آخر، بل هذا موجود بكثرة. (¬2) ¬

_ (¬1) رقم (62). (¬2) محمَّد بن أحمد بن إبراهيم الحكيمي، راجع "الطليعة" (ص 70 - 72 [53 - 54]). [المؤلف].

186 - محمد بن أحمد بن الحسين بن القاسم بن الغطريف أبو أحمد الجرجاني الغطريفي الحافظ

186 - [1/ 388] محمَّد بن أحمد بن الحسين بن القاسم بن الغطريف أبو أحمد الجرجاني الغِطريفي الحافظ: في "تاريخ بغداد" (13/ 325) "أخبرنا أبو نعيم الحافظ حدثنا أبو أحمد الغطريفي قال سمعت الساجي .... ". قال الأستاذ (ص 18): "صاحب مناكير، وقد أنكروا عليه حديثه في إهداء الرسول - صلى الله عليه وسلم - جملاً لأبي جهل. وكان يزعم أن فلانًا وفلانًا أفاداه من غير أن يخرج أصله، وأنكروا عليه أيضًا تحديثه بـ "مسند ابن راهويه" من غير أصله، وقد تفرد عن أبي العباس بن سريج بأحاديث لم يروها عنه غيره, وقد ذكره ابن الصلاح في عداد المختلطين. ومع ذلك يبقى هو وأبو نعيم والخطيب مقبولين مرضيين عند أهل مذهبهم". أقول: قوله: "صاحب مناكير" لم يقلها أحد، ولا في كلامهم ما يعطي ذلك كما سترى. أما حديث الجمل، ففي "الموطأ" (¬1) في المناسك، باب ما يجوز من الهدي: "مالك (¬2) عن عبد الله بن أبي بكر بن محمَّد بن عمرو بن حزم: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهدى جملاً كان لأبي جهل بن هشام في حج أو عمرة". وهكذا رواه الناس عن مالك، حتى رواه سويد بن سعيد (¬3) عن مالك فقال: "عن الزهري عن أنس عن أبي بكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ... ". فأُنكر على سويد حتى قال ابن معين لما ذُكر له هذا: "لو أن عندي فرسًا خرجت ¬

_ (¬1) (1105). (¬2) زاد في "المنتقى" للباجي و"الموطأ" المطبوع على حاشيته: "عن نافع" والحديث في "سنن البيهقي" ج 5 ص 230 وعدة كتب أخرى بدون هذه الزيادة. [المؤلف]. (¬3) لم أجده في "الموطأ - رواية سويد" وذكره في "التمهيد": (17/ 413 - 414).

أغزوه" (¬1). وممن رواه عن سويد أحمد بن الحسن بن عبد الجبار الصوفي، فاستنكره الناس فأبرز الصوفي أصله العتيق. ثم تبيَّن أن جماعةً رووه عن سويد كذلك. ثم رواه الغِطْريفي، إما عن الصوفي كما يظهر من بعض العبارات، وإما عن ابن صاعد، وابن مظاهر عن الصوفي كما يظهر من بعضها. قال حمزة السهمي في ترجمة الغِطْريفي من "تاريخ جرجان" (ص 387): "وقد أنكروا على أبي أحمد الغطريفي رحمه الله حيث روى حديث مالك ... وكان يذكر أن ابن صاعد وابن مظاهر أفاداه عن الصوفي هذا الحديث، ولا يبعد أن يكون قد سمع إلا أنه لم يُخْرِج أصلَه. وقد حدَّث غير واحد من المتقدمين والمتأخرين هذا الحديث عن الصوفي ... ". وفي "تاريخ بغداد" (ج 4 ص 83): "أخبرنا البَرقاني قال: سألت أبا بكر الإسماعيلي عن حديث الصوفي ... أهدى [1/ 389] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جملاً لأبي جهل؟ فقال لي: حدثناه بحضرة ابن صاعد وابن مظاهر فاختلفا فيه ... فأخرج الصوفيُّ أصلَه العتيق، فكان كما قال. قال البرقاني: وحدّثَناه عن الصوفي أيضًا أبو أحمد الغِطريفي كذلك، وذكر القصة نحو هذا". والإسماعيلي إمام، وكذلك البَرْقاني، وكان الغِطريفي رفيق الإسماعيلي في الطلب ثم كان نازلاً في بيته، وروى عنه الإسماعيلي في "الصحيح" أحاديث كثيرة، وسئل عنه فقال: "ما علمته إلا صوامًا قوامًا". وكأنَّ الذين أنكروا عليه الحديث توهموا أنه تفرّد به، وقد اتضح خطؤهم في ذلك. فأما ¬

_ (¬1) "تاريخ بغداد": (4/ 305)، و"التهذيب": (4/ 275).

عدم إبرازه أصله فلا يضرُّه، إذْ قد يكون قصَّر فلم يكتبه، أو كتبه وغاب عنه أصله، أو لم يعثر عليه حينئذ فإنه كان مكثرًا جدًّا. وأما تحديثه بـ "مسند إسحاق" من غير أصله، فمسند إسحاق كتاب مصنف محفوظ مرويّ، فإذا لم يصل إلى أصله الذي سمع فيه ووصل إلى نسخة أخرى يثق بمطابقتها لأصله لم يكن عليه حرج في ذلك. وإنما المحذور أن يحدِّث الرجل من كتاب لا يثق بمطابقته لأصله. وأما أحاديثه عن ابن سريج، فإنما قال حمزة: "لا أعلم روى عنه غيره" يعني تلك الأحاديث، لم يستنكر حمزة شيئًا منها. وابن سريج كان بابه الفقه، ولم يكن يبذل نفسه لإملاء الحديث، وكان الغِطْريفي مولَعًا بالإكثار واستيعاب ما عند الشيخ، كما في ترجمته من "تذكرة الحفاظ" (¬1): "سمع أبا خليفة حتى استوعب ما عنده". فكأنه ألحَّ على ابنِ سُريج حتى أخذ ما عنده ولم يكن غيره يحرص على السماع من ابن سريج؛ لأنه لم يكن مكثرًا من الحديث ولا متجردًا له ولا عالي الإسناد، فإنه مات وعمره بضع وخمسون سنة. على أنه يحتمل أن يكون غير الغطريفي قد روى عن ابن سريج تلك الأحاديث ولم يَعْلَم حمزة. وأما حكاية الاختلاط، فقد ردَّها العراقي (¬2) وذكر أن المختلط رجل آخر غير الغِطْريفي. ولو كان هناك اختلاط أو شبهه لتعرَّض له حمزة في "تاريخ جرجان" فإنه بلديُّ الغطريفي وصاحبُه، وقد جمع كلَّ ما قيل فيه. ¬

_ (¬1) (3/ 971). (¬2) في "التقييد والإيضاح": (2/ 1475 - 1479).

187 - محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رزق، يعرف بابن رزق وبأبي رزقويه

وقد اتضح أنه ليس فيما تجنَّوه على الغطريفي ما يضرُّه. وقال الذهبي في "الميزان" (¬1) بعد حكاية ما قيل: "قلت: ثقة ثبت من كبار حفاظ زمانه". وقال في "تذكرة الحفاظ" (¬2): "الحافظ المتقين الإِمام ... من علماء المحدثين ومتقنيهم، صوّامًا قوّامًا صالحًا ثقة" (¬3). (¬4) 187 - [1/ 390] محمَّد بن أحمد بن محمَّد بن أحمد بن رزق، يعرف بابن رزق وبأبي رزقويه: قال الأستاذ (ص 32): "إنما لازمه الخطيب بعد أن هرم وكف بصره، والكفيف لا يؤخذ عنه إلا ما يحفظه عن ظهر القلب ... والإكثار عن مثل هذا الضرير لا يصدر إلا من المتساهلين ... ". أقول: قد حقق الخطيب نفسه هذه القضية في "الكفاية" (ص 226 - 229) و (ص 258 - 259) وذكر هنالك من كان يروي من كتبه بعد ما عمي ومنهم: يزيد بن هارون، وأبو معاوية محمَّد بن خازم، وعبد الرزاق. والذين حكى عنهم المنع من ذلك اعتلُّوا بخشية أن يُزاد في كتاب الأعمى وهو لا يدري. وغيرهم يقول: المدار في هذا الأمر على الوثوق، فإذا كان الضرير واثقًا بحفظ كتابه ثم قرأ عليه منه ثقةٌ مأمون متيقّظ فقد حصل الوثوق، وقد ¬

_ (¬1) لم يذكره الذهبي في "الميزان"، وهذه العبارة للحافظ ابن حجر في "لسان الميزان": (6/ 496) والترجمة برمتها من زيادات الحافظ على "الميزان" وقد رمز لها بـ (ز). (¬2) (3/ 971 - 972). (¬3) هذه ترجمة الغطريفي. وقد مرَّت ترجمة أبي نعيم والخطيب. فوازنْ بين ما صحَّ من أحوالهم وما قيل في غيرهم من المرضيين عند الحنفية. [المؤلف] (¬4) محمَّد بن أحمد بن سهل. راجع "الطليعة" (ص 34 - 35 [24 - 25]). [المؤلف]

188 - محمد بن أحمد بن محمد بن جعفر الأدمي

استغنى أهل العلم منذ قرون بالوثوق بصحة النسخة، فمن وثق بصحة نسخة كان له أن يحتج بما فيها، كما يحتج به لو سمعه من مؤلف الكتاب. والخطيبُ - كما يُعلم من "تاريخه" - غاية في المعرفة والتيقظ والاحتياط، فإذا وثق بأنّ كُتب ابن رزق محفوظة ثم دفع إليه ابن رزق كتابًا منها فرأى سماعه فيه صحيحًا، وعلم أنه قد رواه مرارًا قبل عماه، فقد حق له أن يحتج بما يجد فيه وإن لم يقرأه هو أو غيره بحضرته على ابن رزق، فكيف إذا وفَّى الحجةَ بقراءته عليه؟ بل إذا تدبرت علمت أن الوثوق بهذا أمتن من الوثوق بما يرويه الرجل من حفظه، فإن الحفظ خوَّان. وقد رأيت في "تاريخه" (ج 9 ص 309): "دفع إليَّ ابن رزق أصل كتابه الذي سمعه من مكرم بن أحمد القاضي، فنقلتُ منه، ثم أخبرنا الأزهري، أخبرنا عبد الله بن عثمان، أخبرنا مكرم ... " فذكر خبرًا. وهذا مما يبين تحرِّي الخطيب وتثبُّته. وفوق ذلك فعامة ما رواه الخطيب عن ابن رزق في ترجمة أبي حنيفة إنما هو من كتاب مصنف للأبار، وجلُّ الاعتماد في مثل هذا على صحة النسخة، كما تقدم في ترجمة الحسن بن الحسين (¬1). 188 - محمَّد بن أحمد بن محمَّد بن جعفر الأَدَمي: في "تاريخ بغداد" (13/ 405 [430]): "أخبرنا البَرْقاني، حدثني محمَّد بن أحمد بن محمَّد الأدمي، حدثنا محمَّد بن علي الإيادي، حدثنا زكريا بن يحيى الساجي، حدثنا بعض أصحابنا قال: قال ابن إدريس: إني لأشتهي من الدنيا أن يخرج [1/ 391] من الكوفة قول أبي حنيفة، وشُرْب ¬

_ (¬1) رقم (74).

المسكر، وقراءة حمزة". قال الأستاذ (ص 127): "ترى البَرْقاني يصفُّ نفسه في صفِّ هؤلاء فيروي عن مثل الأدمي ... راوي "العلل" للساجي، وهو لم يكن صدوقًا، يُسمع لنفسه في كتب لم يسمعها، وكان بذيء اللسان كما سبق من الخطيب ... وواضع الحكاية على لسان ابن إدريس، وقح قليل الدين يجمع بين شرب المسكر وبين الفقه والقراءة المتواترة". أقول: لفظ الخطيب في ترجمة الأَدَمي (ج 1 ص 349): "قال لي أبو طاهر حمزة بن محمَّد بن طاهر الدقاق: لم يكن الأدمي هذا صدوقًا في الحديث؛ كان يُسمع لنفسه في كتب لم يسمعها. فسألت البرقاني عن الأدمي فقال لي: ما علمت إلا خيرًا، وكان شيخًا قديمًا .... غير أنه كان يطلق لسانه في الناس، ويتكلّم في ابن مظفر والدارقطني". فعدم التفات البرقاني إلى كلام حمزة يدل على أنه لم يعتدّ به؛ لأن حمزة لم يبيَّن أيَّ كتاب ألحق الأَدَميُّ سماعَه فيه ولم يسمعه، ومن أين علم حمزة أنه لم يسمعه؟ وقول البرقاني: "غير أنه كان يطلق لسانه ... " كأنه قصد بها أن الأدمي كان يتكلم في الناس، فتكلم بعضهم فيه. ومثل هذا يقع فيه التجوّز والتسامح، فلا يُعتد به إلا مفسرًا محققًا مثبتًا. ومع هذا فالخبر في كتاب "العلل" للساجي، ولم يكن البرقاني ليسمع الكتاب من الأَدَمي حتى يثق بصحة سماعه وبصحة النسخة، فهب أن البرقاني أو الخطيب قال: "قال الساجي في "العلل" ... " ألا يكفي هذا للحجة؟ وقد كان يكفي الأستاذ أن يقول: شيخ الساجي لا يُدرَى من هو، ولكنه يأبى إلا التطويل والتهويل.

189 - محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف القرشي المطلبي الشافعي أبو عبد الله

وزَعْمه أن الحكايةَ موضوعة مجازفة منه، وكلام أئمة السنة في ذلك العصر في قول أبي حنيفة متواتر حق التواتر، وكلام جماعة منهم في قراءة حمزة مشهور. والقرآن متواتر حقًّا، فأما وجوه الأداء التي تفرَّد بها حمزة فالأئمة الذين أنكروها لا يعلمون صحتها فكيف تواترها؟ وراجع ترجمة حمزة في "الميزان" (¬1). (¬2) 189 - محمَّد بن إدريسَ بن العبّاس بن عثمانَ بن شافعِ بن السائبِ بن عُبيدِ بن عَبْد يزيدَ بن هاشم بن المطَّلب بن عبدِ منافٍ القرشي (¬3) المطلبي الشافعي أبو عبد الله: هكذا نسبه [1/ 392] صاحبُه الربيعُ كما في صدر كتاب "الرسالة" (¬4)، وأسنده إليه الخطيب في "تاريخ بغداد" (¬5) والسند إليه بغاية الصحة. وهكذا نَسَبه صاحبُه الزعفرانيّ كما تراه عنه من وجهين في "توالي التأسيس" (ص 44) (¬6). وهكذا نسبه الإِمام أبو محمَّد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي في "كتابه" (ج 3 ص 201). وهكذا نسبه أحمد بن محمَّد بن عبيد ¬

_ (¬1) (2/ 128 - 129). (¬2) محمَّد بن أحمد التميمي. يأتي في ترجمة محمَّد بن علي البلخي إن شاء الله تعالى [رقم 223]. [المؤلف]. (¬3) لم ترد هذه النسبة في "الرسالة". (¬4) (ص 7). (¬5) (2/ 57). (¬6) (ص 34). وتقدم أن صواب اسم كتاب ابن حجر "توالي التأنيس" كما نص عليه تلميذه السخاوي.

العدوي النسابة، رواه عنه زكريا الساجي في "مناقب الشافعي" كما في "توالي التأسيس" أيضًا و"تاريخ بغداد". وقال ابن النديم في "الفهرست" (ص 294): "قرأت بخط أبي القاسم الحجازي في كتاب "الأخبار الداخلة في التاريخ" أنه: أبو عبد الله محمَّد بن إدريس من ولد شافع بن السائب بن عبيد ... " كما مرّ. وقال أبو عمر بن عبد البر في "الانتقاء" (ص 66) (¬1): "لا خلاف علمتُه بين أهل العلم والمعرفة بأيام الناس من أهل السير والعلم بالخبر والمعرفة بأنساب قريش وغيرها من العرب وأهل الحديث والفقه: أن الفقيه الشافعي رضي الله عنه هو محمَّد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد ... " كما مرّ. وقال ابن أبي حاتم في "كتابه": "حدثني أبو بشر بن أحمد بن حماد الدولابي، نا أبو بكر بن إدريس قال: سمعت الحميدي يقول: كان أحمد بن حنبل قد أقام عندنا بمكة على سفيان بن عيينة، فقال لي ذات يوم: ها هنا رجل من قريش له بيان ومعرفة. قلت: ومن هو؟ قال: محمَّد بن إدريس الشافعي - وكان أحمد بن حنبل قد جالسه بالعراق - فلم يزل بي حتى اجترَّني إليه، فجلسنا إليه ودارت مسائل، فلما قمنا قال لي أحمد بن حنبل: كيف رأيت؟ ألا ترضى أن يكون رجل من قريش له هذه المعرفة وهذا البيان؟ ... ". الدولابي حافظ حنفيّ فيه مقال، ومثلُه لا يُتّهم في هذا، وشيخه هو ورّاق الحميدي ثقة، والحميدي قرشي إمام. ¬

_ (¬1) (ص 115 - 116).

وفي أوائل "سنن الشافعي" (¬1) التي رواها الطحاوي عن المزني صاحب الشافعي بسندين إلى الطحاوي قال: "حدثنا ... المزني في ذي القعدة من سنة 252 قراءة منه علينا قال: حدثنا الإِمام أبو عبد الله محمَّد بن إدريس المطلبي الشافعي ... ". والذين ذكروا الشافعي وأثنوا عليه بأنه قرشي أو مطلبي من أقرانه والذين يلونهم كثير. وقد جاء عنه أنه لمّا حُمل إلى بغداد ناظر محمَّد بن الحسن فاستعلى عليه، فبلغ ذلك هارون الرشيد فأعجبه، وقال: "صدق الله ورسوله، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تعلَّموا من قريش ولا تُعلِّموها، وقدِّموا قريشًا [1/ 393] ولا تؤخّروها ... " كما في "توالي التأسيس" (ص 70) (¬2). وفيها (ص 47) (¬3) من وجه آخر عن الربيع بن سليمان صاحب الشافعي: "ناظر الشافعيُّ محمدَ بن الحسن، فبلغ الرشيد فقال: أما عَلِم محمدٌ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قدِّموا قريشًا، فإن علم العالم منهم يسع طِباقَ الأرض". وفيها (ص 60) (¬4): "وقال أبو عبد الله محمَّد بن إبراهيم البُوشَنْجي وهو من كبار الأئمة: تصفحنا أخبار الناس، فلم نجد بعد الصدر الأول من هذه الأمة أوضح شأنًا ولا أبين بيانًا, ولا أفصح لسانًا من الشافعي مع قرابته ¬

_ (¬1) (1/ 117، وفي السماعات 87، 89). (¬2) (ص 127 - 128). (¬3) (ص 45). (¬4) (ص 101).

من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". وقال بعد قليل (¬1): "وقال داود بن علي الأصبهاني فيما أخرجه البيهقي من طريقه قال: اجتمع للشافعي من الفضائل ما لم يجتمع لغيره. فأول ذلك شرفُ نسبه ومنصبه وأنه من رهط النبي - صلى الله عليه وسلم -". وفيها (ص 61) (¬2): "وأخرج الحاكم من طريق داود بن علي قال في مسألة ذكرها: هذا قول مطلبِيِّنا الشافعي الذي علاهم بنُكته، وقهرهم بأدلته، وباينهم بشهامته، وظهر عليهم بحَمازته؛ التقيّ في دينه، النقي في حسبه، الفاضل في نفسه، المتمسك بكتاب ربه، المقتدي قدوة رسوله، الماحي لآثار أهل البدع، الذاهب بجمرتهم، الطامس لسنَّتهم، فأصبحوا كما قال تعالى: {فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} [الكهف: 45] ". ومثل هذا من الثناء عليه بأنه قرشي أو مطلبي، أو من رهط النبي صلى الله عليه وآله وسلم كثير. وهذا ابن دريد يقول في مرثيته: لِرأيِ ابن إدريسِ ابن عمِّ محمدٍ ... ضياءٌ إذا ما أظلم الخطبُ صادعُ وفي "تاريخ البخاري" (ج 1 قسم 1 ص 242): "محمَّد بن مسافع بن مساور ... وقال سعيد بن سليمان: محمَّد بن شافع بن السائب بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف". وذكروا في الصحابة عبد الله بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب. ¬

_ (¬1) (ص 102). (¬2) (ص 102 - 103).

وفي "توالي التأسيس" (ص 45) (¬1): "أخرج الحاكم من طريق أبي الفضل أحمد بن سلمة سمعت مسلم بن الحجاج يقول: عبد الله بن السائب كان والي مكة وهو أخو شافع بن السائب جَدّ محمَّد بن إدريس الشافعي ... ". وقال الشافعي في "الأم" (ج 7 ص 250) (¬2): "قال لي قائل يُنْسَب إلى العلم بمذهب أصحابه: [1/ 394] أنت عربيّ، والقرآن نزل بلسانِ من أنت منهم .. ". وقال في وصيته المثبتة في "الأم" (ج 4 ص 49) (¬3): "وأوصي لفقراء آل شافع بن السائب بأربعة أسهم ... ". وقال في "الأم" (ج 4 ص 38) (¬4) ونحوه في "مختصر المزني" بهامش الأم (ج 3 ص 193) (¬5): " ... فإذا كان المعروف عند العامة أن من قال من قريش: لقرابتي - لا يريد جميع قريش ... فيُنظر إلى القبيلة التي يُنسب إليها فيقال: من بني عبد مناف، ثم يقال: قد يتفرق بنو عبد مناف فمِن أيّهم؟ فيقال: من بني المطلب، فيقال: [أيتميّز بنو المطلب؟ قيل: نعم، هم قبائل فمن أيِّهم؟ قيل: من بني عبد يزيد بن هاشم بن المطلب فيقال:] (¬6) أفيتميز هؤلاء؟ قيل: نعم، هم قبائل، قيل: فمن أيهم؟ قيل: [من بني عُبيد بن عبد ¬

_ (¬1) (ص 38). (¬2) (8/ 258 ط - دار الوفا). (¬3) (5/ 264). (¬4) (5/ 239). (¬5) (ص 145 - ملحق بآخر كتاب الأم). (¬6) ما بين المعكوفات هنا وما سيأتي مستدرك من "الأم" ساقط من (ط).

يزيد، قيل: أفيتميّز هؤلاء؟ قيل:] نعم، هم بنو السائب بن عبيد بن عبد يزيد، قيل: وبنو شافع وبنو علي وبنو عباس، وكل هؤلاء من بني السائب. فإن قيل: أفيتميز هؤلاء؟ قيل: نعم، كل بطن من هؤلاء يتميز عن صاحبه، فإذا كان من آل شافع فقال: لقرابته، فهو لآل شافع دون آل علي وآل عباس ... ". فالشافعي ومن أدركه وأقرانه وأصحابه ومن جاء بعدهم إلى نحو مائتي سنة بعد الشافعي ما بين ناسبٍ له ولمن عُرِف من أهل بيته بالعلم كعمِّه محمَّد بن علي بن شافع، ومحمد بن العباس بن عثمان بن شافع، وابنه إبراهيم وغيرهم هذا النسبَ تفصيلاً أو إجمالاً، وبين سامعٍ له غير منكر. ولو كان الانتساب إلى قوم من الأعاجم لقد كان يجوز أن يقال: يمكن أن يكون الرجل - إن كان أهلاً أن يتوهم فيه الكذب - نسب نفسه بدون تحقيق، فاتفق أن تغافل أهل المعرفة عن الإنكار عليه. أما العجم فلعدم اعتداد مسلميهم بأنسابهم، وإنما كانوا ينتسبون إلى مواليهم من العرب. وأما العرب فلا يهمُّهم أن ينتسب الأعجمي إلى من شاء من العجم. وقريب من هذا لو انتسب إلى قبيلة خاملة من العرب، ولم يكن له هو من النباهة ما يحمل كثيرًا من الناس على حسده ومنافسته فيدعوهم إلى مناقشته. فهل يُسوِّغ ذو عقل مثل هذا في رجل يقوم في القرن الثاني فيدّعي لعشيرته كاملة أنها من العرب ثم من قريش ثم من بني عبد مناف ثم من بني المطلب، فيثبت لها بذلك حقًّا في الخلافة، وحقًّا في الفيء، وحقًّا في خمس الخمس، والكفاءةَ لبني هاشم - والخلفاء منهم -, فلا يبقى بينها وبين بني هاشم فرق إلاَّ في الفضل، مع أنها تشاركهم في نصيب منه لما في

"الصحيحين" (¬1) وغيرهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: [1/ 395] "إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد". وثبت عن فاطمة عليها السلام أنها لما وقفت صدقتها جعلتها لبني هاشم وبني المطلب. وكذلك فعل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. يقوم هذا الرجل في القرن الثاني فيدّعي هذا ويُعلنه، ويلهج به عارفوه وأصحابه وجماعة من عشيرته، ثم لا يثور عليه التكذيب والعقوبة من كثير من الجهات؟ بل ولا ينكر عليه أحد. هذا مع أن الرجل بغاية من النباهة، ولم يكن له ولا لأحد من أقاربه ما يُهاب لأجله ويُتقى من منصب في الدولة أو نحو ذلك. وقد كان في مبدأ أمره ولي بعض الولايات، وطار له صيت بالعدل والجود والقبول، فنُسِب إليه ترشيح نفسه للخلافة، فحُمِل إلى الخليفة العباسي هارون الرشيد. وجاء من غير وجه أنه خاطبه بقوله: نحن إخوتكم من بني المطلب، فأنتم تروننا إخوة. هذا، والعارفون بالأنساب - ولا سيما نسب قريش - في ذاك العصر كثير، وللرجل حُسَّاد يَحْرُقون عليه الأُرَّمَ (¬2)؛ ومع ذلك قبِل الناسُ دعواه ووافقوه عليها، واستمرَّ الأمر على ذلك؛ تُسمَع موافقتُه من كل جهة، ولا يُحَسُّ وَجْسٌ بمخالفته إلى نحو مائتي عام. ثم ماذا كان بعد ذلك؟ ذاك متفقه حنفيٌّ ملأه غيظًا تبجّحُ الشافعية بأن ¬

_ (¬1) البخاري (3140)، ولم أجده في "صحيح مسلم". وأخرجه أبو داود (2978)، والنسائي (4137). (¬2) مثل يُضرب لشدة الغيظ، والأرّم: الأضراس.

إمامهم ابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فسولت له نفسُه أن يحاول المكابرة في ذلك، فلم يجد إلى ذلك سبيلاً. فلجأ إلى غير ملجأ فقال: "إن أصحاب مالك لا يسلِّمون أن الشافعي من قريش، بل يدّعون أن شافعًا كان مولى لأبي لهب، فطلب من عمر رضي الله عنه أن يجعله من موالي قريش، فامتنع. فطلب من عثمان رضي الله عنه، ففعل". فافتضح هذا القائل الظالم لنفسه، فإن أصحاب مالك - وإن كان فيهم من هو حَنِقٌ على الشافعي وأصحابه - لا يعرفون قائلاً منهم بهذه المقالة. وهذا صاحبهم ابن عبد البر أعرف الناس بهم وبأحوالهم ومقالاتهم، نَقَل الإجماع على نسب الشافعي كما سلف. ولو أن ذلك الحنفي نسب تلك المقالة إلى إنسان معروف من المالكية لساغ احتمال أنه لم يكذب على ذلك المالكي وإن كذّبه. وإنما رأى في بعض الروايات أن الشافعي لما حُمل إلى الرشيد كان معه رجل من آل أبي لهب، ثم حاول أن يروِّج مقالته بما نسب إلى عمر، فزادها فضيحة. فهل كان عمر ينكر أن يكون بنو هاشم من قريش؟ أم كان ظالمًا جائرًا يمنع المولى حقه الواضح؟ تذهب هذه الأضحوكة ذهابَ ضرطة عير بالفلاة، [1/ 396] وتمرُّ على ذلك ثلاثمائة سنة أخرى تقريبًا، وإذا بحنفيًّ آخر محترق يكتب كتيبًا يضمِّنه أشياء في فضل أبي حنيفة وعيب سائر الأئمة ولا سيما الشافعي، وخوفًا من الفضيحة نحَلَ الكتابَ مَن لا وجود له، فكتب عنوانه: "كتاب التعليم" لشيخ الإِسلام عماد الدين مسعود بن شيبة بن الحسين السندي، ثم رمى بالكتاب في بعض الخزائن، فعثر الناس عليه بعد مدة، فتساءل العارفون: مَن مسعود بن شيبة؟ لا يجدون له خبرًا ولا أثرًا إلا في عنوان ذاك الكتيب.

القضية مكشوفة إلا أنها صادفت هوًى في نفوس بعض الحنفية، فصار بعضُ مؤرخيهم وجامعي طبقاتهم ومناقبهم يذكرون مسعود بن شيبة وينقلون من ذاك الكتيب. فاضطُرَّ الحافظ ابن حجر إلى أن يقيم لذلك وزنًا ما، فقال في "لسان الميزان" (¬1): "مسعود بن شيبة ... مجهول لا يُعرف عمن أخذ العلم ولا من أخذ عنه، له مختصر سماه "التعليم" كذب فيه على مالك وعلى الشافعي كذبًا قبيحًا ... ". فيجيء الأستاذ الذي يصف نفسه كما في لوح كتابه الذي طبع بتصحيحه ومراجعته بأنه "الإِمام الفقيه المحدث، والحجة الثقة المحقق، العلامة الكبير صاحب الفضيلة مولانا الشيخ محمَّد زاهد بن الحسن الكوثري وكيل المشيخة الإِسلامية في الخلافة العثمانية سابقًا"، فيحتج بذاك الكتيب المسمى بـ "التعليم"، ويذكر مسعود بن شيبة كعالم حقيقي. ويزيد على ذلك فيقول في حاشية (ص 3) من "التأنيب": "وابن شيبة هذا جَهِله ابن حجر فيما جهل مع أنه معروف عند الحافظ (؟) عبد القادر القرشي، وابن دقماق (¬2) المؤرخ، والتقي المقريزي، والبدر العيني، والشمس ابن طولون الحافظ، وغيرهم. فنَعُدُّ صنيعَ ابن حجر هذا من تجاهلاته المعروفة لحاجة في النفس، وقانا الله اتباع الهوى". كذا يقول هذا الظالم لنفسه، وهو يعلم حقَّ العلم أن هؤلاء الذين سمَّاهم - وكلُّهم متأخرون - لم يعرفوا إلا ذاك الكتيِّب، فتجاهلوا حاله، وذكروا مسعود بن شيبة بما أخذوه من ذاك الكتيب. فإنْ كانت هذه معرفة، ¬

_ (¬1) (8/ 46). (¬2) (ط): "دقاق" تحريف.

فالحافظ ابن حجر لم ينكرها، بل أثبتها في تلك الترجمة. والداهية الدهياء أن يختم الأستاذ عبارته بقوله: "وقانا الله اتباع الهوى"، أفليس هذا أشنع وأفظع وأدلَّ على المكروه من قول شارب الخمر حين يشربها: باسم الله؟! يقع في ذاك الكتيب ما نقله عنه الأستاذ كما يأتي. تناسى الناس ذاك الكتيِّب إلا أماني [1/ 397] كما سبق، ومضت بعد ذلك قرابة سبعمائة سنة، فينشأ الأستاذ الكوثري، فيُبعثر فظائع أصحابه. علَّق على "انتقاء ابن عبد البر" حيث حكى ابن عبد البر الإجماع على نسب الشافعي قولَه: "ومن زعم أن شافعًا كان مولى لأبي لهب فطلب من عمر أن يجعله من موالي قريش فامتنع، فطلب من عثمان ذلك ففعل؛ فقد بعد عن الصواب وشذَّ عن الجماعة. والتعويلُ عليه من بعض الحنفية والمالكية تعصبٌ بارد، ولهم أن يناقشوه في علمه لا في نسبه". وغرضه هنالك إنما هو محاولة الخدش في الإجماع الذي ذكره ابن عبد البر، ولكن حاول المواربة! وزعمُه أن بعض الحنفيّة والمالكية عوَّلوا على تلك الفرية فرية أخرى، إنما رمى بها ذاك الحنفيُّ المحترق على المالكيةِ، والمالكيةُ بَراء منها. فإن كان هناك من يسوغ أن يُقال: إنه عوَّل عليها، فهو الكوثري، فقد قضى على نفسه بالتعصب البارد. وذلك أخفُّ ما ينبغي أن يُقضى عليه به! وقال في "التأنيب" ص 100 فما بعدها عند ذكر الموالي: "حتى إن الشافعي منهم عند أهل العلم (؟) "، وعلَّق عليه في الحاشية مقالة ذاك الحنفي ثم قال: "ومنهم من يعدُّه في عِداد موالي عثمان كما في "التعليم" لمسعود بن شيبة"، وقد علمت حال هذين. ثم قال: "وكان الشافعي يعضُّه فقرٌ مدقع في

نشأته كما في كتب المناقب، والصليب في قريش كان يتناول من الديوان في ذلك العصر ما يقيم به أَودَه". أقول: الذي يَقْوى سندُه من تلك الحكايات: ما رُوي عن الشافعي أنه قال: "كنت يتيمًا في حجر أمي، ولم يكن لها مال، وكان المعلم يرضى من أمي أن أخلفه إذا قام. فلما جمعتُ القرآنَ دخلت المسجد، فكنت أجالس العلماء، فأحفظ الحديث أو المسألة. وكانت دارنا في شعب الخيف، فكنت أكتب في العظم، فإذا كثرت طرحتُه في جرَّة عظيمة". والحكايات الأخرى في أسانيدها مقال، وهي مع ذلك لا تزيد على هذا. وهذا لا يصدق عليه كلمة "يعضُّه فقرٌ مُدقع"، فقد كانت له دار وكفاف في المطعم والملبس، وإلا لَمَا تركته أمه يطلب العلم، بل كانت تسلمه في حرفة. فإن كان يصل إليه من الديوان شيء فلا ندري ما قدره، وقد لا يكون يصل إليه شيء؛ لأن الأمراء كانوا ظَلَمة يصرفون بيت المال في أغراضهم [1/ 398] وشهواتهم. وكان والد الشافعي كما تشير إليه بعض الروايات ممن خرج مع العلوية على العباسيين، ولذلك اضطر إلى الفرار بأهله من الحجاز إلى فلسطين حيث وُلد الشافعي. وكان الأمراء يتتبعون من كان كذلك بالقتل والسجن، فضلاً عن حرمان حقهم في بيت المال. وقد نال ذلك ذرية فاطمة عليها السلام، قال دِعْبِل: أرى فيئهم في غيرهم متقسِّما ... وأيديهمُ من فيئهم صَفِراتِ (¬1) وقال الكوثري في ما كتبه على "مغيث الخلق" (¬2): "لم أر أحدًا قبل زكريا ¬

_ (¬1) "ديوانه" (ص 41 - ت محمَّد يوسف نجم). (¬2) "إحقاق الحق بإبطال الباطل في مغيث الخلق" (ص 19). وفيه: "نسب شافع".

الساجي رفع نسب الشافعي إلى عبد مناف". أقول: قد أريناك! قال: "والساجي متكلم فيه". أقول: بما لا يُعتدُّ به. وهو أحد الأثبات كما مرَّ في ترجمته (¬1). قال: "اختلاف الروايات في مسقط رأس الإِمام الشافعي .... وعدم ذكر ترجمة لوالديه، ولا تاريخ لوفاتهما في "كتاب الثقات" مما يدعو إلى التثبت في الأمر"! أقول: أما الاختلاف في موضع ولادته، فليس مما يدعو إلى التشكك. وهؤلاء أبناء فاطمة وأبناء العباس لم تتعرض التواريخ لمواضع ولادة كثير منهم، إذ ليس ذلك مما يُهتمّ به فيُحفظ. والناس إلى الآن مختلفون في تاريخ وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومولده، وكان والد الشافعي مشرَّدًا مطرّدًا بسبب خروجه مع العلويين، فكان مختفيًا بأهله في فلسطين حيث ولد له الشافعي. والذين ذكروا موضع ولادة الشافعي إنما استندوا إلى إخباره، فأقوى الروايات عنه أنه قال: "بعسقلان"، وفي رواية عنه أنه قال: "بغزة" فإن ثبتت هذه أيضًا تبيَّن أنه ولد بإحداهما، وأطلق عليها في الرواية الأخرى اسم الأخرى؛ لأنها من مُضافاتها، أو ولد في قرية صغيرة بينهما، أطلق عليها في إحدى الروايتين اسم هذه وفي الأخرى اسم الأخرى؛ لأنها لا تعرف إلا بإضافتها إلى إحداهما. ¬

_ (¬1) رقم (94).

فأما ما روي عن أحمد بن عبد الرحمن بن وهب من ذكر اليمن، فلذلك أسوة بالأحاديث الكثيرة التي غلِط فيها أحمدُ هذا الغلطَ الفاحش، حتى اضطُرَّ أخيرًا إلى الرجوع عنها. ومع ذلك فقد تكلف بعضهم تأويل روايته المذكورة بما لا حاجة إلى ذكره. وأما أنهم لم يذكروا ترجمةً لوالدي الشافعي، فلم يُعرف أبوه بالعلم وما كلُّ قرشي حُفظت له [1/ 399] ترجمة، ولعل الذين حُفظت تراجمهم لا يبلغون عُشْرَ مِعشار الذين كانوا موجودين. وأما تاريخ الوفاة فالمحدِّثون إنما عُنوا بتقييد وفيات الرواة لمعرفة اتصال الرواية عنهم وانقطاعها، وما أكثر الرواة المشاهير الذين لم تقيَّد وفياتهم، والذين ذكرت وفياتهم منهم وقع في كثير منها الاختلاف المتباين. فأما والدا الشافعي فلم يتعانيا الرواية أصلاً. والأستاذ نفسه يتحقق هذا كلَّه، ولكنه يأبى إلا الشعبذة على الجهال! وقد عرف الناس تاريخ ولادة الشافعي، وأن أباه توفي عقب ذلك بسنة أو نحوها. فأما أمه فعاشت إلى أن بلغ ابنها مبلغ العلماء، وجهَّزتْه حيث خرج إلى اليمن، فولي فيها ما ولي. قال الكوثري: "وعَدُّ شافعٍ صحابيًّا أول من ذكره هو أبو الطيب الطبري". أقول: لم أر في المنقول ما يصرح بصحبته، فهو على الاحتمال. فإنْ كان وُلد قبل وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهو صحابي، وإلا كفتنا صحبة أبيه. قال: "أول من عد السائب صحابيًّا من مسلمة بدر، هو الخطيب في "تاريخه" بدون سند".

أقول: في "الإصابة" (¬1): "قال الزبير في كتاب "النسب": ولد عبيد بن عبد يزيد السائب، وكان يشبَّه بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وأُسِرَ يوم بدر. وذكر ابن الكلبي أنه كان يشبَّه بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. وأخرج الحاكم في "مناقب الشافعي" من طريق أبي محمَّد أحمد بن [محمد بن] عبد الله بن [محمد بن] العباس بن عثمان بن شافع (¬2) بن السائب قال: سمعت أبي يقول: اشتكى السائب بن عبيد، فقال عمر: اذهبوا بنا نعود السائب بن عبيد فإنه من مُصَاصَةِ قريش. قال النبي - صلى الله عليه وسلم - حين أُتي به وبعمِّه العباس: هذا أخي". وذكر في ترجمة شافع (¬3) ما رواه الحاكم من طريق إياس بن معاوية، عن أنس بن مالك قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم في فُسْطاط إذ جاء السائب بن عبيد ومعه ابنه، فقال: من سعادة المرء أن يشبه أباه. وذكروا في الصحابة عبد الله بن السائب كما تقدم، فالسائب صحابي حتمًا, ولا يهمُّنا أتقدم إسلامه أم تأخر. وقد عدُّوا في الصحابة عبيدًا والد السائب وعبد يزيد جده. وعلى كل حال ففي أجداد الشافعي صحابي حتمًا، وقيل: اثنان في نَسَق، وقيل: ثلاثة، وقيل: أربعة. وقد قال الأستاذ ص 165: "على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توفي عمن يزيد عددهم على مائة ألف من الصحابة، ولم ¬

_ (¬1) (3/ 23 - 24) وما بين المعكوفات منه. (¬2) (ط): "نافع" تحريف. (¬3) كذا في (ط) وفي العبارة تحريف أو سقط؛ لأن ترجمة شافع من "الإصابة": (3/ 310) لم يرد فيها هذا النص، وإنما جاء في "الإصابة": (3/ 23) في ترجمة السائب بن عبيد وأولها: "وروى الحاكم في "مناقب الشافعي" من طريق إياس ... " إلخ.

تحتوِ الكتب المؤلفة في الصحابة عُشْرَ معشار ذلك". فإذا لم ينص [1/ 400] المتقدّمُ على صحبة رجل، فاستدركه مَنْ بعده، لم يكن في ذلك ما يريب في صحبته. ثم قال الأستاذ: "وربما يعذرنا إخواننا الشافعية ... ". أقول: لا ريب أنهم إذا عرفوا الأستاذ وما يقاسيه من ذات نفسه يعذُرونه في أنفسهم ويرحَمونه، وإن كان ذلك لا ينفعه عند الله عزَّ وجلَّ! وقد ضجَّ الأستاذ (ص 18) مما روي عن يزيد بن زُرَيع: "كان أبو حنيفة نبطيًّا". فقال الأستاذ: "ومن ساق هذا الخبر الكاذب ليطعن في نسبه، فهو لم يزل على خلال الجاهلية" مع أن الأستاذ يعرف من مذهبه أن العجم أكفاء بعضهم لبعض من جهة النسب، وليسوا أكفاء للعرب، وأن سائر العرب ليسوا أكفاء لقريش، ولعل النبط أقرب إلى الشرف الديني من الفرس! وقال الكوثري (ص 4) من "التأنيب": "ومن تابع الشافعيَّ قائلاً: إنه قرشي، فله ذلك؛ لكن هذه الميزة لا توجب الرجحان في العلم. وفي "صحيح مسلم" (¬1): "من أبطأ به عملُه لم يسرع به نسبُه". على أن هناك من العلماء من هو قرشي باتفاق، فيفضَّل على مَن في قرشيته خلاف، لو كان هذا الأمر بالنسب". أقول: قد علمتَ الإجماع على نسب الشافعي مع الحجج الأخرى. فأما أن هذه الميزة لا توجب الرجحان في العلم، فإن أراد أنه لا يجب أن يكون كلُّ قرشي أعلم من كلِّ أعجمي مثلاً، فهذا حق لا يشتبه على أحد. ¬

_ (¬1) (2699) ولفظه: "من بطّأ".

وكذلك لا يجب أن يكون كلُّ تابعيّ أعلمَ من كلِّ مَنْ يأتي بعده، ولا كلُّ من كثر أتباعه أعلمَ من كلَّ من كان أقلَّ منه أتباعًا. وكذلك كلُّ من أبطأ به عملُه لا تسرع به تابعيتُه ولا كثرةُ أتباعه، بل ذلك أضرُّ عليه. وقد وضع الحديثَ في غير موضعه، فإن الشافعي لم يبطئ به علمُه ولا عملُه، وإنما ينبغي أن يُذكر هنا حديث "الصحيحين" (¬1) وغيرهما وفيه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أفعن معادن العرب تسألوني؟ " قالوا: نعم، قال: "فخياركم في الجاهلية خياركم في الإِسلام إذا فَقُهوا". ومن ذكر من أهل العلم في مزايا الشافعي أنه عربي قرشي مطَّلبي فلم يحتجَّ بفضيلة النسب من حيث هو نسب، ولكن من حيث ما هو مظنة. فإن ذلك يقتضي فضلَ معرفةٍ بالدين الذي أنزله الله تعالى على النبي العربي بلسان عربي، روعي فيه عقول العرب وأفهامهم وطباعهم، [1/ 401] ويقتضي فضل محبةٍ للدين وغيرة عليه وحرصٍ على عدم الشذوذ عنه. فإن من اجتمع له الحق والهوى أشدّ لزومًا للحق ممن جاء الحق على خلاف هواه. وقد قال الله تبارك وتعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 127 - 129]. ¬

_ (¬1) البخاري (3374)، ومسلم (2378) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ولفظه "فعن".

وقال عَزَّ وَجَلَّ: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة: 2 - 4]. فالأميون الذين بُعث فيهم الرسول فتلا عليهم آيات الله، وزكَّاهم، وعلَّمهم الكتاب والحكمة، وكانوا من قبل في ضلال مبين هم العرب الذين أدركوا نبوته، علَّمهم مباشرة أو قريبًا منها بأن أرسل إليهم رسولاً وهو - صلى الله عليه وسلم - حيٌّ ينزل عليه الوحي. والآخرون الذين لم يلحقوا بهم قد نصَّ القرآن أنهم "منهم"، فهم ذريتهم. فأما ما روي أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الآخرين، فسكت عنه ثلاثًا، ثم وضع يده على سلمان الفارسي وقال: "لو كان الإِسلام بالثريا لتناوله رجال من هؤلاء" (¬1)، فهذا لا يخالف الدلالة الواضحة من القرآن. وإنما سكت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن جواب السؤال لأن القرآن واضح بنفسه لمن تدبره. ثم وضع يده على سلمان، وقال ما قال على سبيل أسلوب الحكيم، كأنه قال: الأولى أن يسأل السائل: هل يختص الدين بالأميين الذين بُعِث فيهم الرسول مباشرة ومن يلحق بهم منهم؟ فأجاب - صلى الله عليه وسلم - عن هذا السؤال المقدَّر. فأما ما وقع في الرواية "رجال أو رجل" فشكٌّ من الراوي، وأكثر ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (7950)، وابن أبي شيبة (33183)، والترمذي (3933)، وابن حبان (7308) وغيرهم من طرق عن أبي هريرة رضي الله عنه. وفي أسانيده ضعف، وله شواهد.

الروايات "رجال" بلا شك، لكن جاء حديث آخر: "لو كان الدين عند الثريا لذهب به رجل من فارس - أو قال من أبناء فارس - حتى يتناوله"، ولم يذكر في هذا الحديث قصة الآية، لكن كلا الحديثين من رواية أبي هريرة. فإن كان أصل الحديثين واحدًا، واللفظ "رجل"، فلا شبهة أنه كناية عن سلمان كما تعيِّنه القرينة. وإن كانا حديثين فالرجل سلمان والرجال هو وآخرون. هذا هو المعنى الواضح [1/ 402] لمن أراد أن يفهم المراد من الكتاب والسنة (¬1). وأما من يريد أن يجرَّهما إلى هواه، فلا كلام معه. والمقصود هنا أن الشافعي ممن نالته المزية التي دعا بها إبراهيم وإسماعيل، وذُكِرَت في الآيات. ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. وقال تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران: 33 - 34] وجاء في كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ عدة آيات تدل على انقطاع الاصطفاء عن ذرية آل عمران، وبقي في غيرهم من آل إبراهيم. وفي الإصحاح الثاني من "سفر أرميا" في صدد توبيخه اليهود على ارتدادهم وعبادتهم الأصنام ما يدل على أن بني قيدار كانوا في عهده ثابتين على ملة إبراهيم، قال: "لذلك أخاصمكم - يقول الرب - وبني بنيكم ¬

_ (¬1) وقد تكلم المؤلف على معنى الآية في رسالة فرضية الجمعة (ضمن مجموع رسائل الفقه) (ص 316 - 318) وذكر في "الحكم المشروع" (ص 588 - ضمن رسائل الفقه) أن له مقالة في بيان المراد من الآية.

أخاصم. فاعبروا جزائر كِتِّيم وانظروا وأرسلوا إلى قيدار وانتبهوا جدًّا (¬1)، وانظروا هل صار مثل هذا؟ هل بدلَّت أمة آلهة وهي ليست آلهة، أما شعبي فقد بدَّل مجده بما لا ينفع". هكذا في النسخة المطبوعة بنيويورك سنة 1867 م. وبنو قيدار هم بنو إسماعيل، ومنهم عدنان أبو قريش. وجاء في "الصحيحين" (¬2) وغيرهما كـ "المستدرك" (ج 4 ص 605) وغيره، كما ترى تفصيل ذلك في "فتح الباري" (¬3) باب قصة خزاعة، وفي "الإصابة" (¬4) ترجمة أكثم بن الجون ما يُعلم منه أن عَمرو بن لُحَيّ أول من بدَّل دين إبراهيم أي - والله أعلم - في مكة ونواحيها. وعمرو هذا من اليمن على الراجح، وليس من ذرية إسماعيل على الراجح، وكان في عصر كنانة. وفي "صحيح مسلم" (¬5) وغيره من حديث واثلة بن الأسقع عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم". فهذا يدل أن ¬

_ (¬1) كأنه إشارة إلى أن بني قيدار بنو عمكم، ولم يُبعث فيهم نبي بعد إسماعيل، وبُعث فيكم عدد كثير من الأنبياء، وبعضهم بين ظهرانيكم، ومع ذلك هم ثابتون على الدين الحق وأنتم خرجتم منه. [المؤلف] (¬2) البخاري (1212)، ومسلم (901) من حديث عائشة، وأخرجاه (3521) (2856) من حديث أبي هريرة. (¬3) (6/ 547 وما بعدها). (¬4) (1/ 106 - 108). (¬5) (2276). وأخرجه الترمذي (3606)، وأحمد (16986).

عمرو بن لُحَيّ استغوى بعضَ بني إسماعيل، وثبت كنانة. ثم سرى التبديل إلى بعض ذرية كنانة، وثبت قريش، فانفرد بالاحتراز عن التبديل أو عن الإغراق فيه. ثم سرى الفساد في ذرية قريش، وانفرد هاشم بنحو ما انفرد به قريش، فكان بنو هاشم أقرب الناس إلى الحق حتى اصطفى الله تعالى رسولَه [1/ 403] منهم. وقد تقدم (¬1) قوله - صلى الله عليه وسلم -: "بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد". افترق بنو عبد مناف فانضم بنو نوفل إلى بني عبد شمس، وانضم بنو المطلب إلى بني هاشم، فكانوا معه ودخلوا معهم شعب أبي طالب لما قاطعت قريش بني هاشم بسبب النبي - صلى الله عليه وسلم -. ثم بقوا مع بني هاشم في الإِسلام، وبقوا معهم بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولما افترق بنو هاشم انضم بنو المطلب إلى ألصق الفريقين بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وهم بنو ابنته. وكان والد الشافعي معهم، فلما أصيبوا فرَّ إلى فلسطين حيث وُلد له الشافعي. فالشافعي من آل إبراهيم ثم من كنانة ثم من قريش، ثم من بني المطلب الذين هم وبنو هاشم شيء واحد، ثم ظهر في الإِسلام أنهم ألصق بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من بعض بني هاشم، ثم فَقُه: وهل يُنبت الخطِّيَّ إلا وشيجُه ... وتُغرَس إلا في منابتها النخلُ (¬2) بل قد يقال: إن الله تعالى اختص رسولَه - صلى الله عليه وسلم - وعشيرته بخصائص كثيرة، فلا يكاد يوجد لغيرهم فضيلة إلا ولهم من جنسها ما هو أفضل. وهذه الأمة قد كادت تُطبق على اتباع أربعة علماء، فيهم رجل واحد من عشيرة النبي ¬

_ (¬1) (ص 663). (¬2) البيت لزهير بن أبي سلمى "ديوانه" (ص 95 - صنعة ثعلب).

صلى الله عليه وآله وسلم، فقضية ما تقدَّم أن يكون أكمل من بقية الأربعة. وقد ذكر بعضهم أن مذهب الشافعي هو مذهب أهل البيت؛ لأنه من بني المطلب الذين كانوا وبني هاشم شيئًا واحدًا، ثم لما افترق بنو هاشم انضموا إلى ألصق الفريقين بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم. وكان بنو فاطمة في عصر تأسيس المذاهب مضطهَدين مروَّعين لا يكاد أحد يتصل بهم إلا وهو خائف على نفسه، فلم يتمكنوا من نشر علمهم كما ينبغي. وكان من أبناء الأعاجم قوم لهم منازع سياسية ضد الإِسلام، كانوا يتذرعون بإظهار التشيع للعلويين إلى أغراضهم، فكذبوا على أئمة العلويين كذبًا كثيرًا، فاشتبه الأمر على كثيرٍ من أهل العلم. أما الشافعي فإنه تلقَّف العلم من أصحاب جعفر بن محمَّد بن علي الحسين وغيرهم، ثم تجرَّد للعلم وأعرض عن السياسة، فصفا له الجو، فأسس مذهبه، فساغ أن يقال: إن مذهبه هو مذهب أهل البيت. والذي لا ريب فيه أنه إنْ صح أن يسمَّى واحد من المذاهب الأربعة: مذهب أهل البيت، فهو مذهب الشافعي، وأهل البيت أدرى بما فيه. ****

فصل

[1/ 404] فصل كما حاول الأستاذ أن يشكّك في عربية الشافعي في نسبه، كذلك حاول أن يتكلم في عربيته في لسانه، فذكر حكايتين عن "كتاب التعليم" وقد عرفتَ حاله، وذكر قضايا أخرى. الأولى: أن الشافعي فسَّر قوله تعالى: {أَلَّا تَعُولُوا} [النساء: 3] بقوله: تكثر عيالكم. أقول: نصَّ الكسائيّ على أن من العرب الفصحاء من يقول: "عال فلان" بمعنى كثر عياله. وكذلك جاء عن الأصمعي وغيره من الأئمة. ومع ذلك فعال يعول يأتي اتفاقًا بمعنى الزيادة والكثرة, كالعَول في الفرائض، والآية تحتمل هذا الوجه، أي أن لا تكثروا، ويكون المراد بدلالة السياق: يكثر عيالكم. أما الاعتراض بأن أكثر المفسرين فسَّروها بقولهم: أن لا تميلوا، فليس الكلام هنا في رجحان وجه على آخر، وإنما الكلام في قول الشافعي أخَطأٌ هو في العربية أم صواب؟ وقد ثبت بما تقدم أنه ليس بخطأ في العربية، فغاية الأمر أن يقال: هو خطأ في التفسير. وذلك لا يضرُّنا هنا, لأن جماعة من الصحابة قد أخطؤوا في بعض التفسير، ولم يعدّ ذلك قادحًا في فصاحتهم. ومع هذا فقد يرجح تفسير الشافعي بوجهين: الأول: أن طاوسًا (¬1) قرأ {ألا تُعيلوا} (¬2) والمعنى على هذا حتمًا: ¬

_ (¬1) (ط): "طاوس". (¬2) انظر "البحر المحيط": (3/ 510).

تكثر عيالكم، واتحاد المعنى على القراءتين أولى من اختلافه. الوجه الثاني: أن سياق الآية {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء: 3]. ومعنى قولهم: ذلك أدنى أن لا تميلوا، هو ذلك أدنى أن تعدلوا، وهذا قد علم من أول الآية فيكون تأكيدًا. فإذا احتملت الآية ما قال الشافعي فهو أولى, لأن التأسيس أولى من التأكيد. وقد صح نحو تفسير الشافعي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم. رواه ابن جرير (¬1)، ونسبه بعضهم إلى زيد بن أسلم نفسه (¬2). الثانية: قال الأستاذ (¬3) "قوله: (حارة) في تفسير {مُؤْصَدَةٌ} [الهمزة: 8] ... مع أنها بمعنى محيطة بلا خلاف". أقول: لم أجد هذا التفسير عن الشافعي. وقول الكوثري: "بمعنى محيطة بلا خلاف" [1/ 405] غلط، بل منهم من قال: مطبقة، ومنهم من قال: مغلقة. فإن صح ما نُسِب إلى الشافعي فهو من التفسير باللازم المقصود؛ لأنها إنما تطبق أو تغلق ليشتدّ حرُّها. الثالثة: قال: "وقوله: (معلِّمي الكلاب) في تفسير {مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4] مع أنه بمعنى مرسلي الكلاب"! أقول: المعروف في اللغة والتفسير ما قال الشافعي. ¬

_ (¬1) (6/ 380). (¬2) أخرجه عنه ابن أبي حاتم: (3/ 860). (¬3) كل هذه المواضع في "التأنيب" (ص 27 - 28 القديمة, 49 - 50 الجديدة).

الرابعة: قال: "وقوله: (فحل الإبل والبقر) في تفسير الفحل في قول عمر رضي الله عنه: لا شفعة في البئر ولا في الفحل. مع أنه فحل النخل". أقول: يرد على هذا أمور: الأول: أنه مطالب بتصحيح النسبة إلى الشافعي. الثاني: أن الأثر مرويّ عن عثمان لا عن عمر. الثالث: أنه لو صح ذلك عن الشافعي لكان دليلاً على فصاحته؛ لأن لفظ "فحل" يطلق على الإبل والبقر بلا خلاف، فأما في النخل فالمعروف أن يقال "فُحَّال"، بل قال بعضهم: لا يقال فيه إلا فُحَّال، كما في "النهاية" (¬1). الخامسة: قال: "وقوله في التصرية إنها من الربط، مع أنها من جمع الماء في الحوض ... ". أقول: عبارة الشافعي كما في "مختصر المزني" بهامش "الأم" (ج 2 ص 184) (¬2) وغيره: "التصرية: أن تُرْبَط أخلاف الناقة أو الشاة ثم تُترك من الحلاب اليوم واليومين والثلاثة حتى يجتمع بها لبن ... ". وهذه العبارة إنما تعطي أن حقيقة التصرية هي ما يحصل من مجموع تلك الأمور: الربط، وترك الحلاب مدة، واجتماع اللبن. فأما اشتقاق الكلمة أمن الصرِّ وهو الربط، أم من الصري وهو الاجتماع؛ فهذا لا علاقة له بكلام الشافعي، أولاً: لأنه في مقام بيان المعنى لا الاشتقاق، ثانيًا: لأنه قد ذكر الاجتماع كما ذكر ¬

_ (¬1) (3/ 416). (¬2) (ص 82).

الربط. وربط الأخلاف لازم التصرية في عادة العرب، وذلك أنها إذا لم تُربط رضعها ولدها، أو حلبها محتاج. وكان العرب يتسامحون في حلب إبل غيرهم إذا لم تكن مصرَّاة، يعدُّون عدم تصريتها بمنزلة الإذن لمن يحتاج في حلبها. قال الشاعر (¬1): [1/ 406] قد غاث ربُّك هذا الخلقَ كلَّهُمُ ... بعامِ خصبٍ فعاش الناسُ والنَّعَمُ وأبهلُوا سَرْحَهم من غير توديةٍ ... ولا ذيارٍ ومات الفقرُ والعَدَمُ يعني أرسلوها غير مصرَّاة لاستغنائهم عن اللبن، فلا يبالون أن ترضعها أولادُها أو يحلبها من شاء. وفي الحديث: "لا يحلبنَّ أحدٌ ماشيةً امرئ بغير إذنه، أيحبُ أحدُكم أن تُؤتَى مَشْرُبتُه فتكسرَ خزانتُه ... " (¬2). وجاءت أحاديث أخرى بالإذن، منها حديث أبي سعيد مرفوعًا: "إذا أتيتَ على راعٍ فنادِه ثلاثًا، فإن أجابك وإلا فاشرب من غير أن تُفسِد" (¬3). وجمع بعض أهل العلم بين الأحاديث بأن النهي محمول على المصرّاة؛ لأن تصريتها علامة على عدم الإذن، والإذن في غيرها؛ لأن ترك التصرية دليل على الإذن. وهذا أقوى ما تُحْمَل عليه ¬

_ (¬1) البيتان في "الصحاح": (2/ 666)، و"اللسان": (4/ 313 و11/ 71) أنشدهما الكسائي من غير عزو. (¬2) أخرجه البخاري (2435)، ومسلم (1726) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. (¬3) أخرجه أحمد (11812)، والطحاوي في "مشكل الآثار": (2824) والحاكم: (4/ 132) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه, وفي إسناده ضعف، وله شواهد يتقوى بها.

الأحاديث، وفيها إشارة إليه لقوله في الأول: "فتكسر خزانته"، والكسر إنما يكون إذا كانت مغلقة، وإغلاق ضرع الناقة هو تصريته. فأما غير المصرَّاة فهي شبيهة بالخزانة المفتوحة. ولقوله في الحديث الآخر: "من غير أن تُفسد"، وحلُّ الرباط إفساد. والمقصود هنا أن الربط كان من لازم التصرية في عادتهم، فكانت حقيقة التصرية إنما تحصل بالربط والترك مدةً واجتماع اللبن، كما قال الشافعي. وذكر بعض أئمة اللغة أنه يجوز أن تكون المصرَّاة أصلها المصرَّرة أي المربوطة، إلى آخر ما قال، ولا حاجة بعبارة الشافعي إلى هذا كما علمت. السادسة: قال: "وقوله في تفسير الفِهْر في قول عمر: كأنهم اليهود قد خرجوا من فِهْرهم - البيت المبني بالحجارة الكبار، مع أنه موضع عبادتهم أو اجتماعهم ودرسهم مطلقًا، سواء كان في بنيان أو صحراء". أقول: عليه في هذا أمور: الأول: أنه مطالب بتثبيت النسبة إلى الشافعي. الثاني: أن الأثر منسوب إلى عليّ كما في "نهاية ابن الأثير" (¬1)، لا إلى عمر، ولفظه في "النهاية": "خرجوا من فهورهم". الثالث: قوله: "مطلقًا ... " لم أجدها في كتب اللغة والغريب. وراجع "مفردات الراغب" ليتبين لك كثرة الكلمات التي يُطلق تفسيرها في كتب ¬

_ (¬1) (3/ 482).

اللغة، وحقُّها التقييد. [1/ 407] الرابع: كلمة "خرجوا من" ظاهرة في التقييد بالبيان. الخامس: أنه قد اختلف في تفسير الفهر، فقيل: مدراس اليهود يجتمعون إليه في عيدهم. وقيل: يوم يأكلون فيه ويشربون (¬1). فقول القائل: البيت المبنيّ بالحجارة الكبار، حقُّه أن يُعَدَّ قولاً آخر إنْ كان قائله ممَّن يعتدُّ به كالشافعي. فإنْ بان أن الصواب غيره دلَّ ذلك على أنه لم يعرف معنى الكلمة، وإنما قال باجتهاده، وهذا لا يدل على عدم فصاحته، فإنه ليس من شرط الفصيح أن يعرف معاني جميع الألفاظ العربية. فقد كانت تخفى على بعض الصحابة معاني بعض الكلمات من القرآن، فيجتهدون ويقول كل منهم ما ظنه، فيختلفون ويخطئ بعضهم، وليس ذلك من عدم الفصاحة في شيء. ويتأكد هذا إذا كانت الكلمة أصلها من غير لغة العرب كهذه، فإنها نبطية أو عبرانية. ولا لوم على العربي الفصيح أن يخطئ في معرفة معنى كلمة غير عربية. وقد قال بعض الفصحاء (¬2): لم تَدْرِ ما نسجُ اليَرَنْدَجِ بالضُّحَى فزعم أن اليرندج ثوب يُنسج. ¬

_ (¬1) انظر "القاموس" (ص 589). (¬2) هو عمرو بن أحمر الباهلي. ورواية البيت مع عجزه: لم تدرِ ما نسجُ اليرندَجِ قبلها ... ودراسُ أعوصَ دارسٍ متجددِ انظر: "الشعر والشعراء": (1/ 359) و"الجمهرة" (ص 1328).

وقال آخر (¬1): ولم تَذُقْ من البقولِ الفستقا فزعم أن الفستق بقل. ولذلك نظائر معروفة. السابعة: قال: "وصف (¬2) الماء بالمالح، مع أن الماء لا يوصف به، وفي القرآن: {مِلْحٌ أُجَاجٌ} وأما المالح فيوصف به نحو السمك". أقول: المعروف عن الأصمعي ومن تبعه أنه لا يقال لا في الماء ولا في السمك. وذكر ابن السِّيد في "الاقتضاب" (ص 116) (¬3) ذلك، ثم نقضه بعدة حجج، ثم قال: "وحكى علي بن حمزة عن بعض اللغويين أنه يقال: ماء مِلْح، فإذا وصف الشيء بما فيه من الملوحة قلت: سمك مالح، وبقلة مالحة. قال: ولا يقال: ماء مالح, لأن الماء هو الملح بعينه. وهذا قول غير معروف، وهو مع ذلك مخالف للقياس؛ لأن صفة الماء بأنه مالح أقرب إلى القياس من وصف السمك, لأنهم قالوا: مَلُحَ الماءُ وأملَحَ، فأسندوا إليه الفعل كما يسند إلى الفاعل. ولم يقل أحد: مَلُحَ السمكُ. إنما قالوا: ملَحتُ السمكَ إذا جعلت فيها الملح" ثم قال: "وأنشد أبو زياد الأعرابي قال: أنشدني أعرابي فصيح: ¬

_ (¬1) عجز بيت لأبي نُخَيلة. وصدره: "برّيّة لم تأكل المرققا". انظر: "الشعر والشعراء": (2/ 602) و"الجمهرة" (ص 1329). (¬2) كذا وفي "التأنيب": "ووصفه". (¬3) (2/ 223 - 225 - ط السقا وحامد عبد المجيد).

صبَّحن قَوًّا والحَمامُ واقعُ ... وماءُ قَوٍّ مالحٌ وناقِعُ" (¬1) [1/ 408] وفي "لسان العرب" (¬2) عن ابن الأعرابي: "ماء أجاج ... وهو الماء المالح"، وعن الجوهري: "ولا يقال: مالح، وقال أبو الدُّقيش: ماء مالح وملح". ثم قال: "قال ابن بري: قد جاء المالح في أشعار الفصحاء ... وقال عمر بن أبي ربيعة (¬3): ولو تفلَتْ في البحر والبحر مالحٌ ... لأصبح ماء البحر من ريقها عَذْبا قال ابن بري: وجدت هذا البيت المنسوب إلى عمر بن أبي ربيعة في شعر أبي عيينة محمَّد (¬4) ابن أبي صفرة ... ". والحاصل أن قولهم: "ماء مالح" ثابت عن العرب الفصحاء نصًّا، وثابت قياسًا، لكن أكثر ما يقولون: "مِلْح". ولما غلب على ألسنة الناس في عصر الشافعي: "مالح" أتى بها الشافعي في كتبه, لأنه كان يتحرّى التقريب إلى أفهام الناس كما يأتي عن صاحبه الربيع. ومع هذا فقد شهد جماعة للشافعي بأنه من الفصحاء الذين يحتج بقولهم، فيكون قوله حجة على ¬

_ (¬1) البيت في "مقاييس اللغة": (5/ 347)، و"اللسان": (2/ 599). (¬2) (2/ 599). (¬3) ليس في "ديوانه"، ويُنسب إلى جميل "ديوانه" (ص 36)، وإلى المجنون "ديوانه" (ص 66). (¬4) كذا في "اللسان"، والصواب: "أبي عيينة بن محمد" كما في "التنبيه والإيضاح": (1/ 274). انظر ترجمته في "طبقات الشعراء" لابن المعتز (388). وزاد محقق التنبيه والإيضاح "ابن" قبل أبي عيينة، وهو خطأ.

صحة الكلمة. فإن تنازلنا وسلَّمنا أن الشافعي مختلف في فصاحته قلنا: فالكلمة مختلف في صحتها، فحقُّها إن لم يقم دليل على صحتها أن لا يحتج على صحتها باستعمال الشافعي لها, ولا يطعن في فصاحته لاستعماله لها للاختلاف في الأمرين، فكيف إذا قام الدليل على صحة الكلمة من غير قوله، وقام الدليل على فصاحته! الثامنة: قال: "وقوله: ثوب نَسوي لفظة عامية". أقول: هذا أيضًا لم يذكر ما يثبته عن الشافعي. ثم إن كان نسبة إلى (النساء) فهو الصواب كما قال سيبويه وغيره (¬1). وإن كان نسبة إلى (نَسا) وهي البلدة المعروفة فهو القياس. وقول ياقوت (¬2): "والنسبة الصحيحة إليها نَسائي، وقيل: نَسَوي أيضًا، وكان من الواجب كسر النون" فيه ما فيه. التاسعة: قال: "وقوله: العَفريت - بالفتح - مما لم يقله أحد". أقول: ولا قاله الشافعي فيما نعلم، ولو قاله لعددناها لغة لبعض العرب. العاشرة: قال: "وقوله: أشلَيتُ الكلبَ بمعنى زجرته، خطأ، صوابه أن ذلك بمعنى أغريته كما قال ثعلب وغيره". [1/ 409] أقول: لم يكفِ هذا الأنوَك (¬3) أن كذب على الشافعي حتى كذب على ثعلب وغيره! والموجود في كتب الشافعي استعماله بمعنى ¬

_ (¬1) انظر "تاج العروس": (20/ 238). (¬2) في "معجم البلدان": (5/ 282). (¬3) أي: الأحمق.

الإغراء، وثعلب إنما زعم أنه بمعنى أن تدعوه إليك، قال: فأما الإغراء فإنما يقال: آسدته". وصحَّح غيرُه مجيئه في المعنيين. الحادية عشرة (¬1): قال: "وقوله في "مختصر المزني": وليست الأذنان من الوجه فيغسلان. والصواب: فيغسلا". أقول: عليه في هذا أمور: الأول: أن النصب في مثل هذا مرجوح أو ممتنع. وفي "الهمع" (ج 2 ص 12) (¬2): "وإن تقدمت جملة اسمية نحو: ما زيد قائم فيحدثنا (¬3)، فأكثر النحويين على أنه لا يجوز النصب؛ لأن الاسمية لا تدلّ على المصدر. وذهب طائفة إلى جوازه. وقال أبو حيان: الصحيح الجواز بشرط أن يقوم مقام الفعل ظرف أو مجرور ... ". فإن قيل: فإن "ليس" فعل، قلت: جامد لا يدل على المصدر، فأما دلالتها على النفي فكدلالة "ما". بل قال جماعة: إن النصب بعد الفاء لا يجب بحال. قال الرضي في "شرح الكافية" (ج 2 ص 245): "وقد يبقى ما بعد فاء السببية على رفعه قليلاً كقوله تعالى: {وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 36] وقوله: ألم تَسألِ الرَّبْعَ القَواءَ فينطقُ (¬4) ¬

_ (¬1) (ط): "العاشرة" خطأ. (¬2) (2/ 391 - ط عبد الحميد هنداوي). (¬3) في "الهمع": "قادم فتحدّثنا". (¬4) مطلع قصيدة لجميل بن معمر "ديوانه" (144). وعجزه: وهل تُخْبِرَنْكَ اليومَ بيداءُ سَمْلَقُ

وقوله: لم تدرِ ما جزعٌ عليك فتجزعُ (¬1) جاء جميع هذا على الأصل، ومعنى الرفع فيه كمعنى النصب لو نصب ... جاز لك أن لا تصرف في المواضع المذكورة إلى النصب اعتمادًا على ظهور المعنى". ومع هذا فقد جاء إهمال "أن" مضمرةً وظاهرةً، وعدَّ ابنُ هشام (¬2) من الأول قول الله عزَّ وجلَّ: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ} [الزمر: 64] وقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ} [الروم: 24] ومن الثاني قراءة ابن محيصن: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} برفع الميم. وفي "الهمع" (ج 2 ص 3) (¬3): "قال الرؤاسي من الكوفيين: فصحاء العرب ينصبون (بأن) وأخواتها الفعل، ودونهم قوم يرفعون بها، ودونهم قوم يجزمون بها". الثاني: أن المزني لم يسق عبارات الشافعي بنصها، فقد قال أول "المختصر" (¬4): "اختصرتُ هذا الكتاب من عِلْم محمَّد بن إدريس الشافعي ¬

_ (¬1) البيت من قصيدة لمويلك المزموم في رثاء امرأته. انظر "حماسة أبي تمام" (1/ 439). وصدره: فلقد تركتِ صغيرةً مرحومةً. (¬2) في "مغني اللبيب": (2/ 839 و1/ 46). (¬3) (2/ 363). (¬4) (ص 1).

رحمه الله ومن معنى قوله، لأقرِّبه على من أراده" [1/ 410] وربما صرَّح بنسبة بعض ما ينقله عن الشافعي إلى بعض كتبه المطبوعة في "الأم"، فإذا قوبلت العبارتان وُجدتا مختلفتين في اللفظ. فقول المعترض: "وقوله ... " يعني الشافعي - مجازفة. الثالث: أن النسّاخ لم يزالوا من قديم يخطئون ويزيدون وينقصون ويغيِّرون، فنسبة عدم حذف النون إلى المزني يتوقف على وجودها في النسخة التي بخطه أو على نصِّ ثقة سمع منه أنه قالها. الرابع: قول المعترض: "والصواب: فيغسلا" لحن، والصواب "فتغسلا". وقد قالوا في قول الشاعر: ولا أرضَ أبقَلَ إبقالَها (¬1) وقول الآخر: إن السماحة والشجاعة ضُمِّنا (¬2) إنه ضرورة شعرية مع تأويل الأرض بالمكان، والسماحة والشجاعة بالجود والبأس مثلاً، ولا ضرورة في النثر. ولا يسوغ بعد النص على التأنيث في قوله: "ليست" تأويل، ولا حمل على مذهب الكوفيين. ¬

_ (¬1) صدره: فلا مزنةٌ ودقَتْ وَدْقَها والبيتُ لعامر بن جوين الطائي، وهو من شواهد سيبويه. وانظر: "الخزانة" (1/ 45). (¬2) الرواية: " ... والمروءة ضُمِّنَا". وعجزه: قبرًا بمروَ على الطريق الواضحِ والبيت من القصيدة السائرة لزياد الأعجم في رثاء المغيرة بن المهلب. انظر: "الشعر والشعراء" (1/ 431) و"ذيل الأمالي" (9).

ثم قال الكوثري: "ولفظ الشافعي إثبات النون، وحذفها من تصرف الطابع، وأمانته في العلم كأمانته ... ". أقول: جزمه بأنه لفظ الشافعي مجازفة كما مرَّ. وقوله: "من تصرف الطابع" مجازفة أيضًا، فهل وقف على الأصول المطبوع عنها؟ وهل علم أن حذفها من فعل الطابع نفسه لا من إصلاح المصححين على ما ظهر لهم؟ والذي في خاتمة طبع "الأم" و"المختصر" أن القائمين بالتصحيح مصححو دار الطباعة: نصري بن محمَّد العادلي، ومحمد البلبيسي، ومحمود حسن زناتي. ولم يذكر لصاحب العزة أحمد بك الحسيني إلا أن الطبع على نفقته. ومع هذا فلم يزل المصححون - ومنهم الأستاذ - يصلحون ما يجدونه في الأصول القلمية مما يرونه خطأ، والغالب فيما يُطبع بمصر أن لا ينبَّه على ما كان في الأصل، بناء على أن الخطأ من النساخ كما جرت عادتهم حتى في كتابة القرآن. وقد وقفتُ على "منية الألمعي" للعلامة قاسم بن قطلوبغا الحنفي ومقدمة الكوثري عليها، وتصفحت ما فصَّله قاسم من الأغلاط الكثيرة التي كانت في نسخة الزيلعي من كتابه "نصب الراية"، ومع ذلك أصلح الكوثري وأحبابه كثيرًا منها في الطبع بدون تنبيه، فعدَّ الكوثري صنيعهم منقبةً لهم. قال: "وفي عداد تعقبات العلامة الحافظ قاسم أمور قد ينتبه إليها الفطن بنفسه لظهور أنها من قبيل سبق القلم، فيوجد بعض ما هو من هذا [1/ 411] القبيل على الصحة في النسخة المطبوعة؛ لأن الانتباه إلى الصواب من فضل الله سبحانه، وفضلُ الله لا يكون وقفًا على أحد". لكن عذر الأستاذ واضح، وهو أنه راضٍ عن نفسه وأحبابه! ولذلك رأى التصرف في طبع "نصب

الراية" من فضل الله سبحانه، وساخطٌ على الحسيني لسعيه في طبع بعض كتب الشافعي، فهو مضطر إلى أن يتجنَّى عليه. ولعلَّنا لو لم ننبَّه على هذا لعدَّنا الأستاذ من الأغبياء الذين لا يفرِّقون بين السخط والرضا. والله المستعان. الثانية عشرة، والثالثة عشرة (¬1): قال: "وقوله: الواو للترتيب، والباء للتبعيض، مما لا يعرفه أحد من أئمة اللسان، بل الأُولى للجمع مطلقًا، والثانية للإلصاق". أقول: جازف في النفي والإثبات. أما النفي فقد نُقل القول بأن الواو للترتيب عن قطرب، والرَّبعي، والفراء، وثعلب، وأبي عمر الزاهد (¬2)؛ كما في "المغني" (¬3). ونُقل القول بأن الباء تجيء للتبعيض عن الأصمعي، والفارسي، والقُتَبي، وابن مالك، وعن الكوفيين؛ كما في "المغني" (¬4) أيضًا. وأما الإثبات فلم يقل الشافعي قط إنَّ الواو للترتيب ولا إن الباء للتبعيض، ولا ما هو بيِّن في هذا. وإنما بني في الواو على قاعدة التقديم والتأخير المتفق عليها؛ وهي أن ما يسوغ في أصل التركيب تقديمه وتأخيره لا يقدَّم في الكلام البليغ إلا لنكتة. فإذا قال البليغ: "ادع زيدًا وبكرًا" فلم يقدِّم زيدًا إلا لنكتة. فقد يقال: الأصل تقديم ما حقه أن يقدَّم في الحكم، وإنما يصح تقديم غيره بشرطين: النكتة والقرينة. فمن قدَّم ولا نكتة ولا ¬

_ (¬1) (ط): "الحادية عشرة والثانية عشرة" خطأ كما سبق التنبيه عليه في تكرار "العاشرة". (¬2) (ط): "الزاهي" تحريف. (¬3) (464). (¬4) (ص 142).

قرينة، فقد أخطأ من وجهين. ومن قدَّم مع وجود إحداهما فقط فقد أخطأ من ذلك الوجه. وهذا - والله أعلم - هو مراد القائلين بأن الواو للترتيب. والفرق بينها وبين الفاء و (ثم) أن الواو وإن كانت بمقتضى قاعدة التقديم والتأخير تقتضي الترتيب فذلك ظاهر يجوز خروجها عنه لنكتة بقرينة، والفاء و (ثم) للترتيب حتمًا. وقد يقال: بل التقديم في الحكم نكتة من النكت، فحيث كانت هناك نكتة أوضح منها مثل: "جاء الملك وكاتبه" لم يفهم من الواو إلا مطلق الجمع، وإلا فالظاهر الترتيب في الحكم. والشافعي رحمه الله إنما تعرَّض لهذا في ترتيب الوضوء فنزع بالآية، ثم ذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدأ بما بدأ الله به، وأنه في [1/ 412] السعي بدأ بالصفا وقال: "نبدأ بما بدأ الله به"، وأنه في رمي الجمار يجب البدء بما بدأ به صلى الله عليه وآله وسلم. فهذه حجته، فكيف يتوهّم أنه إنما بني قولَه على زَعْم أن الواو بمنزلة الفاء وثم؟ وأما الباء فإنه قال في مسح الرأس: " ... كان معقولاً في الآية أن من مسح من رأسه شيئًا فقد مسح برأسه ... ودلت السنة على أنه ليس على المرء مسح الرأس كله ... " (¬1). وهذا قد يكون بناء على معنى الإلصاق، فقد ذكروا من أمثلته "أمسكت بزيد" مع أن يدك إنما تلاصق بعضه. وعلى هذا يكون الفرق بين الباء و"من" أن "من" نص على التبعيض، وباء الإلصاق مطلقة تَصْدُق بالبعض وتَصدُق بالكل. ولعل هذا مراد من أطلق أنها تجيء للتبعيض. وراجع لكلام الحنفية في الحكم والآية واضطرابهم في ذلك: ¬

_ (¬1) "الأم": (2/ 56).

"روح المعاني" (ج 2 ص 257 - 258) (¬1). وها هنا انتهت المطاعن في فصاحة الشافعي. ولقد سعى الكوثري في تثبيت فصاحة الشافعي جهدَه، فإن أهل المعرفة يعلمون أن في الكلام الفصيح مواضع يعسر توجيهها حتى لو كان كلامَ من يجوز عليه اللحن لجزموا بأنها لحن، فإذا رأوا هذا المُجْلِبَ بخيله ورَجْله لم يجد فيما ثبتت نسبته إلى الشافعي موضعًا واحدًا بهذه الصفة، فاضطُرَّ إلى الإتيان بما تقدم مع الكلام عليه، فأي ريبة تبقى في فصاحة الشافعي؟ ومما ذكره ابن حجر في "توالي التأسيس" (¬2) - ومن عادته أن لا يجزم إلا بما صح عنده - قال: "قال ابن أبي حاتم عن الربيع قال: قال ابن هشام: الشافعي ممن يؤخذ عنه اللغة. قال ابن أبي حاتم وحُدِّثتُ عن أبي عبيد القاسم بن سلام نحوه. وقال أيضًا: سمعت الربيع يقول: كان الشافعي عربي النفس واللسان. قال: وكتب ليَّ عبد الله بن أحمد قال: قال أبي: كان الشافعي من أفصح الناس. وقال الساجي: سمعت جعفر بن محمَّد الخوارزمي يحدِّث عن أبي عثمان المازني عن الأصمعي قال: قرأت شعر الشنْفَرَى (¬3) على الشافعي بمكة. وقال ابن أبي الدنيا: [1/ 413] حدثنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي: قلت لعمي: على من قرأت شعر هذيل؟ قال: على رجل من آل المطلب يقال له: محمَّد بن إدريس". وقال أيضًا: ¬

_ (¬1) (5/ 43 - 44 - المنيرية). (¬2) (ص 90). (¬3) (ط): "الشنقري" تحريف.

فصل

"قال الحاكم: سمعت محمَّد بن عبد الله الفقيه: سألت أبا عمر غلام ثعلب عن حروف أُخذت على الشافعي مثل قوله: ماء مالح، وقوله: انبغى أن يكون كذا وكذا. فقال لي: كلام الشافعي صحيح، وقد سمعت أبا العباس ثعلبًا يقول: يأخذون على الشافعي، وهو من بيت اللغة يجب أن يؤخذ عنه". وقال: "قال الآبُري: أخبرنا أبو نعيم الإستراباذي، سمعت الربيع بن سليمان يقول مرارًا: لو رأيتَ الشافعي وحسنَ بيانِه وفصاحتَه لعجبتَ منه. ولو أنه ألَّف هذه الكتب على عربيته التي كان يتكلَّم بها معنا في المناظرة لم يُقْدَر على قراءة كتبه، لفصاحته وغرائب ألفاظه، غير أنه كان في تأليفه يجتهد أن يوضِّح للعوام". فصل وكما حاول الكوثري الطعنَ في نسب الشافعي وفي فصاحته، حاول القدح في ثقته، فقال: (ص 165): "من الغريب أنه إذا روى ألفُ راوٍ عن ابن معين أن الشافعي ليس بثقة مثلاً، تُعَدُّ هذه الرواية عنه كاذبة، بخلاف ما إذا كانت الرواية عنه في أبي حنيفة أو أحد أصحابه"! [1/ 414] أقول: لا نطالب الكوثري بألف ولا بمائة ولا بعشرة، وإنما نطالبه بواحد سالم، ولن يجد إلى ذلك سبيلاً. إنما حكى هذه الكلمة عن ابن معين محمدُ بن وضَّاح الأندلسي، وابن وضاح قال فيه الحافظ أبو الوليد ابن الفرضي الأندلسي - وهو بلديُّه وموافق له في المذهب -: "له خطأ كثير يُحفظ عنه، وأشياء كان يغلط فيها، وكان لا علم عنده بالفقه، ولا بالعربية". وكان الأمير عبد الله بن الناصر ينكر عليه هذه الحكاية، ويذكر أنه رأى أصل ابن وضّاح الذي كتبه بالشرق وفيه: سألت يحيى بن معين عن الشافعي

فقال: هو ثقة، كما حكاه ابن عبد البر في "كتاب العلم" (¬1). ولم ينقل أحد غيره عن ابن معين أنه قال في الشافعي: "ليس بثقة" أو ما يؤدي معناها أو ما يقرب منها. ولابن معين أصحاب كثيرون أعرف به وألزم له وأحرص على النقل عنه من هذا المغربي، وكان في بغداد كثيرون يسرُّهم أن يسمعوا طعنًا في الشافعي، فيُشيعوه. فأما قول ابن عبد البر: "قد صح عن ابن معين من طرق أنه كان يتكلم في الشافعي على ما قدمتُ لك، حتى نهاه أحمد بن حنبل، وقال له: لم تر عيناك مثل الشافعي"، فالذي قدَّمه هو قوله: "ومما نُقم على ابن معين وعِيب به أيضًا: قولُه في الشافعي: إنه ليس بثقةٍ. وقيل لأحمد بن حنبل: إن يحيى بن معين يتكلم في الشافعي، فقال أحمد: من أين يعرف يحيى الشافعيَّ؟ هو لا يعرف الشافعي ولا يعرف ما يقول الشافعي - أو نحو هذا، ومن جهل شيئًا عاداه! قال أبو عمر: صدق أحمد بن حنبل رحمه الله أن ابن معين كان لا يعرف ما يقول الشافعي. وقد حُكي عن ابن معين أنه سئل عن مسألة من التيمم فلم يعرفها. ولقد أحسن أكثم بن صيفي في قوله: ويل لعالمِ أمرِ من جاهله، من جهل شيئًا عاداه، ومن أحبَّ شيئًا استعبده". والتكلم في الرجل قد يكون بما ليس بجرح، فلا يصلح قولهم: "كان يتكلم فيه" متابعةً لكلمة: "ليس بثقة". وقدَّم ابن عبد البر أيضًا أن ابن معين سئل عن الشافعي فقال: ما أحبُّ حديثه ولا ذِكرَه. وهذا تكلُّم، ولا يعطي معنى: "ليس بثقة", ولا ما يقرب ¬

_ (¬1) "جامع بيان العلم": (2/ 1114 - 1115).

منها. وقد جاء أن ابن معين رأى في كتابٍ للشافعي تسميته لمقاتلي علي رضي الله عنه بُغاة، فأنكر ذلك، وعرَضَه على أحمد فقال أحمد: فماذا يقول (¬1)؟ - أو كما قال -. يعني أن هذا الوصف هو الذي وصفَ به الكتابُ [1/ 415] والسنةُ الطائفةَ التي تقاتل أهلَ الحق مطلقًا. فقد يكون ابن معين عدَّ ذلك ميلاً إلى التشيّع، فأوحشه ذلك. وقد تواتر أن أحمد وابن معين كانا يكثران الاجتماع والمذاكرة، فلما ورد الشافعيُّ بغداد لزمه أحمد وقصَّر في مجالسة ابن معين. وهذا أيضًا مما يُوحِش ابنَ معين، وقد كان ابن معين اعتاد من أصحاب الحديث أن يهابوه ويحترموه ويلاطفوه، كما ترى شواهده في ترجمته من "التهذيب" (¬2) وفي ترجمة موسى بن إسماعيل (¬3)، فكأنّ الشافعي لما ورد بغداد قصَّر في ذلك، وهذا أيضًا مما يورث الوحشة. وقد كان الشافعي حسن الظن بإبراهيم بن أبي يحيى يُكثر الرواية عنه، وابن معين والجمهور يكذِّبون ابنَ أبي يحيى. فلا بِدْع أن تجتمع هذه الأمور في نفس ابن معين فيقول في الشافعي: "لا أحب حديثه ولا ذكره". ولا يعطي ذلك معنى: "ليس بثقة" ولا يقارب. ¬

_ (¬1) ساق المؤلف هذه الحكاية في "تنزيه الإِمام الشافعي" (ص 320 - 321) بسياق آخر يؤدّي نفس المعنى، ثم قال: "هكذا أحفظ هذه الحكاية، ولم أهتدِ عند كتابة هذا إلى موضعها". وعلّقت هناك أن شيخ الإِسلام ابن تيمية ذكر معنى هذه الحكاية في "الفتاوى": (4/ 438)، فلعلَّه مصدر المؤلف. (¬2) (11/ 284). (¬3) (10/ 334).

وقد روى الزعفراني وغيره عن ابن معين ثناءً على الشافعي في الرواية, كما تراه في "التهذيب" (¬1) و"تذكرة الحفاظ" (¬2). وراجع ترجمة الزبير بن عبد الواحد الأسدابادي في "التذكرة" (¬3). وقد كان الرواة الذين هم أثبت من ابن وضّاح يخطئون على ابن معين، يتكلمُ ابنُ معين في رجلٍ فيروون ذاك الكلام في رجلٍ آخر، كما قدمت أمثلة من ذلك في القاعدة السادسة من قسم القواعد (¬4)، ولعل هذا منه كما أوضحته هناك. وإذا اختلف النقل عن إمام، أو اشتبه أو ارتيب، فينظر في كلام غيره من الأئمة، وقضي فيما روي عنه بما ثبت عنهم. فإذا نظرنا كلام الأئمة في الشافعي لا نجد إلا الثناء البالغ ممن هو أكبر من ابن معين كابن مهدي ويحيى القطان، ومن أقران ابن معين كالإمام أحمد وابن المديني، وممن هو بعده حتى قال أبو زُرْعة الرازي: "ما عند الشافعي حديث غلط فيه"، وقال أبو داود: "ليس للشافعي حديث غلط فيه"، وقال النسائي: "كان الشافعي عندنا أحد العلماء، ثقة مأمونًا". وأمثال هؤلاء كثير. فتدبَّرْ ما تقدم، ثم تصفَّحْ ما قيل في أبي حنيفة وأصحابه مما يثبت إسنادُه، ثم انظر كلمة الأستاذ، هل تجد لها مسوِّغًا (¬5)؟ افرض أن لمحدثي الشافعية كلِّهم هوًى في توثيق الشافعي وتليين مخالفيه، فهل يسوغ ردُّ الحق ¬

_ (¬1) (9/ 30). (¬2) (1/ 362). (¬3) (3/ 900 - 901). (¬4) (1/ 105 - 126). (¬5) (ط): "مسوغ" خطأ.

فصل

لموافقته هواهم؟ أم هل يسوغ ردُّ الحق لمخالفته هوى الكوثري؟! [1/ 416] فصل وكما حاول الكوثري الطعن في نسب الشافعي، وفي فصاحته، وفي ثقته، حاول الطعن في فقهه. قال الأستاذ (ص 139) بعد أن ذكر ما روي عن الشافعي أنه قال: "أبو حنيفة يضع أول المسألة خطأ ثم يقيس الكتاب كلَّه عليها"؛ قال الأستاذ: "لأبي حنيفة بعض أبواب في الفقه من هذا القبيل. ففي كتاب "الوقف" أخذ بقول شريح القاضي، وجعله أصلاً، ففرَّع عليه المسائل، فأصبحت فروع هذا الباب غير مقبولة حتى ردَّها صاحباه. وهكذا فعل في كتاب "المزارعة" حيث أخذ بقول إبراهيم النخعي، فجعله أصلاً، ففرَّع عليه الفروع. ولكن ما هو من هذا القبيل من مسائل (؟) (¬1) أبي حنيفة ربما لا يبلغ في العدِّ (¬2) عددَ أصابع اليد الواحدة، في حين أن ما عند ذلك العائب من هذا القبيل (؟) بحيث يحار فيه كبار الفقهاء من أهل مذهبه، فتجدهم مضطربين فيما يختارون في المذهب بين قديم المسائل وجديدها، وبين الأجوبة الشفعية المروية عن الإِمام التي يقال فيها: فيها قولان. فيَشْكون من عدم مشي الفروع على الأصول، وعدم الاطراد في التأصيل والتفريع، مما ليس هذا موضع شرحه، وله محل آخر". وذكر (ص 137) قول ابن أبي حاتم عن ابن عبد الحكم: "قال لي محمَّد بن إدريس الشافعي: نظرتُ في كتبٍ لأصحاب أبي حنيفة فإذا فيها ¬

_ (¬1) علامة الاستفهام هنا وما بعدها من المؤلف، وهي إشارة منه إلى استنكار هذه العبارات! (¬2) الأصل: "العدد"، فصححته من "التأنيب". [ن]. وهو على الصواب بخط المؤلف في "تنزيه الإِمام الشافعي" (ص 325).

مائة وثلاثون ورقة، فعددت فيها ثمانين ورقة خلاف الكتاب والسنة". قال الأستاذ: " ... بل أَفرض أن متن الرواية مما أسرَّ به الشافعي إلى محمَّد بن عبد الحكم على خلاف ما تواتر (؟) عن الشافعي أنه قال: "الناس كلهم عيال في الفقه على أبي حنيفة"، وأنه حمل عن محمَّد بن الحسن حِمْل جمل من علمه، وأنه أَمَنُّ الناس عليه في الفقه ... وعلى فَرْض أن أحدَ أصحاب أبي حنيفة أخطأ في غالب مسائل كتيِّب، فماذا على أبي حنيفة من ذلك؟ والشافعي نفسه رجع عما حواه كتاب "الحجة" كلُّه المعروف [1/ 417] بالقديم وأمر بغسله والإعراض عنه ... ولولا أن الشافعي رأى قديمَه كلَّه مخالفًا للكتاب والسنة لما رجع هذا الرجوع ولا شدَّد (¬1) هذا التشدد ... وذلك العالم المفروض خطاؤه لم يعترف بعدُ بالخطأ اعتراف الشافعي بخطئه في القديم ... وها هو محمَّد بن عبد الله بن عبد الحكم ... ألف كتابًا سماه: "ما خالف فيه الشافعي كتاب الله وسنة رسوله ... فهل نصدقه فيما يقول بالنظر إلى مبالغة ابن خزيمة في الثناء عليه حيث يقول: ليس تحت قبة السماء أحدٌ أعلم باختلاف الصحابة والتابعين واتفاقهم من محمَّد بن عبد الله بن عبد الحكم ... ". وقال (ص 119): "يوجد بين الأئمة من يُرْوَى عنه عدَّة أجوبة في مسألة واحدة كالروايات الست عن مالك في المسح على الخفين، وكالأجوبة المشفَّعة (¬2) في "الأم" للشافعي ... وأما مذهب أبي حنيفة فلا تجد في مسائل ظاهر الرواية إلا قولاً واحدًا منه في كل مسألة. وأما كتب النوادر فحكم مسائلها في جنب مسائل ظاهر الرواية كحكم القراءات الشاذة ... على أن قيمة روايات النوادر تقدَّر بأحوال رواتها". ¬

_ (¬1) في "التأنيب": "تشدّد". (¬2) يعني المسائل التي للإمام الشافعي فيها قولان، كما سيشرحه المؤلف قريبًا.

أقول: أما كلمة الشافعي الأولى، فقد اعترف الأستاذ بما يوافقها وزيادة، فدلَّ مجموع كلامه على أن لأبي حنيفة كتبًا من كتب الفقه، وهي الأبواب العظيمة فيه ككتاب "الوقف" وكتاب "المزارعة"، يرى الأستاذ أنها لا تزيد على خمسة كتب بناها أبو حنيفة على ما ليس بحجة، وهو مع ذلك مخالف للحجة، ثم فرَّع فروع تلك الكتب كلّها على ذلك، فأصبحت فروع تلك الكتب كلّها غير مقبولة، ولم يرجع عنها أبو حنيفة، وإنما ردَّها صاحباه من بعده. وأما كلمة الشافعي الثانية، فقد وقع في لفظها اختلالٌ ما، كما ذكره الأستاذ، وحاصلها أن الشافعي رأى لأصحاب أبي حنيفة كتابًا عدد أوراقه مائة وثلاثون، ثمانون منها مخالف للكتاب والسنة، واعترافُ الأستاذ بالأولى اعترافٌ بإمكان هذه؛ كأن يكون في ذلك الكتاب بعض تلك الكتب المردودة، ككتاب "الوقف" وكتاب "المزارعة" مع كتاب آخر أو أكثر. وأما مطاعنه في فقه الشافعي فتتلخص (¬1) في أمور: الأول: أنه رجع عن قديمه وأمر بغسله. [1/ 418] الثاني: أنه يذكر في المسألة قولَيْن ولا يرجع. الثالث: أن فروع مذهبه يكثر فيها عدم الجريان على أصوله. فأما الأول، فالأستاذ يعلم قبل غيره أنه يركب فيه المجازفة الفاحشة والكذب المفضوح، فإنه يعلم أنه لا بدّ أن يكون في القديم كثير من المسائل ¬

_ (¬1) (ط): "فيتلخّص".

الإجماعية التي لم يخالفها الشافعي أولاً ولا آخرًا؛ وكثير من المسائل التي لم يزل الشافعيُّ موافقًا فيها لمالك, لأن عامة المسائل التي رجع عنها في الجديد كان في القديم موافقًا فيها لمالك؛ وكثير من المسائل التي كان في القديم موافقًا فيها للحنفية واستمرَّ على ذلك في الجديد. فبأيّ دين أم بأيّ عقل يقول الأستاذ: "رجع عما حواه كتابُ "الحجة" كله"؟!!! أما أمر الشافعي بغسل كتاب "الحجة" وأن لا يُرْوَى عنه، إن صح ذلك، فإنما هو - كما يعلم الأستاذ - لأنه كان فيه مسائل رجع عنها الشافعي، ولأنه لم يكن تهيّأ له إتقانُ تهذيبه وترتيبه واستيفاء الحجج وإيضاح البيان فيه، وعَلِم أن جميع ما فيه عدا المسائل التي رجع عنها قد ضمَّنه كتبه الجديدة، مع سلامتها من تلك النقائص، وزيادتها لحِجاج وأصول وفروع لا تحصى، فلم ير لبقائه وروايته عنه فائدةً، بل فيه مضرّة ما، كأن يغترَّ بعض أتباعه ببعض المسائل التي رجع عنها، أو يغترَّ مُخالِفُه بما فيه من تقصير في الاحتجاج في بعض مسائل الخلاف، فيتوهّم أنه لا حجة للشافعي إلا ما في ذلك الكتاب. وهذا أمر بغاية الوضوح يخجل صاحبُ العلم من شرحه، ولكن ماذا نصنع بالأستاذ؟ يحاول التلبيس على الجهّال، فيضطرنا إلى أن نشرح القضية كأننا نشرحها لأجهل الناس، ويضيع وقته ووقت غيره، كأنه لا يوقن أنه مسؤول عن عمره فيم أفناه؟ وأما الأمر الثاني، فقد ذكر محققو الشافعية أن ذلك إنما وقع للشافعي في ستة عشر أو سبعة عشر موضعًا، فقد يكون الشافعي يرى رجحان أحد القولين، وإنما لم ينصّ على ذلك ليلجئ أصحابَه إلى النظر والتدبّر، ليكون

ذلك أعْوَن لهم على تحصيل مَلَكة الاجتهاد التي يتمكَّنون بها من النظر لأنفسهم فيما ذكره الشافعي وفيما لم يذكره، وهذا كان مقصوده الأعظم من تأليف الكتب. قال المزني أول "مختصره" (¬1): "اختصرت هذا الكتاب من علم محمَّد بن إدريس الشافعي رحمه الله تعالى لأقرَّبه على من أراده، مع إعلامِيه نهيَه عن تقليده وتقليد غيره، لينظر [1/ 419] فيه لدينه ويحتاط لنفسه". ويقرب من هذا ما تراه في كتب التعليم من إيراد عدة أسئلة بدون حلِّها تمرينًا للطالب لِيُعمِل فكره في حلِّها. وقد لا يكون تمكَّن في الوقت من استيفاء النظر، ولم تكن القضية واقعة حتى يلزمه وقفُ نفسه عليها حتى يستوفي النظر، فتَرَكها واشتغل بغيرها, ولم يستحل أن يقول شيئًا قبل استيفاء النظر، فيقع في مثل ما ذكره الأستاذ في "التأنيب" (ص 123) عن حفص بن غياث قال: "كنت أجلس إلى أبي حنيفة فأسمعه يُسأل عن مسألة في اليوم الواحد فيفتي فيها بخمسة أقاويل"! وأما الأمر الثالث، فلا ريب أن في مذهب الشافعي فروعًا يتعسّر تطبيقها على أصوله، ولكن ما فيه من هذا القبيل لا يكادُ يُذكر في جانب ما في مذهب أبي حنيفة. وكلُّ عارفٍ بفقه المذهبين وأصولهما يعرف الحقيقة، وليس هذا موضع بسطها، ومن اطلع على قسم الفقهيات (¬2) من كتابنا هذا اتضح له الأمر. ¬

_ (¬1) (ص 1). (¬2) في المجلد الثاني (ص 3 - 281).

وكذلك ما زعمه الكوثري من حيرة فقهاء الشافعية واضطرابهم، ليس بشيءٍ بالنسبة إلى ماوقع لفقهاء الحنفية، ومن شاء فليطالع كتب الفقه في المذهبين، بل يكفيه أن ينظر أول مسألة من قسم الفقهيات، وهي مسألة ضرورية من مبادئ الطهارة، ارتبك فيها الحنيفة أشد الارتباك. وما ذكره من كتب ظاهر الرواية عندهم ليس بشيء, لأن كتب ظاهر الرواية يقع فيها الاختلاف. وأما كتاب ابن عبد الحكم، فلم يعترف الشافعية بصدقه، كما اعترف الكوثري وغيره بصدق كلمة الشافعي كما مرّ. والعلمُ باتفاق الصحابة والتابعين واختلافهم لا يستلزم جودةَ النظر وصحةَ الفهم للترجيح فيما اختلفوا فيه، واستنباطِ حكمِ ما لم يُنقل عنهم فيه شيء. والأستاذ وكل ذي معرفة يتحقق أن البون في هذا بين الشافعي وابن عبد الحكم بعيدٌ جدًّا، وإن كان الشافعي غير معصوم عن الخطأ، وابن عبد الحكم غير محجوب البتة عن الإصابة. وأما ما نُقل عن الشافعي أنه قال: "الناس عيال في الفقه على أبي حنيفة" فلم يتواتر كما زعم الأستاذ. ولو شئنا لقلنا, ولكننا نقتصر هنا على ما يعترف به الأستاذ، وهو أن أبا حنيفة إذا عرف الأصلَ أحسنَ في التفريع وأجاد، وإذا لم يعرف الأصل أو لم يأخذ به وقع في التخليط كما وقع له في الكتب التي تقدم ذكرها، ويقول الأستاذ: إنها لا تُجاوز الخمسة، فثناءُ [1/ 420] الشافعي بحسب الضرب الأول، وانتقادُه بحسب الضرب الثاني. وأما ما يتعلق بمحمد بن الحسن، فيُعْلَم [ما] فيه مما يأتي.

فصل

فصل عرف الأستاذ أن مطاعنه في الشافعي لا تؤثر الأمر الذي يهواه أو لا تؤثر البتة، فحاول تحصيل بعض مقصوده من جهة أخرى، وهي زعمه أن علم الشافعي مستفاد من محمَّد بن الحسن تلميذ أبي حنيفة. وسأشرح ملخصًا مبدأ الشافعي إلى اجتماعه بمحمد بن الحسن، وما جرى له معه فأقول: ثبت بالروايات الجيدة أن الشافعي شرع في طلب العلم وسِنُّه نحو عشر سنين، فأخذ عن علماء مكة والمدينة، وخرج غير مرّة إلى اليمن، وأقام بالبادية مدة. وكان فيمن أخذ عنه من الفقهاء بمكة من كان يشارك في طريقة أهل العراق كسعيد بن سالم القدّاح. وكان الشافعي يبحث مع من يقدَم مكةَ من علماء الآفاق. وفي "توالي التأسيس" (ص 58) (¬1): " قال زكريا الساجي: حدثنا الزعفراني قال: حج بِشْر المَرِيسي [الحنفي] إلى مكة، ثم قَدِم فقال: لقد رأيت بالحجاز رجلاً ما رأيتُ مثله سائلاً ولا مجيبًا، يعني الشافعي. قال: فقدم الشافعي علينا بعد ذلك، فاجتمع إليه الناس، فجئت إلى بِشْر، فسألته فقال: إنه قد تغيَّر عما كان عليه ... ". وفيها (ص 56) (¬2): "وأخرج الآبُري من طريق الزعفراني قال: كنا نحضر مجلس بشر المريسي، فكنّا لا نقدر على مناظرته، فقدم الشافعي، ¬

_ (¬1) (ص 91). (¬2) (ص 81).

فأعطانا كتاب "الشاهد واليمين"، فدرسته في ليلتين، ثم تقدمتُ إلى حلقة بشر، فناظرتُه فيه فقطعتُه. فقال: ليس هذا من كيسك، هذا من كلام رجل رأيته بمكة معه نصفُ عقل أهل الدنيا". بقي الشافعي نحو عشرين سنة بالحجاز، ثم ولي بعض الولايات باليمن. وفي "توالي التأسيس" (ص 78) (¬1): "قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمَّد بن إدريس [1/ 421] ورَّاق الحميدي، حدثنا الحميدي قال: قال الشافعي ... ثم وُلِّيت نجران وبها بنو الحارث بن عبد المدان وموالي ثقيف ... وتظلَّم عندي أناس كثير، فجمعتهم وقلت: اجمعوا لي سبعة يكون مَن عدَّلوه عدلاً ومَن جرَّحوه مجروحًا، ففعلوا ... حتى أتيتُ على جميع الظلامات، فلما انتهيتُ جعلت أحكم وأسجِّل ... حتى حُمِلْت إلى العراق. وكان محمَّد بن الحسن جيد المنزلة عند الخليفة، فاختلفت إليه، وقلت: هو أولى من جهة الفقه، فلزمتُه، وكتبتُ عنه، وعرفت أقاويلهم. وكان إذا قام ناظرتُ أصحابه، فقال لي: بلغني أنك تناظر فناظِرْني في "الشاهد واليمين"، فامتنعت، فألحَّ علي، فتكلمتُ معه، فرُفع ذلك إلى الرشيد، فأعجبه ووصلني". وقد ذكر الأستاذ (ص 184) طرفًا من هذه الحكاية، ثم حمَّلها ما لا تطيق، فمن جملة ما قاله: "وبها يُعلم أن محمَّد بن الحسن بعد أن درَّب (؟) الشافعيَّ على الأخذ والرد هكذا رفع حديثه إلى الرشيد". أقول: الشافعي مدرَّب من بيته كما تقدم، ورافع الحديث إلى الرشيد غير محمَّد كما تعيِّنه عدة روايات أخرى، والشافعي إنما جالَسَ محمدًا ¬

_ (¬1) (ص 127 - 128).

ليأخذ عنه كتبهم سماعًا ليعرف أقوالهم. ومغزاه في ذلك أمران: أحدهما: ما صرَّح به في بعض الروايات: أنه أحبَّ أن يعرف أقاويلهم وما يحتجون به، ليتمكن من الردّ عليهم فيما يراه خطأ، ومناظرتهم فيه، فإن عماد المناظرة أن يُحتجّ على المخالف بأقواله؛ لأنه قد يحتج بما ليس بحجة فيقال له: إن كانت هذه حجة فلِمَ خالفتها في موضع كذا وموضع كذا؟ وقد يرد الحجة، فيقال له: فقد احتججت بها أو بمثلها في موضع كذا وموضع كذا. ولا تكاد تخلو مناظرة من مناظرات الشافعي من هذه الطريقة. المغزى الآخر: مغزى كل عالم متدين، وهو أن يعرف ما يحتجون به، فربما وقف على حجة لم يكن قد عرفها، أو على ما يدل على خلل في دليل قد كان يستدل به، أو نظرٍ قد كان يعتمده. وهذا لا يأنف منه المجتهد المتدين، فإن غالب حجج الفقه ظنية لا يأمن المجتهد أن يخطئ وأن يكون عند غيره ما ليس عنده. فالحق أن الشافعي سمع بعض الكتب من محمَّد على سبيل الرواية, والعالم قد يسمع ممن هو فوقه، وممن هو مثله، وممن هو دونه. وقد يكون حضر [1/ 422] بعض دروس محمَّد للمغزى المتقدم. كلُّ ذلك والشافعي باق على مذهبه لم يقلد محمدًا ولا تابعه متابعة التلميذ المطلق لأستاذه، بل كان محمَّد إذا قام ناظر الشافعيُّ أصحابَ محمَّد يقرِّر لهم مذهبه ويحتجُّ عليه، ويفنَّد ما استدل به محمَّد وغيره. أما تأبَّيه أولاً من مناظرة محمَّد فمِنْ كمال عقله ووفور أدبه؛ لأنه كان محتاجًا إلى سماع تلك الكتب ومعرفة أقاويل القوم، فخشي أن يتكدَّر محمَّد، فيتعسّر عليه. وقد جاء أنه تعسَّر عليه في كتاب، فكتب إليه أبياتًا أثنى عليه فيها وقال فيها:

العلمُ ينهى أهلَه ... أن يمنعوه أهلَه لعله يبذله ... لأهله لعلَّه قال الشافعي: "فحمل محمَّد الكتاب في كمِّه، وجاء به معتذرًا من حينه". ومن الأثقال التي حمَّلها الأستاذ تلك الروايةَ: قولُه: "فبهذه الرواية يُعلم أن ما في "الأم" من محادثات للشافعي مع بعض الناس ليس مناظرة للشافعي مع محمَّد بن الحسن، بل مع بعض أصحابه على خلاف ما توهمه بعضهم". أقول: من مكارم أخلاق الشافعي، وكمال عقله، وصدق إخلاصه: أن غالب ما يسوقه من المناظرات لا يسمِّي مَنْ ناظره, لأن مقصوده إنما هو تقرير الحق، ودفع الشبهات، وتعليم طرق النظر. وتسميةُ المناظر يتوَهَّم فيها حظُّ النفس، كأنه يقول: ناظرت فلانًا المشهور فقطعته، وفيها غضٌّ من المناظِر بما يبيِّن من خطئه. والواقع أن المناظرات التي في "الأم" وغيرها من كتب الشافعي، منها ما هو مع محمَّد بن الحسن، ومنها ما هو مع بعض أصحابه في حياته أو بعد وفاته. وربما صرَّح الشافعي باسم محمَّد بن الحسن لفائدة، فقد صرَّح باسمه وبأن المناظرة كانت معه في مواضع من كتابه "الرد على محمَّد بن الحسن" كما تراه في "الأم" (ج 7 ص 278 السطر الأول) و (ص 283 السطر 24) و (ص 300 السطر 15) (¬1). وساق (ج 3 ص 106) (¬2) المناظرة مع غير مسمى ثم قال في أثنائها آخر الصفحة: ¬

_ (¬1) (9/ 86 و92 و96 و106 - 109). (¬2) (4/ 252).

"وقلت لمحمد بن الحسن: أنت أخبرتني عن أبي يوسف عن عطاء بن السائب ... ". وإنما صرَّح به لئلا يكون رواية عن مجهول، ثم صرَّح به في (الصفحة الثانية السطر 16) (¬1) لأنه قد عُرِف سابقًا، فلم يبق معنى [1/ 423] لإبهامه. وانظر (ج 7 ص 82). وربما لم يسمِّه، ولكن يكني عنه بما يعلم أنه محمَّد بن الحسن كما في (ج 1 ص 231) و (ج 4 ص 5) و (ج 7 ص 79). وربما يكون في السياق ما يدل أنه محمَّد بن الحسن كما في (ج 1 ص 56) و (ج 3 ص 189) و (ج 4 ص 17) و (ج 5 ص 119) (¬2). هذا ومناظرته لمحمد في "الشاهد واليمين مشهورة في تلك الرواية وغيرها، ومع ذلك ساقها الشافعي في "الأم" ولم يسمِّ مناظره (¬3). ومن المناظرات ما يدل السياق أنها مع غير محمَّد كما في (ج 3 ص 195 و275). ومنها ما هو على الاحتمال. وإنما تأبَّى الشافعي أولاً لما سبق، فلما عَرَف إنصاف محمَّد، واغتبط محمدٌ بمناظرته كثرت المناظرات بينهما. وفي "توالي التأسيس" (ص 71) (¬4) من طريق "أبي حسان الحسن بن عثمان الزيادي قال: كنت في دهليز محمَّد بن الحسن، فخرج محمَّد راكبًا، فنظر فرأى الشافعي قد جاء، فثنى رجله ونزل، وقال لغلامه: اذهب فاعتذر. فقال له الشافعي: لنا وقت غير هذا. قال: لا، وأخذ بيده، فدخلا الدار. قال ¬

_ (¬1) (4/ 253). (¬2) لم نحل في هذه المواضع إلى الطبعة الجديدة لأن المؤلف لم يحدد نصًّا يمكن الإحالة إليه. (¬3) "الأم": (8/ 15 وما بعدها). (¬4) (ص 132).

أبو حسان: وما رأيتُ محمدًا يعظِّم أحدًا إعظامَ الشافعي". ومن تدبَّر مناظرات الشافعي لمحمد وجدها مناظرة الأكفاء، وعلم منها أن الشافعي كان حينئذ مجتهدًا كاملاً، وأن محمدًا كان - مع مكانته من الفقه والسن والمنزلة من الدولة وكثرة الأتباع - على غاية من الإنصاف في البحث والنظر. والإنصاف أنه كان لتلك المناظرات أثر في الرجلين فاتفقا على مسائل رجع فيها الشافعي عما كان يتابع فيه مالكًا، أو رجع محمَّد عمَّا كان يتابع فيه أبا حنيفة. ومن تصفح كتب الحنفية التي يُذكر فيها قول الشافعي ظهر له صحة ما قلنا، وواضح أنه لا يلزم من هذا أن يتفقا في جميع المسائل التي تناظرا فيها. ومن براعة الشافعي الفائقة ومهارته الخارقة: أنه يجمع في مناظرته بين لطف الأدب وحسن العشرة واستيفاء الحق حتى في التشنيع. ساق في كتاب "اختلاف الحديث" بابًا تراه في هامش "الأم" (ج 7 ص 105 - 125) في أحكام الماء، وفيه ذكر القلتين وغير ذلك، وذكر الأحاديث ومناظرة مع من لم يسمّه، لكن يتبين بالسياق أنها مع محمَّد بن الحسن إلى أن قال (ص 115): "وقلت له: وما علمتكم اتبعتم في الماء سنةً ولا إجماعًا ولا قياسًا, ولقد قلتم فيه أقاويل لعله لو قيل لعاقل: تخاطأْ، فقال ما قلتم لكان قد أحسن التخاطؤ"! ثم ذكر الأحاديث وسأله: [1/ 424] أثابتة هي؟ فاعترف بثبوتها، فقال (ص 116): "فقلت له: لقد خالفتَها كلَّها، وقلتَ قولاً اخترعته مخالفًا للأخبار خارجًا من القياس. قال: وما هو؟ قلت: اذكر القَدْر ... قال: الذي إذا حُرِّك أدناه لم يضطرب أقصاه". فأجابه، ثم ساق الكلام إلى أن قال (ص 120): "قلت ... إني لأحسبكم لو قال هذا غيركم لبلغتم به أن تقولوا:

القلم عنه مرفوع! فقال: لقد سمعت أبا يوسف يقول: قول الحجازيين في الماء أحسن من قولنا، وقولنا فيه خطأ". ثم ساق إلى أن قال (ص 121 - 122): "فقال: ما أحسنَ قولَكم في الماء! قلت: أفترجع إلى الحسن؟ فما علمته رجع ... ". ومن لطائفه: ما تراه في "الأم" (ج 6 ص 160) (¬1) ذكر مناظرته مع بعضهم إلى أن قال: "وكانت حجته في أن لا تُقتل المرأة على الردة شيئًا رواه عن عاصم عن أبي رَزين عن ابن عباس ... وكلَّمني بعض من يذهب هذا المذهب، وبحضرتنا جماعة من أهل العلم بالحديث، فسألناهم عن هذا الحديث، فما علمت واحدًا منهم سكت عن أن قال: هذا خطأ، والذي روى هذا ليس ممن يُثبت أهلُ العلم حديثَه، فقلت له: قد سمعتَ ما قال هؤلاء الذين لا شكَّ في علمهم بحديثك ... قال: إني إنما ذهبتُ في ترك قتل النساء إلى القياس ... ". فكأن الشافعي كان متوقعًا البحث في ذاك المجلس عن هذه المسألة، وأن يستدل مناظره بحديث أبي حنيفة عن عاصم، وكره الشافعي أن يقول هو في أبي حنيفة شيئًا يسوء صاحبه، وكان لا بد له من بيان أن الحديث لا يصلح للحجة، فتلطَّف في الجمع بين المصلحتين بأن أوعز إلى جماعة من العلماء بالحديث أن يحضروا المجلس ليكون الكلام في أبي حنيفة منهم. ولعله أتمَّ اللطفَ بأن أظهر أنه لم يتواطأ معهم على الحضور! وألطفُ من هذا أنه حافظ على هذا الخلق الكريم في حكايته المناظرة ¬

_ (¬1) (7/ 417 - 418).

في كتابه، وهو بمصر بعيدًا عن الحنفية فقال: "رواه عن عاصم"، وترك تسمية الراوي عن عاصم وهو أبو حنيفة، وقال في حكاية قول الجماعة: "والذي روى هذا"، ولم يقل: "وأبو حنيفة". وقد حاول التركماني استغلال هذا الأدب، فقال في "الجوهر النقي" (¬1): "أبو رزين صحابي (*). وعاصم وإن تكلم فيه بعضهم، قال الدارقطني: في حفظه شيء، وقال ابن سعد: ثقة، إلا أنه كثير الخطأ في حديثه. فإن ضعَّفوا هذا الأمر لأجله، فالأمر فيه قريب [1/ 425]، فقد وثقه جماعة ... وإن ضُعِّف لأجل أبي حنيفة، فهو وإن تكلم فيه بعضهم فقد وثَّقه كثيرون وأخرج له ابن حبان في "صحيحه" ... ". أطنب في مدح أبي حنيفة إلى أن قال: "وذكر أبو عمر في "التمهيد" أن أبا حنيفة والثوري رويا هذا الأثر عن عاصم، وكذا أخرجه الدارقطني بسند جيد عنهما عن عاصم، وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" عنه، فقد تابع الثوري أبا حنيفة .. ". كذا قال، وسعى جهده في قلب الحقائق. فذكر أولاً احتمال أن يكونوا أرادوا عاصمًا، ومهَّد لذلك بأن ذكر غمز الدارقطني وابن سعد له. ولما ذكر أبا حنيفة لم يذكر شيئًا من كلامهم فيه، وإنما اكتفى بخطفةٍ مجملة ثم راح يطنب في إطرائه. وذكر إخراج ابن حبان في "صحيحه" ونسي كلام ابن حبان في أبي حنيفة في "كتاب الضعفاء" كما يأتي في ترجمة ابن حبان (¬2)، وغرضه أن يوقع في نفس القارئ ترجيحَ أنهم أرادوا عاصمًا، وهو يعلم حقَّ ¬

_ (¬1) (8/ 203 - بهامش "السنن الكبرى" للبيهقي). (¬2) رقم (200).

العلم أنهم إنما أرادوا أبا حنيفة. وأعرض عما رواه البيهقي نفسه في ذاك الموضع " ... أحمد بن حنبل ثنا عبد الرحمن بن مهدي قال: سألت سفيان عن حديث عاصم في المرتدة فقال: أما مِن ثقة فلا". وحكى عن "التمهيد" (¬1)، ولا أشك أن صاحب "التمهيد" قد أوضح أن الثوري إنما سمعه من أبي حنيفة. ثم حكى عن الدارقطني، والذي في "سنن الدارقطني" المطبوع (ص 338) (¬2): " ... عبد الرزاق عن سفيان عن أبي حنيفة عن عاصم ... " (*). نعم، ذكروا أن عبد الرزاق رواه في "مصنفه" (¬3) "عن سفيان عن عاصم"، ولا يبعد أن يكون سفيان إنما قال: "يُحكى عن عاصم" أو نحو ذلك، فأطلق بعضهم "سفيان عن عاصم" اتكالاً على أنه لا مفسدة في هذا لاشتهار سفيان بالتدليس، فلا يحمل على السماع، كما قدمت شرحه في ترجمة حجاج بن محمَّد (¬4). وقد ساق الخطيب في "تاريخه" (¬5) بعض ما يتعلق بهذا الحديث، فاكتفى الأستاذ بالتبجُّح بأن سفيان قد روى عن أبي حنيفة! وقد روى ابن أبي حاتم في ترجمة الثوري من "تقدمة الجرح والتعديل" (¬6) عن صالح بن أحمد بن حنبل، عن علي ابن المديني، عن يحيى بن سعيد القطان قال: ¬

_ (¬1) (5/ 113). (¬2) (3/ 118). (¬3) (10/ 177). (¬4) رقم (71). (¬5) (13/ 419). (¬6) (1/ 66).

"سألت سفيان عن حديث عاصم في المرتدة، فأنكره وقال: ليس من حديثي". وقد أعلَّ ابن التركماني بعض الأحاديث بأن سفيان الثوري مدلس، وتغافل عن ذلك هنا مصرًّا على أن الثوري قد تابع أبا حنيفة. وإذا تسامح العالم نفسه مثل هذه المسامحة، فالجاهل خير [1/ 426] منه بألف درجة! والمقصود هنا بيان كرم أخلاق الشافعي رحمه الله. ومع مراعاة الشافعي للحنفية إلى الحدّ الذي رأيتَ، وإطلاقِه الكلمة التي تكاد تكون رأس مالهم: "الناس عيال في الفقه على أبي حنيفة"، ومجاملةِ أصحابه لهم حتى ألَّف جماعة منهم في مناقب الحنفية؛ كان جزاؤه من الأستاذ ما تقدَّم. فأما الخطيب، فإنما سرد أقوال الناس في الغضِّ، كما ساق ما روي في المناقب، وذلك واجبه من جهة أنه مؤرخ ومحدث. ومع ذلك فأعرض سائر الشافعية عما نقله الخطيب، بل منهم من عارضه، ومنهم من ردَّ عليه، كما حكاه الأستاذ. ولما تعرض للرد عليه المَلِك عيسى ومأجوره السبط - وفي ردِّهما ما فيه من التهافت - لم يعرض لهما أحد من الشافعية، بل استمرُّوا على المجاملة. وكذلك لما عُثِر على كتاب "التعليم" المنسوب إلى مَنْ لم يُخْلَق، كما تقدم (¬1)، وفيه من الكذب والزور من الطعن في مالك والشافعي ما فيه، لم يلتفت إليه الشافعية، خلا أن واحدًا منهم (¬2) ذكر أن مسعود بن ¬

_ (¬1) (ص 664 - 666). (¬2) هو الحافظ ابن حجر في "لسان الميزان" كما سلف.

190 - محمد بن أبي الأزهر

شيبة مجهول. وبالجملة فإن مجاملة الشافعية للحنفية بلغت حدَّ الإدهان، فحسِبَها الأستاذ استكانة لا حراك بعدها، فصنع ما صنع، ولم يدر أن للصبر حدًّا، وأن للحق أنصارًا، وأن وراء الأكمة رجالاً. وقد جريتُ في كتابي هذا على المجاملة ما أمكن، وأعددتُ لاستيفاء الحق عُدَّتَه إن ألجئت إليه! والله المستعان. 190 - محمَّد بن أبي الأزهر: تقدمت الإشارة إلى حكايته في ترجمة إسحاق بن إبراهيم (¬1). قال الأستاذ (ص 176): "يقول عنه الخطيب نفسه (ج 3 ص 288): "كان كذابًا قبيح الكذب ظاهره اهـ. فظهر أن الخطيب فيما عزاه إلى أبي يوسف من الاحتيال بهَّات شنيع البهت ظاهره". أقول: قد يُعرف صدق بعض أخبار الكذّاب بدلالة، وأشهر الرواة بالكذب محمَّد بن السائب الكلبي، ومع ذلك روى عنه ابن جريج والسفيانان وابن المبارك وغيرهم من الأجلة. وكان الثوري يحذَّر منه ويروي عنه، فقيل له في ذلك، فقال: أنا أعرف صدقه من كذبه. ورووا عنه في التفسير وغيره، فما بالك بالتاريخ الذي تدعو الحاجة إلى تزيينه بالحكايات المستظرفة! وراجع ما تقدم في ترجمة إسحاق. ¬

_ (¬1) رقم (43).

191 - محمد بن إسحاق بن خزيمة

191 - محمَّد بن إسحاق بن خزيمة: تعرّض له الأستاذ (ص 19) ولا دخل له هناك، [1/ 427] وإنما جرَّت الأستاذَ عقليتُه الجبارة وعداؤه للحق وأهله، إلى أن تطرَّق من الكلام في الحافظ أحمد بن علي الأبَّار إلى الكلام في الحافظ دَعْلَج، مع أنه لا دخل لدعلج (¬1) هنا، ثم قال: "ودعلج كان على مذهب ابن خزيمة في الاعتقاد والفقه، واعتقادُ ابن خزيمة يظهر من كتاب "التوحيد" ... وعنه يقول صاحب "التفسير" ... أنه كتاب الشرك فلا حب ولا كرامة". أقول: نفسك ظلمت، وإياها حرمت! أما صاحب التفسير - وهو الفخر الرازي - فقد ظهر منه بأخرةٍ التوبةُ والإنابة، كما ذكرناه في (الاعتقاديات) (¬2) ومنها يُعرف حال الإِمام ابن خزيمة وكتابه، وحال مبغضيه. 192 - محمَّد بن إسماعيل أبو عبد الله البخاري صاحب "الصحيح": قال الأستاذ (ص 48): "وأما قوله في "تاريخه الكبير": كان [أبو حنيفة] مرجئًا، سكتوا عنه وعن رأيه وعن حديثه ... فبيان لسبب إعراض من أعرض عنه، على أن إرجاءه هو محض السنة رغم تقولات جهلة النقلة، ... فالمعرض عنه، إما خارجيٌّ يزكِّي مثلَ عمران بن حطان وحَرِيز بن عثمان، أو معتزليٌّ قائل بالمنزلة بين المنزلتين". أقول: قد تقدم مراد البخاري بقوله في بعض الرواة: "سكتوا عنه" في ¬

_ (¬1) (ط): "لدعجل" تحريف. (¬2) (2/ 87 - 374 - 377).

ترجمة إسحاق الحنيني (¬1). فأما إرجاء أبي حنيفة فقد نظرنا فيه في (الاعتقاديات) (¬2)، وبذلك تنكشف مغالطة الأستاذ. على أني سلكت هناك سبيل المجاملة، وليس هذا موضع استيفاء الحق. وأما عِمران وحَريز فقد اتفق أهل العلم على أنهما من أصدق الناس في الرواية, وقد جاء أنهما رجعا عن بدعتيهما. وذكر البخاري رجوع حريز في ترجمته من "التاريخ" (¬3)، ولم يحتج البخاري بعمران إنما ذكره في المتابعات في حديث واحد. ولعمري إن محاولة الأستاذ في دفاعه عن أبي حنيفة الطعنَ في أئمة الإِسلام كسفيان الثوري، وأبي إسحاق إبراهيم بن محمد الفزاري، وعبد الله بن الزبير الحميدي، والإمام أحمد بن حنبل، والإمام أبي عبد الله البخاري، وغيرهم من الأئمة = لأضَرُّ على أبي حنيفة من كلام هؤلاء الأئمة فيه. ولو قال قائل: لا يتأتّى تثبيت أبي حنيفة إلا بإزالة الجبال الرواسي لكان أخفَّ على أبي حنيفة ممن يقول: لا يتأتى محاولة ذلك إلا بالطعن في هؤلاء الأئمة. وإن صنيع الكوثري لأضرُّ على أبي حنيفة من هذا كلِّه, لأن الناس يقولون: [1/ 428] الكوثري عالم مطلع، كاتب بارع، إنْ أمكن أحدًا الدفاع عن أبي حنيفة فهو، ولو أمكنه ذلك بدون الطعن في هؤلاء الأئمة ودون ارتكاب المغالطات الشنيعة لكان من أبعد الناس عن ذلك. ¬

_ (¬1) رقم (42). (¬2) (2/ 555 وما بعدها). (¬3) (3/ 103 - 104).

193 - محمد بن إسماعيل أبو إسماعيل الترمذي

هذا، وفضائل البخاري معروفة حتى قال أبو عَمرو الخفّاف - وهو من الحفاظ كما في "أنساب ابن السمعاني" (¬1) -: "حدثنا التقي النقي العالم الذي لم أر مثله محمَّد بن إسماعيل، وهو أعلم بالحديث من إسحاق وأحمد وغيرهما بعشرين درجة. من قال فيه شيئًا فعليه مني ألفُ ألفِ لعنة". 193 - محمَّد بن إسماعيل أبو إسماعيل الترمذي: في "تاريخ بغداد" (13/ 398 [419]) من طريق جماعة عنه: "حدثنا أبو توبة، حدثنا الفزاري قال: سمعت الأوزاعي وسفيان يقولان: ما ولد في الإِسلام مولود أشأم عليهم - وفي رواية (¬2): شرٌّ عليهم - من أبي حنيفة". قال الأستاذ (ص 111): "تكلَّم فيه أبو حاتم". وفي "تاريخ بغداد" (13/ 403 [426]) من طريقه: "حدثنا أبو توبة الربيع بن نافع، حدثنا عبد الله بن المبارك قال: من نظر في كتاب "الحيل" لأبي حنيفة أحلَّ ما حرَّم الله، وحرَّم ما أحلَّ الله". قال الأستاذ (ص 121): "قال ابن أبي حاتم: تكلَّموا فيه". أقول: لم يتكلم فيه أبو حاتم وإنما قال ابنه: "تكلَّموا فيه"، ولا يُدرَى من المتكلّم ولا الكلام (¬3). وقد وثقه النسائي ومسلمة والدارقطني وغيرهم، ¬

_ (¬1) (5/ 156). والعبارة بهذا السياق في "تهذيب التهذيب": (9/ 54)، والذي في "تاريخ بغداد": (2/ 27 - 28)، و"تاريخ ابن عساكر": (52/ 89، 78) أنهما عبارتان الأولى: "حدثنا التقي ... بن إسماعيل" والثانية: "وهو أعلم ... ". (¬2) في "التاريخ" بطبعتيه: "وقال الشافعي". (¬3) لذلك قال الحافظ في "التقريب" (5738): "ثقة حافظ، لم يتضح كلام ابن أبي حاتم فيه".

194 - محمد بن أعين أبو الوزير

فهو ثقة حتمًا. 194 - محمَّد بن أعيَن أبو الوزير: راجع "الطليعة" (ص 31 - 34) (¬1). روى الخطيب في "التاريخ" من طريق أبي الوزير عن ابن المبارك. فزعم الأستاذ في "التأنيب" أن أبا الوزير هو عمر بن مطرّف، فكشفتُ مغالطته في "الطليعة"، وأوضحت أنه محمَّد بن أعيَن. فرأى الأستاذ أنه لا فائدة في المكابرة، فعَدَل في "الترحيب" إلى محاولة توهين ابن أعيَن، فقال: "توثيق ابن حبان على قاعدته ... وكونُ المرء خادمًا أو كاتبا أو وصيًّا أو معتمدًا عنده في شيء، ليس بمعنى توثيقه في الرواية عندهم. وقول الناقد: أحمد بن حنبل لا يروي إلا عن ثقة، رأي مبتكر، وروايته عن مثل عامر بن صالح معروفة". [1/ 429] أقول: قاعدة ابن حبان يأتي تحقيقها في ترجمته (¬2)، وبذلك يُعرف أن توثيقه لابن أعيَن من التوثيق المقبول. وابن أعين قالوا: "أوصى إليه ابن المبارك وكان من ثقاته"، وابن المبارك كان رجلاً في الدين، رجلاً في الدنيا، فلم يكن ليعتمد بثقته في حياته وإيصائه بعد وفاته إلاَّ إلى عدل أمين يقِظ، لا يَخْشى منه الخطأ في حفظ وصاياه وتنفيذها؛ فهذا توثيق فِعْليّ قد يكون أبلغ من التوثيق القولي. غاية الأمر أنه قد يقال: ليس من الممتنع أن يكون ابن أعين ممن ربما أخطأ في المواضع الملتبسة من الأسانيد، وهذا لا ¬

_ (¬1) (ص 22 - 24). (¬2) رقم (200).

يضرُّ هنا؛ لأن روايته في "تاريخ بغداد" إنما هي واقعة لابن المبارك، على أن ذاك الاحتمال يندفع برواية أحمد وتوثيق ابن حبان، وأنه لم يتعرّض أحد بغمزٍ لابن أعين في روايته. وكون أحمد لا يروي إلا عن ثقة، لم أقله، وإنما قلت: "ورواية الإِمام أحمد عنه توثيق، لما عُرف من توقِّي أحمد". ومع ذلك فقد نص ابن تيمية (¬1) والسبكي في "شفاء السقام" (¬2) على أن أحمد لا يروي إلا عن ثقة. وفي "تعجيل المنفعة" (ص 15 و19) (¬3) وغيرهما ما حاصله أن عبد الله بن أحمد كان لا يكتب في حياة أبيه إلا عمن أذن له أبوه، وكان أبوه لا يأذن له بالكتابة إلا عن الثقات. ولم يكن أحمد ليترخَّص لنفسه ويشدِّد على ابنه. وفي "فتح المغيث" (ص 134) (¬4): "تتمة: ممن كان لا يروي إلا عن ثقة إلا في النادر: الإِمام أحمد وبقي بن مخلد ... ". وقوله: "إلا في النادر" لا يضرُّنا، إنما احترز بها لأن بعض أولئك المحتاطين قد يخطئ في التوثيق، فيروي عمن يراه ثقة وهو غير ثقة، وقد يُضطر إلى حكاية شيء عمن ليس بثقة، فيحكيه ويبيِّن أنه ليس بثقة. والحكم فيمن روى عنه أحد أولئك المحتاطين أن يبحث عنه، فإن وُجد أن الذي روى عنه قد جرحه تبيَّن أن روايته عنه كانت على وجه الحكاية فلا تكون توثيقًا، وإن وُجد أن غيره قد ¬

_ (¬1) في "الرد على البكري": (1/ 77). (¬2) (ص 98) ط دار الكتب العلمية. و (ص 8) ط دائرة المعارف النظامية 1315 هـ. (¬3) (1/ 258, 265). (¬4) (2/ 45).

195 - محمد بن بشار بندار

جرحه جرحًا أقوى مما تقتضيه روايته عنه ترجَّح الجرح؛ وإلا فظاهر روايته عنه التوثيق. وابن أعيَن لم يغمزه أحد، لا أحمد ولا غيره، بل وثَّقه ابن المبارك توثيقا فِعْليًّا كما سلف، ووثقه ابن حبان. فأما عامر بن صالح بن عبد الله بن عروة بن الزبير، فلم يقتصر أحمد على الرواية عنه، بل وثَّقه بالقول كما في ترجمته من "التهذيب" (¬1) وغيره. فإن ترجَّح توثيقُ أحمد فذاك، وإن ترجّح جرحُ غيره لم يضرَّنا؛ لأن مَن كان شأنه الإصابة، ثم أخطأ في النادر، ثم جاء عنه ما لا يعلم أنه أخطأ فيه، فهو [1/ 430] محمول على الغالب، وهو الإصابة؛ سواء أكان محدِّثًا أم ناقدًا أم قاضيًا أم مفتيًا كما هو معروف. وقد جاء عن ابن معين الذي جرح عامرًا هذا أنه قيل له: إن أحمد يحدِّث عنه، فقال ابن معين: "ما له، جُنَّ! " وهذا يدل أوضح دلالة على أن ابن معين يعرف من أحمد أنه لا يروي إلا عن ثقة. فإن كنتُ لما كتبتُ ما كتبتُ في "الطليعة" استحضرتُ هذه النقول أو بعضها فذاك، وإن كنت بنيتُ على ما عرفتُه بالممارسة من حال الإِمام أحمد فذاك أكمل، وعلى كلا الحالين فقد تبيَّن أنه ليس برأي مبتكر، كما زعم الكوثري. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. (¬2) 195 - محمَّد بن بشّار بُنْدار: في "تاريخ بغداد" (13/ 407 [432]) من طريقه: "سمعت ¬

_ (¬1) (5/ 71). (¬2) محمَّد بن أيوب بن هشام. راجع "الطليعة" (ص 12 - 19 [5 - 13]). [المؤلف] محمَّد بن أيوب الذراع. تقدَّم في ترجمة عبد الله العتكي [رقم 134]. [المؤلف]

عبد الرحمن [بن مهدي] يقول: كان بين أبي حنيفة وبين الحق حجاب". قال الأستاذ (ص 32): "تكلم فيه الأقدمون إلى أن اتهموه بالكذب وسرقة الحديث، ثم استقر عمل المتأخرين على الانتقاء من رواياته". أقول: هذا ثقة جليل، وثَّقه أبو حاتم مع تشدُّده، والنسائي، والذهلي ومَسْلمة، وابن خزيمة وكان يسمِّيه: "إمام زمانه"، وآخرون. واحتج به الشيخان في "الصحيحين" وبقية الستة. وفي "التهذيب" (¬1) عن "الزُّهرة": روى عنه البخاري مائتي حديث وخمسة أحاديث، ومسلم أربعمائة وستين". ولم يتهمه أحد بالكذب بالمعنى المتبادر ولا بسرقة الحديث. وفي ترجمة محمَّد بن المثنى أبي موسى الزَّمِن من "التهذيب" (¬2) وغيره عن السُّلَمي عن الدارقطني: أن عَمرو بن علي الصيرفي سئل عنه وعن بندار هذا فقال: "ثقتان يُقبل منهم كلُّ شيء إلا ما تكلَّم به أحدُهما في الآخر"، يعني لأنه كانت بينهما منافسة. والدارقطنيُّ لم يدرك عَمرو بن علي ولكن الاستشهاد بمثل هذا مقبول. وقال عبد الله بن محمَّد بن سيَّار: سمعت عَمرو بن علي يحلف أن بندارًا يكذب فيما يروي عن يحيى. قال ابن سيار: "وبندار وأبو موسى ثقتان، وأبو موسى أصح" (¬3) وإنما أراد عَمرو بن علي بالكذب الوهم والخطأ، بدليل أنه قد جاء عنه توثيقُ بندار [1/ 431] كما مرّ، وأن الراوي عنه ¬

_ (¬1) (9/ 73). (¬2) (9/ 427). (¬3) "التهذيب": (9/ 71).

- وهو ابن سيار - وثَّق بندارًا، وإنما رجَّح أبا موسى عليه. وقد كانت بين عَمرو بن عليّ وبُندار مخاشنة، ففي ترجمة عمرو من "التهذيب" (¬1): "حدَّث عمرو بن علي عن يحيى القطان، فبلغه أن بندارًا قال: ما نعرف هذا من حديث يحيى، فقال أبو حفص [عَمرو بن علي]: وبلغ بندارٌ إلى أن يقول: ما نعرف؟! " فإذا قضى عمرو بن علي على بندار وأبي موسى أن لا يُقبل كلامُ كلِّ منهما في الآخر، فقد قضى على نفسه، والحق أنه إنما أراد الوهم والخطأ. وقد قال الأستاذ (ص 163): "الإخبار بخلاف الواقع هو الكذب، والكذب بهذا المعنى يشمل الغالط والواهم ... فلا يُعتدّ بقول من يقول: فلان يكذب ما لم يفسِّر وجهَ كذبه ... ". وفي "التهذيب" (¬2): "قال عبد الله بن علي ابن المديني: سمعت أبي وسألته عن حديث رواه بُندار، عن ابن مهدي، عن أبي بكر بن عيّاش، عن عاصم، عن زِرّ، عن عبد الله، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "تسحَّروا فإن في السحور بركة"؟ فقال: هذا كذب، وأنكره أشد الإنكار، وقال: حدثني أبو داود موقوفًا"، يعني ليس فيه: "عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ". وقد رواه النسائي (¬3) عن بندار مرفوعًا، ثم قال: "وقفه عبيد الله بن سعيد" ثم رواه من طريقه موقوفًا. والمتن ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث أنس وهو في "الصحيحين" (¬4). ¬

_ (¬1) (8/ 81). وما بين المعكوفين من إضافة المؤلف. (¬2) (9/ 71). (¬3) (2144). (¬4) البخاري (1923)، ومسلم (1095).

وقد روي من حديث أبي هريرة. والخطأ في مثل هذا يقع كثيرًا من الثقات، فإنما أراد ابن المديني أن رَفْعه من تلك الطريق غير واقع، لا أن بندارًا تعمّد الكذب، وهذا واضح، فبندار قد يقع له الخطأ في مظانه كالحديث المذكور. وأما سرقة الحديث، فإنما أخذها الأستاذ مما روي عن أبي موسى أنه سبق بندارًا إلى تصنيف حديث داود بن أبي هند، ثم قال: هنا قوم لو قدروا أن يسرقوا حديث داود لسرقوه، يعني بندارًا. وإنما كانت بين الرجلين منافسة فأراد أبو موسى أن بندارًا يحسده على السبق إلى تصنيف حديث داود، حتى لو أمكنه أن يسرق ذاك الكتاب لِيُفقده أبا موسى لفعل. وليس هذا من سرقة الحديث في شيء، ولم يقع من بندار لا هذا ولا ذاك، ولا هو ممن يقع منه ذلك، وإنما بالغ أبو موسى كما لا يخفى. ومع هذا لم يكن بين الرجلين بحمد الله ما يسمى عداوة. وقد توفي بندار قبل أبي موسى فجاء بعض الجهلة إلى أبي موسى فقال له: [1/ 432] البشرى، مات بندار. يعني: وخلا لك الجوُّ. فقال له أبو موسى: "جئت تبشَّرني بموته؟! علي ثلاثون حَجَّةً إن حدَّثتُ أبدًا". فعاش بعد ذلك تسعين يومًا لم يحدَّث بحديث، ثم مات رحمهما الله تعالى. وإنما حلف أبو موسى أن لا يحدِّث ندامةً على ما سبق منه من المنافسة، وإظهارًا لأنها لم تبلغ به أن يُسَرَّ بموت صاحبه، فامتنع من التحديث الذي كانت المنافسة فيه. وأما استقرار العمل على الانتقاء من رواياته، فهذا يقال على وجهين: الأول: أن يُتَّقى ما تبيَّن أنه أخطأ فيه ويؤخذ غيره. الثاني: أن لا يؤخذ من رواياته إلا ما توبع عليه.

196 - محمد بن جابر اليمامي

فإن أراد الأستاذ هنا الأول فليس فيه ما ينفعه، وإن أراد الثاني فهو مردود عليه. ومع ذلك فقد توبع بندار في المقصود من هذه الحكاية، كما ذكر الأستاذ نفسه في غير موضع، وليست من مظان الخطأ والوهم. والله أعلم. (¬1) 196 - محمَّد بن جابر اليمامي: ذكر الأستاذ (ص 115) قول ابن أبي حاتم: "أخبرنا إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني - فيما كتب إليَّ - حدثني إسحاق بن راهويه قال: سمعت جريرًا يقول: قال محمَّد بن جابر اليمامي: سرق أبو حنيفة كتب حماد مني". قال الأستاذ (ص 116): "الأعمى، قد قال فيه أحمد: لا يحدِّث عنه إلا من هو شرٌّ منه. وقد ضعَّفه ابن معين". أقول: أما كلمة "لا يحدِّث عنه إلا من هو شرٌّ منه"، ففي "التهذيب" (¬2): "قال ابن حبان: كان أعمى ... قال أحمد بن حنبل: لا يحدِّث عنه إلا من هو شرٌّ منه". فناسِبُ الكلمة إلى أحمد هو ابن حبان (¬3)، وبين ابن حبان وأحمد ¬

_ (¬1) محمَّد بن الرقي. يأتي مع محمَّد بن الحسن بن حميد [رقم 202]. [المؤلف] (¬2) (9/ 90). (¬3) في هذا الموضع نظر من وجوه: الأول: أن كلام ابن حبان (الذي نقله الحافظ) ينتهي عند قوله: "ويسرق ما ذوكر به فيحدّث به" وكلام أحمد بعده ليس من نقل ابن حبان (المجروحين 2/ 270)، بل هو كلام مستأنف. الثاني: أن الذي نسب هذه العبارة إلى أحمد هو ابن الجوزي في "الضعفاء": (3/ 45) و"الموضوعات": (2/ 18) ونقله عنه مغلطاي (القسم المفقود من =

مَفازة، ولا يُدرَى ممن سمع تلك الكلمة، ولو صحت عن أحمد لكانت الكلمة أقرب إلى الإطراء البالغ منها إلى الذم. فقد روى عن محمَّد بن جابر من يعتقد أحمد وغيره أنهم أفاضل عصرهم وخيار أهل زمانهم، مثل أيوب ابن أبي تميمة السختياني، وعبد الله بن عون، وسفيان الثوري، وعبد الله بن المبارك، وآخرين، فلا معنى لأن يقال: إن هؤلاء شرٌّ منه إلا إطراؤه بأنه خير منهم. وعلى كل حال فالحكاية منقطعة منكرة. فأما تضعيف ابن معين وغيره له، فلأمور: [1/ 433] الأول: أنه كان سيئ الحفظ يتعاطى الرواية من حفظه فيغلط. الثاني: أنه اختلط عليه حديثه، قاله ابن معين. وكأنه كان في كتبه أحاديث سمعها من رجل، وأحاديث سمعها من آخر، فاختلط عليه بعض كتبه، فدخلت أحاديث من حديث بعض شيوخه في حديث شيخ آخر. الثالث: أن كتابه ذهب بأخرة، فتأكد احتياجه إلى أن يروي ما علِق منه بحفظه، وهو سيئ الحفظ. ¬

_ = التكملة) والذهبي في "الميزان" (4/ 416) وعن أحدهما نقل الحافظ في "التهذيب": (9/ 90)، فكلهم تابعوا ابن الجوزي فتمّ عليهم الوهم. الثالث: أن هذه الكلمة ليحيى بن معين نقلها عنه عبد الله ابن الإِمام أحمد في كتاب "العلل" (719 , 770) ونقلها عنه العقيلي في "الضعفاء": (5/ 220). والذي أوقع ابن الجوزي في الوهم قول عبد الله بن أحمد: "وسألته عن محمَّد بن جابر ... " فسلك ابن الجوزي مسلك العبادة فظن أن الضمير في "سألته" عائد إلى والد عبد الله بينما هو يعود إلى يحيى لأنه في السؤال قبله قال: "سألت يحيى بن معين عن ... ".

الرابع: أن إسحاق ابن الطباع قال: "حدَّثتُ محمدًا يومًا بحديث، قال: فرأيتُ في كتابه ملحقًا بين سطرين بخط طريّ". والرجل كان أعمى فالملحِق غيره حتمًا، ورواية الأجلة عنه وشهادة جماعة منهم له بأنه صدوق تدل أن الإلحاق لم يكن بعلمه. فأما قول ابن حبان: "كان أعمى يلحق في كتبه ما ليس من حديثه ويسرق ما ذوكر به فيحدِّث به"، فإنما أخذه من هذه القضية، وقد بان أن الإلحاق من غيره. وإذا كان بغير علمه - كما يدل عليه ما سبق - فليس ذلك بسرقة. فالحكم فيه أن ما رواه الثقات عنه ونصُّوا على أنه من كتابه الذي عرفوا صحته فهو صالح، ويُتوقَّف فيما عدا ذلك. فأمَّا هذه الحكاية، وهي قوله: "سرق أبو حنيفة كتاب حماد مني" فليست بمظنة الاختلاط ولا الإلحاق. ثم إن أراد بسرقة الكتاب سرقة الحديث، أي أنَّ أبا حنيفة سمع منه عن حماد أحاديث، فرواها أبو حنيفة عن حماد؛ فهذا ظن منه لا تقوم به حجة، فإنَّ أبا حنيفة قد صحب حمادًا واختص به، فلعل ما سمعه من محمَّد بن جابر كان عنده عن حماد. وإن أراد سرقة الكتاب نفسه فلم يبيِّن كيف عرف ذلك؟ وقد يكون كان في مجلس فيه أبو حنيفة وغيره، ففقد كتابه، ثم بلغه أن أبا حنيفة يحدِّث عن حماد، فتوهم ما توهم، وليس في هذا حجة. وقد جاء عنه ما لو صح لكان تفسيرًا لهذا، حكاه الأستاذ بحاشية (ص 115) (¬1) وهو أن العقيلي (¬2) أخرج بسند ¬

_ (¬1) الأصل: "15". [ن]. (¬2) في "الضعفاء": (6/ 160 - ت السرساوي).

197 - محمد بن جعفر الأدمي

فيه محمَّد بن حميد عن محمَّد بن جابر قال: جاءني أبو حنيفة يسألني كتابًا من كتب حماد فلم أعطه، فدسَّ إليَّ ابنه، فدفعت كتبي إليه، فدفعها إلى أبيه، فرواها أبو حنيفة من كتبي عن حماد". قال الأستاذ: [1/ 434] "والرواية عن الخط مخالفة لمذهب أبي حنيفة، ثم في سند الخبر إبراهيم بن سعيد ومحمد بن حميد". أقول: أما مخالفة المذهب إن صحت فلا تكفي هنا كما لا يخفى. وإبراهيم بن سعيد ثقة كما تقدم في ترجمته (¬1)، وإنما الوهن من محمَّد بن حميد فإنه ليس بعمدة. (¬2) 197 - محمَّد بن جعفر الأدمي: تقدمت الإشارة إلى روايته في ترجمة أحمد بن عبيد (¬3). قال الأستاذ (ص 42): "قال عنه محمَّد ابن أبي الفوارس: كان قد خلط فيما حدَّث". أقول: ذكروا أنه كان شاهدًا، فقد كان معدَّلاً عند القضاة، لكن لم أر من وثَّقه، فأما التخليط فلم يبيِّن ما هو؟. (¬4) ¬

_ (¬1) رقم (5). (¬2) محمَّد بن جبَّويه. راجع "الطليعة" (ص 22 - 29 [15 - 20]. [المؤلف] (¬3) رقم (25). (¬4) محمَّد بن جعفر الأسامي. يأتي في ترجمة محمَّد بن علي البلخي [رقم 223]. [المؤلف]

198 - محمد بن جعفر الأنباري

198 - محمَّد بن جعفر الأنباري: في "تاريخ بغداد" (13/ 397 [417 - 418]): "أخبرنا ابن رزق والبرقاني قالا: أخبرنا محمَّد بن جعفر بن الهيثم الأنباري، حدثنا جعفر بن محمَّد بن شاكر ... ". قال الأستاذ (ص 109): "فيه بعض الشيء كما قال الخطيب". أقول: ترجمته في "التاريخ" (ج 2 ص 151) وفيها: "سألت البرقاني عن ابن الهيثم فقلت: هل تكلم فيه أحد؟ قال: لا، وكان سماعه صحيحًا بخط أبيه". ثم حكى عن ابن أبي الفوارس: "كان قريب الأمر، فيه بعض الشيء، وكانت له أصول بخط أبيه جياد". والظاهر أن بعض الشيء إنما هو فيما يتعلق بالسيرة لا بالرواية ولم يفسر، فلعله تقصير خفيف لا يُعَدُّ جرحًا. ومع ذلك فحكايته هذه رواها عنه البرقاني، وهو إمام متثبت، فهي من تلك الأصول التي اتفقوا على صحتها (¬1). 199 - محمَّد بن جعفر الراشدي: في "تاريخ بغداد" (13/ 411 [438]) من طريقه "حدثنا أبو بكر الأثرم ... ". ¬

_ (¬1) [محمَّد بن جعفر الخزاعي] ذكره الأستاذ (ص 29) في الحاشية استطرادًا. [المؤلف].

200 - محمد بن حبان أبو حاتم البستي الحافظ

قال الأستاذ (ص 141): "راوي "العلل" للأثرم وراوياه القطيعي وأحمد بن نصر الذارع غير صالحين للرواية". أقول: الراوي عنه هنا القطيعي، وهو أحمد بن جعفر بن حمدان، تقدمت ترجمته (¬1) وأنه ثقة, [1/ 435] والراشدي وثَّقه غير واحد، ومع ذلك فالحكاية مأخوذة من ذاك الكتاب المصنف المقطوع بنسبته، فلا يضرُّها لو كان في بعض الوسائط كلام. 200 - محمَّد بن حبّان أبو حاتم البُسْتي الحافظ: نقل الأستاذ (ص 90) قوله في أبي حنيفة: "كان أجلَّ في نفسه من أن يكذب، ولكن لم يكن الحديث شأنه، فكان يروي فيخطئ من حيث لا يعلم، ويقلب الإسناد من حيث لا يفهم. حدَّث بمقدار مائتي حديث أصاب منها في أربعة أحاديث، والباقية إما قلَب إسنادها أو غيَّر متنها". أجاب الأستاذ بوجهين: الأول: حاصله أنَّ أبا حنيفة مشهور بالحفظ والفهم، واشتهر عنه أنه لا يبيح الرواية إلا لمن استمرَّ حفظه من الأخذ إلى الأداء، ولا يبيح الرواية مما يجده الراوي بخط يده ما لم يذكر أخذَه له، وتواتر (؟) عنه ختمه القرآن في ركعة - ونحو هذا. الثاني: التنديد بابن حبان. أقول: أما الوجه الأول فلم ينفرد ابن حبان بنسبة الخطأ والغلط في ¬

_ (¬1) رقم (12).

الرواية إلى أبي حنيفة، بل وافقه على ذلك كثيرون حتى من المائلين إلى أبي حنيفة. نعم، انفرد بذاك التحديد؛ لأنه اعتنى بذلك وألَّف كتابين: أحدهما كتاب "علل ما استند إليه أبو حنيفة"، والثاني كتاب "علل مناقب أبي حنيفة ومثالبه". واشتهار أبي حنيفة بالحفظ غير مسلَّم، وحفظ القرآن لا يستلزم حفظ الأحاديث، والفهم لا يستلزم الحفظ، وفهم المعاني والعلل غير فهم وجوه الرواية. وقد اشتهر ابن أبي ليلى بالفقه حتى كان الثوري إذا سُئل قال (¬1): "فقهاؤنا ابن أبي ليلى، وابن شُبْرُمة"، وكان ابن أبي ليلى رديء الحفظ للروايات كثير الغلط. وما اشتهر عن أبي حنيفة من اشتراط استمرار الحفظ - إن صح - فمراده التذكر في الجملة، وإلا لزم ما هو أشد، والتذكر في الجملة لا يدفع احتمال التوهم والخطأ. وكان على الأستاذ أن ينقل نصوصًا صحيحة صريحة عن الأئمة المعتمد عليهم تردُّ قول ابن حبان، كما جاء في الشافعي قول أبي زرعة الرازي: "ما عند الشافعي حديث غلط فيه"، وقول أبي داود: "ليس للشافعي حديث أخطأ فيه"، أو يتجشم جمع الأحاديث التي يثبت أن أبا حنيفة رواها وبيان ما يثبت من موافقة الثقات له ومخالفتهم. وأما التنديد بابن حبان، فذكر الأستاذ أمورًا: [1/ 436] منها: أن ابن الصلاح وصفه بأنه غلط الغلطَ الفاحشَ في ¬

_ (¬1) (ط): "قيل" خطأ. والأثر في "طبقات ابن سعد": (7/ 248)، و"الجرح والتعديل": (1/ 72).

تصرُّفه. أقول: ابن الصلاح ليس منزلته (¬1) أن يُقبل كلامه في مثل ابن حبان بلا تفسير، والمعروف مما يُنسَب ابن حبان فيه إلى الغلط أنه يذكر بعض الرواة في "الثقات" ثم يذكرهم في "الضعفاء"، أو يذكر الرجل مرتين، أو يذكره في طبقتين ونحو ذلك. وليس ذلك بالكثير، وهو معذور في عامة ذلك، وكثير من ذلك أو ما يشبهه قد وقع لغيره كابن معين والبخاري. ومنها: أن الذهبي وصفه بالتشغيب والتشنيع. أقول: إنما ذلك في مواضع غير كثيرة، يرى ما يستنكره للراوي فيبالغ في الحطِّ عليه. وهذا أمر هيِّن, لأنه إن كان فيمن قد جرحه غيره فكما يقول العامة: "لا يضرُّ المقتولَ طعنُه". وإن كان فيمن وثَّقه غيره لم يُلتفت إلى تشنيعه، وإنما يُنظر في تفسيره وما يحتج به. ومنها: أنه يوثِّق المجاهيل الذين لم يسبر أحوالهم. أقول: قد بيَّن ابن حبان اصطلاحه، وهو أنه يذكر في "الثقات" كلَّ من روى عنه ثقةٌ ولم يروِ منكرًا، وأن المسلمين على العدالة حتى يثبت الجرح. وقد ذهب غيره من الأكابر إلى قريب من هذا، كما قدَّمته في (قسم القواعد) في القاعدة السادسة (¬2). نعم إنه ربما يظهر أنه يذكر الرجل، ولم يعلم ما روى، ولا عمَّن روى، ولا مَن روى عنه. وعذرُه في هذا أنه بنى على رأيه أن ¬

_ (¬1) كذا, ولعلها: "ليس بمنزلة ... ". (¬2) (1/ 104 - 124).

المسلمين على العدالة، واستأنس بصنيع بعض من تقدَّمه من الأئمة مِنْ ذِكْر ذلك الرجل بدون إشارة إلى ضعف فيه (¬1). وأهلُ العلم من الحنيفة وغيرهم كثيرًا ما يقوُّون الراوي بقولهم: "ذكره البخاري وابن أبي حاتم ولم يذكرا فيه جرحًا" (¬2). ومع ذلك يبيِّن ابن حبان بعدم ذِكْر شيخٍ للرجل ولا راوٍ عنه أنه لم يعرفه. [1/ 437] ومنها: أنه عريق في التعصب. أقول: أئمة الحديث كلُّهم في رأي الأستاذ متعصِّبون، ولا أعرف ابن حبان بتعصّب. ومنها: أنه حكي عنه أنه قال في النبوة: إنها العلم والعمل. أقول: إن صح هذا عنه فهو قول مجمل، وابن حبان معروف عنه في جميع تصانيفه أنه يعظَّم النبوة حق تعظيمها. ولعله أراد أن المقصود من إيحاء الله عَزَّ وَجَلَّ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعلم هو ويعمل، ثم يبيِّن للناس فيعلموا ويعملوا. وقد نسب إليه أنه أنكر الحدّ لله، ولعله امتنع من التصريح بإثبات الحدّ باللفظ الذي اقتُرِح عليه، أو أتى بعبارة حملها المشنِّعون على إنكار الحدّ ¬

_ (¬1) كصنيع البخاري في "تاريخه" وابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل"، وقد اقتفى أثر البخاريَّ ابنُ حبان في كثير من تراجمه. (¬2) للأستاذ عبد الفتاح أبو غدة بحث في سكوت الأئمة على الرواة في كتبهم أثبته في هامش تحقيقه لكتاب "الرفع والتكميل": (ص 230 - 248). وردّ عليه د. عداب الحمش في كتابه "الرواة الذين سكت عليهم أئمة الجرح والتعديل بين التوثيق والتجهيل".

كما اتفق للبخاري في القرآن، وغير ذلك. وكتبُ ابن حبان من أولها إلى آخرها جارية على التمسُّك بالسنة، والثناء على أصحابها، وذم من يخالفها، وهو من أخصِّ أصحاب ابن خزيمة أحد أئمة السنة. ثم أحال الأستاذ على ما في "معجم البلدان": (بُسْت). وأقول: هناك عبارة طويلة زعم ياقوت أنه نقلها من خط ابن النفيس أنه نقلها من خط السليماني في "معجم شيوخه"، وياقوت ليس بعمدة. والأئمة الذين ذكروا ترجمة ابن حبان قد وقفوا على كتب السليماني ونقلوا عنها، ثم لم يحكوا في ترجمة ابن حبان حرفًا من تلك العبارة. وفيها ذكر أحوال لابن حبان تتعلق بسمرقند ونيسابور وبخارى، ولكلٍّ من هذه البلدان (تاريخ) ذُكر فيه ابن حبان، ونقل ياقوت وغيره من تلك التواريخ، فلم يقع في ذلك شيء مما في تلك العبارة، وإنما نقلوا عن تلك التواريخ تعظيمه والثناء البالغ عليه. على أن ما وُصِف به في تلك العبارة منه ما ليس بجرح، ومنه ما هو جرح غير مفسَّر، أو مفسَّر بما لا يقدح، أو غير مثبت ضرورة أن قائل ذلك لم يكن ملازمًا لابن حبان في جميع تنقلاته في تلك البلدان، وإنما لُفِّقت - إن صحت عن السليماني - مِن "قيل، وقالوا، وزعموا". فعلى كل حال لا وجه للتعويل عليها, ولا الالتفات إليها، والله المستعان. هذا، وقد أكثر الأستاذ من ردّ توثيق ابن حبان (¬1)، والتحقيقُ أن توثيقه ¬

_ (¬1) علق الشيخ الألباني بقوله: "ما ذكره المؤلف من ردّ الكوثري لتوثيق ابن حبان، فإنما ذلك حين يكون هواه في ذلك، وإلا فهو يعتمد عليه ويتقبله حين يكون الحديث الذي فيه راو وثَّقه ابن حبان يوافق هواه, كبعض الأحاديث التي رُويت في "التوسل". وقد كشفت عن صنيعه هذا في كتابي "الأحاديث الضعيفة" رقم (23) ".

201 - محمد بن الحسن بن محمد بن زياد النقاش

على درجات: الأولى: أن يصرِّح به كأنْ يقول: "كان متقنًا" أو "مستقيم الحديث" أو نحو ذلك. الثانية: أن يكون الرجل من شيوخه الذين جالسهم وخَبَرهم. [1/ 438] الثالثة: أن يكون من المعروفين بكثرة الحديث بحيث يُعلَم أن ابن حبان وقف له على أحاديث كثيرة. الرابعة: أن يظهر من سياق كلامه أنه قد عرف ذاك الرجل معرفة جيدة. الخامسة: ما دون ذلك. فالأولى لا تقل عن توثيق غيره من الأئمة، بل لعلها أثبت من توثيق كثير منهم، والثانية قريب منها، والثالثة مقبولة، والرابعة صالحة، والخامسة لا يؤمن فيها الخلل. والله أعلم (¬1). 201 - محمَّد بن الحسن بن محمَّد بن زياد النقاش: في "تاريخ بغداد" (13/ 386 [399]) حكاية من طريقه. قال الأستاذ (ص 74): "كذاب زائغ مِن أسقَطِ خلقِ الله، ولولا أن الداني المقرئ بعيد الدار عن الشرق لما خفيت عليه مخازيه". أقول: كان هذا الرجل مقرئًا مفسّرًا، تعب في الطلب، وجمع فأكثر، لكنهم نقموا عليه في أحاديث. فأما الدارقطني فكان يُجمل القول فيه ¬

_ (¬1) للدكتور عداب الحمش رسالة ماجستير بعنوان "ابن حبان ومنهجه في الجرح والتعديل" نوقشت في جامعة أم القرى سنة 1406 هـ, ناقش فيها كلام المؤلف هنا، فلتنظر.

202 - محمد بن الحسين بن حميد بن الربيع

ويحمله على الوهم والتساهل في الأخذ، وأما البرقاني وغيره فحطُّوا عليه، وتبعهم الخطيب. وإنما روى عنه هنا لأنه لم ينفرد بمعنى ما روى، وكان الأولى به ترك الرواية عنه. والله المستعان. 202 - [1/ 439] محمَّد بن الحسين بن حُميد بن الرّبيع: ساق الخطيب في "التاريخ" (13/ 403 [426 - 428]) عدة روايات جيدة في تشديد ابن المبارك في شأن كتاب أطلق عليه "كتاب الحيل لأبي حنيفة"، وروايته عن النضر بن شُميل ليس فيها ذكر أبي حنيفة. وأشار الأستاذ إلى ما ذكره الذهبي في جزء "مناقب أبي حنيفة وصاحبيه (¬1) "، ولفظ الذهبي في ذاك الجزء (ص 52 - 53): "الطحاوي: سمعت محمَّد بن أبي عمران (¬2) يقول: قال محمد بن سماعة: سمعت محمَّد بن الحسن يقول: هذا الكتاب - يعني كتاب "الحيل" - ليس من كتبنا، إنما ألقي فيها. قال ابن أبي عمران: إنما وضعه إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة". وقال الأستاذ (ص 122) في الحاشية: "قال أبو سليمان الجوزجاني: من قال إن محمدًا رحمه الله صنف كتابًا سماه: "الحيل" فلا تصدِّقه، وما في أيدي الناس إنما جمعه ورَّاقو بغداد كما في "مبسوط السرخسي" ... ". وفي "فتح الباري" (¬3) ذِكْر لكتاب "الحيل" لأبي يوسف، وأطال ¬

_ (¬1) في (ط): "وصاحبه" خطأ. (¬2) كذا في (ط). والصواب: "أحمد بن أبي عمران". وجاء على الصواب في "تاريخ الذهبي": (4/ 954)، وفي "مناقب أبي حنيفة" (ص 85) الطبعة المحققة. (¬3) (12/ 326)، وذكر في (12/ 331) أن لمحمد بن الحسن كتابًا في ذلك، وقال في =

الأستاذ في دفع نسبة ذاك الكتاب إلى أبي حنيفة أو أصحابه. والذي تضافرت عليه الروايات الجيّدة أنه كان في عصر ابن المبارك فما بعده كتاب يسمى "كتاب الحيل لأبي حنيفة" أو "كتاب حيل أبي حنيفة"، وهناك قرائن تدفع أن يكون من تصنيف أبي حنيفة نفسه؛ وهذه القرائن لا تدفع التسمية، فقد يكون مصنفه نسبه إليه، أو يكون الناس لما رأوه مبنيًّا على قواعد أبي حنيفة أطلقوا عليه هذا الاسم، فأطلق عليه ابن المبارك اسمه المعروف به بين الناس غيرَ قاصدٍ الجزمَ بأنه تصنيف أبي حنيفة نفسه. ولا ريب أنه لا يستنبط الحيل من قواعد أبي حنيفة إلا رجل عارف بتلك القواعد، له يد في الاستنباط. وليس هو بأبي يوسف، ولا بمحمد بن الحسن، وقد مرَّ عن ابن أبي عمران - وهو من أجِلَّتهم - قولُه: "إنما وضعه إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة". والمقصود هنا أنه من المقطوع به وجود ذلك الكتاب، وأنه كان متداولاً بين الناس في تلك الأزمنة، وتضافرت الروايات على أنه كان معروفًا بذاك الاسم. ثم قال الأستاذ (ص 122): "وقد حاول بعض الكذابين رواية كتاب في الحيل عن أبي حنيفة في زمن متأخر بسند مركَّب، فافتضح، وهو أبو الطيب محمَّد بن الحسين بن حميد بن [1/ 440] الربيع الكذاب ابن الكذاب حيث زعم بعد سنة ثلاثمائة أنه كان سمع كتاب "الحيل" سنة 258 بـ (سُرَّ من رأى) من أبي عبد الله محمَّد بن بشر الرقي عن خلف بن بيان. وقد قال مُطَيَّن: إن محمَّد بن الحسين هذا ¬

_ = الموضع الأول: "لكن المعروف عنه وعن كثير من أئمتهم تقييد أعمالها بقصد الحق ... " ونقل ما يؤيد ذلك من كلامهم.

كذاب ابن كذاب، وأقرَّه ابن عقدة، ثم أقرَّ ابن عدي وأبو أحمد الحاكم ابنَ عقدة في ذلك. وقد قوَّى ابن عدي أمر ابن عقدة. وردَّ على الذين تكلموا فيه، بل قال السيوطي في "التعقبات" (ص 57): ابن عقدة من كبار الحفاظ وثقه الناس، وما ضعَّفه إلا عصريّ متعصب اهـ, ثم شيخ محمَّد بن الحسين مجهول الصفة، بل مجهول العين، وشيخ شيخه مجهول أيضًا بل لا وجود له". أقول: أما رواية أبي الطيب هذا الكتابَ، فليس فيها ما يريب في صدقه، فقد تحقق أن الكتاب كان موجودًا بأيدي الناس يسمَّى بذاك الاسم، فأيّ ريبة أم أيّ بُعد في أن يجده أبو الطيب عند بعض الورَّاقين فيزعم الورَّاق أنه يرويه بالسماع، فيسمعه منه أبو الطيب. وقد يكون ذاك الورَّاق كذَّابًا زعم ما زعم ليروج له الكتاب، ولم يفتِّش أبو الطيب عن حاله على عادتهم في ذاك العصر من الأخذ عن كل أحد، وترك التحقيق لأهله أو لوقته. ثم إن صح قول الأستاذ: "بعد سنة ثلاثمائة"، فليس يلزم من ذلك أن لا يكون أبو الطيب ذكر قبل ذلك أن الكتاب عنده يرويه، وكثيرًا ما يروي الرجل بعد أن يسمع بستين أو سبعين سنة أو أكثر، وقد كان للأستاذ في جهالة شيخ أبي الطيب وشيخ شيخه ما يكفيه في دفع النسبة إلى أبي حنيفة عن محاولةِ الطعن في أبي الطيب الموثَّق كما يأتي، ومحاولةِ الدفاع عن ابن عُقْدة المجروح كما تقدم في ترجمته (¬1)، وهو أحمد بن محمَّد بن سعيد ابن عقدة، مع دعوى تقوية ابن عدي له، وفي ذلك ما فيه. فأما ما نُسِب إلى مُطَيَّن، فدونك شرحه: زعم ابن عقدة أنه كان عند ¬

_ (¬1) رقم (33).

مُطيَّن، فمرَّ أبو الطيب، فقال مطين: هذا كذاب ابن كذاب، وفي بعض المواضع زيادة (ابن كذاب) أخرى، فحكى ابن عدي عن ابن عقدة هذا، وقوَّاه بالنسبة إلى حسين بن حميد والد أبي الطيب كما تقدم في ترجمته مع النظر فيه (¬1). فأما أبو أحمد الحاكم فإنما قال في أبي الطيب: "كان ابن عقدة سيئ الرأي فيه"، وهذا يُشعر بأنه لم يعتمد على رواية ابن عقدة عن مطيَّن وإلا لقال: "كان مطيَّن سيئ الرأي فيه"، وابن عقدة [1/ 441] ليس بعمدة كما تقدم في ترجمته (¬2). وقد تعقب الخطيب حكايته هذه في "التاريخ" (ج 2 ص 237) وقال: "في الجرح بما يحكيه أبو العباس بن سعيد [ابن عقدة] نظر. حدثني علي بن محمَّد بن نصر قال: سمعت حمزة السهمي يقول: سألت أبا بكر بن عبدان عن ابنِ عقدة: إذا حكى حكايةً عن غيره من الشيوخ في الجرح فهل يُقبل قوله أم لا؟ قال: لا يُقبل". وهذه الرواية مأخوذة عن كتاب معروف لحمزة (¬3). ثم روى الخطيب عن أبي يعلى الطوسي توثيق أبي الطيب قال: "كان ثقة صاحب مذهب حسن، وأمْرٍ بالمعروف ونَهْي عن المنكر، وكان ممن يُطلب للشهادة فيأبى". وقال ابن الجوزي في "المنتظم" (ج 6 ص 235): "كان ثقة يفهم، وقد ¬

_ (¬1) رقم (82). (¬2) رقم (33). (¬3) وهو "سؤالات حمزة للدارقطني" (ص 159 - 160).

203 - محمد بن حماد

روى ابن عقدة عن الحضرمي (مطيَّن) أنه قال: هو كذاب - وهذا ليس بصحيح". وقال ابن حجر في "اللسان" (¬1): "الظاهر أن جرح ابن عقدة لا يؤثر فيه؛ لما بينهما من المباينة في الاعتقاد". أقول: أما جرحه من قبل نفسه بلا حجة فنعم، وأما روايته عن غيره فلو كان ثقة لم تُرَدَّ بالمباينة في الاعتقاد، ولكنه في نفسه على يَدَي عَدْلٍ، فالمباينة في الاعتقاد تزيده وهنًا على وهن. والله الموفق. 203 - محمَّد بن حماد: في "تاريخ بغداد" (13/ 402 [425]) من طريق "عبد الله بن أُبي القاضي يقول: سمعت محمَّد بن حماد يقول: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام ... ". قال الأستاذ (ص 141): "وضاع معروف من أصحاب مقاتل". أقول: صاحبُ مقاتلٍ قديمٌ ففي ترجمته من "اللسان" (¬2) أنه قال: "أشخصني هشام بن عبد الملك من الحجاز إلى الشام ... " وقد مرَّ في ترجمة عبد الله بن أبي القاضي (¬3) أن أعلى شيخ له أحمد بن عبد الله بن يونس المتوفى سنة 227، وهشام مات سنة 125، فأنَّى يدرك عبدُ الله بن أُبيّ ¬

_ (¬1) (7/ 88). (¬2) (7/ 103). (¬3) رقم (117).

204 - محمد بن حمدويه أبو رجاء المروزي

مَن كان في زمن هشام رجلاً؟ فهذا رجل آخر. والله المستعان. 204 - محمَّد بن حمدويه أبو رجاء المروزي: ذكروا أنه ذكر في "تاريخ مرو" أن محمود بن غيلان توفى سنة 249 (¬1)، وأن البخاري وغيره قالوا: إن محمودًا توفي سنة 239. فذكر الأستاذ هذا (ص 64) وأطلق على أبي رجاء "راوية الغرائب". [1/ 442] ولا يخفى أن هذا الخطأ الواحد لا يبرر هذه الكلمة، وراجع "الطليعة" (ص 22 - 29) (¬2) لتعرف حال الكوثريّ في تلك القضية. 205 - محمَّد بن رَوح: في "تاريخ بغداد" (13/ 412 [439]) من طريق "زكريا بن يحيى الساجي حدثني محمَّد بن روح قال: سمعت أحمد بن حنبل ... ". قال الأستاذ (ص 143): "مجهول". أقول: في "تاريخ بغداد" (ج 5 ص 277): "محمَّد بن روح العكبري ... ". ثم روى من طريق "عثمان بن إسماعيل بن بكر السكري، ثنا محمَّد بن روح العكبري بعكبرا، وكان صديقًا لأحمد بن حنبل، وكان أحمد بن حنبل إذا خرج إلى عكبرا ينزل عليه". وعثمان هذا توفى سنة 323 كما في "التاريخ" (ج 11 ص 296)، والساجيّ توفي سنة 307. ولم يكن أحمد ليصادق رجلاً وينزل عليه إلا وهو خيَّر فاضل. ¬

_ (¬1) في (ط): "229" خطأ، والتصويب من "تهذيب الكمال" و"التأنيب". (¬2) (ص 15 - 20).

206 - محمد بن سعد العوفي

206 - محمَّد بن سعد العوفي: في ترجمة الحسن بن زياد اللؤلؤي من "لسان الميزان" (¬1) تكذيب الأئمة له وطعنهم فيه. ساق كثيرًا من ذلك ثم قال: "ومع ذلك كلِّه أخرج له أبو عوانة في "صحيحه"، والحاكم في "مستدركه"، وقال مسلمة بن قاسم: كان ثقة". ذكر هذا استنكارًا له. فجاء الكوثري فقال (ص 187) في ترجمة اللؤلؤي: "مجتهد عظيم القدر ومحدث جليل الشأن ... أخرج عنه الحافظ أبو عوانة ... في "الصحيح المسند المستخرج"، وهذا توثيق منه؛ والحاكم في "مستدركه" ... وهذا أيضًا توثيق منه. ووثَّقه مسلمة بن قاسم ... وكان يأبى الخوض في القياس في مورد النص، كما فعل مع بعض المشاغبين في مسألة القهقهة في الصلاة. ومَنْ يحتج بالمرسل لا يمكنه ردُّ حديث القهقهة في الصلاة كما ذكره ابن حزم ... ومع هذا كله تجد ترجمته عند الخطيب من أسوأ التراجم ... ". وهكذا قدّم الكوثريُّ المؤخَّر، وعرَّف المنكر، واحتج ببعض الروايات الزائفة، وردَّ بعض الروايات الثابتة التي تقدمت الإشارة إلى بعضها في ترجمة الخطيب (¬2)، وفي ترجمة صالح بن محمَّد الحافظ (¬3)، وحاول هدم أركان الإِسلام لينصب هذا التالف! ثم قال: "وقد روى - يعني الخطيب - في كتابه أيضًا عن الساجي وابن معين وابن المديني ويعقوب بن سفيان وغيرهم تضعيف الحسن [1/ 443] بن زياد أو تكذيبه إلا أن في أسانيد تلك الروايات أمثال محمَّد بن [عثمان بن] أبي شيبة, ومحمد بن سعد العوفي، والأدمي، وعبد الله [بن ¬

_ (¬1) (3/ 48 - 49). (¬2) رقم (26). (¬3) رقم (110).

محمَّد بن عبد العزيز] (¬1) البغوي، ودعلج، والآجري، والعقيلي وأضرابهم. وأمرهم يدور بين كذاب، وضعيف، ومتعصب مردود القول، ومغفل، ومجسِّم متعصب، لا يقبل قوله في أهل السنة". ترى الأستاذ يطعن في بضعة عشر رجلاً شرُّهم خيرٌ من ألف مثل اللؤلؤي! وأنا أسوق أسماءهم ليقابل العاقل تراجمهم في هذا الكتاب وغيره بترجمة اللؤلؤي في "لسان الميزان" وغيره: الحافظ أحمد [بن] (¬2) علي الأبَّار، إدريس بن عبد الكريم، إسحاق بن إسماعيل، الحافظ الحسن بن علي الحُلْواني، الحافظ دَعْلج بن أحمد السجزي، الحافظ صالح بن محمَّد جَزَرة، عبد الله بن جعفر بن درستويه، الحافظ عبد الله بن سليمان أبو بكر بن أبي داود، الحافظ عبد الله بن محمَّد بن عبد العزيز البغوي، الحافظ عبد المؤمن بن خلف، محمَّد بن أحمد بن رزق، محمَّد بن جعفر الأَدَمي، محمَّد بن سعد العوفي، محمَّد بن العباس الخزّاز، الحافظ محمَّد بن عثمان بن أبي شيبة، الحافظ محمَّد بن علي بن عثمان الآجُرّي، الحافظ محمَّد بن عمرو العقيلي. ولم أطلق كلمة "الحافظ" إلا على من أطلقها عليه أهل العلم، لا كالكوثري يطلقها على من دبَّ ودرج من أصحابه! ولا بأس بأن نناقش الكوثري هنا فأقول: أما أبو عوانة فقد ذكر الأستاذ (ص 17) عبد الله بن محمَّد البلوي، فقال فيه وفي آخر: "كذابان معروفان". ¬

_ (¬1) ما بين المعكوفات إضافات من المؤلف. (¬2) سقطت من (ط).

وقد قرأ الأستاذ في "الميزان" (¬1) و"اللسان" (¬2) في ترجمة البلوي: "روى عنه أبو عوانة في "صحيحه" في الاستسقاء خبرًا موضوعًا". وروى أبو عوانة في "صحيحه" (ج 1 ص 236 - 237) حديثًا في سنده عبد الله بن عمرو الواقعي (¬3) وجابر بن يزيد الجعفي، وكلاهما متهم. وفي "فتح الباري" (¬4) في شرح "باب القصد والمداومة على العمل" من كتاب "الرقاق": " ... وهذا من الأمثلة لما تعقّبته على ابن الصلاح في جزمه بأن الزيادات التي تقع في المستخرجات يُحكم بصحتها ... ووجه التعقب أن الذين استخرجوا لم يصرِّحوا بالتزام ذلك، سلَّمنا أنهم التزموا ذلك، لكن لم يَفُوا به". [1/ 444] أقول: أصحاب المستخرجات يلتزمون إخراج كلِّ حديث من الكتب التي يستخرجون عليها. فأبو عوانة جعل كتابه مستخرجًا على "صحيح مسلم"، ومعنى ذلك أنه التزم أن يخرج بسندِ نفسِه كلَّ حديث أخرجه مسلم، فقد لا يقع له بسند نفسه الحديث إلا من طريق رجل ضعيف فيتساهل في ذلك؛ لأن أصل الحديث صحيح من غير طريقه. ومع ذلك زاد أبو عوانة أحاديث ضعيفة لم يحكم هو بصحتها، فإنما يسمى كتابه "صحيحًا" لأنه مستخرج على "الصحيح"، ولأن معظم أحاديثه - وهي المستخرجة - صحاح. فإخراجه لرجل لا يستلزم توثيقه ولا تصديقه، بل صاحب "الصحيح" نفسه قد يُخرج في المتابعات والشواهد لمن لا يوثقه، ¬

_ (¬1) (3/ 205). (¬2) (4/ 563). (¬3) (ط): "الواقفي" تصحيف. (¬4) (11/ 298).

وهذا أمر معروف عند أهل الفن لا يخفى على الكوثري. فأما "مستدرك الحاكم"، فحدَّث عنه ولا حرج، فإن في "مستدركه" كثيرًا من الرواة التالفين، وجماعةٌ منهم قد قطع هو نفسُه بضعفهم الشديد. وسيأتي بسط ذلك في ترجمته (¬1)، فإن الأستاذ حطَّ عليه حيث خالفه، ثم عاد يحتجّ به هنا! وأما مَسْلمة بن قاسم، فقد جعل الله لكل شيءٍ قدرًا. حدُّه أن يُقبل منه توثيقُ من لم يجرحه من هو أجلُّ منه ونحو ذلك، فأما أن يعارَض بقوله نصوصُ جمهور الأئمة، فهذا لا يقوله عاقل. وأما قضية القهقهة، فتراها في ترجمة اللؤلؤي من "لسان الميزان" (¬2) ولا يرتاب مُطَّلِع أن اللؤلؤي إنما ولّى دبره خشية أن يرد عليه ما لا قبل له به، إذ قد كان يمكنه أن يجيب بهذا العذر الذي ذكره الكوثري، ثم ينظر ما يرد عليه. على أنه يعلم أن هذا العذر باطل، فإن أهل الرأي يردُّون بالقياس النصوص الصحيحة الثابتة، فكيف يتقون أن يخوضوا فيه في مقابل مثل [1/ 445] هذا الحديث؟! وجاء أن اللؤلؤي لما ولي القضاء لم يدر كيف يقضي! وذكر الحنفية أنه كان يُثْقِل على أبي يوسف بالمناظرة، فقال أبو يوسف لأصحابه: إذا جاء فابدروه بالمسألة، فجاء فلم يستتمَّ السلام حتى قال: ما تقول في كذا؟ خاف أن يبدروه بالمسألة، فبدرهم! يؤخذ من هذا أنه كان ضعيف البديهة، بطيء الإدراك، فكان يطيل الفكر في بيته في بعض المسائل وما يمكن أن يقال فيها ¬

_ (¬1) رقم (215). (¬2) (3/ 48 - 49).

أو يورد عليها وما يمكن أن يدفع به ذلك الإيراد ويمعن في ذلك ويتحفظ، ثم يجيء إلى أبي يوسف أو غيره ويناظر في تلك المسألة. وعرف أبو يوسف هذا، فأمر أصحابه أن يبدروه فيسألوه عن مسألة؛ لأنه يغلب أنه لم يكن استعدَّ لها فينقطع. وعرف هو من نفسه هذا، فبدرهم. فكأنه لما سأله رفيق الشافعي عن مسألة القهقهة وأورد عليه ما أورد، اجتمع عليه حرجُ الموقف وعدمُ استعداده، فاعتصم بالفرار. وأما من يحتجّ بالمرسل، فذلك إذا كان الإرسال ممن لا يرسل إلا عن ثقة، وليس حديث القهقهة من ذاك؛ فقد وُصِفَ الذي أرسله بأنه كان ممن يصدِّق كلَّ أحد. وأما الجماعة الذين طعن فيهم الأستاذ، فتراجمهم في مواضعها. فأما محمَّد بن سعد العوفي، فقد ذكروا أن الحاكم حكى عن الدارقطني أنه لا بأس به. وقال الخطيب: "كان لينًا في الحديث". وعلق الأستاذ على "مناقب أبي حنيفة" للذهبي (ص 28 - 29): "قال الخطيب: أخبرنا ابن رزق، حدثنا أحمد بن علي بن عمرو (¬1) بن حبيش الرازي، سمعت محمَّد بن أحمد بن عصام يقول: سمعت محمَّد بن سعد العوفي يقول: سمعت يحيى بن معين يقول: كان أبو حنيفة ثقة، لا يحدِّث إلاَّ ما يحفظه، ولا يحدِّث بما لا يحفظه". قال الأستاذ: "وهذا يقضي على من يرميه بقلة الضبط". وقد تكلم الأستاذ في رواية الخطيب عن محمَّد بن أحمد بن رزق، وأشار إلى ذلك هنا كما مرّ، ولا أدري ما يقول في محمَّد بن عصام، فجعل الأستاذ هذه ¬

_ (¬1) كذا في (ط) تبعًا لما في تعليق الكوثري والصواب "عُمر" كما في "تاريخ بغداد" و"تاريخ الذهبي".

الرواية مع أنها من طريق محمَّد بن سعد العوفي - وقد انفرد بها هذا الإسناد - قاضيةً على إجماع الأئمة ومعهم ابن معين من عدة أوجه عنه، ثم تراه هنا يردُّ رواية محمَّد بن سعد ومعه جماعة عن ابن معين ومعه جميع الأئمة إلا ما شذّ! أما الحسن بن زياد، فقد روى تكذيبَه ثلاثةٌ عن ابن معين. وقال ابن أبي حاتم في كتابه (¬1): "قرئ على العباس بن محمَّد الدوري عن يحيى بن معين أنه قال: [1/ 446] حسن اللؤلؤي كذاب"، ولعل الأستاذ قد وقف على ذلك في "تاريخ عباس" (¬2). ثم قال ابن أبي حاتم: "سألت أبي عنه فقال: ضعيف الحديث، ليس بثقة ولا مأمون". وفي كتاب "الضعفاء والمتروكين" (¬3) للنسائي المطبوع في الهند: "حسن بن زياد اللؤلؤي ليس بثقة ولا مأمون" وفي الجزء الملحق به، وهو من كلام النسائي: "أبو حنيفة ليس بالقوي في الحديث، وهو كثير الغلط والخطأ على قلة روايته. والضعفاء من أصحابه: يوسف بن خالد السَّمْتي كذاب، والحسن بن زياد اللؤلؤي كذاب خبيث، ومحمد بن الحسن ضعيف. والثقات من أصحابه: أبو يوسف القاضي ثقة ... ". وفي ترجمة اللؤلؤي من "لسان الميزان" (¬4): "قال محمَّد بن عبد الله بن نُمير: يكذب على ابن جريج. وكذا كذَّبه أبو داود فقال: كذاب ¬

_ (¬1) (3/ 15). (¬2) (1765). (¬3) (ص 170). (¬4) (3/ 48 - 49).

207 - محمد بن سعيد البورقي

غير ثقة. وقال ابن المديني: لا يكتب حديثه ... وقال أبو ثور: ما رأيت أكذب من اللؤلؤي. وقيل ليزيد بن هارون: ما تقول في اللؤلؤي؟ قال: أوَ مسلم هو؟ وقال يعلي بن عبيد: اتَّقِ اللؤلؤي. وقال ابن أبي شيبة: كان أبو أسامة يسمِّيه الخبيث. وقال يعقوب بن سفيان والعقيلي والساجي: كذاب ... ". فأما قضية التقبيل وقَرْص الخدِّ في الصلاة، فقد تقدمت الإشارة إليها في ترجمة الخطيب (¬1) ثم في ترجمة صالح بن محمَّد (¬2)، وهي بغاية الثبوت. فهذا هو الذي يصفه الكوثريّ بأنه "مجتهد عظيم القدر ومحدث جليل الشأن ... " استخفافًا بالدين وأهله، وسخريةً من عقول الناس وعقله! (¬3) 207 - محمَّد بن سعيد البُورَقي: في "تاريخ بغداد" (13/ 335) من طريقه (¬4): "حدثنا سليمان بن جابر بن سليمان بن ياسر بن جابر، حدثنا بشر بن يحيى، قال: أخبرنا الفضل بن موسى السِّيناني، عن محمَّد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن في أمتي رجلاً اسمه النعمان، وكنيته ¬

_ (¬1) رقم (26). (¬2) رقم (110). (¬3) محمَّد بن سعيد الباهلي راجع "الطليعة" (ص 37 - 39 [26 - 28]) وانظر ما يأتي في ترجمة الهيثم بن خلف. [المؤلف]. قلت: لم يفرد له المؤلف ترجمة في "التنكيل"، وقد ذكره في موضعه هناك (ص 846) في الحاشية وأحال على الطليعة وغيرها. (¬4) وقع هناك "الدورقي" خطأ. [المؤلف].

أبو حنيفة، هو سراج أمتي، هو سراج أمتي، هو سراج أمتي". قال الخطيب: "قلت: وهو حديث موضوع تفرَّد بروايته البُورَقي، وقد شرحنا فيما تقدَّم أمره، وبيَّنَّا حاله". [1/ 447] يعني في ترجمته، وهي في "التاريخ" (ج 5 ص 308 - 309) وفيها عن حمزة السهمي: "محمَّد بن سعيد البُورَقي كذّاب، حدَّث بغير حديثٍ وَضَعه". وعن الحاكم: "هذا البورقي قد وضع من المناكير على الثقات ما لا يحصى، وأفحشُها روايته ... : سيكون في أمتي رجل يقال له: أبو حنيفة هو سراج أمتي. هكذا حدَّث به في بلاد خراسان، ثم حدَّث به بالعراق بإسناده، وزاد فيه أنه قال: وسيكون في أمتي رجل يقال له: محمَّد بن إدريس، فتنتُه على أمتي أضرُّ من أبليس". وذكر الخطيب غير هذا من مناكيره. قال الأستاذ (ص 30): "استوفى طرقَه البدرُ العيني في "تاريخه الكبير"، واستصعب الحكم عليه بالوضع، مع وروده بتلك الطرق الكثيرة، وقد قال: " ... فهذا الحديث كما ترى قد روي بطرق مختلفة ومتون متباينة ورواة متعددة عن النبي عليه الصلاة والسلام، فهذا يدل على أن له أصلاً، وإن كان بعض المحدثين بل أكثرهم ينكرونه، وبعضهم يدّعون أنه موضوع، وربما كان هذا من أثر التعصب. ورواة الحديث أكثرهم علماء، وهم من خير الأمم، فلا يليق بحالهم الاختلاق على النبي عليه الصلاة والسلام متعمِّدًا"! ذيَّل عليه الكوثري بقوله: "وعالِم مضطهد طول حياته، يموت وهو محبوس، ثم يعمُّ علمُه البلاد من أقصاها إلى أقصاها شرقًا وغربًا، ويتابعه في فقهه شطرُ الأمة المحمدية بل ثلثاها على توالي القرون، رغم مواصلة الخصوم من فقيه ومحدث ومؤرخ مناصبةَ العداء له، نبأ جلل لا يُستبعد أن يخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - ... "! أقول: لا أدري أعلمُ هؤلاء القوم أحرى أن يؤسَف عليه، أم دينهم، أم

عقولهم؟! قد تأملت روايات هذا الحديث في "مناقب أبي حنيفة" وغيرها فرأيته يدور على جماعة: أولهم: البُورَقي، وقد عرفتَ حالَه. رواه عن مجهول عن مثله عن السِّيناني بذاك السند. وقد صحَّ عن السيناني أنه قال: "سمعت أبا حنيفة يقول: من أصحابي من يبول قلتين. يرد على النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا كان الماء قلتين لم ينجس" (¬1) ذكره الأستاذ (ص 83). الثاني: أبو علي أحمد بن عبد الله بن خالد الجُويباري الهروي، وهو مشهور بالوضع مكشوف الأمر جدًّا وله فيه أربع طرق: الأولى: عن السِّيناني بذاك السند. [1/ 448] الثانية: عن أبي يحيى المعلم، عن حُميد، عن أنس. الثالثة: عن أبي يحيى عن أبان عن أنس. الرابعة: عن عبد الله بن معدان عن أنس، والراوي عنه في بعض هذه مأمون بن أحمد السلمي، وهو شبيهه في الشهرة بالوضع الفاحش. الثالث: أبو المعلي بن مهاجر، إن كان له ذنب، وهو مجهول. رواه محمَّد بن يزيد المستملي - وهو متهم - عن مجهول عن مثله عن أبي المعلى عن أبان عن أنس. ورواه النضري بثلاثة أسانيد أخرى كلهم مجاهيل عن أبي المعلّى عن أبان عن أنس. الرابع: أبو علي الحسن بن محمَّد الرازي، وهو متهم. قد تقدم بعض ما ¬

_ (¬1) كما في "تاريخ بغداد": (13/ 405).

يتعلق به في ترجمة أحمد بن محمَّد بن الصلت رقم (34). رواه النضري من طريقه بسند كلهم مجاهيل إلى عبد الله بن مغفل (؟) عن علي بن أبي طالب قوله. الخامس: النّضْري، قال فيه ابن السمعاني في "الأنساب" (¬1): (الخِيوِي) اسم لجدّ (¬2) أبي القاسم يونس بن طاهر بن محمَّد بن يونس بن خيُّو النضري الخيوي من أهل بلخ الملقب شيخ الإِسلام ... ". ولم يذكر فيه توثيقًا ولا جرحًا، والله أعلم به. وبعض الطرق المتقدمة من طريقه، وزاد بسندٍ كلُّهم مجاهيل عن أبان عن أنس، وبسند كلُّهم مجاهيل عن أبي هُدبة عن أنس، وبسند كلُّهم مجاهيل عن موسى الطويل عن ثابت عن أنس، وبسند كلُّهم مجاهيل عن حماد عن رجل عن نافع عن ابن عمر، وبسند كلُّهم مجاهيل عن أبي قتادة الحراني عن جعفر بن محمَّد عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس. هذا ما وقفت عليه. فالأربعة الأولون قد عرفتهم، وأما الخامس وهو النضري فالله أعلم به، وعلى كل حال فكان بين قوم أعاجم جهَّالٍ متعصبين، لا بِدْع أن يتقربوا إلى الله عَزَّ وَجَلَّ بتكثير الطرق وكلُّهم مجاهيل. وأبان وأبو هُدبة وموسى الطويل ثلاثتهم هَلْكى، ومع ذلك لا أراهم إلا أبرياء من هذا الحديث، وإلا لاشتهر في زمانهم. فما باله لم يُعرف له أثر إلا بعد أن وضعه الجويباري في القرن الثالث؟ ¬

_ (¬1) (5/ 265). (¬2) (ط): "باسم" والمثبت من "الأنساب".

وأبو قتادة الحرَّاني فسد بأخرة، ومع ذلك لا أراه إلا بريئًا من هذا. وحماد الذي روى عنه عن رجل عن نافع عن ابن عمر لا أدري من هو، وربما يكون المقصود حماد بن أبي حنيفة، فإنه قد قيل: إنه يروي عن مالك عن نافع عن [1/ 449] ابن عمر. فكأنَّ بعض المجاهيل سمع بذلك، فركَّب السند إليه بهذا الحديث، فاستحيا النضري عن أن يقول: عن مالك عن نافع عن ابن عمر، فيكون أشنع للفضيحة، فكنى عن مالك برجل! هذا، ومن شأن الدجالين أن يركِّب أحدهم للحديث الواحد عدة أسانيد تغريرًا للجهال، وأن يضع أحدهم فيسرق الآخر ويركِّب سندًا من عنده، ومن شأن الجهال المتعصبين أن يتقربوا بالوضع والسرقة وتركيب الأسانيد. وقد قال أبو العباس القرطبي (¬1): "استجاز بعض فقهاء أهل الرأي نسبة الحكم الذي دلَّ عليه القياس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... ولهذا ترى كتبهم مشحونة بأحاديث تشهد متونها بأنها موضوعة, لأنها تشبه فتاوى الفقهاء ... ولأنهم لا يقيمون لها سندًا صحيحًا". وقد أشار إلى هذا ابن الصلاح بقوله: "وكذا المتفقهة الذين استجازوا نسبة ما دل عليه القياس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - " (¬2). ¬

_ (¬1) في كتابه "المفهم": (1/ 115)، ونقله عنه الحافظ في "النكت": (2/ 852)، والسخاوي في "فتح المغيث": (1/ 325). (¬2) هذا الكلام إنما هو للعلائي نقله عنه الحافظ في "النكت": (2/ 857)، والسخاوي في "فتح المغيث": (1/ 325) والذي جعل المؤلف ينسبها لابن الصلاح سياقها الموهم في "فتح المغيث" وهو مصدر المؤلف إذ فيه: "ولذلك قال العلائي: أشد الأصناف ضررًا أهل الزهد، كما قاله ابن الصلاح، وكذا المتفقَّهة الذين ... ". فظن المؤلف أن كلام ابن الصلاح يبدأ من قوله: "وكذا المتفقهة"، والواقع أن كلام =

208 - محمد بن الصقر بن عبد الرحمن

فتدبَّرْ ما شرحناه، ثم تأمَّلْ ما تقدَّم عن العيني، ثم راجِع الطرق الكثيرة بالأسانيد الصحيحة لقصة استتابة أبي حنيفة من الكفر مرتين، وأكثرُ تلك الطرق مسلسلة بالرجال المعروفين، ما بين محدِّث ثقة وحافظ ثقة وإمام شهير، وانظر ما يقول فيها العيني والكوثري، حتى كأن أئمة الحديث ورجاله وفقهاء المذاهب الأخرى أهلٌ عند العيني والكوثريّ لكلَّ كذب، وإن اشتهروا بالإمامة والثقة والصدق والتقوى؛ بخلاف أصحابهما أهل الرأي، كأنه لا يكون منهم ولا من حُمُرهم وكلابهم إلاَّ الصدق. ومع ذلك يرمي هؤلاء القوم مخالفهم بالتعصّب واتباع الهوى، ويُكثر الأستاذ من قوله: "وقانا الله اتباع الهوى. نسأل الله الصون. نسأل الله السلامة" وأشباه ذلك! ويتحرَّى بهذه الكلمات مواضع ارتكابه الموبقات! والله المستعان. (¬1) 208 - محمَّد بن الصقر بن عبد الرحمن: مرت روايته في ترجمة عبد الله بن صالح (¬2). قال الأستاذ (ص 29): "فالصقر وعبد الرحمن من الكذابين المعروفين". أقول: لا أدري أَوَهِم الأستاذ؟ {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [النجم: 36 - 38]؟! ¬

_ = ابن الصلاح متعلق بأهل الزهد. انظر "علوم الحديث" (ص 99). (¬1) محمَّد بن سليمان الباغندي، يأتي في ترجمته ابنه محمَّد بن محمَّد [رقم 232]. محمَّد بن شجاع ابن الثلجي، تقدم بعض ما يتعلق به في ترجمته حماد بن سلمة [رقم 85]. [المؤلف] (¬2) رقم (124).

209 - محمد بن العباس بن حيويه أبو عمر الخزاز

209 - [1/ 450] محمَّد بن العباس بن حَيّويه أبو عمر الخزّاز: راجع "الطليعة" (ص 40 - 41) (¬1). حاول الأستاذ في "الترحيب" (ص 38 - 40) أن يجيب فتغافل عن الدليل الواضح، وهو أن الذي في الحكاية "أبو الحسن ابن الرزاز" وصاحب هذا الاسم موجود، وهو علي بن موسى، فكيف يعدل عنه إلى من لم يُذكر بهذا الاسم أصلاً، وهو علي بن أحمد، فإنه وإن كان يكنى أبا الحسن، فإنما تكرر وصفه في ترجمته وغيرها مرارًا كثيرة بأنه "الرزاز"، وذكروا أنه كان له دكان يبيع فيه الأُرْز، ولم يوصف قط بأنه "ابن الرزاز". وذهب الأستاذ يصارع ما ذكرت من أن علي بن أحمد أصغر من ابن حيويه بأربعين سنة ولا تعرف بينهما علاقة، فذكر "أنهما من أهل بغداد وعاشا هناك متعاصرين سبعًا وأربعين سنة، فماذا كان يمنع هذا من الاجتماع بذاك؟ ". أقول: أنا لم أدع امتناع الاجتماع، وإنما بينتُ أنَّ مما يرجح أن المراد في الحكاية ابن الرزاز وهو علي بن موسى أنه من شيوخ ابن حيويه، بخلاف الرزاز وهو علي بن أحمد، فإنه أصغر منه ولا تعرف له به علاقة. وأزيد الأمر إيضاحًا، فأقول؟ عبارة الأزهري: "كان أبو عمر بن حيويه مكثرًا، وكان فيه تسامح، لربما أراد أن يقرأ شيئًا ولا يقرب أصله منه فيقرؤه من كتاب أبي الحسن ابن الرزاز لثقته بذلك الكتاب، وإن لم يكن فيه سماعه، وكان مع ذلك ثقة". فيؤخذ منها مع ما تقدم أمور: ¬

_ (¬1) (ص 30 - 32).

الأول: أنها تقتضي أن ذاك الكتاب كان في متناول ابن حيويه في كثير من الأوقات، واحتمالُ أن يكون كتاب علي بن موسى أبي الحسن بن الرزاز صار بعد وفاته إلى تلميذه ابن حيويه، فكان في متناوله أقربُ من احتمال أن يكون كتاب علي بن أحمد الرزاز الذي ولد بعد ابن حيويه بأربعين سنة ولا تعرف بينهما علاقة كان يكون في متناول ابن حيويه. وهذه الأقربية لا يدفعها احتمال اجتماع ابن حيويه بعلي بن أحمد الرزاز. الأمر الثاني: أن في عبارة الأزهري: "لثقته بذلك الكتاب" وابن حيويه يصفه الأزهري في العبارة نفسها بأنه ثقة. ويصفه العتيقي بأنه "كان ثقة صالحًا دينًا" وبأنه "كان ثقة متيقظًا"، ويصفه البرقاني بأنه "ثقة ثبت حجة". ومن كانت هذه صفته فاحتمالُ أن [1/ 451] يثق بكتاب أستاذه الذي كان فاضلًا أديبًا ثقة، ولعله قد قابله بأصله، أقربُ من احتمال أن يثق بكتابِ من وُلد بعده بأربعين سنة ولا تعرف بينهما علاقة. الأمر الثالث: عبارة الأزهري تقتضي أنه لم يتفق لابن حيويه القراءة من غير أصله إلا من ذاك الكتاب، واقتصارُه من الوثوق بغير أصله على كتاب لأستاذه معقولٌ، بخلاف اقتصاره على كتاب لإنسان أصغر منه بأربعين سنة ولا تعرف بينهما علاقة. فلو كان ابن حيويه يتساهل بالقراءة من كتاب لعلي بن أحمد لتساهل في القراءة من كتب جماعةٍ أكبر من علي بن أحمد وأوثق، وعلاقتهم بابن حيويه معروفة. الأمر الرابع: إطلاق البرقاني مع إمامته وجلالته والعتيقي مع ثقته وتيقظه ذاك الثناء البالغ على ابن حيويه يدل على أنه لم يكن منه تساهل

يخدش فيما أثنيا عليه به. والأزهري وإن ذَكَر التساهل، فقد عقَّبه بقوله: "وكان مع ذلك ثقة". فهذا يقضي أنه إن ساغ أن يُسمى ما وقع منه تساهلاً فهو تساهل عُرفي لا يخدش في الثقة والتيقظ والحجة. وهذا إنما يكون بفرض أن ذاك الكتاب الذي قرأ منه كان موثوقًا به وبمطابقته لأصل ابن حيويه. وإنما فيه أنه ليس هو أصله الذي كتب عليه سماعه، وقد كانوا يكرهون مثل هذا، وذلك من باب سدِّ الذريعة. فأما أن يثق بكتاب لأصغر منه بأربعين سنه، ولا تعرف بينهما علاقة، ولا يوثق بمطابقته لأصله؛ فعباراتهم تدفع هذا أشدَّ الدفع. قال الأستاذ: "رواية الخزاز لو كانت عن كتاب أحد شيوخه لكانت روايته من أصل شيخه، ولَمَا كان يُرمى بالتسامح". أقول: علي بن موسى أبو الحسن ابن الرزّاز شيخ الخزاز حتمًا، ثم هناك احتمالان: الأول: أن يكون شيخه في ذاك الكتاب. الثاني: أن لا يكون شيخه فيه وإنما سمعه الخزاز من رجل آخر. فعلى الأول - وهو الذي بنى عليه الأستاذ - فصورة التساهل موجودة؛ فإنه من المقرر عندهم أنَّ التلميذ إذا سمع وضبط أصلَه ثم بعد مدّة وجد في أصل شيخه زيادة أو مخالفة لما في أصله، لم يكن له أن يروي إلا ما في أصله. وقد قال حمزة السهمي في "تاريخ جرجان" (ص 122 - 123): [1/ 452] "أخبرنا أبو أحمد بن عدي ... أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم" في كتابي بخطي: عثراتهم، ورأيت في كتاب ابن عدي

بخطه: عقوبتهم". فلو أن حمزة روى ذاك الحديث وقال: "عقوبتهم"، ثم رأى أهل العلم أصله وفيه "عثراتهم" فراجعوه في ذلك فقال: نعم، ولكني بعد سماعي بمدة رأيت في أصل شيخي "عقوبتهم" لعدُّوا هذا تساهلًا. ومن روى من أصل شيخه لا يأمن أن يقع في نحو هذا إلا إذا كان قد كرَّر المقابلة حتى وثق كل الوثوق بالمطابقة. والأولى به وإن وثق كل الوثوق أن لا يروي إلا من أصل نفسه. فإن كان الخزاز سمع ذاك الكتاب من أبي الحسن ابن الرزاز، فتساهلُه هو تركُ الأولى كما عرفت. وعلى الاحتمال الثاني لا يكون للخزاز أن يروي من كتاب ليس هو أصله ولا أصل شيخه إلا أن يقابله بأصله مقابلةً دقيقةً، فيثق بمطابقته لأصله، ومع ذلك فالأولى به أن لا يروي إلا من أصله، وعلى هذا فتساهلُ الخزاز هوفي ترك الأولى، كما اقتضته عباراتهم في الثناء عليه كما مر. قال الأستاذ: "وكان ينبغي أن يذكر في السند اسم شيخه الذي ناوله أصله، وليس بمعقول أن يهمل التلميذ ذكر شيخه في سند ما حمله وتلقاه بطريقه". أقول: هذا مبنيّ على الاحتمال الأول، وأن لا يكون الخزاز سمع الكتاب أصلاً، وإنما ناوله إياه ابن الرزاز. والذي نقوله: إنه إن كان على الاحتمال الأول فالخزاز سمع ذاك الكتاب سماعًا من ابن الرزاز، وإلا لغمزوه بأنه يعتمد على الإجازة. بل عبارة الأزهري نفسه تصرِّح بهذا، فإن فيها: "ربما أراد أن يقرأ شيئًا ولا يقرب أصله منه، فيقرؤه من كتاب أبي الحسن ابن الرزاز". وهذا يدل أن له أصلاً بذاك المصنف غير ذاك الكتاب، إلا أنه لم يقرب منه. ولو كان إنما يرويه بمناولة الشيخ ذاك الكتاب لما كان له أصل آخر. ثم إن كان سمع ذاك المصنف من ابن الرزاز، فقد كان إذا قرأ

210 - محمد بن عبد الله بن أبان أبو بكر الهيتي

منه قال: "أخبرنا أبو الحسن ابن الرزاز" ثم يقرأ من الكتاب. وإن كان إنما سمعه من غير ابن الرزاز، فإنما كان يذكر اسم شيخه في ذاك المصنف ولا معنى لذكر ابن الرزاز. فإن بنى الأستاذ على الاحتمال الأول وقال: لكني لم أر في "تاريخ الخطيب" شيئًا رواه الخطيب من طريق الخزاز عن ابن الرزاز. [1/ 453] قلت: أما كونه شيخه، فقد صرح به الخطيب، وأما اجتناب الخطيب أن يروي من طريق الخزاز عن ابن الرزاز فذلك من كمال احتياط الخطيب وتثبته البارع. لم تطب نفسه أن يروي من ذاك الوجه الذي قد قيل فيه، وإن كان ذاك القيل لا يضر. والله أعلم. 210 - محمَّد بن عبد الله بن أبان أبو بكر الهِيتي: في "تاريخ بغداد" (13/ 382 [393]): "أخبرنا محمَّد بن عبد الله بن أبان الهيتي، حدثنا أحمد بن سلمان النجَّاد، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: قلت لأبي: كان أبو حنيفة استتيب؟ قال: نعم". قال الأستاذ (ص 65): "كان مغفَّلاً مع خلوِّه من علم الحديث، كما يقول الخطيب". أقول: أول عبارة الخطيب: "كانت أصول أبي بكر الهيتي سقيمة كثيرة الخطأ، إلاَّ أنه كان شيخًا مستورًا صالحًا فقيرًا مُقِلاًّ معروفًا بالخير، وكان مغفلاً ... ". والخطيب معروف بالتيقظ والتثبت، فلم يكن ليروي عن هذا الرجل إلا ما يثق بصحته، وقضية الاستتابة متواترة. 211 - محمَّد بن عبد الله بن إبراهيم أبو بكر الشافعي: قال الأستاذ (ص 111): "يُكثر المصنف عنه جدًّا في مثالب أبي حنيفة، وكان

212 - محمد بن عبد الله بن سليمان الحضرمي الحافظ، لقبه "مطين"

كلِفًا بأن يُدعى بالشافعي، وليس له عمل في مذهب الشافعي غير النَّيل من فقيه الملة بالرواية عن مجاهيل وكذابين في مثالبه ... وأنت تعلم أن كثيرًا من النقاد لا يقبل كلام الناس بعضهم في بعض عند اختلاف مذاهبهم ... حتى إن الإِمام الشافعي لا يقبل شهادة المتعصب". أقول: قد تتبعتُ تلك الروايات، فلم أر في شيوخه فيها كذابين ولا مجاهيل. إنما له رواية واحدة عن الكُدَيمي، والكُدَيمي قد وثَّقه بعضهم، وأطلق بعضهم تكذيبه. وروايتان أخريان عن رجل لم أظفر بتوثيقه، وآخر لم أظفر بترجمته. وسائر رواياته عن الثقات المعروفين. ولم يعرف هذا الرجل بتعصب. وأما قضيةُ اختلاف المذاهب وزعمُ أن الشافعي يردُّ شهادة المتعصب، فقد مرَّ تحقيقه في القواعد (¬1). وأبو بكر ثقة حافظ متفق على توثيقه وتثبيته. راجع ترجمته في "تاريخ بغداد" (¬2) و"تذكرة الحفاظ" (¬3). 212 - محمَّد بن عبد الله بن سليمان الحضرمي الحافظ، لقبه "مُطَيَّن": تقدمت الإشارة إلى روايته في ترجمة عامر بن إسماعيل (¬4). قال الأستاذ (ص 38): "تكلم فيه محمَّد بن أبي شيبة". [1/ 454] يعني محمَّد بن عثمان بن أبي شيبة، وستأتي ترجمته (¬5). ¬

_ (¬1) (1/ 66 - 70). (¬2) (3/ 75 - 78). (¬3) (3/ 880 - 881). (¬4) رقم (115). (¬5) رقم (219).

213 - محمد بن عبد الله بن عبد الحكم

وقولُ الأستاذ فيه: "لكذَّاب كذَّبه غير واحد"! وقوله: "لكذاب مكشوف الأمر". فإن كانت هذه أو نصفها حاله عنده، فكيف يَعتد بكلامه في هذا الحافظ الجليل الذي قال فيه الدارقطني: "ثقة جبل". والأستاذ يعلم أنه كانت بين الرجلين نُفرة (¬1) شديدة، وهو يكرر ردَّ الرواية بما دونها، فكيف لا يردُّ بها قول أحدهما في الآخر! على أن ذاك الكلام ليس فيه بحمد الله ما يقدح، لكن غيرَ الأستاذ يلام على تشبُّثه بما يعلم بطلانه! 213 - محمَّد بن عبد الله بن عبد الحكم: مرت روايته في ترجمة الشافعي (¬2). قال الأستاذ (ص 137): "لا أتكلم ... ولا بنقل ما قاله الحميدي والربيع المؤذن في ابن عبد الحكم ... ". أقول: أما كلمة الحميدي في ابن عبد الحكم، فهي ككلمة ابن عبد الحكم في الحميدي، فَلْتة لسان عند استحقاق غضب، كما سبق في ترجمة الحميدي (¬3)، فلا يضر ذا ولا ذاك كما سبق في القواعد (¬4). وأما مقالة الربيع فقد أجاب عنها أهل العلم كما في "التهذيب" (¬5) وغيره. ووثَّقوا ابن عبد الحكم. ¬

_ (¬1) (ط): "ثغرة"! (¬2) رقم (189). (¬3) رقم (121). (¬4) (1/ 87 فما بعدها). (¬5) (9/ 161).

214 - محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي الحافظ

214 - محمَّد بن عبد الله بن عمّار الموصلي الحافظ: في "تاريخ بغداد" (13/ 407 [433]) من طريق "الحسين بن إدريس [قال]: قال ابن عمار: إذا شككتُ في شيء نظرت إلى ما قال أبو حنيفة ... ". قال الأستاذ (ص 133): "قال ابن عدي: رأيت أبا يعلى سيئ القول فيه ويقول: شهد على خالي بالزور، وله عن أهل الموصل أفراد وغرائب اهـ. وأبو يعلى الموصلي من أعرف الناس به، وكلامه قاضٍ على كلام الآخرين". أقول: آخر ما حكاه ابن عدي عن أبي يعلى قوله "بالزور"، ثم قال ابن عدي: "وابن عمار ثقة حسن الحديث عن أهل الموصل معافى بن عمران وغيره، وعنده عنهم أفراد وغرائب. وقد شهد أحمد بن حنبل أنه رآه عند يحيى القطان، ولم أر أحدًا من مشايخنا يذكره بغير الجميل، وهو عندهم ثقة". ووثَّقه وأثنى عليه جماعة كثيرة. فأما أبو يعلى فكانت بينه وبين ابن عمار مباعدةٌ ما في المذهب، كما يدلُّ عليه عكوف أبي يعلى على سماع كتب أهل الرأي من بِشْر بن [1/ 455] الوليد، ورَدَفَتْها كُدُورةٌ عائلية كما يدل عليه قول أبي يعلى: "شهد على خالي بالزور"، وهذه كلمة مرسلة لم يبيَّن ما هو الزور؟ ومن أين عرف أبو يعلى أنه زور؟ وعلى فرض تحققه ذلك، فهل تعمَّد ابن عمار الشهادة بالباطل أو أخطأ؟ وإعراض الناس - ومنهم ابن عدي حاكي الكلمة عن أبي يعلى - عن كلمته يبيِّن أنها كلمة طائشة لا تستحق أن يُلتفت إليها. وابن عمار أكبر من أبي يعلى بنحو خمسين سنة، فلعل أبا يعلى سمع خاله - ومن خاله؟ - يقول: شهد عليَّ ابن عمار بالزور، فأخذها أبو يعلى ولم يحققها.

215 - محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه أبو عبد الله الضبي الحاكم النيسابوري

وقدَّمنا في القواعد (¬1) أنه إذا ظهر أن بين الرجلين نُفْرة (¬2) لم يُقبل ما يقوله أحدهما في الآخر إلا مفسَّرًا محققًا مثبتًا. ويتأكد ذلك بإعراض الناس عن كلمة أبي يعلى وإجماعهم على توثيق ابن عمار. فأما الغرائب فقد دلَّت كلمة ابن عدي على أنها غرائب صحاح، ولهذا ذكرها في صدد المدح؛ فحوَّله الكوثري إلى القدح. والله المستعان. 215 - محمَّد بن عبد الله بن محمَّد بن حمدويه أبو عبد الله الضبّي الحاكم النيسابوري: قال الأستاذ (ص 70): "اختلط في آخره اختلاطًا شنيعًا على تعصبه البالغ". وقال (ص 149): "شديد التعصب اختلط في آخره، ويقال عنه: إنه كان رافضيًّا خبيثًا". أقول: أما التعصب، فإن كان للحاكم طرف منه ففي تشيُّعه الخفيف. أما على أهل الرأي فلم يُعرف بتعصب، وقد سبق حكم التعصب في المقدمة (¬3). وأما قول بعضهم: "إمام في الحديث رافضي خبيث"، فقد أجاب عنها الذهبي في "الميزان" (¬4) قال: "إن الله يحبّ الإنصاف. ما الرجل برافضيّ، بل شيعي فقط". وتذكِّرني هذه الكلمة ما حكوه أن الصاحب ابن عباد كتب إلى قاضي قم: ¬

_ (¬1) (1/ 87 فما بعدها). (¬2) (ط): "ثغرة"! (¬3) (1/ 29 فما بعدها). (¬4) (5/ 54).

أيها القاضي بقُمْ ... قد عزلناك فقُمْ فقال القاضي: ما عزلَتْني إلا هذه السجعة! وأما قول الكوثري: "اختلط ... اختلاطًا شنيعًا" فمجازفة، بل لم يختلط، وإنما قال ابن حجر في "اللسان" (¬1) بعد أن ذكر ما في "المستدرك" من التساهل: "قيل في الاعتذار عنه أنه عند تصنيفه "للمستدرك" كان في أواخر عمره، وذكر بعضهم أنه حصل له تغيُّر وغفلة في آخر عمره. ويدل على ذلك أنه ذكر جماعةً في كتاب "الضعفاء" له، وقطَعَ بترك الرواية عنهم، ومَنَع من الاحتجاج بهم؛ ثم أخرج أحاديث بعضهم في "مستدركه" [1/ 456] وصححها". ولعل المراد بقوله: "ذكر بعضهم" ما في "تذكرة الحفاظ" (¬2) عن بعضهم أن الحاكم قال له: "إذا ذاكرتُ في باب لا بد من المطالعة لكبر سني". وهذا لا يستلزم الغفلة، ومع ذلك قوله: "تغيُّر وغفلة" لا يؤدي معنى الاختلاط، فكيف الاختلاط الشنيع؟ وقد رأيت في "المستدرك" المطبوع إثبات تواريخ السماع على الحاكم في أوله أي ج 1 ص 2، ثم ص 36، فـ ص 69، فـ ص 94، فـ ص 129، فـ ص 163. وتاريخ الأول سابع المحرم سنة 393 (¬3)، والثاني بعد ثلاثة أشهر ¬

_ (¬1) (7/ 256 - 257). (¬2) (3/ 1041). (¬3) وقع في الموضعين من المواضع المشار إليها من "المستدرك" وهما ص 2 و94: سنة ثلاث وسبعين، وهو خطأ مطبعي. ولذلك لم يعرج عليه المؤلف رحمه الله تعالى. [ن].

تقريبًا، وهكذا بعد كل ثلاثة أشهر يملي جزءًا في نيف وثلاثين صفحة من المطبوع. ولم يستمر إثبات ذلك في جميع الكتاب، وآخر ما وجدته فيه (ج 3 ص 156 في غرة ذي القعدة سنة 402). وهذا يدل أن تلك الطريقة استمرت منتظمة إلى ذاك الموضع، فأما بعد ذلك فالله أعلم، فإنه لو بقي ذاك الانتظام لم يتم الكتاب إلاّ سنة 410، لكن الحاكم توفي سنة 405. وفي المجلد الرابع ص 249 ذِكْر الحاكم أول سند "أخبرنا الحاكم أبو عبد الله ... " لكنه بلا تاريخ. هذا، واقتصاره في كل ثلاثة أشهر على مجلس واحد يملي فيه جزءًا بذاك القدر يدل أنه إنما ألَّف الكتاب في تلك المدة. فكان الحاكم مع اشتغاله بمؤلفات أخرى يشتغل بتأليف "المستدرك"، والتزم أن يحضَّر في كل ثلاثة أشهر جزءًا ويخرجه للناس فيسمعونه؛ إذ لو كان قد ألَّف الكتاب قبل ذلك وبيَّضه، فلماذا يقتصر في إسماع الناس على يوم في كل ثلاثة أشهر؟ فأما إسراعه في الأواخر، فلعله فرغ من مصنفاته الأخرى التي كان يشتغل بها مع "المستدرك"، فتفرغ للمستدرك. وفي "فتح المغيث" (ص 13) (¬1) عند ذِكْر تساهل الحاكم في "المستدرك": "فيه عدة موضوعات حمله على تصحيحها إما التعصُّبُ لما رمي به من التشيع وإما غيرُه، فضلاً عن الضعيف وغيره. بل يقال: إن السبب في ذلك أنه صنفه في أواخر عمره، وقد حصلت له غفلة وتغيُّر، وأنه لم ¬

_ (¬1) (1/ 35).

يتيسَّرْ له تحريره وتنقيحه، ويدل له: أن تساهله في قدر الخمس الأول منه قليل جدًّا بالنسبة لما فيه، فإنه وُجد عنده: إلى هنا انتهى إملاء الحاكم". [1/ 457] أقول: لا أرى الذنب للتشيع، فإنه يتساهل في فضائل بقية الصحابة كالشيخين وغيرهما. وفي المطبوع (ج 3 ص 156): "حدثنا الحاكم ... إملاء غرة ذي القعدة سنة اثنتين وأربعمائة". وعادته كما تقدم أن يملي في المجلس جزءًا في بضع وثلاثين صفحة من المطبوع، فقد أملى إلى نحو صفحة 190 من المجلد الثالث المطبوع، وذلك أكثر من نصف الكتاب. فأما الموضع الذي في (ج 4 ص 349) فإنما فيه: "أخبرنا ... "، وليس فيه لفظ "إملاء" ولا ذكر التاريخ. والذي يظهر لي في ما وقع في "المستدرك" من الخلل أن له عدة أسباب: الأول: حرص الحاكم على الإكثار، وقد قال في خطبة "المستدرك" (¬1): "قد نبغ في عصرنا هذا جماعة من المبتدعة يشمتون برواة الآثار بأن جميع ما يصح عندكم من الحديث لا يبلغ عشرة آلاف حديث، وهذه الأسانيد المجموعة المشتملة على ألف جزء أو أقل أو أكثر كلُّها سقيمة غير صحيحة". فكان له هوى في الإكثار للرد على هؤلاء. والثاني: أنه قد يقع له الحديث بسند عال أو يكون غريبًا مما يتنافس فيه المحدِّثون، فيحرص على إثباته. وفي "تذكرة الحفاظ" (ج 2 ص 270) (¬2): ¬

_ (¬1) (1/ 3). (¬2) (2/ 733).

"قال الحافظ أبو عبد الله [بن] (¬1) الأخرم: استعان بي السرَّاج في تخريجه على "صحيح مسلم" فكنت أتحيَّر من كثرة حديثه وحسن أصوله، وكان إذا وجد الخبر عاليًا يقول: لا بد أن نكتبه (يعني في المستخرج) فأقول: ليس من شرط صاحبنا (يعني مسلمًا) [فيقول]: فشفعني فيه". فعرض للحاكم نحو هذا كلما وجد عنده حديثًا يفرح بعلوه أو غرابته اشتهى أن يثبته في "المستدرك". الثالث: أنه لأجل السببين الأولين، ولكي يخفِّف عن نفسه من التعب في البحث والنظر، لم يلتزم أن لا يخرج ما له علة. وأشار إلى ذلك، قال في الخطبة: "سألني جماعة ... أن أجمع كتابًا يشتمل على الأحاديث المروية بأسانيد يحتج محمَّد بن إسماعيل ومسلم بن الحجاج بمثلها، إذ لا سبيل إلى إخراج ما لا علة له، فإنهما رحمهما الله لم يدعيا ذلك لأنفسهما". ولم يصب في هذا، فإن الشيخين ملتزمان أن لا يخرجا إلا ما غلب على ظنهما بعد النظر والبحث والتدبر أنه ليس له علة [1/ 458] قادحة. وظاهر كلامه أنه لم يلتفت إلى العلل البتة، وأنه يخرج ما كان رجاله مثل رجالهما، وإن لم يغلب على ظنه أنه ليس له علة قادحة. الرابع: أنه لأجل السببين الأولين توسّع في معنى قوله: "بأسانيد يحتج ... بمثلها"، فبنى على أن في رجال "الصحيحين" مَنْ فيه كلام، فأخرج عن جماعة يعلم أنَّ فيهم كلامًا. ومحل التوسُّع أن الشيخين إنما يخرجان لمن فيه كلام في مواضع معروفة: أحدها: أن يؤدّي اجتهادهما إلى أن ذاك الكلام لا يضرُّه في روايته البتة، ¬

_ (¬1) سقطت من (ط).

كما أخرج البخاري لعكرمة. الثاني: أن يؤدي اجتهادهما إلى أن ذاك الكلام إنما يقتضي أنه لا يصلح للاحتجاج به وحده، ويريان أنه يصلح لأن يحتج به مقرونًا أو حيث تابعه غيره ونحو ذلك. ثالثها: أن يريا أن الضعف الذي في الرجل خاص بروايته عن فلان من شيوخه، أو برواية فلان عنه، أو بما يُسمع منه من غير كتابه، أو بما سُمع منه بعد اختلاطه، أو بما جاء عنه عنعنة وهو مدلس ولم يأت عنه من وجه آخر ما يدفع ريبة التدليس. فيُخرجان للرجل حيث يصلح، ولا يُخرجان له حيث لا يصلح. وقصَّر الحاكم في مراعاة هذا، وزاد فأخرج في مواضع لمن لم يخرجا ولا أحدهما له، بناءً على أنه نظير مَنْ قد أخرجا له. فلو قيل له: كيف أخرجتَ لهذا وهو متكلَّم فيه؟ لعله يجيب بأنهما قد أخرجا لفلان؛ وفيه كلام قريب من الكلام في هذا. ولو وفى بهذا لهان الخطب، لكنه لم يفِ به بل أخرج لجماعة هَلْكى! الخامس: أنه شرع في تأليف "المستدرك" بعد أن بلغ عمره اثنتين وسبعين سنة وقد ضعفت ذاكرته كما تقدم عنه، وكان - فيما يظهر - تحت يده كتب أخرى يصنِّفها مع "المستدرك"، وقد استشعر قرب أجله، فهو حريص على إتمام "المستدرك" وتلك المصنفات قبل موته. فقد يتوهم في الرجل يقع في السند أنهما أخرجا له، أو أنه فلان الذي أخرجا له، والواقع أنه رجل آخر، أو أنه لم يجرح أو نحو ذلك. وقد رأيت له في "المستدرك" عدة أوهام من هذا القبيل يجزم بها، فيقول في الرجل: قد أخرج له مسلم مثلاً، مع أن

216 - محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله أبو المفضل الشيباني

مسلمًا إنما أخرج لرجل آخر [1/ 459] شبيهٍ اسمُه باسمه، ويقول في الرجل: فلان الواقع في السند هو فلان بن فلان، والصواب أنه غيره. لكنه مع هذا كلِّه لم يقع خللٌ ما في روايته, لأنه إنما كان ينقل من أصوله المضبوطة، وإنما وقع الخلل في أحكامه. فكل حديث في "المستدرك" فقد سمعه الحاكم كما هو، هذا هو القَدْر الذي تحصل به الثقة. فأما حكمه بأنه على شرط الشيخين، أو أنه صحيح، أو أن فلانًا المذكور فيه صحابي، أو أنه هو فلان بن فلان، ونحو ذلك؛ فهذا قد وقع فيه (¬1) كثير من الخلل. هذا، وذكرهم للحاكم بالتساهل إنما يخصونه بـ "المستدرك"، فكتبه في الجرح والتعديل لم يغمزه أحد بشيء مما فيها فيما أعلم. وبهذا يتبين أن التشبّث بما وقع له في "المستدرك" وبكلامهم فيه لأجله، إن كان لإيجاب التروِّي في أحكامه التي في "المستدرك" فهو وجيه، وإن كان للقدح في روايته أو في أحكامه في غير "المستدرك" في الجرح والتعديل ونحوه، فلا وجه لذلك. بل حاله في ذلك كحال غيره من الأئمة العارفين، إن وقع له خطأ فنادر كما يقع لغيره، والحكم في ذلك اطراح ما قام الدليل على أنه أخطأ فيه، وقبول ما عداه. والله الموفق. 216 - محمَّد بن عبد الله بن محمَّد بن عبد الله أبو المفضّل الشيباني: في "تاريخ بغداد" (13/ 396 [416]): "أخبرني الأزهري، حدثنا ¬

_ (¬1) الأصل: "في". [ن].

217 - محمد بن عبيد الطنافسي

أبو المفضّل الشيباني، حدثنا عبد الله بن أحمد الجصاص ... ". قال الأستاذ (ص 107): "كتبوا عنه، ثم بان كذبه، فتركوا حديثه، كما في "تاريخ الخطيب" (ج 5 ص 467) ". أقول: ذكروا أنه كان ذا هيئة وسمت حسن، يحفظ. فانتخب عليه الدارقطني سبعة عشر جزءًا، وسمعها الناس منه، وقال الدارقطني: "يشبه الشيوخ". ثم روى عن ابن العراد شيئًا، فقيل له: الأكبر أم الأصغر؟ فقال: الأكبر. فقيل له: متى سمعتَ منه؟ فقال: سنة 310. فبلغ ذلك الدارقطني، فكذَّبه في ذلك، وتركوا السماع منه. ثم فسد بعد ذلك، فانضمّ إلى الرافضة، وصار يضع لهم، على ما قال الخطيب. والأزهري الذي روى الخطيب هنا عنه [1/ 460] عن هذا الرجل هو ممن حكى القصة، فإنما روى عنه من تلك الأجزاء التي انتخبها الدارقطني. والله المستعان. (¬1) 217 - محمَّد بن عُبيد الطنافسي: قال الأستاذ في "الترحيب" (ص 37): "يقول فيه أحمد: يخطئ، ولا يرجع عن خطئه". أقول: الظاهر أن خطأه إنما كان في اللحن، فقد وُصِف بأنه يلحن. فأما الثقة، فقد وثَّقه أحمدُ نفسُه، وابن معين وابن عمار والنسائي والعجلي وابن سعد والدارقطني وغيرهم. وقال ابن المديني: "كان كيِّسًا"، واحتجَّ به الشيخان في "الصحيحين" وبقية الأئمة. وانظر ما يأتي في ترجمة ¬

_ (¬1) محمَّد بن عبد الوهاب الفراء. راجع "الطليعة" (ص 46 - 48 [34 - 36]). [المؤلف]

218 - محمد بن أبي عتاب أبو بكر الأعين

المسيّب بن واضح (¬1). 218 - محمَّد بن أبي عتّاب أبو بكر الأعْيَن: مرَّت الإشارة إلى روايته في ترجمة محمَّد بن إبراهيم بن جنَّاد (¬2). قال الأستاذ (ص 158): "لم يكن من أهل الحديث، كما قال ابن معين". أقول: هذه كلمة مجملة، وقد فسَّرها الخطيب بقوله: "يعني: لم يكن بالحافظ للطرق والعلل، وأما الصدق والضبط فلم يكن مدفوعًا عنه". وقال الإِمام أحمد: "رحمه الله تعالى، مات ولا يعرف إلا الحديث، ولم يكن صاحب كلام، وإني لأغبطه" (¬3). وذكره ابن حبان في "الثقات" (¬4)، وأخرج له مسلم في مقدمة "صحيحه" (¬5). ولروايته المشار إليها شواهد كثيرة. 219 - محمَّد بن عثمان بن أبي شيبة: جاءت عنه كلمة مرت الإشارة إلى موضعها في ترجمة راويها عنه طريف بن عبيد الله (¬6). وفي "تاريخ بغداد" (13/ 420 [450]): "أخبرنا ابن رزق، أخبرنا هبة الله بن محمَّد بن حبش الفراء، حدثنا محمَّد بن عثمان ابن أبي شيبة قال: سمعت يحيى بن معين، وسئل عن أبي حنيفة فقال: كان ¬

_ (¬1) رقم (245). (¬2) رقم (185). (¬3) "التهذيب": (9/ 335). (¬4) (9/ 95). (¬5) (1/ 17). (¬6) رقم (113).

يضعَّف في الحديث". قال الأستاذ (ص 147): "المجسِّم الكذاب، كذَّبه غير واحد" وقال (ص 168): "كذَّاب مكشوف الأمر". أقول: أما ما يسميه الأستاذ تجسيمًا، فليس مما يُجرَح به، كما مرَّ في القواعد (¬1)، وقد بسطت الكلام في قسم الاعتقاديات من هذا الكتاب. [1/ 461] وأما التكذيب، فإنه تفرَّد بنقله أحمد بن محمَّد بن سعيد ابن عُقدة, وليس بعمدة كما تقدم في ترجمته (¬2). وتقدم في ترجمة محمَّد بن الحسين (¬3) أنه لا يُقبل من ابن عُقدة ما ينقله من الجرح، ولا سيّما إذا كان في مُخالِفه في المذهب كما هنا. ويؤكد ذلك هنا أن ابن عُقدة نقل التكذيب عن عشرة مشهورين من أهل الحديث، وتفرَّد بذلك كلِّه - فيما أعلم - فلم يرو غيرُه عن أحد منهم تكذيبَ محمَّد بن عثمان. وقد كان محمَّد ببغداد وبغاية الشهرة كثير الخصوم، فتفرُّدُ ابنِ عقدة عن أولئك العشرة كافٍ لتوهين نقله. وقد كانت بين محمَّد بن عثمان ومحمد بن عبد الله بن سليمان الحضرمي مُطَيَّن مشاقَّة، ساق الخطيب بعض خبرها عن الحافظ أبي نعيم عبد الملك بن محمَّد بن عدي الجرجاني الذي توسَّط بينهما، ثم قال أبو نعيم: "ظهر لي أن الصواب الإمساكُ عن قَبولِ كلِّ واحد منهما في صاحبه" (¬4). وليس في القصة ما هو بيِّن في التكذيب. ¬

_ (¬1) (1/ 71 - 86). (¬2) رقم (33). (¬3) رقم (202). (¬4) "تاريخ بغداد": (3/ 256).

وذكر الخطيب عن حمزة السهمي أنه سأل الدارقطني عن محمَّد بن عثمان؟ فقال: "كان يقال: أخذ كتاب ابن (¬1) أبي أنس وكتبَ غيرِ محدِّث". وليس في هذا ما هو بيِّن في الجرح, لأنه لا يُدرَى من القائل؟ ولا أن محمدًا أخذ الكتب بغير حق. أو روى منها بغير حق، والحافظ العارف قد يشتري كتب غيره ليطالعها، كما كان الإِمام أحمد يطلب كتب الواقدي وينظر فيها. وقال الخطيب: "سألت البرقاني عن ابن أبي شيبة فقال: لم أزل أسمع الشيوخ يذكرون أنه مقدوح فيه". وليس في هذا ما يوجب الجرح، إذ لم يبيِّن من هو القادح، وما هو قدحه؟ وكأن ذلك إشارة إلى كلام مطيَّن ونقل ابن عقدة, وقد مرَّ ما في ذلك. وروى الخطيب عن ابن المنادي قال: "أَكثرَ الناسُ عنه، على اضطراب فيه ... كنا نسمع شيوخ أهل الحديث وكهولهم يقولون: مات حديث الكوفة بموت موسى بن إسحاق، ومحمد بن عثمان، وأبي جعفر الحضرمي وعبيد بن غنَّام". واضطرابه في بعض حديثه ليس بموجب جرحًا. وقال الخطيب أول الترجمة: "كان كثير الحديث، واسع الرواية, له معرفة وفهم ... سئل أبو علي صالح بن محمَّد عن محمَّد بن عثمان بن أبي شيبة؟ فقال: ثقة. سئل عبدان عن ابن عثمان بن أبي شيبة؟ فقال: ما علمنا إلا خيرًا". وفي "الميزان" (¬2) و"اللسان" (¬3): "قال ابن عدي: لم أر له حديثًا منكرًا، وهو على ما وصف لي عبدان لا بأس به". وفي "اللسان" [1/ 462] ¬

_ (¬1) كلمة "ابن" ليست في "التاريخ" بطبعتيه. (¬2) (5/ 88). (¬3) (7/ 340). وكلام ابن عدي في "الكامل": (6/ 295).

220 - محمد بن علي أبو جعفر الوراق، لقبه حمدان

"ذكره ابن حبان في "الثقات" (¬1) وقال: كتب عنه أصحابنا ... وقال مسلمة بن قاسم: لا بأس به، كتب الناسُ عنه، ولا أعلم أحدًا تركه". وذكر الأستاذ (ص 63) حكاية من "شرح السنة" (¬2) جاءت من طريق محمَّد بن عثمان وفيها زيادة عن خالد بن نافع، وراح الأستاذ يتكلم فيها ويحمل على محمَّد بن عثمان. فأما زيادة خالد بن نافع إن قام الدليل على بطلان ما فيها فالذنب لخالد، وأما بقية الحكاية فإنما الإيهام في سياقها، فإنه يوهم أن حمادًا شهد عند ابن أبي ليلى بعد ولايته القضاء، والذي تبيِّنه الروايات الأخرى أن حمادًا كان يذكر ذلك، ثم بعد موت حماد رفعت القضية إلى ابن أبي ليلى، وشهد ناس بمثل ما كان يذكره حماد. وليس من شرط الثقة أن لا يخطئ ولا يهم، فما من ثقة إلا وقد أخطأ، وإنما شرط الثقة أن يكون صدوقًا الغالبُ عليه الصواب، فإذا كان كذلك فما تبيَّن أنه أخطأ فيه اطُّرِحَ، وقُبِلَ ما عداه. والله الموفق. 220 - محمَّد بن علي أبو جعفر الورَّاق، لقبه حمدان: في "تاريخ بغداد" (13/ 393 [412]) من طريق أبي بكر الشافعي: "حدثنا محمَّد بن علي أبو جعفر حدثنا أبو سلمة ... ". قال الأستاذ (ص 96): "هو حمدان الوراق حنبليٌّ جَلْد من أصحاب أحمد". أقول: بحسب حمدان من الفضل أن لا يجد هذا الطَّعانُ ما يذمُّه به إلا نسبتَه إلى السنة وإمامها! والحمد لله الذي أنطق الكوثريَّ بتلك الكلمة، فإنها ¬

_ (¬1) (9/ 155). (¬2) "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" للاّلكائي (408).

221 - محمد بن علي بن الحسن بن شقيق

مما يكشف تمويه الجهمية، ويهتك الحُجُب التي سدلوها بين المسلمين وكتاب ربهم وسنة نبيهم وإمامهم الحق. ولحمدان ترجمة في "تذكرة الحفاظ" (ج 2 ص 152) (¬1) قال: "الحافظ المتقن ... قال الخطيب: كان فاضلاً حافظًا عارفًا ثقة، روى ابن شاهين عن أبيه قال: كان من نبلاء أصحاب أحمد. وقال ابن المنادي: حمدان بن علي مشهود له بالفضل والصلاح والصدق ... وقال الدارقطني: ثقة". 221 - محمَّد بن علي بن الحسن بن شقيق: راجع "الطليعة" (ص 108) (¬2). قال الأستاذ في "الترحيب" (ص 50): "أما قولي في محمَّد بن علي بن الحسن بن شقيق: ليس بالقوي؛ [1/ 463] فيكفي في إثباته إعراضُ الشيخين عن إخراج حديثه في "الصحيح" مع روايتهما عنه خارج "الصحيح"". أقول: ليس هذا بشيء. من شأنهما في "الصحيح" أن يتطلَّبا العلوّ ما وجدوا إليه سبيلاً, ولا يرضيان بالنزول إلا أن يتفق لهما حديث صحيح تشتد الحاجة إلى ذكره في "الصحيح" ولا يقع لهما إلا بنزول. فلم يتفق لهما ذلك هنا، وهذا الرجل سنُّه قريب من سنِّهما، فروايتهما عنه نزول. وهناك وجوه أخر لعدم إخراجهما للرجل في الصحيح، راجع ترجمة ¬

_ (¬1) (2/ 590 - 591). (¬2) (ص 85 - 86).

222 - محمد بن علي بن عطية أبو طالب المكي

إبراهيم بن شمّاس (¬1). ولهذا لم يلتفت المحققون إلى عدم إخراجهما، فلم يعدوا عدمَ إخراجهما الحديث دليلاً على عدم صحته، ولا عدمَ إخراجهما للرجل دليلاً على لينه. ومحمد هذا وثَّقه النسائي، والنسائي ممن قد يفوق الشيخين في التشدد كما نبَّهوا عليه في ترجمته (¬2). ووثَّقه غيره أيضًا، وروى عنه أبو حاتم، وقال: "صدوق"، وأبو زُرْعة ومن عادته أن لا يروي إلا عن ثقة، كما في "لسان الميزان" (ج 2 ص 416) (¬3). وبقيّ بن مَخْلد وهو لا يروي إلا عن ثقة، كما مرَّ في ترجمة أحمد بن سعد (¬4)، وابن خزيمة وهو لا يروي في "صحيحه" إلا عن ثقة. والله الموفق. 222 - محمَّد بن علي بن عطية أبو طالب المكي: في "تاريخ بغداد" (13/ 413 [440]) حكاية من طريقه. قال الأستاذ (ص 147): "أحد السالمية ويقول عنه الخطيب: إن له أشياء منكرة في الصفات. ثم روى عنه". أقول: عبارة الخطيب (ج 3 ص 89): "صنَّف كتابًا سماه "قوت القلوب" على لسان الصوفية، ذكر فيه أشياء منكرة مستشنعة في الصفات ... قال العتيقي: وكان رجلاً صالحًا مجتهدًا في العبادة". ¬

_ (¬1) رقم (6). (¬2) انظر "سير أعلام النبلاء": (14/ 131)، و"تهذيب الكمال": (1/ 11). (¬3) (3/ 396). (¬4) رقم (18).

223 - محمد بن علي البلخي

أقول: يراجع كتابه، فقد يكون المستنكر إنما هو من رأيه، لا روايته، فإذا كان كذلك فقد مرَّ تحقيقه في القواعد (¬1). 223 - محمَّد بن علي البلخي: في "تاريخ بغداد" (13/ 409 [435 - 436]): أخبرنا أبو حازم عمر بن أحمد بن إبراهيم العبدويّ الحافظ بنيسابور، أخبرنا محمَّد بن أحمد بن الغطريف (¬2) بجرجان، [1/ 464] حدثنا محمَّد بن علي البلخي، حدثني محمَّد بن أحمد التميمي بمصر، حدثني محمَّد بن جعفر الأسامي قال: كان أبو حنيفة يتهم شيطان الطاق ... ". حكى الأستاذ هذه العبارة (ص 135) وزاد فيها قبل محمَّد بن جعفر: "عبد الله بن" بين قوسين، يعني أن الصواب " ... بمصر حدثني عبد الله بن محمَّد بن جعفر الأسامي ... ". ثم قال: "محمَّد بن علي بن الحسين البلخي الهروي يغلب على رواياته المناكير. ومحمَّد بن أحمد التميمي العامري المصري كان كذابًا يروي نسخة موضوعة كما قال ابن يونس. وبالنظر إلى أن وفاته سنة 343 لا يكون شيخه وُلِد إلا في النصف الأخير من المائة الثالثة، فيكون بين محمَّد بن جعفر الأسامي شيخه وبين شيطان الطاق المعاصر لأبي حنيفة زمان". أقول: البلخي الذي ذكره الأستاذ يقال له: "الجَبَاخاني" توفي سنة 357، فكأنه أصغر من الغطريفي، فإن مولد الغطريفي قديم، فقد سمع من ¬

_ (¬1) (1/ 71 - 86). (¬2) في "التاريخ" زيادة "العبدي".

224 - محمد بن علي أبو العلاء الواسطي القاضي

الحسن بن سفيان المتوفى 303 ونحوه. ومحمد بن أحمد الذي تكلم فيه ابن يونس هو محمَّد بن أحمد بن عبد الله بن عبد الجبار بن هاشم بن عبد الجبار بن عبد الرحمن بن عيسى بن وردان الورداني العامري المصري، لم يذكروا أنه يقال له: "التميمي". والذي في سند الخطيب "التميمي"، وليس فيه "العامري"، والتميمي والعامري لا يجتمعان في حاقِّ النسب. زد على هذا أن العامري توفي سنة 343، فسنُّه قريب من سن الغطريفي والجباخاني. هذا وفي السند قول التميمي: "حدثني محمَّد بن جعفر الأسامي". فإن كان الأستاذ أومأ بزيادته إلى أنه عبد الله بن محمَّد بن أسامة الأسامي المذكور في "الميزان" و"اللسان"، فلا أرى العامريَّ أدركه؛ لأن عبد الله يروي عن الليث بن سعد المتوفى سنة 175 وابن لهيعة المتوفى قبل ذلك. وإن أراد أن شيخ العامري هو والد عبد الله هذا فذلك أبعد، مع أنه محمَّد بن أسامة، لا محمَّد بن جعفر. فالحاصل أننا لم نعرف التميمي ولا الأسامي، ولم نتحقق من هو البلخي؟ والله أعلم. 224 - محمَّد بن علي أبو العلاء الواسطي القاضي: تقدمت الإشارة إلى روايته في ترجمة محمَّد بن عثمان بن أبي شيبة (¬1). ¬

_ (¬1) رقم (219). ولم أجد الإشارة إلى ترجمته.

225 - محمد بن عمر بن محمد بن بهتة

قال الأستاذ (ص 147): "وهذا أيضًا في عداد المحفوظ عند النقلة في نظر الخطيب مع أنه هو الذي يقول عن أبي العلاء الواسطي: رأيت له أصولاً [1/ 465] مضطربة وأشياء سماعُه فيها مفسود: إما مصلَح بالقلم، وإما مكشوط بالسكين، وقد انفرد برواية المسلسل بأخذ اليد". أقول: أما قضية المحفوظ، فقد أجبنا عنها في ترجمة الخطيب (¬1). وأما ما وقع في أصول أبي العلاء، فالخطيب هو الذي حقَّق ذلك، فالظن به أنه انتقى من مرويات أبي العلاء ما تبيَّن له صحةُ سماعه، فذاك هو الذي يرويه عنه. وأما المسلسل فقد بيَّن أبو العلاء وهمه فيه، ورجع عنه كما ذكره الخطيب. وقال ابن حجر في "اللسان" (¬2): "الذي يظهر لي ... أنه وهم في أشياء بيَّن الخطيبُ بعضها، وأما كونه اتهم بها أو ببعضها فليس هذا مذكورًا في تاريخ الخطيب ولا غيره ... وفي الجملة فأبو العلاء لا يُعتمد على حفظه، فأمّا كونه متهمًا فلا". أقول: قد يقال: إنه اتُّهم في دعوى السماع، وإن لم يُتَّهم بالوضع. والله أعلم. 225 - محمد بن عُمر بن محمد بن بَهْتة: تقدمت الإشارة إلى روايته في ترجمة ابن عقدة (¬3). قال الأستاذ (ص 78): "شيعي لا يرضاه الخطيب". ¬

_ (¬1) (1/ 261 - 262). (¬2) (7/ 367). (¬3) رقم (33).

226 - محمد بن عمرو العقيلي الحافظ

أقول: إنما قال الخطيب: "سألت البرقاني عن ابن بَهْتة فقال: لا بأس به، إلا أنه كان يُذكر أن في مذهبه شيئًا، ويقولون: هو طالبي. قلت للبرقاني: تعني بذلك أنه شيعي، قال: نعم. أخبرنا أحمد بن محمَّد العتيقي قال: سنة 274 فيها توفي أبو الحسن محمَّد بن عمر بَهْتة في رجب وكان ثقة". فقد ثبت التوثيق ولم يثبت ما ينافيه. (¬1) 226 - محمَّد بن عَمْرو العُقيلي الحافظ: قال الأستاذ (ص 150): "ذلك المتعصب الخاسر" وقال (ص 163): "لا نستطيع أن نثق بمثل الخطيب ولا بمثل العقيلي بعد أن شاهدنا منهما ما شاهدناه". أقول: لا حرج أن نتسامح مع الأستاذ فنقول: قد كان في العقيلي تشددٌ ما، فينبغي التثبت فيما يقول من عند نفسه في مظانّ تشدُّده، فأما روايته فهي مقبولة على كل حال، وقد تقدم إيضاح ذلك في القواعد (¬2). فأما الخسران فالعقيلي بعيد عنه بحمد الله. وأما قوله: "لا نستطيع أن نثق" فليس الأستاذ بأول من غلبه هواه! 227 - [1/ 466] محمَّد بن عوف: تقدمت الإشارة إلى حكايته في ترجمة إسماعيل بن عياش (¬3). قال الأستاذ (ص 100): "مجهول, لأنه ليس أبا جعفر الطائي الحمصي الحافظ لتأخر ميلاده عن وفاة إسماعيل بن عياش". ¬

_ (¬1) محمَّد بن عمر بن وليد. راجع "الطليعة" (ص 35 - 37 [25 - 26]. [المؤلف] (¬2) (1/ 113 - 117). (¬3) رقم (52).

228 - محمد بن الفضل السدوسي المشهور بعارم

أقول: لم يتضح لي أمرُه, ولعله وقع في السند سقط (¬1)، والحكاية ثابتة من وجوه أخرى. 228 - محمَّد بن الفضل السدوسي المشهور بعارم: في "تاريخ بغداد" (13/ 392 [409 - 410]) من طريق الأبَّار عن الحسن بن علي الحُلْواني: "حدثنا يزيد بن هارون عن حماد ... ح ... الأبَّار، وحدثنا أبو موسى عيسى بن عامر، حدثنا عارم عن حماد ... ". ثم ساق الخطيب نحو ذلك من طريق إبراهيم بن الحجاج عن حماد بن زيد. قال الأستاذ (ص 94): "عارم - محمَّد بن الفضل اختلط اختلاطًا شديدًا بعد سنة 220، وعيسى بن عامر ممن سمع منه بعد ذلك". أقول: أما هذه الحكاية، فقد تابع عارمًا عليها ثقتان، كما رأيت. وأما أن سماع عيسى من عارم بعد اختلاطه فلم يثبته الأستاذ. وقد قال الدارقطني في عارم: "تغيَّر بأخرة، وما ظهر له بعد اختلاطه حديث منكر، وهو ثقة". وخالفه ابن حبان، فردَّ عليه الذهبي كما في "الميزان" (¬2). (¬3) 229 - محمَّد بن فليح بن سليمان. مرت الإشارة إلى حكايته في ترجمة سليمان بن فليح (¬4). ¬

_ (¬1) ويؤيده أنه يروي عن إسماعيل بن عياش بواسطة كما في "تفسير الطبري": (4/ 359) وابن أبي حاتم (16650). (¬2) (5/ 133). (¬3) محمَّد بن فضيل بن غزوان. راجع "الطليعة" (ص 76 - 77 [58 - 60]). وأبو هاشم الرفاعي من رجال مسلم في "صحيحه". [المؤلف] (¬4) رقم (106).

230 - محمد بن كثير العبدي

قال الأستاذ (ص 62): "يقول عنه ابن معين: إنه "ليس بثقة". أقول: روى أبو حاتم (¬1) عن معاوية بن صالح عن ابن معين: "فليح بن سليمان ليس بثقة، ولا ابنه". فسئل أبو حاتم، فقال: "ما به بأس، ليس بذاك القوي". وقد اختلفت كلمات ابن معين في فليح، قال مرة: "ليس بالقوي ولا يحتج بحديثه، هو دون الدراوردي"، وقال مرة: "ضعيف، ما أقربه من أبي أويس"، وقال مرة: "أبو أويس مثل فليح، فيه ضعف". وقال في أبي أويس: "صالح ولكن حديثه ليس بذاك الجائز"، وقال مرة: "صدوق وليس بحجة" (¬2). فهذا كله يدل أن قوله في الرواية الأولى: "ليس بثقة"، إنما أراد أنه ليس بحيث يقال له ثقة، وتزداد الوطأةُ خفةً في قوله: "ولا ابنه" فإنها أخفُّ من أن يقال في الابن: "ليس بثقة". [1/ 467] ويتأكد ذلك بأن محمَّد بن فليح روى عنه البخاري في "الصحيح"، والنسائي في "السنن". وقال الدارقطني: "ثقة". وذكره ابن حبان في "الثقات" (¬3). 230 - محمَّد بن كثير العبدي: في "تاريخ بغداد" (13/ 417 [447]) من طريق ابن أبي حاتم: "حدثني أبي قال: سمعت محمَّد بن كثير العبدي يقول: كنت عند سفيان الثوري، فذكر حديثًا، فقال رجل: حدثني فلان بغير هذا، فقال: من هو؟ قال: أبو حنيفة. قال: أحلتَني على غير مليء". ¬

_ (¬1) في "الجرح والتعديل": (8/ 59). (¬2) "تهذيب التهذيب": (9/ 406 - 407). (¬3) (7/ 440 - 441).

231 - محمد بن كثير المصيصي

قال الأستاذ (ص 161): "فيه يقول ابن معين: لا تكتبوا عنه، لم يكن بالثقة". أقول: قال الإِمام أحمد: "ثقة، لقد مات على سنة"، وقال أبو حاتم مع تشدده: "صدوق" (¬1)، وأخرج له الشيخان في "الصحيحين"، وبقية الستة. روى عنه أبو داود، وهو لا يروي إلا عن ثقة، كما تقدم في ترجمة أحمد بن سعد بن أبي مريم (¬2). وروى عنه أبو زُرْعة، ومن عادته أن لا يروي إلا عن ثقة كما في "لسان الميزان" (ج 2 ص 416) (¬3)، وقال ابن حبان في "الثقات" (¬4): "كان تقيًّا فاضلاً". وهذا كله يدل أن ابن معين إنما أراد بقوله: "ليس بالثقة" أنه ليس بالكامل في الثقة، فأما كلمة "لا تكتبوا عنه" فلم أجدها. نعم، قال ابن الجنيد عن ابن معين: "كان في حديثه ألفاظ، كأنه ضعَّفه" قال: "ثم سألته عنه فقال: لم يكن لسائل أن يكتب عنه" (¬5). وابن معين كغيره إذا لم يفسِّر الجرح وخالفه الأكثرون يرجَّح قولُهم. ولهذه الحكاية عدة شواهد عند الخطيب وغيره. 231 - محمَّد بن كثير المصيصي: تقدمت روايته في ترجمة علي بن زيد الفرائضي (¬6). ¬

_ (¬1) "الجرح والتعديل": (8/ 70). (¬2) رقم (18). (¬3) (3/ 396). (¬4) (9/ 77). (¬5) "سؤالات ابن الجُنيد" (343، 344). والعبارةُ فيه: "لم يكن يستأهل أن يُكتب عنه". ولعل ما في "التهذيب" محرفة عنها. (¬6) رقم (160).

قال الأستاذ (ص 111): "ضعَّفه أحمد جدًّا، وقال أبو حاتم: لم يكن عندي ثقة". أقول: القائل: "لم يكن عندي ثقة" هو أحمد أيضًا، لا أبو حاتم، وقال أحمد عقبها: "بلغني أنه قيل له: كيف سمعت من مَعْمَر؟ قال: سمعت منه باليمن، بعث بها إليَّ إنسان من اليمن". فهذه حجة أحمد، حَمَل الحكاية على أن محمَّد بن كثير لم يسمع من معمر، وإنما بعث إليه إنسان بصحيفة من اليمن فيها أحاديث عن معمر، فظن محمَّد بن كثير أن ذلك يقوم مقام السماع من معمر. وليس هذا بالبيِّن، إذ قد يكون مراده: "سمعت منه باليمن وتركت أصلي باليمن ثم بعث به إليّ". فأما أبو حاتم فإنما قال: "كان رجلاً صالحًا سكن المِصِّيصة، وأصله [1/ 468] من صنعاء اليمن، كان في حديثه بعض الإنكار". وقال أيضًا: "سمعت الحسن بن الربيع يقول: محمَّد بن كثير اليوم أوثق الناس، وينبغي لمن يطلب الحديث لله تعالى أن يخرج إليه، كان يكتب عنه وأبو إسحاق الفزاري حي، وكان يُعرف بالخير مذ كان" (¬1). وقال ابن الجنيد عن ابن معين: "كان صدوقًا" (¬2). وقال عبيد بن محمَّد الكَشْوَري عن ابن معين: "ثقة". وقال ابن سعد: "كان ثقة، ويذكرون أنه اختلط في أواخر عمره" (¬3). وقال ابن حبان في "الثقات": "يخطئ ويُغرب" (¬4). وقال أبو داود: "لم يكن ¬

_ (¬1) "الجرح والتعديل": (8/ 69 - 70). (¬2) "سؤالاته" (342). (¬3) "الطبقات": (9/ 495). (¬4) (9/ 70).

يفهم الحديث". وقال أبو حاتم: "دُفِعَ إلى محمَّد بن كثير كتاب من حديثه عن الأوزاعي، فكان يقول في كل حديث منها: ثنا محمَّد بن كثير عن الأوزاعي"! وقال الذهبي: "هذا تغفيل يسقط الراوي به". أقول: أما السقوط فلا، وقد انتقدوا عليه أحاديث ذكرها الذهبي في "الميزان" (¬1): الأول: روى عن الثوري عن إسماعيل عن قيس عن جرير: أظنه - شك ابن كثير - فذكر حديثًا. قالوا: الصواب بالسند: عن قيس عن دُكَين. وقد شكَّ محمَّد بن كثير، وبيَّن شكَّه، وليس من شرط الثقة أن لا يشك. الثاني: حديث في قراءة (يس) رفعه محمَّد بن كثير، وصوَّبوا أنه مرسل، وهذا خطأ هيِّن يُحتمل للمكثر. الثالث: حديث رواه عن الأوزاعي عن ابن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعًا: "إذا وطئ أحدكم الأذى بخفَّيه ... ". رواه هكذا أبو داود من طريق محمَّد بن كثير، ورواه آخرون عن الأوزاعي قال: أُنبئت أن سعيد المقبري حدَّث عن أبيه ... ". وليس في هذا ما يقطع به بالوهم، فإن كان وهِمَ فمثلُه يُحتمَل للمكثر؛ لأن الأوزاعي ممن (¬2) يروي عن ابن عجلان عن سعيد المقبري. الرابع: أخرج الترمذي (¬3) عن الحسن بن الصباح عن محمَّد بن كثير ¬

_ (¬1) (5/ 143 - 144). (¬2) (ط): "مما". (¬3) (3664).

232 - محمد بن محمد بن سليمان الباغندي وأبوه

- زاد في بعض النسخ: العبدي (؟) - عن الأوزاعي عن قتادة عن أنس قال: رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر وعمر، فقال: هذان سيدا كهول الجنة ... ". قال الترمذي: "حسن غريب من هذا الوجه"، ثم أخرجه من حديث علي (¬1). وهذا الحديث ذُكر في "الميزان" (¬2) و"التهذيب" (¬3) في ترجمة [1/ 469] محمَّد بن كثير المِصِّيصي، وأنه أُنكِر عليه، ذُكر لابن المديني فقال: "كنت أشتهي أن أرى هذا الشيخ، فالآن لا أحِبُّ أن أراه". وأحسب أبا حاتم وابن حبان إنما أشارا إلى هذا الحديث، إذ قال الأول: "في حديثه بعض الإنكار"، وقال الثاني: "يُغرب". والحديث مذكور من حديث علي رضي الله عنه، ووَهْمُ محمَّد بن كثير في إسناده لا يُسقطه، بل حقُّه أن يُتَّقَى ما يظهر أنه وهِمَ فيه، ويُحتَجُّ به فيما توبع عليه، ويُنظَر فيما تفرَّد به، وليس بمنكر. والله أعلم. 232 - محمَّد بن محمَّد بن سليمان الباغندي وأبوه: في "تاريخ بغداد" (13/ 371 [372 - 373]): "أخبرني الحسن بن محمَّد الخلّال، حدثنا محمَّد بن العباس الخزّاز - وأخبرنا محمَّد بن أحمد [بن محمَّد] بن حسنون النَّرْسي، أخبرنا موسى بن عيسى بن عبد الله السراج = قالا: حدثنا محمَّد بن محمَّد الباغندي، حدثنا أبي قال: كنت عند عبد الله بن الزبير، فأتاه كتاب أحمد بن حنبل: اكتب إليّ بأشنع مسألة عن أبي حنيفة، فكتب إليه: حدثني الحارث بن عُمير قال: سمعت أبا حنيفة ¬

_ (¬1) (3665). (¬2) (5/ 144). (¬3) (9/ 416).

يقول .. ". قال الأستاذ (ص 37): " ... قال الدارقطني: كان كثير التدليس، يحدِّث بما لم يسمع، وربما سرق اهـ ... وكان إبراهيم بن الأصبهاني يكذِّبه، وكان الأبُ يكذِّب الابنَ، والابنُ الأبَ، وكثير من أهل النقد يصدِّقهما في تكذيب أحدهما الآخر ... ومن الدليل على بطلان الخبر من أساسه أن الحميدي مكيّ لم يجالس أصحاب أبي حنيفة ولا درس فقهه، وأحمد عراقي تفقه على أصحاب أبي حنيفة، فمثلُ أحمد العراقي لا يسأل الحميديَّ المكي ... ". أقول: أما خبر تكذيب كلٍّ منهما الآخر، فرواه الخطيب (¬1) عن أبي العلاء محمَّد بن علي الواسطي - وقد تقدمت ترجمته (¬2) - عن عبد الله بن إبراهيم الزبيبي (¬3) قال: قال أبو بكر أحمد بن أبي الطيب المؤدب ... وأبو بكر هذا لم أظفر بترجمته، فإن صحت الحكاية فالظاهر أن الأب إنما أنكر على الابن شدة التدليس الذي صُورتُه كذبٌ كما يأتي. فأما كلمة الابن، ففَلْتة لسان عند سَورة غضب، فلا يُعتدّ بها. والأب ذَكَره ابنُ حبان في "الثقات" (¬4). وحكى السلمي عن الدارقطني أنه قال: "لا بأس به" (¬5). وقال ¬

_ (¬1) (2/ 394). (¬2) رقم (224). (¬3) وقع في "التاريخ": "الزيني"، وهو تصحيف. [المؤلف] (¬4) (9/ 149). (¬5) انظر "الميزان": (5/ 17)، و"اللسان": (7/ 173). وفي "سؤالات السلمي" (ص 284) إنما ذكر ابنه محمَّد بن محمَّد بن سليمان الباغندي، ووقع في النسخة المختصرة "محمَّد بن سليمان الباغندي" وليس فيهما قوله "لا بأس به".

الخطيب: "مذكور بالضعف، ولا [1/ 470] أعلم لأية علةٍ ضُعِّفَ، فإن رواياته كلها مستقيمة ولا أعلم في حديثه منكرًا" (¬1). أقول: لعل ابن أبي الفوارس إنما ضعَّفه لأنه قد يخطئ، كما وقع في هذه الحكاية، جعلها من رواية الحميدي عن الحارث بن عمير، والصواب: الحميدي عن حمزة بن الحارث بن عمير عن أبيه، كما قاله حنبل بن إسحاق. وأما الابن، فقال الإسماعيلي: "لا أتهمه، ولكنه خبيث التدليس". وقال ابن مظاهر: "هذا رجل لا يكذب، ولكن يحمله الشَّرَهُ على أن يقول: حدَّثَنا". وروى الخطيب من طريق عمر بن الحسن بن علي - وقد تقدمت ترجمته (¬2) - قال: "سمعت أبا عبد الله محمَّد بن أحمد بن أبي خيثمة، وذُكِر عنده أبو بكر محمَّد بن محمَّد بن سليمان الباغندي، فقال: ثقة كثير الحديث، لو كان بالموصل لخرجتم إليه، ولكنه منطرح إليكم ولا تريدونه". جزم الذهبي في "التذكرة" (¬3) و"الميزان" (¬4) - وتبعه ابن حجر في "اللسان" (¬5) - بنسبة هذه الكلمة إلى محمَّد بن أحمد [بن] أبي خيثمة بناء على الوثوق بعمر بن الحسن، وقد مرت ترجمته. وقال الحاكم عن ابن المظفر: "الباغندي ثقة إمام، لا يُنكر منه إلا التدليس، والأئمة دلَّسوا". وقال ¬

_ (¬1) "تاريخ بغداد": (2/ 294). (¬2) رقم (170). (¬3) (2/ 736). (¬4) (5/ 152). (¬5) (7/ 473).

الخطيب: "لم يثبت من أمر ابن الباغندي ما يعاب به سوى التدليس ورأيت كافة شيوخنا يحتجُّون بحديثه ويخرجونه في الصحيح" (¬1). وقال الذهبي بعد أن حكى كلمة ابن الأصبهاني: "بل هو صدوق من بحور الحديث". وقال ابن حجر في "طبقات المدلسين" (ص 15): "مشهور بالتدليس مع الصدق والأمانة". أقول: هي قضية واحدة أطلق بعضهم أنها كذب، وبعضهم أنها تحديث بما لم يسمع، وبعضهم أنها تدليس خبيث. وهو أنه كان يطلق فيما أخذه من ثقة عن أبي بكر بن أبي شيبة مثلاً: "حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة"! وإذ قد عُرف اصطلاحه في هذا، فليس بكذب. وفي "فتح المغيث" (ص 75) (¬2) نظائر قال: "كقول الحسن البصري: خَطَبَنا ابنُ عباس، وخطبنا عُتبة بن غزوان؛ وأراد أهلَ البصرة بلده، فإنه لم يكن بها حين خُطْبتهما. ونحوه في قوله: ثنا أبو هريرة. وقول طاوس: قدم علينا معاذ اليمن، وأراد أهل بلده فإنه لم يدركه". وقال قبل ذلك: "بل وُصِف به من صرَّح بالإخبار في الإجازة كأبي نُعيم، والتحديث في الوجادة كإسحاق بن راشد الجَزَري، وكذا فيما لم يسمعه كفِطْر بن خليفة ... وقال ابن عمار عن [1/ 471] القطان: كان فِطْرٌ صاحبَ ذي: سمعتُ، سمعتُ. يعني أنه يدلِّس فيما عداها". ولا شبهة في جواز مثل هذا لغةً، إذا كانت هناك قرينة، وقد خاطب الله ¬

_ (¬1) "التاريخ": (3/ 431). (¬2) (1/ 226).

تعالى اليهود في عصر محمد - صلى الله عليه وسلم - بقوله: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} [البقرة: 49] الآيات، وفيها: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى} [البقرة: 55]. وفي "الصحيح" (¬1) عن السائب بن يزيد: "كنا نؤتَى بالشارب في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... ". قال ابن حجر في "الفتح" (¬2): "فيه إسنادُ القائلِ الفعلَ بصيغة الجمع التي يدخل هو فيها مجازًا ... لأن السائب كان صغيرًا جدًّا ... فكأن مراده بقول: كنا، أي الصحابة". وكثيرًا ما يقع في أشعار العرب: "قتلنا فلانًا" وفعلنا وفعلنا، والفاعل غيره من قومه، فإذا كانت هناك قرينة تنفي الحقيقة أو تدافع ظهورَ الكلمة فيها خرجَتْ عن الكذب. ومن القرينة أن يُعرَف عن الرجل أنه ممن (¬3) يستعمل هذا، وإن لم تكن هناك قرينة خاصة، اتكالاً على هذه القرينة العامة، وهي أنه ممن يستعمل ذلك. وأما قول الدارقطني: "ربما سرق" فكأنه أراد بها أنه قد يقول: "حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة" مثلاً فيما لم يسمعه من أبي بكر ولا ممن سمعه من أبي بكر، وإنما وجده في كتاب رجل سمعه من أبي بكر. وكأنّ الدارقطني أخذ هذا من قصةٍ حكاها عن ابن حِنْزابة، وليست بالبيِّنة في ذلك. وهَبْ أن ذلك صح، فالوجادة صحيحة من طرق التحمل، فآل الأمر إلى التدليس. وقد دلت استقامة حديث الباغندي وخلوّه عن المناكير على أنه كان لا يدلِّس إلا فيما لا شبهة في صحته عمن يسمِّيه فلا يقول مثلاً: "حدثنا أبو بكر ¬

_ (¬1) (6779). (¬2) (12/ 68). (¬3) الأصل: "مما" في هذا الموضع والذي بعده.

233 - محمد بن المظفر بن إبراهيم أبو الفتح الخياط

ابن أبي شيبة" إلا فيما يستيقن أن أبا بكر ابن أبي شيبة حدَّث به، فهذا تحقيق حاله. أما قول الأستاذ: "ومن الدليل على بطلان الخبر ... "، فليس بشيء لأن غالب الكلمات المستشنعة من أبي حنيفة كانت منه إذ كان بمكة في أوائل أمره، كما يُعْلَم من تتبُّع الحكايات، وكان الحميدي تتبَّع ذلك. وأصحابُ أبي حنيفة الذين سمع منهم أحمدُ شيئًا في بدء أمره - وقد تقدم النظر في ذلك في ترجمته - كان أدبهم يمنعهم من الإخبار عن شيخهم بما يُسْتشنَع، ولا سيما إذا علموا أن ذلك كان في أول أمره، ثم رجع أو كف عنه. والله المستعان. (¬1) 233 - [1/ 472] محمَّد بن المظفّر بن إبراهيم أبو الفتح الخياط: تقدمت الإشارة إلى روايته في ترجمة محمَّد بن علي بن عطية (¬2). قال الأستاذ (ص 148): "لا يعرفه أحد سوى الخطيب، ولا روى عنه أحد سواه". أقول: بنى هذه المجازفة على قول الخطيب في ترجمة هذا الرجل: "كتبتُ عنه في سنة 413، وهو شيخ صدوق كان يسكن دار إسحاق، ولا أعلم كتب عنه أحد غيري". ويكفي هذا الرجلَ روايةُ الخطيب وتصديقُه. ¬

_ (¬1) محمَّد بن مسلمة. راجع "الطليعة" (ص 87 - 89 [68 - 69]. [المؤلف] (¬2) رقم (222).

234 - محمد بن معاوية الزيادي

234 - محمَّد بن معاوية الزيادي: تقدمت الإشارة إلى روايته في ترجمة زكريا بن يحيى الساجي (¬1). قال الأستاذ (ص 18): "والزيادي ممن أعرض عنهم الأئمة الستة في أصولهم، وعادة ابن حبان في التوثيق معروفة". أقول: قد قدَّمنا مرارًا أن كونهم لم يُخرجوا للرجل ليس بدليل على وَهْنه عندهم، ولا سيّما مَن كان سنُّه قريبًا من سنَّهم وكان مقلًّا كهذا الرجل؛ فإنهم كغيرهم من أهل الحديث إنما يُعْنَون بعلوِّ الإسناد ولا ينزلون إلا لضرورة. وقد روى النسائي عن هذا الرجل في "عمل اليوم والليلة" (¬2)، وقال في "مشيخته" (¬3): "أرجو أن يكون صدوقًا، كتبتُ عنه شيئًا يسيرًا". وإنما قال: "أرجو ... "؛ لأنه إنما سمع منه شيئًا يسيرًا ولم يتفرغ لاختباره لاشتغاله بالسعي وراء مَن هم أعلى منه إسنادًا ممن هم في طبقة شيوخ هذا الرجل. وقد قال مَسلمة بن قاسم: "ثقة صدوق". وقال ابن حبان في "الثقات" (¬4): "كان صاحب حديث". فدلَّ هذا أنه قد عرفه حقَّ معرفته. وقد قدَّمنا في ترجمة ابن حبان (¬5) أن مثل هذا من توثيقه توثيق مقبول، بل قد يكون أثبت من توثيق كثير من الأئمة؛ لأن ابن حبان كثيرًا ما يتعنَّت في الذين يعرفهم، ولم يغمزه أحد. ¬

_ (¬1) رقم (94). (¬2) (10222) ضمن "السنن الكبرى". (¬3) (ص 99). (¬4) (9/ 98). (¬5) رقم (200).

235 - محمد بن موسى البربري

235 - محمَّد بن موسى البربري: في "تاريخ بغداد" (13/ 374 [378 - 389]) من طريق يعقوب بن سفيان قال: "حدثنا سليمان بن حرب"، ثم من طريق البربري هذا: "حدثنا ابن الغلَابي عن سليمان بن حرب قال: حدثنا حماد بن زيد ... ". وقد تقدمت الحكاية مع بعض المتابعات في ترجمة طلق بن حبيب (¬1). قال الأستاذ (ص 43): "قال عنه الدارقطني: إنه لم يكن بالقوي. ولم يكن يحفظ غير حديثين أحدهما موضوع عند الأكثرين". [1/ 473] أقول: كلمة الدارقطني تعطي أنه قويّ في الجملة، كما مرَّ في ترجمة الحسن بن الصباح (¬2)، وأما الحفظ فليس بشرط، كان علم الرجل في كتبه ومنها يروي، وذلك أثبت من الحفظ. والحديث الذي زعم الكوثري أنه موضوع، هو حديث الطير، وقد تقدمت الإشارة إليه في ترجمة عبد الله بن محمَّد بن عثمان ابن السقاء (¬3)، وأهل الحديث يروونه قبل أن يُخلقَ البربري بزمان طويل، فأيُّ شيء عليه إذا رواه؟ فأما حفظه له، فكأنه لأن الناس كانوا يُكثرون من السؤال عنه. ومع هذا فقد توبع البربري في هذه الحكاية كما رأيت. 236 - محمَّد بن ميمون أبو حمزة السُّكَّري: في "تاريخ بغداد" (13/ 394 [412]) من طريق "إسحاق بن راهويه ¬

_ (¬1) رقم (114). (¬2) رقم (76). (¬3) ذكره المؤلف بعد رقم (133) في الهامش، وأحال على "الطليعة" (ص 36 - 37).

237 - محمد بن نصر بن مالك

حدثني أحمد بن النضر قال: سمعت أبا حمزة السكري يقول: سمعت أبا حنيفة ... ". قال الأستاذ (ص 97): "مختلط, وإنما روى عنه من روى من أصحاب الصحاح قبل الاختلاط". أقول: لم يختلط، وإنما قال النسائي: "ذهب بصره في آخر عمره، فمن كتب عنه قبل ذاك فحديثه جيد". وإنما يُخشى منه بعد عماه أن يحدِّث من حفظه بالأحاديث التي تطول أسانيدها وتشتبه فيخطئ، وليس ما هنا كذلك. فأما ذِكْر ابن القطان الفاسي له فيمن اختلط، فلم يعرف له مستند غير كلام النسائي (¬1)، وقد علمتَ أن ذلك ليس بالاختلاط الاصطلاحي. 237 - محمَّد بن نصر بن مالك: " تاريخ بغداد" (13/ 412 [439]): "أخبرني الحسن بن أبي طالب، أخبرنا محمَّد بن نصر بن [أحمد بن نصر بن] مالك، حدثنا أبو الحسن علي بن إبراهيم النجاد ... ". قال الأستاذ (ص 144): "ذلك الكذاب صاحب التسميع الطري ... ". أقول: قال الأزهري: "حضرت عند محمَّد بن نصر بن مالك، فوجدته على حالة عظيمة من الفقر والفاقة، وعرض عليَّ شيئًا من كتبه لأشتريه. ثم انصرفت من عنده، وحضرت عند أبي الحسن ابن رزقويه فقال لي: ألا ترى ابن مالك؟ جاءني بقطعة من كتب [ابن] أبي الدنيا، قال: اشترِها منِّي، فإن ¬

_ (¬1) وحيثما ذكره في "بيان الوهم والإيهام": (4/ 159 - 160) إنما ذكر عبارة النسائي هذه.

238 - محمد بن يعلى زنبور

فيها سماعك معي ... قال الأزهري: فنظرت في تلك الكتب، وقد سمَّع فيها ابن مالك بخطِّه لابن رزقويه تسميعًا طريًّا". فهذا الرجل إنما خلط بأخرة لعِظَم ما نزل به. [1/ 474] والحكاية التي رواها الخطيب من طريقه، راويها عنه من المتثبّتين الذين كانت عادتهم أن لا يسمعوا من الرجل إلا من أصوله الموثوق بها. (¬1) 238 - محمَّد بن يعلى زُنبور: في "تاريخ بغداد" (13/ 375 [381]) من طريقه: "سمعت أبا حنيفة يقول: قدمتْ علينا امرأةُ جهم بن صفوان فأدَّبتْ نساءنا". قال الأستاذ (ص 48): "قال البخاري عنه: ذاهب الحديث. و [قال] النسائي: ليس بثقة. و [قال] أبو حاتم: متروك. و [قال] أحمد بن سنان: كان جهميًّا. ومن المقرر عند أهل النقد أن رواية المبتدع لا تقبل فيما يؤيد به بدعته ... على أنه مات سنة 204، فيصغر عن إدراك ما يمكن أن يتصور حدوثه في أواخر الدولة الأموية". أقول: قد وثَّقه أبو كريب، وذكره ابن حبان في "الثقات" (¬2) وقال: "لا يجوز الاحتجاج به فيما خالف فيه الثقات". والظاهر أنهم شدَّدوا عليه لبدعته، وروايةُ المبتدع قد تقدّم النظرُ فيها في القواعد (¬3)، وروايته هذه لها شواهد تدل أن للقصة أصلاً. والمنقول أنه توفي سنة 205، ولم يحك أنه ¬

_ (¬1) محمَّد بن يحيى بن أبي عمر العدني. راجع "الطليعة" (ص 72 - 73 [55 - 56]). [المؤلف] (¬2) بل في "المجروحين": (2/ 267 - 268). (¬3) (1/ 71 - 86).

239 - محمد بن يوسف الفريابي

شاهد القصة حتى يقال: إنه يَصْغُر عن إدراكها، إنما حكى قول أبي حنيفة وقد أدركه وسمع منه وروى عنه. 239 - محمَّد بن يوسف الفريابي: في "تاريخ بغداد" (13/ 412 [440]) من طريقه: "كنا في مجلس سعيد بن عبد العزيز بدمشق ... ". قال الأستاذ (ص 146): "ذلك الرجل الصالح الذي سكن عسقلان مرابطًا ... وكان يأمر أهل الثغر بالاستثناء في كل شيء ... وكان بالغ العِداء للمرجئة الذين لا يستثنون في الإيمان ... ". أقول: الإرجاء والاستثناء قد تعرضتُ لهما في قسم الاعتقاديات (¬1). والمخالفةُ في المذهب قد تقدمَّ النظر فيها في القواعد (¬2)، واتضح أنها لا تقدح في الرواية كما لا تُرَدُّ بها الشهادة. والفريابي ثقة ثبت فاضل، لا يتهمه إلا مخذول. 240 - محمَّد بن يونس الجمال: في "تاريخ بغداد" (13/ 416 [446]) من طريقه: "سمعت يحيى بن سعيد يقول: سمعت شعبة يقول: كفٌّ من تراب خير من أبي حنيفة". قال الأستاذ [1/ 475] (ص 159): "قال محمَّد بن الجهم: هو عندي متهم، قالوا: كان له ابن يدخل عليه الأحاديث. وقال ابن عدي: ممن يسرق حديث الناس ... ". ¬

_ (¬1) (2/ 555 - 577). (¬2) (1/ 87 - 98).

241 - محمد بن يونس الكديمي

أقول: محمَّد بن الجهم هو السِّمَّري صدوق وليس من رجال هذا الشأن، وقوله: "قالوا: كان له ابن ... " لم يبيِّن من القائل. وابن عدي إنما رماه بالسرقة لحديثٍ واحد رواه عن ابن عيينة، فذكر ابن عدي (¬1) أنه حديث حسين الجعفي عن ابن عيينة، يعني أنه معروف عندهم أنه تفرَّد به حسين الجعفي عن ابن عيينة. وحسين الجعفي ثقة ثبت، فالحديث ثابت عن ابن عيينة، وقد سمع الجمال من ابن عيينة، فالحكم على الجمال بأنه لم يسمعه وإنما سرقه ليس بالبيِّن. لكن لم أر من وثَّق الجمال، فهو ممن يُستشهد به في الجملة. والله أعلم. 241 - محمَّد بن يونس الكُدَيمي: مرت الإشارة إلى روايته في ترجمة ضرار بن صرد (¬2). قال الأستاذ (ص 60): "متكلَّم فيه. راجع "ميزان الاعتدال"". أقول: الكديمي ليس بعمدة، وقد توبع على روايته المذكورة كما تقدم، ومرّ له ذِكْر في ترجمة سفيان الثوري (¬3). 242 - محمود بن إسحاق بن محمود القوّاس: في "تاريخ بغداد" (13/ 411 [438]): "أخبرني محمَّد بن عبد الملك القرشي، أخبرنا أحمد بن محمَّد بن الحسين الرازي، حدثنا ¬

_ (¬1) في "الكامل": (6/ 280). (¬2) رقم (112). (¬3) رقم (98).

243 - مسدد بن قطن

محمود بن إسحاق بن محمود القواس ببخارى (¬1) قال: سمعت أبا عمرو حريث (¬2) بن عبد الرحمن ... ". قال الأستاذ (ص 42): "لا نثق بالقواس وصاحبه". أقول: إذا كان أهل العلم قد وثَّقوهما وثبَّتوهما, ولم يتكلم أحد منهم فيهما، فماذا ينفعك أن تقول: لا نثق بهما؟ ومحمود هو صاحب الإِمام أبي عبد الله محمَّد بن إسماعيل البخاري، روى عنه "جزء رفع اليدين"، و"جزء القراءة خلف الإِمام"، وهو آخر من روى عنه ببخارى كما في "مقدمة الفتح" (¬3). والراوي عنه هو الحافظ البصير، ترجمته في "تذكرة الحفاظ" (ج 3 ص 218) (¬4) والحكاية تتعلق بالطلاق قبل النكاح، وقد نظرتُ فيها في قسم الفقهيات. 243 - مسدَّد بن قَطَن: في "تاريخ بغداد" (13/ 413 [442]) من طريق الحاكم: "سمعت أبا جعفر محمَّد بن صالح بن هانئ يقول: حدثنا مسدّد بن قَطَن، حدثنا محمَّد بن أبي عتاب [1/ 476] الأعيَن، حدثنا علي بن جرير الأبيوردي ... ". قال الأستاذ (ص 149): "ليس بأحسن حالاً من أبيه السابق ذكره". أقول: قد تقدمت ترجمة أبيه (¬5)، والنظر فيما قيل فيه، ولا شأن له بهذه ¬

_ (¬1) (ط): "بخاري" خطأ. (¬2) في (ط): "وحريث" خطأ. (¬3) (ص 492). (¬4) (3/ 1028). (¬5) رقم (181).

244 - مسلم بن أبي مسلم

الرواية. فأما مسدَّد، فترجمته في "تاريخ نيسابور"، وفيها كما في "مرآة الجنان" (¬1) و"الشذرات" (¬2): "كان مربِّي (¬3) عصره والمقدَّم في الزهد والورع", ولم يتكلم فيه أحد. وروايته هذه قد صحَّت عن علي بن جرير من عدَّة أوجه، كما تقدم في ترجمة علي بن جرير (¬4)، وما فيها من ترك ابن المبارك الرواية عن أبي حنيفة بأخرة، قد ثبت من عدة وجوه أخرى. (¬5) 244 - مسلم بن أبي مسلم: في "تاريخ بغداد" (13/ 385 [399]) من طريق "الحسن بن الوضاح المؤدب، حدثنا مسلم بن أبي مسلم الحرفي (¬6) (؟)، حدثنا أبو إسحاق الفزاري ... ". قال الأستاذ (ص 72): "مسلم بن أبي مسلم عبد الرحمن الجَرْمي وثَّقه الخطيب، لكن في "اللسان" أنه ربما يخطئ. وقال البيهقي: غير قوي. وقال ¬

_ (¬1) (2/ 177). (¬2) (4/ 9). (¬3) كذا في الأصل والمصادر التي نقل عنها المؤلف! وصوابه "مُزَنيّ عصره" كما في "الشذرات" الطبعة المحققة، والكلام للحاكم نقله الذهبي في "العبر": (1/ 439). (¬4) رقم (159). (¬5) مسعود بن شيبة. راجع "الطليعة" (ص 94 [74]). وتقدم له ذكر في ترجمة الإِمام محمَّد بن إدريس الشافعي [رقم 189]. [المؤلف]. (¬6) كذا في (ط)، وفي "التاريخ" الطبعة القديمة بالقاف، وصوابه "الجَرْمي" كما في الطبعة المحققة من "التاريخ": (15/ 530). ووضع المؤلف علامة الاستفهام عقبه كعادته دلالة على شكّه في الكلمة.

أبو الفتح الأزدي: حدَّث بأحاديث لا يتابَع عليها". أقول: ذكره ابن حبان في "الثقات" (¬1): "مسلم بن أبي مسلم الجرمي سكن بغداد، يروي عن يزيد بن هارون ومخلد بن الحسين، ثنا عنه الحسن بن سفيان وأبو يعلى، ربما أخطأ، مات سنة أربعين ومائتين". وقد قدَّمنا في ترجمة ابن حبان (¬2) أنّ توثيقه لمن قد عرفه من أثبت التوثيق. وقوله: "ربما أخطأ" لا ينافي التوثيق، وإنما يظهر أثر ذلك إذا خالف من هو أثبت منه. فأما أبو الفتح محمَّد بن الحسين الأزدي، فليس في نفسه بعُمْدة حتى لقد اتهموه بوضع الحديث، ومع ذلك فليس من شرط الثقة أن يتابَع في كل ما حدَّث به، وإنما شرطه أن لا يتفرد بالمناكير عن المشاهير فيكثر. والظاهر أن الأزدي إنما عنى الحديث الذي ذكره البيهقي، وهو ما رواه مسلم هذا عن مخلد بن الحسين عن هشام بن حسان عن ابن سيرين عن أبي هريرة مرفوعًا: "لا يقل أحدكم: زَرَعتُه، ولكن ليقل: حَرَثتُه". قال أبو هريرة: ألم تسمع [1/ 477] إلى قول الله: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة: 63 - 64]. وهذا الحديث أخرجه ابن جرير (¬3) في تفسير سورة الواقعة عن ¬

_ (¬1) (9/ 158). (¬2) رقم (200). (¬3) (22/ 348).

245 - المسيب بن واضح

أحمد بن الوليد القرشي عن مسلم. وفي "اللسان" (¬1) أن البيهقي أخرجه في "شعب الإيمان" (¬2) من وجهين [عنه]، وقال: إن مسلمًا غير قوي. ولعل ابن حبان إنما أشار بقوله: "ربما أخطأ" إلى هذا الحديث، حَمَله على أن الصواب موقوف، وأخطأ مسلم في رفعه. ومسلم مكثر في التفسير، كما يُعلم من "تفسير ابن جرير". فإنْ ترجَّحَ خطاؤه في هذا الحديث الواحد لم يضرَّه ذلك إن شاء الله. وابن حبان والخطيب أعرف بالفن ودقائقه من البيهقي. 245 - المسيّب بن واضح: ذكر الأستاذ (ص 75) رواية محبوب بن موسى عن يوسف بن أسباط "قال أبو حنيفة: لو أدركني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو أدركته - لأخذ بكثير من قولي". ثم قال: "وفي الطبعة الهندية والمخطوطة بدار الكتب المصرية زيادة سوق الخبر بسند آخر ... عن المسيب بن واضح عن يوسف بن أسباط إلى آخره"، ثم قال: "يقول أبو حاتم عن المسيب بن واضح: صدوق يخطئ كثيرًا، فإذا قيل له: لم يقبل اهـ. ومثله يكون مردود الرواية, وقد ضعَّفه الدارقطني وابن الجوزي". أقول: ذكر الخطيب في "الكفاية" (ص 143 - 147) ما يتعلق بخطأ الراوي وبعدم رجوعه، فذكروا أنه يُرَدُّ روايةُ من كان الغالب عليه الغلط، ومن يغلط في حديث مجتمع عليه، فيُنْكَر عليه، فلا يرجع. ومعلوم من ¬

_ (¬1) (8/ 56). (¬2) رقم (4851، 4852).

تصرفاتهم ومن مقتضى أدلتهم أن هذا حكم الغلط الفاحش الذي تعظم مفسدته. فلا يدخل ما كان من قبيل اللحن الذي لا يُفسد المعنى، ومن قبيل ما كان يقع من شعبة من الخطأ في الأسماء، وما كان يقع من وكيع وأشباه ذلك. وكما وقع من مالك، كان يقول في عمرو بن عثمان: "عمر بن عثمان"، وفي معاوية بن الحكم: "عمر بن الحكم"، وفي أبي عبد الله الصُّنابحي: "عبد الله الصنابحي". وقد جاء عن معن بن [1/ 478] عيسى أنه ذكر ذلك لمالك، فقال مالك: "هكذا حفظنا، وهكذا وقع في كتابي، ونحن نخطئ، ومن يسلم من الخطأ؟ ". فلم يرجع مالك مع اعترافه باحتمال الخطأ. فكلمة أبي حاتم في المسيّب لا تدل على أنه كان الغالب عليه، ولا أن خطأه كان فاحشًا, ولا أنه بُيِّن له في حديث اتفاق أهل العلم على تخطئته فلم يرجع. وقد قال أبو عَروبة في المسيّب: "كان لا يحدَّث إلا بشيء يعرفه يقف عليه". وهذا يُشعر بأن غالب ما وقع منه من الخطأ ليس منه بل ممن فوقه، فكان يثبت على ما سمع قائلاً في نفسه: إنْ كان خطأ فهو ممن فوقي، لا منِّي. وفي "الميزان" (¬1) و"اللسان" (¬2) عن ابن عدي (¬3) أنه ساق الأحاديث التي تُنتقد على المسيب ثم قال: "أرجو أن باقي حديثه مستقيم، وهو ممن ¬

_ (¬1) (5/ 241). (¬2) (8/ 69). (¬3) "الكامل": (6/ 387 - 389).

يُكتب حديثه". وذكر في "الميزان" أربعة أحاديث، إما أن تكون هي جميع ما ذكره ابن عدي (¬1)، وإما أن يكون الذهبي رأى الأمر فيما عداها محتملًا. الأول: رواه المسيب عن يوسف بن أسباط، ويوسف ربما أخطأ في الأسانيد. الثاني: حديث رواه ابن عدي (¬2) عن الحسين بن إبراهيم السكوني - لم أقف على ترجمته - عن المسيّب بسنده عن ابن عمر مرفوعًا: أنه كره شمَّ الطعام، وقال: إنما تشمُّ السباع. وقد روى الطبراني في "الكبير" (¬3) والبيهقي في "الشعب" (¬4) كما في "الجامع الصغير" - من حديث أم سلمة مرفوعًا: "لا تشموا الطعام كما تشمّه السباع". فليُنظرْ في سنده، ويقارَنْ بسند حديث المسيب لعله يتبين وجه الغلط. [1/ 479] والثالث: ليس بالمنكر أراه، فإن كان فيه خطأٌ فيحتمل أن يكون من فوق. والله أعلم. والرابع: قالوا: صوابه موقوف. وعلى هذا، فإنما أخطأ في رفعه. وزاد في "اللسان" خامسًا: وهو من رواية المسيب عن يوسف بن ¬

_ (¬1) ذكر له ابن عدي عشرة أحاديث مما أنكر عليه. (¬2) في "الكامل" الموضع السالف، وأخرجه أبو أحمد الحاكم في الجزء العاشر من فوائده (16) من طريق الحسين السكوني أيضًا. (¬3) (23/ 285). قال الهيثمي: "وفيه عبّاد بن كثير الثقفي، وكان كذّابًا متعبّدًا". (¬4) (5605).

أسباط. وقال ابن عدي: "كان النسائي حسن الرأي فيه، ويقول: الناس يؤذوننا فيه". وذكره ابن حبان في "الثقات" (¬1) وقال: "وكان يخطئ". وقال الدارقطني: "فيه ضعف". وسئل عَبْدان عن عبد الوهاب بن الضحاك والمسيب، فقال: "كلاهما سواء" (¬2) وهذا إسراف، عبد الوهاب كذاب، والمسيب صدوق، حدُّه أن لا يُحتج بما ينفرد به، والحكاية التي تكلَّم فيه الأستاذ من أجلها قد توبع عليها, وليست من مظان الغلط. والله أعلم. وللمسيب رواية في ترجمة أبي يوسف وقع فيها: أن رجلاً قال لابن المبارك: "مات أبو يوسف"، فقال ابن المبارك: "مسكين ... ". قال الأستاذ (ص 187): "ابن المبارك مات قبل أبي يوسف بسنة كاملة اتفاقًا ... هكذا يفضح الله البهاتين". أقول: كثيرًا ما يشاع موت الرجل خطأ، وقد كان ابن المبارك شديدًا على أبي يوسف لولايته القضاء، ومجالسته الخلفاء. وقد غضب ابن المبارك على إسماعيل بن إبراهيم ابن عُلَيّة لولايته شيئًا خفيفًا، وقال فيه تلك الأبيات السائرة. وإذا كان أبو حنيفة يفتي بالخروج على المنصور العباسي ويرى أنه أفضل من الرباط في قتال الروم، كما تقدم في ترجمة إبراهيم بن محمَّد [1/ 480] أبي إسحاق الفزاري (¬3)، فليت شعري ماذا كان يقول في أبي يوسف لو أدرك ولايته القضاء ومجالسته الرشيد؟ ¬

_ (¬1) (9/ 204). (¬2) انظر "اللسان": (8/ 69). (¬3) رقم (8).

246 - مصعب بن خارجة بن مصعب

246 - مصعب بن خارجة بن مصعب: تقدمت روايته في ترجمة أحمد بن عبد الله أبو عبد الرحمن (¬1) وفيها قوله: "سمعت حمادًا ... ". قال الأستاذ (ص 127): "مجهول الصفة كما يقول أبو حاتم". أقول: قد عرَفه ابن حبان، فقال في "الثقات" (¬2): "مصعب بن خارجة بن مصعب، من أهل سرخس، يروي عن حماد بن زيد وأبيه، روى عنه أهل بلده، مات سنة إحدى أو اثنتين ومائتين، وكان على قضاء سرخس". ونقل ابن حجر في "اللسان" (¬3) بعض هذه العبارة، وفيه أيضًا: "حماد بن زيد". فقول الأستاذ: إن حمادًا في الحكاية هو ابن سلمة فيه ما فيه. (¬4) 247 - مطرِّف بن عبد الله بن مطرِّف بن سليمان بن يسار أبو مصعب اليساري الأصم: في "تاريخ بغداد" (13/ 399 [421]) من طريق "القاسم بن المغيرة الجوهري، حدثنا مطرّف أبو مصعب الأصم قال: سئل مالك بن أنس عن قول عمر في العراق: بها الداء العُضال. قال: الهَلَكة في الدين، ومنهم ¬

_ (¬1) رقم (23). (¬2) (9/ 174). (¬3) (8/ 74). (¬4) مضر بن محمَّد البغدادي - انظر: "نصر بن محمَّد البغدادي" [رقم 256]. [المؤلف]

أبو حنيفة". ذكر الأستاذ (ص 113) أن الصواب: "عن قول كعب لعمر" لأنه كذلك في "الموطأ". ثم قال (ص 114): "قال ابن عدي: يروي المناكير عن ابن أبي ذئب ومالك، ولذا فند هذه الرواية أبو الوليد الباجي ... ". أقول: فسَّر ابن عدي (¬1) كلمته بأن ذكر أحاديث مناكير رواها ابن عدي عن أحمد بن داود بن عبد الغفار عن أبي مصعب، فردَّ الذهبيُّ (¬2) وغيره على ابن عدي بأن الحَمْل في تلك الأحاديث على أحمد بن داود، وأحمد بن داود كذَّبه الدارقطني، ورماه العقيلي وابن طاهر بالوضع. أقول: قد وقع لابن عدي شبيه بهذا في غالب القطان (¬3). قال ابن حجر في "مقدمة الفتح" (¬4): "وأما ابن عدي، فذكره في "الضعفاء" وأورد له أحاديثَ، الحَمْلُ فيها على الراوي عنه عمر بن مختار البصري، وهو من عجيب ما وقع لابن عدي، والكمال لله". ويظهر لي أن لابن عدي هنا عذرًا ما، ففي ترجمة أحمد بن داود من "اللسان" (¬5): "قال [1/ 481] أبو سعيد بن يونس: حدَّث عن أبي مصعب بحديث منكر، فسألته عنه، فأخرجه من كتابه كما حدَّث به". وفيه بعد ذلك ¬

_ (¬1) في "الكامل": (6/ 377). (¬2) في "الميزان": (5/ 250). (¬3) "الكامل": (6/ 6). (¬4) (ص 434). (¬5) (1/ 454).

ذكرُ حديثه عن أبي مصعب عن عبد الله بن عمر عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعًا: "من رأى مبتلى فقال: الحمد لله"، إلخ، قال: "قال ابن عدي لما حدَّث أحمدُ بهذا الحديث عن مطرِّف: كانوا يتهمونه ... فظلموه لأنه قد رواه عن مطرِّف: عليُّ بن بحر (¬1)، وعباس الدوري، والربيع ... ". فقد يكون الحديث الذي ذكره ابن يونس هو هذا الحديث: من رأى مبتلى إلخ. رآه ابن عدي في أصل أحمد بن داود، وعرف أن غيره قد رواه عن مطرّف، ورأى أن الحمل فيه على مطرف البتة، فقاس بقية الأحاديث عليه. وقد يكون الحديث الذي ذكره ابن يونس غير هذا الحديث، ويكون ابن عدي رأى الأحاديث في أصل أحمد بن داود، فاعتقد براءته منها للدليل الظاهر وهو ثبوتها في أصله، فحَمَلها كلَّها على مطرِّف. فإن كان الأمر على هذا الوجه الثاني، فذاك الدليل وهو ثبوت الأحاديث في أصله يحتمل الخلل. ففي "لسان الميزان" (ج 1 ص 253) (¬2): "أحمد بن محمَّد بن الأزهر ... قال ابن حبان: كان ممن يتعاطى حفظ الحديث، ويجري مع أهل الصناعة فيه، ولا يكادُ يُذكر له باب إلاَّ وأغْرَب فيه عن الثقات، ويأتي فيه عن الأثبات بما لا يتابع عليه. ذاكرتُه بأشياء كثيرة فأغرب عليَّ فيها، فطالبته (¬3) على الانبساط، فأخرج إليَّ أصول أحاديث ... فأخرج إليَّ كتابَه بأصل عتيق ... قال ابن حبان: فكأنه كان يعملها في صباه ... ". فهذا رجل روى أحاديث باطلة، وأبرز أصله العتيق بها، فإما أن يكون ¬

_ (¬1) (ط): "عمر" تصحيف. (¬2) (1/ 588). وكلام ابن حبان في "المجروحين": (1/ 163). (¬3) (ط): "فطاولته"، والتصحيح من "المجروحين" و"اللسان".

كان دجّالاً وقت طلبه، كان يسمع شيئًا ويكتب في أصله معه أشياء يعملها، وإما أن يكون كان معه وقت طلبه بعض الدجالين، فكان يُدخل عليه ما لم يسمع، كما وقع لبعض المصريين مع خالد بن نجيح، كما تراه في ترجمة عثمان بن صالح السهمي من "مقدمة الفتح" (¬1). وفي ترجمة محمَّد بن غالب تمتام من "الميزان" (¬2) أنه أُنكِر عليه حديثٌ، فجاء بأصله إلى إسماعيل القاضي، فقال له إسماعيل: "ربما وقع الخطأ للناس في الحداثة". وفي "الكفاية" (ص 118 - 119) عن حسين بن حبان: "قلت ليحيى بن معين: ما تقول في رجل حدَّث بأحاديث منكرة، فردَّها عليه أصحاب الحديث، إن هو رجع وقال: ظننتها، فأما إذ أنكرتموها عليَّ فقد رجعتُ عنها؟ فقال: [1/ 482] لا يكون صدوقًا أبدًا، ... فقلت ليحيى: ما يبرئه؟ قال: يخرج كتابًا عتيقًا فيه هذه الأحاديث، فإذا أخرجها في كتاب عتيق فهو صدوق، فيكون شُبِّه له، وأخطأ كما يخطئ الناس، فيرجع عنها". فأنت ترى ابن معين لم يجعل ثبوتها في الأصل العتيق دليلاً على ثبوتها عمن رواها صاحب الأصل عنهم، بل حمله على أنه شُبِّه له وأخطأ في أيام طلبه. إذا تقرَّر هذا فلعل الأحاديث التي ذكرها ابن عدي عن أحمد بن داود عن أبي مصعب رآها ابن عدي في أصل عتيق لأحمد بن داود، فبنى على أنَّ ذلك دليل ثبوتها عن أبي مصعب. وهذا الدليل لا يُوثَق به كما رأيت، لكن ¬

_ (¬1) (ص 423). (¬2) (5/ 127).

في البناء عليه عذرٌ ما لابن عدي، يخفُّ به تعجبُ الذهبي إذ يقول: "هذه أباطيل حاشا مطرِّفًا من روايتها، وإنما البلاء من أحمد بن داود، فكيف خفي هذا على ابن عدي؟! ". بقي حديث مطرِّف، عن عبد الله بن عمر العمري، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة رفعه: "من رأى مبتلًى، فقال: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به وفضَّلَني على كثير ممن خلق تفضيلاً، لم يُصبه ذلك البلاء". فهذا رواه جماعة عن أبي مصعب، وأخرجه الترمذي (¬1) وقال: "غريب من هذا الوجه"، وزاد في بعض النسخ: "حسن". وأخرج قبل ذلك (¬2) من طريق عمرو بن دينار مولى آل الزبير، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، عن عمر - نحوه. وعمرو بن دينار هذا متكلَّم فيه، وعدُّوا هذا الحديث فيما أُنكر عليه، وأحسب أن بعض الرواة سمع هذا وسمع حديث سهيل عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعًا: "من قال إذا أمسى ثلاث مرات: أعوذ بكلمات الله التامات من شرِّ ما خلق لم تضرَّه حُمَةٌ تلك الليلة" (¬3) فاشتبه عليه الحديثان فحسب الأول بسند الثاني فرواه كذلك. وقد يكون هذا الخطأ من مطرِّف، وقد يكون من شيخه عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم، فإنه ليِّن حتى قال البخاري: "ذاهب لا أروي عنه شيئًا". فإن كان الخطأ من أبي مصعب، فقد يخطئ على عبد الله بن عمر ما لا يخطئ على مالك لمزيد اختصاصه به. ¬

_ (¬1) (3432). (¬2) (3431). (¬3) أخرجه الترمذي (3604) وقال: "حديث حسن".

248 - معبد بن جمعة أبو شافع

والأثر: "إن بالعراق الداء العضال" ثابت في "الموطأ" (¬1) عن مالك، ومطرِّف يقول: "سئل مالك" فليس هنا مظنة الخطأ. ومطرِّف قال فيه أبو حاتم: "مضطرب الحديث صدوق" (¬2)، [1/ 483] ورجحه على إسماعيل ابن أبي أويس. وقال ابن سعد والدارقطني: "ثقة". وروى عنه أبو زُرْعة ومن عادته أن لا يروي إلا عن ثقة كما مرَّ مرارًا. وروى عنه البخاري في "صحيحه". 248 - معبد بن جمعة أبو شافع: تقدمت روايته في ترجمة القاسم بن عثمان (¬3)، وتقدم هناك قول الأستاذ: "كذَّبه أبو زُرْعة الكَشِّي". أقول: هكذا وقع في "الميزان" (¬4) و"اللسان" (¬5)، وأبو زرعة الكشي هو محمَّد بن يوسف الجنيدي. قال حمزة السهمي في "تاريخ جرجان" (¬6) في ترجمة معبد: "حدثنا عنه جماعة سمعت أبا زرعة محمَّد بن يوسف الجنيدي يقول: كان أبو شافع اسمه واسم أبيه واسم جده غير ما ذكر، هو غيَّرَ أسماءهم، وكان ثقة في الحديث إلا أنه كان يشرب المسكر". فكأنَّ ¬

_ (¬1) (2795). (¬2) "الجرح والتعديل": (8/ 315). (¬3) رقم (179). (¬4) (5/ 265). (¬5) (8/ 104). (¬6) (ص 476).

249 - المفضل بن غسان الغلابي

بعضهم استروَح إلى قوله: "هو غيَّر أسماءهم"، فعدَّها تكذيبًا، وتبعه غيره بدون تحقيق. وتغيير الاسم ليس بكذب، وقد غيَّر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أسماء جماعة، وغيَّر في بعضهم اسمه واسم أبيه، اللهم إلاَّ أن يدَّعي الرجل أنَّ اسمه لم يزل كذلك، وهذا يدفعه قولُ الكشي: "وكان ثقة في الحديث". فأما شُرب المسكر، فقد تأوّل جماعةٌ في ما عدا الخمر المتفق عليها، فيشربون القدر الذي لا يُسكرهم، ولم يَعُدَّ أهل العلم ذلك قادحًا في العدالة، وإن ذمَّ أكثرُهم ذلك. فهذا هو الذي وقع من أبي شافع بدليل قول الكَشِّي "وكان ثقة في الحديث". والله المستعان. 249 - المفضّل بن غسان الغِلَابي: في "تاريخ بغداد" (13/ 420 [450]) عنه قال: "أبو حنيفة ضعيف". قال الأستاذ (ص 169): "من المنحرفين عن أهل الكوفة مثل عمرو بن علي الفلاس البصري، وإبراهيم بن يعقوب الجوزجاني الناصبي، وحالهم يغني عن التعرض للأسانيد، على أن الجرح غير المفسَّر لا يؤثر في أي راوٍ، فضلاً عمن ثبتت إمامته، وتواترت أمانته". أقول: تقدمت ترجمة الجوزجاني وترجمة عمرو بن عليّ (¬1)، وبيَّنَّا أن الجوزجاني شديد على [1/ 484] الشيعة، ولم تبلغ شدته بحمد الله عزَّ وجلَّ أن يخرج عن الحد، إنما يقول في الشيعي: "زائغ"، أو: "رديء المذهب" أو نحو ذلك، وأبو حنيفة لم يشتهر بالتشيع، وعمرو بن علي والغلابي لا ¬

_ (¬1) برقمي (10 و174).

أعرفهما بانحراف، نعم هؤلاء كلهم مخالفون لأبي حنيفة في المذهب، والمخالفة لا تقتضي اطِّراح جرح المخالف البتة. وقد قبل الناس من يحيى بن معين وغيره من الأئمة جرحَهم لكثير من الرواة المخالفين لهم في المذهب. والجرحُ غير المفسَّر قد تقدم في القواعد (¬1) البحثُ فيه وأن التحقيق أنه مقبول من أهله إلاَّ أن يعارضه توثيق أثبت منه. وبالجملة فالذي يُخشى من جرح المخالف ومن الجرح الذي لم يفسَّر هو الخطأ، فمتى تبيَّن أو ترجَّح أنه خطأ لم يؤخذ به. والإمامة في الفقه لا تستلزم الثقة في الحديث، ولا يضرُّ الحنفيَّةَ أن يثبت أن أبا حنيفة ممن لا تقوم الحجة بما يتفرد بروايته. ولا تكاد توجد لهم مسألة يمكن أن يستدلوا عليها بشيء تفرَّد أبو حنيفة بروايته إلاَّ وهم يستدلون عليها بأشياء أخرى. وقد استدل بعضُهم على الشافعي بحديث أبي حنيفة عن عاصم في المرتدة، فلما رُدَّ عليه ذلك لم يكابر، بل قال: "إني إنما ذهبت في ترك قتل النساء إلى القياس ... " كما تقدم في ترجمة الشافعي (¬2). وكما أن الإنصاف يقضي أن لا يُتخذ ما ثبت عن الأئمة كسفيان الثوري وغيره من قولهم في أبي حنيفة ما يقتضي أنها لا تقوم الحجة بما ينفرد بروايته ذريعةً إلى الطعن في فقهه جملةً وفي مذهبه فكذلك يقضي أن لا يُتَّخذ ما يستدَلُّ به على فقهه جملةً ذريعةً إلى ردَّ كلام أئمة الفن في روايته. وأقتصر هنا على هذا القدر. وأسأل الله تعالى التوفيق. ¬

_ (¬1) (1/ 100 - 104). (¬2) رقم (189).

250 - منصور بن أبي مزاحم

250 - منصور بن أبي مزاحم: في "تاريخ بغداد" (13/ 400 [422]) من طريقين عنه أنه سمع مالك بن أنس يقول في أبي حنيفة: "كاد الدينَ ... ". قال الأستاذ (ص 116): "ليس منصور بن أبي مزاحم التركي البطل المغوار من رجال هذا الميدان". أقول: ذكروا أن هذا التركي كان كاتبًا في الديوان، ثم ترك ذلك وتجرّد للحديث، وهو عندهم ثقة. قال أبو زُرْعة عن ابن معين: "تركي ثبت"، وقال أبو حاتم: "صدوق"، وذكر أنه سأل ابن معين عنه فأثنى عليه وقال: "كتبت عنه"، وقال الدارقطني: "ثقة". [1/ 485] وأخرج له مسلم في "صحيحه" (¬1)، وأبو داود، والنسائي. وخطَّأه أحمد في حديث، ولا يضرُّه ذلك. وقد غلبت الأستاذَ هنا نزعتُه الجنسية، فلم يقل في هذا التركي إلا أنه ليس من رجال هذا الميدان. ولا أدري ما عنى بذلك؟ وفي مقابل ذلك خلع عليه لقب "البطل المغوار" جزافًا، وإنما كان كاتبًا ثم صار محدِّثًا. 251 - موسى بن إسماعيل أبو سلمة التَّبُوذَكي: في "تاريخ بغداد" (13/ 393 [412]) من طريقه: "حدثنا أبو عوانة قال: سمعت أبا حنيفة ... ". قال الأستاذ: "راوية تلك الطامَّات عن حماد بن سلمة". أقول: يعني ما رواه من أحاديث الصفات، وقد تقدم النظر في ذلك في ¬

_ (¬1) منها بالأرقام (83 و623 و1459 وغيرها).

252 - موسى بن المساور أبو الهيثم الضبي

ترجمة حماد بن سلمة (¬1). وتلك الأحاديث ما بين حقٍّ قد وَكَل الله به قومًا يؤمنون به، وبين حقًّ محمول على معنى يليق به. فإن كان في شيء خطأ، فلا شأن لأبي سلمة به، وهو مُجمَع على ثقته والاحتجاج به. 252 - موسى بن المساور أبو الهيثم الضبّي: تقدمت روايته في ترجمة عبد الرحمن بن عمر (¬2). قال الأستاذ (ص 136): "من رجال "الحلية" مجهول الحال، ولم أر من وثَّقه". أقول: قال أبو الشيخ في "طبقات الأصبهانيين" (¬3): "روى عن سفيان بن عيينة وعبيد الله بن معاذ ووكيع والناس، وكان خيَّرًا فاضلاً، ترك ما ورثه من أبيه لإخوته، ولم يأخذ منه شيئًا؛ لأن أباه كان يتولى للسلطان ... ". ونحو ذلك في "تاريخ أصبهان" (¬4) لأبي نعيم. وبهذا يثبت أن الرجل عَدْل صدوق. ويبقى النظر في ضبطه، وسكوتُ هذين الحافظين وغيرهما من حفاظ أصبهان وغيرهم عن الكلام في روايته يدل أنه لم يكن به بأس. 253 - مؤمّل بن إسماعيل: تقدمت روايته في ترجمة عامر بن إسماعيل (¬5). ¬

_ (¬1) رقم (85). (¬2) رقم (139). (¬3) (2/ 154 - 155). (¬4) (2/ 283 - 284). (¬5) رقم (115).

254 - مؤمل بن إهاب

قال الأستاذ (ص 38): "يقول فيه البخاري: إنه منكر الحديث. ويقول أبو زُرْعة: "في حديثه خطأ كثير". أقول: وثَّقه إسحاق بن راهويه ويحيى بن معين، ووثقه أيضًا ابن سعد والدارقطني ووصفاه بكثرة الخطأ، ولخَّص محمَّد بن نصر المروزي حاله فقال: "إذا انفرد بحديث وجب [1/ 486] أن يتوقف فيه ويتثبت؛ لأنه كان سيئ الحفظ كثير الغلط". فحدُّه أن لا يحتج به إلا فيما توبع فيه، وفيما ليس من مظان الخطأ. 254 - مؤمَّل بن إهاب: راجع "الطليعة" (ص 68) (¬1). وحاصل ذلك أن الأستاذ قال في "التأنيب" (ص 65): "ضعَّفه ابن معين على ما حكاه الخطيب". فبينتُ أن الخطيب إنما حكى عن ابن الجنيد قال: "سئل يحيى بن معين - وأنا أسمع - عن مؤمل بن إهاب، فكأنه ضعَّفه". وقد وثَّقه جماعة. فقال الأستاذ في "الترحيب" (ص 45): "فقول القائل: (كأنه ضعَّفه) لا يفرق كثيرًا من قوله: (ضعفه)، لكون الحكم على الأحاديث بالصحة أو الضعف، وعلى الرجال بالثقة أو الضعف، في أخبار الآحاد مبنيًّا على ما يبدو للناظر (¬2)، لا على ما في نفس الأمر. فظهر أن ذلك عبارة عن غلبة الظن فيما لا يقين فيه، وسبق أن نقلنا عن أحمد في الرمادي: كأنه يغيَّر الألفاظ. وقد بني عليه الذمَّ الشديد باعتبار أن ظنَّ الناظر ملزم". ¬

_ (¬1) (ص 51). (¬2) كذا في (ط) وفي "الترحيب": "للناقد".

أقول: ابن الجنيد هنا راوٍ لا ناظر، وباب الرواية اليقين. فإن كان قد يكفي الظن، فذاك الظن الجازم، وآيتُه أن يجزم الراوي الثقة. فأما قوله: "أظن" مثلاً، فإنه يصدق بظن ما، وقد قال الله تعالى: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12] فما بالك بقوله: "فكأنه ضعَّفه". وأصل كلمة "كأن" للتشبيه، والتشبيه يستلزم كون المشبَّه غير المشبه به. فأما معناها الثاني فعبَّر عنه في "مغني اللبيب" (¬1) بقوله: "الشك والظن" فدل ذلك على أنها دون "أظنه". وفي ترجمة الحسن بن موسى الأشيب من "مقدمة الفتح" (¬2) مثل هذه الكلمة "كأنه ضعيف"، فدفعها الحافظ ابن حجر بقوله: "هذا ظن لا تقوم به حجة". هذا وترددُ ابن الجنيد يحتمل وجهين أظهرهما: أن يكون جرى من ابن معين عندما سئل عن مؤمّل ما يُشعر بأنه لم يُعجبه مؤمل. ولا ندري ما الذي جرى منه وما قدرُ دلالته؟ على أنهم مما يقولون: "ضعَّفه فلان" مع أن الواقع من فلان تليين يسير، كما تقدمت الإشارة إليه في القاعدة السادسة من قسم القواعد (¬3)، فما بالك بقوله: "فكأنه ضعَّفه"؟ وإنما ينقل أهل العلم أمثال هذه الكلمة لاحتمال أن يوجد تضعيف صريح، فيكون مما يعتضد به. فأما هنا فلا يوجد إلا التوثيق. نعم، الثقات يتفاوتون في درجات التثبت، ويظهر أن مؤملًا لم يكن في أعالي [1/ 487] الدرجات ففي الرواة من هو أثبت منه، ¬

_ (¬1) (ص 253). (¬2) (ص 397) والعبارة فيه: "كأنه ضعّفه". (¬3) (1/ 87 وما بعدها).

وإنما يظهر أمر ذلك عند التخالف والتعارض عند الأولين. فأما كلمة الإِمام أحمد في إبراهيم بن بشار الرمادي، فقد تقدم لفظها في ترجمة إبراهيم (¬1)، فراجِعْها يتبيَّنْ لك أن أحمد كان جازمًا بأن إبراهيم كان يملي على الناس على خلاف ما سمعوا، وأنه إنما لامه وذمَّه على ذلك. وإنما قال: "كأنه يغيِّر الألفاظ" لأحد أمرين: الأول: أن يكون أحمد جوَّز أن تكون العبارة التي ساقها إبراهيم هي عبارة ابن عيينة نفسه قبل ذلك المجلس، وأن تكون عبارة إبراهيم نفسه بأن غيَّر ألفاظ ابن عيينة وعبَّر عن المعنى، وكانت نفس أحمد مائلة إلى هذا الاحتمال الثاني فقال: "كأنه يغيِّر الألفاظ" أي من عنده. الأمر الثاني: أن يكون أحمد قد علم جملةً حين سمع في ذاك المجلس عبارة سفيان ثم عبارة إبراهيم اختلافَ العبارتين، ولم يحقق حينئذ وجه الاختلاف، ثم لما أخبر بذلك مال إلى أن الوجه هو تغيير الألفاظ. وعلى كلا الأمرين، فأحمد محقِّق لاختلاف العبارتين جازم به، وعلى ذلك بني اللوم والذم، لا على مجرد احتمال أن إبراهيم يغيِّر الألفاظ. فإن قيل: اختلاف العبارتين مستلزم لتغيير الألفاظ. قلت: إنْ صح هذا استعمل أحمد "كأن" في التحقيق بدليل ما قبلها، وذلك خلاف المعنى المتبادر منها. وليس في نقل ابن الجنيد ما يوجب صرفها عن أصل معناها الذي تقدم بيانه. وإذا اشتبه الأمر في المنقول عن إمام، وجب الرجوع إلى ¬

_ (¬1) رقم (2).

255 - مهنأ بن يحيى

المنقول عن غيره، وقد ذكرت في "الطليعة" (¬1) توثيق الأئمة لمؤمل، وبذلك يرجح رجحانًا ظاهرًا أن ابن معين لم يضعِّفه. والله المستعان. 255 - مهنَّأ بن يحيى: في "تاريخ بغداد" (13/ 411 [439]) من طريق "عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثنا مهنأ بن يحيى قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول ... ". قال الأستاذ (ص 143): "قال أبو الفتح الأزدي ... : منكر الحديث، وتابعه الخطيب". أقول: الأزدي نفسه متكلَّم فيه حتى رُمي بالوضع، وقد رد ابن حجر في مواضع من [1/ 488] "مقدمة الفتح" (¬2) جرحه، وبيَّن أنه لا يُعتدُّ به. وقول الكوثري: "وتابعه الخطيب" باطل، فقد روى ابن الآبنوسي عن الخطيب: "كلُّ من ذكرت فيه أقاويلَ الناس من جرح أو تعديل، فالتعويل على ما أخرتُ" كما في "تذكرة الحفاظ" (ج 3 ص 315) (¬3). وها هنا بدأ الخطيب في ترجمة مهنّأ بحكاية قول الأزدي، ثم أتبعها برواية السُّلَمي عن الدارقطني: "ثقة نبيل"، ثم ذكر مكانةَ مهنأ عند أحمد وثناء أصحابه عليه. فعُلِمَ بذلك أن التعويل عنده على التوثيق. وبهذا يُعلم ما في عبارة ابن الجوزي في "المنتظم" (ج 8 ص 368) في تجنِّياته على الخطيب: "ذكر مهنأ بن يحيى وكان من كبار أصحاب أحمد، وذكر عن الدارقطني أنه قال: ¬

_ (¬1) (ص 51). (¬2) انظر (ص 386، 390، 392 وغيرها). (¬3) (3/ 1139).

مهنأ ثقة نبيل، وحكى بعد (!) ذلك عن أبي الفتح الأزدي ... وهو يعلم أن الأزدي مطعون فيه عند الكل ... فلا يستحيي الخطيب أن يقابل قول الدارقطني في مهنأ بقول هذا، ثم لا يتكلم عليه؟ هذا ينبئ عن عصبية وقلة دين". أقول: عفا الله عنك يا أبا الفرج! ما أرى الباعث لك على التجنِّي على الخطيب إلا ما قدَّمتُه في ترجمته (¬1)، وعليك في كلامك هذا مؤاخذات: الأولى: أن الموجود في "تاريخ الخطيب" تعقيب كلمة الأزدي بحكاية السلمي عن الدارقطني، كما مرَّ. الثانية: أن هذا مع ذكر مكانة مهنأ عند أحمد وثناء أصحابه عليه في قوة الرد على كلمة الأزدي، كما مرَّ. الثالثة: أنك إذ ذكرت ما قيل في الأزدي كان ينبغي أن تذكر ما قيل في السُّلَمي حاكي التوثيق عن الدارقطني، وقد ذكرتَ ترجمتَه في "المنتظم" (ج 8 ص 6) وفيها قول محمَّد بن يوسف القطان: "كان أبو عبد الرحمن غير ثقة، ولم يكن سمع من الأصم إلاَّ شيئًا يسيرًا، فلما مات الحاكم أبو عبد الله ابن البَيِّع حدَّث عن الأصم بـ "تاريخ يحيى بن معين" وبأشياء كثيرة سواها، وكان يضع للصوفية الأحاديث". ولم تتعقب هذا ولا ذكرتَ ما يخالفه. الرابعة: أن الأزدي ذكر متمسَّكه، فلا يسوغ ردُّ قوله إلا ببيان سقوط حجته. ¬

_ (¬1) رقم (26).

[1/ 489] الخامسة: أنك بعد التسامح بما تقدَّم لم يكن ينبغي لك [أن] تقول: "عصبية وقلة دين" محاذرةً على الأقل أن يشاحَّك مشاحٌّ، فيردَّ ذلك عليك. أما متمسَّكُ الأزدي، فهو أن مهنأ روى عن زيد بن أبي الزرقاء، عن سفيان الثوري، عن علي بن زيد بن جدعان، عن سعيد بن المسيب، عن جابر حديثًا في الجمعة، ولا يعلم رواه أحد غيره عن زيد ابن أبي الزرقاء، ولا عن غيره عن سفيان الثوري؛ فلا يعرف عن الثوري إلا بهذا الإسناد. وإنما يعرف من رواية عبد الله بن محمَّد العدوي التميمي رواه عن علي بن زيد، والعدوي طعنوا فيه، وقال وكيع: "يضع الحديث"، وحكى ابن عبد البر عن جماعة أهل العلم بالحديث أنهم يقولون: إن هذا الحديث من وضعه. كذا في ترجمة العدوي من "التهذيب" (¬1). وفي ترجمة مهنأ من "اللسان" (¬2) عن ابن عبد البر: "لهذا الحديث طرق ليس فيها ما يقوم به حجة إلا أن مجموعها يدل على بطلان قول مَن حَمَل على العدوي أو على مهنأ بن يحيى". فلو كان ابن الجوزي نظر في هذا الحديث وحقَّقَ لكان أولى به مما صنع. وعلى كل حال، فغاية ما في الباب أن يكون مهنأ أخطأ في سند هذا الحديث، فكان ماذا؟ وقد ذكره ابن حبان في "الثقات" (¬3) وقال: "كان من ¬

_ (¬1) (6/ 20 - 21). (¬2) (8/ 183). (¬3) (9/ 204).

256 - نصر بن محمد البغدادي

خيار الناس في حديث أحمد بن حنبل وبشر الحافي، مستقيم الحديث". ويكفيه مكانته عند أحمد وثناء أصحابه عليه. والله أعلم. 256 - نصر بن محمَّد البغدادي: في "تاريخ بغداد" (13/ 419 [449]) من طريق أبي الميمون عبد الرحمن بن عبد الله البجلي. "سمعت نصر بن محمَّد البغدادي يقول: سمعت يحيى بن معين يقول: كان محمَّد بن الحسن كذَّابًا وكان جهميًّا، وكان أبو حنيفة جهميًّا ولم يكن كذَّابًا". قال الأستاذ (ص 164): "كانا والله بريئان (؟) من الكذب والتجهُّم، وقد احتج الشافعي إمام الخطيب بمحمد بن الحسن. ووثَّقه علي ابن المديني أيضًا كما جزم بذلك ابن الجوزي في "المنتظم" وابن حجر في "تعجيل المنفعة"، مع أن ابن المديني أقرب من ابن معين إلى النيل من أصحاب أبي حنيفة. والدارقطني على تعصبه البالغ يقول في "غرائب مالك": ... وابن معين من أبرأ الناس من أن يكذب عليهما، وهو الذي يقول: إني سمعت "الجامع الصغير" [1/ 490] من محمَّد بن الحسن، وليس هو ممن يتفقه على الكذَّابين في نظره ... نعم لو كان ... أو كلُّ من ينزِّه الله سبحانه عن مشابهة المخلوق وعن حلول الحوادث فيه أو حلوله في الحوادث جهميًّا، كما هو مصطلح الحشوية، لكان كذابًا وجهميًّا كلُّ من يفهم ما يقول وينزِّه الله سبحانه عن لوازم الجسمية ... فلا يكون الخبر إلا مكذوبًا على ابن معين، ولو رواه ألف شخص من أمثال نصر بن محمَّد البغدادي. ومن الغريب أنه إذا روى ألف راوٍ عن ابن معين أن الشافعي ليس بثقة مثلًا تُعَدُّ هذه الرواية عنه كاذبةً, بخلاف ما إذا كانت الرواية عنه في أبي حنيفة أو أحد أصحابه ... نعم سبق أن كذَّب أبو يوسف محمدًا في مسائل عزاها إليه، ولما بلغ الخبر محمدًا قال: كلَّا ولكن الشيخ نسي. ثم تبيَّن أن قول محمَّد هو الصواب ... قاتل الله التعصب ما أفضحه لصاحبه! ".

أقول: لا توجد في "تاريخ بغداد" ولا غيره ترجمة باسم "نصر بن محمَّد البغدادي". وإعراض الأستاذ عن أن يشير إلى هذا فيقول: "مجهول" أو نحوه إلى الطريق التي سلكها يدلّ أنه قد عرف أن لفظ "نصر" تحريف وأن الصواب "مضر". ولمضر بن محمَّد البغدادي ترجمة في "تاريخ بغداد" (ج 13 ص 261) وفيها أنه يروي عن يحيى بن معين وأحمد بن حنبل وغيرهما، وأن الدارقطني قال فيه: "ثقة". فأما الشافعي فلا نعلمه احتجَّ بشيء ينفرد به محمَّد بن الحسن حتى يصحَّ أن يقال: إنه احتج به، ومع ذلك فلو وثَّق الشافعي محمدًا لما دل ذلك على بطلان النقل عن ابن معين، فقد كان الشافعي يوثِّق إبراهيم بن أبي يحيى الذي كذَّبه الجمهور، ثم استقرَّ الاتفاق على قولهم. وأما توثيقُ ابن المديني، فإنما ذلك حكاية حكاها ابنه عبد الله عنه أنه قال: "صدوق"، وقد طعن الأستاذ في رواية عبد الله بن علي ابن المديني عن أبيه مطلقًا كما تقدم في ترجمته (¬1)، واستهان بقولهم: "صدوق" وكذَّب من قيلت فيه، كما تقدَّم في ترجمة علي بن جرير الباوَرْدي (¬2). وأما زَعْم الأستاذ أن ابن المديني أقرب من ابن معين إلى النيل من أصحاب أبي حنيفة، ففيه نظر؛ إذْ قد يكون ثناؤه أمام مسايرته للجهمية الحنفيَّة كما تقدم في ترجمته، وقد يستدل على [1/ 491] ذلك أن نيل ابن معين ثابت، وابن المديني أقرب منه إلى ذلك كما قال الأستاذ، فكيف يثبت ¬

_ (¬1) رقم (163). (¬2) رقم (159).

عنه خلافه؟ والتحقيق أنه لا منافاة، والاختلاف في مثل هذا كثير. وأما كلمة الدارقطني، فقد مرَّ البحث فيها في ترجمته (¬1)، ثم الكلام في ذلك كالكلام في كلمة ابن المديني. وأما ما ذكره الأستاذ أن ابن معين قال: "سمعت "الجامع الصغير" من محمَّد بن الحسن" فلا منافاة، بل قد يكون سماعه "للجامع" في مبتدأ أمره، ثم تبيَّن له ما تبيَّن. وفي ترجمة محمَّد بن كثير القرشي من "التهذيب" (¬2): "قال إبراهيم بن الجنيد: قلت لابن معين: محمَّد بن كثير الكوفي؟ قال: ما كان به بأس، قلت: إنه روى ... قال ... فإن كان هذا الشيخ روى هذا فهو كذاب، وإلَّا فإني قد رأيت حديث الشيخ مستقيمًا". وقد ذكر الأستاذ تكذيب أبي يوسف لمحمد، والظاهر أنه كان قبل ذلك عنده حسن الحال، ثم طرأ ما اقتضى أن يكذبه. ومع هذا كلِّه فلم ينفرد هذا الرجل بما رواه عن ابن معين، فقد قال العقيلي: "حدثنا أحمد بن محمَّد بن صدقة قال: سمعت العباس الدوري يقول: سمعت يحيى بن معين يقول: جهمي كذَّاب". هكذا في ترجمة محمَّد بن الحسن من "لسان الميزان" (¬3). وروى محمَّد بن سعد العوفي عن ابن معين أنه رمى محمدًا بالكذب، وقد تقدمت ترجمة العوفي (¬4)، وفيها بيان اضطراب الأستاذ: احتج به حيث ¬

_ (¬1) رقم (164). (¬2) (9/ 419). (¬3) (7/ 63). (¬4) رقم (206).

خالفه جماعة، وطعن في روايته حيث وافقه جماعة! وقال ابن أبي مريم عن ابن معين في محمَّد بن الحسن "ليس بشيء، ولا يُكتب حديثه". وقال المفضل الغلابي ومعاوية بن صالح عن ابن معين: "حسن اللؤلؤي ومحمد بن الحسن ضعيفان". ولم يأت عن ابن معين ما يخالف نقل هؤلاء الجماعة، فأما قضية "الجامع الصغير" فقد مرّ ما فيها. وأما قضية التجهُّم فقد اعترف الأستاذ باصطلاح أهل السنة الذين سماهم "الحشوية"، وهو وجميع أهل العلم يعلمون أن يحيى بن معين كان من أهل ذاك الاصطلاح، واعترف الأستاذ بأن أبا حنيفة ومحمَّد بن الحسن جهميَّان بذاك المعنى. وبذلك ثبتت رواية مضر بن [1/ 492] محمَّد البغدادي؛ أما ما فيها من نسبة الجهمية فباعتراف الأستاذ، وأما ما فيها من التكذيب فبالحجة الواضحة. فبقي قوله: "فلا يكون الخبر إلا مكذوبًا على ابن معين، ولو رواه ألف شخص من أمثال نصر بن محمَّد البغدادي"! من باب قول العامة: "عنز ولو طارت". وقوله: "ومن الغريب أنه لو روى ألف راوٍ ... " تقدم النظر فيه في ترجمة الشافعي (¬1)، فليراجعها القارئ وليوازن بينها وبين رواية مضر؛ ليتبين له أن الكوثري لا يقنع بأن يساوي الذرة بالجبل، بل يحاول أن يجعل ذرة في عُظْم جبل، ويجعل جبلاً في صغر ذرة! ولعل الأستاذ يضِجُّ من قضية نصر ومضر. فأقول: هوِّن عليك يا أستاذ وخذ اعترافي أو شهادتي بأن نصرًا غير مضر، فهل ينفعك ذلك شيئًا؟ ¬

_ (¬1) رقم (189).

257 - النضر بن محمد المروزي

هذا كلُّه مناقشة للأستاذ في تكذيبه الرواة عن ابن معين، وما تشبَّث به في ذلك. فأما محمَّد بن الحسن فهو أجلُّ وأفضلُ مما يتراءى هنا, ولتحقيق ذلك موضع آخر. 257 - النضر بن محمَّد المروزي: في "تاريخ بغداد" (13/ 401 [423]) من طريق عبد الرحيم بن منيب: "حدثنا النضر بن محمَّد قال: كنا نختلف إلى أبي حنيفة وشاميٌّ معنا، فلما أراد الخروج جاء ليودِّعه فقال: يا شامي، تحمل هذا الكلام إلى الشام؟ فقال: نعم، قال: تحمل شرًّا [كثيرًا] ". قال الأستاذ (ص 118): "ضعَّفه البخاري في "كتابه الصغير" لكن وثَّقه النسائي، وهو من فقهاء أصحاب أبي حنيفة ومن المكثرين عنه، فبالنظر إلى حاله يريد بقوله هذا - على تقدير ثبوته عنه - التنكيت على أهل الشام". أقول: إنما قال البخاري: "فيه ضعف"، وكذا قال الساجي، وقال الحاكم أبو أحمد: "ليس بالقوي"، وقال النسائي والدارقطني: "ثقة"، وذكره ابن حبان في "الثقات" (¬1). وقال ابن سعد: "كان مقدَّمًا في العلم والفقه والعقل والفضل، وكان صديقًا لابن المبارك، وكان من أصحاب أبي حنيفة" (¬2). وهذا يقتضي أنه لم يكن يتابع أبا حنيفة في كل شيء، فهو مقبول. وليس هو المخاطِب للشامي كما قد يوهمه كلام الأستاذ، وإنما المخاطِب للشامي بما ذكر أبو حنيفة نفسه كما هو صريح الرواية. واحتمال أن يكون أبو حنيفة إنما أراد التنكيت لا يخفى حاله. ¬

_ (¬1) (7/ 535). (¬2) "الطبقات الكبرى": (9/ 377).

258 - نعيم بن حماد

258 - [1/ 493] نُعيم بن حمّاد: ذكر الأستاذ (ص 49) عن "الأسماء والصفات" (¬1) للبيهقي رواية من طريقه: "سمعت نوح ابن أبي مريم أبا عصمة يقول: كنا عند أبي حنيفة أول ما ظهر جهم وجاءته امرأة من ترمذ كانت تجالس جهمًا .. ". وفي "تاريخ بغداد" (13/ 396) من طريقه: "قال سفيان: ما وضع في الإِسلام من الشر ما وضع أبو حنيفة إلا فلان - لرجل صُلِب". قال الأستاذ (ص 49): "معروف باختلاق مثالب ضد أبي حنيفة، وكلامُ أهل الجرح فيه واسعُ الذيل، وذكره غير واحد من كبار علماء أصول الدين في عداد المجسِّمة بل القائلين باللحم والدم". وقال الأستاذ (ص 107): "له ثلاثة عشر كتابًا في الرد على من يسمِّيهم: الجهمية، ودعا إليها العجليَّ فأعرض عنها ... ولا شك أنه كان وضاع مثالب كما يقول أبو الفتح الأزدي وأبو بشر الدولابي وغيرهما. وكم أتعب نعيمٌ أهلَ النقد بمناكيره! ويوجد من روى عنه من الأجلَّة رغبةً في علو السند، ولا يرفع ذلك من شأنه إن لم يضع من شأن الراوي، ومن حاول الدفاع عنه يتسع عليه الخرق". أقول: نعيم من أخيار الأمة وأعلام الأئمة وشهداء السنة. ما كفى الجهميةَ الحنفيَّةَ أن اضطهدوه في حياته، إذ حاولوا إكراهه على أن يعترف بخلق القرآن فأبى، فخلَّدوه في السجن مثقلاً بالحديد حتى مات، فجُرَّ بحديده، فألقي في حفرة ولم يكفَّن ولم يُصلَّ عليه - صلَّت عليه الملائكة - حتى تتبعوه بعد موته بالتضليل والتكذيب؛ على أنه لم يجرؤ منهم على ¬

_ (¬1) (905).

تكذيبه أحد قبل الأستاذ، إلا أن أحدهم - وهو الدولابي - ركب لذلك مطية الكذب، فقال: "وقال غيره ... ". أما عقيدته، فعقيدة أئمة السنة المخلَّدة في كتاب الله عزَّ وجلَّ. وأما الذين كان يسميهم "الجهمية"، فكان أئمة المسلمين في زمانه وقبله وبعده يسمُّونهم هذا الاسم. وأما إعراض العجلي عن كتبه فلم يُعرض عنها مخالفةً لنعيم ولا رغبةً عن الأخذ عنه. وهو ممن وثَّق نعيمًا كما يأتي، وإنما كان العجلي مستغرقًا في الحديث، فلم يُحِبَّ أن يتشاغل بالنظر في أقوال المبتدعة والردِّ عليها؛ إشفاقًا على نفسه من أن يعلَق به بعضُ أوضارها. وأما كلام أئمة الجرح والتعديل فيه، فهم بين موثِّق له مطلقًا، ومُثْنٍ عليه مليِّن لما ينفرد [1/ 494] به مما هو مظنة الخطأ، بحجة أنه كان لكثرة ما سمع من الحديث ربما يُشبَّه عليه فيخطئ. وقد روى عنه البخاري في "صحيحه" (¬1) وروى له بقية الستة بواسطة إلا النسائي (¬2)، لا رغبةً في علوّ السند كما يزعم الأستاذ، فقد أدركوا كثيرًا من أقرانه وممن هو أكبر منه، ولكن علمًا بصدقه وأمانته, وأن ما نُسِب إلى الوهم فيه ليس بكثير في كثرة ما روى. فأما الدولابي، فهو محمَّد بن أحمد بن حماد له ترجمة في "الميزان" (¬3) و"اللسان" (¬4). قال ابن يونس: "من أهل الصنعة، حسن ¬

_ (¬1) انظر الحديث رقم (3849 و7189)، والموضع الثاني مقرونًا. (¬2) روى له مسلم في مقدمة الصحيح (1/ 22). (¬3) (4/ 379). (¬4) (6/ 506).

التصنيف، وكان يضعَّف". وقال الدارقطني: "تكلموا فيه لما تبيَّن من أمره الأخير". وذكر ابن عدي (¬1) قول الدولابي في معبد الجهني الذي روى أبو حنيفة عن منصور بن زاذان (¬2) عن الحسن عنه: إنه معبد بن هوذة الذي ذكره البخاري في "تاريخه". قال ابن عدي: "هذا الذي قاله غير صحيح، وذلك أن معبد بن هوذة أنصاري فكيف يكون جهنيًّا؟ ومعبد الجهني معروف ليس بصحابي، وما حمل الدولابيَّ على ذلك إلا ميله لمذهبه". وقال ابن عدي أيضًا: "ابن حماد مُتَّهم فيما قاله في نعيم بن حماد لصلابته في أهل الرأي". وفي ترجمة نعيم من "مقدمة الفتح" (¬3) بعد الإشارة إلى حكاية الدولابي: "وتعقب ذلك ابن عدي بأن الدولابي كان متعصبًا عليه؛ لأنه كان شديدًا على أهل الرأي. وهذا هو الصواب". وقال في "التهذيب" (¬4): "حاشى الدولابي أن يُتَّهم، وإنما الشأن في شيخه الذي نقل ذلك عنه فإنه مجهول متهم". أقول: لا أرى الدولابي يبرأ من عُهْدة ذاك النقل المريب، فإن ابن عدي قال كما في "التهذيب" (¬5): "قال لنا ابن حماد - يعني الدولابي -: نعيم يروي ¬

_ (¬1) في "الكامل": (3/ 167). (¬2) (ط): "زازان"! (¬3) (ص 447). (¬4) (10/ 463). (¬5) (10/ 461).

عن ابن المبارك، قال النسائي: ضعيف، وقال غيره: كان يضع الحديث في تقوية السنة وحكايات في ثلب أبي حنيفة كلها كذب. قال ابن عدي: وابن حماد مُتَّهم ... ". فلا يحتمل أن يكون الدولابي سمع تلك الكلمة ممن يُعتد بقوله، وإلا لصرَّح به وصرخ به صراخًا. فإن كان سمعها ممن لا يعتد به فلم [1/ 495] يكن له أن يحكيها على هذا الوجه، بل كان عليه أن يُعْرِض عنها لعدم الاعتداد بقائلها، أو على الأقل أن يصرِّح باسمه. وإن كان لم يسمعها من أحد وإنما اختلق ذلك، فأمره أسوأ. وإن كان كنى بقوله: "غيره" عن نفسه، كأنه أراد: "وقلت أنا"، فالأمر في هذا أخف. وقد عُرف تعصب الدولابي على نعيم، فلا يُقبل قوله فيه بلا حجة مع شذوذه عن أئمة الحديث الذين لا يكاد هو يُذكر معهم. وأما أبو الفتح محمَّد بن الحسين الأزدي، فهو نفسه على يَدَي عَدْلٍ! وترجمته في "تاريخ بغداد" (¬1) و"الميزان" (¬2) و"اللسان" (¬3) تبيِّن ذلك، مع أنه إنما نقل كلام الدولابي، وإن لم يصرِّح باسمه. والدليل على ذلك توافق العبارتين، أما عبارة الدولابي فقد مرَّت، وأما عبارة الأزدي فقال: "قالوا: كان يضع الحديث في تقوية السنة، وحكايات مزوَّرة في ثلب أبي حنيفة كلُّها كذب". أما كلام الأئمة فقال الإِمام أحمد: "لقد كان من الثقات". وقال العجلي: ¬

_ (¬1) (2/ 240). (¬2) (4/ 443). (¬3) (7/ 90).

"ثقة". وقال أبو حاتم مع تشدده: "صدوق". وروى عنه البخاري في "صحيحه" كما مرّ، وأخرج له بقية الستة إلا النسائي. وصحَّ عن ابن معين من أوجه أنه قال: "ثقة"، وروى عنه. وجاء عنه أنه مع ثنائه عليه ليَّنه في الرواية, وأتمُّ ذلك رواية علي بن حسين بن حبان وفيها عن ابن معين: "نعيم بن حماد صدوق ثقة رجل صالح، أنا أعرَفُ الناس به، كان رفيقي بالبصرة ... إلا أنه كان يتوهم الشيء فيخطئ فيه، وأما هو فكان من أهل الصدق". وقال الحافظ أبو علي النيسابوري: "سمعت النسائي يذكر فضلَ نُعيم بن حماد وتقدُّمه في العلم والمعرفة والسنن, ثم قيل له في قبول حديثه، فقال: قد كثر تفرّده عن الأئمة المعروفين بأحاديث كثيرة، فصار في حدِّ من لا يُحتج به". وهذا يدل أن ما روي عن النسائي أنه قال مرة: "ليس بثقة" إنما أراد بها أنه ليس في حدَّ أن يُحتج به. وهَبْ أن النسائي شدَّد، فكلام الأكثر أرجح ولا سيما ابن معين، لكمال معرفته ولكونه رافق نُعيمًا وجالسه وسمع منه وخَبَره، حتى قال كما تقدم: "أنا أعرَفُ الناس به". وقد أورد له ابن عدي (¬1) أحاديث انتقدت عليه ثم قال: "وعامة ما أُنكر عليه هو الذي ذكرته، وأرجو أن يكون باقي حديثه مستقيمًا". وقال ابن حجر في "التهذيب" (¬2): "أما نعيم فقد ثبتت عدالته وصدقه، ولكن في حديثه أوهام معروفة، وقد [1/ 496] قال فيه الدارقطني: إمام في السنة، كثير الوهم. وقال أبو أحمد الحاكم: ربما يخالف في بعض حديثه. وقد مضى أن ابن ¬

_ (¬1) في "الكامل": (7/ 16 - 19). (¬2) (10/ 463).

عدي تتبع ما وهم فيه، فهذا فصل القول فيه". وإنما أوقع نعيمًا فيما وقع فيه من الأوهام أنه سمع فأكثر جدًّا من الثقات ومن الضعفاء. قال أحمد بن ثابت أبو يحيى: "سمعت أحمد ويحيى بن معين يقولان: نُعيم معروف بالطلب"، ثم ذمَّه بأنه يروي عن غير الثقات. وفي "الميزان" (¬1) عن ابن معين: "نعيم بن حماد ... كتب عن رَوْح بن عُبادة خمسين ألف حديث". هذا ما سمعه من رجل واحد ليس هو بأشهر شيوخه، فما ظنُّك بمجموع ما عنده على كثرة شيوخه؟ وقال صالح بن محمَّد: "كان نعيم يحدِّث من حفظه، وعنده مناكير كثيرة لا يتابع عليها". فلكثرةِ حديث نعيم عن الثقات وعن الضعفاء واعتمادِه على حفظه كان ربما اشتبه عليه ما سمعه من بعض الضعفاء بما سمع من بعض الثقات، فيظن أنه سمع الأول بسند الثاني، فيرويه كذلك. ولو لم يخطئ وروى كما سمع لتبيَّن أنه إن كان هناك نكارة، فالحَمْل فيها على من فوقه. وقد تقدم أن ابن عدي تتبَّع ما انْتُقِد على نعيم، وذكر الذهبي في "الميزان" ثمانية أحاديث، وكأنها أشد ما انتقد على نعيم، وما عداها فالأمر فيه قريب، ولا بأس أن أسوقها هنا وانظر فيها على مقدار فهمي. وأسأل الله التوفيق. الحديث الأول: أخرجه الحاكم في "المستدرك" (ج 4 ص 430): " ... نعيم بن حماد، ثنا عيسى بن يونس، عن حريز بن عثمان، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه، عن عوف بن مالك رضي الله عنه ¬

_ (¬1) (5/ 392 - 395).

قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ستفترق أمتي على بضع وسبعين فرقةً أعظمها فرقة قوم يقيسون الأمور برأيهم، فيحرِّمون الحلال، ويحلَّلون الحرام". قال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين". أقول: هذا الحديث أشدُّ ما أُنكِر على نعيم. أنكره ابن معين، ووثَّق نعيمًا وقال: "شُبِّه له". وقال دحيم: "هذا حديث صفوان بن عمرو، حديث معاوية" يعني أن إسناده مقلوب. ولهذا الحديث شواهد مرفوعة وموقوفة في "المستدرك" (ج 1 ص 128) و"سنن الدارمي" [1/ 497] (ج 1 ص 65) وغيرهما (¬1). وقد تابع نعيمًا على روايته عن عيسى بن يونس جماعةٌ منهم ثلاثة أقوياء: سويد بن سعيد الحَدَثاني، وعبد الله بن جعفر الرَّقِّي، والحكم بن المبارك الخَوَاستي. وسويد من رجال مسلم إلا أنه كان في آخر عمره يقبل التلقين، لكن في ترجمته ما يدل أنه كان إذا نُبِّه على خطئه رجع. وقد روجع في هذا الحديث، فثبت على أنه سمعه من عيسى بن يونس. ¬

_ (¬1) قلت: فيما أشار إليه المؤلف رحمه الله نظر، فإن الذي في "المستدرك" عدة أحاديث في تفرق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، وهي صحيحة كما بينته في غير هذا الموضع، لكن ليس في شيء منها ذكر القياس والتحريم والتحليل، وهو بيت القصيد - كما يقال - في حديث نعيم، والذي عند الدارمي أثر عن ابن مسعود، وعن غيره من التابعين في ذم قوم يقيسون الأمر برأيهم. وفي اعتبار مثل هذا مع وقفه وقصوره عن الشهادة الكاملة شاهدًا لحديث نعيم المرفوع نظر ظاهر عندي. فليتأمل. [ن].

والرقّي موثَّق إلاَّ أنه نُسب إلى الاختلاط بأخرة, لكن ذكر ابن حبان أن اختلاطه لم يكن فاحشًا. وراوي هذا الحديث عنه ثقة، وهو الذي أخبر بأنه اختلط، فقد يقال لو علم أنه اختلط اختلاطًا شديدًا وكان إنما سمع منه هذا الحديث عند اختلاطه، لكان الظاهر أن لا يرويه عنه إلا مقرونًا ببيان أنه إنما سمعه منه بعد الاختلاط. والخواستي وثَّقه ابن حبان، وابن منده، وابن السمعاني. وقال ابن عدي (¬1) في ترجمة سويد: "يقال: إنه لا بأس به"، لكنه عدَّه عند ذكر هذا الحديث في ترجمة أحمد بن عبد الرحمن بن وهب (¬2) فيمن سرق هذا الحديث من نعيم. وذكر الذهبي في "الميزان" متابعة هؤلاء الثلاثة لنعيم ثم قال: "قلت: هؤلاء الأربعة لا يجوز في العادة أن يتفقوا على باطل، فإن كان خطأ، فمن عيسى بن يونس". والله أعلم. الحديث الثاني: قال ابن جرير (¬3) في تفسير سورة "سبأ": "حدثني زكريا بن أبان المصري قال: ثنا نعيم قال: ثنا الوليد بن مسلم، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن ابن أبي زكريا، عن رجاء بن حَيْوَة، عن النوَّاس بن سمعان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أراد الله أن يوحي بالأمر أخذت السموات منه رجفةٌ - أو قال: رعدة - شديدة خوفَ أمر الله، فإذا سمع ¬

_ (¬1) (3/ 428). (¬2) (1/ 185). (¬3) (19/ 278).

بذلك أهل السموات صعقوا وخرُّوا لله سُجَّدا، فيكون أول من يرفع رأسه جبرائيل، [1/ 498] فيكلِّمه الله من وحيه بما أراد، ثم يمرُّ جبرائيل على الملائكة كلَّما مرَّ بسماء سأله ملائكتها: ماذا قال ربُّنا يا جبرائيل؟ فيقول جبرائيل: قال الحقَّ وهو العلي الكبير، قال: فيقولون كلُّهم مثل ما قال جبرائيل، فينتهي جبرائيل بالوحي حيث أمره الله". سئل عنه دحيم، فقال: لا أصل له. أقول: المتن غير منكر، وله شواهد، ففي "صحيح البخاري" (¬1) من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "إذا قضى الله الأمر في السماء، ضربت الملائكةُ أجنحتها خُضْعانًا لقوله، كأنه سلسلة على صَفْوان، فإذا فُزِّع عن قلوبهم، قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال (¬2): الحقَّ وهو العلي الكبير ... ". هكذا في تفسير سورة "سبأ"، وأخرجه البخاري أيضًا في "التوحيد" (¬3)، وذكر معه: "قال مسروق عن ابن مسعود: إذا تكلَّم الله بالوحي سمع أهلُ السموات شيئًا، فإذا فُزَّع عن قلوبهم وسكن الصوت عرفوا أنه الحق من ربكم ونادَوا: {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ} ". وذكر ابن حجر في "الفتح" (¬4) طرق حديث ابن مسعود وأنه جاء من عدة أوجه مرفوعًا وفي بعض طرقه: " ... فيصعقون، فلا يزالون كذلك حتى ¬

_ (¬1) (4701). (¬2) تكررت في (ط) خطأ. (¬3) (7481)، وأثر ابن مسعود ذكره قبله في أول الباب. (¬4) (13/ 456).

يأتيهم جبريل، فإذا جاءهم جبريل فُزِّع عن قلوبهم. قال: ويقولون: يا جبريل ماذا قال ربكم؟ قال: فيقول الحق، قال: فينادون: الحق الحق". وراجع تصير سورة "سبأ" من "تفسير ابن جرير"، وراجع "الفتح" في تفسيره سورة "سبأ" وفي "التوحيد". فالنكارة في السند فقط، وقد يقال: نعيم مكثر جدًّا، وكان يتتبع هذا الضرب من الأحاديث، والوليد مكثر جدًّا تفرَّد بأحاديث كثيرة فيُحتمل هذا الحديث لنعيم. فإن كان هناك خطأ، فقد مرَّ وجهه. والله اعلم. الحديث الثالث: في "تاريخ بغداد" (ج 13 ص 311) من طريق محمَّد بن إسماعيل الترمذي: "حدثنا نعيم بن حماد، حدثنا ابن وهب، حدثنا عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال، عن مروان بن عثمان، عن عمارة بن عامر، عن أم الطفيل امرأة أُبَيّ: أنها سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر أنه رأى ربَّه تعالى في المنام في أحسن صورة شابًّا موفرًا، رجلاه في خفٍّ عليه نعلان من ذهب، على وجهه فراش من ذهب". [1/ 499] أقول: في "اللآلئ المصنوعة" (ج 1 ص 16) (¬1) بعد ذكر حديث نعيم هذا: "ولم ينفرد بهذا الحديث، فقد رواه جماعة عن ابن وهب قال الطبراني: حدثنا روح بن الفرج، حدثنا يحيى بن بكير ح وحدثنا أحمد بن رشدين، حدثنا يحيى بن سليمان الجعفي وأحمد بن صالح قالوا: حدثنا عبد الله بن وهب - فذكره بسنده ومتنه سواء". ثم ذكر حديث حماد بن سلمة بسنده إلى ابن عباس مرفوعًا: "رأيت ربِّي في صورة شابٍّ ¬

_ (¬1) (1/ 29).

له وفرة" وتصحيح أبي زُرْعة له وعدة متابعات وشواهد له. والطبراني ورَوْح ابن الفرج ويحيى بن بُكير من الثقات. وفي يحيى كلام يسير لا يضرُّه، وهو من رجال "الصحيحين". ويحيى بن سليمان وأحمد بن صالح ثقتان، لكن الراوي عنهما أحمد بن رشدين فيه كلام، وقد وثَّقه مسلمة. وفي "تاريخ بغداد" (¬1) من طريق محمَّد بن أحمد ابن الحداد الفقيه أنه سمع النسائي يقول: "ومَنْ مروان بن عثمان حتى يُصدَّق على الله عزَّ وجلَّ؟! " وهذا يُشعر بأن النسائي عرف ثبوتَ الحديث عن ابن وهب بسنده، فلم يحمل على نُعيم ولا يحيى بن بكير، وإنما ترقى إلى مروان بن عثمان. ومروان ضعَّفه أبو حاتم، وقال ابن حبان في ترجمة عمارة بن عامر (¬2): "حديثًا منكرًا، لم يسمع عمارة من أم الطفيل" فأعلّه بالانقطاع. وعلى كلَّ حال فقد ظهرت براءة نعيم من عُهدة هذا الحديث. الحديث الرابع: قال الترمذي في أواخر كتاب الفتن من "جامعه" (¬3): "حدثنا إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني، حدثنا نعيم بن حماد، حدثنا سفيان بن عيينة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: إنكم في زمانٍ من ترك منكم عُشْرَ ما أُمر به هلك، ثم يأتي زمان مَن عمل منكم بعُشْر ما أُمر به نجا. قال أبو عيسى: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث نعيم بن حماد عن سفيان بن عيينة. قال: وفي الباب عن أبي ¬

_ (¬1) (13/ 313). (¬2) في كتاب "الثقات": (5/ 245). (¬3) (2267).

ذر وأبي سعيد". أقول: حديث أبي ذر في "مسند أحمد" (ج 5 ص 155) (¬1) و"التاريخ الكبير" للبخاري (ج 1 قسم 2 ص 371). فكأنه وقع لنعيم حديث أبي ذر أو أبي سعيد بسند، وحديث آخر عن سفيان بن عيينة بسنده، فاشتبه عليه الحديثان، فظن أنه سمع ذاك المتن بهذا السند. والله أعلم. الحديث الخامس والسادس: في "الميزان": "ومنها حديثه عن ابن المبارك وعبدة عن [1/ 500] عبيد الله عن نافع عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يكبّر في العيدين سبعًا في الأولى، وخمسًا في الثانية، والمحفوظ أنه موقوف". وفيه: "نعيم عن الدراوردي عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعًا، قال: لا تقل: أهريق الماء، ولكن قل: أبول. والصواب أنه موقوف". أقول: إنْ ثبت رجحان الوقف فيهما، فالأمر هيِّن، ومثل هذا الخطأ لم يكد يسلم منه أحد، كما ترى في كتب العلل. وقد اغْتُفِر أكثر من ذلك لمن لا يساوي نُعَيمًا في كثرة الحديث ولا يَنصُفه. الحديث السابع والثامن: في "الميزان": "بقية، عن ثور، عن خالد بن مَعدان، عن واثلة بن الأسقع مرفوعًا: المتعبّد بلا فقه كالحمار في الطاحونة. ¬

_ (¬1) (21372).

259 - الوضاح بن عبد الله أبو عوانة أحد الأئمة

وبه قال: تغطية الرأس بالنهار فقه، وبالليل ريبة. لم يروهما عن بقية سواه". أقول: بقيّة بن الوليد بحر لا ساحل له، كان يأخذ عن كل من دبَّ ودرَج، ويدلِّس، فالتفرُّد عنه ليس بالمنكر ولا سيما لمثل نعيم. فهذه هي الأحاديث التي ذُكرت في "الميزان" في ترجمة نعيم، وقضية ذلك أنها أشدُّ ما انتُقِد عليه. ومن تدبَّر ذلك، وعلم كثرة حديث نعيم وشيوخه، وأنه كان يحدِّث من حفظه، وكان قد طالع كُتب العلل = جزَمَ بأن نعيمًا مظلوم، وأن حقَّه أن يُحتج به ولو انفرد، إلا أنه يجب التوقف عما يُنكَر مما ينفرد به؛ فإن غيره من الثقات المتفق عليهم قد تفردوا وغلطوا. هذا الوليد بن مسلم يقول أبو داود: "روى عن مالك عشرة أحاديث ليس لها أصل، منها أربعة عن نافع"، ولذلك نظائر. فأما الاحتجاج به فيما توبع عليه فواضح جدًّا، وكذلك ما يرويه من كلام مشايخه أنفسهم، إلا أنه قد يحتمل أن يروي بعض ذلك بالمعنى، فيتفق أن يقع فيما رواه لفظ أبلغُ مما سمعه، وكلمة أشدُّ، فإذا كان للفظ الذي حكاه متابعة أو شاهد اندفع هذا الاحتمال. والله أعلم. (¬1) 259 - الوضّاح بن عبد الله أبو عَوانة أحد الأئمة: راجع "الطليعة" (ص 43 [1/ 501] و46 و53 و59 و106 و108) (¬2) ¬

_ (¬1) نوح بن أبي مريم. تقدم له ذكر في ترجمة نعيم لما رواه البيهقي عن نعيم عنه، وكما قال الأستاذ: "كلام أهل الجرح فيه معلوم" [المؤلف]. (¬2) (ص 32 و39 و41 و55 و84).

والعبارة التي نقلتها (ص 57) عن "الثقات" وجدتها كذلك في نسخة أخرى من "الثقات" جيدة في المكتبة السعيدية بحيدراباد. وما ذكرته في الموضع الأخير رأيت ما يتعلق به في ترجمة أبي عوانة من "تاريخ جرجان" (¬1) لحمزة بن يوسف السهمي قال: "سمعت أبا بكر الإسماعيلي وعبد الله بن عدي الحافظ يقولان: أبو عوانة اسمه الوضّاح، وهو من سَبْي جرجان، سكن البصرة، وهو مولى يزيد بن عطاء الواسطي، مات سنة سبعين ومائة". وتعقَّب الأستاذ في "الترحيب" (ص 41) ما ذكرته في "الطليعة" (ص 53 - 55) أن علي بن عاصم إنما قال: "وضاح" لا "وضاع"، فذكر الأستاذ أن قولي في دائرة الاحتمال. قال: "لكن قول علي بن عاصم في جرير بن عبد الحميد: ذاك الصبي، وفي شعبة: ذاك المسكين، يُبعد احتمالَ ذكر اسم أبي عوانة، على أن الغالب في اسمه: الوضاح - باللام، بل يكون علي بن عاصم أسرف في رميه أبا عوانة بالوضع والكذب". أقول: ليس في هذا ما يدفع الحق، فقد ذكرتُ في "الطليعة" من القرائن ما هو أقوى من هذا بكثير، بل ليس لهذا قوة البتة، فإن من المعروف أن ذكر الرجل بكنيته إكرام له، وكان أبو عوانة مشهورًا بكنيته لا يكاد يُذكر إلا بها. فنصَّ عليّ بن عاصم على اسمه تأكيدًا لاحتقاره، ردًّا على مخاطبه الذي ذكره بلفظ "أبو عوانة"، كأنه قال: "ليس بأهل أن يُذكر بكنيته وإنما ينبغي أن يُذكر اسمه". ولهذا الغرض نفسه قال: "وضّاح" بترك اللام, لأن في الإتيان باللام تفخيمًا للاسم ينافي غرضه. ولم يتفق له مثل هذا في شعبة وجرير، ¬

_ (¬1) (ص 481).

260 - الوليد بن مسلم

لأنهما معروفان باسميهما, ولا تدخل عليهما اللام، فاعتاض عن ذلك بأن ترك التلفظ باسميهما. على أن في ترجمة أبي عوانة من "تاريخ البخاري" (¬1): "وضاح" بدون لام. وأكثر ما يذكر أبو عوانة بكنيته، فالغلبة التي زعمها الأستاذ ليست بحيث يسوغ الاعتداد بها, ولا أرى الأمر إلا أوضح من هذا, ولولا غلبة الهوى على الأستاذ الكوثري لَمَا كابر. والذي أوقع مصححَ "تهذيب التهذيب" (¬2) في الغلط مع قُرب الشكل أنه لم يكن ممارسًا للفن، وترجمة أبي عوانة متأخرة عن ترجمة علي بن عاصم التي ذُكرت فيها تلك العبارة، وذِكْرُ [1/ 502] أبي عوانة فيما قبل ذلك إنما يقع بكنيته، وقد عَرَف ذاك المصحح أن من ألفاظ المحدثين "وضاع" فمشى عليه الخطأ، كما مشى عليه مثلُه وأبعَدُ منه في مواضع كثيرة من الكتاب، يعرفها الأستاذ وغيره. 260 - الوليد بن مسلم: في "تاريخ بغداد" (13/ 400 [421]) من طريق أبي معمر: "حدثنا الوليد بن مسلم قال: قال لي مالك بن أنس: أيُتكلَّم برأي أبي حنيفة عندكم؟ قلت: نعم، قال: ما ينبغي لبلدكم أن تُسْكَن". ومن وجه آخر عن أبي معمر: "عن الوليد بن مسلم قال: قال لي مالك بن أنس: أيُذكَر أبو حنيفة ببلدكم؟ قلت: نعم، قال: ما ينبغي لبلدكم أن تُسكن". قال الأستاذ (ص 114): "ينسبه ابن عدي إلى التدليس الفاحش". ¬

_ (¬1) (8/ 181). (¬2) (7/ 345).

261 - هشام بن عروة بن الزبير بن العوام

أقول: قد علم الأستاذ أن التدليس ليس بجرح، وإنما يُذكر صاحبه به لِيُعرَف، فلا يُقضى على ما جاء عنه بالعنعنة أنه متصل ما لم يتبيَّن ذلك من وجه آخر. وقد صرَّح الوليد هنا بالسماع غاية التصريح، فلا مدخل للتدليس هنا البتة. 261 - هشام بن عُروة بن الزبير بن العوَّام: تقدم ما يتعلق به في الفصل الثالث أوائل الكتاب (¬1). وقال الأستاذ في حاشية (ص 98) من "التأنيب": " ... على أن ما يؤخذ به هشام بعد رحيله إلى العراق أمور تتعلق بالضبط في التحقيق، وإلا فمالك أخرج عنه في "الموطأ". أقول: في "تهذيب التهذيب" (¬2): "قال أبو الحسن بن القطان: تغيَّر قبل موته، ولم نَرَ له في ذلك سلفًا". وقال الذهبي في "الميزان" (¬3): "هشام بن عروة أحد الأعلام، حجة، إمام، لكن في الكبر تناقصَ حفظه ولم يختلط أبدًا ... وتغيَّر الرجلُ تغيرًا قليلاً، ولم يبق حفظه كهو في حال الشباب فنسي بعض حفظه أو وهم ... ولما قدم العراق في آخر عمره حدَّث بجملة كثيرة من العلم، في غضون ذلك يسيرُ أحاديث لم يجوِّدها. ومثل ذلك يقع لمالك ولشعبة ولوكيع ولكبار الثقات، فدع عنك الخبط، وذَرْ خَلْطَ الأئمة الثقات بالضعفاء والمختلطين، فهو شيخ الإِسلام، ولكن أحسن الله عزاءنا فيك يا ¬

_ (¬1) (1/ 20 وما بعدها). (¬2) (11/ 51). (¬3) (5/ 426 - 427).

ابن القطان! ". [1/ 503] أقول: أما النسيان، فلا يلزم منه خلل في الضبط؛ لأن غايته أنه كان أولاً يحفظ أحاديث، فحدَّث بها، ثم نسيها فلم يحدِّث بها. وأما الوهم، فإذا كان يسيرًا يقع مثله لمالك وشعبة وكبار الثقات فلا يستحق أن يُسمى خللًا في الضبط، ولا ينبغي أن يسمى تغيرًا. غاية الأمر أنه رجع عن الكمال الفائق المعروف لمالك وشعبة وكبار الثقات. ولم يذكروا في ترجمته شيئًا نُسب فيه إلى الوهم إلا ما وقع له مرة في حديث أم زَرْع، والحديث في "الصحيحين" (¬1) وغيرهما عنه عن أبيه عن عائشة قالت: "جلس إحدى عشرة امرأة ... " فساقت القصة بطولها وفيها ذكر أم زرع، وفي آخره: "قالت عائشة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كنتُ لكِ كأبي زرع لأم زرع". وهذا السياق صحيح اتفاقًا, ولكن رواه هشام مرة أخرى، فرفع القصة كلَّها. وقد توبع على ذلك كما في "الفتح" (¬2)، ولكن الأول أرجح. واستدل بعضهم على رفع القصة كلِّها بأن المرفوع اتفاقًا وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "كنتُ لكِ كأبي زرع لأم زرع" مبنيّ على القصة فلا بد أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم بدأ، فذكر القصة، ثم بنى عليها تلك الكلمة أو بدأ بتلك الكلمة، فسألته عائشة، فذكر القصة. وأجيب باحتمال أن تكون القصة كانت مما يحكيه العرب وكان صلى الله عليه وآله وسلم قد سمعهم يحكونها، وعلم أن عائشة قد سمعتها، فبنى عليها تلك الكلمة. وعلى كل ¬

_ (¬1) البخاري (5189)، ومسلم (2448). (¬2) (9/ 257 - 258).

حال، فهذا وهم يسير قد رجع عنه هشام. بقي ما قيل: إن هشامًا كان يدلس، قال يعقوب بن سفيان: "ثقة ثبت لم يُنكر عليه شيء إلا بعد ما صار إلى العراق، فإنه انبسط في الرواية عن أبيه، فأنكر ذلك عليه أهل بلده. والذي نرى أن هشامًا تسهَّل لأهل العراق، إنه كان لا يحدِّث عن أبيه إلاَّ بما سمعه منه، فكأنَّ تسهُّله أنه أرسل عن أبيه عما كان يسمعه من غير أبيه عن أبيه". وجاء عن ابن خراش ما يُفهم منه هذا المعنى، وقد تُفهم منه زيادة لا دليل عليها فلا تُقبل من ابن خراش. وعدَّه ابن حجر في الطبقة الأولى من المدلسين (¬1)، وهي طبقة من لم يوصف بذلك إلا نادرًا. والتحقيق أنه لم يدلِّس قط، ولكن كان ربما يحدِّث بالحديث عن فلان عن أبيه، فيسمع الناس منه ذلك ويعرفونه، ثم ربما ذكر ذلك الحديث بلفظ "قال أبي" أو نحوه اتكالًا على [1/ 504] أنه قد سبق منه بيانُ أنه إنما سمعه من فلان عن أبيه، فيغتنم بعض الناس حكايته الثانية، فيروي ذاك الحديث عنه عن أبيه لما فيه من صورة العلوّ، مع الاتكال على أن الناس قد سمعوا روايته الأولى وحفظوها. وفي مقدمة "صحيح مسلم" (¬2) ما يصرِّح بأن هشامًا غير مدلِّس، وفيه أن غير المدلس قد يُرسل، وذكر لذلك أمثلةً منها حديث رواه جماعة عن هشام: "أخبرني أخي عثمان بن عروة عن عروة". ورواه آخرون عن هشام عن أبيه. ومع هذا فإنما اتفق لهشام مثل ذلك نادرًا، ¬

_ (¬1) "تعريف أهل التقديس" (ص 94). (¬2) (1/ 30 - 31).

262 - هشام بن محمد بن السائب الكلبي

ولم يتفق إلا حيث يكون الذي بينه وبين أبيه ثقةً لا شك فيه، كأخيه عثمان ومحمَّد بن عبد الرحمن بن نوفل يتيم عروة. والله الموفق. 262 - هشام بن محمَّد بن السائب الكلبي: من عادة الخطيب أن يذكر آخر ترجمة الرجل تاريخ وفاته، ورؤيا رُئيت له بعد موته، وأبياتًا قيلت في رثائه حيث يتيسر ذلك. فذكر في آخر ترجمة محمَّد بن الحسن تاريخ وفاته، واتصل بذلك أبيات رُثي بها، ثم ذكر ما روي أنه رئي في المنام فقال: "قال لي إني لم أجعلك وعاءً للعلم وأنا أريد أن أعذِّبك. قيل له: فما فعل أبو يوسف؟ قال: فوقي. قيل: فما فعل أبو حنيفة؟ قال: فوق أبي يوسف بطبقات". وربما اتفق أن يكون فيما يختم به الترجمة من الشعر غضاضة ما على صاحب الترجمة، فيغتفرها الخطيب في سبيل تزيينه "التاريخ"، كما فعل في ترجمة الأصمعيّ حيث ذكر البيتين المعروفين: لعن الله أعظمًا حملوها ... نحو دار البلى على خَشَباتِ أعظمًا تُبغض النبيَّ وأهلَ الْـ ... ـبيت والطيبين والطيباتِ هذا مع تبجيل الخطيب للأصمعيّ، وأنه لا غرض له في ذمِّه. فاتفق له ما هو دون هذا بكثير في ترجمة أبي يوسف (¬1)، ذكر ما روي عن معروف الكرخي أنه قال: "رأيتُ كأني دخلت الجنة، فإذا قصرٌ قد بُني، وتَمَّ (¬2) شَرْفُه ... فقلت: لمن هذا؟ فقالوا: لأبي يوسف القاضي ... بتعليمه الناس الخير ... ". ثم ذكر تاريخ وفاته، وذكر من طريق هشام ابن الكلبي أبياتًا ذكر ¬

_ (¬1) (14/ 261 - 262). (¬2) (ط): "وثم" خطأ.

263 - الهيثم بن جميل

أنها أُنشِدت على قبر أبي يوسف عقب وفاته أولها: سقى جدثًا به يعقوبُ أمسى ... من الوسميِّ منبجسٌ ركامُ (¬1) [1/ 505] وفيها تنكيت شعريّ خفيف بلا سبٍّ ولا لعن، فجاء الكوثري فذكر الأصمعيَّ، وغضب عليه لروايته ما سمع، وتجنَّى عليه، وذكر بدون أدنى مناسبة بيتي اللعن تشفيًّا من الأصمعي فقط. ثم في ترجمة محمَّد بن الحسن ضجَّ وعجَّ، وهاج وماج، وطوَّل وهوَّل، ينقم على الخطيب إيراد الأبيات المذكورة، والوقت أعزُّ من أن نضيعه في تعقُّب تهويلِ الكوثري. فأما ابن الكلبي، فكما قال. 263 - الهيثم بن جميل: في "تاريخ بغداد" (13/ 385 [398]) من طريق "عبد الله بن خُبَيق قال: سمعت الهيثم بن جميل يقول: سمعت أبا عوانة يقول: كان أبو حنيفة مرجئًا يرى السيف ... ". قال الأستاذ (ص 71): "قال ابن عدي: لم يكن بالحافظ، يغلط على الثقات". أقول: روى عبد الله بن أحمد عن أبيه: "كان أصحاب الحديث ببغداد ¬

_ (¬1) كذا هو بخط المصنف رحمه الله تعالى. والذي في "التاريخ" في المكان الذي أشار إليه (14/ 262): ............. أضحَى ... رهينًا للبِلَى هزج ركام وكذا هو في "التأنيب" (ص 177). فالظاهر أن المؤلف كتب البيت من حفظه، لا نقلاً عن "التاريخ". ويؤيد ذلك أنه ليس فيه قول المؤلف: "على قبر أبي يوسف عقب وفاته". [ن].

أبو كامل، وأبو سلمة (¬1) الخزاعي، والهيثم. وكان الهيثم أحفظهم، وأبو كامل أتقنهم". ذكر هذا في "التهذيب" (¬2) في ترجمة أبي كامل مظفر بن مدرك، ثم قال: "وحكى أبو طالب عن أحمد نحوه وزاد: لم يكونوا يحملون عن كل أحد، ولم يكتبوا إلا عن الثقات". وذكر في ترجمة الهيثم (¬3) قول أحمد: "ثقة". قال: "وقال العجلي: ثقة صاحب سنة. وقال إبراهيم الحربي: أما الصدق فلا يدفع عنه، وهو ثقة. وقال الدارقطني: ثقة حافظ". وذكر قبل ذلك قول ابن سعد: " ... وكان ثقة". أما الغلط فذكر له الذهبي في "الميزان" (¬4) حديثًا واحدًا، فإن كان هو الذي أشار إليه ابن عدي (¬5)، فابن عدي هو الغالط. والحديث هو ما رواه الهيثم عن أبي عوانة عن عبد الأعلى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعًا: "من قال في القرآن بغير علم فَلْيتبوَّأ مقعده من النار". كأن المُغَلِّط بنى على أن هذا المتن معروف من رواية سفيان الثوري عن عبد الأعلى، فأما أبو عوانة فالمعروف من روايته عن عبد الأعلى بهذا السند حديث: "اتّقوا الحديث عني إلا ما علمتم، فإنه من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار". ¬

_ (¬1) (ط): "أبو مسلمة" تصحيف. (¬2) (10/ 184). (¬3) (11/ 91). (¬4) (5/ 445). (¬5) لم يذكر ابن عدي في "الكامل": (7/ 103) هذا الحديث، وإنما ذكر حديث: "لا يحرم من الرضاع إلا ما كان في الحولين".

ويجاب عن هذا [1/ 506] بأن في "مسند أحمد" (ج 1 ص 323) (¬1): "حدثنا أبو الوليد، ثنا أبو عوانة، عن عبد الأعلى ... اتقوا الحديث عني ... ومن كذب في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار"، فجمع بين الجملتين. وأخرج الترمذي (¬2) عن سفيان بن وكيع عن سويد بن عمرو الكلبي عن أبي عوانة نحوه، وقال في الجملة الثانية: "ومن قال في القرآن ... ". فتبيَّن أن المتنين حديث واحد، اقتصر الثوري في روايته عن عبد الأعلى على أحدهما، واقتصر أبو عوانة في رواية الهيثم على الآخر، وجمعهما في رواية أبي الوليد وسويد بن عمرو. وفي "سنن البيهقي" (ج 7 ص 462) من طريق ابن عدي (¬3) بسنده إلى الهيثم: "نا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يحرم الرضاع إلا ما كان في الحولين". ثم حكى عن ابن عدي قال: "غير الهيثم يوقفه على ابن عباس". وذكره الدارقطني في "السنن" (ص 498) (¬4) ثم قال: "لم يُسنده عن ابن عيينة غيرُ الهيثم بن جميل، وهو ثقة حافظ". أقول: فإنْ حُكِمَ للهيثم كما قد يُشعر به كلام الدارقطني فذاك، وإن ترجح خطاؤه كما يشير إليه كلام ابن عدي، فمثل هذا الخطأ اليسير لم يسلم ¬

_ (¬1) (2675). (¬2) (2951). (¬3) في "الكامل" وسبقت الإحالة إليه. (¬4) (4/ 174).

264 - يحيى بن حمزة بن واقد الحضرمي الأصل الدمشقي

منه كبارُ الأئمة كما يُعلم من كتب العلل. ومع ذلك فحكاية الهيثم عن أبي عوانة في شأن أبي حنيفة ليست بمظنة للخطأ. والله المستعان. (¬1) 264 - يحيى بن حمزة بن واقد الحضرمي الأصل الدمشقي: في "تاريخ بغداد" (13/ 372 [374 - 375]) من طريق "يعقوب بن سفيان، حدثني علي بن عثمان بن نفيل، حدثنا أبو مسهر، حدثنا يحيى بن حمزة - وسعيد يسمع - أن أبا حنيفة قال: لو أن رجلاً عبد هذه النّعْل يتقرّب بها إلى الله لم أر بذلك بأسًا. فقال سعيد: هذا الكفر صراحًا". قال الأستاذ (ص 39): "يحيى بن حمزة قدري، لا يُتخذ قوله ضد أئمة السنة حجة". أقول: أما قوله من رأيه فربما، وأما روايته فلا وجه لردِّها كما مرَّ تحقيقه في القواعد (¬2). [1/ 507] وقد وثَّقه ابن معين ودحيم وأبو داود والنسائي ويعقوب بن شيبة وغيرهم، واحتج به الشيخان في "الصحيحين" وسائر الأئمة، ولم يُغمز بشيء سوى القدر، ولم يكن داعية. وقد توبع في هذه الحكاية كما مرّ في ترجمة القاسم بن حبيب (¬3). والله أعلم. ¬

_ (¬1) الهيثم بن خلف الدوري. راجع "الطليعة" (ص 51 - 52 [39]) وراجع ما مرّ في ترجمة المسيب بن واضح [رقم 245]، وراجع "تاريخ جرجان" [218] ترجمة سعيد بن سلم. [المؤلف] (¬2) (1/ 72 وما بعدها). (¬3) رقم (178).

265 - يحيى بن عبد الحميد الحماني

265 - يحيى بن عبد الحميد الحِمَّاني: في "تاريخ بغداد" (13/ 379 [386]) من طريق "مسدَّد بن قَطَن: سمعت أبي يقول: سمعت يحيى بن عبد الحميد يقول: سمعت عشرة كلُّهم ثقات يقولون: سمعنا أبا حنيفة يقول: القرآن مخلوق". قال الأستاذ (ص 56): "متكلَّم فيه إلى أن قيل فيه: كذاب". أقول: أما يحيى بن معين فكان يوثِّقه ويدافع عنه. وقد تضافرت الروايات على أن يحيى بن عبد الحميد كان يأخذ أحاديث الناس فيرويها عن شيوخهم، فإن كان يصرِّح في ذلك بالسماع، فهذا هو المعروف بسرقة الحديث، وهو كذاب؛ وإلا فهو تدليس. وعلى كل حال فلم يُتهم بوضع حديث أو حكاية، والأستاذ يعترف بأن أبا حنيفة كان يرى أن القرآن مخلوق، ويعدُّ ذلك من مناقبه (¬1). 266 - يزيد بن يوسف الشامي: في "تاريخ بغداد" (13/ 385 [397]) من طريقه: "قال لي أبو إسحاق الفزاري: جاءني نعي أخي من العراق ... ". قال الأستاذ (ص 70): "يقول عنه ابن معين: ليس بثقة. والنسائي: متروك". أقول: عبارة النسائي: "متروك الحديث". وقال أبو داود: "ضعيف"، وقال صالح بن محمَّد: "تركوا حديثه" وحكى ابن شاهين في "الضعفاء" (¬2) ¬

_ (¬1) انظر "التأنيب" (ص 53). (¬2) (ص 197 - 198).

267 - يعقوب بن سفيان بن جوان الفارسي أبو يوسف الفسوي

أن ابن معين قال: "كان كذابًا"، وقد أجمل بعضهم القول فيه. وتوبع على أصل القصة، لكن في روايته زيادة: أن أبا حنيفة هو الذي أفتى أخا أبي إسحاق بالخروج، فتشبَّث الأستاذ في كلامه في أبي إسحاق إبراهيم بن محمَّد الفزاري بهذه الزيادة، كما مرَّ في ترجمة أبي إسحاق (¬1)، وتغافل عن تفرُّد يزيد هذا بتلك الزيادة. والله المستعان. 267 - [1/ 508] يعقوب بن سفيان بن جُوَان الفارسي أبو يوسف الفَسَوي: قال الأستاذ (ص 100): "يقال: إنه كان يتكلم في عثمان". أقول: يعقوب إمام جليل عِلْمًا وحفظًا واتباعًا للسنة وذبًّا عنها، وهذه الساقطة التي لقطها الأستاذ أشار إليها الذهبي في ترجمة يعقوب من "تذكرة الحفاظ" (ج 2 ص 146) (¬2) قال: "قيل: إنه كان يتكلم في عثمان رضي الله عنه، ولم يصح"! 268 - يوسف بن أسباط: في "تاريخ بغداد" (13/ 324) من طريق "محبوب بن موسى يقول: سمعت ابن أسباط يقول: وُلِدَ أبو حنيفة وأبوه نصراني". قال الأستاذ (ص 17): "من مغفّلي الزّهاد، دَفَن كتبه واختلط، واستقر الأمر على أنه لا يحتج به. وأين هذا السند من سند الخبر الذي يليه في "تاريخ الخطيب" ¬

_ (¬1) رقم (8). (¬2) (2/ 583).

نفسه، وفيه: "وولد ثابت على الإِسلام" .. وجَدُّ أبي حنيفة النعمان بن قيس المرزبان بن زُوطى بن ماه كان حامل راية علي بن أبي طالب كرم الله وجهه يوم النهروان - كما ذكره ... السمناني في كتاب "روضة القضاة (¬1) " ... ودعاء علي كرم الله وجهه لوالد أبي حنيفة في عهد جدِّه مما ساقه الخطيب بسنده ... بل لم يكن بين أجداده نصراني أصلًا؛ لأنه منحدر النسب من دم فارسي". أقول: أما التغفيل والاختلاط فمن مفتريات الكوثري. وأما دفن كتبه فصحيح، وكذلك فعل آخرون من أهل الورع، كانوا يرون أن حفظ الحديث وروايته فرض كفاية، وأن في غيرهم من أهل العلم من يقوم بالكفاية وزيادة، ويرون أن التصدِّي للرواية مع قيام الكفاية بغيرهم لا يخلو من حفظ النفس بطلب المنزلة بين الناس. ثم لم يتصدّ يوسف للرواية بعد أن دفن كتبه، ولكن كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويرغِّب في الطاعة، ويحذِّر من المعصية، ويحضُّ على أتباع السنة، وينفِّر عن البدعة. فربما احتاج في أثناء ذلك لرواية الحديث، فيذكره من حفظه، فقد يقع له الخطأ في مظانه، وإلى أيِّ حدٍّ كان ذلك؟ قال ابن معين: "ثقة". وقال ابن حبان في "الثقات" (¬2): "كان من عُبَّاد أهل الشام وقُرَّائهم، سكن أنطاكية، وكان لا يأكل إلا الحلال، فإن لم يجده استفَّ التراب. وكان من خيار أهل زمانه، مستقيم الحديث، ربما أخطأ. مات سنة 195". فعبارة ابن حبان تعطي أن خطأه [1/ 509] كان يسيرًا لا يمنع من الاحتجاج بخبره حيث لم يتبين خطاؤه، ويشهد لذلك إطلاق ابن معين أنه ثقة. ¬

_ (¬1) (ط): "الفضلاء" خطأ، والتصويب من "التأنيب". (¬2) (7/ 638).

وقال البخاري (¬1): "كان قد دَفن كتبه، فصار لا يجيء بالحديث كما ينبغي". وهذا يُشعر بأنه كان يكثر منه الخطأ في مظانه، وقريب من ذلك قول ابن عدي (¬2): "من أهل الصدق، إلا أنه لما عدم كتبه صار يحمل على حفظه، فيغلط ويشتبه عليه، ولا يتعمّد الكذب". وبالغ الخطيب فقال: "يغلط في الحديث كثيرًا" (¬3). فأما قول الأستاذ: "وأين هذا من سند الخبر الذي يليه"، فذاك الخبر من طريق عمر بن حماد بن أبي حنيفة قال: "أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطى، فأما زوطى فإنه من أهل كابل، ووُلِد ثابت على الإِسلام، وكان زوطى مملوكًا لبني تيم الله ثعلبة، فأعتق ... ". فهذا الخبر وإن خالف ما مر عن يوسف بن أسباط، فهو مخالف لما زاده السمناني عصري الخطيب كما يقوله الأستاذ، ولم يذكر السمناني سندًا فيما يظهر، وبينه وبين النهروان نحو أربعمائة سنة، ومخالف أيضًا لما يروى عن إسماعيل بن حماد من إنكار أن يكونوا مولى عتاقة". وما ذكر من دعاء علي رضي الله عنه لا يصح سنده إلى إسماعيل بن حماد كما أشار إليه في "تهذيب التهذيب" (¬4)، وإسماعيل إسماعيل! وفي الحكاية ما ينكره الأستاذ وهو قوله: "ولد جدي النعمان سنة ثمانين". وإن ¬

_ (¬1) في "التاريخ الكبير": (8/ 385). (¬2) (7/ 158). (¬3) في "المتفق والمفترق": (3/ 2090). (¬4) (10/ 449 - 452).

269 - أبو الأخنس الكناني

صح أنه من أبناء فارس لم يمنع ذلك أن يكون تنصَّر أحد آبائه، وقد كان سلمان الفارسي نصرانيًّا، وفي قصته أنه كان في بلاد فارس دعاةٌ إلى النصرانية. وأيًّا ما كان فالحرص على إثبات شيء مما يتعلق بذاك الاختلاف لا يليق بأهل العلم، وقد قال الله تبارك وتعالى: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 36 - 39]. 269 - أبو الأخنس الكناني: في "تاريخ بغداد" (13/ 375 [381 - 382]) من طريق "أحمد بن علي الأبَّار، حدثنا منصور بن أبي مزاحم، حدثني أبو الأخنس الكناني قال: رأيت أبا حنيفة - أو حدثني الثقة أنه رأى أبا حنيفة - آخذًا بزمام بعير مولاة للجهم قدمت [من] خراسان يقول جملها بظهر الكوفة". قال الأستاذ (ص 50): "الراوي عن أبي حنيفة في هذه الحكاية مغفَّل لا يدري هل رأى أبا حنيفة أو سمع من رآه". [1/ 510] أقول: الظاهر أن الشك ممن بعده، وأبو الأخنس هذا اسمه بكير كما ذكره الدولابي الحنفي في "الكنى" (ج 1 ص 117) وساق إلى "معاوية بن صالح قال: ثنا منصور ابن أبي مزاحم قال: ثنا أبو الأخنس بكير الكناني ... ". وقد تعدّدت الحكايات في شأن أبي حنيفة وامرأة جهمية، واختلفت في نسبتها إلى جهم، ففي بعضها أنها امرأة جهم، وفي بعضها أنها مولاته، وفي بعضها أنها امرأة كانت تجالسه. والله أعلم.

270 - أبو جزي بن عمرو بن سعيد بن سلم بن قتيبة بن مسلم الباهلي

270 - أبو جزي بن عمرو بن سعيد بن سلم بن قتيبة بن مسلم الباهلي: في "تاريخ بغداد" (13/ 375 [380 - 381]) من طريق يعقوب بن سفيان: "حدثنا أبو جزي [بن] عمرو بن سعيد بن سالم (صوابه سلم) قال: سمعت جدي قال: قلت لأبي يوسف: أكان أبو حنيفة مرجئًا؟ قال: نعم. قلت: أكان جهميًّا؟ قال: نعم. [قلت]: فأين أنت منه؟ قال: إنما كان أبو حنيفة مدرسًا فما كان من قوله حسنًا قبلناه وما كان قبيحًا تركناه". ذكر الأستاذ (ص 46) أن في الطبعة الهندية والنسخة الخطية من "التاريخ": "أبو جزي بن عمرو"، وهو الصواب. ثم شكك في سعيد بن سالم ومال إلى أنه سعيد بن سلم، ثم قال: "على أنه لا يعرف له ابنٌ يسمى عمرًا ولا ابنُ ابنٍ يكنى أبا جزي". أقول: بل ذلك معروف، ففي الباب (41) من الجزء الرابع من "خصائص ابن جني" (¬1): "أنشد الأصمعي أبا توبة ميمون بن حفص مؤدب عمرو بن سعيد بن سلم بحضرة سعيد ... ". وفي "الكامل" للمبرد (ص 716) (¬2): "حدثني علي بن القاسم قال: حدثني أبو قِلابة الجرمي قال: حججنا مرة مع أبي جزء بن عمرو بن سعيد. قال: وكنا في ذَراه، وهو إذْ ذاك بهيّ وضيّ، فجلسنا في المسجد الحرام ... : هذا أبو جزء أمير، ابن عمرو وكان أميرًا، ابن سعيد وكان أميرًا، ابن سلم وكان أميرًا، ابن قتيبة وكان ¬

_ (¬1) (3/ 311). أقول: وورد ذكره في مواضع أخرى من الخصائص (3/ 144، 309). (¬2) (3/ 9 - ت أبو الفضل).

271 - أبو جعفر

أميرًا". وراجع ترجمة أحمد بن الخليل (¬1). 271 - [1/ 511] أبو جعفر: تقدمت الإشارة إلى حكايته في ترجمة زكريا بن يحيى الساجي (¬2). قال الأستاذ (ص 18): "مجهول". أقول: لم يتبيَّنْ لي من هو؟ (¬3). 272 - أبو محمَّد: في "تاريخ بغداد" (13/ 379 [386]) من طريق "العباس بن عبد العظيم حدثنا أحمد بن يونس ... ". ومن طريق "محمَّد بن العباس - يعني المؤدب - حدثنا أبو محمَّد - شيخ له - أخبرني أحمد بن يونس ... ". قال الأستاذ (ص 57): "شيخ مجهول". أقول: إنما هي متابعة. 273 - ابن سختويه بن مازيار: في "تاريخ بغداد" (13/ 375 [381]) من طريق أبي حامد بن بلال: "حدثنا ابن سختويه (¬4) بن مازيار، حدثنا علي بن عثمان ... ". ¬

_ (¬1) رقم (17). (¬2) رقم (94). (¬3) أبو عاصم. راجع "الطليعة" (ص 29 - 30 [20 - 21]) ولا تلتفت إلى حركة المذبوح. [المؤلف] (¬4) كذا في الطبعة القديمة، وفي المحققة: "سختويه" بدون "ابن" وله ترجمة في "تاريخ الإِسلام" للذهبي (6/ 87).

قال الأستاذ (ص 48): "ليس محمدَ بن عمرو الشيرازي لتقدم وفاته، ولا هو إبراهيم بن محمَّد المزكَّي النيسابوري لتأخر وفاته عن وفاة أبي حامد بن بلال بدهر، ولا هو أحد أجداد المزكَّي لأن جدَّ هذا البيت سختويه [بن عبد الله، لا سختويه] بن مازيار كما هنا، وعلى فرض أنه أقيم عبد الله مقام مازيار يكون غير معلوم الصفة". أقول: ينبغي أن يراجع "تاريخ نيسابور" للحاكم، ولم أقف عليه. {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10].

مستدرك

مستدرك (¬1) - ص 427: هو حديث أبي سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الجنين يخرج ميتًا، فقال: "إن شئتم، فإن ذكاته ذكاة أمه". ادّعى الجصاص في "أحكام القرآن" (1/ 139) أن هذه الزيادة "يخرج ميتا" يشبه أن تكون زادها الساجي من عنده فإنه غير مأمون. وهذا باطل؛ فإنه قد تابعه في روايتها عن بندار محمَّد بن عبد الله بن ياسين - وهو ثقة - عند الدارقطني (4/ 273). - ص 526: هذا وهم من الكوثري، أحمد بن القاسم هذا لم يكن قاضيًا، ولم يوصف بأنه حنفي، وإنما المذكور في الحكاية هو أحمد بن محمَّد بن عيسى بن الأزهر البِرتي، القاضي الحنفي (ت 280). - ص 540: الظاهر أنَّ المرادَ بأبي العباس الجمَّال في رواية أبي الشيخ هو: أحمد بن جعفر بن نصر الرازي. ذكره الذهبي في "تاريخ الإِسلام" في موضعين (7/ 278 و381)، وذكر أنه يروي عن أحمد بن أبي سريج، ونقل عن الخليلي أنه قال عنه: "ثقة". وذكره المزّي في "التهذيب" في الرواة عن ابن أبي سريج. وهو من شيوخ أبي الشيخ، روى عنه في مواضع من "أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم -". وقد ظن المعلمي رحمه الله أن أبا العباس الجمال هو أحمد بن محمَّد ابن عبد الله بن مصعب الجمَّال، فهو الذي وصفه أبو الشيخ وأبو نعيم بالعلم ولم يوثّقاه. وهذا الجمَّال، وإن كان أبو الشيخ قد روى عنه في ¬

_ (¬1) أشرنا إلى موضع الاستدراك في الكتاب بـ (*).

مواضع من "طبقات المحدثين"، ولكن لم يذكروا له روايةً عن ابن أبي سريج في كتب التراجم. فاحتمال كون أبي العباس الجمال هو أحمد بن جعفر بن نصر الرازي الموثَّق أقوى من كونه هو أحمد بن محمَّد بن عبد الله. والله أعلم. - ص 711: هذا من أوهام ابن التركماني، فأبو رزين هو: مسعود بن مالك الأسدي الكوفي، تابعي كبير، يروي عن ابن مسعود وعلي وابن عباس وغيرهم، وروى عنه هذا الأثر عاصم بن أبي النجود، وتفرد به أبو حنيفة عن عاصم. فلعلّ ابن التركماني ظنّه أبا رزين العقيلي، وظنّ أن عاصمًا هو عاصم بن أبي رزين العقيلي ولكن يردُّ هذا أن الكلام الذي نقله عن الأئمة إنما هو في عاصم بن أبي النجود. - ص 712: نعم وفيه أيضًا (3/ 200): "عن سفيان وأبي حنيفة عن عاصم ... " على ما ادَّعاه ابن التركماني. ولكن الروايات التي أوردها الدارقطني عقبه توضّح أن الثوري إنما أخذه عن أبي حنيفة، فكان أحيانًا يصرّح بذكره، وأحيانًا يدلّس عنه.

آثار الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي (11) التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل تأليف الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني 1312 هـ - 1386 هـ تحقيق محمد عزير شمس ومحمد أجمل الإصلاحي المجلد الثاني وفق المنهج المعتمد من الشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد (رحمه الله تعالى) تمويل مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

بسم الله الرحمن الرحيم

مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية SULAIMAN BIN ABDUL AZIZ AL RAJHI CHARITABLE FOUNDATION حقوق الطبع والنشر محفوظة لمؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الطبعة الأولى 1434 هـ دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع مكة المكرمة - هاتف 5473166 - 5353590 فاكس 5457606 الصف والإخراج دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

القسم الثالث: البحث مع الحنفية في سبع عشرة قضية

البحث مع الحنفية في سبع عشرة قضية وهو القسم الثالث من كتاب "التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل"

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، الذي من يُرِدْ به خيرًا يفقِّهْه في الدين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلّ على محمَّد وعلى آل محمَّد، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمَّد وعلى آل محمَّد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. أما بعد، فهذه بضع عشرة مسألةً وردت فيها أحاديثُ ذكر الخطيب في ترجمة أبي حنيفة من "تاريخ بغداد" إنكارَ بعض المتقدمين على أبي حنيفة ردَّها، فتعرض لها الأستاذ محمَّد زاهد الكوثري في كتابه "تأنيب الخطيب"، فتعقَّبه في ذلك كما تعقَّبه في غيره. وسأذكر في كل مسألة كلامه، وما له، وما عليه. وأسأل الله تعالى التوفيق. ***

المسألة الأولى إذا بلغ الماء قلتين لم ينجس

المسألة الأولى إذا بلغ الماءُ قُلَّتَين لم ينجَسْ في "تاريخ بغداد" (13/ 389 [405]) من طريق "الفضل بن موسى السِّيناني يقول: سمعت أبا حنيفة يقول: مِن أصحابي مَنْ يبول قلَّتين. يردُّ على النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا كان الماء قُلَّتين لم ينجَسْ". قال الأستاذ (ص 83): "وحديث القلَّتين (1) لم يأخذ به أحد من الفقهاء قبل المائتين، (2) لأن في ذلك اضطرابًا عظيمًا، (3) ولم يقل بتصحيحه إلا المتساهلون، (4) ولم ينفع تصحيحُ من صحَّحه في الأخذ به، لعدم تعيّن المراد بالقلتين؛ (5) حتى إن ابن دقيق العيد يعترف في شرح "عمدة الأحكام" بقوة احتجاج الحنفية بحديث الماء الدائم في "الصحيح". (6) فدَعُونا معاشرَ الحنفية نتوضأ من الحنفيات ولا نغطِس في المستنقعات". أقول: في هذه العبارة ستة أمور، كما أشرت إليه بالأرقام. فأما الأمر الأول: فالمنقول عن السلف قبل أبي حنيفة وفي عصره مذهبان: الأول: أن الماء سواء أكان قليلاً أم كثيرًا لا ينجَس إلا أن تخالطه النجاسة فتُغيِّر لونَه أو ريحَه أو طعمَه. وإليه ذهب مالك، وكذلك أحمد في روايةٍ، وهو أيسر المذاهب علمًا وعملًا. وقد جاءت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحاديث أن الماء طَهورٌ لا يُنجَّسه شيء (¬1). وجاء في رواياتٍ ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (66) والترمذي (66) والنسائي (1/ 174) من حديث أبي سعيد الخدري، وحسَّنه الترمذي. قال الحافظ في "التلخيص" (1/ 13): صححه أحمد =

استثناءُ ما غيَّرت النجاسة أحدَ أوصافه، وهي ضعيفة من جهة الإسناد (¬1)، لكن حكوا الإجماع على ذلك (¬2). المذهب الثاني: أن هذا حكم الماء الكثير بحسب مقداره في نفسه. فأما القليل، فينجَس بوقوع النجاسة فيه، وإن لم تُغيَّر أحدَ أوصافه. والقائلون بهذا يستثنون بعض النجاسات كالتي [2/ 6] لا يدركها الطرف، والتي تعمُّ بها البلوى، وميتة ما لا دم له سائل؛ وتفصيل ذلك في كتب الفقه. ثم المشهور في التقدير أن ما بلغ قلَّتين فهو كثير، وما دون ذلك فهو قليل. جاء في هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثُ القلَّتين (¬3)، وروي من قول عبد الله بن ¬

_ = ويحيى بن معين وابن حزم. وأخرجه أبو داود (68) والترمذي (65) وابن ماجه (370) من حديث ابن عباس، وصححه ابن خزيمة (91) وابن حبان (1241، 1242) والحاكم في "المستدرك" (1/ 159). (¬1) أخرجه ابن ماجه (521) والدارقطني (1/ 28) والبيهقي (1/ 259) من حديث أبي أمامة الباهلي، وفي إسناده رشدين بن سعد وهو متروك. وأخرجه الدارقطني (1/ 28) من طريق راشد بن سعد عن ثوبان مرفوعًا. وفي إسناده أيضًا رشدين. ورواه الدارقطني (1/ 28) من طريق الأحوص عن راشد بن سعد مرسلاً. قال النووي: اتفق المحدثون على تضعيفه. وانظر "علل" الدارقطني (12/ 434 - 436) و"التلخيص الحبير" (1/ 26). (¬2) قال الشافعي في "اختلاف الحديث" من "الأم" (10/ 87، 88): وما قلتُ من أنه إذا تغيَّر طعم الماء أو ريحه أو لونه كان نجسًا، يُروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجهٍ لا يُثبت مثلَه أهلُ الحديث، وهو قول العامة، لا أعلم بينهم فيه اختلافًا. وانظر "معرفة السنن والآثار" للبيهقي (2/ 82). (¬3) سيأتي كلام المؤلف عليه.

عمر، وعبد الله بن عباس، وأبي هريرة، ومن قول مجاهد (¬1) وغيره من التابعين، وأخذ به نصًّا عبيدُ الله بن عبد الله بن عمر وبعضُ فقهاء مكة. والظاهر أنَّ كلَّ مَن روى الحديث من الصحابة فمَنْ بعدهم يأخذ به، ولا يُعدل عن هذا الظاهر إلا بإثبات خلافه. ولم يصحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تقدير آخر، فأما من بعده فرويت أقوال: أولها: عن ابن عباس، ذكر ذَنوبَين (¬2)، وفي سنده ضعف. ولو صحَّ لما تحتَّمت مخالفته للقلتين، فإن ابن عباس معروف بالميل إلى التيسير والتوسعة، فلعله حمل القلَّتين على الإطلاق، فرأى أنه يصدُق بالقلتين الصغيرتين اللتين تسع كلٌّ منهما ذَنوبًا فقط. ثانيها: عن سعيد بن جبير، ذكر ثلاثَ قِلال (¬3)، وسعيد كان بالعراق، فكأنه رأى قلال العراق صغيرةً، كما أشار الشافعي إلى ذلك في القِرَب، فحزَرَ سعيد أنَّ ثلاثًا من قلال العراق تعادل القلتين اللتين يُحْمَلُ عليهما الحديث. ثالثها: عن مسروق قال: "إذا بلغ الماءُ كذا لم ينجَّسه شيء". ونحوه عن ابن سيرين، وأبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود (¬4). وهؤلاء عراقيون، فإما أن ¬

_ (¬1) انظر لهذه الآثار "مصنف" ابن أبي شيبة (1/ 144) و"سنن" الدارقطني (1/ 24، 25). (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 144). (¬3) أخرجه أيضًا ابن أبي شيبة (1/ 144). (¬4) أخرج هذه الآثار ابن أبي شيبة (1/ 144). وفيها جميعًا: "كُرًّا" بدل "كذا". والكُرُّ كَيْل يُقدَّر باثني عشر وَسَقًا، والوسق ستون صاعًا.

يكونوا لم يحققوا مقدار القلتين في الحديث بقلال العراق، فأجملوا. وإما أن يكون كلٌّ منهم أشار إلى ماء معيَّن، فأراد بقوله: "كذا" أي بمقدار هذا الماء المشار إليه. وقد ثبت بقولهم أنهم يرون التقدير، ولَأَنْ يُحْمَل ذلك على التقدير المنقول عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أولى من أن يُحمَل على تقديرٍ لا يُعلَم له مستند من الشرع. رابعها: عن عبد الله بن عمرو بن العاص، ذكر أربعين قلة (¬1). ورُوِيَ مثله من وجه ضعيف عن أبي هريرة (¬2). وقيل عنه: أربعين غَرْبًا (¬3). وقيل: أربعين دلوًا (¬4). وهذا القول يحتمل معنيين: الأول المعنى المعروف لحديث القلتين. المعنى الثاني أن ما بلغ الأربعين لا ينجَس البتة، لا (¬5) بمخالطةِ نجاسةٍ لا تُغَيِّر أحد أوصافه لأنه قلتان وأكثر، ولا بمخالطةِ نجاسةٍ تغيَّر أحد أوصافه لأن ذلك لا يقع عادة؛ إذ لا يُعرف في ذاك العصر ببلاد العرب ماء يبلغ أربعين أو [2/ 7] أزيد تقع فيه نجاسةٌ تغيِّره. والمعنى الأول يحتاج إلى الاستثناء من منطوقه، فيقال: إلا أن يتغير؛ ومن مفهومه فيقال: إلا بعضَ النجاسات كميتة ما لا دم له سائل. ومع ذلك لا يكون لمفهومه مستند معروف من الشرع، بل المنقول عن الشرع خلافه، ¬

_ (¬1) أخرجه أبو عبيد في كتاب "الطهور" (160) وابن أبي شيبة (1/ 144) والدارقطني (1/ 27). (¬2) أخرجه أبو عبيد في كتاب "الطهور" (161) والدارقطني (1/ 27). (¬3) أخرجه الطبري في "تهذيب الآثار" (مسند ابن عباس) رقم (1091). (¬4) أخرجه أبو عبيد في كتاب "الطهور" (162) والطبري برقم (1092). (¬5) في المطبوع: "إلا". والمثبت يقتضيه السياق.

وأيضًا فلم يذهب إليه أحد من الفقهاء. فإما أن يترجح المعنى الثاني، وتكون فائدة ذاك القول أن مَن ورد ماءً فوجده متغيرًا، فإن كان من الكثرة بحيث لا يُعرف في العادة أن تقع فيه نجاسة تُغَيِّره، فله استعماله بدون بحث. وإن كان دون ذلك فعليه أن يَتروَّى ويبحث. وإما أن يُحمَل على المعنى الأول، ويُطرَح مفهومه، ويقال: لعل ذاك القول كان عند سؤال عن ماء بذاك المقدار وقعت فيه نجاسة ولم تغيِّره، فذكر الأربعين لموافقة الواقع لا للتقييد. هذا, ولم أجد عن المتقدمين من الفقهاء وغيرهم حرفًا واحدًا فيه التفاتٌ إلى ما اعتمده الحنفية من اعتبار مساحة وجه الماء دون مقداره. وكأنَّ الأستاذ شعر بهذا، فحاول عبثًا أن يُشرك مع مذهبه في ذلك مذهبَ القلتين، إذ قال: "لم يأخذ به أحد من الفقهاء قبل المائتين". وقد عَلِمتَ أنَّ القول بالقلَّتين مروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم عن جماعة من الصحابة والتابعين وغيرهم. فأما الحنفية، فذهبوا في الجملة إلى الفرق بين القليل والكثير، لكنهم لم يعتبروا مقدار الماء في نفسه، وإنما نظروا إلى مساحة وجهه، وعندهم في ذلك روايات: الأولى: أن الماء الراكد الذي تقع فيه نجاسة لا تُغَيِّر أحد أوصافه، إذا كانت مساحة وجهه بحيث يظن المحتاجُ خلوصَ النجاسة من أحد طرفيه إلى الآخر= تنجَّس (¬1)، وإلا فلا. ¬

_ (¬1) في الأصل: "بنجس"، ولعل الصواب ما أثبتُّه كما سيأتي في السطر التالي. ويمكن أن يكون "ينْجَسُ".

الثانية: أنه إذا كانت بحيث إذا حُرِّك أدناه اضطرب أقصاه تنجَّس، وإلَّا فلا. ولهم في الترجيح والتفريع اختلافٌ واضطرابٌ شديدٌ جدًّا، كما تراه في كتبهم المطولة (¬1). واستبعد بعضهم عدمَ اعتبار العمق، فاشترطوا عمقًا واختلفوا في قدره. فقيل: أن يكون بحيث لا ينحسر بالاغتراف. وقيل: أربع أصابع، وقيل: ما بلغ الكعبين، وقيل: شِبْر، وقيل: ذراع، وقيل: ذراعان! واختلفوا على الرواية الثانية في الحركة، فقيل: حركة المغتسل، وقيل: المتوضئ، وقيل: [2/ 8] اليد. ولم يعتبروا وقوع الحركة، وإنما ذكروها لمعرفة قدر المساحة. وسواءٌ في الحكم عندهم أكان الماء عند وقوع النجاسة وبعدها ساكنًا أم تحرَّك، وقالوا: إذا كان بالمساحة المشروطة فللمحتاج أن يستعمل من موضع النجاسة وإن لم يكن قد تحرَّك! وقالوا: إذا كانت مساحة وجه الماء تساوي القدر المشروط كفى، وإن كان دقيقًا كأن يكون طولُه مائة ذراع، وعرضُه ذراعًا! وقال محققهم ابن الهمام (¬2) في ترجيح الرواية الأولى: "هو الأليق بأصل أبي حنيفة، أعني عدم التحكم بتقدير فيما لم يرِدْ فيه تقدير شرعي". أقول: والرواية الأولى فيها تحكُّم. والبول مثلًا إذا وقع في الماء ثم حُرِّك الماء خلصتْ ذرَّات البول إلى جميع الماء، كما تشاهده إذا صببتَ قارورة مداد في حوض، فقد يظهر لون المداد في الماء واضحًا، وقد يظهر ¬

_ (¬1) انظر "فتح القدير" (1/ 77 وما بعدها)، و"حاشية ابن عابدين" (1/ 191 وما بعدها). (¬2) في "فتح القدير" (1/ 77).

بتأمل، وقد لا يظهر. وذلك بحسب اختلاف قدر الماء، وقدر المداد، وقدر لونه، وعلى كل حال فالخلوص محقَّق، وإنما لا يظهر اللون لتفرُّق الذرات. وظنونُ الناس لا ترجع غالبًا إلى دلالة، وإنما ترجع إلى طبائعهم، فمنهم متقزِّز ينفر عن حوض كبير إذا رأى إنسانًا واحدًا بال فيه. وآخر لا ينفر، ولكن لو رأى ثلاثة بالوا فيه لنفر. وثالث لا ينفر، ولو رأى عشرةً بالوا فيه! وإذا جردت الرواية الأولى عن التحكم لم يكد يتحصل منها إلا أنَّ قائلها وَكَل الناس إلى طباعهم، وفي عدِّ هذا قولًا ومذهبًا نظر. وقد حكى الحنفية أن محمَّد بن الحسن كان يقول بعشرٍ في عشر، ثم رجع وقال: "لا أوقِّت شيئًا" (¬1). وعقد الشافعي لهذه المسألة بابًا طويلًا تراه في كتاب "اختلاف الحديث" بهامش "الأم" (ج 7 ص 105 - 125) (¬2)، وذكر أنه ناظر بعضهم، والظاهر أنه محمَّد بن الحسن، وفي المناظرة (¬3): "قال: قد سمعتُ قولك في الماء، فلو قلتَ: لا ينجس الماء بحال للقياس على ما وصفتَ أن الماء يزيل الأنجاس، كان قولًا لا يستطيع أحدٌ ردَّه ... قلت: ولا يجوز إلا أن لا ينجس شيء من الماء إلا بأن يتغير ... أو ينجس كلُّه بكلِّ ما خالطه. قال: ما يستقيم في القياس إلاَّ هذا, ولكن لا قياسَ مع خلافِ خبرٍ لازم. قلتُ: فقد خالفتَ الخبرَ اللازم، ولم تقل معقولًا, ولم تقِسْ". وقال في موضع آخر (¬4): "فقال: لقد سمعتُ أبا يوسف يقول: قول ¬

_ (¬1) انظر "حاشية ابن عابدين" (1/ 191). (¬2) (10/ 82 - 95) ط. دار الوفاء. (¬3) المصدر السابق (10/ 89، 90). (¬4) المصدر السابق (10/ 93).

الحجازيين [2/ 9] في الماء أحسنُ من قولنا، وقولنا فيه خطأ". وقال في موضع آخر (¬1): "فقال: ما أحْسَنَ قولَكم في الماء! ". أقول: فانحصر الحق في المذهبين الأولين، وسقط ما يخالفهما. وأما الأمر الثاني، وهو الاضطراب في روايات ذاك الحديث، فالاضطراب الضارُّ أن يكون الحديث حجةً على أحد الوجهين مثلًا دون الآخر، ولا يتجه الجمع ولا الترجيح، أو يكثر الاضطراب ويشتدُّ بحيث يدل أن الراوي المضطرب الذي مدار الحديث عليه لم يَضبط. وليس الأمر في هذا الحديث كذلك، كما يُعلم من مراجعة "سنن الدارقطني"، و"المستدرك"، و"سنن البيهقي" (¬2). وأما الأمر الثالث، وهو قول الأستاذ: "ولم يقُلْ بتصحيحه إلا المتساهلون"، ففيه مجازفة. فقد صحَّحه الشافعي (¬3)، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه (¬4)، وأبو عبيد القاسم بن سلام (¬5). وحكى الشافعي عن مناظره من الحنفية - ويظهر أنه محمَّد بن الحسن - أنه اعترف بثبوته، كما ¬

_ (¬1) المصدر السابق (10/ 93). (¬2) انظر "سنن" الدارقطني (1/ 17، 18) و"المستدرك" (1/ 133) والبيهقي (1/ 260 - 262). وراجع "التلخيص الحبير" (1/ 29 وما بعدها) وتعليق أحمد شاكر على الترمذي (1/ 97 - 99). (¬3) في "اختلاف الحديث" من كتاب "الأم" (10/ 89). (¬4) نقل الترمذي (67) أقوال هؤلاء العلماء الذين أخذوا بهذا الحديث، وهذا يشير إلى صحته عندهم وعنده، كما ذكر ذلك أحمد شاكر في شرح الترمذي (1/ 98). (¬5) انظر كتاب "الطهور" له (ص 133).

في كتاب "اختلاف الحديث" بهامش "الأم" (ج 7 ص 115) (¬1) ولفظه: "فقلتُ: أليس تثبت الأحاديث التي وصفتُ؟ فقال: أما حديث الوليد بن كثير [وهو حديث القلتين]، وحديث ولوغ الكلب في الماء، وحديث موسى بن أبي عثمان = فتثبت بإسنادها. وحديث بئر بضاعة، فيثبت بشهرته وأنه معروف". واعترف الطحاوي (¬2) بصحته، كما يأتي. وصححه ابن خزيمة (¬3)، وابن حبان (¬4)، والحاكم (¬5)، وغيرهم. قال الحاكم في "المستدرك" (ج 1 ص 132): "حديث صحيح على شرط الشيخين، فقد احتجَّا جميعًا بجميع رواته ولم يخرجاه. وأظنهما - والله أعلم - لم يخرجاه لخلافٍ فيه ... " ثم ذكر الخلاف، وأثبت أنَّ ما هو متابعة تزيد الحديث قوة. وأما الأمر الرابع، وهو قول الأستاذ: "ولم ينفَعْ تصحيحُ مَن صحَّحه لعدم تعيُّن المراد بالقلتين". ففي "فتح الباري" (¬6): "واعترف الطحاوي من الحنفية بذلك [يعني بصحة الحديث]، لكنه اعتذر عن القول به بأن القُلَّة في العُرف تُطلَق على الكبيرة والصغيرة كالجَرَّة, ولم يثبت في الحديث تقديرُهما، فيكون مجملاً، فلا يُعمل به. وقوَّاه ابن دقيق العيد ... ". ¬

_ (¬1) (10/ 89) ط. دار الوفاء. (¬2) رواه في "شرح معاني الآثار" (1/ 15) و"شرح مشكل الآثار" (2644) بإسناد صحيح، وبنى عليه الكلام. (¬3) في "صحيحه" (92). (¬4) في "صحيحه" (1249). (¬5) في "المستدرك" (1/ 132، 133). (¬6) (1/ 348).

[2/ 10] أقول: قال الله عزَّ وجلَّ: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89]. ومن المساكين الصغير والكبير، والطويل الجسيم والقصير القضيف (¬1)، ومن المماليك الصغير والكبير. وقد يقال نحو ذلك في الإطعام والكسوة، إذ يَصدُقان بتمرة تمرة وقَلَنْسُوَة قلنسوة. وأمثال هذا في النصوص كثير. وفيها ذكر المقادير كالصاع والرطل والمثقال والميل والفرسخ وغير ذلك مما وقع فيه الاشتباه والاختلاف، ولم يقل أحد في شيء من ذلك: إنه مجمل. بل منهم من يقول بمقتضى الإطلاق، ومنهم من يذهب إلى الغالب أو الأوسط, ومنهم من يختار الأكمل. فيمكن الأخذ بمقتضى الإطلاق في القلتين، فيؤول ذلك إلى تحقيق المقدار بما يملأ قلتين من أصغر ما يكون من القلال. ولا يَخْدِش في ذلك أنه قد يكون مقدار قُلَّةٍ كبيرة أو نصفها مثلاً، كما قد يأتي نحو ذلك في كسوة المساكين على القول بأنه يكفي ما يُسمَّى كسوة مساكين. ويمكن الأخذ بالأحْوَط كما فعل الشافعي وغيره. ولا ريب أنَّ ما بلغ قلتين من أكبر القلال المعهودة حينئذٍ وزاد على ذلك داخلٌ في حكم منطوق الحديث حتمًا على كل تقدير، وهو أنه لا ينجَس، وأن ما لم يبلغ قلَّتين من أصغر القلال المعهودة حينئذ داخلٌ في حكم مفهوم الحديث حتمًا، وهو أنه ينجس. فلا يتوهم في الحديث إجمال بالنظر إلى هذين المقدارين، وإنما يبقى الشك في ما بينهما، فيؤخذ فيه بالاحتياط. ¬

_ (¬1) أي النحيف.

وقال ابن التركماني في "الجوهر النقي" (¬1): "قد اختُلِف في تفسير القُلَّتين اختلافًا شديدًا كما ترى، ففُسِّرتا بخمس قِرَب، وبأربع، وبأربعة وستين رطلاً، وباثنين وثلاثين رطلاً، وبالجرَّتين مطلقًا، وبالجرّتين بقيد الكبر، وبالخابيتين، والخابية: الحُبُّ. فظهر بهذا جهالة مقدار القُلّتين، فتعذَّر العملُ بها". أقول: أما الاختلاف في تفسير القُلة بمقتضى اللغة، فمَنْ تأمَّلَ كلامَ أهل اللغة وموارد الاستعمال وتفسير المحدِّثين السابقين ظهر له أن القُلّة هي الجَرَّة، وإنما جاء قيد الكبر من جهتين: الأولى: تفسير أهل الغريب لما ورد في الحديث (¬2) في ذكر سدرة المنتهى: "فإذا نَبِقُها مثلُ [2/ 11] قِلالِ هَجَر، وإذا ورقُها مثل آذان الفِيَلة". وقِلال هَجَر مشهورة بالكبر، وتفخيمُ شأن السدرة يقتضي الكبر. الثانية: تفسير المحتاطين لحديث القلتين. وفي "سنن البيهقي" (ج 1 ص 264) عن مجاهد تفسيرُ القلَّتين بالجرَّتين. ونحوه عن وكيع، ويحيى بن آدم. وعن ابن إسحاق: "هذه الجِرار التي يُستقى فيها الماء والدواريق". وعن هشيم: "الجرَّتَين الكبار". وعن عاصم بن المنذر: "الخوابي العظام". ¬

_ (¬1) (1/ 265) بهامش "السنن الكبرى". (¬2) أخرجه البخاري (3887) عن مالك بن صعصعة في حديث المعراج. وانظر "أعلام الحديث" للخطابي (3/ 1680) و"معالم السنن" (1/ 57) و"النهاية" لابن الأثير (4/ 104).

وأكثرُ الآخذين بحديث القلتين أخذوا بالاحتياط، فاشترطوا الكبر. والخابية هي الحُبُّ، والحُبُّ هو الجرة أو الجرة الكبيرة. وعلى كل حال فما بلغ جرَّتين من أكبر ما يُعهد من الجِرار داخلٌ في حكم منطوق الحديث حتمًا، وما لم يبلغ جرتين من أصغر ما يُعهد من الجِرار داخلٌ في حكم مفهومه حتمًا كما سلف. وأما الاختلاف في مقدار ما تسع، فأكثرُ الأوجه التي ذكرها ابن التركماني جاءت في خبرٍ (¬1) رواه ابن جريج عن محمَّد بن يحيى، عن يحيى بن عُقَيل، عن يحيى بن يعمر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا كان الماء قلتين لم يحمل نجسًا ولا بأسًا". رواه أبو قرة (¬2) عن ابن جريج وقال فيه: "قال محمَّد: فرأيت قِلالَ هَجَر، فأظنُّ كلَّ قُلَّة تأخذ قِرْبتَين". ورواه الدارقطني (¬3)، عن أبي بكر النيسابوري، عن أبي حميد المِصِّيصي، عن حجاج، عن ابن جريج؛ وقال فيه: "قال: فأظن أن كلَّ قُلَّةٍ تأخذ الفَرَقَيْن". ورواه البيهقي (¬4) عن أبي حامد أحمد بن علي الرازي، عن زاهر بن أحمد (¬5)، عن أبي بكر النيسابوري بإسناده مثله، وزاد: "والفَرَق ستة عشر ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي (1/ 263). (¬2) أخرجه البيهقي (1/ 264) من طريقه. (¬3) (1/ 24). (¬4) (1/ 263). (¬5) في الأصل: "طاهر" وهو خطأ. والتصويب من البيهقي. وهو أبو علي زاهر بن أحمد السرخسي المترجم في "سير أعلام النبلاء" (16/ 476).

رطلًا". ورواه الشافعي (¬1): "ثنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج بإسنادٍ لا يحضرني ذكرُه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إذا كان الماء قلَّتين لم يحمل خبثًا". وقال في الحديث: بقلال هَجَر. قال ابن جريج: وقد رأيت قِلال هَجر، فالقُلَّة تَسَعُ قِربَتين أو قِربتين وشيئًا". قال الشافعي (¬2): "كان مسلم يذهب إلى أن ذلك أقل من نصف القِربة أو نصفُ القِربة، فيقول: خمسُ قِرَب هو أكثر ما يَسَعُ قلتين، وقد تكون القلتان أقل من خمس قِرَب". قال الشافعي (¬3): "فالاحتياط أن تكون القُلَّة قِربتين ونصف ... وقِرَبُ الحجاز كِبار ... ". ومسلم بن خالد وإن ضعَّفه الأكثرون [2/ 12] ونسبوه إلى كثرة الغلط، فقد وثَّقه ابنُ معين وغيره، وقالوا: كان فقيه أهل مكة، وكانت له حلقة في حياة ابن جريج. وهذا الخبر مما يحتاج إليه الفقيه، فلا يُظَنُّ به الغلط فيه (¬4). وقد تابعه في الجملة أبو قُرَّة وهو ثقة. فلفظ "القِربتين" ثابت عن ابن ¬

_ (¬1) في كتاب "الأم" (2/ 10، 11) و"اختلاف الحديث" (10/ 85). (¬2) "الأم" (2/ 23). (¬3) "الأم": (2/ 11). (¬4) قلت: هذا غير مُسلّم، فإن لازمه قبول أحاديث الأحكام والزيادات التي تفرد بها بعض الفقهاء المتكلم فيهم أمثال أبي حنيفة وابن أبي ليلى وغيرهما؛ وهو مما لا يقوله المؤلف ولا غيره من أهل العلم، ثم لو سلمنا بذلك هنا فإسناد الزيادة من فوق مسلم بن خالد ضعيف لجهالة مَن فوق ابن جريج، فإن حمل على رواية أبي قرة عنه، فهي ضعيفة أيضًا لأن يحيى بن يعمر تابعي، ومحمد بن يحيى مجهول. وأما متابعة أبي قرة له في الجملة، فلا تفيد هنا لأن البحث خاص بزيادة "بِقلال هجر" =

جريج. فأما لفظ "الفَرَقيْن"، فإن كان بفتح الراء فيدفعه أن قِلال هَجَر معروفة بالكِبَر بحيث يضرب بها المثل كما مرَّ. وقد قال الأزهري (¬1) بعد أَنْ عاش في هَجَر ونواحيها سنين: "قِلال هَجَر والأحساء ونواحيها معروفة، تأخذ القُلَّةُ منها مزادةً كبيرةً من الماء، وتملأ الراوية قُلتين". والقِربة تكون من جلد واحد، والمزادة من جلدين ونصف أو ثلاثة، والراوية هي البعير الذي يحمل ¬

_ = وهي مما لم يتابعه عليها أبو قرة، وهب أنه قد توبع فهي لا تثبت لما عرفت من الضعف. على أن قوله: "وقال في الحديث: بقلال هجر" ليس صريحًا في الرفع، فكيف وقد رواه عبد الرزاق عن ابن جريج بلفظ: "قال ابن جريج زعموا أنها قلال هجر". فهذا صريح في الوقف. فسقط الاستدلال بها جملة. ثم كيف يمكن أن تكون هذه الزيادة محفوظة، ولم ترد في شيء من طُرق الحديث المحفوظة التي بها ثبت أصل حديث القُلتين لا برواية مسلم بن خالد له، بل القواعد الحديثية تعطي أن هذه الزيادة منكرة لتفرد ابن خالد بها وقد ضعَّفه الأكثرون، ومن شاء الاستزادة من التحقيق فعليه بـ "الإرواء" (1/ 60). والحق أن حديث القلتين مع صحته، فالاستدلال به على ما ذهب إليه الشافعية صعب إثباته, وعليه اعتراضات كثيرة لا قِبل لهم بردها, ولقد جهد المؤلف رحمه الله لتقرير الاستدلال به وتمكينه من بعض الوجوه من حيث منطوقه ومفهومه، ولم يتعرض للإجابة عن الاعتراضات المشار إليها، فمن شاء الوقوف عليها فليرجع إلى تحقيق ابن القيم في "تهذيب السنين" (1/ 56 - 74). والمختار في هذه المسألة إنما هو المذهب الأول الذي قرره المؤلف رحمه الله تعالى, لأن حديثه مع ثبوته فالاستدلال به سالم من أي اعتراض علمي، بل هو الموافق لسماحة الشريعة ويُسرها. [ن]. (¬1) انظر "تهذيب اللغة" (8/ 288).

مزادتي الماء. فالمراد هنا أن المزادتين اللتين يُستقَى فيهما على البعير تملآن قلتين، فكيف يعقل أن يكون [2/ 13] ما تسعُه القُلتان من قِلال هَجَر من الماء أربعة وستين رطلًا فقط؟ فإما أن يكون لفظ "الفَرقين" تصحيفًا من بعض الرواة، والصواب "القِرْبتين". وإما أن يكون "الفَرْقين" بسكون الراء، والفَرْق بسكون الراء مائة وعشرون رطلًا. وما وقع في رواية البيهقي عن الرازي عن زاهر: "والفرق ستة عشر رطلاً" تقديرٌ من بعض الرواة ظنَّ الفرقين بفتح الراء. وزاهر فيه كلام (¬1). وأما ما ذكره ابن التركماني من تفسير القُلَّتين معًا باثنين وثلاثين رطلًا، فإنما أخذه من قوله (¬2): "وقد جاء ذكر الفرق من طريق آخر أخرجه ابن عدي (¬3) من جهة المغيرة بن سِقْلاب، عن محمَّد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا كان الماء قُلتين من قِلال هَجَر لم يُنجِّسه شيء"، وذكر أنهما فرقان" (¬4). قال ابن التركماني: "وهذا يقتضي أن تكون القلتان اثنين وثلاثين رطلًا. والمغيرة هذا ضعَّفه ابن عدي، وذكر ابن أبي حاتم (¬5) عن أبيه أنه صالح. وعن أبي زرعة: جَزَري لا ¬

_ (¬1) هذا إذا كان زاهر بن طاهر [الشحّامي المتوفى سنة 533]، كما أثبته المؤلف. وقد نبَّهنا أنه أبو علي زاهر بن أحمد السرخسي المتوفى سنة 389، ولم نجد أحدًا تكلم فيه. (¬2) "الجوهر النقي" (1/ 264). (¬3) "الكامل" (6/ 359). (¬4) كذا ذكره ابن التركماني. والذي عند ابن عدي: "وذكر أنهما من قِلال هَجَر"، وليس فيه ذكر "الفرق". (¬5) "الجرح والتعديل" (8/ 224).

بأس به". أقول: الراوي الذي يطعن فيه محدثو بلده طعنًا شديدًا لا يزيده ثناءُ بعض الغرباء عليه إلا وهنًا, لأن ذلك يُشعِر بأنه كان يتعمد التخليط، فتزيَّن لبعض الغرباء، واستقبله بأحاديث مستقيمة، فظن أن ذلك شأنه مطلقًا، فأثنى عليه. وعرف أهل بلده حقيقة حاله. وهذه حال المغيرة هذا، فإنه جزري أسقطه محدثو الجزيرة. فقال أبو جعفر النفيلى: لم يكن مؤتمنًا. وقال علي بن ميمون الرقي: كان لا يَسْوَى بَعْرةً. وأبو حاتم وأبو زرعة رازيان كأنهما لقياه في رحلتهما، فسمعا منه، فتزيَّن لهما - كما تقدَّم - فأحسنا به الظنَّ. وقد ضعَّفه ممن جاء بعد ذلك: الدارقطني وابن عدي, لأنهما اعتبرا أحاديثه. وحسبك دليلًا على تخليطه هذا الحديث، فإن الناس رَووه عن ابن إسحاق، عن ابن عبد الله بن عمر، عن أبيه. ولا ذِكر فيه لقِلال هَجَر، ولا للتقدير؛ فخلَّط فيه المغيرة ما شاء. هذا، والذي في "الميزان" (¬1) في ترجمة المغيرة هذا: " ... عن محمَّد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعًا: إذا كان الماء قُلتين لم ينجِّسه شيء، والقُلة أربعة آصُع" ففي هذا أن القلة الواحدة اثنان وثلاثون رطلاً، لا القُلتان معًا. والصاع عند العراقيين ثمانية أرطال، وقد [2/ 14] يكون المغيرة رأى في بعض الروايات التقدير بالفَرْقين، فظنَّه بفتح الراء كما تقدم. وهو تالف على كل حال. هذا، والفَرْقان بسكون الراء قريبٌ من قِربتين وشيء من قِرَب الحجاز، ¬

_ (¬1) (4/ 163)، وكذا في "الكامل" لابن عدي (6/ 359).

فإنها كِبار كما ذكره الشافعي، فالفرقان مائتان وأربعون رطلًا. ومرَّ عن الشافعي وشيخِه مسلم بن خالد صاحبِ ابن جريج جعلُ الشيء نصفًا، وحرَّر بعض أصحاب الشافعي القِرْبة بمائة رطل، فتكون القلة مائتين وخمسين رطلًا. فتقاربت روايتا الفَرْقين، والقِرْبتين وشيء. فأما ما روي عن الإِمام أحمد أن القُلتين أربع قِرَب (¬1) فكأنه رجَّح رواية أبي قُرَّة عن ابن جريج، ورأى أن القُلتين في أصل الحديث مطلقتان، وأن قِلالَ هَجَرٍ أكبر من قلال المدينة، فرأى أن الزيادة على أربع قِرَب غلوٌّ في الاحتياط لا حاجة إليه. وأما قول إسحاق بن راهويه إن القُلتين ستُّ قِرَب، فكأنه أخذه من قول الشافعي: "خمس قِرَب" مع قوله: إن قِرَبَ الحجاز كبار، فاحتاط إسحاق، فجعلها ستَّ قِرَب بقِرَب العراق. وعلى كل حال، فذاك المقدار - أعني خمسَ قِرَب من قِرَب الحجاز - داخل هو وما زاد عليه في حكم منطوق الحديث حتمًا، أعني أنه لا ينجَس، لأنه يشتمل على قُلتين أو قلتين وزيادة، على جميع التفاسير؛ فدلالةُ الحديث على أنه لا ينجس حتمية. وكذلك دلالة الحديث على أن الماء القليل الذي لا يبلغ أن يكون قلَّتين في تفسير من التفاسير ينجَس= واضحة. فبطلت دعوى تعذُّر العمل بالحديث، وتحتَّم على مَن يعترف بصحته أن يعمل به فيما ذكر. وأما الأمر الخامس، وهو الاحتجاج بحديث الماء الدائم، فإنه صح في ¬

_ (¬1) كما في "المغني" لابن قدامة (1/ 37).

ذلك حديثان: الأول في النهي عن البول فيه. ففي "صحيح مسلم" (¬1) من حديث جابر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه نهى أن يُبال في الماء الراكد، ومن حديث أبي هريرة (¬2) عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لا يبولنَّ أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل منه". وفي رواية (¬3): "لا تَبُلْ في الماء الدائم الذي لا يجري ثم تغتسل فيه". وحديث أبي هريرة في "صحيح البخاري" (¬4)، وفيه: "ثم يغتسل فيه". فقد يقال من جانب الحنفية: ها هنا ثلاث قضايا: الأولى: فرَّق الحديثُ بين الراكد وغيره، وهو قولنا. [2/ 15] الثانية: دلَّ على أنَّ البول في الماء الراكد ينجِّسه، ولم يشترط التغيير، فهو حجة لنا على من يشترطه. الثالثة: قال في رواية البخاري: "ثم يغتسل فيه". وهو ظاهر في شمول الحكم للماء الذي يُمكِن الإنسانَ أن يغتسل فيه، ولا بد أن يكون أكثر من قلتين؛ فهو حجة لنا على مَن يقول بالقُلتين. أقول: أما القضية الأولى، فدلالة الحديث على التفرقة إنما هي بمفهوم المخالفة، والحنفية لا يقولون بها، فيلزمهم إلحاق الجاري بالراكد قياسًا، ¬

_ (¬1) رقم (281). (¬2) رقم (282). (¬3) لمسلم رقم (282/ 96). (¬4) رقم (239).

أو يقيموا على مخالفته له دليلًا آخر. أما نحن فنقول بدلالة مفهوم المخالفة، ولكننا نقول: ليس وجه المخالفة ما توهَّمه الحنفية أو بعضُهم حتى قال بعضُهم (¬1): "إناءان ماءُ أحدِهما طاهر، والآخر نجس, فصُبَّا من مكان عالٍ، فاختلطا في الهواء، ثم نزلا = طهُرَ كلُّه! ولو أُجريَ ماءُ الإناءين في الأرض صار بمنزلة ماء جار"! وقال بعضهم (¬2): "لو حفر نهرًا من حوض صغير، أو صبَّ رفيقُه الماءَ في ميزاب وتوضأ فيه، وعند طرفه الآخر إناءٌ يجتمع فيه الماءُ = جاز توضُّؤُه به ثانيًا وثم وثم"! وذكروا أن هذا معتبر حتى على القول بنجاسة الماء المستعمل. وقضية هذا أنه لو عمد إلى جرَّةٍ يصبُّ الماءَ منها في ميزاب، وقعد آخر على وسط الميزاب يبول فيه ويسيل بوله مع الماء، وعلى طرف الميزاب إناء يجتمع فيه ذاك الماء = كان ذاك الماء الذي خالطه البول واجتمع في ذاك الإناء طاهرًا مطهرًا، مع أنه لو وُضع في الجرة ابتداءً شيء يسير من ذاك البول لصار ماؤها نجسًا! ولا يخفى أن مثل هذا الفرق لا يُعقَل له وجه. وإنما الماء البخاري الخارج بمفهوم المخالفة في الحديث هو - بمقتضى التبادر والنظر - ما كان جاريًا بطبعه كالأنهار والعيون، مما ليس مفسدة البول فيه كمفسدة البول في الراكد، فإن الراكد يختلط به البول ويبقى بحاله؛ فإن اغتسل منه البائل وغيره كان مغتسلًا بماءٍ مخالطُه البول من أول اغتساله إلى آخره. وأما البخاري كماء النهر، فإن الدفعة التي وقع فيها البول تذهب فورًا ولا تعود، فلا يمكن ¬

_ (¬1) كما في "حاشية ابن عابدين" (1/ 187، 326). (¬2) كما في "حاشية ابن عابدين" (1/ 188).

البائلَ أن يعود فيغتسل فيها. وإنما يمكنه أن يعود فيغتسل في تلك البقعة، ولا ضَير؛ فإنَّ الماء الذي يكون فيها ماء جديد لم يخالطه بوله. ومن شأن الماء الجاري أن يتلاحق، فلا تكاد تمرُّ الدفعة التي وقع فيها البول مسافةً لها قدر حتى يتلاحق بها الماء المتجدِّد فيتغلب [2/ 16] عليها. وعلى فرض أنها حفظت بعضَ حالها حتى مرّت بإنسان يغتسل، فسرعانَ ما تُجاوزه ويعقُبها الماء الجديد بل المتجدد، فيذهب بأثرها. فهذا هو المعنى المعقول الذي به خالف الجاري الراكد، فوجب البناء عليه. وبذلك عُلِمَ الجواب. وأما القضية الثانية, فلو دل حديث جابر على تنجُّس الراكد بالبولة الواحدة لدلَّ على تنجُّس كل ماء راكد قلَّ أو كَثُر حتى البحر الأعظم. فالصواب أن هناك عدة علل إذا خُشيت واحدة منها تحقَّق النهي: الأولى: التنجيس حالاً. إما بأن يكون الماء قليلاً جدًّا تغيِّره البولة الواحدة، وإما بأن يكون دون المقدار الشرعي، وقد تقدم الكلام فيه. الثانية: التنجيس مآلاً. وذلك أنه لو لم يُنْهَ عن البول في الماء الراكد لأوشك أن يبول هذا، ثم يعود فيبول ويتكرر ذلك، وكذلك يصنع غيره، فقد يكثر البول حتى يغيِّر الماء، فينجِّسه. الثالثة: التقذير حالاً. قال الشافعي كما في هامش "الأم" (ج 7 ص 111) (¬1): "ومن رأى رجلاً يبول في ماء ناقع قذِرَ الشُّربَ منه والوضوءَ به". وقال قبل ذلك: "كما يُنهَى أن يتغوَّط على ظهر الطريق والظل والمواضع التي يأوي الناس إليها, لما يتأذى به الناس من ذلك". ¬

_ (¬1) "اختلاف الحديث" (10/ 86).

الرابعة: التقذير مآلًا. قد يكون الغدير أو المصنعة (¬1) كبيرًا جدًّا لا يقذَره الإنسان لبولةٍ واحدة، لكن إذا علم أن الناس يعتادون البول فيه قذِرَه. الخامسة: فشوُّ الأمراض. فقد تحقق في الطب أن كثيرًا من الأمراض إذا بال المبتلى بأحدها خرجت جراثيم المرض مع البول. فإن كان البول في ماء راكد بقيت تلك الجراثيم حتى تدخل في أجسام الناس الذين يستعملون ذاك الماء، فيصابون بتلك الأمراض. والإصابةُ بذلك أكثرُ جدًّا من الإصابة بالجُذام للقرب من المجذوم. وقد ثبت في "الصحيح" (¬2): "فِرَّ من المجذوم كما تفِرُّ من الأسد". وكثيرٌ منها أشدُّ ضررًا من جَرَب الإبل. وقد ثبت في "الصحيح" (¬3): "لا يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ على مُصِحًّ". وبهذا يبقى الحديث على عمومه، ولا يحتاج إلى إخراجه عن ظاهره بمجرد الاستنباط. فأما حال الضرورة فمستثنى من أكثر النواهي. ثم إن تحقَّق بعض [2/ 17] هذه العلل في ماء يصدق عليه أنه ليس براكد وجب أن يشمله الحكم. أما على قول مَن لا يَعتَدُّ بمفهوم المخالفة كالحنفية فواضح، وأما على قول من يعتد به فيُخَصُّ عمومُه بالقياس الواضح. ولا ريبَ أن الشرع لا يبيح أن يُلْقَى في الماء الجاري ما يضرُّ بالناس أو يؤذيهم. وعلى هذا، فلا حاجة في التخصيص إلى القياس، بل النصوص الزاجرة عن الإضرار والإيذاء كافية. ¬

_ (¬1) المصنعة: شبه الحوض يُجمع فيه ماء المطر ونحوه. (¬2) أخرجه البخاري (5707) من حديث أبي هريرة. (¬3) أخرجه البخاري (5771) ومسلم (2221) من حديث أبي هريرة.

فإن قيل: لو اعتبرنا العلل المذكورة واعتبرنا القياس لزم شمولُ المنع لكل ماء جارٍ، فيلزم اطِّراحُ المفهوم رأسًا. قلت: بل تبقى مياه السيول ونحوها التي تمرُّ بنفسها على مواضع النجاسة، فلا يبقى وجهٌ لمنع الإنسان عن البول فيها؛ على أن الذين يعتدّون بمفهوم المخالفة يشترطون ما لعلَّنا لو دقَّقنا للاحَ لنا أنه غير متحقَّق هنا. وفي القرآن عدة آيات لا يأخذون فيها بمفهوم المخالفة، ويعتلّون بوجوهٍ إذا تدبرتَ وجدتَ بعضها واردًا هنا. وأما حديث أبي هريرة، فإن كان قوله: "ثم يغتسلُ منه" على معنى الخبر - كما قرّره القرطبي، قال (¬1): كحديث: "لا يضرِبْ أحدكم امرأته ثم يضاجعُها" (¬2) - فالكلام فيه كما مرَّ، إلاَّ أنه زاد بقوله: "ثم يغتسل منه" التنبيهَ على بعض العلل. كأنه قال: كيف يبول فيه، ثم لعله يحتاج إليه فيغتسل منه، فيتنجَّس أو يتقذَّر؛ أو يدع الاغتسال مع حاجته إليه؟ وإذا كان هو يستقذره لبوله فيه، فغيرُه أولى بالاستقذار. والمؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه. ولا يدفع هذا أن تكون هناك علة أخرى، فإنّ النهي عامٌّ، وقد جاء مثله بدون هذا التنبيه، وهو حديث جابر. وإن كان المعنى على النهي عن الجمع بين البول والاغتسال، انصبَّ النهيُ على الاغتسال بعد البول، كأنه قيل: لا يغتسل في ماء دائم قد بال فيه. ¬

_ (¬1) في "المفهم" (1/ 542). (¬2) ذكره الحافظ في "الفتح" (1/ 347) نقلاً عن القرطبي. ولفظ الحديث كما عند البخاري (4942) ومسلم (2855) من حديث عبد الله بن زمعة: "يَعمِد أحدكم يَجْلد امرأته جَلْدَ العبد، فلعله يضاجعها من آخر يومه".

ويحتمل هذا النهي عللاً: إحداها التنجُّس، ثانيتها التقذر، ثالثتها أن يكون عقوبة للبائل؛ لأن الإنسان إذا علم أنه إن بال في الماء حُظِر عليه الاغتسالُ منه كان مما يمنعه عن البول. وقريب منه حديث المرأة التي لعنت ناقتَها، فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتخلية الناقة (¬1)، كأنه جعل عقوبة المرأة على لعنها الناقةَ أن لا تنتفع بها, لكي تنزجر هي وغيرها عن اللعن. فأي واحدة من هذه العلل وُجِدَت وُجِدَ النهيُ، وبذلك يساوق التعليلُ عمومَ النص. وإن كان المعنى: لا يبُلْ في الماء الدائم، فإن عصى فبال، فلا يغتسلْ منه؛ فآخره كما ذكر، وأوله كما مرَّ في حديث جابر. [2/ 18] وأما القضية الثالثة، فقد مرَّ ما يُعلم به الجواب عنها، على أن الماء إذا كان دون القُلتين بقليل، وكان في حفرة ضيقة أو حوض بقدر قعدة الإنسان إلا أنه عميق، أمكن الانغماس فيه؛ لأنه إذا قعد ارتفع الماء من الجوانب فيغمره. ومع ذلك فالاغتسال في الماء يصدُق بأن يقعد وسطَه ويغرف على نفسه. وفوق هذا، فكلمةُ "فيه" كأنها شاذة، والغالب في الروايات من ذلك الوجه وغيره كلمة "منه" (¬2). الحديث الثاني: النهي عن اغتسال الجنب فيه. وهو في "الصحيحين" (¬3) عن أبي السائب "أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب". فقال: كيف يفعل يا أبا هريرة؟ قال: يتناوله تناولًا". ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2595) من حديث عمران بن حصين. (¬2) انظر "فتح الباري" (1/ 348). (¬3) أخرجه مسلم (283). ولم أجده عند البخاري.

قد يستدل به على أن الماء يصير باغتسال الجنب فيه نجسًا أو غير مطهِّر. فأما النجاسة، فرويت عن أبي حنيفة، ثم رغب عن ذلك الحنفيةُ أنفسهم. وأما سلب التطهير فوافقهم عليه فيما دون القُلتين الشافعية والحنابلة. ومن يأبى ذلك يقول: إن علة النهي هي التقذير. وقد يحتمل غير ذلك من العلل تظهر بالتأمل، فيساوق التعليل عموم النص. وأما التفرقة بين الدائم والجاري فقد مرَّ ما فيها. وكذا إن قيل: إنَّ الحديث يدل على حصول المفسدة في الماء الذي يمكن أن يغتسل فيه الجنب ولا يكون إلا فوق القُلتين. فقد مرَّ مثله، والجواب عنه. وأما الأمر السادس، وهو قول الأستاذ: "فدعونا معاشرَ الحنفية نتوضأ من الحنفيات ولا نَغْطِس في المستنقعات"، فيأبى الأستاذ إلا التقليد حتى في السخرية (¬1)! ... ¬

_ (¬1) أقول: لقد فات المصنفَ رحمه الله تعالى النظرُ فيما ادعاه الأستاذ من اعتراف ابن دقيق العيد بقوة احتجاج الحنفية بحديث الماء الدائم، فإن الواقع خلافه. فهاك نصَّ كلامه في الشرح المذكور (1/ 121 - 125 بحاشية "العدّة"): "وهذا الحديث مما يستدل به أصحاب أبي حنيفة على تنجيس الماء الراكد وإن كان أكثر من قُلتين، فإن الصيغة صيغة عموم. وأصحاب الشافعي يخصون هذا العموم، ويحملون النهي على ما دون القُلتين. فيحمل هذا الحديث العام في النهي على ما دون القُلتين جمعًا بين الحديثين، فإن حديث القُلتين يقتضي عدم تنجيس القُلتين فما فوقهما. وذلك أخص من مقتضى الحديث العام الذي ذكرناه. والخاص مقدم على العام". فليتأمل القارئ في كلام ابن دقيق هذا: أهو اعتراف أم اعتراض! [ن].

المسألة الثانية رفع اليدين

المسألة الثانية رفع اليدين في "تاريخ بغداد" (13/ 389 [406]) من طريق وكيع: "سأل ابن المبارك أبا حنيفة عن رفع اليدين في الركوع، فقال أبو حنيفة: يريد أن يطير فيرفع يديه؟ قال وكيع: وكان ابن المبارك رجلاً عاقلاً، فقال: إن كان طار في الأولى فإنه يطير في الثانية! فسكت أبو حنيفة ولم يقل شيئًا". قال الأستاذ (ص 83): " .... (1) مع ظهور الحجة في حديث ابن مسعود ... (2) لم يسلم سند من أسانيد الرفع عند الركوع من علة. (3) بل لم يصح حديث في الرفع غير حديث ابن عمر (4) وهو لم يأخذ به في رواية أبي بكر بن عياش ... (5) ودعوى أحد الفريقين التواتر في موضع الخلاف المتوارث غير مسموعة. (6) وإنما المتواتر أن جماعة من الصحابة كانوا لا يرفعون، وجماعة منهم كانوا يرفعون. (7) فيدل ذلك على التخيير الأصلي، (8) وإنما خلافهم فيما هو الأفضل". أقول: أما الأمر الأول، فحديث ابن مسعود كما قال الدارقطني (¬1): "تفرَّد به محمدُ بن جابر - وكان ضعيفًا - عن حماد، عن إبراهيم. وغيرُ حماد يرويه عن إبراهيم مرسلًا عن عبد الله من فعله، غيرَ مرفوعٍ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو الصواب". ومحمد بن جابر ذكره الأستاذ (ص 116) بمناسبة ما جاء عنه أنه قال: "سرق مني أبو حنيفة كتاب حماد" فقال الأستاذ: "الأعمى، قال فيه أحمد: لا يُحدِّث عنه إلا مَن هو شرٌّ منه". وترى ترجمته في قسم التراجم (¬2)، ¬

_ (¬1) في "السنن" (1/ 295). (¬2) رقم (196).

والحاصل أنه ليس بعمدة. وحماد بن أبي سليمان سيئ الحفظ، حتى قال حبيب بن أبي ثابت: "كان حماد يقول: قال إبراهيم: فقلت له: والله إنك لتكذب على إبراهيم، أو إن إبراهيم ليخطئ". وقال شعبة: "قال لي حماد بن أبي سليمان: يا شعبة لا توقِفْني على إبراهيم، فإن العهد قد طال. وأخاف أن أنسى، أو أكون قد نسيتُ". انظر: "تقدمة الجرح والتعديل" (ص 165). وقوله: "لا توقفني إلخ" معناه: إذا قلتُ: "قال إبراهيم" أو نحوَ ذلك، فلا تسألني: أَسمعْتَه من إبراهيم أم لا؟ فيتبين [2/ 20] بهذا أنه قد كان يقول (¬1): "قال إبراهيم" ونحوه فيما لا يتحقق أنه سمعه من إبراهيم. وقد أجاب ابن التركماني (¬2) عن كلام الدارقطني، فدافع عن محمَّد بن جابر بما لا يُجدي، وقال: "إذا تعارض الوصل مع الإرسال، والرفع مع الوقف، فالحكم عند أكثرهم للرافع والواصل؛ لأنهما زادا، وزيادة الثقة مقبولة". كذا قال، وقد عُلِمَ أن محمَّد بن جابر ليس بثقة، وحمادًا سيئ الحفظ. فالحديث ضعيف من أصله، فكيف مع الخلاف؟ وقد قال الأستاذ (ص 153): "من أصوله - يعني أبا حنيفة - أيضًا: ردُّ الزائد متنًا كان أو سندًا إلى الناقص ... ". والذي عليه جهابذة الحديث الترجيح. هذا في اختلاف الثقات، وليس هذا منه، كما مرَّ. وروى النسائي (¬3) من طريق ابن المبارك، عن سفيان الثوري، عن ¬

_ (¬1) في المطبوع: "يقال". والمثبت يقتضيه السياق. (¬2) في "الجوهر النقي" (2/ 78). (¬3) (2/ 195).

عاصم بن كليب، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود قال: ألا أخبركم بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: فقام، فرفع يديه أول مرة، ثم لم يعُدْ. وقد روى الترمذي (¬1) عن ابن المبارك قال: "لم يثبت حديثُ ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرفع يديه إلا أول مرة". وفي "سنن الدارقطني" (ص 110) (¬2) و"سنن البيهقي" (ج 2 ص 79) عن ابن المبارك قال: "لم يثبت عندي ... " نحوه. قد يقال: لعل ابن المبارك عنى حديث محمَّد بن جابر. لكن قد دلَّ جزمهُ بعدم الثبوت ومحافظتُه على رفع اليدين على أنه لا يرى فيما رواه عن سفيان ما يشدُّ حديث محمَّد بن جابر ولو من جهة المعنى. وحديث سفيان رجاله ثقات. وعاصم وإن قال ابن المديني: لا يُحتج به إذا انفرد، فقد وثَّقه جماعة، وأخرج له مسلم في "الصحيح" (¬3). لكن هناك علل: الأولى: أن سفيان يدلِّس، ولم أر في شيء من طرق هذا الحديث عنه تصريحه بالسماع. الثانية: أنه قد اختُلف عليه. قال أبو داود (¬4) عقب روايته عن عثمان بن أبي شيبة عن وكيع - وستأتي -: "ثنا الحسن بن علي، ثنا معاوية وخالد بن عمرو وأبو حذيفة قالوا: نا سفيان بإسناده هذا قال: رفع يديه في أول مرة، ¬

_ (¬1) عقب الحديث (256). (¬2) (1/ 293). (¬3) انظر الأرقام (2078، 2725، 2992). (¬4) رقم (751).

وقال بعضهم: مرة واحدة". وفي "مسند أحمد" (ج 1 ص 442) (¬1): "ثنا وكيع، عن سفيان، عن عاصم ... قال عبد الله: أصلِّي بكم صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فرفع يديه في أولٍ". وأخرجه أبو داود (¬2)، عن عثمان بن أبي شيبة، عن وكيع. وفيه: "فصلى فلم يرفع يديه إلا مرة". [2/ 21] الثالثة: قال أحمد في "المسند" (ج 1 ص 418) (¬3): "ثنا يحيى بن آدم، ثنا عبد الله بن إدريس من كتابه، عن عاصم بن كليب، عن عبد الرحمن بن الأسود، نا علقمة، عن عبد الله قال: علَّمَنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلاةَ، فكبَّر ورفع يديه، ثم ركع وطبَّق بين يديه وجعلهما بين ركبتيه. فبلغ سعدًا، فقال: صدق أخي. قد كنا نفعل ذلك، ثم أُمِرْنا بهذا - وأخذ بركبتيه - حدثني عاصم بن كليب بهذا". فأعلَّ البخاريُّ في "جزء رفع اليدين" (¬4) حديث سفيان بحديث ابن إدريس، وقال: "ليس فيه: ثم لم يَعُدْ. فهذا أصح, لأن الكتاب أحفَظُ عند أهل العلم". يشير البخاري إلى أنَّ بعض الرواة لمَّا لم ير في القصة ذكر الرفع عند الركوع، وكان المشهور عن أصحاب ابن مسعود أنهم كانوا لا يرفعون إلا في أول الصلاة، فَهِمَ أن الواقع في القصة كذلك. ثم لما روى من حفظه روى بحسب ما كان فَهِمَ. ¬

_ (¬1) رقم (4211). (¬2) رقم (748). (¬3) رقم (3974). (¬4) (ص 80، 82).

وممّن أعلَّ حديث سفيان من الأئمة: أحمد، وأبو داود، وأبو حاتم، ومحمد بن نصر المروزي، وغيرهم. فمنهم من حمل الوهم على وكيع، ومنهم من حمله على سفيان (¬1). وزعم بعض الناس (¬2) أن اختلافهم في هذا يقتضي ردَّ قولهم جملةً، وليس هذا بشيء. والذي يظهر أنه إن كان سفيان دلَّسه، فالحملُ على شيخه الذي سمعه منه، وإلا فالوهم منه. وراجع "نصب الراية" (ج 1 ص 395). الرابعة: أنه ليس في القصة تصريح من ابن مسعود بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يرفع إلا في أول الصلاة. غاية الأمر أنه ذكر أنه سيخبرهم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم قام فصلَّى بهم. فإن بنينا على رواية ابن إدريس عن عاصم، فليس فيها ذكرُ أن عبد الله لم يرفع في غير أول الصلاة. فقد يكون رفَعَ ولم يذكر الراوي ذلك، كما لم يذكر وضع اليدين على الصدر، والقراءة، والتكبير للركوع؛ كأنه إنما كان يهمه من ذكر القصة شأنُ التطبيق. وفي "مسند أحمد" (ج 1 ص 413) (¬3) من طريق "أبي إسحاق، عن أبي الأسود (¬4)، عن علقمة والأسود: أنهما كانا مع ابن مسعود، فحضرت الصلاة، فتأخر علقمة والأسود، فأخذ ابنُ مسعود بأيديهما، فأقام أحدَهما عن يمينه، والآخرَ عن يساره. ثم ركعا، فوضعا أيديَهما على رُكَبهما، وضرب ¬

_ (¬1) راجع "العلل" لأحمد (1/ 369 - 371) ولابن أبي حاتم (2/ 123 - 125). (¬2) هو الزيلعي في "نصب الراية" (1/ 396). (¬3) رقم (3927). (¬4) كذا في الأصل وبعض نسخ "المسند"، والصواب "ابن الأسود"، وهو عبد الرحمن.

أيديَهما. ثم طبَّق بين يديه وشبَّك، وجعلهما بين فخذيه. وقال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فَعَله". وبنحوه رواه منصور، عن إبراهيم، عن علقمة والأسود، كما في "صحيح [2/ 22] مسلم" (¬1). وفيه (¬2) من طريق الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود وعلقمة نحوه. وزاد: "قال: فلما صلى قال ... وإذا كنتم ثلاثة فصلُّوا جميعًا، وإذا كنتم أكثر من ذلك فليؤمَّكم أحدكم، وإذا ركع أحدكم فلْيفرِشْ ذراعَيْه على فخذيه، ولْيجنَأْ ولْيطبِّقْ بين كفَّيه. فلكأني أنظر إلى اختلاف أصابع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فأراهم". فأكثر الروايات لا تذكر عدم الرفع كما ترى، وكثير منها لا تذكر حتى الرفع أول الصلاة. فيظهر من هذا أن الذي كان يهمُّ ابنَ مسعود من تعليمهم في تلك الصلاة ويهمُّهم من رواية القصة إنما هو مقام الثلاثة والتطبيق. ولذلك لم يذكر عقب الصلاة إلا هذين إذ قال: "إذا كنتم ثلاثة ... "، كما مرَّ. فإن قيل: فقد اشتهر عن علقمة والأسود وغيرهما من أصحاب ابن مسعود أنهم كانوا لا يرفعون إلا في أول الصلاة. ولو رأياه رَفَع في غير ذلك - ولا سيَّما في تلك الصلاة - لكان الظاهر أن يأخذوا ذلك عنه، فقد أخذوا عنه التطبيق وغيره. قلت: فقد أشار بعض أهل العلم إلى احتمال أن يكونا غفلا عن رفعه يديه في غير أول الصلاة، وأشار بعضهم إلى احتمال أن يكون ابن مسعود ¬

_ (¬1) رقم (534/ 28). (¬2) رقم (534/ 26).

ذُهِلَ عن الرفع، كبعض ما يسهو الرجل؛ لأن المهم في تلك الصلاة كان بيان الموقف والتطبيق، كما مرَّ. فإن قيل: هذه احتمالات بعيدة. قلت: هي على كل حال أقربُ من دفع ما ثبت عن جماعة من الصحابة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يرفع، وما تواتر عنهم أنهم كانوا يرفعون. فإن قيل: فقد ذهب بعضهم إلى احتمال النسخ. قلت: من الممتنع جدًّا أن يقع نسخٌ في مثل هذا الحكم، ولا يطلعَ عليه جمهور الصحابة ويختصَّ به ابن مسعود، ثم يكتفي من تبليغه مع اشتهار الرفع والإطباق عليه بما وقع في القصة على فرض ثبوتها. فإن قيل: فهل من شيء غير هذا؟ قلت: ذكر بعض أهل العلم أنه كما أن ابن مسعود طبَّق وأخبر بالتطبيق وأمر به، وقد تبين أن ذلك كان في أول الإِسلام ثم نُسِخ، واتفق الناس على ترك الطبيق؛ وكما قال إن موقف إمام الاثنين بينهما، وخالفه الناس في ذلك، واعتذروا باحتمال أن يكون رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعل ذلك في بيت ضيِّق = فكذلك حاله في عدم الرفع إن ثبت عنه. قد يكون الرفع في غير أول الصلاة لم يُشرع منذ [2/ 23] شُرِعت الصلاة، فرأى ابن مسعود النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم في أول الإِسلام يصلِّي ولا يرفع إلا في أول الصلاة. فأخذ ابن مسعود بذلك، كما أخذ بالتطبيق والموقف، وإن كان كلُّ ذلك كان أولاً ثم تُرِك. وقد يكون رأى النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم ترك الرفعَ في بعض الصلوات لبيان أنه ليس بواجب، فأخذ ابن مسعود بذلك.

فإن قيل: قضية الموقف قريبة, لأن غالب ما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي الجماعة بأكثر من اثنين. فاما قضيتا التطبيق والرفع، ففيما ذُكِر بُعْد. قلت: قد فتح الله تعالى - وله الحمد - بوجه يقرِّب الأمر في الثلاث كلها. وهو أن يقال: كأنه كان من رأي ابن مسعود أن النسخ لا يثبت بالترك وحده، بل يبقى الأول مشروعًا في الجملة على ما يقتضيه حاله. ويرى أن على العالم إذا خشي أن ينسى الناس الأمر الأول أن يسعى في إحيائه. فأما التطبيق، فقد علم ابن مسعود أنه كان مشروعًا، ثم تُرِك العملُ به. ورأى هو أن تركه ليس نسخًا له، بل إما أن يكون تركه رخصة؛ لأنه فيما يظهر أشقُّ من الأخذ بالرُّكَب. وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ربما يدع الأمر المستحب كراهيةَ المشقة، كما كان يعجِّل صلاة العشاء إذا جمعوا (¬1)، وأبطأ بها ليلةً، ثم خرج، فصلَّى، وقال: "إنه لَوقتها, لولا أن أشُقَّ على أمتي" (¬2). وإما أن يكونا سواءً، والمصلَّي مخيَّر بينهما، وإما أن يكون التطبيق مندوبًا أيضًا وإن كان الأخذ بالركب أفضل. وقد علم ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان ربما يدع ما هو في الأصل مندوبٌ، ليبيَّن للناس أنه ليس بواجب. وربما يفعل ما هو في الأصل مكروه، ليبيِّن للناس أنه ليس بحرام. وكان أبو بكر وابن عباس لا يضحُّون، كانوا يَدَعون التضحية ليبيِّنوا للناس أنها ليست بواجبة. فلما رأى ابن مسعود أن الناس قد أطبقوا على ترك التطبيق رأى أنه سنة قد أُمِيتتْ، فأحبَّ إحياءها، ففعَلَه، وأمر ¬

_ (¬1) كذا في (ط). والمعنى واضح، ولعله "اجتمعوا". (¬2) أخرجه مسلم (638) من حديث عائشة رضي الله عنها. وأخرجه البخاري (7239) ومسلم (642) من حديث ابن عباس بنحوه.

أصحابه بفعله. ولم يَخْشَ أن يؤدي ذلك إلى إماتة الأخذ بالركب، لعلمه أن مشروعية ذلك معلومة بين الناس. وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا قصَد بيان الجواز، فترك [ما هو في الأصل مندوب، أو فعلَ] (¬1) ما هو في الأصل مكروه؛ لا يخبر بقصده، بل يَكِلُ الناسَ إلى ما قد عرفوه من الدليل على ما هو الأصل في ذلك. وكذلك لم يُنقل [2/ 24] أن أبا بكر وعمر وابن عباس كانوا حين يتركون التضحية يبِّينون قصدهم، بل كانوا يتكلون على ما قد عرفه الناس من مشروعيتها. وأما وقوف إمام الاثنين بينهما، فلعلّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعله مرةً، ثم تقدَّم. فعلم ابن مسعود الأمرين، ولكنه رأى أن الأول لم يُنسخ، وأن كلا الأمرين مشروع وإن كان المتقدم أفضل. ثم لما رأى الناس أطبقوا على التقدُّم أحبَّ إحياء تلك السنة. وأما تركُ الرفع في غير أول الصلاة، فإن ثبت عن ابن مسعود فالظاهر أنه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم تَرَكه، إما في أول الإِسلام بأن يكون كان أولاً يقتصر على الرفع أول الصلاة، ثم رفع في بقية المواضع. وإما بعد ذلك بأن يكون ربما ترك الرفع في غير الموضع الأول لبيان أنه ليس في مرتبته، فإن الرفع أولَ الصلاة آكد، وذهب بعض أهل العلم إلى وجوبه. فلما رأى ابن مسعود أن الناس قد أطبقوا على المواظبة على الرفع في بقية المواضع مواظبتَهم على الرفع أولَ الصلاة تَرَكه لمصلحة البيان. وحالُ ذلك عنده دون حال التطبيق ووقوف إمام الاثنين بينهما، بدليل أنه عقِبَ تلك الصلاة أمرَ بهذين، ولم يَعْرِض للرفع كما مرَّ في حديث مسلم. ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق وبها يستقيم الكلام، وستأتي هذه العبارة بعد صفحتين.

وربما يقال: قد يكون ابن مسعود عَلِم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أولاً يطبَّق ولا يرفع عند الركوع والرجوع منه، ثم ترك التطبيق ورفع، فرأى ابن مسعود أن الرفع بدل من التطبيق. فأما الأخذ بالرُّكَب، فقد يكون رخصةً فقط. فلما بدا لابن مسعود إحياء التطبيق طبَّق ولم يرفع، لئلا يجمع بين البدل والمبدل. والله أعلم. فهذا غاية ما يقتضيه حسنُ الظن بابن مسعود، وهو أهل أن يُحسَن الظنُّ به. وعلى كل حال، فقد ثبت الرفع قطعًا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو فعل عباديٌّ متعلق بالصلاة، ولا يُعقَل أن يكون الفعل مندوبًا مطلقًا، ويكون الترك أيضًا مندوبًا مطلقًا، فما بقي إلا احتمال النسخ. والنسخ لا يثبت بمثل ما روي عن ابن مسعود، مع ما فيه من الكلام وما يطرقه من الاحتمال. وقد ترك الصحابة في عهد عثمان تكبيرات الانتقال أو الجهر بها، واستمرَّ ذلك حتى ظن بعضُ التابعين أن ذلك غير مشروع، كما يأتي. ولا يظهر للترك سبب إلا الترخُّص في ترك المندوب، ونحن لم نظن بابن مسعود في ترك الرفع ذلك، ولا ما هو أبعدُ عن الملامة كالنسيان والذهول؛ [2/ 25] وإنما ظننا به قصدَ البيان وتثبيتَ الحق. فإن قيل: فقد يظهر أن ابن مسعود واظب على الترك، ورضي لأصحابه المواظبة عليه. قلت: فكذلك في التطبيق ووقوف إمام الاثنين بينهما، بل هو في هذين آكد؛ فإنه عَقِبَ تلك الصلاة أمَرَهم بهما ولم يَعرِضْ لترك الرفع، كما مرَّ في حديث مسلم. والحق أن غاية ما في الأمر أن يكون رضي لهم المواظبة مدةً ليكون ذلك أوفى بما قصده من البيان، كما واظب أبو بكر وعُمر وابن عباس

على ترك التضحية. ورأى ابن مسعود أنه إن خفي على أصحابه حقيقةُ الحال، فسيعلمونها عندما يرون غيره من الصحابة وكِبار التابعين، ويسمعون منهم ويتدبرون، فما اتفق مما يخالف ذلك فابن مسعود غير مسؤول عنه. وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا قصَدَ البيان، فترَكَ ما هو في الأصل مندوب، أو فعَلَ ما هو في الأصل مكروه = ربما يراه مَن لم يعرف الدليل السابق، فيفهم خلاف المقصود، وربما توهَّم بعضهم النسخ. وربما يقع هذا التوهم لبعض فقهاء الأمة ويبقى ذلك في أتباعه. ولهذا نظائر كثيرة في الشريعة حتى في نصوص القرآن مما يقع بسببه بعض الناس في الخطأ ويبقى ذلك في أتباعه، كما ترى ذلك واضحًا في اختلاف المذاهب. ولله تعالى في ذلك الحكمة البالغة، يستيقنها المؤمن وإنْ لم يُحِط بها علمًا. وليس هذا موضع النظر في ذلك. وأما الأمران الثاني والثالث - وهما قول الأستاذ: "لم يسلم سند للرفع من علة، ولم يصح فيه إلا حديث ابن عمر" - فمجازفة! قال البخاري كما يأتي: "لا أسانيدَ أصحُّ من أسانيد الرفع". وحديث ابن عمر قطعي الثبوت عنه، وصحَّ معه عدة أحاديث. منها في "الصحيحين" (¬1) حديث مالك بن الحويرث، وفي "صحيح مسلم" (¬2) حديث وائل بن حجر. وأشار البخاري في "الصحيح" (¬3) إلى حديث أبي حميد الساعدي في عشرة من الصحابة. ¬

_ (¬1) البخاري (737) ومسلم (391). (¬2) رقم (401). (¬3) (2/ 221 مع "الفتح").

وقد صحَّحه ابن خزيمة وابن حبان (¬1)، وصحَّحا حديث علي (¬2) في ذلك. وفي "الفتح" (¬3): "قال البخاري في "جزء رفع اليدين" (¬4): من زعم أنه بدعة فقد طعن في الصحابة، فإنه لم يثبت عن أحد منهم تركُه. ولا أسانيد أصح من أسانيد الرفع، ... وذكر البخاري أيضًا أنه رواه سبعة عشر رجلاً من الصحابة. وذكر الحاكم وأبو القاسم ابن منده ممن رواه العشرة المبشرة. وذكر شيخنا أبو الفضل الحافظ أنه تتبع مَن رواه من الصحابة فبلغوا خمسين رجلاً". وتواتر باعتراف الكوثري الرفعُ [2/ 26] عن جماعة من الصحابة، بل نسبه غير واحد من التابعين كالحسن البصري وسعيد بن جبير إلى الصحابة مطلقًا (¬5). وتواترُه عنهم يستلزم تواتره عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما يأتي في الأمر الخامس. وأما الأمر الرابع - وهو قول الكوثري: إن ابن عمر "لم يأخذ به في رواية أبي بكر بن عياش" - ففيه مجازفة أيضًا؛ فإنَّ المراد رواية أبي بكر بن عياش عن حصين عن مجاهد قال: "ما رأيت ابن عمر يرفع يديه إلا في أول ما يفتتح" (¬6). ولو صح هذا عن مجاهد لما دل على أن ابن عمر لم يرفع، ¬

_ (¬1) "صحيح ابن خزيمة" (587) و"صحيح ابن حبان" (1865). (¬2) "صحيح ابن خزيمة" (584) و"صحيح ابن حبان" (1771 - 1774). (¬3) (2/ 220). (¬4) (ص 129, 22). (¬5) انظر "جزء رفع اليدين" للبخاري (ص 75) ومصنّف ابن أبي شيبة (1/ 235) و"التمهيد" (9/ 217) و"السنن الكبرى" للبيهقي (2/ 75). (¬6) أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 237). قال البخاري في "جزء رفع اليدين" (ص 55): "قال يحيى بن معين: حديث أبي بكر عن حصين إنما هو توهُّم منه لا أصلَ له". وانظر

فكيف أن يدل على أنه لم يأخذ بالحديث! وأنا أذكر جماعةً من العلماء وغيرهم صَحِبتُهم مدةً، وصلَّيتُ معهم، وأتذكر الآن هل أذكر رفعَهم عند الركوع أو تركَهم الرفع، فلا أذكر؛ ومنهم من عهدي به قريب. وذلك أنني لم أتحرَّ أن أتفقد صلاتهم. ولكني تحرَّيتُ ذلك في جماعة، فأنا الآن أذكر بعد طول العهد. ومجاهد لم يقل: رأيت ابن عمر لا يرفع، وإنما قال - إن صحت الحكاية عنه -: "ما رأيت ابن عمر يرفع ... ". وهذا يُشعر بأنه لا ينفي أن يكون ابن عمر رَفَع ولم يره مجاهد. ومذهب مجاهد الرفع كما ذكره البخاري وغيره (¬1). فإن صح عنه ذاك القول فكأنه لم يتفق له أنْ يتحرَّى تفقُّد ابن عمر في رفعه، وإنما اتفق أنه شاهده رَفَع في أول الصلاة، ثم اشتغل مجاهد بصلاة نفسه. وقد صح عن ابن عمر أنه كان ربما يرفع رفعًا تامًّا، وربما يتجوَّز. ذكر مالك في "الموطأ" (¬2) عن نافع "أن ابن عمر كان إذا ابتدأ الصلاة رفع يديه حذو منكبيه، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما دون ذلك". وفي "سنن أبي داود" (¬3) عن ابن جريج قال: "قلت لنافع: أكان ابن عمر يجعل الأولى أرفعهن؟ قال: لا، سواء. قلت: أشِرْ لي، فأشار إلى الثديَيْن وأسفل من ذلك". وصح عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه الرفع حذوَ المنكبين في ¬

_ (ص 150، 151) منه، و"معرفة السنن والآثار" (2/ 428، 429). (¬1) انظر "جزء رفع اليدين" (ص 150) و"معرفة السنن والآثار" (2/ 428). (¬2) (1/ 77). (¬3) رقم (741).

الأولى وغيرها (¬1). قال الباجي في "المنتقى" (¬2): "ويحتمل أن يكون عبد الله بن عمر كان يفعل الأمرين جميعًا، ويرى ذلك واسعًا فيهما". أقول: يدل مجموع الروايات عن ابن عمر أنه كان يرى أن أكمل الرفع أن تحاذي يداه منكبيه, وأنَّ أصل السنة يحصل بما دون ذلك، ولا سيَّما إذا كان هناك عذر. فكأن ابن عمر [2/ 27] لما كبِرَ وضَعُف كان ربما يتجوز في الرفع، فيرفع إلى الثديين أو نحو ذلك. وربما يرفع في الأولى رفعًا تامًّا لأنها آكد، ويتجوز في الباقي. وكأنَّ ابن جريج جوَّز أن يكون المشروع التفرقة بأن يكون الرفع في الأولى أعلى، وسأل عن فعل ابن عمر ليستدل به على ذلك، وفهم نافع هذا فأجابه بحسبه. فمحصل الجواب أن ابن عمر لم يكن يتحرى التفرقة تحرَّيًا يُشعِر بأنها مشروعة، بل كان ربما يتجوز في الأولى أيضًا. فمن الجائز في الحكاية عن مجاهد أنه كان وراء ابن عمر غيرَ قريبٍ منه، فاتفق أن ابن عمر رفع في الأولى رفعًا تامًّا رآه مجاهد، وتجوز في الباقي فلم يره. ومن الجائز أن يكون ابن عمر سها في تلك الصلاة التي رَقَبه فيها مجاهد إن كان رَقَبه. وقد قال البخاري في "جزء رفع اليدين" (¬3) في الجواب عن تلك الحكاية: "قال ابن معين: إنما هو توهُّم لا أصل له، أو هو محمول على السهو كبعض ما يسهو الرجل في صلاته. ولم يكن ابن عمر لِيدَعَ ما رواه [عن] النبي - صلى الله عليه وسلم -، مع ما رواه عن ابن عمر مثلُ طاوس وسالم ونافع ¬

_ (¬1) أخرجه مالك في "الموطأ" (1/ 75) ومن طريقه البخاري (735) وغيره. (¬2) (2/ 32) ط. دار الكتب العلمية. (¬3) انظر (ص 55، 54، 151) منه.

ومحارب بن دثار وأبي الزبير أنه كان يرفع يديه ... ". وروى البخاري في "جزء رفع اليدين" (¬1) عن مالك أن ابن عمر كان إذا رأى رجلاً لا يرفع يديه إذا ركع وإذا رفع، رماه بالحصى. وإذا ترك ابن عمر الرفع في بعض صلاته سهوًا أو ضعفًا لم يصدق عليه مع ما تواتر عنه من الرفع أنه لم يأخذ بالحديث، فكيف والذي في تلك الحكاية إنما هو نفيُ الرؤية لا نفيُ الرفع، ولا تلازمَ بين النفيين، كما سلف! ومع هذا كله، فأبو بكر بن عياش عندهم سيئ الحفظ، كثير الغلط. ولم يخرَّج له البخاري في "الصحيح" إلا أحاديث ثبتت صحتها برواية غيره، كما تراه في "مقدمة الفتح" (¬2). ولم يخرج له مسلم شيئًا إلا أنه ذكر في "المقدمة" (¬3) عنه عن مغيرة بن مِقْسم قال: "لم يكن يصدُق على عليٍّ رضي الله عنه في الحديث عنه إلا من أصحاب عبد الله بن مسعود". فلو كانت روايته هذه مخالفةً لما ثبت برواية الجماعة عن ابن عمر لوجب ردُّها، كما لا يخفى. وأما الأمر الخامس - وهو قول الأستاذ: "ودعوى أحد الفريقين التواتر في موضع الخلاف المتوارث غير مسموعة" - فكأن الأستاذ انتقل ذهنه من ¬

_ (¬1) (ص 53) عن نافع لا عن مالك. وقد أخرجه أيضًا كذلك الحميدي في "مسنده" (2/ 277) والدارقطني (1/ 289) والحاكم في "معرفة علوم الحديث" (ص 218) وعبد الله في "مسائل الإِمام أحمد" (ص 70) وعنه ابن عبد البر في "التمهيد" (9/ 224). ولعل المؤلف اعتمد على "الفتح" (2/ 220)، ففيه: "عن مالك" سهوًا. (¬2) "هُدى الساري" (ص 455). (¬3) (1/ 14).

التواتر إلى الإجماع. فإن الإجماع هو الذي يسوغ أن [2/ 28] يقال: لا تسمع دعواه في موضع الخلاف المتوارَث لمنافاة الخلاف للإجماع. فأما التواتر، فلا منافاة بينه وبين الخلاف المتوارَث، كما ستراه. بل إنَّ الخلاف المتوارَث إذا لم يثبت أنَّ ابتداءه كان عقب وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - فورًا لم يمنع من دعوى إجماع سابق. فلنا أن ندَّعي في قضيتنا هذه إجماع الصحابة, لأن جماعة منهم رووا الرفع، وتواتر العملُ به عن كثير منهم، كما اعترف به الكوثري. بل نسبه غير واحد من التابعين كالحسن البصري وسعيد بن جبير إلى الصحابة مطلقًا، فاشتهر ذلك وانتشر، ولا يُعرَف عن أحد منهم ما يدل على أنه غير مشروع. فأما ما روي عن بعضهم أنه تركه، فلم يثبت. وقد مرَّ الكلام على ما روي عن ابن مسعود، ويأتي الكلام على غيره. ولو ثبت بعض ذلك فإنما هو ترك جزئي، أي في ركعة واحدة أو صلاة واحدة. وذلك لا يدل على أن التارك يراه غير مشروع، إذ قد يكون قصَدَ بيانَ أن الرفع في غير الأولى ليس في مرتبتها، وقد يكون سها، وقد يكون ترخَّص لعذر أو لغير عذر في ترك ما يعلمه مندوبًا. بل لو ثبت أن بعضهم تركه مدة طويلة لما دل ذلك على أنه يراه غير مشروع، فقد جاء عن أبي بكر وعمر وابن عباس أنهم كانوا لا يُضَحُّون (¬1). بل قد ثبت أن الصحابة تركوا في عهد عثمان تكبيرات الخفض والرفع أو الجهر بها، واستمرَّ ذلك حتى إن عليًّا لما قدم العراق وصلَّى بهم وأتى ¬

_ (¬1) انظر "مصنف عبد الرزاق" (4/ 381) و"السنن الكبرى" للبيهقي (9/ 265).

بالتكبيرات وجَهَر بها قال عمران بن حصين كما في "الصحيحين" (¬1) وغيرهما: "ذكَّرَنا هذا الرجلُ صلاةً كنا نصلِّيها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -". وقال أبو موسى الأشعري فيما رواه أحمد وغيره بسند صحيح [كما] في "الفتح" (¬2): "ذكَّرَنا عليٌّ صلاةً كنا نصلَّيها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إما نسيناها وإما تركناها عمدًا". واستمر التَرك بالحجاز حتى إن أبا هريرة حين استخلفه مروان على إمارة المدينة في عهد معاوية صلَّى بهم، فأتى بالتكبيرات وجهر بها، فأنكروا ذلك. قال أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف كما في "صحيح مسلم" (¬3): "فقلنا: يا أبا هريرة ما هذا التكبير؟ فقال: إنها لَصلاةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -". وصلى بهم بمكة، فأتى بالتكبيرات وجهر بها، فأنكروا ذلك. قال عكرمة كما في "صحيح البخاري" (¬4) وغيره: "فقلت لابن عباس: إنه أحمق. قال: ثكلتك أمك! سنَّةُ أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم -". فأما التواتر، فأمره أوضح؛ فإنه من المعلوم أنه قد يحصل لشخص دون آخر. وقد جاء [2/ 29] عن ابن مسعود أنه كان يقول: إن المعوذتين ليستا من القرآن (¬5)، واعتذر أهل العلم عنه بأنه لم يسمع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يصرِّح بقرآنيتهما, ولا تواتر ذلك عنده، مع أن من المقطوع به تواترُ ¬

_ (¬1) البخاري (784) ومسلم (393). (¬2) (2/ 270). والحديث في "المسند" (19494). (¬3) رقم (392/ 31). (¬4) رقم (788). (¬5) أخرجه عبد الله بن أحمد في "زوائد المسند" (21188) وغيره. وانظر "فتح الباري" (8/ 742, 743).

ذلك عند غيره. فلا يَخْدِش في تواتر الرفع مخالفةُ بعض التابعين من الكوفيين، إذ لا يلزم من تواتره عند غيرهم تواترُه عندهم. بل عرضت لأولهم شبهة الترك فتوهموا - أو بعضهم - أنه غير مشروع، كما توهَّم غيرُهم مِن تركِ عثمان وغيره تكبيراتِ الخفض والرفع أو الجهر بها أن ذلك غير مشروع، حتى أنكروه على أبي هريرة كما تقدم. ثم جاء بعدهم من الكوفيين مَن بلغته الأحاديث والآثار, ولعلها تواترت عنده، فلم تطِبْ نفسُه بترك ما ألِفَه واعتادَه، وفرَّ إلى احتمال النسخ، ورأى أن الترك أحوط له وأطيب لنفسه. وقد اعترف الكوثري بتواتر الرفع عن جماعة من الصحابة، وذلك يستلزم (¬1) تواتره عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه فعلٌ تعبُّدي في الصلاة، لو لم يعلموا أنه مشروع وفعلوه: فإن فعلوه لا على وجه التعبد كان تلاعبًا بالصلاة وإيهامًا لمشروعية ما لم يشرعه الله، وذلك كذبٌ على الله ورسوله ودينه؛ وإن فعلوه على وجه التعبد فذلك صريح البدعة [و] الضلالة، والكذب على الله، والتكذيب بآياته. فبهذا يثبت قطعًا أنهم كانوا يعتقدون أنه مشروع، ويمتنع اعتقادُهم ذلك من جهة الرأي، إذ لا مجال للرأي فيه. على أن الرأي إنما يُصار إليه في إثبات الفعل إذا لم يُعلَم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تركه تركًا مستمرًّا مع قيام السبب وانتفاء المانع. ويمتنع على الذين تواتر عنهم الرفعُ أن يجهلوا جميعًا أكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرفع أم لا، بعد أن طالت صحبتهم له ومراقبتهم لصلاته كما أُمِروا به. ¬

_ (¬1) في المطبوع: "لا يستلزم"، وهو خطأ.

وأما الأمر السادس - وهو قول الأستاذ: "المتواتر أن جماعة من الصحابة كانوا لا يرفعون، وجماعة منهم كانوا يرفعون" - فالشطر الثاني وهو تواتر الرفع حق، وأما الشطر الأول فلا. وهذا إمام النقل أبو عبد الله البخاري يقول كما تقدم: "لم يثبت عن أحد منهم تركُه". وإنما نُقِل التركُ نقلاً فيه قوة ما عن ابن مسعود، وقد مرَّ النظرُ فيه. وروي أيضًا عن عمر وعليّ. فأما عمر، فقد جاء عنه الرفع من روايته ومن فعله (¬1). وروى حسن بن عياش، عن عبد الملك بن أبجر, [2/ 30] عن الزبير بن عدي، عن إبراهيم، عن الأسود قال: "صلَّيتُ مع عمر فلم يرفع يديه في شيء من صلاته إلا في افتتاح الصلاة" (¬2). وأُعِلّ هذا بثلاثة أوجه: الأول: أن حسن بن عياش ليَّنه بعضُهم. قال عثمان الدارمي عن ابن معين: "ثقة، وأخوه أبو بكر ثقة" قال عثمان: "ليسا بذاك، وهما من أهل الصدق والأمانة". واتفقوا على تليين أبي بكر في حفظه حتى قال يحيى القطان: "لو كان أبو بكر بن عياش حاضرًا ما سألته عن شيء". وكان إذا ذُكِر عنده كلَح وجهه. وقال أبو نعيم الفضل بن دكين: "لم يكن في شيوخنا أحد أكثر غلطًا منه". وقد روى الثوري، عن الزبير بن عدي، عن إبراهيم، عن الأسود "أن عمر كان يرفع يديه في الصلاة حذوَ منكبيه" (¬3). لم يذكر ما في رواية ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في "الخلافيات" كما في "نصب الراية" (1/ 415، 416). (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (1/ 237)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 227) و"شرح مشكل الآثار" (15/ 50). (¬3) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (2532) والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 25).

الحسن بن عياش عن ابن أبجر عن الزبير بن عدي. وكان الثوري لا يرفع، فلو كان في القصة ما ذكره الحسن لما أغفله الثوري. والخطأ في مثل هذا قريب، فإنه كان عند إبراهيم حكايات عن أهل الكوفة في عدم الرفع، فيقوى احتمال دخول الاشتباه على الحسن. الوجه الثاني: أن إبراهيم ربما دلَّس. وفي "معرفة علوم الحديث" للحاكم (ص 108) من طريق "خلف بن سالم قال: سمعت عدة من مشايخ أصحابنا تذاكروا كثرة التدليس والمدلسين، فأخذنا في تمييز أخبارهم، فاشتبه علينا تدليس الحسن بن أبي الحسن وإبراهيم بن يزيد النخعي ... وإبراهيم أيضًا يُدخِل بينه وبين أصحاب عبد الله مثلَ هُنَيّ بن نويرة، وسهم بن مِنْجاب، وخزامة الطائي؛ وربما دلَّس عنهم". الثالث: أنه قد روي عن عمر الرفعُ من روايته ومن فعله. ويكفي في ذلك ما تواتر عن ابنه عبد الله، مع أنه كان ملازمًا لأبيه، متحرِّيًا الاقتداء به. قال زيد بن أسلم عن أبيه: "ما وُجِد قاصدٌ لباب المسجد داخلٌ أو خارجٌ بأقصَدَ من عبد الله لعمل أبيه" رواه ابن سعد (¬1). وقد جاء عن إبراهيم (¬2) أنه ذُكِر له حديثُ ابن وائل بن حُجْر عن أبيه في الرفع، فقال إبراهيم: "ما أرى أباه رأى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - إلا ذاك اليوم الواحد (¬3)، فحفظ ذلك، وعبد الله [بن ¬

_ (¬1) في "الطبقات الكبرى" (4/ 150). وفيه: "ما رجلٌ قاصد ... "، ولعله الصواب. (¬2) انظر "معاني الآثار" (1/ 225، 226). (¬3) قلت: هذا مجرد رأي، ومع ذلك فقد صح ما يبطله. وهو ما أخرجه أبو داود [رقم 726] وغيره عن كليب وائل أنه قال: "لأنظرنَّ إلى صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف يصلي ... ". قلت: فذكر الحديث، وفيه رفع اليدين عند الركوع والرفع منه، وقال فيه: =

[2/ 31] مسعود] لم يحفظ عنه! ". فيقال لإبراهيم - إن صح عنه ما رواه الحسن بن عياش -: ما نرى الأسود رأى عمر إلا ذاك اليوم الواحد، أفيكون أعلم به من ابنه عبد الله بن عمر! ورواية وائل مثبتة محققة تُثبت رفعَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المواضع، ومعلوم أن الرفع لا يكون إلا تعبدًا، إذ ليس هنا داع طبيعي إلى فعله مكررًا في المواضع. وإذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صلاة واحدة ثبتت مشروعيته في الصلاة مطلقًا، كما هو الشأن في غيره من أعمال الصلاة، إلا ما يثبت اختصاصه. وقد قدَّمنا أنَّ ما يَثْبُت أو يقوى عن ابن مسعود لا يتحقق فيه منافاة لذلك. فأما في الرواية عن الأسود - إن صحت إليه - فمن الجائز أن يكون عمر كان أمام الأسود غيرَ قريبٍ منه فرفع عمر أول الصلاة رفعًا تامًّا رآه الأسود، ثم رفع عمر عند الركوع وما بعده رفعًا تجوَّز فيه - كما تقدم عن ابن عمر - فلم يره الأسود، فظن أنه لم يرفع أصلاً. وأما عليّ، فروى أبو بكر النهشلي (¬1)، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، ¬

_ = "ثم جئت بعد ذلك في زمان فيه برد شديد، فرأيت الناس عليهم جل الثياب، تحرك أيديهم تحت الثياب". وأخرجه أحمد (4/ 318) وله عنده (4/ 319) طريق أخرى عن عبد الجبار عن بعض أهله أن وائلًا قال: "أتيته مرة أخرى وعلى الناس ثياب فيها البرانس وفيها الأكسية، فرأيتهم يقولون هكذا تحت الثياب". [المؤلف]. (¬1) أخرجه بهذا الطريق ابن أبي شيبة في "المصنف" (1/ 236) وأحمد في "العلل" (1/ 374) والطحاوي في "معاني الآثار" (1/ 225) والبيهقي في "الكبرى" (2/ 80) و"المعرفة" (2/ 421).

عن عليّ رضي الله عنه "أنه كان يرفع يديه في التكبيرة الأولى من الصلاة، ثم لا يرفع في شيء منها". وروى ابن أبي الزناد (¬1)، عن موسى بن عقبة، عن عبد الله بن الفضل، عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن عليّ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان إذا قام إلى الصلاة رفع يديه حذوَ منكبيه، ويصنع ذلك أيضًا إذا قضى قراءته وأراد أن يركع، ويصنعها إذا رفع رأسه من الركوع ... وإذا قام من السجدتين رفع يديه كذلك ... ". في "نصب الراية" (¬2) وغيرها عن الإِمام أحمد بن حنبل أنه سُئل عن حديث ابن أبي الزناد هذا، فقال: "صحيح". وذكر البخاري في "جزء رفع اليدين" (¬3) أثر النهشلي، ثم ذكر حديث ابن أبي الزناد وقال: "وهذا أصح". وأخرج الترمذي حديث ابن أبي الزناد في كتاب الدعوات من "جامعه" (¬4) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". وصححه أيضًا ابن خزيمة وابن حبان (¬5). وفي "سنن البيهقي" (ج 2 ص 80) (¬6) عن عثمان بن سعيد الدارمي ذكر ¬

_ (¬1) أخرجه من طريقه البخاري في "جزء رفع اليدين" (ص 22) وأبو داود (744) والترمذي (3423) وابن ماجه (864) وابن خزيمة (584) وابن حبان (1771 - 1774). (¬2) (1/ 412). (¬3) (ص 46). في (ط): "جزء القراءة" ولعلّه سبق قلم. (¬4) رقم (3423). (¬5) سبقت الإشارة إليهما في التعليق. (¬6) وكذا في "معرفة السنن والآثار" (2/ 422).

[2/ 32] أثر النهشلي وقال: "فهذا قد روي من هذا الطريق الواهي عن عليّ، وقد روى عبد الرحمن بن (¬1) هرمز الأعرج، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن عليّ أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يرفعهما عند الركوع، وبعدما يرفع رأسه من الركوع. فليس الظن بعليّ رضي الله عنه أن يختار فعله على فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولكن ليس أبو بكر النهشلي ممن يُحتَج بروايته، أو تثبت به سنة لم يأت بها غيره". اعترضه ابن التركماني (¬2) فقال: "بل الذي روي من الطريق الواهي هو ما رواه ابن أبي رافع عن عليّ, لأن في سنده عبد الرحمن بن أبي الزناد". ثم ذكر قول الدارمي: فليس الظن ... إلخ. فقال: "لخصمه أن يعكسه، فيجعله (¬3) بعد النبي عليه السلام دليلًا على نسخ ما تقدم". أقول: إذا صرفنا النظر عن النهشلي وابن أبي الزناد، فسندُ المرفوع أثبت؛ لأن رجاله كلهم ثقات أثبات احتجَّ بهم الجماعة. وسند الموقوف فيه مقال. عاصم وإن أخرج له مسلم ووثَّقه جماعة، فلم يُخرج له البخاري، وقال ابن المديني: "لا يحتج به إذا انفرد". وأبوهُ وإن وثَّقه ابن سعد وأبو زرعة، فلم يُخرج له البخاري ولا مسلم، وقال النسائي: "لا نعلم أحدًا روى عنه غير ابنه وغير إبراهيم بن مهاجر، وإبراهيم ليس بقوي في الحديث". فأما النهشلي وابن أبي الزناد، فلا شك أننا إذا وازنَّا بينهما إجمالًا فالنهشلي أثبت. أخرج له مسلم، ووثَّقه ابن مهدي وأحمد وابن معين ¬

_ (¬1) في المطبوع: "عن" تحريف. (¬2) في "الجوهر النقي" (2/ 79). (¬3) في كتاب ابن التركماني: "فيجعل فعلَه".

وأبو داود والعجلي. وقال أبو حاتم: "شيخ صالحٌ يكتب حديثه، وهو عندي خير من أبي بكر الهذلي". والهذلي ضعيف جدًّا. وقال ابن سعد في النهشلي: "كان مرجئًا، وكان عابدًا ناسكًا, وله أحاديث، ومنهم من يستضعفه". وأما ابن أبي الزناد، فلم يحتجَّ به صاحبا "الصحيح"، وإنما علق عنه البخاري، وأخرج له مسلم في المقدمة. ووثَّقه جماعة، وضعَّفه بعضهم، وفصَّل الأكثرون. وههنا أمران: الأول: أن أئمة الحديث قد يتبيَّن لهم في حديثٍ من رواية الثقة الثبت المتفق عليه أنه ضعيف، وفي حديثٍ من رواية مَن هو ضعيف عندهم أنه صحيح. والواجب على مَن دونهم التسليمُ لهم، وأولى من ذلك إذا كان الراوي وسطًا كالنهشلي وابن أبي الزناد. وقد صحح الأئمة حديث ابن أبي الزناد المذكور، وليَّن البخاري والدارمي أثر النهشلي، كما مرَّ. الأمر الثاني: إذا اختلفوا في راوٍ فوثَّقه بعضُهم، وليَّنه بعضهم، ولم يأت في حقِّه تفصيلٌ [2/ 33] فالظاهر أنه وسطٌ فيه لِينٌ مطلقًا، وهذه حال النهشلي. وإذا فصَّلوا أو أكثرُهم الكلامَ في راوٍ، فثبَّتوه في حال، وضعَّفوه في أخرى؛ فالواجب أن لا يؤخذ حكم ذاك الراوي إجمالاً، إلا في حديث لم يتبين من أي الضربين هو. فأما إذا تبيَّن، فالواجب معاملته بحسب حاله. فمن كان ثقةً ثبتًا ثم اختلط كسعيد بن أبي عروبة, إذا نظرنا في حديثٍ من روايته، فإن تبيَّن أنه رواه قبل الاختلاط فهو غاية في الصحة، أو بعده فضعيف. وابن أبي الزناد من هذا القبيل، فإن أكثر الأئمة فصَّلوا الكلام فيه. قال موسى بن سلمة: "قدمتُ المدينة، فأتيت مالك بن أنس، فقلت له: إني قدِمتُ إليك

لأسمع العلم، وأسمع ممن تأمرني به. فقال: عليك بابن أبي الزناد". ومالك مشهور بالتحري لا يرضى هذا الرضا إلا عن ثقة لا شكَّ فيه. ولذلك عدَّ الذهبي هذا توثيقًا، بل قال في "الميزان" (¬1): "وثَّقه مالك. قال سعيد بن أبي مريم: قال لي خالي موسى بن سلمة: قلتُ لمالك: دُلَّني على رجل ثقة. قال: عليك بعبد الرحمن بن أبي الزناد". وقال صالح بن محمَّد: "تكلم فيه مالك لروايته عن أبيه كتاب السبعة - يعني الفقهاء - وقال: أين كنا عن هذا! ". وإنما روى هذا بعد أن انتقل إلى العراق، كما يأتي عن ابن المديني. وقال عبد الله بن علي ابن المديني عن أبيه: "ما حدَّث بالمدينة فهو صحيح، وما حدَّث ببغداد أفسده البغداديون. ورأيت عبد الرحمن بن مهدي يخط على أحاديثه، وكان يقول: في حديثه عن مشيختهم فلان وفلان وفلان. قال: "ولقَّنه البغداديون عن فقهائهم". يعني الرواية عن أبيه عن المشيخة بالمدينة أو الفقهاء بها، وهذا هو الذي حكى صالح بن محمَّد أن مالكًا أنكره. تبين أن ابن أبي الزناد إنما وقع منه ذلك بالعراق، وابن مهدي إنما كان عنده عن ابن أبي الزناد مما حدَّث به بالعراق، كما يدل عليه كلام ابن المديني، ويأتي نحوه عن عمرو بن علي. وقال يعقوب بن شيبة: "ثقة صدوق، وفي حديثه ضعف. سمعت علي ابن المديني يقول: حديثه بالمدينة مقارب، وما حدَّث به بالعراق فهو مضطرب. قال علي: وقد نظرتُ فيما روى عنه سليمان بن داود الهاشمي، فرأيتها مقاربة". وقال عمرو بن علي: "فيه ضعف، فما حدَّث بالمدينة أصحُّ مما حدَّث ببغداد. كان عبد الرحمن يخطُّ على حديثه". وقال الساجي: "فيه ¬

_ (¬1) (2/ 575). وانظر "تهذيب التهذيب" (6/ 171 - 173) لأقوال النقَّاد فيه.

ضعف، وما حدَّث بالمدينة أصحُّ مما حدَّث ببغداد". وقال أبو داود عن ابن معين: "أثبتُ الناس في هشام بن عروة عبد الرحمن بن أبي الزناد". [2/ 34] هذا مع أنه قد روى عن هشام مالك والكبار. وفيما حكاه الساجي عن ابن معين: "عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن الأعرج عن أبي هريرة حجة". وقال معاوية بن صالح وغيره عن ابن معين: "ضعيف". وفيما حكاه الساجي عن أحمد: "أحاديثه صحاح". وقال أبو طالب عن أحمد: "يُروَى عنه". قال أبو طالب: "قلت: يُحتمل؟ قال: نعم". وقال صالح بن أحمد عن أبيه: "مضطرب الحديث". وقال العجلي: "ثقة". وقال الترمذي في "اللباس" من "جامعه" (¬1): "ثقة حافظ"، وصحّح عدة من أحاديثه. وأخرج له في "المسح على الخفين" (¬2) حديثه عن أبيه، عن عروة بن الزبير، عن المغيرة: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يمسح على الخفين على ظاهرهما (¬3). ثم قال: "حديث المغيرة حديث حسن صحيح (¬4)، وهو ¬

_ (¬1) عقب الحديث رقم (1755). وقد سقط من أكثر الطبعات كلمة: "حافظ". وهي ثابتة في نسخة الكروخي (ق 122 أ)، وفي طبعة الرسالة بتحقيق شعيب الأرناؤوط ورفاقه (3/ 540). (¬2) رقم (98). (¬3) في المطبوع: "ظاهرها". (¬4) في المطبوعة: "حسن" قال أحمد شاكر في تعليقه بعد ما أشار إلى أن في نسخة (ب) "حسن صحيح": زيادة "صحيح" مخالفة لسائر الأصول الصحيحة. ويؤيد ذلك أن النووي في "المجموع" (1/ 517) وابن العربي في "شرح الترمذي" (1/ 146) والمنذري فيما حكاه في "عون المعبود" (1/ 63) والمجد ابن تيمية في "المنتقى" (1/ 232 من "نيل الأوطار") نقلوا عن الترمذي أنه قال: "حديث حسن".

حديث عبد الرحمن بن أبي الزناد ... ولا نعلم أحدًا يذكر عن عروة عن المغيرة "على ظاهرِهما" غيرُه ... قال محمَّد - يعني البخاري -: وكان مالك يشير بعبد الرحمن بن أبي الزناد". فإذا تدبرنا ما تقدم تبين لنا أن لابن أبي الزناد أحوالاً: الأولى: حاله فيما يرويه عن هشام بن عروة. قال ابن معين: إنه أثبت الناس فيه، فهو في هذه الحال في الدرجة العليا من الثقة. الحال الثانية: حاله فيما يرويه عن أبيه عن الأعرج عن أبي هريرة. ذكر الساجي عن ابن معين أنه حجة. وهذا قريب من الأول. وظاهر الإطلاق أنه سواء في هاتين الحالين ما حدَّث به بالمدينة وما حدَّث به ببغداد. وهذا ممكن بأن يكون أتقنَ ما يرويه من هذين الوجهين حفظًا فلم يوثِّر فيه تلقين البغداديين، وإنما أثَّر فيه فيما لم يكن يُتقِن حفظَه، فاضطرب فيه، واشتبه عليه. الثالثة: حاله فيما رواه من غير الوجهين المذكورين بالمدينة، فهو في قول عمرو بن علي والساجي أصحُّ مما حدَّث به ببغداد. ونحو ذلك قول علي ابن المديني على ما حكاه يعقوب، وصرَّح ابن المديني في حكاية ابنه أنه صحيح. ويوافقه ما روي عن مالك من توثيقه إذ كان بالمدينة والإرشادِ إلى السماع منه مخصِّصًا له من بين محدثي المدينة. ويلتحق بذلك ما رواه بالعراق قبل أن يلقِّنوه ويشبِّهوا عليه، أو بعد ذلك ولكن من أصل كتابه. وعلى ذلك تُحمل أحاديث [2/ 35] الهاشمي عنه لثناء ابن المديني عليها، بل الأقرب أن سماع الهاشمي منه من أصل كتابه، فعلى هذا تكون أحاديثه عنه أصحَّ مما حدَّث به بالمدينة من حفظه.

الرابعة: بقية حديثه ببغداد، ففيه ضعف، إلا أن يُعلم في حديث مِن ذلك أنه كان يتقن حفظَه مثل إتقانه لما يرويه عن أبيه عن الأعرج عن أبي هريرة، فإنه يكون صحيحًا. وعلى هذا يدل صنيعُ الترمذي في انتقائه من حديثه وتصحيحه لعدة أحاديث منه. وقد دلَّ كلامُ الإِمام أحمد أن التلقين إنما أوقعه في الاضطراب. فعلى هذا إذا جاء الحديث من غير وجه عنه على وتيرة واحدة دل ذلك على أنه من صحيح حديثه. فابن أبي الزناد في الحالين الأوليَيْن وما يلتحق بهما أثبَتُ من النهشلي بكثير، وفي الحال الثالثة إن لم يكن فوقه فليس بدونه، وفي الرابعة دونه. وهذا الحديث مما حدَّث به بالمدينة، فإن ممن رواه عنه عبد الله بن وهب، كما في "سنن البيهقي" (ج 2 ص 33) بسند صحيح. وهو من أحاديث الهاشمي عنه، كما في "سنن أبي داود" (¬1) و"الترمذي" (¬2) وغيرهما. وجاء من غير وجه [عنه] على وتيرة واحدة، وصحَّحه من تقدَّم من الأئمة، فحاله فيه فوق حال النهشلي. وتأكد ذلك برجحان سنده على سند النهشلي كما مرَّ، وبموافقته للأحاديث الثابتة عن جماعة من الصحابة، ومخالفةِ أثر النهشلي لمقتضى تلك الأحاديث ومقتضى الآثار المتواترة عن الصحابة. على أني أقول: لا مانع من صحة أثر النهشلي في الجملة. وبيان ذلك: أننا إذا علمنا الاختلاف في مسألة الرفع، ثم رأينا عالمًا لم نعرف مذهبه في ذلك، وأردنا أن نعرفه، فرقبناه في بعض صلاته، فلم نره رفع، فإنه يقع في ¬

_ (¬1) رقم (744). (¬2) رقم (3423).

ظننا أن مذهبه عدمُ الرفع وأنَّ ذلك شأنه. فإذا مضت على ذلك مدة، ومات ذاك العالم، ثم بدا لنا أن نذكر حاله في الرفع، فقد نبني على ما تقدَّم، فنقول: لم يكن يرفع. فمن الجائز أن يكون اتفق لكليب أنه رَقَب عليًّا في بعض صلاته ليرى أمن مذهبه الرفع أم لا؟ فاتفق أن رفع عليّ عند الافتتاح رفعًا تامًّا رآه كليب، ثم تجوّز عليّ في الرفع عند الركوع فما بعده، فلم يره كليب، فظن أنه لم يرفع، وأن مذهبه عدم الرفع، فذهب يحكي عنه بحسب ذلك. فإن قيل: لكن هذا الاحتمال لا يخلو عن بُعدٍ. قلت: لكنه أقرب الاحتمالات. [2/ 36] فإن قيل: قد روي عن أبي إسحاق السبيعي أنه قال: "كان أصحاب عبد الله وأصحاب عليّ لا يرفعون أيديهم إلا في افتتاح الصلاة" (¬1). قلت: إنما أراد الذين صحبوا عبد الله، ثم صحبوا عليًّا, ولذلك قدَّم ذكر عبد الله، مع أن عليًّا أفضل. وكان أبو إسحاق يتشيَّع، وأصحاب عبد الله هم كانوا بعده المقتدى بهم مِن أصحاب عليّ. وفي مقدمة "صحيح مسلم" (¬2) عن المغيرة بن مِقْسَم قال: "لم يكن يصدق على عليّ في الحديث عنه إلا من أصحاب عبد الله بن مسعود". وكان أصحاب عبد الله يلزمون ما أخذوه عنه، وإن رأوا عليًّا يخالفه، كما لزموا التطبيق وغيره. وقد تقدم الكلام على أخذهم عن عبد الله تركَ الرفع، فلا تغفلْ. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (1/ 236). (¬2) (1/ 14).

فإن قيل: ولماذا لم ينكر عليهم عليّ؟ قلت: لعله لم يقف على ذلك من حالهم، أو أنكر عليهم فلم يَقْنَعوا، كما يحتمل ذلك في قضية التطبيق. بقي قول ابن التركماني: "لخصمه أن يعكسه فيجعل فعل عليّ بعد النبي عليه السلام دليلًا على نسخ ما تقدم". فأقول: ليس هذا بشيء، فقد تقرر في الأصول أن الحكم إذا ثبت، فادعى بعض الصحابة نسخَه، وخالفه غيره منهم = لم يثبت النسخ بتلك الدعوى، إذ قد يكون استند صاحبها إلى ما لا يوافقه غيرُه على أنه دليل يوجب النسخ. وقد اختلف الصحابة في عدة أحكام ذهب بعضهم إلى أنها منسوخة، وخالفه غيره، ولم يرَ المخالف في قول صاحبه: "هذا منسوخ" حجةً، ولا رأى القائلُ قوله ذلك كافيًا في إثبات النسخ. فكيف يُظَنّ بعليّ أن يكون يرى أن الرفع منسوخ، ثم يخبر بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يرفع، ويعلم أن غيره من الصحابة يخبرون بذلك ويعملون به عملًا شائعًا ذائعًا، ثم لا يتبع عليٌّ إخباره بذلك ببيان الحجة على نسخه ويعلن ذلك؟ بل يقتصر على ما ليس بدليل على النسخ، ولا صريح في دعواه، ولا ظاهرٍ فيها، وهو الترك، إذ قد لا يرقبه الناس في صلاته، فإن رَقَبه بعضهم فقد يقول: لعله ترك لبيان الجواز، أو لعذر، أو سها، أو ترخَّص كما ترخَّص عثمان وغيره في ترك التكبيرات أو الجهر بها كما تقدم. هذا ما لا يكون. [2/ 37] فالحق ما تقدَّم من وهم أثر النهشلي أو وهم كليب، وتحقق ما قاله البخاري إنه لا يثبت عن أحدٍ من الصحابة تركُ الرفع، إلاَّ أن يكون

بعضهم تركَه في وقتٍ ما لبيان الجواز أو غيره مما تقدم. والله أعلم. وأما الأمر السابع - وهو قول الكوثري: "فيدل ذلك على التخيير الأصلي" - فإن أراد بالتخيير الأصلي أن أحد الأمرين مندوب والآخر جائز، فهذا وجيه. ويتعين أن يكون المندوب هو الرفع، فيكون تركه تركًا لمندوب، وهو جائز في الجملة، ولا يصح عكسه. فإن مَنْ يرفع إنما يرفع على وجه التعبد كما لا يخفى، ولو كان الرفع غير مشروع لكان (¬1) فعله على وجه التعبد بدعة وكذبًا على الله تعالى وتكذيبًا بآياته، فكيف يقال: إنه جائز؟ وإن أُريد أن كلا الأمرين مندوب، فندبُ الرفع حق ثابت معقول، ولا دليل على ندب الترك مطلقًا. ولا هو مع ندب الفعل بمعقول، فإن ترك المندوب حيث نُدِب إنما يكون مكروهًا أو خلاف الأولى، والتخيير بين مندوبَيْن إنما يكون بين فعلين كالأذكار المأثورة في افتتاح الصلاة، إذا ثبت منها اثنان مثلاً، فيقال: أيهما أتى به المصلي فقد أحسن. وإذا أتى بأحدهما لم يكن تركه للآخر مكروهًا ولا خلافَ الأولى, لأنه إنما تركه إلى آخر يقوم مقامه. فإن قيل: فها هنا أيضًا أمران: الرفع والسكون، فمن ترك الرفع فقد أتى بالسكون وهو مندوب. قلت: السكون ترك، وإنما شُرع السكون في الصلاة عن الحركات التي لم تُشرع فيها، كما في "صحيح مسلم" (¬2) وغيره من حديث جابر بن سمرة ¬

_ (¬1) في المطبوع: "فكان". والمثبت يقتضيه السياق. (¬2) رقم (431). وأخرجه أيضًا النسائي (3/ 64) والبيهقي في "الكبرى" (2/ 181).

قال: صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكنا إذا سلمنا قلنا بأيدينا: السلام عليكم، السلام عليكم، فنظر إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ما شأنكم تشيرون بأيديكم كأنها أذنابُ خَيل شُمُسٍ! إذا سلَّم أحدكم فَلْيلتفتْ إلى صاحبه ولا يومئْ بيده". وفي رواية (¬1): فقال: "ما لي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذنابُ خَيلٍ شُمُس! اسكنوا في الصلاة". فأَمَرهم بالسكون عن تلك الحركة، وهي رفع الأيدي عند السلام، والإشارة بها يمنةً ويسرةً. وأمَرهم بالالتفات وهو حركة أيضًا، وإنما الفرق أن الحركة الأولى غير مشروعة، والثانية مشروعة. فعلى هذا يجري الأمر في سائر الحركات في الصلاة. فما كان واجبًا لم [2/ 38] يُعقل أن يكون السكون عنه جائزًا، وما كان مندوبًا لم يُعقل أن يكون السكون عنه إلاَّ مكروهًا أو خلاف الأولى، وما كان مباحًا فالسكون عنه مباح. والله الموفق. وأما الأمر الثامن - وهو قول الكوثري: "وإنما خلافهم فيما هو الأفضل" - فوجيهٌ في الجملة، فإن منهم من عرف أن الرفع سنة باقية، وفِعل السنة أفضل من تركها. ومن التابعين فمَن بعدهم مَن لم تبلغه هذه السنة من وجه يثبت، أو بلغته ولكن غلبت عليه شبهةٌ ترجَّح بها عنده أنها منسوخة، فيكون عنده أنَّ الرفع بدعة، وتركُ البدعة أفضل من فعلها. وكذلك من التبس عليه الحال، فإن ما يحتمل أن يكون سنةً وأن يكون بدعة، فتركُه أفضل. فأما من أعرض عن الحجج واسترسل مع الشبهات إيثارًا لهواه، فله حكم آخر. والله المستعان. ... ¬

_ (¬1) عند مسلم برقم (430).

المسألة الثالثة أفطر الحاجم والمحجوم

[2/ 39] المسألة الثالثة أفطر الحاجم والمحجوم في "تاريخ بغداد" (13/ 388 [403]) من طريق عبد الصمد بن عبد الوارث عن أبيه قال: "ذُكِر لأبي حنيفة قولُ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أفطر الحاجم والمحجوم". فقال: هذا سجع". قال الأستاذ (ص 81): "حديث: "أفطر الحاجم والمحجوم" لم يُثبته كثير من أهل الحديث منهم ابن معين ... ومَن أثبته يرى الحديث إما منسوخًا باحتجام النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو صائم، وإمّا مؤولًا بمعنى أنهما عرضة للإفطار ... ". قلت: ممن صحح الحديث من وجه أو أكثر: الإمامُ أحمد، وابن المديني، وإسحاق بن راهويه، والبخاري، وأبو زرعة، وعثمان بن سعيد الدارمي، وابن خزيمة، وغيرهم. فأما ابن معين ففي "الفتح" (¬1): "قال المرُّوذي: قلت لأحمد: إن يحيى بن معين قال: ليس فيه شيء يثبت. فقال: هذا مجازفة". وزعمُ الأستاذ أن مَن أثبته يراه منسوخًا أو مؤولاً، ليس كما قال، فإنه ترك القسم الثالث. قال ابن حجر في "فتح الباري" (¬2): "وعن علي وعطاء والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور: يُفطر الحاجم والمحجوم، وأوجبوا عليهما القضاء. وشذَّ عطاء، فأوجب الكفارة أيضًا. وقال بقول أحمد من الشافعية: ابن خزيمة، وابن المنذر، وأبو الوليد النيسابوري، وابن حبان ... ¬

_ (¬1) (4/ 177). (¬2) (4/ 174).

وبذلك قال الداودي من المالكية". فأما دعوى النسخ بحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهو صائم، فالحديث رواه عبد الوارث، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس: "احتجم النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو صائم" (¬1). ورواه وهيب عن أيوب بسنده: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهو مُحرِم، واحتجم وهو صائم" (¬2). وفي "الفتح" (¬3): "ورواه ابن علية ومعمر عن أيوب عن عكرمة مرسلاً، واختلف على حماد بن زيد في وصله وإرساله". وجاء عن مِقْسَم عن ابن عباس (¬4): "احتجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين مكة والمدينة، وهو صائم محرم". وذكر البيهقي (ج 4 ص 263) وقال: "ورواه أيضًا ميمون بن مهران عن ابن عباس" (¬5). وكذلك في رواية لابن جريج عن عطاء عن ابن عباس، كما في "الفتح" (¬6). [2/ 40] وفي رواية عن عكرمة عن ابن عباس عند أحمد (ج 1 ص 305) (¬7) ذكر قصةَ اليهودية التي وضعت السمَّ في طعام النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا وجد من ذلك شيئًا احتجم، قال: فسافر مرة، فلما أحرم وجد من ذلك شيئًا، فاحتجم". ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1939، 5694). (¬2) أخرجه البخاري (1938). (¬3) (4/ 177). (¬4) أخرجه بهذا الطريق أبو داود (2373) والترمذي (777) وابن ماجه (1682، 3081) والبيهقي (4/ 263) وغيرهم. (¬5) أخرجه بهذا الطريق الترمذي (776) والطحاوي في "معاني الآثار" (2/ 101). (¬6) لم أجد الإشارة إليها في "الفتح". وهي في "مسند البزار" (11/ 214). (¬7) رقم (2784).

وقد أجاب ابن خزيمة (¬1) عن هذا الحديث بأن للمسافر إذا أصبح صائمًا ثم بدا له أثناء النهار أن يفطر. وحاصل الجواب أنه - صلى الله عليه وسلم - أصبح في سفره صائمًا، ثم لما هاج به الوجع احتجم فأفطر. وكأن ابن عباس لم يكن قد بلغه أن الحجامة تُفطَّر الصائم، وعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أصبح صائمًا ثم رآه احتجم، ولم يبحث عمّا كان بعد الحجامة. فوقع في ظنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استمَّر على الصيام. ثم لما بلغه بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - أنّ بعض الناس يرى أن الحجامة تفطِّر الصائم احتج بالقصة على حسب ظنه. وهذا كما سَمع (¬2) أسامةَ يُحدّث بحديث: "لا ربا إلا في النسيئة" (¬3)، ولم يثبت عنده حديث: "لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق إلا وزنًا بوزن، مثلاً بمثل، يدًا بيد" (¬4)، فكان يفتي بحِلِّ الذهب بالذهب مع التفاضل نقدًا، وكذا الفضة بالفضة. ثم جاء أن بعض الصحابة أخبره بالحديث الآخر، فرجع (¬5). وكما أخبره أسامة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل الكعبة فلم يصلِّ فيها، فكان يفتي بذلك (¬6). وقد صح عن بلال أنه دخل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - الكعبة، وأنه - صلى الله عليه وسلم - صلَّى بين العمودين المقدمين (¬7). وكما كان يرى أن لا قراءة في السِّريَّة، ويذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يقرأ ¬

_ (¬1) في "صحيحه" (3/ 228). (¬2) أي ابن عباس. (¬3) أخرجه البخاري (2178، 2179) ومسلم (1596). (¬4) أخرجه مسلم (1584). (¬5) كما في "صحيح مسلم" (1594/ 100). (¬6) أخرجه مسلم (1330). (¬7) أخرجه البخاري (1598) ومسلم (1329).

فيها. فقيل له: لعله كان يقرأ في نفسه؛ فغضب (¬1). وقد أثبت غيره القراءة بما لا تبقى معه شبهة (¬2). وأمثال هذا كثير مما يحتج به الصحابي على حسب ظنه، ويتبين أن ظنَّه كان خطأ. وقد روى عطاء ذاك الحديث عن ابن عباس (¬3) ثم ذهب إلى الإفطار كما مرَّ (¬4). فإن قيل: لو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أفطر بالحجامة لكان الظاهر أن يبِّين ذلك للناس. قلت: يجاب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اكتفى بما سبق منه من بيان أنه يفطر الحاجم والمحجوم، ومن بيان أن الصائم في السفر يحل له الإفطار. فإن قيل: فقد جاء عن أبي سعيد الخدري (¬5) وعن أنس (¬6) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخَّص في الحجامة للصائم. ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني في "الكبير" (12005). وانظر "فتح الباري" (2/ 254). (¬2) انظر "صحيح البخاري" (759 - 762) و"صحيح مسلم" (451 - 454). (¬3) أخرجه البخاري (5695). (¬4) انظر "الفتح" (4/ 174). وروى ابن أبي شيبة في "المصنف" (3/ 52) عنه: لا بأس بالحجامة للصائم ما لم يَخَفْ ضعفًا. (¬5) أخرجه النسائي في "الكبرى" (3224، 3228) وابن خزيمة (3/ 230) والدارقطني (2/ 182)، قال الحافظ في "الفتح" (4/ 178): رجاله ثقات، ولكن اختُلف في رفعه ووقفه. (¬6) أخرجه الدارقطني (2/ 182). وقال: كلهم ثقات, ولا أعلم له علة. وقال الحافظ في "الفتح" (40/ 178): رواته كلهم من رجال البخاري، إلاَّ أن في المتن ما يُنكَر, لأن فيه أن ذلك كان في الفتح، وجعفر كان قتل قبل ذلك.

[2/ 41] قلت: في صحة ذلك عنهما كلام، كما ترى في "فتح الباري" (¬1). ولو صح أمكن أن يكون مرادهما بالترخيص ما ذكره ابن عباس من احتجامه - صلى الله عليه وسلم - وهو صائم في سفره، وقد مرَّ ما فيه. وأما التأويل بصرف النص عن ظاهره، فلا مسوِّغ له. والله أعلم (¬2). ¬

_ (¬1) (4/ 178). (¬2) قلت: لا شك أن التأويل المذكور لا مسوغ له، ولكني أرى أن الجواب الصحيح هو أن الحديث منسوخ بنص حديثي أبي سعيد وأنس المذكورين، فإنهما حديثان صحيحان، له عن أبي سعيد طريقان، أحدهما صحيح، وعن أنس ثلاث طرق أحدها صحيح أيضًا، وأما الكلام الذي أحال المصنف فيه على "الفتح" فليس فيه ما يمكن أن يكون علة في الحديث لا سيما إذا نظر إليه من جميع طرقه، فإن كثرة الطرق للحديث تدل على أن له أصلاً، فكيف إذا كان بعض مفرداتها صحيحًا في نفسه، وليس هذا مجال شرح ذلك، ومحله في "إرواء الغليل" (931)، ولكن لا بأس من الإشارة إلى شيء من كلام الحافظ رحمه الله مع التعليق الموجز عليه، قال في بعض طرق أنس: "ورواته كلهم من رجال البخاري، إلا أن في المتن ما ينكر لأن فيه أن ذلك كان في الفتح، وجعفر كان قتل قبل ذلك". قلت: وهذا سهو من الحافظ رحمه الله، فإنه ليس في الحديث ذكر للفتح أصلاً، وعليه فالحديث صحيح لا نكارة فيه، والعجيب أن الحافظ ادعى ما سبق بعد أن ذكر الحديث بدون ذكر الفتح، وهذا لفظه: "أخرجه الدارقطني ولفظه: "أول ما كرهت الحجامة للصائم أن جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم فمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أفطر هذان، ثم رخصَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد في الحجامة للصائم، وكان أنس يحتجم وهو صائم. رواته كلهم ثقات ... ". وهكذا هو عند الدارقطني في "سننه" (ص 239). وإذا عرفت هذا اللفظ الصريح في النسخ يتبين لك أن قول المؤلف رحمه الله: "ولو صح أمكن أن يكون مرادهما بالترخيص ما ذكره ابن عباس ... " أنه غير ممكن، فتأمل. [ن].

المسألة الرابعة إشعار الهدي

[2/ 42] المسألة الرابعة إشعار الهدي في "تاريخ بغداد" (13/ 390 [407]) عن يوسف بن أسباط: " ... وأشعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. وقال أبو حنيفة: الإشعار مُثْلَة". قال الأستاذ (ص 87): "ليس من قوله فقط، بل هو أثر يرويه عن حماد عن إبراهيم النخعي، كما يشير إلى ذلك الترمذي ... ، يريدان: إشعار أهل زمانهما المبالَغ فيه، ولام التعريف تُحمل على المعهود في زمانهما ... على أن الأعمش يقول: لم نسمع إبراهيم النخعي يقول شيئًا إلا وهو مروي، كما تجد ما بمعناه في "الحلية" لأبي نعيم. فيكون قول النخعي هذا أثرًا يحتج به، وأنت عرفت قيمة مراسيل النخعي عند ابن عبد البر وغيره". أقول: أما الترمذي (¬1)، فروى من طريق وكيع حديث إشعار النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم قال: "سمعت يوسف بن عيسى (وهو ثقة) يقول: سمعت وكيعًا يقول حين روى هذا الحديث قال: لا تنظروا إلى قول أهل الرأي في هذا، فإن الإشعار سنة، وقولهم بدعة". قال الترمذي: "سمعت أبا السائب (سَلْم بن جُنادة، وهو ثقة) يقول: كنا عند وكيع فقال لرجل عنده ممن ينظر في الرأي: أَشْعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويقول أبو حنيفة: هو مُثْلَة! قال الرجل: فإنه قد رُوِي عن إبراهيم النخعي أنه قال: الإشعار مثلة. قال: فرأيت وكيعًا غضب غضبًا شديدًا، وقال: أقول لك: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتقول: قال إبراهيم! ما أحقَّك بأن تُحبَس، ثم لا تخرج ¬

_ (¬1) رقم (906) من حديث ابن عباس.

حتى تَنزِعَ عن قولك هذا! ". القائل: "فإنه قد رُوي عن إبراهيم" لا يُدرى من هو؟ وممن سمعه؟ وكيف إسناده؟ ولكن الأستاذ بنى على دعاوى: الأولى: أن ذاك الرجل ثقة. الثانية: أن قوله: "فإنه قد رُوِي" معناه فإن أبا حنيفة روى. الثالثة: أنه سمع ذلك من أبي حنيفة. [2/ 43] الرابعة: أن أبا حنيفة روى ذلك عن حماد، مع أنه لا ذِكر لحماد في الحكاية. الخامسة: أن ذلك أثر, مع أن الأستاذ نقَمَ نحو ذلك في "الترحيب" (ص 28) فقال: "وإطلاق الأثر على ما لم يُؤثَر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم في دين الله شيء مبتكر في سبيل تقوية الخبر الزائف من هذا الناقد الصالح! ". السادسة: أن إبراهيم النخعي لم يكن يستنبط ولا يقيس، وإنما كان يقول ما يرويه بنصه. والأستاذ يعلم أن المتواتر عن إبراهيم خلاف ذلك. غاية الأمر أنه يسوغ أن يقال: إنه لم يكن يفتي برأيه المحض، وإنما كان يستنبط من المرويات ويقيس عليها، فيكون عرضة للخطأ كغيره. السابعة: أن تلك المرويات التي كان إبراهيم لا يتعدَّى منصوصها لا تشمل أقوالَ مَن قبله من التابعين ولا الصحابة، وإنما هي النصوص النبوية، فتكون أقوال إبراهيم وفتاواه كلُّها مراسيل أرسلها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

الثامنة: أن ذلك حجة. ولا أطيل بمناقشة الأستاذ في هذه المزاعم، وقد رجع هو عن الثلاث الأخيرة بقوله: "يريدان: إشعار أهل زمانهما المبالَغ فيه ... " ومع ذلك فهذه دعوى جديدة، والظاهر الواضح من قول القائل: "الإشعار مُثلة" الحكم على الإشعار مطلقًا. ولو أراد ما زعمه الأستاذ لقال: "المبالغة في الإشعار مُثلة" أو نحو ذلك. فأما إبراهيم، فلم يثبت ذاك القول عنه، فلا ضرورة إلى الاعتذار عنه بعذر، إنْ دَفعَ الملامة من جهة، أوقَعَ فيها من جهتين: الأولى: الإطلاق الموهم للباطل. الثانية: اتهامه جميعَ أهل زمانه - وفيهم بقايا الصحابة والتابعون - بالإطباق على ما لا يجوز، حتى استساغ أن يُطلِق ولا يفصِّل. وأما أبو حنيفة، فقد اعتذر عنه الطحاوي (¬1) بقوله: "إنما كره ما يُفعل على وجه يُخاف منه هلاك البُدْن ... فأراد سدَّ هذا الباب عن العامة, لأنهم لا يراعون الحدّ في ذلك. وأما مَن كان عارفًا بالسنة في ذلك، فلا". والمقصود هنا إثبات أن الإشعار سنة، وذلك حاصل على كل حال. ... ¬

_ (¬1) كما نقل عنه السرخسي في "المبسوط" (4/ 138) والحافظ في "الفتح" (3/ 544)، وعزاه الحافظ إلى كتابه "المعاني", ولم أجده في "معاني الآثار" المطبوع.

المسألة الخامسة المحرم لا يجد إزارا أو نعلين يلبس السراويل والخف ولا فدية عليه

[2/ 44] المسألة الخامسة المحرم لا يجد إزارًا أو نعلين يلبس السراويل والخفَّ ولا فديةَ عليه في "تاريخ بغداد" (13/ 392 [409]) من طريق حماد بن زيد قال: "شهدتُ أبا حنيفة، وسُئل عن محرمٍ لم يجد إزارًا، فلبس سراويل. قال: عليه الفدية. قلت: سبحان الله! ... ". قال الأستاذ (ص 94): " ... فهذان إنما أُبيحا لعذر كمن به أذى في رأسه، فلا تحول هذه الإباحة دون وجوب الفدية، كمن في رأسه أذًى فلَبِس، على ما في القرآن الكريم. وليس في الأحاديث ما يصرِّح بسقوط الفدية عن المعذور". أقول: الذي في القرآن هو قول الله تبارك وتعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196]. فالذي في الآية الحلق. فقول الأستاذ: "فلبِسَ، على ما في القرآن الكريم" لا وجه له، اللهم إلا أن يريد: قياسًا على ما في القرآن؛ ففي عبارته تلبيس. ومع ذلك، ففي صحة القياس نظر، لتوقُّفها على عدم فارق، والفارقُ هنا قائم؛ فإن الحلق شديد المنافاة للإحرام، بدليل أنه جُعل عَلَمًا للخروج من الإحرام - أعني التحلل - كما جُعل السلامُ عَلَمًا على الخروج من الصلاة. والسلامُ من خطاب الناس، وهو أشدُّ منافاةً للصلاة من غيره، بدليل أنه لا يجوز منه في الصلاة قليل ولا كثير حتى في حال القتال، وإن احتاج إليه

لاستغاثة مثلاً، بخلاف الحركة مثلاً، فإنها وإن كانت منافيةً للصلاة أيضًا إلا أنه يجوز القليل منها مطلقًا، ويجوز الكثير في صلاة الخوف. فالتشديدُ في الحلق لا يستلزم التشديد فيما هو أخفُّ منه. فإن كان هناك إجماع على وجوب الفدية على من احتاج إلى لُبْسِ عمامة لمرض مثلاً، فلا يقاس عليه لُبْسُ فاقدِ الإزار للسراويل، وفاقدِ النعلين للخفين, لأن ستر الرأس غير مطلوب شرعًا كطلب سترة العورة ووقاية الرجلين مما قد يمنع من استطاعة المشي إلى الحج وأداء أعماله، والتشديد في الأول لا يستلزم التشديد في الثاني. فأما قياسُ لبس السراويل والخفين على الحلق المنصوص في القرآن، فأبعَدُ عن الصحة، لاجتماع الفارقين معًا. فإن قيل: أرأيت إذا تمكَّن فاقدُ الإزار من فَتْق السراويل وتلفيقه بالخياطة حتى يكون [2/ 45] إزارًا كافيًا له، وتمكَّنَ فاقدُ النعلين من تقطيع الخفين حتى يصيرا نعلين؟ قلت: لا يتجه إلزامه ذلك, لأنه يكثر أن لا يتمكن الإنسان من ذلك، وإذا تمكن ففيه إفسادٌ للمال ينقص قيمته ومنفعته. هذا، وقد صحَّ في الباب حديثان (¬1): الأول: حديث ابن عمر في "الصحيحين" (¬2) وغيرهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُئل عما يلبس المحرم، فقال: "لا يلبس القميص ولا العمائم ولا ¬

_ (¬1) وحديث ثالث عن جابر عند مسلم (1179) بنحو حديث ابن عباس الآتي. (¬2) البخاري (1542) ومسلم (1177).

السراويلات ولا البرانس ولا الخِفاف، إلا أحد لا يجد نعلين فَلْيلبسِ الخفَّين وَلْيقطَعْهما أسفلَ من الكعبين ... ". ويؤخذ منه من بابِ أولى الإذنُ في السراويل لمن لم يجد إزارًا, لأن الحاجة إلى ستر أسفل البدن أشد، وكونه مطلوبًا شرعًا أظهر. ويبقى النظر في القطع، فقد يقال: كما أمر بقطع أعلى الخفين، فكذلك ينبغي قطع ما تحت الركبتين من السراويل. وقد يقال: إنما يقطع ما تحت أنصاف الساقين, لأن ما فوق ذلك إلى الركبة مشروع سترُه أيضًا وإنْ لم يجب، بخلاف ستر الكعبين وما فوقهما. وقد يقال: لا يتعين القطع، بل الأولى العطفُ والتثبيتُ بالخياطة, لأن ذلك محصِّل للمقصود بدون إفساد. ولو كان يتأتَّى نحو ذلك في الخفَّين لقلنا به فيهما أيضًا. فأما فَتْق السراويل ثم تلفيقه بالخياطة حتى يكون إزارًا، فقد دلَّ على عدم لزومه اكتفاءُ الحديث بما اكتفى به في الخفين، ولم يشترط تقطيعهما حتى يصيرا نعلين. الحديث الثاني: حديث ابن عباس في "الصحيحين" (¬1) وغيرهما: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب بعرفات: "مَن لم يجد إزارًا فليلبس سراويل، ومَن لم يجد نعلين فليلبس خفين". ففي هذا الحديث النصُّ على السراويل والخفين معًا, ولم يذكر القطع. فمن أهل العلم مَن أخذ به على إطلاقه، وقال: إنه ناسخٌ للأمر بقطع الخفين, لأن حديث ابن عباس متأخر. ومنهم من حمل المطلق على المقيد، فقال بقطع الخفين. فعلى الأول يكون عدم وجوب قطع السراويل أولى. أما على الثاني، فقد يتمسك فيه بالإطلاق، وقد يقال: بل يكون حكمه ما تقدم في الكلام على الحديث الأول. ¬

_ (¬1) البخاري (1841، 1843) ومسلم (1178).

وعلى كل حال، فسكوت الحديثين عن ذكر الفدية يدل أنها لا تجب، وإلا لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة. والبيان المتقدم في القرآن لم يتعرض لقضية السراويل والخفين، لا نصًّا ولا تنبيهًا، كما تقدم. والله أعلم. ***

المسألة السادسة درهم وجوزة بدرهمين

[2/ 46] المسألة السادسة درهم وجوزة بدرهمين في "تاريخ بغداد" (13/ 412 [439]) عن خالد بن يزيد بن أبي مالك قال: "أحلَّ أبو حنيفة الزنا، وأحلَّ الربا ... أما تحليل الربا فقال: درهم وجوزة بدرهمين نسيئةً لا بأس به ... ". قال الأستاذ (ص 145): "فرية بلا مرية, لأنها على خلاف المدوَّن في مذهبه، وأبو حنيفة من أشد الفقهاء في النسيئة". أقول: إن صح كلام الأستاذ، فقد يكون أبو حنيفة قال قولًا ثم رجع عنه. وقد يكون خالد رأى أنَّ إجازة ذلك نقدًا تستلزم إجازةَ نحوه نسيئةً كما يأتي. وبيان ذلك أن من فروع تلك القاعدة: صاع تمر ودرهم نقدًا (¬1) بخمسة آصُع من تمر نقدًا. يعتل الحنفية في إجازة ذلك بأنه في معنى بيعتين جائزتين: صاع بصاع نقدًا، وأربعة آصُع بدرهم نقدًا. فيقال لهم: فكذلك صاعُ تمر ودرهمٌ نقدًا بخمسة آصُع أحدها نقدٌ والباقي نسيئة، إذ يمكن أن يقال: هو في معنى بيعتين جائزتين: صاع بصاع نقدًا، وأربعة آصع نسيئة بدرهم نقدًا. فإن التزموا ذلك جاء ربا النسيئة. وإن قالوا: لا نجيزه، إذ قد يقصدان الربا كأن يكون عند رجل تمر جيد وعند آخر صاع تمر رديء لا يسدُّ حاجته، فيحتالان بتلك البيعة قاصدَين صاعًا بدرهم نقدًا، وصاعًا نقدًا بأربعة آصُع نسيئة. قلنا: فكذلك النقد قد يقصدان صاعًا بدرهم نقدًا، وصاعًا بأربعة آصع نقدًا. فالأستاذ تبرأ من ربا، فوقع في ربا. ¬

_ (¬1) في المطبوع: "نقد".

والحاصل أن هناك معنيين: أحدهما ربًا قصداه وقام الدليل على قصدهما إياه، والآخر جائز حاولا أن يُوهِماه. أفلا يُعاب من أعرض عن الأول، وبنى الحكم على الثاني؟ نعم، إذا لم يُعلم قصدُهما، واحتمل احتمالاً (¬1) قريبًا أنهما إنما قصدا المعنى الجائز، فقد يسوغ للعالم إذا لم يراعِ سدَّ الذريعة أن يصحِّح العقد إحسانًا للظن بالمسلمين، ويكره لهم هذه المعاملة مطلقًا؛ لأنها متهمة وذريعة إلى الربا. وربما يمكن الحنفيةَ تنزيلُ قول أبي حنيفة على هذا، وبذلك يدفعون المعرَّة عن إمامهم وأنفسهم. والله الموفق. ... ¬

_ (¬1) في المطبوع: "احتمال".

المسألة السابعة خيار المجلس

[2/ 47] المسألة السابعة خيار المجلس في "تاريخ بغداد" (13/ 387 [403]) عن بشر بن المفضّل قال: "قلت لأبي حنيفة: نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا" قال: هذا رجز". قال الأستاذ (ص 78): "إذا حمل - يعني الحديث - على خيار المجلس يكون مخالفًا لنص كتاب الله الذي يبيح التصرف لكل من المتعاقدين فيما يخصُّه بمجرد تحقُّق ما يدل على التراضي. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} [النساء: 29] ". أقول: في "روح المعاني" (ج 2 ص 77) (¬1): "والمعنى: لا يأكُلْ بعضكم (¬2) أموال بعض. والمراد بالباطل ما يخالف الشرع كالربا والقمار والبخس والظلم، قاله السُّدَّي، وهو المروي عن الباقر رضي الله عنه. وعن الحسن: هو ما كان بغير استحقاق من طريق الأعواض. وأخرج عنه وعن عكرمة ابنُ جرير (¬3) أنهما قالا: كان الرجل يتحرج أن يأكل عند أحد من الناس بهذه الآية، فنُسِخ ذلك بالآية التي في سورة النور: {وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ ...} الآية [النور: 61]. والقول الأول أقوى، ¬

_ (¬1) (5/ 15) ط. المنيرية. (¬2) في المطبوع: "بعضهم". والمثبت من روح المعاني. (¬3) في "تفسيره" (6/ 627).

لأن ما أكل على وجه مكارم الأخلاق لا يكون أكلاً بالباطل. وقد أخرج ابن أبي حاتم (¬1) والطبراني (¬2) بسند صحيح عن ابن مسعود أنه قال في الآية: إنها محكمة ما نُسِخت ولا تُنسَخ إلى يوم القيامة". أقول: المعنى الأول مبني على أن الباء في قوله "بالباطل" للسببية، وأن الباطل ما لا يَعتدُّ به الشرعُ سببًا للحِلِّ. والمعنى الثاني مبني على أن الباء للمقابلة وأن الباطل ما لا تحقُّق له. ونسبة المعنى الأول إلى السدِّي لا أراها تصح، وإنما قال السُّدّي كما في "تفسير ابن جرير" (ج 5 ص 19) (¬3): " {بِالْبَاطِلِ}: بالربا والقمار والبخس والظلم. {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً}: ليربَح في الدرهم ألفًا إن استطاع". فأول عبارته يصلح للمعنيين، وبيان صلاحيتها للثاني في القمار والبخس والظلم ظاهر؛ فأما الربا فإن مَن أقرض مائة ليقضي مائة وعشرة يأكل العشرة بما لا تحقُّق له. [2/ 48] فإن غايته أن يقول: لو لم أُقرِض المائة لعليّ كنت اتّجرتُ فيها فربحتُ، ولعل المستقرض اعتبر فيها، فربح. فيقال له: هذا لا تحقُّق له. ولعلك لو لم تُقرِضها لسُرِقت منك، ولعلك لو اتجرتَ فيها لخسرتَ، مع ما يلحقك من التعب والعناء. ولعل المستقرض لم يتجر فيها, ولعله اعتبر فخسر أو ذهب منه رأس المال، فإن رَبح فبتَعَبِه. ولتمام هذا موضع آخر، وإنما المقصود هنا أن ذِكْرَ السُّدِّي للربا لا يحتِمُ أنه قائل بالمعنى الأول. وآخر عبارة السُّدِّي ظاهر في المعنى الثاني، ¬

_ (¬1) في "تفسيره" (3/ 926). (¬2) في "المعجم الكبير" (10061). (¬3) (6/ 626) ط. دار هجر.

وأنه رأى أن الغبن في البيع من الأخذ بالباطل المراد في الآية، ولكنه مستثنى استثناءً متصلاً على ما هو الأصل في الاستثناء. ولنفرض مثالاً يبيِّن ذلك: ثوبانِ قيمةُ كلًّ منهما بحسب الزمان والمكان عشرة، فقد يجهل البائع ذلك، ويظن قيمةَ كلٍّ منهما خمسة فقط فيبيعهما بعشرة. وقد يجهل المشتري فيظن قيمةَ كلٍّ منهما عشرين فيشتريهما بأربعين، فمن أخذهما بقيمة أحدهما، فقد أخذ أحدهما أو نصفيهما بما لا تحقُّق له. ومن باعهما بمثلَيْ قيمتهما، فقد أخذ نصف الثمن بما لا تحقُّق له. هذا باعتبار قيمة الزمان والمكان، وهو المتعارف بين الناس، فإن من باع أو اشترى بقيمة الزمان والمكان لا يعدُّه الناس غابنًا أو مغبونًا البتة. لكنك إذا تعمقت قد تقول: إنما القيمة الحقيقية مقدار ما غرِمه البائع على السلعة، أو مقدار ما ينقصه فقدها. فيقال لك: هذا بالنظر إلى البائع، فأما بالنظر إلى المشتري فقيمتهما مقدار ما تنفعه. وقد يتعارضان، كمن عنده ماء كثير، فباع منه شَرْبةً لِمضطَرٍّ. ويبقى النظر في الثمن، ويخفى الأمر ويضطرب، وتضيق المعاملة جدًّا. لا جَرَم، عَدلَ الشرعُ إلى اعتبار قيمة الزمان والمكان في ضمان المتلَفات وغير ذلك ما عدا التجارة. ولمَّا كان الاعتدادُ بذلك في التجارة يسدُّ بابَ الربح، فيرغب الناس عن التجارة، فتضيع المصالح = عدَلَ الشارعُ إلى اعتبار ما تراضى به المتبايعان. فما تراضيا به، فهو القيمة التي يعتد بها الشرع في التجارة. لكن هذا لا يمنع أن يسمَّى الغبنُ أكلًا بالباطل بالنظر إلى التحقق. وليس من لازم الباطل بهذا المعنى أن يكون محرَّمًا في الشرع. وفي الحديث: "كلُّ شيء يلهو به الرجل باطلٌ إلا رميَه بقوسه، وتأديبَه فرسَه،

وملاعبتَه امرأتَه فإنهن من الحق" (¬1). ومعلوم أنَّ فيما يلهو به الرجل غير هذه الثلاث ما هو مباح إجماعًا. [2/ 49] فأما ما أُكِل على وجه مكارم الأخلاق، فإنه إذا عُمِل فيه بالمشروع لم يكن على كلا المعنيين من الأكل بالباطل. وذلك أن الباذل قد يقصد مكافأة المبذول له على إحسان سابق، وقد يرجو عوضًا مستقبلاً، إما مالاً وإما منفعةً، وأقلُّ ذلك: الثناء. والأكلُ في مقابل إحسان سابق أكلٌ بأمر متحقِّق. والمشروع للمبذول له على رجاء مستقبَل أن يقبل عازمًا على المكافأة فيكون بمنزلة من يقترض عازمًا على أن يقضي. وإنما كان بعض الصحابة أولاً يتورعون عن الأكل في بيوت أقاربهم وأصدقائهم خشيةَ أن لا يتيسَّر لهم المكافأة المرضية. فبيَّن الله تعالى لهم في آية النور أنه لا حرج في الأكل، يريد - والله أعلم -: ما دام ذلك جاريًا على المعروف. والمعروف أن الناس يكرم بعضهم بعضًا، ويكافئ بعضهم بعضًا بالمعروف، فمن أكل عازمًا على المكافأة بحسب ما هو معروف بين أهل المروءات، فلم يأكل بما لا تحقُّق له. نعم لو فرضنا أن رجلاً غنيًّا لئيمًا اعتاد أن يتردد على بيوت أقاربه وأصدقائه ليأكل عندهم غيرَ عازمٍ على المكافأة المعروفة، كان هذا - والله أعلم - داخلًا في الباطل على كلا المعنيين. وإذا تدبرتَ علمتَ أنه على المعنى الثاني ليس هناك نسخ، وإنما هو بيان لدفع ما توهَّمه أولئك المتحرِّجون. وقد عُرِف عن السلف أنهم ربما يطلقون النسخ على مطلق البيان، فهذا - والله أعلم - من ذاك. وبهذا كله ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (1637) من حديث عقبة بن عامر، وقال: هذا حديث حسن صحيح.

اندفع ما رُجِّح به المعنى الأول، وترجَّحَ المعنى الثاني، فيكون الاستثناء متصلاً، كما هو الأصل. والله أعلم. وقوله تعالى: {عَنْ تَرَاضٍ} نصٌّ في اشتراط رضا كلًّ من المتبايعين. والرضا معنى خفي، وسنة الشارع في مثله أن يضبطه بأمر ظاهر منضبط يشتمل على المعنى الذي عليه مدارُ الحكمة كالرضا ها هنا، فيكون مدار الحكم على ذاك الضابط، فما هو الضابط ها هنا؟ بنى الأستاذ على أنه الصيغة، أي الإيجاب والقبول، كما في النكاح. وذلك مدفوع بوجهين: الأول: أن الصيغة قد عُلِمت بقوله: "تجارة". الثاني: أنها ليست بواضحة الدلالة على الرضا، إذ قد تكون عن هزل أو سبق لسان أو استعجال، قبل تمكُّن الرضا من النفس، ويكثر وقوعه ويتكرر، ويكثر التغابن لكثرة الجهل بقيمة المثل؛ بخلاف النكاح فإنه قد لا يقع في العمر إلاَّ مرة، ويحتاط الناس له ما لا [2/ 50] يحتاطون للبيع. والشارع يتشوَّف إلى تثبيت النكاح ما لا يتشوَّف إلى تثبيت البيع. جاء في الحديث: "أبغضُ الحلال إلى الله الطلاقُ" (¬1)، وجاء فيه: "من أقال نادمًا بيعته أقال الله عثرتَه يوم القيامة" (¬2). ومبنى البيع على المشاحَّة، ومبنى ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (2178) وابن ماجه (2018) والحاكم في "المستدرك" (2/ 196) والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 322). وإسناده ضعيف. (¬2) أخرجه بهذا اللفظ ابن حبان في "صحيحه" (5029) والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 27) من حديث أبي هريرة.

النكاح على المكارمة. وأوضح من هذا كلِّه أن في الحديث: "ثلاثٌ جِدُّهن جِدٌّ، وهزلُهن جِدٌّ: النكاح والطلاق والرجعة" (¬1). ففرَّق بين هذه الثلاث وبين غيرها كالبيع. على أن تعيين الضابط إنما هو للشارع، فإذا لم يظهر من الكتاب وجب الرجوع إلى السنة، فنجدها قد ضبطت التراضي بحصول أحد أمرين بعد الإيجاب والقبول: إما اختيار اللزوم، وإما أن يستمرَّا على ظاهر حالهما من التراضي مدةَ اجتماعهما ويتفرقا على ذلك. ولا يخفى على المتدبر أن هذا بغاية المطابقة للحكمة. أما اختيار اللزوم، فواضح أنه بيَّن في استحكام التراضي. وأما الاستمرار على ظاهر الحال من التراضي والتفرق على ذلك، فلأن الغالب أنه إذا كان هناك هزل أو سبق لسان أو استعجال أن يتداركه صاحبه قبل التفرق، ولا سيَّما إذا علم أن التفرق يقطع الخيار. فبان بهذا أن الحديث مفسِّرٌ للآية التفسيرَ الواضح المطابق للحكمة، لا مخالفٌ لها كما زعم الكوثري. وراجع "تفسير ابن جرير" (¬2). ويؤكد هذا المعنى ما في "سنن أبي داود" (¬3) وغيرهما من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعًا: "المتبايعان بالخيار ما لم ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (2195) والترمذي (1184) وابن ماجه (2039) والحاكم في "المستدرك" (2/ 197، 198) والبيهقي في "الكبرى" (7/ 340، 341)، وحسَّنه الترمذي وصححه الحاكم. (¬2) (6/ 631 - 637). (¬3) رقم (3465). وأخرجه أيضًا أحمد في "مسنده" (6721) والترمذي (1247) والنسائي (7/ 251، 252)، وإسناده حسن.

يفترقا، إلا أن تكون صفقة خيار. ولا يحلُّ له أن يفارقَ صاحبَه خشيةَ أن يستقيلَه". والمراد - والله أعلم - أنه لا يحلُّ لأحدهما أن يستغفل صاحبه، فيفارقه وهو لا يشعر؛ إذ قد لا يكون استحكم رضاه، وكان يريد الفسخ؛ إلا أنه أمهل اعتمادًا على أن ذلك لا يفوت، حتى لو رآه يريد المفارقة لبادر بالفسخ. فأما ما جاء عن ابن عمر أنه كان إذا اشترى شيئًا يعجبه فارَقَ صاحبه (¬1)، فمحمول على مبادرته بالمفارقة وصاحبُه يراه، أو لا يكون وقف على هذه الزيادة (¬2). وقوله: "حتى (¬3) يستقيله" لا يدل على لزوم العقد، فإن الاستقالة بعد لزوم العقد لا تمنع فيها المفارقة؛ إذ قد يستقيله بعد أن يفارقه ويمضي زمان. وإنما المراد - والله أعلم - أن صاحبه قد يندم [2/ 51] في المجلس، فلا يبادر إلى الفسخ، ويرى من حُسن الأدب والعشرة أن يقول له: "أَقِلْني"، ليكون الفسخ برضاهما فإنه أطيب للنفوس. قال الكوثري: "على أن الحديث إذا حمل على خيار الرجوع بمعنى أن البائع أو المشتري (¬4) إذا أوجب فله حق الرجوع قبل قبول الآخر في المجلس، فيزول خيار الرجوع من الموجِب - بائعًا كان أو مشتريًا - بقبول الآخر قبل انقطاع المجلس = فهذا المعنى يكون غير مخالف لكتاب الله تعالى". ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2107) ومسلم (1531/ 45). (¬2) انظر "التلخيص الحبير" (3/ 20). (¬3) كذا في المطبوع، ولفظ الحديث السابق: "خشية أن". (¬4) في (ط): "والمشتري"، والتصويب من "التأنيب".

أقول: قد علمت أن الحديث بالمعنى الواضح من إثبات خيار المجلس لكلًّ من المتبايعين بعد تبايعهما غيرُ مخالف لكتاب الله تعالى. وأما هذا المعنى الذي ذكره الكوثري، فالحديث غير محتمل له كما يأتي. ولو احتمله وحُمِل عليه لبقي ما في القرآن في معنى المجمل, لأن قول أحدهما: "بعت" وقول الآخر فورًا: "اشتريت" لا يتضح به التراضي المشروط في القرآن، لاحتمال الهزل وسبق اللسان والاستعجال، كما مرَّ. ثم حاول الأستاذ تقريب احتمال الحديث للمعنى الذي زعمه فقال: "وعلى هذا التقدير يكون لفظ "المتبايعين" حقيقةً، إذ هذا اللفظ محمول على حالة العقد في تقديرنا، وحملُه على ما بعد صدور كلمتي المتعاقدين يجعله مجازًا كونيًّا. وفائدة الحديث أن خيار الرجوع ثابت لهما ما دام أحدهما أوجب، ولم يقبل الآخر في المجلس، لا كالخلع على مال والعتق على مال؛ لأنه ليس للزوج ولا المولى الرجوع فيهما قبل قبول المرأة والعبد". أقول: المُلجئ إلى الفرار إلى هذا القول أن تأويل قدماء الحنفية "المتبايعان" بالمتساومين و"التفرق" بالإيجاب والقبول أُبطِلَ بوجوه: منها: أنه إخراجٌ للَّفظ عن حقيقته بلا حجة. ومنها: أن الحديث يبقى بلا فائدة، إذ لا يجهل أحد أن التساوم لا يلزم به شيء. وستعلم أن هذا الفارَّ كالمستجير من الرمضاء بالنار (¬1)! قوله: "يجعله مجازًا كونيًّا"، تفسيره أن من الأصول المقررة أن المشتق ¬

_ (¬1) مثل مشهور، وهو شطر بيت، صدره: المستجير بعمروٍ عند كربتهِ قائله: التّكلام الضُبَعي، كما في "فصل المقال" (ص 377).

يصدُق على الموصوف حقيقةً حين وجود المعنى المشتق منه، فإن لم يمكن فآخر جزء منه. فأما قبل حصوله فمجاز كونيٌّ، أي باعتبار ما سيكون. واختلف فيما بعد زواله، فقيل: حقيقة، وقيل: مجاز كوني، [2/ 52] أي باعتبار ما كان. فأقول: هذا الأصل يقضي بأنه لا يصدُق حقيقةً على الإنسان لفظُ "بائع" إلا حين وجود البيع حقيقة، وإنما يكون ذلك عند آخر حرفٍ من الصيغة المتأخرة. والحديث يُثبِت أن لكل منهما حينئذٍ الخيار، ويستمرُّ إلى أن يتفرقا، وهذا قولنا. وأوضح من ذلك أن الذي في الحديث: "المتبايعان"، والتفاعل إنما يوجد عند وجود فعل الثاني، ألا تراك إذا ضربتَ رجلاً أنه لا يصدق عليكما "متضاربان"، ولا عليك أنك أحد المتضاربَين، وإنما يصدق ذلك إذا عقب ذلك ضربُه لك، فحينما تصيبك ضرْبتُه يوجد التضاربُ حقيقةً، فيصدق عليكما أنكما متضاربان، وأنك أحد المتضاربين. فإن قلت: كيف وقد زال فعلي؟ قلت: الزائل هو ضربك، والفعل المشتق منه هنا هو التضارب، وهو فعلٌ واحدٌ ضربُك جزء منه، والجزء لا يشترط بقاؤه ولا يضرُّ زواله. ألا ترى أنه يصدق حقيقةً على مَن يتكلم أنه "متكلم" عند آخر حرف من كلامه مع أن أكثر الحروف قد زالت! فإنما يصدق حقيقةً على المتبايعَين أنهما "متبايعان" عند آخر حرف من صيغة المتأخر منهما، وحينئذ يثبت لهما بحكم الحديث الخيار مستمرًّا إلى أن يتفرقا، وهذا قولنا.

ووجه ثالث، وهو أن الحديث كما في "الموطأ" و"الصحيحين" (¬1) يُثبِت أن "لكل واحد منهما الخيار حتى يتفرقا". فهو ثابت للمتأخر قطعًا، يثبت له عند آخر حرفٍ من صيغته مستمرًّا إلى أن يتفرقا. ولا قائلَ بأنه يثبت للمتأخر دون المتقدم، فثبت لكل واحد منهما عند آخر حرف من صيغة الثاني مستمرًّا إلى أن يتفرقا، وهو قولنا. ولو قال المحتسب للعون وهو يرى رجلاً يضرب آخر: أمسِك الضاربَ حتى تُحضِره عند الحاكم، لكانت كلمة "الضارب" حقيقةً، والحكمُ بالإمساك مستمرًّا إلى غايته، وإن كان الضرب ينقطع قبلها. وهكذا في السارق والزاني وغير ذلك. فقد اتضح أن قولنا مبني على الحقيقة، وضلَّ سعيُ الأستاذ في زعم أنه يكون مجازًا. فأما القول الذي اختاره، فلا يحتمله الحديث حقيقة ولا مجازًا. فأما قوله: "وفائدة الحديث ... " فمبني على القول الذي قد فرغنا منه. ومع ذلك، فالحديث أثبتَ الخيارَ لكل واحدٍ من المتبايعين، وصيغةُ الموجِب للبيع لا تتضمن ما لا يحتاج إلى قبول، بخلاف موجِب الخلع أو العتق على مال، فإن إيجابه يتضمن الطلاق أو العتق. فإيجابه في معنى تعليق [2/ 53] الطلاق أو العتق، ولا رجوع في ذلك. فثبت أنه لا يتوهم في البادئ بالصيغة من المتساومَين أنه لا رجوع له، فحملُ الحديث على هذا المعنى الذي اختاره الأستاذ مثلُ حملهِ على المتساومين في أنه لا تكون له فائدة. هذا, ولم يظفر الأستاذ بعد الجهد بشبهةٍ ما تُجرِّئه على زعم أن كلمة "يتفرقا" في الحديث إن حُمِلت على قولنا كانت مجازًا، وإن حُمِلت على ¬

_ (¬1) "الموطأ" (2/ 671) والبخاري (2111) ومسلم (1531).

قولهم كانت حقيقة. فعدل إلى قوله: "والتفرق بالأقوال شائع في الكتاب والسنة نحو قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]، وقوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [البينة: 4]، وقوله تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ (¬1) اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: 130] , وفي الحديث: "افترقت اليهود .. " الحديث. بل التفرق بالأبدان من شأنه إفساد العقود في الشرع لا إتمامها، كعقد الصرف قبل القبض، وعقد السلم قبل القبض لرأس المال، والدَّين بالدَّين قبل تعيين أحدهما. وفي حمل الحديث على التفرق بالأبدان خروج عن الأصول، ومخالفة لكتاب الله تعالى. وأما حملُه على التفرق بالأقوال، فليس فيه خروج عن الأصول، ولا مخالفة لكتاب الله تعالى، مع كونه أشهر في الكتاب والسنة". أقول: التفرقُ فكُّ الاجتماع، وهو حقيقةٌ في التفرق بالأبدان بلا شبهة. وكثيرًا ما يأتي الاجتماع والتفرق مجازًا في الأمور المعنوية بحسب ما تدل عليه القرائن، ومن ذلك: الشواهد [2/ 54] التي ساقها الأستاذ. ومجيءُ الكلمة في موضع أو ألف موضع أو أكثر مجازًا بقرينته لا يُسوِّغ حملَها على المجاز حيث لا قرينة. وهذه كلمة "أسد" كثُر جدًّا استعمالُها في الرجل الشجاع مع القرينة، حتى لقد يكون ذلك أكثر من استعمالها في معناها الحقيقي، ومع ذلك لا يقول عاقل: إنه يُسَوِّغ حملَها على المجاز حيث لا قرينة، وهذا أصل قطعي ينبغي استحضاره، فقد كثُر تغافلُ المتأولين عنه تلبيسًا على الناس. ¬

_ (¬1) وقع في "التأنيب" (ص 79): "إن تفرقا يغني"، واقتصر في إصلاح الأغلاط (ص 190) على إصلاح "يغن"! [المؤلف].

نعم إذا ثبت أن الشارع نقَلَ الكلمةَ إلى معنى آخر، صارت حقيقة شرعية في المعنى الذي نُقلت إليه. وهذا منتفٍ هنا، إذ لا يدّعي أحد أن الشارع نقل كلمة "التفرق" إلى معنى غير معناها اللغوي. وأما كثرة مجيئها في القرآن في الأمور المعنوية، فإنما ذلك لأن تلك الأمور مهمة في نظر الشارع، فكثُر ذكرُها دون افتراق الأبدان. ولها في ذلك أسوة بكلمات كثيرة كالرقبة والكظم والزيغ والحَيْف واللين والغِلَظ وغير ذلك. ولا اختصاص للشواهد التي ذكرها الأستاذ بالقول، بل كلها في تفرق معنوي قد يقع بالقول، وقد يقع بغيره. فالتفرقُ عن الاعتصام بحبل الله يحصل بأن يكفر بعض، ويبتدع [بعض] (¬1)، ويجاهر بالعصيان بعض، وكل من الكفر والابتداع والعصيان قد يقع بالاعتقاد، وبالفعل، وبالقول. وتفرُّق أهل الكتاب بعد مجيء الرسول هو بإيمان بعضهم، واشتدادِ كفر بعضهم، ولا اختصاص لذلك بالقول. وتفرُّقُ الزوجين قد يكون بالفعل كإرضاعها ضرَّةً لها صغيرة, وبالقول من جانب، وبالقول من الجانبين، وبنيَّة الزوج القاطعة على قول مالك. وافتراقُ اليهود باختلاف اعتقاداتهم وما يبنى عليها من الأفعال والأقوال. ومع هذا، فالتفرق في هذه الأمثلة إنما هو عن اجتماع سابق، وتعاقدُ المتساومين أجدرُ بأن يسمَّى اجتماعًا بعد تفرق، كما لا يخفى. لكنني أُرفِد الأستاذ، فأقول: إن المتساومين يجتمعان بأبدانهما، وتحملهما الرغبة في ¬

_ (¬1) زيادة ليكون التقسيم ثلاثيًا.

البيع على أن يبقَيا مجتمعَين ساعة، ثم إذا تعاقدا زال سبب الاجتماع فيتفرقان بأبدانهما، فالتعاقد كأنه سبب للتفرق، فقد يسوغ إطلاق التفرق على التعاقد لذلك. لكن قد يقال: ليس التعاقد سببًا مباشرًا، ومثله في ذلك عدم الاتفاق على الثمن، فإنهما إذا يئسا من الاتفاق زال سبب الاجتماع. ثم إن ساغ ذاك الإطلاق فمجاز ضعيف لا دليل عليه ولا مُلجِئَ إليه. بل الحديث نص صريح في قولنا، ففي "الصحيحين" (¬1) من [2/ 55] حديث الإِمام الليث بن سعد، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعًا: "إذا تبايع الرجلان فكلُّ واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعًا ... وإن تفرَّقا بعد أن يتبايعا ولم يترك واحد منهما البيع فقد وجب البيع". قوله: "بل التفرق بالأبدان من شأنه إفساد العقود ... ". أقول: فساد العقد في هذه المسائل ليس للتفرق من حيث هو تفرُّق، بل من جهة أخرى حصلت بالتفرق، وهي صيرورته ربًا في الأولى، وبيعَ دَينٍ بدين في الأُخريين. وتفرُّقُ المتعاقدين في شراء دارٍ أو فرس معينة بذهب أو فضة مثلًا لا يحصل به شيء من ذلك ولا ما يشبهه، بل يحصل به ما يُثبت العقدَ ويؤكِّده، وهو تبيُّنُ صحةِ التراضي المشروط في كتاب الله عزَّ وجلَّ، واستحكامه كما تقدم إيضاحه. وكثيرًا ما يُناط بالأمر الواحد حكمان مختلفان من جهتين مختلفتين، كإسلام أحد الزوجين ينافي النكاح إذا كان الآخر كافرًا، ويُثبِته إذا أسلم الآخر أيضًا، أو كان قد أسلم قبل ذلك على خلاف؛ وكإسلام المرأة الأيَّم يُحِلُّ نكاحَها للمسلم ويُحرِّمه للكافر، ويمنع إرثها من أقاربها الكفار، ويُثبِته لها من أقاربها المسلمين. وأمثال ذلك لا تحصى. ¬

_ (¬1) البخاري (2112) ومسلم (1531/ 44).

على أن الأثر الحاصل بالتفرق في مسألتنا ليس هو تصحيح العقد حتى تظهر مخالفته لتلك الصور، فإن العقد قد صح بالإيجاب والقبول. وإنما أثرُ التفرُّقِ قطعُ الخيار، وإن شئتَ فقلْ: إفساد الخيار. قوله: "خروج عن الأصول، ومخالفة لكتاب الله تعالى". أقول: أما الخروج عن الأصول فالمراد به مخالفة القياس، يسمُّونه خروجًا عن الأصول تمويهًا وتهويلًا وتستُّرًا! وقد تقدم الجواب الواضح عمّا ذكره الأستاذ من القياس. وبينما الأستاذ يتبجح في آخر (ص 161) بقوله: "أجمع فقهاء العراق على أن الحديث الضعيف "يُرجَّح على القياس"، ويقول (ص 181) في الحسن بن زياد: "كان يأبى الخوض في القياس في مورد النص، كما فعل مع بعض المشاغبين في مسألة القهقهة في الصلاة"، يعني ببعض المشاغبين: الإِمام الشافعي ورفيقًا له أورد على الحسن بن زياد أنه يرى أن قذْفَ المحصَنات في الصلاة لا يُبطِل [2/ 56] الوضوء، فكيف يرى أن القهقهة تبطله؟! فقام الحسن، وذهب = إذا بالأستاذ يردُّ أحاديثَ خيار المجلس زاعمًا أنها مخالفة للقياس. هذا مع ضعف حديث القهقهة ووضوح القياس المخالف له، وثبوت أحاديث الخيار ووهن القياس المخالف لها. وأما المخالفة للكتاب، فقد تقدَّم تفنيدُ زعمها. وبينما ترى الأستاذ يحاول التشبُّثَ بدعوى مخالفة الكتاب هنا، إذا به يُعرِض في مسألة القصاص في القتل بالمثقَّل، ومسألة مقدار ما يُقطع سارقه، عن الدلالات القرآنية الواضحة مع ما يوافقها من الأحاديث الصحيحة, وموافقة القياس الجلي في مسألة القصاص. إلى غير ذلك من التناقض الذي يؤلِّف بينه أمر

واحد هو الذبُّ عن المذهب، والغلوُّ في ذلك إلى الحد الذي يصعب معه تبرئةُ صاحبه من أن يكون ممن اتخذ إلهه هواه، واتخذ الأحبار والرهبان أربابًا من دون الله. والله المستعان. قال الأستاذ: "ولا نصَّ فيما يُروى عن ابن عمر من القيام من مجلس العقد على أن خيار المجلس من مذهبه، بل قد يكون هذا منه لأجل أن يقطع على من بايعه حقَّ الرجوع، لاحتمال أنه ممن يرى خيار المجلس. وقد خوصم ابن عمر إلى عثمان في البراءة من العيوب، فحمله عثمانُ على خلاف رأيه فيها، فأصبح يرعى الآراء في عقوده". أقول: قد روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحديث صريحًا في إثبات خيار المجلس كما تقدم. وفي "صحيح البخاري" (¬1) من طريق يحيى بن سعيد، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعًا ... الحديث، ثم قال نافع: "وكان ابن عمر إذا اشترى شيئًا يُعجِبه فارقَ صاحبَه". وفي "صحيح البخاري" (¬2) من طريق الزهري، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه: "بعتُ من أمير المؤمنين عثمان ... فلما تبايعنا رجعتُ على عقبي حتى خرجتُ من بيته خشية أن يُرادَّني البيعَ، وكانت السنَّة أن المتبايعين بالخيار حتى يتفرقا ... فلما وجب بيعي وبيعُه رأيتُ أني قد غبنتُه". فصراحة الحديث نفسه، ثم جعلُه سببًا لمفارقة ابن عمر من يشتري منه ما يُعجِبه، وقوله: [2/ 57] "وكانت السنة ... "، وقوله: "فلما وجب بيعي وبيعه ... " بغاية الوضوح في بطلان قول الأستاذ: "قد يكون هذا منه ... ". ¬

_ (¬1) رقم (2107). (¬2) رقم (2116).

قال الأستاذ: "ولأصحابنا حجج ناهضة". أقول: بل شبه داحضة. قال: "وعالم دار الهجرة مع أبي حنيفة وأصحابه في هذه المسألة، ومن ظن وهنًا بما اتفق عليه إمام أهل العراق وإمام أهل الحجاز فقد ظنَّ سوءًا". أقول: أما من اعتقد وهنَ قولِهما المخالف لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من رواية جماعة من الصحابة، وعمل به وقضى به جماعةٌ منهم بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يُعلم لهم مخالف من الصحابة= فإنما اعتقد ما يجب على كل مسلم أن يعتقده. فمن زعم أن هذا المعتقِد قد ظنَّ سوءًا، فقد شارف الخطر الأكبر أو وقع فيه. ثم ذكر الأستاذ كلمة ابن أبي ذئب، وهو محمَّد بن عبد الرحمن بن المغيرة، وقد ذكرتها في ترجمته من قسم التراجم (¬1). وفي "تاريخ بغداد" (13/ 389 [405]) عن ابن عيينة قال: "ما رأيتُ أجرأَ على الله من أبي حنيفة، كان يضرب الأمثال لحديث النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيردُّه. بلغه أني أروي: "البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا"، فجعل يقول: أرأيتَ إن كانا في سفينة، أرأيت إن كانا في سجن، أرأيت إن كانا في سفر، كيف يفترقان! ". قال الأستاذ (ص 82): "هكذا كان غوص أبي حنيفة على المعنى حتى اهتدى إلى أن المراد بالافتراق: الافتراق بالأقوال، لا الأبدان". أقول: مغزى تلك العبارة أننا إذا قبلنا الحديث وَرَدَ علينا أنه قد يتفق أن لا يتمكن المتبايعان من التفرق. والجواب أن الحديث قد فتح لهما بابًا آخر ¬

_ (¬1) لم تَرِد ترجمته في قسم التراجم، ولعلها كانت في المسوّدة ثم حذفها المؤلف. وأما كلمته فستأتي قريبًا (ص 93).

يتمكنان به من إبرام العقد، وهو أن يختارا اللزوم، فيلزم من غير تفرق. وإن أرادا أو أحدهما الفسخَ فظاهر. وكأن أبا حنيفة لم تبلغه رواية مصرِّحة بذلك. فإن قيل: قد يبادر أحدهما فيختار اللزوم، ويأبى الآخر أن يختار اللزوم أو يفسخ، فيتضرر المبادر؛ لأنه لا يمكنه إبرام العقد ولا فسخه. قلت: هو المضيِّق على نفسه بمبادرته، فلينتظر التمكن من المفارقة بأن تصل السفينة إلى مرفأ، أو يطلَقا أو أحدُهما من السجن، أو يُنقل أحدُهما إلى سجن آخر، أو يبلغ المسافران حيث لا يخاف من [2/ 58] الانفراد والتباعد عن الرفقة. فإن قيل: لكن المدة قد تطول مع جهالتها. قلت: اتفاقُ أن يجتمع أن يبادر أحدهما، ويمتنع التفرق، وتطول المدة، وتفحش الجهالة = نادرٌ جدًّا. ويقع مثل ذلك كثيرًا في خيار الرؤية. وكذلك في الصَّرْف والسلَم وغيرها مما لا يستقر فيه العقد إلا بالقبض قبل التفرق. فمثلُ ذلك الاستبعاد إن ساغ أن يُعتدَّ به، ففي التوقف عن الأخذ بدليل في ثبوته أو في دلالته نظر. وليس الأمر ها هنا كذلك، فإن الحديث بغاية الصحة، والشهرة، ووضوح الدلالة. فهو في "الصحيحين" وغيرهما من طُرق عن ابن عمر، وصحَّ عنه من قوله وفعله ما يوافقه. وهو في "الصحيحين" (¬1) وغيرهما من حديث حكيم بن حزام. وصحَّ عن أبي برزة (¬2) أنه رواه وقضى به. وجاء ¬

_ (¬1) البخاري (2108، 2110) ومسلم (1532). (¬2) أخرجه أحمد في "المسند" (19813) وأبو داود (3457) وابن ماجه (2182) =

من حديث عبد الله بن عمرو (¬1)، وأبي هريرة (¬2)، وسمرة (¬3)، وغيرهم (¬4). وجاء عن أمير المؤمنين عليّ القضاءُ به. ولا مخالفَ من الصحابة، وإنما جاء الخلاف فيه من التابعين عن ربيعة بالمدينة، وإبراهيم النخعي بالكوفة. واشتد نكير ابن أبي ذئب إذ قيل له: إن مالكًا لا يأخذ بهذا الحديث، فقال: "يستتاب، فإن تاب وإلا يقتل" (¬5). ومالك إنما اعتذر في "الموطأ" (¬6) بقوله بعد أن روى الحديث: "ليس لهذا عندنا حدٌّ معروف، ولا أمرٌ معمول به فيه". وتعقَّبه الشافعيُّ وغيرُه بأنّ الحدّ معروف نقلاً ونظرًا، فإنه معلوم أن التفرُّق حقيقة في التفرق بالأبدان، وحدُّه معروف في العُرف. وقد اتفقوا على نظيره في الصرف والسلم. والعمل ثابت عن الصحابة وكثير من ¬

_ = والبيهقي في "الكبرى" (5/ 270). (¬1) سبق تخريجه. (¬2) أخرجه أحمد (8099) وابن أبي شيبة في "المصنف" (7/ 125) والطيالسي في "مسنده" (2568) والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 13) و"مشكل الآثار" (5265). وإسناده ضعيف، والحديث صحيح لغيره. (¬3) أخرجه أحمد (20142, 20182 ومواضع أخرى) والطبراني في "الكبير" (6834، 6836، 6838) والبيهقي (5/ 271) من طريق الحسن البصري عن سمرة, والحسن مشهور بالتدليس. والحديث صحيح لغيره. (¬4) منهم ابن عباس، أخرج حديثه ابن حبان في صحيحه (4914) والحاكم في "المستدرك" (2/ 14). وإسناده حسن. (¬5) يراجع "التمهيد" (14/ 9، 10) و"تاريخ بغداد" (2/ 302). وانظر تعليق الذهبي عليه في "السير" (7/ 142، 143). (¬6) (2/ 671).

أئمة التابعين بالمدينة وغيرها. وراجع كتاب "الأم" للشافعي أوائلَ المجلد الثالث (¬1). ... ¬

_ (¬1) (4/ 11 وما بعدها) ط. دار الوفاء. وانظر "المحلى" (8/ 351 - 365) و"التمهيد" (14/ 8 - 27) و"الفتح" (4/ 330 - 332).

المسألة الثامنة رجل خلا خلوة مريبة بامرأة أجنبية يحل له أن يتزوجها، فعثر عليهما، فقالا: نحن زوجان

[2/ 59] المسألة الثامنة رجل خلا خلوةً مريبةً بامرأة أجنبية يحِلُّ له أن يتزوجها، فعُثِر عليهما، فقالا: نحن زوجان تقدم في المسألة السادسة قول خالد بن يزيد بن أبي مالك: "أحلَّ أبو حنيفة الزنا ... ". قال: "وأما تحليل الزنا فقال: لو أن رجلاً وامرأة اجتمعا في بيت، وهما معروفا الأبوين، فقالت المرأة: هو زوجي، وقال هو: هي امرأتي = لم أَعرِضْ لهما" قال الأستاذ (ص 145): "قال الملك المعظَّم في "السهم المصيب": إذا جاء واحد إلى كل واحد من امرأة ورجل، فقالا له: نحن زوجان، فبأي طريقة يفرِّق بينهما أو يعترض عليهما؛ لأن كل واحد منهما يدعي أمرًا حلالًا؟ ولو فُتِح هذا الباب لكان الإنسان كلَّ يوم بل كلَّ ساعة يُشهِد على نفسه وعلى زوجه أنهما زوجان. وهذا لم يقل به أحد من الأئمة، وفيه من الحرج ما لا يخفى على أحد". أقول: في كتب الحنفية (¬1): "إن إقرار الرجل أنه زوجها، وهي أنها زوجته يكون إنكاحًا، ويتضمن إقرارُهما الإنشاء". فهذه هي مسألة ابن أبي مالك استشنعها الأستاذ نفسه، وكذلك ملِكُه المعظَّم عنده، ولذلك لجأ إلى المغالطة. وحاصلها أننا إذا عرفنا رجلاً وامرأةً نعلم أنهما ليسا بزوجين، ثم وجدناهما في خلوة مريبة، فقال: هي زوجتي، وقالت: هو زوجي، فأبو حنيفة يقول: يكون اعترافهما عقدًا ينعقد به النكاح، فيصيران زوجين ¬

_ (¬1) انظر "فتاوى قاضي خان" (1/ 322) و"فتح القدير" (3/ 205) و"حاشية ابن عابدين" (3/ 13).

من حينئذ، ولا يعرض لهما! ففي هذا ثلاثة أمور: الأول: أنه بلا ولي. الثاني: أنه كيف يكون إنشاء، وإن لم يقصداه؟ الثالث: أنه كيف لا يُعرَض لهما بإنكار وتعزير على الأقل؟ لأنهما قد ارتكبا الحرام قطعًا وهو الخلوة, لأنهما إن كانا تلفظا بزواج قبل العثور عليهما فذاك باطل، إذ لا ولي ولا شهود. وإن لم يتلفظا إلا بدعواهما الزوجية، أو اعترافهما بها عند العثور عليهما، فالأمر أوضح. وأيضًا فالتعزير متّجه من وجه آخر، وذلك لئلا يكون هذا تسهيلًا للفجور، يخلو الفاجر بالفاجرة آمنَين مطمئنين قائلين: إن لم يُطَّلع علينا فذاك المقصود، وإن اطُّلِع علينا قلنا: نحن زوجان! ***

المسألة التاسعة الطلاق قبل النكاح

[2/ 60] المسألة التاسعة الطلاق قبل النكاح في "تاريخ بغداد" (13/ 411 [438]): عن أحمد بن حنبل أنه قيل له: قول أبي حنيفة: الطلاق قبل النكاح؟ فقال: "مسكين أبو حنيفة! كأنه لم يكن من العراق، كأنه لم يكن من العلم بشيء. قد جاء فيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -, وعن الصحابة، وعن نيف وعشرين من التابعين مثل سعيد بن جبير، وسعيد بن المسيب، وعطاء، وطاوس، وعكرمة. كيف يجترئ أن يقول: تطلق؟ ". قال الأستاذ (ص 142): " ... على أن مذهب أبي حنيفة أنه لا طلاق إلا في مِلْك، أو مضافًا إلى مِلْك، أو عُلْقة من علائق الملك، ... وقد أجمعت الأمة أنه لا يقع طلاق قبل النكاح لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} الآية [الأحزاب: 49]. فمن علَّق الطلاق بالنكاح وقال: إن نكحتُ فلانةَ فهي طالق، لا يُعَدُّ هذا المعلَّق مطلِّقًا قبل النكاح ولا الطلاقُ واقعًا قبل النكاح. وإنما يُعَدُّ مطلِّقًا بعده, حيث يقع الطلاق بعد عقد النكاح، فيكون هذا خارجًا من متناول الآية ومن متناول حديث: "لا طلاق قبل النكاح"؛ لأن الطلاق في تلك المسألة بعد النكاح لا قبله. وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه الثلاثة وعثمان البَتِّي. وهو قول الثوري، ومالك، والنخعي، ومجاهد، والشعبي، وعمر بن عبد العزيز فيما إذا خَصَّ. والأحاديث في هذا الباب لا تخلو عن اضطراب، والخلافُ طويل الذيل بين السلف فيما إذا عَمَّ أو خَصَّ. وقول عمر بن الخطاب صريح فيما ذهب إليه أبو حنيفة وأصحابه. وتابع الشافعي ابن المسيِّب سواء عمَّ أو خصَّ، وإليه ذهب أحمد".

أقول: قال البخاري في "الصحيح" (¬1): "باب لا طلاق قبل نكاح، وقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب: 49]. وقال ابن عباس: جعل الله الطلاق بعد النكاح. ويروى في ذلك عن عليّ، وسعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وأبي بكر بن عبد الرحمن، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وأبان بن عثمان، وعلي بن حسين، وشريح، وسعيد بن [2/ 61] جبير، والقاسم، وسالم، وطاوس، والحسن، وعكرمة، وعطاء، وعامر بن سعد، وجابر بن زيد، ونافع بن جبير، ومحمد بن كعب، وسليمان بن يسار، ومجاهد، والقاسم بن عبد الرحمن، وعمرو بن هرم، والشعبي = أنها لا تَطْلُق". والآثار عن جماعة من هؤلاء صحيحة كما في "الفتح" (¬2). ولم يصح عن عمر بن الخطاب شيء في الباب. وجمهور السلف على عدم الوقوع مطلقًا. وروي عن ابن مسعود أنه إذا خَصَّ وقع، وإذا عَمَّ كأن قال: "كل امرأة ... " لم يقع. وعن ابن عباس (¬3) أنه أنكر هذا، فقال: "ما قالها ابن مسعود. وإن يكن قالها فزلَّةٌ من عالم ... قال الله تعالى .... " فتلا الآية. وممن نُقِل عنه هذا القول: الشعبي، وإبراهيم النخعي، وحماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة. وهو المشهور عن مالك، وقيل عنه كالجمهور أنه لا يقع مطلقًا، ¬

_ (¬1) (9/ 381 مع "الفتح"). (¬2) (9/ 382 وما بعدها). (¬3) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 320، 321).

وهذا مذهب الشافعي وأحمد. وقال أبو حنيفة: يقع مطلقًا. ولا يُعلم له سلف في ذلك. فأما الآية فاحتج بها حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس، ثم زين العابدين علي بن الحسين (¬1)، ثم البخاري على عدم الوقوع مطلقًا. وزعم بعضهم كالأستاذ أنها لا تدل إلا على أنه لا يقع الطلاق على المرأة قبل نكاحها. فأما من قال: "إن تزوجتُ فلانةَ فهي طالق"، فلا تدل الآية على عدم وقوعه؛ لأنه إذا وقع فإنما يقع بعد النكاح. وأقول: يقال: "طَلَقَتْ (بفتح اللام مخففة) فلانةُ" أي انحلَّت عقدةُ نكاحها بقول من الزوج. ويقال: "طلَّق فلان امرأته" أي جعلها تطلُق، كما يقال سرَّحها أي جعلها تسرح، وسيَّرها: جعلها تسير، وغير ذلك. فطلاق الرجل يتضمن أمرين: الأول: قوله الخاص. الثاني: وقوع الأثر على المرأة، فتنحلُّ به عقدةُ نكاحها. وإذا قيل: "طلَّق فلان امرأته اليوم" فالمتبادر أن قوله وانحلال العقدة وقعا ذاك اليوم، فهذا هو الحقيقة. فمن قال لامرأته يوم السبت: "إذا جاء يوم الجمعة فأنتِ طالق" لم يصدُق على وجه الحقيقة أن يقال قبل يوم الجمعة: إنه طلَّق، ولا أن يقال: طلَّق يومَ السبت، ولا طلَّق قبل يوم الجمعة؛ ولكنه يقال بعد مجيء يوم الجمعة: إنه طلَّق. فإذا أُريد التفصيل قيل: علَّق طلاقَها يوم السبت وطَلَقَتْ يوم الجمعة. ونظير ذلك: إذا جَرَح رجلٌ آخرَ يوم السبت جراحةً مات منها يوم ¬

_ (¬1) أخرجه عنه عبد بن حميد كما في "الدر المنثور" (12/ 79).

الجمعة، فلا يقال حقيقةً قبل الموت: إنه قَتَل، ولكن يقال بعد الموت: إنه [2/ 62] قتله، ولا يقال: قتله يوم السبت، ولا يوم الجمعة، بل يقال: جرَحه يوم السبت، فمات يوم الجمعة. فقوله تعالى في الآية: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} يقتضي تأخير الأمرين معًا: قول الرجلِ، وانحلال العقدة. ويؤيده أمران: الأول: قوله: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ}. وكلمة "ثم" تقتضي المهلة. وإذا كان الطلاق معلَّقًا بالنكاح، وقلنا: إنه يقع = وقَعَ بلا مهلة. الثاني: قوله: {وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا}. والتسريح هنا إرجاعها إلى أهلها، وإنما يكون ذلك إذا كانت قد زُفَّتْ إليه. ومن كان معلومًا أنه بنكاحه يقع طلاقُه فمتى تُزَفُّ إليه المرأة، حتى يقال له: سرِّحْها سراحًا جميلاً؟ وأما الحديث، فاحتج به جماعة من المتقدمين على عدم الوقوع، وتأوله بعضهم بما ذكر الأستاذ. وأقول: إن كان لفظ "طلاق" فيه اسمًا من التطليق كالكلام من التكليم، سقط التأويل كما يُعلم مما مرَّ. وإن كان مصدرَ قولنا: "طَلَقَتِ المرأةُ" كان للتأويل مساغ. والأول هو الأكثر والأشهر في الاستعمال. وقد دُفِع التأويلُ بأنه لا يجهل أحد أن المرأة لا تطلَّق ممن ليس لها بزوج، فحملُ الحديث على هذا النفي يجعله خِلْوًا عن الفائدة. وأما النظر، فلا ريب أن الله تبارك وتعالى إنما شرع النكاحَ والطلاقَ لمقاصد عظيمة، وأن مثل ذلك الطلاق لا يحتمل أن يحصل به مقصد شرعي، وهو مضادٌّ لشرع النكاح.

وبعد، فإذا لم يثبت عن السلف قبل أبي حنيفة إلا قولان، وأحدهما تدفعه الأدلة المذكورة، وهو ضعيف في القياس = تعيَّن القول الآخر، وهو مذهب عليّ وابن عباس، ثم مذهب الشافعي وأحمد. والله الموفق (¬1). ... ¬

_ (¬1) قلت: بقي على المؤلف رحمه الله شيء مما زعمه الكوثري لم يتعقبه، وهو حقيق بذلك وهو قوله: "إن الأحاديث في هذا الباب لا تخلو عن اضطراب". فهذا القول على إطلاقه باطل، ما أظن يخفى بطلانه حتى على الكوثري نفسه! فإن في الباب أحاديث كثيرة ثلاثة منها خالية عن أي اضطراب أو علة قادحة، أحدها: حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، من طرق عنه عند أي داود والترمذي وحسَّنه. والثاني: عن جابر عند الطيالسي والحاكم وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، وهو كما قالا. والثالث: عن المسور بن مخرمة، أخرجه ابن ماجه بسند حسن كما قال الحافظ ابن حجر، والحافظ البوصيري. وهذه الأحاديث وغيرها مخرَّجة في "إرواء الغليل" رقم (1778، 2130). [ن].

المسألة العاشرة العقيقة مشروعة

[2/ 63] المسألة العاشرة العقيقة مشروعة في "تاريخ بغداد" (13/ 411 [438]) عن أحمد بن حنبل: "في العقيقة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث مسندة، وعن أصحابه، وعن التابعين. وقال أبو حنيفة: هو من عمل الجاهلية". قال الأستاذ (ص 142): "نعم، كان أهل الجاهلية يرون وجوب العقيقة، وأبيحت في الإِسلام من غير وجوب في رأي أبي حنيفة وأصحابه. قال الإِمام محمَّد بن الحسن الشيباني في "الآثار" (¬1): أخبرنا أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم قال: كانت العقيقة في الجاهلية، فلما جاء الإِسلام رُفِضت. قال محمَّد: وأخبرنا أبو حنيفة قال: حدثنا رجل عن محمَّد ابن الحنفية أن العقيقة كانت في الجاهلية، فلما جاء الإِسلام رُفِضت". ثم قال الأستاذ: "يرى أبو حنيفة أن ما كان من عمل أهل الجاهلية معتبرين وجوبَه عليهم إذا عُمِل به في الإِسلام لا يدل هذا العملُ إلا على الإباحة، لا على إبقاء الوجوب المعتبَر في الجاهلية .... ". أقول: قول القائل: "من عمل الجاهلية" ظاهر في أنها محظورة، وكلمة "عمل" تدل أن كلامه في العقيقة نفسها لا في اعتقاد وجوبها فقط. وقول القائل: "فلما جاء الإِسلام رفضت" ظاهر في أنها غير مشروعة البتة، فيكون اعتقاد مشروعيتها ضلالًا كبيرًا وتديُّنًا بما لم ينزل الله به سلطانًا. فأما محمَّد ابن الحنفية، فلا يصح الأثر عنه، إذ لا يُدرى مَن شيخ أبي حنيفة؟ أثقة أم لا؟ ¬

_ (¬1) رقم (809، 810) ط. كراتشي.

وأما إبراهيمُ فنافٍ، والمثبِتُ مقدَّم عليه. وقد ورد في مشروعيتها أحاديث قولية. منها: حديثان في "صحيح البخاري" (¬1) ذكرهما البيهقي في "السنن" (ج 9 ص 298)، فاعترضه ابن التركماني (¬2) قائلاً: "ظاهر هما دليل على وجوبها، فهما غير مطابقين لمدَّعاه". والقول بالوجوب منقول عن الظاهرية، واحتج من يقول بالندب بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه مرفوعًا: "من وُلِد له ولد، فأحبَّ أن ينسُك عنه، فلينسُكْ: عن الغلام شاتان .. " (¬3). وهذا الحديث أيضًا يدل على مشروعيتها، فإنَّ النسك عبادة، إذا لم تكن [2/ 64] واجبة كانت مندوبة ولا بد. وسواء أكان أهل الجاهلية يعتقدون وجوبها أم لا، فإنها لم تُرفَض في الإِسلام، بل هي مشروعة فيه (¬4). ¬

_ (¬1) برقم (5471، 5472) عن سلمان بن عامر وسمرة بن جندب. (¬2) "الجوهر النقي" (9/ 299). (¬3) أخرجه أحمد (6822) وأبو داود (2842) والنسائي (7/ 162) والبيهقي (9/ 300، 312). وإسناده حسن. (¬4) قلت: ليس في السنة ما يشهد لقول الكوثري أن أهل الجاهلية كانوا يعتقدون وجوبها، فهذه كتب السنة ليس فيها شيء من ذاك، وإنما هي مجرد دعوى منه, ليبني عليها ذلك التأويل الذي بيَّن المؤلف رحمه الله بطلانه بالدليل القاطع. ومما يؤكد بطلان ذلك التأويل ويدل أن أبا حنيفة نفسه كان لا يقول به قولُ الإِمام محمَّد في "موطئه" (ص 286): "أما العقيقة فبلغنا أنها كانت في الجاهلية وقد فعلت في أول الإِسلام، ثم نسخ الأضحى كل ذبح كان قبله ... " قلت: هذا نص منه بنسخ مشروعية العقيقة، فهل يجوز العمل بالمنسوخ؟! ولو كان عند الكوثري شيء من الإنصاف لاعتذر عن أبي حنيفة بأي عذر مقبول، ولانتصر للسنة على الأقل مثلما ينتصر لإمامه، ولغار عليها أن تعطل عن العمل بها بجعلها أمرًا مباحًا فحسب كأي ذبيحة =

المسألة الحادية عشرة للراجل سهم من الغنيمة، وللفارس ثلاثة: سهم له وسهمان لفرسه

[2/ 65] المسألة الحادية عشرة للراجل سهم من الغنيمة، وللفارس ثلاثة: سهم له وسهمان لفرسه في "تاريخ بغداد" (13/ 390 [407]) عن يوسف بن أسباط" ... قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "للفرس سهمان وللرجل سهم". قال أبو حنيفة: أنا لا أجعل سهمَ بهيمةٍ أكثرَ من سهم المؤمن". قال الأستاذ (ص 86): "فقوله: "للفرس سهمان وللرجل سهم" هكذا في بعض الروايات، وفي بعضها: "للفارس سهمان وللراجل سهم"، وهو الذي اختاره أبو حنيفة، وهو الذي وقع في لفظ مُجمِّع بن جارية المخرج في "سنن أبي ¬

_ = يذبحها الإنسان ليأكل من لحمها في غير مناسبة مشروعة! لو كان الكوثري منصفًا لقال كما قال العلامة أبو الحسنات اللكنوي - وهو حنفي مثله، ولكن شتان ما بينهما! - قال في تعليقه على كلمة الإِمام محمَّد المتقدمة: "وإن أُريد أنها كانت في الجاهلية مستحبة أو مشروعة فلما جاء الإِسلام رفض استحبابها وشرعيتها، فهو غير مسلم، فهذه كتب الحديث المعتبرة مملوءة من أحاديث شرعية العقيقة واستحبابها ... ". قلت: ثم إن حديث عمرو بن شعيب: " ... فأحب أن ينسك ... " لا يصلح دليلًا على صرف الأمر إلى الندب فإنه كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أراد الحج فليتعجل"، فهل هذا يدل على أن الأمر بالحج ليس للوجوب؟ ولذلك فالقواعد الأصولية توجب إبقاء الأمر على ظاهره، وذلك يقتضي وجوب العقيقة، وبه قال الحسن البصري والإمام الليث بن سعد كما في "الفتح" (9/ 582) قال: "وقد جاء الوجوب أيضًا عن أبي الزناد، وهي رواية عن أحمد". [ن].

داود" (¬1) .... فأبو حنيفة لما رأى اختلاف ألفاظ الرواة ... نظر، فوجد أن الشرع لا يرى تمليك البهائم، فحكم على أن رواية "للفرس سهمان" المفيدة بظاهرها تمليكَ بهيمة ضِعْفَ ما يملك الرجلُ من غلط الراوي، حيث كانت الألف تُحذَف من الوسط في خط الأقدمين في غير الأعلام أيضًا، فقرأ هذا الغالط "فرسًا، و"رجلاً" ما تجب قراءته "فارسًا" و"راجلًا". فتتابعت رواةٌ على الغلط قاصدين باللفظين المذكورين الخيل والإنسان، مع إمكان إرادتهم الفارس من الفرس، كما يراد بالخيل الخيَّالة عند قيام القرينة جمعًا بين الروايتين. ومضى آخرون على رواية الحديث على الصحة. فردَّ أبو حنيفة على الغالطين بقوله: إني لا أفضِّل بهيمةً على مؤمن، ليُفْهِمهم أنه لا تمليك في الشرع للبهائم، والمجاز خلاف الأصل. وإنما تكلم عن التفضيل مع أنه أيضًا لا يقول بمساواة البهيمة لمؤمن؛ لأن الكلام في الحديث المغلوط فيه ... وقولُ أبي يوسف في "الخراج" (¬2) بعد وفاة أبي حنيفة ومتابعةُ الشافعي له في "الأم" (¬3) مع زيادة تشنيع بعيدان عن مغزى فقيه الملة ... وأما ما ورد في مضاعفة سهم الفارسي في بعض الحروب، فقد حمله أبو حنيفة على التنفيل جمعًا بين الأدلة, لأن الحاجة إلى الفرسان تختلف باختلاف الحروب. أبهذا يكون أبو حنيفة ردَّ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ حاشاه". أقول: لا يخفى ما في هذا التوجيه من التعسف. وقد كثرت الحكايات عن ¬

_ (¬1) رقم (2736). ولفظه: " ... كان الجيش ألفًا وخمسمائة، فيهم ثلاثمائة فارس، فأعطى الفارس سهمين، وأعطى الراجل سهمًا". قال أبو داود: "حديث أبي معاوية أصح، والعمل عليه، وأرى الوهم في حديث مجمع". يقصد بحديث أبي معاوية ما رواه (2733) من طريقه عن ابن عمر بلفظ: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسهمَ لرجلٍ ولفرسه ثلاثة أسهم: سهمًا له وسهمين لفرسه". (¬2) (ص 19). (¬3) (9/ 182، 183) ضمن كتاب "سير الأوزاعي".

أبي حنيفة في مجابهة من يعترض عليه بالكلمات الموحشة. فقد يقال: إنه كان يتبرَّم بالمعترضين، ولا يراهم أهلًا للمناظرة، فكان يدفعهم بتلك الكلمات لئلا يعودوا إلى التعرض، غيرَ مُبالٍ بما يترتب على [2/ 66] ذلك من اعتقادهم. فهل جرى على هذه الطريقة مع أصحابه حتى إن أخصَّهم به وآثرهم عنده وأعلمَهم بمقاصده - وهو أبو يوسف - لم يتفطَّن لما تفطَّن له الأستاذ؟ فأما حذف الألف في كتابة المتقدمين فيقع في ثلاثة مواضع: الأول: حيث يؤمن اللبس، إما لعدم ما يلتبس به مثل: القاسم بن فلان، سليمان بن فلان، إسحاق بن فلان. فإن هذه الأعلام إذا كتبت بلا ألف لا يوجد ما يلتبس بها. وإما في كتابة القرآن الذي من شأنه أن يؤخذ بالتلقي والتلقين وتعم معرفته، بحيث إذا أخطأ مخطئ لم يلبث أن يُنَبَّه. وإما فيما يصح على كلا الوجهين مثل جبريل و {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}. وليس قوله في الحديث: "للفرس، للرجل" في شيء من هذا. اللهم إلا أن يخطئ الكاتب، يسمع "للفارس، للراجل"، فيحسب ذلك مما يجوز تخفيفه في الكتابة فيكتب "للفرس، للرجل". لكنه كما قد يحتمل هذا، فكذلك قد يحتمل أن يخطئ القارئ بأن يكون الكاتب سمع "للفرس، للرجل" فكتبها كذلك، ثم توهم القارئ أن الأصل "للفارس، للراجل"، وإنما حذف الألف تخفيفًا في الكتابة، فيقرؤها " للفارس، للراجل" ويرويها كذلك. وأما تقديم الحقيقة على المجاز، فالذي في الرواية "جَعلَ للفرس سهمين وللرجل سهمًا" (¬1)، ولا يتجه في قوله: "للفرس" مجاز، بل اللام ¬

_ (¬1) أخرجه بهذا اللفظ مسلم (1762) من حديث ابن عمر. وهو بنحوه عند البخاري (2863, 4228).

لام التعليل، أي جعل لأجل الفرس. فإن قيل: بل اللام لشبه التمليك. قلنا: فما الحجة على أن لام شبه التمليك مجاز؟ فإن كانت هناك حجة فجَعْلُها للتعليل أَوْلى تقديمًا للحقيقة على المجاز، وكذلك لو ساغ أن يطلق "الفرس"، ويراد "الفارس"، كما زعم الأستاذ. على أن سواغ ذلك غير مسلَّم، فإنه غير معروف، ولا قرينة عليه. فأما إطلاق "الخيل" وإرادة "الفرسان"، فمستفيض، وإنما يسوغ بقرينة، وإنما جاء حيث يكون المقام ذكر الجيش، حيث لا تكون الخيل إلا مع فرسانها، فيكون بينهما ضرب من التلازم. هَبْ أنه اتجه المجاز، فتقديمُ الحقيقة على المجاز محلُّه في الكلمة الواحدة، يجب حملها على معناها الحقيقي، ولا يجوز حملها على معنى مجازي بلا حجة، كما ارتكبه الأستاذ في غير موضع. فأما روايتان مختلفتان متنافيتان، والكلام في إحداهما حقيقة، وفي الأخرى مجاز صحيح بقرينته؛ فلا [2/ 67] يتجه تقديمُ الأولى لأنَّ المتكلم كما يتكلم بالحقيقة فكذلك يتكلم بالمجاز، والمخطئ كما يخطئ من الحقيقة إلى المجاز، فكذلك عكسه. بل احتماله أقرب, لأن أغلب ما يكون الخطأ بالحمل على المألوف، وغالب ما يقع من التصحيف كذلك. فقد رأيت ما لا أُحصيه اسم "زَبر" مصحفًا إلى "أنس"، واسم "سعر" مصحفًا إلى "سعد" ولا أذكر أنني رأيت عكسن هذا. وقال الشاعر (¬1): ¬

_ (¬1) هو النابغة الجعدي. انظر: "شعره" (160). ومن الكتب التي صحِّف فيها "الخنان" إلى "الختان": شرح شواهد المغني للسيوطي (615, 921).

فمَنْ يكُ سائلاً عني فإنَّي ... من الفتيان أيامَ الخُنانِ وقال الآخر (¬1): كساك ولم تَسْتكسِه فحمِدتَه ... أخٌ لك يعطيك الجزيل وياصِرُ فصحَّف الناس قافيتي هذين البيتين إلى "الختان. ناصر" (¬2). وأمثال هذا كثيرة لا تخفى على من له إلمام. وهكذا الخطأ في الأسانيد أغلب ما يقع بسلوك الجادة. فهشام بن عروة غالبُ روايته عن أبيه عن عائشة، وقد يروي عن وهب بن كيسان عن عبيد بن عمير. فقد يسمع رجل من هشام خبرًا بالسند الثاني، ثم يمضي على السامع زمان، فيشتبه عليه، فيتوهم أنه سمع ذاك الخبر من هشام بالسند الأول على ما هو الغالب المألوف. ولذلك تجد أئمة الحديث إذا وجدوا راويين اختلفا بأن رويا عن هشام خبرًا واحدًا جعله أحدهما عن هشام عن وهب عن عبيد، وجعله الآخر عن هشام عن أبيه عن عائشة، فالغالب أن ¬

_ (¬1) هو أبو الأسود الدؤلي. انظر: "ديوانه" (166، 309) والحاشية الآتية. (¬2) الأول تصحيف بلا ريب. أما "ناصر" فهي رواية ابن الأعرابي. وكذا في "الكامل" (2/ 701)، و"ديوان أبي الأسود صنعة السكري" (166) ورواية ابن جني (309) إن صحت قراءة المحقق. وعدَّها أبو نصر تصحيفًا فيما جرى بينه وبين ابن الأعرابي في مجلس عبيد الله بن عبد الله بن طاهر. انظر: "شرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف" للعسكري (161 - 162). وفي "وفيات الأعيان" (2/ 538): "يروى (ناصر) بالنون و (ياصر) بالياء، ولكل واحد منهما معنى". وقد أشار المحقق في تخريج البيت إلى أن قافيته في كشف المشكل (1/ 640): "وشاكر". ولكن أغفل رواية (ياصر) البتة مع وجودها في مصادر التخريج التي ذكرها.

يقدِّموا الأول، ويخطِّئوا الثاني. هذا مثال، ومن راجع كتب علل الحديث وجد من هذا ما لا يُحصى. هَبْ أن الحقيقة تُقدَّم على المجاز في الروايتين المتنافيتين، فإنما لا يبعد ذلك جدًّا، حيث لا يوجد للرواية الأخرى مرجِّح قوي. وليس الأمر ها هنا كذلك، بل مَن تتَّبع الرواياتِ وجد الأمر بغاية الوضوح. وشرح ذلك أن الحنفية يتشبثون بأربعة أشياء: أولها: حديث مُجمِّع، والجواب عنه أنه من رواية مُجمِّع بن يعقوب بن مجمِّع عن أبيه بسنده. وفي "سنن البيهقي" (ج 6 ص 325) أن الشافعي قال: "مجمِّع بن يعقوب شيخ لا يعرف". أقول: أما مجمِّع، فمعروف لا بأس به. فلعل الشافعي أراد أباه يعقوب بن مجمِّع، ففي "نصب [2/ 68] الراية" (¬1) عن ابن القطان: "علة هذا الحديث الجهلُ بحال يعقوب بن مجمِّع، ولا يُعرف روى عنه غير ابنه". وذكر المزي (¬2) راويين آخرين، ولكنهما ضعيفان. ولم يوثق يعقوبَ أحدٌ، فأما ذكرُ ابن حبان له في "الثقات" (¬3)، فلا يُجدي شيئًا لما عُرف من قاعدة ابن حبان من ذكر المجاهيل في "الثقات". وقد ذكر الأستاذ ذلك في غير موضع، وشرحته في الأمر الثامن من القاعدة السادسة من قسم القواعد، وفي ترجمة ابن حبان من قسم التراجم (¬4). ¬

_ (¬1) (3/ 417). وانظر "بيان الوهم والإيهام" (4/ 419). (¬2) في "تهذيب الكمال" (8/ 178). (¬3) (7/ 642). (¬4) رقم (200).

وفي الحديث وهمٌ آخر، فإن فيه أن فرسان المسلمين يوم خيبر كانوا ثلاثمائة، والمعروف أنهم كانوا مائتين. وأبو داود وإن أخرج الحديث في "سننه" (¬1) فقد تعقبه - كما في "نصب الراية" (¬2) - بقوله: "هذا وهمٌ، إنما كانوا مائتي فارس، فأعطى الفرس سهمين وأعطى صاحبه سهما". وأخرج جماعة منهم الحاكم في "المستدرك" (ج 6 ص 326) (¬3) عن ابن عباس: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسم لمائتي فرس يوم خيبر سهمين سهمين". وفي "مصنف ابن أبي شيبة" (¬4) عن أبي خالد الأحمر، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن صالح بن كيسان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أسهم يوم خيبر لمائتي فرس: لكل منهم سهمين. وهؤلاء كلُّهم ثقات متفق عليهم، وصالح من أفاضل التابعين. وفي "سنن البيهقي" (ج 6 ص 326) بسند "السيرة" عن ابن إسحاق: "حدثني ابن لمحمد بن مسلمة عمن أدركه من أهله، وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم قالا: كانت المقاسم على أموال خيبر على ألفٍ وثمان مائة سهم: الرجال ألف وأربع مائة والخيل مائتي (¬5) فرس، فكان للفرس سهمان ولصاحبه سهم، وللراجل سهم". ¬

_ (¬1) رقم (2736). قال أبو داود عقبه: أرى الوهم في حديث مجمع، قال: ثلاث مئة فارس، وكانوا مئتي فارس. (¬2) (3/ 416). (¬3) بل في (2/ 138) و"سنن البيهقي" (6/ 326). (¬4) (12/ 397). (¬5) كذا في المطبوع وفي "سنن" البيهقي.

وأكثر الروايات وأَثبتُها في عدد الجيش أنهم ألف وأربع مائة، وفي بعض الروايات: "ألف وخمس مائة". وجمع أهلُ العلم بين ذلك بأن عدد المقاتلة المستحقين للسهم كانوا ألفًا وأربع مائة، ومعهم نحو مائة ممن لا يستحق سهمًا من العبيد والنساء والصبيان. وجاء عن بُشَير بن يسار (¬1) قال: "شهدها مائة فرس، وجعل للفرس سهمين". وهذا محمول على خيل الأنصار، فأما مجموع الخيل فكانت مائتين. الثاني: حديث عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم العمري، عن نافع، عن ابن عمر: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسهم للفارس سهمين، وللراجل سهمًا". أخرجه الدارقطني (¬2)، ثم قال: "ورواه القعنبي عن العمري بالشك في الفارس والفرَس. ثنا أبو بكر، ثنا محمَّد بن علي الوراق، نا [2/ 69] القعنبي عنه". فقد شك العمري، وهو مع ذلك كثير الخطأ، حتى قال البخاري: "ذاهب لا أروي عنه شيئًا". ومن أثنى عليه فلصلاحه وصدقه، وأنه ليس بالساقط. الثالث: ما وقع في رواية بعضهم عن عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم. وسيأتي ذلك في الكلام على حديثه. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" (2/ 114). (¬2) في "السنن" (4/ 106).

الرابع: قال ابن أبي شيبة في "المصنف" (¬1): "غندر، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن هانئ، عن علي قال: للفارس سهمان. قال شعبة: وجدته مكتوبًا عند (بياض) ". وقال قبل ذلك (¬2): "معاذ، ثنا حبيب بن شهاب، عن أبيه، عن أبي موسى أنه أسهم للفارس سهمين، وللراجل سهمًا". أما الأثر عن عليّ، فقول شعبة: "وجدته ... " عبارة مشككة. وقد روى الشافعي - كما في "سنن البيهقي" (ج 6 ص 327) - "عن شاذان (الأسود بن عامر)، عن زهير، عن أبي إسحاق قال: غزوت مع سعيد بن عثمان، فأسهم لفرسي سهمين، ولي سهما. قال أبو إسحاق: وكذلك حدَّثني هانئ بن هانئ عن عليّ، وكذلك حدَّثني حارثة بن مضرّب عن عمر". وفي "مصنف ابن أبي شيبة" (¬3): "وكيع، ثنا سفيان وإسرائيل، عن أبي إسحاق قال: شهدنا غزوة مع سعيد بن عثمان، ومعي هانئ بن هانئ، ومعي فرسان، ومع هانئ فرسان؛ فأسهم لي ولفرسَيَّ خمسة أسهم، وأسهم لهانئ ولفرسَيْه خمسة أسهم". وهذا غير مخالف لرواية زهير, لأنه إذا أسهم للفرسين أربعة أسهم ولصاحبها سهمًا فقد أسهم للفرس سهمين، ولصاحبه سهمًا. وهذا بلا شك أثبَتُ مما ذكره شعبة. ومع هذا، فهانئ بن هانئ لم يرو عنه إلا أبو إسحاق ¬

_ (¬1) (12/ 401). (¬2) "المصنف" (12/ 400). (¬3) (12/ 405).

وحده. قال ابن المدينى: "مجهول". وقال النسائي: "ليس به بأس". ومن عادة النسائي توثيق بعض المجاهيل، كما شرحته في الأمر الثامن من القاعدة السادسة من قسم القواعد. وأما الأثر عن أبي موسى فسنده جيد. وقد تأوله بعضهم بأن معناه للفارس من حيث هو ذو فرس، وذلك لا ينافي أن يكون له سهم ثابت من حيث هو رجل. وفي هذا تعسف. وقد ذكر ابن التركماني (¬1) أن ابن جرير ذكر في "تهذيبه" أن هذا كان في واقعة (تُسْتَر). فكأن هذا رأي لأبي موسى فيما إذا كانت الوقعة قتالَ حصنٍ يضعفُ غَناءُ الخيل فيه. وقد جاء عن جماعة من التابعين أنهم كانوا ينقصون سهام الخيل في قتال الحصون أو لا يُسهِمون لها شيئًا. ذكر [2/ 70] ذلك ابن أبي شيبة وغيره، وذكر إنكار عمر بن عبد العزيز ذلك (¬2)، وإنكار مكحول له واحتجاجه بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أسهم في غنائم خيبر للفرس سهمين ولصاحبه سهمًا، مع أن خيبر كانت حصنًا. ولعلَّ أبا موسى اعتذر عن هذا بأنَّ مغانم خيبر قُسمت على أصحاب الحديبية ولم تكن الحديبية حصنًا. ولعل ابن جرير قد ذكر هذا المعنى في "التهذيب"، فليراجعه من تيسَّر له ذلك (¬3). حديث عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب. عبيد الله هذا ثقة جليل أثبَتُ من أخيه عبد الله بما لا يُحصى، بل جاء عن ¬

_ (¬1) "الجوهر النقي" (6/ 326). والأثر في "تهذيب الآثار" (1016) تحقيق علي رضا. (¬2) "المصنّف" (12/ 399). (¬3) راجعناه فلم نجده تطرق إلى هذا المعنى، ولكنه ناقش الحنفية مناقشة طويلة في هذه المسألة، انظر (ص 538 - 542) من الطبعة المشار إليها.

يحيى بن سعيد القطان والإمام أحمد وأحمد بن صالح أن عبيد الله أثبَتُ أصحاب نافع، وفيهم مالك وغيره. وقد وقعتُ على جماعة ممن روى عنه هذا الحديث. الأول: الإِمام المضروب به المثل في الحفظ والإتقان والفقه والزهد والعبادة والسنة أبو عبد الله سفيان بن سعيد الثوري. قال الإِمام أحمد في "المسند" (ج 2 ص 152) (¬1): "ثنا عبد الرزاق، أنا سفيان، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل للفرس سهمين وللرجل سهمًا". ورواه الدارقطني في "السنن" (ص 467) (¬2) من طريق عبد الله بن الوليد العدَني عن سفيان - بسنده - (¬3) "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسهم للرجل ولفرسه ثلاثة أسهم: للرجل سهم ولفرسه سهمان". ورواه البيهقي في "السنن" (ج 6 ص 325) من طريق أبي حذيفة عن سفيان - بسنده - "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسهَمَ للرجل ثلاثة أسهم: للرجل سهم وللفرس سهمان". الثاني: الحافظ المقدَّم هُشيم بن بشير الواسطي. رواه عنه الإِمام أحمد في "المسند" (ج 2 ص 2) (¬4) وهو أول حديث في "مسند ابن عمر" ولفظه: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل يوم خيبر للفرس سهمين وللرجل سهمًا". الثالث: أبو معاوية محمَّد بن خازم الضرير. رواه عنه الإِمام أحمد في ¬

_ (¬1) رقم (6394). وهو بهذا السند والمتن برقم (5518). (¬2) (4/ 102). (¬3) وقع في النسخة "عن عبد الله"، والصواب: "عن عبيد الله". [المؤلف]. (¬4) رقم (4448).

"المسند" (ج 2 ص 2) (¬1) ولفظه: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسهَمَ للرجل ولفرسه ثلاثة أسهم: سهمًا له، وسهمين لفرسه". [2/ 71] ورواه أبو داود في "السنن" (¬2) عن أحمد. وقد رواه عن أبي معاوية أيضًا علي بن محمَّد بن أبي الشوارب عند ابن ماجه (¬3)، والحسن بن محمَّد الزعفراني عند الدارقطني (ص 467) (¬4)، وسعدان بن نصر عند البيهقي (ج 6 ص 325). الرابع: إسحاق الأزرق عند الشافعي كما في "مسنده" (¬5) بهامش "الأم" (ج 6 ص 250) " ... أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أضرب للفرس بسهمين، وللفارس بسهم". الخامس: سُلَيم بن أخضر. رواه مسلم في "صحيحه" (¬6) عن يحيى بن يحيى وأبي كامل عنه: " ... أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسم في النفل للفرس سهمين، وللرجل سهمًا". وقع عند بعض رواة الصحيح: "للراجل". وقد رواه عن ¬

_ (¬1) رقم (4448) و (4999). (¬2) رقم (2733). (¬3) رقم (2854). كذا قال الشيخ: "بن أبي الشوارب". والصواب أن "علي بن محمَّد" هو الطنافسي. (¬4) (4/ 102). (¬5) (ص 323) ط. دار الكتب العلمية، و (2/ 124) ترتيب السندي. وفي "سير الأوزاعي" من كتاب "الأم" (9/ 183) لم يذكر شيخه إسحاق الأزرق، بل قال: "وأُخبِرنا عن عبيد الله بن عمر ... ". (¬6) رقم (1762).

سُلَيم أيضًا: عبد الرحمن بن مهدي ("مسند أحمد" ج 2 ص 62) (¬1)، وعفان ("مسند أحمد" ج 2 ص 72) (¬2)، وأحمد بن عبدة وحميد بن مسعدة عند الترمذي (¬3). وفي روايتهم جميعًا: "للرجل". السادس: أبو أسامة. رواه عنه عبيد بن إسماعيل عند البخاري في "صحيحه" (¬4) في كتاب الجهاد: " ... أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل للفرس سهمين، ولصاحبه سهمًا". وكذلك رواه عن أبي أسامة: محمدُ بن عثمان بن كرامة عند الدارقطني (ص 467) (¬5)، وأبو الأزهر عند البيهقي (ج 6 ص 324). ورواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (¬6) عن أبي أسامة وعبد الله بن نمير، وسيأتي. السابع: عبد الله بن نمير. رواه عنه الإِمام أحمد في "المسند" (ج 2 ص 143) (¬7): " ... أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسم للفرس سهمين وللرجل سهمًا". وكذلك رواه الدارقطني (ص 467) (¬8) من طريق أحمد. ورواه مسلم في "الصحيح" (¬9) عن محمَّد بن عبد الله بن نمير عن أبيه، وأحال على متن ¬

_ (¬1) رقم (5286). (¬2) رقم (5412). (¬3) رقم (1554). (¬4) رقم (2863). (¬5) (4/ 102). (¬6) (12/ 397). (¬7) رقم (6297). (¬8) (4/ 102). (¬9) رقم (1762).

سليم بن أخضر قال: "مثله، ولم يذكر: في النفل". ورواه الدارقطني (¬1) أيضًا من طريق عبد الرحمن بن بشر بن الحكم عن عبد الله بن نمير. وفي "مصنف ابن أبي شيبة" (¬2) باب "في الفارس كم يُقسَم له؟ من قال: ثلاثة أسهم: حدثنا أبو أسامة وعبد الله بن نمير قالا: ثنا عبيد الله بن عمر ... : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل للفرس سهمين وللرجل سهمًا". وذكره ابن حجر في "الفتح" (¬3) عن "مصنف ابن أبي شيبة"، وذكر أن ابن أبي عاصم رواه في "كتاب الجهاد" (¬4) له عن ابن أبي شيبة كذلك. وقال الدارقطني (ص 469) (¬5): "حدثنا أبو بكر [2/ 72] النيسابوري، نا أحمد بن منصور (الرَّمادي)، نا أبو بكر بن أبي شيبة، نا أبو أسامة وابن نمير ... أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل للفارس سهمين، وللراجل سهمًا. قال الرمادي: كذا يقول ابن نمير. قال لنا النيسابوري: هذا عندي وهمٌ من ابن أبي شيبة أو الرمادي, لأن أحمد بن حنبل وعبد الرحمن بن بشر وغيرهما رووه عن ابن نمير خلاف هذا، وقد تقدم ذكره عنهما، ورواه ابن كرامة وغيره عن أبي أسامة خلاف هذا أيضًا وقد تقدم". أقول: الوهم من الرمادي، فقد تقدم عن "مصنف ابن أبي شيبة": "للفرس، للرجل". وكذلك نقله ابن حجر عن "المصنف"، وكذلك رواه ابن ¬

_ (¬1) (4/ 102). (¬2) (12/ 397). (¬3) (6/ 68). (¬4) لا يوجد في القسم المطبوع منه. (¬5) (4/ 106).

أبي عاصم عن ابن أبي شيبة كما مرَّ. ويؤكد ذلك أن ابن أبي شيبة صدَّر بهذا الحديث الباب الذي قال في عنوانه: "من قال ثلاثة أسهم" كما مرَّ، ثم ذكر بابًا آخر عنوانه: "من قال للفارس سهمان"، فذكر فيه حديث مجمِّع، وأثرَيْ عليّ وأبي موسى. فلو كان عنده أن لفظ ابن نمير كما زعم الرمادي أو لفظ أبي أسامة أو كليهما: "للفارس، للراجل" لوضع الحديث في الباب الثاني. فإن قيل: لعله تأول التأويل الذي تقدمت الإشارة إليه في الكلام على أثر أبي موسى. قلت: يمنع من ذلك أمور: الأول: بُعْد ذلك التأويل. الثاني: تصديره باب "من قال: ثلاثة أسهم" بهذا الحديث. الثالث: أن ذاك التأويل يحتمله أثرا علي وأبي موسى، ولم يُدرِجهما في هذا الباب، بل جعلهما في باب "من قال: للفارس سهمان". فإن قيل: فقد قال ابن التركماني في "الجوهر النقي" (¬1): "وفي "الأحكام" لعبد الحق: وقد روي عن ابن عمر أنه عليه السلام جعل للفارس سهمين وللراجل سهمًا. ذكره أبو بكر ابن أبي شيبة وغيره". ونقل الزيلعي في "نصب الراية" (ج 3 ص 417) حديث ابن أبي شيبة، وفيه: "للفارس، للراجل"، ثم قال: "ومن طريق ابن أبي شيبة رواه الدارقطني في "سننه"، وقال: قال أبو بكر النيسابوري ... ". أقول: أما عبد الحق، فلا أراه إلا اعتمد على رواية الرمادي. وأما ابن التركماني، فالمعتبة عليه؛ فإنه ينقل كثيرًا عن "مصنَّف ابن أبي شيبة" نفسه، ¬

_ (¬1) (6/ 325). وانظر "الأحكام الوسطى" (3/ 81 - 82).

بل نقل عنه بعد أسطرٍ أثرَ عليّ، فما باله [2/ 73] أعرض هنا عن النقل عنه، وتناوله من بعيد من "أَحكام عبد الحق"! وأما الزيلعي، فلا أراه إلا اعتمد على رواية الدارقطني عن النيسابوري عن الرمادي، فإما أن لا يكون راجع "المصنَّف" لظنه موافقته لما رواه الرمادي، وإما أن يكون حمل الخطأ على النسخة التي وقف عليها من "المصنَّف" ولم يتنبَّه لتراجم الأبواب، وإما - وهو أبعد الاحتمالات - أن يكون وقع في نسخته في "المصنَّف" خطأ كما قاله الرمادي. والله المستعان. الثامن: زائدة بن قدامة، عند البخاري في "صحيحه" (¬1) في "غزوة خيبر". رواه البخاري عن الحسن بن إسحاق، عن محمَّد بن سابق، عن زائدة ... : "قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر للفرس سهمين وللراجل سهمًا. فسَّره نافع فقال: إذا كان مع الرجل فرسٌ فله ثلاثة أسهم، فإن لم يكن له فرس فله سهم". وهذا التفسير يدلُّ أن الصواب في المتن "للرجل"، لكن وقع في نسخ "الصحيح" كما رأيت. وزائدة متقن، لكن شيخ البخاري ليس بالمشهور. ومحمد بن سابق، قال ابن حجر في ترجمته من الفصل التاسع من "مقدمة الفتح" (¬2):"وثَّقه العجلي، وقوَّاه أحمد بن حنبل. وقال يعقوب بن شيبة: كان ثقة، وليس ممن يوصف بالضبط. وقال النسائي: لا بأس به. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: ضعيف. قلت: ليس له في البخاري سوى حديث واحد في "الوصايا" ... وقد تابعه عليه عبيد الله بن موسى". ¬

_ (¬1) رقم (4228). (¬2) "هدى الساري" (ص 439).

كذا قال، وفاتَه هذا الحديث. وعذرُ البخاري أنه رأى أن الوهم في هذا الحديث يسيرٌ يجبره التفسير. ومع ذلك فلم يذكره في "باب سُهمان الخيل"، وإنما ذكره في "غزوة خيبر". التاسع: ابن المبارك. رواه عنه علي بن الحسن بن شقيق، كما في "فتح الباري" (¬1). ذكر رواية الرمادي عن نعيم عن ابن المبارك الآتية، ولفظها: " ... عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أسهم للفارس سهمين وللراجل سهمًا"، ثم قال: "وقد رواه علي بن الحسن بن شقيق - هو أثبَتُ من نعيم - عن ابن المبارك بلفظ: أسهم للفرس". ولم يذكر بقيته, لأنه إنما اعتنى بلفظ الفارس والفرس، وقد قال قبل ذلك: " ... فيما رواه أحمد بن منصور الرمادي عن أبي بكر بن أبي شيبة ... بلفظ: أسهم للفارس سهمين. قال الدارقطني ... ". فأما ما رواه الدارقطني (ص 469) (¬2) "حدثنا أبو بكر النيسابوري، نا أحمد بن منصور (الرمادي)، نا نعيم بن حماد، نا ابن المبارك ... عن [2/ 74] النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أسهم للفارس سهمين وللراجل سهمًا. قال أحمد: كذا لفظ نعيم عن ابن المبارك، والناس يخالفونه. قال النيسابوري: ولعل الوهم من نعيم, لأن ابن المبارك من أثبت الناس". أقول: نعيم كثير الوهم، وكلام الحنفية فيه شديد جدًّا، كما في ترجمته من قسم التراجم (¬3). ولكني أخشى أن يكون الوهم من الرمادي، كما وهم على أبي بكر بن أبي شيبة. ولا أدري ما بليَّته في هذا الحديث مع أنهم وثَّقوه. ¬

_ (¬1) (6/ 68). (¬2) (4/ 106). (¬3) رقم (258).

وقال ابن التركماني (¬1): "رواه ابن المبارك عن عبيد الله بإسناده، فقال فيه: للفارس سهمين وللراجل سهمًا. ذكره صاحب "التمهيد"". أقول: وهذه معتبة أخرى على ابن التركمانى، إذ لم يذكر أن صاحب "التمهيد" إنما رواه من طريق الرمادي عن نعيم (¬2)! والله المستعان. العاشر: حماد بن سلمة. قال الدارقطني (ص 468) (¬3): "حدثنا أبو بكر النيسابوري، نا أحمد بن يوسف السُّلَمي، نا النضر بن محمَّد بن موسى اليمامي، نا حماد بن سلمة ... أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسهم للفارس سهمًا وللفرس سهمين. خالفه حجاج بن المنهال عن حماد، فقال: للفارس سهمين وللراجل سهمًا". أقول: حماد كثير الخطأ، إنما ثبَّتوه فيما يرويه عن ثابت وحميد. وكلام الحنفية فيه شديد، كما تراه في ترجمته من قسم التراجم (¬4)، وأولى روايتيه بالصحة ما وافق فيه الثقاتِ الأثباتَ. وفي الباب مما يدل على أن للفرس سهمين ولصاحبه سهمًا. في "نصب الراية" (ج 3 ص 416) عن الطبراني في "الأوسط" (¬5): "ثنا محمَّد بن عبد الله الحضرمي، ثنا هشام بن يونس، عن أبي معاوية، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أسهم له يوم ¬

_ (¬1) "الجوهر النقي" (6/ 325)، وانظر "التمهيد" (24/ 236). (¬2) لم يروه ابن عبد البر بإسناده. (¬3) (4/ 104). (¬4) رقم (85). (¬5) رقم (5558) وفيه: "يوم حنين"، تصحيف.

خيبر ثلاثة أسهم: سهمًا له، وسهمين لفرسه". قال الطبراني: "ورواه الناس عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهذا تفرد به هشام بن يونس عن أبي معاوية". أقول: وقد رواه جماعة عن أبي معاوية، فلم يقولوا: "عن عمر". وقالوا: "أسهم للرجل". نعم وقع في "سنن أبي داود" (¬1) عن أحمد عن أبي معاوية: "أسهم لرجلٍ". وهذا كأنه يشدُّ من رواية هشام، وهشام ثقة، ولا يبعد أن يكون الحديث عند عبيد الله عن نافع من الوجهين، ولكن الناس أعرضوا عن هذا لخصوصه بعمر، وعُنوا بالآخر لعمومه. [2/ 75] وروى سعيد بن عبد الرحمن الجمحي عند النسائي (¬2)، ومُحاضِر بن المورَّع عند الدارقطني (ص 471) (¬3) "عن هشام بن عروة، عن يحيى بن عبّاد بن عبد الله بن الزبير، عن جده أنه كان يقول: ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام خيبر للزبير بن العوام أربعة أسهم: سهمًا للزبير، وسهمًا لذي القربى لصفية بنت عبد المطلب أم الزبير، وسهمين للفرس". سعيد ومحاضر من رجال مسلم، وفي كلٍّ منهما مقال. واقتصر النسائي في "باب سهمان الخيل" على هذا الحديث، ولم يتعقبه بشيء، وذاك يُشعر بأنه صحيح عنده لا يضرُّه الخلاف. وقد رواه عيسى بن يونس عند ابن أبي شيبة (¬4)، ومحمدُ بن بِشْر ¬

_ (¬1) رقم (2733). (¬2) (6/ 228). (¬3) (4/ 111). (¬4) في "المصنف" (12/ 400).

العبدي عند الدارقطني (ص 471) (¬1)، وابنُ عيينة عند الشافعي كما في "مسنده" (¬2) بهامش "الأم" (ج 6 ص 250) ثلاثتُهم عن هشام عن يحيى مرسلاً. ولفظ ابن عيينة: "أن الزبير بن العوام كان يضرب في المغنم بأربعة أسهم: سهمٍ له، وسهمين لفرسه، وسهمٍ في ذوي القربى". وعند الدارقطني (ص 471) (¬3) عن إسماعيل بن عياش عن هشام بن عروة روايتان: إحداهما عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير، عن الزبير قال: "أعطاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر أربعة أسهم ... ". والأخرى: عن عباد بن عبد الله بن الزبير عن الزبير .. " بمعناه. وإسماعيل يخلط فيما يرويه من غير الشاميين. وفي "مسند أحمد" (ج 1 ص 166) (¬4): "ثنا عتّاب، ثنا عبد الله، ثنا فليح بن محمَّد، عن المنذر بن الزبير، عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى الزبيرَ سهمًا، وأمَّه سهمًا، وفرسَه سهمين". ذكره أحمد في "مسند الزبير"، وليس من عادة أحمد في "المسند" إخراج المراسيل. وعتاب هو ابن زياد المروزي، وثَّقه أبو حاتم وغيره، ولم يغمزه أحد. وعبد الله هو ابن المبارك. وقد تصحّفت على بعضهم كلمة ["عن" إلى] "بن" بين محمَّد والمنذر، فجرى البخاري في "تاريخه" (¬5) ومن تبعه على ذلك، كما في ترجمة فليح في "تعجيل المنفعة" (¬6). ولم يذكر البخاري من رواه كذلك عن ابن ¬

_ (¬1) (4/ 111). (¬2) (ص 323، 324) ط. دار الكتب العلمية. (¬3) (4/ 110). (¬4) رقم (1425). (¬5) "الكبير" (7/ 133). وانظر "الجرح والتعديل" (7/ 85) و"الثقات" (9/ 11). (¬6) (ص 335).

المبارك. فالصواب - إن شاء الله - رواية أحمد. أما فليح فغير مشهور، لكن رواية ابن المبارك عنه تقوِّيه. وفي الباب من حديث أبي عمرة عند أحمد في "المسند" (ج 4 ص 138) (¬1)، وأبي داود في "السنن" (¬2)، والدارقطني (ص 468) (¬3)، وابن منده كما في ترجمة أبي عمرة من "الإصابة" (¬4). ومن حديث ابن عباس (¬5)، والمقداد (¬6)، وأبي رهم (¬7)، وأبي كبشة (¬8)، وجابر (¬9)، وأبي هريرة (¬10). ¬

_ (¬1) رقم (17239). وفي إسناده المسعودي، وفيه مقال. (¬2) رقم (2734). (¬3) (4/ 104). (¬4) (12/ 470). وانظر "معرفة الصحابة" لابن منده (1/ 223). (¬5) أخرجه أبو يعلى في "مسنده" (2528)، والطبراني في "الأوسط" (6543)، وإسحاق بن راهويه في "مسنده" كما في "نصب الراية" (3/ 414). (¬6) أخرجه البزار في "مسنده" (2118)، والدارقطني في "سننه" (4/ 102). وفي إسناده موسى بن يعقوب، فيه لين. (¬7) أخرجه الطبراني في "معجمه الكبير" (19/ 186) والدارقطني (4/ 101). وفي إسناده قيس بن الربيع، ضعَّفه بعض الأئمة. (¬8) أخرجه الطبراني في "الكبير" (22/ 342) والدارقطني (4/ 101). وفي إسناده محمَّد بن حمران القيسي، قال النسائي: ليس بالقوي، وذكره ابن حبان في الثقات وقال: يخطئ. وفي إسناده أيضًا عبد الله بن بسر السكسكي، تكلم فيه غير واحدٍ من الأئمة. (¬9) أخرجه الدارقطني (4/ 105)، وفي إسناده محمَّد بن يزيد بن سنان عن أبيه، وكلاهما ضعيف. وأخرجه (4/ 111) من طريق آخر فيه الواقدي، متروك. (¬10) أخرجه الدارقطني (4/ 111). وفي إسناده الواقدي.

تراها عند الدارقطني وغيره، كلُّها متفقة على أن للفرس سهمين ولصاحبه سهمًا. [2/ 76] وفي "مصنف ابن أبي شيبة" (¬1) مراسيل عن مجاهد، وخالد بن معدان، ومكحول، وغيرهم. وقد تقدَّم بعضها، كمرسل صالح بن كيسان، ومرسل بُشَير بن يسار. وفي "المصنف" (¬2): "ثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن أشعث بن سوَّار، عن الحسن وابن سيرين قالا: كانوا إذا غزوا فأصابوا الغنائم قسموا للفارس من الغنيمة حين تقسم ثلاثةَ أسهم: سهمين لفرسه، وسهمًا له (¬3)، وسهمًا للراجل". وفيه (¬4): "حدثنا جعفر بن عون، عن سفيان، عن سلمة بن كُهيل: ثنا أصحابنا عن أصحاب محمَّد - صلى الله عليه وسلم - أنهم قالوا: للفرس سهمان، وللرجل سهم". وفيه (¬5): "حدثنا محاضر قال: ثنا مجالد عن عامر (الشعبي) قال: لما فتح سعد بن أبي وقاص جَلُولاءَ أصاب المسلمون ثلاثين ألفَ ألفِ مثقال، فقسم للفارس ثلاثة آلاف، وللراجل ألف مثقال". ¬

_ (¬1) (12/ 398 وما بعدها). (¬2) (12/ 399). (¬3) في المطبوع: "سهمين له وسهمًا لفرسه" وهو خطأ، والتصويب من "المصنف". (¬4) (12/ 397، 398). (¬5) (12/ 400).

وفيه (¬1): "حدثنا وكيع قال: ثنا سفيان، عن هشام، عن الحسن (¬2) قال: لا يُسهَم لأكثر من فرسين، فإن كان مع الرجل فرسانِ أُسِهمَ له خمسة أسهم: أربعة لفرسَيْه وسهمٌ له". وفي "نصب الراية" (ج 3 ص 419): "قال سعيد بن منصور (¬3): ثنا فرج بن فضالة، ثنا محمَّد بن الوليد الزبيدي، عن الزهري أن عمر بن الخطاب كتب إلى أبي عبيدة بن الجراح أن أَسْهِمْ للفرس سهمين، وللفرسين أربعة أسهم، ولصاحبها سهمًا. فذلك خمسة أسهم، وما كان فوق الفرسين فهو جنائب". وفي "سنن الدارقطني" (ص 470) (¬4) عن خالد الحذاء (وقد رأى أنسًا) قال: "لا يُختلف فيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: للفارس ثلاثة، وللراجل سهم". وذكر الأستاذ (ص 87) عن كتاب "اختلاف الفقهاء" لابن جرير (¬5) عن مالك قال "إني لم أزل أسمع أن للفرس سهمين، وللرجل سهمًا". ... ¬

_ (¬1) (12/ 405). (¬2) في المطبوع: "الحسين" تصحيف، والتصويب من "المصنف". وهو الحسن البصري. (¬3) في "سننه" (2776). (¬4) (4/ 107). (¬5) لم أجده في طبعة دار الكتب العلمية من الكتاب.

المسألة الثانية عشرة أما على القاتل بالمثقل قصاص؟

[2/ 77] المسألة الثانية عشرة أما على القاتل بالمثقل قصاص؟ في "تاريخ بغداد" (13/ 332) عن إبراهيم الحربي قال: "كان أبو حنيفة طلب النحو ... فتركه، ووقع في الفقه فكان يقيس، ولم يكن له علم بالنحو، فسأله رجل بمكة، فقال له: رجلٌ شجَّ رجلاً بحجر؟ فقال: هذا خطأ ليس عليه شيء، لو أنه حتى يرميه بأبا قُبيس لم يكن عليه شيء". قال الأستاذ (ص 23): "وأدلة أبي حنيفة في حكم القتل بالمثقل مبسوطة في كتب المذهب ... وقد صحت أحاديث وآثار عند النسائي، وأبي داود، وابن ماجه، وابن حبان، وأحمد، وابن راهويه, وابن أبي شيبة، وغيرهم يؤيد ظاهرها هذا المذهب. وقد أعلَّ أبو حنيفة حديثَ الرضخ كما سيأتي". وعلَّقَ على قوله: "وقد صحت أحاديث ... " قوله (¬1): منها: حديث عبد الله بن عمرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ألا إن دية الخطأ شبه العمد، ما كان بالسوط والعصا مائةٌ من الإبل". أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان بسند صحيح. ومنها: حديث ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "شبه العمد قتيل الحجر والعصا فيه الدية مغلظة". أخرجه ابن راهويه. ومنها: حديث ابن عباس في دية القاتلة بمسطح - وهو عود من أعواد الخباء - أخرجه عبد الرزاق. إلى غير ذلك من الأحاديث". أقول: في هذه القضية آيات من كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ أعرض عنها الأستاذ! ¬

_ (¬1) كذا في المطبوع، ولعله "بقوله". وسيأتي الكلام على الأحاديث فيما بعد.

الآية الأولى: قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} إلى قوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} الآية [النساء: 92 - 93]. من المعلوم في العربية أن عمد القتل وتعمُّده هو قصده، وأن وقوعه خطأً هو أن يقع بلا قصد. ولا ريب أنه إذا كان هناك قتل يوصف بأنه خطأ شبيه بالعمد فإنما هو أن يُتعمَّد سببُ القتل كالضرب مثلًا ولا يُقصَد القتل، وإنما يُقصَد الإيلام بلا قتل، فهذا القتل خطأ لأنه لم يُقصد، ولكنه شبيه بالعمد من جهة أن سببه متعمَّد. ولا يشك عاقل أن مَن عمَدَ إلى طفل أو [2/ 78] ضعيف فوضع رأسه على صخرة، وجاء بأخرى فضرب بها رأسه حتى فضخه؛ أو وضع حبلًا في عنقه، ثم شدَّ طرفه بشجرة، ثم جذب طرفه الآخر جذبًا شديدًا بطيئًا حتى مات؛ أو غمسه في ماء كثير، وحبسه فيه مدةً طويلة حتى مات؛ أو أخذ هراوةً، فضربه بها ضربًا شديدًا رأسه وعنقه وصدره وظهره حتى مات = فقد قتله عمدًا. وأنّ من زعم أن القتل في هذه الصور وما في معناها ليس عمدًا وإنما هو خطأ شبه العمد، فقد خرج عن لغة العرب. الآية الثانية: قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} الآية [البقرة: 178]. نصَّت الآية على وجوب القصاص في كل قتيل يتأتى فيه، والقصاص يدل على المماثلة، والمقصود: المماثلة في المعاني التي يُعقل لها دَخْلٌ في الحكم، فلا تتناول القتيلَ بحقٍّ لأن قتل قاتله يكون بغير حق، ولا القتيلَ خطأً محضًا لأن قتل قاتله إنما يكون عمدًا, ولا القتيلَ الذي دلَّت شواهد الحال

على أنه إنما قُصِد إيلامه لا قتلُه كالمضروب ضرباتٍ يسيرةً بسوط أو عصا خفيفة؛ لأن قتل قاتله يكون مقصودًا. وتتناول الآية القتلى في الصور المتقدمة سابقًا، وهي فضخُ الرأس وما معه ونحوها إذا كان بغير حق؛ لأنه قُصِد فيها سببُ القتل وقُصِد فيها القتل، وقتلُ القاتل يقتضي مثل ذلك بدون زيادة فهو قصاص، فالآية تنص على وجوب القصاص في تلك الصور ونحوها حتمًا. الآية الثالثة: قوله عزَّ وجلَّ: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} [الإسراء: 33]. والإسراف هو تعدي المماثلة التي تقدَّم بيانها، أو قُلْ: تعدي القصاص، فمن قُتل بحق فلم يُقتَل مظلومًا, ولا يكون قتلُ قاتله إلا إسرافًا. وبقية الكلام كما في الآية السابقة. وقتلُ القاتل في تلك الصور التي منها فضخُ الرأس وما معه وما في معناها لا يتعدى المماثلة المعتبرة، فلا إسراف فيه، فقد جعل الله تعالى للولي سلطانًا عليه، وذلك شرع القصاص. الآية الرابعة: قوله سبحانه: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179]. ولا ريب أنه إذا لم يكن في القتل بالمثقّل قصاص لم يتَّقِه الناس، فيتحرَّون القتل بالمثقل [2/ 79] عدوانًا وانتقامًا، فيفوت المقصود من شرع القصاص. الآية الخامسة قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126]

الآية السادسة: قوله سبحانه: {وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ} [الحج: 60]. الآية السابعة: قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [البقرة: 194]. الآية الثامنة: قوله تبارك وتعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَ} [الشورى: 40]. وأما الأحاديث التي ذكرها الأستاذ، فحديث "ألا إن دية الخطأ شبه العمد ... " مختلَفٌ في إسناده. فقيل عن القاسم بن ربيعة مرسلًا (¬1)، وقيل عنه عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا (¬2)، وقيل عنه عن عقبة بن أوس مرسلاً (¬3)، وقيل عنه عن عقبة عن رجل من الصحابة (¬4)، وقيل غير ذلك (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه كذلك النسائي (8/ 40 - 41، 42). (¬2) أخرجه أحمد (6533، 6552) والنسائي (8/ 40) وابن ماجه (2627) والدارقطني (3/ 104) والبيهقي في "الكبرى" (8/ 44). (¬3) أخرجه النسائي (8/ 41). (¬4) أخرجه عبد الرزاق في "المصنّف" (3/ 172) وأحمد (15388، 23493) والنسائي (8/ 41 و42) والطحاوي في "معاني الآثار" (3/ 185، 186) والدارقطني (3/ 103 - 104، 105) والبيهقي (8/ 45). (¬5) أخرجه من طريق القاسم بن ربيعة عن عقبة بن أوس عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا: أبو داود (4547) والنسائي (8/ 41) وابن ماجه (2627) وابن حبان في "صحيحه" (6011) والبيهقي (8/ 45). وأخرجه من طريق علي بن زيد بن جدعان عن القاسم بن ربيعة عن عبد الله بن عمر بن الخطاب مرفوعًا: عبد الرزاق في =

وقد ساق النسائي (¬1) أكثر تلك الوجوه. وذلك الاختلاف والاضطراب قد يُتسامح فيه إذا لم يكن المتن منكَرًا. ومن قوَّاه من المحدثين لا يرى معناه ما يزعمه الحنفية مما يخالف الكتاب والسنة الصحيحة. ولو رأى أن ذلك معناه لأنكره، فردَّه بذلك وبذاك الاختلاف والاضطراب (¬2). مع ذلك فعقبة بن أوس المتفرِّد به غير مشهور، وإنما وثَّقه مَن مِن عادته [2/ 80] توثيقُ المجاهيل، وإن كانوا مقلِّين، إذا لم ير في حديثهم ما ينكره. وقد شرحتُ ذلك في الأمر الثامن من القاعدة السادسة من قسم القواعد. ¬

_ = "المصنّف" (17212) وأحمد (4583) وأبو داود (4549) والنسائي (8/ 42) وابن ماجه (2628) والدارقطني (3/ 105) والبيهقي (8/ 44). (¬1) (8/ 40 - 42). (¬2) قلت: بل الحديث صحيح السند كما قال الكوثري، والاضطراب الذي ذكره المصنف رحمه الله هو من الاضطراب الذي لا يؤثر في صحة الحديث، فقد ذكرت في "الإرواء" رقم (2259) أشهر وجوه الاضطراب فيه، ثم قابلت بينها على ما يقتضيه علم المصطلح والجرح والتعديل, فتبين لي أنها غير متماثلة في القوة وعدد رواة كل وجه، وأن أرجحها رواية من رواه عن القاسم بن ربيعة عن عقبة بن أوس عن عبد الله بن عمرو، وعلى ذلك حكمت عليه بالصحة, لأن رجاله كلهم ثقات، وعقبة بن أوس قد وثَّقه ابن سعد والعجلي وابن حبان، وهؤلاء وإن كانوا متساهلين في التوثيق كما أشار إليه المصنف، فاتفاقهم عليه, مع عدم توجه أي انتقاد عليه، بل قَبِله الحفاظ مِن بعدهم ولم يردوه، مثل الحافظ ابن حجر فقال في "التقريب": "صدوق". زد على ذلك أن من جملة من خرج الحديث ابن الجارود في كتابه "المنتقى" رقم (773)، وذلك منه توثيق لرجاله كما لا يخفى. ولذلك فالاعتماد في الرد على الحنفية في استدلالهم بهذا الحديث على ما زعموا، إنما هو على المعنى الآخر الذي أوضحه المؤلف جزاه الله خيرًا. [ن].

ولو رأوا أن معنى هذا الحديث ما يزعمه الحنفية لَما أثنوا على عقبة، بل لعلهم يجرحونه بمقتضى قاعدتهم في جرح المتفرِّد بالمنكر، ولا سيَّما إذا كان مقلًّا غير مشهور. والحنفية يردون الأحاديث الصحيحة الصريحة التي لا مطعن في أسانيدها البتة بدعوى مخالفتها للقرآن حيث لا مخالفة، كما مرَّ في المسألة السابعة، وكما يأتي في المسألة الخامسة عشرة؛ فكيف يسوغ لهم أن يتشبثوا بهذا الحديث، مع ما في سنده من الاختلال، ومع وضوح مخالفة معناه الذي يعتمدونه للقرآن؟! فإن قيل: وهل يحتمل معنى آخر؟ قلت: نعم، وبيان ذلك أن من القتل ما يتبين فيه أن القاتل قصَدَ القتل، كالصور التي تقدَّم التمثيلُ بها من فضْخ الرأس وما معه ونحو ذلك وما يقرب منه. ومنه ما يُتردَّد فيه أقصَد أم لم يقصِد؟ كمن أغضبه رفيقُه، وكان بيده فأس أو عصا كبيرة، فضرب رأسه، فقتله. ومنه ما يتبين أنه لم يقصد، كمن ضرب رجلاً ضرباتٍ يسيرةً بسوط أو عصا خفيفةٍ فمات. فهذه ثلاثة أضرب. وقوله في أول الحديث: "ألا إن دية الخطأ شبه العمد" مُخْرِجٌ للضرب الأول حتمًا, لأنه عمْدٌ محض لا يُعقل أن يسمَّى خطأً شبه العمد، فبقي الأخيران، والظاهر أنه شامل لهما. أما الثالث فواضح، وأما الثاني فلأنه إذا لم يتبيَّن قصدُ القتل، فالأصل عدمُه. فقوله بعد ذلك: "ما كان بالسوط والعصا" حقُّه أن يكون تقييدًا لِيُخرج من الضرب الثاني ما كان بسلاح, لأن استعمال السلاح يدل على قصد القتل، وإن كانت قد تدافعه قرينة أخرى، فيقع التردد.

ومن الحكمة في ذلك زجرُ الناس عن استعمال السلاح حيث لا يحل لهم القتل. وفي "صحيح مسلم" (¬1) من حديث أبي هريرة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يشير أحدُكم إلى أخيه بالسلاح، فإنه لا يدري أحدكم لعل الشيطان يَنْزِع في يده، فيقع في حفرة من النار". وفيه (¬2) من حديثه أيضًا: "من أشار إلى أخيه بحديدةٍ فإن الملائكة تلعنُه، حتى وإن كان أخاه لأبيه وأُمه". وفي "المستدرك" (ج 4 ص 290) (¬3) من حديث جابر قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُتعاطَى السيفُ مسلولًا". ومن حديث أبي بكرة (¬4) قال: "مرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قومٍ يتعاطون سيفًا مسلولاً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لعن الله من فعل هذا، أوَ ليس قد نَهيتُ عن هذا؟ إذا سلَّ أحدكم سيفًا يَنظر إليه فأراد أن [2/ 81] يناوله أخاه فليُغْمِدْه ثم لْيُناوِلْه إياه". وعلى ذاك المعنى، فكلمة "ما" من قوله: "ما كان بالسوط والعصا" إما موصولة بدلُ بعضٍ من "الخطأ شبه العمد"، وإما مصدرية زمانية، أي: وقت كونه بالسوط (¬5) والعصا، كما قيل بكلًّ من الوجهين فيما قصَّه الله تعالى عن شعيب: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} [هود: 88]. ¬

_ (¬1) رقم (2617). (¬2) "صحيح مسلم" (2616). (¬3) وأخرجه أيضًا أحمد (14201، 14981) وأبو داود (2588) والترمذي (2163) وابن حبّان في "صحيحه" (5946). وإسناده صحيح. (¬4) وأخرجه أيضًا أحمد (20429). وإسناده حسن. (¬5) في المطبوع: "بالسيف" خطأ.

ويؤيد ذلك أن في بعض الروايات عند النسائي (¬1) وغيره، منها روايةُ أيوب عن القاسم، وروايةُ هشيم عن خالد الحذاء عن القاسم: " ... الخطأ شبه العمد بالسوط والعصا ... " ليس فيه "ما كان"، والتقييد في هذا ظاهر. على أن الشارع وإن قضى بأنه إذا كان القتل بسلاح ونحوه عمد (¬2) حيث يتردد في القصد، فإنه يبالغ في حضِّ وليِّ الدم على أن لا يقتص. أخرج أبو داود في "السنن" (¬3) من حديث أبي هريرة قال: "قَتَل رجل على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فرُفِع ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فدفعه إلى ولي المقتول. فقال القاتل: يا رسول الله، والله ما أردتُ قتله. قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للولي: "أما إنه إن كان صادقًا ثم قتلتَه لَتدخلَنَّ النارَ". قال: فخلَّى سبيله". ثم أخرجه (¬4) من حديث وائل بن حجر، وفيه: "قال: كيف قتلتَه؟ قال: ضربتُ رأسه بالفأس ولم أُرِدْ قتلَه ... قال للرجل: خذه. فخرج به ليقتله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أمَا، إنه إنْ قَتَله كان مثلَه ... ". وحديث وائل في "صحيح مسلم" (¬5)، وفيه: "كيف قتلتَه؟ قال: كنتُ أنا وهو نختبط من شجرة، فسبَّني، فأغضَبَني فضربتُه بالفأس على قرنه، فقتلته ... ". ¬

_ (¬1) (8/ 40 , 41). (¬2) كذا في المطبوع مرفوعًا. والوجه النصب. (¬3) رقم (4498). وأخرجه أيضًا النسائي (8/ 13) والترمذي (1407) وابن ماجه (2690). وإسناده صحيح. (¬4) رقم (4501). (¬5) رقم (1680).

وفي رواية (¬1): "فلما أدبر، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: القاتل والمقتول في النار ... ". وتأوله بعضهم على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان سأل الوليَّ أن يعفو، فأبى. وهذا ضعيف من وجهين: الأول: أنه ليس في القصة من الأمر بالعفو إلا ما وقع من بيان الإثم أو ما بعده. الثاني: أنه ليس من سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يأمر أحدًا بترك حقِّه أمرًا جازمًا يأثم المأمور إن لم يمتثله. وقد رغَّب صلى الله عليه وآله وسلم إلى بَرِيرة لمَّا عتقت أن لا تفسخ نكاح زوجها، فقالت: أتأمرني يا رسول الله؟ قال: "لا، وإنما أنا أشفع". قالت: فلا حاجة لي فيه (¬2). ولم يعتِبْ هو بأبي وأُمي ولا أحد من أصحابه على بريرة. فالصواب ما دل عليه حديث أبي هريرة أنَّ إثمَ الولي إن قَتَل إنما هو مبني على قول القاتل: لم أُرِدْ قتلَه، مع قوة احتمال صدقه. وقد ذكر [2/ 82] الطحاوي في "مشكل الآثار" (ج 1 ص 409) (¬3) الحديث، ثم قال: "فكان معنى ذلك - والله أعلم - أن البينة التي كانت شهدت عليه بقتله لأخي خصمه شهدَتْ بظاهر فعله الذي كان عندنا (¬4) أنه ¬

_ (¬1) رقم (1680/ 33). (¬2) أخرجه البخاري (5283) من حديث ابن عباس. (¬3) رقم (944). (¬4) كذا في المطبوع، وفي "مشكل الآثار": "عندها".

عمدٌ له لا شكَّ عندنا (¬1) فيه، وكان المدَّعَى عليه أعلمَ بنفسه وأيما (¬2) كان منه في ذلك، فادعى باطنًا كان منه في ذلك، لا بحجة معه (¬3) ... ". أقول: لم أر في شيء من الروايات إقامة بينة أي شهود، بل في بعض الروايات (¬4) أن الولي قال: "أمَا إنه لو لم يعترف لأقمتُ عليه البينة". فإنما كان في الواقعة اعترافُ الرجل بالضرب وبتعمُّده وبآلته وصفته، وضربُ الرأس بالفأس يقتضي قصد القتل، إلا أن هناك ما عارضه وهو أنه لم يسبق بينهما عداوة، وكانت الفأس بيد الجاني يختبط بها، فثار غضبه بسبب السبِّ، فضرب بما كان في يده، وادَّعى أنه لم يُرد القتل، وأقسم على ذلك. فالحديث يدل أنه في مثل هذه الحال يُقْضَى بأن القتل عمدٌ تأكيدًا للزجر عن القتل والتنفير عنه، ولا يُمنَع الوليُّ من الاقتصاص، ولكنه يحرُم عليه. فإن قيل: وكيف لا يُمنَع مما يحرُم عليه؟ قلت: لأنه لو مُنع منه حُكْمًا لفات المقصود من تأكيد الزجر عن القتل. ويُشبِه هذا ما ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يُعطي المُلْحِفَ في السؤال، وإن كان غير مستحق. وفي "مسند أحمد" (¬5) و"المستدرك" (¬6) ¬

_ (¬1) في "المشكل": "عندها". (¬2) في "المشكل": "وبما". (¬3) في "المشكل": "لا يجب عليه معه فيما كان منه فيه قَوَد". (¬4) عند مسلم (1680). (¬5) رقم (11004). وأخرجه أيضًا البزار (925 - كشف الأستار) والطحاوي في "مشكل الآثار" (5936) وابن حبان (3412، 3414). وإسناده صحيح. (¬6) (1/ 46).

وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وآله سلم قال: "أمَا والله، إن أحدكم لَيخرُج بمسألته من عندي يتأبَّطُها، وما هي إلا نار! " قال عمر: لِمَ تُعطِيها إياهم؟ قال: "ما أصنع؟ يأبَون إلا ذلك، ويأبى الله لي البخلَ". وفي "صحيح مسلم" (¬1) من حديث عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "إنهم خَيَّروني أن يسألوني بالفحش أو يبخِّلوني، فلست بباخل". فإذا حُمِلَ ذاك الحديث على المعنى الذي ذكرنا، لم يكن مخالفًا لكتاب الله عزَّ وجلَّ، ولا للسنة الصحيحة, ولا للنظر المعقول؛ فلا يكون منكرًا. وعلى هذا بنى من قوَّاه من المحدثين، ووثَّق راويه المتفرد به، مع ما فيه من الخلل. فإن أبى الحنفية إلا المعنى الذي يتشبَّثون به، [2/ 83] قلنا: فعلى ذلك يكون الحديث منكرًا، فيُرَدُّ ويُضعَّف راويه اتفاقًا. خُذَا (¬2) أنفَ هَرْشَى أو قَفاها فإنما ... كِلا جانبَي هرْشَى لهنَّ طريقُ على أنَّه سيأتي في الحديث الثاني التقييد بأن يكون القتل في مناوشة بين عشيرتين بدون ضغينة ولا حمل سلاح، فيُقتَل رجلٌ لا يُدرَى مَن قاتله. وعلى هذا فلو صحَّ هذا الحديث وكان مطلقًا، لوجب حملُه على ذاك المقيَّد. ومقتضى الحديث أنه في تلك الصورة يُقضى بأن القتلَ شبهُ عمد، فينظر في العشيرتين المتناوشتين، فأيتهما كان المقتول منها كانت ديته مغلَّظة ¬

_ (¬1) رقم (1056). (¬2) في المطبوع: "خذ" خطأ. والبيت لعَقِيل بن عُلَّفة في "الأغاني" (12/ 261، 262) ومعجم البلدان (5/ 398).

على الأخرى؛ لأن الظاهر أن القاتل منها وأنها عاقلته. فأما إذا كان هناك ضغينة وحمل سلاح، فإنه يُقضى بأن القتل عمد، فيجعل قسامة. وأما إذا عُرف القاتل فله حكمُه. والله أعلم. قول الأستاذ: "ومنها حديث ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "شبه العمد قتيلُ الحجر والعصا، فيه الدية مغلظة". أخرجه ابن راهويه". أقول: ذكره الزيلعي في "نصب الراية" (ج 4 ص 332) وذكر أن ابن راهويه رواه عن عيسى بن يونس، عن إسماعيل بن مسلم، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس؛ وأنه مختصر، وأحال لتمامه (¬1) على ما تقدَّم له يعني (ج 4 ص 327). ومتنُ الحديث هناك: "العمدُ قوَد إلا أن يعفو وليُّ المقتول، والخطأ عقل لا قوَد فيه، وشبه العمد قتيل العصا والحجر ورمي السهم، فيه الدية مغلظة من أسنان الإبل". نسبه إلى ابن راهويه بالسند نفسه. والحديث في "سنن الدارقطني" (ص 328) (¬2) من طريق: "يزيد بن هارون، نا إسماعيل بن مسلم، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: العمد قود اليد، والخطأ عقل لا قود فيه، ومن قُتِل في عِمِّيَّةٍ بحجر أو عصا أو بسوط، فهو دية مغلَّظة في أسنان الإبل". وإسماعيل بن مسلم (¬3) ضعيف، وقد اضطرب كما رأيت، وجعل فيه في رواية ابن راهويه رميَ السهم، وهو عمد عند الحنفية. ¬

_ (¬1) في (ط): "بتمامه". والتصويب من المخطوط. (¬2) (3/ 94). (¬3) في (ط): "أمية" خطأ. والتصويب من المخطوط. وهو المذكور في إسناد الحديث.

ورواه أبو داود (¬1) وغيره من طريق سليمان بن كثير، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس يرفعه: "من قُتِل في عِمِّيَّا أو رِمِّيَّا تكون بينهم بحجر أو سوط، فعقلُه عقلُ خطأ، ومن قتل عمدًا فقود يده". سليمان متكلَّم فيه. ورواه الدارقطني (ص 328) (¬2) من طريق الحسن بن عمارة, عن عمرو، عن طاوس، عن ابن عباس مرفوعًا. والحسن بن عمارة ضعيف جدًّا. ورواه الدارقطني [2/ 84] (ص 327) (¬3) من طريق حماد بن زيد عن عمرو بن دينار بسنده. والصحيح عن حماد أنه رواه مرسلًا. قال أبو داود (¬4) في باب "عفو النساء عن الدم": "حدثنا محمَّد بن عبيد، نا حماد، ح ونا ابن السرح، نا سفيان - وهذا حديثه -, عن عمرو، عن طاوس قال: من قُتِل. وقال ابن عبيد: قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قُتِل في عِمِّيَّا في رَمْي يكون بينهم بحجارة أو بالسياط أو ضربٍ بعصا، فهو خطأ، وعقلُه عقلُ الخطأ. ومن قُتل عمدًا فهو قود. وقال ابن عبيد: "قَوَدُ يدٍ" ... وحديث سفيان أتم". ورواه ابن السرح عن سفيان بن عيينة، عن عمرو، عن طاوس قوله، كما مرَّ عن أبي داود. ولكن رواه الشافعي كما في "سنن البيهقي" ¬

_ (¬1) رقم (4591). وأخرجه أيضًا النسائي (8/ 40). (¬2) (3/ 93). (¬3) (3/ 93). (¬4) رقم (4539).

(ج 8 ص 45) (¬1) عن سفيان، عن عمرو، عن طاوس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ورواه البيهقي (¬2) من طريق الوليد بن مسلم، عن ابن جريج، [عن عمرو بن دينار] (¬3) عن طاوس عن ابن عباس مرفوعًا. والوليد شديد التدليس، يدلَّس التسوية. وقد رواه الدارقطني (ص 328) (¬4) من طريق: "عبد الرزاق، أنا ابن جريج، أخبر عمرو بن دينار أنه سمع طاوسًا يقول: الرجلُ يصاب في الرمي في القتال بالعصا، أو بالسياط، أو بالترامي بالحجارة= يُودَى ولا يُقتل به، من أجل أنه لا يُعلم مَنْ قاتلُه؟. قال ابن جريج: وأقول: ألا ترى إلى قضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الهُذَليَّتين: ضربت إحداهما الأخرى بعمود فقتلتها، إذ (¬5) لم يقتلها بها، ووداها وجنينها. أخبرناه ابن طاوس عن أبيه، لم يجاوز طاوس". أقول: قصة الهذليتين ستأتي. وأخرج أيضًا (¬6) من طريق: "عبد الرزاق، أنا ابن جريج، أخبرني ابن طاوس، عن أبيه قال: عند أبي كتاب فيه ذِكرُ العقول جاء به الوحي إلى ¬

_ (¬1) أخرجه الشافعي في كتاب "الرد على محمَّد بن الحسن" ضمن "الأم" (9/ 159، 160). وانظر "مسند الشافعي" (ص 345). (¬2) في "السنن الكبرى" (8/ 45). (¬3) ساقط من (ط). والاستدراك من البيهقي. (¬4) (3/ 95). (¬5) كذا في (ط). وفي الدارقطني: "أنه". (¬6) (3/ 95).

النبي - صلى الله عليه وسلم - ... ففي ذلك الكتاب وهو عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: قتلُ العِمِّيَّة ديتُه دية الخطأ، الحجر والعصا والسوط ما لم يحمل سلاحًا". ومن طريق (¬1) "عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه أنه قال: مَن قُتِل في عِمِّيَّةٍ رميًا بحجر أو عصا أو سوط، ففيه دية مغلَّظة". فالروايات الصحيحة تجعله عن طاوس من قوله أو عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً، وتُفسِّره (¬2) بما سمعت، وقد مرَّ توجيهُ ذلك في آخر الكلام على الحديث السابق، فلا متشبَّثَ فيه للحنفية. [2/ 85] و"العِمِّيَّا" فسَّرها أهلُ الغريب - كما في "النهاية" (¬3) - بقولهم: "أن يوجد بينهم قتيلٌ يَعْمَى أمرُه، ولا يتبيَّن قاتلُه". وأخرجه الدارقطني (¬4) من طريق إدريس بن يحيى الخولاني: "حدثني بكر بن مضر، حدثني حمزة النصيبي، عن عمرو بن دينار، حدثني طاوس، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قُتِل في عِمِّيَّا رميًا تكون بينهم ... ". ثم أخرجه (¬5) من طريق عثمان بن صالح: "أنا بكر بن مضر، عن عمرو بن دينار ... "، ومن وجه آخر (¬6) عن عثمان بن صالح: "نا بكر بن مضر، عن عمرو بن الحارث، عن عمرو بن دينار". ¬

_ (¬1) (3/ 95). (¬2) (ط): "وتفسيره". والمثبت يقتضيه السياق. (¬3) (3/ 304). (¬4) (3/ 93). (¬5) (3/ 94). (¬6) (3/ 94).

حمزة النصيبى هالك، وعثمانُ بن صالح صالحٌ في نفسه، لكنه من الذين ابتلُوا بخالد بن نجيح، كانوا يسمعون معه، فيملي عليهم ويخلِّط. وخالد هالك. قول الأستاذ: "ومنها حديث ابن عباس في دية القاتلة بمِسْطَح - وهو عود من أعواد الخِباء - أخرجه عبد الرزاق". أقول: جاءت القصة من رواية جماعة من الصحابة: الأول: زوج المرأتين حَمَل بن مالك بن النابغة، ومنه سمعه ابن عباس. ففي "مسند أحمد" (ج 4 ص 80) (¬1): "ثنا عبد الرزاق قال: أنا ابن جريج قال: أنا عمرو بن دينار أنه سمع طاوسًا يخبر عن ابن عباس عن عمر رضي الله عنه أنه نَشَدَ قضاءَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، فجاء حَمَل بن مالك بن النابغة فقال: كنت بين بيتَي امرأتيَّ، فضربتْ إحداهما الأخرى بمِسْطَح، فقتلَتْها وجنينَها. فقضى النبي - صلى الله عليه وسلم - في جنينها بغُرَّةٍ وأن تُقتَل بها. قلت لعمرو: لا، أخبرني عن أبيه بكذا وكذا. قال: لقد شكَّكتني". ورواه أبو داود (¬2) عن أبي عاصم عن ابن جريج بمعناه إلى قوله: "أن تقتل". وبعده: "قال أبو داود: قال النضر بن شميل: المِسْطَح وهو الصَّوبَج. [و] قال أبو عبيد: المِسْطَح: عود من أعواد الخباء". ورواه البيهقي (ج 8 ص 43) من طريق عبد الرزاق بنحوه، وفيه من قول ابن جريج: "فقلت لعمرو: أخبرني ابن طاوس عن أبيه أنه قضى بديتها وبغُرَّة ¬

_ (¬1) رقم (16729)، وهو أيضًا فيه برقم (3439). (¬2) رقم (4572).

عن جنينها. قال: لقد شكَّكتني". ورواه النسائي (¬1) من طريق عكرمة عن ابن عباس، وفيه: "فرمَتْ إحداهما [2/ 86] الأخرى بحجر". وروى الطبراني (¬2) من طريق أبي المَلِيح ابن أسامة الهذلي عن حَمَل بن مالك: أنه كان له امرأتان لِحْيانيَّة ومُعاويَّةٌ ... فرفعت المُعاويَّة حجرًا فرمتْ به اللحيانيةَ وهي حُبْلى، فألقت جنينًا، فقال حَمَل لعمران بن عويمر (أخي القاتلة): أدِّ إليّ عقلَ امرأتي، فأبى. فترافعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "العقل على العصبة". وذكره ابن حجر في ترجمة عمران من "الإصابة" (¬3). الثاني: أخو المقتولة عُوَيم، ويقال: عويمر الهذلي. في ترجمته من "الإصابة" (¬4): "أخرج ابن أبي خيثمة والهيثم بن كليب والطبراني (¬5) وغيرهم من طريق محمَّد بن سليمان بن سموأل (¬6) - أحد الضعفاء - عن عمرو بن تميم بن عُوَيم الهذلي، عن أبيه، عن جده قال: كانت أختي مُليكة وامرأةٌ منَّا يقال لها: أم عُفَيف ... تحت رجل منا يقال له: حَمَل بن مالك ... فضربتْ أمُّ عفيف أختي بمِسْطَحِ بيتها ... ". ¬

_ (¬1) (8/ 51, 52). (¬2) في "المعجم الكبير" (3484). (¬3) (7/ 501, 502). (¬4) (7/ 567، 568). (¬5) في "الكبير" (17/ 141). (¬6) كذا في الطبعة القديمة من "الإصابة". والصواب "مسمول" كما في الطبراني و"ميزان الاعتدال" (3/ 569) والطبعة المحققة من "الإصابة".

الثالث: أسامة بن عمير الهذلي. روى الطبراني (¬1) من طريق أبي المليح بن أسامة الهذلي عن أبيه قال: "أُتِي النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بامرأتين كانتا عند رجل من هذيل يقال له: حَمَل بن مالك، فضربت إحداهما الأخرى بعَمود خباء، فألقت جنينها ميتًا. فأتى مع الضاربة أخ لها يقال له: عمران بن عويم ... فقال عمران: يا نبيَّ الله إن لها ابنين هما سادة الحي، وهم أحقُّ أن يعقلوا عن أمِّهم. قال: "أنتَ أحقُّ أن تعقل عن أختك ... ". ذكره ابن حجر في ترجمة عمران من "الإصابة" (¬2). وذكر في "الفتح" (¬3) أن الحارث بن أبي أسامة أخرجه من طريق أبي المليح، وفيه: "فخذفت إحداهما الأخرى بحجر". الرابع: المغيرة بن شعبة. وحديثه في "صحيح مسلم" (¬4) وغيره من طرق عن منصور، عن إبراهيم، عن عبيد بن نَضْلة، عن المغيرة. وفيه: "بعمود فُسطاط". وفي رواية للترمذي (¬5): "بحجر أو عَمُود (¬6) فسطاط ... ". وروى النسائي (¬7) من طريق الأعمش عن إبراهيم قال: "ضربت امرأةٌ ضرَّتَها بحجر وهي حُبلى، فقتلتها بحجر ... ". ¬

_ (¬1) في "الكبير" (514). (¬2) (7/ 500, 501). (¬3) (12/ 248). والحديث في "بغية الباحث" (584)، وفيه: "فقذفت ... ". (¬4) رقم (1682). وأخرجه أحمد في "المسند" (18138)، وانظر تخريج المحققين. (¬5) رقم (1411). (¬6) في (ط): "عود". والتصويب من الترمذي. (¬7) (8/ 51).

الخامس: أبو هريرة. وحديثه في "الصحيحين" (¬1) وغيرهما من طريق مالك، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة "أن امرأتين من هذيل رَمتْ إحداهما الأخرى، فطرحَتْ جنينَها [2/ 87] ... ". وفي رواية أخرى في "الصحيحين" (¬2) من طريق يونس، عن ابن شهاب بسنده، وفيه: "فرمَتْ إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها (¬3)، وما في بطنها .. ". وفي "صحيح البخاري" (¬4) في باب الكهانة من كتاب الطب من طريق عبد الرحمن بن خالد عن ابن شهاب: " ... فرمتْ إحداهما الأخرى بحجر، فأصاب بطنها وهي حامل، فقتلَتْ ولدَها الذي في بطنها ... ". وفيه (¬5): "ثنا قتيبة، عن مالك، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أن امرأتين رمَتْ إحداهما الأخرى بحجر، فطرحَتْ جنينَها ... ". السادس: بُريدة الأسلمي. أخرج أبو داود (¬6) والنسائي (¬7) من طريق عبد الله بن بريدة عن أبيه أن امرأة حَذَفَتْ (أو خَذَفَتْ) اموأة، فأسقطَتْ ... ونهى يومئذٍ عن الخذف". هذا ما تيسَّر الإشارة إليه من طرق القصة. وقد رأيتَ الاختلاف في ¬

_ (¬1) البخاري (6904) ومسلم (1681). (¬2) البخاري (6910) ومسلم (1681/ 36). (¬3) في الأصل: "فقتلها" والتصويب من الصحيحين. (¬4) رقم (5758). (¬5) رقم (5759). (¬6) رقم (4578). (¬7) (8/ 47).

الفعل: أضربٌ هو، أم رميٌ، أم حَذْفٌ أم خَذْفٌ؟ وفي الآلة: مِسْطح - حجر - عمود فسطاط؟ والطريق العلمية في مثل هذا أن يُجمَع، فإن لم يمكن فالترجيح. فقد يقال: أما الفعل فحَذْفٌ, لأن الحذف هو الرمي عن جانب، فكلُّ حذفٍ رَمْيٌ، ولا عكس. وإنما كان ذلك سببًا للنهي عن الخذف, لأن كلًّا منهما رميٌ بحجر، ولتقاربهما لفظًا. وقد يُطلق على الرمي ضربٌ كما مرَّ في بعض الروايات: "ضربت امرأة ضرَّتَها بحجر". وأما الآلة، فقد يقال: إنها حجرٌ كان صَوْبَجًا، وذلك أن في رواية زوج المرأة: "بمسطح"، وفي رواية عنه: "بحجر"، وفي رواية أخي المقتولة: "بمسطح". و"المسطح": كلمة مشتركة يطلق على الصَّوبج، وهو ما يرقَّق به العجين ويُخبَز، وقد يكون عند أهل البادية حجرًا. ويطلق على عمود الخباء والفسطاط. فجاء في رواية منصور، عن إبراهيم، عن عبيد، عن المغيرة: "بعمود فسطاط". وفي رواية: "بحجر أو عمود فسطاط". وفي رواية الأعمش عن إبراهيم: "بحجر". فكأنه كان في أصل الرواية: "بمسطح"، فحمله بعضُهم على أحد معنيَيه، وبعضهم على الآخر، وشك بعضهم. وفي رواية أبي المليح عن أبيه: "بعمود خباء"، وفي الأخرى منه: "بحجر"، فكأنه كان في الأصل "بمسطح". وفي رواية أبي هريرة في "الصحيحين": "بحجر"، ولم يُختلَف عليه. فإن اتجه ذاك التوجيه، وإلا فما اتفق عليه الشيخان أرجح. إذا تقرَّر هذا فنقول: إن حذف المرأةِ صاحبتَها بحجر ليس مما يتبيَّن به مطلقًا قصدُ القتل.

[2/ 88] فإن قيل: عدم استفصال النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدل على أن القتل بمثل ذلك شبهُ عمدٍ على كل حال. قلت: لم يُذكر في شيء من الروايات اختلافٌ من الخصمين في القتل أعمد أم شبه العمد؟ ولا في موجبه، بل تقدم في رواية أبي المليح عن حَمَل: "فقال حَمَل لعمران بن عويمر (أخي القاتلة) أدِّ إليَّ عقلَ امرأتي، فأبى، فترافعا". وفي روايته عن أبيه: "فقال عمران: يا نبي الله إنَّ لها ابنين هما سادة الحي، وهم أحقُّ أن يَعقِلوا عن أمهم". فقد اتفق الخصمان قبل الترافع وبعده على أن في القتل ديةً على العاقلة، وإنما اختلفا في العاقلة التي تلزمها الدية في الواقعة: الأخ أم الابنان؟ ومعنى ذلك اتفاقهما على أن القتل شبه عمد. وافرض أن خصمين ترافعا إلى قاض، فقال أحدهما: إن أختَ هذا قتلَتْ أختي شبه عمد، وهو عاقلتها، فأطالبه بالدية. فقال الآخر: قد صدق، ولكنْ للقاتلة بنون وهم أحقُّ أن يعقلوا عن أمهم. ألا ترى أنه لا حاجة بالقاضي إلى السؤال عن صفة القتل، لتصادُق الخصمين على أنه شبه عمد، وإنما اختلفا في غيره؟ قول الأستاذ: "وقد أعلّ أبو حنيفة حديثَ الرضْخ، كما سيأتي". أقول: في "تاريخ بغداد" (13/ 387 [403]) من طريق "بشر بن مفضَّل قال: قلت لأبي حنيفة ... قتادة عن أنس أن يهوديًّا رضخ رأسَ جاريةٍ بين حجرين، فرضخ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - رأسه بين حجرين. قال: هذيان". فهل هذا إعلال؟! قال الأستاذ (ص 80): وأما حديثُ الرضخ، فمروي عن أنس بطريق هشام بن

زيد وأبي قلابة عنعنة، وفيه القتل بقول المقتول من غير بيِّنة، وهذا غير معروف في الشرع، وفي رواية قتادة عن أنس إقرارُ القاتل، لكن عنعنة قتادة متكلَّم فيها". ثم راح يتكلم في أنس رضي الله عنه. أقول: أما هشام، فهو هشام بن زيد بن أنس بن مالك، وحديثه هذا عن جدِّه في "الصحيحين" (¬1) وغيرهما. وهشام غير مدلس، وسماعُه من جدِّه أنس ثابت، ومع ذلك فالراوي عنه شعبة، ومن عادته التحفظ من رواية ما يُخشى فيه التدليس. وحديثه هذا في "الصحيحين"، [2/ 89] ومن عادتهما التحرز عما يُخشى فيه التدليس. فسماعُ هشام لهذا الحديث من جدِّه أنس بن مالك ثابت على كل حال. وأما أبو قلابة، فهو عبد الله بن زيد الجَرْمي، وقد قال فيه أبو حاتم: "لا يُعرف له تدليس". وذكر ابن حجر في ترجمته من "التهذيب" ما يُعلم منه أن معنى ذلك أن أبا قلابة لا يروي عمن قد سمع منه إلا ما سمعه منه. وقد ثبت سماعه من أنس، كما في قصة العُرَنيين وغيرها، وحديثه في "الصحيح" (¬2) أيضًا. فالحكم في حديثه هذا أنه سمعه من أنس. أما قتادة فمدلِّس، لكنه قد صرَّح بالسماع. قال البخاري في "الصحيح" (¬3) في "باب إذا أقرَّ بالقتل مرة قُتِل به": "حدَّثني إسحاق، أخبرنا حَبَّان، حدثنا همّام، حدثنا قتادة، حدثنا أنس بن مالك أن يهوديًّا رضَّ رأسَ جارية بين حجرين ... فجيء باليهودي، فاعترف، فأمر به النبي - صلى الله عليه وسلم -، فرُضَّ ¬

_ (¬1) البخاري (5295) ومسلم (1672). (¬2) البخاري (4193، 4610) ومسلم (1671). (¬3) رقم (6884).

رأسه بالحجارة. وقد قال همّام: بحجرين". وفي "مسند أحمد" (ج 3 ص 269) (¬1): "ثنا عفان، قال: ثنا همام، قال: أنا قتادة أن أنسًا أخبره ... فأُخِذ اليهوديُّ، فجيء به، فاعترف". وتمام الكلام في "الطليعة" (ص 101 - 103) وترجمة أنس من قسم التراجم، وفي مقدمة "التنكيل" أوائلَ الفصل الثالث وفي أثناء الفصل الخامس. قال الأستاذ: "ومن رأيه (يعني أبا حنيفة) أيضًا أن القوَد بالسيف فقط تحقيقًا لعدم الخروج عن المماثلة المنصوص عليها في الكتاب". أقول: الخروج عن المماثلة كما يكون بالعدوان، فكذلك يكون بالنقصان. وكما أن العدل يقتضي منع الولي من الاعتداء، فكذلك يقتضي تمكينه من الاستيفاء. ومن قتل إنسانًا ظلمًا برضْخِ رأسه بالحجارة فالقصاص أن يُقتَل مثل تلك القِتلة. فإن قيل: ربما يقع في هذا زيادةٌ ما في الإيلام؟ قلنا: وربما يقع نقصٌ ما، فهذا بذاك؛ على أنها إن وقعت زيادة، فخفيفة غير مقصودة ولا محقَّقة ولا مانعة من أن يقال: إنه قتل مثل قِتلته. وفي تمكين الوليِّ من ذلك شفاءٌ لغيظه، وتطييبٌ لنفسه، وزجرٌ للناس، وردعٌ عن الجمع بين القتل ظلمًا وإساءة القتلة. وقد شرع الله تبارك وتعالى رجمَ الزاني المحصن إبلاغًا في الزجر، والقتل ظلمًا أشدُّ من الزنا. نعم، قال الله تبارك وتعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40]. وكما أن العفو قد يكون بترك المجازاة البتة، فقد يكون ¬

_ (¬1) رقم (13840).

بتخفيفها، فغاية الأمر أن يكون الاقتصاص بضرب العنق أولى، وعلى هذا يُحمل ما ورد في ذلك على ضعفه ومعارضة غيره له. والله الموفق. ***

المسألة الثالثة عشرة لا تعقل العاقلة عبدا

[2/ 90] المسألة الثالثة عشرة لا تعقل العاقلة عبدًا قال الأستاذ (ص 24): "قول صاحب القاموس (ع ق ل): وقول الشعبي لا تعقل العاقلة عمدًا ولا عبدًا ... معناه أن يجنى على عبد ... قال الأصمعي: كلَّمتُ أبا يوسف بحضرة الرشيد فلم يفرِّق بين (عقلتُه) و (عقلتُ عنه) حتى فهَّمتُه". قال الأستاذ: "وعقلته يستعمل في معنى عقلت عنه. قال الأكمل في "العناية" (¬1): وسباق الحديث وهو: "لا تعقل العاقلة عمدًا"، وسياقه وهو: "ولا صلحًا ولا اعترافًا" يدلان على ذلك, لأن معناه: عمَّن عمَدَ، وعمَّن صالح وعمّن اعترف. اهـ. ويؤيده ما أخرجه أبو يوسف في "الآثار" (¬2) عن أبي حنيفة عن حماد عن إبراهيم أنه قال: لا تعقل العاقلة العبد إذا قتل خطأ؛ وما أخرجه محمَّد بن الحسن في "الموطأ" (¬3) عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن ابن عباس قال: لا تعقل العاقلة عمدًا ولا صلحًا ولا اعترافًا ولا ما جنى المملوك ... اهـ. و"ما جنى المملوك" نصٌّ على أن المراد بقوله: "لا تعقل العاقلة عبدًا": أن العاقلة لا تعقل عن العبد الجاني رغم كل متقوِّل. وأخرج البيهقي (¬4) بطريق الشعبي عن عمر: العمد والعبد والصلح والاعتراف لا تعقله العاقلة. ثم قال: هذا منقطع، والمحفوظ أنه من قول الشعبي". ¬

_ (¬1) (10/ 407) بهامش "فتح القدير". (¬2) رقم (978). (¬3) رقم (666). (¬4) في "السنن الكبرى" (8/ 104).

ثم حكى عبارة أبي عبيد، وفي آخرها: "قال أبو عبيد: فذاكرتُ الأصمعي، فقال: القول عندي ما قال ابن أبي ليلى، وعليه كلام العرب. ولو كان المعنى على ما قال أبو حنيفة لكان: لا تعقل العاقلة عن عبد". ثم قال الأستاذ: " ... ولا منافاة بين هذا وبين أن يأتي في لسان العرب (عقل عنه) بمعنى: وَدَى. بل (عقله) في هذا الباب بمعنى: عقل عنه، على الحذف والإيصال؛ لأن أصل الكلام: عقل فلان قوائم الجمال ليدفعها ديةً عن فلان، فاستغنى عن المفعول الصريح، وأوصل إلى المدفوع عنه بحذف (عن)، وهذا من أسرار العربية. والقصد من الآثار المروية عن عمر وابن عباس وإبراهيم النخعي والشعبي واحد ... ". أقول: عاقلة الإنسان: عَصَبته، على تفصيل معروف في كتب العلم. فإذا قتل حرٌّ حرًّا خطأ [2/ 91] محضًا أو شبهَ عمد، وثبتَ القتل ببينة، فالدية على عاقلة القاتل. ومن الحكمة في ذلك أن أولياء المقتول يطلبون بثأره، ومن شأن عصبة القاتل أن تقوم دونه، وهم مُحِقُّون في ذلك، فيقال لهم: من شأنكم أن تقوموا دونه، فاغْرَموا ما لزم بفعله. وإن كان القتل عمدًا أو لم يثبت إلا باعتراف القاتل لم يلزم العاقلةَ شيء؛ لأنهم قد يقولون في العمد: لو طُلِب دمُه لم نقم دونه، ولا يحِلُّ لنا ذلك، وهو أوقع نفسه باختياره. ويقولون في الاعتراف: هو جرَّ البلاء باختياره. وهكذا إذا لم يلزمه (¬1) شيء إلا بمصالحته, لأن ذلك كاعترافه. وبقيت مسألتان: الأولى: أن يقتل عبد حرًّا، فليس في هذا شيء على عاقلة العبد ولا على ¬

_ (¬1) في (ط): "يلزم". والتصويب من المخطوط.

عاقلة سيده. أما عاقلة العبد، فلأنه ما دام عبدًا في معنى الأجنبي عنهم. وأما عاقلة سيده، فلأنهم يقولون: القاتل المطالَب هو العبد، ولا شأنَ لنا به، ولا نقوم دونه. الثانية: أن يقتل حرٌّ عبدًا، فقيل: إذا كان عمدًا ثبت القوَد. وقيل: لا قودَ بحال, لأن هذا ليس من مظنة الفتنة، فإن سيد العبد لا يهمُّه أن يأخذ بثأر عبده، وإنما يهمُّه أن يأخذ مالاً يستعيض به منه. فأما إذا كان خطأ محضًا أو شبهَ عمد، فلا قود اتفاقًا، وإنما يجب المال. واختلفوا في الواجب، فقال قوم: الواجب قيمة العبد بالغةً ما بلغتْ، لأن سيده يستحق ما يعادل ما فاته، ومقدارُ ذلك معروف وهو القيمة، كما لو كان المقتول فرسًا. وإلى هذا رجع أبو يوسف، وهو قول الشافعي وغيره. وقيل: الواجب دية، لكن مقدارها هو القيمة بشرط أن لا تساوي ديةَ الحرِّ ولا تزيد عليها. فإن ساوت أو زادت لم يجب إلا دون دية الحر بعشرة. وهذا قول أبي حنيفة، ولا يخفى ما فيه. ثم اختلفوا في تغريم العاقلة، فقال قوم: ليس عليها شيء لأنه إن كان الواجب قيمةَ العبد (¬1) فكما لو كان المقتول فرسًا. وإن كان ديةً فليس من شأن سيد العبد أن يطلب دم القاتل، فيكونَ ذلك من مثار تعصب عاقلته. وقال أبو حنيفة: تُغْرَم (¬2) العاقلة. احتج مخالفوه بما روي عن الشعبي: "لا تعقل العاقلة عمدًا ولا عبدًا ولا صلحًا ولا اعترافًا". فقال أبو حنيفة: إنما معنى هذا وارد في المسألة الأولى، وهي أن يكون العبد هو القاتل، فردَّه ¬

_ (¬1) "العبد" ساقطة من (ط)، والاستدراك من المخطوط. (¬2) (ط): "تلزم". والمثبت من المخطوط.

الأصمعي بما مرَّ, وأجاب الأستاذ بما سمعت. [2/ 92] وأقول: أما ما ذُكر عن إبراهيم، فقوله: "قتل" لا أدري أبالبناء للفاعل أم المفعول؟ فإن كان للمفعول - وهو الظاهر - فهو نصٌّ في خلاف قول أبي حنيفة. فإن قيل: رواية أبي حنيفة له تدل على أنه عنده بالبناء للفاعل، قلنا: بل رواية أبي يوسف له تدل أنه عنده بالبناء للمفعول. والحقُّ اطراح هذين، فإن إبراهيم تابعي، والعالمُ كأبي حنيفة وأبي يوسف قد يروي من أقوال التابعين ما لا يقول به. لكن إذا ثبت أن المعروف في اللغة "عقلت القتيل" دون "عقلت القاتل". تبيَّنَ أن الفعل في قول إبراهيم مبني للمفعول، وهو الظاهر. وأما الأثر عن ابن عباس، فليس من الواجب مطابقته لما روي عن غيره. بل هي خمس مسائل اتفق القولان على ثلاث، وانفرد كل منهما بواحدة، ويتعين الجزم بهذا إذا كان المعروف في اللغة "عقلت القتيل"، لا "عقلت القاتل". فتبيَّن أن المدار على اللغة. فأما ما ذكره صاحب "العناية" فليس بشيء، بل المعنى: لا تعقل (¬1) العاقلة دية عمد، ولا قيمة عبد، ولا واجب صلح، ولا واجب اعتراف. وأما تحقيق الأستاذ، فيقال له: العبارة التي زعمت أنها الأصل - وهي "عقل فلان قوائم الإبل ليدفعها ديةً عن فلان" - إنما تعطي بمقتضى العربية أن فلانًا الثاني هو القاتل، فإننا نقول: "دفعت عن فلان الدَّين الذي عليه، وأديتُ عنه الدية التي لزِمتْه". ويصح أن يقال بهذا المعنى: "وَدَيتُ عنه" أي: ¬

_ (¬1) في المخطوط: "لا تغرم".

أدَّيتُ عنه الدية التي لزمته. فأما المقتول، فإنما يقال: "وديته"، وقد يقال: هذه دية من القتيل، أي بدل عنه. قال الشاعر (¬1): عَقَلنا لها من زوجها عددَ الحصَى قال ابن قتيبة في كتاب "المعاني" (¬2): "يقول: قتلنا زوجها، فلم نجعل عقلَه إلا همَّها ... والمغموم يُولَع بلَقْط الحصى وعدِّه". و"مِنْ" هذه هي البدلية، مِثلُها في قوله تعالى: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ} [التوبة: 38]. وفي صغار كتب العربية أن "عن" للمجاوزة، وإذا أديتَ الدية فإنما جعلتَها تُجاوِز ذمةَ القاتل، كما تقول: أديتُ عن فلان الدين الذي كان عليه. ولا معنى لمجاوزتها المقتول. وبعد، فلا ريب أن الأصل "عقلت قوائم الإبل"، لكن استغنوا عن القوائم على كل حال، فقالوا: "اعقِلْ ناقتك". ثم كثر عقلُ الإبل في الدية، فاستغنوا في ذكر الدية عن لفظ الإبل. [2/ 93] يقول ولي المقتول أو المصلح: اعقِلوا. ويقول أولياء القاتل: سنعقِل. وكثر ذلك حتى صار المتبادر من العقل في قضايا القتل معنى الدية، فاستُعمل في معناها حتى جُمِع جمْعَها فقيل: "عقول" بمعنى "ديات". فإذا قيل في قضايا القتل: عقلتُه فمعناه: وديتُه، أي أدَّيتُ ديته. وإذا قيل: عقلتُ عنه، فالمعنى: وديتُ عنه، أي أدَّيت عنه الدية التي كانت مستقرةً عليه، فجعلتُها تجاوزه. هذا هو المعروف في العربية. ¬

_ (¬1) عجزه: مع الصبح أو في جنح كل أصيلِ. والبيت بلا نسبة في "الحيوان" (1/ 65). (¬2) "المعاني الكبير" (2/ 1007).

المسألة الرابعة عشرة تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا

المسألة الرابعة عشرة تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدًا في "تاريخ بغداد" (13/ 391 [408]) حكايتان عن أبي عوانة: "كنت عند أبي حنيفة جالسًا، فأتاه رسول من قبل السلطان ... فقال: يقول الأمير: رجل سرق وَدِيًّا، فما ترى؟ فقال غير متعتع: إن كانت قيمته عشرة دراهم فاقطعوه ... ". قال الأستاذ (ص 92): "قال الإِمام محمد بن الحسن الشيباني في "الآثار" (¬1): أخبرنا أبو حنيفة، عن حماد، عن إبراهيم: لا يُقطع السارق في أقلَّ من ثمن المِجَنِّ، وكان ثمنه يومئذ عشرة دراهم، ولا يُقطَع بأقل من ذلك ... قال الإِمام محمَّد في "الموطأ" (¬2): قد اختلف الناس فيما تُقطع فيه اليد، فقال أهل المدينة: ربع دينار، ورووا أحاديث. وقال أهل العراق: لا تقطع اليد في أقل من عشرة دراهم، ورووا ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعن عمر، وعن عثمان، وعن عليّ، وعن عبد الله بن مسعود، وعن غير واحد. فإذا جاء الاختلاف في الحدود أخذ فيها بالثقة، وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا. يعني أن ربع الدينار نحو ثلاثة دراهم. والحدود مما يدرأ بالشبهات، فالأخذُ برواية عشرة دراهم في القطع أحوطُ، فيؤخذ بها حيث لم يُعلم الناسخ من المنسوخ من تلك الآثار المختلفة". أقول: رأيت للحنفية مسالكَ في محاولة التخلُّص من الأحاديث الصحيحة في هذه المسألة، نشِطتُ للنظر فيها هنا. ¬

_ (¬1) رقم (629). (¬2) (ص 239).

المسلك الأول: هذا الذي تقدم. وحاصله أن الدليلين إذا تعارضا عُمِل بالناسخ، فإن لم يُعلم فبالراجح. تعارضت الأدلة هنا ولم يُعلَم الناسخ فتعيَّن العملُ بالراجح. ومن المرجِّحات نفيُ [2/ 94] الحد، أي أنه إذا كان أحدُ الدليلين المتعارضين مثبتًا لحدٍّ والآخرُ نافيًا له، كان ذلك مما يقتضي ترجيح الثاني. فالأحاديث الموجبة للقطع في ربع دينار مثبِتة للحدِّ في ما ساوى ذلك وما زاد عليه. والأحاديث الدالة على أنه لا قطع في أقلَّ من عشرة دراهم نافية للحدّ فيما دون ذلك، فجاء التعارض فيما يساوي ربع دينار، أو يزيد عليه ولكنه لا يبلغ العشرة، ولم يُعلم الناسخ، فترجَّح النافي. والجواب عن هذا أن ما يذكر في أنه لا قطع فيما دون العشرة لا يَثبتُ، كما ستراه مفصلاً، فليس بدليلٍ أصلاً. هَبْه ثبَتَ، فعدُّ نفي الحدِّ من المرجِّحات فيه نظر، وما يذكر فيه من السنة لا يثبت. هَبْه ثبَتَ، فلا حجة فيه، للاتفاق على أن الحد يثبت بخبر الواحد ونحوه مما يقول الحنفية إنه دليل فيه شبهة. وإنما الشبهة التي يُدرأ بها الحدُّ ما يقتضي عذرًا ما للفاعل، كمن أخذ ما له فيه حق، فإن له أن يقول: لم أسرق وإنما توصلت إلى أخذ حقي؛ وكالواطئ في نكاح بلا ولي، فإن له أن يقول: لم أزْنِ وإنما أتيت امرأتي. فأما من يقول: سرقتُ عالِمًا بأن السرقة حرام، لكن قد تعارضت الأدلة في أن سرقتي هذه توجب الحد، فلا عذر له، ولا يُدرأ عنه الحدُّ، كما لا يُدرأ عمن قال: سرقت عالمًا بأن السرقة حرام، ولكن لم أعلم بأن حكم الإِسلام قطع يد السارق. بل ذاك أولى، فإنه إذا لم يُعذر بجهل وجوب الحد من أصله، فكيف يُعذر بالتردد فيه؟ هَبْه ثبت أن نفي الحد من مقتضيات الترجيح، فللمثبت مرجحاتٌ أقوى من ذلك كما ستراه إن شاء الله.

المسلك الثاني للطحاوي. بدأ في كتابه "معاني الآثار" (¬1) بذكر حديث ابن عمر "أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قطع في مِجَنٍّ ثمنُه ثلاثة دراهم"، وهو في "الموطأ" و"الصحيحين" (¬2) وغيرها. رواه مالك وجماعة عن نافع عن ابن عمر، فهو في أعلى درجات الصحة. ثم ذكر الطحاوي أنه لا حجة فيه على أنه لا يُقطَع فيما دون ذلك. ثم روى (¬3) من طريق أبي واقد صالح بن محمَّد بن زائدة، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه رفعه: "لا يُقطَع السارق إلا في ثمن المِجَنِّ". قال الطحاوي: "فعلمنا بهذا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقَفَهم عند قطعه في المجنِّ على أنه لا يُقطع فيما قيمته أقلُّ من قيمة المجن". [2/ 95] أقول: أبو واقد هذا ذُكر بصلاح في نفسه وغزو. قال أحمد: "ما أرى به بأسًا". لكنهم ضعَّفوه في روايته، قال ابن معين: "ضعيف الحديث". وضعَّفه أيضًا علي ابن المديني، والعجلي، وأبو زرعة، وأبو داود، والنسائي، وأبو أحمد الحاكم، وابن عدي. وقال البخاري وأبو حاتم والساجي: "منكر الحديث"، وقال ابن حبان: "كان ممن يقلب الأخبار والأسانيد ولا يعلم، ويُسند المرسل ولا يفهم، فلما كثر ذلك في حديثه وفحش استحقَّ الترك". ومما أنكروه عليه حديثُه عن سالم عن أبيه عن عمر رفعه: "من وجدتموه قد غَلَّ فأحرِقوا متاعَه" (¬4) قال البخاري: "هو حديث باطل ليس له أصل". ¬

_ (¬1) (3/ 162). (¬2) "الموطأ" (2/ 831) والبخاري (6795) ومسلم (1686). (¬3) (3/ 163). وضعَّفه الحافظ في "الفتح" (12/ 105). (¬4) أخرجه أحمد (144) وأبو داود (2713) والترمذي (1461) وغيرهم، قال =

وقد ذكر الطحاوي حديثه هذا عن سالم في "مشكل الآثار" (¬1) على ما في "المعتصر" (ج 2 ص 238) (¬2). وفي "المعتصر" عن الطحاوي (¬3): "وكتاب الله يخالف ذلك، قال الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} [المائدة: 38] فإذا لم يكن في سرقة مال - ليس للسارق فيه شركة - سوى قطع اليد، لا جزاء له غير ذلك، فأحرى أن لا يجب عليه في غلول مال له فيه حظٌّ إحراقُ رحله". أقول: دلالةُ الآية على أنه لا جزاء غير ذلك دلالةٌ لا يقول بها الجمهور. وعلى القول بها فإنما يتجه ما بناه الطحاوي عليها لو كان على الغالِّ قطعٌ، إذ يقال: ليس على السارق إلا القطع مع أنه لا شبهة له، فكيف يُزاد الغالُّ على القطع مع أن له شبهة؟ فأما أن يكون على السارق الذي لا شبهة له القطع وليس على الغال لشبهته قطع، ولكن عليه عقوبة دون ذلك = فليس في هذا ما يُنكَر، كما أن على الزاني المحصَن الرجم فقط، وليس على غير المحصن ¬

_ = الترمذي: هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه. ثم قال: وسألتُ محمدًا (أي البخاري) عن هذا الحديث فقال: إنما روى هذا صالح بن محمَّد بن زائدة، وهو أبو واقد الليثي، وهو منكر الحديث. قال محمَّد: وقد روي في غير حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الغال، ولم يأمر فيه بحرق متاعه. وقال الجوزقاني في "الأباطيل" (588): حديث منكر. وقال الدارقطني (كما في "العلل المتناهية" 2/ 584): أنكروا هذا الحديث على صالح، وهو حديث لم يُتابَع عليه، ولا أصل له في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفي "علل" الدارقطني (2/ 53): أبو واقد هذا ضعيف. (¬1) رقم (4240 - 4242). (¬2) الطبعة الثانية. [المؤلف]. (¬3) "مشكل الآثار" (10/ 449).

رجم ولكن عليه الجلد. وكما أن من ارتكب موجبَ الحدِّ يُحَدُّ ولا يعزَّر، ومن ارتكب ما دون ذلك لم يُحَدَّ ولكنه يعزَّر. ردَّ الطحاوي حديث أبي واقد في الغالِّ بدعوى مخالفة لا حقيقة لها، لدلالة لا يقول بها الجمهور، ثم احتج بحديث أبي واقد نفسه هنا مع مخالفته مخالفةً محققةً لدلالة متفقٍ عليها من الآية نفسها. فإن حديثه هنا ينفي القطع عن عدد كثير يحقُّ على كلًّ منهم اسم "السارق"، وهم كلُّ مَن كان مسروقه أقل من قيمة المجنّ، والآية توجب بعمومها قطعَ كلِّ مَن يحق عليه [2/ 96] اسمُ "السارق". ودلالة العموم متفق عليها، بل يقول الحنفية: إنها قطعية. ثم يبالغ الطحاوي فيقول: "فعلمنا بهذا ... " كأنه يرى أبا واقد معصومًا يوجب حديثه العلم، ويجعل ذلك أمرًا مفروغًا منه، وإنما الشأن في معرفة قيمة المجن! ومع ذلك نجاري الطحاوي في النظر في قيمة المجن. ذكر الطحاوي أن بعض أهل العلم يقول: إنها ثلاثة دراهم بحديث ابن عمر السابق. قال (¬1): "وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا يُقطَع السارق إلا فيما يساوي عشرة دراهم فصاعدًا، واحتجوا في ذلك بما حدثنا ابن أبي داود (وهو إبراهيم بن سليمان بن داود الأسدي البُرُلُّسِي) و (أبو زرعة) عبد الرحمن بن عمرو الدمشقي قالا: ثنا أحمد بن خالد الوهبي قال: ثنا محمَّد بن إسحاق، عن أيوب بن موسى، عن عطاء، عن ابن عباس قال: كان قيمة المجنّ الذي قَطع فيه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عشرة دراهم". ¬

_ (¬1) "معاني الآثار" (3/ 163).

أقول: ابن إسحاق متكلَّم فيه، وفي حفظه شيء، كما في "الميزان"، وقد اضطرب في الخبر كما يأتي، فخبره هذا غير صالح للحجة أصلاً، فكيف يعارَض به حديثُ "الموطأ" و"الصحيحين" وغيرهما المتواتر عن نافع عن ابن عمر؟ ومع هذا فالظاهر أن هذا لفظ ابن أبي داود، كما يشير إلى ذلك تقديم الطحاوي له. فأما الدمشقيُّ، فقال الحاكم في "المستدرك" (ج 4 ص 378): "حدثنا أبو العباس محمَّد بن يعقوب (الأصم)، ثنا أبو زرعة الدمشقي، ثنا أحمد بن خالد الوهبي، ثنا محمَّد بن إسحاق، عن أيوب بن موسى، عن عطاء، عن ابن عباس قال: كان ثمن المجنِّ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُقوَّم عشرةَ دراهم". وهذا هو الصواب من حديث الوهبي، كذلك أخرجه الدارقطني في "السنن" (ص 369) (¬1): "نا محمَّد بن إسماعيل الفارسي، نا أحمد بن عبد الوهاب بن نجدة، نا أحمد بن خالد الوهبي". وكذلك أخرجه البيهقي في "السنن" (ج 8 ص 257): "ثنا أبو طاهر الفقيه، أنبأ أبو بكر القطان، ثنا أحمد بن يوسف السلمي، ثنا أحمد بن خالد الوهبي ... " كلاهما بلفظ الأصم عن الدمشقي، إلا أن ابن نجدة قدَّم كلمة "يقوَّم"، ذكرها بعد كلمة "المجن". فإن قيل: فالمعنى واحد. قلت: كلّا، لفظ الطحاوي يجعل العشرة قيمة "المجنّ الذي قطَع فيه ¬

_ (¬1) (3/ 192).

النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -". والمحفوظ - وهو لفظ الدمشقي وابن نجدة [2/ 97] والسلمي - يجعلها قيمة المجنّ مطلقًا، كما تقول: كانت الغنم رخيصة في عهد فلان، كان ثمن الشاة يقوَّم درهمين. فإن قيل: وكيف يستقيم ذلك والمجانُّ تختلف جودةً ورداءةً، وجِدَّةً وبِلىً، وسلامةً وعيبًا، وتَرخُص في وقت وتغلو في آخر؟ قلت: كأَنَّ قائل ذلك بلغه أن أقلَّ ما قطَع فيه النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم مجنٌّ، ورأى أنه لا ينبغي القطعُ في أقل من ذلك، وأعوزه أن يعرف ذاك المجنَّ، أو يعرف قيمتَه على التعيين، أو يجد دليلًا يُغنيه عن ذلك؛ ففزع إلى اعتبار جنسه، ليحمله على أقصى المحتملات احتياطًا، أو على أولاها في نظره، فرأى أن العشرة أقصى القِيَم، أو أوسطها، أو غالبها، أو أقصى الغالب، أو أوسطه. فإن قيل: فهلَّا تَحملُ كلمةَ "المجن" في لفظ الجماعة على ذلك المجنِّ المعهود الذي قطع فيه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فتوافق لفظَ الطحاوي؟ قلت: يمنع من ذلك أمور: الأول: أن الظاهر إرادة الجنس. الثاني: قوله "كان ... يقوَّم". وهذا يقتضي تكرار التقويم، ولا يكون ذلك في ذاك المجنِّ المعيَّن. الثالث: أنه لا داعي إلى حمل المحفوظ على الشاذَّ بما يخالف الحديث الثابت المحقَّق، وهو حديث ابن عمر. فإن قيل: قد يكون ابن عمر قوَّم [ذلك المجن المعين] باجتهاده، فقال:

[ثلاثة، وقوَّمه غيرُه باجتهاده، فقال:] (¬1) عشرة. قلت: هذا باطل من أوجه: الأول: أن الواجب في التقويم أنه إذا رُفعت إلى الحاكم سرقةٌ، وكان (¬2) المسروق مما لا يُعلم لأول وهلة أنه بالقدر الذي يُقطَع فيه أو لا: أن يبدأ الحاكمُ، فيأمر العدولَ العارفين بتقويم المسروق. وابنُ عمر في دينه وتقواه وورعه، وعلمِه بأنه سيُبنَى على خبره قطعُ أيدٍ كثيرةٍ، لا يُظَنُّ به أن يَجزم إلا مستندًا إلى ما جرى به التقويمُ بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم -. الثاني: أن أثبت الروايات وأكثرها عن ابن عمر بلفظ: "ثمنه"، كما تراه في "صحيح البخاري" مع "فتح الباري" (¬3). وأصل الفرق بين الثمن والقيمة: أن الثمن هو ما يقع عوضًا عن السلعة، والقيمة ما تقوَّم به السلعة. فمن اشترى سلعة بثلاثة دراهم، وكانت تساوي أكثر أو أقل، فالثلاثة ثمنها، والذي تساويه هو قيمتها. فإذا أتلف رجلٌ سلعة الآخر فقُوِّمت بثلاثة دراهم، [2/ 98] فقضى بها الحاكم، فقد لزمت الثلاثةُ عوضًا عن السلعة، فصحَّ أن تسمى ثمنًا لها. فهكذا السلعة المسروقة لا يحسن أن يقال: "ثمنها ثلاثة دراهم" إلا إذا كانت قُوِّمت بأمر الحاكم بثلاثة دراهم، فقضى بحسب ذلك، وكأن هذا هو السرُّ في اعتناء البخاري باختلاف الرواة في قول بعضهم: "ثمنه"، وبعضهم: "قيمته"، مع أن قول بعضهم: "قيمته" لا يخالف ما تقدَّم؛ لأن ما وقع به التقويم فالقضاء يصح أن يسمى "قيمةً"، لكن ما لم يُعلَم أنه ¬

_ (¬1) ما بين المعكوفتين ساقط من (ط)، استدركناه من المخطوط، وبه يستقيم السياق. (¬2) (ط): "فكان". والتصويب من المخطوط. (¬3) (12/ 97, 105).

وقع به التقويم فالقضاء، فإنه لا يصح أن يسمَّى ثمنًا. فتدبَّرْ. الثالث: أن ابن عمر لو بنى على حَدْسه لكان الغالب أن يتردَّد. الرابع: أن الاختلاف في تقويم السلعة بين عارفيها وعارفي قِيَم جنسها في المكان والزمان الواحد لا يكون بهذا القدر، يقول هذا: ثلاثة، ويقول الآخر: عشرة. قال ابن حجر في "الفتح" (¬1): "محال في العادة أن يتفاوت هذا التفاوت الفاحش ... وإنما يتفاوت بزيادة قليلة أو نقص قليل لا يبلغ المثل غالبًا". ومع هذا فقد جاء في بعض الروايات عن ابن عمر - كما في "سنن أبي داود" والنسائي (¬2) - "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قطَع يد سارقٍ سرَق تُرْسًا من صُفَّةِ النساء ثمنه ثلاثة دراهم". وهذا يدل على إتقان ابن عمر للواقعة ومعرفته بها، فهو المقدَّم على غيره. هذا كلُّه على فرض صحة خبر ابن إسحاق، وقد علمتَ أنه لا يصح، وسيأتي تمام ذلك. والصواب - مع صرف النظر عن الصحة - أن القائل: "عشرة دراهم" إنما النظر إلى الجنس، على ما تقدَّم بيانه. فإن قيل: فقد قال أبو داود في "السنن" (¬3): "حدثنا عثمان بن أبي شيبة ومحمد بن أبي السَّرِيّ العسقلاني - وهذا لفظه، وهو أتم - قالا: ثنا ابن نمير، عن محمَّد بن إسحاق، عن أيوب بن موسى، عن عطاء، عن ابن عباس قال: قطع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يد رجلٍ في مجنٍّ قيمته دينار أو عشرة دراهم". ¬

_ (¬1) (12/ 102). (¬2) أبو داود (4386) والنسائي (8/ 77). (¬3) رقم (4387).

قلت: هذا لفظ ابن أبي السَّري كما صرَّح به أبو داود. وابن أبي السَّري وإن حكى ابن الجنيد أن ابن معين وثَّقه، فقال: قال أبو حاتم: "لين الحديث". وقال مسلمة: "كان كثير الوهم، وكان لا بأس به". وقال ابن وضاح: "كان كثير الحفظ، كثير الغلط". وقال ابن [2/ 99] عدي "كثير الغلط". والمحفوظ عن ابن نمير كما تقدم (¬1): "نا شعيب بن أيوب نا عبد الله بن نمير ... ". والظاهر أن لفظ عثمان بن أبي شيبة هكذا. فإن قيل: فقد قال ابن أبي شيبة في "المصنف" (¬2): "حدثنا عبد الأعلى، عن محمَّد بن إسحاق قال: حدثني أيوب بن موسى، عن عطاء، عن ابن عباس: لا يُقطَع السارق في دون ثمن المجن، وثمنُ المجن عشرة دراهم". وذكره البخاري في "التاريخ" (ج 1 قسم 2 ص 26) عن عياش عن عبد الأعلى نحوه. فكلمة "المجن" الأولى للعهد، فكذلك الثانية. قلت: ليس هذا بلازم، بل الثانية للجنس كما في غالب الروايات، على أنه يمكن أن تكون الأولى للجنس أيضًا، ويمكن أن تكونا معًا للعهد، ولكن التقويم استنباطي على ما تقدَّم، لا تحقيقي. فإن قيل: فقد قال ابن التركماني (¬3): "قال صاحب "التمهيد": ثنا عبد الوارث، ثنا قاسم، ثنا محمَّد، ثنا يوسف، ثنا ابن إدريس، ثنا محمَّد بن إسحاق، عن عطاء، عن ابن عباس قال: "قُوِّم المجنُّ الذي قطَع فيه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عشرةَ دراهم". ¬

_ (¬1) لم يتقدم، ولكنه في "سنن الدارقطني" (3/ 192) بهذا الإسناد. (¬2) (9/ 474). (¬3) "الجوهر النقي" (8/ 257). وانظر "التمهيد" (14/ 380).

قلت: المحفوظ عن ابن إدريس ما قاله الدارقطني (ص 368) (¬1): "ثنا ابن صاعد، ثنا خلاد (¬2) بن أسلم، ثنا عبد الله بن إدريس، عن محمَّد بن إسحاق، عن عطاء، عن ابن عباس قال: "كان ثمن المجن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة دراهم". سندُ الدارقطني أقصَرُ وأثبَتُ، فإن محمَّد بن وضاح كان ممن يخطئ، وقاسم بن أصبغٍ اختلط بأخرةٍ". هذا، وقد اضطرب ابن إسحاق في هذا الحديث، فرواه مرةً عن عطاء عن ابن عباس كما هنا، ومرةً عن أيوب بن موسى عن عطاء كما مرَّ، وقال مرة: عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده كما يأتي، ومرةً عن عمرو بن شعيب عن مجاهد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قوله، ذكره البخاري في "التاريخ" (¬3)، ومرةً عن عمرو بن شعيب عن عطاء أن ابن عباس كان يقول: "ثمنه يومئذ عشرة دراهم"، أخرجه النسائي (¬4)، وذكره البخاري في "التاريخ" (ج 1 قسم 2 ص 26). ورواه مرةً عن عمرو بن شعيب عن عطاء مرسلًا كما في "الفتح" (¬5)، ومرةً عن أيوب بن موسى عن عطاء مرسلاً، لم يذكر فيهما ابن عباس وجعله من كلام عطاء. ذكر النسائي (¬6) الثانية قال: "أخبرني [2/ 100] محمَّد بن وهب قال: حدثنا محمَّد بن سلمة قال: حدثني ¬

_ (¬1) (3/ 191). (¬2) (ط): "ابن خلاد" خطأ، والتصويب من الدارقطني. (¬3) "الكبير" (2/ 26). (¬4) (8/ 83). (¬5) (12/ 103). (¬6) (8/ 83).

ابن إسحاق، عن أيوب بن موسى، عن عطاء. مرسل". فإن قيل: فقد قال أبو داود (¬1): "رواه محمَّد بن سلمة وسعدان بن يحيى عن ابن إسحاق بإسناده"، وظاهر هذا الوصل. قلت: لم يذكر أبو داود مَن حدَّثه عن محمَّد بن سلمة، والنسائي ذكر ذلك وحقَّقه، فهو أولى. وفي كلام النسائي ما يدل على ترجيح الإرسال، فإنه قال عقب ذلك (¬2): "أخبرني حُميد بن مَسعدة عن سفيان - هو ابن حبيب - عن العرزمي - هو عبد الملك بن أبي سليمان - عن عطاء قال: أدنى ما يُقطع فيه ثمنُ المجن. قال: وثمن المجن يومئذ عشرة دراهم". وفي "مصنف ابن أبي شيبة" (¬3): "حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء قال: أدنى ما يُقطع فيه السارق ثمن المجن. وكان يقوَّم المجن في زمانهم دينارًا أو عشرة دراهم". وقال ابن التركماني (¬4): "في كتاب "الحجج" لعيسى بن أبان ... "، ثم قال: "وفي كتاب "الحجج" عن مصعب بن سلَّام ويعلي بن عبيد قالا: ثنا عبد الملك عن عطاء أنه سئل: ما يُقطع فيه السارق؟ قال ثمن المجن، وكان في زمانهم يُقوَّم دينارًا أو عشرةَ دراهم". وهذا الحديث في حُكمٍ مختلَفٍ فيه تعمُّ به البلوى، وعطاء إمام جليل فقيه معمَّر، كان بمكة حيث ينتابها أهل العلم من جميع الأقطار، وله ¬

_ (¬1) عقب رقم (4387). (¬2) النسائي (8/ 83). (¬3) (9/ 475). (¬4) "الجوهر النقي" (8/ 258، 259).

أصحاب أئمة حفاظ فقهاء كانوا أعلمَ به وألزمَ له من أيوب بن موسى وعمرو بن شعيب، فلو كان عنده هذا الحديث عن ابن عباس لما فاتهم. وهذا عبد الملك بن أبي سليمان، وهو من أثبت أصحاب عطاء، لم يكن عنده عنه إلا قوله كما تقدَّم. وهذا ابن جريج أعلم أصحاب عطاء وألزمهم له جاء عنه أنه قال: "لزمتُ عطاءً سبع عشرة سنة" وقال: "جالستُ عمرو بن دينار بعد ما فرغتُ من عطاء"، وكان يدلِّس عن غير عطاء، فأما عن عطاء فلا. قال: "إذا قلتُ: قال عطاء، فأنا سمعته منه، وإن لم أقل: سمعتُ". وإنما هذا لأنه كان يرى أنه قد استوعب ما عند عطاء فإذا سمع رجلاً يخبر عن عطاء بما لم يسمعه منه رأى أنه كذب فلم يستحِلَّ أن يحكيه عن عطاء. وهذا كما قال أبو إسحاق: "قال أبو صالح (ذكوان) و (عبد الرحمن بن هرمز) الأعرج: ليس أحد يحدِّث عن أبي [2/ 101] هريرة إلا علِمنا أصادق هو أم كاذب". يريدان أنه إذا حدث عن أبي هريرة بما لم يسمعاه منه علِما أنه كاذب، لإحاطتهما بحديث أبي هريرة. وقال الإِمام أحمد: "ابن جريج أثبتُ الناس في عطاء"، وكان ابن جريج يذهب إلى هذا المذهب. قال ابن التركماني (¬1): "في "مصنف عبد الرزاق" عن ابن جريج قال: كان يقول (¬2): لا تُقطع يدُ السارق في أقل من عشرة دراهم". ومع هذا كله لم يكن عند ابن جريج عن عطاء في هذا إلا ما ذكره الطحاوي في أواخر كلامه، قال (¬3): "حدثنا إبراهيم بن ¬

_ (¬1) "الجوهر النقي" (8/ 259). وانظر "المصنف" (18947). (¬2) كذا في (ط) و"الجوهر النقي". وفي المصنف: "كان عطاء يقول". (¬3) "معاني الآثار" (3/ 167).

مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن ابن جريج قال: كان قول عطاء على قول عمرو بن شعيب: لا تُقطَع اليد في أقل من عشرة دراهم". وهذا يُشعِر بأن عطاء إنما أخذ هذا القول عن عمرو بن شعيب، وهذا عكسُ ما زعمه ابن إسحاق. أفيجوز أن يكون عند ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس، فيترك أن يقول: كان قول عطاء على قول ابن عباس، ويعدل إلى عمرو بن شعيب؟! وقد كان لابن عباس أصحاب حفَّاظ فقهاء كانوا ألزمَ له وأعلمَ به من عطاء، ولم يروِ أحد منهم عنه في هذا الباب شيئًا. فأما ما روى عبد الرزاق (¬1)، عن إبراهيم بن أبي يحيى، عن داود بن حصين، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: "ثمن المجنّ الذي يُقطع فيه دينار" ذكره ابن التركماني (¬2) = فليس بشيء. إبراهيم ساقط، ولا سيَّما إذا لم يُصرِّح بالسماع. وأما حسنُ ظنِّ الشافعي به، فكأنه كان متماسكًا لمَّا سمع منه الشافعي، ثم ظهر فساده. وقد قال ابن أبي شيبة في "المصنف" (¬3): "حدثنا عبد الوهاب الثقفي، عن خالد (بن مهران الحذاء)، عن عكرمة قال: تُقطع اليد في ثمن المجن. قال قلت له: ذكرَ لك ثمنَه؟ قال: أربعة أو خمسة". وعبد الوهاب وخالد من الثقات المشهورين. أفتراه يكون عند عكرمة عن مولاه ابن عباس أنه دينار أو عشرة دراهم، فيعدل عنه إلى ما لا يدري عمن أخذه مع شكِّه فيه؟ فهذا كلُّه يبيِّن أن ابن عباس لم يقل ما رواه ابن إسحاق قطُّ، وأن عطاء ¬

_ (¬1) في "المصنف" (18956). (¬2) في "الجوهر النقي" (8/ 257). (¬3) (9/ 471).

لم يحدِّث به عن ابن عباس قط. وإنما هو قول عطاء، وقد علمتَ مع ذلك أنه مبني على الحدس. والله الموفق. فإن قيل: فقد قال البخاري في "التاريخ" (¬1): "وقال الوليد بن كثير: حدثني مَن سمع عطاءً عن ابن عباس - مثله". قلت: وصله الدارقطني (ص 369) (¬2) "حدثنا أحمد، نا شعيب بن [2/ 102] أيوب، نا أبو أسامة، عن الوليد بن كثير، حدثني مَن سمع عطاءً، عن ابن عباس أن ثمن المجن يومئذ عشرة". قلت: أبو أسامة كان يدلِّس، ثم ترك التدليس بأَخَرة، ولا يُدرى متى حدَّث بهذا؟ وشيخ الوليد لا يُدرى من هو؟ ولو كان به طِرْق لما كنى عنه. وقد كان من أهل بلد الوليد ممن يحدِّث عن عطاء: محمَّد بن عبد الله العرزمي الهالك، ولا يبعد أن يكون الوليد إنما سمعه منه، فليس في هذا ما يُجدِي. والصواب ما تقدم. قال الطحاوي (¬3): "حدثنا ابن أبي داود وعبد الرحمن بن عمرو الدمشقي قالا (¬4): ثنا الوهبي قال: ثنا ابن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده - مثله". يعني مثلَ حديثه المتقدم الذي رواه بهذا السند عن ابن إسحاق، عن أيوب بن موسى، عن عطاء، عن ابن عباس، وقد أقمنا ¬

_ (¬1) "الكبير" (2/ 26). (¬2) (3/ 192). قال الدارقطني: خالفه منصور، رواه عن عطاء عن أيمن، وأيمن لا صحبة له. (¬3) في "معاني الآثار" (3/ 163). (¬4) (ط): "قال". والتصويب من الطحاوي.

الحجة على أنَّ ذاك اللفظ ليس هو لفظ الدمشقي ولا الوهبي ولا ابن إسحاق، فيأتي مثل ذلك هنا. وقد قال الدارقطني (ص 369) (¬1): "نا محمَّد بن القاسم بن زكريا، نا هارون بن إسحاق، نا المحاربي، نا محمَّد بن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: كان ثمن المجنّ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة دراهم. نا محمَّد بن مخلد، نا محمَّد بن هارون الحربي أبو جعفر هو أبو نشيط، نا أحمد بن خالد الوهبي، نا محمَّد بن إسحاق بإسناده نحوه". وفي "نصب الراية" (ج 3 ص 359) أنَّ ابن أبي شيبة روى في "مصنفه" (¬2) عن عبد الأعلى عن ابن إسحاق "عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يُقطع السارق في دون ثمن المجن". قال عبد الله: وكان ثمن المجن عشرة دراهم". وفي "تفسير ابن كثير" (¬3) أن ابن أبي شيبة روى عن ابن نمير وعبد الأعلى عن ابن إسحاق - فذكر مثله. والذي وجدته في النسخة التي وقفتُ عليها من "المصنف" (¬4): "حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن محمَّد بن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: القطع في ثمن المجن". وفيها (¬5): "حدثنا عبد الأعلى وعبد الرحيم بن سليمان، عن محمَّد بن ¬

_ (¬1) (3/ 193). (¬2) (9/ 474). وقد حصل هنا تداخلٌ بين روايتين، وسيشير إليه المؤلف. (¬3) (3/ 396). (¬4) (9/ 470). (¬5) (9/ 474).

إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: كان يقول: ثمن المجن عشرة دراهم". وفي "سنن البيهقي" (ج 8 ص 259) من طريق أبي يعلى "ثنا ابن نمير، ثنا أبي، ثنا محمَّد بن إسحاق [عن عمرو بن شعيب] (¬1) عن أبيه، [2/ 103] عن جده قال: كان ثمن المجن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة دراهم". وقال الدارقطني (ص 368) (¬2): "حدثنا الحسين بن إسماعيل، ثنا يوسف بن موسى، ثنا عبد الله بن إدريس، وعبد الله بن نمير، عن ابن إسحاق ح ونا محمَّد بن القاسم بن زكريا، نا هارون بن إسحاق، نا المحاربي، عن محمَّد بن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: كان ثمن المجن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة دراهم". وفي "مسند أحمد" (ج 2 ص 180) (¬3): "ثنا ابن إدريس، ثنا ابن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن قيمة المجن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان عشرة دراهم". وقال النسائي في "السنن" (¬4): "أخبرنا خلاد بن أسلم، عن عبد الله بن إدريس، عن محمَّد بن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: كان ثمن المجن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة دراهم". ¬

_ (¬1) سقطت من الأصل. [ن]. (¬2) (3/ 190). (¬3) رقم (6687). وفي (ط): "ج 2 ص 18"، والتصويب من المخطوط. (¬4) (8/ 84).

وفي "نصب الراية" (ج 3 ص 466) عن "مسند إسحاق بن راهوية": "حدثنا عبد الله بن إدريس، سمعت محمَّد بن إسحاق يحدِّث عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ما بلغ ثمنَ المجنّ ففيه القطع. وكان ثمن المجن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة دراهم. قال: وسئل عن اللقطة؟ فقال: عرِّفها سنة". هذه الرواية تدل أن هذا الحديث هو في الأصل قطعة من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في اللقطة وغيرها (¬1). وفي "مسند أحمد" (ج 2 ص 203) (¬2): "ثنا ابن إدريس، سمعت ابن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجلًا من مزينة يسأله عن ضالَّة الإبل ... وسأله عن الحَرِيسة التي تُوجد في مراتعها، قال: فقال: فيها ثمنُها مرتين وضربُ نكالٍ. قال: فما أُخِذ من أعطانه، ففيه القطعُ إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن. فسأله, فقال: يا رسول الله، اللقطةُ نجدها في السبيل العامر؟ قال: عرَّفها سنة ... ". وفي "المسند" (ج 2 ص 207) (¬3): "ثنا يزيد (بن هارون)، أنا محمَّد بن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: سمعت رجلاً من مُزينة وهو يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر نحو حديث ابن إدريس. قال: وسأله عن الثمار ... فقال ... ومن وجدته (¬4) قد احتمل، ففيه ثمنه مرتين وضرْبُ نَكالٍ، ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (6683، 6891) وأبو داود (1710) والدارقطني (3/ 194 - 195) والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 190) وغيرهم. (¬2) رقم (6891). وفي (ط): "ج 2 ص 303". والتصويب من المخطوط. (¬3) رقم (6936). (¬4) في "المسند": "ومن وُجِد قد".

فما أُخِذ من جِرانه، ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمنَ المجن ... ". فأما الحديث المختصر في القطع وقيمة المجن، ففي "المسند" (ج 2 ص 204) (¬1): "حدثنا نصر بن باب، [2/ 104] عن الحجاج (بن أرطاة)، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا قَطْعَ فيما دون عشرة دراهم". وأخرج الدارقطني (ص 369) (¬2) من طريق أبي مالك الجَنْبي عن حجاج بسنده نحوه. وكذلك من طريق زفر بن الهذيل عن حجاج. وأخرج (¬3) من طريق سلمة بن الفضل "عن حجاج بإسناده: لا يُقطع السارق في أقلَّ من ثمن المجن، وكان ثمنُ المجن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة دراهم". والحجاج بن أرطاة معروف بالتدليس عن الضعفاء, وفيه كلام غير ذلك. وفي "نصب الراية" (¬4): "قال في "التنقيح": والحجاج بن أرطاة مدلّس، ولم يسمع من عمرو هذا الحديث". وابن إسحاق أيضًا مدلِّس، وهو ممن يروي عن الحجاج، فأخلِقْ به أن يكون سمع بعض رواياته لهذا الحديث عن الحجاج عن عمرو بن شعيب، فرواها عن عمرو بن شعيب تدليسًا على تدليس. ¬

_ (¬1) رقم (6900). (¬2) (3/ 192، 193). (¬3) (3/ 193). (¬4) (3/ 359).

لكن قال البخاري في "التاريخ" (ج 1 قسم 2 ص 26): "قال لنا علي: حدثنا يعقوب قال: حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني عمرو بن شعيب أن شعيبًا حدَّثه أن عبد الله بن عمرو كان يقول - وحدثني أن مجاهدًا أخبره أن عبد الرحمن بن أبي ليلى حدَّثه أن ثمن المجن يومئذ عشرة". فهذا اللفظُ الذي في هذه الرواية قويٌّ، لتصريح ابن إسحاق بالسماع. وقال الدارقطني (ص 368) (¬1): "نا أحمد بن علي بن العلاء، نا أبو عبيدة بن أبي السفر، نا أبو أسامة، عن الوليد بن كثير، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: كان ثمن المجن [يومئذٍ] (¬2) عشرة دراهم". وأبو أسامة كان أولاً يدلِّس كما سبق، فإن سَلِمتْ هذه الرواية من تدليسه كانت متابعةً جيدةً لابن إسحاق في هذا اللفظ الذي صرَّح فيه بالسماع. فإن أغمضنا عن اضطراب ابن إسحاق وعن تدليس أبي أسامة قلنا: إنه يثبت أن عمرو بن شعيب روى عن أبيه عن جدِّه هذا القدر الذي اتفقت عليه رواية ابن إسحاق المصرِّحة بالسماع ورواية أبي أسامة عن الوليد بن كثير، وهو: "كان ثمنُ المجن يومئذٍ عشرةَ دراهم". ويبقى النظر في عمرو بن شعيب. وقد لخَّص ابنُ حجر كلامهم فيه بقوله: "ضعَّفه ناس مطلقًا، ووثَّقه الجمهور. ومن ضعَّفه مطلقًا فمحمول على روايته عن أبيه عن جده. فأما روايته عن أبيه، فربما دلَّس ما في الصحيفة ... فإذا قال: حدثني أبي، فلا ريب في صحتها ... وقد صرَّح شعيب بسماعه ¬

_ (¬1) (3/ 191). (¬2) الزيادة من الدارقطني.

من عبد الله بن عمرو في أماكن ... لكن هل سمع منه جميعَ ما روى [2/ 105] عنه، أم سمع بعضَها والباقي صحيفة؟ الثاني أظهر عندي، وهو الجامع لاختلاف الأقوال فيه، وعليه ينحطُّ كلام الدارقطني وأبي زرعة". فإن قيل: فإذا لم يصرِّح بسماعه من أبيه من عبد الله بن عمرو، فغاية ذلك أن يكون من الصحيفة. وقد قال ابن حجر: "قال الساجي: قال ابن معين: هو ثقة في نفسه, وما روى عن أبيه عن جده لا حجة فيه، وليس بمتصل، وهو ضعيف من قِبَل أنه مرسل، وجَدَ شعيب كُتُبَ عبد الله بن عمرو، فكان يرويها عن جدِّه إرسالاً، وهي صحاح عن عبد الله بن عمرو غير أنه لم يسمعها". قال ابن حجر: "فإذا شهد له ابن معين أن أحاديثه صحاح غير أنه لم يسمعها، وصحَّ سماعه لبعضها، فغاية الباقي أن يكون وجادة صحيحة، وهو أحد وجوه التحمل". وذكر بعد ذلك كلامًا ليعقوب بن شيبة، وفيه: "وقال علي ابن المديني: وعمرو بن شعيب عندنا ثقة، وكتابه صحيح". قلت: الساجي لم يدرك ابن معين، وقول ابن المديني: "كتابه صحيح" لعله أراد كتابه الخاص الذي قيَّد فيه سماعاته لا تلك الصحيفة. وقد قال الإِمام أحمد: "له أشياء مناكير، وإنما يُكتب حديثُه يُعتبر به، فأما أن يكون حجة فلا". وقال مرة: "ربما احتججنا به، وربما وَجَس في القلب منه شيء"، كأنه يريد أن يحتج به إذا لم يكن الحديث منكرًا. وفي كلام لأبي زرعة: "ما أقلَّ ما نُصيب عنه مما روى عن غير أبيه عن جده من المنكر! ". وهذا يدل أن في روايته عن أبيه عن جده مناكير غير قليلة. وبذلك صرَّح ابن حبان في "الثقات" (¬1). ¬

_ (¬1) بل في "المجروحين" (2/ 72). ولم يترجم له في "الثقات".

وراجع "أنساب ابن السمعاني" (الورقة 319 ألف) (¬1). وذلك يدل على أحد أمرين: إما أن تكون تلك الصحيفة - مع صحتها في الجملة عن عبد الله بن عمرو - لم تُحفَظ كما يجب، فوقع العبث بها. وإما أن يكون عمرو أو أبوه أو كلاهما كما يدلِّس عن الصحيفة، يدلِّس عن غير الصحيفة. فالذي يتحصل أنَّ ما صرَّح فيه عمرو بالسماع من أبيه، وبسماع أبيه من عبد الله بن عمرو، فإنها تقوم به الحجة. وما لم يصرِّح بذلك ففيه وقفة. ولم أر في شيء من طرق هذا الحديث التصريحَ بسماع أبيه من عبد الله بن عمرو. فأما سماعه من أبيه، فوقع التصريح به في لفظ "كان ثمن المجن يومئذ عشرة دراهم" في رواية ابن إسحاق عن عمرو، ورواية أبي أسامة عن [2/ 106] عمرو، ورواية أبي أسامة عن الوليد بن كثير عن عمرو؛ إلا أن فيه اضطرابَ ابن إسحاق وتدليسَ أبي أسامة، مع عدم التصريح بسماع شعيب. وقد قال الشافعي (¬2) لمن ناظره من الحنفية: "عمرو بن شعيب قد روى أحكامًا توافق أقاويلنا وتخالف أقاويلكم عن الثقات، فرددتموها، ونسبتموه إلى الغلط، فأنتم محجوجون. إن كان ممن ثبت حديثه، فأحاديثه التي وافقناها وخالفتموها أو أكثرها - وهي نحو ثلاثين حكمًا - حجة عليكم، وإلا فلا تحتجُّوا به". وبعد اللَّتيا والتي، إن صحَّ شيء عن عبد الله بن عمرو فهو: "كان ثمن المجن يومئذ عشرة دراهم"، فعلى فرض صحته فهو محمول على الجنس ¬

_ (¬1) (7/ 201). (¬2) في كتاب "الأم" (6/ 345).

كما توضَّحه أكثر الروايات: "كان ثمن المجن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة دراهم". وقد مرَّ أنه لا حجة بذلك بعد قيام الحجة المحققة أن المجن الذي قطع فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت قيمته ثلاثة دراهم. فأما الجملة المرفوعة، ولفظها فيما نسبه الزيلعي وابن كثير إلى "مصنَّف ابن أبي شيبة": "لا يُقطَع السارق في دون ثمن المجن"، وفي النسخة التي وقفتُ عليها من "المصنَّف": "القطع في ثمن المجن"، وفي رواية ابن راهويه، عن ابن إدريس، عن ابن إسحاق، عن عمرو: "ما بلغَ ثمنَ المجن ففيه القطع" = فقد تقدم أنها قطعة من حديث اللقطة الطويل، وقد تقدم رواية ابن إسحاق له عن عمرو. ورواه النسائي (¬1) من طريق ابن عجلان عن عمرو "عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن الثمر المعلَّق قال: ... ومن خرج بشيء منه فعليه غرامةُ مثلَيْه والعقوبة، ومن سرق شيئًا بعد أن يُؤويه الجَرينُ، فبلغ ثمنَ المجن، فعليه القطع ... ". ومن طريق ابن وهب (¬2) "أخبرني عمرو بن الحارث وهشام بن سعد، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو أن رجلاً من مُزينة أتى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله كيف ترى في حَرِيسة الجبل؟ فقال: هي ومثلُها والنكال، وليس في شيء من الماشية قطع إلا فيما آواه المُرَاحُ، فبلغ ثمنَ المجن، ففيه قطع اليد ... ". ¬

_ (¬1) (8/ 85). (¬2) (8/ 86).

ومن طريق عبيد الله بن الأخنس (¬1) "عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: في كم تُقطَع اليد؟ قال: لا تُقطَع اليد في ثمر معلَّق. فإذا ضمَّه الجَرينُ قُطِعت في ثمن المجن، ولا تقطَع في حَرِيسة الجبل، فإذا آوى المراحُ قُطِعت في ثمن المجن". وأخرجه أبو داود (¬2) في "اللقطة" من طرق عن [2/ 107] عمرو، ويظهر منه أن الحديث أطول مما ساقه النسائي. فمدار تلك الجملة المرفوعة على هذا الحديث. ولم أر في شيء من طرقه التصريحَ بسماع عمرو من أبيه، ولا بسماع أبيه من عبد الله بن عمرو. وقد ذكر البيهقي في "السنن" (ج 8 ص 263) حديث رافع بن خديج مرفوعًا: "لا قطعَ في ثَمَرٍ ولا كَثَرٍ" وحديثَ عمرو بن شعيب هذا. فقال ابن التركماني (¬3): "ذكر الطحاوي أن الحديث الأول تلقَّت العلماء متنه بالقبول، واحتجُّوا به. والحديث الثاني لا يحتجون به، ويطعنون في إسناده، ولا سيما ما فيه مما يدفعه الإجماع من غُرم المثلَيْنِ". أقول: وإنما الطعن في إسناده، لمكان عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، فليس للطحاوي أن يحتج بتلك القطعة من هذا الحديث ولا بشيء من رواية عمرو عن أبيه عن جده. وقد أخرج مالك في "الموطأ" (¬4) قطعة من الحديث عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي الحسين المكي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) (8/ 84). وفيه "عبد الله" مكبرًا، خطأ. (¬2) رقم (1710 - 1713). (¬3) في "الجوهر النقي" (8/ 263). (¬4) (2/ 831).

وابن أبي الحسين إنما سمعه من عمرو بن شعيب كما صرَّح به مالك في رواية الشافعي عنه، كما في "مسنده" (¬1) بهامش "الأم" (ج 6 ص 255). وعلى فرض صحة حديث اللقطة، فالمراد بكلمة "المجن" ذاك المجن المعهود الذي قطع فيه النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم، كأنه بعد أن قطع في المجن جاءه ذلك السائل، فاستشعر من سؤاله حرصَه على الالتقاط وما يقرب من السرقة أو يكونها، فشدَّد عليه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بذكر غرامة المثلين وجَلَدات النكال. ثم ذكر له القطعَ، وعدَلَ عن أن يقول: "ما بلغ ثلاثة دراهم" أو "ما بلغ ربع دينار"، ليتنبه السائل لموضع العبرة، ويعلم أن ذلك أمر مفروغ منه، قد نفذ به الحكم وجرى به العمل، ليكون ذلك أبلغ في المقصود من رَدْعه. ولمثل هذا كثر في القرآن ترداد التذكير بأيام الله تعالى في الأمم السابقة. وفي الخبر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تلا على عتبة بن ربيعة أوائل سورة (فصلت)، فلما بلغ {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13)} بادر عتبةُ فوضع يدَه على فم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وناشده الرحمَ أن يكُفَّ (¬2). ¬

_ (¬1) (2/ 84 من ترتيب السندي). وهو في كتاب "الأم" (7/ 376). (¬2) أخرجه البغوي في "تفسيره" (7/ 327) من طريق الحماني ثنا ابن فضيل عن الأجلح عن الذيال بن حرملة عن جابر بن عبد الله. وأعلَّه الحافظ ابن كثير في تفسيره (3197) بالأجلح وهو ابن عبد الله الكندي الكوفي فقال: "وقد ضعف بعض الشيء". قلت: والذيال هذا ترجمه ابن أبي حاتم (1/ 2/ 451) ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا. والحماني هو عبد الحميد بن عبد الرحمن الكوفي قال الحافظ: "صدوق يخطئ". وسيأتي كلام المصنف فيه ص 110 [ص 185]. [ن]. والذي تكلم فيه المصنف هو يحيى بن عبد الحميد الحماني.

وكأن عبد الله بن عمرو حفظ هذا, ولم يبحث عن قيمة ذاك [2/ 108] المجن، ولا بلغه ما يُغني عن ذلك؛ فلما سئل بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - اضطُرَّ إلى الحدس باعتبار الجنس، كما تقدَّم شرحه. وقد علم عبد الله بن عمر بن الخطاب قيمة ذاك المجن على التحقيق. وإذا جاء نهرُ الله بطَلَ نهرُ مَعْقِل (¬1). قال الطحاوي (¬2): "حدثنا فهد، قال ثنا محمَّد بن سعيد ابن الأصبهاني، أخبرني معاوية بن هشام، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد وعطاء، عن أيمن الحبشي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أدنى ما يُقطَع فيه السارق ثمنُ المجن". قال: وكان يُقوَّم يومئذٍ دينارًا". أقول: هذا بهذا اللفظ غريب من هذا الوجه، وابن الأصبهاني كثير الغلط (¬3). وقد قال النسائي في "السنن" (¬4): "حدثنا محمود بن غيلان قال: ¬

_ (¬1) هذا مثل، انظر "ثمار القلوب في المضاف والمنسوب" (ص 30، 31). (¬2) في "معاني الآثار" (3/ 163). (¬3) كذا الأصل، وهو سهو من المصنّف رحمه الله تعالى، أراد أن يقول: "معاوية بن هشام" فسبقه القلم وقال: "ابن الأصبهاني ... " ثم لم ينتبه لذلك، فأعاده في الموضع الآخر ص 110 س 5 [ص 184]، وجلَّ مَن لا يسهو ولا ينسى. أقول هذا لأن ابن الأصبهاني متفق على توثيقه، وهو من شيوخ البخاري في "الصحيح"، ولم يجرحه أحد البتة، ولذلك قال الحافظ في ترجمته من "التقريب": "ثقة ثبت". وأما معاوية بن هشام فهو الذي ينطبق عليه قول المصنف: "كثير الغلط"، وهو أخذه من قول أحمد فيه: "كثير الخطأ"، وقول الحافظ: "صدوق له أوهام" فهو علة هذا اللفظ, حفظه عنه ابن الأصبهاني. [ن]. (¬4) (8/ 82).

حدثنا معاوية قال: حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد وعطاء (¬1)، عن أيمن قال: لم يقطع النبي - صلى الله عليه وسلم - السارقَ إلا في ثمن المجن، وثمن المجن يومئذ دينار". محمود أثبَتُ جدًّا من ابن الأصبهاني. وأخرجه النسائي (¬2) من طريق ابن مهدي، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد، عن أيمن: "لم تكن تُقطَع اليد على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا في ثمن المجن، وقيمته يومئذ دينار". ومن طريق (¬3) محمَّد بن يوسف، عن سفيان، عن منصور (¬4)، عن الحكم، عن مجاهد، عن أيمن مثله. أدخل في هذه الرواية الحكم بين منصور ومجاهد. وكذلك رواه الحسن وعلي ابنا صالح عند النسائي (¬5). وكذلك رواه أبو عوانة وشيبان عند البخاري في "التاريخ" (ج 1 قسم 2 ص 25) كلُّهم عن منصور، عن الحكم، عن مجاهد وعطاء، عن أيمن. ورواه جرير عن [2/ 109] منصور، فلم يذكر الحكَم. أخرجه النسائي (¬6). وكذلك رواه شريك، كما يأتي. والمحفوظ ذكرُ الحكَم، والحكم مدلِّس ولم يصرِّح بالسماع. وأيمن هو أيمن الحبشي كما صُرِّح به في الرواية. ولفظ البخاري في "التاريخ" (¬7): ¬

_ (¬1) في النسخة "عن مجاهد عن عطاء". [المؤلف]. (¬2) (8/ 82). (¬3) (8/ 82). (¬4) "عن منصور" ساقط من (ط)، وهو موجود في المخطوط والنسائي. (¬5) (8/ 83). (¬6) (8/ 83). (¬7) (2/ 25).

قال "قال لنا موسى (بن إسماعيل) عن أبي عوانة - وتابعه شيبان - عن منصور، عن الحكم، عن مجاهد وعطاء، عن أيمن الحبشي ... ". فإما أن يكون هو أيمن الحبشي والد عبد الواحد، كما يدل عليه ما رواه الدارقطني (¬1) من طريق عبد الله بن داود: "سمعت عبد الواحد بن أيمن [يذكر] عن أبيه قال: وكان عطاء ومجاهد قد رويا عن أبيه"، ووالد عبد الواحد تابعي لم يدرك الخلفاء الراشدين؛ وإما أن يكون آخر لا يعرف. فإن قيل: فقد قال النسائي (¬2): "أخبرنا علي بن حجر، قال أنبأنا شريك، عن منصور، عن عطاء ومجاهد، عن أيمن ابن أم أيمن [يرفعه قال: "لا يُقطع إلاَّ في ثمن المجنِّ، وثمنه يومئذٍ دينار". وقال البخاري في "التاريخ" (¬3): "قال لنا أبو الوليد: عن شريك، عن منصور، عن مجاهد وعطاء، عن أيمن ابن أم أيمن] (¬4) - قال أبو الوليد: رفعه: لا يُقطَع السارقُ إلا في مجنٍّ أو حَجَفةٍ قيمته دينار". قلت: شريك - على فضلِه - سيئ الحفظ كثير الغلط. ونسبه الدارقطني وعبد الحق إلى التدليس. وأيمن ابن أم أيمن ليس بحبشي، بل هو - كما نسبه غير واحد - أيمن بن عبيد بن زيد ... بن عوف بن الخزرج. فهو عربي أنصاري. فإن قيل: لعله قيل له: الحبشي, لأن أمه حبشية. ¬

_ (¬1) (8/ 194). (¬2) (8/ 83) وكذا في "السنن الكبرى" (7394). (¬3) (2/ 25 - 26). (¬4) ما بين المعكوفتين ساقط من (ط)، استدركناه من (خ).

قلت: هذا بعيد. ومع ذلك، اختُلف في أم أيمن، نسبها غير واحد كابن عبد البر في "الاستيعاب" (¬1): " ... بنت ثعلبة بن عمرو بن حِصْن بن مالك بن سلمة بن عمرو بن النعمان". فعلى هذا هي عربية لا حبشية. فإن قيل: لعل أمها كانت حبشية. قلت: وما الموجِب لهذا التعسف؟ وقد ذكر أهل المغازي وغيرهم أن أيمن ابن أم أيمن استُشهد يوم حنين. وشريك قد تقدم حاله، وقد تفرَّد بقوله: "ابن أم أيمن"، ويجوز أن يكون زاد ذلك وهمًا، أو يكون قال: "أيمن ابن أم أيمن" كما يقال: "أحمد ابن أم أحمد"، وإن لم تكن كنية أمه أم أحمد. وفي محاورةٍ جرت بين سلمان وحذيفة أن حذيفة قال: يا سلمان ابن أم سلمان. فقال سلمان: يا حذيفة ابن أم حذيفة (¬2). [2/ 110] فلهذا الخبر علتان: الأولى: تدليس الحكم. الثانية: أن أيمن تابعي لم يدرك الخلفاء الراشدين، أو غير معروف. هذا، وقد تفرَّد شريك بقوله: "قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم". وشريك قد تقدم حاله، والأئمة الأثبات لا يذكرون ذلك. ورواية الطحاوي عن فهد، عن ابن الأصبهاني، عن سفيان شاذة، بل باطلة. وابن الأصبهاني كثير الغلط جدًّا (¬3). فإن قيل: فقد قال الطحاوي (¬4): "ثنا ابن أبي داود قال: ثنا يحيى بن ¬

_ (¬1) (4/ 1793). (¬2) أخرجه أحمد في "المسند" (23721). (¬3) قلت: بل هو ثقة حجَّة. والعلة من معاوية بن هشام، كما بيَّنَّاه (ص 108) [ص 181]. [ن]. (¬4) في "معاني الآثار" (2/ 163).

عبد الحميد الحِمَّاني قال: ثنا شريك، عن منصور، عن عطاء، عن أيمن، عن أم أيمن، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يُقطع السارق إلا في حَجَفة"، وقُوِّمت يومئذٍ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة دراهم". قلت: زاد ابن الحِمَّاني ضِغْثًا على إبَّالة. وهو متكلَّم فيه، وإن ألحَّ ابن معين في توثيقه. وفي كتاب "العلل" لابن أبي حاتم (ج 1 ص 457): "سألت أبي عن حديث رواه الحسن بن صالح ... قال أبي: هو مرسل، وأرى أنه والد عبد الواحد بن أيمن، وليست له صحبة. قلت لأبي: قد روى هذا الحديث يحيى الحِمَّاني .. ؟ قال أبي: هذا خطأ من وجهين: أحدهما: أن أصحاب شريك لم يقولوا: عن أم أيمن ... والوجه الآخر: أن الثقات رووه عن منصور عن الحكم عن مجاهد وعطاء عن أيمن قوله". فأما المتن في رواية الجماعة، ففيه جملتان: فالأولى: في رواية سفيان: "لم تكن تُقطَع اليد على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا في ثمن المِجنّ". وفي رواية علي بن صالح: "لم تقطع اليد في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا في ثمن المجن". وفي رواية جرير: "لا يقطع السارق إلا في ثمن المجن". وفي رواية الحسن بن صالح وأبي عوانة وشيبان: "يقطع السارق في ثمن المجن". وسفيان إمام، وعلي ثقة، والباقون جماعة. وقد كان أبو نعيم الفضل بن دكين يقول: "ما رأيت أحدًا إلا وقد غلط في شيء غير الحسن بن صالح". والجملة الثانية: لم تقع في رواية جرير، ولفظها (¬1) في رواية سفيان: "ثمن المجن يومئذ [2/ 111] دينار". وفي رواية الباقين نحوه إلا الحسن بن ¬

_ (¬1) في (ط): "ولفظه". والمثبت من المخطوط.

صالح فلفظها عنده: "كان ثمن المجن في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دينارًا أو عشرة دراهم"، ولعل هذا هو الأصل، فاختصره الجماعة. وعلى كل حال، فهذا من قبيل ما تقدَّم من اعتبار الجنس، وقد ثبت التحقيق بحديث ابن عمر، فسقط الحدس. قال الطحاوي (¬1): "فلما اختُلِف في قيمة المجن الذي قَطَع فيه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - احْتِيطَ في ذلك، فلم يُقطَع إلا فيما أُجمِع أن فيه وفاءً بقيمة المجن التي جعلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقدارًا لا يُقطع فيما هو أقل منها، وهو عشرة دراهم". أقول: قد علمتَ أنه ليس فيما ذكره الطحاوي ما يصلح دليلًا على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بيَّن أنه لا قطعَ فيما دون قيمة ذاك المجن، ولا ما يصلح دليلًا يخالف الحجة الواضحة المحققة أن قيمته ثلاثة دراهم. ثم قال الطحاوي (¬2): "وقد ذهب آخرون إلى أنه لا يُقطع إلا في ربع دينار فصاعدًا، واحتجُّوا على ذلك بما حدثنا يونس، أخبرنا به ابن عيينة ... كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقطع في ربع دينار فصاعدًا. قيل لهم: ليس هذا حجة، لأن عائشة إنما أخبرت عمَّا قَطَع فيه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فيحتمل أن يكون ذلك لأنها قوَّمت ما قُطِع فيه [فكانت قيمته عندها ربع دينارٍ، فجعلت ذلك مقدارَ ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه] (¬3) ". ¬

_ (¬1) "معاني الآثار" (3/ 163). (¬2) (3/ 163، 164). (¬3) زيادة من كتاب الطحاوي لإكمال المعنى. وفي المخطوط بياض مكان كلام الطحاوي كله.

أقول: روى ابن شهاب الزهري وجماعة، عن عمرة، عن عائشة في القطع في ربع دينار، واختلفوا. ثم وقع خلاف عن بعض أصحاب الزهري، ثم وقع خلاف يسير عن ابن عيينة في روايته عن الزهري. وهذا الذي ذكره الطحاوي هو رواية يونس بن عبد الأعلى، عن ابن عيينة، عن الزهري، عن عمرة، عن عائشة. وهكذا رواه جماعة عن ابن عيينة، منهم يحيى بن يحيى عنك مسلم (¬1)، وأحمد في "مسنده" (¬2)، وإسحاقُ وقتيبةُ عند النسائي (¬3). وخالفهم جماعة عن ابن عيينة. قال ابن حجر في "الفتح" (¬4): "أورده الشافعي والحميدي وجماعة عن ابن عيينة بلفظ: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تقطع اليد - الحديث". ولفظ الشافعي كما في "مسنده" (¬5) بهامش "الأم" (ج 6 ص 254): "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: القطع في ربع دينار". ولفظ الحميدي كما ذكره الطحاوي (¬6) فيما بعد: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "تُقطع اليد في ربع دينار فصاعدًا". [2/ 112] وأخرجه الطحاوي (¬7) فيما بعدُ من طريق الحجاج بن منهال عن ابن عيينة، ولفظه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "السارق إذا سرق ربعَ دينار قُطِع". ¬

_ (¬1) رقم (1684). (¬2) رقم (24078) ومن طريقه أبو داود (4383). (¬3) (8/ 78، 79). (¬4) (12/ 102). (¬5) (2/ 83 - ترتيب السندي). وهو في كتاب "الأم" (7/ 372). (¬6) "معاني الآثار" (3/ 166). وهو في "مسند الحميدي" (279) بلفظ: "القطع في ربع دينار فصاعدًا". (¬7) (3/ 167).

ولنجب عن قول الطحاوي: "ليس هذا بحجة"، ثم ننظر في الروايات. فأما الجواب: فإن أراد أن الحديث بذاك اللفظ ليس بحجة على أنه لا قطع فيما دون ربع دينار، فجوابه مبني على رأي أصحابه في إهدار مفهوم المخالفة، ولا شأن لنا به الآن. وإن أراد: ليس بحجة على القطع فيما دون عشرة دراهم، فقد أبطل. قوله: "يحتمل أن يكون ذلك لأنها قَوَّمت ما قطع فيه". قلنا: وعلى هذا الاحتمال يكون حجة. فإن قيل: قد خالفها غيرها. قلنا: كلا، لم يخالفها أحد. فقد اتضح بما تقدم أنه لا يثبت مما ذكره الطحاوي غيرُ حديث ابن عمر، وهو موافق لهذا الحديث؛ لأن صرف الدينار كان حينئذ اثني عشر درهمًا. وقول الحنفية: كان صرفه عشرة دراهم، مردود كما بُيِّن في محلِّه. وهَبْ أنه كان صرفه في وقتٍ ما عشرة، فذلك لا يدفع أن يكون صرفه في وقت آخر اثني عشر. وهَبْ أن صرفه كان في طول العهد النبوي عشرة دراهم، فالفرق نصف درهم. وليس في حديث ابن عمر نفيٌ للقطع فيما دون ثلاثة دراهم. وهَبْ أن عائشة قوَّمت ذاك المجنَّ درهمين ونصفًا، فقد اتفقنا على القطع في ثلاثة دراهم, لأنه إذا قُطِع فيما دونها قُطِع فيها. وأما الروايات، فالواجب أن يُبدَأ باستقصاء النظر في الاختلاف عن ابن عيينة عن الزهري، ثم بالنظر في رواية غيره عن الزهري، ثم برواية غير الزهري عن عمرة. والطحاوي عدل عن هذا، فأخذ إحدى الروايتين عن ابن

عيينة، وهي المخالفة لرواية غيره. وإنما بدأ بها الطحاوي، ثم قال (¬1): حدثنا يونس، أخبرنا ابن وهب قال: أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن عروة وعمرة، عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدًا" (¬2) ثم قال: "يونس بن يزيد عندكم لا يقارب [2/ 113] ابن عيينة". ثم ذكر بعض روايات غير الزهري عن عمرة، وأنهم اختلفوا، فمنهم من رفعه ومنهم من وقفه، وحاول ترجيح الوقف، ثم عاد فذكر رواية الحميدي والحجاج بن منهال عن ابن عيينة، وروايةَ إبراهيم بن سعد عن الزهري بنحوها، ثم قال (¬3): "فلما اضطرب حديث الزهري على ما ذكرنا، واختلف على غيره عن عمرة على ما وصفنا، ارتفع ذلك، فلم تجب الحجة بشيء منه، إذ كان بعضه ينفي بعضًا". كذا قال، حسيبه الله! فلندَعْه، ولنسلكِ الجادة. أما الروايتان عن ابن عيينة، فقد ترجَحُ رواية الشافعي والحميدي ومن وافقهما بأمور: الأول: أن رواتها عن ابن عيينة ممن سمع منه قديمًا. وقد جاء عن يحيى القطان (¬4): "قلت لابن عيينة: كنت تكتب الحديث، وتحدِّث اليوم وتزيد في ¬

_ (¬1) (3/ 164). (¬2) قلت: هذا أخرجه مسلم أيضًا في "صحيحه" (5/ 112) من طرق أخرى قالوا: حدثنا ابن وهب به مرفوعًا بلفظ: "لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدًا". [المؤلف]. (¬3) (3/ 167). (¬4) كما في "تهذيب التهذيب" (4/ 121).

إسناده أو تنقص منه. فقال: عليك بالسماع الأول، فإني قد سئمت" (¬1). كأنه يريد: سئِمَ من مراجعة أصوله. الوجه الثاني: أن من رواتها عنه الشافعي والحميدي، وكان لهما مزيد اختصاص به، وجاء عن الحميدي أنه لزمه سبع عشرة سنة. وقال الإِمام أحمد: "الحميدي عندنا إمام". وقال أبو حاتم: "هو أثبت الناس في ابن عيينة، وهو رئيس أصحابه، وهو ثقة إمام". الوجه الثالث: أن الحميدي لما روى هذا في "مسنده" عن ابن عيينة ذكر كلام ابن عيينة في الحديث، فقال - كما ذكره الطحاوي وقرأتُه في نسخة من "مسند الحميدي" (¬2) -: "عن سفيان قال: حدثنا أربعة عن عمرة عن عائشة لم ترفعه: عبد الله بن أبي بكر، ورزيق بن حكيم الأيلي، ويحيى، وعبد ربه ابنا (¬3) سعيد، والزهري أحفظهم كلهم، إلا أن في حديث يحيى ما قد دل على الرفع: ما نسيتُ ولا طال عليَّ، القطعُ في ربع دينار فصاعدًا". فهذا يدل أن ابن عيينة لما حدَّث الحميديَّ اعتنى بالحديث واحتفل له. وذلك أحرى أن يتحرى التحقيق في روايته، ولعله راجَعَ أصلَ كتابه. الوجه الرابع: أن الذين رووه عن الزهري غير ابن عيينة رووه بلفظ الحميدي عن ابن عيينة عن الزهري أو معناه. الوجه الخامس: أن الذين رووه عن عمرة غير الزهري، رواه أكثرهم بلفظ الحميدي أو معناه أيضًا. ¬

_ (¬1) في التهذيب: "سمنت" تحريف. (¬2) رقم (279). (¬3) (ط): "بن". والمثبت من (خ). ويحيى وعبد ربه كلاهما ابنا سعيد.

[2/ 114] الوجه السادس: أن في "الصحيحين" (¬1) من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: "لم تُقطَع يدُ سارقٍ على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - في أدنى من ثمن المِجَنِّ: تُرْسٍ أو حَجَفةٍ. وكان كل واحد منهما ذا ثمن". فقولها: "تُرس أو حَجفة" يدل أنها لم تعرفه، وإذا لم تعرفه لا يمكنها أن تُقوِّمه. وقولها: "وكان كل واحد منهما ذا ثمن" ظاهر في أنها لم تعرف ثمن ذاك المجن، وإلا لَبيَّنته لتتم الفائدة المقصودة. فإن قيل: لا يلزم من عدم معرفتها بقيمة ذاك المجنّ أن لا تعرف قيمة غيره مما قَطَع فيه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -. قلت: قد قطع النبي - صلى الله عليه وسلم - سارقَ رداءِ صفوان، وكان ثمنه ثلاثين درهمًا (¬2). وقطع يدَ المخزومية التي كانت تستعير الحُلِيَّ وتجحده (¬3). وهاتان الواقعتان ليس فيهما ربع دينار، فكيف تأخذ عائشة منهما أو من إحداهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقطع في ربع دينار. فإن قيل: لعلها أخذت ذلك من واقعة أخرى غير هذه الثلاث. قلت: لا يُعرَف ذلك، ولو كان ذاك عندها لما احتاجت أن تقول ما رواه هشام عن أبيه عنها، بل كانت تذكر ذاك الشيء الآخر الذي عَرَفَتْ قيمته، ¬

_ (¬1) البخاري (6794) ومسلم (1685). (¬2) أخرجه مالك في "الموطأ" (2/ 834) عن صفوان بن عبد الله بن صفوان مرسلًا. ووصله النسائي (8/ 68، 69) وابن ماجه (2595). (¬3) أخرجه مسلم (1688/ 10) من حديث عائشة.

فذلك أوفى بمقصودها من ذكر ما لم تَعرفْه (¬1) ولا عَرفَتْ قيمته. فإن قيل: قد قال النسائي (¬2): "أخبرنا قتيبة، ثنا جعفر بن سليمان، عن حفص بن حسان، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قطع النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في ربع دينار" قلت: جعفر فيه كلام، وحفص مجهول. فإن قيل: فقد يُعكَس عليك الأمر فيقال: لو كان عندها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله: "تُقطَع يدُ السارق في ربع دينار فصاعدًا" أو نحوه لما احتاجت أن تقول ما رواه هشام عن أبيه عنها. قلت: هناك مسألتان: [2/ 115] الأولى: هل يقطع في ربع دينار؟ الثانية: هل يُقطَع فيما دون ذلك؟ فحديثها مرفوعًا: "تُقطَع يدُ السارق في ربع دينار فصاعدًا" يدل على المسألة الأولى بمنطوقه، ولا يدل على الثانية إلا بمفهوم المخالفة. فكأنها لما أرادت الاحتجاج على أنه لا يُقطَع في الشيء التافه، استضعفت أن تخصِّص القرآن بمفهوم المخالفة، فلم تحتجَّ بهذا الحديث، وعدلتْ إلى ما رواه هشام عن أبيه عنها. وكأنها كانت تُجوِّز أن تكون قيمة ذاك المجنّ كانت أقلَّ من ربع دينار، فأخبرت بما عندها، وهو أنه أقلُّ ما يَقطَع فيه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وتركت النظرَ لغيرها. ¬

_ (¬1) (ط): "لم تعرف". والمثبت من (خ). (¬2) (8/ 77).

فإن قيل: فقد جاء في بعض روايات حديث عمرة عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تُقطع اليد إلا في ربع دينار فصاعدًا"، وهذا واضح الدلالة على المسألة الثانية. قلت: هذا اللفظ مرجوح. والمحفوظ: "تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدًا" أو ما في معناه، كما يأتي بيانه إن شاء الله. وكأن من روى بلفظ: "لا تُقطع ... " إنما روى بالمعنى، فصرَّح بمقتضى مفهوم المخالفة. إذا تقرر هذا فلو صحَّ عنها أنها قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقطع اليد في ربع دينار" لوجب حملُه على أنها إنما أخذته من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "تُقطَع يدُ السارق في ربع دينار فصاعدًا"، بناء على أن من شأنه - صلى الله عليه وسلم - أن يوافق فعلُه قولَه، فإذا قال: "تُقطَع يدُ السارق في ربع دينار فصاعدًا"، عُلِمَ منه أنه كان إذا رُفِع إليه في سرقة ربع دينار قَطَع. فان لم يقع القطع بالفعل لعدم الرفع، فهو واقع بالقوة. والحق أن ذاك اللفظ: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَقطَع في ربع دينار فصاعدًا" لا يثبت عن عائشة. ولكن يمكن أن تكون تلك حال ابن عيينة، سمع الحديث بلفظ: "تُقطَعُ يدُ السارق في ربع دينار فصاعدًا"، فرواه تارة كذلك، وذلك حين اعتنى بالحديث عند تحديثه للحميدي كما مرَّ، وتارة بلفظ: "القطع في ربع دينار"، وتارة: "السارقُ إذا سَرَقَ ربع دينار قُطِع"، وتارة: "قالت عائشة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ربع دينار فصاعدًا". والثلاثة الأخيرة كلها من باب الرواية بالمعنى. أما الثاني والثالث، فظاهر. وأما الرابع فلِمَا استقرَّ [2/ 116] في نفس ابن عيينة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قال شيئًا فقد عمل به أو كأنه قد عمل به.

وقد ذكر الطحاوي في "مشكل الآثار" (ج 2 ص 270) (¬1) حديثًا من طريق شجاع بن الوليد عن ابن شبرمة بسنده: "قال رجل: يا رسول الله، أيُّ الناس أحقُّ مني بحسن الصحبة؟ قال: "أمك". قال: ثم مَن؟ قال: "أمك". قال: ثم من؟ قال: "أمك" - ثلاث مرات. قال: ثم مَن؟ قال: "أبوك". ثم رواه (¬2) من طريق ابن عيينة، وفيه ذكر الأم مرتين فقط. ثم قال الطحاوي (¬3): "قد يحتمل أن يكون ابن عيينة ذهب عنه في ذلك ما حفِظه شجاع, لأن ابن عيينة كان يحدِّث من حفظه، وشجاع (¬4) كان يحدَّث من كتابه". وعَبَّرَ عن هذا (¬5) صاحب "المعتصَر" (ج 2 ص 286) (¬6) بعبارة منكرة. وفي "المعتصر" (ج 2 ص 205) في الكلام على حديث: "أخرجُوا يهودَ الحجاز وأهلَ نجران من جزيرة العرب" أن ابن عيينة روى: "أخرِجُوا المشركين من جزيرة العرب" (¬7)، ثم قال في "المعتصر": "ففيه غلط من ابن عيينة, لأنه كان يحدَّث مِن حفظه، فيحتمل أن يكون جعل مكان "اليهود والنصارى": المشركين، إذ لم يكن عنده من الفقه ما يميِّز [به] بين ذلك". كذا في "المعتصر"، وقوله: "إذ لم يكن ... " عبارة بَشِعة لا أرى الطحاوي ¬

_ (¬1) رقم (1666) من حديث أبي هريرة. (¬2) رقم (1670، 1671). (¬3) في "مشكل الآثار" (4/ 371). (¬4) "كان يحدث ... وشجاع" ساقطة من (ط). وهي في (خ) والطحاوي. (¬5) "عن هذا" ساقطة من (ط)، استدركناها من (خ). (¬6) طبعة ثانية. [المؤلف]. (¬7) "مشكل الآثار" (2766) من حديث ابن عباس. وقد أخرجه البخاري (3053، 3168) ومسلم (1637).

يتفوَّه بها (¬1)، وإنما هي من تغيير المختصِر الذي ليس عنده من العلم ما يعرف به مقام ابن عيينة، كما فعل المختصِر في الموضع السابق. والمقصود هنا إنما هو أن ابن عيينة كان كثيرًا ما يروي من حفظه، ويروي بالمعنى. هذا، وصنيع مسلم في "صحيحه" يقتضي أنه لا فرق في المعنى، فإنه صرَّح أولاً بلفظ ابن عيينة الأول (¬2): "قالت عائشة: كان رسول الله ... "، ثم ساق الإسناد عن معمر، وإبراهيم بن سعد، وسليمان بن كثير؛ وقال: "كلهم عن الزهري بمثله"، مع أن لفظ معمر وإبراهيم كلفظ الحميدي عن ابن عيينة، ولفظ سليمان كلفظ الشافعي عن ابن عيينة. أما البخاري، فأعرض عن رواية ابن عيينة البتة، كأنه يقول: اختلفت الرواية عنه، وفي رواية غيره الكفاية. والحق أن رواية الحميدي ومَن وافقه هي أرجح الروايتين عن ابن عيينة، وأنه لو لم يُعرَف أرجحُ الروايتين بصرف النظر عن رواية غيره، فإنه يعرف بالنظر في رواية غيره. فنقول مثلاً: يونس وابن عيينة من جانب، وابن عيينة [2/ 117] وحده من جانب، أيهما أرجح؟ على أن مع يونس جماعة كما يأتي. وفي "فتح الباري" (¬3): "وأما نقلُ الطحاوي عن المحدِّثين أنهم يقدِّمون ابن عيينة في الزهري على يونس، فليس متفقًا عليه عندهم، بل أكثرهم على العكس. وممن جزم بتقديم يونس على سفيان في الزهري: ¬

_ (¬1) بل هو كذلك في "مشكل الآثار" (7/ 192). ولم يغيّره المختصِر. (¬2) رقم (1684/ 1). (¬3) (12/ 102, 103).

يحيى بن معين، وأحمد بن صالح المصري. وذكر أن يونس صحب الزهري أربع عشرة سنة، وكان يزامله في السفر، وينزل عليه الزهري إذا قدم أَيلَة. وكان يذكر أنه كان يسمع الحديث الواحد من الزهري مرارًا. وأما ابن عيينة، فإنما سمع منه سنة ثلاث وعشرين ومائة. ورجع الزهري، فمات في التي بعدها". أقول: أما الحفظ، فابن عيينة أحفظ وأضبط بلا شك، ولاسيَّما فيما رواه قديمًا، إلا أنه كثير الرواية بالمعنى. ويونس دونه في الحفظ، ولكن كتابه صحيح، كما شهد له ابن المبارك وابن مهدي. وعلى كل حال فلا معنى للموازنة بينهما هنا, ولكن الطحاوي لأمرٍ ما ذكر رواية ابن عيينة المرجوحة، وعقَّبها برواية يونس، ونصب الخلافَ بينهما. وقد علمتَ أن الواقع رواية ابن عيينة المرجوحة من جانب، وروايته الراجحة ويونس من جانب؛ فأيُّ معنى للموازنة بين الرجلين؟ أما بقية الرواة عن الزهري فجماعة: الأول: يونس بن يزيد. تقدمت رواية الطحاوي عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب عنه. وبنحوه رواه البخاري في "الصحيح" (¬1) عن ابن أبي أويس عن ابن وهب. وكذلك رواه عن ابنِ وهبٍ: الحارثُ بن مسكين عند النسائي (¬2)، وابن السرح ووهب بن بيان وأحمد بن صالح عند أبي داود (¬3). ¬

_ (¬1) رقم (6790). (¬2) (8/ 78). (¬3) رقم (4384).

ورواه مسلم (¬1) عن حرملة والوليد بن شجاع عن ابن وهب، وقالا في المتن: "لا تُقطَع اليدُ إلا في ربع دينار فصاعدًا". وهذه رواية بالمعنى بالتصريح بمفهوم المخالفة، والأولون أكثر وأثبت. وأخرج الإِمام أحمد في "المسند" (ج 6 ص 36) (¬2) عن عتَّاب، وأخرج النسائي (¬3) عن حبان بن موسى، كلاهما عن ابن المبارك، عن يونس، عن الزهري، عن عمرة، عن عائشة مرفوعًا: "تُقطع اليدُ في ربع دينار فصاعدًا". وهذا أثبت مما تقدم, لأن ابن المبارك أثبت من ابن وهب، وكان يقول: كتاب يونس صحيح. وكان من عادة ابن المبارك تتبُّعُ [2/ 118] أصول شيوخه، فالظاهر أنه أخذ هذا عن يونس من أصل كتابه. ويشهد لذلك أنه لم يذكر عروة، وبقية الرواة عن الزهري غير يونس في رواية ابن وهب لا يذكرون عروة، وحديث عروة عن عائشة ليس بهذا اللفظ. وفي "الفتح" (¬4): "يحتمل أن يكون لفظ عروة هو الذي حفظه هشام عنه، وحمل يونس حديثَ عروة على حديث عمرة، فساقه على لفظ عمرة. وهذا يقع لهم كثيرًا". أقول: وإنما يتصرف يونس هذا التصرف إذا حدَّث من حفظه أو من فرعٍ خرَّجه من أصوله. فأما إذا حدَّث من أصله فإنما يكون على الوجه. فبان بهذا أن ابن المبارك أخذ الحديث عن يونس من أصل كتابه، ولِقوَّة هذه الرواية ¬

_ (¬1) رقم (1684/ 2). (¬2) رقم (24079). وفي (ط): "ص 311" خطأ. (¬3) (8/ 78). (¬4) (12/ 104).

ذكرها الإِمام أحمد عقبَ رواية ابن عيينة، كأنه يشير إلى أن رواية يونس هذه هي الصواب. الثاني: إبراهيم بن سعد. عند البخاري في "الصحيح" (¬1) عن القعنبي عن إبراهيم بمثل رواية ابن المبارك عن يونس. وكذلك ذكره الطحاوي (¬2): "ثنا ربيع المؤذن، ثنا أسد، ثنا إبراهيم". وأخرجه مسلم في "الصحيح" (¬3) عن أبي بكر بن أبي شيبة "ثنا يزيد بن هارون، أخبرنا سليمان بن كثير وإبراهيم ... " ولم يسق المتن. وفي "مصنف ابن أبي شيبة" (¬4): "القطع في ربع دينار فصاعدًا"، وهذا لفظ سليمان. الثالث: سليمان بن كثير. تقدمت روايته قريبًا. الرابع والخامس والسادس: قال البخاري في "الصحيح" (¬5) عقب رواية إبراهيم: "وتابعه عبد الرحمن بن خالد، وابن أخي الزهري، ومعمر". وفي "الفتح" (¬6): "أما متابعة عبد الرحمن .. فوصلها الذهلي في "الزهريات" عن عبد الله بن صالح، عن الليث، عنه نحو رواية إبراهيم ... وأما متابعة ابن أخي الزهري ... فوصلها أبو عوانة في "صحيحه" من طريق يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن ابن أخي ابن شهاب، عن عمه ... وأما ¬

_ (¬1) رقم (6789). (¬2) "معاني الآثار" (3/ 167). (¬3) رقم (1684). (¬4) (9/ 468 , 469). (¬5) رقم (6789). (¬6) (12/ 101).

متابعة معمر، فوصلها أحمد عن عبد الرزاق عنه. وأخرجه مسلم من رواية عبد الرزاق لكن لم يسُقْ لفظه. وساقه النسائي، ولفظه: "تُقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدًا". ووصلها هو أيضًا وأبو عوانة من طريق سعيد بن أبي عروبة عن معمر. وقال أبو عوانة في آخره: قال سعيد: نبَّلنا معمرًا، رويناه عنه [2/ 119] وهو شابٌّ ... وسعيد أكبر من معمر، وقد شاركه في كثير من شيوخه. ورواه ابن المبارك عن معمر لكن لم يرفعه، أخرجه النسائي". أقول: رواية أحمد في "المسند" (ج 6 ص 163) (¬1). ورواية مسلم (¬2) هي عن إسحاق بن إبراهيم وعبد بن حميد عن عبد الرزاق. ورواية النسائي (¬3) هي عن إسحاق عن عبد الرزاق. وكذلك أخرجه البيهقي في "السنن" (ج 8 ص 254) من طريق أحمد بن يوسف السُّلَمي عن عبد الرزاق. ورواية سعيد بن أبي عروبة عند النسائي (¬4) هي عن عبد الوهاب الخفاف عنه. وقد عدُّوا عبد الوهاب من أثبت الناس عن ابن أبي عروبة، لكن ذكر بعضهم أنه سمع من قبل الاختلاط وبعده. وهذا لا يضرُّ هنا، فإن قول سعيد: "نبَّلنا معمرًا، رويناه عنه وهو شاب" يقضي بأن سعيدا روى هذا قديمًا، فإن معمرًا ولد سنة ست أو سبع وتسعين، وسعيد بدأ به الاختلاط أواخر سنة 143، واشتد به قليلاً سنة 145 هـ, واستحكم سنة 148. هذا هو الجامع بين الحكايات المتصلة في ذلك، فأما المنقطعة فلا عبرة بها. ¬

_ (¬1) رقم (25304). (¬2) رقم (1684). (¬3) (8/ 78). (¬4) (8/ 78).

فأما رواية ابن المبارك فهي عند النسائي (¬1) عن سويد بن نصر عنه. وسويد مات سنة 240، وعمره 91 سنة. فقد أدركه الشيخان، ولكنهما لم يخرجا عنه في "الصحيح". وإنما روى له النسائي والترمذي، ووثَّقه النسائي ومسلمة بن قاسم. وقال ابن حبان: "كان متقنًا"، فالله أعلم. وقد روى النسائي (¬2) عنه، عن ابن المبارك، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة قالت: يُقطع في ربع دينار فصاعدًا. وأثبت الروايات عن يحيى ما رواه مالك (¬3) وابن عيينة (¬4) عنه عن عمرة عن عائشة: "ما طال عليَّ ولا نسيتُ: القطعُ في ربع دينار فصاعدًا". فإن لم يكن وهم في روايته عن ابن المبارك عن معمر فالتقصير من معمر. وقد قال الإِمام أحمد (¬5): "حديث عبد الرزاق عن معمر أحبُّ إلى من حديث هؤلاء البصريين (عن معمر)، كان (معمر) يتعاهد كتبه وينظر فيها باليمن (حيث سمع منه عبد الرزاق)، وكان يحدِّثهم حفظًا بالبصرة". وسعيد بن أبي عروبة أقدم سماعًا، فإن لم يكن الوهم من سويد، فكأنَّ معمرًا حدَّث بالحديث مرةً من حفظه حيث سمع منه ابن المبارك فشكَّ في ¬

_ (¬1) (8/ 78). (¬2) (8/ 79). (¬3) في "الموطأ" (2/ 832) ومن طريقه النسائي (8/ 79) والطحاوي (3/ 165) وابن حبان (4462). (¬4) أخرجه من طريقه الحميدي في "مسنده" (280) والنسائي (8/ 79) والطحاوي (3/ 165). (¬5) كما في "تهذيب التهذيب" (6/ 312).

الرفع، فقصَّر به، كما كان يقع مثل هذا لحماد بن زيد. وقد حدَّث به معمر قبل ذلك حيث سمع منه ابن أبي عروبة، فرفعه. وحدَّث به باليمن حيث كان يتعاهد كتبه فرفعه. والإمام [2/ 120] أحمد إنما سمع من عبد الرزاق من أصوله، كما تراه في ترجمة عبد الرزاق من "التهذيب". السابع: زَمْعة بن صالح. في "مسند أبي داود الطيالسي" (ص 220) (¬1): حدثنا زمعة، عن الزهري، عن عمرة، عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: تُقطع يدُ السارق في ربع دينار فصاعدًا". فهؤلاء سبعة رووه عن الزهري كما رواه الحميدي والشافعي وغيرهما عن ابن عيينة عن الزهري. وإنما هناك اختلاف على ابن عيينة ومعمر، وأرجح الروايتين عن كل منهما هي الموافقة للباقين وهَبْ أن الاختلاف عنهما ضارٌّ، فبروايتهما فقط، ويثبت الحديث برواية الباقين. وليس وراء ذلك إلا اختلاف يسير في الألفاظ، مع اتحاد المعنى. فليس في حديث الزهري ما يسوغ أن يسمَّى اضطرابًا، فضلاً عن أن يكون اضطرابًا مُسْقِطًا، كما زعم الطحاوي بقلة مبالاة، مع تشبُّثه بحديث ابن إسحاق الذي تقدم حاله! وأما بقية الرواة عن عمرة فجماعة: الأول: ابن ابن أخيها محمَّد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سعد (¬2) بن زرارة الأنصاري. قال البخاري في ¬

_ (¬1) رقم (1582). (¬2) (ط): "سعدة" خطأ، والتصويب من (خ). وراجع "التهذيب" (9/ 298).

"الصحيح" (¬1): حدثنا عِمران بن ميسرة، ثنا عبد الوارث، حدثنا الحسين (المعلم)، عن يحيى بن أبي كثير، عن محمَّد بن عبد الرحمن الأنصاري، عن عمرة بنت عبد الرحمن حدَّثَته أن عائشة حدثتهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "تُقطَع اليد في ربع دينار". ورواه عن عبد الوارث أيضًا ابنه عبد الصمد، وصرَّح بسماع يحيى بن أبي كثير. ورواه عن يحيى أيضًا حرب بن شداد وهمام بن يحيى، كما في "الفتح" (¬2) عن الإسماعيلي. ورواية حرب في "مسند أحمد" (ج 6 ص 252) (¬3). وكذلك رواه هِقْل بن زياد عن يحيى كما في "الفتح" (¬4) عن "مسند أبي يعلى". وقال النسائي (¬5): "أنا حُميد بن مسعدة، ثنا عبد الوارث، ثنا حسين، عن يحيى بن أبي كثير، عن محمَّد بن عبد الرحمن الأنصاري، ثم ذكر كلمةً معناها: عن عمرة عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تُقطع اليد إلا في ربع دينار". لم يُتقِن حميدٌ بدليل قوله: "فذكر كلمةً معناها"، والصواب: "تُقطع اليد في ربع دينار" كما مرّ. وروى النسائي (¬6) من طريق إبراهيم بن عبد الملك أبي إسماعيل ¬

_ (¬1) رقم (6791). (¬2) (12/ 101). (¬3) رقم (26141). (¬4) (12/ 101). وليس فيه ذكر "مسند أبي يعلى" وإنما عزاه إلى أبي نعيم في "المستخرج". (¬5) (8/ 80). (¬6) (8/ 80).

القنَّاد، عن يحيى بن أبي كثير، [2/ 121] عن محمَّد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن عمرة، عن عائشة: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقطع اليد في ربع دينار. والقنَّاد ليس بعمدة، وذكر الساجي أن ابن معين ضعَّفه. وقال العقيلي: "يهم في الحديث". وقال ابن حبان في "الثقات" (¬1): "يخطئ". فقد وهم في السند بقوله: "بن ثوبان"، ووهم في المتن كما رأيت. الثاني: أبو بكر بن محمَّد بن عمرو بن حزم. رواه عنه جماعة، منهم يزيد بن الهاد عند مسلم في "صحيحه" (¬2) من وجهين، وعند الطحاوي (¬3) من وجهين آخرين، ومنهم عبد الرحمن بن سلمان عند النسائي (¬4)، ومنهم ابن إسحاق عند الطحاوي (¬5) والبيهقي (¬6). وقال في المتن المرفوع: "لا تُقطَع اليد إلا في ربع دينار". وفي رواية البيهقي (ج 8 ص 255) من طريق ابن إسحاق عن أبي بكر: "أُتِيتُ بنبطي قد سرَق، فبعثتْ إليَّ عمرةُ بنت عبد الرحمن: أي بُنيَّ إن لم يكن بلغ ربع دينار فلا تقطعه؛ فإن عائشة حدثتني أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) (6/ 26). (¬2) رقم (1684/ 4). (¬3) (3/ 165). (¬4) (8/ 80). وعبد الرحمن بن سلمان إنما يرويه عن يزيد بن الهاد كما في "السنن الكبرى" (7376) و"التحفة" (17951) وقد سقط "يزيد بن الهاد" من نسخ المجتبى سهوًا. (¬5) (3/ 166). (¬6) في "الكبرى" (8/ 255).

يقول: لا يُقطع في دون ربع دينار". وفي "مسند أحمد" (ج 6 ص 80) (¬1) و"سنن البيهقي" (ج 8 ص 255) من طريق أحمد بن راشد، عن يحيى بن يحيى الغساني قال: "قدمتُ المدينة, فلقيتُ أبا بكر بن محمَّد بن عمرو بن حزم، وهو عامل على المدينة، فقال: أُتِيتُ بسارق (زاد البيهقي: من أهل بلادكم حوراني قد سرق سرقة يسيرة. قال) فأرسلتْ إليَّ خالتي عمرةُ بنت عبد الرحمن أن لا تَعجَلْ ... قال: فأتتْني، فأخبرتْني أنها سمعت عائشة تقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اقطعوا في ربع الدينار، ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك". الأثبت عن عمرة لفظ "تُقطَع اليد في ربع دينار فصاعدًا". وقد دل حديث عروة - كما تقدَّم - على أن هذا هو اللفظ الذي كان عند عائشة، فما وقع في هذه الرواية: "لا تُقطَع اليد إلا ... " ونحوه = من الرواية بالمعنى. والمقتضي لذلك هنا - والله أعلم - أن الحديث يدل على حكمين: الأول: إثبات القطع في ربع دينار. الثاني: نفي القطع فيما دون ذلك. فإذا كان الأول هو الأهم، فحقُّه أن يقال مثلاً: "تُقطع اليد في ربع دينار". وإذا [2/ 122] كان الثاني هو الأهم، فحقُّه أن يقال مثلاً: "لا تُقطع اليد إلا في ربع دينار". وإذا كانا سواءً جُمع بين اللفظين. فلما كان الأهم في الواقعة التي ذكرها أبو بكر هو الحكم الثاني وقع التعبير بما يوافقه. والأشبه أن التصرف من أبي بكر، سمع الحديث في صدد بيان الحكم الثاني، فثبت ¬

_ (¬1) رقم (24515).

في ذهنه بالمعنى المقتضي للفظ الثاني، فعبَّر بذلك. ثم كأنه استشعر حيث أخبر الغساني أن أصل لفظ عمرة يقتضي المعنيين على السواء، فجمع بين اللفظين. وإنما كان لفظ الحديث يقتضي أهمية الأول، والمقام يقتضي أهمية الثاني، فتدبَّرْ. الثالث: سليمان بن يسار. أخرجه مسلم في "الصحيح" (¬1) من طريق ابن وهب، عن مخرمة بن بكير بن الأشج "عن أبيه، عن سليمان بن يسار، عن عمرة أنها سمعت عائشة تحدِّث أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا تُقطَع اليدُ إلا في ربع دينار فصاعدًا". وأخرجه الطحاوي (¬2) عن يونس عن ابن وهب مثله، إلا أنه قال: "يد السارق". قال الطحاوي (¬3): "أنتم تزعمون أن مخرمة لم يسمع من أبيه. حدثنا ابن أبي داود قال: ثنا ابن أبي مريم، عن خاله موسى بن سلمة قال: سألت مخرمةَ بن بكير: هل سمعت من أبيك شيئاً؟ فقال: لا". أقول: قال أبو داود: "لم يسمع من أبيه إلا حديثًا واحدًا، وهو حديث الوتر". فقد سمع من أبيه في الجملة، فإن كان أبوه أذن له أن يروي ما في كتابه ثبت الاتصال، وإلا فهي وجادة؛ فإن ثبت صحة ذاك الكتاب قوي الأمر. ويدل على صحة الكتاب أن مالكًا كان يعتدُّ به. قال أحمد: "أخذ مالك كتاب مخرمة، فكل شيء يقول: بلغني عن سليمان بن يسار، فهو من ¬

_ (¬1) رقم (1684/ 3). (¬2) (3/ 164). (¬3) (3/ 164).

كتاب مخرمة عن أبيه عن سليمان". وربما يروي مالك عن الثقة عنده عن بكير بن الأشج. وقد قال أبو حاتم: "سألت إسماعيل بن أبي أويس قلت: هذا (¬1) الذي يقول مالك: حدثني الثقة - مَن هو؟ قال: مخرمة بن بكير". وأخرج النسائي (¬2) من طريق ابن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن بكير بن الأشج، عن سليمان بن يسار، عن عمرة أنها سمعت عائشة تقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "لا تُقطَع اليد إلا في ثمن المجنِّ". قيل لعائشة: ما ثمنُ المجنِّ؟ قالت: ربع دينار". ومن طريق مخرمة (¬3) عن أبيه [2/ 123] "سمعتُ عثمان بن الوليد (¬4) الأخنسي يقول: سمعت عروة بن الزبير يقول: كانت عائشة تُحدِّث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا تُقطع اليد إلا في المجنّ أو ثمنه"، وزعم أن عروة قال: المجن أربعة دراهم. وسمعتُ سليمان بن يسار يزعم أنه سمع عمرة تقول: سمعتُ عائشة تحدِّث أنها سمعتْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا تُقطع اليد إلا في ربع دينار فما فوقه". أقول: ابن إسحاق في حفظه شيء، ويدلِّس، وكأنه أو مَنْ فوقه سمع الحديث كما ذكره مخرمة عن أبيه، فخلط الحديثين. والصواب حديث مخرمة. فذكرُ المجنّ إنما هو من رواية بُكير عن عثمان بن الوليد عن عروة، ورواية سليمان لا ذِكر فيها للمجن. وعثمان بن الوليد ذكره ابن حبان في ¬

_ (¬1) (ط): "هذا هو". والمثبت من (خ). (¬2) (8/ 81). (¬3) (8/ 81). (¬4) عند النسائي: "بن أبي الوليد". وكلاهما يقال. انظر "التقريب".

"الثقات" (¬1)، وذاك لا يخرجه عن جهالة الحال، لما عُرِف من قاعدة ابن حبان. لكن إن صحت رواية بكير بن الأشج عنه، فإنها تُقوِّيه، فقد قال أحمد بن صالح: "إذا رأيت بكير بن عبد الله (بن الأشج) روى عن رجل فلا تسأل عنه، فهو الثقة الذي لا شك فيه". وهذه العبارة تحتمل وجهين: الأول: أن يكون المراد بقوله: "فلا تسأل عنه". أي: عن ذاك المروي. أي: لا تلتمس لبكير متابعًا، فإنه أي بكيرًا الثقةُ الذي لا شك فيه، ولا يحتاج إلى متابع. الوجه الثاني: أن يكون المراد: فلا تسأل عن ذاك الرجل، فإنه الثقة. يعني أن بكيرًا لا يروي إلا عن ثقة لا شك فيه. والله أعلم. وعلى كل حال، فالصواب من حديث عروة ما في "الصحيحين" (¬2) عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: "لم تُقطَع يدُ سارقٍ على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - في أدنى من ثمن المِجَنِّ: تُرْسٍ أو حَجَفةٍ، وكان كلُّ واحد منهما ذا ثمن". الرابع: أبو الرجال. وهو محمَّد بن عبد الرحمن بن حارثة بن النعمان. قال النسائي (¬3): "أخبرني إبراهيم بن يعقوب، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: حدثنا عبد الرحمن بن محمَّد بن عبد الرحمن ابن أبي الرجال، عن أبيه، عن عمرة، عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يُقطَع يد ¬

_ (¬1) (7/ 193). (¬2) البخاري (6794) ومسلم (1685). (¬3) (8/ 80).

السارق في ثمن المجن، وثمنُ المجن ربع دينار". ذكر ابن حجر هذه الرواية في "الفتح" (¬1) بقوله: "أخرجه النسائي من رواية عبد الرحمن بن [2/ 124] أبي الرجال، عن محمَّد بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عمرة". كذا وقع في النسخة، والصواب إسقاط كلمة "عن" الواقعة قبل "محمَّد". هذا، وأبو الرجال ثقة عندهم، وعمرة أمه. وابنه عبد الرحمن وثَّقه أحمد وابن معين وغيرهما، لكن ليَّنه أبو زرعة وأبو حاتم وأبو داود. وقال ابن حبان في "الثقات" (¬2): "ربما أخطأ". وأُراه خلط حديثين، فإنه لا يُعرَف عن عمرة ذكرُ المجن. وقد دل حديث "الصحيحين" عن عروة أن عائشة لم تكن تَحُقُّ ثمنَ المجن، كما تقدَّم شرحُه. الخامس والسادس والسابع: قال الطحاوي (¬3): "حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني يحيى بن أيوب، عن جعفر بن ربيعة، عن العلاء بن الأسود بن جارية (ويقال: الأسود بن العلاء بن جارية) وأبي سلمة بن عبد الرحمن وكثير بن خُنَيس، أنهم تنازعوا في القطع، فدخلوا على عمرة يسألونها، فقالت: قالت عائشة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يُقطَع إلا في ربع دينار". قال الطحاوي: "أما أبو سلمة فلا نعلم لجعفر بن ربيعة عنه سماعًا, ولا ¬

_ (¬1) (12/ 101). (¬2) (7/ 92). (¬3) "معاني الآثار" (3/ 166). وفيه تصحيف في رجال الإسناد، صححه المعلمي.

نعلمه لقيه أصلاً". أقول: ذكروا أن جعفر بن ربيعة رأى عبد الله بن الحارث بن جَزْء، وعبد الله توفي سنة 86 على الراجح، وقيل: في التي قبلها، وقيل: في التي بعدها، وقيل: بعدها بسنتين؛ فيشبه أن يكون مولد جعفر نحو سنة 75. وقد اختلف في وفاة أبي سلمة، فقيل: سنة 94، وقيل: سنة 104، فاللقاء ممكن. والله أعلم. وكان في المدينة ربيعة الرأى الفقيه، وكان قوله: القطع في ما يبلغ درهمًا، فكأن هذا هو الباعث على ما وقع في بعض الروايات من التعبير عن الحديث بلفظ "لا تُقطع اليد ... " أو نحو ذلك، كما وقع في رواية سليمان بن يسار وغيرها. الثامن: أبو النضر. فيما رواه ابن لهيعة "ثنا أبو النضر، عن عمرة، عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تُقطع يد السارق إلا في ثمن المجن فما فوقه". قالت عمرة بنت [2/ 125] عبد الرحمن: فقلت لعائشة: ما ثمن المجن يومئذ؟ قالت: ربع دينار". أخرجه البيهقي (ج 8 ص 256). وابن لهيعة ضعيف. التاسع: يحيى بن يحيى الغساني. فيما أخرجه الطبراني في "المعجم الصغير" (ص 3 وص 89) (¬1) عن أحمد بن أنس بن مالك الدمشقي المقري، وعن خالد بن أبي روح الدمشقي، كل منهما عن إبراهيم بن هشام بن يحيى بن يحيى الغساني، عن أبيه، عن جده، عن عمرة، عن عائشة ¬

_ (¬1) (1/ 10، 159). والصواب في اسم شيخ الطبراني: "خالد بن روح" كما في مصادر ترجمته.

قالت: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "القطع في ربع دينار فصاعدًا". قال الطبراني: "لم يروه عن يحيى بن يحيى إلا ولده"، زاد في الموضع الثاني: "وهُم ثقات". وإبراهيم بن هشام ذكره ابن حبان في "الثقات" (¬1)، وأخرج له في "صحيحه". لكن طعن فيه أبو حاتم (¬2)، وذكر قصة تدل على أن إبراهيم كان به غفلة. والله أعلم. العاشر: يحيى بن سعيد الأنصاري. وهو أجلُّ (¬3) من كثير من الذين تقدموا، وإنما أخرته لأن بعضهم نسب رواة هذا الحديث عنه إلى الخطأ كما يأتي. قال النسائي (¬4): "أخبرنا الحسن بن محمَّد (بن الصباح الزعفراني)، قال: حدثنا عبد الوهاب (بن عطاء)، عن سعيد (بن أبي عروبة)، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "تُقطع يدُ السارق في ربع دينار فصاعدًا". أخبرني يزيد بن محمَّد بن فضيل قال: أنبأنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا أبان، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: تُقطع يدُ السارق في ربع دينار فصاعدًا". وقال الطحاوي (¬5): "حدثنا محمَّد بن خزيمة، ثنا مسلم بن إبراهيم ... " فساقه مثله. الحسن ثقة من رجال البخاري. وعبد الوهاب من رجال مسلم، وثَّقه ¬

_ (¬1) (8/ 79). (¬2) "الجرح والتعديل" (2/ 142). (¬3) في (ط): "من أجل" خطأ. (¬4) (8/ 79). (¬5) "معاني الآثار" (3/ 164).

جماعة مطلقًا، وليَّنه آخرون. وقدَّموه في روايته عن سعيد، قال الإمام أحمد: "كان عالمًا بسعيد". وسُئل أبو داود عنه وعن السهمي في حديث ابن أبي عَروبة؟ فقال: عبد الوهاب أقدم. فقيل له: عبد الوهاب سمع زمن الاختلاط (يعني اختلاط سعيد). فقال: مَن قال هذا؟ سمعت أحمد يقول: "عبد الوهاب أقدم". وقال ابن سعد: "لزم سعيد بن أبي عروبة، وعُرف بصحبته، وكتب كُتبه ... ". وقال البخاري: "يُكتب حديثه" قيل له: يُحتَج به؟ قال: [2/ 126] "أرجو، إلا أنه كان يدلِّس عن ثور وأقوام أحاديث مناكير". وسعيد ثقة جليل إلا أنه اختلط بأَخَرةٍ، وسماع عبد الوهاب منه قديم. وأما السند الثاني، فشيخ النسائي لم يوثَّق، ولكن قد تابعه محمَّد بن خزيمة كما رأيت. ومسلم ثقة متفق عليه. وأبان من رجال مسلم، وأخرج له البخاري في "الصحيح" (¬1) بلفظ: "قال لنا مسلم بن إبراهيم ثنا أبان ... ". وبالجملة فمجموع السندين صالح للحجة حتمًا. لكن أعلَّه بعضهم بأن مالكًا (¬2) وابن عيينة (¬3) رويا عن يحيى عن عمرة: قالت عائشة: "ما نسيتُ ولا طال عليَّ، القطع في ربع دينار". وبنحوه رواه جماعة عن يحيى. وروى أخوه عبد ربه وعبد الله بن أبي بكر ورُزَيق بن حكيم عن عمرة: قالت عائشة: "القطع في ربع دينار". بل حاول الطحاوي إعلال الحديث من أصله. ¬

_ (¬1) عقب الحديث رقم (2320). (¬2) في "الموطأ" (2/ 832)، ومن طريقه النسائي (8/ 79) والطحاوي (3/ 165) وابن حبان (4462) والبيهقي في "المعرفة" (12/ 371). (¬3) أخرجه الحميدي في "مسنده" (280) والنسائي (8/ 79) والطحاوي (3/ 165) والبيهقي في "المعرفة" (12/ 370، 371).

وأجاب البيهقي (¬1) وغيره بأنه لا منافاة بين أن يكون الحديث عند عائشة، فتخبر به تارة، وتُستفتى فتفتي بمضمونه أخرى. وفي "الموطأ" (¬2) عن عبد الله بن أبي بكر عن عمرة قالت: "خرجت عائشة ... إلى مكة ومعها مولاتان لها ... فسئل العبد عن ذلك فاعترف، فأمرت به عائشة ... فقُطعت يده. وقالت عائشة: القطع في ربع دينار فصاعدًا". ويؤيد الجمعَ أن لفظ المرفوع في أثبت الطرق وأكثرها: "تُقطع اليد في ربع دينار فصاعدًا". ولفظ الموقوف في جميع طرقه إلا ما شذَّ: "القطع في ربع دينار فصاعدًا". وزاد يحيى قبله: "ما طال عليَّ ولا نسيتُ". والمدار في هذا الباب على غلبة الظن، ولا ريب أن من تدبَّر الروايات غلب على ظنه غلبة واضحةً صحةُ كلًّ من الخبرين، وأنه لا تعارض بينهما، وعلم أن الحمل على الخطأ بعيد جدًّا. هذا، وقد قال ابن التركماني (¬3): "قال الطحاوي: حدثني غير واحد من أصحابنا من أهل العلم عن أحمد بن شيبان الرملي، ثنا مؤمَّل بن إسماعيل الرملي (كذا)، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن عمرة، عن عائشة قالت: يُقطع السارقُ في ربع دينار فصاعدًا. قال أيوب: وحدَّث يحيى، عن عمرة، عن عائشة، ورفعه. فقال له عبد الرحمن: إنها كانت لا ترفعه، فترك يحيى رفعه". ¬

_ (¬1) في "المعرفة" (12/ 372). (¬2) (2/ 832، 833). (¬3) في "الجوهر النقي" (8/ 255).

وبمثل هذا السند لا يثبت هذا الخبر عن حماد بن زيد (¬1)، لكن يظهر أن [2/ 127] له أصلاً. فقد تقدم رواية سعيد بن أبي عروبة وأبان بن يزيد، عن يحيى، عن عمرة, عن عائشة مرفوعًا باللفظ الذي رواه الأثبات الذين رفعوا الحديث: "تُقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدًا". وروى مالك وابن عيينة، عن يحيى، عن عمرة أن عائشة قالت: "ما طال عليَّ ولا نسيتُ: القطعُ في ربع دينار". وقوله: "القطع في ربع دينار" هو اللفظ الذي رواه الواقفون، فهذا يدل أنه كان عند يحيى كلا الخبرين، فكان يحدِّث بالمرفوع، فأنكر عليه بعضُ من لم يسمعه وسمع الموقوف، فأعرض يحيى عن رواية المرفوع صوتًا لنفسه عن أن يتهمه مَن لا يعلم حقيقة الحال بالإصرار على الخطأ. هذا، وقد ذكر ابن عيينة رواية عبد الله بن أبي بكر وعبد ربه ورُزَيق ثم قال: "إلا أن في حديث يحيى ما قد دل على الرفع: ما نسيتُ ولا طال عليَّ، القطع في ربع دينار". اعترضه (¬2) الطحاوي بقوله: "قد يجوز أن يكون معناها في ذلك: ما طال عليَّ ولا نسيتُ ما قطع فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - مما كانت قيمته عندها ربع دينار". أقول: قد مرَّ دفعُ الاحتمال، وبيانُ أنه لا يُعرف فيما قطع فيه النبي ¬

_ (¬1) قلت: يعني لأن مؤمل بن إسماعيل سيئ الحفظ، كما سبق في ترجمته من الكتاب برقم (252). وهو بصري نزيل مكة. فالظاهر أن الذي عند الطحاوي (الرملي) صوابه: (المكي). والله أعلم. [ن]. (¬2) في (ط): "اعترف به". والمثبت من (خ). وقول الطحاوي في "معاني الآثار" (3/ 165).

صلى الله عليه وآله وسلم ما هو قليل إلا المجن. وقد دل حديث "الصحيحين" (¬1) عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة على أنها لم تكن تعرف المِجنَّ ولا قيمته. وبهذا يتبين أن رواية عبد الله بن أبي بكر وعبد ربه ورُزَيق تدل أيضًا على الرفع، فإن التقدير بربع دينار ليس مما يقال بالرأي، ولا يُعرف ما تأخذ عائشة منه ذلك إلا ما ثبت عنها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قوله. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. ثم جعجع الطحاوي بما عُلِم ردُّه مما تقدَّم، ثم قال (¬2): "فلما اضطرب حديث الزهري على ما ذكرنا، واختُلِف على غيره عن عمرة كما وصفنا، ارتفع ذلك كله: فلم تجب الحجة بشيء منه إذ كان بعضه ينقض بعضًا". [2/ 128] كذا قال، وقد أقمنا الحجة الواضحة على أنه لا اضطراب ولا تناقض (¬3). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) (3/ 167). (¬3) قلت: ومما يُسهَّل على القارئ المنصف تبيّن سقوط كلام الطحاوي أنه لو سلمنا جدلًا بصحة ما ادعاه من الاضطراب في الحديث فهي محصورة في الطرق التي ساقها هو إلى الزهري، ومَن تابعه في روايته عن عمرة, ولكن الطحاوي لم يستوعب الطرق كلها أو جلَّها إليه وإليها، كما فعل المصنف جزاه الله خيرًا، فقد ذكر متابعة عشرة من الثقات للزهري عن عمرة عن عائشة. وكلهم اتفقوا على رفعه، إلا يحيى بن سعيد في إحدى الروايات عنه، وهي في حقيقتها لا تخالف الروايات الأخرى المرفوعة، وهَبْ أن الرواية عند يحيى مضطربة أيضًا. ففي الروايات التسع ما يكفي ويشفي، وكلها متفقة على الرفع، وبأقل من ذلك يثبت الرفع كما لا يخفى على المنصف، وهي وإن اختلفت في ضبط المتن، هل هو "تقطع اليد ... " أو "لا =

ثم قال: "ورجعنا إلى أن الله عَزَّ وَجَلَّ قال في كتابه: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] فأجمعوا أن الله عَزَّ وَجَلَّ لم يَعْنِ بذلك كل سارق، وإنما عني به خاصًّا ... فلا يدخل إلا ما قد أجمعوا أن الله تعالى عناه، وقد أجمعوا أن الله تعالى عنى سارق العشرة الدراهم". أقول: عليه في هذا أمور: الأول: دعواه الإجماعَ غير مقبولة. وفي "الفتح" (¬1) في تعداد المذاهب: "الأول: يُقطع في كل قليل وكثير، تافهًا كان أو غير تافه. نُقِل عن أهل الظاهر والخوارج، ونُقل عن الحسن البصري. وبه قال أبو عبد الرحمن ابن بنت الشافعي ... الثالث: مثل الأول إلا إن كان المسروق شيئًا تافهًا، لحديث عروة الماضي: "لم يكن القطع في شيء من التافه"، ولأن عثمان قَطَع في فخارة خسيسة، وقال لمن يسرق السياط: لئن عُدْتم لأقطعنَّ فيه. وقطع ابن الزبير في نعلين. أخرجهما ابن أبي شيبة (¬2). وعن عمر بن عبد العزيز أنه قطع في مُدٍّ أو مُدَّين. الرابع: تُقطع في درهم فصاعدًا. وهو قول عثمان البتِّي ... من فقهاء البصرة، وربيعة من فقهاء المدينة ... ". وأقول: لا أرى هذه المذاهب الثلاثة إلا متفقةً على إبقاء الآية على ¬

_ = تقطع ... " والمؤلف رجح الأول، وقد يمكن ترجيح الآخر بقاعدة: "زيادة الثقة مقبولة"، وسواء كان هذا أو ذاك، فالحجة في الحديث قائمة على أن اليد تقطع في ربع دينار، وذلك ما لا يقوله الطحاوي تبعًا لمذهبه. والله المستعان. [ن]. (¬1) (12/ 106). (¬2) "المصنف" (9/ 473).

عمومها. وإنما المدار على تحقُّق اسمِ "السارق"، فإنه لا ريب أن عمومها إنما يتناول من يحقُّ عليه اسمُ "السارق"، ولا ريب أنَّ مَن أخذ لوزةً أو تمرةً أو نحو ذلك لا يتبيَّن أنه يحقُّ عليه اسمُ "السارق". وهذا لازم [2/ 129] للمذهب الأول، إذ يمتنع أن يقول عالم أن مَن أخذ حبةَ بُرًّ مثلًا حقَّ عليه اسم "السارق". وأما المذهب الثالث، فلعل قائله نحا هذا المنحى أي أن الشيء التافه الذي لا يتبين أنه يحقُّ على آخذه اسمُ "السارق" = لا يتبيَّن دخولُه في الآية، والقطع إنما هو على من يتبيَّن دخولُه فيها. وأما المذهب الرابع، فالبتَّي وربيعة الرأي كانا ممن يتفقَّه ويتعانى الرأيَ والنظر، فكأنهما رأيا أن التفاهة التي لا يتبيَّن بها الدخول في الآية معنًى غيرُ منضبط، فرأيا ضبطَها بالدراهم. الأمر الثاني: هَبْ أنه سلِمَ للطحاوي ما ادعاه من الإجماع، فقد علِمنا أن ظاهر القرآن وجوبُ القطع على كل سارق، وظاهر القرآن حجة قطعًا. ويوافقه حديث "الصحيحين" (¬1): "لعن الله السارقَ يسرق البيضةَ فتُقطَع يدُه، ويسرق الحبلَ فتُقطَع يدُه". وهذه الحجة لا يجوز الخروج عنها إلا بحجة. فإن لم يثبت من السنة ما يوجب إخراج شيء من ذاك العموم رجعنا إلى الإجماع، فإن كان هناك إجماع على خروج شيءٍ خَرجَ ذاك الشيء. فأما ما اختلُف فيه، فقيل بخروجه، وقيل ببقائه؛ فهو باقٍ على ظاهر القرآن؛ لأن القائلين بخروجه بعض الأمة، وليس في قول بعض الأمة حجةٌ يُترَك بها ظاهرُ القرآن. فإن قيل: فقد اختلف النُّظَّارُ في العامَّ الذي قد خُصَّ، فقال بعضهم: إنه ¬

_ (¬1) البخاري (6783، 6799) ومسلم (1687) من حديث أبي هريرة.

لا يبقى حجة في الباقي. قلت: هذا قول مخالف لإجماع السلف، وقد رغب عنه الحنفية أنفسهم، وتمام الكلام في ردِّه في أصول الفقه. الأمر الثالث: هَبْ أنه قويتْ دعوى الإجماع، وقوي ما يترتب على ذلك من دعوى أن الآية صارت مجملة؛ ففي السنة الثابتة ما يكفي. فقد صحَّ حديث ابن عمر، واندفع ما عورض به. وصحَّ حديث عائشة، وبطلت دعوى اضطرابه. فثبت القطعُ في ثلاثة دراهم، وفي ربع دينار. وبقي النظر فيما هو أقل من ذلك، وليس هذا موضع البحث فيه. ثم ذكر الطحاوي (¬1) خبرَ المسعودي، عن القاسم، عن ابن مسعود: "لا تُقطَع اليد إلا في دينار أو عشرة دراهم". ورواه بعضهم (¬2)، عن المسعودي، عن القاسم، عن أبيه. والمسعودي اختلط. ثم هو منقطع, لأن القاسم لم يدرك ابن مسعود. وكذلك أبوه عبد الرحمن، نفى جماعةٌ سماعَه من [2/ 130] ابن مسعود، وأثبت بعضهم سماعَه منه لأحرفٍ معدودة ذكرها ابن حجر في "طبقات المدلسين" (ص 13)، ثم قال: "فعلى هذا يكون الذي صرَّح فيه بالسماع من أبيه (ابن مسعود) أربعة، أحدها موقوف. وحديثه عنه كثير ... معظمها بالعنعنة، وهذا هو التدليس". ¬

_ (¬1) في "معاني الآثار" (3/ 167). وأخرجه أيضًا عبد الرزاق في "المصنف" (18950) وابن أبي شيبة (9/ 474) والطبراني في "الكبير" (9742). (¬2) أخرجه الطبراني في "الأوسط" (7142) والدارقطني (3/ 193).

أقول: وليس هذا الخبر من تلك الأربعة. وروى الثوري (¬1) عن "حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم قال: قال عبد الله: لا تُقطَع اليدُ إلا في تُرْس أو حَجَفة. قلت لإبراهيم: كم قيمته؟ قال: دينار". والثوري يدلِّس. وحماد سيئ الحفظ، حتى قال حبيب بن أبي ثابت: "وكان حماد يقول: قال إبراهيم. فقلت: والله إنك لتكذب أو إن إبراهيم ليخطئ". وقد قال حماد نفسه لما قيل له: قد سمعتَ من إبراهيم؟: "إن العهد قد طال بإبراهيم". وإبراهيم عن عبد الله منقطع. وما روي عنه (¬2) أنه قال: "إذا قلت: قال عبد الله، فهو عن غير واحد عن عبد الله" لا يدفع الانقطاع، لاحتمال أن ¬

_ (¬1) أخرجه من طريقه ابن أبي شيبة (9/ 475). (¬2) قلت: تصدير المصنف رحمه الله لقول إبراهيم المذكور بقوله: "روي" مما يشعر اصطلاحًا بأنه لم يثبت عنده, ولعل عذره في ذلك أنه لم يقف على إسناده، وإلا لجزم بصحته، فقد أخرجه ابن سعد في "الطبقات" (6/ 190): أخبرنا عمرو بن الهيثم أبو قطن قال: حدثنا شعبة عن الأعمش قال: قلت لإبراهيم: إذا حدثتني عن عبد الله فأسند، قال: إذا قلت: قال عبد الله، فقد سمعته من غير واحد من أصحابه، وإذا قلت: حدثني فلان، فحدثني فلان". وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات، وقد أخرجه أبو زرعة الدمشقي في "تاريخ دمشق" (ق 131/ 2): حدثنا أحمد بن شبويه قال: حدثنا عمرو بن الهيثم به, إلا أنه قال: "فحدثني وحده". أقول: وإذا تأمل الباحث في قول إبراهيم "من غير واحد من أصحابه" يتبين له ضعف بعض الاحتمالات التي أوردها المصنف على ثبوت رواية إبراهيم إذا قال: قال ابن مسعود، فإن قوله: "من أصحابه" يبطل قول المصنف: "أن يسمع إبراهيم من غير واحد ممن لم يلق عبد الله"، كما هو ظاهر. وعذره في ذلك أنه نقل قول إبراهيم هذا من "التهذيب"، ولم يقع فيه قوله: "من أصحابه" الذي هو نص في الاتصال. [ن].

يسمع إبراهيم من (¬1) غير واحد ممن لم يلق عبد الله، أو ممن لقيه وليس بثقة (¬2)، واحتمالِ أن يغفُلَ [2/ 131] إبراهيم عن قاعدته، واحتمالِ أن تكون قاعدته خاصة بهذا اللفظ "قال عبد الله"، ثم يحكي عن عبد الله بغير هذا اللفظ ما سمعه من واحد ضعيف، فلا يتنبه مَن بعده للفرق، فيرويه عنه بلفظ "قال عبد الله"، ولاسيَّما إذا كان فيمن بعده مَن هو سيئ الحفظ كحماد. وفي "معرفة علوم الحديث" للحاكم (ص 108) من طريق "خلف بن سالم قال: سمعت عدة من مشايخ أصحابنا تذاكروا كثرة التدليس والمدلَّسين، فأخذنا في تمييز أخبارهم، فاشتبه علينا تدليس الحسن بن أبي الحسن، وإبراهيم بن يزيد النخعي ... وإبراهيم أيضًا يُدخل بينه وبين أصحاب عبد الله مثل هُنَيّ بن نويرة، وسهم بن مِنجاب، وخِزامة الطائي، وربما دلَّس عنهم". وقد ذكر الأستاذ (ص 56) قول يحيى الحِمَّاني: "سمعت عشرة كلُّهم ثقات يقولون: سمعنا أبا حنيفة يقول: القرآن مخلوق". فقال الأستاذ: "قول الراوي: سمعت الثقة، يُعَدُّ كرواية عن مجهول، وكذا الثقات". وما روي عن أبي حنيفة عن حماد عن إبراهيم: "لا تُقطَع اليدُ في أقل من ثمن الحَجَفة، وكان ثمنها عشرة دراهم" قولُ إبراهيم، وقد يكون إنما ¬

_ (¬1) (ط): "عن". والمثبت من (خ). (¬2) قلت: هذا فيه بُعد. فإننا لا نعلم في أصحاب ابن مسعود المعروفين مَن ليس بثقة، ثم إن عبارته المتقدمة مِنّا آنفًا صريحة في أنه لا يسقط الواسطة بينه وبين ابن مسعود إلا إذا كان الذي حدثه عنه أكثر من واحد من أصحابه. فكون الأكثر منهم - لا الواحد - غير ثقة بعيد جدًّا. لا سيَّما وإبراهيم إنما يروي كذلك مشيرًا إلى صحة الرواية عن ابن مسعود. والله أعلم. [ن].

أخذ من عمرو بن شعيب، أو مما روي عن مجاهد وعطاء، وقد تقدَّم ما فيه. وقد روى الثوري (¬1) أيضًا عن عيسى بن أبي عزة، عن الشعبي، عن ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع في مجنٍّ ثمنه خمسة دراهم. قال ابن التركماني (¬2): "فيه ثلاث علل: الثوري مدلِّس وقد عنعن. وابن أبي عزة ضعَّفه القطان، وذكره الذهبي في كتابه في "الضعفاء". والشعبي عن ابن مسعود منقطع". أقول: أما الأولى فنعم، وأما الثانية فإنما حكى ذلك العُقَيلي (¬3)، وهو لم يدرك القطَّان (¬4)، [2/ 132] ومع ذلك فهو جرح غير مفسَّر، وابن أبي عزة وثَّقه أحمد وابن معين وابن سعد. فأما الذهبي، فمعلوم أن قاعدته أن يذكر في "الميزان" (¬5) كلَّ مَن تُكُلِّم فيه، ولو كان الكلام يسيرًا لا يقدح. وأما ¬

_ (¬1) أخرجه من طريقه ابن أبي شيبة في "المصنَّف" (9/ 469) وأبو داود في "المراسيل" (243) والنسائي (8/ 82). (¬2) في "الجوهر النقي" (8/ 262). (¬3) في "الضعفاء الكبير" (3/ 390). (¬4) كذا قال المصنف رحمه الله، وعُمدتُه في ذلك قول الحافظ في "التهذيب": "وذكره العقيلي في "الضعفاء" وقال: ضعَّف حديثه يحيى بن سعيد القطان", فإن ظاهره أن العقيلي حكى التضعيف ولم يروه بسنده كما هو الغالب عليه وعلى أئمة الجرح والتعديل، ولكن الواقع خلاف ذلك، فقد قال العقيلي في كتابه المذكور: "حدثنا محمَّد بن عيسى، قال حدثنا صالح بن أحمد، قال: حدثنا علي، قال سألت يحيى عن حديث عيسى بن أبي عزة (قلت: فذكره وقال:) فضعَّف الحديث". [ن]. وعلي هو ابن المديني الحافظ، وقد تقدمت ترجمته برقم (162). (¬5) قلت: "الميزان" غير "الضعفاء"، وهذا هو الذي عزى إليه ابن التركماني تضعيف =

الثالثة فنعم، ولكن الشعبي جيِّد المرسَل، قال العجلي: "لا يكاد الشعبي يُرسل إلا صحيحًا". وقال الآجري عن أبي داود: "مرسل الشعبي أحبُّ إليَّ من مرسل النخعي". والظاهر أنه إن صح عن ابن مسعود شيء، فهو في ذكر القطع في المجنِّ مطلقًا. وأما التقويم، [2/ 133] فممن بعده أخذًا من حديث أنس عن أبي بكر وسيأتي، أو يكون ابن مسعود إنما ذكر قطع أبي بكر. ¬

_ = القطان. وجواب المصنف يشعر بأنه هو "الميزان" نفسه، وليس كذلك، فإنهما كتابان، قاعدته في الأول منهما كما ذكره المصنف، وقاعدته في الآخر كما نص عليه هو في مقدمته: "فهذا ديوان أسماء الضعفاء والمتروكين، وخلق من المجهولين، وأناس ثقات فيهم لين". وقد طبع أخيرًا بتحقيق الشيخ حماد الأنصاري، وطريقته فيه, إما أن يذكر رأيه في المترجم، كأن يقول فيه: "ضعيف" أو "متروك" أو "متهم" ونحوه، كما هو أسلوب الحافظ ابن حجر في "التقريب". وإما أن ينقل الجرح عن بعض الأئمة، كأن يقول: "ضعَّفه الدارقطني" أو "قال النسائي: ليس بقوي" أو "قال أبو حاتم: لا يحتج به" وهكذا، فكل من يورده فيه ضعيف إلا أفرادًا قليلين يصرح بتوثيقهم، إما تمييزًا وإما لدفع التهمة عنه، فمن الأول قوله: "إبراهيم بن نافع الحلاب البصري قال أبو حاتم: كان يكذب. أما إبراهيم بن نافع عن عطاء المكي فثقة". ومن الآخر قوله: "أحمد بن الحسن بن خيرون، ثقة حافظ تكلم فيه ابن طاهر بكلام بارد، وهو أوثق من ابن طاهر بكثير"، وقد لاحظنا أنه كثيرًا ما يختلف اجتهاده في هذا الكتاب، عنه في "الميزان"، ومن الأمثلة القريبة على ذلك، عيسى بن أبي عزة هذا، فإنه حكى فيه تضعيف القطان له، ثم توثيق جماعة من الأئمة له، ثم ختم ذلك برأيه فيه فقال: "حديثه صالح". وهذا معناه أنه مقبول عنده، ومع ذلك أورده في ديوانه "الضعفاء" وضعَّفه بقوله: "قال القطان: حديثه ضعيف". والظاهر أن المصنف لم يراجع "الميزان" حين كتب الجواب، وإلا لكان يجد فيه ردًّا أقوى في قول الذهبي: "حديثه صالح"، وذلك بيِّن لا يخفى. والمعصوم مَن عصمه الله. [ن].

وروى الشافعي (¬1) عن ابن عيينة عن حميد الطويل قال: "سمعت قتادة يسأل أنس بن مالك عن القطع. فقال: حضرتُ أبا بكر قَطَع سارقًا في شيء ما يسوَى ثلاثة دراهم. أو: ما يسرُّني أنه لي بثلاثة دراهم". وقد رواه أبو حاتم الرازي، عن الأنصاري، عن حميد. وفيه: "ما يسرُّني أنه لي بثلاثة دراهم" بدون شك. أخرجه البيهقي (¬2). ولا يلزم من قول أنس: "ما يسرني ... " أن تكون القيمة أقل من ثلاثة دراهم؛ فإنَّ من لا يحتاج إلى سلعة لا يسرُّه أنها له بقيمة مثلها، وإنما يسرُّه أن تكون بأقل من قيمتها, ليبيعها فيربح فيها، أو يدَّخرها لوقت الحاجة. وقد روى قتادة عن أنس قصة أخرى، وهي أنه قُطِع في مجنٍّ قيمته خمسة دراهم. رواه النسائي (¬3) والبيهقي في "السنن" (ج 8 ص 259) من طريق الثوري، عن شعبة، عن قتادة. ورواه النسائي (¬4) أيضًا من طريق أبي داود الطيالسي قال: "حدثنا شعبة عن قتادة قال: سمعت أنسًا يقول: سرق رجل مجنًّا على عهد أبي بكر، فقُوِّم خمسةَ دراهم، فقُطِع". ورواه أبو هلال محمَّد بن سليم عن قتادة فقال: "عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ... ". وأبو هلال ليس بعمدة، ولا سيَّما في قتادة. ورواه هشام عن قتادة فوافق أبا هلال. وسئل هشام مرةً فقال: "هو عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإلا فهو عن أبي بكر". ورواه عبد الوهاب بن عطاء، عن سعيد، عن قتادة، عن أنس أن أبا بكر قطَع في ¬

_ (¬1) في كتاب "الأم" (7/ 321، 373). (¬2) في "الكبرى" (8/ 259). (¬3) (8/ 77). (¬4) (8/ 77).

مجنٍّ قيمته خمسة دراهم، أو أربعة دراهم. شكَّ سعيد. وصوَّب النسائي وغيره رواية شعبة، وذلك واضح. ومن أحبَّ تتبُّعَ هذه الروايات، فليراجع "سنن النسائي"، و"سنن البيهقي" (¬1). وفي "مصنف ابن أبي شيبة" (¬2) عن شريك، عن عطية بن مِقْسم، عن القاسم بن عبد الرحمن قال: "أُتيَ عمرُ بسارق، فأمر بقطعه. فقال عثمان: إن سرقته لا تساوي عشرة دراهم، قال: فأمرَ به عمرُ، فقُوِّمتْ ثمانيةَ دراهم، فلم يقطعه". القاسم لم يدرك عمر ولا كاد. وعطية مجهول الحال. وشريك سيئ الحفظ، ونسبه بعضهم إلى التدليس، كما مضى. ورواه الثوري (¬3)، عن عطية بن عبد الرحمن الثقفي، عن القاسم قال: "أُتيَ عمرُ بن الخطاب بسارق قد سرَق ثوبًا، فقال لعثمان: [2/ 134] قوِّمه، فقوَّمه ثمانية دراهم، فلم يقطعه". ويؤخذ من كلام البخاري وأبي حاتم (¬4) أن عطية هذا هو الذي روى عنه شريك. فإن صحَّ هذا، فهو مجهول الحال، وإلا فكلاهما مجهول، ولو صحت القصة، فلفظ الثوري أقرب، ويكون تركُ القطع لمانع آخر كشبهة ظهرت. وسيأتي عن عثمان أنه قطَع في أُتْرُجَّة قُوِّمَتْ ثلاثةَ دراهم، ومرَّ عنه أنه قطع في فخارة خسيسة، فكيف يقول ما وقع في لفظ شريك! ¬

_ (¬1) انظر النسائي (8/ 77) والبيهقي (8/ 259، 260). (¬2) (9/ 476). وفي بعض النسخ: "وكيع" بدل "شريك". (¬3) أخرجه من طريقه عبد الرزاق في "المصنف" (18953) والبيهقي (8/ 260). (¬4) انظر "التاريخ الكبير" (7/ 10) و"الجرح والتعديل" (6/ 383).

وفي "نصب الراية" (ج 3 ص 363) أن في "مصنف عبد الرزاق" (¬1): "عن معمر، عن عطاء الخراساني أن عمر بن الخطاب قال: مَنْ أخذ من الثمر شيئًا، فليس عليه قطعٌ حتى يأويَ الجرين، فإن أخذ منه بعد ذلك ما يساوي ربعَ دينار قُطِع". عطاء الخراساني لم يدرك عمر، لكن هذا أقوى من رواية عطية. وفي "الفتح" (¬2): "أخرجه ابن المنذر عن عمر بسند منقطع أنه قال: إذا أخذ السارق ربعَ دينار قُطِع". وفيه (¬3) أن ابن المنذر أخرج من طريق منصور، عن مجاهد، عن ابن المسيب، عن عمر: "لا تُقطَع الخمسُ إلا في خمس". ابن المسيب عن عمر منقطع، إلا أنه جيد، لكن لا نعلم كيف السند إلى منصور؟ وأخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (¬4) من طريق قتادة عن ابن المسيب، وقتادة مشهور بالتدليس. وروى مالك في "الموطأ" (¬5)، وابن عيينة - كما في "مصنف ابن أبي شيبة" (¬6) - عن عبد الله بن أبي بكر عن عمرة أن سارقًا سرَقَ في زمن عثمان أترجَّةً، فأمر بها عثمان أن تُقوَّم، فقُوِّمت ثلاثَة دراهم من صرف اثني عشر درهمًا بدينار، فقطَع عثمان يدَه". وعمرة يقال: إنها ماتت سنة 98، وعمرها سبع وسبعون سنة. فعلى هذا يكون سنُّها لمقتل عثمان فوق أربع عشرة سنة. ¬

_ (¬1) رقم (18918). (¬2) (12/ 107). (¬3) المصدر نفسه. (¬4) (9/ 472). (¬5) (2/ 832)، ومن طريقه الشافعي في "الأم" (7/ 320، 373) والبيهقي (8/ 262). (¬6) (9/ 472).

وقد جاء عن عثمان ما هو أشدُّ من هذا، كما تقدم. وروى حاتم بن إسماعيل كما في "مصنف ابن أبي شيبة" (¬1)، وسليمان بن بلال كما في "سنن البيهقي" (¬2) عن جعفر بن محمَّد بن علي بن الحسين بن أبي طالب، عن أبيه، عن علي رضي الله عنه أنه قطَع يد سارق في بَيضة حديد ثمنُها ربع دينار. وقال الشافعي في "الأم" (ج 6 ص 116) (¬3): "أخبرنا أصحاب جعفر، عن جعفر، عن أبيه أن عليًّا رضي الله عنه قال: القطع في ربع دينار". محمَّد بن علي لم يدرك عليًا، لكن لم يعارِض هذا عن علي ما هو أقوى منه. وإنما ذكر البيهقي [2/ 135] في "السنن" (ج 8 ص 261) أثرًا عن علي فيه: "لا تقطع اليد إلا في عشرة دراهم". ثم قال: "هذا إسناد يجمع مجهولين وضعفاء" (¬4). فقال ابن التركماني (¬5): "قد جاء من وجه آخر ¬

_ (¬1) (9/ 470). (¬2) (8/ 260). (¬3) (7/ 323) ط. دار الوفاء. (¬4) قلت: بل هو ضعيف جدًا، فإن مِن رواته جويبرًا وهو ابن سعيد البلخي أورده الذهبي في "الضعفاء" وقال: "متروك الحديث". وقال الحافظ في "التقريب": "ضعيف جدًّا". قلت: ومع هذا فهو خير من الحسن بن عمارة الآتي روايته، فإنه لم يُنسب إلى كذب أو وضع، بخلاف ابن عمارة، فإنه أشد ضعفًا منه، قد نسبوه إلى الوضع كما يأتي في الكتاب، وقال الإِمام أحمد: أحاديثه موضوعة. فهل خفي هذا على ابن التركماني حتى زعم أن روايته أجود من رواية جويبر، أم هو التعصب للمذهب؟! [ن]. (¬5) في "الجوهر النقي" (8/ 261).

ضعيف، إلا أنه أجود من الرواية التي ذكرها البيهقي بلا شك. فروى عبد الرزاق (¬1) عن الحسن بن عمارة، عن الحكم بن عتيبة، عن يحيى بن الجزار، عن علي قال: لا تُقطع الكف (¬2) في أقلَّ من دينار أو عشرة دراهم. فعدلَ البيهقي عن هذه الرواية إلى تلك لزيادة التشنيع". أقول: وهذه ليست مما يُفرَح به! الحسن بن عمارة طائح، قال شعبة: "أفادني الحسن بن عمارة سبعين حديثًا عن الحكم، فلم يكن لها أصل". ونصَّ شعبة على أمثلةٍ منها سئل الحكمُ عنها فلم يعرفها. قال شعبة: "قال الحسن بن عمارة: حدثني الحكم، عن يحيى بن الجزار، عن علي - سبعة أحاديث، فسألتُ الحكم عنها فقال: ما سمعتُ منها شيئًا". وقال ابن المديني في الحسن بن عمارة: "كان يضع". المسلك الثالث: لبعض مشاهير الحنفية في هذا العصر. كان الرجل مشهورًا بطول الباع وسعة الاطلاع والزهد والعبادة (¬3)، وكان يقرِّر أن ¬

_ (¬1) في "المصنَّف" (18952). (¬2) (ط): "اليد". والمثبت من (خ) والجوهر النقي، ولا يوجد في المصنف شيء منهما. (¬3) هو العلاّمة الشيخ محمَّد أنور الكشميري، وكلامه الذي أشار إليه المؤلف مذكور في كتابه "فيض الباري على صحيح البخاري" (4/ 446 - 447)، وهو بحق كما وصفه المصنف في سعة العلم، ولكنه مع الأسف لم يستفد كثيرًا من علمه، صده عن ذلك التقليد المتوارث مع أنه من أحق العلماء المتأخرين بالخلاص منه، والاستقلال في النظر والاختيار، فانظر إليه مثلاً في موقفه من مسألة رفع اليدين في الركوع التي لا يمكن للباحث في أدلتها إلا أن يقول بمشروعيتها واستحبابها, ولو كان حنفيًّا غير متعصب مثل العلامة اللكنوي رحمه الله فإنه لم يسعه إلا القول بالاستحباب في بحث له جيد في "التعليق الممجد"، أما الشيخ الكشميري فلم يستطع التصريح =

أحاديث "الصحيحين" قطعية الثبوت. [2/ 136] وكان مع ذلك غايةً في الجمود على المذهب، والتفاني في الدفاع عنه. وفي مسلكه هذا ما يظهر منه علوُّ طبقته في ذلك. ذكر أن لأصحابه طرقًا في التملُّص من أحاديث "الصحيحين" في هذه المسألة، من ترجيح غيرها أو دعوى اضطرابها أو نسخها، وأنه لم يَرْتضِ شيئًا من ذلك، واختار طريقًا جديدًا يجمع بين الأدلة في زعمه. وهو أن القطع أولاً كان في ثمن المجنّ، كما في حديث "الصحيحين" عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، وكانت قيمة المجن أولاً قليلة، ثم أخذتْ تزيد بزيادة اتساع حال المسلمين حتى بلغت عشرة دراهم فأُقِرَّ الأمرُ عليها، وتُرِكَ اعتبارُ ثمن المجن. وذلك كما هو الحال عنده في الدية. قال: "وعلى نحو هذا حملتُ حدَّ الخمر ومقدارَ المهر". أقول: لم أظفر بتطبيق الأخبار على هذا المسلك، لكن قد يقال: كان ¬

_ = بالاستحباب، على الرغم من أن التحقيق الذي وصل إليه يُلزِمه ذلك، فهو يقول في الكتاب المذكور (2/ 257 - 259): فقد ثبت الأمران عندي (الرفع والترك) ثبوتًا لا مرد له، ولا خلاف إلا في الاختيار، وليس في الجواز". ثم نقل عبارة لأبي بكر الجصاص تؤيد ما ذكره من الجواز، ثم قال: "فاسترحت حيث تخلصت رقبتي من الأحاديث الثابتة في الرفع"! كذا قال، وفي عبارته من الركة ما لا يخفى، وإذا قال بجواز الرفع وأراد الجواز الذي يستوي فيه الفعل والترك، فلم يأت بشيء جديد بإثباته الرفع, لأن القائلين به لا يقولون بوجوبه، وإن أراد به جوازًا مع استحباب فهلا صرح به، وغالب الظن أنه هو الذي أراده، وإلا كان الرفع عبثًا لا يقول به فقيه مثله، وإنما لم يصرح به؛ لأنه لم يجد في مذهبه مَن سبقه إلى ذلك! ثم إذا صح ظننا به، فهل كان يرفع يديه كسبًا للثواب، بل وبيانًا للجواز ولو بالمعنى الأول؟ عِلْم ذلك عند أصحابه، وظني أنه لم يفعل، لغلبة العصبية المذهبية على مَن حوله. والله المستعان. [ن].

المعيار الشرعي لما يجب فيه القطع هو قيمة المجن، فكأنها كانت أولاً لا تزيد عن أقلَّ ما يحقُّ على آخذه اسم "السارق"، وحينئذ أنزل الله عزَّ وجلَّ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، ثم كأنها ترقَّتْ قليلاً فصارت كقيمة الحبل والبيضة، وحينئذ قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "لعن الله السارقَ يسرق الحبلَ فتُقطعُ يده، ويسرق البيضة فتقطع يده" ثم ترقَّتْ فصارت ربع دينار، وهو عند الحنفية درهمان ونصف، وحينئذ قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "تقطع اليد في ربع دينار فصاعدًا"، ثم ترقت فصارت ثلاثة دراهم، وحينئذ قطع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مجنًّ قيمته ثلاثة [2/ 137] دراهم. ثم كأنها بقيت كذلك إلى أن قطع أبو بكر في شيء يقول أنس: "ما يسرُّني أنه لي بثلاثة دراهم". ثم كأنها ترقَّت، فصارت خمسة دراهم. وحينئذ قطَع أبو بكر في مجنٍّ قيمته خمسة دراهم. وكأنها بقيت على ذلك إلى أوائل عهد عمر، وحيئذ قال - لو صحَّ عنه -: لا تُقطَع الخمسُ إلا في خمسٍ. ثم كأنها نقصت إلى درهمين ونصف، فحينئذ قال عمر - لو صحَّ عنه-: إذا أخذ السارقُ ربعَ دينار قُطِع. ثم كأنها ترقَّتْ، فصارت عشرة دراهم. وحينئذ امتنع - لو صحَّ عنه - من القطع في ما قيمته ثمانية دراهم. ثم نقصت في عهد عثمان، وحينئذ قَطَع في أترجَّةٍ قيمتها ثلاثة دراهم، ثم ازدادت نقصًا، وحينئذ قَطَع في فخارة خسيسة. ثم تحسنت الحال قليلاً في زمن علي، وحينئذ قَطَع في بيضة حديد قيمتها ربع دينار، وأفتت عائشةُ بالقطع في ربع دينار. ثم لا أدري متى عادت فترقَّتْ إلى عشرة دراهم، وحينئذ - بمقتضى هذا المسلك - نزل الوحيُ بإلغاء اعتبار قيمة المِجنّ، وأن يكون المعتبر هو العشرة الدراهم!

ولعمري، لقد تكرَّر في الأخبار ذكرُ المِجنّ، وإنَّ بعضَ الألفاظ لَيُوهِم اعتبارَ المِجنّ، إلا أن الناس فهموا أن سبب التكرر هو أن أقلَّ ما قطع [فيه] النبي صلى الله عليه وآله وسلم مِجَنٌّ، وحملوا ما يُوهِم اعتبارَ المجن على ما تقدَّم مفصلًا. ولم يُعرِّجْ أحد منهم على هذا المسلك الطريف، ولكن: لكل ساقطةٍ في الأرض لاقطةٌ ... وكلُّ كاسدةٍ يومًا لها سوقُ (¬1) ومن العجيب أنه لم يرتضِ دعوى بعض أسلافه النسخَ، ثم وقع فيها؛ وأنه يقول: إن أحاديث "الصحيحين" قطعية الثبوت، ثم يخالف صرائحها، ويتشبث بما لم يثبت مما فيه ذكر العشرة! فأما حديث هشام عن أبيه عن عائشة فاختلف فيه الرواة عن هشام سندًا ومتنًا. أما السند، فمنهم من ذكر عائشة، ومنهم من لم يذكرها وجعله مرسلًا من قول عروة. نبَّه على ذلك البخاري في "الصحيح" (¬2)، والصواب ذكر عائشة. وأما المتن، فعلى ثلاثة أوجه: [2/ 138] الأول: ما رواه البخاري (¬3) عن عثمان بن أبي شيبة، عن عبدة، عن هشام، عن أبيه, عن عائشة "أن يد السارق لم تُقطَع على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) لم أجد البيت في المصادر، والمثل "لكل ساقطة لاقطة" في "الحيوان" (1/ 201). (¬2) عقب الحديث رقم (6793)، قال: "رواه وكيع وابن إدريس عن هشام عن أبيه مرسلاً". (¬3) رقم (6792).

إلا في مجنٍّ حَجَفةٍ أو تُرْسٍ". ثم روى البخاري (¬1) عن عثمان أيضًا، عن حميد "ثنا هشام، عن أبيه، عن عائشة. مثله". الثاني: ما رواه البخاري (¬2) عن محمَّد بن مقاتل، عن ابن المبارك، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة "لم تكن تُقطَع يدُ السارق في أدنى من حَجَفة أو تُرْسٍ كلُّ واحدٍ منهما ذو ثمن". الثالث: رواه البخاري (¬3) "حدثني يوسف بن موسى، ثنا أبو أسامة قال: هشام بن عروة أخبرنا عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: لم تُقطع يدُ سارقٍ على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - في أدنى من ثمن المِجنّ تُرْسٍ أو حَجَفةٍ، وكان كلٌّ منهما ذا ثمنٍ". فالأول: مداره على عثمان بن أبي شيبة، عن عبدة وعن حميد، وقد خولف عن كل منهما. فرواه مسلم في "صحيحه" (¬4) عن محمَّد بن عبد الله بن نمير عن حميد بسنده: "لم تُقطع يدُ سارق في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - في أقلَّ من ثمن المِجنّ حَجَفةٍ أو تُرْسٍ، وكلاهما ذو ثمن". وهذا على الوجه الثالث كما ترى. ورواه البيهقي في "السنن" (ج 8 ص 256) من طريق هارون بن إسحاق عن عبدة بسنده "لم تكن يد تُقطَع على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أدنى من ثمن مِجنًّ حَجَفة أو تُرْسٍ". وهذا على الوجه الثاني كما ترى. ¬

_ (¬1) عقب الحديث السابق. (¬2) رقم (6793). (¬3) رقم (6794). (¬4) رقم (1685).

وبهذا بان ضعفُ الوجه الأول، بل ظاهره باطل؛ لأنه يعطي أن القطعَ لم يقع في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا مرة واحدة في ذاك المجن. وقد ثبت قطعُ سارق رداء صفوان الذي كانت قيمته ثلاثين درهمًا. وثبت قطعُ يد المخزومية التي كانت تستعير الحلي ثم تجحده. وأما الوجه الثاني، فقد اختُلِف على عبدة كما رأيت. وكذلك اختُلِف على ابن المبارك. رواه النسائي (¬1)، عن سويد بن نصر، عن ابن المبارك، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة: "لم تقطَع يدُ سارقٍ في أدنى من حَجَفةٍ أو تُرْسٍ، وكلُّ واحد منهما ذو ثمن". وهذا على الوجه الثالث كما ترى. فبان رجحان الوجه الثالث, لأنه رواه عن هشام [2/ 139] أبو أسامة، ولم يُختلَف عليه فيه. ورواه ابن نمير، عن حميد، عن هشام؛ وابنُ نمير أثبتُ من عثمان بن أبي شيبة. ورواه سويد بن نصر، عن ابن المبارك، عن هشام. وقد رجَّح الشيخان والنسائي الوجه الثالث. أما البخاري، فساقها على هذا الترتيب، ثم عقَّب بحديث ابن عمر، فأشار - والله أعلم - بالترتيب إلى ترتيبها في القوة. فالثاني أقوى من الأول، والثالث أرجح منهما. أو قل: أشار إلى أن الثاني يُفسِّر الأول من وجه، والثالث (¬2) يُفسِّرهما جميعًا. وأشار بالتعقيب بحديث ابن عمر إلى أن هذا ¬

_ (¬1) (8/ 82). (¬2) في (ط): "والثاني". وذكر الشيخ الألباني في تعليقه أنه كذا في الأصل، والظاهر أن الصواب: والثالث. وهو في مسودتنا على الصواب كما قال الشيخ.

الحديث وحديث ابن عمر عن واقعة واحدة. فعائشةُ حفظت أنَّ أقلَّ ما قطَع فيه النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم هو ذاك المجن ولم تذكر قيمته، وابنُ عمر حفظ قيمتَه ولم يذكر أنه أقلُّ ما قطع النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم فيه. وأما مسلم، فصدَّر بحديثه عن محمَّد بن عبد الله بن نمير وساقه بتمامه، وهو على الوجه الثالث كما مرَّ، ثم قال (¬1): "حدثنا عثمان بن أبي شيبة، أخبرنا عبدة بن سليمان وحميد بن عبد الرحمن ح وثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا عبد الرحيم بن سليمان ح وثنا أبو كريب، ثنا أبو أسامة = كلُّهم عن هشام بهذا الإسناد نحو حديث ابن نمير عن حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي (¬2). وفي حديث عبد الرحيم وأبي أسامة: "وهو يومئذ ذو ثمن". فحمَلَ سائر الروايات على حديث ابن نمير، وهو على الوجه الثالث كما مرَّ، ولم يعتدَّ بمخالفة بعضها له في الأوجه المذكورة، مع اعتداده بالاختلاف في قول ابن نمير: "وكلاهما ذو ثمن"، وقول عبد الرحيم وأبي أسامة: "وهو يومئذ ذو (¬3) ثمن". ثم عقَّب مسلم ذلك بحديث ابن عمر. وأما النسائي، فإنه مع تصدِّيه لجمع الروايات في ذكر المجنّ لم يسُقْ من طرقِ حديث هشام المذكورة إلا روايةَ سويد بن نصر عن ابن المبارك عن هشام، وهي على الوجه الثالث. وصاحب هذا المسلك إنما يكون له متشبَّثٌ ما في الوجه الثاني، وقد ¬

_ (¬1) رقم (1685). (¬2) (ط): "الرواس". والتصويب من مسلم، وانظر "التقريب". (¬3) كذا على الصواب في مسودتنا. وقد ذكر الشيخ الألباني في تعليقه على المطبوعة أن في الأصل "ذون".

علمتَ أنه مرجوح من جهة الرواية. وهكذا هو مرجوح من جهة النظر لما يأتي. وعلى فرض أنه لا يتبين أنه مرجوح، فلا يصحُّ التمسكُ بما اختص به بعض الروايات وخالفها غيرها؛ لأن الاختلاف إنما جاء [2/ 140] من جهة الرواية بالمعنى، فلا يصح التشبث بواحدة منها حتى يترجح أنها باللفظ الأصلي أو موافقة له. ومع هذا، فاللفظ الواقع في الوجه الثاني لا يتعين حمله على ما زعمه صاحب هذا المسلك، فإنه يحتمل أن يكون المراد أن السارق لم يكن يُقطَع فيما دون ثمن ذاك المجن الذي قطَع فيه النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم. ولا مانع أن تعرف عائشة هذا, ولا تعرف قيمة ذاك المجن. وهذا المعنى أقرب وأولى مما زعمه صاحب هذا المسلك، فإنه يزعم أن المعنى أن اليد لم تكن تُقطَع إلا فيما يبلغ ثمنَ مجنٍّ من المَجان أيَّ مجنٍّ كان. وهذا بغاية البعد، فإن من المجانِّ الرديءَ البالي المعيب الذي تكون قيمته درهمًا واحدًا أو دونه، ومنها ما يزيد على ذلك زيادة متفاوتة، ولم يُعهَد من حكمة الشارع وإيثارِه الضبطَ: أن ينوط مثل هذا الحكم العظيم بمثل هذا الأمر الذي لا ينضبط. فإن قيل: قد يختار مجنٌّ من أوسط الغالب على نحو ما قدَّمتَ أول المسألة. قلت: أوسط الغالب بعيد أيضًا عن الانضباط، والذي تقدَّم إنما هو من بعضِ مَن بعدَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم، رأى أنه لا ينبغي القطع في أقل مما قطع فيه النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم، وعرف أنه ذاك المجن ولم يعرف ثمنه، فاضطُرَّ إلى الحدس. والشارع لا ضرورة تُلجِئه ولا حاجة تدعوه إلى مثل هذا، فلماذا يعدل عن سنته من إيثار الضبط، وهو قادر على

الضبط بالذهب أو الفضة، فيكون المناط ظاهرًا منضبطًا سهلَ المعرفة جاريًا على ما يعرفه الناس ويتعارفونه؟ فأما تقدير الدية بالإبل فذلك معروف متعارف من قبل الإِسلام، وكان أغلب أموالهم الإبل، ووصفها الشارع بصفات معروفة تقرِّبها من الانضباط، ولا يُخشى بعد ذلك التباسٌ ولا مفسدة، كما يُخشى في نَوط القطع بثمن مِجنّ. فإنَّ مَنْ وجبت عليه الدية لا يلزمه أن يدفع النفيسة. فلو كانت عنده [ناقة] (¬1) نفيسة، وأراد أن يشتري بها عشرًا كلُّهن على وصف الدية مُكِّن من ذلك، فيشتري بتلك الناقة عشرًا ويدفعها، فتُحسَب له عشرًا. واحتمالُ أن لا يتمكن من ذلك بعيد. فإن اتفق ذلك، فللفقيه أن يقول: هي بمنزلة المعدومة، ويعدل إلى قيمة القدر الواجب من [2/ 141] الغالب، كما قيل بنحو ذلك في الزكاة. فأما إذا طابت نفسُ صاحبها فدفَعَها، فلا إشكال. والحنفية لم ينكروا وجوب الإبل، وإنما قالوا: إن الواجب هي أو ألف دينار، أو عشرة آلاف درهم، وإن التعيين بالتراضي أو القضاء. وأقول: أما التراضي، فلا إشكال فيه. وكذلك القضاء إذا قضى القاضي بالإبل، أو بذاك المبلغ من الذهب أو الفضة، وهو قيمة الإبل. وأما إذا لم يكن ذلك قيمتها، فجعلُ الخِيَرةِ للقاضي منافٍ للعدل، وفتحٌ لباب اتباع القضاة للهوى، وأصول الشرع تأبى ذلك. والمقصود هنا أنه لا مفسدة في جعل الدية (¬2) من الإبل، فإن الواجب الحقيقي هو أقلُّ ما يتحقق به الصفة. فالمستحق بين أن يحصل له حقه، وأن يحصل له دونه برضاه، وأن يحصل ¬

_ (¬1) الزيادة من (خ). (¬2) في (ط): "الزكاة"، والمثبت يقتضيه السياق.

له فوقه برضا الدافع. وعلى فرض أن المقوِّم أخطأ في التقويم، فالخطب سهل، إنما هو خسارة مالية يجبُرها الله عَزَّ وَجَلَّ من فضله. وأما المجن، فإن قيل: إنه يُقطع في سرقته مطلقًا بأي صفة كان، فلا يخفى ما فيه. وإن قيل: لا يُقطع فيه إلا إذا كان بوصف مخصوص، فما هو ذاك الوصف؟ وما الدليل على تعيينه؟ وإن قيل: لا يُقطع فيه إلا إذا بلغت قيمته حدًّا معينًا، كما يدل عليه قول أنس (¬1): "سرق رجلٌ مِجنًّا على عهد أبي بكر، فقُوِّم خمسةَ دراهم، فقُطِع"، فهذا قولنا، وبطل هذا المسلك الطريف رأسًا. وإذا كان المسروق ذهبًا أو فضة، فعلى ذلك المسلك ينبغي أن ينظر هل هو قيمة مجن أو لا؟ وهذا عكس المعروف المتعارف من اعتبار مقادير السِّلع بالذهب والفضة. وإذا كان المسروق سلعة أخرى احتيج إلى تقويمين، تقويم السلعة بالذهب أو الفضة، وتقويم المجن الذي لم تبيَّن صفته بالذهب أو الفضة، واحتمالُ الخطأ في ذلك أشد من احتماله في تقويم واحد. فإن قيل: إنما كان ذلك في أول الأمر، ثم استقر الحال على العشرة الدراهم. قلت: فهل كان الشارع يجهل عاقبة الأمر؟ وقد قال الشاعر: رأى الأمرَ يُفضي إلى آخِرٍ ... فصيَّر آخرَه أوَّلا (¬2) ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي (8/ 77). (¬2) من أبيات لمحمود الوراق في "عيون الأخبار" (3/ 54) و"طبقات" ابن المعتز =

[2/ 142] وإذا كان المجن لا يصلح أن يُجعل معيارًا مستمرًّا، فكذلك لا يصلح أن يكون معيارًا موقتًا بلا ضرورة ولا حاجة. فإن قيل: قد يكون صاحب هذا المسلك إنما عنى ذاك المِجنَّ المعيَّن الذي قطع فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قلت: فيلزم أن يكون ذاك المِجنُّ بقي محفوظًا في بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم في بيوت الخلفاء. فكلما رُفِعَ سارقٌ قُوِّم المسروقُ، ثم أُخرج ذاك المجنُّ، فقُوِّم بقيمة الوقت! وهذا باطل من وجوه: منها: أنه لم يُنقل، ولو كان لَنُقِل لغرابته. ومنها: أن النقل يأباه، ومنها: أنه خلاف المعهود من براءة الشريعة عن مثل هذا التكلف الذي لا تُبرِّره حكمة. وكثيرٌ مما تقدَّم يرد على هذا أيضًا. وأشدُّ ذلك: الداهية الدهياء، وهي النسخُ بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فإن قيل: لعل صاحب هذا المسلك إنما أراد أن ذلك التدرج واستقرار الأمر على عشرة الدراهم كان كلُّه في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قلت: ظاهر صنيعه خلاف ذلك، لتنظيره بحدِّ الخمر، ولأنه لا يجهل أنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم شيء في ذكر العشرة (¬1)، وإنما يصح - إن صحَّ شيء - عمن بعده وبعد الخلفاء الراشدين. وهَبْ أنه إنما أراد ¬

_ = (ص 367) وغيرهما. وتنسب إلى علي بن أبي طالب. انظر تخريجه في "ديوان الوراق" (139). (¬1) قلت: في هذا نظر، فإن المومى إليه قد صرح بتصحيح حديث ابن عباس في العشرة! [ن].

ما زعمت، لم يأت عليه بشبهة فضلاً عن حجة، ويرد عليه أكثر ما تقدم. وكيف يقول: إن أحاديث "الصحيحين" قطعية الثبوت، ثم ينسخها بما لم يثبت! وأما قضية المهر فلم يثبت تحديده، وإنما اقتصر الحنفية قياسه على ما يُقطَع فيه السارق. والأصل باطل، والقياس أبطل. وأما حدُّ الخمر، فالحق أنه أربعون. واستنبط الصحابة من تدريج الأمر في الخمر من حُكمٍ إلى أشدَّ منه رعايةً للحكمة جوازَ زيادة التشديد تعزيرًا، واستأنسوا لتحديد الزيادة بقولهم: "إنه إذا سكر هَذَى، وإذا هَذَى افترى" (¬1)، مع علمهم بأنه لا يلزمه بمجرد الاحتمال حكمُ [2/ 143] المرتد ولا حكم المطلِّق، ولا غير ذلك مما يحتمل صدوره منه عند هذيانه. والسرقةُ لم يقع في تحريمها تدريجٌ، لا من حال إلى أشدَّ منها, ولا من حال إلى أخفَّ منها. فإن قيل: قد يقال: إن للتدريج حكمةً، وهي أن الناس كانوا في ضيق، فكان المسروقُ منه يتضرَّر بأخذ اليسير من ماله، ثم اتسعوا فصار لا يتضرَّر إلا بأخذ أكثر من ذلك، وهكذا. قلت: تعقُّلُ الحكمةِ لا يثبت به الحكم، مع أن ما ذكرتم يعارضه أن المناسب في زمن الضيق أن يخفَّف على السارق لكثرة الحاجة. وقد شهدت الشريعة في الجملة لهذا المعنى دون الأول، وذلك بدَرْء (¬2) الحد ¬

_ (¬1) هذا من قول علي بن أبي طالب، أخرجه مالك في "الموطأ" (2/ 842). قال الألباني في تعليقه: "هذا لم يصح، وهو معلل في إسناده ومتنه، وقد بينت ذلك في "إرواء الغليل" (2446) ". (¬2) (ط): "يدرء". والتصويب من (خ).

عن المضطر، وما يُروَى عن بعض السلف أنه لا قطع في زمن المجاعة (¬1). فإن قيل: إن المقدار لم يتغير في المعنى, لأن السِّلَع كلها أو غالبها تساير المجنّ، فالسلعة المسروقة التي تكون قيمتها خمسةً حين بلغ ثمنُ المجنِّ خمسة، كانت قيمتها ثلاثة حين كانت قيمة المجن ثلاثة، وهكذا الدراهم نفسها، فإن الثلاثة كانت أولاً تُغْني غَناءً لا تُغْنيه أخيرًا إلا الخمسة (¬2) مثلًا. قلت: هذا كله لا يُغْني فتيلاً فيما نحن بصدده. ثم هو غير مستقيم، فقد تغلو سلعة وترخص أخرى، ولا تزال تضطرب قيمتها ارتفاعًا وانخفاضًا إلى يوم القيامة. ولماذا إذا كان لوحظ ذاك المعنى وقع التحديد أخيرًا بالعشرة؟ وقد يزيد الاتساع، فتصير خمسة عشر لا تُغني إلا غناء الثلاثة، وقد يعود الضيق ويشتد أشدَّ مما كان أولاً، والمعروف إنما هو ضبط أثمان السلع بالدنانير والدراهم، لا ضبط الدنانير والدراهم بالسلع، فكيف بسلعةٍ لا تنضبط؟ وقد أطلتُ في ردِّ هذا المسلك، مع أنه لا يحتاج في ردِّه إلى هذا كلِّه، ولكن دعا إلى ذلك شهرةُ قائله. والله المستعان. ... ¬

_ (¬1) قلت: يشير إلى ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: "لا قطع في غدق، ولا في عام سنة". لكن في سنده جهالة كما بينته في المصدر السابق (2496). [ن]. (¬2) (ط): "الخمسة".

المسألة الخامسة عشرة القضاء بشاهد ويمين في الأموال

[2/ 144] المسألة الخامسة عشرة القضاء بشاهد ويمين في الأموال قال الأستاذ (ص 185): "وأما القضاء بشاهد ويمين، فلم يرد فيه ما هو غير معلَّل عند أهل النقد. وحديث مسلم فيه انقطاعان مع عدم ظهور دلالته على المتنازع (¬1) فيه، كما فُصِّل في محلَّه. والليث بن سعد ردَّ على مالك ردًّا ناهضًا في رسالته إليه ... حتى إن يحيى الليثي راوية "الموطأ" وغيرهم من كبار المالكية خالفوا مالكًا في المسألة. وكم بين الشافعية من خالف الشافعيَّ في المسألة! فسَلْ قضاةَ العصر ماذا كانت تكون النتيجة في الحقوق لو حكموا للناس بما يطالبون به بدون تكامل نصاب الشهادة؟ فضلاً عن الضعف الظاهر فيما يحتجُّون به في الأخذ بشاهد ويمين". أقول: حديث مسلم هو قوله في "صحيحه" (¬2): "حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن عبد الله بن نمير قالا: ثنا زيد - وهو ابن حُباب - ثني سيف بن سليمان، أخبرني قيس بن سعد، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بيمينٍ وشاهد". فأما الانقطاعان المزعومان، فأحدهما بين عمرو وابن عباس، والآخر بين قيس وعمرو. أما الأول، فقال ابن التركماني (¬3): "في "علل الترمذي": سألت محمدًا ¬

_ (¬1) في (ط): "التنازع". والتصويب من (خ). (¬2) رقم (1712). (¬3) "الجوهر النقي" (10/ 1679).

(البخاري) عنه - أي هذا الحديث - فقال: عمرو بن دينار لم يسمع عندي هذا الحديث من ابن عباس". أقول: ليس لهذه العندية ما يُسنِدها سوى أمرين: الأول: أن محمَّد بن مسلم بن سَوْسَن الطائفي روى هذا الحديث عن عمرو بن دينار، فقال بعض الرواة عنه: عن عمرو، عن طاوس، عن ابن عباس. وبعضهم قال: عن عمرو، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس. الثاني: استبعاد صحة الحديث، لعدم اشتهاره عن ابن عباس ومخالفته لظاهر القرآن. فأما الأول، فقد أجاب عنه البيهقي (¬1) بأنه إنما جاء ذلك عن بعض الضعفاء. فأما [2/ 145] الثقات، فرووه عن الطائفي، عن عمرو، عن ابن عباس، كما يأتي. ورواية الثقات لا تُعلَّل برواية الضعفاء. أقول: ومع ذلك فلو صحَّ الوجهان المذكوران أو أحدهما لصحَّ الحديث أيضًا، كما صحَّح الشيخان (¬2) حديث حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار، عن محمَّد بن علي، عن جابر في لحوم الخيل؛ مع رواية ابن عيينة وغيره له عن عمرو عن جابر (¬3). ولهذا نظائر. وأما الثاني، فالجواب عنه من وجهين: الأول: أن ذاك الاستبعاد إن كان له وجه، فلا يُزيله إلا دعوى أن بين ¬

_ (¬1) في "السنن الكبرى" (10/ 168). (¬2) البخاري (5520) ومسلم (1941). (¬3) انظر "فتح الباري" (9/ 649, 650).

عمرو وابن عباس واسطة ضعيفة، إذ لو كان بينه وبينه ثقة لصح الحديث أيضًا كما مرَّ. وليس لأحد أن يفرض الواسطة الضعيفة هنا، فإن عمرًا لا يدلِّس مثل هذا التدليس، وإنما قد يُرسل ما سمعه من ثقة متفق عليه، كما أرسل عن جابر ما سمعه من محمَّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عنه، ومحمد إمام حجة. وقد تتبعت ما قيل إن عمرًا أرسله مثل هذا الإرسال غير الحديث السابق، فلم أجد إلا حديثًا حالُه كحال الحديث السابق. وذلك أن في "مسند أحمد" (ج 3 ص 368) (¬1): "ثنا محمَّد بن جعفر، ثنا شعبة، عن عمرو بن دينار، عن جابر ... ، قلت لعمرو: أنت سمعته من جابر؟ قال: لا". والحديث في "صحيح البخاري" (¬2) من طريق ابن عيينة "قال عمرو: أخبرني عطاء أنه سمع جابرًا ... ". فبيْنَ عمرو وجابر في هذا عطاء بن أبي رباح، وهو إمام حجة. ووجدت حديثين آخرين لم يتضح لي الإرسال فيهما، فإن صحَّ فالواسطة في أحدهما عكرمة وطاوس أو أحدهما، وفي الثاني: ابن أبي مليكة، وهؤلاء كلهم ثقات أثبات. فإن ساغ أن يقال في حديث رواه عمرو عن ابن عباس: لعله لم يسمعه منه، فإنما يسوغ أن يُفرَض أن عمرًا سمعه من ثقة حجة سمعه من ابن عباس. وفي ترجمة عمرو من "تهذيب التهذيب" (¬3): "قال الترمذي: قال ¬

_ (¬1) رقم (14957). (¬2) رقم (5208). (¬3) (8/ 30).

البخاري: لم يسمع عمرو بن دينار من ابن عباس حديثَه عن عمر في البكاء على الميت. قال ابن حجر: قلت: ومقتضى ذلك أن يكون مدلِّسًا". [2/ 146] أقول: لم أظفر برواية عمرو ذاك الحديثَ عن ابن عباس، والقصة - وفيها الحديث - ثابتة في "صحيح مسلم" (¬1)، و"مسند الحميدي" (¬2) من رواية عمرو، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس. فإن كان بعضهمٍ روى الحديث عن عمرو عن ابن عباس، فلا ندري مَن الراوي؟ فإن كان ثقة، فالحال في هذا الحديث كما تقدَّم، حدَّث به عمرو مرارًا عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس حتى عرف أن الناس قد عرفوا أنه لم يسمعه من ابن عباس، ثم قال مرةً على سبيل الفتيا أو المذاكرة: "قال ابن عباس"، وليس هذا بالتدليس. على أنه لا مانع من أن يسمع من ابن أبي مليكة عن ابن عباس القصة وفيها الحديث، ويسمع من ابن عباس نفسه الحديث. ولا مانع من أن يسمع الرجل الحديث من رجل عن شيخ، ثم يسمعه من ذلك الشيخ نفسه، ثم يرويه تارة هكذا، وتارةً هكذا. وهذا النوع يسمى "المزيد في متصل الأسانيد". وقد عد بعضهم منه حديث عمرو في لحوم الخيل. وقد ذكر مسلم في مقدمة "صحيحه" (¬3) أمثلةً مما قد يقع من غير المدلس من إرسال ما لم يسمعه، وذكر منها حديث عمرو بن دينار في لحوم الخيل، وقد مرَّ. وهذا حكمٌ من مسلم بأن عمرًا غير مدلس، وأن ما قد يقع عن (¬4) مثل ¬

_ (¬1) (2/ 642). (¬2) رقم (220). (¬3) (1/ 31، 32). (¬4) كذا في (ط)، ولعل الصواب: "من".

ذاك الإرسال ليس بتدليس. واحتج الشيخان بكثير من أحاديث عمرو التي لم يُصرِّح فيها بالسماع. واحتج مسلم (¬1) بحديث في المخابرة رواه ابن عيينة عن عمرو عن جابر، مع أنه قد ثبت عن ابن عيينة أن عمرًا لم يصرِّح فيه بالسماع من جابر. وهذا الترمذي (¬2) حاكي الحكايتين عن البخاري صحَّح في حديث لحوم الخيل روايةَ ابن عيينة التي فيها: "عمرو عن جابر"، وخطَّأ حماد بن زيد في قوله: "عمرو، عن محمَّد بن علي، عن جابر" مع جلالة حماد وإتقانه، فلو كان عند الترمذي أن عمرًا يدلِّس لَما كان عنده بين الروايتين منافاة. والصحيح أنه لا منافاة ولا تدليس، كما مرَّ. فأما ما في "معرفة الحديث" للحاكم (ص 111) في صدد كلامه في التدليس: "فليعلم صاحب الحديث أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة ... وأن عامة حديث عمرو بن دينار عن الصحابة غير مسموعة"، فإنما قال ذلك في صدد من روى عمن لم يره قطُّ ولا سمع منه شيئًا. فإن تلك العبارة هي في صدد قوله (ص 109): "الجنس السادس من التدليس: قوم رووا عن شيوخ لم يروهم قطُّ ... ". وحاصل ذلك أن عمرًا يرسل عمن لم يره من الصحابة. وهذا - على قلة ما قد يوجد [2/ 147] عن عمرو فيه - ليس بتدليس، وإنما يسمِّيه جماعة تدليسًا إذا كان على وجه الإيهام. فأما أن يرسل المحدِّث عمن قد عرف الناس أنه لم يدركه أو لم يلقه، فلا إيهام فيه، فلا تدليس. وعادة أئمة الحديث إذا كان الرجل ممن يكثر منه هذا الإرسال أن ¬

_ (¬1) رقم (1536/ 93). (¬2) رقم (1793).

ينصُّوا على أسماء الذين روى عنهم ولم يسمع منهم، كما تراه في تراجم مكحول، والحسن البصري، وأبي قلابة عبد الله بن زيد، وغيرهم. ولم نجد في ترجمة عمرو إلا قول ابن معين: "لم يسمع من البراء بن عازب". ولعله لم يرسل عن البراء إلا خبرًا واحدًا (¬1). وسماع عمرو من ابن عباس ثابت. والحكم عندهم فيمن ليس بمدلِّس، ولكنه قد يرسل لا على سبيل الإيهام أن عنعنته محمولة على السماع، إلا أن يتبين أنه لم يسمع، كالحديث الذي رواه شعبة عن عمرو عن جابر، وقد تقدم. ووجه ذلك أنه لم يثبت عليه إلا أنه قد يُرسل لا على وجه الإيهام، ومعنى ذلك أنه لا يرسل إلا حيث يكون هناك دليل واضح على أنه لم يسمعه، فحيث وجدنا دليلًا واضحًا على عدم السماع فذاك، وحيث لم نجد كان الحكم هو السماع. ألا ترى أن الثقة قد يخطئ، ومع ذلك فروايته محمولة على الصواب ما لم يقم دليل واضح على الخطأ، فأولى من ذلك أن يُحكَم بالاتصال في حديث من لم يُعرف عنه إلا الإرسالُ حيث لا إيهام؛ لأن المخطئ قد يخطئ حيث لا دليل على خطائه، بخلاف المرسل. والحكم عندهم فيمن عُرف بالتدليس وكثُر منه، إلا أنه لا يدلِّس إلا فيما سمعه من ثقة لا شك فيه، أن عنعنته مقبولة، كما قالوه في ابن عيينة، فما بالك بما نحن فيه؟ ¬

_ (¬1) وهو عن البراء مرفوعًا: "يا معشر التجار، إنكم تكثرون الحلف، فاخلطوا بيعكم هذا بالصدقة". أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (7/ 21، 22) والطحاوي في "مشكل الآثار" (2082) والبيهقي في "شعب الإيمان" (4848).

وأما عدم اشتهار الحديث عن ابن عباس، فلا يضرُّه بعد أن رواه عنه ثقة جليل فقيه، وهو عمرو بن دينار. وكم من حديث صحَّحه الشيخان وغيرهما مع احتمال أن يقال فيه مثلُ هذا أو أشدُّ منه. هذا حديث "إنما الأعمال بالنيات" عظيم الأهمية عند أهل العلم حتى قالوا: إنه نصف العلم، وهذا مما يقتضي اشتهاره. وفي روايته ما يشير إلى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطب به على المنبر (¬1)، وهذا مما يقتضي اشتهاره. وذُكِر فيه أن عمر بن الخطاب رواه وهو يخطب على المنبر، وهذا مما يقتضي اشتهاره. ومع ذلك لم يروه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم غير عمر بن الخطاب، ولا رواه عن عمر غير علقمة بن وقاص، ولا رواه عن علقمة غير محمَّد بن إبراهيم [2/ 148] التيمي، ولا رواه عن محمَّد غير يحيى بن سعيد الأنصاري. ومع ذلك صحَّحه الشيخان وغيرهما, وجعلوه أصلاً من أصول العلم، بل جعلوه نصف العلم، كما مرَّ. فإن قيل: لكن له شواهد. قلت: وحديث القضاء بالشاهد واليمين كذلك، فقد جاء من رواية جماعة من الصحابة بأسانيد جيدة قد صححوا نظائرها. وجاء من رواية آخرين بأسانيد تصلح للاستشهاد. وجاء من مرسل عدةٍ من التابعين، وكان عليه عمل أهل الحجاز لا يُعرف عندهم خلافُه. فإن قيل: فقد قلتَ في حديث ابن إسحاق، عن أيوب بن موسى، عن عطاء، عن ابن عباس في قطع يد السارق في ثمن المِجنّ، ما قلتَ. ¬

_ (¬1) كما في "صحيح البخاري" (6953).

قلت: ذاك خبر اضطرب فيه ابن إسحاق أشدَّ اضطراب، وابن إسحاق في حفظه شيء، وجاءت أدلة تقضي بأنه من قول عطاء، لا من روايته عن ابن عباس، كما تقدم تفصيلُه في المسألة السابقة. وليس الأمر ها هنا كذلك، ولا قريبًا من ذلك. وقد تجتمع عدة أمور يقدح مجموعها في صحة الحديث، ومنها ما لو انفرد لم يَضُرَّ. وأما مخالفته لظاهر القرآن - كما قد يشير إليه صنيع البخاري في "صحيحه" (¬1) - فكم من حديث صححه هو وغيره، وهو مخالف لظاهر القرآن، كحديث المنع من الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها (¬2)، وحديث النهي عن أكل كل ذي ناب أو مخلب (¬3)، وحديث النهي عن أكل لحوم الحمر الأهلية (¬4)، وغير ذلك. وكم من دلالة ظاهرة من القرآن خالفها الحنفية أنفسهم، وقد تقدَّم شيءٌ من ذلك في المسألة الثانية عشرة، وذكر ابن حجر في "الفتح" (¬5) أمثلة من ذلك، وبسط الشافعي الكلام في "الأم" (ج 7 ص 6 - 31) (¬6). ومع ذلك فمخالفةُ حديث القضاء بشاهد ويمين لظاهر القرآن مدفوعةٌ، كما ستراه. ¬

_ (¬1) (5/ 280 مع "الفتح"). (¬2) أخرجه البخاري (5109) ومسلم (1408) من حديث أبي هريرة. (¬3) أخرجه البخاري (5530) ومسلم (1932) من حديث أبي ثعلبة الخشني. وأخرجه مسلم (1934) من حديث ابن عباس. (¬4) أخرجه البخاري (5521) ومسلم عقب (1936) من حديث ابن عمر. وفي الباب أحاديث أخرى في الصحيحين وغيرهما. (¬5) (5/ 281، 282). (¬6) (8/ 36 - 83).

قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} إلى أن قال: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} إلى أن قال: {ذَلِكُمْ [2/ 149] أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} إلى أن قال: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 282 - 283]. إن قيل: أمر الله تعالى أن يُستشهد عند المداينة رجلان، فإن لم يكونا فرجل وامرأتان؛ فدل ذلك على أنه لا يثبت الحق عند التداعي عند الحاكم إلا بذلك. فالجواب: إن أردتم أنه لا يثبت مطلقًا إلا بذلك، فهذا باطل؛ إذ قد يثبت الحق بالاعتراف، وبالنكول فقط عند الحنفية، ومع يمين المدعي عندنا. وإن أردتم أنه لا يثبت بشهادة إلا كذلك، فهذا لا يفيدكم؛ فإن الحديث إنما أثبته بالشاهد واليمين، لا بالشاهد وحده. فإن قيل: لو كان يثبت بشاهد ويمين لما كان بالأمر برجلين أو رجل وامرأتين فائدة. قلنا: بلى، له فوائد عظيمة: الأولى: ما نصت عليه الآية: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} [البقرة: 282]، وهذا كما يحصل بالكتابة مع أن الحق لا يثبت بالكتاب وحده، فكذلك يحصل بالشهادة التامة. فإن القضاء بشهادة تامة

أظهر في القسط والعدل من القضاء بشاهد ويمين، وأقوم للشهادة لأن كلاًّ من الشاهدين يبالغ في التحفظ لئلا تخالف شهادته شهادة الآخر، وأبعد عن الريبة كما لا يخفى. وقد دل الإتيان بصيغة التفضيل على أن أصل القسط، وقيام الشهادة، والبعد عن الريبة = قد يحصل بما هو دون ما ذُكر، فما هو؟ ليس إلا الشاهد واليمين، كما دل عليه الحديث. فالآية تدل على صحة الحديث, لأنه لو لم يكن صحيحًا لما كان هناك ما يحصل به ما اقتضته الآية. الفائدة الثانية: أن ذلك أحوط للحق، إذ لو استُشهِد رجلٌ واحد فقط، فقد يموت قبل أداء الشهادة، أو يعرض له ما تفوت به شهادته، كالجنون أو النسيان أو الفسق أو الغَيبة، فإذا كانا اثنين فالغالب أنه لا يعرض لهما ذلك معًا. وهذه أدنى درجات الاحتياط نبهتْ عليها الآية، ولم تمنع مما فوقها، بل في هذا إشارة إلى أنه إذا اقتضت الحال ينبغي مظاهرة الاحتياط، وذلك كأن تكون مدة الدَّين طويلة كخمس عشرة سنة، ووجد شاهدان شيخين كبيرين، فينبغي الزيادة في عدد الشهود بحيث يغلب أنهم لا يموتون جميعًا قبل حلول الدين، أو يعرض لهم جميعًا ما تفوت به شهادتهم. [2/ 150] الفائدة الثالثة: أن الشاهد الواحد لا يثبت به الحق، بل لا بد معه من اليمين، وقد يكبر على المدعي أن يحلف خشية أن يتهمه بعض الناس، أو لأنه قد نسي القضية أو صفتها، أو لأنه لم يحضرها وإنما حضرها مورثه الذي قد مات. وقد يُجَنُّ الدائن أو يموت ويكون وارثه صبيًّا أو مجنونًا، فتتعذر اليمين وقت المطالبة، فيتأخر القضاء بالحق إلى أن يكمل صاحبه أو يموت.

فإن قيل: ذكر البخاري في "الصحيح" (¬1) عن ابن شبرمة أنه احتج على أبي الزناد بالآية، وذكر قوله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282]. قال: "قلت: إذا كان يُكتفَى بشهادة شاهد ويمين المدعي، فما يحتاج أن تُذكِّر إحداهما الأخرى؟ ما كان يصنع بذكر هذه الأخرى؟ ". قلت: قد تقدم ما يُعلم منه الجواب. ولا بأس بإيضاحه، فأقول: يصنع بذكر الأخرى أنه إذا كان الرجل باقيًا حاضرًا جائز الشهادة أن تتم الشهادة، فيكون ذلك أقسط عند الله، وأقوم للشهادة، وأبعد عن الارتياب. ولا يتوقف ثبوتُ الحق على يمين المدعي، وقد تكبر عليه، أو تتعذر منه، فيضيع الحق أو يتأخر، كما تقدم. وإن كان الرجل قد مات أو عرض له ما فوَّت شهادته، شهدت المرأتان، وحلف المدعي معهما، وثبت الحق كما هو مذهب مالك. والظاهر أنه كان مذهب أبي الزناد، وهو مذهب قوي؛ فإن الآية أقامت المرأتين مقام رجل. وفي "الصحيحين" (¬2) من حديث أبي سعيد الخدري في قصة خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم العيد ومروره على النساء وموعظته لهن: "قال: "أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟ " قلن: بلى". وهذا قاضٍ بأن شهادة المرأتين في ما تُقبل فيه شهادتهن مثل شهادة رجل. فأما اشتراط الآية لاستشهاد المرأتين أن لا يكون رجل، فإنما هو - والله أعلم - لأن المطلوب في حق النساء الستر والصيانة، والشهادة تستدعي البروزَ، وحضورَ مجالس الحكام، والتعرضَ لطعن المشهود عليه. ¬

_ (¬1) (5/ 280 مع "الفتح"). (¬2) البخاري (304). وأخرجه مسلم (889) وليس فيه لفظ الموعظة.

فقد اتضح بحمد الله تبارك وتعالى أنه ليس في الآية ما يتجه معه أن يقال: إن الحديث مخالف لظاهر القرآن، بل ثبت أن فيها ما يشهد له بالصحة. وأما المخالفة لبعض الأحاديث الصحيحة, فذكروا ها هنا ما جاء في قصة الأشعث بن قيس [2/ 151] أنه ادعى علي رجل، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "شاهداك أو يمينه" (¬1). وحديث "الصحيحين" (¬2) عن ابن عباس مرفوعًا: "لو يُعطى الناسُ بدعواهم لادعى ناسٌ دماءَ رجال وأموالَهم، ولكن اليمين على المدعى عليه" لفظ مسلم. والجواب عن الحديث الأول: أنه في "الصحيحين" وغيرهما من طريق أبي وائل شقيق بن سلمة عن الأشعث بن قيس، واختلفت ألفاظ الرواة في ما قاله النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ففي رواية (¬3): "شاهداك أو يمينه"، وفي أخرى (¬4): "بيِّنتك أو يمينه"، وفي ثالثة أنه بدأ فقال للأشعث: "ألك بينة؟ ". قال الأشعث: قلت: لا. قال: "فليحلف". هكذا في "صحيح البخاري" (¬5) في كتاب الأحكام في باب الحكم في البئر من طريق سفيان الثوري عن منصور والأعمش عن أبي وائل. وهكذا رواه أبو معاوية عن الأعمش إلا أنه قال: "فقال لليهودي: احلفْ". أخرجه البخاري (¬6) في كتاب ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6677) ومسلم (138) من حديث الأشعث. (¬2) البخاري (4552) ومسلم (1711). (¬3) عند البخاري (2516، 2670) ومسلم (138/ 221). (¬4) عند البخاري (4550، 6677). (¬5) رقم (7183). (¬6) رقم (2667) وأيضًا (2417).

الشهادات من "صحيحه"، باب سؤال الحاكم المدعي: ألك بينة؟ ونحوه في "صحيح مسلم" (¬1) و"مسند أحمد" (ج 5 ص 211) (¬2) من طريق أبي معاوية ووكيع عن الأعمش - إلى غير ذلك. فلا ندري ما هو اللفظ الذي نطقَ به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لكنْ أجلُّ مَن روى الحديث عن أبي وائل منصورٌ والأعمش، وأجلُّ مَن رواه عنهما سفيان الثوري، وهو إمام في الإتقان والفقه، وروايته هي الأشبه بآداب القضاء: أن يبدأ القاضي فيسأل المدعي: أله بيِّنة؟ فإن لم يكن له بينة وجَّه اليمينَ على المدعى عليه. والبينة كلُّ ما بيَّن الحق، فتصدق على البينة التامة، وهي ما لا يحتاج معها إلى يمين، وبالبينة (¬3) الناقصة وهي ما يحتاج معها إلى يمين. على أنه لو ثبت أن لفظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "شاهداك أو يمينه" فدلالةُ هذا على نفي القضاء بشاهد ويمين ليست بالقوية، ودلالة أحاديث القضاء بالشاهد واليمين واضحة. فإن قيل: يقوِّي هذه أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة. قلت: فإن ظاهرها يقتضي أن لا تقبل شهادة رجل وامرأتين. فإن قيل: يجوز أن يكون الأشعث قد علم قبولَ رجل وامرأتين. قلت: ويجوز أن يكون قد علم قبول شاهد ويمين. والحق أنه يجوز أن لا يكون قد [2/ 152] علِمَ ذا ولا ذاك، وليس هناك محذور؛ لأن من شأن ¬

_ (¬1) رقم (138/ 220). (¬2) رقم (21837). (¬3) كذا في الأصل، والأوفق للسياق: "على البينة".

المدعي أن يكون حريصًا على إظهار كلِّ ما يؤمِّل أن ينفعه، فلو كان له شاهد وامرأتان، أو شاهد فقط، أو امرأة واحدة، وقيل له: "شاهداك أو يمينه" = لقال: لا أجد شاهدين، ولكني أجد كذا. وقد نازع في تحليف المدعى عليه كما في بقية القصة، فإن فيها "قلت: يا رسول الله ما لي بيمينه؟ وإن تجعلها بيمينه تذهب بئري، إن خصمي امرؤ فاجر". أفتراه ينازع في هذا، ويأخذ بما يُشعِر به قولُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم إن كان ما قاله "شاهداك"، فلا يقول: لي شاهد واحد، إن كان له؟ وأما الحديث الثاني، فأوله يبيِّن آخره، ويدل على أن محلّ قوله: "اليمين على المدعى عليه" حيث لا يكون للمدعي إلا دعواه فقط. وكما أنه لا يتناول من له شاهدان, لأنه لم يُعطَ بمجرد دعواه، وإنما أُعطِي بدعواه مع شهادة الشاهدين، فكذلك لا يتناول من له شاهد, لأنه إن أُعطِي فلم يُعطَ بمجرد دعواه. وأما ما يقال: إن اختصاص المدعى عليه باليمين أصل من الأصول، فحديثُ القضاء بشاهد ويمين المدعي مخالفٌ للأصول = فتهويل. ويمكن دفعه بأن المدعي لما أقام شاهدًا عدلاً صار الظاهر بيده، فإذا أصرَّ المدعى عليه على الإنكار فهو مدّعٍ لبطلان ذاك الظهور، فقد صار المدعي في معنى المدعى عليه، وصار المدعى عليه في معنى المدعي. ويمكن معارضته بأصل آخر، وهو: أنه لا يحلَّف المدعى عليه مع وجود بينة للمدعي. فإن قيل: ذاك إذا كانت بينة تامة. قلت: لنا أن نمنع هذا. ويتحصل من ذلك أن المتفق عليه أنه لا يمين للمدعي حيث لا شاهد له، ولا يمين للمدعى عليه مع وجود بينة تامة. ويبقى ما إذا كان للمدعي شاهد واحد مترددًا بين هذين الأصلين، فيؤخذ فيه بالدليل

الخاص به، وقد ثبت الحديث بتحليف المدعي، فإن حلف صارت البينة في معنى التامة، وإن أبى صار في معنى من لا شاهدَ له أصلاً. والله الموفق. وأما الانقطاع الثاني (¬1) وهو بين قيس وعمرو، فلا وجه له، ولم يقله من يُعتَدُّ به. وقد تقدم أن البخاري كأنه استبعد صحة الحديث، ثم لم يكن عنده إلا أنه حدس أن عمرًا لم يسمعه [2/ 153] من ابن عباس، وقد تقدم الكلام معه في ذلك. وهو الذي يشدِّد في اشتراط العلم باللقاء، فلو كان هناك مجال للشك في سماع قيس من عمرو لما تركه البخاري والتجأ إلى ذاك الحدس الضعيف الذي لا يُجدِي. وقيس وُلِدَ بعد عمرو، ومات قبله. وكان معه بمكة، وسمع كلٌّ منهما من عطاء وطاوس وسعيد بن جبير ومجاهد وغيرهم. وكان عمرو لا يدع الخروج إلى المسجد الحرام والقعود فيه إلى أن مات، كما تراه في ترجمته من "طبقات ابن سعد" (¬2). وكان قيس قد خلف عطاء في مجلسه كما ذكره ابن سعد أيضًا (¬3). وسمع عمرو من ابن عباس وجابر وابن عمر وغيرهم، ولم يدركهم قيس. فهل يُظَن بقيس أنه لم يلقَ عمرًا، وهو معه بمكة منذ ولد قيس إلى أن مات؟ أو لم يكونا يصلّيان معًا في المسجد الحرام الجمعة والجماعة؟ أو لم يكونا يجتمعان في حلقة عطاء وغيره في المسجد؟ ثم كان لكل منهما حلقة في المسجد قد لا تبعد إحدى الحلقتين عن الأخرى إلا بضعة أذرع. أوَ يُظنُّ بقيس أنه استنكف عن (¬4) ¬

_ (¬1) تقدَّم الانقطاع الأول (ص 239). (¬2) (5/ 479). (¬3) المصدر السابق (5/ 483). (¬4) (ط): "من". والمثبت من (خ).

السماع من عمرو لأنه قد شاركه في صغار مشايخه، ثم يرسل عنه إرسالاً؟ وقد قاتل الأستاذ أشدَّ القتال لمحاولة دفع قولهم: إن أبا حنيفة الذي ولد سنة ثمانين بالكوفة ونشأ بها مُعرضًا عن سماع الحديث لم يسمع من أنس الذي عاش بالبصرة وتوفي بها سنة إحدى وتسعين، وقيل: بعدها بسنة أو سنتين. وليس بيده إلا أنه قد قيل: إن أبا حنيفة رأى أنسًا! وقد تعرضت لذلك في ترجمة أحمد بن محمَّد بن الصلت من قسم التراجم. ثم ترى الأستاذ هنا يجاري أصحابه في توهمهم الباطل مع وضوح الحال. وسبب الوهم في هذا أن الطحاوي ذكر هذا الحديث فقال (¬1): "وأما حديث ابن عباس فمنكر, لأن قيس بن سعد لا نعلمه يحدَّث عن عمرو بن دينار بشيء". فتوهم جماعة - من آخرهم الأستاذ الكوثري - أن الطحاوي قصد بهذا أن قيسًا عن عمرو منقطع، لعدم ثبوت اللقاء، بناءً على القول باشتراط العلم به، القول الذي ردَّه مسلم في مقدمة "صحيحه"، ونقل إجماع أهل العلم على خلافه. وعبارة الطحاوي لا تعطي ما توهَّموه، فإنه ادعى أن الحديث منكر، ثم وجَّه ذلك بقوله: "لأن قيس بن سعد لا نعلمه يحدِّث عن عمرو بن دينار بشيء", ولم يتعرَّض لسماعه منه ولقائه له [2/ 154] بنفي ولا إثبات. ولا ملازمة بين عدم التحديث وعدم اللقاء أو السماع، فإن كثيرًا من الرواة لقوا جماعة من المشايخ وسمعوا منهم، ثم لم يحدِّثوا عنهم بشيء. فإن قيل: إنما ذاك لاعتقادهم ضعف أولئك المشايخ، وعمرو لم يستضعفه أحد. ¬

_ (¬1) "معاني الآثار" (4/ 145).

قلت: بل قد يكون لسبب آخر، كما امتنع ابن وهب من الرواية عن المفضَّل بن فَضالة القِتْباني لأنه قضى عليه بقضية، وامتنع مسلم من الرواية عن محمَّد بن يحيى الذهلي لما جرى له معه في شأن اختلافه مع البخاري. فكأن الطحاوي رأى أن قيسًا لو كان يروي عن عمرو لجاء من روايته عنه عدة أحاديث, لأن عمرًا كان أقدم وأكبر وأجلّ، وقد سمع من الصحابة، وحديثه كثير مرغوب فيه، وكان قيس معه بمكة منذ ولد. فحدَسَ الطحاوي أن قيسًا كان ممتنعًا من الرواية عن عمرو، فلما جاء هذا الحديث استنكره، كما قد نستنكر أن نرى حديثًا من رواية ابن وهب عن المفضل، أو من رواية مسلم عن محمَّد بن يحيى. فإن قيل: فقد يكون لاستنكاره خشي انقطاعه. قلت: كيف يُبنَى على ظنِّ امتناع قيسٍ من الرواية عن عمرو نفسه أن يُحمَل هذا الحديث على أنه أرسله عنه؟ بل المعقول أنه إذا امتنع من الرواية عنه نفسِه كان أشد امتناعًا من أن يروي عن رجل عنه، فضلاً عن أن يُرسِل عنه، أو بعبارة أخرى يدلِّس، وقيس غير مدلّس. فإن قيل: فعلى ماذا يُحمل؟ قلت: أما الطحاوي، فكأنه خشي أن يكون سيف - وهو راوي الحديث عن قيس - أخطأ في روايته عن قيس عن عمرو. فإن قيل: فهل تقبلون هذا من الطحاوي؟ قلت: لا، فإن أئمة الحديث لم يُعرِّجوا عليه. هذا البخاري مع استبعاده لصحة الحديث - فيما يظهر - إنما حدسَ أن عمرًا لم يسمعه من ابن عباس،

وذلك يقضي أن الحديث عنده ثابت عن عمرو. وهذا مسلم أخرج الحديث في "صحيحه" (¬1)، وثبَّته النسائي (¬2) وغيره. وليس هناك مظنة للخطأ. وسيف ثقة ثبت، لو جاء عن مثله عن ابن وهب عن المفضل بن فضالة، أو عن مسلم [2/ 155] عن محمَّد بن يحيى، لوجب قبوله؛ لأن المحدِّث قد يمتنع عن الرواية عن شيخ، ثم يُضطرُّ إلى بعض حديثه. هذا على فرض ثبوت الامتناع، فكيف وهو غير ثابت هنا؟ بل قد جاء عن قيس عن عمرو حديث آخر، روى وهب بن جرير عن أبيه قال: "سمعت قيس بن سعد يحدِّث عن عمرو بن دينار ... " ووهب وأبوه من الثقات الأثبات. ذكر البيهقي ذلك في "الخلافيات"، ثم قال: "ولا يبعد أن يكون له عن عمرو غير هذا". نقله ابن التركماني في "الجوهر النقي" (¬3)، ثم راح يناقش البيهقي بناءً على ما توهموه أن مقصود الطحاوي الانقطاع، ودعوى أنه لم يثبت لقيس لقاء عمرو، وقد مرَّ إبطال هذا الوهم. والطحاوي أعرف من أن يدّعي ذلك، لظهور بطلانه، مع ما يلزمه من اتهام قيس بالتدليس الشديد الموهِم للقاء والسماع، على فرض أن هناك مجالاً للشك في اللقاء. وقد بيَّنا أن الطحاوي إنما حام حول الامتناع، والحق أنه لا امتناع، ¬

_ (¬1) رقم (1712). (¬2) في "السنن الكبرى" (5967). قال: هذا إسناد جيد، وسيف ثقة، وقيس ثقة، وقال يحيى بن سعيد القطان: سيف ثقة. (¬3) (10/ 168). والحديث قد أخرجه الدارقطني (2/ 296) والخطيب في "تاريخ بغداد" (14/ 214) بالإسناد المذكور.

ولكن قيسًا عاجله الموت. ولما كان يحدِّث في حلقته في المسجد الحرام كان عمرو حيًّا في المسجد نفسه، ولعل حلقته كانت بالقرب من حلقة عمرو، فكان قيس يرى أن الناس في غنى عن السماع منه عن عمرو, لأن عمرًا معهم بالمسجد. فكان قيس يحدِّث بما سمعه من أكابر شيوخه، فإن احتاج إلى شيء من حديث عمرو في فتوى أو مذاكرة فذكره، قام السامعون أو بعضهم فسألوا عمرًا عن ذاك الحديث، فحدَّثهم به، فرووه عنه، ولم يحتاجوا إلى ذكر قيس. واستغنى سيف في هذا الحديث، وجرير في الحديث الآخر بالسماع من قيس, لأنه ثقة ثبت؛ ولعله عرض لهما عائق عن سؤال عمرو. هذا، وقد تابع قيسًا على رواية هذا الحديث عن عمرو بن دينار محمدُ بن مسلم بن سَوسَن الطائفي. ذكر أبو داود في "السنن" (¬1) حديث سيف، ثم قال: "حدثنا محمَّد بن يحيى وسلمة بن شبيب، قالا: ثنا عبد الرزاق، نا محمَّد بن مسلم، عن عمرو بن دينار - بإسناده ومعناه. قال سلمة في حديثه: قال عمرو: في الحقوق". وأخرجه البيهقي في "السنن" (ج 10 ص 168) من طريق عبد الرزاق ومن طريق أبي حذيفة، كلاهما عن الطائفي. والطائفي استشهد به صاحبا "الصحيح"، ووثقه ابن معين وأبو داود والعجلي ويعقوب بن سفيان وغيرهم. وقال [2/ 156] ابن معين مرة: "ثقة لا بأس به، وابن عيينة أثبت منه. وكان إذا حدَّث من حفظه يخطئ، وإذا حدَّث من كتابه فليس به بأس. وابن عيينة أوثق منه في عمرو بن دينار، ومحمد بن مسلم أحب إليَّ من داود العطار في عمرو". وداود العطار هذا هو داود بن ¬

_ (¬1) رقم (3609).

عبد الرحمن، ثقة متفق عليه، وثَّقه ابن معين وغيره. وقال عبد الرزاق: "ما كان أعجب محمَّد بن مسلم إلى الثوري". وقال البخاري عن ابن مهدي: "كتبه صحاح". وقال ابن عدي: "لم أر له حديثًا منكرًا". وضعَّفه أحمد، ولم يبيِّن وجه ذلك، فهو محمول على أنه يخطئ فيما يحدِّث به من حفظه. فأما قول الميموني: "ضعَّفه أحمد على كل حال، من كتاب وغير كتاب"، فهذا ظن الميموني، سمع أحمد يطلق التضعيف، فحمل ذلك على ظاهره. وقد دل كلام غيره من الأئمة على التفصيل، ولا يظهر في هذا الحديث مظنة للخطأ، وقد اندفع احتماله بمتابعة سيف (¬1). هذا, وللحديث شواهد. منها حديث ربيعة الرأي، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة (¬2): "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى باليمين مع الشاهد". كان سهيل أصيب بما أنساه بعضَ حديثه، ومن ذلك هذا الحديث، فكان سهيل بعد ذلك يرويه عن ربيعة ويقول: "أخبرني ربيعة - وهو عندي ثقة - أني حدَّثته إياه، ولا أحفظه". والنسيان علة غير قادحة. وقد رواه يعقوب بن حميد (¬3) عن محمَّد بن عبد الله العامري "أنه سمع سهيل بن أبي صالح يحدِّث عن أبيه، فذكره". ¬

_ (¬1) كذا في الأصل. وهو سبق قلم من المؤلف، والصواب: "قيس"، فهو المتابع للطائفي، كما هو ظاهر. [ن]. (¬2) أخرجه أبو داود (3610) والترمذي (1343) وابن حبان (5073) والبيهقي في "الكبرى" (10/ 168). (¬3) أخرجه من طريقه البيهقي (10/ 169).

وذكر ابن التركماني (¬1) أنه اختُلِف على سهيل. رواه عثمان بن الحكم، عن زهير بن محمَّد، عن سهيل، عن أبيه، عن زيد بن ثابت. قلت: إن كان هذا مخالفًا لذاك، فذاك أثبت (¬2). عثمان مصري، قال فيه أبو حاتم: "ليس بالمتين"، وزهير أنكروا [عليه] الأحاديث التي يرويها عنه غير العراقيين. وروى [2/ 157] المغيرة بن عبد الرحمن الحِزامي (¬3) عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى باليمين مع الشاهد". قال ابن التركماني (¬4): "مغيرة قال فيه ابن معين: ليس بشيء". أقول: هذا حكاه عباس عن ابن معين. وقد قال الآجري: "قلت لأبي داود: إن عباسًا حكى عن ابن معين أنه ضعَّف مغيرة بن عبد الرحمن الحزامي، ووثَّق (مغيرة بن عبد الرحمن) المخزومي. فقال: غلط عباس". والحزامي احتج به الشيخان وبقية الستة. وقال أبو زرعة: "هو أحبُّ إلى من [ابن] أبي الزناد وشعيب"، يعني في حديث أبي الزناد، كما في "التهذيب" (¬5). وشعيب هو ابن أبي حمزة ثقة متفق عليه. قال أبو زرعة: ¬

_ (¬1) في "الجوهر النقي" (10/ 169). (¬2) قلت: قد صحح الطريقين عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة، وعن سهيل عن أبيه عن زيد بن ثابت الإمامان: أبو حاتم وأبو زرعة الرازي، كما بينته في "الإرواء"، فإشارة ابن التركماني إلى إعلاله انتصارًا لمذهبه لا قيمة له. [ن]. (¬3) أخرجه من طريقه البيهقي (10/ 169). (¬4) "الجوهر النقي" (10/ 169). (¬5) (10/ 266).

"شعيب أشبَهُ حديثًا وأصحُّ من ابن أبي الزناد". وابن أبي الزناد تقدم ذكره في المسألة الثانية. وقد حكى الساجي عن ابن معين أنه قال: "عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن الأعرج عن أبي هريرة حجة". وحكى البيهقي (¬1) عن الإِمام أحمد أنه قال: "ليس في هذا الباب حديث أصح من هذا". قال ابن التركماني (¬2): "قال صاحب "التمهيد": أصحُّ إسنادٍ لهذا الحديث حديث ابن عباس. وهذا بخلاف ما قال ابن حنبل". أقول: كلاهما صحيح، ولا يفيد الحنفيةَ الاختلافُ في أيهما أصح. وذكر ابن عدي أن ابن عجلان وغيره رووا عن أبي الزناد عن ابن أبي صفية عن شريح قوله (¬3). وهذا لا يوهن رواية المغيرة، إذ لا يمتنع أن يكون الحديث عن أبي الزناد من الوجهين، وإنما كان يكثر من ذكر المروي عن شريح لأن شريحًا عراقي، والخلاف في المسألة مع العراقيين، ومن عادتهم أنهم يخضعون للمقاطيع عن أهل بلدهم، ويردون الأحاديث المرفوعة من حديث الحجازيين. ولذلك جاء عن محمَّد بن علي بن الحسين أنهم سألوه: أقضى النبي - صلى الله عليه وسلم - باليمين مع الشاهد؟ قال: "نعم، وقضى به علي رضي الله عنه بين أظهركم". ذكره البيهقي (ج 10 ص 173). ¬

_ (¬1) (10/ 169). (¬2) (10/ 169). وانظر "التمهيد" (2/ 138). (¬3) قلت: عزو هذا لابن عدي فيه نظر، فإنه ليس عنده في ترجمة المغيرة من "الكامل" (ق 386/ 1 - 2)، والمصنف أخذه من "التهذيب"، ولكن هذا لم يصرح بعزوه إلى ابن عدي وإنما هو من قول الذهبي في "الميزان" مصرحًا به أنه من قوله. [ن].

وذكر البخاري عن زكريا بن عدي أن ابن المبارك ناظر [2/ 158] الكوفيين في النبيذ، "فجعل ابن المبارك يحتج بأحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والمهاجرين والأنصار من أهل المدينة. قالوا: لا, ولكن من حديثنا! قال ابن المبارك ... عن إبراهيم قال: كانوا يقولون: إذا سكر من شراب، لا يحل له أن يعود فيه أبدًا. فنكَّسوا رؤوسهم. فقال ابن المبارك للذي يليه: رأيتَ أعجبَ من هؤلاء؟ أُحدِّثهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه والتابعين فلم يعبؤوا به، وأذكر عن إبراهيم فنكَّسوا رؤوسهم! " حكاه البيهقي في "السنن" (ج 8 ص 298). وروى عبد الوهاب الثقفي (¬1) - وهو ثقة - عن جعفر بن محمَّد، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى باليمين مع الشاهد". أعلَّه جماعة بأن جماعة رووه عن جعفر عن أبيه مرسلًا. ونازع في ذلك الدارقطني (¬2) ثم البيهقي (¬3) (¬4). وفي الباب أحاديث أخرى ومراسيل ومقاطيع عند الدارقطني والبيهقي (¬5) وغيرهما. والحديث أشهر من كثير من الأحاديث التي يدّعي ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (1344) وابن ماجه (2369) والدارقطني (4/ 212) من طريقه. (¬2) في "العلل" (3/ 96 - 98). (¬3) في "السنن الكبرى" (10/ 169، 170). (¬4) قلت: وهَبْ أن الراجح أنه مرسل. فهو مرسل صحيح الإسناد، وهو حجة عند الحنفية، لا سيَّما وله شواهد موصولة كما تقدم، فالحديث صحيح حجة عند الجميع لولا العصبية المذهببة عافانا الله منها. وقد خرجت كثيرًا من الشواهد لهذا الحديث عن جماعة من الصحابة في "إرواء الغليل". [ن]. (¬5) انظر "سنن" الدارقطني (4/ 212 وما بعدها) والبيهقي (10/ 170 وما بعدها).

لها الحنفية الشهرة، ويحتجون بها على خلاف القرآن والسنن المتواترة. وأما قول الأستاذ: "مع عدم ظهور دلالته على المتنازع فيه"، فيشير به إلى تأويلات أصحابه. فمنها زعمُ بعضهم في حديث مسلم: "قضى بيمين وشاهد" أن المعنى قضى بيمين حيث لا شاهدين، وقضى بشاهد حيث وجد الشهود، والمراد بـ (شاهد) الجنس. وهذا التأويل كما ترى! أولاً: لأنه خلاف الظاهر. ثانيًا: لأنه يجعل الكلام لا فائدة له، فإنه لا يخفى على أحد أنه يُقضى باليمين حيث لا بينة، ويقضى بالشاهدين حيث وُجدا. ثالثًا: حَمْلُ "شاهد" على الجنس، ثم إخراج الواحد منه لا يخفى حاله. [2/ 159] رابعًا: هذا اللفظ رواية زيد بن الحباب عن سيف. وقد رواه عبد الله بن الحارث بن عبد الملك المخزومي عن سيف، فقال: "قضى باليمين مع الشاهد". رواه الإمامان الشافعي وأحمد عن عبد الله بن الحارث، كما في "الأم" (ج 6 ص 273) (¬1) و"مسند أحمد" (ج 1 ص 323) (¬2). وزاد في رواية الشافعي: "قال عمرو: في الأموال". وفي رواية أحمد: "قال عمرو: إنما ذاك في الأموال". وعبد الله بن الحارث كأنه أثبت من زيد بن الحباب، فإن زيدًا قد وُصِف بأنه يخطئ، ولم يُوصَف بذلك عبد الله، وكلاهما ثقتان من رجال ¬

_ (¬1) (7/ 624، 625) ط. دار الوفاء. (¬2) رقم (2968). وأخرجه أيضًا النسائي في "الكبرى" (5967) وابن ماجه (2370) بهذا الإسناد واللفظ.

مسلم. وهكذا رواه محمَّد بن مسلم الطائفي (¬1) عن عمرو، إلا أنه قال: "قال عمرو: في الحقوق". فقوله: "قضى باليمين مع الشاهد" لا يمكن - ولو على بُعد بعيد - إجراءُ تأويلهم المذكور فيه. وراويه عن ابن عباس - وهو عمرو بن دينار ثقة جليل فقيه - أقرَّه على المعنى الذي نقول به، ولهذا خصَّه بالأموال. والقضاء باليمين حيث لا شهود قد يكون في غير الأموال، وكذلك القضاء بالشاهدين. وهكذا جاء لفظ هذا الحديث "قضى باليمين مع الشاهد" في حديث أبي هريرة وحديث جابر (¬2) وغيرهما. وفي بعض الشواهد والمراسيل والمقاطيع التصريحُ الواضح. ومن التأويلات: قول بعضهم في لفظ "قضى باليمين مع الشاهد": إن المعنى قضى بيمين المدعى عليه مع وجود شاهد واحد للمدعي. ورُدَّ بأوجه: منها: أنه خلاف الظاهر، فإن الظاهر أن المعية بين اليمين والشاهد، وأنه قضى بهما معًا. ومنها: أن الرواية الأولى تردُّ هذا التأويل. ومنها: أن راويه عن ابن عباس - وهو ثقة جليل فقيه - أقرَّه على ظاهره كما سلف. ¬

_ (¬1) أخرجه من طريقه أبو داود (3609) والبيهقي (10/ 168). (¬2) سبق تخريجهما.

ومنها: ما ورد في بعض الشواهد والمراسيل والمقاطيع من التصريح الواضح. وفي "الفتح" (¬1) عن ابن العربي أن بعضهم حمله على صورة خاصة، وهي أن رجلاً اشترى من آخر عبدًا مثلًا فادعى المشتري أن به عيبًا، وأقام شاهدًا واحدًا. فقال البائع: بعته بالبراءة، فيحلف المشتري أنه ما اشترى بالبراءة، ويردُّ العبد. أقول: حاصل هذا التأويل أن البائع أنكر أولاً العيب، فأقام المدعي وهو المشتري شاهدًا واحدًا، فاعترف المدعى عليه وهو البائع، ولكنه ادّعى دعوى أخرى، وهي أنه باع [2/ 160] بالبراءة. فأنكر المشتري، ولم يكن للبائع بينة، فيحلف المشتري. وأنت خبير أن هذه قضيتان: قضى في الأولى بالاعتراف، وفي الثانية باليمين، وذهب الشاهد لغوًا. فكيف يعبِّر الصحابة عن هذا بلفظ "قضى باليمين مع الشاهد"، و"قضى بيمين وشاهد"؟ فإن كلاًّ من هاتين العبارتين تعطي أن القضاء وقع باليمين والشاهد معًا. فإن قيل: قد يقال: لم يعترف البائع بل قال: لا عيب، فإن كان فلا يلزمني لأنني بعت بالبراءة. قلت: فعلى هذا إن حلف المشتري على وجود العيب وعدم البراءة، فقد قضى له في القضية الثانية بيمينه فقط، وفي الأولى بشاهده ويمينه وهو الذي تفرُّون منه. دان حلف على عدم البراءة فقط ومع ذلك قضى له بردَّ العبد، فقد قضى له في الثانية بيمينه فقط، وفي الأولى بشاهد واحد بلا يمين، ¬

_ (¬1) (5/ 282).

وهو أشدُّ مما تفرُّون منه. على أن الذي ينبغي في هذه الصورة أن لا يُقبَل قولُ البائع: "لا عيب ... "، بل يقال له: إما أن تعترف بوجود العيب، وإما أن تُصِرَّ على إنكارك. فإن اعترف فقد تقدم، وإن أصرَّ على إنكاره، قيل للمشتري: ألك شاهد آخر؟ فإن قال: لا، فعلى قولكم يقال للبائع: احلف، فإن حلف قضي له بيمينه (¬1) وذهب الشاهد لغوًا, ولم يحتج إلى دعوى البراءة. وإن أبى قضي بوجود العيب لنكول المدعى عليه، وذهب الشاهد لغوًا، وتمَّت القضية الأولى، ثم ينظر في القضية الثانية. وعلى قولنا: يقال للمشتري: احلف مع شاهدك، فإن حلف ثبت العيب بشاهده ويمينه، ثم ينظر في القضية الأخرى. وإن أبى قيل للبائع: احلف أنه لا عيب، فإن حلف قُضي له بيمينه واستُغني عن الدعوى الثانية وذهب الشاهد لغوًا. وإن أبى قيل للمشتري: احلف على وجود العيب (وهذه يمين مردودة ليست هي التي تكون مع الشاهد)، فإن حلف قُضي له بيمينه مع نكول البائع واستُغني عن الشاهد، ثم ينظر في القضية الثانية. وان أبى سقط حقه واستُغني عن القضية الثانية. فإن قال قائل: أنا أخالفكم في ردِّ اليمين وفي القضاء بالشاهد واليمين إلا في صورة واحدة، وهي ما إذا كان للمدعي شاهد واحد ونكَلَ المدعى عليه عن اليمين، فيحلف المدعي [2/ 161] ويستحق، ففي هذه يقضى له بشاهده مع يمينه. قلنا: فأنت تقضي للمدعي الذي لا شاهد له بمجرد نكول خصمه، ولا تقضي للمدعي الذي له شاهد بمجرد نكول خصمه، بل تكلِّفه اليمين فوق ¬

_ (¬1) في (ط): "يمينه". والتصويب من (خ).

ذلك. فكأن وجود شاهد للمدعي يوهن جانب المدعي، حتى لو لم يكن له شاهد لكان جانبه أقوى، فهل يقول هذا أحد؟! وأما قول الأستاذ: "والليث بن سعد ردَّ على مالك ردًّا ناهضًا في رسالته إليه". فهذه الرسالة في "إعلام الموقعين" (ج 3 ص 82) (¬1) وهي تفيد أن مالكًا كتب إلى الليث يعاتبه في إفتائه بأشياء على خلاف ما عليه جماعة أهل المدينة، فأجابه الليث بهذه الرسالة. فذكر أولاً أنه قد كان في الأقطار الأخرى جماعة من الصحابة، وكان الخلفاء يكتبون إليهم، قال: "ومن ذلك القضاء بشاهدٍ ويمين صاحب الحق، وقد عرفت أنه لم يزل يُقضى بالمدينة به ولم يقضِ به أصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالشام ولا بحمص ولا بمصر ولا بالعراق، ولم يكتب به إليهم الخلفاء الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي. ثم ولي عمر بن عبد العزيز، وكان كما قد علمت في إحياء السنن والجِدِّ في إقامة الدين والإصابة في الرأي والعلم بما قد مضى من أمر الناس. فكتب إليه رُزيق ... إنك كنت تقضي بالمدينة بشهادة الشاهد الواحد ويمين صاحب الحق. فكتب إليه عمر بن عبد العزيز: إنا كنا نقضي بذلك بالمدينة، فوجدنا أهل الشام على غير ذلك، فلا نقضي إلا بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين". مقصود الليث - فيما يظهر - أن الأحكام على ضربين: منها ما لا يسع فيه الاختلاف، ومنها ما دون ذلك. وأن الخلفاء كانوا يكتبون إلى مَن ¬

_ (¬1) (3/ 94 - 100) ط، محمَّد محيي الدين عبد الحميد. وقد نقلها ابن القيم من كتاب "المعرفة والتاريخ" للفسوي (1/ 687 - 695). ورواها أيضًا ابن معين في "التاريخ" (4/ 487 - 497).

بالأقطار الأخرى من الصحابة في الضرب الأول كيلا يخالفوا فيه، وإذا وقع منهم فيه خلاف كتب إليهم الخلفاء ينهونهم عنه. وأما الضرب الثاني فكانوا يُقِرُّون فيه كلَّ مجتهد على اجتهاده، وأنّ هذه القضية من الضرب الثاني. كان الخلفاء في المدينة يقضون بالشاهد واليمين، وكان مَن بالأقطار التي سمَّاها الليث من الصحابة لا يقضون بذلك فيما يعلمه الليث، ولم يكتب إليهم الخلفاء يأمرونهم بالقضاء به، فدلَّ ذلك أنها عندهم من الضرب الثاني. واستشهد لذلك بما ذكره عن عمر بن عبد العزيز، وأنه لما كان بالمدينة كأن فقهاءها ناظروه فقوي عنده قولهم فكان يقضي به. ثم لما صار بالشام كأن [2/ 162] فقهاءها ناظروه، فقوي عنده قولهم فصار إليه. فيرى الليث أن ما كان من الضرب الثاني فليس لمالك أن يجعل عمل أهل المدينة فيه حجةً على الناس كلهم، ولا أن ينكر على من يخالفه فيه. أقول: فهذا معنى معقول مقبول في الجملة، والمدار على الحجة، وإن حُمِل كلامُ الليث على غير هذا المعنى صار زللًا داحضًا لا ردًّا ناهضًا. ونحن لم نَدَّعِ أن القضاء بالشاهد الواحد مع يمين صاحب الحق من الضرب الأول الذي لا يسع خلافه وينقض قضاء القاضي بخلافه، وإنما ادعينا أنه ثابت بالحجة، وأن المخالف له مخطئ. وليس في رسالة الليث ما يدفع هذا. وأما قول الأستاذ: "حتى إن يحيى الليثي ... "، فمخالفة بعض المالكية والشافعية للإمامين إنما تدل أنه قَوِيَ عند المخالفين أنه لا يُقضى بذلك، وقوته عندهم لا تستلزم قوته في نفسى الأمر، والمدار على الحجة وقد أقمناها.

وأما قول الأستاذ: "فسَلْ قضاة العصر ... "، فجوابه: أنها إذا روعيت العدالة الشرعية كما يجب لم يكن هناك اختلال يُعتدُّ به، وقد قضى أهل العلم بذلك ويقضُون به إلى اليوم في بعض الأقطار، ولا يدرك اختلال؛ وإنما الاختلال في جواز القضاء بشهادة فاسقَيْن على ما يقوله الحنفية. أوَ رأيتَ لو قال قضاة العصر: قد فسد الزمان، فلا يُقضى بأقل من ثلاثة شهود على شرط أن تكون القرائن مساعدة لشهادتهم؟ وكما أن الفساد يُخشى مِن ادعاء الباطل، فإن أشدَّ منه يُخشَى مِن جحد الحق. فإن شدَّدتَ بالشهادة دفعًا لما يُخشى من ظلم المدعي للمدعى عليه، فقد سهَّلتَ بذلك ظلمَ المدعى عليه للمدعي. وهذا أشدُّ، فإن الغالب أن يكون المطالِب عند الحاكم هو الضعيف الذي لا يمكنه استيفاء الحق من المدعى عليه، فكيف أن يظلمه؟ فالقسطاس المستقيم هو اتباع الشريعة، والله عَزَّ وَجَلَّ متكفِّل بحفظها، وضامن بقدره أن يسدِّد المتبعَ لها، ويسُدَّ ما قد يقع من الخلل في تطبيق العمل بشرعه على حكمته في نفس الأمر أو يَجْبُرَه. وهو سبحانه اللطيف الخبير، على كل شيء قدير. ****

تتمة

[2/ 163] تتمة يعلم من مناظرة الشافعي لمحمد بن الحسن (¬1) في هذه المسألة أن محمدًا - مع إنكاره أن يقضي بشاهد ويمين، وردِّه الأحاديث في ذلك، وزَعْمه أن ذلك خلاف ظاهر القرآن - كان يقول: إنَّ نسبَ الطفل إلى المرأة، وبالتالي إلى صاحب الفراش، مع ما يتبع ذلك من أحكام الرق والحرية والتناكح والتوارث واستحقاق الخلافة وغير ذلك، يثبت بشهادة القابلة وحدها. فاعترضه الشافعي بأن عمدته في ذلك أثر "رواه عن علي رضي الله عنه رجل مجهول يقال له: عبد الله بن نجي، ورواه عنه جابر الجعفي (¬2) وكان يؤمن بالرجعة". فحاول الأستاذ الجواب عن ذلك بوجوه: الأول: أن قبول شهادة القابلة إنما هو في استهلال المولود ليصلَّى عليه أو لا يصلَّى. الثاني: أن ابن نجي غير مجهول، فقد روى عنه عدة، ووثَّقه النسائي وابن حبان. الثالث: أن جابرًا الجعفي روى عنه شعبة مع تشدده، ووثَّقه الثوري. الرابع: أنه قد تابعه عطاء بن أبي مروان عن أبيه عن علي. ¬

_ (¬1) انظر "معرفة السنن والآثار" (14/ 261). (¬2) أخرجه من طريقه عبد الرزاق في "المصنف" (13986) والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 151).

الخامس: أنه قد روى عبد الرزاق بسنده إلى عمر قبول شهادة القابلة، والأسلمي الذي في السند مرضي عند الشافعي. السادس: قال الأستاذ: "محمَّد بن الحسن استنبط قبول قول المرأة فيما يخصها معرفته من قوله تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228]، ووجه دلالته أن الاستهلال مما تشهده النساء دون الرجال عادةً، فإبطالُ شهادتهن ينافي قبول قول المرأة فيما تخصُّها معرفته كما هو المستفاد من الآية". أقول: أما الأول، فالموجود في كتب الحنفية أنه يثبت النسب بشهادة القابلة عند أبي حنيفة وصاحبيه في بعض الصور، وعندهما في صور أخرى. فمن شاء فليراجع كتبهم (¬1)، وليقل معي: أحسن الله عزاء المسلمين في علم الأستاذ محمَّد زاهد الكوثري! فأما القبول في الاستهلال ليصلَّى عليه أو لا يصلَّى، فهذا يوافق عليه الشافعي وغيره، وليس بشهادة، وإنما هو خبر لا يترتب عليه أمر له خطر. [2/ 164] وأما الثاني، فابن نجي كان مجهول الحال عند الشافعي. وقال البخاري: "فيه نظر". وهذه الكلمة من أشد الجرح عند البخاري، كما ذكره الأستاذ في كلامه في إسحاق بن إبراهيم الحنيني، وتراه في ترجمة إسحاق من قسم التراجم (¬2). فأما توثيق ابن حبان فقاعدته توثيق المجاهيل، كما ذكره الأستاذ غير مرة، ومرَّت الإشارة إليها في القواعد، وفي ترجمة ¬

_ (¬1) انظر "فتح القدير" (4/ 356 وما بعدها) و"حاشية ابن عابدين" (3/ 545). (¬2) رقم (42).

ابن حبان من قسم التراجم (¬1). وتوثيق النسائي معارَض بطعن البخاري، على أن النسائي يتوسع في توثيق المجاهيل، كما تقدَّم في القواعد. وأما الثالث، فجابر الجعفي استقرَّ الأمر على توهينه، ثم هو معروف بتدليس الأباطيل، ولم يصرِّح بالسماع. وأما الرابع، فذاك الخبر تفرد به سويد بن سعيد (¬2)، وهو إنما يصلح للاعتبار فيما صرَّح فيه بالسماع وحدَّث به قبل عماه، أو بعده وروجع فيه فثبت. وهَبْ أنه يصلح للاعتبار في هذا، فأي فائدة في ذلك، وخبر الجعفي طائح؟! وأما الخامس، فالأسلمي هو إبراهيم بن محمَّد بن أبي يحيى هالك، وارتضاء الشافعي له إنما هو فيما سمعه عنه، إما لأنه سمع من أصوله، وإما لأنه كان متماسكًا ثم فسد بعد ذلك (¬3)، وهذا الخبر لم يسمعه منه الشافعي. ومع ذلك فشيخه فيه إسحاق بن عبد الله الفَرْوي، وهو هالك باتفاقهم. والزهري عن عمر منقطع. ثم إن كان المراد بالقبول على الاستهلال القبولَ لأجل الصلاة على ¬

_ (¬1) رقم (200). (¬2) في "السنن الكبرى" للبيهقي (10/ 151): "سويد بن عبد العزيز"، وضعَّفه البيهقي. وانظر "تهذيب التهذيب" (4/ 276). (¬3) قلت: وإما لأنه لم يتبين له حاله، ولم يعرفه كما عرفه غيره من الأئمة كمالك وأحمد وغيرهما، قال ابن أبي حاتم في "آداب الشافعي ومناقبه" (ص 223) بعد أن روى عن الشافعي أنه كان يقول فيه: كان قدريًّا: "لم يَبِنْ له أنه كان يكذب، وكان يحسب أنه طعن الناسُ عليه من أجل مذهبه في القدر". [ن].

المولود، فليس هذا محل النزاع كما سلف. [2/ 165] وأما السادس، فقوله تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228] الكلام فيه على التوزيع، أي: لا يحل للمرأة أن تكتم ما خلق الله في رحمها. والنهي عن الكتمان يقتضي أنه مظنة أن يقع، وإنما يظن بالمرأة أن تكتم حيث كان لها غرض. فمآل النهي عن الكتمان إلى الأمر بالاعتراف، فغايةُ ما في هذا الدلالةُ على أنه يُقبل منها الاعتراف. فإذا ذكرت أنها قد تمَّت أقراؤها كان هذا اعترافًا بأنه لا نفقةَ لها، وادعاءً لأنه لا رجعةَ للزوج عليها. فيُقبل منها الاعتراف، ويُنظر في الادعاء، فإن قُبِل منها الادعاء أيضًا، فهل تجعلون الولادة من هذا القبيل؟ فإن قلتم: نعم، لزمكم أن تقبلوا قول الأم نفسها: هذا ابني من فلان، وتُثْبِتوا بذلك نسبه وميراثه وغير ذلك. فإن قلتم: إنما موضع الاستنباط أن الآية أشعرتْ بأنه يُقبل قول المرأة في الحيض والحمل، وأن علة ذلك هو أنه يتعسر العلم بذلك إلا من جهتها؛ فقلنا: والولادة يعسر العلم بها إلا من جهة النساء، فأخذنا من ذلك قبول شهادتهن (¬1) فيها. قلنا: أما قبول قولها وحدها في حيضها وحملها، فهذا مما تختصُّ هي بمعرفته دون غيرها. والولادة ليست كذلك، بل يطلع عليها غيرها من النساء. أفرأيتم إذا أخذتم من ذلك قبول شهادة النساء على الولادة، فمن أين أخذتم أنها تكفي امرأة واحدة؟ فقد تحضر عدة قوابل، وقد تحضر مع القابلة ¬

_ (¬1) في (ط): "شهادتين"، والتصويب من (خ).

عدة نساء، وقد يحيط رجال بالخيمة مثلًا بعد كشفها، والعلمِ بأنه ليس فيها إلا المرأة الحامل، ثم يحرسون الخيمة إلى أن تكشف فلا يكون فيها إلا المرأة وطفل معها، فيشهد الرجال شهادة محققة أنها ولدت ذاك الطفل. دع قضية الرجال فإنها نادرة، ولكن هلَّا (¬1) قلتم: دلَّت هذه الآية على قبول شهادة النساء في الولادة، ودلت آية الدَّين على اشتراط العدد، فيؤخذ من الآيتين قبول شهادة أربع نسوة كما يقول الشافعي؟ أوَ ليس إذا قبلتم شهادة امرأة واحدة فيما يختص به النساء لزمكم قبول رجل واحد فيما يختص به الرجال، كما يتفق في الجامع يوم الجمعة، بل في كل شيء؟ إلا أنه إذا كفت امرأة واحدة فيما يختص به النساء، ورجل فيما يختص به الرجال، فما لا يختص لا يتجه فيه إلا أحد أمرين: إما أن يكفي الواحد رجلاً كان [2/ 166] أو امرأة، وإما أن يشترط رجل أو امرأتان، فقد دلت السنة على هذا فيما يتعلق بالأموال وزادتكم يمينًا. فإن قلتم: لكن الشافعي لا يقول بقبول شهادة المرأتين مع اليمين. قلنا: قد قال بذلك أستاذه مالك، وهو مذهب قوي، كما سلف. والله الموفق. ... ¬

_ (¬1) في (ط): "هل" خطأ، والتصويب من (خ).

المسألة السادسة عشرة نكاح الشاهد امرأة شهد زورا بطلاقها

المسألة السادسة عشرة نكاح الشاهد امرأة شهد زورًا بطلاقها في "تاريخ بغداد" (13/ 371 [373]) من طريق الحارث بن عمير قال: "سمعت أبا حنيفة يقول ... , قال الحارث بن عمير: وسمعته يقول: لو أن شاهدين شهدا عند قاضٍ أن فلان بن فلان طلَّق امرأته، وعلما جميعًا أنهما شهدا بالزور، ففرَّق القاضي بينهما، ثم لقيها أحد الشاهدين، فله أن يتزوج بها؟ قال: نعم. قال: ثم علم القاضي بعد، أله أن يفرِّق بينهما؟ قال: لا". قال الأستاذ (ص 37): "مسألة نفاذ حكم القاضي ظاهرًا وباطنًا هو مقتضى الأدلة، وإن كان شاهد الزور يأثم إثمًا عظيمًا، لكن لا يحول ذلك دون نفاذ حكم القاضي ظاهرًا أو باطنًا، وإلا لزم إباحة وطئها للزوج الأول في السرِّ فيما بينه وبين الله، وإباحة وطئها للزوج الجديد بحكم الحاكم، وأي قول يكون أقبح وأشنع من هذا؟ يكون لامرأة واحدة زوجان في حالة واحدة، أحدهما يجامعها في السر والآخر في العلانية. ونعترف أن أبا حنيفة لا يمكنه أن يرى مثل هذا الرأي رغم كل تشنيع، بل التشنيع يرتد على مخالفيه ومشنِّعيه كما صوَّرناه. وأبو حنيفة من أبرأ الناس من أن يُحدِث الفوضى في الأحكام، وأما عدم تفريق القاضي بينهما بعد علمه بحال الشاهدين، فليس من مسائل أبي حنيفة، وإنما مذهبه التروَّي في الحكم مطلقًا". أقول: يتفوَّه الأستاذ بالقبح والشناعة، وينسى ما في صنيعه هذا منهما! أما إباحتها لزوجها الحقيقي، فذلك حكم الله تبارك وتعالى من فوق سبع سماوات! وأما إباحتها لذلك الشاهد الفاجر، فإنما يقول بها أبو حنيفة. فأما مخالفوه - ومنهم: أصحابه أبو يوسف ومحمَّد وزفر - فإنهم قائلون

[2/ 167] بحرمتها عليه أشدَّ التحريم. والحاصل أن أبا حنيفة يقول: هي حرام في حكم الله تعالى على زوجها، مباحة في حكم الله تعالى للشاهد الفاجر! ومخالفوه يقولون بعكس هذا. غاية الأمر أن القاضي لجهله بما في نفس الأمر يحول بينها وبين زوجها، ويسلِّط الشاهد الفاجر عليها, ولا قبح في هذا ولا شناعة. أرأيت إذا ادعى رجل على امرأة أنها زوجته فحكم القاضي بذلك، وكانت المرأة في نفس الأمر أمَّ المدعي أو أختَه أو بنته، والقاضي لا يعلم، أليس يسلِّطه عليها في قول أبي حنيفة وغيره؟ ونظير مسألتنا ما إذا كان لزياد أَمَة، فادعى بكر أنها أَمَته، وأقام شاهدي زور، فقضى له القاضي. فأبو حنيفة يوافق في هذه أن الأَمَة لا تزال في مِلك زيد حلالاً له وحرامًا على بكر، وإن كان القاضي يحول بينها وبين زيد، ويسلِّط عليها بكرًا. وليت الأستاذ كان ذكر الأدلة التي زعم أن نفاذ حكم القاضي ظاهرًا وباطنًا هو مقتضاها فكنت أنظر فيها، وعسى أن تكون في ذلك فائدة، ولكن الأستاذ عدلَ عنها إلى سلاحه الوحيد من المغالطة والتهويل على عادته. ومن العجيب قوله: "وأما عدم تفريق القاضي بينهما بعد علمه ... ". أليس من المعلوم أنه في قول أبي حنيفة إذا علم حقيقة الحال قضى بأنها امرأة ذلك الشاهد الفاجر حلال له ظاهرًا وباطنًا؟ أوَ ليس إذا كان هذا قضاءه لم يكن هناك وجه عنده للتفريق بينهما؟ ***

المسألة السابعة عشرة القرعة المشروعة

[2/ 168] المسألة السابعة عشرة القرعة المشروعة في "تاريخ بغداد" (13/ 390 [407]) من طريق يوسف بن أسباط قال: "وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُقرع بين نسائه إذا أراد أن يخرج في سفر، وأقرع أصحابه، وقال أبو حنيفة: القرعة قمار". قال الأستاذ (ص 87): "وأما مسألة القرعة، فقد قصرها أبو حنيفة على موردها وقال: إنما يجري الإقراع عند إرادة السفر بين النساء، وعند القسمة التي ليس فيها إبطال حق ثابت، باعتبار أن القرعة وردت في ذلك على خلاف القياس". أقول: الذي في كتب الحنفية عن أبي حنيفة أنه لا حكم للقرعة، وإنما تُستحبُّ تطييبًا للنفس، ثم لا يلزم العمل بها، فللزوج أن يخرج بأي أزواجه شاء، حتى لو أقرَعَ فخرج سهمُ إحداهن، فله الخروج بغيرها. وهكذا في القسمة يكون حق التعيين للقاضي. وقد بقيت للقرعة موارد أخرى. ودعوى أنها خلاف القياس كأنه أريد بها أنها في الأصل قمار. وسنوضَّح بعون الله عَزَّ وَجَلَّ بطلان ذلك، ونُثبت أن القرعة في بابها قياس من أعدل الأقيسة وأقومِها وأوفقها بالأصول، وأن جعل التعيين إلى الزوج والقاضي في الفرعين السابقين هو المخالف للأصول. اعلم أن صورة القرعة قد تستعمل في أربعة أبواب: الباب الأول: أن يُقصد بها إبطالُ حقِّ صاحب الحق وجعلُه لمن لا حق له، كأن يقول الرجل لصاحبه: ألقِ خاتمَك، وأُلقي خاتمي، ونقترع عليهما، فأيُّنا خرج سهمُه استحقَّ الخاتمين. أو يقول أحدهما: أُقارِعك على خاتمي

هذا، فإن خرج سهمك أخذته أنت. أو يتداعيا دارًا في يد أحدهما، فيقال: أقرعوا بينهما، فإنْ خرج سهم المدعي أخذ الدار. الباب الثاني: أن يتنازعا حقًّا يمكن أن يكون لهما معًا, ولا دليل يرجِّح جانب أحدهما، كأن يتنازعا دارًا بيدهما معًا, ولا دليل لأحدهما، وحلف كلٌّ منهما أنها جميعها له، ليس لصاحبه منها شيء. [2/ 169] الباب الثالث: أن يختص الحقُّ بأحدهما بعينه، ويتعذَّر تعيينه، كمن طلَّق بائنًا إحدى امرأتيه، وتعذَّر تعيينُها. الباب الرابع: أن يكون الحق في الأصل ثابتًا لكلٍّ منهما، لكن اقتضى الدليل أن يُخَصَّ به أحدُهما، لا بعينه. فأما الباب الأول، فلا نزاع أن القرعة إذا استُعمِلت فيه فهي قمار، وكذلك الباب الثاني. وأما الباب الثالث ففيه نظر، وقد قال بعض الأئمة بصحة القرعة فيه. وأما الباب الرابع، فهو مورد القرعة. والفرق بينه وبين الأبواب الأولى بغاية الوضوح، فإنه إذا اقتضى الدليل أن يُخصَّ به أحدهما لا بعينه فما بقي إلا طلبُ طريقٍ للتعيين لا ميلَ فيه ولا حيفَ، فإذا ظفرنا بطريقٍ كذلك، لم يكن فيه إبطالُ حقٍّ ثابت ولا إثباتُ حقٍّ باطل، فما هو هذا الطريق؟ من كانت له امرأتان واحتاج إلى السفر واستصحابِ إحداهما فقط، فقد ثبت الدليل باعتراف أبي حنيفة أن له ذلك، وبقي التعيين. ومن مات عن ابنين، فقسم القاضي المال نصفين، فقد ثبت الدليل باعتراف أبي حنيفة أنه ينبغي تخصيص أحدهما بأحد النصفين والآخر بالآخر، وبقي التعيين.

فأبو حنيفة يقول: يعيِّن الزوج والقاضي، ومخالفوه يقولون: الزوج والقاضي منهيَّان عن الميل وعن كل ما يظهر منه الميل، ولا ريب أن تعيينهما برأيهما ميلٌ، أو يظهر منه الميل، والأصل في ذلك التحريم. فإباحتُه لهما مخالف للأصول والقياس، وفتحٌ لباب الهوى، ومنافٍ للحكمة. وإذا عيَّن الزوجُ برأيه إحدى امرأتيه ظنَّت الأخرى أنه إنما عيَّنها ميلًا إلى هواه، فحَزَنها ذلك، وأدَّى ذلك إلى مفاسد. وإذا عيَّن القاضي برأيه أحد النصفين لزيد، وكان بكرٌ يريده لنفسه، ظنَّ بكرٌ أن القاضي إنما مال مع هواه، وساءت ظنون الناس بالقاضي، وجرَّ ذلك إلى مفاسد. فإن قال أبو حنيفة: فما المخلص؟ قالوا: قد بيَّنه الله تعالى ورسوله، وهو القرعة. فإن قال: القرعة قمار. قيل له: إنما تكون قمارًا في غير هذا الباب كما تقدم شرحه. وإذا صحَّ أن أبا حنيفة استحبَّ القرعة، فقد لزمه أنها ليست في هذا الباب بقمار وأنها مشروعة. وإذا اعترف بأنها مشروعة، فما بقي إلا أن يجب العمل بها، أو يجوز تركُها وجعلُ [2/ 170] التعيين إلى الزوج والقاضي. والحجة قائمة على منع أن يكون التعيين إلى الزوج والقاضي, لأنه فتحٌ لباب الميل كما تقدَّم، ولا ضرورة إليه ولا حاجة. وقد وردت القرعة في فروع أخرى من الباب الرابع، وبذلك ثبت أنها في ذلك الباب أصل من الأصول الشرعية يقاس عليه ما يشبهه. قال الله تبارك وتعالى في قصة مريم: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} إلى أن قال: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران: 37 - 44].

فالقوم - وفيهم نبي الله زكريا عليه السلام - اختصموا في كفالة مريم، ففزعوا إلى القرعة، وظاهرٌ أنهم إنما يرضون بالقرعة عند تساويهم في أصل الاستحقاق واقتضاء مصلحة الطفلة أن يختص بكفالتها أحدهم. فقص الله تبارك وتعالى ذلك في كتابه، وأخبر أنه كفَّلها زكريا، أي - والله أعلم - بأن أخرج سهمه في القرعة، فكان هو القارع. وقال عَزَّ وَجَلَّ في قصة يونس: {إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} [الصافات: 140 - 142] ذهب يونس إلى ذلك مشحون - أي مُوقَر - ليركب فيه، فكأنه - والله أعلم - طلع إلى الفلك هو وجماعةٌ حاجتهم كحاجته، فكأن صاحب الفلك أخبرهم أنه لا يمكنه أن يسافر بهم جميعًا لأن فلكه مشحون أي موقر، وطلب إليهم أن ينزل بعضهم، فتشاحُّوا، فاقترعوا، فطلع سهم يونس في المدحضَين، أي في الذين خرجت القرعة بأن ينزلوا. والظاهر أن الفلك كان لا يزال بالمرفأ، وليس في النزول منه خطر ظاهر، لكن الله عَزَّ وَجَلَّ قضى على يونس بما قضى. وفي "الصحيحين" (¬1) من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا ... ". وفي "صحيح مسلم" (¬2) من حديثه أيضًا مرفوعًا: "لو تعلمون - أو يعلمون - ما في الصف المقدَّم لكانت قرعةً". أي أنهم يحضرون معًا، ويكثُرون ¬

_ (¬1) البخاري (615، 653) ومسلم (437). (¬2) رقم (439).

ويتشاحُّون، ولا يكون هناك مُرجِّح، فيحتاج إلى القرعة. وفي "صحيح البخاري" (¬1) وغيره من حديث أم العلاء قالت: "طار لنا عثمان بن مظعون في السكنى حين اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين ... ". [2/ 171] وفيه (¬2) من حديث النعمان بن بشير مرفوعًا: "مَثَلُ القائمِ على حدود الله والواقعِ فيها كمثل قومٍ استهموا على سفينة ... ". وفي "صحيح مسلم" (¬3) وغيره عن عمران بن حصين: "أن رجلاً أعتق ستة مملوكين عند موته، لم يكن له مال غيرهم، فدعا بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجزَّأهم أثلاثًا، ثم أقرعَ بينهم، فأعتق اثنين، وأرقَّ أربعة". ووجه ذلك أن تصرُّفَ المريض مرضَ الموت وصيةٌ يصح منها الثلث فقط، ومن الأصول الشرعية مراعاةُ أن تَعتِق الرقبةُ كاملةً، كما ثبت فيمن أعتق في حال صحته بعضَ مملوكه أنه يَعتِق عليه كلُّه، وفيمن أعتق شركًا له في مملوك أنه إن كان المُعِتقُ موسرًا عتَق المملوك كلُّه وغرِم المعتِقُ قيمةَ ما زاد على نصيبه لشريكه. وإن كان مُعسِرًا فقد قال بعض أهل العلم: يعتق ¬

_ (¬1) رقم (1243). وأخرجه أيضًا أحمد في "المسند" (27457، 27458) والطبراني في "الكبير" (25/ 140) والحاكم في "المستدرك" (1/ 378) والبيهقي في "الكبرى" (4/ 76). (¬2) البخاري (2493). (¬3) رقم (1668). وأخرجه أيضًا أبو داود (3958 وما بعدها) والترمذي (1364) والنسائي (4/ 64). ورواه مالك في "الموطأ" (2/ 774) عن الحسن البصري وابن سيرين مرسلاً.

المملوك كلُّه، ويسعى في قيمة ما زاد على نصيب المعتِق حتى يدفعها إلى الشريك، وقال آخرون: قد عتَق منه ما عتَق، ويبقى باقيه على الرق. ومن المعنى في مراعاة عتق الرقبة كاملةً أن مقصود العتق هو أن يحصل للمملوك وعليه جميع الحقوق المختصة بالأحرار، ويغني عن المسلمين غناء الحر، وليس المبعَّض كذلك. فإن من حقوق الأحرار ما لا يحصل له ولا عليه منها شيء، ومنها ما يحصل له جزء منه فقط، ومع ذلك يكون التبعيض منشأ نزل مستمر بين المبعَّض ومالك بعضه، فيلحق الضرر بكلًّ منهما. ويشتبه الحكم في كثير من الفروع على المفتي والقاضي، كما تراه في أحكام المبعَّض في كتب الفقه. فجاءت السنة بأن يُجزَّأ الستّةُ ثلاثةَ أجزاء، ليَعتقَ اثنان كاملان، فكلُّهم متساوون في أصل الحق، واقتضى الدليل أن يُخَصَّ اثنان منهم، وبقي التعيين. فهذه الصورة من الباب الرابع الذي وردت فيه القرعة. فثبت أن القرعة في ذاك الباب أصل من الأصول الشرعية قرَّره الكتاب والسنة، واقتضاه العدل والحكمة. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله على خاتم أنبيائه محمَّد وآله وصحبه وسلم.

القسم الرابع: القائد إلى تصحيح العقائد

القائد إلى تصحيح العقائد وهو القسم الرابع من كتاب "التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل"

[2/ 174] بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي لا أعلمَ به من نفسه، ولا أصدقَ نبأً عنه من وحيه، ولا آمنَ على دينه من رسله، ولا أولى بالحقّ ممن اعتصم بشريعته ورضي بحكمه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. اللهمّ صلِّ على محمَّد وعلى آل محمَّد، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمَّد وعلى آل محمَّد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. ورضي الله عمن اختارهم لصُحْبة رسوله، وحِفْظ شريعته، وعن أتباعهم المُقتدين بأنوارهم، المقتفين لآثارهم إلى يوم الدين. أما بعد، فإن صاحب كتاب "تأنيب الخطيب" تعرَّض في كتابه للطعن في عقيدة أهل الحديث، ونبَزَهم بالمُجَسِّمة، والمشبّهة، والحَشوية، ورماهم بالجهل والبدعة والزيغ والضلالة. وخاض في بعض المسائل الاعتقادية كمسألة الكلام والإرجاء، فتجشَّمتُ أن أتعقبه في هذا، كما تعقّبته في غيره، راجيًا من الله تبارك وتعالى أن يُثبِّتَ قلبي على دينه، ويهديني لما اختُلِفَ فيه من الحقّ بإذنه، ويتغمَّدني بعفوه ورحمته، إنه لا حول ولا قوة إلا بالله. ****

مقدمة

[2/ 175] مقدمة قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15]. تضافر العقل والشرع على إثبات أن الله تبارك وتعالى غنيّ عن العالمين، وأنه سبحانه الحكيم الحميد، فخلقُ اللَّهِ تعالى الخلقَ وتكليفُه لهم لا يكون إلا موافقًا لما ثبت من غناه سبحانه وحمده وحكمته. وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. وعبادته سبحانه هي طاعته بامتثال ما أمر به ورضِيَه، واجتناب ما نهى عنه وكرهه. ولم يكن الغني الحميد، الحكيم العليم، ليأمر عباده إلا بما هو خير لهم، ولا لينهاهم إلا عمّا هو شرّ لهم. فإن أمرهم أو نهاهم للابتلاء فقط، فطاعته نفسها خير لهم، وعصيانه شر لهم. وقد قال تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7]. تقول العرب: لا أرضى منك بكذا، وأرضى منك بكذا، إذا كانت الفائدة للمتكلم. فإذا كانت إنما هي للمخاطَب، ولكن المتكلم بكرمه ورحمته يحبّ الخير ويكره الشر، قالوا: لا أرضى لك كذا، وأرضى لك كذا. وقال تعالى فيما قصَّه عن لقمان: {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [لقمان: 12]. وفيما قصَّه عن سليمان: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل: 40].

وقال تعالى: {وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} [إبراهيم: 8]. وقال عزَّ وجلَّ: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت: 6]. [2/ 176] وفي "صحيح مسلم" (¬1) وغيره عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال: "يا عبادي! إني حرَّمتُ الظلمَ على نفسي، وجعلته بينكم محرَّمًا، فلا تظالموا. يا عبادي! كلُّكم ضالٌّ إلا من هديته، فاستهدوني أهدِكم. يا عبادي! كُلُّكم جائعٌ إلا مَن أطعمتُه، فاستطعموني أُطْعِمْكم. يا عبادي! كلُّكم عارٍ إلا من كسوتُه، فاستكسوني أكسُكُم. يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعًا، فاستغفروني أغفرْ لكم. يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضرِّي فتضرُّوني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني. يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنَّكم كانوا على أتقى قلبِ رجلٍ واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا. يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنَّكم كانوا على أفجَرِ قلب رجلٍ واحدٍ منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئًا. يا عبادي! لو أن أولكَم وآخَركم وإنسكم وجنَّكم قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيتُ كل إنسان مسألتَه، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المِخْيَطُ إذا أُدخِلَ البحرَ. يا عبادي! إنما هي أعمالكم أُحصيها لكم، ثم أوفِّيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسَه". ¬

_ (¬1) رقم (2577).

فنستطيع أن نفهم من هذا كله أن الله تبارك وتعالى اقتضى كمالُ جوده أن يجود بالكمال إلى الحدَّ الممكن، ولا يفي بهذا أن يخلق خلقًا كاملين، فإنما ذلك بمنزلة خلقهم حِسان الصور، وذاك كمالٌ يتمحَّض فيه الحمد للخالق من كل وجه، ولا يُحْمد عليه المخلوق البتة، فلا يُعتدّ به كمالًا له. وكذلك أن يخلقهم غير كاملين ويجبرهم على الكمال، فإنما الحمد منوط بالاختيار. وقريبٌ من هذا أن يخلقهم غير كاملين ولا مجبورين، ويُيسِّر لهم اختيارَ الكمال بحيث لا يكون فيه مشقّة عليهم، فإن المخلوق إنما يُحْمَد على اختياره الكمال حيث يكون عليه فيه مشقة، وكلما كانت المشقّة أشدّ، كان الحمد أحقَّ، والكمال أعظم (¬1). **** ¬

_ (¬1) يريد أن الحكمة الإلهية التي يُحمد الله عليها أن يخلق عباده من الإنس في حالة نقص ويتدرج بهم إلى الكمال باختيارهم فيما كلَّفهم به مما يتدرج بهم إلى الكمال بأعمالهم الاختيارية، ولو خلقهم كاملين لما عاد عليهم حمد وثناء لهذا الكمال، ولو أجبرهم على الكمال لما حُمدوا أيضًا على ما أجبروا عليه، فكان الحمد والثناء عليهم أن يسَّر لهم طريق الكمال التدريجي باختيارهم مع شيء من المشقة. [محمد عبد الرزاق].

1 - فصل

[2/ 177] 1 - فصل لنا أن نقول: إن مدار كمال المخلوق على حبّ الحق وكراهية الباطل، فخَلَق الله تعالى الناس مفطورين على ذلك، وقدَّر لهم ما يؤكد تلك الفطرة، وما يدعوهم إلى خلافها, ليكون عليهم في اختيار الكمال - وهو مقتضى الفطرة - مشقةٌ وتعب وعناء، ولهم في خلاف ذلك شهوة وهوى. فمن اختار منهم مقتضى الفطرة، وصبر على ما فيه من المشقة والعناء، وعمَّا في خلافه من الراحة العاجلة واللذة = استحق أن يُحمَد، فاستحقَّ الكمالَ، فناله. ومن آثر الشهوةَ واتبع الهوى استحقَّ الذمَّ، فسقط. وفي "صحيح مسلم" (¬1) من حديث أبي هريرة وأنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "حُفّت الجنة بالمكاره، وحُفّت النار بالشهوات". وهو في "صحيح البخاري" (¬2) من حديث أبي هريرة بنحوه. وأخرج أبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم (¬3) من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لما خلق الله الجنة والنار أرسل جبريلَ إلى الجنة، فقال: انظر إليها. قال: فرجع إليه فقال: وعزّتِك لا يسمع بها أحد إلا دخلها. فأمر بها، فحُفَّت بالمكاره، فقال: ارجع إليها، فرجع، فقال: وعزَّتِك لقد خِفْتُ أن لا يدخلها أحد. قال: اذهب إلى النار، فانظر إليها. فرجع، فقال: وعزَّتِك لا يسمع بها أحد فيدخلها، فأمر بها، ¬

_ (¬1) رقم (2822، 2823). (¬2) رقم (6487). (¬3) أبو داود (4744) والترمذي (2560) والنسائي (7/ 3 - 4) وابن حبان (7394) والحاكم في "المستدرك" (1/ 26 - 27). وإسناده حسن.

فحُفَّت بالشهوات، فقال: ارجع إليها، فرجع، فقال: وعزتك لقد خشيتُ أن لا ينجو منها أحد". راجع "فتح الباري" (¬1): كتاب الرقاق. وقال الله عَزَّ وَجَلَّ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]. [2/ 177] وقال قبل ذلك: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]. وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 153 - 157]. والمقصود بالابتلاء هو أن يتبين حالُ الإنسان، فيفوز من صبَر على تحمُّل المشاق، ثابتًا على الحق، معرضًا عما يراه في الباطل من المخارج التي تُخلِّص من تلك المشاقّ أو تخفِّفها، عالمًا أن الدنيا زائلة، وأن الذي يستحق العناية هو أمر الآخرة، ويخسر من يلجأ إلى الباطل فرارًا من تلك المشاقّ أو من شدّتها. ¬

_ (¬1) (11/ 320).

ولا يقتصر الابتلاء على الشدائد، بل قال الله عزَّ وجلَّ: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35]. وذلك من وجهين: الأول: أن الإنسان كما يشُقُّ عليه الثباتُ على الحق عند الشدائد، فكذلك عند النعيم والرخاء؛ لأن النعيم يدعو إلى التوسّع في اللذّات والاستكثار من الشهوات، والتكاسل عن الطاعات، والتكبّر على الناس، وغير ذلك. وفي الصبر عن ذلك ما فيه من المشقّة. الوجه الثاني: أن من استحوذ عليه إيثار الباطل تكون الدنيا أعظمَ همِّه. فهو من جهةٍ إذا توفّرتْ له نِعمُ الدنيا ولم تنَلْه مصائبها رضي عن ربه ودينه، وإذا أصابته المصائب سَخِط. ومن جهةٍ أخرى يعُدُّ نِعَم الدنيا ومصائبها أعظم دليل على رضا الله عَزَّ وَجَلَّ وسخطه، فإذا يُسِّرت له نعمُ الدنيا ولم تنله مصائبها زعم أن الله عَزَّ وَجَلَّ راضٍ عنه وعن دينه وعن عمله، وإلا زعم أن الله عَزَّ وَجَلَّ ساخط عليه وعلى دينه وعلى عمله! وهذه كانت شبهةَ فرعون كما بينته في "كتاب العبادة" (¬1). وقال الله تبارك وتعالى: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ [2/ 179] وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} [الفجر: 15 - 16]. وقال تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ ¬

_ (¬1) انظر (ص 832 وما بعدها).

عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [هود: 9 - 11]. وقال تعالى: {لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} [فصلت: 49 - 51]. وقال سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج: 11]. واقرأ من سورة الفرقان: [7 - 11] ومن سورة الزخرف: [31 - 35]. والإنسان لا يكره الحقّ من حيث هو باطل، ولكنه يحب الحق بفطرته، ويحب الباطل لهواه وشهوته، ومدار الفوز أو الخسران على الإيثار. قال الله تبارك وتعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 37 - 41]. ولك أن تقول: إن الله تبارك وتعالى في جانب، والهوى في جانب. وقد قال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 43 - 44]. وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ

عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23]. وفي الحديث: "حُبُّكَ الشيءَ يُعْمِي ويُصِمُّ" (¬1). وقال البُريق الهذلي (¬2): [2/ 180] أبِنْ لي ما ترى، والمرءُ تأبى ... عزيمتُه، ويَغلِبُه هواه فيَعْمَى ما يَرى فيه عليه ... ويَحسِبُ ما يراه لا يراه **** ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (21694) وأبو داود (5130) وغيرهما من حديث أبي الدرداء. وفي إسناده أبو بكر بن أبي مريم، وهو ضعيف. ويروى موقوفًا، وهو أشبه بالصواب. انظر تعليق المحققين على "المسند". (¬2) انظر: عيون الأخبار (1/ 38). وفي شرح أشعار الهذليين (2/ 758): "يأتي عزيمتَه". وفي البيت الثاني: "من رآه لا يراه".

2 - فصل

2 - فصل الدين على درجات: كَفٌّ عما نُهي عنه، وعملٌ بما أُمر به، واعترافٌ بالحق، واعتقادٌ له وعلمٌ به. ومخالفة الهوى للحق في الكف واضحة، فإنّ عامة ما نُهي عنه شهوات ومستلذات، وقد لا يشتهي الإنسان الشيء من ذلك لِذاته، ولكنه يشتهيه لعارض. ومخالفة الهوى للحق في العمل واضحة لما فيه من الكلفة والمشقة. ومخالفة الهوى للحق في الاعتراف بالحق من وجوه: الأول: أن يرى الإنسان أنَّ اعترافَه بالحق يستلزم اعترافَه بأنه كان على باطل. فالإنسان ينشأ على دين أو اعتقاد أو مذهب أو رأي يتلقَّاه من مربَّيه ومعلِّمه على أنه حقٌّ، فيكون عليه مدةً، ثم إذا تبين له أنه باطل شقَّ عليه أن يعترف بذلك. وهكذا إذا كان آباؤه أو أجداده أو متبوعه على شيء، ثم تبيَّن له بطلانه. وذلك أنه يرى أن نقصَهم مستلزمٌ لنقصه، فاعترافه بضلالهم أو خطئهم اعتراف بنقصه. حتى إنك لترى المرأة في زماننا هذا إذا وقفتْ على بعض المسائل التي كان فيها خلاف بين أم المؤمنين عائشة وغيرها من الصحابة أخذت تُحامي عن قول عائشة، لا لشيء إلا لأن عائشة امرأة مثلها، فتتوهم أنها إذا زعمت أن عائشة أصابت وأن مَن خالفها من الرجال أخطأوا، كان في ذلك إثبات فضيلة لعائشة على أولئك الرجال، فتكون تلك فضيلةً للنساء على الرجال مطلقًا، فينالها حظٌّ من ذلك. وبهذا يلوح لك سرُّ تعصُّبِ العربي للعربي، والفارسي للفارسي، والتركي للتركي، وغير ذلك. حتى لقد يتعصب الأعمى (¬1) في عصرنا هذا للمعرِّي! ¬

_ (¬1) يشير إلى الدكتور طه حسين الذي ألَّف عن أبي العلاء المعري، وقوَّله ما لم يقلْه، =

الوجه الثاني: أن يكون قد صار له في الباطل جاه وشهرة ومعيشة، فيشقُّ عليه أن يعترف بأنه باطل، فتذهب تلك الفوائد. الوجه الثالث: الكِبْر. يكون الإنسان على جهالة أو باطل، فيجيء آخر فيبيِّن له الحجة [2/ 181] فيرى أنه إن اعترف كان معنى ذلك اعترافه بأنه ناقص، وأن ذلك الرجل هو الذي هداه. ولهذا ترى من المنتسبين إلى العلم مَن لا يشقُّ عليه الاعترافُ بالخطأ إذا كان الحقُّ تبيَّن له ببحثه ونظره، ويشقٌّ عليه ذلك إذا كان غيرُه هو الذي بيَّن له. الوجه الرابع: الحسد. وذلك إذا كان غيرُه هو الذي بيَّن الحق، فيرى أن اعترافه بذلك الحقِّ يكون اعترافًا لذلك المبيِّن بالفضل والعلم والإصابة، فيَعْظُم ذاك في عيون الناس، ولعله يتبعه كثير منهم. وإنك لتجد من المنتسبين إلى العلم مَن يَحرِص على تخطئة غيره من العلماء ولو بالباطل، حسدًا منه لهم، ومحاولةً لحطِّ منزلتهم عند الناس. ومخالفةُ الهوى للحقِّ في العلم والاعتقاد قد تكون لمشقَّة تحصيله، فإنه يحتاج إلى البحث والنظر، وفي ذلك مشقّة. ويحتاج إلى سؤال العلماء والاستفادة منهم، وفي ذلك ما مرَّ في الاعتراف. ويحتاج إلى لزوم التقوى طلبًا للتوفيق والهدى، وفي ذلك ما فيه من المشقة. وقد تكون لكراهية العلم والاعتقاد نفسه، وذلك من جهات: الأول: ما تقدم في الاعتراف. فإنه كما يشقُّ على الإنسان أن يعترف ¬

_ = ونسب إليه كلَّ إلحاد وزندقة. فانبرى له العلامة عبد العزيز الميمني وردَّ عليه في كتابه المشهور "أبو العلاء وما إليه".

ببعض ما قد تبيَّن له، فكذلك يشقُّ عليه أن يتبيَّن له، فيشقُّ عليه أن يتبيَّن بطلانُ دينه، أو اعتقاده، أو مذهبه، أو رأيه الذي نشأ عليه، واعتزَّ به، ودعا إليه، وذَبَّ عنه، أو بطلانُ ما كان عليه آباؤه وأجداده وأشياخه، ولا سيّما عندما يلاحظ أنه إن تبيَّن له ذلك تبيَّن أن الذين يُطريهم ويعظِّمهم، ويُثني عليهم بأنهم أهل الحق والإيمان والهدى والعلم والتحقيق، هم على خلاف ذلك، وأن الذين يحقِرهم ويذمُّهم ويسخَر منهم وينسبُهم إلى الجهل والضلال والكفر هم المُحِقُّون. وحسبك ما قصَّه الله عَزَّ وَجَلَّ من قول المشركين، قال تعالى: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32]. فتجد ذا الهوى كلَّما عُرِضَ عليه دليل لمخالفيه أو ما يُوهن دليلًا لأصحابه شقَّ عليه ذلك، واضطرب، واغتاظ، وسارع إلى الشغب. فيقول في دليل مخالفيه: هذه شبهة باطلة مخالفة للقطعيات، وهذا المذهب مذهب باطل لم يذهب إليه إلا أهل الزيغ والضلال .... ويؤكد ذلك بالثناء على مذهبه وأشياخه، ويعدِّد المشاهير منهم، ويُطريهم [2/ 182] بالألفاظ الفخمة، والألفاظ الضخمة، ويذكر ما قيل في مناقبهم ومثالب مخالفيهم، وإن كان يعلم أنه لا يصح، أو أنه باطل! ومن أوضح الأدلة على غلبة الهوى على الناس أنهم - كما تراهم - على أديان مختلفة، ومقالات متباينة، ومذاهب متفرقة، وآراء متدافعة؛ ثم تراهم كما قال الله تبارك وتعالى: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53]. فلا تجد من ينشأ على شيء من ذلك ويثبُت عليه يرجع عنه إلا القليل.

وهؤلاء القليل يكثُر أن يكون أولَ ما بعثهم على الخروج عما كانوا عليه أغراض دنيوية. ومن جهات الهوى أن يتعلق الاعتقاد بعذاب الآخرة، فتجد الإنسان يهوى أن لا يكون بعثٌ لئلا يؤخذ بذنوبه، فإن علِمَ أنه لا بد من البعث هَوِي أن لا يكون هناك عذاب، فإن علِمَ أنه لا بد من العذاب هَوِي أن لا يكون على مثله عذاب كما هو قول المرجئة، فإن علِمَ أن العصاة معذَّبون هَوِي التوسُّعَ في الشفاعة، وهكذا. ومن الجهات أنه إذا شقَّ عليه عملٌ كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هَوِي عدمَ وجوبه، وإذا ابتُلِي بشيء يشقُّ عليه أن يتركه كشرب المسكر هَوِي عدم حرمته. وكما يهوى ما يخفُّ عليه، فكذلك يهوى ما يخفُّ على من يميل إليه، وما يشتد على من يكرهه؛ فتجد القاضي والمفتي هذه حالهما. ومن المنتسبين إلى العلم من يهوَى ما يُعجِب الأغنياء وأهل الدنيا، أو ما يُعجب العامة، ليكون له جاء عندهم، وتُقْبِل عليه الدنيا. فما ظهرت بدعة، وهَوِيها الرؤساء والأغنياء وأتباعهم إلا هوِيَها وانتصر لها جمعٌ من المنتسبين إلى العلم. ولعل كثيرًا ممن يخالفها إنما الباعث لهم على مخالفتها هوًى آخر وافق الحقَّ. فأما من لا يكون له هوى إلا اتباع الحق فقليل، ولا سيّما في الأزمنة المتأخرة، وهؤلاء القليل يقتصرون على أضعف الإيمان, وهو الإنكار بقلوبهم والمسارَّة به فيما بينهم، إلا من شاء الله. فإن قيل: فلماذا لم يجعل الله عَزَّ وَجَلَّ جميع حجج الحق مكشوفةً قاهرةً لا تشتبه على أحد، فلا يبقى إلا مطيع يعلم هو وغيرُه أنه مطيع، وإلا

عاصٍ يعلم هو وغيرُه أنه عاصٍ، [2/ 183] ولا يتأتى له إنكار ولا اعتذار (¬1)؟ قلت: لو كان كذلك لكان الناس مجبورين على اعتقاد الحق، فلا يستحقُون عليه حمدًا ولا كمالًا ولا ثوابًا, ولكانوا مُكرَهين على الاعتراف، كمن كان في مكان مظلم، فزعم أن ذاك الوقت ليل، وراهن على ذلك، ففُتحت الأبواب، فإذا الشمس في كبد السماء. ولكانوا قريبًا من المُكرَهين على الطاعة من عملٍ وكفًّ، لفوات كثير من الشبهات التي يتعلل بها من ¬

_ (¬1) علق الأخ العلامة الشيخ محمَّد عبد الرزاق حمزة على هذا الموضع ما لفظه: "يريد الشيخ بالسؤال والجواب أن يبيَّن حكمة الله تعالى في ابتلاء الناس بالهوى والشبهات والشهوات، ليحصل الجهاد والابتلاء، ويحمد المجاهد ويؤجر، وإلا فوضوح الحق والباطل أمر لاخفاء به، ليهلك من هلك من بينة، ويحيى من حي عن بينة". وعلق على ما يأتي أول الفصل الثالث ما لفظه: "الحق أن حجج الله تعالى التي سماها بيَّنات هي مكشوفة واضحة لا خفاء بها، وإنما تخفى على من في قلبه كِنٌّ، وفي أذنيه وقر، وعلى بصره غشاوة من هواه وأخلاقه وما اعتاد". قال المؤلف: لا أراه يخفى أن مرادي بالقضية المكشوفة القاهرة هو أن تكون بحيث لا تخفى هي ولا إفادتها اليقين على عاقل، حتى لو زعم زاعم أنه يجهلها، أو أنه يعتقد عدم دلالتها أو يرتاب فيها, لقطع العقلاء بأنه إما مجنون الجنونَ المنافيَ للتكليف أو كاذب. ولا يخفى أنه ليس جميع حجج الحق هكذا, ولكنها بيَّنات البيانَ الذي تحصل به الهداية وتقوم به الحجة. ثم هي على ضربين: الضرب الأول: الحجج التي توصل الإنسان إلى أن يتبين له أنه يجب عليه أن يكون مسلمًا. الثاني: ما بعد ذلك، فالأول حجج واضحة، لكن من اتبع هوًى قد بان أنه يصد عن الحق، أو قصّر في القيام بما قد بان أن عليه أن يقوم به = فقد يرتاب أو يجهل. والضرب الثاني على درجات، منه ما هو في معنى الأول فيكفر المخطئ فيه، ومنه ما لا يكفر ولكن يؤاخذ، ومنه ما يعذر، ومنه ما يؤجر أيضًا على اجتهاده. [المؤلف]

يضعف حُبُّه للحق، فيغالط بها الناسَ ونفسه أيضًا. فإن قيل: فإن المؤمن إذا كان مُوقنًا كانت الحجة في معنى المكشوفة عنده, أفلا يكون مُثابًا على إيمانه واعترافه وطاعته؟ قلت: ليس هذا من ذاك في شيء. أما الاعتقاد فمن وجهين: الأول: أن الحجة لم تكن كلها مكشوفةً للمؤمن من أول الأمر، وإنما بلغ تلك الدرجة بنَظَره وتدبُّره ورغبته في الحق ومخالفته الهوى. وبهذا ثبت صدقُ حبه للحق وإيثاره [2/ 184] على الهوى، فيستمرُّ له حكم ذلك بعد انكشاف الحجة. وهو بمنزلة الظمآن الذي يطلب الماء حتى ظفر به، فأراد أن يشربَ فقال له مسلِّط: إن لم تشرب ضربتُك أو سجنتُك. فمثل هذا لا يقال إذا شرب: إنه إنما شرب مكرهًا. الوجه الثاني: أن وضوح الحجة للمؤمن لا يستمرُّ بدون جهاد, لأن الشبهات لا تزال تحوم حول المؤمن لتحجبَ عنه الحجة وتُشكِّكه فيها، والشهوات تساعدها، فثباتُه على الإيمان برهانٌ على دوام صدق محبته للحق، وإيثاره على الهوى. وأما الاعتراف، فالأمر فيه واضح. فإنّ وضوح الحجة عند المؤمن لا يكون مكشوفًا لغيره, فليس في معنى المكره على الاعتراف، بل إنه إذا ذكر (¬1) أن الحجة واضحة عنده وَجَدَ كثيرًا من الناس يكذِّبونه أو يرتابون في دعواه. وهكذا حاله في الطاعة من عملٍ وكفٍّ، فإن انكشاف الحجة في الإيمان الاعتقادي لا يستلزم انكشاف الحجج الأخرى التي تترتب عليها ¬

_ (¬1) في (ط): "ذكرنا"، والسياق يقتضي ما أثبتناه.

الطاعات. وهَبْ أن هذه انكشفت له أيضًا، فقد بقيت شُبهات أخرى، لولا صِدْقُ حبه للحق وإيثارُه على الهوى لأمكنه التشبث بها، كأن يقول: ينبغي أروِّح (¬1) عن نفسي فإنّ لي حسنات كثيرة لعلها تغمُر هذا التقصير، أو لعلها تنالني شفاعة الشافعين، أو لعل الله يغفر لي، أو أتمتع الآن ثم أتوب. وقال الله تبارك وتعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158]. وفي "الصحيحين" (¬2) وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تقوم الساعة حتى تطلعَ الشمسُ من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون. وذلك حين لا ينفع نفسًا إيمانها"، ثم قرأ الآية. ونحوه من حديث أبي ذر (¬3)، وابن مسعود (¬4)، وأبي سعيد الخدري (¬5)، وصفوان بن عسَّال (¬6)، وعبد الرحمن بن عوف (¬7)، ¬

_ (¬1) كذا في الأصل بحذف "أن". (¬2) البخاري (4635، 4636) ومسلم (157). (¬3) أخرجه مسلم (159). (¬4) أخرجه عنه مرفوعًا الحاكم في "المستدرك" (4/ 521 - 522)، وهو ضعيف. وثبت عنه موقوفًا في عدة روايات، انظر "الدر المنثور" (6/ 266، 275، 276). (¬5) أخرجه أحمد (11266) والترمذي (3071)، وفي إسناده ابن أبي ليلى، وهو ضعيف. (¬6) أخرجه أحمد (18093) وابن ماجه (4070). وإسناده حسن. (¬7) أخرجه أحمد (1671) والطبري في "تفسيره" (10/ 17) والطبراني في "الكبير" (19/ 381) من حديث معاوية بن أبي سفيان وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عمرو بن العاص جميعًا. وإسناده حسن.

وعبد الله بن عباس (¬1)، وعبد الله بن عَمْرو بن العاص (¬2)، وغيرهم (¬3). والأخبارُ بأن الشمس سوف تطلع من مغربها متواترةٌ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ومعنى ذلك أن ما يشاهَد الآن من سيرها ينعكس. فسكَّان هذا الوجه الذي كان فيه النبي [2/ 185] صلى الله عليه وآله وسلم يرونها تغرُب في مغربها على العادة، ثم يرونها في اليوم الثاني طالعةً من مغربها. وأما سكان الوجه الآخر فإنها تطلع عليهم من مشرقهم على عادتها، ثم يرونها تسير إلى مغربها ما شاء الله تعالى، ثم ترجع القهقرى حتى تغرب في مشرقهم. وعلى زعم (¬4) أن الأرض هي التي تدور، فإن دورة الأرض تنعكس، فيكون ما ذكر. فأما إيمان الناس جميعًا، فوجهه - والله أعلم - أن النفوس مفطورة على اعتقاد وجود الله عَزَّ وَجَلَّ وربوبيته، ومن شأن ذلك أن يسوق إلى بقية فروع الإيمان. وآيات الآفاق والأنفس تؤكّد ذلك، ولكن الشبهات والأهواء تغلب على أكثر الناس حتى يرتابوا فيتبعوا أهواءهم. فإذا طلعت الشمس من مغربها لحقهم من الذُّعْر والرعب لشدة الهول ما يمحق أثرَ الشبهات والأهواء، وتفزع النفوس إلى مقتضى فطرتها. قال الله تعالى في ركاب البحر: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في "تفسيره" (10/ 21) وابن أبي حاتم في "تفسيره" (5/ 1428). (¬2) أخرجه مسلم (2941). (¬3) راجع "الدر المنثور" (6/ 268 وما بعدها). (¬4) كذا قال المصنف رحمه الله، ولعله من باب التقية، وإلا فكون الأرض تدور في الفضاء أصبح من الحقائق العلمية التي لا تقبل الجدل. وليس في الكتاب ولا في السنة نص ينافي ذلك، خلافًا لبعضهم. [ن].

فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} [لقمان: 32]. فتلك الآية في حقّ مَن يكون قد بلغه أن محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم أخبر بها = حجة مكشوفة قاهرة، وكذلك هي في حقَّ من لم يبلغه لكن بمعونة الرعب والفَزَع وشدة الهول. وقد دلت الآية على أنَّ من لم يكن آمن قبل تلك الآية لا ينفعه إيمانُه عندها، ومن لم يكن من المؤمنين قبلها يكسب الخير لا ينفعه كسبُ الخير عندها. وفُهِم من ذلك أن من كان مؤمنًا قبلها ينفعه الإيمان عندها، ومن كان من المؤمنين يكسب الخير قبلها ينفعه كسبُ الخير عندها. والنظر يقتضي أنه إنما ينفعه من كسبِ الخير عندها ما كان عادة له. وفي "صحيح البخاري" (¬1) وغيره من حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثلُ ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا". وجاء نحوه من حديث عبد الله بن عَمرو بن العاص (¬2)، وأنس (¬3)، وعائشة (¬4)، وأبي هريرة (¬5). وأشار إليها ابن حجر في ¬

_ (¬1) رقم (2996). وأخرجه أيضًا أحمد في "المسند" (19679) وابن أبي شيبة في "المصنف" (3/ 230) والبيهقي في "الكبرى" (3/ 374) وغيرهم. (¬2) أخرجه أحمد (6482) وابن أبي شيبة (3/ 230) والدارمي (2/ 316) والبخاري في "الأدب المفرد" (500)، وإسناده صحيح. (¬3) أخرجه أحمد (12503، 13501، 13712) وابن أبي شيبة (3/ 233) والبخاري في "الأدب المفرد" (501). وإسناده حسن. (¬4) أخرجه النسائي (3/ 257). (¬5) أخرجه أبو داود (564) والنسائي (2/ 111) والحاكم في "المستدرك" (1/ 208). =

"الفتح" (¬1). [2/ 186] فمن كان معتادًا للعمل من أعمال الخير مواظبًا عليه، ثم طرأ عليه بغير اختياره أو باختياره مأذونًا له عارضٌ يعجز معه عن ذاك العمل، أو يُشرَع له تركُه، أو يدَعُه وهو نفل لاشتغاله عنه أو لزيادة المشقة فيه = فقد ثبت باعتياده أنه لولا ذاك العارض - وهو غير مقصِّر فيه - لاستمرَّ على عادته، فلذلك يكتب له ثواب ذاك العمل. فأولى من هذا من كان معتادًا لعمل، ثم عرض باعث آخر على ذاك العمل، واستمرَّ العامل على عادته. وقال الله عَزَّ وَجَلَّ في قصة نوح: {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} [هود: 27، 28]. يريد - والله أعلم - أن كراهيتكم للحق وهواكم أن لا يكون ما أدعوكم إليه حقًّا يحول بينكم وبين أن يحصل لكم العلم واليقين بصحته. وفي "تفسير ابن جرير" (12/ 17) (¬2) عن قتادة قال: "أما والله لو استطاع نبيُّ الله - صلى الله عليه وسلم - لألزمها قومَه، ولكن لم يَمْلك ذلك، ولم يُمَلَّكْه". والرسول لا يحرص على أن يُكره قومه إكراهًا عاديًّا على إظهار قبول الدين، ¬

_ = قال الحافظ في "الفتح" (6/ 137): "إسناده قوي". وسقط في إسناد الحاكم ذكر أبي هريرة، وهو ثابت في تلخيص الذهبي. (¬1) (6/ 137). (¬2) (12/ 383) ط. دار هجر. وأخرجه أيضًا ابن أبي حاتم في "تفسيره" (6/ 2023).

فإنه يعلم أن هذا لا ينفعهم بل لعله أن يكون أضرَّ عليهم، وإنما يحرص على أن يقبلوه مختارين. ولذلك يحرص هو وأصحابه على أن يُظهِر الله تعالى الآياتِ على يده أملًا أن يحصل للكفّار العلمُ إذا رأوها، فيقبلوا الدين مختارين. ويزداد الحرص على هذا عندما يطالب الكفار بالآيات. وهذه كانت حال محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه. فبيَّن الله تعالى لهم في عدة آيات أنه ليس على الرسول إلا البلاع، وأن الهداية بيد الله، وأن ما أوتِيَه من الآيات كافٍ لأن يؤمن مَن في قلبه خير، وأن الله لو شاء لهدى الناس جميعًا، لكن حكمته إنما اقتضت أن يهديَ من أناب بأن كان يحبُّ الهدى، ويؤثره على الهوى. فأما من كره الحق واستسلم للهوى، فإنما يستحق أن يزيده الله تعالى ضلالًا. قال الله عزَّ وجلَّ: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27)} إلى أن قال: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ [2/ 187] أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} [الرعد:27 - 31]. وقال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 109 - 110]. وقال تعالى: {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى: 13].

وقال سبحانه: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} [غافر: 13]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا}. [الإسراء: 101 - 102]. وقال تعالى: {فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 12 - 14]. فلما تبيَّن لموسى وهارون أن فرعون وقومه قد استحكم كفرهم انتهى مقتضى الحرص على أن يهتدوا، واقتضى حبُّهما للحق أن يحبَّا أن لا يهديهما الله. قال الله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [يونس: 88 - 89]. [2/ 188] وفي القرآن آيات كثيرة في أن الله تعالى لا يهدي الكافرين، والمراد بهم من استحكم كفرُهم. وليس كلُّ كافر كذلك، فقد هدى الله تعالى ويهدي من لا يُحْصىَ من الكفار، وإنما الحق أن لا يهدي الله تعالى من استحكم كفرُه.

3 - فصل

3 - فصل وكما اقتضت الحكمة أن لا تكون حجج الحق مكشوفةً قاهرةً، فكذلك اقتضت أن لا تكون الشبهات غالبة. قال الله عزَّ وجلَّ: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 33 - 35]. وذلك أنه لو كان كلُّ من كفر بالله خصَّه الله تعالى بذلك النعيم دون المؤمنين، لكانت تلك شبهة غالبة توقع الناسَ كلهم في الكفر. فتلَخَّص أن حكمة الحق في الخلق اقتضت أن تكون هناك بينات وشبهات، وأن لا تكون البينات قاهرة، ولا الشبهات غالبة. فمن جرى مع فطرته مِن حبَّ الحق، وربَّاها ونمَّاها وآثر مقتضاها، وتفقَّد مسالك الهوى إلى نفسه فاحترس منها, لم تزل تتجلَّى له البينات، وتتضاءل عنده الشبهات، حتى يتجلَّى له الحق يقينًا فيما يُطْلَب فيه اليقين، ورجحانًا فيما يكفي فيه الرجحان. وبذلك يثبت له الهدى، ويستحق الفوز والحمد والكمال على ما يليق بالمخلوق. ومن أَتبع الهوى وآثر الحياة الدنيا، تبرقعت دونه البينات، واستهوته الشبهات، فذهبت به "إلى حيثُ ألقَتْ رَحْلَها أمُّ قَشْعَمِ" (¬1). ¬

_ (¬1) عجز بيت من معلقة زهير بن أبي سلمى، وصدره: فشَدُّوا ولم تفزَعْ بيوتٌ كثيرةٌ انظر "ديوانه" بشرح ثعلب (ص 22).

4 - فصل

4 - فصل إن قيل: لا ريب أن الإنسان ينشأ على دين واعتقاد ومذهب وآراء يتلقاها من مربِّيه [2/ 189] ومعلِّمه، ويتبع فيها أسلافه وأشياخه الذين تمتلئ مسامعه بإطرائهم وتأكيدِ أن الحقَّ ما هم عليه، وبِذَمّ مخالفيهم وثلبهم، وتأكيدِ أنهم على الضلالة. فيمتلئ قلبه بتعظيم أسلافه، وبُغْض مخالفيهم، فيكون رأيه وهواه متعاضِدَين على اتباع أسلافه ومخالفة مخالفيهم. ويتأكد ذلك بأنه يرى أنه إن خالف ما نشأ عليه رماه أهله وأصحابه بالكفر والضلال، وهجروه وآذوه وضيَّقوا عليه عِيشته. ولكن هذه الحال يشترك فيها من نشأ على باطل، ومن نشأ على حق، فإذا دعونا الناس إلى الاستيقاظ للهوى، وبينَّا لهم أثره وضرره، فمن شأن ذلك أن يُشكّكهم فيما نشأوا عليه. وهذا إنما ينفع من نشأ على باطل. فأما من نشأ على حق، فإن تشكيكه ضرر محض؛ لأن غالب الناس عاجزون عن النظر. قلت: المطالب على ثلاثة أضرب: الأول: العقائد التي يُطْلَب الجزمُ بها ولا يسع جهلُها. الثاني: بقية العقائد. الثالث: الأحكام. فأما الضرب الأول، فسنبيِّن إن شاء الله تعالى أن النظر فيه ميسَّر لكلِّ أحد، وأن النظر العقلي المتعمَّق فيه لا حاجة إليه، وهو مَثار الشبهات، وملجأ الهوى (¬1)، ومنشأ الضلال، كما سيتضح ذلك إن شاء الله تعالى. فمن استجاب ¬

_ (¬1) (ط): "الهدى" خطأ.

لتلك الدعوة، فإنما تدعوه إلى النظر الفِطْري الشرعي مخلصًا من شوائب الهوى. فإن كان الناظر سابقًا على حقٍّ، فإنه يتبين له بهذا النظر أنه حقٌّ، فيلزمه وقد صفا له وخلص، ونجا من اتباع الهوى، وصَفَتْ له الطُّمأنينة. وأما الضرب الثاني، فمن كان قائلًا بشيء منه عن حجة صحيحة فإن الاستجابة لتلك الدعوة لا تزيد تلك الحجة إلا وضوحًا مع الخلاص عن الهوى، وإلا فالجهلُ بهذا الضرب خير من القول فيه بغير حجة، وإن صادف الحق. وأما الضرب الثالث، فالمتواتر منه والمُجْمَع عليه لا يختلف حكمُه، وما عداه قضايا اجتهادية يكفي فيها بذلُ الوسع لتعرُّف الراجح أو الأرجح أو الأحوط فيؤخذ به. وإنما يجيء البلاء فيها من أوجه: الأول: التقصير في بذل الوسع. [2/ 190] الثاني: التمسّك بما ليس من الحق. الثالث: الاعتداد بترجيح النفس الذي يكون منشؤه الهوى. الرابع: عدم الرجوع عما يتبين أن غيره أولى بالحق منه. الخامس: معاداة المخالف مع احتمال أنه هو المصيب، وظهور أنه إن كان مخطئًا فهو معذور. فمن شأن تلك الاستجابة لتلك الدعوة أن تدفع هذه المفاسد. ****

5 - فصل

5 - فصل هذه أمور ينبغي للإنسان أن يقدّم التفكُّر فيها ويجعلها نُصْبَ عينيه. 1 - يفكَّر في شرف الحق وضَعَةِ الباطل. وذلك بأن يفكَّر في عظمة الله عَزَّ وَجَلَّ وأنه رب العالمين، وأنه سبحانه يحب الحق ويكره الباطل، وأن من أَتبع الحق استحقَّ رضوانَ رب العالمين، فكان سبحانه وليَّه في الدنيا والآخرة، بأن يختار له كلَّ ما يعلمه خيرًا له وأفضل وأنفع وأكمل وأشرف وأرفع، حتى يتوفَّاه راضيًا مرضيًّا، فيرفعه إليه ويقرِّبه لديه، ويُحِلَّه في جواره مكرمًا منعَّمًا في النعيم المقيم، والشرف الخالد، الذي لا تبلغ الأوهامُ عظمتَه؛ وأن من أخلد إلى الباطل استحقَّ سخطَ ربِّ العالمين وغضبه وعقابه. فإن آتاه شيئًا من نعيم الدنيا، فإنما ذلك لهوانه عليه، ليزيده بُعْدًا عنه، وليضاعف له عذاب الآخرة الأليم الخالد الذي لا تبلغ الأوهام شدَّته. 2 - يفكِّر في نِسْبة نعيم الدنيا إلى رضوان رب العالمين ونعيم الآخرة، ونسبة بؤس الدنيا إلى سخط رب العالمين وعذاب الآخرة، ويتدبر قول الله عزَّ وجلَّ: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 31 - 35].

ويُفْهَم من ذلك أنه لولا [2/ 191] أن يكون الناسُ أمةً واحدةً لابتلى الله المؤمنين بما لم تجرِ به العادة من شدّة الفقر والضرّ والخوف والحزن وغير ذلك. وحسبك أن الله عَزَّ وَجَلَّ ابتلى أنبياءه وأصفياءه بأنواع البلاء. وفي "الصحيحين" (¬1) من حديث كعب بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "مَثَلُ المؤمنِ كمثل الخامة من الزرع تُفِيئُها الرياحُ، تَصْرعُها مرةً وتَعدِلها أخرى حتى يأتي أجله. ومَثَلُ المنافق كمثل الأَرْزة المُجْذِية التي لا يُصيبها شيء حتى يكون انْجعافُها مرةً واحدة". وفي "الصحيحين" (¬2) أيضًا نحوه من حديث أبي هريرة. ومعنى الحديث - والله أعلم - أن هذا من شأن المؤمن والمنافق، فلا يلزم منه أن كل منافق تكون تلك حاله لا يناله ضرر ولا مصيبة إلا القاضية. والمقصود من الحديث تهذيب المسلمين، فيأنس المؤمن بالمتاعب والمصائب، ويتلقَّاها بالرضا والصبر والاحتساب، راجيًا أن تكون خيرًا له عند ربه عزَّ وجلَّ. ولا يتمنى خالصًا من قلبه النعمَ، ولا يحسد أهلها, ولا يسكن إلى السلامة والنعم ولا يركن إليها، بل يتلقَّاها بخوف وحذر وخشية أن تكون إنما هُيِّئت له لاختلال إيمانه، فترغب نفسه إلى تصريفها في سبيل الله عزَّ وجلَّ، فلا يُخْلِد إلى الراحة ولا يبخل، ولا يُعجَب بما أوتيَه ولا يستكبر ولا يغترّ. ولم يتعرَّض الحديث لحال الكافر, لأن الحجة عليه واضحة على كل حال. ¬

_ (¬1) البخاري (5643) ومسلم (2810). (¬2) البخاري (5644) ومسلم (2809).

وأخرج الترمذي (¬1) وغيره من حديث سعد بن أبي وقاص قال: سُئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أي الناس أشدّ بلاءً؟ قال: "الأنبياء، ثم الأمثل، فالأمثل. يُبْتَلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلبًا اشتدَّ بلاؤه، وإن كان في دينه رقّةٌ هُوِّن عليه ... " الحديث. قال الترمذي: "حسن صحيح". وقد ابتلى الله تعالى أيوب بما هو مشهور. وابتلى يعقوب بفقد ولدَيْه وشدَّد أثر ذلك على قلبه، فكان كما قصَّه الله عَزَّ وَجَلَّ في كتابه: {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف: 84]. وابتلى محمدًا عليه وعليهم الصلاة والسلام بما تراه في أوائل السيرة. فكلَّفه أن يدعو قومه إلى ترك ما نشأوا عليه تبعًا [2/ 192] لآبائهم من الشرك والضلال، ويُصارِحَهم بذلك سرًّا وجهارًا، ليلاً ونهارًا، ويدورَ عليهم في نواديهم ومجتمعاتهم وقراهم. فاستمرَّ على ذلك نحو ثلاثَ عشرة سنة، وهم يؤذونه أشدّ الأذى، مع أنه كان قد عاش قبل ذلك أربعين سنة أو فوقها ولا يعرف أن يؤذَى، إذ كان من قبيلة شريفة محترمة موقَّرة، في بيتٍ شريف محترم موقَّر، ونشأ على أخلاقٍ كريمة احترمه لأجلها الناسُ ووقّروه. ثم كان مع ذلك على غاية الحياء والغيرة وعزَّة النفس. ومن كانت هذه حاله يشتدّ عليه غاية الشدة أن يؤذَى، ويشقّ عليه غاية المشقة الإقدامُ على ما يعرِّضه لأن يؤذَى. ويتأكد ذلك في جنس ذاك الإيذاء: هذا يسخر منه، وهذا يسبُّه، ¬

_ (¬1) برقم (2400). وأخرجه أيضًا الدارمي (2/ 320) وابن ماجه (4023). وصححه ابن حبان (2901) والحاكم (1/ 41).

وهذا يبصُق في وجهه - بأبي هو وأمي -, وهذا يحاول أن يضع رجليه على عنقه إذا سجد لربه، وهذا يضع سَلىَ (¬1) الجَزور على ظهره وهو ساجد، وهذا يأخذ بمجامع ثوبه ويخنُقه، وهذا ينخُس دابته حتى تُلقيه (¬2)، وهذا عمُّه يتبعه أنَّى ذهب، يؤذيه ويُحذِّر الناسَ منه ويقول: إنه كذَّاب، وإنه مجنون. وهؤلاء يُغْرون به السفهاء، فيرجمونه حتى تسيل رجلاه دمًا. وهؤلاء يحصرونه وعشيرته مدة طويلة في شِعْب ليموتوا جوعًا. وهؤلاء يعذَّبون من اتبعه بأنواع العذاب، فمنهم من يُضْجِعونه على الرمل في شدة الرمضاء ويمنعونه الماء، ومنهم من ألقوه على النار حتى ما أطفأها إلا وَدَكُ ظهره، ومنهم امرأةٌ عذَّبوها لترجع عن دينها، فلما يئسوا منها طعنها أحدُهم بالحربة في فرجها، فقتلها (¬3). كلُّ ذلك لا لشيء إلا أنه يدعوهم إلى أن يخرجهم من الظلمات إلى النور، [2/ 193] ومن الفساد إلى الصلاح، ومن سخط الله إلى ¬

_ (¬1) السَّلَى: غشاء يحيط بجنين البهيمة. (¬2) علق الشيخ عبد الرزاق حمزة: نخسُ الدابة كان لزينب بنت الرسول، فسقطت عنها وأجهضت حينما هاجرت رضي الله عنها. يقول المؤلف: بل روي مثل ذلك في شأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نفسه. راجع ترجمة ضباعة بنت عامر من "الإصابة" [14/ 7 ط. دار هجر، قال الحافظ: هذا مع انقطاعه ضعيف]. قال الألباني: لكن في إسناد الرواية المشار إليها: الكلبي، وهو متهم. (¬3) من تدبر هذه الحال علم أنها من أعظم البراهين على صدق محمد - صلى الله عليه وسلم - في دعوى النبوة. فإن العادة تُحيل أن يُقدِم مثله في أخلاقه وفيما عاش عليه أربعين سنة لما يعرَّضه لذلك الإيذاء ثم يصبر عليه سنين كثيرة وله عنه مندوحة. ولهذا كان العارفون به من قومه لا ينسبونه إلى الكذب وإنما يقولون: مسحور، مجنون. قال الله تعالى: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33]. [المؤلف]

رضوانه، ومن عذابه الخالد إلى نعيمه الدائم. ولم يلتفتوا إلى ذلك مع وضوح الحُجّة، وإنما كان همُّهم أنه يدعوهم إلى خلاف هواهم. ومن وجه آخر ابتلى الله عَزَّ وَجَلَّ نبيَّه صلى الله عليه وآله وسلم بأن قَبَض أبويه صغيرًا، ثم جدَّه، ثم عمَّه الذي كان يحامي عنه، ثم امرأتَه التي كانت تؤنسه، وتُخفِّف عنه. ثم لم يزل البلاء يتعاهده صلى الله عليه وآله وسلم، وتفصيل ذلك يطول. وهذا وهو سيدُ ولد آدم وأحبُّهم إلى الله عزَّ وجلَّ. فتدبرْ هذا كلَّه لتعلم حقَّ العلم أنَّ ما نتنافس فيه ونتهالك عليه من نعيم الدنيا وجاهها ليس هو بشيء في جانب رضوان الله عَزَّ وَجَلَّ والنعيم الدائم في جواره؛ وأنَّ ما نفرُّ منه من بؤس الدنيا ومكارهها ليس هو بشيءٍ في جانب سخط الله عَزَّ وَجَلَّ وغضبه والخلود في عذاب جهنم. وفي "الصحيح" (¬1) من حديث أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "يؤتَى بأنعَمِ أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيُصْبَغ في النار صَبغةً، ثم يقال له: يا ابن آدم هل رأيت خيرًا قطّ؟ هل مرَّ بك نعيمٌ قط؟ فيقول: لا والله يا ربِّ. ويؤتَى بأشدِّ الناس بؤسًا في الدنيا من أهل الجنة، فيُصْبَغ صَبغةً في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم هل رأيتَ بؤسًا قط، وهل مرَّ بك شدة قط؟ فيقول: لا والله يا ربِّ ما مرَّ بي بؤسٌ قط، ولا رأيت شدةً قط". 3 - يفكِّر في حاله بالنظر إلى أعماله من الطاعة والمعصية. فأما المؤمن فإنه يأتي الطاعةَ راغبًا نشيطًا لا يريد إلا وجه الله عَزَّ وَجَلَّ والدار الآخرة. فإن عرضت له رغبة في الدنيا، فإلى الله تعالى فيما يرجو معونته على السعي ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2807).

للآخرة. فإن كان ولا بد، ففيما يغلب على ظنه أنه لا يثبَّطه عن السعي للآخرة. وهو على كل حال متوكِّلٌ على الله، راغبٌ إليه سبحانه أن يختار له ما هو خير وأنفع. ثم يباشر الطاعة خاشعًا خاضعًا مستحضرًا أن الله عزَّ وجلَّ يراه ويرى ما في نفسه، ويأتي بها على الوجه الذي شرعه الله عزَّ وجلَّ. وهو مع ذلك كما قال الله تعالى: {يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون: 60] , فهو يخاف ويخشى أن لا تكون نيته خالصة. وذلك أن النية الصالحة قد تكون من قوي الإيمان, وقد تكون من ضعيفه الذي إنما يطيع احتياطًا، وقد لا تكون خالصةً بل يمازجها رغبةٌ في ثواب الدنيا لأجل الدنيا، أو رغبةٌ في الآثار الطبيعية ككسر الشهوة حيث لا يشرع، وكتقوية النفس. كالذي [2/ 194] يصوم ويقوم ليكون من أهل الكشف، فيطلع على العجائب والمُغَيَّبات، فيلتذّ بذلك، ويعظُم جاهه بين الناس. وكذلك [من] يتعبد ليحصل له الكشف، فيصفو إيمانه، ويستريح من الوسوسة ومدافعة الشبهات. فإنَّ هذه الطريقة غير مشروعة، ومن شأنها أن تجرّ إلى تعاطي الأسباب الطبيعية لتقوية النفس، وإن كانت منهيًّا عنها في الشرع، كما هو معروف في بدع المتصوِّفة. ومن حَصَل له الكشف بهذه الطريق، فهو مظنة أن يضْعُف إيمانُه أو يزول عقوبةً له على سلوكه غير السبيل المشروع، حتى لو كُشِف له عن شيء مما يجب الإيمان به فشاهَدَه لم ينفعه هذا الإيمانُ كما يُعلم مما تقدَّم. وإنما المشروع أن يجاهد نفسه، ويصرفها عن الشبهات والوساوس، مستعينًا بطاعة الله تعالى والوقوف عند حدوده، مبتهلاً إليه عَزَّ وَجَلَّ أن يثبِّت قلبه بما شاء سبحانه، فهذا إنما يحمل على اتباع الشرع والاهتداء بهداه.

وكمنفعة البدن، كالذي يصوم ليصحَّ، ويصلِّي التراويح لينهضم طعامه. وكموافقة الإلف والعادة كمن اعتاد الصلاة من صباه، فيجد نفسَه تُنازِعه إلى الصلاة فلا تستقرّ حتى يصلي؛ فإن هذا قد يكون كالذي اعتاد العبث بلحيته، فيجد نفسَه تنازعه إلى ذلك، حتى لو كفَّ عن ذلك أو مُنِع منه شقَّ عليه. وكحبِّ الترويح عن النفس، كالذي يأتي الجمعة ليتفرج، ويلقى أصحابه، ويقف على أخبارهم. وكمراعاة الناس لكي يمدحوه ويُثنوا عليه، فيعظُم جاهه، ويصل إلى أغراضه، ولا يمقتوه، إلى غير ذلك من المقاصد، كالمرأة تتزين وتتعطر وتخرج إلى الصلاة لتشاهد الرجالَ وتلفتَهم إليها. وكالعالم يريد أن يراه الناس ويعظِّموه ويستفتوه، فيشتهر علمه، ويعظم جاهه. وكالمنتسب إلى الصلاح يريد أن يعظِّمه الناس ويقبِّلوا يديه ورجليه، ويشتهر ذكره، ويتساقط الناس في شبكته. وكالحاكم النابه يريد أن يتطاول الناس إلى رؤيته، ويتزاحموا، وترتفع أصواتهم بمدحه وغير ذلك. والمؤمن ولو خَلَصت نيته في نفس الأمر لا يستطيع أن يستيقن ذلك من نفسه. [2/ 195] والمؤمن يخاف ويخشى أن لا يكون أتى بالطاعة على الوجه المشروع، وذلك من أوجه: منها: أن للصلاة مثلًا شرائط وأركانًا وواجباتٍ قد اختُلِف في بعضها، والمجتهدُ إنما يراعي اجتهاده، فيخشى أن يكون قصَّر في اجتهاده أو استزلَّه الهوى. والعامّيُّ إنما يتبع قول مفتيه أو إمامه أو بعض فقهاء مذهبه، فيخشى أن يكون قصَّر أو تبع الهوى في اختيار قول ذاك المفتي، أو في الجمود على مذهب إمامه في بعض ما اختُلِف فيه.

ومنها: أن روح الصلاة الخشوع، والنفسُ تتنازعها الخواطرُ فلا يثق المؤمن بأنه خشَع كما يجب. فإن حاولت نفسُ المؤمن أن تُقنِعه بإخلاصها في نيتها واجتهادها وخشوعها خشي على نفسه أن يكون مغرورًا مسامحًا لنفسه. وهكذا تستمرُّ خشيةُ المؤمن بالنظر إلى طاعاته السالفة، يرجو أن يكون قَبِلها الله تعالى بعفوه وكرمه، ويخشى أن تكون رُدَّت لخللٍ فيها، وإن لم يشعر به، أو لخلل في أساسها وهو الإيمان. هذه حال المؤمن في الطاعات، فما عسى أن تكون حاله في المعاصي؟ وقد قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)} [الأعراف: 201 - 202]. فالمؤمن يتصارع إيمانه وهواه، فقد يُطيف به الشيطان، فيُغفِله عن قوة إيمانه، فيغلبه هواه، فيصرعه. وهو حالَ مباشرة المعصية ينازع نفسَه، فلا تصفو له لذتها، ثم لا يكاد جنبُه يقع على الأرض حتى يتذكَّر، فيستعيد قوة إيمانه، فيثِبُ يعَضُّ أناملَه أسفًا وحزنًا على غفلته التي أعان بها عدوَّه على نفسه، عازمًا على أن لا يعود لمثل تلك الغفلة. وأما إخوان الشياطين، فَتمُدُّهم الشياطين في الغيِّ، فيمتدُّون فيه، ويمنُّونهم الأماني فيقنعون. فمِنَ الأماني أن يقول: اللهُ قدَّره عليَّ، فما شاء فعل. قد اختلف العلماء في حُرمة هذا الفعل. قد اختلفوا في كونه كبيرة، والصغائر أمرها هَيِّن. لي حسنات كثيرة تغمر هذا الذنب. لعل الله يغفر لي. لعل فلانًا يشفع لي. سوف أتوب! وأحسنُ حاله أن يقول: أستغفر الله، أستغفر الله، ويرى أنه قد تاب ومُحِيَ ذنبه.

قال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ [2/ 196] خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122) لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء: 119 - 124]. وقال عزَّ وجلَّ: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [الأعراف: 169]. وفي "مسند أحمد" و"المستدرك" (¬1) وغيرهما من حديث شدّاد بن أوس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "الكيِّسُ من دان نفسَه وعَمِل لما بعد الموت. والعاجزُ مَن أتبَعَ نفسَه هواها، وتمنَّى على الله الأماني". وفي "الصحيحين" (¬2) عن عبد الله بن مسعود قال: "إن المؤمن يرى ¬

_ (¬1) "المسند" (17123) و"المستدرك" (1/ 57، 4/ 251). وأخرجه أيضًا الترمذي (2459) وابن ماجه (4260) والبيهقي في "الكبرى" (3/ 369)، وقال الترمذي: هذا حديث حسن. وصححه الحاكم، فتعقبه الذهبي في الموضع الأول بقوله: لا والله، أبو بكر [بن أبي مريم] واهٍ. (¬2) أخرجه البخاري (6308). أما مسلم (2744) فلم يخرج هذا الحديث الموقوف، بل أخرج منه الجزء المرفوع: "لله أشدُّ فرحًا بتوبة عبده المؤمن ... ".

ذنوبه كأنه قاعدٌ تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وان الفاجر يرى ذنوبه كذُبابٍ مرَّ على أنفه، فقال به هكذا - أي بيده - فذبَّه عنه". 4 - يفكر في حاله مع الهوى. افرِضْ أنه بلغك أنَّ رجلاً سبَّ رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم، وآخرَ سبَّ داود عليه السلام، وثالثًا سبَّ عمرَ أو عليًّا رضي الله عنهما، ورابعًا سبَّ إمامك، وخامسًا سبَّ إمامًا آخر. أيكون سخطك عليهم وسعيك في عقوبتهم وتأديبهم أو التنديد بهم موافقًا لما يقتضيه الشرع، فيكون غضبُك على الأول والثاني قريبًا من السواء وأشدَّ مما بعدهما جدًّا، وغضبُك على الثالث دون ذلك وأشد مما بعده، وغضبك على الرابع والخامس قريبًا من السواء ودون ما قبلهما بكثير؟ افرضْ أنك قرأت آيةً، فلاحَ لك منها موافقةُ قولٍ لإمامك، وقرأتَ أخرى، فلاحَ لك منها [2/ 197] مخالفة قول آخر له. أيكون نظرُك إليهما سواء، لا تبالي أن يتبيَّن منهما بعد التدبُّر صحةُ ما لاح لك أو عدم صحته؟ افرِضْ أنك وقفتَ على حديثين لا تعرف صحتهما ولا ضعفهما، أحدهما يوافق قولًا لإمامك، والآخر يخالفه. أيكون نظرك فيهما سواء، لا تبالي أن يصحَّ سندُ كلًّ منهما أو يضعف؟ افرِضْ أنك نظرت في مسألةٍ قال إمامُك فيها قولاً، وخالفه غيره. ألا يكون لك هوًى في ترجيح أحد القولين، بل (¬1) تريد أن تنظر لتعرف الراجح منهما، فتبيِّن رجحانَه؟ افرِضْ أن رجلاً تحبه وآخر تبغِضه تنازعا في قضية، فاسْتُفْتِيتَ فيها ولا ¬

_ (¬1) كذا في المطبوع، ولعل الصواب: "هل".

تستحضر حكمها، وتريد أن تنظر؛ ألا يكون هواك في موافقة الذي تحبه؟ افرِضْ أنك وعالمًا تحبه وآخرَ تكرهه أفتى كلٌّ منكم في قضية، واطلعت على فتويَيْ صاحبيك فرأيتهما صوابًا، ثم بلغك أن عالمًا آخر اعترض على واحدة من تلك الفتاوى وشدَّد النكير عليها. أتكون حالك واحدة، سواء كانت هي فتواك، أم فتوى صديقك، أم فتوى مكروهك؟ افرِضْ أنك تعلم من رجل منكرًا، وتعذُر نفسَك في عدم الإنكار عليه. ثم بلغك أن عالمًا أنكر عليه وشدَّد النكير. أيكون استحسانك لذلك سواءً فيما إذا كان المنكِر صديقَك أم عدوَّك، والمنكَر عليه صديقَك أم عدوَّك؟ فتِّشْ نفسَك تجدْك مبتلىً بمعصية أو نقصٍ في الدين، وتجدْ من تبغضه مبتلىً بمعصية أو نقصٍ آخر ليس في الشرع بأشدّ مما أنت مبتلىً به. فهل تجد استشناعك ما هو عليه مساويًا لاستشناعك ما أنتَ عليه، وتجد مقتَك نفسَك مساويًا لمقتك إياه؟ وبالجملة، فمسالك الهوى أكثر من أن تُحْصى. وقد جَرّبتُ نفسي أنني ربما أنظر في القضية زاعمًا أنه لا هوى لي، فيلوح لي فيها معنى، فأقرِّره تقريرًا يُعجبني. ثم يلوح لي ما يخْدِش في ذاك المعنى، فأجدني أتبرَّم بذلك الخادش، وتُنازعني نفسي إلى تكلُّف الجواب عنه، وغضِّ النظر عن مناقشة ذاك الجواب. وإنما هذا لأني لمَّا قررتُ ذاك المعنى أولاً تقريرًا أعجبني صرتُ أهوَى صحته. هذا مع أنه لم يعلم بذلك أحد من الناس، فكيف إذا كنتُ قد أذعتُه في الناس، ثم [2/ 198] لاح لي الخدش؟ فكيف لو لم يَلُح لي الخدش، ولكنّ رجلاً آخر اعترض عليّ به؟ فكيف لو كان المعترضُ ممن أكرهه؟!

هذا ولم يكلَّف العالِمُ بأن لا يكون له هوى، فإنّ هذا خارج عن الوسع. وإنما الواجب على العالِم أن يفتِّش نفسه عن هواها حتى يعرفه، ثم يحترز منه، ويُمعِنَ النظرَ في الحق من حيث هو حق؛ فإن بان له أنه مخالف لهواه آثر الحق على هواه. وهذا - والله اعلم - معنى الحديث الذي ذكره النووي في "الأربعين" (¬1) وذكر أن سنده صحيح، وهو: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئتُ به" (¬2). والعالِم قد يُقصِّر في الاحتراس من هواه، ويسامح نفسَه، فتميل إلى الباطل، فينصره وهو يتوهّم أنه لم يخرج من الحق ولم يُعادِه. وهذا لا يكاد ينجو منه إلا المعصوم، وإنما يتفاوت العلماء، فمنهم من يَكثُر منه الاسترسال مع هواه ويفحُش حتى يقطع من لا يعرف طباع الناس ومقدار تأثير الهوى بأنه متعمِّد، ومنهم من يقِلُّ ذلك منه ويخِفُّ. ومن تتبَّعَ كتب المؤلفين الذين لم يُسندوا اجتهادهم إلى الكتاب والسنة رأسًا رأى فيها العجب العُجاب، ولكنه لا يتبين له ذلك إلا في المواضع التي لا يكون له فيها هوى، أو يكون هواه مخالفًا لما في تلك الكتب، على أنه إذا استرسل ¬

_ (¬1) هو الحديث رقم (41). وأخرجه ابن أبي عاصم في "السنة" (15) والخطيب في "تاريخ بغداد" (4/ 369) والبغوي في "شرح السنة" (104) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. (¬2) قلت: أنى له الصحة وفي سنده نعيم بن حماد، وقد سبقت ترجمته, وما فيه من الضعف، ثم هو قد اختلف عليه في إسناده كما بينه الحافظ ابن رجب الحنبلي في "شرح الأربعين" (ص 282 - 283)، وقال: "تصحيح هذا الحديث بعيد جدًّا من وجوه، منها تفرد نعيم به ... ". ثم بيَّنها، فمن شاء التفصيل فليرجع إليه، وقد أشار البخاري إلى ضعفه في "جزء رفع اليدين" (ص 16) [ن].

مع هواه زعم أن موافقيه براء من الهوى، وأن مخالفيه كلَّهم متبعون للهوى. وقد كان من السلف من يبالغ في الاحتراس من هواه حتى يقع في الخطأ من الجانب الآخر، كالقاضي يختصم إليه أخوه وعدوّه، فيبالغ في الاحتراس حتى يظلم أخاه، وهذا كالذي يمشي في الطريق، ويكون عن يمينه مزلَّة، فيتَّقيها ويتباعد عنها، فيقع في مزِلَّة عن يساره! 5 - يستحضر أنه على فرض أن يكون فيما نشأ عليه باطل، لا يخلو عن أن يكون قد سلف منه تقصير أو لا. فعلى الأول إن استمرّ على ذلك كان مستمرًّا على النقص، ومصرًّا عليه، ومزدادًا منه، وذلك هو نقص الأبد وهلاكه. وإن نظر، فتبيَّن له الحق، فرجع إليه، حاز [2/ 199] الكمال، وذهبت عنه معرَّة النقص السابق؛ فإن التوبة تجُبُّ ما قبلها، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له. وقد قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]. وفي الحديث: "كلكم خطَّاؤون وخير الخطَّائين التوابون" (¬1). وأما الثاني، وهو أن لا يكون قد سبق منه تقصير، فلا يلزمه بما تقدم منه نقصٌ يُعاب به البتة. بل المدار على حاله بعد أن ينبَّه، فإن تنبَّه وتدبَّر فعرف الحقَّ فأتبعه فقد فاز. وكذلك إن اشتبه عليه الأمر، فاحتاط. وإن أعرض ونَفَر، فذلك هو الهلاك. 6 - يستحضر أن الذي يهمُّه ويُسأل عنه هو حالُه في نفسه. فلا يضرُّه عند ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (13/ 187) والترمذي (2499) والبيهقي في "الشعب" (7127) من حديث أنس بن مالك بلفظ: "كلُّ بني آدم خطّاء ... ". وإسناده حسن.

الله تعالى ولا عند أهل العلم والدين والعقل أن يكون معلِّمه أو مربِّيه أو أسلافه أو أشياخه على نقص. والأنبياء عليهم الصلاة والسلام لم يَسْلَموا من هذا، وأفضل هذه الأمة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورضي عنهم، وكان آباؤهم وأسلافهم مشركين. هذا مع احتمال أن يكون أسلافك معذورين إذا لم يُنَبَّهوا ولم تقم عليهم الحجة. وعلى فرض أن أسلافك كانوا على خطأ يؤاخذون به، فاتِّباعُك لهم وتعصُّبك لا ينفعهم شيئًا بل يضرُّهم ضررًا شديدًا، فإنه يلحقهم مثل إثمك ومثل إثم من يتبعك من أولادك وأتباعك إلى يوم القيامة. كما يلحقك مع إثمك مثلُ إثم من يتبعك إلى يوم القيامة. أفلا ترى أن رجوعك إلى الحق هو خير لأسلافك على كلِّ حال؟ 7 - يتدبر ما يُرْجَى لِمُؤْثر الحقِّ من رضوان رب العالمين، وحسنِ عنايته في الدنيا، والفوزِ العظيم الدائم في الآخرة؛ وما يستحقه متبعُ الهوى من سخطه عزَّ وجلَّ، والمقتِ في الدنيا والعذابِ الأليم الخالد في الآخرة. وهل يرضى عاقلٌ لنفسه أن يشتري لذَّةَ اتباع هواه بفواتِ حُسنِ عنايةِ ربِّ العالمين وحرمانِ رضوانه والقربِ منه والزُّلْفى عنده والنعيمِ العظيم في جواره، وباستحقاقِ مقتِه وسخطِه وغضبِه وعذابِه الأليم الخالد؟ لا ينبغي أن يقع هذا حتى من أقلِّ الناس عقلاً، سواء أكان مؤمنًا موقنًا بهذه النتيجة، أم ظانًّا لها، أم شاكًّا فيها، أم ظانًّا لعدمها؛ [2/ 200] فإن هذين يحتاطان. وكما أن ذلك الاشتراء متحقِّق ممن يعرف أنه متَّبع هواه، فكذلك من يسامح نفسه، فلا يناقشها ولا يحتاط. 8 - يأخذ نفسه بخلاف هواها فيما يتبيَّن له، فلا يسامحها في ترك واجب أو ما يقرب منه، ولا في ارتكاب معصية أو ما يقرب منها, ولا في هجوم على مشتبه. ويروضُها على التثبت والخضوع للحق، ويشدِّد عليها في ذلك

حتى يصير الخضوعُ للحق ومخالفةُ الهوى عادةً له. 9 - يأخذ نفسَه بالاحتياط في ما يخالف ما نشأ عليه، فإذا كان فيما نشأ عليه أشياء يرى أنه لا بأس بها، أو أنها مستحبة، وعلم أن من أهل العلم من يقول: إنها شرك أو بدعة أو حرام، فليأخذ نفسه بتركها حتى يتبيَّن له بالحجج الواضحة صحةُ ما نشأ عليه. وهكذا ينبغي له أن ينصح غيرَه ممن هو في مثل حاله. فإن وجدتَ نفسَك تأبى ذلك، فاعلم أنّ الهوى مستحوِذ عليها، فجاهِدْها. واعلم أنّ ثبوت هذا القدر على المكلَّف - أعني أن يثبت عنده أنَّ ما يُدعى إليه أحوطُ مما هو عليه - كافٍ في قيام الحجة عند الله عزَّ وجلَّ. وبذلك قامت الحجة على أكثر الكفّار. فمِنْ ذلك المشركون من العرب، لم يكن في دينهم الذي كانوا عليه تصديق بالآخرة، وإنما يَدْعون آلهتهم ويعبدونها للأغراض الدنيوية، مع علمهم أنَّ مالكَ الضرِّ والنفعِ هو الله عزَّ وجلَّ وحدَه، ولذلك كانوا إذا وقعوا في شدّةٍ دَعَوا الله وحده. قال تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [لقمان: 32]. وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 67]. وكانوا يرون مَن هو على خلاف دينهم لا يظهر تفاوت بينه وبينهم في أحوال الدنيا، وعرفوا فيمن أسلم مثلَ ذلك، ثم عُرض عليهم الإِسلام، وعرفوا - على الأقل - أنه يمكن أن يكون حقًّا، وأنه إن كان حقًّا ولم يتبعوه تعرَّضوا للمضارّ الدنيوية وللخسران الأبدي في الآخرة، فلزمهم في هذه الحال أن يُسْلِموا؛ لأنه إن كان الأمر كما بدا لهم من صحة الإِسلام فقد أخذوا منه بنصيب، وإلا فتركهُم لما كانوا عليه لا يضرُّهم كما لا يتضرَّر من

خالفهم، [2/ 201] فلم يمنعهم من الإِسلام إلا اتباعُ الهوى، قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26]. وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 52]. وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأحقاف: 10]. وتكذيبُهم للحق وإعراضُهم عنه - بعد أن قامت الحجة عليهم بأنَّ تصديقه واتباعه أحوطُ لهم وأقربُ إلى النجاة - ظلمٌ شديدٌ منهم، استحقُّوا به أن لا يهديهم الله عَزَّ وَجَلَّ إلى استيقان أنه حق. وهذا كما تقدم في قصة نوح، وقال الله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} [الأعراف: 101]. ونحوها في سورة يونس [74] وفيها: {كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ}. وقال الله عزَّ وجلَّ: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 109، 110]. وفي "تفسير ابن جرير" (7/ 194) (¬1): " ... عن ابن عباس: قوله: ¬

_ (¬1) (9/ 490) ط. دار هجر.

{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ ...} قال: لما جحد المشركون ما أنزل الله لم تَثْبُتْ قلوبُهم على شيء، ورُدَّتْ عن كلِّ أمر". وهذا هو الصحيح. الكاف في قوله: "كما" للتعليل. وكذلك هي في قوله تعالى: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} [البقرة: 198]. قال ابن جرير في "تفسيره" (2/ 163) (¬1): "يعني بذلك جلَّ ثناؤه: واذكروا الله أيها المؤمنون عند المشعر الحرام بالثناء عليه والشكر له على أياديه عندكم، وليكن ذكركم له بالخضوع له والشكر على ما أنعم عليكم من التوفيق". وهو الظاهر في قوله تعالى: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 239]. [2/ 202] قال ابن جرير (3/ 337) (¬2): " ... فاذكروا الله في صلاتكم وفي غيرها بالشكر له والحمد والثناء عليه، على ما أنعم به عليكم من التوفيق لإصابة الحق الذي ضلَّ عنه أعداؤكم". وقد ذكر ابن هشام في "المغني" (¬3) هذا المعنى للكاف، فراجعه. وفي "الإتقان" (¬4): "الكاف حرف جرّ له معانٍ أشهرها التشبيه ... ¬

_ (¬1) (3/ 523، 524). (¬2) (4/ 395). (¬3) (1/ 192). (¬4) (3/ 1136) ط. مجمع الملك فهد.

والتعليل نحو: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ} [البقرة: 151]. قال الأخفش: أي لأجل إرسالنا فيكم رسولاً منكم فاذكروني، {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 198]، أي لأجل هدايته إياكم ... ". 10 - يسعى في التمييز بين معدن الحجج ومعدن الشبهات، فإنه إذا تمَّ له ذلك هان عليه الخَطْب. فإنه لا يأتيه من معدن الحق إلا الحق، فلا يحتاج - إن كان راغبًا في الحق قانعًا به - إلى الإعراض عن شيء جاء من معدن الحق، ولا إلى أن يتعرض لشيء جاء من معدن الشبهات. لكن أهل الأهواء قد حاولوا التشبيه والتمويه، فالواجب على الراغب في الحق أن لا ينظر إلى ما يجيئه من معدن الحق من وراء زجاجاتهم الملوَّنة، بل ينظر إليه كما كان ينظر إليه أهلُ الحق. والله الموفق. ***

الباب الأول في الفرق بين معدن الحق ومعدن الشبهات وبيان مآخذ العقائد الإسلامية ومراتبها

[2/ 203] الباب الأول في الفرق بين معدن الحق ومعدن الشبهات وبيان مآخذ العقائد الإِسلامية ومراتبها مآخذ العقائد الإِسلامية أربعة: سَلَفيَّان، وهما الفطرة والشرع. وخَلَفيَّان، وهما النظر العقلي المتعمَّق فيه، والكشف التصوفي. أما الفطرة، فأريد بها ما يعمُّ الهداية الفطرية، والشعور الفطري، والقضايا التي يسمِّيها أهل النظر: ضروريات وبديهيات، والنظر العقلي العادي، وأعني به ما يتيسَّر للأُميين ونحوهم ممن لم يعرف علم الكلام ولا الفلسفة. وأما الشرع، فالكتاب والسنة. وأما النظر العقلي المتعمَّق فيه، فما يختصّ بعلم الكلام والفلسفة. وأما الكشف التصوفي، فمعروف. فأما المأخذ السلفي الأول، فالهداية والشعور الفطريَّان يتضحان ويتضح علوُّ درجتهما بالنظر في أحوال البهائم والطير والحشرات كالنحل والنمل. وأذكر من ذلك مثالاً واحدًا: لو أنك أخذت فِراخَ حمامٍ عقب خروجها من البَيض، فاعتنيت بحفظها وتغذيتها وتربيتها بعيدةً عن جنسها، لَوجدتَها بعد أن تكبر يأتلف الذكر والأنثى منها، فلا يلبثان أن يبادرا إلى تهيئة موضع مناسب لوضع البيض وحفظه وحضنه، فيختاران موضعًا صالحًا لذلك. ثم يتلمَّسان ما يمهِّدانه به من الحشيش ونحوه، ثم تضع

الأنثى البيض، ثم يتناوبان حضنه. فإذا خرجت الفِراخ تناوبا حَضْنها وتغذيتها بما يصلح لها. فإذا كبرت وقويت على تناول الحَبّ والماء بأنفسها أخذا يُلجئانها إلى ذلك بالإعراض عن زَقِّها. فإذا قويت على الطيران هجراها وطرداها كأنهما لا يعرفانها. فإذا تدبَّرتَ هذا الصنيع ونتائجه وجدته صوابًا كلَّه. ولعلك لو تتبعت أحوال [2/ 204] الطير لوجدت ما هو ألطفُ من هذا وأدقُّ، وكذلك من تتبع أحوال النحل والنمل وجد أكثر من هذا وألطف. فإن كان للحمام شعور بأن الائتلاف سبب البيض، وأن البيض يحتاج إلى ما ذُكِر، فتخرج منه فِراخ، إلى غير ذلك، فهذا هو الشعور الفطري. وإن لم يكن هناك شعور، وإنما هو انسياق إلى تلك الأفعال مع الجهل بما يترتب عليها، فتلك هي الهداية الفطرية. وعلى كل حال، فالإصابة في ذلك أكثر من إصابة الإنسان في كثير مما يستدل عليه بعقله. ومن تدبر حال الإنسان وجد له نصيبًا من ذلك في شأن حفظ حياته وبقاء نسله. نعم، إنه اكتفي له في بعض الأمور بعقله، لكن ذاك العقل العادي، فأما العقل التعمّقي فلم يُوكَل إليه في الضروريات، فإذا أحاطت العناية الربانية الطير والبهائم والحشرات إلى تلك الدرجة، وحاطت الإنسان أيضًا في حفظ حياته وبقاء نسله وغير ذلك، فما عسى أن يكون حالها في حياطة الإنسان فيما إنما خُلِق لأجله! فإذا وجدنا للإنسان شيئًا من هذا القبيل في شأن وجود الله تبارك وتعالى، وعلوِّه على خلقه، وعلمه وقدرته، وغير ذلك من صفاته؛ فمن الحق على العقل أن لا يستهين بذلك، زاعمًا أنه قضية وهميّة، كيف وقد

شهد له العقل والشرع كما يأتي. وأما القضايا الضرورية والبديهية، فقد اتفق علماء المعقول أنها رأس مال العقل، وأن النظر إنما يُرْجَى منه حصولُ المقصود ببنائه عليها وإسناده إليها. وأما النظر بالعقل العادي، فقد اعتدَّت به الشرائع، وبنَتْ عليه التكليفَ، ودعت إليه، وحضَّت عليه. وعلماء المعقول مصرِّحون بأن الدليل العقلي كلَّما كان أقرب مَدْرَكًا وأسهل تناولًا وأظهر عند العقل كان أجدر بأن يوثق به. ولا ريب أنه يُخْشى قصورُ العقل العادي في بعض المطالب، لكن ذلك فيما ليس مطلوبًا [2/ 205] شرعًا. فأما المطلوب شرعًا فإن الله تعالى أعدّ العقولَ العادية لإدراكه، وأعدَّ لها ما يسدِّدها فيه من الفطرة والآيات الظاهرة في الآفاق والأنفس، ثم أكمل ذلك بالشرع. فإذا انقاد العقل العادي للشرع، وامتثل هُداه واستضاء بنوره؛ فقد أمِن ما يُخْشى من قصوره. وأما المأخذ الثاني وهو الشرع، فما عسى أن يقال فيه! وإنما هو كلام الله عَزَّ وَجَلَّ وكلام رسوله، لا يُخْشى فيه جهل ولا خطأ، ولا كذب ولا تلبيس، ولا تقصير في البيان {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42]. هذا، والله سبحانه إنما خَلَق الناس ليكمُلوا بعبادته، كما مرَّ في المقدمة، وهو سبحانه الحكيم العليم القدير، فلا بد أن يكون خلقهم على الهيئة التي ترشَّحهم لمعرفته ومعرفة ما فرض عليهم الإيمان به, لأن ذلك رأس العبادة وأساسها. ولا نزل أن الميسَّر لهم قبل الشرع هو المَأْخذ الأول، فلا بد أن

يكون فيه ما يغني فيما يثبت به الشرعُ بعد تنبيه الشرع، ثم يكون فيه وفي الشرع ما يكفي لتحصيل القدر المطلوب منهم. ويؤكد هذا أن تحصيل الدرجة التي يُعتدُّ بها في النظر العقلي المتعمَّق فيه صعب جدًّا. قال ابن سينا كما في "مختصر الصواعق" (1/ 243): "فإن المبرّزين المنفقين أيامهم ولياليهم وساعاتِ عمرهم على تثقيف أذهانهم وتذكية أفهامهم وترشيح نفوسهم لسرعة الوقوف على المعاني الغامضة يحتاجون في تفهُّم هذه المعاني إلى فَضْل بيانٍ وشرح عبارة". فمن الممتنع أن يكلِّف الله تعالى جميعَ عباده بهذا، ومن الممتنع أن يكتفي منهم في الأصول التي يلزمهم اعتقادُها بالتقليد الصِّرْف لمن ليس بمعصوم. كيف وقد علم سبحانه أن النُّظار سيختلفون، فيكون فيهم المُحِقّ والمُبْطِل، ومعرفةُ العامة بالمُحِقَّ مع جهلهم بما هو الحقُّ وعدمِ العصمة ظاهرُ الامتناع. وقد نصَّ الله تبارك وتعالى في كتابه على أنه خلق الناسَ على الهيئة التي تُرشِّحهم لمعرفة الحق. قال الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ [2/ 206] لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30]. وعدم العلم إنما هو لأمرين: الأول: ما يطرأ على الفطرة مما يغشاها، فيصرِف عن مراعاتها. وفي "الصحيحين" (¬1) من طرقٍ عن أبي هريرة قال: "قال رسول الله صلى الله عليه ¬

_ (¬1) البخاري (1358، 1359، 4775، 6599) ومسلم (2658).

وآله وسلم: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه وينصِّرانه ويمجِّسانه، كما تُنْتَج البهيمةُ بهيمةً جمعاءَ, هل تُحِسّون فيها مِن جدعاء؟ " ثم يقول أبو هريرة: واقرؤوا إن شئتم: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} الآية [الروم: 30] ". لفظ مسلم من حديث الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة. الثاني: الإعراض عما أعدَّه الله تعالى لجلاء الفطرة عن تلك الغواشي، وهو الشرع. قال الله تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} خواتيم الشورى. هذا، وقد أرسل الله تبارك وتعالى رسله، وأنزل كتبه، وفرض شرائعه، معرضًا عن علم الكلام والفلسفة. فأرسل محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم إلى الناس، واختار أن يكون أولُ مَن يُدعَى إلى الحق العربَ الأميين، وكلّفهم بالنظر والإيمان. وقبِلَ إيمانَ من آمن منهم، وأثنى عليهم بأنهم خير أمة أُخرجت للناس، وبأنهم هم المؤمنون حقًّا. وقضى بقيام الحجة على من كفر منهم، ولم يكن فيهم أثر لعلم الكلام ولا الفلسفة، ولا أرشدهم الشرعُ إلى تحصيل ذلك، بل حذَّرهم منه. هذه سورة (الفاتحة) أعظم سورة في أعظم كتابٍ أنزله الله تبارك وتعالى، فرض الله سبحانه على العباد قراءتهَا في كلِّ يوم بضع عشرة مرةً، وفيها: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}.

ومعلوم من أمره إياهم بسؤال الهداية إلى هذا دون ذاك: أنه يأمرهم بلزوم هذا واجتناب ذاك. والمُنْعَم عليهم هم الأنبياء ومن اهتدى بهديهم، فهم من هذه الأمة: محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -، وخيارُ أصحابه، ومن اهتدى بهديهم ممن بعدهم. [2/ 207] ولا خفاء أن المأخذَين السلفيَّين هما سراط هؤلاء، وأن علم الكلام والفلسفة ليسا من سراطهم. وقد صحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تفسير "المغضوب عليهم" و"الضالين" باليهود والنصارى (¬1). ولا خفاء أن موسى وعيسى عليهما السلام ومَن كان على هديهما هم من المنعَم عليهم، وإنما وقع الغضب والضلال على اليهود والنصارى الذين خالفوا هديَ موسى وعيسى وأصحابهم وأتباعهم المهتدين بهديهم. وكان من تلك المخالفة الأخذُ في علم الكلام والفلسفة اتباعًا لسراط الأمم التي هي أوغلُ في الضلال كاليونان والرومان. فمن الواضح الذي لا يخفى على أحد أن علم الكلام والفلسفة ليسا من سراط المُنْعَم عليهم، بل هما من سراط المغضوب عليهم والضالِّين. فثبت بهذا أوضحَ ثبوتٍ أن الشرع لم يقتصر على الإعراض عن علم الكلام والفلسفة، بل حذَّر منهما، ونفَّر عنهما. فهل يقول مسلم بعد هذا: إن المأخذين السلفيين غير كافيين في معرفة الحق في العقائد، وأن ما يؤخذ من علم الكلام والفلسفة مقدَّم على المأخذين السلفيين ومهيمنٌ عليهما؟! ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (19381) والترمذي (2954) وابن حبان (6246، 7206) من حديث عدي بن حاتم.

وقد قال الله تبارك وتعالى لمحمد وأصحابه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 74]. والآيات في هذا المعنى كثيرة. وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. وإكمالُ الدين وكمالُ إيمان الصحابة صريحٌ في أن جميع العقائد المطلوب معرفتها في الإِسلام كانت مبيَّنَةً (¬1) موضَّحةً حاصلةً لهم. وليس هذا كالأحكام العملية، فإنه لا يُطلب معرفةُ ما لم يقع سببه منها، فقد يُكتفَى في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ببيان الأصل الذي إذا رُجِع إليه عند وقوع سبب الحكم عُرِف منه الحكم. ثم رأيتُ في "شرح المواقف" (¬2) بعد ذكر الأحكام العملية ما لفظه: "وإنها لا تكاد تنحصر في عدد، بل تتزايد بتعاقب الحوادث الفعلية، فلا يتأتى أن يُحَاط بها ... بخلاف العقائد فإنها مضبوطة لا تزايُدَ فيها أنفسِها، فلا تَعَذَّرُ الإحاطةُ بها". وأيضًا فتأخير البيان إلى وقت الحاجة جائز عند [2/ 208] الجمهور، فأما تأخيره عن وقت الحاجة فممتنع باتفاق الشرائع، كما نقل عن القاضي أبي بكر الباقلاني. ووقتُ الحاجة إلى العقائد المطلوب اعتقادُها في الشرع لا يمكن تأخّرُه عن حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ووقتُ الحاجة في ¬

_ (¬1) (ط): "مبنية" خطأ. (¬2) (1/ 38).

النصوص المتعلقة بالعقائد هو وقت الخطاب, لأن المكلَّف يسمع، فيعتقد. والقضية العملية التي تستدعي الحكمَ لا محيصَ للقاضي عن النظر فيها والقضاءِ عندما تحدُث. فأما العقائد فلو فُرِض أن فرعًا منها لم يُعرَف حالُه من المأخذَين السلفيَّين فحقُّه تركُ الخوض فيه، وأن يكون الخوض فيه بدعة ضلالةٍ، إذ لا مُلجِئ إلى النظر فيه، فضلاً عن الكلام! وقد صحّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من طرقٍ أنه قال: "خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" (¬1) في أحاديث كثيرة في أفضلية الصحابة وكمال إيمانهم ثم أتباعهم. ولا خفاء أنه لم يكن إذ ذاك عند المسلمين خبر لعلم الكلام ولا الفلسفة، وأنه لما حدث بعضُ النظر في الكلام كان بقايا الصحابة ثم أئمة التابعين ينكرونه. وهكذا لم يزل علماء الدين العارفون بالكتاب والسنة المتحققون باتباع السلف ينكرون الكلام والفلسفة، ويشدِّدون على من ينظر فيهما إلى أن قلَّ العلماء، وفَشَتِ الفتنة. وبالجملة، فشهادةُ الإِسلام بكفاية المأخذين السلفيَّين في العقائد وتحذيرُه مما عداهما بغاية البيان، ودلالةُ العقل بذلك واضحة، والله المستعان. فهل يسوغ مع هذا لمسلمٍ أن يرضى طعن الكوثري في أئمة السنة باقتباسهم العقائد من المأخذين السلفيَّين وردِّهم ما يخالف ذلك؟ كقوله ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2651، 3650) ومسلم (2535) من حديث عمران بن حصين بلفظ: "خير الناس قرني ... "، وأخرجه البخاري (6429) ومسلم (2533) من حديث ابن مسعود، وأخرجه مسلم (2534) من حديث أبي هريرة. وفي الباب عن غيرهم من الصحابة.

(ص 115) في الإِمام ابن الإِمام عبد الرحمن بن أبي حاتم: "وقد ذكر في كتاب "الرد على الجهمية" ما يدلّ على ما أُصيب به عقله ... وهو الذي اعترف أنه يجهل علم الكلام ... ومع ذلك تراه يدخل في مضايق علم أصول الدين ... ". وقال (ص 151) في الإِمام ابن الإِمام عبد الله بن أحمد بن حنبل: "وعبد الله بن أحمد صاحب كتاب "السنة"، وما حواه كتابه هذا كافٍ في معرفة الرجل، ومثلُه لا يصدَّق في أبي حنيفة ... ". [2/ 209] وقوله (ص 16) في الإِمام الجليل عثمان بن سعيد الدارمي: "وعثمان بن سعيد في السند هو صاحب "النقض" (كتابٌ في الرد على الجهمية) مُجَسِّم مكشوف الأمر، يعادي أئمة التنزيه ... ومثلُه يكون جاهلاً بالله سبحانه". وقوله (ص 19) في الإِمام الشهير محمَّد بن إسحاق بن خزيمة: "واعتقاد ابن خزيمة يظهر من كتاب "التوحيد" ... وعنه يقول صاحب "التفسير الكبير" ... إنه كتاب الشرك. فلا حبَّ ولا كرامة". ويتتبع أصحابَ الإِمام أحمد طاعنًا في اعتقادهم، يُسِرُّ حَسْوًا في ارتغاء، يقصد الطعن في الإِمام أحمد. بل رمز في بعض المواضع إلى الطعن في الإِمام أحمد بما هو أصرح من هذا. وطعن (ص 5) في رواة السنة وفي أئمتها الذين امتحنهم المأمون وآله، فقال: "وكانت فلَتاتٌ تصدر من شيوخهم في الله سبحانه وصفاته بما ينبذه الشرع (الفلسفي) والعقل (الجهمي) في آنٍ واحد، فرأى المأمونُ امتحانَ المحدِّثين والرواة في مسألة كان يراها من أجلى المسائل ليوقفهم موقف التروَّي فيما يرون ويروون. فأخذ يمتحنهم في مسألة القرآن، يدعوهم إلى القول بخلق القرآن ... فمنهم من أجاب مرغَمًا من غير أن يعقِل المعنى، ومنهم من تورَّع من الخوض فيما لم يخُضْ فيه السلف".

ولا ذنبَ لهؤلاء الأئمة إلا أنهم آمنوا بالله ورسوله، وصدَّقوا كتاب الله وسنة رسوله، ولم يلتفتوا إلى ما زعمه غيرُهم أنه لا يوثق بالفطرة والعقل إلا بعد إتقان علم الكلام والفلسفة، وأن النصوص الشرعية من كلام الله تعالى وكلام رسوله لا تصلح حجةً في العقائد؛ لأنها لا تفيد اليقين، كما في "المواقف" وشرحها (¬1) في أواخر الموقف الأول: "الدلائل النقلية هل تفيد اليقين؟ قيل: لا تفيد، وهو مذهب المعتزلة وجمهور الأشاعرة، .. وقد جزم الإِمام الرازي بأنه لا يجوز التمسُّك بالأدلة النقلية". فلو أنَّ الطاعنَ في أئمة السنة طعن فيهم من جهة العقل ساكتًا عن الدين لكان الخطبُ أيسرَ، إذ يقال: إنه لم يتناقض، بل غاية أمره أنه سكت عن الطعن في القرآن والنبي اكتفاءً بما يلزم منه ذلك. فأما الطاعن فيهم من جهة الدين، فينسبهم إلى الزيغ والبدعة والجهل بعقائد الإِسلام، فلا يخفى كذبه على عارف. والله المستعان. **** ¬

_ (¬1) (2/ 51, 58).

فصل

[2/ 210] فصل وأما المأخذ الخَلَفي الأول، وهو النظر المتعمَّق فيه، أعنى الكلامي والفلسفي، فقد تقدَّم بعض ما فيه. وقد يقال: إن من شأنه أن يشهد للمأخذ السلفي الأول فيما أصاب فيه، ويكشف عن خطائه فيما أخطأ فيه, ويتغلغل إلى ما قَصَر عنه، وأن يبيِّن المراد من المأخذ السلفي الثاني؛ فعلى هذا لا معنى لنفور أهل الدين الحق عنه. فأقول: أما من جهة النظر الإِسلامي، فما يُخشَى من خطأ المأخذ السلفي الأول قد تكفَّل الشرعُ بكشف الحال فيه، كما أبطل نسبةَ الولد إلى الله عزَّ وجلَّ، واستبعادَ الحشر، واستحقاقَ غير الله عَزَّ وَجَلَّ للعبادة، وغيرَ ذلك. وما يقصُر عنه المأخذُ السلفيُّ الأول في العقائد قد تكفَّل الشرعُ ببيانه، فإن بقي شيء فالخوض فيه بدعة. وما يُخْشَى من الخطأ في فهم النصوص، لا بد أن يكون في المأخذَين السلفيَّين ما يكشف الحق فيه ضرورةَ أنهما كافيان مُغنيان بشهادة العقل والشرع القاطعة، كما تقدَّم. فبقي النظر المتعمَّق فيه لا حاجة إليه في معرفة العقائد في الإِسلام، وهو مثار للشُّبُهات والتشكيكات كما يأتي، لا جَرَمَ وجب التنفير عنه والتحذير منه، وقد تقدم من الحجة على ذلك ما فيه غنًى لطالب الحقّ. فأما النظر فيه لكشف شبهات أهله، فسيأتي ما فيه إن شاء الله تعالى. ولنذفِّفْ على هذا المأخذ بسلاح أهله، لينكشفَ عُوارُه، وتنهتكَ (¬1) ¬

_ (¬1) (ط): "وتنتهك" خطأ.

أستارُه، وتندفعَ شبهةُ المغترِّين به والمرعوبين منه: علماء المعقول يقسّمون العلم إلى ضروري ونظري، ويقولون: إن النظر إنما يحصل به العلم إذا كانت المقدّمة من الضروريات أو لازمة لها لزومًا تُعْلم صحته بالضرورة. ثم قسّموا [2/ 211] الضروريات إلى أنواع ردَّها بعضهم إلى ثلاثة: الوجدانيات، والحسّيات، والبديهيات. قالوا: والوجدانيات قليلة الفائدة في إقامة الحجة على المخالف, لأنه قد ينكر أن يكون يجد من نفسه ما يزعم المدَّعي أنه يجده. قالوا: فالعمدة في العلم هي الحسيات والبديهيات. ثم ذكروا أن جماعةً من الفلاسفة - منهم على ما حكاه الفخر الرازي إماما الفلسفة أفلاطون وأرسطو - قدحوا في الحِسّيات، وأن آخرين قدحوا في البديهيات، وآخرين في الجميع؛ وأن قومًا قدحوا في إفادة النظر للعلم مطلقًا، وآخرين قدحوا في إفادته العلم في الإلهيات. فأما القادحون في الحِسّيات، فاحتجوا بأن الحواس كثيرًا ما تغلط، وذكروا من ذلك أمثلةً تراها في "المواقف" (¬1) وغيرها، ومن تدبّر وجد كثيرًا من أمثالها. ثم قالوا: فهذه المواضع تنبَّهنا لغلط الحواسِّ فيها لوجود أدلة نبَّهتْنا على ذلك، فيحتمل في كثير من المواضع التي نرى الحواس فيها مُصيبةً أن تكون غَلَطًا في نفس الأمر، ولكن لم يتفق أن نطلع على دليل ينبِّهنا على ذلك. ومن الأصول المقررة أن عدم وجدان الدليل لا يستلزم عدمَ المدلول. ¬

_ (¬1) انظر "شرح المواقف" (1/ 127 وما بعدها).

أجاب العَضُد (¬1) وغيره بأن المدار على جزم العقل، وهو لا يجزم بمجرّد الإحساس بل مع أمور تنضمُّ إليه، لا يُدْرَى ما هي؟ ولا كيف حصلت؟ ولا من أين جاءت؟ أشار بعضهم إلى القدح في هذا الجواب بأن الجزم مقدوح فيه كما يأتي، أي أن العقل قد يجزم ثم يتبين خطاؤه، وبأننا إذا تأملنا أمثلة الغلط وجدنا منها ما كانت عقولنا تجزم فيها بالصحة قبل أن تشعر بالدليل الدال على الغلط. أُجِيب بأن ذاك الجزم ظن قوي، ليس هو بالجزم اليقيني المشروط، وهذا الجواب لا يُجدي لاشتباه الجزمين. غاية الأمر أنكم سمَّيتم ما تبيَّن غلطُه: ظنًّا، وما لم يتبين غلطه: يقينًا. ولو فُرِض أنه تبيَّن الغلط في بعض ما تسمُّون الجزم فيه يقينًا لعُدْتُم فسمَّيتموه ظنًّا. [2/ 212] ومما يقوِّي ذلك القدح أنه لو تواطأ جماعةٌ على تشكيك إنسان في بعض ما يحسُّ به ويجزم، ولم يشعر بتواطئهم، لأمكنهم تشكيكه. بل ربما يكفي لتشكيكه واحد، بل يتشكّك بنفسه إذا كان يرى أن هناك ما يحتمل التغليط كالسحر. هذا، وقد ردّ علماء الطبيعة المتأخرون عدة نظريات ذهب إليها الفلاسفة مسندين لها إلى الحسّ. ومن ذلك ما كانوا جازمين به، ويبنون عليه مقالات أخرى حتى في الإلهيات. فثبت بهذا أن عقول الفلاسفة قد تجزم ببعض ما تغلَط فيه الحواسّ، ثم تبني عليه في الإلهيّات، وتَعدُّ ذلك ¬

_ (¬1) المصدر السابق (1/ 144، 145).

من اليقينيات التي يوجب أسلافُ الكوثري ردَّ ما يخالفها من كلام الله تعالى وكلام رسوله. فإن قيل: فماذا يقول السلفيون؟ قلت: من تدبَّر أمثلة الغلط وجدها على ضربين: ضرب يُخْشى أن يكون سببًا قريبًا لمضار ومفاسد، وضرب لا يُخْشى فيه ذلك، لكن يُخشى أن يَغْلَط فيه المتعمّقون فيبنُوا عليه نظريات تعظم مفاسدها. ووَجَد الضربَ الأول جميعَه مما ينكشف فيه الحال عن قرب. فمنه أن الإنسان إذا تحاوَلَ (¬1) رأى الشيء اثنين، ولو كان هذا مما يتكرر للإنسان بغير شعوره لأوجب ضررًا ومفاسد، فاقتضت عناية الله عَزَّ وَجَلَّ أن لا يكون ذلك، بل اقتضت أن يرى الأحولُ الشيء واحدًا كغيره، مع أنه كان يجب أن يرى الشيء اثنين كالمتحاول. وهذا كما اقتضت العناية أن يكون لكل إنسان صورة يمتاز بها عن جميع الناس، فلا يلتبس بصاحبك الذي عرفتَه معرفةً محقَّقةً أحدٌ من أهل الأرض. وهكذا ترى العناية شاملة. والله عَزَّ وَجَلَّ إنما خلق الناس لعبادته، فإذا كانت عنايته بهم في معاشهم على ما تقدَّم، وهو وسيلة فقط، فأولى من ذلك عنايته بهم في المقصد الذي لأجله خلقهم. وهذا يقتضي حفظ المأخذ السلفي الأول عن أن يستمر فيه غلطٌ حِسِّيٌّ يؤدي إلى ضلال في الاعتقاد. على أنه لو كان شيء من ذلك لكشفه المأخذ السلفي الثاني، وهو الشرع. ¬

_ (¬1) أي: صرف إحدى عينيه عن الأخرى حتى ترى كلُّ واحدة منهما غير ما تراه الأخرى. [م ع].

فأما المتعمِّقون، فإنهم هم الذين يجلبون الضرر على أنفسهم، فلا بِدْعَ أن يكِلَهم اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إلى أنفسهم، بل ويزيدهم ضلالًا إلى ضلالهم. ونظير ذلك: أن الله تبارك وتعالى إنما هيّأ [2/ 213] للناس ابتداءً من الأسلحة ما لا يصيب به الإنسان في مرة واحدة إلا شخصًا واحدًا، وبذلك يحصل التكافؤ بين الناس، ويخفُّ ضرر الفتن. ولا تكاد تصيب من لم يتعرض لها (¬1) من الصبيان والنساء والعَجَزة والبهائم. ولكن الإنسان أخذ يدقَّق في اصطناع الأسلحة حتى اصطنع القنابل التي تُهلِك الواحدة منها ناحيةً بما فيها، ويفكِّر في اصطناع ما هو أشدُّ من ذلك. وأما القادحون في البديهيات فاعتلّوا بأمور: الأول: أن أجلى البديهيات قولنا: الشيء إما أن يكون، وإما أن لا يكون. قالوا: وإنه غير يقيني، وأوردوا للقدح في يقينيَّته عدة شبهات ذكرها وأجاب عنها صاحب "المواقف". فراجعه مع شرحه وحواشيه (¬2)، لتعلم ما يتضمنه النظر المتعمَّق فيه من التشكيك في أوضح الأشياء وأجلاها، تشكيكًا يشتمل على شبهات يصعب على الماهر حلُّها، وعلى من دونه فهمُ الحلِّ. ولو أُورِد بعض تلك الشبهات على أمرٍ خفيّ جاء به الشرع لجزم المتعمّقون بأنها براهين قاطعة. الأمر الثاني: أننا نجزم بالعادِيّات (¬3) كجزمنا بالأوليات. فنجزم أن هذا الشيخ لم يتولد دفعةً بلا أب ولا أم، بل تولد منهما ونشأ بالتدريج ... ، وأن ¬

_ (¬1) (ط): "لهما" خطأ. (¬2) (1/ 151 وما بعدها). (¬3) من العادة.

أواني البيت لم تنقلب بعد خروجي أناسًا فضلاء، ولا أحجاره جواهر، ولا البحر دهنًا وعسلاً، مع أنه من الجائز خلاف هذا. أما عند المتكلمين، فلاستناد الأشياء جميعها إلى القادر المختار، فلعلَّه أوجبَ شيئًا من ذلك. وأما عند الحكماء، فلاستناد الحوادث الأرضية إلى الأوضاع الفلكية، فلعلَّه حدثَ شكل غريب فلكي لم يقع مثله، أو وقع ولكنه لم يتكرر مثله إلا في ألوف من السنين. أجاب العَضُد بأنّ الإمكان لا ينافي الجزم كما في بعض المحسوسات. قال السيد في "شرحه" (¬1): "فإنا نجزم بأن هذا الجسم شاغل لهذا الحَيّز في هذا الآن جزمًا لا يتطرق إليه شبهة، مع أن نقيضه ممكن في ذاته، فقد ظهر أن الجزم في العاديّات واقعٌ موقعَه". كذا [2/ 214] قال الشارح. وفيه أن القادحين لم يستندوا إلى الإمكان الذاتي المشترك بين أمثلتهم ومثال الشارح، وإنما استندوا إلى احتمال الوقوع في نفس الأمر. فإن أحجار البيت كما يمكن بالإمكان الذاتي انقلابها جواهر، فإنه يحتمل وقوع الانقلاب بعد خروجك. وليس مثال الشارح هكذا، فإنه مفروض في الحاضر المشاهَد. وقد قال تبارك وتعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ} إلى أن قال تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ ¬

_ (¬1) "شرح المواقف" (1/ 173).

تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى} [طه: 9 - 21]. فلما كان موسى عليه السلام مع أهله كانوا يشاهدون عصاه، فيجزمون بأنها عصا لم تنقلب حية؛ فهذا جزم كالجزم في مثال الشارح. ثم لما فارقهم، وأُمر بإلقاء عصاه، وانقلبت حيةً؛ إذا كان أهله - وهو غائب عنهم - يجزمون في الوقت الذي انقلبت فيه حيةً، يجزمون بمقتضى العادة أنها لم تنقلب حية = فهذا جزمٌ كالجزم في أمثلة القادحين. ولا يخفى الفرق بين الجزمين، وأنه لا يلزم من صحة الأول صحة الثاني، ولا من القدح في الثاني القدح في الأول، وأن الثاني في قصة أهل موسى مخالف للواقع، وفي أمثلة القادحين محتمل لذلك = فكيف يقال: إنه جزم واقع موقعه؟ دعْ عنك خرقَ العادة، ويغني عنه النقض العادي الذي لم يُعْهَد، كالرجل يُمسي بالمغرب، ثم يُصبح في المشرق. فإن هذا كان من المحال العادي عند الناس، فانتقض بالطيارات، فلو بقي الآن أهلُ جهة لم يسمعوا بخبر الطيارات لكانوا يجزمون بامتناع ما هو واقع بدون خرق عادة. وربما يقال: لا يمتنع أن يكون مراد الشارح أن الاحتمال البعيد جدًّا لا ينافي الجزم، ففي مثاله يحتمل نقيض ما جزم به لاحتمال خطأ الحسّ، فكذلك احتمال خرق العادة. والظاهر أن مراد المتن والشرح: أنه كما أن الحسَّ يحتمل الغلط ومع ذلك يسلِّم القادحون [2/ 215] في البديهيات أن ذلك لا يقتضي القدح في الحسيات مطلقًا، فهكذا يلزمهم في العاديات أن لا يقتضي احتمالُ الخرق القدحَ فيها مطلقًا.

وكأن العَضُد يقول في الجزم بالعادة مثل ما قاله في الجزم بالحس: إن المدار على جزم العقل، وهو إنما يجزم بأمور تنضم إلى الحس أو إلى العادة، لا يُدرى ما هي؟ ولا كيف حصلت؟ ولا من أين جاءت؟ فإذا كان هذا مراده، فقد تقدم في الكلام على الحسِّيات ما علمت. والحق الذي لا ريب فيه: أن العقل قد يجزم في الحسيات بمجرد الإحساس، وفي العاديات بمجرد العادة، وإنما يقف إذا عرض له ما يشكِّكه. فالذي يجوِّز السحر إذا قال له من يثق به: إن هنا ساحرًا، فأدخله عليه، فناوله تفاحةً، فإنه لا يجزم بأنها تفاحة أثمرتها شجرة، بل يجوِّز أن تكون روثةً - مثلًا - وأن حسَّه أخطأ لأجل السحر، أو أن تكون روثة انقلبت تفاحة بعمل السحر، فلا يجزم هنا بإحساس ولا عادة. ومع هذا فإن هذا الذي يجوِّز السحر تجده حيث لا مظنة للسحر يجزم بالإحساس والعادة كما يجزم غيره. وقد يجزم، ثم تشكَّكه، فيرجع عن جزمه. فالحق أن النفس قد لا تعرف وجه الاحتمال فتجزم، وقد تعرفه ولكنها تجحده فتجزم، وقد تعرفه وتعترف به وتستحضره، ولكنها تستبعده جدًّا، فتجزم (¬1) ولا تبالي به. فاحتمال الجزم للخطأ لا محيصَ عنه. وسيأتي اعترافهم بذلك. فإن قيل: فماذا يقول السلفيون؟ قلت: قد مرَّ في الكلام على الحسيات ما فيه كفاية، ويُعْلَم منه الجواب عنهم في شأن البديهيات، ويأتي إن شاء الله تعالى لذلك مزيد. ¬

_ (¬1) (ط): "فيجزم" خطأ.

وأما العاديَّات، فهم يعترفون بجواز خرق العادة، وإنما يحتجُّون بها في مواطن: الأول: حيث تكون من المأخذ السلفي الأول، بأن يعلم أن من شأنها أن تحمل الأميين على اعتقاد شيء في الدين، ولم يأتِ الشرعُ بما يخالفها. ووجهُ الاحتجاج هنا هو تقرير الشرع، مع القطع بأنها لو كانت مختلّة لكشف الشرعُ عن حالها. الثاني: حيث تكون من المأخذ السلفي الثاني، كأن يتواتر أثر عن النبي صلى الله عليه [2/ 216] وآله وسلم في الدين. ووجهُ الاحتجاج هنا أن الخرق إنما يكون بفعل الله عزَّ وجلَّ، ومن الممتنع أن يقع الخرق هنا بأن يتواتر ما هو كذب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الدين. فإن هذا تضليل يتنزَّه الله عَزَّ وَجَلَّ عن مثله. فإن قيل: فقد رُوي أنه يظهر على يد الدجال بعض الخوارق. قلت: قد كشف الشرعُ حالها بالدلالات القاطعة من المأخذين السلفيين على كذب الدجال. ولم يكتف بذلك، بل نصَّ النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم على خروج الدجال وكذبه وظهور ما يظهر على يده، وأن ذلك ابتلاء محض. الثالث: حيث لو فُرِضَ خرقُها لكان الخرقُ حجةً أخرى تقوم مقام العادة، كما تقول: إن من الحجة على إعجاز القرآن أن العرب لم يأتوا بسورةٍ مِن مِثله مع تحدِّيه لهم وتوفُّر الدواعي أن يفعلوا لو أمكنهم. ففي هذا القول إن فُرِض الخرقُ بأن يقال: لعلهم كانوا قادرين، ولكن صرفهم الله عزَّ وجلَّ، فهذا الصرف حجة أخرى على الإعجاز.

الرابع: حيث يكون مع العادة حُجَج أخرى لو فُرِض أن بعضها كالعادة لا يفيد إلا الظن لم يضرَّ ذلك؛ لأن القطع حاصل بالمجموع. الخامس: حيث يكفي الظن. والله الموفق. الأمر الثالث: أن للأمزجة والعادات تأثيرًا في الاعتقادات. فقويُّ القلب يستحسن الإيلام، وضعيف القلب يستقبحه، ومن مارس مذهبًا من المذاهب بُرْهةً من الزمان ونشأ عليه فإنه يجزم بصحته وبطلان ما يخالفه .... قال العضد (¬1): "والجواب: أنه لا يدل على كون الكل كذلك". أقول: هذا حق، ولكن فيه اعتراف بأن ذلك واقع في كثير، وهذا كافٍ في القدح في جزم العقل في الجملة؛ لأنه إذا ثبت أن جزمه قد يكون خطأً لسبب لم يُؤمَن أن يكون خطأ في موضع آخر لذلك السبب أو لسبب آخر. نعم، قد تتضح القضية جدًّا، فلا يُخْشى فيها ذلك، كقولنا: الثلاثة أقل من الستة. والقضايا التي يختصّ بها المتعمّقون ليست من هذا القبيل ولا قريبًا منه، ولا سيما قضاياهم التي [2/ 217] يناقضون بها المأخذين السلفيين، وكفى بمناقضتهما لها حجةً على اختلالها. فأما قضايا السلفيَّين فما لم يكن منها من ذاك القبيل فهو قريب منه، وقد أُمِنَ اختلالها بإقرار الشرع لها. فأما ما لم يقتصر الشرع على إقرارها، بل جاء على وَفْقها، فتلك الغاية. الأمر الرابع: مزاولة العلوم العقلية دلّت على أنه يتعارض دليلان قاطعان بحسب الظاهر بحيث نعجز عن القدح فيهما، وما هو إلا للجزم بمقدماتهما مع أن أحدهما خطأ قطعًا. ¬

_ (¬1) "المواقف" (ص 19).

أجاب العضد (¬1): بأن البديهي ما يُجْزَم فيه بتصوُّر الطرفين، فيتوقف على تجريدهما، فلعل فيه خللًا. أقول: هذا اعتراف بأن الجزم قد يكون خطأ، فقد يكون هناك خلل يخفى على الناظر الماهر، فيجزم بأنه لا خلل. غاية الأمر أنه عند تعارض الدليلين العقليين يتنبه، فيعرف أن هناك خللًا، فكيف بما يلوح للمتعمّق من الدلائل العقلية بدون أن يلوح له ما يعارضه؟ فأما النصوص الشرعية، فإنهم لا يعتدُّون بها، على أن المتعمّقين ربما يرجّحون الدليل الخفيّ المعقَّد الذي هو مَظِنّة الخلل على البديهي الواضح، ميلًا مع الهوى ورعبًا ممن يرونه أمهرَ في التعمق منهم، ولأنه يصعب عليهم معرفة الخلل في الخفي المعقّد، ويسهل عليهم أن يدفعوا البديهي الواضح، بأن يقولوا: هذه قضية وهمية. الأمر الخامس: أنا نجزم بصحة دليل آونةً، وبما يلزمه من النتيجة، ثم يظهر خطاؤه؛ فجاز مثله في الكل. أجاب الشارح (¬2) بقوله: "لا نسلِّم أن مقدّمات الدليل الذي نجزم بصحته آونةً بديهيةٌ، ولئن سُلِّم ذلك فالبديهي قد يتطرّق إليه الاشتباه لخلل في تجريد طرفيه وتعقُّلهما على الوجه الذي هو مناط الحكم بينهما، وذلك لا يعم البديهيات". أقول: هذا اعتراف بأن الناظر الماهر قد يجزم بأن المقدمة بديهية، والواقع أنها غير بديهية، وقد يجزم بعد تدبره وإنعام نظره أنه لا خلل. وتمام ¬

_ (¬1) المصدر نفسه (ص 19). (¬2) "شرح المواقف" (1/ 183).

الكلام كما مرَّ في "الأمر الرابع". الأمر السادس: "أن في كل مذهب قضايا يدَّعي صاحبه فيها البداهة، ومخالفوه ينكرونها. وهو يوجب الاشتباه ورفع الأمان، فلنعدَّ عِدَّةً منها ... ". فذكروا إحدى عشرة قضية، ثم [2/ 218] قالوا (¬1): "وقد أُجيب عنها بأن الجازم بها بديهة الوهم، وهي كاذبة، إذ تحكم بما ينتج نقائضها. قلنا: فيتوقَّف الجزم بها على هذا الدليل فيدور، وأيضًا فلا يحصل الجزم بما لا يتيقن (¬2) أنه لا ينتج نقيضه، ولا يتيقن، بل غايته عدم الوجدان". لم يجب العضد عن هذا الأمر السادس ولا السيد، غير أنه قال (¬3) في الجواب عن تلك الأمور كلها: "وأُجيب عن ذلك بأنا لا نشتغل بالجواب عنها، لأن الأوليات مستغنية عن أن يُذَبّ عنها، وليس يتطرق إلينا شك فيها بتلك الشبه التي نعلم أنها فاسدة قطعًا، وإن لم يتيقن عندنا وجهُ فسادها". أقول: لا ريبَ أن القدح في البديهيات بما يشمل الأوليات لا سبيل إليه، لأن هناك قضايا واضحة متفق عليها، وهؤلاء القادحون لم يدَّعوا ما يناقضها، وإنما حاولوا التشكيك فيها بما لا يُعتدّ به. وذلك كقولنا: "الثلاثة أقلُّ من الستة" و"الشيء أعظم من جزئه"، و"الشيء لا يكون موجودًا معدومًا معًا"، و"الجسم الواحد لا يكون في مكانين في وقت واحد بأن يكون كله في أحدهما وكله في الآخر". لكن الوثوق ببعض البديهيات لا يستلزم الوثوق بجميعها، وقد اعترف بذلك المحتجون بها، فبقي الكلامُ معهم في هذا. ¬

_ (¬1) "المواقف" (ص 19، 20). (¬2) كذا في (ط). وفي المواقف: "الجزم ما لم يتيقن ... "، وهو المناسب للسياق. (¬3) "شرح المواقف" (1/ 186).

فيقال لهم: تلك القضايا المعدَّدة في الأمر السادس وهي إحدى عشرة، وما يشبهها اعترفتم جميعًا بأنها بديهية، ثم اختلفتم في الأخذ بها. وكلُّ فرقة منكم تزعم أن ما أخذت به من تلك القضايا بديهي عقلي يقيني، وأن ما ردّته منها بديهي وهمي. فإن كان مردُّ ذلك إلى التحكُّم، مَنْ هَوِيَ قضيةً قال: إنها بديهية عقلية تفيد اليقين، ومن خالفت هواه قال: بديهية وهمية = فهذا ليس من العلم في شيء. وإن كان المردُّ إلى الجزم، فمن أحسَّ بأنه جازم بالقضية قال: عقلية يقينية، ومن أحسّ بأنه مرتاب فيها قال: وهمية= فهذا قريب من سابقه، إذ قد ثبت أن الجزم يخطئ ويغلط؛ وقد تقدَّم أدلةٌ على ذلك، وكفى بالاختلاف في هذه القضايا دليلاً. وإن كان المردُّ إلى قوة المعارض، فمن لم يقوَ عنده معارض القضية سمَّاها: عقلية، وقطع بها. ومن قَوِي عنده المعارض سمَّاها وهمية، فردَّها= فهذا كسابقيه، إذ غايته الجزم بالقضية أو الجزم بمعارضها، وقد ثبت أن الجزم يخطئ ويغلط. [2/ 219] وإن كان هناك معيار صحيح، فما هو؟ قالوا: المعيار أن تُعرض القضية البديهية المنظور فيها على البديهيات الأخرى، فإن وُجد فيها ما يُنتج نقيضَ هذه القضية علمنا أن هذه وهمية. قلت: هَبُوا أني تمسّكتُ بقضية بديهية، وقلت: إنها عقلية يقينية، فخالفني مخالف وذكر بديهيةً أخرى زعم أنها عقلية يقينية، وأنها تُنتج نقيضَ قضيتي، فقد لا أُسَلّم أن القضية التي ذكرها عقلية يقينية، بل أحتجّ على أنها وهمية بإنتاجها نقيض قضيتي، وما أنتجَ نقيض الحق فهو باطل. وإن سلّمتُ

أن قضيته عقلية، فقد لا تكون من القضايا المتفق عليها بين العقلاء، وإذا لم تكن منها لم يُؤمَن أن تكون في نفس الأمر وهميةً وتابعتُ صاحبي على الخطأ. وإن كانت من القضايا المتفق عليها بين العقلاء أو بيني وبين صاحبي فقد لا أسلِّم صحة استنتاجه، إذ غايته أن تكون صحته بديهية، فلعلّ بداهته وهمية، بدليل مناقضته لقضيتي، وما ناقض الحقَّ فهو باطل. فالمعيار الذي ذكرتم لا يفيد إلا حيث تكون القضية المعتبر بها من القضايا المتفقِ عليها بين العقلاء، وتكون صحة إنتاجها كذلك، وهذه فائدة ضئيلة لا تتأتى في شيء من القضايا التي اختلفتم فيها. فإن قيل: فماذا يقول السلفيون؟ قلت: يقولون: القضية المحتاج إلى التثبُّت فيها (¬1) إما غير ماسَّة بالدين البتةَ، وإما ماسَّة به. فالأولى لا شأن لهم بها، بل يدَعُونها لعلماء الطبيعة. وأما الثانية، فإما أن لا تكون من المأخذ السَّلفي الأول، وإما أن تكون منه. فالأولى لا يعتدُّون بها، إلا أن بعضهم قد يتعرّض لها إذا وافقت المأخذين السلفيَّين. وأما الثانية، فيحكِّمون فيها الشرع، فإن وجدوه جاء بما يخالفها علموا أنها باطلة، وإن وجدوه أقرَّ الناسَ على اعتقادهم الديني بحسبها علموا أنها حق؛ لأن الشرع لا يُقرّ على مثل هذا إلا وهو حق. فأما إذا زاد الشرع فجاء على وَفْقها، فتلك الغاية. ¬

_ (¬1) احتراس من القضايا الواضحة، ومنها ما لا يثبت أصل الشرع إلا به. [المؤلف].

فهذا المعيار هو الذي ارتضاه الله عَزَّ وَجَلَّ لعباده، وكره لهم ما عداه. فهو الصراط المستقيم، [2/ 220] وسبيل الله، وسبيل المؤمنين. وله مزايا لا تُحْصى. منها: أنه أتمُّ وأعمُّ من معيار المتعمّقين الضئيل الفائدة. ومنها: أنه لا يؤدِّي إلى ما وقعوا فيه من الخروج عن الشرع والعقل بنسبتهم الكذب إلى الله تعالى ورسله، كما يأتي شرحه. ومنها: أنه لا يؤدي إلى الاختلاف في الدين وتفريقه، بدليل أن الصحابة والتابعين لهم بإحسان لم يختلفوا. فإن أدَّى إلى اختلافٍ مَّا فلا يكاد يكون إلا من قبيل الاختلاف في فروع الفقه، لا يلزم المخطئَ فيه كفر ولا ضلال. على أنه إن خيف اختلاف في الدين كان الواجب على الأكثر في زمن غَلَبة الخير عدم التدقيق، وعلى الأقل كتمان قولهم، كما جرى عليه السلف في مسألة القَدَر. ومنها: أن المخطئ إذا لم يقصّر تقصيرًا بيِّنًا يرجى له العفو، لأنه لم ينشأ خطاؤه عن اتباع غير سبيل المؤمنين، والتماس الهدي من غير الصراط المستقيم. ومنها: تيسُّر المعرفة بدون خروج عن الصراط المستقيم ولا اتباع السبل المفرقة عن سبيل الله عزَّ وجلَّ. إذ يكفي للمعرفة العلمُ بكتاب الله تعالى وسنة رسوله، بدون حاجة إلى التعمّق والمنطق والفلسفة. ومنها: أن العامة لا يحتاجون معه إلى التقليد المريب المُوقِع للمسلمين في الاختلاف والتفرُّق والتنابذ والتنابز والفتن، لأن القضية إما أن يتفق عليها

علماء الدين فتكون إجماعًا، وإما أن لا يظهر فيها مخالفة إلا ممن يشذّ، فيكون اتباع الجمهور المعلوم أنهم إنما يتبعون كتاب الله تعالى وسنة رسوله أخذًا بالراجح الواضح. وهذا إنما يحتاج إليه في فروع العقائد التي لا يضرُّ عدم استيقانها. هذا مع أنه يسهل على العلماء أن يذكروا للعامة الحجة النقلية، فيفهمها العامة فيكونون متبعين للشرع، وبذلك تطمئن قلوبهم، ويزيد إيمانهم، ويعظم ثوابهم. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. وأما القادحون في الجميع، فهم السوفسطائية. وهم ثلاث فرق، أمثلها وأفضلها كما في "المواقف" و"شرحها" (¬1) اللا أدرية، يشكُّون في كل شيء. الثانية: العنادية، يزعمون أن لا موجود أصلاً. الثالثة: العندية، يقولون: حقائق الأشياء تابعة للاعتقاد، فمذهب كل طائفة حق بالنظر إليهم، وليس في نفس الأمر شيء بحق. [2/ 221] قال السيد في "شرح المواقف" (¬2): "إنما نشأ هذا من الإشكالات المتعارضة ... وبالجملة ما من قضية بديهية أو نظرية إلا ولها معارضة مثلها في القوة تقاومها". أقول: فيعلم بهذا أن طريق المتعمّقين مشتبهة مُوقِعةٌ في كثرة الخطأ والغلط والاختلاف والارتياب والجنون، وحُقَّ لمن رغب عن سبيل الله عزَّ وجلَّ وابتغى الهدى في غيرها أن يقع في مثل هذا التيه. ¬

_ (¬1) "المواقف" (ص 21) و"شرحها" (1/ 186). (¬2) (1/ 187).

وأما القادحون في إفادة النظرِ العلمَ مطلقًا فهم السُّمَنِيَّة، وتمسكوا بوجوه سأحاول حكاية بعضها، وما أجيب به عنها (¬1) بالمعنى تقريبًا للفهم. الوجه الأول: إفادة النظر الصحيح للعلم لا تُعْلَم، إذ لو عُلِمتْ فإما بضرورة أو نظر، وكلاهما باطل. أما الضرورة فلاختلاف الناس في ذلك وللجزم بأنه دون قولنا: "الواحد نصف الاثنين" في القوة، وليس ذلك إلا لاحتمال النقيض ولو على أبعد وجه. وأما النظر فلاستلزامه إثبات الشيء بنفسه. أجاب بعضهم باختيار الضرورة، وأن الضروريّ قد لا يكون تصوُّرُ طرفَيْه جليًّا، ولا تجريدهما سهلًا، ولا يكثر وروده على الذهن فيؤلَفَ ويُسْتأنسَ به؛ فمثلُ هذا قد يخالف فيه قليل من الناس، ويُدرِكُ أنه دون قولنا: "الواحد نصف الاثنين"؛ وذلك لا يُخرِجه عن كونه ضروريًّا. واختار بعضهم النظر، وأجابوا بما فيه طول وتعقيد، فراجعه في "المواقف" و"شرحها" (¬2)، لما قدّمناه في أول الكلام مع منكري البديهيات. الوجه (¬3) الثاني: الاعتقاد الجازم عقب النظر لا يُعلَم أنه عِلْم، لأنه لا يُعْلَم إلا بضرورة أو نظر، وكلاهما باطل. أما الضرورة فلأنه "قد يظهر للناظر بعد مدة بطلانُ ما اعتقده وأنه لم يكن علمًا وحقًّا، وكذلك نقل المذاهب ودلائلها لما مرَّ من أنه قد يظهر صحة ما اعتقد بطلانه وبالعكس". كذا في ¬

_ (¬1) انظر "المواقف" (ص 24 - 26) و"شرحها" (1/ 219 وما بعدها). (¬2) (1/ 220، 221). (¬3) الأصل: "الأمر" وكذا ما سيأتي، وقد سبق أنه يذكر الوجوه، ثم قال: "الوجه الأول"، فغيرناها لتتوافق.

"المواقف" و"شرحها" (¬1). وأما النظر فلاحتياجه إلى نظر آخر، ويتسلسل. [2/ 222] أجاب العضد (¬2) بقوله: "الذي يظهر خطاؤه لا يكون نظرًا صحيحًا والنزاع إنما وقع فيه". الوجه الثالث: النظر لا يفيد العلم إلا إذا عُلِم عدمُ المعارض، إذ معه يحصل التوقف، "وعدمه ليس ضروريًّا وإلا لم يقع المعارض، أي لم ينكشف وجوده (¬3) بعد النظر، وكثيرًا ما ينكشف، فهو نظري ويحتاج إلى نظر آخر، وهو أيضًا محتمل لقيام المعارض، ويتسلسل". كذا في "المواقف" و"شرحها" (¬4). أجاب العضد (¬5) بقوله: "النظر الصحيح (¬6) في المقدّمات القطعية كما يفيد العلم بحقية النتيجة يفيد العلم بعدم المعارض، فعدم المعارض في نفس الأمر ضروري". الوجه الرابع: "الاعتقاد الجازم قد يكون علمًا لكونه مطابقًا مستندًا لموجب، وقد يكون جهلًا لكونه غير مطابق مستندًا إلى شُبهة أو تقليد، فلا يمكن التمييز بينهما. فإذًا ماذا يُؤمِننا أن يكون الحاصل عقيب النظر جهلًا؟ ". ¬

_ (¬1) (1/ 220). (¬2) "المواقف" (ص 24). (¬3) (ط): "وجود". (¬4) (1/ 224). (¬5) "المواقف" (ص 24). (¬6) (ط): "صحيح" خطأ.

لخّصت هذه العبارة من "المواقف" و"شرحها" (¬1). قال العضد (¬2): "هذا إنما يلزم المعتزلةَ القائلين بمماثلة الجهل للعلم". قال الشارح (¬3): "أما نحن (أي الأشعرية) فنقول: إذا حصل للناظر العلم بالمقدمات الصادقة القطعية وبترتيبها المُفْضي إلى المطلوب، فإنه يعلم بالبديهة أن اللازم عنه علم لا جهل". أقول: إذا كان القادحون يسلّمون إمكان علم الناظر بأن نظره صحيح علمًا يقينيًّا باتًّا، فلا ريب في سقوط شبهاتهم هذه والسبع الباقية المذكورة في "المواقف" (¬4). وإن كانوا يمنعون ذلك ويقولون: غايته أن يجزم، وهذا الجزم لا يوثق به، فكلامهم قويّ بالنسبة إلى النظر المتعمّق فيه في الإلهيات ونحوها. وليس فيما أُجيب به عن ذلك ما يُجدِي، إذ غايته أنه إذا عُلِمَت صحة النظر علمًا يقينيًّا باتًّا حصل العلم بالنتيجة قطعًا، وحصل العلم بأن ذلك علم، وحصل العلم بعدم المعارض، وحصل الأمن من أن يكون الاعتقاد جهلًا. وهذا إنما يفيد إذا ثبت إمكان العلم اليقيني الباتّ بصحة النظر، فيبقى البحث في هذا الإمكان. ولا ريب أنه ليس عند الناظر في النظر المتعمّق فيه في الإلهيات ونحوها إلا جزمه بالصحة إن صَدَق في دعوى الجزم، وهذا الجزم قد ثبت بالتجارب الكثيرة والدلائل الواضحة أن مثله كثيرًا ما يكون [2/ 223] خطأ وغلطًا، واعترف المتعمّقون بذلك كما مرّ ¬

_ (¬1) (1/ 234). (¬2) "المواقف" (ص 26). (¬3) (1/ 234). (¬4) (ص 24 - 25).

مرارًا. وإذا احتمل - ولو على غاية البعد - أن يكون الجزم خطأ لم يكن الجزم بصحة النظر علمًا بصحته، ولا الجزم بإفادته العلم علمًا بذلك، ولا الجزم بأن ما أفاده عِلْمٌ عِلْمًا بذلك، ولا الجزم بعدم المعارض علمًا بعدمه، ولا يحصل الأمن من أن يكون كل ذلك جهلًا. فإن قيل: إننا نقطع مع هذه الشبهات كلِّها بأن من الأنظار ما هو صحيح. قلت: إن كان المراد الصحة في الجملة أي أنه يمتنع أن تكون الأنظار كلها فاسدة، فهذا لا يُجدي في الأنظار الجزئية واحدًا واحدًا، وإنما يفيد في كل منها الاحتمال. فكلُّ نظر يُجزم بصحته، فإنه يحتمل أن يكون فاسدًا في نفس الأمر، ولا ينافي ذلك امتناع أن يعمَّ الفسادُ جميعَ الأنظار. وإن كان المراد القطع في بعض الأنظار بعينها، فهذا لا يسلِّم بالنسبة إلى النظر المتعمَّق فيه في الإلهيات ونحوها. وإنما غاية ما يحصل لكم في ذلك الجزم، وقد علمتم ما فيه. وإنما يسلّم في القضايا السهلة الواضحة التي تؤول إلى البديهيات المتفق عليها عن قُرْب. نعم قد يحصل القطع بالأمر لدليل آخر غير النظر الدقيق، كاجتماع أدلة يحصل اليقين بمجموعها، وكأن تكون القضية بديهية قوية، وهي في الدين ويُقِرُّها الشرع؛ وكأن يصرِّح بها الشرع تصريحًا لا يمكن تأويله إلا بحمله على الكذب أو التلبيس. وسيأتي شرح هذا إن شاء الله تعالى. لكن اليقين بهذه القضايا لا يستلزم صحةَ نظرٍ دقيقٍ يوافقها بنتيجته، إذ قد تصحّ النتيجة مع فساد النظر، كما لو أشرتَ إلى جسم أبيض وقلتَ: هذا جسم وكل جسم أبيض، فإن النتيجة "هذا أبيض" وهي صادقة، والنظر فاسد، كما لا يخفى.

وأما القادحون في النظر في الإلهيات فقالوا: إن النظر إنما قد يفيد العلم في الهندسيات والحسابيات، دون الإلهيات، فإنها بعيدة عن الأذهان جدًّا، والغاية القصوى فيها الظن والأخذ بالأحرى والأخلق. واحتجوا بوجهين: الأول: الحقائق الإلهية من ذاته تعالى وصفاته لا تُتَصوَّر، والتصديق بها فرع التصور. الثاني: أقرب الأشياء إلى الإنسان هُويَّتُه التي يشير إليها بقوله: "أنا" وإنها غير معلومة، لا من حيثُ وجودُها فإنه لا خلاف فيه، بل من حيث تصوُّرُها بكنهها، ومن [2/ 224] حيث التصديقُ بأحوالها من كونها (¬1) عَرَضًا أو جوهرًا، مجردًا أو جسمانيًّا، منقسمًا أو غير منقسم. وقد كَثُر الخلاف فيها كثرةً لا يمكن معها الجزم بشيء من الأقوال المختلفة. وإذا كان أقربُ الأشياء إلى الإنسان هذا حاله، فما الظنُّ بأبعدها؟ ذُكِر هذا كلُّه في "المواقف" (¬2)، ثم ذكر أنه أُجيب عن الوجه الأول بأنه يكفي التصوُّر بعارض يكون هو مناط الحكم. وعن الثاني بقوله: "لا نسلّم أن هوية الإنسان غير معلومة له، وكثرة الخلاف فيها لا تدل إلا على العسر". قال السيد في "شرحه" (¬3): "فلم يثبت بما ذكرتم أن هناك نظرًا صحيحًا لا يفيد علمًا، بل ثبت أن تميُّز النظر الصحيح عن غيره [في شأن الهوية] مشكل جدًّا، فيكون ذلك في الإلهيات أشكل، ولا نزاع فيه". ¬

_ (¬1) (ط): "لونها" خطأ. (¬2) (ص 26). (¬3) (1/ 238).

أقول: الذي يظهر من كلام القادحين وما استدلوا به أنهم لم يزعموا أن النظر الصحيح في الإلهيات لا يترتب عليه نتيجة صادقة، ولا أنه لا يمكن فيها نظر صحيح في نفس الأمر. وإنما زعموا أنه لا يمتاز فيها النظر الصحيح من غيره لشدة البعد والغموض والاشتباه والإشكال، فلذلك لا تُعْلَم صحةُ النظر علمًا يوثَقُ به، فلا تُعْلَم صحة النتيجة، فلا يفيد علمًا. وعلى هذا، فلهم أن يقولوا: التصوُّر بعارض يكون هو مناطَ الحكم محلُّ غموضٍ واشتباه شديد، لاحتمال مخالفة الإلهيات لغيرها في العوارض وما يترتب عليها. والعُسْرُ وشدةُ إشكال تمييز النظر الصحيح من غيره في شأن الهوية، وكونُه في الإلهيات أشدَّ وأشدَّ= كافٍ في القدح، إذ غاية ما قد يحصل للناظر أن يجزم، وقد تقدم مرارًا أن الجزم كثيرًا ما يكون خطأً وغلطًا. إذا كان قد يقع ذلك في الحِسّيات ونحوها، فما الظن بما هو من البُعْد والإشكال بالدرجة القصوى؟ هذا، ويردُّ على القادحين أن من أحوال الإلهيات ما هو على خلاف ما ذكروا، كالعلم بوجود الخالق عزَّ وجلَّ، وبأنه حىٌّ عليم قدير حكيم. لكن لهم أن يقولوا: أما ما كان من هذا القبيل، فهو من الضروريات، كعلم الإنسان بوجود هويَّته وبعض صفاتها، أو أوضح من ذلك. وإنما دخل التشكك من جهة النظر المتعمَّق فيه، وتجاهل وهنِه، حتى جرَّ أصحابه إلى إنكار الضروريات، كما وقع للسوفسطائيين وغيرهم. [2/ 225] أقول: فعلى هذا يختص القدح بالنظر المتعمَّق فيه. فأما السلفيون فإنما يعتمدون المأخذ السلفي الأول لإثبات جلائل الأمور التي أعدَّه الخالق عزَّ وجلَّ لإدراكها. وبذلك يثبت الشرع يقينًا، فيسلِّمون أنفسهم لخبر من يمتنع عليه الجهل والخطأ والكذب والتلبيس والتقصير في البيان.

فقد اتضح بحمد الله عَزَّ وَجَلَّ أن النظر العقلي المتعمَّق فيه كثيرًا ما يُوقِع في الغلط، إما بأن يبنيَ على إحساس غلط لم يتنبه لغلطه، وإما بأن يبنيَ على قضية وهمية يزعمها بديهية عقلية، وإما بأن يبنيَ على شُبهة ضعيفة فيردَّ بها البديهية العقلية زاعمًا أنها وهمية، وإما بأن يبنيَ على لزوم باطل يراه حقًّا. وقد تبيَّن بالفلسفة الحديثة المبنية على الحسّ والتجربة وتحقيق الاختبار بالطرق والآلات المخترعة غَلَطُ كثير من نظريات الفلسفة القديمة في الطبيعيات. وكثير من تلك النظريات كانت عند القوم قطعية يبنُون عليها ما لا يُحْصَى من المقالات حتى في الإلهيات، فما ظنك بغلطهم في الإلهيات؟ وهم إنما يعتمدون فيها على قياس الغائب على الشاهد، فقد يقع الغلط في اعتقاد مشاركة الغائب للشاهد في بعض الأمور، أو في اعتقاد مخالفته له، أو في اعتقاد اللزوم في الشاهد لبنائه على استقراءٍ ناقص أو غيره من الأدلة التي لا يؤمَن الغلط فيها، أو في اعتقاد أنه غير محقَّق إذا لزم في الشاهد لزم في الغائب، أو في تركيب القياس، أو غير ذلك مما يشتبه ويلتبس، كما يتضح لمن طالع كتب الكلام والفلسفة المطوَّلة، ولا سيما إذا طالع كتب الفريقين المختلفين كالأشاعرة والمعتزلة. فالنظر العقلي المتعمَّق فيه مع أنه لا حاجة إليه في معرفة الحق - كما تقدم - فهو مظنة أن يشكِّك في الحقائق، ويُوقع في اللبس والاشتباه والضلال والحيرة. وتجد في كلام الغزالي وغيره ما يصرِّح بأن النظر العقلي المتعمَّق فيه لا يكاد ينتهي إلى يقين، وإنما هي شُبهات تتقارع، وقياسات تتنازع. فإما أن ينتهي الناظر إلى الحَيْرة، وإما أن يعجز فيرضى بما وقف عنده ولا سيما إذا كان موافقًا لهواه، وإما أن لا يزال يتطوَّح بين تلك المتناقضات حتى يفاجئه الموت.

وقد قال الغزالي في "المستصفى" (1/ 43): "أما اليقين فشرحه أن النفس إذا أذعنت للتصديق بقضية من القضايا، وسكنت إليها، فلها ثلاثة أحوال: [2/ 226] أحدها: أن تتيقن وتقطع به. وينضاف إليه قطعٌ ثانٍ، وهو أن تقطع بأن قطعها به صحيح، وتتيقن بأن يقينها فيه لا يمكن أن يكون به سهو ولا غلط ولا التباس. فلا تجوِّز الغلط في يقينها الأول ولا في يقينها الثاني، ويكون صحة يقينها الثاني كصحة يقينها الأول، بل تكون مطمئنة آمنة من الخطأ، بل حيث لو حُكِي لها عن نبيّ من الأنبياء أنه أقام معجزة وادعى ما يناقضها، فلا تتوقف في تكذيب الناقل، بل تقطع بأنه كاذب، أو تقطع بأن القائل ليس بنبيّ وأن ما ظُنّ أنه معجزة فهي مَخْرَقة. فلا يؤثّر هذا في تشكيكها، بل تضحك من قائله وناقله. وإن خَطَر ببالها إمكانُ أن يكون الله قد أطْلَع نبيًّا على سرٍّ به انكشف له نقيضُ اعتقادها، فليس اعتقادها يقينًا. مثاله قولنا: الثلاثة أقل من الستة، وشخص واحد لا يكون في مكانين، والشخص الواحد لا يكون قديمًا حادثًا، موجودًا معدومًا، ساكنا متحرِّكًا، في حالٍ واحدة. الحال الثانية: أن تصدِّق بها تصديقًا جزمًا، ولا تشعر بنقيضها البتة. ولو أُشعِرتْ بنقيضها تعسَّر إذعانُها للإصغاء إليه. ولكنها لو ثبتت، وأصغَتْ، وحُكي لها نقيضُ معتقدها عمن هو أعلى (¬1) الناس عندها كنبيّ أو صدِّيق [أو جمعٍ من الفلاسفة وكبار المتكلمين أو المتصوفة] (¬2) = أورث ذلك فيها ¬

_ (¬1) كذا في (ط). وفي المستصفى: "أعلم". (¬2) ما بين المعكوفين زيادة من المؤلف أو من الشيخ عبد الرزاق حمزة على كلام الغزالي.

توقفًا. ولنسمِّ هذا الجنس اعتقادًا جزمًا، وهو أكثر اعتقادات عوام المسلمين واليهود والنصارى في معتقداتهم وأديانهم، بل اعتقاد أكثر المتكلمين في نصرة مذاهبهم. فإنهم قَبِلوا المذهب والدليل بحسن الظنّ في الصِّبا، فوقع عليه نَشْؤهم. فإن المستقلّ بالنظر الذي يستوي ميلُه في نظره إلى الكفر والإِسلام عزيز. الحال الثالثة: أن يكون لها سكون إلى الشيء والتصديق به. وهي تُشعر بنقيضه أو لا تُشعر، ولكن لو أُشْعِرت لم ينفِر طبعُها عن قبوله. وهذا يسمى ظنًّا، وله درجات ... ". أقول: إذا قُرِن هذا بما تقدم في حال النظر المتعمَّق فيه في الإلهيات تبيَّن بيانًا واضحًا أن غالب أقيسته أو عامتها خصوصًا ما يخالف المأخذين السلفيين لا تفيد اليقين، بل تَقْصُر عند النُّظَّار العارفين عن إفادة الاعتقاد الجازم. [2/ 227] فإن قيل: فكذلك أو قريب منه أدلة المأخذين السلفيين، لأنها تقبل التشكيك ولو بصعوبة. قلت: أما جلائل الأدلة من المأخذ السلفي الأول، وهي التي يتوقَّف عليها ثبوتُ أصل الشرع، فإنها تقبل التشكيك عند من ابتُلِي بالنظر المتعمَّق فيه. وهذا لا يضرُّنا، فإن من هؤلاء من شكَّ في البديهيات كلها، ومنهم من يشكّ في كل شيء، ومنهم من يجحد كلّ شيءٍ فيقول: ليس في نفس الأمر شيء بحقٍّ، كما تقدم. على أننا إن سلّمنا قبول التشكيك مطلقًا، فإننا نقول: إن ذلك إنما يكون في حقِّ من لم يقبل الشرع الحق ويمتثل أوامره. ووجوب قبول الشرع يكفي فيه العلم بأنه أولى بالحق والصدق والنجاة والسعادة،

وهذا يحصل قطعًا لكل مكلَّف أصغى للحجة. فإذا قَبِل الإنسانُ الشرع وامتثل أوامره مع صدق رغبةٍ في الحق هيَّأ الله تعالى له اليقين بما شاء، إن لم يكن بدليل واحد فبمجموع أدلة كثيرة، وفوق ذلك العناية. قال تعالى: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادله: 22]. وقال تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 14]. كلمة "لمَّا" تؤذِن بأن المنفيّ بها هو بصدد أن يثبت قريبًا، فهذا وعد من الله عزَّ وجلَّ بأن يُدْخِل الإيمان في قلوبهم جزاء لقبولهم الإِسلام. وقوله: {وَإِن تُطِيعُوْا ...} قال بعض أهل العلم: المعنى إنكم إن أطعتم، رزقكم الله تعالى الإيمانَ، فتستحقون ثواب الأعمال. وقال عزَّ وجلَّ: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17]. وقال تعالى: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ} [الزمر: 36 - 37]. وقد ذكر الغزاليّ نفسُه أنه كان في أول أمره يشكّ في كل شيء حتى البديهيات [2/ 228] الضرورية الأولية. قال (¬1): "حتى شفى الله تعالى عني ذاك المرض والإعلال، وعادت النفس إلى الصحة والاعتدال، ورجعت الضروريات العقلية موثوقًا بها على أمن ويقين. ولم يكن ذلك بنظم دليل ¬

_ (¬1) في "المنقذ من الضلال" (ص 86) ط. دار الأندلس.

وترتيب كلام، بل بنور قذفه الله تعالى في الصدور، وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف". نقله عنه شارح "العقيدة الأصفهانية" (ص 94 - 95) (¬1)، ونقل عنه (ص 98) (¬2): "وكان قد حصل معي من العلوم التي مارستُها والمسالك التى سلكتُها في تفتيشي عن صنفَي العلوم الشرعية والعقلية إيمانٌ يقيني بالله تعالى، وبالنبوة، واليوم الآخر. وهذه الأصول الثلاثة كانت رسخت في نفسي بلا دليل محرّر، بل بأسباب وقرائن وتجارب لا تدخل تحت الحصر تفاصيلها". أقول: وذاك النور الذي يقذفه الله تعالى في الصدور ليس لكل أحد، فإنه لم يحصل لمنكري البديهيات، وقد ذكر الغزالي أنه بقي نحو شهرين على الشكّ. بلى قد يقال: إنه في الأصل بالنسبة إلى الضروريات عامٌّ، ولكن من خاض في النظر المتعمَّق فيه وحاول اكتساب اليقين من جهة النظر احتجب عنه ذلك النور. فإن استمرَّ على ذلك استمرّ على الشك كالسوفسطائية، وإن رجع إلى القناعة بالفطرة عاد له ذلك النور كما وقع للغزالي. وكذلك ليس قذفُ النور محصورًا في الضروريات العقلية التي يعنيها (¬3) الغزالي، بل يتناول جميع القضايا العقلية التي لا يثبت الشرع بدونها, ولكن حصوله فيها كلِّها موقوف على صدق الرغبة في الحق والخضوع لما ظهر منه، وإيثاره على كلّ هوى. والأسباب والقرائن والتجارب التي تُحصِّل الإيمانَ اليقيني بالله تعالى ¬

_ (¬1) (ص 581) ط. دار المنهاج. (¬2) (ص 591). وهو في "المنقذ من الضلال" (ص 134). (¬3) (ط): "يعينها" خطأ.

وبالنبوة واليوم الآخر ليست مقصورةً على النوع الذي ذكر الغزالي أنه اتفق له بممارسته للعلوم، بل ييسِّر الله تعالى لمن شاء ما هو أقرب منها وأقوى: بالنظر العادي في آيات الآفاق والأنفس، وتدبُّرِ الكتاب والسنة. وإنما الشأن في التعرُّض لفضل الله عزَّ وجلَّ، فمن اكتفى أوَّلًا برجحان صحة الشرع، فآثره على هواه، وأسلم له نفسَه، وخضع لما جاء به، ووقف عند حدوده، فقد تعرَّض لنيل ذلك النور وذلك اليقين على وجه هو أصفى مما قد يحصل بممارسته العلوم، وأضوأ وأبهى وأهنأ؛ لأن ممارسة المعقولات في شأن الإلهيات تعترض فيها الشبهات والتشكيكات. بل الأمرُ أشدُّ من ذلك، فإن الخوض في النظر المتعمَّق فيه طلبًا للهدى من جهته عدولٌ عن الصراط المستقيم، [2/ 229] وخروجٌ عن سبيل المؤمنين، فهو تعرُّضٌ للحرمان والخذلان والإضلال. لكن قد يعذر الله تعالى بعض عباده، فلا يَحرِمه فضلَه، إلا أن الشبهات تنغِّصه عليه، بل لا تزال تغالبه. وقد تكون العاقبة لها، والعياذ بالله. هذا، ومن حصل له اليقينُ بصحّة الشرع جملةً فقد حصل له اليقين بصدق جميع ما جاء به الشرع، وأنه لا يتطرق إليه اختلالٌ البتة، إذ يستحيل ها هنا الجهل، والخطأ، والكذب، والتلبيس، والتقصير في البيان. وهذا هو حال المأخذَين السلفيَّين. غاية الأمر أنه قد تعرِضُ لمن حصل له ذلك شبهةٌ يتعسَّر عليه حلُّها، فإذا رجع إلى إيمانه وتصديقه لربه لم يُبالِ بتلك الشبهة. وقد تقدّم عن النُّظَّار فيما أجابوا به عن الأمور التي أوردها القادحون في البديهيات قولهم: "لا نشتغل بالجواب عنها, لأن الأوليات مستغنية عن أن يُذَبَّ عنها, وليس

يتطرّق إلينا شكٌ فيها بتلك الشبه التي نعلم أنها فاسدة قطعًا، وإن لم يتيقن عندنا وجهُ فسادها". فهكذا يقول السلفي في دفع الشبهات المناقضة لِما أيقن به من صدق الشرع. والخائب الخاسر من نسي إيمانه ويقينه، واغتَّر بالشبهات، فهلك. قال الله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 175 - 178]. أما قول الغزالي (¬1): "فإن المستقلّ بالنظر الذي يستوي ميلُه في نظره إلى الكفر والإسلام عزيز"، فقد يُنكَر هذا عليه، ويقال: كيف يُمدَح من يستوي ميلُه في نظره إلى الباطل والحق؟! ويُجاب عن هذا بأن مقصوده أن أكثر المتكلّمين يميلون إلى الإِسلام بدون استيقانٍ منهم أنه الحق، بل لأنهم نشأوا عليه، فألِفوه واعتادوه. ولذلك يُرى من نشأ على اليهودية أو النصرانية أو غيرهما يميلون إلى ما نشأوا عليه مع أنه باطل في نفس الأمر. لكني أقول: أما أئمة السنة الذين وَفَوا بشرط الله عزَّ وجلَّ من التسليم والخضوع [2/ 230] والطاعة له، فلا شأن لهم في هذا؛ لأنهم قد تعرّضوا لأن يكتب الله في قلوبهم الإيمان, ويؤيدهم بروح منه، ويزيدهم هدًى، ويرزقهم ¬

_ (¬1) في "المستصفى" (1/ 44). وقد سبق نقله فيما مضى.

النور واليقين. فقنعوا بالمأخذَين السلفيَّين، واهتدوا بهما (¬1) عن بصيرة ويقين. ومن اختار ما علم أنه الحق، وثبت عليه، وأعرض عن الشبهات، لا يقال: إنه غير مستقلًّ بالنظر كما أن النظَّار المستقلّين قطعوا بالبديهيات، وأجابوا عن الأمور التي أوردها القادحون بما تقدّم. وكما أن الغزاليّ وهو يرى أنه مستقل بالنظر، قال: إنه أيقن بالضروريات بدون دليل، بل بنور قُذِفَ في صدره، وأنه حصل له الإيمان بالله تعالى وبالنبوة واليوم الآخر بدون دليل محرَّر، بل بأسباب وقرائن وتجارب لا تُحْصَى. ولا ريب أنه لا يمكنه أن يشرح ما حصل له للخصم شرحًا وافيًا يُحصِّل للخصم اليقينَ. بل أقول: إن عامة المسلمين المحبِّين للحق، الخاضعين له، الذين يغلب عليهم التقوى والطاعة= هم ممن تعرَّض لذاك النور، وذلك التأييد، وتلك الهداية. وكثير منهم لهم من اليقين الحقيقي الناشئ عن الفطرة، والنظر العادي، واجتماع أمور كثيرة يفيد مجموعُها اليقين، مع عناية الله عزَّ وجلَّ وتأييده= ما ليس لأكابر النظار (¬2)، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. ¬

_ (¬1) (ط): "بها". (¬2) ثم رأيتُ نقلًا عن "فيصل التفرقة" للغزالي عبارة طويلة تراها في "روح المعاني" (ج 8 ص 119) فيها: "لست أنكر أنه يجوز أن يكون ذكر أدلة المتكلمين أحد أسباب الإيمان في حق بعض الناس، ولكن ذلك ليس بمقصور عليه، وهو نادر أيضًا ... فالإيمان المستفاد من الدلائل الكلامية ضعيف جدًّا، مشرِفٌ على التزلزل بكل شبهة, بل الإيمان الراسخ إيمان العوام الحاصل في قلوبهم في الصِّبا بتواتر السماع، والحاصل بعد البلوغ بقرائن لا يمكن العبارة عنها". [المؤلف]. وانظر "فيصل التفرقة" (ص 94) ط. دار الكتب العلمية، و"روح المعاني" (26/ 64) ط. المنيرية.

فأما المتكلمون فلا يبعد أن يكون كثرهم كما قال الغزالي (¬1)، وذلك أنهم لم يتعرّضوا لذلك النور والتأييد والهداية، بل تعرَّضوا للحرمان والإضلال بعُدولهم عن الصراط المستقيم وسلوكهم غير سبيل المؤمنين، فإذا حصل لأحدهم شيء من الاعتقاد حَمِد نفسه قبل ربه! وقال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي}. اقرأْ من سورة القصص [78]، ومن سورة الزمر [49]. وإذا قيل لهم: صدِّقوا بما جاءت به الرسل، قالوا: لا نُصدِّق فيما يتعلق بالمعقولات [2/ 231] إلا بما أدركته عقولُنا أو كشفُنا، واستهزأوا بمن يأخذ دينه من النصوص، وسمَّوهم: الحشوية، والغُثاء، والغُثْر، وغير ذلك. قال الله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [غافر: 83]. وقال تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة: 85]. وإذا قيل لهم: آمنوا بالنصوص كما آمن بها السلف الصالح، قالوا: أولئك أعراب أُمِّيون جُفاة لا يدرون ما المعقول. قال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 13]. وآل بهم الزيغ إلى نِسْبة الكذب إلى الله تعالى ورسله، كما يجيء في الباب الآتي، فأنَّى يهديهم الله تعالى؟ قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النحل: 104 - 105]. ¬

_ (¬1) في "فيصل التفرقة" (ص 93): "من أشد الناس غلوًّا وانحرافًا طائفة من المتكلمين ... ".

فالقوم خالفوا كثيرًا من العقائد الإسلامية، ويوشك أن يكون حالهم فيما لم يصرِّحوا بمخالفته على نحو ما قال الغزالي، أي أنهم لم يحافظوا على تلك البقية عن إيمان ويقين، ولكن نشأوا على الإسلام، واعتزُّوا بالانتساب إليه، فكرهوا أن يقطعوا التعلُّق به البتة. والعلم عند الله عزَّ وجلَّ. والتحقيق أن الاستقلال بالنظر محمود، ولكن الشأن في النظر. فالنظرُ بحسب المأخذين السلفيين - مع الوقوفِ عند الحدّ الذي حدَّه الشرع، وامتثالِ ما أرشد إليه وعمل به الصحابة وتابعوهم بإحسان من اتقاءِ الشبهات وتجنُّبِ الاختلاف في الدين وتفريقه - محمود. فالاستقلال فيه محمود، والنظر المتعمّق فيه مذموم؛ لأنه لا يكاد يُثمِر إلا التشكيكَ في الحقائق، والاختلافَ في الدين وتفريقَه. ويوشك أن يكون الحرص على الاستقلال بالنظر فيه من أمضى أسلحة الشيطان، فإنه قد يحصل للإنسان الإيمان واليقين بالقضايا الفِطرية والواضحة من المأخذ السلفي الأول، وبما ذكر الغزالي من اجتماع قضايا كثيرة ظنية يحصل اليقين بمجموعها، ومِن قَذْفِ الله عزَّ وجلَّ في القلب؛ ثم يعرض له في النظر المتعمَّق فيه شبهة أو أكثر تُخالف ذاك اليقين وذاك الإيمان, فيتعذَّر عليه حلُّها، فيدعوه حبُّ الاستقلال بالنظر إلى اتباعها [2/ 232] وتركِ ذاك اليقين وذاك الإيمان, متّهمًا نفسَه بأنّ ثقتها ببطلان تلك الشبهة إنما هو لهواها في الإسلام. فمثله مثل القاضي يتباعد عن هواه، فيظلم أخاه، كما مرَّ في المقدمة. بل أقول: إن الاستقلال بالنظر على الحقيقة هو تركُ النظر المتعمَّق فيه رأسًا فيما يتعلق بالإلهيات، أو على الأقل تركُ الاعتداد بما خالف المأخذين السلفيَّين منه، كما يتضح لمن تدبَّر ما تقدَّم وما يأتي.

وقد أبلغ الله تبارك وتعالى في إقامة الحجة على اختلال النظر المتعمَّق فيه في الإلهيات، بأن يسَّر لبعض أكابر النُّظَّار المشهورين بالاستقلال أن يرجعوا قُبيل موتهم إلى تمنِّي الحال التي عليها عامةُ المسلمين. فمنهم الشيخ أبو الحسن الأشعري، وأبو المعالي ابن الجُويني الملقَّب إمام الحرمين، وتلميذه الغزالي، والفخر الرازي. أما الأشعري فكان أولًا معتزليًّا، ثم فارق المعتزلة وخالفهم في مسائل وبقي على التعمُّق، ثم رجع أخيرًا كما يظهر من كتابه "الإبانة" إلىَ مذهب أصحاب الحديث. وكتابه "الإبانة" مشهور، وقد طبع مرارًا، والأشعرية لا يكادون يلتفتون إليه. وأما ابن الجويني فصحَّ عنه أنه قال في مرض موته: "لقد قرأتُ خمسين ألفًا في خمسين ألفًا، ثم خلَّيتُ أهلَ الإِسلام بإسلامهم فيها، وعلومه الظاهرة، وركبتُ البحر الخِضَمَّ، وغُصْتُ في الذي نهى أهلُ الإِسلام عنها = كلُّ ذلك في طلب الحق. وكنت أهربُ في سالف الدهر من التقليد، والآن قد رجعتُ عن الكل إلى كلمة الحق: "عليكم بدين العجائز". فإن لم يُدرِكْني الحقُّ بلطف برِّه فأموتَ على دين العجائز، وتُختمَ عاقبةُ أمري عند الرحيل على نزهة أهل الحق، وكلمة الإخلاص: لا إله إلا الله، فالويلُ لابن الجويني! ". وقال: "اشهدوا عليَّ أني رجعتُ عن كل مقالة يُخالف فيها السلف، وأني أموت على ما يموت عجائز [2/ 233] نيسابور". إلى غير ذلك مما جاء عنه، وتجده في ترجمته من "النبلاء" (¬1) للذهبي، و"طبقات الشافعية" (¬2) لابن السبكي وغيرها. ¬

_ (¬1) "سير أعلام النبلاء" (18/ 471، 474). (¬2) (5/ 185، 191). وانظر "المنتظم" (9/ 19).

فتدبَّرْ كلامَ هذا الرجل الذي طبَّقت شهرته الأرضَ يتضِحْ لك منه أمور: الأول: حُسْن ثقته بصحة اعتقاد العجائز وبأنه مقتضٍ للنجاة. الثاني: سقوط ثقته بما يخالف ذلك من قضايا النظر المتعمَّق فيه وجزمُه بأن اعتقاد تلك القضايا مقتضٍ للويل والهلاك. الثالث: أنه مع ذلك يرى أن حاله دون حال العجائز, لأنهن بَقِينَ على الفطرة وسَلِمن من الشك والارتياب، ولزمن الصراط، وثبتن على السبيل، فرجا لهنّ أن يكتب الله تعالى في قلوبهن الإيمان, ويؤيدهن بروح منه، فلهذا يتمنى أن يعود إلى مثل حالهن، وإذا كانت هذه حال العجائز، فما عسى أن يكون حال العلماء السلفيين؟! وأما الغزالي، فكان يغلب عليه غريزتان: الأولى: التوَقانُ إلى تحصيل المعارف. الثاني: شدة الحرص على حَمْل الناس على ما يراه نافعًا، لكنه نشأ في عصر وقطر كان يسود فيهما - ولا سيّما على علماء مذهبه وفرقته وخصوصًا أساتذته - أمور: الأول: اعتقاد أن المذاهب والمقالات قد تأسست، فما بقي على طالب العلم إلا أن يعرف مذهبه، ومقالة فرقته، ويتقن الأصول، والجدل، والكلام، ثم يتجرد للدفاع عن مذهبه، ومقالة فرقته. الأمر الثاني: اعتقاد أن النصوص الشرعية قد فُرِغَ منها، فما كان منها يتعلق بالفقه قد أحاط به المجتهدون، وقد زعم الغزالي أن الاجتهاد قد انقطع. وما كان متعلقًا بالعقائد قد لخَّصه وهذَّبه أئمة الكلام، مع ما اشتهر أن

مدار العقائد على العقل، وإذا خالفته النصوص وجب تأويلها. وقد كثر فيها ذلك حتى استقرَّ عندهم أنه لا سلطان لها على العقائد، ولهذا كان هو وأستاذه إمام الحرمين من أبعد الناس عن معرفة السنة، كما ترى التنبيه عليه في مواضع من "تلخيص الحبير" (¬1)، وفي الكلام على قول الله عزَّ وجلَّ: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} (¬2) [التوبة: 80]، [2/ 234] وفي ترجمة محمَّد بن مُحَيريز من "لسان الميزان" (¬3) و"تخريج أحاديث الإحياء" (¬4)، وغيرها. وبذلك يتبين أن هذين الإمامين كانا قليلَي الاعتداد بالنصوص، فإن احتاجا إلى ذكرها تعسَّفَا بدون مبالاة، لا يكاد يهمُّهما أن يحتجَّا بحديث لا يدريان لعله موضوع، ولا أن ينكرا وجود حديث في "الصحاح"، وهو فيها كلِّها! الأمر الثالث: اشتهار أن المذهب والمقالة اللذَين نشأ عليهما الغزالي هما أقوم المذاهب والمقالات. فاشتهر أن مذهب الشافعي هو المستوفي لجهتي الأثر والنظر، وأن ما عداه مخلّ بأحدهما؛ وأن مقالة الأشعرية هي المستوفية للنقل والعقل، وأن ما عداها مخلٌّ بأحدهما كمقالة المعتزلة ومقالة أصحاب الحديث. ¬

_ (¬1) (1/ 293 - 294، 2/ 20, 53) (¬2) انظر "فتح الباري" (8/ 338). (¬3) (7/ 495). وانظر "سير أعلام النبلاء" (18/ 471). وقول الغزالي: "بضاعتي في الحديث مُزجاة" في رسالته "قانون التأويل" (ص 30) تحقيق محمود بيجو. (¬4) لم أجد التنصيص عليه فيه, ولكن تخريج أحاديثه وبيان أن كثيرًا منها لا أصل لها يدلّ على ذلك.

الأمر الرابع: اعتقاد أن مقالات الفلاسفة متينة جدًّا لبنائها على التحقيق البالغ في المعقول، مع البراءة من التقليد والتعصُّب. الأمر الخامس: توهم أن عند الباطنية علمًا غريبًا لمعرفتهم بالفلسفة، ودعواهم معرفة أسرار الدين، ونشاط دعاتهم في ذاك العصر. الأمر السادس: توهُّم أن عند الصوفية جليةَ الأمر، لدعواهم أنهم بتهذيبهم أنفسهم انكشفت لهم حقائق الأمور كما هي، مع ما يظهر منهم من شرح بعض الحقائق بأدقَّ مما يشرحها الفلاسفة والباطنية، وما يظهر لشيوخهم من الكشف عن الخواطر والإخبار عن بعض المُغَيَّبات والأحوال الغريبة، مع شهادة الفِرَق كلَّها أن لرياضة النفس وتهذيبها أثرًا بالغًا في ترقية مداركها. الأمر السابع: زعمُ أن متكلمي الأشاعرة قد فَرَغوا من الردّ على أصحاب الحديث وعلى المعتزلة وغيرهم من المتكلمين، وبقي مقالة الفلاسفة والباطنية والصوفية. وهذا الأمر السابع هو كالنتيجة للأمور التي قبله، فكان هو المستولي على ذهن الغزالي، كما يتضح من شرح حاله في كتابه الذي سماه "المنقذ من الضلال"، وترى ملخَّص ذلك في "شرح العقيدة الأصفهانية" (ص 94) (¬1) فما بعدها. [2/ 235] ومما ذكره: أنه كان أولاً يشكُّ في صحة الحِسّيات والبديهيات، ثم زال ذلك. قال (¬2): "ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام، ¬

_ (¬1) (ص 580 وما بعدها) ط. دار المنهاج. (¬2) "المنقذ من الضلال" (ص 86 وما بعدها).

بل بنورٍ قذفَه الله تعالى في الصدور ... ولما كفاني الله تعالى هذا المرضَ انحصرتْ أصنافُ الطالبين عندي في أربع فرق: المتكلمون ... والباطنية ... والفلاسفة ... والصوفية ... فقلت في نفسي: الحق لا يعدو هذه الأصناف الأربعة، فهؤلاء السالكون سبيل طلب الحق، فإن شذَّ الحق عنهم فلا يبقى في دَرْك الحق مطمع ... فابتدأت (¬1) لسلوك هذه الطرق واستقصاء ما عند هؤلاء الفرق". ثم ذكر أنه ابتدأ بتحصيل الكلام، فحصَّله، وعقَلَه، وصنَّف فيه. قال (¬2): "فلم يكن الكلام في حقي كافيًا, لا لدائي الذي أشكوه شافيًا ... فلم يحصل فيه ما يمحو بالكلية ظلمات الحيرة". ذكر تحصيله الفلسفة والتبحر فيها ثم قال (¬3): "علمت أن ذلك أيضًا غير وافٍ بكمال الغرض، فإن العقل ليس مستقلًّا بالإحاطة بجميع المطالب، ولا كاشفًا للغطاء عن جميع المعضلات". ثم ذكر الباطنية إلى أن قال (¬4): "فهؤلاء أيضًا جرَّبناهم وسَبَرنا باطنهم وظاهرهم". وذكر أنه لم يجد مطلوبه عندهم، قال (¬5): "ثم إني لما فرغت من هذه أقبلتُ على طريق الصوفية ... " فذكرها وأطال في إطرائها، على عادته في إطراء ما يحصل له، كما أطرى الفلاسفة أولًا فقال: إن من لا يعرف المنطق لا ثقة له بعلمه (¬6)، ولأنه كان يرى أن ¬

_ (¬1) كذا في (ط) و"شرح الأصفهانية" ونسخة من "المنقذ". وفي مطبوعة "المنقذ": "فابتدرتُ". وهو أولى. (¬2) "المنقذ" (ص 92). (¬3) المصدر السابق (ص 117، 118). (¬4) المصدر السابق (ص 129). (¬5) المصدر السابق (ص 130). (¬6) قاله في "المستصفى" (1/ 10).

التصوف آخر ما يمكنه، فلم يكن له بدٌّ من محاولة إقناع نفسه به. ثم صار كلامه في كتبه ترددًا بين هذه الطرق، وكثيرًا ما يختلف كلامه في القضية الواحدة، يوافق هذه الفرقة في موضع، ويخالفها في آخر، حتى ضرب له ابن رشد (¬1) مثلًا قول عِمْران بن حِطَّان: يومًا يمانٍ إذا لاقيتُ ذا يمنٍ ... وإن لقيتُ مَعَدِّيًّا فعدناني وذلك يدل أن إحاطته بتلك الطرق لم تحصِّل مقصوده من الخروج عن الحَيْرة، بل أوقعته في التذبذب. وكأنّ ذلك مما بعثه على الرجوع في آخر عمره إلى ما كان أولًا يرغب عنه، ويرى أنه لا شيء فيه، فأقبل على حفظ القرآن، وسماع "الصحيحين"، فيقَال: إنه مات و"صحيح البخاري" على صدره، لكن لم يُمَتَّع بعمره حتى يظهر أثر ذلك في تصنيفه. والله أعلم. [2/ 236] وأما الفخر الرازي، ففي ترجمته من "لسان الميزان" (4/ 429) (¬2): "أوصى بوصية تدلّ على أنه حسُنَ اعتقاده". وهذه الوصية في ترجمته من كتاب "عيون الأنباء" (2/ 26 - 28) (¬3) قال مؤلف الكتاب: "أملى في شدّة مرضه وصيةً على تلميذه إبراهيم بن أبي بكر بن علي الأصفهاني ... وهذه نسخة الوصية: بسم الله الرحمن الرحيم، يقول العبد الراجي رحمةَ ربه الواثقُ بكرم مولاه محمَّد بن عمر بن الحسين ¬

_ (¬1) في "فصل المقال" (ص 30). والبيت في "الأغاني" (18/ 112) و"التذكرة الحمدونية" (8/ 243). (¬2) العبارة في "اللسان" (6/ 321 ط. أبي غدة) في الهامش نقلًا عن حاشية نسخة (ص). (¬3) (3/ 40 - 42) ط. دار الثقافة.

الرازي، وهو في آخر عهده بالدنيا وأول عهده بالآخرة، وهو الوقت الذي يلين فيه كلُّ قاسٍ، ويتوجَّه, إلى مولاه كلُّ آبق ... إن الناس يقولون: الإنسان إذا مات انقطع تعلُّقه عن الخلق، وهذا العام مخصوص من وجهين: الأول: أنه إن بقي منه عملٌ صالح صار ذلك سببًا للدعاء، والدعاء له أثر عند الله. والثاني: ما يتعلق بمصالح الأطفال ... . أما الأول، فاعلموا أني كنت رجلًا محبًّا للعلم. (أ) فكنتُ أكتب في كل شيء شيئًا، لا أقف على كمية وكيفية، سواء كان حقًّا أو باطلاً، غثًّا أو سمينًا" (ب) إلا أن الذي نظَّرته (نصرته!) في الكتب المعتبرة لي: أن هذا العالم المحسوس تحت تدبير مدبِّرٍ منزَّهٍ عن مماثلة المتحيِّزات والأعراض، وموصوف بكمال القدرة والعلم والرحمة. (ج) ولقد اختبرتُ الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيت فيها فائدة تساوي الفائدة التي وجدتها في القرآن العظيم؛ لأنه يسعى في تسليم العَظَمة والجلال بالكلية لله تعالى، ويمنع عن التعمُّق في إيراد المعارضات والمناقضات، وما ذاك إلا العلم بأن العقول البشرية تتلاشى وتضمحلُّ في تلك المضايق العميقة والمناهج الخفية. (د) فلهذا أقول: كلُّ ما ثبت بالدلائل الظاهرة من وجوب وجوده، ووحدته، وبراءته عن الشركاء في القدم والأزلية، والتدبير والفعالية، فذاك هو الذي أقول به وألقى الله تعالى به. وأمَّا ما انتهى الأمر فيه إلى الدقة

والغموض، فكلُّ ما ورد في القرآن والأخبار الصحيحة المتفق عليها بين الأئمة المتبعين للمعنى الواحد فهو كما هو، والذي لم يكن كذلك أقول: يا إله العالمين ... وأقول: ديني متابعة محمَّد سيد المرسلين، وكتابي هو القرآن العظيم، وتعويلي في طلب الدين عليهما ... ". [2/ 237] فبيَّن في وصيته هذه أنه تدرَّج إلى أربع درجات: الأولى: الجري مع خاطره حقًّا كان أو باطلًا. الثانية: ما نصره في كتبه المعتبرة. الثالثة: ارتيابه في المأخذ الخَلَفي وهو النظر الكلامي والفلسفي. الرابعة: ما استقرَّ وثوقه به ورجع إليه، وهو ما أثبته المأخذ السلفي الأول وأكَّده الشرع. ثم قسم الباقي إلى قسمين: الأول: ما بيَّنه الكتاب والسنة، فهو كما بيَّناه. الثاني: ما عدا ذلك، فبيَّن عدم وثوقه فيه بما سبق أن قاله في كتبه واعتذر عن ذلك بحُسْن النية. فرجوع هؤلاء الأكابر وقضاؤهم على النظر المتعمَّق فيه بما سمعتَ، بعد أن أفنَوا فيه أعمارهم من أوضح الحُجَج على من دونهم. هذا، والمشهورُ بعد الاعتراف بكفاية المأخذَين السلفيَّين والنهي عن الخوض في علم الكلام والفلسفة: الاعتذارُ عن الخائضين من المنتسبين إلى السنة بأنهم اضطُرُّوا إلى ذلك لدفع شبهات الكفار والزنادقة والملحدين

والمبتدعة الذين يخوضون في دقائق المعقول، ثم يطعنون في الإِسلام والسنة. قال المعتذرون: ولم يكن ذلك في عهد الصحابة والتابعين، وإنما حدث أخيرًا بعد ضعف الإيمان وتشوُّف الناس إلى دقائق المعقول وإعجابهم بأهله، فالخوضُ محدَث، لكن لحدوثِ داعٍ إليه وباعثٍ عليه ومقتضٍ له. وأقول: أما من خاض وحافظ على العقائد الإسلامية كما تُعرَف من المأخذين السلفيين وكما كان عليه السلف، فعسى أن ينفعه ذاك العذر، وإن كنا نعلم أن في حجج الحق من المأخذين السلفيين ما يغني من يؤمن {وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101]. وأما من خاض، فغيَّر وبدَّل، فهؤلاء هم المبتدعة وأتباعهم. فهَبْ أن منهم من يُعْذَر في خوضه، فما عذرُه في تغييره وتبديله؟ ولا سيّما من بلغ به التغيير والتبديل إلى القول بأن النصوص الشرعية لا تصلح حجةً في العقائد! حتى صرَّح بعضهم بزَعْم أن الله تبارك وتعالى أقرَّ الأممَ التي بعث [2/ 238] فيها أنبياءه على العقائد الباطلة، وقرَّرها في كتبه وعلى ألسنة رسله، وثبَّتها وأكَّدها وزادهم عليها أضعافها مما هو - في زعم هؤلاء - باطل! فهل هذا هو الذبُّ عن الإِسلام وعقائده الذي يمتنُّ به عليه أولئك الخائضون؟! ****

فصل

فصل وأما المأخذ الخَلَفي الثاني، وهو الكَشْف التصوفي، فقد مضى القرن الأول ولا يعرف المسلمون للتصوف اسمًا ولا رسمًا، خلا أنه كان منهم أفراد صادقو الحبِّ لله تعالى والخشيةِ له، يحافظون على التقوى والورع على حسب ما ثبت في الكتاب والسنة. فقد يبلغ أحدهم أن تظهر مزيته في استجابة الله عزَّ وجلَّ بعض دعائه أو عنايته به على ما يقلُّ في العادة، ويُلَقَّى الحكمةَ في الوعظ والنصيحة والترغيب في الخير. وإذا كان من أهل العلم ظهرت مزيته في فهم الكتاب والسنة، فقد يفهم من الآية أو الحديث معنىً صحيحًا، إذا سمعه العلماء وتدبروا وجدوه حقًّا, ولكنهم كانوا غافلين عنه حتى نبَّههم ذلك العبد الصالح. ثم جاء القرن الثاني، فتوغَّل أفرادٌ في العبادة والعُزْلة، وكثرة الصوم والسهر، وقلة الأكل لعزة الحلال في نظرهم، فجاوزوا ما كان عليه الحالُ في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فوقعوا في طرف من الرياضة، فظهرت على بعضهم بعض آثارها الطبيعية كالإخبار بأن فلانًا الغائب قد مات أو سيقدم وقت كذا، وأن فلانًا يُضمِر في نفسه كذا، وما أشبه ذلك من الجزئيات القريبة، فكان الناس يظنون أن جميع [2/ 239] ذلك من الكرامات. والواقع أن كثيرًا منه كان من آثار الرياضة، وهي آثار طبيعية غريبة تحصل لكل من كان في طبعه استعداد، وتَعانَى الرياضة بشروطها، سواء أكان مسلمًا - صالحًا أو فاجرًا - أم كافرًا، فأما الكرامات الحقيقية فلا دخلَ فيها لقوى النفس. فلما وقعوا في ذلك وجد الشيطانُ مسلكًا للسلطان على بعض أولئك الأفراد بمقدار مخالفتهم للسنة، فمنهم من كان عنده من

العلم ما دافع به عن دينه، كما نقل عن أبي سليمان الداراني أنه قال: "ربما تقع في قلبي النُّكتة من نُكَت القوم أيامًا، فلا أقبل منه إلا بشاهدين عدلَيْن: الكتاب والسنة". ذكرها ونحوَها من كلامهم أبو إسحاق الشاطبي في "الاعتصام" (106 - 121) (¬1). [2/ 240] ومنهم من سَلِم لهم أصل الإيمان, لكن وقع في البدع العملية. ومنهم من كان سلطانُ الشيطان عليه أشدَّ، فأوقعه في أشدَّ من ذلك، كما ترى الإشارة إلى بعضه في ترجمة رياح بن عَمْرو القيسي من "لسان الميزان" (¬2). ثم صار كثيرٌ من الناس يتحرَّون العزلة والجوع والسهر لتحصيل تلك الآثار, فقوي سلطانُ الشيطان عليهم. ثم نُقِلتْ مقالات الأمم الأخرى، ومنها الرياضة وشرحُ ما تُثمِره من قوة الإدراك والتأثير، فضمَّها هُواتُها إلى ما سبق، مُلْصِقين لها بالعبادات الشرعية، وكثر تعاطيها من الخائضين في الكلام والفلسفة. فمنهم من تعاطاها ليروِّج مقالاته المنكرة بنسبتها إلى الكشف والإلهام والوحي، ويتدرَّع عن الإنكار عليه بزعم أنه من أولياء الله تعالى. ومنهم من تعاطاها على أمل أن يجد فيها حلًّا للشكوك والشبهات التي أوقعه فيها التعمّقُ في الكلام والفلسفة. ومن أول من مزج التصوف بالكلام الحارثُ المحاسبي، ثم اشتدّ الأمر في الذين أخذوا عنه فمَن بعدهم. وكان من نتائج ذلك قضية الحلَّاج، ولعله كان في أقران الحلَّاج مَن هو موافق له في الجملة، بل لعل فيهم مَن هو أوغلُ ¬

_ (¬1) وانظر "الاستقامة" (1/ 95 وما بعدها)، و"الرسالة القشيرية" (1/ 86). (¬2) (3/ 488).

منه إلا أنهم كانوا يتكتمون، ودعا الحلَّاجَ إلى إظهار ما أظهره حبُّ الرئاسة. وكذلك مَزْجُ الفلسفة بالتصوف كان معروفًا عند بعض الفلاسفة الأقدمين، وتجد في كلام الفارابي وابن سينا نُتفًا من ذلك. وكذلك في كلام متفلسفي المغاربة كابن باجة وغيره. وهكذا الباطنية كانوا ينتحلون التصوُّف، فلما جاء الغزالي نصب التصوفَ منصب الكلام والفلسفة الباطنية، وزعم أن الحقَّ لا يعدو هذه الأربع المقالات، وقضى ظاهرًا للتصوف مع ذكره كغيره أن طائفة من المتصوفة ذهبوا إلى الإباحة المحضة، وفي ذلك نَبْذُ الشرائع البتة. ثم لم يزل الأمر يشتدُّ حتى جاء ابن عربي وابن سبعين والتلمساني، ومقالاتهم معروفة. ومن تتبع ما كان عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة وأئمة التابعين، وما يصرِّح به الكتاب والسنة وآثار السلف، وأنعمَ النظرَ في ذلك، ثم قارن ذلك بمقالات هؤلاء القوم= عَلِمَ يقينًا أنه لا يمكنه - إن لم يُغالطْ نفسه -[2/ 241] أن يصدَّق الشرعَ ويصدَّقهم معًا. وإن غالط نفسَه وغالطتْه، فالتكذيب ثابت في قرارها ولا بدَّ. هذا، والشرع يقضي بأنَّ الكَشْف ليس مما يصلح الاستناد إليه في الدين، ففي "صحيح البخاري" (¬1) من حديث أبي هريرة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "لم يبقَ من النبوة إلا المبشَّرات"، قالوا: وما المبشِّرات؟ قال: "الرؤيا الصالحة". ¬

_ (¬1) رقم (6990).

وورد نحوه من حديث جماعة من الصحابة ذُكِر في "فتح الباري" (¬1)، منها: حديث ابن عباس عند مسلم (¬2) وغيره، وحديث أمّ كُرْز عند أحمد وابن خزيمة وابن حبان (¬3) , وحديث حُذيفة بن أسيد عند أحمد والطبراني (¬4)، وحديث عائشة عند أحمد (¬5)، وحديث أنس عند أبي يعلى (¬6). وفيه حجة على أنه لم يبق مما يناسب الوحي إلا الرؤيا، اللهم إلا أن يكون بقي ما هو دون الرؤيا فلم يُعتدَّ به. فدلّ ذلك أن التحديث والإلهام والفراسة والكهانة والكشف كلها دون الرؤيا، والسرُّ في ذلك أن الغيب على مراتب: الأولى: ما لا يعلمه إلا الله، ولم يُعْلِم به أحدًا أو أَعْلَم به بعض ملائكته. الثانية: ما قد علمه غير الملائكة من الخلق. ¬

_ (¬1) (12/ 375). (¬2) رقم (479). وأخرجه أيضًا أبو داود (876) والنسائي (2/ 189، 218)، والدارمي (1/ 304) وغيرهم. (¬3) "مسند أحمد" (27141) وابن ماجه (3896) والدارمي (2/ 123) وابن حبان (6047). (¬4) لم أجده في "المسند", ولم يعزه إليه الهيثمي في "مجمع الزوائد" (7/ 173). وهو في "المعجم الكبير" للطبراني (3051) وإسناده حسن. (¬5) "مسند أحمد" (24977). وإسناده حسن. (¬6) في "مسنده" (3934). وأخرجه أيضًا أحمد (13824) وابن أبي شيبة (11/ 53)، والترمذي (2272) والحاكم في "المستدرك" (4/ 391). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه من حديث المختار بن فلفل.

الثالثة: ما عليه قرائن ودلائل، إذا تنبه لها الإنسان عرفه، كما ترى أمثلة ذلك فيما يحكى من زكن إياس والشافعي وغيرهما. فالرؤيا قد تتعلق بما هو من المرتبة الأولى لكن الحديث يقضي أنه لم يبق منها إلا ما كان على وجه التبشير فقط، وفي معناه التحذير. والفراسة تتعلق بالمرتبة الثالثة، وبقية الأمور بالمرتبة الثانية. وإنما الفرق بينها - والله أعلم - أن التحديث والإلهام من إلقاء المَلَك في الخاطر، والكهانة من إلقاء الشيطان. والكشف قوة طبيعية غريبة، كما يسمى في هذا العصر: قراءة الأفكار. نعم قد يقال: إن الرياضة قد تؤهِّل صاحبها لأن يقع له في يقظته ما يقع له في نومه، فيكون الكشف ضربًا من الرؤيا. [2/ 242] وأقول: إن صحَّ هذا، فقد تقدَّم أن الرؤيا قصاراها التبشير والتحذير. وفي "الصحيح" (¬1): أن الرؤيا قد تكون حقًّا وهي المعدودة من النبوة، وقد تكون من الشيطان، وقد تكونُ من حديث النفس. والتمييز مشكل، ومع ذلك فالغالب أن تكون على خلاف الظاهر حتى في رؤيا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، كما قصّ من ذلك في القرآن، وثبت في الأحاديث الصحيحة. ولهذه الأمور اتفق أهل العلم على أن الرؤيا لا تَصْلُح للحجة، وإنما هي تبشير وتنبيه، وتصلح للاستئناس بها إذا وافقت حجةً شرعية صحيحة، كما ثبت عن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (7017) ومسلم (2263) من حديث ابن سيرين عن أبي هريرة مرفوعًا بلفظ: "رؤيا المؤمن جزءٌ من ستَّةٍ وأربعين جزءًا من النبوة" ثم ذكر تقسيم الرؤيا إلى ثلاث: حديث النفس، وتخويف من الشيطان، وبشرى من الله. وهذا التقسيم موقوف على أبي هريرة من قوله، وقد رفعه بعض الرواة. انظر "الفتح" (12/ 407).

ابن عباس أنه كان يقول بمتعة الحج لثبوتها عنده بالكتاب والسنة، فرأى بعضُ أصحابه رؤيا توافق ذلك، فاستبشر ابن عباس (¬1). هذا حال الرؤيا، فقِسْ عليه حالَ الكشف إن كان في معناها. فأما إن كان دونها فالأمر أوضح. وتجد في كلام المتصوِّفة أن الكشف قد يكون حقًّا، وقد يكون من الشيطان، وقد يكون تخيُّلًا موافقًا لحديث النفس. وصرَّحوا بأنه كثيرًا ما يُكْشَف للرجل بما يوافق رأيه حقًّا كان أو باطلًا. ولهذا تجد في المتصوِّفة من ينتسب إلى قول أهل الحديث، ويزعم أنه يُكْشَف له بصحة مذهبه. وهكذا تجد فيهم الأشعري والمعتزلي والمتفلسف وغيرهم، وكلٌّ يزعم أنه يُكْشَف له بصحة مذهبه، ومخالفُه منهم لا يكذِّبه ولكنه يكذِّب كَشْفَه. وقد يُكْشَف لأحدهم بما يوافق مقالات الفرقة التي ينتسب إليها، وإن لم يكن قد عرف تلك المقالات من قبل، كأنه لحسن ظنه بهم وحرصه على موافقتهم إنما تتجه هِمَّته إليهم، فيقرأ أفكارهم، وترتسم في مخيلته أحوالُهم. فالكشف إذن تبعٌ للهوى، فغايته أن يؤيّد الهوى، ويرسِّخه في النفس، ويحول بين صاحبه وبين الاعتبار والاستبصار. فكأنّ الساعي في أن يحصل له الكشف، إنما يسعى في أن [2/ 243] يُضلَّه الله عزَّ وجلَّ، ولا ريب أن من ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1567) - واللفظ له - ومسلم (1242) من طريق شعبة عن أبي جمرة الضبعي، قال: تمتعتُ، فنهاني ناسٌ، فسألتُ ابن عباس رضي الله عنهما، فأمرني، فرأيتُ في المنام كأن رجلًا يقول لي: حج مبرور وعمرة متقبَّلة، فأخبرتُ ابن عباس، فقال: سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -. فقال لي: أقِمْ عندي فأجعل لك سهمًا من مالي. قال شعبة: فقلتُ: لِمَ؟ فقال: للرؤيا التي رأيتُ.

التمس الهدى من غير السراط المستقيم مستحقٌّ أن يُضِلَّه الله عزَّ وجلَّ. وما يزعمه بعضُ غلاتهم من أن لهم علاماتٍ يميزون بها بين ما هو حق من الكشف وما هو باطل= دعوى فارغة، إلا ما تقدم عن أبي سليمان الداراني، وهو أن الحق ما شهد له الكتاب والسنة. لكن المقصود الشهادة الصريحة التي يفهمها أهل العلم من الكتاب والسنة بالطريق التي كان يفهمها بها السلف الصالح. فأما ما عُرِف عن المتصوفة من تحريف النصوص بما هو أشنع وأفظع من تحريف الباطنية، فهذا لا يشهد لكشفهم، بل يشهد عليه أوضحَ شهادة بأنه من أبطل الباطل. أولًا: لأن النصوص بدلالتها المعروفة حجة، فإذا شهدت ببطلان قولهم عُلِم أنه باطل. ثانيًا: لأنهم يعترفون أن الكشف محتاجٌ إلى شهادة الشرع، فإن قبلوا من الكشف تأويل الشرع، فالكشف شهد لنفسه، فمن يشهد له على تأويله؟ وأما التحديث والإلهام، ففي "صحيح البخاري" (¬1) وغيره من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لقد كان فيما قبلكم من الأمم مُحَدَّثون، فإن يكن في أمتي أحد فإنه عمر". وأخرجه مسلم (¬2) من حديث أبي سلمة عن عائشة، وفيه: "فإن يكن في أمتي منهم أحد، فإن عمر بن الخطاب منهم". وجاء في عدة روايات تفسيرُ التحديث بالإلهام. ¬

_ (¬1) رقم (3689). (¬2) رقم (2398).

فصل

وهذه سيرة عمر بين أيدينا، لم يُعْرَف عنه ولا عن أحد من أئمة الصحابة وعلمائهم استدلالٌ بالتحديث والإلهام في القضايا الدينية، بل كان يَخْفى عليهم الحكمُ، فيَسألون عنه، فيخبرهم إنسان بخبر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيصيرون إليه. وكانوا يقولون القول، فيخبرهم إنسان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخلافه، فيرجعون إليه. وأما الفراسة، فإن المتفرِّس يمكنه أن يشرح لغيره تلك الدلائل التي تنبَّه لها، فإذا شرحها عُرِفت، فإن كانت مما يُعتدُّ به عُمِل بها لا بالفراسة. [2/ 244] فصل مهما يكن في المأخذَين الخَلَفيين من الوهن، فإننا لا نمنع أن يُسْتند إليهما فيما ليس من الدين ولا يدفعه الدين، بل لا ندفع أن يكون فيهما ما يوصل في كثير من ذلك إلى اليقين، فإن الشرع لم يتكفَّل ببيان ما ليس من الدين. وكذلك لا نرى كبيرَ حرجٍ في الاستئناس بما يوافق المأخذَين السلفيين بعد الاعتراف بأنهما كافيان شافيان، إذ لا يلزم من كفايتهما أن لا يبقى في غيرهما ما يمكن أن يُسْتَدل به على الحق، وإنما الممنوع الباطل هو زعم أنهما غير وافيين ببيان الحق في الدين. ولم يقتصر المتعمّقون على هذا الزعم الباطل، بل صاروا إلى عزلهما عن بيان الحق في العقائد البتة، حتى آل بهم الضلال إلى نِسْبة الكذب إلى الرسل عليهم الصلاة والسلام، بل إلى رب العالمين سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا.

الباب الثاني في تنزيه الله ورسله عن الكذب

[2/ 245] الباب الثاني في تنزيه الله ورسله عن الكذب المتعمّقون يردُّون كثيرًا من نصوص الكتاب والسنة في العقائد. فمنهم من ردَّها مع تصريحه بأن كثيرًا منها لا يَحمِلُ إلا المعاني التي يزعم أنها باطلة، ويزعم أن الشرع إنما أتى بها مجاراةً لعقول الجمهور ليمكن انقيادهم للشرع العملي. ومنهم من زعم أنها غير صالحة للحجة في العقائد مطلقًا، زاعمًا أن ظهورَها في معنى اعتقادي، أو صراحتَها فيه، أو مبالغَتها في تأكيده= كلُّ ذلك لا يمكن أن يُعلم به أن ذاك المعنى هو مراد المتكلم، لدلالة النظر العقلي المتعمَّق فيه أو الكشف التصوفي على بطلان كثير من تلك المعاني في زعمه، واحتمال مثل ذلك في الباقي. ومنهم من لم يصرِّح بما مضى، ولكنه قدَّم غيرَها عليها، وتعسَّف في تأويلها تعسُّفًا مُخرِجًا عن قانون الكلام، أو اقتصر - مع زعمه أن المعاني المفهومة منها باطلة - على زعم أن لها معاني أخرى صحيحة لا حاجة إلى معرفتها. فتحصَّل من كلامهم حملُهم لتلك النصوص على الكذب. أما القول الأول فواضح، وأما الثاني فقريب منه كما يأتي، وأما الثالث فيلزمه ذلك. ****

تنزيه الله تبارك وتعالى عن الكذب

تنزيه الله تبارك وتعالى عن الكذب مما عُلِم من الدين بالضرورة، وشهدت به الفِطَر السليمة والعقول المستقيمة أن من المحال الممتنع أن يقع كذبٌ من رب العالمين. وكيف يُتصوَّر وقوعه منه، وهو عالم الغيب والشهادة، القادر على كل شيء، الغني عن كل شيء، الحكيم الحميد الذي له الحمد كله؟ وإنما تخبَّط في ذلك متأخرو الأشعرية. وكأن المُوقِعَ لهم في التخبط ما ألزمهم به المعتزلةُ في مسألة القدر. [2/ 246] والخوضُ في القدر أمُّ كلِّ بلية، ولأمير ما ورد في الشرع النهيُ عن ذلك، وشدَّد فيه السلف. وإيضاح هذا أن الأشعرية لما صار قولهم إلى أن العباد مجبورون على أفعالهم قال لهم المعتزلة: كيف يُجبِر الله تعالى خلقه على الكفر والفجور ثم يعاقبهم عليه، وهذا قبيح ومفسدة، والله تعالى منزَّه عن القبائح، وأفعاله مبنية على المصالح. فاضطرب الأشعرية في هذا، ثم لم يجدوا محيصًا إلا أن يجحدوا هذين الأصلين، فقالوا: الأفعال كلها سواء عند العقل لا يُدرِك منها حُسنًا ولا قبحًا، والله عزَّ وجلَّ لا يفعل لشيء، ولا لأجل شيء، إنما يفعل ما يريده، وإرادته لا تُعلَّل بشيء البتة. فقال المعتزلة: فيلزمكم أن يجوز عقلًا أن يكذب الله تعالى، فحاول بعض الأشعرية التملُّصَ من هذا الإلزام بوجهين: الأول: أن الكذب نقص، والله سبحانه منزَّه عن النقص. الثاني: أنه لو جاز لكان قديمًا، وما ثبت قِدَمُه استحال عَدَمُه، فيمتنع الصدق. فلم ير بقية الأشعرية هذين الوجهين شيئًا.

أما الأول، فلأنه لم يقم برهان عندهم - زعموا - على براءته تعالى من النقص، ومن قال منهم بالبراءة، إنما يقول به في الصفات لا في الأفعال، فأما النقص في الأفعال فهو القبح العقلي الذي ينكرونه. وأما الثاني، فلأنه لو تمَّ فإنه يختص بما يسمُّونه الكلام النفسي، والنزاع إنما هو في الكلام اللفظي. فصار الأشعرية إلى التزام أنه يجوز عقلًا أن يقع الكذب من الله تبارك وتعالى. ثم حاولوا القول بأنه وإن جاز عقلًا فلا يقع, لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبر بأن كلام الله تعالى كله صدق. فقالت المعتزلة: إنما ثبتت نبوة النبي بإخبار الله عزَّ وجلَّ بأنه صادق، وذلك بإظهار المعجزة على يده إظهارًا مستلزمًا لذاك الإخبار؛ إذ هو بمنزلة أن يقول تعالى: صدَق في دعواه أنني أرسلته. قالوا: فإن كان العقل يجوِّز وقوعَ الكذب من الله تعالى جاز أن يكون هذا الخبر كذبًا، فلا يكون مدعي النبوة نبيًّا، فتجويزكم عقلًا أن يقع الكذب من الله تعالى [2/ 247] يلزمه أن لا تثبت نبوة محمد، فكيف يكون لكم أن تحتجوا على نفي وقوعه بخبره؟ أجاب الأشعرية بأن دلالة المعجزة على صدق مدعي النبوة عادية، وذلك أن الله تعالى أجرى العادة بخلق العلم بالصدق عقبها، قالوا (¬1): "فإن إظهار المعجز على يد الكاذب، وإن كان ممكنًا عقلًا، فمعلوم انتفاؤه عادة". قال العضد (¬2): "وقد ضربوا لهذا مثلًا قالوا: إذا ادعى الرجل بمشهد ¬

_ (¬1) انظر "المواقف" (ص 341). (¬2) المصدر نفسه.

الجمِّ الغفير أني رسول هذا الملك إليكم، ثم قال للملك: إن كنتُ صادقًا فخالِفْ عادتك، وقم من الموضع المعتاد لك من السرير، واقعد بمكان لا تعتاده، ففعل= كان ذلك بمنزلة التصديق بصريح مقاله، ولم يشكَّ أحد في صدقه بقرينة الحال، وليس هذا من باب قياس الغائب على الشاهد، بل ندعي في إفادته العلم بالضرورة العادية، ونذكر هذا للتفهيم". أقول: الذين شاهدوا المعجزات لم يوقنوا جميعًا، بل بقي كثيرون منهم مرتابين. وفي القرآن نصوص كثيرة تصرِّح بذلك، وهذا يدفع أن يكون الله عزَّ وجلَّ أجرى العادة بخلق العلم بالصدق عقب المعجزة. فإن قيل: الذين بَقُوا مرتابين إنما ارتابوا لعدم علمهم بأن ذلك فعل الله عزَّ وجلَّ، بل جوَّزوا السحر. قلت: فإذا لم يقع العلم بالصدق إلا لمن علم أن ذلك فعلُ الله عزَّ وجلَّ، فهذا نظير المثال الذي ذكروه. فلو فرضنا فيه أن ذلك الجم الغفير كانوا يعتقدون أن الملك لا يبالي أصدق أم كذب، ولا أَفَعَل ما تقتضيه الحكمة أم ما تأباه= لم يحصل لهم بقيامه وقعوده أدنى ظن، فضلًا عن الظن الغالب، فضلًا عن العلم. فأما إذا كانوا يعتقدون أنه لا يفعل شيئًا لأجل شيء، فالأمر أشدُّ. فثبت أن الذين يعلمون أن المعجزة من فعل الله عزَّ وجلَّ إنما يصدِّقون لاعتقادهم أن الله تعالى منزَّه عن أن يقع منه كذب أو فعل مناقض للحكمة، وهذا الاعتقاد هو مقتضى الفطر الزكية والعقول النقية، وهو اعتقاد كلِّ من يؤمن حق الإيمان بوجود الله تعالى وكمال علمه وقدرته حتى من الأشاعرة أنفسهم، يعتقدون ذلك بمقتضى فطرهم، وإن أنكروه بألسنتهم. ****

تنزيه الأنبياء عن الكذب

[2/ 248] تنزيه الأنبياء عن الكذب من المعلوم من الدين بالضرورة أن الأنبياء صادقون في كل ما أخبروا به عن الله عزَّ وجلَّ، وأن من كذّب نبيًّا في خبر من ذلك فقد كفر. ومعلوم أن جميع ما أخبر به الأنبياء في شؤون الدين فهو إخبار عن الله عزَّ وجلَّ، وهذا من الوضوح عند المسلمين بحيث يستغني عن إيراد حججه. فإن قيل: قد جوَّز بعضُ الناس أن يقول النبي في الدين باجتهاده، ومن هؤلاء من جوَّز أن يخطئ النبي، لكنه إن أخطأ نبَّهه الله عزَّ وجلَّ فورًا. ولعل مَن يجيز مِن هؤلاء تأخير البيان إلى وقت الحاجة يجيز تأخير التنبيه إلى وقت الحاجة. قلت: إن جاز الخطأ، فإنما يخبر النبيُّ بأنه يظن، ومن قال: أظن كذا، إنما أخبر بأنه يظن، فإذا كان يظن ما ذكر فقد صدق. فإن بان خطأُ ظنه لم يُقَلْ له: كذبتَ، وإن قيل: كذب ظنك. فأما الأمور الدنيوية، فخبر الأنبياء عنها إن تضمن خبرًا عن الله عَزَّ وَجَلَّ فكالأمور الدينية، وإلا فالمعروف بين أهل العلم من المسلمين أن الأنبياء معصومون عن تعمُّد الكذب فيها. وأُورِد على ذلك كلمات إبراهيم عليه السلام. وفي "الصحيحين" (¬1) من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات ... "، فذكر تلك الكلمات. وفي "مسند أحمد" (¬2) من حديث ابن عباس نحوه. وفي "الصحيحين" (¬3) من حديث أنس مرفوعًا ذكر فزع الناس إلى الأنبياء ¬

_ (¬1) البخاري (3357، 3358) ومسلم (2371). (¬2) رقم (2546، 2692). وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان ضعيف. (¬3) البخاري (7510) ومسلم (193/ 322).

يوم القيامة يسألونهم الشفاعة، فيأتون آدم، فنوحًا، فإبراهيم، فموسى؛ فيعتذر كلٌّ من هؤلاء بتقصيرٍ كان منه في الدنيا. فيذكر آدم أكله من الشجرة، وموسى قتله النفس. وفيه في ذكر إبراهيم: "فيقول: لستُ هناكم. ويذكر خطيئته". زاد مسلم: "التي أصابَ فيستحيي ربَّه منها". وفي رواية للبخاري (¬1) في كتاب التوحيد: "فيقول: لستُ هناكم. ويذكر خطاياه التي أصابها". وفي أخرى (¬2): "ويذكر ثلاث كذبات كذبهن". وفي "الصحيحين" (¬3) من حديث أبي هريرة مرفوعًا، وفيه مِنْ قول إبراهيم في عذره: "إن ربي قد غضب اليوم ... وإني قد كنت كذبتُ ثلاثَ كذبات" لفظ البخاري في تفسير سورة (الإسراء)، ولفظ مسلم: "إن ربي قد غضب اليوم ... ، وذكر كذباته". وقد جاء [2/ 249] الحديث من رواية جماعة آخرين من الصحابة. فإطلاق الخليلين إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام على تلك الكلمات "كذبات" يدفع أن تكون من المعاريض التي لا رائحة للكذب فيها. ويؤكده أن نبينا كان شديد التوقير لأبيه إبراهيم عليهما الصلاة والسلام. صح عنه أنه قال: "نحن أولى بالشك من إبراهيم ... " (¬4). وقال له رجل: يا خير البرية، فقال: "ذاك إبراهيم" (¬5). فكيف يُظَنُّ به أن يقول: "لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات" وهو يعلم أنها ليست من الكذب في شيء، مع أنه تحرَّى ¬

_ (¬1) رقم (7410). (¬2) رقم (7440). (¬3) البخاري (4712) ومسلم (194). (¬4) أخرجه البخاري (4537) ومسلم (151) من حديث أبي هريرة. (¬5) أخرجه مسلم (2369) من حديث أنس بن مالك.

في هذا الحديث الثناء على إبراهيم؟ فبيَّن أنه لم يقع منه كذب إلا تلك الثلاث، ثم قال: "ثنتين منهن في ذات الله عزَّ وجلَّ: قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89] وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63]، وقال: بينا هو ذات يوم وسارة (يعني امرأته) إذ أتى على جبَّار من الجبابرة ... ". فإن قيل: قد يكون الكلام من تأكيد المدح بما يشبه الذم، كقول النابغة (¬1): ولا عيبَ فيهم غيرَ أنَّ سيوفَهم ... بهن فلولٌ من قِراع الكتائبِ قلت: إنما يحسن مثل هذا حيث يكون المستثنى واضح الخروج من المستثنى منه، وليس الأمر ها هنا كذلك. وقد سمَّاها في الحديث الآخر "خطايا"، ونظَمها في سلك أكلِ آدم من الشجرة وقتلِ موسى للنفس. وحكَمَ إبراهيم بأنها تقصر به عن مقام الشفاعة، وتقتضي (¬2) استحياءَه من ربه لأجلها. وبالجملة فالجواب عن تلك الكلمات بأنها ليست بكذب كما ترى. وثَمَّ جوابٌ آخر، وهو أن تلك الكلمات وقعت من إبراهيم عليه السلام قبل نبوته، كما أن قتل موسى للنفس كذلك، فقد قصَّ الله تعالى عنه أنه ذُكّر بتلك الفعلة فقال: {فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 20، 21]. وقريب من ذلك حال آدم، فإنَّ أكلَه من الشجرة كان في الجنة قبل النبوة المعتادة. ¬

_ (¬1) "ديوانه" (ص 44). (¬2) ط: "وتتقضى". ولعله خطأ مطبعي.

وقد قال الله تعالى في القصة التي ذكر فيها قول إبراهيم: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63]، وهي إحدى الكلمات: {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ ... بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 60 - 63]. [2/ 250] والكلمة الثانية وهي قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89]، كانت قبل ذلك. فأما الثالثة، وهي قوله: "هي أختي"، فالظاهر - والله أعلم - أنها بعد ذلك، لكن في سياق القصة ما قد يُشعر بأنها كانت قبل النبوة. فإطلاقهم عليه "فتى" ظاهر في أنه يومئذ لم يبلغ أربعين سنة، فإن الفتى هو الشاب الحدث كما في "المصباح" (¬1)، وقد صرَّح كثير من أهل العلم أن الأنبياء إنما نُبَّئوا بعد بلوغ كلًّ منهم أربعين سنة، كما وقع لنبينا عليه الصلاة والسلام. وجزم به القاضي أبو بكر ابن العربي وآخرون، وتأولوا ما في قصتي يحيى وعيسى، وقال قوم: إن ذلك هو الغالب. فإن قيل: فإن اثنتين من تلك الكلمات وقعتا في صدد دعوته قومه إلى التوحيد، والثالثة يظهر أنها بعد ذلك، فكيف يدعو قبل النبوة؟ قلت: قد كان هداه الله تعالى من صباه بتوجيه نظره إلى الآيات الكونية، قال الله عزَّ وجلَّ: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} ثم ذكر القمر والشمس: {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا ¬

_ (¬1) "المصباح المنير" (ص 462).

رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ ...} [الأنعام: 75 - 80]. فكان يُحاجُّ قومَه بما هداه الله إليه بنظره. فإن قيل: لو كانت تلك الثلاث قبل النبوة لذكر معها قوله: هذا ربي، فإن هذه أشدّ. قلت: قد ذُكِر في بعض الروايات، لكن قيل: إنه خطأ من الراوي (¬1). وعلى هذا فقد يقال: إنما لم تذكر تلك الكلمة لأنها كانت في الطفولة فيما قاله بعض أهل العلم، وتلك الثلاث كانت بعد البلوغ. وفي هذا نظر، فإن قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذباتٍ" يعمُّ الطفولة. وقد يقال: إنما لم يذكرها لأن إبراهيم لم يُرِد بها الإخبار، وإنما أراد الاستفهام الإنكاري. وهذا القول حكاه ابن جرير عن بعض أهل النظر، وردَّه (¬2). وروى عن ابن عباس (¬3) ما ينص على أن الكلام على الإخبار، وأن إبراهيم فعل ما يوافق ذلك، ولم يذكر عن أحد من السلف خلافه. ومع هذا فمن مال إلى هذا التأويل من أهل النظر [2/ 251] وجَّهوه بأن إبراهيم أراد في نفسه الاستفهام، وأراد في الظاهر إيهام قومه أنه موافق لهم ليكون ذلك ¬

_ (¬1) راجع "الفتح" (6/ 391). (¬2) انظر "تفسير الطبري" (9/ 360، 361) ط. دار هجر. (¬3) المصدر السابق (9/ 356) و"تفسير ابن أبي حاتم" (4/ 1328، 1329) من طريق علي بن أبي طلحة عنه.

أقربَ إلى جرِّهم إلى الحق. وعلى هذا فهذه الكلمة بل الكلمات أشدُّ من تلك الثلاث، والحديث السابق يأبى ذلك كما مرَّ. فإن قيل: أفليس الأنبياء معصومين عن الكفر مطلقًا؟ قلت: ليس هذا بكفر في حكم الشرع، فإن إبراهيم عليه السلام قال ذلك قبل أن تُعرَض عليه - فضلًا عن أن تقوم عليه - حجة بنظر ولا غيره، وهو حريص على معرفة الحق، باذلٌ وسعَه في تحصيلها، صادق العزم على اتباع الحق على كل حال، ليس في نفسه شائبة هوى في غير الحق. فإن كان ذلك في الطفولة كان الأمر أوضح. فإن قيل: فعلى هذا أيضًا يبقى الإشكال بحاله أو أشدَّ. فإن قوله: "هذا ربي" يكون خبرًا مخالفًا للواقع ظاهرًا وباطنًا، وتلك الثلاث إن كان الخبر فيها مخالفًا الواقع، فظاهرًا فقط. قلت: تلك الثلاث كانت عمدًا أي أن إبراهيم كان يعلم أن الظاهر غير واقع، وأمَّا قوله: "هذا ربي" فخطأ محض غير مؤاخذ به (¬1). والمتبادر من قولهم "لم يكذب فلان" نفيُ أن يكون وقع منه إخبار بخلاف الواقع يُلام عليه. وفي "صحيح مسلم" (¬2) في أحاديث البكاء على ¬

_ (¬1) هذا هو الجواب عن عدم ذكرها مع الثلاث. ثم ظهر لي جواب آخر، وهو أن قوله: "هذا ربي" لم يكن إخبارًا منه لغيره, بل لعله لم يكن عنده أحد، وإنما قال ذلك على وجه الاعتراف كالمخاطب لنفسه. وجواب ثالث وهو أن القرائن تدل أنه إنما بنى على ظنه، فكأنه قال: "أظن هذا ربي". ومن ظن أمرًا فأخبر بأنه يظنه فهو صادق، وإن أخطأ ظنه كما مرَّ، ويأتي إيضاحه. [المؤلف] (¬2) رقم (932/ 27).

الميت: "فقالت عائشة: يغفر الله لأبي عبد الرحمن، أما إنه لم يكذب، ولكنه نسي أو أخطأ". وفي رواية (¬1): "قالت: إنكم لتحدِّثون عن غير كاذبين ولا مكذَّبين، ولكن السمع يخطئ". وقولهم: "كذب فلان" المتبادر منه أنه تعمَّد أو أخطأ خطأً حقُّه أن يُلام عليه. ومن ذلك حديث: "كذب أبو السنابل" (¬2)، وقول عبادة: "كذب أبو محمَّد" (¬3)، وقول ابن عباس: "كذب نَوف" (¬4)، وما أشبه ذلك. والكذب لغةً هو مخالفة الخبر - أي [2/ 252] ظاهره الذي لم تُنصَب قرينةٌ على خلافه - للواقع مطلقًا، لكن لشدة قبح الكذب وأن العمد أغلب من الخطأ كان قولنا: "كذَب فلانٌ" مُشعِرًا بذمِّه، فاقتضى ذلك أن لا يؤتى بذلك حيث ينبغي التحرُّز عن الإشعار بالذم. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. ¬

_ (¬1) لأحمد في "المسند" (288) والنسائي (4/ 19). (¬2) أخرجه الشافعي في "الرسالة" (1711) وفي "المسند" (2/ 51) وسعيد بن منصور في "سننه" (1506) والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 429) من طريق عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن أبيه عن سُبَيْعة. وأخرجه أحمد في "المسند" (4273) من طريق عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن مسعود. وأصل الحديث ثابت في الصحيحين عن سُبَيعة أخرجه البخاري (5319) ومسلم (1484)، ولكن ليس عندهما اللفظ المذكور. (¬3) أخرجه مالك في "الموطأ" (1/ 123)، وأحمد في "المسند" (22693)، وأبو داود (1420)، والنسائي (1/ 230). (¬4) أخرجه مسلم (2380/ 171).

هذا, ولم يُرِد إبراهيم عليه السلام بقوله: "هذا ربي" ربَّ العالمين، وإنما بني على ما كان يقوله قومه في الكواكب: إن أرواح الملائكة متعلقةٌ بها، مدبِّرةٌ بواسطتها ما أقدرها الله عليه، أو شافعة إليه، ولما رأوا أن الكواكب لا تكون ظاهرةً أبدًا اتخذوا الأصنام تذكاراتٍ لها ولأرواحها. وكانوا يعبدون الأصنام والكواكب تقربًا إلى تلك الأرواح، ويقولون: إن الله ربُّ الأرباب وإلهُ الآلهة. وقد أوضحتُ هذا بدلائله من الكتاب والسنة وأقوال السلف والآثار التاريخية والمقالات في كتاب "العبادة" ولله الحمد. وعلى كل حال، فتلك الكلمات إنْ ترجَّحَ أنها داخلةٌ فيما يسمَّى كذبًا، فهي من أخفِّ ذلك وأهوَنِه. ولنبيِّنْ ذلك في إحداها: دخل إبراهيم ومعه امرأته (سارة) بلدًا كان ملكه جبارًا، إذا سمع بامرأة جميلة أخذها، فإن كان لها زوج بطش به. فلما سمع الجبار بسارة أرسل إلى إبراهيم، فسأله عنها، فخاف أن يقول: امرأتي، فيبطش به؛ وأن يقول: أجنبية عني، فيقال: فما شأنك معها؟ فقال: هي أختي، وأراد الأخوة الدينية. فإطلاق أخ وأخت في الأخوة الدينية شائع ذائع، فاحتمال الخبر للمعنى الواقع قريب كما ترى. ومع ذلك فهناك قرينة من شأنها إذا تنبَّه لها المخاطب أن توهن الظاهر، وهي أن تلك الحال يحتاج مَن وقع في مثلها إلى التورية وإيهام خلاف الواقع، ليدفع عن نفسه الظلم، ويدفع عن مخاطبيه الوقوع في الظلم، ولا تترتب على ذاك الإيهام مفسدة. فقد يقال: إن هذه الحال إذا نُظِر إليها على هذا الوجه ولوحظ أن الخبر محتمل احتمالًا قريبًا لغير ظاهره، صار الخبرُ مجملًا محتملًا لكلٍّ من المعنيين على السواء، فعلى هذا لا يكون كذبًا. لكن قد يَرِد على هذا أن تلك الحال إذا لوحظت إنما تقتضي أن

من وقع فيها قد يترخص في الكذب، فالاعتدادُ بها لا يبرئ الخبر عن اسم الكذب. ألا ترى أنه لو علم الجبَّار بالواقع لكان له أن يقول لإبراهيم: لِمَ كذبتَ؟ [2/ 253] وعلى كل حال، فالأحاديث أطلقت على تلك الكلمات: "كذبات"، فإن كانت كذلك حقيقة، فقد يتعيَّن أنها كانت قبل النبوة كما مرَّ، وإلا فسواء أكانت قبلها أم بعدها فالأحاديث صريحة في أنها - بالنظر لما فيها من شبه الكذب - هي مما يُعَدُّ وقوعُه من مثل إبراهيم عليه السلام خطيئة. فينبغي أن لا يكون وقع مثلُها - فضلًا عما هو أشدُّ منها - من محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنه مبعوث إلى الناس كافةً من حين بُعث إلى يوم القيامة، فالعناية بشأنه آكدُ، وهذا هو الواقع. أما قبل النبوة، فقد شهد له أعداؤه بالصدق والأمانة حتى سمَّوه "الأمين", ولم يستطيعوا مع إسرافهم في عداوته، واضطرارهم إلى صدِّ الناس عن اتِّباعه، أن يذكر أحدهم أنه كذَب، أو وقع منه ما يُشبه الكذب. وقد سأل هرقلُ أبا سفيان أشدَّ المشركين عداوةً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ وأحرصهم على أن يعيبه، كما يُعلَم من سياق القصة في أوائل "صحيح البخاري" (¬1) وغيره. قال هرقل: فهل كنتم تتهمونه (يعني النبي صلى الله عليه وآله وسلم) بالكذب قبل أن يقول ما قال (يعني قبل النبوة)؟ قال أبو سفيان: لا. ثم قال هرقل: فقد أعرف أنه لم يكن لِيذَرَ الكذبَ على الناس، ويكذب على الله. ¬

_ (¬1) رقم (7).

وقال الله تبارك وتعالى لرسوله: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33]. يعني - والله أعلم -: لا ينسبونك إلى تعمُّد الكذب. وهذا بيِّن واضح من كلماتهم، كقولهم: "مجنون" أي لا يعقل ما يقول، "كاهن" أي تُلقي إليه الشياطين ما تُلقي فيحسبُه من عند الله. فأما قولهم: "شاعر" فقصدوا به توجيه بلاغة القرآن. وأما قولهم: "ساحر" فقصدوا به توجيه المعجزات، ومنها بلاغةُ القرآن وعجزُهم عن معارضته. فإن كان في كلماتهم ما فيه ذكرُ تعمُّدِ الكذب، فذاك من باب اللجاج الذي يعرف قائلُه قبلَ غيره أنه لا يخفى بطلانه على أحد. وإنما اعتنى القرآن بحكاية ذلك وإبطاله إبلاغًا في إقامة الحجة، وليبيَّن للناس أنه لا شبهة لهم إلا مثل ذلك اللجاج. وهذا مثل ما قصَّه الله عزَّ وجلَّ من قول بعض اليهود (¬1): ¬

_ (¬1) علَّق عليه الشيخ محمَّد عبد الرزاق حمزة بقوله: "هذا قول بعض المفسرين مستدلًّا على ذلك برد الله عليه بإنزال التوراة التي يعترفون بها. ولكن السياق والأسلوب يدل على أن ذلك من قريش، ورد الله عليهم بإنزال التوراة من باب الإفحام بما لا يمكن رده، فشهرة التوراة وأنها كتاب الله مما لم يجحده قريش، فالحجة قائمة على جاحد الوحي من قريش بشهرة التوراة وأنها كتاب الله، واعتراف جمهور الناس بذلك من يهود ونصارى وعرب وعجم. أفاده المحقق ابن القيم في بعض كتبه". فتعقبَّه المؤلف بقوله: "جمهور المفسرين على أن القائلين بعض اليهود، وهو المنقول عن ابن عباس من رواية علي بن أبي طلحة، وسيأتي في تفسير (قل هو الله أحد) رأي الشيخ في روايته, وعن عكرمة وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب القرظي والسدي وغيرهم، ويعينه أو يكاد قوله تعالى: {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} هكذا قرأها جمهور القراء، وقرأها ابن كثير وأبو عمرو بالياء على الالتفات. وأما =

[2/ 254] {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} , قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: 91]. حمل اللجاجُ ذلك اليهودىَّ على أن جحد أساسَ دينه، على حدِّ قول الشاعر (¬1): اقتلوني ومالكًا ... واقتلوا مالكًا معي وفي "جامع الترمذي" و"تفسير ابن جرير" (¬2) وغيرهما بسندٍ رجالُه رجالُ "الصحيح" (¬3) [2/ 255] عن ناجية بن كعب قال: "قال أبو جهل ¬

_ = القول بأن القائلين من قريش، فنقل عن مجاهد واختاره ابن جرير وقال: "والأصوب من القراءة في قوله {يجعلونه قَرَاطِيسَ يبدونها ويخفون كَثِيرًا} أن يكون بالياء لا بالتاء" كذا قال، واستبعاد أن يقول بعض اليهود ذاك القول ليس في محله؛ لأن اليهود بهت، وقد قالوا: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} , وقالوا: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} قاتلهم الله أنى يؤفكون، وأما السياق والأسلوب فلا يقاوم دلالة {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا}. على أنه لا مانع من الجمع بين الوجهين، القائل من اليهود، وقريش توافقه على ذاك القول. والله أعلم". (¬1) هو عبد الله بن الزبير، كما في "مجمع الأمثال" (2/ 105). (¬2) أخرجه الترمذي (3064) والحاكم في "المستدرك" (2/ 315) من طريق ناجية عن علي بن أبي طالب. وأخرجه ابن جرير الطبري (9/ 222, 223) من قول ناجية. (¬3) قلت: لكن هذا السند ينتهي إلى ناجية بن كعب, وهو تابعي يروي عن علي، فالقصة مرسلة، بيد أن الترمذي قد وصله في إحدى روايتيه وكذا الحاكم (2/ 315) عنه عن علي. وقال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين". وأقره ابن كثير، ورده الذهبي في "التلخيص" بقوله: "قلت: ما خرجا لناجية شيئًا". قلت: وأيضًا فقد قال الترمذي عقب الطريق الأول المرسل: "وهذا أصح". [ن]

للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إنا لا نكذِّبك، ولكن نكذِّب الذي جئتَ به". وفي رواية: "ما نتهمك ولكن نتهم الذي جئتَ به". وفي "تفسير ابن جرير" (¬1) وغيره عن السدِّي قصةٌ وقعت قبيلَ بدر، وفيها: "فخلا الأخنس بأبي جهل فقال: يا أبا الحكم ... فقال أبو جهل: ويحك، والله إنَّ محمدًا لصادق، وما كذبَ محمَّد قطُّ، ولكن إذا ذهب بنو قُصي باللواء والحجابة والسقاية والنبوة، فماذا يكون لسائر قريش؟ ". وأما بعد النبوة، فالأمر أوضح. فمن المشركين من كان مرتابًا فيما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومنهم من استيقنت نفسُه ولكنهم عاندوا، وكلا الفريقين عرفوا من حاله - صلى الله عليه وسلم - سابقًا ولاحقًا أنه لا مجال لاحتمال تعمُّده الكذب، وأن اتهامه بذلك مكابرة مفضوحة، إلى حدِّ أنهم رأوا أن أقرب منها أن يقولوا: مجنون، مع علمهم وعلم كلِّ من عرف النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم أنه أعقل الناس. وفي "المستدرك" (ج 3 ص 45) (¬2) وغيره في قصة ابن أبي سرح لما جيء به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليبايعه "فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثًا [ثم بايعه] ثم أقبل على أصحابه فقال: أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حين رآني كففتُ يدي عن بيعته، فيقتله؟ فقالوا: ما ندري يا رسول الله ما في نفسك، ألا أومأتَ إلينا بعينك؟ فقال: إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين" (¬3). ¬

_ (¬1) (9/ 222)، و"تفسير ابن أبي حاتم" (4/ 1283). (¬2) من طريق أبي داود في "السنن" (2683). (¬3) قلت: قال الحاكم عقبه: "صحيح على شرط مسلم". ووافقه الذهبي. قلت: وفيه أحمد بن المفضل وهو صدوق في حفظه شيء. عن أسباط بن نصر، وهو صدوق =

وجاءت قصة أخرى (¬1) في رجل من المشركين كان شديدًا على المسلمين، فنذرَ أحدُهم قتلَه، ثم جاء المشرك لِيُسلم، فكفَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مبايعته مرارًا، ثم بايعه، فقال الناذر: إني نذرت ... القصة. وفيها أيضًا: "إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين". فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُحِبُّ قتلَ الرجلين، إما لأنه قد سبق منهما من شدة الكفر [2/ 256] والإسراف ما أحبَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينالهما عقابه في الدنيا والآخرة، كما قصَّ الله تعالى من دعاء موسى وهارون على آل فرعون: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس: 88]. وإما لمعنى آخر يُعلَم بالتدبر، وكأنه ألطَفُ من هذا. فقد أحبَّ - صلى الله عليه وسلم - قتل الرجلين، لكن كره أن يصرَّح بالأمر بذلك في تلك الحال، لئلا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل من جاءه تائبًا. فأما إذا قُتِلا بدون أمر جديد منه، فإنه ¬

_ = كثير الخطأ، كما في "التقريب". وهما من رجال "الميزان" للذهبي، والآخر من "الضعفاء" له. ومن هذا الوجه أخرجه أبو داود أيضًا (2683 و4359) والنسائي (2/ 170) وإلى هذا وحده عزاه الحافظ في "الفتح" (6/ 120) وسكت عليه؛ وما بين المعكوفين، إنما وضعه المصنف بينهما إشارةً إلى أنها ليست في "المستدرك"، وإنما هي عند من ذكرنا بلفظ "فبايعه". ثم خرّجت للحديث شاهدًا حسنًا في "الصحيحة" (1723) [ن]. (¬1) أخرجها البيهقي في "دلائل النبوة" (5/ 60) من حديث أنس بن مالك. وأخرجها ابن سعد في "الطبقات" (2/ 141) عن سعيد بن المسيب مرسلًا نحوه. والرجل هو ابن أبي سرح المذكور، والناذر أحد الأنصار.

يقال: إنهما قُتلا بدون أمره. وكره أن يُومِض, لأن الإيماض من شعار أهل الغدر لا ينبغي للأنبياء. أقول: فإذا لم ينبغِ للأنبياء الإيماضُ في الحق, لأنه في الجملة من شعار أهل الغدر؛ فكيف ينبغي لهم الكذب، وهو نفسه قبيح مذموم؟! وقال ابن حجر في "الفتح" (¬1) في شرح "باب الكذب في الحرب": "قال النووي: الظاهر إباحة الكذب حقيقة في الأمور الثلاثة، لكن التعريض أولى ... ولا يعارض ذلك ما أخرجه النسائي (¬2) ... في قصة عبد الله بن سعد بن أبي سرح ... ". ثم قال ابن حجر: "والجواب المستقيم أن نقول: المنع مطلقًا من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلا يتعاطى شيئًا من ذلك وإن كان مباحًا لغيره. ولا يعارض ذلك ما تقدَّم مِنْ أنه كان إذا أراد غزوةً ورَّى بغيرها (¬3)، فان المراد أنه كان يريد أمرًا فلا يظهره، كأن يريد أن يغزو جهة الشرق، فيسأل عن أمر في جهة الغرب، ويتجهز للسفر ... ". أقول: كان صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد غزوةً شرَعَ في التجهُّز، وأمَرَ أصحابه بذلك. فقد تكون هناك قرينةٌ تُشعِر بالجهة التي يريد، وقد يكون هناك جاسوس لأهل تلك الجهة. فإذا رأى التجهُّز وعرف تلك القرينة أسرع فأنذرهم فتحرَّزوا. فكان النبي صلى الله عليه [2/ 257] وآله وسلم يقول ما يدافع تلك القرينة ليلتبس الأمر على الجاسوس، فإما أن يتأخر ليعرف الحال، فيسبقه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه. وإما أن ¬

_ (¬1) (6/ 159). وكلام النووي في "شرح صحيح مسلم" (12/ 45). (¬2) (7/ 105, 106). (¬3) أخرجه البخاري (2947، 2948) ومسلم (2769/ 54) من حديث كعب بن مالك.

يرجع إلى جهته، فيخبرهم بأمر محتمل، فلا يقوى الباعث لهم على التحرز. فإن التورية تحصل بهذا, وليس من لازمها أن يكون ما يقوله صلى الله عليه وآله وسلم ظاهرًا في غير ما في نفسه. واختصاصُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم دون أفراد أمته بوجوب تنزُّهه عن كلِّ ما يقال إنه كذب = حكمٌ معقولُ المعنى , لأن وقوعَ مثل ذلك منه صلى الله عليه وآله وسلم لا ينفكُّ عن احتمال ترتُّب المفاسد عليه. منها: أنه لو ترخَّص في بعض المواضع لكان ذلك حاملًا على اتهامه في الجملة، فيجرُّ ذلك إلى ما عدا ذاك الموضع. وهو صلى الله عليه وآله وسلم مبلِّغٌ عن الله، فوجب أن لا يكون منه ما قد يدعو إلى اتهامه، ولو في الجملة. ومنها: أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يزل منذ بعثه الله تعالى محاربًا أو في معنى المحارب. فلو وقع منه شيء مما يقال إنه كذبٌ في الحرب لجرَّ ذلك إلى الارتياب في كثير من أخباره؛ إذ يقال: لعله كايَد بها المشركين، لعله، لعله. ومنها: أن الناس يقيسون، فيقولون: إنما ساغ ذلك في الحرب للمصلحة، فينبغي أن تكون هي المدار، فيسوغ مثلُ ذلك للمصلحة ولو في غير الحرب، فيرتابون في أكثر أخباره صلى الله عليه وآله وسلم حتى في الدين. ومنها: أنه فتحُ بابٍ للملحدين ولكلِّ من غلبه هواه. لا يشاء أحدهم أن يدفع نصًّا من النصوص النبوية إلا قال: إنما كان للمصلحة في عصره صلى الله عليه وآله وسلم، وهلم جرًّا. فيصبح الدين ألعوبةً، كما وقع فيه الباطنية.

إلى غير ذلك من المفاسد التي تكون صغراها أكبر جدًّا من جميع المفاسد التي كانت تَعرِض في حروبه صلى الله عليه وآله وسلم، وكان يمكنه أن يدفعها ببعض ما يقال: إنه كذب. فوجب أن تكون كلماته كلها حقًّا وصدقًا. فأما الخطأ، فلا ريب أن الأنبياء قد يخطئ ظنُّهم في أمور الدنيا، وأنهم يحتاجون إلى [2/ 258] الإخبار بحسب ظنهم، لكنهم إذا احتاجوا إلى ذلك فإنما يخبر أحدُهم بأنه يظنُّ، وذلك - كما تقدم - صدق، حتى على فرض خطأ الظن. فمن ذلك: ما جاء في قصة تأبير النخل. نشأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمكة وليست بأرض نخل، ورأى عامة الأشجار تُثمِر ويَصلُح ثمرها بغير تلقيح، فلا غروَ ظنَّ أن الشجر كلها كذلك. فلما ورد المدينة مرَّ على قوم يؤبِّرون نخلًا، فسأل، فأخبروه، فقال: "ما أظنُّ يغني ذلك شيئًا" (¬1) وفي رواية (¬2): "لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرًا"، فتركوه، فلم يصلح. فبلغه صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: "إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننتُ ظنًّا، فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدَّثتُكم عن الله شيئًا فخذوا به، فإني لن أكذب على الله". وفي رواية (¬3): "إنما أنا بشر، إذا أمرتُكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي، فإنما أنا بشر" أو كما قال. أخرج مسلم الرواية الأولى من حديث طلحة بن عبيد الله، والثانية من ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2361) عن طلحة بن عبيد الله. (¬2) أخرجها مسلم (2362) عن رافع بن خديج. (¬3) هي رواية رافع.

حديث رافع بن خديج. ثم أخرج (¬1) من طريق حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة؛ وعن ثابت عن أنس القصة مختصرةً، وفيها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لو لم تفعلوا لصَلُح". وحماد على فضله كان يخطئ، فالصواب ما في الروايتين الأوليين. وقولُه صلى الله عليه وآله وسلم: "ولكن إذا حدَّثتكم عن الله شيئًا فخذوا به، فإنى لن أكذِبَ على الله"، و"إذا أمرتكم بشئ من دينكم فخذوا به" واضحُ الدلالة على عصمته - صلى الله عليه وسلم - من الكذب خطأً فيما يخبر به عن الله وفي أمر الدين. ومن ذلك قصة ذي اليدين: سلَّم - صلى الله عليه وسلم - في الظهر أو العصر من ركعتين، فقام إليه ذو اليدين فقال: أقَصُرَت الصلاة يا رسول الله أم نسيتَ؟ فقال: "كلُّ ذلك لم يكن". فقال ذو اليدين: بل بعض ذلك قد كان. فسأل - صلى الله عليه وسلم - الناس، فصدَّقوا ذا اليدين. فقام فأتمَّ بهم الصلاة (¬2). فقوله: "كلُّ ذلك لم يكن" يتضمن خبرين: الأول: عن الدين، وهو أن الصلاة لم تقصُر، وهو حق. والثاني: عن شأن نفسه، وهو أنه لم ينسَ، والواقع أنه كان قد نسي. والقرائن واضحة في أنه إنَّما اعتمد في الخبر الثاني على ظنه، فهو في قوة قوله: "لم أنسَ فيما أرى". ومما يدخل في هذا ما جاء في رضاع الغَيْل، ففي "صحيح مسلم" (¬3) ¬

_ (¬1) رقم (2363). (¬2) أخرجه مسلم (573) من حديث أبي هريرة بهذا اللفظ. وأخرجه البخاري (1227, 1228) نحوه. (¬3) رقم (1443) من حديث أسامة بن زيد أنه أخبر سعدَ بن أبي وقاص. وهو من مسند أسامة في "مسند أحمد" (21770) و"المعجم الكبير" للطبراني (382).

من حديث سعد بن أبي وقاص أنه ذُكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "لو كان ذلك ضارًّا لأضرَّ فارسَ والرومَ". وفيه (¬1) من حديث جُذامة (¬2) بنت وهب مرفوعًا: "لقد هممتُ أن أنهى عن الغِيلة، فنظرت في الروم وفارس، فإذا هم يُغيلون أولادهم، فلا يضرُّ أولادهم ذلك شيئًا". وفي "سنن أبي داود" (¬3): حدثنا أبو توبة، نا محمد بن مهاجر، عن أبيه، عن أسماء بنت يزيد بن السكن قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا تقتلوا أولادكم سرًّا فإن الغَيل يدرك الفارس، فيُدَعْثِرُه عن فرسه". أبو توبة ومحمَّد بن مهاجر من رجال "الصحيح"، ومهاجر روى عن (¬4) جماعة، وذكره ابن حبان في "الثقات" (¬5) فالله أعلم. ¬

_ (¬1) رقم (1442). (¬2) كذا الأصل بالذال المعجمة، وهو رواية لمسلم، وفي أخرى له: "جدامة" بالدال المهملة، قال مسلم: "وهو الصحيح". وقال الدارقطني [في "المؤتلف" (2/ 899)]: "هي بالجيم والدال المهملة، ومن ذكرها بالذال المعجمة فقد صحف". وعلى الصواب وقع فيما يأتي بعد سطور، وبالذال أيضًا، فكأن المصنف ذكره على الروايتين، مشيرًا بذلك إلى أنه لم يترجح عنده الصواب منهما. [ن]. (¬3) رقم (3881). (¬4) كذا في المطبوع، ولعل الصواب: "عنه". (¬5) قلت: وهو معروف بتساهله في التوثيق كما سبق بيانه من المؤلف ومنا (ج 1 ص 436 - 438) [730 - 734]، ولم نر أحدًا قد وافقه على توثيقه، بل إن ابن أبي حاتم لما أورده في كتابه (4/ 1/ 261) سكت عنه، مشيرًا بذلك إلى أنه غير معروف عنده، كما تقدمت الإشارة إلى ذلك في تعليقنا (ص 436). ولذلك لم يعتمد توثيقه =

[2/ 260] زعم الطحاوي (¬1) أن حديث أسماء كان أوّلًا، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بنى ذلك على ما هو المشهور بين العرب، ثم كان حديث سعد وجُدامة بعد ذلك عندما اطلع - صلى الله عليه وسلم - على أن الغَيل لا يضر. هذا معنى كلامه وليس بمستقيم. أولاً: لأن حديث أسماء جزمٌ بالنهي، وحديث سعد وجُدامة ظنٌّ مبنيٌّ على أنه - صلى الله عليه وسلم - بلغه عن فارس والروم أنهم يُغيلون، ثم لا يظهر بأولادهم ضرر لا يظهر مثله بأولاد العرب الذين لم يكونوا يُغيلون، فيتجه حملُه على أنه عن الغَيل. ¬

_ = الحافظ ابن حجر، فقال في "التقريب": "مقبول" يعني عند المتابعة، وإلا فلين الحديث، كما نص على ذلك في المقدمة. ولذلك، فإن القلب لا يطمئن لصحة هذا الحديث، وقد أشار إلى تضعيفه العلامة ابن القيم في "تهذيب السنن" بقوله (5/ 362): "فإن كان صحيحًا فيكون النهي عن (الغيل) أولًا إرشادًا وكراهة، لا تحريمًا". قلت: وهذا التأويل وإن كان بعيدًا عن ظاهر حديث أسماء كما بينه المصنف، فالمصير إليه واجب لحديث عبد الله بن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الاغتيال، ثم قال: "لو ضر أحدًا لضر فارس والروم". قال الهيثمي في "المجمع" (4/ 298): "رواه الطبراني والبزار ورجاله رجال الصحيح". قلت: وكذلك رواه ابن أبي حاتم في "العلل" (1/ 401) لكنه قال عن أبيه: "الصحيح مرسل" لكن له شاهد من حديث أبي هريرة مثله. رواه الطبراني في "الأوسط" [رقم (5134)]، وفيه ليث بن حماد وهو ضعيف. [ن] (¬1) في "شرح معاني الآثار" (3/ 47، 48). وانظر "شرح مشكل الآثار" (9/ 284 وما بعدها).

ثانيًا: في حديث أسماء جزمٌ بضرر يخفى على الناس، فإنما يكون ذلك عن الوحي. وحديث سعد وجُدامة إنما فيه نفيُ الضرر الذي يظهر. ثالثًا: في حديث جُدامة: "لقد هممت أن أنهى"، وفي حديث أسماء نهي صريح. وكلٌّ من هذه الأوجه يقتضي تأخُّرَ حديث أسماء - على فرض صحته - وأن حديث سعد وجُدامة كان رأيًا رآه - صلى الله عليه وسلم - وظنًّا ظنَّه. هذا، وقد أطلتُ في هذا الفصل، ومع ذلك بقيتْ أمور مما يشتبه على بعض الناظرين، كتأخير البيان إلى وقت الحاجة عند جماعة من أهل العلم، وما روي في نزول قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} [البقرة: 187]، وقوله - صلى الله عليه وسلم - لأزواجه: "أسرَعُكن لحوقًا بي أطولُكن يدًا" (¬1). فأما المجمل الذي لا ظاهر له، فواضح أنه ليس فيه رائحة من الكذب. وأما الذي له [2/ 262] ظاهر، فإنما يتأخر بيانه إذا كانت هناك قرينة تدافع ذاك الظهور، فيبقى النص في حكم المجمل الذي لا ظاهر له. وأما الآية والحديث، فالحق أن فهمَ غيرِ المراد منهما إنما كان من تقصير السامع، ولو تدبر سياق الكلام ولاحظ القرائن لما فهم غير المراد. وقد شرحتُ ذلك بأدلته في رسالة "أحكام الكذب" (¬2)، وشرحت فيها ما حقيقة الكذب؟ وما الفرق بينه وبين المجاز؟ وما هي المعاريض؟ وما هو الذي يصح الترخيص فيه؟ وغير ذلك. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1420) ومسلم (2452) من حديث عائشة. (¬2) واسمها: "إرشاد العامِه إلى معرفة الكذب وأحكامه"، وهي ضمن مجموع رسائل أصول الفقه.

و {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 43]. ***

الباب الثالث في الاحتجاج بالنصوص الشرعية في العقائد

[2/ 262] الباب الثالث في الاحتجاج بالنصوص الشرعية في العقائد كان من المعلوم المقطوع به في عهد السلف الصالح أنَّ أثبتَ ما يُحتَجُّ به في العقائد وغيرها كلامُ الله تعالى وكلامُ رسوله. ثم لما حدث التعمق في النظر العقلي كان بعض المتعمقين ربما يزيغ عما يعرفه الناس، فيردُّ عليه أئمة الدين، ويبدِّعونه، ويضلِّلونه، ويحتجُّون بالنصوص. فربما تأوَّل هو النصَّ أو ردَّ الحديثَ زاعمًا أنه لا يثق بسنده، فيردُّ عليه أئمةُ الدين تأويلَه بأنه خلاف المعنى الذي تعرفه العرب من لسانها، وخلافُ ما أُثِر من التفسير عمن سلف. ويردُّون عليه ردَّه للحديث بأن رجاله ثقات وأن أئمة الرواية يصححونه. واستمرَّ الأمرُ على هذا زمانًا. وفي القرن الثاني نبغ من المبتدعة مَن يردُّ أخبارَ الآحاد حتى في الفقهيات، واقتصر بعضهم على ردَّها إذا خالفت القياس، وظاهرٌ أن هذا يردُّها إذا خالفت المعقول في زعمه. وقد ردَّ أئمةُ الدين على هؤلاء، وفي كتب الشافعي كثير من الرد عليهم، وكذلك تعرض له البخاري في "الصحيح". وعلى كل حال، فكان معروفًا بين الناس أن أولئك المتأولين للنصوص على خلاف معانيها المعروفة والرادِّين للأخبار الصحيحة هم مبتدعة. ثم عندما كثُر المتعمِّقون، والتبس بعضهم بأهل السنة، كثر القائلون بأن أخبار الآحاد إذا خالفت المعقول يجب تأويلها أو ردُّها, ولبَّسوا بذلك، فإن المعقول المقبول - وهو ما كان من المأخذ السلفي الأول - لا يصح نصٌّ

بخلافه، بل إذا صحَّ نصٌّ ظاهرُ لفظه خلافُه، فالعقل حينئذ قرينة صحيحة لا بد في فهم الكلام من ملاحظتها. فالظاهر الحقيقي الذي هو معنى النص هو ما يظهر منه مع ملاحظة قرائنه. كلُّ هذا، وأهل السنة المتبعون لأئمتها المتَّفق على إمامتهم فيها ثابتون على ما كان عليه السلف من الاحتجاج بالنصوص، وتضليلِ مَن يَصرِفها عن معانيها المعروفة، أو يردُّ الأخبار الصحيحة. ثم نشأ المتوغلون في الفلسفة كالفارابي وابن سينا، فكان مما خالفوه من العقائد الإِسلامية أمر المعاد، فاحتجَّ عليهم المتكلمون بالنصوص، فغافصَهم ابن سينا مغافصةً شديدة، كما تراه في "مختصر الصواعق" (ج 1 ص 241) (¬1). [2/ 263] وعبارته طويلة جدًّا، وأنا أحاول تلخيص المقصود منها. زعم أن الشرائع إنما وردت لخطاب الجمهور، وأنها لو جاءتهم بذكر التوحيد والتنزيه على ما يراه الفلاسفة ومن يوافقهم من المتكلمين، قال (¬2): "لسارعوا إلى العناد، أو اتفقوا على أن الإيمانَ المدعوَّ إليه إيمانٌ بمعدوم لا وجود له أصلا". فزعم أن الحكمة اقتضت أن تجيئهم الشرائع بما يمكن تصديقهم به من التجسيم والتشبيه ونحو ذلك ليمكن قبولهم للشرائع العملية. وذكر أن التوراة كلها تجسيم، وأن في نصوص القرآن ما لا يحصى ¬

_ (¬1) (ص 146 وما بعدها) ط. دار الكتب العلمية بيروت 1405. (¬2) انظر "الرسالة الأضحوية في أمر المعاد" لابن سينا (ص 45 وما بعدها). ونقله ابن تيمية في "درء التعارض" (5/ 11 وما بعدها) وابن القيم في "مختصر الصواعق" (ص 146 - 149) وردَّا عليه.

من ذلك. قال: "وبعضه جاء تنزيهًا مطلقًا عامًّا جدًّا لا تخصيص ولا تفسير له". ثم ذكر أن من النصوص ما هو صريح في التجسيم والتشبيه، "ولا يقع شبهة في أنها ليست استعارية ولا مجازية، ولا يراد فيها شيء غير الظاهر". قال: "فإن كان أريد بها ذلك (يعني غير الظاهر) إضمارًا (يعني أن المتكلم أضمر في نفسه إرادة غير الظاهر، وإن كان الكلام لا يحتمله) فقد رضي (المتكلم بالقرآن) بوقوع الغلط والتشبيه (يعني التجسيم ونحوه) والاعتقاد المعوج بالإيمان بظاهرها تصريحًا". ثم ذكر أن الحال في أمور المعاد كذلك، قال: "ولم يكن سبيل للشرائع إلى الدعوة إليها والتحذير عنها إلا بالتعبير عنها بوجوه من التمثيلات المقرِّبة إلى الأفهام ... فهذا هو الكلام على تعريف من طلب أن يكون خاصًّا من الناس لا عامًّا أن ظاهر الشرائع غيرُ محتَجٍّ به في هذه الأبواب". ويمكن ترتيب مقاصده في تلك العبارة على ما يأتي: المقصد الأول: أن من تلك النصوص ما هو ظاهر في تلك المعاني، ومنها ما هو صريح فيها. الثاني: أن الصريح منها يدفع احتمال الاستعارة والمجاز، ويأبى أن يكون المراد منه إلا ذاك المعنى الذي هو صريح فيه. الثالث: أنه ليس في الكتاب ولا السنة نصٌّ ينفي تلك المعاني التي دلَّتْ عليها تلك النصوص الكثيرة بظهورها أو صراحتها نفيًا بينًا، وإنما هناك إشارات يسيرة ليست بالبينة. الرابع: أن تلك المعاني موافقة لعقول المخاطبين الأولين، وهم العرب الذين بُعث فيهم محمدٌ صلى الله عليه وآله وسلم، حتى لو خوطبوا بنفيها

لأنكرته عقولهم وردَّتْه, وحالهم في ذلك كحال الجمهور من الناس في عصرهم وقبلهم وبعدهم. [2/ 264] الخامس: أن تلك المعاني في رأي ابن سينا ومن يوافقه من المتكلمين وغيرهم باطلة بدلالة النظر العقلي المتعمَّق فيه. السادس: أن صحة الدين الإسلامي ومجيئه بتلك النصوص على ما تقدم من حالها متناقضان ظاهرًا، إذ كيف يأتي الدين الحق بالاعتقاد الباطل؟! السابع: أن صحة الدين الإسلامي ثابتة بالبرهان، وبطلان تلك المعاني ثابت - في زعمه ومن وافقه - بالبرهان. الثامن: أنه لا مخلصَ من هذا التناقض مع ثبوت كلا الأمرين بالبرهان إلا القول بأن الدين الحق قد يأتي بالاعتقاد الباطل رعايةً لمصلحة البشر، ليقبلوا الشرائع العملية التي تصلح شؤونهم! التاسع: أنه إذا كان الأمر هكذا، فاللائقُ بالجمهور قبولُ ما جاء به الدين الحق على أنه حق، واللائق بالخاصة - وهم الذين تنبَّهوا لبطلان بعض تلك المعاني - أن يعرفوا أن الدين إنما جاء لإصلاح الجمهور وأنه جاراهم على اعتقادهم وما يوافقه، وإن كان باطلًا في نفس الأمر، فَلْيَدَعِ الخاصةُ الاحتجاجَ بالنصوص للجمهور، وَلْيحقِّقوا لأنفسهم! العاشر: أنه كما وقع في الدين ذاك التلبيس في العقائد في ذات الله وصفاته، ولا مفرَّ للمتكلمين الذين اعترفوا ببطلان تلك المعاني من الاعتراف به، فكذلك وقع في أمور المعاد. ووقوعُه فيها أهون، والمدارُ إنما

هو على اقتضاء المصلحة، وهي تقتضي التلبيس في أمور المعاد؛ فإن الجمهور لا يُخضِعهم إلا الرغبة والرهبة، ولا تؤثِّر فيهم الرغبة والرهبة إلا فيما يتعلق بالجسمانيات التي عرفوها وأَلِفوها. وقد رأيتُ أن أفرض أنه انعقد مجلسٌ للنظر في هذه المفاسد حضره متكلم وسلفيّ وناقد، فجرى ما يأتي شرحه:

النظر في المقصد الأول

[2/ 265] النظر في المقصد الأول المتكلم: النصوص التي نوافق على بطلان ظواهرها لا نسلِّم أنها في تلك المعاني صريحةٌ صراحةً مطلقةً أو ظاهرةٌ ظهورًا مطلقًا، كيف والقرينة قائمة على صرفها عنها، وهي العقل والإشارات التي ذُكرت في المقصد الثالث؟ الناقد: أما العقل، فقد زعم ابن سينا - كما مرَّ - أن عقول الجمهور ومنهم المخاطبون الأولون موافِقةٌ لتلك المعاني، فإن منعتَ هذا فنؤجل البحث فيه إلى المقصد الرابع، وإن سلَّمتَه بطلت دعواك هنا؛ فإن قانون الكلام أن تكون القرينة كاسمها مقترنة بالخطاب في ذهن المخاطَب أو بحيث إذا تدبَّرَ عرَفَها وعرَفَ صَرْفَها عن الظاهر؛ إذ المقصود من نصب القرينة أن يكون الخبر صدقًا من حقِّه أن لا يفهم المخاطَب منه خلافَ الواقع ما لم يقصِّر. وإذا كانت عقول الجمهور - ومنهم المخاطبون الأولون - توافق تلك الظواهر، وتجزم بوجوبها عقلًا أو جوازها، أو لا تشعر بامتناعها؛ فكيف يُعتَدُّ عليهم بما قد يدركه المتعمِّق في النظر بعد جهد جهيد؟ مع العلم بأنهم لم يعرفوا التعمق في النظر، ولا خالطوا متعمِّقًا؛ بل نهاهم الشرع عن ذلك. وهل هذا إلا كما لو غزا جماعة إلى أرض بعيدة، ثم عادوا بعد مدة دون واحد، فسُئلوا عنه، فأَخبروا بأنه قُتِلَ، فحزن أهلُه، ثم قسموا تركته، واعتدَّتْ نساؤه، وتزوجن، إلى غير ذلك. ثم قدم رجل، فزعم أنه رأى ذلك الذي قيل: إنه قُتِل، رآه بعد خبر القتل بمدة في الثغر حيًّا صحيحًا. فافرِضْ أنه ذُكِر ذلك للمخبِرين بالقتل، فصدَّقوا هذا المخبِر الأخير، واعتذروا عن إخبارهم

بالقتل بأنهم أرادوا بذاك الخبر خلاف ظاهره، فقيل لهم: فهلَّا نصبتم قرينة؟ فقالوا: كان الرجل حال خبرنا حيًّا صحيحًا سالمًا، وكفى بذلك قرينة. فهل يقبل منهم هذا العذر؟ أوَلا يردُّه عليهم العقلاءُ قائلين: ذاك لو كانت حياته وصحته وسلامته بحيث يدركها المخاطبون - وهم أهله - عند إخباركم لهم. فأما وهم لا يعلمون ذلك ولا يدركونه لبعده عنهم بمراحل كثيرة، فليس هذا بقرينة؛ إذ [2/ 266] ليس من شأن العلم به أن يقترن عند المخاطب بالخطاب، فيصرفَه عن فهم الظاهر (¬1). وأما تلك الإشارات، ففي المقصد الثالث أنها ليست بالبينة، فإذًا لا تصلح أن تكون صارفة عن معاني النصوص الكثيرة الظاهرة أو الصريحة الموافقة لعقول المخاطبين. بل يكون الأمر بالعكس، وهو أن عقولهم وتلك النصوص الكثيرة تَصْرف عما قد يظهر من تلك الإشارات. فإن كنت تزعم أن تلك الإشارات صريحة، فنؤجل الكلام إلى المقصد الثالث. المتكلم: إنما يصح الأخذ بظاهر الخبر إذا عُلِمَ أن ذلك الأمر المخبَر بوقوعه غيرُ ممتنع عقلًا، فأما إذا احتمل أن يكون ممتنعًا عقلًا فإنه يجب التوقف، ويكون هذا الاحتمال قرينةً تُدافع ظاهر الخبر، فتوجب التوقف فيه. الناقد: في المقصد الرابع أن معاني تلك النصوص كانت موافقة لعقول المخاطبين، فإن سلَّمتَ ذلك سقط كلامك هنا؛ لثبوت أنها لم تكن عندهم ¬

_ (¬1) وفي "صحيح مسلم" [1653] وغيره حديث "يمينُك على ما يصدِّقك به صاحبُك". وهذا صريح في أن إضمار المتكلم في نفسه معنى غيرَ المعنى الذي حقُّه أن يفهمه المخاطبُ لا يغني عن المتكلم شيئًا، إذا كان المعنى الذي حقُه أن يفهمه المخاطبُ غير واقع. [المؤلف].

محتملة للامتناع. فعلى فرض أن احتمال الامتناع يُعَدُّ قرينةً فلم يكن حاصلًا لهم، فكيف يُعتَدُّ عليهم به؟ وقد مرَّ الكلام في هذا. وإن لم يُسَلَّم فينظر فيه في المقصد الرابع. المتكلم: لم يكن القوم ماهرين في علوم المعقول، فلا يُعتدُّ بإدراك عقولهم الوجوبَ أو الجواز، بل يبقى الحكم في حقهم الاحتمال. فإن لم يشعروا بقصورهم القاضي عليهم بالتوقف فقد قصَّروا. السلفي: كيف لا تَعتدُّ بعقولهم، وقد اعتدَّ بها ربُّ العالمين، فأرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، وأمرهم بالنظر والتفكر والاعتبار والتدبر، وقبِلَ إيمانَ من آمن منهم وأثنى عليه، ونقَمَ كفرَ من كفر منهم، وعاقبه عليه؟! وقد مرَّ في صدر هذه الرسالة ما فيه كفاية. المتكلم: فدع هذا, ولكن لي نظرٌ في دعوى أن عقولهم كانت موافقة لتلك المعاني. الناقد: فيأتي الكلام في المقصد الرابع. [2/ 267] السلفي: هَبْ أن تلك المعاني كانت محتملة في عقول القوم، أي أنهم لا يدركون وجوبها ولا امتناعها, ولا تقطع عقولهم بجوازها، فدعواك أن احتمال الامتناع عقلًا قرينةٌ توجب التوقف في ظاهر الخبر = دعوى باطلة عقلًا وشرعًا وعملًا. أما العقل، فإنه يقتضي قبول ظاهر الخبر إذا كان المخبِر ثقةً أمينًا لا يُخشى منه الكذب ولا التلبيس، إذ الغالبُ صدقُه، والغالبُ في الأخذ به حفظُ المصلحة واتقاء المفسدة. ولا يفرِّق العقلُ في هذا بين ما يقطع

المخاطبُ بجوازه وما لا يقطع, لأن خبر الثقة الأمين غالبٌ صدقُه في الحالين، وحفظُ المصلحة غالبٌ في الأخذ بظاهر خبره في النوعين. فأما إذا ثبت عقلًا أن المخبِر معصوم عن الجهل والغلط وعن الكذب والتلبيس، فوجوبُ قبول خبره بغاية الوضوح، بل إذا قطَع عقلُ المخاطب بعصمة المخبر عما ذُكِر، وقطَعَ بأن ظاهر خبره هذا هو المعنى، وبأنه لا قرينة صحيحة تَصرِف عنه = فإنه يقطع عقلُه بوقوع ذاك المعنى، وإن كان قبل ذلك يجوِّز امتناعه عقلًا. وأما الشرع فظاهر، فقد طالب الأنبياءُ الناسَ أن يصدِّقوهم فيما يُخبرون به عن ربهم، وأن يوقنوا له بذلك (¬1)، وقضَوا بإيمان المصدِّق الموقِن ووالَوه، وبكفر الممتنع عن التصديق وعادَوه، مع أن مما أخبروا به وطالبوا الناس بالإيقان به ما كانت عقولُ المخاطبين تستبعده، وعقولُ الفلاسفة وبعضِ المتكلمين تُصوِّب ذاك الاستبعاد، وذلك كحشر الأجساد. بل مما أخبر به الأنبياءُ وطالبوا الناسَ بالإيقان به ما تزعم الفلاسفة أنه ممتنع عقلاً، ووافقهم المتكلِّمون على ما وافقوهم من ذلك. وأما العمل، فلا يخفى على من تصفَّح أحوال الناس أنهم كانوا ولا يزالون ولن يزالوا يعتمدون على خبر الثقة الأمين فيما يقطعون فيه بعدم الامتناع وفيما لا يقطعون. واعتبِرْ ذلك بأخذهم بأخبار علماء الحساب والهندسة والمساحة ونحو ذلك من العلوم العقلية، وهكذا العقائد، فإن الناس يأخذونها من علمائهم تقليدًا في كثير منها، ويرضى منهم علماؤهم بذلك ويحضُّونهم عليه. ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولعل "له" مقحمة، والسياق مستقيم بدونها.

هذا، والخبرُ بوقوع الأمر يتضمَّن قطعًا الخبرَ بعدم امتناعه، فكأن المخبِر أخبرَ بعدم الامتناع، واحتجَّ بمشاهدته الوقوع. ولو وجب أن يُتوقَّف عن قبولِ ظاهرِ خبرِ الثقة الأمين في مثل هذا لوجب مثلُه فيما عُلِم جوازُه عقلاً؛ لأن جوازه لا يقتضي وقوعه، وما لم يقع فالحكم بوقوعه ممتنع. [2/ 268] وتفسير هذا أنه إن كان ينبغي التوقف عن حمل الخبر على ظاهره فيما إذا احتمل أن يكون ذاك الظاهر ممتنعًا لذاته، فكذلك فيما إذا احتمل أن يكون ممتنعًا لثبوت نقيضه، حتى لو كنتَ قد علمتَ أن زيدًا في بيته فأَخبر بأنه خرج منه، فإن خروجه ذلك يحتمل أن يكون ممتنعًا عقلاً لثبوت نقيضه؛ إذ يحتمل أنه لم يخرج من بيته بعد أن عهدته فيه، وإذا كان لم يخرج، فمن الممتنع عقلًا أن يكون خرج. المتكلم: إنما فرَّقنا بين النوعين لأنه قد يحتمل في الأول أن يقوم بعد وقت الخطاب - ولو بمدة طويلة - دليلٌ على أن ذاك الظاهر ممتنع عقلًا، فيجب حينئذ صرفُ الخبر عن ظاهره، أو الاعترافُ بأن المتكلم به غير معصوم. السلفي: إن ساغ هذا الاحتمال في الأول ساغ في الثاني، فيحتمل فيما أخبر النصُّ بأنه وقع أو سيقع في وقت كذا أن يقوم فيما يأتي دليل على خلاف ذلك. فليس هناك إلا سبيلان: الأولى: سبيل المؤمنين أنه يستحيل عقلًا أن يكون [من] المتكلم بالقرآن أو من النبيِّ عليه الصلاة والسلام فيما يخبر به عن ربه جهلٌ أو غلطٌ أو كذبٌ أو تلبيسٌ. ففرضُ أن يقوم دليل قاطع على خلاف الثابت قطعًا، الصريح قطعًا، أو الظاهر قطعًا ولا قرينة معه قطعًا= فرضٌ للمستحيل.

الثانية: سبيل ابن سينا ومن وافقه من تجويز الجهل والغلط، أو الكذب والتلبيس. {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]. المتكلم: وهل كلامنا إلا في القطع؟ فهَبْ أن احتمال الامتناع العقلي لا يصلح أن يكون قرينة، فمن أين يأتي القطع؟ ومن المحتمل أن يخطئ الناظر فيعتقد أن الحديث ثابت، وليس بثابت؛ أو يعتقد صراحة الآية أو الحديث الثابت فيما فهمه، وليس كذلك؛ أو يعتقد ظهور ما ليس بظاهر؛ أو يعتقد انتفاء القرينة وهناك قرينة غفل عنها. السلفي: سيأتي إثباتُ حصول القطع في الكلام مع الرازي والعضد. فأما الخطأ، فالخطأ في هذا الباب إنما يكون في الظن، وليس كالنظر العقلي المتعمِّق الذي يكثر فيه الغموض والاشتباه والقطع بالباطل، كما مرَّ في الباب الأول. والنظرُ في النصوص على وجه [2/ 269] الإيمانِ بها والتسليمِ لها اهتداءٌ يحبُّه الله تبارك وتعالى {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17]. والنظرُ في الشبهات التعمقيَّة على وجه الوثوقِ بها وتقديمِها على النصوص زيغٌ عن سبيل الله. {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف: 5]. ومن الواضح أن المهتدي أهل أن يعفى عن خطائه بخلاف الزائغ. وفوق ذلك، فكلامنا هنا إجمالي، فتتبعوا إن شئتم التفصيل، فبيَّنوا على طريق المأخذين السلفيين خطأ من أخطأ منا إن استطعتم. فأما تعمُّقكم، فقد

أثبتنا أنه ليس بحجة في الدين، فلا علينا أن لا نلتفت إليه. فإن رضيتم بما عندكم، فنحن بما عندنا أرضى {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [الشورى: 15 - 16]. ****

المقصد الثاني

المقصد الثاني المتكلم: لا أسلِّم أن فيما أزعم بطلانَ ظاهره من النصوص المتعلقة بالعقائد ما هو من الصراحة بحيث يدفع احتمال الاستعارة والمجاز ونحو ذلك، ويأبى أن يكون المراد به إلا ظاهره، بل أقول: يمتنع أن يكون في النصوص المتعلقة بالمعقولات ما هو كذلك. السلفي: النصوص كلام، ومعلوم أن الكلام كثيرًا ما يكون صريحًا بنظمه، أو بسياقه، أو بتأكيده، أو بتكراره في مواضع كثيرة على وتيرة واحدة، أو بالنظر إلى نظائره، أو إلى حال المخاطب التي يعلمها المتكلم - إلى غير ذلك. وهكذا حال النصوص، وهي بحمد الله تعالى معروفة، وأمرها أوضح من أن يحتاج إلى بيانه، وليس هذا موضع التفصيل. والتفرقة بين المعقولات وغيرها مبنية على شبهة قد مرَّ إبطالُها، على أن الظهور وحده قد يكفي للقطع كما تقدم. وسيأتي في الكلام مع الرازي وغيره مزيدٌ إن شاء الله تعالى. ****

المقصد الثالث

[2/ 270] المقصد الثالث المتكلم: كيف تكون تلك الإشارات غير بينة، وفيها قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] , واسمه تعالى "الواحد"، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} السورة؟ السلفي: أما قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فمثل الشيء في لغة العرب: نظيره الذي يقوم مقامه ويسدُّ مسدَّه. وعند أكثر المتكلمين: مشاركة في جميع الصفات النفسية. وعند أكثر المعتزلة: مشاركة في أخصِّ وصف النفس. وقال قدماء المتكلمين كما في "المواقف" (¬1): "ذاته تعالى مماثلة لسائر الذوات، وإنما تمتاز عن سائر الذوات بأحوال أربعة: الوجوب، والحياة [التامة] (¬2)، والعلم التام، والقدرة التامة ... ". قال السيِّد في "شرحه" (¬3): "قالوا ولا يرِدُ علينا قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} , لأن المماثلة المنفية ها هنا المشاركة في أخصِّ صفات النفس، دون المشاركة في الذات والحقيقة". وقال النجَّار: مثلُ الشيء مشارِكُه في صفة إثبات، وليس أحدهما بالثاني. وألزموه: "مماثلة الرب للمربوب إذ يشتركان في بعض الصفات الثبوتية كالعالمية والقادرية". كذا في "المواقف" و"شرحها" (¬4)، وفيها بعد ¬

_ (¬1) (ص 269). (¬2) الزيادة من المؤلف. (¬3) (8/ 15). (¬4) (4/ 67، 68).

ذلك (¬1): "هل يسمَّى المتخالفان المتشاركان في بعض الصفات النفسية أو غيرها مثلينِ باعتبار ما اشتركا فيه؟ لهم فيه تردد وخلاف، ويرجع إلى مجرد الاصطلاح ... وعليه ... يحمل قول النجار ... فالله مماثل عنده للحوادث في وجوده عقلًا، أي بحسب المعنى؛ والنزاع في الإطلاق ... ". أقول: وليس في النصوص التي ينكر المتكلمون معانيها ما يظهر منه إثباتُ مناظرة على الإطلاق بين الله عزَّ وجلَّ وغيره، ولا مشاركة في جميع الصفات النفسية، ولا في أخصِّ وصف النفس. فإذا حُملت المماثلة المنفية في الآية على واحد من هذه المعاني، فليس بين الآية وبين شيء من المعاني الظاهرة لتلك النصوص منافاةٌ ما. فأما المماثلة في بعض الصفات دون بعض، فقد علمتَ أن المتكلمين يثبتونها في الجملة. ولذلك ذكر الفخر الرازي (¬2) أنه لا يصلح حملُ الآية على ما ينفي ذلك. وأجاب الآلوسي (¬3) بقوله: [2/ 271] "من المعلوم البيِّن أن علم العباد وقدرتهم ليسا مثل علم الله عزَّ وجلَّ وقدرته جل وعلا، أي ليسا سادَّين مسدَّهما". أقول: قد تؤخذ المماثلة في مطلق العالمية والقادرية ونحو ذلك. فإن قيل: ذاك أمر لا يلتفت إليه، إذ ليس الواقع إلا قدرة ذاتية تامة لله عزَّ ¬

_ (¬1) (4/ 76). (¬2) في تفسيره "مفاتيح الغيب" (27/ 151). (¬3) "روح المعاني" (25/ 19).

تحقيق معنى الآية

وجلَّ، وقدرة مستفادة ناقصة للعبد، وهكذا. قلت: فهذا المعنى أيضًا غير منافٍ لشيء من تلك الظواهر. تحقيق معنى الآية مَن تتبَّع موارد استعمال نفي المثل في الكتاب والسنة وكلام البلغاء علم أنه إنما يراد به نفيُ المكافئ فيما يراد إثباتُه من فضل أو غيره. فمن ذلك: قولُ الشاعر (¬1): ليس كمثلِ الفتى زهيرٍ ... خَلْقٌ يُدانيه في الفضائلْ وقول الآخر (¬2): سعدَ بنَ زيدٍ إذا أبصرتَ جَمْعَهُمُ ... ما إنْ كمثلهِمُ في الناس مِن أحدِ وقال الله عزَّ وجلَّ: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء: 88]. وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ} [الفجر: 6 - 8]. أي - والله أعلم - في قوة الأجسام، كما يومئ ¬

_ (¬1) البيت في "الكشف والبيان" للثعلبي (8/ 306) و"الجنى الداني" (89) غير منسوب. وقد نسب في "البحر المحيط" (7/ 510) إلى أوس بن حجر، وتبعه ابن السمين في "الدر المصون" (9/ 545) وابن عادل في "اللباب" (17/ 174). والظاهر أنه وهم. والرواية: "خلق يوازيه". (¬2) البيت في "تفسير الطبري" - طبعة التركي (20/ 477) و"الكشف" (8/ 306) والمصادر المذكورة في الحاشية السابقة. والرواية: "أبصرتَ فضلهم".

إليه السياق وآيات أخرى. وقال سبحانه: {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [خاتمة سورة محمَّد] أي في التولِّي والبخل. وفي حديث أبي أمامة في "المسند" (¬1) وغيره أنه قال: يا رسول الله مُرْني بعمل. فقال: "عليك بالصوم فإنه لا مثلَ له". ودونك الآيات التي فيها {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ونظائرها: {حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ [2/ 272] يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ ¬

_ (¬1) قلت: هو في "المسند" (5/ 255 و258) من طريق مهدي بن ميمون، ثنا: محمَّد بن عبد الله بن أبي يعقوب الضبي، عن رجاء بن حيوة, عن أبي أمامة. ومن هذا الوجه أخرجه ابن حبان (929)، وهذا إسناد صحيح. رجاله ثقات رجال الشيخين، لكن رواه شعبة عن محمَّد هذا قال: سمعت أبا نصر الهلالي عن رجاء بن حيوة. أخرجه ابن حبان (930) والحاكم (1/ 421) وقال: "صحيح الإسناد وأبو نصر الهلالي هو حميد بن هلال العدوي". ووافقه الذهبي. كذا قالا، وأبو نصر هذا ليس هو حميد ابن هلال، بل هو رجل لا يدرى مَن هو كما قال الذهبي نفسه في "الميزان". وقال الحافظ في "التقريب": "مجهول". لكن ذكره في الإسناد شاذ، فقد رواه ثقتان آخران كما رواه مهدي بن ميمون بإسقاطه، وصرح بعضهم بسماع ابن أبي يعقوب من رجاء فهو إسناد متصل صحيح. وقد صححه الحافظ في "الفتح" كما بينته فيما علقته على "الترغيب والترهيب". [ن].

لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم} فواتح سورة الشورى [1 - 12]. ومن نظائر هذه الآيات في الجملة قوله تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الرعد: 16]. وقوله سبحانه: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ [2/ 273] أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس: 31 - 32]. وقوله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا

بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} [النمل: 59 - 60]. وقوله تبارك اسمه: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون: 84 - 92]. الآيات في هذه المواضع وأمثالها مسوقة لإقامة الحجة على المشركين الذين يتخذون من دون الله تعالى وبغير سلطان منه أولياء يعبدونهم، أي يخضعون لهم طلبًا للنفع الغيبي. فالقرآن يبيِّن أن مناط استحقاق العبادة أن يكون المعبود مالكًا للتدبير الغيبي، قادرًا مختارًا أن ينفع به ويضر كما يشاء، لا على وجه الطاعة منه لمن هو أعلى منه، ولا مفتقرًا إلى إذن خاص ممن هو أعلى منه. فإن هذا المالك هو الذي يكون خضوعُ مَن دونه له سببًا لأن ينفعه، وإعراضُه عنه مظنةً أن يضرَّه، فحينئذ يحق لمن دونه أن يخضع له. فأما من ليس كذلك فلا يمكن أن ينال من دونه منه نفع ولا ضر. نعم، إن الله عزَّ وجلَّ يأمر الملائكة بما يريد فيفعلونه، ويأذن لهم في الشفاعة لمن يحب فيشفعون. وهم كما قال تعالى: {عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا

يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 26 - 28]. فإذا أمرهم سبحانه بنفع عبد فعلوا ذلك طاعةً لربهم فقط، وإذا أذن لهم في الشفاعة شفعوا رغبةً في رضا ربهم. ولو فُرِض أنهم لم يشفعوا بعد الإذن فلم يأذن لهم ربهم إلا وقد [2/ 274] ارتضى الأمرَ الذي أذن لهم أن يشفعوا فيه، فهو كائن لا محالة وإن لم يشفعوا. وبهذا يتضح يقينًا أن سؤال العبد من الملائكة أو خضوعَه لهم عبثٌ من جهة، وسببٌ لغضب الله عزَّ وجلَّ على السائل، فتغضب الملائكة لغضب ربهم من جهة أخرى. ولو كان الملائكة يتصرفون بأهوائهم لاختلفوا، إذ قد يهوى هذا نصرَ أحد الجيشَين المقتتلين، ويهوى الآخر نصرَ الجيش الآخر، فيعمل كلٌّ منهما بحسب هواه، ويبذل جهده في التصرف بكل ما يمكنه. هذا مع عِظَم قوة الملائكة وقدرتهم، فتختلُّ الأمور، ويفسُد النظام. قال الله عزَّ وجلَّ: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]. وقال تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71]. ولما أذن الله عزَّ وجلَّ للبشر إذنًا قدريًّا عامًّا في عمل ما يريدون - لأن مقصود التكليف لا يتم في حقِّهم إلا بذلك - جعل قدرتهم محدودة، فيقع من الفساد ما يناسب قدرتهم، كما هو مشاهد. وكلما زادت قدرتهم بواسطة الآلات والمخترعات زاد الفساد، كما تراه في هذا العصر. ولولا أنَّ الله عزَّ وجلَّ يكفكف شدةَ ذلك بقدره لكان الفساد أعظم. قال تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة: 251]. وإن كان الله عزَّ وجلَّ يأذن لأرواح الصالحين الموتى بأمر يتعلق

بالأحياء، فلن يكون حال الأرواح إلا كحال الملائكة سواء. بل الأرواح أولى بأن لا يؤذن لها في التصرُّف (¬1) [2/ 275] بأهوائها، فإنها في غير دار ¬

_ (¬1) علَّق عليه الشيخ محمَّد عبد الرزاق حمزة بقوله: "والحق أن الأرواح بعد [الموت] في قبضة الواحد القهار لا تصرف لهم في شؤون الأحياء، بل قد انقطع عملهم كما في الحديث: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له". وهذه الثلاثة الباقية له بعد موته هي آثار أعماله في الحياة قبل موته، فليست عملًا له بعد الموت. وقال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}. فالذي مات أُمسك في قبضة القهار، بخلاف الحي الذي أُرسل إلى أجل مسمى. وما فتح الشرك على من أشركوا بالأموات والصالحين إلا اعتقادهم فيهم أنهم يفعلون بعد موتهم مثل ما كانوا يفعلون في حياتهم أو أشد وأقوى على سبيل الكرامة بزعمهم، فتوكلوا على الأموات وعبدوهم، ونسوا الحيَّ القيوم فلم يتَّكلوا عليه ولم يخلصوا له العبادة, كما هو مشاهد من أحوال عباد القبور والمنتصرين لهم في شرق الأرض وغربها. والله المستعان" اهـ. وعقَّب عليه المؤلف قائلًا: "إنما فرضت الإذن للأرواح فرضًا، وأوضحت أنه على فرضه فلن يكون حالها إلا كحال الملائكة، في أن تصرفها إنما يكون تنفيذًا لما يأمر الله عزَّ وجلَّ، وكما أن ثبوت ذاك التصرف للملائكة لا شبهة فيه لمن يعبدهم فكذلك الأرواح. وهذا واضح جدًّا وهو أقطع للنزاع مِن بسط الكلام في نفي التصرف البتة. وفي "كتاب الروح" لابن القيم ما يؤخذ منه أنه يثبت للأرواح تصرفًا في الجملة، وسمعت بعض الإخوان يستعظم ذلك، كأنه يرى أن ذلك يروِّج شبهةَ دعاة الموتى. ولا أشك أن هذا لم يغب عن ذهن ابن القيم، ولكنه يعلم أن الشبهة إنما تروج إذا أثبتنا للأرواح تصرفًا بأهوائها، فاما ما كان من قبيل تصرف الملائكة فلا. وما ذكره الشيخ من انقطاع العمل حق، لكن لابن القيم أن يقول: قد تحب الأرواح أن تعمل عملًا في طاعة الله عزَّ وجلَّ تلذذًا بالطاعة كصلاة الأنبياء ليلة الإسراء ونحو ذلك، =

تكليف لا تخشى عقوبةً على ما يقع منها، بخلاف الملائكة. وبعض المسلمين يتردد في عصمة بعض الملائكة. والقائلون بالعصمة يقولون بالتكليف مع شدة الخشية، كما تقدم في بعض الآيات السابقة. والمشركون الذين يزعمون أن الملائكة يتصرفون بأهوائهم، يزعمون أنهم غير معصومين، بل يجعلون حالهم كحال البشر مع عظم القدرة. ويقولون: كما أن للإنسان أن يسأل إنسانًا آخر أغنى أو أقدر منه ويخضع له، فكذلك له أن يسأل الملائكة ويخضع لهم؛ لأنهم يعملون ما يشاؤون، ويشاؤون ما يهوون كالبشر، وقدرتُهم أعظم. وهذا الشرك يوجد في بعض مشركي الهند وغيرهم، وعليه كان أكثر الأمم المشركة. أما مشركو العرب فإنهم قلَّدوا غيرهم من الأمم في الشرك العملي فقط، كما تقدم في الآيات، إلا أنهم كانوا عندما يُسألون عن ذلك يتشبَّثون بالشفاعة فقط، مع تردُّد فيها. ولما حاجَّهم القرآن لم يبق بأيديهم إلا الشغب حتى أنقذهم الله عزَّ وجلَّ. وبالجملة فكان شركهم يكاد يكون عمليًّا فقط. وإذا تأملنا ما وقع فيه عامةُ المسلمين في القرون المتأخرة وجدناه أشدَّ جدًّا مما كان عليه مشركو العرب. فإنا لله وإنا إليه راجعون. وأما البشر الأحياء، فقدرتهم معروفة، ولا تكون لهم قدرة غير عادية. نعم، قد يتفق قدرة عادية غريبة، كما يقع لبعض المرتاضين والسحرة، وسيأتي الكلام فيها. فأما معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء فليست ¬

_ = فيكون ذاك التصرف في حقَّها من جملة النعيم تلتذُّ به نفسُه ولا تثاب عليه، وعلى كل حال فإنما فرضت فرضًا، ليس فيه أدنى متشبَّث لدعاة الموتى، فتدبر".

بقدرتهم ولا في ملكهم. قال الله عزَّ وجلَّ لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17]. وكان الصحابة إذا احتاجوا إلى نفع [2/ 276] غيبي إنما يسألون النبي صلى الله عليه وآله وسلم الدعاءَ كما في الاستسقاء، وقلة الأزواد في السفر، وغير ذلك؛ والدعاءُ داخل في المقدورات العادية كما لا يخفى. وكانوا إذا بعدوا عنه فاحتاجوا أن يراجعوه في شيء كتبوا إليه أو أرسلوا، على ما جرت به العادة. فإذا لم يمكن ذلك قال أحدهم: اللهم أخبِرْ عنَّا رسولَك، كما قال عاصم بن ثابت (¬1)، وجاء نحوه عن خبيب بن عدي (¬2). وما يُحكى عنه مما يخالف ذلك لا يثبت، ولو ثبتَ وجبَ حملُه على المعنى المعروف. ودعاؤهم مرجوُّ الإجابة، وليس ذلك بحَتْم. قال الله عزَّ وجلَّ لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56] وقال سبحانه: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [الأنعام: 35] والنصوص في هذا المعنى كثيرة. وأما الجن، فإنه مأذون لهم إذنًا قدريًّا عامًّا في الوسوسة لبني آدم، وذاك كالأمر الطبيعي لهم، إنما يُستدعَى بمعصية الله عزَّ وجلَّ والغفلة عن ذكره، ويُستدفَع بطاعته سبحانه والتعوذ به. فأما أن ينفعوا الناس أو يضرُّوهم، فلو ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3045، 3989، 4086) من حديث أبي هريرة في قصة عاصم بن ثابت وأصحابه. (¬2) انظر "سيرة ابن هشام" (2/ 173).

كان مأذونًا لهم فيه إذنًا قدريًّا عامًا يُشبِه الإذنَ للناس، لفسدت الدنيا. فإن كان قد يقع شيء من ذلك، فإنما يكون بإذن قدري خاص لا يُفسِد قواعد الدنيا. والإنسان لا يحتاج إلى الرغبة إليهم لتحصيل شيء من ذلك, لأن الله عزَّ وجلَّ قد أغنى الناس بالأسباب العادية، وبدعائه سبحانه. أوَ ليس أن تسأل المالكَ الحقيقيَّ القادرَ على كلِّ شيء أقربَ وأولى من أن تسأل جنيًّا على أمل أن يأذن له الله عزَّ وجلَّ إذنًا قدريًّا خاصًّا في فعل مطلوبك؟ فإن فُرِضَ أن إنسانًا رغب إلى الجن، فحصل له نفع، أو اندفع عنه ضرٌّ؛ فذلك بمنزلة من يتقرب إلى المشركين بالسجود لأصنامهم ونحوه، فإنهم قد ينفعونه. وليس ذلك بعذر له، بل الأمر أبعد؛ فإن المشركين مأذون لهم إذنًا قدريًّا عامًّا في النفع والضر على ما جرت به العادة. وحال السحر كحال الجن. قال الله عزَّ وجلَّ: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِن أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ [2/ 277] اللَّهِ} [البقرة: 102] أي - والله أعلم - إذنًا قدريًّا خاصًّا، وإنما يقع ذلك نادرًا. نعم، قد يُعَدُّ من السحر ما هو مبني على سبب عادي غريب، كالتنويم المغناطيسي، وما يقع لبعض المرتاضين من التأثير بالهمة، فيحسبه الجاهل كرامة. هذا، وإذا أمر الله عزَّ وجلَّ بطاعة أحدٍ، أو الخضوعِ له، أو بفعلٍ هو في الصورة خضوعٌ له؛ ففعَلَ المأمورُ ذلك طلبًا للنفع الغيبي من الله عزَّ وجلَّ = فهذه عبادة لله عزَّ وجلَّ. وهذا كسجود الملائكة لآدم. وهكذا تعظيم المسلمين لحرمات الله عزَّ وجلَّ، كاستقبالِ الكعبة، والطوافِ بها، وتقبيلِ الحجر الأسود، وغير ذلك مما أمرهم الله به، ففعلوه طاعةً لله غيرَ مجاوزين ما حدَّه لهم. وكذلك توقيرُ النبي، وإكرامُ الأبوين وأهلِ العلم والصلاح،

بدون مجاوزة ما حدَّه الله تعالى من ذلك. والحاصل أن الخضوع طلبًا للنفع الغيبي عبادة. فإن كان عن أمرٍ من الله تعالى ثابتٍ بسلطان، فهو عبادة له سبحانه، ولو كان في الصورة لغيره كالكعبة؛ وإلا فهو عبادةٌ لغيره. ويتعلق بهذا الباب مباحث عديدة قد بسطتُ الكلام عليها في كتاب "العبادة" (¬1)، وإنما ذكرتُ هنا شذرةً منه. وأصل المقصود هنا تفسير الآية، فأقول: إن القرآن يذكر التدبير الغيبي جملةً، أو يذكر بعض أنواعه تفصيلًا، ويبيِّن أن المالك له القادر عليه المختار فيه، بدون توقُّفٍ على أمرِ آمرٍ أو إذنِ آذنٍ أو تسليطِ مسلِّطٍ، هو الله وحده لا شريك له، وأن ذلك هو مناط استحقاق العبادة. فإذا كان سبحانه هو المتفرد بذلك، فهو المتفرد باستحقاق العبادة. فتدبَّر الآيات المتقدمة تجدها على ما وصفت. وتدبَّر آيات الشورى التي فيها {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] تجدها من هذا القبيل. فإذا كان الأمر هكذا فالظاهر أن المراد بقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} نفيُ [2/ 278] المثل فيما ذُكر فى السياق من أنه تعالى يحيي الموتى، وأنه على كل شيء قدير، وأن إليه الحكم، وأنه فاطر السماوات والأرض، إلى غير ذلك. وجِماعُ ذلك كلِّه ملكُ التدبيرِ الغيبيِّ، والقدرة عليه، والاختيار فيه، على ما تقدم وصفه. والمقصود بذلك إثبات أنه لا إله إلا الله. ¬

_ (¬1) كتاب من تأليفي استقرأتُ فيه الآيات القرآنية ودلائل السنة والسيرة والتاريخ وغيرها لتحقيق ما هي العبادة، ثم تحقيق ما هو عبادة لله تعالى مما هو عبادة لغيره. يسَّر الله نشره. [المؤلف].

وهَبْ أنه يسوغُ حملُ قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} على ما يخالف تلك الظواهر التي يفِرُّ منها المتكلمون، فهو احتمال مرجوح. وهَبْه مساويًا أو راجحًا، فهل يصح أن يُعتدَّ بها قرينةً تَصرِف عن ظواهر تلك النصوص التي لا تحصى، منها الظاهر البيِّن، ومنها الصريح الواضح، ومنها المؤكَّد المثبت، ومعها عقل المخاطبين الأولين من الصحابة وغيرهم وجمهور الناس؟ وهل هذا إلا قلبٌ للمعقول الواضح؟ هذا، والقائلون إن ذات الله تعالى مجرَّدة أكثرهم يُثبتون أو يجوِّزون وجودَ ذوات كثيرة مجردة من عقول ونفوس وأرواح غيرها! فليتدبر مَن له عقلٌ: أليسوا أولى بزعمِ أن لله عزَّ وجلَّ مثلًا بل أمثالًا ممن لا يقول بالتجرد المحض الذي يزعمونه؟ فإن الذوات المخلوقة غيرَ المجردة تتفاوت تفاوتًا عظيمًا جدًّا، فما الظنُّ بذات الخالق تبارك وتعالى؟ فأما المجردة على فرض وجودها، فكيف يُعقل التفاوت العظيم بينها حتى تكون هذه ذات رب العالمين، وهذه ذات روح بعوضة؟ وما قيل إن التجرد أمر عدمي لا يدفع ذلك، على أنه عندهم براءة لأمر وجودي احتيج إليه؛ لأنه ليس في اللغات لفظ يدل على ذاك المعنى, لأن اللغات تابعة للعقول الفطرية، والعقولُ الفطرية لا تَعقل وجودَ ذات مجردة ذاك التجرد، وإنما تعبِّر عن ذاك المعنى بقولها: "معدوم" (¬1). قال السلفي: وأقتصر من النظر في تلك الآية على ما ذكرت راجيًا أن يكون فيه الكفاية لمن لم يستحوذ عليه الهوى. فأما من خُتِم على قلبه فلا مطمع فيه. والله الموفق. ¬

_ (¬1) يأتي لهذا مزيد في مسألة الجهة. [المؤلف].

وأما اسم الله تعالى "الواحد"، فلفظ "واحد" يراد به في اللغة ما يقابل المتعدد، ومن تتبع مواقعه في القرآن وغيره من الكلام العربي الفصيح وجده يأتي وصفًا لموصوف، ويكون هناك شيء محكوم عليه بالموصوف مع وصفه، فعدم التعدد يكون للمحكوم عليه باعتبار [2/ 279] الموصوف. قال الله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً} [البقرة: 213] حكم على الناس فيما كانوا عليه بقوله "أمة واحدة"، فعدم التعدد ثابت للناس باعتبار "أمة"، أي لم يكونوا أمتين أو أكثر. وقد يُصرَّح في الكلام بالمحكوم عليه وبالموصوف كما رأيت، وقد يُطوى ذكرُ أحدهما، فيُعرف بالتدبر. ولا أطيل بأمثلة ذلك. وعلى كل حال، فإنه يأتي على أحد معنيين: الأول: نفي التعدد في المحكوم عليه نفسه كالمثال السابق، نفَى أن يكون الناس كانوا أمتين أو أكثر. المعنى الثاني: نفي أن يكون مع المحكوم عليه مثلُه أو مثلاه أو أمثاله باعتبار الموصوف، فيكون المجموع متعددًا. ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [البقرة: 163] أي: ليس معه إله آخر أو أكثر فيكون المجموع متعددًا. ومن هذا الثاني قولهم: فلان واحد في فنه، أو واحد زمانه، أي: لا نظير له في ذلك. إذا تقرر هذا فلنذكر الآيات التي ورد فيها هذا الاسم. قال تعالى فيما قصَّه عن يوسف عليه السلام: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا} [يوسف: 39 - 40]

وقال عزَّ وجلَّ: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الرعد: 16]. وقال سبحانه: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51) هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} خواتيم سورة إبراهيم. [2/ 280] وقال تبارك وتعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} [ص: 65 - 66]. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الزمر: 3 - 4]. وقال سبحانه: {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 16]. هكذا جاء هذان الاسمان الكريمان "الواحد القهار" في القرآن مقترنين معرَّفَيْن في المواضع كلها، وكلُّ ذلك في سياق إقامة الحجة على المشركين

في الألوهية الزاعمين أن لله شركاء في استحقاق العبادة. فالكلام جارٍ على المعنى الثاني، وهو نفي التعدد الحاصل بوجود مثلِه معه في الربوبية وما يقتضي استحقاق العبادة. وسياق الآيات واضح جدًّا في ذلك، وإنما ادعى بعضُهم المعنى الأول في آية (الزمر) فقال: إن إمكانَ أن يكون له ولد يستدعي التركيب والانفصال، والوحدةَ تنافي التركيب. والتركيب الذي يريده الفلاسفة والمتكلمون ليس من التعدد الذي تعقله العقول الفطرية في شيء. و"الواحد" بالمعنى الثاني ينفي الولد بدون تكلُّف، فإنه لو كان له سبحانه ولد لكان نظيرًا له في القدرة وغيرها، فيكون ربًّا مستحقًّا للعبادة. وقد قال تعالى: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 92 - 93]. وقال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [البقرة: 116]. وقال سبحانه: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26]. فحصل المقصود مع بقاء الاسم "الواحد" على معناه المعروف الموافق لسائر الآيات. [2/ 281] هذا, ولما كان الاسم "الواحد" إنما هو صريح في نفي النظير في الربوبية وما يقتضي استحقاق العبادة، وليس بالصريح في نفي المشارك في ذلك مشاركةً تقتضي استحقاق العبادة في الجملة= أردف في الآيات

كلِّها بالاسم "القهار" ليتمِّم المعنى المقصود، وجاء الاسمان معرَّفين لأن ذلك معروف مسلَّم عند المشركين، كما يوضحه الآيات الأخرى التي تقدم ذكرُ بعضها في الكلام على قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، والله الموفق. وأما سورة الإخلاص، ففي "صحيح البخاري" (¬1) وغيره من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "قال الله تعالى: كذَّبني ابنُ آدم، ولم يكن له ذلك. فأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني ... وأمَّا شتمُه إياي فقوله: اتخذ الله ولدًا، وأنا الأحد الصمد، لم ألد ولم أولد، ولم يكن لي كفؤا أحد". وفي رواية (¬2): "وأنا الصمد الذي لم ألد ... ". وقال الترمذي (¬3): "حدثنا أحمد بن منيع، حدثنا أبو سعد - هو الصاغاني -, عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أُبيّ بن كعب أن المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: انسُبْ لنا ربك. فأنزل الله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ}، فالصمد: الذي لم يلد ولم يولد, لأنه ليس شيء يولد إلا سيموت، ولا شيء يموت إلا سيورث، وإن الله عزَّ وجلَّ لا يموت ولا يورث. {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} قال: لم يكن له شبيه ولا عدل، وليس كمثله شيء". ¬

_ (¬1) رقم (4974). (¬2) البخاري (4975). (¬3) رقم (3364). وأخرجه أيضًا أحمد (21219). وإسناده ضعيف، وسيأتي الكلام عليه.

ثم قال الترمذي (¬1): "حدثنا عبد بن حميد، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع، عن أبي العالية أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكر آلهتهم، فقالوا: انسُبْ لنا ربَّك. فأتاه جبريل بهذه السورة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فذكر نحوه، ولم يذكر فيه عن أبي بن كعب، وهذا أصحُّ من حديث أبي سعد". [2/ 282] أقول: أبو سعد قال فيه الإمام أحمد: "صدوق، ولكن كان مرجئًا"، وقال أبو زرعة: "كان مرجئًا ولم يكن يكذب". وضعَّفه الباقون، قال ابن معين في رواية: "ضعيف"، وفي أخرى: "كان جهميًّا وليس هو بشيء"، وفي ثالثة: "صاحب ابن أبي دؤاد كان ها هنا وليس هو بشيء"، وفي رابعة: "جهمي خبيث". وقال البخاري في موضع: "فيه اضطراب"، وفي آخر: "هو متروك الحديث"، وفي ثالث: "ليس بثقة ولا مأمون". لكن لم ينفرد أبو سعد بوصل الحديث، فقد أخرج الحاكم في "المستدرك" (ج 2 ص 540): "أخبرنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ وأبو جعفر محمد بن علي قالا: ثنا الحسين بن الفضل، ثنا محمد بن سابق، ثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن المشركين قالوا: يا محمد، انسُبْ لنا ربَّك، فأنزل الله عزَّ وجلَّ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ}. قال: الصمد: الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤًا أحد ... " بمثل حديث أبي سعد. ومحمد بن سابق ثقة جليل إلا أن في ضبطه شيئًا حتى قال أبو حاتم: "يُكتَب حديثه ولا ¬

_ (¬1) رقم (3365).

يُحتَجُّ به". وقد صحح ابن خزيمة (¬1) والحاكم هذا الحديث (¬2). وأخرج ابن جرير (¬3) من طريق إسماعيل بن مجالد، عن أبيه، عن الشعبي، عن جابر قال: "قال المشركون: انسُبْ لنا ربك، فأنزل الله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ". وأخرج عن قتادة (¬4) قال: "جاء ناس من اليهود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: انسُبْ لنا ربك، فنزلت ... ". وعن سعيد بن جبير (¬5) نحوه مطولًا. وعن عكرمة (¬6): أن المشركين قالوا: يا رسول الله أخبِرْنا عن ربَّك، صِفْ لنا ربَّك، ما هو؟ ومن أي شيء هو؟ فأنزل الله تعالى {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ". والذي يصح في الباب حديث البخاري، ثم يليه حديث أبي العالية، وقد شهد له حديث جابر، وسنده صالح للمتابعة. [2/ 283] وحديث البخاري يدل على أن أشدَّ ما كان المشركون يعتَدُون فيه في حق الله تبارك وتعالى هو شكُّهم في قدرته على البعث، وقد أخبَرَ به، ونسبتُهم إليه الولد. والقرآنُ يؤيد ذلك، فإنه كرَّر تثبيتَ البعث ونفيَ الولد في مواضع كثيرة. ¬

_ (¬1) في كتاب "التوحيد" (45). (¬2) قلت: وكذا صححه الذهبي في "تلخيص المستدرك" وفيه بُعد؛ لأن أبا جعفر الرازي فيه ضعف كما سبق بيانه في التعليق على حديث القنوت في الفجر ج 1 ص 147. لكن حديث جابر الآتي بعده يشهد له في الجملة. [ن]. (¬3) في "التفسير" (24/ 728). (¬4) المصدر نفسه (24/ 729). (¬5) المصدر نفسه (24/ 728، 729). (¬6) المصدر نفسه (24/ 728).

فأما شركهم في الألوهية، فكان عندهم مرتبطًا بدعوى الولد، كما هو بيِّنٌ من عدة آيات. وقد أوضحتُ ذلك في كتاب "العبادة". وتبيَّن لي أن أولَ ما سرى إلى العرب نسبةُ الولد إليه تعالى كانوا يقولون: الملائكة بنات الله، على معنى أنهم مقرَّبون إليه. ولم يقولوا: أبناء الله، خشية إيهام أن يكونوا نظراءه، فقالوا: بنات الله؛ لأن الإناث عندهم ضعيفات، وليس لهن ميراث من آبائهن. ثم طال الزمان فصار أخلافهم يقولون: بنات الله، ولا يحققون المعنى، ولم يكونوا يُثبتون أن لله عزَّ وجلَّ صاحبةً، ولذلك احتجَّ عليهم القرآن بقوله: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} [الأنعام: 101]، فدل هذا على أن انتفاء الصاحبة أمر مسلَّم. وفي قصة إسلام طلحة أنه جاء وجماعةٌ معه إلى أبي بكر، فقال: أدعوك إلى عبادة اللات والعزَّى، فقال أبو بكر: وما اللات والعزى؟ فقال طلحة: بنات الله. فقال أبو بكر: ومن أمهم؟ فأُسْكِتَ طلحة، ثم قال لأصحابه: أجيبوا الرجل، فأُسْكِتوا، فأسلم طلحة (¬1). فأما قول الله عزَّ وجلَّ: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} [الصافات: 158]، فالمراد بالجنة ها هنا: الملائكة، والمعنى أنهم جعلوا الملائكة بناتٍ له. وما روي أنهم كانوا يقولون: إن أمهاتهم بناتُ سَرَوات الجن (¬2)، لم يصح. ولو صحَّ لكان الظاهر أنهم اخترعوا هذا بعد قصة طلحة. واللات والعزى ومناة كانت عندهم أسماء لتلك الإناث التي زعموا أنها الملائكة وأنها بنات الله، ثم جعلوا لتلك الإناث تماثيل وسمَّوها بأسمائها، كما جرت به عادة ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" كما في "الدر المنثور" (13/ 206). (¬2) أخرجه الطبري في "تفسيره" (19/ 645) عن مجاهد. وانظر "الدر المنثور" (12/ 484).

المشركين في أصنامهم، بل عادة الناس جميعًا في إطلاقهم على التمثال والصورة اسمَ من يرون أن ذلك تمثال أو صورة له. وبهذا التحقيق يتضح معنى آيات النجم، وقد أوضحتُ ذلك في كتاب "العبادة" بما يُثلج الصدر. والحمد لله. [2/ 284] والمقصود هنا أن الذي يظهر من الآثار أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما صارح المشركين بإبطال قولهم في الإناث التي يجعلونها آلهة من دون الله، ويزعمون أنها الملائكة، وأنها بنات الله، ويمثلون التماثيل بأسمائها ويعظِّمونها تعظيمًا لها، وصارحهم بتنزيه الله عن الولد = قالوا: انسُبْ لنا ربك، طمعًا منهم أن يجيبهم بما يستخرجون منه شبهةً يشُدُّون بها قولهم، فأنزل الله تعالى هذه السورة. فأما تحقيق معناها، فلفظ "أحد" زعم ابن سينا ومن وافقه أنه الواحد من جميع الوجوه، المنزَّه "عن الجنس والفصل والمادة والصورة والأعراض والأبعاض والأعضاء والأشكال والألوان وسائر ما يثلم الوحدة الكاملة والبساطة الحقة". هذا ما نقلوه من عبارته المموهة. وهو ومن وافقه يوهمون أنهم إنما يجتهدون في تنزيه الله عزَّ وجلَّ، وهو في نفس الأمر بعيد عن ذلك، كما يُعلم من نفيهم صفاتِ الكمال عنه. وإنما غرضهم توجيه وجوب وجوده تعالى، أي وجوده من غير علة. وبعبارة أوضح في العقول الفطرية: توجيهُ وجوده من دون أن يُوجده موجِد. وذلك أن الفطرة والعقل قاضيان بأن الموجود من هذه الأشياء التي نراها لا بد له من موجِد، وأنه مهما كان لبعضها صانع منها، فإن فوقها جميعًا ربًّا هو الموجِد الحقيقي. ولكن كثيرًا من النفوس لا تَقنَع بهذا حتى تقول: فهذا الموجِد الحقيقي من أوجده؟ فإن قيل: لا موجد له. قالت: وكيف وُجد من غير موجِد؟

فإذا قيل: هذا السؤال إنما يأتي فيما ثبت أو جاز أنه لم يكن ثم كان. وذلك كأن تمرَّ ببقعة لا بيت فيها، ثم تمرَّ بها وفيها بيت. وكالشمس فإن العقول الفطرية حتى الساذجة تُجيز أن يخلق الله تعالى شمسًا أخرى غير هذه الشمس، وتجيز أن يكون قد مضى زمان لا شمس فيه، ثم خلق الله تعالى هذه الشمس. وهكذا سائر المخلوقات. وإنما قد تتوقف العقول الفطرية في بعض الأشياء التي لا ضيرَ في التوقف فيها من جهة العقل. وذلك كالفضاء والزمان، فإنهما إنْ كانا أمرين عدميين كما عليه المتكلمون فالأعدام أزلية، [2/ 285] وإن كانا وجوديين فلا يصلحان ولا واحد منهما أن يكون ربًّا أوجد هذه الموجودات. والمقصود أنه في مثل البيت والشمس يأتي ذاك السؤال فيقال: لم يكن موجودًا، فمَن أوجده؟ فأما الموجود الحق الذي ثبت أنه لم يزل، فلا يأتي في حقِّه ذاك السؤال أصلًا. = فقد لا تطمئنُّ النفس (¬1) لهذا حقَّ الاطمئنان. وقد نبه الشرع على هذا وعلى علاجه. ففي "الصحيحين" (¬2) وغيرهما من طرق عن أبي هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "يأتي الشيطانُ أحدَكم فيقول: مَن خلق كذا؟ مَن خلق كذا؟ حتى يقول: مَن خلق ربَّك؟ فإذا بلغه فَلْيستعِذْ بالله وَلْيَنْتَهِ" لفظ البخاري في "بدء الخلق". وفيهما (¬3) من حديث أنس: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لن يبرح الناس يتساءلون حتى يقولوا: هذا الله خالقُ كلِّ شيء، فمن خلَقَ ¬

_ (¬1) السياق: "فإذا قيل: هذا السؤال إنما يأتي ... فقد لا تطمئن النفس". (¬2) البخاري (3276) ومسلم (134/ 214). (¬3) البخاري (7296) ومسلم (136).

الله؟ " لفظ البخاري في "الاعتصام". وفي "مسند أحمد" (¬1) من حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نحو الأول، وفيه: "فإذا وجد أحدكم ذلك فليقل: آمنتُ بالله ورسوله، فإن ذلك يذهب عنه". فمن أيقن بما قدَّمناه أولَ الرسالة من مرتبة الشرع فزع إليه، فوجد الشفاء من تلك الوسوسة. ومن لم يفزع إليه وحاول الاكتفاء بذلك الجواب، وهو أن ذلك السؤال لا يرِدُ أصلًا، جاءه الشيطان من طريق أخرى، فقال: إن كان هذا الذي تقول: إنه الموجد الحقيقي أو إنه واجبُ الوجود شبيهًا بهذه المحسوسات، فحكمُه حكمُها، وإلا فماذا عساه أن يكون؟ [2/ 286] فإذا دفع ذلك بنفي المشابهة المقتضية للافتقار، وكفَّ نفسَه عن التفكّر في تلك الذات المقدسة بحجة أنه لم يرها, ولا رأى ما تكون من جنسه، وما كان هكذا فلا سبيل إلى تصوره، فالأكمه لا يتصور الألوان حتى إنه لا يحلُم في نومه بأنه أبصر شيئًا= جاءه الشيطان من جهة أخرى، فاستعرض ما يُثبته العقل والشرع لله عزَّ وجلَّ، فيعمِد إلى أمرٍ من ذلك فيقول: إن ثبت هذا لتلك الذات كانت شبيهةً بهذه المحسوسات، فيلزم الافتقار. فأما من وفَّقه الله عزَّ وجلَّ، فإنه لا يعدَمُ مخلصًا. وأما المخذول فإنه يرى أنه مضطر إلى نفي ذلك الأمر، ثم يعمِد الشيطان إلى أمر آخر فيقول: وهذا كالأول، وهكذا حتى يأتي على عامة تلك الأمور، ومنها لوازم الوجود، فلا يبقى للإنسان إلا اعتقاد وجود يعتقد إنتفاء لوازمه. ¬

_ (¬1) رقم (26203) بإسنادٍ اختُلِف فيه على هشام بن عروة عن أبيه. انظر تعليق المحققين على "المسند" و"العلل" لابن أبي حاتم (2/ 158، 159).

وقد لا يكتفي الشيطان منه بهذا، بل يقول له: وكيف تعقل مثل هذا؟ وما تظنه حجةً على الوجود قد جرَّبتَ أمثالَه في تلك الأمور. فليس هناك حجة، وإنما هي شبهاتٌ نسجتْهَا الأوهامُ والأغراضُ في العصور المظلمة. فكن حرَّ الفكر قويَّ الإرادة، وخلِّص نفسَك من تلك القيود والأغلال، فإنك في عصر العلم! فهذه هي الحقيقة والغاية لتلك الوحدة التي موَّه ابن سينا عبارته عنها. فإنه يزعم أن ذات الله عزَّ وجلَّ ليست منفصلةً عن العالم ولا متصلةً به، ليست خارجةً عنه ولا هي فيه، ليست مباينةً له ولا محايثةً، لم تُوجد الذوات الأخرى حين وُجِدت خارجَ ذات الله عزَّ وجلَّ قريبًا أو بعيدًا, ولا داخلَ ذاته. والمتكلمون وافق أكثرهم ابن سينا على هذا الأصل، ثم يقع [2/ 287] الخلاف في التفريع. فابن سينا وموافقوه يقولون: لا قدرة لله عزَّ وجلَّ ولا إرادة ولا علم بالجزئيات. واستحيا بعضهم فقال: يعلم ذاته. وعندهم أنه لا شأن لله عزَّ وجلَّ بخلق ولا تقدير ولا اختيار ولا تدبير، بل عندهم أنه سبحانه ليس بربٍّ للعالم، وإنما هو السبب الأول لوجوده في الجملة. وذلك أن أصول الموجودات عندهم أشياء قديمة: أحدها: وجود محض هو عندهم الواجب لذاته، أو قل: "الله". الثاني: شيء نشأ عن الأول بدون قدرة للأول ولا إرادة ولا علم! ويسمون هذا الثاني "العقل الأول". قالوا: ونشأ عن العقل الأول عقل ثان ونفس وفلك، وهكذا إلى عشرة عقول، وتسع أنفس، وتسعة أفلاك! قالوا: والعقل العاشر هو العقل الفعال، وهو المدبِّر للعالم السُّفلي بواسطة الكواكب وتغيُّر مواضعها. ولا شأن عندهم لله تعالى بالموجودات البتة، خلا أنه كان في القدم سببًا محضًا

لوجود العقل الأول بدون قدرة ولا إرادة ولا اختيار ولا علم! ومَن تدبَّر هذا علِمَ أن البعوضة فما دونها تملك من العلم والقدرة والإرادة والاختيار والتصرف ما لا يسمحون لله عزَّ وجلَّ بملْكِ عُشْرِ مِعشاره! تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا. هذا مع ما في ترتيبهم المذكور ممّا هو على أصولهم - فضلًا عن غيرها - بغاية الاختلال، بل هو هوسٌ محض يخجَل العاقلُ من نسبة القول به إلى من يشاركه في الإنسانية! وقولهم: إن ذات الواجب وجود محض، أُورِدَ عليه أن الوجود عندهم من المعقولات الثانية، وهي عندهم أمور معدومة؛ فعلى هذا تكون ذاته عندهم عدمًا، والعدم لا يكون سببًا لوجود. أجاب بعضهم بأن الوجود الذي هو ذات الواجب في زعمهم وجود خاص، وهو موجود؛ وإنما المعدوم الوجود المتعارف. قالوا: والداعي لهم إلى القول بأن ذات الواجب وجود خاص: أنها لو كانت شيئًا آخر احتاجت إلى ما يفيدها الوجود، فإن كان غيرها كانت ممكنة، أو بلسان الجمهور: مخلوقة. وإنْ كانت هي أوجدتْ نفسَها، فهذا محال. وقد أطال المتكلمون البحث في هذا. ويمكن أن يقال على وجه الإلزام: ذاك الوجود الخاص إن لم [2/ 288]، يكن متصفًا بهذا الوجود المتعارف، اتصف ضرورةً بنقيضه وهو العدم، والمعدوم مفتقر في أن يوجَد إلى غيره حتمًا. وإن كان متصفًا به وقعتم فيما فررتم منه! وفي "حواشي عبد الحكيم" على "شرح المواقف" (¬1): "الصواب ¬

_ (¬1) (2/ 141).

عندي أن لا إيجاد ها هنا بل هو اقتضاء الماهية للوجود، والمقتضي لا يلزم أن يكون موجِدًا. ألا ترى أن الماهيات مقتضية للوازمها وليست فاعلة لها ... كيف والإيجاد الخارجي لا بد له من موجود وموجِد في الخارج، وليس في الخارج ها هنا إلا الماهية المقتضية للوجود. واعتبارُ التعدد فيها باعتبار أنها من حيث هي موجِد، ومن حيث الاتصاف بالوجود موجَد، إنما هو في الذهن". أقول: فمن فهم هذا وقنع به فذاك، وإلا فينبغي أن يدع التعمقَ، ويرجع إلى اليقين، وهو أن الله عزَّ وجلَّ هو الحق الذي لم يزل، وأنه خالق كلِّ شيء، وَلْيَستعِذ بالله وَلْيَنْتَهِ. وقد سمعتُ بعض الأكابر يذكر عن جدِّ أبيه - وهو من المشهورين - أنه كان إذا ذُكِر له ما يسمِّيه المتأخرون "علم التوحيد" قال: "إنما هو علم التوحيل". أقول: وتلك المناقضات والمعارضات والوساوس بحر من الوحل لا ساحل له إلا من جهة [2/ 289] واحدة، فمن جاء من تلك الجهة فخاض في ذاك الوحل لم يزده الإمعانُ فيه إلا تورطًا. فالسعيد من أعانه الله عزَّ وجلَّ على الرجوع إلى الساحل. والمقصود هنا أن المتفلسفين لما أصَّلوا ذاك الأصل، وهو أن ذات الله تعالى ليست منفصلةً عن العالم ولا متصلةً به، أمعنوا في النفي كما تقدم. فأما المتكلّمون الذين وافقوا على هذا الأصل، فيضطربون في التفريع، يُثبت أحدُهم أمرًا، فيجيء الذي بعده، فيجد أنه مضطَرٌّ إلى نفيه بمقتضى الاعتراف بذاك الأصل، وهكذا.

وعلى كل حال، فابن سينا نفسه معترف بأن تلك الوحدة تأباها العقول الفطرية - وهي عقول الجمهور ومنهم الصحابة والتابعون - وتقطع بأنَّ حاصلها العدم المحض. ويعترف بأن الشرائع جاءت بضد تلك الوحدة، وقد مرَّ كلامه. ويوافق عليه من يتعانى التحقيق من المتكلمين كما يأتي في مسألة الجهة عن الغزالي والتفتازاني. وإذا كان الأمر هكذا فلا ريب أنه لا وجه لحمل قولِ الله عزَّ وجلَّ "أحد" على تلك الوحدة، فلنطلب معنى آخر. قال بعض السلفيين: إنه "الواحد في الربوبية والألوهية، لا ربَّ سواه، ولا إله إلا هو". وهذا المعنى محتاج إلى التطبيق على السياق، وسبب النزول. وذلك ممكن بنحو ما مرَّ في "الواحد"، لكن يبقى هنا سؤال وهو: لماذا جاء الاسم "الواحد" في القرآن معرَّفًا، وجاء "أحد" غير معرَّف؟ وها هنا معنى ثالث. في كتب اللغة (¬1) أنه يُقال "رجل وَحَد: لا يعرف نسبُه وأصلُه". وعن ابن سيده أنه يقال: "رجل أحد" بهذا المعنى. وفي "القاموس" (¬2): "رجلٌ وَحَدٌ وأَحَد - محرَّكتَيْن - ووَحِد ووَحِيد ومتوحِّد: منفرد". قال شارحه (¬3): "وأنكر الأزهري قولهم: رجل أحد، ... لأن أحدًا من صفات الله عزَّ وجلَّ التي استخلصها لنفسه". وفي "القاموس" (أح د) (¬4): "الأحد بمعنى الواحد، أو الأحد لا يوصف به إلا الله سبحانه وتعالى". قال ¬

_ (¬1) انظر "لسان العرب" (وحد). (¬2) (1/ 343). (¬3) "تاج العروس" (9/ 266) ط. الكويت. (¬4) (1/ 273).

الشارح (¬1) بعد قوله: الأحد: "أي: المعرَّف باللام الذي لم يُقصد به العدد المركب كالأحدَ عشرَ ونحوه". ثم قال الشارح أخيرًا: "وهو الفرد الذي لم يزل وحده، ولم يكن معه آخر. وقيل: أحديته معناها أنه لا يقبل [2/ 290] التجزِّي لنزاهته عن ذلك. وقيل: الأحد الذي لا ثاني له في ربوبيته، ولا [في] ذاته، ولا في صفاته". أقول: فالظاهر أن "وَحِد وأحد" الذي قالوا: إنه بمعنى لا يُعرف نسبُه وأصلُه، إنما حقيقته أنه بمعنى: منفرد. ثم لوحظ فيه التقييد، أي: "منفرد عمن يكون من نسبه وأصله"، أي لا يوجد من يكون نسيبًا له. ولكن لما كان هذا ممتنعًا في الرجل، إذ لا بد في غير آدم وعيسى من أن يكون له أب، ويغلب أن يكون له عم وابن عم وإن بعد وغير ذلك، وإنما غايته أن لا يَعرف نسبَه وأصله = عبَّروا بهذا. والمعنى الحقيقي ثابت لله تبارك وتعالى، فإنه لا نسيبَ له ولا نسبَ البتة. وبهذا يتضح موافقة سبب النزول، وهو قول المشركين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: انسُبْ لنا ربَّك. ولما كان هذا الوصف قد يطلق على غيره تعالى، بمعنى أنه لا يُعرف نسبه، وقد يطلق على آدم بمعنى أنه لا أب له وإن كان مخلوقًا من الطين، وكذلك عيسى وإن كان له نسب من جهة أمه، ونحو هذا يقال في الملائكة وأبي الجان = لما كان الأمر كذلك قيل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)}، ولم يقل: "الأحد". وأكَّد ذلك أن المشركين لما قالوا: انسُبْ لنا ربَّك، اقتضى ذلك أنهم يزعمون أن الله عزَّ وجلَّ ليس أحدًا بذاك المعنى، بخلاف "الواحد" في الربوبية، فإنهم يعترفون به كما تقدم. وهذا المعنى هو المناسب لسبب النزول كما مرَّ، ومناسبته للسياق واضحة أيضًا. ¬

_ (¬1) (7/ 376).

وقوله سبحانه: {اللَّهُ الصَّمَدُ} تقدَّم في حديث البخاري (¬1) في رواية: "شتمُه إياي قولُه: اتخذ الله ولدًا، وأنا الصمد ... ". وفي حديث أبي العالية (¬2): "فالصمد الذي لم يلد ولم يولد .. ". وأخرج ابن جرير (¬3) عن محمَّد بن كعب: "الصمد الذي لم يلد ولم يُولد ولم يكن له كفوًا أحد". ويظهر أن المراد أن الصمد يستلزم أنه لم يلد ولم يولد. وتوجيه ذلك يُعلم مما يأتي: أخرج ابن جرير (¬4) من وجهين صحيحين عن مجاهد قال: "الصمد: المُصْمَت الذي لا جوف له". ومِنْ وجه صحيح عن الحسن البصري (¬5) قال: "الصمد: الذي لا جوف له". ومن وجه صحيح عن سعيد بن جبير (¬6) سئل عن الصمد فقال: "الذي لا جوف له". ومن وجه صحيح عن عكرمة (¬7) قال: "الصمد: الذي لا جوف له". ومن وجه آخر صحيح عن عكرمة (¬8) أيضًا قال: "الصمد: الذي [2/ 291] لا يخرج منه شيء". زاد في رواية (¬9): ¬

_ (¬1) رقم (4974). (¬2) عند الترمذي (3364). (¬3) "تفسيره" (24/ 735). (¬4) المصدر نفسه (24/ 731). (¬5) المصدر نفسه (24/ 732). (¬6) المصدر نفسه. (¬7) المصدر نفسه (24/ 733). (¬8) المصدر نفسه (24/ 734). (¬9) المصدر نفسه.

"لم يلد ولم يولد". ومن وجه صحيح عن الشعبي (¬1) قال: "الصمد: الذي لا يطعم الطعام". وفي رواية (¬2): "الذي لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب". ومن وجه فيه ضعف عن عبد الله بن بريدة عن أبيه (¬3)، قال عبد الله: "لا أعلمه إلا قد رفعه (يعني إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم) قال: الصمد: الذي لا جوف له". ومن وجه فيه ضعف عن ابن عباس (¬4) قال: "الصمد: الذي ليس بأجوف". ومن وجه ضعيف عن ابن المسيب (¬5) قال: "الصمد: الذي لا حِشْوةَ له". هذه الأقوال كلها تعود إلى مثل قول مجاهد، واستلزامُ هذا المعنى لنفي الولد والوالد - كما في حديث البخاري وحديث أبي العالية وقول محمد بن كعب - ظاهر. وذلك أن من يكون كذلك لا يمكن أن يكون له ولد على الوجه المعروف في التناسل أو نحوه؛ لأن ذلك يتوقف على أن يخرج من جوف الأب شيء يتكون منه الابن. وهكذا من كان كذلك لا يكون له أب، لأن الأب لا بد أن يكون شبيه الابن في الذات، ففرضُ أبٍ للمصمَت الذي لا جوف له يستلزم نفيَ الأبوة. وهذا المعنى مع صحته عن أكابر من التابعين - كما رأيت - واضح المناسبة للسياق، ولحديثي البخاري وأبي العالية، ولتقديم "لم يلد"؛ فإن دلالة هذا المعنى على أنه لم يلد أقربُ من دلالته على ¬

_ (¬1) المصدر نفسه (24/ 732). (¬2) المصدر نفسه. (¬3) المصدر نفسه (24/ 733). (¬4) المصدر نفسه (24/ 731). (¬5) المصدر نفسه (24/ 733).

أنه لم يولد، كما لا يخفى. لكن أخرج ابن جرير (¬1) من وجه صحيح عن الأعمش عن أبي وائل شقيق بن سلمة قال: "الصمد: السيد الذي قد انتهى سؤدده". وقال (¬2): "حدثنا علي، قال: ثنا أبو صالح، قال ثنا معاوية، عن علي، عن ابن عباس في قوله: {اْلصَّمَدُ} يقول: السيد الذي قد كمُلَ في سُؤدده، والشريف الذي قد كمُلَ في شرفِه، والعظيم الذي قد كمل في عظمته، والحليم الذي قد كمل في حلمه، والغني الذي قد كمل في غناه، والجبار [2/ 292] الذي قد كمل في جبروته، والعالم الذي قد كمل في علمه، والحكيم الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد. وهو الله سبحانه، هذه صفته التي لا تنبغي إلا له". والسند عن أبي وائل فيه الأعمش، وهو مدلِّس مشهور بالتدليس، وربما دلَّس عن الضعفاء (¬3). والسند عن ابن عباس فيه كلام، وهو مع ذلك منقطع. ¬

_ (¬1) المصدر نفسه (24/ 735). (¬2) المصدر نفسه (24/ 736). (¬3) رواية الأعمش عن أبي وائل معتمدة في "الصحيحين" لاختصاصه به، فلا يضره وجود شيء من التدليس في غير روايته عن أبي وائل. ولو تنطَّعنا في رد رواية مَن رمي بشيء من التدليس لرددنا رواية كثير من الأئمة كمالك والثوري وغيرهما. راجع رسالة الحافظ ابن حجر في مراتب المدلسين. وأما رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس فأقصى ما يكون من أمرها أن يكون أخذها عن مجاهد وابن جبير، وهما من خيار ثقات أصحاب ابن عباس، فاستندت إلى أقوى ركنين من أركان الرواة عن ابن عباس فزادت قوةً بما يُظن أنه يوهنها, ولذلك اعتمدها أئمة التفسير المأثور كابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهما. والله أعلم. [م ع]. قلت: ما ذكر فضيلته في رواية الأعمش عن أبي وائل وجيهٌ، وكذلك رواية علي عن =

علي بن أبي طلحة أجمع الحفاظ - كما في "الإتقان" (¬1) عن الخليلي - على أنه لم يسمع من ابن عباس. وقال بعضهم: إنما يروي عنه بواسطة مجاهد أو سعيد بن جبير. ولا دليل على أنه لا يروي عنه بواسطة غيرهما. والثابت عنهما في تفسير الصمد خلاف هذا، [2/ 293] كما مرَّ. لكن ابن جرير قال (¬2): "الصمد عند العرب هو السيد الذي يُصمَد إليه، الذي لا أحد فوقه، وبذلك تُسمَّي به أشرافَها. ومنه قول الشاعر (¬3): ¬

_ = ابن عباس، إن ثبت أن بينهما مجاهد وسعيد [كذا]، ولكن أين السند بذلك؟ وما ذكره من اعتماد ابن جرير وابن أبي حاتم لروايته عن ابن عباس، فيه نظر، فإن مجرد الاعتماد على الرواية لا يدل على ثبوت إسنادها, لجواز أن يكون هناك ما يشهد لها من سياق أو سبب نزول، أو غير ذلك مما يسوغ به الاعتماد على الرواية مع كون إسنادها في نفسه ضعيفًا. على أنه ليس من السهل إثبات أن الإمامين المذكورين اعتمدا هذه الرواية في كل متونها، اللهم إلا إن كان المقصود بالاعتماد المذكور إنما هو إخراجهما لها، وعدم الطعن فيها، وحينئذ فلا حجة في ذلك لثبوت إخراجهما لكثير من الروايات بالأسانيد الضعيفة. وقد ذكرت بعض الأمثلة على ذلك من رواية ابن أبي حاتم في بعض تآليفي، منها قصة نظر داود عليه السلام إلى المرأة وافتتانه بها، وقصة هاروت وماروت، وقد خرَّجتهما في "سلسلة الأحاديث الضعيفة" برقم (314/ 170). على أنه لو سلمنا بما ذكره فضيلته من الاتصال، فلا يسلم السند إلى علي من كلام كما ذكره المصنف، مشيرًا بذلك إلى الضعف الذي عُرف به صالح كاتب الليث، ففي "التقريب": "صدوق كثير الغلط، ثبْت في كتابه، وكانت فيه غفلة" [ن]. (¬1) (6/ 2332). (¬2) "تفسيره" (24/ 737). (¬3) هو سبرة بن عمرو الأسدي، والبيت في "مجاز القرآن" (2/ 316) و"جمهرة اللغة" =

ألا بكَرَ الناعي بخيرَي بني أسَدْ ... بعمرِو بن مسعودٍ وبالسيَّد الصَّمَدْ وقال الزَّبْرِقان (¬1): ............................. ولا رهينةَ إلا سيِّدٌ صمدُ فإذا كان ذلك كذلك، فالذي هو أولى بتأويل الكلمة المعنى المعروف من كلام مَن نزل القرآن بلسانه. ولو كان حديث ابن بريدة صحيحًا كان أولى الأقوال بالصحة, لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعلم بما عنى الله جل ثناؤه وبما أنزل عليه". أقول: الذي يدل عليه البيتان مع مراعاة الاشتقاق أن "صمد" بمعنى: مصمود إليه كثيرًا. فأما زيادة "الذي لا أحد فوقه"، فتؤخذ في الآية من القصر الذي يقتضيه تعريفُ الجزئين. وهذا المعنى وإن كان كأنه أشهر في العربية، فالمعنى الأول معروف فيها، والاشتقاق يساعد المعنيين. وفي "اللسان" (¬2): "قال أبو عمرو: الصمد من الرجال: الذي لا يعطش ولا يجوع في الحرب، وأنشد: ¬

_ = (ص 657) و"سمط اللآلئ" (2/ 932). ونسبه ابن هشام في "السيرة" (1/ 572) إلى هند بنت معبد بن نضلة. وهو بلا نسبة في "معاني القرآن" للزجاج (5/ 378) و"إصلاح المنطق" لابن السكيت (ص 58) و"أمالي القالي" (2/ 288) و"تهذيب اللغة" (12/ 150) و"لسان العرب" (صمد، خير). (¬1) كما في "مجاز القرآن" (2/ 316). وصدره كما في "تفسير القرطبي" (20/ 245): * سيروا جميعًا بنصف الليل واعتمدوا * (¬2) مادة (صمد).

وساريةٍ فوقَها أسوَدٌ ... بكفَّي سَبَنْتَى ذفيفٍ صَمَدْ السارية: الجبل المرتفع الذاهب في السماء كأنه عمود، والأسود: العَلَم بكفَّ رجل شجاع". أقول: وهذا على المبالغة، أي كأنه لا جوف له فيجوع ويظمأ. وكفى دلالةً على صحة المعنى الأول ثبوتُ القول به عن أئمة التابعين، ثم هو الأوضح مناسبةً للسياق وسبب النزول. وذهب بعض الأجلة (¬1) إلى تصحيح كلا المعنيين. وهذا إما مبني على صحة استعمال اللفظ [2/ 294] ¬

_ (¬1) كأنه يعني به شيخ الإِسلام ابن تيمية في "تفسير سورة الإخلاص" له. وتصحيحه للمعاني الواردة عن أئمة المفسرين من الصحابة والتابعين ليس من باب استعمال المشترك في معنيَيه أو معانيه، ولا من باب التخيير الإباحي، ولكنه رضي الله عنه صححها كلها لأنها متلازمة, وكل معنى منها وجه من وجوه معنى الصمد، فالسيد الذي كمل في سؤدده وعلمه وحلمه وحكمته وغناه هو الذي استغنى عن الطعام والشراب، وتعالى عن الجوف والبطن والمعدة والأمعاء. وشيخ الإسلام يرى فيما نقل من أقوال السلف في التفسير أنها متلازمة متشابهة لا اختلاف فيها. وكثير منها بل أكثرها من باب التمثيل وتقريب المعنى، يذكر وجه من وجوهه ونوع من أنواعه، كما لو سألك أعجمي عن الخبز فأشرت إلى رغيف وقلت له هذا، وأشار غيرك إلى رغيف بشكل آخر وقال: الخبز هذا، وأشار ثالث إلى فطير أو بقسماط أو بقلاوة، وقال: مثل هذا؛ فتجتمع هذه التفاسير عند الأعجمي على معنى كلَّي أنه ما صُنع من دقيق الحبط ولو تنوَّعت كيفيات الصناعة، فكلها خبز أو من نوع الخبز أو شبيه به، وحينئذ فلا تعارض ولا تضاد ولا تناقض. وكذلك إذا تأملنا تفاسير السلف للصمد وجدناها متلازمة يشرح بعضها بعضًا ويبني بعضها بعضًا، تجتمع كلها على إثبات عظمة الله وتنزيهه عن النقائص. والله أعلم. [م ع].

المشترك في معنييه معًا، وإما على ما يشبه التخيير الإباحي، كأنه قيل: مَن فهم هذا وبنى عليه فقد أصاب، ومن فهم هذا وبنى عليه فقد أصاب. والمتكلمون يقولون: إن المعنى الأول محال على الله عزَّ وجلَّ, لأن ذلك من صفات الأجسام. ولا شأن لنا الآن بهم، وإنما الكلام ها هنا فيما فهمه المخاطبون الأولون، وقد سمعتَ قول كبار التابعين المروي عن بعض الصحابة. ومن الواضح أنه لا ينافي المعاني التي ينكرها المتعمِّقون من آيات الصفات وأحاديثها. وكذلك المعنى الثاني لا ينافيها، وإنما حاصله أن الله سبحانه هو الذي يَعمِدُ الخلقُ إلى قصده فيما يهمُّهم. وحاصله أنه سبحانه المنفرد بالربوبية واستحقاق الألوهية. قوله تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} واضح، ليس فيه ما ينافي تلك المعاني. قوله سبحانه: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} مرَّ في حديث أبي العالية (¬1): "ولم يكن له شبيه ولا عِدْل وليس كمثله شيء". وأخرج ابن جرير (¬2) من نسخة علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: "ليس كمثله شيء، فسبحان الله الواحد القهار". وأخرج (¬3) من وجه صحيح عن مجاهد قال: "صاحبة". والمعنى الأول متضمن للثاني، والمنفي ها هنا هو الكفء. والمشاركة الإجمالية في الوجود والعالمية والقادرية وغيرها ليست مكافأة، ¬

_ (¬1) عند الترمذي (3364). وانظر "تفسير الطبري" (24/ 738). (¬2) "تفسيره" (24/ 738). (¬3) المصدر نفسه (24/ 739).

إذ الواقع إنما هو وجود ذاتي واجب كامل، ووجود مستفاد ممكن ناقص، وقِسْ على ذلك. فلو فُرِض أن تلك المشاركة يصح أن يطلق عليها مشابهة، فالمنفي هنا هو الشبيه المكافئ، فليس في هذا أيضًا ما ينافي المعاني التي ينكرها المتعمِّقون. ****

المقصد الرابع

[2/ 295] المقصد الرابع المتكلم: أمهِلوني حتى أعيد النظر في المقاصد الثلاثة الأولى، وأفكِّر فيها. الناقد: فليتكلم السلفي في بقية المقاصد: الرابع فما بعده. السلفي: كان العرب الذين خوطبوا بالقرآن والسنة أولًا - كغيرهم من الناس - يعلمون بعقولهم الفطرية وما توارثوه عن الشرائع أن الله عزَّ وجلَّ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]. فكانوا يعلمون أنه سبحانه ليس بحجر ولا شجر ولا كوكب ولا إنسان ولا طائر ولا جنِّي ولا ملَك ولا مخلوق من المخلوقات التي عرفوها والتي لم يعرفوها، بل هو ربُّ كلِّ شيء وخالقُه. وقد شهد لهم القرآن بأنهم كانوا يعتقدون وجود الله عزَّ وجلَّ وربوبيته، وأنه الذي يرزق من السماء والأرض، والذي يملك السمع والأبصار، ويخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، ويدبِّر الأمر كلَّه، وله الأرض وما فيها. ربُّ السماوات السبع، وربُّ العرش العظيم، بيده ملكوت كل شيء، وهو يجير ولا يجار عليه. خلَقَ السماوات والأرض، وسخَّر الشمس والقمر. يبسط الرزق لمن يشاء ويَقدِر له. ينزَّل من السماء ماء، فيُحيي به الأرض. خلَقَ السماوات والأرض، وهو العزيز العلم. إلى غير ذلك، انظر سورة (يونس): 31، وسورة (المؤمنون): 84 - 89، وسورة (العنكبوت): 61 - 63، وسورة (الزمر): 38، وسورة (الزخرف): 9 و87، وسورة (البقرة): 21 - 22 و"تفسير ابن جرير" (ج 1 ص 126) (¬1). ¬

_ (¬1) (1/ 393) ط. دار هجر.

وكانوا كغيرهم من أصحاب العقول الفطرية يعقلون أن لله سبحانه وتعالى ذاتًا قائمة بنفسها, ولم يكن ذلك موجبًا أن يتوهَّموا أنه من جنس ما يرونه ويلمسونه، ولا مماثلًا لشيء من ذلك. فقد كانوا يعتقدون وجود الجن والملائكة، وأنها قد تكون بحضرتهم، وهم لا يرونها, ولا يسمعون كلامها، ولا يُحسُّون بمزاحمتها لهم. ويعلمون أن الله عزَّ وجلَّ أعلى وأجلُّ وأبعدُ عن مماثلة ما يرونه ويلمسونه. وكانوا كغيرهم من الناس يعلمون أن الموجود القائم بنفسه حقيقةً لا يمكن أن يكون لا داخلَ العالم ولا خارجَه، ولا متصلًا به ولا منفصلًا عنه، لا قريبًا من غيره من [2/ 296] الذوات ولا بعيدًا عنها. فكانوا يعتقدون أن الله تبارك وتعالى فوق عرشه الذي فوق سماواته. ولم يكونوا إذا قيل لهم: يد الله - مثلًا - ليفهموا من ذلك يدًا كأيديهم، فإنهم يعلمون أن المضاف يختلف باختلاف المضاف إليه. يقال: رأس نحلة رأس جرادة، رأس حمامة، رأس إنسان، رأس حصان؛ فيختلف كما ترى، فما بالك بنحو "يد الله"؟ مع ما قدَّمنا أنهم كانوا يعلمون أنه تعالى ليس بإنسان ولا جنِّي ولا ملَك، ولا مماثل لشيء من ذلك ولا لغيرها من مخلوقاته؛ وأنه أعلى وأجلُّ وأكبر من ذلك كلِّه، وأنهم كانوا يعتقدون وجود الجن والملائكة، وأنها قد تكون بحضرتهم، لا يرونها ولا يسمعون كلامها ولا يدركون لها حسًّا ولا أثرًا. ويعلمون أن الله تبارك وتعالى أعلى وأجلُّ وأبعد عن مماثلة المحسوسات. والإنسان إذا كان يعرف المضاف إليه أو مثلَه أمكنه تصوُّرُ المضافِ تحقيقًا أو تقريبًا، يتأتى معه أن يقال: مثل، أو شبيه، وإلَّا لم يبقَ هناك إلا أمر إجمالي. فإذا كان المضاف إليه هو الله عزَّ وجلَّ لم يتصور من يده مثلًا إلا ما

يليق بعظمته وجلاله وكبريائه. فلا يلزم من تلك المشاركة الإجمالية أن تكون يدُه مثلَ المخلوق ولا شبيهةً بها بمقتضى لسان العرب الفطري، فإنه لا يُطلق في مثل ذلك "ذاك شبيه بهذا". وقد سبق في أواخر الكلام على قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ما ينبغي تذكُّره. فينبغي استحضار هذا، لئلا يُتوهَّم أن العرب كانوا يعتقدون أن لله عزَّ وجلَّ يدين: يَدَيْ إنسان أو مثلهما، أو يجوِّزون ذلك، أو فهموا ذلك من قول الله تعالى: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]. وقِسْ على هذا، فإن كان في بعض النصوص ما يُوهم ظاهرُه المماثلةَ، فعقول القوم كانت قرينة كافية لصرفه عن ذلك، إلا أن تكون مماثلةٌ في مطلق أمر، فهذه قد تقدَّم تحقيقُها في الكلام على قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}. قال السلفي: وليست جميعُ النصوص المتعلقة بالعقائد موافِقةً لما كان عليه العرب، فقد كانوا ينسبون إلى الله تعالى الولد، وينكرون البعث، إلى غير ذلك مما ردَّه عليهم القرآن. ****

المقصد الخامس إلى الثامن

[2/ 297] المقصد الخامس إلى الثامن قال السلفي: لسنا نلتفت إلى دعوى ابن سينا ومن وافقه ولا إلى نظرهم المتعمَّق فيه، بل نقول: كلُّ ما كان حقًّا في نظر المأخذين السلفيين فهو حق، وكلُّ ما كان باطلاً في نظرهما فهو باطل. وقد تقدم في الباب الأول ما فيه كفاية، وبذلك تسقط دعواهم وما بُني عليها. وحاصل كلام ابن سينا ومن وافقه إنما هو نسبة الكذب إلى الله تبارك وتعالى في كثير مما أخبر به عن نفسه وغيبه، وإلى الرسول في كثير مما أخبر به عن ربه. فإن منهم من اعترف، ومنهم من تقوم عليه الحجة بأن من تلك النصوص في دلالتها على المعنى الذي يزعمون بطلانَه ما هو ظاهر بيِّن، وما هو صريح واضح، وما هو مؤكد مثبت؛ مع أنه ليس في المأخذين السلفيين ما يصح أن يُعدّ قرينةً تَصرف أفهامَ المخاطبين الأولين ومن كان مثلهم عن فهم تلك الظواهر، بل فيهما ما هو واضح كلَّ الوضوح في تثبيت تلك الظواهر. ولا يقتصر أمرهم على هذا، بل يلزمه أن يتناول الكذبُ في زعمهم جميعَ النصوص الواردة في الثناء على الله عزَّ وجلَّ، وعلى رسوله، وعلى كتابه، وعلى دين الإِسلام = بالصدق والحق والهداية والبيان والإبانة ونحو ذلك، كقول الله عزَّ وجلَّ: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء: 122]، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء: 87] وغير ذلك مما لا يحصى. ومن المعلوم من دين الإِسلام بالضرورة تنزيهُ الله عزَّ وجلَّ عن الكذب، وتنزيه أنبيائه عن الكذب عليه، أي فيما أخبروا به عنه أو عن دينه. وقد تقدم الكلام في ذلك، وفيه بيان تنزُّههم عن تعمُّدِ الكذب فيما عدا ذلك. فإن ثبت

أن كلمات إبراهيم عليه السلام مما يُطْلَق عليه اسمُ الكذب، فالظاهر أنها كانت قبل النبوة كما مرَّ. وبالجملة فهي أشدُّ ما حكي عن الأنبياء، فقد سمَّاها إبراهيم ومحمد عليهما السلام "كذبات"، وسُمِّيت في الحديث (¬1) "خطايا"، ويرى إبراهيم عليه السلام أنها تقعد به عن رتبة الشفاعة في المحشر، وتقتضي أن يستحيي من ربِّه عزَّ وجلَّ. وأرى أن أوازن بين تلك الكلمات وبين النصوص التي زعم المتعمِّقون بطلانَ معانيها [2/ 298] الظاهرة، ليتضح للناظر أنه يلزمهم أن يكون إبراهيم أصدقَ من ربِّ العالمين - لا من محمَّد فحسب - بدرجات لا نهاية لها. وذلك من وجوه: الأول: أن كلمات إبراهيم ثلاث فقط، لم يقع منه طول عمره غيرُها. وتلك النصوص تبلغ آلافًا، على أنهم يزعمون أن نصوص التوراة وسائر كتب الله عزَّ وجلَّ كذلك. الثاني: أن كلمات إبراهيم في مقاصد موقتة، وتلك النصوص تعُمُّ الأزمنةَ إلى يوم القيامة. الثالث: أن كلمات إبراهيم تتعلق بالذين خاطبهم فقط، وتلك النصوص تعُمُّ حاجةَ الناس إليها إلى يوم القيامة. الرابع: أن كلمات إبراهيم في مقاصد دنيوية، ليس فيها إخبار عن الله عزَّ وجلَّ ولا عن في دينه؛ وتلك النصوص في أصل الدين وأساسه. الخامس: أن إبراهيم لم يكن عند الذين خاطبهم نبيًّا، فيشتدَّ وثوقُهم ¬

_ (¬1) حديث الشفاعة الطويل الذي سبق تخريجه.

بخبره، وفي الحديث (¬1): "كبرتْ خيانةً أن تحدِّث أخاك حديثًا هو لك به مصدِّق، وأنت له به كاذب". وتلك النصوص مخاطَب بها المسلمون الذين يؤمنون بأن القرآن كتاب الله وأن محمدًا رسول الله. السادس: أن إبراهيم لم يكن قد التزم لمخاطبيه أن لا يحدِّثهم إلا بالصدق، وتلك النصوصُ في الكتاب والسنة، وقد قال تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء: 122]، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء: 87]، {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ} [الزمر: 33] وغير ذلك. السابع: أن كلمات إبراهيم قريبةُ الاحتمال للمعنى الواقع، وتلك النصوصُ أكثرها بغاية البعد عما يزعم المتعمِّقون أنه الواقع. الثامن: أنَّ كلمات إبراهيم لم تؤكَّد، وتلك النصوص كثير منها مؤكَّدة فيما هي ظاهرة فيه غايةَ التأكيد. التاسع: أنَّ كلمات إبراهيم لم تُكَرَّر، وتلك النصوص تكرَّر كثيرٌ منها في الكتاب والسنة. [2/ 299] العاشر: أن حال إبراهيم كانت ظاهرةً للمخاطبين، مقتضيةً أن يترخَّص في إيهامهم. وتلك النصوصُ على خلاف ذلك، فلم تكن حالُ محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم تقتضي إلا الصدق المحض، فأما ربُّ العالمين فما عسى أن يقال فيه! ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (393) وأبو داود (4971) من حديث سفيان بن أسيد الحضرمي، وإسناده ضعيف. وأخرجه أحمد في "مسنده" (17635) من حديث النواس بن سمعان، وإسناده ضعيف جدًّا.

الحادي عشر: أن إبراهيم احتاج إلى تلك الكلمات، ولم يكن يمكنه قبلَ ذلك الاستعدادُ لتلك الحوادث بما يُغنيه عن تلك الكلمات أو نحوها. وتلك النصوصُ على خلاف هذا لو لم تكن حقًّا. فإن الله عزَّ وجلَّ إنما خلق الناس لعبادته، كما تقدَّم تقرِيرُه أوائلَ الرسالة، فلو كان الحق في نفس الأمر ما يزعمه المتعمِّقون لَخَلَق الله تعالى الناسَ على الهيئة التي تُرشِّحُهم لإدراك ذلك بدون صعوبة شديدة. وذلك بأن يزيد في عقولهم ويُهيَّئ لهم من آيات الآفاق والأنفس ما يقرِّب إدراكَ الحق إلى أذهانهم، حتى إذا خاطبهم به في كتبه، وعلى ألسنة رسله، ونبَّههم على الدلائل القريبة في ذلك = أمكن مَن يُحِبُّ الحقَّ منهم ويرغب فيه أن يفهم ذلك ويُدركه. فنقول للمتعمِّقين: ألم يعلم الله عزَّ وجلَّ ما يكون عليه حال الناس؟ أم علِمَ ولكن لم يَقْدِر على أن يخلقهم على الهيئة المذكورة ويهيئ لهم من آيات الآفاق والأنفس ما ذكر؟ أم علِمَ وقَدَر، ولكن لم يعبأ باقتضاء الحكمة، فاضْطُرَّ سبحانه - وحاشاه - أخيرًا إلى الكذب والتلبيس الذي يُوقعُ الناسَ في نقيض ما خلقهم لأجله في الأصول، وحرصًا على أن يقبلوا بعض الفروع؟ (¬1) هذا مع ما يترتب على ذلك من المفاسد كما يأتي. الثاني عشر: أن كلمات إبراهيم كان إبراهيمُ محتاجًا إليها حاجةً محقَّقة، وتلك النصوص - لو لم تكن حقًّا - على خلاف ذلك، فإن العرب كانوا في جاهليتهم يعترفون بوجود الله وربوبيته وغير ذلك، كما سلف في الجواب عن المقصد الرابع. فلو بنى الشرعُ أولًا على ما كانوا يعترفون به مما يعترف المتعمِّقون أنه حقٌّ في نفس الأمر، وعلى ما يُشبهه ويقرُب منه، وسكت عن ¬

_ (¬1) كذا العبارة في (ط)، وفيها خلل أو نقص.

غيره مما تأباه عقولهم = لم يكن في ذلك ما ينفِّرهم عن قبول الشرع، فأيُّ حاجة دعت إلى أن يخاطَبوا بما يزعم المتعمِّقون أنه باطل؟ بل أقول: لو جاءهم الشرع بالأصل الجامع في الجملة لما يزعمه المتعمِّقون، وهو أن الله [2/ 300] عزَّ وجلَّ ليس داخلَ العالم ولا خارجه، ثم كرَّر الدعوةَ والاستدلالَ كما صنع في إثبات ما كانت عقولهم تأباه من قدرة الله عزَّ وجلَّ على حشر الأجساد، وكما صنع في نفي ما كانت عقولهم تتقبله أو تُوجبه من أن لله عزَّ وجلَّ ولدًا= لكان فيهم من يخضع لذلك، ثم لا يزالون يزدادون. وأنت ترى من لا يحصى من المنتسبين إلى العلم وطلبه قبلوا ذاك الأصل الجامع وبعض فروعه ممن أحسنوا به الظنَّ من المتكلمين، فقلَّدوه في ذلك، وتعصبوا له، وعادَوا من يخالفه، غير مبالين بعقولهم، ولا بنصوص الكتاب والسنة، ولا بمخالفة من هو أجلُّ عندهم ممن قلَّدوه. وقد جاء أفراد بمقالات تنبذها العقول الفطرية، ويردُّها النظر المتعمَّق فيه، ومع ذلك تبعهم من لا يحصى. والعرب إنما كانوا يستندون في إنكار ذاك الأصل إلى عقولهم الفطرية، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندهم أوسطهم نسبًا، وأفضلهم خلقًا، معروفًا بينهم بالصدق والأمانة والعدل وحبِّ الحقِّ والحرصِ عليه، لا يريد رياسةً ولا جاهًا. ثم جاءهم بالمعجزات، فلو جاءهم بذاك الأصل ونحوه، أما كان يجد منهم من يقلِّده ويتَّبعه، كما وَجَد المتعمِّقون والأفراد الآخرون، بل كما وَجَد الرسولُ نفسه فى نفى نسبة الولد إلى الله عزَّ وجلَّ، وفي إثبات حشر الأجساد؟ وسيأتي في الجواب عن المقصد العاشر زيادة على هذا. وهَبْ أن الحاجة دعت إلى إظهار موافقتهم على ما يخالف ذاك الأصلَ

وبعضَ فروعه، وأنه ساغ ذلك؛ فقد كان يكفي نصٌّ أو نصَّان أو ثلاثة مما هو ظاهرٌ في غير ما يوافقهم محتملٌ لما يوافقهم، فيحملون ذلك على ما يوافقهم بمقتضى عقولهم وأهوائهم. فإن كان ولا بد، فممَّا يحتمل المعنيين على السواء، أو يكون ظاهرًا فيما يوافقهم ظهورًا ضعيفًا، غايته أن يكون نحو كلمات إبراهيم. فما بال الكتاب والسنة مملوءين بتلك النصوص التي يزعم المتعمِّقون أن ظاهرها باطل، ومنها ما هو ظاهر بيِّن، وما هو صريح واضح، وما هو محقق مثبت مؤكد، فهل كانت الضرورة تدعو إلى ذلك كله؟ الثالث عشر: كلمات إبراهيم لم تقتض الحكمةُ أن يتداركها بالبيان في الدنيا, لأنها كانت في قضايا موقتة، ولم تترتب عليها مفسدةٌ ما كما تقدم. وتلك النصوص لو كانت كما (¬1) يزعم [2/ 301] المتعمقون لاقتضت الحكمة اقتضاءً باتًّا أن يُتْبِعها الشرعُ بما يبيِّن الحق، ولم يقع من هذا شيء. فأما الإشارات المذكورة في المقصد الثالث، فقد مرَّ الكلام فيها. فإن قيل: وكَلَهم الشرعُ إلى العقل. قلنا: العقل الفطري يوافق تلك النصوص كما تقدم، والنظر المتعمَّق فيه جاء في الشرع التنفيرُ عنه وعن أهله. هذا مع الأمر المؤكَّد بالوقوفِ مع الكتاب والسنة والاعتصام بهما، والحكم بالزيغ والضلال والكفر على من خالفهما، وتأكيدِ أنَ الحقَّ كلَّه فيهما وأنَّ الدين قد كمل بهما، والأمرِ بالرجوع عند التنازع إليهما، وبيانِ أن الكتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأن الرسول يهدي إلى صراط مستقيم، وغير ذلك. ¬

_ (¬1) (ط): "لما" تحريف.

الرابع عشر: كلمات إبراهيم عليه السلام يظهر من تسميتها خطايا، ومِن خجله واستحيائه من ربِّه في المحشر من أجلها أنه ندِمَ عليها في الدنيا، وعزَمَ أن لا يعود إلى مثلها. وتلك النصوص لم يَرِدْ ما يشير إلى ندَمِ محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أجلها، بل الواردُ خلاف ذلك. فأما الربُّ عزَّ وجلَّ فهو عالم الغيب والشهادة. الخامس عشر: أن كلمات إبراهيم لم تترتَّب عليها مفسدةٌ ما، بل ترتَّبَ عليها درءُ مفاسد عظيمة، وتحصيلُ مصالح جليلة. فقوله: "هي أختي" ترتَّبَ عليها سلامةُ إبراهيم من بطش الجبار، وسلامةُ الجبار وأعوانه من ذاك الظلم. وقوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89] ترتَّبَ عليها تمكُّنُه من تحطيم الأصنام، وما تبع ذلك من إقامة الحجة. والثالثة ترتَّبَ عليها إقامةُ الحجة على عُبَّاد الأصنام حتى اضطُرُّوا إلى الاعتراف، فقال بعضهم لبعض: {إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} [الأنبياء: 64]. وأما النصوص التي يكذِّب المتعمِّقون معانيها التي هي فيها ما بين ظاهرٍ بيِّنٍ، وصريحٍ واضحٍ، ومحققٍ مؤكدٍ؛ فإن كانت كما يزعم المكذِّبون فقد ترتَّب عليها مفاسد لا تحصى: الأولى: لزوم النقص، كما تقرَّر في الوجوه السابقة، حتى لو لم يخلق الله تعالى الناسَ لما لزم مثلُ ذاك النقص، ولا ما يقاربه، بل لا يلزم نقصٌ البتة فيما أرى. الثانية: تثبيت الاعتقاد الباطل في أصل الدين، وحملُ الناس عليه. [2/ 302] الثالثة: حملُ كثير ممن يسمِّيهم ابنُ سينا "الخاصة" - وهم المتعمِّقون في النظر العقلي - على تكذيب الشرع البتة, لأنهم يرون فيه تلك

النصوص التي يرون أن معانيها باطلة، فيقولون: لو كان هذا الشرع حقًّا ما جاء بالباطل، والله تعالى أعزُّ وأجلُّ مِن أن يجهل أو يكذب، والأنبياءُ الصادقون لا يجهلون ربَّهم ولا يكذبون عليه. واعتذار ابن سينا باطل كما ترى. فإن قيل: أما هذه المفسدة، فهي حاصلة على كل حال. قلت: لكن إن كانت النصوص كما يقول المكذَّبون كانت تبعةُ هذه المفسدة عليها. فأما إذا كانت حقًّا - كما يقول السلفيون - فإن تبعة هذه المفسدة تكون، على التعمُّقِ في النظر، وتقديمِ ما يلوح منه على الفطرة والعقول الفطرية وكلام الله وكلام رسوله. وبعبارة أخرى تكون تبعتُها على اتباع الهوى، وإيناره على الحق، ويكون ذلك بالنظر إلى الشرع مصلحة. الرابعة: حملُ أشدِّ المؤمنين إخلاصًا، وأقواهم إيمانًا بالله ورسوله، وألزمِهم اعتصامًا بالكتاب والسنة= على تضليلِ أو تكفيرِ من يُظهر خلاف ما دلَّتْ عليه تلك النصوص من "الخاصة"؛ وحملُ "الخاصة" على تجهيل أولئك المخلصين وتضليلهم والسخرية منهم. ومن أعجب العجب أن الفريقين إذا علما ما في الافتراق في الدين من الفساد طلبا من الدين نفسِه الذي أوقعهما - على زعم المتعمقين - في الافتراق، وقد زجر عنه، أن يدلهما على المخلص، فلا يجدان إلا قول الله عزَّ وجلَّ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]. فيتداعى الفريقان إلى تحكيم الكتاب والسنة. فأما السلفيون، فيقولون: ذلك ما كنا نبغي. وأما "الخاصة"، فيعلمون أنهم إن أجابوا قضى الكتاب

والسنة قضاءً باتًّا بتلك النصوص، وإن أعرضوا تلا السلفيون ما يلي تلك الآية: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء: 60 - 61]. [2/ 303] وقوله بعد ذلك: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]. الخامسة: أن وقوع الكذب في بعض النصوص الشرعية يفتح الباب لتكذيب الشريعة كلِّها، حتى على فرض قبول اعتذار ابن سينا. هذا هو نفسه لما علم أن المتكلمين يوافقونه في بعض النصوص الاعتقادية فيزعمون أن ظواهرها باطلة جرَّ ذلك إلى نصوص أخرى في العقائد، ثم إلى نصوص تتعلق بالملائكة والنبوة والأرواح، ثم إلى النصوص المتعلقة بالبعث والنشور والجنة والنار وغير ذلك. ثم ختم بأن قضى على كل من يريد أن يكون من "الخاصة" بأن لا يلتفت إلى الشرع فيما للرأي فيه مجال. ففتح البابَ بمصراعيه، ومهَّد لأصحابه الباطنية وغيرهم. ولا ريب أنه لو جاز أن يكون في النصوص الشرعية كذب وتلبيس دعت إليه مصلحةٌ ما، وإن عارضتها عدة مفاسد، لم يسلم نصٌّ من النصوص من احتمال ذلك. وإنما حاصل هذا أن الشرع باطل، وأن الأنبياء إنما اتبعوا أهواءهم. وأحسنُ أحوالهم عند "الخاصة" أن يكونوا اتّبعوا تخيلاتهم. والحقُّ الذي لا يرتاب فيه مؤمن: تنزيهُ الله عزَّ وجلَّ وكتبه ورسله عما

يقول الظالمون الذين يسمُّون أنفسهم "الخاصة"، وأن اتباع الأهواء والتخيلات هي صفة أولئك الفجار. {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ} ثم لرسله (¬1) {الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [النحل: 60]. **** ¬

_ (¬1) بل المثل الأعلى لله وحده وهو تفرده بالصمدية والسؤدد والكمال، وتنزُّهه عن كل عيب ونقص وشَين وذم. فالكُتَّاب العصريون الذين استعملوا المثل الأعلى في مطمح النظر والكمال المرجوَّ لمن يتطلبه قد حرفوا المثل الأعلى عما أراده الله منه. والتعبير الأوفق لمعنى المثل الأعلى أن يقال: ولله المثل الأعلى في الوصف بالكمال، ولرسله البيان الواضح والبلاغ المبين فيما أخبروا عن الله ووصفه كما قال تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 180 - 182]. قال الشيخ ابن تيمية ما معناه: "نزَّه نفسه عما وصفه به المبطلون، وسلَّم على المرسلين لسلامة أقوالهم عما لا يليق بالله تعالى إثباتًا ونفيًا، وحمد نفسه على وصفه بربوبية رب العالمين" اهـ ملخصًا بالمعنى في تفسير الآية من "الواسطية". وأما استنكار وصف غير الله تعالى بأنه له المثل الأعلى، فقد استفدته من محاورة بعض شيوخ الهند المحققين. والله أعلم. [م ع].

المقصد التاسع

[2/ 304] المقصد التاسع قال السلفي: المقصد التاسع مبنيٌّ على ما قبله، وقد عُلِم حالُه. وما ذُكِر من أن الفرض على هؤلاء كذا وعلى هؤلاء كذا، لم يذكره ابن سينا؛ ولكنه قد يؤخذ من كلامه. وقد نحا الغزالي في بعض كتبه قريبًا من هذا المنحى. وصرَّح به ابن رشد في كتبه (¬1)، وزاد، فأوجب على "الخاصة" أن يكتموا نتائج تعمُّقهم المخالفة للدين، وأن إظهارها كفر لأنَّه يحمل العامةَ على الكفر. وأقول: كان الحق على المتعمِّقين عندما يرون مخالفةَ بعض نتائج تعمقهم للدين أن يعملوا بنصيحة ذاك الفريق من الفلاسفة القائلين: إن النظر المتعمَّق فيه لا يوثق به في الإلهيات، كما تقدَّم في الباب الأول. وحينئذ يحصرون تعمُّقَهم في البحث عن الطبيعيات ونحوها، فإن أبى أحدهم فَلْيقصُرْ داءه على نفسه، فلا يعلِّم ولا يصنِّف ولا يناظر. فإن اضطُرَّ إلى الذبِّ عن الدين فَلْيَخلُ بمن يطعن في الدين، وَلْيقل له: لم يَخْفَ عنَّا ما بدا لك، ولكن عرفنا ما لم تعرف. فإن الشرائع الحقة جاءت بما تنكره، فإما أن يكون الحق ما جاءت به؛ إذ من المحال أن يخطئ الله وأنبياؤه، وتصيبَ أنت بنظرك الذي قد جرَّبتَ عليه الخطأ والغلط غير مرة. وإما أن تكون الشرائع جاءت بما يُصلح الجمهورَ على علمٍ بما فيه. وعلى كلا الحالين لا ينبغي معارضتُها، فإن أبيتَ فإني أرى عليَّ أن أردَّ عليك، وأقدح فيما تستدل به. أقول: ومَنْ تأمَّلَ طرقَ استدلالهم ومناقضاتهم ومعارضاتهم عَرَفَ أنه لا ¬

_ (¬1) انظر "الكشف عن مناهج الأدلة" (ص 45) طبعة دار الآفاق، بيروت.

يصعب على الماهر في كلامهم الدفاعُ عن تلك النصوص، ولو فَعَلَ مع اعتقاده خلافها لم يكن عليه عند نفسه غضاضةٌ في علمه ولا دينه إن كان متدينًا, لأنه إنما رضي لنفسه من ذلك ما يرى أن ربَّ العالمين رضيه لنفسه ولأنبيائه ورسله. وقد وبَّخ الله عزَّ وجلَّ المشركين في قولهم: إن له سبحانه بناتٍ مع كراهيتهم أن تكون لهم بنات. قال تعالى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} [النجم: 21 - 22]. وقال سبحانه: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ [2/ 305] لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف: 16 - 18]. مع أن المشركين - فيما أرى - حاولوا التنزيه, لأنهم رأوا أن الابن من شأنه أن يشارك أباه في مُلكه، بخلاف البنات فإنهن كنَّ في عرفهم مطرَّحات. وصنيع أولئك الذين يسمُّون أنفسهم "الخاصة" أسوأ من ذلك، إذ يزعمون أن الله تبارك وتعالى رضي لنفسه ولرسله الكذبَ والتلبيسَ، ثم لا يرتضون مثل ذلك لأنفسهم، بل يتنزَّهون عن ذلك جهدَهم، مع علمهم بأن صنيعهم مناقضٌ لما يقولون إن صلاحَ الناس فيه، ومُوقِعٌ فيما يقولون إنه فساد عظيم. فليتهم إذ لم يسمح لهم شرفُ أنفسهم في زعمهم أن يتلوَّثوا بما يزعمون أن الله عزَّ وجلَّ ارتضاه لنفسه ولرسله، سكتوا عن مناقضة ما جاء به الشرع، وتركوا المسلمين ودينهم. لكن الله تبارك وتعالى أراد أن يهتك أستارهم، ويبلو بهم كما ابتلاهم. قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} فاتحة العنكبوت.

المقصد العاشر

المقصد العاشر قال السلفي: لا ريب أن شبهة ابن سينا في أمر الحشر أقوى من شبهته في شأن الاعتقاد في ذات الله تعالى وصفاته. فلو ساغ الكذب في شأن الاعتقاد لكان في شأن الحشر أسوَغ, لأن فحشه أخفُّ، والحاجة إلى التشديد في الترغيب والترهيب ظاهرة؛ فإلزامه للمتكلمين في محلِّه. فأما السلفيون فلا سلطان له عليهم، كما لا يخفى. ومع أن شبهة ابن سينا داحضة لمعارضتها اليقينَ الضروري، ففيها خلل من جهاتٍ تُعلَم مما تقدَّم. ويختص بقضية حشر الأجساد أن العرب كانوا في جاهليتهم يعترفون بحياة الروح بعد موت الجسد، ويقولون: إن روح المقتول تبقى تنوح على قبره حتى يؤخذ بثأره, كما هو معروف في أشعارهم. وقد جاء الكتاب والسنة بأشياء من حال الأرواح تصرِّح بحياتها منفصلةً عن الجسد، ولم ينكر ذلك أحد من المسلمين ولا المشركين. فقد كان من الممكن أن يوسَّع [2/ 306] القولُ في نعيم الأرواح وعذابها بدون تعرُّضٍ لما كان العرب ينكرونه من حشر الأجساد. بل لو كان المقصود إنما هو اجترارهم إلى قبول الشرع العملي لما ذُكِر لهم حشرُ الأجساد، فإنه من أشدِّ ما صدَّهم عن الإِسلام. قال الله عزَّ وجلَّ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} [سبأ: 7 - 8]. وقال تعالى: {أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} [الإسراء: 49, 98].

مهمة

وقال تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ} [الصافات: 14 - 19]. كانوا يكذِّبون بالمعجزات قائلين: إنها سحر، محتجَّين بأن الذي ظهرت على يده يخبر بما لا يُعقَل من حشر الأجساد. وانظر (الصافات) أيضًا: 53 و (المؤمنون): 35 و82 و (الواقعة): 47. مهمة قد يفسَّر حشرُ الأجساد بجمع أجزائها المتفرقة، وقد يفسَّر بإنشاء أجساد أخرى، والنصوص الشرعية تدل على أمر جامع لهذين. وقد أُورِد على الأول أن الأبدان في الدنيا تنمو وتتحلَّل فتفارقها أجزاء وتتعوض أجزاء أخرى، ولا تزال هكذا، ثم تَبلَى بالموت، وتتفرق فتدخل أجزاء من هذا البدن في تركيب أبدان أخرى وهلم جرًّا. وإعادةُ تلك الأجزاء أعيانها في جميع تلك الأبدان، بأن تكون هي أعيانها في هذا، وهي أعيانها في ذاك، في وقت واحد= غيرُ معقول. فإن أعيدت في بعضها، فلم يعد غيره على ما كان عليه. وأيضًا فقد تكون الأجزاء من بدن مؤمن، ثم تصير من بدن كافر، وعكسه. وأجيب بأن المُعاد في كل بدن إنما هو أجزاؤه الأصيلة. ونوقش في هذا بما هو معروف. [2/ 307] أقول: النصوص لا تدل على إعادة هذه الأجزاء كلِّها في كلِّ بدن في وقت واحد، وإنما تدل على الإعادة في الجملة، وإذا تدبرنا الحكمة في الإعادة أمكننا أن نفهم التفصيل تقريبًا. فمن الحكمة إظهار قدرة الله عزَّ وجلَّ على الحشر، وتصديق خبره بأنه

واقع. وهذه الحكمة إنما تستدعي الإعادة في الجملة، وذلك يحصل بما يأتي قريبًا. ومنها: أن ينال الجزاء هذه الأجزاء، وهذا غير متحتم؛ لأن الكاسب المختار للطاعة أو المعصية، والمدرك لأثرها في الدنيا والمدرك للذة الجزاء أو ألمه في الأخرى هو الروح، وإنما البدن آلة لها. غاية الأمر أنه إذا كانت آلة الكسب هي آلة الجزاء كان ذلك أبلغ في كمال العدل، فليكن من ذلك ما يمكن. وقد جاءت عدة نصوص تدل أن أبدان أهل الجنة والنار يكون بعضُ البدن منها أو كلُّه من غير الأجزاء التي كان منها في الدنيا. ففي "الصحيحين" (¬1) في قصة الذين يخرجون من النار "فيخرجون قد امتَحَشُوا وعادوا حُمَمًا، فيُلْقَون في نهر الحياة، فينبتون كما تنبت الحِبَّة في حَميل السيل ... ". وجاءت عدة أحاديث أن أهل الجنة يكونون كلهم على صورة آدم طوله ستون ذراعًا. راجعها في "الباب التاسع والثلاثين" من "حادي الأرواح" (¬2). وقال تبارك وتعالى في أهل النار: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء: 56]. وفي "صحيح مسلم" (¬3) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ما بين منكِبَيِ الكافر في النار مسيرةُ ثلاثة أيام للراكب المسرع". ¬

_ (¬1) البخاري (6573) ومسلم (182) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) (ص 313 - 318). (¬3) رقم (2852).

وقال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]. وفي "صحيح مسلم" (¬1) من حديث ابن مسعود أنه سئل عن هذه الآية؟ فقال: أمَا إنَّا [2/ 308] قد سألناه عن ذلك، فقال: "أرواحهم في جوف طير خُضْر، لها قناديل معلَّقة بالعرش تَسْرَح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطَّلَع إليهم ربُّهم اطَّلاعةً ... ". أخرجه عن جماعة، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق، عن ابن مسعود. وقد أخرجه ابن جرير في "تفسيره" (ج 4 ص 106 - 107) (¬2) من طريق شعبة ومن طريق سفيان الثوري كلاهما عن الأعمش بسنده أنهم سألوا عبد الله بن مسعود فقال: "أرواح الشهداء ... ". فثبت سماع الأعمش لهذا الحديث من عبد الله بن مرة؛ لأن شعبة لا يروي عن الأعمش إلا ما علم أنه سماع للأعمش ممن سمَّاه. نصَّ على ذلك أهل المصطلح وغيرهم. وكذلك أخرج هذا الحديث الدارمي (ج 2 ص 206) (¬3) من طريق شعبة. فأما عدم التصريح بالرفع فلا يضر, لأن هذا ليس مما يقال بالرأي، مع ظهور الرفع في رواية مسلم. وفي "مسند أحمد" (ج 1 ص 265) (¬4): "ثنا يعقوب، ثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني إسماعيل بن أمية بن عمرو بن سعيد، عن أبي الزبير المكي، ¬

_ (¬1) رقم (1887). (¬2) (6/ 229، 232) ط. دار هجر. (¬3) رقم (2415). (¬4) رقم (2388).

عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لما أصيب إخوانكم بأحُد جعل الله عزَّ وجلَّ أرواحَهم في أجواف طير خُضْر تَرِدُ أنهارَ الجنة، تأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش. فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وحسن مُنقلَبِهم قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ... ". أبو الزبير يدلِّس (¬1)، وقد أخرج الحاكم في "المستدرك" (ج 2 ص 297) ¬

_ (¬1) لو رددنا حديث كل مدلس لرددنا جمهرة طيبة مباركة من السنة التي قبلها الأكابر ونشروها وعملوا بها، والذي يظهر من عمل المحققين من أئمة السنة [أنهم ينظرون] إلى مراتب الجرح والتعديل عند التعارض (!) ليأخذوا بالأرجح الأقوى إن لم يمكن الجمع. وحديث أبي الزبير هذا ليت شعري ما الذي عارضه من رواية من هُم أرجح منه حتى نشكك فيه؟ وروايته محشو بها "البخاري" مكتظ بها "مسلم" وغيره فضلاً عن بقية دواوين السنة كأبي داود والترمذي وغيرهم من أصحاب الصحاح والسنن والمسانيد. [م ع]. قلت: يبدو لي في كلام فضيلته ملاحظات: 1 - التسوية بين تدليس الأعمش وتدليس أبي الزبير في التسامح بهما ليس بجيد، لأن تدليس الأول قليل، وتدليس الآخر كثير، ولذلك احتج الشيخان بالأعمش، ولم يحتج بأبي الزبير غير مسلم منهما، وأورده الحافظ في المرتبة الثانية من "طبقات المدلسين"، وهي - كما ذكر في المقدمة - مرتبة مَن احتمل الأئمةُ تدليسه، وأخرجوا له في "الصحيح". ثم أورد أبا الزبير في المرتبة الثالثة، وهي مرتبة من أكثر من التدليس فلم يحتج الأئمة من أحاديثهم إلا بما صرحوا فيه بالسماع كأبي الزبير المكي، ثم أورده في هذه الطبقة وقال: "مشهور بالتدليس". 2 - قوله في أبي الزبير: "وروايته محشو بها (البخاري) " ليس بصواب، فإن البخاري لم يسند له غير حديث واحد متابعةً غير محتج به! قال الحافظ ابن حجر في "مقدمة الفتح" (2/ 163): "لم يرو له البخاري رحمه الله سوى حديث واحد في "البيوع"، قرنه بعطاء عن جابر، وعلَّق له عدة أحاديث". ومسلم وإن كان =

الحديث من وجه آخر (¬1) عن ابن [2/ 309] إسحاق، عن إسماعيل، عن أبي الزبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. زاد في السند: سعيد بن جبير. وقال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم" وأقرَّه الذهبي. وقال الله عزَّ وجلَّ: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 45، 46]. وأخرج ابن جرير في "تفسيره" (ج 24 ص 42) (¬2) بسند رجاله ثقات عن هُزَيل بن شرحبيل أحد ثقات التابعين قال: "أرواح آل فرعون في أجواف طيرٍ سُودٍ تغدو وتروح على النار، وذلك عرضُها". وفي "روح المعاني" (¬3) أن عبد الرزاق وابن أبي حاتم أخرجا نحوه عن ابن مسعود. ومن حِكَم الإعادة أداء الشهادة، قال الله تبارك وتعالى: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [فصلت: 19 - 20]. ¬

_ = احتج به، فقد قال الذهبي في ترجمته من "الميزان": "وفي صحيح مسلم" عدة أحاديث مما لم يوضح فيها أبو الزبير السماع عن جابر، ولا هي من طريق الليث عنه، ففي القلب منها شيء" [ن]. (¬1) من طريق عبد الله بن إدريس عن ابن إسحاق. وكذا أخرجه أبو داود (2520) وأبو يعلى في "مسنده" (2331) والبيهقي في "الكبرى" (9/ 163) وغيرهم. (¬2) (20/ 337) ط. دار هجر. (¬3) (24/ 73). وانظر "تفسير عبد الرزاق" (2/ 181، 182) وتفسير ابن أبي حاتم" (10/ 3267).

وقال عزَّ وجلَّ: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس: 65]. وقال سبحانه: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور: 24]. [2/ 310] والمقصود من استشهاد الأعضاء إبلاغَ الغاية القصوى في إظهار العدل. وفي "صحيح البخاري" (¬1) وغيره عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "يُجاء بنوح يوم القيامة فيقال له: هل بلَّغتَ؟ فيقول: نعم يا ربِّ. فتُسأل أمته: هل بلَّغكم؟ فيقولون: ما جاءنا من نذير. فيسأل: من شهودك؟ فيقول: محمَّد وأمته". فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "فيُجاء بكم، فتشهدون أنه قد بلَّغ". ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]. وفي "صحيح مسلم" (¬2) وغيره عن أنس قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فضحك، فقال: "هل تدرون مما أضحك؟ " قال: قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: "من مخاطبة العبد ربَّه يقول: يا ربِّ ألم تُجِرْني من الظلم؟ قال: يقول: بلى. قال: فيقول: فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهدًا مني. قال: فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيدًا، وبالكرام الكاتبين شهودًا. قال: ¬

_ (¬1) رقم (3339، 4487، 7349). وأخرجه أيضًا أحمد في "المسند" (11283) والترمذي (2961) والنسائي في "الكبرى" (11007). (¬2) رقم (2969). وأخرجه أيضًا النسائي في "الكبرى" (11653).

فيُخْتَم على فيه, فيقال لأركانه: انطقي. قال: فتَنطِق بأعماله. ثم يُخلَّى بينه وبين الكلام، فيقول: بُعدًا لكُنَّ وسُحقًا، فعَنْكُنَّ كنت أناضل". وفي "صحيح مسلم" (¬1) أيضًا عن أبي هريرة قال: قالوا: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال ... قال: "فيَلْقَى العبد فيقول: أي فُلْ ... ثم يَلْقَى الثالث، فيقول له مثل ذلك، فيقول: يا ربِّ آمنتُ بك وبكتابك وبرسلك، وصلَّيتُ وصُمْتُ وتصدَّقتُ - ويُثنِيْ بخير ما استطاع. فيقول: ها هنا إذًا. ثم يقال: الآن نبعث شاهدًا عليك. ويتفكر في نفسه: مَن ذا الذي يشهد عليَّ؟ فيُخْتَم على فيه، ويقال ... فتنطق فخذُه ولحمُه وعظامُه بعمله. وذلك لِيُعْذِرَ من نفسه ... ". فالإنسان إذا رأى يوم القيامة أن الله عزَّ وجلَّ يُقرِّره بعمله، ولا يأخذ بمجرد علمه تعالى، يتوهم أن الإنكار ينفعه، ثم لا يرضى بشهادة الملائكة ولا الرسل، فتشهد عليه أعضاؤه، فحينئذ يظهر له ولغيره عينَ اليقين الغايةُ القصوى في عدل الله تبارك وتعالى. ومع ذلك يعترف بلسانه صريحًا عند دخوله النار. قال الله تبارك وتعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر: 71]. وقال تعالى في شأن جهنم: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ ¬

_ (¬1) رقم (2968).

إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 8 - 11]. وهذه الحكمة إنما تستدعي إعادة الأجزاء التي تؤدي الشهادة، وذلك عند أدائها. فلا يلزم أن تعاد في كلِّ بدنٍ جميعُ أجزائه ثم تبقى خالدةً معه. بل إذا فرضنا أجزاء معينة قد دخلت في تركيب عدة أبدان في الدنيا على التتابع بأن كانت في هذا البدن، ثم صارت من ذاك البدن، وهلمَّ جرًّا؛ واقتضت الحكمةُ أن تؤدي الشهادة يوم القيامة في كلِّ بدن من تلك الأبدان بما فعل = فإن ذلك يمكن بأن تُحشر أولًا كما شاء الله تعالى إما في بدن واحد، وإما متفرقةً في تلك الأبدان، ثم إذا حوسب أولُّ إنسان من أصحاب تلك الأبدان جُمعت تلك الأجزاء في بدنه، ثم إذا أدَّت الشهادة فارقته إلى بدنِ أولِ مَن يُحاسَب بعده من أصحاب [2/ 312] تلك الأبدان. وهكذا حتى تستوفى تلك الأبدان كلُّها التي دخلت فيها وقفت الحكمة باستشهادها على أصحابها. وقد يشير إلى هذا قوله تبارك وتعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 104]، وقوله سبحانه: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف: 29]. وأما الجزاء الجسماني، فمن الحكمة فيه تنعيم الأرواح وتعذيبها بما هو من جنس ما أَلِفتْه في الدنيا بواسطة الأبدان، فإن الأرواح لطول صحبتها للأبدان واعتيادها اللذاتِ والآلامَ التي تصل إليها بواسطتها تبقى بعد مفارقة الأبدان متصوِّرةً تلك اللذات والآلام، متشوِّقةً إلى جنس تلك اللذات، نافرةً عن جنس تلك الآلام. فإذا أعيدت إلى أبدان ثم نعِمتْ بما هو من جنس اللذات التي ألِفتْها، كان ذلك أكملَ للذتها وأتمَّ لنعيمها من أن تنعم بلذات

روحية محضة، فكيف إذا جُمع لها الأمران معًا (¬1)؟ وإن أعيدت إلى أبدان ثم عُذِّبت بما هو من جنس الآلام التي كانت تَنْفِر عنها كان ذلك أبلغ في إيلامها من أن تعذَّب بآلام روحية محضة، فكيف إذا جُمع لها الأمران (1)؟ ومنها: تصديقُ وعد الله ووعيده وإخباره بالحساب والجنة والنار، وسائر ما يتعلق بالآخرة. وهذه الحكمة كافية لإبطال شبهة ابن سينا وموافقيه في أمر الآخرة، فإننا لو أعرضنا عن الحِكَم الأخرى واقتصرنا على هذه الحكمة لكفى، بأن نقول: هَبْ أن الأمر كما زعمتَ من أن الناس لا يؤثَّر فيهم الترغيب والترهيب، إلا إذا كان بما هو من جنس ما ألِفُوه واعتادوه في الدنيا من الأمور الجسمانية واللذات والآلام الجسمانية, فإن الحكمة إذًا اقتضت أن يقضي الله عزَّ وجلَّ وقوعَ ذلك وتحقيقَه لئلا يكون إخباره تعالى وإخبار رسله كذبًا، فإنه سبحانه يتعالى عن ذلك. ولنقتصر على هذا القدر في الرد على مقالة ابن سينا في إنكاره الاحتجاجَ بالنصوص الشرعية، وننظر مقالاتِ من بعده. والله الهادي. **** ¬

_ (¬1) أي فإن ذلك أكمل وأكمل، وذلك هو الواقع. [المؤلف].

قول الفخر الرازي في الاحتجاج بالنصوص الشرعية

[2/ 313] قول الفخر الرازي في الاحتجاج بالنصوص الشرعية في "مختصر الصواعق" (ج 1 ص 252 - 256) (¬1) عبارة طويلة للفخر الرازي سأحاول تلخيصها مع شيء من الإيضاح. المطالب ثلاثة: الأول: ما يتوقف ثبوت الشرع على ثبوته، كوجود الله وعلمه بالمعلومات كلها، وصدقِ الرسول. فهذا يستحيل أن يُعلم بإخبار الشرع. الثاني: ثبوت أو انتفاء ما يقطع العقلُ بإمكان ثبوته وإمكان انتفائه. فهذا إذا لم يجده الإنسان من نفسه، ولا أدركه بحسِّه، استحال العلم به إلا من جهة الشرع. الثالث: وجوب الواجبات، وإمكان الممكنات، واستحالة المستحيلات. فهذا يعلم من طريق العقل بلا إشكال. فأما العلم بإخبار الشارع فمشكل, لأن خبر الشارع في هذا المطلب إن وافقه عليه العقل، فالاعتماد على العقل، وخبر الشارع فضل. وإن خالفه العقل وجب تقديم العقل وتأويل الخبر في قول المحققين, لأن تقديم الخبر على العقل حكمٌ على العقل بأنه غير موثوق به، فيلزم من هذا أن لا يكون ما ثبت به الشرع موثوقًا به، فيسقط الشرع، وما أدى ثبوته إلى انتفائه فهو باطل. وإن لم يعلم موافقة العقل للخبر ولا مخالفته له كان محتملًا أن يكون العقل مخالفًا له فيجب تأويله، ومع هذا الاحتمال لا يفيد العلم. قال (¬2): "فإن قيل: إن الله سبحانه لما أسمع المكلَّفَ الكلامَ الذي يُشعِر ¬

_ (¬1) (ص 153 وما بعدها) ط. دار الكتب العلمية بيروت 1405. (¬2) انظر المصدر السابق (ص 155).

ظاهرُه بشيء، فلو كان في العقل ما يدل على بطلان ذلك الشيء وجب عليه سبحانه أن يُخطِر ببال المكلَّف ذلك الدليلَ، وإلا كان تلبيسًا من الله تعالى، وإنه غير جائز. قلنا: هذا بناء على قاعدة الحسن والقبح وأنه يجب على الله سبحانه شيء، ونحن لا نقول بذلك. سلَّمنا ذلك، فلِمَ قلتم: إنه يجب ... ، وبيانه: أن الله إنما يكون مُلَبِّسًا على المكلَّف لو أسمعه كلامًا يمتنع عقلًا أن يريد به إلا ما أشعَر به ظاهرُه. وليس الأمر كذلك, لأن المكلَّف إذا سمع ذلك الظاهر فبتقدير أن [لا] (¬1) يكون الأمر كذلك لم يكن مراد الله من ذلك الكلام ما أشعرَ به الظاهر، فعلى هذا إذا أسمع الله المكلَّفَ ذلك الكلامَ، فلو قطع المكلَّفُ بحمله على ظاهره مع قيام الاحتمال الذي ذكرنا كان ذلك التقصير واقعًا من المكلَّف، لا من قِبَل الله تعالى ... [2/ 314] فخرج بما ذكرنا أن الأدلة النقلية لا يجوز التمسك بها في باب المسائل العقلية. نعم، يجوز التمسك بها في المسائل النقلية، تارةً لإفادة اليقين كما في مسألة الإجماع وخبر الواحد، وتارةً لإفادة الظن كما في الأحكام الشرعية". أقول: أما المطلب الأول، فقد أعدَّ الله تبارك وتعالى لثبوته فِطرَ الناس وعقولهم الفطرية وآيات الآفاق والأنفس، ثم تكفَّل الشرعُ بالتنبيه على ذلك وإيضاحه مع تضمنه لآيات أخرى. ثم يتمِّم الله عزَّ وجلَّ ذلك بالتوفيق لمن استحقَّه، فمن كان في قلبه محبة للحق ورغبة فيه وإيثار له على ما سواه رَزَقه ¬

_ (¬1) زيادة من المؤلف ليستقيم المعنى. ونص كلام الرازي في "نهاية العقول في دراية الأصول" - كما في الطبعة المحققة من "مختصر الصواعق" (2/ 474 - 475) -: "لأن المكلف إذا سمع ذلك الظاهر، [ثم إنه يجوز أن يكون هناك دليل عقلي على خلاف ذلك الظاهر]، فبتقدير أن يكون الأمر كذلك ... " ما بين المعكوفين ساقط من "مختصر الصواعق" فأدَّى ذلك إلى اختلال المعنى.

الله الإيمان لا محالة. ولهؤلاء درجات بحسب درجاتهم في المحبة والرغبة والإيثار، فمنهم من تقوى هذه الأمور عنده وتصفو، فيصفو له اليقين بالفطرة وأدنى نظر. ومنهم من يكون دون ذلك، فيحتاج إلى زيادة. وعلى كل حال، فإن المأخذَين السلفيَّين شافيان كافيان مُغنيان في تحصيل الحق من هذا المطلب ضرورةَ أن الله عزَّ وجلَّ بعث رسله وأنزل كتبه في أقوام لا خبر عندهم لغير المأخذين السلفيين ولا أثر، واكتفى بهما وبنى عليهما. ولا يقف الأمر عند الاستغناء عن المأخذين الخلفيين، بل إن مِنْ شأنهما أن يمانعا حصول الإيمان ويزلزلاه لأسباب: الأول: أن المشتغل بهما يغفُل عن المأخذين السلفيين. الثاني: أنه يتعرض لشبهات تعتاص عليه، فيسوء ظنه بالمأخذين السلفيين. الثالث - وهو أعظم الأسباب -: حرمان التوفيق، فإن طالب الحق في غير المأخذين السلفيين إما أن يكون فاقدًا لصدق المحبة والرغبة والإيثار للحق، وإما أن يكون كان عنده شيء من ذلك ولكنه ضعف بإعراضه عن سبيل الله عزَّ وجلَّ. فقد يبلغ به الضعف إلى أن يزول أثره البتة. وقد يبقى أثره في الجملة، فيبقى العبد مترددًا. وربما يتداركه الله عزَّ وجلَّ في آخر الأمر، فيرجع إلى المأخذين السلفيين، وإن كان لا يصفو له ذلك كما يصفو لمن ثبت عليهما من أول أمره. ولذلك كان إمام الحرمين يتمنى في آخر أمره أن يموت على دين عجائز نيسابور، كما تقدم في الباب الأول.

[2/ 315] وأما المطلب الثاني، فإن أراد الرازي أن الأخبار الشرعية فيه قد تفيد العلم اليقيني فيما هي ظاهرة فيه، كما يدل عليه قطعُ الأشاعرة بتنزيه الله عزَّ وجلَّ عن الكذب، مع مصيرهم إلى أنه لا حجة في ذلك إلا النصوص، كما تقدم، وكما يدل آخر كلام الرازي، وسيأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى. فهكذا يلزمه في المطلب الثالث، بل هو أولى وأحرى لِتعلُّقه بأعظم أصول الدين، فالخطر فيه أشد، واحتياط الشارع له آكد. ويترتب على التلبيس فيه مفاسد عظيمة, كما مرَّ في الكلام مع ابن سينا. وأما المطلب الثالث، فقوله: "إن خبر الشارع إذا وافق العقل فالاعتمادُ على العقل، وخبرُ الشارع فضل" قول مردود عليه. بل إن كان الدليل العقلي من المأخذ السلفي الأول فهما دليلان، وإلا فالنص هو الدليل، والقياس التعمُّقي فضلة، كما يُعلم مما تقدم في الباب الأول. على أنه بعد ثبوت صدقِ الشارع بالدلائل العقلية يكون الاحتجاج بخبره احتجاجًا بالعقل. قوله: "فإن خالفه العقل وجب تقديمُ العقل ... " قول مردود عليه. بل إن كان الدليل العقلي من المأخذ السلفي الأول فهو قرينة صحيحة يُعلم بها أن معنى الخبر خلافُ ما يتراءى منه لولا القرينة. فليس هنا تقديم للعقل ولا للشرع إذ لا تخالُفَ، وإنما هنا حملٌ للخبر على ما هو الظاهر الحقيقي، فإن الخبر إذا اقترنت به قرينة صحيحة تصرف عما يتراءى منه لولاها، فظاهره الحقيقي هو ما يُفهم منه مع القرينة، وهي حينئذ بمثابة كلمة من لفظ الخبر. وإن لم يكن هناك ما يخالف ظاهرَ النص إلا قياس أو أقيسة مما يركبه المتعمِّقون مِنْ أصحاب المأخذ الخلفي الأول، فالواجب تقديم النص، ولا سيما إذا كان قطعيَّ الثبوت كآية من القرآن أو سنة ثابتة قطعًا. وقد تقدم في

الباب الأول بيان وهن تلك الأقيسة. ولا يلزم من تقديم النص عليها حكمٌ على العقل الذي هو من المأخذ السلفي الأول بأنه لا يوثق به، وإنما يلزم الحكم بذلك على ذاك القياس وما كان مِنْ قبيله. والشرعُ لم يثبت بشيء من ذلك، كيف وقد ثبت الإِسلام في العرب، ولا أثر فيهم للتعمُّق البتة، وكذلك بقية الشرائع. وإنما ثبت الشرعُ بما تقدَّم في المطلب الأول، والعقل هناك هو العقل الفطري الذي أعدَّه الله عزَّ وجلَّ لإدراك بيناته في الدين. [2/ 316] هذا، وقد تقدَّم في الباب الأول بيانُ حال النظر المتعمَّق فيه، وأنه قد يتعارض عند أصحابه قياسان كلٌّ منهما بحيث لو انفرد لكان قاطعًا عندهم. وقد يحصل لبعضهم قياس يعتقد أنه قاطع يقيني، ثم بعد مدة يتبين له أنه مختلّ. وكثيرًا ما يتمسك أحد الفريقين المختلفين منهم كالأشعرية والمعتزلة بقياس، ويرى أنه قطعي يقيني، ويتمسك الفريق الآخر بقياس آخر مناقض لذاك ويرى أنه قطعي يقيني، ويَثبُت كل الفريقين على رأيه في قياسه، ويحاول القدح في قياس مخالفه، ويستمرُّ هذا إلى مئات السنين. وهم يعرفون هذا، ويعترفون به، ومع ذلك لا يرونه موجبًا عدمَ الثقة بالعقل مطلقًا ولا بما كان من جنس تلك الأقيسة، فكيف يسوغ لهم مع هذا أن يزعموا أن خبر الله عزَّ وجلَّ - مع العلم بأنه سبحانه لا يجهل ولا يخطئ ولا يكذب - إذا قُدِّم على قياس من تلك الأقيسة كان ذلك قدحًا في العقل مطلقًا؟ بل الحق أن تقديم القياس على النص هو الأولى بأن يكون قدحًا في العقل، بل هو ردٌّ للعقل الصريح بشبهة واهية. فقد ثبت الشرعُ بالعقل الصريح، وثبت صدقُ الشارع وإبانته بالعقل الصريح. وكثير من المعاني التي دلت عليها النصوص وهم ينكرونها ثابتة بالفِطَر والبدائه، وهي رأس العقل الصريح، وقد أُثبتت مع ذلك بأقيسة من جنس أقيستهم.

قوله: "وإن لم يعلم موافقة العقل للخبر ولا مخالفته له ... ". أقول: أما العقل الصريح الواضح الجلي الذي يصلح أن يكون قرينةً، فلا يمكن أن لا يعلم. فإن جاز أن يذهل عنه بعضُ المخاطبين الأولين لم يلبث أن ينبِّهه غيرُه. فإذا لم يعلم ما يكون قرينةً كان النص نفسه برهانًا على صحة ما دل عليه، وعلى عدم المخالف الصحيح. ولا يبقى إلا احتمالُ أن يوحي الشياطين إلى بعض أوليائهم شبهةً مبنيةً على النظر المتعمَّق فيه، وقد قال الله عزَّ وجلَّ: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121]. قوله: "فإن قيل: إن الله سبحانه لما أسمع المكلَّف ... ". أقول: هذا كله مغالطة، فإن النصوص المتعلقة بذات الله تعالى وصفاته لم تقتصر في الدلالة على تلك المعاني على إشعار الظاهر، بل فيها المحقَّق المؤكَّد، والصريح الواضح، والظاهر [2/ 317] البيِّن؛ ولم يكن معها معارضًا لها قرينةٌ صحيحةٌ من شأنها أن لا تخفى على المخاطبين الأولين. فعلى فرض بطلان تلك المعاني أو بعضها لا يكون اللازم التلبيس فقط، بل تكون كذبًا صريحًا. وبطلان هذا اللازم لا يتوقف على القول بأنه يجب على الله تعالى شيء، ولا على القول بالحسن والقبح العقليين، وإنما يتوقف على امتناع أن يكذب الله عزَّ وجلَّ أو يكذب رسوله. والأشاعرة ومنهم الرازي يعترفون بهذا الامتناع، ويكفرون من لا يقول به. غاية الأمر أنهم زعموا أن العقل لا يمنع أن يكذب الله سبحانه أو أن لا يكذب، ولكن الرسول أخبر بأن الله تعالى لا يكذب، وقد ثبت صدقُ الرسول بظهور المعجزة على يده. قالوا: ودلالة المعجزة على صدقه دلالة عادية - على ما مرَّ بيانه في الباب الثاني - والدلالة

العادية عندهم يقينية. ومهما يكن في استدلالهم من الوهن، فيكفي أنهم معترفون بامتناع أن يقع من الله تعالى أو من رسوله فيما يخبر به عنه كذبٌ، ويكفر من يقول خلاف ذلك. ولا ريب أنهم إذا عرفوا بطلان استدلالهم، ولم يبق إلا أن يقولوا بالوجوب والحسن والقبح العقليين أو يكفروا، إنما يختارون الأول. فإن فُرِضَ أن بعض أتباعهم اختار الكفر، فإلى حيثُ ألقَتْ رحلَها أمُّ قَشْعَمِ (¬1)! فإن قيل: يؤخذَ من كلام الرازي أنه يزعم أن احتمال الامتناع العقلي قرينةٌ تُدافع ظاهرَ الخبر، فلا يلزم من القول ببطلان تلك المعاني أو بعضها تكذيبُ النصوص، ولا من القول باحتمال البطلان القولُ باحتمال الكذب. قلت: هذا زعم باطل، كما مرَّ في الكلام على المقصد الأول من مقاصد ابن سينا. وإنما الذي يصح أن يكون قرينةً هو الامتناع العقلي نفسه إذا كان من شأنه أن لا يخفى على المخاطب. فأما احتماله فقط، فإنما هو كاحتمال عدم وقوع ما دل الخبر على وقوعه. وذْلك كما لو كان في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعمى صائم في رمضان، وهو في عريش بعيد عن البيوت، فلم يدر أقد غربت الشمس أم لا؟ فبينا هو كذلك إذ مرَّ به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال للأعمى: قد غربت الشمس وصلَّينا المغرب. فهل للأعمى أن يقول في نفسه: لو كنتُ بصيرًا، وأخبرني النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم هذا الخبر، وأنا أشاهد الشمس لم تغرب، لكان [2/ 318] ذلك قرينة على أن المراد بالخبر غير ظاهره، كأن يكون عنى: قد غربت أمس، أو قد قاربت الغروب؛ فعليَّ الآن أن لا آخذ بظاهر الخبر, لأن احتمال عدم الغروب اليوم قرينة؟ ¬

_ (¬1) شطر بيت من معلقة زهير، وصدره: فشَدُّوا ولم تَفزَعْ بيوتٌ كثيرةٌ. وقد سبق التمثُّل به (ص 306).

فإن قلتَ: فإن الرازي فرَّق بين الأمور العقلية وغيرها. قلتُ: لم يأت على ذلك بحجة، بل هو فرق باطل. ومع ذلك فإنا إذا فرضنا أن الشمس لم تكن قد غربت في ذاك اليوم، فاحتمال أن تكون قد غربت فيه ممتنعٌ عقلًا. ثم نقول للرازي: أرأيت عالمًا خرج إلى البادية فكان يخبر الناس أخبارًا ظاهرة بينة في عقائد باطلة، ويتأول في نفسه معاني صحيحة، ويقول في نفسه: القرينة على احتمال أني لم أرد الظاهر هي احتمال الامتناع العقلي، وكثَّر من ذلك جدًّا = ألا يقبح منه ذلك، ولا يأثم ولا يكفر إذا كان في أخباره ما هو ظاهر بيّن فيما هو كفر؟ وقال ابن حجر الهيتمي في "الإعلام" بهامش "الزواجر" (ج 2 ص 31): "نقل الإِمام - يعني إمام الحرمين - عن الأصوليين أن من نطق بكلمة الردة وزعم أنه أضمر توريةً كفَرَ ظاهرًا وباطنًا. وأقرَّهم على ذلك". ثم ذكر الهيتمي أن الحكم بالكفر باطنًا فيه نظر. أقول: قولهم: "كلمة الردة" إنما يُفهم منها عند الإطلاق الكلمةُ الصريحة فيها. وقولهم: "أضمر تورية" ظاهرٌ في أن تلك التورية لا قرينة عليها، وما كان كذلك فالتلفظ به مع معرفة حاله لا يكون إلا عن تهاون شديد (¬1). ومن المعلوم أن من كان كارهًا لشيء نافرًا عنه فإنه يتباعد عنه ما استطاع، وهذا قد تقرَّب من الردة ما استطاع، وكفى بذلك تهاونًا. ومع هذا فقد قالوا: إن الرضا ¬

_ (¬1) ثم رأيت في كتاب "تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي" للبقاعي (ص 23) ذكر مقالة إمام الحرمين، ثم قال: "قال الإِمام الغزالي في "البسيط" بعد حكايته أيضًا عن الأصوليين: لحصول التهاون منه". ومنه (ص 66) عن الحافظ العراقي: "لا يُقبل ممن اجترأ على مثل هذه المقالات القبيحة أن يقول: أردت بكلامي هذا خلاف ظاهره. ولا نؤوِّل له كلامه، ولا كرامة! ". [المؤلف].

بالكفر كفر، ولا ريب أن ذاك الخارج إلى البادية قد رضي أن يعتقد الناس ظواهر ما أخبرهم به. وافرضْ أن أهل البادية كانوا يسألونه عن قضايا اتفقت فيهم في الوصايا وقسمة المواريث [2/ 319] يُحتاج في معرفة مقاديرها إلى معرفة دقائق الحساب، فكان يذكر لهم مقاديرَ يعلم أنها مخالفةٌ للواقع ويُضمِر توريةً في نفسه، فيعملون بظاهر فتاواه ويحفظونها ليعملوا بها فيما يتفق بعد ذلك من أمثال تلك القضايا، وترتَّب على ذلك ظلمٌ كثيرٌ للفقراء واليتامى والأرامل، وهو يزعم أنه لم يرتكب محظورًا لإضماره التوريةَ مع احتمال الامتناع العقلي؛ لأن مسائل الحساب من أوضح المعقولات، فهل يُعذَر في ذلك؟ وافرضْ أن رجلًا عاقلًا خاطبك بكلام، فتدبرتَه ملاحظًا القرائن، فعلمتَ أن الكلام ظاهر بيِّن في معنى، وأنه لا قرينةَ تَصرِف عن ذاك المعنى، وأنه لا وجهَ لفرض أن يكون المتكلَّم عجَزَ عن البيان أو جهِل أو أخطأ = أفلا تعلم بذلك بأن المتكلم أراد أن يكون كلامه ظاهرًا بيِّنًا في ذاك المعنى، وعمل بمقتضى هذه الإرادة، فجاء بالكلام على وفقها؟ ثم إن خطر ببالك احتمالُ أن يكون أراد في نفسه معنى آخر على وجه التأويل، وأن يكون ذاك المعنى الظاهر البيِّن الذي أراد أن يكون الكلام مُفْهِمًا له ثم جاء بالكلام على وفق هذه الإرادة، غيرَ واقع = أليس معنى هذا الخاطر إنما هو احتمال أن يكون الكلام كذبًا، وأن يكون المتكلم أراد إفهام الكذب وجاء بالكلام على وفق هذه الإرادة؟ أَوَلا ترى أنه لو صحَّ ما خطر ببالك لكان تأويل المتكلم في نفسه إنما هو على أحد ثلاثة أوجه:

الأول: مثل تأويل إبراهيم عليه السلام. الثاني: أن يكون توهَّم أنه إذا تأول في نفسه فقد برئ من معرَّة (¬1) الكذب. الثالث: أن يكون إنما أعدَّ عذرًا حتى إذا انكشف الحال وبان كذبُه قال: إنما عنيتُ كيت وكيت. فأما الأول وهو تأويل إبراهيم، فقد سبق أن محلَّه أن يكون الكلام قريب الاحتمال جدًّا لغير ما هو ظاهر فيه، وأن يكون المتكلم مضطرًّا إلى الإيهام، وأن يكون في ذاك الإيهام دفع مفسدة عظيمة، ولا تترتب عليه مفسدة ما. وهذه الأمور منتفية عن النصوص التي يزعم المتعمقون أن ظواهرها باطلة، كما قدمناه في الكلام على المقصد الخامس من مقاصد [2/ 320] ابن سينا. ومع ذلك فقد قدَّمنا الحجة على أن كلمات إبراهيم عليه السلام كذبات، وأنها لا تناسب مقام النبوة، فضلًا عن مقام الربوبية. وأما الوجه الثاني، فممتنع في النصوص. كيف وقد ثبت الحكم على كلمات إبراهيم عليه السلام بأنها كذبات وخطايا، وأنها لا تناسب مقام النبوة فضلًا عن مقام الربوبية، فما بالك بما هو أشدُّ منها بدرجات كثيرة كما مرَّ؟! وأما الوجه الثالث، فتعالى الله عزَّ وجلَّ وتنزه أنبياؤه عنه، إنما هو دأب الكذابين، إذا افتضح أحدهم قال: إنما عنيتُ كيت وكيت! واعلم أن مقتضى كلام الرازي في منعه الاحتجاج البتة بالنصوص في العقائد التي لا يجزم العقلُ وحده فيها بالجواز: أنه لو كان الرازي في عهد ¬

_ (¬1) (ط): "معرفة" خطأ.

النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد قامت عنده البراهين العقلية اليقينية على أنه نبي صادق، وآمن به، ثم أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخبر يتعلق بتلك العقائد = لقال الرازي: لا يمكنني أن أعلم أن هذا المعنى الظاهر الواضح من كلامك هو مرادك، لاحتمال أن تكون أردتَ خلافه. فلو قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لم أرد إلا هذا المعنى وهو الظاهر الواضح، وهو كيت وكيت، لقال الرازي: كلامك هذا الثاني كالأول. فلو أكَّد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأقسم بآكد الأقسام لقال الرازي: لا تتعب يا رسول الله، فإن ذاك الأمر الذي دلَّ عليه خبرُك يحتمل أن يكون ممتنعًا عقلًا، وما دام كذلك فلا يمكن أن أثق بمرادك. فلوٍ قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنه ليس بممتنع عقلًا، بل هو واقع حقًّا، لقال الرازي: لا يمكنني أن أثق بما يفهمه كلامك، مهما صرَّحتَ وحقَّقتَ وأكَّدتَ حتى يثبت عندي ببرهان عقلي أنه غير ممتنع عقلًا! فليتدبر العاقل هل يصدر مثل هذا ممن يؤمن بأن محمدًا رسول الله، وأنه صادق في كل ما أخبر به عن الله؟ مع أن من هؤلاء من يكتفي في إثبات عدم الامتناع العقلي بأن يرى في بعض كتب ابن سينا عبارةً تصرِّح بذلك، وإن لم يكن فيها ذكر دليل عليه. فعلى هذا لو كان أحدهم مكان الرازي فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: انظر كتاب "الشفاء" - مثلًا - لابن سينا في باب كذا، فنظر فوجد تلك العبارة المصرِّحة بعدم الامتناع، لصَدَّق [2/ 321] وقال: اطمأنَّ قلبي. لكن لو قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: انظر كتاب الله تعالى في سورة كذا، فنظر فوجد آية أصرحَ من عبارة ابن سينا وأوضحَ، لَما اعتدَّ بها؛ بل لقال: حال هذه الآية كحال كلامك يا رسول الله, لأنه يحتمل عندي أن يكون هذا المعنى ممتنعًا عقلًا!

بل أقول: قضية كلامهم أنه لو وقف أحدهم بين يدي الله تعالى، وعَلِمَ يقينًا أن الذي يخاطبه هو الله تعالى، غير أنه لا يراه ولم يكن ثبت عند هذا الرجل بدليل عقلي جواز رؤية الله عزَّ وجلَّ في الآخرة، فقال له الله تعالى: إن المؤمنين سيرونني بأعينهم في الآخرة= لكان عندهم على الرجل أن لا يجزم بذلك، مهما تكرَّر إخبارُ الله تعالى بالرؤية وبعدم امتناعها، بل عليه أن يطالب الله عزَّ وجلَّ بدليل عقلي على الجواز. فلو لم يُسمِعه الله تعالى دليلًا، ورجع، فلقي رجلًا آخر، فأخبره, فذكر له الرجلُ قياسًا من مقاييسهم التي تقدَّم حالُها في الباب الأول يدل على الجواز، فنظر، فلم يتهيأ له قدحٌ فيه = لصدَّق حينئذ. وكذلك لو لم يذكر صاحبه قياسًا, لكن أراه عبارةً لابن سينا تُصرِّح بعدم الامتناع. فهذه قضية ذاك القول، بل هذه ثمرة التعمق، بل هذه من مقتضيات دعوى الإمامة بغير حق. بل هذه من نتائج استكراه العقل على أن يخوض فيما لم يُحِط به علمًا، ثم إذا سكن إلى شيء والتزمه كان عليه أن يهدم كل ما خالفه. بل هذه عقوبة الخروج عن الصراط المستقيم، واتباعِ غير سبيل المؤمنين، والرغبةِ عن طريق السلف الصالحين. وفوق هذا كلِّه، فإن كثيرًا من النصوص التي ينكر المتعمقون ظواهرها كانت عقول المخاطبين الأولين تقطع بوجوب ما دل عليه بعضها، وجواز ما دل عليه الباقي، كما مرَّ في الكلام مع ابن سينا، ويأتي طرفٌ منه في مسألة الجهة وغيرها. فاحتمال الامتناع العقلي كان منتفيًا عندهم، فعلى فرض بطلان بعض تلك المعاني، يلزم أن تكون كذبًا قطعًا حتى على زعم أن احتمال الامتناع العقلي قرينة.

فإن قيل: لم يكونوا ماهرين في المعقول، فكان عليهم أن يشكُّوا في جزم عقولهم. قلت: فعلى هذا لم يكن يلزمهم الإيمان البتة، بل على هذا لا يلزم أحدًا الإيمان؛ لأنه [2/ 322] مهما بلغ من المهارة فلا بد أن يكون فوق درجته ما هو أعلى منها. وأي باطل أبطلُ من هذا؟ وإنما الحق أن هناك قضايا فطرية يستوي في إدراكها العاقل والأعقل، وهناك قضايا يقع التفاوت فيها, ولكن يتفق أن يكون الرجل فيها أفضلَ من كثيرين كلُّهم أعقلُ منه، إما لأنه يُسِّر له من المشاهدة والتجربة والملاحظة والوجدان ما لم يُيَسَّر لهم، وإما لأنه عرضت لهم عوائق من الهوى والشبهات والاستكبار لم تعرض له. فإن قيل: أما القضايا التي يثبت بها الشرع فكانت عند المخاطبين الأولين، بل هي عند جميع المكلفين - إذا لم يعاندوا أو يقصِّروا - بغاية الوضوح، فلم يكن عليهم أن يشكُّوا في جزم عقولهم بها. ولكنا ندعي أن القضايا التي توافق ظواهر النصوص التي ندعي بطلانها, لم تكن عندهم بغاية الوضوح، فكان عليهم أن يشكُّوا في جزم عقولهم بها فقط. قلت: هذه دعوى باطلة، فإن من تدبَّرَ وجَدَ أن من القضايا التي تدَّعون بطلانها ما من شأنه أن يكون أوضح عندهم من بعض القضايا التي يتوقف ثبوتُ الشرع على ثبوتها، ومنها ما يكون مثلها، ومنها ما قد يكون دونها. ولكن كيف ترون عليهم أن يميِّزوا هذا التمييز الدقيق مع قولكم: إنهم لم يكونوا ماهرين؟ وهَبْ أنه كان يمكنهم ذلك، أفلم يوجب الله عزَّ وجلَّ عليهم اتباع الشرع ويخبرهم بأنه: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42]؟

أفلا يكون في موافقة الشرع لعقولهم على تلك القضايا ما يَجبُر ما عسى أن يكون عندهم من الشعور بأنَّ جزم عقولهم بها ليس بغاية الوضوح؟ هذا كلُّه إبلاغٌ في إقامة الحجة، وإلا فمن المعلوم أن الذي يصلح قرينةً إنما هو الامتناع العقلي الذي من شأنه أن يدركه المخاطب. فأما قول الرازي: "إن الله إنما يكون مُلَبِّسًا على المكلَّف لو أسمعه كلامًا يمتنع عقلًا أن يريد به إلا ما أشعَرَ به ظاهرُه"، فجوابه يُعلَم مما يأتي: اعلم أن للمتكلم إرادتين تتفقان تارة، وتختلفان أخرى. فالأولى: إرادة أن يكون خبره بحسب تركيبه مع قرائنه، حقُّه أن يَفهم منه المخاطبُ [2/ 323] هذا المعنى. فإذا لم يكن من المتكلم جهل ولا خطأ ولا عجز، فلا بد أن يجيء خبره مطابقًا لهذه الإرادة. الإرادة الثانية: إرادة المعنى، كمَن يقول: "رأيت أسدًا" فقد يريد في نفسه أسدًا حقيقيًّا، وقد يريد رجلًا شجاعًا، فإذا لم يقصد المتكلم الكذب والتلبيس فإنما يريد بهذه الإرادة ذاك المعنى الذي حقُّ الخبر أن يُفهمَ منه، فلا يختلف المعنى في الإرادتين إلا في الكذب والتلبيس، فاعرف ذلك. فإن عنى الرازي بقوله: " ... أن يريد به ... " الإرادة الأولى، أو الثانية مع تسليم أنها لا تكون في كلام الله تعالى إلا موافقة للأولى، فمآل عبارته أن المكلَّف لا يمكنه القطعُ بأن المعنى الذي فهمه من الخبر هو الذي حقُّه أن يُفهَم منه. فأقول: الرازي يخص هذه الدعوى بمطلبه الثالث حيث يحتمل الامتناع العقلي، ويعترف بحصول القطع في مطلبه الثاني، فأولى من ذلك حصوله في

مطلبه الثالث حيث يكون العقل موافقًا للشرع. إذا تقرر هذا، فالمخاطبون الأولون كانوا يعتقدون فيما اختص بإنكاره المتعمِّقون من معاني النصوص وجوبَ بعضه عقلاً, فيحصل لهم باعتراف الرازي القطعُ في ذلك. فإما أن يلزم باعتراف الرازي الكذبُ والتلبيسُ، وإما أن تكون تلك المعاني حقًّا، وهو الحق المطلوب. فإن قال: إنما عنيتُ بالعقل: العقل الصحيح، والمخاطبون الأولون إن اعتقدوا الوجوب العقلي أو الجواز فيما أقول بامتناعه عقلًا أو احتماله الامتناع عقلًا، فذاك خطأ منهم. قلت: المانع عندك من القطع إنما هو احتمال الامتناع، فمن انتفى عنده احتمال الامتناع حصل له القطع. والله عزَّ وجلَّ قد ارتضى عقول المخاطبين الأولين وكلَّفهم بحسبها, ولم يرشدهم الشرع إلى التعمق في المعقول فيما يتعلق بالدين، بل كره لهم ذلك. فعلى فرض أنهم أخطأوا لعدم تعمقهم، فذاك خطأ لا تبِعةَ عليهم فيه البتة، بل على فرض بطلان تلك المعاني تكون التبعة على من خاطبهم خطابًا يعلم أنَّ من حقَّه بالنظر إليهم أن يفهموا منه الباطل ويقطعوا به بدون تقصير منهم. [2/ 324] وهَبْ أن القطع لا يحصل في كل خبر، فالرازي معترف بحصول الظن القوي، وذلك اعتراف بأن تلك النصوص أو أكثرها مِنْ حقِّها أن يفهم المخاطبون الأولون منها تلك المعاني التي ينكرها المتعمقون. فإنَّه من الممتنع عادةً أن يخطئ المخاطبون الأولون ومن كان مثلهم في فهم تلك النصوص كلِّها خلافَ ما حقُّها أن يفهموه منها. وإذا ثبت هذا ثبت أن القول ببطلان تلك المعاني تكذيب لله عزَّ وجلَّ، ولا بدَّ.

وأيضًا فالإيقاعُ في ظن الباطل قريبٌ من الإيقاع في القطع به. ألا ترى أن الإنسان إذا أخبر صاحبَه بخبرٍ إنما يحصل لصاحبه الظنُّ لاحتمال أن يكون غلِطَ أو أخطأ أو جهِلَ أو عجَزَ أو تعمَّد الكذبَ، ومع ذلك فإنه إذا كذبَ فعليه تبعةُ الكذب. وإن عنى الرازي بقوله: " ... أن يريد به ... " الإرادة الثانية على زعم أنها قد تخالف في كلام الله تعالى الأولى، فحاصل عبارته على هذا: أن الله تعالى لا يكون مُلَبِّسًا إلا إذا امتنع عقلًا أن يكون مُلَبِّسًا، وهذا لا يظهر له معنى إلا أن يكون مغزاه أن الله تعالى إنما يكون مُلبِّسًا إذا امتنع عقلًا أن يكذب. فأما إذا لم يمتنع عقلًا أن يكذِبَ فالمصدِّق له هو المقصِّر، فعلى هذا تكون منزلةُ ربِّ العالمين عند الرازي منزلةَ الرجلَ الذي ديدنُه الكذب. فإذا كذب على قوم، فبنَوا على خبره، فنالهم ضرر، فلاموه= كان لغيره أن يقول لهم: هذا رجلٌ من عادته الكذب، فأنتم المقصِّرون إذْ عملتم بخبره، فإن لم تعرفوا عادته فقد كان عليكم أن تتثبتوا! والرازي لا يرضى هذا المثل لنفسه، ولا لأقلِّ أصحابه، بل لا يرضى به إنسان لنفسه! {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [النحل: 60]. وبَّخ اللهُ تعالى بهذا المشركين على قولهم: إن له سبحانه بنات، مع كراهيتهم أن تكون لهم بنات، ولا أرى المقالة السابقة إلا أكبر من هذه. وقال تعالى في الذين قالوا: إن له سبحانه ولدًا: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف: 5]. وقال سبحانه لقائلي ذلك: {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ

السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} [مريم: 89 - 90]. [2/ 325] وقد اتفق المسلمون على أنه يمتنع عقلًا أن يقع من الله تعالى كذبٌ. غاية الأمر أن أكثر الأشاعرة زعموا أن الامتناع إنما هو بواسطة إخبار الرسول به، مع امتناع أن يكذب الرسولُ. هذا، وقد رجع الرازي - ولله الحمد - إلى الاحتجاج بالنصوص كما تقدم في الباب الأول. وإنما أشبعتُ الكلام لأن كثيرًا من الناس تبعوه في مقالاته، ولم يلتفتوا إلى رجوعه، كما يأتي عن العضد وغيره. والله المستعان. ****

قول العضد وغيره

قول العضد وغيره كلام العضد وغيره في هذه المسألة تلخيص لكلام الرازي الذي تقدَّم نقلُ بعضه عن "مختصر الصواعق"، مع مخالفة يسيرة ستراها إن شاء الله تعالى. قال العضد في أواخر الموقف الأول من "المواقف" (¬1): "المطالب ثلاثة أقسام: أحدها: هو ما يمكن، أي لا يمتنع عقلًا إثباته ولا نفيه، نحو جلوس غرابٍ الآن على منارة الإسكندرية، فهذا لا يمكن إثباته إلا بالنقل. الثاني: ما يتوقف عليه النقل مثل وجود الصانع ونبوة محمَّد، فهذا لا يثبت إلا بالعقل، إذ لو ثبت (¬2) بالنقل لزم الدور. الثالث: ما عداهما نحو الحدوث إذ يمكن إثبات الصانع دونه، والوحدة، فهذا يمكن إثباته بالعقل، إذ يمتنع خلافه عقلًا بالدليل الدال عليه، وبالنقل لعدم توقفه عليه". أقول: هذه هي مطالب الرازي، وإنما اختلف الترتيب. قال السيد الجرجاني (¬3) في شرحه للمطلب الأول، وهو في ترتيب الرازي الثاني: "لأنه - يعني جلوس غراب على منارة الإسكندرية ونحوه - لمَّا كان غائبًا عن العقل ¬

_ (¬1) (ص 39، 40). (¬2) كذا في (ط). وفي المواقف: "أُثبتَ". (¬3) في "شرح المواقف" (2/ 50).

والحس معًا استحال العلم بوجوده إلا من قول الصادق، ومن هذا القبيل تفاصيل أحوال الجنة والنار والثواب والعقاب ... ". أقول: هذا يدل على ما قدَّمتُه من أن فرار المتكلمين إلى هذا التقسيم إنما هو محاولة للتخلص من إلزام ابن سينا، وقد مرَّ ما فيه. ثم قال العضد (¬1): [2/ 326] "الدلائل النقلية هل تفيد اليقين؟ قيل: لا، لتوقُّفه على العلم بالوضع والإرادة، والأول إنما يثبت بنقل اللغة والنحو والصرف، وأصولُها تثبت برواية الآحاد، وفروعها بالأقيسة، وكلاهما ظنِّيان. والثاني يتوقف على عدم النقل والاشتراك والمجاز والإضمار والتخصيص والتقديم والتأخير، والكلُّ لجوازه لا يُجزَم بانتفائه، بل غايته الظن. ثم بعد الأمرين لا بد من العلم بعدم المعارض العقلي، إذ لو وُجِد لَقُدِّمَ على الدليل النقلي قطعًا، إذ لا يمكن العمل بهما ولا بنقيضهما. وتقديم النقل على العقل إبطال للأصل بالفرع، وفيه إبطال للفرع، وإذا أدى إثبات الشيء إلى إبطاله كان مناقضًا لنفسه فكان باطلًا. لكن عدم المعارض العقلي غير يقيني (¬2)، إذ الغاية عدم الوجدان، وهو لا يفيد القطع بعدم الوجود. فقد تحقق أن دلالتها تتوقف على أصول ظنية؛ لأن الفرع لا يزيد على الأصل في القوة. والحق أنها قد تفيد اليقين بقرائن مشاهدة أو متواترة تدل على انتفاء الاحتمالات، فإنا نعلم استعمال لفظ الأرض والسماء ونحوهما في زمن الرسول في معانيها (¬3) التي تراد منها الآن، والتشكيك فيه سفسطة. نعم، في إفادتها اليقين في العقليات ¬

_ (¬1) "المواقف" (ص 40). (¬2) (ط): "غير يقين". والتصويب من "المواقف". (¬3) (ط): "معانيهما". والتصويب من "المواقف".

نظر؛ لأنه مبني على أنه هل يحصل بمجردها الجزم بعدم المعارض العقلي؟ وهل للقرينة مدخلٌ في ذلك؟ وهما مما لا يمكن الجزم بأحد طرفيه". أقول: أصل التشكيك كله للرازي، كما يُعلَم من بعض كتب أصول الفقه (¬1). وأقول: أما نقل اللغة والنحو والصرف، فلا ريب أن هناك ألفاظًا يتفرد بنقلها بعض أهل اللغة، وأوجهًا من النحو والصرف يتفرد بحكايتها بعض أهل العربية، لكن الأعم الأغلب من نقل اللغة والصرف والنحو التواتر، ومحاولة القدح في الجميع بأن البعض ظني مع العلم بأن الأكثر قطعي صنيعٌ أخسُّ من أن يُسمَّى سفسطة، كما يعلم من الموازنة بينه وبين ما تقدم عن السوفسطائية في الباب الأول. وأما النقل - والمراد به هنا نقلُ الشارع الكلمةَ عن معناها اللغوي إلى معنى شرعي - فقد وصف الله تبارك وتعالى كتابه بأنه {مُّبِينٌ} [المائدة: 15] وأنه {بَيَانٌ لّلِنَاسِ} [آل عمران: 138] وأنه {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 195] وقال: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 19]. وأوجب على الناس تدبُّره وتصديقَه والعملَ به، وقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]. ولا شبهة أنه ليس المراد حفظ ألفاظه فقط، وإنما المقصود [2/ 327] بحفظه بقاءُ الحجةِ قائمةً والهدايةِ دائمةً إلى قيام الساعة. وبهذا يعلم يقينًا أن الشارع لو نقل كلمةً عن معناها اللغوي إلى معنى آخر لبَيَّنَ ذلك للناس بيانًا واضحًا, ولو بينَ لَنُقِلَ بيانُه، لِتكفُّل الله عزَّ وجلَّ بحفظ الدين، ولِما يلزم من ¬

_ (¬1) انظر: "المحصول" للرازي (1/ 390 - 407) ط. الرسالة.

انقطاع ذلك أن تنقطع الحجة والهداية، فتقوم الساعة أو يُبعَث نبي آخر، وقد علمنا أن الدنيا باقية، وأن محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم خاتم النبيين. وقد تقرر في الأصول أن من الأخبار المقطوع بكذبها ما نُقِل آحادًا والعادة تقضي أنه لو وقع لنُقِل متواترًا، فما لم يُنقل آحادًا من ذلك فالقطع بعدم وقوعه أوضح. وفوق هذا فإن السياق كثيرًا ما يعيِّن معنى الكلمة حتى لمن يجهل أصل معناها. وكثير من الكلمات تتكرر في الكتاب والسنة ويدل السياق في كثير من تلك المواضع أو أكثرها على معنى الكلمة، وهكذا يكثر استعمالها على ألسنة حملة الشرع من الصحابة والتابعين. بل كثيرًا ما يدل السياق في الكلمة التي قد ثبت أن الشارع نقلها على أنها في ذلك الموضع ليست بالمعنى المنقولة إليه كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56] , وقوله تعالى: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32]، وغير ذلك (¬1)، فما بالك بما لم يأتِ أنه نُقِلَ إلى معنى آخر؟ ونحو هذا يأتي في الاشتراك والمجاز والإضمار والتخصيص والتقديم ¬

_ (¬1) علق عليه الشيخ محمد عبد الرزاق بقوله: "كأنه يشير إلى أن لفظ (يصلون) في الآية الأولى ولفظ (تزكوا) في الثانية منقول عن وضعه اللغوي، وهذا وإن ظهر في لفظ (يصلون) فلا يظهر في لفظ (تزكوا) ". وعقَّب عليه المؤلف قائلًا: "عبارتي واضحة في غير هذا، إنما أردت أن الشارع نقل لفظ الصلاة إلى ذات الركوع والسجود ولفظ الزكاة إلى أداء زكاة المال. ومع ذلك فسياق الآية الأولى يبين أن الصلاة فيها غير ذات الركوع والسجود، وسياق الثانية تبين أن الزكاة فيها غير أداء زكاة المال".

والتأخير. وقد تقرر أن الظاهر حجة، وأن من استعمل الكلمة في غير المعنى الظاهر منها كان عليه أن ينصب قرينةً، وإلا كان الكلام كذبًا. واحتمالُ قرينةٍ لم تُنقَل يردُّه ما تقدَّم من تكفُّل الله عزَّ وجلَّ بالبيان وبحفظ الشريعة، وقضاءِ العادة بأنها لو كانت هناك قرينة لنُقِلت. وكثيرًا ما تقوم الحجة القاطعة على أن الكلام على ظاهره، إما من الكلام نفسه بتركيبه وسياقه، وإما بمعونة نظائره في الكتاب والسنة، وقد أخطأ أفراد من الصحابة في فهم قوله تعالى: {... وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} [البقرة: 187]، مع أن خطأهم إنما كان لغفلتهم [2/ 328] عن السياق والقرائن، كما أوضحتُه في رسالة "أحكام الكذب"، ومع ذلك كان خطأ أولئك الأفراد سببًا لإنزال الله عزَّ وجلَّ بقية الآية زيادة في البيان والإيضاح، فكيف يُعقَل أن يكون النص في العقائد، ثم تخفى القرينة على جميع الصحابة ثم لا يبيِّن الله لهم، أو يعرفها جماعة منهم ثم لا يبالون بنقلها, ولا يبعثهم الله تعالى على نقلها نقلًا متواترًا يصل إليه علماء الرواية فيشيعونه ويذيعونه؟! ولا ريب أنه كما كان الصحابة مخاطبين بالنصوص فكذلك مَن بعدهم، وكما تترتب المفسدة الشديدة على جهل الأولين بالقرينة فكذلك من بعدهم. غاية الأمر أن القرينة وإن كانت في حق المخاطبين الأولين لا بد أن تقترن بالنص فقد يجوز أن يستغني بعض النقلة باشتهارها فلا ينقلها مع النص. لكن لا يلزم من هذا أن لا تُنقَل، بل لا بد من النقل لما تقدَّم. فإذا طلبها العلماء في مظانِّها فلم يجدوها، وحقُّها أن تُنقَل نقلاً متواترًا تواترًا يناله العلماء = قطعوا بأنها لم تُنقَل كذلك، فقطعوا بعدمها، فقطعوا بأن النص على ظاهره. وليس الحال فيما يتعلق بالعقائد كالحال فيما يتعلق بالأحكام، فإن

الأحكام يجوز فيها أن تنقل القرينة آحادًا فقط؛ لأن الخطأ في ذلك أمر هيِّن. وقد يكون الخطأ بالنظر إلى النصوص في الأحكام صوابًا بالنظر إلى الحكمة، فإن القوانين الشرعية تبنى على الأغلب في الحكمة، ولكن الله تبارك وتعالى يتولى تطبيق الحكمة بقضائه وقدره. فكما فرض الله تعالى الحكمَ بشهادة العدلين، وقد يتفق أن يخطئ عدلان، لكن الله تبارك وتعالى يتولَّى في مثل هذا تطبيق الحكمة بقضائه وبقدره؛ كذلك قد يعرف القاضي دليلاً عامًّا فيقضي به, وهناك مخصَّص له لم يقف عليه، فهذا القضاء وإن كان خطأً بالنظر إلى نفس الأمر بحسب الدلائل, فلعله صواب عند الله عزَّ وجلَّ بمقتضى الحكمة في تلك القضية. فأما العقائد فعلى خلاف هذا، إذ لا يُعقَل تغيُّر الحكمة فيها، وكما يضرُّ فيها القطعُ بالباطل فقريب منه الظن. فهَبْ أن العالم إذا بحث فلم يجد قرينة لم يقطع بظاهر النص، فلا بد أن يظنه، ولا يستطيع أن يدفع الظن عن نفسه، ومع الظن فلا بد أن يَحمد من أصحاب المقالات من يوافق ذاك الظن، ويذم من خالفه لغير حجة صحيحة. وبالجملة فمَن تدبَّر القرآن والسنة وآثار السلف لم يخفَ عليه الحقُّ في كثير منها، وأنه [2/ 329] لا يمنعه عن القطع والاستيقان - إن منعه - إلا الشبهات المحدَثة المبنية على التعمق. فأما من يقوى إيمانه ولا يبالي بتلك الشبهات، فإنه يقطع بدلالة كثير من تلك النصوص ويؤمن بها. وأما من لا إيمان له، وهو مفتون بالشبهات، فإنه [لا] يقطع بتلك الدلالة, ويكفر بها. وأما الذين يكونون كما قال الله عزَّ وجلَّ: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ} [النساء: 143] فقد عرفتَ حالَهم. ووراء ذلك أقوام يجهلون ما عليه العقولُ الفطريةُ كعقول المخاطبين الأولين أو يتجاهلون!

ويغفلون عن قوانين البيان أو يتغافلون! ولا يعرفون وهَنَ النظر المتعمَّق فيه، أو يعرفون وينكرون! ولا يتدبَّرون النصوص، فيعرفوا دلائلها القواطع، أو يتدبَّرون ويجحدون! {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 134]. وبالجملة، فأسلافنا على ثلاث طبقات: الأولى: من وَضَحَ لنا اعتصامُه بالكتاب والسنة، فهؤلاء الذين نتولاهم. الثانية: من وضَح لنا تهاونُه بالكتاب والسنة، فعلينا أن نتبرأ منهم. الثالثة: قوم خلطوا عملًا صالحًا وآخر سيئًا عسى الله أن يعفو عنهم ويعذرهم. وعلينا أن نحمدهم فيما أصابوا فيه، ونبرأ مما أخطأوا فيه. والله المستعان. فأما ما ذكره العضد من المعارض العقلي، فقد علمت حاله في الكلام مع الرازي. وقوله: "والحق أنها قد تفيد اليقين بقرائن مشاهدة أو متواترة"، ففيه قصور شديد، بل قد تفيد اليقين من أوجه أخرى كما سلف. ثم نُكِسَ، فقال: "نعم في إفادتها اليقين في العقليات نظر, لأنه مبني على أنه هل يحصل بمجردها الجزم بعدم المعارض العقلي؟ وهل للقرينة مدخل في ذلك؟ وهما مما لا يمكن الجزم بأحد طرفيه". أقول: لا ريب أنه من المتيسِّر في كثير من الكلام - إن لم نَقُل في أكثره - أن يحصل القطع بالمعنى الذي حقُّه أن يُفهَم منه. وإنكار هذا مكابرة. ثم إذا حصل القطعُ بهذا في كلام من يمتنع عليه قطعًا الغلطُ، حصل القطع بأنه أراد أن يكون الكلام كذلك، أي حقُّه [2/ 330] أن يُفهَم منه ذاك المعنى. فإذا كان ممتنعًا عليه قطعًا أن يكذب خطأ ولا عمدًا حصل القطعُ بصحة ذاك المعنى،

فيحصل القطع باستحالة أن يوجد دليل عقلي صحيح على بطلان ذاك المعنى. فمن زعم أن النصوص لا يحصل بها القطع بعدم المعارض العقلي، فإما أن يكون جاهلًا بقوانين الكلام، وإما أن يكون يُكذِّب المتكلِّمَ بالنصوص. فإذا زاد على هذا، فرَدَّ بعضَ تلك النصوص أو حرَّفها إلى غير المعاني التي يعلم أن حقَّها بحسب قانون الكلام أنْ تُفهَم منها، فهو مكذِّب للمتكلِّم بها, ولا بد. ومن وقف عن نفي حصول القطع وإثباته مع معرفته بقوانين الكلام، فإن كان واقفًا في المسائل التي يختلف فيها السلفيون وغيرهم أو غالبها، فهو غير جازم بتصديق المتكلِّم بالنصوص. وإن كان يردُّ كثيرًا من تلك النصوص أو يحرِّفها، فلا معنى لوقفه بل هو مكذِّب البتة. فإن قيل: قد يخطئ في فهم النصوص التي خالفها. قلت: إنما يتجه الحملُ على الخطأ حيث يقلُّ ويكون الغالب الصواب، ومع ذلك فهذا إنما يفيد الجازم بالتصديق، فأما المرتاب فسواء أخطأ أم تعمد. فأما القرائن فهي على ضربين: الضرب الأول: ما هو كالجزء من الكلام بأن ينصبه المتكلم أو يلاحظه تتميمًا لمقصود الكلام وهو الإفهام. فتارةً تكون فائدتها تأسيسية وذلك حيث يتوقف عليها الفهم أو تعيين المراد أو تبيينه، وتارةً تكون تأكيدية وذلك حيث توافق ما يدل عليه الكلام. الضرب الثاني: العلامات والأمارات الدالة على بعض الأمور، كأن نعلم أن القاضي مريض مرضًا خطرًا ثم نسمع البكاء من بيته، ويُدعَى الغسَّالون والحفَّارون ويحضر العلماء والأمراء، ثم تخرج من بيت القاضي جنازة على

هيئة جنائز العلماء، فيتسابق أهل العلم والفضل إلى حملها، ومعها أبناء القاضي بهيئة الغم والحزن، ثم توضع للصلاة، فيقدمون للإمامة أكبرَ أبناء القاضي، فيتقدم ويقوم حيث يقوم الإِمام من جنازة الرجل، ثم يُذهب بها، فيُدفن الميِّت في قبر بجانب قبر والد القاضي، ثم نرى الناس يتقدمون إلى أبناء القاضي على هيئة ما جرت به العادة في التعزية، إلى غير ذلك مما يدلنا على أن القاضي مات ولو لم نشاهد موته، ولم نسمع [2/ 331] مخبرًا يخبر بموته. وهذه الأمارات قد تقوى وتكثر حتى يحصل القطع بموت القاضي، وذلك حيث يستحيل في العادة أن يتفق اجتماع مثلها لغير موته. فإذا فرضنا أنه عندما سمعنا البكاء من بيت القاضي خرج طبيب كان قد دُعي قبل ساعة، فسئل، فقال: مات القاضي؛ فهذا الخبر قد يحصل به وبتلك الأمارات القطعُ حتى على فرض عدم الخبر. وهذا الضرب قد تحتاج إليه أخبار الناس لوجهين: الأول: تثبيت صدق المخبِر. الثاني: الدلالة على معنى الخبر حيث لم يكن صريحًا، كما لو كان الطبيب لما سئل قال: "مات رجل كبير". فأما الشرع، فإنه غنيٌّ عن تثبيت صدق أخباره، وإنما الشأن في ثبوت أنه أخبر، ثم في معنى الخبر، وكلا الضربين يدخل فيما يتعلق بالعقليات، كما يدخل في غيره. وجَارَى السيد الجرجاني في "شرح المواقف" المتن، ثم قال (¬1): "وقد ¬

_ (¬1) (2/ 58).

جزم الإِمام الرازي بأنه لا يجوز التمسك بالأدلة النقلية ... ". أقول: قد رجع الرازي كما تقدَّم، ولله الحمد. والسيد هذا هو المصرِّح في البيان كما في بحث الاستعارة من "حواشي عبد الحكيم على المطول" (¬1) بأن الكذب العمد لا ينصب صاحبه قرينةً، "بل يروج ظاهره لكن لا مانع من قصد التأويل في ذهنه". وجاراهما المحشي عبد الحكيم (¬2)، ثم قال: "ها هنا بحث مشهور، وهو أن المبنى لعدم المعارض العقلي في الشرعيات صدقُ القائل، وهو قائم في العقليات أيضًا، وما لا يحكم العقل بإمكانه ثبوتًا وانتفاءً لا يلزم أن يكون من الممتنعات، لجواز إمكانه الخالي من العقل. فينبغي أن يُحمل كلُّ ما عُلِم أن الشرعَ نطق به على هذا القسم، لئلا يلزم كذبه وإبطالُ قطع العقل بصدقه. فالحق أن النقلي أيضًا يفيد القطع في العقلي أيضًا, ولا يفيد ما ذكره الشارح. ولا مَخلصَ إلا بأن يقال: مراده أن النظر في الأدلة [2/ 332] أنفسها والقرائنِ في الشرعيات يفيد الجزم بعدم المعارض؛ لأجل إفادته الإرادةَ من القائل الصادق جزما. وفي العقليات إفادته الجزمَ بعدمه محلُّ نظرٍ، بناءً على أنَّ إفادته الإرادة (¬3) محل له، لا أنه (¬4) بعد ما عُلم مراد الشارع يقينًا في العقلي والنقلي يحصل الجزم بعدم المعارض في الثاني دون الأول، فإنه غير مسلم". ¬

_ (¬1) "فيض الفتاح على حواشي شرح تلخيص المفتاح" (4/ 152). (¬2) كذا في الأصل، والصواب: "المحشي حسن جلبي"، انظر "حواشيه" (2/ 58). (¬3) (ط): "لإرادة". والتصويب من الحواشي. (¬4) (ط): "لأنه". والتصويب من الحواشي.

أقول: لا شك أن هذا الذي زعمه مَخْلصًا هو مرادهم، لكنه لا يفيدهم شيئًا؛ لأن ذاك النظر لا يستند إلى شيء سوى أنهم وجدوا الشبهات التعمقية تخالف بعض النصوص، فلم يكن عندهم من قوة الإيمان ما يحملهم على اطِّراح تلك الشبه وتصديق الشرع، وكبُر عليهم أن يصرِّحوا بتكذيب الشرع، فحاولوا أن يتخذوا بين ذلك سبيلًا, وهيهات! وكذلك السعد التفتازاني جرى في "المقاصد" و"شرحها" (¬1) على أن النصوص لا يُحتج بها في مقابل تلك الشبه، وجَمْجَمَ في ذاك الموضع جمجمةً ينكشف حالها في كلامه في موضع آخر، كما يأتي في مسألة الجهة إن شاء الله تعالى. وقد أوضحت في رسالة "أحكام الكذب" (¬2) اتفاقَ البيانيين - ومنهم التفتازاني والجرجاني وعبد الحكيم - أن الكلام إذا كان حقُّه أن يُفهَم منه مع ملاحظة قرينة - إن كانت - خلافُ الواقع، لم تخرجه الإرادةُ التي هي التأويل الذهني عن كونه كذبًا، وتقدَّم بعضُ ما يتعلق بذلك، ومرَّت عبارة الجرجاني قريبًا. فمتى تحقق في النص أنه ظاهر بيِّن في معنًى، ولا قرينةَ تصرِف عنه، ففرضُ بطلان ذاك المعنى مستلزمٌ أن الكلام كذب، وأن المتكلم كاذب ولا بد. ويتأكد ذلك إذا كان الكلام بعيدًا جدًّا عن احتمال غير ذاك المعنى، فإنه يتحقق حينئذٍ عدم العلاقة مع عدم القرينة. وزعم الجرجاني في "شرح المواقف" (¬3) أن القول بأن الأدلة النقلية لا ¬

_ (¬1) (4/ 50). (¬2) انظر (ص 178 - 188، 195 - 203، 212). (¬3) (2/ 51, 52).

تفيد اليقين هو مذهب المعتزلة وجمهور الأشاعرة. فإن صح هذا، فهو بالنظر إلى متأخري الطائفتين، فأما المتقدمون فلا يُظَن بهم هذا. نعم، إنهم يخالفون بعض النصوص، ولكن قد يكون ذلك لاشتباه ما توهَّموا أنه دليل عقلي بالدليل العقلي الصحيح الذي من شأنه أن لا يخفى على المخاطبين الأولين، فتوهموا أنه قرينة صحيحة؛ أو لاشتباه معاني بعض الآيات عليهم، فظنوا أنها صريحة [2/ 333] فيما ذهبوا إليه، وأنها لذلك قرينة صحيحة تُوجب تأويلَ ما يخالفها. وقلَّ عالمٌ إلا وقد خالف بعضَ النصوص، وكما لا يلزم من ذلك إنكارُ أن تكون النصوص حجة، فكذلك لا يلزم إنكارُ أنها قد تفيد اليقين. بلى، إذا كثرت المخالفة وفَحُشَت فقد يتجه الحكم. والله أعلم. ****

المحكم والمتشابه

المحكم والمتشابه كثير من المتعمقين يسترون تكذيبهم للنصوص بدعوى أن ما يخالفونه منها هو من المتشابه المنهي عن اتباعه، وقد كثر الكلام في المحكم والمتشابه، وسألخِّص ما بان لي راجيًا من الله تعالى التوفيق. المعنى المتبادر من كلمتي "محكم" و"متشابه" أن المحكم هو المتقَن الذي لا خللَ فيه، والمتشابه هو الذي يشبه بعضه بعضًا. والقرآن كلام رب العالمين، أحكم الحاكمين، العلم القدير؛ فلا بد أن يكون كلُّه محكمًا. وينبغي أن يُعلَم أنَّ إحكام الشيء يختلف باختلاف ما أُعِدَّ له، ففي البناء يختلف الإحكام في الحصين ودار السكنى وقصر النزهة. وهكذا يختلف الإحكام في حُجَر الدار الواحدة كالمجلس والمخزن والمطبخ والحمام. ويختلف المُعَدُّ لغرض واحد باختلاف الأحوال، فالمجلس الذي يصلح للشتاء قد لا يصلح للصيف، والذي يصلح للصيف في بلد لا تكون فيه السَّموم قد لا يصلح في بلد تكون فيه. وهكذا الكلام، كما يقوله البيانيون في تفسير البلاغة. فمهما يكن في بعض الآيات مما يزعمه بعضُ الناس خللًا، فهو بالنظر إلى ما أُعِدَّتْ له الآية عين الإحكام. وهناك صفات تشترك فيها آيات القرآن، كالإحكام والصدق وغير ذلك من الصفات المحمودة. فيصح أن يقال: إن القرآن كلَّه متشابه، كما أنه كلَّه محكم. وقد وصفه الله تعالى [2/ 334] بهذين الوصفين، قال تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [فاتحة سورة هود]. وقال عزَّ وجلَّ: {يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} [فاتحة سورة يس].

وقال سبحانه: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} [الزمر: 23]. فيبقى النظر في قوله تعالى: {الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ...} إلى قوله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} فواتح سورة (آل عمران). دل هذا أن منه آيات محكمات غير متشابهات، وآيات متشابهات غير محكمات، فلا بد أن يكون الإحكام والتشابه هنا بمعنى غير الأول، فما هو؟ أشهر ما روي عن السلف في ذلك قولان: الأول: أن المحكم ما يَنسخ. والمتشابه المنسوخ. الثاني: أن المحكم: ما للناس سبيل معرفة تأويله، كآيات الحلال والحرام. والمتشابه: ما لا يعلم تأويله إلا الله، كوقت قيام الساعة. وقد عُرف من عادة السلف أنهم يفسِّرون الآية ببعض ما تتناوله، وذلك على سبيل التمثيل، وأنهم كانوا يطلقون النسخ على ما يشمل البيان بالتخصيص ونحوه، فيمكن أن يُشرح ذانك (¬1) القولان على ما يأتي: القول الأول: أن المحكمات هي كل آية بينة بنفسها، والمتشابهات ما تحتاج إلى أن يبيِّنها غيرُها، كالمنسوخ والمجمل بنوعيه. ¬

_ (¬1) (ط): "ذلك".

القول الثاني: أن المحكمات كل آية يتهيأ للسامع مع معرفة معناها الذي سيقت لبيانه أن [2/ 335] يعرف ما تتوق إليه نفسه مما يتعلق بما اشتملت عليه. والمتشابهات ما عدا ذلك. فالآيات المنذرة بقيام الساعة إنما سيقت لإعلام العباد أن لهم بعد هذه الحياة الدنيا الفانية حياةً خالدة يحاسَبون فيها على ما قدَّموه في الدنيا ويُجزَون به، ليستعدُّوا لها بالإيمان والعمل الصالح والاستكثار منه، واجتناب الكفر والظلم والفسوق والعصيان. فهذا هو المقصود، ولكن كثيرًا من النفوس تَخَطَّاه متعطشةً إلى معرفة وقت قيام القيامة. قال الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 187]. {حَفِيٌّ عَنْهَا}: معنيٌّ بالسؤال عن وقتها حتى علمتَه. فردَّ الله تعالى عليهم بأن رسوله ليس مثلهم في الحرص على معرفة ذلك, لأنه يعلم أن المهم هو الاستعداد لها، فهو مستعدٌّ، فلا يهمُّه أن تقوم بعد لحظة أو بعد ألوف القرون. وفي القرآن عدة آيات أخرى في هذا المعنى. وفي "الصحيحين" (¬1) عن أنس "أن رجلًا قال: يا رسول الله متى الساعة؟ قال: "ويلك! وما أعددتَ لها؟ " قال: ما أعددتُ لها إلا أني أحب الله ورسوله. قال: "أنت مع من أحببتَ". قال أنس: فما رأيت المسلمين فرحوا بشيء بعد الإِسلام فرَحَهم بها". عدل به النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى المهم، ونبَّهه على أن المحبة تقتضي المعيَّة. فمن صدقَ حبُّه لله ورسوله كان ¬

_ (¬1) البخاري (6171) ومسلم (2639).

معهما في الدنيا بالإيمان والطاعة والاتباع، فيحبُّه الله، فيُنيله المعيةَ في الآخرة بالنجاة والدرجات. قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]. وتفاوتُ المعية في الدنيا دليل تفاوت المحبة، وقضية ذلك تفاوت المعية في الآخرة، ويزيد الله تعالى من شاء من فضله. ويدخل في المتشابه على القول الثاني الآيات المتعلقة بذات الله تعالى وصفاته وغيبه، كقوله تعالى فيما قصَّه من خطابه لإبليس: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]. فالآيات سيقت لِحضِّ بني آدم على مخالفة الشيطان وتحذيرهم من طاعته أو فعل مثل فعله، وبيان عداوته لهم، وبيان إقامة الله عزَّ وجلَّ الحجة عليه، وبيان أن الله تعالى شرَّف أباهم بأن خلقه بيديه سبحانه، وبيان أن له سبحانه يدين كما يليق بعظمته. وهذه المعاني ظاهرة لا لبس [2/ 336] فيها، لكن النفس قد تتخطاها إلى الخوض في كُنْهِ اليدين وكيفيتهما. فعلى كلا القولين تكون تلك الآيات محكمةً، أي متقنةً على ما اقتضته الحكمة. وفي بقاء المنسوخ بعيدًا عن ناسخه، والإتيان بالمجمل بنوعيه ابتلاءٌ من الله لعباده، فيكون عليهم مشقة وعناء في استنباط الأحكام؛ لاحتياج ذلك إلى الإحاطة بنصوص الكتاب والسنة واستحضارها. وفي ذكر ما لا سبيل للعباد إلى معرفة كنهه وكيفيته، مع ما يتعلق بذلك من المعاني الظاهرة، ابتلاءٌ لهم ليمتاز الزائغ عن الراسخ. وقد تقدمت حكمة الابتلاء في أوائل الرسالة. ويبقى النظر في وجه تسمية تلك الآيات متشابهات. والذي يظهر أنه

ليس المراد أنها يشبه بعضها بعضًا، بل المراد - والله أعلم - أن كل آية منها متشابهة، أي يمكن أنْ تُحمَل على معان متشابهة في أنه لا يترجح بعضها على بعض رجحانًا بيِّنًا. وفي حديث "الصحيحين" (¬1): "الحلال بيِّن، والحرام بيِّن، وبينهما مشبَّهات ... ". وفي "فتح الباري" (¬2): "في رواية الأصيلي: "مشتبهات" ... وهي رواية ابن ماجه (¬3)، وهو لفظ ابن عون ... ورواه الدارمي (¬4) عن أبي نعيم شيخ البخاري بلفظ: "وبينهما متشابهات" ... ". واشتبهوا وتشابهوا يأتيان بمعنى واحد، شأنَ افتعل وتفاعل في كثير من الكلام. فالأمر الذي بين الحلال والحرام متشابه الحل والحرمة في الاحتمال، يحتمل كلًّا منهما كما يحتمل الآخر، لا يترجَّح فيه ذا ولا ذاك. فهكذا - والله أعلم - تكون الآية المتشابهة يتشابه فيها معنيان فأكثر. وانطباقُ هذا على المجمل الذي لا ظاهرَ له واضح، فأما الذي له ظاهر فإنما يقع حيث تكون هناك قرينة تُقاوِم ظهوره، كما أوضحته في رسالتي في "أحكام الكذب". وبذلك يصير في حكم الأول، هذا بالنسبة إلى الصحابة. فأما مَن بعدهم، فقد علم المسلمون أن في النصوص ما هو منسوخ نسخه نصٌ آخر بعيد عنه، وما هو عامٌّ خصَّصه نصٌّ آخر، وما هو مطلَق قيَّده ¬

_ (¬1) البخاري (52، 2051) ومسلم (1599) من حديث النعمان بن بشير. (¬2) (1/ 127). (¬3) رقم (3984). (¬4) رقم (2524).

نصٌّ آخر، وهكذا. فمن لم يستقرئ النصوص ويتدبرها، فإنه عندما يقف على ما هو في نفس الأمر منسوخ ولم يعلم ذلك، يكون [2/ 337] محتملًا في حقه أن يكون حكمه باقيًا، وأن يكون منسوخًا. وقِسْ على هذا حال الباقي، فثبت التشابه. وأما ما لا سبيل إلى علم تأويله، أو قل: كُنهه وكيفيته، كاليدين في قوله تعالى: {خَلَقْتُ بِيَدَىَّ} فإنه لا يبقى إلا التخرُّص، ولا حدَّ له، فقد يتخرص الإنسان وجهين أو أكثر، ومعلوم أنه لا يتبين واحد من ذلك بيانًا واضحًا، فثبت التشابه. وكلا القولين يمكن تطبيقه على السياق. أما القول الأول فأهل الزيغ يتبعون المنسوخ والمجمل، فتارةً يعيبون القرآن بالتناقض - زعموا - وبعدم البيان. وتارةً يتشبثون بذلك لتقوية أهوائهم كما فعل النصارى، إذ تشبثوا بما في القرآن من إطلاق الكلمة والروح على عيسى، وكما فعل المشركون عندما سمعوا قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98]. وتارةً يبتغون تأويله مع عدم تأهلهم لذلك وعدم رجوعهم إلى الراسخين، كما فعل الخوارج في قوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام: 57] وقوله: {لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس: 60]، ونحو ذلك. وأما القول الثاني فأهل الزيغ يتبعون تلك النصوص، تارةً ابتغاءَ الفتنة، بأن يعيبوا القرآن والإِسلام بزعم أنه جاء بالباطل، فيزعمون أن لفظ {بِيَدَىَّ} معناه أن لله سبحانه يدين مماثلتين ليدي الإنسان يجوز عليهما ما يجوز على

يدي الإنسان، ثم يقولون: وهذا باطل، ثم يوجِّه كلٌّ منهم ذلك إلى هواه. فمنهم من يستدل بذلك على أن القرآن ليس من عند الله، وأن محمدًا ليس بنبي، ومنهم من يستدل بذلك على أن القرآن جاء بالباطل مجاراةً لعقول الجمهور، إلى غير ذلك. وتارةً ابتغاءَ تأويله، فمنهم من يذهب يتخرَّصُ تخرُّصَ هشام بن الحكم وأصحابه وغيرهم من المشبِّهة الضالة، ومنهم من يحرِّف تلك النصوص بحملها على معاني بعيدة، كقول بعضهم: إن اليدين هما القدرة والإرادة وغير ذلك. وقوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} ينطبق على كلًّ من القولين، إلا أنه على القول الأول يكون قوله: {وَالرَّاسِخُونَ} عطفًا، والمعنى أن الراسخين يعلمون تأويله أيضًا. وعلى القول الثاني يكون قوله: {وَالرَّاسِخُونَ} استئنافًا، [2/ 338] فهم لا يعلمون تأويله، وإنما امتازوا بأنهم لا يتبعونه اتباعَ الزائغين، بل يقولون: {ءَامَنَّا بِهِ} الآية. ويدل على تصحيح كلا القولين أن من الناس من وقف على قوله: {إِلَّا اْللهُ} , ومنهم من لم يقف، وأنه صح عن ابن عباس أنه ذكر الآية، ثم قال: "أنا ممن يعلم تأويله" (¬1). وصح عنه أنه قرأ: "ويقول الراسخون" (¬2). والتأويل على القول الأول بمعنى التفسير، وعلى الثاني بمعنى الحقيقة التي يؤول إليها اللفظ. ففي قوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} تأويل اليدين: ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في "تفسيره" (5/ 220) وابن المنذر في "تفسيره" (258). (¬2) كما في "تفسير الطبري" (5/ 218) و"تفسير عبد الرزاق" (1/ 116) و"المستدرك" (2/ 289).

حقيقتهما وكنههما على ما هما عليه. واعلم أن التأويل يكون للفعل، كخرق صاحب موسى سفينة المساكين، وقتله الغلام، وإقامته الجدار؛ ويكون للرؤيا، ويكون للكلام. فتأويل الفعل إما مآله أي ما يؤول إليه، وهو المقصود من فعله، كسلامة السفينة من غصب الملك، وسلامة أبوَيِ الغلام من إرهاقه، وسلامة كنز اليتيمين؛ وإما بيان أن الفعل يؤول إلى ذلك المآل. قال الله تعالى فيما قصَّه عن صاحب موسى: {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف: 78]، ثم أخبره بأن القصد من تلك الأفعال أن تؤول ذاك المآل، ثم قال: {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف: 82]. وقال تعالى: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59، الإسراء: 35]. وتأويل الرؤيا: إما مآلها، وهو الواقع في نفس الأمر الذي هي تمثيل له، كسجود إخوة يوسف وأبويه له، فقال يوسف فيما قصَّه الله تعالى عنه: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ} [يوسف: 100]، وإما بيان ما تؤول إليه، وذلك تعبيرها. ومنه ما قصَّه الله تعالى من قول يعقوب [2/ 339] ليوسف: {وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} [يوسف: 6]، ثم قال تعالى: {وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} [يوسف: 21]، ثم قول يوسف: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} [يوسف: 101]. ويحتمل المعنيين ما قصَّه الله تعالى من قول صاحبي السجن ليوسف: {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ} [يوسف: 36]، وقوله لهما: {إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ} [يوسف: 37]،

وقول الناجي منهما للملك ومن معه: {أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ} [يوسف: 45] بعد قول أصحاب الملك: {وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ} [يوسف: 44]. وتأويل الكلام: إما مآله الخارجي، وهو الواقع في نفس الأمر إذا كان الكلام خبرًا، والفعل المأمور به إذا كان أمرًا، وقِسْ على ذلك. قصَّ الله عزَّ وجلَّ في سورة (الأعراف) حالَ القيامة والجنة والنار، ثم قال: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 52 - 53]. وقال تعالى: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ} إلى أن قال: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} [يونس: 37 - 39]. وفي "صحيح مسلم" (¬1) من حديث عائشة: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يُكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحان الله وبحمده اللهم اغفر لي، يتأول القرآن". تريد - والله أعلم -: يأتي بتأويل قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر: 3]. وإما مآله المعنوي كأن يقال: تأويل "رأيت أسدًا يَرْمي": رأيت رجلًا شجاعًا. وإما بيان أحدهما، وهذا هو المسمى بالتفسير. ويحتمل هذا والذي قبله قولُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ¬

_ (¬1) رقم (484)، ولفظه: "سبحانك اللهم ربَّنا وبحمدك، اللهم اغفر لي". وهو في "صحيح البخاري" (817، 4968).

ابن عباس: "اللهم فقَّهْه في الدين وعلِّمه التأويل" (¬1) فعلى الأول يكون المعنى: علِّمه المعاني التي تؤول إليها النصوص، وعلى الثاني يكون المعنى: علِّمه أن يؤوِّل النصوص، أي يبيِّن معانيها التي تؤول إليها. إذا تقرر هذا، فعلى القول الأول في المتشابه يكون المراد بتأويله: معانيه، وعلى القول الثاني يكون المراد: ما يؤول إليه من الحقائق. فكما أن تأويل الأخبار بالبعث هو البعث نفسه، [2/ 340] فكذلك تأويل الأخبار بأن لله يدين هو اليدان. والعلم الذي ينفرد الله تعالى به في شأن اليدين هو العلم بالكُنْه والكيفية, فأما العلم الإجمالي الذي يتوقف عليه الإيمان بأن لله تعالى يدين على الحقيقة، فهذا يحصل للمؤمنين، وبه يكونون مصدِّقين لخبر الله عزَّ وجلَّ. وبذلك يخلصون من تكذيبه، ويمتازون عن الزائغين المتبعين له ابتغاءَ الفتنة. وبقناعتهم به يمتازون عن الزائغين المتبعين له ابتغاءَ تأويله. فإن قيل: فإنَّ للمتعمقين أن يقولوا: الصواب عندنا من القولين المذكورين في المتشابه القول الأول، والنصوص التي تتعلق بالمعقولات كلُّها من المجمل الذي له ظاهر، ولا يمكن الوثوق بأن ذلك الظاهر هو المراد، إلا أن يقوم الدليل العقلي على وجوب ذاك الظاهر أو جوازه. ثم نقول: إن كلَّ نص من تلك النصوص يحتاج إلى بيانين: الأول: بيان صحة ذاك الظاهر أو بطلانه. الثاني: بيان المعنى المراد. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (3032، 3102) وابن حبان (7055) وغيرهما من حديث ابن عباس. وإسناده صحيح. وأصله في "الصحيحين" بغير هذا اللفظ.

فأما البيان الأول فيحصل بالعقل، ويحصل بقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] وقوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} السورة، فقد بيَّن العقلُ وهاتان الآيتان وغيرهما بطلانَ ظواهر تلك النصوص التي نتأولها، فوجب أن يكون المرادَ بها معانٍ أخرى صحيحة. فأما الزائغون فاتبعوا تلك الظواهر، وهم فريقان: الأول: الملحدون القائلون: هذه الأمور باطلة قطعًا، فالشرع الذي جاء بها باطل. الفريق الثاني: الذين يجهلون أو يتجاهلون بطلانَها، فيدينون بإثباتها. والسلف وأئمتنا أبرياء من الفريقين، غير أن السلف كانوا مع العلم ببطلان تلك الظواهر يمتنعون من الخوض في البيان الثاني، وأئمتنا اصطدموا بالزائغين الزاعمين أن تلك الظواهر هي المعاني المرادة من تلك النصوص، ويبالغون فيدَّعون أن تلك النصوص صريحة في تلك المعاني لا تحتمل التأويل. فاحتاج أئمتنا إلى بيان الاحتمال، فمن لم يجزم منهم بمعنى معيَّن فلم يأتِ (¬1) بما يُنكَر عليه. ومن جزم بذلك فقد ينكر عليه من يذهب إلى أن الراسخين لا يعلمون ذلك، أي أنهم وإن علموا بطلان الظاهر، وأن المراد غيره، فلا يعلمون التأويل وهو المعنى المراد؛ لاحتمال النص عدةَ معان. لكن قد يقال: إذا كان المعنى الذي جزم به ذلك الجازمُ صحيحًا في نفسه فالخطب يسهل (¬2)، [2/ 341] وذلك كالقائل: إن المراد باليدين في قوله ¬

_ (¬1) هذا في (ط): "فلم يأت" بإثبات الفاء، والأولى حذفها. (¬2) (ط): "تسهل".

تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] القدرة والإرادة، فإن هذا معنى صحيح في نفسه، للعلم بأن لله تعالى قدرةً وإرادة، وأن لهما تعلقًا بخلق آدم. فإن فُرِضَ أن المراد باليدين في الآية معنى آخر، فليس في الجزم المذكور كبيرُ حرج. فالجواب عن هذا كُلِّه يُعلَم مما تقدَّم في هذه الرسالة، وألخصه هنا بعون الله عزَّ وجلَّ: قولكم: "فلا يمكن الوثوق بأن ذلك الظاهر هو المراد، إلا أن يقوم الدليل العقلي على وجوب ذاك الظاهر أو جوازه" قول باطل مردود عليكم. بل الحق أنه إن دلَّ العقل الصريح - الذي يصح أن يكون قرينةً بأن يكون من شأنه أن لا يخفى على المخاطب إذا تدبَّر - على امتناع ذاك الظاهر لم يبقَ ظاهرًا، ضرورةً أن القرينة ركن من الكلام، وإلا كان النص برهانًا على الوقوع فضلًا عن الجواز، ضرورةَ أنه إن لم يكن كذلك كان كاذبًا، وقد قامت البراهين على استحالة أن يقع الكذب من الله تعالى ولا (¬1) من رسوله. فإن قيل: لا يلزم من فرض البطلان التكذيب، لجواز تأخير بيان المجمل الذي له ظاهر. قلت: من أهل العلم مَن يمنع تأخير البيان البتة، فعلى هذا تسقط شبهتكم من أصلها. ومن أجاز التأخير فمحلُّه في مجمل لا ظاهر له، أو له ظاهر بحسب اللفظ لكن تكون هناك قرينة صحيحة تدافع (¬2) ذاك الظهور، فيبقى النص في حكم المجمل الذي لا ظاهر له. فعلى هذا إذا كان للنص ظاهر، ولا ¬

_ (¬1) كذا في (ط): "ولا". والمعنى مفهوم من السياق، والأولى حذف "لا". (¬2) (ط): "كدافع" تحريف.

قرينة تدافعه وجب الجزم بأن ذاك الظاهر هو المراد. وهناك نصوص في الأحكام يمثَّلون بها لما ادَّعوه من جواز أن يكون للنص ظاهر غير مراد، ويتأخر بيانه. ونحن نجيب عنها إجمالًا فنقول: ما ثبت فيه الظهور، وثبت أنه لم تكن قرينة صحيحة تدافعه، وثبت أنه ورد بعده ما يخالفه؛ فإننا نصحِّح ذلك الظاهر ونقول: إنه هو المراد، وإن ما ورد بعده مخالفًا فهو ناسخ له. فإن ثبت أن المتأخر ورد قبل العمل بالمتقدم اخرنا جواز النسخ قبل العمل، ويكون المقصود من الحكم السابق إنما هو ابتلاء المكلفين ليتبين من يتقبل الحكم بالرضا والعزم على العمل به والاستعداد له. وعلى ذلك، فهذا إنما يتأتى في النصوص المتعلقة بالأحكام، دون النصوص المتعلقة بالعقائد. [2/ 342] والفرقُ بين النصوص التي قيل إنها كانت من المجمل الذي له ظاهر غير مراد، وهي متعلقة بالأحكام، وبين النصوص المتعلقة بالعقائد التي ينفرد المتعمِّقون بإنكار ظواهرها= من وجوه: الأول: أن الأولى يُعقَل فيها تأخُّرُ الحاجة، كآية تنزل في شوال، وتتعلَّق بحكمٍ لصيام رمضان. فأما الثانية، فالحكم المقصود منها يتعلق بالاعتقاد، وهو يحصل عقب السماع، فوقتُ الحاجة فيها هو وقتُ الخطاب. الوجه الثاني: أن الأولى يُعقَل فيها قيامُ قرينةٍ تُدافِع الظهور. وأما الثانية فبعيدة عن ذلك؛ لأن كثيرًا منها أو أكثرها كانت موافقة لعقول المخاطبين، فدلالةُ العقل تَدفع ما قد يحتمل من قرينة، وتُصيِّر النصَّ صريحًا في ظاهره.

الوجه الثالث: أن الأولى لا تخلو عن فائدة، فقد ذهب جمعٌ من أهل العلم إلى أن من احتاج إلى عمل، ووجد نصًّا يتعلَّق به إلا أنه يحتمل أن يكون له ناسخ أو مخصَّص أو مقيِّد، ولم يمكنه البحث حالًا = كان عليه العملُ بذلك النص، ثم يبحث. ويشهد لهذا أن استقبال بيت المقدس، نزل نسخُه، وأناسٌ من المسلمين غائبون عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فبقي الحكمُ في حقِّهم استقبالُ بيت المقدس حتى بلغهم النسخ. وكذلك تحريمُ الخمر نزل، وأناس من المسلمين غائبون، فبقي الحكم في حقِّهم حِلُّها حتى بلغهم التحريم. هذا مع أن من أولئك الغائبين من غاب بعد أن علِمَ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتوقع نسخ القبلة وتحريم الخمر. وعلى هذا فإذا جاز أن تنزل في شوال آيةٌ تتعلَّق بحكم صيام رمضان، وتكون مجملةً لها ظاهرٌ غيرُ مراد، وتكون هناك قرينة تدافع ذاك الظهور، فسمعها بعضُ المسلمين ثم غاب، وطالت غيبته حتى دخل رمضان= كان عليه العملُ بتلك الآية، وإن كان محتملًا عنده أنه نزل بعد غيبته ما يبيِّن أنها على خلاف الظاهر. فهذا ونحوه إنما يُعقل في الأحكام التي يعقل فيها الاختلاف، فيكون الحكم حقًّا في وقت أو حال، وباطلًا في غيره. فأما الاعتقاديات، فإنما تكون على حال واحدة. الوجه الرابع: أن الظهور في الأولى ضعيف واحتمال خلافه قوي. وذلك كالعموم، وقد قيل: ما من عامًّ إلاَّ وقد خُصَّ؛ وكالإطلاق وهو قريب من ذلك. والثانية كثير منها [2/ 343] أو أكثرها صريحة في المعاني التي ينكرها المتعمِّقون، وما كان كذلك فلا مجال لتجويز أن يكون ذلك المعنى غير مراد؛

لأن ذلك يكون تكذيبًا له. الوجه الخامس: أن الأولى قليلة حتى أنكر جمعٌ كثيرٌ من أهل العلم وقوعَ تأخير البيان، بل أنكروا جوازه. والثانية كثير جدًّا. الوجه السادس: أن الأولى توجد النصوص المبينة لها صريحةً واضحةً في البيان. والثانية لا يوجد نصٌّ واحدٌ بيِّن في خلافها. وقد مرَّ النظر في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وما معها. الوجه السابع: أن الأولى لا يكاد يُنقَل من أقوال الصحابة والتابعين ما يتعلَّق بها إلا مع بيانها. والثانية لا يصحُّ عن أحدٍ منهم قولٌ يخالف معانيها التي ينكرها المتعمقون، بل جاء عنهم مما يوافقها ويقرِّر معانيها وما يشبهها الكثير الطيب. وزعمُكم أن السلف كانوا يعتقدون بطلان تلك المعاني، من العجب العجاب. ودونكم الحقيقة. ***

الباب الرابع في عقيدة السلف وعدة مسائل

[2/ 344] الباب الرابع في عقيدة السلف وعدة مسائل من تدبَّر القرآن وتصفَّح السنة والتاريخ علِمَ يقينًا أنه لم يكن بين يدي السلف مأخذ يأخذون منه عقائدهم غير المأخذين السلفيين، وأنهم كانوا بغاية الثقة بهما والرغبة عما عداهما. وإلى ذلك دعاهم الشرع حتى لا تكاد تخلو آية من آيات القرآن من الحضِّ على ذلك. وهذا يقضي قضاء باتًّا بأن عقائدهم هي العقائد التي يُثمرها المأخذان السلفيان، يقطعون بما يفيدان فيه عندهم القطعَ، ويظنُّون ما لا يفيدانِ فيه إلا الظن، ويقفون عما عدا ذلك. وهذا هو الذي تبيِّنه الأخبار المنقولة عنهم، كما تراها في التفاسير السلفية وكتب السنة، وهو الذي نقله أصاغر الصحابة عن أكابرهم، ثم نقله أعلمُ التابعين بالصحابة وأخصُّهم بهم وأتبَعُهم لهم عنهم، ثم نقله صغار التابعين عن كبارهم، وهكذا نقله عن التابعين أعلمُ أتباعِهم بهم وأتبَعُهم لهم، وهلم جرًّا. وهذا هو قول السلفيين في عقيدة السلف، ويوافقهم عليه أكابر النظَّار. صرَّح بذلك من لم ينصِب نفسَه منصبَ المدافع عن الدين والمحامي عن عقائد المسلمين كابن سينا وابن رشد، وأشار إليه مَن نصبَ نفسه ذاك المنصب، كما يأتي في مسألة الجهة. وأما مَن دون هؤلاء فمضطربون: فمنهم من يقف، ومنهم من يزعم أن السلف كانوا واقفين في غالب العقائد التي اختلف فيها مَن بعدهم، يُطلقون بألسنتهم ما يوافق ظاهرَ النصوص، غيرَ جازمين بأنه على ظاهره أو على غير ظاهره. ومنهم من ينتحل السلف، فمن أتباع الأشعرية من يقول: كانت عقيدة السلف هي عقيدة الأشعرية نفسها!

فكانوا يرون بطلان ظواهر النصوص التي يقول الأشعرية ببطلانها، إلا أنهم لم يكونوا يخوضون في بيان معانيها الأخرى. فكانوا يعتقدون أن الله عزَّ وجلَّ غير مباين للعالم ولا محايث له ولا ولا، ومع ذلك يطلقون أنه تعالى على عرشه فوق سماواته، معتقدين بطلانَ ظاهرِ هذا، ساكتين عن معناه الذي يرونه صحيحًا! وهذا القول الأخير شهره المتعمقون حتى لا يكاد يخلو عنه كتاب من كتب الخلف في أي فنًّ كان. ويمكن أن يتشبثوا في الانتصار له بأن يقولوا: لا نزاع أن السلف كانوا أفضل الأمة [2/ 345] وخيرها وأعلمها بالدين وأثبتها على الحق، وكان أسلافنا من المتعمِّقين علماء خيارًا صالحين، يعرفون فضل السلف، فلم يكونوا ليخالفوهم. فيقال لهؤلاء: إن أسلافكم ذهبوا إلى أنه لا يُحتَجُّ في العقائد بالكتاب ولا السنة ولا أقوال السلف، بل كان المتبوعون منهم من أجهل خلق الله بالسنة وأقوال السلف، وإنما استقوا عقائدهم من النظر العقلي المتعمَّق فيه. ثم اعترض بعضَهم نصوصُ القرآن التي تخالف رأيه ورأي أشياخه من المتعمقين، فحاول صرفَها عن معانيها، مع أنه في مواضع أُخر يقرِّر أنَّ مثلَ ذلك الصرف لا يسوغ، وأن الخبر إذا كان صريحًا في معنًى، أو ظاهرًا فيه، ولا قرينة صحيحة تصرف عنه، فزعمُ أن ذاك المعنى غيرُ واقع تكذيبٌ للخبر، وإن زعم أن المخبِر تأوَّل في نفسه معنًى آخر، كما تقدم إيضاحه غير مرة. وهكذا تصدَّى بعضهم لنصوص السنة التي تخالف رأيه ورأي أشياخه، فردَّ بعضَها زاعمًا أنها مخالفة للعقل، وحاول صرفَ بعضها عن تلك المعاني، كما صنعوا في نصوص القرآن.

ولِعلمهم بظهور سخافتهم فيما يرتكبونه، يحاولون ترويجه بأمرين: الأول: زعمُهم أن الملجئ لهم إلى ذلك احتياجُهم إلى الدفاع عن الدين، لئلا يلزم من مجيئه بتلك النصوص بطلانُه! الثاني: عيب أئمة المؤمنين الذين يصدِّقون الله ورسوله، والسخرية منهم بأنهم لا يعقلون ولا يفهمون، ويسمُّونهم "الحشوية" وغير ذلك من الأسماء المنفِّرة، كما صنع ابن الجويني المدعو "إمام الحرمين" في ردِّه على كتاب "الإبانة" للحافظ أبي نصر السجزي، وذلك قبل أن يرجع ابن الجويني، ويتمنى الموت على دين عجائز نيسابور؛ وكما صنع ابن فورك في كتابه "مشكل الحديث". وإني والله ما آسى على ابن فورك، وإنما آسى على مسحوره البيهقي الذي امتلأ من تهويلات ابن فورك وغيره رعبًا، فاستسلم لهم، وانقاد وراءهم. وكان عبد الرزاق بن همام الصنعاني قد أخذ عن جعفر بن سليمان الضُّبَعي طرفًا من التشيع، فشنَّعوا عليه بذلك، حتى قال محمَّد بن أبي بكر المُقدَّمي: فقدتُ عبد الرزاق، ما أفسد جعفرُ بن سليمان غيرَه! [2/ 346] وليت شعري لو كان ابن فورك والبيهقي أدركا المُقدَّمي ما عسى كان يقول فيهما! فأما ما يعترضهم من كلام السلف، فإنهم يصرِّحون بقلة حياءٍ بأن تلك الأقوال تجسيم، كما صنعوا فيما صحَّ عن كبار أئمة التابعين من تفسير "الصمد" بأنه الذي لا جوف له. وقد مرَّ ذلك في الباب الثالث. فإذا كان أشياخكم يردُّون القرآن والسنة ويُجهَّلون أئمة السلف، فكيف تظنون بهم أنهم لا يخالفون السلف؟

فإن قيل: حاصل هذا أنهم كانوا يعتمدون النظر العقلي، وعلى هذا فما أثبته العقلُ فهو حقٌّ لا ريب فيه، وإذا كان حقًّا فلن يكون الكتاب والسنة مخالفين له، ولن تكون عقيدة السلف إلا موافقة له؛ لأنهم خير الأمة وأفضلها وأعلمها بالحق وأولاها به. قلتُ: قد مرَّ في الباب الأول أنَّ كلمة "العقل" وقع فيها التدليس، فهناك العقل الفطري الصريح الذي لا التباس فيه، وهو الذي أعدَّه الله تعالى لِيُبنَى عليه الشرع والتكليف، وهو الذي كان حاصلًا للأمم التي بعث الله تعالى فيها رسلَه وأنزل فيها كتبَه، وهو الذي كان حاصلًا للصحابة ومَن بعدهم من السلف. فهذا هو الذي يسوغ أن يقال: إن ما أثبته قطعًا فهو حقٌّ. ودون ذلك نظرٌ متعمَّق فيه، مبنيٌّ على تدقيق وتخرُّص ومقاييسَ يلتبس فيها الأمر في الإلهيات ويشتبه، ويكثر الخطأ واللغط، ويطول النزاع والمناقضة والمعارضة، على ما أوضحناه في الباب الأول. فهذا هو الذي اعتمده أشياخكم مع اعترافهم بوَهْنِه، ولذلك رجع بعض أكابرهم عنه كما سلف. فإن قالوا: وكيف يجوز أن يعتمد أولئك الأجلَّة على ما لا يسوغ الاعتماد عليه؟ قلت: لم يكونوا معصومين، وقد اختلفوا، وخالفهم مَن هو مثلُهم وأعرَفُ منهم بالنظر، وبحسبكم أن أكابرهم رجعوا في أواخر أعمارهم، كما مرَّ. هذا، وما منَّا إلا مَن يعتزُّ بآبائه وأشياخه، ويعِزُّ عليه أن يتبين أنهم كانوا على باطل؛ ولكن أقلُّ ما يجب علينا أن نعلم أن آباءنا وأشياخنا لم يكونوا معصومين. وهَبْ أنه يبعد عندنا جدًّا أن يكونوا تعمَّدوا الباطل، فما الذي يُبعِد

أن يكونوا غلِطوا وأخطأوا؟ وعلى كلِّ حال، فليسوا إلا أفرادًا من المسلمين وقد اختلف المسلمون. وفي الفرق الأخرى أئمة وأكابر إن [2/ 347] لم يكونوا أفضل من آبائنا وأشياخنا، فلم يكونوا دونهم. وإذا راجعتَ نفسك علمتَ أنك لست بأحقَّ من مخالفِك بالقناعة بما مضى عليه الآباء والأشياخ، وأنه كما يحتمل أن يكون آباؤه وأشياخه هم المُبطلين عمدًا أو خطأ، فمن المحتمل أن يكونوا هم المحقِّين. بل الحق أنه لا حقَّ لك ولا له في التضحية بالنفس والدين في سبيل التعصب الفارغ الذي يعود بالخسران المبين، وبالضرر على الآباء والأشياخ أنفسهم، كما مرَّ في أوائل الرسالة. فدع الآباء والأشياخ، والتمِس الحق من معدنه، ثم إن شئت فاعرِضْ عليه مقالةَ آبائك وأشياخك، فما وافقه حمدتَ الله تعالى على ذلك، وما خالفه التمستَ لهم العذر، برجاء أن يكونوا لم يتعمَّدوا (¬1) الباطل، ولم يقصِّروا تقصيرًا لا يسَعُه عفوُ الله تبارك وتعالى. بل قد ثبت رجوعُ بعض أكابرهم، كما مرَّ في الباب الأول، ولعل غيرهم قد رجع وإن لم يُنقَل. فإذا سلكتَ هذه الطريق فقد هُديتَ، وإن أبيت إلا التعصبَ لآبائك وأشياخك، والجمودَ على اتباعهم، فقد قامت عليك الحجة. والله المستعان. **** ¬

_ (¬1) في (ط): "يعتمدوا" خطأ.

الأينية، أو الفوقية، أو كما يقولون: الجهة

الأينية، أو الفوقية، أو كما يقولون: الجهة أطلقتُ أنا "الأينية"، لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قوله للسوداء: "أين الله؟ " قالت: في السماء. وفي آخر الحديث قولُه صلى الله عليه وآله وسلم لسيِّدها: "أعتِقْها فإنها مؤمنة" (¬1). وفي حديث أبي رزين العقيلي (¬2) قال: قلت: يا رسول الله أين كان ربُّنا قبل أن يَخلُق خلقَه؟ قال: "كان في عَماء، ما تحته هواء، وما فوقه هواء، وخَلَق عرشَه على الماء". وفي الأثر عن عثمان (¬3) أنه قال لرجل ظنَّه أعرابيًّا: "يا أعرابي أين ربُّك؟ ". [2/ 348] وأرى أن أسوق هنا عبارة الشيخ أبي الحسن الأشعري في كتابه "الإبانة" (¬4) تأنيسًا للمنتسبين إليه وغيرهم؛ لأنه أشهر المتبوعين في المقالات التعمقية، وفي "روح المعاني" (¬5) وغيره أن كتاب "الإبانة" آخر مصنفاته. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (537) من حديث معاوية بن الحكم السلمي. وأخرجه أبو داود (3284) بنحوه من حديث أبي هريرة. (¬2) أخرجه أحمد في "المسند" (16188) والترمذي (3109) وابن ماجه (182). وقال الترمذي: "حديث حسن". (¬3) ذكره ابن قتيبة في "غريب الحديث" (2/ 76). (¬4) كتاب مشهور للأشعري طبع مرارًا في الهند ومصر، وقد ذكره جماعة من القدماء ونقلوا عنه، منهم الحافظان الشافعيان أبو بكر البيهقي وأبو القاسم ابن عساكر وجماعة آخرون، كما في رسالة ابن درباس المطبوعة مع الإبانة. [المؤلف]. (¬5) (1/ 60). وانظر "مجموع الفتاوى" (5/ 93).

قال (¬1): "باب ذكر الاستواء على العرش: إن قال قائل: ما تقولون في الاستواء؟ قيل له: نقول: إن الله عزَّ وجلَّ مستوٍ على عرشه كما قال: {الرحَمَنُ عَلَى العَرشِ آستَوَى} [طه: 5]، وقد قال الله عزَّ وجلَّ: {إليةِ يصعَدُ الْكلَم الطيبُ} {فاطر: 10}، وقال: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158]، وقال عزَّ وجلَّ: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة: 5]، وقال حكاية عن فرعون: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر: 36، 37] كذَّبَ موسى عليه السلام في قوله: إن الله عَزَّ وَجَلَّ فوق السماوات. وقال عزَّ وجلَّ: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} [الملك: 16] , فالسماوات فوقها العرش، فلما كان العرش فوق السماوات قال: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} , لأنه مستو على العرش الذي فوق السماوات، وكل ما علا فهو سماء، فالعرش أعلى السماوات ... ورأينا المسلمين جميعًا يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء؛ لأن الله عزَّ وجلَّ مستو على العرش الذي هو فوق السماوات ... (سؤال) وقد قال قائلون من المعتزلة والجهمية: إن قول الله عزَّ وجلَّ: {الرحَمَنُ عَلَى العَرشِ آستَوَى} إنه استولى وملك وقهر، وإن الله عزَّ وجلَّ في كل مكان، وجحدوا أن يكون الله عزَّ وجلَّ على عرشه كما قال أهل الحق، وذهبوا في الاستواء إلى القدرة. ولو كان هذا كما ذكروه كان لا فرق بين العرش والأرض ... وزعمت المعتزلة ¬

_ (¬1) "الإبانة" (ص 33 - 37).

والحرورية والجهمية أن الله عزَّ وجلَّ في [2/ 349] كل مكان، فلزمهم أنَّه في بطن مريم، وفي الحشوش والأخلية، وهذا خلاف الدين، تعالى الله عن قولهم ... ". ثم ساق الكلام، وذكر حديث: "ينزل الله عزَّ وجلَّ كلَّ ليلة إلى السماء الدنيا ... " (¬1) من طرق، ثم قال: "دليل آخر: وقال الله عزَّ وجلَّ: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50]، وقال: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4]، وقال: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت: 11]، وقال: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 59]، وقال: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ} [السجدة: 4] فكلُّ ذلك يدل على أنه تعالى في السماء مستوٍ على عرشه ... دليل آخر: وقال جلَّ وعزَّ: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22]، وقال: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [البقرة: 210]، وقال: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} إلى قوله: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 8 - 18]، وقال عزَّ وجلَّ لعيسى بن مريم عليه السلام: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55]، وقال: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا ¬

_ (¬1) حديث متواتر أخرجه الأئمة في مصنفاتهم. وهو متفق عليه من حديث عدد من الصحابة. ويراجع "شرح حديث النزول" لشيخ الإِسلام ابن تيمية.

(157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 157 - 158]. وأجمعت الأمة على أن الله عزَّ وجلَّ رفع عيسى إلى السماء. ومِنْ دعاء أهل الإِسلام جميعًا إذا هم رغبوا إلى الله عزَّ وجلَّ في الأمر النازل بهم يقولون جميعًا: يا ساكن العرش. ومن حَلِفهم جميعًا: لا والذي احتجب بسبع سماوات ... دليل آخر: وقال عزَّ وجلَّ: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ} [الأنعام: 62]، وقال: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ} [الأنعام: 30]، وقال: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [السجدة: 12]، وقال عزَّ وجلَّ: {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا} [الكهف: 48] ... فلم يُثْبتوا (¬1) له في وصفهم حقيقة، ولا أوجب له الذي يُثبتون له بذكرهم إياه وحدانية، إذ كلُّ كلامهم يؤول إلى التعطيل، وجميع أوصافهم تدل على النفي أو التعطيل، .... وروت العلماء عن عبد الله بن عباس أنه قال (¬2): [2/ 350] "تفكَّروا في خلق الله عزَّ وجلَّ، ولا تفكَّروا في الله عزَّ وجلَّ، فإن بين كرسيه إلى السماء ألف عام، والله عزَّ وجلَّ فوق ذلك". دليل آخر: وروت العلماء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (¬3): "إن العبد لا تزول قدماه من بين يدي الله عزَّ وجلَّ حتى يسأله عن عمله". وروت العلماء أن رجلًا ¬

_ (¬1) يعني: الجهمية ومن معهم. [المؤلف]. (¬2) أخرجه أبو الشيخ في "العظمة" (2، 3، 22)، والبيهقي في "الأسماء والصفات" (618، 887). وإسناده ضعيف. وانظر "السلسلة الصحيحة" (1788). (¬3) أخرجه الترمذي (2417) من حديث أبي برزة الأسلمي مرفوعًا: "لا تزول قدما عبدٍ يومَ القيامة حتى يُسأل عن عمره فيمَ أفناه، وعن ... ". وقال: هذا حديث حسن صحيح.

أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بأَمة سوداء، فقال: يا رسول الله إني أريد أن أعتقها في كفارة، فهل يجوز عتقها؟ فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أين الله؟ " قالت: في السماء، قال: "فمن أنا؟ " قالت: أنت رسول الله. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أعتِقْها فإنها مؤمنة" (¬1). وهذا يدل أن الله عزَّ وجلَّ على عرشه فوق السماء". يعلم من عبارة الأشعري وغيرها أن الأمة كانت مجمعة على إثبات الأينية، غير أن السلف يثبتون الفوقية، والجهمية تقول بالمعية، أي أنه تعالى في كل مكان. وثبت السلفيون على قول السلف على الحقيقة، ووافقهم على ذلك في الجملة فِرَقٌ قد انقرضت. وصار المتعمقون إلى فرقتين: الأولى تدَّعي موافقةَ السلف، والأخرى تُنمَى إلى الجهمية. واتفقت الفرقتان على نفي الأينية، لكن الأولى تُطلق ما يظهر منه الفوقية، وتتأول ذلك بالفوقية المعنوية، والثانية: تطلق أنه تعالى في كل مكان، وتتأول ذلك بالعلم والقدرة، وغرضهما التمويه والتمهيد لتأويل النصوص وأقوال من سبق. وعلى كل حال، فعبارة الأشعري التى سقناها صريحة واضحة في أنه يثبت الفوقية الذاتية على الحقيقة، والمنتسبون إليه يواربون محتجِّين بأنه ينفي الجسمية. فيقال لهم: إن كان صرَّح بنفي الجسمية، فيحتمل حالُه أوجهًا: الأول: أن يكون رجع عن ذلك، وقد تقدَّم أن "الإبانة" آخر مصنفاته. الثاني: أن يكون إنما ينفي الجسمية المستلزمة للمحذور، على حد قول جماعة: "جسم لا كالأجسام". ¬

_ (¬1) سبق تخريجه (ص 534).

[2/ 351] الثالث: أن يكون يخص اسمَ الجسم بما يستلزم المحذور، ويرى أن ما ثبت لله عزَّ وجلَّ بما ذكره في عبارته السابقة من الفوقية والنزول كلَّ ليلة إلى السماء الدنيا، والمجيء يوم القيامة، وغير ذلك= لا يقتضي أنْ يسمَّى جسمًا، وإن كان يستلزم ما يسمِّيه غيرُه جسمية. وأيًّا ما كان فلنَدَع الأشعري، وننظر في أصل القضية. احتجَّ مثبتو الأينية مع النصوص الشرعية وإجماع السلف بأنه لا يُعقل الوجودُ بدونها. وهذا من أجلى البديهيات وأوضح الضروريات. أجاب المتعمقون بأن هذه بديهية وهمية. قال الغزالي في "المستصفى" (ج 1 ص 46): "السادس: الوهميات. وذلك مثل قضاء الوهم بأن كل موجود ينبغي أن يكون مشارًا إلى جهته، فإنَّ موجودًا لا متصلًا بالعالم ولا منفصلًا عنه، ولا داخلًا ولا خارجًا= مُحالٌ، وأن إثباتَ شيء مع القطع بأن الجهات الستَّ خالية عنه مُحالٌ ... ومن هذا القبيل: نفرةُ الطبع عن قول القائل: ليس وراء العالم خلاء ولا ملأ (¬1). وهاتان قضيتان وهميتان كاذبتان. والأولى منهما ربما وقع لك الأنسُ بتكذيبها لكثرة ممارستك للأدلة العقلية الموجبة إثباتَ موجودٍ (¬2) ليس في جهة ... وهذه القضايا مع أنها وهمية، فهي في النفس لا تتميز عن الأوليات القطعية ... بل يشهد به أول الفطرة كما يشهد بالأوليات العقلية". قال المثبتون: أما أن القضية بديهية فطرية، فحقٌّ لا ريب فيه. وأما زعمُ ¬

_ (¬1) كذا في (ط) هنا وفي المواضع الآتية, وفي "المستصفى" وكتب المتكلمين والفلاسفة: "ملاء" مراعاة لـ "خلاء". (¬2) (ط): "وجود". والتصويب من المستصفى.

أنها وهمية، فباطل، فإن القضايا الوهمية من شأنها أن ينكشف حالها بالنظر انكشافًا واضحًا، ومن شأن الشرع إذا كانت ماسَّةً بالدين كهذه أن يكشف عنها؛ وكِلا هذين منتفٍ. أما الشرع فإنما جاء بتقرير هذه القضية وتثبيتها وتأكيدها بنصوص صريحة تفوق الحصر، بل أصلُ بناء الشرائع على نزول المَلَك من عند الله عزَّ وجلَّ بالوحي على أنبيائه. وأما النظر، فقد اعترف الغزالي بأن أقصى ما يمكن من مخالفته لهذه القضية أنه ربما حصل الأنس بتكذيبها لمن كثرت ممارسته للأدلة العقلية ... ، ففي هذا أن تلك الأدلة كلَّها - فضلًا عن بعضها - لا تُثمِر اليقين، ولا ما يقرب منه، ولا ما يشبهه. وإنما غايتها أنه ربما حصل الأنس لمن كثرت ممارسته لها. [1/ 352] وقد شرح الغزالي نفسه في "المستصفى" (ج 1 ص 43) يقين النفس بقوله: "أن تتيقن وتقطع به، وينضاف إليه قطع ثان، وهو أن تقطع بأن قَطْعَها به صحيح، وتتيقن بأن يقينها فيه لا يمكن أن يكون به سهو ولا غلط ولا التباس؛ فلا يجوز الغلط في يقينها الأول، ولا في يقينها الثاني، ويكون صحة يقينها الثاني كصحة يقينها الأول، بل تكون مطمئنة آمنة من الخطأ؛ بل حيث لو حُكي لها عن نبي من الأنبياء أنه أقام معجزةً وادعى ما يناقضها، فلا تتوقف في تكذيب الناقل، بل تقطع بأنه كاذب، أو تقطع بأن القائل ليس بنبيّ، وأن ما ظن أنَّه معجزة فهي مخرقة، فلا يؤثر هذا في تشكيكها، بل تضحك من قائله وناقله. وإن خطر ببالها إمكانُ أن يكون الله قد أطْلعَ نبيًّا على سرٍّ به انكشف له نقيضُ اعتقادها، فليس اعتقادها يقينًا. مثاله قولنا: الثلاثة أقل من الستة ... ".

فأنت إذا عرضتَ قوله: "ربما حصل لك الأنس ... " على هذا اليقين الذي شرحه علمتَ أن بينهما كما بين السماء والأرض. فثبت أنَّ ما سمَّاه أدلةً عقليةً موجبةً إثباتَ موجوب ليس في جهة، ليس معنى إيجابها ذلك إثمارَ اليقين ولا ما يقاربه ولا ما يشبهه. فإذ كانت كذلك، فكيف يسوغ أن تعارض بها القضية البديهية الواضحة؟ فإن قيل: لكنها تزلزل اليقين بتلك القضية، فلا تبقى يقينية. قلت: أما زلزلة اليقين في جميع النفوس فممنوع. وأما زلزلته في بعض النفوس فلا يقدح. ألا ترى أن من العقلاء من شكَّ في البديهيات كلِّها وقدح فيها، كما مرَّ في الباب الأول؟ أَوَلا ترى أن الغزالي نفسه صرَّح في كتابه "المنقذ من الضلال" بأنه نفسه كان يشك في الحسِّيَّات والبديهيات، وأنه بقي على ذلك نحو شهرين. وقد تقدَّم حكاية ذلك في الباب الأول (¬1). فالحق أن اليقين قد يطرأ عليه التفاتٌ إلى الشبهات ورعبٌ منها إذا حُكِيتْ عن جماعة اشتهروا بالتحقيق والتدقيق، وأنهم اعتمدوها، فيعرض التشكك، وهذا هو الذي ربما يعرض هنا، بما ذكره الغزالي من كثرة الممارسة. وقد تقدَّم في الباب الأول أن القادحين في البديهيات احتجوا بقولهم: "من مارس مذهبًا من المذاهب برهةً من الزمان ونشأ عليه، فإنه [2/ 353] يجزم بصحته وبطلان ما يخالفه" (¬2). ولم يُجِب مخالفوهم إلا بقولهم: "الجواب أنه لا يدل على كون الكل كذلك". فإذا كانت كثرة الممارسة للباطل قد تُورِث الجزمَ ببطلان ما ¬

_ (¬1) ص (227 - 228 و235) [المؤلف]. انظر (ص 362 - 363 و372 - 373) من هذه الطبعة. (¬2) تقدم ص (216) [ص 346]. [المؤلف]

يخالفه، فكيف لا تُورث ما ذكره الغزالي هنا بقولَه: "ربما حصل لك الأنس"؟ وإذا وجب أن لا يُعْتَدَّ بالجزم الحاصل عن طول الممارسة, فكيف يُعتدُّ باحتمال حصول الأنس؟ ولو كان هذا كافيًا للتشكيك في البديهيات، وخشية أن تكون وهمية لثبَتَ القدحُ في عامة البديهيات، وطُوِي بساط العقل، وحقَّت السفسطة. وقد تقدَّم في الباب الأول قولُهم في الجواب عن شبهات القادحين في البديهيات: "ولا نشتغل بالجواب عنها, لأن الأوليات مستغنية عن أن يُذَبَّ عنها, وليس يتطرق إلينا شكٌّ فيها بتلك الشبه التي نعلم أنها فاسدة قطعًا، وإن لم يتيقن عندنا وجهُ فسادها" (¬1). أفلا يكفي مثبتي الأينية أن يجيبوا عما سمَّاه الغزالي "أدلة" بمثل هذا؟ فإن قيل: إن من تلك الأدلة البراهينَ على وجود واجب الوجود, لأنه لا يصح كونُه واجبَ الوجود إلا إذا لم يكن له أين، فجمودكم على تلك القضية يقتضي نفيَ وجودِ واجبِ الوجود. قلت: البراهين الصحيحة على وجوده لا تقيِّد بعدم الأين، بل منها ما يقضي بوجوده مع ثبوت الأين له. فأما المقاييس التي يتشبث بها النفاة فهي من الشبهات التي نتيقن فسادها، وإن فُرِض أنه لم يتعيَّن لنا وجهُه. أقول: وفي هذا مع الأدلة الشرعية ما يكفي الراغبَ في الحق الخاضعَ له، فلا حاجة بنا إلى التشاغل بتلك الشبهات. ولكن أشير ها هنا إلى نكات: الأولى: المتعمقون يقولون: إنَّ ذات البارئ عزَّ وجلَّ مجردة، ثم منهم من يُثبت ذواتٍ كثيرة مجردة حتى عدُّوا منها الملائكة وأرواح الخلق، ومنهم ¬

_ (¬1) ص 218 [ص 348]. [المؤلف]

من يقتصر على تجويز ذلك، وردُّوا على من نفى ذلك محتجًّا بأنه لو وُجدت ذات أخرى مجردةٌ لكانت مماثلةً لذات الله عزَّ وجلَّ، بأن المشاركة في التجرد لا تقتضي المماثلة التي تستلزم اشتراكَ الذاتَيْن فيما يجب ويجوز ويمتنع. [2/ 354] وأنت إذا تدبرت علمتَ ما في هذا القول، كما مرَّ في الباب الثالث (¬1). فإن قيل: الإنصافُ أنَّ مَن أثبت المشاركةَ في أمرٍ ما فقد أثبت المثل في مطلق ذاك الأمر، ولزومُ التساوي في الأحكام إنما هو بالنظر لذاك الأمر، فالمُثبِتُ الشريكَ في الوجود يلزمه تساوي الذاتين في أحكام مطلق الوجود. وهكذا يقال في التجرد والجسمية والأينية وغيرها, وليس المحذور هنا إثباتَ مثلٍ في أمرٍ ما, ولا إثباتَ مساوٍ في أحكام أمرٍ ما، وإنما المحذور لزوم حكم باطل. قلت: فهذا يوضِّح سقوطَ تشبُّثِهم بقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4]، ويبيِّن ما قدَّمناه في ذلك في الباب الثالث. ولله الحمد. ثم أقول: التجرد المزعوم إنما حاصله عند العقول الفطرية: العدمُ، وذلك منافٍ للوجود، فضلًا عن الوجوب. وعلى فرض أنه لا ينافي الوجود، فأيُّ فرق يُعقَل بين ذاتين مجردتين حتى تكون هذه روح بعوضة، وتلك ذات رب العالمين؟ فأما ذاتان مشتركتان في مطلق الأينية، فإن معقولية الفرق بينهما ¬

_ (¬1) (ص 278) [ص 436]. [المؤلف]

بغاية الوضوح، بل يجيء ذلك في الجسمية وإن كنا لا نقول إنه سبحانه وتعالى جسم. فأما زعمهم أن في أحكام مطلق الأينية ما ينافي الوجود، فإنما مستندهم فيه تلك الشبهات التي تقدَّم أنه لا يلزمنا التشاغل بها للعلم ببطلانها، مع اعتراف أشدِّ أنصارها تحمُّسًا ومجازفةً بأن غايتها أنها ربما تُورث مَنْ طالت ممارسته لها الإنس بمقتضاها، ومن تدبَّر تلك الشبهات علم وَهْنَها. [الثانية:] (¬1) يقول الفلاسافة: إن ذات الله تعالى وجود، ومال إلى هذا كثير من متأخري المتكلمين. وأُورِد عليهم أن الوجود عندهم أمر عدمي، فأجابوا بأنه لا مانع من تفاوت الأفراد، فيكون هذا الفرد المعروف من الوجود أمرًا عدميًّا، وفرد آخر منه واجب الوجود لذاته. ومن العجب أن يزعموا معقولية هذا، وينكروا معقولية التفاوت في الأينية، أو قل في الجسمية. [2/ 355] الثالثة: القائلون: "جسم لا كالأجسام" يقولون: لا حاجة لأن تُلزِمونا ذلك بإثباتنا الفوقية، بل نحن نُلزِمكم ذلك بما اعترفتم به أنه سبحانه موجود قائم بنفسه، بل ذلك هو معنى القيام بالنفس، وهذه من أجلى البديهيات. وذكروا أن بعضهم أورد هذا على أبي إسحاق الإسفرائني (¬2) ففرَّ إلى قوله: إنما أعني بقولي: "قائم بنفسه" أنه غير قائم بغيره. وهذا عجب! فإنه إذا كان موجودًا، والموجود إما قائم بنفسه، وإما قائم بغيره، فقوله: "غير قائم بغيره"، إنما حاصله أنه قائم بنفسه، فحاصل جوابه إنما يعني بقوله: "قائم ¬

_ (¬1) زيادة يدلّ عليها قوله فيما يأتي: "الثالثة". (¬2) كذا الأصل بالهمزة بين الألف والنون، والصواب (الإسفرايني) بالياء المكسورة كما في كتب الأنساب. وقال السيوطي: "قلت: بلا همزة". ونحوه في "معجم البلدان" إلا أنه زاد في ضبطها ياء أخرى ساكنة. يعني (الإسفراييني). [ن].

بنفسه" أنه قائم بنفسه! أقام يُعْمِلُ أيامًا رَوِيَّتَه ... وشبَّه الماء بعد الجهد بالماء (¬1) الرابعة: في عبارة الغزالي ذكر قضية الخلاء والملأ. فالفلاسفة ومن تبعهم يقولون: إنه ليس وراء العالم خلاء ولا ملأ، والعقول الفطرية تُنكِر ذلك، وأورد عليهم أنا إذا فرضنا إنسانًا على طرف العالم فمدَّ يده إلى خارجه، فإن امتدت فثَمَّ خلاء، وإلا فثم ملأ، فأجابوا باختيار أنها لا تمتد، لكن لا لوجود ملأ، بل لعدم شرط الامتداد، وهو الخلاء. أقول: وهذه القضية قريبة من سابقتها، فإن الفطر قاضية بأن الخلاء والملأ إذا فُقد أحدهما وُجِد الآخر، وعلى هذا ففقدُ الخلاء معناه وجود الملأ. الخامسة: مذهب المتكلمين أن الخلاء أمر عدمي، والأعدام قديمة. واستدل الفلاسفة على أنه أمر وجودي بأنه يشار إليه ويتقدر. ومما يدفع ذلك أنهم يقولون: ليس وراء العالم خلاء ولا ملأ. فلنفرض أن الله عزَّ وجلَّ خلق وراء العالم جدرانًا، وخلق لها خلاءً (¬2) تقوم فيه، وتكون بحيث يأتلف منها بناءٌ مربَّع يبقى جوفُه على ما كان عليه، فإن ذاك الجوف يكون مشارًا إليه متقدرًا، مع أنه بات على ما كان عليه. والعقول الفطرية يمكنها أن تتصور أن [2/ 356] يكون الكون كلّه جسمًا واحدًا مثلًا، وأن تتصور عدم الأجسام، وأن يكون الكون كله خلاءً؛ ولا تتصور ارتفاع الأمرين. وهذا يقضي بأن الخلاء ¬

_ (¬1) البيت لابن الذروي في "الوافي بالوفيات" (3/ 116). (¬2) أي بناء على زعمهم أن الخلاء أمر وجودي. [المؤلف].

أمر عدمي، فإنه يُعقل ارتفاعُ العدم بالوجود، وارتفاعُ الوجود بالعلم، ويستحيل ارتفاعهما معًا. وظواهر النصوص الشرعية توافق هذا، فإنها تعرضت لخلق العالم في الخلاء، ولم تتعرض لخلق الخلاء، بل في عدة نصوص ما يقتضي أن الخلاء لم يكن مرتفعًا (¬1) قطّ (¬2) قبل وجود الملأ. ولا أعلم من سلف المسلمين قائلًا بأن الخلاء أمر وجودي، وأنه لم يكن خلاء ولا ملأ حتى خلق الله تعالى ذلك. وقال لي قائل: هَبْ أن زاعمًا زعم أن الخلاء وجودي، وأنه قديم فأيُّ محذور في هذا؟ فإن الخلاء أمر لا يصلح أن يكون منه تخليق ولا تدبير، فلا يتوهم أن يكون هو ربَّ العالمين أو مغنيًا عنه أو شريكًا له. وقضيةُ الافتقار إليه على فرض كونه واجبًا لا تنافى الوجود، ولا تزيد عن الافتقار إليه على فرض أنه أمر عدمي، وعلى الافتقار إلى عدم المانع نحو ذلك. وأقول: خيرٌ لمن يَعرِض له مثلُ هذا أن يُعرِض عن التفكير، ويستغني بما ثبت بالقواطع. وسيأتي لهذا مزيد. والله الموفق. السادسة: من تدبَّر عبارة الغزالي علِمَ أنه يعترف أن العرب والصحابة والتابعين وكلَّ من لم تطُل ممارستُه لمزاعم الفلاسفة في التجرد، إذا أيقن أحدهم بوجود الله عزَّ وجلَّ فإنه يوقن بثبوت الأينية له ولا بدَّ. وإذ كانت الفِطَر قاضيةً بأنه سبحانه فوق سماواته، فإنهم يوقنون بذلك على ظاهره وحقيقته، فإذا سمعوا النصوص الشرعية الموافقة لذلك، فإنما يفهمون منها [2/ 357] تلك المعاني الموافقة، وليس في وسع أحد منهم أن يتوقف عن فهم ذلك ¬

_ (¬1) أي منفيًّا. [م ع]. (¬2) (ط): "فقط" تحريف.

منها. وعلى فرض أن في النصوص ما يُشعر بخلاف ذلك، فإنهم يحملونه على خلاف ما يُشعر به. وبهذا تعلم أن من ينكر تلك المعاني فإنه ينسب النصوص إلى الكذب البتة. ولعل للغزالي عباراتٍ أصرحَ مما ذكر، وفيما ذكر كفاية، فإن الأمر واضح جدًّا. وكذلك غيرهُ من المتعمقين يلزمهم ذلك، ويظهر من حالهم أنهم يعرفونه ويعترفون به. ومن آخرهم السعد التفتازاني، قال في "شرح المقاصد" (¬1): "فإن قيل: إذا كان الدين الحق نفَى الحيز والجهة، فما بال الكتب السماوية والأحاديث النبوية مُشعرة في مواضع لا تُحصى بثبوت ذلك، مِن غير أن يقع في موضع واحد منها تصريحٌ بنفي ذلك وتحقيق؛ كما كررت الدلالة على وجود الصانع ووحدته وعلمه وقدرته وحقيقة المعاد وحشر الأجساد في عدة مواضع وأكدت غاية التأكيد، مع أن هذا أيضًا حقيقٌ بغاية التأكيد والتحقيق لما تقرَّر في فطرة العقلاء - مع اختلاف الأديان والآراء - من التوجه إلى العلو عند الدعاء ومدِّ الأيدي إلى السماء؟ أجيب: بأنه لمَّا كان التنزيه عن الجهة مما تقصر عنه عقول العامة، حتى تكاد تجزم بنفي ما ليس في الجهة، كان الأنسب في خطاباتهم والأقرب إلى إصلاحهم والأليق بدعوتهم إلى الحقِّ ما يكون ظاهرًا في التشبيه وكون الصانع في أشرف الجهات، مع تنبيهات دقيقة على التنزيه المطلق عمَّا هو من سمة الحدوث". أقول: تدبَّرْ عبارةَ هذا الرجل، وانظر ما فيها من التلبيس والتدليس! أولًا: قوله: "الدين الحق". وكلُّ مسلم يعلم {إنَّ الدّيِنَ عِندَ اللهِ ¬

_ (¬1) (4/ 50, 51).

الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]، والإِسلامُ باعتراف هذا الرجل جاء بنقيض ما زعم أنه الدين الحق، وكذلك جميع أديان الأنبياء. فكيف يقول مسلم إن الدين الحق نقيض ما جاء به الأنبياء؟ ثم ما الذي جعله حقًّا، وهو مع مخالفته للكتاب والسنة وسائر كتب الله تعالى وأنبيائه منابذٌ لبدائه العقول؟! ثانيًا: قوله: "مُشعرة". ومن عرف الكتاب والسنة علم يقينًا أن نصوصهما بغاية الصراحة في الإثبات. [2/ 358] ثالثًا: قوله: "تقصر عنه عقول العامة". والحق أن العقول كلَّها تنبذه البتة، إلا أن من أرعبته شُبَهُ المخالفين لعظمتهم في وهمه، وطالت ممارسته لها، قد يأنس بالنفي الساقط كما تقدم. وهذا الأنس إنما هو ضربٌ من الحيرة، بل هو ضربٌ من الجنون! افرض أنك خرجت من بيتك، وعلى رأسك عمامة فيلقاك رجل، فيقول لك: لِمَ خرجتَ بلا عمامة؟ فترى أنه يمازحك، ثم يلقاك آخر فيقول لك نحو ما قال الأول، ثم يلقاك ثالث ثم رابع ثم خامس وهكذا= كلٌّ منهم يقول لك نحو مقالة الأول، ألا ترتاب في نفسك وتخاف أن تكون قد جُنِنتَ، حيث تعتقد أن على رأسك عمامة تراها، وتلمسها، وتُحِسُّ بثقلها؛ وهؤلاء كلهم ينفون ذلك. وقد ينتهي بك الحال إلى أن تحاول أن تُقِنعَ نفسك بأنه ليس على رأسك عمامة، وتتقي أن تخبر أحدًا بأنك تعتقد أن على رأسك عمامة. بل قد ترى الأَوْلَى أن ترمي العمامة عن رأسك حتى يتفق اعتقادك واعتقاد الناس. ولكن افرض أنك رميتَ بها واعتقدتَ أنه ليس على رأسك عمامة، فلقيك رجل، فقال لك: عمامتك هذه كبيرة، ثم لقيك آخر فقال: عمامتك هذه وسخة، ثم ثالث ثم رابع ثم خامس وهلم جرًّا= كلٌّ منهم يُثبت لك أن على رأسك عمامة، فماذا يكون حالك؟

وقد وقع ما يشبه هذا، فكانت نتيجته الجنون! أُخبِرتُ أنه كان في هذه البلدة امرأة من نساء كبار الأمراء، وكان لها ولدٌ يعارضها ويمانعها عما تريد، واشتدت مضايقته لها، حتى عمدت إلى جماعة أعدَّتْهم لمجالسة ولدها وصحبته وأن يتعمَّدوا مخالفته وإظهارَ التعجب منه في أشياء كثيرة. كانوا يقولون في الحُلْو: إنه حامض، وفي الأصفر: إنه أحمر، ونحو ذلك. ففعلوا ذلك وألحُّوا فيه حتى تشكك الولد وجُنَّ! وأُخبرت أنه كان لرجل من كبار الوزراء ابنٌ وابن أخ أو قريب آخر، وكان القريب عاقلًا ذكيًّا فطنًا مهذبًا نبيل الأخلاق، وكان الابن دون ذلك. فخاف الوزير أن يموت، فيتولى الوزارةَ قريبُه دون ابنه، فأعدَّ جماعةً لمجالسة قريبه، وأمرهم بمخالفته وتشكيكه. ففعلوا ذلك حتى جُنَّ المسكين. [2/ 359] رابعًا: قوله: "حتى تكاد تجزم بنفي ما ليس في الجهة". والحق الواضح أنها تجزم بذلك كلَّ الجزم، إلا أن يُبتلى بعضُها بالتشكك، كما مرَّ. خامسًا: قوله: "مع تنبيهات دقيقة". إن أراد بالتنبيهات قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، ونحوها فقد تقدم الجواب. وإن أراد الدلائل على وجوب الوجود والغنى، فقد تقدَّم الكلامُ فيها. وعلى كل حال، فليس في العقول الفطرية ولا النصوص الشرعية ما يصح أن يُعَدَّ قرينةً صارفة للنصوص عن المعاني التي زعم التفتازاني أنها مناقضة للدين الحق، فقد لزمه ونظراءه لزومًا واضحًا تكذيبُ النصوص ولا بد. وقد حكى بعضُ المحشِّين على "المواقف" عبارة التفتازانى المذكورة، ثم تعقبَّها بقوله: "فيه فتحُ بابِ الباطنية, لأنه كما جاز إظهارُ الباطل حقًّا في

آيات كثيرة وتقريرُه في عقول عامة المسلمين لقصور دركهم جاز مثلُه في سائر الأحكام كخلود العذاب الجسماني والجنة الجسمانية والصراط الأدقِّ من الشعر, لأن الصرف عن الظاهر لا يتوقف على استحالته، بل الاستبعادُ كافٍ، نحو رأيت الأسد في الحمام. فالحق أن تأويل تلك الآي بظهور المجرد في صورة الجسماني". أقول: حاصل هذا التعقب موضَّحًا أن الاستحالة المزعومة لم تكن تدركها عقول المخاطبين، فلا يصح عدُّها قرينةً تدفع الكذب. فإن زعمتم أنه اقتضت المصلحةُ التسامحَ في هذا، والاكتفاءَ بجواز الكذب من الله ورسله، والتكذيب منكم بأن هناك ما لو علمه المخاطبون لكان قرينةً, وهو الاستحالة العقلية= كان للباطنية أن يعتذروا بنحو عذركم عن تأويلاتهم لغالب العقائد والأحكام متشبِّثين بدعوى الاستبعاد، كما تشبثتم بدعوى الاستحالة. والحاصل أنكم تشبثتم باقتضاء المصلحة ودعوى وجود ما لو علمه المخاطبون لكان قرينة، وهذه حال الباطنية أيضًا. ثم أقول: الاستحالة مدفوعة، وكثير من النصوص صريح لا يحتمل غير ذاك المعنى الذي [2/ 360] ينكره المتعمقون. والكلام الذي يحتمل غير الظاهر احتمالًا قريبًا لا يُصرف عن ظاهره إلا بقرينة، ومن شرط القرينة أن يكون من شأنها أن لا تخفى على المخاطب. فإن لم يحتمل غيرَ ظاهره أو احتمله ولا قرينةَ، فزعمُ أن ظاهره باطل تكذيبٌ له ولا بد. ومعلوم من الدين بالضرورة استحالةُ أن يقع كذب من الله تعالى أو من رسوله فيما يخبر به عنه، والله تعالى أجلُّ وأعظمُ من أن يكذب لمصلحة، والمصلحة المزعومة قد مرَّ إبطالها في الباب الثالث، ومرَّ هناك ما يكفي ويشفي.

فأما ظهور المجرد في صورة الجسماني، فالتجرد المزعوم لا حقيقة له، وإنما المعروف تمثُّل الملك بشرًا, ولا يلزم من جواز ذلك في المخلوق جوازُه أو نحوُه في الخالق جل وعلا. ومع ذلك فتلك حال عارضة، والنصوص صريحة في حال مستقرة مستمرة، وبدائهُ العقول تقضي بذلك كما لا يخفى. والله الموفق. السابعة: المباحث التي تتعلق بالتدقيق في شأن وجود الله عزَّ وجلَّ، يلتبس فيها الأمر، فيزلُّ النظر من الوجود الواجب الذاتي الذي لم يزل إلى الوجود الممكن والحادث، كما تقدَّم في الباب الثالث (¬1)، وتقدم هناك المخلص من أمثال ذلك. وامتثالًا لذلك نقول: إننا لا نطلق ما لم يطلقه الشرع ولا وضح به الحق، وإنما ندين بما ثبت بالمأخذين السلفيين، عالمين أنه لا يلزم الحقَّ إلا حقٌّ. فكلُّ ما ثبت بالمأخذين السلفيين فهو حق، وما أُورد عليه من الإلزامات التعمقية لم يخل الحال أن يكون اللزوم باطلًا، أو يكون اللازم حقًّا لا ينافي ما ثبت بالمأخذين السلفيين. اللهم يا مقلِّبَ القلوب ثبِّت قلوبَنا على دينك، واهدنا لما اختُلِف فيه من الحق بإذنك، إنه لا حول ولا قوة إلا بالله. **** ¬

_ (¬1) ص 284 - 289 [ص 444 - 449]. [المؤلف]

القرآن كلام الله غير مخلوق

القرآن كلام الله غير مخلوق هذه القضية كانت بغاية الوضوح في عهد السلف، ثم جحدها الزائغون، ثم التبس الأمر فيها على بعض الناس. وقد كفى فيها وشفى ما بيَّنه إمامُ السنة أبو عبد الله أحمد بن محمَّد بن حنبل، [2/ 361] ثم ما حرَّره الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، ثم ما حقّقه ونقّحه شيخُ الإِسلام أبو العباس تقي الدين ابن تيمية. ولكن لا أخلي هذه الرسالة عن إشارة إلى ذلك، فأقول: العقول الفطرية قاضية بأن لله تعالى الكمال المطلق والقدرة التامة، وأنه متى شاء أن يتكلم الكلام الحقيقي المعروف بعبارة وحرف وصوت تكلَّم كيف شاء. ثم جاءت كتب الله تعالى ورسله بإثبات أنه سبحانه تكلَّم ويتكلَّم، وكلَّم ويكلِّم، وقال ويقول، ونادى وينادي، وأن القرآن هذا المعروف كلامُ الله على الحقيقة الحقة. وقد أخبر الله تعالى أن الجمادات قد تتكلَّم كلامًا حقيقيًّا، وأن أعضاء الإنسان تنطق يوم القيامة فتشهد عليه. وأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يسمع تسليم الحجر والشجر عليه، وأسمَعَ أصحابَه تسبيحَ الحصى. فكان من المعلوم عند الناس أن التكلُّم بالعبارة والحرف والصوت ليس موقوفًا على الآلات التي يتكلم بها الإنسان، بل قد يتكلم المخلوق بغيرها، فكيف الخالق عزَّ وجلَّ؟ فلم يلزم من تكلُّم الله عزَّ وجلَّ أن يكون له جوف أو غيرُ ذلك مما هو منزَّه عنه. ثم جحد الزائغون كلام الله عزَّ وجلَّ، وحاولوا تحريف معاني النصوص التي لا تحصى تحريفًا ليس بخير من التكذيب الصريح، بل لعله شرٌّ منه. ثم حاول بعض الناس التلبيسَ، فحمل النصوص على كلام نفسي ليس بعبارة ولا حرف ولا صوت، بل زاد أنه معنى واحد لا تنوُّع فيه ولا تعدُّد، فلا أمر فيه ولا

نهي, ولا خبر ولا ولا. ثم لم يزالوا في تخبيط وتخليط، إلى أن صاروا إلى ما في "روح المعاني" (ج 1 ص 15) (¬1) قال: "الذي انتهى إليه كلام أئمة الدين كالماتريدي والأشعري وغيرهما من المحققين أن موسى عليه السلام سمع كلام الله تعالى بحرف وصوت، كما تدل عليه النصوص التي بلغت في الكثرة مبلغًا لا ينبغي معه تأويل، ولا يناسب معه قال وقيل". ثم ذكر آيات النداء، ثم قال: "واللائق بمقتضى اللغة والأحاديث أن يفسَّر النداءُ بالصوت، بل قد ورد إثباتُ الصوت لله - تعالى شأنُه - في أحاديث لا تحصى، وأخبار لا تُستقصى. روى البخاري في "الصحيح" (¬2): "يحشُر الله العبادَ فيناديهم بصوتٍ يسمعه مَن بَعُدَ كما يسمعه مَنْ قَرُبَ: أنا الملك، أنا الديَّان". ثم ذهب إلى تخليط المتصوفة، إلى أن قال (¬3): [2/ 362] "والفرق بين سماعِ موسى عليه السلام كلامَ الله تعالى وسماعِنا له على هذا: أن موسى عليه السلام سمع من الله عزَّ وجلَّ بلا واسطة لكن من وراء حجاب، ونحن إنما نسمعه من العبد التالي"، وعاد إلى تخليط المتصوفة. فأقول: قد أمر الله تبارك وتعالى عباده بتدبر القرآن وتصديقه والإيمان به ¬

_ (¬1) (1/ 17) ط. المنيرية. (¬2) ذكره البخاري (13/ 453 مع "الفتح") تعليقًا من حديث عبد الله بن أنيس. وأخرجه في "الأدب المفرد" (970) كما أخرجه أحمد في "المسند" (16042) والحاكم في "المستدرك" (2/ 437، 4/ 574) وغيرهما. وإسناده حسن. (¬3) (1/ 18).

على حسب فطرهم وعقولهم الفطرية، ولم يكلِّفهم تعمُّقَ المتكلمين، فضلًا عن تغلغل المتصوفة، سواء أكان عن تخيُّل أم عن تعقُّل. وفي "الصحيحين" (¬1) عن ابن عمر "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنَّا أمة أمية، لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا (أشار بيديه مبسوطةً أصابعهما) وعقد الإبهامَ على الثالثة. ثم قال: الشهر هكذا وهكذا وهكذا (أشار بهما مبسوطةً أصابعُهما في الثلاث كلها) يعني تمام الثلاثين، يعني مرَّةً تسعًا وعشرين ومرةً ثلاثين". وإذ قد اعترف المتعمِّقون بأن الله تبارك وتعالى يتكلم بلا واسطة بعبارة وحرف وصوت، ويُسْمِع كلامَه مَن يشاء من خلقه؛ فهذا هو الذي قامت عليه الحجة، وعليه سلف الأمة وأتباعهم، ولم يبق إلا التنطُّع في البحث عن الكيفية، وهي من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله، ولا يبتغيه إلا أهل الزيغ {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 7 - 8]. **** ¬

_ (¬1) البخاري (1913) ومسلم (1080/ 15).

الإيمان قول وعمل يزيد وينقص

الإيمان قول وعمل يزيد وينقص اشتهر عن أبي حنيفة أنه كان يقول: ليس العمل من الإيمان, والإيمان لا يزيد ولا ينقص. وروى الخطيب (¬1) عن جماعة من أهل السنة إنكارَهم ذلك على أبي حنيفة، ونسبتَه إلى الإرجاء. فتكلم الكوثري في تلك الروايات، وحاول التشنيع على أولئك الأئمة، وأسرف وغالط على عادته؛ فاضطررتُ إلى مناقشته دفعًا لتهجُّمه بالباطل على أئمة السنة. قال الكوثري (ص 40) من "تأنيبه": "يرى أبو حنيفة أن العمل ليس بركن أصلي من الإيمان, بحيث إذا أخلَّ المؤمنُ بعمل يزول منه الإيمان؛ كما يرى أن الإيمان هو العقد الجازم بحيث لا يحتمل النقيض، ومثلُ هذا الإيمان لا يقبل الزيادة والنقص". [2/ 363] وقال (ص 43): "وحيث كان أبو حنيفة وأصحابه لا يرون تخليد المؤمن العاصي في النار، رماهم خصومُهم بالإرجاء، وأعلنوا عن أنفسهم أنهم منحازون إلى الخوارج في المعنى". وقال (ص 44): "والإرجاء بالمعنى الذي هم يقولون به هو محض السنة، ومن عادى ذلك لا بد أن يقع في مذهب الخوارج أو المعتزلة شاعرًا أو غير شاعر". ثم قال: "كان في زمن أبي حنيفة وبعده أناس صالحون يعتقدون أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص؛ ويرمون بالإرجاء من يرى أن الإيمان هو العقد والكلمة، مع أنه الحق الصُّراح بالنظر إلى حجج الشرع. قال الله تعالى: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} (¬2) [الحجرات: 14]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ¬

_ (¬1) في "تاريخ بغداد" (13/ 371 وما بعدها). (¬2) وقع في "التأنيب": "قلوبهم" سهوًا. [المؤلف].

ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره". أخرجه مسلم عن ابن عمر (¬1)، وعليه جمهور أهل السنة. وهؤلاء الصالحون باعتقادهم ذلك الاعتقاد أصبحوا على موافقة المعتزلة أو الخوارج حتمًا، إن كانوا يعدُّون خلاف اعتقادهم هذا بدعة وضلالة؛ لأن الإخلال بعمل من الأعمال - وهو ركن الإيمان - يكون إخلالًا بالإيمان, فيكون من أحل بعمل خارجًا من الإيمان, إما داخلًا في الكفر كما يقوله الخوارج، وإما غير داخل فيه، بل في منزلة بين منزلتين - الكفر والإيمان - كما هو مذهب المعتزلة. وهم من أشد الناس تبرؤًا من هذين الفريقين، فإذا تبرَّأوا (¬2) أيضًا مما كان عليه أبو حنيفة وأصحابه وباقي أئمة هذا الشأن يبقى كلامهم متهافتًا غير مفهوم. وأما إذا عدُّوا العمل من كمال الإيمان فقط، فلا يبقى وجه للتنابز والتنابذ، لكنَّ تشدُّدَهم هذا التشددَّ يدل على أنهم لا يعدُّون العمل من كمال الإيمان فحسب، بل يعدُّونه ركنًا منه أصليًّا، ونتيجة ذلك كما ترى ... فإرجاء العمل من أن يكون من أركان الإيمان الأصلية هو السنة، وأما الإرجاء الذي يُعَدُّ بدعة، فهو قول من يقول: لا تضرُّ مع الإيمان معصية وأصحابنا أبرياء من مثل هذا القول ... ولولا مذهب أبي حنيفة وأصحابه في هذه للزِم إكفارُ جماهير المسلمين غير [2/ 364] المعصومين، لإخلالهم بعمل من الأعمال في وقت من الأوقات، وفي ذلك الطامة الكبرى". أقول: اختلفت الأمة فيمن كان مؤمنًا ثم ارتكب كبيرة. فقالت الخوارج: يكفر، وقالت المعتزلة: لا يكفر ولكن يزول إيمانه، وإذا مات عن غير توبة دخل النار وخلد فيها مع الكفار. وقالت المرجئة: لا يكفر ولا يزول إيمانه ولا يدخل النار، لا يضرُّ مع الإيمان ذنب، كما لا تنفع مع الكفر طاعة. وقال أهل ¬

_ (¬1) كذا الأصل، أعني "التأنيب" وهو خطأ، والصواب: "عمر بن الخطاب" فإنه من مسنده عند مسلم (8) وغيره، وإنما رواه ابن عمر عنه، فتوهم الكوثري أنه من مسند ابن عمر. [ن]. (¬2) (ط): "تبرَّموا". والتصويب من "التأنيب".

السنة: لا يكفر، ولا يزول إيمانه البتة بمجرد ارتكابه الكبيرة ولكنه يكون ناقصًا. وقال بعض الأئمة: إلا تركَ الصلاة المكتوبة عمدًا فإنه كفر، وحقَّق بعضُ أتباعهم أن الترك نفسه ليس كفرًا, ولكن الشرع قضى أنه لا يكون إلا من كافر. يستدل المرجئة والمعتزلة والخوارج بنصوص ظاهرُها أن المؤمنين لا يعذَّبون، ويستدل المعتزلة والخوارج بنصوص ظاهرُها أن مرتكب الكبيرة لا يبقى مؤمنًا، ويستدل الخوارج بنصوص ظاهرُها أن ارتكاب بعض الكبائر كفر. وأهل السنة يجيبون عن الأولَين بأن المراد الإيمان الكامل، وعن الثالث بأنه كفر دون كفر، فهو كفر يقتضي نقص الإيمان, لا زواله. ويدفع المرجئةُ الجواب المذكور بقولهم: الإيمان لا يزيد ولا ينقص، والأعمال ليست من الإيمان. وهذا القول قد كان أبو حنيفة يقوله، لكن يقول الكوثري: إنه مع ذلك مخالف للمرجئة في أصل قولهم، وهو أنه لا يضر مع الإيمان عمل. ولا غرض في النظر في هذا، وتتبُّع الروايات. بل أقول: تلك الموافقة التي يعترف بها تكفي لتبرير إنكار الأئمة. أما من لم يعرف منهم أن أبا حنيفة وإن وافق المرجئة في ذاك القول فهو مخالف لهم في أصل قولهم، فعذره في إنكاره واضح. وأما من عرف، فيكفي لإنكار القول أنه مخالف للأدلة كما يأتي، وأنه قد يسمعه من يقتدي بأبي حنيفة، ولا يعلم قوله إن أهل المعاصي يعذَّبون، فيغتَرُّ بذلك. وقد يبلغ بعضهم قولاه معًا فلا يلتفتون إلى الثاني، بل يقولون: رأس الأمر الإيمان, فإذا كان إيمان الفجار مساويًا لإيمان الأنبياء والملائكة ففيم العذاب، وقد دلت النصوص على أن

المؤمنين [2/ 365] لا يعذَّبون؟ ويحملهم ذلك على التهاون بالعمل، يقول أحدهم: لِمَ أعذِّب نفسي في الدنيا بما لا يزيد في إيماني شيئًا؟ حسبي أن إيماني مساوٍ لإيمان جبريل ومحمد عليهما السلام! ويحملهم ذلك على احتقار الملائكة والأنبياء والصديقين قائلين: أعظمُ ما عندهم الإيمان, وأفجَر الفجار مساوٍ لهم فيه! وإذا كان أبو حنيفة - كما يقول الكوثري - يرى أن الإيمان هو الاعتقاد القلبي الجازم، وأنه لا يزيد ولا ينقص، فقد يبلغ هذا بعضَ الناس فيقول: إذا كنت لا أصير مؤمنًا إلا بأن يكون يقيني مساويًا ليقين جبريل ومحمد عليهما السلام، فهذا ما لا يكون. ففيم إذًا أعذِّب نفسي بالأعمال، فأجمَعُ عليها عذاب الدنيا وعذاب الآخرة؟ وبعد، فيكفي مسوِّغًا لإنكار ذاك القول مخالفتُه للنصوص الشرعية. أما النصوص على أن الأعمال من الإيمان وأنه يزيد وينقص بحسبها، فمعروفة، حتى اضطُر الكوثري إلى المواربة، فزعم أن أبا حنيفة إنما كان يدفع أن يكون العمل ركنًا أصليًّا، لا أنه من الإيمان في الجملة، كاليدين والرجلين وغيرها من الأعضاء بالنسبة إلى الجسد، هي منه وينقص بفقدها مع بقاء أصله، وإن كان في بعض عبارات الكوثري ما يخالف هذه الدعوى. وأما النصوص على أن الإيمان القلبي يزيد وينقص، فمنها الأحاديث الصحيحة في أنه يخرج من النار مَن قال لا إله إلا الله وفي قلبه مثقال شعيرة من إيمان، ثم من قالها وفي قلبه مثقال حبَّة خردل من إيمان، ثم من قالها وفي قلبه أدنى أدنى من مثقال حبَّة خردل من إيمان. فأما قول الله عزَّ وجلَّ: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا

وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14] فليس فيها ما ينافي أن تكون الأعمال من الإيمان, وإنما غاية ما فيها أن الاعتقاد القلبي ركن ضروري للإيمان، فلا يكون الإنسان مؤمنًا حقًّا بدونه. [2/ 366] فإن قوله: {لَمْ تُؤْمِنُواْ} نفيٌ لإيمانهم، ويكفي في نفيه انتفاءُ ركن ضروري عنه كما لا يخفى. وقوله: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} لا يقتضي أن الإيمان كلَّه هو الذي يكون في القلب. ألا ترى أنه يصح أن يقال: لم يدخل الإِسلام في قلب فلان، أو لم يدخل الدين في قلب فلان، مع الاتفاق أن الإسلام والدين لا يختص بما في القلب. وأما ما في حديث جبريل: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ... " فقد أجاب عنه البخاري في "كتاب الإيمان" من "صحيحه" (¬1) قال: "باب سؤال جبريلَ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة، وبيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم [له]، ثم قال: "جاء جبريل عليه السلام يعلِّمكم دينكم"، فجعل ذلك كله دينًا، وما بيَّن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لوفد عبد القيس من الإيمان, وقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] ". وقصة وفد عبد القيس التي أشار إليها هي في "الصحيحين" أيضًا وقد أوردها فيما بعد، فأخرج (¬2) من طريق ابن عباس في قصة محاورة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم: " ... فأمرهم بأربع، ونهاهم عن أربع. أمرهم ¬

_ (¬1) (1/ 114 مع "الفتح"). (¬2) البخاري (53) ومسلم (17).

بالإيمان بالله وحده، قال: أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة ... ". فقد يقال: الإيمان في حديث جبريل منحوٌّ به المعنَى اللغويَّ، لا المعنى الشرعي، ويؤيد ذلك أن السائل في حديث جبريل كان في الظاهر - كما يُعلم من الروايات - أعرابيًّا لم يجتمع قبل ذلك بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم. فلما ابتدأ فقال: ما الإيمان؟ كان الظاهر أنه إنما يريد بالإيمان ما يعرفه في اللغة، فإذا كان معناه في اللغة التصديق القلبي، فظاهر السؤال: ما الذي يُطلب في الدين التصديقُ القلبي به؟ وأما في قصة عبد القيس، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي ابتدأ، فأمرهم بالإيمان ثم فسَّره لهم، فكان المعنى الشرعي للإيمان هو ما جاء في قصة عبد القيس. فإن قيل: فإنه لم يستوعب الأعمال. قلت: هذا السؤال مشترك، ولا قائلَ إن ما ذُكر فيه من الأعمال هي من الإيمان دون [2/ 367] غيرها. ومثل هذا في النصوص كثير، من الاقتصار على الأهم، إما لعلم المخاطب بغيره، وإما اتكالًا على أنه سيعلمه عند الحاجة، وإما لأن في الإجمال ما يدل عليه. وكثيرًا ما يقع الاختصار من بعض الرواة. وبالجملة، فإذا صح قول الكوثري إن أبا حنيفة لا يقول: إن الأعمال ليست من الإيمان مطلقًا، وإنما يقول: إنها ليست ركنًا أصليًّا وإنما الركن الأصلي العقد والكلمة، فالأمر قريب. فلْنَدَع هذا, ولننظر فيما زعمه أن الإيمان القلبي لا يزيد ولا ينقص حتى قال (ص 67): "لأن الإيمان الشرعي إنما يتحقق عند تحقق الجزم المنافي لتجويز النقيض ... لا يتصور تفاوتٌ أصلًا بين إيمان المؤمنين من جهة الجزم والتيقن،

ويكون النقص عن مرتبة اليقين كفرًا". أقول: تفاوت الإيمان القلبي ثابت نقلًا ونظرًا. أما النقل فمعروف، وقد تقدمت الإشارة إلى حديث الخروج من النار. وأما النظر فإن الإنسان إذا قارن بين اعتقاده أن الثلاثة من حيث العددية أقل من الستة وبين اعتقاداته الدينية التي يجزم أنه موقن بها بَانَ له الفرق. فإن أحبَّ الكوثريُّ فليحكم على نفسه وعلى جمهور الناس بعدم الإيمان, وإن أحبَّ فليُثبِتْ ما نفاه. وقد صرَّح النظار بأن اليقين يتفاوت قوةً وضعفًا كما تراه في "المواقف" (¬1) وغيرها. وفي "فتح الباري" (¬2): "قال الشيخ محيي الدين (¬3): "الأظهر المختار أن التصديق يزيد وينقص بكثرة النظر ووضوح الأدلة. ولهذا كان إيمان الصدِّيق أقوى من إيمان غيره بحيث لا تعتريه الشبهة". ويؤيده أن كل أحد يعلم أن ما في قلبه يتفاضل حتى إنه يكون في بعض الأحيان أعظم يقينًا وإخلاصًا وتوكلًا منه في بعضها، وكذلك في التصديق والمعرفة بحسب ظهور البراهين وكثرتها. وقد نقل محمد بن نصر المروزي في كتابه: "تعظيم قدر الصلاة" عن جماعة من الأئمة نحوَ ذلك". فإن أحبَّ الكوثريُّ فليحكم على نفسه وعلى جمهور الناس أن أحدهم ¬

_ (¬1) موقف 6 مرصد 3 مقصد 2. [المؤلف]. يراجع (ص 388) منه. (¬2) (1/ 46, 47). (¬3) محيي الدين كأنه النووي الفقيه الشافعي شارح "صحيح مسلم" رحمه الله تعالى، وليس المراد به محيي الدين بن عربي الحاتمي المتصوف فذاك له مجال آخر. [م ع]. هو النووي قطعًا. [المؤلف]. والنص في "شرح صحيح مسلم" له (1/ 148).

يختلف حاله في حياته، فيكون تارة مؤمنًا وتارة غيرَ مؤمن! وإن أحبَّ فَلْيُثبِتْ ما نفاه. [2/ 368] وفي "صحيح مسلم" (¬1) وغيره قصة أبي بن كعب رضي الله عنه في اختلاف القراءة. وفيها قوله: "فسُقِطَ في نفسي من التكذيب ولا إذ كنتُ في الجاهلية، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما قد غشيني ضرَبَ في صدري، ففِضْتُ عَرَقًا، وكأنما انظر إلى الله فَرَقًا ... ". ولا يرتاب عاقل أن إيمان هذا الصحابي الجليل عند تلك الغشية دون إيمانه قبلها وبعدها. وقد عرض لعمر بن الخطاب وغيره في قصة الحديبية ما يشبه ذلك (¬2). وفي حديث الرجل الذي قاتل مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أشدّ القتال، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "هو من أهل النار"، فكاد بعض الناس يرتاب (¬3). ولا يرتاب عاقل أن المؤمنين يتفاوتون في التقوى تفاوتًا عظيمًا، وأعظم أسباب ذلك تفاوتهم في اليقين، فإننا نرى أحوالهم في اتقاء الضرر الدنيوي لا يتفاوت ذاك التفاوت. بل إنك تجد من نفسك أنه قد يقوى اعتقادك فترغب نفسك في الطاعة وعن المعصية، وقد يضعف فتتهاون بذلك. وكذلك تجد ذلك عندما تطلع على الأدلة أو الشبهات فقد يقف العالم على عدة نصوص من الكتاب والسنة فيتبيَّن له أن بعضها يصدَّق بعضًا، وقد يتراءى له أنها تتناقض. وقد يرى نصوصًا في العقائد، فيتبين له أن العقل موافق لها وقد ¬

_ (¬1) رقم (820). (¬2) انظر "صحيح البخاري" (2731، 2732). (¬3) أخرجه البخاري (3062) ومسلم (111) من حديث أبي هريرة.

يتراءى له أنه يخالفها. ويرى نصوصًا في الأحكام فيتبين له أنها موافقة للرأي والنظر والحكمة والقياس، وقد يتراءى له أنها مخالفة لذلك. ويرى نصوصًا في الإخبار عن الجن والشياطين، والأرض والسماء، والشمس والقمر، وغير ذلك، فيتبين له أنها موافقة للواقع، وقد يتراءى له أنها مخالفة له. ويطالع السيرة فيرى فيها أمورًا واضحة الدلالة على النبوة وقد يرى فيها ما يتراءى له منه خلاف ذلك. ويسمع من الأطباء وغيرهم ما يوافق ما جاء في الشرع، وقد يسمع منهم ما يخالفه. ويطيع النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم في بعض الأمور فيناله نفع، وقد يتفق له خلاف ذلك. وهذا كمن يريد سفرًا مع رفقة، فتعزِم الرفقةُ على الخروج يوم الجمعة قبل الصلاة, فيأبى أن يخرج قبل الصلاة للنهي الشرعي عن ذلك (¬1). وسافر الرفقة فتصيبهم مصيبة [2/ 369] كاصطدام القطار، أو غرق الباخرة أو نحو ذلك؛ وينجو هو لتأخره. وقد يتفق خلاف هذا بأن تسلم الرفقة وتغنم، ويخرج هو بعد الصلاة فيصيبه ضرر. وأشباه هذا كثيرة لا تكاد تمضي ساعة إلا ويقع شيء منها. ولا ريب أن اعتقاد الإنسان بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - لا يبقى على حال واحدة مع اختلاف الأمور المذكورة، بل يصفو تارة، ويتكدر أخرى، ويقوى تارة، ويضعف أخرى، ويزيد تارة، وينقص أخرى. ولا أرى عاقلًا يتصور حاله وحال الملائكة والأنبياء، ويقول: إن يقينه مثل يقينهم. وقد حاول الكوثري أن يجيب عن هذا فقال (ص 67): "نعم، إن ¬

_ (¬1) قلت: لم يثبت النهي عن السفر يوم الجمعة، بل صح عن عمر رضي الله عنه أنه قال لمن سمعه يقول: لولا أن اليوم جمعة لخرجت! قال عمر: "اخرج فإن الجمعة لا تحبس عن سفر". راجع لهذا وغيره مما روي في النهي كتابنا "سلسلة الأحاديث "الضعيفة" رقم (218 و219). [ن].

إيمان الأنبياء، وإيمان العلماء، وإيمان العوام يتفاوت من جهة ما يحتمل الزوال منها، وما لا يحتمله. واحتمال الزوال أو عدم احتماله ناشئ من أمر خارج، وذلك من تفاوت طرق حصول الجزم عندهم، لا من التفاوت في ذات الإيمان. فالإيمانُ عند الأنبياء لا احتمال لزواله منهم, لأن حصوله عن مشاهدة ووحي قاهر. وإيمانُ العلماء يحتمل الزوال بطروء بعض شبه على أدلة الإيمان عندهم، ولو احتمالًا ضعيفًا. وأما إيمان العوام، فربما يزول بأيسر تشكيك ... فبهذا البيان اتضحت المسألة تمام الاتضاح - إن شاء الله تعالى - لكل من ألقى السمع وهو شهيد". ونَوَّهَ عن هذا الكلام (ص 193) بقوله: "تحقيق بديع ... "! أقول: لنا أن نلتمس من الأستاذ الكوثري أن يفكِّر في اعتقاده أن الثلاثة من حيث العددية أقل من الستة، هل يمكن أن يتشكك فيه يومًا ما مع بقاء عقله؟ فإن قال: لا، فليستعرض الاعتقادات الدينية الضرورية للإيمان، التي يرى أنه جازم بها حقَّ الجزم، هل يمكن أن يتشكك في بعضها يومًا ما؟ فإن قال: لا، فقد أخرج نفسه من زمرة العلماء الذين قضى في عبارته السابقة بأن إيمانهم يحتمل الزوال! وإن قال: يجوز ذلك. قيل له: فتجويزك هذا ألا يدل على أن جزمك بتلك العقيدة دون جزمك بأن الثلاثة نصف الستة؟ [2/ 370] فإن قال: قد قلت: إن هذا الأمر خارج. قيل له: هذا الأمر الخارج إنما حاصله قوة الدليل في حق الأنبياء، وكونُه دون ذلك في حق العلماء. أوَ ليس من لازم تفاوُتِ الأدلة في القوة تفاوتُ الجزم بمدلولاتها عند العارف بتفاوتها؟ فالدليل الذي يكون عندك غايةً في

القوة، يكون جزمُك بمدلوله وانتفاءِ نقيضه أقوى من جزمك بمدلولِ دليلٍ دونه عندك في القوة. فإن قال: ليس هذا بلازم، فإنَّ الجزم قد يقع عن شبهة باطلة. قلت: من جزم عن شبهة باطلة، فإنه لا يراها شبهة، بل يراها دليلًا قاطعًا، وكلامنا إنما هو في العالِم الذي يميِّز بين الأدلة. فإن عاد وقال: تفاوتُ الأدلة مع الجزم بمدلولاتها إنما يكون من جهةِ أن بعضها لا يحتمل أن تعرض شبهةٌ تُشكِّك فيه، وبعضها يحتمل ذلك. قيل له: تسمية العارض شبهةً، فيه شِبهُ مغالطة؛ فإنه مَن جزم بشيء ثم عرَضَ له ما يجزم بأنه شبهة، فإنه لا يتغير جزمه الأول، وإنما يتغير حيث يجوِّز أن العارض دليل. فعلى هذ، إذا كنت الآن تجوِّز في بعض ما تجزم به أن يعرض ما يشكِّكُك فيه ويزيل جزمك، فمعنى ذلك أنك تجوِّز أن يعرض مشكِّكٌ فيه يحتمل أن يكون دليلًا صحيحًا، وأن يكون شبهة. ويوضَّح هذا أن بعض المسائل الحسابية والهندسية اليقينية يجوز لجازم بها بعد أن يحيط بها أن يعرض ما يظهر منه خلافُ ما جزم به. ولكنه يجزم الآن بأنه لو عرض ألفُ عارض من تلك العوارض لما تغيَّرَ جزمُه, وكما يجزم بهذا في حق نفسه، فكذلك يجزم في حق غيره بأن من عرف تلك المسألة كما عرفها, يتغيَّر جزمُه ما دام عقله. فهذا هو الذي يصح أن تحكم بأنه جازم أن العارض لا يكون إلا شبهة. فإن قيل: فما قولك أنت؟ قلت: أقول: إن الإيمان يتفاوت، وإن ذلك التجويز المستبعَد إذا كان

صاحبه ينفر عنه، ويشفق منه، ويستعيذ بالله عزَّ وجلَّ= فإنه لا يضُرُّ، بل ولا يضرُّه عروضُ الشبهة إذا [2/ 371] كان عند عروضها يتألم ويتأذى وتشقُّ عليه، ويبادر إلى طردها عن نفسه مستعيذًا بالله عزَّ وجلَّ. وإنما يضرُّه أن يأنس بها، وتستقرَّ في نفسه، وتَبِيض، وتُفرخ، حتى يصدق عليه اسم "مرتاب". هذا هو الذي تدل عليه النصوص، والذي لا يسع الناسَ غيرُه، و {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]. ومعيارُ الإيمان القلبي: العمل. ولهذا كان السلف يقولون: "الإيمان قول وعمل"، ولا يذكرون الاعتقاد؛ وكانت المرجئة تقول: "الإيمان قول". ثم منهم من يوافق أهل السنة على أشتراط الاعتقاد، ومنهم من لا يشترطه في اسم الإيمان, ولكن يشترطه للنجاة، وهذا قول الكرَّامية. ومنهم من لا يشترطه في اسم الإيمان, ولا في النجاة، وهؤلاء هم الغلاة. وقال الله عزَّ وجلَّ: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} إلى قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 14، 15]. وقال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 1 - 4]

وفي "الصحيحين" (¬1) عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الإيمان بضع وستون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان". وفي رواية مسلم: "أعلاها: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق". وذكر الله عزَّ وجلَّ في سورة التوبة المنافقين ثم قال: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} إلى أن قال: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [102 - 105]. وفي "الصحيحين" (¬2) من حديث أبي هريرة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "آية المنافق ثلاث - زاد مسلم: وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم - إذا حدَّث كذبَ، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان". وفيهما (¬3) من حديث عبد الله بن عمرو: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أربع [2/ 372] مَن كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفافي حتى يدعَها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدَّث كذبَ، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فَجَر". وفي "تذكرة الحفاظ" (ج 2 ص 53) (¬4): عن سفيان الثوري أنه قال: "خلافُ ما بيننا وبين المرجئة ثلاث: يقولون: الإيمان قول لا عمل، ونقول: قول وعمل. ونقول: يزيد وينقص، وهم يقولون: إنه لا يزيد ولا ينقص. ونحن نقول: النفاق، وهم يقولون: لا نفاق". أقول: كأنهم في قولهم: "النطق بالشهادتين هو الإيمان" يشترطون أن يقع ¬

_ (¬1) البخاري (9) ومسلم (35). (¬2) البخاري (33) ومسلم (59). (¬3) البخاري (34) ومسلم (58). (¬4) (2/ 473) تحقيق المعلمي.

النطق من قائليه طوعًا ولا يكذِّبوا أنفسهم فيه إذا خلا بعضهم إلى بعض. ثم يقولون: إن المنافقين الذين كانوا في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا ينطقون تقيةً ويكذبون أنفسهم إذا خلوا، فهذا هو النفاق. فأما من يقول طوعًا ولا يكذب نفسه إذا خلا، فهو مؤمن وإن كان في نفسه شاكًا مرتابًا، بناءً على جحدِهم اشتراطَ الاعتقاد في الإيمان. وأهل السنة يقولون: هذا نفاق، إذ شرط الإيمانُ عندهم الاعتقاد. وبالجملة، فلا أرى عاقلًا لقوله يقول: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، إلا على أحد أوجه: الأول: أن يكون يخصُّ لفظَ الإيمان القلبي بالتصديق الذي لا يعتدُّ بما دونه، فهو بمنزلة النصاب. فكما أن نصاب الذهب في حق الأغنياء بالذهب واحد لا يزيد ولا ينقص وإن تفاوتوا في الغنى بالذهب، فكذلك يقول هذا: إن الإيمان الذي هو نصاب التصديق لا يزيد ولا ينقص، وإن تفاوت الخلق في التصديق. أو قل: إنه بمنزلة زكاة الفطر، وهي صاع لا يزيد ولا ينقص، وإن كان من الناس من يعطي صاعين أو مائةً أو ألفًا أو أكثر من ذلك. الثاني: أن يكون عنده أن الإيمان قول فقط. وهذا إن فسَّر القول بالشهادتين وقال: إنه لا يكفي للنجاة، فهو قول الكرامية. وان فسَّره بهما وقال: إنه يكفي، فهو قول غلاة المرجئة. وإن فسَّره بالاعتراف اللساني بربوبية الله عزَّ وجلَّ، وقال: إنه لا يكفي للنجاة ولجريان أحكام الإسلام، فهو قريب من الأول. وإن قال: إنه يكفي لذلك فهو أشدُّ من قول غلاة المرجئة. [2/ 373] الثالث: أن يزعم أن الإيمان هو القول والاعتقاد الذي لا يقينَ فوقه. ولا أرى هذا إلا قاضيًا على نفسه وغالب الناس بعدم الإيمان. والله المستعان.

قول: أنا مؤمن إن شاء الله

قول: أنا مؤمن إن شاء الله جاء عن بعض السلف كراهيةُ أن يقول الرجل: "أنا مؤمن حقًّا" والأمرُ بأن يقول: "أنا مؤمن إن شاء الله"؛ وكذلك كانوا يقولون. وقال البخاري في كتاب الإيمان من "صحيحه" (¬1): "باب خوف المؤمن من أن يَحْبَطَ عملُه وهو لا يشعر. وقال إبراهيم التيمي: ما عرضتُ قولي على عملي إلا خشيتُ أن كون مكذِّبًا. وقال ابن أبي مليكة: أدركتُ ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كلُّهم يخاف النفاقَ على نفسه، ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل. ويُذكر عن الحسن (البصري): ما خافه إلا مؤمن، وما أمِنَه إلا منافق ... ". وفي "فتح الباري" (¬2) أن مقالة الحسن صحيحة من طرق، وأن في رواية المعلَّى بن زياد: "سمعتُ الحسنَ يحلف في هذا المسجد بالله الذي لا إله إلا هو ما مضى مؤمن قطُّ ولا بقي إلا وهو من النفاق مشفق، ولا مضى منافق قطُّ ولا بقي إلا وهو من النفاق آمن. وكان يقول: من لم يَخَفِ النفاقَ فهو منافق". وفي رواية هشام: "سمعت الحسن يقول: والله ما مضى مؤمن ولا بقي إلا وهو يخاف النفاق، ولا أمِنَه إلا منافق". واقتبس البخاري أول الترجمة من قول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ ¬

_ (¬1) (1/ 109 مع "الفتح"). (¬2) (1/ 111).

لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} أول الحجرات. والمؤمن لا تحبط أعماله. قال الله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} [طه: 112]. [2/ 374] وقال تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 102]. وإنما تحبط أعمال الكافر. قال الله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة: 5]. واقرأ من آل عمران: 22، والأنعام: 88، والأعراف: 77، والتوبة: 17، و69، وإبراهيم: 18، والكهف: 105، والفرقان: 23، والزمر: 65، والقتال: 32 - 34. وقد قال تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 14]. فإذا كانت هذه حال هؤلاء، فما الظن بحال من قد آمن واستقرَّ الإيمانُ في قلبه؟ فأما قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 15 - 16]، فهي في سياق الكلام

في الكفار، فهي واردة فيهم، ويدخل فيهم المنافقون. وللمؤمنين المخلصين في بعض أعمالهم المرائين في بعضها نصيبٌ من الآية بالنظر إلى ما وقع فيه الرئاء دون غيره. وأما قوله سبحانه: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [البقرة: 200 - 202]. فالفريق الأول هم الذين يكون جميع دعائهم وعبادتهم لطلب الدنيا فقط ولا شأن لهم بالآخرة، وهذا إنما يكون ممن لا يؤمن بالآخرة إيمانًا صادقًا، ومن لا يؤمن بها فليس بمؤمن. فأما المؤمن فإنه لا بد أن يهتم بالآخرة، فالمؤمن لا يحبط عمله حتى دعاؤه لطلب حاجاته المباحة [2/ 375] من الدنيا، فإنه قد لا يقضي الله عزَّ وجلَّ له بعض تلك الحوائج، ولا يعوِّضه في الدنيا، بل يدَّخر له ثواب دعائه في الآخرة، كما ورد في أحاديث تفسير استجابة الدعاء. وقد اتفقت الأمة فيما أعلم على أن المؤمن لا تحبط أعماله التي أخلص فيها واستمرَّ على إخلاصه. ومن قال من المعتزلة: إن الكبيرة تُحبِط الأعمال، هم الذين يقولون: إن ارتكاب الكبيرة يُبطل الإيمان. وروى الخطيب (¬1) بسنده إلى محمود بن غيلان "حدثنا وكيع قال: سمعت الثوري يقول: نحن المؤمنون، وأهل القبلة عندنا مؤمنون في ¬

_ (¬1) "تاريخ بغداد" (13/ 372).

المناكحة والمواريث والصلاة والإقرار، ولنا ذنوب، ولا ندري ما حالنا عند الله؟ قال وكيع: وقال أبو حنيفة: من قال بقول سفيان هذا فهو عندنا شاكٌّ، نحن المؤمنون هنا وعند الله حقًّا. قال وكيع: ونحن نقول بقول سفيان، وقول أبي حنيفة عندنا جرأة". وذكر الكوثري في "تأنيبه" (ص 34) هذه الرواية, ثم ذكر عن كتاب ابن أبي العوَّام بسنده إلى عبيد بن يعيش قال: "حدثنا وكيع قال: كان سفيان الثوري إذا قيل له: أمؤمن أنت؟ قال: نعم. فإذا قيل له: عند الله؟ قال: أرجو. وكان أبو حنيفة يقول: أنا مؤمن هنا وعند الله. قال وكيع: قول سفيان أحبُّ إلينا". وقال الكوثري (ص 67): "لكن الإيمان الشرعي إنما يتحقق عند تحقُّق الجزم المنافي لتجويز النقيض. فمن يقول: أنا مؤمن، ولا أدري ما حالي عند الله، أو: أنا مؤمن إن شاء الله، فإن كان مراده بذلك أن الخاتمة مجهولة وأرجو الله أن يُختَم لي بخير، فليس ذلك من منافاة الجزم في شيء. وأما إن كان مراده بذلك القول أنا مؤمن هنا ولا أدري ما إذا كان ما أعتقده إيمانًا هنا، إيمانًا عند الله، فهو شاكٌّ غيرُ جازم؛ بل جوَّز بتلك الإرادة أن يكون الإيمان خلاف ما يعتقده، فهو ليس من الإيمان في شيء؛ لأنه ليس من اليقين على شيء. فتبين من هذا البيان أنه لا يُتصور تفاوتٌ أصلًا بين إيمان المؤمنين من جهة الجزم، ويكون النقص عن مرتبه اليقين كفرًا". أقول: مسألة الزيادة والنقصان قد سلف النظير فيها. فأما المسألة الأخرى، فتحريرها أن هناك ثلاث قضايا: [2/ 376] الأولى: اعتقادُك ثبوتَ كل أمر من الأمور التي ترى أن اعتقاد ثبوت جميعها هو الإيمان الذي لا بد منه.

الثانية: اعتقادك أنك جازم بكل واحد من تلك الأمور الجزمَ الكافي عند الله عزَّ وجلَّ. الثالثة: اعتقادك أنك وافٍ بجميع الأمور الضرورية للإيمان في نفس الأمر، من اعتقاد وقول وفعل وترك. فمن قيل له: أمؤمن أنت؟ فقال: أرجو، أو: إن شاء الله؛ فهذا يتعلق بالقضية الثالثة كما لا يخفى. ولا يجب تعلقه بالثانية، فأما الأولى فبعيد عنها. وقد دلَّت آيات الحجرات السابقة على أن المؤمن قد يزول إيمانه وهو لا يشعر، فكيف يسوغ ذلك مع هذا (¬1) أن تجزم بالقضية الثالثة فتقول: أنا عبد الله مؤمن حقًّا؟ اللهم إلا أن تريد بالإيمان معنى خاصًّا، كمجرد النطق بالشهادتين، أو مجرد الاعتراف اللساني بربوبية الله عزَّ وجلَّ. وتدبَّرْ آيات الحجرات، وتأمَّلْ معاملتك للنصوص الشرعية التي تخالفها في العقائد والإيمان والفقه زاعمًا أنك تخالف ظواهرها، وأنعِمِ النظرَ في ذلك، ألا تخشى أن يكون في معاملتك لها ما هو تقديمٌ بين يدي الله ورسوله، ورفعٌ لصوتك خلاف صوته، وجهرٌ له بالقول كما تجهر لمخالفيك ودون جهرك لأئمتك في الكلام والفقه بكثير؟! وتدبَّرْ قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} إلى قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} إلى قوله: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ ¬

_ (¬1) كذا في (ط). ولعل "ذلك" زائدة، وفاعل "يسوغ": "أن تجزم".

حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 59 - 65]. وانظر أين أنت منها؟ ففي هذا الإجمال كفاية، وبه يتضح ما في عبارة الكوثري من المغالطة؛ فإنها توهِم أن قول القائل: أرجو أو إن شاء الله، ينافي الجزم بما في القضية الأولى. فإن قول الكوثري في تفسير ذلك: "ولا أدري ما إذا كان ما أعتقده إيمانًا هنا، إيمانًا عند الله" يصدُق بأن تكون الإشارة إلى الإيمان بما في القضية الأولى، كأنه قال: [2/ 377] لا أدري هل الإيمان بنبوة محمد إيمان عند الله؟ وهكذا في بقية الأمور. وقول الكوثري: "بل جوَّز بتلك الإرادة أن يكون الإيمان خلافَ ما يعتقده" كالصريح فيما ذكر من الإيهام. فإن قلت: إذا كان الرجل جازمًا بوجود الله تعالى وربوبيته وتفرده بالألوهية ونبوة محمَّد وغير ذلك من أمور الإيمان التي تتضمنها القضية الأولى، فما الذي يشكَّكه في القضية الثانية، أي في أنه جازم بتلك الأمور؟ ثم ما الذي يشكِّكه في الثالثة، أي في أنه عند الله تعالى مؤمن حقًّا؟ قلت: قد مرَّ ما يكفي لو تدبرته، وأزيده إيضاحًا: تقدم في المسألة السابقة أن الجزم يتفاوت، فإذا ثبت ذلك ولم يكن عندك برهان واضح على أن القدر الذي عندك منه كافٍ عند الله تعالى، فمن أين يتهيأ لك أن تجزم بذلك؟ وهَبْ أن الجزم الأول لا يتفاوت، فمن أين لك أن تجزم بأن جزمك مساوٍ لجزم جبريل ومحمد عليهما السلام؟ فإن مَنَّتْك نفسُك ذلك، فانظر إن كنت من أتباع المتكلمين في النصوص المصرِّحة بأن الله تعالى في السماء فوق سماواته على عرشه، والنصوص

الدالة على أنه سبحانه ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا، وأنه يجيء يوم القيامة، وغير ذلك مما خالفتَ فيه السلفيين، ثم تأمَّلْ في جزمك بأن محمدًا رسول الله صادقٌ في كلِّ ما أخبر به عن الله، واستحضِرْ ما تقدَّم عن أئمتك في مسألة الجهة وفي الباب الثالث= فإنْ زعمتَ أنك جازم، فوازنْ بين ذيَّاك الجزم وبين جزمك بأن الثلاثة أقل من الستة. وانظر - إن كنت فقيهًا - في الأحاديث التي اشتهر أن إمامك يخالفها، وتفكَّرْ فيما تعاملها به، وانظر هل تقع منك تلك المعاملة وأنت جازم بأن محمدًا رسول الله صادقٌ في كُلَّ ما أخبر به عن الله، وأنك محكَّم له فيما وقع فيه الاختلاف، مسلِّم لحكمه تسليمًا لا تجد في نفسك حرجًا مما قضى؟ وانظر، وانظر، وأعمُّ [من] ذلك أن تنظر في عملك أعَمَلُ من يوقن بأن محمدًا رسول الله [2/ 378] صادقٌ في كل ما أخبر به من التكليف والحساب والجزاء والجنة والنار؟ وهل عملُك مساوٍ أو مقاربٌ لعمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأفاضل أصحابه وخيار التابعين؟ وأما القضية الثالثة: فإنك إن تدبرتَ وجدتَ شأنها أوضح، فإن الأمة اختلفت في أمور الإيمان, فمن الناس من يشترط الجزم بثبوت بعض ما تنفيه أنت أو ينفي بعض ما تُثبته، أو يعدُّ منها ما لا تعدّه. ومن أهل السنة من يشترط المحافظة على الصلوات المكتوبة، والمعتزلة والخوارج يشترطون المحافظة على الفرائض والسلامة من الكبائر، وليس جزمُك بخطأ هؤلاء في جميع ما يخالفونك فيه كجزمك بأن الثلاثة أقل من الستة. أفلا تخشى أن يكون من أقوالهم ما هو حق في نفس الأمر، وتكون أنت مقصِّرًا تقصيرًا لا تُعذَر فيه؟!

وقد اختلف الفقهاء في كثير من أحكام الصلاة، فلعل كثيرًا من صلواتك يقول بعض مخالفيك: إنها باطلة، فلعلك غير معذور في مخالفته، فيكون حكمُك حكمَ مَن ترك تلك الصلوات. ولعل فيما تُسامِح نفسَك بتركه ما يكون فريضةً في نفس الأمر، وفيما تُسامِح نفسَك بفعله ما يكون كبيرةً في نفس الأمر، ولعلك لا تستحق عذر الجاهل أو المخطئ. وأشدُّ من ذلك أن رأس أمور الإيمان شهادة أن لا إله إلا الله، فهل حقَّقْتَ معنى الألوهية؟ أفلا تخشى أن يكون في اعتقاداتك وأعمالك ما هو تأليهٌ وعبادة لغير الله عزَّ وجلَّ، وقد قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106] وقال سبحانه: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31]؟ وفي الحديث: "اتقو الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل" (¬1). ذكرتُ طرقه في كتاب "العبادة" (¬2)، وأوضحت أنه على ظاهره. وبسطُ هذا المطلب في ذاك الكتاب. وبالجملة، فمن تدبَّر علِمَ أنه لا يمكنه أن يجزم غير مجازف أنه عند الله مؤمن حقًّا إلا أن يريد بقوله "مؤمن" معنى ناطق بالشهادتين وإن لم يعرف ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (19606) وابن أبي شيبة في "المصنّف" (10/ 337, 338) والطبراني في "الأوسط" (3503) من حديث أبي موسى الأشعري، وفي إسناده أبو علي رجل من بني كاهل مجهول، ولم يوثقه غير ابن حبّان. وفي الباب عن أبي بكر الصديق وعائشة وابن عباس رضي الله عنهم، انظر تعليق "المسند" (19606) و"إتحاف السادة المتقين" (8/ 281). (¬2) (ص 143 وما بعدها).

معناهما تحقيقًا, ولا التزم مقتضاهما تفصيلًا، بل قد يكون مصرًّا على بعض ما ينافيهما, ولا حول ولا قوة إلا بالله. ****

الخاتمة فيما جاء في ذم التفرق وأنه لا تزال طائفة قائمة على الحق وما يجب على أهل العلم في هذا العصر

[2/ 379] الخاتمة فيما جاء في ذم التفرق وأنه لا تزال طائفة قائمة على الحق وما يجب على أهل العلم في هذا العصر قال الله تبارك وتعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [الشورى: 13 - 14]. وقال عزَّ وجلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}. إلى أن قال: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 100 - 105]. وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153]. وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159].

وقال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 30 - 32]. [2/ 380] وقال سبحانه: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود: 118 - 119]. إن قيل: التفرق والاختلاف يصدق بما إذا ثبت بعضهم على الحق وخرج بعضهم عنه، والآيات تقتضي ذمَّ الفريقين. قلت: كلَّا، فإن الآيات نفسها تحضُّ على إقامة الدين، والثبات عليه، والاعتصام به، واتباع السراط؛ بل هذا هو المقصود منها. فالثابت على السراط لم يُحدِث شيئًا، ولم يقع بفعله تفرق ولا اختلاف، وإنما يحدُث ذلك بخروج من يخرج عن السراط، وهو منهيٌّ عن ذلك، فعليه التبِعةُ. فإن قيل: المكلَّف مأمور بالاستقامة على السراط، ولا يمكنه الاستقامة عليه حتى يعرفه، وإنما يعرفه بالبحث والنظر والتدبر، وحججُ الحق - كما سلف في المقدمة - غير مكشوفة، فالباحث معرَّض للخطأ؛ بل مَن تدبَّر الحجج علِمَ أنه يستحيل في العادة أن لا يختلف الناظرون فيها= فما الجامع بين الأمر باتباع الحجج وهو يؤدي إلى الاختلاف، وبين الزجر عن الاختلاف، وقد قال الله تبارك وتعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}

[البقرة: 286] وقال سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]؟ أقول - وأسأل الله تبارك وتعالى التوفيق -: قولي: "إن حجج الحق غير مكشوفة" إنما معناه - كما سلف - أنها بحيث يُحتاج في إدراكها إلى عناء ومشقة، ويمكن مَن له هوى في خلافها أن يغالط نفسَه وغيرَه بحيث يتيسَّر له زعمُ أنه إن لم يكن هو المُحِقَّ فهو معذور. واتباعُ الحجج لا يؤدي إلى اختلاف، وإنما المؤدي إليه اتباعُ الشبهات. وإنما الشأن في أمرين: الأول: تمييز الحجج من الشبهات. الثاني: معرفة الاختلاف المنهي عنه. وجماع هذا في أمر واحد هو: معرفة السراط المستقيم. وقد بيَّنه الله تعالى بقوله: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7]. وقد علمنا أن المنعَم عليهم قطعًا من [2/ 381] هذه الأمة هم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. وقد قال الله عزَّ وجلَّ: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108]. وقال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]. فالسراط المستقيم هو ما كان عليه محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وقد تقدَّم بيانُ جوامعه في الباب الأول، وأول الباب الرابع. فما اتضح من المأخذين السلفيين بحسب النظر الذي كان متيسِّرًا للصحابة وخيار التابعين، فهو من السراط المستقيم. وما خفي أو تردَّد فيه النظرُ، فالسراط المستقيم هو السكوت عنه. قال الله تعالى لرسوله: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36].

وقال تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86]. وفي "الصحيحين" (¬1) من حديث جندب بن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اقرأوا القرآن ما ائتلفتْ عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فقوموا عنه". فإن كان من الأحكام العملية، والقضيةُ واقعةٌ، ساغ الاجتهاد فيه على الطريق التي كان يجري عليها في أمثال ذلك الصحابةُ وأئمةُ التابعين. فمن لزم هذه السبيل فهو الثابت على سبيل الحق والصراط المستقيم. ومن لزم ذلك في المقاصد، وخاض في النظر والرأي المتعمَّق فيه لتأييد الحق وكشف الشبهات، وقد تحققت الحاجة إلى ذلك، فلا يُقضَى عليه بالخروج عن السراط ما لم يتبيَّن خروجُه عنه في المقاصد؛ فتلحقه تبعةُ ذلك بحسب مقدار خروجه. هذا، والاختلاف المنهي عنه، مِن لازمه - كما بينته الآيات -: التحزب وأن يكونوا شيعًا. وسبيلُ الحق بيِّنة، والدينُ محفوظٌ قد تكفَّل الله تعالى بحفظه، وبأن لا تزال طائفة من الأمة قائمة عليه. فإن أخطأ عالم لم يلبث أن يجد من ينبِّهه على خطائه. فإن لم يتفق له ذلك، فالذي يوافقه أو يتابعه لا بد أن يجد من ينبِّهه. فلا يمكن أن يستولي الخطأ على فرقة من الناس [2/ 382] يثبتُون عليه ويتوارثونه إلا باتباعهم الهوى. ولهذا نجد علماء كل مذهب يرمُون علماءَ المذاهب الأخرى بالتعصب واتباع الهوى، وأكثرُهم صادقون في الجملة، ولكن الرامي يغفُل عن نفسه، وكما جاء في الأثر (¬2): "يرى ¬

_ (¬1) البخاري (5060، 7364) ومسلم (2667). (¬2) الذي يُؤثر عن المسيح بن مريم - صلى الله عليه وسلم - ومعناه في القرآن: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ =

القذاةَ في عين أخيه، وينسى الجِذْعَ في عينه"! وعلى كل حال، فإن الأمة قد اتبعت سَنَنَ مَنْ قبلها، كما تواترت بذلك الأخبارُ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ومن ذلك، بل من أعظمه، بل أعظمه: أنها فرَّقَتْ دينها، وكانت شيعًا. وقد تواترت الأخبار أيضًا بأنه لا تزال طائفة قائمة على الحق، فعلى أهل العلم أن يبدأ كلٌّ منهم بنفسه، فيسعى في تثبيتها على السّراط، وإفرادِها عن اتباع الهوى، ثم يبحث عن إخوانه، ويتعاون معهم على الرجوعِ بالمسلمين إلى سبيل الله، ونبذِ الأهواء التي فرَّقُوا لأجلها دينَهم وكانوا شيعًا. ويتلخص العمل في ثلاثة مطالب: الأول: العقائد. وقد علمتَ أن هناك معدِنًا لحجج الحق، وهو المأخذان السلفيان. ومعدِنًا للشُّبه، وهو المأخذان الخلفيان؛ فطريق الحق في ذلك واضح (¬1). ¬

_ = أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44] , وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2 - 3] [م ع]. قلت: بل هو حديث مرفوع صحيح الإسناد، أخرجه ابن حبان في "صحيحه" (1848 - موارد) وغيره, وهو مخرج في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" رقم (33)، ولا أدري كيف خفي ذلك على الشيخين، ولا سيَّما الشيخ محمد عبد الرزاق فإنه هو الذي قام على نشر كتاب "موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان"، وعلى تحقيقه أيضًا، فلعله لم يتذكر الحديث عند كتابته لهذا التعليق. [ن]. (¬1) (ط): "وضح".

المطلب الثاني: البدع العملية. والأمر في هذا قريب لولا غلبة الهوى، فإن عامة تلك البدع لا يقول أحد من أهل العلم والمعرفة إنها من أركان الإِسلام، ولا من واجباته، ولا من مندوباته. بل غالبهم يجزمون بأنها بدع وضلالات، وصرَّح قوم منهم بأن منها ما هو شرك وعبادة لغير الله عزَّ وجلَّ. وقد شرحتُ ذلك في كتاب "العبادة"، وبحسبك هنا أن تستحضر أن من يزعم من المنتسبين إلى العلم أنه لا يرى ببعضها بأسًا، أو زاد على ذلك أنه [2/ 383] يُرجى منها النفع، فإنه - مع مخالفته لمن هو أعلم منه - يعترف بأنَّ في الأعمال المشروعة اتفاقًا ما هو أعظم أجرًا وأكبر فضلًا بدرجات لا تحصى. وقد قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]. وفي "الصحيحين" (¬1) عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "الحلال بيِّن، والحرام بيِّن، وبينهما مشبَّهات لا يعلمهن كثير من الناس. فمن اتقى الشبهاتِ فقد استبرأ لدينه وعرضه. ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحِمَى يُوشك أن يقع فيه". وفي حديث آخر (¬2): "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك". وفي حديث آخر (¬3): "إنه لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدعَ ما لا بأس به حذرًا لما به بأس". ¬

_ (¬1) البخاري (52، 2051) ومسلم (1599) من حديث النعمان بن بشير. (¬2) أخرجه أحمد (1723، 1727) والترمذي (2518) والنسائي (8/ 327) وابن حبان (722) والحاكم في "المستدرك" (2/ 13، 4/ 99) من حديث الحسن بن علي. وهو حديث صحيح. (¬3) أخرجه الترمذي (2451) وابن ماجه (4215) والطبراني في "الكبير" (17/ 169) والحاكم في "المستدرك" (4/ 319) من حديث عطية السعدي. قال الترمذي: حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.

والنظر الواضح يكشف هذا. فإنك لو كنتَ مريضًا فاتفق الأطباء على أشياء أنها نافعة لك، واختلفوا في شيء، فقال بعضهم: إنه سمٌّ قاتل، وقال بعضهم: لا نراه سمًّا, ولكنه ضار، وقال بعضهم: لا يتبين لنا أنه ضارٌّ، وقال بعض هؤلاء: بل لعله لا يخلو من نفع= أفلا يقضي عليك العقلُ - إن كنت عاقلًا - بأن تجتنب ذاك الشيء؟ أوَليس مَن يأمرك ويُلِحُّ عليك أن تصرِفَ وقتك في تناول ذاك الشيء تاركًا ما اتفقوا على نفعه بحقيقٍ أن تَعُدَّه ألدَّ أعدائك؟ وتدبَّرْ في نفسك: أيصح من عاقل محبٍّ للإيمان خائفٍ من الشرك أن يستحضر هذا المعنى، ثم يصرَّ على تلك البدع التي يخاف أن تكون شركًا؟ أوَ ليس مَنْ يُصِرُّ إنما يشهد على نفسه بأنه لا يبالي إذا وافق هواه أن يكون شركًا؟! المطلب الثالث: الفقهيات. والاختلاف فيها إذا كان سببه غير الهوى أمره قريب, لأنه - كما مرَّت الإشارة إليه - لا يؤدي إلى أن يصير المسلمون فِرَقًا متنازعةً وشِيَعًا متنابذة، ولا إلى إيثار الهوى على الهدى، وتقديمِ أقوالِ الأشياخ على حجج الله عزَّ وجلَّ، والالتجاء إلى تحريف معاني النصوص. وإذْ كان المسلمون قد وقعوا في ذلك، فإنما أوقعهم الهوى، فلا مَخْلَصَ لهم منه إلا أن يستيقظ أهل العلم لأنفسهم فيناقشوها الحساب، ويكبحوها عن الغَيِّ، ويتناسَوا ما استقرَّ [2/ 384] في أذهانهم من اختلاف المذاهب، وليحسبَوها مذهبًا واحدًا اختلف علماؤه، وأنَّ على العالم في زماننا النظرَ في تلك الأقوال وحججها وبيناتها، واختيارَ الأرجح منها.

وقد نصَّ جماعة من علماء المذاهب أن العالم المقلِّد إذا ظهر له رجحانُ الدليل المخالف لإمامه لم يجز له تقليدُ إمامه في تلك القضية. بل يأخذ بالحق, لأنه إنما رُخِّص له في التقليد عند ظن الرجحان، إذ الفرض على كل أحد طاعةُ الله وطاعة رسوله. ولا حاجة في هذا إلى اجتماع شروط الاجتهاد، فإنه لا يتحقق رجحانُ خلاف قول إمامك إلا في حكم مختلَف فيه، فيترجَّح عندك قولُ مجتهدْ آخر، وحينئذ تأخذ بقول هذا الآخر متَّبعًا الدليلَ الراجح من جهة، ومقلِّدًا في تلك القضية لذاك المجتهد الآخر من جهة. والفقهاءُ يجيزون تقليد المقلِّد غيرَ إمامه في بعض الفروع لمجرد احتياجه، فكيف لا يجوز بل يجب أن يقلِّده فيما ظهر أن قوله أولى بأن يكون هو الحق في دين الله؟ وقضية التلفيق إنما شدَّدوا فيها إذا كانت لمجرد التشهِّي وتتبُّع الرخص، فأما إذا اتفقت لمن يتحرَّى الحقَّ وإن خالف هواه فأمرها هيِّن. فقد كان العامة في عهد السلف تَعرِض لأحدهم المسألةُ في الوضوء، فيسأل عنها عالمًا فيفتيه، فيأخذ بفتواه. ثم تعرض له مسألة أخرى في الوضوء أيضًا أو الصلاة، فيسأل عالمًا آخر، فيفتيه، فيأخذ بفتواه، وهكذا. ومن تدبَّر علِمَ أن هذا تعرُّضٌ للتلفيق، ومع ذلك لم ينكره أحد من السلف، فذاك إجماع منهم على أن مثل ذلك لا محذور فيه، إذ كان غيرَ مقصود، ولم ينشأ عن التشهِّي وتتبُّع الرخص. فالعالم الذي يستطيع أن يروض نفسَه على هذا هو الذي يستحق أن يهديه الله عزَّ وجلَّ، ويسوغ له أن يثق بما تبيَّن له، ويسوغ للعامة أن يثقوا بفتواه. نعم، قد غلب اتباعُ الهوى وضعف الإيمان في هذا الزمان، فإذا

احتيط لذلك بأن يرتَّب جماعةٌ من أعيان العلماء للنظر في القضايا والفتاوى، فينظروا فيها مجتمعين، ثم يُفتوا بما يتفقون عليه أو أكثرهم= لكان في هذا خير كثير وصلاح كبير إن شاء الله تعالى. فتلخَّص مما تقدَّم أن من اعتمد في العقائد المأخذين السلفيين ووقف معهما، واتقى البدعَ، وجرى في اختلاف الفقهاء على أنها مذهب واحد اختلف علماؤه فتحرَّى الأرجح، وكان مع ذلك محافظًا على الفرائض، مجتنبًا للكبائر، فإن عثر استقال ربَّه وتاب وأناب = فهو من الطائفة [2/ 385] التي أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنها لا تزال قائمةً على الحق. فليتعرَّفْ إخوانَه، وليتعاضد معهم على الدعوة إلى الحق، والرجوعِ بالمسلمين إلى سواء السراط. فأما من أبى إلا الجمودَ على أقوال آبائه وأشياخه والانتصار لها، فيوشك أن يدخل في قول الله تبارك وتعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31]، وقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} [الجاثية: 23]. اللهم يا مقِّلبَ القلوب ثبِّت قلوبَنا على دينك، واهْدِنا لما اختُلِفَ فيه من الحق بإذنك. {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 286].

الأنوار الكاشفة لما فى كتاب "أضواء على السنة" من الزلل والتضليل والمجازفة

آثار الشّيخ العَلّامَة عبد الرّحمن بن يحيى المعَلِّمي (12) الأنوار الكاشفة لما فى كتاب "أضواء على السنة" من الزلل والتضليل والمجازفة تأليف الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني 1312 هـ - 1386 هـ تحقيق علي بن محمد العمران وفق المنهج المعتمد من الشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد (رحمه الله تعالى) تمويل مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

بسم الله الرحمن الرحيم

رَاجَعَ هذا الجزء مُحَمَّد أجمَل الإصلاحي عادل بن عبَد الشكوُر الزّرقي

مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية SULAIMAN BIN ABDUL AZIZ AL RAJHI CHARITABLE FOUNDATION حقوق الطبع والنشر محفوظة لمؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الطبعة الأولى 1434 هـ دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع مكة المكرمة - هاتف 5473166 - 5353590 فاكس 5457606 الصف والإخراج دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

مقدمة التحقيق

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة التحقيق الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد، فهذا كتاب "الأنوار الكاشفة لما في كتاب "أضواء على السنة" من الزلل والتضليل والمجازفة" للشيخ العلامة عبد الرحمن المعلمي رحمه الله. وواضح من عنوانه أنه نقضٌ لكتاب "أضواء على السنة المحمّدية" لمحمود أبو رية. وخلاصة كتاب أبي رية: توجيه جملة من الطعون والشبهات إلى السنة النبوية والعمل بها، وإلى علم الحديث وعلمائه، وإلى رواة الحديث وحَمَلته، بل وإلى طائفة من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين! وخصّ منهم بالطعن راويةَ الإِسلام وحافظَ سنة النبي عليه السلام: أبا هريرة رضي الله عنه، ولم يكتفِ بالطعن بل زاد إليه السفاهةَ والتهكّمَ والتجنّي (¬1). ¬

_ (¬1) قال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله في حاشية "المسند": (6/ 522): "وقد لهج أعداء الإِسلام في عصرنا وشغفوا بالطعن في أبي هريرة، وتشكيك الناس في صدقه وفي روايته، وما إلى ذلك أرادوا، وإنما أرادوا أن يصلوا - زعموا - إلى تشكيك الناس في الإسلام تبعًا لسادتهم المبشرين، وإن تظاهروا بالقصد إلى الاقتصار على الأخذ بالقرآن أو الأخذ بما صح من الحديث - في رأيهم - وما صح من الحديث في رأيهم إلا ما وافق أهواءهم، وما يتبعون من شعائر أوربا وشرائعها".

ولن أكشف سِرًّا إذا قلت: إن أبا رية لم يُضف جديدًا إلى البحث العلمي، ولا إلى أصل الشُّبَه والطعون التي يذكرها الطاعنون في السنة النبوية وحَمَلَتها، بل كان في حقيقة أمره مِن مستنقع المستشرقين وأضرابهم يمتح، وعن مائهم الآسن يصدر! ولولا ما مَهَدوه له لَما راح أبو ريّة ولا جاء! = مع ذلك فقد امتاز كتابه بأمور فاق بها مَن تقدّمه من الطاعنين، يجمعها: "ضعف الوازع الديني والأخلاقي والعلمي"! وتفصيلها: السفاهة والتجنّي، والتهوّر والمجازفة. مقدّمًا تلك النقائص في ثوب أدبيّ جميل! هذا هو جديد أبي رية في كتابه - وبئس ما جدّد -, فما كان غرضه منه وما هو الدافع لانتهاجه؟ أقول: أما السفاهة ... وأخواتها فلِغَرَضِ أنه قد انتهى من إضعاف السنة وضعضعتها - زعم - فما بقي إلا التهكّم بها وبحَمَلتها؛ فيجرؤ من يقف على كتابه على نقد السنة مهما كانت قوّةُ ثبوتها. وأما الأسلوب الأدبي فلتغرير القارئ وصرفه عن ملاحظة سوء كتابه، فهو كمن يسقيك سمًّا في زجاجة فاخرة! وقد عَلِم الناسُ - بحمد الله - منذ أن صدر كتاب أبي رية أن غرضه منه أمر واحد هو (الطعن في السنة النبوية وحملتها)! وقد جهد في حجب هذه النتيجة المكشوفة تارة في المقدمة، وتارة في الخاتمة، وأخيرًا بأن كتب على غلاف كتابه: (دفاع عن الحديث) (¬1)! فما أغنته محاولاته تلك وما صدّقه أحد (¬2)؟ ¬

_ (¬1) كتب ذلك في الطبعات اللاحقة، وكان قد كتب على لوح الطبعة الأولى: "دراسة"! فما صدّقه أحد في عبارته الأولى، فغيّرها, ولن يصدّقه أحد في الثانية. (¬2) إلا الرافضة فقد صدقوه وأثنوا عليه ثناءً بالغًا وعلى كتابه! فهنيئًا له تصديق الكذوب!

فَعلَ أبو رية تلك الشناعات إرضاء لرَغَبات مَن وَجَّه إليهم عملَه هذا؟ فقد قال في ختام مقدمته: "وإني لأتوجّه بعملي هذا ... إلى المثقفين من المسلمين خاصة، وإلى المهتمين بالدراسات الدينية عامة" (¬1). وانظر بمَ علل توجيهه إليهم قال: "ذلك بأن هؤلاء وهؤلاء الذين يعرفون قدرَه. واللهَ أدعو أن يجدوا فيه جميعًا ما يرضيهم ويرضي العلم والحق معهم". فالمستشرقون وأتباعهم هم فقط من سيَقْدُر كتاب أبي رية قدرَه ... وهم فقط من يحرص أبو ريّة أن ترضيهم نتائجُ كتابه ... ! ولن ترضى اليهودُ ولا النصارى عن أحدٍ حتى يتّبع مِلّتهم كما أخبر الله في كتابه (¬2). ولئن غابت عنّا أمور عن أبي رية ودوافعه ... فلن تغيب عنّا علاقاته الحميمة، وصِلاته المريبة بالرافضة، الذين وجدوا فيه مطيّة طيّعةً لخدمة مآربهم وأغراضهم؛ من الطعن في الصحابة نَقَلَة الشريعة؛ للتوصل إلى الطعن في الدين نفسه، كما سيأتي شرح ذلك في ترجمة أبي رية. وهو ما فَطَن له الشيخ المعلمي فأشار إليه بقوله: "وطائفة لا يرضاها ولكنه رأى أنّ في كلامه ما يعجبها فراح يتملّقها في مواضع؛ رجاء أن يروج لديها كتابه كما راج لديها كتاب فلان" (¬3). ¬

_ (¬1) علق الشيخ المعلمي على هذا بقوله: "يعني المستشرقين من اليهود والنصارى والملحدين". ولأجل أن هذا كان قصده اضطرّ لتغييره في الطبعات اللاحقة إلى "بالدراسات الإِسلامية". (¬2) سورة البقرة آية 120. (¬3) "الأنوار الكاشفة" (ص 18). أقول: لعل الشيخ يقصد بـ (فلان) طه حسين في كتابه "الفتنة الكبرى" فقد أساء الأدب إلى بعض الصحابة، وأنكر وجود عبد الله بن سبأ اليهودي. وله آراء أخرى =

قلت: وقول المؤلف: "لا يرضاها" إحسان للظن بأبي رية، وقد ثبت أنه يرضاها وترضاه، وبينه وبين شيوخها صلات حميمة وعلائق وشيجة - كما سيأتي شرحه -. وليس وصف أبي ريّة بكونه تابعًا ذليلًا لهؤلاء وأولئك من الطاعنين في السنة= تجنّيًا عليه أو تقويلًا له ما لم يقله، بل هو الذي ألْمَحَ إلى ذلك في أول كتابه كما مرّ (¬1)، وصرّح به في أثنائه، فأحال لاستكمال مباحثه إلى كتب اليهوديّ جولد زيهر وأشباهه (¬2)! وقد حاول أن يغطّي تلك العلاقة، ويلبس ثوبَ النصيحة والغيرة على الحديث النبوي، لكن هيهات! فها هو قد أفصح عما كان يخفيه، وكل إناء ينضح بالذي فيه، وصَدَق المؤلف إذ ضرب لصنيعه مثلًا: "صَدَقني سِنَّ بَكْرِه" (¬3). كَتَب أبو رية كتابه هذا على حين فترةٍ من علماء الحديث ونُقّاده، وهجمة مَهُولة على علوم الدين وثوابت الشريعة (¬4)، وما علم أن في الزوايا ¬

_ = ذكرها بعض الرافضة عنه - إن صدقوا -. انظر "مع رجال الفكر في القاهرة": (1/ 276 - 278) للرضوي. (¬1) (ص 7)، كما في مقدمة الطبعة الأولى، واضطر لتغيير العبارة في الطبعات اللاحقة, لتضليل الناس وتنفيق كتابه، لكن هيهات! (¬2) انظر ص 193 من كتابنا هذا. (¬3) الموضع السالف. (¬4) فكتَبَ مصطفى عبد الرّازق "الإِسلام وأصول الحكم" في نفي وجوب التحاكم إلى الشريعة, وكتب قاسم أمين "المرأة الجديدة" و"تحرير المرأة" في تشريع التبرّج والسفور، وكتب طه حسين "في الشعر الجاهلي" وإنكار القصص القرآنى ... وكتب أبو رية كتابه هذا وكتابه "شيخ المضيرة ... " في الطعن في السنة وأهلها.

خبايا، وأن الله تعالى قد أبقى للسنة والحديث خُدّامًا وحُرّاسًا، فقد نَهَض للردّ على أبي رية في كتابه هذا جمعٌ من أهل العلم بُعيد صدور كتابه بقليل، فكتب الشيخ محمَّد محمَّد أبو شهبة مقالات في "مجلة الأزهر"، ثم أصدر كتابًا سماه: "دفاع عن السنة والردّ على شبهات المستشرقين والكُتَّاب المعاصرين"، وكتب الشيخ محمَّد عبد الرزاق حمزة كتابًا سماه: "ظلمات أبي رية أمام أضواء السنة المحمدية"، وكتب الدكتور مصطفى السباعي ردًّا ضمن كتابه "السنة النبوية ومكانتها في التشريع الإِسلامي". وكتب الشيخ العلامة عبد الرحمن المعلمي اليماني "الأنوار الكاشفة ... " فكان ردّه واسطة العقد، ونهاية التحقيق. وقد طبع كتابنا هذا "الأنوار الكاشفة ... " في حياة مؤلِّفه سنة 1378 هـ في المطبعة السلفية ومكتبتها لمحبّ الدين الخطيب، وأعيد تصويره مرارًا. وها هو اليوم يظهر ضمن هذا المشروع المبارك في حلة قشيبة تليق به وبمكانة مؤلفه. وقد قدمت بين يدي الكتاب عدة مباحث تتعلق بالتعريف بالكتاب وهي: - اسم الكتاب. - تاريخ تأليفه. - سبب تأليفه. - أهم الموضوعات التي ناقشها الكتاب. - منهج المؤلّف وطريقته في المناقشة والتقرير.

- ترجمة محمود أبو رية (المردود عليه). - طبعات الكتاب. - مخطوطات الكتاب. - منهج التحقيق. ثم ختمناه بفهارس كاشفة متنوّعة، والحمد لله رب العالمين. وكتب علي بن محمد العمران [email protected] a-alemran تويتر

التعريف بالكتاب

التعريف بالكتاب * اسم الكتاب: سمى المؤلف كتابه: "الأنوار الكاشفة لما في كتاب (أضواء على السنة) من الزلل والتضليل والمجازفة". لم أقف على هذه التسمية بخط المؤلف في المسوّدة التي وقفت عليها، وغالب الظن أن يكون كتبه على ورقة العنوان في المبيّضة التي طبع الكتاب عنها، وقد طبع في حياته، فيبعد جدًّا أن يسمّى بغير ما سمّاه به مؤلفه. وللشيخ عادة في التسميات المسجوعة، مثل "التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل"، و"إرشاد العامِه إلى الكذب وأحكامه" و"الاستبصار في نقد الأخبار" وغير ذلك. * تاريخ تأليفه نصّ المؤلّف على تاريخ تأليف كتابه في آخره قال: "انتهى ... جمع هذا الكتاب في أواخر شهر جمادى الآخرة سنة 1378". أما بداية جمعه له وكم استغرق من الوقت؛ فيمكن أن نستدل عليه بالآتي: انتهى أبو رية من تأليف كتابه في الخامس من جمادى الأولى سنة 1377 هـ, كما نص عليه في آخر مقدمته (ص 15 - ط الأولى، 10 - ط السادسة). فيكون بين انتهاء أبي رية من تأليف كتابه وانتهاء الشيخ من ردّه سنة وشهر. ولو حسبنا المدة التي استغرقتها طباعةُ كتاب أبي رية، ثم وصوله من مصر إلى مكة، ثم تأليف الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة لجملة من التعليقات والملاحظات على كتاب أبي رية واطلاع الشيخ عليها بغرض التقديم لها (انظر المبحث الآتي)، ومن ثَمّ وقوفه على كتاب أبي رية. بعد

* سبب تأليفه

ذلك شَرَع الشيخُ في تأليف كتابه. فلا أظنّ الشيخ قد شرع في كتابه إلا بعد مضيّ بضعة أشهر على طباعة كتاب أبي رية، فعليه يكون الشيخ قد مكث في تأليفه نحو ثمانية أشهر أو أقل. وهو وقت قياسيّ إذا ما اعتبرنا قيمة الكتاب العلمية وتحرير مسائله، وتتبّع أبي رية في جميع ما أورده من نقول وقضايا، والرجوع لجميع مصادره، مع عدم توفّر بعضها، وكتابة مسوّدته ثم تبييضها. مع اشتغال الشيخ بأعمال علميّة أخرى، وعمله الرسمي في مكتبة الحرم المكي الشريف. * سبب تأليفه: أبان المؤلف عن سبب تأليف كتابه في إحدى تعاليقه المخطوطة المدرجة تحت عنوان "الأنوار الكاشفة": (الدفتر الثالث ص 1) بقوله: " ... فإن فضيلة أخي العلامة محمد عبد الرزاق حمزة كتب - وهو على فراش المرض عافاه الله - "مطالعات وملاحظات على كتاب ألّفه الأستاذ محمود أبو ريّة وسماه "أضواء على السنة المحمدية". فأرسل إليّ حضرة المحسن الكريم صاحب الفضيلة الشيخ محمَّد نصيف تلك الملاحظات، وتقدَّم إليَّ بأن أكتب كلمة تكون بمثابة مقدّمة، فاحتجتُ مع الاطلاع على الملاحظات أن أطالع كتاب أبي رية، فتبيّن لي أنّ استيفاء الكلام له وعليه يستدعي تأليفًا مستقلًّا، عسى أن يتيسّر لي فيما بعد .. ". وذكر قريبًا منه في الدفتر الرابع من المسوّدة. ثم كتب المؤلف في تلك الورقات ملاحظات على كتاب أبي رية. ثم لمّا عَزَم على تأليف كتابه هذا كان الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة رحمه الله قد زاد في كتابه وتوسّع فيه، فلم يعُد مجرّد "مطالعات وملاحظات"

* منهج المؤلف وطريقته في المناقشة والتقرير

لكنه لم يكمُل. فذكر الشيخ المعلمي في صدر كتابه أنه استفاد منه، ووصفه في المقدّمة بكونه "ردًّا مبسوطًا لم يكمل حتى الآن". ومع ذلك فقد رأى المصنف أنه ينبغي له تأليف كتاب مفرد في الردّ, قال: "ورأيتُ من الحقّ عليَّ أن أضع رسالةً أسوقُ فيها القضايا التي ذكرها أبو رية، وأعقِّب كلّ قضية ببيان الحقّ فيها، متحرِّيًا إن شاء الله تعالى الحقّ، وأسأل الله التوفيق والتسديد ... " (¬1). * منهج المؤلّف وطريقته في المناقشة والتقرير: يمكن تلخيص معالم منهج المؤلف في هذا الكتاب في النقاط الآتية: 1 - التصدير والمقدمة: كتب المؤلف تصديرًا في صفحة واحدة؛ أبان فيه عن تواضعه المعهود، وأنه كتب كتابه على عَجَل، وذَكَر مَن سبقه إلى الردّ وأنه استفاد منه، ومَن استحَثّه لإكمال الكتاب، ومَن أمدَّه ببعض المراجع أو مراجعة بعض النقول. ثم مقدمة قصيرة بين فيها وقوع كتاب أبي رية إليه، وعَلِمْنا في مبحث "سبب التأليف" كيف وقع إليه، ثم ذكر خلاصة كتاب أبي رية وأنه "تكميل للمطاعن في السنة"، وذكر كتاب الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة بما سبق ذكره في سبب التأليف، وأنه من الحق عليه أن يفرد في الرد على أبي رية كتابًا يتعقّب قضاياه ببيان الحق فيها ... 2 - الترتيب: جرى المؤلف في نقده للكتاب على ترتيب الكتاب المنقود وفصلًا فصلًا وبحثًا بحثًا من أول الكتاب إلى آخره، اللهم إلا في موضوعات قليلة، مثل عدالة الصحابة، فقد أخّر الكلامَ عليه مستوفى إلى آخر الكتاب (ص 365) حيث ذكر أبو رية فصلًا خاصًّا بذلك، فأخّره الشيخ ¬

_ (¬1) "الأنوار الكاشفة" (ص 5).

إلى مكانه ورجع ينقل وينقد ما ذكره في أول الكتاب، وكذلك فَعَل في مواضع أخرى. 3 - طريقته: ينقل كلام أبي رية بحروفه بذكر رقم الصفحة من الطبعة الأولى لكتاب أبي رية، ثم يسوق كلامه موضعَ النقد بين قوسين صغيرين "". فأحيانًا يسوق موضع النقد فلا يتعدى كلمات، وأحيانًا يسوقه بطوله فيبلغ عشرة أسطر، وذلك بحسب مقتضى الحال. ثم يتعقبه بقوله: "أقول". وجرى على هذا من أول الكتاب إلى آخره. 4 - منهجه: نحا الشيخ في رده منحى علميًّا منضبطًا، مبتعدًا عن أسلوب الإنشاء والخطابة، فتتبّع كتاب أبي رية في نقوله وقضاياه؛ فإن نقل أبو رية من كتابٍ راجعه وتثبّت من نقله، فإن وجد النقل كما هو بيّن ثبوتَ النقل مِن عدمه وصحّته من ضعفه، فإن كان ثابتًا نظَرَ فيه نَظَرَ العالم المنصف المريد للحق، فنظر في النصوص النبوية نظرَ أهل العلم؛ وذلك بالقبول والعمل عند سلامتها من المعارض، وبالجمع والتوجيه عند وجود التعارض أو الإشكال. وتعامَلَ مع آثار السلف ونصوص العلماء بفهمها وتوجيهها بالنظر إلى سياقاتها ومناسباتها ومراد قائلها منها بتجرّد ونصَفَة. أما إن تبيّن أنّ النصّ غير ثابت، فيبيّن موضع العلة فيه، وسبب التضعيف، ثم ردّه عليه، فإن كان له وجهٌ مِن الفهم يسوغ ذَكَرَه تنزّلًا منه على فرض الثبوت. فإن لم يجد النقل كما هو، بيّن تصرُّف أبي ريّة إما بالحذف أو التدليس أو التصرُّف، أو عدم نقل التضعيف للخبر من المصدر المنقول منه. انظر (215, 216, 254, 373, 411).

فإن لم يجد النقل أصلًا بيّن أنه لم يجده، فيبقى أمر الحكم عليه حتى الوجدان - وهذا نادر -. وقد يبحث عنه الشيخ في مظانه فيجده، فيصحّح الإحالة إلى مكانه. ثم ينظر فيه نظره السابق الذي شرحناه. أما إذا لم يذكر أبو رية مصدر النقل؛ فهذه - بتتبّع المؤلف - حيلته في تدليس بلاياه، وأنه إن ذكر مصدرَه سيُفضَح بذكره، كما بيّنه الشيخ في مواضع (ص 246، 242، 258). أما ما يذكره أبو رية من القضايا والمسائل والإشكالات، فينظر الشيخ في ذلك كلّه نظَرَ العالم المتبحِّر العارف، فيحلّلها ويدرسها دراسةً عميقة متأنّية، ثم يأتي بخلاصتها في أسطر معدودة، وقد يطيل النَّفَس بعض إطالةٍ إن اقتضى الأمر ذلك، وتلك مسائل معدودة، وأنا على يقين أن الشيخ مال إلى تلخيص القضايا حتى لا يطول الكتاب، وإلا فكثير من مباحثه وتحقيقاته التي ذكرها لم تتأتّ إلا بنَظَر طويل وتحقيق بالغ. فها هو الشيخ ص 190 يحيل إلى بحث له طويل في قوله تعالى: {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} (¬1) ثم يذكر خلاصته. وقال في موضع آخر (ص 230): "وشرح ذلك يطول". وبعد، فإن للمؤلف في كتابه - كما عوّدنا - من التحقيقات والإشارات والفوائد ما لو وقعت لغيره لتبجّح بها في طول الكتاب وعرضه، وزَعَم وزَعَم، لكن الشيخ في تواضعه ورزانته نادر المثال. وتأمل قوله رحمه الله: "الباحث المتّزن الواثق بحجته هو الذي يترك الإعلان عن نفسه وعن كتابه ¬

_ (¬1) وهذا البحث مضمّن في "رسائل التفسير" من هذه الموسوعة المباركة.

* أهم الموضوعات التي ناقشها الكتاب

إلى الأدلة نفسها، ويَدَع للناس الحريّة التامة في موافقته أو مخالفته" (¬1). * أهم الموضوعات التي ناقشها الكتاب: - السنة ومكانتها من الدين. - كتابة الحديث في العهد النبوي. - هل نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كتابة الحديث. - الرد على نظرية "دين عام ودين خاص". - الصحابة وروايتهم للحديث، وقضية تشديدهم في قبول الأخبار. - الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم -. - الرواية بالمعنى. - رواية الحديث ونقد الأئمة للرواة. - الوضع وأسبابه. - الإسرائيليات ووجودها في الحديث وردّ مزاعمَ لأبي رية فيها. - تفنيد مكيدة مَهُولة حاول تمريرها والتدليس بها. - ردّ مزاعم له بشأن المسيحيات في الحديث. - الدفاع عن أبي هريرة رضي الله عنه (ص 190 - 320) وهو أطول فصل في الكتاب. - أحاديث مشكلة والجواب عنها. ¬

_ (¬1) "الأنوار الكاشفة": (الدفتر الرابع ص 3 - مخ).

* ترجمة محمود أبو رية (المردود عليه) (1889 - 1970)

- تدوين الحديث وأقسام الخبر. - الكلام على "الموطأ"، و"البخاري". - المحدثون وعنايتهم بنقد المتن. - الصحابة وعدالتهم. - درجات الصحابة. - القواعد النظرية القديمة والحديثة. - طلب الحديث بعد فقهه. - خاتمة أبي رية وفيها قضايا حديثية عدة. * ترجمة محمود أبو رية (¬1) (المردود عليه) (1889 - 1970): نستطيع القول إن أبا رية لم يترجمه أحد، فقد جهِدْتُ وجَهِد الباحثون قبلي للوقوف على ترجمة له أو تعريف به فلم نظفر بكبير شيء، عدا معلومات متناثرة هنا وهناك، فكأنما تواصى الناسُ على إخمال ذكره (¬2)! ولولا أنه يُعاد ذكرُه عند الطاعنين في السنة والحديث مستشهدين بكتابه، ¬

_ (¬1) تنبيه: هناك شخصية أخرى بالاسم نفسه "محمود أبو رية" وهو داعية مصريّ من الإخوان المسلمين (ت 2004)، وقد وقع خلطٌ بين الاثنين من بعض الكتّاب، وعليه جرى التنبيه. (¬2) حتى أصدقاؤه ومعارفه ممن كتب في تراجم المعاصرين! وقد كنت كتبت رسالة إلى الأستاذ وديع فلسطين، أطلب منه أن يكتب لي ما يعرفه عن أبي ريّة، فلم يصلني منه شيء حتى اللحظة، وكان قد ذَكَره في مواضع من كتابه "وديع فلسطين يتحدث عن أعلام عصره" ووصفه بالصديق.

وعند المدافعين عنها نقضًا لكلامه= لكان نَسْيًا منسيًّا! وهذا من عجيب صنع الله به! غير أنه قد ذكره من لا يُفرَح بهم، من أعدء السنة وسُباب الصحابة، فذكروه وأشادوا به، وخلعوا عليه أفخم الألقاب، وسعوا في طباعة كتبه، وصارت بينه وبينهم صِلات حميمة ومودّة ورسائل خاصة. وأهمّ مَن ذَكَره منهم مرتضى الرضوي في كتابه "مع رجال الفكر في القاهرة": (1/ 130 - 158) (¬1). والكتاب عبارة عن ذكريات المؤلف بمن التقى بهم في القاهرة، وما دار بينهم من أحاديث وحوارات، وليست تراجم متكاملة. وسنذكر منه ومن غيره (¬2) ما يفيد في التعريف بأبي رية. اسمه: محمود أبو رية. ولده في كفر المندره (مركز أجا) محافظة الدقهلية في 15 ديسمبر عام 1889 م. وتوفي في 11 ديسمبر 1970 م بالجيزة. عاش في بلدته عيشة جيدة الحال، إلى أن حلّت به وبأسرته سنة 1916 م نكبةٌ مالية ذهبت بكل ما يملكون وساءت حاله جدًّا (¬3). وبقيت حاله في فاقة، وكان كثير الشكوى من حاله وتقلّب الدهر به (¬4). ¬

_ (¬1) أرشد إلى هذه الترجمة أخي الشيخ عبد الرحمن قائد. (¬2) ما كان من غيره ذكرتُ مصدره. (¬3) "رسائل الرافعي" (ص 21). (¬4) المصدر نفسه (ص 23، 34 - 35).

انتسب إلى الأزهر في مقتبل عمره، لكنه لم يتجاوز المرحلة الثانوية الأزهرية مع محاولته أكثر من مرة، ثم عمل مصححًا للأخطاء المطبعية بجريدةٍ في بلده، ثم موظفًا في دائرة البلدية حتى أحيل إلى التقاعد (¬1). انتقل إلى المنصورة في سنة 1924 م أو قبلها, ولم يأنس بها وكان يشكو من الوحشة فيها (¬2). وفي المنصورة تولى تحرير جريدة التوفيق، وكان يشارك في تحرير جريدة المنصورة، ويراسل جريدتي المقطم والسياسة (¬3). ومع أنه قد تيسّرت أموره وحصّل وظيفة جديدة ... فلم يكن راضيًا بالحال التي هو عليها (¬4). قضى أكثر أيام عمره في مدينة المنصورة حتى وفد إلى الجيزة عام 1957 م، وبقي فيها إلى حين وفاته. بدأ محمود أبو رية حياته ملتمسًا التعرّف بأشهر أُدباء عصره وكُتّابهم، حتى اتصلت أسبابه بإمام الأدب مصطفى صادق الرافعي عن طريق المراسلة، وذلك من عام 1912 م إلى عام 1934 م قبل وفاة الرافعي بثلاث سنين (¬5). ¬

_ (¬1) السنة النبوية في كتابات أعداء الإِسلام ص 21. (¬2) "رسائل الرافعي" (ص 94). (¬3) المصدر نفسه (ص 93). (¬4) المصدر نفسه (ص 91، 107، 110، 113). (¬5) بلغ مجموع الرسائل التي وصلته من الرافعي حوالي 350 رسالة. نشر منها أبو رية 263 رسالة، ومن خلالها استفدنا هذه المعلومات المعزوّة إليها. وللرافعي اهتمام =

وواضح من رسائله إلى الرافعي أنه كان يسعى لأن يكون كاتبًا يملك ناصية الأدب، ففي كثير منها يسأله عن كتب الأدب وكيف قراءتها، وكتب النحو والمنطق والتصحيح اللغوي ... (¬1). بدأ أبو رية بالكتابة في الصحف والمجلات المعروفة في عصره، وبتلخيص بعض الكتب الأدبية، ككتاب الحيوان للجاحظ وبعض الكتب الأدبية (¬2). وكان في أولى مقالاته مدافعًا عن الدين وعن البلدان الإِسلامية، فمرَّة تراه يستنجد للحجاز ليهب المسلمون بتقديم يد المساعدة إليه، وإلى أهل الحرمين قبيل الحرب العالمية الثانية، في مقال بعنوان: ما يجب على المسلمين للحجاز (¬3). ومرةً يدعو إلى تطهير التوحيد مما لصق به، وإخلاصه لله عزَّ وجلَّ في مقال بعنوان: تطهير العقائد أساس الإصلاح في البراء (¬4). بل نجده أحد الذين تصدّوا للردّ على توفيق الحكيم في دعوته إلى توحيد الأديان. ¬

_ = بالغ بما يَرِدُ إليه من الرسائل وبأصحابها, وله في ذلك طرائف. انظر "حياة الرافعي" (ص 250) للعريان. (¬1) "رسائل الرافعي" (ص 13، 15، 40، 28، 122). (¬2) المصدر نفسه (ص 115). ولم يحمد الرافعي تلخيصه وقال: إنه لم يحسن الاختيار. (¬3) مجلة الفتح: العدد 524، 12 محرم 1356 هـ, جـ 11، ص 1034. (¬4) مجلة الفتح: العدد 543، 19 محرم 1356 هـ.

- مؤلفاته

قد تعود بداية انحراف أبي رية عن السنة إلى عام 1363 هـ حيث نشاهده في "مجلة الفتح الإسلامية" وهو يدافع عن القرآن، لكنه في الوقت نفسه يغمز ويلمز السنة ضمنًا (¬1). وبدا أكثرَ صراحة في نقد السنة الصحيحة والقدح فيها بعد ذلك؛ فكتب مقالاً في "مجلة الرسالة" في إنكار حديث سِحْر النبي - صلى الله عليه وسلم - الوارد في الصحيح، وردّ عليه الأستاذ محمَّد فؤاد عبد الباقي. ثم وضَح انحرافه عن السنة بعد ذلك في مقال له في "مجلة الرسالة" عدد 633 رمضان 1364 هـ / 1945 م بعنوان "الحديث المحمدي". ذَكَر فيه أن مقاله هذا خلاصة كتاب سيُنشر في هذا الخصوص. وقد رد على مقاله ذاك الدكتور محمَّد أبو شهبة في "مجلة الرسالة" نفسها بعد نحو شهرين عدد 642 سنة 1364 هـ. ثم ردّ على الردّ أبو رية في العدد 654 من المجلة نفسها (¬2). وبعد ذلك بنحو ثلاث عشرة سنة نَشَر أبو رية ما وَعَد به في كتاب بعنوان "أضواء على السنة المحمدية". - مؤلفاته: 1 - عليٌّ وما لقيه من أصحاب الرسول. مخطوط (¬3). 2 - أضواء على السنة المحمدية. وهو الكتاب المردود عليه. ¬

_ (¬1) مجلة الفتح: العدد 546, 10 صفر 1356 هـ، جـ 11, ص 1100. (¬2) انظر "دفاع عن السنة" (ص 34) لأبي شهبة. (¬3) ذكره مرتضى الرضوي ونقل منه في كتابه "مع رجال الفكر": (1/ 130 - 158).

3 - أبو هريرة شيخ المضيرة. طبع. 4 - السيد البدوي. طبع. 5 - كتاب حياة القرى. طبع. 6 - صيحة جمال الدين الأفغاني. طبع. 7 - رسائل الرافعي. طبع. 8 - جمال الدين الأفغاني. طبع. 9 - دين الله واحد. طبع. 10 - قصة الحديث المحمدي. طبع. * وهذا سياق ما ذكره مرتضى الرضوي (شيعي اثنا عشري) من ذكريات مهمة مع "أبو ريّة" (¬1) قال: "تعرفت إليه عام 1958 م .... وتعرفت على الشيخ سليمان الوكيل صاحب مطبعة "دار التأليف". وقد عمل لنا الأخ حسين محمَّد كاظم - صاحب المكتب أو النادي - دعوة في مكتبه فدعاني، والشيخ سليمان الوكيل، والأستاذ محمد برهومة على طعام في ظهر يوم جمعة وجلس معنا، وقد أحضر لنا الطعام من أحد المطاعم القريبة لمحله وبعد أن فرغنا من تناول الطعام أحضر لنا الشاي، والقهوة, والكازوز، والشيشة "النركيله". ¬

_ (¬1) في كتاب "مع رجال الفكر في القاهرة": (1/ 130 - 158). وقد حذفت منه الاستطرادات التي لا تفيد شيئًا عن أبي رية. وحرصت على نقل كلامه بطوله؛ لأنه يكشف حقيقة كانت خفيّة في علاقته مع الرافضة وصلاته القوية بهم واحتفالهم به.

وبعده تكلم الشيخ سليمان الوكيل وقال: إن لي مطبعة وعندي كتب طبعتها ومستعد لطبع الكتب التي عندك. ثم قال: إن العلامة الشيخ محمَّد أبو رية له كتاب يطبعه الآن عندنا واسمه: "أضواء على السنة المحمدية"، وبلغه مجيئُك إلى القاهرة ويطلب فضيلته الاتصال بك (¬1)، فلو سمحت أن تزورنا في المطبعة، وفضيلته سوف يحضر في الصباح قبل الساعة العاشرة ... وعندما دخلت رأيت شيخًا وقورًا جالسًا عن يمينه فسلمت عليه فرد عليّ السلام، وأشار الشيخ سليمان صاحب المطبعة على الشيخ الوقور الجالس عن يمينه وقال: هذا هو الشيخ محمود أبو رية الذي حدّثتك عنه أمس. فجلست إلى جنب فضيلته وحييته، فرحّب بي كثيرًا، وفتحت الحديث معه وقلت: يا مولانا الشيخ: بأيّ مذهب من المذاهب الأربعة متمسّك. فأجاب: أنا مسلم أعمل بكتاب الله وسنة نبيه، وأنا غير ملتزم بمذهب من هذه المذاهب الأربعة. وقال: أنا أعلم من الشافعي، وأبي حنيفة! (¬2) فسألته عن رأيه في الصحاح؟ فقال: الصحاح صحاح عند أصحابها. فقلت: ما رأي سيادتكم في بعض الرواة المكثرين للحديث. فقال: تقصد زي من، مثل من؟ قلت: أبو هريرة. فقال: أبو هريرة رجل وضَّاع. ¬

_ (¬1) أبو رية هو من سعى للتعرف بهذا الرافضي، وهو مِن قَبْله على علاقة حميمة بعبد الحسين شرف الدين كما سيقص خبرَه. (¬2) إن صدق هذا الرافضي في النقل، فإن الرافعي يقول لأبي رية في إحدى رسائله: "ليتك كنت مجذوبًا يا أبا رية ... ولكنك لا تصلح مجذوبًا ولا عاقلاً"! "رسائل الرافعي" (ص 77). أقول: وأين مثل الرافعي خبرةً بأبي رية!!

قلت: قد ألف الإمام شرف الدين العاملي كتابًا في حياة هذا الراوية المكثر وأسماه: (أبو هريرة)، فمد فضيلته يده إلى حقيبة كانت معه وأخرج منها كتاب: (أبو هريرة) الذي ألفه الإمام شرف الدين العاملي، وكانت الطبعة الأولى طبعة صيدا - لبنان، وقال: هذا ما أهداه لي الإِمام شرف الدين. فناوَلَني النسخة فأخذتها بيدي، فرأيتُ الإهداء بخط الإِمام شرف الدين على الكتاب وفيه ما يشعر بجهاده وعلمه وإكباره (¬1). ثم أخبرته بوفاة ... - شرف الدين - قبل أسبوع في يوم الاثنين الماضي الموافق 30/ 12/ 1957 م الموافق 8/ 6/ 1377 هـ ... فتأثر كثيرًا وقال: كان في نيتي إهداء كتاب "الأضواء" له عند إتمامه من الطبع. ثم طلب فضيلته الشيخ سليمان - صاحب المطبعة - وقال: هات الملازم المطبوعة من كتاب "الأضواء"، فجاءني بها الشيخ سليمان وكانت آنذاك خمسة عشر ملزمة ولغاية (240) صفحة مطبوعة، فأخذتها بيدي وتصفحتها حتى وصلت إلى عنوان: (أحاديث المهدي)، فرأيت فضيلته ينقل عن ابن خَلْدون البربري ويقول: وقد طعن ابن خلدون في أحاديث المهدي وفندها كلها، فقلت: يا مولانا الشيخ، إن البربري هذا ابن خلدون من ألدّ أعداء الشيعة وخصومهم ولا يصح نقل شيء من الخصم وكلامه ليس بحجة. وإذا كنتم بحاجة إلى (أحاديث في المهدي) فإن معي كتاب (منتخب الأثر) في الإِمام الثاني عشر لفضيلة العلامة الكبير الشيخ لطف الله الصافي وفيه ينقل عن أعلام السنة ومحدثيهم، وإني مستعدّ لتقديمه لفضيلتكم حيث أنه ملمّ بهذا الموضوع. وبعد أيام اتصلت به هاتفيًّا وحددت الموعد معه وقصدت منزله وصحبت معي كتاب: (منتخب الأثر) وأهديته له، وجُلْت معه ساعة وانصرفت. ¬

_ (¬1) هذا يعطينا سببًا من أسباب انحرافات أبي رية عن السنة وطعنه في رواتها وأهلها!

وبعد مدة اتصلت به هاتفيًّا للاجتماع به في منزله ... وتذاكرنا حول (أحاديث المهدي) وكتاب (منتخب الأثر) وكان قد أُعجب به كثيرًا واستفاد منه. ثم طلبت من فضيلته أن يكتب للسيد العسكري حول هذا الموضوع ... ثم قلت لفضيلته: السيد العسكري من كبار المؤلفين في العراق، ومعروف لدى كبار علماء النجف الأشرف، ويمكنكم مراسلته وأخذ ما يخص هذا الموضوع منه، فراجعه فضيلته بعد ذلك وذكر هذا في كتابه "أضواء على السنة المحمدية" في الطبعة الثالثة التي طبعتها دار المعارف بمصر تحت إشرافه. ... ثم تحدثت عن المذاهب الأربعة وقلت: إن هذه المذاهب: هي التي احتضنتها السياسة، وروّجتها تجاه الإمام الصادق من أئمة أهل البيت (عليهم السلام). وقلت: إن المستشرقين الذين طعنوا في الإِسلام استندوا إلى الخرافات والإسرائيليات التي وجدوها في كتب أهل السنة. فقال: أنا معك. وفي إحدى رحلاتي إلى القاهرة قصدت داره العامرة وقد حملت له مجموعة من الكتب كنت قد صحبتها وحملتها معي من العراق، ومن بينها: (أحاديث عائشة) لمؤلف كتاب (عبد الله بن سبأ) - السيد العسكري - وطلبت منه أن يكتب رأيه حول هذا الكتاب الخالد. وهذا نص ما كتبه: "أحاديث أم المؤمنين عائشة يحسب العامة وأشباه العامة من الذين يزعمون أنهم على شئ من العلم أن التاريخ الإسلامي وبخاصة في (دوره الأول) قد جاء صحيحًا لا ريب فيه، وأن رجاله جميعًا ثقات لا يكذبون - وهو من أجل ذلك يصدقون كل خبر جاء من هذه الفترة ويشدون أيديهم على تلك

الأحاديث التي شحنت بها الكتب المشهورة في الحديث. تلك التي حملت الطِّمّ والرَّم، والغث والسمين، والصحيح القليل، والموضوع الكثير. وقد بلغ من ثقتهم بأحاديث هذه الكتب، أن من يشك في حديث منها يعد في رأيهم فاسقًا!! وإذا كان الله قد آتاهم عقولا لا ليفهموا بها، وفهوما لا يَزِنون بها، فإنهم يعطلون هذه المواهب استمساكا بالتقليد الأعمى، والتعبد لمن سلف! وإذا أنت بصَّرتهم بالحق، وبينت لهم المحجة الواضحة، لووا رؤوسهم، وأصروا على معتقداتهم واستكبروا استكبارا. وليتك تسلم من ألسنتهم، بل يرمونك بشتائمهم، وسبابهم، ويسلقونك بألسنتهم، وقد بلوت ذلك منهم عندما أخرجت كتابي: (أضواء على السنة المحمدية) الذي أرَّخت فيه الحديث، وكشفت كيف روي وما شابه رواية من الموضوعات ومتى دُوّن وما إلى ذلك ما يجب بيانه - فإنهم ما كادوا يقرأونه حتى هبَّت عليَّ أعاصير الشتائم والسباب من كل ناحية, من مصر والحجاز والشام! فلم أبال كل ذلك بل استعذت به لأني على سبيل الحق أسير، فلا يهمني شيء يلاقيني في هذا السبيل مهما كان. ومن عجيب أمر هؤلاء الذين يقفون في سبيل الحق حتى لا يظهر. ويمنعون ضوء العلم الصحيح أن يبدو، لا يعلمون مقدار ما يجنون من وراء جمودهم، وأن ضرر هذا الجمود لا يقف عند الجناية على العلم والدين فحسب؟ بل يمتد إلى ما وراء ذلك. فإن الناشئين من المسلمين وغير المسلمين الذين بلغوا بدراستهم الجامعية العلمية إلى أنهم لا يفهمون إلا لقبولهم، وما وصلوا إليه بعلمهم، قد انصرفوا عن الإسلام لما بدى لهم على هذه الصورة المشوهة التي عارضها هؤلاء الشيوخ عليهم. من أجل ذلك كله كان من الواجب الحتم على العلماء المحققين الذين حرروا أعناقهم من أغلال التقليد، وعقولهم من رق التعبد للسلف، أن يشمروا عن سواعد الجد، ويتناولوا تاريخنا بالتمحيص، وأن يخلصوه من شوائب الباطل والعصبيات، ولا يخشون في ذلك لومة لائم.

وإني ليسرني كل السرور أن أشيد بفضل عالم محقق كبير من علماء العراق قد نهض ليؤدي ما عليه نحو الدين والعلم فأخرج للناس كتبًا نفيسة كانت كالمرآة الصافية التي يرى فيها المسلمون وغير المسلمين تاريخ الإِسلام على أجمل صوره في أول أدواره، ذلكم هو الأستاذ (مرتضى العسكري) فقد أخرج لنا من قبل: كتاب (عبد الله بن سبأ) أثبت فيه بالأدلة القاطعة، والبراهين الساطعة, أن هذا الاسم لم يكن له وجود وأن السياسة "لعنها الله" هي التي ابتدعت هذا الاسم لتجعله من أسباب تشويه وجه التاريخ, وبيَّن أن شيخ المؤرخين في نظر العلماء وهو الطبري قد جعل جل اعتماده في تاريخه ورواياته على رجل أجمع الناس على تكذيبه. ومن الغريب أن جميع المؤرخين الذين جاؤوا بعد الطبري قد نقلوا عن ابن جرير كل رواياته بغير تمحيص ولا نقد، وهذا الرجل الكذاب هو: سيف بن عمر التميمي. وأردف العلامة العسكري هذا الكتاب النفيس بكتاب آخر أكثر منه نفاسة هو كتاب: (أحاديث عائشة) وقد تناول في هذا الكتاب تاريخ هذه السيدة لا كما جاء من ناحية السياسة والهوى والعصبية، ولكن من أفق الحقيقة التي لا ريب فيها، وكتبه بقلم نزيه يرعى حرمة العلم وحق الدين لا يخشى في الله لومة لائم. أشار الأستاذ في تمهيده لكتابه إلى ما في الأحاديث التي نسبت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من اختلاف بين حديث وآخر، وبين بعض تلك الأحاديث، وآي القرآن فما كان مثار الطعن والنقد إلى النبي من أعداء الإِسلام. ثم بيَّن أن هذه الأحاديث إن هي إلا مجموعات مختلفة رويت عن رواة مختلفين، وعلى الباحث العالم النزيه أن يقوم بتصنيفها نسبة إلى رواتها. ثم يدرس أحاديث كل منهم على حدة. وبخاصة أحاديث الرواة المكثرين أمثال: عائشة، وأبي هريرة، وأنس، وابن عمر، مع دراسة حياة راويها، وبيئته وظروفه، ثم مضى يقول: إن التاريخ الإِسلامي منذ بعثة الرسول حتى بيعة يزيد بن معاوية لا يفهم صحيحا إلا بعد دراسة أحاديث أم المؤمنين (دراسة موضوعية) ولأن

الأستاذ المؤلف بصدد البحث عن التاريخ الإِسلامي في دوره الأول فقد قدم هذه الدراسة على غيرها من الدراسات. وبعد أن بيَّن صعوبة هذه الدراسة لما يجد في سبيلها من عقبات متعددة أخذ في موضوع دراسة فبيَّن نسب عائشة، ومولدها، وتزويجها من النبي - صلى الله عليه وسلم - وما صنعته معه (كامرأة) كما قال شوي: من مكر وكيد "كيدهن عظيم". وإنها قد أقامت مع النبي نيفًا وثمانية أعوام، ثم أخذ يذكر أنها كانت تؤيد خلفاء النبي (أبي بكر، وعمر، وعثمان) في أول خلافته ثم انحرافها عنه وترأسها للمعارضة له حتى بلغ من أمرها أنها كانت تحرّض على قتله، وما أن قتل هذا الخليفة بسبب خروجه عن نهج سابقيه، وتركه الأمر لقومه يتصرفون فيه بأهوائهم حتى "برزت" تعارض عليًّا معارضة شديدة لم يلق مثلها من غيرها، وكان في أول شيء بدا منها لهذا الإمام العظيم أنها ما كادت تعلم بنبأ بيعته حتى ثارت ثائرتها وصاحت: لا يمكن أن يتم ذلك! ولو انطبقت هذه - أي السماء على الأرض - ولما لبثت أن ألبت عليه طلحة والزبير وقادوا جميعًا الجيوش الجرارة لمحاربة علي (رضي لله عنه) في وقعة الجمل - وكانت تركب جملًا من المدينة إلى البصرة، وبعد أن انتهيت هذه المعركة بسفك الدماء المحترمة انتهت المعركة بقتل طلحة فأعادها "علي (رضي الله عنه) " إلى المدينة مكرمة لم ينلها سوء، ولكنها لم تحفظ له هذا الجميل، ولم ترجع عن غيها وظلت تعمل ضده بكل وسيلة وكان من ذلك أن كانت تؤيد معاوية في حروبه مع "علي (رضي الله عنه) " ولم تهدأ ثائرتها حتى قُتل علي فقرت عينها، وهدأت نفسها، وتمثلت عند قتله بقول الشاعر: فألقت عصاها واستقرّ بها النوى ... كما قرَّ عينًا بالإياب المسافر وقد كان ذلك بسبب ضغنها لعلي (رضي الله عنه)، وما يكنه صدرها له لأنه

زوج فاطمة بنت خديجة. وما كان لموقفه من حديث الإفك ... وفي كتاب أرسله إليها وإلى طلحة والزبير أثناء وقعة الجمل، لو أنها عقلته وتدبرته لاشتد ندمها واستغفرت الله مما أجرمت وإن كان الظن أن الله لا يغفر لها. قال (رضي الله عنه): وأنت يا عائشة فإنك خرجت من بيتك عاصية لله ولرسوله تطلبين أمرًا كان عنك موضوعًا، ثم تزعمين أنك تريدين الإصلاح بين المسلمين فخبريني ما للنساء وقود الجيوش؟ والبروز للرجال؟ والوقع بين أهل القبلة، وسفك الدماء المحترمة؟ ثم إنك على زعمك طلبت دم عثمان، وما أنت وذاك؟ وعثمان رجل من بني أمية وأنت من تيم؟ إنك بالأمس تقولين في ملأ من أصحاب رسول الله: اقتلوا نعثلًا فقد كفر! ثم تطلبين اليوم بدمه! فاتقي الله وارجعي إلى بيتك والبسي عليك سترك والسلام. هذه لمحة خاطفة مما حواه كتاب (أحاديث عائشة) ولو نحن ذهبنا نبين ما فصَّله هذا العالم المحقّق في كتابه هذا مما أوفى به على الغاية, ولم نر مثله من قبل لغيره لاحتجنا إلى كتاب برأسه. وإذا كان لا بد من كلمة نختم بها قولنا هذا الموجز فإنا نقول مخلصين: إنه يجب على كل من يريد أن يقف على حقيقة الإسلام في مستهل تاريخه إلى بيعة يزيد فليقرأ كتابي هذا العلامة (عبد الله بن سبأ - وأحاديث عائشة) وليتدبر ما جاء فيهما، فإن فيهما القول والفصل. أما ما نرجوه من العلامة مؤلفهما فهو أن يغذّ السير في هذا الطريق الذي اختطه حتى يتم ما أخذ نفسه به. والله ندعو أن يكتب له التوفيق، والسداد في عمله، إنه سميع الدعاء ... محمود أبو رية القاهرة: عن جيزة الفسطاط ليلة الجمعة 18 رمضان المبارك 1381 هـ. الموافق 23 فبراير 1962 م".

هذا وإني لما غادرت القاهرة وأتيت إلى سوريا ولبنان وقبل وصولي العراق عَرَّفت فضيلة الأستاذ الشيخ محمود أبو رية على جماعة من الأساتذة والعلماء والكتّاب في كل من سوريا ولبنان، والعراق: كالأستاذ صدر الدين شرف الدين، وفضيلة الشيخ محمَّد جواد مُغْنية, وآية الله الإمام الخوئي، والعلامة الأستاذ الشيخ أحمد الوائلي، والأستاذ رشيد الصفار. وقد تبودلت الرسائل بينه وبين السيد صدر الدين شرف الدين وطلب من الشيخ أن يراسله وأرسل له فصولًا من كتابه (شيخ المضيرة) فنشر منه في عدة أعداد من مجلته "مجلة النهج" وتوثقت بينه وبين الشيخ الاتصالات، وتبادلت بينهما الرسائل حتى استطاع الأستاذ صدر الدين أن يقوم بطبع كتابه (شيخ المضيرة) الطبعة الأولى في صور - لبنان. وكما تبادلت الرسائل بينه وبين الشيخ محمد جواد مُغْنية حول طبع (شيخ المضيرة أبو هريرة) وذلك قبل أن يتم الاتفاق مع السيد صدر الدين شرف الدين. كما تبادلت الرسائل بينه وبين آية الله الخوئي، والأستاذ رشيد الصفار. وفي 12/ 10/ 1963 م تسلمت طردًا من دائرة بريد النجف مُرسِلُه فضيلة الأستاذ "أبو رية" من القاهرة, وفي باطنه ثلاث نسخ من كتاب: (أبو هريرة راوية الإِسلام) بقلم العجاج الخطيب الشامي، وقد صدر هذا الكتاب ضمن سلسلة أعلام العرب إلى الأسواق بتاريخ 7/ 11/ 1963 وكانت النسخ مهداة لي وللسيد العسكري وللأستاذ رشيد الصفار لأني كنت همزة وصل وتعريف بينهم. وفي إحدى رحلاتي إلى القاهرة التقيت بالأستاذ رشيد الصفار فكان يذهب معي إلى منزل الأستاذ الشيخ محمود أبو رية. وكان آية الله الخوئي عندما تصل إليه رسائل الشيخ محمود أبو رية كان يرسل إليّ ويطلعني عليها أو يرسلها لي لأطلع عليها. وفي أحد الأيام جاءني السيد عماد حفيد آية الله

الخوئي وقال: إن جدي يطلب حضورك، وكان عندي جماعة وعندما انصرفوا توجهت إلى دار سماحته، ولما دخلت سلّمت وجلست فتوجه نحوي سماحته وقال: لقد تأخرت علينا في المجيء وأرسلت الرسالة إليك مع فضيلة السيد مرتضى الحكمي. وعند ذلك جلست زمنًا يسيرًا وإذا بفضيلة السيد الحكمي قد دخل علينا، فتوجه إليه آية الله الخوئي وقال: لقد حضر السيد، فأعطه رسالة الشيخ ليطلع عليها فتسلمتها وقرأتها وهذا بعضها: "عزمتُ على وضع كتاب باسم: (أمير المؤمنين علي وما لقي هو وبنوه من أصحاب رسول الله). أولًا: من الثالوث الأول: أبو بكر وعمر وعثمان. ثانيًا: من الثالوث الثاني: عائشة وطلحة والزبير. وثالثة الأثافي: ما صنعه عثمان من تأسيس الدولة الأموية، ثم انتهاء أمر الخلافة إلى سكير خمر عربيد ملعون هو وأبوه وجده. وإني الآن أعكف على قراءة المصادر التي تعينني على ذلك، وكل ما أرجوه أن يوفقني الله إلى أداء هذا العمل على أكمل وجه. محمود أبو ريه القاهرة: 12/ 1/ 1388 هـ". وفي 5/ 11/ 69 وصلتني رسالة من الأستاذ "أبو رية" تاريخها 26/ 10/ 1969 من القاهرة يقول فيها: (كتاب قصة الحديث المحمدي) الذي كانت وزارة الثقافة قد طلبته مني منذ عشر سنين ووقف الأزهر في سبيله حتى لا يظهر قد أراد الله أن يظهر رغم أنف الأزهر بعد ما قرأه الدكتور طه حسين وشهد بقيمته شهادة فائقة، وسأرسل لك نسخةً منه هدية ومعها بعض نسخ لأصدقائنا الأعزاء، ومع كل نسخة بيان مطبوع منا ... وفي 20/ 11/ 1969 جاءني البريد ويحمل ملفًّا فيه ثلاث نسخ من الكتاب (قصة الحديث المحمدي) إحداها كانت باسمي، والثانية باسم السيد العسكري، والثالثة للأستاذ رشيد الصفار، وفي كل نسخة بيان مطبوع وإليك نصه: "للحقيقة والتاريخ كان من حق هذا الكتاب (قصة الحديث المحمدي) أن يخرج إلى الناس مطبوعًا منذ أكثر من عشر سنين، ذلك بأن وزارة الثقافة

المصرية كانت قد طلبت منا مختصرًا لكتابنا: (أضواء على السنة المحمدية) عندما ظهرت طبعته الأولى في سنة 1958 م لتجعله حلقة في سلسلة مكتبتها الثقافية، وقبل نشره عرَضَتْه على الأزهر ليبدي رأيه فيه، وما كاد يقف عليه حتى أرصد له من كيده، فرماه بأن فيه ما يخالف الدين، وطلب عدم نشره وتداوله بين المسلمين، ولم تستطع هذه الوزارة أن تخالف عن أمره لأنه ما يربطه على الأرض يكون مربوطًا في السماء، وظل هذا الكيد يلاحق الكتاب هذه السنين الطويلة لكي يحول دون نشره بين الناس، إلى أن عَلِم أخيرًا بالأمر نصير الدين والفكر الدكتور طه حسين طلب أصول الكتاب من وزارة الثقافة، ولما اطلع عليه أعاده علينا مع خطاب، دحض فيه ما رماه الأزهر به. وصرّح في جلاء أنه موافق للدين كل الموافقة لا يخالفه ولا ينبو عنه في شيء مطلقًا. وأنه مفيد فائدة كبيرة جدًّا في علم الحديث ... وأن في نشره الخير كلّ الخير، والنفع كل النفع. وبذلك انحسم الأمر، وحصحص الحق، واتخذ الكتاب سبيله إلى الناس مطبوعًا لينتفعوا به. ولأهمية خطاب الدكتور طه حسين نشرنا صورته على غلاف الكتاب، تبصرة لأولي الألباب. محمود أبو ريه 13/ 10/ 1969". انتهى كلام مرتضى الرضوي. ثم ساق نص خطاب طه حسين. قلت: ومع ثناء طه حسين عليه هنا وتقديمه لكتابه إلا أنه كان أكثر ورعًا من أبي رية وأكثر إنصافًا، فقد كتب مقالًا في جريدة الجمهورية (25 نوفمبر سنة 1958) ينتقد فيه أبا رية ويذكر ضعف إنصافه في البحث، واستخدامه لغة لا تليق بلغة العلم، واعتماده على روايات لا يُعرف ثبوتها ... وغير ذلك. ساق ملخّص المقال زكريا علي يوسف في كتابخ "دفاع عن الحديث النبوي" (ص 113 - 115).

* طبعات الكتاب

* طبعات الكتاب: طبع الكتاب سنة 1378 هـ في حياة مؤلفه في المطبعة السلفية ومكتبتها بالقاهرة، لمحب الدين الخطيب في 320 صفحة. وهي طبعة جيدة قليلة الخطأ. ثم توالت الطبعات تصويرًا عن الطبعة السلفية؛ فطبع في حديث أكاديمي بباكستان سنة 1378 هـ. وطبع في عالم الكتب ببيروت سنة 1403 هـ, وطبع في المكتب الإسلامي ببيروت سنة 1405 هـ. * مخطوطات الكتاب: الكتاب له إخراجان: مسوَّدة ومبيّضة. 1 - المبيّضة: لم نقف عليها، وهي التي طبع عنها الكتاب أوّل مرّة، فالظاهر أن المؤلف أرسلها إلى المطبعة السلفية بمصر لصاحبها محبّ الدين الخطيب لإعداد الكتاب للطبع، وبقيت هناك ولم تُعَد إلى المؤلف ولا إلى الشيخ نصيف الذي سعى في طباعته، فالله أعلم أين استقرّ قرارُها، وهل بقيت محفوظة أو جارت عليها صروف الدهر؟ وعدد أوراق النسخة المبيّضة 224 صفحة. بحسب ما جاء في هوامش الطبعة الأولى؛ إذ حافظوا على وضع أرقام صفحاته على طُرَر المطبوعة، وكتبَ الناشرُ تنبيهًا بخصوص ذلك قال: "تنبيه: يوجد في أثناء هذا الكتاب إحالات على ما تقدّم منه أو تأخّر بقيد الصفحات، والمعتبر في ذلك صفحات الأصل الذي بخط المؤلف، وهي التي أشير إليها في هامش هذا المطبوع".

2 - المسودة

2 - المسوّدة: وُجِد منها أربعة دفاتر فقط في مكتبة الحرم المكي الشريف برقم (4664)، وهي من الدفاتر المدرسية العادية المعروفة في ذلك الوقت وما بعده، الأول 60 ورقة، والثاني 40 ورقة، والثالث والرابع 20 ورقة. ووصفها كالتالي: الدفتر الأول: يقع في 78 صفحة بخط الشيخ المعلمي وترقيمه، سقط منها صفحتان: 2 - 3. وتبدأ بمقدمة الردّ، وهي متوافقة تمامًا مع المبيضة التي طبع عنها الكتاب، وهي كثيرة الضرب والتخريج واللحق على عادة الشيخ في مسوّداته. وما أبقى عليه من الكلام موافق لما في المبيضّة، فهذا يدلّ أن هذه المسوّدة هي التي انتسخ منها الشيخ مبيضته، وليس من مسوّدةٍ أخرى. أقول هذا لأن المصنِّف ربما كتب عدّة مسوّدات للكتاب الواحد. لكن تبقى مواضع مضروب عليها وليس تحتها عبارات أخرى، فلعل الشيخ كتب في المبيّضة كلامًا مستأنفًا لم يثبته في المسوّدة، أو كان في جُزازات مُلحقة بالمسوّدة ولم تصل إلينا. وعبارات أخرى غير مضروب عليها ولا وجود لها في المبيّضة - على أني لم أقابل جميع المسودة - وينتهي هذا الدفتر عند الكلام على كلام الغزالي وفهم رشيد رضا له، وهو في (ص 17) من المبيّضة. الدفتر الثاني: 54 صفحة بترقيم المؤلف. ويبدأ بنقل كلام أبي رية عن الإسرائيليات في ص 124 من كتابه، وهو في المبيّضة في (ص 86) وينتهي في نقاش أبي رية في حديث خلق التربة يوم السبت وهو في (ص 139) من المبيّضة.

* منهج التحقيق

الدفتر الثالث: 10 صفحات الدفتر الرابع: 24 صفحة. وهذان الدفتران فيهما ثلاث قطع عبارة عن ملاحظات على كتاب أبي رية وتحليل لكتابه وغرضه منه، والأهم فيها أنها تبين كيف وقف الشيخ على كتاب أبي رية ورد الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة عليه، وأنه كان بصدد كتابة تقديم له، لكن تبين له أنه يحتاج إلى ردّ مستقل ... القطعة الأولى في الدفتر الأول غالبها في موضوع كتابة الحديث والكلام على حديث "من كذب علي متعمّدًا". والدفتر الثاني فيه قطعتان، الأولى في 20 ص، والثانية في 4 ص ومسائلها لا تتعدى مباحث الحديث النبوي وما يتعلّق بها. ثم وجدنا فيما عثرنا عليه أخيرًا من كتب الشيخ ثلاثة دفاتر من المسوّدة، وهي الكراسات ذوات الأرقام (1 و4 و9) ولا يختلف وصفها عن سابقتها. ومع ذلك لا تمثّل هذه المسوّدات كامل الكتاب بل مواضع متفرّقة منه. * منهج التحقيق: نذكر هنا ما يتعلق بهذا الكتاب بخصوصه؛ إذ الأطر العامة لتحقيق كتب العلامة عبد الرحمن المعلمي لا تختلف، وقد شَرَحْتُها في مقدمة هذا المشروع. اعتمدت في إثبات نص الكتاب على الطبعة الأولى التي نُشِرت عن المكتبة السلفية سنة 1378 هـ في حياة المؤلف رحمه الله، وهم اعتمدوا على النسخة المبيّضة بخط الشيخ كما بينوه في أول طبعتهم، وسبق عند

الكلام على مخطوطات الكتاب أننا لم نقف على هذه النسخة، ولم يقع لنا إلا دفاتر من مسوّدة الكتاب، لا تمثّل في مجموعها ثلث الكتاب. والحقّ أن تلك الطبعة جيّدة قليلة الخطأ، وقد أصلحتُ ما وقع فيها من أخطاء وتحريفات غالبًا في متن الكتاب مع التنبيه عليه في الحاشية، وأشرتُ إليها بـ (ط)، وقد أضع الإصلاح بين معكوفتين [] مكتفيًا بذلك. وأبقيتُ ما لم أهتد إلى صوابه كما هو مع بيان موضع الإشكال، وهذا نادر. وكذلك النقول التي نقلها الشيخ واستشكلها (¬1) أبقيتها مع تصويبها في الحاشية. وقد بحثت عن النسخة المطبوعة الخاصة بالمؤلف في مكتبة الحرم على أمل أن أقف على تصحيح أو إضافة، فلم أظفر بطائل! أما المصادر التي نقل الشيخ عنها أو أحال إليها فإني ألتزم بالرجوع إلى نصوصها، فإن كانت النسخة التي رجعتُ إليها هي نسخة الشيخ نفسها لم أعلق بشيء، وإن اختلفت ذكرتُ الجزء والصفحة منها في الهامش مع بيان الطبعة. والنصوص التي نقلها الشيخ من كتاب أبي رية قابلتها بالطبعة التي وقفتُ عليها وهي السادسة، فوجدت أبا ريّة قد غيّر فيها بالحذف والتهذيب وربما الإضافة، فأشرت إلى ذلك، أما ما كان في نصوصه بين معكوفين [] فهي من إصلاح الشيخ رحمه الله. وقد جعلت نصوص أبي رية بخط أصغر مسوّد بين هلالين () تمييزًا له عن كلام المؤلف، وجعلتُ بداية رد الشيخ "أقول" بخط أسود هكذا. ¬

_ (¬1) إذا استشكل الشيخ نصًّا أو كلمة فغالبًا ما يشير إلى ذلك بوضع علامة استفهام بعدها بين هلالين هكذا (؟).

حافظتُ على إثبات أرقام صفحات نسخة الشيخ المبيّضة في هوامش النسخة رغم عدم وقوفي عليها؛ على أمل العثور عليها يومًا من الدهر, لأنّ المؤلف كان كثير الإحالة على نسخته لما تقدّم أو يأتي من المباحث، فما أحاله الشيخ عليها بيّنتُ في الهامش مكانه من طبعتنا. وأخيرًا أثبتّ في آخر الكتاب ملحقين الأول في 13 صفحة والثاني في 25 صفحة. فيهما بيان كيف وقف المؤلف على كتاب أبي رية، وما الدافع له على تأليف كتابه هذا، ونقاش جُمليّ لبعض قضاياه. وختمنا الكتاب بفهارس للآيات والأحاديث والآثار والأعلام والشعر والكتب، قام بصنعها الشيخ زاهر بالفقيه وفقه الله. والحمد لله حق حمده.

نماذج من النُّسخ الخطية

النص المحقق

بسم الله الرحمن الرحيم أقدِّم كتابي هذا إلى أهل العلم وطالبيه الراغبين في الحق المؤثرين له على كل ما سواه، سائلا الله تعالى أن ينفعنى وإياهم بما فيه من الحق، ويقينى وإياهم شر ما فيه من باطل حكيته عن غيري أو زلل مني، فإن حظي من العلم زهيد، كان جمعي للكتاب على استعجال مع اشتغالي بغيره، فلم أكثر من مراجعة ما في متناولي من مؤلفات أهل العلم، ولا ظفرت ببعضها، ومنها ما هو من مصادر الكتاب المردود عليه "أضواه على السنة" وقد سبقني إلى الردّ عليه فضيلة الاستاذ العلاّمة الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة مدير دار الحديث بمكة المكرمة والمدرس بالحرم الشريف، واستفدت من كتابه، جزاه الله خيرا. ولفضيلة السلفي الجليل الحسن الشهير نصير السنة الشيخ محمد نصيف اليد الطولي في استحثائي لإكمال الكتاب، وإمدادى بالمراجع. وكذلك للأخ الفاضل البحاثة الشيخ سليمان بن عبد الرحمن الصنيع عضو مجلس الشورى ومدير مكتبة الحرم المكي، فإنه أمدني ببعض المراجع من مكتبته الخاصة النفيسة، وبالمراجعة والبحث عن بعض النصوص. شكر الله سعيهم وأجزل أجرهم. ورجائي ممن يطالع كتابي هذا من أهل العلم أن يكتب إليَّ بما عنده من ملاحظات واستدراكات، لأراعيها أنا - أو من شاء الله تعالى - عند إعادة طبع الكتاب إن شاء الله تعالى. وفقنا الله جميعًا لما يحب ويرضى. غرة شهر رجب سنة 1387 المؤلف عبد الرحمن بن يحيى المعلمي الصفحة الأولى من الطبعة الأولى

ما حفظ, ومحاولة جعله عن درجته. راجع ص 14 - 50 ثم قال أبو رية "قال الإمام أبو حنيفة: ردّي على كل رجل يحدّث عن النبى - صلى الله عليه وسلم - بخلاف القرآن ليس ردًا على نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ولا تكذيبًا له, ولكنه رد على من يحدّث عنه بالباطل، والتهمة دخلت عليه، ليس على نبي الله - صلى الله عليه وسلم -, وكل شيء تكلم به النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلى الرأس والعين، قد آمنا به وشهدنا أنه كما قال، ونشهد أنه لم يأمر بشيء يخالف أمر الله، ولم يبتدع ولم يتقول غير ما قاله 224 والله ولو كان من المتكلفين". أقول: هذه العبارة من كتاب العالم والمتعلم، وفى نسبته إلى أبي حنيفة ما فيها، والكلام هناك فى مسائل اعتقادية ومخالفه يراها مناقضة. فأما تبين السنة للقرآن بما فيه التفصيل والتخصيص والتقييد ونحوها (كما مر ص 14 و218) فثابت عند الحنفية وغيرهم، سوى خلاف يسير يتضمنه تفصيل مذكور في أصولهم يتوقف فهمه على تدبر عباراتهم ومعرفة اصطلاحاتهم. وبعض مخالفيهم يقول إنهم أنفسهم قد خالفوا ما انفردوا به هناك فى كثير من فروعهم ووافقوا الجمهور. بل زاد الحنفية على الشافعية فقالوا إن السنة المتواترة تنسخ القرآن، وإن الحديث المشهور أيضًا ينسخ القرآن. وكثير من الأحاديث التى يطعن فيها أبو رية هي على اصطلاح الحنفية مشهورة ثم ختم أبو رية كتابه بنحو ما ابتدأه من إطرائه وتقديمه إلى المثقفين، والبذاءة على علماء الدين، ثم الدعاء والثناء. وانا لا أثني على كتابي، ولا أبرئ نفسي، بل أكل الأمر إلى الله تبارك وتعالى، فهو حسبي ونعم الوكيل. والحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم على خاتم أنبيائه محمد وآله وصحبه. انتهى بعون الله تعالى جمع هذا الكتاب فى أواخر شهر جمادى الآخرة سنة 1378 والحمد لله رب العالمين الصفحة الأخيرة من الطبعة الأولى

ورقة من مسودات "الأنوار الكاشفة"

ورقة أخرى من مسودات "الأنوار الكاشفة"

ورقة أخرى من مسودات "الأنوار الكاشفة"

ورقة أخرى من مسودات "الأنوار الكاشفة"

آثَار الشيخ العَلّامَة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي (12) الأنوار الكاشفة لما في كتاب "أضواء على السُّنَّة" مِنَ الزَّلَلِ وَالتَّضلِيلِ وَالمُجَازَفَة تَألِيف الشيخ العَلّامَة عبد الرحمن بن يحيى المعلمى اليماني 1312 هـ - 1386 هـ تحقيق علي بن محمد العمران وفق المنهج المعتمد من الشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد (رَحِمَه الله تعالى) تمويل مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

بسم الله الرحمن الرحيم أقدِّم كتابي هذا إلى أهل العلم وطالبيه، الراغبين في الحق المُؤثِرين له على كل ما سواه، سائلًا الله تعالى أن ينفعني وإياهم بما فيه من الحق، ويقيني وإياهم شرَّ ما فيه من باطل حَكَيتُه عن غيري أو زللٍ منّي، فإن حظِّي من العلم زهيد. وكان جَمْعي للكتاب على استعجال مع اشتغالي بغيره، فلم أُكثر من مراجعة ما في متناولي من مؤلفات أهل العلم، ولا ظفرت ببعضها، ومنها ما هو من مصادر الكتاب المردود عليه "أضواء على السنة". وقد سبقني إلى الردِّ عليه فضيلة الأستاذ العلامة الشيخ محمَّد عبد الرزاق حمزة، مدير دار الحديث بمكة المكرمة، والمدرِّس بالحرم الشريف، واستفدت من كتابه، جزاه الله خيرًا. ولفضيلة السلفي الجليل، المحسن الشهير، نصير السنة، الشيخ محمَّد نصيف اليد الطُّولي في استحثاثي لإكمال الكتاب، وإمدادي بالمراجع. وكذلك للأخ الفاضل البحَّاثة الشيخ سليمان بن عبد الرحمن الصنيع، عضو مجلس الشورى، ومدير مكتبة الحرم المكِّي؛ فإنه أمدَّني ببعض المراجع من مكتبته الخاصة النفيسة، وبالمراجعة والبحث عن بعض النصوص. شكر الله سعيهم وأجزل أجرهم. ورجائي ممن يطالع كتابي هذا من أهل العلم أن يكتب إليَّ بما عنده من ملاحظات واستدراكات؛ لأراعيها أنا - أو من شاء الله تعالى - عند إعادة طبع

الكتاب إن شاء الله تعالى. وفقنا الله جميعًا لما يحبُّ ويرضى. المؤلف عبد الرحمن بن يحيى المعلمي غرة شهر رجب سنة 1378

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمَّد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. أما بعد، فإنه وقع إليَّ كتابٌ جمعه الأستاذ محمود أبو ريَّة وسماه "أضواء على السنة المحمدية" فطالعته وتدبرته؛ فوجدته جمعًا وترتيبًا وتكميلًا للمطاعن في السنة النبوية, مع أشياء أخرى تتعلق بالمصطلح وغيره. وقد ألَّف أخي العلامة الشيخ محمَّد عبد الرزاق حمزة - وهو على فراش المرض، عافاه الله (¬1) - ردًّا مبسوطًا على كتاب أبي ريَّة لم يكمل حتى الآن. ورأيتُ من الحقَّ عليَّ أن أضع رسالةً أسوقُ فيها القضايا التي ذكرها أبو ريَّة، وأعقَّب كل قضية ببيان الحق فيها، متحرِّيًا إن شاء الله تعالى الحق، وأسأل الله تعالى التوفيق والتسديد، إنه لا حول ولا قوة إلا به، وهو حسبي ونعم الوكيل. عُني أبو ريَّة بإطراء كتابه، فأثبت على لوحه: "دراسة مكررة تناولت حياة الحديث المحمدي وتاريخه، وكل ما يتعلَّق به من أمور الدين والدنيا. ¬

_ (¬1) توفي الشيخ محمَّد عبد الرزاق حمزة سنة (1392 هـ) رحمه الله تعالى. وقد أتم رده على أبي ريَّة وطبعه سنة 1378 هـ وسمّاه "ظلمات أبي رية أمام أضواء السنة المحمديّة" بالمطبعة السلفية بمصر.

وهذه الدراسة الجامعة التي قامت على قواعد التحقيق العلمي (؟!) هي الأولى في موضوعها, لم ينسج أحدٌ من قبل على منوالها". وكرر الإطراء في مقدمته وخاتمته. وكنتُ أحبّ له لو ترفَّع عن ذلك وترك الكتاب يُنْبِئ عن نفسه، فإنه - عند العقلاء - أرفع له ولكتابه إن حمدوا الكتاب، وأخفّ للذمِّ إذا لم يحمدوه. بل استجراه حرصُه على إطراء كتابه إلى أمور أكرهها له، تأتي الإشارة إلى بعضها قريبًا إن شاء الله. كان مقتضى ثقته بكتابه وقضاياه أن يدعو مخالفيه إلى الردِّ عليه إن استطاعوا، فما باله يَتَّقيهم بسلاح يرتدُّ عليه وعلى كتابه، إذ يقول ص 14: (وقد ينبعث له من يتطاول إلى معارضته ممن تعفَّنت أفكارهم وتحجَّرت عقولهم) (¬1). ويقول في آخر كتابه: (وإن تضق به صدور الحشوية وشيوخ الجهل من زوامل الأسفار، الذين يخشون على علمهم المزوَّر من سطوة الحق، ويخافون على كساد بضاعتهم العفنة التي يأكلون بها أموال الناس بالباطل، أن يكتنفهم ضوء العلم الصحيح، ويهتك سترهم ضوء الحجة البالغة (¬2)، فهذا لا يهمنا, وليس لمثل هؤلاء خَطَرٌ عندنا ولا وزنٌ في حسابنا). أما أنا فأرجو أن لا يكون لي ولا لأبي ريَّة ولا لمتبوعيه عند القرّاء خَطَرٌ ولا وزن، وأن يكون الخَطَر والوزن للحقّ وحده. ¬

_ (¬1) هذه العبارة حذفها أبو ريَّة من الطبعات اللاحقة. والمؤلف ينقل من الطبعة الأولى. (¬2) من قوله: "الحشوية وشيوخ ... " إلى هنا حذفه من الطبعات اللاحقة واستبدله بقوله: "صدور بعض الناس ... ".

[ص 2] (¬1) قال أبو ريَّة ص 4: (تعريف بالكتاب)، يعني: كتابه طبعًا. ثم ذكر علوَّ قدر الحديث النبوي، ثم قال: (وعلى أنه بهذه المكانة الجليلة والمنزلة الرفيعة؛ فإن العلماء والأدباء لم يولوه ما يستحق من العناية والدرس، وتركوا أمره لمن يسمون رجال الحديث، يتداولونه فيما بينهم ويدرسونه على طريقتهم، وطريقة هذه الفئة التي اتخذتها لنفسها قامت على قواعد جامدة لا تتغير ولا تتبدل. فترى المتقدمين منهم - وهم الذين وضعوا هذه القواعد - قد حصروا عنايتهم في معرفة رواة الحديث والبحث على قدر الوسع في تاريخهم، ولا عليهم بعد ذلك إن كان ما يصدر عن هؤلاء الرواة صحيحًا في نفسه أو غير صحيح، معقولًا أو غير معقول؛ إذ (¬2) وقفوا بعلمهم عند ما يتصل بالسند فحسب، أما المعنى فلا يعنيهم من أمره شيء ...). أقول: مراده بقوله "العلماء": المشتغلون بعلم الكلام والفلسفة. ولم يكن منهم أحد في الصحابة والمهتدين بهديهم من علماء التابعين وأتباعهم والذين يلونهم، هؤلاء كلهم ممن سماهم "رجال الحديث"، ومنهم عامة المشهورين عند الأمة بالعلم والإمامة من السلف. أولئك كلهم ليسوا عند أبي ريَّة علماء؛ لأنهم لم يكونوا يخوضون في غوامض المعقول، بل يفرُّون منها ويَنْهون عنها ويعدُّونها زيفًا وضلالًا، وخروجًا عن الصراط المستقيم، وقنعوا بعقل العامة! وأقول: مهما تكن حالهم فقد كانوا عقلاء، العقل الذي ارتضاه الله عزَّ وجلَّ لأصحاب رسوله، ورضيهم سبحانه لمعرفته ولفهم كتابه، ورضي ذلك منهم، وشهد لهم بأنهم: {الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 74]، {وَالرَّاسِخُونَ فِي ¬

_ (¬1) هذه أرقام صفحات المخطوط كما أثبتت في الطبعة الأولى، وعليها إحالات المؤلف في ثنايا الكتاب. (¬2) حذف أبو ريَّة في الطبعات اللاحقة من قوله: "يسمون رجال الحديث ... " إلى هنا.

الْعِلْمِ} [آل عمران: 7]، {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]. وقال لهم في أواخر حياة رسوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3]. فمَن زعم أنَّ عقولهم لم تكن - مع تسديد الشرع لها - كافيةً وافيةً بمعرفة الله تعالى وفهم كتابه، ومعرفة ما لا يتم الإيمان ولا يكمل الدين إلا بمعرفته؛ فإنما طعن في الدين نفسه. وكان التابعون المهتدون بهدي الصحابة أقرب الخلق إليهم عقلاً وعلمًا وهَدْيًا، وهكذا من اهتدى بهديهم من الطبقات التي بعدهم، وهؤلاء هم الذين سماهم أبو ريَّة: "رجال الحديث". قد يُقال: أما نفي العلم والعقل عنهم فلا التفات إليه، ولكن هل راعوا العقل في قبول الحديث وتصحيحه؟ أقول: نعم، راعوا ذلك في أربعة مواطن: عند السماع، وعند التحديث، وعند الحكم على الرواة، وعند الحكم على الأحاديث. فالمتثبِّتون إذا سمعوا خبرًا تمتنع صحتُه أو تَبْعُد لم يكتبوه ولم يحفظوه، فإن حفظوه لم يُحدِّثوا به، فإن ظهرت مصلحةٌ لذكره ذكروه مع القدح فيه وفي الراوي الذي عليه تَبِعَته. قال الإمام الشافعي في "الرسالة" (ص 399): "وذلك أن يُستدلّ على الصدق والكذب فيه بأن يحدِّث المحدِّث ما لا يجوز أن يكون مثله، أو ما يخالفُه ما هو أثبتُ وأكثرُ دلالاتٍ بالصدق منه". وقال الخطيب في "الكفاية في علم الرواية" (ص 429): "باب وجوب اطّراح (¬1) المنكر والمستحيل ¬

_ (¬1) (ط): "إخراج"، والمثبت من "الكفاية".

من الأحاديث". وفي الرواة جماعة يتسامحون عند السماع وعند التحديث، لكن الأئمة بالمرصاد للرواة، فلا تكاد تجد حديثًا بيِّن البطلان إلا وجدت في سنده واحدًا أو اثنين أو جماعة قد جرحهم الأئمة. والأئمةُ كثيرًا ما يجرحون الراوي بخبرٍ واحدٍ منكر جاء به، فضلًا عن [ص 3] خبرين أو أكثر. ويقولون للخبر الذي تمتنع صحتُه أو تبعُد: "منكر" أو "باطل". وتجد ذلك كثيرًا في تراجم الضعفاء, وكتب العلل والموضوعات، والمتثبِّتون لا يوثِّقون الراوي حتى يستعرضوا حديثه وينقدوه حديثًا حديثًا. فأما تصحيح الأحاديث فَهُم به أَعْنى وأشدّ احتياطًا، نعم ليس كل من حُكي عنه توثيق أو تصحيح متثبتًا, ولكنَّ العارف الممارس يميز هؤلاء من أولئك. هذا، وقد عرف الأئمة الذين صححوا الأحاديث، أن منها أحاديث تثقُل على بعض المتكلمين ونحوهم، ولكنهم وجدوها موافقةً للعقل المعتدِّ به في الدين، مستكملةً شرائط الصحة الأخرى. وفوق ذلك وجدوا في القرآن آيات كثيرة توافقها أو تُلاقيها، أو هي من قبيلها، قد ثَقُلت هي أيضًا على المتكلمين، وقد علموا أنَّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان يدين بالقرآن ويقتدي به، فمن المعقول جدًّا أن يجيء في كلامه نحو ما في القرآن من تلك الآيات. من الحقائق التي يجب أن لا يُغْفَل عنها: أن الفريق الأول، وهم الصحابة ومن اهتدى بهديهم من التابعين وأتباعهم ومن بعدهم، عاشوا مع الله ورسوله. فالصحابة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهديه ومع القرآن، والتابعون مع القرآن والصحابة والسُنَّة وهلمّ جرًّا.

وأن الفريق الثاني، وهم المتكلمون والمتفلسفون ونحوهم عاشوا مع النظريات والشبهات والأُغْلوطات والمخاصمات. والمؤمنُ يعلم أن الهدى بيد الله، وأنه سبحانه إذا شرع إلى الهدى سبيلًا فالعدول إلى غيره لن يكون إلا تباعدًا عنه وتعرُّضًا للحرمان منه، وبهذا جاء القرآن، وعليه تدلُّ أحوال السلف، واعتراف بعض أكابرهم في أواخر أعمارهم (¬1). والدقائق الطبيعية شيء والحقائق الدينية شيء آخر، فمن ظنَّ الطريق إلى تلك طريقًا إلى هذه فقد ضل ضلالًا بعيدًا. واعلم أن أكثر المتكلمين لا يردُّون الأحاديث التي صححها أئمة الحديث، ولكنهم يتأوَّلونها كما يتأولون الآيات التي يخالفون معانيها الظاهرة، لكن بعضهم رأى أن تأويل تلك الآيات والأحاديث تعسُّف ينكره العارف باللسان وبقانون الكلام وبطبيعة العصر النبوي، والذي يخشونه من تكذيب القرآن لا يخشونه من تكذيب الأحاديث؛ فأقدموا عليه وفي نفوسهم ما فيها. ولهم عدة مؤلفات في تأويل الأحاديث أو ردّها - قد طبع بعضها - فلم يهملوا الحديث كما زعم أبو رية. قول أبي رية: "والأدباء" يعني بهم: علماء البلاغة، يريد أنهم لم يتصدَّوا لنقد الأحاديث بمقتضى البلاغة. قال في ص 6: (ولما وصلتُ من دراستي إلى كتب الحديث، ألفيت فيها من الأحاديث ما يبعُد أن يكون في [ص 4] ألفاظه أو معانيه أو أسلوبه من محكم قوله وبارع منطقه صلوات الله عليه ... ، ومما كان يثير عجبي: أني إذا قرأت كلمة لأحد أجلاف ¬

_ (¬1) تكلم المصنف في حال بعض هؤلاء في كتاب "القائد إلى تصحيح العقائد - التنكيل": (2/ 369 - 377)، و"يسر العقيدة الإسلامية" (ص 32 - 36).

العرب أهتزُّ لبلاغتها، وتعروني أريحية من جزالتها، وإذا قرأت بعض ما يُنسب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من قولٍ لا أجدُ له هذه الأريحية ولا ذاك الاهتزاز؛ وكنت أعجب كيف يصدر عنه صلوات الله عليه مثل هذا الكلام المغسول من البلاغة, والعاري عن الفصاحة، وهو أبلغ من نطق بالضاد، أَوَ يأتي منه مثل تلك المعاني السقيمة، وهو أحكم من دعا إلى رشاد) (¬1). أقول: أما الأحاديث الصحيحة فليست هي بهذه المثابة، والاهتزاز والأريحية مما يختلف باختلاف الفهم والذوق والهوى، ولئن كان صادقًا في أن هذه حاله مع الأحاديث الصحيحة, فلن يكون حاله مع كثير من آيات القرآن وسُوَره إلا قريبًا من ذلك. هذا، والبلاغة: مطابقة الكلام لمقتضى الحال. والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان همّه إفهام الناس وتعليمهم على اختلاف طبقاتهم، وقد أمره الله تعالى أن يقول: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86]. والكلمات المنقولة عن العرب ليست بشيء يذكر بالنسبة إلى كلامهم كله، وإنما نُقِلت لطرافتها، ومقتضى ذلك أنه لم يستطرف من كلامهم غيرها. وكذلك المنقول من شعرهم قليل، وإنما نُقِل ما استجيد، والشعر مظنة التصنُّع البالغ، ومع ذلك قد تقرأ القصيدة فلا تهتزُّ إلا للبيت والبيتين. ثم إن كثيرًا مما نُقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - رُوي بالمعنى كما يأتي. فأما سقم المعنى فقد ذكر علماء الحديث أنه من علامات الموضوع، كما نقله أبو ريَّة نفسه ص 104. وذكر ابن أبي حاتم في "تقدمة الجرح والتعديل" (ص 351) في علامات الصحيح: "أن يكون كلامًا يصلح أن يكون من كلام النبوة". فإن ¬

_ (¬1) هذه الفقرة بتمامها محذوفة من الطبعات اللاحقة.

كان أبو ريَّة يستسقم معاني الأحاديث الصحيحة فمن نفسه أُتي. ومن يكُ ذا فمٍ مُرٍّ مريضٍ ... يَجِدْ مرًّا به العذبَ الزُّلالا (¬1) قوله: (أما المعنى فلا يعنيهم من أمره شيء). كذا قال! وقد أسلفتُ أن رعايتهم للمعنى سابقة، يراعونه عند السماع، وعند التحديث، وعند الحكم على الراوي، ثم يراعونه عند التصحيح، ومنهم من يتسامح في بعض ذلك، وهم معروفون كما تقدم. وقد قال أبو ريَّة ص 104: (ذكر المححققون أمورًا كلية يُعرف بها أن الحديث موضوع ...) فذكر جميع ما يتعلق بالمعنى نقلًا عنهم. فإن قال: ولكنَّ مصححي الأحاديث لم يراعوا ذلك. قلت: أما المتثبّتون كالبخاري ومسلم فقد راعوا ذلك، بلى في كل منهما أحاديث يسيرة انتقدها بعض الحفاظ أو ينتقدها بعض الناس. ومرْجِع ذلك إما إلى اختلاف النظر، وإما إلى اصطلاحٍ لهما يغفل عنه المنتقد، وإما إلى الخطأ الذي لا ينجو منه بشر. وقد انتُقدت عليهما أحاديث من جهة السند، فهل يقال لأجل ذلك: إنهما لم يراعيا هذا أيضًا؟! [ص 5] قال ص 5: (وعلى أنهم قد بذلوا أقصى جهدهم في دراسة علم الحديث من حيث روايته (¬2) ... فإنهم قد أهملوا جميعًا أمرًا خطيرًا ... أما هذا كله .. فقد انصرف عنه العلماء والباحثون، وتركوه أخبارًا في بطون الكتب مبعثرة ...). ¬

_ (¬1) البيت للمتنبي "ديوانه" (ص 95 - دار صادر). والرواية: "الماء" بدل "العذب". (¬2) غيَّرها أبو ريَّة في الطبعات اللاحقة: "من حيث العناية بسنده". وحذف أيضًا قوله: "أما هذا كله ... " إلى آخر الفقرة.

يعني: فجَمَعها هو في كتابه. وغالب ذلك قد تكفَّلَتْ به كتب المصطلح، وسائره في كتب أخرى من تأليف المُحدِّثين أنفسهم، ومنها ينقل أبو رية. وقال ص 6: (أسباب تصنيف هذا الكتاب ... إلخ)، إلى أن قال: (ومما راعني أني أجد في معاني كثير من الأحاديث ما لا يقبله عقل صريح) (¬1). أقول: لا ريب أنَّ في ما يُنسب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأخبار ما يردُّه العقل الصريح، وقد جمع المحدِّثون ذلك وما يقرب منه في كتب الموضوعات, وما لم يُذكر فيها منه فلن تجد له إسنادًا متصلًا إلا وفي رجاله ممن جرحه أئمة الحديث رجلٌ أو أكثر. وزَعْم أن في "الصحيحين" شيئًا من ذلك سيأتي النظرُ فيه. وقد تقدمت قضية العقل. قال: (ولا يثبته علم صحيح، ولا يؤيده حسٌّ ظاهر أو كتاب متواتر) (¬2). أقول: لا أدري ما فائدة هذا! مع العلم بأنَّ ما يثبته العلم الصحيح، أو يؤيده الحس الظاهر لا بد أن يقبله العقل الصريح، وإن القرآن لا يؤيَّد ما لا يقبله العقل الصريح. ثم قال: (كنتُ أسمع من شيوخ الدين - عفا الله عنهم - أن الأحاديث التي تحملها كتب السنة قد جاءت كلها على حقيقتها ...). أقول: العامة في باديتنا باليمن، والعامة من مسلمي الهند، إذا ذكرتَ لأحدهم حديثًا قال: أصحيح هو؟ فإن قلت له: هو في "سنن الترمذي" ¬

_ (¬1) حُذفت هذه الفقرة بتمامها من الطبعات اللاحقة. (¬2) هذه المقولة وما بعدها إلى قوله: "حرج أو جناح" حذفت من الطبعات اللاحقة.

- مثلًا - قال: هل جميع الأحاديث التي في الكتاب المذكور صحيحة؟ فهل هؤلاء أعلم من شيوخ الدين في مصر؟ ثم ذكر حديث: "مَنْ كَذَب عليّ ... " إلخ، وقضايا أخرى ذَكَر أنها انكشفت له، أجْمَلَ القولَ فيها هنا على أن يُفصِّلها بعد، فأخَّرتُ النظر فيها إلى موضع تفصيلها. ثم قال ص 13: (لما انكشف لي ذلك كله وغيره مما يحمله كتابنا، وبدت لي حياة الحديث المحمدي في صورة واضحة جليّة تتراءى في مرآة مصقولة، أصبحتُ على بيِّنة مِن أمر ما نُسب إلى الرسول من أحاديث، آخذُ ما آخذُ منه ونفسي راضية، وأدعُ ما أدعُ وقلبي مطمئن، ولا عليَّ في هذا أو ذلك حَرَج أو جُناح). أقول: أمَّا أنه بعد اطّلاعه على ما نقله في كتابه هذا صار عارفًا بتاريخ الحديث النبوي إجمالًا فهذا قريب؛ لولا أن هناك قضايا عظيمة يصوِّرها في كتابه هذا على نقيض حقيقتها، كما سنقيم عليه الحجة الواضحة إن شاء الله تعالى. وأمَّا أنه أصبح على بيِّنة ... إلى آخر ما قال، فهذه دعوى تحتمل تفسيرين: الأول: أنه أصبح يعرف بنظرة واحدة إلى الحديث من الأحاديث حقيقة حاله من الصحة قطعًا أو ظنًّا [ص 6] أو احتمالًا أو البطلان كذلك. الثاني: أنه ساء ظنُّه بالحديث النبوي - إن لم يكن بالدين كله - فصار لا يراه إلا أداةً يستغلّها الناس لأهوائهم، فأصبح يأخذ منه ما يوافق هواه، ويردُّ ما يخالف هواه، بدون اعتبار لما في نفس الأمر مِنْ صحَّة أو بُطلان.

مِن الجَور أن نزعم أن مراد أبي ريَّة هو ما تضمّنه التفسير الأول؛ لأن ذلك باطل مكشوف، وذلك أن للقضية شطرين: الأول: أن يدع الحديث، الثاني: أن (¬1) يأخذ به. فأما الشطر الأول، فالمسلم لا يدع الحديث وقلبه مطمئن إلاَّ إذا بان له أنه لا يصح، والذي في كتاب أبي ريَّة مما ذكر أنه يدلُّ على عدم الصحة، إما أن يقتضي امتناع الصحة قطعًا، كمناقضة الخبر للعقل الصريح أو للحس أو لنصِّ القرآن. وإما أن يقتضي استبعادها فقط، والأول لا يحتاج الناسُ فيه إلى كتاب أبي ريَّة هذا، والثاني لا يكفي؛ فإنه قد يثبتُ الخبر ثبوتًا يدفع الاستبعاد، إذن فثمرة مجهوده وكتابه بالنظر إلى هذا الشطر ضئيلة لا يليق التبجُّح بها. وأما الشطر الثاني، فمن الواضح أن انتفاء الموانع الظاهرة، كمناقضة العقل الصريح ونحوه إنما يفيد إمكان الصحة، ثم يحتاج بعد ذلك إلى النظر في السند (¬2)، فإن كان موثَّق الرجال ظاهر الاتصال قيل: "صحيح الإسناد"، ثم يبقى احتمال العلة القادحة، بما فيه من الشذوذ الضار، والتفرُّد الذي لا يُحْتَمل. والنظرُ في ذلك هو كما قال أبو ريَّة ص 302: (لا يقوم به إلا من كان له فهم ثاقب وحفظ واسع، ومعرفة تامّة بالأسانيد والمتون وأحوال الرواة). وهذه درجة لا تُنال بمجهود أبي ريَّة ولا بأضعاف أضعافه. فبان يقينًا أن أبا ريَّة لا يمكنه الاستقلال بتصحيح حديث، بل كتابه ينادي عليه أنه لا يمكنه أن يستقلَّ بتصحيح إسناد. إذن فلم يُفِدْه مجهوده شيئًا في هذا الشطر، وبقي فيه كما كان عالةً على تصحيح علماء الحديث. ¬

_ (¬1) (ط): "أنه". (¬2) (ط): "السنة" تحريف.

هذا حال التفسير الأول. وأما التفسير الثاني فلا أدري، غير أنه يشهد له صنيع أبي ريَّة في ما يأتي مِن كتابه؛ مِنْ ردِّ الأحاديث والأخبار الثابتة، والاحتجاج كثيرًا بالضعيفة والواهية والمكذوبة، والله أعلم. قال ص 13: (ولا يتوهمنَّ أحد أني بدع في ذلك، فإنّ علماء الأمة لم يأخذوا بكل حديث نقلَتْه إليهم كتب السنة، فليسعني ما وسعهم بعد ما تبيَّن لي ما تبيَّن لهم، وهذا أمر معلوم لا يختلف فيه عالم، اللهم إلا الحشوية الذين يؤمنون بكل ما حمل سيل الرواية, سواء كان صحيحًا أم غير صحيح؛ ما دام قد ثبت سنده على طريقتهم) (¬1). أقول: لم يجهل أحدٌ من أهل العلم ما قدّمته قريبًا في شأن صحة الحديث، ولكنهم لا يجيزون مخالفةَ حديثٍ تبيّن إمكان [ص 7] صحته ثم ثبت صحة إسناده، ولم يُعْلَم ما يقدح فيه أو يعارضه. وأبو ريَّة يعيب عليهم هذا، ويبيح لنفسه أن يعارض نصوص القرآن وإجماع أهل الحق بأحاديث وأخبار وحكايات لا يُعْرَف حال أسانيدها، ومنها الضعيف والواهي والساقط والكذب، ويكثر من ذلك كما ستراه. قد يقال: ربما يدّعي أنه أصبحت له مَلَكَة وذوق يَعْرِف بهما الصحيح بدون معرفة سندٍ ولا غيره! أقول: هذه دعوى لا تقع من عاقل يحترم عقول الناس، وقد قال أبو ريَّة ص 21: (قد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصدِّق بعض ما يفتريه المنافقون). ونقل ص 142 عن صاحب "المنار" (¬2) - محتجًّا به - قولَه: (والنبي - صلى الله عليه وسلم - ما كان يعلم ¬

_ (¬1) حُذفت الفقرة من الطبعات اللاحقة لكتاب أبي ريَّة. (¬2) صاحب "المنار" هو السيد محمَّد رشيد رضا (ت 1354)، و"المنار" هي مجلته المشهورة. وسيناقشه المؤلف كثيرًا في هذا الكتاب.

الغيب، فهو كسائر البشر يحمل كلام الناس على الصدق إذا لم تحف به شبهة, وكثيرًا ما صدَّق المنافقين والكفار في أحاديثهم). فهل يدّعي أبو ريَّة لنفسه درجةً لم يبلغها النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا غيره؟ إذن فلن نعدم ممن عرف ما في كتابه هذا وأضعاف أضعافه من يعارضه قائلًا: قد حصل لي مَلَكَة وذوق أعلى مما حصل لك، وأنا أعرف بطلان هذا الذي احتججتَ به، فتسقط الدَّعويان، ويقوم العقلُ والعدلُ. أما ما ذكره عن علماء الأمة فستأتي حكايته في ذلك، ونبيّن حالها إن شاء الله. والحقُّ أنه لم يكن في علماء الأمة المرضيين من يَرُدُّ حديثًا بلغه إلا لعذر يحتمله له أكثر أهل العلم على الأقل، ولو كان حال أبي ريَّة في الردّ والعذر كحال أحدهم لساغ أن يقال: يسعه ما يسعهم - وإن كان البون شاسعًا جدًّا - ولكن له شأن آخر كما يأتي. قال: (قال ابن أبي ليلى: "لا يفقه الرجل في الحديث حتى يأخذ منه ويدع"، وقال عبد الرحمن بن مهدي: "لا يكون إمامًا في الحديث من تتبع شواذ الحديث، أو حدَّث بكل ما يسمع، أو حدَّث عن كل أحد") (¬1). أقول: هذا موجّه إلى فريق من الرواة كانوا يكتبون ويروون كل ما يسمعون من الأخبار، يرون أنه ليس عليهم إلا الأمانة والصدق وبيان الأسانيد، تاركين النقد والفقه في الحديث والإمامة لغيرهم. فأمَّا الأخذ والرد للعمل والاحتجاج؛ فكل أحد يعلم أنه يؤخذ ما يصح ويُترك ما لا يصح. ومرَّ قريبًا حال أبي (¬2) ريَّة في هذا. ¬

_ (¬1) هذه الفقرة والتي بعدها حُذفت من الطبعات اللاحقة. (¬2) (ط): "أبو".

قال أبو ريَّة: (ولمَّا كان هذا البحث لم يُعْنَ به أحد من قبل كما قلنا ...). أقول: قد تقدَّم أن الذي يسوغ له ادعاؤه هو أنه جمع في كتابه هذا ما لم يُجمع في كتابٍ من قبل، والقناعة راحة. ثم قال: (وكان يجب أن يُفرَد بالتأليف منذ ألف سنة عندما ظهرت كتب الحديث المعروفة ... حتى توضع هذه الكتب في مكانها الصحيح من الدين، ويعرف الناس حقيقة ما رُوي فيها من أحاديث ...). أقول: إنَّ ما جمعه في كتابه من كلام غيره مِنْه ما هو مقبول، ومنه ما يُعلَم حالُه من رسالتي هذه, فأمّا المقبول فمِنْ مؤلفات [ص 8] المحدِّثين نُقِل، وفيها أكثر منه وأنفع وأرفع، وأمّا المرذول فليس له حساب، وقد نَبَّهوا عليه في مؤلفاتهم، وكثرة الباطل نقصان؛ غير أن للباطل هُواة، منهم طائفة يُثني عليها أبو ريَّة مِنْ قلبه. وطائفة لا يرضاها ولكنه رأى أن في كلامه ما يعجبها، فراح يتملّقها في مواضع رجاء أن يروج لديها كتابه كما راج لديها كتاب فلان (¬1). ثم قال ص 14: (ولأن هذا البحث كما قلنا طريف أو غريب) (¬2). أقول: قد خجلتُ مِن كثرة مناقشة أبي ريَّة في إطرائه لكتابه، مع أنه عنده بمنزلة ولده، يتعزَّى به عن ولده العزيز مصطفى؛ ولذلك جعله باسمه كما ذكره أول الكتاب تحت عنوان: (الإهداء). وأحسبه يتصوَّر أن الردَّ على كتابه ¬

_ (¬1) لعل المؤلف يقصد طه حسين، وذلك في كتابه "الفتنة الكبرى" فقد أساء فيه الأدب إلى بعض الصحابة, وأنكر وجود ابن سبأ اليهودي، وآراء أخرى على شاكلتها ذكرها بعض الرافضة - إن صدقوا -. انظر "مع رجال الفكر في القاهرة": (1/ 276 - 278) للرضوي. وأبو ريَّة كان على علاقة وطيدة بطه حسين إلى وفاته، كما كشفه الدسوقي في كتابه "أيام مع طه حسين". وأراد بالطائفة التي يتملّقها: الرافضة. (¬2) هذه العبارة والتي بعدها مما حذفه أبو ريَّة من الطبعات اللاحقة.

معناه أن يَلْحَق هذا الولد بمصطفى، ولذلك يقول هنا: (وقد ينبعث له من يتطاول إلى معارضته ممن تعفَّنت أفكارهم وتحجَّرت عقولهم). ولو قال: قلوبهم لكان أنسب لحاله. قال: (فقد استكثرت فيه من الأدلة التي لا يرقى الشك إليها، وأتزيَّد من الشواهد التي لا ينال الضعفُ منها). أقول: سوف ترى إذا انجلى الغبار ... أفرَسٌ تَحْتَكَ أم حمار! قال: (وبرغمي أن أنصرف في هذا الكتاب عن النقد والتحليل، وهي الأصول التي يقوم العلم الصحيح في هذا العصر عليها). أقول: قد ذكر هو ص 327: أن علماء فقه الحديث قد عرفوا تلك الأصول، ونقل عن صاحب "المنار" قوله: (إن لعلماء فقه الحديث مِن وراء نقد أسانيد الأخبار والآثار نقدًا آخر لمتونها ... ويشاركهم في هذا النوع من النقد رجال الفلسفة والأدب والتاريخ, ويسمونه في عصرنا النقد التحليلي). فإن كان أبو ريَّة يحسنه فإنما عَدَل عنه ليتسع له المجال فيما يكره أن يتضح للمثقفين. لكن قال بعد هذا: (وقد اضطررت إلى ذلك؛ لأن قومنا حديثو عهد بمثل هذا البحث، على أني أرجو أن يكون قد انقضى ذلك العهد الذي لا يشيع فيه إلا النفاق العلمي والرئاء الديني، ولا ينشر فيه إلا ما يروج بين الدهماء ويرضى عنه من يزعمون للناس - زورًا - أنهم من المحدَّثين أو العلماء) (¬1). وهذا يُشعر أو يُصرّح بأنه يريد بالنقد التحليلي أمرًا آخر، انصرف برغمه عنه اتقاءً لعلماء المسلمين وعامتهم، وأخذًا بنصيبٍ مما يسميه بالنفاق ¬

_ (¬1) انظر الحاشية السابقة.

العلمي والرئاء الديني. وفي كتابه أشياء تدلّ على قُرب وأشياء تدلُ على بُعد، وعبارته هذه ونحوها قريب من الضرب الأول، وتلفت النظر إلى الثاني، فمنه ما مرّ في أول كتابه من الإشارة إلى أن جميع الذين اشتهروا في القرون الأولى بالعلم والإمامة ليسوا عنده علماء. ويأتي كلامه في الصحابة رضي الله عنهم، وهَجْوُه السُّوقيّ لأبي هريرة رضي الله عنه، ومحاولته قلب محاسنه عيوبًا، والاستدلال بالحكايات الكاذبة للغضِّ منه، واختلاق التهم [ص 9] الباطلة لتكذيبه؛ وذلك يُنبِئ عن فقرٍ مُدْقع من توقير النبي - صلى الله عليه وسلم - واحترام جانبه، وجحودٍ شديد لبركة صُحبته وملازمته وخدمته. وأهمّ من ذلك أن أبا ريَّة يقسِّم الدين إلى عام وخاص، ويقول: إن العام هو الدلائل القطعية من القرآن، والسنن العملية المتواترة التي أجمع عليها مسلمو الصدر الأول، وكانت معلومةً عندهم بالضرورة. انظر ص 350 في كتابه. ثم يعود فيقرِّر أنّ الدلائل النقلية كلها ظنية. انظر 346 و353 منه. وأنَّ الدين كله في القرآن لا يحتاج معه إلى غيره "حسبنا كتاب الله" انظر ص 349 منه. وأنه "لا يلزم من الإجماع على حُكْمٍ مطابقته لحكم الله في نفس الأمر". انظر ص 352 منه. ومجموع هذا يقتضي أن يكون الدين كلّه خاصًّا عنده. ومعنى الخاص - على ما يظهر من كلامه - أنَّ الدين فيما عدا الأمور القضائية "موكول إلى اجتهاد الأفراد" كأنه يريد أنه قضية فردية تخصُّ كلّ فرد فيما بينه وبين الله لا شأن له بغيره ولا لغيره به. وفي الأمور القضائية "موكول إلى أولي الأمر" كأنه يريد أن للمقنِّن أو القاضي أن يأخذ بالحكم الديني إذا وافق رأيه وله أن

يدعه. انظر ص 353 منه. ونجده يحتجُّ كثيرًا بأقوال لا يعتقد صحتها بل قد يعتقد بطلانها, ولكنه يراها موافقةً لغرضه. ويحاول إبطال أحاديث صحيحة بشبهات ينتقل الذهن فور إيرادها إلى ورودها على آيات من القرآن. فهذا وأشباهه يجعلنا نشفق على أبي ريَّة ومنه. قال: (وأرجو كذلك وقد حسرت النقاب عن وجه الحق في أمر الحديث المحمدي الذي جعلوه الأصل الثاني من الأدلة الشرعية بعد السنة العملية ...) (¬1). أقول: نعم نحن المسلمين لا نفرِّق بين الله ورسله، بل نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله المبلِّغ لدين الله والمبيِّن لكتاب الله بسنته، بقوله وفعله وغير ذلك مما بَيَّن به الدين، ونؤمن ونَدِين بما بلَّغنا إياه بالكتاب وبالسنة، والأحاديث أخبار عن السنة، إذا ثبتت ثبت ما دلت عليه السنة. ولسنا نحن بالجاعلي السنة بهذه المرتبة، بل الله عَزَّ وَجَلَّ جعلها. وهذا أمر معلوم من الدين بالضرورة، وقد تكفل الله تعالى بحفظ دينه، ووفق الأمة التي وصفها بأنها خير أمة أُخرجت للناس، فقام أئمتها وعلماؤها بما أُمِروا به من حفظ الدين وتبليغه على الوجه الذي اختاره الله ورسوله، فلم يزل محفوظًا إن خفيَ بعضُه على الجهال لم يَخْفَ على العلماء، وإن خفيَ على بعض العلماء لم يَخْفَ على بقيَّتهم، وما في كتابك هذا من حق فعنهم نَقَلْتَه، وباطلك مردود عليك. قال: (واتخذوا منه أسانيد لتأييد الفرق الإِسلامية ودلائل على الخرافات والأوهام، وقالوا بزعمهم: إنها دينية) (¬2). ¬

_ (¬1) قوله: "الذي جعلوه ... " محذوف من الطبعات اللاحقة. (¬2) هذه الفقرة والتي بعدها، وقوله في الفقرة الآتية: "وأن تنزّه ذاته ... " محذوف من الطبعات اللاحقة.

أقول: ما مِنْ فرقة من الفرق الإِسلامية إلا ولديها شيء من الحق، وما تسميه أنتَ خرافات وأوهامًا منه ما هو حق وإن [ص 10] زعمت. والأحاديث التي يثبتها أهل العلم حق ولا يُسْتَنكر للحق أن يشهد للحق، وأما الأحاديث الباطلة فمنها ما نصوا على بطلانه وهو كثير، ومنها ما يُعرف بالنظر فيه على طريقتهم بطلانه أو وهنه، أو على الأقل الشك في صحته. قال: (وكشفت القناع عما خفي على الناس أمره). أقول: أمَّا أهل العلم فلم تزدهم علمًا، وأما غيرهم فالذي في كتابك مما يضللهم ويَلْبِس عليهم دينهم أكثر مما قد يفيدهم. ثم قال: (أرجو أن أكون قد وفقت إلى ... الدفاع عن السنة القولية وحياطتها عما يشوبها، وأن يصان كلام الرسول من أن يتدسس إليه شيء من افتراء الكاذبين، أو ينال منه كيد المنافقين وأعداء الدين، وأن تنزه ذاته الكريمة من أن يعزى إليها إلا ما يتفق وسموّ مكانها وجلال قدرها ...). أقول: أما ما نقله من كتب علماء الحديث، مِن شرائط الصحيح، وبيان المعتل، وعلامات الموضوع، وبيان أن كثيرًا من الأحاديث الصحيحة رُويت بالمعنى، ونحو ذلك = فإنه يليق به هذا الوصف. وأما كثير مما نقله عن غيرهم أو جاء به من عنده، فوصفه بذلك بمنزلة أن يجمع رجل كتابًا يطعن في آيات كثيرةٍ من القرآن بزعم أنها ليست منه، وأن فيه كثيرًا من ذلك، ثم يزعم أن غرضه هو "الدفاع عن الكلام الرباني وحياطته عما يشوبه وأن يصان كلام ربِّ العِزَّة ... وأن تنزَّه ذاتُه المقدَّسة من أن يعزى إليها إلا ما يليق بجلالها ... " ونحو ذلك. قال ص 15: (وإذا كان هذا الكتاب سيغير ولا ريب من آراء كثير من المسلمين

فيما ورثوه من عقائد ... فإنه سيقفهم - إن شاء الله - على حقائق كثيرة تزيدهم تبصرة وعلمًا بدينهم، ويحل لهم مشاكل متعددة مما تضيق به صدورهم، ويدفع شبهات يتكئ عليها المخالفون ...) (¬1). أقول: الكلام على هذا نحوٌ مما قبله. وبعد، فإنَّ أضرَّ الناسِ على الإسلام والمسلمين هم المحامون الاستسلاميون، يطعن الأعداء في عقيدة من عقائد الإسلام أو حُكْم من أحكامه ونحو ذلك، فلا يكون عند أولئك المحامين من الإيمان واليقين والعلم الراسخ بالدين، والاستحقاق لعون الله وتأييده ما يثبِّتهم على الحق، ويهديهم إلى دفع الشبهة، فيلجأون إلى الاستسلام بنظام، ونظام المتقدمين: التحريف، ونظام المتوسطين: زَعْمُ أن النصوص النقلية لا تفيد اليقين، والمطلوبُ في أصول الدين اليقين، فعزلوا كتابَ الله وسنةَ رسوله عن أصول الدين، ونظام بعض العصريين: التشذيب. وأبو ريَّة يحاول استعمال الأنظمة الثلاثة ويوغل في الثالث. على أن أولئك الذين سمَّيْتُهم محامين كثيرًا ما يكونون هم الخصوم، والباطل جشع، وقد قال الله تبارك وتعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71] , [ص 11] وقال الله عزَّ وجلَّ: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} [البقرة: 120]، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ ¬

_ (¬1) هذه الفقرة حذفها أبو رية من الطبعات اللاحقة.

وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} [آل عمران: 100 - 101] والرسول فينا بسنته. وقال تعالى: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217]. قال أبو ريَّة ص 15: (وإني لأتوجه بعملي هذا - بعد الله سبحانه وله العِزة - إلى المثقفين من المسلمين خاصة، وإلى المهتمين بالدراسات الدينية (¬1) عامة) - يعني المستشرقين من اليهود والنصارى والملحدين - (ذلك بأن هؤلاء وهؤلاء الذين يعرفون قدره (¬2). واللهَ أدعو أن يجدوا فيه جميعًا ما يرضيهم ويرضي العلم والحق معهم). أقول: أما المستشرقون فالذي يرضيهم معروف. وأما المثقَّفون فيريد أبو ريَّة الثقافة الغربية، ويُطْمِع أبا ريَّة فيهم أن يرى أكثرهم عزلًا عن الواقيَيْن الإِسلاميَّيْن: العلم الديني، والمناعة. وأما علماء المسلمين، وعامتهم - وهم مَظّنة الخير - فهم عند أبي ريَّة سفهاء، واقرأ عشرين آية من أول سورة البقرة. ثم ختم أبو ريَّة مقدمته بالدعاء لمجهوده وكتابه. وأنا أسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعني والمسلمين ومن شاء من عباده بما في كتابي من صواب، ويقيني وإياهم شرَّ ما فيه من خطأ، ويوفقنا جميعًا لما يحبه ويرضاه. **** ¬

_ (¬1) غيَّره في الطبعات اللاحقة إلى "الإسلامية". (¬2) غيَّره في الطبعات اللاحقة إلى: "يعرفون قيمته ويدركون قدْره".

السنة

السُّنَّة [ص 12] ثم شرع أبو ريَّة بعد الخطبة في الكتاب فقال في ص 16: (السنة ...)، ونقل عبارات منها عبارة عن "تعريفات الجرجاني" (¬1) زاد في آخرها زيادة في نحو ثلاثة أسطر لم أجدها في "التعريفات"، في آخرها: (ثم اصطلح المحدّثون على تسمية كلام الرسول حديثًا وسنة) (¬2). ثم قال أبو ريَّة: (وقالوا: السنة تطلق في أكثر على ما أضيف إلى النبي من قول أو فعل أو تقرير). أقول: تُطلق السنة لغةً وشرعًا على وجهين: الأول: الأمر يبتدئه الرجل فيتبعه فيه غيره. ومنه ما في "صحيح مسلم" (¬3) في قصة الذي تصدَّق بصُرَّة فتبعه الناس فتصدقوا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن سنَّ في الإسلام سنة حسنة فعُمِل بها بعده كُتِب له مثل أجر مَنْ عَمِل بها ... " الحديث. والوجه الثاني: السيرة العامة، وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا المعنى هي التي تقابل الكتاب، وتسمى الهَدْي. وفي "صحيح مسلم" (¬4): أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في خطبته: "أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهَدْي هدي محمَّد، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة". ¬

_ (¬1) (ص 122). (¬2) أقول: هذا الكلام نقله أبو ريَّة من مقال لرشيد رضا في "مجلة المنار": (10/ 846). (¬3) (1017). (¬4) (867).

هذا وكلّ شأن من شؤون النبي - صلى الله عليه وسلم - الجزئية المتعلقة بالدين من قول أو فعل أو كفّ أو تقرير = سنةٌ بالمعنى الأول، ومجموعُ ذلك هو السنة بالمعنى الثاني. ومدلولات الأحاديث الثابتة هو السنة أو من السنة حقيقة، فإن أُطْلِقَت "السنة" على ألفاظها فمجاز أو اصطلاح. وإنما أوضحتُ هذا لأن أبا ريَّة يتوهَّم أو يوهم أنه لا علاقة للأحاديث بالسنة الحقيقية. ثم قال ص 17: (مكان السنة من الدين. جعلوا السنة القولية في الدرجة الثانية أو في الدرجة الثالثة من الدين ... وأما الذي هو في الدرجة الثانية من الدين فهو السنة العملية). أقول: المعروف بين أهل العلم قولهم: "الكتاب والسنة" ثم يقسِّمون دلالات الكتاب إلى قطعية وغيرها، والسنة إلى متواتر وآحاد، وإلى قول وفعل وتقرير، إلى غير ذلك من التقسيمات. وسيأتي ذكر "ثلاث مراتب" من صاحب "المنار"، وننظر فيه (¬1). فأما منزلة السنة جملةً من الدين فلا نزاع بين المسلمين أن ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أمر الدين فهو ثابت عن الله عزَّ وجلَّ، ونصوص القرآن في ذلك كثيرة، منها: {مَّن يُطِعِ الرًسُولَ فَقَد أَطَاعَ اللهَ} [النساء: 80] , وكل مسلم يعلم أن الإيمان لا يحصل إلا بتصديق الرسول فيما بلَّغه عن ربه، وقد بلَّغ الرسول بسنته كما بلَّغ كتاب الله عزَّ وجلَّ. ثم تكلَّم الناس في الترتيب بالنظر إلى التشريع، فمِنْ قائل: السنة قاضية على الكتاب [ص 13]. وقائل: السنة تبيّن الكتاب. وقائل: السنة في المرتبة ¬

_ (¬1) انظر (ص 31).

الثانية بعد الكتاب. وانتصر الشاطبي في "الموافقات" (¬1) لهذا القول وأطال، ومما استدل به هو وغيره قول الله عزَّ وجلَّ: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}. [النحل: 89 - 90]. قالوا: فقوله: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} واضحٌ في أنَّ الشريعة كلها مبيَّنة في القرآن. ووجدنا الله تعالى قد قال في هذه السورة: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44]. فعلمنا أنَّ البيان الذي في قوله: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} غير البيان الموكول إلى الرسول. ففي القرآن سوى البيان المفصَّل الوافي بيانٌ مجمل، وهو ضربان: الأول: الأمر بالصلاة والزكاة والحج والعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، والنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي، وتحريم الخبائث، وأكل أموال الناس بالباطل، أو غير ذلك. الثاني: الأمر باتباع الرسول وطاعته وأخذ ما آتى والانتهاء عما نهى ونحو ذلك. وفي "الصحيحين" (¬2) وغيرهما عن علقمة بن قيس النخعي - وكان أعلمَ أصحاب عبد الله بن مسعود أو مِنْ أعلمهم - قال: "لعن عبد الله الواشمات والمتنمِّصات والمتفلِّجات للحُسْن المغيرات خلق الله. ¬

_ (¬1) (4/ 294 فما بعدها). (¬2) البخاري (4886، 5939)، ومسلم (2125).

فقالت أم يعقوب: ما هذا؟ قال عبد الله: وما لي لا ألعن مَنْ لَعَن رسولُ الله وفي كتاب الله؟ قالت: والله لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدته، قال: والله لئن قرأتيه لقد وجدتيه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]. ظاهرُ صنيع ابن مسعود أن الاعتماد في كون القرآن مبيِّنًا لكل ما بيَّنَتْه السنة على الضرب الثاني، وتعقيب آية التبيان بالتي تليها، كأنه يشير إلى أن الاعتماد على الضربين مجتمعين، ورجَّحه الشاطبي (¬1) وزعم أن الاستقراء يوافقه. فعلى هذا لا يكون للخلاف ثمرة. ثم قال قوم: جميع ما بيَّنه الرسول عَلِمَه بالوحي. وقال آخرون: منه ما كان باجتهاد أَذِنَ الله له فيه وأقرَّه عليه. ذكرهما الشافعي في "الرسالة" (¬2). ثم قال (ص 104) (¬3): "وأيّ هذا كان، فقد بيَّن الله أنه فرض فيه طاعة رسوله ... ". وبالغ بعضهم فقال: كلّ ما بلَّغه الرسول فَهِمَه من القرآن. ونسبه بعض المتأخرين إلى الشافعي، فعلى هذا كان القرآن في حق الرسول تبيانًا لكلِّ شيء وتفصيلًا، فأما في حقَّ غيره فعلى ما مرَّ. والله الموفق. ثم نقل أبو ريَّة كلامًا من "موافقات الشاطبي". وكلام "الموافقات" طويل جدًّا، وفي ما تركه أبو ريَّة منه ما قد يخالف ظاهر بعض ما نقله، وإنما الكلامُ العربيّ الناصع كلام الشافعي في "الرسالة". ¬

_ (¬1) في "الموافقات" الموضع السالف. (¬2) (ص 91 - 103). (¬3) أي الشافعي في "الرسالة".

[ص 14] ثم قال أبو ريَّة ص 19: (وكان الإمام مالك يراعي كل المراعاة العمل المستمر والأكثر، ويترك ما سوى ذلك وإن جاء فيه أحاديث). أقول: كان مالك رحمه الله يدين باتباع الأحاديث الصحيحة, إلا أنه ربما توقف عن الأخذ بحديث ويقول: ليس عليه العمل عندنا. يرى أن ذلك يدلُّ على أن الحديث منسوخ أو نحو ذلك. والإنصاف أنه لم يتحرَّر لمالكٍ قاعدة في ذلك، فوقعت له أشياء مختلفة. راجع "الأم" للشافعي (7: 177 - 249) (¬1). وقد اشتهر عن مالك قوله: "كلّ أحدٍ يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر" (¬2) يعني النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقوله للمنصور - إذ عرض عليه أن يحمل الناس على "الموطأ" -: "إن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تفرقوا في الأمصار فعند أهل كلّ مِصْر علم" (¬3). قال أبو ريَّة ص 19: (وقال [مالك] أحبّ الأحاديث إليّ ما اجتمع الناس عليه). أقول: لا ريب أنَّ المُجْمَع عليه أعلى من غيره، مع قيام الحجة بغيره إذا ثبت عند مالك وغيره. ثم حكى عن صاحب "المنار" قوله: (والنبي مبيِّن للقرآن بقوله وفعله، وبدخل في البيان التفصيل والتخصيص والتقييد، لكن (¬4) لا يدخل فيه إبطال حُكْم من ¬

_ (¬1) (8/ 524 فما بعدها - دار الوفاء). (¬2) ذكره أبو شامة في "خطبة الكتاب المؤمل" (ص 136) والذهبي في "السير": (8/ 93). وقد نُقِل نحوه عن عدد من السلف منهم ابن عباس ومجاهد وغيرهم. انظر "جامع بيان العلم وفضله": (2/ 925 - 926). (¬3) أخرجه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم": (1/ 532). وفي سنده الواقدي. (¬4) في كتاب أبي ريَّة: "ولكن".

أحكامه. أو نقض خبر من أخباره, ولذلك كان التحقيق أن السنة لا تنسخ القرآن). أقول: أما الإبطال ونقض الخبر بمعنى تكذيبه، فهذا لا يقع من السنة للقرآن، ولا من بعض القرآن لبعض، فالقرآن كله حق وصدق: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42]. وأما التخصيص والتقييد ونحوهما والنسخ، فليست بإبطال ولا تكذيب، وإنما هي بيان. فالتخصيص - مثلًا - إن اتصل بالخطاب بالعام، كأنْ نزلت آية فيها عموم ونزلت معها آية من سورة أخرى فيها تخصيص للآية الأولى، أو نزلت الآية فتلاها النبي - صلى الله عليه وسلم - وبيَّن ما يخصِّصها فالأمر واضح؛ إذ البيان متصل بالمبيَّن فكان معه كالكلام الواحد. وإن تأخر المخصّص عن وقت الخطاب بالعام ولكنه تبعه قبل وقت العمل بالعام أو عنده فهذا كالأول عند الجمهور، وهذا مرجعه إلى عُرْف العرب في لغتهم كما بينه الشافعي في "الرسالة" (¬1). أما إذا جاء بعد العمل بالعام ما صورته التخصيص، فإنما يكون نسخًا جزئيًا، لكن بعضهم يُسمِّي النسخ تخصيصًا جزئيًّا كان أو كليًّا، نظرًا إلى أن اقتضاء الخطاب بالحكم لشموله لما يستقبل من الأوقات عموم، والنسخُ إخراج لبعض تلك الأوقات وهو المستقبل بالنسبة إلى النص الناسخ، وهذا مما يحتج به مَنْ يجيز نسخ بعض أحكام الكتاب بالسنة. ¬

_ (¬1) قد يكون كذلك في غير العربية، ولكن الشافعي رأى بعض المستعربين يستنكرونه، فجوّز مخالفة لغاتهم الأعجمية للعربية في ذلك. [المؤلف]. وانظر "الرسالة" (ص 52 وما بعدها).

[ص 15] قال صاحب "المنار": (والعمدة في الدين كتاب الله تعالى في المرتبة الأولى، والسنة العملية المتفق عليها في المرتبة الثانية, وما ثبت عن النبي وأحاديث الآحاد فيها رواية ودلالة في الدرجة الثالثة). أقول: قد سبق أن المعروف بين أهل العلم ذكر الكتاب والسنة ثم يقسمون السنة إلى متواتر وآحاد وغير ذلك. قال: (ومن عمل بالمتفق عليه كان مسلمًا ناجيًا في الآخرة مقربًا عند الله تعالى. وقد قرر ذلك الغزالي). علق أبو ريَّة في الحاشية: (قرر الغزالي ذلك في كتاب القسطاس المستقيم). وعبارة صاحب "المنار" في مقدمته لـ "مغني ابن قدامة": "فمن مقتضى أصولهم كلهم وجوبُ ترك أسباب كل هذا التفرق والاختلاف (¬1)، حتى قال الغزالي في "القسطاس المستقيم" بالاكتفاء بالعمل بالمجمع عليه، وعدّ المسائل الظنية المختلف فيها كأنْ لم تكن". كذا قال. والذي في "القسطاس المستقيم" خلاف هذا، فإن فيه (ص 89) (¬2) فما بعدها: أنه يعظ العاميَّ الطالبَ الخلاصَ من الخلافِ في الفروع بأن يقول له: "لا تشغل نفسك بمواقع الخلاف ما لم تفرغ من جميع المتفق عليه، فقد اتفقت الأمة على أن زاد الآخرة هو التقوى والورع، وأن الكسب الحرام والمال الحرام والغيبة والنميمة والسرقة والخيانة ... حرام، ¬

_ (¬1) أسباب التفرق والاختلاف الواجبُ تركُها باتفاقهم هي: الجهل والهوى والتعصب، وكذلك الخطأ بقدر الوسع. فأما أن يترك أحدهم ما يراه حقًّا فلا قائل به، بل هو محظور باتفاقهم. [المؤلف]. (¬2) (ص 65 - 66 - ت محمود بيجو).

والفرائض كلها واجبة، فإنْ فرغت من جميعها علَّمْتُكَ طريقَ الخلاص من الخلاف". قال: "فإنْ هو طالبني بها قبل الفراغ من هذا كله فهو جَدَليّ وليس بعامي ... نعم لو رأيتم صالحًا قد فرغ من حدود التقوى كلها وقال: ها أنا تُشْكل عليّ مسائل ... فأقول له: إن كنتَ تطلبُ الأمان في طريق الآخرة فاسْلُكْ سبيلَ الاحتياط وخُذْ بما يتفق عليه الجميع، فتوضأ مِنْ كلِّ ما فيه خلاف، فإنَّ كل مَنْ لا يُوجبه يستحبه .. فإنْ قال: هو ذا يثقل عليَّ ... ، فأقول له: الآن اجتهد مع نفسك وانظر إلى الأئمة أيهم أفضل .. فمن غلب على ظنك أنه الأفضل فاتبعه". حاصل هذا: أن الغزالي كان يعلم أن العامة في زمانه ينتسب كل منهم إلى مذهب ويتعصب له، فإنْ فُرِضَ أن أحدهم سأل عن الخلاف وكيف يتخلّص منه، فلن يكون إلا أحد رجلين: إما فارغًا متلهّيًا، وإما وَرِعًا تقيًّا، والتقيّ الورع لا بدّ أن يكون قد شَغَلَ فِكْرَه المحافظةُ على الفرائض المتفق عليها، وتجنّب المحرمات المتفق عليها، وعمل بذلك على مذهبه قبل أن يشغله الخلاف. فإذا كان السائل مقصِّرًا مفرِّطًا وجاء يسأل عن الخلاف، فلن يكون إلا متلهّيًا، فيقال له: ابدأ بالعمل بما تعلمه يقينًا ثم سل، فإنْ أبى فهو جَدَليّ يتعنَّت في السؤال ولا يَهمُّه العمل، والإعراض عن مثله أَوْلى. فأما من أتى بما عليه بحسب مذهبه وسأل عن الخَلاص [ص 16] من الخلاف، فالظاهر أنه يسأل ليعلم ويعمل. قال الغزالي: "فأقول له: إنْ كُنْتَ تطلب الأمان في طريق الآخرة، فاسلُكْ سبيل الاحتياط وخذ بما يتفق عليه الجميع"، وفسَّرَ ذلك بما بعده. وذلك يوضِّح قطعًا أن مراده بما يتفق عليه الجميع أن يلتزم أن يكون وضوؤه

الذي يُصلَّي به وضوءًا يتفق العلماء على صحته، يتوضأ مِنْ كلّ ما قال عالم: إنه ينقض الوضوء. وهكذا في سائر عمله، يأخذ بالأشدّ الأشدّ من أقوال المختلفين. وفهم منها صاحب "المنار" أن لا يتوضأ من شيء قال عالم: إنه لا ينقض الوضوء. وهكذا في سائر عمله يأخذُ بالأخفّ الأخفّ من أقوال المختلفين. فلينظر العالم أين هذا من ذاك؟ على أنه إن لم يتوضأ إلا مِمَّا اتفقوا على أنه ينقض الوضوء قد يكون وضوؤه باطلًا باتفاقهم، وذلك أنّ بعض العلماء يوجب الوضوء بمسّ الذَّكَر ولا يوجبه من خروج الدم، وبعضهم يعكس، فإذا وقع لعاميّ هذا وهذا ولم يتوضأ، فوضوؤه الأول باطل باتفاق الفريقين، ومع أن مراد الغزالي الاحتياط الأكيد اقتصر على أن فيه "الأمان في طريق الآخرة" ومع أن صاحب "المنار" قَلَبه إلى التفريط الشديد لم يقتصر على أن صاحبه يكون ناجيًا في الآخرة بل زاد "مقربًا عند الله تعالى". وبعد، فلندع الغزالي وصاحب "المنار"، ولنرجع إلى الحجة. إننا نعلم أن لكثير من علماء الفرق زلّات وشواذّ مخالفة لدلالات واضحة مِنْ القرآن، ولأحاديث تبلغ درجة التواتر المعنوي أو درجة القطع عند من يعرف الرواية والرواة، ومثل هذا غير قليل، فالمقتصر على ما اتفق عليه على ما فهمه صاحب "المنار" لا بدّ أن يخالف الكتاب والسنة حتمًا في كثير من القضايا، هذا في المخالفة القطعية، فأما الظنية فحدِّث عن كثرتها ولا حرج. ومن جهة آخرى، فمن المحال عادةً أن يكون الحقُّ دائمًا من المسائل الخلافية مع المرخِّصين، فالترخُّص فيها كلها تركٌ متيقّن لكثير من الحق. ولنفرض أن جماعة تَتبَّعوا أقوال علماء المسلمين من جميع الفرق، ثم جمعوا

كتابًا ضمَّنوه ما اتفق المسلمون على أنه واجب أو حرام أو باطل (¬1) وأهملوا ما عدا ذلك، فهل يقال: إنَّ مَن حافظ على ما في ذاك الكتاب بدون نظر إلى غيره "كان مسلمًا ناجيًا في الآخرة مُقرَّبًا عند الله تعالى" ثم يستغني الناسُ بذاك الكتاب عن كتاب الله وتفسيراته، وعن كتب السنة وشروحها ومتعلقاتها، وعن كتب الفقه كلها، ثم لا يعدم المشذّبون مقالًا يشكك في ما ضمه ذاك الكتاب، كالشك في تحقق الإجماع وفي حجيته, ولتغير الأحكام بتغير الزمان. وحينئذ يستريح الذين يدعون أنفسهم بالمصلحين مِن كلِّ أثر للإسلام. وقال ابن حزم في "الأحكام" (3: 114) (¬2): "وبالجملة فهذا مذهب لم يُخلَق له معتَقِد قط، وهو أن لا يقول القائل بالنص حتى يوافقه الإجماع، بل قد صحَّ الإجماع على أن قائل هذا القول معتقدًا له كافر بلا خلاف، لرفضه القول بالنصوص التي لا خلاف في وجوب طاعتها". هذا وقد برئت ذمة الغزالي من ذاك القول كما علمت. وأنا أجلّ السيد محمَّد رشيد رضا عن أن يقول به [ص 17] متصوِّرًا حقيقته، وإنما هذا شأن الإنسان، كمن يكون على جسر غير محجّر فتستولي على ذهنه خشيةُ السقوطِ من جانب فيتأخر عنه ويتأخر حتى يسقط بغير اختياره من الجانب الآخر. بلى مَنْ عمل بالمتفق عليه كان مسلمًا ناجيًا في الآخرة مقربًا عند الله تعالى، وهذا المُتَّفق عليه هو العمل بالدلائل القطعية والظنية من كتاب الله تعالى ومن سنة رسوله الثابتة قطعًا أو ظنًّا، فالعالم يتحرَّى ذلك بالنظر في ¬

_ (¬1) انظر هل يسمحون بزيادة "أو مندوب" [المؤلف]. (¬2) طبعة أحمد شاكر وتقديم إحسان عباس.

الأدلة، فإن اشتبهت عليه أو تعارضت أخذ بأحسنها مع تَجُنِّب خَرْق الإجماع الصحيح. والعامي يسأل العلماء ويأخذ بفتواهم، فإن اختلفوا عليه احتاط أو طلب ترجيحًا ما، وإذا علم اللهُ حُسْنَ نِيَّتِهِ فلا بد أن ييسر له ذلك. فأما تقليد الأئمة فمهما قيل فيه فلا ريب أنه خير بكثير من تتبُّع الرخص. وراجع "الموافقات" (4: 72 - 86) (¬1). ثم قال أبو ريَّة ص 20: (حكم كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الأمور الدنيوية ...). إلى أن قال: (أما كلامه صلوات الله عليه في الأمور الدنيوية فإنه كما قالوا من الآراء المحضة، ويسمَّيه العلماء إرشادًا أي إنَّ أمره - صلى الله عليه وسلم - في أي شيء من أمور الدنيا يُسمَّى أمر إرشاد (¬2) ... لأنه لا يقصد به القربة ولا فيه معنى التعبّد. ومن المعلوم أنه لا دليل على وجوب أو ندب إلا بدليل خاص). أقول: ليس في هذا الكلام ما يصح أن يكون قاعدة ثابتة، فأمور الدنيا خاضعة لأحكام الشرع، وقد أمر الله تعالى بطاعة رسوله وحَذَّر من المخالفة عن أمره، فأَمْرُه - صلى الله عليه وسلم - بشيء دليلٌ قام على وجوبه، إلا أن يقوم دليل يصرف الأمرَ عن الوجوب إلى غيره. وتفصيل ذلك في كتب الفقه. ثم قال: (لأن الرسل غير معصومين في غير التبليغ. قال السفَّاريني ... قال ابن حمدان ... "وإنهم معصومون فيما يُؤدُّونه عن الله تعالى، وليسوا بمعصومين في غير ذلك"، وقال ابن عقيل ... لم يعتصموا في الأفعال، بل في نفس الأداء، ولا يجوز عليهم الكذب في الأقوال فيما يؤدّونه عن الله تعالى ... وقال القاضي عياض: ...). ¬

_ (¬1) (5/ 97 - 103) دار ابن عفان. (¬2) كذا في (ط)، وفي كتاب أبي ريَّة: "ويسميه العلماء أمر إرشاد، أي ... يسمى إرشادًا ... ".

أقول: هذا الذي اقتصر عليه أبو ريَّة يوهم أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ليسوا معصومين عن تعمُّد الكذب في غير التبليغ، ولا عن الكبائر ولا عن صغائر الخسَّة. وفي هذه الكتب التي نقل عنها وغيرها بيانُ عصمتهم عن ذلك وعن غيره مما ترى تفصيله فيها. احتاج أبو ريَّة إلى صنيعه ليردَّ كثيرًا من الأحاديث الصحيحة بزعم أنها لم تكن على وجه التبليغ، وأن الأنبياء إنما عُصِمُوا من الكذب في التبليغ. فليتدبر القارئ [ص 18] هذا مع قول أبي ريَّة نفسه في حاشية ص 39: (ولعنة الله على الكاذبين، متعمدين وغير متعمدين)! وذكر قصة التأبير، فدونك تحقيقَها: أخرج مسلم في "صحيحه" (¬1) من حديث طلحة قال: "مررتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوم على رؤوس النخل فقال: "ما يصنع هؤلاء؟ " فقالوا: يلقحونه، يجعلون الذكر في الأنثى فيلقح، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أظنُّ يغني ذلك شيئًا". قال: فأُخْبِرُوا بذلك فتركوه، فأُخْبِرَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك، فقال: "إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظنًّا فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدَّثتكم عن الله شيئًا فخذوا به, فإني لن أكذب على الله عزَّ وجلَّ". ثم أخرجه (¬2) عن رافع بن خَديج وفيه: "فقال: لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرًا". فتركوه فنقصت .. فقال: "إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر". قال عكرمة: أو نحو هذا". ¬

_ (¬1) (2361). (¬2) (2362). (ط): "فنقضت" خطأ، وفي مسلم: "فنفَضَت أو فنقصت".

ثم أخرجه (¬1) عن حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، وعن ثابت، عن أنس ... " وفيه: فقال: "لو لم تفعلوا لصلح"، وقال في آخره: "أنتم أعلم بأمر دنياكم". عادة مسلم أن يرتّب روايات الحديث بحسب قُوَّتها، يقدِّم الأصح فالأصح (¬2). قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث طلحة: "ما أظن يغني ذلك شيئًا"، إخبار عن ظنه، وكذلك كان ظنه، فالخبر صِدْق قطعًا، وخطأ الظن ليس كذبًا، وفي معناه قوله في حديث رافع: "لعلكم ... " وذلك كما أشار إليه مسلم أصح مما في رواية حماد, لأن حمادًا كان يخطئ. وقوله في حديث طلحة: "فإني لن أكذب على الله" فيه دليل على امتناع أن يكذب على الله خطأ؛ لأن السياق في احتمال الخطأ، وامتناعه عمدًا معلوم من باب أَوْلى، بل كان معلومًا عندهم قطعًا. ونقل عن "شفاء عياض" (¬3) قال: وفي حديث ابن عباس في الخَرْص: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما أنا بشر، فما حدّثتكم عن الله فهو حق، وما قلت فيه من قبل نفسي فإنما أنا بشر أخطئ وأصيب". أقول: ذكر شارح "الشفاء" (¬4) أن البزار أخرجه بسند حسن، وتحسين ¬

_ (¬1) (2363). (¬2) وانظر ما سيأتي (ص 316 - 317). (¬3) (2/ 870 - 871 - ط البجاوي). (¬4) "شرح الملا علي قاري": (2/ 338). وهو عند البزار: (11/ 42، 250). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد": (1/ 182): "إسناده حسن إلا أن إسماعيل بن عبد الله =

المتأخرين فيه نظر، فإنْ صحَّ فكأنهم مرّوا بشجر مثمر فخرصوه يجرِّبون حَدْسهم، وخَرَصها النبي - صلى الله عليه وسلم - فجاءت على خلاف خرصه. ومعلوم أن الخرص حَزْر وتخمين، فكأنَّ الخارص يقول: أظن كذا. وقد مَرّ حكمه. والله أعلم. وقال أبو رية قبل هذا: (وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصدّق بعض ما يفتريه المنافقون، كما وقع في غزوة تبوك وغيرها، وصدَّق بعض أزواجه, وتردد في حديث الإفك .. حتى نزل عليه آيات البراءة). وذكر ص 142 عن صاحب "المنار": (... والنبي - صلى الله عليه وسلم - ما كان يعلم الغيب، فهو كسائر البشر [ص 19] يحمل كلام الناس على الصدق؛ إذ لم تحف به شبهة, وكثيرًا ما صدَّق المنافقين والكفار في أحاديثهم. وحديث العرنيين وأصحاب بئر معونة مما يدل على ذلك .. إذ أذن لبعض المعتذرين من المنافقين في التخلُّف عن غزوة تبوك، وما علَّله به وهو قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التوبة: 43] وإذا جاز على الأنبياء والمرسلين أن يصدِّقوا الكاذب فيما لا يخلّ بأمر الدين ...). وذكر ص 22 عن عياض حديث: ("فلعلّ بعضكم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صادق فأقضي له". وفي رواية: "ولعل بعضكم أن يكون أَلْحَن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع ... "). أقول: لم يكن - صلى الله عليه وسلم - يعلم من الغيب ما لم يُعْلِمْه الله تعالى به، ولم يكن - بأبي وأمي - مغفَّلًا, ولم يصدّق المنافقين أي يعتقد صدقهم، بل ولا ظنَّه، ¬

_ = الأصبهاني لم أر من ترجمه". وعلق الحافظ في "مختصر زوائد البزار": (1/ 138): "قلت: هو الحافظ الشهير سمويه، ترجمه أبو نعيم في تاريخه، ووثقه ابن منده وأبو الشيخ وأبو نعيم وغيرهم".

وإنما كان الأمر عنده على الاحتمال. ولهذا عاتبه الله عزَّ وجلَّ على الإذن لهم. هذا واضح بحمد الله. والعُرَنيون لم يتحقَّق منهم كذب، فلعلهم كانوا صادقين في إسلامهم، وإنما بدا لهم أن يرتدُّوا لمَّا وجدوا أنفسهم منفردين بالإبل والراعي بعيدًا عن المدينة. وقصة بئر معونة اختلف فيها، فلم يتحقَّق فيها شاهد على ما نحن فيه. راجع "فتح الباري" (7: 296) (¬1). وقصته مع بعض أزواجه أراها في "الصحيحين" (¬2) عن عائشة: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يمكث عند زينب بنت جحش ويشرب عندها عسلًا، فتواصيتُ أنا وحفصة أنّ أيّتنا دخل عليها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فلتقل: إني لأجد منكَ ريح مغافير، أكلتَ مغافير؟ فدخل على إحداهما فقالت له ذلك، فقال: لا، بل شربت عسلًا عند زينب بنت جحش ولن أعود له. فنزلت: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] إلى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ} [التحريم: 4] لعائشة وحفصة ... ". وتمام الآية: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التحريم: 1]، ولو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - صدَّق المرأة في أنّ لذاك العسل رائحة كريهة لكان امتناعه لكراهيتها، وكذلك كان خلقه الكريم المطلوب منه شرعًا، وسياق الآية يخالف ذلك كما هو واضح. ¬

_ (¬1) (7/ 310 و379 وما بعدها). (¬2) البخاري (4912)، ومسلم (1474).

فالذي يظهر أنه - صلى الله عليه وسلم - فَطَنَ للحيلة، وعلم أن قائلة ذلك إنما غارت لطول مكثه عند ضرّتها، وانفرادها بسقيه العسل الذي يحبه، فحملتها شدة المغيرة، فتكرَّم فلم يكاشفها، وامتنع مِنْ شُرب العسل عند ضرّتها تطييبًا لنفسها. وأما تردّده في قصة الإفك، فليس فيه ما يوهم التصديق ولا ظن الصدق. وأما قوله: "فأحسب أنه صادق" فالحسبان هو الظن، ولينظر سند هذه الرواية (¬1). [ص 20] وذكر ص 22 عن "شفاء عياض" (¬2): (فأما ما تعلق منها - أي معارف الأنبياء - بأمر الدنيا فلا يشترط في حق الأنبياء العصمة من عدم معرفة الأنبياء ببعضها أو اعتقادها على خلاف ما هي عليه). أقول: كلمة "اعتقادها" فيها نظر، فينبغي أن يقال بدلها: "ظنها". **** ¬

_ (¬1) هذا اللفظ في البخاري (7181)، ومسلم (1713) من حديث أم سلمة رضي الله عنها. (¬2) (2/ 730 - البجاوي).

كتابة الحديث في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -

كتابة الحديث في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - تعرَّض أبو ريَّة ص 7 - 8 لهذه القضية، ثم أفردها بفصل ص 23، فمما قاله: (... تضافرت الأدلة ... على أن أحاديث الرسول صلوات الله عليه لم تكتب في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كما كان يكتب القرآن، ولا كان لها كُتَّاب يُقيّدونها عند سماعها منه وتلفظه بها ..). أقول: قد وقعت كتابةٌ في الجملة كما يأتي، لكن لم تشمل ولم يؤمر بها أمرًا. أما حكمة ذلك فمنها: أن الله تبارك وتعالى كما أراد لهذه الشريعة البقاء أراد سبحانه أن لا يكلِّف عباده من حفظها إلا بما لا يشقّ عليهم مشقة شديدة، ثم هو سبحانه يحوطها ويحفظها بقدرته، كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا نزل عليه الوحي يعجل بقراءة ما يوحى إليه قبل فراغه خشية أن ينسى شيئًا منه، فأنزل الله عليه: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]، وقوله: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 16 - 19] , وقوله: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} [الأعلى: 6 - 8]. وكانت العرب أمة أُميّة يندر وجود من يقرأ أو يكتب منهم، وأدوات الكتابة عزيزة، ولا سيما ما يكتب فيه. وكان الصحابة محتاجين إلى السعي في مصالحهم، فكانوا في المدينة منهم من يعمل في حائطه، ومنهم من يبايع في الأسواق، فكان التكليف بالكتابة شاقًّا، فاقتصر منه على كتابة ما ينزل من

القرآن شيئًا فشيئًا, ولو مرة واحدة في قطعة من جريد النخل أو نحوه تبقى عند الذي كتبها. وفي "صحيح البخاري" (¬1) وغيره من حديث زيد بن ثابت في قصة جمعه القرآن بأمر أبي بكر: "فتتبعتُ القرآن أجمعه من العُسُب واللخاف وصدور الرجال، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحدٍ غيره {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} [التوبة: 128] حتى خاتمة سورة براءة". وفي "فتح الباري" (¬2): أن العسُبَ جريدُ النخلِ، وأن اللخافَ الحجارةُ الرقاقُ، وأنه وقع في رواية: "القصب والعسب والكرانيف وجرائد النخل"، ووقع في روايات أُخَر ذكر الرقاع وقطع الأديم والصحف. [ص 21] وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُلقِّن بعضَ أصحابه ما شاء الله من القرآن ثم يُلقِّن بعضُهم بعضًا، فكان القرآن محفوظًا جملةً في صدورهم، ومحفوظًا بالكتابة في قِطَعٍ مُفرَّقةٍ عندهم. والمقصود أنه اقتصر من كتابة القرآن على ذاك القدر؛ إذ كان أكثر منه شاقًّا عليهم، وتكفَّل الله عزَّ وجلَّ بحفظه في صدورهم وفي تلك القطع، فلم يتلف منها شيء، حتى جُمِعت في عهد أبي بكر، ثم لم يتلف منها شيء حتى كتبت عنها المصاحف في عهد عثمان، وقد قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، وتكفُّله سبحانه بحفظه لا يعفي المسلمين أن يفعلوا ما يمكنهم كما فعلوا - بتوفيقه لهم - في ¬

_ (¬1) (4986). (¬2) (9/ 14 - السلفية).

عهد أبي بكر، ثم في عهد عثمان. فأما السُّنَّة فقد تكفَّل الله بحفظها أيضًا, لأن تكفُّله بحفظ القرآن يستلزم تكفُّله بحفظ بيانه وهو السُّنة، وحفظ السنه وهو العربية، إذ المقصود بقاء الحجة قائمة والهداية باقية بحيث ينالها من يطلبها؛ لأن محمدًا خاتم الأنبياء وشريعته خاتمة الشرائع. بل دلَّ على ذلك قوله: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 19]، فحفظ الله السُّنة في صدور الصحابة والتابعين حتى كُتِبَت ودُوِّنَت كما يأتي، وكان التزام كتابتها في العهد النبوي شاقًّا جدًّا؛ لأنها تشمل جميعَ أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله وأحواله وما يقوله غيره بحضرته أو يفعله وغير ذلك. والمقصود الشرعي منها معانيها, ليست كالقرآن المقصود لفظه ومعناه؛ لأنه كلام الله بلفظه ومعناه، ومعجز بلفظه ومعناه، ومُتَعبَّد بتلاوته بلفظه بدون أدنى تغيير = لا جَرَمَ خفَّف الله عنهم، واكتفى من تبليغ السنة غالبًا بأنْ يَطَّلِعَ عليها بعضُ الصحابة، ويكمل الله تعالى حفظها وتبليغها بقدرته التي لا يعجزها شيء. فالشأن في هذا الأمر: هو العلم بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بلّغ ما أُمِر به، التبليغ الذي رضيه الله منه، وأن ذلك مظنَّة بلوغه إلى من يحفظه من الأمة ويبلغه عند الحاجة ويبقى موجودًا بين الأمة. وتكفُّلُ اللهِ تعالى بحفظ دينه يجعل تلك المظنَّة مئِنَّة، فتمَّ الحفط كما أراد الله تعالى، وبهذا التكفُّل يُدْفَع ما يتطرق إلى تبليغ القرآن كاحتمال تلف بعض القطع التي كتبت فيها الآيات، واحتمال أن يغير فيها من كانت عنده، ونحو ذلك. ومن طالع تراجم أئمة الحديث من التابعين فمَنْ بَعْدَهم، وتدبر ما آتاهم الله تعالى من قوَّة الحفظ والفهم والرغبة الأكيدة في الجد والتشمير لحفظ

السُّنة وحياطتها= بان له ما يحيِّر عقلَه، وعَلِم أن ذلك ثمرة تكفُّلِ الله تعالى بحفظ دينه. وشأنهم في ذلك عظيم جدًّا، أو هو عبادة من أعظم العبادات وأشرفها، وبذلك يتبين أن ذلك من المصالح المترتبة على ترك كتابة الأحاديث كلها في العهد النبوي، إذ لو كتبت لانسدَّ باب تلك العبادة، [ص 22] وقد قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. وثَمَّ مصالح أخرى منها: تنشئةُ علومٍ تحتاج إليها الأمة، فهذه الثروة العظيمة التي بيد المسلمين من تراجم قدمائهم، إنما جاءت من احتياج المحدِّثين إلى معرفة أحوال الرواة، فاضطروا إلى تتبُّع ذلك، وجمع التواريخ والمعاجم، ثم تَبِعهم غيرُهم. ومنها: الإسناد الذي يُعْرَف به حال الخبر، كان بدؤه في الحديث، ثم سرى إلى التفسير والتاريخ والأدب. هذا، والعالم الراسخ هو الذي إذا حصل له العلم الشافي بقضية لزمها ولم يبالِ بما قد يشكّك فيها، بل إما أن يُعْرِض عن تلك المشكّكات، وإما أن يتأمَّلَها في ضوء ما قد ثبت. فههنا مَنْ تدبَّر كتاب الله، وتتبَّع هدي رسوله، ونظر إلى ما جرى عليه العملُ العامّ في عهد أصحابه وعلماء أمته، بوجوب العمل بأخبار الثقات عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنها من صُلْب الدين، فمَنْ أعرض عن هذا وراح يقول: لماذا لم تُكْتَب الأحاديث؟ بماذا، لماذا؟ ويتَّبع قضايا جزئية - إمَّا أن لا تثبت، وإما أن تكون شاذة، وإما أن يكون لها مَحْملٌ لا يخالف المعلوم الواضح - مَنْ كان هذا شأنه فلا ريب في زيغه.

هل نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كتابة الحديث؟

هل نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كتابة الحديث؟ قال أبو ريَّة ص 23: (وقد جاءت أحاديث صحيحة وآثار ثابتة تنهى كلها عن كتابة أحاديثه - صلى الله عليه وسلم -). أقول: أما الأحاديث فإنما هي حديث مختلف في صحته، وآخر متفق على ضعفه. فالأول: حديث مسلم (¬1) وغيره عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا: "لا تكتبوا عنّي، ومن كتب عنّي غيرَ القرآن فليمحُه وحدِّثوا عني ولا حرج، ومَن كذَب علَيَّ - قال همام: أحسبه قال "متعمدًا" - فليتبوّأ مقعده من النار". هذا لفظ مسلم. وذكره أبو ريَّة مختصرًا، وذكر لفظين آخرين، وهو حديث واحد. والثاني: ذكره بقوله: "ودخل زيد بن ثابت على معاوية فسأله عن حديث وأمر إنسانًا أن يكتبه، فقال له زيد: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرنا أن لا نكتب شيئًا من حديثه. فمحاه" (¬2). وقد كان ينبغي لأبي ريَّة أن يجريَ على الطريقة التي يُطْريها وهي النقد التحليلي فيقول: معقول أن لا يأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكتابة أحاديثه لقلَّة الكَتبَة وقلَّة ما يُكْتَب فيه والمشقة، فأما أن ينهى عن كتابتها ويأمر بمحوها فغير معقول، كيف وقد أذن لهم في التحديث فقال: "وحدثوا عني ولا حرج"؟ أقول: أما حديث أبي سعيد ففي "فتح الباري" (1: 185) (¬3): "منهم ¬

_ (¬1) (3004). (¬2) أخرجه أحمد (21579)، وأبو داود (3647) وسيتكلم المصنف عنه بعد قليل. (¬3) (1/ 208 - السلفية).

(يعني الأئمة) من أعلّ حديث أبي سعيد وقال: [ص 23] الصواب وقفه على أبي سعيد، قاله البخاري وغيره". أي الصواب أنه من قول أبي سعيد نفسه، وغلط بعض الرواة فجعله عن أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد أورد ابن عبد البر في كتاب "العلم" (¬1) (1: 64) قريبًا من معناه موقوفًا على أبي سعيد من طرقٍ لم يذكر فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما حديث زيد بن ثابت فهو من طريق كثير بن زيد عن المطلب بن عبد الله بن حنطب قال: دخل زيد بن ثابت الخ. وكثير غير قوي، والمطلب لم يدرك زيدًا. أما البخاري فقال في "صحيحه" (¬2): "باب كتابة العلم" ثم ذكر قصة الصحيفة التي كانت عند علي رضي الله عنه، ثم خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - زمن الفتح وسؤال رجل أن يكتب له، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اكتبوا لأبي فلان" وفي غير هذه الرواية "لأبي شاه" (¬3)، ثم قول أبي هريرة: "ما من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أحدٌ أكثر حديثًا عنه مني إلا ما كان من عبد الله بن عَمرو، فإنه كان يكتب وأنا لا أكتب"، ثم حديث ابن عباس في قصة مرض النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقوله: "ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابًا لا تضلوا بعده". وفي بعض روايات حديث أبي هريرة في شأن عبد الله بن عَمرو: "استأذن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكتب بيده ما ¬

_ (¬1) "جامع بين العلم وفضله": (1/ 272 - 273 - ابن الجوزي). وذكر الخطيب في "تقييد العلم" (ص 32) أن همام بن يحيى تفرد برواية الحديث عن زيد بن أسلم مرفوعًا. (¬2) كتاب العلم، باب رقم (40) الأحاديث (111 - 114). (¬3) عند البخاري (2434).

سمع منه فأذن له "رواه الإِمام أحمد والبيهقي (¬1). قال في "فتح الباري" (1: 185) (¬2): "إسناده حسن، وله طريق أخرى ... ". وله شاهد من حديث عبد الله بن عمرو نفسه جاء من طرق، راجع "فتح الباري" و"المستدرك" (1: 104) و"مسند أحمد" بتحقيق الشيخ أحمد محمَّد شاكر رحمه الله الحديث: (6510) وتعليقه. وقد اشتهرت صحيفة عبد الله بن عمرو التي كتبها عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان يغتبط بها ويسميها "الصادقة"، وبقيت عند ولده يروون منها، راجع ترجمة عَمرو بن شُعيب في "تهذيب التهذيب" (¬3). أما ما زَعَمه أبو ريَّة أن صحيفة عبد الله بن عَمْرو إنما كانت فيها أذكار وأدعية فباطل قطعًا. أما زيادة ما انتشر عن أبي هريرة من الحديث عما انتشر عن عبد الله بن عمرو؛ فلأنَّ عبد الله لم يتجرَّد للرواية تجرُّد أبي هريرة، وكان أبو هريرة بالمدينة وكانت دارَ الحديث لعناية أهلها بالرواية, ولرحلة الناس إليها لذلك، وكان عبد الله تارةً بمصر، وتارة بالشام، وتارة بالطائف، مع أنه كان يكثر من الإخبار عما وجده من كتب قديمة باليرموك، وكان الناس لذلك كأنهم قليلو الرغبة في السماع منه، ولذلك كان معاوية وأبنه قد نهياه عن التحديث. فهذه الأحاديث - وغيرها مما يأتي - إن لم تدل على صحَّة قول البخاري وغيره: إن حديث أبي سعيد غير صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنها تقضي ¬

_ (¬1) "المسند" (9231)، و"المدخل إلى السنن" (751). (¬2) (1/ 208 - السلفية). (¬3) (8/ 48 - 55).

بتأويله، وقد ذَكرَ في "فتح الباري" (¬1) أوجهًا للجمع، والأقرب ما يأتي: قد ثبت في حديث [ص 24] زيد بن ثابت في جمعه القرآن: "فتتبعتُ القرآن أجمعه من العُسُب واللخاف"، وفي بعض رواياته ذكر القصب وقطع الأديم. وقد مرَّ قريبًا (ص 20) (¬2)، وهذه كلها قطع صغيرة، وقد كانت تنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - الآية والآيتان، فكان بعض الصحابة يكتبون في تلك القطع، فتتجمع عند الواحد منهم عدة قطع في كلٍّ منها آية أو آيتان أو نحوها، وكان هذا هو المتيسِّر لهم. فالغالب أنه لو كتب أحدُهم حديثًا لكتبه في قطعة من تلك القطع، فعسى أن يختلط عند بعضهم القطع المكتوب فيها الأحاديث بالقطع المكتوب فيها الآيات، فنُهوا عن كتابة الحديث سدًّا للذريعة. أما قول أبي ريَّة ص 27: (هذا سبب لا يقتنع به عاقل عالم ... اللهم [إلا] إذا جعلنا الأحاديث من جنس القرآن في البلاغة، وأن أسلوبها في الإعجاز من أسلوبه). فجوابه: أن القرآن إنما تحدَّى أن يُؤْتَى بسورة مِنْ مِثْله، والآية والآيتان دون ذلك. ولا يشكل على هذا الوجه صحيفة عليّ؛ لأنه جمع فيها عدة أحكام، وكان عليٌّ لا يُخْشَى عليه الالتباس. ولا قصة أبي شاه, لأن أبا شاه لم يكن ممن يكتب القرآن، وإنما سأل أن تُكْتب له تلك الخطبة. ولا قوله - صلى الله عليه وسلم - في مرض موته: "ائتوني بكتاب الخ". لأنه لو كُتب لكان معروفًا عند الحاضرين وهم جمع كثير. ولا قضية عبد الله بن عمرو، فإنه فيما يظهر حصل على صحيفة فيها عدة أوراق، فاستأذن أن يكتب فيها الأحاديث فقط. وكذلك الكتب التي كتبها النبي - صلى الله عليه وسلم - لعُمَّاله وفيها أحكام الصدقات وغيرها، ¬

_ (¬1) (1/ 208 - السلفية). (¬2) من الخطية وهكذا في كل إحالات المؤلف. وهي في (ص 41) من هذه الطبعة.

وكان كلها أو أكثرها مصدَّرًا بقوله: "من محمَّد رسول الله الخ". هذا كلّه على فرض صحة حديث أبي سعيد. أما على ما قاله البخاري وغيره من عدم صحته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فالأمر أوضح، وسيأتي ما يشهد لذلك. قال أبو ريَّة ص 23: (وروى الحاكم بسنده عن عائشة قالت: جمع أبي الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكانت خمسمائة حديث، فبات يتقلب ... فلما أصبح قال: أي بُنيَّة هَلُمِّي الأحاديث التي عندك، فجئته بها فأحرقها، وقال: خشيت أن أموت وهي عندك، فيكون فيها أحاديث عن رجل ائتمنته ووثقت به ولم يكن كما حدثني فأكون قد تقلدت ذلك. زاد الأحوص بن المفضل في روايته: أو يكون قد بقي حديث لم أجده فيقال: لو كان قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما خفي على أبي بكر). أقول: لو صحَّ هذا لكان حجة على ما قلناه، فلو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن كتابة الأحاديث مطلقًا لما كتب أبو بكر. فأما الإحراق فلسبب أو سببين آخرين كما رأيت. لكن الخبر ليس بصحيح، أحال به أبو ريَّة على "تذكرة الحُفّاظ" (¬1) للذهبي و"جمع الجوامع" للسيوطي، ولم يذكر طعنهما فيه، ففي "التذكرة" عقبه: "فهذا لا يصح". [ص 25] وفي "كنز العمال" (5: 237) (¬2) - وهو ترتيب جمع الجوامع ومنه أخذ أبو رية -: "قال ابن كثير: هذا غريب من هذا الوجه جدًّا. وعلي بن صالح (أحد رجال سنده) لا يعرف". أقول: وفي السند غيره ممن فيه نظر. ثم وجَّهه ابنُ كثير على فرض صِحَّته. ¬

_ (¬1) (1/ 5). (¬2) (10/ 285 - ط الرسالة). وكلام ابن كثير في "مسند الصديق".

قال أبو ريَّة ص 24: (وروى حافظ المغرب ابن عبد البر والبيهقي في "المدخل" عن عروة: أن عمر أراد أن يكتب السنن فاستفتى أصحاب رسول الله في ذلك - ورواية البيهقي: فاستشار - فأشاروا عليه أن يكتبها، فطفق عمر يستخير الله شهرًا، ثم أصبح يومًا وقد عزم الله له فقال: إني كنت أريد أن أكتب السنن, وإني ذكرت قومًا كانوا قبلكم كتبوا كتبًا فأكبُّوا عليها وتركوا كتاب الله, وإني والله لا أشوب كتاب الله بشيء أبدًا. ورواية البيهقي: لا ألبس كتابَ الله بشيء أبدًا). أقول: وهذا وإن صح حجة لما قلناه، فلو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن كتابة الأحاديث مطلقًا لما هَمَّ بها عمر وأشار بها عليه الصحابة، فأما عُدُولُه عنها فلسبب آخر كما رأيت. لكن الخبر منقطع؛ لأن عروة لم يدرك عمر. فإن صحَّ فإنَّما كانت تلك الخشية في عهد عمر ثم زالت. وقد قال عروة نفسُه كما في ترجمته من "تهذيب التهذيب" (¬1): "وكنا نقول: لا نتخذ كتابًا مع كتاب الله، فمحوتُ كتبي. فوالله لودِدْتُ أن كتبي عندي، وإن كتاب الله قد استمرَّت مريرته". يعني قد استقرَّ أمره وعُلِمَتْ مزيته وتقرَّر في أذهان الناس أنه الأصل، والسنَّة بيان له. فزال ما كان يُخشى من أن يؤدّي وجود كتاب للحديث إلى أن يكبَّ الناس عليه، ويَدَعُوا القرآن. قال أبو ريَّة: (وعن يحيى بن جعدة أن عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنة، ثم بدا له أن لا يكتبها، ثم كتب إلى الأمصار: من كان عنده شيء فليمحه). أقول: وهذا منقطع أيضًا، يحيى بن جعدة لم يدرك عمر، وعروة أقدم منه وأعلم جدًّا، وزيادة يحيى منكرة، لو كتب عمر إلى الأمصار لاشتهر ¬

_ (¬1) (7/ 183)

ذلك، وعنده عليّ وصحيفته، وعند عبد الله بن عمرو صحيفة كبيرة مشهورة. قال أبو ريَّة: (وروى ابن سعد عن عبد الله بن العلاء قال: سألت القاسم بن محمَّد أن يملي عَلَيَّ أحاديث فقال: إن الأحاديث كثرت على عهد عمر بن الخطاب فأنشد الناس أن يأتوه بها، فلما أتوه بها أمر بتحريقها: مثناة كمثناة أهل الكتاب. قال: فمنعني القاسم بن محمَّد يومئذ أن أكتب حديثًا). أقول: وهذا منقطع أيضًا إنما ولد القاسم بعد وفاة عمر ببضع عشرة سنة. ثم ذكر خبر زيد بن ثابت - وقد مرَّ - ثم قال: (وعن جابر بن عبد الله بن يسار قال: سمعت عليًّا يخطب يقول: أَعْزِمُ على كلّ مَنْ عنده كتاب إلا رجع فمحاه، فإنما هلك الناس حين تتبعوا أحاديث علمائهم وتركوا كتاب ربهم). [ص 26] أقول: ذكره ابنُ عبد البر (¬1) من طريق شعبة عن جابر، ولم أجد لجابر بن عبد الله بن يسار ذكرًا، وقد استوعب صاحبُ "التهذيب" (¬2) مشايخَ شعبة في ترجمته، ولم يذكر فيهم من اسمه جابر إلا جابر بن يزيد الجُعْفي، فلعل الصواب "جابر عن عبد الله بن يسار" وجابر الجُعفي ممقوت كان يؤمن برجعة عليًّ إلى الدنيا، وقد كذَّبه جماعة في الحديث منهم أبو حنيفة، وصدَّقه بعضهم في الحديث خاصة بشرط أن يُصرَّح بالسماع. ولم يُصرَّحْ هنا. وعبد الله بن يسار لا يُعْرَف (¬3). ¬

_ (¬1) في "جامع بيان العلم": (1/ 272). (¬2) (4/ 338). والأمر كما ذكر المصنف "جابر عن عبد الله بن يسار" كما في الطبعة المحققة المحال إليها من كتاب ابن عبد البر. (¬3) ذكره البخاري في "التاريخ": (5/ 234)، وابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل": (5/ 202) ولم يذكراه بجرح أو تعديل.

وقد كان عند عليّ نفسه صحيفة فيها أحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما مرَّ. فإنْ صحَّتْ هذه الحكاية فإنما قال: "أحاديث علمائهم" ولم يقل: "أحاديث أنبيائهم". وكلمة "حديث" بمعنى "كلام"، واشتهارها فيما كان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - اصطلاح متأخر. وقد كان بعضُ الناس يثبتون كلام عليٍّ في حياته، وفي مقدمة "صحيح مسلم" (¬1) عن ابن عباس ما يُعلَم منه أنه كان عنده كتاب فيه قضايا عليّ، منها ما عرفه ابن عباس ومنها ما أنكره، ولفظه: "فدعا بقضاء عليّ فجعل يكتب منه أشياء، ويمرّ به الشيء فيقول: والله ما قضى بهذا عليّ إلا أن يكون ضلَّ. ثم ذَكَر عن طاووس قال: "أُتيَ ابنُ عباس بكتاب فيه قضاء عليّ ... ". فإن صحّت هذه الحكاية (¬2) فكأنّ بعض الناس كتب شيئًا من كلام عليّ أو غيره من العلماء، فتناقله الناس، فبلغ عليًّا ذلك فقال ما قال. قال أبو ريَّة: (وعن الأسود بن هلال قال: أُتِيَ عبد الله بن مسعود بصحيفة فيها حديث فدعا بماء فمحاها ثم غسلها ثم أمر بها فأحرقت ثم قال: أُذَكَّر اللهَ رَجُلًا يعلمها عند أحد إلا أعلمني به، والله لو أعلم أنها بديرِ هِنْد لبلغتُها. بهذا هلك أهل الكتاب قبلكم حين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون). أقول: روى الدارميّ (¬3) هذه القصة من وجه آخر "عن الأشعت [بن أبي الشعثاء سليم بن أسود] عن أبيه - وكان من أصحاب عبد الله - قال: رأيت مع رجل صحيفة فيها: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. فقلت ¬

_ (¬1) (1/ 13 - 14). (¬2) أي التي ذكرها أبو ريَّة وأخرجها ابن عبد البر. (¬3) (496). وأخرجه ابن أبي شيبة (26977).

له: أنسخنيها. فكأنه بَخِل بها، ثم وعدني أن يعطينيها، فأتيت عبد الله فإذا هي بين يديه، فقال: إن ما في هذا الكتاب بدعة وفتنة وضلالة ... أَقْسَم لو أنها ذُكِرت له بدار الهند (كذا) (¬1) - أراه يعني مكانًا بالكوفة بعيدًا - إلا أتيته ولو مشيًا". لا ريب أنه لم يكن في الصحيفة تلك الكلمات فقط وإلا لَمَا طلب استنساخَها؛ لأنه قد حفظها فيمكنه أن يكتبها إن شاء من حفظه. وعند الدارميّ (¬2) قصة أخرى تُفَسِّر لنا هذه، ذكرها في باب كراهية أخذ الرأي، وفيها: إن قومًا تحلَّقوا في المسجد "في كلِّ حَلْقة رجل وفي أيديهم حصى، فيقول: كَبّروا مائة، فيكبرون. فيقول: هللوا مائة فيهللون ... " وذَكَر إنكار ابن مسعود عليهم. فكأنه [ص 27] كان في تلك الصحيفة وصف طريقة للذكر بتلك الكلمات ونحوها بعددٍ مخصوص وهيأةٍ مخصوصة، كما يبيّنه قول ابن مسعود: "إن ما في الكتاب بدعة وفتنة وضلالة". وقد ذكر الدارميّ (¬3) رواية أخرى في صحيفة جيء بها من الشام فمحاها ابن مسعود. وفيها: "فقال مُرّة [ابن شراحيل الهَمْداني أحد كبار أصحاب ابن مسعود]: أما إنه لو كان من القرآن أو السنة لم يمحه، ولكن كان من كتب أهل الكتاب". ثم قال أبو ريَّة ص 25: (وهناك غير ذلك أخبار كثيرة ...). ¬

_ (¬1) كذا كَتب المؤلف استشكالًا للكلمة. والذي في طبعة دار المغني - تحقيق حسين أسد: "بدَيْرٍ لهندٍ" وهو الصواب، و"دير هند" يطلق على عدة أماكن. انظر "معجم البلدان": (2/ 541). (¬2) (210). (¬3) (494).

أقول: ذكر ابن عبد البر (¬1) عن مالك: "أن عمر أراد أن يكتب الأحاديث أو كتبها ثم قال: لا كتاب مع كتاب الله". وهذا معضل، وقد مرَّت رواية عروة عن عمر وبيان وجهها. وذكر عن أبي بُردة بن أبي موسى أنه كتب من حديث أبيه، فعَلِمَه أبوه فدعا بالكتاب فمحاه. وقد أخرج الدارميّ نحوه ثم أخرج عن أبي بُردة عن أبيه: "أن بني إسرائيل كتبوا كتابًا فتَبِعوه وتركوا التوراة" وهذا كما مرَّ عن عمر. وذَكَر عن أبي نضرة قال: "قيل لأبي سعيد [الخدري]: لو أَكْتَبتنا الحديثَ فقال: لا نُكْتِبكُم، خذوا عنّا كما أخذنا عن نبينا - صلى الله عليه وسلم -. ثم ذكره من وَجْهٍ آخر في سنده مَنْ لم أعرفه وفيه: "أتريدون أن تجعلوها مصاحف". ثم من وَجْهٍ ثالث بنحوه. وهذا من أبي سعيد بمعنى ما مرَّ عن عمر وأبي موسى. وذَكَر عن سعيد بن جبير قال: "كنا نختلف في أشياء، فكتبتها في كتاب، ثم أتيتُ بها ابن عمر أسأله عنها خفيًّا، فلو عَلِم بها كانت الفيصل بيني وبينه". وفي رواية: "كتب إليَّ أهل الكوفة مسائل ألقى بها ابن عمر، فلقيته فسألته عن الكتاب، ولو علم أن معي كتابًا لكانت الفيصل بيني وبينه". وهذا ليس مما نحن فيه إنما هو باب كراهية الصحابة أن تُكْتب فتاواهم وما يقولونه برأيهم. وذَكَر عن ابن عباس أنه قال: "إنا لا نَكْتُبُ العلم ولا نُكْتِبه". وقد ذَكَر (¬2) ¬

_ (¬1) انظر هذه الآثار وغيرها في "جامع بيان العلم": (1/ 272 - 283). (¬2) أي ابن عبد البر في "الجامع": (1/ 316).

عن هارون بن عنترة عن أبيه: أن ابن عباس أرْخَصَ له أن يكتب. هذا وقد أخرج الدارميّ (¬1) بسند رجاله ثقات عن أنس أنه كان يقول لبنيه: "يا بَنِيَّ قيّدوا هذا العلم"، وذكره ابن عبد البر (¬2) ولفظه: "قيّدوا العلم بالكتاب" ورُوي هذا من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -, ومن قول عمر، ومن قول ابن عمر، وإنما يصح من قول أنس رضي الله عنه. وروى الدارميّ وابن عبد البر (¬3) وغيرهما بسند حسن: أن أبا أمامة الباهلي رضي الله عنه سئل عن كتاب العلم فقال: لا بأس به. وأخرج الدارميّ (¬4) وغيره بسند رجاله ثقات عن بشير بن نَهِيك - وهو ثقة - قال: "كنت أكتب ما أسمع من [ص 28] أبي هريرة، فلما أردت أن أفارقه أتيته بكتابه فقرأته عليه وقلت له: هذا ما سمعت منك؟ قال: نعم". فالحاصل أن ما رُوي عن عمر وأبي موسى من الكراهة إنما كان - كما صرَّحا به - خشية أن يكبَّ الناسُ على الكتب ويَدَعُوا القرآن، وأما من عاش بعدهما من الصحابة فمنهم أبو سعيد بقي على الامتناع، ومنهم ابن عباس امتنع ورخَّص. ومنهم من رأى أنه قد زال المانع كما قال عروة الراوي امتناع عمر: "إن كتاب الله قد استمرَّت مريرتُه" وقد مرَّ ذلك، ورأوا أن الحاجة إلى الكتابة قد قويت؛ لأن الصحابة قد قَلُّوا، وبقاءُ الأحاديث تتناقل بالسماع والحفظ فقط لا يُؤْمَنُ معه الخلل، فرأوا للناس الكتابة. كما مرَّ عن ¬

_ (¬1) (508). (¬2) "الجامع": (1/ 316). (¬3) "المسند" (510)، و"الجامع": (1/ 317). (¬4) (511) وهو عند ابن عبد البر: (1/ 313) وغيره.

أبي هريرة وأبي أمامة وأنس رضي الله عنهم. وأما التابعون فغلبت فيهم الكتابة إلا أن مَنْ كان ذا حافظة نادرة كالشعبيّ والزهريّ وقَتادة كانوا لا يرون إبقاء الكتب، لكن يكتب ما يسمع ثم يتحفّظه، فإذا أتقنه محاه. وأكثرهم كانت كتبه باقية عنده كسعيد بن جُبير والحسن البصري وعَبيدة السلماني ومُرَّة الهَمْداني وأبي قِلابة الجرمي وأبي المليح وبشير بن نهيك وأيوب السختياني ومعاوية بن قُرّة ورجاء بن حَيْوَة وغيرهم (¬1). ثم قال أبو ريَّة ص 25: (ولئن كانت هناك بعض أحاديث رويت في الرخصة بكتابة الأحاديث فإن أحاديث النهي أصح، بَلْهَ ما جرى عليه العمل في عهد الصحابة والتابعين). أقول: قد علمتَ أنه ليس في النهي غير حديثين أحدهما متفق على ضعفه، وهو المروي عن زيد بن ثابت، والثاني مختَلَف في صحته وهو حديث أبي سعيد، فأما أحاديث الإذن فلو لم يكن منها إلا حديث أبي هريرة في الإذن لعبد الله بن عَمرو لكان أصحَّ مما جاء في النهي. أما الصحابة والتابعون فقد تقدم ويأتي ما فيه كفاية. ثم نقل أبو ريَّة ص 25 - 27 عن "مجلة المنار" كلامًا بدأ فيه بمحاولة الجمع بين حديث النهي وقصة "اكتبوا لأبي شاه" بأنّ ما أمر بكتابته لأبي شاه مِنَ الدِّين العام، وأنَّ النهيَ كان عن كتابة سائر الأحاديث التي هي من الدين الخاص. ¬

_ (¬1) مقتبس من كتاب العلم لابن عبد البر، وسنن الدارمي، وغيرهما. [المؤلف].

أقول: نظرية "دين عام ودين خاص" مردودة عليه، وقد تقدمت الإشارة إليها (ص 15) (¬1). وحديث الإذن لعبد الله بن عَمرو قاطعٌ لشَغَبه البتة. قال صاحب "المنار": "ولنا أن نستدلّ على كون النهي هو المتأخر بأمرين، أحدهما: استدلال من روي عنهم من الصحابة الامتناع عن الكتابة ومنعها بالنهي عنها وذلك بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -". أقول: لم يثبت استدلال أحد منهم بنهي النبي - صلى الله عليه وسلم -، فالمرويّ عن زيد بن ثابت متفق على ضعفه، [ص 29] وعن أبي سعيد روايتان: إحداهما فيها الرفع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يذكر فيها امتناع أبي سعيد. ونحن لم نقل في هذا: إنه منسوخ، إنما قلنا: إنه إما خطأ والصواب عن أبي سعيد من قوله، كما قال البخاري وغيره، وإما محمول على أمر خاص تقدَّم بيانه. وثانيتهما: رواية أبي نضرة عن أبي سعيد امتناعه هو، وليس فيها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى. وقد بقيت صحيفةُ عليّ عندَه إلى زمن خلافته، وكذلك بقيت صحيفة عبد الله بن عَمرو عنده ثُمَّ عند أولاده كما مرَّ (¬2)، فلو كان هناك نَسْخ لكان بقاء الصحيفتين دليلًا واضحًا جدًّا على أنَّ الإذن هو المتأخِّر، وتقدّم أن عمر عزم على الكتابة وأشار عليه الصحابة بها، ثم تركها لمعنى آخر، ولم يذكروا نهيًا كان من النبي - صلى الله عليه وسلم -, وذلك صريح فيما قلنا. وقد أجاز الكتابة من الصحابة: عبد الله بن عَمرو وأبو هريرة وأبو أمامة وأنس رضي الله عنهم، وروى هارون بن عنترة عن أبيه، أن ابن عباس رخَّص فيها (¬3)، ثم أجمعت عليها الأمة. ¬

_ (¬1) (ص 31 - 33) من هذه الطبعة. (¬2) (ص 47). (¬3) سبق ذكر هذه الأخبار وتخريجها (ص 47 - فما بعدها).

قال ص 26: (وثانيهما عدم تدوين الصحابة الحديث ونشره). أقول: أما النشر فقد نشروه بحمد الله تعالى، وبذلك بَلَغنا. وأما التدوين فيعني به الجمع في كتاب كما جمعوا القرآن، فاعلم أن الله تبارك وتعالى تكفَّل بحفظ القرآن وبيانِه وهو السُّنة كما مرَّ (¬1)، وما تكفَّل الله بحفظه فلا بدّ أن يُحفظ. وقد علمنا من دين الله أنّ على عباده مع إيمانهم بحفظ ما تكفَّل بحفظه أن يعملوا ما من شأنه في العادة حفظ ذاك الشيء، وأنه لا تنافي بين الأمرين. وفي "جامع الترمذي" و"المستدرك" (¬2) وغيرها عن أبي خُزامة عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله أرأيت رقًى نسترقي بها، ودواء نتداوى به، وتُقَاة نتَّقيها هل تَردُّ من قَدَر الله شيئًا؟ قال: "هو من قَدَر الله". فأما القرآن فأمروا بحفظه بطريقين: الأولى: حفظ الصدور، وعليها كان اعتمادهم في الغالب. الثانية: بالكتابة فكان يُكْتَب في العهد النبوي في قطع صغيرة من جريد النخل وغيرها، فلما غزا المسلمون اليمامة بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بقليل استحرَّ القتل بالقُرَّاء قبل أن يأخذ عنهم التابعون، فكان ذلك مظنَّة نقص في الطريق الأولى، فرأى عمر المبادرة إلى تعويض ذلك بتكميل الطريق الثانية، فأشار على أبي بكر بجمع القرآن في صحف، فنفر منها أبو بكر وقال: "كيف نفعل ما لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"؟ فقال عمر: "هو والله خير" (¬3). ¬

_ (¬1) (ص 42 - 43). (¬2) الترمذي (2148)، والحاكم: (1/ 32). وأخرجه أحمد (15472)، وابن ماجه (3437). وفيه ضعف راجع حاشية المسند: (24/ 217). (¬3) أخرجه البخاري (7191).

يريد أنه عملٌ يتمّ به مقصود الشرع من حفظ القرآن، وعدمُ فعل النبيّ - صلى الله عليه وسلم - له إنما كان لعدم تحقق المقتضي وقد تحقق، ولا يترتب على الجمع محذور، فهو خيرٌ محض. فجُمِع القرآن في صحف بقيت عند أبي بكر، ثم عند عمر، ثم عند ابنته حفصة [ص30] أم المؤمنين، حتى طلبها عثمان في خلافته وكتب المصاحف. ومعنى هذا أنه طول تلك المدة التي (¬1) لم تَبْدُ حاجة إلى تلك الصحف بل بقي القُرَّاء يُبلِّغون القرآن من صدورهم، ومنهم مَن كتب مِن صدره مصحفًا لنفسه، فلما كان في زمن عثمان احتيج إلى تلك الصحف لاختيار الوجه الذي دعت الحاجة إلى قصر الناس على القراءة به دون غيره، وكتب عثمانُ بضعة مصاحف وبعث بها إلى الأمصار لا لتبليغ القرآن بل لمنع أن يقرأ أحد بخلاف ما فيها. هذا شأن القرآن. فأما السُّنة فمخالفةٌ لذلك في أمور: الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يُعْنَ بكتابتها بل اكتفى بحفظهم في صدورهم وتبليغهم منها، أي بنحو الطريق الأولى في القرآن. الثاني: أنها كانت منتشرة لا يمكن جمعها كلها بيقين. الثالث: أنه لم يتفق لها في عهد الصحابة ما اتفق للقرآن؛ إذ استحرَّ القتل بحُفَّاظه من الصحابة قبل أن يتلقَّاه التابعون، فإن الصحابة كانوا كثيرًا ولم يتفق أن استحرَّ القتل بحُفَّاظ السُّنة منهم قبل تلقي التابعين. ¬

_ (¬1) كذا في (ط)، فإن كانت هكذا عند المؤلف فلعل العبارة "التي لم تبدُ [فيها] حاجة .. ".

الرابع: أنهم كانوا إذا هموا بجمعها رأوا أنه لن يكون كما قال عمر في جمع القرآن: "هو والله خير" أي خير محض لا يترتَّب عليه محذور. كانوا يرون أنه يصعب جمعها كلها، وإذا جمعوا ما أمكنهم خشوا أن يكون ذلك سببًا لردِّ مَنْ بعدهم ما فاتهم منها وقد مرَّ (ص 24) (¬1) عن أبي بكر في سبب تحريقه ما كان جَمَعه منها "أو يكون قد بقي حديث لم أجده فيقال: لو كان قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما خفي على أبي بكر". وخشوا أيضًا مِنْ جمعها في الكتب قبل استحكام أمر القرآن أن يُقْبِلَ الناس على تلك الكتب ويَدَعوا القرآن لِمَا مرَّ (ص 25) (¬2) عن عُمَر و (ص 27) (¬3) عن أبي موسى، فلذلك رأوا أن يكتفوا بنشرها بطريق الرواية ويَكِلُوها إلى حفظ الله تعالى الذي يؤمنون به. ثم ذكر ص 26 أشياء قد تقدم الجواب عنها، ثم قال: (وكون التابعين لم يدوّنوا الحديث إلا بأمر الأمراء). أقول: وجمع القرآن إنما كان بأمر الأمراء: أبي بكر وعمر وعثمان. فإن قيل: هم أمراء المؤمنين وأئمة في العلم وأئمة في التقوى، قلنا: فعمر بن عبد العزيز كذلك في هذا كله، وهو الآمر بالتدوين، وتبعه الخلفاء بعده. قال: (يؤيد ما ورد مِنْ أنهم كانوا [قبل ذلك] يكتبون الشيء لأجل حفظه ثم يمحونه). أقول: هذه حال بعضهم، وقد تقدم (ص 27 - 28) (¬4) أن جماعةً كانوا ¬

_ (¬1) (ص 48). (¬2) (ص 49 - 50). (¬3) (ص 52 - 53). (¬4) (ص 52 - 55).

يكتبون ويُبْقُون كتبهم. قال: (وإذا أضفت إلى هذا ما ورد في عدم رغبة كبار الصحابة في التحديث بل في رغبتهم عنه). أقول: سيأتي رد هذا مفصّلًا. والتحقيق أنَّ بعض كبار الصحابة يرون أن تبليغ الأحاديث إنما يتعين [ص 31] عند وقت الحاجة، ويرون أنهم إذا بلَّغوا بدون حضور حاجة فقد يكون منهم خطأ ما قد يؤاخذون به، بخلاف ما إذا بلَّغوا عند حضور الحاجة فإنَّ ذلك متعيّن عليهم، فإما أن يحفظهم الله تعالى من الخطأ، وإما أن لا يؤاخذهم. ولهذا رُويت الأحاديث عنهم كلهم، ولم يُنْقَل عن أحدٍ منهم أنه كان عنده حديث فتحققت الحاجة إلى العمل به فلم يحدّث به. وكان جماعة آخرون من الصحابة يُحدّثون وإن لم تتحقق حاجة، يرون أن التبليغ قبل وقت الحاجة مُرغَّب فيه، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "حدِّثوا عَنّي ولا حَرَج" (¬1) وغير ذلك من الأدلة الداعية إلى نشر العلم وتبليغ السُّنة. ولكلٍّ وجهة، وكلّهم على خير. على أنه لما قَلَّ الصحابة رجحت كِفّة الفريق الثاني. قال: (بل في نهيهم عنه). أقول: لم ينهوا، وكيف ينهون وما من أحد منهم إلا وقد حدَّث بعدد من الأحاديث، أو سأل عنها، وإنما جاء عن عمر أنه نهى عن الإكثار، ومرجع ذلك إلى أمرين: الأول: استحباب أن لا يكون التحديث إلا عند حضور ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (3004) من حديث أبي سعيد الخدري.

الحاجة. الثاني: ما صرَّح به من إيثار أن لا يشغل الناس - يعني بسماع الأحاديث دون حضور حاجة - عن القرآن. وجاء عنه كما يأتي: "أقلُّوا الرواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا فيما يعمل به". و"العمل" في كلامه مطلق، يعمُّ العبادات والمعاملات والآداب، لا كما يهوى أبو رية. قال: (قويَ عندك ترجيح كونهم لم يريدوا أن يجعلوا الأحاديث (كلها) دينًا عامًّا دائمًا كالقرآن). أقول: هذه نظريته القائلة: "دين عام ودين خاص" والذي يظهر من كلماته أن الدين العام الدائم هو الدين الحقيقي اللازم، وأنه كما عبَّر عنه فيما مضى (ص 15) (¬1) "المتفق عليه". وعلى هذا فمقصوده أن ما ذكر هنا يقوى عند مخاطبه أنَّ الصحابة كانوا لا يوجبون العمل بالأحاديث الثابتة عندهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا قدرًا يسيرًا هو الذي اتفقوا ووافقهم بقية الأمة بعدهم على العمل به، وأن ما زاد على ذلك فالأمر فيه على الاختيار: مَنْ شاء أخذ، ومَنْ شاء ترك. بل إنهم كانوا يرون من الخير إماتة تلك الأحاديث! فإن كان هذا مراده فبطلانه معلوم من الدين قطعًا. وحسبك أنه لم يجد أحدًا من علماء الأمة يَنْسب إليه هذا القول بحق أو باطل سوى ما مرّ (ص 15) (¬2) مِنْ نِسْبته أو نحوه إلى الغزالي، وقدّمنا بيان بطلان تلك النسبة. هذا ونصوص الكتاب والسنة، والمتواتر عن الصحابة، وإجماع علماء الأمة، كلّ ذلك يُبْطل قولَه هذا قطعًا. ¬

_ (¬1) (ص 31) من هذه الطبعة. (¬2) (ص 31).

على أن نظريته هذه لا تقتصر على إهمال الأحاديث الصحيحة, بل تتضمن كما تقدم (ص 15) إهمال دلالات القرآن [ص 32] التي نقل ما يخالفها عن بعض من نُسِب إلى العلم ولو واحدًا فقط. فعلى زعمه دلالاتُ القرآن الظاهرة والأحاديث الصحيحة, ولو رواها عدد من الصحابة، لا يلزم المسلم أن يعمل بشيء منها قد نُقِل عن منسوبٍ إلى العلم ما يخالفه، وإن كان الجمهور على وَفْق ذلك الدليل. كأنَّ عنده أن العالم إن خالف الدليل فهو معصوم من أن يغلط أو يغفل أو يزلّ أو يضلّ، وإن وافق الدليل فليس بمعصوم. هذا حكمهم غير متفقين، فأما إذا اتفقوا فهم معصومون إلا في مخالفتهم لنظريته (¬1) هذه. قال: (ولو كانوا فهموا من النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك لكتبوا أو لأمروا بالكتابة، ولجمع الراشدون ما كتب وضبطوا ما وَثِقُوا به، ولم يكتفوا بالقرآن والسنة المتَّبَعَة المعروفة للجمهور بجريان العلم بها). أقول: قد بيَّنّا أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لم يكتب مصحفًا، وأن أبا بكر وعمر وعثمان - مدة من ولايته - لم يكتبوا إلا مصحفًا واحدًا بقي عندهم لا يكاد يصل إليه أحد، فما بالك بالإرسال إلى العمّال، وإن عثمان إنما كتب وبعث بضعة مصاحف إلى بعض الأقطار لمنع الناس من القراءة بخلاف ما فيها، وقد علمنا أنه لم يحفظ القرآنَ كلَّه في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا نفر يسير، أربعة أو نحوهم، وذكر ابنُ سعد (¬2) وغيره أن أبا بكر وعمر ماتا قبل أن يحفظا القرآن كله. وقد بعث النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ثم أبو بكر ثم عمر جماعةً من العمال لم يحفظ كلّ ¬

_ (¬1) (ط): "النظرية". (¬2) "الطبقات": (3/ 193، 275) عن محمد بن سيرين. وفيه نظر. راجع "فتح الباري": (9/ 51 - 52).

منهم القرآن كلَّه ولا كان عنده مصحف، فهل يقال لهذا: إن القرآن لم يكن حينئذ مِن الدَّين العام؟ نعم كان العامل يحفظ طائفةً من القرآن ويعلم جملةً من السُّنة، فكان يبلَّغ هذا وهذا. ومن عرف وضع الشريعة عرف الحقيقة: إن وضع الشريعة عدم الإعنات، وتوجيه معظم العناية إلى التقوى. كان كثير من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - هاجروا من مكة إلى الحبشة، ونزل بعدهم قرآن وأحكام، وجُعِلت كلّ من الظهر والعصر والعشاء أربعًا بعد أن كانت ركعتين، وحُوِّلت القبلة وغير ذلك، فلم يُنْقَل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان عَقِب تجدُّد حكمٍ من هذه وغيرها يبعث رسلًا إلى مَنْ بالحبشة أو إلى غيرهم ممن بَعُدَ عنه يبلَّغهم ذلك، بل كان يَدَعهم على ما عرفوا حتى يبلغهم ما تجدّد اتفاقًا. وجاء أنه صلى الظهر إلى الكعبة أول ما صلى إليها، فخرج ممن كان معه لحاجته فمرَّ وقتَ العصر ببني حارثة - وهم في بعض أطراف المدينة - وهم يصلون العصر إلى بيت المقدس، فأخبرهم فاستداروا إلى الكعبة فأتموا صلاتهم. وهكذا تحريم الكلام في الصلاة وتحريم الخمر. ومن المتفق عليه - فيما أعلم - أنه ليس واجبًا على الأعيان [ص 33] حفظ القرآن سوى الفاتحة، ولا تعلُّمُ القراءة والكتابة واتِّخاذ مصحف، ولا يجب على الرجل أن يتعلَّم الفريضة إلا قُرْب العمل بها. وإنما الواجب أن يكون في الأمة علماء، ثم على العامي أن يسأل عالمًا ويعمل بفتواه، وكان في عهد النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه يُكْتَفَى في العامل أن يكون - مع حفظه لما شاء الله من القرآن - عارفًا بطائفة حَسَنة من السُّنة، ثم يقال له: إذا لم تجد الحكم في الكتاب والسنة فاسأل مَنْ ترجو أن يكون عنده علم، فإن لم تجد فاجتهد

رأيك. وقد كان أبو بكر وعمر إذا لم يجدا الحكم في الكتاب ولا فيما يعلمانه من السنة سألا الصحابة، فإذا أُخْبِرا بحديث أخذا به، وربما أخبرهما مَنْ هو دونهما في العلم والفضل بكثير. وترى في "رسالة الشافعي" (¬1) عدة قضايا لعمر من هذا القبيل. وإذ كان الواجب على الأمة أن يكون فيها علماء كلّ منهم عارفٌ بالقرآن، عارفٌ بجملة حسنة من السُّنة، ليعمل ويُفْتي ويَقْضي بما علم، ويسأل من تيسَّر له من العلماء عما لم يعلم فإن لم يجد اجتهد، فقد كان الصحابة يعلمون أن منهم عددًا كثيرًا هكذا، وأن من تابعيهم عددًا كثيرًا كذلك لا يزالون في ازدياد، وأن حال مَنْ بعدهم سيكون كذلك، وأن القرآن والسنة موجودان بتمامهما عند أولئك العلماء، ما فات أحدهم منهما فموجود عند غيره= رأوا أن هذا كافٍ في أداء الواجب عليهم، مع الإيمان التام بأن الله تعالى حافظ لشريعته، نَعَمْ فكَّروا في الاحتياط لجمع السُّنة فعَرَض لهم خشيةُ أن يؤدي ذلك إلى محذور كما مرَّ فكفُّوا عنه، مكتفين بما ظهر لهم من حرص المسلمين، وما آمنوا به من حفظ رب العالمين. وغاية ما يُخْشى بعد هذا أن يجهلَ العالمُ شيئًا من السُّنة ولا يتيسر له مَنْ يُخْبِره بها فيجتهد فيخطئ. وهذا في نظر الشرع ليس بمحذور كما عُلِم مما مرَّ في حال مَن كان مِن المسلمين بعيدًا عن المدينة، إذ بقوا مدّة يصلُّون الرباعية ركعتين، ويتكلمون في الصلاة، ويصلون إلى بيت المقدس، ويستحلُّون الخمر بعد نزول الأحكام المخالفة لذلك حتى بَلَغَتْهُمْ. وكما أذن الله تعالى أن يبني المسلم ¬

_ (¬1) (ص 425 - 431).

على ظنه، وإن اتفق له أن ينكح أخته وهو لا يدري، وأن يقتل مسلمًا يحسبه كافرًا، وأن يأكل لحمًا يظنه حلالًا فبان لحم خنزير ميت وغير ذلك. إنما المحذور أن تدع الدليلَ الشرعيَّ عمدًا اتباعًا منك لقول عالم قد يجهل ويذهل ويغفل ويغلط ويزل. وأشدُّ من ذلك وأضرّ وأدهى وأمرّ ما يقول صاحب تلك النظرية: إن الدليل الشرعي إذا وُجِد قولٌ لعالم يخالفه ينزل بذلك عن الدين العام اللازم إلى الدين الخاص الاختياري، من شاء أخذ ومن شاء ترك. [ص 34] ومن خالف كلَّ دليلٍ من هذا القبيل مع علمه بها وعَقْله لها، واقتصر على ما لم يخالفه أحد "كان مسلمًا ناجيًا في الآخرة مقرّبًا عند الله تعالى" كما تقدم عنه (ص 16) (¬1)، فهذا هو المحذور عند من يعقل. قال: (وبهذا يسقط قول من قال: إن الصحابة كانوا يكتفون في نشر الحديث بالرواية). أقول: قد عرفت الحقيقة ولله الحمد، وعرفت ما هو الساقط. قال: (وإذا أضفتَ إلى ذلك حكم عمر بن الخطاب على أعيان (¬2) الصحابة بما يخالف بعض تلك الأحاديث). أقول: كان عليه أن يبينها، فإن كان يريد مطاعن الرافضة في أمير المؤمنين عمر فجوابها في "منهاج السُنَّة" وغيره، ويكفينا هنا أن نسأله: هل عَلِمْتَ عُمَرَ ثبت عنده حديث فتركه لغير حُجَّة قائلًا: لا يلزمنا الأخذ بالأحاديث؟ ¬

_ (¬1) (ص 33 - 34). (¬2) (ط) وكتاب أبي ريَّة: "أعين" والصواب ما أثبت.

قال: (ثم ما جرى عليه علماء الأمصار في القرن الأول والثاني من اكتفاء الواحد منهم كأبي حنيفة بما بلغه ووثق به من الحديث وإن قلَّ، وعدم تعنِّيه في جمع غيره إليه ليفهم دينه ويبين أحكامه). أقول: لزم أبو حنيفة حمّادَ بن أبي سليمان يأخذ عنه مدة، وكان حماد كثير الحديث، ثم أخذ عن عدد كثير غيره كما تراه في مناقبه، وقِلَّة الأحاديث المروية عنه لا تدلُّ على قلَّة ما عنده، ذلك أنه لم يتصدَّ للرواية. وقد قَدَّمْنا أن العالم لا يُكَلَّفُ جمع السُّنَّة كلها، بل إذا كان عارفًا بالقرآن وعنده طائفة صالحة من السنة بحيث يغلب على اجتهاده الصواب = كان له أن يُفْتِي، وإذا عَرَضَت قضية لم يجدها في الكتاب والسُّنَّة سأل مَنْ عنده علم بالسنة، فإن لم يجد اجتهد رأيه. وكذلك كان أبو حنيفة يفعل، وكان عنده في حَلْقته جماعة من المكثرين في الحديث، كمِسْعَر وحبّان ومِنْدَل، والأحاديث التي ذكروا أنه خالفها قليلة بالنسبة إلى ما وافقه، وما من حديث خالفه إلا وله عذر لا يخرج إن شاء الله عن أعذار العلماء، ولم يدَّع هو العصمةَ لنفسِه ولا ادَّعاها له أحد، وقد خالفه كبارُ أصحابه في كثير من أقواله، وكان جماعة من علماء عصره ومَنْ قَرُب منه يُنفَّرون عنه وعن بعض أقواله. فإنْ فُرِضَ أنه خالف أحاديث صحيحة بغير حجَّة بيِّنة فليس معنى ذلك أنه زَعَم أن العمل بالأحاديث الصحيحة غير لازم، بل المتواتر عنه ما عليه غيره من أهل العلم أنها حجة، بل ذهب إلى أنَّ القهقهة في الصلاة تنقض الوضوء اتباعًا لحديث ضعيف (¬1)، ومن ثَمَّ ذَكَر أصحابه أنّ مِن أصله تقديم الحديث الضعيف - بَلْهَ الصحيح - على القياس. ¬

_ (¬1) وذكر ابن القيم في "إعلام الموقعين" [2: 55 - 58] مسائل أخرى لأبي حنيفة من هذا القبيل وكذلك لغيره. [المؤلف].

قال: (قوي عندك ذلك الترجيح). أقول: أما عند مَنْ يعرف دينه فهيهات. [ص 35] قال: (بل تجد الفقهاء بعد اتفاقهم على جَعْل الأحاديث أصلًا من أصول الأحكام الشرعية، وبعد تدوين الحُفَّاظ لها في الدواوين وبيان ما يُحْتَجُّ به وما لا يحتجّ به لم يتفقوا على تحرير الصحيح والاتفاق على العمل به. فهذه كتب الفقه في المذاهب المتبعة - ولا سيما كتب الحنفية فالمالكية فالشافعية - فيها مئات من المسائل المخالفة للأحاديث المتفق على صحتها, ولا يُعَدُّ أحد منهم مخالفًا لأصول الدين). أقول: أما ما اعترفت به من اتفاقهم على أن الأحاديث الصحيحة أصل من أصول الأحكام الشرعية، فحُجَّة عليك وعليهم مضافةً إلى سائر الحجج. وأما عدم اتفاقهم على تحرير الصحيح، وعدم اتفاقهم على العمل به، فإنما حاصله أنهم يختلفون في صحة بعض الأحاديث، وذلك قليل بالنسبة إلى ما اتفقوا عليه. ويتوقف بعضهم عن الأخذ ببعضها بدعوى أنه منسوخ أو مؤوَّل أو مرجوح. وليس في ذلك مخالفة للأصل الذي اتفقوا عليه. فإن قيل: منهم من يتعمَّد ردَّ الصحيح بدعوى ضعفه أو نسخه أو تأويله أو رُجحان غيره عليه، وهو يعلم أنه لا شيء من ذلك. قلنا: لنا الظاهر والله يتولى السرائر، على أنهم قد ترامَوا بهذا زمنًا طويلًا، وجَرَت فتنٌ وحروب، ثم ملُّوا فمالوا إلى التجامل وحسن الظن غالبًا. وعلى كل حال فلا متشَبَّث لك فيما ذكر، والفرق واضح بين من يستحلّ معلنًا قتل المؤمنين بغير حق، ومن يقول: قتل المؤمن حرام، ثم يتفق له أن يقتل مؤمنًا قائلاً: حَسِبْتُه كافرًا حربيًّا، وإن فرض دلالة القرائن على كذبه.

قال: (وقد أورد ابن القيم في "إعلام الموقعين" شواهد كثيرة جدًّا مِن ردّ الفقهاء للأحاديث الصحيحة عملًا بالقياس ولغير ذلك). أقول: القياس في الجملة دليل شرعيّ. وعلى كلِّ حال فلا متنفَّس لك في ذلك كما مرَّ. قال: (ومن أغربها أخذهم ببعض الحديث الواحد دون باقيه، وقد أورد لهذا أكثر من ستين شاهدًا). أقول: نصفٌ عليك، ونصف ليس لك. ثم ذكر أبو ريَّة ص 27 - 28 كلامًا قد تقدّم جوابه مستوفى ولله الحمد. ****

الصحابة ورواية الحديث

الصحابة ورواية الحديث [ص 36] ذكر أبو ريَّة ص 29 تحت هذا العنوان أن الصحابة (كانوا يرغبون عن رواية الحديث، وينهون عنها، وأنهم كان يتشدَّدون في قبول الأخبار تشديدًا قويًّا). أقول: دعوى عريضة، فما دليلها؟ قال: (روى الحافظ الذهبي في "تذكرة الحفاظ" قال: ومن مراسيل ابن أبي مُليكة: أن أبا بكر جمع الناس بعد وفاة نبيهم فقال: إنكم تُحدَّثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها والناس بعدكم أشدّ اختلافًا، فلا تُحدِّثوا عن رسول الله شيئًا، فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلّوا حلاله وحرّموا حرامه). أقول: قدَّم الذهبي في "التذكرة" (¬1) قول أبي بكر للجدَّة: "ما أجِدُ لكِ في كتاب الله شيئًا، وما علمتُ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر لك شيئًا، ثم سأل الناس ... الخ". فقضى بما أخبره المغيرة ومحمد بن مَسْلمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ثم ذكر الذهبي هذا الخبر، ولا ندري ما سنده إلى ابن أبي مُليكة، وبيَّنَ الذهبي أنه مرسل، أي منقطع؛ لأن ابن أبي مليكة لم يدرك أبا بكر ولا كاد، ومثل ذلك ليس بحجة؛ إذ لا يُدْرَى ممن سمعه. ومع ذلك قال الذهبي: "مراد الصِّدِّيق التثبُّت في الأخبار والتحرِّي، لا سدُّ بابِ الرواية ... ولم يقل: "حسبنا كتاب الله" كما تقوله الخوارج". أقول: المتواتر عن أبي بكر رضي الله عنه: أنه كان يدين بكتاب الله تعالى وسنة رسوله، وأَخَذَ بحديث: "لا نورث" مع ما يتراءى من مخالفته لظاهر القرآن، وأحاديثه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - موجودة في دواوين الإسلام، وقد استدل ¬

_ (¬1) (1/ 2 - 3).

أبو ريَّة (كما مرَّ ص 24) (¬1) بما رُوي أن أبا بكر كتب خمسمائة حديث، ثم أَتْلَفَ الصحيفة، وذكر مِمَّا يخشاه إن بقيت قوله: "أو يكون قد بقي حديث لم أجده فيقال: لو كان قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما خفي على أبي بكر". وقد ذكر أهل العلم أن أصول أحاديث الأحكام نحو خمسمائة حديث. انظر "إعلام الموقعين" (2: 342) (¬2). وفيه (1: 61) (¬3) "عن ابن سيرين قال ... وإن أبا بكر نزلت به قضية فلم يجد في كتاب الله منها أصلاً ولا في السنة أثرًا، فاجتهدَ رأيه ثم قال: هذا رأيي فإن كان صوابًا فمن الله ... ". وفيه (1: 70) (¬4) "عن (¬5) ميمون بن مهران قال: كان أبو بكر الصديق إذا ورد عليه حكم نظر في كتاب الله تعالى ... وإن لم يجد في كتاب الله نظر في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن وجد فيها ما يقضي به قضى به، فإن أعياه ذلك سأل الناس: هل علمتم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى فيه ... ". [ص 37] وفيه (3: 379) (¬6) "لا يُحْفَظ للصديق خلاف نصّ واحدٍ أبدًا". وفي "تاريخ الإسلام" للذهبي (1: 381) (¬7) في قصة طويلة عن أبي بكر: "وددت أني سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... وأني سألته عن العَمَّة ¬

_ (¬1) (ص 49). (¬2) (3/ 571). (¬3) (2/ 101). (¬4) (1/ 115). (¬5) (ط): "عين" خطأ. (¬6) (5/ 547). (¬7) (3/ 118 - ط تدمري).

وبنت الأخ فإن في نفسي منها حاجة". فإن كان لمرسل ابن أبي مليكة أصل فكونه عقب الوفاة النبوية يُشْعِر بأنه يتعلّق بأمر الخلافة، كأن الناس عقب البيعة بَقُوا يختلفون يقول أحدهم: أبو بكر أهلها؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: كَيت وكَيت. فيقول آخر: وفلان قد قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - كيت وكيت، فأحبَّ أبو بكر صَرْفهم عن الخوض في ذلك وتوجيهم إلى القرآن وفيه: {وَأَمْرُهُمْ شُوُرَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]. قال أبو ريَّة: (وروى ابن عساكر عن [إبراهيم بن] عبد الرحمن بن عوف قال: والله ما مات عمر بن الخطاب حتى بعث إلى أصحاب رسول الله فجمعهم من الآفاق: عبد الله بن حذيفة وأبا الدرداء وأبا ذر وعقبة بن عامر قال: ما هذه الأحاديث التي أفشيتم عن رسول الله في الآفاق؟ قالوا: تنهانا؟ قال: [لا]، أقيموا عندي، لا والله لا تفارقوني ما عشت، فنحن أعلم، نأخذ منكم ونرد عليكم، فما فارقوه حتى مات). أقول: أخذ أبو ريَّة هذا من "كنز العمال" (1: 239) (¬1) وأسقط منه ما أضفته بين حاجزين. وفي خطبة "كنز العمال" (1: 3) (¬2): إن كل ما عُزي فيه إلى "تاريخ ابن عساكر" فهو ضعيف. وعبد الله بن حذيفة غير معروف، إنما في الصحابة عبد الله بن حُذافة، وهو مُقِلٌّ جدًّا لا يثبت عنه حديث واحد، فلا يصلح لهذه القصة. وفي سماع إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف من عمر خلاف، والظاهر أنه لا يثبت (¬3). ثم إن هؤلاء النَّفَر لم يكونوا جميع ¬

_ (¬1) (10/ 292 - 293 - ط الرسالة). (¬2) (1/ 10). (¬3) انظر الخلاف فيه في كتاب: "التابعون الثقات المتكلّم في سماعهم من الصحابة": (1/ 69 - 75) للهاجري.

الصحابة، بل كان كثير جدًّا من الصحابة في الأمصار والأقطار يُحدِّثون. قال أبو ريَّة: (وفي رواية ابن حزم في "الأحكام" أنه حبس ابن مسعود وأبا موسى وأبا الدرداء في المدينة على الإكثار من الحديث). أقول: هذا في "أحكام ابن حزم" (2: 39)، وتعقّبه بقوله: "مرسل ومشكوك فيه ... ثم هو في نفسه ظاهر الكذب والتوليد .. " وسيأتي الكلام في الإكثار. قال ص 30: (وروى ابن عساكر عن السائب بن يزيد قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول لأبي هريرة: لتتركنَّ الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو لألحقنَّك بأرض دوس. وقال لكعب الأحبار: لتتركن الحديث [عن الأُوَل] أو لألحقنَّك بأرض القردة). [ص 38] أقول: قد علمت حال "تاريخ ابن عساكر"، وقد أعاد أبو ريَّة هذا الخبر ص 163 ويأتي الكلام عليه هناك وبيان سقوطه. وأسقط أبو ريَّة هنا كلمة "عن الأُوَل" (¬1) لغرضٍ خبيث، وصنع مثل ذلك ص 115 وص 126، وفعل ص 163 فعلة أخرى، ويأتي شرح ذلك في الكلام عليها إن شاء الله. قال: (وكذلك فعل معهما عثمان بن عفان). أقول: لم يعزه، ولم أجده. قال: (وروى ابن سعد وابن عساكر عن محمود بن لبيد (¬2) قال: سمعت عثمان بن عفان على المنبر يقول: لا يحلّ لأحد يروي حديثًا لم يسمع به في عهد أبي بكر ولا عهد عمر، فإنه لم يمنعني أن أُحدِّث عن رسول الله أن لا أكون أوعى أصحابه, إلا أني سمعته يقول: من قال عليَّ ما لم أقل فقد تبوأ مقعده من النار). ¬

_ (¬1) أضافها أبو ريَّة في الطبعات اللاحقة. (¬2) تحرف على أبي ريَّة بلفظ "محمود بن عبيد" ولم ينبه على تصحيحه. [المؤلف]. أقول: وقد صححه أبو ريَّة في الطبعات اللاحقة.

أقول: هو عند ابن سعد (¬1) عقب السيرة النبوية في باب "ذِكْر من كان يُفْتي بالمدينة" رواه ابن سعد عن محمَّد بن عمر الأسلمي وهو الواقدي أحد المشهورين بالكذب، وكأَنَّ ابن عساكر رواه من طريقه (¬2)، وحال "تاريخ ابن عساكر" قد مرَّ، وأحاديث عثمان ثابتة في أمهات الحديث كلها, ولم يزل يُحدِّث حتى قُتِل. قال: (وفي "جامع بيان العلم" ... عن الشعبي عن قُرظة بن كعب قال: خرجنا نريد العراق، فمشى معنا عمر إلى صرار ثم قال لنا: أتدرون لم مشيت معكم؟ قلنا: أردت أن تشيّعنا وتكرمنا، قال: إن مع ذلك لحاجة خرجتُ لها، إنكم لتأتون بلدة لأهلها دويّ كدويّ النحل، فلا تصدُّوهم بالأحاديث عن رسول الله وأنا شريككم. قال قرظة: فما حدثت بعده حديثًا عن رسول الله ... وفي رواية أخرى: إنكم تأتون أهل قرية لها دويّ بالقرآن كدويّ النحل، فلا تصدّوهم بالأحاديث لتشغلوهم، جرّدوا القرآن، وأقلّوا الرواية عن رسول الله. وفي "الأم" للشافعي ... فلما قدم قرظة قالوا: حدِّثنا. قال: نهانا عمر). أقول: اخْتُلِف في وفاة قرظة والأكثرون أنها كانت في خلافة عليّ، ووقع في "صحيح مسلم" (¬3) في رواية ما يدلّ أنه تأخر بعد ذلك ولعلها خطأ. وسماع الشعبي منه غير متحقق، وقد جزم ابن حزم في "الأحكام" (2: 138) بأنه لم يلقه، وردَّ هذا الخبر وبالغ كعادته، ومما قاله: إن عمر نفسه رويت عنه خمسمائة حديث ونيِّف، فهو مكثر بالقياس إلى المُتَوَفَّيْنَ قريبًا من ¬

_ (¬1) "الطبقات": (2/ 291). (¬2) وهو كذلك. "تاريخ ابن عساكر": (39/ 180). (¬3) لعله قصد ما في مسلم (933) عن علي بن ربيعة: "أول من نيح عليه بالكوفة قرظة بن كعب ... ".

وفاته. أقول: مع اشتغاله بالوزارة لأبي بكر ثم بالخلافة. وكذلك رده ابن عبد البر في كتاب "العلم" (2: 121 - 123) (¬1) وأطال، قال: "والآثار الصحاح عنه (أي عمر) من رواية أهل المدينة بخلاف حديث قرظة هذا، وإنما يدور على بَيان عن الشعبي، وليس مثله حجة في هذا الباب؛ لأنه يعارض السنة والكتاب". وذَكَر آيات وأحاديث وآثارًا عن عمر في الحضِّ على تعلُّم السنن. والشعبي لم يُذْكَرْ في طبقات المدلسين، لكن ذكر أبو حاتم (¬2) في ترجمة سليمان بن قيس اليشكري أن أكثر ما يرويه الشعبي عن جابر إنما أخذه الشعبي من صحيفة سليمان بن قيس اليشكري عن جابر، وهذا تدليس. ثم أقول: كان قد تجمَّع في العراق كثير من العرب من أهل اليمن وغيرهم، وشرعوا في تعلّم القرآن، فكره عمر أن يُشْغَلوا عنه بذكر مغازي النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحوها من أخباره التي لا حكم فيها. ولا مانع أن يجب [ص 39] فيما فيه حكم أن تُتَوخّى به الحاجة، وإن كان الخبر الآتي يخالف هذا. قال: (وكان عمر يقول: أقلُّوا الرواية عن رسول الله إلا فيما يعمل به). أقول: عزاه إلى "البداية والنهاية" (¬3)، وهو فيها عن الزهري، ولم يدرك ¬

_ (¬1) (2/ 998 - 1000). (¬2) في "الجرح والتعديل": (4/ 136). (¬3) (11/ 372). وهو في "تاريخ ابن عساكر": (67/ 344) مسندًا، وهو مصدر ابن كثير في النقل.

عمر. وعلق عليه أبو ريَّة قوله: (أي السنة العملية) فإن أراد اصطلاح شيخه (¬1) "السنة العملية المتواترة" فلا يخفى بطلانه؛ لأن هذا اصطلاح مُحْدَث، وإنما المراد ما يترتَّب عليه عمل شرعي، فيدخل في ذلك جميع الأحكام والآداب وغيرها, ولا يخرج إلا القصص ونحوها، استحبّ الإقلال من القصص ونحوها, ولم يمنع من الإكثار فيما فيه عمل. ثم قال: (ولا غرابة في أن يفعل عمر ذلك لأنه كان لا يعتمد إلاَّ على القرآن والسنة العملية، فقد روى البخاري عن ابن عباس أنه لما حُضِر النبي وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب قال النبي: هَلُمَّ أكتبْ لكم كتابًا لن تضلوا بعده. فقال عمر: إن النبي غلبه الوجع، وعندكم القرآن فحسبنا كتاب الله). أقول: تكلَّم بعضُ المتأخرين (¬2) في هذا الحديث، وذكر أنه لو كانت الواقعة بنحو هذه الصورة لما أغفلَ الصحابةُ ذكرَها والتنويه بشأنها، فما باله لم يذكرها إلا ابن عباس مع أنه كان صغيرًا يومئذ، ويميل هذا المتأخر إلى أنها كانت واقعة لا تستحق الذكر تجسَّمت في ذهن ابن عباس واتخذت ذاك الشكل. والذي يهمنا هنا أن نتبيَّن أنه من المعلوم يقينًا أن عمر لا يدَّعي كفاية كتاب الله عن كلَّ ما سواه بما فيه بيان الصلاة والزكاة والحج وغير ذلك، إذن فإنما ادَّعى كفاية القرآن عن أمر خاص، ودلالة الحال تبين أنه ذاك الكتاب الذي عَرَض عليهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن يكتبه لهم. والظاهر أنه قد كان جرى ذكر قضية خاصة بَدَا للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكتب لهم في شأنها، فرأى عمر أن حكمها في القرآن، وأن غاية ما سيكون في ذاك الكتاب تأكيد أو زيادة ¬

_ (¬1) يعني رشيد رضا صاحب "المنار" وقد سبق كلامه. (¬2) لم أتبين مَن هو.

توضيح أو نحو ذلك، فرأى أنه لا ضرورة إلى ذلك مع ما فيه من المشقة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في شدة وجعه. هذا وفي "رسالة الشافعي" (ص 422 - 445)، و"إعلام الموقعين" (1: 61 - 74، 98) (¬1)، و"أحكام ابن حزم" (2: 137 - 141)، وكتاب "العلم" لابن عبد البر (2: 121 - 124) (¬2) وغيرها آثار كثيرة تبين تمسّك عمر بالأحاديث والسنن, ورجوعه إليها، وعنايته بها، وحضّه على تعلّمها وتعليمها، وأمره باتباعها، فمن أحبَّ فليراجعها. ومعنى ذلك في الجملة متواتر. [ص 40] قال أبو ريَّة ص 31: (وروى ابن سعد في "الطبقات" عن السائب بن يزيد أنه صحب سعد بن أبي وقاص من المدينة إلى مكة قال: فما سمعته يحدثنا حديثًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى رجع). أقول: أحاديث سعد موجودة في كتب الإسلام، وقد قدَّمنا أن جماعة من الصحابة كانوا لا يحبُّون أن يحدِّثوا في غير وقت الحاجة. قال: (وسئل عن شيء فاستعجم وقال: إني أخاف أن أُحدَّثكم واحدًا فتزيدوا عليه المائة). أقول: هذا في "الطبقات" (¬3) من طريق سعد، وهو ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن خالته (كذا, ولعل الصواب: عن خاليه) (¬4) أنهم ¬

_ (¬1) (2/ 101 - 105, 158). (¬2) (2/ 998 - 1000). (¬3) (3/ 134). (¬4) في "نسخة إبراهيم بن سعد بن إبراهيم ... " (9 - ت جرار): "عن خالته ابنة سعد بن مالك أنها قالت ... " وكذلك جاء في رواية أخرى عن ابن أبي خثيمة في "تاريخه" (3591).

دخلوا على سعد بن أبي وقاص فسئل الخ. وأحاديث أبناء سعد عنه كثيرة، والظاهر أنه كان معهم هذه المرة من لا يأتمنه سعد، ولعلهم سألوه عن شيء يتعلَّق بما جرى بين الصحابة. قال: (وعن عمرو بن ميمون قال: اختلفت إلى عبد الله بن مسعود سنة فما سمعته فيها يُحدِّث عن رسول الله ولا يقول: قال رسول الله إلا أنه حدَّث ذات يوم بحديث فجرى على لسانه: قال رسول الله، فعلاه الكرب حتى رأيت العرق يتحدَّر عن جبينه ثم قال: إن شاء الله، إما فوق ذاك أو قريب من ذاك وإما دون ذاك. وفي روايةٍ عند ابن سعد عن علقمة بن قيس أنه كان يقوم قائمًا كل عشية خميس، فما سمعته في عشية منها يقول: قال رسول الله غير مرة واحدة فنظرت إليه وهو يعتمد على عصا فنظرت إلى العصا تزعزع). أقول: رواية عَمرو بن ميمون انفرد بها - فيما أعلم - مُسلم البَطِين، واضطرب فيها على أوجه، راجع "مسند أحمد" الحديث (3670)، وفي بعض الطرق التقييد بيوم الخميس، وذلك أن ابن مسعود كان يقوم يوم الخميس يَعِظ الناس بكلمات - وأما رواية علقمة (¬1). هذا, ولهذين وغيرهما عن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث كثيرة في دواوين الإسلام. وأما كرب ابن مسعود فالظاهر أنه عَرَض له تشككٌ في ضبطه لذاك الحديث، ولهذا قال: "إن شاء الله الخ" والأحاديث الصحيحة عنه بالجزم كثيرة، وراجع ما تقدم عنه (ص 13) (¬2). ¬

_ (¬1) كذا في (ط)، فكأن المصنف لم يكمل الكلام على رواية علقمة. وقد أخرجها الطبراني في "الكبير" (8624) و"الأوسط" (2002)، وأبو الشيخ في "طبقات المحدثين" (720)، وسندها حسن على أقل أحواله. (¬2) (ص 27 - 28).

قال: (وسأل مالكُ بن دينار ميمونَ الكُرْدي أن يُحدِّث عن أبيه الذي أدرك النبي وسمع منه, فقال: كان أبي لا يحدِّثنا عن النبي مخافة أن يزيد أو (¬1) ينقص). أقول: لم يَعْزُه ولم أعثر عليه (¬2)، ووالد ميمون الكردي لا يكاد يُعْرَف. وقد ذُكِر في "أُسْد الغابة" (¬3) و"الإصابة" (¬4) باسم "جابان" ولم يذكروا له شيئًا، إلا أنه وقع بسند ضعيف عن ميمون عن أبيه، فذكر حديثًا لا يصح وفيه اضطراب. قال: (وأخرج الدارقطني عن عبد الرحمن بن كعب قال: "قلت لأبي قتادة: حدِّثني بشيء سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: أخشى أن يزل لساني بشيء لم يقله رسول الله). أقول: قد قدمنا أنهم كانوا لا يحبُّون التحديث عند عدم الحاجة، وأحاديث أبي قتادة موجودة في دواوين الإسلام. قال: (وروى ابن الجوزي في كتاب "دفع شُبَه التشبيه" قال: سمع الزبير رجلًا يحدِّث، فاستمع الزبير حتى قضى الرجل حديثه, قال له الزبير: أنت سمعت هذا من رسول الله؟ فقال الرجل: نعم. فقال: هذا وأشباهه مما يمنعني أن أتحدَّث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قد لعمري سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا يومئذ حاضر، ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابتدأ بهذا الحديث فحدَّثناه عن رجل من أهل الكتاب حديثه يومئذ، فجئتَ أنت بعد انقضاء ¬

_ (¬1) في (ط): "أم" والتصحيح من المصادر. (¬2) أخرجه الطبراني في "الأوسط" (6209)، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة": (5/ 62). قال الطبراني: "لم يرو هذا الحديث عن أبي خَلْدة إلا أبو سعيد مولى بني هاشم، ولا يُروى عن أبي ميمون الكردي إلا بهذا الإسناد". (¬3) (1/ 301). (¬4) (1/ 429).

صدر الحديث، وذكر الرجلَ الذي هو من أهل الكتاب فظننتَ أنه من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). أقول: أسنده البيهقي في "الأسماء والصفات" (ص 258 ط الهند) (¬1): "أخبرنا أبو جعفر الغرابي (¬2)، أخبرنا أبو العباس الصبغي، حدثنا الحسن بن علي بن زياد، حدثنا ابن أبي أويس، حدثني ابن أبي الزناد عبد الرحمن، عن هشام بن عروة، عن [عبد الله بن] (¬3) عروة بن الزبير أن الزبير بن العوَّام سمع رجلاً ... ". أبو جعفر لم أعرفه، والصبغي هو محمَّد بن إسحاق بن أيوب مجروح، وابن أبي الزناد فيه كلام، وعبد الله بن عروة ولد بعد الزبير بمدة، فالخبر منقطع. وكأنه مصنوع. قال ص 32: (وأخرج البخاري والدارقطني عن السائب بن يزيد قال: صحبت عبد الرحمن بن عوف وطلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص والمقداد بن الأسود فلم أسمع الواحد منهم يُحدِّث عن رسول الله). اقول: قد حدَّثوا، وسمع منهم غير السائب، وحدَّث من هو خير منهم: الخلفاء الأربعة، والكثير الطيَّب من الصحابة رضي الله عنهم. وانتظر. قال: (وأخرج أحمد وأبو يعلى عن دجين الخ). ¬

_ (¬1) (764 - ت الحاشدي). والنص فيها صححه الشيخ رحمه الله. وأخرجه البيهقي أيضًا في "المدخل" - وليس في المطبوع -, ومسلم في "كتاب التفضيل" - كما في "فتح الباري": (2/ 576 - 577) لابن رجب -. (¬2) في مخطوطة مكتبة الحرم المكي رقم 203 من كتب التوحيد القسم الأول "العزائمي" [المؤلف]. وهو الصواب كما في الطبعة المحققة: (1/ 133). (¬3) قوله "عبد الله بن" أثبته من المخطوطة، وسقط من المطبوعة. [المؤلف].

أقول: دُجَين أعرابيّ ليس بشيء في الرواية, وترجمته في "لسان الميزان" (¬1) وفيها نحو هذا مع اختلاف. قال: (وقال عمران بن حُصين: والله إن كنت لأرى أني لو شئت لحدَّثت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومين متتابعين، ولكن بطأني من ذلك أن رجالًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمعوا كما سمعتُ، وشهدوا كما شهدتُ، ويحدِّثون أحاديث ما هي كما يقول (؟) وأخاف أن يشبّه لي كما شُبِّه لهم" فأعلمك أنهم كانوا يغلطون (وفي نسخة: يخطئون) لأنهم كانوا يتعمدون). أقول: هذا ذكره ابن قتيبة في "مختلف الحديث" (ص 49) (¬2) فقال: "روى مطرّف بن عبد الله أن عِمران بن حُصين قال ... " ولم يذكر سندَه. وقوله: "فأعلمك الخ" من (¬3) كلام ابن قتيبة. [ص 42] قال: (وأخرج ابن ماجه عن عبد الله بن أبي ليلى قال: قلت لزيد بن أرقم: حدِّثْنا عن رسول الله قال: كبرنا ونسينا، والحديث عن رسول الله شديد). أقول: أحاديث زيد موجودة في الكتب، وقد قدَّمنا أنهم كانوا لا يحبُّون أن يحدِّثوا بدون حضور حاجة، ويتأكد ذلك عند خشية الخطأ - وانتظر. قال: (وقال ابن قتيبة في "تأويل مختلف الحديث": وكان كثير من جلَّة الصحابة وأهل الخاصة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - كأبي بكر والزبير وأبي عبيدة والعباس بن عبد المطلب يقلّون الرواية عنه، بل كان بعضهم لا يكاد يروي عنه شيئًا كسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أحد العشرة المشهود لهم بالجنة). ¬

_ (¬1) (3/ 415 - 416). (¬2) (ص 55 - المكتب الإسلامي). والحديث أخرجه أحمد في "المسند" (19893)، والطبراني في "الكبير": (18/ 195). وإسناده ضعيف. انظر حاشية المسند: (33/ 123). (¬3) (ط): "عن".

قال أبو ريَّة: (ولو أنك تصفحت البخاري ومسلم لما وجدت فيهما حديثًا واحدًا لأمين هذه الأمة أبي عبيدة عامر بن [عبد الله بن] الجراح. وليس فيهما كذلك حديث لعتبة بن غزوان وأبي كبشة مولى رسول الله وكثيرين غيرهم). ثم قال أبو ريَّة: (كان الخلفاء الراشدون وكبار الصحابة وأهل الفُتْيَا منهم كما علمت يتَّقون كثرة الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بل كانوا يُرَغّبون عن روايته؛ إذ كانوا يعلمون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد نهى عن كتابة حديثه، وأنهم إذا حدَّثوا عنه قد لا يستطيعون أن يؤدُّوا كل ما سمعوه ... على وجهه الصحيح؛ لأن الذاكرة لا يمكن أن تضبط كل ما تسمع، وما تحفظه مما تسمعه لا يمكن أن يبقى فيها على أصله ... ما كانوا ليرضوا بما رضي به بعضهم ومن جاء بعدهم من رواية الحديث بالمعنى؛ لأنهم كانوا يعلمون أن تغيير اللفظ قد يغيّر المعنى، وكلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليس كغيره؛ إذ كل لفظة من كلامه - صلى الله عليه وسلم - يكمُن وراءها معنى يقصده). أقول: كان الصحابة يُفتون، وكلُّ من طالت صحبتُه فبلغت سَنَةً فأكثر فهو مِن العلماء، وإن كان بعضهم أعلم من بعض، وقد قال الشافعي في "الأم" (7: 244) (¬1): "أصحاب النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كلّهم ممن له أن يقول في العلم". وتبليغ الأحاديث فرض كفاية كالفتوى. فأما الصِّدَيق فقلَّ حديثه وفتواه؛ لأنه اشتغل بالخلافة حتى مات بعد سنتين وأَشْهُر، وكان يكفيه غيره الفتوى والتحديث. وأما أبو عبيدة فشُغِل بفتح الشام حتى مات سنة 18، وكان معه في الجيش كثير من الصحابة كمعاذ بن جبل وغيره يَكْفُونه الفُتيا والتحديث. وقد جاءت عنه عدة أحاديث لم يتّفق أن يكون منها ما هو على شرط الشيخين مما احتاجا إليه. وأما الزبير والعباس فكانا مشتغلَيْن بمزارعهما غير منبسطَيْن لعامة الناس، فاكتفى الناس ¬

_ (¬1) (8/ 757 - دار الوفاء).

غالبًا ببقية الصحابة وهم كثير. وأما سعيد [ص 43] بن يزيد فكان منقبضًا مُقْبِلًا على العبادة. وأما عُتْبة بن غزوان فحاله كحال أبي عبيدة بقي في الجهاد والفتوح حتى مات سنة 17. وأما أبو كبشة فقديم الموت تُوُفي يوم مات أبو بكر أو بعده بيوم. وكما قلَّتْ أحاديث هؤلاء قَلَّتْ فتاواهم، مع العلم بأن الفتوى فرض كفاية، وأنه إذا لم يوجد إلا مُفْتٍ واحدٌ والقضية واقعة تعيَّنَتْ عليه. وكما كانوا يتقون الفتوى في القضايا التي ليست واقعة حينئذٍ، حتى رُوي عن عمر أنه لعن من يسأل عما لم يكن. وأنه قال وهو على المنبر: وأحرِّج بالله على مَنْ سأل عما لم يكن، فإن الله قد بَيَّن ما هو كائن. أخرجهما الدارميّ وغيره (¬1). ورُوي أنهم كانوا يتدافعون الفتوى، كل واحد يَوَدّ أن يكفيه غيره، فكذلك كان شأنهم في التحديث حين كان الصحابة متوافرين. وعامة مَنْ تقدم أنه قليل الحديث أو أنه سئل أن يُحدّث فامتنع، قد ثبتت عنهم أحاديث بين مُكْثِر ومُقِلّ، وذلك يُبيِّن قطعًا أن قلَّة حديثهم إنما كانت لما تقدم. ويوضِّح ذلك أنه لم يأت عن أحدٍ منهم ما يؤخذ منه أنه امتنع من التحديث بحديث عنده مع حضور الحاجة إليه وعدم كفاية غيره له. إنك لا تجد بهذا المعنى حرفًا واحدًا. فاختيارهم أن لا يحدّثوا إلا عند حضور الحاجة إلى تحديثهم خاصة هو السببُ الوحيد لاتقاء الإكثار ولِمَا يصح في ¬

_ (¬1) "مسند الدارميّ" (123، 126) على التوالي. وأخرجهما ابن عبد البر فى "جامع بيان العلم": (2/ 1067, 1061) على التوالي.

الجملة من الرغبة عن الرواية. أما النهي عن الكتابة فقد فرغنا منه البتة فيما تقدم (ص 22) (¬1): وأما خشية الخطأ فهذا من البواعث على تحرِّي أن لا يُحدِّثوا إلا عند الحاجة. راجع (ص 31) (¬2). قوله: (إن ما وَعَتْه الذاكرة لا يمكن أن يبقى فيها على أصله) إنْ أراد بذلك ألفاظ الأحاديث القولية فليس كما قال، بل يمكن أن يبقى بعض ذلك، بل قوله: إنَّ (الخلفاء الراشدين وكبار الصحابة وأهل الفتيا ... لم يكونوا ليَرْضَوْا بما رضي به بعضهم ... من رواية الحديث بالمعنى) اعتراف منه بأن ما ثبت عن هؤلاء روايته من الأحاديث القولية قد روَوْه بلفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - على وجهه الصحيح. وإن أراد الأحاديث الفعلية ومعاني القولية فباطل، بل يبقى فيها الكثير من ذلك كما لا يخفى على أحد. قوله: (إن تغيير اللفظ قد يغير المعنى). قلنا: قد, ولكن الغالب فيمن ضبط المعنى ضبطًا يثق به أنه لا يغيِّر. قوله: (كل لفظة من كلامه - صلى الله عليه وسلم - يكمن وراءها معنى يقصده). أقول: نعوذ بالله من غلوّ يُتَذَرَّعُ به إلى جحود، كان - صلى الله عليه وسلم - يكلِّم الناس ليفهموا عنه، فكان يتحرى إفهامهم "إن كان ليحدِّث الحديثَ لو شاء العادُّ أن يحصيه أحصاه" كما في "سنن أبي داود" (¬3) عن عائشة، وأصله في ¬

_ (¬1) (ص 45). (¬2) (ص 61). (¬3) (3654).

تشديد الصحابة في قبول الأخبار

"الصحيحين" (¬1). وكان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثًا حتى تُفْهَم. كما في "صحيح البخاري" (¬2) عن أنس. ويقال لأبي رية: أمفهومةٌ كانت [ص 44] تلك المقاصد الكامنة وراء كلّ لفظة للصحابة، أم لا؟ إن كانت مفهومة لهم أمكنهم أن يؤدُّوها بغير تلك الألفاظ. وإلَّا فكيف يُخَاطَبون بما لا يفهمونه؟ فأما حديث "فُربَّ مُبَلَّغ أوعى من سامع" (¬3) فإنما يتفق في قليل كما تفيد كلمة "ربَّ"، وذلك كأن يكون الصحابي ممن قَرُبَ عهده بالإسلام ولم يكن عنده علم فيؤدّيه إلى عالم يفهمه على وجهه، والغالب أن الصحابة أفهم لكلام النبي - صلى الله عليه وسلم - ممَّن بَعْدَهم. **** تشديد الصحابة في قبول الأخبار قال أبو ريَّة ص 33: (كانوا يتشددون في قبول الأخبار من إخوانهم في الصحبة مهما بلغت درجاتهم، ويحتاطون في ذلك أشد الاحتياط، حتى كان أبو بكر لا يقبل من أحد حديثًا إلا بشهادة غيره على أنه سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). أقول: هذه دعوى لا تُقبل إلا بدليل، كأن يكون أبو بكر صرَّح بذلك، أو تكرَّر منه ردّ خبر الآحاد الذين لم يكن مع كلًّ منهم آخر، وليس بِيَد أبي ريَّة شيء من هذا، إنما ذكر الواقعة الآتية وسيأتي النظر فيها. قال: (روى ابن شهاب عن قَبيصة أن الجدة جاءت أبا بكر تلتمس أن تُورَّث فقال: ¬

_ (¬1) البخاري (3567)، ومسلم (2493). (¬2) (95). (¬3) أخرجه البخاري (67، 1741)، ومسلم (1679) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.

ما أجد لك في كتاب الله شيئًا، وما علمت أن رسول الله ذكر لك شيئًا ثم سأل الناس، فقام المغيرة فقال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعطيها السدس. فقال له: هل معك أحد؟ فشهد محمَّد بن مَسْلمة بمثل ذلك، فأنفذه لها أبو بكر). أقول: هذه واقعة حال واحدة ليس فيها ما يدلُّ على أنه لو لم يكن مع المغيرة غيره لم يقبله أبو بكر. والعالِمُ يحبّ تَظَاهُر الحجج كما بيّنه الشافعي في "الرسالة" (ص 432). ومما حسَّن ذلك هنا أن قول المغيرة: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعطيها السدس" (¬1) يعطي أن ذلك تكرَّر من قضاء النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد يستبعد أبو بكر تكرُّر ذلك ولم يعلمه هو، مع أنه كان ألزَمَ للنبي - صلى الله عليه وسلم - من المغيرة. وأيضًا: الدعوى قائمة، وخبر المغيرة يشبه الشهادة للمدَّعِيَة. ومع ذلك فهذا خبر تفرَّد به الزهري، عن عثمان بن إسحاق بن خَرَشة، عن قَبيصة، واحد عن واحد عن واحد. فلو كان في القصّة ما يدلُ على أن الواحد لا يكفي لعاد ذلك بالنقض على الخبر نفسه، فكيف وهو منقطع, لأن قبيصة لم يدرك أبا بكر، وعثمان بن إسحاق وإن وُثِّق لا يُعْرَف في الرواية إلا برواية الزهري وحده عنه، هذا الخبر وحده! قال أبو ريَّة: (وقد وضع بعمله هذا أول شروط علم الرواية, وهو شرط الإسناد الصحيح). [ص 45] أقول: تلك أمانيّهم، وقد بيَّن الكتاب والسنة وجوب أن يقبل خبر العدل، وقَرَن الله تعالى تصديقه بالإيمان به سبحانه، قال تعالى في ذكر المنافقين: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} [التوبة: 61] كلما ¬

_ (¬1) كما نقله أبو رية. [المؤلف].

أخبره أحدٌ من أصحابه عنَّا بِشَرٍّ صدَّقه، قال تعالى: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 61]. أي يصدّقهم. وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] فبيَّن سبحانه أن خبر الفاسق مناف لخبر العدل، فمِنْ حقّ خَبَر العَدْل أن يصدُق كما صرَّحت به الآية الأولى، ومن حقِّ خبر الفاسق أن يُبْحَث عنه حتى يتبيّن أمره. وأما السنة فبيانها لوجوب أن يُقْبَل خبر الواحد العدل أوضح، وقد أطال أهل العلم في ذلك وألَّفوا فيه، وانظر "رسالة الشافعي" (ص 401 - 458) و"أحكام ابن حزم": (1: 108). ومن أَبْيَن ما احتجّوا به: ما تواتر من بَعْث النبي - صلى الله عليه وسلم - آحاد الناس إلى القبائل والأقطار يبلّغ كلُّ واحد منهم من أرسل إليه ويعلمهم ويقيم لهم دينهم. قال ابن حزم (¬1): "بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معاذًا إلى الجَنَد وجهاتٍ من اليمن، وأبا موسى إلى جهة أخرى ... وأبا عبيدة إلى نجران، وعليًّا قاضيًا إلى اليمن، وكلّ من هؤلاء مضى إلى جهة ما معلمًا لهم شرائع الإسلام. كذلك بعث أميرًا إلى كلِّ جهة أسلمت ... معلمًا لهم دينهم، ومعلمًا لهم القرآن، ومفتيًا لهم في أحكام دينهم، وقاضيًا فيما وقع بينهم، وناقلًا إليهم ما يلزمهم عن الله تعالى ورسوله، وهم مأمورون بقبول ما يخبرونهم به عن نبيهم - صلى الله عليه وسلم -. وبعثة هؤلاء المذكورين مشهورة بنقل التواتر من كافر ومؤمن لا يشكُّ فيها أحد ... ولا في أن بعثتهم إنما كانت لما ذكرنا. [و] (¬2) من ¬

_ (¬1) "الإحكام": (1/ 109 - 110). (¬2) هذه الإضافة من المصنف تصحيحًا لنص ابن حزم.

المحال الباطل الممتنع أن يبعث إليهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من لا تقوم عليهم الحجَّةُ بتبليغه، ومن لا يلزمهم قبول ما علموهم من القرآن وأحكام الدين، وما أفتوهم به في الشريعة ... إذ لو كان ذلك لكانت بعثته لهم فضولًا, ولكان عليه السلام قائلًا للمسلمين: بعثتُ إليكم من لا يجب عليكم أن تقبلوا منه ما بلَّغَكم عنّي، ومن حكمكم أن لا تلتفتوا إلى ما نُقِل إليكم عني ... ومن قال بهذا فقد فارق الإسلام". والحجج في هذا الباب كثيرة، وإجماع السلف على ذلك محقق. قال أبو ريَّة ص 34: (أما عمر فقد كان أشدّ من ذلك احتياطًا وتثبتًا ... روى البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: كنت في مجلسٍ من مجالس الأنصار إذ جاء أبو موسى كأنه مذعور، فقال: استأذنتُ على عمر ثلاًثا فلم بؤذَن لي، فرجعت، قال عمر: ما منعك؟ قلت: استأذنت ثلاثًا فلم يؤذَن لي فرجعت، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[ص 46]: "إذا استأذن أحدكم ثلاثًا فلم يؤذن له فليرجع". فقال: والله لتقيمنَّ عليه بينة. (زاد مسلم: وإلا أوجعتك. وفي رواية ثالثة: فوالله لأوجعن ظهرك وبطنك أو لتأتين بمن يشهد لك على هذا) أَمِنْكُم أحد سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال أُبيُّ بن كعب: والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم. فكنت أصغر القوم، فقمت معه فأخبرت عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك). قال أبو ريَّة: (فانظر كيف تشدَّد عمر في أمرٍ ليس فيه حلال ولا حرام، وتدبَّر ماذا يكون الأمر لو كان الحديث في غير ذلك من أصول الدين أو فروعه. وقد استند إلى هذه القصة من يقولون: إن عمر كان لا يقبل خبر الواحد. واستدل به من قال: إن خبر العدل بمفرده لا يقبل حتى ينضمَّ إليه غيره ...). أقول: قد ثبت عن عمر الأخذ بخبر الواحد في أمور عديدة، من ذلك: أنه كان لا يورّث المرأة من دية زوجها حتى أخبره الضحَّاك بن سفيان الكلابي أنَّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كتب إليه أن يورّث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها.

فرجع إليه عمر (¬1). وعمل بخبر عبد الرحمن بن عوف وحده في النهي عن دخول بلد فيها الطاعون (¬2). وعمل بخبره وحده في أخذ الجزية من المجوس (¬3). وهذا كله ثابت. راجع "رسالة الشافعي" (426). وفي "صحيح البخاري" (¬4) وغيره عن عمر أنه قال لابنه عبد الله: "إذا حدَّثك سعد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشيء فلا تسأل عنه غيره. وكان سعد حدَّث عبد الله حديثًا في مسح الخفين. فأما قصّة أبي موسى فإنما شدّد عمر لأن الاستئذان مما يكثر وقوُعه، وعمر أطول صحبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأكثر ملازمة وأشدّ اختصاصًا, ولم يحفظ هو ذاك الحكم فاستغربه. ولهذا لما أخبره أبو سعيد عاد عمر باللائمة على نفسه فقال: "خَفِيَ عليَّ هذا من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ألهاني عنه الصفق بالأسواق". وهذا ثابت في "الصحيحين" (¬5). وأنكر أبيُّ بن كعب على عمر تشديده على أبي موسى وقال: "فلا تكن يا ابن الخطاب عذابًا على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -". فقال عمر: "إنما سمعت شيئًا فأحببت أن أتثبَّت" وهذا في "صحيح مسلم" (¬6). وقد كان عمر يُسمِّى أُبَيًّا: سيد المسلمين (¬7). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (2927)، والترمذي (1415)، وابن ماجه (2642)، وأحمد (15746). قال الترمذي: حسن صحيح. (¬2) أخرجه البخاري (5729)، ومسلم (2219). (¬3) أخرجه البخاري (3157). (¬4) (202). وأخرجه أحمد (88). (¬5) البخاري (2062)، ومسلم (2153). (¬6) (2154/ 37). (¬7) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (476).

وفي "الموطأ" (¬1): أن عمر قال لأبي موسى: "أما إني لم أتهمك، ولكني أردت أن لا يتجرَّأ الناسُ على الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -". قال ابن عبد البر (¬2): "يحتمل أن يكون حضر عنده مَنْ قَرُبَ عهده بالإسلام فخشي أن أحدهم يختلق الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرغبة والرهبة طلبًا للمخرج مما يدخل فيه. فأراد أن يعلّمهم أنَّ مَن فعل شيئًا من ذلك ينكر عليه حتى يأتي بالمخرج". وقد نقل أبو ريَّة شيئًا من "فتح الباري" (¬3) وترك ما يتصل به من الجواب الواضح عنه، فإن شئتَ فراجعه. [ص 47] وقال أبو ريَّة ص 8: (وكان عليّ يستحلف الصحابي على ما يرويه له). أقول: هذا شيء تفرَّد به أسماء بن الحكم الفَزَاري؛ وهو رجل مجهول. وقد ردَّه البخاري وغيره كما في ترجمة أسماء من "تهذيب التهذيب" (¬4). وتوثيق العجلي وجدته بالاستقراء كتوثيق ابن حبان أو أوسع (¬5)، فلا يقاوم إنكار البخاري وغيره على أسماء. على أنه لو فرض ثبوته فإنما هو مزيد احتياط، لا دليل على اشتراطه. هذا، ومن المتواتر عن الخلفاء الأربعة: أن كُلًّا منهم كان يَقضي ويُفتي بما عنده من السنَّة بدون حاجة إلى أن تكون عند غيره. وأنهم كانوا ينصبون ¬

_ (¬1) (2768). (¬2) في "التمهيد": (3/ 200) وهذا النص الذي نقله المؤلف بواسطة "فتح الباري" لابن حجر. وهو تلخيص لكلام ابن عبد البر. (¬3) (11/ 30). (¬4) (1/ 268). (¬5) انظر "التنكيل": (1/ 724 - 725) للمؤلف.

الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

العمال من الصحابة وغيرهم ويأمرونهم أن يَقضي ويُفتي كلُّ منهم بما عنده من السنَّة بدون حاجة إلى وجودها عند غيره. هذا مع أن المنقول عن أبي بكر وعمر وجمهور العلماء أن القاضي لا يقضي بعلمه. قال أبو بكر: "لو وجدت رجلًا على حدّ ما أقمتُه عليه حتى يكون معي غيري". وقال عكرمة: قال عمر لعبد الرحمن بن عوف: "لو رأيتُ رجلًا على حدّ زنا أو سرقة وأنا أمير؟ " فقال: "شهادتك شهادة رجل من المسلمين"، قال: "صدقت". (راجع "فتح الباري" 13: 139 و141) (¬1). ولو كان عندهم أن خبر الواحد العدل ليس بحجة تامة لما كان للقاضي أن يقضي بخبرٍ عنده حتى يكون معه غيره، ولا كان للمفتي أن يفتي بحسب خبر عنده، ويلزم المستفتي العمل به حتى يكون معه غيره. فتدبَّرْ هذا فإنه إجماع، وقد مضى به العمل في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفيه الغِنى. وذكر شيئًا عن أبي هريرة، وسيأتي في ترجمته رضي الله عنه. **** الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال أبو ريَّة ص 6: (لما قرأت حديث: "من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوَّأ مقعده من النار" غمرني الدهش لهذا القَيْد الذي لا يمكن أن يصدر من رسول جاء بالصدق وأمر به, ونهى عن الكذب وحذَّر منه إذ ليس بخافٍ أن الكذب هو الإخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه، سواء أكان عمدًا أم غير عمد). ثم ذكر ص 9 أنَّ كلمة "متعمدًا" (لم تأت في روايات كبار الصحابة, قال: ويبدو أن هذه الكلمة قد تسللت إلى هذا الحديث على سبيل الإدراج لكي يتكئ عليها الرواة فيما ¬

_ (¬1) (13/ 159 - 162 - ط السلفية).

يروونه عن غيرهم من جهة الخطأ أو الوهم أو الغلط ... ذلك بأن المخطئ غير مأثوم. أو أن هذه الكلمة وُضِعت ليسوِّغ الذين يضعون الأحاديث عن غير عمدٍ عملَهم). ثم أطال الكلام ص 36 فزعم أن (الروايات الصحيحة التي جاءت عن كبار الصحابة، ومنهم ثلاثة من الخلفاء الراشدين [ص 48] تدل على أن هذا الحديث لم تكن فيه تلك الكلمة (متعمدًا)، قال: وكل ذي لبّ يستبعد أن يكون النبي قد نطق بها, لمنافاة ذلك للعقل والخُلُق اللَّذَيْنِ كان الرسول متصفًا بالكمال فيهما). أقول: أما الرواية فقد جاءت عن كبار الصحابة وغيرهم بلفظ: "مَنْ كَذَب عليّ فليتبوّأ .. " الخ، وبما يؤدي معناه مثل: "مَنْ قال علَيَّ ما لم أقل .. " الخ، وجاءت بلفظ: "مَنْ كَذَب عليّ متعمدًا فليتبوّأ" الخ، وبما يؤدّي معناه مثل: "مَنْ تعمّد عليَّ كذبًا" الخ. راجع البخاري مع "فتح الباري" (¬1) و"صحيح مسلم" (¬2) و"مسند أحمد" (¬3) و"تاريخ بغداد" (¬4) و"كنز العمال" (5: 22) و"مشكل الآثار" للطحاوي (1: 164 - 176) (¬5). وقد يمكن الترجيح بالنظر إلى الرواية عن صحابي معين، فأما على الإطلاق فلا. وكما أن الله عزَّ وجلَّ كرَّر في القرآن بيان شدَّة الإثم في افتراء الكذب عليه فمعقول أن يكرر رسوله. وها هنا بحثان: ¬

_ (¬1) البخاري رقم (108)، و"الفتح": (1/ 201 - السلفية) عن أنس. (¬2) رقم (2) عن أنس. (¬3) رقم (469، 507) عن عثمان، و (584، 789، 1075) عن علي، و (1413) عن الزبير، و (3815، 3847) عن ابن مسعود رضي الله عنهم. (¬4) (1/ 265، 3/ 50) عن ابن مسعود، و (2/ 84) عن أبي موسى، و (2/ 221) عن عثمان، و (3/ 25) عن طلحة، و (5/ 115) عن عليّ رضي الله عنهم. (¬5) (1/ 352 - 372 - ط الرسالة).

البحث الأول

البحث الأول في البرهان العقلي الذي اعتمد عليه أبو ريَّة إذ قال: (إنَّ هذا القيد (متعمدًا) "لا يمكن أن يصدر من رسول جاء بالصدق الخ" وقال: "وكل ذي لبّ يستبعد أن يكون النبي قد نطق بها لمنافاة ذلك للعقل الخ"). أقول: ما عسى أن يقول أبو ريَّة في قول الله عزَّ وجلَّ: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} [الأنعام: 21]، واقرأ (6: 93 و144) و (7: 37) و (10: 17) و (11: 18) و (18: 15) و (29: 68) و (61: 70) كل هذه الآيات تذكر افتراء الكذب على الله، وافتراء الكذب هو تعمُّده، والكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يزيد على الكذب على الله، فلماذا لا يعقل أن يقيد النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قيد القرآن؟ وقال الله سبحانه: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] (¬1) وقد اعترف أبو ريَّة ص 8 بأنه ليس في وسع من سمع الحديث أن لا يقع منه في تبليغه خطأ البتة، وعبارته: (وتركه يذهب بغير قيد إلى أذهان السامعين، تخضعه الذاكرة لحكمها القاهر، الذي لا يستطيع إنسان مهما كان أن ينكره أو ينازع فيه من سهو أو غلط أو نسيان). وإذا كان الله عزَّ وجلَّ لا يكلف نفسًا إلا وسعها فبماذا يستحق من وقع منه ما ليس في وسعه أن لا يقع أن يتبوأ منزلاً في جهنم؟ وقد علَّم الله عباده أن يقولوا: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]، وما علَّمهم إلا ليستجيب لهم. وقد ثبت في "الصحيح" أنّ الصحابة لما قالوها ¬

_ (¬1) واقرأ (2: 233) و (6: 152) و (7: 41) و (23: 62) و (65: 7) [المؤلف].

قال الله تعالى: "قد فعلتُ" (¬1). وقال الله تبارك وتعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5]، وقال سبحانه: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106]. والمخطئ أولى بالعذر من المُكْره. [ص 49] قد يقول أبو رية: كان للصحابة مندوحة عن الوقوع في الخطأ، وذلك بأن يَدَعوا الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - البتة. قلت: أنى لهم ذلك وهم مأمورون أن يبلغ شاهدهم غائبهم! كان ذلك في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعده، وكان أصحابه يبلِّغ بعضُهم بعضًا، وكانوا يتناوبون كما في "الصحيح" عن عمر: "كنت أنا وجار لي من الأنصار ... وكنّا نتناوب النزولَ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينزل يومًا وأنزل يومًا، فإذا نزلتُ جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، إذا نزل فعل مثل ذلك ... " (¬2). وقد قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122]. وكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يبعث الرسل والأمراء ويأمرهم أن يبلِّغوا مَن أُرسلوا إليهم، ويجيء أفراد من القبائل فيسلمون ويتعلمون ويسمعون ويرجعون إلى قبائلهم فيبلغونهم. وقد علموا أنّ محمدًا رسول الله ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة (125)، ومن حديث ابن عباس (126) رضي الله عنهما. (¬2) أخرجه البخاري (89).

إلى الناس كافة إلى يوم القيامة، وأنّ شريعته للناس كافة إلى يوم القيامة، وأن الله تعالى أمر الناس كافة باتباعه وطاعته والتأسّي به، وأخذ ما آتى والانتهاء عما نهى، وجعله المبيِّن عنه لما أنزله بقوله وفعله، وأنهم مأمورون بتبليغ الكتاب وبيانه، إذ كلّ ذلك دينٌ للناس كافة إلى يوم القيامة. وأنهم مأمورون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعاون على البر والتقوى، والدلالة على الخير، والنصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولعباده. وعلموا الوعيد الشديد على كتمان الحق، وكتمان ما أنزل الله من البينات والهدى، مع علمهم بأنّ كتمان بيان الكتاب بمنزلة كتمان الكتاب. وحسبنا أنهم كانوا أعلم بالله ودينه وما لهم وعليهم، وأَتْبَع للحق وأحرص على النجاة من كلِّ من جاء بعدهم. وقد حدَّث أفاضلهم وخيارهم ما بين مُكثر ومُقلّ، ولم يكن المقلُّ يَعيب على المكثر إلا أن يرى بعضهم أن الإكثار جدًّا خلاف الأَوْلى، وهذا عُمر الذي نُسِب إليه كراهية الإكثار قد جاءت عنه - مع تقدّم وفاته - أكثر من خمسمائة حديث، وله في "صحيح البخاري" وحده ستون حديثًا، وقد نسب إليه الوهم كما نُسِب إلى غيره. فالحق الذي لا يرتاب فيه عاقل أنهم كانوا مأمورين بالتبليغ عند الحاجة، مأذونًا لهم أن يحدِّثوا مطلقًا، مع العلم بشدّة حُرْمة الكذب في جميع الأحوال. فمعنى ذلك أنّ عليهم ولهم أن يحدّثوا بما يعتقدون أنهم صادقون فيه، ومع العلم بأن أحدهم إذا حدَّث معتقدًا أنه صادق فقد يقع له خطأ، وإن من وقع له ذلك مع بذله وسعه في التحرّي والتحفُّظ فهو معذور، وهذا هو الذي تقتضيه القضايا العقلية والنصوص القرآنية، حتى لو فُرِض أنه لم يأت في الحديث [ص 50] لفظ "متعمِّدًا" ولا ما يؤدِّي معناه، فإن الأدلة القطعية

توجب أن يكون هذا مرادًا في المعنى. ولا يتوهمنَّ أحدٌ أن كلمة "متعمّدًا" تخرج من حدَّث جازمًا وهو شاكّ، كلا فإن هذا متعمِّد بالإجماع، ولا نعلم أحدًا من الناس حتى من أهل الجهل والضلالة زعم أن كلمة "متعمدًا" تخرج هذا، وإنما وُجِد من أهل الجهل والضلال من تشبَّث بكلمة "عَلَيَّ" فقال: نحن نكذب له لا عليه (¬1). فلو شكَّك أبو ريَّة في كلمة "عَلَيَّ" لكان أقرب. وذكر أبو ريَّة ص 38 حديث الزبير، ودونك تلخيص حاله: أشهر طرقه: رواية شعبة، عن جامع بن شدَّاد، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن الزبير، رواه عن شعبةَ جماعةٌ بدون كلمة "متعمدًا"، ورواه معاذ بن معاذ - وهو من جبال الحفظ - فذكرها. فنظرنا في رواية غُنْدَر عن شعبة - فإن غُندرًا ضبط كتابه عن شعبة وعرضه عليه وحققه، قال ابن المبارك: إذا اختلف الناس في حديث شعبة فكتاب غُندر حَكَمٌ بينهم (¬2). فوجدنا الإِمام أحمد رواه في "مسنده" (¬3) عن غُندر عن شعبة وفيه الكلمة "متعمدًا". وكذلك رواه أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن بشَّار بُنْدار عن غُنْدَر، رواه ابن ماجه عنهما (¬4). لكن في ¬

_ (¬1) وهو قول بعض الكرّامية والمتزهّدة. انظر "فتح الباري": (1/ 199 - 200, 6/ 499)، و "علوم الحديث" (ص 99 - 100) لابن الصلاح، و"تدريب الراوي": (1/ 334). (¬2) انظر "تهذيب التهذيب": (9/ 85). (¬3) رقم (1413). (¬4) رقم (36).

"الفتح" (¬1): أن الإسماعيلي أخرجه من طريق غُندر بدونها. وفي "الفتح" (¬2): أن الزبير بن بكَّار روى الخبر في "كتاب النسب" من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير بدونها, ولا أدري كيف سنده. وكذلك أخرجه الدارمي (¬3) بدونها من طريق أخرى عن ابن الزبير، في سندها عبد الله بن صالح كاتب الليث، وفيه كلام. وقد أخرجه أبو داود (¬4) بسند صحيح عن عامر بن عبد الله بن الزبير بسنده وفيه الكلمة. وقال المنذري في "اختصاره لسنن أبي داود" (¬5): "والمحفوظ في حديث الزبير أنه ليس فيه (متعمدًا) " نظر فيه العلامة أحمد محمَّد شاكر رحمه الله في تعليقه على "المسند" (¬6) فذكر أن ابن سعد روى الخبر في "طبقاته" (3/ 1/ 74) (¬7) عن عفّان ووَهْب بن جرير وأبي الوليد، ثلاثتهم عن شعبة. فذكر الحديث، وفي آخره: "قال وهب بن جرير في حديثه عن الزبير: والله ما قال "متعمدًا" وأنتم تقولون "متعمدًا" رأى أحمد شاكر أن هذا من قول وهب بن جرير لزملائه الذين رووا معه عن شعبة، يريد وهب: والله ما قال شعبة الخ. فنِسْبتها إلى الزبير وَهْمٌ. أقول: أما ظاهر قول ابن سعد: "قال وهب بن جرير في حديثه عن الزبير" فإنه يقتضي أن وهبًا ذكرها في الحديث نفسه. وفي "مشكل الآثار" ¬

_ (¬1) (1/ 200). (¬2) نفسه. (¬3) رقم (239). (¬4) رقم (3651). (¬5) (5/ 248). (¬6) (3/ 8) رقم (1413). (¬7) (3/ 99 - ط الخانجي).

للطحاوي (1/ 166) (¬1): "حدثنا يزيد بن سنان، حدثنا أبو داود ووهب بن جرير، حدثنا شعبة" فذكر الحديث وقال في آخره: "زاد وهب في حديثه: والله ما قال "متعمدًا" وأنتم تقولون: "متعمدًا"، لكن يعلو على ذلك أن الحديث رُوِيَ من عدة طرق عن شعبة وغيره، وليس فيه هذه الزيادة "والله ما قال الخ" ولا هي موجودة في رواية غُندر عن شعبة، فيشبه أن تكون من كلام وهب قالها متصلة فحسبها السامع منه فقال: "قال وهب بن جرير في حديثه عن الزبير الخ". فأما قول ابن قتيبة في "تأويل مختلف الحديث" (ص 49) (¬2): "رُوي عن الزبير أنه [ص 51] رواه وقال: أراهم يزيدون فيه "متعمدًا"، والله ما سمعته قال "متعمدًا"، فأخشى أن يكون ابن قتيبة إنما أخذه من ابن سعد، وتغيير اللفظ من الرواية بالمعنى. وعلى فرض صحّة هذه الزيادة عن الزبير فإنما يفيد ذلك خطأ مَن ذَكَر الكلمة في حديث الزبير، ثم تكون هذه الزيادة نفسها حجة على صحة الكلمة في الجملة؛ لأنّ الزبير ذكر أنه سمع إخوانه من الصحابة يذكرونها في الحديث، والظاهر كما تقدَّم أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كرر التشديد في عدة مواقع، والحَمْل على أنه ترك الكلمة في موقع فسمعه جماعة منهم الزبير، وذَكَرها في موقع آخر فسمعه آخرون، أوضحُ وأحقُّ مِن الحَمْل على الغلط. والغريب ما علقه أبو ريَّة في حاشية ص 39 من الهُجْر وفيه: (ولعنة الله على الكاذبين متعمّدين وغير متعمّدين، ومن يروّجه لهم من الشيوخ الحشويين) مع أنه ¬

_ (¬1) رقم (387 - ط الرسالة). (¬2) (ص 91 - المكتب الإسلامي).

البحث الثاني: في حقيقة الكذب

ذكر ص 49 وقوع الخطأ من عمر وابن عمر وعِتْبان بن مالك - أحد البدريين - وأبي الدرداء وأبي سعيد وأنس وغيرهم، والمخطئ عنده كاذب، بل مرَّ في كلامه ما يقتضي أنَّ كلَّ من حدَّث من الصحابة - ومنهم الخلفاء الأربعة وبقية العشرة وأمهات المؤمنين وغيرهم - لا بدَّ أن يكون وقع في الخطأ، فكلهم عنده كاذبون تنالهم لعنته. وأشدّ من هذا وأمَرّ ما مرَّت الإشارة إليه (ص 17 - 18) (¬1)، وهذه من فوائد عداوة السنة وأهلها. البحث الثاني: في حقيقة الكذب (¬2) بنى أبو ريَّة على أنه (ليس بخاف أن الكذب هو الإخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه، سواء أكان عن عمد أم غير عمد). وهو يعلم - فيما يظهر - أن هذا مخالف لقول شيخيه اللَّذَيْنِ يقدّسهما، وإيَّاهما ونحوهما عنى بقوله ص 4: (العلماء والأدباء)، وقوله ص 196: (أصحاب العقول الصريحة) وهما النظَّام والجاحظ، فالكذب عند النظَّام: مخالفة الخبر لاعتقاد المخبر، وهو عند الجاحظ: مخالفته لكلا الأمرين معًا: الواقع، واعتقاد المخبر، فعلى القولين ما طابق اعتقاد المخبر فليس بكذب وإن خالف الواقع. وقد ذكر أبو ريَّة ص 50 قولَ عائشة للذين حدَّثوها عن عمر وابنه بخبرٍ رأت أنهما وهِما فيه: "إنكم لتحدّثون عن غيرِ كاذِبَيْن، ولكن السمع يخطئ" (¬3)، وقولها في خبر رواه ابن عمر: "إنه لم يكذب، ولكنه نسي أو أخطأ" (¬4). ¬

_ (¬1) (ص 34 - 37). (¬2) تقدم البحث الأول (ص 93). (¬3) أخرجه مسلم (929). (¬4) أخرجه مسلم (923).

والراجح ما عليه الجمهور أن الكذب مخالفة الخبر للواقع، لكن المتبادر من قولك: كذب فلان، أو: فلان كاذب ونحو ذلك أنه تعمَّد، فمن ثَمَّ لا يقال ذلك للمخطئ، إلا أنه ربما قيل له ذلك تنبيهًا على أنه قصَّر (راجع كتاب "الرد على الإخنائي" ص 21). ولما أرادت عائشة أن تنفي عن عمر وابنه التعمّد والتقصير نفت عنهما الكذب البتة. ثم رأيتُ الطحاويّ ذكر هذه القضية في "مشكل الآثار"، فذكر كثيرًا من الروايات ثم قال (1: 173) (¬1) ما ملخَّصه: من كذب فقد تعمّد، وذِكْر "متعمدًا" في بعض الروايات إنما هو توكيد كقولك: نظرت بعيني وسمعت بأذني، وفي القرآن {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] و {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2] لم يذكر في شيء من ذلك التعمّد، كأنّ هذه الأشياء لا تكون إلا عن تعمّد, لأنه (¬2) لا يكون كاذبًا ولا يكون زانيًا ولا يكون سارقًا إلا بقصده إلى ذلك وتعمُّده". وقال أبو ريَّة ص 41: (حديث من كذب عليَّ ليس بمتواتر .. وقد قال الحافظ ابن حجر وهو سيد المحدّثين بالإجماع وأمير المؤمنين في الحديث ما يلي ..) فذكر عن "فتح الباري" (1: 168) (¬3) اعتراض بعضهم على تواتره، وسكت، [ص 52] وفي "فتح الباري" بيان الجواب الواضح عن ذاك الاعتراض، فراجعه. وقال ص 42: (الكذب على النبي قبل وفاته). ¬

_ (¬1) (1/ 369 - 370 - ط الرسالة). (¬2) في "المشكل": "ولأنه". (¬3) (1/ 203 - ط السلفية).

أقول: سأنظر في هذا وما يليه إلى ص 53 بعد الكلام على عدالة الصحابة الذي ذكره ص 310، فانتظر. ***

الرواية بالمعنى

الرواية بالمعنى قال أبو ريَّة ص 8: (ولما رأى بعض الصحابة أن يرووا للناس من أحاديث النبي، ووجدوا أنهم لا يستطيعون أن يأتوا بالحديث عن أصل لفظه استباحوا لأنفسهم أن يرووا على المعنى). أقول: أنزل الله تبارك وتعالى هذه الشريعة في أمة أُمية، فاقتضت حكمتُه ورحمته أن يكلّفهم (¬1) الشريعة، ويُكلِّفهم حفظها وتبليغها في حدود ما يتيسّر لهم. وتكفَّل سبحانه أن يرعاها بقدرته ليتمّ ما أراده لها من الحفظ إلى قيام الساعة. وقد تقدم شيء من بيان التيسير (ص20 و21 و22) (¬2). ومن تدبر الأحاديث في إنزال القرآن على سبعة أحرف وما اتصل بذلك بانَ له أن الله تعالى أنزل القرآن على حرفٍ هو الأصل، ثم تكرّر تعليم جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم - لتمام سبعة أحرف، وهذه الأحرف الستة الزائدة عبارة عن أنواعٍ من المخالفة في بعض الألفاظ للفظ الحرف الأول بدون اختلاف في المعنى (¬3) فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يلقّن أصحابه فيكون بين ما يلقّنه ذا وما لقّنه ذاك شيء من ذاك الاختلاف في اللفظ، فحفظ أصحابه كلٌّ بما لُقِّن، وضبطوا ذلك في صدورهم ولقَّنوه الناس، ورُفِع الحرج مع ذلك عن المسلمين، ¬

_ (¬1) (ط): "يكفّلهم" تحريف. (¬2) انظر (ص 41 - 45). (¬3) هنا تعليق يحتمل أن يكون للشيخ أو للناشر الأول، ونصه: "المراد بالاختلاف في المعنى هو الاختلاف المذكور في قول الله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] فأما أن يدلّ أحد الحرفين على معنى والآخر على معنى آخر وكلا المعنيين معًا حق، فليس باختلاف بهذا المعنى".

فكان بعضهم ربما تلتبس عليه كلمة مما يحفظه أو يشقّ عليه النطقُ بها فيكون له أن يقرأ بمرادفها. فمن ذلك ما كان يوافق حرفًا آخر ومنه ما لا يوافق، ولكنه لا يخرج عن ذاك القبيل. وفي "فتح الباري" (¬1): "ثبت عن غير واحد من الصحابة أنه كان يقرأ بالمرادف ولو لم يكن مسموعًا له". فهذا ضَرْبٌ محدود من القراءة بالمعنى رُخِّص فيه لأولئك. وكتب القرآن بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - في قطع من الجريد وغيره، تكون في القطعة الآية والآيتان وأكثر، وكان رسم الخط يومئذ يحتمل - والله أعلم - غالب الاختلافات التي في الأحرف السبعة، إذ لم يكن له شَكْل ولا نَقْط، وكانت تحذف فيه كثير من الألفات ونحو ذلك كما تراه في رسم المصحف، وبذاك الرسم عينه نُقِل ما في تلك القطع إلى صحف في عهد أبي بكر، وبه كتبت المصاحف في عهد عثمان، ثم صار على الناس أن يضبطوا قراءتهم، بأن يجتمع فيها الأمران: النقل الثابت بالسماع من النبي - صلى الله عليه وسلم -، واحتمال رسم المصاحف العثمانية. وبذلك خرجت من القراءات الصحيحة تلك التغييرات التي كان يترخَّص بها بعض الناس، وبقي من الأحرف الستة المخالفة للحرف الأصلي ما احتمله الرسم [ص 53] ولعله غالبها إن لم يكن جميعها، مع أنه وقع اختلاف يسير بين المصاحف العثمانية، وكأنه تبعًا للقِطَع التي كُتِب فيها القرآن بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، كأن توجد الآية في قطعتين كُتِبت الكلمة في إحداهما بوجه وفي الأخرى بالآخر، فبقي هذا الاختلاف في القراءات الصحيحة. ¬

_ (¬1) (9/ 27). والمثال الذي ذكره الحافظ هو قراءة ابن مسعود "عتى حين" وليست من المرادف بل لهجة في الكلمة.

ونخرج مما تقدم بنتيجتين: الأولى: أن حفظ الصدور لم يكن كما يصوِّره أبو ريَّة بل قد اعتمد عليه في القرآن، وبقي الاعتماد عليه وحده بعد حفظ الله عزَّ وجلَّ في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -[وأبي بكر] وعمر وسنين من عهد عثمان، لأن تلك القطع التي كُتِب فيها في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت مفرَّقة عند بعض أصحابه لا يعرفها إلا من هي عنده، وسائر الناس غيره يعتمدون على حفظهم. ثم لمّا جُمعت في عهد أبي بكر لم تُنشر هي ولا الصحف التي كُتبت عنها، بل بقيت عند أبي بكر ثم عند عمر ثم عند ابنته حفصة أم المؤمنين، حتى طلبها عثمان، ثم اعتمد عليه في عامة المواضع التي يحتمل فيها الرسم وجهين أو أكثر، واستمر الاعتماد عليه حين استقرَّ تدوينُ القراءات الصحيحة. النتيجة الثانية: أن حال الأميين قد اقتضت الترخيص لهم في الجملة في القراءة بالمعنى، وإذا كان ذلك في القرآن مع أن ألفاظه مقصودة لذاتها؛ لأنه كلام ربِّ العالمين بلفظه ومعناه، مُعْجِز بلفظه ومعناه، مُتعبَّد بتلاوته، فما بالك بالأحاديث التي مدار المقصود الديني فيها على معانيها فقط؟ وإذا علمنا ما تقدَّم أول هذا الفصل من التيسير مع ما تقدم (ص 20، 21 و32) (¬1) وعلمنا ما دلَّت عليه القواطع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مبيِّن لكتاب الله ودينه بقوله وفعله، وأن كلّ ما كان منه مما فيه بيان للدين فهو خالد بخلود الدين إلى يوم القيامة، وأن الصحابة مأمورون بتبليغ ذلك في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعد وفاته (راجع ص 12 و36 و45 و49) (¬2) وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمرهم ¬

_ (¬1) انظر (ص 41 - 43، 63). (¬2) انظر (ص 24، 70، 87، 94).

بكتابة الأحاديث، وأقرَّهم على عدم كتابتها، بل قيل إنه نهاهم عن كتابتها كما مرَّ بما فيه (¬1)، ومع ذلك كان يأمرهم بالتبليغ لما علموه وفهموه، وعَلِمنا أنّ عادة الناس قاطبةً فيمن يُلْقى إليه كلام المقصود منه معناه، ويؤمر بتبليغه = أنه إذا لم يحفظ لفظَه على وجهه وقد ضبط معناه لزمه أن يبلِّغه بمعناه ولا يعدّ كاذبًا ولا شِبه كاذب، علمنا يقينًا أن الصحابة إنما أُمِرُوا بالتبليغ على ما جرت به العادة: مَنْ بقي منهم حافظًا لِلَّفظ على وجهه فليؤدِّه كذلك، ومن بقي ضابطًا للمعنى ولم يبق ضابطًا للفظ فليؤدِّه بالمعنى. هذا أمر يقينيّ لا ريب فيه، وعلى ذلك جرى عملهم في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعد وفاته. فقول أبي ريَّة: (لما رأى بعض الصحابة .. استباحوا لأنفسهم) إن أراد أنهم لم يؤمروا بالتبليغ ولم يُبَحْ لهم أن يرووا بالمعنى إذا كانوا ضابطين له دون اللفظ، فهذا كذب عليهم وعلى الشرع [ص 54] والعقل كما يُعْلَم مما مر. وتشديده - صلى الله عليه وسلم - في الكذب عليه إنما المراد به الكذب في المعاني، فإن الناس يَبْعَثون رسلهم ونُوَّابهم ويأمرونهم بالتبليغ عنهم، فإذا لم يشترط عليهم المحافظة على الألفاظ فبلَّغوا المعنى فقد صدقوا. ولو قلت لابنك: اذهب فقل للكاتب: أبي يدعوك. فذهب وقال له: والدي - أو الوالد - يدعوك، أو يطلب مجيئك إليه، أو أمرني أن أدعوك له، لكان مطيعًا صادقًا، ولو اطلعت بعد ذلك على ما قال فزعمت أنه عصى أو كذب وأردت أن تعاقبه لأنَكْرَ العقلاء عليك ذلك. وقد قصَّ الله عزَّ وجلَّ في القرآن كثيرًا من أقوال خلقه بغير ألفاظهم؛ لأن من ذلك ما يطول فيبلغ الحدَّ المعْجِز، ومنه ما يكون عن لسان ¬

_ (¬1) انظر (ص 41 فما بعدها).

أعجمي، ومنه ما يأتي في موضع بألفاظ وفي آخر بغيرها، وقد تتعدد الصور كما في قصة موسى، ويطول في موضع ويختصر في آخر. فبالنظر إلى أداء المعنى كرَّر النبي - صلى الله عليه وسلم - بيان شدة الكذب عليه، وبالنظر إلى أداء اللفظ اقتصر على الترغيب فقال: "نَضِّرَ الله أمرءًا سمع مِنّا شيئًا فأدَّاه كما سمعه، فربّ مبلَّغٍ أوعى مِن سامع" (¬1)، جاء بهذا اللفظ أو معناه مطوّلًا ومختصرًا من حديث ابن مسعود، وزيد بن ثابت، وأنس، وجُبير بن مُطْعِم، وعائشة، وسعد، وابن عمر، وأبي هريرة، وعُمير بن قتادة، ومعاذ بن جبل، والنعمان بن بشير، وزيد بن خالد، وعُبادة بن الصامت، منها الصحيح وغيره. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتحرَّى معونتهم على الحفظ والفهم كما مرَّ (ص 43) (¬2). واعلم أن الأحاديث الصحيحة ليست كلها قولية، بل منها ما هو إخبار عن أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي كثيرة. ومنها ما أصله قوليّ، ولكن الصحابي لا يذكر القول بل يقول: أمرنا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بكذا، أو نهانا عن كذا، أو قضى بكذا، أو أذِنَ في كذا .. وأشباه هذا. وهذا كثير أيضًا. وهذان الضربان ليسا محلّ نزاع، والكلام في ما يقول الصحابي فيه: ¬

_ (¬1) هذا الحديث رُوي عن جماعة كثيرة من الصحابة نحو الثلاثين، من أقواها حديث زيد بن ثابت. أخرجه أحمد (21590)، وأبو داود (3660)، والترمذي (2656)، وابن ماجه (230)، وابن حبان (67، 680) وغيرهم. قال الترمذي: حديث حسن، وصححه ابن حبان. وحديث ابن مسعود أخرجه أحمد (4157)، والترمذي (2657)، وابن ماجه (232)، وابن حبان (66، 69). قال الترمذي: حسن صحيح، وصححه ابن حبان. وانظر: "موافقة الخبر الخبر": (1/ 363 - 393)، و"المعتبر" (ص 130 - 131). (¬2) (ص 83 - 84).

قال رسول الله كيت وكيت، أو نحو ذلك. ومَن تتبع هذا في الأحاديث التي يرويها صحابيان أو أكثر ووقع اختلاف فإنما هو في بعض الألفاظ، وهذا يبين أن الصحابة لم يكونوا إذا حَكَوا قولَه - صلى الله عليه وسلم - يهملون ألفاظه البتة، لكن منهم مَن يحاول أن يؤدّيها، فيقع له تقديم وتأخير أو إبدال الكلمة بمرادفها ونحو ذلك. ومع هذا فقد عُرِف جماعة من الصحابة كانوا يتحرّون ضبط الألفاظ، وتقدم (ص 42) (¬1) قول أبي رية: "إن الخلفاء الأربعة وكبار الصحابة وأهل الفتيا لم يكونوا ليرضوا أن يرووا بالمعنى". وكان ابن عمر ممن شدَّد في ذلك، وقد آتاهم الله مِنْ جودة الحفظ ما آتاهم. وقصة ابن عباس مع عمر بن أبي ربيعة مشهورة. ويأتي في ترجمة أبي هريرة ما ستراه. فعلى هذا ما كان من أحاديث المشهورين بالتحفُّظ فهو بلفظ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وما كان من حديث غيرهم فالظاهر ذلك, لأنهم كلهم كانوا يتحرّون ما أمكنهم، ويبقى النظر في تصرُّف مَنْ بعدهم. ... ¬

_ (¬1) (ص 84).

الحديث ورواته ونقد الأئمة للرواة

[ص 55] الحديث ورواته ونقد الأئمة للرواة قال أبو ريَّة: (ثم سار على سبيلهم كلُّ مَن جاء من الرواة بعدهم. فيتلقى المتأخر عن المتقدِّم ما يرويه عن الرسول بالمعنى، ثم يؤديه إلى غيره بما استطاع أن يمسكه ذهنه منه). أقول: هذه حكاية من يأخذ الكلمات من هنا وهناك، ويقيس بذهنه بدون خبرة بالواقع. فإن كثيرًا من الأحاديث الصحيحة إن لم نقل غالبها يأتي الحديث منها عن صحابيين فأكثر، وكثيرًا ما يتعدد الرواة عن الصحابي، ثم عن التابعي، وهَلُمَّ جرًّا. فأما الصحابة فقد تقدم حالهم. وأما التابعون، فقد يتحفَّظون الحديث كما يتحفَّظون القرآن، كما جاء عن قتادة أنه "كان إذا سمع الحديث أخذه العويل والزويل حتى يحفظه" (¬1). هذا مع قوّة حفظه؛ ذكروا أن صحيفة جابر على كبرها قرئت عليه مرة واحدة - وكان أعمى - فحفظها بحروفها، حتى قرأ مرة سورة البقرة فلم يخطئ حرفًا ثم قال: "لأنا لصحيفة جابر أحفظ منى لسورة البقرة" (¬2). وكان غالبهم يكتبون ثم يتحفَّظون ما كتبوه، ثم منهم من يُبقي كتبه - راجع (ص 28) (¬3) - ومنهم من إذا أتقن المكتوب حفظًا محا الكتاب. وهؤلاء ونفر لم يكونوا يكتبون، غالبهم ممن رُزِقُوا جَودة الحفظ ¬

_ (¬1) أخرجه أبو نعيم في "الحلية": (2/ 335)، والخطيب في "الجامع" (463). والعويل: رفع الصوت بالبكاء، والزويل: الحركة. (¬2) ذكره البخاري في "التاريخ الكبير": (7/ 186)، وأخرجه أبو نعيم في "الحلية": (2/ 334). (¬3) (ص 55 - 56).

وقوة الذاكرة، كالشعبي والزُّهري وقتادة. وقد عُرِف منهم جماعة بالتزام رواية الحديث بتمام لفظه، كالقاسم بن محمد بن أبي بكر، ومحمد بن سيرين، ورجاء بن حَيْوَة. أما أتباع التابعين فلم يكن فيهم راوٍ مكثر إلا كان عنده كتب بمسموعاته يراجعها ويتعاهدها ويتحفَّظ حديثَه منها. ثم منهم من لم يكن يحفظ، وإنما يحدِّث مِنْ كتابه. ومنهم من جرّب عليه الأئمةُ أنه يُحدِّث من حفظه فيخطئ، فاشترطوا لصحة روايته أن يكون السماع منه مِنْ كتابه. ومنهم مَن عَرَف الأئمةُ أنه حافظ، غير أنه قد يقدِّم كلمة أو يؤخِّرها، ونحو ذلك مما عرفوا أنه لا يغيِّر المعنى، فيُوثّقونه ويبيّنون أن السماع منه من كتابه أثبت. فأما مَنْ بعدهم، فكان المتثبِّتون لا يكادون يسمعون مِن الرجل إلا مِن أصل كتابه. كان عبد الرزاق الصنعاني ثقة حافظًا، ومع ذلك لم يسمع منه أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين إلا مِن أصل كتابه. هذا، وكان الأئمة يعتبرون حديثَ كلِّ راو فينظرون كيف حدَّث به في الأوقات المتفاوتة، فإذا وجدوه يحدِّث مرَّة كذا ومرَّة كذا بخلافٍ لا يُحْتَمل ضعَّفوه. وربما سمعوا الحديث مِن الرجل ثم يَدَعونه مدةً طويلة ثم يسألونه عنه. ثم [يعتبرون] (¬1) مرويّاته برواية مَن روى عن شيوخه وعن شيوخ شيوخه، فإذا رأوا في روايته ما يخالف رواية الثقات حكموا عليه بِحَسَبها. وليسوا يوثّقون الرجل لظهور صلاحه في دينه فقط، بل معظم اعتمادهم على حاله في حديثه كما مرّ، وتجدهم يجرحون الرجل بأنه يخطئ ويغلط، وباضطرابه في حديثه، [ص 56] وبمخالفته الثقات، وبتفرُّده، وهَلُمَّ جرًّا. ¬

_ (¬1) (ط): "يعتبر حرف" ولا معنى لها، ولعلها محرفة عما أثبت.

ونظرهم عند تصحيح الحديث أدقّ مِن هذا. نعم، إن هناك مِن المحدِّثين من يسهِّل ويخفّف، لكن العارف لا يخفى عليه هؤلاء من هؤلاء. فإذا رأيت المحققين قد وثَّقوا رجلًا مطلقًا، فمعنى ذلك أنه يروي الحديث بلفظه الذي سمعه، أو على الأقل إذا روى بالمعنى لم يغيّر المعنى. وإذا رأيتهم قد صحَّحوا حديثًا، فمعنى ذلك أنه صحيح بلفظه أو على الأقل بنحو لفظه، مع تمام معناه. فإنْ بان لهم خلاف ذلك نبَّهوا عليه كما تقدم (ص 18) (¬1). وذكر أبو ريَّة ص 54 فما بعدها كلامًا طويلًا في هذه القضية. وذكر اعتقاد شيوخ الدين أن الأحاديث كآيات القرآن (من وجوب التسليم لها وفرض الإذعان لأحكامها بحيث يأثم أو يرتدّ أو يفسق من خالفها ويستتاب من أنكرها أو شك فيها). أقول: أما ما لم يثبت منها ثبوتًا تقوم به الحجة فلا قائل بوجوب قبوله والعمل به. وأما الثابت فقد قامت الحُجَج القطعية على وجوب قبوله والعمل به, وأجمع علماء الأمة عليه كما تقدم مرارًا. فمُنْكِر وجوب العمل بالأحاديث مطلقًا تُقام عليه الحجة، فإن أصرَّ بانَ كفرُه. ومنكر وجوب العمل ببعض الأحاديث إن كان له عذر من الأعذار المعروفة بين أهل العلم وما في معناها فمعذور، وإلا فهو عاصٍ لله ورسوله، والعاصي آثم فاسق. وقد يتفق ما يجعله في معنى منكر وجوب العمل بالأحاديث مطلقًا، وقد مرَّ. وذكر ص 55 فما بعدها الخلافَ في جواز الرواية بالمعنى. أقول: الذين قالوا: "لا تجوز" إنما غرضهم ما ينبغي أن يُعْمَل به في عهدهم وبعدهم، فأما ما قد مضى فلا كلام فيه، لا يطعن في متقدِّم بأنه كان ¬

_ (¬1) (ص 36 - 37).

بالمعنى، ولا في روايته. لكنْ إن وقع تعارض بين مرويِّه ومرويِّ مَنْ كان يبالغ في تحرِّي الرواية باللفظ فذلك مما يرجّح الثاني. وهذا لا نزاع فيه. ومدار البحث هو أن الرواية بالمعنى قد تُوقِع في الخطأ، وهذا معقول، لكنْ لا وجه للتهويل، فقد ذكر أبو ريَّة ص 59: (قال ابن سيرين: كنت أسمع الحديث من عشرة، المعنى واحد والألفاظ مختلفة). وكان ابن سيرين مِن المتشدِّدين في أن لا يروي إلا باللفظ، ومع هذا شهد للذين سمع منهم أنهم مع كثرة اختلافهم في اللفظ لم يخطئ أحد منهم المعنى. ولهذا لما ذُكر له أن الحسن والشعبي والنَّخَعي يروون بالمعنى اقتصر على قوله: "إنهم لو حدَّثوا كما سَمِعُوا كان أفضل" انظر "الكفاية" للخطيب (ص 206). ومن تدبَّر ما تقدّم من حال الصحابة وأنهم كانوا كلهم يراعون الرواية باللفظ، ومنهم من كان يبالغ في تحرِّي [ص 57] ذلك. وكذا في التابعين وأتباعهم، وأنَّ الحديث الواحد قد يرويه صحابيان فأكثر، ويرويه عن الصحابي تابعيان فأكثر وهَلُمَّ جرًّا، وأن التابعين كتبوا، وأن أتباعهم كتبوا ودوَّنوا، وأن الأئمة اعتبروا حال كلِّ راوٍ في روايته لأحاديثه في الأوقات المتفاوتة، فإذا وجدوه يروي الحديث مرَّة بما يحيل معناه في روايته له مرة أخرى جرحوه، ثم اعتبروا رواية كلِّ راوٍ برواية الثقات, فإذا وجدوه يخالفهم بما يحيل المعنى جرحوه، ثم بالغ محققوهم في العناية بالحديث عند التصحيح، فلا يصحِّحون ما عرفوا له علة. نعم قد يذكرون في المتابعات والشواهد ما وقعت فيه مخالفة ما وينبهون عليه. من تدبَّر هذا ولم يُعْمِه الهوى اطمأنّ قلبُه بوفاء الله تعالى بما تكفَّل به من حفظ دينه، وبتوفيقه علماء الأمة للقيام بذلك، ولله الحمد. ويؤكِّد ذلك أن أبا ريَّة حاول أن يقدِّم شواهد

على اختلاف ضارّ وقع بسبب الرواية، فكان أقصى جهده ما يأتي: قال ص 6: (صيغ التشهدات)، وذكر اختلافها. أقول: يتوهَّم أبو ريَّة - أو يوهم - أنَّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - إنما علّمهم تشهّدًا واحدًا، ولكنهم أو بعضهم لم يحفظوه، فأتوا بألفاظ مِن عندهم مع نسبتها إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم -. وهذا باطل قطعًا؛ فإن التشهد يُكرَّر كلَّ يوم بضع عشرة مرّة على الأقل في الفريضة والنافلة، وكان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يُحفَّظ أحدهم حتى يحفظ. وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُقريء الرجلين السورة الواحدة هذا بحرف وهذا بآخر، فكذلك علّمهم مقدمة التشهُّد بألفاظ متعددة، هذا بلفظ وهذا بآخر. ولهذا أجمع أهل العلم على صحة التشهد بكلِّ ما صحّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما ذِكْر عمر التشهد على المنبر (¬1)، وسكوت الحاضرين، فإنما وجهه المعقول: تسليمهم أن التشهد الذي ذكره صحيح مجزئ. وقد كان عمر يقرأ في الصلاة وغيرها القرآن ولا يَردُّ عليه أحد، مع أن كثيرًا منهم تلقّوا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بحرف غير الحرف الذي تلقّى به عمر، ومثل هذا كثير. ومن الجائز أن يكونوا - أو بعضهم - لم يعرفوا اللفظ الذي ذكره عمر، ولكنهم قد عرفوا أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - علَّم أصحابه بألفاظ مختلفة، وعمر عندهم ثقة. وأما قول بعضهم (¬2) بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -: "السلام على النبي" بدل "السلام عليك أيها النبي" فقد يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - خيَّره بين اللفظين، وقد يكون ¬

_ (¬1) أخرجه مالك في "الموطأ" (240)، وابن أبي شيبة (3009)، والبيهقي: (2/ 144) وغيرهم. (¬2) هو ابن مسعود رضي الله عنه، أخرجه عنه أحمد (3935)، والبخاري (6265)، ومسلم (402) وغيرهم.

فَعَل ذلك باجتهاده خشية أن يتوهَّم جاهلٌ أنَّ الخطاب على حقيقته. أما الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - فالتحقيق أنها موجودة في التشهدات كلها بلفظ "ورحمة الله" والقائل بوجوبها عقب التشهد بلفظ الصلاة لم يجعلها من التشهد بل هي عنده أمر مستقل. والكلام في ذلك معروف، لا علاقة له بالرواية بالمعنى. [ص 58] قال أبو ريَّة ص 64: (وكلمة التوحيد)، وذَكَر ما لا علاقة له بالرواية بالمعنى. ثم قال ص 66: (حديث الإسلام والإيمان) فذكر عن "صحيح مسلم" (¬1) حديث طلحة: "جاء رجل من أهل نجد"، وحديث جبريل برواية أبي هريرة (¬2)، وحديث أبي أيوب: "جاء رجل إلى النبي فقال: دلَّني على عمل الخ" (¬3)، وحديث أبي هريرة: "أن أعرابيًّا جاء الخ" (¬4). ثم ذكر عن النووي: "اعلم أنه لم يأت في حديث طلحة ذكر الحج، ولا جاء ذكره في حديث جبريل من رواية أبي هريرة, وكذا غير [هذا من] هذه الأحاديث لم يُذكر في بعضها الصوم، ولم يُذكر في بعضها الزكاة، وذُكِر في بعضها صِلَة الرحم، وفي بعضها أداء الخمس. ولم يقع في بعضها ذِكْر الإيمان ... وقد أجاب القاضي عياض وغيره رحمهم الله بجواب لخَّصه أبو عمرو ابن الصلاح وهذَّبه فقال: " ... هو من تفاوت الرواة في الحفظ والضبط، فمنهم من قصَّر ¬

_ (¬1) رقم (11)، وهو في البخاري (46). (¬2) أخرجه مسلم (9، 10). (¬3) أخرجه مسلم (13). (¬4) أخرجه البخاري (1397)، ومسلم (14).

فاقتصر على ما حفظه ... " (¬1). أقول: أما هذه الأحاديث فلا يتعيَّن فيها ذاك الجواب بل لا يتَّجِه، فإن واقعة حديث جبريل لا علاقة لها ببقية الأحاديث، وذكر الإيمان فيه؛ لأن جبريل أراد بيان جمهرة الدين، وبقية الأحاديث ليس بواجب أن يُذْكَر فيها الإيمان اكتفاء بعلم السائل به، مع أن في (¬2) ما ذكر له ما يستلزمه. وحديث طلحة وحديث أبي هريرة في الأعرابي، يظهر أنها واقعة واحدة يحتمل أنها وقعت قبل أن ينزل فرض الحج، فلذلك لم يذكر، وحديث أبي أيوب يحتمل أن يكون واقعة أخرى وقعت قبل فرض الحج والصوم، فلذلك لم يُذكرا فيه. وأما صلة الرحم وأداء الخُمُس فليسا من الأركان العظمى فلا يجب ذكرهما في كلِّ حديث. هذا، وحديث جبريل قد ورد من رواية عمر بن الخطاب، وثبت في بعض طرقه ذكر الحج، وصحَّح ابنُ حَجَر ذلك في "الفتح" (¬3) بأنه قد جاء في رواية أنَّ الواقعة كانت في أواخر حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -. فعلى هذا فسقوطه في رواية أبي هريرة مِنْ عَمَل بعض الرواة، كأنه كان عنده أيضًا حديث أبي هريرة في الأعرابي وليس فيها ذكر الحج فحمل هذه عليها، والله أعلم. ومثل هذا ليس من الرواية بالمعنى، إنما هو من ترك الراوي لشيءٍ من الحديث نسيه أو شكَّ فيه، ولا يقتضي تركه إحالة لمعنى الحديث. وكثيرًا ما ¬

_ (¬1) "شرح مسلم": (1/ 167 - 168) وما بين المعكوفين منه. (¬2) كذا في (ط) والعبارة مستقيمة بدونها. (¬3) (1/ 119).

يقع في الكتاب والسنة ترك بيان بعض الأمور في موضع لائق به اعتمادًا على بيانه في موضع آخر، وليس هذا بأكثر من مجيء عموم أو إطلاق في القرآن، ومجيء تخصيصه أو تقييده في السنة. [ص 59] قال ص 68: (حديث زوجتكها بما معك) ذَكَر أنه رُوي على ثمانية أوجه: (1 - قد زوجتكها بما معك من القرآن، 2 - زوجتكها على ما معك الخ، 3 - أنكحتكها بما الخ، 4 - قد ملكتكها بما الخ، 5 - قد أملكتكها بما الخ، 6 - قد أمكناكها الخ، 7 - أنكحتكها على أن تقرئها وتعلمها، 8 - خذها بما معك الخ). أقول: الثامنة لم تُذْكر في "فتح الباري"، والسابعة سندها واهٍ، والسادسة صوابها على ما استظهره في "الفتح" (¬1): أمْلَكْناكها، والست الأولى معناها واحد، وكذا حكمها عند جمهور أهل العلم. وقال قوم: لا يصح العقد إلا بلفظ التزويج أو الإنكاح كما في الثلاث الأولى، فأما الثلاث التي تليها فلا يصح التزويج بها. وأجابوا عن هذه الروايات بأن أرجحها وأثبتها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - هي التي بلفظ التزويج. فتحصَّل من هذا أن الرواية بالمعنى وقعت، ولكن لم يترتب عليها مفسدة، ولله الحمد. على أن المعنى الأهم في الحديث وهو التزويج بتعليم القرآن لم تختلف فيه الروايات. قال ص 68: (حديث الصلاة في بني قريظة) ذكر أنه وقع عند البخاري: "لا يصلينّ أحدُكم العصرَ إلا ... " (¬2) وعند غيره: "لا يصلينّ أحدُكم الظهرَ إلا ... " (¬3) مع اتحاد المخرج. ¬

_ (¬1) (9/ 214). (¬2) البخاري (946، 4119). (¬3) أخرجه مسلم (1770)، وابن حبان (1462)، والبيهقي: (10/ 119).

أقول: في "الفتح" (¬1): إن الذي عند أهل المغازي "العصر" وكذلك جاء من حديث عائشة ومن حديث كعب بن مالك. ورواه جويرية بن أسماء عن نافع عن ابن عمر، فقال أبو حفص السلمي عن جويرية: "العصر"، وقال أبو غسان عن جويرية: "الظهر". ورواه عبد الله بن محمد بن أسماء عن جويرية، فقال البخاري عنه: "العصر"، وقال مسلم وغيره عنه: "الظهر" فذكر ابن حجر احتمالين: حاصل الأول: بزيادة أن جويرية قال مرَّةً "العصر" كما رواه عنه أبو حفص السلمي، ومرَّةً "الظهر" كما رواه عنه أبو غسان، وكتبه عبد الله بن محمد بن أسماء عن جويرية على الوجهين، فسمعه البخاريُّ مِن عبد الله على أحدهما، ومسلم وغيره على الآخر. وكأنَّ البخاريّ راجع عبدَ الله في ذلك ففتَّش عبدُ الله أصولَه فوجد الوجه الذي فيه "العصر" فأخذ به البخاري لعلمه أنه الصواب. الاحتمال الثاني: أن يكون البخاري إنما سمعه من عبد الله بلفظ "الظهر" ولم يكتبه البخاري إلا بعد مدَّة من حفظه فقال: "العصر" أخطأ لفظ شيخه وأصاب الواقع. أما ما ذكر أنّ البخاريّ كان يحفظ ثم يكتب مِن حفظه، فإن صحَّ ذلك فهذا صحيحه فيه آلاف الأحاديث، وقلَّ حديثٌ منها إلا وقد رواه جماعة غيره عن شيخه وعن شيخ شيخه، وقد تتبَّع ذلك المستخرجون عليه وشُرَّاحه، فإذا لم يقع له خطأ إلا هذا الموضع - على فَرْض أنه أخطأ - كان هذا من أدفع الحجج لتشكيك أبي ريَّة. ¬

_ (¬1) (7/ 408 - 409).

قال أبو ريَّة ص 69: (وبلغ من أمرهم أنهم كانوا يروون الحديث بألفاظهم وأسانيدهم، ثم يعزونه إلى كتب السنة ...). أقول: حاصله أن البيهقي يروي عن كتبه الأحاديث بأسانيده إلى شيخ البخاري أو شيخ شيخه ومَنْ فوقه، ويقع [ص 60] في لفظه مخالفة للفظ البخاري مع اتفاق المعنى، ومع ذلك يقول: "أخرجه البخاري عن فلان" ولا يبين اختلاف اللفظ، وكذا يصنع البغوي. وأقول: العذر في هذا واضح، وهو اتفاق المعنى مع جَرَيان العادة بوقوع الاختلاف في بعض الألفاظ، وكتاب البخاري متواتر فأقلّ طالب حديث يشعر بالمقصود. وذكر قول النووي (¬1) في حديث: "الأئمة من قريش": "أخرجه الشيخان" مع أن لفظهما: "لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان" (¬2). أقول: المعنى قريب، وقد يكون النووي رحمه الله وهِم، ومثل هذا لا يقدِّم ولا يؤخِّر، لأن "الصحيحين" متواتران. قال أبو ريَّة ص 70: (ضرر رواية الحديث بالمعنى) وساق عبارة طويلة لابن السِّيْد البَطَلْيَوْسِيّ في "أسباب الاختلاف". وفيها (ص 72 - 73) ما يخشى منها، وقد قدمنا (ص 21 - 22 - و55) (¬3) ما فيه الكفاية. وذكر ص 74 حديث: "إن يكن الشؤم ففي ثلاث". وسيأتي النظر فيه بعد النظر ¬

_ (¬1) في "المجموع شرح المهذّب": (1/ 7). (¬2) البخاري (3501)، ومسلم (1820) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. (¬3) (ص 42 - 44، 108).

في عدالة الصحابة الذي ذكره أبو ريَّة في كتابه ص 310 - 327. وقال ص 75: (ضرر الرواية بالمعنى من الناحية اللغوية والبلاغية ...). أقول: قد قدمتُ ما يعلم منه أنّ مِن الأحاديث ما يمكن أن يَحْكم العارف بأنه بلفظ النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومنها ما يمكن أن يحكم بأنه بلفظ الصحابي، ومنها ما يمكن أن يحكم بأنه على لفظ التابعي. فهذه يمكن الاستفادة منها في العربية، وما عدا ذلك ففي القرآن وغيره ما يكفي. وذكر ص 71 - 78 فصولًا مِن فروع الرواية بالمعنى يُعلم جوابها مما تقدّم. وقال ص 78: (تساهلهم فيما يُروى في الفضائل، وضرر ذلك). أقول: معنى التساهل في عبارات الأئمة هو التساهل بالرواية, كان مِنَ الأئمة مَنْ إذا سمع الحديث لم يروه حتى يتبين له أنه صحيح أو قريب من الصحيح أو يوشك أن يصح إذا وجد ما يعضده، فإذا كان دون ذلك لم يروه البتة. ومنهم مَن إذا وجد الحديث غير شديد الضعف وليس فيه حكم ولا سنَّة، إنما هو في فضيلةِ عَمَلٍ متفق عليه، كالمحافظة على الصلوات في جماعة ونحو ذلك، لم يمتنع من روايته. فهذا هو المراد بالتساهل في عباراتهم. غير أنَّ بعضَ مَن جاء بعدهم فهِم منها التساهل فيما يرد في فضيلةٍ لأمر خاصّ قد ثبت شرعه في الجملة، كقيام ليلة معينة، فإنها داخلة في جملة ما ثبت مِنْ شَرْع قيام الليل. فبنى على هذا جواز أو استحباب العمل بالضعيف، وقد بَيَّن الشاطبيّ في "الاعتصام" (¬1) خطأ هذا الفهم. ولي في ¬

_ (¬1) (2/ 17 - 22 - ط مشهور).

ذلك رسالة لا تزال مسوَّدة (¬1). [ص 61] على أنَّ جماعة من المحدّثين جاوزوا في مجاميعهم ذاك الحدّ، فأثبتوا فيها كلَّ حديث سمعوه ولم يتبين لهم عند كتابته أنه باطل. وأفرط آخرون فجمعوا كلَّ ما سمعوا، معتذرين بأنهم لم يلتزموا إلا أن يكتبوا ما سمعوه ويذكروا سنده، وعلى الناس أن لا يثقوا بشيء من ذلك حتى يعرضوه على أهل المعرفة بالحديث ورجاله. ثم جاء المتأخرون فزادوا الطين بلَّة بحذف الأسانيد. والخلاصُ مِن هذا أسهل، وهو أن تُبيَّن للناس الحقيقة، ويُرجَع إلى أهل العلم والتقوى والمعرفة. لكن المصيبة حقّ المصيبة إعراض الناس عن هذا العلم العظيم، ولم يبق إلا أفراد يُلمُّون بشيء من ظواهره، ومع ذلك فالناس لا يرجعون إليهم، بل في الناس مَنْ يمقتهم ويبغضهم ويعاديهم ويتفنَّن في سبّهم عند كلِّ مناسبة ويدَّعي لنفسه ما يدَّعي، ولا ميزان عنده إلا هواه لا غير، وما يخالف هواه لا يبالي به ولو كان في "الصحيحين" عن جماعة من الصحابة، ويحتج بما يحلو له من الروايات في أيِّ كتاب وُجد، وفيما يحتج به الواهي والساقط والموضوع، كما ترى التنبيه عليه في مواضع من كتابي هذا، والله المستعان. **** ¬

_ (¬1) يعني رسالة حكم العمل بالحديث الضعيف، وهي منشورة ضمن هذا المشروع المبارك إن شاء الله.

الوضع

الوضع وقال أبو ريَّة ص 80 - 89: (الوضع في الحديث وأسبابه ...). أقول: نقل عبارات في هذا المعنى، وهو واقع في الجملة، ولكن المستشرقين والمنحرفين عن السنَّة يطوِّلون في هذا ويهوِّلون ويهملون ما يقابله. ومَثَلُهم مَثَلُ من يحاول مَنعْ الناس من طلب الحقيقي الخالص من الأقوات والسمن والعسل والعقاقير، والحرير والصوف، والذهب والفضة، واللؤلؤ والياقوت، والمسك والعنبر، وغير ذلك = بذكر ما وقع من التزوير والتلبيس، والتدليس والغشّ في هذه الأشياء، ويُطيل في ذلك. والعاقل يعلم أنّ الحقيقي الخالص من هذه الأشياء لم يُرْفَع من الأرض، وأنّ في أصحابها وتجّارها أهل صِدْق وأمانة، وأنّ في الناس أهل خبرة ومهارة يميزون الحقيقيّ الخالص من غيره، فلا يكاد يدخل الضرر إلا على مَنْ لا يرجع إلى أهل الخبرة من جاهل ومقصّر، ومن لا يُبالي ما أخذ. والمؤمن يعلم أن هذه ثمرة عناية الله عزَّ وجلَّ بعباده في دنياهم، فما الظن بعنايته بدينهم؟ لا بدّ أن تكون أتمَّ وأبلغ. ومن تتبَّع الواقع وتدبَّره وأنعم النظر تبين له ذلك غاية البيان. أما الصحابة، فقد زكَّاهم الله في كتابه وعلى لسان رسوله، والأحاديث إنما ثبتت مِن رواية مَنْ زكَّاه الله ورسوله عينًا، أو لا ريب في دخوله فيمن زكَّاه الله ورسوله جملة. نعم جاءت أحاديث قليلة عن بعض من قد يمكن الشكّ فيه، لكن أركان الدين من سلف هذه الأمة تدبَّروا أحاديث هذا الضرب واعتبروها، فوجدوها قد ثبتت هي أو معناها برواية غيرهم، وبعد طول البحث والتحقيق تبيَّن لأئمة السنَّة [ص 62] أن الصحابةَ كلَّهم عدول في

الرواية. وسيأتي مزيد لهذا في فصل "عدالة الصحابة" (¬1). وأما التابعون، فعامة من وثَّقه الأئمة منهم ممَن كثرت أحاديثه هم ممن زكَّاه الصحابة، ثم زكَّاه أقرانه من خيار التابعين، ثم اعتبر الأئمة أحاديثه وكيف حدَّث بها في الأوقات المتفاوتة، واعتبروا أحاديثه بأحاديث غيره من الثقات، فاتضح لهم بذلك كلِّه صدقه وأمانته وضبطه. وهكذا مَنْ بعدهم. وكان أهل العلم يشدّدون في اختيار الرواة أبلغ التشديد، جاء عن بعضهم - أظنه الحسن بن صالح بن حَيّ - أنه قال: كنا إذا أردنا أن نسمع الحديث مِن رجل سألنا عن حاله حتى يقال: أتريدون أن تزوِّجوه؟ (¬2). وجاء جماعة إلى شيخ ليسمعوا منه، فرأوه خارجًا وقد انفلتت بَغْلَتُه وهو يحاول إمساكها وبيده مخلاة يريها إياها، فلاحظوا أنّ المخلاة فارغة، فرجعوا ولم يسمعوا منه. قالوا: هذا يكذب على البغلة فلا نأمن أن يكذب في الحديث. وذكروا أن شعبة كان يتمنّى لقاء رجل مشهور (¬3) ليسمع منه. فلما جاءه وجده يشتري شيئًا ويسترجح في الميزان, فامتنع شعبة من السماع منه. وتجد عدة نظائر لهذا ونحوه في "كفاية الخطيب" (ص 110 - 114). وكان عامة علماء القرون الأولى - وهي قرون الحديث - مقاطعين للخلفاء والأمراء، حتى كان أكثرهم لا يقبل عطاء الخلفاء والأمراء، ولا يرضى بتولِّي القضاء، ومنهم مَنْ كان الخلفاء يطلبونهم ليكونوا بحضرتهم ¬

_ (¬1) (ص 365). (¬2) أخرجه الخطيب في "الكفاية" (ص 93) عن الحسن بن صالح كما ظنّه المؤلف. (¬3) هو أبو الزبير المكي.

ينشرون العلم، فلا يستجيبون، بل يفرُّون ويستترون. وكان أئمة النقد لا يكادون يوثِّقون محدِّثًا يداخل الأمراء أو يتولَّى لهم شيئًا. وقد جرحوا بذلك كثيرًا من الرواة، ولم يوثِّقوا ممن دَاخَلَ الأمراءَ إلا أفرادًا عَلِم الأئمةُ علمًا يقينًا سلامةَ دينهم وأنه لا مَغْمَز فيهم البتة. وكان محمد بن بشر الزَّنْبري محدِّثًا يسمع منه الناس، فاتفق أن خرج أمير البلد لسفر فخرج الزَّنْبري يُشيّعه، فنقم أهل الحديث عليه ذلك وأهانوه ومزَّقوا ما كانوا كتبوا عنه (¬1). وكثيرًا ما كانوا يُكذِّبون الرجل ويتركون حديثه لخبر واحد يتَّهمونه فيه. وتجد مِنْ هذا كثيرًا في "ميزان الذهبي" وغيره. وكذلك إذا سمعوه حدّث بحديث ثم حدّث به بعد مدة على وجه ينافي الوجه الأول. وفي "الكفاية" (ص 113) عن شعبة قال: "سمعت من طلحة بن مصرِّف حديثًا واحدًا وكنت كلما مررت به سألته عنه ... أردت أن أنظر إلى حفظه، فإنْ غيَّر فيه شيئًا تركته". وكان أحدهم يقضي الشهر والشهرين يتنقل في البلدان يتتبع رواية حديث واحد، كما وقع لشعبة في حديث عبد الله بن عطاء عن عقبة بن عامر (¬2)، وكما وقع لغيره في الحديث الطويل في فضائل السور (¬3). ومن تَتبَّع كتب التراجم [ص 63] وكتب العلل بَانَ له مِن جِدِّهم واجتهادهم ما يحيِّر العقول. ¬

_ (¬1) انظر "لسان الميزان": (7/ 13 - 14) لابن حجر. (¬2) ذكر القصة ابنُ حبان في "المجروحين": (1/ 28). (¬3) ذكر القصة الخطيبُ في "الكفاية" (ص 401). والحديث أخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات" (471).

وكان كثير من الناس يُحضِرون أولادَهم مجالسَ السماع في صغرهم ليتعوَّدوا ذلك، ثم يكبر أحدهم فيأخذ في السماع في بلده، ثم يسافر إلى الأقطار ويتحمَّل السفر الطويل والمشاقَّ الشديدة، وقد لا يكون معه إلا جراب من خبز يابس يحمله على ظهره، يصبح فيأخذ كسرة ويبلّها بالماء ويأكلها ثم يغدو للسماع. ولهم في هذا قصص كثيرة، فلا يزال أحدهم يطلب ويكتب إلى أن تبلغ سنُّه الثلاثين أو نحوها، فتكون أُمنيته من الحياة أن يقبله علماءُ الحديث ويأذنوا للناس أن يسمعوا منه، وقد عَرَف أنهم إن اتهموه في حديث واحد أسقطوا حديثَه وضاع مجهوده طول عمره، وربح سوء السمعة واحتقار الناس. وتجد جماعةً من ذرية أكابر الصحابة قد جرحهم الأئمة، وتجدهم سكتوا عن الخلفاء العباسيين وأعمامهم لم يرووا عنهم شيئًا، مع أنهم قد كانوا يروون أحاديث. ومن تتبع أخبارَهم وأحوالَهم لم يعجب مِنْ غَلَبة الصدق على الرواة في تلك القرون، بل يعجب من وجود كذَّابين منهم. ومن تتبَّع تشدُّد الأئمة في النقد لم يعجبْ مِن كثرة من جرَّحوه وأسقطوا حديثه، بل يعجب من سلامة كثير من الرواة وتوثيقهم لهم مع ذلك التشدُّد. وبالجملة، فهذا الباب يحتمل كتابًا مستقلًّا. وأرجو أن يكون فيما ذكرتُه ما يدفع ما يرمي إليه المستشرقون وأتباعُهم - بإفاضتهم في ذكر الوضع - من تشكيك المسلمين في دينهم وإيهامهم أنّ الله تعالى أخلَّ بما تكفَّل به مِنْ حفظ دينه، وأنَّ سلف الأمة لم يقوموا بما عليهم أو عَجَزوا عنه فاختلط الحقُّ بالباطل، ولم يبق سبيل إلى تمييزه. كلَّا بل حجة الله تعالى لم تزل ولن

تزال قائمة، وسبيل الحق مفتوحًا لمن يريد أن يسلكه ولله الحمد. وفي "تهذيب التهذيب" (1: 152): "قال إسحاق بن إبراهيم: أخذ الرشيدُ زنديقًا فأراد قتله، فقال: أينَ أنتَ مِن ألفِ حديثٍ وضعتُها؟ فقال له: أين أنت يا عدوَّ الله من أبي إسحاق الفَزَاري وابن المبارك ينخلانها حرفًا حرفًا" (¬1). وفي "فتح المغيث" (ص 109) (¬2): "قيل لابن المبارك: هذه الأحاديث المصنوعة؟ قال: تعيش لها الجهابذة، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] ". وذكر ص 91 أحاديث قال: إنها موضوعة، ولم يذكر مَنْ حَكَمَ بوضعها من أهل العلم بالحديث. وذكر فيها حديث: "فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على [سائر] الطعام" وقد افترى مَنْ زَعَم هذا موضوعًا، بل هو في غاية الصحة، أخرجه الشيخان في "الصحيحين" من حديث أبي موسى الأشعري (¬3)، ومن حديث أنس (¬4) رضي الله عنهما. ... ¬

_ (¬1) والخبر في "تاريخ دمشق": (2/ 257) لابن عساكر. (¬2) (1/ 303 - الجامعة السلفية)، والخبر في "تقدمة الجرح والتعديل" (ص 3) بسندٍ صحيح. (¬3) البخاري (3411)، ومسلم (2431). (¬4) البخاري (3770)، ومسلم (2446).

معاوية والشام

[ص 64] معاوية والشام وقال ص 91: (معاوية والشام ...). ذكر عن أئمة السنَّة: إسحاق بن راهوية وأحمد بن حنبل والبخاري والنسائي، ثم ابن حجر، ما حاصله: أنه لم يصح في فضل معاوية حديث. أقول: هذا لا ينفي الأحاديث الصحيحة التي تشمله وغيره، ولا يقتضي أن يكون كلّ ما رُوي في فضله خاصّة مجزومًا بوضعه. وبعد، ففي القضية برهانٌ دامغ لما يفتريه أعداء السنَّة على الصحابة وعلى معاوية وعلى الرواة الذين وثَّقهم أئمة الحديث، وعلى أئمة الحديث، وعلى قواعدهم في النقد. أما الصحابة رضي الله عنهم، ففي هذه القضية برهان على أنه لا مجال لاتهام أحد منهم بالكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذلك أنّ معاوية كان عشرين سنة أميرًا على الشام، وعشرين سنة خليفة، وكان في حزبه وفيمن يحتاج إليه جمعٌ كثير من الصحابة، منهم كثير ممن أسلم يوم فتح مكة أو بعده، وفيهم جماعةٌ من الأعراب، وكانت الدواعي إلى التعصّب له والتزلّف إليه متوفِّرة، فلو كان ثَمَّ مَساغ لأنْ يكذب على النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أحدٌ لقيه وسمع منه مسلمًا لأقدَمَ بعضُهم على الكذب في فضل معاوية، وجَهَر بذلك أمام أعيان التابعين، فينقل ذلك جماعةٌ ممن يوثّقهم أئمة السنَّة فيصحّ عندهم ضرورة. فإذا لم يصح خبر واحد = ثبتَ صحةُ القول بأن الصحابة كلّهم عدولٌ في الرواية، وأنه لم يكن منهم أحد مهما خَفَّت منزلته وقويَ الباعثُ له محتملًا منه أن يكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما معاوية فكذلك، فعلى فرض أنه كان يسمح بأن يقع كذب على

النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ما دام في فضيلة له، وأنه لم يطمع في أن يقع ذلك من أحد غيره ممن له صحبة، أو طمع ولكن لم يُجْدِهِ ترغيبٌ ولا ترهيبٌ في حَمْل أحد منهم على ذلك، فقد كان في وُسْعه أن يحدِّث هو عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد حدَّث عدد كثير من الصحابة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بفضائل لأنفسهم وقَبِلَها منهم الناس ورووها وصحَّحها أئمة السنة. ففي تلك القضية برهان على أن معاوية كان من الدين والأمانة بدرجة تمنعه من أن يفكِّر في أن يكذب أو يحمل غيره على الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - مهما اشتدّت حاجتُه إلى ذلك. ومن تدبَّر هذا علم أن عدم صحة حديث عند أهل الحديث في فضل معاوية أدلّ على فضله من أن تصح عندهم عدة أحاديث. وأما الرواة الذين وثقهم أئمة الحديث، فقد كان من حزب معاوية والموالين له عدد منهم، كان في وُسْعهم أن يكذبوا على بعض الصحابة الذين لقوهم ورووا عنهم، فيرووا عنه حديثًا أو أكثر في فضل معاوية [ص 65] وينشروا ذلك فيمن يليهم من الثقات فيصححه أهل الحديث. فعدم وقوع شيء مِن ذلك يدلّ على أنّ الرواة الذين يوثّقهم أئمة الحديث ثقات في نفس الأمر. وأما أئمة الحديث، فهم معروفون بحُسْن القول في الصحابة عامة وخصومهم ينقمون عليهم ذلك، كما تراه في فصل عدالة الصحابة من كتاب أبي رية (¬1)، ويرمونهم بالنَّصْب ومحبة أعداء أهل البيت والتعصب لهم. وتلك القضية براءة لهم؛ فلو كانوا من أهل الهوى المُتَّبع لأمكنهم أن ¬

_ (¬1) (ص 310 - ط الأولى، 312 - ط السادسة). وانظر (ص 365) من كتابنا هذا.

يصحِّحوا عدةَ أحاديث في فضل معاوية، أو يسكتوا على الأقل عن التصريح بأن كلّ ما روي في ذلك غير صحيح. وأما قواعدهم في النقد، فلا ريب أن نجاحها في هذا الأمر - وهو مِن أشدّ معتركات الأهواء - مِن أقوى الأدلة على وفائها بما وُضِعَت له. وأما الشام، فلا ريب أن الموضوعات في فضلها كثيرة، ولكن ليس من الحق في شيء أن تُعد دلالة الخبر على فضلها دليلًا على وضعه، فإن فضلها ثابت بالقرآن، وكذلك الحال في بيت المقدس قال الله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1]. وأخبر الله عزَّ وجلَّ عن الشام بقوله: {الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأنبياء: 71] اقرأ (7: 136) و (21: 71 و81) وبقوله: {الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [سبأ: 18]. وكذلك من الباطل أن تُعدّ دلالة الخَبَر على أمر بأنه سيقع دليلًا على وضعه ما دمنا نؤمن بأن محمدًا رسول الله يُطْلِعه الله مِن غَيبه على ما يشاء. فأما أن يكون مثل هذا مما يسترعي النظر ليبحث عن الخبر من جهة إسناده وما يتصل به ليحكم عليه بحسب ذلك فلا بأس. وحديث: "الخلافة بالمدينة والملك بالشام" رواه هُشَيم (وهو ثقة يدلس) عن العوَّام بن حوشب (وهو ثقة) عن سليمان بن أبي سليمان عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. أخرجه الحاكم في "المستدرك" (3: 72) وقال: "صحيح على شرط مسلم" تعقبه الذهبي فقال: "سليمان وأبوه مجهولان" وهو في "تاريخ البخاري" (2/ 2/ 17) ذكر الجملة الأولى

فقط (¬1). وقال ص 94: (أصل فِرْية الأبدال ...). أقول: سترى الكلام على تلك الأخبار في "موضوعات الشوكاني" (¬2) وتعليقي عليه إن شاء الله. قال: (روى الواقدي: أن معاوية لما عاد من الشام ...). [ص 66] أقول: كرهتُ إثبات الخبر لفَرْطِ سماجته، وأبو ريَّة يتظاهر بالشكوى من الموضوعات ثم يحتجّ بهذا الموضوع الذي إن لم يكن كذبًا فليس في الدنيا كذب. أما سنده فعزاه أبو ريَّة إلى "شرح النهج" (¬3) لابن أبي الحديد، وابنُ أبي الحديد حاله معروفة، ولا ندري ما سنده إلى الواقدي، بل أكاد أقطع أنّ الواقديّ لم يقل هذا ولا رواه، على أنَّ الواقديّ نفسه متروك ولا يُدْرَى - على فَرْض أنه رواه - ما سنده. وأما الخبر نفسُه فكذبٌ مكشوف لا يخفى على من يعرف معاويةَ، وعقلَ معاوية، ودهاءَ معاوية، وتحفّظَ معاوية ولو معرفة بسيطة، وقد تقدَّم ما علمتَ. وقال ص 101: (كيف استجازوا وضع الأحاديث ...). ثم قال: (أخرج الطحاوي في "المشكل" عن أبي هريرة ...). ¬

_ (¬1) وأخرجه نعيم بن حماد في "الفتن" (248)، والبيهقي في "الدلائل": (6/ 447)، وابن الجوزي في "العلل المتناهية": (1277) وقال: "وهذا لا يصح". (¬2) انظر "الفوائد المجموعة" للشوكاني (ص 245 - 247) بتعليق المؤلف رحمه الله تعالى. (¬3) (4/ 72).

أقول: لم أظفر به في "مشكل الآثار" للطحاوي المطبوع (¬1)، وإنما عُزِي في "كنز العمال" (5: 323) إلى الحكيم الترمذي، وقد ذكر أبو ريَّة هذا الخبر من مصدر آخر ص 164 كما ذكر الخبرين اللَّذَيْنِ عقبه، وسأنظر في ذلك هناك إن شاء الله تعالى (¬2)، ويتبيَّن براءة أبي هريرة منها كلها. وقال ص 102: (الوُضّاع الصالحون ... وقالوا: نحن نكذب له لا عليه. وإنما الكذب على من تعمَّدَه). أقول: قوله: (وإنما الكذب على من تعمّده). ليست من قولهم ولا تتعلق بهم. وقال ص 104: (الوضع بالإدراج ...) إلى أن قال: (... في حديث الكسوف وهو في الصحيح: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله والصلاة .. " قال العراقي (¬3): هذه الزيادة لم يصح نقلها فوجب تكذيب قائلها). أقول: تحصَّل من كلامه أن "فإذا رأيتم الخ" طَعَنَ فيها العراقي وقال ما قال. وهذا من تخليط أبي ريَّة، إنما الكلام في زيادة أخرى وقعت عند ابن ماجه لَفْظُها (¬4): "فإن الله إذا تجلَّى لشيء خشع له" والطاعن فيها هو الغزالي ¬

_ (¬1) هو في الطبعة الجديدة رقم (6068)، وأعله البخاري في "تاريخه": (3/ 434)، وأبو حاتم، قال في "العلل" (2445): "هذا حديث منكر، الثقات لا يرفعونه". أي: لا يذكرون فيه "أبو هريرة". وانظر التعليق على "العلل". (¬2) انظر (ص 217 - 218). (¬3) أصلحها أبو رية في الطبعات اللاحقة إلى "الغزالي". (¬4) رقم (1262). وأخرجه أحمد (18351)، والنسائي (1485)، وابن خزيمة (1403) وغيرهم.

لا العراقي. راجع "توجيه النظر" (ص 172) (¬1) و"فتح الباري" (2: 445) (¬2). وبهذا وغيره يتبين أن أبا ريَّة غير موثوق بنقله. ولم أتمكن من مراجعة جميع مصادره، مع أنه كثيرًا ما يهمل ذكر المصدر. وإنما ذكرت هذا لئلا يُغترّ بسكوتي عن بعض ما ينقله. ثم قال: (هل يمكن معرفة الموضوع؟ ذكر المحققون أمورًا كلية ...). [ص 67] أقول: كان عليه أن ينصّ على مَن ذكر هذه الأمور ويبيّن مصدرها. ومن الأمور التي ذكرها ما يحتاج إلى بيان وإيضاح، ومخالفة ظاهر القرآن قد تقدّم ما يتعلق بها (ص 14) (¬3). والاشتمال على تواريخ الأيام المستقبلة علامة إجمالية تدعو إلى التثبّت لكثرة ما وُضِع في هذا الباب. وإلا فقد أَطْلَعَ اللهُ تعالى رسولَه على كثير من الغيب وأخبره به. وتجارب العلم الثابتة، إنما يعتدّ بها إذا كانت قطعية وناقضت الخبر مناقضةً محقَّقة، ولعله يأتي ما يتعلق بها. وقال ص 105: (وأخرج البيهقي بسنده ...). أقول: لم يبيِّنْ أبو ريَّة من أيَّ كتاب أخذ هذا الأمر، وأحسب البيهقي نفسه قد بيَّن سقوطه من جهة السَّنَد (¬4)، أما المتن فسقوطه واضح، راجع ¬

_ (¬1) الطبعة الأولى. (¬2) (2/ 537 - السلفية). (¬3) (ص 28 - 29). (¬4) هذا الأثر نقله أبو رية من كتاب السيوطي "مفتاح الجنة" (ص 26) وهو ينقل عن البيهقي، ونقول السيوطي في هذا الكتاب غالبها من "المدخل إلى السنن" وهذا النص ليس في المطبوع منه. فلم نعرف هل تكلم البيهقيُّ على سنده أم لا. =

(ص 14) (¬1). وذكر ص 105: (هل يمكن معرفة الموضوع بضابط)، ثم ذكر ص 106: (للقلب السليم إشراف الخ). أقول: ينبغي مراجعة الأصول التي نَقَلَ عنها (¬2). **** ¬

_ = والأثر أخرجه عبد الرزاق في "الأمالي" (193)، والهروي في "ذم الكلام" (245) من طريق عاصم بن كليب عن أبيه عن ابن عباس. وأخرجه من طريق الأرقم بن شرحبيل ابنُ أبي عمر - كما في "المطالب العالية" (3073) - وقال البوصيري في "إتحاف الخيرة" (333): "هذا إسناد رجاله ثقات، إلا أن أبا إسحاق - واسمه عمرو بن عبد الله - لم يذكر سماعًا من أرقم بن شرحبيل" اهـ. (¬1) (ص 28 - 29). (¬2) نقل أبو رية كلامَ ابن عروة الحنبلي "للقلب السليم ... " من كتاب "قواعد التحديث" (ص 165 - 172) للقاسمي مع تصرف واختصار يناسب غرضه!

الإسرائيليات

الإسرائيليات ذكرها أبو ريَّة ص 108 وذكر فيها كعب الأحبار ووهب بن منّبه، وسيأتي ما يتعلق بهما (¬1). ثم ذكر ص 110 عن أحمد أمين: (اتصل بعض الصحابة بوهب بن منبّه وكعب الأحبار وعبد الله بن سلام، واتصل التابعون بابن جريج، وهؤلاء كانت لهم معلومات يروونها عن التوراة والإنجيل الخ). ثم قال أبو ريَّة: (.. أخذ أولئك الأحبار يبثّون في الدين الإسلامي أكاذيب وترّهات يزعمون مرَّة أنها في كتابهم ومن مكنون علمهم، ويدَّعون أخرى أنها مما سمعوه من النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وهي في الحقيقة من مفترياتهم). أقول: أما عبد الله بن سلام فصحابيّ جليل أسلم مَقْدَمَ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وشهد له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالجنة كما ثبت في "الصحيحين" (¬2) وغيرهما من حديث سعد بن أبي وقّاص وغيره، وحدَّث عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قليلًا جدًّا، وقلّما ذَكَر عن كتب أهل الكتاب، وما ثبت عنه من ذلك فهو مُصدَّق به حتمًا وإن لم يوجد في كتب أهل الكتاب الآن، إذ قد ثبت أن كثيرًا مِن كتبهم انقرض. ولا يسيء الظنَّ بعبد الله بن سلام إلا جاهل أو مكذِّب لله ورسوله. وأما وهب بن مُنبِّه فولد في الإسلام سنة 34 هـ وأدرك بعض الصحابة، ولم يُعْرَفْ أن أحدًا منهم سمع منه أو حكى عنه وإنما يحكي عنه مَنْ بعدهم. وسيأتي بيان حاله (¬3). [ص 68] وأما كعب فأسلم في عهد عمر، وسمع منه ومن غيره من ¬

_ (¬1) (ص 135 وما بعدها، 138 وما بعدها). (¬2) البخاري (3812)، ومسلم (2483). (¬3) (ص 138 وما بعدها).

الصحابة وحكى عنه بعضهم وبعض التابعين، ويأتي بيان حاله (¬1). وأما ابن جُريج فيأتي ص 148 أنه "الذي مات سنة 150" وهو عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج، وإنما هو من أتباع التابعين ولا شأن له بالإسرائيليات، وكأنَّ الدكتور (¬2) اغتر باسم "جريج" فحشره في زمرة هؤلاء، فجاء حاطب الليل فقال ص 148: (وممن كان يبثّ في الدين الإسلامي مما يخفيه قلبه ابن جريج الرومي الذي مات سنة 150 وكان البخاري لا يوثّقه، وهو على حقّ في ذلك). وهذا مخالف للواقع فلم يُعرف ابن جريج بالإسرائيليات إلا أن يروي شيئًا عمن تقدَّمه وهو إمام جليل يوثّقه ويحتجّ به البخاري وغيره. ولم يجد أبو ريَّة ما يحكيه عنه مما زعمه. ومن العجائب قوله في حاشية ص 216: (ابن جريج كان من النصارى) (¬3) هكذا يكون العلم! ثم قال ص 110: (... وتلقَّى الصحابة ومن تبعهم كل ما يلقيه هؤلاء الدهاة بغير نقد أو تمحيص معتبرين أنه صحيح لا ريب فيه). أقول: وهذا مخالف للواقع، فقد علم الصحابة وغيرهم من كتاب الله عزَّ وجلَّ أن أهل الكتاب قد حرَّفوا كتبهم وبدَّلوا. ورووا عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قوله: "لا ¬

_ (¬1) (ص 135 وما بعدها). (¬2) يعني أحمد أمين. فقد نقل عنه أبو ريَّة ولقّبه بذلك، وليس هو في حقيقة الحال من الحاصلين عليها! و"حاطب الليل" هو أبو ريَّة. (¬3) غيَّر أبو ريَّة هذا التعليق في الطبعات اللاحقة (ص 238 - ط 6) إلى: "هو عبد الملك ... بن جريج الرومي" وهذا التغيير له ما وراءه، فقد ذكر (ص 162 - ط 6) "أن أصل ابن جريج رومي فهو نصراني الأصل"! فانظر واعجب!

تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم" كما في "صحيح البخاري" (¬1) عن أبي هريرة. وفيه (¬2) عن ابن عباس أنه قال: "كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحْدَث، تقرؤونه محضًا لم يُشَب، وقد حدَّثكم أن أهل الكتاب بدَّلوا كتابَ الله وغيَّروه". وفيه (¬3): أن معاوية ذكر كعبَ الأحبار فقال: "إن كان من أصدق هؤلاء المحدِّثين عن أهل الكتاب، وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب". وكان عند عبد الله بن عَمرو بن العاص صحيفة عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان يسمِّيها "الصادقة" (¬4) تمييزًا لها عن صحف كانت عنده من كتب أهل الكتاب. وزعم كعبٌ أن ساعة الإجابة إنما تكون في السنة مرّة أو في الشهر مرّة، فردَّ عليه أبو هريرة وعبدُ الله بن سلام بخبر النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنها في كل يوم جمعة (¬5). وبلغ حذيفَة أنّ كعبًا يقول: إن السماء تدورعلى قطب كقطب الرحى، فقال حذيفة: "كذب كعب ... " (¬6). ¬

_ (¬1) (4485). (¬2) (7363). (¬3) (7361). (¬4) أخرجه الدارمي (513)، والخطيب في "تقييد العلم" (152). (¬5) انظر سنن النسائي في أبواب الجمعة. [المؤلف]. والحديث أخرجه أبو داود (1046)، والنسائي (1430)، والترمذي (491)، وأحمد (10303) وغيرهم. وصححه الترمذي، وابن حبان (2772). (¬6) ترجمة كعب من الإصابة [5/ 650]. [المؤلف]. وقال الحافظ: إن ابن أبي خيثمة =

وبلغَ ابنَ عباس أنّ نوفًا البِكالي - وهو من أصحاب كعب - يزعم أن موسى صاحب الخضر غير موسى بن عمران، فقال ابن عباس: "كذب عدو الله ... " (¬1)، ولذلك نظائر. وأما ما رواه كعب ووهب عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقليل جدًّا، وهو مرسل؛ لأنهما لم يدركاه، والمرسل ليس بحجة، وقد كان الصحابة ربما توقف بعضهم عن قبول خبر بعض إخوانه من الصحابة حتى يستثبت، فما بالك بما يرسله كعب! فأما وهب فمتأخِّر. وأما ما روياه عن بعض الصحابة أو التابعين [ص 69] فإن أهل العلم نقدوه كما ينقدون رواية سائر التابعين، ويأتي لهذا مزيد. قال ص 111: (كعب الأحبار ...). أقول: لكعب ترجمة في "تهذيب التهذيب" (¬2)، وليس فيها عن أحد من المتقدّمين توثيقه، إنما فيها ثناء بعض الصحابة عليه بالعلم، وكان المزّي عَلَّم عليه علامة الشيخين (¬3)، مع أنه إنما جرى ذكره في "الصحيحين" عَرَضًا لم يُسْنَد مِن طريقه شيء من الحديث فيهما. ولا أعرف له رواية يحتاج إليها ¬

_ = أخرجه بسندٍ حسن، وأخرجه ابن منده في "التوحيد" (60) عن عبد الله بن مسعود بنحوه. (¬1) صحيح البخاري [122] تفسير سورة الكهف. [المؤلف]. (¬2) (8/ 438). (¬3) الذي في "تهذيب الكمال": (6/ 169) علامة (خ د ت س فق)، وليس فيه علامة مسلم، فتعقبه ابن حجر في "تهذيب التهذيب": (8/ 438) بأنه قد وقع ذكر الرواية عنه في مواضع في مسلم في أواخر كتاب الإيمان، وفي حديث: "إذا أدّى العبدُ حقَّ الله ... " ثم تعقبه بما ذكره المؤلف من أنه إنما جرى ذكره عرضًا في الكتب وليست له رواية.

أهل العلم. فأما ما كان يحكيه عن الكتب القديمة فليس بحجة عند أحد من المسلمين، وإن حكاه بعضُ السلف لمناسبته عنده لما ذُكِر في القرآن. وبعد، فليس كلّ ما نُسِب إلى كعب في الكتب بثابت عنه؛ فإن الكذابين مِنْ بعده قد نسبوا إليه أشياء كثيرة لم يقلها. وما صحَّ عنه من الأقوال ولم يوجد في كتب أهل الكتاب الآن ليس بحجة واضحة على كذبه؛ فإن كثيرًا من كتبهم انقرضت نُسَخُها، ثم لم يزالوا يحرّفون ويبدّلون، وممن ذَكَر ذلك السيد رشيد رضا في مواضع من "التفسير" (¬1) وغيره. واتهامه بالاشتراك في المؤامرة على قتل عمر لا يثبت، وكعب عربيُّ النسب، وإن كان قبل أن يسلم يهوديّ النحلة. وقول أبي ريَّة: (فاستصفاه معاوية وجعله من مستشاريه) مِن عنديّاته، والذي عند ابن سعد (¬2) وغيره أنه سكن حمص حتى مات بها سنة 32. وذكر أبو ريَّة في الحاشية: (قال لقيس بن خرشة: ما من الأرض شبر (¬3) ...). أقول: هذه الحكاية منقطعة، حاكيها عن كعب وُلِد بعده بنحو عشرين سنة (¬4)، وأول الحكاية: أنّ كعبًا مرَّ بصِفِّين فوقف ساعة ثم قال: "لا إله إلا ¬

_ (¬1) "تفسير المنار": (3/ 329 - 332، 1/ 174، 195). (¬2) في "الطبقات الكبرى": (9/ 449)، وانظر "تهذيب الكمال": (6/ 170). (¬3) في كتاب أبي رية: "ما مِن شبر في الأرض". (¬4) وهو يزيد بن أبي حبيب، فقد توفي سنة 128 هـ عن نحو ثمانين سنة، أي ولد نحو سنة 50 هـ بعد موت كعب بنحو عشرين سنة. لذلك قال الحافظ في "الإصابة": (5/ 465): "رجاله ثقات، لكن في السند انقطاع ورجل لم يسمّ". وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد": (7/ 268): "مرسل". والأثر أخرجه الطبراني في "الكبير": (18/ 346)، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة":

الله، ليُهراقنّ بهذه البقعة من دماء المسلمين شيء لا يُهراق ببقعة في الأرض ... " وكان ذلك قبل وقعة صِفِّين بسنين، فهل يصدِّق أبو ريَّة هذا كما صدَّق بقية الحكاية؟ على أن فيها غريبة أخرى لا أراه يصدِّق بها (¬1). قال ص 112: (افتجَرَ هذا الكاهن لإسلامه سببًا عجيبًا ... قد أخرج ابن سعد بسند صحيح ... فقال: إن أُبيّ كتب لي كتابًا من التوراة ... وختم على سائر كتبه ... ففتحتها فإذا صفة محمد وأمته، فجئت الآن مسلمًا). أقول: أما السند فليس بصحيح، فيه علي بن زيد وهو كما قال ابن حجر في "التقريب": "ضعيف" (¬2) ولم يُخرج له أحد من الشيخين، إلا أن مسلمًا أخرج حديثًا عن حماد بن سلمة عن ثابت البُناني وعلي بن زيد، والاعتماد على ثابت وحده، [ص 70] لكن لما وقع في سياق السند ذِكْر عليّ بن زيد لم ير مسلم أن يحذفه. ولمسلم من هذا نظائر. وأما القصة فلا أدري ما ينكر المسلم منها وهو يقرأ قول الله عزَّ وجلَّ في كتابه: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} الآية (¬3) [الأعراف: 157]، وقوله سبحانه: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ ¬

_ (5/ 116 - 117)، والبيهقي في "الدلائل": (6/ 476). (¬1) وهي - فيما أحسب - طريقة موت قيس بن خَرَشة عندما أراد عبيد الله بن زياد أن يقتله، ففي الرواية: أنه لما نودي بصاحب العذاب مال قيس عند ذلك فمات. (¬2) وكذلك ضعفه في "فتح الباري": (1/ 373، 395، 2/ 563، 3/ 22) وغيرها وإن كان قد حسَّن سنده هذا في "الإصابة": (5/ 648) ولعله عمدة أبي رية في تصحيحه. (¬3) انظر تفسير المنار 9: 230 - 300. [المؤلف].

اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} الآية [الفتح: 29]، وآيات أخرى معروفة، فلينظر المسلم مَن الأولى بأن يقال: فجر وافتجر؟ ثم ذكر حكاية عن "حياة الحيوان" (¬1)، وحَسْبها أنه لم يجد لها مصدرًا إلا "حياة الحيوان"، على أن الحكاية نفسها ليس فيها ما ينكره المؤمن بالقرآن. ثم قال ص 113: (ووهب بن منبه ....). أقول: قد قدمت شيئًا من حال وهب، وقد وثَّقه بعض الحفاظ وضعَّفه عَمرو بن علي الفلَّاس، أخرج البخاري (¬2) حديثًا من طريقه ثم قال: "تابعه مَعْمر". وله في "صحيح مسلم" (¬3) شيء تابعه عليه مَعْمر أيضًا، ومعمر هو ابن راشد أحد الأئمة المجمع عليهم. وقال: (روى عنه كثير من الصحابة، منهم أبو هريرة، وعبد الله بن عمرو، وابن عباس وغيرهم). أقول: هذه من مجازفات أبي رية، وإنما ذكر أهلُ العلم أنَّ وهبًا روى عن هؤلاء، وإنما ولد سنة 34 كما مرَّ، وإنما اشتهر بعد وفاة هؤلاء. ¬

_ (¬1) (1/ 707 - ت إبراهيم صالح). والقصة بنحوها في "تاريخ دمشق": (50/ 165) وسبق كلام المصنف (ص 72) أن ما تفرّد ابن عساكر بإخراجه فهو ضعيف. (¬2) (113). (¬3) أخرج مسلم لوهب بن منبه حديثًا واحدًا رقم (1038) عن أخيه همام عن معاوية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تلحفوا في المسألة ... ". ولم أجد متابعة معمر له.

قال: "أخرج الترمذي عن عبد الله بن سلام - وهو أحد أحبار اليهود الذين أسلموا - إنه مكتوب في التوراة في السطر الأول: محمد رسول الله عبده المختار، مولده مكة ومهاجره طيبة. وأخرج كذلك: مكتوب في التوراة صفة النبي، وعيسى ابن مريم يدفن معه". أقول: لم أجد الخبر الأول في "جامع الترمذي" (¬1)، ولا ذكره صاحب "ذخائر المواريث"، وسيأتي ما يتعلق به. وأما الثاني؛ ففي سنده عثمان بن الضحَّاك مجهول، ومحمد بن يوسف بن عبد الله، ولم يوثَّقا توثيقًا يُعتدُّ به، وقد ذكر البخاري في ترجمة محمد من "التاريخ" (1/ 1/ 263) (¬2) طرفًا من هذا الخبر وقال: "هذا لا يصح عندي، ولا يتابع عليه". قال أبو ريَّة: (وهذا ... قد أحكمه الداهية كعب، فقد روى الدارمي عنه في صفة النبيّ في التوراة قال: في السطر الأول: محمد رسول الله عبده المختار، مولده مكة ومهاجره طيبة وملكه بالشام. [ص 71] وقد بحثنا عن السطر الثاني من هذه الأسطورة حتى وجدناه في "سنن الدارمي" كذلك عن الداهية الأكبر كعب، فقد روى ذكوان عنه قال: في السطر الأول محمد رسول الله عبده المختار ... ، وهذا الكلام قد أورده ابن سعد في "طبقاته" عن ابن عباس في جواب لكعب. وقد امتدت هذه الخرافة إلى أحد ¬

_ (¬1) هو كما ذكر المصنف، والخبر عند الدارمي (7)، فالظاهر أنه تصحف على أبي رية "الدارمي" إلى "الترمذي" خاصة وأنه ينقل من "فتح الباري" وفيه "الدارمي". "الفتح": (8/ 586 - السلفية). وسيعزوه أبو رية إلى الدارمي بعد أسطر، وهذا من تخبطاته! أقول: وفي سنده زيد بن عوف، متروك. انظر "التاريخ الكبير": (3/ 404)، و"الجرح والتعديل": (3/ 570). وأخرج الدارمي ما يشهد له برقم (5، 8). (¬2) في (ط): "1: 2631" خطأ.

تلاميذ كعب، عبد الله بن عمرو بن العاص، فقد روى البخاري عن عبد الله (¬1) بن يسار ..... وزاد ابن كثير: قال ابن يسار: ثم لقيت كعبًا الحبر فسألته فما اختلفا في حرف". قال أبو ريَّة: (وكيف يختلفان وكعب هو الذي علَّمه). أقول: خبر عبد الله بن عمرو نَسَبه بعضُهم إلى عبد الله بن سلام كما ذكره البخاري (¬2)، وذكر ابن حجر (¬3) أنه لا مانع من صحته عنهما. وقد بحثتُ عن هذا الخبر بطرقه المذكورة هنا وغيره ونظرت في الأسانيد، فترجَّح عندي صحته عن عبد الله بن عَمرو، فأما نِسْبته إلى عبد الله بن سلام ففي صحتها نظر، وكذلك نِسبته إلى كعب، وبيان ذلك يطول، وهذا الذي ظهر لي هو الظاهر من صنيع البخاري (¬4). هذا وفي بعض روايات الخبر أنه من التوراة، فإن صحّ ذلك في الرواية فقد يراد به الكتب المنسوبة إلى موسى، وقد يُراد به ما يعمّ كتبه وكتب أنبياء بني إسرائيل، وهو ما يسمّى عند القوم "العهد القديم"، وذلك إطلاق شائع كما يؤخذ من "إظهار الحق" (1: 38) (¬5)، وفي "تفسير ابن كثير" (7: 567) (¬6): ¬

_ (¬1) الصواب عن هلال [عن عطاء بن يسار]. [المؤلف]. (¬2) رقم (2125). (¬3) في "الفتح": (4/ 343). (¬4) وفي خبر عبد الله بن عمرو: "أجل والله إنه لموصوف ... " علق عليه أبو ريَّة: "هكذا يورطه أستاذه حتى يقسم بالله"، وهذا من افتراء أبي ريَّة فإن عبد الله بن عمرو كان عنده جملة من صحف أهل الكتاب كما اعترف به أبو ريَّة، فإقسامه يدل على أنه شاهد تلك الصفة في تلك الصحف. [المؤلف]. (¬5) (1/ 99 - ط الإفتاء). (¬6) (3/ 1487 - دار ابن حزم).

"يقع في كلام كثير من السلف إطلاق التوراة على كتب أهل الكتاب، وقد ورد في بعض الأحاديث ما يشبه هذا". وعلى كلِّ حال فالروايات تعطي وجود معنى تلك العبارة في بعض كتب أهل الكتاب، وأبو ريَّة يزعم أن الخبر "أسطورة، خرافة"، فإنْ بَنَى ذلك على امتناع أن يكون في كتب الأنبياء السابقين أخبار بأمور مستقبَلَة كبعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - وصفته = فهذا تكذيب صريح للقرآن وتكذيب بكتب الله ورُسُله، فإن كان أبو ريَّة ينطوي على هذا فليجهر به حتى يُخاطَب بحسبه. وإن بنى على استبعاد صحة الخبر؛ لأنه لا يوجد في كتب أهل الكتاب الآن ما يؤدّي ذاك المعنى، ولم يكن موجودًا فيها منذ ألف سنة تقريبًا عندما شرع بعضُ علماء المسلمين يطّلعون عليها وينقلون عنها = فهذا يُنْبِئ عن جهل أو تجاهل بتاريخ كتب أهل الكتاب وأحوالهم فيها. وأقتصرُ هنا على عبارات عن كتاب "إظهار الحق" للشيخ رحمة الله الهندي ففيه (1: 220) (¬1) عن الدكتور كني كات - وهو مِن أعظم محققي كتب العهدين - قال: "إنّ نُسَخ العهد العتيق التي هي موجودة كُتبت ما بين ألف وألف وأربعمائة ... ". وقال: "إن جميع النسخ التي كانت كتبت في المائة السابعة (الميلادية) أو الثامنة أُعدمت بأمر محفل الشورى لليهود؛ لأنها كانت تخالف مخالفةً كثيرة للنسخ التي كانت معتمدة عندهم". وحكى عن (والتن) ما يوافق ذلك. ويُعْلَم منه أن اليهود [ص 72] تتبعوا نسخ كتبهم التي كُتبت قبل الإسلام أو في صدر الإسلام إلى نحو مائتي سنة فأتلفوها لمخالفتها الكثيرة لما ¬

_ (¬1) (2/ 568 - ط الإفتاء).

يهوونه. وانظر "إظهار الحق" (1: 242 - 245) وفيه (1: 227 - 229) (¬1): أن لأهل الكتاب نحو عشرين كتابًا مفقودة، وبعضها منسوب إلى موسى فيكون من التوراة الحقيقية عندهم. وقد تكون ثَمَّ كتب أخرى مفقودة لم يعثر المتأخرون على أسمائها. وذَكَر من شيوع التحريف القصدي في اليهود والنصارى قديمًا وحديثًا ما يجاوز الوصف. وحقّ على من يُبتلى بسماع شبهات دعاة النصرانية والإلحاد أن يقرأ ذاك الكتاب "إظهار الحق" ليتضح له غاية الوضوح أن الفساد لم يزل يَعْتري كتبَ أهل الكتاب جملةً وتفصيلًا، ومحقِّقوهم حيارى ليس بيدهم إلا التظنّي والتمنّي والتحسُّر والتأسُّف، ومن ثَمَّ يتبين السرّ الحقيقي لمحاولتهم الطعن في الأحايث النبوية؛ لأن دهاتهم حاولوا الطعن في القرآن، فتبين لهم أنه ما إلى ذلكم من سبيل، فأقبلوا على النظر في الأحاديث، فوجدوا أنه قد رُوي في جملة ما رُوي كثيرٌ من الموضوعات, وحيَّرهم المجهود العظيم الذي قام به علماء الأمة لاستخلاص الصحيح، ونفي الواهي والساقط والموضوع، حتى قال بعضهم: "ليفتخر المسلمون بعلم حديثهم ما شاؤوا" (¬2). ولكنهم اغتنموا انصرافَ المسلمين عن علم الحديث، وجهلَ السواد الأعظم منهم بحقيقته فراحوا يشكّكون ويتهجّمون، ولا غرابة أن يوقعهم الحسدُ في هذا وأكثر منه، وإنما الغرابة في تقليد بعض المسلمين لهم. ¬

_ (¬1) (2/ 582 - 587، ط الإفتاء). (¬2) عزا المؤلف هذا القول إلى المستشرق مرجيلوث وأحال على "المقالات العلمية" (ص 234، 253). انظر تقدمته لكتاب "الجرح والتعديل" (ص/ ب).

نعم اتضح مِمَّا تقدم عن "إظهار الحق" أنه لا مانع من أنه كان في كتب أهل الكتاب عند ظهور الإسلام ما تواطؤوا بعد ذلك على تحريفه أو إسقاطه أو فَقْد ذاك الكتاب بإتلافهم عمدًا أو غيره. وقد كان اليهود في بلاد العرب منذ زمن طويل قبل الإسلام، فلا يستبعد أنه كان بقي عندهم ما لم يكن عند النصارى (¬1)، وإذا لا مانع وقد صحَّت الرواية فالواجب تصديقها، ومن تدبَّر القرآن ومحاورات النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لليهود، وما حُكي عنهم قبل البعثة وما حكاه مَنْ أسلم منهم = بان له صحة ما قلناه. وقد صحت الروايةُ عن عبد الله بن عَمرو وهو صحابي فاضل، وقد كان عارفًا بكتب أهل الكتاب، ووقعت له عدة منها، فالظاهر أنه أخذ العبارة منها. وإن صحّت عن عبد الله بن سلام فالأمر أوضح، فإنه كان من أحبار اليهود، وأسلم مَقْدَمَ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وكان مِن خيار الصحابة، وشهد له النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بالجنة، كما رواه كبار الصحابة (¬2). وإن صحت عن كعب فالظاهر صدقه؛ لأنه إذا كان صادق الإسلام [ص 73] نقيًّا كما هو الظاهر ولم يتبيَّنْ خلافه فالأمر واضح، وإن كان كما زعمه بعضهم منافقًا مُصِرًّا في الباطن على اليهودية متعصِّبًا لها فليس مِن المعقول أن يَكْذِب للمسلمين بما يزيدهم ثباتًا على الإسلام وحَنَقًا على اليهود. وما يقال إن كعبًا كان يستدرج ¬

_ (¬1) ومن الهيّن جدًّا على اليهود حين قرَّروا إتلاف النسخ أن يتلفوا جميع ما كان تبقّى منها بأيدي المسلمين من أعقاب كعب ووهب وغيرهما لأنها تصير إلى مسلم لا يحسن قراءتها، وقد يكره بقاءها عنده فقد يتلفها وقد يعطيها يهوديًّا بغير ثمن أو بثمن بخس، ويتأكد ذلك عند سعي اليهود في جمعها، وحسبك برهانًا على ذلك وما في معناها: فَقْد النسخ من العالم سوى ما بأيدي اليهود من النسخ الحديثة. [المؤلف]. (¬2) انظر ما سلف (ص 132).

المسلمين ليثقوا به ليس بشيء؛ لأنه يعلم أن غاية ما يفيده وثوقهم هو تصديقهم له في أنّ ما يحكيه عن كتب أهل الكتاب موجود فيها، وماذا يفيده هذا إن كان منافقًا، وقد علم أنهم يعتقدون أن كتب أهل الكتاب محرَّفة مبدَّلة، وقد تقدم إيضاح ذلك (¬1). وما يزعمه أبو ريَّة من مكايد كعب لم يتحقق منها شيء. والله المستعان. ثم ذكر ص 115 حكايات مُعضِلة لا تُعرف أسانيدها، ومثل ذلك لا يصح أن يُبْنَى عليه شيء. **** ¬

_ (¬1) (ص 141 - 143).

مكيدة مهولة

مَكيدة مَهُولة ثم قال: (لما قدم كعب إلى المدينة في عهد عمر وأظهر إسلامه أخذ يعمل في دهاء ومكر لِمَا أسلم من أجله من إفساد الدين وافتراء الكذب على النبيّ - صلى الله عليه وسلم - (¬1) ...). أقول: هذه مكيدة مَهُولة يُكَادُ بها الإسلام والسنّة، اخترعها بعض المستشرقين - فيما أرى - ومشت على بعض الأكابر وتبنَّاها أبو ريَّة وارتكب لترويجها ما ارتكب - كما ستعلمه - وهذا الذي قاله هنا رَجْمٌ بالغيب، وتَظَنٍّ للباطل، وحَطٌّ لقوم فتحوا العالم ودبَّروا الدنيا أحكم تدبير إلى أسفل درجات التغفيل، كأنهم رضي الله عنهم لم يعرفوا النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ودينه وسنته وهديه، فقبلوا ما يفتريه عليه وعلى دينه إنسان لم يعرفه. وقد ذكر أبو رية في مواضع حالَ الصحابة في توقف بعضهم عما يخبره أخوه الذي يتيقّن صدقه وإيمانه وطول صحبته للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فهل تراهم مع هذا يتهالكون على رجل كان يهوديًّا فأسلم بعد النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بسنين، فيقبلون منه ما يخبرهم عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - مما يُفسد دينه؟ كان الصحابة رضي الله عنهم في غنى تامّ بالنسبة إلى سنة نبيهم، إن احتاج أحدٌ منهم إلى شيء رجع إلى إخوانه الذين صحبوا النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وجالسوه، وكان كعب أعقل من أن يأتيهم فيحدّثهم عن نبيهم فيقولوا: مَنْ أخبرك؟ فإن ذَكَرَ صحابيًّا سألوه فيَبِين الواقع، وإن لم يذكر أحدًا كذَّبوه ورفضوه. إنما كان كعب يعرف الكتب القديمة، فكان يحدِّث عنها بآداب وأشياء في الزهد والورع أو بقصص وحكايات تناسب أشياء في القرآن أو السنة، فما وافق الحقَّ قبلوه، وما رواه باطلًا قالوا: مِنْ أكاذيب أهل الكتاب، ¬

_ (¬1) قوله: "على النبيّ - صلى الله عليه وسلم -" هذا أساس المكيدة المهولة الآتية. [المؤلف].

وما رأوه محتملًا أخذوه على الاحتمال كما أمرهم نبيهم - صلى الله عليه وسلم -. ذلك كان فنُّ كعب وحديثُه. ولم يرو عنه أحد من الصحابة إلا ما كان من هذا القبيل. نعم ذكر أصحاب التراجم أنه أرسل عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وروى عن عمر وصُهيب وعائشة. وعادتهم أن يذكروا مثل ذلك وإن كان خبرًا واحدًا في صحته عن كعب نظر [ص 74] فهذه كتب الحديث والآثار موجودة لا تكاد تجد فيها خبرًا يُروى عن كعب عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فإنْ وُجِد فلن تجده إلا من رواية بعضِ صغار التابعين عن كعب، ولعله مع ذلك لا يصح عنه. وكذا روايته عن عمر. وكذا روايته عن صُهيب وعائشة مع أنه مات قبلهما بزمان. وعامة ما روي عنه حكايات عن أهل الكتاب ومِنْ قوله. قال: (ومما أغراه بالرواية أن عمر بن الخطاب كان في أول أمره يستمع إليه، فتوسّع في الرواية الكاذبة ما شاء أن يتوسّع، قال ابن كثير: لما أسلم كعب في الدولة العمرية جعل يحدث عمر رضي الله عنه، فربما استمع له عمر، فترخص الناس في استماع ما عنده ونقلوا ما عنده من غثٍّ وسمين) (¬1). أقول: الذي عنده هو الحكايات عن صحف أهل الكتاب وأشياء مِن ¬

_ (¬1) عزاه أبو ريَّة إلى تفسير ابن كثير 4: 17. ولم أجده هناك فلينظر. [المؤلف]. أقول: نظرت فوجدته فيه (7/ 2987 - دار ابن حزم) في تفسير سورة الصافات. ووجدت أبا ريَّة قد أسقط ما يخدم غرضه وهو قوله: "فجعل يحدث عمر رضي الله عنه [عن كتبه] " فأسقط أبو ريَّة ما بين المعكوفين؛ ليوهم القرّاء أن كعبًا كان يحدّث عمر بأحاديث عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وهو ما سمّاه "الرواية الكاذبة" وتفطن له المؤلف. وانظر الصفحة الآتية في صنيعٍ له مثل هذا! ثم تصرف في آخر كلام ابن كثير فنصّه: "ونقلوا عنه غثها وسمينها" أي: غثّ تلك الكتب وسمينها. وليس كما يوهمه تصرف أبي ريَّة.

قوله في الحكمة والموعظة، وقوله: (الرواية الكاذبة) لا ريب أنّ في صحف أهل الكتاب التي كان كعب يحكي عنها ما هو كذب، فمن صحفهم ما أصله من كتب الأنبياء ولكن حُرِّف وزِيْد فيه ونُقص، ومنها ما هو منسوب إلى بعض الأنبياء كذبًا، وعندهم عدة كتب كذلك، ومنها ما هو من كتب أحبارهم. فأما أن يكون كعب كذب فهذا لم يثبت، وسيأتي الكلام فيه. قال: (ثم لم يلبث عمر أن تفطَّن لكيده وتبيَّن له سوء دِخْلته, فنهاه عن الرواية عن النبي (¬1)، وتوعده إن لم يترك الحديث عن رسول الله أو ليلحقنَّه بأرض القِرَدة). أقول: هذا مِن دَجَل أبي رية، لم يتبين لعمر من كعبٍ كيد ولا سوء دِخْلة، ولا كان كعب يروي عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -؛ وإنما كان يحكي عن صحف أهل الكتاب، فإن كان عمر نهاه فعن ذلك. والحكاية التي تشبَّث بها أبو رية عزاها إلى "البداية والنهاية" (8: 106) (¬2) وهي هناك: "وقال لكعب الأحبار: لتتركنَّ الحديث عن الأُوَل أو لألحقنك بأرض القردة". قال: "عن الأُوَل" فأبدلها الشاطر أبو ريَّة بقوله: "عن النبيّ - عن رسول الله" (¬3). ومعها في "البداية والنهاية" كلمة تتعلق بأبي هريرة ذكرها أبو ريَّة ص 163، وسيأتي ¬

_ (¬1) قوله: "عن النبيّ - عن رسول الله" هو أساس المكيدة كما مرت الإشارة إلى مثله ص 73 [145] يحاول أبو ريَّة أن يمكّنه. [المؤلف]. أقول: غيَّر أبو ريَّة العبارة في الطبعات اللاحقة إلى "فنهاه عن الحديث" بعد ما كُشِفت حيلته. (¬2) (11/ 371 - دار هجر). (¬3) وهكذا يزوّر أبو ريَّة لتمكين أساس تلك المكيدة. [المؤلف]. أقول: أصلح أبو ريَّة النصَ في الطبعات اللاحقة بعد ما تبين تغييره وتصرفه في النصوص لخدمة أهوائه.

هناك بيان سقوط هذه الرواية، مع الكشف عن بعض أفاعيل أبي ريَّة. على أن كلام أبي ريَّة متناقض، فسيحكي قريبًا أن عمر لم يزل إلى آخر حياته معتدًّا بكعب. والصحيح أن كعبًا كان رجلًا عربيًّا ذا رأي، قد قرأ الكتب واستفاد منها أشياء في الحكمة والزهد والورع، وهذه كانت وسيلته إلى عمر. ويحكي الناسُ عنه أشياء من الأخبار عن الأمور المستقبلة مسندًا له إلى صحف [ص 75] أهل الكتاب، ولا أدري ما يصح عنه من ذلك. قال: (على أن عمر ظلَّ يترقب هذا الداهية بحزمه وحكمته وينفذ إلى أغراضه الخبيثة بنور بصيرته كما نرى في قصة الصخرة). أقول: قد سرّح عمر من المدينة إلى العراق نَصْرَ بن حجَّاج لغير ذنب إلا أنه كان بارع الجمال، وكان بالمدينة كثير من النساء يغيب أزواجهن في الجهاد، وقد ذكرتْ إحداهنَّ نصرًا في شعير لها (¬1)، وجَلَدَ عمر صَبيغ بن عِسْل ونفاه إلى العراق، وكتب أَنْ لا يجالسه أحد لأمر واحد وهو أنه يُكثر من السؤال عن كلمات من القرآن لا تتعلق بالأحكام (¬2). ونَصْر سُلَميّ، وصَبيغ تميميّ لم يكن لهما عِرْق في يهودية ولا نصرانية. وكعب حميريّ حديث العهد باليهودية لا مَنَعة له ولا حاجة بالمسلمين إليه، فهل يُعقل أن يشعر الفاروق منه بأن إسلامه مدخول وأنه داهية ذو أغراض خبيثة ثم يدعه معه بالمدينة يدخل إليه مع أصحابه ويتكلم في مجلسه وربما يستشيره لا ¬

_ (¬1) قصة نصر بن حجاج أخرجها ابن سعد في "الطبقات": (3/ 285)، والخرائطي في "اعتلال القلوب" (ص 337 و339). وصحح سنده الحافظ في "الإصابة": (3/ 579). (¬2) أخرجه الدارمي (146، 150)، والبزار: (1/ 423)، واللالكائي: (4/ 635 - 636).

يَحْذَرُه ولا يحذِّر الناس منه؟ أما قصة الصخرة فرواها الإمام أحمد (¬1) من طريق حماد بن سلمة عن أبي سنان [عيسى بن سنان القَسْملي] عن عُبيد بن آدم قال: "سمعت عمر يقول لكعب: أين ترى أن أُصَلِّي؟ قال: إن أخذتَ عنّي صلَّيْتَ خلف الصخرة، وكانت القدس كلها بين يديك. فقال عمر: ضاهيت اليهودية، لا، ولكن أُصلِّي حيث صلَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". عُبيد (¬2) هذا لم يُذْكَر له راوٍ إلا أبو سنان، وأبو سنان (¬3) ضعَّفه الإمام أحمد نفسه وابن معين وغيرهما، وقال أبو زرعة: "مخلّط ضعيف الحديث"، ولا ينفعه ذكر ابن حبان في "الثقات" لما عُرِف من تساهل ابن حبان، ولا قول العجلي: "لا بأس به"؛ فإن العجلي قريب من ابن حبان أو أشد، عرفتُ ذلك بالاستقراء. ومع هذا فليس في القصة ما يُشعر بسوء دخيلة، عَرَف كعبٌ فضيلةَ بيت المقدس في الإسلام بنص القرآن، وعلم أنه كان قبلة المسلمين أَوّلًا فظنّ أنه الأفضل للمصلّي هناك أن يجعله كله بينه وبين الكعبة. ورأى عمر أن في هذا مضارعة أي مشابهة لليهودية، فيما عُلِم من الإسلام خلافه، وهو صلاة النبيّ - صلى الله عليه وسلم -. هذا على فَرْضِ صحة الرواية. وذكر أبو رية ص 126 - 127 روايةً أخرى عن "تاريخ الطبري" (¬4). وهي في التاريخ منقطعة الأول والآخر، إنما قال: "وعن رجاء بن حَيْوَة عمن ¬

_ (¬1) (261). (¬2) ترجمته في "التاريخ الكبير": (5/ 441)، و"الجرح والتعديل": (5/ 401). (¬3) ترجمته في "تهذيب التهذيب": (8/ 211 - 212). (¬4) (2/ 559 - دار الكتب).

شهد" والسند إلى "رجاء" مجهول، وشيخ "رجاء" مجهول، ومثل هذا لا يثبت به شيء. قال أبو ريَّة: (فإن شدة دهاء هذا اليهودي غلبت على فطنة عمر وسلامة نيته). كذا رجع أبو رية فسلبَ عمرَ ما ذكره أَوّلًا بقوله: "بحزمه وحكمته وينفذ ... بنور بصيرته"، وهذا شأن من يتظنّى الباطل (¬1). [ص 76] قال: (فظل يعمل بكيده في السر والعلن). أقول: كلمة (العلن) هذه تأتي على بقية ما جعله لعمر سابقًا، وتبيَّن أن مقصوده بقوله: (سلامة نيته): الغفلة. قال: (حتى انتهى الأمر بقتل عمر بمؤامرة اشترك فيها هذا الدّهيّ). ذكر بعد هذا ما حكى عن المِسْوَر بن مَخْرمة، وعزاها إلى تاريخي ابن جرير وابن الأثير (¬2)، والثاني مستمدّ من الأول، وأرى أن أحكيها كما هي عند ابن جرير في أخبار سنة 23 قال: "حدثني سلمة (الصواب: سَلْم) بن جُنادة قال: حدثنا سليمان بن عبد العزيز بن أبي ثابت [عمران] ابن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف قال: حدثنا أبي عن عبد الله بن جعفر عن أبيه عن المِسْور بن مَخْرمة ... قال: خرج عمر بن الخطاب يطوف في السوق، فلقيه أبو لؤلؤة ... قال [أبو لؤلؤة]: ليِّن سلمت لأعملنّ لك رحًى يتحدّث بها مَنْ بالمشرق والمغرب، ثم انصرف. فقال عمر: لقد توعَّدني العبدُ آنفًا. قال: ثم انصرف عمر إلى منزله، فلما كان من ¬

_ (¬1) والملجئ لأبي ريَّة إلى هذا هو محاولته التمكين لتلك المكيدة. [المؤلف]. (¬2) "تاريخ الطبري": (2/ 559)، و"تاريخ ابن الأثير": (3/ 49 - 50).

الغد جاء كعب الأحبار فقال له: يا أمير المؤمنين اعهد فإنك ميّت في ثلاثة أيام. قال: وما يدريك؟ قال: أجده في كتاب الله عزَّ وجلَّ التوراة. قال عمر: آلله أنك لتجد عمر بن الخطاب في التوراة؟ قال: اللهم لا، ولكن أجد صفتك وحليتك ... فلما كان من الغد جاء كعب فقال: ... بقي يومان. قال: ثم جاء مِن غَدِ الغد فقال: ... بقي يوم وليلة وهي لك إلى صبيحتها ... " وقال فيه: "فضُرِب عمر ستّ ضربات" وفي آخرها: "ثم توفي ليلة الأربعاء لثلاثٍ بقين من ذي الحجة". أقول: هل يسمع عمر هذا الوعيد الشديد مِن عبد كافر ثم لا يحترس منه، ولا يأمر بالقبض عليه وسجنه أو ترحيله من المدينة؟ أو على الأقل يضع عليه عيونًا تراقبه، فقد كان لعمر عيون على الناس ترقب أقلَّ من هذا، وكان له عيون على عُمّاله في البلدان البعيدة، أو ليس عمر هو الذي رجع عن بلد الطاعون فقال له أبو عبيدة: أفرارًا من قَدَرِ الله؟ فقال عمر: لو غيرك يا أبا عبيدة قالها. نعم نَفرُّ من قَدَر الله إلى قَدَر الله (¬1). هب أن عمر لم يبال بنفسه، أفلم يكن بقاء ذلك العبد الكافر بين ظهراني المسلمين خطرًا عليهم، وقد جاهر الخليفة بالتوعُّد، فما عسى أن يكون حاله مع غيره؟ قد يقال: يمكن أن تكون وُضعت عليه عيون راقبته مدّة فلم يُرَ منه ما يُنكر، فتُرِك. لكن [ص 77] هذه الحكاية تجعل التوعّد يوم الجمعة 22 ذي الحجة سنة 23 والقتل بعد ذلك بأربعة أيام. أضف إلى ذلك أنه قد ثبت أنّ عمر قال في خطبته في تلك الجمعة: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5729)، ومسلم (2219).

"رأيت ديكًا نقرني ثلاث نقرات، ولا أراه إلّا حضور أجلي" (¬1). وفي بعض الروايات أنه ذكر أن الرؤيا عبرت بأن رجلًا من الأعاجم يعتدي عليه. راجع "فتح الباري" (7: 50) (¬2). هل يخبر عمر بهذه الرؤيا في اليوم الذي توعَّده فيه الأعجمي ثم لا يحترس ولا يقبض على ذاك الأعجمي؟ وفوق هذا تزعم الحكاية أنّ كعبًا جاء إلى عمر بعد الإخبار بالرؤيا وإيعاد الأعجمي بيوم واحد فقال لعمر ما تقدم. أفلم يكن في اقتران هذه الثلاثة ما يدعو إلى الاحتراس؟ أمر آخر: تقدم (ص 46) (¬3) تشديد عمر على أبي موسى لما أخبر بخبرٍ عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فهل يُعقل أنّ عمر هذا الذي شدَّد على أخيه المؤمن الصادق المهاجر القديم للإسلام، لا يشدِّد على كعبٍ حديثِ العهدِ باليهودية ولا صحبة له ولا هجرة، مع أن خبره أَوْلَى وأحقّ بأن يُستنكر؟ أمر ثالث: عَهْدُنا بهذا الحميريّ داهيًا، فهل يعقل أن يكون واقفًا على المؤامرة ثم يقع منه ما حكته الحكاية؟ المعقول أن يسكت إن كان له هوًى في قتل عمر، وأن يخبره بالمؤامرة على وجهها إن لم يكن له هوًى في قتله. أما السكوت فخشية أن يؤدّي كلامه إلى حبوط المؤامرة، بأن يحترس عمر ويقبض على أبي لؤلؤة، وقد يجر إلى اكتشاف المؤامرة ووقوع كعب نفسه. وأما الإخبار بالمؤامرة على وجهها فلأنه بذلك يكون له يدٌ عند عمر ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (567). (¬2) (7/ 63). (¬3) (ص 89).

والمسلمين ينال بها جاهًا ومكانة. وكلا هذين الغرضين أهمّ وأعظم مِن حُبّه إيهام اطلاعه على بعض أمور المستقبل، على أنّ هذا قد كان حاصلًا في الجملة، فقد كانوا يعرفون معرفته بصحف أهل الكتاب ويعرفون أن فيها أشياء من ذلك. ومَنْ قَابَلَ هذه الحكاية بالروايات الصحيحة وَجَدَ مخالفة: منها عدد الطعنات، اتفقت الروايات الصحيحة على أنها ثلاث فقط، ووقع في هذه الحكاية أنها ست. فأنت ترى أن النظر في متن هذه الحكاية يبين أنها مدخولة لا يمكن الاعتماد عليها في شيء، ويؤكِّد ذلك سقوطُ سندها، فإن سليمان مجهول لم نجد له ترجمة، وأبوه ساقط الحديث كما بيَّنه جمعٌ من الأئمة، وعبد الله بن جعفر لا بأس به، فأما أبوه جعفر بن المسور فلا يعرف برواية أصلًا، ولا يُدْرى أدرك أباه أم لا. [ص 78] وقال ص 117: (ووقع في رواية أبي إسحاق عند ابن سعد: وأتى كعب عمر فقال: ألم أقل لك إنك لا تموت إلا شهيدًا، وإنك تقول: من أين وإني في جزيرة العرب). أقول: هي عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون. وأبو إسحاق مشهور بالتدليس ولم يذكر سماعًا. وروى غيره القصة عن عمرو بن ميمون كما في "صحيح البخاري" (¬1) وغيره بدون هذه الزيادة. ومع هذا فأيّ شيء فيها؟ أما الشهادة فقد كان عمر مُبَشَّرًا بها يقينًا، ففي "الصحيحين" (¬2) وغيرهما من حديث أنس: "أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - صعد أُحُدًا وأبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم ¬

_ (¬1) (3700). (¬2) البخاري (3675)، ولم أجده في مسلم.

فقال: أثبت أُحُد، فإنما عليك نبي وصدِّيق وشهيدان". وصحّ معناه من حديث عثمان وبريدة وأبي هريرة وسهل بن سعد. راجع "فتح الباري" (7: 32) (¬1). وفي "الصحيحين" (¬2) وغيرهما سؤال عمر لحذيفة عن الفتنة، وقول حذيفة: "لا بأس عليك منها يا أمير المؤمنين، إن بينك وبينها بابًا مغلقًا" قال عمر: "يفتح الباب أو يكسر؟ " قال حذيفة: "لا بل يكسر". قيل لحذيفة: "علم عمر بالباب؟ " قال: "نعم، كما أنّ دون غدٍ الليلة، إني حدَّثته حديثًا ليس بالأغاليط" ثم بيَّن حذيفة أن الباب هو عمر نفسه. فالمراد بقوله: "يفتح أو يكسر": يموت أو يقتل. وثَمَّ أخبار أخرى كرؤيا عوف بن مالك في عهد أبي بكر، وفيها في ذكر عمر "شهيد مستشهد" (¬3). وفي "صحيح البخاري" (¬4) أن عمر قال: "اللهم ارزقني شهادةً في سبيلك وموتًا في بلد رسولك" وراجع "فتح الباري" (4: 86) (¬5) و (6: 446) (¬6). ولا ريب أنّ كعبًا كان عارفًا بصحف أهل الكتاب وأن فيها أخبارًا عن المستقبل، وأنه كان يوجد في صحفهم في صدر الإسلام ما لا يوجد عندهم الآن، راجع ما تقدم (ص 72) (¬7). وشأن عمر من ¬

_ (¬1) (7/ 38). (¬2) البخاري (525)، ومسلم (144). (¬3) أخرجه أحمد في "فضائل الصحابة" (351)، وابن سعد في "الطبقات": (3/ 307)، وصحح ابن حجر سنده في "الفتح": (4/ 101). (¬4) (1890). (¬5) (4/ 101). (¬6) لم أجد الإحالة إلى الصفحة، وانظر (6/ 10 - 11). (¬7) (ص 142 - 143).

أعظم الشؤون في العالم وأحقّها أن يبشِّر به الأنبياء السابقون عند تبشيرهم بالنبيّ - صلى الله عليه وسلم -، ومع هذا فليس في رواية أبي إسحاق ذكر التوراة، فقد يكون استند إلى تلك الأخبار الصحيحة عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -. قال أبو ريَّة: (وإليك خبرًا عجيبًا من أخبار ذلك الكاهن لعله يمتلخ منك عرق الشك في اشتراكه في هذه المؤامرة، فقد أخرج الخطيب عن مالك أن عمر دخل على أم كلثوم بنت علي، وهي زوجته فوجدها تبكي، فقال: ما يبكيك؟ قالت: هذا اليهودي - أي كعب الأحبار - يقول: إنك على باب (¬1) من أبواب جهنم. فقال عمر: ما شاء الله. ثم خرج فأرسل إلى كعب, فجاءه فقال: يا أمير المؤمنين والذي نفسي بيده لا ينسلخ ذو الحجة حتى تدخل الجنة، فقال عمر: ما هذا؟ مرة في الجنة ومرة في النار! قال كعب: إنا لنجدك في كتاب الله على باب من أبواب جهنم تمنع الناس أن يقتحموا فيها، فإذا متّ اقتحموا. وقد صدقت يمينه ... فقد قتل عمر في ذي الحجة سنة 23 هـ). [ص 79] أقول: ذكر ابن حجر في "فتح الباري" (¬2) هذه الحكاية في شرح حديث حذيفة الذي فيه وصفُ عمر بأنه باب مغلق دون الفتنة، وقد تقدم قريبًا. وفي "الفتح" أيضًا (2: 446) (¬3) حديثٌ فيه: أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أشار إلى عمر وقال: "هذا غلق الفتنة، لا يزال بينكم وبين الفتنة باب شديد الغَلْق ما عاش"، وأن أبا ذرًّ قال لعمر: "يا غلق الفتنة" (¬4). فغير منكر أن يكون في ¬

_ (¬1) "على باب" سقطت من (ط)، واستدركتها من كتاب أبي ريَّة. (¬2) (13/ 50). (¬3) (6/ 606). والإحالة في (ط) على المجلد الثاني من "الفتح" خطأ. (¬4) الذي في "الفتح" أن أبا ذرّ قال لعمر: "يا قفل الفتنة". والذي قال له: "يا غلق الفتنة" هو عثمان بن مظعون.

صحف أهل الكتاب إشارة إلى هذا المعنى بنحو ما في الحكاية - إن صحت - وإنما الذي يُستنكر أن يكون فيها بيان وقت موت عمر على التحديد. وقد كان عمر في شهر ذي الحجة سنة 23 حاجًّا، واتفق هناك علامات تُؤذِن بقرب موته، منها أنّ رجلًا ناداه: يا خليفة. فقال آخر من حُزاة العرب: إنا لله، ناداه باسم ميت. ثم لما كان يرمي الجمرة أصابت حصاةٌ جبهةَ عمر فأَدْمته، فقال ذاك الحازي: إنا لله، أُشْعِرَ أمير المؤمنين. والإشعار: تدمية البعير الذي يُهدى ليُنْحَر. وجاء عن عائشة أنها سمعت عقب ذاك الحج منشدًا ينشد: أبعد قتيلٍ بالمدينة أظلمَتْ ... له الأرضُ تهتزّ العِضاهُ بأسْؤق عليك سلامٌ مِن إمام وباركت ... يدُ الله في ذاك الأديم الممزَّق الأبيات ... ولما انصرف عمر من الحج دعا الله تعالى فقال: "اللهم كبرت سِنّي وضعفت قوَّتي وانتشرت رعيَّتي، فاقبضني إليك غير مضيّع ولا مفرّط" (¬1). فلما قدم المدينة خطبَ الناسَ وقال في خطبته: "رأيتُ ديكًا نقرني ثلاث نقرات، ولا أراه إلا حضور أجلي" (¬2). ¬

_ (¬1) هذه الأخبار أخرجها ابن سعد في "الطبقات الكبرى": (3/ 309 - 310، 347 - 348). (¬2) أخرجه مسلم (567) وقد تقدم.

فمن الجائز - إن صحت تلك الحكاية - أن يكون كعب استند إلى بعض هذه العلامات أو شبهها، وقد يكون مع ذلك وجد في صحفه إشارةً فَهِم منها بطريق الرمز مع النظر إلى القرائن والعلامات السابقة أن عمر لا يعيش بعد تلك السَّنَة. وبعد، فسند الحكاية غير صحيح، تفرَّد بها عن مالك رجلٌ يقال له: "عبد الوهاب بن موسى" لا يكاد يُعْرَف، وليس من رجال شيء من كتب الحديث المشهورة، ولا ذُكِر في "تاريخ البخاري" ولا كتاب ابن أبي حاتم، بل قال الذهبيّ في "الميزان" (¬1): "لا يُدْرَى مَن ذا الحيوان الكذَّاب". وفي مقدمة "صحيح مسلم" (¬2): "الذي نعرف من مذهبهم في قبول ما يتفرَّد به المحدِّث من الحديث: أن يكون قد شارك الثقات من أهل العلم والحفظ في بعض ما رووا، وأمعن في ذلك على الموافقة لهم، فإذا وُجِد كذلك، ثم زاد بعد ذلك شيئًا ليس عند أصحابه قُبِل منه (¬3) ... ". وهذا الرجل لم يُمعن في المشاركة فضلًا عن أن يكون ذلك على [ص 80] الموافقة. لكن هذا الشرط لا يتقيَّد به بعضُ المتأخِّرين كابن حبان والدارقطني. ومن ثَمَّ - والله أعلم - وثَّق الدارقطنيُّ عبدَ الوهاب هذا، وزعم أن الخبر صحيح عن مالك. أما بقية سنده عن مالك فهو عن عبد الله بن دينار عن سعد البخاري، وسعد البخاري غير مشهور ولا موثَّق، ولا يُدرى أدركه عبد الله بن دينار أم لا. ¬

_ (¬1) (3/ 398). وانظر تعقب الحافظ ابن حجر للذهبي في "لسان الميزان": (5/ 308 - 310). (¬2) (1/ 7). (¬3) في "الصحيح": "قُبِلت زيادته".

ومقطع الحق أن ليس بيد من يتَّهم كعبًا بالمؤامرة غير كلمات يُروى أن كعبًا قالها لعمر. وقد كان عمر والصحابة أعلم بالله ورسله وكتبه منَّا، وأعْلَم بعد أن طُعِن عمر بالمؤامرة وقد انكشفت وهو حيّ، وأعلم بحال كعب لأنه صَحِبَهم وجالسهم. والمعقول أنه لو كان في ما خطب به عمر ما يوجب اتهامه لاتهموه، وقد علمنا أنهم لم يتهموه لا قبل انكشاف المؤامرة ولا بعده، فوجب الجزم بأنه لم يقع منه ما يقتضي اتهامه. قال أبو ريَّة ص 118: (حديث الاستسقاء ...). حكى أنّ كعبًا في عام الرمادة قال لعمر: "إن بني إسرائيل كانوا إذا أصابهم مثل هذا استسقوا بعَصَبة الأنبياء". أقول: لم يعزُ هذا إلى كتابٍ لينظر في سنده، ولا أراه إلا ساقطًا (¬1). قال: (ومما لا مراء فيه أن هذا اليهودي قد أراد بقوله هذا أن يخدع عمر عن أول أساس جاء (¬2) عليه الدين الإسلامي وهو التوحيد الخالص، ليزلقه إلى هوَّة التوسل الذي هو الشرك بعينه). أقول: أما المسلمون الذي يعرفون الإسلام، فالذي لا مراء فيه عندهم أن أبا ريَّة مجازف، وأنه على فرض صحّة هذه الحكاية ليس فيها ما يدلّ على سوء طوية كعب، وأن استسقاء عمر بالعباس رضي الله عنهما لا علاقة له بالشرك البتة، بل هو أمر يقره الشرع إجماعًا، ويؤيده الكتاب والسنة، قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ ¬

_ (¬1) ذكر الخبر ابنُ عبد البر في "الاستيعاب": (2/ 814)، والعسكري في "الأوائل" (1/ 255 - 256) وأسنده إلى المدائني عن شيوخه، فالسند كما قال المؤلف. (¬2) كذا في (ط) والذي في كتاب أبي ريَّة: "قام".

لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64] "، وقال: سبحانه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [المنافقون: 5]، وقال تعالى في يعقوب وبنيه: {قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يوسف: 97، 98]. وتواتر في السُّنة طلب الصحابة من النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو لهم بالسُّقيا وغيرها. وأمرنا النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أن نسلّم عليه في التشهد، وبالصلاة عليه والدعاء له عقب الأذان، وغير ذلك مما صورتُه طلب الدعاء. ثم ذكر خبر أنس الذي في "صحيح البخاري" (¬1) أن عمر قال: "اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا - صلى الله عليه وسلم -[ص 81] فتسقينا، وإنا نتوسَّل إليك بعمّ نبينا فاسقنا" وزعم أنه لا يصح، وعارضه بروايات منها: عن خوَّات قال: "خرج عمر يستسقي بهم فصلّى ركعتين فقال: اللهم إنا نستغفرك ونستسقيك، فما برح من مكانه حتى مُطِروا" (¬2). أقول: لا أدري ما سنده (¬3)، ولو صح فلا يعارض خبر أنس، فقد تكون واقعة أخرى، فإن عمر لبث خليفة عشر سنين، وقد تكون واقعة واحدة اختصر خوَّات في ذكرها. ¬

_ (¬1) (1010). (¬2) أخرجه ابن أبي الدنيا في "مجابو الدعوة" (43)، ومن طريقه اللالكائي في "كرامات الأولياء" (69). (¬3) في سنده عطاء بن مسلم الخفّاف متكلّم فيه من جهة حفظه، قال في "التقريب": "صدوق يخطئ كثيرًا". وفيه أيضًا شيخه عبد الله العمري، وهو ضعيف.

قال: (وعن الشعبي قال: خرج عمر يستسقي بالناس فما زاد على الاستغفار ...). أقول: الشعبي لم يدرك عمر، وعمر لبث خليفةً عشر سنين، فلم يكن استسقاؤه مرة واحدة (¬1). قال: (وقال الجاحظ: ولما صعد (عمر) على المنبر قابضًا على يد العباس ...). فذكر نحو خبر الشعبيّ، وذكر أبو ريَّة أنّ الطبريّ أخرجه في "تفسيره" (¬2)، وأنّ ابنَ قتيبة ذكره في "الشعر والشعراء" (¬3). أقول: نعم، ولكن لم يقل أحد: "قابضًا على يد العباس" إلا الجاحظ، فأراه زادها توهّمًا. قال: (قال معاوية لكعب ...) عزا هذا إلى "تفسير ابن كثير" (3: 101). وإنما هو فيه (5: 323) (¬4) قال في سنده: "ابن لهيعة حدثني سالم بن غيلان عن سعيد بن أبي هلال: أن معاوية الخ" وابن لهيعة ضعيف، وسعيد بن أبي هلال وُلد بعد موت كعب بنحو أربعين سنة. قال: (وذكر القرطبيُّ في تفسير سورة غافر عن خالد بن معدان عن كعب ...). أقول: قال القرطبي (¬5): "قال ثور بن زيد عن خالد ... " ولا أدري كيف السند إلى ثور، وخالد لم يدرك كعبًا. ¬

_ (¬1) خبر الشعبي أخرجه عبد الرزاق (4902)، وابن أبي الدنيا في "المطر" (84). (¬2) (23/ 294). (¬3) (2/ 702). (¬4) (5/ 2189 - ت البنا). (¬5) (15/ 192 - دار الكتب العلمية). ولم أجده مسندًا.

قال: (وفي التفسير أن عبد الله بن قلابه الخ). أقول: عبد الله بن قلابة مجهول لا ذِكْر له إلا في هذه الحكاية، وفي السند إليه عبد الله بن لهيعة وهو ضعيف كثير التخليط (¬1). قال ص 121: (وأخرج أبو الشيخ في "العظمة" عن كعب ...). أقول: كتاب "العَظَمة" تكثر فيه الرواية عن الكذَّابين والساقطين والمجاهيل (¬2). قال: (وعن وهب بن منبه: أربعة أملاك يحملون العرش ...). أقول: وهذا أيضًا من كتاب "العَظَمة" (¬3). [ص 82] قال: (وقرأ معاوية الخ). أقول: في سنده سعيد بن مَسْلَمة بن هشام، قال فيه البخاري: "منكر الحديث فيه نظر"، وهذا من أشدِّ الجرح في اصطلاح البخاري. وفي سياق القصة ما يشعر بانقطاع آخرها. قال ص 122: (وذكر الحافظ ابن حجر أنَّ كعب الأحبار روى أن باب السماء الذي يقال له: مصعد الملائكة يقابل بيت المقدس، فأخذ منه بعض العلماء أن الحكمة في الإسراء إلى بيت المقدس قبل العروج ليحصل العروج مستويًا ...). قال أبو ريَّة: (وهكذا تنفذ الإسرائيليات إلى معتقداتنا). ¬

_ (¬1) أخرج هذا الأثر في قصة إرم ذات العماد أبو الشيخ في "العظمة": (4/ 1493 - 1502)، والثعلبي في "الكشف والبيان": (10/ 197). وفي سندها أيضًا عبد الله بن صالح كاتب الليث وفيه ضعف. (¬2) والخبر في "العظمة": (4/ 1384). وفي سنده عبد الله بن صالح أيضًا. (¬3) (2/ 600).

أقول: الحكاية عن كعب لا ندري ما سندها (¬1)، وذاك الأخْذُ إنما هو احتمال لا تثبت به عقيدة ولا تنتفي. قال: (وقال ابن حجر بعد أن أورد تلك الخرافة ...). أقول: من أين لك أنها خرافة؟ قال: (وروى كعب: أن في الجنة مَلَكًا الخ). أقول: ذكره بنحو ما هنا ابنُ القيم في "حادي الأرواح" (¬2) المطبوع مع "إعلام الموقعين" (1: 314) وهو من رواية شِمْر بن عطية عن كعب، وشِمْر لم يدرك كعبًا، وليس في الحكاية ما يستنكره المسلم. قال: (ومما يدلُّك على أن الصحابة كانوا يرجعون إليه (¬3) حتى فيما هو من علمهم - وبخاصة عندما قال: ما من شيء إلا وهو مكتوب في التوراة -: أن أبا عبد الرحمن محمد بن الحسين النيسابوري ذكر أن عمر قال لكعب - وذكر الشعر -: يا كعب هل تجد للشعر ذكرًا في التوراة ...). أقول: عزاه إلى كتاب "العمدة" (¬4) لابن رَشيق، وابن رَشيق لم يلق النيسابوري، والنيسابوري ضعيف جدًّا حتى اتُّهِم بالوضع، تجد ترجمته في ¬

_ (¬1) ذكر الحافظ الخبرَ بمعناه في "فتح الباري": (7/ 196)، وذكر نصه الآلوسي في "روح المعاني": (8/ 14). (¬2) (1/ 424 - دار عالم الفوائد). والأثر أخرجه ابن أبي شيبة (35143)، وابن أبي الدنيا في "صفة الجنة" (223)، وأبو الشيخ في "العظمة" (2/ 751). (¬3) هذا من محاولات أبي ريَّة تمكين تلك المكيدة التي مرت ص 73 [143]. [المؤلف]. (¬4) (1/ 8 - دار الخانجي).

"لسان الميزان" (5: 140) (¬1). وبينه وبين عمر أكثر من ثلاثمائة سنة. وهب أنّ القصة صحّت فأيُّ شيء فيها يدلّ على تلك الدعوى الفاجرة؟ وما نسبه إلى كعب من قوله: "ما من شيء الخ" لم يعزه (¬2). قال: (وروى البيهقي في "الأسماء والصفات" بسند صحيح عن ابن عباس [قال] ... في كل أرض نبيّ كنبيكم، وآدم كآدمكم، ونوح كنوح، وإبراهيم كإبراهيم، وعيسى كعيسى). أقول: أما هذا فليس سنده بصحيح؛ لأنه من طريق شريك عن عطاء بن السائب عن أبي الضُّحى عن [ص 83] ابن عباس، وشريك يخطئ كثيرًا ويدلِّس، وعطاء بن السائب اختلط قبل موته بمدَّة، وسماعُ شريك منه بعد الاختلاط. لكن أخرج البيهقي (¬3) عقب هذا بسند آخر من طريق "آدم بن أبي إياس حدثنا شعبة عن عَمْرو بن مرّة عن أبي الضُّحى عن ابن عباس في قوله عزَّ وجلَّ: {خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12] قال: في كلِّ أرض نحو إبراهيم". ثم قال البيهقي: "إسناد هذا عن ابن عباس صحيح، وهو شاذٌّ بمَرَّة لا أعلم لأبي الضحى عليه متابعًا". وأخرجه ابن جرير (¬4) عن عَمْرو بن عليّ عن غُنْدَر عن شعبة فذكره بنحوه، وزاد "ونحو ما على الأرض ¬

_ (¬1) (7/ 92 - 93 - ت أبو غدة). (¬2) أخرجه الطبراني في "الكبير" (18/ 346)، ومن طريقه أبو نعيم في "معرفة الصحابة": (4/ 116). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد": (7/ 267 - 268): "مرسل". وقد تقدم (ص 136 - 137). ولفظه في بعض المصادر: "ما من الأرض شيء إلا وهو مكتوب ... "، وفي بعضها: "ما من الأرض شبر ... ". (¬3) "الأسماء والصفات" (832). (¬4) (23/ 78).

من الخلق". وعلى هذا فالمعنى - والله أعلم - أنّ في كلِّ أرض خلقًا كنحو بني آدم، وفيهم مَن يَعْرف الله تعالى بالنظر في آياته كما عرف إبراهيم عليه السلام، وهذا القول قد يتوصَّل إليه بالنظر في الآية المذكورة وسياقها، وقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الحجر: 85]. وقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] وغيرها. على أن بعضهم قد فسر ما جاء في الرواية الأخرى التي قدَّمتُ أنها لا تصح، ففي "روح المعاني" (¬1): "لا مانع عقلًا ولا شرعًا من صحته، والمراد أنّ في كلّ أرض خَلْقًا يرجعون إلى أصلٍ واحد رجوع بني آدم في أرضنا إلى آدم عليه السلام، وفيهم أفراد ممتازون على سائرهم كنوح وإبراهيم فينا". أما ما في "البداية" (¬2): "محمول إن صحّ نقله عنه على أنه أخذه ابن عباس رضي الله عنه عن الإسرائيليات" فغير مرضيّ، فابن عباس - كما مرَّ ويأتي - كان ينهى عن سؤال أهل الكتاب، فإنْ كان مع ذلك قد يسمع مِن بعض مَن أسلم منهم أو يسأله فإنما ذلك شأن العالم يسمع ما ليس بحجّة، لعله يجد فيه ما ينبّهه ويَلْفِتُ نظرَه إلى حجة. وسيأتي تمام هذا إن شاء الله (¬3). وقال ص 123: (وفي "تفسير الطبري" (¬4) أن ابن عباس سأل كعبًا عن سدرة ¬

_ (¬1) (28/ 143). (¬2) "البداية والنهاية": (1/ 42 - 43 - دار هجر). (¬3) (ص 170، 183). (¬4) (22/ 33).

المنتهى. فقال: إنها على رؤوس حَمَلة العرش، وإليها ينتهي علم الخلائق، وليس لأحد وراءها علم، ولذلك سميت سدرة المنتهى لانتهاء العلم بها). أقول: هو من طريق الأعمش عن شِمْر بن عطية عن هلال بن يساف قال: سأل ابنُ عباس كعبًا وأنا حاضر" كذا قال، والأعمش مشهور بالتدليس، وهلال بن يساف لم يدرك كعبًا. قال أبو ريَّة: (هذا ما قاله لتلميذه الثاني، أما تلميذه الأول فهو أبو هريرة ...). أقول: لم يتعلَّما من كعب شيئًا، وإنما سمعا منه شيئًا محتملًا فحكياه، أو سألاه سؤالَ خبيرٍ ناقد لينظرا ما يقول، ولا يضرهما تهكُّم أبي ريَّة، كما لم يضر النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قول المشركين: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل: 103]. [ص 84] قال: (ففي حديث له: أنها شجرة تخرج من أصلها أنهار الخ). أقول: هذا رواه أبو جعفر الرازي (¬1)، وشكَّ فيه فقال: "عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي هريرة أو غيره". وأبو جعفر والربيع فيهما كلام. وقال ابن حبان في الربيع: "الناس يتَّقون مِن حديثه ما كان من رواية أبي جعفر عنه, لأن في أحاديثه عنه اضطرابًا كثيرًا" (¬2). قال: (وفي حديث المعراج: أنه لما فرض الله خمسين صلاة على العباد في النهار وفي الليل ولم يستطع أحد من الرسل جميعًا غير موسى أن يفقه استحالة أدائها على البشر، فهو وحده الذي فطن لذلك ... وكأن الله سبحانه ... كان لا يعلم مبلغ قوة احتمال عباده ... وكذلك لا يعلم محمد ... حتى بصَّره موسى. وهكذا ترى الإسرائيليات تنفذ إلى ديننا ... ولا تجد أحدًا إلا قليلًا يزيفها ...). ¬

_ (¬1) أخرجه من طريقه ابن جرير: (22/ 37). (¬2) "الثقات": (4/ 228).

أقول: إن كانت الإسرائيليات تشمل عند أبي ريَّة كلَّ خبرٍ فيه فضيلة لموسى عليه السلام ففي القرآن كثير منها، بل في عدة آيات منه ذِكْر تفضيل بني إسرائيل على العالمين وغير ذلك. وإن كانت خاصة بما ألصق بالإسلام وليس منه من مقولات أهل الكتاب، فلم يزل أهل العلم يتتبعونها ويزيِّفونها. أما سكوتهم عن محاولة تزييف ما ثبت في أحاديث الإسراء فعذرهم واضح، وهو أنه لم يبلغ أحدٌ منهم في العلم والعقل والحياء مبلغ أبي رية. ودونك الجواب: كانت الصلاة قبل الهجرة ركعتين ركعتين كما ثبت في "الصحيح" (¬1)، فخمسون صلاة مائة ركعة، وليس أداء مائة ركعة في اليوم والليلة بمستحيل، وفي الناس الآن من يصلي في اليوم والليلة نحو مائة ركعة، ومنهم من يزيد، وفي تراجم كثير من كبار المسلمين أنَّ منهم من كان يصلي أكثر من ذلك بكثير، بل إن أداء مائة ركعة في اليوم والليلة ليس بعظيم المشقَّة في جانب ما لله عزَّ وجلَّ من الحقّ وما عنده من عظيم الجزاء في الدنيا والآخرة، نعم قال الله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 45 - 46]. وما وقع في كلام موسى: "إن أمتك لا تطيق" وفي رواية: "لا تستطيع" ليس معناه أن ذلك مستحيل، وإنما معناه أن ذلك يشقُّ عليها، ولهذا أطلق هذه العبارة بعد بيان رجوع الصلاة إلى خمس، قال موسى: "إن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم". وراجع "مفردات [ص 85] الراغب" (¬2) (طوع) و (طوف). فأما الله تعالى فالفرض في عِلْمِه خمس صلوات فقط. ولكنه سبحانه ¬

_ (¬1) البخاري (350)، ومسلم (685) من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬2) (ص 529 - 532 - دار القلم).

إذا أراد أن يرفع بعض عباده إلى مرتبةٍ هيّأ له ما يستحقّ به المرتبة، ومِن ذلك أن يهيئ ما يفهم منه العبد أنه مكلّف بعمل معيَّن شاقّ، فيقبل التكليف ويستعدّ لمحاولة الأداء، فحينئذ يعفيه الله تعالى من ذلك العمل، ويكتب له جزاءَ قبوله ومحاولةِ الوفاء به أو الاستعداد لذلك = ثوابَ مَنْ عَمِلَه. ومن هذا القبيل قصة إبراهيم في ذبح ابنه. وأما محمد - صلى الله عليه وسلم - فكان يعلم أن الأداء ممكن كما مرَّ، وكان في ذلك المقام الكريم مستغرقًا في الخضوع والتسليم، ووفّقه الله عزَّ وجلَّ لقبول ما فهمه في فرض خمسين والاستعداد لأدائها، ليكون هذا القبول والاستعداد مقتضيًا لاستحقاق ما أراد الله عزَّ وجلَّ أن يعطيه وأمته من ثواب خمسين صلاة. وقبوله واستعداده عنه وعن أمته في حكم قبول الأمة، فإنها تبَع له وكان هو النائب عنها، على أنه ما من مؤمن من أمته يطَّلع على الحديث ويراجع نفسه إلا رأى أنه لو كان المفروض خمسين صلاة لبذَلَ وُسعه في أدائها والوفاء بها. فأما المراجعة للتخفيف بعد مشورة موسى فإنما كانت بعد أن استقرَّ القبول والعزم على الأداء، وعلى وجه الرجاء إن خفف فذاك وإلا فالقبول والاستعداد بحاله. ولم يذكر في الحديث أن أحدًا من الرسل اطلع على فرض الصلاة وإنما فيه أنه لما مرَّ محمد بموسى عليهما السلام سأله موسى فأخبره فقال موسى: "إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم، وإني والله قد جرَّبتُ الناسَ قبلك وعالجت بني إسرائيل أشدَّ المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك" (¬1). واختصَّ موسى بالعناية لأنه أقرب الرسل حالًا إلى محمد؛ لأن كلاًّ منهما رسول منزل عليه كتاب تشريعي سائسٌ لأمة أُرِيدَ لها ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (349)، ومسلم (162) في حديث الإسراء الطويل.

البقاء لا أن تصطلم بالعذاب، وقُضي لمحمد أن تطول معالجتُه لأمته كما طالت معالجة موسى لأمته، ووجوه الشبه كثيرة؛ ولهذا أتى القرآن بذكر موسى في مواضع كثيرة، منها عقب آية الإسراء، قال الله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا} [الإسراء: 1، 2]. هذا، وحديث الإسراء ثابت مستفيض من رواية جماعة من الصحابة، وعليه إجماع الأمة، ولا يضرّه أن يجهل بعض الناس حِكْمة عالم الغيب والشهادة في بعض ما اشتمل عليه، ولا أن يكفر به من يكفر. والله الموفق. [ص 86] قال أبو ريَّة ص 124: (هل يجوز رواية الإسرائيليات؟) أقول: المعلوم دينًا وعقلًا أن الأخبار إنما تُحْظَر روايتها إذا ترتَّبت عليها مفسدة، وقد كثر في القرآن والسنة حكاية ما هو حق من الإسرائيليات وحكاية ما هو باطل مع بيان بطلانه، فدلّ ذلك على جواز ما كان من هذا القبيل، وبقي المحتمل، وما لا تظهر مفسدة في روايته على أنه محتمل. قال أبو ريَّة: (روى أحمد عن جابر بن عبد الله أن عمر بن الخطاب أتى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه على النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فغضب وقال: أمتهوِّكون فيها يا ابن الخطاب؟ والذي نفي بيده لو أن موسى كان حيًّا ما وسعه إلا أن يتَّبعني. وفي رواية: فغضب وقال: جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فيخبروكم بحقّ فتكذّبوا به أو بباطل فتصدّقوا به). أقول: هذا من رواية مُجالد عن الشعبي عن جابر (¬1)، ومجالد ليس ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (14631)، وأبو يعلى (2135)، والبيهقي: (2/ 10 - 11).

بالقوي، وأحاديث الشعبي عن جابر أكثرها لم يسمعه الشعبي من جابر كما مرَّ (ص 38) (¬1). وعلى فرض صحته فالغضب من المجيء بذاك الكتاب كان لسببين: الأول: إشعاره بظنِّ أن شريعتهم لم تُنسخ، ولهذا دفع ذلك بقوله: "لو أن موسى كان حيًّا ما وسعه إلا أن يتبعني". والثاني: أنه قد سبق للمشركين قولهم في القرآن والنبي - صلى الله عليه وسلم -: {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان: 5] وفي اعتياد الصحابة الإتيان بكتب أهل الكتاب وقراءتها على النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ترويج لذاك التكذيب. والسببان منتفيان عمن اطلع على بعض كتبهم بعد وفاة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كعبد الله بن عَمرو. أما قوله: "لا تسألوا الخ" فقد بيَّن أن العلة هي خشية التكذيب بحق أو التصديق بباطل، والعالم المتمكِّن مِن معرفة الحق من الباطل ومن المحتمل بمأمَنٍ من هذه الخشية، يوضّح ذلك: أن عمر رضي الله عنه - وهو صاحب القصة - كان بعد النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يسمع من مسلمي أهل الكتاب وربما سألهم، وشاركه جماعة من الصحابة ولم ينكر ذلك أحد. قال: (وروى البخاري عن أبي هريرة: لا تصدقوا الخ). أقول: الذي في "صحيح البخاري" (¬2): "عن أبي هريرة قال: كان أهلُ الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال ¬

_ (¬1) (ص 75). (¬2) (4485).

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم الخ" [ص 87] فلم يَنْهَ عن السماع والاستماع، وإنما نهى عن التصديق والتكذيب. ولا ريب أن المنهيّ عنه هو التصديق المبنيّ على حُسن الظنّ بصحفهم، والتكذيب المبنيّ على غير حجة، فلو قامت حجة صحيحة وجب العمل بها. قال: (وروى البخاري ... عن ابن عباس أنه قال: كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل الله على رسول الله أحدث الكتب تفرؤونه محضًا لم يُشَبْ، وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدَّلوا كتابَ الله وغيروه الخ). أقول: هذا مِن قول ابن عباس، وقد علمنا أنه كان يسمع ممن أسلم من أهل الكتاب، وقد رُوي أنه سأل بعضهم، وأبو ريَّة يُسْرِف في هذا حتى يرمي ابنَ عباس بأنه (تلميذ لكعب)، وبالتدبُّر يظهر مقصوده، ففي بقية عبارته: "لا والله ما رأينا رجلًا منهم يسألكم عن الذي أنزل إليكم" فدلّ هذا أن كلامه في أهل الكتاب الذين لم يُسْلموا، فأما الذي أسلموا فعَمَل ابن عباس يقتضي أنه لا بأس للعالم المحقق - مثله - أن يسأل أحدهم. قال ص 125: (وروى ابن جرير عن عبد الله بن مسعود قال: "لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يَهدوكم وقد ضلوا. إما أن تكذِّبوا بحق أو تصدّقوا بباطل"). أقول: في سنده نظر (¬1)، فإن صحّ فقد تقدَّم معناه في حديث جابر وأثر ابن عباس (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق (10162)، وابن جرير (18/ 423) من طريق الأعمش عن عمارة بن عمير عن حريث بن ظهير به. وأخرجه ابن أبي شيبة (26952) من طريق الأعمش عن عمارة عن عبد الرحمن بن يزيد به. وسنده كما قال المؤلف، ففيه حريث بن ظهير قال الذهبي: لا يُعرف، وقال الحافظ: مجهول. (¬2) تقدّما قريبًا.

قال: (ولكن ما لبث الأمر أن انقلب بعد أن اغترَّ بعض المسلمين بمن أسلم من أحبار اليهود خدعة (؟) فظهرت أحاديثُ رفعوها إلى النبيّ تبيح الأخد وتنسخ ما نهى عنه، فقد روى أبو هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص وغيرهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "حدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج"). أقول: صحَّ هذا من حديث أبي هريرة وعبد الله بن عَمرو وأبي سعيد الخدري، وليس بمخالف لما تقدم، كيف والحجة مما تقدم إنما هي في حديث أبي هريرة، فأما حديث جابر فلم يصح، وأثر ابن عباس مِنْ قوله، وقد بيَّنه سياقُه وفِعْلُه، وأثر ابن مسعود - إن صحّ - فقد تقدم حمله، ولو كان مخالفًا لكان رأي صحابيّ قد خالفه غيره، فالحجة في حديث أبي هريرة فقط، وهو بيِّن في الإذن بالسماع والاستماع، ولم ينه إلا عن التصديق أو التكذيب بلا حجة، والرواية إما في معنى السماع والاستماع، فيدلّ الحديث على الإذن فيها، وإما مسكوتٌ عنها، فتبيّن أن حديث: "حدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج" (¬1) غير مخالف لحجة، ولو كان مخالفًا فأيُّما أولى أن يؤخذ به؟ أدلةُ المنع قد عرفتَ حالها، أما أدلة الجواز فصنيع القرآن والسنن الثابتة، وحديثٌ صحيح صريح يرويه جماعة من الصحابة، وعَمَل عمر وعثمان وجماعة من الصحابة. قال: (وأبو هريرة وعبد الله بن عمرو من تلاميذ كعب الأحبار). أقول: لم يتعلّما من كعب شيئًا وإنما سمعا منه شيئًا من الحكايات ظنَّا أو جوَّزا صحتها فنقلاها، والذي يصح عنهما من ذلك شيء يسير. وكأنَّ أبا ريَّة يريد أنهما لمّا سَمِعا من كعب أحبَّا أن يرويا عنه، فخافا أن ينكر الناسُ عليهما، فافتريا - والعياذ بالله - على النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ذاك الحديث يدفعان به إنكار ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3461).

الناس، وساعدهما على ذلك غيرهما من الصحابة كأبي سعيد الخدري. كأنَّ أصحابَ محمد - صلى الله عليه وسلم - جماعة من اللصوص لا يَزَعهم دين ولا حياء، وكأنَّ صُحبتهم له ومجالستهم، وحفظهم للقرآن والسنن، ومحافظتهم على الطاعة طول عمرهم لم تُفِدْهم في دينهم وأخلاقهم شيئًا بل زادتهم وبالًا، فقد كانوا في جاهليتهم يتحاشَون من الكذب. ولا ريب أنَّ مِثْل هذا لا يقوله مسلم عاقل يعرف محمدًا - صلى الله عليه وسلم - ويؤمن بالقرآن وما فيه من الثناء البالغ على الصحابة، ويعرفُ الصحابةَ أنفسَهم. ولو أريد من ثلاثة معروفين من أصحاب السيد رشيد رضا أن يتَّفقوا على الكذب عليه لغرضٍ من الأغراض لعزَّ ذلك، مع الفارق العظيم بين هذا وذاك من وجوه عديدة. هذا، وسبيل المؤمنين الذي جرى عليه العمل في حياة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وفي عهد أصحابه: قبول خبر الصحابي الواحد، فإن عَرَض احتمال خطأ أو نحوه (¬1) فقام صحابيّ آخر فأخبر بمثل ذاك لم يبق إلا القبول، كما يروى في خبر محمد بن مَسْلمة بمثل ما أخبر به المغيرة في ميراث الجدّة فأمضاه أبو بكر، وكشهادة أبي هريرة لحسَّان بإنشاده الشعر في المسجد في حياة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فأقرَّه عمر، وكخبر أبي سعيد الخدري بمثل خبر أبي موسى في الاستئذان فاطمأنّ إليه عمر، وقد قال الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]. قال أبو ريَّة: (وقد جاءت الأخبار بأن الثاني وهو عبد الله بن عمرو بن العاص أصاب يوم اليرموك زاملتين من علوم أهل الكتاب فكان يحدّث منهما بأشياء كثيرة من ¬

_ (¬1) (ط): "أو نحو".

الإسرائيليات، وقد قال فيهما الحافظ ابن كثير: إن منها المعروف والمشهور، والمنكور والمردود). أقول: هو نفسه رضي الله عنه لم يكن يثق بها، ولهذا كان يسمِّي صحيفته عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - "الصادقة" تمييزًا لها على تلك الصحف، وإنما كان يحكي من تلك الصحف ما قام دليلٌ على صِدقه، كصفة النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، أو كان محتملًا فيحكيه على الاحتمال. [ص 89] قال: (رواية بعض الصحابة عن أحبار اليهود. كان من أثر وثوق الصحابة بمسلمة أهل الكتاب واغترارهم بهم أن صدقوهم فيما يقولون, ويروون عنهم ما يفترون). أقول: إن أراد بالتصديق أن كعبًا - مثلًا - كان إذا قال: إني أجد في التوراة كيت وكيت، صدَّقوه في أنّ ذلك في التوراة التي بأيدي أهل الكتاب حينئذ، وقد عرفوا أنّ فيها كثيرًا من التحريف والتبديل، فهذا محتمل؛ لأن كعبًا أسلم ثم تعلَّم الإسلام وبقي محافظًا على الإسلام مجتنبًا للكبائر متمسِّكًا بالعبادة والتقوى، فكان عدلًا عندهم فيما يظهر، فعاملوه بحسب ذلك، وهذا هو الحق عليهم. وإن أراد بالتصديق أن كعبًا - مثلًا - كان لو قال: إنّ مِن صفة الله تعالى كذا، لاعتقدوا - بناء على قوله أو صُحُفه - أن تلك صفة الله تعالى حقًّا، فهذا كذب عليهم (راجع ص 68) (¬1) أما أنّ مسلمي أهل الكتاب كانوا يفترون، فهذه دعوى يُعْرَف حالها مما مرَّ ويأتي. قال: (وقد نصَّ رجال الحديث في كتبهم أن العبادلة الثلاثة وأبا هريرة ومعاوية وأنس وغيرهم قد رووا عن كعب الأحبار وإخوانه). ¬

_ (¬1) (ص 133 - 134).

أقول: أما الرواية عن كعب فقد ذُكِرَت لهؤلاء ولعمر ولعلي ولابن مسعود كما في "فتح المغيث" للسخاوي (ص 405) (¬1). وعادةُ أهل الحديث أن يقولوا: "روى عن فلان، روى عنه فلان" ولو لم يكن المروي إلا حكاية واحدة، وهذا هو الحال هنا تقريبًا، فإنك لا تجد لهؤلاء عن كعب إلا الحرف والحرفين ونحوها، وكثير من ذلك يأتي ذِكْر كعب فيه عَرَضًا، راجع (ص 69) (¬2). وأما روايتهم عن إخوانه، فمن هم؟ راجع (ص 70) (¬3). قال ص 126: (وكان أبو هريرة الخ). أقول: ستأتي ترجمة أبي هريرة رضي الله عنه، وتُعْلَم براءته (¬4). قال: (وقد استطاع أن يدسّ من الخرافات والأوهام والأكاذيب في الدين ما امتلأت به كتبُ التفسير والحديث والتاريخ فشوَّهتْها وأدخلت الشك إليها). أقول: إنما كان كعب يخبر عن صحف أهل الكتاب، وقد عرف المسلمون قاطبةً أنها مغيَّرة مبدَّلة، فكلّ ما نُسِب إليه في الكتب فحكمه حكم تلك الصحف، فإن كان بعضُ الآخذين عنه ربما يحكي قوله ولا يسمِّيه، فغايته أن يُعَدَّ قولًا للحاكي نفسه وقوله غير حجة، وما جاوز هذا من شطحات أبي ريَّة زيَّفته في غير هذا الموضع. (راجع ص 73) (¬5). قال: (تكذيب الصحابة لكعب ... نهى عمر كعبًا عن التحديث ... وقال له: لتتركن الحديث [عن الأُوَل] أو لألحقنك بأرض القِرَدة). ¬

_ (¬1) (4/ 166 - ط الدار السلفية). (¬2) (ص 135 - 136). (¬3) (ص 138 - 139). (¬4) (ص 194). (¬5) (ص 145).

أقول: مرَّ ما فيه (ص 74) (¬1) وقد أسقط أبو ريَّة هنا كلمة: "عن الأُوَل" لحاجة في نفس إبليس (¬2) سيأتي شرحها في الكلام على (ص 163) (¬3). قال: (وكان علي يقول: إنه لكذّاب". أقول: لم يَعْزُ أبو ريَّة هذا إلى كتاب، ولا عثرتُ عليه، ولو كان له أصل لذُكِر في ترجمة كعب من كتب الجرح والتعديل. [ص 90] وذَكَر عن معاوية أنه (ذكر كعبًا فقال: إنه من أصدق هؤلاء المحدِّثين عن أهل الكتاب, وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب). وعلَّق على كلمة (أصدق) أن في رواية "أمثل" وإنما وقع بلفظ (أمثل) في عبارة نَقَلها ص 128 عن "اقتضاء الصراط المستقيم" (¬4)، وعلَّق هناك: أنها هي الرواية الصحيحة، أما رواية "أصدق" فيبدو أنها محرَّفة. كذا يجازف هذا المسكين! وصاحب "الاقتضاء" يورد في مؤلّفاته الأحايثَ من حفظه، وإنما الرواية "أصدق" كما في "صحيح البخاري" (¬5) وغيره. هذا وقد بيَّن أهل العلم أن مقصود معاوية بالكذب: الخطأ. راجع "فتح الباري" (13: 282) (¬6) و"تهذيب التهذيب" (¬7). والسياق يوضّح ¬

_ (¬1) (ص 147). (¬2) هي المكيدة التي تقدمت الإشارة إليها ص 73 و74 و75 و82 و89. [المؤلف]. (¬3) (ص 214 - 216). (¬4) (2/ 349). (¬5) (7361). (¬6) (13/ 335). (¬7) (8/ 394) وليس فيه تفسير الكذب بالخطأ، وفي "الإصابة": (5/ 650) فسَّر الحافظ الكذب هنا بعدم وقوع ما يخبر به أنه سيقع لا أنه هو يكذب.

ذلك، فالكلام إنما هو في التحديث عن أهل الكتاب، أي عن كتبهم، ولم يكن معاوية ينظر في كتبهم، وإنما كان كعب وغيره يحكون تنبؤات عما يُستقبل من الأمور فيعلم الصدق أو الكذب بوقوعها وعدمه. والظاهر أنه كان عند كعب صحف فيها تنبؤات مجملة، وكانت له مهارة خاصة في تفسيرها، وبذلك كان أكثر صوابًا من غيره. ومن أعجب ما جاء في ذلك ما جرى له مع ابن الزبير (¬1). والذي يصح عنه من ذلك قليل، غير أن الوضَّاعين بعده استغلّوا شهرته بذلك فكذبوا عليه كثيرًا لأغراضهم، وكان الكذب عليه أيسر عليهم من الكذب على النبيّ - صلى الله عليه وسلم -. قال: (قصة الصخرة بين عمر وكعب الخ). أقول: قد تقدّم النظر فيها (ص 75) (¬2). قال ص 127: (... روى بعضهم عن كعب الأحبار أنه ذَكر عند عبد الملك بن مروان وعروة بن الزبير حاضر: أن الله قال للصخرة: أنتِ عرشي الأدنى). أقول: واضع هذا جاهل، فإن قوله: "عند عبد الملك بن مروان" يعني في خلافته، وإنما ولي سنة 65 بعد وفاة كعب ببضع وثلاثين سنة. ¬

_ (¬1) يعني ما أخرجه عبد الرزاق (20755) أن ابن الزبير قال: "ما شيءٌ كان يحدثناه كعب إلا قد أتى على ما قال إلا قوله: إن فتى ثقيف يقتلني، وهذا رأسه بين يدي - يعني المختار -. قال ابن سيرين: ولا يشعر أن أبا محمد قد خُبئ له - يعني الحجاج". وسندها صحيح. (¬2) (ص 149).

قال ص 128: (وفي "مرآة الزمان" لسِبْط ابن الجوزي: ... وكان - أي عمر - يضربه بالدِّرّة ويقول له: دعنا من يهوديتك). أقول: لم يسند السِّبْط هذه الحكاية، وهو معروف بالمجازفة (¬1). قال: (الإسرائيليات في فضل بيت المقدس). ذكر أخبارًا عن كعب منها: خبر "أنت عرشي الأدنى" المارّ قريبًا، ونسبها إلى بعض كتب الأدب، وقد قال هو نفسه ص 129: (بعد بناء قبة الصخرة ظهرت أحاديث في فضلها وفضل المسجد الأقصى) وإنما [ص 91] بُنيت قُبَّة الصخرة بعد وفاة كعب ببضع وثلاثين سنة. وفي كتاب "فضائل الشام" للربعي سبع عشرة حكاية عن كعب قال فيها مُخرِّجه الشيخ ناصر الدين الأرناؤوط: "كل الأسانيد لا تصح" (¬2). وفي هذا تصديق لما قلته مرارًا: إنّ غالب ما يُروى عن كعب مكذوب عليه. وبعد، فلو صحّ شيء من ذلك فإنما كان كعب يخبر عن صحف اليهود، ومعقول أن يكون فيها أمثال ذلك. قال: (وعن أبي هريرة الخ). أقول: هذا كذب مفترى على أبي هريرة رضي الله عنه، وقد قال أبو ريَّة ص 129: (بعد بناء قبة الصخرة ظهرت أحاديث الخ) وإنما بُنيت بعد وفاة أبي هريرة بعدَّة سنين. وقوله: (تلميذ كعب الأحبار) كلمة يطلقها ظالمًا على أبي هريرة وابن عباس وابن عمرو وغيرهم من الصحابة الذين قال الله تعالى فيهم: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح: 29]. ¬

_ (¬1) وصفه بذلك وبأشدّ منه الحافظ الذهبي وغيره. انظر "ميزان الاعتدال": (6/ 145)، و"لسان الميزان": (8/ 565). (¬2) (ص 8 - ط المعارف).

قال ص 129: (وفي حديث: أن الطائفة من أمته .... إنهم في بيت المقدس وأكنافه). أقول: روي هذا من حديث أبي أمامة بسند ضعيف (¬1). وعلى فرض صحته فليس المراد أنهم هناك دائمًا، كيف ولم يكن هناك في عهد النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أحدٌ من المسلمين، وإنما المعنى أنهم يكونون هناك في آخر الزمان حين يأتي أمر الله. وقال: (ما قيل في المسجد الأقصى: كانت الأحاديث الصحيحة أول الأمر في فضل المسجد الحرام ومسجد رسول الله، ولكن بعد بناء قبة الصخرة ظهرت أحاديث في فضلها وفضل المسجد الأقصى). أقول: أما الصخرة فنعم لا يثبت في فضلها نص، وأما المسجد ففضله ثابت بالكتاب والسنة والإجماع. قال: (وقد روى أبو هريرة [مرفوعًا]: لا تشدّ الرحال إلَّا إلى ثلاثة مساجد الخ). أقول: الحديث ثابت في "الصحيحين" وغيرهما من حديث أبي هريرة (¬2)، وأبي سعيد الخُدري (¬3)، و [أبي] (¬4) بَصْرة الغِفاري (¬5)، وجاء من حديث ابن عمر (¬6) رضي الله عنهم. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (22320)، والطبراني في "الكبير" (7643). وانظر حاشية المسند: (36/ 657). (¬2) أخرجه البخاري (1189)، ومسلم (1397). (¬3) أخرجه البخاري (1197)، ومسلم (827). (¬4) سقطت من (ط). (¬5) أخرجه أحمد (23850، 27230)، والطيالسي (1445). (¬6) أخرجه الطبراني في "الكبير": (12/ 338).

وذَكَر قولَ ميمونة لامرأة نذرت أن تصلي في بيت المقدس: اجلسي وصلي في مسجد رسول الله، فإني سمعت رسول الله يقول: "صلاة فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا مسجد الكعبة" (¬1). قال أبو ريَّة: (ولو أن المسجد الأقصى كان قد ورد فيه تلك الأحاديث لما منعت ميمونة هذه المرأة من أن توفي نذرها). [ص 92] أقول: رأت ميمونةُ أنَّ الصلاة في مسجد المدينة أفضل، فلم تر فائدة لسفر وعناء لأجل صلاة يمكن أداء أفضل منها بدونهما. وهذا لا ينفي أن يكون للمسجد الأقصى فضل في الجملة كما هو ثابت، وأن يكون للصلاة فيه فضل دون فضل الصلاة في مسجد المدينة. وهذا واضح. قال ص 130: (اليد اليهودية في تفضيل الشام: ... إن الشام ما كان لينال من الإشادة بذكره والثناء عليه إلا لقيام دولة بني أمية فيه ... فكان جديرًا بكهنة اليهود أن ينتهزوا هذه الفرصة ... وكان من هذه الأكاذيب أن بالغوا في مدح الشام ...). أقول: أما فضل الشام فقد ثبت بكتاب الله عزَّ وجلَّ كما مرَّ (ص 65) (¬2)، والعقل يتقبَّل ذلك لأنها كانت منشأ غالب الأنبياء والمرسلين، كما يتقبل أن ينوِّه النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بفضلها تبيانًا للواقع وترغيبًا للمسلمين في فتحها والرباط فيها. أما الأخبار الكثيرة الواهية في فضل الشام وبيت المقدس والصخرة فالنّظَرُ في أسانيدها يبيّن أنها إنما اختُلِقت بعد كعب بزمان لأغراض أخرى غير اليهودية. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1396). (¬2) (ص 127).

قال: (مرَّ بك ذَرْوٌ مما قال هؤلاء الكهنة في أن ملك النبيّ سيكون بالشام). أقول: جاء هذا عن كعب، فإن صحّ فالظاهر أنه كذلك كان في صحف أهل الكتاب، فقد أثبت القرآن ذِكْر النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فيها، ومن أبرز الأمور في شأنه ظهور مُلك أصحابه بالشام. وراجع (ص 71) (¬1). قال: (وأن معاوية قد زعم الخ). أقول: هذا باطل. راجع (ص 64) (¬2). قال ص 131: (في الصحيحين: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرّهم مَنْ خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك". ثم قال: "روى البخاري: هم بالشام). أقول: الذي في "صحيح البخاري" (¬3) ذِكْر الحديث من طريق عُمير عن معاوية مرفوعًا ثم قال: "قال عمير: فقال مالك بن يخامر: قال معاذ: وهم بالشام". وليس لمالك بن يَخَامر في الصحيح سوى هذا، وجَعَله من قول معاذ فيما يظهر لا من الحديث، والواو فيه هي واو الحال، أي أنه يأتي أمر الله وهم بالشام، وإتيانُ أمر الله يكون آخر الزمان، وليس المراد أنهم يكونون دائمًا بالشام، كيف ولم يكن بها في عهد النبيّ - صلى الله عليه وسلم -. والبخاري يحمل "الطائفة" على أهل العلم (¬4)، ومعلوم أنّ معظمهم لم يكونوا بالشام في ¬

_ (¬1) (ص 139 - 141). (¬2) (ص 125 - 126). (¬3) (3641). (¬4) صرح به في كتاب الاعتصام، باب قول النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "لا تزال طائفة من أمتي ... " قال: وهم أهل العلم.

عصره ولا قبله. [ص 93] قال: (وفي مسلم عن أبي هريرة أن النبيّ قال: لا يزال أهل الغرب ظاهرين [على الحق] حتى تقوم الساعة). أقول: إنما هو في "صحيح مسلم" (¬1) عن سعد بن أبي وقاص، وليس عن أبي هريرة. والظاهر أن أبا ريَّة تعمَّد خلاف الواقع. ولا أدري لماذا أسْقَط "على الحق"؟! قال: (قال أحمد وغيره: هم أهل الشام). أقول: قد قيل وقيل، وأقرب الأقوال أن المراد بالغرب الحِدَّة والشوكة في الجهاد، ففي حديث جابر بن سمرة: "لا يزال هذا الدين قائمًا تقاتل عليه عصابة الخ" (¬2). وفي حديث جابر بن عبد الله: " ... طائفة من أمتي يقاتلون" (¬3) ونحوه في حديث معاوية، وحديث عقبة بن عامر (¬4). أما ما يحكى أن بعضهم قال "المغرب" فخطأ محض (¬5). قال: (وفي "كشف الخفا" الخ). أقول: قد تقدَّم (¬6) أنّ كعبًا توفي وسط خلافة عثمان، وأنه لم يصح عنه ما نُسِب إليه في "فضائل الشام" شيء. ¬

_ (¬1) (1925). (¬2) أخرجه مسلم (1922). (¬3) أخرجه مسلم (156). (¬4) حديث معاوية أخرجه مسلم (1037)، وحديث عقبة في مسلم أيضًا (1924). (¬5) وانظر "فتح الباري": (13/ 295). (¬6) (ص 136، 177).

قال: (ومن أحاديث "الجامع الصغير" للسيوطي التي أشير عليها بالصحة). أقول: ليست تلك الإشارة معتمدة دائمًا. وذكر حديث: "الشام صفوة الله ... الخ" (¬1)، وهو في "المستدرك" (4: 509) قال الحاكم: "صحيح الإسناد"، تعقَّبه الذهبيّ فقال: "كلّا وعُفير هالك" يعني أحد رجال سنده. وذكر حديث: "طوبى للشام ... الخ" وهذا جاء من حديث زيد بن ثابت (¬2)، وصحّحه الحاكم وغيره من المتأخرين، وفي صحته نظر. وذكر حديث: "ليبعثنَّ الله من مدينة الشام الخ" (¬3) وهذا رُوي من حديث عمر، وفي سنده أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم، ضعيف مختلط. وقال في حاشية ص 132: (هذا هو الحديث الصحيح الخ). ¬

_ (¬1) وأخرجه الطبراني في "الكبير": (8/ 171)، ومن طريقه ابن عساكر (1/ 119). (¬2) أخرجه أحمد (21606)، وابن أبي شيبة (19795)، والترمذي (3954)، وابن حبان (7304)، والحاكم: (2/ 229) وغيرهم من طرقٍ عن يزيد بن أبي حبيب عن عبد الرحمن بن شماسة عن زيد بن ثابت عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "طوبى للشام" فقيل: ولِم ذلك يا رسول الله؟ قال: "إن الملائكة باسطة أجنحتها عليه". قال الترمذي: "حسن غريب"، وصححه الحاكم على شرط الشيخين. وأخرجه الطبراني في "الكبير": (5/ 158) بلفظ: "إن الرحمن لَباسطٌ رحمته عليه". وهو اللفظ الذي ذكره أبو ريَّة. وقد تفرَّد به أحمد بن رشدين المصري وهو ضعيف جدًّا. انظر "السلسلة الضعيفة" (6777). (¬3) أخرجه أحمد (120)، والبزار (317)، وأخرجه الحاكم من طريق آخر: "3/ 88 - 89) وصححه، وتعقبه الذهبي بأنه منكر. وقد ضعفه ابن كثير في "مسند الفاروق": (2/ 702)، وانظر: "السلسلة الضعيفة" (4367).

أقول: راجع (ص 86) (¬1). وذكر ص 134 فصلًا لصاحب "المنار" في الحطِّ على كعب ووهب، وقد تقدم ما يكفي (¬2). وفيه ص 135: (... فمن المعتاد المعهود من طباع البشر أن يصدّقوا كل خبر لا يظهر لهم دليل على تهمة قائله فيه ولا بطلانه في نفسه، فإذا صدَّق بعض الصحابة كعب الأحبار في بعض مفترياته التي كان يوهمهم [ص 94] أنه أخذها من التوراة أو من غيرها من كتب أنبياء بني إسرائيل وهو من أحبارهم أو في غير ذلك، فلا يستلزم هذا إساءة الظن بهم (¬3)). أقول: أما من أسلم من أهل الكتاب وظهر حُسْنُ إسلامه وصلاحُه، فأخبر عن صحف أهل الكتاب بشيء، فلا إشكال في تصديق بعض الصحابة له في ذلك، بمعنى ظنّ أن معنى ذاك الخبر موجود في صحف أهل الكتاب، وإنما المدفوع تصديق الصحابة ما في صحف أهل الكتاب حينئذٍ، مع علمهم بأنها قد غُيّرت وبُدّلت، وقول النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "لا تصدِّقوا أهلَ الكتاب ولا تكذّبوهم" (¬4). وقد مرَّ كلام ابن عباس وغيره في ذلك (راجع ص 68 و 89) (¬5) فالحقّ أنهم لم يكونوا يصدّقونها إلا أن يوجد دليل على صدقها، وذلك كخبر عبد الله بن عمرو عن صفة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في التوراة، ولذلك أقسم ¬

_ (¬1) (ص 168 - 169). (¬2) (ص 135 - 138 وما بعدها). (¬3) عند أبي ريَّة: "فيهم". (¬4) تقدم تخريجه (ص 134). (¬5) (ص 133 - 134 و173 - 174).

عليه (راجع ص 71) (¬1)، فأما ماعدا ذلك فغاية الأمر أنهم إذا وجدوا الخبر لا يدفعه العقلُ ولا الشرعُ ولا هو من مظِنّة اختلاق أهل الكتاب وتحريفهم أَنِسُوا به، فإن كان مع ذلك مناسبًا في الجملة لآيةٍ من القرآن أو حديث عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - مالوا إلى تصديقه. وإخبار الإنسان عما يعلم السامعون أنه لم يدركه لا يعطي أنه جازم بتصديقه, لأنَّ مثل هذا الخبر كالمتضمّن لقوله: "بلغني ... ". قال أبو ريَّة ص 137: (الكيد السياسي الخ). ثم ذكر قصة عبد الله بن سبأ، وقد نقدها الدكتور طه حسين في "الفتنة الكبرى" (¬2) فأجاد. وقال ص 138: (وقد وضع كعب يده في يد ابن سبأ الخ). أقول: هذا تخيُّل صِرْف. قال: (فقد روى وكيع عن الأعمش عن أبي صالح الخ). أقول: يُنظر السند إلى وكيع (¬3)، والأعمشُ مدلّس، وأبو صالح لم يتبيّن إدراكه للقصة. ولو صحت لَمَا دلَّت إلا على أحد أمرين: إما أن كعبًا وجد ذلك في صُحُفِه، كما يشهد له ما أخبر به ابن الزبير (¬4)، وإما أنه كان عميق النظر وبعيده. ¬

_ (¬1) (ص 139 - 141). (¬2) (ص 90 - 94). وانظر نقد الأستاذ محمود شاكر لطه حسين في "جمهرة المقالات": (1/ 515 وما بعدها). (¬3) أخرجه وكيع في "نسخته عن الأعمش" (35)، وأخرجه ابن أبي شيبة (38248) عن وكيع به، وابن سعد في "الطبقات": (6/ 19) عن وكيع وأبي معاوية كلاهما عن الأعمش. فالسند صحيح إليه. (¬4) انظر ما سبق (ص 176).

قال ص 139: (وصفوة القول في هؤلاء اليهود الخ). أقول: الكيد اليهودي المحقَّق كيد جولدزيهر وإخوانه المستشرقين المحاولين تصوير الصحابة في صورة مغفَّلين خرافيين يتلاعب بهم (¬1) كعب، وأبو ريَّة ممن سقط فريسة لهذا الكيد، ثم عاد فارسًا من فرسانه! **** ¬

_ (¬1) (ط): "لهم"، ولعلَّ الصواب ما أثبت.

المسيحيات

المسيحيات [ص 95] وذكر ص 140: (المسيحيات في الحديث الخ). وذكر تميمًا الداريَّ رضي الله عنه فافترى عليه، وعلّق في الحاشية أن تحوّله إلى الشام بعد قتل عثمان كان لتمكين الفتنة، والناس يعرفون أنه إنما أتاها لأنها وطنه. وذكر ص 141 حديث الجسّاسة، وكلام صاحب "المنار" (¬1) فيه وقوله: (النبي - صلى الله عليه وسلم - ما كان يعلم الغيب ... وكثيرًا ما صَدَّق المنافقين والكفار الخ). أقول: قد مرّ (ص 19) (¬2) أنه لم يثبت أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - صدَّق كاذبًا، وإنما كان إذا احتمل عنده خبر إنسان أن يكون صدقًا وأن يكون كذبًا يبني على احتمال صِدْقه ما لا يرى ببنائه عليه بأسًا. والفرق بين القضايا التي تقدمت هناك وبين خبر الجسَّاسة عظيم جدًّا. والأحاديث الثابتة في شأن الدجّال كثيرة، ويُعلم منها أن كثيرًا من شأنه خارج عن العادة. وكما أن الملائكة قد يأذن الله لهم فيتمثَّلون بشرًا يراهم من حَضَر، ثبت ذلك بالقرآن في قصة الملائكة مع إبراهيم ومع لوط، وفي تمثّل المَلَك لمريم وغير ذلك، وثبت في السنة في عدة أحاديث، فكذلك قد يأذن الله تعالى للشياطين - لحكمة خاصة - فيتمثلون في صور يراها مَنْ حَضَر. فأما الجسّاسة فشيطان، وأما الدجّال فقد قال بعضهم: إنه شيطان، وعلى هذا فلا إشكال. كشف الله تعالى لتميم وأصحابه فرأوا الدجال ¬

_ (¬1) (19/ 99 - 100). (¬2) (ص 38 - 39).

وجساسته وخاطبوهما، ثم عاد حالهما إلى طبيعة الشياطين من الاستتار. وإن كان الدجال إنسانًا فلا أرى ذاك إلا شيطانًا مثل في صورة الدجال؛ لأن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال في أواخر حياته: "أرأيتكم ليلتكم هذه، فإن رأس مائة سنة لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد" (¬1).انظر "فتح الباري" (2: 61) (¬2). والحكمة في كشف الله تعالى لتميم وأصحابه عما كشف لهم عنه أن يخبروا بذلك فيكون موافقًا لما كان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يخبر به، فيزداد المسلمون وثوقًا به. وهذا بيِّن في الحديث؛ إذ قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بعد ذكره لتميم: "وحدثني حديثًا وافق الذي كنتُ أحدثكم عن مسيح الدجال" ثم قال: "ألا هل كنتُ حدَّثتكم ذلك؟ " فقال الناس: نعم. فقال: "فإنه أعجبني حديث تميم أنه وافق الذي كنت أحدثكم عنه وعن المدينة ومكة". وقال ص 144: (ومن المسيحيات في الحديث: ما رواه البخاري عن أبي هريرة أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: كل ابن آدم يطعن الشيطان في جنبه حين يولد غير عيسى ابن مريم، ذهب يطعن فطعن [ص 96] في الحجاب. وفي رواية .... إلا يمسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخًا، غير مريم وابنها ... ". ثم قال: "وفِقْهُ هذا الحديث الذي سمعه الصحابي الجليل ... حتى الرسل نوح وإبراهيم وموسى وغيرهم وخاتمهم محمد صلوات الله عليه وعلى جميع النبيين. فانظر واعجب). أقول: أما المؤمن فيعجب من جرأة أبي ريَّة وتحكّمه بجهله على ربّ العالمين أحكم الحاكمين عالم الغيب والشهادة. إن هؤلاء الرسل نُبِّئوا بعد أن بَلَغَ كلٌّ منهم أربعين سنة، وقد آتى الله تعالى يحيى وعيسى النبوّة في ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (116)، ومسلم (2537) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. (¬2) لم أجد في الموضع المشار إليه شيئًا، فلعله وقع خطأ في الإحالة. وانظر (10/ 556).

صباهما، وقال الله تعالى في مريم وعيسى: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} [مريم: 29 - 33] هل يجحد أبو ريَّة هذا؟ أم يجحد قول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا} [الأنعام: 75 - 76] الآيات؟ وقول الله تعالى لخاتم النبيين صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] ونحوها من الآيات؟ أما المؤمنون فيؤمنون بهذا كله، ويؤمنون بأنبياء الله كلهم، لا يفرَّقون بين أحد منهم ولا يخوضون في المفاضلة بينهم اتباعًا للهوى. وأرجو أن لا يكون من ذلك ما يلجئ إليه مقتضى الحال هنا مما يأتي. إن الفضل الذي يعتدّ به كمالًا تامًّا للإنسان هو ما كان بسعيه واجتهاده، ومن هنا كان فضل الخليلين إبراهيم ومحمد عليهما وعلى سائر الأنبياء الصلاة والسلام. أما طعن الشيطان بيده فليس مِن شأنه أن يُثاب العبد على سلامته منه ولا أن يعاقَب على وقوعه له، بل إن كان من شأنه أن يورث في نفس الإنسان استعدادًا ما لوسوسته، فالذي يناله ذلك ثم يجاهد بسعيه ويخالف الشيطان ويتغلَّب عليه أَوْلى بالفضل ممن لم يَنَلْه. ثم ذهب - قاتله الله - يسخر من حديث شقّ صدره - صلى الله عليه وسلم -، قال: (ولم يقفوا

عند ذلك [ص 97] بل كان من رواياتهم أن النبيّ لم ينج من نخسة الشيطان إلا بعد أن نفذت إلى قلبه، وكان ذلك بعملية جراحية ... وكأن العملية الأولى لم تنجح فأعيد شقّ صدره ...). أقول: لم يكن شقّ الصدر لإزالة أثر النّخْسَة كما زعم، وإنما كان لتطهير القلب من شيء يخلق لكلّ إنسان بمقتضى أنه خُلِق ليبتلى. أما تكراره فقد أنكره بعضهم كما في "الفتح" (¬1) حملًا لما ورد من ذلك على خطأ بعض الرواة. وفي "صحيح مسلم" (¬2) ذِكْر وقوعه في الطفولة وعند الإسراء، وقال في الأول: "أتاه جبريل ... فاستخرج منه عَلَقة فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله ... ". وقال في حديث الإسراء: "فنزل جبريل ففتح صدري ثم غسله ... ، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانًا فأفرغها في صدري". فليس في الثاني ذِكْر إخراج القلب ولا إخراج عَلَقة منه، ولا ذكر حظ الشيطان، وإنما فيه ذكر الصدر وزيادة ذكر إفراغ الحكمة والإيمان فيه، فتبيَّن أن المقصود ثانيًا غير المقصود أولًا، وأن كلًّا من المقصودَيْنِ مناسب لوقت وقوعه. وفي "الفتح" (¬3): "قال ابن أبي جمرة: الحكمة في شقّ قلبه مع القدرة على أن يمتلئ قلبه إيمانًا وحكمة بدون شق: الزيادة في قوَّة اليقين، لأنه أُعطي برؤية شقّ بطنه وعدم تأثره بذلك ما أمِنَ معه من جميع المخاوف العادية، فلذلك كان أشجع الناس وأعلاهم حالًا ومقالًا، ولذلك وُصِف بقوله تعالى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم: 17] ". ¬

_ (¬1) (7/ 204). (¬2) (163). (¬3) (7/ 206).

أقول: وحكمة عالم الغيب والشهادة سبحانه وتعالى أدقُّ وأخفى من أن يحيط بها البشر. قال أبو ريَّة ص 146: (وإن هذه العملية الجراحية لتشبه من بعض الوجوه عملية صلب السيد المسيح عليه السلام، وهو لم يرتكب ذنبًا يستوجب هذا الصلب، وإنما ذكروا ذلك ليغفر الله خطيئة آدم ...). أقول: شقُّ الصدر لم يؤلمه - صلى الله عليه وسلم - البتة، وليس هو لتكفير ذنبه ولا ذنب غيره، فأين هو - قاتلك الله - من خرافة الصَّلْب؟ قال: (ولئن قال المسلمون ... ولم لا يغفر الله لآدم خطيئته بغير هذه الوسيلة القاسية ... ، قيل لهم: ولِم لم يخلق الله قلب رسوله الذي اصطفاه كما خلق قلوب إخوانه المرسلين؟). أقول: أما المسلمون فلا يقولون ما زعمتَ، وإنما يقولون: كيف يذنب آدم وهو عبد من عبيد الله فيعاقب الله عيسى، وهو عند زاعمي ذلك "ابن الله الوحيد" بتلك العقوبة القاسية التي تألّم [ص 98] لها عيسى بزعمهم أبلغ الألم، وصرخ بأعلى صوته: "إيلي إيلي، لِمَ شبقتني" أي: إلهي إلهي لِمَ تركتني؟ ثم من أين علمتَ أن قلوب سائر المرسلين لم تُخلق كما خُلق قلب محمد؟ فقد تكون خُلِقت سواء وخُصَّ محمد بهذا التطهير أو طهرت أيضًا بهذه الوسيلة أو غيرها {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]. وعلَّق ص 144 بحكاية شيء من هَذَر القسوس، وفيما تقدم كفاية. وقال ص 147: (ولا أدري والله أين ذهبوا مما جاء في سورة الحجر الخ).

أقول: فأين يذهب أبو ريَّة من تَدْلية الشيطان لآدم إلى أن كان ما ذكره الله تعالى بقوله: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121] ومِن قول موسى بعد قتله القبطي: {قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [القصص: 15، 16]، ومن قول أيوب: {مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص: 41]، وقول الله تعالى لمحمد - صلى الله عليه وسلم -: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 199 - 201]. أما آية الحجر فعلى المشهور أن المراد بقوله: {إِنَّ عِبَادِي} [الحجر: 42] عباده المخلصون خاصة، فقوله: {لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42] معناه والله أعلم: لن تُسَلَّط على إغوائهم الإغواء اللازم، لأن الكلام فيه لتقدم قوله: {لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82] وهذا لا ينافي أن يُسلَّط على بعضهم لإغواء عارض، أو لإلحاق ضرر لا يضر الدين. ثم ذكر ص 147 - عن الرازي وغيره -: أن الخبر على خلاف الدليل لوجوه (أحدها: أن الشيطان إنما يدعو إلى الشر من يعرف الخير والشر، والصبي ليس كذلك). أقول: ومن قال: إنّ النخسة دعاء إلى الشر؟ بل إن كانت للإيلام فقط فذلك من خُبْث الشيطان، مُكِّنَ منها كما مُكِّن مما أصاب أيوب، وكما يمكَّن الكفار من قتل المسلمين - حتى الأنبياء - وذبح أطفالهم. وإن كانت لإحداث أمرٍ مِن شأنه أن يورث القلب قبولًا ما للوسوسة بعد الكِبَر، فهذا لا يستدعي معرفة الخير والشر في الحال، والتمكين من هذا كالتمكين من الوسوسة والتزيين، وذلك من تمام أصل الابتلاء.

[ص 99] قال: (الثاني: أن الشيطان لو تمكَّن من هذا النخس لفعل أكثر من ذلك من إهلاك الصالحين وإفساد أحوالهم). أقول: من أين يلزم من التمكّن مِن حَمْل رجل، التمكّن مِن حمل جبل؟ والشيطان لا يتمكَّن إلا إن مكَّنه الله تعالى، فإذا مكَّنه الله تعالى من أمر خاص فمن أين يلزم تمكّنه من غيره؟ قال: (والثالث: لِمَ خُصَّ بهذا الاستثناء مريم وعيسى ...)؟ أقول: قد تقدَّم الجواب عن هذا (¬1). قال: (الرابع: أن ذلك النخس لو وُجِد لبقي أثره، ولو بقي أثره لدام الصراخ والبكاء). أقول: أرأيت إذا عركت أذن الطفل فأَلِمَ وبكى، أيستمر الألم والبكاء؟ ثم ذكر عن الشيخ محمد عبده كلامًا فيه: (فهو من الأخبار الظنية لأنها من رواية الآحاد، ولما كان موضوعها عالم الغيب، والإيمانُ بالغيب من قسم العقائد، وهي لا يؤخذ فيها بالظن لقوله تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس:36] كنا غير مكلفين الإيمان بمضمون تلك الأحاديث في عقائدنا). أقول: لا نزاع أن الدليل الظنيّ لا يوجب الإيمان القاطع، لكنه يوجب التصديق الظنيّ، وكيف لا وظنّ ثبوت الدليل يوجب ضرورةً ظنّ ثبوت المدلول. أما قوله تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28] فلي فيه بحثٌ طويل حاصله (¬2): أن تدبُّر مواقع "يغني" في القرآن وغيره، وتدبّر ¬

_ (¬1) (ص 187 - 188). (¬2) انظره في "رسائل التفسير" (ص 292 - 302)، وله أيضًا كلام طويل فيه في رسالة "فرضية اتباع السنة" ضمن رسائل الأصول. كلاهما ضمن هذه الموسوعة.

سياق الآية؛ يقضي بأن المعنى: إنّ الظن لا يدفع شيئًا من الحقّ، وبعبارة أهل الأصول: الظني لا يُعارِضُ القطعي (¬1). قال ص 148: (ابن جريج الخ). أقول: راجع (ص 68) (¬2). ثم قال: (ومن شاء أن يستزيد من معرفة الإسرائيليات والمسيحيات وغيرها في الدين الإسلامي فليرجع إلى التفسير والحديث والتاريخ، وإلى كتب المستشرقين أمثال جولد زيهر وفون كريمر وغيرهما). أقول: هذا موضع المثل: "صَدَقَني سِنَّ (¬3) بَكْرِه". وقوله: (في الدين الإسلامي) لها مغزاها، فأبو ريَّة - كما تعطيه هذه الكلمة والله أعلم - يرى في القرآن نحو ما جَهَر به في الحديث، وتقديمه لجولد زيهر اليهودي يؤيد ما قدمته (ص 94) (¬4)، وكُتُب جولد زيهر في الطعن في الإسلام والقرآن والنبي - صلى الله عليه وسلم - معروفة (¬5)، وقد أحالك أبو ريَّة عليها، والله المستعان. ... ¬

_ (¬1) وانظر ما يأتي ص 176 [ص 335 - 337]. [المؤلف]. (¬2) (ص 133) والحاشية. (¬3) تحرف في (ط): "من". والمثل يُضرب لمن يخبرك بِسِرِّه. وفيه قصة. انظر "المستقصى": (2/ 140)، و"فصل المقال" (ص 40 - 41). ويجوز في "سن" الرفع والنصب. (¬4) (ص 183 - 184). (¬5) انظر "السنة ومكانتها" (ص 189 - فما بعدها) للسباعي، في نقد جولد زيهر وطعونه في القرآن والسنة.

أبو هريرة

[ص 100] أبو هريرة وقال أبو ريَّة ص 151: (أبو هريرة: لو كانت أحاديث رسول الله كلها من الدين العام كالقرآن لا يقوم إلا عليها ولا يؤخذ إلا منها، وأنه يجب على كلّ مسلم أن يعرفها ويتبع ما فيها، وكان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قد أمر أصحابه أن يحفظوا هذه الأحاديث لكي تؤثر بعده، لكان أكثر الصحابة رواية لها أعلاهم درجة في الدين ...). أقول: قدمنا الكلام في نظرية: "دين عام ودين خاص" (ص 14 - 17)، و (ص 31 - 35) (¬1). ولم يوجب الله تعالى على كلّ مسلم معرفة القرآن نفسه سوى الفاتحة لوجوبها في الصلاة. وأمّا الاتباع: فطريقته أن العلماء يعرفون ويجتهدون، والعامة تسألهم عند الحاجة، فيفتونهم بما علموا من الكتاب والسنة. وكان الصحابة مأمورين بأن يبلِّغ كلٌّ منهم عند الحاجة ما حفظه، والذين حفظوا القرآن كلَّه في عهد النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ليسوا مِنْ أكابر الصحابة، وقد مات أبو بكر وعمر قبل أن يستوفي كلٌّ منهما القرآنَ حفظًا (¬2). وكان هناك عملان: الأول: التلقي من النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، الثاني: الأداء، فأما التلقّي فلم يكن في وُسع الصحابة أن يلازموا النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ملازمةً مستمرَّة، وإذ كان أنس وأبو هريرة ملازمين للنبيّ - صلى الله عليه وسلم - لخدمته فلا بدّ أن يتلقّيا مِن الأحاديث أكثر مما تلقاه المشتغلون بالتجارة والزراعة. على أن أبا هريرة لحرصه على العلم تلقَّى ممن سبقه إلى الصُّحبة ما عندهم من الأحاديث، فربما رواها عنهم وربما قال فيها: "قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ... " كما شاركه غيره منهم في مثل هذا الإرسال لكمال وثوق بعضهم ببعض، ¬

_ (¬1) (ص 29 - 36، وص 61 - 69). (¬2) انظر ما سبق (ص 63).

وقد ثبت أنه سأل النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن أسعد الناس بشفاعته يوم القيامة فقال: "لقد ظننتُ يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحدٌ أولَ منك لما رأيت من حرصك على الحديث، ... " أخرجه البخاري في "صحيحه" (¬1)، وتأتي أخبار كثيرة لإثبات هذا المعنى. وأما الأداء فإنما عاش أبو بكر زمن الأداء نحو سنتين مشغولًا بتدبير أمور المسلمين، وعاش عمر مدَّة أبي بكر مشغولًا بالوزارة والتجارة، وبعده مشغولًا بتدبير أمور المسلمين. وفي "المستدرك" (1: 98) (¬2): أنَّ معاذ بن جبل أوصى أصحابه أن يطلبوا العلم وسمَّى لهم: أبا الدرداء وسلمان وابن مسعود وعبد الله بن سلام. فقال يزيد بن عَميرة: وعند عمر بن الخطاب؟ فقال معاذ: "لا تسأله عن شيء، فإنه عنك مشغول". وعاش عثمان وعليّ مشغولَيْنِ بالوزارة وغيرها ثم الخلافة [ص 101] ومصارعة الفتن. وكان الراغبون في طلب العلم يتهيَّبون هؤلاء ونظراءهم، ويرون أن جميع الصحابة ثقات أُمناء، فيكتفون بمن دون أولئك، وكان هؤلاء الأكابر يرون أنه لا يتحتَّم عليهم التبليغ إلا عندما تدعو الحاجة، ويرون أنه إذا (¬3) جرى العمل على ذلك فلن يضيع شيء من السنة؛ لأن الصحابة كثير، ومدة بقائهم ستطول، وعروض المناسبات التي تدعو الحاجة فيها إلى التبليغ كثير، وفوق ذلك فقد تكفَّل الله عزَّ وجلَّ بحفظ شريعته، وكانوا مع ذلك ¬

_ (¬1) (99). (¬2) أصله عند الترمذي (3804)، والنسائي "الكبرى" (8196)، وأحمد (22104)، وابن حبان (7165) وغيرهم دون قوله: "فقال يزيد بن عَميرة: وعند عمر ... " قال الترمذي: حسن غريب وصححه الحاكم على شرط الشيخين. (¬3) (ط): "إذ".

يشدّدون على أنفسهم خشية الغلط، ويرون أنه إذا كان من أحدٍ منهم خطأ وقت وجوب التبليغ فهو معذور قطعًا، بخلاف من حدَّث قبل الحاجة فأخطأ، وكانوا مع ذلك يحبون أن يكفيهم غيرهم، ومع هذا فقد حدَّثوا بأحاديث عديدة، وبلغهم عن بعضهم أنه يكثر من التحديث فلم يزعموا أنه أتى منكرًا، وإنما حُكي عن بعضهم ما يدل أنه يرى الإكثار خلاف الأَوْلَى. فأما زعمُ أبي ريَّة أنهم كانوا (يرغبون عن رواية الحديث وينهون إخوانهم عنها ..) فقد تقدم تفنيده (ص 30) (¬1). وذكر أبو ريَّة كثرةَ حديث أبي هريرة وقال ص 152: (على حين أنه كان من عامة الصحابة، وكان بينهم لا في العير ولا في النفير) وسَيَبْسط هذا ص 184 وننظر فيه (¬2). وقال ص 152: (الاختلاف في اسمه الخ). أقول: وماذا يضره ذلك؟ إنما المقصود من الاسم المعرفة وقد عُرِف بأبي هريرة، وأصحّ ما قيل في اسمه: عبد الله أو عبد الرحمن، وهو على ما نسبه ابنُ الكلبي وغيره (¬3): ابن عامر بن عبد ذي الشرى بن طريف بن عتاب بن أبي صعب بن منبّه بن سعد بن ثعلبة بن سُليم بن فَهْم بن غَنْم بن دوس بن عُدْثان بن عبد الله بن زَهران بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأَزْد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يَشْجُب بن يَعْرُب بن قحطان الأزدي ثم الدوسي، وأمه: أُميمة بنت صفيح بن الحارث بن سابي بن أبي صعب الخ. ¬

_ (¬1) (ص 59 - 60). (¬2) انظر (ص 282 فما بعدها). (¬3) انظر "نسب معد واليمن الكبير": (2/ 492)، و"الجمهرة" (ص 381 - 382) لابن حزم.

قال ص 153: (نشأته وأصله ... لم يعرفوا شيئًا عن نشأته ولا عن تاريخه قبل إسلامه غير ما ذكر هو عن نفسه ... : نشأت يتيمًا وهاجرت مسكينًا وكنت أجيرًا لبُسرة بنت غزوان بطعام بطني وعقبة رِجْلي، فكنت أخدم إذا نزلوا وأحدوا إذا ركبوا، وكنيت بأبي هريرة بهرَّةٍ صغيرة كنتُ ألعب بها). [ص 102] أقول: أما أصله فقد تقدم، وهو من قبيلة شريفة كريمة عزيزة. وأما نشأته فما أكثر الصحابة الذين لا تُعرف نشأتهم، حتى من خيارهم وكبارهم. وأما قوله: "نشأتُ يتيمًا الخ" (¬1) فهذه القصة رُويت من أوجه في إسناد كلًّ منها مقال، ومجموعها يُثْبت أصلَ القصة، فأما الألفاظ التي تنفرد بها بعض الروايات فلا، وفي "الإصابة" (¬2): أن بُسْرة هذه أخت عتبة بن غزوان السلمي. وبلاد دوس بعيدة جدًّا عن بلاد بني سُليم، فيظهر أن أبا هريرة في هجرته إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - مرَّ ببلاد بني سُليم أو قريبًا منها، فوجد رفقة راحلين نحو المدينة وفيهم بُسْرة هذه، فصحبهم على أن يخدمهم في الطريق ويطعموه ويُعْقِبوه. ولا يدفع هذا ما ثبت عنه في "صحيح البخاري" (¬3) مِن قوله: "لما قدمتُ على النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قلت في الطريق: يا ليلةً من طولها وعنائها ... على أنها من دارة الكفر نَجَّتِ قال: وأَبَقَ لي غلام في الطريق، فلما قدمتُ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبايعته، فبَيْنَا أنا عنده إذ طلع الغلام، فقال: "يا أبا هريرة هذا غلامك"، فقلتُ: هو حرٌّ ¬

_ (¬1) أخرج القصة ابن ماجه (2445)، وابن حبان (7150)، والبيهقي: (6/ 120) وغيرهم. وفي سندها حيان بن بسطام بن مسلم لم يوثقه غير ابن حبان. (¬2) (7/ 537). (¬3) (2530, 2531).

لوجه الله. فأعتقته" انظر "فتح الباري" (8/ 79) (¬1) فقد يكون الغلامُ أبقَ منه قبل صحبته للرفقة. وبهذا تبَّين أن في القصة مَنْقَبتَيْنِ له: الأولى: أن إخدامه لنفسه إنما كان ليبلغ إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ودار الإسلام. والثانية: أنه مع قلة ذات يده أعتق غلامه، شكرًا لله تعالى على إبلاغه مقصده. وفي القصة عبرة بالغة، فإنه لما أذلَّ نفسَه بخدمة تلك المرأة استعانةً على الهجرة في سبيل الله عوَّضه الله تعالى بأن زوَّجه إياها تخدمه فوق ما خَدَمها. ثم كان على طريقته في التواضع والتحديث بالنعمة والاعتبار مع الميل إلى المزاح يذكر هذه القصة ويشير إلى تكليف امرأته بخدمته على نحو ما كانت تكلِّفه. وقد يكون وقع منه ذلك مرة أو مرتين على سبيل المزاح ومداعبة الأهل وتحقيق العبرة. وقد ثبت عن أبي المتوكل الناجي - وهو ثقة -: "أن أبا هريرة كانت له أَمَة زنجية قد غمَّتهم بعملها، فرفع عليها السوط يومًا ثم قال: لولا القصاص يوم القيامة لأغشيتك به، ولكني سأبيعك ممن يوفيني ثمنك أحوجَ ما أكونُ إليه (يعني الله عزَّ وجلَّ) اذهبي فأنت حرة لله عزَّ وجلَّ" انظر "البداية" (8: 112) (¬2). فمَنْ كانت هذه حاله مع أَمةٍ مهينة، فما عسى أن تكون حاله مع امرأته الحرَّة الشريفة؟ ولكن أبا ريَّة ذكر ص 187 بعض الألفاظ التي انفردت بها بعض الروايات (¬3)، ثم راح يسبّ أبا هريرة رضي الله عنه ويرميه بما هو من ¬

_ (¬1) (8/ 102). (¬2) (11/ 385 - دار هجر). وأخرجه أحمد في "الزهد" (ص 177). (¬3) منها: "فكلفتها أن تركب قائمة وأن تورد حافية" وأصح من هذه الرواية ما في "كنز العمال" (7: 82) عن عبد الرزاق عن هشام بن حسان عن ابن سيرين "فقلت: =

أبعد الناس عنه. [ص 103] وهذا مما يوضِّح أن أبا ريَّة ليس بصدد بحثٍ علمي، إنما صدره محشوٌّ براكين من الغيظ والغِلّ والحقد، يحاول أن يخلق المناسبات للترويح عن نفسه منها، كأنه لا يؤمن بقول الله عزَّ وجلَّ في أصحاب نبيه: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح: 29] ولا يصدّق بدعاء النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لأبي هريرة وأُمه: أن يحببهما الله إلى عباده المؤمنين كما في ترجمته في فضائل الصحابة من "صحيح مسلم" (¬1). وقال ص 153: (إسلامه. قَدِم أبو هريرة بعد أن تخطَّى الثلاثين من عمره). أقول: كذا زعم الواقدي عن كثير بن زيد عن الوليد بن أبي رياح عن أبي هريرة. والواقدي متروك، وكثير ضعيف، وقد قال الواقدي نفسه: إن أبا هريرة مات سنة 59 وعمره 78 (¬2)، ومقتضى هذا أن يكون عمره عند قدومه سنة سبع نحو ست وعشرين سنة، وهذا أشبه. والله أعلم. وفي الصحابة الطُّفيل بن عَمْرو الدوسي، وهو من رهط أبي هريرة بني ثعلبة بن سُليم بن فَهْم، أسلم قبل الهجرة وقصته مطولة في السيرة وغيرها، ¬

_ = لتوردنه حافية ولتركبنه وهو قائم". وأصح من هذا: ما أسنده ابن سعد في "الطبقات" (4: 532) عن ابن سيرين " ... ولتركبنه قائمة" فلعل بعض الرواة لم يفهم النكتة فغيَّر اللفظ، وأي حرج عليها أن تركب البعير باركًا وهي قائمة عند الركوب وتكون حافية وهي راكبة؟ وفي رواية عبد الرزاق قول ابن سيرين: "وكانت في أبي هريرة مزاحة" وقد يكون مازَحَها بهذا القول، ثم لم يكن إيراد ولا ركوب. [المؤلف]. (¬1) (2491). (¬2) انظر "الطبقات الكبرى": (5/ 257) لابن سعد.

وفي ترجمته من "الإصابة" (¬1): أنه لما عاد بعد إسلامه إلى قومه - وذلك قبل الهجرة بمدة - دعا قومه إلى الإسلام فلم يجبه إلا أبوه وأبو هريرة. فعلى هذا يكون إسلام أبي هريرة قبل الهجرة، وإنما تأخرت هجرته إلى زمن خيبر. وذكر أبو ريَّة ص 153 مقاولةَ أبي هريرة وأبان بن سعيد بن العاص وقول أبان: "واعجبًا لِوَبْرٍ تَدَلَّى علينا من قدوم ضأن" وعلَّق في الحاشية (الوبر دابة ... والمعنى أن أبا هريرة ملتصق في قريش، وشبَّهه بما يعلق بوبر الشاة). وهذا من تحقيق أبي ريَّة! وليس أبو هريرة من قريش في شيء لا مُلْصق ولا غير مُلْصق. وقوله: (وشَبَّهه) يقتضي أن الرواية (وَبَر) بالتحريك، ولو كان كذلك لما بقي لقوله: (الوبر دابة ..) معنى، وعلَّق أيضًا: (ومما يلفت النظر أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لم يؤاخذ أبانًا بما أغلظ لأبي هريرة) وأقول: ليس ذاك بإغلاظ، مع أنه إنما كان جوابًا ومكافأة. وقال ص 154: (ولفقره اتخذ سبيله إلى الصُّفَّة، فكان أشهر مَنْ أَمَّها، ثم صار عريفًا لمن كانوا يسكنونها) وعلَّق عليها عن أبي الفداء تعريفًا لأهل الصُّفَّة كما توهَّم، وقد عرَّفهم أبو هريرة رضي الله عنه التعريفَ الحقَّ فقال كما في "الصحيحين" وغيرهما (¬2): "وأهل الصفة أضياف الإسلام [ص 104] لا يأوون على أهل ولا مال الخ". وقد قال الله تبارك وتعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ} الآية [البقرة: 273]. كان للأنصار ¬

_ (¬1) (3/ 522). (¬2) البخاري (6452)، ولم أجده في مسلم، وأخرجه أحمد (10679)، والترمذي (2477).

حوائط يعملون فيها ويأكلون من غلَّتها، وكان كثير من المهاجرين يتاجرون. ومن الواضح أنَّ التجارة في المدينة - وهي مَحوطة بالمشركين من كلِّ جانب - لم تكن لتتسع للمهاجرين كلهم، فبقي بعضهم بالصُّفَّة، وكان أهل الصُّفة يقومون بفروض عظيمة، منها: تلقِّي القرآن والسنن، فكانت الصُّفة مدرسة الإسلام، ومنها حراسة النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، ومنها الاستعداد لتنفيذ أوامره وحاجاته في طلب من يريد طلبه من المسلمين وغير ذلك. كانوا قائمين بهذه الفروض عن المسلمين، فكانت نفقتهم على سائر المسلمين وإن سُمِّيَت صدقة. وكانوا بجوار النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يُؤْثرهم على نفسه وأهل بيته، وقد حدَّث عليّ رضي الله عنه أنه قال لفاطمة عليها السلام يومًا: "والله لقد سنوتُ حتى لقد اشتكيتُ صدري، وقد جاء الله أباك بسبي، فاذهبي فاستخدميه، فقالت: وأنا والله لقد طحنت حتى مجلت يداي ... " الحديث، وفيه أنهما أتيا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فذكرا له ذلك فقال: "والله لا أعطيكما وأدع أهلَ الصُّفَّة تطوي بطونُهم لا أجد ما أنفق عليهم ... " الحديث، انظر "مسند أحمد" الحديث (838) (¬1). وكان أبو هريرة من بين أهل الصُّفَّة يخدم النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ويدور معه، فلم يكن ليجوع إلا والنبي - صلى الله عليه وسلم - وأهل بيته جياع، فهل في ذلك الجوع من عيب؟ وأمّا تعرُّضه لبعض الصحابة رجاء أن يطعمه، فإنما فعل ذلك مرة أو مرتين لشدَّة الضرورة، ولم يكن في تعرّضه سؤال ولا ذكر لجوعه. وقد نقل الله تعالى في كتابه أن موسى والخضر مرَّا بأهل قرية فاستطعماهم (¬2)، وانظر ¬

_ (¬1) وأخرجه ابن أبي شيبة (29956)، وابن ماجه (4152) وغيرهم. وانظر حاشية المسند: (2/ 203). (¬2) الآية (77) من سورة الكهف.

تفسير سورة التكاثر من "تفسير ابن كثير" (¬1). هذا، وقد عدّ أهل العلم - كما في "الحلية" (¬2) - جماعةً من المشاهير في أهل الصُّفَّة، منهم: سعد بن أبي وقاص، وأبو عبيدة، وزيد بن الخطَّاب، وعبد الله بن مسعود، وصُهَيب، وسلمان، والمِقْداد وغيرهم. ثم قال أبو ريَّة ص 154: (سبب صحبته للنبي - صلى الله عليه وسلم -. كان أبو هريرة صريحًا صادقًا في الإبانة عن سبب صحبته للنبي - صلى الله عليه وسلم - ... فلم يقل إنه صاحبه للمحبة والهداية كما كان يصاحبه غيره من سائر المسلمين، وإنما قال: إنه قد صاحبه على ملء بطنه، ففي حديث رواه أحمد والشيخان عن سفيان عن الزهري عن عبد الرحمن الأعرج قال: سمعت أبا هريرة يقول [ص 105]: "إني كنت امرءًا مسكينا أصحب رسول الله على ملء بطني". ورواية مسلم "أخدم رسول الله" وفي رواية: "لشبع بطني"). أقول: حاصل هذا أنّ الواقع في رواية الإمام أحمد والبخاري: "أصحب" وهذا خلاف الواقع، فرواية أحمد وهو الحديث (7273) (¬3): "حدثنا سفيان عن الزهري عن عبد الرحمن الأعرج، قال: سمعت أبا هريرة يقول: إنكم تزعمون أن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والله الموعد، إني كنت امرءًا مسكينًا ألزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على مِلءِ بطني، وكان المهاجرون يشغلهم الصفقُ بالأسواق، وكانت الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم ... ". ¬

_ (¬1) (8/ 3847 - 3850). (¬2) (1/ 92، 100، 367، 124، 151، 185، 172) على التوالي. (¬3) (7275) ط. الرسالة.

ولفظ البخاري في "صحيحه" (¬1) في كتاب الاعتصام - باب الحجَّة على مَن قال: إن أحكام النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كانت ظاهرة الخ. "حدثنا عليّ حدثنا سفيان عن الزهري أنه سمعه (¬2) مِن الأعرج يقول: أخبرني أبو هريرة قال: إنكم تزعمون أن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والله الموعد، إني كنت امرءًا مسكينًا ألزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخ". وأخرجه البخاري في مواضع أخرى من وجوه أخرى عن الزهري وفيه: "ألزم" (¬3)، وفي موضع: "أن أبا هريرة كان يلزم" (¬4). فأبو هريرة لم يتكلم عن إسلامه ولا هجرته ولا صحبته المشتركة بينه وبين غيره من الصحابة, وإنما تكلَّم عن مزيّته وهي لزومه للنبيّ - صلى الله عليه وسلم - دونهم، ولم يعلِّل هذه المزيّة بزيادة محبته أو زيادة رغبته في الخير أو العلم أو نحو ذلك مما يجعل له فضيلة على إخوانه، وإنما علَّلها على أسلوبه في التواضع بقوله: "على ملء بطني" فإنه جعل المزية لهم عليه بأنهم أقوياء يسعون في معاشهم وهو مسكين. وهذا والله أدب بالغ تخضع له الأعناق، ولكنّ أبا ريَّة يهتبل تواضع أبي هريرة ويبدل الكلمة ويحرف المعنى، ويركّب العنوانَ على تحريفه، ويحاول صرف الناظر عن التحرِّي والتثبُّت بذكره رواية مسلم؛ ليوهم أنه قد تحرَّى الدقَّة البالغة، ويبني على صنيعه تلك الدعوى الفاجرة (¬5). ¬

_ (¬1) (7354). (¬2) (ط): "سمع"، والمثبت من البخاري. (¬3) (2047). (¬4) (118). (¬5) وقد قال أبو ريَّة في حاشية ص 39: "لعنة الله على الكاذبين متعمدين وغير متعمدين". [المؤلف].

وقد تقدَّم (¬1) أن أبا هريرة أسلم في بلاده قبل الهجرة، لماذا؟ ثم ترك وطنه للهجرة مؤجِّرًا نفسه في طريقه على طُعْمته وعُقْبته، لماذا؟ ولمَّا شاهد النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وجاء غلامُه الذي كان أبق منه أعتقه، لماذا؟ وتقدم (ص 100) (¬2) شهادة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بأنه أحرص الصحابة على معرفة حديثه، لماذا؟ قال ابن كثير: "وقال سعيد بن أبي هند عن أبي هريرة: إن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال له: "ألا تسألني مِنْ هذه الغنائم التي سألني أصحابك؟ " [ص 106] قال: فقلت: أسألك أن تعلّمني مما علّمك الله .. " "البداية" (8: 111) (¬3)، لماذا؟ وتقدم (ص 46) (¬4) قول عمر بن الخطاب: "خفي عليَّ هذا مِنْ أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ألهاني عنه الصفقُ بالأسواق". وقال طلحة بن عبيد الله لما سئل عن حديث أبي هريرة: "والله ما نشكُّ أنه قد سمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لم نسمع، وعَلِم ما لم نعلم، إنا كنا قومًا أغنياء لنا بيوتات وأهلون، وكنا نأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طَرَفي النهار ثم نرجع، وكان هو مسكينًا لا مال له ولا أهل، وإنما كانت يده مع يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان يدور معه حيث ما دار، فما نشكّ أنه قد عَلِم ما لم نعلم وسمع ما لم نسمع" (¬5) "البداية" (8: 109) (¬6). وحدَّث أبو أيوب - وهو من كبار الصحابة - عن أبي ¬

_ (¬1) (ص 199). (¬2) (ص 194). (¬3) (11/ 382 - دار هجر). وأخرجه أبو نعيم في "الحلية": (1/ 381). (¬4) (ص 89). (¬5) و"المستدرك" 3: 512 وقال: صحيح على شرط الشيخين، واقتصر الذهبي على أنه على شرط مسلم. [المؤلف]. وأخرجه أيضًا البزار: (3/ 147)، وأبو يعلى في "مسنده" (636)، والضياء في "المختارة": (1/ 418). (¬6) (11/ 376 - دار هجر).

هريرة عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فقيل له في ذلك؟ فقال: "إن أبا هريرة قد سمع ما لم نسمع" "البداية" (8: 109) (¬1). وحدَّث أبو هريرة بحديث، فاستثبته ابن عمر فاستشهد أبو هريرة عائشةَ فشهدت، فقال أبو هريرة: إنه لم يشغلني عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غرس الوَدِيّ ولا صفق بالأسواق، إنما كنت أطلب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلمةً يعلمنيها أو أكلة يطعمنيها. فقال له ابن عمر: أنت يا أبا هريرة كنت أَلْزمنا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأعلمنا بحديثه" "البداية" (8: 109) (¬2). وقالت عائشة لأبي هريرة: أكثرت الحديث. قال: إني والله ما كانت تشغلني عنه المكحلة والخضاب، ولكني أرى ذلك شَغَلكِ عما استكثرتُ من حديثي، قالت: لعله. "البداية" (8: 109) (¬3). فأنت ترى اعترافهم له، وترى أنّ أدبه البالغ المتقدِّم لم يكن تقية، فإنه لما اقتضى الحال صَدَعَ صَدْعَ الواثقِ المطمئنّ. ثم ذكر أبو ريَّة ص 155 قول أبي هريرة: (كنت أستقرئ الرجلَ الآيةَ وهي معي كي ينقلب فيطعمني، وكان خير الناس للمساكين جعفر بن أبي طالب، كان ينقلب بنا فيطعمنا). ثم قال أبو رية: (ومن أجل ذلك كان جعفر هذا في رأي أبي هريرة أفضل الصحابة جميعًا .. أخرج الترمذي والحاكم بإسناد صحيح عن أبي هريرة: ما احتذى النعال ولا ركب المطايا ولا وطئ التراب بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفضل من جعفر بن أبي طالب). ¬

_ (¬1) (11/ 376). (¬2) و"المستدرك" 3: 510 وقال: "صحيح"، وأقره الذهبي. [المؤلف]. و"البداية": (11/ 373). (¬3) وانظر "المستدرك" 3: 509 وقال: "صحيح"، وأقره الذهبي. [المؤلف]. و"البداية": (11/ 374). والوَدِيّ: صغار النخل.

أقول: إسناده صحيح إلا أنه غريب، ومن تدبَّر ترجمة جعفر رضي الله عنه لم يستكثر عليه هذا، وفي [ص 107] "فتح الباري" (7: 62) (¬1) في شرح قوله: "وكان أَخْيَر الناس للمساكين"، ما لفظه: "وهذا التقييد يُحمَل عليه المطلق الذي جاء ... عن أبي هريرة قال: ما احتذى النعال .. ". ثم ذكر ص 156 - 157 حكايات عن الثعالبي والبديع الهَمَذاني وعبد الحسين بن شرف الدين الرافضي، وكلّها من خرافات الرافضة وأشباههم، لا تمتُّ إلى العلم بِصِلَة. ثم قال آخر ص 157: (وأخرج أبو نعيم في "الحلية" الخ). أقول: هو من طريق فَرْقَد السَّبَخي قال: وكان أبو هريرة الخ، وفَرْقد ليس بثقة، ولم يدرك أبا هريرة (¬2). وقال ص 158: (وفي "الحلية" كذلك: أن أبا هريرة كان في سفر فلما نزلوا وضعوا السفرة وبعثوا إليه وهو يصلي فقال: إني صائم، فلما كادوا يفرغون، جاء فجعل يأكل الطعام، فنظر القوم إلى رسولهم ... فقال أبو هريرة: صدق، إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: صوم رمضان، وصوم ثلاثة أيام من كل شهر: صوم الدهر، وقد صمت ثلاثة أيام من أول الشهر، فأنا مفطر في تخفيف الله، صائم في تضعيف الله). أقول: هذه فضيلة له، وقد وقع مثلها لأبي ذر - رضي الله عنه - "مسند أحمد" (5: 150) (¬3) وغيره، وهو الذي قال فيه النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "ما أظلَّت ¬

_ (¬1) (7/ 76). (¬2) انظر "تهذيب التهذيب": (8/ 262 - 264). (¬3) (21339). وأخرجه النسائي في "الكبرى" (9152).

الخضراء ولا أقلَّت الغبراء مِنْ ذي لهجةٍ أصدق مِنْ أبي ذر" (¬1). قال: (وفي "خاص الخاص" للثعالبي الخ). أقول: ومن هو الثعالبي حتى يقبل قوله بغير سند؟ قال: (وقد جعل أبو هريرة الأكل من المروءة, فقد سئل: ما المروءة؟ قال: تقوى الله وإصلاح الصنيعة والغداء والعشاء بالأفنية). أقول: ليس في هذا جعل الأكل نفسه من المروءة، وإنما فيه أن من المروءة أن يكون أكل بالأفنية، يريد بموضع بارز ليدعو صاحبُ الطعام مَن مرَّ ويشاركه من حضر، لا يغلق بابه ويأكل وحده. قال: (وقد أضربنا عن أخبار كثيرة لأن في بعضها ما يزيد في إيلام الحشوية الذين يعيشون بغير عقول) (¬2). أقول: أما عقول الملحدين الذي يعيشون بلا دين، ومقلِّديهم المغرورين، فنعوذ بالله منها. ثم قال: (حديث: زُر غِبًّا تزدد حبًّا. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي هريرة الخ). [ص 108] أقول: هذا حديث مذكور في الموضوعات، رُوي عن عليّ وعائشة وابن عباس بطرق كلّها تالفة (¬3). ¬

_ (¬1) بهذا اللفظ أخرجه الترمذي (3802)، وابن حبان (7132)، والحاكم: (3/ 342) من حديث أبي ذر رضي الله عنه. قال الترمذي: حسن غريب من هذا الوجه. وله شاهد من حديث ابن عَمرو، أخرجه أحمد (6630)، والترمذي (3801)، والحاكم: (3/ 342) وغيرهم. قال الترمذي: حديث حسن. (¬2) غيَّر أبو ريَّة هذه العبارة في الطبعات اللاحقة (ص 172 - ط السادسة) إلى: "في إيلام بعض الناس". (¬3) ذكره الشوكاني في "الفوائد المجموعة" (ص 260) ونقل قول الصغاني: إنه =

ثم قال ص 161: (مزاحه وهذره. أجمع مؤرخو أبي هريرة على أنه كان رجلًا مزّاحًا مهذارًا). أقول: أما المزاح فنعم، ولم يكن في مزاحه ما يُنكر. وأما الهَذَر فأسنده بقوله: "قالت عنه عائشة ... في حديث المِهْراس: إنه كان رجلًا مهذارًا" وهذا باطل، لم تتكلم عائشة في حديث المِهْراس بحرف. انظر "التقرير والتحبير" لابن أمير الحاج (2: 300) (¬1). ثم رأيت الدكتور مصطفى السِّباعي قد بسطَ الكلامَ في هذا في الجزء 9 في المجلد 10 من مجلة المسلمون ص 20. قال أبو ريَّة: (عن أبي رافع قال: كان مروان ربما استخلف أبا هريرة على المدينة فيركب حمارًا قد شدَّ عليه برذعة وفي رأسه خلية من ليف، فيسير فيلقى الرجل فيقول: الطريق قد جاء الأمير. وربما أتى الصبيان وهم يلعبون بالليل لعبة الغراب (¬2) فلا يشعرون بشيء حتى يُلقي نفسَه بينهم ويضرب برجليه فينفر الصبيان فيفرون. وأخرج أبو نعيم في "الحلية" عن ثعلبة بن [أبي] مالك القرظي قال: أقبل أبو هريرة في السوق ¬

_ = موضوع، وقال البزار بعد أن أخرجه (16/ 191): "ليس في "زُر غبًّا ... " حديث صحيح". وانظر "المقاصد الحسنة" (ص 232 - 233)، و"العلل المتناهية": (2/ 739 - 743). (¬1) (2/ 400 - دار الفكر). ونقل عن شيخه الحافظ فيما رُوي عن عائشة وابن عباس أنه قال: "لا وجود له في شيء من كتب الحديث، وإنما الذي قال هذا لأبي هريرة رجل يقال له: قين الأشجعي ... ". وكذلك لم يقف عليه الزركشي في "المعتبر" (82)، ولا ابن كثير في "تحفة الطالب" (126، 127)، ولا ابن حجر في "موافقة الخُبر الخبر": (1/ 461). وإنما جاء عن بعض أصحاب ابن مسعود كما ذكره ابن أبي شيبة (1058)، والبيهقي: (1/ 47 - 48). وانظر (ص 236). (¬2) في البداية [11/ 388]: "الأعراب وهو أمير". [المؤلف].

يحمل حزمة حطب وهو يومئذ خليفة لمروان على المدينة فقال: أوسع الطريق للأمير يا ابن [أبي] مالك. فقلت له: يكفي هذا. فقال: أوسع الطريق للأمير، والحزمة عليه). أقول: إنما كان يتعمّد هذا التبذّل والمزاح حين يكون أميرًا تهاونًا بالإمارة ومناقضةً لما كان يتَّسم به بعض الأمراء من الكِبْر والتعالي على الناس، وكانت إمارة أبي هريرة رحمةً بأهل المدينة، يستريحون إليها من عُبِّيّةِ أمراء بني أمية وعنجهيتهم، وكانت إحياء للسنة، فإن الأمير كان هو الذي يؤمُّ الناس، فكان الأمراء يُغفلون أشياء من السنة كالتبكير (¬1) في الصلاة وسجود التلاوة وقراءة السّوَر التي كان يقرؤها النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وغير ذلك، فكان أبو هريرة إذا ولي كان هو الذي يؤمّ الناس، فيحيي ما أهمله الأمراء من السنن. قال: (ولقد كانوا يتهكّمون برواياته ويتندَّرون عليها لما تفنَّن فيها وأكثر منها، فعن أبي رافع: أن رجلًا من قريش أتى أبا هريرة في حُلة وهو يتبختر فيها فقال: يا أبا هريرة إنك تكثر الحديثَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهل سمعته يقول في حُلتي هذه شيئًا؟ فقال: [والله إنكم لتؤذوننا، ولولا ما أخذ الله على أهل الكتاب: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187] ما حدَّثتُكم بشيء] (¬2) سمعت أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم -[ص 109] يقول: "إنّ رجلًا ممن كان قبلكم بينما كان يتبختر في حُلة إذ خسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها حتى تقوم الساعة"، فوالله ما أدري لعله كان من قومك أو من رهطك). أقول: متن الحديث ثابت في "الصحيحين" (¬3) وغيرهما من حديث ¬

_ (¬1) (ط): "كالتكبير" تصحيف. (¬2) هذه الزيادة من مصدر أبي ريَّة نفسه البداية (8: 108) [11/ 374]. [المؤلف]. (¬3) البخاري (5789)، ومسلم (2088) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والبخاري (3485، 5790) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

أبي هريرة ومن حديث ابن عمر، وهو عند أحمد وغيره من حديث ابن عَمرو (¬1)، ومن حديث أبي سعيد (¬2)، وجاء من حديث غيرهم (¬3). وقال الدارمي في "باب تعجيل عقوبة من بَلَغه عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - حديث فلم يعظِّمه ولم يوقّره ... : عن العجلان عن أبي هريرة" فذكر المتن وقال عَقِبِه: فقال له فتى - قد سماه - وهو في حُلة له: أهكذا كان يمشي ذلك الفتى الذي خُسِف به؟ ثم ضرب بيده فعثر عثرة كاد يتكسّر منها، فقال أبو هريرة: للمنخرَيْنِ ولِلْفَمِ {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر: 95] ". أقول: فقد أخزى الله ذاك المستهزئ كما أخزى غيره من المستهزئين بدين الله ورسله وخيار عباده {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود: 83]. وقال ص 162: (كثرة أحاديثه) ثم قال ص 163: (وقد أفزعت كلثرة رواية أبي هريرة عمر بن الخطاب فضربه بالدِّرة وقال له: "أكثرتَ يا أبا هريرة من الرواية وأحرى بك أن تكون كاذبًا). أقول: لم يَعْزُ هذه الحكاية هنا، وعزاها ص 171 إلى "شرح النهج" لابن أبي الحديد حكايةً عن أبي جعفر الإسكافي، وابن أبي الحديد من دُعاة الاعتزال والرفض والكيد للإسلام، وحاله مع ابن العلقمي الخبيث معروفة. والإسكافي من دعاة المعتزلة والرفض أيضًا في القرن الثالث، ولا يعرف له سَنَد، ومثل هذه الحكايات الطائشة توجد بكثرة عند الرافضة والناصبة وغيرهم بما فيه انتقاص لأبي بكر وعمر وعليّ وعائشة وغيرهم، وإنما ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (7074)، وأخرجه الترمذي (2491) وقال: حديث صحيح. (¬2) أخرجه أحمد (11356). (¬3) انظر حاشية المسند: (11/ 646).

يتشبَّت بها من لا يعقل. وقد ذكر ابن أبي الحديد (1: 360) (¬1) أشياء عن الإسكافي من الطعن في أبي هريرة وغيره من الصحابة، وذكر من ذلك شيئًا مِن مزاح أبي هريرة، فقال ابن أبي الحديد: "قلتُ قد ذكر ابن قتيبة هذا كلَّه في كتاب "المعارف" (¬2) في ترجمة أبي هريرة، وقوله فيه حجة لأنه غير متّهم عليه". وفي هذا إشارة إلى أن الإسكافي متهم. ونحن كما لا نتهم ابن قتيبة قد لا نتهم الإسكافي باختلاق الكذب، ولكن نتهمه بتلقّف الأكاذيب من أفَّاكي أصْحَابه الرافضة والمعتزلة، وأهل العلم لا يقبلون الأخبار المنقطعة ولو ذكرها كبار أئمة السنة. فما بالك بما يحكيه ابن أبي الحديد عن الإسكافي عمن تقدمه بزمان! قال: (وقد أخرج ابنُ عساكر من حديث السائب بن يزيد: لتتركن الحديث عن رسول الله أو لألحقنك بأرض دوس أو بأرض القردة). أقول: عزاه إلى "البداية" (8: 106) (¬3) ولكن لفظه هناك: " ... دوس، وقال لكعب الأحبار: لتتركن الحديث عن الأُوَل أو لألحقنَّك بأرض القِرَدة". فأسقط أبو ريَّة هنا ذِكْر كعب، وجمع الكلمتين لأبي هريرة. وله في هذه الحكاية فِعْلة أشنع من هذه: قال ص 30: (وقال لكعب الأحبار: لتتركن الحديث أو لألحقنك الخ). أسقط ¬

_ (¬1) (4/ 69 - ت محمد أبو الفضل). (¬2) (ص 121). (¬3) (11/ 371 - دار هجر).

قوله: "عن الأُوَل" (¬1) لغرضين: الأول: تقوية [ص 110] دعواه أن عمر كان ينهى عن الحديث عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -. الثاني: ترويج دعوى مَهُولة فاجرة خبيثة، وهي دعوى أنّ كعبًا مع أنه لم يلق النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يحدّث عنه بما يشاء، وكان الصحابة يسمعون منه تلك الأحاديث ويقبلونها بسذاجة مُخْجلة، ثم لا يكتفون بذلك حتى يذهبوا فيروونها عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - رأسًا، فيوهموا الناسَ أنهم سمعوها من النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أو على الأقل من بعض إخوانهم من الصحابة. ولزيادة تفظيع هذا الزعم بالغَ في الحطِّ على كعب وزعم أنه كان منافقًا يسعى لهدم الإسلام ويفتري ما شاء من الأكاذيب؛ يرويها عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فيتقبَّلها الصحابةُ ويروونها عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - رأسًا، فعلى هذا يزعم أنّ كل ما جاء من أحاديث الصحابة ولم يصرِّح الصحابيُّ بسماعه من النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فإنه يحتمل أن يكون مما افتراه كعب {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف: 5] وراجع (ص 73) (¬2). وهذه الخطة الجهنمية من أخطر خِطط الكيد اليهوديّ الخاسر الذي مرت الإشارة إليه (ص 49 و99) (¬3). ¬

_ (¬1) وسبق التنبيه على صنيعه هذا (ص 147). على أن قوله: "عن الأُوَل" ليست في بعض نسخ "البداية" ولا في "تاريخ أبي زرعة". وإن كان ثابتًا في نسخة أبي ريَّة من "البداية" فإسقاطه لها ثابت. (¬2) و74 و75 و82 و89. [المؤلف]. (ص 145 - 146). (¬3) (ص 94 و192).

وكذا قال ص 126: (قال له: لتتركن الحديث أو لألحقنك) أسقط قوله: "عن الأُوَل" أيضًا ليؤكِّد لك أنه عمدًا ارتكب ذلك، ثم لم يكفه حتى قال ص 115: (لما قدم كعب المدينة في عهد عمر وأظهر إسلامه أخذ يعمل في دهاء ومكر لِمَا أسلم من أجله من إفساد الدين وافتراء الكذب على النبيّ (كذا؟) ولم يلبث عمر أن فطن لكيده وتبين له سوء دِخْلته فنهاه عن الرواية عن النبيّ (كذا؟) وتوعَّده إن لم يترك الحديث عن رسول الله (كذا؟) أو ليلحقنّه بأرض القردة)، كذا قال، وعزا ذلك إلى المصدر نفسه وهو "البداية والنهاية" ج 8 لكنه جعل الصفحة 206 والصواب 106، فهل تعمَّد هذا ليعمِّي عن فضيحته؟ فليتدبر القارئ، ولينظر مَن الذي يعمل في دهاء ومكر لإفساد الدين بكيدٍ وسوء دِخْلة؟ هذا، وسند الخبر غير صحيح، ولفظه في "البداية" (¬1): "قال أبو زرعة الدمشقي: حدثني محمد بن زُرْعة الرُّعيني حدثنا مروان بن محمد حدثنا سعيد بن عبد العزيز عن إسماعيل بن عبد الله (¬2) عن السائب الخ". ومحمد بن زرعة لم أجد له ترجمة (¬3)، والمجهول لا تقوم به حجة، وكذا إسماعيل إلا أن يكون الصواب إسماعيل بن عبيد الله (بالتصغير) بن أبي المهاجر فثقة معروف لكن لا أدري أَسَمِعَ من السائب أم لا؟ وفي "البداية" عَقِبه: "قال أبو زرعة: وسمعت أبا مسهر يذكره عن سعيد بن عبد العزيز نحوًا منه لم يسنده". ¬

_ (¬1) (11/ 370 - 371). والخبر في "تاريخ دمشق": (1/ 544) لأبي زرعة الدمشقي. (¬2) في الطبعة المحققة "عبيد الله" كما سيشير إليه المؤلف. (¬3) ترجمته في "تاريخ أبي زرعة" (1/ 286)، و"الثقات": (9/ 79) لابن حبان، و"الثقات": (2/ 237) للعجلي، و"تاريخ دمشق": (53/ 41) لابن عساكر. (ت 216) وهو ثقة.

أقول: وسعيد لم يدرك عمر ولا السائب. هذا ومخرج الخبر شامي، [ص 111] ومن الممتنع أن يكون عمر نهى أبا هريرة عن الحديث البتة ولا يشتهر ذلك في المدينة، ولا يلتفت إلى ذلك الصحابة الذين أثنوا على أبي هريرة ورووا عنه، وهم كثير كما يأتي، منهم ابن عمر وغيره كما مرَّ (ص 106) (¬1)، هذا باطل قطعًا، على أن أبا ريَّة يعترف أنّ كعبًا لم يزل يحدِّث عن الأُوَل حياةَ عمر كلها، وكيف يُعقل أن يرخِّص له عمر ويمنع أبا هريرة؟ هذا باطل حتمًا، وأبو هريرة كان مهاجرًا من بلاد دوس، والمهاجر يحرُم عليه أن يرجع إلى بلده فيقيم بها، فكيف يهدّد عمر مهاجرًا أن يردّه إلى بلده التي هاجر منها؟ وقد بعث عمر في أواخر إمارته أبا هريرة إلى البحرين على القضاء والصلاة كما في "فتوح البلدان" للبلاذري (ص 92 - 93) (¬2). وبطبيعة الحال كان يعلّمهم ويفتيهم ويحدّثهم. قال أبو ريَّة ص 163: (ومن أجل ذلك كثرت أحاديثه بعد وفاة عمر وذهاب الدِّرة, إذ أصبح لا يخشى أحدًا بعده). أقول: لم يمت الحقُّ بموت عمر، وسيأتي تمام هذا. قال: (ومن قوله في ذلك: إني أحدثكم أحاديث لو حدثت بها زمن عمر لضربني بالدرة، وفي رواية: لشج رأسي). أقول: يُروى هذا عن يحيى بن أيوب عن ابن عجلان عن أبي هريرة، وابن عجلان لم يدرك أبا هريرة. فالخبر منقطع غير صحيح. ¬

_ (¬1) (ص 204 - 205). (¬2) (ص 112 - مؤسسة المعارف).

قال: (وعن الزهري عن أبي سلمة سمعت أبا هريرة يقول: ما كنا نستطيع أن نقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى قُبض عمر، ثم يقول: أفكنت محدثكم بهذه الأحاديث وعمر حي؟ أما والله إذا لأيقنت أن المِخْفَقة ستباشر ظهري، فإن عمر كان يقول: اشتغلوا بالقرآن فإن القرآن كلام الله). أقول: إنما رواه عن الزهري إنسان ضعيف يقال له: صالح بن أبي الأخضر، قال فيه الجوزجاني - وهو من أئمة الجرح والتعديل -: "اتهم في أحاديثه". وهناك أخبارٌ وآثارٌ تُعارض هذا وأشباهه، إلا أن في أسانيدها مقالًا فلم أنشط لذكرها وبيان عللها، تجد بعضها في ترجمة أبي هريرة من "الإصابة" (¬1). وبعد، فإن الإسلام لم يمت بموت عمر، وإجماع الصحابة بعده على إقرار أبي هريرة على الإكثار مع ثناء جماعة منهم عليه وسماع كثير منهم منه وروايتهم عنه كما يأتي = يدل على بطلان المحكيّ عن عمر من منعه، بل لو ثبت المنع ثبوتًا لا مدفع له لدلّ إجماعُهم على أن المنع كان على وجه مخصوص، أو لسبب عارض، أو استحسانًا محضًا لا يستند إلى حجة ملزمة. وعلى فرض اختلاف الرأي فإجماعهم بعد عمر أَوْلَى بالحقِّ من رأي عمر. ثم حكى أبو ريَّة عن صاحب "المنار" (¬2) قال: (لو طال عُمْرُ عُمرَ حتى مات أبو هريرة، لما وصلت إلينا تلك الأحاديث [ص 112] الكثيرة). أقول: وما يدريك لعلّ عمر لو طال عمره حتى يستحرَّ الموتُ بحَمَلة ¬

_ (¬1) (7/ 425 - 444). (¬2) (10/ 851).

العلم من الصحابة، لأمر أبا هريرة وغيره بالإكثار وحثَّ عليه، وحِفْظُ الله تبارك وتعالى لشريعته، وتدبيره بمقتضى حكمته فوق عمر وفوق رأي عمر، في حياة عمر وبعد موت عمر. ثم قال أبو ريَّة ص 164: (كيف سوّغ كثرة الرواية؟ كان أبو هريرة يسوِّغ كثرة الرواية عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بأنه ما دام لا يحلّ حرامًا ولا يحرِّم حلالًا فإنه لا بأس من أن يروي). أقول: هذه دعوى من أبي رية، فهل من دليل؟ قال: (وقد أيَّد صنيعه هذا بأحاديث رفعها إلى النبيّ، ومنها ما رواه الطبراني في "الكبير" عن أبي هريرة أن رسول الله قال: إذا لم تحلّوا حرامّا ولم تحرموا حلالًا وأصبتم المعنى فلا بأس). أقول: ههنا مآخذ: الأول: أن هذا لم يروه أبو هريرة ولا رواه الطبراني عنه، إنما رواه الطبراني من طريق يعقوب بن عبد الله بن سليمان بن أكيمة الليثي عن أبيه عن جده قال: "أتينا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقلنا له: بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله، إنا نسمع منك الحديثَ فلا نقدر أن نؤدّيه كما سمعنا. فقال: إذا لم الخ". وهو في "مجمع الزوائد" (1: 154) (¬1) وقال: "رواه الطبراني في الكبير، ولم أر من ذكر يعقوب ولا أباه". الثاني: أن هذا الخبر إنما يدلّ على إجازة الرواية بالمعنى لقوله فيه: "وأصبتم المعنى"، وقد تقدم الكلام في فصل الرواية بالمعنى (ص 52 فما ¬

_ (¬1) (1/ 159 - مؤسسة المعارف).

بعدها) (¬1) ودعوى أبي ريَّة هنا شيء آخر كما يأتي. الثالث: أن الخبر لا يثبت عن صحابيِّه لجهالة يعقوب وأبيه، ولهذا أعرضتُ عنه فلم أستشهد به في فصل الرواية بالمعنى وإن كان موافقًا لقولي. قال: (وقال أيضًا: إنه سمع النبيّ يقول: من حدَّث حديثًا هو لله عزَّ وجلَّ رضًا فأنا قلته، وإن لم أكن قلته. روى ذلك ابن عساكر في "تاريخه"). أقول: أخذ أبو ريَّة هذا من "كنز العمال" (5: 223) (¬2)، وهناك أن ابن عساكر أخرجه (¬3) عن البُخْتري بن عُبيد عن أبيه عن أبي هريرة. أقول: البختري كذَّاب، وأبوه مجهول. قال أبو ريَّة: (وفي "الأحكام" ... لابن حزم (2: 78) أنه روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا [ص 113] حُدِّثتم عني بحديث يوافق الحقَّ فخذوا به، حَدِّثتُ به أو لم أحدِّث). أقول: إنما ذكره ابن حزم من طريق أشعث بن بَرَاز، ثم قال ابن حزم في ذلك الموضع نفسه: "وأشعث بن بَراز كذَّاب ساقط". قال: (وروي عن رسول الله: إذا بلغكم عني حديث يحسن بي أن أقوله فأنا قلته، وإذا بلغكم حديث لا يحسن بي أقوله فليس مني ولم أقله). أقول: عزاه إلى "توجيه النظر" (ص 278) (¬4)، وهناك عَقِبه قول ¬

_ (¬1) (ص 102 فما بعدها). (¬2) (10/ 230، 294 - مؤسسة الرسالة). (¬3) (38/ 206). (¬4) الطبعة الأولى - الجمالية سنة 1328 هـ.

أبي حاتم: "حديث منكر، الثقات لا يرفعونه". يريد لا يَصِلونه، فإنه ذكره من طريق ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعًا، وقد جاء من وجه آخر عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا، ذكره البخاري في "التاريخ" (2/ 1/ 434)، ثم ذكر أن بعضهم قال: "عن أبي هريرة"، قال البخاري: "وهو وهمٌ، ليس فيه أبو هريرة". ورواه بعضهم عن عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة. ذكره ابن حزم في "الأحكام" (¬1) عقب الحديث السابق وقال: "عبد الله بن سعيد كذّاب مشهور" وفي ألفاظه في الروايات اختلاف، وسأشرح بقية حاله في التعليق على "موضوعات الشوكاني" (¬2) إن شاء الله تعالى. هذه أدلة أبي ريَّة على دعواه، وعلّق على خبر البُخْتري بقوله: (ارجع إلى ص 101)، وكان قد ذكر هناك بعض هذه الأخبار تحت عنوان (كيف استجازوا وضع الأحاديث) وبهذا يُعرف حاصل دعواه هنا ومناسبتها لأدلتها، فإن تكذيب الصدّيقين لا يتم إلا بتصديق الكذابين. قال: (روى ذلك وغيره). أقول: أما "ذلك" أي الأخبار المتقدّمة فقد تبيَّن أن أبا هريرة لم يرو شيئًا منها، وأما غيره فما هو؟ قال: (على حين أن الثابت عن النبيّ أنه قال: من نقل عني ما لم أقله فليتبوَّأ مقعده من النار). ¬

_ (¬1) (2/ 78). (¬2) "الفوائد المجموعة" (ص 278 - 282).

أقول: كذا ذكر الحديث هنا وص 40، والثابت: "مَنْ يقل عليَّ ما لم أقل الخ" رواه أحمد (¬1) من حديث أبي هريرة، وكذا من حديث سلمة بن الأكوع (¬2)، وكذا جاء في أثناء حديث لأبي قتادة (¬3). وكما أن هذا هو الثابت عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فكذلك هو الثابت عن أبي هريرة عنه كما ترى. وفي "صحيح البخاري" (¬4) وغيره من حديث مالك عن الزهري عن الأعرج عن أبي هريرة قال: "إن الناس يقولون: أَكْثَرَ أبو هريرة، ولولا آيتان في كتاب الله [ص 114] ما حدَّثت حديثًا، ثم يتلو {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} [البقرة: 159] إلى قوله: {الرَّحِيمُ} [البقرة: 160] الحديث. وذكر مسلم سنَدَه ولم يسق متنه (¬5). وفي "الإصابة" (¬6): "أخرج أحمد (¬7) من طريق عاصم بن كُلَيب عن أبيه: سمعت أبا هريرة يبتدئ حديثه بأن يقول: قال رسول الله الصادق المصدوق أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم -: "مَن كذَبَ عليَّ متعمدًا فليتبوَّأ مقعدَه مِن النار". وذكره ابنُ كثير في "البداية" (8: 107) (¬8) وقال: "ورُوي مثله من وجه آخر". ¬

_ (¬1) (8776). (¬2) أخرجه البخاري (109). (¬3) أخرجه أحمد (22538)، وابن ماجه (35). (¬4) (118). (¬5) بعد رقم (2492). (¬6) (7/ 440). (¬7) (9350). (¬8) (11/ 372 - دار هجر).

قال أبو ريَّة: (وقد اضطر عمر أن يذكِّره بهذا الحديث لما أوغل في الرواية). أقول: يريد ما رُوي عن أبي هريرة قال: "بلغ عمرَ حديثي فأرسل إليَّ فقال: كُنْتَ معنا يوم كنَّا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيت فلان؟ قال: قلت: نعم، وقد علمتُ لِمَ تسألني عن ذلك. قال: ولِمَ سألتُك؟ قلتُ: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يومئذ: "مَنْ كذَبَ عليَّ متعمدًا فليتبوَّأ مقعدَه من النار". قال: أما إذًا (¬1) فاذهب فحدِّث" "البداية" (8: 107) (¬2). وهذا يدلُ على بطلان ما حُكي مِن مَنْعه له أو على أنه أذن له بعد منعٍ ما. وهذا الخبر مِن جملة الأخبار التي قدمتُ (ص 111) (¬3) أني أعرضت عنها لأن في أسانيدها مقالًا، وذكرته هنا لإشارة أبي ريَّة إليه ... وحديث: "مَنْ كذَب عليَّ الخ" ثابت في "الصحيحين" (¬4) وغيرهما من حديث أبي هريرة. **** ¬

_ (¬1) في بعض نسخ "البداية" و"تاريخ دمشق": "إما لا"، وانظر "النهاية": (1/ 72) لابن الأثير في إمالة الألف عند العوام لتصير ياءً "إمالي" قال: وهو خطأ. (¬2) (11/ 371) وأخرجه ابن عساكر: (67/ 345). (¬3) (ص 215). (¬4) البخاري (110)، ومسلم (3).

حقيقة التدليس وانتفاؤها عن الصحابة

حقيقة التدليس وانتفاؤها عن الصحابة قال أبو ريَّة آخر ص 164: (تدليسه). أقول: قال الخطيب في "الكفاية" (ص 357): "تدليس الحديث الذي لم يسمعه الراوي ممن دلّسه عنه بروايته إياه على وجهٍ يوهم أنه سمعه منه". ومثال هذا: أن قتادة كان قد سمع من أنس، ثم سمع من غيره عن أنس ما لم يسمعه هو من أنس، فربما روى بعض ذلك بقوله: "قال أنس ... " ونحو ذلك، ثم ذكر الخطيب (ص 358) ما يؤخَذ على المدلِّس، وهاك تلخيصه بتصرف: أولًا: إيهامه السماع ممن لم يسمع منه. ثانيًا: إنما لم يبيِّن لعلمه أن الواسطة غير مرضيّ. ثالثًا: الأنَفَة مِن الرواية عمن حدثه. رابعًا: إيهام علوِّ الإسناد. خامسًا: عدوله عن الكشف إلى الاحتمال. أقول: هذه الأمور منتفية فيما كان يقع من الصحابة رضي الله عنهم مِن قول أحدهم فيما سمعه من [ص 115] صحابي آخر عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ". أما الأول: فلأن الإيهام إنما نشأ منذ عُنِي الناس بالإسناد، وذلك عقب حدوث الفتنة، وفي مقدمة "صحيح مسلم" (¬1): "عن ابن سيرين قال: لم ¬

_ (¬1) (1/ 15).

يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالَكم ... ". فمِنْ حينئذ التزم أهل العلم الإسناد، فأصبح هو الغالب، حتى استقرّ في النفوس، وصار المتبادر مِنْ قول مَنْ قد ثبت لقاؤه لحذيفة: "قال حذيفة: سمعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول ... " أو نحو ذلك = أنه أسند، ومعنى الإسناد: أنه ذَكَر مَن سمع منه، فيفهم مِن ذاك القول أنه سمع من حذيفة، فلو قال قائل مثل ذلك، مع أنه لم يسمع ذاك الخبر من حذيفة وإنما سمعه ممن أخبر به عن حذيفة، كان موهمًا خلاف الواقع. وهذا العُرْفُ لم يكن مستقرًّا في حقِّ الصحابة لا قبل الفتنة ولا بعدها، بل عُرْفُهم المعروف عنهم أنهم كانوا يأخذون عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بلا واسطة، ويأخذ بعضهم بواسطة بعض، فإذا قال أحدهم: "قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ... " كان محتملًا أن يكون سمع ذلك من النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وأن يكون سمعه من صحابيٍّ آخر عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -. فلم يكن في ذلك إيهام. وأما الثاني: فلم يكن ثَمَّ احتمال لأن يكون الواسطة غير مرضيّ؛ لأنهم لم يكن أحد منهم يرسل إلا ما سمعه من صحابيٍّ آخر - يثق به وثوقه بنفسه - عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكن أحد منهم يرسل ما سمعه من صبيّ أو من مغفَّل أو قريب العهد بالإسلام أو من مَغْمُوصٍ بالنفاق أو من تابعي. وأما الثالث: فلم يكن من شأنهم رضي الله عنهم. وأما الرابع: فتبع الأول. وأما الخامس: فلا ضرر في الاحتمال مع الوثوق بأنه إنْ كان هناك واسطة فهو صحابيّ آخر.

قال أبو ريَّة: (ذكر علماء الحديث أن أبا هريرة كان يدلس). أقول: إنما جاء في ذلك كلمة شاذَّة يغلب على ظنّي أنها مصحَّفة، سيأتي الكلام عليها (¬1). وذكر ص 165 ما حُكي عن شعبة في ذمِّ التدليس، وقال: (ومن الحفاظ من جرح من عُرِف بهذا التدليس من الرواة, فردّ روايته مطلقًا وإن أتى بلفظ الاتصال). أقول: بعد أن استحكم العرف الذي مرَّ بيانه نشأ أفراد لا يلتزمونه، وهم ضربان: [ص 116] الضرب الأول: مَنْ بَيَّن عدم التزامه فصار معروفًا عند الصحابة والآخذين عنه أنه إذا قال: "قال فلان" ونحو ذلك وسمَّى بعضَ شيوخه احتمل أن يكون سمع الخبر مِنْ ذاك الشيخ وأن يكون سمعه من غيره عنه. فهؤلاء هم المدلِّسون الثقات. وكان الغالب أنه إذا دلَّس أحدُهم خبرًا مرة أسنده على وجهه أخرى. وإذا دلَّس فسئل بيَّن الواقع. والضرب الثاني: مَنْ لم يُبَيِّنْ بل يتظاهر بالالتزام، ومع ذلك يدلس عمدًا. وتدليس هذا الضرب الثاني حاصله إفهام السامع خلاف الواقع، فإن كان المدلِّس مع ذلك متظاهرًا بالثقة كان ذلك حملًا للسامع ومن يأخذ عنه على التديُّن بذاك الخبر عملًا وإفتاء وقضاء. فأما تدليس الضرب الأول فغايته أن يكون الخبر عند السامع محتملًا للاتصال وعدمه، وما يقال إن فيه إيهام الاتصال إنما هو بالنظر إلى العُرْف الغالب بين المحدّثين، فأما بالنظر ¬

_ (¬1) (ص 225 - 226).

إلى عُرْف المدلّس نفسه فما ثَمَّ إلا الاحتمال، فالضرب الثاني هو اللائق بكلمات شعبة ونحوها، وبالجرح وإن صرح بالسماع. فأما الضرب الأول فقد عُدَّ منهم إبراهيم النَّخَعي، وإسماعيل بن أبي خالد، وحبيب بن أبي ثابت، والحسن البصري، والحكم بن عُتيبة، وحُميد الطويل، وخالد بن مَعْدان، وسعيد بن أبي عَروبة، وسفيان الثوري، وسفيان بن عُيينة، وسليمان التيمي، والأعمش، وابن جُريج، وعبد الملك ابن عمير، وأبو إسحاق السبيعي، وقتادة، وابن شهاب، والمغيرة بن مَقسم، وهُشَيم بن بشير، ويحيى بن أبي كثير، ويونس بن عُبيد، وهؤلاء كلهم ثقات أثبات أمناء مأمونون عند شعبة وغيره، متفق على توثيقهم والاحتجاج بما صرَّحوا فيه بالسماع. قال ابن القطان (¬1): "إذا صرَّح المدلّس الثقة بالسماع قُبِل بلا خلاف، وإن عنعن ففيه الخلاف" (¬2). فأما الصحابة رضي الله عنهم فلا مَدْخَل لهم في التدليس كما تقدم. قال: (ولو لم يُعرف أنه دلّس إلا مرة واحدة، نص على ذلك الشافعي رحمه الله). أقول: عبارته تعطي أن الشافعي يرى جرح المدلّس مطلقًا ولو صرَّح بالسماع، وهذا كذب، وعبارة الشافعي في "الرسالة" (ص 379): "ومَن عرفناه دلَّس فقد أبان لنا عورته في روايته، وليست تلك العورة بالكذب فنردَّ بها حديثه، ولا النصيحة في الصِّدق فنقبلَ منه ما قبلنا من أهل النصيحة في الصدق، فقلنا: لا نقبل من مدلّس حديثًا حتى يقول فيه: حدثني أو سمعت". ¬

_ (¬1) في "بيان الوهم والإيهام": (5/ 66 - دار طيبة). (¬2) فتح المغيث للسخاوي ص 77 [1/ 217]. [المؤلف].

[ص 117] قال: (وروى مسلم بن الحجاج (¬1) عن بُسر بن سعيد قال: اتقوا الله وتحفَّظوا من الحديث, فوالله لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة فيحدِّث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويحدّثنا عن كعب الأحبار، ثم يقوم، فأسمع بعض من كان معنا يجعل حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كعب، وحديث كعب عن رسول الله، وفي رواية: يجعل ما قاله كعب عن رسول الله، وما قاله رسول الله عن كعب, فاتقوا الله وتحفَّظوا في الحديث). أقول: إنما يقع مثل هذا ممن يحضر المجلس من ضعفاء الضبط ومَن لا عناية له بالعلم، ومثل هؤلاء لا يوثِّقهم الأئمة ولا يحتجُّون بأخبارهم، ولا بدّ أن يتنبَّهُوا لغلطهم. وعلى كلِّ حال فلا ذنب لأبي هريرة في هذا، ولم يزل أهلُ العلم يذكر أحدهم في مجلسه شيئًا من الحديث، ويذكر معه - مفصولًا عنه - ما هو من كلام بعض أهل العلم أو غيرهم وما هو من كلام نفسه، والحكاية نفسها تدلّ على أن أبا هريرة كان يبيّن، وإنما يقع الغلط لبعض الحاضرين. قال: (وقال يزيد بن هارون: سمعت شعبة يقول: أبو هريرة كان يدلّس. أي يروي ما سمعه من كعب وما سمعه من رسول الله ولا يميز هذا من (¬2) هذا. ذكره ابن عساكر). أقول: هذه عبارة ابن كثير في "البداية" (¬3)، ساق كلمة بُسْر المتقدّمة ووصلها بهذه الحكاية، وهي حكاية شاذة لا أدري كيف سندها إلى يزيد (¬4)، ¬

_ (¬1) في كتاب "التمييز" (ص 175). (¬2) (ط): "عن"، والتصحيح من كتاب أبي ريَّة، ومما سيعيده المؤلف قريبًا. (¬3) (11/ 377)، ومصدره ابن عساكر: (67/ 359). (¬4) ساق سندها ابن عدي في "الكامل": (1/ 151) ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخه": (67/ 359): أخبرنا الحسن بن عثمان التستري، نا سلمة بن حبيب، قال: سمعت يزيد بن هارون به. =

ويقع في ظني - إنْ كان السند صحيحًا - أنه وقع فيها تحريف، فقد يكون الأصل "أبو حرة" فتحرَّفت على بعضهم فقرأها "أبو هريرة" وأبو حرة معروف بالتدليس، كما تراه في "طبقات المدلسين" لابن حجر (ص 17) (¬1). وقوله: "أي يروي ... " أراه من قول ابن عساكر (¬2) بناه على قصة بُسْر السابقة. فقوله: "لا يميز هذا من هذا" يعني لا يفصل بين قوله: "قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ... "، وقوله: "زعم كعب ... " مثلًا بفصل طويل حتى يُؤمَن أو يقلّ الالتباس على ضعفاء الضبط. وتسمية هذا تدليسًا غريب؛ فلذلك قال ابن كثير - وحكاه أبو ريَّة -: "وكأنّ شعبة يشير بهذا إلى حديث: "مَن أصبح جُنُبًا فلا صيام له" (¬3). فإنه لما حُوقِقَ عليه قال: أخبرنيه مخبرٌ ولم أسمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -". ¬

_ = والحسن بن عثمان التستري من شيوخ ابن عدي قال فيه: "كان عندي يضع ويسرق حديث الناس". وقال عبدان الأهوازي: كذاب. انظر "الكامل": (2/ 345). فالإسناد ساقط. (¬1) (ص 161 - ت المباركي). (¬2) لم يعلّق ابن عساكر على الخبر في "تاريخه". وأراه من تعليق أبي ريَّة. وتعمّد أبو ريَّة أن يجعل قوله: "ذكره ابن عساكر" بعد قوله؛ ليوهم القارئ أن العبارة بتمامها لابن عساكر. بدليل أن الأصل الذي ينقل منه وهو "البداية" لابن كثير فيه العزو لابن عساكر عقب قوله: "كان يدلس". وتنبيه آخر: عبارة ابن كثير هي: "رواه ابن عساكر ... " وعبارة أبي ريَّة: "ذكره ابن عساكر"؛ ليوهم أيضًا أن الخبر والتعليق كلاهما من كلامه! (¬3) أخرجه أحمد (25673) وغيره.

أقول: يعني أنه قال أوّلًا: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... " مع أنه إنما سمعه مِن بعض الصحابة عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -. وهذا هو إرسال الصحابي الذي تقدم (¬1) أنه ليس بتدليس، ولكنه على صورته، والله أعلم. ثم قال أبو ريَّة ص 166: (قال ابن قتيبة في "تأويل مختلف الحديث" ص 50: وكان أبو هريرة يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا، وإنما سمعه من الثقة عنه فحكاه). أقول: تتمة كلام ابن قتيبة: "وكذلك كان ابن عباس يفعل وغيره من الصحابة، وليس في [ص 118] هذا كذب بحمد الله، ولا على قائله - إن لم يفهمه السامع - جُنَاح إن شاء الله". والمراد بالثقة الثقة من الصحابة على ما قدمت، وقدّمت أنّ مثل ذلك من الصحابة كان عند السامعين محتملًا على السواء لأنْ يكون بلا واسطة، وأن يكون بواسطة صحابيّ آخر، والمخبر الذي أخبر أبو هريرة صحابي كما يأتي (¬2). ثم قال أبو ريَّة: (أول راوية اتهم في الإسلام. قال ابن قتيبة .... إنه لما أتى أبو هريرة من الرواية عنه - صلى الله عليه وسلم - ما لم يأت بمثله مَن صَحِبه مِن جلة أصحابه والسابقين الأولين اتهموه وأنكروا عليه وقالوا: كيف سمعتَ هذا وحدك؟ ومن سمعه معك؟ وكانت عائشة رضي الله عنها أشدهم إنكارًا عليه لتطاول الأيام بها وبه). أقول: تتمة كلام ابن قتيبة: "فلما أخبرهم أبو هريرة بأنه كان ألْزَمهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لخدمته وشبع بطنه ... فعرَف ما لم يعرفوا وحفظ ما لم يحفظوا، أمسكوا عنه". وكلمة "اتهموه" كلمة نابية يتبرّأ منها الواقع، فإنه لم ¬

_ (¬1) (ص 222). (¬2) (ص 232، 381).

يثبت عن أحدٍ من الصحابة أنه اعترض على شيء من حديث أبي هريرة إلا عائشة وابن عمر، فأما عائشة فيأتي قريبًا (¬1) قولها: "إنك لتحدّث حديثًا ما سمعته" فأجابها ذاك الجواب الصريح فأقرَّت. وقد تتبَّع أبو ريَّة الأحاديث التي انتقدَتْها عائشةُ على أبي هريرة، ويأتي الجوابُ الواضحُ عنها، وأنّ أكثرها قد ثبت مِن رواية غير أبي هريرة من الصحابة. على أن انتقاد عائشة لها ليس على وجه الاتهام بكذبٍ ونحوه - معاذ الله - وإنما فيه الاتهام بالخطأ، وقد اتهمت عائشة بالخطأ عُمرَ وابنَ عمر كما مرَّ (ص 51) (¬2) ويأتي، وقد عدَّ الحاكمُ في "المستدرك" (¬3) عائشةَ في الصحابة الذين رووا عن أبي هريرة كما يأتي. وأما ابن عمر فإنما استغربَ حديثًا واحدًا من حديث أبي هريرة، فاستشهدَ أبو هريرة عائشةَ فشهدت، فعاد ابن عمر بطيب الثناء على أبي هريرة وقال له: "يا أبا هريرة كنتَ ألْزَمَنا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأعلمنا بحديثه". وممَن روى هذا الحاكم في "المستدرك" (3: 510) وصححه وأقرَّه الذهبي (¬4). وفي "تهذيب التهذيب" (¬5) و"الإصابة" (¬6): "وقال ابن عمر: أبو هريرة ¬

_ (¬1) (ص 231). (¬2) (ص 99). (¬3) (3/ 513). (¬4) وقد تقدم (ص 205). (¬5) (12/ 240). (¬6) (7/ 438).

خيرٌ منِّي وأعلم". زاد في "الإصابة": "بما يحدِّث"، وفي "الإصابة" (¬1): "أخرج مسدَّد من طريق عاصم بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: كان ابن عمر إذا سمع أبا هريرة يتكلّم قال: إنا نعرف ما يقول، لكنا نجبُن ويجترئ". وعاصم وأبوه ثقتان. وفي "المستدرك" (3: 510) من طريق [ص 119] " ... جرير عن الأعمش عن أبي وائل عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رجل لابن عمر: إن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال ابن عمر: أُعيذكَ بالله أن تكون في شكٍّ مما يجيء به، ولكنه اجترأ وجَبُنَّا". وهكذا ذكره الذهبي في "تلخيص المستدرك": "جرير عن الأعمش ... " وقد سمع أبو وائل من ابن عمر، فأخشى أن يكون ذِكْر حذيفة مزيدًا على سبيل الوهم. والله أعلم. وفي "الإصابة" (¬2): "رُوّينا في فوائد المزكّي تخريج الدارقطني من طريق عبد الواحد بن زياد عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رَفَعَه: "إذا صلى أحدُكم ركعتي الفجر فليضطجع على يمينه". فقال له مروان: أما يكفي أحدنا ممشاه إلى المسجد حتى يضطجع؟ قال: لا. فبلغ ذلك ابن عمر فقال: أَكْثَرَ أبو هريرة. فقيل لابن عمر: هل تنكر شيئًا مما يقول؟ قال: لا، ولكنه اجترأ وجَبُنَّا. فبلغ ذلك أبا هريرة فقال: ما ذنبي إن كنتُ حفظتُ ونسوا. وقد روى ابن عمر عن أبي هريرة كما في "التهذيب" (¬3) وغيره. قال أبو ريَّة: (وممن اتَّهَمَ أبا هريرة بالكذب عمر وعثمان وعلي). ¬

_ (¬1) (7/ 440). ووقع في "الإصابة": "بن يزيد" خطأ. (¬2) (7/ 440 - 441). (¬3) (12/ 237).

أقول: هذا أَخَذَه مِن كتاب ابن قُتيبة (¬1)، وإنما حكاه ابنُ قُتيبة عن النظَّام بعد أن قال ابن قتيبة: "وجَدْنَا النظَّام شاطرًا من الشطَّار، يغدو على سُكْر ويروح على سُكْر، ويبيت على جرائرها، ويدخل في الأدناس، ويرتكب الفواحش والشائنات ... ثم ذكر أشياء من آراء النظَّام المخالفة للعقل وللإجماع، وطعْنَه على أبي بكر وعمر وعليّ وابن مسعود وحُذيفة. فمَنْ كان بهذه المثابة كيف يقبل نقله بلا سند؟ ومن الممتنع أن يكون وقع مِن عمر وعثمان وعليّ وعائشة أو واحد منهم رَمْيٌ لأبي هريرة بتعمّد الكذب أو اتهام به ثم لا يشتهر ذلك ولا يُنْقل إلا بدعاوى مَن ليس بثقة ممن يعادي السنَّةَ والصحابَة كالنظَّام وبعض الرافضة. وقد تقدم ويأتي (¬2) ثناءُ بعض أكابر الصحابة على أبي هريرة، وسماع كثير منهم منه وروايتهم عنه، وأطبق أئمة التابعين من أبناء أولئك الأربعة وأقاربهم وتلاميذهم على تعظيم أبي هريرة والرواية عنه والاحتجاج بأخباره. وعند أهل البدع من المعتزلة والجهمية والرافضة والناصبة حكايات معضلة مثل هذه الحكاية، تتضمّن الطعنَ القبيح في أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ وعائشة وغيرهم، وفي كثير منها ما هو طعن في النبي - صلى الله عليه وسلم -. والحكم في ذلك واحد، وهو تكذيب تلك الحكايات البتة. [ص 120] قال أبو ريَّة: (ولما قالت له عائشة: إنك لتحدِّث حديثًا ما سمعتُه من النبي - صلى الله عليه وسلم -، أجابها بجواب لا أدب فيه ولا وقار إذ قال لها ... شغلك عنه - صلى الله عليه وسلم - المرآة ¬

_ (¬1) (ص 204 - 206). (¬2) (ص 312 - 315).

والمكحلة. وفي رواية: ما كانت تشغلني عنه المكحلة والخضاب، ولكن أرى ذلك شغلك). أقول: تتمة الرواية الأخيرة كما في "البداية" (¬1): "فقالت: لعله". والذي أنكره أبو ريَّة من جواب أبي هريرة عظيم الفائدة للباحث المحقق، وذلك أن أبا هريرة كان شديد التواضع، وقد تقدم أمثلة من ذلك (¬2)، وعائشةُ معروفة بالصرامة وقوة العارضة، فجوابه يدلّ على قوة إدلاله بصدقه ووثوقه بحفظه، ولو كان عنده أدنى تردّد في صدقه وحفظه لاجتهد في الملاطفة، فإن المريب جبان، وسكوت عائشة بل قولها: "لعله" أي: لعل الأمر كما ذكرتَ يا أبا هريرة. يدل دلالة واضحة أنه لم يكن عندها ما يقتضي اتهام أبي هريرة. هذا، وحجة أبي هريرة واضحة، فإن عائشة لم تكن ملازمةً للنبي - صلى الله عليه وسلم -، بل انفردت عن الرجال بصحبته - صلى الله عليه وسلم - في الخلوة، وقد انفردت بأحاديث كثيرة تتعلَّق بالخلوة وغيرها فلم ينكرها عليها أحد، ولم يقل أحدٌ - ولا ينبغي أن يقول -: إن سائر أمهات المؤمنين قد كان لهنّ من الخلوة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - مثل ما لها، فما بالُ الرواية عنهن قليلة جدًّا بالنسبة إلى رواية عائشة. قال: (على أنه لم يلبث أن عاد فشهد بأنها أعلم منه ... ذلك أنه لما روى حديث (مَنْ أصبح جنبًا فلا صوم عليه) ... أنكرت عليه عائشةُ هذا الحديث فقالت: إن رسول الله كان يدركه الفجر وهو جُنب من غير احتلام فيغتسل ويصوم، وبعثت إليه بأن لا يحدِّث بهذا الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلم يسعه إزاء ذلك إلا الإذعان والاستخذاء وقال: إنها أعلم مني، وأنا لم أسمعه من النبي، وإنما سمعته من الفضل بن العباس). ¬

_ (¬1) (11/ 374). وقد سبق. (¬2) (ص 208 - 209).

أقول: لم أجد حديث أبي هريرة هذا بلفظ: "فلا صوم عليه" وإنما وجدته بلفظ "فلا يصم" ونحوه، ولا ريب أنه إذا كان في رمضان يلزمه قضاء ذاك اليوم. هذا، وقوله: "هي أعلم" لا يناقض جوابه المتقدم، وإنما المعنى: هي أعلم بذاك الشأن الذي تتعلّق به المسألة، ووجه ذلك واضح. وقد عرفتَ صرامةَ عائشة وشدّة إنكارها ما ترى أنه خطأ. وسيأتي طرفٌ من ذلك (¬1) - وشدّتها على أبي هريرة خاصة - فاقتصارها إذ بلغها حديثُه هذا على أن بعثت إليه أن لا يحدِّث بهذا الحديث [ص 121] وذِكْرها فِعْل النبيّ - صلى الله عليه وسلم - = يدلّ دلالة قوية أنها عرفت الحديث ولكنها رأت أنه منسوخ بفعل النبيّ - صلى الله عليه وسلم -. ويؤيد هذا أنّ ابنَ اختها وأخصّ الناس بها وأعلمهم بحديثها: عُروة بن الزبير استمرّ قولُه على مقتضى الحديث الذي ذكره أبو هريرة، وهذا ثابت عن عروة، وانظر "فتح الباري" (4: 124) (¬2)، وذكر مثله أو نحوه عن طاووس وعطاء وسالم بن عبد الله بن عمر والحسن البصري وإبراهيم النخعي، وهؤلاء من كبار فقهاء التابعين بمكة والمدينة والبصرة والكوفة. والنظر يقتضي هذا، وشرح ذلك يطول. وكأنَّ عُروة حَمَل فعلَ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - الذي ذكرتْه عائشة على الخصوصية أو غيرها مما لا يقتضي النسخ. واستدلّ الجمهور على النَّسْخ بقول الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187]. قالو ا: فهذه الآية نَسَخَتْ بالإجماع ¬

_ (¬1) (ص 380 - 381). (¬2) (4/ 147 - السلفية).

ما كان قبل ذلك من تحريم الجماع في ليالي رمضان بعد النوم، وهي تتضمن إحلاله في آخر جزء من الليل بحيث ينتهي بانتهاء الليل، ومن ضرورة ذلك أن يصبح جُنُبًا. فهذان شاهدا عَدْلٍ بصحة حديث أبي هريرة وصدقه؛ الأول: اقتصار عائشة على ما اقتصرت عليه. الثاني: مذهب تلميذها وابن اختها عروة. وثَمَّ شاهد ثالث: وهو أن المتفق عليه بين أهل العلم وعليه دلَّ القرآن أنه كان الحكم أوَّلًا تحريم الجماع في ليالي رمضان بعد النوم، وأنَّ مَن فعل ذلك لم يصح صومه ذلك اليوم، والحكمة في ذلك - والله أعلم - أن يطول الفصل بين الجماع وبين طلوع الفجر، ولما كان من المحتمل أن يلجأ بعضُ الناس إلى السهر طول الليل ويجامع قبيل الفجر بحجّة أنه إنما جامع قبل النوم ناسب ذلك أن يحرّم كونه جُنبًا عند طلوع الفجر، ليضطرّ من يريد الجماع ممن يَسْهر إلى أن يقدّمه قبل الفجر بمدة تتسع له وللغسل بعده، فيحصل بذلك المقصود مِن طول الفصل. وهذا هو مقتضى حديث أبي هريرة. وشاهد رابع: وهو أَنَّا مع عِلْمنا بصدق أبي هريرة وأمانته، لو فرضنا جدلًا خلاف ذلك، فأيّ غرض شخصيّ لأبي هريرة في أن يرتكب الكذب على النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ليحمل الناس على ما تضمّنه حديثه؟ لا غرض له البتة، وإذًا فلا بد أن يكون كان عنده دليلٌ فَهِمَ منه ذلك، وقد عرفنا أنَّه قَلّما يلجأ إلى الاستنباط الدقيق، وإنما يتمسَّك بالنصوص، وقد نصَّ هو على أن دليله هو ذاك الحديث، فبان أن الحديث كان عنده. فهذه أربعة شهود على صِدْق أبي هريرة في هذا الحديث، وفوق ذلك ما ثبت من دينه وأمانته، ودلّ عليه الكتاب والسنة كما يأتي في فصل عدالة

الصحابة (¬1)، وشهد به جَمْعٌ من الصحابة، وأجمع عليه أهل العلم، فهذا هو الحق. وماذا بعد الحق إلا الضلال؟ قال أبو ريَّة: (فاستشهد ميتًا، وأوهم الناس أنه سمع الحديث من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما قال ابن قتيبة في "تأويل مختلف الحديث"). أقول: قد تقدّم أنّ الصحابة كان يأخذ بعضهم عن بعض، ويقول أحدُهم فيما سمعه من أخيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ... ". وكان ذلك يُفْهَم على الاحتمال بدون إيهام لاشتهار عُرْفِهم به قبل عُرْفِ المحدّثين. وقد أخذ أبو هريرة عن غيره من الصحابة في حياة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وعَقِبَ وفاته، ثم طال عمره حتى كانت قضية هذا الحديث في إمارة مروان على المدينة وذلك في خلافة معاوية، وكان معظم الصحابة قد ماتوا، فما الذي يستغرب من أن يكون مخبر أبي هريرة قد مات؟ وقد تقدَّم بيان الأدلة الواضحة على صدق أبي هريرة وصحَّة حديثه هذا. لكن انظر إلى عبارة أبي ريَّة في قوله (فاستشهد ... كما قال ابن قتيبة ...) ألا ترى أن هذا الخبر يُعْطِي بأن ابن قتيبة قال ذلك من عنده وأنَّه رأيه، لكنّ الواقع أن ابن قتيبة إنما حكى ذلك عن النظَّام بعد أن وصفه بما تقدّم ثم ردَّ عليه، فماذا تقول في أبي رية؟ (¬2). ثم قال ص 168: (وكان عليّ رضي الله عنه سيِّئ الرأي فيه، وقال عنه: ألا إنه أكذب الناس، أو قال: أكذب الأحياء على رسول الله لأبو هريرة). ¬

_ (¬1) (ص 365). (¬2) وقد تقدم نحو صنيعه هذا مع ابن عساكر، ونبهتُ عليه فيما سبق، انظر (ص 226) حاشية (2).

أقول: لم يذكر أبو ريَّة مصدره فنفضحه، وكأنه أخذ هذا من كتاب عبد الحسين الرافضي (ظلمات بعضها فوق بعض) انظر (ص 119) (¬1). ثم رأيت مصدره وهو "شرح النهج" لابن أبي الحديد (1: 360) (¬2) حكاية عن الإسكافي، ومع تهوُّر ابن أبي الحديد والإسكافي فالعبارة هناك "وقد رُوي عن عليّ عليه السلام أنه قال ... " ولكن أبا ريَّة يجزم. راجع (ص 109) (¬3). قال: (ولما سمع أنه يقول: حدثني خليلي. قال له: متى كان النبي خليلك؟). أقول: هذا من دعاوى النظَّام على عليّ، وقد كان أبو ذر يقول هذه الكلمة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - خليل كلّ مؤمن وان لم يكن أحد من الخلق خليلًا له - صلى الله عليه وسلم - لقوله: "لو كنت متخذًا خليلًا غير ربي لاتخذت أبا بكر" (¬4). والخليل كالحبيب، فكما أنه لا يلزم من كون إنسان حبيبك أن تكون حبيبه فكذلك الخليل، والخُلّة أعظم مِن المحبة، فلا يلزم من نفي الخلّة نفي المحبة. قال أبو ريَّة: (ولما روى حديث: متى استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يضعها في الإناء [ص 123] فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده" لم تأخذ به عائشة ¬

_ (¬1) (ص 230). (¬2) (4/ 68). قال العلامة ابن الوزير اليماني معلقًا على هذا الخبر: "هذا مما يقطع العارف ببطلانه عن عليّ عليه السلام، وأرجو ألا تصحّ حِكايته وتقريره عن ابن أبي الحديد"، وذكر قبل ذلك أن بعض أعداء ابن أبي الحديد زاد مثل هذه الأخبار في كتابه؛ لأنها لا تليق به. انظر "العواصم والقواصم": (2/ 43 - 44). (¬3) (ص 210 - 211). (¬4) أخرجه البخاري (466)، ومسلم (2382) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

وقالت: كيف نصنع بالمهراس" وعلّق عليه: "المهراس صخر ضخم منقور لا يحمله الرجال ولا يحركونه يملؤونه ماء ويتطهَّرون). أقول: قد أسلفتُ (ص 108) (¬1) أن عائشة لم تتكلّم في هذا الحديث بحرف، وإنما يُرْوَى عن رجل يقال له قين الأشجعي (¬2) أنه قال لأبي هريرة لمَّا ذكر الحديث: "فكيف نصنع إذا جئنا مهراسكم هذا؟ " فقال أبو هريرة: "أعوذ بالله من شرِّك". كره أبو هريرة أن يقول مثلًا: إن المهراس ليس بإناء، والعادة أن يكون ماء الإناء قليلًا، وماء المهراس كثيرًا. أو يقول: أرأيت لو كانت يدك ملطخة بالقذر؟ أو يقول: إن وجدت ماء غيره أو وجدت ما تغرف به فذاك وإلا رجوت أن تُعْذَر، أو نحو ذلك؛ لأن أبا هريرة رضي الله عنه كان يتورَّع عن تشقيق المسائل، ويدع ذلك لمن هو أجْرَأُ وأشدُّ غوصًا على المعاني منه. وقد كان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يلتزم في الوضوء أن يغسل يديه ثلاثًا قبل إدخالهما الإناء، ثبت ذلك من حديث عثمان وعبد الله بن زيد (¬3). ولا يخفى ما في ذلك مِنْ رعاية النظافة والصحة. قال أبو ريَّة: (ولما سمع الزبير أحاديثه قال: صدق، كذب). ¬

_ (¬1) (ص 208). (¬2) مسند أحمد (2: 382) [8965]. [المؤلف]. أقول: سنده حسن من أجل محمد بن عَمرو بن علقمة. ووقع في "المسند": "قيس الأشجعي" وصوابه: "قين" بالنون. انظر "مسند أبي يعلى" (5973)، و"معرفة الصحابة": (4/ 2363)، و"الإصابة": (5/ 567)، و"تكملة الإكمال": (4/ 679). ووقع في (ط): "فكيف تصنع". (¬3) حديث عثمان أخرجه البخاري (159)، ومسلم (227). وحديث عبد الله بن زيد أخرجه البخاري (186)، ومسلم (235).

أقول: عزاه إلى "البداية" (8: 109) (¬1) وهو هناك عن ابن إسحاق عن عمر - أو عثمان - بن عروة بن الزبير عن عروة قال: "قال لي أبي - الزبير -: أَدْنِني من هذا اليماني - يعني أبا هريرة - فإنه يكثر الحديثَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فأدنيته منه، فجعل أبو هريرة يحدّث، وجعل الزبير يقول: صدق، كذب. صدق، كذب. قال: قلت: يا أبت ما قولك: صدق، كذب؟ قال: يا بني أما أن يكون سمع هذه الأحاديث من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا أشكّ فيه، ولكن منها ما يضعه على مواضعه، ومنها ما وضعه على غير مواضعه". أقول: في خطبة أبي بكر الصديق رضي الله عنه: "إنكم تقرؤون هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] الآية، وإنكم تضعونها على غير موضعها، وإني سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنَّ الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه أوشك الله أن يعمّهم بعقابه". انظر "تفسير ابن كثير" (3: 257) (¬2). فالوضع على غير الموضع ليس بتغيير اللفظ، فإن الناس لم يغيّروا مِن لفظ الآية شيئًا، وإنما هو الحَمْل على [غير] (¬3) المحمل الحقيقي. ومثال ذلك في الحديث: أن [ص 124] يذكر أبو هريرة حديث النهي عن الادّخار مِن لحوم الأضاحي فوق ثلاث، وحديث النهي عن الانتباذ في الدّبّاء والنقير والمزفَّت، فيرى الزبير أن النهي عن الادخار إنما كان لأجل الدافَّة، وأنّ النهي عن الانتباذ في تلك الآنية إنما كان إذ كانوا حديثي عهد بشرب الخمر؛ ¬

_ (¬1) (11/ 375 - 376). وأخرجه ابن عساكر في "تاريخه": (67/ 356). (¬2) (3/ 1260 - 1261). (¬3) سقطت من (ط).

لأن النبيذ في تلك الآنية يُسْرع إليه التخمّر، فقد يتخمّر فلا يصبر عنه حديث العهد بالشرب. ونحو ذلك. وأن أبا هريرة إذ أخبر بذلك على إطلاقه يفهمه الناس على إطلاقه، وذلك وَضْعٌ له على غير موضعه. ففي القصة شهادةُ الزبير لأبي هريرة بالصدق في النقل، فأما ما أخذه عليه فلا يضرُّه، فإن في الأحاديث الناسخَ والمنسوخ، والعامَّ والخاص، والمطلقَ والمقيّد، وقد يعلم الصحابي هذا دون ذاك، فعليه أن يبلّغ ما سمعه، والعلماء بعد ذلك يجمعون الأحاديث والأدلة، ويفهمون كلًّا منها بحسب ما يقتضيه مجموعها، وراجع (ص 32) (¬1). قال أبو رية ص 169: (وعن أبي حسان الأعرج أن رجلين دخلا على عائشة فقالا: إن أبا هريرة يحدّث عن رسول الله: "إنما الطيرة في المرأة والدابة والدار" فطارت شققًا ثم قالت: كذب والذي أنزل القرآن على أبي القاسم من حدَّث بهذا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إنما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كان أهل الجاهلية يقولون: إن الطيرة في الدابة والمرأة والدار". ثم قرأت: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد: 22]). أقول: أخرج أحمد وأبو داود بسند جَيِّد عن سعد بن أبي وقاص مرفوعًا: "لا عَدْوى ولا طِيَرة ولا هام، إن تكن الطِّيَرةُ في شيء ففي الفَرَس والمرأة والدار" انظر "مسند أحمد" الحديث (502 و554) (¬2). وفي "فتح الباري" (6: 45) (¬3): "الطِّيَرة والشؤم بمعنى واحد". وفي "الصحيحين" (¬4) ¬

_ (¬1) (ص 63 - 64). (¬2) (1554 و1615). (¬3) (6/ 61). (¬4) البخاري (2858)، ومسلم (2225).

وغيرهما من حديث ابن عمر قال: سمعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنما الشؤم في ثلاثة: في الفرس والمرأة والدار" لفظ البخاري في كتاب الجهاد، باب ما يُذْكَر من شؤم الفرس، وفي "الصحيحين" (¬1) وغيرهما من حديث سهل بن سعد مرفوعًا: "إن كان ففي المرأة والفرس والمسكن". زاد مسلم: "يعني الشؤم". وجاء نحوه بسند جَيِّد عن أمِّ سلمة وزادت: "والسيف" راجع "فتح الباري" (6: 47) (¬2). وفي "صحيح مسلم" (¬3) من حديث جابر مرفوعًا: "إن كان في شيء ففي الرَّبع والخادم والفرس". أما روايته عن أبي هريرة فعزاه أبو ريَّة إلى "تأويل مختلف الحديث" (¬4) لابن قتيبة، وقد رواه الإمام أحمد [ص 125] في "المسند" (6: 150 و240 و246) (¬5) من طريق قتادة عن أبي حسَّان. وليس بالصحيح عن عائشة؛ لأن قتادة مدلِّس، ولو صحّ عن عائشة لما صح المنسوب إلى أبي هريرة لجهالة الرجلين، وليس في شيء من روايات أحمد لفظ "كذب" ولو صحّت لكانت بمعنى "أخطأ" كما يدلّ عليه آخر الحديث. وقد تبين أنه لا خطأ، فقد رواه جماعة من الصحابة كما علمت. فأما معناه والجمع بينه وبين الآية فيُطْلَب من مظانّه. قال أبو ريَّة: (وأنكر عليه ابن مسعود قوله: مَن غسَّل ميتًا ... وقال فيه قولًا شديدًا، ثم قال: يا أيها الناس لا تنجسوا موتاكم). ¬

_ (¬1) البخاري (2859)، ومسلم (2226). (¬2) (6/ 63). (¬3) (2227). (¬4) (ص 172). (¬5) (25168 و26034 و26088).

أقول: عزاه إلى "جامع بيان العلم" لابن عبد البر (2: 85) (¬1) وهو هناك بغير إسناد، وفي "سنن البيهقي" (1: 307) عن ابن مسعود: "إنْ كان صاحبكم نجسًا فاغتسلوا وإن كان مؤمنًا فلم نغتسل (¬2)؟ " وسنده واه. وقد جاء الغسل مِن غَسْل الميت من حديث عليّ وفِعْلِه، ومن حديث عائشة وحذيفة وأبي سعيد والمغيرة، راجع "سنن البيهقي" (1: 299 - 307)، و"تلخيص الحبير" (ص 50 و157) (¬3). فمن أهل العلم مَن يستحب، ومنهم مَن يوجب، ومنهم من يقول: منسوخ، ومنهم من ينكر. ويظهر لي أن مَنْ جعله من باب التطهُّر لحَدَث أو نجس قد أبعد، ومن أنكره لأن الميت ليس بنجس قد أبعد، وإنما هو لمعنى آخر. والعارفون بعلم النفس والصحة يرون له تعلُّقًا بذلك، والله أعلم. قال: (ولمّا روى حديث: "إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر فليضطجع على يمينه" فقال له مروان: أما يكفي أحدنا ممشاه إلى المسجد حتى يضطجع؟ فبلغ ذلك ابن عمر فقال: أكثر أبو هريرة). أقول: تصرَّفَ أبو ريَّة في هذا، والحديث في "سنن أبي داود" (¬4) في آخره "قال: فقيل لابن عمر: هل تنكر شيئًا مما يقول؟ قال: لا، ولكنه اجترأ وجَبُنَّا، قال: فبلغ ذلك أبا هريرة فقال: فما ذنبي إن كنتُ حفظتُ ونسوا". ¬

_ (¬1) (2/ 915 - ت الزهيري). (¬2) (ط): "تغتسل"، وفي هامش السنن نسخة كذلك. وقال البيهقي عقِب الحديث: إسناده ليس بالقوي. (¬3) (1/ 144 - 146 و2/ 72). (¬4) (1263). وأخرجه ابن خزيمة (1120)، وابن حبان (2468).

وقد تقدم (ص 119) (¬1) مع بعض ما يناسبه. وفي "الصحيحين" (¬2) وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى ركعتي الفجر اضطجع على شِقّه الأيمن". قال أبو ريَّة: (ولا نستوفي ذكر انتقاد الصحابة له والشك في روايته ...). أقول: قد اتضح بحمد الله عزَّ وجلَّ الجواب عمَّا ذَكر، ومنه يُعْلَم حال ما لم يَذكر. قال: (وقد امتد الإنكار عليه واتهامه في رواياته إلى مَن بَعْد الصحابة). أقول: قد تبين أنه لم يتهمه أحدٌ من الصحابة، بل أثنوا عليه وسمعوا منه ورووا عنه، وسيأتي تمام ذلك [ص 126] وتبيّن قيام حجته الواضحة في أكثر ما انتُقِد عليه، وعذره الواضح في ما بقي، وبذلك سقط ما يخالفه من كلام مَنْ دونهم، وسنرى. قال: (روى محمد بن الحسن عن أبي حنيفة أنه قال: أقلِّد مَن كان من القضاة المفتين من الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي والعبادلة الثلاثة, ولا أستجيز خلافهم برأي إلا ثلاثة نفر - وفي رواية: أقلد جميع الصحابة ولا أستجيز خلافهم برأيي إلا ثلاثة نفر -: أنس بن مالك وأبو هريرة وسمرة بن جندب" فقيل له في ذلك، فقال: أما أنس فاختلط في آخر عمره، وكان يُستفتى فيُفتي من عقله، وأنا لا أقلد عقله، وأما أبو هريرة فكان يروي كلَّ ما سمع من غير أن يتأمل في المعنى، ومن غير أن يعرف الناسخ من المنسوخ). أقول: عزا أبو ريَّة هذه الحكاية إلى "مختصر كتاب المؤمل" (¬3) ¬

_ (¬1) (ص 229 - 230). (¬2) البخاري (626)، ومسلم (736). (¬3) (ص 62 - 63 - ت مقبول)، وليس في النشرة الجديدة للكتاب المطبوع بعنوان =

لأبي شامة، وأبو شامة من علماء الشافعية في القرن السابع (¬1) بينه وبين محمد بن الحسن عدة قرون، ولا ندري من أين أخذ هذا. وقد احتاج العلَّامة الكوثري في رسالته "الترحيب" (ص 24) (¬2) إلى هذه الحكاية. ومع سَعَة اطلاعه على كتب أصحابه الحنفية وغيرهم لم يجد لها مصدرًا إلا مصدر أبي ريَّة هذا. وحكايةٌ مثل هذه عن محمد بن الحسن عن أبي حنيفة لا توجد في كتب الحنفية أيّ قيمةٍ لها؟ (¬3). هذا، والحكاية لا تتعرَّض للأحاديث التي يرويها الصحابة، وإنما تتعلَّق بقول الصحابي الموقوف عليه هل يجوز لمن بعده مخالفته برأيه؟ فحاصلها أنَّ أبا حنيفة يقول: إنه لا يخالف قول أحدٍ من الصحابة برأيه سوى أولئك الثلاثة. فأقول: أما أنس فراجع "طليعة التنكيل" الطبعة الثانية (ص 101 - 108) (¬4). وأما أبو هريرة فقوله فيه: "يروي كلّ ما سمع". يعني بها: كلّ ما سمعه من الأحاديث، وليس هذا بطعن في روايته ولا هو المقصود، وإنما هو مرتبط بما بعده وهو قوله: "من غير ... " والمدار على هذا، يقول: إنه لأجل هذا لا يوثَق بما قاله برأيه؛ إذ قد يأخذه من حديث منسوخ ونحو ذلك، ¬

_ = "خطبة الكتاب المؤمل للرد إلى الأمر الأول" تحقيق د. جمال عزّون. انظر (ص 133 - 134) فهل سقط منها أو لا يوجد في النسخ الخطية التي اعتمدها؟ (¬1) توفي سنة (665 هـ). (¬2) (ص 317 - بذيل تأنيب الخطيب). (¬3) ذكر هذا القول صاحب "المحيط البرهاني": (8/ 408 - 410 - دار إحياء التراث). ووفاته سنة (571 هـ) ولم يُسند الخبر؛ فالقول فيه كالقول في أبي شامة. وانظر "التنكيل": (1/ 21 - 22) للمؤلف. (¬4) (ص 78 - 85 - طبعتنا).

وسيأتي ما فيه (¬1) وفي الحاشية (¬2): (قال في "مرآة الوصول" وشرحها "مرقاة الأصول" من أصول الحنفية رحمهم الله في بحث الراوي: وهو إن عرف بالرواية فإن كان فقيهًا تقبل منه الرواية مطلقًا سواء وافق القياس أو خالفه. وإن لم يكن فقيهًا (كأبي هريرة وأنس) رضي الله عنهما فترد روايته). أقول: في هذا أمران، الأول: أن الصواب: "في "مرقاة الوصول" وشرحها "مرآة الأصول". الثاني: أن مؤدَّى العبارة - على ما نقله أبو ريَّة - ردُّ رواية أبي هريرة وأنس ونحوهما مطلقًا، لكن تمام العبارة في مصدره: "إن لم يوافق - الحديث الذي رواه - قياسًا أصلًا، حتى إن وافق قياسًا وخالف قياسًا تقبل". على أن [ص 127] هذا القول قد ردَّه محقّقو الحنفية، قال ابن الهمام في "التحرير": "وأبو هريرة فقيه". قال شارحه ابن أمير الحاج (2: 251) (¬3): "لم يعدم شيئًا من أسباب الاجتهاد، وقد أفتى في زمن الصحابة، ولم يكن يفتي في زمنهم إلا مجتهد، وروى عنه أكثر من ثمانمائة رجل من (¬4) بين صحابي وتابعي، منهم ابن عباس وجابر وأنس، وهذا هو الصحيح". ذكر أبو ريَّة في الحاشية (¬5): أن في قوله: "يروي كلَّ ما سمع" إشارة ¬

_ (¬1) وقال أبو ريَّة في حاشية ص 334: "من أجل ذلك لم يأخذ أبو حنيفة بما جاء عن أبي هريرة وأنس بن مالك وسمرة ... " كذا يقول أبو رية، فانظر واعتبر! [المؤلف]. (¬2) هذه الحاشية حُذِفت من الطبعات اللاحقة. انظر (ص 178 - ط السادسة). (¬3) (4/ 134). (¬4) في أصله: "ما". (¬5) هذه الحاشية أيضًا لا وجود لها في الطبعات اللاحقة. انظر (ص 178 - 179).

إلى حديث: "كفى بالمرء كذبًا أن يحدِّث بكلِّ ما يسمع" (¬1). أقول: هذا الحديث عام يشمل ما يسمع مما يُعلم أو يُظن أنه كذب، وأبو هريرة إنما كان يحدّث بالعلم، بما يعلم أو يعتقد أنه صدق، فأين هذا من ذاك؟ وقال ص 170: (وروى أبو يوسف قال: قلت لأبي حنيفة: الخبر يجيئني عن رسول الله يخالف قياسنا، ما نصنع به؟ فقال: إذا جاءت به الرواة الثقات عملنا به وتركنا الرأي. فقلت: ما تقول في رواية أبي بكر وعمر؟ قال: ناهيك بهما. فقلت: وعلي وعثمان، قال: كذلك، فلما رآني أعد الصحابة قال: والصحابة كلهم عدول ما عدا رجالًا - وعدَّ منهم أبا هريرة وأنس بن مالك). أقول: لم يذكر مصدره. وهذه عادته (الحميدة) في تدليس بلاياه. ثم وجدت مصدره وهو "شرح نهج البلاغه" لابن أبي الحديد (1: 360) (¬2) عن أبي جعفر الإسكافي فراجع ما تقدم (ص 109) (¬3). ولا ريب أنَّ هذا لا يصح عن أبي يوسف ولا أبي حنيفة، والمعروف عنهما وعن أصحابهما في كتب العقائد والأصول وغيرها ما عليه سائر أهل السنة: أن الصحابة كلّهم عدول، وإنما يقول بعضهم: إن فيهم من ليس بفقيه أو مجتهد، قال ابن الهمام في "التحرير" (¬4): " ... يقسم الراوي الصحابي إلى مجتهد كالأربعة والعبادلة، فيقدَّم على القياس مطلقًا، وعَدْل ضابط كأبي هريرة وأنس وسلمان وبلال فيقدَّم، إلا إن خالف كلَّ الأقيسة على قول عيسى والقاضي أبي زيد ... " ثم قال بعد ذلك: "أبو هريرة مجتهد" كما تقدّم. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في مقدمة "صحيحه" (5) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) (4/ 68). (¬3) (ص 210 - 211). (¬4) (4/ 131 - 132 - مع شرحه التقرير).

وغير عيسى وأبي زيد ومَنْ تَبِعه يرون تقديم الخبر مطلقًا. راجع "فواتح الرحموت" (2: 145). ثم حكى أبو ريَّة ما رُوي عن إبراهيم: (كان أصحابنا يَدَعون من حديث أبي هريرة, ما كانوا يأخذون بكلَّ حديث أبي هريرة. كانوا يرون في حديث أبي هريرة (¬1) شيئًا، ما كانوا يأخذون بكل حديث أبي هريرة إلا ما كان من حديث صفة جنة أو نار أو حثّ على عمل صالح أو نهي عن شرّ جاء بالقرآن (¬2)، دعني من حديث أبي هريرة (¬3)، إنهم كانوا يتركون كثيرًا من حديثه). أقول: ذكر ابن كثير في "البداية" (8: 109) (¬4) بعضَ هذه الكلمات عن ابن عساكر، ولم يسق السند بتمامه. وباقيها أخذه أبو ريَّة من "شرح النهج" لابن أبي الحديد (1: 360) (¬5) حكاه ابن أبي الحديد عن الإسكافي، وراجع (ص 109) (¬6)، وقد تقدم (ص 121) (¬7) أخذ إبراهيم بحديث أبي هريرة الذي أخبرت عائشة بخلافه فترك أبو هريرة [ص 128] الإفتاء به وقال: "إنما حدثنيه الفضل بن عباس"، وأَخْذُهُ به يدلّ على ثقةٍ بالغةٍ بأبي هريرة وحديثه. ¬

_ (¬1) في كتاب أبي ريَّة (ص 179 - ط: 6): "في أحاديث رسول الله". (¬2) عند أبي ريَّة: "جاء في القرآن". (¬3) عند أبي ريَّة: "دعني من أبي هريرة". (¬4) (11/ 377 - 378). وقال ابن كثير عِقبه: "وقد انتصر ابنُ عساكر لأبي هريرة, وردّ هذا الذي قاله إبراهيم النخعي. وقد قال ما قاله إبراهيم طائفة من الكوفيين والجمهور علي خلافهم" اهـ. وانظر "تاريخ دمشق": (67/ 360 - 362). (¬5) (4/ 68). (¬6) (ص 210 - 211). (¬7) (ص 232 - 233).

ثم إن صحَّتْ تلك الكلمات أو بعضها فقوله: "كان أصحابنا" يريد بهم أشياخه من الكوفيين، وإليهم يرجع الضمير في قوله: "كانوا". وحقُّ هذه الكلمات - إن صحَّت عن إبراهيم - أن تُنتقد عليه لا على أبي هريرة. وقد تقدم بيان حال أبي هريرة عند الصحابة وثناؤهم عليه وسماعهم منه وروايتهم عنه، ويأتي لذلك مزيد، وبأن سقوط كلّ ما خالف ذلك من مزاعم أهل البدع، وظهرت حجةُ أبي هريرة فيما انتقده بعضهم عليه. ثمَّ إن التابعين من أهل الحجاز وعلمائه وهم أبناء علماء الصحابة وتلاميذهم والذين حضروا مناظرتهم لأبي هريرة وعَرفوا حقيقة رأيهم فيه = أطبقوا هم وعلماء البصرة والشام وسائر الأقطار - سوى ما حُكِي عن بعض الكوفيين - على الوثوق التامّ بأبي هريرة وحديثه. وقد كان بين الكوفيين والحجازيين تباعُد، والكوفيون نشأوا على الأحاديث التي عرفوها من رواية الصحابة الذين كانوا عندهم، ثم حاولوا تكميل فقههم بالرأي وجَرَوا على مقتضاه، ثم كانوا إذا جاءهم بعد ذلك حديث بخلاف ما قد جروا عليه وأَلِفُوه تلكَّأوا في قبوله وضربوا له الأمثال. وإذ كان أبو هريرة مكثرًا كانت الأحاديث التي جاءتهم عنه بخلاف رأيهم أكثر من غيره، فلهذا ثَقُل على بعضهم بعضُ حديثه، وساعد على ذلك ما بلغهم من أنَ بعضَ الصحابة قد انتقد بعض أحاديث أبي هريرة. وقد كان أهل الحجاز أيضًا ينفرون عن الأحاديث التي تأتيهم عن أهل العراق، حتى اشتهر قولهم: نزَّلوا أهلَ العراق منزلةَ أهلِ الكتاب، لا تصدّقوهم ولا تكذّبوهم (¬1). وعلى كلّ حال فقد انحصر مذهبُ أهل العراق في أصحاب أبي حنيفة، ¬

_ (¬1) قاله مالك. انظر "جامع بيان العلم وفضله": (2/ 1108).

وقد علمتَ بأن أبا هريرة عندهم عدل ضابط، واعتراف محققيهم بأنه مع ذلك فقيه مجتهد، والأحاديث التي يخالفونها من مروياته سبيلها سبيل ما يخالفونه من مرويَّات غيره من الصحابة، والحقّ أحقُّ أن يُتّبع، والله الموفق. قال أبو ريَّة ص 171: (وقال أبو جعفر الإسكافي: وأبو هريرة مدخول عند شيوخنا غير مرضي بالرواية). أقول: وقد زادني حبًّا لنفسي أنني ... بغيضٌ إلى كلِّ امرئ غير طائل (¬1) قال: (ضربه عمر وقال: أكثرْتَ من الحديث, وأحْرِ بكَ أن تكون كاذبًا على رسول الله). أقول: عزاه أبو ريَّة إلى "شرح النهج" (¬2) لابن أبي الحديد، وقد مرَّ النظرُ فيه (ص 109) (¬3)، وراجع (ص 119) (¬4). قال: (وفي "الأحكام" للآمدي: أنكر الصحابةُ على أبي هريرة كثرة روايته ..). أقول: قد فرغنا من هذا. [ص 129] قال: (وجرت مسألة المصرَّاة في مجلس الرشيد، فتنازع القومُ فيها وعلت أصواتُهم، فاحتج بعضهم بالحديث الذي رواه أبو هريرة، فردَّ بعضهم الحديثَ وقال: أبو هريرة متهم، ونحا نحوه الرشيد). ¬

_ (¬1) البيت للطِّرِمّاح بن حكيم ضمن قصيدة له. انظر "ديوان الحماسة": (1/ 130) لأبي تمام، و"الحيوان": (3/ 112) للجاحظ، و"الشعر والشعراء": (2/ 589). (¬2) (4/ 68). (¬3) (ص 210 - 211). (¬4) (ص 229 - 230).

أقول: جوابُ الحكاية في تتمتها التي حذفها أبو ريَّة وأخفى المصدر، وقد كنتُ وقفتُ عليها بتمامها في "تاريخ بغداد" أحسب، ولم أهتد إليها الآن (¬1)، وقد كان يحضر مجلس الرشيد بعض رؤوس البدعة كبِشر ¬

_ (¬1) هي فيه (11/ 196 - 197) في ترجمة عمر بن حبيب العدوي. أقول: وقد بتر القصة أبو رية كما هي عادته، وفي آخرها رجوع الرشيد إلى الحق واعترافه بخطئه. هذا لو كانت القصة ثابتة، فكيف وفي سندها محمد بن يونس الكُدَيمي وهو متهم بالوضع. انظر "الكامل": (6/ 292)، و"الكشف الحثيث" (ص 254). والقصة كما رواها الخطيب في "تاريخه" قال: أخبرني الأزهري حدثنا عبيد الله بن محمد بن حمدان العكبري، حدثنا أبو بكر محمد بن القاسم النحوي، حدثنا أبو العباس محمد بن يونس الكُديمي، حدثنا يزيد بن مرة الزارع، قال: حدثنا عمر بن حبيب قال: حضرت مجلس هارون الرشيد، فجرت مسألة، فتنازعها الحضور وعلت أصواتهم، فاحتجّ بعضهم بحديث يرويه أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فرفع بعضهم الحديث وزادت المدافعة والخصام حتى قال قائلون منهم: لا يحل هذا الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فإن أبا هريرة متهم فيما يرويه وصرحوا بتكذيبه، ورأيت الرشيد قد نحا نحوهم ونصر قولهم، فقلت أنا: الحديث صحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبو هريرة صحيح النقل صدوق فيما يرويه عن نبي الله وغيره، فنظر إليَّ الرشيد نظر مُغضب، فقمت من المجلس فانصرفت إلى منزلي، فلم ألبث حتى قيل: صاحب البريد بالباب فدخل عليّ فقال لي: أجب أمير المؤمنين إجابة مقتول وتحنّط وتكفّن، فقلت: اللهم إنك تعلم أني دفعت عن صاحب نبيك وأجللت نبيك - صلى الله عليه وسلم - أن يُطْعَن على أصحابه، فسلّمْني منه، فأدخلت على الرشيد وهو جالس على كرسي مِن ذهب، حاسر عن ذراعيه، بيده السيف وبين يديه النطع، فلما بصر بي قال لي: يا عمر بن حبيب ما تلقَّاني أحدٌ من الرد والدفع لقولي بمثل ما تلقيتني به، فقلت: يا أمير المؤمنين! إن الذي قلتَه وجادلتَ عليه فيه إزراء على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى ما =

المرّيسي. وذكر أبو ريَّة كلامًا لجولد زيهر اليهودي وغيره من المستشرقين لا شأن لنا به؛ لأننا نعرف هؤلاء وافتراءهم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى القرآن، وراجع (ص 72 و94 و99) (¬1). وقال أبو ريَّة ص 172: (أَخْذه عن كعب الأحبار ... اليهودي الذي أظهر الإسلام خداعًا وطوى قلبه على يهوديته). أقول: قد تقدّم النظرُ في حال كعب بما فيه كفاية، وسيلقى المجازف عاقبةَ تهجُّمه {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف: 19]. ثم ذكر رواية الصحابة عن كعب، وقد تقدم النظر في ذلك (ص 73 و110 و115) (¬2). قال: (ويبدو أن أبا هريرة كان أول الصحابة انخداعًا وثقة فيه). أقول: إنما الثابت أنه حكى عنه شيئًا مما نسبه كعب إلى صحف أهل الكتاب، وليس في هذا ما يدلّ على ثقة. قال: (وروايةً عنه وعن إخوانه). ¬

_ = جاء به، إذا كان أصحابه كذَّابين فالشريعة باطلة والفرائض والأحكام في الصيام والصلاة والطلاق والنكاح والحدود كله مردود غير مقبول، فرجع إلى نفسه ثم قال لي: أحييتني يا عمر بن حبيب أحياك الله، أحييتني يا عمر بن حبيب أحياك الله. وأمر لي بعشرة آلاف درهم. اهـ. (¬1) (ص 142 - 143 و183 - 185 و193). (¬2) (ص 143 - 145 و212 - 214 و222).

أقول: إننا نتحدَّى أبا ريَّة أن يجمع عشر حكايات مختلفة يثبت أن أبا هريرة رواها عن كعب، فأما إخوانه؛ فعبد الله بن سلام لا يطعن فيه مسلم، وتميم الدَّاري قريب منه، ولعله لا يثبت لأبي هريرة عن كلٍّ منهما إلا خبر واحد. وذكر كلامًا من تهويله تُعْرَف قيمتُه من النظر في شواهده. قال: (فقد روى الذهبي في "طبقات الحفاظ" في ترجمة أبي هريرة أن كعبًا قال فيه، أي في أبي هريرة: ما رأيت أحدًا لم يقرأ التوراة أعلم بما فيها من أبي هريرة. ورواية البيهقي في "المدخل" من (¬1) طريق بكر بن عبد الله عن (¬2) أبي رافع أن أبا هريرة لقي كعبًا فجعل يحدّثه ويسأله، فقال كعبٌ: ما رأيت رجلًا لم يقرأ التوراة أعلم بما في التوراة من أبي هريرة). أقول: هي حكاية واحدة. فالذي في كتاب الذهبي: "الطيالسي أخبرنا عِمْران القطّان عن بكر بن عبد الله عن أبي رافع ... " فذكرها. وعمران القطان ضعيف ولا يتحقق سماعه من بكر، وفي القرآن والسنَّة قصص كثيرة مذكورة في التوراة الموجودة بأيدي أهل الكتاب الآن، فإذا تتبَّعها أبو هريرة وصار يذكرها لكعب كان ذلك كافيًا لأن يقول كعب تلك الكلمة، ففيم التهويل الفارغ؟ [ص 130] قال: (ومما يدلك على أن هذا الحبر الداهية قد طوى أبا هريرة تحت جناحه حتى جعله يردّد كلامَ هذا الكاهن بالنص ويجعله حديثًا مرفوعًا ما نورد لك شيئًا منه، روى البزار [عن أبي سلمة] عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الشمس والقمر ثوران في النار يوم القيامة. فقال الحسن: وما ذنبهما؟ فقال [أبو سلمة]: أحدِّثك عن رسول الله ¬

_ (¬1) في كتاب أبي ريَّة "في". [المؤلف]. (¬2) فيه "بن". [المؤلف].

وتقول: ما ذنبهما؟. وهذا الكلام نفسه قد قاله كعب بنصه، فقد روى أبو يعلى الموصلي قال كعب: يُجَاء بالشمس والقمر كأنهما ثوران عقيران فيقذفان في جهنم). أقول: عزاه أبو ريَّة إلى "حياة الحيوان" (¬1)، وسيأتي ما فيه. قال البخاري في باب صفة الشمس والقمر من بدء الخلق من "صحيحه" (¬2): حدثنا مسدَّد حدثنا عبد العزيز بن المختار حدثنا عبد الله الدَّانَاجُ قال: حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الشمس والقمر مكوَّران يوم القيامة". وفي "فتح الباري" (6: 214) (¬3): أنّ البزَّار والإسماعيلي والخطَّابي أخرجوه من طريق يونس بن محمد عن عبد العزيز بن المختار، وزادوا بعد كلمة (مكوَّران): "في النار". أما "حياة الحيوان" للدميري - مصدر أبي ريَّة - فإنه ذكر أولًا حديث البخاري، ثم حديث البزار وفيه: "ثوران" كما مرَّ، وظاهر ما في "فتح الباري" أو صريحه: أن الذي في رواية البزّار والإسماعيلي والخطَّابي "مكوّران" كرواية البخاري لا "ثوران" (¬4). ¬

_ (¬1) (1/ 592 - دار البشائر). ولعلّ مصدره "البداية والنهاية": (1/ 79 - 80). (¬2) (3200). (¬3) (6/ 299). (¬4) ثم وجدت بعضهم نقل رواية البزار بلفظ "ثوران مكوران" جمع بين الكلمتين. [المؤلف]. أقول: الذي في "مسند البزار" (8696): "ثوران" كما نقل الدميري وابن كثير. أما الرواية المجموعة فيها الكلمتان فأخرجها تمَّام في "فوائده" (1534)، والضياء المقدسي في "ذكر النار" (77).

ثم قال الدَّميري: وروى الحافظ أبو يعلى الموصلي (¬1) من طريق دُرُست بن زياد عن يزيد الرَّقَاشي، وهما ضعيفان، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "الشمس والقمر ثوران عقيران في النار". وقال كعب الأحبار: يُجَاء بالشمس والقمر يوم القيامة كأنهما ثوران عقيران، فيُقْذَفان في جهنم ليراهما مَنْ عَبَدهما، كما قال الله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] الآية. دُرُست ويزيد تالفان، فالخبر عن أنس وكعب ساقط، مع أنه لم يتبيَّن مَنْ القائل: "قال كعب ... "؟ وبهذا يُعلم بعض أفاعيل أبي ريَّة. فأما المتن كما رواه البخاري فمعناه في كتاب الله عزَّ وجلَّ، ففي سورة القيامة: {وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [القيامة: 8 - 9]، وفي سورة التكوير: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير: 1]. وزيادة غير البخاري: "في النار" يشهد لها قول الله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء: 98] وفي "صحيح البخاري" (¬2) وغيره من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعًا في صفة الحشر: "ثم ينادي مناد: ليذهب كلُّ قوم إلى ما كانوا يعبدون. فيذهب أصحاب الصليب مع صليبهم، وأصحاب [ص 131] الأوثان مع أوثانهم، وأصحاب كل آلهة مع آلهتهم". والحديث في "صحيح مسلم" (¬3) وفيه: ¬

_ (¬1) في "مسنده" (4116). (¬2) (7439). (¬3) (183).

"فلا يبقى أحدٌ كان يُعبَد - غير الله - من الأصنام والأنصاب إلا يتساقطون في النار". وفي "الصحيحين" (¬1) حديثٌ حدَّث به أبو هريرة، وأبو سعيد حاضر يستمع له فلم يردّ عليه شيئًا، إلا كلمة في آخره وفيه: "يجمع الله الناس فيقول: مَنْ كان يعبد شيئًا فليتبعه، فيتبع من كان يعبد الشمسَ الشمسَ، ومن كان يعبد القمرَ القمرَ، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت ... " ويوافق ذلك قوله تعالى في فرعون: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} [هود: 98]. وإن صحت كلمة "ثوران" أو "ثوران عقيران" كما في خبر أبي يعلى على سقوط سنده فذلك - والله أعلم - تمثيل، وقد ثبت أنَّ المعاني تُمثَّل يوم القيامة، كما يمثَّل الموت بصورة كبش وغير ذلك، فما بالك بالأجسام؟ ومِن الحكمة في تمثيل الشمس والقمر أن عُبَّادهما يعتقدون لهما الحياة، والمشهور بعبادة الناس له من الحيوان العِجْل فمُثِّلا مِن جنسه. وفي "الفتح" (¬2): "قال الإسماعيلي: لا يلزم مِن جَعْلهما في النار تعذيبهما، فإنَّ لله في النار ملائكة وحجارة وغيرها لتكون لأهل النار عذابًا وآلة من آلات العذاب وما شاء الله من ذلك فلا تكون هي معذَّبة". فأنت ترى شهادة القرآن والأحاديث الصحيحة لحديث أبي هريرة، ولم يثبت عن كعب شيء، ولو ثبت لكان المعقول أنه هو الآخذ لذلك عن أبي هريرة أو غيره من الصحابة. ¬

_ (¬1) البخاري (6573)، ومسلم (182). (¬2) (6/ 300).

وقول الحسن لأبي سلمة: "وما ذنبهما" قد عرفتَ جوابه، وهو يمثِّل حالَ أهلِ العراقِ في استعجال النظر فيما يشكل عليهم. وجواب أبي سلمة يمثِّل حال علماءِ الحجاز في التزام ما يقضي به كمال الإيمان مِن المسارعة إلى القبول والتسليم ثم يكون النظر بعدُ. وجوابُه وسكوتُ الحَسَنُ يبين مقدار كمال الوثوق من علماء التابعين بأبي هريرة وثقته وإتقانه، وأن ما يُحْكَى مما يخالف ذلك إنما هو مِن اختلاق أهل البدع. وأبو سلمة هو ابن عبد الرحمن بن عوف مِن كبار أئمة التابعين بالمدينة، مكثر الرواية عن الصحابة كأبي قتادة وأبي الدرداء وعائشة وأم سلمة وابن عمر وأبي هريرة، فهو مِن أعلم الناس بحال أبي هريرة في نفسه وعند سائر الصحابة رضي الله عنهم. قال أبو ريَّة ص 174: (وروى الحاكم في "المستدرك" والطبراني ورجاله رجال الصحيح عن أبي هريرة أنَّ النبي قال: إن الله أذن لي أن أحدِّث عن دِيْكٍ رجلاه في الأرض وعُنُقُه مَثنيَّة تحت العرش وهو يقول: سبحانك ما أعظم شأنك، فيرد عليه: ما يعلم ذلك من حلف بي كاذبًا. وهذا الحديث من قول كعب الأحبار ونصه: إن لله ديكًا عنقه تحت العرش وبراثنه في أسفل الأرض، [ص 132] فإذا صاح صاحت الدِّيَكة فيقول: سبحان القدوس الملك الرحمن لا إله غيره). أقول: عزا هذا إلى "نهاية الأرب" (¬1) للنُّويري، والنويري أديب من أهل القرن السابع، ولا يُدْرَى من أين أخذ هذا، والحديث يُروى عن جماعة من الصحابة بألفاظ مختلفة، منهم جابر والعُرْس بن عميرة وعائشة وثوبان وابن عمر وابن عباس وصفوان بن عَسَّال وأبو هريرة. ¬

_ (¬1) (10/ 133 - دار الكتب العلمية).

ذكر ابنُ الجوزي حديث جابر والعُرس في "الموضوعات" (¬1)، وتعقَّبه السيوطيّ وذكر رواية الآخرين. راجع "اللآلي المصنوعة" (1: 32) (¬2). أما عن أبي هريرة فهو من طريق إسرائيل عن معاوية بن إسحاق عن سعيد المقبري عن أبي هريرة، ومعاوية لم يخرج له مسلم وأخرج له البخاري حديثًا واحدًا متابعة، وقد قال فيه أبو زرعة: "شيخ واه" ووثَّقه بعضهم (¬3)، والمَقْبُريّ اختلط قبل موته بأربع سنين (¬4). ولفظ الخبر مع ذلك مخالف لما نسبه النويريُّ إلى كعب. قال أبو ريَّة: (وروى أبو هريرة أن رسول الله قال: النيل وسيحان وجيحان والفرات من أنهار الجنة. وهذا القول نفسه رواه كعب إذ قال: أربعة أنهار وصفها الله عزَّ وجلَّ في الدنيا، فالنيل نهر العسل في الجنة، والفرات نهر الخمر في الجنة، وسَيحان نهر الماء في الجنة، وجَيحان نهر اللبن في الجنة). أقول: أما حديث: "سَيحان وجَيحان والفُرات والنيل كلٌّ من أنهار الجنة" ففي "صحيح مسلم" (¬5) عن أبي هريرة مرفوعًا، وذكر القاضي عياض فيه وجهين (¬6)؛ ثانيهما: أنه كناية أو بشارة عن أن الإيمان يعمّ بلادها. وتقريبه: أنه بحذف مضاف، أي أنهار أهل الجنة وهم المسلمون. فأما خبر كعب فيُروَى عن عبد الله بن صالح كاتب الليث - وهو مُتكلَّم ¬

_ (¬1) حديث جابر رقم (1351، 1352)، وحديث العُرس رقم (1354). (¬2) (1/ 60 - 61). (¬3) انظر "تهذيب التهذيب": (10/ 202). (¬4) كما قال ابن حبان، انظر "ملحق الكواكب النيّرات" (ص 466 - 467). (¬5) (2839). (¬6) في "إكمال المعلم": (7/ 372).

فيه - عن الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن كعب، وأبو الخير لم يدرك كعبًا - فإن صح فإنما أخذ كعبٌ حديث أبي هريرة وزاد فيه ما زاد أخذًا من قول الله عزَّ وجلَّ: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} [محمد: 15] وكأنه يرى أنَّ في الجنة حقيقة أنهارًا سُمِّيت بأسماء أنهار الدنيا، والله أعلم (¬1). ثم قال أبو رية: (وقال ابن كثير في "تفسيره": إن حديث أبي هريرة في يأجوج ومأجوج ... لعل أبا هريرة تلقاه من كعب، فإنه كان كثيرًا ما كان يجالسه ويحدّثه). أقول: تتمة عبارة ابن كثير (¬2): "فحدَّث به أبو هريرة [عن كعب] فتوهَّم بعضُ الرواة عنه أنه مرفوع فرفعه" [ص 133] وفي كلام أبي ريَّة: "وقد روى أحمد هذا الحديث عن كعب"، وهذا كذب، إنما قال ابن كثير: "لكن هذا (يعني المعنى بل بعضه) قد رُوي عن كعب ... " وساق بعضه ولم يذكر سنده ولا مَنْ أخرجه. وصنيع ابن كثير هنا غير جيد مِنْ أوجه لا أطيل بذكرها. وهذا الحديث مداره على قَتادة عن أبي رافع عن أبي هريرة، رواه عن قتادة فيما وقفت عليه ثلاثة: الأول: شيبان بن عبد الرحمن في "مسند أحمد" (2: 533) (¬3). الثاني: أبو عَوانة في "سنن الترمذي" (¬4) و"مستدرك الحاكم" (4: 488). الثالث: سعيد بن أبي عَروبة في "تفسير ابن جرير" ¬

_ (¬1) ويأتي ص 170 [ص 323 - 324] من كتابي هذا زيادة. [المؤلف]. (¬2) "تفسيره": (5/ 2195). (¬3) كذا في الأصل وصوابها (2/ 311)، وهو برقم (10633). (¬4) (3153).

(16: 16) (¬1) و"سنن ابن ماجه" (¬2) و"مسند أحمد" (2: 532) (¬3). فأما شيبان وأبو عَوانة ففي روايتهما: " ... قتادة عن أبي رافع". وأما سعيد فرواه عنه فيما وقفتُ عليه ثلاثة: الأول: يزيد بن زُريع عند ابن جرير، وفيه أيضًا: " ... قتادة عن أبي رافع". الثاني: عبد الأعلى بن عبد الأعلى عند ابن ماجه وفيه: " ... قتادة قال: "حدث أبو رافع" هكذا نقله ابن كثير في "تفسيره" طبعة بولاق (6: 173) وطبعة المنار (5: 333) (¬4) ومخطوط مكتبة الحرم المكي، وهكذا في "سنن ابن ماجه" نُسَخِ مكتبة الحرم المكي المخطوطة وهي أربع (¬5)، وطبعة عمدة المطابع بدهلي في الهند سنة 1273، ووقع في أربع نسخ مطبوعة هنديتين ومصريتين (¬6): " ... قتادة قال: حدثنا أبو رافع" مع أن سياق السند من أوله فيها هكذا: "حدثنا أزهر بن مروان ثنا عبد الأعلى ثنا سعيد عن قتادة ... " فلو كان في الأصل: "قال حدثنا" لاختُصر في الأصول المخطوطة لهذه النسخ الأربع إلى "ثنا" كسابقيه في أثناء السند، ولكنَّه جَهْلُ الطابعين، حَسِبوا أنه لا يقال: "حدَّث فلان" وإنما يقال: "حدثنا فلان" فأصلحوه بزعمهم، وتَبِع متأخّرُهم متقدّمَهم، والله المستعان. ¬

_ (¬1) (15/ 398). (¬2) (4080). (¬3) كذا في الأصل وصوابها (2/ 311) وهو برقم (10632). (¬4) وكذلك في طبعة البنّا (5/ 2195)، وطبعة دار طيبة (5/ 197). (¬5) ومثلها النسخة الأزهرية (ق 166 ب)، ونسخة باريس. (¬6) ومثله في طبعة بشَّار عوَّاد (5/ 537).

الثالث: رَوح بن عُبادة عند أحمد وفيه: " ... قتادة ثنا أبو رافع" وأحسب هذا خطأ من ابن المُذْهِب راوي المسند عن القَطِيعي عن عبد الله بن أحمد. وفي ترجمته من "الميزان" (¬1) و"اللسان" (¬2) قول الذهبي: "الظاهر من ابن المُذهب أنه شيخ ليس بمتقن، وكذلك شيخه ابن مالك، ومن ثَمَّ وقع في "المسند" أشياء غير مُحْكَمة المتن ولا الإسناد". ومن المحتمل أن يكون الخطأ من رَوح، فإن كُلًّا من يزيد وعبد الأعلى أثبت منه، وقتادة مشهور بالتدليس؛ فلو كان الخبر عند سعيد عنه مصرَّحًا فيه بالسماع لحرص سعيد على أن يرويه كذلك دائمًا، [ص 134] بل أطلق أبو داود (¬3) أنّ قتادة لم يسمع من أبي رافع، وظاهره أنه لم يسمع منه شيئًا، ولكن نظر فيه ابن حجر (¬4). على كلِّ حال، فلم يثبت تصريح قتادة في هذا بالسماع، فلم يصح الخبر عن أبي رافع، وأبو رافع هو نُفَيع البصري، مخضرم ثقة لا يظن به أن يخطئ الخطأ الذي أشار إليه ابن كثير. فلو صحَّ الخبر عنه لزم تصحيحه عن أبي هريرة، ولو صح عن أبي هريرة لصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولو صح مع ذلك أنَّ كعبًا أخبر بما يشبهه لكان محمله الطبيعي أنَّ كعبًا سمع الحديث من أبي هريرة أو غيره من الصحابة فاقتبس منه خبره، لكن الخبر لم يصح عن أبي رافع، فلم يصح عن أبي هريرة، فلم يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا ندري ممن سمعه قتادة. والله أعلم. ¬

_ (¬1) (2/ 33 - 35). (¬2) (3/ 91 - 93). (¬3) في "السنن": (5/ 367). (¬4) في "تهذيب التهذيب": (8/ 354) قال معلقًا على كلام أبي داود: "كأنه يعني حديثًا مخصوصًا، وإلا ففي صحيح البخاري تصريح بالسماع منه".

قال أبو ريَّة: (وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة: إن الله خلق آدم على صورته. وهذا الكلام قد جاء في الإصحاح الأول من التوراة ونصه هناك: وخلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه). أقول: قد علم الجن والإنس أنَّ في الكتاب الموجود بأيدي أهل الكتاب المسمّى (¬1) بالتوراة ما هو حق وما هو باطل، وأنَّ في القرآن كثيرًا من الحقّ الذي في التوراة وكذلك في السنة. فإذا كان هذا منه كان ماذا؟ والكلام في معناه معروف (¬2). وعلَّق أبو ريَّة في الحاشية بذكر ما ورد في سياق الحديث: أن طول آدم كان ستين ذراعًا، فلم يزل الخلق ينقص، واستشكال ابن حجر له بما يوجد مِن مساكن الأمم السالفة. أقول: لم يتحقَّق بحجَّة قاطعة كم مضى للجنس البشري منذ خُلق آدم؟ وما في التوراة لا يعتمد عليه، وقد يكون خُلِق ستين ذراعًا فلما أُهْبِط إلى الأرض نقص من طوله دفعة واحدة ليناسب حال الأرض، إلا أنه بقي أطول مما عليه الناس الآن بقليل، ثم لم يزل ذاك القليل يتناقص في الجملة. والله أعلم. وفي "فتح الباري" (6: 260) (¬3): "روى ابن أبي حاتم بإسناد حسن عن أبيّ بن كعب مرفوعًا: "إن الله خلق آدم رجلًا طوالًا كثير شعر الرأس كأنه نخلة سحوق". وقال في حاشية ص 175: (وأنكر مالك هذا الحديث، وحديث: إن الله يكشف ¬

_ (¬1) (ط): "مسمى" ولعل الصواب ما أثبت. (¬2) وذكر رواية (على صورة الرحمن) وهذا جاء من حديث ابن عمر، قال ابن حجر في الفتح 5: 123: "ورجاله ثقات". [المؤلف]. (¬3) (6/ 367).

عن ساقه يوم القيامة، وأنه ... يدخل في النار يده حتى يدخل من أراد، إنكارًا شديدًا). أقول: لم يذكر أبو ريَّة مصدره إن كان له مصدر، والحديث الثالث أحسبه يريد به حديث "الصحيحين" (¬1) عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا، وفيه: "فيقبض قبضة من النار فيخرج أقوامًا". ومالكٌ رحمه الله يؤمن بهذه الأحاديث ونظائرها الكثيرة في الكتاب والسنة. [ص 135] قال: (وحديث كشف الساق من رواية أبي هريرة في "الصحيحين" ..). أقول: هذا كذب، وإنما هو في "الصحيحين" من حديث أبي سعيد الخدري، وله شاهد من حديث عبد الله بن مسعود (¬2)، وآخر من حديث أبي موسى (¬3)، رضي الله عنهم. قال أبو ريَّة ص 175: (ولما ذكر كعب صفة النبي في التوراة قال أبو هريرة في صفته - صلى الله عليه وسلم -: لم يكن فاحشًا ولا متفحَّشًا ولا سخَّابًا في الأسواق. وهذا نصّ كلام كعب كما أوردناه من قبل). أقول: ثبتت هذه الفقرة في خبر عبد الله بن عَمْرو بن العاص في صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - في التوراة، وجاء نحوه عن عبد الله بن سلام وعن كعب كما [تقدم] (ص 71) (¬4). أما أبو هريرة ففي "المسند" (2: 448) (¬5) من طريق صالح مولى التوأمة - وهو ضعيف -: "سمعت أبا هريرة ينعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) البخاري (7439)، ومسلم (183). (¬2) أخرجه الحاكم في "المستدرك": (2/ 376). (¬3) أخرجه أبو يعلى (7283) بسندٍ فيه ضعف كما قال الحافظ في "الفتح": (8/ 664). (¬4) (ص 140 - 141). (¬5) (9787).

فقال: كان شَبْحَ الذِّراعين، أهْدب أشفار العينين، بعيد ما بين المَنْكِبين، يُقْبِل إذا أقبل جميعًا ويُدبر إذا أدبر جميعًا" زاد بعض الرواة: "بأبي وأمي، لم يكن فاحشًا ولا متفحِّشًا ولا سخَّابًا بالأسواق". وقد علم أبو هريرة معنى هذه الفقرة يقينًا بالمشاهدة والصحبة، فأيّ شيء عليه في أخذ لفظها مما ذكره عبد الله بن عَمْرو أو غيره؟ قال: (وروى مسلم عن أبي هريرة: أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي فقال: خلق الله التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة ... " وقد قال البخاري وابن كثير وغيرهما: إن أبا هريرة قد تلقى هذا الحديث عن كعب الأحبار لأنه يخالف نص القرآن في أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام). أقول: هذا الخبر رواه جماعة عن ابن جريج قال: "أخبرني إسماعيل بن أمية عن أيوب بن خالد عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة عن أبي هريرة قال: أخذ ... " (¬1). وفي "الأسماء والصفات" للبيهقي (ص 276) (¬2) عن ابن المديني: أن هشام بن يوسف رواه عن ابن جريج. وقد استنكر بعضُ أهل الحديث هذا الخبر، ويمكن تفصيل سبب الاستنكار بأوجه: الأول: أنه لم يذكر خَلْق السماء، وجعل خلق الأرض في ستة أيام. ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (2789). (¬2) (2/ 352 - ت الحاشدي). ووقع في (ط): (ص 176) وصوابه ما أثبت كما سيأتي على الصواب بعد صفحة.

الثاني: أنه جعل الخلق في سبعة أيام. [ص 136] والقرآنُ يبيِّن أن خلق السموات والأرض كان في ستة أيام، أربعة منها للأرض ويومان للسماء. الثالث: أنه مخالف للآثار القائلة: إن أول الستة يوم الأحد، وهو الذي تدل عليه أسماء الأيام: الأحد - الاثنان - الثلاثاء - الأربعاء - الخميس. فلهذا حاولوا إعلاله، فأعلَّه ابنُ المديني بأن إبراهيم بن أبي يحيى قد رواه عن أيوب، قال ابن المديني: "وما أرى إسماعيل بن أميّة أخذ هذا إلا عن إبراهيم بن أبي يحيى" انظر "الأسماء والصفات" (ص 276) (¬1)، يعني وإبراهيم مرميٌّ بالكذب فلا يثبت الخبر عن أيوب ولا مَنْ فوقه. ويَرِدُ على هذا أن إسماعيل بن أمية ثقة عندهم غير مدلس، فلهذا - والله أعلم - لم يرتض البخاريُّ قولَ شيخه ابن المديني، وأعلَّ الخبر بأمرٍ آخر، فإنه ذكر طرفه في ترجمة أيوب من "التاريخ" (1/ 1/ 413) ثم قال: "وقال بعضهم: عن أبي هريرة عن كعب. وهو أصح". ومُؤدَّى صنيعه أنه يحدس أن أيوب أخطأ، وهذا الحدس مبنيٌّ على ثلاثة أمور: الأول: استنكار الخبر لِمَا مرَّ. الثاني: أن أيوب ليس بالقوي، وهو مُقِلّ لم يخرج [له] مسلم إلا هذا الحديث؛ لِمَا يُعلم من "الجمع بين رجال الصحيحين" (¬2)، وتكلّم فيه الأزدي ولم يُنقَل توثيقه عن أحد من الأئمة إلا أن ابن حبان ذكره في "ثقاته" (¬3)، وشَرْطُ ابن حبان في التوثيق فيه تسامح معروف. ¬

_ (¬1) (2/ 352). (¬2) لابن طاهر (1/ 35). (¬3) (6/ 54).

الثالث: الرواية التي أشار إليها بقوله: "وقال بعضهم" وليته ذكر سندها ومتنها فقد تكون ضعيفة في نفسها وإنما قويت عنده للأمرين الآخرين. ويدل على ضعفها أن المحفوظ عن كعب وعبد الله بن سلام ووهب بن منبِّه ومَن يأخذ عنهم: أن ابتداء الخلق كان يوم الأحد، وهو قول أهل الكتاب المذكور في كتبهم وعليه بنوا قولهم في السبت، انظر "الأسماء والصفات" (ص 272 و275) (¬1) وأوائل "تاريخ ابن جرير" (¬2). وفي "الدر المنثور" (3: 91) (¬3): "أخرج ابن أبي شيبة عن كعب قال: بدأ الله بخلق السموات والأرض يوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة، وجعل كلَّ يوم ألف سنة"، وأسنده ابنُ جرير في أوائل "التاريخ" (1: 22 ط - الحسينية) (¬4) واقتصر على أوله: "بدأ الله بخلق السموات والأرض يوم الأحد والاثنين" فهذا يدفع أن يكون ما في الحديث من قول كعب. وأيوب لا بأس به، وصنيع ابن المديني يدلّ على قوَّته عنده، وقد أخرج له مسلم في "صحيحه" كما علمت، وإن لم يكن حدّه أن يُحتج به في الصحيح. فمدار الشكِّ في هذا الحديث على الاستنكار، وقد يجاب عنه بما يأتي: أما الوجه الأول: فيجاب عنه بأنَّ الحديث وإن لم ينص على خلق ¬

_ (¬1) (2/ 243، 250). (¬2) (1/ 21 - دار الكتب العلمية). (¬3) (6/ 420 - دار هجر). (¬4) (1/ 35 - دار الكتب العلمية).

السماء فقد أشار إليه بذكره في اليوم الخامس: النور، وفي السادس: الدواب، وحياةُ الدوابّ محتاجة إلى الحرارة، والنور والحرارة مصدرهما [ص 137] الأجرام السماوية. والذي فيه: أن خلق الأرض نفسها كان في أربعة أيام كما في القرآن، والقرآن إذ ذَكَر خلق الأرض في أربعة أيام، لم يذكر ما يدلّ على أن مِنْ جملة ذلك خلق النور والدواب، وإذ ذَكَرَ خلق السماء في يومين لم يذكر ما يدلّ أنه في أثناء ذلك لم يُحْدِث في الأرض شيئًا، والمعقول أنها بعد تمام خلقها أخذت في التطوّر بما أودعه الله تعالى فيها. والله سبحانه لا يشغله شأن عن شأن. ويجاب عن الوجه الثاني: بأنه ليس في هذا الحديث أنه خلق في اليوم السابع غير آدم، وليس في القرآن ما يدلّ على أن خلق آدم كان في الأيام الستة، ولا في القرآن ولا السنة ولا المعقول أنَّ خالقية الله عزَّ وجلَّ وقفت بعد الأيام الستة. بل هذا معلوم البطلان. وفي آيات خلق آدم أوائل البقرة وبعض الآثار ما يُؤخذ منه أنه قد كان في الأرض عُمَّار قبل آدم عاشوا فيها دهرًا، فهذا يساعد القول بأن خلق آدم متأخر بمدَّة عن خلق السموات والأرض. فتدبر الآيات والحديث على ضوء هذا البيان يتضحْ لك إن شاء الله أنَّ دعوى مخالفة هذا الحديث لظاهر القرآن قد اندفعت ولله الحمد. وأما الوجه الثالث: فالآثار القائلة إنّ ابتداء الخلق يوم الأحد ما كان منها مرفوعًا فهو أضعف من هذا الحديث بكثير، وأما غير المرفوع فعامَّته من قول عبد الله بن سلام وكعب ووهب ومَنْ يأخذ عن الإسرائيليات. وتسمية الأيام كانت قبل الإسلام تقليدًا لأهل الكتاب، فجاء الإسلام وقد اشتهرت

وانتشرت فلم ير ضرورةً إلى تغييرها؛ لأن إقرار الأسماء التي قد عُرِفت واشتهرت وانتشرت لا يُعَدُّ اعترافًا بمناسبتها لما أُخِذَت منه أو بُنيت عليه، إذ قد أصبحت لا تدل على ذلك وإنما تدل على مسمياتها فحسب، ولأن القضية ليست مما يجب اعتقاده أو يتعلق به نفسه حكم شرعي، فلم تستحق أن يحتاط لها بتغيير ما اشتهر وانتشر من تسمية الأيام. وقد ذكر السُّهيلي في "الروض الأُنف" (1: 271) (¬1) هذه القضية وانتصر لقول ابن إسحاق وغيره الموافق لهذا الحديث حتى قال: "والعجب من الطبريّ على تبحُّرِه في العلم كيف خالف مقتضى هذا الحديث وأعْنَق (¬2) في الردِّ على ابن إسحاق وغيره، ومال إلى قول اليهود: إنَّ الأحد هو الأول ... ". وفي بقية كلامه لطائف: منها: أنَّ تلك التسمية خصّت خمسة أيام لم يأت في القرآن منها شيء، وجاء فيه اسما اليومين الباقيين - الجمعة والسبت -؛ لأنه لا تَعلُّقَ لهما بتلك التسمية المدخولة. ومنها: أنه على مقتضى الحديث يكون الجمعة سابعًا، وهو وتر مناسب لفضل الجمعة كما ورد: "إن الله وَتْر يحب الوَتْر" (¬3). ويضاف إلى هذا يوم الاثنين؛ فإنه على هذا الحديث يكون الثالث وهو المناسب لفضله، وفي "الصحيح" (¬4): "فيه وُلدتُ وفيه أنزل عَليَّ". فأما الخميس فإنما ورد فضل ¬

_ (¬1) (2/ 198) و (4/ 106 - ت عبد الرحمن الوكيل). (¬2) يعني: أسرع وتعجّل. (¬3) أخرجه البخاري (6410)، ومسلم (2677) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬4) مسلم (1162).

صومه، وقد يوجَّه ذلك بأنه لما امتنع صوم اليوم الفاضل وهو الجمعة لأنه عيد الأسبوع عُوِّض عنه بصوم اليوم الذي قبله، وفي ذلك ما يقوِّي شَبَه الجمعة بالعيد. وفي "الصحيحين" (¬1) في حديث الجمعة: "نحن الآخرون السابقون ... ". والمناسب أن يكون اليوم الذي للآخرين هو آخر الأيام. هذا، وفي "البداية" لابن كثير (1: 17) (¬2): "وقد رواه النسائي في التفسير (¬3) عن إبراهيم بن يعقوب الجُوزجاني عن محمد بن الصبَّاح عن أبي عبيدة الحدّاد عن الأخضر بن عجلان عن ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ بيدي فقال: "يا أبا هريرة إن الله خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش يوم السابع، وخلق التُّربة يومَ السبت" وذكر بتمامه بنحوه. فقد اختُلِفَ على ابن جريج". أقول: في صحة هذه الرواية عن ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح نَظَرٌ لا أطيل ببيانه، فمن أحبَّ التحقيق فليراجع "تهذيب التهذيب" (7: 213) و"فتح الباري" (8: 511) (¬4) ومقدمته (ص 373) (¬5) وترجمتَي أخضر وعثمان بن عطاء من "الميزان" (¬6) وغيره. والله الموفق. ¬

_ (¬1) البخاري (238، 876 وغيرها)، ومسلم (855) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) (1/ 32). (¬3) في "السنن الكبرى" (11392). (¬4) (8/ 667). (¬5) (ص 375 - 376). (¬6) (1/ 168) ترجمة أخضر، (3/ 445) ترجمة عثمان بن عطاء.

ثم قال أبو ريَّة: (ومن العجيب أن أبا هريرة قد صرَّح في هذا الحديث بسماعه من النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وأنه قد أخذ بيده حين حدَّثه به. وإني لأتحدَّى الذين يزعمون في بلادنا أنهم على شيء من علم الحديث وجميع من هم على شاكلتهم في غير بلادنا أن يحلُّوا لنا هذا المشكل، وأن يخرجوا بعلمهم الواسع شيخهم من الهوَّة التي سقط فيها ...). أقول: لم يقع شيخنا رضي الله عنه في هُوَّة، ولا قال أحدٌ من أهل العلم إنه وقع فيها، أما إذا بنينا على صحة الحديث عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو الحق إن شاء الله فواضح، وأما على ما زعمه ابنُ المديني فلم يصح عن أبي هريرة، ولا عمن روى عنه، ولا عن الثالث شيء مِن [ص 139] هذا، لا قوله: "أخذ رسول الله بيدي فقال" ولا قوله: "خلق الله التربة ... ". وأما على حَدْس البخاري فحاصله أن أيوب غلط، وقع له عن أبي هريرة خبران، أحدهما: "أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي فقال" فذكر حديثًا صحيحًا غير هذا. والثاني: "قال كعب: خلق الله التربة يوم السبت ... " فالتبس المقولان على أيوب فجعل مقول كعب موضع مقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد تقدم (ص 117) (¬1) قول بُسْر بن سعيد: أنه سمع بعض مَن كان معهم في مجلس أبي هريرة: "يجعل ما قاله كعب عن رسول الله، وما قاله رسول الله عن كعب". أما البيهقي فلم يقل شيئًا من عنده إنما قال: "وزعم بعضهم أن إسماعيل بن أمية إنما أخذه عن إبراهيم بن أبي يحيى ... " فذكر قول ابن المديني. ¬

_ (¬1) (ص 225).

وأما ابن كثير فإنما قال: "فكأنَّ هذا الحديث مما تلقَّاه أبو هريرة عن كعب عن صُحُفه فوهم بعض الرواة فجعله مرفوعًا إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وأكَّد رفعه بقوله: أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي". فابن كثير جعل هذه الجملة من زيادة الراوي الواهم، وهو "أيوب" في حَدْس البخاري. وهذا أيضًا لا يمسّ أبا هريرة، ولكن الصواب ما تقدم. ثم قال أبو رية ص 176: (وروى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله قال: من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب، وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيء أحبّ إليَّ مما افترضته عليه، وما زال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحببته، فكنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورِجْلَه التي يمشي بها ... وما تردَّدْت عن شيء أنا فاعله تردُّدِي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته (¬1)). أقول: هذا الخبر نَظَر فيه الذهبيّ في ترجمة خالد بن مخلد من "الميزان" (¬2) وابن حجر في "الفتح" (11: 292) (¬3)؛ لأنه لم يُرْوَ عن أبي هريرة إلا بهذا السند الواحد: "محمد بن عثمان بن كَرَامة (¬4)، حدثنا خالد بن مخلد حدثنا سليمان بن بلال، حدثني شَريك بن عبد الله بن أبي نَمِر عن عطاء عن أبي هريرة". ومثل هذا التفرُّد يريب في صحَّة الحديث، مع أنّ خالدًا له مناكير وشَرَيكًا فيه مقال. وقد جاء الحديث بأسانيد فيها ضعف من حديث عليّ ومعاذ وحذيفة وعائشة وابن عباس وأنس. فقد يكون وقع ¬

_ (¬1) في كتاب أبي ريَّة: "إساءته". [المؤلف]. (¬2) (1/ 163 - 165). (¬3) (11/ 341). (¬4) رواه عن محمد بن عثمان جماعةٌ منهم البخاري. [المؤلف].

خطأ لخالد أو شَريك، سمع المتن من بعض تلك الأوجه الأخرى المرويَّة عن عليّ أو غيره ممن سَلَفَ ذِكْرُه، وسمع حديثًا آخر بهذا السند ثم التبسا عليه فغلط، روى هذا المتن بسند الحديث الآخر. فإنْ كان الواقع هكذا فلم يحدِّثْ أبو هريرة بهذا، [ص 140] وإلا فهو مِنْ جملة الأحاديث التي تحتاج ككثير من آيات القرآن إلى تفسير، وقد فسَّره أهلُ العلم بما تجده في "الفتح" (¬1) وفي "الأسماء والصفات" (ص 345 - 348) (¬2). وقد أومأ البخاريُّ إلى حاله فلم يخرجه إلا في باب التواضع من كتاب الرِّقاق (¬3). قال أبو ريَّة: (ومن له حاسة شمَّ الحديث يجدْ في هذا الحديث رائحة إسرائيلية). أقول: قد عَلِمنا أن كلامَ الأنبياء كلَّه حقٌّ من مشكاة واحدة, وأن الربّ الذي أوحى إلى أنبياء بني إسرائيل هو الذي أوحى إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -. ولو جاز الحكم بالرائحة لما ساغ أدنى تشكّك في حكم البخاري؛ لأنه أعرف الناس برائحة الحديث النبوي، وبالنسبة إليه يكون أبو ريَّة أخْشَم فاقد الشمّ أو فاسده. وعلَّق في الحاشية أيضًا: (يبدو أن أستاذ أبي هريرة في هذا الحديث هو وهب بن منبه، فقد وقع في "الحلية" في ترجمة هذا ... إني لأجد في كتب الأنبياء أن الله تعالى يقول: ما تردَّدتُ عن شيء قطّ تردُّدِي عن قبض روح المؤمن). أقول: في سنده من لم أعرفه، وقد ذكروا أنَّ وهبًا روى عن أبي هريرة، ولم يذكروا أن أبا هريرة حكى شيئًا عن وهب، ووهبٌ صغير إنما ولد في ¬

_ (¬1) (11/ 342 - 347). (¬2) (2/ 384 - 385). (¬3) (6502).

أواخر خلافة عثمان، وإذا صحَّ حديثُ البخاريّ عن أبي هريرة فالمعقول - إن كان أحدهما أخذ عن الآخر - أن يكون وهب أَخَذَهُ عن أبي هريرة أو بلَغه عنه. ووهب مع صغره مولود في الإسلام من أبوين مسلمَيْن، فتوسُّعُه في قراءة كتب الأوائل إنما يكون في كبره بعد وفاة أبي هريرة بمدّة. وهذا تنازل منِّي إلى عقل أبي ريَّة وأشباهه، فأما الحقيقة فمكانة أبي هريرة رضي الله عنه أعلى وأشمخ وأثبت وأرسخ من أن يحتاج المدافع عنه إلى مثل ما ذكرت. ثم قال أبو رية ص 177: (وقد بلغ من دهاء كعب الأحبار واستغلاله لسذاجة أبي هريرة وغفلته أن كان يلقنه ما يريد بثَّه في الدين الإسلامي من خرافات وتُرَّهات، حتى إذا رواها أبو هريرة عاد فصدَّق أبا هريرة ... وإليك مثلًا من ذلك ... روى الإمام أحمد عن أبي هريرة أن رسول الله قال: إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام، اقرأوا إنْ شئتم {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الواقعة: 30]. ولم يكد أبو هريرة يروي هذا الحديث حتى أسرع كعب فقال: صدق، والذي أنزل التوراة على موسى والفرقان على محمد ... ومن العجيب أن يروي هذا الخبر الغريب وهب بن منبه ..). أقول: عزا أبو ريَّة هذا إلى "تفسير ابن كثير" (4: 513 - 514) كذبًا، وأبدله في التصويبات (4: 289)، وهو كذب أيضًا، وإنما ذكر ابن كثير الحديث وما يتعلق به (8: 187 - 189) (¬1)، ذكره من حديث أربعة [ص 141] من الصحابة، ثلاثة في "الصحيحين" (¬2) أبو هريرة وأبو سعيد الخدري ¬

_ (¬1) (7/ 3395 - 3396). وموجود أيضًا في الموضع الذي أشار إليه أبو ريَّة (4/ 1895 - 1898). (¬2) حديث أبي هريرة في البخاري (3252)، ومسلم (2826). وحديث أبي سعيد عند البخاري (6553)، ومسلم (2828). وحديث سهل عند البخاري (6552)، ومسلم (2827).

وسهل بن سعد، وواحد في "صحيح البخاري" (¬1) فقط وهو أنس، قال ابن كثير: "فهذا حديث ثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل متواتر مقطوع بصحته عند أئمة الحديث". ولم أجد هناك ذِكْرًا لوهب (¬2)، إنما ذكر ابن كثير أثرًا عن ابن عباس بمعنى الحديث وفيه زيادة، وقال: "هذا أثر غريب إسناده جيد قوي حسن". وأين ابن عباس من وهب بن منبه؟ (فاعتبروا يا أولي الأبصار). ثم قال أبو ريَّة: (ضعف ذاكرته: كان أبو هريرة يذكر عن نفسه أنه كان كثير النسيان لا تكاد ذاكرته تُمْسِكُ شيئًا مما يسمعه، ثم زعم أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - دعا له فأصبح لا ينسى شيئًا يصل إلى أذنه، وقد ذكر ذلك كي يُسوِّغ كثرة أحاديثه ويُثْبت في أذهان السامعين صحَّة ما يرويه). أقول: في باب ما جاء في الغرس من "صحيح البخاري" (¬3) من طريق الزُّهري عن الأعرج عن أبي هريرة: " ... وقال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "لن يبسط أحدٌ منكم ثوبه حتى أقضي مقالتي هذه ثم يجمعه إلى صدره فينسى من مقالتي شيئًا أبدًا". فبسطت نمرة ... ثم جمعتُها إلى صدري، فوالذي بعثه بالحقِّ ما نسيتُ من مقالته تلك إلى يومي هذا". هذه الرواية صريحة في اختصاص عدم النسيان بما حدَّث به النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في ذاك المجلس. وفي باب الحجَّة على من قال ... الخ من كتاب الاعتصام من "صحيح ¬

_ (¬1) (3251). (¬2) نعم لم يذكر أثر وهب في تفسير سورة الواقعة، وذَكَره في تفسير سورة الرعد (4/ 1896 - 1898). ذكره من رواية ابن جرير مطولاً وقال فيه: "أثر غريب عجيب" ثم ذكره من رواية ابن أبي حاتم وقال: "هذا سياق غريب، وأثر عجيب ولبعضه شواهد". (¬3) (2350).

البخاري" (¬1) أيضًا من طريق الزهري عن الأعرج أيضًا عن أبي هريرة: " ... وقال: "مَنْ يبسط رداءه حتى أقضي مقالتي ثم يقبضه فإنه لن ينسى شيئًا سمعه مني". فبسطت بُرْدة كانت عَليَّ، فوالذي بعثه بالحق ما نسيت شيئًا سمعته منه". في هذه الرواية إطلاق، ولكنّ السياق ونصَّ الرواية الأولى يقضي بالتقييد. وفي أوائل البيوع من "صحيح البخاري" (¬2) أيضًا من طريق الزهري عن ابن المسيّب وأبي سلمة عن أبي هريرة " .. وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث يُحدِّثه: "إنه لن يبسط أحدٌ ثوبه حتى أقضي مقالتي هذه ثم يجمع ثوبه إلا وعى ما أقول". فبسطتُ نَمِرة عَلَيَّ حتى إذا قضى رسول الله مقالته جمعتها إلى صدري، فما نسيت من مقالة رسول الله تلك من شيء". وهذه الرواية صريحة في الاختصاص أيضًا. وفي باب حفظ العلم من "صحيح البخاري" (¬3) أيضًا من طريق ابن أبي ذئب عن المَقْبري عن أبي هريرة، قلت: يا رسول الله إني أسمع منك حديثًا كثيرًا أنساه. قال: "ابسط رداءك"، قال: فبسطته، قال: فغرف بيديه [ص 142] ثم قال: "ضُمّ". فضممت، فما نسيت شيئًا بعد". هذه الرواية تَصِف - فيما يظهر - واقعةً أخرى، فكأنَّ أبا هريرة لما ¬

_ (¬1) (7354). (¬2) (2047). (¬3) (119)، وفي كتاب المناقب (3648).

استفاد من الواقعة الأولى حِفْظ المقالة التي حدَّث بها النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في ذاك المجلس على وجهها رغب في المزيد، فقال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "إني أسمع منك حديثًا كثيرًا أنساه"، وهذا القول لا يقتضي - كما لا يخفى - نسيان كل ما يسمع ولا نسيان المقالة التي تقدم خبرها، على أن المنهوم قد يحمله حرصه على المبالغة في الشكوى. وتقدم (ص 100) (¬1) ذكر شهادة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لأبي هريرة بأنه أحرص الصحابة على العلم، وقد تقدم (ص 105) (¬2) ما يتعلّق بذلك. وليس في هذه الرواية ذكر نص من النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بعدم النسيان لشيء بعد ذلك، وإنما فيها قول أبي هريرة: "فما نسيتُ شيئًا بعد" يعني شيئًا من الحديث؛ لأن الشكوى إنما كانت من نسيانه، وهذه الكلمة بناها على اعتقاده حين قالها فلا يمتنع أن ينسى بعد ذلك شيئًا من الحديث أو أن يتبين أنه قد كان نسي ولم يستحضر ذلك. ثم قال أبو ريَّة ص 178: (روى مسلم عن الأعرج قال: سمعت أبا هريرة يقول: إنكم تزعمون أن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله، والله الموعد، كنت رجلًا مسكينًا أخدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ملء بطني، وكان المهاجرون يشغلهم الصفقُ بالأسواق، وكانت الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم، فقال رسول الله: من يبسط ثوبه فلن ينسى شيئًا سمعه مني. فبسطت ثوبي حتى قضى حديثه ثم ضممته إليَّ فما نسيت شيئًا سمعته منه. قال مسلم: إن مالكًا انتهى حديثه عند انقضاء قول أبي هريرة، ولم يذكر في حديثه الرواية عن النبي: من يبسط ثوبه الخ. ولا ريب في أن رواية مالك هي الصحيحة، لأن الكلام بعد ذلك مفكّك الأوصال، ولا صلة بينه وبين الذي قبله). ¬

_ (¬1) (ص 194 - 195). (¬2) (ص 202 - 204).

أقول: كلمة أبي ريَّة الأخيرة: (ولا ريب أن رواية مالك هي الصحيحة ...) تعطي أنّ الصحيح عن أبي هريرة هو ما اقتصر عليه مالك فقط، ولا يخفى أن هذا يناقض قول أبي ريَّة سابقًا: (ثم زعم أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - دعا له)، ويناقض كلامه الآتي: (على أن هذه الذاكرة ...) فكلام أبي ريَّة متناقض حتمًا، لا مفكَّك الأوصال فحسب. أما زعمه أن الخبر بتلك الزيادة (مفكك الأوصال ولا صلة بينه وبين الذي قبله) فإنما جاء ذلك مِن اختيار أبي ريَّة للفظ مسلم، والخبر في مواضع من "صحيح البخاري" مرَّت الإشارة إليها، وسياقه هناك سليم. [ص 143] ثم قال أبو ريَّة: (على أن هذه الذاكرة ... قد خانته في مواضع كثيرة, وإن ثوبه الذي بسطه قد تمزَّق فتناثر ما كان بين أطرافه، وإليك أمثلة من ذلك: روى الشيخان عن أبي هريرة أن النبيّ قال: "لا عدوى ولا طيرة ولا هامة". وقد روي هذا الحديث بألفاظ مختلفة، ولكن الصحابة عملوا بما يخالفه، فقد روى البخاري عن أسامة بن زيد أن رسول الله قال: "إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها". وقد جاء الحديث كذلك عن عبد الرحمن بن عوف. ولما سمع عمر هذين الحديثين وحديث: "لا يوردن ممرض على مصح" - وهو مما رواه أبو هريرة - وكان قد خرج إلى الشام ووجد الوباء عاد بمن معه. وقد اضطر أبو هريرة إزاء هذه الأخبار القوية إلى أن يعترف بنسيانه، ثم أنكر روايته الأولى. وفي رواية يونس: قال الحارث بن [أبي] ذباب ابن عم أبي هريرة: قد كنت أسمعك يا أبا هريرة تحدثنا مع حديث: "لا يوردن ممرض على مصح" الخ حديث: "لا عدوى"، فأنكر معرفته لذلك. ووقع عند الإسماعيلي من رواية شعيب: فقال الحارث ابن عم أبي هريرة: إنك حدثتنا، فأنكر أبو هريرة وغضب, وقال: لم أحدثك ما تقول). أقول: ها هنا أمور تبيّن لنا تهوّر أبي ريَّة ومجازفته: الأول: حديث: "لا عدوى" لم ينفرد به أبو هريرة، بل هو في

"الصحيحين" (¬1) وغيرهما من حديث ابن عمر وأنس، وفي "صحيح مسلم" (¬2) وغيره من حديث جابر. الثاني: أن عمل الصحابة ليس مخالفًا له، وقد جمع بينهما أهلُ العلم بما هو معروف، ولبعض العصريين قولٌ سأحكيه ليُنظر فيه. زعم أن العرب كانوا يعتقدون أنّ العدوى تحصل بالمجاورة وحدها بدون سبب آخر، حتى لو كان في شَعْر امرأة وثيابها قَمْلٌ كثير فقامت إلى جانبها امرأة أخرى ثم بعد أيام قَمِلَ شعرُ الأخرى وثيابها لما سمّوا هذا عدوى, لأنهم يعرفون أنه لم يكن للمجاورة نفسها وإنما دبّ القملُ من تلك إلى هذه ثم تكاثر، قال: وحديثا: "لا يُورِدُ مُمْرِض على مُصِحّ" (¬3) و"فِرَّ من المجذوم فرارك من الأسد" (¬4) يفيدان انتقال الجَرَب والجُذَام، وقد ثبت أنه لا يكون بالمجاورة نفسها وإنما يكون بانتقال ديدان صغيرة جدًّا من هذا إلى ذاك، فهو من قبيل انتقال القمل وليس من العدوى بالمعنى الذي كانوا يعتقدون. الثالث: أن المنقول أن عمر رجع لِخَبَر عبد الرحمن بن عوف وحده، ولم يُنقل أنّ عمر علم بخبر أسامة، ولا خبر [ص 144]: "لا يُورِدُ مُمْرِض على مُصِحّ" كما زعم أبو ريَّة. ¬

_ (¬1) من حديث ابن عمر أخرجه البخاري (2099)، ومسلم (2225). ومن حديث أنس في البخاري (5756)، ومسلم (2224). (¬2) (2222). (¬3) أخرجه البخاري (5771)، ومسلم (2221). (¬4) أخرجه البخاري (5707) وأصله في مسلم (2220) دون قوله: "وفر من المجذوم كما تفر من الأسد".

الرابع: أن الخبر في الطاعون استفاض في عهد عمر، وبقي أبو هريرة يحدّث بحديث: "لا عدوى" زمانًا بعد ذلك، حتى سمعه منه أبو سلمة وغيره ممن لم يدرك عمر. الخامس: قول أبي ريَّة (وقد اضطر ...) يعطي أن أبا هريرة لم ينس الحديث، فما معنى قوله بعد ذلك: (وأن يعترف بنسيانه) مع إيراده القصة شاهدًا على النسيان كما زعم؟ السادس: لم يأت أبو ريَّة بدليل ولا شِبْه دليل على دعواه أن أبا هريرة اعترف بأنه نسي. السابع: اختلف الرواة عن الزهري في حكاية القصة، وأحسنهم سياقًا يونس بن يزيد الأيلي، وقد شهد له ابنُ المبارك بأن كتابه صحيح، وأنه كتب حديثَ الزهريّ على الوَجْه، أي كما تلفَّظ به الزهريُّ (¬1). وفي روايته في "صحيح مسلم" (¬2) بعد كلام الحارث: "فأبَى أبو هريرة أن يعرف ذلك وقال: لا يورِدُ مُمْرِض على مُصِحّ. فماراه الحارثُ في ذلك حتى غضب أبو هريرة فرطَنَ بالحبشية، فقال للحارث: أتدري ماذا قلتُ؟ قال: لا، قال أبو هريرة: قلتُ: أبيتُ. قال أبو سلمة: ولعمري لقد كان أبو هريرة يحدّثنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا عدوى". فلا أدري أنسي أبو هريرة أم نَسخَ أحدُ القولين الآخر"؟ ولو صرَّح أبو هريرة بنفي أن يكون حدَّثهم من قبل لجزم أبو سلمة ¬

_ (¬1) انظر "تهذيب الكمال": (8/ 221). (¬2) (2221/ 104).

بالنسيان (¬1)، لكن لمّا سكت أبو هريرة عن الحديث وامتنع أن يجيبهم سألوه وغضب وقال: أبيت، فَهِمَ بعض الرواة من ذلك إنكاره، فعبَّر بعضُهم عن قول أبي سلمة: "فأبى أبو هريرة أن يعرف ذلك" بقوله: "أنكر أبو هريرة الحديث الأول" ولا يخفى الفرق، فقوله: "أبى أن يعرف" إنما معناه: امتنع أن يقول: نعم قد عرفت. وهذا الامتناع لا يُفْهَم منه الإخبار بنفي المعرفة. ثم جاء بعضُ مَنْ بعدهم فعبَّر عن الإنكار بنسبته إلى أبي هريرة أنه قال: "لم أحدّثْك" كما وقع عند الإسماعيلي (¬2) من طريق شعيب، ولا أدري ما سنده؟ وأصل حديث شعيب عند مسلم (¬3) لكن لم يسق لفظَه، وعند الطحاوي في "مشكل الآثار" (2: 262) (¬4) وليس فيه هذه الكلمة. وكأنَّ أبا هريرة حدَّث بالحديثين مرة، فتشكَّك بعض الناس في الجمع بينهما، فرأى أبو هريرة أنّ التحديث بهما مظنَّة أن يقع لبعض الناس ارتياب أو تكذيب، فاختار الاقتصار على أحدهما وهو الذي يتعلَّقُ به حكمٌ عمليّ: "لا يُورِدُ ممرضٌ على مُصِح" وسكت عن الآخر، وودَّ أن لا يكون حدَّث به قبل ذلك، فلما [ص 145] سُئل عنه أبى أن يعترف به، راجيًا أن يكون في ذلك الإباء ما يمنع الذين كانوا سمعوه منه أن يحدّثوا به عنه. ¬

_ (¬1) فأما ما في صحيح البخاري [5771] عن أبي سلمة: "فما رأيته نسي حديثًا غيره" فليس هذا جزمًا بالنسيان لهذا الحديث، وإنما استثناه لأجل احتماله النسيان كما بيّنَتْه الروايةُ الأخرى. وهذه شهادة عظيمة لأبي هريرة؛ لجلالة أبي سلمة وطول ملازمته لأبي هريرة. [المؤلف]. (¬2) ذكره الحافظ في "الفتح": (10/ 242). (¬3) "الصحيح": (4/ 1744). (¬4) (2891 - ط الرسالة).

وذكر أبو ريَّة ص 179 قصة ذي اليدين وقال: (في رواية البخاري أنها صلاة العصر، وفي رواية النسائي ما يشهد أن الشك كان من أبي هريرة وهذا لفظه: صلى النبيّ إحدى صلاتَي العشيّ ولكني نسيت). أقول: الحديث عند النسائي (¬1) من طريق "ابن عَون عن محمد بن سيرين قال: قال أبو هريرة: صلى بنا النبيّ - صلى الله عليه وسلم - إحدى صلاتَي العشيّ. قال: قال أبو هريرة: ولكني نسيت ... ". وهو في "صحيح البخاري" (¬2) في كتاب المساجد، باب تشبيك الأصابع الخ من طريق "ابن عَون عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إحدى صلاتَي العشيّ. قال ابن سيرين: قد سماها أبو هريرة ولكني نسيت أنا ... ". وكلتا الروايتين من طريق ابن عَون عن ابن سيرين. فإن رجَّحْنا رواية الصحيح فذاك وإلا فلا يتمّ الاستشهاد مع التعارض. على أنَّ النسيان هنا لا أثر له، فإن ذاك الحكم إذا (¬3) ثبت لإحدى الصلاتين ثبت للأخرى إجماعًا. قال أبو ريَّة: (ولما روى أن رسول الله قال: "لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا ودمًا خير من أن يمتلئ شعرًا، قالت عائشة: لم يحفظ، إنما قال ... من أن يمتلئ شعرًا هُجِيتُ به). أقول: قال الله تبارك وتعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} الآية [الشعراء: 224 - 227]. ¬

_ (¬1) (1224). (¬2) (482). (¬3) (ط): "إذ".

وقال البخاري في "صحيحه" (¬1): "باب ما يجوز من الشعر والرَّجَز والحُداء الخ". وذَكَر أحاديث، ثم قال: "باب هجاء المشركين" وذكر أحاديث، ثم قال: "باب ما يُكره أن يكون الغالب على الإنسان الشِّعْر حتى يصدَّه عن ذكر الله والعلم والقرآن" وأخرج فيه حديثَ ابن عمر (¬2) عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "الأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا خيرٌ له من أن يمتلئ شعرًا"، ومن حديث أبي هريرة (¬3): "لأن يمتلئ جوف رجلٍ قيحًا يَرِيَه خير من أن يمتلئ شعرًا". وأخرج مسلم في "صحيحه" (¬4) حديثَ أبي هريرة، ثم أخرج مثله من حديث سعد بن أبي وقاص (¬5)، ثم من حديث أبي سعيد الخدري (¬6) مثله بدون كلمة "يريه". وقد جاء الحديث في غير "الصحيحين" عن غير هؤلاء من الصحابة (¬7). وأما ما ذكره أبو ريَّة عن عائشة فهو من رواية الكلبي وهو كذَّاب، عن أبي صالح مولى أم هانئ وهو واه. والإناء إذا امتلأ بشيء لم يبق فيه متَّسَع لغيره، فمن امتلأ جوفه شعرًا امتنع أن يكون ممن استثنى في الآية ووصف بقوله: {وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} [الشعراء: 227] وهذا بحمد الله واضح. وقد علّق أبو ريَّة في الحاشية ما لا حاجة بنا بعد ما مرَّ إلى النظر فيه. ¬

_ (¬1) (8/ 34 - 37 - السلطانية). (¬2) (6154). (¬3) (6155). (¬4) (2257). (¬5) (2258). (¬6) (2259). (¬7) انظر "مجمع الزوائد": (8/ 36 - 37).

[ص 146] ثم قال أبو ريَّة ص 180: (ومن عجيب أمر الذين يثقون بأبي هريرة ثقة عمياء أنهم يمنعون السهو والنسيان عنه، ولا يتحرَّجون من أن ينسبوهما إلى النبيّ صلوات الله عليه ...). أقول: لم يمنع أحدٌ أن يسهو أبو هريرة أو ينسى، ولكننا تصديقًا للنبيّ - صلى الله عليه وسلم - وإيمانًا به وببركة دعائه نقول: إن أبا هريرة لم ينس شيئًا من المقالة التي أخبر النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه لن ينسى منها شيئًا، وأنه فيما عداها من الحديث كان من أحفظ الناس له. ومن الناس من فهم أن خبر النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بعدم النسيان يعمّ ما سمعه أبو هريرة منه في مجلسه ذلك وبعده، وقد مرَّ النظر في ذلك. والخير والفضل والكمال في ذلك كله عائد إلى الله ورسوله، فأما ما عدا الحديث فلم يقل أحدٌ إن أبا هريرة لا يسهو ولا ينسى. ثم قال ص 181: (... فلِمَ لم يحفظ القرآن؟). أقول: ومن أين لك أنه لم يحفظه؟ غاية الأمر أنه لم يُذْكَر فيمن جمعَ القرآنَ في العهد النبويّ، والذين ذُكِرُوا أفرادٌ قليلون ليسوا من كبار الصحابة. وأبو هريرة من أئمة القراءات، وهو فيها أشهر شيخ للأعرج ولأبي جعفر القارئ، وهما أشهر شيوخ نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم أشهر القرَّاء السبعة، وبهذا عُلِم حفظه للقرآن وإتقانه. انظر ترجمته في "طبقات القراء" رقم (1574) (¬1). قال: (وكذلك لو كان أبو هريرة قد بلغ هذه الدرجة ... وهي عدم السهو والنسيان لاشتهر ...). أقول: قد علمتَ أنّ المتحقِّق هو أنه لم ينس ما حدَّث به النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في ¬

_ (¬1) لابن الجزري. وانظر "معرفة القراء الكبار": (1/ 21 - 22) للذهبي.

مجلس خاصٍّ قد مرَّ بيانه (¬1)، وكان فيما عدا ذلك مِنْ أحفظهم، وهذا لا يَرِدُ عليه شيء مما ذكر أبو ريَّة. قال ص 182: (ولكن الأمر قد جرى على غير ذلك ...). أقول: أعاد أشياء قد تقدم النظر فيها، ويأتي باقيها. ثم قال: (حفظ الوعاءين. أخرج البخاري عن أبي هريرة قال: حفظت عن رسول الله وعاءين، فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته لقُطِع هذا البلعوم. وهذا الحديث معارض بحديث ... عن علي رضي الله عنه فقد سئل: هل عندكم كتاب؟ فقال: لا إلا كتاب الله ... أو ما في هذه الصحيفة. وكذلك يعارضه ما رواه البخاري عن عبد العزيز بن رُفَيع قال: دخلت أنا وشداد بن معقل على ابن عباس، فقال له شداد: أَتَرَكَ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - من شيء؟ فقال: ما ترك إلا ما بين الدفّتين، ولو كان هناك شيء يؤثر به النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أحد خواصه ...). [ص 147] أقول: المنفيّ في خَبَرَي عليّ وابن عباس هو كتاب مكتوب غير القرآن، ولهذا استثنى عليٌّ صحيفتَه. ولم يقصد أبو هريرة ولا فهم أحدٌ من كلامه أن عنده كتابين أو كتابًا واحدًا، وإنما قصد وفهم الناسُ عنه أنه حفظ ضَرْبين من الأحاديث: ضرب يتعلّق بالأحكام ونحوها مما لا يخاف هو ولا مثله من روايته. وضرب يتعلّق بالفتن وذمِّ بعض الناس، وكلُّ أحدٍ من الصحابة كان عنده من هذا وهذا، وكانوا يرغبون عن إظهار ما هو من الضرب الثاني، وقد ذكر أبو ريَّة حذيفةَ وعلمَه بالفتن، وكان ربما حدّث منه بالحرف بعد الحرف، فينكره عليه إخوانه كسلمان وغيره (¬2). ¬

_ (¬1) (ص 274 - 278). (¬2) كما في "سنن أبي داود" (4659) وغيره.

وقال ص 184: (ومَنْ هو أبو هريرة؟ فلا هو من السابقين الأوّلين، ولا المهاجرين). أقول: قدمت (ص 103) (¬1) القولَ بأنه أسلم في بَلدِه قبل الهجرة، وبهذا يكون من السابقين إلى الإسلام، ولم يثبت ما يخالف ذلك. فأما من قال: أسلم عام خيبر، فإنما أراد هجرته، وقد ثبت في خبر هجرته أنه قَدِم مسلمًا. فأما الهجرة فهو مهاجر حتمًا وإن لم يكن من قريش ولا من أهل مكة، وإنما أسلمت قبيلتُه بعد أن هاجر بمدة، فقد ثبت أنه وجد النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بخيبر عقب الوقعة، وثبت من شعر كعب بن مالك قوله قبيل غزوة الطائف، وذلك بعد خيبر بمدة (¬2): قضينا مِن تهامةَ كلّ ريبٍ ... وخيبرَ ثمّ أجْمَمْنا السيوفا نخيِّرها ولو نطقَتْ لقالت ... قواطعُهنَّ دوسًا أو ثقيفًا قال: (ولا من المجاهدين بأموالهم وأنفسهم). أقول: بل هو منهم، فقد غزا مع النبيّ - صلى الله عليه وسلم - غزواته بعد خيبر. وعلق أبو ريَّة في الحاشية: (أثبت التاريخ أنه فرَّ يوم مؤتة، ولما عيَّروه بذلك لم يُحِرْ جوابًا). أقول: لقي المسلمون عدوَّهم بمؤتة وكان عددهم أكثر من نيّف وثلاثين ضعفًا، فكان القتال، ثم انحاز خالد بن الوليد بالمسلمين ورجع بهم، فكان بعض الناس يصيح فيهم: يا فُرَّار، فيقول النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "بل هم الكُرَّار إن شاء الله ¬

_ (¬1) (ص 197 - 198). (¬2) أخرجه عبد الرزاق (11/ 263)، والبيهقي في "الدلائل": (5/ 151)، وهو في "السيرة": (ق 2/ 4/ 479) لابن هشام.

تعالى" (¬1). قال: (ولا ... ولا من المفتين). أقول: بل هو من المفتين بلا نزاع، غير أنه لم يكن من المكثرين (¬2)؛ لأنه كان يتوقَّى ويحبُّ أن يكفيه الفتوى غيره كما تقدم (ص 123) (¬3). وفي "فتوح البلدان" (ص 92 - 93) (¬4): أن عمر لما ولَّى قُدامة بن مظعون إمارة البحرين بعث معه أبا هريرة على القضاء والصلاة، ثم ولَّاه الإمارة أيضًا. فتَرْكُ عمر تولَية قدامة القضاء والصلاة مع أنه من السابقين وأهل بدر، وتوليته ذلك أبا هريرة = شهادةٌ قاطعة بأن أبا هريرة من علماء الصحابة (¬5)، وأنه أعلم من بعض السابقين البدريين. قال ص 185: (ولا من القُرَّاء الذين حفظوا القرآن). [ص 148] أقول: قد تقدم رد هذا آنفًا (ص 146) (¬6). قال: (ولا جاء في فضله حديث عن الرسول) وعلَّق عليه: (روى البخاري ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في "دلائل النبوة": (4/ 374) من مرسل عروة بن الزبير. (¬2) انظر "الإحكام": (5/ 92) لابن حزم. (¬3) (ص 236 - 237). (¬4) [ص 112]. ذكره عن أبي مخنف والهيثم، وليس ذلك بحجة, ولكنه يستأنس به حيث لا مخالف له. [المؤلف]. (¬5) أقول: روى الواقدي عن عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه، عن زياد بن ميناء قال: كان ابن عباس وابن عمر وأبو هريرة وأبو سعيد وجابر مع غيرهم من الصحابة، يفتون في المدينة ويحدّثون، من لدن توفي عثمان رضي الله عنه وعنهم إلى أن توفوا، وإلى هؤلاء الخمسة صارت الفتوى. انظر "سير النبلاء": (2/ 607). (¬6) (ص 280).

وغيره ... في فضل طائفة كبيرة من أجلاء الصحابة لم نر فيهم أبا هريرة). أقول: نعم، لم يعقد البخاريُّ لذكر أبي هريرة بابًا في فضل الصحابة، لكن عنده في "كتاب العلم" أبواب تخصّ أبا هريرة، كـ "باب حفظ العلم" و"باب الحرص على العلم" (¬1)، وغير ذلك، وله باب في "صحيح مسلم" (¬2) في كتاب فضائل الصحابة، وكذا في السنن و"المستدرك" (¬3) وغيرها. وقد مضى أثناء الترجمة أشياء من فضائله ويأتي غيرها. وقال ص 185: (تشيُّع أبي هريرة لبني أمية). أقول: أسرف أبو ريَّة في هذا الفصل سبًّا وتحقيرًا وتُهَمًا فارغة، وبِحَسْبي أن أقول: قد ورد أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لما بعث العلاء بن الحضرمي على البحرين أَصْحَبَه أبا هريرة وأوصاه به خيرًا (¬4). ومن ثَمَّ أخذت حال أبي هريرة المالية تتحسَّن، ولم يتحقق لي متى رجع، وبعد وفاة العلاء بن الحضرمي استعمل عمرُ مكانه أبا هريرة (¬5). وقَدِمَ أبو هريرة مرَّة على عمر بخمسمائة ألف لبيت المال، فأخبره فاستكثر ذلك ولم يكد يصدِّق. وقدم مرَّة - لا أدري هذه أم بعدها - بمال كثير لبيت المال، وقَدِمَ لنفسه بعشرة آلاف (¬6). وثبت عن ابن سيرين أنّ عمر سأل أبا هريرة فأخبره، فأغلظ له عمر وقال: فمن أين لك؟ ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري": (1/ 35، 31 - السلطانية). ولفظ الصحيح: " ... الحرص على الحديث". (¬2) رقم (2491 - 2493). (¬3) انظر "جامع الترمذي" (3834 - 3841)، و"المستدرك": (3/ 506 - 514). (¬4) يأتي تحقيقه فيما بعد. [المؤلف]. (¬5) يأتي تحقيقه فيما بعد. [المؤلف]. (¬6) أو عشرين ألفًا كما يأتي بعد. [المؤلف].

فقال: خيل نَتَجَت، وغلَّةُ رقيقٍ لي، وأُعطية تتابعت عليَّ (¬1). قال ابن سيرين: "فنظروا فوجدوه كما قال. فلما كان بعد ذلك دعاه عمر ليستعمله فأبى أن يعمل له، فقال له: تكره العمل وقد طلبه مَنْ كان خيرًا منك؟ طلبه يوسف عليه السلام. فقال: إن يوسف نبي ابن نبي ابن نبي ابن نبي وأنا أبو هريرة ... " انظر "البداية" (8: 113) (¬2). وابنُ سيرين من خيار أئمة التابعين، والسند إليه بغاية الصحة. قال ابن كثير: "وذكر غيره أنّ عمر غرَّمه" وسيأتي ذلك. فمَنْ كان له في عهد عمر خيلٌ تَناتج ورقيق يغلّ، مع عطائه في بيت المال كغيره من الصحابة، ومع ما كان الأئمة يتعهّدون به الصحابة من الأموال زيادةً على المقرَّر كل سنة بحسب توفّر المال في بيت المال، أقول: من كانت هذه حاله كيف يسوغ أن يقال: إنه إنما تموَّل في عهد بني أمية؟ ويزعم أبو رية - من وحي شيطانه - أن بني أمية أقطعوا أبا هريرة وبنوا مسكنه بالعقيق وبذي الحُلَيفة، ويجعلها أبو ريَّة قصورًا وأراضي! وأعجب من ذلك: زعمه أنهم زوَّجوه ابنة غزوان. وينعى على أبي هريرة أنه [ص 149] كان ممن نصر عثمان (وتلك شَكاةٌ ظاهر عنك عارُها) (¬3). ويزعم أنه مال ¬

_ (¬1) وفي رواية في طبقات ابن سعد 4/ 2/ 59 وفتوح البلدان ص 93: "ولكن خيلاً تناتجت وسهامًا اجتمعت" يريد سهامه من المغانم؛ لأنه كان مع العلاء بن الحضرمي في فتوحه. [المؤلف]. (¬2) (11/ 386 - 387). (¬3) عجز بيت لأبي ذؤيب الهذلي، وصدره: * وعيّرها الواشون أني أُحبّها * انظر "ديوان الهذليين": (1/ 21)، و"مقاييس اللغة": (3/ 472). ونسبه في "الصحاح": (2/ 731) إلى كثيّر.

إلى معاوية، وهذه من وحي الشياطين، وتقوُّلات الرافضة والقصَّاصين، ولا نثبت لأبي هريرة صلة بمعاوية إلا أنه وفد إليه بعد استقرار الأمر له كما كان يَفِدُ إليه بنو هاشم وغيرهم. وينعى عليه استخلاف مروان له على إمرة المدينة، وتقدَّم (ص 108) (¬1) أن ذاك الاستخلاف لم يزد أبا هريرة إلا تواضعًا وانكسارًا وتهاونًا بالإمارة، فإن كان لذلك أثر فهو إحياؤه كثيرًا من السنة، كما تقدم. وأحاديث أبي هريرة في فضائل أهل البيت معروفة، وكذلك محبَّته لهم وتوقيره، وشدّة إنكاره على بني أمية لما منعوا أن يُدفَن الحسن بن عليّ مع جَدّه - صلى الله عليه وسلم -، وقوله لمروان في ذلك: "والله ما أنت بوالٍ، وإن الوالي لغيرُك، فدعه، ولكنك تدخل فيما لا يعنيك، وإنما تريد بهذا إرضاء من هو غائب عنك" يعني معاوية. راجع "البداية" (8: 108) (¬2). ومن المتواتر عنه: تعوُّذه بالله من عام الستين وإمارة الصبيان (¬3)، كان يعلن هذا ومعاوية حيّ، وذلك يعني موت معاوية وتأمّر ابنه يزيد، وقد كان ذلك عام الستين بعد موت أبي هريرة بمدَّة. قال أبو رية ص 188: (روى البيهقي عنه: أنه لما دخل دار عثمان وهو محصور استأذن في الكلام، ولما أُذن له قال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إنكم ستلقون بعدي فتنة واختلافًا، فقال له قائل من الناس: فمن لنا يا رسول الله ... أو ما تأمرنا؟ فقال: ¬

_ (¬1) (ص 209). (¬2) (11/ 374). (¬3) أخرجه أحمد (8319، 8320)، والبزار: (16/ 249) وغيرهم بلفظ "رأس السبعين". وانظر حاشية المسند. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (400)، و"الأوسط" (1397) من طريق آخر بلفظ: "رأس الستين".

عليكم بالأمين وأصحابه، وهو يشير إلى عثمان. وقد أورده أحمد بسند جيد). أقول: الحديث في "المستدرك" (3: 99) وفيه: "عليكم بالأمير" وهو الظاهر، وفي سنده مقال لكنه ليس بمنكر. وقول أبي هريرة: "وهو يشير إلى عثمان" يريد أنه يفهم أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أشار بقوله: "الأمير" إلى عثمان. ولو أراد أبو هريرة - وقد أعاذه الله - أن يكذب لجاء بلفظ صريح مؤكّد مشدّد. قال: (ولما نسخ عثمان المصاحف دخل عليه أبو هريرة فقال: أصبت ووُفّقت، أشهد لسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ... ، قال فأعجب ذلك عثمان وأمر لأبي هريرة بعشرة آلاف. وهذا الحديث من غرائبه وهو ينطق ولا ريب بأنه ابن ساعته). أقول: عزاه أبو ريَّة إلى "البداية" (7: 216) (¬1) وهو هناك من رواية الواقدي، وهو متروك مرميّ بالكذب، عن [أبي بكر بن عبد الله بن محمد] بن أبي سبرة، وهو كذَّاب يضع الحديث. [ص 150] قال: "ومن غرائبه كذلك ما رواه البيهقي قال: أُصبت بثلاث مصيبات ... " ذكر قصة المِزْوَد مطوَّلة، وأسرف أبو ريَّة في التندُّر والاستهزاء، وعزا الخبر إلى "البداية" (6: 117) (¬2) وهو مرويّ من طرق في أسانيدها ضعف، واللفظ الذي ساقه أبو ريَّة من رواية يزيد بن أبي منصور الأزدي عن أبيه عن أبي هريرة. وأبو منصور الأزدي مجهول ولا يُدْرَى أدرك أبا هريرة أم لا؟ وفيه: أن المِزْود ذهب حين قُتل عثمان. قال أبو ريَّة: (وهذا الحديث رواه عنه أحمد ولكن قال فيه ... وعلقه في سقف البيت ...). ¬

_ (¬1) (10/ 394 - 395). وهو في "تاريخ ابن عساكر": (39/ 244). (¬2) (8/ 661 - 662).

أقول: أما هذه الرواية فرجالها ثقات (¬1)، ولفظه: "أعطاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا من تمر فجعلته في مِكْتَل، فعلَّقناه في سقف البيت، فلم نَزَلْ نأكل منه حتى كان آخره أصابه أهلُ الشام حيث أغاروا على المدينة" يعني مع بُسْر بن أرطاة، وذلك بعد قتل عثمان بمدة (¬2)، وهذه الرواية الأخيرة ليس فيها ما يُنكَر، والظاهر أن الإعطاء كان في أواخر حياة النبيّ - صلى الله عليه وسلم -. وقد جاءت أحاديثُ كثيرة بمثل هذا مِنْ بركة ما يدعو فيه النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وهذا المعنى متواتر قطعًا، حتى كان عند الصحابة كأنه من قبيل الأمور المعتادة من كثرة ما شاهدوه. ومَن يؤمن بقُدرة الله عزَّ وجلَّ وإجابته دعاءَ نبيِّه وخَرْق العادة له لا يستنكر ذلك. نعم يَتوقَّف عما يرويه الضعفاء والمجهولون؛ لأنّ من شأن القُصَّاص وأضرابهم أن يطوِّلوا القضايا التي من هذا القبيل، ويزيدوا فيها، ويغيروا في أسانيدها، والله المستعان. قال أبو ريَّة ص 189: (ومما [زعم المفتري أن أبا هريرة] وضعه في معاوية: ما أخرجه الخطيب عنه: ناول النبيّ - صلى الله عليه وسلم - معاوية سهمًا فقال: خذ هذا السهم حتى تلقاني به في الجنة). أقول: في سنده وضَّاح بن حسّان عن وزير بن عبد الله - ويقال ابن عبد الرحمن - الجزري عن غالب بن عبيد الله العقيلي. وهؤلاء الثلاثة كلهم هَلْكَى مُتَّهمون بالكذب، ورابعهم أبو ريَّة القائل: إن أبا هريرة كيتَ وكيتَ. والخبر أخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات" (¬3)، وقد تفنَّن فيه الكذابون فرووه من حديث جابر، ومن حديث أنس، ومن حديث ابن عمر، وغير ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (8299). (¬2) انظر "البداية والنهاية": (10/ 682). وكان ذلك في سنة أربعين من الهجرة. (¬3) (814).

ذلك. راجع "اللآلي المصنوعة" (1: 219) (¬1) قال: (وأخرج ابن عساكر وابن عدي والخطيب البغدادي عنه: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن الله ائتمن على وحيه ثلاثة أنا وجبريل ومعاوية ..). [ص 151] أقول: وهذا أيضًا من أحاديث "الموضوعات" (¬2)، راجع "اللآلي المصنوعة" (1: 216 - 218) (¬3)، وقد تلاعب به الكذابون فرووه تارة عن واثلة، وتارة عن أنس، وتارة عن أبي هريرة، ورووا نحوه في أمانة معاوية من حديث عليّ، وابن عباس، وعُبادة بن الصامت، وجابر، وابن عمر، وعبد الله بن بُسر. فإن لزم مِن نِسْبة الخبرَين إلى أبي هريرة ثبوتهما عنه لزم ثبوتهما عمن ذُكِرَ معه من الصحابة، بل يلزم في جميع الأحاديث الضعيفة والموضوعة ثبوتها عمن نُسِبت إليهم من الصحابة. ومعنى هذا أنَّ كلّ فرد من أفراد الرواة معصوم عن الكذب والغلط إلا الصحابة، ولا ريب أنَّ في الرواة المغفَّل والكذَّاب والزنديق، ولعل أبا ريَّة أن يكون خيرًا من بعضهم فيكون معصومًا، فلماذا لا يستغني بهذه العصمة ويطلق أحكامه كيف يشاء، ويريح نفسه وغيره من طول البحث والتفتيش في الكتب؟ قال: (ونظر أبو هريرة إلى عائشة بنت طلحة ... ، فقال: ... والله ما رأيت وجهًا أحسن منك إلا وجه معاوية على منبر رسول الله). أقول: عزاه إلى "العقد الفريد" (¬4)، والحكاية فيه بلا سند، وحاول ¬

_ (¬1) (1/ 419). (¬2) (807). (¬3) (1/ 418 - 419). (¬4) (6/ 109 - لجنة التأليف).

صاحب "الأغاني" (¬1) إسنادَها على عادته فلم يجاوز بها المدائني، وبَيْن المدائني وأبي هريرة نحو قرن ونصف، وهؤلاء سَمَريُّون إذا ظفروا بالنكتة لم يهمّهم أَصِدْقًا كانت أم كَذِبًا، والعلمُ وراء ذلك. قال: (ولقد بلغ من مناصرته لبني أمية أنه كان يحث الناس على ما يطالب به عمالهم من صدقات، ويحذرهم أن يَسُبُّوهم. قال العجاج: قال لي أبو هريرة: ممن أنت؟ قلت: من أهل العراق. قال: يوشك أن يأتيك بقعان الشام فيأخذوا صدقتك، فإذا أتوك فتلقّهم بها، فإذا دخلوها فكن في أقاصيها وخلِّ عنهم وعنها، وإياك إن تَسُبِّهم فإنك إن سَبَبْتَهم ذهب أجرك وأخذوا صدقتك، وإن صبرت جاءت في ميزانك يوم القيامة). أقول: عزاه إلى "الشعر والشعراء" (¬2) لابن قتيبة، والحكاية فيه بلا سند، فإنْ صحَّت فإنما هي نصيحة لا تدلّ إلا على النُّصْح لكلّ مسلم، والإسلام يقضي بوجوب أداء الصدقة إلى عُمّال السلطان إذا طلبها وبحُرْمة سبِّهم إذا أخذوها. ولو منع العَجاجُ الصدقةَ لأُهين وأُخِذت منه قهرًا، ولو سبّ قابضيها لأثم وضرَّ نفسه ولم يضرَّهم شيئًا. ويكاد أبو ريَّة ينقم على أبي هريرة قوله: لا إله إلا الله، ويبني على [ص 152] ذلك تهمة. قاتل الله اللَّجاج! وقال ص 190: (وَضْعُه [بزعم المفتري] أحاديث على عليّ. قال أبو جعفر الإسكافي: إن معاوية حمل قومًا من الصحابة والتابعين على رواية أخبار قبيحة على ¬

_ (¬1) (11/ 197). (¬2) (2/ 591). وساق ابن قتيبة سنده في "عيون الأخبار": (1/ 7) قال: "حدثنا الرياشي، قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا القاسم بن الفضل، قال: حدثنا ابن أخت العجاج، عن العجاج ... به. قلت: الإسناد صحيح إلى ابن أخت العجاج، ولم أجد ترجمته.

عليّ تقتضي الطعنَ فيه والبراءةَ منه، وجعل لهم في ذلك جُعْلًا، فاختلقوا ما أرضاه، منهم أبو هريرة, وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، ومن التابعين عُروة بن الزبير). أقول: قد تقدم النظر في ابن أبي (¬1) الحديد والإسكافي (ص 109) (¬2)، وهذه التهمة باطلة قطعًا، فأبو هريرة والمغيرة وعمرو ومعاوية صحابيون، وكلُّهم عند أهل السنة عدول، ثم كانت الدولة لبني أمية، فلو كان هؤلاء يستحلّون الكذبَ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في عَيب عليٍّ لامتلأ "الصحيحان" فضلًا عن غيرهما بِعَيبه وذمِّه وشَتْمه، فما بالنا لا نجد عن هؤلاء حديثًا صحيحًا ظاهرًا في عيب عليٍّ ولا في فضل معاوية؟ راجع (ص 64) (¬3). وعروةُ من كبار التابعين الثقات عند أهل السنة، لا نجد عنه خبرًا صحيحًا في عيب عليّ. فأما الأكاذيب الموضوعات فلا دخل لها في الحساب، على أنك تجدها تُنْسَب إلى هؤلاء وغيرهم في إطراء عليّ أكثر جدًّا منها في الغضّ منه. قال: (وروى الأعمش قال: لما قدم أبو هريرة العراق مع معاوية عام الجماعة جاء إلى مسجد الكوفة، فلما رأى كثرة من استقبله من الناس جثا على ركبتيه ثم ضرب صلعته مرارًا وقال: يا أهل العراق! أتزعمون أني أكذب على الله وعلى رسوله وأحرق نفسي بالنار؟ والله لقد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن لكل نبي حَرَمًا، وإن حرمي المدينة ما بين عَيْر إلى ثَوْر، فمن أحدث فيها حدثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. وأشهد بالله أن عليًا أحدث فيها" فلما بلغ معاوية قوله أجازه وأكرمه وولاه إمارة المدينة). ¬

_ (¬1) "أبي" سقطت من (ط). (¬2) (ص 210 - 211). (¬3) (ص 125 - 126).

أقول: هذا من حكاية ابن أبي الحديد (1/ 359) (¬1) عن الإسكافي، وراجع (ص 109) (¬2) ولا ندري سنده إلى الأعمش، وقد تواتر عن الأعمش رواية الحديث بنحو ما هنا: "عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال: خَطَبَنَا عليّ ... " فذكر ما في صحيفته وذكر الحديث (¬3)، فهو ثابت من رواية عليّ نفسِه. ولا نعرف أنَّ أبا هريرة قَدِم مع معاوية، ولا أنَّ معاوية ولَّاه المدينة لا في ذلك الوقت ولا بعده، إنما استخلفه مروانُ على إمرتها بعد ذلك بزمان. قال ص 191: (وعلى أن الحقّ لا يعدم أنصارًا ... فقد روى سفيان الثوري عن عبد الرحمن بن القاسم عن عمر بن عبد الغفار: أن أبا هريرة لمَّا قدم الكوفة مع معاوية ... فجاء شابّ من أهل الكوفة [ص 153] ... فقال: يا أبا هريرة أنشدك الله أَسَمِعْتَ رسول الله يقول لعلي بن أبي طالب: "اللهم والِ من والاه وعاد من عاداه؟ " فقال: اللهم نعم. فقال: أشهد بالله لقد واليتَ عدوَّه وعاديتَ وليَّه. ثم قام عنه). أقول: وهذا أيضًا عن ابن أبي الحديد عن الإسكافي (¬4)، ولا ندري ما سنده إلى الثوري؟ وعبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر من شيوخ الثوري (¬5)، فمَنْ عمر بن عبد الغفار؟ إنما المعروف عَمْرو بن عبد الغفار الفُقَيمي، صغير لم يدرك عبد الرحمن فكيف يروي عنه عبد الرحمن؟ مع أن عَمْرًا هالك مُتَّهَم بالوضع في فضائل لأهل البيت ومثالب لغيرهم (¬6)، وبينه ¬

_ (¬1) (4/ 67). (¬2) (ص 210 - 211). (¬3) أخرجه البخاري (3172)، ومسلم (1370). (¬4) "شرح النهج": (4/ 68). (¬5) ترجمته في "تهذيب الكمال": (4/ 457). (¬6) ترجمته في "الكامل": (5/ 146 - 148)، و"لسان الميزان": (6/ 215 - 217).

وبين الواقعة رجلان أو ثلاثة فمَنْ هم؟ يظهر أن هذا تركيب من بعض الجَهَلة بالرواة وتاريخهم، ولهذا ترى الإسكافي وأضرابه يُغَطُّون على جَهَلة من يأخذون عنه مفترياتهم بترك الإسناد، ويكتفون بالتناوش مِن مكان بعيد. ثم لو صحّ الخبر لكان فيه براءة لأبي هريرة (وهو بريء على كلِّ حال) فإنه لم يستجز كتمان الحديث في فضل عليّ رضي الله عنه فكيف يتوهّم عليه ما هو أشدّ؟ أما الموالاة فأيُّ موالاة كانت منه؟ سلَّم الحسنُ بن عليّ الأمرَ لمعاوية، وبايعه هو وإخوته وبنو عمه وسائر بني هاشم والمسلمون كلّهم وأبو هريرة. ثم ذكر أبو رية شيئًا من فضائل عليِّ رضي الله عنه، ولا نزاع في ذلك، وقد جاء عن أبي هريرة أحاديثُ كثيرة في فضائل أهل البيت تراها في "خصائص عليّ" (¬1) و"المستدرك" (¬2) وغيرهما, ولو لم يكن له إلا قصَّته عند وفاة الحسن بن علي؛ كان الحسن قد استأذن عائشة أن يُدْفَن مع جدِّه النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فأذنت، فلما مات قام مروان ومن معه من بني أمية في منع ذلك، فثار أبو هريرة وجعل يقول: أتنفسون على ابن نبيّكم بتربة تدفنونه فيها، وقد سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من أحبَّهما فقد أحبَّني ومن أبغضهما فقد أبغضني" (انظر "المستدرك" 3: 171) (¬3). وجرى له يومئذ مع مروان ما جرى مما تقدم بعضه (ص 149) (¬4) وباقيه في "البداية" (8: 108) (¬5). ¬

_ (¬1) ضمن "السنن الكبرى": (7/ 407 - 483) للنسائي. (¬2) (3/ 107 - 146). (¬3) وقع في (ط): (71) خطأ. (¬4) (ص 286). (¬5) (11/ 374).

ثم قال أبو رية ص 192: (سيرته وولايته: استعمل عمر أبا هريرة على البحرين سنة 21 ثم بلغه عنه أشياء تخلّ بأمانة الوالي العادل فعزله ... واستدعاه وقال له: ...). أقول: قول أبي ريَّة (بلغه عنه الخ) من تظنِّي أبي ريَّة، وستعلم بطلانه. وأما ما ذكره بعد ذلك فلم يعزه إلى كتاب، وسأذكر ما أثبته المتحرُّون من أهل العلم، وأقدّم قبل ذلك مقدمة: [ص 154] كان عمر رضي الله عنه يحبّ للصحابة ما يحبّ لنفسه، فكان يكره لأحدهم أن يدخل عليه مالٌ فيه رائحة شبهة، وله في ذلك أخبار معروفة في سيرته؛ كان معاذ بن جبل من خيار أصحاب النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، جاء عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "يأتي معاذ يوم القيامة أمام العلماء بِرَتْوة" (¬1). وقال أيضًا: "وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل" (¬2). وكان معاذ سَمْحًا كريمًا، ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (1833)، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة": (4/ 187) من حديث عمر رضي الله عنه، وأخرجه الطبراني في "الأوسط" و"الصغير": (1/ 335) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. قال الهيثمي: "وفيه مندل بن علي وهو ضعيف وقد وُثق" "مجمع الزوائد": (9/ 243). وجاء من مرسل محمد بن كعب القرظي أخرجه الطبراني في "الكبير": (20/ 30)، قال الهيثمي: "مرسل، وفيه محمد بن عبد الله بن أزهر الأنصاري، ولم أعرفه، وبقية رجاله رجال الصحيح". "مجمع الزوائد": (9/ 314). (¬2) أخرجه أحمد (13990)، والترمذي (3790)، وابن ماجه (154)، والنسائي في "الكبرى" (8242)، وابن حبان (7131) وغيرهم من طريق الحذاء عن أبي قلابة عن أنسٍ بن مالك رضي الله عنه. قال الترمذي: "حسن صحيح". وصححه ابن حبان والحاكم والضياء. وأُعلّ بالإرسال، وأنه لا يصح موصولًا إلا ذكر أبي عبيدة. رجحه الدارقطني في "العلل" (12/ 248) والبيهقي والخطيب وغيرهم. انظر "المقاصد الحسنة" (ص 47 - 48).

فرَكِبَتْه ديون، فقسم النبيّ - صلى الله عليه وسلم - مالَه بين غرمائه، ثم بعثه على اليمن ليجبُرَه، فعاد بعد وفاة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ومعه مال لنفسه، فلقيه عمر فأشار عليه أن يدفع المال إلى أبي بكر ليجعله في بيت المال، فأبى وقال: إنما بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليجبرني. ثم رأى رؤيا فسمحت نفسُه، فذهب إلى أبي بكر وبذل له المال، فقال أبو بكر: قد وهبته لك. فقال عمر: الآن حلَّ وطاب. يعني أنَّ الشبهة التي كانت فيه هي احتمال أن يكون فيه حق لبيت المال، فلما طيَّبه له أبو بكر - وهو الإمام - صار كأنه أعطاه من بيت المال، لاعتقاده أنه مستحق، فبذلك حلَّ وطاب. (انظر ترجمة معاذ من "الاستيعاب" (¬1) و"المستدرك" 3: 272). فلما اسْتُخْلِف عمر جرى على احتياطه، فكان يُقاسم عمالَه أموالَهم، فيجعل ما يأخذه منهم في بيت المال، قال ابن سيرين: "فكان يأخذ منهم ثم يعطيهم أفضل من ذلك" كما سيأتي، وكان عمر يتخوَّف عليهم أن يكون الناس راعوهم في تجارتهم ومكاسبهم لأجل الإمارة، فكان يأخذ منهم ما يأخذ ويضعه في بيت المال لتبرأ ذممُهم، ثم يعطيهم بعد ذلك من بيت المال بحسب ما يرى من استحقاقهم، فيكون حِلاًّ لهم بلا شبهة. وقد قاسَم مِن خيارهم سعد بن أبي وقاص وغيره، كما ذكره ابن سعد (¬2) وغيره. وكان عمر رضي الله عنه للصحابة بمنزلة الوالد، يعطف ويشفق ويؤدِّب ويشدّد، وكان الصحابة رضي الله عنهم قد عرفوا له ذلك، وقد تناول بدِرَّته بعضَ أكابرهم كسعد بن أبي وقاص، وأُبيِّ بن كعب، ولم يزده ذلك عندهم ¬

_ (¬1) (3/ 1404 - 1405). (¬2) "الطبقات الكبرى": (3/ 138).

إلا حُبًّا (انظر "سنن الدارمي" (¬1): باب مَن كَرِه الشهرة والمعرفة. و"طبقات ابن سعد" (¬2): ترجمة عمر). فأهلُ العلم والإيمان ينظرون إلى ما جرى من ذلك نظرةَ غبطةٍ وإكبارٍ لعمر ولمن أدَّبه عمر. وأهل الأهواء ينظرون نظرةَ طَعْنٍ على أحد الفريقين كما صنعه أبو ريَّة هنا، وكما يصنعه الرافضة في الطعن علي عمر، أو على الفريقين معًا كما ذكره أبو ريَّة ص 52 في ذكر عمر: (قلَّ أن يكون في الصحابة من سلم مِن لسانه أو يده). أما أبو هريرة فقد كان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بعثه مع العلاء بن الحضرميّ إلى البحرين وأوصاه به خيرًا [ص 155] فاختار أن يكون مؤذِّنًا، كما في "الإصابة" (¬3) و"البداية" (¬4) وغيرهما. ثم رجع العلاء في حياة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كما في "فتوح البلدان" (ص 92) ورجع معه أبو هريرة (¬5)، ثم بعث عمر سنة 20 أو نحوها قُدامةَ بن مظعون على إمارة البحرين وبعث معه أبا هريرة على الصلاة والقضاء، ثم جرت لقُدامة قضية معروفة (¬6)، فعَزَله عمر وولَّى أبا هريرة الإمارة أيضًا، ثم قَدِم أبو هريرة بمالٍ لبيتِ المال ومالٍ له، قال ابن كثير في "البداية" (8: 113) (¬7): "قال عبد الرزّاق: حدثنا مَعْمر عن أيوب ¬

_ (¬1) (1/ 446 وما بعدها) وقصته مع أبيّ رقم (540). (¬2) (3/ 245 وما بعدها). (¬3) (7/ 439). (¬4) (11/ 386). والخبر عند ابن سعد في "الطبقات": (5/ 241). (¬5) يأتي تحقيقه فيما بعد. [المؤلف]. وسبقت الإحالة "فتوح البلدان" (ص 112). (¬6) وهي قضية شربه الخمر متأوّلًا. (¬7) (11/ 386 - 387) وهي في "تاريخ دمشق": (67/ 370).

عن ابن سيرين: أن عمر استعمل أبا هريرة على البحرين، فقَدِم بعشرة آلاف، فقال له عمر: استأثرتَ بهذه الأموال (¬1) أيْ عدوَّ الله وعدوَّ كتابه؟ فقال أبو هريرة: لستُ بعدوِّ الله ولا عدوّ كتابه، ولكن عدوّ مَن عاداهما. فقال: فمِنْ أين هي لك؟ قال: خَيْلٌ نتجَتْ، وغلَّة رقيقٍ لي، وأعْطِيَة تتابعت عَلَيَّ، فنظروا، فوجدوه كما قال. فلما كان بعد ذلك دعاه ليستعمله، فأبى أن يعمل له، فقال له: تكره العمل وقد طلبه من كان خيرًا منك، طلبه يوسف عليه السلام؟ فقال: إن يوسف نبي ابن نبي ابن نبي ابن نبي، وأنا أبو هريرة ابن أميمة، وأخشى ثلاثًا واثنتين. قال عمر: فهلّا قلت: خمسة (؟) قال: أخشى أن أقول بغير علم، وأقضي بغير حلم، أو يُضرب ظهري، ويُنتزع مالي، ويُشتم عرضي". والسند بغاية الصحة. وفي "فتوح البلدان" (ص 93) (¬2) من طريق يزيد بن إبراهيم التستري عن ابن سيرين عن أبي هريرة: أنه لما قَدِم من البحرين ... فذكر أول القصة نحوه، وفيه: "فقبضها منه". والسند صحيح أيضًا. وأخرجه أيضًا من طريق أبي هلال الراسبي عن ابن سيرين عن أبي هريرة، فذكر نحوه إلا أنه وقع فيه: "اثنا عشر ألفًا" والصواب الأول؛ لأن أبا هلال في حفظه شيء. وفيه: "فلما صليت الغداة قلت: اللهم اغفر لعمر. قال: فكان يأخذ منهم ويعطيهم أفضلَ من ذلك". وفي "تاريخ الإسلام" للذهبي (2: 338) (¬3): "همام بن يحيى حدثنا ¬

_ (¬1) في رواية في طبقات ابن سعد 4/ 2/ 60: "أَسَرَقْتَ مال الله" وذكرها أبو ريَّة بلفظ: "سرقت مال الله". [المؤلف]. (¬2) (ص 113). (¬3) (2/ 566 - ط بشار). والخبر في "الطبقات": (5/ 252 - 253) لابن سعد. وفيه =

إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة: أن عمر قال لأبي هريرة: كيف وجدت الإمارة؟ قال: بعثتني وأنا كاره، ونزعتني وقد أحببتها. وأتاه بأربعمائة ألف من البحرين، فقال: أظلمْتَ أحدًا؟ قال: لا. قال: فما جئت به لنفسك؟ قال: عشرين ألفًا. قال: من أين أصبتها؟ قال: كنت أَتَّجِر. قال: انظر رأس مالك ورزقك فخذه واجعل الآخر في بيت المال". فكأنه قَدِم لنفسه بعشرين ألفًا، فقاسمه عمر كما كان يقاسم سائر عُمَّاله، فذكر ابن سيرين عشرة الآلاف المأخوذة لبيت المال. [ص 156] فقد تحقق بما قدمنا من الروايات الصحيحة أن المال الذي جاء به أبو هريرة لنفسه من البحرين كان من خيله ورقيقه وأُعطيته، وأَخْذُ عمر له أو لبعضه لا يدلّ إلّا على ما قدَّمْنَا من الاحتياط، ثم يعطيهم خيرًا منه. ومما يوضِّح براءة أبي هريرة في الواقع وعند عمر: إظهاره المال، وعزم عمر على توليته فيما بعد، وامتناع أبي هريرة من ذلك. ثم قال أبو ريَّة ص 193: (وفاته. مات أبو هريرة سنة 57 أو سنة 58). أقول: أو سنة 59 كما في "التهذيب" (¬1) وغيره، وهو قول الواقدي وابن سعد (¬2). قال: (عن ثمانين سنة). أقول: المعروف "عن ثمانٍ وسبعين سنة". ¬

_ = زيادة: "قال: أخذتَ شيئًا بغير حقه؟ قال: لا". (¬1) (12/ 266). (¬2) انظر "الطبقات": (5/ 257).

قال: (وصلَّى عليه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وكان يومئذ أميرًا على المدينة تكريمًا له). أقول: هذا رواه الواقدي (¬1) بسند فيه نظر، ولكنها السنة التي كانوا يعملون بها: أن يكون الأمير هو الذي يصلِّي على الموتى بدون تفريق. قال: (ولما كتب الوليد إلى عمه ... أرسل ... ادفع إلى ورثته عشرة آلاف درهم ... وهكذا يترادف رفدهم له حتى بعد وفاته). أقول: هذا رواه الواقدي (¬2) بسندٍ فيه نظر، وفيه: "فإنه كان ممن نصر عثمان وكان معه في الدار". وإنما حذف أبو ريَّة هذا ليوهم غيره. ثم ذكر أبو ريَّة كلمات لصاحب "المنار" قال في أبي هريرة: (... فأكثر أحاديثه لم يسمعها من النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وإنما سمعها من الصحابة والتابعين). أقول: فيه مجازفتان: الأولى: زَعَم أنّ أكثر أحاديثه لم يسمعها من النبيّ - صلى الله عليه وسلم -. ونحن إذا (¬3) نظرنا إلى أحاديثه التي رواها عن غيره من الصحابة وجدناها يسيرة، ثم إذا نظرنا في أحاديثه التي يرويها عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - رأسًا ولا يصرِّح بالسماع منه، قلّما نجد فيها ما يُعْلَم مِن مَتْنه أنه كان في المُدَّة التي لم يدركها أبو هريرة، مع أننا نجد عن غيره أحاديث كثيرة تتعلق بتلك المدة، فهذا مع ما تقدم (ص 106 و118 - 119) (¬4) وغيرها، وما يأتي بعدُ من شهادة الصحابة له ¬

_ (¬1) انظر "الطبقات": (5/ 257) لابن سعد. (¬2) انظر المصدر السابق. (¬3) (ط): "إذ". (¬4) (ص 204 - 205 و227 - 230).

يقضي بعكس الدعوى المذكورة. [ص 157] المجازفة الثانية: زَعَم أنّ بعض أحاديثه سمعها من التابعين، إن أريد أحاديثه عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فإننا لا نعرف له حديثًا كذلك، ورواية الصحابي الذي سمع من النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كأبي هريرة عن تابعيّ عن صحابيّ عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بغاية القِلّة، وإنما ذكروا من هذا الضرب حديثًا لسهل بن سعد وآخر للسائب بن يزيد، وقد تُوُفِّي النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وسهل ابن خمس عشرة سنة، والسائب ابن سبع سنين، وذكروا أن الحافظ العراقي تَتَبَّع ما يدخل في هذا الضرب فجمع عشرين حديثًا (¬1)، لعل منها ما لا يصح، وباقيها من أحاديث أصاغر الصحابة كالسائب. قال: (وقد ثبت أنه كان يسمع من كعب الأحبار). أقول: أيَّ شيء سمع منه؟ إنما سمع منه أشياء يحكيها عن صحف أهل الكتاب، وذلك فنّ كعب. قال: (وأكثر أحاديثه عنعنة). أقول: أما عنعنته فقد قدمنا (ص 114 - 117) (¬2) أنها تكون على احتمالين: إمّا أن يكون سمع من النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وإما عن صحابي آخر عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -. فأما الاحتمال الثالث: أن يكون إنما سمع من تابعي - كعب أو غيره - ومع ذلك رواه عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - = فهذا من أَبْطَل الباطل قطعًا، وراجع ما تقدم ¬

_ (¬1) ذكرها العراقي في "التقييد والإيضاح": (1/ 392 - 406 - البشائر). وجمع فيها الخطيب البغدادي رسالة، ولخصها مع ترتيبها الحافظ ابن حجر في جزء سماه "نزهة السامعين في رواية الصحابة عن التابعين" مطبوع. (¬2) (ص 219 - 227).

(ص 73 - 75 و82 و89 و94 و99 و109 - 110) (¬1). ولا أدري أين كان أهل العلم من الصحابة والتابعين وأتباعهم وهَلُمَّ جرًّا عن هذا الاحتمال حتى يُثَار في القرن الرابع عشر؟ بل أين كان وعد الله تبارك وتعالى بحفظ دينه وشريعته، فلم ينبّههم لهذا الاحتمال طوال تلك القرون؟ بل أين كان الشيطان عن هذا الاحتمال، فلم يوسْوِس به لأحد منهم؟ كلَّا، كانوا أعلمَ وأتقى من أن يطمع الشيطانُ أن ينصاعوا لوسوسةٍ مثل هذه. ومن تدبَّر ما تقدَّم (ص 114 - 117) (¬2) عَلِم أن هذا الاحتمال الثالث معناه اتهام الصحابيّ بالكذب، فإذا كانت الأدلة تبرِّئ أبا هريرة ونظراءه من الكذب فإنها تبرئهم من هذا. قال: (على أنه صرح بالسماع في حديث: خلق الله التربة يوم السبت، وقد جزموا بان هذا الحديث أخذه عن كعب الأحبار). أقول: قد تقدّم النظرُ في هذا الحديث (ص 135 - 139) (¬3) بما يقتلع الشبهةَ من أصلها، ولله الحمد. [ص 158] قال ص 194: (وقال: إنه يكثر في أحاديثه الرواية بالمعنى). أقول: هذه مجازفة، وأبو هريرة موصوف بالحفظ كما مرَّ ويأتي. قال: (وقال: إنه انفرد بأحاديث كثيرة ...). أقول: قد تتبَّع أبو ريَّة عامّة ذلك، وتقدم النظر في بعضها ويأتي الباقي. ¬

_ (¬1) (ص 143 - 150 و161 - 163 و173 - 175 و183 - 185 و192 - 193 و209 - 213). (¬2) (ص 119 - 127). (¬3) (ص 260 - 269).

قال ص 95: (وقال وهو يبين أن بَطَلَي الإسرائيليات ... هما كعب الأحبار ووهب بن منبه: وما يدرينا أن كل [تلك] الروايات - أو الموقوفة منها - ترجع إليهما ...). أقول: كلمة (تلك) ثابتة في مصدر أبي رية، والكلام هناك في رواياتٍ جاءت في قضية خاصة، فأهمل أبو ريَّة بيان ذلك وأسقط كلمة "تلك"؛ ليُفْهِمك أنّ صاحب "المنار" يجيز أن تكون المرويّات الإسلامية كلها راجعة إلى كعب ووهب. وأعاد ص 196 - 197 بعضَ دعاويه ومزاعمه، وقد تقدَّم ويأتي ما فيه كفاية. ثم قال ص 198: (أمثلة مما رواه أبو هريرة: أخرج البخاري ومسلم عنه قال: أُرسل ملك الموت إلى موسى عليهما السلام، فلما جاءه صكّه، فرجع إلى ربه فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت. فردّ الله عليه عينه (¬1)، وقال: "ارجع فقل له يضع يده على متن ثور، فله بكلّ ما غطَّتْ يدُه بكل شعرة سنة. قال: أي ربّ ثم ماذا؟ قال: ثم الموت. قال: فالآن. فسأل (¬2) الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فلو كلنت ثَمَّ لأريتكم قبره إلى جانب الكثيب الأحمر. وفي رواية لمسلم. قال: فلطم موسى عين مَلَك الموت ففقأها). أقول: القصة على ما ذكر هنا من كلام أبي هريرة. وإنما الذي من كلام النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قوله: "فلو كنت ثَمَّ ... الخ" وليس فيه ما يُستشكل. فأما القصة فقد أجاب عنها أهل العلم، وسألخص ذلك. ¬

_ (¬1) في كتاب أبي ريَّة "عينيه". [المؤلف]. (¬2) فيه "فاسال". [المؤلف].

ثبتَ بالكتاب والسنَّة أنّ الملائكة قد يتمثَّلون في صُوَر الرجال، وقد يراهم كذلك بعضُ الأنبياء فيظنهم من بني آدم، كما في قِصّتهم مع إبراهيم ومع لوط عليهما السلام - اقرأ من سورة هود الآيات 69 - 80، وقال الله تعالى في مريم عليها السلام: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} [مريم: 17 - 18]. وفي السُّنة أشياء من ذلك، وأشهرها ما في حديث السؤال عن الإيمان والإسلام والإحسان. [ص 159] فمن كان جاحدًا لهذا كله أو مرتابًا فيه فليس كلامنا معه، ومن كان مصدِّقًا علم أنه لا مانع أن يتمثّل مَلَك الموت رجلاً ويأتي إلى موسى فلا يعرفه موسى. الجسد المادي الذي يتمثّل به الملك ليس جسده الحقيقي، وليس مِن لازم تمثُّله فيه أن يخرج الملك عن مَلَكيته، ولا أن يخرج ذاك الجسم المادي عن مادِّيته، ولا أن تكون حقيقة الملك إلى ذاك الجسم كنسبة أرواح الناس إلى أجسامهم، فعلى هذا لو عرض ضربٌ أو طعن أو قطع لذاك الجسم، لم يلزم أن يتألم بها المَلَك، ولا أن تؤثِّر في جسمه الحقيقي. ما المانع أن تقتضي حكمة الله عزَّ وجلَّ أن يتمثَّل ملك الموت بصورة رجل ويأمره الله أن يدخل على موسى بغتةً ويقول له مثلًا: سأقبض روحك. وينظر ماذا يصنع؟ لتظهر رغبة موسى في الحياة وكراهيته للموت، فيكون في قَصِّ ذلك عبرة لمن بعده. فعلى هذا فإن موسى لما رأى رجلًا لا يعرفه دخل بغتةً وقال ما قال، حمله حبُّ الحياة على الاستعجال بدفعه، ولولا شدّة حبِّ الحياة لتأنَّى وقال: مَن أنت وما شأنك؟ ونحو ذلك. ووقوع الصّكَّة وتأثيرها كان على ذاك الجسد العارض، ولم ينل الملك بأس. فأما قوله في القصة: "فردّ الله عليه عينه" فحاصله أن الله تعالى أعاد

تمثيل الملك في ذاك الجسد المادي سليمًا، حتى إذا رآه موسى قد عاد سليمًا مع قُرب الوقت عرفَ لأوّل وهلة خطأه أول مرة. قال أبو ريَّة: (وفي تاريخ الطبري عن أبي هريرة أن ملك الموت ...). أقول: رجاله كلّهم موصوفون بأنهم ممن يخطئ, فلا يصح عن أبي هريرة (¬1). قال: (وأخرجا كذلك عنه قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: تحاجَّت الجنة والنار ...). أقول: قد وافق أبا هريرة على هذا الحديث أنس بن مالك وحديثه في "الصحيحين" (¬2) وغيرهما، وأبو سعيد وحديثه في "صحيح مسلم" (¬3) و"مسند أحمد" (¬4) وغيرهما، وأُبيّ بن كعب وحديثه في "مسند أبي يعلى" (¬5). وتفسير الحديث معروف. قال: (وروى البخاري عنه: ما بين مَنْكِبَي الكافر مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع. وخرج أوله مسلم عنه مرفوعًا وزاد: غلظ جلده مسيرة ثلاثة أيام). أقول: هذا من فهم أبي ريَّة وتحرِّيه. راجع "فتح الباري" (11: 365) (¬6) تعرف ما في صنيع أبي ريَّة وتعرف الجواب. ¬

_ (¬1) "تاريخ الطبري": (1/ 256). والسند فيه: حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا مصعب بن المقدام، عن حماد بن سلمة، عن عمار بن أبي عمار مولى بني هاشم عن أبي هريرة. (¬2) البخاري (4848)، ومسلم (2848). (¬3) (2847). (¬4) (11099). (¬5) "المطالب العالية" (4557). (¬6) (11/ 423). وحديث "ما بين منكبي ... " في البخاري (6551) عن أبي هريرة مرفوعًا. لا كما أوهمه أبو ريَّة. أما ما أخرجه مسلم (2851) فحديث آخر وهو "ضرس الكافر مثل أحد، وغلظ جلده ... " فجعلهما أبو ريَّة حديثًا واحدًا.

[ص 160] وقال ص 199: (وروى البخاري وابن ماجه عنه عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: إذا وقع الذُّباب في إناء أحدكم فليغمسه كلّه ثم يطرحه، فإن في أحد جناحية داء والآخر شفاء). أقول: هذا الحديث قد وافق أبا هريرة على روايته أبو سعيد الخدري وأنس. راجع "مسند أحمد" (¬1) بتحقيق وتعليق الشيخ أحمد محمد شاكر رحمه الله (12: 124). وعلماء الطبيعة يعترفون بأنهم لم يحيطوا بكلّ شيء علمًا، ولا يزالون يكتشفون الشيء بعد الشيء، فبأيّ إيمانٍ ينفي أبو ريَّة وأضرابُه أن يكون الله تعالى أَطْلَعَ رسولَه - صلى الله عليه وسلم - على أمر لم يصل إليه علمُ الطبيعة بعد (¬2)؟ هذا، وخالق الطبيعة ومدبّرها هو واضع الشريعة، وقد علم سبحانه أنّ كثيرًا من عباده يكونون في ضيق من العيش، وقد يكون قُوتُهم اللبن وحده، فلو أُرْشِدوا إلى أن يريقوا كل ما وقعت فيه ذبابة لأجحف بهم ذلك، فأُغيثوا بما في الحديث. فمَن خالف هواه وطبعه في استقذار الذّباب فغمسه تصديقًا لله ورسوله دفع الله عنه الضرر، فكان في غَمْس ما لم يكن انغمس ما يدفع ضرر ما كان انغمس، وعلماء الطبيعة يثبتون لقوة الاعتقاد تأثيرًا بالغًا، فما بالك باعتقادٍ منشؤه الإيمان بالله ورسوله؟ قال ص 200: (وروى الطبراني في "الأوسط" عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: أتاني ملك برسالة ¬

_ (¬1) (11189، 11643) من حديث أبي سعيد، أما حديث أنس فهو عند البزار (7323) قال الهيثمي في "المجمع": (5/ 38): "رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح". ولم أجده في "مسند أحمد". (¬2) كلام المؤلف هذا قبل أكثر من خمسين سنة, وقد أثبتت الدراسات الطبية الحديثة أن الذباب يحمل على سطح جسمه الخارجي - إضافة إلى البكتريا - مضادات حيوية تعالج العديد من الأمراض. ووجدوا أن أفضل طريقة لتحرير هذه المواد الحيوية أن تُغمس الذبابة في سائل. انظر موقع www.kaheel7.com

من الله عزَّ وجلَّ، ثم رفع رجله فوضعها فوق السماء والأخرى في الأرض لم يرفعها). أقول: تفرَّد بروايته صَدَقة بن عبد الله السمين وهو ضعيف، والحديث معدود في منكراته، فلم يثبت عن أبي هريرة (¬1). قال: (وروى الترمذي عنه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: العجوة من الجنة وفيها شفاء من السُّم). أقول: سنده إلى أبي هريرة غريب كما قال الترمذي (¬2)، لكنه معروف من رواية غيره من الصحابة، فقد ورد من حديث أبي سعيد وجابر (¬3)، وجاء من حديث بُريدة مرفوعًا: "العجوة من فاكهة الجنة" (¬4). وفي "الصحيحين" (¬5) من حديث سعد بن أبي وقَّاص مرفوعًا: "من اصطبح كلَّ يوم تمرات عجوة لم يضره سُمّ ولا سِحْر ذلك اليوم إلى الليل". وله شاهد من حديث عائشة في "صحيح مسلم" (¬6). وراجع ما مرّ قريبًا. قال: (وروى الحاكم وابن ماجه من حديثه بسند صحيح: خَمِّروا الآنية، وأوكئوا الأسقية، وأجيفوا الأبواب واكفتوا صبيانكم عند المساء، فإن للجن انتشارًا وخَطْفَة، وأطفئوا المصابيح عند الرقاد فإن الفويسقة ربما اجترَّت الفتيلة فاحرقت أهل البيت). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو الشيخ في "العظمة": (2/ 729 - 730)، وابن عدي في "الكامل": (4/ 75) وعدّ الحديث من منكراته. (¬2) (2066). (¬3) أخرجه عنهما ابن ماجه (3453)، وأحمد (11453). (¬4) أخرجه أحمد (22938)، وابن عدي في "الكامل": (4/ 53) وعدّه من منكرات صالح بن حيان القرشي، ومثله الذهبي في "الميزان": (3/ 6). (¬5) البخاري (5768)، ومسلم (2047). (¬6) (2048).

[ص 161] أقول: هذا حديث جابر بن عبد الله عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وهو عن جابر بهذا اللفظ حرفًا حرفًا في "صحيح البخاري" (¬1) كتاب بدء الخلق. انظر "فتح الباري" (6: 253) (¬2)، وهو بألفاظ أُخَر في مواضع أُخَر من "صحيح البخاري" وفي "صحيح مسلم" (¬3). قال ص 201: (وروى مسلم عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة). أقول: قد تقدم هذا (ص 140) (¬4) فراجعه وتأمل صنيع أبي ريَّة هناك. قال: (وروايات أبي هريرة من هذا القبيل وأوهى منه تفهق الكتب بها ...). أقول: انتقد أبو ريَّة في ترجمة أبي هريرة نيفًا وثلاثين حديثًا، وهي على خمسة أضرب: ضَرْبٌ نسبه إلى أبي هريرة اعتباطًا وإنما رُوي عن غيره. وضَرْبٌ نحو عشرة أحاديث في سند كلٍّ منها كذَّاب أو مُتَّهَم أو ضَعْفٌ أو انقطاع، فهذا لا شأن لأبي هريرة به لأنه لم يثبت عنه، وراجع (ص 151) (¬5). وضَرْبٌ اخْتُلِفَ فيه أَيَصِحُّ عن أبي هريرة عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أم لا؟ فهذا قريب من سابقه، فإنه على فَرْض تبيُّن بطلان متنه يترجَّح عدم صحته عن أبي هريرة؛ لأن تَبِعة الحديث إنما تتجه إلى الأدنى. وضَرْبٌ صحيح عن أبي هريرة وقد ¬

_ (¬1) (3316) وفيه: "عند العشاء" بدل "عند المساء". (¬2) (6/ 356). ووقع رقم الصفحة في (ط): (253) ولعله (353). (¬3) انظر "صحيح البخاري" (3280، 3304، 5624 وغيرها"، و"صحيح مسلم" (2012، 2013). (¬4) (ص 270 - 271). (¬5) (ص 289 - 290).

وافقه عليه غيره من الصحابة؛ اثنان أو ثلاثة أو أكثر. ويبقى بعد الأَضْرُب السابقة ثلاثة أو أربعة أحاديث قد مرّ الجواب الواضح عنها بحمد الله تعالى. واعلم أن الناس تختلف مداركُهم وأفهامُهم وآراؤهم ولا سيّما في ما يتعلق بالأمور الدينية والغيبية؛ لقصور علم الناس في جانب علم الله تعالى وحكمته، ولهذا كان في القرآن آيات كثيرة يستشكلها كثير من الناس، وقد أُلَّفَتْ في ذلك كتب (¬1). وكذلك استشكل كثيرٌ من الناس كثيرًا من الأحاديث الثابتة عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، منها ما هو من رواية كبار الصحابة أو عدد منهم كما مرَّ، وبهذا يتبيَّن أن استشكال النصّ لا يعني بطلانه. ووجود النصوص التي يُستشكل ظاهرُها لم يقع في الكتاب والسنة عَفْوًا وإنما هو أمر مقصود شرعًا؛ ليبلو الله تعالى ما في النفوس ويمتحن ما في الصدور، وييسر للعلماء أبوابًا من الجهاد العلمي يرفعهم الله به درجات. هذا، وأنت تعلم أنَّ أبا هريرة رجل أُمّيّ لا يكتب ولا يقرأ الكتب، وعاش حتى ناهز الثمانين، منها نحو أربعين سنة يحدِّث، وكثر حديثه، ولم يكن معصومًا عن الخطأ، وكذلك الموثَّقون من الرواة عنه ومَنْ بعدهم. أما غير الموثَّقين فلا اعتداد بهم. وقد عاداه المبتدعةُ من الجهمية والمعتزلة والرافضة وغُلاة أصحاب الرأي كما مرَّتْ شواهده في الترجمة، وحَرَصوا كلَّ الحرص على أن يجدوا في أحاديثه [ص 162] ما يطعنون به عليه، وتتابعت جهودُهم، ثم جاء أبو ريَّة فأطال التفتيش والتنبيش، وقضى في ذلك سنين من عمره، ومع ذلك كلّه كانت النتيجة ما تقدّم، فعلى ماذا يدل هذا؟ ¬

_ (¬1) منها كتاب "تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة، و"تفسير آيات أشكلت" لابن تيمية.

أبو هريرة والبحرين

أبو هريرة والبحرين ذكر جماعة: أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بعث أبا هريرة مع العلاء بن الحضرمي إلى البحرين، وفي "طبقات ابن سعد" (4/ 2/ 76) (¬1) عن الواقدي بسنده إلى العلاء بن الحضرمي: أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بعثه منصرَفَه من الجعرانة إلى المنذر بن ساوى العبدي بالبحرين ... وبعث رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - معه نفرًا فيهم أبو هريرة وقال له: استوص به خيرًا". ثم قال الواقدي: "حدثني عبد الله بن يزيد عن سالم مولى بني نصر قال: سمعت أبا هريرة يقول: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع العلاء بن الحضرمي وأوصاه بي خيرًا، فلما فصلنا قال لي: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أوصاني بك خيرًا فانظر ماذا تحبّ؟ قال: قلت: تجعلني أُؤذِّن لك ولا تسبقني بآمين، فأعطاه ذلك". والواقديّ ليس بحُجَّة لكن للقصة شواهد، ففي "فتح الباري" (2: 217) (¬2): "فروى سعيد بن منصور من طريق محمد بن سيرين: أن أبا هريرة كان مؤذّنًا بالبحرين، وأنه اشترط على الإمام أن لا يسبقه بآمين. والإمام بالبحرين كان العلاء بن الحضرمي، بيَّنَه عبد الرزاق من طريق أبي سلمة عنه". وعند ابن سعد (4/ 2/ 54) (¬3) بسندٍ صحيح عن أبي هريرة قال: "صَحِبت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ثلاث سنين، ما كنتُ سنوات قطّ أعقل منى ولا أحبّ إليَّ أن أَعِيَ ما يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مِنِّي فيهن" هذا مع أن قدومه على النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان في صفر سنة 7، فمنه إلى وفاة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أربع سنين وشيء، فاقتصاره ¬

_ (¬1) (5/ 241, 277). (¬2) (2/ 263). (¬3) (5/ 232).

على "ثلاث سنين" يدلّ أنه غاب في أثناء تلك المدة سنة أو نحوها، وقد كان البعث بعد الانصراف من الجعرانة كما مرَّ، وكان الانصراف منها في أواخر ذي القعدة أو ذي الحجة سنة 8، وفي "الطبقات" (4/ 2/ 77) (¬1): أن العلاء قدم على النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فولَّى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مكانه أبان بن سعيد بن العاص، فعلى هذا لما رجع العلاء رجع معه أبو هريرة، وقد ثبت في "الصحيح" عن أبي هريرة أنه ممن حجّ مع أبي بكر سنة 9، وكان ينادي مع عَلِيّ: أن لا يحجّ بعد العام مشرك. انظر "صحيح البخاري" (¬2) - تفسر سورة براءة - فصحَّ أن غيبته كانت سنةً أو دونها. وثَمَّ ما يدلّ أن أبا هريرة عاد إلى البحرين في خلافة أبي بكر، ففي "الطبقات" (4/ 2/ 77) (¬3) عن الواقدي بسنده: أن أبا بكر أعاد في خلافته العلاءَ بن الحضرميّ على البحرين، وذكر القصة وفيها فَتَحَ العلاء [ص 163] دارِين سنة أربع عشرة، ثم ذكر ابنُ سعدٍ بسند آخر: أنّ عمر كتب إلى العلاء أن يذهب ليخلُف عُتْبة بن غزوان على عمله، فخرج العلاء ومعه أبو هريرة، فمات العلاء في الطريق ورجع أبو هريرة إلى البحرين، وذكر عن أبي هريرة قوله: "رأيتُ من العلاء بن الحضرميّ ثلاثة أشياء ولا أزال أحبّه أبدًا، رأيته قَطَع البحر على فرسه يوم دَارِيْن .... وخرجْتُ معه من البحرين إلى صفّ البصرة فلما كنّا بلياس (¬4) (؟) مات ... ". ومن أهل الأخبار من يزعم أن وفاة ¬

_ (¬1) (5/ 277). (¬2) (4655). (¬3) (5/ 278). (¬4) كذا في (ط) وكتب المؤلف عقبها علامة الاستفهام إشارة إلى شكّه في هذه الكلمة. =

العلاء تأخّرت إلى سنة 21. فالله أعلم. أما ما تقدّم فإنه يدل أنّ أبا هريرة رجع إلى البحرين مع العلاء حين ولَّاه أبو بكر، وكان بها سنةَ أربع عشرة. ثم كان أبو هريرة بالبحرين أيضًا في إمارة قدامة بن مظعون عليها، كما يُعْلَم من ترجمة قدامة في "الإصابة" (¬1) وغيرها، وفي "فتوح البلدان" (ص 92) عن أبي مخنف في ذكر العلاء بن الحضرمي " ... حتى مات وذلك في سنة أربع عشرة أو في أول سنة خمس عشرة، ثم إن عمر وَلَّى قدامة بن مظعون الجُمَحي جباية البحرين، وولَّى أبا هريرة الأحداث والصلاة ... " وفيه (ص 93) عن الهيثم: "كان قدامة بن مظعون على الجباية والأحداث، وأبو هريرة على الصلاة والقضاء ... ثم ولَّاه عمر البحرين بعد قدامة، ثم عزله وقاسمه، وأمره بالرجوع فأبى، فولّاها عثمان ابن أبي العاصي ... ". والقضية تحتاج إلى مزيد تتبّع وتأمّل، غير أنّ في ما تقدم ما يكفي للدلالة على أنّ إقامة أبي هريرة بالبحرين كانت كافيةً لأن يتموَّل، وبذلك يتأكد صِدْقُه في قوله: "خيل نَتَجت ... " كما مرَّ (ص 148) (¬2). **** ¬

_ = أقول: وهو كذلك، وصوابها "تِياس". انظر "معجم البلدان": (2/ 64)، و"معجم ما استعجم": (1/ 296) للبكري. ونص الأخير أن العلاء بن الحضرمي توفي بها. وتصحّفت في "السير": (1/ 265) إلى "بنياس". (¬1) (5/ 423 - 425). (¬2) (ص 283 - 285).

من فضل أبي هريرة

من فضل أبي هريرة (¬1) أمّا ما يَعُمُّه وغيره من الصحابة رضي الله عنهم فيأتي في موضعه، وأما ما يَخُصُّه فمنه في "الصحيحين" (¬2) عنه: أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لقيه في طريقٍ من طرق المدينة وهو جُنب فانسلَّ فذهب فاغتسل، فتفقَّده النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فلما جاء قال: "أين كنت يا أبا هريرة؟ " قال: يا رسول الله لَقيتني وأنا جُنُب، فكرهت أن أجالسك حتى أغتسل. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سبحان الله، إن المؤمن لا ينجس" لفظ مسلم. ومَرَّ (ص 100) (¬3) ما في "صحيح البخاري" (¬4) من قول النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "لقد ظننتُ يا أبا هريرة أن لا يسألني أحدٌ عن هذا الحديث أوَّلَ منك، لما رأيتُ من حرصك على الحديث ... ". [ص 164] وفي "صحيح مسلم" (¬5) وغيره في قصة إسلام أمه قول النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم حَبِّب عُبيدك هذا - يعني أبا هريرة - وأُمَّه إلى عبادك المؤمنين ... ". قال ابن كثير في "البداية" (8: 105) (¬6): "وهذا الحديث من دلائل النبوة، فإنَّ أبا هريرة محبّب إلى جميع الناس ... ". ¬

_ (¬1) هذا المبحث لا وجود له في كتاب أبي ريَّة، وقد ختم به المؤلف كلامه على أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) البخاري (285)، ومسلم (371). (¬3) (ص 194 - 195). (¬4) (99). (¬5) (2491). (¬6) (11/ 366).

وفي "الإصابة" (¬1): "وأخرج النسائيُّ بسند جيِّد في (العلم) من كتاب "السنن" (¬2): أن رجلًا جاء إلى زيد بن ثابت فسأله، فقال له زيد: عليك بأبي هريرة، فإني بينما أنا وأبو هريرة وفلان في المسجد ندعو الله ونذكره، إذ خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى جلس إلينا فقال: "عودوا لِلَّذي كنتم فيه"، قال زيد: فدعوت أنا وصاحبي، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُؤمِّن على دعائنا، ودعا أبو هريرة فقال: اللهم إني أسألك ما سأل صاحبايَ، وأسألك عِلْمًا لا يُنْسى، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "آمين". فقلنا: يا رسول الله ونحن نسأل الله علمًا لا يُنسى، فقال: "سبقكم بها الغلام الدوسي" ونحوه في "تهذيب التهذيب" (¬3) وفيهما بعض ألفاظ محرَّفة. وفي "مسند أحمد" (2: 541) و"سنن أبي داود" (¬4) وغيرهما عنه قال: "بينما أنا أُوْعَكُ في مسجد المدينة إذ دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسجد فقال: "من أحسّ الفتى الدوسي؟ من أحسّ الفتى الدوسي؟ " فقال له قائل: هو ذاك يوعك في جانب المسجد حيث ترى يا رسول الله. فجاء فوضع يده عليَّ وقال لي معروفًا، فقمت فانطلق حتى قام في مقامه الذي يصلي فيه ... ". ومرّ (¬5) ما رُوي من تولية عمر لقدامة بن مظعون وأبي هريرة البحرين، قدامة على الجباية، وأبا هريرة على الصلاة والقضاء، ثم جمعَ الكلَّ ¬

_ (¬1) (7/ 438). (¬2) الكبرى (5839). (¬3) (12/ 266). (¬4) "المسند" (10977)، وأبو داود (2174). (¬5) (ص 310 - 311 وغيرها).

هريرة. هذا مع أنَّ قُدامة من السابقين البدريين، ثم قَاسَمَ عمرُ أبا هريرة كما كان يُقَاسِمُ عُمَّالَه، وأراد أن يعيده على الإمارة فأبى أبو هريرة. وتقدم صفحة (106 و120 و123) (¬1): شهادة طلحة والزبير وأبي أيوب وعائشة له، وتقدم (ص 106 و118 - 119) (¬2) ثناءُ ابنِ عمر عليه. وذكر الحاكم في "المستدرك" (¬3) أنه روى عنه بضعةٌ وعشرون من الصحابة، عدَّ منهم: أُبيَّ بن كعب، وأبا موسى الأشعري، وعائشة، وزيد بن ثابت، وأبا أيوب، وابن عمر، وابن عباس، وابن الزبير، وجابر بن عبد الله، وجماعة. وفي "الإصابة" (¬4): "قال البخاري روى عنه نحو الثمانمائة من أهل العلم. وكان أحفظ مَنْ روى الحديث [ص 165] في عصره. قال وكيع في "نسخته" (¬5): حدثنا الأعمش عن أبي صالح قال: كان أبو هريرة أحفظ أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -. وأخرجه البغوي من رواية أبي بكر بن عيَّاش عن الأعمش بلفظ: ما كان أفضلهم، ولكنه كان أحفظ .. (¬6). ¬

_ (¬1) (ص 204 - 205 و231 - 232 و236 - 237). (¬2) (ص 204 - 205 و227 - 230). (¬3) (3/ 513). (¬4) (7/ 432). (¬5) رواه عن وكيع أحمدُ كما في "العلل": (3/ 43) ولم أجده في نسخة وكيع المطبوعة. وأخرجه البخاري في "التاريخ": (6/ 133). (¬6) أخرجه عبد الله بن أحمد في "العلل": (3/ 232)، وابن أبي خيثمة في "تاريخه": (1/ 438 - دار الفاروق".

وقال الربيع: قال الشافعي: أبو هريرة أحفظ مَنْ روى الحديث في دهره (¬1). وقال أبو الزُّعَيزِعة كاتب مروان: أرسل مروانُ إلى أبي هريرة فجعل يحدّثه، وكان أجلسني خلف السرير أكتبُ ما يحدِّث به، حتى إذا كان في رأس الحول أرسل إليه فسأله، وأمرني أن أنظر، فما غيَّر حرفًا عن حرف". وأخرجه الحاكم في "المستدرك" (3: 510) (¬2) وفيه: "فما زاد ولا نقص، ولا قدَّم ولا أخَّر". قال الحاكم: "صحيح الإسناد" وأقرَّه الذهبي. وقال ابن كثير في "البداية" (8: 110) (¬3): "وقد كان أبو هريرة من الصدق والحفظ والديانة والزهادة والعمل الصالح على جانبٍ عظيم ... ". وفي "طبقات ابن سعد" (4/ 2/ 62) (¬4): "أخبرنا مَعْنُ بن عيسى قال: حدثنا مالك بن أنس عن المقبري عن أبي هريرة: أن مروان دخل عليه في شكواه الذي مات فيه، فقال: شفاك الله يا أبا هريرة. فقال أبو هريرة: اللهم إني أحبّ لقاءك، فأَحِبَّ لقائي. قال فما بلغ مروانُ أصحابَ القطا حتى مات أبو هريرة". ... ¬

_ (¬1) ذكره عنه البيهقي في "معرفة السنن والآثار": (1/ 310). (¬2) وذكره البخاري في "الكنى - من التاريخ": (8/ 33). (¬3) (11/ 378). (¬4) (5/ 255 - 256).

[أحاديث مشكلة والجواب عنها]

[أحاديث مشكلة والجواب عنها] ثم ذكر أبو ريَّة ص 202 - 206 جماعةً من الصحابة قلَّتْ أحاديثهم، وقد نظرت في ذلك (ص 42) (¬1). ثم قال ص 207: (أحاديث مشكلة ... عن ابن عباس، إن الله خلق لوحًا محفوظًا من درة بيضاء دفتاه من ياقوتة حمراء ...). أقول: هذا من قول ابن عباس، أخرجه الحاكم في "المستدرك" (2: 474) من طريق أبي حمزة الثمالي وقال الحاكم: "صحيح الإسناد"، تعقَّبه الذهبي فقال: "اسم أبي حمزة ثابت، وهو واهٍ بمرَّة" ويُنظر وجه الاستشكال؟ قال: (وروى الشيخان .. عن أبي ذر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر حين غربت الشمس: أتدري أين تذهب؟ ...). أقول: النظر في هذا الحديث يتوقَّف على بيان معنى قول الله عزَّ وجلَّ: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس: 38] ثم جَمعْ طرقه وتدبُّر ألفاظه، ولم يتيسر لي ذاك الآن والله المستعان. (ثم نظرتُ فيه فيما يأتي ص 213) (¬2). [ص 166] قال: (وروى مسلم عن عبد الله بن عَمْرو بن العاص صاحب الزاملتين قال: إن في البحر شياطين ...). أقول: هذا ذَكَرَه مسلم في مقدمة "صحيحه" (¬3)، وهو من قول عبد الله بن عَمرو، ليس بحديث عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) (ص 81 - 82). (¬2) (ص 401 فما بعدها). وانظر "مشكلات الأحاديث النبوية" (ص 171 - 176) للقصيمي. (¬3) (1/ 12).

قال: (وروى البخاري ... عن عامر بن سعد [بن أبي وقاص] عن أبيه قال: قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "من اصطبح كلّ يوم تمرات عجوة لم يضره سُمّ ولا سِحْر" ... وفي رواية: "سبع تمرات عجوة". وكذا لمسلم عن سعيد بن أبي العاص. وعند النسائي من حديث جابر: "العجوة من الجنة وهي شفاء من السم"). أقول: الحديث في "الصحيحين" (¬1) من رواية عامر بن سعد بن أبي وقَّاص عن أبيه. ولم أجد ذِكْر سعيد بن أبي العاص، وراجع ما مرَّ (ص 160) (¬2). قال: (وأخرج الشيخان عن أبي هريرة: إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان وله ضُراط حتى لا يسمع التأذين ... ، وقال العلماء المحققون في شرح هذا الحديث: لئلا يسمع فيضطر أن يشهد بذلك يوم القيامة). أقول: أما الحديث فلا إشكال فيه عند من يؤمن بالقرآن، وفي بعض رواياته: "وله حصاص"، وفي "صحيح مسلم" (¬3) عن جابر: "سمعت النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الشيطان إذا سمع النداء ذهب حتى يكون مكان الروحاء". وأما التفسير الذي نسبه إلى المحققين فهو قول لبعضهم، فإن كان حقًّا فلماذا السخرية منه؟ وإن كان باطلًا فتَبِعته على قائله، فلماذا يذكر هنا؟ قال ص 208: (وروى مسلم عن أبي سفيان أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله أعطني ثلاثًا. تزوج ابنتي أم حبيبة، وابني معاوية اجعله كاتبًا، وامرني أن أقاتل الكفار كما قاتلتُ المسلمين ... " وأم حبيبة تزوجها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وهي (¬4) بالحبشة ...). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه (ص 162). (¬2) (ص 305 - 306). (¬3) (388). (¬4) في كتاب أبي ريَّة "وهو".

أقول: لفظ مسلم قال: "عندي أحسن العرب وأجمله: أم حبيبة بنت أبي سفيان أزوجكها" وفي سنده عكرمة بن عمَّار موصوف بأنه يغلط ويَهِم، فمِن أهل العلم من تكلَّم في هذا الحديث وقال: إنه من أوهام عكرمة، ومنهم من تأوَّله، وأقرب تأويل له: أن زواج النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لما كان قبل إسلام أبي سفيان كان بدون رضاه فأراد بقوله: "أزوجكها" أَرْضَى بالزواج، فاقبْل مني هذا الرِّضا. قال: (وفي مسند أحمد عن عكرمة عن ابن عباس: أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - صدّق أمية ابن أبي الصلت ... في قوله: والشمس تطلع ...) البيتين. [ص 167] أقول: مداره على محمد بن إسحاق عن يعقوب بن عُتبة عن عكرمة عن ابن عباس، وفي "مجمع الزوائد" (8: 127): "رجاله ثقات، إلا أن ابن إسحاق مدلس". والمدلِّس لا يحتج بخبره وحده ما لم يتبيَّن سماعه (¬1). قال: (وروى مسلم عن أنس بن مالك أن رجلًا سأل النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: متى تقوم الساعة؟ قال: فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هُنَيهة، ثم نظر إلى غلام بَيْنَ يديه مِن أزد شنوءة فقال: إنْ عَمَّرَ هذا لم يدركه الهرم حتى تقوم الساعة، قال أنس: ذاك الغلام من أترابي يومئذ ...). أقول: من عادة مسلم في "صحيحه" أنه عند سياق الروايات المتفقة في الجملة يقدِّم الأصح فالأصح (¬2)، فقد يقع في الرواية المؤخَّرة إجمال أو ¬

_ (¬1) الحديث في "المسند" (2314) وانظر الكلام عليه في حاشيته. (¬2) قد مرَّ مثال لهذا ص 18 [ص 35 - 36]. [المؤلف]. وانظر "عبقرية الإمام مسلم" (ص 16 فما بعدها) لحمزة المليباري.

خطأ تبينه الرواية المقَدَّمة، ففي ذاك الموضع قدَّم حديثَ عائشة: "كان الأعراب إذا قَدِمُوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سألوه عن الساعة متى الساعة؟ فنظر إلى أحدث إنسان منهم فقال: "إنْ يَعِشْ هذا لم يدركه الهرم قامت عليكم ساعتكم". وهذا في "صحيح البخاري" (¬1): بلفظ "كان رجال من الأعراب جُفاة يأتون النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فيسألونه: متى الساعة؟ فكان ينظر إلى أصغرهم فيقول: "إن يعش هذا لا يدركه الهرمُ حتى تقوم عليكم ساعتكم". قال هشام: يعني موتهم". ثم ذكر مسلم (¬2) حديث أنس بلفظ: "إن يعش هذا الغلامُ فعسى أن لا يدركه الهرم حتى تقوم الساعة" ثم ذكره باللفظ الذي حكاه أبو رية، وراجع "فتح الباري" (11: 313) (¬3). ثم قال (¬4) ص 209: (أحاديث المهدي ...). وقال ص 210: (المهدي العباسي) ثم قال: (المهدي السفياني ...) ولم يسق الأخبار. والكلام فيها معروف. ثم قال ص 210: (الخلفاء الاثنا عشر - جاءت أحاديث كثيرة تنبئ أن الخلفاء سيكونون اثني عشر خليفة ... للبخاري عن جابر بن سمرة: يكون اثنا عشر أميرًا كلهم من قريش. ورواية مسلم: لا يزال أمر الناس ماضيًا ما وليهم اثنا عشر رجلًا. وفي رواية أخرى: إن هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي له فيهم اثنا عشر خليفة، فقد رووا حديثًا يعارض هذه الأحاديث جميعًا، وهو حديث سَفينة ... الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم يكون مُلكًا). ¬

_ (¬1) (6511). (¬2) (2953). (¬3) (11/ 363). (¬4) في الطبعة السادسة التي بين يدي (ص 201 - 205) ذكر أبو ريَّة عدة أحاديث مما يستشكل عنده، لم يوردها المؤلف هنا، فلعلها مما زاده في الطبعات اللاحقة. وهي مما لا إشكال فيها، بل الإشكال في رأس أبي ريَّة وأمثاله.

أقول: إن كان أصل اللفظ النبويّ "أميرًا" كما في رواية البخاري (¬1) وبعض روايات مسلم (¬2) فواضح أنه لا يعارضه، وإن كان بلفظ "خليفة" فالمراد به من يتسمَّى بهذا الاسم أو يخلف غيره في الإمارة. [ص 168] والخلافةُ في حديث سفينة خلافة النبوة. نُقِل معنى هذا عن القاضي (¬3)، عياض وهو ظاهر. قال: (وكذلك أخرج أبو داود في حديث ابن مسعود رفعه: تدور رحى الإسلام ...). أقول: قد بسط الكلام في هذا في "فتح الباري" (13: 181 - 186) (¬4) فراجعه، وحكى أبو ريَّة ص 212 بعضَ ما قيل في ذلك مما يزيد في تصوير التعارض. وهذا دأبه، كلما وجد إشكالًا قد حُلَّ، أو اعتراضًا قد أُجيبَ عنه، ذكر الإشكال أو الاعتراض وهوَّل، ولم يعرض للجواب. ثم قال ص 213: (الدجال. جاء في الدجال ... أحاديث كثيرة بعضها يُصرِّح بأن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان يرى أن من المحتمل ظهور الدجال في زمنه ... وبعضها يصرِّح بأنه يخرج بعد فتح المسلمين لبلاد الروم). أقول: لم يكن - صلى الله عليه وسلم - أَوَّلًا يعلم ثُمَّ أعلمه الله. قال: (وبعض الأحاديث تقول بأنه سيكون معه جبال من خبز وأنهار من ماء وعسل). ¬

_ (¬1) (7222، 7223). (¬2) لم أجدها. (¬3) انظر "إكمال المعلم": (6/ 216) للقاضي عياض. (¬4) (13/ 211 - 215).

أقول: لم أر في الأخبار ذِكْر العسل، ويظهر أن أبا ريَّة اختطف كلماته من "فتح الباري" (13: 181) (¬1) وليس هناك ذكر العسل. فأما ذكر جبل - أو جبال - خبز فقد رُوي، مع أن في "الصحيحين" (¬2) عن المغيرة بن شعبة أنه قال للنبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "يقولون إن معه جبل خبز ونهر ماء" فقال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "بل هو أهون على الله من ذلك" لفظ البخاري. وقد يُحْمَل ما ورد في أنَّ معه "جبال خبز" على المجاز، أي أنَّ معه مقادير عظيمة من الخبز، مع أن مخالفيه محتاجون. قال: (وزاد مسلم: جبال من لحم). أقول: إنما في "صحيح مسلم" في كلام المغيرة أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنهم يقولون معه جبال من خبز ولحم"؟ فقال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "هو أهون على الله من ذلك" فانظر، واعتبر! قال: (وأخرج نُعيم بن حماد من طريق كعب ...). أقول: هو كلام منسوب إلى كعب من قوله، والسند إليه مع ذلك واهٍ. قال: (ومن أخباره أنه ينزل ...). أقول: هذا كسابقه. وذَكَر اختلاف الروايات في مخرجه. أقول: في حديث أبي بكر الصديق عند أحمد وغيره (¬3) أنه يخرج من ¬

_ (¬1) (13/ 211). ووقع في (ط): (13: 81) خطأ. (¬2) البخاري (7122)، ومسلم (2152). (¬3) "المسند" (12، 33)، وأخرجه الترمذي (2237)، وابن ماجه (4072) من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه.

خراسان [ص 169]، ولا ينافيه ما في (¬1) "صحيح مسلم" (¬2) أنه يتبعه يهود أصبهان؛ إذ لا يلزم من اتباعهم له أن يكون أول خروجه من عندهم. وكذا ما جاء في رواية: "أنه خارج بين الشام والعراق" (¬3)؛ إذ لا يلزم أن يكون ذلك أوّل خروجه. فأما ما في حديث الجسّاسة أنه محبوس في جزيرة (¬4)، فإن حُملَ على ظاهره، فلا مانع من أن يذهب بعد إطلاقه إلى خراسان ثم يظهر أمره منها، وإن حُمِلَ على التمثيل كما مرَّت الإشارة إليه (ص 95) (¬5) فالأمر واضح. قال: (وهناك أحاديث ... كلها مرفوعة إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم -). أقول: ليس كلُّ ما ورد في الدجال بمرفوع، على أن أبا ريَّة ترك المرفوعات الثابتة في "صحيح البخاري" وغيره، وسقط على ما نُسِب إلى كعب، مع أنه لا يصح عنه. قال: (ولكي يمكّنوا لهذه الخرافة أو الأسطورة في عقول المسلمين أَوْرَدُوا حديثًا عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بأن مَن كذَّب بالمهدي فقد كفر، ومن كذّب بالدجَّال فقد كفر). أقول: لا أعرف حديثًا هكذا، ولا أرى ذِكْر النبيّ - صلى الله عليه وسلم - للمهدي متواترًا ولا قريبًا منه، فأما ذكره الدجال فمتواتر قطعًا، ومن اطلع على ما في "صحيح البخاري" (¬6) وحده علم ذلك، ومع هذا فإنما أقول: من كذَّبَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) "في" سقطت من (ط). (¬2) (2944) من حديث أنس رضي الله عنه. (¬3) أخرجه مسلم (2937) من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه. (¬4) أخرجه مسلم (2942) عن تميم الداريّ رضي الله عنه. (¬5) (ص 186). (¬6) الأحاديث (7122 - 7134) كتاب الفتن، باب ذكر الدجال، وباب الدجال لا يدخل المدينة.

في خبر من أخباره عن الغيب فقد كفر. قال ص 214: (عمر الدنيا). فأشار إلى صنيع السيوطي ولم يذكر الأحاديث حتى ننظر فيها، والذي أعرفه أنه ليس في ذلك حديث صحيح صريح. قال: (وقد أعرضنا كذلك عن إيراد أخبار الفتن، وأشراط الساعة، ونزول عيسى التي زخرت بها كتب السنة المعتمدة بين المسلمين والمقدَّسة من الشيوخ الحشويين) (¬1). أقول: صدق الله تبارك وتعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} [يونس: 39] قال: (وكذلك أهملنا ذكر الأحاديث الواردة في خروج النيل والفرات وسيحون وجيحون من أصل سدرة المنتهى فوق السماء السابعة، وهي في البخاري وغيره). أقول: الذي في "صحيح البخاري" (¬2) في حديث الإسراء عند ذِكْر سِدْرة المنتهى: "وإذا أربعة أنهار: نهران باطنان ونهران ظاهران. فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: أما الباطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران [ص 170] فالنيل والفرات". وقد فسَّره أهلُ العلم بما فسروا، ورأيتُ بعضَ العصريين (¬3) يذكر وجهًا سأحكيه ليُنظر فيه، قال: لا ريب أنّ كلَّ ما رآه النبيُّ ¬

_ (¬1) غيَّر أبو رية العبارة في الطبعة اللاحقة إلى "شيوخ الدين". (¬2) (3207). (¬3) قارن بكتاب "مشكلات الأحاديث النبوية وبيانها" (ص 111) لعبد الله القصيمي. وانظر ما سبق (ص 255 - 256).

- صلى الله عليه وسلم - ليلة الإسراء حق، لكن منه ما كان بضَرْبٍ من التمثيل يحتاج إلى تأويل، وقد ذُكِر في بعض الروايات أشياء من هذا القبيل، انظر "فتح الباري" (7: 153) (¬1)، فقد يقال: إنّ سدرة المنتهى مع أنها حقيقة ضُرِبت مثلًا لكلمة الإسلام، على نحو قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم: 24] الآيات، وجعل مغرسها مثلًا للأرض التي ستثبت فيها كلمة الإسلام في الدنيا، والأرض التي يرثها أهله في الجنة، فرمز إلى الأولى بما فيه مثال النيل والفرات، وإلى الثانية بما فيه مثال النهرين اللَّذَيْنِ في الجنة، وكأنه قيل للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: هذه كرامتك، كما يدفع المَلِكُ إلى من يكرمه وثيقةً فيها رسم أرض معروفة فيها قصر وحديقة، فيكون معنى ذلك: أنه أنعم بها عليه. أما سيحون وجيحون فلا ذِكْر لهما، نعم في حديث لمسلم (¬2) تقدم (ص 132) ذِكْر سيحان وجيحان، وهما غير سيحون وجيحون. ثم قال أبو ريَّة ص 215: (كلمة جامعة ... انتهى العلامة السيد رشيد رضا في تفسيره ... إلى هذه النتائج القيمة: 1 - أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يعلم الغيب ... وإنما أعلمه الله ببعض الغيوب بما أنزل عليه في كتابه، وهو قسمان: صريح ومستنبط). أقول: اقتصر أبو ريَّة على هذا، مع أن في ذاك الموضع من "تفسير المنار" (9: 504) زيادة فيها: "2 - إن الله تعالى أعلمه ببعض ما يقع في المستقبل بغير القرآن من الوحي ... 3 - إنه كان يتمثل له - صلى الله عليه وسلم - بعض أمور المستقبل كأنه يراه، كما تمثَّلت له الجنة والنار عُرْض الحائط، وكما تمثّل له ¬

_ (¬1) (7/ 214 - 216). (¬2) (2839). وانظر (ص 255).

في أثناء حفر الخندق ما يفتح الله لأصحابه من الممالك ... وكشفه هذا حق، وهو ما يسمّيه أهلُ الكتاب نبوءات، وقد ظهر منه شيء كثير كالشمس ... ". قال: (لا شك أن أكثر الأحاديث قد رُوي بالمعنى ... فعلى هذا كان يروي كلُّ أحدٍ ما فهمه، وربما يقع في فهمه الخطأ لأن هذه أمور غيبية، وربما فسَّر بعضَ ما فهمه بألفاظٍ يزيدها ...). أقول: ليس من الحق إنكار هذا الاحتمال، لكن ليس من الحقِّ أن يجاوز به حدّه، فهو احتمال نادر، يزيدُه نُدْرةً أو يدفعه البتَّة: أن تتفق روايتان صحيحتان فأكثر، والظاهر الغالب من رواية الثقة هو الصواب، وبه يجب الحكم ما لم تقم حجّة صحيحة على الخطأ. [ص 171] ثم قال: (إن العابثين بالإسلام ... قد وضعوا أحاديث كثيرة ... وراج كثير منها بإظهار رواتها للصلاح والتقوى). أقول: راجع ما تقدم (ص 61 - 65) (¬1). قال: (ولم يُعرَف بعض الأحاديث الموضوعة إلا باعتراف من تاب إلى الله مِن واضعيها). أقول: من تدبر ما تقدم (ص 61 - 65) وغيرها تبين له أنَّ مَنْ كان حدّه أن يكذب لا يخفى حالُه على الأئمة، غايةُ الأمر أنهم قد يقتصرون على قولهم: "متهم بالكذب" ونحو ذلك. وبهذا تعلم أنه لو فُرِض عدم اعتراف من اعترف لم يلزم من ذلك أن يحكموا لخبره بالصحة. قال ص 216: (إن بعض الصحابة والتابعين كانوا يروون عن كل مسلم ... وقد ثبت أن الصحابة كان يروي بعضُهم عن بعض، وعن التابعين، حتى عن كعب الأحبار وأمثاله). ¬

_ (¬1) (ص 119 - 127).

أقول: راجع ما تقدم (73 - 75، و82 و89 و94 - 99 و109 - 110 و157) (¬1). قال: (والقاعدة عند أهل السنة: أنّ جميع الصحابة عدول ... وهي قاعدة أغلبية لا مطردة). أقول: سيأتي النظر في هذا في فصل عدالة الصحابة (¬2). قال: (فكل حديث مشكل المتن أو مضطرب الرواية أو مخالف لسنن الله تعالى في الخلق أو لأصول الدين أو نصوصه القطعية أو للحسيات وأمثالها من القضايا اليقينية فهو مَظِنّة لما ذكرنا. فمن صدَّق رواية مما ذكر ولم يجد فيها إشكالًا فالأصل فيها الصدق، ومَن ارتاب في شيء منها أو أورد عليه بعض المرتابين أو المشككين إشكالًا في متونها، فليحمله على ما ذكرنا من عدم الثقة بالرواية ...). أقول: لا أدري ما عَنى بالمشكل؟ فإنْ كان راجعًا إلى ما يأتي فذاك، فأما المضطرب فحكمه معروف عند أهل العلم، وأما المخالف لسنن الله، فمِنْ سُنن الله تعالى أن يخرق العادة إذا اقتضت حكمته، والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة لا تحصى. وراجع "الوحي المحمدي" (ص 63) (¬3). وأما المخالف لأصول الدين فراجع (ص 2) (¬4)، وأما المخالف لنصوصه القطعية فراجع (ص 14) (¬5). ¬

_ (¬1) (ص 143 - 150 و161 - 163 و173 - 175 و183 - 185 و192 - 193 و209 - 213). (¬2) (ص 365). (¬3) للسيد رشيد رضا. (¬4) (ص 7 - 8). (¬5) (ص 29 - 30).

وبالجملة لا نزاع أنَّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لا يخبر عن ربه وغيبه بباطل، فإن رُوِيَ عنه خبر تقوم الحجةُ على بطلانه فالخلل من الرواية, لكن الشأن كلّ الشأن في الحكم بالبطلان، فقد كَثُر اختلاف الآراء والأهواء والنظريات وكثر غلطها، ومن تدبَّرها [ص 172] وتدبر الرواية وأمعن فيها، وهو ممن رزقه الله تعالى الإخلاص للحق والتثبت = عَلِم أن احتمال خطأ الرواية التي يثبتها المحققون من أئمة الحديث أقلّ جدًّا من احتمال خطأ الرأي والنظر. فعلى المؤمن إذا أشكل عليه حديثٌ قد صحَّحه الأئمة، ولم تطاوعه نفسُه على حمل الخطأ على رأيه ونظره = أن يعلم أنه إن لم يكن الخلل في رأيه ونظره وفهمه فهو في الرواية، وليفزع إلى من يَثِقْ بدينه وعلمه وتقواه مع الابتهال إلى الله عزَّ وجلَّ، فإنه وليّ التوفيق. ثم قال أبو ريَّة ص 217: (تدوين القرآن ... ولو أنَّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وصحابته كانوا قد عُنُوا بتدوين الحديث ...). ثم قال ص 218: (كيف كان الصحابة ...) ثم قال: (كُتَّاب الوحي ...). أقول: راجع (ص 20 - 47) (¬1). ثم قال ص 218 - 219: (وكان أول من كتب للنبيّ - صلى الله عليه وسلم - بمكة من قريش عبد الله بن سعد بن أبي سرح). أقول: أَنَّى لأبي ريَّة هذا؟ إنما قال صاحب "الاستيعاب" (¬2) وغيرُه في عبد الله: إنه أسلم قبل الفتح. وقال ص 219: (جمع القرآن وسببه: روى البخاري عن زيد بن ثابت أنه قال: ¬

_ (¬1) (ص 41 - 91). (¬2) (3/ 918).

قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن القرآن جُمِع في شيء ... ولما تولى أبو بكر ونشبت حرب الردَّة وقتل فيها كثير من الصحابة خشي عمر من ضياع القرآن بموت الصحابة، فدخل على أبي بكر وقال له: إن أصحاب رسول الله باليمامة يتهافتون تهافت الفراش في النار، وإني أخشى أن لا يشهدوا موطنًا إلا فعلوا ذلك حتى يقتلوا، وهم حَمَلة القرآن ..). أقول: حديث زيد في مواضع من "صحيح البخاري" (¬1)، راجع "الفتح" (8/ 259 و9/ 9 و19 و13/ 159 و350) (¬2)، ولم أجده في "صحيح البخاري" باللفظ الذي ساقه أبو رية. وراجعت "فهارس البخاري" (¬3) للأستاذ رضوان محمد رضوان فذكر الحديث في المواضع الأربعة الأولى فحسب (¬4). والذي في "صحيح البخاري" في الموضع الأول: "إن القتل قد استحرَّ يوم اليمامة بالناس، وإني أخشى أن يستحرَّ القتلُ بالقُرَّاء في المواطن". وفي الثاني: "إن القتل قد استحرَّ يوم اليمامة بقُرَّاء القرآن، وإني أخشى إن يستحرَّ (¬5) القتلُ بالقُرَّاء بالمواطِن"، وتُرِكت هذه الجملة في الثالث والخامس. وفي الرابع: "إن القتل قد استحرَّ يوم اليمامة بقُرَّاء القرآن، وإني أخشى أن يستحرَّ القتلُ بقُرَّاء القرآن في المواطن". وليحذر القارئ من إساءة الظنِّ بأبي ريَّة، بل ينبغي أن يَحْمِل صنيعَه هنا ¬

_ (¬1) (4679، 4986، 4989، 7191، 7425). (¬2) (8/ 344، 9/ 10، 13/ 183، 404). (¬3) (ص 290). (¬4) وراجعت ذخائر المواريث فوجدته ذكر هذه المواضع ومواضع أخرى جاء فيها الحديث من وجه آخر، وليس فيه هذه الجملة. [المؤلف]. (¬5) (ط): "استحرّ". والمثبت من الصحيح.

على أنه رجع عن الميل إلى منع رواية الحديث بالمعنى، أو رأى جوازها في [ص 173] غير الحديث النبوي - ولو مع التمكُّن من الإتيان باللفظ الأصلي - إذا كان ذلك لمصلحته، ومصلحتُه هنا: أنه كره أن يصرِّح بأن الخشية كانت من استحرار القتل بقراء القرآن خاصة، وأحبَّ أن يجعلها من استحرار القتل بالصحابة على الإطلاق ليبني عليها ما علّقه في الحاشية إذ قال: (مما يلفت النظر البعيد ويسترعي العقل الرشيد: أن عمر لما راعه تهافت الصحابة في حرب اليمامة .. لم يقل عنهم إنهم حَمَلة الحديث، بل قال: إنهم حملة القرآن، ولم يطلب جمع الحديث وكتابته ... وفي ذلك أقوى الأدلة وأصدق البراهين على أنهم لم يكونوا يعنون بأمر الحديث، ولا أن يكون لهم فيه كتاب محفوظ ويبقى على وجه الدهر كالقرآن الكريم). أقول: الذي في الخبر - كما رأيتَ - خشية استحرار القتل بقُرَّاء القرآن، وبين القرآن والسنة فَرْق من وجوه، وبيانُ ذلك: أن الله تبارك وتعالى تكفَّل بحفظ الشريعة مما فيه (¬1) الكتاب والسنة كما مرَّ (ص 20 - 21) (¬2)، ومع ذلك كلَّفَ الأمةَ القيامَ بما يتيسّر لها من الحفظ، ولمَّا كان القرآن مقصودًا حفظ لفظه ومعناه، وفي ضياع لفظةٍ واحدة منه فوات مقصودٍ دينيّ، وهو مقدارٌ محصور يسهُل على الصحابة حفظه في الصدور وكتابته في الجملة = كُلِّفوا بحفظه بالطريقتين، وبذلك جرى العمل في حياة النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فتوفّاه الله تبارك وتعالى والقرآنُ كلُّه محفوظ في الصدور مفرَّقًا، إلا أنّ معظمه عند جماعة معروفين، وإنما حَفِظَه جميعَه بضعةُ أشخاص، ومحفوظ كلّه ¬

_ (¬1) كذا في (ط). (¬2) (ص 41 - 44).

بالكتابة مفرَّقًا في القِطَع التي بأيدي الناس كما مرّ (ص 20) (¬1). فلما استحرَّ القتلُ بالقُرَّاء في اليمامة، وخشي أن يستحرَّ بهم في كلِّ موطن، ومِنْ شأن ذلك - مع صَرْف النظر عن حِفْظ الله تعالى - أن يؤدّي إلى نقصٍ في الطريقة الأولى؛ رأى الصحابةُ أنهم إذا تركوا تلك القطع كما هي مُفرَّقة بأيدي الناس، كان مِنْ شأن ذلك احتمال أن يتلف بعضُها، فيقع النقص في الطريقة الثانية أيضًا، ورأوا أنه يمكنهم الاحتياط للطريقة الثانية بجمع تلك القطع وكتابة القرآن كلّه في صُحُف تُحْفَظ عند الخليفة، وإذا (¬2) كان ذلك ممكنًا بدون مشقة شديدة، وهو من قبيل الكتابة التي ثبت الأمر بها ولا مفسدة فيه البتّة = علموا أنه من جُملة ما كُلّفوا به، فوفَّقهم الله تعالى للقيام به. أما السنة: فالمقصود منها معانيها، وفواتُ جملةٍ من الأحاديث لا يتحقّق به فواتُ مقصودٍ ديني، إذ قد يكون في القرآن وفيما بقي من الأحاديث ما يفيد معاني الجملة التي فاتت. وهي مع ذلك [ص 174] منتشرة لا تتيسر كتابتها كما تقدم (ص 21) (¬3) فاكتفى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من الصحابة بحفظها في الصدور كما تيسر، بأن يحفظ كلُّ واحد ما وقف عليه، ثم يبلِّغه عند الحاجة، ولم يأمرهم بكتابتها، ولم يكن حفظ معظمها مقصورًا على القُرَّاء، بل كان جماعة ليسوا من القُرَّاء عندهم من السنة أكثر مما عند بعض القُرَّاء. فالدلائل والقرائن التي فهم منها الصحابة أنّ عليهم أن يصنعوا ما صنعوا مِنْ جَمْع القرآن، لم يتوفَّر لهم مثلُها ولا ما يقاربها، لكي يفهموا منه ¬

_ (¬1) (ص 41 - 42). (¬2) (ط): "وإذ". (¬3) (ص 43 - 44).

أنَّ عليهم أن يجمعوا السنة. على أنهم كانوا إذا فكّروا في جمعها بدا لهم احتمال اشتماله على مفسدة كما مرَّ (ص 30) (¬1)، وكذلك كان فيه تفويت حِكَم ومصالح عظيمة (راجع ص 21 - 22) (¬2). وتوقّفهم عن الجمع لِما تقدّم لا يعني عدم العناية بالأحاديث، فقد ثبت بالتواتر تديُّنهم بها، وانقيادهم لها، وبحثهم عنها كما تقدم في مواضعه، ولكنهم كانوا يؤمنون بتكفّل الله تعالى بحفظها، ويكرهون أن يعملوا مِن قِبَلِهم غير ما وَضَح لهم أنه مصلحة محضة، (راجع ص 30) (¬3)، ويعلمون أنه سيأتي زمان تتوفّر فيه دواعي الجمع وتزول الموانع عنه، وقد رأوا بشائر ذلك من انتشار الإسلام، وشدّة إقبال الناس على تلقِّي العلم وحفظه والعمل به، وقد أتمَّ اللهُ ذلك كما اقتضته حكمته. ثم ذكر ص 220 - 222 فصولًا في جمع القرآن، ثم قال ص 223 - 232: (تدوين الحديث). أقول: راجع لكتابة التابعين الحديث (ص 28 و55) (¬4)، فأما أتباع التابعين فكانوا يكتبون ويحتفظون بكتبهم ولا سيما بعد أن أمر أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز بالكتابة (راجع ص 30) (¬5). وفي "جامع بيان العلم" (¬6) ¬

_ (¬1) (ص 59 - 60). (¬2) (ص 43 - 46). (¬3) (ص 59 - 60). (¬4) (ص 55 - 56 و108 - 109). (¬5) (ص 59 - 60). (¬6) (438).

لابن عبد البر بسنده إلى ابن شهاب الزهري قال: "أمَرَنا عمرُ بن عبد العزيز بجمع السنن, فكتبناها دفترًا دفترًا، فبعث إلى كلَّ أرض له عليها سلطان دفترًا". ثم أكثر ابنُ شهاب من الكتابة بعد وفاة عمر لما أمر هشام بن عبد الملك. على أنّ ما كُتِب لعمر ولهشام لم يلق قبولًا عند أهل العلم؛ لأنهم كانوا يحرصون على تلقّي الحديث مِن المحدّث به مشافهةً. لكن الرواة عن ابن شهاب وغيره انهمكوا في الكتابة. ثم شرع بعضهم في التصنيف. وقد ذكر أبو ريَّة ص 229 عِدَّة من المصنِّفين، وأحب أن أشير إلى من مات منهم قبل سنة 160: فمنهم: ابن جُرَيج المتوفى سنة 150 له مصنفات تلقَّاها عنه جماعة، منهم حجّاج بن محمد الأعور، وعبد الرزاق الصنعاني، وعنهما الإمام أجمد وغيره. ولعبد الرزاق مصنفات موجودة. ومنهم: ابن إسحاق صاحب المغازي توفي سنة 151، صنف السيرة وغيرها. [ص 175] ومنهم: مَعْمَر بن راشد توفي سنة 153، وله مصنّفات بعضها موجود، وأخذها عنه عبدُ الرزاق وغيره. ومنهم: الأوزاعي، وسعيد بن أبي عَرُوبة تُوُفيا سنة 156، وكانت مصنفاتهما عند جماعةٍ من أصحابهما، تلقاها عنهم الإمام أحمد وغيره. ثم قال أبو ريَّة ص 233: (أثر تأخير التدوين ...). ذكر أنه لو دُوّن الحديث كما دُوّن القرآن لانسدَّ بابُ الكذب على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وانسدّ بابُ التفرُّق في الدين.

أقول: أأنتم أعلم أم الله؟ أرأيتَ لو قال قائل: لو خلق الله عباده على هيأة كذا لانسدَّ باب الظلم والعدوان والفجور، ولو أُنزل القرآن وكلّ دلالاته يقينية، لا يمكن أحدًا أن يشك أو يتشكك فيها لانسدَّ باب التفرق، ولو، ولو ... إنما شأنُ المؤمن أن ينظر ما قضاه الله واختاره، فيعلم أنه هو الحقّ المطابق للحكمة البالغة، ثم يتلمَّس ما عسى أن يفتح الله عليه به مِنْ فهم الحكمة، وراجع (ص 55 و60 - 62) (¬1). وذكر أمورًا قد تقدم النظر فيها، فراجع الفهرس. ثم قال ص 237: (نشأة علم الحديث ...) إلى أن قال ص 240: (الخبر وأقسامه) وذكر المتواتر ثم علّق عليه في الحاشية: (... أنكر المسلمون أعظم الأمور المتواترة، فالنصارى واليهود هما أمتان عظيمتان يخبرون بصلب المسيح، والإنجيل يصرِّح بذلك، فإذا أنكروا هذا الخبر وقد وصل إلى أعلى درجات المتواتر فأيّ خبرٍ بعده يمكن الاعتماد عليه والركون إليه؟) (¬2). أقول: هذا إما جنون، وإما كفر، "فاختر وما فيهما حظٌّ لمختار" (¬3). وقد بيَّن علماء المسلمين سقوط دعوى تواتر الصّلْب بما لا مزيد عليه. وكلُّ ¬

_ (¬1) (ص 108 - 109 و177 - 122). (¬2) أقول: حذف أبو ريَّة هذه الحاشية من الطبعات اللاحقة، فإما أن يكون عاد إلى رشده، أو تاب من كفره! وإن كان كتابه "دين الله واحد" يشي بسوء دِخْلَته وفساد طويّته! (¬3) عجز بيت من قصيدة للأعشى "ديوانه" (ص 229 - نشرة محمد محمد حسين)، صدره: فقال: ثُكْلٌ وغدرٌ أنت بينهما ... فاخْترْ ....................... وانظر "الشعر والشعراء": (1/ 262)، و"الأغاني": (6/ 314).

عاقل يعرفُ التواترَ الحقيقيَّ ثم يتدبر الواقعةَ يعلم أنها ليست منه. ومقتضى سياق أبي ريَّة أنه يحاول التشكيك في المتواتر، وزَعْم أن دلالته ظنية فقط. (ألف). ونقل ص 241 - 242 (¬1) عبارة عن "المستصفى"، ينبغي مقابلتها بـ "المستصفى" (1: 142) (¬2) مع قول "المستصفى" (¬3) في الصفحة التي قبلها: " (الخامس) كلّ خبر ... " ومراجعة المسألة في "أحكام ابن حزم" (¬4) وغيره. وقال ص 242: (ومن قواعدهم المشهورة ... ولا يلزم من الإجماع على حكم مطابقته لحكم الله في نفس الأمر). أقول: يراجع البحث في كتب الأصول، والمقصود هنا أن أبا ريَّة يرى دلالة الإجماع ظنية فقط. (ب). وذكر آخر ص 343 عن الرازي: (... وإذا ثبت هذا ظهر أن الدلائل النقلية ظنية، وأن العقلية قطعية، والظن لا يعارض القطع). أقول: للرازي تفصيل معروف (¬5)، وقد تعقَّبه شيخ الإسلام ابن تيمية (¬6) وغيره، والحق أنّ في القرآن [ص 176] دلالات قطعية، وأن دلالته المقطوع ¬

_ (¬1) انتهت في السطر الثالث. [المؤلف]. (¬2) (1/ 257 - ط الرسالة) وقد قابلت النص فوجدته قد تصرّف في كلمتين منه وهي قوله: "فيتصور إجماعهم" [اجتماعهم] تحت ضغط [ضبط] الإيالة ... ". (¬3) (1/ 265). (¬4) (1/ 104 وما بعدها). (¬5) ذكره في "المحصل" (ص 142)، وفي "أساس التقديس". (¬6) في كتابه العظيم "درء تعارض العقل والنقل"، وفي "بيان تلبيس الجهمية" وغيرهما.

فيها بالظهور تكون قطعية إذا علم أنه لم يكن وقت حاجة المخاطبين إلى الأخذ بها قرينة صارفة عن ذاك الظاهر؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز. وينبغي أن يتنبه لأن القرينة إنما يعتدّ بها إذا كانت بيِّنة يدركها المخاطَب إذا تدبَّر، ولتقرير هذا موضع آخر. ومقتضى صنيع أبي ريَّة أن دلائل القرآن - بَلْه الأحاديث - كلها ظنية. (ج). وقال قبل ذلك: (قال الجمهور: إن أخبار الآحاد لا تفيد العلم قطعًا ولو كانت مخرَّجة في البخاري ومسلم، وأنّ تلقي الأمة لهما بالقبول إنما يفيد العمل بما فيهما؛ بناء على أن الأمة مأمورة بالأخذ بكل خبر يغلب على الظن صدقه). أقول: مسألة أخبار "الصحيحين" تأتي (¬1)، وإنما المهمّ هنا أنه علَّق على آخر هذه العبارة قوله: (ترى هل هذه القاعدة التي قرروها قد أمر الله بها ورسوله؟ وترى هل هي تخرجنا من حكم اتباع الظن الذي جاء في آيات كثيرة من القرآن مثل: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36]. {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28] ومثل قوله تعالى في قول النصارى بصلب المسيح: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء: 157]). (د). تأمَّل هذه القضايا المرموز على أواخرها بهذه الأحرف (ألف - ب - ج - د) وانظر ماذا بقي لأبي ريَّة من الدين؟ أما الآيات، فقد قيل وقيل. ومن تدبّر السياقَ وتتبّع مواقعَ كلمة {يُغْنِي} ومشتقاتها في القرآن وغيره تبيَّن له ما يأتي: كلمة {الْحَقِّ} في الآيتين مراد ¬

_ (¬1) (ص 355 - 358).

بها الأمر الثابت قطعًا، وكلمة {يُغْنِي} معناها "يدفع" كما حكاه البغويّ في "تفسيره" (¬1)، وقد يعبر عنها بقولهم: "يصرف" ونحوه. راجع "لسان العرب" (19: 376) (¬2). ومنها في القرآن قوله تعالى: {وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ} [المرسلات: 31] وقوله سبحانه: {فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [إبراهيم: 21]. وفي آية أخرى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّار} [غافر: 47] وهذا سياق الآية الأولى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس: 31 - 32] [ص 177] فالكلام في محاجَّة المتخذين مع الله إلهًا آخر، وكلمة "الحق" في قوله: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ} مراد بها الأمر الثابت قطعًا، ومنه: أنَّه لا إله إلا الله. ثم ساق الكلام في تقريرهم إلى أن قال: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} فالحقُّ هنا هو الأمر الثابت قطعًا كما مرَّ، والمعنى: إن الظن لا يدفع شيئًا من الحق الثابت قطعًا، وعلى تعبير أهل الأصول: الظنُّ لا يعارض القطع. والآية الثانية في سياق محاجَّة المشركين القائلين: الملائكة بنات الله، ويسمونهم بأسماء الإناث ويعبدونها، قال تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا ¬

_ (¬1) (2/ 362 - 363). (¬2) (15/ 139 - دار صادر).

أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 23] والهدى هنا بيان الحق الثابت قطعًا، فالمعنى: أنهم يتبعون الظنَّ والهوى مُعْرِضين عما يخالفه من الحقِّ الثابت قطعًا، ثم قال تعالى: {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28] أي: ليس عندهم علم فيعارض الحقَّ الثابت قطعًا، إنما عندهم ظنّ، والظنّ لا يدفع شيئًا من الحق الثابت قطعًا. أو: الظن لا يعارض القطع. وأما الآية الثالثة فهي: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} [النساء: 157] المراد: أنّ الله يخبر بأنهم لم يقتلوه ولم يصلبوه، وخبره سبحانه يفيد العلم القطعيّ، وليس عند أهل الكتاب علم قطعيّ فيعارض خبرَ الله، وإنما عندهم ظنّ، والظنّ لا يعارض القطع (¬1). وقال أبو ريَّة ص 244: (ابن الصلاح ومخالفوه ...) وساق الكلام إلى أن قال 246: (أما المتكلمون فقد عُرِف من حالهم أنهم يردُّون كل حديث يخالف ما ذهبوا إليه ولو كان من الأمور الظنية). أقول: أما في الأمور الظنية فالمعروف عنهم قبوله، غير أنهم لا يجزمون بمدلوله إذا كان في العقليات. ثم قال: (فمن ذلك حديث: تحاجَّت الجنة والنار ... ، أخرجه البخاري ومسلم ¬

_ (¬1) وانظر ما سبق (ص 192 - 193).

عن أبي هريرة ...). أقول: قد تقدم (ص 159) (¬1) وبيَّنتُ هناك أنه رواه مع أبي هريرة أنسٌ وأبو سعيد وأُبيُّ بن كعب. ثم قال ص 247: (فهذا الحديث ونظائره وهي كثيرة يبعد على المتكلم أن يقول بصحتها فضلًا عن أن يجزم بذلك، وإذا أُلجِئَ إلى القول بصحتها لم يَألُ جهدًا في تاويلها ولو على وجه لا يساعد اللفظ عليه، بحيث يعلم السامع أن المتكلم لا يقول بجوازه في الباطن). [ص 178] أقول: هذا يتضمّن الاعتراف بأنّ النصوصَ اللفظية تكون قطعية الدّلالة. هذا ومسلكهم في التأويل هو عينه مسلكهم في دفاع الآيات الكثيرة المخالفة لهم من القرآن، فإذا كان لا ينفي ثبوت الآيات القرآنية عن الله ورسوله قطعًا، فكذلك لا ينفي صحة الأحاديث الصحيحة ظنًّا أو قطعًا. وراجع (ص 2) (¬2). وقال ص 249: (من المعروف ... أنك تجد الحديث يعمل به الحنفي لشهرته، ثم يأتي الشافعي فيرفضه لضعفٍ في سنده، وتجد المالكي يرفض الحديث لأن العمل جرى على خلافه، ويعمل به الشافعي لقوةٍ في سنده على ما رأى هو). أقول: ما دمنا نعرف أنَّ العلماء غير معصومين، فاختلافهم في بعض الأحاديث أيؤخذ بها أم لا؟ ليس فيه ما يوهم ذا عقل أن الأحاديث كلّها لا تصلح للحجة، ولا ما يقضي أن تلك الأحاديث المختلَف فيها تصلح أو لا تصلح، بل المدار على الحجة. فقد يرى العالم اشتهار حديث بين الناس ¬

_ (¬1) (ص 304). (¬2) (ص 7 - 8).

فيغلب على ظنه أنه لم يشتهر إلا وأصله صحيح فيأخذ به، فيأتي غيره فيبحث فيجد مرجع تلك الشهرة إلى مصدر واحد غير صحيح، كما في مسألة القهقهة في الصلاة. وقد يبلغ العالمَ حديثٌ من طريق واحد ويرى أن أهل العلم خالفوه فيمسك عنه، فيجيء غيره فيبحث فيجد الحديث ثابتًا، ويجد بعضَ أهل العلم قد أخذوا به، وأنَّ الذين لم يأخذوا به لم يقفوا عليه، أو نحو ذلك مما يبيِّن أن عدم أخذهم به لا يخدش في كونه حجة. وقد ينعكس الحال. وعلى مَنْ بَعْد المختلفين اتباع الحجة، فإن بقي بين مُتَّبعي الحجة خلاف فلا حرج، وإذا اتضح وبان أنَّ الحقَّ مع أحد المختلفين ولكن أَتْباعُ الآخر أَصَرُّوا على اتِّباعه، فليس في هذا ما يقدح في الحجة، سواء أعذَرْنا أولئك الأتباع أم لم نعذرهم. وهكذا الاختلاف عند معارضة الحديث لبعض القواعد الشرعية أو لجميع الأقيسة. وقال: (في مرآة الوصول وشرحها ...). أقول: راجع (ص 126) (¬1). وذكر ص 250 عبارة لأبي يوسف نقلها من "الأم" للشافعي (7: 307 - 308) (¬2) وتَرَكَ قِطَعًا منها. وقد تعقَّب الشافعيُّ كلامَ أبي يوسف بما تراه هناك. وفي كلام أبي يوسف مما أرى التنبيه عليه أخبار: الأول: قال: "حدثنا ابن أبي كريمة عن جعفر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... ". ¬

_ (¬1) (ص 243). (¬2) (9/ 182 فما بعدها - ط دار الوفاء).

أشار الشافعي إلى هذا الخبر في "الرسالة" (ص 224 - 225) وقال: "رواية منقطعة عن رجل مجهول". وفي التعليق (¬1) هناك عن ابن معين والخطابي وغيرهم أنه موضوع. [ص 179] الثاني: "وكان عمر فيما بلغنا لا يقبل الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا بشاهِدَيْنِ". أقول: وهذا باطل قطعًا، تقدم رده (ص 46) (¬2). الثالث: "وكان عليُّ بن أبي طالب لا يقبل الحديثَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -". أقول: كذا وقع، وهو باطل قطعًا، ولعله أراد أن عليًّا كان يُحلِّف مَنْ حدَّثه كما تقدم مع ردّه (ص 47) (¬3). الرابع: "وحدثنا الثقةُ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في مرضه الذي مات فيه: إني لأحرِّم ما حرَّم القرآنُ، والله لا تمسكون عليّ بشيء". أقول: كذا وقع ولعله: "لا أحرِّم إلا ما حرَّم القرآن" (¬4) فقد رُوي بلفظ: "لا أحرِّم إلا ما حرَّم الله في كتابه" راجع "أحكام ابن حزم" (2: 77)، ¬

_ (¬1) يعني للشيخ أحمد شاكر رحمه الله. (¬2) (ص 88 - 90). (¬3) (ص 90 - 91). (¬4) نقله البيهقي في "معرفة السنن والآثار": (6/ 524) كما صححه المؤلف. والحديث أخرجه الشافعي في "الأم - جماع العلم": (9/ 46 - 47)، وعبد الرزاق (4/ 534) من مرسل طاوس بلفظ: "فإني لا أحل لهم إلا ما أحلّ الله لهم، ولا أحرِّم عليهم إلا ما حرَّم الله". وقال الشافعي عَقِبه: "هذا منقطع".

و"مجمع الزوائد" (1: 171) (¬1) وهو على كلّ حال غير ثابت. ومع ذلك قد فسَّره الشافعي ثم ابن حزم بما يصحِّح معناه. ومن تتبَّع أقوال أبي يوسف في الفقه واستدلالاته عَلِم أنه نفسه لا يرى صحة هذه الأخبار ولا يبني عليها، وإنما كَثَّر بها السواد في بيان أن الأحكام لا تُبنى إلا على رواية الثقات كما أشار إليه الشافعي، إذ قال في تعقُّبه: وقد كان عليه أن يبدأ بنفسه فيما أَمَر به أن لا يروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا من الثقات (¬2). وقال ص 251: (رأي مالك وأصحابه أنهم يقولون: تثبت السنة من وجهين: أحدهما: أن نجد الأئمة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا بما يوافقها. الثاني: أن لا نجد الناس اختلفوا فيها). أقول: لم يذكر مصدره، وهذه كتب المالكية أصولًا وفروعًا لا تعطي هذا. نعم قد يقف المجتهد عن حديث ولا يبيّن عذرَه، أو يروي عنه بعضُ أصحابه كلمة لا يريد بها أن تكون قاعدة, فيذهب بعض أصحابه يحاول أن يضع قواعد يعتذر بها. وفي "الأم" (7: 177 -) (¬3) من قول الربيع: "قلت [للشافعي]: فاذكر ما ذهب إليه صاحبنا [مالك] من حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - مما لم يرو عن الأئمة أبي بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي شيئًا يوافقه. فقال: نعم سأذكر من ذلك إن شاء الله ما يدلُّ على ما وصفت، وأذكر أيضًا ما ذهب إليه من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيه عن بعض الأئمة ما يخالفه ... ¬

_ (¬1) (1/ 176 - 177). (¬2) "الأم": (9/ 192). (¬3) (8/ 514).

قال أبو ريَّة: (وقد روى الدارقطني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إنها تكون بعدي رواة [ص 180] يروون عني الحديث، فاعرضوا حديثهم على القرآن، فما وافق القرآن فحدّثوا به، وما لم يوافق القرآن فلا تحدّثوا به). أقول: لم يذكر مصدرَه، وهذا هو الخبر الأول في عبارة أبي يوسف المتقدمة (ص 178) (¬1) وقد حكم الأئمة بأنه موضوع كما مرَّ. قال: (وقد طعن رجال الأثر في هذا الحديث، ورووا حديثًا هذا نصه: "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه". وهذا من أعجب العجب, لأنه إن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أوتي مثل الكتاب - أي مثل القرآن ليكون تمامًا على القرآن لبيان دينه وشريعته - فلم لم يُعْنَ صلوات الله عليه بتدوينه وكتابته قبل أن ينتقل إلى الرفيق الأعلى كما عُنِيَ بتدوين القرآن). أقول: قد تقدَّم البيان المنير في مواضع، منها (ص 20 - 21) (¬2). قال: (ولم ينه عن كتابته بقوله: لا تكتبوا عني غير القرآن). أقول: تقدّم البيان الواضح (ص 22 - 24) (¬3). قال: (وهل يصح أن يدع الرسول نصف ما أوحاه الله إليه يعدو بين الأذهان بغير قيد، يمسكه هذا وينساه ذاك؟ وهل يكون الرسول - بعمله هذا - قد بلّغ الرسالة على وجهها وأدى الأمانة كاملة إلى أهلها؟). أقول: قد تقدم دفع هذا الريب (ص 20 - 21) (¬4)، والقَدْر الذي يحصل ¬

_ (¬1) (ص 339 - 340). (¬2) (ص 41 - 44). (¬3) (ص 44 - 49). (¬4) (ص 41 - 44).

به تبليغ الرسالة وأداء الأمانة إنما تحديده إلى الله عزَّ وجلَّ لا إلى المرتابين في حِكْمته سبحانه وتعالى وقدرته، وراجع (ص 32 - 33 و52) (¬1). قال ص 252: (وأين كان هذا الحديث عندما قال أبو بكر للناس .. ؟ وعندما قال عمر ... ؟ ولم يشفق ... عندما فزع إلى أبي بكر). أقول: راجع (ص 36 و39 و173 - 174) (¬2). وذكر توقُّف مالك وأبي حنيفة عن بعض الأحاديث لمعارضتها ما هو أقوى منها عندهما، وقد مرَّ جوابه (ص 178) (¬3). وذكر ص 253 قصةَ مناظرةٍ جرت بين الأوزاعي وأبي حنيفة، وهي قصة مكذوبة عارضَ بها بعضُ من لا يخاف الله من الحنفية قصةَ مناظرة رواها الشافعية بسند واهٍ، راجع "سنن البيهقي" (2: 82) و"فضائل أبي حنيفة" للموفق (1: 131)، وكلتا القصتين مروية عن "الشاذكوني قال: سمعت سفيان بن عيينة ... ". ثم ذكر ص 254 كلامَ النُّحاة في الاستدلال بالأحاديث، وهذا لا يهمنا، مع أنَّ الحق أن ابن مالك توسَّع، وأنه كما مرَّ (ص 60) (¬4) يمكن بالنظر في روايات الأحاديث وأحوال رواتها أن يُعْرَف في طائفة منها أنها بلفظ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أو بلفظ الصحابي أو بلفظ التابعي، وهو ممن يحتجّ به في العربية، لكن ¬

_ (¬1) (ص 63 - 66 و102 - 103). (¬2) (ص 70 - 71 و76 - 77 و329 - 332). (¬3) (ص 339 - 340). (¬4) (ص 117 - 118).

تحقيق ذلك يصعب على غير أهله، فلذلك أعرض قدماءُ النحاة عن الاحتجاج بالحديث، ووجدوا في المتيسّر لهم من القرآن وكلام العرب ما يكفي. وذكر ص 259 كلامًا للشيخ محمد عبده في حديث: أن يهوديًّا سَحَر النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -. أقول: النظر في هذا في مقامات: المقام الأول: مُلخَّص الحديث: أنه - صلى الله عليه وسلم - في فترة من عمره ناله مرض خفيف، ذكرت عائشةُ أشدَّ أعراضه بقولها: "حتى كان يرى أنه يأتي أهله ولا يأتيهم"، وفي رواية: "حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن" وفي أخرى: "يُخيَّل إليه أنه كان يفعل الشيء وما فعله"، والرواية الأولى فيما يظهر أصح الروايات، فالأخريان محمولتان عليها ... وفي "فتح الباري" (10: 193) (¬1): "قال بعض العلماء: لا يلزم من أنه كان يظن أنه فَعَل الشيء ولم يكن فَعَله، أن يجزم بفعله ذلك، وإنما يكون ذلك من جنس الخاطر يخطر ولا يثبت". أقول: وفي سياق الحديث ما يشهد لهذا، فإن فيه شعوره - صلى الله عليه وسلم - بذاك المرض ودعاءه ربه أن يشفيه. فالذي يتحقَّق دلالةُ الخبر عليه: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان في تلك الفترة يعرض له خاطر أنه قد جاء إلى عائشة، وهو - صلى الله عليه وسلم - عالم أنه لم يجئها ولكنه كان يعاوده ذاك الخاطر على خلاف عادته، فتأذَّى - صلى الله عليه وسلم - من ذلك. وليس في حمل الحديث على هذا تعسُّف ولا تكلُّف. ¬

_ (¬1) (10/ 227).

المقام الثاني: في الحديث عن عائشة: "حتى إذا كان ذات يوم وهو عندي لكنه دعا ودعا ثم قال: يا عائشة أشعرتِ أنّ الله أفتاني فيما استفتيتُه فيه؟ أتاني رجلان (أي ملكان - كما في رواية أخرى - في صورة رجلين) ... فقال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ فقال: مطبوب. قال: مَنْ طبَّه؟، قال: لبيد بن الأعصم. قال: في أيَّ شيء؟ قال: في مُشْط ومُشاطة وجُفّ طَلْع نخلة ذَكَر. قال: وأين هو؟ قال: في بئر ذروان. فأتاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ناس من أصحابه فجاء ... قلت: يا رسول الله أفلا استخرجته؟ قال: "قد عافاني الله، فكرهتُ أن أثير على الناس شرًّا، فأمرت بها فدُفِنَتْ". ومحصّل هذا: أن لبيدًا أراد إلحاق ضرر بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فعمل عملًا في مُشط ومشاطة الخ، فهل من شأن ذلك أن يؤثر؟ [ص 182] قد يقال: لا، ولكن إذا شاء الله تعالى خَلَق الأثرَ عَقِبه. والأقرب أن يقال: نعم بإذن الله، والإذن هنا خاص، وبيانُه: أن الأفعال التي من شأنها أن تؤثِّر ضربان: الأول: ما أذن الله تعالى بتأثيره إذنًا مطلقًا ثم إذا شاء مَنَعَه، وذلك كالاتصال بالنار مأذون فيه بالإحراق إذنًا مطلقًا، فلما أراد الله تعالى منعه قال: {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69]. الضرب الثاني: ما هو ممنوع من التأثير منعًا مطلقًا، فإذا اقتضت الحكمة أن يمكَّن من التأثير رُفِع المنع فيؤثر. وقوله تعالى في السحر: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 102] يدلُّ أنه من الضرب الثاني، وأنّ المراد بالإذن الإذن الخاص، والحكمةُ في مصلحة الناس تقتضي هذا، والواقع في شؤونهم يشهد له، وإذ كان هذا حاله فلا غرابة في خفاء وجه التأثير علينا.

المقام الثالث: النظر في كلام الشيخ محمد عبده. وفيه ثلاث قضايا: القضية الأولى: قال: (فعلى فرض صحته هو آحاد، والآحاد لا يؤخذ بها في باب العقائد). أقول: أما صحته فثابته بإثبات أئمة الحديث لها، فإنْ أراد الصحة في نفس الأمر فهب أنَّا لا نقطع بها ولكنَّا نظنها ظنًّا غالبًا، وعلى كلا الحالين فواضعو تلك القاعدة لا ينكرون أنه يفيد الظن، ومَن أنكر ذلك فهو مكابر، وإذا أفاد الظنَّ فلا مفرَّ من الظنّ وما يترتَّب على الظن، فلم يبق إلا أنه لا يفيد القطع، وهذا حقٌّ في كلّ دليل لا يفيد إلا الظن. القضية الثانية: أنه مناف للعصمة في التبليغ قال: (فإنه قد خالط عقلَه وإدراكَه في زعمهم ... فإنه إذا خولط ... في عقله كما زعموا جاز عليه أن يظن أنه بلّغ شيئًا وهو لم يبلغه، أو أن شيئًا ينزل عليه وهو لم ينزل عليه). أقول: أما المتحقِّق من معنى الحديث كما قدَّمنا في المقام الأول فليس فيه ما يصحّ أن يُعَبَّر عنه بقولك: "خُولط في عقله" وإنما ذاك خاطر عابر، ولو فُرِض أنه بلغ الظن فهو في أمر خاص من أمور الدنيا لم يتَعَدَّه إلى سائر أمور الدنيا فضلًا عن أمور الدين، ولا يلزم من حدوثه في ذاك الأمر جوازه في ما يتعلق بالتبليغ، بل سبيلُه سبيل ظنه أن النخل لا يحتاج إلى التأبير، وظنه بعد أن صلى ركعتين أنه صلى أربعًا، وغير ذلك من قضايا السهو في الصلاة، وراجع (ص 18 - 19) (¬1). وفي القرآن ذكر غضب موسى على أخيه هارون، وأَخْذه برأسه لظنه أنه قصَّر مع أنه لم يقصِّر، وفيه قول يعقوب لبنيه لمَّا ذكروا له ما جرى لابنه الثاني: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ [ص 183] لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا} [يوسف: 18] ¬

_ (¬1) (ص 36 - 40).

يتَّهمهم بتدبير مكيدة مع أنهم كانوا حينئذ أبرياء صادقين. وقد يكون من هذا بعض كلمات موسى للخضر. وانظر قوله تعالى عن يونس: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء: 87]. القضية الثالثة: الحديث مخالف للقرآن (في نفيه السحر عنه - صلى الله عليه وسلم - وعدّه من افتراء المشركين عليه ... مع أن الذي قصَدَه المشركون ظاهر؛ لأنهم كانوا يقولون: إنّ الشيطان يُلابسه عليه السلام، ومُلابسة الشيطان تعرف بالسحر عندهم وضَرْب من ضروبه، وهو بعينه أثر السحر الذي يُنسب إلى لبيد ... وقد جاء بنفي السحر عنه عليه السلام، حيث نَسَب القول بإثبات حصول السحر له إلى المشركين أعدائه ووبَّخهم على زعمهم هذا، فإذًا هو ليس بمسحور قطعًا). أقول: كان المشركون يعلمون أنه لا مساغ لأن يزعموا أنه - صلى الله عليه وسلم - يفتري - أي يتعمَّد - الكذب على الله عزَّ وجلَّ فيما يخبر به عنه، ولا لأنه يكذب في ذلك مع كثرته غير عامد، فلجأوا إلى محاولة تقريب هذا الثاني بزعم أنَّ له اتصالًا بالجنّ، وأنَّ الجِنّ يُلْقون إليه ما يلقون، فيصدّقهم ويخبر الناس بما ألقوه إليه. هذا مدار شبهتهم، وهو مرادهم بقولهم: به جِنَّة. مجنون. كاهن. ساحر. مسحور. شاعر. كانوا يزعمون أنَّ للشعراء قُرَناء من الجن تُلقي إليهم الشعرَ؛ فزعموا أنه شاعر أي: أن الجن تُلقي إليه كما تُلقي إلى الشعراء، ولم يقصدوا أنه يقول الشعر. أو أن القرآن شعر. إذا عُرِف هذا، فالمشركون أرادوا بقولهم: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} [الإسراء: 47] أنَّ أمْرَ النبوّةِ كلّه سحر، وأن ذلك ناشئٌ عن الشياطين استولوا عليه - بزعمهم - يُلقون إليه القرآن، ويأمرونه وينهونه فيصدقهم في ذلك كلّه ظانًّا أنه إنما يتلقّى من الله وملائكته. ولا ريب أن الحال التي ذكر

في الحديث عروضها له - صلى الله عليه وسلم - لفترة خاصة ليست هي هذه التي زعمها المشركون، ولا هي من قبيلها في شيء من الأوصاف المذكورة. إذن تكذيب القرآن وما زعمه المشركون لا يصح أن يؤخذ منه نفيه لما في الحديث. فإن قيل: قد أطلق على تلك الحالة أنها سحر، ففي الحديث عن عائشة: "سَحَر رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ ... " والسحر من الشياطين، وقد قال الله تعالى للشيطان: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42]. قلت: أما الذي أخبر به النبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن المَلَك فإنّما سمّاها (طبًّا) كما مرَّ في الحديث، وقد أنشد ابن فارس في "مقاييس اللغة" (3: 408): فإن كنتُ مطبوبًا فلا زِلْتُ هكذا ... وإن كنتُ مسحورًا فلا برأ السحرُ (¬1) وأقلّ ما يدل عليه هذا: أنّ الطّبَّ أخصّ من السِّحْر، وأن من الأنواع التي يُصاب بها الإنسان ويطلق [ص 184] عليها "سحر" ما يقال له: "طبّ" وما لا يقال: "طب". وعلى كلِّ حال فالذي ذُكِر في الحديث ليس من نوع ما زعمه المشركون، ولا هو من ملابسة الشيطان، وإنما هو أثر نفس الساحر وفعله. وقد قدَّمْتُ أنَّ وقوع أثر ذلك نادر، فلا غرابة في خفاء تفسيره. وهذا يغني عما تقدم (ص 98) (¬2). ثم نقل أبو ريَّة ص 261 - فصلًا عن صاحب "المنار" فيه: (إن بعض أحاديث ¬

_ (¬1) البيت من ثلاثة أبيات اختلف في نسبتها، فقيل: لمجنون ليلى "ديوانه المجموع" (ص 100)، وقيل: للنهدي "الحماسة": (2/ 29)، وقيل: لرجل من بني ربيعة "سمط اللآلي": (1/ 403). (¬2) (ص 190 - 191).

الآحاد تكون حجة على من ثبتت عنده واطمأن قلبه بها، ولا تكون حجة على غيره يَلْزم العملُ بها). أقول: عدم الثبوت والطمأنينة قد يكون لسبب بيِّن، وقد يكون لسبب محتمل يقوَى عند بعض أهل العلم ويضعف عند بعضهم، وقد يكون لما دون ذلك من هوى وزيغ وارتياب وتكذيب. وعلى الأمة أن تُنْزِل كلّ واحد من هؤلاء منزلته بحسب ما يتبيَّن من حاله. وكما أننا إذا رأينا مَنْ يتعبَّد عبادة غير ثابتة شرعًا، فسألناه، فذكر حديثًا باطلًا، فبيَّنَّا له فقال: هو ثابت عندي مطمئنٌّ به قلبي = كان علينا أن ننكر عليه، وكان على وليِّ الأمر ومن في معناه منعه ومعاقبته. فكذلك إذا رأينا رجلًا ينفي حديثًا ثابتًا وبيَّنَّا له ثبوته، فقال: لم يثبت عندي ولم يطمئنَّ به قلبي، ولم يذكر سببًا، أو ذكر سببًا لا يُعتَدُّ به شرعًا. قال: (ولذلك لم يكن الصحابة يكتبون جميع ما سمعوا من الأحاديث ويدعون إليها ...). أقول: قد تقدم الكشف عن هذا (ص 20 - 50) (¬1). قال: (ولم يرض الإمام مالك من الخليفتين المنصور والرشيد أن يحمل الناس على العمل بكتبه حتى الموطأ). أقول: إنما أنكر الإلزام بـ "الموطأ", لأنه يعلم أنَّ فيه أحاديث أخذ بها هو وقد يكون عند غيره ما يخصِّصها، أو يقيّدها أو يعارضها، وفيه توقّف عن أحاديث قد يكون عند غيره ما يقوِّيها ويؤيِّدها، وقد يكون عند غيره أحاديث لم يقف عليها هو، وفيه كثير مما قاله باجتهاده، وفي الأمة علماء لهم أن ¬

_ (¬1) (ص 41 - 99).

يجتهدوا ويعملوا بما رَجَح عندهم وإن خالفوا مالكًا، وفوق هذا كلِّه فهو يعلم أنه بنى على ما فهمه من القرآن ومن الأحاديث التي ذكرها، وأنَّ في علماء الأمة من يخالفه في بعض ذلك الفهم. وعلى كلِّ حال فليس في امتناع مالك من إلزام الأمة كلها علمائها وعامّتها بقوله ما يقتضي أن لا يُلْزَم بالعمل بالحديث مَنْ يعلم أنه ليس عنده ما يخالفه إلا الهوى والزيغ والارتياب والتكذيب والعناد. ثم قال ص 262: (وإنما يجب العمل ...)، كرر معنى ما تقدم. [ص 185] قال: (أحاديث الآحاد لا يؤخذ بها في العقائد ...). أقول: راجع (ص 182) (¬1). قال: (وكل من ظهر له علة في رواية حديث فلم يصدق رفعه لأجلها فهو معذور كذلك). أقول: الصواب في هذا أن يُنظر في تلك العِلّة ويُعامل صاحبها بما يستحق، كما مرَّ. قال: (ولا يصح أن يقال: إنه مكذب لحديث كذا). أقول: أمّا إن زعم أنه كذب فهو مكذِّب له، ولا يَضُرُّه ذلك ما لم يلزمه أحد أمرين: إما تكذيب النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وإما تكذيبُ صادقٍ بغير حجة. قال: (وهي تفيد الظن). أقول: في هذا كلام معروف. ¬

_ (¬1) (ص 345 - 346).

قال: (ومن القواعد الجليلة ... أن طروء الاحتمال في المرفوع من وقائع الأحوال يكسوها ثوبَ الإجمال فيسقط به الاستدلال). أقول: موضع هذا أن يحتمل الخبرُ وجهين ولا دليل فيه على أحدهما، فأما إذا كان أحدهما راجحًا فالحكم له. ثم قال أبو ريَّة ص 263: (ليس في الحديث متواتر ...). أقول: مَن نفى هذا إنما نفى التواتر اللفظيّ، فأما المعنويّ فكثير، فلتراجع الكتب التي نقل عنها. وذكر في الحاشية: حديثَ الحوض، وكأنه استهزأ به، ومن استهزأ به فليس من أهله. ثم ذكر شيئًا من تقسيم العلماء للحديث، إلى أن قال ص 267: (تعدد طرق الحديث لا يقويها. قال العلامة السيد رشيد رضا: يقول المحدثون في بعض الأحاديث حتى التي لم يصح لها سند: إن تعدد طرقها يقويها. وهي قاعدة للمحدّثين لم يشر إليها الله في كتابه، ولا ثبتت في سنته عن رسوله، وإنما هي مسألة نظرية غير مطَّردة). أقول: أما إطلاق أبي ريَّة في العنوان فباطل قطعًا كما سترى. وأما إشارة القرآن فيمكن إثباتها باشتراط القرآن العدد في الشهود، وقوله تعالى: {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} [يس: 14]. ومن السنة: حديث ذي اليدين، والمعقول واضح. نعم قوله: (غير مطردة) حق لا ريب فيه، بل أزيد على ذلك أن بعض الأخبار يزيده تعدد الطرق وهنًا، كأن يكون الخبر في فضل رجل، وفي كلِّ طريقٍ من طرقه كذَّاب أو مُتَّهَم ممن يتعصَّب له أو مغفَّل أو مجهول. [ص 186] قال: (فتعدد الطرق في مسألة مقطوع ببطلانها شرعًا كمسألة الغرانيق،

أو عقلًا لا قيمة له، لجواز اجتماع تلك الطرق على الباطل). أقول: أما الباطل يقينًا فلا يفيده التعددُّ شيئًا، بل يبعد جدًّا أن تتعدد طرقه تعددًا يفيده قوة قوية، نعم قد يختلف المتن في الجملة ويكون الحكم بالبطلان إنما هو بالنظر إلى ما وقع في بعض الطرق، وقد يكون ذلك الخطأ وقع فيه، وقد يفهم الناظر معنى يحكم ببطلانه، وللخبر معنى آخر مستقيم، وكثيرًا ما يقع الخلل في الحكم بالبطلان. وقال أبو ريَّة ص 269: (كتب الحديث المشهورة) ثم ذكر "الموطأ" وذكر أشياء ينبغي مراجعةُ مصادرها، إلى أن قال ص 273: (قال ابن معين: إن مالكًا لم يكن صاحب حديث، بل كان صاحب رأي). أقول: لم يذكر مصدره إن كان له مصدر، ومن المتواتر ثناء ابن معين البالغ على مالك بمعرفة الحديث ورواته والإتقان والتثبُّت (¬1)، وليس من شأن ابن معين النظر في الفقه. قال: (وقال الليث بن سعد: أحصيتُ على مالك سبعين مسألة وكلُّها مخالفة لسنة الرسول). أقول: قد عرفنا أنَّ مالكًا ربما توقف عن الأخذ بالحديث لاعتقاده أنه منسوخ أو نحو ذلك، وقد تُبنى على الحديث الواحد مئات من المسائل، وقد قال مالك: "إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي فما وافق السنة فخذوا به" (¬2). ¬

_ (¬1) انظر "تهذيب التهذيب": (10/ 5 - 9). (¬2) من ترجمة مالك في تهذيب التهذيب [10/ 9]. [المؤلف].

قال: (وقد اعترف مالك بذلك). أقول: لم يذكر مأخذه حتى نبيِّن له غلطه أو مغالطته. قال: (وألَّف الدارقطني جزءًا فيما خولف فيه مالك من الأحاديث في الموطأ وغيره، وفيه أكثر من عشرين حديثًا) (¬1). أقول: منها ما الصواب فيه مع مالك، ومنها ما كلا الوجهين صحيح، ومنها ما الاختلاف فيه في أمر لا يضر. ثم قال: (البخاري وكتابه ...) إلى أن قال ص 274: (كان البخاري يروي بالمعنى ...). أقول: تقدم النظر في ذلك (ص 95) (¬2). قال: (قال ابن حجر: من نوادر ما وقع في البخاري أنه يخرج الحديث تامًّا بإسناد واحد بلفظين ...). أقول: عزاه إلى "فتح الباري" (10: 186) وإنما هو في (10/ 193) (¬3) من الطبعة الأولى الميرية، وبيَّن ابن حجر هناك أن اختلاف اللفظ وقع ممن فوق البخاري لا من البخاري، فراجعه، وتعجَّب من أمانة أبي ريَّة! [ص 187] ثم قال: (موت البخاري قبل أن يبيّض كتابه. يظهر أن البخاري مات قبل أن يتم تبييض كتابه، فقد ذكر ابن حجر في "مقدمة فتح الباري" أن أبا إسحق ¬

_ (¬1) طبع الكتاب وفيه (83) حديثًا. والأمر كما ذكر الشيخ، وانظر مقدمة تحقيقه (ص 21) ط الرشد، تحقيق رضا بوشامة الجزائري. (¬2) (ص 186 - 187). (¬3) (10/ 227 - السلفية).

إبراهيم بن أحمد المستملي قال: انتسخت كتاب البخاري من أصله الذي كان عند صاحبه محمد بن يوسف الفِرَبْري، فرأيت فيه أشياء لم تتم، وأشياء مبيضة، منها تراجم لم يثبت بعدها شيئًا، ومنها أحاديث لم يترجم لها. فأضفنا بعض ذلك إلى بعض. قال أبو الوليد الباجي: ومما يدل على صحة هذا القول: أن رواية أبي إسحاق المستملي ورواية ... مختلفة بالتقديم والتأخير، مع أنهم انتسخوا من أصل واحد، وإنما ذلك بحسب ما قدَّر كلُّ واحد منهم فيما كان في طُرَّة (¬1) أو رقعة مضافة أنه من موضع ما فأضافه (¬2) إليه. ويبين ذلك أنك تجد ترجمتين وأكثر من ذلك متصلة ليس بينها أحاديث). أقول: قول أبي ريَّة (قبل أن يبيض) يوهم احتمال أن يكون في النسخة ما لم يكن البخاريُّ مطمئنًّا إليه على عادة المصنِّفين، يستعجلُ أحدُهم في التسويد على أن يعود فينقِّح. وهذا باطل هنا، فإنَّ البخاريَّ حدَّث بتلك النسخة، وسمع الناسُ منه منها، وأخذوا لأنفسهم نُسَخًا في حياته، فثبت بذلك أنه مطمئنّ إلى جميع ما أثبته فيها، لكن ترك مواضع بياضًا رجاء أن يُضيفها فيما بعد فلم يتفق ذلك. وهي ثلاثة أنواع: الأول: أن يثبت الترجمة وحديثًا أو أكثر، ثم يترك بياضًا لحديث كان يفكِّر في زيادته، وأَخَّر ذلك لسببٍ ما، ككونه كان يحبّ إثباته كما هو في أصله ولم يتيسر له الظَّفَر به حينئذ. الثاني: أن يكون في ذهنه حديث يرى إفراده بترجمة، فيثبت الترجمةَ ويؤخر إثبات الحديث لنحو ما مرَّ. ¬

_ (¬1) (ط): "طرق" خطأ. (¬2) (ط): "أضافه" والمثبت من "هُدَى الساري" وكتاب أبي ريَّة.

الثالث: أن يثبت الحديث ويترك قبله بياضًا للترجمة؛ لأنه يُعنى جدًّا بالتراجم ويضمِّنها اختياره، وينبِّه فيها على معنى خفيّ في الحديث أو حَمْله على معنى خاص أو نحو ذلك. فإذا كان متردِّدًا تَرَك بياضًا ليتمَّه حين يستقرَّ رأيه. وليس في شيء من ذلك ما يوهم احتمال خلل في ما أثبته. فأما التقديم والتأخير فالاستقراء يبيّن أنه لم يقع إلا في الأبواب والتراجم، يتقدّم أحدُ البابين في نسخة ويتأخّر في أخرى، وتقع الترجمة قبل هذا الحديث في نسخة وتتأخر عنه في أخرى، فيلتحق بالترجمة السابقة. ولم يقع من ذلك ما يمسّ سياق الأحاديث بضرر. وفي "مقدمة الفتح" (¬1) بعد العبارة السابقة: "قلت: وهذه قاعدة حسنة يُفْزَعُ إليها حيث يتعسَّر وجه الجمع بين الترجمة والحديث، وهي مواضع قليلة جدًّا". ثم قال أبو رية ص 275: (وقد انتقده الحفّاظ في عشرة ومائة حديث، منها 32 حديثًا وافقه مسلم على إخراجها). أقول: قد ساقها الحافظ ابن حجر في "مقدمة الفتح" (¬2) وبيَّن حالها، ومن تدبَّر ذلك علم أن الأمر فيها هيِّن [ص 188] ليس فيه ما يحطّ مِن قَدْر البخاريِّ وصحيحه. قال: (وكذلك ضعَّف الحفَّاظُ من رجال البخاري نحو ثمانين رجلًا ...). أقول: سيأتي النظر في هذا قريبًا (¬3). قال: (وقال السيد محمد رشيد رضا بعد أن عرض للأحاديث المنتقدة على ¬

_ (¬1) (ص 8). (¬2) (ص 346 - 383). (¬3) (ص 356 - 358).

البخاري ما يلي: وإذا قرأت ما قاله الحافظ فيها رأيتها كلها في صناعة الفن ... ولكنك إذا قرأت الشرح نفسه (فتح الباري) رأيت له في أحاديث كثيرة إشكالات في معانيها أو تعارضها مع غيرها مع محاولة الجمع بين المختلفات وحل للمشكلات بما يرضيك بعضه دون بعض). أقول: السيد رشيد رضا وغيره يعلمون أنَّ في القرآن آيات يُشكل بعضُها على كثير من الناس، وآيات يتراءى فيها التعارض. والذين فسَّروا القرآن - ومنهم السيد رشيد - يحاولون حلّ ما يتراءى إشكاله والجمع بين ما يتراءى تعارضه (بما يرضيك بعضُه دون بعض). والقرآن كلُّه حقّ {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42]. فثبت بهذا أن ما ذكره السيد رشيد رضا في تلك الأحاديث لا تصلح دليلًا على البطلان. هذا، وللاستشكال أسباب، أشدّها استعصاء: أن يدلّ النص على معنى هو حقّ في نفس الأمر لكن سبق لك أن اعتقدت اعتقادًا جازمًا أنه باطل. وقال ص 276: (وقال الدكتور أحمد أمين ... إن بعض الرجال الذين روى لهم [البخاري] غير ثقات, وقد ضعَّف الحافظ من رجال البخاري فوق الثمانين). أقول: هذا الأمر يتراءى مَهُولًا، فإذا تدبَّرنا حالَ أولئك الثمانين واستقرأنا ما أخرجه البخاري لهم = اتضح أنّ الأمر هيِّن، وقد ساق الحافظ ابن حجر في "مقدّمة فتح الباري" (¬1) تراجم هؤلاء وما قيل فيهم من مدح وقدح، وما أخرجه لهم البخاري، فذكر في أولهم ممن اسمه أحمد تسعةَ نفرٍ اختلف فيهم، وغالبهم من شيوخ البخاري الذين لقيهم واختبرهم، فثلاثة منهم اتضح أنهم ثقات وأنَّ قَدْح مَن قَدَح فيهم ساقطٌ، كما تراه جليًّا في ¬

_ (¬1) (ص 384 - 465).

"مقدمة الفتح". وثلاثة فيهم كلام، وإنما أخرج لكل واحد منهم حديثًا واحدًا متابعة، يروي البخاريُّ الحديث عن ثقة أو أكثر، ويرويه مع ذلك عن ذاك المتكلَّم فيه، واثنان روى عن كلًّ منهما أحاديث [ص 189] يسيرة متابعة أيضًا. التاسع: أحمد بن عاصم البلخي ليس له في الصحيح نفسه شيء، ولكن المتسملي - أحد رواة الصحيح عن الفِرَبْرِي عن البخاري - أدرج في باب رفع الأمانة من الرقاق قوله: "قال الفربري: قال أبو جعفر: حدثت أبا عبد الله [البخاري] فقال: سمعت أبا [جعفر] أحمد بن عاصم يقول: سمعت أبا عبيد يقول: قال الأصمعي وأبو عَمْرو وغيرهما: جذر قلوب الرجال - الجذر الأصل من كل شيء، والوَكْت أثر الشيء -". هذا هو التحقيق، وإن وقع في "التهذيب" و"مقدمة الفتح" (¬1) ما يوهم خلافه، وراجع "الفتح" (11: 386) (¬2). وإذ قد عرفتَ حالَ التسعة الأوَّلين فَقِسْ عليهم الباقي، وإن شئت فراجع وابحث يتضِحْ لك أنَّ البخاريَّ عن اللوم بمنجاة. ثم قال أحمد أمين: (وفي الواقع هذه مشكلة المشاكل، فالوقوف على أسرار الرجال محال، نعم إنّ مَن زلّ زلة واضحة سهل الحكم عليه، ولكن ماذا يصنع بمستور الحال؟). أقول: الخبير الممارس لأحوال الناس وطباعهم، وللرواية وأحوال الرواة، وما جرى عليه أئمة النقد يتبين له أن الله تعالى قدى هيَّأ الأسباب لبيان ¬

_ (¬1) "التهذيب": (1/ 46)، و"هُدَى الساري" (ص 386). (¬2) (11/ 334). ووقع في (ط): (11/ 286) خطأ.

الحق من الباطل، وراجع (ص 55 و62) (¬1). قال: (ثم إن أحكام الناس على الرجال تختلف كل الاختلاف, فبعضٌ يوثق رجلًا وآخر يكذبه، والبواعث النفسية على ذلك لا حدَّ لها ...). أقول: إذا نظرنا إلى الواقع فعلًا انقشع هذا الضباب، حسبك أن رجال البخاري يناهزون ألفي رجل، وإنما وقع الاختلاف في ثمانين منهم، وقد عرضتُ سابقًا حالَ الثمانين. قال: (ولعل من أوضح ذلك عكرمة مولى ابن عباس ...). أقول: ترجمة عكرمة في "مقدمة فتح الباري" (¬2) فليراجعها من أحبّ، أما البخاريُّ فكان الميزان بيده، لأنه كان يعرف عامة ما صحَّ عن عكرمة أنه حدَّث به، فاعْتَبَر حديثَه بعضه ببعض من رواية أصحابه كلهم، فلم يجد تناقضًا ولا تعارضًا ولا اختلافًا لا يقع مثله في أحاديث الثقات، ثم اعْتَبَر أحاديثَ عكرمة عن ابن عباس وغيره بأحاديث الثقات عنهم فوجدها يصدِّق بعضُها بعضًا، إلا أن ينفرد بعضهم بشيء له شاهد من القرآن أو من حديث صحابيّ آخر. فتبيَّن للبخاري أنه ثقة. ثم تأمَّلَ ما يصح مِن كلام مَن تكلَّم فيه فلم يجد حجةً تُنافي ما تبيَّن له. قال: (فابن جرير الطبري يثق به كل الثقة، ويملأ تفسيره وتاريخه بأقواله والرواية عنه). [ص 190] أقول: نعم يثق به ابن جرير، لكن ليس روايته عنه في "تفسيره" و"تاريخه" بدليل على ذلك، فإنه كثيرًا ما يروي فيهما عمن ليس بثقة عنده؛ ¬

_ (¬1) (ص 108 - 107 و121 - 122). (¬2) (ص 425 - 430).

ولا عند غيره؛ لأنه لم يلتزم بالصحة. قال: (ومسلم ترجَّح عنده كذبه فلم يرو له إلا حديثًا واحدًا في الحج، ولم يعتمد فيه عليه وحده وإنما ذكره تقوية لحديث سعيد بن جبير). أقول: كلمة (كذبه) لا وجه لها، ويَرُدُّها ما بعدها، فإن من استقرَّ الحكم عليه بأنه متّهم بالكذب لا يُتقوّى بروايته أصلاً ولا سيما في الصحيح، لكن لعل مسلمًا لم يتجشَّم ما تجشَّم البخاريُّ من تتبُّع حديث عكرمة واعتباره، فلم يتبيَّنْ له ما تبيَّنَ للبخاري، فوَقَف عن الاحتجاج بعكرمة. ثم ساق أبو ريَّة فصولًا لم أُنْعِم النظرَ فيها (¬1)، وفيها مواضع قد تقدَّم الكلام فيها، إلى أن قال ص 300: (المحدِّثون لا يُعْنَون بغلط المتون، والمحدّثون قلَّما يحكمون على الحديث بالاضطراب إذا كان الاختلاف فيه واقعًا في نفس المتن، لأن ذلك ليس من شأنهم من جهة كونهم محدِّثين، وإنما هو من شأن المجتهدين، وإنما يحكمون على الحديث بالاضطراب إذا كان الاختلاف فيه في نفس الإسناد لأنه من شأنهم). أقول: الاختلاف في المتن على أضرب: الأول: ما لا يختلف به المعنى، وهذا ليس باضطراب. الثاني: ما يختلف به معنى غير المعنى المقصود، وهذا قريب من سابقه، ومنه القضية التي استدلَّ بها أبو ريَّة في عدة مواضع، يحسب أنه قد ظَفِر بقاصمة الظهر للحديث النبوي! وهي الاختلاف والشكّ في الصلاة الرباعية التي سها فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -، فسلَّم من ركعتين، فنبَّهه ذو اليدين، فوقع ¬

_ (¬1) هي مباحث تتعلق بالكلام على الكتب الستة والمسند وغيرها.

في رواية: "إحدى صلاتي العشيّ"، وفي رواية: "الظهر"، وفي أخرى: "العصر". فالأخريان مختلفتان لكن ذلك لا يوجب اختلافًا في المعنى المقصود، فإنّ حكم الصلوات في السهو الواحد. الثالث: ما يختلف به معنى مقصود لكن في الحديث معنى آخر مقصود لا يختلف، كقصة المرأة التي زوَّجها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - رجلًا بأن يعلِّمها ما معه من القرآن وقد تقدَّمت (ص 59) (¬1). الرابع: ما يختلف به المعنى المقصود كلُّه، فهذا إن صح السند بالوجهين وأمكن الترجيح فالراجح هو الصحيح، وإلا فالوَقْف، والغالب أنَّ البخاريَّ ومسلمًا ينبِّهان على الترجيح بطرق يعرفها من مارس "الصحيحين"، وكذلك كتب السنن يكثر فيها بيان الراجح، لكن قد لا يتبين لأحدهم الرجحان فيرى أنّ عليه إثبات الوجهين يحفظهما لمن بعده، فربّ مبلَّغ أوعى من سامع. [ص 191] وذكر ص 301 عن السيد رشيد رضا: (أن علماء الحديث قلَّما يُعْنَون بغلط المتون في ما يخص معانيها وأحكامها .. وإنما يظهر معاني غلط المتون للعلماء والباحثين في شروحها من أصول الدين وفروعه وغير ذلك). أقول: أما الكتب التي لم تلتزم الصحة ولا الاحتجاج فنعم، وقد يقع يسير من ذلك في "صحيح مسلم"، فأما "صحيح البخاري" وما يصحِّحه الإمامُ أحمد ونظراؤه فإنهم يُعْنَون بذلك. وراجع لأصول الدين ما تقدم (ص 2) (¬2). ¬

_ (¬1) (ص 115). (¬2) (ص 7 - 8).

وأشار إلى حديث: "خَلَق الله التربةَ الخ" وقد تقدم (ص 135 - 138) (¬1)، وإلى حديث أبي ذر في شأن الشمس وقد مرَّ (ص 165) (¬2) ويأتي (ص 213) (¬3). وقال: (لو انتقدت الروايات من جهة فحوى متنها كما تُنتقد من جهة سندها لقضت المتون على كثير من الأسانيد بالنقض). أقول: هذه دعوى إجمالية، والعبرة بالنظر في الجزئيات، فقد عرفنا من محاولي النقد أنهم كثيرًا ما يدَّعون القطع حيث لا قطع، ويدَّعون قطعًا يُكذِّبه القرآن، ويقيمون الاستبعاد مقام القطع مع أن الاستبعاد كثيرًا ما ينشأ عن جهل بالدين، وجهل بطبيعته، وجهل بما كان عليه الحال في العهد النبوي. وكثيرًا ما يسيئون فهم النصوص. وقال ص 303: (وقد تعرَّض كثير من أئمة الحديث للنقد من جهة المتن إلا أن ذلك قليل جدًّا بالنسبة لما تعرَّضوا له من النقد من جهة الإسناد). أقول: مَنْ تتبَّع كتبَ تواريخ رجال الحديث وتراجمهم وكتب العلل وجد كثيرًا من الأحاديث يطلق الأئمة عليها: "حديث منكر. باطل. شِبْه الموضوع. موضوع". وكثيرًا ما يقولون في الراوي: "يُحدِّث بالمناكير. صاحب مناكير. عنده مناكير. منكر الحديث". ومن أَنعمَ النظرَ وجد أكثر ذلك من جهة المعنى. ولما كان الأئمة قد راعوا في توثيق الرواة النظرَ في أحاديثهم والطعن فيمن جاء بمنكر = صار الغالب أن لا يوجد حديث منكر ¬

_ (¬1) (ص 260 - 267). (¬2) (ص 316). (¬3) (ص 402 - 405).

إلا وفي سنده مجروح، أو خلل، فلذلك صاروا إذا استنكروا الحديثَ نظروا في سنده فوجدوا ما يبيّن وهنه فيذكرونه، وكثيرًا ما يستغنون بذلك عن التصريح بحال المتن، انظر "موضوعات ابن الجوزي" وتدبّرْ تجده إنما يعمد إلى المتون التي يرى فيها ما ينكره، ولكنه قلَّما يُصرِّح بذلك بل يكتفي غالبًا بالطعن في السند. وكذلك كتب العلل وما يُعَلُّ من الأحاديث في التراجم تجد غالب ذلك مما يُنكر متنُه، ولكن الأئمة يستغنون عن بيان ذلك بقولهم: "منكر" أو نحوه، أو الكلام في الراوي، أو التنبيه على خللٍ في السند كقولهم: فلان [ص 192] لم يلق فلانًا. لم يسمع منه. لم يذكر سماعًا. اضطرب فيه. لم يُتابَع عليه. خالفه غيره. يُروى هذا موقوفًا وهو أصح، ونحو ذلك. وذَكَر حديث: "يَلْقى إبراهيمُ أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قَتَرة وغَبَرة، فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك لا تعصني؟ فيقول أبوه: فاليوم لا أعصيك. فيقول إبراهيم: يا رب إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون، فأيُّ خِزْي أخزى من أبي الأبعد. فيقول الله تعالى: إني حرَّمتُ الجنة على الكافرين ... " (¬1). وذَكَر قول الإسماعيلي: "هذا حديث في صحته نظر، من جهة أن إبراهيم عالم بأن الله لا يخلف الميعاد، فكيف يجعل ما بأبيه خزيًا له مع إخباره أن الله قد وعده أن لا يخزيه يوم يبعثون، وأعْلَمه أنه لا خُلْفَ لوعده". أقول: عن هذا جوابان: الأول: أن إبراهيم لم يجعل ما بأبيه حينئذٍ من القَتَرة والغَبَرة خزيًا، إنما جعل الخزي ما كان منتَظرًا من دخول النار كما يدل عليه إجابة الله تعالى له بقوله: إني حرَّمت الجنةَ على الكافرين، وكما يشهد له ما ذكره الله من قول ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3350) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

عباده: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} [آل عمران: 192] فدعاؤه إنما هو استنجاز للوعد كما في: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران: 194]. وكان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يدعو في عريش بدر: "اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك" (¬1). ومن هذا أو مما يأتي ما قَصَّه الله تعالى عن نوح من قوله: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} [هود: 45]. الثاني: أن المخلوق قد يتملَّكُه النظر من جهةٍ، فيناله ذهولٌ ما عن الجهة الأخرى، كما قَصَّهُ الله تعالى عن الملائكة من قولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة: 30]، ومِن قول زكريا بعد أن سأل الله تعالى أن يهب له وليًّا يرثه، فبشَّره الله بغلام: {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا} [مريم: 8]. وقد بيّن الله تعالى لخليله أنّ الجنة محرَّمة على الكافرين، وبذلك لا يكون أبوه داخلًا في الوعد، بل ليس في دخول آزَرَ بكفره النارَ خزيٌ لإبراهيم، لكن هذه الحقيقة إنما تنكشف حقَّ الانكشاف لأهل الجنة بعد دخولها، وقد يكون في بقية الحديث ما يستفاد منه أن الله تعالى كشف لإبراهيم تلك الحقيقة حينئذ، فراجعه وتدبَّر ما مرَّ واعتبر به. ثم ذكر أبو ريَّة فصولًا، إلى أن قال ص 307: (اختلافهم في الجرح والتعديل) وسمَّى جماعةً ينبغي مراجعة تراجمهم في كتب الرجال، وراجع (ص 189) (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2915) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (¬2) (ص 357 - 358).

وقال ص 309: (وقال صاحب "العَلَم الشامخ": قد اختلفت آراء الناس واجتهاداتهم في التعديل والتجريح، فترى الرجل الواحد تختلف فيه الأقوال حتى يوصف بأنه أمير المؤمنين وبأنه أكذب الناس، أو قريب من هاتين العبارتين). [ص 193] أقول: قد تقدم (ص 189) (¬1) أن المختلَف فيهم قليل، ولا تبلغ كلمتان في رجل واحد هذا التفاوت الذي ذكره ولا ما يقاربه إلا قليلًا حيث يكون في إحداهما خلل، وللخلل أسباب وعلامات بسطتُ القولَ فيها بعضَ البَسْط في "التنكيل" (¬2). والناطرون في العلم ثلاثة: مخلص مستعجل يجأر بالشكوى، ومُتَّبع لهواه فأنَّى يهديه الله، ومخلص دائب فهذا ممن قال الله تعالى فيهم: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]. وسُنَّة الله عزَّ وجلَّ في المطالب العالية والدرجات الرفيعة: أن يكون في نيلها مشقَّة؛ ليتمّ الابتلاء ويستحقّ البالغ إلى تلك الدرجة شَرَفَها وثوابَها، قال الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31]. وذَكَر عن السيد رشيد رضا: "إن توثيقَ كلّ من وثَّقه المتقدمون وإن ظهر خلاف ذلك بالدليل يفتحُ بابَ الطعن في أنفسنا بنَبْذ الدليل ... ". أقول: هذا حق، ولكن الشأن في الدليل الصحيح الذي [لا] (¬3) يعارضه ما هو أقوى منه. ... ¬

_ (¬1) (ص 357 - 358). (¬2) (1/ 104 - 124). (¬3) سقطت من (ط).

الصحابة رضي الله عنهم

الصحابة رضي الله عنهم ثم قال أبو ريَّة ص 310: (عدالة الصحابة ...). أقول: الآيات القرآنية في الثناء على الصحابة والشهادة لهم بالإيمان والتقوى وكلِّ خير معروفة، ومن آخرها نزولًا قول الله عزَّ وجلَّ: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة: 117 - 118]. ساعةُ العُسْرة: غزوة تبوك. وكلمة "المهاجرين" هنا تشمل السابقين واللاحقين ومَن كان معهم من غير الأنصار، ولا نعلمه تخلَّف ممن كان بالمدينة من هؤلاء أحدٌ إلا عاجزٌ أو مأمور بالتخلُّف مع شِدَّة حرصه على الخروج، وفي "الصحيح" (¬1) قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لما رجع من تبوك: "إن بالمدينة أقوامًا ما سرتم مسيرًا ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم ... حبسهم العذر". وفي "الفتح" (¬2): أن المهلَّب استشهد لهذا الحديث بقول الله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ} [النساء: 95] وهو استشهاد متين، والمأمور بالتخلُّف أولى بالفضل. وفي هذا وآيات أخرى ثناء يعمّ المهاجرين ومَن لحق بهم لا نعلم ثَمَّ ما يخصِّصه. فأما الأنصار فقد عمَّت الآية مَنْ خرج معهم إلى تبوك والثلاثة الذين ¬

_ (¬1) البخاري (4423)، ومسلم (1911) من حديث أنس رضي الله عنه. (¬2) (6/ 47). قال: فإنه فاضَلَ بين المجاهدين والقاعدين، ثم استثنى أولي الضرر من القاعدين، فكأنه ألحقهم بالفاضلين.

خُلِّفوا والعاجزين، ولم يبق إلا نفرٌ كانوا منافقين. وفي "الصحيح" (¬1) في حديث كعب بن مالك - وهو أحد الثلاثة الذين خُلِّفوا -: "فكنت إذا خرجتُ في الناس بعدَ خروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فطفتُ فيهم أحزنني أني لا أرى [ص 194] إلا رجلًا مغموصًا عليه النفاق، أو رجلًا ممن عَذَر اللهُ من الضعفاء". وفي هذا بيان أن المنافقين قد كانوا معروفين في الجملة قبل تبوك، ثم تأكَّد ذلك بتخلُّفهم لغير عذر وعدم توبتهم، ثم نزلت سورة براءة فقَشْقَشَتْهم، وبهذا يتضح أنهم قد كانوا مشارًا إليهم بأعيانهم قبل وفاة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فأما قول الله عزَّ وجلَّ: {لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [التوبة: 101] فالمراد - والله أعلم - بالعلم ظاهره أي اليقين، وذلك لا ينفي كونهم مغموصين أي مُتَّهمين، غاية الأمر أنه يحتمل أن يكون في المتَّهمين مَنْ لم يكن منافقًا في نفس الأمر، وقد قال تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد: 30] ونصَّ في سورة براءة وغيرها على جماعةٍ منهم بأوصافهم، وعيَّن النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - جماعةً منهم، فمن المحتمل أن الله عزَّ وجلَّ بعد أن قال: {لَا تَعْلَمُهُمْ} أعْلَمَه بهم (¬2) كلّهم. وعلى كلِّ حال فلم يمت النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلا وقد عرفَ أصحابُه المنافقين يقينًا أو ظنًّا أو تهمة، ولم يبق أحد من المنافقين غير متهم بالنفاق. ومما يدل على ذلك، وعلى قِلَّتهم وذلّتهم وانقماعهم ونُفْرة الناس عنهم: أنه لم يحس لهم عند وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - حراك. ولما كانوا بهذه المثابة لم يكن لأحد منهم مجال في أن يحدِّث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه يعلم أن ذلك يُعرِّضه لزيادة التهمة ويَجُرُّ ¬

_ (¬1) البخاري (4418). (¬2) في (ط): "به"، ولعلَّ الصواب ما أثبت.

إليه ما يكره. وقد سمَّى أهلُ السير والتاريخ جماعةً من المنافقين لا يُعْرَف عن أحدٍ منهم أنه حدَّث عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وجميع الذين حدَّثوا كانوا معروفين بين الصحابة أنهم من خيارهم. وأما الأعراب، فإن الله تبارك وتعالى كشف أمرهم بموت رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فارتدَّ المنافقون منهم، فيتبيَّن أنه لم يحصل لهم بالاجتماع بالنبيّ - صلى الله عليه وسلم - ما يستقرُّ لهم به اسم الصحبة الشرعية، فمن أسلم بعد ذلك منهم فحكمه حكم التابعين. وأما مُسْلِمة الفتح، فإن الناس يغلطون فيهم يقولون: كيف يعقل أن ينقلبوا كلهم مؤمنين بين عشيَّة وضحاها، مع أنهم إنَّما أسلموا حين قُهروا وغُلبوا، ورأوا أنَّ بقاءهم على الشرك يضرّ بدنياهم، والصواب أن الإسلام لم يزل يعمل في النفوس منذ نشأته. ويَدُلُّك على قوة تأثيره أمور: الأول: ما قَصَّه الله تبارك وتعالى من قولهم: {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26] وقولهم: {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا} [الفرقان: 42]. الثاني: ما ورد من صدِّهم للناس أن يسمعوا القرآن حتى كان لا يَرِدُ مكةَ واردٌ إلا حذّروه أن يستمع إلى [ص 195] النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن اشتراطهم على الذي أجار أبا بكر أن يمنعه من قراءة القرآن بحيث يسمعه الناس (¬1). الثالث - وهو أوضحها -: إسلام جماعة من أبناء كبار رؤسائهم ومفارقتهم آباءهم قديمًا، فمنهم عَمرو وخالد ابنا أبي أُحَيحة سعيد بن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2297).

العاص، والوليد بن الوليد بن المغيرة، وأبو حذيفة بن عُتبة بن ربيعة، وهشام بن العاص بن وائل، وعبد الله وأبو جندل ابنا سُهَيل بن عَمرو وغيرهم. وآباء هؤلاء هم أكابر رؤساء قريش وأعزّهم وأغناهم، فارقهم أبناؤهم وأسلموا. فتدبَّر هذا، فقد جرت عادةُ الكُتَّاب إذا ذكروا السابقين إلى الإسلام ذكروا الضعفاء، فيتوهَّم القارئ أنهم أسلموا لضعفهم وسخطهم على الأقوياء وحبهم للانتقام منهم على الأقل؛ لأنه لم يكن لهم من الرياسة والعزِّ والغنى ما يصدّهم عن قبول الحق وتحمُّل المشاق في سبيله. والحقيقةُ أعظم من ذلك كما رأيت، إلا أن الرؤساء عاندوا واستكبروا، وتابعهم أكثر قومهم مع شدَّة تأثرهم بالإسلام، فكان في الشُبَّان مَنْ كان قَوِيَّ العزيمة، فأسلموا وضَحُّوا برياستهم وعِزِّهم وغناهم، متقبِّلين ما يستقبلهم من مصاعب ومتاعب، وبقي الإسلام يعمل عمله في نفوس الباقين، فلم يزل الإسلام يفشو فيهم حتى بعد هجرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -. ثم لما كان صُلح الحديبية وتمكَّنَ المسلمون بعده من الاختلاط بالمشركين، ودعوة كلِّ واحد قريبه وصديقه = فشا الإسلام بسرعة، وأسلم في هذه المُدَّة من الرؤساء: خالد بن الوليد، وعَمرو بن العاص، وعثمان بن طلحة وغيرهم، والإسلام يعمل عملَه في نفوس الباقين. ونستطيع أن نجزم أن الإسلام كان قد طرد الشرك وخرافاته من نفوس عقلاء قريش كلهم قبل فتح مكة، ولم يبق إلا العناد المحض يَلْفِظُ آخر أنفاسه، فلما فُتِحَت مكة مات العناد ودخلوا في الإسلام الذي قد كان تربَّع في نفوسهم من قبل. نعم بقي أثر في صدور بعض الرؤساء، فبسط لهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - التأليف يوم فتح مكة وبعده، وآثرهم بغنائم حُنين، ولم يزل يتحرَّاهم

بحسن المعاملة حتى اقتلع البقيَّة الباقيةَ من أثر العناد. ثم كان من معارضة الأنصار بعد النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لقريش في الخلافة واستقرار الخلافة لقريش غير خاصةٍ ببيتٍ من بيوتها، وخضوع العرب لها ثم العجم = ما أكّد حبَّ الإسلام في صَدْر كلّ قرشي. وكيف لا وقد جَمَع لهم إلى كلِّ شبرٍ كانوا يعتزّون به من بطحاء مكة آلاف الأميال، وجعلهم ملوك الدنيا والآخرة. ومما يوضِّح لك ذلك: أن الذين عاندوا إلى يوم الفتح كانوا بعد ذلك من أجدِّ الناس في الجهاد، [ص 196] كسُهَيل بن عَمرو، وعكرمة بن أبي جهل، وعمه الحارث، ويزيد بن أبي سفيان. فأما ما يذكره كثير من الكُتَّاب من العصبية بين بني هاشم وبني أمية فدونك الحقيقة: شَمِل الإسلام الفريقين ظاهرًا وباطنًا، وكما أسلم قديمًا جماعةٌ من بني هاشم فكذلك من بني أمية، كابني سعيد بن العاص، وعثمان بن عفّان، وأبي حذيفة بن عُتبة، وكما تأخَّر إسلام جماعة من بني أمية فكذلك من بني هاشم، وكما عاداه بعضُ بني أمية فكذلك بعضُ بني هاشم، كأبي لهب بن عبد المطلب، وأبي سفيان بن الحارث بن المطلب. ونزل القرآن بذمِّ أبي لهب، ولا نعلمه نزل في ذمِّ أمويًّ معيَّن. وتزوَّج النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بنت أبي سفيان بن حرب الأموي ولم يتزوَّج هاشمية، وزوَّج إحدى بناته في بني هاشم، وزوَّج ثلاثًا في بني أمية. فلم يبق الإسلام في أحد الجانبين حتى يحتمل أن يستمرَّ هدفًا لكراهية الجانب الآخر. بل ألّف الله بَيْنَ قلوبهم فأصبحوا بنعمته إخوانًا، وأصبح الإسلام يلُفُّهم جميعًا: يحبونه جميعًا، ويعظِّمونه جميعًا، ويعتزُّون به جميعًا، ويحاول كلٌّ منهم أن يكون حظّه منه أوفر.

ولم تكن بين فتح مكة وبين ولاية عثمان الخلافة نُفْرة ما بين العشيرتين، فلما كانت الشورى وانحصر الأمرُ في عليٍّ وعثمان، فاختير عثمان، وجدت الأوهامُ مَنْفذًا إلى الخواطر، ثم لما صار في أواخر خلافة عثمان جماعةٌ من عشيرته - بني أمية - أمراء وعمّالًا، وصار بعضُ الناس يشكوهم؛ أُشيعت عن عَليٍّ كلمات يُندِّد بهم ويتوعَّدهم بإنه إذا ولي الخلافة عَزَلهم وأخذَ أموالَهم وفَعَل وفَعَل، ثم كانت الفتنة، وكان لبعض من يُعدُّ من أصحاب عليٍّ إصبع فيها، حتى قُتِل عثمان وقام قَتَلتُه بالسعي لمبايعة عَليّ، فبويع له وبقي جماعةٌ منهم في عسكره. فمن تدبَّر هذا وجد هذه الأسباب العارضة كافية لتعليل ما حدث بعد ذلك، إذن فلا وجه لإقحام ثارات بدر وأُحُد التي أماتها الإسلام، وما حُكي مما يُشعر بذلك لا صحةَ له البتة، إلا نزغة شاعر فاجر في زمن بني العباس، يصح أن تُعدّ من آثار الإسراف في النزاع لا من مؤثراته. وجرى من طلحة والزبير ما جرى، فأيُّ ثأر لهما كان عند بني هاشم؟ وبهذا يتضح جليًّا أن لا مساغ البتة لأن يُعلَّل خلاف معاوية بطلبه بثأر مَنْ قُتِل من آله ببدر، ثم يتذرَّعُ بذلك إلى الطعن في إسلامه، ثم في إسلام نُظَرائه! فإن قيل: مهما يكن من حال الصحابة فإنهم لم يكونوا معصومين، فغاية الأمر أن يُحمَلوا على العدالة ما لم يتبين [ص 197] خلافها، فلماذا يُعدِّل المحدِّثون مَنْ تبيَّن ما يوجب جرحه منهم؟ فالجواب من أوجه: الأول: أنهم تدبَّروا ما نُقِل من ذلك فوجدوه ما بين غير ثابت نقلًا أو

حكمًا أو زلَّة تِيبَ منها أو كان لصاحبها تأويل. الوجه الثاني: أن القرآن جعل الكذب على الله كفرًا، قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [العنكبوت: 68] والكذب على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في أمر الدين والغيب كذب على الله، ولهذا صرَّح بعضُ أهل العلم بأنه كفر، واقتصر بعضُهم على أنه من أكبر الكبائر (¬1)، وفرَّق شيخُ الإسلام ابن تيمية بين من يُخْبِر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بلا وساطة، كالصحابي إذا قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - كذا، وبين غيره، فمال إلى أن تعمُّد الأول للكذب كفر وتردَّد في الثاني (¬2). ووقوع الزلة أو الهفوة من الصحابي لا يسوِّغ احتمال وقوع الكفر منه. هب أن بعضهم لم يكن يرى الكذب على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - كفرًا، فإنه - على كل حال - يراه أغلظ جدًّا من الزلات والهفوات المنقولة. الوجه الثالث: أن أئمة الحديث اعتمدوا فيمن يمكن التشكّك في عدالته من الصحابة اعتبار ما ثبت أنهم حدَّثوا به عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أو عن صحابيّ آخر عنه، وعرضوها على الكتاب والسنة وعلى رواية غيرهم، مع ملاحظة أحوالهم وأهوائهم، فلم يجدوا من ذلك ما يوجب التهمة، بل وجدوا عامة ما رووه قد رواه غيرهم من الصحابة ممن لا تتجه إليه تهمة، أو جاء في الشريعة ما في معناه أو ما يشهد له، وراجع (ص 64) (¬3). ¬

_ (¬1) انظر "الصارم المسلول": (2/ 328 فما بعدها)، و"فتح الباري": (1/ 202)، و"شرح النووي" (1/ 69). (¬2) انظر "الصارم المسلول": (2/ 333). (¬3) (ص 125 - 126).

وهذا الوليد بن عُقبة بن أبي مُعَيط يقول المشنِّعون: ليس من المهاجرين ولا الأنصار، إنما هو من الطُّلَقاء. ويقولون: إنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لما أمر بقتل أبيه عقب بدر قال: يا محمد فمَن للصِبْيَة؟ يعني بنيه. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لهم النار" (¬1). ويقولون: إنه هو الذي أنزل الله تعالى فيه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} (¬2) [الحجرات: 6] فنصّ القرآنُ أنه فاسق يجب التبيُّن في خبره. ويقولون: إنه في زمن عثمان كان أميرًا على الكوفة فشهدوا عليه أنه شرب الخمر، وكلَّم عليٌّ عثمانَ في ذلك، فأمره أن يجلده فأمر عليٌّ عبد الله بن جعفر فجلده. ومنهم مَنْ يزيد: أنه صلى بهم الصبح سكران فصلى أربعًا ثم التفت فقال: أزيدكم؟ (¬3) وكان الوليد أخا عثمان لأمه، فلما قُتِل عثمان صار الوليد ينشئ الأشعار يتّهم عليًّا بالممالأة على قتل عثمان ويحرِّض معاويةَ على قتال عليّ. [ص 198] هذا الرجل أشدّ ما يشنِّع به المعترضون على إطلاق القول بعدالة الصحابة، فإذا نظرنا إلى روايته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لنرى كم حديثًا روى في فضل أخيه، ووليِّ نعمته عثمان؟ وكم حديثًا روى في ذمَّ الساعي في جلده ¬

_ (¬1) أخرجه البزار: (5/ 319) عن ابن مسعود، وعبد الرزاق: (5/ 205) من مرسل إبراهيم التيمي. (¬2) أخرجه الطبراني في "الكبير" (3/ 442)، عن دينار المؤمن عن الحارث الخزاعي في قصة إسلامه. وأخرجه البيهقي في "الكبرى": (9/ 54 - 55) عن ابن عباس، وأخرجه أيضًا من مرسل مجاهد. (¬3) خبر شربه الخمر وجلده، وصلاته الصبح أربعًا أخرجه مسلم (1707) من حديث حُضين بن المنذر قال: شهدت عثمان ... الحديث.

الممالئ على قتل أخيه في ظنه عليٍّ؟ وكم حديثًا روى في فضل نفسه ليدافع ما لحقه من الشهرة بشرب الخمر؟ هالنا أننا لا نجد له روايةً البتة، اللهم إلا أنه رُوِيَ عنه حديث في غير ذلك لا يصح عنه، وهو ما رواه أحمد وأبو داود من طريق رجل يقال له: أبو موسى عبد الله الهَمْداني عن الوليد بن عقبة قال: "لما فتح النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مكة جعل أهل مكة يأتونه بصبيانهم فيمسح على رؤوسهم ويدعو لهم، فجيء بي إليه وأنا مطيَّب بالخَلُوق فلم يمسح رأسي، ولم يمنعه من ذلك إلا أن أمي خلَّقتني بالخَلُوق، فلم يمسني من أجل الخَلُوق" (¬1). هذا جميع ما وجدناه عن الوليد عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وأنت إذا تفقَّدْتَ السند وجدتَه غير صحيح لجهالة الهَمْداني، وإذا تأملت المتن لم تجده منكرًا ولا فيه ما يمكن أن يُتّهم فيه الوليد، بل الأمر بالعكس فإنه لم يذكر أنّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - دعا له، وذكر أنه لم يمسح رأسه، ولذلك قال بعضهم: قد علم الله تعالى حاله فحَرَمَه بركة يَدِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ودعائه (¬2). أفلا ترى معي في هذا دلالة واضحة على أنه كان بين القوم وبين الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - حِجْرٌ محجور؟ قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "رده على الإخنائي" (ص 163) (¬3): ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (16379)، وأبو داود (4181)، والحاكم: (3/ 100) وغيرهم. (¬2) نقل الحاكم في "المستدرك": (3/ 100) عن الإمام أحمد قوله: "وقد روي أنه أسلم يومئذ. فتقذَّره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يمسّه، ولم يدعُ له، والخَلوق لا يمنع من الدعاء، لا جُرم أيضًا لطفل في فعل غيره، لكنه مُنع بركة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسابق علم الله تعالى فيه والله أعلم" اهـ. فلعلّ المصنف أراد هذا. (¬3) (ص 287 - دار الخرّاز).

"فلا يعرف مِن (¬1) الصحابة مَنْ كان يتعمَّد الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن كان فيهم من له ذنوب، لكن هذا الباب مما عصمهم الله فيه". قد ينفر بعض الناس من لفظ "العصمة" وإنما المقصود أن الله عزَّ وجلَّ وفاءً بما تكفَّل به مِنْ حِفْظ دينه وشريعته هيَّأ من الأسباب ما حفظهم به وبتوفيقه سبحانه من أن يتعمَّد أحدٌ منهم الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فإن قيل: فلماذا لم يحفظهم الله تعالى من الخطأ؟ قلت: الخطأ إذا وقع من أحدٍ منهم فإن الله تعالى يُهيّئ ما يوقَفُ به عليه، وتبقى الثقة به قائمة في سائر الأحاديث التي حدَّث بها مما لم يظهر فيه خطأ، فأما تعمُّد الكذب فإنه إن وقع في حديث واحد لزم إهدار الأحاديث التي عند ذاك الرجل كلها، وقد تكون عنده أحاديث ليست عند غيره. راجع (ص 20 - 21) (¬2). هذا، وفي كتاب أبي ريَّة ص 42 - 53: كلامٌ أَخَّرْتُ النظر فيه إلى هنا كما أشرت إليه (ص 52) (¬3) مِن كتابي هذا. قال ص 42: (الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل وفاته ...). [ص 199] ثم ذكر ما رُوي عن ابن بُريدة عن أبيه بُرَيدة بن الحصيب قال: "كان حيٌّ من بني ليث على ميلين من المدينة، فجاءهم رجل وعليه حُلَّة، فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كساني هذه الحُلَّة وأمرني أن أحكم في دمائكم ¬

_ (¬1) (ط): "من من" والتصويب من "الرد على الإخنائي". (¬2) (ص 41 - 44). (¬3) (ص 101).

وأموالكم بما أرى - وكان قد خطب منهم امرأةً [في الجاهلية] فلم يزوّجوه، فانطلق [حتى نزل] على تلك المرأة، فأرسلوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال: "كذب عدو الله"، ثم أرسل رجلًا فقال: "إن وجدته حيًّا [ولا أراك تجده] فاضرب عنقَه، وإن وجدته ميتًا فحرِّقه بالنار". أقول: عزاه إلى "أحكام ابن حزم" (¬1)، ومنه أضفتُ الكلمات المحجوزة، وانظر لماذا أسقطها أبو ريَّة؟! وراويه عن ابن بريدة: صالحُ بن حيّان وهو ضعيف له أحاديث منكرة، وفي السند غيره. وقد رُويت القصة من وجهين آخرين بقريب من هذا المعنى وفي كلٍّ منهما ضعف (¬2). راجع "مجمع الزوائد" (1: 145) (¬3). وعلى فرض صحته فهذا الرجل كان خطب تلك المرأة في الشرك فردّوه، فلما أسلم أهلُها سوَّلَتْ له نفسه أن يُظهر الإسلام ويأتيهم بتلك الكذبة لعله يتمكَّن من الخلوة بها ثم يفر، إذ لا يعقل أن يريد البقاء وهو يعلم أنه ليس بينه وبين النبيّ - صلى الله عليه وسلم - سوى ميلين، فأنكر أهلها أن يقع مثل ذلك عن أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فرأوا أن يُنْزِلوا الرجلَ محترسين منه، ويرسلوا إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يخبرونه. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ولا أراك تجده" ظنٌّ منه أن عقوبة الله عزَّ وجلَّ ستعاجل الرجل. وكذلك كان، كما في الطُرُق الأخرى، وجَدَه الرسولُ قد مات، وفي رواية "خرج ليبول فلدغته حية فهلك". ¬

_ (¬1) (2/ 211). وأخرجه أيضًا الطحاوي في "بيان مشكل الآثار" (378)، وابن عدي في "الكامل": (4/ 53 - 54) ومن طريقه ابن الجوزي في "الموضوعات" (42). (¬2) وانظر "الموضوعات": (1/ 50 - 53) لابن الجوزي. (¬3) (1/ 150).

وحدوث مثل هذا لا يصلح للتشكيك في صدق بعض من صحب النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - غير منهم بالنفاق، ثمّ استمرَّ على الإسلام بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -. يراجع (ص 193) (¬1) فما بعدها، وتعجيل العقوبة القدرية لذلك الرجل يمنع غيره من أن تحدِّثه نفسه بكذبٍ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في حياته، وكذا من باب أَوْلى بعد وفاته، فإن العقوبة القدرية لم تمهل ذاك مع أنه كان بصدد أن تناله العقوبة الشرعية، ولا يترتَّب على كذبه مفسدة، فكيف بمن يكذب حيث يخفى على الناس أمره ويترتب على كذبه المفاسد؟ ولهذا جاء في رواية: أن الصحابي بعده (¬2) - صلى الله عليه وسلم - ذكر حديثًا فاستثبته بعضُ الناس فحدَّث بالقصة ثم قال: "أتراني كذبت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد هذا؟ ". وذكر أبو ريَّة خبر المقنَّع التميمي، ويقال: المنقع، وسنده واهٍ جدًّا يشتمل على مجاهيل وضعفاء فلا أطيل به. هذا ومن الحكمة في اختصاص الله تعالى أصحاب رسوله بالحفظ من الكذب عليه: أنه سبحانه كره أن يكونوا هدفًا لطعن من بعدهم؛ لأنه ذريعة إلى الطعن في الإسلام جملةً، وليس هناك سبب مقبول للطعن إلا أن يقال: نحن مضطرون إلى بيان أحوالهم ليُعرَف من لا يحتج بروايته منهم، فاقتضت الحكمة حسم هذا لقطع العذر عمن يحاول الطعن في أحدٍ منهم. وقال ص 43: (الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد موته ... فإن الكذب قد كثر عليه بعد وفاته ...). أقول: قد كان كذبٌ، لكن متى؟ وممن؟ لا شأن لنا بدعاوى أبي رية، ¬

_ (¬1) (ص 365 - 366). (¬2) (ط): "بعد" ولعل الصواب ما أثبت.

وإنما ننظر في شواهده: [ص 200] ذكر قصة بُشَير (بالتصغير) بن كعب العدوي مع ابن عباس في مقدمة "صحيح مسلم" (¬1) وجعلها قصِّتين وإنما هما روايتان. وبُشَير هذا غير بَشِير (بفتح فكسر) بن كعب بن أبي الحميري العامري الذي شهد اليرموك، بل هذا أصغر منه بكثير، وأخطأ من عدَّهما واحدًا، راجع "الإصابة" (¬2). وهذا عراقيّ بصريّ له قصة مع عِمْران بن حُصَين في الحياء تدلّ أنه كان يقرأ صحف أهل الكتاب (¬3)، وقصته مع ابن عباس يظهر أنها كانت حوالي سنة ستين، فإن ابن عباس توفي سنة 68 أو بعدها وعاش بُشير بعد ابن عباس زمانًا. روى مسلمٌ القصةَ من طريق طاووس ومجاهد، وحاصلها: أن بُشَيرًا جاء إلى ابن عباس فجعل يحدّث (زاد مجاهد: ويقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) قال طاووس: فقال له ابنُ عباس: عُدْ لحديث كذا وكذا، فعاد له. ثم حدَّثه فقال له: عُد لحديث كذا وكذا، فعاد له، فقال له: ما أدري أعرفتَ حديثي كلّه وأنكرتَ هذا، أم أنكرتَ حديثي كلَّه وعرفتَ هذا؟ فقال ابن عباس: إنَّا كُنَّا نُحدّث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ لم يكن يُكذَب عليه، فلمَّا رَكِبَ الناسُ الصعبَ والذّلول تركنا الحديث عنه. (وفي رواية عن طاووس هي أثبت من الأولى، قال: إنما كنا نحفظ الحديث والحديث يُحفظ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فأما إذ ركبتم كلَّ صعبٍ وذلول فهيهات). ولفظ مجاهد: فجعل ابن عباس لا يأذَنُ لحديثه ولا ينظر إليه، فقال: يا ابن عباس ما لي لا ¬

_ (¬1) (1/ 12 - 13). (¬2) (1/ 345). (¬3) أخرجه ابن أبي الدنيا في "مكارم الأخلاق" (88)، والبيهقي في "الآداب" (146).

أراك تسمع لحديثي ... فقال ابن عباس: إنا كنا مرَّة إذا سمعنا رجلًا يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابتَدَرَتْه أبصارُنا وأصغينا إليه بآذاننا، فلما ركب الناسُ الصعبَ والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف". عَرَف ابنُ عباس أن بُشيرًا ليس بصحابي، ومع ذلك لم يدرك كبار الصحابة، ولعله مع ذلك لم يكن يُعرف بالثقة، وفوق ذلك كان يرسل. لا جَرَم لم يصغ إلى أحاديثه. فأما استعادته بعضها فكأنَّ المستعاد كان أحاديث يعرفها ابن عباس، فأراد أن يصحِّحها لبُشَير إن كان عنده فيها خطأ. كانت القصة حوالي سنة ستين كما مرَّ، وقد ظهر الكذب بالعراق قبل ذلك كما يُؤخَذ مما يأتي، وبُشير عراقيّ، فليس في القصة ما يخدش في صدق الصحابة رضي الله عنهم، ولا ما يدلّ على ظهور الكذب بعد وفاة النبيِّ بمدّة يسيرة، وقوله في إحدى روايتي طاووس: "تركنا الحديث عنه" يريد تركنا أخذ الحديث عنه إلا من حيث نعرف. وذكر ص 44 ما في مقدمة "صحيح مسلم" (¬1) أيضًا عن ابن أبي مُلَيكة: "كتبتُ إلى ابن عباس أسأله أن يكتب لي كتابًا ويُخْفي عنّي، فقال: ولدٌ ناصح، وأنا أختار له الأمور اختيارًا وأُخْفي عنه، قال: فدعا بقضاء عليّ رضي الله عنه [ص 201] فجعل يكتب منه أشياء ويمرُّ به الشيء فيقول: والله ما قضى بهذا عليّ، إلا أن يكون ضلّ". أقول: أورد مسلم بعد هذا: "عن طاووس قال: أُتي ابن عباس بكتاب فيه قضاء عليّ ... "، ثم أورد: "عن أبي إسحاق قال: لما أحدثوا تلك الأشياء بعد عليّ رضي الله عنه قال رجل من أصحاب عليّ: قاتلهم الله أيُّ علمٍ أفسدوا". ¬

_ (¬1) (1/ 13).

التفّ حَوْلَ عليّ رضي الله عنه بالكوفة نفرٌ ليس لهم علم ولا كبير دين، وذاك الكتاب جمع من حكاياتهم وحكايات غيرهم عن قضاء علي، وجيء إلى ابن عباس بنسخة منه. وذكر مسلم (¬1) أيضًا ونقله أبو ريَّة عن المغيرة بن مَقْسم قال: "لم يكن يَصدُق على عليٍّ رضي الله عنه في الحديث عنه إلا من أصحاب عبد الله بن مسعود". وذلك أن ابن مسعود كان بالكوفة في عهد عمر وبعده، فكان له أصحاب طالت صحبتهم له وفقهوا، فلما جاء عليّ إلى الكوفة أخذوا عنه أيضًا وكانوا أوثق أصحابه. وهذه الآثار إنما تدل على فشوِّ الكذب بالكوفة بعد عليّ رضي الله عنه. **** ¬

_ (¬1) (1/ 14).

درجات الصحابة

درجات الصحابة وقال أبو ريَّة ص 45: (درجات الصحابة ...). ثم قال ص 47: (رواية الصحابة بعضهم عن بعض، وروايتهم عن التابعين ...). وعاد يبدئ ويعيد لتأكيد تلك المكيدة الجهنَّمية التي سبق الكشف عنها (ص 72 - 75 و82 و89 - 90 و109 - 110 و157 و171) (¬1). ثم قال ص 49: (نقد الصحابة بعضهم لبعض ...). أقول: ذكر أشياء معروفة مع أجوبتها في كتب الحديث، وحاصلها: أنَّ أحدهم كان إذا سمع من أخيه حديثًا يراه معارضًا لبعض ما عنده توقّف فيه، وظنَّ أو جوّز أن أخاه أخطأ، مع تبرئة بعضهم لبعض عن تعمّد الكذب. وذكر فيها ص 52: (ولما بلغها - يعني عائشة - قول أبي الدرداء: من أدرك الصبح فلا وتر عليه. قالت: لا، كذب أبو الدرداء، كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصبح فيوتر). أقول: الخبر في "سنن البيهقي" (2: 479) ولفظه: "فلا وتر له" وراويه عن أبي الدرداء وعائشة أبو نَهيك الأزدي الفراهيدي، قال ابن القطان: "لا يُعرف" يعني أنه مجهول الحال (¬2)، ولا يُخْرجه عن ذلك ذِكْر ابن حِبّان له في "الثقات" (¬3)، وفوق ذلك لا يُعلَم له إدراك لأبي الدرداء وعائشة، بل الظاهر عدمه، فالخبر منقطع، ويعارضه ما في "الصحيحين" (¬4) وغيرهما ¬

_ (¬1) (ص 142 - 150 و161 - 177 و209 - 214 و300 و325 - 327). (¬2) انظر "تهذيب": (7/ 142 و12/ 234). (¬3) (5/ 582). (¬4) البخاري (996)، ومسلم (745).

عن عائشة: أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - "انتهى وتره إلى السَّحَر". وعلى فرض صحة الحكاية فإنما قال أبو الدرداء من قِبَلِ نفسه لم يذكر رواية، فكلمة [ص 202] "كذَب" بمعنى "أخطأ" كما هو معروف عنهم راجع (ص 51) (¬1). قال: (وقالت عن أنس بن مالك وأبي سعيد الخدري: ما عِلْمُ أنس بن مالك وأبي سعيد بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ وإنما كانا غلامين صغيرين). أقول: يُنظر في صحة هذا عنها، فقد كانا في مثل سنها أو أكبر منها، وكانا ممن يلزم النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ولا سيما أنس (¬2). قال: (وكانت عائشة تردُّ ما رُوي مخالفًا للقرآن). أقول: راجع (ص 14) (¬3)؛ لتعرف ما هو الخلاف الذي يقتضي الردّ. قال: (وتحمل رواية الصادق من الصحابة على خطأ السمع وسوء الفهم). أقول: كلُّهم - بحمد الله - كان صادقًا عندها. ثم حكى عن أحمد أمين عن بعض الزيدية كلمةً فيها: أن الصحابة تكلَّم بعضهم في بعض وقاتل بعضُهم بعضًا، ونحو هذا. والجواب عن ذلك مبسوط في كتب أهل العلم، وموضوعنا هنا بيان صدقهم في الحديث ¬

_ (¬1) (ص 101 - 102). (¬2) قول عائشة أخرجه الطبراني في "الكبير" (711) من طريق هشام بن عروة قال: قالت عائشة ... قال الهيثمي في "المجمع": (9/ 163): "هشام لم يدرك عائشة، ورجاله رجال الصحيح". وذكره ابن عبد البر في "جامع بيان العلم": (2/ 1100) معلقًا عن علي بن مسهر عن هشام عن أبيه عن عائشة. يبقى النظر في إسناد ابن عبد البر إلى علي بن مسهر. وأخشى أن يكون قوله: "عن أبيه" مقحمًا في إسناد ابن عبد البر. (¬3) (ص 29).

النبوي، وقد أثبتناه ولله الحمد. قال: (وإنما اتخذهم العامة أربابًا بعد ذلك). أقول: أما أهل السنة فلم يتخذوا أحدًا من الصحابة ربًّا، وإنما أولئك غُلاة أصحابك الشيعة (¬1). قال: (من أساء منهم ذممناه، ومن أحسن منهم حمدناه). أقول: أنت وهواك، أما نحن فنقول: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10]. وذكر أبو ريَّة ص 311 كلامًا للذهبي ذكر فيه ما حكى ابن وضّاح قال: "سألت يحيى بن معين عن الشافعي، فقال: ليس بثقة"، ثم قال الذهبي: "وكلام ابن معين في الشافعي إنما كان من فَلَتات اللسان بالهوى والعصبية، فإن ابنَ معين كان من الحنفية وإن كان محدّثًا". أقول: هذه من فَلَتات القلم، وقد برَّأ الله ابنَ معين من اتباع الهوى والعصبية، وإنما كان يأخذ بقول أبي حنيفة فيما لم يتضح له الدليل بخلافه، ¬

_ (¬1) في هامش (ط) تعليق نصه: "كان الشيعة الإمامية قبل الدولة الصفوية ينقسمون إلى غلاة ومعتدلين، وكانوا في كتبهم المؤلفة في الجرح والتعديل لا يقبلون رواية الموصوفين منهم بالغلو، ثم أعلن المتأخرون من علمائهم في الجرح والتعديل - ومنهم العلامة الثاني الشيخ المامقاني عند ترجمته لكلّ من كان منهم يُنبز بالغلو (ومنهم المفضَّل بن عمر الجعفي، في 3: 240 من تنقيح المقال في أحوال الرجال) - أن ما كان يعد غلوًّا عند قدماء الشيعة تعده الشيعة الآن من ضروريات مذهب التشيّع، أي أنهم كلهم صاروا غلاةً بلا استثناء". [محب الدين الخطيب].

وعدم ميله إلى الشافعي كان لسبب آخر، وثَمَّ عللٌ تقدح في صحة هذه الكلمة: "ليس بثقة" عنه، وقد أوضحتُ ذلك في "التنكيل" (¬1). [ص 203] ثم ذكر أبو ريَّة ص 312 - 322 كلامًا للمقبليّ (¬2)، والمقبليّ نشأ في بيئة اعتزالية المعتقد، هادوية الفقه، شيعية تشيعًا مختلفًا، يَغْلُظ في أناس ويخفّ في آخرين، فحاولَ التحرُّر فنجح تقريبًا في الفقة، وقارب التوسّط في التشيُّع، أما الاعتزال فلم يكد يتخلّص إلا من تكفير أهل السنة مطلقًا. وكلامه هنا (¬3) يدور حول قضايا الاعتزال، كالقَدَر، ونفي رؤية المؤمنين ربّهم في الآخرة، والقول بخلق القرآن، والدفاع عن عَمرو بن عُبيد أحد قدماء المعتزلة، وهذه المسائل معروفة مدروسة، والمقبليُّ لم يسبر غورَها، ولا حقَّق ما كان عليه الأمر في عهد النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والتابعين بإحسان، فلذلك أخذ يلوم أحمد وينسبه إلى الإفراط في التشدّد، ولعلّه لو عَلِم ما عَلِم أحمد لنَسَبه إلى التسامح. ¬

_ (¬1) (1/ 413 - 415). وقد طعنوا في رواية ابن وضّاح بأنه يخطئ كثيرًا، وأنهم رأوا في أصله الذي كتبه بالشرق: سألت يحيى بن معين عن الشافعي فقال: ثقة. وأن أصحاب ابن معين كثيرون وهم أَعْرف به وألزم له، وأثبت في النقل وأحرص = ولم ينقلوا ما نقله هذا المغربي. أقول: وكلام الذهبي في كتابه "معرفة الرواة المتكلم فيهم بما لا يوجب الرد" (ص 47). (¬2) هو: صالح بن مهدي بن علي المقبلي اليماني (1038 - 1108)، من العلماء المجتهدين. ترجمته في "البدر الطالع": (1/ 273)، و"الأعلام": (3/ 197). (¬3) في كتابه "العَلَم الشامخ".

وذكر ص 315 ما رُوي عن أحمد في شأن ابن عُلَيّة ومحمد بن هارون. والإمام أحمد وإن رجا المغفرةَ للأمين فلم يزد في ابن عُلية على إنكار قوله تنفيرًا للناس عن الباطل، واستمرَّ أحمد على الرواية عن ابن عُلية، والاحتجاج به، والثناء عليه بالثبت. وذكر ص 316 مسألة الرؤية، فخَلَط بين رؤية النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ربَّه ليلة الإسراء، وهي التي أنكرَتْها عائشةُ ومَن معها، وبين الرؤية في الآخرة. وقال أيضًا: (لكن المحدثون لم يعرفوا مقدار الخطأ في الكلام لأنه غير صنعتهم). أقول: بل أنت لم تعرف مقدار الخطأ في العقيدة الإسلامية الحقَّة، ولا عرفتَ غَور القضايا المخالفة لها. وقال ص 317: (وقال يحيى بن معين في عتبة بن سعيد بن العاص بن أمية: ثقة، وهو جليس الحجاج ... بل روى له البخاري ومسلم). أقول: إنما هو عَنْبسة بن سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية، له عند البخاريِّ خبر واحد ذكَرَه في الجهاد والمغازي (¬1) مع روايته من طريق غيره، راجع "فتح الباري" (6: 30) و (7: 376) (¬2). وعند مسلم خبر واحد جاء ذِكْرُه فيه عَرَضًا، والاعتمادُ هناك على رواية أبي قِلابة الجَرْمي الثقة المأموَن، وذلك في قصة العُرَنيين (¬3)، وقد أخرجها أيضًا من رواية ¬

_ (¬1) رقم (2827، 4237)، وجاء ذكره عرضًا في الحديث رقم (4193، 6899). (¬2) (6/ 41 و7/ 491). وانظر أيضًا (12/ 241). (¬3) (1671).

غيرهما. هذا جميع ما لعنبسة في "الصحيحين" كما يُعْلَم من ترجمته في كتاب "الجمع بين رجال الصحيحين" (¬1)، ومعنى هذا أنهما لم يحتجَّا به ولا أحدهما. فأما الذين وثَّقوه فإنهم تتبَّعوا أحاديثه فوجدوها معروفة من رواية غيره من الثقات، ولم يثبت عليه جرح بَيِّن. أما مجالسته للحجَّاج [ص 204] فليست بجرح بَيِّن؛ إذ قد يجالسه ولا يَشْرَكه في ظلمه بل يحرص على ردّ ظلمه ما استطاع، ويرى أن استمراره على ذلك أنفع للدين وللمسلمين من مباينته له، وقد كان نبيّ الله يوسف عاملًا للمشركين بمصر والملك فيهم، ولم يكن يستطيع أن يحكم بخلاف دينهم بدليل قول الله عزَّ وجلَّ: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} [يوسف: 76]، وإنما كان - عليه السلام - يُعينهم على ما ليس بكفر ولا محرَّم عليه، فإذا جاء ما هو كفر أو محرَّم ولم يمكنه أن يصرفه تركه لهم، وقد أنذرهم بلُطْف وأَذِنَ الله تعالى أن يبقى معهم لِمَا عَلِم في ذلك من المصلحة. قال: (وروى البخاري لمروان بن الحكم). أقول: اعتبر البخاريُّ أحاديثَ مروان فوجدها مستقيمة معروفة، لها متابعات وشواهد، ووجد أنَّ أهل عصر مروان كانوا يثقون بصدقه في الحديث، حتى روى عنه سهل بن سعد الساعدي وهو صحابي، وروى عنه زينُ العابدين عليُّ بن الحسين بن علي بن أبي طالب. بقي عدالته في سيرته، فلعلّ البخاريَّ لم يثبت عنده ما يقطع بأن مروان ارتكب ما يخلّ بها غير متأوِّل. ¬

_ (¬1) (1/ 401) لابن طاهر.

وعلى كلِّ حال، فلا وجه للتشنيع؛ إذ ليست المفسدة في الرواية عمن تُذّم حاله في الصحيح ما دام المرويّ ثابتًا من طريق غيره، ألا ترى أنه لو وقع في سند إلى بعض ثقات التابعين أنه سمع يهوديًّا يقول لعلي بن أبي طالب: سمعتُ نبيّكم يقول: كيت وكيت. فقال عليّ: وأنا سمعته يقول ذلك، لصحّ إثبات هذا الخبر في الصحيح وإن كان فيه صورة الرواية عن يهودي؟ فما بالك بمروان، مع أن روايته لا تخلو من تقوية لرواية غيره؛ لأنه على كلّ حال مسلم قد عُرِف تحرِّيه الصدق في الحديث. وذكر ص 318: بعضَ ما نُسِب إلى بعض الصحابة ثم قال: (وما لا يحصى مما سكتّ عنه رعايةً لحقّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ما لم يلجئ إليه ملجئ ديني فيجب ذكره، ومن الملجئات ترتّب شيء من الدين على مروان والوليد [بن عقبة] وغيرهما فإنهما أعظم خيانة لدين الله ...). أقول: أما الوليد فقد تقدم (ص 198) (¬1) أنه لم يرو شيئًا، وإنما روى عنه مجهول خبرًا لو صحَّ لما دلَّ إلا على صدقه. وأما مروان فمن تتبَّع أحاديثه الثابتة عنه علم أن البخاري لم يَبْنِ شيئًا من الدين على رواية تفرَّد بها لفظًا ومعنى. وأما غيرهما فراجع (ص 197) (¬2). وقال ص 320: (وأعجب من هذا أن في رجالهما من لم يثبت تعديله ..) وذكر حفص بن بُغيل (¬3)، ومالك بن الخير الزبادي (¬4)، وكلامًا للذهبي في ¬

_ (¬1) (ص 372 - 373). (¬2) (ص 371 - 372). (¬3) في كتاب أبي ريَّة: "نفيل"! [المؤلف]. (¬4) في كتاب أبي ريَّة: "بجير الرمادي"! [المؤلف].

ترجمتيهما (¬1) قد ردّه الحافظ ابن حجر في ترجمة مالك بن الخير من "لسان الميزان" (¬2)، [ص 205] وفي مواضع أُخَر. وحفصٌ ومالك ليسا ولا أحدُهما في "الصحيحين" ولا أحدِهما, ولا فيهما ولا في أحدهما مَين هو مثل حفص ومالك، فإن وُجد مَنْ هو قريب من ذلك فنادرًا في المتابعات ونحوها كما بيَّنه ابنُ حجر، على أنه لو فرض أنّ البخاريَّ احتجّ في الصحيح بمن لم يوثّقه غيرُه فاحتجاجه به في "الصحيح" توثيقٌ وزيادة. وذكر بعد ذلك في المتن والحاشية كلامًا قد تقدّم بيانُ الحقِّ فيه ولله الحمد. ثم ذكر ص 324 - 327 كلامًا للدكتور طه حسين (¬3) ذكره في معرض الردّ على الذين يكذّبون غالب ما رُوي من الأحداث في زمن عثمان ويقولون: إنه "على كلّ حال لم يُرِد إلا الخير، ولم يكن يريد ولا يمكن أن يريد إلا الخير"، ويرون في سائر الصحابة أنهم "يخطئون ويصيبون، ولكنهم يجتهدون دائمًا ويسرعون إلى الخير دائمًا فلا يمكن أن يتورَّطوا في الكبائر، ولا أن يُحْدِثوا إلا هذه الصغائر التي يغفرها الله للمحسنين من عباده". أقول: أما أهل العلم من أهل السنة فلا يقولون في عثمان ولا في غيره من آحاد الصحابة: إنه معصوم مطلقًا أو من الكبائر، وإنما يقولون في المبشَّرين بالجنة: إنه لا يمكن أن يقع منهم ما يحول بينهم وبين ما بُشِّروا به، وإن الصحابيّ الذي سمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يُعْرَف بنفاق في عهده ولا ارتدَّ ¬

_ (¬1) في "الميزان": (2/ 79 و4/ 346). (¬2) (6/ 439 - ت أبو غدة). (¬3) في "الفتنة الكبرى - عثمان" (ص 170 - 173).

بعد موته = لا يكذب عليه - صلى الله عليه وسلم - متعمّدًا، وقد تقدّم بيانُ ذلك (¬1)، ولا يُظنُّ به أن يرتكب كبيرةً غير متأوِّل ويصرّ عليها. والعارف المنصف لا يستطيع أن يجحد أنّ هذه الحال كانت هي الغالبة فيهم، فالواجب الحملُ عليها ما دام ذلك محتملًا. وعلماءُ السنة يجدون الاحتمال قائمًا في كلَّ ما نقل نقلًا ثابتًا، نعم قد يبعد في بعض القضايا ولكنهم يرونه مع بُعده أقربَ من ضدِّه، وذلك مبسوط في كتبهم. قال ص 325: (ونحن لا نغلو في تقديس الناس إلى هذا الحد البعيد). أقول: وعلماء السنة كما رأيتَ لا يبلغون ذلك الحدّ، وإن كانوا يعلمون أنَّ حال الصحابة لا تُقاس بحال غيرهم. قال: (ولا نرى في أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ما لم يكونوا يرون في أنفسهم). أقول: المدار على الحجة، فإذا ثبت عندنا أن أحدهم كان يرى في صاحبه أمرًا فليس لنا أن نوافقه إذا لم نعلم له حجة، فكيف إذا ما قامت الحجةُ على خلافه؟ وأوضح من ذلك: أنه ليس لنا أن نتَّهم غير صاحبه بمثل تلك التهمة ما دام لا حجة لنا على ذلك. فأما الاستدلال على الإمكان فعلماء السنة لم ينفوا الإمكان إلا فيما قام عليه دليلٌ شرعيّ كالتبشير بالجنة. والدليل الشرعي لا يعارضه ما دونه. [ص 206] قال: (وهم تقاذفوا التُّهَم الخطيرة، وكان منهم فريق تراموا بالكفر والفسوق، فقد رُوِي أن عمار بن ياسر ...). أقول: أما الترامي بالفسوق بمعنى ارتكاب بعض الكبائر فقد كان بعض ¬

_ (¬1) (ص 373 - 376).

ذلك وعُلِم حُكمه مِمَّا مرَّ، وأما الترامي بالكفر فلم يثبت، بل الثابت خلافه. وما ذَكَر أنه رُوي عن عمَّار وابن مسعود لم يثبت، وعلى فرض أنه ثبت عن بعضهم كلمة يظهر منها ذاك المعنى، فهي فلتة لسان عند ثورة غضب، لا يجوز أخذها على ظاهرها لشذوذها ونفي جمهور الصحابة لما يوهمه (¬1) ظاهرها، فكيف وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تبشير عثمان بالشهادة والجنة؟ ثم قال ص 326: (الذين رووا أخبار هذه الفتن هم أنفسهم الذين رووا أخبار الفتح وأخبار المغازي وسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء، فما ينبغي أن نصدقهم حين يروون ما يروقنا، وأن نكذبهم حين يروون ما لا يعجبنا ... وما ينبغي كذلك أن نصدق كل ما يُرْوَى أو نكذب كل ما يُرْوَى، وإنما الرواة أنفسهم ناس من الناس يجوز عليهم الخطأ والصواب، ويجوز عليهم الصدق والكذب، والقدماء أنفسهم قد عرفوا ذلك وتهيئوا له ووضعوا قواعد ... فليس علينا بأس من أن نسلك الطريق التي سلكوها، وأن نضيفَ إلى القواعد التي عرفوها ما عرف المحدّثون من القواعد الجديدة ...). أقول: الرواة كما وصف، ولكن لا يجهل عاقل أن أحوالهم مختلفة: فمنهم المغفَّل المتساهل الذي يبني على التوهُّم فيكثر غلطُه، ومنهم الضابط المتقن المتثبِّت الذي يندر جدًّا أن يخطئ، وليس كلّ ما يصلح مستندًا للتوقف عن خبر الأول أو ردّه يصلح لمثل ذلك في خبر الثاني. فأما الصدق وتعمّد الكذب ولا سيما في الحديث النبوي فالأمر فيهما أعظم، وللكذب دواعٍ وموانع، والناس متفاوتون جدًّا في الانقياد للدواعي أو الموانع، فإني أعرف من الأغنياء الوجهاء من يساوم بالسلعة الخفيفة، فيقول له الدكَّاني: ثمنها ثلاثة قروش، فيقول كاذبًا: إن صاحب ذاك الدكَّان يبيعها بقرشين؛ يكذب هذه الكذبة طمعًا في أن يغرّ الدكَّانيَّ فيعطيه إياها بقرشين، مع علمه ¬

_ (¬1) (ط): "يزعمه" والظاهر أنه تحريف عما أثبتّ.

أن كذبه قد ينكشف عن قُرب، بل إذا نجح فأخذها بقرشين، قد يذهب فيخبر بالقصة متمدِّحًا بكذبه. وأعْرِفُ من المُقلّين من لا تسمح له نفسه بمثل هذا الكذب ولو ظنَّ أنه يتحصَّل به على مقدار كبير. فأما الحديث النبوي فالأمر فيه أشدّ، والمتديّنون من الكذب فيه أبعد وأبعد. فإن قيل: قد ذكر أهلُ الحديث أنّ جماعةً صالحين كانوا يكذبون في الحديث عمدًا في المواعظ ونحوها [ص 207] وذكروا في الهيثم بن عدي - وهو ممن يكذبون - أنه كان يقوم عامة الليل يصلي، فإذا أصبح جلس يكذب. قلت: أما صالحٌ يتعمَّد الكذب فلا يكون إلا شديد الجهل بالدين، ومثل هذا نادر لا يسوغ أن يُقاس به من عُرِف بالدين والعلم والصدق، ولو ساغ هذا لساغ أن يتَّهم كلُّ إنسان بكلِّ نقيصةٍ عُرفت لغيره، ولو عُرف بأنه من أبعد الناس عنها. فأما الهيثم بن عدي؛ فتلك الحكاية إنما حكاها عباس الدّوري قال: "حدثنا بعضُ أصحابنا قال: قالت جاريةُ الهيثم بن عدي: كان مولاي ... " (¬1). والجارية لا يُعرَف حالها، والمُخْبِرُ عنها لا يُدرى مَن هو وما حاله، وإنما ذكروا هذه الحكاية على أنها نادرة مستطرفة؛ لأن مثل هذا نادر كما مرَّ، وإنما استندوا في تكذيب الهيثم إلى دلائل ثابتة. هذا وعلماء السنة لا يستندون في التصديق والتكذيب إلى أنَّ ذاك يروقهم وهذا لا يعجبهم، ولكنهم ينظرون إلى الرواة؛ فمَن كان من أهل الصدق والأمانة والثقة لا يكذِّبونه، غير أنهم إذا قام الدليل على خطئه ¬

_ (¬1) انظر "تاريخ بغداد": (14/ 53)، و"السير": (10/ 104).

خطَّأوه، سواء كان ذلك فيما يسوؤهم أم فيما يعجبهم. وأما مَن كان كذَّابًا أو متَّهمًا أو مغفَّلًا أو مجهولًا أو نحو ذلك فإنهم لا يحتجّون بروايته. ومن هؤلاء جماعة كثيرة (¬1) قد رووا عنهم في كتب التفسير، وكثير من كتب الحديث والسَّيَر والمناقب والفضائل والتاريخ والأدب، وليست روايتهم عنهم تصديقًا لهم وإنما هي على سبيل التقييد والاعتبار، فإذا جاء دور النقد جَرَوا على ما عرفوه، فما ثبت مما (¬2) رواه هؤلاء برواية غيرهم من أهل الصدق قبلوه، وما لم يثبت فإنْ كان مما يقرُبُ وقوعه لم يروا بذكره بأسًا وإن لم يكن حجة، وإن كان مما يُسْتَبعْد أنكروه فإن اشتدَّ البُعْد كذَّبوه. وهذا التفصيل هو الحقّ المعقول، ومعلوم أنّ الكذوب قد يصدُق، فإذا صدَّقناه حيث عرفنا صدقه واستأنسنا بخبره حيث يقرُب صدقُه لم يكن علينا - بل لم يكن لنا - أن نصدّقه حيث لم يتبيَّن لنا صدقه، فكيف إذا تبيَّنَ لنا كذبه؟ أما القواعد النظرية قديمها وحديثها فحقُّها أن تضاف - كما أشار إليه الدكتور - إلى القواعد السَّنَدية بعد دراسة الناقد لهذه دراسة وافية وإيفائها حقَّها. فأما الاقتصار على القواعد النظرية أو ترجيح غير القطعي الحقيقي منها على رواية الثقات الأثبات، أو الاستدلال به على صدق الحكايات الواهية فضرره أكثر من نفعه. كثيرًا ما يبلغنا حدوثُ حادثةٍ في عصرنا هذا فنرى صحتها؛ لأننا نرى أن الأسباب تستدعيها وتكاد توجب وقوعَها، ثم يتبيّن أنها لم تقع. وتبلغنا واقعة فنرتاب فيها ونكاد نجزم بتكذيبها، ثم يتبيَّن أنها وقعت. ¬

_ (¬1) (ط): "كثير". (¬2) (ط): "عما".

[ص 208] فإن قيل: إنما ذلك لخطئنا في اعتقاد أن هذا سبب أو مانع، أو في تقدير قوَّته، أو لجهلنا بأسباب وموانع أخرى أقوى مما عرفناه؟ قلت: فإذا كان هذا جهلنا بزماننا ومكاننا وبيئتنا، فكيف بما مضى عليه بضعة عشر قرنًا؟ ومما يجب التنبّه له أنه قد يثبت من جهة السَّنَد نصٌّ يستنكره بعضُ النقَّاد، وحقّ مثل هذا أن لا يبادَرَ إلى ردِّه، بل يُمعنَ النظرُ في أمرين: الأول: معنى النص، فقد يكون المراد منه معنًى غير الذي استُنْكِرَ. الثاني: سبب الاستنكار، فكثيرًا ما يجيء الخلل من قِبَله. وقد تقتضي (¬1) القرائنُ وقوعَ أمر سكتتْ عنه الروايات الصحيحة, وتَرِدُ رواية واهية السند فيها ما يؤدِّي ذاك الأمر في الجملة، فيبادر الناقد إلى تثبيتها، وفي هذا ما فيه. ألا ترى أنه قد يجيئك شخص ضَرَبَه آخر فتسأله: لِمَ ضَرَبك؟ فيقول: بلا سبب، فترتاب في صدقه، فإذا جاء خصمه فقال: إنما ضربته لأنه سبَّني سبًّا شنيعًا، قال: كيت وكيت، ظننتَ أنه صادق في الجملة، أي أنه قد كان سبٌّ، ولكنه قد يكون دون ما ذكره الضاربُ بكثير. فالصواب أن تذكر الرواية وأنها واهية السند، ثم يقال: ولكن القرائن تقتضي أنه قد كان شيء من ذاك القبيل. هذا هو مقتضى التحقيق والأمانة. ثم قال أبو ريَّة ص 328: (طالب الحديث بغير فقه ...). أقول: قال أبو ريَّة ص 46: وروى البخاري ومسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن مَثَل ما بعثني الله به من الهُدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضًا، منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعُشْبَ الكثير، وكان منها أجادب ¬

_ (¬1) (ط): "تقضي"، وستأتي على الصواب في آخر الفقرة.

أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب بها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تُمسكُ ماءً ولا تُنبت كلأً" (¬1). إذا طُبّق هذا الحديث على أهل الحديث فثقاتهم كلّهم داخلون في الفرقتين الأوليين المحمودَتَين، راجع "فتح الباري" (1: 161) (¬2). وفي حديث زيد بن ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عند الترمذي وغيره: "نضَّر الله أمرءًا سمع منَّا حديثًا فحفظه حتى يبلغه غيره، فربَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه، وربّ حامل فقه ليس بفقيه" (¬3). فشمل الدعاء كما ترى من حَفِظ وبَلَّغ وإن لم يكن فقيهًا. وذَكَر عن الثوري: "لو كان الحديث خيرًا لذهب كما ذهب الخير". أقول: لم يقصد نفيَ الخير عن الحديث نفسه، كيف والقرآن خير كلُّه ولم يذهب، ولا عن طلب الحديث جملة [ص 209]، فإن المتواتر المعلوم قطعًا عن الثوري خلاف ذلك، وإنما قَصَد أنّ كثيرًا من الناس يطلبون الحديث لغير وجه الله، وذلك أنه رأى أن الرغبة في الخير المحض لم تزل تَقِلّ؛ كانت في الصحابة أكثر منها في التابعين، وفي كبار التابعين أكثر منها في صغارهم، وهلُمَّ جرًّا، وفي جانب ذلك رأى رغبةَ الناس في طلب الحديث لم تنقص، فرأى أنها ليست خيرًا على الإطلاق، يعني أن كثيرًا ممن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (79) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. (¬2) (1/ 198). (¬3) أخرجه أحمد (21590)، وأبو داود (3660)، والترمذي (2656)، وابن ماجه (230) وغيرهم من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه. قال الترمذي: حديث حسن، وصححه ابن حبان (680)، وله شواهد من حديث جماعة كثيرة من الصحابة. انظر "موافقة الخُبر الخَبر": (1/ 363 - 393).

يطلب الحديث يطلبه ليُذْكَر ويَشْتَهِر ويقصده الناس ويجتمعوا حوله ويعظِّموه. وأقول: إنّ العلم الخبير أحكم الحاكمين كما شرع الجهاد في سبيله لإظهار دينه، ومع ذلك يسّر ما يُرَغِّب فيه من جهة الدنيا، فكذلك شَرَع حفظَ السنّة وتبليغها، ومع ذلك يسَّر ما يرغِّب في ذلك من جهة الدنيا؛ لأنه كما يحصل بالجهاد عن الإسلام وإن قلَّ ثواب بعض المجاهدين، فكذلك يحصل بطلب الحديث وحفظه حفظ الدين ونشره وإن قَلَّ أجر بعض الطالبين. وذكر أبو ريَّة ص 330 كلمات لبعض المحدِّثين في ذمِّ أهل الحديث يَعْنُون طلابه، التقطها من كتاب "العلم" لابن عبد البر، وقد قال ابن عبد البر هناك (2: 125) (¬1): "وهذا كلامٌ خرج على ضَجَر، وفيه لأهل العلم نظر". وإيضاحُ ذلك: أنَّ الرغبةَ في طلب الحديث كانت في القرون الأولى شديدة، وكان إذا اشتهر شيخٌ ثقة معمّر مكثر من الحديث قَصَده الطلابُ من آفاق الدنيا، منهم من يسافر الشهر والشهرين وأكثر ليدرك ذاك الشيخ، وأكثر هؤلاء الطلاب شُبَّان، ومنهم مَنْ لا سَعَة له من المال، إنما يستطيع أن يكون معه من النَّفَقة قدرٌ محدود يتقوّت منه حتى يرجع، أو يلقى تاجرًا من أهل بلده يأخذ منه الشيء، وكان منهم مَنْ كُلُّ نفقته جِراب يحمله، فيه خبزٌ جافّ يتقوَّت كلَّ يومٍ منه كسرة يبلّها بالماء ويجتزئ بها، ولهم في ذلك قَصَص عجيبة (¬2). ¬

_ (¬1) (2/ 1016). (¬2) انظر طائفة منها في "تقدمة الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم، وفي كتاب "الرحلة في طلب الحديث" للخطيب.

فكان يجتمع لدى الشيخ جماعةٌ من هؤلاء، كلّهم حريص على السماع منه، وعلى الاستكثار ما أمكنه في أقلِّ وقت، إذ لا يمكنه إطالة البقاء هناك لقلَّة ما بيده من النفقة، ولأنه يخاف أن يموت الشيخُ قبل أن يستكثر من السماع منه، ولأنه قد يكون شيوخ آخرون في بلدان أخرى يريد أن يدركهم ويأخذ عنهم. فكان هؤلاء الشباب يتكاثرون على الشيخ ويُلحُّون عليه ويُبْرِمونه، فيتعب ويضيق بهم ذرعًا، وهو إنسان له حاجات، وأوقات يجب أن يستريح فيها، وهم لا يَدَعُونه، ومع ذلك فكثير منهم لا يرضون أن يأخذوا من الشيخ سلامًا بسلام، بل يريدون اختباره ليتبيَّن لهم أضابط هو أم لا؟ فيورِدون عليه بعض الأسئلة التي هي مظنَّة الغلط ويناقشونه في [ص 210] بعض الأحاديث، ويطالبونه بأن يُبرز أصلَ سماعه، وإذا عثروا للشيخ على خطأ أو سقط أو استنكروا شيئًا من حاله، خرجوا يتناقلون ذلك بقصد النصيحة، فكان بعض أولئك الشيوخ إذا ألحَّ عليه الطلبة وضاق بهم ذرعًا أطلق تلك الكلمات: "أنتم سخنة عين. لو أدركنا وإياكم عمر بن الخطاب لأوجعنا ضربًا. ما رأيت علمًا أشرف ولا أهلًا أسخف من أهل الحديث. صرت اليوم ليس شيء أبغض إليّ من أن أرى واحدًا منهم. إن هذا الحديث يصدّكم عن ذِكْر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون. لأنا أشدُّ خوفًا منهم من الفساق"؛ لأنهم يبحثون عن خطئه وزلله ويشيعون ذلك. والغريب أنَّ أولئك الطلاب لم يكونوا يَدَعون هذه الكلمات تذهب، بل يكتبونها ويروونها فيما يروون، فيذكرها من يريد عتاب الطلاب وتأديبهم كابن عبد البر، ويهتبلها أبو ريَّة ليعيب بها الحديثَ وأهلَه جملةً.

فأما قول الثوري: "أنا في هذا الحديث منذ ستين سنة، وَدِدْتُ أني خرجتُ منه كفافًا لا عليَّ ولا لي" (¬1). فهذا كلام المؤمن الشديد الخشية، تتضاءل عنده حسناتُه الكثيرة العظيمة، ويتعاظم في نظره ما يخشى أن يكون عَرَضَ له من تقصير أو خالطه من عُجْب، وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب نحو هذا فيما كان له بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عمل (¬2)، وإنما كان عمله ذلك جهادًا في سبيل الله، وإعلاء دينه، وتمكين قواعده، وإقامة العدل التام، وغير ذلك من الأعمال الفاضلة. وقد كان فيها كلها أبعد الناس عن حظِّ النفس، بل كان يبالغ في هضم نفسه وأهل بيته. وكلُّ عارفٍ بالإيمان وشأنه يعرف لكلمة عمر حقَّها، ولكن الرافضة عكسوا الوضع، وقفاهم أبو ريَّة في كلمة الثوري وما يشبهها! وعلَّق أبو ريَّة على كلمة: "لو أدركنا وإياكم عمر بن الخطاب الخ" ما تقدَّم تفنيده في مواضع. ... ¬

_ (¬1) أخرجه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم": (2/ 1025). (¬2) أخرجه أحمد في "الزهد" (ص 124)، وبنحوه في "الرقة والبكاء" (145) لابن أبي الدنيا.

خاتمة أبي رية

خاتمة أبي رية قال ص 331: (خاتمة ...). ذكر عبارات لابن خَلْدون تتلخص في أمور: الأول: ذَكَر من الدواعي إلى الكذب: التشيُّع للمذاهب، والتزلّف إلى ذوي المراتب. فأقول: قد عرف المحدّثون هذا وعدّةَ أسباب أخرى أشاروا إليها في البواعث على الوضع، وإنما الفرق بينهم وبين بعض مَنْ يتعاطى النقدَ في عصرنا أنَّ المحدّثين علموا أنّ هذين الداعيين مثلًا لا يدعوان إلى الكذب لأنه كذب، وإنما يدعو الأول إلى ذِكْر ما يؤيّد المذهب، والثاني إلى ذكر ما يرضي ذا المرتبة، [ص 211] وإنَّ كُلًّا من التأييد والإرضاء ليس وقفًا على الكذب، بل يمكن أن يقع بما هو صدق. إذن فالمخبر بما يؤيّد مذهبه أو يرضي رئيسه يجوز - مع صرف النظر عن الأمور الأخرى - أن يكون صادقًا وأن يكون كاذبًا، فالحكم بأحدهما لوجود الداعي غير سائغ، بل يجب النظر في الأمور الأخرى ومنها الموانع، فإذا وُجِد داعٍ ومانع وانحصر النظرُ فيهما تعيَّن الأخذُ بالأقوى، وكلّ من الدواعي والموانع تتفاوت قُوَّتُه في الأفراد تفاوتًا عظيمًا، فلا بد من مراعاة ذلك. ومن تدبَّر هذا علم أنّ الحقَّ لا ريب فيه، وأنه يرى شواهده في نفسه وفي مَنْ حواليه، وعلم أن ما يسلكه بعضُ متعاطي النقد من أهل العصر في اتهام بعض أفاضل المتقدِّمين بالكذب لوجود بعض الدواعي عندهم في الجملة تهوُّرٌ مؤسف. أمّا أئمة الحديث فقد عرفوا الرواةَ وخَبَروهم، وعرفوا

أحوالهم وأخبارهم، واعتبروا مروياتهم كما تقدم في مواضع منها (ص 55 و62) (¬1). فمن وثّقه المتثبِّتون منهم فمحاولة بعضِ العصريين اتهامه لأنه كان - مثلًا - يتشيّع أو يخالط بني أمية أو نحو ذلك لغوٌ لا يرتضيه العارف البتة. هذا حُكم يقبله علماء السنة لهم وعليهم، ألا ترى أن مسلمًا صحَّح حديث أبي معاوية عن الأعمش عن عديّ بن ثابت عن زِرٍّ قال: "قال عَلِيّ: والذي فَلَق الحَبّة وبرأ النَّسَمة إنه لَعَهد النبيّ الأميّ - صلى الله عليه وسلم - إليّ: أن لا يُحبَّني إلا مؤمن ولا يبغضَني إلا منافق" (¬2). ولا أعلم أحدًا طعن فيه، مع أن عديَّ بن ثابت معروف بالتشيُّع بل وصفه بعضُهم بالغلوِّ فيه، وكان إمامَ مسجد الشيعة وقاصَّهم، والبخاريّ وإن لم يخرج هذا الحديث فقد احتجَّ بعدي بن ثابت في عدة أحاديث، ولو كان يتَّهمه بكذبٍ ما في الرواية لما احتجَّ به البتة (¬3). الأمر الثاني: ذَكَر من أسباب الكذب خطأً: أن يخطئ المخبر في معرفة حقيقة ما عاين أو سمع، وينقل الخبر بحسب ما اعتقد. أقول: قد عرف المحدّثون هذا, ولذلك شرطوا في الراوي أن يكون ضابطًا متثبتًا عارفًا بمعاني الكلام إذا روى بالمعنى، ويختبرون حاله في ذلك باعتبار حديثه كما تقدم (ص 55 و62) (¬4) وغيرهما. الأمر الثالث: ذَكَر من أسباب تلقّي الراوي الصدوق خبر الكاذب ونقله له: حُسْن الظن بالمخبر، وموافقة الخَبَر لرغبة الراوي وضعف تمحيصه. ¬

_ (¬1) (ص 108 - 109 و121 - 122). (¬2) أخرجه مسلم (78). (¬3) ترجمته في "تهذيب التهذيب": (7/ 165 - 166). (¬4) (ص 108 - 109 و121 - 122).

أقول: وهذا قد عرفه أئمة الحديث، ولذلك لم يَعُدُّوا رواية الثقة لخبر عن رجل تصحيحًا ولا توثيقًا. [ص 212] الأمر الرابع: ذَكَر أن الحكم بصحة الخبر لا ينبغي أن يُكتفى فيه بثقة الراوي، بل ينبغي أن يتقدم ذلك النظر في طبيعة الخبر وعَرْضه على أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني، ويقاس الغائب على الشاهد، فإذا عرف أنه ممكن نظر في حال الرواة، قال: "أما إذا كان مستحيلًا فلا فائدة للنظر في التعديل والتجريح". أقول: وهذا قد عرفه الأئمة، وقدَّروا كلَّ شيء من هذا قَدْرَه. راجع (ص 191) (¬1). وقال ص 334 عن ابن خلدون: (فأبو حنيفة رضي الله عنه يقال: بلغت روايته إلى سبعة عشر حديثًا). أقول: هذه مجازفة قبيحة وتفريط شائن، أفما كان ابن خلدون يجد عالمًا يسأله؟ الأحاديث المروية عن أبي حنيفة تُعدّ بالمئات، ومع ذلك لم يُرْو عنه إلا بعض ما عنده، لأنه لم يتصدَّ لإسماع الحديث. راجع (ص 34) (¬2). قال: (ومالك رحمه الله إنما صحَّ عنده ما في كتاب الموطأ). أقول: وهذه مجازفة أخرى، لم يقصد مالك أن يجمع حديثَه كلَّه ولا الصحيح منه في "الموطأ"، إنما ذكر في "الموطأ" ما رأى حاجةَ جمهورِ ¬

_ (¬1) (ص 360 - 362). (¬2) (ص 67 - 68).

الناس داعيةً إليه. قال: (وغايتها ثلاث مائة حديث أو نحوها). أقول: هذه مجازفة ثالثة، انظر كتاب أبي ريَّة ص 271 حيث ذكر عن الأبهري: أنها ستمائة، فأما ما ذكره هناك أن "الموطأ" كان عشرة آلاف حديث فلم يزل مالك ينقص منه، فقد فنَّده ابن حزم في "أحكامه" (2: 137) (¬1). وقال أيضًا: (إن الصحابة لم يكونوا كلهم أهل فتيا، ولا كان الدين يُؤخذ عن جميعهم) (¬2). أقول: قال الإمام الشافعي: "أصحابُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - كلّهم ممن له أن يقول في العلم". راجع ما تقدم (ص 42) (¬3). ثم قال أبو ريَّة ص 334 - 338: (أعظم ما رزئ به الإسلام. قال الأستاذ الإمام محمد عبده ...) فذكر أمورًا قد تقدَّم النظر فيها. وذَكر ص 336 قول يحيى القطان: "ما رأيتُ الصالحين في شيء أكذب منهم في الحديث". ففسَّر الصالحين بالمرائين، والمعروف عند أهل الحديث أنهم أُناس استغرقوا في العبادة والتقشُّف وغَفَلوا عن ضبط ¬

_ (¬1) (2/ 136 - 137). وانظر مقدمة د. محمد مصطفى الأعظمي لطبعته من "الموطأ": (1/ 96 - 118) فقد فنّد هذا القول وبسط الردّ عليه، وفاته كلام ابن حزم على أهميته. (¬2) علّق أبو ريَّة على هذا قوله: "من أجل ذلك لم يأخذ أبو حنيفة بما جاء عن أبي هريرة وأنس بن مالك وسمرة ... " وقد تقدم إبطال هذا ص 126 [242]. [المؤلف]. (¬3) (ص 81) وسبق عزو النص إلى "الأم".

الحديث، فصاروا يُحدِّثون على التوهُّم، كأبان بن أبي عياش، ويزيد بن أبان الرَّقاشي، وصالح المرّي وغيرهم. وفي آخر ص 337: (أما أخبار الآحاد فإنما يجب الإيمان بما ورد فيها على من بلغته وصدّق بصحة روايتها). أقول: ومَنْ لم يصدّق فمدار الحكم فيه على المانع له من التصديق، فمن الموانع ما لا يمنع إلا الزائغ، وراجع (ص 56) (¬1). [ص 213] وقال ص 338: (هل كل من وثَّقه جمهور المتقدمين يكون ثقة؟) وذكر في هذه الصفحة إلى ص 344: كلمات لصاحب "المنار"، منها كلام في كعب الأحبار ووهب بن منبه، وقد تقدّم النظر في ذلك (ص 67 - 70) (¬2) وغيرها. ومنها في نقد المتون (ومن تعرض له منهم كالإمام أحمد والبخاري لم يُوَفِّه حقه كما تراه فيما يورده الحافظ ابن حجر في التعارض بين الروايات الصحيحة له ولغيره). أقول: من أنعم النظر في الرواة والمرويات ومساعي أئمة الحديث في الجمع والتنقيب والبحث والتخليص والتمحيص عَرَف كيف يثني عليهم، وأبقى الله لمن بعدهم ما يتمّ به الابتلاء وتُنال به الدرجات العُلَى، ويمتاز هؤلاء عن هؤلاء. وقد أسلفتُ (ص 161 و188) (¬3): أن الاستشكال لا يستلزم البطلان، بدليل استشكال كثيرٍ مِن الناس كثيرًا من آيات القرآن، وذكرتُ في (ص 172) (¬4): أن الخلل في ظن البطلان أكثر جدًّا من الخلل ¬

_ (¬1) (ص 109 - 110). (¬2) (ص 132 - 139). (¬3) (ص 307 و356). (¬4) (ص 327).

في الأحاديث التي يصححها الأئمة المتثبِّتون. قال: (ومنه ما كان يتعذّر عليهم العلم بموافقته أو مخالفته للواقع؛ لظاهر حديث أبي ذر عند الشيخين وغيرهما: "أين تكون الشمسُ بعد غروبها"، فقد كان المتبادر منه للمتقدّمين أن الشمس تغيب عن الأرض كلها وينقطع نورها عنها مدة الليل، إذ تكون تحت العرش تنتظر الإذن لها بالطلوع ثانية). أقول: للحديث روايات: إحداها: رواية وكيع عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر: سألتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس: 38] قال: "مستقرّها تحت العرش" أخرجاه في "الصحيحين" (¬1). الثانية: في "الصحيحين" (¬2) أيضًا من طريق أبي معاوية عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر قال: "دخلتُ المسجدَ ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس، فلما غابت الشمس قال: "يا أبا ذرّ هل تدري أين تذهب هذه؟ " قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "فإنها تذهب فتستأذن في السجود فيؤذَن لها. وكأنها قد قيل لها: ارجعي من حيث جئت، فتطلُع من مغربها"، قال: ثم قرأ في قراءة عبد الله: (وذلك مستقرّ لها) لا أدري من القارئ؟ ولعله إبراهيم التيمي. وظاهر اختلاف سياق الروايتين أنهما حديثان كلٌّ منهما مستقلّ عن الآخر، وليس في المرفوع من هاتين الروايتين ذِكْر أنها حين تغرب تكون تحت العرش أو في مستقرّها. ¬

_ (¬1) البخاري (4802)، ومسلم (159). (¬2) البخاري (4803)، ومسلم (159).

وهناك رواية ثالثة للبخاري (¬1) عن الفريابي عن الثوري عن الأعمش بنحو رواية أبي معاوية إلا أنه قال: "تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن ... ". ونحوه بزيادة في روايةٍ لمسلم (¬2) من وجهٍ آخر عن إبراهيم التيمي وقال: "حتى تنتهي إلى مستقرِّها تحت العرش فتخرّ ساجدة ... ". فقد يقال: لعلّ أصل الثابت [ص 214] عن أبي ذر الحديثان الأولان، ولكن إبراهيم التيميّ ظنَّ اتفاق معناهما فجمع بينهما في الرواية الثالثة. وقد يقال: بل هو حديث واحد اختصره وكيع على وجه وأبو معاوية على آخر. فالله أعلم. هذا، وجَرْي الشمس هو - والله أعلم - هذا الذي يحسّه الناس، فإنه على كلِّ حال هو الذي تُطْلِق عليه العرب: (جري الشمس) تدبر (¬3)، وبحسب ذلك يُفهم الحديث. وقال الله تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} [الحج: 18]. ومهما يكن هذا السجود فإنه يدل على الانقياد التام، والشمس منقادة لأمر ربها أبدًا، وانحطاطها في رأي العين إلى أسفل أجدر بأن يسمَّى سجودًا، والمأمور يعمل إذا انقاد، وشأنه الانقياد دائمًا، فشأنه عند توقّع أن يُؤمر بتركه أن يستأذن. فأما طلوعها آخر الزمان من مغربها، فرأيت لبعض العصريين (¬4) كلامًا ¬

_ (¬1) (3199). (¬2) (159). (¬3) كذا في (ط). (¬4) لم أتبيَّن مَن هو.

سأذكره ليُنْظَر فيه: ذكر أنه يحتمل أن يُحْدِث الله عزَّ وجلَّ ما يعوق هذه الحركة المحسوسة الدائرة بين الشمس والأرض، فتبطئ تدريجًا كما يُشْعِر به ما جاء في بعض الأخبار: أن الأيام تطول آخر الزمان، حتى تصل إلى درجة استقرار، ويكون عروض هذا الاستقرار بعد غروبها عن هذا الوجه من الأرض الذي كان فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم تنعكس الحركة فتطلع على أهل هذا الوجه من مغربهم. قال: وذاك الموضع (¬1) الذي سوف تستقر فيه مُعيَّن بالنسبة إلى موضعها من الأرض، فيصح أن يكون هو المستقر. قال: وكان الظاهر - والله أعلم - أن يقال: "تحت الأرض" أي بالنظر إلى أهل الوجه، لكنه عَدَل إلى "تحت العرش" لأوجه: منها: كراهية إثارة ما يستغربه العرب حينئذ من هيأة الخلق مما يؤدي إلى شكِّ وتساؤل واشتغال الأفكار بما ليس من مهمَّات الدين التي بُعِث لها الرسل، وقد ذكر بعضُهم نحو هذا في قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189]. ومنها: أنه وإن كان تحت الأرض عند أهل هذا الوجه فهو فوقها عند غيرهم، أما العرش فذاك الموضع والعالم كله تحته، راجع "الرسالة العرشية" (¬2) لشيخ الإسلام ابن تيمية. ومنها: أنه لما ذكر أنه موضع سجودها كانت نسبة السجود إلى كونه تحت العرش أَوْلَى. ¬

_ (¬1) (ط): "الموضوع" خطأ. (¬2) (ص 33 وما بعدها).

أقول: فلم يلزم مما في الرواية الثالثة من الزيادة غيبوبة الشمس عن الأرض كلها، ولا استقرارها عن الحركة [ص 215] كل يوم بذاك الموضع الذي كُتِب عليها أن تستقر فيه متى شاء ربُّها سبحانه. ****

بحث مع صاحب "المنار"

بحث مع صاحب "المنار" قال ص 339: (... بعد العلم القطعي لا مندوحة لنا عن أحد أمرين: إمّا الطعن في سند الحديث وإن صححوه؛ لأن رواية ما يخالف القطعي من علامات الوضع عند المحدّثين أنفسهم. وأقرب تصوير للطعن فيما اشتهر رواته بالصدق والضبط: أن يكون الصحابي أو التابعي منهم سمعه مِنْ مِثل كعب الأحبار. ونحن نعلم أنّ أبا هريرة روى عن كعب الأحبار، وكان يصدِّقه، ونرى الكثير من أحاديثه عَنْعنة (¬1) لم يصرح بسماعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن القطعيِّ أنه لم يسمع الكثير منها من لسانه - صلى الله عليه وسلم - لتأخُّر إسلامه، فمن القريب أن يكون سمع بعضها من كعب الأحبار، ومرسل الصحابيّ إنما يكون حجة إذا سمعه من صحابيٍّ مثله، ومثل هذا يقال في ابن عباس وغيره ممن روى عن كعب الأحبار وكان يصدَّقه. وإما تأويل الحديث بأنه مرويّ بالمعنى، وأن بعض رواته لم يفهم المراد منه فعبَّر بما فهمه ...). أقول: عليه في هذا مؤاخذات: الأولى: أن الأمرين اللذين ذكر أنه لا مندوحة عنهما، وهما الطعن والتأويل لا يتعيّنان، بل بقي ثالث وهو التوقّف، ويتعيَّن حيث لا يتهيَّأ للنّاقد تأويل مقبول ولا طعن معقول. الثانية: أنه قدَّم الطعنَ على التأويل، والواجب ما دام النظر في حديثٍ ثابت في "الصحيحين" تقديم التأويل. الثالثة: قوله: "إن مخالفة القطعيَّ من علامات الوضع"، محلُّه إذا تحققت المخالفة، ولم يكن هناك احتمال للتأويل البتة. ¬

_ (¬1) كذا ولعلها: "معنعنة".

الرابعة: الطعن المعقول هو الذي يتحرَّى أضعف نقطة في السند، فما باله عَمَد إلى أقوى مَنْ فيه وهو الصحابي؟ وهو أبو ذرّ الغفاري، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما أظلَّت الخضراء ولا أقلَّت الغبراء مِنْ ذي لهجةٍ أصدق من أبي ذر" (¬1). ثبتَ مِن حديث أمير المؤمنين عليّ وعدد من الصحابة. الخامسة: أن أبا ذر لم يُنقل عنه إصغاء إلى كعب، ولا إلى مَن هو مثل كعب، بل جاء أنَّ كعبًا قال في مجلس عثمان: ما أُدِّيَتْ زكاتُه فليس بكنز. فضربه أبو ذرّ بعصاه، وقال: ما أنت وهذا يا ابن اليهودية؟ أو كما قال. وفي "المسند" (5: 162) (¬2) عنه: "لقد تركنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وما يتقلَّب في السماء طائر إلا ذكرنا منه علمًا". وفي البخاري (¬3) عنه أنه قال في زمان عثمان: "لا والله لا أسألهم دُنْيا ولا أستفتيهم عن دين حتى ألقى الله عزَّ وجلَّ". أفتراه يستغني عن إخوانه مِنْ جِلَّة الصحابة هذا الاستغناء ثم يأخذ عن كعب أو نحوه؟ [ص 216] السادسة: أن مَنْ سمع مِنْ الصحابة من كعب لم يسمعوا منه إلا بعض ما يخبر به عن صحف أهل الكتاب، ورواية أبي هريرة عن كعب قليلة وكلها من هذا القبيل، وراجع (ص 68 و73) (¬4). السابعة: لم يذكر دليلًا على دعواه أنَّ أبا هريرة وابن عباس كانا يُصدِّقان كعبًا، ولا أعلم أنا دليلًا على ذلك، أما إخبارهما عنه ببعض ما يُخْبِر به عن ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه (ص 206 - 207). (¬2) (21439). (¬3) (1408)، وهو في مسلم أيضًا (992). (¬4) (ص 132 و139).

صُحُف أهل الكتاب فغايته أنهما كانا يميلان إلى عدم كذبه. الثامنة: أن الذي عُرِف للصحابة في قول أحدهم: "قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ... " أنه إن لم يكن سماعًا له من النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو سماعٌ له من صحابي آخر ثابت الصحبة كما تقدم (ص 115) (¬1). وجميع ما ثبت عنهم جملةً وتفصيلًا مما فيه ذِكْر إرسالهم إنما هو هذا، و (¬2) الدليل الصريح الذي استدلوا به على أنَّ أبا هريرة قد يرسل: إنما هو حديثه في مَنْ أصبح جُنبًا فلا يصبح ... (¬3)، وقد بيّن أنه سمعه من صحابيين فاضِلَين وهما أسامة بن زيد والفضل بن عباس، مع أنه قلّما كان يذكر الحديثَ بل كان الغالب من حاله أن يفتي بذلك فتوى ولا يذكر النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولا يُعْلَم أحدٌ من الصحابة قال في حديث: "قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ... " ثم بيّن أو ذَكَر مرةً أخرى أو تبيَّن بوجه من الوجوه أنه عنده عن تابعيّ عن صحابي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. بل يعزّ جدًّا أَخْذ الصحابي عن تابعي عن صحابي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، إنما توجد أمثلة يسيرة جدًّا لصغار الصحابة يُسْنِدونها على وجهها، راجع (ص 156 - 157) (¬4). وكان الصحابي إذا قال: "قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ... " كان محتملًا عند السامعين للوجهين كما مرَّ، فأما أن يكون إنما سمعه مِن تابعيّ عن صحابيّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يكن عندهم محتملًا، وإذ لم يكن محتملًا فارتكاب الصحابي إياه ¬

_ (¬1) (ص 222 - 223). (¬2) (ط): "أو". (¬3) تقدم (ص 226). (¬4) (ص 298 - 301).

كذب، وقد برَّأهم الله تعالى عن الكذب. وأبعد من ذلك أن يكون إنما سمعه من تابعي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأبعد وأبعد أن يكون التابعي مثل كعب. التاسعة: زعم - مع الأسف - أن هذا أقرب تصوير للطعن، وهو كما ترى أبعد تصوير، بل هو محض الباطل، ولو احتجتُ إلى الطعن في سند الخبر لأريتُك كيف يكون الطعن المعقول بشواهده من كلام الأئمة كابن المديني والبخاري وأبي حاتم وغيرهم، فإنَّ لهم عللًا ليست كلٌّ منها قادحة حيث وقعت، ولكنها تقدح إذا وقعت في خبر تحقَّق أنه منكر. وهذا من أسرار الفن (¬1). العاشرة: أن هذا الطعن يترتّب عليه من المفاسد ما لا يعلمه إلا الله تعالى، وهي المَكِيدة التي مرَّت الإشارة إليها (ص 201) (¬2)، وإيضاحها قبل ذلك، وكلّ من التأويل ولو مستكرهًا والوقف أسلم من هذا الطعن [ص 217]. ولو غير السيد رشيد رضا قاله لذكرت قصة المرأة التي اشتكى طفلُها ولم تعلم ما شكواه، غير أنها نظرت إلى يافوخه يضطرب - كما هو شأن الأطفال - فأخذت سكينًا وبطَّت يافوخَه كما يُصنع بالدّمل ... إلى آخر ما جرى. الحادية عشرة: قوله في أبي هريرة: "من القطعي ... لتأخر إسلامه". قد تقدم رده (ص 156) (¬3). ¬

_ (¬1) انظر مقدمة تحقيق "الفوائد المجموعة" (ص 8 - 9) للمؤلف. (¬2) (ص 380). وانظر ما سبق (142 - 150 و161 - 177 و209 - 214 و300 و325 - 327). (¬3) (ص 298 - 299).

الثانية عشرة: لا يخفى حال ما ذكره أخيرًا وسمَّاه تأويلًا. وذكر ص 340 الحكايات عن كعب ووهب وقال: (لم يكن يحيى بن معين وأبو حاتم وابنه وأمثالهم يعرفون ما يصح من ذلك وما لا يصح، لعدم اطلاعهم على تلك الكتب). أقول: في هذا أمور: الأول: أن الأئمة كانوا يعرفون النبي - صلى الله عليه وسلم - وسنته، فبذلك كانوا يعرفون حال كعب ووهب فيما نسباه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإذا وثّقوهما فمعنى ذلك أنهم عرفوا صِدْقهما في هذا الباب، وهذا هو الذي يهمُّ المسلمين. فأما ما حكياه عن صُحُف أهل الكتاب فليس بحجة سواء أصَدَقا فيها أم كَذَبا. الثاني: تقدم في فصل الإسرائيليات (ص 67 - 95) (¬1) ما يُعلم منه: أن غالب ما يُنسب إلى كعب لا يثبت عنه، ومرَّ (ص 91) (¬2): أن في كتاب "فضائل الشام" سبع عشرة حكاية عن كعب لا تثبت عنه ولا واحدة منها. وعسى أن يكون حال وهب كذلك. فمَنْ أراد التحقيق فليتتبع ما يثبت عنهما صريحًا بالأسانيد الصحيحة, ثم ليعرضه على كتب أهل الكتاب الموجودة كلها، ويتدبَّر الأمر الثالث وهو ما تقدم (ص 69 - 72) (¬3): مِن تتبُّع اليهود ما كان موجودًا في العالم - عند ظهور الإسلام وبعده إلى مدّة - مِن نُسَخ كتبهم في العالم كلّه وإتلافها لمخالفتها ما يرضونه من نُسَخ حديثة أبقوها، مع ما عُرف عنهم من استمرار التحريف عمدًا، وانقراض كثير من كتبهم البتة، ثم ¬

_ (¬1) (ص 130 - 184). (¬2) (ص 171). (¬3) (ص 134 - 140).

ليحكم. قال: (وإننا نرى بعض الأئمة المجتهدين قد تركوا الأخذ بكثير من الأحاديث الصحيحة ...). أقول: قد تقدم النظر في هذا (ص 35 و178) (¬1). وقال ص 341 في حكايات كعب ووهب: (وما كان منها غير خرافة فقد تكون الشبهة فيه أكبر، كالذي ذكره كعبٌ مِن صفة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في التوراة). أقول: قد مرَّ الخبر (ص 70 - 71) (¬2) وأنه ثابت عن عبد الله بن عَمرو بن العاص عن التوراة، ويُروى عن عبد الله بن سلام وعن كعب. [ص 218] فأما الشبهة التي أشار إليها فلا يكاد يوجد حقٌّ لا يمكن أن يحاول مُبْطِل بناء شبهة عليه، فمَنْ التزم أن يتخلَّى عن كلِّ ما يمكن بناء شبهة عليه أوْشَك أن يتخلى عن الحقِّ كلِّه. وقال: (وإني لا أعتقد صحة سند حديث ولا قول عالم صحابي يخالف ظاهر القرآن، وإن وثَّقوا رجاله، فربَّ راوٍ يوثَّق للاغترار بظاهر حاله وهو سيء الباطن). أقول: قد تقدم (ص 14) (¬3) ما نقله أبو ريَّة عن صاحب "المنار" قال: "النبي - صلى الله عليه وسلم - مبيِّن للقرآن بقوله وفعله، ويدخل في البيان التفصيل والتخصيص والتقييد، لكن لا يدخل فيه إبطال حكم من أحكامه أو نقض خبر من أخباره". وأوضحتُ ذلك هناك، فإن أراد هنا بقوله: "يخالف ظاهر القرآن" ما لو صح لكان إبطالًا أو نقضًا فذاك، فأما البيان بالتفصيل والتخصيص ¬

_ (¬1) (ص 71 و338 - 339). (¬2) (ص 137 - 140). (¬3) (ص 29).

والتقييد ونحوها فإنه يثبت بخبر الواحد بشرطه، وأدلةُ خبرِ الواحد - ومنها جَرَيان العمل به في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وعمل أهل العلم - تشمل هذا، ومنها ما هو نصٌّ فيه. راجع (ص 22 و45 و49) (¬1). ومما يزيده وضوحًا: أن دلالة العموم ونحوه كثيرًا ما تتخلَّف، وقد قيل: ما مِن عامّ إلا وقد خُصّ. وذهب بعضهم إلى أنه إذا خُصّ شيءٌ من العام سقطت دلالته على الباقي. وتخصيص العمومات ثابتٌ في قضايا لا تُحْصَى، فاحتمال القضية له أَبْيَنُ وأَوْضَح وأَوْلَى مِن احتمالٍ لا يمكنك أن تثبته في واقعة واحدة، وهو كَذِب راوٍ وثَّقه الأئمة المتثبِّتون وصحَّحوا حديثه محتجّين به، ولم يطعن فيه أحد منهم طعنًا بيِّنًا. أما كعب ووهب فليسا من هذا لوجهين: الأول: أنهما ليسا بهذه الدرجة، راجع (ص 69 - 70) (¬2). الثاني: أنه لم يثبت ما نسبه إليهما من سوء الظن. ثم قال أبو ريَّة ص 342: (جل أحاديث الآحاد لم تكن مستفيضة في القرن الأول). ونقل عبارةً للسيد رشيد رضا في مقدمته لـ "مغني ابن قدامة". وقد تقدَّم النظر فيها (ص 15) (¬3)، وعبارة السيد رشيد: "جلّ الأحاديث التي يحتجّ بها أهل الحديث على أهل الرأي والقياسيين من علماء الرواية"، ثم قال صاحب "المنار": "فعلم بذلك أنها ليست من التشريع العام الذي جرى عليه عمل النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وليست مما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبلغ الشاهد فيه الغائب ... ". ¬

_ (¬1) (ص 45 و89 و99). (¬2) (ص 135 - 138). (¬3) (ص 31).

أقول: قد تقدَّم دفع هذا (ص 28 - 35) (¬1)، وراجع (ص 20 - 21) (¬2) و (ص 52) (¬3). [ص 219] ثم حكى كلمات عمن ليس قوله حجة، ولا ذَكَر حُجة، فأعرضتُ عنها، ومنها ما عزاه إلى كتاب ليس عندي (¬4)، فليراجع. ثم ذكر ص 347 - 348: آيات من القرآن، وقد تقدّم ما يتعلق بذلك (ص 13) (¬5). ثم ذكر ص 348: قول ابن حجر في "الفتح" (¬6) في الكلام على حديث إيصاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقرآن: "اقتصر على الوصية بكتاب الله لكونه أعظم وأهم، ولأن فيه تِبيان كلِّ شيء إما بطريق النصّ أو بطريق الاستنباط، فإذا تَبِعَ الناسُ ما في الكتاب عملوا بكل ما أمرهم به". كذا صنع أبو رية! وآخر عبارة ابن حجر في "الفتح" (5: 268) هكذا: " ... عملوا بكلِّ ما أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - به؛ لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7] الآية ... ". وقال ص 349: (وعن أبي الدرداء مرفوعًا: ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عافية ...). أقول: هذا يرويه إسماعيل بن عَيّاش، وهو صدوق، عن عاصم بن ¬

_ (¬1) (ص 56 - 69). (¬2) (ص 41 - 44). (¬3) (ص 102). (¬4) (ط): "عنده" والصواب ما أثبت (¬5) (ص 27). (¬6) (5/ 361).

رجاء بن حَيْوَة، وهو صدوق يهم، عن أبيه رجاء، عن أبي الدرداء. ورجاء لم يدرك أبا الدرداء، فالخبر منقطع مع ما في سنده (¬1)، ولو صحَّ لما كان فيه ما يخالف الحجج القطعية، فقد حرَّم الله في كتابه معصية رسول الله والمخالفة عن أمره، وأمر بأخذ ما آتى، والانتهاء عما نهى. وراجع (ص 13) (¬2). ثم ذكر مرسل ابن أبي مُلَيكة، وقول عمر: "وعندنا كتاب الله حسبنا". وقد تقدّم النظر فيهما (ص 36 و39) (¬3). قال: (ولما سُئلت عائشةُ عن خُلق النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، قالت: إنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان خلقه القرآن). أقول: خلقه - صلى الله عليه وسلم - يشمل جميع أحواله وأفعاله وأقواله، فرأتُ عائشةُ أنه لا يمكنها تفصيل ما تعلم مِن ذلك كله لذلك السائل، وعلمَتْ أنه يقرأ القرآن وفيه تفصيل كثير من الأخلاق التي كانت من خُلُق النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وإجمال الباقي فأحالته عليه، وقد عاد السائل فسألها عن هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في أعماله، فأخبرته. وفي ذلك وسائر أحاديث عائشة نفسها ذِكْر أشياء كثيرة جدًّا لا يفهمها الناس مِن نصِّ القرآن وإنما هي من بيانه (¬4) له بما فيه التفصيل والتخصيص والتقييد ونحو ذلك. ثم قال أبو ريَّة: (وقال الأستاذ الإمام محمد عبده رضي الله عنه: إن المسلمين ليس ¬

_ (¬1) أخرجه البزار (4087)، والدارقطني: (3/ 59)، والحاكم: (2/ 375)، والبيهقي: (10/ 12) وغيرهم. وصحح إسناده الحاكم. وفيه النظر الذي ذكره المؤلف. (¬2) (ص 27). (¬3) (ص 72 و78). (¬4) (ط): "بيان".

لهم إمام في هذا العصر غير القرآن). [ص 220] أقول: ها أنتم تلقِّبون الشيخ محمد عبده نفسه بهذا اللقب نفسه (الإمام) وتقتدون به، وتترضَّون عنه كما يُترَضَّى عن الصحابة، مع أنكم كثيرًا ما تذكرون النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فلا تصلّون عليه، وتسيئون القولَ في الصحابة رضي الله عنهم، وفي كتاب أبي ريَّة كثيرٌ من ذلك، فكأنكم أردتم له أن تسلبوا أئمة الحقِّ هذا اللقب وتخصّوه به. أما القرآن فهو الإمام حقًّا، وهو نفسه يثبت الإمامةَ للنبيّ - صلى الله عليه وسلم -، ثم كلّ راسخ في العلم والدين مُبلِّغ لأحكام الشرع فإنه إمام، إلا أنه كالمبلِّغ لتكبيرات إمام الصلاة، وإن بان وقوعُه في مخالفةٍ للإمام اتبعنا الإمامَ دونَه. وقال: (لا يمكن لهذه الأمة أن تقوم ما دام هذه الكتب فيها). أقول: إن أراد جميع الكتب غير القرآن فالواقع أنَّ فيها الحق والباطل، وكثير من الحق الذي فيها إذا فات لا يُعَوَّض، فأما الباطل فكما قيل: إن ذهب عَير، فعَير في الرباط، ومَن عَرف الحقَّ واتبعه فقد استقام، ولا يضره بعد ذلك أن يعرف أضعافَ أضعافِه من الباطل. وذكر ص 350 أمورًا قد تقدَّم النظر فيها (ص 175 - 177) (¬1) وغيرها. ثم قال: (... ومن عمل بالمتفق عليه كان مسلمًا ناجيًا). أقول: تقدم تفنيد هذا، وبيان ما وقع فيه من الغلط (ص 15) (¬2). قال ص 351: (هذه هي سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أما إطلاقها على ما يشمل الأحاديث فاصطلاح حادث). ¬

_ (¬1) (ص 332 - 334). (¬2) (ص 31).

أقول: تقدم تفنيده (ص 12) (¬1). ثم قال: (أحاديث الآحاد التي لم يعمل بها جمهور السلف هي محل اجتهاد في أسانيدها ومتونها؛ لأن ما صح منها يكون خاصًّا بصاحبه). أقول: إن أراد بقوله: (صاحبه) من عَرف صحّته، بمعنى أنه ليس له إلزام غيره فسيأتي قريبًا، وإن أراد به الصحابي الذي ورد فيه، فإنما يصح هذا حيث يثبت دليل على الخصوصية. وراجع (ص 28 - 35) (¬2). قال: (ومن صح عنده شيء منها روايةً ودلالةً عمل به، ولا تُجْعَل تشريعًا عامًّا تُلزمه الأمة إلزامًا تقليدًا لمن أخذ به). أقول: على مَنْ صحّ عنده أن يُبيِّن ذلك لغيره ويعذره إن خالفه ولم يتبيَّن له عناده أو زيغه، وإلا لزمه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى الإمام أن يمنع من يتبيَّن له خطؤه من الإفتاء بذلك الخطأ، ويمنع الناس من الأخذ بفتواه، وفي سيرة عمر رضي الله عنه ما يبيّن هذا. [ص 221] ثم ذكر أشياء قد تقدَّم النظر فيها، إلى أن قال: (وما كل ما لم يصح سنده يكون متنه غير صحيح). أقول: وجه ذلك أنه قد يثبت بسند آخر صحيح، لكن لا يخفى أن هذا الاحتمال لا يفيد المتنَ شيئًا من القوَّة، غايته أن يقتضي التريُّث في الجزم بضعفه مطلقًا حتى يبحث فلا يوجد له سند صحيح. وذكر أشياء تقدَّم النظر فيها، إلى أن قال ص 352: (ولم يَظْهر البخاريُّ ولا غيره من كتب الحديث إلا بعد انقضاء خير القرون). ¬

_ (¬1) (ص 25). (¬2) (ص 56 - 69).

أقول: هذا مأخوذ من قدح بعض الملحدين في القرآن؛ بأن المصاحف لم تكن في عهد النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وكما يقال لهذا: ليس المدار على المصاحف إنما المدار على ما فيها، وقد ثبت أنه القرآن الذي أنزله الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فكذلك نقول هنا: الأحاديث التي في "صحيح البخاري" ثبت أنها كانت معروفة عند خير القرون، وإنما رواها الثقات منهم وعنهم، بل ثبتت بالحجة الشرعية عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال: (لم يقل أحدٌ من سلف الأمة وأئمة الفقه: إن معرفة الدين تتوقَّف على الإحاطة بجميع ما رواه المحدِّثون ولا بأكثرها). أقول: لا ريب أن الأحاديث الضعيفة والواهية والمكذوبة لا تتوقّف معرفةُ الدين على الوقوف عليها، ومِن الصحيحة ما يُرْوَى من عِدّة طرق قد تبلغ المِئين، ويكفي لمعرفة الدين معرفة المتن من طريق صحيحة منها. ومنها أحاديث يتفق العددُ منها في المعنى أو فيما هو المقصود، كأحاديث تحريم الربا وأحاديث التشهُّد، ويكفي لمعرفة الدين معرفة واحدٍ منها. ومنها أحاديث يوجد في كتاب الله عزَّ وجلَّ ما يفيد معناها، ويكفي لمعرفة الدين معرفة تلك الدلالة من القرآن. وبعد هذا كله، فمعرفة الدين ليست أمرًا لا يزيد ولا ينقص، وقد عَلِمْنا أنّ الشريعةَ لم توجب أن يكون كلّ مسلم عالمًا، وإنما أوجبت على الأمة أن يكون فيها علماء بقدر الكفاية يرجع إليهم العامّة في كلِّ ما يعرض لهم، ولم توجب على العالم أن يكون محيطًا بالدين، بل كما أن العامِّي يستكمل ما يحتاج إليه بسؤال العلماء، فكذلك العالم يستكمل ما يخفى عنه أو يُشْكِلُ

عليه بمراجعة غيره من العلماء. وراجع (ص 32 - 33) (¬1). قال: (قال البيضاوي في حديث: "لا وصية لوارث": والحديث من الآحاد، وتلقي الأمة له بالقبول لا يلحقه بالمتواتر). [ص 222] أقول: هذا رأي البيضاويّ، فإذا خالفه غيره فالمدار على الحجة. وهكذا كلّ ما يحكيه أبو ريَّة عن فلان وفلان. ومن تدبَّر آيات المواريث علم أنها تفيد معنى هذا الحديث. ثم ذكر قضايا قد تقدَّم النظر فيها، إلى أن قال ص 353: (ربَّ راوٍ هو موثوق به عند عبد الرحمن بن مهدي ومجروح عند يحيى بن سعيد القطان، وبالعكس، وهما إمامان عليهما مدار النقد في النقل، ومِنْ عِندهما يُتلقَّى معظم شأن الحديث). أقول: الغالب اتفاقهما، والغالب فيما اختلفا فيه أن يستضعفَ يحيى رجلًا فيتركَ الحديثَ عنه، ويرى عبد الرحمن أنَّ الرجلَ وإن كان فيه ضعف فليس بالشديد، فيحدّث عنه، ويثني عليه بما وافق حاله عنده، وقد قال تلميذُهما ابنُ المَديني: "إذا اجتمع يحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي على تَرْك رجل لم أُحدِّثْ عنه، فإذا اختلفا أخذت بقول عبد الرحمن لأنه أقْصَدُها وكان في يحيى تشدّد" (¬2). والأئمة الذين جاؤوا بعدهما لا يجمدون على قولهما بل يبحثون وينظرون ويجتهدون ويحكمون بما بان لهم. والعارفُ الخبيرُ الممارس لا يتعذَّر عليه معرفة الراجح فيما اختلف فيه مَن قبله، وعلى فَرْض أننا لم نعرف ¬

_ (¬1) (ص 64 - 67). (¬2) أخرجه الخطيب في "تاريخ بغداد": (10/ 243)، وانظر "تهذيب التهذيب": (6/ 252).

مِنْ حال راوٍ إلا أن يحيى تركه وأن عبد الرحمن كان يُحدِّث عنه، فمقتضى ذلك أنه صدوق يهم ويخطئ، فلا يسقط ولا يحتجّ بما ينفرد به. قال: (إن ما كان قطعيّ الدلالة في النصوص فهو الشرع العام الذي يجب على جميع المسلمين اتباعه عملًا وقضاء، وإن ما كان ظنّي الدلالة موكول إلى اجتهاد الأفراد في التعبّدات والمحرمات وإلى أُولي الأمر في الأحكام القضائية. إن ما كانت دلالته على التحريم من النصوص ظنية غير قطعية لا يُجْعَل تشريعًا عامًّا تُطالب به كلّ الأمة, وإنما يعمل فيه كلّ أحد باجتهاده، فمن فهم منه الدلالة على تحريم شيء امتنع منه، ومن لم يفهم منه ذلك جرى فيه على أصل الإباحة). أقول: قد تقدم النظر في نظرية "دين عام ودين خاص" (ص 9 و14 - 15 و28 - 34 و100) (¬1) وقريبًا (ص 220 - 221) (¬2)، وكذلك حال الاجتهاد والمجتهد. هذا، والأدلة القطعية تبيِّن أن الواجب على كلِّ مسلم طاعة الله ورسوله ما استطاع، فيما ثبت بدليل قطعيّ المتن والدلالة أو ظَنِّيِّهما، أو قطعيّ أحدهما ظنّي الآخر، وأنّ على [ص 223] العاميّ العملَ بما يعلمه من الشريعة قطعًا أو ظنًّا، والرجوعَ فيما يجهله إلى العلماء الموثوق بعلمهم ودينهم، فإذا أفتاه أحدُهم بأمر لزمه العمل به سواء أكان قطعيًّا أو ظنيًّا، فإن اختلف عالمان فقد قال الله تبارك وتعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] فعلى العامّي أن يتحرَّى أقرب الأمرين إلى طاعة الله وطاعة رسوله، وإذا علم الله تعالى حرصه على طاعته سبحانه فلا بد أن يُهيّئ له مِنْ أمره رَشَدًا. ¬

_ (¬1) (ص 20 و29 - 32 و55 - 67 و194). (¬2) (ص 415 - 418).

وعلى كلِّ مسلم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويتأكَّد ذلك على الرّجل في أهله، وعلى كلِّ راعٍ في رعيته، وعلى كلِّ مَن عرف حكمًا بدليل قطعيّ أو ظنيّ أن يرشد من يراه من المسلمين يخالفه جهلًا به، وينكر على من يراه يعرض عنه على وجهٍ مُنكر. وليس له الإنكار على مَنْ يُعرض عنه على وجهٍ معروف. والوجه المعروف هو ما يسمى "اختلاف الاجتهاد" أو "اختلاف وجهة النظر" مع اتحاد القصد في طاعة الله ورسوله. أما القضاء، فالفرض فيه أن يكون بما أنزل الله يقينًا أو ظنًّا، وذلك يشمل الأدلة الشرعية كلَّها، فإذا كان القاضي مجتهدًا فذاك، وإلَّا أخذ بما يتبيّن له رُجحانُه مِنْ أقوال أهل العلم. ثم ذكر قضايا تقدم النظر فيها (ص 175 و202 و218) (¬1). ثم ذكر عن السيد رشيد رضا: " ... ونحن نجزم بأنَّا نسينا وضيَّعنا من حديث نبينا - صلى الله عليه وسلم - حظًّا عظيمًا لعدم كتابة علماء الصحابة كلّ ما سمعوه، ولكن ليس منه ما هو بيان للقرآن أو من أمور الدين، فإنّ أمور الدين معروفة في القرآن ومُبيَّنة بالسنة العملية، وما دُوِّن من الأحاديث فهو مزيد هداية وبيان". أقول: قد تكفَّلَ الله عزَّ وجلَّ بحفظ دينه، فمحالٌ أن يذهب منه ما يقتضي نَقْصَه، والمؤسف حقًّا أن يجمع بعضُنا بين التحسُّر على ما لم يُحْفَظ، والتجنِّي على ما حُفظ، ومحاولة حطِّه عن درجته. راجع (ص 14 - 50) (¬2). ثم قال أبو ريَّة: (قال الإمام أبو حنيفة: ردّي على كلِّ رجل يحدِّث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) (ص 332 و381 و411). (¬2) (ص 29 - 100).

بخلاف القرآن ليس ردًّا على نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ولا تكذيبًا له، ولكنه ردّ على من يحدِّث عنه بالباطل، والتهمة دخلت عليه، ليس على نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، وكل شيء تكلم به النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلى الرأس والعين، قد آمنا به وشهدنا أنه كما قال، ونشهد أنه لم يأمر بشيء يخالف أمر الله، ولم [ص 224] يبتدعْ ولم يتقوَّلْ غير ما قاله الله ولا (¬1) كان من المتكلّفين). أقول: هذه العبارة من كتاب "العالم والمتعلم"، وفي نِسْبته إلى أبي حنيفة ما فيها (¬2)، والكلامُ هناك في مسائل اعتقادية ومخالفة يراها مناقضة. فأما تبيين السنة للقرآن بما فيه التفصيل والتخصيص والتقييد ونحوها كما مرَّ (ص 14 و218) (¬3) فثابت عند الحنفية وغيرهم، سوى خلاف يسير يتضمّنه تفصيلٌ مذكور في أصولهم، يتوقّف فهمه على تدبّر عباراتهم ومعرفة اصطلاحاتهم، وبعض مخالفيهم يقول: إنهم أنفسهم قد خالفوا ما انفردوا به هناك في كثير من فروعهم ووافقوا الجمهور. بل زاد الحنفية على الشافعية فقالوا: إن السنة المتواترة تنسخ القرآن، وإن الحديث المشهور أيضًا ينسخ القرآن، وكثير من الأحاديث التي يطعن فيها أبو ريَّة هي على اصطلاح الحنفية مشهورة. ثم ختم أبو ريَّة كتابه بنحو ما ابتدأه من إطرائه وتقديمه إلى المثقفين (¬4)، والبذاءة على علماء الدين، ثم الدعاء والثناء، وأنا لا أثني على كتابي، ولا أُبرِّئ نفسي، بل أَكِلُ الأمرَ إلى الله تبارك وتعالى، فهو حسبي ونعم الوكيل، ¬

_ (¬1) (ط): "ولو" والتصحيح من كتاب أبي رية. (¬2) تكلم المؤلف عليه بالتفصيل في "التنكيل": (1/ 663 - 665). (¬3) (ص 29 و411). (¬4) انظر تعليق المؤلف على هذا الثناء (ص 7 - 8). وأما البذاءة فقد حذفها أبو ريَّة من الطبعات اللاحقة ترويجًا لكتابه، كما تقدمت الإشارة إلى ذلك.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على خاتم أنبيائه محمد وآله وصحبه. انتهى بعون الله تعالى جَمْع هذا الكتاب في أواخر شهر جمادى الآخرة سنة 1378. والحمد لله ربّ العالمين. ***

ملحقان بكتاب "الأنوار الكاشفة"

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فهذان تعليقان كتبهما المصنّف رحمه الله قبل تأليفه "الأنوار الكاشفة" بغرض أن يكون أحدهما تقديمًا لكتاب الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة "ظلمات أبي رية ... "، وذلك بطلبٍ من الشيخ الوجيه محمد نصيف؛ فكتب أولًا تسع ورقات، ثم كتب ثانيًا تسع عشرة ورقة، تكلم فيهما عن كتاب أبي ريَّة وغرضه منه، ثم ناقشه في عدة قضايا رئيسة في الكتاب، قال: إنها ملاحظات يسيرة، وعَزَم وهو يكتب هذه الورقات على تأليف كتاب مستوفًى في الردّ عليه، بل كان يحيل إليه لاستكمال مبحث أو قضية، فأثبتنا هذين التعليقين ملحقين بكتاب "الأنوار الكاشفة"، وقد وقع فيهما من الفوائد ما ليس في "الأنوار ... "، وتبين منهما سبب تأليفه للكتاب. والملفت للانتباه أنّ المصنّف لم يكتب شيئًا بخصوص كتاب الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة، مع أنه هو باعثه الأول لكتابة هذه الأوراق، بل أخذ في الردّ على أبي ريَّة ومناقشته. ويلاحظ أيضًا أن هذا التقديم المفترض لكتاب "ظلمات أبي ريَّة ... " لم يُنشر معه، فالله أعلم. المحقق

الملحق الأول

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى. وبعد، فإن فضيلة أخي العلَّامة الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة كَتَب وهو على فراش المرض - عافاه الله - مطالعات وملاحظات على كتاب ألَّفه الأستاذ محمود أبو رَيَّة وسمَّاه: "أضواء على السُّنَّة المحمدية". فأرسل إليَّ حضرة المُحسن الكريم صاحب الفضيلة الشيخ محمد نصيف تلك الملاحظات، وتقدَّم إليَّ بأن أكتبَ كلمة تكون بمثابة مقدمة، فاحتجت مع الاطلاع على الملاحظات أن أطالعَ كتاب أبي رَيَّة؛ فتبيَّن لي أن استيفاء الكلام له وعليه يستدعي تأليفًا مستقلًّا، عسى أن يتيسّر لي فيما بعد. وأكتفي الآن بملاحظات يسيرة. ساءني من أبي ريَّة أنه بينا هو يطعن في بعض الصحابة والأئمة، ويرى أنه لا ينبغي أن يَثْقُل ذلك على أهل العلم؛ إذا به يثقل عليه غاية الثقل أن يخالفه مخالفٌ أو يتعقّبه متعقِّب، فيحاول كَفَّهم عن ذلك بكلام .... كقوله ص 14: (وقد ينبعث له من يتطاول إلى معارضته ممن تعفَّنت أفكارهم وتحجّرت عقولهم). وقال ص 354: (وإن تَضِق به صدورُ الحشويّة وشيوخ الجهل من زوامل الأسفار الذين يخشون على علمهم المزوّر من سطوة الحق، ويخافون على كساد بضاعتهم العفنة التي يستأكلون بها أموال الناس بالباطل أن يكشفهم نورُ العلم الصحيح ويهتك سترهم ضوءُ الحجّة البالغة = فهذا لا يهمّنا؛ إذ ليس لمثل هؤلاء خَطَر عندنا ولا وزن في حسابنا).

لماذا لم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بكتابة الحديث؟

أما الذي يدُلُّ عليه صنيعك يا أبا ريَّة، فهو أنه لولا شدَّة خوفك من نقضهم كلامَك ما حاولت أن تتّقيهم بهذا السلاح. [ص 1] وبينا هو يطعن علي الصحابة والأئمة، ويخالف علماء المسلمين كلهم؛ إذا به ينكر على بعض كبار العلماء مخالفته لعالمٍ أو عالمين من المتأخرين. انظر تعليقه على ص 38 - 39، وراجع مصادره التي أحال عليها ليتبيَّن لك صنيعه. وبينا هو يذكر كثرة الأحاديث الموضوعة والواهية في الكتب العلمية؛ إذا به يحتجّ بكلّ ما يوافق هواه في أيِّ كتاب كان، بدون نظر إلى سندٍ ولا مستندٍ، كما فعل في ترجمة أبي هريرة. وبينا هو يقلّل من شأن أئمة الأُمَّة بما يعلم منه أنه لو احتجَّ عليه بكلامهم لم يقبله، بل قد رأى كثيرًا من كلامهم فأعرض عنه وخالفهم فيه؛ إذا به يحتجّ بكلام أبي حيّان التوحيدي، وابن أبي الحديد، ومحمد عبده، ورشيد رضا، وطه حسين، ولهذا نظائر كثيرة في كتابه. لماذا لم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بكتابة الحديث؟ للعلماء قولان في نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كتابة الحديث، منهم مَن يقول: إنه لم يَنْه، ومنهم مَن يقول: إنه نهى ثم رخَّص. فذكر أبو ريَّة هذه المسألة وجَمَد على النهي وساق ما ورد فيه، وزعم أنه أصح مما ورد في الترخيص، فذكر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثين: أحدهما: حديث أبي سعيد، نَسَبه أبو ريَّة إلى "صحيح مسلم" (¬1) وغيره ¬

_ (¬1) (3004).

وساقه بلفظ: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تكتبوا عنّي شيئًا سوى القرآن، فمن كتب عنّي غير القرآن فليمحه". ولفظ مسلم مخالف لهذا وفيه زيادة. [ص 2] الثاني: ما رواه كثير بن زيد عن المطلب بن عبد الله بن حنطب قال: دخل زيد بن ثابت على معاوية فسأله عن حديث، وأمر إنسانًا أن يكتبه، فقال زيد: "إنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أمرنا أن لا نكتب شيئًا من حديثه" (¬1). فأما حديث مسلم عن أبي سعيد، فقد أعلَّه البخاريُّ وغيرُه كما في "فتح الباري" (¬2)، وقالوا: الصواب مِن قول أبي سعيد، وفي "كتاب العلم" (¬3) لابن عبد البرّ من طرق عن أبي نضرة قال: قيل لأبي سعيد: لو أكْتَبْتَنا الحديث؟ فقال: لا نُكْتِبكم، خذوا عنا كما أخذنا عن نبيّنا - صلى الله عليه وسلم -. زاد في رواية: "أردتم أن تجعلوه قرآنًا"!، وفي رواية: "مصاحف". وهذا يشهد لقول البخاري؛ إذ الظاهر أنه لو كان عند أبي سعيد نصّ من النبي - صلى الله عليه وسلم - لذَكَرَه ولم يكتفِ بما قال هنا. وأما الحديث الثاني، فكثيرٌ ضعيف، والمطَّلب لم يُدرك زيد بن ثابت. وأما أحاديث الجواز: فمنها: حديث الصحيفة التي كانت عند علي، وهو في "الصحيحين" (¬4)، وهو ثابت من عِدة طُرق. ¬

_ (¬1) تقدم (ص 45). (¬2) (1/ 208). (¬3) (1/ 272 - 273). (¬4) البخاري (111)، ومسلم (1370).

ومنها حديث: "اكتبوا لأبي شاه" وهو في "الصحيحين" (¬1) وغيرهما. ومنها حديث أبي هريرة: أن عبد الله بن عمرو [بن] العاص كان يكتب. أخرجه البخاري (¬2) وغيره، ورواه الإمام أحمد وغيره، وفيه: أن عبد الله بن عمرو "استأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الكتاب عنه فأذن". وقد ورد ذلك من حديث عبد الله بن عمرو. راجع: المستدرك 1/ 104 فما بعدها، ومسند أحمد بتحقيق العلَّامة أحمد محمد شاكر ج 10 الحديث (6510) (¬3). وهناك أحاديث أخرى. وقد قال أبو ريَّة نفسه في حاشية ص 23: (أملى النبي - صلى الله عليه وسلم - كتبًا في الشرائع والأحكام جهر بها رُسله وعماله في الأمصار المفتوحة؛ بعضها في الصدقات والفرائض، ولا يتعدى ما كُتب عن الرسول في عصره عشر صفحات ...). أقول: أما صحيفة عبد الله بن عمرو فالظاهر أنها كبيرة، وكان يسمّيها "الصادقة". [ص 3] زعم أبو رية أن أحاديث النهي أصح، وقد علمتَ سقوطَ هذا. وحكى عن رشيد رضا أن حديث أبي شاه غير معارض لأحاديث النهي. قال: "على قاعدتنا التي مدارها على أن نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن كتابة حديثه مراد به أن لا تُتَّخذ دينًا عامًّا كالقرآن، وذلك أن ما أمر بكتابته لأبي شاه هو خطبة خطبها - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة، موضوعها تحريم مكة ولُقَطة الحرم، وهذا من بيانه - صلى الله عليه وسلم - للقرآن ... ". ¬

_ (¬1) البخاري (2434)، ومسلم (1355). (¬2) (113). (¬3) انظر ما تقدم (ص 46 - 47).

أقول: الذي يتحصّل من هذا أنه يرى أن القرآن وما يبيِّنه من السُّنَّة هو من الدين العام فهو مأمور بكتابته، وأما ما عداه فليس من الدين العام، فلذلك نهى عن كتابته، وتلك الخطبة من البيان فهي من الدين العام، فلذلك أمر بكتابتها. وأقول: لا ريب أن أفعاله وأقواله وتقريراته - صلى الله عليه وسلم - التي تبيّن القرآن كانت كثيرة جدًّا، وليست قاصرة على تلك الخطبة. ثم المفهوم من كلام أبي ريَّة وما ينقله عن رشيد رضا هو أن الدين العام محصور في السُّنَّة العملية المتواترة؛ ككون الصلوات خمسًا ونحو ذلك. وأن أحكام القرآن ليست من الدين العام إلا ما تكون دلالته قطعية على فرض تسليمه بقوله. وقد نقل أبو ريَّة في أواخر الكتاب وقرّر: أن النصوص اللفظية من القرآن وغيره دلالتها كلها لفظية. فنقول: لم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بكتابة السنن العملية المتواترة، وهي من الدين العام عندك، وأمر بكتابة القرآن كله، وكثيرٌ منه أو كله ليس دلالته من الدين العام عندك. فثبت بهذا سقوط العلة التي زعمت. [ص 4] إذن فالعلة الصحيحة للأمر بكتابة القرآن هي ما فهمه أهل العلم هنا، وهو أن ألفاظه مع كونها مقصودة لمعانيها مقصودة لذاتها؛ لأنها كلام الله تبارك وتعالى، تعبد عباده بتلاوتها، ولها النصيب الوافر من الإعجاز، وأما غير القرآن فليس مثله في ذلك. فأما النهي عن كتابة الحديث فقد علمت أنه لم يتحقق صحته وعلمتَ ما يعارضه. وذكر أبو ريَّة أثرًا عن عائشة: أن أبا بكر كتب خمسمائة حديث ثم أتلفها

خشية أن يكون منها ما أخطأ فيه الذي حدَّثه به، وخشية أن يردَّ الناسُ غيرها من الحديث بحجة أنه لو كان صحيحًا لكتبه أبو بكر. وذكر أثرًا عن عمر أنه جمع الصحابة واستشارهم في كتابة السنن، فأشاروا بذلك، ففكَّر عمر مدَّة ثم عزم أن لا يكتبها قائلًا: إني ذكرتُ قومًا كانوا قبلكم كتبوا كُتُبًا فأكبّوا عليها وتركوا كتاب الله .... وهذان الأثران - إنْ صحَّا - فدلالتهما واضحة على أن أبا بكر وعمر وسائر الصحابة كانوا يرون أن كتابة الحديث لم ينه عنها النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما كانوا يجتهدون برأيهم. ودين الإسلام دين واحد إنما تختلف الأحكام باختلاف أحوال الناس، فكلّ من سمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - خبرًا فهو قطعي في حقّه يحكم عليه بحسب ذلك، ومَن لم يكن حاضرًا وأخبره الذي كان حاضرًا فحكمه بحسبه، وهلم جرًّا. وبعض الأحكام التي هي بين المسلمين معلومة بالضرورة قد يجهلها بعض مَن يُسلم، ثم يبقى بعيدًا عن المسلمين أو يتصل به معرفتها بما لا يفيده إلا الظن، فيكون حكمه بحسب حاله، [ص 5] وبعض الأخبار التي هي عند الجاهل بالحديث ظنيَّة لأنه إنما أخذ بقول أهل الحديث أنها ثابتة كما يأخذ أحدنا بقول الطبيب، هي عند بعض أهل الحديث العارفين له يقينية، والحكم على كلٍّ بحسبه. فأما المنكِرُ والمرتاب فإن حكمه يختلف لأمرين؛ الأول: بذل الوسع وعدمه، الثاني: منشأ الإنكار والارتياب، فإنه قد يكون أمرًا لا تَبِعةَ فيه، وقد يكون بخلاف ذلك؛ كأن يكون منشؤه عدم الإيمان بالدين أو بأمر يقوم عليه

حديث "من كذب علي"

الدين؛ مثل أن محمدًا رسول الله يُطلعه الله على ما شاء من غيبه، ويخرق له ما شاء من عادته، ويحفظه من الخطأ في تبليغ دينه. وقد يكون منشؤه الخروج عن السراط المستقيم سراط محمد وأصحابه، واتّباع غير سبيل المؤمنين، وأخذ الدين من غير الشرع، وأخذ العقائد من غير المأخَذَين السلفيين. أحدهما: العقل الصحيح الذي كان حاصلًا للصحابة وغيرهم من العرب حين بُعث فيهم محمد - صلى الله عليه وسلم -، فكان قرينةً صحيحة تكون ركنًا من أركان الكلام، فإذا كان بدونها مُفهمًا لخلاف الواقع، كانت مانعة من فهم ذلك، مخرجةً للكلام عن أن يكون كذبًا. وثانيهما: الشرع، إلى غير ذلك مما ليس هذا موضع تفصيله. وكذلك ما للإمام إلزام الناس به، وما عليه من حياطة المسلمين، والضرب على يد من يُحاول تشكيكهم والعبث بدينهم، وما على المسلم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما هو حدُّ ذلك، كل هذا ليس هذا موضع الكلام فيه (¬1). [ص 6] حديث "من كذَبَ علَيَّ" صح من طريق جماعة من الصحابة تحذير النبي - صلى الله عليه وسلم - من الكذب عليه بألفاظ مختلفة، اشتهر منها على ألسن الناس: "مَنْ كذب عليَّ متعمّدًا فليتبوّأ مقعده من النار" (¬2)، وجاء في عدد من الروايات (¬3) هكذا أو بهذا المعنى، ¬

_ (¬1) بعده في الأصل في منتصف السطر "أصل" وترك بعده بياضًا بمقدار ستة أسطر. (¬2) أخرجه البخاري (108)، ومسلم (2) من حديث أنسٍ رضي الله عنه. (¬3) الأصل: "الرواية" سهو.

وفي عدد منها بدون كلمة "متعمدًا" أو بما يؤدِّي معناه. والعارف إذا تدبَّر هذه القضية علم أن هناك عدة احتمالات: الأول: أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - كرَّر النهي في مناسبات متعددة؛ لأن شأن هذا الأمر عظيم. الثاني: أن يكون لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - واحدًا، ولكنّ الرواة تصرَّفوا فيه بحسب الرواية بالمعنى. الثالث: أن يكون بعض الرواة زاد أو نقص خطأ. الرابع: أن يكون بعضهم زاد أو نقص عمدًا. فأما العارف بالسُّنَّة ورواتها، فإنه إذا أخرج من حسابه الروايات التي يكون في سندها كذَّاب أو متهم أو مغفَّل أو مجهول = سقط الاحتمال الرابع. ثم أخرج من حسابه الروايات التي يكون في سندها من يُخطئ، وقد جاء بلفظ ليس له متابعة صحيحة ولا شاهد صحيح = سقط الاحتمال الثالث. ثم إذا وجد أن الروايات الصحيحة التي فيها ذكر "متعمدًا" أو ما في معناه متعددة، والروايات الصحيحة التي ليس فيها هذه الكلمة أو ما في معناها متعددة = لم يسعه إلا أن يقول: إنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يذكر كلمة "متعمدًا" أو ما في معناها تارةً، ويسكت عنها أخرى. ولهذا نظائر في كتاب الله عزَّ وجلَّ، [ص 7] فقد وعد الله عزَّ وجلَّ الجنة جزاءً لبعض الأمور ولم يقيّدها كلها بالموت على الإيمان، وقَيَّد بذلك في بعضها، وأوعد الله عزَّ وجلَّ بالنار على الكفر وغيره ولم يقيّد بعدم التوبة، وقَيَّد بذلك في بعض المواضع.

ولنفرض أن كلمة "متعمدًا" لم تصح ولا ما في معناها، فقد دل عليها الأصول القطعية؛ يقول الله عزَّ وجلَّ: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7]. وقال تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 5]، وعلَّم اللهُ عبادَه أن يقولوا: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]، وما علّمهم ذلك إلا ليستجيب لهم. وقد ثبت مقتضى ذلك في الصحيح، وهو أن الصحابة لمَّا قالوا ذلك، قال الله تعالى: "قد فعلتُ". والإنسان معرَّض لأن يقع منه الخطأ مع أنه لم يقصِّر، وقد ذكر أبو ريَّة ص 20 حكم كلام الرسول في الأمور الدنيوية بما تحسن مراجعته. نعم، إن النبي - صلى الله عليه وسلم - معصوم في تبليغ الدين، لكن أصحابه غير معصومين، فهُم معرَّضون لأن يقع منهم الخطأ ولو نادرًا. قال أبو رية ص 41: (إن العقل السليم والخلق الكريم ينفران من قبول رواية "متعمدًا"؛ لأن الكذب هو أبو الرذائل كلها، سواء كان عن عمدٍ أو غير عمد). كذا يقول! علمتَ أنه إما أن يكون يفهم من كلمة "متعمدًا" خلاف ما نفهمه نحن، وإما أن يكون مُكابرًا يكلَّف الناس أن يكونوا معصومين! مع أنه قد اعترف (¬1) بأنهم ليسوا - ولا في إمكانهم أن يكونوا - معصومين، وأن المعصوم هو النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصةً في التبليغ عن ربِّه، فإن كان مكابرًا فلا معنى للكلام معه. ¬

_ (¬1) ضرب المؤلف عليها سهوًا.

وإن كان يفهم منها معنًى غير الذي نفهمه فنحن نبيّن له المعنى الذي نفهمه: أن التعمّد يشمل من يعلم أن خبره مخالف للواقع أو يظن ذلك أو يجوِّزه تجويزًا لا يبلغ من الضعف أن لا يحضر في نفس المخبر، وعلى هذا فلا يخرج إلا من يعتقد أن خبره مطابق للواقع اعتقادًا لا تخالطه أدنى ريبة. [ص 8] وأنا نفسي جَرَت لي قضية علمت بها يقينًا أن الإنسان الضابط قد يشاهد واقعةً مشاهدةً لا لبس فيها، ثم يعرض له ما يجعله بعد يومين أو أكثر يقطع قطعًا باتًّا بخلاف الواقع فيها، ثم يعرض ما ينبهه على خطائه فيزول القطع السابق. وقد أخبر عمر بن الخطاب وابنه عبد الله خبرًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبر الناسُ عائشةَ بذلك فأنكرته، وقالت: "إنكم لتحدثونني عن غير كاذبين ولا مكذَّبِين، ولكن السمع يخطئ ... " إلخ. وقد ذكره بنحوه أبو ريَّة ص 50. وبهذه المناسبة ننظر في حقيقة الكذب: ذهب الجمهور - كما يقولون - إلى أنه الخبر المخالف للواقع. وذهب جماعة من أشهرهم الجاحظ إلى أنه لا بدّ مع المخالفة للواقع أن يكون مخالفًا لِما في نفس المخبر، ومعنى هذا أن قيد التعمّد [ص 9] في مفهوم الكذب، فما لم يكن متعمَّدًا فليس بكذب. وأبو ريَّة يقدِّس الجاحظ، ولكنه هنا لم يعرِّج على قوله لمخالفته هواه. والحكاية التي ذكرها عن عائشة قد تشهد لقول الجاحظ. والتحقيق عندي أنه إذا [قيل:] (¬1) "هذا القول كذب" ونحو ذلك، كما ¬

_ (¬1) زيادة يستقيم بها السياق، وبقي مما لم يضرب عليه المؤلف قوله: "من حيث" ولا مكان لها.

يقال بصرف النظر عن المُخبِر فهو بمعنى "مخالف للواقع" فأما "كذب" بلفظ الماضي أو "يكذب" أو "كاذب" ونحو ذلك من الكلمات التي يلاحَظ معها المخبِر، فالعُرف العامّ يخصّها بالعمد، ألا ترى أن في أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأمور الدنيوية ما قيل فيه: إنه خطأ، وكلّ عاقل ينفر عن أن يقال: "كَذَب ... " أو "هو كاذب". والسرّ في هذا - والله أعلم - أن الغالب في أفعال الإنسان العمدُ، فإذا قيل: "كذب فلان" كان الظاهر بمقتضى الغلبة أنه تعمَّد. كما أنك إذا قلتَ: "رأيت فلانًا يشرب الخمر" كان هذا ذمًّا بيِّنًا لأن المفهوم من ذلك أنه عامد عالم. فعلى هذا إذا كنت تعلم أنه إنما شربها وهو يجهل أنها خمر لم يكن لك إطلاق الكلمة المذكورة، بل يلزمك بيان الحقيقة كما هي. فكذلك قولك: "كذب فلان" الظاهر أنه تعمد، فمن ثَمَّ جرى العرفُ بأن لا يقال ذلك إلا عند التعمُّد. وعلى هذا عمل الناس قديمًا وحديثًا، إلا أنه إن ظهر أن المُخبِر اعتمد على ظنٍّ لم يكن له أن يعتمد عليه، وبعبارة أخرى: أنه مقصِّر، فإنه يقال: "كذب" كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كذب أبو السنابل" (¬1) وغيرها من الأمثلة. وقد نبَّه على معنى هذا شيخ الإسلام ابن تيمية في "الرد على الأخنائي" ص 12 فما بعدها. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (4273) وغيره، وأصله في الصحيحين.

وقول أبي ريَّة في حاشية ص 39: (فلعنة الله على الكاذبين متعمّدين وغير متعمّدين، ومن يروّج لهم من الشيوخ الحشويين) كلمة لها خَطَرها إذا كان مستحضرًا لِمَا ذكرَه في غير هذا الموضع، وأراد بقوله "الكاذبين" مَن يقع منه خبرٌ مخالف للواقع ولو كان مخطئًا غير مقصِّر. ***

الملحق الثاني

[ص 1] بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى. كتب فضيلة الأخ العلَّامة محمد عبد الرزاق حمزة - وهو على فراش المرض عافاه الله - "مطالعات وملاحظات على كتاب (أضواء على السنة المحمدية) " الذي ألَّفه الأستاذ محمود أبو ريَّة. وتقدم إليَّ حضرة المحسن الكبير نصير السُّنَّة فضيلة الشيخ محمد نصيف أن أكتب كلمة، فدعت الحاجة إلى مطالعة كتاب أبي ريَّة فوجدته (مع ما يليق به من الاحترام) تهويشًا، غرضه الوحيد - فيما يبدو - الدعوة إلى إخضاع الأحاديث المرويَّة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كلها للنقد على الطريقة التي يتبعها المعاصرون في نقد التاريخ. ولكنه رأى أن هذه الدعوة لا يُرجى لها استجابة ما لم يستقرَّ الشكُّ في الأحاديث جملة، ولا يتم ذلك إلا بزعم أن المجهود الذي قام به علماء الأمة لحفظ الحديث وتمييز الصحيح من السقيم = كان مجهودًا فاشلًا البتة، رغمًا عن اعتراف بعض أساتذة أبي ريَّة بعظمته: "ليفتخر المسلمون بعلم حديثهم ما شاؤوا" (¬1). فأخذ يفتّش ويهوّش ويلفِّق ويحطب من هنا وهناك كلَّ ما من شأنه أن يوحي إلى قارئه بذلك الغرض، ولو كان من أقوال الكذَّابين والمتهمين والجاهلين بالدين وطبيعته! ويضحّي في سبيل ذلك بأصول النقد التاريخي ¬

_ (¬1) قاله المستشرق مرجليوث. وعزاه "المصنف إلى "المقالات العلمية" ص 234 و253 في "تقدمة الجرح والتعديل" (ص/ ب). وكان المؤلف قد كتب قبل هذه الجملة: "حتى قال" ثم ضرب عليها وترك فراغًا بمقدار كلمتين.

الذي يدعو له .... (¬1)؛ ولهذا يعتذر إلى شركائه في ص 14 بقوله: "وبرغمي أن أنصرف في هذا الكتاب عن النقد والتحليل، وهي الأصول التي يقوم العلم الصحيح في هذا العصر عليها". إننا لا ننكر أصول النقد والتحليل، بل نعرف أن سلف العلماء قد عملوا بها في حدودها، وأنها قد بقيت جملة كبيرة بحاجة إلى النقد، وأن الأمة قصَّرت منذ قرون في إنجاب النقَّاد؛ لكننا نريد نُقَّادًا متبحِّرين في السُّنَّة وفي طرق النقد العلمي الذي انتهجه الأئمة، وهو يشتمل على ما يلائم هذا الموضوع مما يسميه العصريون: "أصول النقد التحليلي" فيربطون جهودهم بجهود أسلافهم. نريد نُقَّادًا يؤمنون بأن القرآن كلام الله لا يأتيه الباطل [ص 2] من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. حتى إذا جاءهم من السُّنَّة ما يعرفون نظيره في القرآن لم يستنكروه. وأبو ريَّة وأصحابه يأبون هذا، وقد تضمَّن كتابه هذا تشكيكًا في أحاديث من جهاتٍ في القرآن ما هو مثلها أو أبعد عن عقل أبي ريَّة منها. فلا أدري أيجري على أصله فينتقد القرآن أيضًا فيأخذ منه ويرُدّ؟ إذا ردّ شيئًا منه فقد ردَّه كلَّه، وإن اضطرّ في كتابه هذا إلى ترك التصريح بذلك. أم يكتفي بما مَهَده له أسلافه من أهل البدع، كما صرّح به في أواخر كتابه: (أن النصوص اللفظية لا تفيد اليقين)، ثم يسلك مسلك التأويل، وإن كان كما قال ص 247: (بحيث يعلم السامع أن المتكلم لا يقول بجوازه في الباطن). أم ينحو منحى شيخه ابن سينا الذي صرَّح به في "الرسالة الأضحوية". ¬

_ (¬1) كلمة غير محررة لم أتبينها.

نريد نُقَّادًا يؤمنون بأن من الحكمة في إنشاء الله الخلق هذه النشأة أن يبلوهم أيهم أحسن عملًا، ويبلو ما في نفوسهم ويمحّص ما في قلوبهم؛ فاقتضى ذلك أن يكون في كتاب الله مع الآيات المحكمات آيات متشابهات، ونحو ذلك مما يُبرِز مرض المريض؛ كإخباره بما يستبعده عُبَّاد العادة، وبما تنكره العقول المصطنعة، وكضَرْبه المثل ببعوضة فما فوقها، وإقسامه بما أقسم به، وإخباره عن النار بأن عليها تسعة عشر، وغير ذلك مما المقصود منه أن تُبرَز خفايا النفوس؛ فمَن كان من أهل العلم والإيمان لم يزحزحه ذلك، بل إن فَهِم وإلا قال: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7]. وإن كان مِن مرضى القلوب وجد متنفّسًا ينفث عنده مقتضى مرضه؛ ليحيا من حي عن بينة ويهلك من هلك عن بينة. فإذا وجدوا في السنة من هذا القبيل لم يستنكروه. نريد نُقَّادًا مؤمنين حقًّا يعرفون أثر الدين والإيمان والهدى والعلم على النفوس، فيَعلم أحدُهم أنه لو بُذِل له ملك الدنيا على أن يكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما كذب [ص 3]، فإذا عرفوا رجلًا بأنه مثلهم في ذلك أو خير منهم لم يردّوا خبرَه لمجرّد احتمال أنه يوافق غرضًا له. هذه أمثلة من الفوارق يريد أصحاب النقد التاريخي إهمالها؛ فيتطرّقوا في نقد الحديث إلى أن يشكّوا في كلّ خبر فيه ثناء على النبي - صلى الله عليه وسلم - أو فضيلة له أو تبرئة من تهمة أو تأييد للإسلام، بعِلّة أن رواته مسلمون يُتَّهمون في تأييد دينهم ومدح نبيّهم. ثم يأخذوا في نقد القرآن فلا يُبقوا ولا يذروا. هذا هو الهدف الذي يدعو إليه كتاب أبي ريَّة، شَعَر بذلك أم لم يشعر.

إن الذي يتأهل لنقد الحديث لا بدّ أن يكون عارفًا بطبيعة الدين، عارفًا بالقرآن، عارفًا بحال الذين خُوطبوا به أولًا وبطريق فهمهم، عارفًا بأحوال الرواة معرفةً صحيحة، عارفًا بعاداتهم في الرواية وما يَعْرِض لهم فيها، محيطًا بأكثر ما رُوي من الحديث مرفوعًا وموقوفًا ومقطوعًا ومتصلًا وغير ذلك، جيّد الفهم بريئًا من الهوى. فإن لم يكن كذلك فلا مناص له من الاعتماد على أئمة الحديث، وعليه مع ذلك أن يعرف حالهم وعادةَ كلٍّ منهم في الجرح والتعديل، واصطلاحهم الخاص في ألفاظهم. ودعوى أن أصول النقد لا تتطلَّب هذا كله مقبولة إذا كان المقصود من النقد هو التهويش وتشكيك الجهال، وترويج الأهواء! فأما إذا كان المقصود منه تحرّي الحقيقة فلا. فأما أبو ريَّة فنصيحتي له أن يتدبّر القرآن متخلّيًا عن كلام المفسرين متقدّمين أو متأخرين، مع استحضار حال الذين خُوطبوا أوّلًا وطريق فهمهم، فإذا وجد كثيرًا من القرآن تنفر عنه نفسه ويضيق به تسليمه فليكن شجاعًا ....... (¬1) للوقت ليجرّد قلمه في نقد القرآن. وإن وجد نفسه مؤمنًا مطمئنًّا بكل ما في القرآن بغير تحريف ولا تأويل مستَكْرَه، فحينئذٍ يلتفت إلى الحديث. أمّا أن يدَّعي الآن أنه قد تدبّر القرآن وآمن به كل الإيمان؛ فهذه دعوى يعلم هو نفسه أنها كاذبة، وكتابه هذا أصدق شاهدٍ عليه. ¬

_ (¬1) كلمة غير واضحة تحتمل "مستفيدًا" أو "متصيدًا".

هل نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كتابة حديثه

الباحث المتّزن الواثق بحجته هو الذي يترك الإعلان عن نفسه وعن كتابه إلى الأدلة نفسها، ويدع للناس الحريّة التامة في موافقته أو مخالفته، أما أبو ريَّة فهو يحاول أن يفرض رأيه على الناس فرضًا، ويبالغ في مدح من يأمُل موافقته، وسبِّ من يخشى مخالفته، فتراه يقول في لوح كتابه: "دراسة محررة ... قامت على قواعد التحقيق العلمي ... ". ويقول ص 14: "وقد ينبعث له من يتطاول إلى معارضته مِمَّن تعفّنت أفكارهم وتحجّرت عقولهم". ويقول ص 354: "فإن يقع عملنا هذا لدى المستنيرين ورجال الفكر المثقفين في مكان الرضا والقبول فهذا ما نرجوه وهو حسبنا، وإن تضق به صدور الحشوية وشيوخ الجهل من زوامل الأسفار الذين يخشون على علمهم المزوّر من سقوط الحق، ويخافون على كساد بضاعتهم العفنة التي يستأكلون بها أموال الناس بالباطل أن يكشفهم نور العلم الصحيح، ويهتك سترهم نور الحجة البالغة؛ فهذا لا يهمنّا؛ إذ ليس لمثل هؤلاء خَطَرٌ عندنا ولا وزن في حسابنا". كذا يقول! ولو لم يكن لهم خَطَر عنده لما حاول أن يتّقيهم بهذا السلاح. [ص 4] وماذا عليهم إذا لم يكن لهم خَطَر عند أبي ريَّة؟! **** هل نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كتابة حديثه جاء عنه - صلى الله عليه وسلم - حديثان: أحدهما: ما رواه مسلم (¬1) وغيرُه من طريق همّام عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تكتبوا عنّي، ¬

_ (¬1) (3004).

ومَن كتب عنّي غيرَ القرآن فليَمْحُه ... " الحديث. والثاني: ما رواه ابن عبد البر في "كتاب العلم" (¬1) من طريق كثير بن زيد بن المطلب بن عبد الله بن حنطب قال: "دخل زيد بن ثابت على معاوية فسأله عن حديث وأمر إنسانًا أن يكتبه. فقال له زيد: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرنا أن لا نكتب شيئًا من حديثه". فأما الحديث الأول، فقال ابن حجر في "فتح الباري" (¬2): "ومنهم مَن أعلَّ حديث أبي سعيد وقال: الصواب وقْفُه على أبي سعيد؛ قاله البخاري وغيرُه". يعنون أن أصل الخبر بقريب من هذا اللفظ من قول أبي سعيد، فوهِم بعضُ الرواة فَرَفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. والبخاريُّ وغيره إنما يقولون مثل هذا حيث يكون عندهم دلائل على ذلك؛ كأنْ يُروى من وجه آخر أثبت من هذا موقوفًا على أبي سعيد. وكثير من كتب الأثر لا سيَّما التي تُعنى بالموقوفات ليست عندي. نعم، في "كتاب العلم" (¬3) لابن عبد البر عن أبي نضرة: "قيل لأبي سعيد: لو أكْتَبْتَنا الحديث؟ فقال: لا نُكْتِبُكم، خذوا عنَّا كما أخذنا عن نبينا - صلى الله عليه وسلم -"، وفي رواية: "قلتُ لأبي سعيد الخدري: ألا نكتب ما نسمع منك؟ قال: أتريدون أن تجعلوها مصاحف؟! إن نبيَّكم - صلى الله عليه وسلم - كان يُحدِّثنا فنحفظ، فاحفظوا كما كنّا نحفظ". وفي رواية: " ... أردتم أن تجعلوه قرآنًا! لا، لا، ولكن خذوا عنَّا كما أخذنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". ¬

_ (¬1) (1/ 271) وتقدم (ص 45). (¬2) (1/ 208). (¬3) (1/ 272 - 273).

والظاهر أنه لو كان عند أبي سعيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى لَذَكَرَ ذلك لهؤلاء. وذكر أبو ريَّة عن عائشة أن أبا بكر كتب في صحيفة خمسمائة حديث، ثم أحرقها معتذرًا بأن فيها ما سمعه من رجل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويخشى أن يكون [ص 5] ذاك الرجل وهِم، وأنه يخشى أن يردّ مَن بعده ما وجدوه من الحديث زائدًا على تلك الصحيفة، بعلّة أنه لو كان صحيحًا لعَلِمَه أبو بكر؛ هذا معنى القصة. وهي - لو صحّت - واضحة الدلالة على أن أبا بكر لم يكن عنده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الكتابة. وذَكَر عن عمر أنه استشار الصحابة في كتابة الحديث، فأشاروا (¬1) بذلك، فمكث مدّة يتردّد في ذلك، ثمّ عزم أن لا يكتب، وقال: "إني ذكرت قومًا كانوا قبلكم كتبوا كتبًا، فأكبّوا عليها وتركوا كتاب الله". وهذا - إن صحَّ - يدل أن عمر والصحابة حالهم كحال أبي بكر، أي لم يكن عندهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الكتابة. فمَن تدبَّر هذا عَلِم أنه لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهيٌ عن كتابة حديثه. وإنما عَدَل عنها أبو بكر لِما تقدّم، وعَدَل عنها عمر خشية أن يدع الناسُ القرآن، ويستغنوا بما كتب من الحديث. وفوق هذا: فقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الإذنُ بالكتابة، وقد أورد البخاريُّ في ذلك ثلاثة أحاديث (¬2): حديث صحيفة علي، وحديث "اكتبوا لأبي شاه"، وحديث أن عبد الله بن عمرو بن العاص كان يكتب. ¬

_ (¬1) الأصل: "فأشارا" سهو. (¬2) أرقامها (111، 112، 113) وحديثًا رابعًا ذكره المؤلف (ص 46).

[ص 6] لماذا لم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بكتابة الحديث

وقد روى الحديثَ غير البخاري وصرّح فيه بإذن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن عمرو، وجاء في ذلك حديث عن عبد الله بن عمرو. راجع "فتح الباري" (¬1) كتاب العلم، باب كتابة الحديث، و"المستدرك" (1/ 104) فما بعدها، ومسند أحمد بتحقيق العلَّامة أحمد محمد شاكر، تعليقه على الحديث (6510). وقد قال أبو ريّة نفسه في حاشيته ص 23: (أملى النبي - صلى الله عليه وسلم - كُتبًا في الشرائع والأحكام ... ولا يتعدّى ما كُتب عن الرسول في عصره عشر صفحات ...). كذا قال! والمشهور في صحيفة عبد الله بن عمرو أنها كبيرة، وكان يعتزّ بها، ويسمّيها "الصادقة" تمييزًا لها عن أخرى كانت عنده عن أهل الكتاب. **** [ص 6] لماذا لم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بكتابة الحديث نقل أبو ريَّة عن بعضهم أن ذلك تنبيه على أنها ليست من الدين العام، وفي كلامه ما يدلُّ أن الدين العام عنده هو السنن العَمَلية المتواترة؛ ككون الصلوات خمسًا، والصبحِ ركعتين، والمغربِ ثلاثًا، وغير ذلك. ويضيف إليها ما كانت دلالته قطعيةً من القرآن، على فرض وجوده؛ لأنه عاد فنقل عن بعضهم أن النصوص اللفظية مطلقًا لا تفيد إلا الظن. فيقال له: لم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بكتابة السنن المتواترة مع أنها من الدين العام عندك، وأمر بكتابة القرآن كله مع أن بعضه أو كلَّه ليس بحسب دلالته ¬

_ (¬1) (1/ 204 وما بعدها).

من الدين العام. فتبيَّن سقوط علّتك، وإنما العلّة الصحيحة: أن ألفاظ القرآن مقصودة لذاتها قصدًا مؤكدًا؛ لأنه كلام الله عزَّ وجلَّ، متعبد بتلاوته كما أُنزل، ولألفاظه السهم الأوفر من إعجازه، وهو من العظمة بأعلى الدرجات. والأحاديث ليست مثله فيما ذُكِر، بل هناك ما يقتضي أن لا يؤمر بكتابتها، وذلك أمران: الأول: المشقّة لقلّة الكُتَّاب وقلة ما يُكْتَب فيه. الثاني - وهو الأعظم -: ما يقتضيه أصل الابتلاء الذي مرّت الإشارة إليه، وهو الأصل الذي بُنيت عليه هذه النشأة الدنيا. ومن أحبّ التبصّر فيه فليراجع الآيات القرآنية التي فيها ذكر البلاء أو الابتلاء، وهي كثيرة. ولأجل هذا الأصل جعل الله عزَّ وجلَّ أكثر حُجج الحقّ بيِّنةً واضحةً لمن يحبّ الحقَّ ويحرص عليه ويؤثره على الهوى بجميع أنواعه؛ غيرَ ظاهرةٍ لمن يحبّ الباطل ويحرص عليه ويؤثره. وبيانُ ذلك: أنه معروف مشاهَد أن من يحبّ شيئًا ويحرص عليه ويؤثره على كلِّ ما سواه يكفيه في اختياره لأمر من الأمور أن يغلب على ظنّه أنه محصِّل لمحبوبه. [ص 7] هذا أمر معلوم يقينًا، حتى لو أن إنسانًا ادَّعى أنه يحبّ أمرًا حبًّا شديدًا يؤثره على كل شيء ثم عُرض عليه عملٌ يغلب على ظنّه أنه محصِّل لذلك الأمر الذي ادّعى حبَّه فلم يلتفت إليه = عَلِمْنا كذب دعواه. وقد نصّ القرآن على هلاك أقوام مع وصفه لهم بأنهم مرتابون. أمَّا لو كانت حُجج الحقّ قاهرة لا يمكن أحدًا أن يرتاب فيها = لكان إيمانه بها إيمان مُلْجَأٍ. فلو حصل لأكفر الناس علمٌ قاهر كعلمه بأن الأربعة

ضعف الاثنين، لو حصل له علمٌ كهذا بأنه إن لم يُسلم خُلِّد في نار جهنَّم لأسلم رغمًا عن هواه. وليس المقصود من الدين إرغام الناس على الحق، إنما مقصوده ابتلاء ما في نفوسهم من الحبّ للحق أو الحبّ للباطل. وأنت ترى دلالات القرآن كثير منها ليست بقاهرة، ومِنَ الحكمة في ذلك: الابتلاء، فالمحبّ للحق تكفيه الدلالة الظاهرة، والمحبّ للباطل يتأوَّل ويتعلّل. وحكمة أخرى، وهي: أن يجاهد المسلم في سبيل فَهْم المعنى الصحيح، ويجاهد نفسَه في حملها على الدلالة الظاهرة. وكلّما كان الجهاد أشقّ كان الفوز في الامتحان أبْيَن وكانت العبادة وثوابها أعظم. وليس المقصود هنا أنه لا يُشْتَرط في الإيمان الإيقان، وإنما المقصود أنه يكفي في قيام الحجّة الظهور البيِّن، فمَن قَبِل فقد فاز في الابتلاء، ثم إن حافظ على ذلك فهو في طريقه إلى الإيمان؛ قال الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17]، ومَن أبى فقد سقط في الامتحان، ثم إن استمرَّ على عناده استحقّ الوبال؛ قال الله تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ (¬1) كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110]. فهكذا عدم الأمر بكتابة الحديث قُصِد منه ابتلاءُ الناس بحفظه، وابتلاؤهم في أدائه على وجهه، وابتلاؤهم في تمييز صحيحه من سقيمه، وابتلاؤهم في اتباعه عند ظهور دلالته وإن لم تكن قاهرة، إلى غير ذلك. ¬

_ (¬1) في الأصل: "كذلك نقلب أفئدتهم وأهوائهم". سبق قلم.

على أن [الله] تبارك وتعالى قال لرسوله: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (¬1) [القيامة: 16 - 19]، وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]. والذِكر إن لم يشمل السُّنَّة بلفظه شملها بمعناه، بل يشمل اللغة التي يفهم بها؛ لأن مقصود الحفظ هو بقاءُ الحجّة قائمة والتمكّن من الوصول إلى الحقّ دائمًا إلى قيام الساعة؛ لأن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - خاتم الأنبياء، فتكفَّل الله تعالى بحفظ شريعته، بحيث مَن طلب الحقَّ فيها بإخلاصٍ وصدق وجَدَه. [ص 8] فلا يخفى قبل أجل فناء الدنيا، وإلا اقتضت الحكمة إرسال غيره. وهذا التكفُّل بالحفظ لا يعني إعفاء الأمة من وجوب عمل كلِّ ما مِن شأنه الحفظ، ألا ترى أن الكفالة الصريحة بحفظ القرآن لم تمنع الصحابة لمَّا استحرّ القتل في اليمامة بالقرَّاء، لم يمنع الصحابة علمهم بالكفالة عن أن يُبادروا بجمع القرآن. ... ¬

_ (¬1) كتب المؤلف إلى {لِتَعْجَلَ بِهِ} وترك بعده بياضًا بمقدار سطر لبقية الآيات.

الرواية بالمعنى

الرواية بالمعنى قد اتضح مما تقدَّم أن الفرق بين القرآن إذا أُمِر بكتابته وبين غيره هو أن ألفاظ القرآن مقصودة لذاتها دون الأحاديث، فهي مقصودة القصد الأعظم لمعانيها. ودلائل ذلك أكثر من هذا؛ فإن الإسلام دين الفطرة، والفطرة تقضي على مَن سمع كلامًا مرّة واحدَة أن لا يُكلَّف عند تبليغه بالمحافظة على لفظه. ألا ترى أن أكثر ما يرسل الإنسان رسولًا أو مندوبًا، ويقول له: قل كيتَ وكيتَ، ويذكر له كلامًا، فالغالب أنه إنما يريد منه أداء معناه. وإذا أدَّى معناه فهو صادق حتمًا. وقد ذكر الله عزَّ وجلَّ في كتابه كثيرًا من الكلام ينسبه إلى الناس، ومنه ما يطول فيبلغ ثلاث آيات أو أكثر. ولا ريب أن تلك الألفاظ وتلك العبارات من القرآن لها فخامته وإعجازه، فثبتَ بذلك أنها كلام الله تعالى، وأن نسبتها إلى مَن نُسِبَت إليه مِن المخلوقين إنما حاصله أنهم قالوا ما يؤدِّي ذاك المعنى. فأما ما في القرآن مما هو في معنى الترجمة عن غير العربية إليها فكثير جدًّا. نعم، إن الرواية بالمعنى مظنّة الخطأ في الجملة، ولكن هذا أيضًا من مقتضى أصل الابتلاء؛ ليتبين مَن يبالغ في الحرص على الوفاء بالمعنى مِمَّن يقصّر، ويكون للعلماء مجال للبحث والنظر واستخراج الخطأ، وبقَدْرِ ما يجِدّون في ذلك مخلصين واقفين على السراط المستقيم يكون فوزهم وثوابهم. أما تمنِّي بعض الناس أن تكون الأحاديث كُتِبَت أو أنَّها رُويت بألفاظها،

فهذا [ص 9] من جنس تمنِّي أن يكون الله تعالى جعل القرآن مشتملًا على جميع مقاصد الدين بالدلالات القاطعة، وتمنِّي أن لا يكون في القرآن متشابه، وأن لا يكون فيه الآيات التي يتشبّث بها الزائغون، إلى غير ذلك. وهذه غفلة عن حِكْمة أحكم الحاكمين سبحانه وتعالى. إن حكمته سبحانه وتعالى شاملة لكلِّ شيء، حتّى وَضْع الوضَّاعين وكذِب الكاذبين، لله عزَّ وجلَّ حكمة بالغة في تمكينهم منه، ففي ذلك بروز ما في نفوسهم من حبّ الباطل، وبذلك تتم عليهم الحجّة، وفي ذلك ابتلاء للناس وفتح مجال لاجتهاد أهل العلم وجهادهم، وقد قال الله عزَّ وجلَّ في بيان مصداقه: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)} إلى قوله: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} إلى أن قال: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)} [آل عمران: 139 - 154]. وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان: 31]. وقال سبحانه: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214].

فليعلم أبو ريَّة أن مِن شيوخ الحشويَّة - كما يسمّيهم - مَن إن ثَقُل عليهم كتابه هذا لحُبهم للإسلام، فإنهم لا يرونه أكثر من دعوة يدعوهم الله عزَّ وجلَّ [ص 10] بها إلى الجهاد في سبيل إعلاء كلمته، ويعلمون أنهم إن شمَّروا عن سواعد الجدّ وبذلوا ما يسعهم مِن الجهد، فقد فازوا في هذا الابتلاء برضوان الله تبارك وتعالى، سواءٌ أحصل ما يرغبون فيه من استجابة كثير من الناس للحقّ أم لم يحصل. إن المعلوم بالتجربة أن العارف باللغة إذا سمع وفَهِم المعنى وضبط، ثم روى بالمعنى لا يخطئ إلا نادرًا، بحيث إذا لم يتبيَّن في شيءٍ أنه أخطأ فيه = يحصل الوثوق بخبره. وهذا الوثوق هو مدار التكليف، كما أنه مدار أعمال العقلاء، ألا ترى ركوب السيارة والباخرة والطائرة موثوق بالسلامة فيه الثقة التي يطمئنّ إليها العقلاء ويعملون بها، وإن كان قد يتفق الاصطدام والغرق والسقوط، على أن الاصطدام والغرق والسقوط مُهلك ولا بُدّ، فأما الغلط في الرواية فلا بدّ أن يُهيّئ الله تعالى ما يبيّنه فلا يستمر ضرره، ومَن كان له معرفة راسخة بالحديث يعرف هذا ويتحققه. وأئمة الحديث لا يوثّقون الراوي حتى يعتبروا رواياته بروايات الثقات المعروفين، فإذا وجدوه يُغيِّر المعنى جرحوه، وإن وجدوه قد يقع له التغيير ولا يَكثُر غمزوه وقالوا: لا يُحتج به، يعنون: أن حديثه يحتاج إلى متابعات وشواهد، وهكذا. وقد حكى أبو ريَّة أن البخاريَّ يروي بالمعنى، وهذا صحيحه موجود، وقلَّ حديث فيه إلا وهو يوجد من رواية غيره عن شيخه أو شيخ شيخه، فهل وجد أهلُ العلم تفاوتًا مُخلًّا بالمعنى يؤدي إلى فساده؟ كلَّا ولله الحمد.

حديث "من كذب علي"

حديث "مَن كذب علَيَّ" الكذب ممقوت عقلًا وفطرة، والقرآن يعتبر الكذب على الله عزَّ وجلَّ ظلمًا لا يفوقه ظلمٌ آخر، قال الله عزَّ وجلَّ: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} (¬1) [الأنعام: 144]، وكرَّر هذا المعنى في آيات عديدة (¬2)، والنبي - صلى الله عليه وسلم - مبلِّغ عن الله تعالى، صادق في كلّ ما بلَّغه، فالكذب عليه كذب على الله عزَّ وجلَّ. وطبيعي أن يُحذر النبي - صلى الله عليه وسلم - المسلمينَ من الكذب عليه، وطبيعيّ أن يكرّر ذلك في عدّة مناسبات كما كرَّر الله عزَّ وجلَّ بيان غلظ الكذب عليه في عدّة آيات. وحديث: "مَن كَذَب عليَّ" (¬3) إلخ، إن لم يكن متواترًا لفظه فهو بلا ريب مقطوع بصحة معناه عند مَن يعرف الحديث ويعرف رواة الحديث. الحديث رُوي من طريق جماعة من الصحابة رضي الله عنهم بألفاظ متقاربة إلا أنه يمكن جعلها ضربين: الضرب الأول: "مَن كَذَب عليَّ فليتبوّأ مقعدَه مِن النار"، وما يؤدِّي هذا المعنى بدون نصٍّ على التقييد بالتعمّد. الثاني: "مَن كَذَب عليَّ متعمِّدًا فليتبوّأ مقعدَه مِن النار" وما يؤدي هذا ¬

_ (¬1) كتب المؤلف إلى {افْتَرَى} وترك مقدار أربع كلمات. (¬2) بلغت عشر آيات. (¬3) وهو متفق عليه وقد مضى تخريجه.

المعنى بالنصّ على التقييد بالتعمّد. وأبو ريَّة ينكر هذا القيد ويبالغ، ويتلمَّس التُّهَم لمن هم - عند من يعرفهم حقّ المعرفة - أبعد الناس من أن يتعمَّدوا. [ص 11] اختلف الناسُ في تحرير معنى الكذب، والذي صار إليه الأكثر: أنه الإخبار بما يخالف الواقع. وذهب جماعة منهم الجاحظ إلى أنه لا يكون كذبًا حتى يخالف الواقع ويخالف ما في نفس المُخْبِر. وأبو ريَّة يقدِّس الجاحظ ولكنه رأى أنّ قوله هنا لا يتمشّى مع هواه! هذا مع أنه ذكر ص 50 أنها (¬1) خطَّأت عمرَ وابنَه في حديث، وقالت للذين أخبروها عنهما: "إنكم لتحدّثون عن غير كاذبين ولكن السمع يخطئ". وأنها خطّأت ابنَ عمر في حديث، وقالت: "إنه لم يكذب ولكنه نسي أو أخطأ". وذكر خطأ جماعة من الصحابة. عَقَد ص 20 فما بعدها بابًا لبيان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما كان معصومًا في أمور الدين، فأما أمور الدنيا (¬2) فقد يخطئ كما يخطئ غيرُه، ويريد أبو ريَّة وبعضُ شيوخه أن يجعل هذا أصلًا يُسقط به كلَّ ما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الأمور الكونية والطبيعية، كما صرَّح بذلك في قضية الذباب بحاشية ص 201، ولازم هذا حتمًا أنه يقول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكذب، وأن عمر وابن عمر وغيرهما من الصحابة كانوا يكذبون، وكانوا يرمي بعضهم بعضًا بالكذب. وأدهى من هذا وأمرّ قوله بحاشية ص 39: (ولعنة الله على الكاذبين متعمدين وغير متعمدين، ومن يروّج لهم من الشيوخ الحشويين). ¬

_ (¬1) أي عائشة رضي الله عنها. (¬2) الأصل: "الدين" سبق قلم.

ويقول ص 27 في ردّ كلمة "متعمدًا": (وكل ذي لبّ يستبعد أن يكون النبي قد نطق بها، لمنافاة ذلك للعقل والخُلُق اللذَينِ كان الرسول متصفًا بالكمال منهما، ذلك بأن الكذب هو الإخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه، سواءٌ أكان عمدًا أم خطأ). أقول: أما إذا بنينا على أن المخطئ ليس بكاذب كما تقدم، فلم تَزِدْ كلمة "متعمدًا" عن أن تكون حالًا كاشفة، فإن كان العقل يأباها [ص 12] فقد كان العقل يُوجب أن يُقال: "من كَذَب عليّ أو أخطأ". ولا أدري لماذا يأباها العقل مع جزمه بأنَّ الإنسان معرَّض للخطأ شاء أم أبى، ومع اعترافه بأن الأنبياء قد يخطئون فيما يتعلق بأمور الدنيا، وإنما عُصموا في أمور الدين بإعجاز خارق ليس لغيرهم، ومع جزمه بصحّة ما نصّ عليه القرآن: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7]، وعلَّم الله تعالى عبادَه أن يقولوا: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] وما علَّمهم إلاَّ ليستجيب لهم. وفي "الصحيح" (¬1) أن الصحابة لمَّا قالوها قال الله تعالى: "قد فعلتُ". وقال الله تعالى في كتابه: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 5]. فلو قطعنا بأنَّ مَن أخطأ فأخبر بخلاف الواقع غيرَ مقصِّر قد كذب، وبأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقل "متعمدًا" ولا ما في معناها = لأوجبت الأدلة العقلية والنقلية أن قوله: "مَن كذب عليَّ فليتبوأ مقعده من النار" وإن تناول بلفظه المخطئ غير المقصّر فليس متناولًا له بحكمه. هذا من جهة العقل. فأما من ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (126).

جهة الخُلق الكريم فقد قال الله تبارك وتعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]، فهل يليق بصاحب الخُلُق أن يكلِّف أصحابه ما يعلم أنهم لا يستطيعونه، مع أن ربَّه عزَّ وجلَّ لم يكلِّف به عباده؟ وليقف العاقل هنا وقفةً يتدبّر فيها حال أبي ريَّة، وهل يرضى أن يضيع العاقل وقته بمطالعة كتابه إلا أن يتصدَّى عارفٌ لكشف حاله لئلّا يغترَّ به الجَهَلة؟ وهل ينبغي له إن كان عاقلًا أن يتعاطى الكلام في مثل هذا الأمر؟ إن أئمة السُّنَّة يفرّقون بين الرواة ويُنْزِلون كلَّا منزلته. فالثقة المثبت عندهم هو الذي يُعرف من اعتبار روايته برواية غيره، أنه لا يحدّث إلا بما يسمعه حقًّا. فأما الذي يحدّث بما لم يتحقَّق أنه سمعه؛ فهذا كذّاب أو متّهم. وكذا من يكون مغفَّلًا يتوهَّم أنه سمع وضبط، ويرى أنه جازم بذلك وهو مخطئ؛ فهذا عندهم هو المغفَّل المتروك الذي يحدّث على التوهُّم، ومِن ثَمَّ يعاملون مَن يُخطئ على حسب مقدار خطائه كميَّة وكيفيةً. فَهُم وإن أثنوا على بعض مَن يكثر خطاؤه وغلطه بأنه كان صالحًا عابدًا فإنهم يجرحونه في الحديث جرحًا صارمًا كقولهم: "منكر الحديث، متروك، ليس بشيء"، حتى قال شعبة: لأن أزني أحبّ إليَّ مِن [أن] أروي عن أبان بن أبي عيَّاش، وقال نحو ذلك في يزيد الرقاشي. فليطمئنّ المسلمون على الحديث النبويّ، فإن الله تبارك وتعالى لم يهمله (¬1) إلى أن يُبْعَث لتنقيحه أبو ريَّة وأضرابه بعد قرابة أربعة عشر قرنًا، ¬

_ (¬1) يحتمل: "يَكِلْه".

حديث الزبير

وأن أئمة المسلمين المؤمنين بالله ورسوله حقًّا لم يكن جهادهم طول أعمارهم سُدًى. **** [ص 13] حديث الزُّبير ممن روى هذا الحديث الزبير بن العوَّام. روى حديثَه شعبة بن الحجّاج، عن جامع بن شدّاد، عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عبد الله عن الزبير. فذكر ابن حجر في "الفتح" (¬1) أن أصحاب شعبة اختلفوا؛ منهم من ذكر "متعمّدًا" ومنهم مَن لم يذكرها. ومالَ إلى ترجيح عدمها مستدلًّا بأمرين: الأول: أخرجه الزبير بن بكار في "كتاب النسب" من وجه آخر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن الزبير وليس فيه: "متعمدًا". وقد أخرجه الدارميّ من طريق أخرى عن عبد الله بن الزبير بلفظ: "من حدّث عني كذبًا" ولم يذكر العمد. وقال المنذري في "مختصره لسنن أبي داود" (¬2) المطبوع مع "معالم السنن للخطابي" و"تهذيب السنن" لابن القيم (5/ 248): "والمحفوظ في حديث الزبير أنه ليس فيه (متعمدًا)، وقد رُوي عن الزبير أنه قال: والله ما قال: (متعمدًا) وأنتم تقولون (متعمدًا) ". ¬

_ (¬1) (1/ 200). (¬2) (5/ 248).

وذكر محقِّق العصر العلَّامة أحمد محمد شاكر هذا البحث في تعليقه على الحديث (1413) من "مسند أحمد" (¬1) واعترض - بأدبٍ - كلامَ المنذريّ، فاعترضه أبو ريَّة ص 39 وحاشيتها بأسلوبه الخاصّ، وختمه باللغة السابقة التي لزمه فيها ما لزمه. وتلخيص ما في النسخ وتعليق شاكر في رواية شعبة: أن بعض أصحابه - وهم الأكثرون - لم يذكروا فيه تلك الكلمة، وأن معاذ بن معاذ ذكرها، وكذا محمد بن جعفر غندر في أثبت الروايات عنه، وهي رواية أحمد في "مسنده" (¬2)، وأبي بكر بن أبي شيبة ومحمد بن بشّار عند ابن ماجه (¬3). وفي "الفتح" (¬4) أن الإسماعيليّ أخرجه من طريق غُندر بدونها. [ص 14] وقد قال ابن المبارك: "إذا اختلف الناس في حديث شعبة فكتاب غُندر حَكَمٌ بينهم". وقد كان شعبة يسمع الحديث من الشيخ مرارًا، فيظهر أنه سمعه من جامع مرّة بإثبات الكلمة، ومرَّة بدونها، فكان شعبة يرويه مرة كذا ومرة كذا. أما مِن غير طريق شعبة، فذكر شاكر رواية أبي داود من طريق وبرة بن عبد الرحمن عن عامر بن عبد الله بن الزبير مسندةً وفيه الكلمة، وسنده صحيح. ¬

_ (¬1) (3/ 8). (¬2) (1413). (¬3) (36). (¬4) (1/ 200).

وتقدم عن "الفتح" رواية "كتاب النسب" والدارمي بدون الكلمة، فرواية "كتاب النسب" لا أدري ما سندها، ورواية الدارمي فيها شيخه عبد الله بن صالح كاتب الليث، وفيه كلام لكن الدارمي من المتثبّتين، وإذا كان الراوي عن كاتب الليث من المتثبّتين كالبخاريّ وأبي حاتم فهو قوي. والترجيح مشكل، فقد يقال: إن سياق القصة يؤيد الحذف كما فسَّره في "الفتح" ونقله أبو ريَّة، لكن قد أخرج البخاريّ عن أنسٍ بنحو القصة، مع أن المتن: "من تعمّد علَيَّ كذبًا فليتبوّأ مقعده من النار". وفسَّره في "الفتح" بما يناسبه. فأنا واقف. بقي قول المنذري: "وقد رُوي عن الزُّبير أنه قال: ... " إلخ، فذكر شاكر أن ابن سعد روى الخبر في طبقاته (3/ 1/ 74) عن عفّان ووهب بن جرير وأبي الوليد، ثلاثتهم عن شعبة ... فذكره بدون الكلمة. ثم قال: "قال وهب بن جرير في حديثه عن الزبير: والله ما قال: متعمّدًا، وأنتم تقولون: متعمّدًا". قال شاكر ما حاصله: إن هذا من قول وهب بن جرير ينكر على الذين رووه عن شعبة وفيه الكلمة، فمعناه: "والله ما قال شعبة: متعمدًا" إلخ. أقول: أما ظاهر قوله: "في حديثه عن الزبير" فإنه يعطي أنّ وهبًا ذكر هذه الزيادة في كلام الزبير، لكن يُعكِّر على ذلك أنها ليست في رواية من الروايات المختلفة عن شعبة، منها رواية غندر الذي كَتَب سماعًا عن شعبة، ثم عَرَض كتابه على شعبة وصحَّحه، ولا في الروايات الأخرى التي من غير طريق شعبة. وهذا دافعٌ قويّ يدفع أن يكون من أصل كلام الزبير. فالأشبه - والله أعلم - أنّ وهبًا قالها [ص 15] من عنده كما قال شاكر، لكنه وصلها بالحديث فتوهَّهم السامع أنها منه، فهي إذًا من المُدرَج، على أنها لو فُرض

عدالة الصحابة

أنها من كلام الزبير، فهو صادق بحسب ما سمع كما نقله أبو ريَّة عن ابن قتيبة بلفظ: "ووالله ما سمعته قال: متعمدًا". ولا يلزم من ذلك أن لا يكون غيره سمع الخبر وفيه هذه الكلمة؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كرَّر التحذير مرارًا كما تقدَّم. فأيُّ مانعٍ من أن يذكره تارةً بدون الكلمة وتارةً بها. وقد تقدم إيضاح أن المعنى لا يختلف. **** عدالة الصحابة هذا بحث لا يحسُن إثارته في هذه العُجالة؛ لأنه يفتقر إلى بسط يبين الحجج ويوضِّح الأسباب والموانع والقرائن والدلائل, فانتظره في النقد الكامل (¬1) إن شاء الله تعالى. ... ¬

_ (¬1) يعني "الأنوار الكاشفة" فانظر منه (ص 365 وما بعدها).

أبو هريرة

أبو هريرة أجلب أبو ريَّة بخيله ورَجْلِه محاولًا الإطاحة بأبي هريرة، وأسرف في جلب الأقوال والروايات الموضوعة والمكذوبة والساقطة والمَرميّ بها عن بُعد، والتي تكذيبها معها ولكنه لم ينقله، ولم يستحي من الأخذ بأباطيل عبد الحسين الرافضي وزاد فخصَّه بقوله: "العالِم" كما في آخر ص 361. وسأفصل ذلك في النقد إن شاء الله تعالى. وأقتصر على حديث: "خلق الله التُّربةَ ... " إلخ. فقد أوهم أو توهَّم أبو ريَّة أنه ظفر فيه بالبرهان القاطع حتى تحدَّى المسلمين في ص 175 قال: (وإني لأتحدّى الذين يزعمون في بلادنا أنهم على شيء [ص 16] من علم الحديث، وجميع مَن هُم على شاكلتهم في غير بلادنا أن يحلّوا لنا هذا المشكل، وأن يُخرجوا بعلمهم الواسع شيخَهم من الهُوّة التي سقط فيها). افرض أن جماعةً شهدوا أن زيدًا أخبرهم عن بكر عن سعد عن خالد عن جميل أن محمودًا أبا ريَّة قال: أخذ السيد محمد رشيد رضا بيدي فقال: "أُشهدك أني كافر بالقرآن وبِمَن جاء به". فقال بعضُ العارفين: "إنما هو: أبو ريَّة أنَّ سلامة موسى قال: أشهدك ... ". والسيد رشيد رضا بريء كلَّ البراءة مِن هذا القول ومما هو دونه بكثير. وقال قائل: "أنا أتحدّى المثقَّفين جميعًا أن يُخلِّصوا صاحبهم أبا ريَّة من هذه الهُوَّة". أليس من حقِّ أجهلهم أن ينبري له فيقول: أثبِتْ أوَّلًا أن أبا رية قال حقًّا: "أخذ السيد محمد رشيد رضا ... " إلخ، فإنّ بينك وبينه خمسة، قد يكون

أحدهم افترى أو أخطأ، أَوَليس هذا سؤالًا مُلزمًا؟ فخبر التربة رواه مسلم والنسائي (¬1) من طريق حجاج بن محمد عن ابن جريج عن أبيه عن إسماعيل بن أمية عن أيوب بن خالد عن عبد الله بن رافع عن أبي هريرة. وإذا نظرنا في حال هؤلاء وجدنا فيهم ابن جريج، وقد أفهم أبو ريَّة بأنه كان وكان. وقال ص 148: (ومِمَّن كان يَبُثُّ في الدين الإسلامي مما يخفيه قلبه ابنُ جريج الرومي الذي مات سنة 150، وكان البخاري لا يوثِّقه، وهو على حقّ في ذلك). إذا كان هذه حال ابن جُريج عند أبي ريَّة فكيف يحتجّ بخبر انفرد به، وهو عنده مما يتّهم فيه ثم يتحدَّى؟! ابن جُريج ثقة مأمون عند البخاري وغيره، إنما يُخشى تدليسه، وقد صرَّح هنا بالسماع. بقي النظر في غيره؛ نجد أنّ أيوب بن خالد وعبيد الله بن [ص 17] رافع لم يخرّج البخاري لواحد منهما شيئًا، وأن أيوب لم يوثِّقه أحد، وليس له في "صحيح مسلم" إلا هذا الخبر، وذِكْرُ ابنِ حبان له في "الثقات" (¬2) ليس بتوثيق معتبر عند أهل العلم؛ لأن ابن حبان يذكر فيها المجاهيل، ويذكر مَن وقف له على رواية غير منكرة عنده، وإن لم يَخبُر سائر مروياته. وقال الأزدي: "ليس حديثه بذاك؛ تكلم فيه أهل العلم بالحديث، وكان يحيى بن سعيد ونظراؤه لا يكتبون حديثه". والبخاريّ ذَكَر الخبر في ترجمة أيوب هذا من "تاريخه" (1/ 1/ 413)؛ قال: "وروى إسماعيل بن أميَّة عن أيوب بن خالد الأنصاري ¬

_ (¬1) مسلم (2789)، النسائي في "الكبرى" (10943). (¬2) (6/ 54).

عن عبد الله بن رافع عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خلق الله التربةَ يوم السبت". وقال بعضهم: عن أبي هريرة عن كعب، وهو أصح". وعادةُ مؤرِّخي الرجال أن يذكروا في ترجمة الرجل ما يُنتقد عليه من الأحاديث. فثبت أن البخاريَّ يحمل الخطأ في هذا الحديث على أيوب بن خالد. وكأنه وقع له عن أبي هريرة خبران؛ في أحدهما: "أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي، وقال: (فذكر حديثًا غير هذا). والآخر: عن أبي هريرة عن كعب: خلق الله التربة ... إلخ، فاشتبه الأمر على أيوب، فركَّب الثاني على صَدر الأول، ومع ذلك خلط فيه فيما يظهر، فإن كعبًا يقول غير هذا. ويوشك أن يكون الأول هو حديث: "خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خُلق آدم، وفيه أُهْبِط، وفيه تيب عليه، وفيه قبض، وفيه تقوم الساعة" إلخ. وهو في "صحيح مسلم" (¬1) مختصرًا، وفي "سنن النسائي" (¬2) مطوّلًا، وفيه قصة جرت لأبي هريرة مع كعب، وذلك مما يوقع في الاشتباه، وفيه أيضًا ذِكْر الساعة التي في الجمعة ومن قال: إنها بعد العصر، وفي خبر التربة: "خُلق آدم بعد العصر يوم الجمعة". وهذا أيضًا مما يوقع في الاشتباه. وعلى كل حال فالتخليط من أيوب. قد يقول أبو ريَّة: ولكن مُسلمًا قد صحَّح الحديث عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. [ص 18] فيقال له: فقد صححه مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. فإن قال: لكن قام الدليل على امتناع صحّته عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) (854). (¬2) (1766).

قيل له: فقد ذكرنا الدليل على عدم صحته عن أبي هريرة، وإنما خلط فيه أيوب. وكم من أحاديث رُويت عن أبي بكر أو عمر أو عثمان أو علي بأسانيد متصلة وحَكَم أهلُ العلم ببطلانها، وحملوا بحقّ تبعتها بعضَ رواتها، فلذلك هنا إن كان الخبر باطلًا فتَبِعته على أيوب لِمَا عرفتَ من حاله. وستعرف إن شاء الله في النقض المستوفى (¬1) مكانة أبي هريرة الحقيقية في الإسلام، وتدمغُ حُججُ الحقِّ ما حيكَ حولَه من الشبهات، والله المستعان. [ص 19] ومن تلك الدلالات القطعية ما هو مناقض للعقل عند المتكلّمين أنفسهم، وأنه لا مفرَّ لهم من الاعتراف بأن في نصوص القرآن وفيما تكلّم به النبي - صلى الله عليه وسلم - يقينًا ما هو قطعي الدلالة يُعلم منه قطعًا أن المتكلم أراد به المعنى الظاهر منه، ومع ذلك يكون المعنى في نفسه باطلًا. ثم حاول تلطيف ذلك بأنّ مِثْل ذلك إنما وقع لضرورة إصلاح العوام الذي هو المقصود من الشرائع. والعوام لا يُمكن إصلاحهم إلا بإخبار مثل تلك الأخبار التي تُناسب عقولهم وتبعث في نفوسهم الرهبة الشديدة والرغبة الأكيدة له فينقادوا. وحاصل هذا أن في القرآن وما تكلّم به النبي - صلى الله عليه وسلم - يقينًا ما هو كذب، إلا أنه كذب للمصلحة. نعم، إن ابن سينا ومَن وافقه لم يصرحوا بكلمة "كذب"، ولا غروَ أن يكون أبو ريَّة مع ابن سينا أو أن يزيد عليه. ¬

_ (¬1) "الأنوار الكاشفة" (ص 194 - 315).

كتاب الوحدان

آثَار الشّيخ العَلّامَة عَبد الرّحمن بن يحيى المُعَلِّميّ (13) كتاب الوحدان تَألِيف الشّيخ العَلّامَة عَبد الرّحمن بن يحيى المُعَلِّمِيّ اليَمَاِني 1312 هـ - 1386 هـ تحَقِيق عَلِي بن مُحَمَّد العِمرَان وَفقَ المنَهَج المعتّمد منَ الشّيخ العَلَّامَة بكر بن عبد الله أبو زيد (رحمه الله تعالى) تَمويل مُؤسَّسَةِ سُليْمَان بنِ عَبْدِ العَزِيْز الرَّاجِحيِّ الخَيريَّةِ دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

بسم الله الرحمن الرحيم

راجَعَ هذا الجزء مُحَمَّد أجمَل الإصلَاحِي عادل بن عبَد الشّكوُر الزّرقي

مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية SULAIMAN BIN ABDUL AZIZ AL RAJHI CHARITABLE FOUNDATION حقوق الطبع والنشر محفوظة لمؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الطبعة الأولى 1434 هـ دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع مكة المكرمة - هاتف 5473166 - 5353590 فاكس 5457606 الصف والإخراج دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

مقدمة التحقيق

مقدمة التحقيق الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد. فهذا كتاب جديد على نحو مبتكر للشيخ العلامة عبد الرحمن المعلمي رحمه الله تعالى، جمع فيه الرواة الذين ليس لهم إلا راوٍ واحدٌ، وهو ما يُعرف في علم مصطلح الحديث باسم "الوحدان". وقد كتب جمعٌ من الأئمة في هذا الباب عدة مصنفات - سيأتي ذكرها - لكن تميّز كتابنا هذا بميزات عديدة، أهمها: أنه لم يقتصر على مجرّد جمع الأسماء، بل جعل كتابه تحقيقًا لأحوالهم من حيث الثقة والضعف، والقبول والرد. ومما يعكّر على الفرح بهذا العِلْق النفيس، وعلى تمام النفع به: أنه لم يزل في مسوّدته، لم يستوفِ المؤلف القولَ في تراجمه، ولا بلغ فيه الغاية التي كان قد بدأها في أوائل التراجم، ولا التي كان يرجوها. نعم؛ الكتاب كامل من حيث استيعاب التراجم وجمعها وترتيبها من الألف إلى باب الكنى، لكنّه لم يستوف الكلام على العديد من التراجم، فتراه يترك بياضًا لإمكان إلحاق بقية الكلام عليها، بل لم يكتب تحت بعض التراجم شيئًا، والله المستعان. وسأتكلم عن الكتاب في عدة مباحث تكشف لنا جوانب مما يتعلق به، وهي: - اسم الكتاب.

- تاريخ تأليفه. - موضوع الكتاب ومنهج المؤلف. - المؤلفات في الوحدان. - مسوّدات الكتاب. - منهج التحقيق. ثمّ أردفت هذه المقدمة بمُلحق ذكرت فيه الفوائد التي قيّدها المؤلف في أوراق ملحقة بنسخة الكتاب الخطية. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. وكتب علي بن محمّد العمران في مكة المكرمة حرسها 22 ذو القعدة 1433 هـ

* اسم الكتاب

* اسم الكتاب ليس على نسختَي الكتاب أيّ أثر لتسميته، ولم يتمكّن المؤلف من كتابة مقدمة له فهو لا يزال في مسوّدته، لكنني وقفت على تسمية المؤلف لكتابه هذا في كتاب آخر له، وهو الكتاب الذي انتخب فيه جملة من التراجم من كتابَي "تهذيب التهذيب" و"ميزان الاعتدال"، وهو ضمن موسوعتنا هذه وأسميناه "تراجم منتخبة من التهذيب والميزان"، فقد قال هناك (رقم 185): "عبد الرحمن بن نمر، في الوحدان" وترجمته هنا في كتاب الوحدان (رقم 90). * تاريخ تأليفه من المتيقّن أن المؤلف كتب كتابه هذا إبَّان إقامته بالهند، وبالتحديد قبل طباعة المجلدين الخامس والسادس من "التاريخ الكبير" للبخاري اللذين يحتويان على حرف العين كما صرح بذلك (ص 118) قال: "ولم أجد الجزء الذي فيه باب عبد الله من تاريخ البخاري"، وهذان الجزءان طُبِعا سنة (1360 - 1364). وفي هذه الفترة كان المؤلف في الهند. وأيضًا قبل أن يُطبع كتاب "الجرح والتعديل" بدليل أنه صرح (ص 136 وغيرها) بالنقل منه ما هو خلاف المطبوع، بل هو موافق لنسخة (ك) الخطية؛ فكأنه كان ينقل من هذه النسخة. ولم يعزُ إلى المطبوع. وكتابُ الجرح والتعديل لم يطبع إلا بين سنتي (1371 - 1373). وهذا يعني أن المؤلف قد بدأ في تأليف كتابه في وقت مبكّر، أي قبل سنة 1360، ولا يمنع ذلك من الإلحاق والإضافة بعد هذا التاريخ، فقد عزا

* موضوع الكتاب ومنهج المؤلف

المؤلف إلى كتاب ابن أبي حاتم مرارًا بعد أن استقر في مكة المكرمة من سنة 1371 وما بعدها. * موضوع الكتاب ومنهج المؤلف موضوع الكتاب خاصّ بتراجم الرواة الذين لم يرو عنهم إلا راوٍ واحد، وقد اصطُلِح على تسمية هذا النوع من الرواة بـ "الوحدان" (¬1)، وألَّف فيه جمعٌ من الأئمة، كما سيأتي. 1 - فجمع المؤلف في كتابه هذا مائتَي وثلاث تراجم، وتكلم عليها بما يكشف عن منزلة هؤلاء الرواة من حيث الثقة أو الضعف أو الجهالة. 2 - رتّب المؤلف كتابه على حروف المعجم، وأعطى كلّ ترجمة رقمًا، يسوق بعده اسم العَلَم، وليس له في ذلك قاعدة مطردة، فقد يذكر الاسم والنسبة، أو الاسم واسم الأب فقط، أو مع الكنية، أو يسوق جرّ النسب وهو قليل، وقبل ذكر الاسم يذكر رموز مَن أخرج له من أصحاب الكتب، كما هو اصطلاح صاحب "تهذيب الكمال" وفروعه. 3 - وقد يرمز بعد الاسم لمن ذكره ممن ألَّف في الوحدان، مثل رمز (م) لمسلم، و (ن) للنسائي، و (فتح) لـ "فتح المغيث"، أو يكتبه كاملًا (فتح المغيث) أو (كفاية). ¬

_ (¬1) انظر "معرفة علوم الحديث" (ص 462 - 472) للحاكم، و"الكفاية" (ص 88) للخطيب، و"علوم الحديث" (ص 319 - 323) لابن الصلاح، و"التقييد والإيضاح": (2/ 1085 - 1108)، للعراقي، و"فتح المغيث": (4/ 198 - 201) للسخاوي، و"تدريب الراوي": (2/ 932 - 936) للسيوطي.

4 - ثم يذكر غالبًا كلامَ أربعة من الأئمة وهم البخاري وابن أبي حاتم وابن حبان وصاحب "تهذيب التهذيب". 5 - أما كلام الأئمة الثلاثة فيذكر منه - غالبًا - اسم الراوي ومن روى عنه وعمن روى، وذلك بالقدر الذي يميّز الترجمة عن غيرها، ويثبت أن هذا الراوي لم يرو عنه إلا واحد، فيدخل في شرط الكتاب. 6 - ثم ينقل عن "تهذيب التهذيب" - غالبًا وقد ينقل عن غيره - ما قيل في الراوي من جرح أو تعديل، ثم يذكر المؤلف الحديثَ الذي رواه هذا الراوي، وينظر هل له متابعات أو شواهد، فيذكرها، وهل في متنه نكارة أو له ما يشهد له من الأحاديث أو الأصول العامة، حتى إن كان الحديث طويلًا أو يحوي ألفاظًا عدة فإنه يذكر ما يشهد لكل لفظ منها، وإن كان في بعضها نكارة بيَّنها. 7 - وقد كان المؤلف في أوائل تراجم الكتاب بعد أن يذكر كلام الأئمة ويناقش الحديث الذي تفرّد به أو الأحاديث التي رويت عنه = يذكر الخلاصةَ بقوله: "فحاصل حال فلان ... " ويذكر ما تحصّل له في حاله في عدة نقاط كقوله - مثلًا - في أول ترجمة: "فحاصل حال ... ليس بثقة". لكنه لم يستمر على هذا المنوال إلا في تراجم قليلة. 8 - سار المؤلف على هذا النهج في عموم تراجم الكتاب، وما قد يلاحظه القارئ مما يخالف هذه الطريقة إنما سببه أن الكتاب لم يزل في مسوّدته، ولم يستوف المؤلف تحريرَه ولا الاطراد في كتابة تراجمه.

* المؤلفات في الوحدان

* المؤلفات في الوُحدان كَتَب في هذا النوع من علم تاريخ الرجال جمعٌ من الأئمة، نذكر من بلَغَنا خبرُ كتابه على سِنيّ وفَيَاتهم، وغالب هذه الكتب لم يصلنا سوى عنواناتُها أو اهتدينا إليها من نقول بعض الأئمة منها. وهذه الكتب على أنواع فمنها ما أُلّف في الوحدان من الصحابة خاصة، ومنها ما هو خاص برواة الحديث، ومنها ما جمع بين الطائفتين. 1) محمد بن إسماعيل البخاري (256). له "أسامي الصحابة الوحدان". 2) "الوحدان" ويسمى "المنفردات والوحدان" لمسلم بن الحجاج (261). وهو أشهر الكتب المؤلفة في الباب، وقد طبع قديمًا في الهند، وأعيد مرات. 3) أبو زرعة الرازي (266). ذكره أبو نعيم في "معرفة الصحابة". 4) عبد الله بن واصل أبو الفضل (272). ذكره ابن عبد البر في "الاستيعاب" (4/ 1858). 5) يونس بن حبيب الأصبهاني (276). نقل منه في "الجرح والتعديل" (5/ 273). 6) "الوحدان" أو "مسند الوحدان". لأبي حاتم الرازي (277)، نقل عنه ابنه في كتاب "الجرح والتعديل" انظر: (4/ 150، 320، 6/ 364، 7/ 79)، وفي كتاب "المراسيل". 7) "الآحاد والمثاني" لابن أبي عاصم (282). مطبوع في ست مجلدات.

8) "الوحدان" للحسين بن محمد بن زياد القبّاني (289). نقل عنه ابن عبد البر في الاستيعاب (ترجمة شريك بن طارق الحنظلي). 9) محمد بن عثمان بن أبي شيبة (297). ذكره أبو نعيم في "معرفة الصحابة" وابن حجر في "تهذيب التهذيب" (6/ 97). 10) محمد بن عبد الله الحضرمي مُطَيَّن (297). نقل منه أبو نعيم في "معرفة الصحابة" (1/ 188). 11) محمد بن حُرَيث بن حاشد (302). ذكره الذهبي في "تاريخ الإسلام" (23/ 98). 12) "من ليس له إلا راوٍ واحد" للنسائي (303). وهو مطبوع بذيل كتاب الضعفاء له، وهو جزء صغير. 13) "الوحدان" للحسن بن سفيان النَّسَوي (303) نقل عنه أبو نعيم في "معرفة الصحابة" وغيره. 14) الوحدان للخلال (307). 15) أبو القاسم ابن منيع البغوي (317). ذكره أبو نعيم في "معرفة الصحابة" وابن منده في "معرفة الصحابة" (241). 16) أبو القاسم الطبراني (360). نقل منه في "معرفة الصحابة" لأبي نعيم. 17) الوحدان لأبي الفتح لأزدي (374). نقل منه في "إكمال تهذيب الكمال" (4/ 80). 18) زوائد على كتاب (الوحدان لمسلم) للعراقي (806) قال: إنه "سيفردها بمؤلف مستقل" (¬1). ¬

_ (¬1) "التقييد والإيضاح": (2/ 1086).

* مسودات الكتاب

* مسوّدات الكتاب للكتاب مسوّدتان كلتاهما محفوظة في مكتبة الحرم المكي، الأولى برقم [4935]، والثانية برقم [4728]. الأولى: تقع في (34 ق) بترقيم المؤلف، وهي أشبه بالفهرس للأسماء مرتبة على حروف المعجم، جعل كلّ اسم في سطر. وكأن هذا الفهرس هو الحصيلة الأولية لجرد كتاب "تهذيب التهذيب" واستخراج هذه الأسماء. ثم عاد المؤلف على هذا الفهرس بالتعليق والتهميش وتقييد الملحوظات في طرر صفحات المخطوط وبين الأسطر، ووضع جملة من الرموز والتخريجات. المسوّدة الثانية: وتقع في (315 ص) في دفتر من القطع المتوسط، عدد الأسطر يتراوح ما بين 17 و19 سطرًا في كل صفحة، يبدأ الدفتر بورقتين فيهما بعض التقييدات والفوائد، ثم يبدأ الكتاب بالبسملة، ثم شرع في سرد التراجم، فذكر أول ترجم لـ "أسامة بن خُرَيم"، وينتهي سرد الأسماء والكلام عليها عند الورقة (315) ثم بعده عدة أوراق فيها تقييدات وفوائد وإحصائيات يظهر لي أنه قيّدها لتكون تمهيدًا لكتابة مقدمة الكتاب. قد يترك المؤلف فراغًا بمقدار صفحة كاملة أو نصف صفحة، والنسخة مليئة بالتخريج والتهميش والضرب كعادة المسوّدات، وتتفاوت تراجمه، فمنها ما هو كامل المادة، ومنها ما يعتوره النقص، كما أن هناك تراجم مقيّدة إما في الهوامش أو بين الأسطر لم يكتب المؤلف تحتها شيئًا ولم يدخلها تحت الترقيم العام لتراجم الكتاب.

* منهج التحقيق

وقد يضيق المكان بالترجمة بحسب ترتيبها من الكتاب، فيؤخر المؤلف الكلام عليها إلى آخر الدفتر. * منهج التحقيق اعتمدت في إخراج الكتاب على المسوّدة الثانية فقط؛ لأن المسوّدة الأولى ليست سوى فهرس أوّلي، مع تقييدات وتهميشات تمهيدية، فلم ننتفع بها في المقابلة ولا في تصحيح النص. وإن كانت كشفت لنا مرحلة من مراحل طريقة المؤلف في تأليف الكتاب. إذا نقل المؤلف من المصادر فإنه يذكر رقم الجزء والصفحة في كثير من الأحيان، وقد يغفلها، ففي الثاني أُحيل إلى ما أغفله منها. وللمؤلف طرق في الإحالة أو النقل من مصادر ترجمة الراوي - كما سبق - وقد تساوقتُ مع المؤلف في طرق عزوي وإحالاتي على المراجع؛ فالعَلَم الذي لم يذكر مصادر ترجمته وضعتُ على اسم العَلَم رقمًا وذكرت في الهامش مصادر ترجمته من الكتب الآتية غالبًا (التاريخ الكبير للبخاري، والمنفردات والوحدان لمسلم، والجرح والتعديل لابن أبي حاتم، والثقات لابن حبان، والميزان للذهبي، وتهذيب التهذيب للحافظ ابن حجر)، وقد أحيل إلى غيرها إن نقل المؤلف عنها، أو نقل عن أصحابها كثقات العجلي أو ابن شاهين أو تهذيب الكمال أو تعجيل المنفعة أو غيرها. أما التراجم التي يسوق المؤلف مصادرها فيها، فإن أحال على الجزء والصفحة فذاك، وإلا أحلتُ عليها، ثم زدت بعده المصادر التي لم يُحِل عليها من الكتب التي سبق ذكرها. ولا أضع رقمًا عند اسم الراوي وذلك تخفّفًا من كثرة الهوامش.

كثيرًا ما يلحق المؤلف اسم الراوي برمز يدلّ على من ذكره في الوحدان، وذلك إما برمز (م) أو (ن) أو غيره من الرموز التي أشرت إليها قريبا، فأحيل إلى هذه المصادر برقم فوق ذاك الرمز. عند ذكر المؤلف لحديث الراوي وذِكْره من أخرجه، فإن أغفل الإحالة على الجزء والصفحة أو أحال إليهما أحلت إلى رقم الحديث في الجميع، ثم أضيف مَن خرّجه غير مَن ذكرهم المؤلف من كتب الحديث المشهورة، فإن تكلم المؤلف على الحديث وهو الغالب فذاك، وإلا نقلتُ من كلام العلماء في تصحيحه أو تضعيفه ما وجدته، أو نظرتُ في إسناده وبيّنتُ درجةَ إسناده باختصار. وليس غرض المؤلف من ذِكر الحديث بيان صحة لفظه، بل النظر في الحديث هل تفرّد به الراوي أو لا؟ وهل تابعه غيره على روايته؟ وهل للفظه شواهد تشهد له؟ وهل في متنه نكارة من جهة معناه؟ فلم يكن له غرض في التوسع في تخريجه والكلام عليه إلا من هذه الجهة. استخدم المؤلف بعض الرموز اختصارًا للإشارة إلى عَلَم أو كتاب، فأعدنا هذه الاختصارات إلى أصولها إلا رموز أصحاب الكتب الستة، وقد أشرت إلى ذلك في بعض المواضع دلالة على الباقي، ومن تلك الاختصارات (خ) إشارة إلى البخاري أو "تاريخه الكبير"، و (حا) إلى ابن أبي حاتم وكتابه "الجرح والتعديل"، و (ت) إلى "تهذيب التهذيب". ضبطتُ ما يُشكل من الأسماء والأنساب ضبطَ قلمٍ، وإن لزم الأمر قيدته في الهامش بالحروف.

عدتُ إلى المصادر التي ينقل منها المؤلف وقابلت النصوص عليها، وأصلحت ما وقع من سهو أو غلط في النقل مع الإشارة إلى ذلك، خاصة أن المؤلف اعتمد على كتاب "تهذيب التهذيب" وفيها أغلاط كثيرة، كما نبّه المؤلف على ذلك في مواضع عديدة من كتبه. وقد جرى المؤلف على طريقته في وضع علامة الاستفهام (؟) عندما يستشكل كلمةً منقولة من مصدرها، وقد يجتهد في التصحيح أو يتركه غُفلًا تنبيهًا لنفسه عند التبييض أو للقارئ لو وقف على الكتاب. هذا مجمل العمل في الكتاب، وقد ختمناه بفهارس عديدة، للآيات والأحاديث والآثار والأعلام والكتب، قام بعملها الباحث في المشروع الشيخ نبيل السندي. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. ***

[من روى عنه أكثر من واحد ووصف بالجهالة]

[من روى عنه أكثر من واحد ووصف بالجهالة] - عياض بن هلال: قال ابن المديني: عياض بن أبي زهير الفهري مجهول لم يرو عنه غير يحيى بن أبي كثير، وزيد بن أسلم. - (ت ق) عثمان بن عبد الرحمن الجمحي: روى عنه علي بن المديني، وبشر بن الحكم، وأحمد بن عبدة الضبي، ويوسف بن حماد المعنى، وأبو كامل الجحدري، و ... قال البخاري: مجهول (؟!). - عيسى بن أبي رزين: روى عنه جماعة، وقال أبو زرعة: هو مجهول. - عصام بن طليق: روى عنه جماعة. وقال البخاري: مجهول، منكر الحديث، [وقال ابن حبان: كان ممن يأتي بالمعضلات عن أقوام ثقات حتى إذا سمعها من الحديث صناعيه شهد أنها] (¬1) معمولة أو مقلوبة. - كثير بن زاذان النخعي: روى عنه ثلاثة. وقال أبو زرعة وأبو حاتم: مجهول. ¬

_ (¬1) سقط من الأصل تبعًا لطبعة "تهذيب التهذيب".

* ممن روى عنه جماعة، وقال البخاري: "مجهول"

- علي بن عروة الدمشقي القرشي: روى عنه جماعة. قال البخاري: مجهول. - يوسف بن سعد: روى عنه جماعة. وقال الترمذي: مجهول. - أبو سلمان مؤذن الحجاج: عن زيد بن أرقم. وعنه الحكم بن عتيبة، وعثمان بن المغيرة، ومسعر. قال الدارقطني: مجهول. - يوسف بن الزبير: عن الزبير، وابنه عبد الله، وغيرهما. وعنه بكر بن عبد الله المزني، ومجاهد. قال ابن جرير: مجهول، لا يحتج به. - محمد بن عثمان بن سيار: روى عنه جماعة، وقال الدارقطني: مجهول. * ممن روى عنه جماعة، وقال البخاري: "مجهول": 1 - عثمان بن عبد الرحمن الجمحي. 2 - عصام بن طليق. 3 - علي بن عروة الدمشقي. ****

[استقامة مرويات الرواة الوحدان أو نكارتها هي ميزان الحكم عليهم]

[استقامة مرويات الرواة الوُحدان أو نكارتها هي ميزان الحكم عليهم] - إبراهيم بن عكاشة قال ابن أبي حاتم: وجدت الخبر الذي رواه منكرًا دلّ على أن الرجل ليس بصدوق. - داود بن أبي صالح: لا يعرف له إلا حديثٌ عن نافع عن ابن عمر، ولم يتابع عليه؛ فسموه منكرًا، وقال بعضهم: موضوع. - رواد بن الجراح: قال: جاءني قومٌ فقالوا: عندنا حديث عجيب، فقرؤوه، وذهبوا فرووه عني! - الربيع بن يحيى بن مقسم: قول الدارقطني: هذا يسقط مائة ألف حديث. ناصح بن العلاء: اضطراب الأئمة في التوثيق والجرح بحسب اختلاف نظرهم في حديثه، أمنكرٌ أم لا، وهو حديث واحد. - عتي بن ضمرة: قال ابن المديني: مجهول ... ، وحديثه [يُشبه] حديث أهل الصدق، وإن كان لا يُعرف.

[هل رواية الراوي الثقة ترفع الجهالة؟]

* في ترجمة ثابت بن [عجلان]: "أما من وُثِّق فانفراده لا يضره ... " إلخ. * "مستدرك" (4/ 457) من لم يوثق ولم يجرح. **** [هل رواية الراوي الثقة ترفع الجهالة؟] * في ترجمة "مشاش" من كتاب ابن أبي حاتم قول أبيه: إذا رأيت شعبة يحدث عن رجل فاعلم أنه ثقة، إلا نفرًا بأعيانهم. قلت: فما تقول فيه - يعني مشاشًا -؟ قال: صدوق، صالح الحديث. * (خ س) أبو يزيد المدني: من أهل البصرة، روى عنه أيوب السختياني، وجماعة. قال أبو داود: سألت أحمد عنه، فقال: تسأل عن رجلٍ روى عنه أيوب؟! وقال أبو حاتم: سئل عنه مالك، فقال: لا أعرفه. ثم قال أبو حاتم: يكتب حديثه. وقال أبو زرعة: لا أعلم له اسمًا. * ممن قيل: "مجهول"، وقد روى عنه ثقة أو ثقتان، ومن يجهلهم الترمذي: 1 - عبيدة بن مسافع. 2 - يوسف بن الزبير. 3 - ابن أبي خزامة.

[من وثق وله حديث واحد فقط]

4 - يوسف بن سعد: روى عنه جماعة، وقال الترمذي: مجهول. 5 - أبو الجارية. 6 - أبو سلمان، مؤذن الحجاج: عن زيد بن أرقم. وعنه: الحكم بن عتيبة، وعثمان بن أبي المغيرة، ومسعر. قال الدارقطني: مجهول. 7 - أبو المبارك. 8 - أبو المختار الطائي. 9 - هبيرة بن يريم. 10 - محمَّد بن عثمان بن سيار. **** [من وُثِّق وله حديث واحد فقط] - (د س) سعيد بن زياد الشيباني: قال ابن معين مرة: صالح. وقال مرة: ثقة. وكذا قال العجلي. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال الدارقطني: يعتبر به ولا يحتج به، لا أعرف له إلا حديث التصليب. - أبو بسرة الغفاري. - يوسف بن الحكم، والد الحجاج: قال العجلي: "ثقة". وإنما روى حديثًا واحدًا عن محمَّد بن سعد،

[فوائد متفرقة]

عن أبيه: "من أراد هوان قريش". وقال ابن حبان: روى عن جماعة من الصحابة. **** [فوائد متفرقة] * " المستدرك" (1/ 219) من أمثلة الغريب المقبول. - محمَّد بن القاسم الأسدي: طعن فيه أحمد والجمهور، ووثقه ابن معين؟ - المهاجر بن عكرمة: للكلام على المجهول. * في ترجمة حميد بن هلال من "التهذيب" قول ابن سيرين: كان أربعة يصدقون من حدثهم ولا يبالون ممن يسمعون: الحسن، وأبو العالية، وحميد بن هلال، وداود بن أبي هند. - خالد بن إلياس: أمّ في مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم نحوًا من ثلاثين سنة، وهو ساقط عندهم! * وأخرجها ابن خزيمة في "صحيحه"، ومقتضى ذلك أن يكون (يعني أن يكون إسماعيل بن ربيعة بن هشام) عنده مقبول، فكأنه أخرج له في المتابعات.

* لمعرفة مذهب أبي زرعة: تراجم

- عبد العزيز بن عبيد الله: قال أحمد: كنت أظن أنه مجهول، حتى سألت عنه بحمص، فإذا هو عندهم معروف، ولا أعلم أحدًا روى عنه غير إسماعيل. * لمعرفة مذهب أبي زرعة: تراجم: - سعيد بن شفي. - طليق بن قيس. - عاصم بن حميد الكوفي الحناط. - عبد الملك بن جابر بن عبيدة. "مسند" (3/ 324). - قيس بن حبتر. - عثمان بن حاضر. - مسلم بن المثنى. - موسى بن سلمة بن المحبق. - عنترة بن عبد الرحمن. - الفضل بن يزيد الثمالي. - بشر بن حرب. - بكير بن فيروز. - صالح بن أبي صالح مهران. - عاصم بن شميخ. - يزيد بن أبي سمية.

- سليمان بن محمَّد بن كعب بن عجرة. - حصين والد داود. - زبان بن فائد. - زياد بن عبد الله النميري. - سلمة بن وردان. - صالح بن أبي صالح مهران. - عاصم بن شميخ. - عبد الله بن بسر السكسكي. - عطية. - أفلت بن خليفة. - عمرو بن عبد الله بن يعلى. - عيسى بن جارية. - الفضل بن مبشر. - ميناء. - محمَّد بن عون. - موسى بن عبيدة. - موسى بن وردان. - المهاجر بن عكرمة.

* مما يدل على أن الإمام أحمد يطلق "المنكر" على التفرد

- ميمون بن سياه. - ميمون أبو عبد الله. - هبيرة بن يريم. - هلال بن أبي هلال أبو ظلال. - أبو البزري. - أبو غالب صاحب أبي أمامة. - أبو ماجد. - أبو المهزم. * مما يدل على أن الإمام أحمد يطلق "المنكر" على التفرد: 1 - العوام بن حمزة: قال أحمد: له ثلاثة أحاديث مناكير. وقال أبو داود: ما نعرف له حديثًا منكرًا. 2 - يزيد بن عبد الله بن خصيفة: قال الأثرم عن أحمد: ثقة. وقال الآجري عن أبي داود عن أحمد: منكر الحديث. * ممن تُكلِّم فيه لخطئه في حديث: 1 - محمَّد بن إبراهيم بن مسلم بن سلم. 2 - محمَّد بن ثابت العبدي. 3 - محمَّد بن بكر البرساني.

* الموثقون للمجاهيل

4 - عمرو بن يحيى بن عمارة. 5 - عمرو بن هاشم البيروتي. * الموثِّقون للمجاهيل: 1 - العجلي: (ص:1، 11, 13, 18, 21, 27, 34, 44, 48, 51، 53، 55، 70، 72، 73، 76، 78، 84، 86). 2 - ابن معين: (ص:3، 5, 7, 49، 61، 63, 68، 85). 3 - أحمد: (ص: 7، 50، 72،). 4 - النسائي: (22، 35, 50, 70, 73، 68). 5 - الترمذي: (26، 35, 45) 6 - الحاكم: (8، 12، 13، 19، 36، 81). 7 - ابن خزيمة: (30، 36). 8 - ابن سعد: (12). 9 - أبو زرعة: (12، 69) 10 - البخاري: (12، 69). 11 - مسلم: (59). 12 - الدارقطني: (59، 88).

* ممن قيل: "مجهول".

13 - ابن المديني: (87). 14 - ابن البرقي: (88). 15 - ابن عبد البر: (88). * المعروفون ممن جهلهم أبو حاتم: في الدفتر الصغير (ص: 40). * ممن قيل: "مجهول". - ربيعة بن النابغة. - محمَّد بن أبي سفيان بن العلاء بن جارية. - كليب بن ذهل. - عبيد بن جبير. - قطبة بن مالك. - كثير بن زاذان. - كثير بن أبي كثير البصري. - محمَّد بن عبد الله بن أبي عتيق. - علاق بن أبي مسلم. - عياض بن هلال. أو ابن أبي زهير. - عيسى بن عبد الله بن مالك الدار.

- غيلان بن أنس. - محمَّد بن عثمان بن سيار. - عثمان بن عبد الرحمن الجمحي. - عصام بن طليق. - علي بن عروة الدمشقي. - عبيد بن تعلى. - هبيرة بن يريم. - الضحاك بن شراحيل الشرقي .. - عبيدة بن مسافع. - يوسف بن الزبير. - ابن أبي خزامة. - يوسف بن سعد. - أبو الجارية. - أبو سلمان مؤذن الحجاج. - أبو المبارك. - أبو المختار الطائي. - مسحاج.

* ممن سهل فيهم ابن معين

- علي بن أعبد. - إسحاق بن أسيد. - أبان بن طارق. - أسيد بن المتشمس. - محمَّد بن عمير المحاربي. - يزيد بن الحوتكية. - أبو يزيد المخزومي. - أبو قرة الأسدي. - ربيعة بن النابغة، ذكر غير واحد أنه تفرد بالرواية عنه علي بن زيد بن جدعان، وقال ابن حبان في "الثقات": "عداده في أهل الكوفة، روى عنه واحد من أهلها، وهو علي بن زيد". * قول ابن معين: "لا أعرفه" يريد: لا أخبره. * ممن سهَّل فيهم ابنُ معين: 1 - عبد السلام بن صالح أبو الصلت. 2 - محمَّد بن القاسم الأسدي. 3 - مسلم بن خالد الزنجي. 4 - مسلمة بن علقمة. 5 - موسى بن يعقوب الزمعي.

* [ممن سهل فيهم] أبو حاتم

6 - مؤمل بن إسماعيل. 7 - يحيى بن عبد الحميد الحماني. 8 - داود بن المحبر. 9 - يزيد بن عبد الملك النوفلي. * [ممن سهَّل فيهم] أبو حاتم: 1 - ميمون بن سياه: قال أبو حاتم: ثقة. وقد قال ابن معين ويعقوب بن سفيان: ضعيف. وقال أبو داود: ليس بذاك. وقال ابن حبان في "الثقات": يخطئ ويخالف. وقال في "الضعفاء": ينفرد بالمناكير عن المشاهير، لا يحتج به إذا انفرد. 2 - أبو خالد الدالاني: قال أبو حاتم: صدوق ثقة. وقال أحمد: لا بأس به. وقال ابن معين والنسائي: ليس به بأس. وقال الحاكم أبو أحمد: لا يتابع في بعض حديثه. وقال ابن سعد: منكر الحديث. وذكره ابن حبان في "الضعفاء" فحط عليه. وقال ابن عبد البر: ليس بحجة. 3 - نائل بن نجيح. 4 - يوسف بن محمَّد بن يزيد بن صيفي: قال البخاري: فيه نظر. وقال أبو حاتم: لا بأس به. وذكر له البخاري حديثًا، وذكر في "الميزان" حديثًا آخر منكرًا جدًا. * ممن توسَّع فيه يحيى القطان: يحيى بن أبي أنيسة.

* ممن لم يشدد فيه أحمد

* ممن لم يشدد فيه أحمد: 1 - إبراهيم بن أبي الليث. 2 - وبشار بن موسى. من تسامُح ابن خزيمة والحاكم: عيسى بن سوادة ... عيسى بن سواء. * (خ) محمَّد بن طلحة بن مصرف: فيه كلام، ولا سيما في روايته عن أبيه. وفي مقدمة "الفتح" أن له عند البخاري ثلاثة أحاديث، حديثان عن غير أبيه توبع على كل منهما، وحديث في الجهاد عن أبيه عن مصعب بن سعد عن أبيه في الاستنصار بالضعفاء. قال ابن حجر: "وهو فرد إلا أنه في فضائل الأعمال". * محمَّد بن عبد الرحمن الطفاوي: له في البخاري ثلاثة أحاديث ... ، ثالثها في الرقاق عن علي، عنه، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عمر حديث: "كن في الدنيا كأنك غريب ... " الحديث. فهذا الحديث قد تفرد به الطفاوي ... ، وكأن البخاري لم يشدد فيه لكونه من أحاديث الترغيب والترهيب، والله أعلم. ثم وجدت له متابعًا .... * محجن مولى عثمان. * كليب بن ذهل، عن عبيد بن جبر، عن أبي بصرة الغفاري في

* ممن روى عنه شعبة من الضعفاء

الفطر في السفر. قال ابن خزيمة في عبيد: لا أعرفه. وفي كليب: لا أعرفه بعدالة. * كثير بن أبي كثير البصري: قال العجلي: تابعي ثقة. وقال عبد الحق - تبعًا لابن حزم -: مجهول. تعقبه ابن القطان بتوثيق العجلي. * علاق بن أبي مسلم: قال ابن حبان: روى عنه عنبسة، وغيره. قال المزي: وفي قوله: "وغيره" نظر. * عيسى بن مهران: رافضي تالف، كان ببغداد، كذبوه، ووثقه ابن جرير! * ممن روى عنه شعبة من الضعفاء: يحيى بن أبي سليمان أبو صالح المدني. * ممن روى عنه الإمام أحمد من الضعفاء: 1 - عبيد بن القاسم الأسيدي اليتمي الكوفي. كذبه ابن معين، قال: وكان من أحسن الناس سمتًا. وقال أبو داود وصالح جزرة: كان يضع الحديث. وأسقطه البخاري وأبو زرعة وأبو حاتم. وقال ابن حبان: حدث عن هشام بن عروة بنسخة موضوعة. 2 - النضر بن كثير.

* ممن يوثقه أحمد

* فرات بن أحنف: وثقه ابن معين، والعجلي. وقال أبو حاتم: كوفي صالح الحديث. وقال ابن نمير: كان من أولئك الذين يقولون: علي في السحاب. وقال أبو داود والنسائي في "الضعفاء الصغير": "ضعيف". زاد أبو داود: تكلم فيه سفيان. وقال ابن حبان: كان غاليًا في التشيع، لا تحل الرواية عنه ولا الاحتجاج به. * ممن يوثقه أحمد: 1 - إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة. 2 - عامر بن صالح بن عبد الله بن عروة. * عبيدة بن سفيان: ... وسفيان لا يكاد يكني رجلاً إلا وفيه ضعف. * عبد الكريم بن الحارث، أبو الحارث المصري: عن المستورد بن شداد، ولم يدركه. وأخرجه مسلم متابعة. * عبد الملك بن الربيع بن سبرة: قال ابن القطان: لم تثبت عدالته، وإن كان مسلم أخرج له فغير محتج به. قال ابن حجر: ومسلم إنما أخرج له حديثًا واحدًا في المتعة متابعة. * محمَّد بن شيبة بن نعامة: أخرج له مسلم، وقال ابن القطان: لا تعرف حاله.

* (خت دسي) محمَّد بن حمزة بن عمرو الأسلمي: قال ابن القطان: لا تعرف حاله. وضعّفه ابن حزم، فرده القطب الحلبي قال: لم يضعفه قبله أحد. * (د) عبيد بن تِعْلى: عن أبي أيوب في النهي عن صبر البهائم. وعنه يحيى بن حسان الكناني، وأبو سريع الطائي، وبكير بن الأشج، وقيل: بكير عن أبيه عن عبيد. قال النسائي: ثقة. قال ابن المديني: وإسناده حسن، إلا أن عبيد بن تعلى لم يُسمع به في شيء من الأحاديث. قال: ويقويه رواية بكير بن الأشج عنه؛ لأن بكيرًا صاحب حديث. قال: ولا نحفظه عن أيوب إلا من هذا الطريق. * في ترجمة مالك بن الخير الزبادي من "الميزان": "قال ابن القطان: هو ممن لم تثبت عدالته. يريد أنه ما نص أحد على أنه ثقة. وفي رواة "الصحيحين" عدد كثير ما علمنا أن أحدًا نص على توثيقهم. والجمهور على أن من كان من المشايخ قد روى عنه جماعة ولم يأت بما ينكر عليه أن حديثه صحيح". * مغراء العبدي: قال ابن القطان: لم أره في كتاب الكوفي. يعني العجلي. * في ترجمة الضحاك بن شراحيل المشرقي عن البزار ما يعلم منه أنه يرى أن من لم يرو عنه إلا واحد فهو مجهول.

* ممن يخالف العجلي الناس، فيوثقهم

* أبو الجارية: روى عنه ابنه خالد. قال الترمذي: مجهول، لا يعرف اسمه. * أبو المبارك: قال الترمذي: مجهول. * أبو المختار الطائي. * محمَّد بن معاوية بن أعين النيسابوري. * خليد بن عبد الله العصري. * ممن يخالف العجلي الناس، فيوثقهم: 1 - ربيعة بن سيف. 2 - والنضر بن إسماعيل. 3 - وباذام أبو صالح مولى أم هانئ.

نماذج من النُّسخ الخطية

الورقة الأولى من "الوحدان"

ورقة من رسالة "الوحدان"

الورقة الأولى من مسوّدة "الوحدان"

الورقة الأخيرة من مسوّدة "الوحدان"

نموذج من الفوائد الملحقة

نموذج أخر من الفوائد الملحقة

النص المحقق

آثار الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي (13) كتاب الوحدان تأليف الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني 1312 هـ - 1386 هـ تحقيق علي بن محمد العمران وفق المنهج المعتمد من الشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد (رحمه الله تعالى) تمويل مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

بسم الله الرحمن الرحيم (¬1) 1 - أسامة بن خُرَيم: تفرد عنه عبد الله بن شقيق (م) (¬2). قال البخاري في "تاريخه" (1/ 2/ 22): "أسامة بن خُريم، عن مُرَّة البَهْزي. قال عبد الله بن شَقِيق: وكان يُغازيني". وقال ابن أبي حاتم (¬3): " ... شامي، حدَّث عنه ابنُ شقيق وحده. سمعت أبي يقول ذلك". وفي "لسان الميزان" (¬4) (1/ 341): "قال العجلي: بصري تابعي ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات" (¬5)، وأخرج له في "صحيحه" مقرونًا". وأخرج الإمام أحمد حديثه في "المسند" (¬6) (5/ 33) عن أبي أسامة حماد بن أسامة، أنبأنا كهمس، ثنا عبد الله بن شقيق، ثنا هرمي بن الحارث ¬

_ (¬1) في أعلى الصفحة الأولى يسار البسملة كتب المؤلف فائدة هي: "عبد العزيز بن عبيد الله، قال أحمد كنت أظن أنه مجهول حتى سألت عنه بحمص فإذا هو عندهم معروف. ولا أعلم أحدًا روى عنه غير إسماعيل". (¬2) "المنفردات والوحدان" (ص 101). (¬3) (2/ 283). (¬4) (3/ 24 - ت أبو غدة). (¬5) (4/ 44). (¬6) رقم (20352).

وأسامة بن خُريم - وكانا يُغازِيان- فحدثاني حديثًا ولا يشعر كلُّ واحد منهما أن صاحبه حدثنيه، عن مرة البهزي قال: "بينما نحن مع نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم في طريق من طرق المدينة، فقال: كيف في فتنة تثور في أقطار الأرض، كأنها صياصي بقر؟ قالوا: نصنع ماذا يا نبي الله؟ قال: عليكم هذا وأصحابه. أو: اتبعوا هذا وأصحابه. قال: فأسرعت حتى عطفت على الرجل، فقلت: هذا يا نبي الله؟ قال: هذا. فإذا هو عثمان رضي الله عنه". وأعاده (¬1) (5/ 35) بنحوه. وأخرج نحوه (¬2) (4/ 236): ثنا عبد الرحمن بن مهدي ثنا معاوية عن سليم بن عامر، عن جُبَير بن نُفَير قال: "كنا معسكرين مع معاوية بعد قتل عثمان رضي الله عنه، فقام كعب بن مرة البهزي ... فقام ابن حوالة البهزي من عند المنبر ... قال: والله إني لحاضر ذلك المجلس ... ". "ثنا محمَّد بن بكر - يعني البرساني - أنا وهيب بن خالد ثنا أيوب عن أبي قلابة عن أبي الأشعث قال: قامت خطباء بإيلياء ... وكان آخر من تكلم مرة بن كعب ... ". وأخرج أحمد نحوه في ترجمة عبد الله بن حوالة (¬3) (4/ 109) أخرجه عن ابن عُليَّة عن (¬4) الجريري عن عبد الله بن شقيق عن ابن حوالة. وفيه قصة. ¬

_ (¬1) رقم (20372). (¬2) رقم (18067، 18068). (¬3) رقم (17004). (¬4) "عن" تكررت في الأصل.

وأخرج نحو تلك القصة في ترجمة زائدة أو مزيدة بن حوالة (¬1) (5/ 33). فحاصل حال أسامة بن خُرَيم أنه: 1 - تابعي روى عن صحابي حديثًا. 2 - وله شواهد. 3 - وروى عنه تابعي كبير ثقة مشهور. 4 - وذكر ما يشعر بمعرفته له، وهو قوله: "كان يغازيني". 5 - ولم يعرف من حال التابعي الثاني أنه روى عمن ليس بثقة. 2 - (س) الأسْقَع بن الأسْلَع: لم يذكر راوٍ إلا أبو قَزَعة. ذكره البخاري في "التاريخ" (1/ 2/ 64 -) قال: "قال لي محمَّد بن سلام: أخبرنا عبد الأعلى عن داود عن سُويد بن حُجَير أبي قزعة عن الأسقع بن الأسلع عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "ما تحت الكعبين من الإزار في النار". وقال عبد الوهاب ومسلمة بن علقمة وابن أبي عدي: عن داود - نحوه. حديثه في البصريين". وقال ابن أبي حاتم (¬2): "روى عن سمرة بن جندب. روى عنه ¬

_ (¬1) رقم (20354). (¬2) (2/ 344).

أبو قزعة سُويد بن حُجَير الباهلي. سمعت أبي يقول ذلك. أنا يعقوب بن إسحاق - فيما كتب إلي - نا عثمان بن سعيد قال: قلت ليحيى بن معين: الأسقع بن الأسلع، ما حاله؟ قال: ثقة". وفي "التهذيب" (¬1): "روى عن سمرة بن جندب حديث: "ما تحت الكعبين من الإزار في النار"، وعنه أبو قزعة سويد بن حُجَير. قال ابن معين: ثقة". والحديث المذكور أخرجه البخاري وغيره (¬2) من حديث أبي هريرة. وروي عن عدة من الصحابة. ولم أجده من حديث سمرة إلا برواية الأسقع. فحاصل حال الأسقع أنه: 1 - تابعي، روى عن صحابي حديثًا. 2 - وقد صح الحديث من رواية غير ذلك الصحابي. 3 - وروى عنه تابعي ثقة مشهور. 4 - ولم يعرف من حال التابعي الثاني أنه يروي عن غير ثقة (¬3). 3 - (س) الأسود بن مسعود: لم يذكر له راوٍ إلا العوام بن حوشب. البخاري (1/ 1/ 448): "الأسود بن مسعود العنزي عن حنظلة بن ¬

_ (¬1) (1/ 265)، ووقع في مطبوعته عدة تحريفات. وانظر "تهذيب الكمال": (1/ 210). (¬2) البخاري رقم (5787)، والنسائي رقم (5330)، وأحمد رقم (9934). (¬3) وذكره ابن حبان في "الثقات": (4/ 57)، وذكر مغلطاي في "الإكمال": (2/ 131) أن ابن خلفون وثَّقه.

خويلد. روى عنه العوام بن حوشب. وقال شعبة: سمعت العوام بن حوشب عن رجل من بني شيبان". وقال ابن أبي حاتم (¬1): "يعدّ في البصريين. سمعت أبي يقول ذلك. أنا يعقوب بن إسحاق - فيما كتب إلي - ثنا عثمان بن سعيد قال: سألت يحيى بن معين فقلت: الأسود بن مسعود؟ فقال: ثقة". وفي "التهذيب" (1/ 342): "روى عن حنظلة بن خويلد حديث: "تقتل عمّارًا الفئة الباغية". ثم نقل عن "الميزان" (¬2) للذهبي: لا يُدْرَى من هو. قال ابن حجر: "وهو كلام لا يسوى سماعه، فقد عرفه ابن معين ووثقه، وحسبك". أقول: سيأتي الحديث في ترجمة حنظلة (¬3). [*3]- أَسِيد بن المتشمِّس: تفرَّد عنه الحسن البصري. له ترجمة في "التهذيب" (1/ 347) قال ابن حجر: "وقال ابن أبي خيثمة في "تاريخه": إذا روى الحسن البصري عن رجل فسماه فهو ثقة يحتج بحديثه". ¬

_ (¬1) (2/ 293). (¬2) (1/ 256). (¬3) رقم (26).

4 - (د ت س (¬1)) الأشعث بن عبد الرحمن الجَرْمي: تفرَّد عنه حماد بن سلمة (م) (¬2). البخاري (1/ 1/ 432): "أشعث بن عبد الرحمن الجَرْمي. يُعدّ في البصريين. عن أبيه. روى عنه حماد بن سلمة". وقال ابن أبي حاتم (¬3): "روى عن أبيه وعن أبي قلابة. روى عنه حماد بن سلمة. سمعت أبي وأبا زرعة يقولان ذلك. نا ابن أبي خيثمة - فيما كتب إلي - قال: سمعت يحيى بن معين يقول: أشعث بن عبد الرحمن الجرمي، بصري ثقة". وفي "التهذيب" (1/ 356): "قال أحمد: ما به بأس. وقال ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم: شيخ. ذكره ابن حبان في "الثقات" (¬4)، وأخرج حديثه في "صحيحه" (¬5). في "مسند أحمد" (¬6) (4/ 274): "ثنا رَوْح وعفَّان قالا: ثنا حماد بن سلمة عن الأشعث بن عبد الرحمن الجَرْمي عن أبي قلابة عن أبي الأشعث الصنعاني عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إن الله كتب كتابًا قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام، فأنزل منه ¬

_ (¬1) كتب المؤلف (سي) وفوقها بخط أصغر (س). (¬2) "المنفردات والوحدان" (ص 245). (¬3) (2/ 274). (¬4) (6/ 63). (¬5) رقم (782). (¬6) رقم (18414).

آيتين، فختم بهما سورة البقرة، ولا يقرآن في دار ثلاث ليالٍ فيقربها الشيطان". قال عفان: فلا يُقْرَأْنَ (¬1) ". وأخرجه الترمذي (¬2): "ثنا بُنْدار نا عبد الرحمن بن مهدي نا حماد بن سلمة ... ". وقال: هذا حديث غريب. وأخرجه الحاكم في "المستدرك" (2/ 260) من طريق عفان عن حماد. وقال: صحيح على شرط مسلم. وأقره الذهبي. وأخرجه أيضًا (1/ 562) من طريق عفان أيضًا. ووقع فيه في هذا الموضع: "ولا تقرآن في دار فيقربها شيطان ثلاث ليالٍ". كذا أخَّر قوله: "ثلاث ليالٍ". وأخرج في هذا الموضع من طريق معاوية بن صالح عن أبي الزاهرية عن جُبير بن نُفير عن أبي ذر مرفوعًا: "إن الله ختم سورة البقرة بآيتين أعطانيهما من كنزه الذي تحت العرش ... ". ثم قال: "وقد رواه عبد الله بن وهب عن معاوية بن صالح مرسلًا ... ، وقد أخرج مسلم حديث ... عن حذيفة (مرفوعًا): أُعْطيت خواتيم سورة البقرة من كنزٍ تحت العرش". ¬

_ (¬1) الأصل: "تقربن" واستشكلها المؤلف فكتب بعدها علامة استفهام، وهو تصحيف ولعل الصواب ما أثبت، وضبطت في طبعة "المسند": "تُقْرَأْن". (¬2) رقم (2882).

ثم أخرج (ص 563) من حديث معاذ قصة الشيطان الذي جاء يأخذ من تمر الصدقة، وفي آخرها: "قال: فإني لن أعود. وآية ذلك على أن لا يقرأ أحد منكم خاتمة البقرة، فدخل أحدٌ مِنّا في بيته تلك الليلة". وأخرج (ص 561) من حديث عبد الله بن مسعود مرفوعًا: "اقرأوا سورة البقرة في بيوتكم، فإن الشيطان لا يدخل بيتًا يقرأ فيه سورة البقرة". وفي "الصحيحين" (¬1) وغيرهما من حديث أبي مسعود الأنصاري مرفوعًا: "من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه". وتلخيص حال الأشعث: أنه رجل من أتباع التابعين. روى عن تابعي ثقة مشهور، عن تابعي ثقة، عن صحابي حديثًا لم يُحْفَظ إلا من هذه الطريق، ولكن له في الجملة شواهد صحيحة. وروى عنه رجل من جبال أتباع التابعين. 5 - (د) الأقرع. مؤذِّن عمر: تفرَّد عنه عبد الله بن شَقيق (م) (¬2). البخاري (1/ 2/ 63): "أقرع. مؤذن عمر بن الخطاب. سمع عمر قوله. روى عنه عبد الله بن شقيق. حديثه عن البصريين". ونحوه عند ابن أبي حاتم (¬3)، إلا أنه لم يقل: قوله. ¬

_ (¬1) البخاري رقم (5008، 5009)، ومسلم رقم (807، 809). (¬2) "المنفردات والوحدان" (ص 101). (¬3) (2/ 344).

وفي "طبقات ابن سعد" (¬1) (7/ 73) نحوه، وزاد: "عن عمر أنه دعا الأسقف فقال: هل تجدونا في كتبكم". وفي "التهذيب" (1/ 369): "روى عن عمر قوله للأسقف: هل تجدني في الكتاب. الحديث. وعنه عبد الله بن شقيق العقيلي ... وقال العجلي: تابعي ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات" (¬2). وذكره الذهبي في "الميزان" (¬3) فقال: لا يُعرف" وفي "سنن أبي داود" (¬4): نا حفص بن عمر أبو عمر الضرير ثنا حماد بن سلمة أن سعيد بن إياس الجريري أخبرهم عن عبد الله بن شقيق العقيلي عن الأقرع مؤذن عمر بن الخطاب قال: "بعثني عمر إلى الأسقف، فدعوته، فقال له عمر: هل تجدني في الكتاب؟ قال: نعم. قال: كيف تجدني؟ قال: أجدك قَرَنًا. قال: فرفع عليه الدِّرَّة، فقال: قرن مه؟ فقال: قرن حديد، أمين شديد. قال: كيف تجد الذي يجيء بعدي؟ فقال: أجده خليفة صالحًا، غير أنه يؤثر قرابته. فقال عمر: يرحم الله عثمان - ثلاثًا -. فقال: كيف تجد الذي بعده؟ قال: أجده صدأ حديد. قال: فوضع عمر يده على رأسه. فقال: يا دفراه! يا دفراه! فقال: يا أمير المؤمنين إنه خليفة صالح، ولكنه يُسْتخْلَف حين يُستخلف والسيف مسلول والدم مُهْراق". ¬

_ (¬1) (9/ 121 - ط الخانجي). (¬2) (4/ 52). (¬3) (1/ 275) وبقية كلامه: تفرد عنه شيخ. (¬4) رقم (4656).

فتلخيص حال أقرع: 1 - أنه تابعي. 2 - كان مؤذنًا لعمر. ولن يتخذ عمر مؤذنًا إلا عدلاً أمينًا. 3 - وروى عنه تابعي ثقة مشهور. 4 - لم يعرف منه الرواية عن غير ثقةٍ. 5 - وليس فيما رواه ما يستبعد. 6 - إياس بن قتادة (¬1): وثقه ابن سعد (¬2). "المستدرك" (¬3) (4/ 526). ¬

_ (¬1) ذكره البخاري في "التاريخ الكبير": (1/ 441) وقال: "إياس بن قتادة العبشمي ... عن أبي جمرة عن إياس وكان قاضيا بالري ... يروي عن قيس بن عباد". ومثله في كتاب ابن أبي حاتم: (2/ 282)، و"الثقات": (6/ 64) لابن حبان. (¬2) في "الطبقات": (9/ 128). وقال: قليل الحديث. (¬3) والحديث هو: "أخبرني محمَّد بن موسى بن عمران المؤذن ثنا إبراهيم بن أبي طالب ثنا محمَّد بن المثنى ثنا محمَّد بن جعفر ثنا شعبة قال: سمعت أبا حمزة يحدث عن إياس بن قتادة عن قيس بن عباد قال: كنت أقدم المدينة ألقى أناسًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكان أحبهم إلي لقاء أبي بن كعب قال: فقدمت زمن عمر إلى المدينة فأقاموا صلاة الصبح فخرج عمر رضي الله عنه وخرج معه رجال، فإذا رجل من القوم ينظر في وجوه القوم فعرفهم وأنكرني فدفعني فقام مقامي، فصليت وما أعقل صلاتي، فلما صلى قال: يا بني لا يسوؤك الله، إني لم أفعل الذي فعلت لجهالةٍ، إنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لنا: كونوا في الصف الذي يليني لأني نظرت في وجوه القوم فعرفتهم غيرك، قال: وجلس، فما رأيت الرجال متحت أعناقها إلى شيء مُتُوحَها إليه فإذا هو أبي بن كعب، وكان فيما قال: هلك أهل العقد وربَّ الكعبة، هلك أهل العقد ورب الكعبة! والله ما =

7 - (خ صد (¬1)) أيمن، والد عبد الواحد (¬2): وثقه أبو زرعة. "مسند" (¬3) (3/ 300). 8 - (د) البراء بن ناجية: لم يذكر له راوٍ إلا رِبْعي بن خِراش. "مسند" (1/ 393، 395). البخاري (1/ 2/ 118): "البراء بن ناجية الكاهلي ... عن ابن مسعود. ولم يذكر سماعًا من ابن مسعود". وقال ابن أبي حاتم (¬4): "روى عن عبد الله بن مسعود. روى عنه ¬

_ = آسى عليهم، إنما آسى على من أهلكوا من المسلمين". قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. (¬1) كذا رمز له في التقربب وأصله، وهو رمز "فضائل الأنصار" لأبي داود. ورمز له المزي: (1/ 312): بـ (ص) يعني النسائي في "الخصائص". (¬2) ذكره في "التاريخ الكبير": (2/ 25) وذكر في الرواة عنه ابنه عبد الواحد. وذكره في "الجرح والتعديل": (2/ 318) وقال: روى عنه مجاهد وعطاء وابنه عبد الواحد، وذكر توثيق أبي زرعة له. وتبعه ابن حبان في "الثقات": (4/ 47). وذكره الذهبي في "الميزان": (1/ 284) وقال: "فيه جهالة لكن وثقه أبو زرعة". (¬3) والحديث: قال أحمد: "ثنا وكيع ثنا عبد الواحد بن أيمن عن أبيه عن جابر قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب إلى جذع نخلة قال: فقالت امرأة من الأنصار كان لها غلام نجار: يا رسول الله إن لي غلامًا نجارًا أفآمره أن يتخذ لك منبرًا تخطب عليه؟ قال: بلى. قال: فاتخذ له منبرًا. قال: فلما كان يوم الجمعة خطب على المنبر، قال: فأنَّ الجذع الذي كان يقوم عليه كما يئن الصبي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن هذا بكى لما فقد من الذكر". (¬4) (2/ 399).

ربعي بن حِراش". وفي "طبقات ابن سعد" (¬1) (6/ 143): "روى عن عبد الله حديث: تدور رحى الإسلام". وفي "التهذيب" (1/ 427) من زيادة ابن حجر: "قال العجلي: البراء بن ناجية من أصحاب ابن مسعود، كوفي ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات" (¬2). وأخرج هو والحاكم حديثه في "صحيحيهما". وقرأت بخط الذهبي في "الميزان" (¬3): فيه جهالة، لا يعرف. قلت: قد عرفه العجلي وابن حبان، فيكفيه". وحديثه رواه جماعة، منهم الثوري، وشعبة، وشيبان عن منصور بن المعتمر عن ربعي عن البراء هذا، عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "تدور رحى الإِسلام لخمس وثلاثين - أو ست وثلاثين، أو سبع وثلاثين -، فإن يهلكوا فسبيل من هلك، وإن يقم لهم دينهم يقم لهم سبعين عامًا. قال: قلت: أمِمَّا بقي أو مما مضى؟ قال مما مضى". وفي بعض الروايات: "قال: مما بقي". وفي بعضها بدل "قلت ... ": "قال عمر: يا رسول الله! مما مضى أو مما بقي؟ قال: لا بل مما بقي". ¬

_ (¬1) (8/ 325). (¬2) (4/ 77). (¬3) (1/ 302).

هذا لفظ أبي داود في "السنن" (¬1)، وذكره الطحاوي في "مشكل الآثار" (¬2) (2/ 235)، وذكر له متابعين: أحدهما (¬3): من حديث عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه مرفوعًا، وليس فيه السؤال: "مما مضى، أو مما بقي". ورجاله ثقات، إلا أنه في حكم المنقطع؛ لأن عبد الرحمن قال بعض أهل الحديث: لم يسمع من أبيه. وقال بعضهم: سمع منه حديثًا أو حديثين. وذكروهما. وأطلق بعضهم أنه سمع. فيتحصَّل من كلامهم: أنه قد يروي عن أبيه ما لم يسمعه منه، فحكمه حكم المدلس. ولكنه على ذلك يقوَّي حديث البراء. والثاني (¬4): من حديث شريك عن مجالد عن الشعبي عن مسروق عن ابن مسعود مرفوعًا، ولفظه: "إنَّ رحى الإِسلام ستزول بعد خمس وثلاثين، فإن اصطلحوا فيما بينهم على غير قتالٍ يأكلوا الدنيا سبعين عامًا رغدًا، وإن يقتتلوا يركبوا سَنَن من كان قبلهم". ومجالد وثقه جماعة، وأخرج له مسلم، ولكن تكلموا في حفظه، وأنه كان يرفع ما ليس بمرفوع، وقال بعضهم: إنه كان يُلَقَّن. والشعبي قد سمع من ربعي، وحدث عنه، فقد يكون سمع منه هذا الحديث، وفسَّره بما رواه مُجالد، فأخطأ مجالد. ¬

_ (¬1) رقم (4254). (¬2) رقم (1609). (¬3) رقم (1610). (¬4) رقم (1612).

هذا، وقد تكلم الطحاوي وغيره في معنى الحديث. وأجود ما رأيته هو ما رواه مجالد عن الشعبي. فكان لخمس وثلاثين حصر عثمان رضي الله عنه، ولم يقم الدين كما يجب بالاصطلاح على غير قتال، بل كان هلاكٌ ما بالقتل والفرقة والفتنة، فكان سبيلهم في ذلك سبيل الأمم الماضية من الاختلاف ونحوه. ولو اصطلحوا على غير قتال لاستمرَّ حالُهم على الجماعة والألفة واجتماع الكلمة على الكفار وغير ذلك، إلى تمام سبعين سنة، أو إلى تمام مائة وخمس سنين، على اختلاف الروايتين، والله أعلم. وتلخيص حال البراء: 1 - أنه تابعي، روى عن صحابي. 2 - حديثًا ليس بالمنكر. 3 - وروى عنه تابعي كبير جليل، مجمع على ثقته. 4 - لم يعرف بروايةٍ عن غير ثقة. * بركان = يأتي في "أبو صالح (مولى عثمان) ". [*8]- ([س]) بِشْر بن المُحْتفز (¬1): ¬

_ (¬1) له ترجمة في "تاريخ البخاري": (2/ 78) قال: "بشر بن عائذ، يعد في البصريين قال لنا آدم حدثنا شعبة قال حدثنا قتادة حدثني بكر بن عبد الله وبشر بن المحتفز عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحرير .. وأسند إلى مجاهد: استعمل عمر بشر بن المحتفز على السوس، ويقال: إن بشرًا قديم الموت لا يشبه أن قتادة أدركه". وعلق المؤلف هناك بقوله: (لم يفرد المؤلف لبشر بن المحتفز ترجمة كأنه يشير إلى احتمال أن يكون هو بشر بن عائذ، وفي "التهذيب" (1/ 454): "فيحتمل أن يكونا واحدًا فقد =

"مسند" (¬1) (2/ 51)، و (68، 127: بشر بن عائذ) (¬2). 9 - بكر بن قِرْواش: تفرد عنه أبو الطفيل. "كفاية" (¬3). البخاري (1/ 2/ 64): "بكر بن قرواش. سمع منه أبو الطفيل. قال لي علي: لم أسمع بذكره إلا في هذا، وحديث قتادة: قال علي: ما تقول فيها يا بكر بن قرواش؟ قال أبو عبد الله: وفيه نظر". وقال ابن أبي حاتم (¬4): "كوفي. روى عن سعد بن أبي وقاص. روى عنه أبو الطفيل. سمعت أبي يقول ذلك". ووقع في "ثقات ابن حبان" (¬5): "يروي عن أبي الطفيل. روى عنه قتادة". وفي "الوحدان" (¬6) لمسلم: "بكر بن قِرْواش، وحَلّام بن جَزْل: لم يرو عنهما إلا قتادة، وأبو الطفيل". ¬

_ = رأيت من نسبه بشر بن عائذ بن المحتفز". وفرقهما ابن أبي حاتم: (2/ 365) وابن حبان وهو الظاهر من قولهم في ابن عائذ "المنقري" وفي ابن المحتفز "المزني" وقد رفع في "الثقات": (4/ 66 - 67) نسب ابن المحتفز إلى مزينة، والله أعلم. (¬1) رقم (5125). (¬2) يعني أنه وقع في الموضع الأول: بشر بن المحتفز، وفي التاليين: ابن عائذ. (¬3) (ص 88). (¬4) (2/ 391). (¬5) (4/ 75). (¬6) (ص 209).

وفي "كفاية الخطيب" (ص 88): "بكر بن قرواش وحلام بن جزل: لم يرو عنهما إلا أبو الطفيل". وفي "لسان الميزان" (¬1) (2/ 56): "بكر بن قِروْاش: عن سعد بن مالك. لا يعرف، والحديث منكر. روى عنه أبو الطفيل. قال ابن المديني: لم أسمع بذكره إلا في هذا الحديث. يعني في ذكر ذي الثُّدَيَّة. زاد ابن حجر: وأظن أن أبا الطفيل شيخه، وهو بينه وبين سعد، وأما الذي روى عنه ذلك الحديث فقتادة. وكذا ذكره ابن حبان في "الثقات". ثم تبين أن الذي في كتاب ابن حبان [خطأ] (¬2)، والصواب ما في الأصل، فقد ذكر ابن المديني أنه لا راوي له سوى أبي الطفيل ... وقد ذكره بعضهم في الصحابة ... ". وفي "تعجيل المنفعة" (¬3) (ص 54): " ... وليست لبكر بن قرواش صحبة. وقد ذكره العجلي في "الثقات" (¬4)، فقال: ثقة تابعي من كبار التابعين، من أصحاب علي، كان له فقه". أقول: أما حديثه عن سعد بن أبي وقاص، فقال الإمام أحمد في "المسند" (¬5) (1/ 179): ثنا سفيان (هو ابن عيينة) عن العلاء - يعني ابن أبي ¬

_ (¬1) (1/ 352). (¬2) في النسخة التي ينقل منها الشيخ بياض فتركها كذلك، وكتب بين معكوفين (بياض). (¬3) (1/ 351 - 352 - ط البشائر). (¬4) (1/ 252). (¬5) رقم (1551).

العباس - عن أبي الطُّفَيل عن بكر بن قرواش عن سعد - قيل لسفيان: عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم - قال: "شيطان الردهة يَحْتَدِره" يعني رجلاً من بَجِيلة". وأخرجه الحاكم في "المستدرك" (4/ 521) من طريق بشر بن موسى: "ثنا الحميدي عن العلاء (¬1) بن أبي العباس - وكان شيعيًّا- عن أبي الطُّفَيل عن بكر بن قِرْواش سمع سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "شيطان الردهة يحتدره، رجل من بجيلة، يقال له: الأشهب، أو ابن الأشهب، راعي الخيل، وراعي الخيل علامة في القوم الظَّلَمة". قال الحاكم: "صحيح الإسناد". تعقبه الذهبي قال: "ما أبعدَه من الصحة وأنكرَه! " أقول: للعلاء بن أبي العباس ترجمة في "الميزان" (¬2) و"لسانه" (¬3)، وقد قال فيه الأزدي: شيعي غالٍ. مع أن الأزدي نفسه قد رُمي بالغلو في الرفض! وإن كان لي في ذلك نظر. والذي أرى أن العلاء ليس بعمدة. ومع ذلك فلم يتحقق سماعه من أبي الطفيل. ¬

_ (¬1) كذا وقع في مطبوعة "المستدرك" ومخطوطته: (4/ ق 232 - نسخة الأزهرية): "الحميدي عن العلاء .. " وسقط بينهما "سفيان بن عيينة" إذ هو الراوي عن العلاء كما تقدم في رواية "المسند". (¬2) (4/ 22) (¬3) (5/ 465).

[*9]- (د س ق) تميم بن محمود (¬1). 10 - ثابت بن الحارث الأنصاري: ذكره في "التعجيل" (¬2). له رواية عن أبي هريرة عند أحمد في "المسند" (¬3) (2/ 380): ثنا قتيبة بن سعيد ثنا ابن لهيعة عن الحارث بن يزيد عن ثابت بن الحارث عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الإيمان يمانٍ، والحكمة يمانية، أتاكم أهل اليمن ... " الحديث. وهو بنحوه في "الصحيحين" (¬4) من أوجهٍ عن أبي هريرة. وفي "التعجيل" عن ابن يونس أن ثابتًا رأى عمر بن الخطاب، وروى عن عثمان، وروى عنه الحارث بن يزيد الحضرمي، وبكر بن سوادة. ¬

_ (¬1) له ترجمة في "التاريخ الكبير": (2/ 154)، و"الجرح والتعديل": (2/ 442)، و"الثقات": (4/ 87)، و"الكامل": (2/ 85)، و"تهذيب الكمال": (1/ 399)، "وتهذيب التهذيب": (1/ 514). قال الحافظ ابن حجر: "تميم بن محمود عن عبد الرحمن بن شبل حديث: كان ينهى عن نَقْرة الغراب. وعنه جعفر بن عبد الله بن الحكم. قال البخاري: في حديثه نظر. قلت: ذكره ابن حبان في الثقات وأخرج هو وابن خزيمة والحاكم حديثه في صحاحهم، وذكره العقيلي والدولابي وابن الجارود في الضعفاء, وقال العقيلي: لا يتابع عليه". (¬2) (1/ 368). (¬3) رقم (8942). (¬4) البخاري رقم (4389)، ومسلم رقم (52).

وذكر له في "التعجيل" و"الإصابة" (¬1) أحاديث يرسلها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كلها من طريق ابن لهيعة عن الحارث عنه. قال: وقد تبين أن مدار أحاديثه كلها على ابن لهيعة. وقال: وقد ذكره العجلي، فقال: مصري تابعي ثقة. أقول: وابن لهيعة مشهور بالضعف. 11 - (بخ د س ق) ثابت بن قيس الزُّرَقي: تفرَّد عنه الزهري (م ن) (¬2). البخاري (1/ 2/ 167): "ثابت بن قيس الزرقي الأنصاري. سمع أبا هريرة. قال لي محمَّد بن سلام: أخبرنا مخلد بن يزيد أخبرنا ابن جريج قال: أخبرني زياد أن ابن شهاب أخبره قال: أخبرني ثابت بن قيس أن أبا هريرة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "الريح من روح الله ... "" (¬3). ¬

_ (¬1) (1/ 384). (¬2) "المنفردات والوحدان" (ص 121) لمسلم، و"الوحدان" (ص 262) للنسائي. (¬3) ترك المؤلف بعده أربعة أسطر، ولعله أراد نقل ما في كتابي ابن أبي حاتم (2/ 456) وابن حبان: (4/ 90)، وليس فيهما مزيد على ما ذكره البخاري. أو أراد ذكر لفظ الحديث في "المسند" رقم (7631) وهو: "ثنا عبد الرزاق ثنا معمر عن الزهري حدثني ثابت بن قيس أن أبا هريرة قال: أخذت الناس ريح بطريق مكة وعمر بن الخطاب حاجٌّ فاشتدت عليهم فقال عمر لمن حوله: من يحدثنا عن الريح؟ فلم يرجعوا إليه شيئًا، فبلغني الذي سأل عنه عمر من ذلك، فاستحثثت راحلتي حتى أدركته فقلت: يا أمير المؤمنين أُخْبِرت أنك سألتَ عن الريح وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الريح من روح الله تأتي بالرحمة وتأتى بالعذاب، فإذا رأيتموها فلا تسبوها، وسلوا الله خيرها، واستعيذوا به من شرها".

وفي "التهذيب" (2/ 13): "روى عن أبي هريرة حديث: "الريح (¬1) من روح الله". وعنه الزهري. قال النسائي: ثقة. وقال ابن مندة: مشهور من أهل المدينة، رووا له حديثًا واحدًا. قلت: وقال النسائي: لا أعلم روى عنه غير الزهري". أقول: عبارة النسائي في الفصل الذي بذيل "كتاب الضعفاء" (¬2) له: "لا نعلم أحدًا روى ... ولا عن ثابت الزُّرَقي غير الزهري". أقول: حديثه يشتمل على [ستة] (¬3) أمور: الأول: القصة، أن عمر سأل رُفْقته، فلم يجيبوا حتى أدركه أبو هريرة. ففي هذا أن عمر ورُفْقَتَه لم يكن قد بلغهم الحديث. وليس في هذا ما يُنكَر، ونظائره أكثر من أن تُحْصى. الثاني: قوله في الحديث: "الريح من رَوْح الله". والمعروف في الرَّوح أنه الرحمة. فقد يقال: كيف هذا والريح قد تكون عذابًا؟ وذلك أظهر من أن يُحتج عليه، وقد ذُكِر في الحديث نفسه. وقد أُجيب بأجوبة. والأقرب أن يقال: إن في الحديث اكتفاء، كما في قوله تعالى: {تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81]، وفي الحديث: "بيده الخير"، وأشباه ذلك. ¬

_ (¬1) الأصل "الروح" سهو. (¬2) (ص 262). (¬3) ترك المؤلف مكانه بياضًا فألحقنا عدد الأمور التي ذكرها.

والقرائن على إرادة ذلك ظاهرة، فليس فيه ما يقتضي نكارة. الثالث: قوله: " [تأتي بالرحمة] (¬1) ". وهذا حق قطعًا، بدلالة الكتاب والسنة والمشاهدة. الرابع: قوله: " [وتأتي بالعذاب] ". وهذا أيضًا حق. الخامس: نهيه عن سَبِّها. وهو حق أيضًا، فإنها لا اختيار لها، وإنما يُجْريها الله عَزَّ وَجَلَّ كما يشاء، فسبها يشبه سبَّ الدهر، وقد صحَّ حديث: "يؤذيني ابن آدم، يسبُّ الدهر ... " (¬2). وقد جاء النهي عن سب البهائم (¬3)، مع أن لها اختيارًا ما. وفي "سنن الترمذي" (¬4) من حديث ابن عباس: "لا تلعنوا الريح، فإنها مأمورة ... ". وفي حديث أُبيّ بن كعب: "لا تسبُّوا الرِّيح، فإذا رأيتم ما تكرهون ¬

_ (¬1) ما بين المعكوفين هنا وفي الموضع الآتي تركه المؤلف بياضًا، وأكملناه من لفظ الحديث الذي يتكلم عنه، وسقناه قريبًا بلفظه. (¬2) أخرجه البخاري رقم (4826)، ومسلم رقم (2246) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) كالديك والبعير والبرغوث. انظر "الترغيب والترهيب": (3/ 310) للمنذري. (¬4) رقم (1978). وقال عقبه: "هذا حديث حسن غريب، لا نعلم أحدًا أسنده غير بشر بن عمر". وأخرجه أبو داود رقم (4908)، وابن حبان رقم (5745) وغيرهم.

فقولوا: اللهم ... " (¬1). بقي أمرٌ سادس: وهو أن يقال: إن أبا هريرة كان حريصًا على تبليغ الأحاديث، وكان الناس حريصين على السماع منه، ثم على التبليغ، وله أصحاب لازموه, وأكثروا عنه، مثل سعيد بن المسيب، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، وأبي صالح، وغيرهم. فكيف يتفرد عنه بهذا الحديث رجلٌ لم يشتهر بالعلم، بل لم يُرْو عنه إلا هذا الحديث الواحد؟ وقد يجاب بأن معنى الحديث لما لم يكن فيه أمرٌ زائدٌ على ما هو معروفٌ من الشريعة، لم يهتم أبو هريرة بتكرار تبليغه، ولا اهتمَّ من لعله سمعه منه - غير ثابت - بالتحديث به. 12 - ثَرْوان بن مِلْحان: تفرّد عنه سِماك بن حَرْب (م) (¬2). البخاري (1/ 2/ 182): "ثروان بن ملحان التيمي الكوفي. قال لنا عبد الله ابن رجاء: حدثنا إسرائيل عن سماك عن ثروان بن ملحان قال: مرَّ علينا عمار بن ياسر، فقمنا إليه، فسألناه عن حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأخبرنا أنه يكون ناس يأخذون المال ثم يقتل عليه بعضهم بعضًا. وقال شعبة: ملحان بن ثروان. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد رقم (21138)، والترمذي رقم (2252)، والنسائي في "الكبرى" رقم (10703 - 10709). قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح". (¬2) "المنفردات والوحدان" (ص 144).

وقال عمرو بن طلحة: حدثنا أسباط عن سماك عن ملحان بن مخارق التميمي (كذا). وقال لنا قَبِيصة: حدثنا سفيان عن سِماك عن ثروان بن ملحان: قلت لعمار - في الفطر". وقال ابن أبي حاتم (¬1): " ... روى عن عمار بن ياسر. روى عنه سماك بن حرب. سمعت أبي يقول ذلك". ونحوه في "الثقات" (¬2). وفي "لسان الميزان" (¬3) (2/ 82): "ثروان بن ملحان عن عمار مرفوعًا: "سيكون بعدي أمراء يقتتلون على الملك". رواه عنه سماك بن حرب ... قال ابن المديني: لا نعلم أحدًا حدَّث عن ثروان غير سماك ... وقال العجلي: كوفي تابعي ثقة". وفي "التعجيل" (¬4) (ص 63 - 64) نحوه. وحديثه المذكور في "مسند أحمد" (¬5) (4/ 263): ثنا محمَّد بن عبد الله بن الزبير ثنا إسرائيل عن سِماك عن ثَرْوان بن مِلْحان قال: كنا جلوسًا في المسجد، فمر علينا عمار بن ياسر، فقلنا له: حدِّثنا ما سمعت من ¬

_ (¬1) (2/ 472). (¬2) (4/ 100). (¬3) (2/ 396). (¬4) (1/ 373). (¬5) رقم (18320).

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول في الفتنة، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "يكون بعدي قومٌ يأخذون الملك، يقتل عليه بعضُهم بعضًا". قال: قلنا له: لو حدَّثنا غيرُك ما صدقناه. قال: فإنه سيكون. أقول: معنى الحديث صحيح، فإنه مع أن الواقع يوافقه، له شواهد كثيرة من أحاديث الفتن. وسماك بن حرب تابعي جليل، إلا أنه كان يخطئ ويقبل التلقين، ولكن ليس هذا الحديث مظنة لخطأ أو تلقين. وفي "سنن البيهقي" (3/ 246): " ... شعبة ثنا سماك بن حرب قال: سمعت ملحان بن ثوبان (كذا) يقول: كان عمار بن ياسر علينا بالكوفة سنة، وكان يخطبنا كل جمعة وعليه عمامة سوداء". فتلخيص حال ثروان أنه: 1 - تابعي روى عن صحابي. 2 - حديثًا معناه صحيح. 3 - وله شواهد من الأحاديث. 4 - ورواه عنه تابعي جليل. 13 - (عخ 4) ثَعْلبة بن عِبَاد: تفرَّد عنه الأسود بن قيس (م) (¬1). ¬

_ (¬1) "المنفردات والوحدان" (ص 179).

البخاري (1/ 2/ 174): "ثعلبة بن عِبَاد العبدي البصري. وقال إسرائيل: الليثي. سمع سمرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم - في الكسوف. قاله أبو غسان مالك بن إسماعيل عن زهير، سمع الأسود بن قيس عن ثعلبة". وقال ابن أبي حاتم (¬1): "روى عن سمرة بن جندب. روى عنه الأسود بن قيس. سمعت أبي يقول ذلك". ونحوه في "الثقات" (¬2). وفي "التهذيب" (2/ 24): "روى عن أبيه وسَمُرة بن جندب. روى عنه الأسود بن قيس. أخرجوا له حديثًا في صلاة الكسوف. قلت: ذكره ابن المديني في المجاهيل الذين يروي عنهم الأسود بن قيس. وأما الترمذي فصحَّح حديثه. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن حزم: مجهول. وتبعه ابن القطان. وكذا نقل ابن القطان عن العجلي". أقول: الذي في نسخة الترمذي طبع الميرية: "غريب حسن" (¬3). وقد أخرج الحاكم في "المستدرك" الحديث بطوله (1/ 329 -) وقال: صحيح على شرط الشيخين. وأقره الذهبي. وذكر الحديث مختصرًا (1/ 334) وقال الذهبي هنا: ثعلبة مجهول. ¬

_ (¬1) (2/ 463). (¬2) (4/ 98). (¬3) في طبعة أحمد شاكر (562)، و"تحفة الأشراف": (5/ 452)، ونسخة الكروخي: (ق 45 أ): "حسن صحيح".

وقال ابن حجر في ترجمة أبي تَحْيا من "الإصابة" (¬1): "وقع ذكره في حديث صحيح أخرجه أبو يعلى وابن خزيمة وغيرهما من طريق الأسود بن قيس ... والحديث في "السنن" الأربعة مختصر". أقول: الحديث بطوله في "مسند أحمد" (¬2) (5/ 16)، وهو في مواضع أخرى من مسند سمرة مختصرًا، وفيه: أن سمرة خطبهم، فذكر قصة كسوف الشمس، وصلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وخطبته، وذكر الدجال. وفي بعض ذلك ما قد يظهر منه خلاف بعض الأحاديث الصحيحة, ولكنه يوافق أحاديث صحيحة أخرى، ويمكن توجيهه بما وُجَّهَت به تلك. نعم، فيه في ذِكْر صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الكسوف: "فقام بنا كأطول ما قام بنا في صلاةٍ قط، لا نسمع له صوتًا". وقد اقتصر بعض الرواة من الحديث على معنى هذه القطعة، كما في "المسند" (¬3) (5/ 14): "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في كسوف، فلم نسمع له صوتًا". وبنحو هذا أخرجه أصحاب السنن (¬4). ¬

_ (¬1) (7/ 52). و (تحيا) كذا رسمها المصنف، وفي أكثر المصادر: (تحيى). (¬2) (20178). (¬3) رقم (20160). (¬4) أبو داود رقم (1184)، والترمذي رقم (562)، والنسائي رقم (1484)، وابن ماجه رقم (1264).

وهو بظاهره مخالف لحديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جهر بالقراءة في صلاة الكسوف (¬1). وقد أخرج البيهقي في "السنن" (3/ 335) من حديث ابن عباس: "أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى صلاة الكسوف، فلم نسمع له صوتًا". وعَضَده بحديث "الصحيحين" (¬2) عن ابن عباس، وفيه: "فقام قيامًا طويلاً بنحو من سورة البقرة". وقال: "قال الشافعي: في هذا دليل على أنه لم يسمع ما قرأ؛ لأنه لو سمعه لم يقدره بغيره". ثم أخرج من حديث عائشة، وفيه: "فحزرت قراءته، فرأيت أنه قرأ سورة البقرة". وليس في هذا كله ما يقاوم نصّ حديث "الصحيحين" على الجهر. ولكن الذي يظهر لي أن ابن عباس وسمرة كانا في أواخر الناس، وكأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم غلبه الخشوعُ، والنظرُ فيما مُثِّل له في صلاته من الجنة والنار وغيرهما، فلم يرفع صوتَه. وعلى هذا يُحْمل ما روي عن عائشة من قولها: "فحَزَرْت قراءته". وعلى هذا، فلا منافاة بين الجهر وبين عدم سماع من ذُكِر. وقد روى الإمام أحمد في "المسند" (¬3) (1/ 293) حديث ابن عباس ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري رقم (1065)، ومسلم رقم (901). (¬2) أخرجه البخاري رقم (1052)، ومسلم رقم (907). (¬3) رقم (2673، 2674).

من طريق حسن بن موسى عن ابن لهيعة، ومن طريق عبد الله - وهو ابن المبارك - عن ابن لهيعة. ورواية ابن المبارك عن ابن لهيعة قوية كما في ترجمة ابن لهيعة من "التهذيب" (¬1) وغيره. وصرح ابن لهيعة بالسماع. وفي "المسند" (¬2) (5/ 17) من طريق وقاء (في النسخة: ورقاء. خطأ) بن إياس، عن علي بن ربيعة عن سمرة مرفوعًا في النهي عن الدُّبَّاء والمُزَفَّت. ثم قال أحمد: "ثنا ... عن الأسود بن قيس عن ثعلبة عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثله". فإذا كان حديث ثعلبة هذا مثل الذي قبله، يعني في النهي عن الدباء والمزفَّت، كما هو ظاهر، فهذا حديث آخر غير حديثه في الكسوف، وقد توبع على هذا، وشواهده كثيرة. وله حديث عن أبيه. ذُكِر في ترجمة أبيه من "الإصابة" (¬3) أنه من رواية قيس بن الربيع عن الأسود عن ثعلبة عن أبيه مرفوعًا في فضل الوضوء. وفي ترجمة الأب من "الاستيعاب" (¬4): "وحديثه في فضل الوضوء حديث حسن". ¬

_ (¬1) (5/ 375). (¬2) رقم (20186). (¬3) (3/ 620). (¬4) (2/ 804 - 805).

[*13]-[بخ س] ثُمَامَة بن عُقبة المُحَلِّمي (¬1): (م). 14 - ثوبان بن شَهْر: روى أبو المغيرة وعصام بن خالد وأبو اليمان وعلي بن عياش عن حَرِيز بن عثمان سمعت سعيد (وفي المسند: سعد) بن مَرْثد الرَّحَبي قال: سمعت عبد الرحمن بن حوشب يحدِّث عن ثوبان بن شهر قال: سمعت كريب بن أبرهة وهو جالس مع عبد الملك بِدَيْر المُرَّان، وذكروا الكِبْر، فقال كريب: سمعت أبا ريحانة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "إنه لا يدخل شيء من الكبر الجنة"، قال: فقال قائل: يا رسول الله! إني أحب أن أتجمَّل بسبق (¬2) سوطي، وشِسْع نَعْلي، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "إن ذلك ليس بالكبر، إن الله عَزَّ وَجَلَّ جميل يحب الجمال، إنما الكِبْر من سَفِه الحقَّ، وغَمَص الناس بعينيه". هذا لفظ "مسند أحمد" (¬3) (4/ 133). وفي ترجمة ثوبان من "التعجيل" (¬4): "قال العجلي: شامي ثقة". وعبد الرحمن بن حوشب وسعيد بن مرثد لم يذكر في ترجمتيهما إلا ¬

_ (¬1) ذكره مسلم في "الوحدان" (150). وله ترجمة في "التاريخ الكبير": (2/ 177)، و"الجرح والتعديل": (2/ 465)، و"تهذيب الكمال": (1/ 417)، و"تهذيب التهذيب": (2/ 29). روى عنه ثلاثة، ووثقه ابن معين والنسائي وابن نمير وغيرهم. (¬2) كذا في الأصل وعدة نسخ من المسند، وفي بعضها ومصادر التخريج: "بِسَير" وانظر هامش المسند: (28/ 438). (¬3) رقم (17206). (¬4) (1/ 374).

ما تضمنه هذا الإسناد، وأن ابن حبان ذكرهما في "الثقات" (¬1). هذا، وقد أخرج مسلم (¬2) وغيره نحو هذا الحديث من حديث ابن مسعود، وله شواهد. [*14]- (خ م د س ق) جابر بن إسماعيل (¬3): "فتح المغيث" (¬4). 15 - (د ت س) جابر بن يزيد بن الأسود: تفرَّد عنه يعلى بن عطاء. (م) (¬5). البخاري (1/ 2/ 210): "جابر بن يزيد بن الأسود الخزاعي. سمع أباه. سمع منه يعلى بن عطاء". ونحوه في كتاب ابن أبي حاتم (¬6)، و"الثقات" (¬7). ¬

_ (¬1) (7/ 73)، (6/ 371). (¬2) رقم (91). (¬3) له ترجمة في "تاريخ البخاري": (2/ 203)، و"الجرح والتعديل": (2/ 501)، و"الثقات": (8/ 163)، و"تهذيب الكمال": (1/ 423)، و"تهذيب التهذيب": (2/ 37). قال الحافظ ابن حجر: "جابر بن إسماعيل الحضرمي أبو عباد المصري. روى عن عقيل وحيي بن عبد الله المعافري. وعنه ابن وهب. ذكره ابن حبان في الثقات. قلت: وأخرج ابن خزيمة حديثه في صحيحه [رقم 146] مقرونًا بابن لهيعة، وقال: ابن لهيعة لا أحتج به وإنما أخرجت هذا الحديث لأن فيه جابر بن إسماعيل". (¬4) (2/ 47). (¬5) "المنفرات والوحدان" (ص 165). (¬6) (2/ 497). (¬7) (4/ 102). وترك المؤلف بعده بياضًا بمقدار خمسة أسطر.

وفي "التهذيب" (2/ 46): " ... عن أبيه. وله صحبة. وعنه يعلى بن عطاء. قال ابن المديني: لم يرو عنه غيره. وقال النسائي [ثقة] (¬1). (وبهامش "الخلاصة" عن "التهذيب": ثقة) (¬2). قلت: وذكره ابن حبان في "الثقات"، وخرَّج حديثه في "صحيحه" (¬3) ". وفي ترجمة يزيد بن الأسود من "الإصابة" (¬4) أنه صححه الترمذي. وفي "الفتح" (¬5) في الكلام على حديث صلاة معاذ برهطه بعد صلاته مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنه صححه ابن خزيمة. وحديثه في "سنن الترمذي" (¬6) في أبواب الجماعة من طريق يعلى ابن عطاء حدثنا جابر بن يزيد بن الأسود عن أبيه قال: شهدت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم حجته، فصليت معه صلاة الصبح في مسجد الخَيْف، فلما قضى صلاته وانحرف إذا هو برجلين في أخرى القوم لم يصليا معه، فقال: "عليَّ بهما". فجيء بهما تُرْعَد فرائصُهما، فقال: "ما منعكما أن تصليا معنا؟ " فقالا: يا رسول الله! إنا كنا قد صلينا في رحالنا. قال: "فلا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة، فصليا معهم، فإنها لكما نافلة". ¬

_ (¬1) في الأصل بياض تبعًا للتهذيب. والمثبت من "تهذيب الكمال": (1/ 430). (¬2) ما بين القوسين زيادة من المؤلف. وانظر "الخلاصة": (1/ 59). (¬3) انظر أرقام الأحاديث (1564، 1565، 2395). (¬4) (6/ 648). وانظر "جامع الترمذي" رقم (219) فقد قال: "حديث يزيد بن الأسود حديث حسن صحيح". (¬5) (2/ 230). (¬6) رقم (219).

قال: وفي الباب عن مِحْجن، ويزيد بن عامر. قال أبو عيسى: حديث يزيد بن الأسود حديث حسن صحيح. أقول: أما محجن فهو ابن أبي محجن الدِّيْلي. تفرد عنه ابنه بُسْر. وتفرد عن بُسْر زيدُ بن أسلم. والحديث في "الموطأ" (¬1) باب إعادة الصلاة مع الإمام: "مالك عن زيد بن أسلم عن رجل من بني الدِّيل يقال له: بُسْر بن مِحْجَن، عن أبيه محجن: أنه كان ... فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا جئت فصلِّ مع الناس، وإن كنتَ قد صليت"". ثم عضده مالك بأثرين صحيحين عن ابن عمر وسعيد بن المسيب، وبحديث عن أبي أيوب؛ رواه مالك عن عفيف السهمي، عن رجل من بني أسد: أنه سأل أبا أيوب فذكره. وسيأتي. ثم روى عن نافع عن ابن عمر أنه كان يقول: "من صلى المغرب أو الصبح ثم أدركهما مع الإمام فلا يَعُد لهما" (¬2). قال مالك: "ولا أرى بأسًا أن يصلي مع الإمام من كان قد صلى في بيته، إلا صلاة المغرب، فإنه إذا أعادها كانت شفعًا". وفي ترجمة مِحْجن من "الإصابة" (¬3): أن ممن أخرج حديثه هذا ابن خزيمة والحاكم. ¬

_ (¬1) رقم (349). (¬2) "الموطأ" الأرقام (350 - 353). (¬3) (5/ 779).

وترجمة بُسْر في "التهذيب" (¬1) ليس فيها توثيق له عن غير ابن حبان. وفيها أن ابن القطان قال: لا يعرف حاله. وأما يزيد بن عامر فلم يذكر له راوٍ إلا نوح بن صعصعة، ولا لنوح ابن صعصعة إلا سعيد بن السائب (¬2). والحديث في "سنن أبي داود" (¬3)، باب فيمن صلى في منزله ثم أدرك الجماعة. ولفظه: عن يزيد بن عامر قال: جئت ... فقال (النبي صلى الله عليه وآله وسلم): "إذا جئت إلى الصلاة، فوجدت الناس فصل معهم، وان كنت قد صليت، تكن لك نافلة, وهذه مكتوبة". ونوح له ترجمة في "التهذيب" (¬4)، وليس فيها توثيقه عن غير ابن حبان، وفيها: قال الدارقطني: حاله مجهولة. وأثر أبي أيوب الذي ذكره مالك في "الموطأ" عن عفيف السهمي عن رجل من بني أسد بن خزيمة عن أبي أيوب، فلفظه في "الموطأ": "أنه سأل أبا أيوب الأنصاري فقال: إني أصلي في بيتي، ثم آتي المسجد فأجد الإمام يصلي، أفأصلي معه؟ فقال أبو أيوب: نعم، فصل معه، فإن من صنع ذلك فإن له سهم جمع. أو مثل سهم جمع". ¬

_ (¬1) (1/ 438 - 439). (¬2) ترجمته في "تهذيب الكمال": (8/ 132 - 133)، و"تهذيب التهذيب": (11/ 339). (¬3) رقم (575). (¬4) (10/ 485).

وقد روى ابن وهب عن عَمْرو بن الحارث عن بكير بن الأشج عن عفيف بن عمرو بن المسيب به، وقال: فقال أبو أيوب: سألنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: "فذلك له سهم جمع". أخرجه أبو داود (¬1). ورواه يحيى بن أيوب عن عَمْرو بن الحارث عن بكير عن يعقوب (كذا قال) بن عَمْرو بن المسيب أنه سأل أبا أيوب فقال أبو أيوب: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك فقال: "نعم، يعيدها". ذكره البخاري في "تاريخه" في ترجمته ليعقوب (4/ 2/ 390). ونحوه في ترجمة عفيف من "التهذيب" (¬2). وفي "صحيح مسلم" (¬3) من رواية عبد الله بن الصامت عن أبي ذر مرفوعًا: "كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يؤخرون الصلاة ... ، صل الصلاة لوقتها، فإن أدركتها معهم فصل، فإنها لك نافلة". وفي رواية: "ولا تقل: إني قد صليت، فلا أصلي". وفي أخرى: "فإنها زيادة خير". وجاء نحوه من حديث ابن مسعود وعُبادة بن الصامت وغيرهما (¬4). ¬

_ (¬1) رقم (578). (¬2) (7/ 236). وأخرجه الطبراني في "الأوسط" رقم (8683)، و"الكبير": (4/ 157). (¬3) رقم (648). (¬4) حديث ابن مسعود أخرجه مسلم رقم (534)، وحديث عبادة بن الصامت أخرجه أبو داود رقم (433)، وابن ماجه رقم (1257)، وأحمد رقم (22681، 22682) 5/ 314 - 315.

وفي "سنن البيهقي" (2/ 301 -): أن الدارقطني (¬1) روى (بسند رجاله ثقات) عن حجَّاج بن أرْطاة عن يعلى بن عطاء عن أبيه عن عبد الله بن عمرو نحو حديث يزيد بن الأسود. ثم قال البيهقي: "أخطأ حجَّاج بن أَرْطاة في إسناده ... والصحيح رواية الجماعة". ثم حكى عن الشافعي أنه ذكر في القديم حديث يعلى عن جابر بن يزيد عن أبيه فقال: إسنادٌ مجهول. قال البيهقي: "وهذا الحديث له شواهد قد تقدم بعضها، فالاحتجاج به وبشواهده صحيح" (¬2). أقول: الشواهد كلها عامة. ولا كلام في صحة هذا الحكم في الظهر والعشاء، ويبقى الصبح والعصر والمغرب، فقد قال ابن عمر - كما تقدم -: "لا تعاد الصبح والمغرب". وتبعه الأوزاعي. وبه قال الحنفية، وزادوا: العصر. وحجة من استثنى الصبح ثبوت النهي عن الصلاة بعد الصبح، وكذلك من استثنى العصر يحتج بثبوت النهي عن الصلاة بعد العصر (¬3). ¬

_ (¬1) في "السنن": (1/ 414). (¬2) علق ابن الملقن في "البدر المنير": (4/ 413) بقوله: "يعلى من رجال مسلم، قال الحاكم في "مستدركه": ورواه جماعة عنه. فذكرهم، قال: وقد احتج به مسلم. قلت: وجابر بن يزيد وثقه النسائي فهذه وجه من صححه". (¬3) أخرجه البخاري رقم (581)، ومسلم رقم (826) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

وإنما لم يستثن ابن عمر العصر؛ لأن مذهبه أن الصلاة لا تحرم بعد العصر. وفي "الفتح" (¬1): "وروى ابن عمر تحريم الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، وإباحتها بعد العصر حتى تصفر. وبه قال ابن حزم. واحتجَّ بحديث علي: "أنه صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن الصلاة بعد العصر إلا والشمس مرتفعة". رواه أبو داود بإسناد صحيح قوي". وأما من استثنى المغرب فلم أقف له على حجة، إلا ما ذكره مالك أنه لو أعادها صارت شفعًا. وهذا رأي لا يقاوم عموم الأدلة. وأما من عمَّم فحجته في المغرب عموم الأدلة، وفي الصبح والعصر حجته في تخصيص النهي عن الصلاة بعدهما بما لا سبب له متقدمًا أو مقارنًا، فقد يكون هذا مذهب النسائي، فلذلك وثق جابر بن يزيد، وقد لا يكون مذهبه بإطلاق، ولكنه رأى أنه كما ثبت استثناء صاحبة الوقت من النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها بحديث: "من أدرك من الصبح ركعة ... "، فكذلك تستثنى صاحبة الوقت من النهي عن الصلاة بعد الصبح والعصر، وذلك بإعادتها. وقد يؤكد ذلك بأن أدلة النهي عن الصلاة بعد الصبح والعصر قد خص عمومها في الجملة، وأدلّة أمر من صلى في بيته ثم جاء المسجد فوجدهم يصلون بأن يعيدها معهم لم يثبت تخصيص عمومها. وقد قال أهل الأصول: ¬

_ (¬1) (2/ 76).

إن العام الذي لم يثبت تخصيصه أرجح من العام الذي قد ثبت تخصيصه (¬1). وإن كان في ذلك نظر. هذا، وفي "الجوهر النقي" (¬2) في الكلام على حديث جابر بن يزيد: "ورواه ابن منده في معرفة الصحابة، ثم قال: ورواه بقية عن إبراهيم بن يزيد بن ذي حماية عن عبد الملك بن عُمَير عن جابر بن يزيد بن الأسود عن أبيه. فهذا راوٍ آخر لجابر غير يعلى". 16 - (4) جُرَيّ بن كُلَيب: تفرد عنه قتادة. (م) "كفاية" (¬3). البخاري (1/ 2/ 242): "جُرَي بن كُليب ... سمع عليًّا وبشير بن الخصاصية. قال لي أحمد بن عبد الله: حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا أبو جعفر عن قتادة عن جري بن كليب وكان يثني عليه خيرًا. حديثه في أهل المدينة". وقال ابن أبي حاتم (¬4): "روى عن علي وبشير بن الخَصاصِيَة. روى عنه قتادة وأبو إسحاق السبيعي. سمعت أبي يقول ذلك ... قال علي بن المديني: جُرَي بن كُليب مجهول، لا أعلم روى عنه غير ¬

_ (¬1) انظر "البحر المحيط": (8/ 189 - دار الكتبي). (¬2) (2/ 302 - بهامش سنن البيهقي). (¬3) "الوحدان" (ص 152) و"الكفاية" (ص 88). (¬4) (2/ 536 - 537).

قتادة ... سألت أبي عنه فقال: شيخ، لا يحتج بحديثه، هو مثل عمارة بن عبد، وهُبَيرة بن يريم (¬1)، وحُجَيَّة بن عدي، وشريح بن عبيد، هؤلاء شيوخ لا يحتج بحديثهم". وفي "الثقات" (¬2): "يروي عن علي وبشير بن الخَصاصِيَة. روى عنه قتادة". وفي "التهذيب" (2/ 78): "وعنه قتادة، وكان يثني عليه خيرًا. وقال همام عن قتادة: حدثني جُري بن كليب، وكان من الأزارقة. وقال ابن المديني: مجهول، ما روى عنه غير قتادة. وقال أبو حاتم: شيخ لا يحتج بحديثه ... وقال العجلي: بصري تابعي ثقة. قال أبو داود: جري بن كليب صاحب قتادة سدوسي بصري لم يرو عنه غير قتادة، وجري بن كليب كوفي روى عنه أبو إسحاق السَّبيعي". أقول: وحديثه عن علي رضي الله عنه في "السنن" (¬3)، ولفظه: عن علي قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يُضحَّى بأعضب القرن والأُذُن". وفي آخره: قال قتادة: فذكرت ذلك لسعيد بن المسيب، فقال: العضب ما بلغ النصف، فما فوق ذلك. ¬

_ (¬1) الأصل: "بربر" تحريف، والمثبت من المصادر. (¬2) (4/ 117). (¬3) أخرجه أبو داود رقم (2805)، والترمذي رقم (1504)، والنسائي رقم (4377)، وابن ماجه رقم (3145).

قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح". وأخرجه البيهقي في "سننه" (9/ 275)، وذكر معه حديث أبي داود الطيالسي: عن أبي عوانة عن جابر عن عبد الله بن نُجَيّ عن علي رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن عضباء الأذن والقرن". أقول: جابر هو ابن يزيد الجُعْفي، والكلام فيه كثير. ويكفي من ذلك هنا أنه يدلس، وصفه بذلك الأئمة: سفيان وشعبة وزهير بن معاوية. وعبد الله بن نُجَي وثقه النسائي، وليَّنه البخاري وغيره. وقد جاء عن علي، وصححه الترمذي أنه سئل عن البقرة، فقال: عن سبعة. قال: مكسورة القرن؟ قال: لا يضرك ... ، أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نستشرف العين والأذن" (¬1). وذكره البيهقي ثم قال: "فهذا يدل على أن المراد بالأول - إن صح - التنزيه في القرن". [*16]- ولهم: جُرَي بن كُليب الآخر: هو العامري. له حديث في "المستدرك" (2/ 141) (¬2). ¬

_ (¬1) رقم (1503). وأخرجه أحمد رقم (734). (¬2) ونص الحديث: "حدثنا أبو بكر بن إسحاق أنبأ محمَّد بن عيسى بن السكن ثنا الحارث بن منصور ثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن جري بن كليب العامري قال: لما سار علي إلى صفين كرهت القتال، فأتيت المدينة فدخلت على ميمونة بنت الحارث فقالت: ممن أنت؟ قلت: من أهل الكوفة، قالت: من أيهم؟ قلت: من بني =

17 - (تح) جُنْدُب بن عبد الله الوالبي الكوفي (¬1): عن سفيان (في "التعجيل": شيبان. خطأ) بن عوف القارِّي. وعنه الحارث بن يزيد. قال العجلي: كوفي تابعي ثقة. أقول: في ترجمة سفيان من "التعجيل" (¬2): جندب بن عبد الله العَدْواني. وفي "المسند" (¬3) (2/ 177): "ثنا حسن بن موسى ثنا ابن لهيعة ثنا الحارث بن يزيد عن جندب بن عبد الله أنه سمع سفيان بن عوف يقول: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاصي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم ونحن عنده: "طوبى للغرباء". فقيل: مَن الغرباء يا رسول الله؟ قال: "أناس صالحون في أناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم". قال: وكنا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يومًا آخر، حين طلعت الشمس، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "سيأتي أناس من ¬

_ = عامر، قالت: رحبًا على رحب وقربًا على قرب تجيء ما جاء بك قال: قلت: سار علي إلى صفين وكرهت القتال فجئنا إلى ها هنا، قالت: أكنت بايعته؟ قال: قلت: نعم، قالت: فارجع إليه فكن معه، فوالله ما ضل ولا ضل به. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه". (¬1) كتب الشيخ في الهامش: "لم أجده في كتاب البخاري، ولا كتاب ابن أبي حاتم، ولا الثقات". أقول: مصادر ترجمته في هامش "التعجيل": (1/ 397). (¬2) (1/ 590). (¬3) رقم (6650).

أمتي يوم القيامة نورهم كضوء الشمس". قلنا: من أولئك يا رسول الله؟ فقال: "فقراء المهاجرين الذين تُتَّقى بهم المكاره، يموت أحدهم وحاجته في صدره، يحشرون من آفاق الأرض". وفي "المسند" (¬1) (2/ 222): "ثنا قتيبة ثنا ابن لهيعة ... فذكر، مع اختلاف". وأخشى أن يكون الذي وثقه العجلي غير هذا، فإن هذا مصري؛ لأن (¬2) سفيان بن عوف مصري، والحارث مصري. والذي ذكره العجلي كوفي. وهذا عدواني - كما في ترجمة سفيان بن عوف -، ووقع في أول الترجمة هنا: الوالبي. والله أعلم. [* 17]-[خ] جُوَيرية بن قُدامة: "فتح المغيث" (¬3). 18 - (د س) حاجب بن المفضَّل بن المُهَلَّب بن أبي صُفْرة: لم يُذْكر له راوٍ إلا حماد بن زيد. البخاري (2/ 1/ 73): "حاجب بن المُفضَّل بن المهلَّب. قال قتيبة: ¬

_ (¬1) رقم (7065). (¬2) في الأصل: "لا". (¬3) (2/ 47). أقول: ذكره البخاري في "تاريخه": (2/ 241) فقال: "جويرية بن قدامة التميمي، قال لنا آدم: حدثنا شعبة قال حدثنا أبو جمرة سمعت جويرية بن قدامة التميمي قال: سمعت عمر يخطب قال: رأيت ديكا نقرني ... "، ونحوه في كتابي ابن أبي حاتم: (2/ 530)، وابن حبان: (4/ 116). وانظر "تهذيب التهذيب": (2/ 125).

عن حماد عن حاجب أبي (كذا) (¬1) المفضل. يُعَدُّ في البصريين. عن أبيه عن النعمان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: اعدلوا بين أولادكم". قال سليمان: كان عامل (¬2) عمر بن عبد العزيز على عمان". وقال ابن أبي حاتم (¬3): "روى عن أبيه، وأبوه عن النعمان بن بشير. سمعت أبي يقول ذلك. ... ذكره أبي عن إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين قال: حاجب بن المفضل بن المهلب ثقة". وفي "التهذيب" (2/ 133): "روى عن أبيه. وعنه حماد بن زيد. قال سليمان بن حرب: كان عامل عمر بن عبد العزيز على عمان. وقال إسحاق بن منصور عن ابن معين: ثقة. أقول: لم يذكروا له راويًا إلا حماد بن زيد، ولا ذكروا له إلا حديثًا واحدًا عن أبيه عن النعمان بن بشير مرفوعًا: "اعدلوا بين أبنائكم". والحديث قد رواه الشعبي وغيره عن النعمان بن بشير، فهو ثابت من غير رواية حاجب عن أبيه. وأبوه لم يذكروا توثيقه عن غير ابن حبان". ¬

_ (¬1) علق المؤلف في هامش تاريخ البخاري: "كذا، ولا مانع منه ولكن لم يذكر ابن أبي حاتم ولا غيره كنية لحاجب، والحديث في سنن أبى داود النسائي من طريق سليمان بن حرب عن حماد وفيه (حاجب بن المفضل) فالله اعلم". (¬2) في الأصل: "عامر". (¬3) (3/ 284 - 285).

19 - الحارث بن عبد الرحمن: خال ابن أبي ذئب./ م. ذكره مسلم (¬1) فيمن تفرّد عنه ابن أبي ذئب. وفي "التهذيب" (¬2) عن ابن المديني: "مجهول, لم يرو عنه غير ابن أبي ذئب. وعن الحاكم أبي أحمد: لا يُعلَم له راوٍ غيره. قال النسائي: ليس به بأس. وقال أحمد: لا أرى به بأسًا. وقال ابن معين: يروى عنه، وهو مشهور". وقال ابن حبان في "الثقات" (¬3): مات سنة (129) وله (73) سنة، وغزا مع جماعة من الصحابة. قال في "التهذيب" (¬4): "روى عن أبي سلمة، وسالم وحمزة ابني عبد الله بن عمر، ومحمد بن جبير بن مطعم، وكريب، ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، وغيرهم". الحارث خال ابن أبي ذئب: "مسند" (2/ 20، 26، 40، 42، 53، 157, 164, 190, 443, 504). 20 - (بخ) الحارث بن لَقيط: لم يُذكر له راوٍ إلا ابنه حَنَش. ¬

_ (¬1) "المنفردات والوحدان" (ص 231). (¬2) (2/ 148). (¬3) (4/ 134). (¬4) (2/ 148).

البخاري (1/ 2/ 278): "الحارث بن لقيط النَّخَعي. شهد عمر، شهد القادسية. يُعدُّ في الكوفيين. وقال لنا أبو نعيم: عن حنش عن أبيه عن علي - في الغار. ولم يرفعه بعضهم عن أبي أسامة. وقال عبد الصمد بن النعمان: عن حنش عن أبيه عن علي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم". وقال ابن أبي حاتم (¬1): "روى عن عمر وعلي رضوان الله عليهما. وشهد القادسية. روى عنه ابنه حنش. سمعت أبي يقول ذلك". وفي "التهذيب" (2/ 155): "شهد القادسية، وروى عن عمر وعلي. وعنه ابنه حنش. قلت: وقال ابن سعد: كان قليل الحديث. وقال العجلي: كوفي تابعي ثقة". وفي ترجمته من "تهذيب المزّي" (¬2): أن له في "الأدب المفرد" (¬3) للبخاري أثرًا واحدًا قال: "كان الرجل منا تُنْتَج فرسُه، فينحرها، فيقول: أنا أعيش حتى أركب هذا؟! فجاءنا كتاب عمر: أن أصلحوا ما رزقكم الله، فإن في الأمر تنفُّسًا". ¬

_ (¬1) (3/ 87). (¬2) (2/ 25). وذكره ابن حبان في "الثقات": (4/ 133). (¬3) رقم (478). ومعنى تنتج أي: تلد.

21 - (سي) حبيب بن سُبَيعَة: لم يُذكر له راوٍ إلا ثابت البُنَاني. البخاري (1/ 2/ 316 (¬1)): "حبيب بن سُبيعة. قال موسى بن إسماعيل: حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن حبيب بن سبيعة عن رجل حدَّثه أنه كان إلى جنب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فمرَّ به رجل، فقال رجل: إني لأحبه في الله. قال: قم، فأعْلِمه. وقال الصلت بن محمَّد: ثنا عُمارة بن زاذان عن ثابت عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نحوه. وقال يحيى بن موسى: حدثنا (يحيى) (¬2) بن إسحاق حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن ابن سبيعة عن الحارث قال: مر رجل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ... نحوه. وقال إسحاق: ثنا سليمان بن حرب قال: ثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن حبيب بن سبيعة الضبعي عن الحارث عن رجل حدثه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم. مسلم قال: ثنا مبارك قال: ثنا ثابت عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذا. ¬

_ (¬1) مكانه في المطبوع: ص 318. (¬2) ليست في أصل التاريخ، وهي تصحيح من المؤلف، وقد قال هناك تعليقًا على هذا الموضع: "بهامش قط "يحيى بن إسحاق" وهو صحيح، هو يحيى بن إسحاق صاحب ابن المبارك، عده المزي في شيوخ يحيى بن موسى".

بِشْرٌ قال: أخبرني عبد الله قال: أخبرنا حماد بن سلمة عن ثابت عن سُبيعة بن حبيب الضُّبَعي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذا". وقال ابن أبي حاتم (¬1): "حبيب بن سبيعة. روى عن رجل له صحبة يقال: اسمه الحارث. روى عنه ثابت البناني. سمعت أبي يقول ذلك". وفي "الثقات" (¬2): "حبيب بن سبيعة الضبعي. يروي عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم. روى عنه ثابت البناني. ومنهم من زعم أنه سبيعة بن حبيب الضبعي. ووهم من قاله". وفي "التهذيب" (2/ 184): "حبيب بن أبي سبيعة الضبعي. وقيل: ابن سبيعة ... عن الحارث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقيل: .... قال العجلي: حبيب بن سبيعة، شامي تابعي ثقة". وقال (2/ 164): "الحارث. غير منسوب. يقال: له صحبة. روى حديثه ثابت البناني عن حبيب بن أبي سبيعة ... ". وفي "الإصابة" (¬3): "الحارث ... وروى النسائي من طريق حبيب ابن سبيعة عن الحارث ... أخرجه من طريق حماد بن سلمة [عن] (¬4) ثابت عنه. وقال مبارك بن فضالة وحسين بن واقد وغيرهما: عن ثابت عن أنس. والله أعلم". ¬

_ (¬1) (3/ 102). (¬2) (4/ 140). (¬3) (1/ 612). (¬4) زيادة من الإصابة.

أقول: حماد أثبت الناس في ثابت. وسلوكه غير الجادة "ثابت عن أنس" دليل أنه حفظ وأتقن. فإذا لم يكن تخطئة غير حماد ممن سلك الجادة؛ لكثرتهم، فلا مانع من صحة الوجهين. وعلى هذا، يكون حديث أنس شاهدًا لحديث حبيب عن الحارث. ومع ذلك فله شواهد أخرى في الجملة. والله الموفق. [*21]- حُجَيَّة بن عديّ (¬1). ¬

_ (¬1) لم يعلق المؤلف على الترجمة بشيء، وحُجيَّة له ترجمة في "تاريخ البخاري": (3/ 129)، و"الجرح والتعديل": (3/ 314)، و"الثقات": (4/ 192)، و"تهذيب الكمال": (2/ 71)، و"تهذيب التهذيب": (2/ 216 - 217). وقال: "حجية بن عدي الكندي الكوفي. روى عن علي وجابر وعنه الحكم بن عتيبة وسلمة بن كهيل وأبو إسحاق السبيعي. قال ابن المديني: لا أعلم روى عنه إلا سلمة بن كهيل، وقال أبو حاتم: شيخ لا يُحتج بحديثه، شبيه بالمجهول. قلت: وقال ابن سعد: كان معروفًا وليس بذاك، وقال العجلي: تابعي ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات". وروى البرقاني في اللفظ من طريق شعبة عن سلمة بن كهيل عن أبي الزعراء وعن زيد بن وهب: أن سويد بن غفلة دخل على علي في إمارته فقال: يا أمير المؤمنين إني مررت بنفر يذكرون أبا بكر وعمر .. الحديث. قال البرقاني: أبو الزعراء هذا هو حجية بن عدي وليس هو صاحب ابن مسعود، ذاك اسمه عبد الله بن هانئ. قلت: ووثق أبو عبد الله محمَّد بن إبراهيم البوشنجي أبا الزعراء المذكور في الإسناد الماضي فقال: هو ثقة مأمون" اهـ. وقال الذهبي في "الميزان": (1/ 466): "هو صدوق إن شاء الله".

22 - (س) حسَّان بن الضَّمْري: لم يُذكر له راوٍ إلا أبو إدريس الخَوْلاني. البخاري (2/ 1/ 29 (¬1)): "حسان بن الضمري عن عبد الله بن السعدي. روى عنه أبو إدريس الخَوْلاني". ونحوه عند ابن أبي حاتم (¬2) وعند ابن حبان (¬3). وفي "التهذيب" (2/ 250): "روى عن عبد الله بن السَّعدي حديث وفادته. وعنه أبو إدريس الخولاني. روى له النسائي وقال: ليس بالمشهور. قلت: وقال العجلي: شامي ثقة". أقول: حاصل حديثه عن ابن السعدي أنه سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الهجرة، فأجابه: "لا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار". رواه النسائي (¬4): "ثنا مروان بن محمَّد ثنا عبد الله بن العلاء بن زَبْر حدثني بُسْر بن عبيد الله عن أبي إدريس الخولاني عن حسان بن عبد الله الضمري عن عبد الله بن السعدي ... ". وأخرجه قبل ذلك (¬5): "أخبرنا عيسى بن مساور ثنا الوليد عن عبد الله بن العلاء بن زَبْر عن بُسْر بن عبيد الله عن أبي إدريس الخولاني عن ¬

_ (¬1) مكانه في المطبوع: ص 331. (¬2) (3/ 234). (¬3) (4/ 164). وترك المؤلف بعده بياضًا بمقدار سبعة أسطر. (¬4) رقم (4173). (¬5) رقم (4172).

عبد الله بن وقدان السعدي ... ". كذا أسقط الواسطة بين أبي إدريس والسعدي. وأخرجه الإمام أحمد في "المسند" (¬1) (5/ 270): "ثنا إسحاق بن عيسى ثنا يحيى بن حمزة عن عطاء الخراساني حدثني ابن محيريز عن عبد الله بن السعدي ... ". وقد اختلف على ابن مُحَيريز أيضًا. ففي ترجمة محمَّد بن حبيب من "الإصابة" (¬2): أخرج البغوي وغيره من طريق الوليد بن سليمان عن بُسْر بن عبيد الله عن ابن مُحيريز عن عبد الله بن السعدي عن محمَّد بن حبيب قال: أتينا رسول الله ... قال البغوي: رواه غير واحد عن ابن محيريز عن عبد الله بن السعدي [لم يذكروا محمَّد بن حبيب. ثم ساقه من طريق عطاء الخراساني، عن ابن محيريز، وقد تقدم في ترجمة عبد الله السعدي] (¬3) أن النسائي أخرجه من طريق أبي إدريس عن عبد الله بن السعدي. ليس فيه محمَّد بن حبيب". وفي "الإصابة" (¬4) في ترجمة عبد الله بن السعدي بعد ذكر هذا الحديث: "قال أبو زرعة الدمشقي: هذا الحديث عن عبد الله بن السعدي حديث صحيح متقَن، رواه الأثبات عنه". ¬

_ (¬1) رقم (22324). (¬2) (6/ 10). (¬3) ما بين المعكوفين مستدرك من ط. دار هجر: (10/ 18)، وقد سقط من الطبعة التي ينقل منها المؤلف. ومن طبعة البجاوي. (¬4) (4/ 113 - 114).

أقول: والحديث - على ما فيه - يعارض بظاهره الحديثَ الثابت: "لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية" (¬1). لكن قد جمع بينهما العلماء بما حاصله - محزَّرًا -: أن الهجرة من دار الشرك إلى دار الإسلام له علتان: الأولى: قلة المسلمين في دار الإسلام، وحاجتهم إلى كثرة السواد. الثانية: خوف الفتنة. وكلتا العلتين انتفتا في حق أهل مكة بعد الفتح؛ لأن مكة صارت دار إسلام، وكثر المسلمون بالمدينة، ثم لم يزل المسلمون في كثرة والحمد لله. فلم يبق إلا العلة الثانية في حق من كان مسلمًا بدار كفر، فإذا كان لا يتمكن من إظهار دينه، وأداء ما يجب عليه، أو يخاف الفتنة، فعليه الهجرة. والله أعلم. وفي "فتح الباري" (¬2) في باب هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه: "أن الإسماعيلي أخرج عن ابن عمر قال: "انقطعت الهجرة بعد الفتح إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار". أقول: وهذا أوضح في الجمع، فإن الله عَزَّ وَجَلَّ لما فرض الهجرة إلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم جعل لذلك فضلًا خاصًّا ومزية خاصة، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري رقم (1587)، ومسلم (1353) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (¬2) (7/ 270).

وسمى أصحابها: "المهاجرين"، فهذه الهجرة التي ينال بها ذاك الفضل وتلك المزية، انقطعت بفتح مكة، ولا ينالها أحد بعدُ وإن وجبت عليه الهجرة وهاجر. وفي "المسند" (¬1) (1/ 192): "ثنا الحَكَم بن نافع ثنا إسماعيل بن عيَّاش عن ضَمْضم بن زُرعة عن شُريح بن عُبيد يردُّه إلى مالك بن يُخامِر عن ابن السَّعدي: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لا تنقطع الهجرة ما دام العدوُّ يقاتل". فقال معاوية، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن عمرو بن العاص: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إنّ الهجرة خَصْلتان: إحداهما: أن تهجر السيئات، والأخرى: أن تهاجر إلى الله ورسوله. ولا تنقطع الهجرةُ ما تُقُبِّلت التوبةُ، ولا تزال التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من المغرب، فإذا طلعت طُبع على كلِّ قلبٍ بما فيه، وكُفِيَ الناسُ العملَ". [*22]- حسان بن فائد (¬2): تفرَّد عنه أبو إسحاق السبيعي. م (¬3). ¬

_ (¬1) رقم (1671). (¬2) له ترجمة في "تاريخ البخاري": (3/ 30)، و"الجرح والتعديل": (3/ 233)، و"الثقات": (4/ 163)، و"الإصابة": (2/ 172)، و"تهذيب التهذيب": (2/ 251 - 252). وقال: "خ. حسان بن فائد العبسي الكوفي، عن عمر بن الخطاب. روى عنه أبو إسحاق السبيعي. قال أبو حاتم: شيخ، وقال البخاري: يُعد في الكوفيين. وأخرج في تفسير النساء [6/ 45]: قال عمر: الجبت السحر ... وذكره ابن حبان في ثقات التابعين". (¬3) "المنفردات والوحدان" (ص 137).

23 - (خ م سي) حُصَين بن محمَّد السالمي الأنصاري: تفرَّد عنه الزهري. (م، "فتح المغيث") (¬1). البخاري (2/ 1/ 8): "حصين بن محمَّد السالمي الأنصاري المدني. عن عتبان. روى عنه الزهري. ومثله في "الثقات" (¬2)، وكذا في كتاب ابن أبي حاتم (¬3)، وزاد: "مرسل. سمعت أبي يقول ذلك". وفي "التهذيب" (2/ 390): "خ م س. حصين بن محمَّد ... ، سأله الزهري ... قال ابن أبي حاتم عن أبيه: روى عن عِتْبان، وعنه الزهري. مرسل ... ، وقال الحاكم: قلت للدارقطني: حصين بن محمَّد السالمي .. ؟ قال: ثقة، إنما حكى عنه الزهري حديثين" (¬4). أقول: هو مذكور في "الصحيحين" (¬5) في آخر حديث الزهري عن محمود بن الربيع عن عتبان: قال ابن شهاب: ثم سألت الحصين بن محمَّد الأنصاري، وهو أحد بني سالم، وهو من سَرَاتهم، عن حديث محمود بن الربيع، فصدقه بذلك. أقول: والحديث ثابت برواية محمود، ووافقه أنس بن مالك، وابنه ¬

_ (¬1) "المنفردات والوحدان" (ص 121)، و"فتح المغيث": (2/ 47). (¬2) (4/ 159). (¬3) (3/ 196). (¬4) أقول: ذكره الحافظ في "الإصابة": (2/ 212 - 213). وقال الذهبي في "الميزان": (1/ 77): "يحتج به في الصحيحين، ومع هذا فلا يكاد يعرف". (¬5) البخاري (425، 4010)، ومسلم (33).

أبو بكر بن أنس، ومع ذلك فقول الزهري: "وهو من سَرَاتهم" يُعدّ توثيقًا، لأنه لم يكن ليسرو في الأنصار في ذلك العصر إلا الفاضل في دينه، ومع ذلك فإنما ذُكِر في "الصحيحين" تَبَعًا. 24 - (ق) الحكم بن عبد الله البَلَوي: لم يُذْكَر له راوٍ إلا يزيد بن أبي حبيب. لم أجده في "تاريخ البخاري". وقال ابن أبي حاتم (¬1): "الحكم بن عبد الله البلوي. روى عنه (بياض). ذكره أبي. عن إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين قال: الحكم بن عبد الله البلوي ثقة". وفي "التهذيب" (2/ 431): "الحكم بن عبد الله البلوي المصري. روى عن علي بن رباح. وعنه يزيد بن أبي حبيب. قال إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين: ثقة. وهكذا سماه أبو عاصم عن حيوة عن يزيد بن أبي حبيب. وقال الليث وعمرو بن الحارث والمفضل بن فضالة وغيرهم: عن يزيد بن أبي حبيب عن عبد الله بن الحكم. وهو الصحيح". أقول: حديثه في "سنن ابن ماجه" (¬2) من رواية يزيد بن أبي حبيب عن الحكم عن علي بن رباح عن عقبة بن عامر الجهني: أنه قدم على عمر بن الخطاب من مصر، فقال: منذ كم لم تنزع خفيك؟ قال: من الجمعة إلى الجمعة. قال: أصبت السنة. ¬

_ (¬1) (3/ 122). (¬2) رقم (558).

وقال البيهقي في "السنن" (1/ 380) في باب ما ورد في ترك التوقيت - يعني في مسح الخفين -: فأما عمر بن الخطاب فالرواية عنه في ذلك مشهورة. ثم أخرج بسند رجاله ثقات عن موسى بن علي بن رباح عن أبيه عن عقبة بن عامر الجهني قال: خرجت من الشام إلى المدينة يوم الجمعة، فدخلت على عمر بن الخطاب فقال: متى أولجت خفيك في رجليك؟ قلت: يوم الجمعة. قال: فهل نزعتهما؟ قلت: لا. قال: أصبت السنة. وهذه متابعة قوية للحكم. وقول موسى: "من الشام" لا يخالف قول الحكم: "من مصر"؛ لأن ابتداء خروجه كان من مصر، ولكن أدركته الجمعة بالشام، فنزع خفيه لغسل الجمعة، ثم لبسهما، ثم خرج إلى المدينة. فقوله في رواية موسى: "من الشام" بيان لابتداء اللبس الذي استمر عليه إلى المدينة. وقد جمع بعض الأكابر بين هذا وبين ما ورد من توقيت يوم وليلة للمقيم، وثلاث للمسافر، بحَمْل توقيت ما جاء في حديث عمر على من اتصل سفره، كعقبة، والثلاث لمن ليس كذلك. والله أعلم. 25 - (س) حُميد بن طَرخان: تفرَّد عنه حمَّاد بن زيد. (م) (¬1). ¬

_ (¬1) "المنفردات والوحدان" (ص 248).

البخاري (2/ 1/ 351): "حميد بن طرخان. سمع عبد الله بن شقيق قولَه (¬1). روى عنه حماد بن زيد". وقال ابن أبي حاتم (¬2): "حميد بن طرخان. روى عن عبد الله بن شقيق. روى عنه حماد بن زيد. سمعت أبي يقول ذلك ... ذكره أبي عن إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين أنه قال: حميد بن طرخان ثقة". وفي "الثقات" (¬3): "حميد بن طرخان. يروي عن عبد الله بن شقيق. روى عنه حماد بن زيد". وفي "التهذيب" (3/ 43): "حميد بن طرخان، وليس بالطويل. روى عن عبد الله بن شقيق عن عائشة في الصلاة متربّعًا (¬4). وعنه حماد بن زيد وحفص بن غياث. قال ابن معين: ثقة. روى له النسائي ... ولا أحسبه إلا خطأ. قلت: ... ". وحاصل كلامه أن راوي هذا الحديث هو الطويل، وأما صاحب ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، والذي في "التاريخ": "فعله". (¬2) "الجرح والتعديل": (3/ 224). (¬3) (6/ 190). (¬4) أخرجه النسائي في "المجتبى" (1661)، وفي "الكبرى" (1367)، وابن خزيمة (1238)، وابن حبان (2512)، والحاكم: (1/ 275)، وعنه البيهقي: (5/ 305). قال النسائي: "لا أعلم أحدا روى هذا الحديث غير أبي داود وهو ثقة, ولا أحسب هذا الحديث إلا خطأ والله تعالى أعلم". ولفظه في "الكبرى" رواية ابن الأحمر: "لا أعلم أحدًا روى هذا الحديث غير أبي داود عن حفص". قال مغلطاي: وزيادة "ولا أحسبه إلا خطأ" وقع في بعض نسخ المجتبى، وفي بعضها لم يزد على هذا.

الترجمة فإنما له أثر عن ابن شقيق في "مسند مسدد" (¬1)، وآخر في "الحلية" (¬2) من طريق حماد بن زيد عن عبد الله بن طاووس عن أبيه. وكلاهما من رواية حماد بن زيد عنه. 26 - (س) حنظلة بن سويد: لم يُذْكَر له راوٍ إلا الأسود بن مسعود. البخاري (2/ 1/ 36 -): "حنظلة بن سويد عن عبد الله بن عمرو. وكان يُسالِمُ عليًّا ومعاوية. وقال يحيى: حدثنا يزيد بن هارون، عن عوّام، عن أسود، عن حنظلة بن خويلد الغنوي أو العنزي: سمع عبد الله بن عمرو، سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم: "تقتله الفئة الباغية". وقال ابن المثنى: ثنا يزيد بن هارون قال: أخبرنا عوّام قال: حدثني أسود، عن حنظلة بن خويلد: سمع عبد الله بن عمرو. زاد: قال لي النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "أطع أباك". وقال محمَّد: حدثنا غُندَر قال: حدثنا شعبة، سمعت العوام بن حوشب، عن رجل من بني شيبان، عن حنظلة بن سويد". وعلّقتُ عليه ما ملخّصه: حاصل ما تقدم أن يزيد بن هارون قال: عن العوام، عن الأسود، عن حنظلة بن خويلد. وقال شعبة: عن العوام، عن رجل من بني شيبان، عن حنظلة بن سويد ... ¬

_ (¬1) انظر "إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة" (1453). (¬2) (4/ 10).

راجع تمام التعليق (¬1). وراجع (2/ 1/ 40): حنظلة بن خويلد. سمع ¬

_ (¬1) وتمامه تعليق المؤلف: "وخالفه شعبة فقال: عن العوام عن رجل من بني شيبان عن حنظلة بن سويد عن عبد الله بن عمرو، والأسودُ عنزي كما تقدم في ترجمته، وكذلك ذكره ابن أبي حاتم وغيره. والشيباني والعنزي لا يجتمعان إلا تأويلا كأن يكون شيبانيًّا ونزل في عنزة فنُسب إليهم، ولعل هذا أقرب من التعدد بأن يقال: إن للعوام شيخين، وهذان الاحتمالان أرجح من الحكم بالغلط، وأما حنظلة فيمكن أن يكون خويلد أباه وسويد جده أو عكس ذلك، فنسب إلى أبيه تارة وإلى جده أخرى، وهذا أقرب من التعدد، والتعدد أقرب من الغلط والله أعلم. ولم يذكر ابنُ أبي حاتم حنظلة بن خويلد الراوى عن عبد الله بن عمرو، وإنما ذكر حنظلة بن خويلد الآتي بعد أربع تراجم ولم يذكر فيها ما يدل على أنهما عنده واحد، اللهم إلا أنه ذكر في ترجمة الأسود بن مسعود أنه روى عن حنظلة بن خويلد فقد يقال: إن هذا مع اقتصاره على حنظلة بن خويلد واحد يشعر بأن حنظلة بن خويلد الذي ذكره هو شيخ الأسود عنده، والذي يظهر لي أن هذا كان محتملا فقط عند ابن أبي حاتم ولو ترجح عنده لنبّه على ذلك في الترجمة التي ذكرها، كأن يذكر روايته عن عبد الله بن عمرو أو رواية الأسود عنه، على أن عادته في مثل هذا أن يصرح فيقول: "جعله البخاري اسمين فسمعت أبي يقول: هما واحد" أو نحو ذلك. بقي أنه روى عن يعقوب بن إسحاق عن عثمان بن سعيد قال: "سألت يحيى بن معين عن حنظلة بن خويلد فقال ثقة". وفي التهذيب (3/ 59): "حنظلة بن خويلد العنزي روى عن عبد الله بن عمرو وعنه الأسود بن مسعود ... قال عثمان الدارمي عن ابن معين: ثقة، وسماه شعبة في روايته حنظلة بن سويد". وإذ لم يتبين أن حنظلة بن خويلد الذي ذكره ابنُ أبي حاتم ويأتي بعد أربع تراجم هو هذا الراوي عن عبد الله بن عمرو وعنه الأسود بن مسعود فلا يُدرى أيهما وثقه ابن معين، نعم قال ابن أبي حاتم في ترجمة الأسود: "أنا يعقوب بن إسحاق فيما كتب إليّ، ثنا عثمان بن سعيد قال: سألت يحيى بن معين فقلت: الأسود بن مسعود؟ فقال ثقة". فهذا قد يُشعر بأن حنظلة بن خويلد الذي ذكر عثمان أنه سأل ابن معين فوثقه هو شيخ =

ابن مسعود ... والتعليق عليه (¬1). ¬

_ = الأسود والله اعلم. وعلى هذا فذِكر ابنِ أبي حاتم كلمة ابن معين في ترجمة ابن خويلد الذي لم يتبين له أنه شيخ الأسود فيه ما فيه، أما ثقات ابن حبان ففي واد آخر قال: "حنظلة بن سويد روى عن عبد الله بن عمرو روى عنه العوام بن حوشب وابنه علي بن حنظلة" والمعروف أن العوام إنما روى عن حنظلة بواسطة الأسود بن مسعود أو رجل من بني شيبان كما ذكره المؤلف، وكذلك أخرج النسائي الحديث في "خصائص علي" والمعروف أيضًا أن والد علي بن حنظلة رجل آخر سيأتي بعد ترجمة، وأفرده ابن أبي حاتم وابن حبان أيضًا، فإنه قال عقب هذه الترجمة: "حنظلة الشيباني يروى عن عمرو روى عنه ابنه علي" وليس عنده ولا عند ابن أبي حاتم من يقال له علي بن حنظلة إلا واحد، ثم قال: "حنظلة بن خويلد الغنوي يروى عن عبد الله بن عمرو روى عنه الأسود بن شيبان" كذا قال! ولم يذكر هو في هذه الطبقة ولا التي تليها من يقال له: الأسود بن شيبان، وعندهم الأسود بن شيبان أبو شيبان السدوسي، ولكن ابن حبان إنما ذكره في الطبقة الرابعة وهي طبقة من لم يسمع من أحد من التابعين، لكن الظاهر أنّ ذكره فيها سهو، فإنه ذكر أنه يروى عن خالد بن سمير وذكر ترجمة خالد بن سمير في التابعين وقال: "يروى عن ابن عمرو وأنس بن مالك، روى عنه الأسود بن شيبان". إلا أنه على كل حال لم يذكر غيره رواية الأسود بن شيبان عن حنظلة، والله أعلم. ثم قال: "حنظلة بن خويلد يروي عن ابن مسعود روى عنه ابن أبي الهذيل" وهذا هو الآتى بعد أربع تراجم، وهو الذي ذكره ابنُ أبي حاتم". (¬1) علق المؤلف على الترجمة بقوله: "أفرد المؤلف وابن أبي حاتم وابن حبان لسويد بن حنظلة ترجمة في بابه، أما ابن حبان فاقتصر على قوله: "يروي عن ابن مسعود روى عنه أبو سنان"، وأما المؤلف فذكر نحو هذا ثم قال: "قال سفيان: عبد الله بن حنظلة ويقال: حنظلة بن سويد: وسويد بن حنظلة". وأما ابن أبي حاتم فقال: "ويقال: عبد الله بن حنظلة، ويقال: حنظلة بن سويد، وهو أصح سمعت أبي يقول ذلك"، ثم روى عن ابن مهدي: "أخبرت سفيان عن شعبة بأحاديث عن أبي سنان عن سويد بن =

وفي "التهذيب" (3/ 59): "حنظلة بن خُوَيلد العَنَزي. روى عن عبد الله بن عمرو. وعنه الأسود بن مسعود، على اختلافٍ فيه عليه. قال عثمان الدارمي عن ابن معين: ثقة (¬1). وسماه شعبة في روايته: حنظلة بن سويد". أقول: ولهم حنظلة بن خويلد. آخر (¬2). وحديث يزيد عن العوّام عن أسود عن حنظلة بن خويلد في "المسند" (¬3) (2/ 164). 27 - (ق) حيّ أبو حَيّة الكلبي (¬4): عن ابن عمر وسعد. وعنه ابنه أبو جناب. قال أبو زرعة: محله الصدق (¬5). وقال ابن المديني: كان يحيى بن ¬

_ = حنظلة، فغضب سفيان وقال: مَن سويد بن حنظلة؟ " قال ابن أبي حاتم: "فذكرت لأبي ذلك فقال: هو كما قال سفيان" كذا قال! وتمام كلام سفيان كما ذكره المؤلف "هو عبد الله بن حنظلة" وقد رجح أبو حاتم أنه حنظلة بن سويد، فكأنه يوافق سفيان في تخطئة مَن قال: "سويد بن حنظلة" فحسب، وإن خالفه في تعيين الصواب، والله أعلم". (¬1) "تاريخ الدارمي" (226). (¬2) وهو: حنظلة بن خويلد الغنوي، قال ابن حبان في "الثقات": (4/ 166): يروي عن عبد الله بن عمر روى عنه الأسود بن شيبان. (¬3) رقم (6538) وأعاده برقم (6929). (¬4) ترجمته في "التاريخ الكبير": (9/ 24)، و"الجرح والتعديل": (9/ 360)، و"الثقات": (5/ 591). و"تهذيب التهذيب": (3/ 72). (¬5) ذكره في "الجرح والتعديل": (9/ 139) في ترجمة أبنه.

سعيد يتكلم في أبي جناب وفي أبيه (¬1). أقول: له عن ابن عمر في حنين الجذع (¬2). وشواهده معروفة. وله عنه حديث: "لا تبيعوا الدينار بالدينارين" الحديث، وفي آخره: فقام إليه رجل، فقال: يا رسول الله! أرأيت الفرس بالأفراس، والنجيبة بالإبل؟ قال: "لا بأس، إذا كان يدًا بيد" (¬3). أخرجهما الإمام أحمد في "المسند" (2/ 109 -) (¬4). 28 - (ج د س ق) خالد بن سُمَير: لم يذكر له راوٍ إلا الأسود بن شيبان. البخاري (2/ 1/ 141): "خالد بن سمير السدوسي البصري. سمع أنسًا، وبشير بن نَهيك، وعن ابن عمر. سمع منه الأسود بن شيبان". وقال ابن أبي حاتم (¬5): "روى عن ابن عمر، وأنس، وعبد الله بن رباح ¬

_ (¬1) ذكره في "التهذيب": (11/ 201). (¬2) أخرجه أحمد (5886). وأخرجه بنحوه من طريق نافع عن ابن عمر: البخاريُّ (3583)، وأبو داود (1081)، والترمذي (505)، وغيرهم. (¬3) أخرجه أحمد (5885)، والطبراني في الكبير (13906 - القطعة المكملة). قال الهيثمي في "المجمع": (4/ 105): وفيه أبو جناب الكلبي؛ وهو مدلس ثقة. وللحديث شواهد انظرها في حاشية المسند: (10/ 125 - 126). (¬4) سبقت الإحالة إلى أرقامهما. (¬5) "الجرح والتعديل": (3/ 335).

الأنصاري، وبشير بن نَهيك. روى عنه الأسود بن شيبان. سمعت أبي يقول ذلك". وفي "التهذيب" (3/ 97): "روى عن ابن عمر، وأنس، وعبد الله بن رباح الأنصاري، وبشير بن نَهيك، ومُضارب بن حَرْب. وعنه الأسود بن شيبان. قال النسائي: ثقة ... وقال العجلي: بصري ثقة. وذكر له ابن جرير الطبري وابن عبد البر والبيهقي حديثًا أخطأ في لفطةٍ منه، وهي قوله في الحديث: "كنا في جيش الأمراء" - يعني مؤتة -، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يحضرها" (¬1). 29 - (مد) الخَصِيب بن زيد التميمي (¬2): عن الحسن البصري. وعنه هُشيم. ¬

_ (¬1) الحديث أخرجه أبو داود (438)، والنسائي في "الكبرى" (8192)، وأحمد (22551)، وابن حبان (7048) وغيرهم. قال ابن عبد البر في "التمهيد": (5/ 206): "في هذا الحديث أنه كان في جيش الأمراء، وهذا وهم عند الجميع لأن جيش الأمراء كان في غزاة مؤتة، وكانت سرية لم يشهدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... وقد روى هذا الحديث ثابت البناني وسليمان التيمي عن عبد الله بن رباح على غير ما رواه خالد بن سمير، وما قالوه فهو عند العلماء الصواب دون ما قاله خالد بن سمير". (¬2) ترجمته في "التاريخ الكبير": (3/ 221)، و"الجرح والتعديل": (3/ 396) ووقع فيه: "خصيب بن بدر"، و"الثقات": (6/ 276)، و"التهذيب": (3/ 142). ووقع في الأصل "التيمي" متابعة لما وقع في التهذيب وهو تصحيف.

وثقه أحمد (¬1). 30 - (د) داود بن خالد بن دينار المدني (¬2): عن ربيعة بن الهُدير وغيره. وعنه ابن أبي فُديك، ومحمد بن معن الغفاري، والواقدي. له حديث في "مسند أحمد" (¬3) (1/ 161) من طريق محمَّد بن معن عنه: أنه مرّ هو ورجل يقال له: أبو يوسف، من بني تيم، على ربيعة الرأي، فقال أبو يوسف لربيعة: إنا لنجِدُ عند غيرك من الحديث ما لا نجده عندك. فقال: أما إن عندي حديثًا كثيرًا، ولكن ربيعة بن الهُدير قال - وكان يلزم طلحة بن عبيد الله -: إنه لم يسمع طلحة يحدّث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حديثًا قط غير حديث واحد ... : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى إذا أشرفنا على حرّة واقم، قال: فدنونا منها فإذا قبور بمَحْنِيَة. قلت: يا رسول الله! قبور إخواننا هذه؟ قال: "قبور أصحابنا". ثم خرجنا حتى إذا جئنا قبور الشهداء قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "هذه قبور إخواننا". ¬

_ (¬1) ذكره ابن أبي حاتم عن عبد الله بن أحمد. (¬2) ترجمته في "طبقات ابن سعد": (5/ 413)، و"التاريخ الكبير": (3/ 239)، و"الجرح والتعديل": (3/ 409)، و"الثقات": (6/ 285)، و"الكامل": (3/ 94)، و"تهذيب الكمال": (2/ 412)، و"الميزان": (2/ 197)، و"تهذيب التهذيب": (3/ 182). (¬3) رقم (1387). وأخرجه أبو داود (2043)، وابن عدي: (3/ 94)، والبزار (955) وقال: هذا الكلام لا نعلمه يُروى إلا عن طلحة بن عبيد الله بهذا الإسناد.

وذكر له ابن عدي (¬1) حديثَه عن ابن المنكدر عن جابر: "كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا نزل عليه الوحي وهو على ناقته تذرف عينها، وتزيف بأذنيها". وقال العجلي: ثقة. قال ابن المديني: لا يحفظ عنه إلا هذا الحديث الواحد عن ربيعة - يعني حديث طلحة. وقال يعقوب بن شيبة: مجهول، لا نعرفه، ولعله ثقة. 31 - راشد بن يحيى (¬2): عن أبي عبد الرحمن الحبلي. وعنه ابن لهيعة، وعبد الرحمن بن زياد الإفريقي. قال العجلي: مصري تابعي ثقة (¬3). 32 - (ت س) رافع بن إسحاق: تفرَّد عنه إسحاق بن عبد الله ... (م) (¬4). ¬

_ (¬1) في "الكامل في الضعفاء": (3/ 94). (¬2) وسماه بعضهم: راشد بن عبد الله، أبو يحيى المعافري المصري. ترجمته في "التاريخ الكبير": (3/ 295)، و"الجرح والتعديل": (3/ 485)، و"الثقات" لابن حبان: (6/ 302)، و"معرفة الثقات" للعجلي: (1/ 347)، و"تعجيل المنفعة": (1/ 518). (¬3) وقال ابن حبان: "يعتبر بحديثه من غير حديث الإفريقي". وقال الحسيني في "الإكمال": "مجهول". (¬4) "المنفردات والوحدان" (ص 187).

البخاري (2/ 1/ 278 -): "رافع بن إسحاق مولى أبي أيوب الأنصاري. قاله حماد بن سلمة، عن إسحاق بن عبد الله. وقال مالك عن إسحاق: هو مولى الشفاء. وكان يقال: مولى أبي طلحة الأنصاري. سمع أبا أيوب الأنصاري، وأبا سعيد الخدري. يُعدّ في أهل المدينة". وقال ابن أبي حاتم (¬1): " ... روى عن أبي أيوب الأنصاري وأبي سعيد الخدري. روى عنه إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة الأنصاري. سمعتُ أبي يقول ذلك". ونحوه في "الثقات" (¬2). وفي "التهذيب" (3/ 228): " ... قال النسائي: ثقة ... وقال العجلي: مدنيّ تابعيّ ثقة". أقول: أما حديثه عن أبي أيوب، ففي "الموطأ" (¬3) وغيره: أن أبا أيوب قال وهو بمصر: والله ما أدري كيف أصنع بهذه الكرابيس، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا ذهب أحدكم لغائط أو لبول فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها بفرجه". والمرفوع من هذا في "الصحيحين" (¬4) وغيرهما من حديث عطاء بن يزيد الليثي عن أبي أيوب. ¬

_ (¬1) (3/ 481). (¬2) (4/ 236). (¬3) رقم (519). (¬4) البخاري (144)، ومسلم (264).

وحديثه عن أبي سعيد في "الموطأ" (¬1) وغيره: قال أبو سعيد: أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه تماثيل، أو تصاوير" يشك إسحاق. والحديث في "الصحيحين" (¬2) وغيرهما عن جماعة من الصحابة. 33 - (ت س) الربيع بن البراء بن عازب: لم يذكر له راوٍ إلا أبو إسحاق. البخاري (2/ 1/ 247): "ربيع بن البراء بن عازب الأنصاري. كوفي، سمع أباه. سمع منه أبو إسحاق". ونحوه في كتاب ابن أبي حاتم (¬3)، وزاد: السبيعي. ونحوه في "الثقات" (¬4). وفي "التهذيب" (¬5): "روى عن أبيه. روى عنه أبو إسحاق السبيعي ... وقال العجلي: كوفي ثقة". أقول: حديثه كما في "سنن الترمذي" (¬6) ... عن أبي إسحاق قال: ¬

_ (¬1) رقم (2707). (¬2) أخرجه البخاري (4002)، ومسلم (2106) من حديث أبي طلحة الأنصاري. وأخرجه البخاري (3224، 5954)، ومسلم (2107) من حديث عائشة، وأخرجه البخاري (3225) من حديث ابن عباس، ومسلم (2112) من حديث أبي هريرة. (¬3) (3/ 455). (¬4) (4/ 226). (¬5) (3/ 240). (¬6) رقم (3440).

سمعت الربيع بن البراء بن عازب يحدث عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا قدم من سفر قال: "آئبون تائبون عابدون، لربنا حامدون". قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح ... وفي الباب عن ابن عمر وأنس وجابر بن عبد الله. أقول: هو في "الصحيحين" (¬1) من حديث ابن عمر بزيادة قبل هذه الكلمات وبعدها. وفيهما (¬2) من حديث أنس في قصة الرجوع من خيبر: " ... حتى إذا كنا بظهر المدينة قال: آئبون تائبون عابدون، لربنا حامدون. فلم يزل يقول ذلك حتى قدم المدينة". فالحديث ثابت من غير طريق الربيع عن أبيه كما ترى. 34 - (ص ق) ربيعة بن ناجد: لم يُذكر له راوٍ إلا أبو صادق. البخاري (2/ 1/ 257): "ربيعة بن ناجد ... قال مالك بن إسماعيل: حدثنا الحكم بن عبد الملك عن الحارث بن حصيرة عن أبي صادق عن ربيعة بن ناجد عن علي: "دعاني النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا علي! إن لك من عيسى مثلاً، إن لك من عيسى مثلاً، أبغضته اليهود حتى بهتوا أمه، وأحبته النصارى حتى أنزلوه بالمنزل الذي ليس به". ¬

_ (¬1) البخاري (1797)، ومسلم (1342). (¬2) البخاري (3085)، ومسلم (1345).

وقال ابن أبي حاتم (¬1): "روى عن علي وعبادة بن الصامت. روى عنه أبو صادق. سمعت أبي يقول ذلك". وفي "الثقات" (¬2): "يروي عن علي. روى عنه أبو صادق". وفي "التهذيب" (3/ 263): "روى عن علي، وابن مسعود، وعبادة بن الصامت رضي الله عنهم. وعنه: أبو صادق الأزدي ... قال العجلي: كوفي، تابعي، ثقة. وقرأت بخط الذهبي: لا يكاد يعرف". أقول: وجدت له في مسند عليّ من "مسند أحمد" حديثين: الأول: (1/ 159) (¬3) قال أحمد: ثنا عفان، ثنا أبو عوانة، عن عثمان بن المغيرة، عن أبي صادق، عن ربيعة بن ناجد، عن علي رضي الله عنه قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ... بني عبد المطلب ... فأيكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي؟ قال: فلم يقم إليه أحد. قال: فقمت ... حتى كان في الثالثة ضرب بيده على يدي". وأخرجه النسائي في "خصائص علي" (ص 13) (¬4): أخبرنا الفضل بن سهل قال: حدثني ابن عفان (¬5) (كذا) بن مسلم، ثنا أبو عوانة ... عن ربيعة بن ¬

_ (¬1) "الجرح والتعديل": (3/ 473). (¬2) (4/ 229). (¬3) رقم (1371). (¬4) وهو ضمن السنن الكبرى (8397). (¬5) في "الكبرى": "عفان بن مسلم" على الصواب. وكذا ما أشار إليه المؤلف بعده بـ (كذا) صوابه "ناجد".

ماجد (كذا) أن رجلاً قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين! لم ورثت دون أعمامك؟ قال: جمع رسول الله ... أيكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي ووارثي ... ؟ فبذلك ورثت ابن عمي دون عمي". والحديث الثاني الذي ذكره البخاري في "التاريخ" - كما مر -، وهو في "المسند" (¬1) (1/ 160)، وهو من زيادات عبد الله بن أحمد، رواه من طريقين إلى الحكم بن عبد الملك، عن الحارث بن حصيرة، عن أبي صادق، عن ربيعة بن ناجد، عن علي رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "فيك مَثَل من عيسى، أبغضَتْه اليهود حتى بهتوا أمَّه، وأحبته النصارى حتى أنزلوه بالمنزلة التي ليس به". ثم قال: يهلك فيَّ رجلان: محب مفرط يقرظني بما ليس في، ومبغض يحمله شنآني على أن يبهتني. زاد في إحدى الروايتين: "إلا أني لست بنبي ولا يوحى إليّ، ولكني أعمل بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ما استطعت، فما أمرتكم من طاعة الله فحقّ عليكم طاعتي فيما أحببتم وكرهتم". وقد أخرج الحاكم في "المستدرك" هذا الحديث (3/ 123) وزاد فيه: "وما أمرتكم بمعصية - أنا وغيري - فلا طاعة لأحدٍ في معصية الله عزَّ وجلَّ، إنما الطاعة في المعروف". قال الحاكم: صحيح الإسناد. تعقبه الذهبي فقال: الحكم وهّاه ابنُ معين. ¬

_ (¬1) رقم (1367). وأخرجه ابن أبي عاصم في "السنة" (1004)، والبزار (758)، وأبو يعلى (534).

وفي ترجمة صبّاح بن يحيى من "التاريخ الكبير" (¬1) للبخاري أنه روى عن الحارث بن حصيرة، عن أبي صادق، عن ربيعة بن ناجد: سمع عليًّا: سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "من دعا إلى نفسه إمارة المسلمين من سوى قريش فهو كذاب". ولم أجد لربيعة بن ناجد في مسند عبد الله بن مسعود من "مسند أحمد" شيئًا. ووجدت له في "المستدرك" (4/ 496 و598) ذكره في أثناء حديث سلمة بن كُهيل، عن أبي الزعراء، عن ابن مسعود: حديث طويل في الدجال والحشر. وعسى أن يذكر في أبي الزعراء. ووجدت له عن عبادة بن الصامت حديثًا من زيادة عبد الله بن أحمد بن حنبل في "مسند أبيه" (¬2) (5/ 330). قال عبد الله: حدثني عبد الله بن سالم الكوفي المفلوج وكان ثقة، ثنا عبيدة بن الأسود عن القاسم بن الوليد عن أبي صادق عن ربيعة بن ناجد عن عبادة بن الصامت: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يأخذ الوبرة من جنب البعير من المغنم، فيقول: "ما لي فيه إلا مثل ما لأحدكم ... ". وأخرج ابن ماجه قطعةً منه في إقامة الحدود (¬3). ¬

_ (¬1) (4/ 314). (¬2) رقم (667). وأخرجه أبو يعلى (463) من طريق عبد الله بن نمير، عن أبان بن عبد الله البجلي، بهذا الإسناد. وإسناده ضعيف، عمرو بن غزي مجهول، وعمه علباء - وهو ابن أبي علباء الكوفي - لم يوثقه غير ابن حبان، ولم يرو عنه غير ابن أخيه. (¬3) برقم (2850).

35 - (4) رجاء بن أبي رجاء: لم يُذكر له راوٍ إلا عبد الله بن شقيق. البخاري (2/ 1/ 285 -): "رجاء بن أبي رجاء الباهلي عن محجن. نسبه شعبة. عن عبد الله بن شقيق". وقال ابن أبي حاتم (¬1): "روى عن محجن بن الأدرع. روى عنه الله بن شقيق. سمعت أبي يقول ذلك". ونحوه في "الثقات" (¬2). وفي "التهذيب" (3/ 226): "روى عن محجن بن الأدرع. وعنه عبد الله بن شقيق. ذكره ابن حبان في الثقات. قلت: وقال العجلي: بصري تابعي ثقة". أقول: حديثه في "مسند أحمد" (¬3) (5/ 32): "قال لي محجن: إن ¬

_ (¬1) "الجرح والتعديل": (3/ 501). (¬2) (4/ 237). (¬3) رقم (18975). وأخرجه مختصرًا بن قانع في "معجم الصحابة": (3/ 66) من طريق حجاج ابن المنهال، عن حماد بن سلمة، بهذا الإسناد. وأخرجه الحاكم: (4/ 543) من طريق موسى بن إسماعيل، عن حماد بن سلمة، عن خالد الحذاء، عن عبد الله بن شقيق، به، وقال: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه! والصحيح أنه ليس على شرطه. وأورده الهيثمي في "المجمع": (3/ 308)، وقال: "رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح". وله شاهد من حديث جابر عند أحمد (14112)، وحديث أبي هريرة عنده أيضًا (7234).

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخذ بيدي، فانطلق يمشي حتى صعد أحدًا، فأشرف على المدينة ... " فذكر الحديث. فيه أشياء معروفة في أحاديث أخرى ثابتة. 36 - (د ت) ريحان بن يزيد (¬1): عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا: "لا تحلّ الصدقة لغنيّ، ولا لذي مِرّة سويّ" (¬2). وعنه سعد بن إبراهيم، وقال: وكان أعرابيًّا صدوقًا. وقال ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم: شيخ مجهول. أقول: وله متابع وشواهد (¬3). ¬

_ (¬1) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (3/ 329)، و"المنفردات" (ص 125)، و"الجرح والتعديل": (3/ 317)، و"الثقات": (4/ 241)، و"تهذيب التهذيب": (3/ 302). (¬2) كتب المؤلف في رأس الصفحة: ريحان "مسند" (2/-192). والحديث أخرجه الطيالسي (2271)، وأحمد (6530)، والترمذي (652)، والدارمي: (1/ 386)، والدارقطني: (3/ 119)، والحاكم: (1/ 407) وغيرهم. قال الترمذي: "حديث عبد الله بن عمرو حديث حسن، وقد روى شعبةُ عن سعد بن إبراهيم هذا الحديث بهذا الإسناد، ولم يرفعه". (¬3) أما المتابعة فمن طريق عطاء بن زهير بن الأصبغ العامري، وقد أخرج حديثه البخاري في "التاريخ الكبير": (4/ 262 - 263)، والبيهقي في "السنن": (7/ 13) من طريق شميط بن عجلان، عنه، عن أبيه، قال: قلت لعبد الله بن عمرو .. الحديث. أما الشواهد فمن حديث أبي هريرة عند أحمد (8908)، ومن حديث أبي سعيد الخدري عند أحمد (11538، 11929) وغيرها.

37 - (عخ د ت س) زهير بن الأقمر: لم يرو عنه إلا عبد الله بن الحارث المكتب. (م) (¬1). خ: () (¬2) زهير بن الأقمر. يعد في الكوفيين. قال عمرو بن مرزوق: أخبرنا شعبة عن عمرو عن عبد الله بن الحارث عن زهير بن الأقمر: خطبنا الحسن بن علي بعد ما قتل علي رضي الله عنه، فقام رجل من أزد شنوءة قال: رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم واضع الحسن في حبوته يقول: "من أحبني فليحبّه". يقال: هو أبو كثير الزُّبيدي. وقال ابن أبي حاتم (¬3): "زهير بن الأقمر كوفي. قال: خطبَنا الحسنُ بن علي. وروى عن ابن عمر. روى عنه عبد الله بن الحارث. سمعت أبي يقول ذلك". وفي "الثقات" (¬4): "كوفي. يروي عن الحسن بن علي. روى عنه عبد الله بن الحارث. وقيل: إنه أبو كثير الزبيدي". وفي "التهذيب" (12/ 310): "أبو كثير الزُّبيدي الكوفي. اسمه ¬

_ (¬1) "المنفردات والوحدان" (ص 215). وكتب المؤلف فوق السطر: مستدرك (3/ 173). يعني أن حديثه في مقتل عليّ رضي الله عنه في هذا الموضع من المستدرك. (¬2) بيّض المؤلف لرقم الجزء والصفحة، وهي فيه: (4/ 428). (¬3) "الجرح والتعديل": (3/ 586). (¬4) (4/ 264).

زهير بن الأقمر. وقيل: عبد الله بن مالك. وقيل: جمهان. وقيل: إنهما اثنان، ... قال العجلي: كوفي تابعيّ ثقة ... وقال النسائي: زهير بن الأقمر ثقة ... قلت: كأنه سقط من النسخة شيء؛ فإنما قيل: إن اسمه الحارث بن جمهان". أقول: ذكر المزي (¬1) له حديثًا: ... عن أبي كثير الزبيدي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إياكم والظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة. وإياكم والفحش، فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحُّش. وإياكم والشح، فإنه أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالبخل فبخلوا. وأمرهم بالفجور ففجروا". فقام رجل فقال: يا رسول الله! أي الهجرة أفضل؟ فقال: "أن تهجر ما كره ربك". قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الهجرة هجرتان: هجرة الحاضر، وهجرة البادي. فأما البادي فيجيب إذا دعي، ويطيع إذا أمر. وأما الحاضر فهو أعظمهما وأفضلهما أجرًا". ثم ذكر كيف أخرجه أبو داود والنسائي، وقال: وهذا جميع ما له عندهما. وله حديث في ترجمة سليمان بن قَرْم من "الميزان" (¬2) في لَعْن الحكم ومن يخرج من صلبه. وفي السند إليه نظر. ¬

_ (¬1) في "تهذيب الكمال": (8/ 408). (¬2) (2/ 410).

38 - (ت ق) زياد بن ميناء (¬1): لم يرو عنه إلا جعفر بن عبد الله بن الحكم./ م. أقول: روى عن أبي سعد - ويقال: أبي سعيد - بن أبي فضالة الأنصاري وكان من الصحابة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة ليوم لا ريب فيه، نادى منادٍ: من كان أشرك في عملٍ عمله لله، فليطلب ثوابه من عند غير الله، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك". وفي ترجمة أبي سعد من "التهذيب" (¬2) عن ابن المديني: زياد بن ميناء الذي روى عن أبي سعيد بن أبي فَضالة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "إن الله تعالى أغنى الشركاء عن الشرك" فقال: إسناد صالح يقبله القلب، ورب إسنادٍ ينكره القلب. وزياد بن ميناء مجهول لا أعرفه. وفي ترجمة زياد من "التهذيب" (¬3): أنه روى عنه أيضًا الحارث بن فُضيل. أقول: كأنّه وجه ضعيف، أو حمل على أن الحارث إنما سمعه من جعفر بن عبد الله، فإنه معروف بالرواية عنه. والحديث له شواهد. ¬

_ (¬1) "التاريخ الكبير": (3/ 367)، و"المنفردات والوحدان" (ص 215)، و"الجرح والتعديل": (3/ 546)، و"الثقات": (4/ 258)، و"تهذيب التهذيب": (3/ 387). (¬2) (3/ 387). (¬3) (12/ 105 - 106).

39 - (خ ت كن ق) زيد بن رَباح: تفرد عنه مالك (م، فتح المغيث (¬1)). البخاري (2/ 1/ 360): "زيد بن رباح مولى الأدرم بن غالب، من بني فهر. مدني. عن سلمان الأغر. روى عنه مالك. قال ابن شيبة: قتل سنة إحدى وثلاثين". وقال ابن أبي حاتم (¬2): " ... سئل أبي عنه فقال: ما أرى بحديثه بأسًا (¬3) ". وفي "التهذيب" (3/ 412): "روى عن أبي عبد الله الأغر. وعنه مالك مقرونًا بعبيد الله بن أبي عبد الله الأغر في غالب المواضع. قال أبو حاتم: ما أرى بحديثه بأسًا ... وقال ابن البرقي والدارقطني: (ثقة). وقال ابن عبد البر: ثقة مأمون". 40 - زيد بن عبد (¬4): ¬

_ (¬1) "المنفردات والوحدان" (ص 231)، و"فتح المغيث": (2/ 50). (¬2) "الجرح والتعديل": (3/ 563). (¬3) الأصل "بأس" سهو. (¬4) لم أجد له ترجمة مستقلة، لكن ذكره العجلي في "الثقات": (2/ 162 هامش2) في نسختي (س، ث) منه في ترجمة أخيه عمارة بن عبد السلولي، فقال بعد أن ذكر ترجمته "عمارة بن عبد وسليم بن عبد ورزين [كذا وفي التعجيل: وزيد] بن عبد، كوفيون سلوليون ثقات، روى عنهم أبو إسحاق السبيعي". ونقل هذه العبارة الحافظ في "تعجيل المنفعة": (1/ 608)، والحسيني في "التذكرة". وستأتي ترجمة أخيه سليم بن عبد رقم (* 49).

وثقه العجلي. "التعجيل" (¬1) في ترجمة سُليم بن عبد. 41 - (ت ص س) زيد بن يُثَيع: تفرد عنه أبو إسحاق السبيعي. (م) (¬2). البخاري (2/ 1/ 373 [408]): "زيد بن يُثَيع الهَمْداني الكوفي. سمع عليًّا. سمع منه أبو إسحاق". ونحوه في "الثقات" (¬3). ووقع في نسختنا من كتاب ابن أبي حاتم (¬4) فيمن اسمه زيد، وأول اسم أبيه نون: زيد بن نفيع الهمداني الكوفي. روى عن علي وأبي ذر وحذيفة. روى عنه أبو إسحاق الهمداني. سمعت أبي يقول ذلك. وفي "التهذيب" (3/ 426): "زيد بن يُثَيع. ويقال: أثيع ... روى عن أبي بكر الصديق وعلي وحذيفة وأبي ذر. وعنه أبو إسحاق السبيعي ... وليس أحد يقول: "أثيل" إلا شعبة وحده ... قال العجلي: كوفي تابعي ثقة". ¬

_ (¬1) (1/ 608). (¬2) "المنفردات والوحدان" (ص 137). (¬3) (4/ 251). (¬4) (3/ 573). وعلق المؤلف هناك: "إنما هذا "زيد بن يثيع" ويقال "زيد بن أثيع" هكذا ذكره البخاري وغيره، وهكذا ضبطوه، وهو مشهور، فحقّه أن يذكر في باب الياء أو في باب الألف".

أقول: أما عن أبي بكر، ففي "مسند الإمام أحمد" (1/ 3) (¬1): حدثنا وكيع قال: قال إسرائيل: قال أبو إسحاق، عن زيد بن يثيع، عن أبي بكر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعثه ببراءة لأهل مكة. وأما عن علي فقال أحمد في "المسند" (1/ 79) (¬2): ثنا سفيان عن أبي إسحاق عن زيد بن أُثيع - رجل من همدان -: سألنا عليًّا رضي الله عنه: بأيّ شيء بُعثت؟ - يعني يوم بعثه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحجة - قال: بُعثت بأربع ... فذكرها بنحو ما في حديث زيد عن أبي بكر. وهذه القصة مروية من عدة طرق، ذكر ابن حجر غالبها في أوائل تفسير براءة من "فتح الباري" (¬3). وفي "المسند" (¬4) أيضًا (1/ 158): ثنا أسود بن عامر: حدثني عبد الحميد ابن أبي جعفر - يعني الفراء -، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن زيد بن يثيع، عن علي رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول الله: من نُؤمِّر بعدك؟ قال: "إن تؤمّروا أبا بكر - رضي الله عنه - أمينًا زاهدًا في الدنيا راغبًا في الآخرة، وإن تؤمِّروا عمر - رضي الله عنه - تجدوه قويًّا أمينًا، لا يخاف في الله لومة لائم، وإن تؤمّروا عليًّا - رضي الله عنه ولا أراكم فاعلين - تجدوه هاديًا مهديًّا، يأخذ بكم الطريق المستقيم". وأخرجه الحاكم في "المستدرك" (3/ 70) بنحوه من طريق فُضيل بن ¬

_ (¬1) رقم (4). (¬2) رقم (594). (¬3) (8/ 83). (¬4) رقم (859).

مرزوق، ثنا أبو إسحاق (¬1). ثم أخرج من طريق العباس بن محمَّد الدوري، ثنا الأسود بن عامر - شاذان -، ثنا شريك بن عبد الله، عن عثمان بن عمير، عن شقيق بن سلمة، عن حُذيفة: "قالوا: يا رسول الله! لو استخلفتَ علينا. قال: إن استخلف عليكم خليفة فتعصوه ينزل بكم العذاب. قالوا: لو استخلفت علينا أبا بكر ... " فذكره بنحوه. ذكر الذهبي (¬2) تضعيف ابن معين لفضيل ثم قال: وقد خرج له مسلم، لكن الحديث منكر. ثم قال في عثمان بن عمير: ضعّفوه. وشَريك شيعيّ ليّن الحديث. أقول: أما عثمان بن عمير فضعيف. وأما شريك فمن الأجلة، وليس تشيعه مجاوزًا الحدّ، إلا أنه كثير الخطأ، ويدلس. وأخرجه الحاكم أيضًا في "المستدرك" (3/ 142) من طريق عبد الرزاق: أنا النعمان بن أبي شيبة، عن سفيان الثوري، عن أبي إسحاق به (¬3). وفي "تاريخ بغداد": (3/ 302) رواية الحديث من طريق محمَّد بن مسعود بن يوسف أبي جعفر النيسابوري نزيل طرسوس، يُعرف بابن العجمي. ¬

_ (¬1) وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرّجاه. وشاهده حديث حذيفة بن اليمان" ثم ساقه كما ذكر المؤلف. (¬2) في "تلخيص المستدرك - المطبوع بهامشه": (3/ 70). (¬3) وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه".

ثم ساقه من طريق الطبراني، ثم قال: قال الطبراني: روى هذا الحديث جماعة عن عبد الرزاق، عن الثوري نفسه، ووهموا، والصواب ما رواه (محمَّد) ابن أبي السري، ومحمد بن مسعود بن العجمي، عن عبد الرزاق، عن النعمان بن أبي شيبة. قال الخطيب: "قلت: لم تختلف رواته عن عبد الرزاق أنه عن زيد بن يُثيع عن حذيفة. ورواه أبو الصلت الهروي، عن ابن نُمير، عن الثوري، عن شريك، عن أبي إسحاق كذلك، ولم يذكر فيه بين الثوري وأبي إسحاق شريكًا غير أبي الصلت عن ابن نمير. ورواه إبراهيم بن هراسة عن الثوري فقال: عن زيد بن يثيع عن علي. وكذلك رواه فُضيل بن مرزوق، عن أبي إسحاق، عن زيد بن يثيع، عن علي، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ورواه يحيى بن يَمان، عن الثوري فقال: عن زيد بن يثيع، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأرسله". وفي "المسند" (¬1) أيضًا (1/ 118) من زيادة عبد الله بن أحمد: ثنا علي بن حكيم الأودي، أنا شريك، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن وهب وعن زيد بن يثيع قالا: نشَدَ عليٌّ الناسَ في الرحبة: مَن سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول يوم غدير خُمّ إلاَّ قام. قال: فقام من قِبَل سعيد ستة، ومن قِبَل زيد ستة، فشهدوا أنهم سمعوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول لعلي رضي الله عنه يوم غدير خم: " أليس الله أولى بالمؤمنين؟ قالوا: ¬

_ (¬1) رقم (950). وأخرجه من هذا الطرق البزار في "مسنده" (786).

بلى. قال: اللهم مَن كنتُ مولاه فعليّ مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه". وأخرج النسائي في "الخصائص" (ص 16) (¬1) الحديث من طريق شعبة عن أبي إسحاق، وفيه بعض المخالفة لحديث شريك، وشريك كثير الغلط. هذا، وسعيد بن وهب وثقه ابنُ معين وابنُ نُمير والعجلي (¬2)، وأخرج له مسلم في "صحيحه" (¬3)، وقد تابعه وزيدًا على هذه القصة جماعةٌ. وفي ترجمة علي رضي الله عنه من "تهذيب المزي" (¬4): وروى هو وأبو هريرة وجابر والبراء بن عازب وزيد بن أرقم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال يوم غدير خُمّ: "من كنت مولاه فعليّ مولاه". قال ابن حجر (¬5): قد جمعه ابن جرير الطبري في مؤلف فيه أضعاف من ذكر، وصححه واعتنى بجمع طرقه أبو العباس بن عقدة، فأخرجه من حديث سبعين صحابيّا أو أكثر. وأما روايته عن حذيفة ففي "المستدرك" (4/ 474): أخبرنا أبو عبد الله الصفار، ثنا محمَّد بن إبراهيم الأصفهاني، ثنا الحسين بن حفص، ¬

_ (¬1) وهو ضمن "السنن الكبرى" (8417). (¬2) انظر "تهذيب التهذيب": (/ 95 - 96). (¬3) في حديث رقم (619). (¬4) (5/ 260). (¬5) في "تهذيب التهذيب": (7/ 339).

عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن زيد بن يُثيع، عن حذيفة رضي الله عنه قال: "كيف بكم إذا سُئِلتُم الحق فأعطيتموه، وإذا سَأَلتم حقَّكم فمُنِعتُموه؟ قالوا: نصبر. قال: دخلتموها ورب الكعبة". ولهذا الأثر - في الجملة - شواهد في أنّ حذيفة كان يكره التعرُّض للفتنة، ويفضّل الصبرَ على حيف الولاة. وأما عن أبي ذر فلم أقف عليه بعد، ولكن في "خصائص علي" للنسائي (ص 14) من طريق يونس بن (أبي) إسحاق، عن أبي إسحاق، عن زيد بن يثيع، عن أُبيّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لينتهين بنو ربيعة أو لأبعثنّ عليهم رجلاً كنفسي، ينفذ فيهم أمري، فيقتل المقاتلة، ويسبي الذرية. فما راعني إلا وكف عمر في حجزتي من خلفي: من يعني؟ قلت: إياك يعني وصاحبك؟ قال: فمن يعني؟ قلت: خاصف النعل. قال: وعليّ يخصف النعل". فيمكن أن يكون الصواب بدل "عن أُبيّ": "عن أبي ذر"، فإن النسخة فيها غلط كثير (¬1). وقد رُوي في خاصف النعل قصة أخرى، أخرجها النسائي في "الخصائص" (ص 29) (¬2) من طريق الأعمش، عن إسماعيل بن رجاء، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري قال: "كنا جلوسًا ننتظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فخرج علينا قد انقطع شسع نعله، فرمى به إلى علي رضي الله عنه، فقال: إن منكم ¬

_ (¬1) وهو كما قال المؤلف رحمه الله، كما في "الخصائص - ضمن السنن الكبرى" (8403) فإنه فيه عن أبي ذر على الصواب. (¬2) "الخصائص - ضمن السنن الكبرى" (8488).

رجلاً يقاتل الناس على تأويل القرآن، كما قاتل على تنزيله. قال أبو بكر: أنا؟ قال: لا. قال عمر: أنا؟ قال: لا، ولكن خاصف النعل". وله قصة ثالثة في "الخصائص" (ص 8) (¬1) من طريق شريك، عن منصور، عن رِبْعيّ، عن علي قال: "جاء النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم أناسٌ من قريش، فقالوا: يا محمَّد! إنا جيرانك، وحلفاؤك، وإن من عبيدنا قد أتوك ليس لهم رغبة في الدين ولا رغبة في الفقه، إنما فروا من ضياعنا وأموالنا، فارددهم إلينا، فقال لأبي بكر: ما تقول؟ فقال: صدقوا إنهم لجيرانك وحلفاؤك. فتغيّر وجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم قال لعمر: ما تقول؟ قال: صدقوا؛ إنهم لحفاؤك وجيرانك. فتغيّر وجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال: يا معشر قريش! والله ليبعثنّ الله عليكم رجلاً منكم امتحن الله قلبه للإيمان، فيضربكم على الدين، أو يضرب بعضكم. قال أبو بكر: أنا هو يا رسول الله؟ قال: لا. قال عمر: أنا هو يا رسول الله؟ قال: لا، ولكن ذلك الذي يخصف النعل، وقد كان أعطى عليًّا نعلًا يخصفها". أقول: أما رواية الأعمش عن إسماعيل بن رجاء، فالأعمش إمام فيه تشيّع لا يضر، ولكنه مدلس. وأما رواية شريك، فشريك أيضًا من الأكابر، وفيه تشيع ليس بالشديد، ولكنه كثير الغلط ومدلس، وفي قصته نكارة: أولًا: لأن المشركين لم يكونوا يعلمون ما الفقه حتى يذكروه. وثانيًا: المتواتر عن عمر الشدّة. ¬

_ (¬1) "الخصائص - ضمن السنن الكبرى" (8362).

وثالثًا: لا يعرف أن قريشًا كانوا جيرانًا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد الهجرة، ولا حلفاء، بلى كان بينه صلى الله عليه وآله وسلم وبينهم بعد الحديبية عهدٌ معروف، كان وقع التراضي فيه على أن يرد إليهم من جاءه منهم، فإن صحت القصة فلا يمكن أن تكون إلا بعد الحديبية، وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم عاهدهم على أن يرد إليهم من يجيئه منهم، ووفىَ لهم. فإن كان استشار أبا بكر وعمر، فأشارا عليه بما فيه وفاء بالعهد، فليس في ذلك ما يكرهه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والله أعلم. فإن قيل: إنما عاهدهم على أن يردّ إليهم من جاءه منهم، وعبيدهم ليسوا منهم. قلت: إن صح هذا، فلم يتنبّه الشيخان لهذا، فبنيا على أن العبيد داخلون فيمن وقعت المعاهدة بردّه. ثم رأيت في "المستدرك" (2/ 125) من طريق ابن إسحاق، عن أبان بن صالح، عن منصور بن المعتمر، عن رِبْعي بن حراش، عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "خرج عبدان إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الحديبية قبل الصلح، فكتب إليه مواليهم، قالوا: يا محمَّد! والله ما خرجوا إليك رغبةً في دينك، وإنما خرجوا هربًا من الرق، فقال ناس: صدقوا يا رسول الله، ردّهم إليهم. فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ما أراكم تنتهون يا معشر قريش حتى يبعث الله عليكم من يضرب رقابكم على هذا، وأبى أن يردّهم، وقال: هم عُتقاء الله" (¬1). ¬

_ (¬1) وأخرجه من هذا الطريق أيضًا أبو داود (2700)، وابن الجارود في "المنتقى" =

قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. أقول: ابن إسحاق مدلس، وفي السند إليه مَن تُكُلِّم فيه. وقوله: "قبل الصلح" منكر مخالف لرواية شريك، فإن صحت القصة، فالصواب - إن شاء الله تعالى - "بعد الصلح"، كما تقدم. 42 - (س) سحيم، مولى بني زهرة: تفرد عنه الزهري (م) (¬1). البخاري () (¬2): " ... ثنا أبو اليمان أنا شعيب عن الزهري أخبرني سحيم مولى بني زهرة - وكان يصحب أبا هريرة - أنه سمع أبا هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "يغزو هذا البيت جيش، فيخسف به بالبيداء"". وقال ابن أبي حاتم (¬3): " ... روى عن أبي هريرة. روى عنه الزهري. سمعتُ أبي يقول ذلك". ونحوه في "الثقات" (¬4) ¬

_ = (1093)، والبيهقي في "الكبرى" (9/ 383) من طريق الحاكم، والفاكهي في " أخبار مكة": (5/ 238) وقال في آخره: قال عبد الله: وخرج آخرون بعد الصلح فردّهم. وفي جميع المصادر "قبل الصلح" وما نقلناه عن الفاكهي يثبّته. (¬1) "المنفردات والوحدان" (ص 122). (¬2) بيض المؤلف للجزء والصفحة وهو في (4/ 192). (¬3) "الجرح والتعديل": (4/ 303). (¬4) (4/ 343).

وفي "التهذيب" (¬1): "روى عن أبي هريرة. وعنه الزهري. ذكره ابن حبان في "الثقات". روى له النسائي حديثًا واحدًا: "يغزو هذا البيت جيش". وذكر ابن شاهين في "الثقات" (¬2) أن ابن عمار وثقه". أقول: حديثه المذكور في "سنن النسائي" (¬3) في كتاب الحج، باب حرمة الحرم، ومتنه: "يغزو هذا البيت جيش، فيخسف بهم بالبيداء". وذكر له النسائي متابعة وشاهدًا (¬4). 43 - سراج بن عُقْبة (¬5): في "التعجيل" (¬6): "روى عنه ملازم بن عمرو الحنفي. ثم نقل عن ابن معين: لا بأس به. قال: ونقل ابن خلفون في "الثقات" عن العجلي أنه قال: يمامي ثقة. روى ملازم بن عَمرو، عن عبد الله بن بدر، وسراج [بن عقبة]، عن ¬

_ (¬1) (3/ 454). (¬2) (ص 160). (¬3) (2877)، وفي "الكبرى" (3846). وأخرجه أبو يعلى (6387)، والفاكهي في "أخبار مكة": (1/ 361). (¬4) المتابع عن أبي مسلم الأغر عن أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه في المجتبى (2878) والكبرى (3847)، والشاهد من حديث حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها في المجتبى (2879) والكبرى (3848). (¬5) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (4/ 205)، و"الجرح والتعديل": (4/ 316 - 317)، و "الثقات": (6/ 434). (¬6) (1/ 568 - 569).

قيس بن طلق: أن أباه صلى بهم القيام في رمضان وأوتر، ثم انحدر إلى مسجد رَيمان، فصلى بهم حتى بقي الوتر، فقدَّم رجُلًا فأوتر بهم، وقال: سمعتُ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "لا وتران في ليلة". "المسند" (4/ 23) (¬1). [* 43]- سعد بن عبد الله بن سعد الأيلي (¬2). 44 - سعد بن سَمُرة (¬3): في "التعجيل" (¬4): "روى عنه إبراهيم بن ميمون مولى آل سمرة ... قال النسائي في "التمييز": سعد بن سمرة ثقة". في "المسند" (1/ 195) (¬5): "ثنا أبو أحمد الزبيري، ثنا إبراهيم بن ¬

_ (¬1) رقم (16296). والحديث أخرجه أبو داود (1439)، والترمذي (470)، والنسائي (1679) وفي "الكبرى" (1388)، وابن خزيمة (1101)، وابن حبان (2449) وغيرهم. (¬2) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (4/ 60)، و "الجرح والتعديل": (4/ 91)، و "الثقات": (6/ 376)، و "تهذيب التهذيب": (3/ 476). قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه فقال: لا بأس به وهو أوثق من أخيه الحكم. وذكره ابن حبان في "الثقات". (¬3) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (4/ 57)، و"الجرح والتعديل": (4/ 95)، و"الثقات": (4/ 294). ووقع في الجرح والتعديل: "سعد بن ميمون بن جندب" وقد نبه المؤلف في تعليقه عليه أن صوابه: "سعد بن سمرة بن جندب" فيراجع. (¬4) (1/ 573 - 574). (¬5) رقم (1691). وأخرجه الدارمي (2498)، والبخاري في "التاريخ الكبير" 4/ 57، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (235) و (236)، والبزار (439 - كشف الأستار)، وأبو يعلى (872) وغيرهم. =

ميمون، عن سعد بن سمرة، عن سمرة بن جندب، عن أبي عبيدة بن الجراح قال: "كان آخر ما تكلم به النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "أن أخرجوا يهود الحجاز من جزيرة العرب، واعلموا أن شرار الناس الذين يتخذون القبور مساجد". وشواهده كثيرة (¬1). 45 - (د س) سعيد بن حكيم بن معاوية بن حَيدة (¬2): عن أبيه عن جده: "أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت: ما تقول في نسائنا؟ قال: أطعموهنّ مما تأكلون، واكسوهنّ مما تكتسون، ولا تضربوهنّ، ولا تقبّحوهنّ" (¬3). روى عنه داود الورّاق. قال النسائي: ثقة. ¬

_ = قال الدارقطني في "العلل": (4/ 439 - 440): رواه إبراهيم بن ميمون مولى آل سمرة، عن سعد بن سمرة بن جندب، عن أبيه، عن أبي عبيدة بن الجراح. قال ذلك يحيى القطان وأبو أحمد الزبيري، وخالفهما وكيع، فرواه عن إبراهيم بن ميمون، فقال: إسحاق بن سعد بن سمرة، عن أبيه، عن أبي عبيدة ووهم فيه والصواب قول يحيى القطان ومن تابعه. (¬1) منها حديث ابن عباس رضي الله عنهما وفيه: " ... أخرجوا المشركين من جزيرة العرب .. " أخرجه البخاري (3053)، ومسلم (1637). (¬2) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (3/ 454)، و"الجرح والتعديل": (4/ 11)، و"الثقات": (6/ 352)، و"تهذيب التهذيب": (4/ 19). ووقع في "الجرح والتعديل" وغيره: "بن حيوة". (¬3) أخرجه أبو داود (2144)، والنسائي في "الكبرى" (9106)، والبيهقي في "الكبرى": (7/ 481).

أقول: تابعه أخوه بَهْز، وأبو قَزعة، وغيرهما، عن حكيم بنحوه (¬1). 46 - (د ت) سعيد بن حيّان التيمي، من تَيم الرّباب (¬2): عن علي وأبي هريرة والحارث بن سويد وشُريح القاضي ومريم بنت طارق وغيرهم. وعنه ابنه أبو حيان التيمي. قال العجلي: كوفي ثقة. ولم يقف ابن القطان على ذلك، فزعم أنه مجهول (¬3). أقول: له في مناقب علي من "جامع الترمذي" (¬4) حديث عن علي مرفوعًا: "رحم الله أبا بكر، زوجني ابنته ... ". وهو من طريق المختار بن نافع، عن أبي حيان. والمختار واهٍ وإن وثقه العجلي. ¬

_ (¬1) متابعة بهز بن حكيم أخرجها أحمد (20045)، وأبو داود (2143). ومتابعة أبي قزعة أخرجها أحمد (20012) أبو داود (2142)، والنسائي في الكبرى (9126). (¬2) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (3/ 463)، و"الجرح والتعديل": (4/ 12)، و"الثقات": (4/ 280)، و"تهذيب التهذيب": (4/ 19). (¬3) هذا كلام الحافظ في "التهذيب"، وانظر "الثقات" للعجلي: (1/ 397). (¬4) (3714) وقال: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه". وأخرجه أبو يعلى (550)، والحاكم: (3/ 72) وقال: "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه" وفيه نظر؛ لأن في إسناده المختار بن نافع واهٍ - كما ذكر المؤلف - فقد قال النسائي: ليس بثقة، وقال ابن حبان: منكر الحديث جدًّا، وعدّ هذا الحديث في مناكيره في "المجروحين": (3/ 10).

وحديث في باب الشركة من "سنن أبي داود" (¬1) عن أبي هريرة مرفوعًا: "إن الله تعالى يقول: أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدُهما صاحبَه، فإذا خانه خرجتُ مِن بينهما ... ". ورجاله إليه ثقات. 47 - (س ق) سعيد بن أبي خالد الأحمسي: تفرّد عنه أخوه إسماعيل (م) (¬2). البخاري () (¬3): " ... عن أبي كاهل. روى عنه أخوه إسماعيل". ونحوه في كتاب ابن أبي حاتم (¬4)، وكذا في "الثقات" (¬5). وفي "التهذيب" (4/ 22): "روى عن أبي كاهل في خطبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وعنه أخوه إسماعيل، على اختلاف عنه فيه. قال العجلي: إسماعيل بن أبي خالد تابعي ثقة، وأخوه سعد (كذا) ثقة". ¬

_ (¬1) (3383). وأخرجه الدارقطني: (3/ 35)، والحاكم: (2/ 52) وقال الدارقطني: "قال لوين: لم يسنده أحدٌ إلا أبو همام [محمَّد بن الزبرقان] وحده". وقال الذهبي في "الميزان": (2/ 322): "وللحديث علة، رواه هكذا أبو همام محمَّد بن الزبرقان، عن أبي حيان. ورواه جرير، عن حيان، عن أبيه مرسلاً"، وبه يُعلم ضعف قول الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه". (¬2) "المنفردات والوحدان" (ص 149). (¬3) بيّض المؤلف لرقم الجزء والصفحة، وهو في (3/ 479). (¬4) (4/ 25). (¬5) (4/ 283).

وقال في ترجمة أبي كاهل (12/ 208): "اسمه قيس بن عائذ، وقيل: عبد الله بن مالك. روى حديثه إسماعيل بن أبي خالد، عن أخيه، عن أبي كاهل ... وقيل: عن إسماعيل، عن قيس بن عائذ، ليس بينهما أحد". أقول: حديثه في "سنن النسائي" وابن ماجه و"مسند أحمد" (¬1) (4/ 306). ولفظ المسند: حديث أبي كاهل، واسمه قيس ... قال أحمد: ثنا وكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أخيه، عن أبي كاهل - قال إسماعيل: قد رأيت أبا كاهل - قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخطب الناس يوم عيد على ناقة خرماء، وحبشيّ ممسك بخطامها". وفي "تاريخ البخاري" (4/ 1/ 142): "قيس بن عائذ أبو كاهل الأحمسي، له صحبة ... قال إبراهيم بن موسى: أنا عيسى بن يونس، عن إسماعيل قال: أخبرني سعيد أخي، عن أبي كاهل قيس بن عائذ الأحمسي: "رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب على ناقة خرماء، وحبشيّ ممسك بزمام الناقة". وقال بيان: أخبرنا أبو أسامة سمع إسماعيل، عن أخيه، عن أبي كاهل عبد الله بن مالك نحوه، ولم يقل خرماء. أقول: قد يُستنكر هذا الحديث بأن المعروف أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يخطب في العيدين على الأرض. ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي في "الكبرى" (4096)، وابن ماجه (1284)، وأحمد (16715)، وابن أبي شيبة (5908).

ويجاب: بأنه قد خطب يوم الأضحى بمنى على ناقته العضباء. أخرجه أبو داود (¬1) بسندٍ على شرط مسلم، قال: حدثنا هارون بن عبد الله، نا هشام بن عبد الملك، نا عكرمة، حدثني الهرماس بن زياد الباهلي قال: "رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب الناس على ناقته العضباء يوم الأضحى بمنى". فلعل المراد بما وقع في حديث سعيد عن أبي كاهل من قوله: "يوم عيد" هو يوم الأضحى بمنى. ثم قال أبو داود: باب أي وقت يخطب يوم النحر؟ حدثنا (¬2) عبد الوهاب بن عبد الرحيم الدمشقي نا مروان عن هلال بن عامر المزني حدثني رافع بن عمرو المزني قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخطب الناس بمنى حتى ارتفع الضحى، على بغلة شهباء، وعليٌّ رضي الله عنه يُعَبّر عنه، والناس بين قائم وقاعد. فقال في الترجمة: "يوم النحر"، وليس ذلك في الحديث، وقد خطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمنى في أيام التشريق. ومع ذلك فمروان هو ابن معاوية، يدلس عن المجاهيل والمتروكين. ويشهد لحديث الهرماس حديث أم الحصين عند النسائي (¬3) وغيره ¬

_ (¬1) (1954). وأخرجه أحمد (15968)، والنسائي في الكبرى (4095)، وابن خزيمة (2953)، وابن حبان (3875). وإسناده حسن. (¬2) (1956). وأخرجه النسائي في "الكبرى" (4079)، وأحمد (15920). (¬3) (3060). والحديث أخرجه مسلم (1298)، وأبو داود (1834)، وأحمد (27259).

وفيه: "فرأيت بلالًا يقول راحلته، وأسامة بن زيد رافع عليه ثوبه يُظلّه من الحرّ، وهو محرم، حتى رمى جمرة العقبة، ثم خطب الناس ... 48 - (ت عس ق) سعيد بن عبد الله الجهني: لم يُذكَر له راوٍ إلا ابن وهب. البخاري () (¬1): " ... عن محمَّد بن عمر بن علي بن أبي طالب. روى عنه ابن وهب". ونحوه في "الثقات" (¬2). ونحوه في كتاب ابن أبي حاتم (¬3)، وقال: "سألت أبي عنه فقال: مجهول". وفي "التهذيب" (4/ 52): "روى عن محمَّد بن عمر بن علي. وعنه عبد الله بن وهب. قال أبو حاتم: مجهول ... وقال العجلي: مصري ثقة". أقول: ذكروا له حديثًا واحدًا، رواه ابن وهب، عنه، عن محمَّد، عن أبيه، عن علي رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له: "يا علي! ثلاثٌ لا تؤخرها: الصلاة إذا أتت، والجنازة إذا حضرت، والأيّم إذا وجدت لها كفؤًا" (¬4). ¬

_ (¬1) بيض له المؤلف وهو في "التاريخ الكبير": (3/ 498). (¬2) (4/ 37). (¬3) (8/ 261). (¬4) أخرجه الترمذي (171)، وابن ماجه (1486)، وأحمد (828)، والحاكم: (2/ 163 - 164) وقال: "هذا حديث صحيح غريب، ولم يخرّجاه". وضعّفه الحافظ ابن حجر في "الدراية": (2/ 63).

قال الترمذي: هذا حديث غريب حسن (¬1). 49 - (بخ م د) سَلْم بن أبي الذيّال (¬2): في "التهذيب" (¬3): وعنه معتمر بن سليمان - وقال: كان صاحب حديث - وإسماعيل بن عُليّة وإسماعيل بن مسلم قاضي قيس. قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ثقة ثقة، صالح، ما أصلح حديثه! ما سمعت أحدًا يحدث عنه غير معتمر. ثم حكى عن ابن معين: ثقة. قال: وقال ابن المديني: ما رأيت أحدًا يعرفه غير إسماعيل بن عُليَّة. [*49]- (تخ) سُلَيم بن عبد (¬4): عن حذيفة. في "التعجيل" (¬5): وعنه أبو إسحاق السبيعي فقط ... وقال العجلي: كوفي ثقة. وحديثه في "المسند" (5/ 406) (¬6). ¬

_ (¬1) العبارة في المطبوع: "هذا حديث غريب، وما أرى إسناده بمتصل". (¬2) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (4/ 159)، و"الجرح والتعديل": (4/ 265)، و"الثقات": (6/ 419). (¬3) (4/ 129). (¬4) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (4/ 126)، و"الجرح والتعديل": (4/ 212)، و"الثقات": (4/ 330). وهو أخو زيد بن عبد المتقدّم ذكره رقم (40). (¬5) (1/ 607 - 608). وانظر "الثقات" للعجلي: (2/ 162). (¬6) رقم (23454). ونصه: "حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن =

50 - (د س ق) سليمان بن الجهم (¬1): في "التهذيب" (¬2): "وعنه رَوح بن جناح ومطرّف، وأثنى عليه خيرًا. قال ابن المديني: لا أعلم روى عنه غير مطرّف ... وقال العجلي: كوفي تابعي ثقة. ونقل ابن خلفون عن ابن نُمير توثيقه". 51 - (د س) سمعان بن مُشَنَّج: تفرّد عنه الشعبي. (م) "كفاية" (¬3). البخاري () (¬4): "سمعان بن مشنج العمري، عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "صاحبكم محبوس بدَين على باب الجنة ... ". ولا نعلم لسمعان سماعًا من سمرة، ولا للشعبي من سمعان". وقال ابن أبي حاتم (¬5): " ... روى عن سمرة بن جندب. روى عنه ¬

_ = سليم بن عبد السلولي قال: كنا مع سعيد بن العاص بطبرستان ومعه نفر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أيكم صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف؟ فقال حذيفة: أنا، فأمرْ أصحابك يقومون طائفتين، طائفة خلفك، وطائفة بإزاء العدو، فتكبر ... " الحديث. وأخرجه ابن خزيمة (1365)، والبيهقي (3/ 252). (¬1) كتب الشيخ أمام هذا العنوان: "انظر ترجمة محمَّد بن أنس من "التهذيب". وانظر ترجمته في: "التاريخ الكبير": (4/ 5)، و"الجرح والتعديل": (4/ 104)، و"الثقات": (4/ 310). (¬2) (4/ 177). (¬3) "المنفردات والوحدان" (ص 109)، و "الكفاية" (ص 88). (¬4) بيض له، وهو في "التاريخ الكبير": (4/ 204) (¬5) (4/ 316).

الشعبي. سمعت أبي يقول ذلك". ونحوه في "الثقات" (¬1). وفي "التهذيب" (4/ 137): "روى عن سمرة بن جندب. وعنه الشعبي. قال البخاري: لا نعرف لسمعان سماعًا من سمرة، ولا للشعبي سماعًا منه. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن ماكولا: ثقة، ليس له غير حديث واحد ... وقال العجلي: كوفي ثقة". أقول: حديثه في "سنن أبي داود" (¬2) والنسائي في كتاب البيوع، باب في التشديد في الدَّين، ولفظ النسائي: "التغليظ في الدَّين" (¬3). وهو في "مسند أحمد" (¬4) من طرق. وكلهم رووه من طريق سفيان الثوري، عن أبيه سعيد بن مسروق، عن الشعبي، عن سمعان، عن سَمُرة. ولفظ الحديث عند النسائي: "كنّا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في جنازة فقال: أههنا من بني فلان أحد؟ - ثلاثًا - فقام رجل، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ما منعك في المرتين الأوليين أن لا تكون أجبتني؟ أما إني لم أنَوَّه بك إلا بخير، إن فلانًا - لرجلٍ منهم - مات مأسورًا بدينه". ¬

_ (¬1) (4/ 345). (¬2) (3341). (¬3) في "الكبرى" (6238). (¬4) بالأرقام (20231 - 20234).

ولفظ أبي داود: " ... عن سمرة قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أههنا أحدٌ ... " بنحوه. والحديث في "مسند أحمد" (5/ 20) (¬1) بنحو لفظ النسائي، وزاد فيه: "قال: قال: لقد رأيت أهله ومن يتحزّن له قضوا عنه حتى ما جاء أحدٌ يطلبه بشيء". قال عبد الله بن أحمد (¬2): حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا وكيع، عن أبيه، عن سعيد بن مسروق، عن الشعبي. فذكر هذا الحديث، فحدثت به أبي فقال: لم أسمعه من وكيع. وقال أحمد عقب حديث الثوري عن أبيه: ثنا عفان، ثنا أبو عوانة، عن فراس، عن الشعبي، عن سمرة. فذكر الحديث. كذا في هذه الرواية: "الشعبي عن سمرة". وكذلك أخرجه أحمد (5/ 11): ثنا محمَّد بن جعفر ثنا شعبة عن إسماعيل - يعني ابن أبي خالد - قال: سمعت الشعبي يحدث عن سمرة بن جندب قال: "صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصبح، فقال: ههنا أحدٌ من بني فلان؟ قالوا: نعم. قال: "إن صاحبكم محتبس على باب الجنة في دين عليه". وكذلك أخرجه (5/ 13) (¬3): ثنا يحيى عن إسماعيل - يعني ابن أبي خالد - عن عامر عن سمرة بن جندب: "أن رسول الله صلى الله عليه وآله ¬

_ (¬1) (20231). (¬2) (20234). (¬3) (20124).

وسلم صلى الفجر ذات يوم، فقال: ههنا من بني فلان أحدٌ؟ - مرتين - فقال رجل: هو ذا. فكأني أسمع صوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن صاحبكم حبس على باب الجنة بدين كان عليه". وفي (5/ 20) (¬1): ثنا وكيع، ثنا إسماعيل، عن الشعبي، عن سمرة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى الفجر فقال: ههنا من بني فلان أحدٌ؟ - ثلاثًا - فقال رجل: أنا. قال: فقال: إن صاحبكم محبوس عن الجنة بدينه". وفي ترجمة الشعبي من "التهذيب" (5/ 67): وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: لم يسمع من سمرة بن جندب. أقول: فعلى هذا يكون الشعبي في رواية إسماعيل وفراس أرسل الحديث عن سمرة، وفي رواية سعيد بن مسروق بيَّن الواسطة. وفي هذا كالدلالة على أن الشعبي سمع من سمعان، إذ لو لم يسمعه منه لما كان هناك ما يحمله على ذكره، بل كان يرسل الحديث عن سمرة رأسًا، كما فعل في رواية إسماعيل وفراس. ويقوّي هذا: أن هؤلاء الكبار - كالشعبي - إنما يرسلون عن الصحابة أو كبار التابعين، وسمعان رجلٌ غير مشهور. وفي ترجمة الشعبي من "التهذيب" أيضًا: وقال ابن معين: إذا حدث عن رجل فسماه، فهو ثقة يحتج بحديثه. والحُكم المقصود من الحديث هو أن الميت يُؤاخَذ بما عليه من ¬

_ (¬1) (20222).

الدَّين، وأنه ينبغي لأهله القضاء عنه، وذلك ثابت بأدلة أخرى. فأما ... (¬1). 52 - (د س ق) سُوَيد بن قيس التُّجِيبي (¬2): تفرد عنه يزيد بن أبي حبيب (م) (¬3). البخاري () (¬4): "سويد بن قيس عن معاوية بن حديج. روى عنه يزيد بن أبي حبيب. يُعدّ في المصريين". ونحوه في "الثقات" (¬5). وقال ابن أبي حاتم (¬6): " ... روى عن عبد الله بن عمرو ومعاوية بن حديج. سمعت أبي يقول ذلك". وفي "التهذيب" (4/ 279): " ... روى عن معاوية بن حديج وابنه عبد الرحمن بن معاوية وابن عمر وابن عمرو بن العاص وغيرهم. وعنه يزيد بن أبي حبيب. قال النسائي: ثقة. وقال ابن يونس: كانت له منزلة من عبد العزيز بن مروان ... ووثقه يعقوب بن سفيان". ¬

_ (¬1) كذا في الأصل لم يكمل المؤلف الكلام. (¬2) كتب المؤلف أمام الاسم: مسند (4/ 204). (¬3) "المنفردات والوحدان" (ص 206). (¬4) بيض المؤلف للرقم، وهو في "التاريخ الكبير": (4/ 143). (¬5) (4/ 322). (¬6) (4/ 236).

أقول: له عن معاوية بن حديج عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حديث: "إن كان في شيء شفاء، ففي بزغة حجّام، أو شَرْبة عسل، أو كيّة تصيب ألمًا، وما أحبّ أن أكتوي". ذكره البخاري في "التاريخ" (¬1) في ترجمة معاوية، وأخرجه أحمد في "المسند" (6/ 401) (¬2). وأخرج له أيضًا (¬3) عن معاوية بن حديج: "أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى يومًا، فسلم وانصرف وقد بقي من الصلاة ركعة، فأدركه رجل فقال: نسيت من الصلاة ركعة. فدخل المسجد وأمر بلالًا فأقام الصلاة، فصلى بالناس ركعة. فأخبرت بذلك الناس، فقالوا لي: أتعرف الرجل؟ ... فقالوا: هو طلحة بن عبيد الله". وأخرجه الحاكم في "المستدرك" (1/ 261) وقال: "صحيح الإسناد على شرط الشيخين، وهو من النوع الذي يطلبان للصحابي متابعًا في الرواية, على أنهما جميعًا قد خرجا مثل هذا". كذا قال! ¬

_ (¬1) (7/ 329). (¬2) (27256). وأخرجه النسائي في "الكبرى" (7603)، والطبراني في "الكبير" (19/ 1044)، قال الهيثمي في "المجمع" (5/ 91): "رواه أحمد والطبراني في "الكبير" و"الأوسط"، ورجال أحمد رجال الصحيح خلا سويد بن قيس، وهو ثقة". وقد اختلف في إسناده على وجوه. انظر حاشية المسند: (45/ 229 - 230). (¬3) (27254). وأخرجه أبو داود (1023)، والنسائي في "المجتبى" (664)، وفي "الكبرى" (1628)، وابن خزيمة (1052)، والحاكم: (1/ 261). ورجال إسناده ثقات.

وأعاده (1/ 323) وقال: صحيح الإسناد. وعن معاوية بن حديج مرفوعًا: "غدوة في سبيل الله أو روحة خيرٌ من الدنيا وما فيها". "مسند" (2/ 177) (¬1). 53 - (ت ق) شبيب بن بِشْر: لا نعلم أحدًا روى عنه غير أبي عاصم. (ن) (¬2). البخاري () (¬3): شبيب بن بِشْر البَجَلي. عن أنس وعكرمة. روى عنه الضحّاك بن مَخلد. وروى زافر، عن إسرائيل، عن شبيب بن أبي بشير، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "عينان لا تريان النار: عين باتت تكلأ في سبيل الله، وعين بكت من خشية الله" (¬4) حدثني حميد حدثني زافر. وقال ابن أبي حاتم (¬5): "شبيب بن بشر البجلي: بصري، روى عن أنس" وعكرمة. روى عنه إسرائيل وعنبسة بن عبد الرحمن وأبو عاصم النبيل. سمعت أبي يقول ذلك. ويقول: هو ليِّن الحديث، حديثُه حديث الشيوخ". قال أبو حاتم: روى عنه أحمد بن بِشْر العمري. ¬

_ (¬1) (27255). وأخرجه الطبراني في "الكبير" وقال الهيثمي في "المجمع": (5/ 284): "رواه أحمد والطبراني 19 (1046)، وفيه ابن لهيعة، وهو حسن الحديث، وبقية رجاله ثقات". ويقال: "بن بشير" أيضًا. (¬2) "الوحدان" (ص 261) للنسائي، وذكره مسلم في "المنفردات والوحدان" (ص 251). (¬3) بيّض المؤلف للرقم، وهو في "التاريخ الكبير": (4/ 231). (¬4) وأخرجه ابن أبي عاصم في "الجهاد" (147)، وأبو يعلى (4346)، والطبراني في "الأوسط" (5775). وله شواهد كثيرة. (¬5) (4/ 357).

وفي "الثقات" (¬1): "شبيب بن بشر البجلي: يروي عن أنس. يخطئ كثيرًا. روى عنه أبو عاصم النبيل وإسرائيل". وفي "التهذيب" (4/ 306): "شبيب بن بشر، ويقال: ابن عبد الله. أبو بشر البجلي الكوفي. روى عن أنس وعكرمة. وعنه إسرائيل وسعيد بن سالم القداح وأبو بكر الداهري ... وأبو عاصم الضحاك بن مخلد. قال الدوري عن ابن معين: ثقة. قال: ولم يرو عنه غير أبي عاصم". 54 - (د س) شَبيب بن عبد الملك التيمي البصري (¬2): في "التهذيب" (¬3): "وعنه معتمر بن سليمان. قال أبو حاتم: ... وليس به بأس، صالح الحديث، لا أعلم أحدًا حدث عنه غير مُعتمِر. وقال أبو زرعة: صدوق ... قال الذهبي: لا يُعرف، ومعتمر بن سليمان أكبر منه". 55 - (د) صالح بن خَيوان (¬4): ¬

_ (¬1) (4/ 359). (¬2) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (4/ 232)، و"الجرح والتعديل": (4/ 359)، و"الثقات": (8/ 310)، و"تهذيب التهذيب":. أخرج له أحمد (24930)، وأبو داود (3712) حديث عائشة رضي الله عنها: أنها كانت "تنبذ للنبي - صلى الله عليه وسلم - غدوة، فإذا كان من العشي فتعشى شرب على عشائه ... " الحديث. (¬3) (4/ 308 - 309). (¬4) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (4/ 274)، و"الجرح والتعديل": (4/ 399)، و"الثقات": (4/ 373). واختلف في ضبط "خيوان" هل هو بالحاء المهملة كما هو قول البخاري وابن يونس والدارقطني، أو بالمعجمة وهو قول ابن أبي حاتم وابن حبان وغيرهم.

في "التهذيب" (¬1): "وعنه بكر بن سوادة الجذامي ... وقال العجلي: تابعي ثقة. وقال عبد الحق: لا يحتج به. وعاب ذلك عليه ابن القطان، وصحّح حديثَه". 56 - (ق) صالح بن دينار المدني التمار، مولى الأنصار (¬2): في "التهذيب" (¬3): "وعنه ابنه داود ... قال الصدفي: ثنا عبد الله بن محمَّد قال: قال النسائي: صالح بن دينار التمار ثقة". 57 - (ق) صالح بن عبد الله بن أبي فروة: تفرد عنه الزهري. (م) (¬4). البخاري () (¬5): " ... عن عامر بن سعد. روى عنه الزهري". ونحوه في كتاب ابن أبي حاتم (¬6)، وكذا في "الثقات" (¬7)، وزاد: مات سنة أربع وعشرين ومائة. وفي "التهذيب" (4/ 396) نحوه وزاد: "قال عباس الدوري عن ابن ¬

_ (¬1) (4/ 388). (¬2) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (4/ 278)، و "الجرح والتعديل": (4/ 400)، و"الثقات": (4/ 374). (¬3) (4/ 389). (¬4) "المنفردات والوحدان" (ص 207). (¬5) بيض المؤلف للرقم وهو في "التاريخ الكبير": (4/ 285). (¬6) (4/ 407). (¬7) (6/ 462).

معين: صالح ... وإخوته ثقات إلا إسحاق ... وقال أبو جعفر الطبري في "التهذيب": ليس بمعروف في أهل النقل عندهم". أقول: في مسند عثمان من "مسند أحمد" (1/ 72) (¬1) من طريق الزهري، عن صالح: أن عامر بن سعد بن أبي وقاص أخبره أنه سمع أبان بن عثمان يقول: قال عثمان: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "أرأيتَ لو كان بفناء أحدكم نهرٌ يجري، يغتسل منه كلَّ يوم خمسَ مرات، ما كان يبقى من درنه؟ قالوا: لا شىء. قال: إن الصلوات تُذْهِب الذنوب كما يُذْهب الماءُ الدرَنَ". 58 - (عخ) صَبّاح بن عبد الله العبدي (¬2): في "التهذيب" (¬3): "وعنه أبو سلمة موسى بن إسماعيل التبوذكي. قال ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم: مجهول". 59 - (ت) صخر بن عبد الله بن حرملة المُدلِجي (¬4): في "التهذيب" (¬5): "وعنه بكر بن مضر المصري. قال النسائي: ¬

_ (¬1) (518). وأخرجه ابن ماجه (1397)، والبزار (356) من طريق يعقوب بن إبراهيم، عن ابن أخي الزهري، عنه، به. قال البوصيري في "مصباح الزجاجة": (1/ 90): هذا إسناد صحيح رجاله ثقات. (¬2) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (4/ 314)، و"الجرح والتعديل": (4/ 443)، و"الثقات": (6/ 474)، و"الميزان": (3/ 19). (¬3) (4/ 408). (¬4) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (4/ 312)، و"الجرح والتعديل": (4/ 427)، و"الثقات": (6/ 473)، و"ميزان الاعتدال": (3/ 23). (¬5) (4/ 412).

صالح ... وقال العجلي: ثقة". 60 - (خ د س) طلحة بن عبد الله بن عثمان بن عبيد الله بن معمر التيمي: (م) (¬1). البخاري () (¬2): " ... عن عائشة. سمع منه سعد بن إبراهيم". ونحوه في كتاب ابن أبي حاتم (¬3). وعنده ترجمة أخرى (¬4): "طلحة القرشي، جار أبي عمران الجوني. روى عن عائشة. روى عنه أبو عمران الجوني. سمعت أبي يقول ذلك". وفي "الثقات" (¬5): "طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عبيد الله بن معمر. يروي عن عائشة. روى عنه أبو عمران الجوني وسعد بن إبراهيم". وذكره مسلم في "الوحدان" (¬6) فيمن تفرّد عنه سعد بن إبراهيم، ثم ذكره فيمن تفرّد عنه أبو عمران الجوني: طلحة رجل من قريش. "فتح" (4/ 296) (5/ 139) (10/ 344). وفي "التهذيب" (5/ 19 -) ما ملخصه مع توضيح: أن البخاري (¬7) ¬

_ (¬1) "المنفردات والوحدان" (ص 125). (¬2) بيض المؤلف للرقم وهو في "التاريخ الكبير" (4/ 345). (¬3) (4/ 473). (¬4) (4/ 376). (¬5) (4/ 392). (¬6) (ص 125, 175). (¬7) رقم (2259).

روى في كتاب الشُّفعة عن حجّاج بن منهال، عن شعبة. وعن علي، عن شَبَابة، عن شُعبة، عن أبي عمران، عن طلحة بن عبد الله، عن عائشة: "قلت: يا رسول الله! إن لي جارين ... " الحديث. ورواه أيضًا في كتاب الأدب (¬1)، وفيه: "حدثنا حجاج بن منهال، حدثنا، شعبة قال: أخبرني أبو عمران قال: سمعت طلحة عن عائشة ... ". فالظاهر أن زيادة "ابن عبد الله" إنما هي في رواية علي عن شبابة عن شعبة. وفي "مسند أحمد" (6/ 175) (¬2): "ثنا محمَّد بن جعفر وحجاج قالا: ثنا شعبة، عن أبي عمران، عن طلحة. قال ابن جعفر: ابن عبد الله ... ". ورواه البخاري (¬3) أيضًا في الهبة: عن بُنْدار، عن غُنْدَر، عن شعبة، عن طلحة بن عبد الله رجل من بني تيم بن مرة. وفي "الفتح" (¬4): وقد وافق محمَّد بن جعفر (غندرًا) على ذلك يزيد بن هارون عن شعبة، كما حكاه الإسماعيلي. أقول: في "مسند أحمد" (6/ 239) (¬5) عن يزيد: طلحة رجل من قريش. ¬

_ (¬1) رقم (6020). (¬2) (25423). (¬3) رقم (2595). (¬4) (5/ 220). (¬5) (25424, 26025).

ورواه سليمان بن حرب عن شعبة عن أبي عمران سمعت طلحة بن عبد الله الخزاعي (¬1). ورواه أبو داود (¬2) من حديث الحارث بن عبيد، عن أبي عمران، عن طلحة. ولم ينسبه. وقال أبو داود: قال شعبة في هذا الحديث: طلحة رجل من قريش. وفي "مسند أحمد" (6/ 175) (¬3): "ثنا روح، ثنا شعبة، عن أبي عمران، عن طلحة رجل من قريش من بني تيم بن مرة". وفي "مسند أحمد" (6/ 187) (¬4): "ثنا وكيع، عن شعبة، عن أبي عمران الجوني، عن رجل من قريش يقال له: طلحة". أقول: يبعد جدًّا أن يكون الاضطراب من أبي عمران. والروايات عن شعبة ما بين مطلقة "طلحة" أو "طلحة بن عبد الله"، ومقيدة، والمقيدة على وجهين: الأول: قول سليمان بن حرب: الخزاعي. والثاني: بقية الروايات. والذي يتّجه تضعيف رواية سليمان. ¬

_ (¬1) ذكرها الحافظ في "التهذيب": (5/ 18). (¬2) (5155). (¬3) (25424). (¬4) (25535).

أولًا: لأن الراوين خلافَه جماعةٌ. ثانيًا: لأن قوله موافق للجادّة (¬1)؛ لأن طلحة بن عبد الله الخزاعي مشهور، فيخشى أن يكون لفظ الخزاعي زيادة من سليمان، زاده على وجه البيان بناء على ظنه، كأنه سمع من شعبة: "طلحة بن عبد الله" فظنّه الخزاعيَّ لشهرته. ولكن يظهر أن البخاري رحمه الله يرى أن هذا طلحة بن عبد الله بن عوف الخزاعي، لوجهين: الأول: أنه لما ذكر هذا في "التاريخ" لم يذكر له روايًا إلا سعد بن إبراهيم. وسيأتي ذكر حديث سعد. الثاني: أنه ليس من عادته في "الصحيح" أن يحتج بأحاديث المجهولين، فإن أخرج فيه لبعضهم فمتابعةً واستشهادًا. وقد احتج بهذا الحديث في مواضع، كما تقدم. وكأنه وقعت له رواية سليمان بن حرب التي فيها "الخزاعي"، ولكنه لم يخرجها لأنها وقعت له بنزول، ولم يقع له مما هو صريح في خلافها إلا رواية بُندار عن غُندر، فرأى أن سليمان أثبت من بُندار عن غُندر. والظاهر أن أبا حاتم ومسلمًا رجّحا في هذا الحديث رواية من قال: "رجل من قريش"، فهو عندهما غير التيمي، كما يُعلم مما تقدم، ولا أطيل بتوجيه ذلك. ¬

_ (¬1) أي للطريقة المعهودة المعروفة.

هذا، وللحديث شاهد عند أبي داود وأحمد في "المسند" (5/ 480) (¬1) بسند رجاله ثقات عن حميد بن عبد الرحمن الحميري عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرفوعًا: "إذا اجتمع الداعيان فأجب أقربهما بابًا، فإن أقربهما بابًا أقربهما جوارًا، فإذا سبق أحدهما فأجب الذي سبق". وفي "التهذيب" (¬2) أيضًا: وروى أبو داود عن محمَّد بن كثير عن الثوري عن سعد بن إبراهيم عن طلحة بن عبد الله بن عثمان عن عائشة في القبلة للصائم. ورواه النسائي (¬3) من حديث أبي عوانة، فلم ينسبه. وقد رواه عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان الثوري فقال: طلحة بن عبد الله بن عوف. أقول: في "مسند أحمد" (6/ 179) (¬4): "ثنا عبد الرحمن، عن سفيان، عن سعد - يعني ابن إبراهيم - عن طلحة عن عائشة ... ". قال ابن حجر: فالأشبه أنه من حديث طلحة بن عبد الله بن عوف؛ لأن عبد الرحمن بن مهدي أحفظ من محمَّد بن كثير. ¬

_ (¬1) أبو داود (3756)، وأحمد (23466). وفي إسناده يزيد بن عبد الرحمن الدالاني، صدوق، وباقي رجاله ثقات. (¬2) (5/ 18). (¬3) في "الكبرى" (3038 و9082). (¬4) (25456).

أقول: لكن صنيع البخاري في "التاريخ" وأبي حاتم ومسلم - كما مضى - يدل على اعتمادهم أن هذا طلحة بن عبد الله بن عثمان، ويبعد أنهم لم يطلعوا على رواية ابن مهدي، فالظاهر أنهم وقفوا على ما يرجّح رواية محمد بن كثير. ومما يرجحها: أنها على خلاف الجادّة، كما يُعلم مما مضى. وقد عُرِف أن الخطأ إذا دار بين أن يكون في سلوك الجادة، وفي العدول عنها، فالغالب أن يكون في سلوكها. ثم رأيت في "مسند أحمد" (6/ 176) (¬1) من روايته عن غندر وحجاج، عن شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن طلحة بن عبد الله. قال أحمد: قال حجاج: ابن عوف. وحدثنا يعقوب عن أبيه قال: ابن عبد الله بن عثمان ... قال حجاج: قال شعبة: قال لي سعد: طلحة عم أبي سعد. أقول: يعقوب هو ابن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، فروايته متابعة قوية لرواية محمَّد بن كثير. وأما رواية حجاج عن شعبة، فأولها متابع لرواية ابن مهدي عن سفيان، وآخرها نصٌّ في ذلك إن كان ما حكاه رَوح عن شعبة عن سعد قاله سعدٌ عند روايته هذا الحديث. والله أعلم. هذا، وإنما ذكرتُ هذا الرجل هنا لإخراج البخاري الحديث الذي رجح المزيُّ وابنُ حجر أنه حديثه. وإخراج البخاري على سبيل الاحتجاج ¬

_ (¬1) (25430).

في معنى التوثيق أو أقوى. ولكن قد ظهر مما مرَّ أن البخاريّ يرى أنّ الحديثَ المذكور ليس لهذا الرجل، فأغناني ذلك عن النظر في الحديث المذكور. والله أعلم. 61 - (خ 4) طلحة بن يزيد الأيلي (¬1): وعنه عَمرو بن مُرّة. قال ابن معين: لم يرو عنه غيره. ثم حكى (¬2) عن "السنن" للنسائي: هذا الرجل يشبه أن يكون [صِلَة بن زُفَر] (¬3)، وطلحة هذا ثقة. والذي رأيته في "سنن النسائي" (¬4): "هذا الحديث عندي مرسل، وطلحة بن يزيد لا أعلمه سمع من حذيفة ... ". ليس فيها ما حكاه في "التهذيب" إلا أن يكون في موضع آخر، أو نسخة أخرى (¬5). وطلحة أخرج له البخاري في "الصحيح" (¬6) حديثًا في باب أتباع ¬

_ (¬1) ترجمته في: "الجرح والتعديل": (4/ 476) في نسخة منه، و"الثقات": (4/ 394)، و"تهذيب التهذيب": (5/ 29). (¬2) يعني الحافظ في "تهذيب التهذيب". (¬3) وقع في الأصل تبعًا للتهذيب: "أصله .. " وبعدها بياض بقدر كلمة، وكتب المؤلف هكذا (بياض). والتصحيح والإضافة بين المعكوفتين من السنن الكبرى للنسائي، وليس فيها قوله: "وطلحة هذا ثقة". (¬4) بعد رقم (1665). (¬5) الأمر كما ذكر المؤلف، فقد ذكره النسائي هذه العبارة في "السنن الكبرى" بعد حديث رقم (1383) ونقلها الحافظ عنه، ولم تكن السنن الكبرى قد طُبعت بعد. (¬6) (3787).

[الأنصار، عن] زيد بن أرقم: أن النبيّ .... (¬1). [* 61]- (ت) عاصم بن عَمرو (¬2). ويقال: عمر، حجازي. 62 - (بخ 4) عاصم بن لقيط بن صبرة (¬3): في ت (¬4): "وعنه أبو هاشم إسماعيل بن كثير المكي. قال النسائي: ثقة". ¬

_ (¬1) ما بين الأقواس شبه مطموس في الأصل والاستدراك من "الصحيح"، ومكان النقط لم يظهر لأن المؤلف كتبه على طرّة الورقة بخط دقيق، ونص الحديث: "عن زيد بن أرقم قال: قالت الأنصار: يا رسول الله، لكل نبي أتباع، وإنّا قد اتبعناك، فادع الله أن يجعل أتباعنا منّا. فدعا به". (¬2) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (6/ 480)، و"الجرح والتعديل": (6/ 349)، و"الثقات": (5/ 235)، و"تهذيب التهذيب": (5/ 54). قلت: لم يتكلم عنه المؤلف بشيء، فلعله ألحق الترجمة أملًا في الكتابة عنها عند التبييض لكن لم يتمكن من ذلك. وأنقل هنا كلام الحافظ ابن حجر في ترجمته قال: "روى عن علي، وعنه عمرو بن سليم الزرقي. قال ابن خراش: لم يرو عنه غيره، وقال علي بن المديني: ليس بمعروف لا أعرفه إلا في أهل المدينة، وقال النسائي: عاصم بن عمر ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، روى له الترمذي (3914) والنسائي (الكبرى 4270) حديثًا واحدًا في فضل المدينة وصححه الترمذي" اهـ. وقال الذهبي في "الميزان": (3/ 70): لا يُعرف. وصحح هذا الحديث أيضًا ابن خزيمة (209)، وابن حبان (3746). (¬3) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (6/ 493)، و"الجرح والتعديل": (6/ 350)، و"الثقات": (5/ 234)، و"تهذيب التهذيب": (5/ 56). (¬4) يعني "تهذيب التهذيب" وقد أحلت إليه في الهامش السالف. وبقية كلام الحافظ: "روى عن أبيه لقيط بن صبرة وافد بني المنتفق ... وذكره ابن حبان في "الثقات"، له =

63 - (بخ م س) عبّاد بن حمزة: تفرَّد عنه هشام بن عروة (م) (¬1). قال ابن أبي حاتم (3/ 1/ 78): "عبّاد بن حمزة بن عبد الله بن الزبير، أخو عبد الواحد بن حمزة، القرشي الأسدي. روى عن عائشة. روى عنه هشام بن عروة. سمعت أبي يقول ذلك". ونحوه في "الثقات" (¬2)، لكن قال: أخو عبد الملك بن حمزة. وفي "التهذيب" (5/ 91): "روى عن جدة أبيه أسماء بنت أبي بكر، وأختها عائشة أم المؤمنين، وجابر بن عبد الله الأنصاري. وعنه ابن عم أبيه هشام بن عروة. قال النسائي: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال الزهري: كان سخيًّا سريًّا، أحسن الناس وجهًا. له عند مسلم والنسائي حديث: "لا تحصي فيحصي الله عليك" (¬3). أقول: أخرجه مسلم من طريق هشام، عن فاطمة بنت المنذر، عن أسماء. ثم من طريق هشام، عن عباد وفاطمة، عن أسماء. ثم من طريق هشام، عن عباد وحده. ثم من طريق ابن أبي مُليكة، عن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أسماء معناه وزيادة. فالحديث متابعة. ¬

_ = عندهم حديث واحد في المبالغة في الاستنشاق وغير ذلك". (¬1) "المنفردات والوحدان" (ص 125). وله ترجمة في "التاريخ الكبير": (6/ 31). (¬2) (5/ 141). (¬3) مسلم (1029)، والنسائي الكبرى (9151). وأخرجه أيضًا أحمد في المسند (26935).

64 - (د س ق) عبد الله بن أبي بصير: تفرّد عنه أبو إسحاق السَّبيعي (م) (¬1). في "الثقات" (¬2) في التابعين: "عبد الله بن أبي بصير العبدي، يروي عن أُبيّ بن كعب، وعن أبيه عن أبيّ. روى عنه أبو إسحاق السبيعي". وفي "التهذيب" (5/ 161 -): "روى عن أُبيّ بن كعب، وعن أبيه عن أُبيّ بن كعب. وعنه أبو إسحاق السبيعي، ولا يُعرف له راوٍ غيره ... قال فيه العجلي: كوفي تابعي ثقة". وذَكَر الخلاف على أبي إسحاق، وحاصله كما في "التهذيب" و"مسند أحمد" (5/ 140 -) (¬3): أنه رُوي عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن أبي بصير، عن أبيه، عن أُبيّ. ورُوي عن أبي إسحاق، عن أبي بصير، عن أُبيّ. ولا تنافي بين هاتين الروايتين، ففي "مسند أحمد" (¬4) في رواية خالد بن الحارث عن شعبة عن أبي إسحاق: قال أبو إسحاق: وقد سمعته منه ومن أبيه. ¬

_ (¬1) "المنفردات والوحدان" (ص 129). (¬2) (5/ 15). وله ترجمة في "التاريخ الكبير" للبخاري: (5/ 50 - 51). (¬3) برقم (21265 و21266). وأخرجه من الطريق الأول: الدارمي (1269)، وأبو داود (554)، وابن خزيمة (1477)، وابن حبان (2056)، والحاكم: (1/ 247 - 248). وأخرجه من الطريق الثانية: عبد الرزاق (2004)، والضياء المقدسي في "المختارة" (1198)، وأخرجه الحاكم: (1/ 248). (¬4) برقم (21267). وأخرجه النسائي (843)، وابن حبان (2057)، والحاكم: (1/ 249).

وروي عن أبي إسحاق سمع عبد الله بن أبي بصير يحدِّث عن أُبيّ بن كعب. ولم أجد في الروايات تصريح عبد الله بسماعه من أُبيّ، فالظاهر أنه إنما سمع منه بواسطة أبيه، ولكنه صرح بذلك تارة، وأرسله أخرى. وروي عن أبي إسحاق عن العيزار بن حريث عن أبي بصير. ولا مانع من صحة ذلك، وكأنّ أبا إسحاق لم يتقنه لما سمعه من أبي بصير، فاستظهر بسماعه من ابنه وغيره. وروي عن أبي إسحاق عن رجل من عبد القيس عن أُبيّ. وأبو بصير من عبد القيس، فهو هو. وروي - كما في "التهذيب" - عن حجاج بن أرطاة عن أبي إسحاق عن عبد الله بن أبي بصير. وكأنّ هذا من أوهام الحَجّاج، ثم رأيت في ترجمة عاصم من "التهذيب" (¬1) الجزمَ بأنه وهم من الحجاج. هذا، ومتن الحديث: "إن أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء والفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوًا، وإن الصف الأول على مثل صف الملائكة، ولو تعلمون فضيلته لابتدرتموه، وإن صلاتك مع رجلين أزكى من صلاتك مع رجل، وصلاتك مع رجل أزكى من صلاتك وحدك، وما كثر فهو أحب إلى الله تعالى". ¬

_ (¬1) (5/ 45).

وأول الحديث إلى قوله: "ولو حبوًا" في "الصحيحين" (¬1) من حديث أبي هريرة، وقد رُوي عن غيره أيضًا. وكذلك بقية الحديث معناه ثابت في الأحاديث. 65 - (بخ مس س) عبد الله بن السائب بن يزيد: تفرد عنه ابن أبي ذئب. (م) (¬2). قال ابن أبي حاتم (¬3): "ابن أخت نمر. روى عن أبيه. روى عنه محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب. سمعت أبي يقول ذلك". وفي "التهذيب" (5/ 229): "روى عن أبيه عن جده حديث: "لا يأخذ أحدُكم عصا أخيه" (¬4). قال الترمذي: حسن غريب. روى عنه ابن أبي ذئب. قال أحمد: لا أعرفه من غير حديث ابن أبي ذئب، وأما السائب فقد رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقال النسائي: عبد الله بن السائب ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات" (¬5). وقال ابن سعد (¬6): كان ثقة قليل الحديث، توفي سنة (126). ¬

_ (¬1) البخاري (615)، ومسلم (437). (¬2) "المنفردات والوحدان" (ص 226) إنما ذكر عبد الرحمن بن السائب. (¬3) (5/ 62). (¬4) أخرجه الترمذي (2160)، وأبو داود (5003)، وأحمد (17941 و17942) وغيرهم، وسنده صحيح. (¬5) (5/ 32). (¬6) "الطبقات الكبرى": (7/ 485).

قلت: قال ابن حبان: روى عنه أهل المدينة. فإن كان أراد بهذا الإطلاق ابنَ أبي ذئب، فهو محتمل، وإن كان مراده ظاهر اللفظ، فشاذ". أقول: من أمعن النظر في كتاب "الثقات" عرف أن ابن حبان كثيرًا ما يتسامح في مثل هذا، فإني راجعته وكتابَ ابنِ أبي حاتم كثيرًا لتصحيح "التاريخ الكبير" للبخاري رحمه الله، فوجدتُ البخاريّ كثيرًا ما يذكر ترجمة الرجل، ولا يذكر عمن روى، ولا من روى عنه. ففي كثير من ذلك يترك ابن أبي حاتم بياضًا، فيقول: روى عن (بياض). روى عنه (بياض). سمعت أبي يقول ذلك. أما ابن حبان؛ فيقول: يروي المراسيل. روى عنه أهل بلده. وقِس على هذا. ولم أجد الجزء الذي فيه باب عبد الله من "تاريخ البخاري" (¬1). والله أعلم. ولعل ابن حبان يتأوّل فيما يقول أن المسلم في تلك الأعصار لابد أن يبلغه أحاديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيذكرها في محاورته مرسِلًا لها، ويسمعُه بعضُ أهل بلده، وربما يحكونها عنه. وبذلك يكون قد روى مراسيل، وروى عنه أهل بلده! والله المستعان. ¬

_ (¬1) لأن الجزأين الخامس والسادس من التاريخ تأخر طبعهما عن بقية الأجزاء فلم يطبعا إلا في سنة 1377 - 1378، أما باقي الأجزاء فإنها طبعت بين سنتي 1360 - 1364. فالظاهر أن تأليف هذا الكتاب كان بين سنتي 1364 - 1375 قبل طباعة الجزأين الخامس والسادس، ويقع فيهما حرف العين الذي أشار إليه المؤلف، والله أعلم. وقد أشار المؤلف إلى نحو ذلك في حواشي تحقيقه لـ "لموضح لأوهام الجمع والتفريق" للخطيب كما في: (1/ 156, 160). وترجمة عبد الله بن السائب في التاريخ الكبير: (5/ 103).

أقول: أما الحديث، فلفظه عند أبي داود (¬1): "لا يأخذنَّ أحدُكم متاعَ أخيه لاعبًا جادًّا (وفي رواية: لعبًا ولا جدًّا)، من أخذ عصا أخيه فليردّها" وأخرج (¬2) له شاهدًا من طريق الأعمش: عن عبد الله بن يسار، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: حدثنا أصحاب محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم: أنهم كانوا يسيرون مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فنام رجل منهم، فانطلق بعضهم إلى حبل معه، فأخذه، ففزع، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يحلّ لمسلم أن يروِّع مسلمًا". وفي "نهاية ابن الأثير" (¬3): "لاعبًا جادًّا: أي لا يأخذه على سبيل الهزل، ثم يحبسه، فيصير ذلك جدًّا". أقول: ظاهر الحديث مقارنة اللعب والجد للأخذ، فالأولى أن يقال: لاعبًا من جهة أنه لا يريد سرقته، بل يريد أن يرده إليه. وجادًّا من جهة قصده ترويعه، والشق عليه. فعلى هذا، إذا كان يرى أن المأخوذ متاعه لا يرتاع، ولا يشق عليه، لجريان العادة بين الرفقة بالمزاح - مثلًا -، فلا يدخل في النهي، ولكن يحرم (¬4) الكذب، فلا يقول الآخذ: لم آخذه، مثلًا. ¬

_ (¬1) (5003). (¬2) (5004). (¬3) (1/ 245). (¬4) كان المؤلف قد كتب: "ولكن يجب أن لا" ثم كتب "يحرم" وضرب على "أن لا"، وسها عن الضرب على "يجب".

ويحرم حبسه حتى يشق على المأخوذ منه، اللهم إلا إذا كان في الترويع مصلحة، كأن يكون ابنك أو أخوك - مثلًا - يتهاون بحفظ أمتعته، فتريد أن تروِّعه ليتعوّد الاحتراس، فقد يقال: لا بأس بذلك، والله أعلم. هذا، وابن أبي ذئب قد اختلف أهل العلم في حال شيوخه. فقال أحمد: كان ابن أبي ذئب لا يبالي عمن يحدِّث. وقال الخليلي: إذا روى عن الثقات فشيوخه شيوخ مالك، لكنه قد يروي عن الضعفاء. وقال ابن معين: كل من روى عنه ابن أبي ذئب ثقة، إلا أبا جابر البياضي. وقال أحمد بن صالح مثله بمعناه. أقول: نظر الإمام أحمد إلى كثرة رواية ابن أبي ذئب عن المجاهيل، فقد عدّ مسلمٌ في "الوحدان" (¬1) فيمن تفرّد عنه ابنُ أبي ذئب أكثرَ من خمسة وعشرين، ولم يذكر ممن انفرد عنه مالك إلا دون العشرة. وأما ابن معين وأحمد بن صالح، فيحتمل أنهما أرادا شيوخه المعروفين أنهم كلهم ثقات إلا البياضي، ويحتمل أن يكون مذهبهما توثيق من لم يرو عنه إلا واحد إذا لم يرو منكرًا، وروى عنه من عُرف بالنظر في أحوال شيوخه المعروفين أن كلهم أو أغلبهم ثقات؛ لأن في ذلك دلالة على أنه لم يرو عن واحدٍ من أولئك المجهولين حتى عرف أنه ثقة. ¬

_ (¬1) (ص 225 - 230).

وهذا الاحتمال أظهر، كما يُعلَم من مطالعة هذه الرسالة. وسيأتي إن شاء الله تعالى تحرير ذلك (¬1)، ويأتي أيضًا إن شاء الله تعالى بيان أن مذهب أحمد مخالف لهذا، كأنه يقول: يمكن أن يكون ابن أبي ذئب - مثلًا - يروي عمن عُرف أنه ثقة، وعمن لم يُعرف حاله. والمشهورون يتيسّر معرفة حالهم، فلذلك كان غالبُ شيوخه المشهورين ثقات، ولا يلزم من ذلك أن يكون المجهولون كذلك. أو لعله لم يتيسر له معرفة أحوالهم، لعدم اشتهارهم. وسيأتي توضيح هذا إن شاء الله تعالى (¬2). 66 - (د ق) عبد الله بن سُراقة الأزدي: تفرّد عنه عبد الله بن شَقيق (م) (¬3). قال ابن أبي حاتم (¬4): "عبد الله بن سراقة. روى عن أبي عبيدة بن الجراح. روى عنه عبد الله بن شقيق. سمعت أبي يقول ذلك" وفي "التهذيب" (5/ 231 -): "عبد الله بن سراقة الأزدي. روى عن أبي عبيدة بن الجراح حديث الدجّال. وعنه عبد الله بن شَقيق العُقيلي. قال المفضّل: ... من أهل دمشق، له شرف، وله رواية تصحح، وهو ¬

_ (¬1) لم نجد هذا الموضع المشار إليه، فلعلّ المؤلف لم يتمكن من كتابته. (¬2) انظر الحاشية السابقة. (¬3) "المنفردات والوحدان" (ص 101). وله ترجمة في "التاريخ الكبير": (5/ 97) للبخاري، و"الثقات": (5/ 26) لابن حبان، و"الثقات": (2/ 31) للعجلي. (¬4) (5/ 68).

من أشراف أهل دمشق، له ذكر. وقال البخاري: لا يُعرف له سماع من أبي عبيدة. لكن رواه يعقوب بن شيبة في "مسنده" بلفظ: "خطبنا أبو عبيدة بالجابية". قال يعقوب: عبد الله بن سراقة عدويّ عَديّ قريش، ثقة. كذا نسبه يعقوب، مع أن في الإسناد: " ... الأزدي"، وأما العدويّ فصحابي آخر ... قال العجلي: عبد الله بن سُراقة بصريّ ثقة". أقول: حديثه في "السنن" و"مسند أحمد" (1/ 195) (¬1): رواه شعبة، عن خالد الحذّاء، عن عبد الله بن شَقيق، عن عبد الله بن سُراقة، عن أبي عُبيدة بن الجرّاح، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "أنه ذكر الدجال، فحلّاه بحلية لا أحفظها، قالوا: يا رسول الله! كيف قلوبنا يومئذٍ، كاليوم؟ قال: أو خير". ورواه حماد بن سلمة، عن خالد بسنده (¬2)، وزاد فيه: "إنه لم يكن نبي بعد نوح إلا وقد أنذر الدجال قومه وإني أنذركموه. قال: فوصفه لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قال: ولعله يدركه بعض من رآني أو سمع كلامي". والإنذار بالدجال ثابت بالأحاديث الصحيحة, وكذلك الإخبار بإنذار الأنبياء به. ¬

_ (¬1) (1692)، وأخرجه أبو داود (4756)، والترمذي (2234)، والحاكم: (4/ 542) وصححه. وقال الترمذي: حسن غريب من حديث أبي عبيدة، وقال ابن كثير في "البداية والنهاية": (19/ 199): "في إسناده غرابة، ولعل هذا كان قبل أن يبين له - صلى الله عليه وسلم - من أمر الدجال ما بين في ثاني الحال". (¬2) في "المسند" (1693).

وأما قولهم: "كيف قلوبنا يومئذٍ، كاليوم؟ قال: أو خير"، فمحمول على بعض من يكون عند قيام الدجال من المؤمنين، وهم الطائفة المذكورة في حديث: "لا تزال طائفة من أمتي ... " (¬1). وأما قوله: "ولعله يدركه بعض من رآني أو سمع كلامي"، فلم أجد له شاهدًا، وقد تشبّث به بعضُ من يزعم حياة الخضر، وحمله آخرون على أن "لعل" من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليست بواجبة، فهو احتمالٌ ذَكَرَه صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يطلعه الله عَزَّ وَجَلَّ (¬2). والله أعلم. ووقع في "المستدرك" (3/ 543) من طريق حماد بن سلمة: " ... إنكم ستدركونه أو يدركه بعضُ من رآني وسمع مني" كذا! والله أعلم. 67 - (س) عبد الله بن سفيان الثقفي: تفرّد عنه يعلي بن عطاء. (م) (¬3). قال ابن أبي حاتم (¬4): "عبد الله بن سفيان بن عبد الله بن ربيعة الثقفي الطائفي. روى عن أبيه سفيان ... صاحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم .. روى عنه يعلي بن عطاء. سمعت أبي يقول ذلك". وفي "التهذيب" (5/ 240): "وقال النسائي عبد الله بن سفيان ثقة ... ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) وهذا ما ذكره ابن كثير، كما نقلته في الحاشية السابقة. (¬3) "المنفردات والوحدان" (ص 166). وله ترجمة في "التاريخ الكبير": (5/ 100) للبخاري، و"الثقات": (5/ 31) لابن حبان (¬4) "الجرح والتعديل": (5/ 66).

وقال العجلي: ثقة". أقول: له عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حديث واحد (¬1)، قد تابعه عليه عن أبيه: عروةُ بن الزبير وغيرُه. 68 - (ق) عبد الله بن عبد الرحمن بن ثابت بن الصامت: أخرج له ابن خزيمة في "صحيحه" (¬2). ذكر حديثه في "التهذيب" (¬3)، ثم قال: "كذا (¬4) قاله إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة عنه، ورواه الدراوردي عن إسماعيل بن أبي حبيبة ... ثم قال: فلم أرَ فيه جرحًا ولا تعديلاً، ولكن إخراج ابن خزيمة له في "صحيحه" يدل على أنه عنده ثقة". ¬

_ (¬1) والحديث هو: "يا رسول الله، أخبرني بأمر في الإسلام لا أسأل عنه أحدًا بعدك، قال: قل: آمنت بالله، ثم استقم، قال: يا رسول الله فأي شيء أتّقي؟ قال: فأشار بيده إلى لسانه". أخرجه أحمد (15417)، والنسائي في الكبرى (11425) وغيرهما، ورجاله ثقات رجال الصحيح غير عبد الله صاحب الترجمة، وقد وثقه النسائي والعجلي. (¬2) (676). وسقط من سنده ما بين المعكوفين " [عبد الله بن] عبد الرحمن بن ثابت". (¬3) (5/ 291). والحديث هو: "عن عبد الله بن عبد الرحمن، قال: جاءنا النبي - صلى الله عليه وسلم - فصلى بنا في مسجد بني عبد الأشهل، فرأيته واضعًا يديه في ثوبه إذا سجد". أخرجه ابن ماجه (1031)، وأحمد (18953)، ومصنف ابن أبي شيبة (2743) وغيرهم، وانظر حاشية المسند: (31/ 282). (¬4) كتب الشيخ بعد هذه اللفظة: (قال إسماعيل بن أبى حبيبة عن عبد الله)، ثم ضرب على (قال إسماعيل بن أبي حبيبة، ولم يضرب على (عن عبد الله).

69 - (ت ق) عبد الله بن عبد الرحمن الأنصاري الأشهلي (¬1): (لم يوثقه إلا ابن حبان، وله أحاديث) (¬2). 70 - (خ) عبد الله بن عبيدة بن نشيط الرَّبَذي (¬3): في "التهذيب": "وعنه أخواه موسى ومحمَّد، وصالح بن كيسان، وعمرو بن عبد الله بن أبي الأبيض". ثم حكى عن يعقوب بن شيبة أنه قال: وهو ثقة. وعن النسائي: ليس به بأس. وعن الدارقطني: ثقة. وعن أحمد: موسى بن عبيدة وأخوه لا يشتغَل بهما. وعن ابن معين: لم يرو عنه غير موسى، وحديثهما ضعيف. وذكره ابن حبان في "الثقات"، ثم ذكره في "الضعفاء" (¬4) فقال: منكر الحديث جدًّا، ليس له راوٍ غير أخيه موسى، وموسى ليس بشيء في الحديث. وحديثه عند البخاري (¬5) في رؤيا السوارين. ¬

_ (¬1) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (5/ 131)، و"الجرح والتعديل": (5/ 94)، و"الثقات": (5/ 14)، و"الميزان": (3/ 168)، و"تهذيب التهذيب": (5/ 300). (¬2) قال الذهبي: "له حديث منكر"، وقال ابن حجر: "روى له الترمذي ثلاثة أحاديث اثنان في أمور تقع قبل الساعة, وافقه ابن ماجه في أحدهما والآخر في الأمر بالمعروف. قلت: في سؤالات عثمان الدارمي يحيى بن معين قال: لا أعرفه". (¬3) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (5/ 143)، و"الجرح والتعديل": (5/ 101)، و"الثقات": (5/ 45)، و"الميزان": (3/ 173)، و"تهذيب التهذيب": (5/ 309). (¬4) (2/ 4). (¬5) (7033).

71 - (سي س ق) عبد الله بن عُتبة بن أبي سفيان (¬1): (خز) (¬2). 72 - عبد الله بن عُمَير (¬3): عن ابن عباس. وعنه القاسم بن عباس. قال ابن سعد (¬4): توفي سنة (117)، وكان ثقة قليل الحديث. وقال ابن أبي حاتم عن أبي زرعة: ثقة. وقال ابن المنذر: لا يعرف هو ولا شيخه إلا في هذا الحديث - يعني حديث ابن عباس في عاشوراء -. إنما قال: "ولا شيخه" لأن لفظه عند مسلم (¬5): " .. القاسم بن عباس عن عبد الله بن عمير - لعله قال -: عن عبد الله بن عباس". ¬

_ (¬1) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (5/ 157)، و"الجرح والتعديل": (5/ 124)، و"الميزان": (3/ 173)، و"تهذيب التهذيب": (5/ 310). قال الحافظ في التهذيب: "روى له النسائي (الكبرى 9780) وابن ماجه (719) حديثًا واحدًا في القول إذا سمع المؤذن. قلت: أخرج ابن خزيمة حديثه في صحيحه (412) فهو ثقة عنده، وأخرج أبو يعلى في مسنده من طريق يحيى بن سليم عن محمَّد بن سعد المؤذن عن عبد الله بن عتبة عن أم حبيبة حديثًا غير هذا". (¬2) يعني أخرج له ابن خزيمة في "صحيحه", وانظر الحاشية السابقة. (¬3) ترجمته في: "الجرح والتعديل": (5/ 124)، و"الثقات": (5/ 54)، و"الميزان": (3/ 183)، و"تهذيب التهذيب": (5/ 334). (¬4) "الطبقات الكبرى": (7/ 503). (¬5) (1134/ 134)

وقد روى مسلم (¬1) من وجهٍ آخر عن ابن عباس. 73 - (س) عبد الله بن قُدامة بن عَنَزة (¬2): في "التهذيب": "روى عن أبي بَرْزة. وعنه توبة العنبري. قال النسائي: ثقة ... روى له النسائي (¬3) حديثًا واحدًا في قتل من سبّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم ... وصححه الحاكم في "المستدرك" (¬4)." 74 - (م د) عبد الله بن محمَّد بن مَعْن (¬5): عن أم هشام بنت حارثة بن النعمان حديث: "ما حفظتُ (ق) إلا من فيْ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم". وعنه حبيب بن عبد الرحمن. أخرجه مسلم وأبو داود (¬6)، وهو في "صحيح مسلم" في المتابعات، فإنه ذَكَر الحديثَ من طريق عَمْرة عن أختٍ لها أكبر منها قالت: "أخذتُ (ق) "، ومن طريق يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة عن أم هشام. ¬

_ (¬1) (1134/ 133). هكذا وقع في الأصل "روى" ولعلها "رواه". (¬2) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (5/ 167)، و"الجرح والتعديل": (5/ 141)، و"الثقات": (5/ 23)، و"تهذيب التهذيب": (5/ 361). (¬3) (4071) وفي الكبرى (3520). (¬4) (4/ 355). (¬5) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (5/ 187)، و"الجرح والتعديل": (5/ 155)، و"الثقات": (7/ 50)، و"تهذيب التهذيب": (6/ 19). (¬6) مسلم (872)، وأبو داود (1104).

75 - (دق) عبد الله بن مُنَين (¬1): عنه ابنه محمَّد. وثّقه يعقوب بن سفيان. 76 - (ت س) عبد الله بن هانئ، أبو الزَّعْراء الكبير: تفرّد عنه سلمة بن كُهَيل. (م، ن) (¬2). قال ابن أبي حاتم (¬3): "عبد الله بن هانئ الأزدي، أبو الزّعْراء ... سمع من ابن مسعود. سمع منه سلمة بن كُهَيل ... سمعت أحمد بن منصور الرمادي قال: سمعت علي بن عبد الله يقول: لا أعلم روى عن أبي الزعراء إلا سلمةُ بن كهيل، وعامة رواية أبي الزعراء عن عبد الله". وفي "الكنى" للدولابي (1/ 181): "سمعت العباس بن محمَّد قال: قال يحيى: أبو الزعراء الكبير عبد الله بن هانئ، يروي عن عبد الله، ولم يرو عن أبي الزعراء هذا إلا سلمة بن كهيل". وفي "التهذيب" (6/ 61): "روى عن عمر وابن مسعود. وعنه ابن أخته سلمة بن كهيل. قال البخاري: لا يُتابَع في حديثه. وقال ابن المديني: عامة روايته عن ابن مسعود، ولا أعلم روى عنه إلا سلمة ... في الطبقات ¬

_ (¬1) ترجمته في: "الجرح والتعديل": (5/ 170)، و"تهذيب التهذيب": (6/ 44). و"الميزان": (3/ 222). ومُنَين بضم الميم وفتح النون. انظر "توضيح المشتبه": (8/ 291). (¬2) "المنفردات والوحدان" (ص 151)، و"الوحدان" (ص 260) للنسائي. وله ترجمة في "التاريخ الكبير": (5/ 221)، و"الثقات": (5/ 14). (¬3) (5/ 195).

لابن سعد: ... روى عن علي وعبد الله. وكان ثقة ... وقال العجلي: ثقة من كبار التابعين". أقول: له في "سنن الترمذي" (¬1) حديث رواه الترمذي من طريق يحيى بن سلمة بن كهيل، عن أبيه، عن أبي الزعراء، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "اقتدوا باللذَين مِن بعدي من أصحابي: أبي بكر وعمر، واهتدوا بهدي عمّار، وتمسّكوا بهدي (¬2) ابن مسعود". قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه من حديث ابن مسعود، لا نعرفه إلا من حديث يحيى بن سلمة بن كُهيل، ويحيى ... يُضعَّف في الحديث". وأخرجه الحاكم في "المستدرك" (3/ 75 -). قال الذهبي: سنده واهٍ. والحديث معروف من مسند حذيفة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وجاء في بعض طرقه: "اقتدوا باللذين من بعدي، أبو بكر وعمر". هكذا في "مسند أحمد" (5/ 382) (¬3). وفي أخرى: "باللذين من بعدي"، وأشار إلى أبي بكر وعمر. ¬

_ (¬1) (3805). وأخرجه أيضًا الطبراني في "الكبير": (9/ 72) بتمامه، أحمد في "فضائل الصحابة" (294)، والطبراني في "الأوسط" (7177) ليس فيهما: "واهتدوا بهدي ... ". (¬2) كذا في الأصل، والذي في جامع الترمذي: "بعهد". (¬3) (23245). وأخرج حديث حذيفة: الترمذي (3663)، وابن ماجه (97) وغيرهم.

"المسند" (5/ 385) (¬1). وفي ثالثة: "باللذين من بعدي" يشير إلى أبي بكر وعمر. "المسند" (5/ 399) (¬2). وهذا يدل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "باللذين من بعدي" ولم يسمّهما، فلما استُخْلِف أبو بكر رضي الله عنه عُرف أنه أحدهما، فلما استُخْلِف عمر عُلِم أنه الآخر. وبالجملة، فحديث يحيى بن سلمة عن أبيه عن أبي الزعراء عن ابن مسعود ليس متنه بالمنكر، ولكن الظاهر أنه غلط، وإنما الحديث لحذيفة. وهذا الغلط - فيما يظهر - من يحيى، فلا يتّجه الحَمْل على أبي الزعراء. ولأبي الزعراء عن ابن مسعود حديث آخر موقوف، أخرجه الحاكم في "المستدرك" (4/ 454) من طريق سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم وسلمة بن كُهيل، عن أبي الزعراء، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "يأتي على الناس زمان يأتي الرجلُ القبرَ، فيضطجع عليه، فيقول: يا ليتني مكان صاحبه. ما به حبّ لقاء الله، إلاَّ لما يرى من شدَّة البلاء". قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. وأقره الذهبي. وقد أخرجه نُعَيم في "الفتن" (¬3): "حدثنا ابن مهدي ووكيع، عن سفيان، عن سلمة بن كُهيل، عن أبي الزعراء، عن عبد الله ... ". ¬

_ (¬1) (23276). (¬2) (23386). (¬3) (143).

ثم قال (¬1): "حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الله ... " فذكره بنحوه. ثم قال (¬2): "حدثنا ابن مهدي، عن سفيان، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة ... " فذكر نحوه. فالظاهر أن "سلمة" في سند "المستدرك" معطوف على الأعمش، فسفيان يرويه عن عبد الله من طريقين: الأولى: عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الله. والثانية: عن سلمة، عن أبي الزعراء، عن عبد الله. وقد رواه - كما في "الفتن" - عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة. ولأبي الزّعْراء عن ابن مسعود من قوله حديث طويل، أخرج طرفًا منه ابن خزيمة في "كتاب التوحيد" (ص 115) (¬3)، ونعيم بن حماد في "كتاب الفتن" (¬4)، وأخرجه بتمامه الحاكم في "المستدرك" في موضعين (4/ 496، و598)، وقال في الموضعين: صحيح على شرط الشيخين. تعقبه الذهبي في أحدهما قال: لم يحتجّا بأبي الزعراء. ¬

_ (¬1) (146). (¬2) (147). (¬3) (2/ 428). (¬4) (1515). وأخرجه النسائي في "الكبرى" (11232) مختصرًا.

وهو في ذِكْر الدجّال، ويأجوج ومأجوج، والحشر، فوصف الحشر والمرور على السراط (¬1)، ثم قال: "ثم يأذن في الشفاعة، فيكون أول شافع روح القدس جبريل، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، ثم يقوم نبيكم رابعًا لا يشفع أحدٌ بعده فيما يشفع فيه، وهو المقام المحمود ... ثم يشفع الملائكة والنبيّون، والشهداء والصالحون والمؤمنون ... ". وفي ترجمة أبي الزعراء من "الميزان" (¬2) عن البخاري أنه استنكر ما ذُكِر في هذا الحديث من ترتيب الشُّفَعاء؛ لأن المعروف في الأحاديث الصحيحة أن محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم أول شافع. وفي "فتح الباري" (¬3) في كتاب الرِّقاق، باب صفة أهل الجنة والنار، بعد الإشارة إلى هذا الحديث: وهذا الحديث لم يصرّح برفعه، وقد ضعَّفه البخاري، وقال: المشهور قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "أنا أول شافع" (¬4). أقول: يمكن أن يقال: إن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "أنا أول شافع" أراد به شفاعته في المحشر لفصل القضاء، والذي في هذا الحديث هو الشفاعة بعد مجاوزة السراط. والله أعلم. ¬

_ (¬1) كذا في الأصل بالسين، وهي لغة فيه. وقد التزمها المؤلف في كثير من المواضع في كتبه. (¬2) (3/ 230 - 231). (¬3) (11/ 427). (¬4) أخرجه مسلم (2278)، وأبو داود (4673)، وأحمد (10972) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وروي من حديث أبي سعيد الخدري أخرجه أحمد (10987) وغيره.

وفي ترجمة عبد الله بن سبأ من "لسان الميزان" (3/ 290) (¬1): وقال أبو إسحاق الفزاري عن شعبة عن سلمة بن كهيل عن أبي الزعراء عن زيد بن وهب: أن سويد بن غَفَلة دخل على عليّ في إمارته، فقال: إني مررت بنفر يذكرون أبا بكر وعمر، يرون أنك تضمر لهما مثل ذلك ... قال: معاذ الله أن أضمر لهما إلا الحسن الجميل .. ثم نهض إلى المنبر حتى اجتمع الناس - فذكر القصة في ثنائه عليهما، بطوله، وفي آخره:- ألا ولا يبلغني عن أحدٍ يفضِّلني عليهما إلا جلدته حدّ المفتري". أقول: في "صحيح البخاري" (¬2) من طريق أبي يعلى منذر بن يعلى الثوري، عن ابن الحنفية: قلت لأبي: أيّ الناس خيرٌ بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: أبو بكر. قلت: ثم مَن؟ قال: ثم عمر ... ". وفي "الفتح" (¬3) أن الدارقطنيّ أخرجه بنحوه من طريق محمَّد بن سُوقة، عن منذر. وذكر أن الحسن بن محمَّد بن الحنفية روى عن أبيه نحوه. وفي "مسند أحمد" (1/ 127) (¬4) من طريق حُصين بن عبد الرحمن عن أبي جُحيفة: كنت أرى أن عليًّا رضي الله عنه أفضل الناس ... أفلا أحدثك بأفضل الناس؟ ... فذكره نحوه. وقد روى أبو جُحيفة قصة الخطبة: "خطبنا علي ... - وفيها:- خير هذه ¬

_ (¬1) (4/ 484 - 485). (¬2) (3671). (¬3) (6/ 214). (¬4) (1054).

[الأمة] (¬1) بعد نبيها ... " إلخ. وهي غير قصته التي خصّه بها عليٌّ كما تقدم. والحديث عن أبي جُحيفة في "مسند أحمد" من طرق صحيحة. ففي (ص 106) (¬2) خمس طرق: من رواية زِرّ والشعبي وأبي إسحاق وعون بن أبي جُحيفة، كلهم عن أبي جُحيفة عن علي. وفي (ص 110) (¬3) القصة من طريق زِرّ، ومن ثلاث طرق عن الشعبي، كلاهما عن أبي جحيفة. وأخرج أحمد القصة من طريق عبد خير عن علي رضي الله عنه: أخرجها (ص110) (¬4) من طريق حبيب بن أبي ثابت عن عبد خير. وفي (ص 113) (¬5) من وجهين آخرين عن حبيب. وفي (ص 114) (¬6) من طريق عطاء بن السائب عن عبد خير. وكذا (ص 125). وفي (ص 115) (¬7): وكيع عن سفيان وشعبة عن حبيب. وكذا ¬

_ (¬1) زيادة ليست في الأصل. (¬2) (833 - 837). (¬3) (871، 880، 878). (¬4) (879). (¬5) (908, 909). (¬6) (922) والموضع الثاني (1030). (¬7) (933) والموضع الثاني (1040).

(ص 126). ومن طريق المسيّب بن عبد خير عن أبيه، وكذا (ص 125، و127) (¬1). وعن ابن عيينة عن أبي إسحاق عن عبد خير (¬2). ومن طريق أخرى عن أبي إسحاق (¬3). وفي (ص 128) (¬4) من طريق أخرى عن أبي إسحاق. ومن طريق عبد الملك بن سَلْع عن عبد خير (¬5). وأخرج (ص 127) (¬6) عن علقمة قال: خَطَبَنا عليّ ... فذكره. وخرّج ابن ماجه (¬7) من طريق وكيع، عن شعبة، عن عَمرو بن مُرّة، عن عبد الله بن سلمة: سمعت عليًّا ... فذكره. 77 - (م 4) عبد الله بن يزيد، رضيع عائشة: تفرّد عنه أبو قِلابة. (م) (¬8). ¬

_ (¬1) (926، 1032، 1052). (¬2) (932). (¬3) (934). (¬4) (1060). (¬5) (1059). (¬6) (1051) (¬7) (106). (¬8) "المنفردات والوحدان" (ص 197). وله ترجمة في "التاريخ الكبير": (5/ 225).

قال ابن أبي حاتم (¬1): "عبد الله بن يزيد رضيع عائشة. روى عن عائشة. روى عنه (بياض) (¬2). سمعت أبي يقول ذلك". وفي "التهذيب" (6/ 80): "روى عن عائشة. وعنه أبو قِلابة الجرمي. ذكره ابن حبان في "الثقات" (¬3) .. (قال): روى عنه أبو قلابة وأهل البصرة. وقال العجلي: تابعي ثقة". أقول: زيادة ابن حبان: "وأهل البصرة" لا يوثَق بها (¬4)، فقد تقدم نحوها في عبد الله بن السائب. وعبد الله هذا أخرج له مسلم والنسائي والترمذي حديث: "ما من مسلم يصلي عليه أُمةٌ من المسلمين يبلغون مائة ... " (¬5). وبيّن مسلم والنسائي شاهده، فإنهما ذكراه من رواية سلام بن أبي مطيع، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن عبد الله هذا. ثم ذكرا عن سلام: قال: فحدّثتُ به شعيب بن الحَبْحاب فقال: حدثني به أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ¬

_ (¬1) (5/ 198). (¬2) كذا في الأصل، وفي الجرح والتعديل بتحقيق المؤلف مثبت في المتن بين معكوفتين [أبو قلابة] وعلق في هامشها: "من م ومثله في التهذيب وموضعه في ك بياض"، فالظاهر أن المؤلف اعتمد على نسخة ك من كتاب الجرح والتعديل قبل أن يُطبع. (¬3) (5/ 216 و55). (¬4) كذا وردت في الموضع الأول، وفي الموضع الثاني: "عِداده في أهل البصرة روى عنه أبو قلابة" فلعل الأول مصحّف عن هذا. (¬5) أخرجه مسلم (947)، والترمذي (1029)، والنسائي (1991)، وأحمد (13801) وغيرهم.

ويمكن أن يكون مقصود مسلم إنما هو حديث أنس، فإنه أثبت. وأخرج له أصحاب السنن (¬1) حديثه عن عائشة: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقسم بين نسائه، فيعدل ثم يقول: اللهم هذا فعلي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك، ولا أملك". قال النسائي: أرسله حماد بن زيد. وبيَّن ذلك الترمذي قال: "هكذا رواه غير واحد عن حماد بن سلمة، عن أيوب، عن أبي قِلابة، عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ورواه حماد بن زيد وغير واحد عن أيوب، عن أبي قلابة مرسلاً: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقسم. وهذا أصح من حديث حماد بن سلمة" (¬2). 78 - (ق ت) عبد الحميد بن المنذر بن الجارود (¬3): عنه أنس بن سيرين. قال النسائي: ثقة. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (1134)، والترمذي (1140)، والنسائي (3943)، وابن ماجه (1971). وأخرجه أحمد (25111). (¬2) وهو اختيار البخاري كما في "العلل الكبير": (1/ 448) للترمذي، واختيار أبي زرعة كما حكاه ابن أبي حاتم في "العلل" (1279). (¬3) ترجمته في: "الجرح والتعديل": (6/ 18)، و"الثقات": (5/ 127)، و"تهذيب التهذيب": (6/ 122). وقال الحافظ في التقريب: "ثقة". له في ابن ماجه (756) حديث واحد ولفظه: "عن أنس قال: صنع بعض عمومتي للنبي - صلى الله عليه وسلم - طعامًا، فقال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إني أحبّ أن تأكل في بيتي، وتصلي فيه، قال: فأتاه، وفي البيت فحلٌ من هذه الفحول، فأمر بناحية منه، فكُنِس ورُش، فصلى، وصلينا معه". والحديث أخرجه أحمد (12103) وسنده قويّ.

79 - (ت) عبد الرحمن بن جَوْشَن (¬1): عنه ابن عيينة. قال أحمد: ليس بالمشهور. وقال أبو زرعة والعجلي: ثقة. وقال ابن سعد: ثقة إن شاء الله. 80 - (د س) عبد الرحمن بن حَرْمَلة الكوفي (¬2): عن ابن مسعود حديث: "كان يكره عشر خلال: تخَتّم الذهب" (¬3) إلخ. وعنه ابن أخيه القاسم بن حسان. قال ابن المديني: لا أعلم رُوي عنه شيء إلا من هذه الطريق (¬4)، ولا نعرفه من أصحاب عبد الله. وقال البخاري: لم يصح حديثه. وقال أبو حاتم: ليس بحديثه بأس، وإنما روى حديثًا واحدًا ما [يمكن أن] (¬5) يُعتبر به، ولم أسمع أحدًا ينكره، أو يطعن عليه. ¬

_ (¬1) ترجمته في: "الجرح والتعديل": (5/ 220)، و"الثقات": (5/ 84)، و"تهذيب "التهذيب": (6/ 155). (¬2) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (5/ 270)، و"الجرح والتعديل": (5/ 222)، و"الثقات": (5/ 95)، و"الميزان": (3/ 270)، و"تهذيب التهذيب": (6/ 161 - 162). (¬3) أخرجه أبو داود (4222)، والنسائي (5088)، وأحمد (3605)، وأعله ابن المديني كما في "العلل" (170)، والبخاري في تاريخه، وقال الذهبي: منكر. (¬4) كذا في الأصل والتهذيب والمؤلف صادر عنه، والعبارة في "العلل": "لا أعلم أحدًا روى عن عبد الرحمن بن حرملة هذا شيئًا إلا من هذا الطريق". (¬5) ما بين المعكوفين ساقط من الأصل، وهو ثابت في التهذيب وكتاب ابن أبي حاتم.

81 - (م س) عبد الرحمن بن أبي الشعثاء سُلَيم بن الأسود المُحاربي (¬1): روى عنه بَيان بن بِشْر. روى له مسلم والنسائي حديثًا واحدًا متابعةً (¬2). 82 - عبد الرحمن بن شيبة (¬3): عن هُشَيم وغيره. روى عنه الربيع بن سليم. قال أبو حاتم: لا أعرفه، وحديثه صالح (¬4). 83 - (د ق) عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي، أمير الأندلس (¬5): ¬

_ (¬1) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (5/ 292 - 293)، و"الميزان": (3/ 283)، و"تهذيب التهذيب": (6/ 194 - 195). قلت: لكن البخاري في تاريخه سمّى أباه "سليمان"، وقال في آخر الترجمة: "أراه أخا أشعث بن سُليم"، وانظر تعليق المؤلف هناك. فكأن البخاري يميل إلى أن "سليمان" تصحيف، لكنه هكذا وقع في الرواية فلم يغيّره. (¬2) مسلم (1224)، والنسائي (2812) وفي الكبرى (3780). (¬3) ترجمته في: "الجرح والتعديل": (5/ 243)، و"تهذيب التهذيب": (6/ 196 - 197). (¬4) كذا في التهذيب والأصل، وفي كتاب ابن أبي حاتم "صحاح" وأشار في الهامش إلى أنه وقع في نسخة م: "صحيح". (¬5) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (5/ 137)، و"الجرح والتعديل": (5/ 95)، و"الميزان": (3/ 290)، و"تهذيب التهذيب": (6/ 217 - 218).

قال عثمان الدارمي عن ابن معين: لا أعرفه (¬1). قال ابن عديّ: إذا لم يعرف ابن معين الرجلَ فهو مجهول. وناقشه ابن حجر (¬2). وذكره ابن خَلْفون في "الثقات" (¬3). 84 - (م) عبد الرحمن بن عبد العزيز (¬4): روى عنه جماعة. وقال الدارمي عن ابن معين: شيخ مجهول (¬5). وقال يعقوب بن شيبة: شيخ ثقة. وقال أبو حاتم: شيخ مضطرب الحديث. وقال ابن سعد: كان كثير الحديث، وكان عالمًا بالسيرة وغيرها (¬6). روى له مسلم حديثًا واحدًا في النكاح (¬7). ¬

_ (¬1) "تاريخ الدارمي" (481). (¬2) كلام ابن عدي في "الكامل": (4/ 297 - 298) وتعقبه ابن حجر في "التهذيب": (6/ 218)، وكان مما قال: "وهذا الرجل قد عرفه ابن يونس، وإليه المرجع في معرفة أهل مصر والمغرب". (¬3) وقال: "كان رجلاً صالحًا جميل السيرة, استشهد في قتال الفرنج في شهر رمضان". قلت: له حديث واحد يرويه مع أبي طعمة (أبو داود: أبي علقمة - وهم) كلاهما عن ابن عمر في الخمر .. أخرجه أبو داود (3674)، وابن ماجه (3380)، وأحمد (4787). وسنده قوي. (¬4) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (5/ 320)، و"الجرح والتعديل": (5/ 260)، و"الثقات": (7/ 75)، و"الميزان": (3/ 291)، و"تهذيب التهذيب": (6/ 220). (¬5) "تاريخ الدارمي" (463). (¬6) "الطبقات الكبرى": (7/ 587). (¬7) (1408).

85 - (د س) عبد الرحمن بن علقمة - ويقال: ابن أبي علقمة، ويقال: ابن علقم - (¬1): عن ابن عمر وابن عباس. وعنه الثوري. قال النسائي والعجلي: ثقة. وقال ابن شاهين: قال ابن مهدي: كان من الأثبات الثقات. 86 - عبد الرحمن بن العداء: تفرد عنه شعبة. (م) (¬2). قال ابن أبي حاتم (¬3): "عبد الرحمن بن عدي (كذا) (¬4) الكندي. سمع ¬

_ (¬1) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (5/ 323)، و"الجرح والتعديل": (5/ 273)، و"الثقات": (5/ 85)، و"الميزان": (3/ 291)، و"تهذيب التهذيب": (6/ 233). (¬2) "المنفردات والوحدان" (ص 233). (¬3) "الجرح والتعديل": (5/ 268)، وله ترجمة في "التاريخ الكبير": (5/ 323). (¬4) كذا وقع في نسخة ك من كتاب الجرح والتعديل, وهي التي ينقل منها المؤلف، وفي النسخة المطبوعة من الكتاب (بتحقيق المؤلف) أصلح الشيخُ النصَّ من النسخ الأخرى، وأنه قد وقع سقط في نسخة ك وهو قوله: " [روى عن الأشعث بن قيس روى عنه عبد الله بن شركى العامري سمعت أبي يقول ذلك. 1263 - عبد الرحمن بن العداء الكندي] "، وعلق في الحاشية: "سقط من ك من هنا إلى أول الترجمة الآتية كما أعلمنا عليه بالحاجزين". وهذا دليل على أن المؤلف كتب هذا الكتاب قبل أن يطبع "الجرح والتعديل" بتحقيقه، وأنه إنما ينقل من النسخة (ك). والظاهر أن الحافظ ابن حجر قد وقعت له هذه النسخة فذكر في "التعجيل" أن البخاري سمّى أباه "عدي" بكسر الدال، وإنما ذلك سقط في النسخة كما سبق. والله أعلم.

أبا أمامة. روى عنه شعبة ... ذكره أبي عن إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين أنه قال: عبد الرحمن بن العداء ثقة ... سألت أبي عن عبد الرحمن بن العداء. قال: صالح". وفي "التعجيل" (ص 254) (¬1): "روى عن أبي أمامة. روى عنه شعبة. قال ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم الرازي: صالح". أقول: ذكر مسلم في "الوحدان" أن شعبة تفرّد عنه، وإنما روى عنه حديثًا. وفي "مسند أحمد" (5/ 258) (¬2): "ثنا محمَّد بن جعفر ثنا شعبة قال: سمعت عبد الرحمن بن العداء قال: سمعت أبا أمامة قال: توفي رجل فوجدوا في مئزره دينارًا أو دينارين، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كيّة أو كيّتان. عبد الرحمن يشك. ثم قال: ثنا رَوح، ثنا شعبة، عن عبد الرحمن - من أهل حمص من بني العدّاء من كِندة - قال: سمعت أبا أمامة مثله". وقال (5/ 253) (¬3): "ثنا حجاج، حدثني شعبة، عن عبد الرحمن - من أهل حمص من بني العدّاء من كندة - .. نحوه". وأخرج (5/ 253) (¬4) من طرق عن قتادة، عن شِهْر بن حَوشب، عن ¬

_ (¬1) (1/ 806). (¬2) (22221). (¬3) (22180). (¬4) (22174).

أبي أُمامة قال: "توفي رجل من أهل الصُّفة، فوجد في مئزره دينار، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كَيّة. قال: ثم توفي آخر، فوجد في مئزره ديناران، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كَيّتان". وأخرج (5/ 252) (¬1) من طريق شعبة، أنا قتادة قال: "سمعت أبا الجعد ... مولى لبني ضُبيعة عن أبي أمامة ... بمعنى حديث شهر". أقول: وأهل الصُّفة كان عامّتهم ممن وصفهم الله عَزَّ وَجَلَّ بقوله: {لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} [النساء: 98] أي: لطلب المعاش. فكانوا بالمسجد النبوي يكفُون الصحابةَ عدّة أعمال، منها: تلقّي ما يتجدّد من الكتاب والسنة. ومنها: الاستعداد لما يوجّههم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إليه من المصالح، كأن يرسل أحدهم ليدعو رجلاً أو يبلّغه، أو نحو ذلك. ومنها: أنهم بمثابة حرس. فكان على سائر المسلمين أن يقوموا بمعيشة هؤلاء، فكانوا يقومون بذلك تارةً باسم الهدية إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتارة باسم الصدقة لأهل الصُّفة. فكان مَن يكون مع أهل الصّفة متعرّضًا لما يأتي باسم الصدقة، ولم يكن له ذلك إلا أن يكون فقيرًا عاجزًا، فكان الذي أقام نفسَه معهم وعنده دينار أو ديناران مسيئًا، فلذلك - والله أعلم - استحقّ العقوبة. والله أعلم. ¬

_ (¬1) (22172).

وله شاهد من حديث علي رضي الله عنه، أخرجه أحمد في "مسنده" (1/ 137، و138) (¬1): "مات رجل من أهل الصفة، فقيل: يا رسول الله! ترك دينارًا ودرهمًا، فقال: كيّتان، صلوا على صاحبكم". وهو من رواية عُتيبة الضرير البصري، عن بُرَيد بن أصرم (¬2)، عن عليّ. قال البخاريّ: إسناده مجهول، عُتَيبة وبُريد (¬3) مجهولان (¬4). 87 - (خت مبهمًا) عبد الرحمن بن فرّوخ (¬5): روى عنه عمرو بن دينار. وقال البخاري في "الصحيح" (¬6): واشترى نافع بن عبد الحارث بن صفوان بن أمية دار السجن لعمر ... الحديث. وقد رواه ابن عيينة عن عمرو بن دينار، عن عبد الرحمن هذا. وزعم الحاكمُ (¬7) أن البخاريّ ومسلمًا إنما تركَا إخراج حديث ¬

_ (¬1) (788). (¬2) رسمها في الأصل يحتمل "يزيد بن أخرم" كما وقع في التهذيب: (7/ 104) والمؤلف صادر عنه، والتصويب من المسند والتاريخ الكبير. (¬3) الأصل تبعًا للتهذيب "يزيد" وهو خطأ، والتصويب من التاريخ الكبير. (¬4) "التاريخ الكبير": (2/ 140)، وانظر "الضعفاء" للعقيلي: (1/ 157). (¬5) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (5/ 337)، و"الجرح والتعديل": (5/ 275)، و"الثقات": (7/ 87)، و"الميزان": (3/ 297)، و"تهذيب التهذيب": (6/ 251 - 252). (¬6) (3/ 123). وقد رمز المؤلف للبخاري بـ (خ) اختصارًا. (¬7) نقله عنه الحافظ في التهذيب، ورد عليه بما نقله المؤلف من كلامه.

عبد الرحمن بن فرّوخ هذا لأنه لم يروِ عنه غير عمرو بن دينار .... لم يصرِّحا باشتراط ذلك، بل يقوم مقام الراوي الثاني الشهرة مثلًا. 88 - (خ ق) عبد الرحمن بن مالك بن جُعْشُم: تفرّد عنه الزهري. (م) (¬1) قال ابن أبي حاتم (¬2): " ... روى عن سُراقة بن مالك. روى عنه الزهري. سمعت أبي يقول ذلك". وفي "التهذيب" (6/ 263): "عبد الرحمن بن مالك بن جعشم ... روى عنه الزهري. قال النسائي: ثقة". أخرج البخاري في "الصحيح" (¬3) في باب هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم حديث الهجرة من طريق ابن شهاب عن عروة عن عائشة فساقه، إلى أن قال: قال ابن شهاب: وأخبرني عبد الرحمن بن مالك المُدلجي - وهو ابن أخي سراقة (بن مالك) بن جُعْشُم - أن أباه أخبره أنه سمع سراقة ... فذكر الحديث. وله شواهد قد تعرّض لها ابن حجر في "فتح الباري" (¬4). ¬

_ (¬1) "المنفردات والوحدان" (ص 122). (¬2) "الجرح والتعديل": (5/ 286). وله ترجمة في "الثقات": (6/ 64) لابن حبان. (¬3) (3906). (¬4) (7/ 240 - 248).

89 - (د ق) عبد الرحمن بن ميسرة، أبو سَلَمة الحمصي (¬1): "التهذيب" (¬2): "وعنه حَريز بن عثمان، وصفوان بن عمرو، وثور بن يزيد. قال ابن المديني: مجهول، لم يرو عنه غير حَريز. وقال العجلي: ثقة. وقال أبو داود: شيوخ حَريز كلهم ثقات". أقول: له ذِكر في ترجمة حَريز بن عثمان (¬3). 90 - (خ م د س) عبد الرحمن بن نَمِر اليَحْصُبي: لم يرو عنه إلا الوليد بن مسلم. (فتح المغيث) (¬4). قال ابن أبي حاتم (¬5): " ... روى عن الزهري. روى عنه الوليد بن مسلم .. قرئ على العباس بن محمَّد الدوري عن ابن معين أنه قال: ابن نمر ضعيف في روايته عن الزهري ... دُحَيم يقول: عبد الرحمن بن نمر صحيح الحديث عن الزهري، ما أعلم أحدًا روى عنه غير الوليد ... سألت أبي عن ¬

_ (¬1) ترجمته في: "الجرح والتعديل": (5/ 285)، و"الثقات": (5/ 109)، و"الميزان": (3/ 308)، و"تهذيب التهذيب": (6/ 284). (¬2) رمز له المؤلف بحرف (ت) اختصارًا. (¬3) انظر "تهذيب التهذيب": (2/ 273). وقوله "بن عثمان" غير محررة في الأصل ولعلها ما أثبتّ. (¬4) (2/ 46). (¬5) "الجرح والتعديل": (5/ 295). وله ترجمة في: "التاريخ الكبير": (5/ 357)، و"الثقات": (7/ 82)، و"الميزان": (3/ 309)، و"تهذيب التهذيب": (6/ 287 - 288).

ابن نمر فقال: ليس بقويّ، لا أعلم روى عنه غير الوليدِ بن مسلم. وسليمانُ بن كثير وسفيانُ بن حسين أحبّ إليَّ من ابن نمر. وابنُ نمر أحبّ إليَّ من مرزوق بن أبي الهُذيل". في "التهذيب" (6/ 287): "عبد الرحمن بن نمر اليحصبي، أبو عمرو الدمشقي، روى عن الزهري ومكحول الشامي. وعنه الوليد بن مسلم ... ". ثم حكى عن ابن معين أنه قال: ضعيف. وعن أبي داود: ليس به بأس. وعن أبي حاتم: ليس بقوي ... لا أعلم روى عنه غير الوليد، وعن ابن حبان: من ثقات أهل الشام ومتقنيهم. وحكى ابن عدي (¬1) أن عبد الرحمن هذا روى عن الزهري حديثه عن عروة عن مروان عن بسرة في الأمر بالوضوء من مس الذكر، فزاد فيه: "والمرأة مثل ذلك"، ولم يقلها غيره: "عن الزهري". فزعم أن ابن معين إنما ضعّفه لأجلها. قال ابن عدي: وهو في جملة من يُكتب حديثه من الضعفاء, وابن نمر هذا له عن الزهري غير نسخة، وهي أحاديث مستقيمة. ثم ذكر (¬2) أن الشيخين أخرجا له حديثًا واحدًا في الكسوف متابعة (¬3)، ثم ذكر ثناء أبي زرعة الدمشقي وأبي أحمد الحاكم على حديثه، وقول ابن البَرْقي والذُّهلي: ثقة. ¬

_ (¬1) في "الكامل": (4/ 292). (¬2) يعني الحافظ في "التهذيب". (¬3) البخاري (1066)، ومسلم (901).

قال: وقال الذهلي: ... لا أعلم روى عنه غير الوليد. وكذا قال دحيم: لم يرو عنه غير الوليد. وفي "الفتح" (¬1): عند ذِكر حديثه في الكسوف: "ضعّفه ابنُ معين؛ لأنه لم يرو عنه غير الوليد". أقول: ذكر البيهقي في "السنن" (1/ 132) حديثَه في مسّ الذَّكَر، والزيادة، واستظهر أنها من قول الزهري. فراجعه. فيكون الوهم في إدراجها في الحديث. والله أعلم. 91 - (قد) عبد الرحمن بن هُنَيْدة (¬2): عنه الزهري. قال الآجُرّي عن أبي داود: ثقة، روى أحاديث مسندة. وقال أبو زرعة: ثقة. 92 - (د) عبيد الله بن عامر المكّي (¬3): (في ترجمة عبد الرحمن بن عامر المكي): قال ابن معين: عبيد الله عن عبد الله بن عمرو، وعنه ابن أبي نَجِيح، هو ثقة. ¬

_ (¬1) (2/ 549). ومثله في "هُدى الساري" (ص 462). (¬2) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (5/ 360)، و"الجرح والتعديل": (5/ 297)، و"الثقات": (5/ 113)، و"تهذيب التهذيب": (6/ 291). قلت: وحديثه في "مسند أحمد" (6207). (¬3) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (5/ 392)، و"الجرح والتعديل": (5/ 330)، و"الثقات": (7/ 146)، و"تهذيب التهذيب": (6/ 202) في ترجمة عبد الرحمن بن عامر كما ذكر المؤلف.

93 - (س) عبيد الله بن عبد الرحمن (¬1): وعنه مالك. قال أبو حاتم: شيخ، وحديثه مستقيم. 94 - (ق) عبيد الله بن المغيرة بن أبي بُرْدة (¬2): عن ابن عباس. وعنه يحيى بن عبد الرحمن الكندي. له حديثٌ (¬3)، قال ابن حجر: أخرجه الضياء في "المختارة" (¬4) ومقتضاه أن يكون عبيد الله عنده ثقة. 95 - (خ د ت ق) عُبيد بن أبي مريم المكي (¬5): عن عُقبة بن الحارث، في المرأة التي تزوجها، فجاءت امرأة سوداء فقالت: إني أرضعتكما. وعنه ابن أبي مُلَيكة. قال: وقد سمعتُه من عُقبة، ولكنّي لحديث عُبيدٍ أحْفَظ (¬6). ¬

_ (¬1) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (5/ 390)، و"الجرح والتعديل": (5/ 323)، و"الثقات": (7/ 148)، و"تهذيب التهذيب": (7/ 30). (¬2) ترجمته في: "تهذيب التهذيب": (7/ 49). وله ذكر في "التاريخ الكبير": (8/ 290). (¬3) أخرجه ابن ماجه (255) ولفظه: "عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن أناسًا من أمتي سيتفقهون في الدين، ويقرؤون القرآن، ويقولون: نأتي الأمراء فنصيب من دنياهم، ونعتز لهم بديننا، ولا يكون ذلك، كما لا يُجتنى من القتاد إلا الشوك، كذلك لا يجتنى من قربهم إلا "قال: محمَّد بن الصباح، كأنه يعني الخطايا". (¬4) (11/ 167). (¬5) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (6/ 5)، و"الجرح والتعديل": (6/ 3)، و"الثقات": (5/ 137)، و"تهذيب التهذيب": (7/ 73)، و"الميزان": (3/ 420). (¬6) أخرجه البخاري (5104)، وأبو داود (3604)، والترمذي (1151)، والنسائي (3330).

قال ابن المديني: لا نعرفه (¬1). 96 - (ق) عَتّاب، مولى هُرمز، ويقال: عتّاب بن هرمز: تفرّد عنه شعبة. (م) (¬2). البخاري (4/ 1/ 55): "عتّاب بن هُرمز. سمع أنسًا وروى عنه شعبة". وفي "التهذيب" (7/ 93): روى عن أنس في البيعة على السمع والطاعة. وعنه شعبة. وثقه ابن معين. حديثه في "سنن ابن ماجه" (¬3)، باب البيعة: ... شعبة عن عتّاب مولى هرمز قال: سمعت أنس بن مالك يقول: "بايَعْنا رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم على السمع والطاعة، فقال: فيما استطعتم". وشواهده معروفة، منها: ما في "الموطأ" و"الصحيحين" عن ابن عمر: "كنا إذا بايعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على السمع والطاعة يقول لنا: فيما استطعتم" (¬4). وفي رواية: "فيما استطعت". ¬

_ (¬1) قال الذهبي: ما حدث عنه سوى ابن أبي مُليكة، لكنه وثّق. وقال الحافظ في التقريب: مقبول. يعني حيث يُتابع وإلا فليّن وقد أخرج له البخاري متابعة. (¬2) "المنفردات والوحدان" (ص 235). وله ترجمة في "الجرح والتعديل": (7/ 12)، و"الثقات": (5/ 274). (¬3) (2868). وأخرجه أحمد (12203). (¬4) "الموطأ" (1774)، والبخاري (7202)، ومسلم (1867).

وأخرجه أحمد في "المسند" (¬1) من أوجهٍ عن شعبة. وأخرج (3/ 209) (¬2): "ثنا سليمان، ثنا شعبة، عن حماد وعبد العزيز بن رفيع (قال أحمد: إنما هو ابن صهيب) وعتّاب مولى ابن هرمز ورافع (¬3) - أيضًا - سمعوا أنسًا يحدِّث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "مَن كذب عليَّ متعمّدًا فليتبوّأ مقعدَه من النار". 97 - (بخ ت س ق) عُتَيّ بن ضَمْرة (¬4): عن أبيّ وابن مسعود. قال ابن المديني: مجهول، سمع من أُبي بن كعب، لا نحفظها إلا من طريق الحسن، وحديثه يشبه حديث أهل الصدق، وإن كان لا يعرف. وقال ابن سعد: ثقة. وقال العجلي: بصري ثقة، روى عنه الحسن ستةَ أحاديث، ولم يرو عنه غيرُه. وفي "التهذيب": أنه روى عنه ابنُه عبد الله بن عُتيّ. ¬

_ (¬1) (12203، 12764، 12921، 13116). (¬2) (13189). (¬3) كذا في الأصل ومطبوعة المسند القديمة (وعنها صدر المؤلف)، وهو كذلك في الأصول الخطية للمسند، وهو تحريف. وصوّب في ط المحققة "ورابع" والتصويب من "أطراف المسند": (1/ 354)، و"إتحاف المهرة": (1/ 602). والراوي الرابع هو سليمان التيمي كما في رواية الدارمي (236). (¬4) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (7/ 90)، و"الجرح والتعديل": (7/ 41)، و"الثقات": (5/ 286)، و"تهذيب التهذيب": (7/ 104).

98 - (4) عثمان بن إسحاق بن خَرَشة (¬1): (م). عن قَبيصة بن ذُؤيب: "جاءت الجَدَّة إلى أبي بكر" (¬2). وعنه الزهري. قال ابن معين: ثقة. 99 - (س) عثمان بن مُوهَب (¬3): عن أنس قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة ... (¬4). وعنه زيد بن الحُباب. قال أبو حاتم: صالح الحديث. 100 - (خت مبهمًا) عثمان بن نَجيح (¬5): ¬

_ (¬1) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (6/ 212)، و"الوحدان" (ص 122)، و"الجرح والتعديل": (6/ 144)، و"الثقات": (7/ 190)، و"تهذيب التهذيب": (7/ 106). (¬2) أخرجه أبو داود (2894)، والترمذي (2101)، والنسائي (6312)، وابن ماجه (2724)، وأحمد (17980). قال الترمذي: حسن صحيح. (¬3) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (6/ 253)، و"الجرح والتعديل": (6/ 169)، و"الميزان": (3/ 455)، و"تهذيب التهذيب": (7/ 156). (¬4) باقي الحديث: "ما يمنعك أن تسمعي ما أوصيك به، أن تقولي إذا أصبحتِ وإذا أمسيتِ: يا حيّ يا قيّوم برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين". أخرجه من طريق عثمان بن موهب النسائي في "الكبرى" (10330)، وأخرجه الترمذي (3524) مختصرًا بدون ذكر فاطمة من طريقٍ آخر عن أنس، قال الترمذي عنه: "هذا حديث غريب، وقد روي .. عن أنس من غير وجه". قلت: وقد أخرج له البخاري حديثان برقم (3130، 4066). (¬5) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (6/ 254)، و"الجرح والتعديل": (6/ 171)، و"الثقات": (6/ 196)، و"تهذيب التهذيب": (7/ 156).

"فتح الباري" (4/ 100) (¬1). 101 - (خت م 4) عجلان مولى فاطمة (¬2): عنه ابنه محمَّد، وبُكَير بن الأشج، وإسماعيل بن أبي حبيبة - إن كان محفوظًا -. قال النسائي: لا بأس به. وقال الآجُرّي عن أبي داود: لم يرو عنه غير ابنه محمَّد. 102 - (س) عجلان مولى المُشْمَعلّ (¬3): عنه ابن أبي ذئب. قال النسائي: ليس به بأس. له عنده حديث في النهي عن مسابّة الصائم (¬4). وقال الدارقطني: يعتبر به. 103 - (خ د س) عطاء، أبو الحسن السُّوائي (¬5): عن ابن عباس في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ ¬

_ (¬1) (4/ 141). وانظر "تغليق التعليق": (3/ 145). و"صحيح البخاري": (3/ 29). (¬2) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (7/ 61)، و"الجرح والتعديل": (7/ 18)، و"الثقات": (5/ 277)، و"تهذيب التهذيب": (7/ 161). (¬3) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (7/ 61)، و"الجرح والتعديل": (7/ 18)، و"الثقات": (5/ 278)، و"تهذيب التهذيب": (7/ 161). (¬4) في الكبرى (2325). (¬5) ترجمته في: "تهذيب الكمال": (5/ 180 - 181)، و"تهذيب التهذيب": (7/ 219).

تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} [النساء: 19] (¬1). وعنه أبو إسحاق الشيباني. أخرج له خ د س مقرونًا بعكرمة. 104 - (خ) عُقبة بن وَسَّاج (¬2): عنه إبراهيم بن أبي عبلة، وقتادة، وأبو عبيد حاجب سليمان، ويحيى بن أبي عمرو السَّيباني. وثّقه يعقوب بن سفيان والدارقطني. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وقال الآجرّي عن أبي داود: ثقة، لم يحدِّث عنه إلا قتادة. وقال ابن شاهين في "الثقات" (¬3): قال ابن عمار: معروف ثقة. روى عنه الناس (¬4). 105 - (عخ ت س) العلاء بن أبي حكيم (¬5): ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4579)، وأبو داود (2089)، والنسائي في الكبرى (11028). (¬2) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (6/ 432)، و"الجرح والتعديل": (6/ 318)، و"الثقات": (5/ 226)، و"تهذيب التهذيب": (7/ 251 - 252). (¬3) (ص 249). (¬4) كتب المؤلف هذه الترجمة مرتين، إحداهما في حاشية الصفحة، وهي هذه، والأخرى في الصفحة السابقة، ولا فرق بينهما إلا في الترتيب، وتزيد الترجمة في الموضع الأول على الموضع الثاني بقوله: (له عند خ حديث في إغضاب أبي بكر). وسها عن الضرب على إحداهما. (¬5) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (6/ 508)، و"الجرح والتعديل": (6/ 354)، و"الثقات": (5/ 246)، و"الميزان": (4/ 18)، و"تهذيب التهذيب": (8/ 179).

عنه أبو عثمان الوليد بن أبي الوليد. قال الذهبي: ما علمت روى عنه غيره. قال العجلي: شامي تابعي ثقة (¬1). 106 - (ص) العلاء بن عَرَار: تفرّد عنه أبو إسحاق السبيعي. (م) (¬2). قال ابن أبي حاتم (3/ 1/ 359): "العلاء بن عرار الخارفي. روى عن ابن عمر. روى عنه: أبو إسحاق الهمداني ... ذكره أبي عن إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين أنه قال: العلاء بن عرار الخارفي ثقة". وفي "التهذيب" (8/ 189): " ... روى عن ابن عمر في قضية عثمان وعمر. وعنه أبو إسحاق السبيعي. قال إسحاق بن منصور عن ابن معين: ثقة". أقول: حديثه في "خصائص علي" للنسائي (ص 20) (¬3) في سؤال رجل ابن عمر عن علي وعثمان وثناء ابن عمر عليهما. والحديث في "صحيح البخاري" (¬4) من طريق أخرى عن ابن عمر. ذكره في مناقب علي وغيرها. ¬

_ (¬1) "الثقات": (2/ 149). (¬2) "المنفردات والوحدان" (ص 137). وله ترجمة في "التاريخ الكبير": (6/ 509). (¬3) (8436، 8437) ضمن السنن الكبرى. (¬4) (3698، 4513).

[*106]- علي بن علقمة الأنماري (¬1): لم يرو عنه إلا سالم بن أبي الجعد (¬2). 107 - عليّ بن عليّ بن السائب بن يزيد بن رُكانة: لا نعلم أحدًا روى عنه غير شَريك (ن) (¬3). قال ابن أبي حاتم (3/ 1/ 197): "علي بن علي القرشي الكوفي. روى عن إبراهيم النخعي - مرسل -. روى عنه شريك. سمعت أبي يقول ذلك". وفي أتباع التابعين من "الثقات" (¬4): "عليّ بن عليّ، شيخٌ من أهل الكوفة. يروي عن إبراهيم النخعي أحرفًا يسيرة. روى عنه شريك بن عبد الله النخعي". وفي "لسان الميزان" (4/ 245) (¬5): "روى عن إبراهيم النخعي مرسلاً، وعن سالم بن عبد الله ... في أسئلة إبراهيم بن الجنيد ليحيى بن معين: قلت ليحيى: من علي بن علي؟ قال: ابن السائب، كوفي ثقة. قلت: من يحدث عنه غير شريك؟ قال: ما علمت. ¬

_ (¬1) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (6/ 289)، و"الجرح والتعديل": (6/ 197)، و"الثقات": (5/ 163)، و"تهذيب التهذيب": (7/ 365). (¬2) قال الحافظ في "التهذيب": "قال البخاري: في حديثه نظر ... وقال ابن عدي: ما أرى بحديثه بأسًا وليس له عن علي غيره إلا اليسير، وذكره العقيلي وابن الجارود في الضعفاء تبعا للبخاري على العادة". (¬3) "الوحدان" (ص 259) للنسائي. وله ترجمة في: "التاريخ الكبير": (6/ 287). (¬4) لابن حبان (7/ 210). (¬5) (5/ 566).

وذكر قبل عن الخطيب: قد شارك شريكًا في الرواية عنه قيس بن الربيع. 108 - (د س) عُمارة بن أُكَيمة: تفرّد عنه الزهري. (م) (¬1). وقال ابن أبي حاتم: (3/ 1/ 362): "عمارة بن أكيمة الليثي. روى عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "ما لي أنازع القرآن؟ ... ". وروى عن ابن أخي أبي رُهم الغفاري. سمع منه الزهري. سمعت أبي يقول ذلك. وسألته عنه فقال: هو صحيح الحديث، حديثه مقبول". وفي "التهذيب" (7/ 410): روى عن أبي هريرة في القراءة خلف الإمام. وعن ابن أخي أبي رُهم الغفاري. روى عنه الزهري. قال أبو حاتم: صالح الحديث (¬2) مقبول. وقال ابن سعد: توفي سنة (101)، وهو ابن (79) سنة ... ومنهم من لا يحتج بحديثه ويقول: هو مجهول ... قال يحيى بن معين: كفاك قول الزهري: سمعت ابن أكيمة يحدث سعيد بن المسيب ... وقال الدوري عن يحيى: ... ثقة. وقال يعقوب بن سفيان: هو من مشاهير التابعين بالمدينة ... وقال الحميدي: هو رجل مجهول ... ¬

_ (¬1) "المنفردات والوحدان" (ص 122). (¬2) كذا في الأصل وفي طبعة "التهذيب"، وفي "تهذيب الكمال": (5/ 320) أنه قال: صحيح الحديث، كما سبق عن "الجرح والتعديل".

أقول: حديثه في القراءة في "الموطأ" والسنن (¬1)، ولفظ "الموطأ": "مالك، عن ابن شهاب، عن ابن أُكيمة الليثي، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انصرف من صلاةٍ جهَر فيها بالقراءة، فقال: هل قرأ معي منكم أحدٌ آنفًا؟ فقال رجل: نعم، أنا يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إني أقول: ما لي أُنازَع القرآن؟ فانتهى الناسُ عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما جهر فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالقراءة حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم". وأخرجه أبو داود (¬2) عن القعنبي، عن مالك بنحوه، وزاد كلمة "قال" قبل "فانتهى". ثم أخرجه (¬3) من طريق سفيان عن الزهري قال: سمعت ابن أُكيمة يحدّث سعيد بن المسيب قال: سمعت أبا هريرة يقول: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاة نظنّ أنها الصبح - بمعناه إلى قوله:- ما لي أُنازَع القرآن؟ ". ثم ذكر اختلاف الرواة عن الزهري في قوله: "فانتهى" إلى آخره. ثم قال: سمعت محمَّد بن يحيى بن فارس قال: قوله: "فانتهى الناس" من كلام الزهري. ¬

_ (¬1) أخرجه مالك في "الموطأ" (193)، وأبو داود (826)، والترمذي (320)، والنسائي (919)، وابن ماجه (848)، وأحمد (7270). (¬2) (826). (¬3) (826).

أقول: وكلام محمَّد بن يحيى فيما (¬1) يتعلق بحديث الزهري تركن إليه النفس؛ لأنه مع إمامته وعلوّ درجته عُني بحديث الزهري وجَمْعه والكلام في علله، فهو أعرف بحديثه وبعادته وبدرجات أصحابه. وقد قال البخاري في "جزء القراءة" (¬2): "قوله: "فانتهى الناس" من كلام الزهري، وقد بينه لي الحسن بن صبّاح قال: ثنا مبشّر عن الأوزاعي قال الزهري: فاتعظ المسلمون بذلك، فلم يكونوا يقرؤون فيما جهر. قال ربيعة للزهري: إذا حدّثت فبيِّن كلامك من كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم". أقول: فإذا كان هكذا، ثم حمل السؤال والنهي والانتهاء على ما عدا الفاتحة، بدليل أن جماعة من الصحابة رووا نحوه هذه القصة، وزادوا من كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "فلا تفعلوا إلا بأمّ القرآن" لم يبق في حديث ابن أُكيمة ما يُنكَر. فأما قول ابن معين: "كفاك قول الزهري ... " فمراده: أن ابن المسيّب مع جلالته كان من أعرف الناس بأبي هريرة؛ لأنه كان زوج ابنته، فاستماعه لحديث ابن أُكيمة عن أبي هريرة، وعدم إنكاره له، يدلّ على أحد أمرين: إما أن يكون قد عرَف الحديثَ قبل ذلك، وإما أن يكون ابن أُكيمة عنده ثقة لا يشك في صحة حديثه بمجرد ما روى عن أبي هريرة مما يخالف ظاهره. وأما حديثه الآخر عن ابن أخي أبي رُهم، فكأنه وهمٌ من ابن إسحاق، فقد رواه أحمد في "المسند" (4/ 349) (¬3): ثنا عبد الرزاق ثنا معمر عن ¬

_ (¬1) رسمها في الأصل (في ما). (¬2) (68). (¬3) (19072).

الزهري أخبرني ابن أخي أبي رهم أنه سمع أبا رهم ... ثم قال (¬1): ثنا يعقوب، ثنا أبي، عن صالح قال ابن شهاب: أخبرني ابن أخي أبي رُهم الغفاري أنه سمع أبا رُهم ... ثم قال (¬2): ثنا يعقوب، ثنا أبي، عن ابن إسحاق: وذكر ابن شهاب، عن ابن أُكيمة الليثي، عن ابن أخي أبي رُهم الغفاري: أنه سمع أبا رُهم ... فذكره بنحوه. وكأنّ سبب الوهم أن ابن شهاب تفرّد عن ابن أخي أبي رُهم، كما تفرّد عن ابن أُكيمة، فاقترنا في ذهن ابن إسحاق أولًا لذلك، ثم توهّم ما توهّم. والله أعلم. 109 - (4) عُمارة بن حَديد (¬3): عن صخر الغامدي. وعنه يَعْلى بن عطاء. قال ابن المديني: لا أعلم روى عنه غيرُه. وقال أبو زُرعة: لا يُعرف. وقال ابن السّكَن: مجهول. وكذا قال أبو حاتم، وزاد: مثل حُجَية بن عَدي، وهُبيرة بن يَريم. ¬

_ (¬1) (19073). (¬2) (19074). (¬3) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (6/ 697)، و"الوحدان" (ص 167)، و"الجرح والتعديل": (6/ 364)، و"الثقات": (5/ 241)، و"الميزان": (4/ 95)، و"تهذيب التهذيب": (7/ 414).

وفي ترجمة صخر من "الإصابة" (¬1) عند ذكر حديث عمارة ... (¬2): "وصححه ابن خزيمة وغيره". 110 - (عس) عُمارة بن عَبْد (¬3): "التهذيب" (¬4): روى عنه أبو إسحاق، ولم يرو عنه غيره. الجوزجاني عن أحمد: مستقيم الحديث، ولم يرو عنه غير أبي إسحاق. وقال أبو حاتم: شيخ مجهول، لا يحتجّ بحديثه. أقول: ووثّقه العجلي كما في ترجمة سليم بن عبد من "تعجيل المنفعة" (¬5). في تفسير ابن جرير (9/ 47 -) (¬6): "حدثنا ابن بشار وابن وكيع قالا: ثنا يحيى بن يمان قال: ثنا سفيان قال: ثني أبو إسحاق، عن عُمارة بن عبد الله السّكوني، عن علي رضي الله عنه قال: "انطلق موسى وهارون وشبّر وشَبير، فانطلقوا إلى سفح جبل، فقام هارون على سريره فتوفاه الله، فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا له: أين هارون؟ قال: توفاه الله. قالوا: أنت قتلته، حسدتنا على خُلقه ولينه - أو كلمةً نحوها - قال: فاختاروا مَن شئتم. ¬

_ (¬1) (3/ 418). (¬2) كلمة لم تتبين. (¬3) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (6/ 501)، و"الجرح والتعديل": (6/ 367)، و"الثقات": (5/ 244)، و"الميزان": (4/ 97). (¬4) "تهذيب التهذيب": (7/ 420). وقد رمز له المؤلف بـ (ت). (¬5) (1/ 607 - 608). وانظر "الثقات": (2/ 162) للعجلي. (¬6) (10/ 470 - ط دار هجر).

قال: فاختاروا سبعين رجلاً. قال: فذلك قوله: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ ...} [الأعراف: 155] قال: فأخذتهم الرجفة ... ". * (عمارة بن عثمان بن حنيف). * (عمارة بن ميمون). * عمر بن سفينة. 111 - (خ) عمر بن محمَّد بن جُبَير بن مُطْعِم: تفرّد عنه الزهري. م - "فتح المغيث" (¬1). قال ابن أبي حاتم (3/ 1/ 131): "عمر بن محمَّد بن جبير بن مطعم القرشي. روى عن أبيه. روى عنه ابن شهاب الزهري. سمعت أبي يقول ذلك". ونحوه في "الثقات" (¬2). وفي "التهذيب" (7/ 494): "روى عن أبيه. وعنه الزهري. قال النسائي: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". روى له البخاري حديثًا واحدًا، حديث: "لو كان عندي عدد هذه العِضاه ... ". ذكر غير واحد أن الزهري تفرد بالرواية عنه". أقول: الحديث أخرجه البخاري (¬3) في الجهاد، في باب الشجاعة في ¬

_ (¬1) "المنفردات والوحدان" (ص 121)، و"فتح المغيث": (2/ 50). (¬2) (7/ 184). (¬3) (2821).

الحرب: حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري قال: أخبرني عمر بن محمَّد بن جبير بن مطعم أن محمَّد بن جبير قال: أخبرني جُبير بن مُطعِم أنه بينما هو يسير مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعه الناس مقفَلَه من حُنين، فعَلِقَه (¬1) الناسُ يسألونه حتى اضطروه إلى سَمُرة، فخطفت رداءَه، فوقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: "أعطوني ردائي، لو كان لي عددُ هذه العِضاه نَعَمًا (¬2) لقسمته بينكم، ثم لا تجدوني بخيلًا ولا كذوبًا ولا جبانًا". قال ابن حجر في "الفتح" (¬3): "عمر بن محمَّد بن جبير بن مطعم لم يرو عنه غير الزهري ... وهذا مثال للرد على من زعم أن شرط البخاري أن لا يروي الحديث الذي يخرجه أقل من اثنين عن أقل من اثنين، فإن هذا الحديث ما رواه عن محمَّد بن جبير غير ولده عمر، ثم ما رواه عن عمر غير الزهري. هذا مع تفرد الزهري بالرواية عن عمر مطلقًا، وقد سمع الزهري من محمَّد بن جبير أحاديث، وكأنه لم يسمع هذا منه، فحمَله عن ابنه. والله أعلم". وأعادَه البخاريُّ بسندٍ آخر إلى الزهري في باب من لم يخمس الأسلاب (¬4)، وذكر الحافظ هناك (¬5) أن عمر بن شَبّة أخرج في كتاب مكة نحوه عن عمرو بن سعيد مرسلاً. ¬

_ (¬1) في الأصل: "فعلقت" والمثبت من الصحيح. (¬2) في الأصل: "نعم" والمثبت من الصحيح. (¬3) (6/ 35). (¬4) (3148). (¬5) (6/ 254).

112 - (د ت) عمر بن مُرّة الشّنّي (¬1): عنه ابنه حفص. قال النسائي: ليس به بأس. * (عمر بن معتب). 113 - (4) عَمرو بن بُجْدان العامري (¬2) (¬3): في "التهذيب" (¬4): "روى عن أبي ذر الغفاري وأبي زيد الأنصاري. وعنه أبو قلابة. قال ابن المديني: لم يرو عنه غيره. وقال العجلي: بصري تابعي ثقة. وقال عبد الله بن أحمد: قلت لأبي: عمرو بن بجدان معروف؟ قال: لا. وقال ابن القطان: لا يعرف. وقال ¬

_ (¬1) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (6/ 198)، و"الجرح والتعديل": (6/ 136)، و"الثقات": (8/ 445)، و"التهذيب": (7/ 498). قلت: له حديث واحد في الكتب الستة أخرجه أبو داود (1517)، والترمذي (3577)، ولفظه: "عن عمر بن مرة قال: "سمعت بلال بن يسار بن زيد، حدثني أبي، عن جدي، سمع النبي - صلى الله عليه وسلم -، يقول: "من قال: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه، غفر له وإن كان فرّ من الزحف". قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. (¬2) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (6/ 317)، و"الجرح والتعديل": (6/ 222)، و"الثقات": (5/ 171). (¬3) كتب في الأصل أمام هذه الترجمة: المستدرك (1/ 176) (5/ 155) (م). وحديثه في السنن والمسند. (¬4) (8/ 7).

الذهبي في "الميزان" (¬1): مجهول الحال". 114 - (د) عمرو بن حَرِيش: يأتي القول فيه في ترجمة أبي سفيان (¬2). 115 - (س) عمرو بن سفيان الثقفي (¬3): قال البخاري (¬4) في تفسير سورة النحل: قال ابن عباس: السَّكَر ما حُرَّم من ثمرتها، والرزق الحَسَن ما أحلَّ الله. وصَلَه سفيانُ بن عيينة في "تفسيره"، من رواية سعيد بن عبد الرحمن، عن الأسود بن قيس، عن عمرو بن سفيان، عن ابن عباس. وكذا وصله أبو داود في ناسخه، وعبد بن حُميد من وجهين آخرين عن الأسود (¬5). [*115] (عمرو بن عاصم بن سفيان) (¬6): روى عنه رجلان، ولكنه مقل، ووثقه أحمد. ¬

_ (¬1) (4/ 167). (¬2) ترجمة رقم (193). (¬3) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (6/ 310)، و"الجرح والتعديل": (6/ 234)، و"الثقات": (5/ 176)، و"الميزان": (4/ 182)، و"التهذيب": (8/ 40). (¬4) "الصحيح": (6/ 82). (¬5) ذكر ذلك الحافظ في التهذيب، وانظر "فتح الباري": (8/ 387)، و"تغليق التعليق": (4/ 237 - 238). (¬6) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (6/ 355)، و"الجرح والتعديل": (6/ 250)، و"الثقات": (5/ 170)، و"التهذيب": (8/ 58).

116 - (الأربعة) (¬1) عمرو بن عبد الله بن كعب بن مالك (¬2): يروي عن نافع بن جبير بن مطعم. وعنه يزيد بن خُصَيفة. قال الذهبي: تفرّد عنه يزيد بالرواية. وقال النسائي: ثقة. ووثقه يعقوب بن سفيان، لكن سماه عمر. روى له الأربعة حديث عثمان بن أبي العاص في الدعاء (¬3)، وصححه الترمذي. 117 - (د) عمرو بن عبد الله السَّيباني (¬4): روى عنه يحيى بن أبي عمرو السيباني. قال الذهبي: ما علمت روى عنه سواه. وقال العجلي: شامي تابعي ثقة. 118 - (ت س) عمرو بن علقمة بن وقّاص (¬5): روى عنه ابنه محمَّد. ¬

_ (¬1) كتب المؤلف رقم (4) ثم كتبه بالأحرف الهندية، ثم ضرب عليها، ثم كتب ما هو مثبت، ولم يضرب على الرقم. (¬2) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (6/ 346)، و"الجرح والتعديل": (6/ 243)، و"الثقات": (7/ 225)، و"التهذيب": (8/ 67). (¬3) أبو داود (3891)، والترمذي (2080)، النسائي في الكبرى (7504)، وابن ماجه (3522)، وأحمد (16268)، وابن حبان (2965). قال الترمذي: حسن صحيح، وصححه ابن حبان. (¬4) ترجمته في: "الجرح والتعديل": (6/ 244)، و"الثقات": (7/ 179)، "تهذيب الكمال": (5/ 435)، و"التهذيب": (8/ 68). (¬5) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (6/ 355)، و"الجرح والتعديل": (6/ 251)، و"الثقات": (5/ 174)، و"الميزان": (4/ 201)، و"التهذيب": (8/ 79).

وصحح له الترمذيُّ وابنُ خزيمة وابنُ حبان (¬1). 119 - (ت س) عَمرو بن غالب: تفرد عنه أبو إسحاق السَّبيعي. (م) (¬2). وفي كتاب ابن أبي حاتم (3/ 1/ 253): "عمرو بن غالب الهَمْداني. كوفي، روى عن عائشة. روى عنه أبو إسحاق الهمداني. سمعت أبي يقول ذلك". ونحوه في "الثقات" (¬3). وفي "التهذيب" (8/ 88): "عمرو بن غالب الهمداني الكوفي. روى عن علي وعمّار وعائشة والأشتر النخعي. وعنه أبو إسحاق السبيعي ... قال ابن البر في: كوفي مجهول، احتملت روايته لرواية أبي إسحاق عنه ... وقال أبو عمرو الصدفي: وثقه النسائي. وقال الذهبي: ما حدث عنه سوى أبي إسحاق". "مسند أحمد" (6/ 58، 181، 205، 214) (¬4). 120 - (ق) عمرو بن الوليد بن عَبَدة (¬5): روى عنه يزيد بن أبي حبيب. قال الذهبي: ما روى عنه سواه. ¬

_ (¬1) أخرج له الترمذي حديث: "إن أحدكم ليتكلم بالكلمة ... " وقال: حسن صحيح، وصححه ابن حبان (280). وصحح له ابنُ خزيمة حديثًا آخر برقم (416). (¬2) "المنفردات والوحدان" (ص 130). وله ترجمة في "التاريخ الكبير": (6/ 362). (¬3) (5/ 180). (¬4) بالأرقام (24304، 25477، 25700، 25794). (¬5) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (6/ 378)، و"الجرح والتعديل": (6/ 266)، و"الثقات": (5/ 184)، و"الميزان": (4/ 212)، و"التهذيب": (8/ 116).

وقال ابن يونس: كان من أهل الفضل والفقه. وذكره يعقوب بن سفيان في ثقات أهل مصر. 121 - (د س) عمرو بن وَهْب الثقفي (¬1): عن المغيرة بن شعبة حديث المسح على الخفّين (¬2)، وغير ذلك. وعنه محمَّد بن سيرين. قال النسائي والعجلي: ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث. 122 - (س) عمرو ذو مُرّ: تفرّد عنه أبو إسحاق السبيعي. (م) (¬3). وقال ابن أبي حاتم (3/ 1/ 232): "عمرو ذي مر (كذا) (¬4) الهمداني. كوفي، سمع عليًّا رضي الله عنه. روى عنه أبو إسحاق الهَمْداني وحده. سمعت أبي يقول ذلك". ¬

_ (¬1) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (6/ 377)، و"الجرح والتعديل": (6/ 266)، و"الثقات": (5/ 169)، و"الميزان": (4/ 212)، و"التهذيب": (8/ 117). (¬2) أخرجه النسائي (109)، وفي الكبرى (112)، وأحمد (18134)، وابن حبان (1342)، وغيرهم. والحديث له طرق كثيرة جدًّا عن المغيرة، انظر "التمهيد": (11/ 127) لابن عبد البر. (¬3) "المنفردات والوحدان" (ص 131). وترجمته في "التاريخ الكبير": (6/ 329 - 330)، و"الميزان": (4/ 214 - 215). ووقع اسمه في تاريخ البخاري: "عمرو بن ذي مر" وصوّب المؤلف في تعليقه ما هو مثبت. (¬4) وكذا استشكلها المؤلف في تعليقه على "الجرح والتعديل"، وقال: "كذا، والظاهر عمرو ذو مر، والله أعلم".

وفي "التهذيب" (8/ 120): "عن علي وغيره في قصة غدير خُمّ. وعنه أبو إسحاق السبيعي وحده. قال البخاري: لا يعرف. وقال ابن عدي: هو في جملة مشايخ أبي إسحاق المجهولين الذين لا يحدَّث عنهم غيرُه. قلت: وقال البخاري: فيه نظر. وقال مسلم وأبو حاتم: لم يرو عنه غير أبي إسحاق. وقال ابن حبان: في حديثه مناكير. وقال العجلي: كوفي تابعي ثقة". أقول: قد تقدم في ترجمة زيد بن يُثَيع (¬1) الحديث الذي أخرجه عبد الله بن أحمد زيادة في مسند أبيه (1/ 118) من طريق أبي إسحاق، عن سعيد بن وهب وزيد بن يثيع، كما تقدم في ترجمة زيد. ثم قال عبد الله: ثنا علي بن حكيم، أنبأنا شَريك، عن أبي إسحاق، عن عمرو ذي مر بمثل حديث أبي إسحاق - يعني عن سعيد وزيد - وزاد فيه: "وانصر من نصره، واخذل من خذله". وأخرجه النسائي في "الخصائص" (ص 19)، وفيه زيادة. وذَكر له عبد الله بن أحمد من زيادته في "المسند" (1/ 190) (¬2) حديثًا آخر، قَرَنه بأبي حَيّة في الوضوء، سأذكره إن شاء الله تعالى في ترجمة أبي حَيّة (¬3). ¬

_ (¬1) رقم (41). وانظر سياق الحديث هناك (ص 81). (¬2) (1380). (¬3) رقم (192). لكنه لم يذكر الحديث، وهو في المسند رقم (971).

123 - (د ق) عمران بن عبد المعافري (¬1): عن عبد الله بن عَمرو بن العاص. وعنه عبد الرحمن بن زياد بن أنْعُم الإفريقي. قال ابن حجر: ليس له راوٍ غيره. قال ابن معين: ضعيف. وقال العجلي: مصري تابعي ثقة. وذكره يعقوب بن سفيان في ثقات المصريين. وقال ابن القطان: لا يُعرف حاله. 124 - (خت مبهمًا) عمران بن عُمَير الهذلي (¬2): عن عبد الله بن عُتبة. وعنه مِسْعر وحدَه. قال البخاري في باب شهادة القاذف (¬3): "وأجازه عبد الله بن عتبة". وهذا وصَلَه ابنُ أبي شيبة (¬4) من طريق عمران هذا. 125 - (د س) عمران بن نافع (¬5): عن حفص بن عبيد الله بن أنس. وعنه بُكير بن الأشجّ. ¬

_ (¬1) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (6/ 414)، و"الجرح والتعديل": (6/ 300)، و"الثقات": (5/ 220)، و"الميزان": (4/ 159)، والتهذيب": (8/ 134). (¬2) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (6/ 420)، و"الجرح والتعديل": (6/ 303)، و"التهذيب": (8/ 136). (¬3) (3/ 170). (¬4) (21033). (¬5) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (6/ 421)، و"الجرح والتعديل": (6/ 306)، و"الثقات": (7/ 242)، و"الميزان": (4/ 164)، و"التهذيب": (8/ 142).

روى النسائي (¬1) من طريقه عن حفص، عن أنس مرفوعًا: "من احتسب ثلاثةً من صُلبه دخل الجنة. فقامت امرأة فقالت: أو اثنان؟ قال: أو اثنان. قالت المرأة: يا ليتني قلت: واحد". قال النسائي: ثقة. 126 - (بخ س) عُمَير بن إسحاق: تفرّد عنه ابن عَون (م، ن، كفاية) (¬2). قال ابن أبي حاتم (3/ 1/ 375): "عمير بن إسحاق، أبو محمَّد مولى بني هاشم. سمع أبا هريرة وعمرو بن العاص، والحسن بن علي. روى عنه ابن عون، ولا نعلم روى عنه غير ابن عون. سمعت أبي يقول ذلك. ... أنا يعقوب بن إسحاق فيما كتب إليّ قال: أنا عثمان بن سعيد قال: قلت: ليحيى بن معين: عمير بن إسحاق، كيف حديثُه؟ فقال: ثقة". وفي "الثقات" (¬3): " ... عن أبي هريرة وعمرو بن العاص. روى عنه عبد الله بن عون". وفي "التهذيب" (8/ 143): "روى عن المقداد ... وعمرو بن العاص والحسن بن علي وعبد الله بن عبد الله بن أمية ومروان بن الحكم ¬

_ (¬1) (1872) وفي الكبرى (2011). (¬2) "المنفردات والوحدان" (ص 251، 170) لمسلم، و"من لم يرو عنه إلا واحد" (ص 261) للنسائي، و"الكفاية" (ص 88). وله ترجمة في "التاريخ الكبير": (6/ 534). (¬3) (5/ 254).

وسعيد بن العاص. وعنه عبد الله بن عَون. قال أبو حاتم والنسائي: لا نعلم روى عنه غيره. وقال ابن معين: لا يساوي شيئًا، ولكن يُكتب حديثه. وقال عثمان الدارمي: قلت لابن معين: كيف حديثه؟ قال: ثقة. وقال النسائي: ليس به بأس. وذكره ابن حبان في "الثقات". قلت: ذكر الساجيّ أن مالكًا سئل عنه فقال: قد روى عنه رجل، لا أقدر أن أقول فيه شيئًا (¬1). وذكره العقيليُّ في "الضعفاء" (¬2)؛ لأنه لم يرو عنه غير واحد. قال ابن عدي: لا أعلم روى عنه غير ابن عون، وله من الحديث شيء يسير، ويكتب حديثه". "مسند" (2/ 255، 427، 488، 493) (¬3). أبو هريرة والحسن بن علي. 127 - العوّام بن مُراجم (¬4): البخاري (4/ 1/ 66): "عوام بن مراجم القيسي، عن خالد بن سيحان. روى عنه شعبة ويزيد بن هارون ... ". ¬

_ (¬1) يقصد عبد الله بن عون، وهو من الأئمة الثقات. ترجمته في "تهذيب التهذيب": (5/ 346 - 349). (¬2) (3/ 317). (¬3) بالأرقام (7462، 9510، 10326، 10398). (¬4) (مراجم) براء وجيم، وتحرفت في بعض المصادر إلى (مزاحم). وله ترجمة أيضًا في "الثقات": (7/ 298) لابن حبان.

كتاب ابن أبي حاتم (3/ 2/ 22): " ... روى عن خالد بن سيحان. روى عنه شعبة. سمعت أبي يقول ذلك". ثم حكى عن ابن معين: ثقة. وعن أبيه: صالح. وفي "التعجيل" (ص 322) (¬1): " ... عن أبي عثمان النهدي وخالد بن إسحاق (كذا) (¬2) .. وقال ابن معين: ثقة، لم أسمع أحدًا يحدث عنه إلا شعبة". 128 - (س) عَوسَجة بن الرمّاح: تفرّد عنه عاصم الأحول. (م) (¬3). البخاري (4/ 1/ 75): "عوسجة بن الرماح عن (عبد الله بن) أبي الهذيل عن عبد الله: "كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام". قاله مالك بن إسماعيل، عن إسرائيل، عن عاصم، عن عوسجة ... ذكر اختلافًا. قال ابن أبي حاتم (3/ 2/ 24): "عوسجة بن الرماح. روى عن عبد الله بن أبي الهذيل. روى عنه عاصم الأحول. سمعت أبي يقول ذلك ... ذكره أبي عن إسحاق بن منصور، عن يحيى بن معين أنه قال: عوسجة بن الرماح ثقة". ¬

_ (¬1) (2/ 88). (¬2) يعني كذا وقع في الطبعة التي ينقل منها المؤلف، وقد جاء في الطبعة المحققة على الصواب "سيحان" كما سبق نقله من كتاب ابن أبي حاتم. (¬3) "المنفردات والوحدان" (ص 174)

وفي "الثقات" (¬1) ما يأتي في الترجمة الآتية. وفي "التهذيب" (8/ 165): " ... قال إسحاق بن منصور عن ابن معين: عوسجة بن الرماح ثقة ... قال الدارقطني: عوسجة بن الرماح شِبْه المجهول، لا يروي عنه غير عاصم، لا يُحتج به، لكن يُعتبَر به". أقول: الحديث في سنده اختلاف، ذكرَ بعضَه (¬2) البخاريُّ، وبعضَه صاحبُ "التهذيب"، وقد أخرجه مسلم (¬3) من حديث ثوبان ومن حديث عائشة، فمتنه صحيح. وظاهر عبارة "التهذيب" أنه لم يُروَ عن عوسجة إلا هذا الحديث. 129 - (4 أربعة (¬4)) عَوسجة مولى ابن عباس: تفرّد عنه عمرو بن دينار. (م) (¬5). البخاري (4/ 1/ 76): "عوسجة مولى ابن عباس الهاشمي. روى عنه عمرو بن دينار، ولم يصح". وقال ابن أبي حاتم (3/ 2/ 24): "عوسجة مولى ابن عباس روى عن ابن عباس. روى عنه عمرو بن دينار. سمعت أبي يقول ذلك ... سئل أبي عنه ¬

_ (¬1) (7/ 298). (¬2) يعني بعض الاختلاف. (¬3) برقم (591، 592) على التوالي. (¬4) كتب المؤلف بعده "أربعة" حتى لا يظن أنها حرف العين، الذي يُرمَز به للستة. وقد أُمِنَ اللبس هنا فتركناه، وقد وقع ذلك مرارًا. (¬5) "المنفردات والوحدان" (ص 117).

فقال: ليس بمشهور. سئل أبو زرعة عنه فقال: مكي ثقة". وفي "الثقات" (¬1): "عوسجة الهاشمي. يروي عن ابن عباس. روى عنه عَمرو بن دينار. وأحسبه عوسجة بن الرمّاح". كذا قال. وفي "التهذيب" (8/ 165): " ... روى عن مولاه ابن عباس: مات رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يترك وارثًا إلا عبدًا هو أعتقه، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ميراثه. وعنه عمرو بن دينار. قال البخاري: لم يصح حديثه. وقال أبو حاتم والنسائي: ليس بمشهور. وقال أبو زرعة: مكي ثقة ... ". 130 - (د س ق) عيسى بن المختار (¬2): قال الذهبي: تفرّد عنه ابن عمه بكر بن عبد الرحمن. حكى ابن شاهين في "الثقات" (¬3) عن ابن معين أنه قال: صالح. وقال الدارقطني: ثقة. 131 - (قد) الفضل بن سُوَيد (¬4): كتاب ابن أبي حاتم (3/ 2/ 62): " ... سمعت أبي يقول: ... لم يرو ¬

_ (¬1) (5/ 281 - 282). (¬2) ترجمته في: "تهذيب الكمال": (5/ 558)، و"الميزان": (4/ 243)، و"التهذيب": (8/ 229). (¬3) (ص 253 - دار الكتب العلمية، ت قلعجي). (¬4) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (7/ 118)، و"الثقات": (7/ 318)، و"الميزان": (4/ 272)، و"تهذيب التهذيب": (8/ 278).

عنه غير محمَّد بن حُمران، وليس بالمشهور، ولا أرى بحديثه بأسًا". 132 - فُضَيل بن زيد: تفرّد عنه عاصم الأحول. (م) (¬1). البخاري (4/ 1/ 119): "فضيل بن زيد الرقاشي، أبو حسان. يُعدّ في البصريين. كنّاه أبو يزيد، عن عمر. قاله حجاج عن حماد بن سلمة عن عاصم الأحول". وقال ابن أبي حاتم (3/ 2/ 72): " ... روى عن عمر وعبد الله بن مغفل. روى عنه عامر (كذا) الأحول. سمعت أبي يقول ذلك. ... أنا أبو بكر بن أبي خيثمة - فيما كتب إليّ - قال: سألت يحيى بن معين عن الفضيل بن زيد الذي روى عنه عامر (كذا) (¬2) الأحول، فقال: رجل صدوق بصري ثقة". وفي "الثقات" (¬3): "يروي عن عمر. روى عنه عاصم الأحول. مات سنة خمس وتسعين". ¬

_ (¬1) "المنفردات والوحدان" (ص 172). (¬2) يشير المؤلف بهذا إلى وقوع تصحيف في هذا الموضع والذي قبله، وأن الصواب "عاصم" لا "عامر". ووقع مثله أيضًا في "تعجيل المنفعة" كما سينبه عليه المؤلف قريبًا، ولم يتنبّه له محقق الطبعة الجديدة مع أنه جاء على الصواب من كلام الحافظ بعد أسطر. (¬3) (5/ 294).

وفي "التعجيل" (ص 334) (¬1): " ... خال يزيد الرقاشي. روى عن عمر وابن (¬2) عمر وعبد الله بن مغفّل. وعنه عامر (؟ عاصم) الأحول، وغيره. قال ابن معين: رجل صدق ثقة بصري. وقال ابن حبان: كان من قراء أهل البصرة، مات سنة خمس وتسعين. قلت: حديثه عند أحمد من رواية عاصم الأحول عنه عن عبد الله بن مغفّل في النهي عن الدبّاء والحنْتَم". أقول: في "مسند أحمد" (4/ 86) (¬3): "ثنا يونس بن محمَّد، قال: ثنا عبد الواحد، قال: ثنا عاصم الأحول، عن الفضل (كذا) (¬4) بن زيد الرقاشي قال: كنا عند عبد الله بن مغفل، قال: فتذاكرنا الشراب فقال: الخمر حرام. قلت له: الخمر حرام في كتاب الله عزَّ وجلَّ، قال: فأيشٍ تريد؟ تريد ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينهى عن الدبّاء والحَنْتم والمُزفّت. قال: قلت: ما الحنتم؟ قال: كل خضراء أو بيضاء. قال: قلت: ما المزفَّت؟ قال: كل مقيَّر من زِقّ أو غيره". ¬

_ (¬1) (2/ 116 - 117). (¬2) كتبها المؤلف في الأصل بدون ألف، وكتب فوق موضع الألف ما يشبه حرف (ث (صغير. (¬3) (16795) وإسناده صحيح. (¬4) في الطبعة المحققة "الفضيل" على الصواب، وأشار محققه إلى أن التصحيف وقع في نسخة م.

وذكره (4/ 87) (¬1): "ثنا عفّان قال: حدثنا ثابت بن يزيد أبو زيد قال: ثنا عاصم الأحول، عن فضيل بن زيد الرقاشي - وقد غزا سبع غزوات في إمرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه - أنه أتى عبد الله بن مغفل ... " فذكره بنحوه. وذكره أيضًا (5/ 57) (¬2): "ثنا سليمان بن داود، ثنا ثابت أبو زيد، ثنا عاصم الأحول، حدثني فضيل بن زيد ... ". 133 - (س) فُضيل بن فَضالة القيسي: تفرّد عنه شعبة. (م) (¬3). البخاري (4/ 1/ 121): " ... عن أبي رجاء وعبيد الله بن أبي بكرة. روى عنه شعبة. يُعدّ في البصريين". ونحوه في "الثقات" (¬4). وقال ابن أبي حاتم (3/ 2/ 74): " ... روى عن أبي رجاء وعبد الرحمن بن أبي بكرة. روى عنه شعبة. سمعت أبي يقول ذلك ... أبي عن (¬5) إسحاق بن منصور، عن يحيى بن معين أنه قال: فُضيل بن فَضالة الذي روى عنه شعبة ثقة ... سألت أبي عن فضيل بن فضالة فقال: شيخ". ¬

_ (¬1) (16807). (¬2) (20577). (¬3) "المنفردات والوحدان" (ص 238). (¬4) (7/ 315). (¬5) (عن) مكررة في الأصل.

وفي "التهذيب" (8/ 298): " ... عن أبي رجاء العُطاردي وعبد الرحمن وعبيد الله ابني أبي بكرة. روى عنه شعبة ... قال ابن معين: ثقة. وقال ابن أبي حاتم: شيخ ... روى له النسائي حديثًا واحدًا في صلاة الضحى. قلت: وقال علي بن المديني: لا نعرف أحدًا روى عن هذا الشيخ غير شعبة". أقول: في "مسند أحمد" (5/ 45) (¬1): "ثنا علي بن عبد الله، ثنا معاذ بن معاذ، ثنا شعبة، حدثني فضيل بن فضالة قال: حدثني عبد الرحمن بن أبي بكرة قال: رأى أبو بكرة ناسًا يصلون الضحى، فقال: إنهم ليصلون صلاةً ما صلاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا عامّةُ أصحابه". 134 - (د س ق) (¬2) قابوس بن أبي المُخارق (¬3): روى عنه سِماك بن حرب. قال الذهبي: ما حدّث عنه سواه. قال النسائي: ليس به بأس. وأخرج له ابن خزيمة في "صحيحه" (¬4). ¬

_ (¬1) (20460). وأخرجه النسائي في الكبرى (480)، والدارمي (1456). وإسناده صحيح إذا وثقنا الفضيل. (¬2) كتب المؤلف بعد حرف الدال حرف الميم، ووضع فوقه خطًّا وتحته خطًّا، وذلك أن "تهذيب التهذيب" المطبوع رمز له بحرف (م)، فنبّه المؤلف إلى خطأ هذا الرمز، وهو الصواب كما في "تهذيب الكمال" و"التقريب". (¬3) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (7/ 193)، و"الجرح والتعديل": (7/ 145)، و"الثقات": (5/ 327)، و"تهذيب التهذيب": (8/ 306)، و"الميزان": (4/ 287). (¬4) (282).

135 - (م 4) القاسم بن عباس بن محمَّد بن مُعتِّب بن أبي لهب القرشي المدني. البخاري (4/ 1/ 168) (¬1): "قُتل سنة ثلاثين ومائة. قاله عبد الرحمن بن شيبة. روى عنه ابن أبي ذئب". ابن أبي حاتم (3/ 2/ 114): " ... روى عن نافع بن جُبير وعبد الله بن نيار وعبد الله بن عمير. روى عنه ابن أبي ذئب ... ثم روى عن ابن معين: ثقة، روى عنه ابن أبي ذئب. وعن أبيه: لا بأس به". وفي "التهذيب" (¬2): "م 4 ... وعنه بكير بن الأشج - وروى هو أيضًا عنه - وابن أبي ذئب ... وقال علي بن المديني في حديث ابن أبي ذئب، عن القاسم بن عباس، عن ابن الأشج، عن ابن المكرز، عن أبي هريرة: "قيل: يا رسول الله! الرجل يجاهد وهو يحب أن يُحمد .. ": لم يروه غير ابن أبي ذئب، والقاسم مجهول، وابن مكرز مجهول لم يرو عنه غير ابن الأشج". وراجع ما مضى في عبد الله بن عمير (¬3). ¬

_ (¬1) في الأصل الرقم قبل الترجمة, فكتبناه على الجادة. (¬2) (8/ 319). (¬3) رقم (؟؟).

136 - (د س) القاسم بن فيّاض بن عبد الرحمن بن جُنْدة الصنعاني: عن عمه خلّاد. وعنه هشام بن يوسف. ذكر له البخاري في التاريخ (4/ 1/ 162): عن خلاد عن ابن المسيب سمع ابن عباس: "قالت امرأة: يا رسول الله! ما جزاء غزوة المرأة؟ قال: طاعة الزوج واعترافٌ بحقه". وفي كتاب ابن أبي حاتم (¬1): عن ابن معين: ضعيف. وفي "التهذيب" (¬2): "قال الآجرّي عن أبي داود: قال هشام بن يوسف: لما حدثني بتلك الأحاديث اتهمتُه، فقلت له: هي عندك مكتوبة؟ قال: نعم. وأخْرَج لي قرطاسًا وأملاها عليّ. قلت لأبي داود: هو ثقة؟ قال: نعم. روى له أبو داود والنسائي حديث ابن عباس في الحدود. وقال النسائي: هو منكر. وقال ابن المديني: إسناده مجهول، ولم يرو عنه غير هشام. وقال النسائي: ليس بالقويّ ... ". أقول: حديثه عند أبي داود والنسائي (¬3): عن خلَّاد، عن ابن المسيّب، عن ابن عباس: "أن رجلاً من بَكْر بن ليث أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأقرّ أنه زنى بامرأة أربع مرات، فجلده مائة، وكان بِكرًا، ثم سأله البيّنة على المرأة، فقالت: كذَبَ والله يا رسول الله، فجلده حدَّ الفِرية". ¬

_ (¬1) (7/ 117). وله ترجمة في "الثقات": (7/ 334)، و"الميزان": (4/ 297). (¬2) (8/ 330). (¬3) أبو داود (4467)، والنسائي في الكبرى (7308).

137 - (د ت س) قَبيصة بن حُرَيث (¬1): عن سلمة بن المحبّق. وعنه الحسن البصري. قال البخاري: في حديثه نظر. وقال النسائي: لا يصح حديثه. وجهّله ابنُ القطان. وذكر أبو العرب أن العجلي قال: تابعي ثقة. له في "المسند" (3/ 476) (¬2): حديث "خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلًا؛ البكر بالبكر: جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب: جلد مائة والرجم". وله (5/ 6) (¬3) حديث: "قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في رجلٍ وطئ جارية امرأته؛ إن كان استكرهها [فهي حرة] (¬4)، وعليه لسيدتها ¬

_ (¬1) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (7/ 176)، و"الثقات": (5/ 319)، و"الجرح والتعديل": (7/ 125)، و"تهذيب التهذيب": (8/ 345 - 346)، و"الميزان": (3/ 383). (¬2) (15910). قال ابن أبي حاتم في "العلل" (1370): سألت أبي عن حديث رواه الفضل بن دلهم، عن الحسن، عن قبيصة بن حريث، عن سلمة بن المحبق، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا ... " الحديث، قال أبي: هذا خطأ، إنما أراه الحسن، عن حطان، عن عبادة بن الصامت، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ونقل المزي في "تهذيب الكمال": (6/ 36) عن الأثرم أنه سأل الإمام أحمد عن هذا الحديث بهذا الإسناد، فقال: هذا حديث منكر. (¬3) (20069). وأخرجه أبو داود (4460)، والنسائي في الصغرى (3363) وفي الكبرى (5531, 7195) وقال في الموضع الثاني: "ليس في هذا الباب شيء صحيح يحتج به". وسنده ضعيف من أجل قبيصة هذا. (¬4) ما بين المعكوفين مستدرك من المسند.

مثلها". وأخرج نحوه من وجهٍ آخر عن الحسن عن سلمة. 138 - (د ت ق) قَبيصة بن هُلْب: تفرّد عنه سماك بن حرب. (م) (¬1). البخاري (4/ 1/ 177): "قبيصة بن هلب الطائي، واسم هلب: يزيد بن قُنَافة - عن أبيه. روى عنه سِماك". وفي "التهذيب" (8/ 350): "روى عن أبيه. له صحبة. وعنه سماك بن حرب. قال ابن المديني: مجهول، لم يرو عنه غير سماك. وقال النسائي: مجهول. وقال العجلي: تابعي ثقة ... له عندهم حديث منقطع في الانصراف عن الصلاة، وفي طعام النصارى ... ". أقول: انفرد قبيصة بالرواية عن أبيه، وحديثه عن أبيه في "مسند أحمد" (5/ 226) (¬2)، منها: "أنه سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن طعام النصارى، فقال: لا يختلجنّ في صدرك طعامٌ ضارعْتَ فيه النصرانية". وهذا حق، فقد أحلّ الله تبارك وتعالى طعام أهل الكتاب. ¬

_ (¬1) "المنفردات والوحدان" (ص 142). وله ترجمة في: و"الجرح والتعديل": (7/ 125)، و"الثقات": (5/ 319)، و"الميزان": (4/ 304). (¬2) (21966).

ومنها: "أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يضع يدَه اليمنى على اليسرى" (¬1). وهذا معروفٌ من رواية غيره (¬2). نعم، زاد يحيى القطّان، عن سفيان، عن سِماك: "على صدره"، وقد جاء مثله من حديث وائل بن حُجْر عند ابن خزيمة (¬3). ومنها: "أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا انصرف من صلاته، ينصرف تارةً عن يمينه، وتارة عن شماله" (¬4). وهذا أيضًا معروف (¬5). ومنها: "أنه صلى الله عليه وآله وسلم ذكر الصدقة فقال: لا يجيئن أحدكم بشاةٍ لها يَعار يوم القيامة" (¬6). وفي "الصحيحين" (¬7) من حديث أبي هريرة: "قام فينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم، فذكر الغُلول ... ". وهو طويل، وفيه معنى حديث الهُلْب، والخيانة في الصدقة أشد من الغلول من الغنيمة، فمعنى حديث الهلب صحيح، مع أن قوله: "ذكر الصدقة" ساقط من بعض الروايات. هذا ملخّص حديث قَبيصة عن أبيه في "مسند أحمد". ¬

_ (¬1) (21967). (¬2) مثل حديث سهل بن سعد عند البخاري (740)، وحديث وائل بن حجر عند مسلم (401). (¬3) (479). (¬4) (21981). (¬5) جاء نحو من حديث عبد الله بن عمروفي "المسند" (6627)، وابن ماجه (931). (¬6) (21970). (¬7) البخاري (3073)، ومسلم (1831).

139 - (س) قُدامة بن وَبَرَة (¬1): تفرّد عنه قتادة. (م، ن) (¬2). البخاري (4/ 1/ 178): "قدامة بن وبرة العُجَيفي، عن سمرة بن جندب. روى عنه قتادة". وقال ابن أبي حاتم (3/ 2/ 127): " ... ذكره أبي عن أحمد بن حنبل قال: قدامة بن وبرة لا يُعرف. أنا يعقوب بن إسحاق - فيما كتب إليّ - قال: ثنا عثمان بن سعيد قال: قلت ليحيى بن معين: قدامة بن وبرة ما حاله؟ فقال: ثقة". وفي "التهذيب" (8/ 366): " ... روى عن سمرة بن جندب حديث "من ترك الجمعة، فليتصدق بدينار" وعنه قتادة. قال أبو حاتم عن أحمد: لا يعرف. وقال مسلم: قيل لأحمد: يصح حديث سمرة: "من ترك الجمعة"؟ فقال: قدامة يرويه، لا نعرفه. وقال عثمان الدارمي عن ابن معين: ثقة. وقال البخاري: لم يصح سماعه من سمرة. وذكره ابن حبان في "الثقات" (¬3). قلت: وقال ابن خزيمة في "صحيحه" (¬4): لا أقف على سماع قتادة من قدامة، ولست أعرف قدامة بن وبرة بعدالة ولا جرح". ¬

_ (¬1) (وَبَرَة) بفتحات ضبطه في التقريب (5531). (¬2) "المنفردات والوحدان" لمسلم (ص 142). و"الوحدان" للنسائي (ص 122). (¬3) (5/ 320). (¬4) (3/ 177).

أقول: أما سماع قتادة من قدامة، ففي "مسند أحمد" (5/ 8) (¬1): ثنا بهزٌ، ثنا همامُ ويزيدُ، [أخبرنا همامٌ] (¬2)، وثنا عفانُ، ثنا همامٌ، ثنا قتادةُ، حدثني قُدامة بن وَبَرة - رجل من بني عجيف - عن سمرة بن جندب، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من ترك جمعة في غير عذر فليتصدّق بدينار، فإن لم يجد فنصف دينار". وأخرجه أحمد (5/ 14) (¬3): ثنا وكيع، ثنا همام، عن قتادة، عن قدامة بن وبرة، عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من فاتته الجمعة فليتصدق بدينار، أو بنصف دينار". وللحديث - مع جهالة قدامة - عللٌ أخرى، كما في "سنن البيهقي" (¬4). منها: أن أيوب أبا العلاء رواه عن قتادة، عن قدامة بن وبرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " ... فليتصدق بدرهم أو نصف درهم، أو صاع حنطة، أو نصف صاع". فأرسله، وخالف في اللفظ. ومنها: أن سعيد بن بشير رواه عن قتادة، عن قدامة بن وبرة، عن سمرة ¬

_ (¬1) (20087). وهو ضعيف لجهالة قدامة، ولأنه لم يثبت سماعه من سمرة. وانظر حاشية المسند: (33/ 276 - 277). (¬2) مستدركة من الطبعة المحققة، وقد سقطت من ط القديمة ومن نسخة م. (¬3) (20159). وأخرجه ابن خزيمة (1861)، وابن حبان (2788). والصواب أنه ضعيف، وسيتكلم المؤلف على أوجه ضعفه. (¬4) (3/ 48).

ابن جندب صاحب النبي صلى الله علبه وآله وسلم قال: "من ترك الجمعة بغير عذرٍ فليتصدق بدرهم، أو نصف درهم، أو صاع، أو مُد". قال سعيد: فسألت قتادة: هل يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟ فشكّ في ذلك. فهو على هذا موقوف، مع الخلاف في لفظه. ورواه نوح بن قيس، عن أخيه خالد، عن قتادة فقال: عن الحسن، عن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "فليتصدق بدينار، فإن لم يجد فنصف دينار". فسلَك به الجادة. قال البيهقي في "السنن" (3/ 248): ولا أظنه إلا وهمًا. وأحسب ابن معين رجح رواية همام، واعتدّ برواية خالد بن قيس كمتابعة لقدامة. وأخرجه الحاكم في "المستدرك" (1/ 280)، وقال: صحيح الإسناد. ثم ذكر بعض الخلاف، ثم قال: أخبرني أبو بكر محمَّد بن أحمد بن بابويه، ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سمعت أبي وسئل عن حديث همام عن قتادة وخلاد (الصواب: وخلاف أيوب) بن العلاء إياه، فقال: همام عندنا أحفظ من أيوب بن العلاء. 140 - (م 4 (¬1)) قِرْفة بن بُهَيس، أبو الدهماء: ¬

_ (¬1) كتب المؤلف بعدها بالحروف "أربعة" لئلا يظن أنها رمز (ع) وقد سبق التنبيه على مثله.

تفرّد عنه حميد بن هلال (م) (¬1). البخاري (4/ 1/ 200): "قرفة بن بهيس أبو الدهماء البصري، أراه العدوي. روى عنه حُميد بن هلال". وقال ابن أبي حاتم (3/ 2/ 147): " ... روى عن عمران بن حصين وهشام بن عامر. روى عنه حميد بن هلال. سمعت أبي يقول ذلك ... ذكره أبي عن إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين أنه قال: أبو الدهماء ثقة. وقال ابن حبان (¬2): " ... يروي عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. روى عنه حميد بن هلال". وفي "التهذيب" (8/ 366): " ... روى عن هشام بن عامر الأنصاري وعمران بن حصين وسمرة بن جندب ورجل من البادية له صحبة. روى عنه حميد بن هلال العدوي. وقال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث ... وقال العجلي: بصري تابعي ثقة". أقول: أما عن هشام بن عامر، فأخرج مسلم في الصحيح (¬3): "عن حميد بن هلال، عن رهط منهم أبو الدهماء وأبو قتادة، قالوا: كنا نمرّ على هشام بن عامر نأتي عمرانَ بن حصين، فقال ذات يوم: إنكم لتجاوزوني إلى رجال ما كانوا بأحضر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منّي، ولا أعلم ¬

_ (¬1) "المنفردات والوحدان" (ص 199). (¬2) في "الثقات": (5/ 328). (¬3) (2946).

بحديثه منّي، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة خلقٌ أكبر من الدجال". أقول: وأبو قتادة هذا هو العدوي، مشهور قيل: له صحبة، وقيل: تابعي ثقة. وأخرج الترمذي (¬1) وغيره عن حميد بن هلال عن أبي الدهماء عن هشام بن عامر قال: "شُكِي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الجراحات يوم أحد، فقال: احفروا وأوسعوا وأحسنوا، وادفنوا الاثنين والثلاثة في قبر واحد، وقدّموا أكثرَهم قرآنًا، فمات أبي، فقدّم بين يديْ رجلين". وقد تابع أبا الدهماء على هذا: سعد بن هشام، رواه أبو داود (¬2) وغيره عن حميد بن هلال عن سعد، ورواه جماعة عن حميد بن هلال عن هشام بن عامر بدون واسطة، لكن قال أبو حاتم: إن حميدًا عن هشام مرسل. وفيه نظر، ففي "مسند أحمد" (4/ 20) (¬3): ثنا عبد الرزاق قال حدثنا معمر عن أيوب عن حميد بن هلال قال: أنا هشام بن عامر قال: قتل أبي يوم أحد، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "احفروا وأوسعوا وأحسنوا ... ". فذكر هذا الحديث. وقصة دفن الاثنين والثلاثة يوم أحد في قبر واحدٍ معروفة من غير حديث هشام بن عامر. ¬

_ (¬1) (1713). (¬2) (3217). (¬3) (16261).

ومسند هشام بن عامر في "مسند أحمد" (4/ 19 - () 21) (¬1)، وليس فيه لأبي الدهماء غير ما تقدم. وأما حديث أبي الدهماء عن عمران بن حصين، فأخرجه أبو داود (¬2) عن حميد بن هلال عن أبي الدهماء قال: سمعت عمران بن حصين يحدث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من سمع بالدجال فلينأ عنه، فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن، فيتبعه، مما يبعث به من الشبهات ... ". ولم أجد لأبي الدهماء عن عمران في "مسند أحمد" غير هذا الحديث. وأما حديثه عن سمرة ... (¬3) وأما حديثه عن رجل من أهل البادية، ففي "مسند أحمد" في مواضع، منها (5/ 79) (¬4): "ثنا بهز وعفان قالا: ثنا سليمان بن المغيرة، ثنا حميد بن هلال قال عفان في حديثه: ثنا أبو قتادة وأبو الدهماء، قال عفان: وكانا يكثران الحج، قالا: أتينا على رجل من أهل البادية، فقال البدوي: أخذ بيدي ¬

_ (¬1) (16251 - 16267). (¬2) (4319). (¬3) كذا بيّض المؤلف له، وقد أخرجه الطبراني في "الكبير" (6792) "عن أبي الدهماء، عن سمرة بن جندب، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يضر أحدكم ما يسدّ به الجوع إذا أصاب حلالاً". وذكره ابن طاهر في "تذكرة الحفاظ" (4940) وقال: "لفظ الحديث غريب، وما أظنه يرويه غير الحسن بن دينار، وهو ضعيف". (¬4) (20739) و (20746).

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فجعل يعلمني مما علمه الله، فكان فيما حفظت عنه أن قال: إنك لن تدعَ شيئًا اتقاءَ الله تبارك وتعالى إلا آتاك الله خيرًا منه". 141 - (س) قَزَعة المكّي: البخاري (4/ 1/ 192): قزعة، مولى لعبد القيس، سمع عكرمة. ابن أبي حاتم (3/ 2/ 139): قزعة، مولى لعبد القيس. روى عن عكرمة. روى عنه زياد بن سعد ... سئل أبو زرعة عن قزعة مولى عبد القيس، فقال: مكي ثقة. وفي "التهذيب" (¬1): (س) قزعة المكي، مولى لعبد القيس ... وقال الذهبي: لا يدرى من هو. 142 - (د) قيس بن بشير: البخاري (4/ 1/ 155): قيس بن بشير التغلبي، من أهل قِنّسرين، الشامي. عن أبيه. روى عنه هشام بن سعد. ونحوه في كتاب ابن أبي حاتم (3/ 2/ 94). وحكى عن أبيه: ما أرى بحديثه بأسًا، ما أعلم روى عنه غير هشام. ثم قال: نا أبو زرعة، نا يحيى بن عبد الله بن بُكَير قال: حدثني الليث، عن هشام بن سعد، عن رجلِ صِدْقٍ من أهل قنّسرين يقال له: قيس بن بشر. ¬

_ (¬1) (8/ 377).

وفي "التهذيب" (¬1): (م د) قيس بن بشر بن قيس ... لخص ما تقدم. (كذا علَّم له علامَة مسلم، ومثله في الخلاصة، وكأنها خطأ)، وفي التقريب: (د) فقط (¬2). 143 - (عس) قيس العبدي، والد الأسود (¬3): عن علي. روى عنه ابنه الأسود. وقال النسائي: ثقة. وفي "التهذيب": أنه اختلف فيه على الأسود. والحديث في "مسند أحمد" (1/ 114) (¬4): "ثنا عبد الرزاق، أنبأنا سفيان، عن الأسود بن قيس، عن رجل، عن علي رضي الله عنه أنه قال يوم الجمل: "إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يعهد إلينا عهدًا نأخذ به في إمارة، ولكنه شيءٌ رأيناه من قبل أنفسنا، ثم استخلف أبو بكر - رحمة الله على أبي بكر - فأقام واستقام، ثم استخلف عمر - رحمة الله على عمر - فأقام واستقام حتى ضرب الدين بجرانه". وفيه (1/ 147) (¬5): "ثنا أبو نعيم، ثنا شَريك، عن الأسود بن قيس، ¬

_ (¬1) (8/ 385). (¬2) ومثله في "تهذيب الكمال": (6/ 128). (¬3) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (7/ 149)، و"الثقات": (5/ 312)، و"الجرح والتعديل": (7/ 106)، و"تهذيب التهذيب": (8/ 407)، و"الميزان": (4/ 318). (¬4) (921). وإسناده ضعيف؛ لأن في إسناده رجلاً مبهمًا. (¬5) (1256). وفي إسناده شريك متكلّم فيه من قبل حفظه، وعمرو بن سفيان لم يوثقه غير ابن حبان.

عن عَمرو بن سفيان قال: خطب رجل يوم البصرة حين ظهر عليٌّ رضي الله عنه، فقال علي: "هذا الخطيبُ الشّحْشَح (¬1)، سَبَق رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم، وصلى أبو بكر وثلث عمر، ثم خبطتنا فتنة بعدهم يصنع الله فيها ما شاء". وفيه وجوه أخر، وأصل هذا المعنى يُروى عن عليّ عليه السلام من عدة وجوه. وفي "التهذيب" عن ابن سعدة أن لقيس حديثًا عن عمر في الجمعة. وقد أشار إليه البخاري (4/ 1/ 149): قيس العبدي. عن عمر. هو الكوفي ... ، ثم أسند عن الأسود بن قيس عن أبيه قال: انتهينا إلى الحيرة ... فذكر قصة. وكذلك ابن أبي حاتم ذكر روايته عن عمر، فحسب. أقول: وحديثه عن عمر في الجمعة أخرجه البيهقي في "السنن" (3/ 184) من طريق شعبة عن الأسود بن قيس عن أبيه قيس قال: سمعته يقول: رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلاً قد عقل راحلته، قال: ما يحبسك؟ قال: الجمعة. قال: إن الجمعة لا تحبس مسافرًا، فاذهب. وأعاده (ص 187) بنحوه. 144 - كُرْز التيمي (¬2): "تهذيب": (عس). "كرز التيمي، أو التميمي. قال: دخلتُ على ¬

_ (¬1) الشّحْشَح: أي الماهر الماضي في كلامه. النهاية لابن الأثير: (2/ 449). (¬2) ترجمته في: "تهذيب التهذيب": (8/ 432)، و"الميزان": (4/ 331).

الحسين بن علي أعوده، فدخل علي ... فذكر الحديث في فضل عيادة المريض. وعنه: الحسن بن قيس. قال العجلي: كرز التيمي كوفي تابعي ثقة ... ". 145 - (خت د) محمَّد بن أنس القرشي: البخاري (1/ 1/ 41): محمَّد بن أنس، أبو أنس، مولى عمر بن الخطاب، القرشي العدوي. سمع عاصم بن كليب والأعمش. سمع منه إبراهيم بن موسى الرازي. وذكره ابن أبي حاتم (3/ 2/ 207)، وزاد في شيوخه: حصين، وسهيل، ومطرّف بن طريف، قال: روى عنه: إبراهيم بن موسى قط، سمعت أبي يقول ذلك، ويقول: هو صحيح الحديث. وقال: سئل أبو زرعة عنه، فقال: هو كوفي، سكن الدينور، ثقة، كان إبراهيم بن موسى يثني عليه. وفي "التهذيب" (¬1) أنه روى عنه علي بن بحر بن بري أيضًا. وحكى عن العقيلي: محمَّد بن أنس بن عبد الحميد، ابن أخي جرير (كذا قال). وقال العقيلي: يحدث عن الأعمش بأحاديث لم يتابع عليها. ثم أخرج من طريق إبراهيم بن موسى عنه، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة - رفعه -: "رأيت في يدي سوارين، فنفختهما، فطارا ... " الحديث، ¬

_ (¬1) (9/ 59).

فلعلهما اثنان. أقول: بل الظاهر أن قول العقيلي: "بن عبد الحميد ابن أخي جرير" وهَمٌ قيل بالحَدْس. وفي "الميزان" (¬1): قال الدارقطني: ليس بالقوي. ثم ذكر حديثًا أخرجه الدارقطني في "السنن" (ص 177) (¬2): ثنا الحسين بن إسماعيل، ثنا أبو حاتم الرازي محمَّد بن إدريس ثنا إبراهيم بن موسى، ثنا محمَّد بن أنس، عن مطرّف، عن أبي الجهم، عن البراء بن عازب قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يصلي صلاة مكتوبة إلا قنت فيها". وفي "التعليق المغني" (¬3) عن الطبراني: لم يروه عن مطرّف إلا محمَّد بن أنس. أقول: أما حديث السوارين، فمشهور عن أبي هريرة، رواه عنه ابن عباس وغيره في "الصحيحين" (¬4). غاية الأمر أن ينفرد محمَّد بن أنس بروايته بهذا السند - أعني: عن الأعمش، عن أبي صالح -. وأما حديث القنوت ... (¬5). ¬

_ (¬1) (4/ 406). (¬2) (2/ 37). (¬3) للعظيم ابادي، بهامش السنن. (¬4) البخاري (3621)، ومسلم (2274). (¬5) كذا بيّض له المؤلف، وقد أخرجه الطبراني في الأوسط (9446)، والبيهقي: (2/ 198)، والحازمي في الاعتبار (ص 85).

146 - محمَّد بن حرب بن أوس الذُّهلي: م. البخاري (1/ 1/ 68): "محمَّد بن حرب، أخو سماك بن حرب. روى عنه أخوه سماك". وفي "التهذيب" (¬1): "م. محمَّد بن حرب .. روى عن جابر بن سمرة، وعبيد الله بن جرير بن عبد الله البجلي. روى عنه: أخوه سماك بن حرب. قال النسائي: ثقة ... روى له مسلم (¬2) زيادة في حديث سماك: "إن بين يدي الساعة كذابين"، قال سماك: وسمعت أخي يقول: قال جابر: فاحذروهم .... وقال الذهبي: تفرّد عنه أخوه سماك". أقول: وكذلك في "مسند أحمد" (5/ 88) (¬3) عن غندر عن شعبة عن سماك. وكذا أخرجه عبد الله بن أحمد من طريق النضر بن شميل عن شعبة (5/ 95) (¬4). وأخرجه أحمد (5/ 101) (¬5) عن يحيى بن سعيد عن شعبة، وفيه: قال أخي - وكان أقرب إليه منى - قال: سمعته قال: فاحذروهم. ¬

_ (¬1) (9/ 108). (¬2) (2932/ 84). (¬3) (20819). (¬4) (20893). (¬5) (20959).

وفي موضع آخر (¬1): "قال أبي"، وأراه خطأ. وفي "المسند" (5/ 89) (¬2): "ثنا عبد الله بن محمَّد، ثنا حاتم بن إسماعيل، عن المهاجر بن مسمار، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص قال: كتبت إلى جابر بن سمرة ... ، فكتب إلي: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ... ، وسمعته يقول: "إن بين يدي الساعة كذّابين، فاحذروهم ... ". 147 - (د) محمَّد بن عبد الله بن إنسان: البخاري (1/ 1/ 140): "محمَّد بن عبد الله بن إنسان. قال الحميدي: عن عبد الله بن الحارث، قال: حدثني محمَّد بن عبد الله بن إنسان، عن أبيه، عن عروة بن الزبير، عن أبيه قال: أقبلنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فذكر أن صيد وَجّ حرام، وذلك قبل نزوله الطائف وحصاره ثقيف (¬3). قال أبو عبد الله: ولم يُتابَع عليه". ابن أبي حاتم (3/ 2/ 294): " ... روى عنه عبد الله بن الحارث المخزومي ... ثم أسند إلى ابن معين: محمَّد بن عبد الله الطائفي ليس به بأس، وعن أبيه: ليس بالقويّ، في حديثه نظر". وفي "التهذيب" (¬4): "روى عن أبيه، وعبد الله بن عبد ربه بن الحكم الثقفي". ¬

_ (¬1) لعله أراد هذا (20967) وهو على الصواب في النسخة المحققة من المسند. (¬2) (20830). وأخرجه مسلم (1822). (¬3) كذا في الأصل بدون ألف. (¬4) (9/ 248). وذكره ابن حبان في "الثقات": (9/ 33).

(وانظر ترجمة أبيه في "التهذيب" (¬1)). 148 - (س) محمَّد بن عبد الله بن أبي سليم: تفرّد عنه بُكير بن الأشج. (م) (¬2). البخاري (1/ 128/1): "محمَّد بن عبد الله بن أبي سليم، عن أنس قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمنى ركعتين. قاله لي عبد الله بن يوسف، عن الليث، عن بكير بن عبد الله". وفي كتاب ابن أبي حاتم (3/ 2/ 297): " ... مديني، روى عن أنس ابن مالك. روى عنه بُكير بن عبد الله بن الأشج. سمعت أبي يقول ذلك". وفي "التهذيب" (9/ 258): " ... روى عن أنس بن مالك. وعنه بكير بن عبد الله بن الأشج. قال النسائي: ثقة. قلت: وقال الذهبي: لا يعرف". وفي "مسند أحمد" (3/ 144) (¬3): "ثنا يونس بن محمَّد، ثنا ليث - يعني ابن سعد -، عن بكير بن عبد الله، عن محمَّد بن عبد الله بن أبي سليم، عن أنس قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمنى ركعتين، ومع أبي بكر ركعتين، ومع عمر ركعتين، ومع عثمان ركعتين صدرًا من خلافته". ¬

_ (¬1) (5/ 149). (¬2) "المنفردات والوحدان" (ص 160). وله ترجمة في "الثقات": (5/ 367)، و"الميزان": (5/ 42). (¬3) (12464).

وأعاده في (ص 168) (¬1): "ثنا حجاج، ثنا ليث، قال: حدثني بكير"، ووقع في النسخة: بن أبي سليمان. وذكره (ص 145) (¬2) من طريق ابن لهيعة، عن بكير به، وفيه: " ... وصلاها عثمان بمنى أربع سنين، ثم أتمها بعد". 149 - محمَّد بن عبد الجبار الأنصاري: عن محمَّد بن كعب. وعنه شعبة وحده. قال ابن معين: ليس لي به علم. وقال أبو حاتم: شيخ. وقال العقيلي: مجهول. في "المسند" (2/ 383) (¬3): "ثنا عفان، قال: ثنا شعبة، قال: أخبرني محمَّد بن عبد الجبار - رجل من الأنصار -، قال: سمعت محمَّد بن كعب القرظي يحدث أنه سمع أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "إن الرحم شِجْنَة من الرحمن، تقول: يا رب! إني قُطِعت، يا رب! إني أسيء إليّ، يا رب! إني ظُلِمت، يا رب! يا رب! قال: فيجيبها: أما ترضين أن أصِل من وصلك وأقطع من قطعك؟ ". ونحوه (ص 295) (¬4) عن يزيد بن هارون، عن شعبة. ¬

_ (¬1) (12718). (¬2) (12478). (¬3) (8975). (¬4) (7931).

150 - (خت م س) محمَّد بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام: تفرّد عنه الزهري. (م) (¬1). البخاري (1/ 1/ 145): " ... أبو اليمان قال: أخبرنا شعيب، عن الزهري، قال: أخبرني محمَّد بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن عائشة قالت: أرسلت أزواجُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاطمةَ إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قال أبو عبد الله: وتابعه صالح ويونس عن الزهري .... ". وفي كتاب ابن أبي حاتم (3/ 2/ 313): " ... روى عن عائشة. روى عنه الزهري. سمعت أبي يقول ذلك". وفي "التهذيب" (9/ 295): " ... روى عن عائشة. وعنه الزهري. قال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث. وقال النسائي: ثقة ... وقال الأزدي في الضعفاء: محمَّد بن عبد الرحمن بن الحارث، قال ابن معين: ليس حديثه بشيء". أقول: حديثه في "صحيح مسلم" (¬2) في فضائل عائشة، وأشار إليه البخاري في "الصحيح" (¬3) في كتاب الهبة، في باب من أهدى إلى صاحبه وتحرى بعض نسائه. ¬

_ (¬1) "المنفردات والوحدان" (ص 121). وذكره ابن حبان في "الثقات": (7/ 424). (¬2) (2442). (¬3) (3/ 157).

وقد ذكر الحافظ ابن حجر في "الفتح" (¬1) ما في سنده من الاختلاف، وما له من الشواهد. 151 - (م د س) محمَّد بن عبد الرحمن بن غَنَج (¬2): سمع نافعًا، سمع منه الليث بن سعد. قال أحمد: مقارب الحديث. وقال أبو حاتم: صالح الحديث، لا أعلم أحدًا روى عنه غير الليث. وقال أبو داود: روى عنه الليث نحو ستين حديثًا. وقال ابن حبان في "الثقات": حدث عن نافع بنسخة مستقيمة. له في مسلم (¬3) حديث ابن عمر في المخابرة، فقط. أقول: وهو متابعة. 152 - (م س) محمَّد بن عَمرو اليافعي (¬4): عن ابن جريج والثوري. وعنه ابن وهب. قال ابن يونس: روى عنه ابن وهب وحدَه، حدّث بغرائب. وقال أبو زرعة وأبو حاتم: شيخ لابن وهب. له في مسلم (¬5) حديث واحد متابعة، وروى له النسائي (¬6) حديثه عن ¬

_ (¬1) (5/ 206 - 208). (¬2) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (1/ 140)، و"الجرح والتعديل": (7/ 294)، و"الثقات": (9/ 33). و (غَنَج) بفتح المعجمة والنون ثم جيم. قيده في التقريب. (¬3) (1551). (¬4) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (1/ 194)، و"الثقات": (9/ 40)، و"الجرح والتعديل": (8/ 32)، و"تهذيب التهذيب": (9/ 380)، و"الميزان": (5/ 120 - 121). (¬5) (2228/ 124). (¬6) في الكبرى (6356).

ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر: "لا يرث المسلم النصراني، إلا أن يكون عبده أو أمته". قال ابن عدي (¬1): له مناكير. وذكر هذا الحديث، قد رواه عبد الرزاق عن ابن جريج موقوفًا، وهو الصواب. وذكره الساجي في "الضعفاء"، ونقل عن ابن معين قال: غيره أقوى منه. وقال القطان: لم تثبت عدالته. [* 152] محمَّد بن عمير المحاربي، قال النسائي: مجهول. 153 - (تمييز) محمَّد بن قيس اليَشْكُري، أخو سليمان (¬2). (م): عن جابر، وأم هانئ. وعنه: حميد الطويل وخالد الحذّاء وحماد بن سلمة. قال علي بن المديني: محمَّد بن قيس، مكي، عن جابر، ثقة، ما أعلم أحدًا روى عنه غير حميد، وروى أيضًا عن أم هانئ. في "الأفراد" (¬3) لمسلم فيمن تفرّد عنه حميد الطويل. أقول: لم يفرده البخاري بترجمة، بل قال في ترجمة محمَّد بن قيس الزيات (1/ 1/ 212): "وقال لنا موسى: ثنا حماد، قال: ثنا محمَّد بن قيس قاصُّ أو قاضي عمر بن عبد العزيز - وكان شيخًا كبيرًا - عن أم هانئ: صلى ¬

_ (¬1) (6/ 226). (¬2) ترجمته في: "تهذيب التهذيب": (9/ 415)، و"الميزان": (5/ 142). (¬3) (ص 196).

النبي صلى الله عليه وآله وسلم الضحى في بيتي ثمان (¬1). وقال لي ابنُ أبي شيبة، عن ابن أبي عدي، عن حميد، عن رجل يقال له: محمَّد بن قيس: رأيت جابرَ بن عبد الله يتطوّع في السفر. وقال لي المُقدّمي: حدثنا معتمر، سمعت حميدًا، عن محمَّد بن قيس، عن جابر بن عبد الله: "كنت أعرض بعيرًا لي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأبصرته يصلي من الضحى ستًّا ... ". وأفرد في "التهذيب" (¬2) الزياتَ بترجمة، وقاصَّ عمر بن عبد العزيز بأخرى، واليشكري بثالثة. 154 - (س) محمَّد بن مسلم بن عائذ: البخاري (1/ 1/ 222): "محمَّد بن مسلم بن عائذ المديني. قال لي عبد الرحمن بن شيبة: قتل سنة إحدى وثلاثين ومائة. وقال لي عبد العزيز بن عبد الله: حدثني الدراوردي، عن سهيل بن أبي صالح، عن محمَّد بن مسلم، عن عامر بن سعد، عن سعد قال: جاء رجل والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي لنا، فقال حين انتهى إلى الصف: اللهم آتني أفضل ما تؤتي عبادك الصالحين. فلما قضى صلاته قال: من المتكلم؟ قال: أنا. قال: إذًا يُعقَر جوادك، وتستشهد في سبيل الله". ¬

_ (¬1) كذا في الأصل بدون ياء. (¬2) انظرها في (9/ 414 - 415).

وفي "التهذيب" (¬1) أنه روى عن أنس أيضًا، وأن أبا حاتم قال: مجهول. وقال العجلي: ثقة. وأخرج (¬2) ابن خزيمة وابن حبان في "صحيحه" والحاكم وقال: على شرط مسلم. 155 - (خ م د س ق) محمَّد بن النعمان بن بشير الأنصاري: تفرّد عنه الزهري. (م) (¬3). البخاري (1/ 1/ 250): " ... سمع أباه. قال لنا عبد الله بن صالح، عن الليث، عن عُقيل، عن ابن شهاب: كان محمَّد بن النعمان يسكن دمشق. وفي كتاب ابن أبي حاتم (¬4): " ... كان يسكن دمشق روى عن أبيه. روى عنه الزهري. سمعت أبي يقول ذلك". وفي "التهذيب" (9/ 492): " ... روى عن أبيه وجده. وعنه الزهري - مقرونًا بحميد بن عبد الرحمن -. قال العجلي: مدني تابعي ثقة .... روى له الجماعة (¬5) سوى أبي داود حديث النِّحل مقرونًا. ورواه ¬

_ (¬1) (9/ 445). وله ترجمة في "الجرح والتعديل": (8/ 78)، و"الثقات": (5/ 380)، و"الميزان": (5/ 166). (¬2) كذا في الأصل تبعًا لمطبوعة التهذيب، ولعله "وأخرج له". وانظر صحيح ابن خزيمة (453)، وابن حبان (4640)، والحاكم (2/ 74). (¬3) "المنفردات والوحدان" (ص 121). وذكره ابن حبان في "الثقات": (5/ 357). (¬4) "الجرح والتعديل": (8/ 107). (¬5) البخاري (2586)، ومسلم (1623)، والترمذي (1367)، وابن ماجه (2376) والنسائي (3672)، وأحمد (18358).

النسائي وحده من حديث الزهري، عن محمَّد - وحده - عن جده بشير. قلت: وهو خطأ من الراوي عن الزهري". أقول: والحديث قد رواه الشعبي وغيره عن النعمان (¬1). 156 - (عخ) محمَّد بن هديّة (¬2): البخاري (1/ 1/ 257): "محمَّد بن هدية الصدفي. سمع عبد الله بن عمرو. قال لي محمَّد بن مقاتل: ثنا ابن المبارك، أنا عبد الرحمن بن شريح المعافري، حدثني شراحيل بن يزيد، عن محمَّد بن هدية، عن عبد الله بن عمرو بن العاص: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " أكثر منافقي أمتي قراؤها". وتابعه ابن وهب. وفي "التهذيب" (¬3): "وعنه: شراحيل بن يزيد المعافري. وقال ابن يونس: ليس له غير حديث واحد. قال العجلي: مصري تابعي ثقة. وذكره يعقوب بن سفيان في الثقات (¬4) ". أقول: وحديثه أخرجه أحمد (¬5) من طريق ابن المبارك وغيره. وأخرج ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (18355) وغيره. (¬2) كتب المؤلف أمام الاسم: مسند (2/ 175) و (4/ 155). وستأتي الإحالة إلى أرقامها. (¬3) (9/ 495). وله ترجمة في "الجرح والتعديل": (8/ 115)، و"الثقات": (5/ 381)، و"الميزان": (5/ 183). (¬4) في "تاريخه": (2/ 528). (¬5) (6633 و6637).

مثله في مسند عقبة بن عامر (4/ 155) (¬1) من طريق مِشْرَح بن هاعان، عن عقبة مرفوعًا. 157 - (ق) الماضي بن محمَّد (¬2): عن هشام بن عروة ومالك، وجماعة. وعنه ابن وهبٍ وحده. قال أبو حاتم: لا أعرفه، والحديث الذي رواه باطل. وقال ابن يونس: كان يُضعّف. وقال ابن عدي: منكر الحديث وعامة ما يرويه لا يُتابَع عليه، ولا أعلم روى عنه إلا ابن وهب. وقال مسلمة: كان ثقة (؟) ... (¬3) 158 - (م د) مختار بن صيفي (¬4): عن يزيد بن هُرمز، عن ابن عباس في مسائل الجدّة. وعنه الأعمش فقط. أخرج له مسلم (¬5) بمتابعة قيس بن سعد، عن يزيد. ¬

_ (¬1) (17367). (¬2) ترجمته في: "الجرح والتعديل": (8/ 442)، و"الثقات": (7/ 527)، و"التهذيب": (10/ 2)، و"الميزان": (4/ 344). (¬3) الترجمة ملخصة من التهذيب، وعلامة الاستفهام من المؤلف، كأنه استنكر توثيق مَسْلمة، فلعل تصحيفًا وقع فيه. (¬4) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (7/ 385)، و"الجرح والتعديل": (8/ 310)، و"الثقات": (7/ 488)، و"التهذيب": (10/ 68)، و"الميزان": (5/ 204). (¬5) (1812).

159 - (4) مَخْلَد بن خُفَاف بن إيْمَاء بن رَحَضَة (¬1): عن عروة، عن عائشة: حديث: "الخراج بالضمان" (¬2). وعنه ابن أبي ذئب. قال أبو حاتم: لم يرو عنه غيره، وليس هذا إسنادًا تقومُ بمثله الحجّة. وقال ابن عدي: لا يعرف له غير هذا الحديث. قال ابن حجر: "وقد روى حديثه المذكور الهيثم بن جميل، عن يزيد ابن عياض، عن مخلد. وقال البخاري، فيه نظر. انتهى. وفي سماع ابن أبي ذئب منه عندي نظر. وتابعه على هذا الحديث مسلم بن خالد الزنجي، عن هشام بن عروة عن أبيه به. وقال ابن وضاح: مخلد مدني ثقة". 160 - (بخ ت س ق) مَرْثد بن عبد الله الزِّمّاني (¬3): عن أبي ذر، وعنه: ابنه مالك. قال العجلي: تابعي ثقة. وقال العقيلي: لا يُتابَع على حديثه. وذكر له البخاري في ترجمة ابنه مالك (4/ 1/ 311): سمع أبا ذر، ¬

_ (¬1) ترجمته في: "الثقات": (7/ 505)، و"الجرح والتعديل": (8/ 347)، و"التهذيب": (10/ 74)، و"الميزان": (5/ 207). (¬2) أخرجه أبو داود (3508)، والترمذي (1285)، والنسائي (4490)، وابن ماجه (2242)، وأحمد (24224). قال الترمذي: حسن صحيح. وصححه ابن حبان والحاكم. (¬3) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (7/ 416)، و"الجرح والتعديل": (8/ 299)، و"الثقات": (5/ 440)، و"التهذيب": (10/ 81)، و"الميزان": (5/ 212).

عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ليلة القدر: "التمسوها في إحدى السّبْعَين". والحديث مطولًّا في "مسند أحمد" (5/ 171) (¬1). [*160] مسلم بن قُرْط. 161 - (د ت س) مسلم بن يَسار الجهني (¬2): البخاري (4/ 1/ 276): "مسلم بن يسار الجهني، عن نعيم، عن عمر. روى عنه عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد". وفي "التهذيب": " (د ت س) مسلم بن يسار الجهني. عن عمر في تفسير: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ} (¬3) [الأعراف: 172]. وقيل: عن نعيم بن ربيعة، عن عمر ... قال العجلي: بصري تابعي ثقة". ¬

_ (¬1) (21499). وأخرجه النسائي في "الكبرى" (3427)، وابن خزيمة (2170)، والحاكم (1/ 437). (¬2) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (7/ 276)، و"الثقات": (5/ 390)، و"التهذيب": (10/ 142)، و"الميزان": (5/ 233). (¬3) أخرجه أحمد (311) وأبو داود (4703)، والترمذي (3075)، والنسائي في الكبرى (11190). قال الترمذي: حسن ومسلم بن يسار لم يسمعا من عمر، وصححه الحاكم: (1/ 27). والكلام فيه من جهة جهالة مسلم بن يسار، وسماعه من عمر.

162 - (د) منصور بن سعيد الكلبي (¬1): منصور بن سعيد، ويقال: ابن زيد، بن الأصبغ الكلبي المصري ... روى عن دحية الكلبي في الإفطار في السفر القصير (¬2). وعنه أبو الخير مرثد. قال ابن المديني: مجهول، لا أعرفه. وقال ابن خزيمة: لا أعرفه (¬3). وقال العجلي (¬4): بصري (كذا) تابعي ثقة. 163 - (د) مِهران، أبو صفوان (¬5): عن ابن عباس: "من أراد الحج فليتعجَّل". وعنه الحسن بن عمرو الفُقَيمي. قال أبو زرعة: لا أعرفه إلا في هذا الحديث. وأخرج الحاكم حديثه في "المستدرك" وقال: لا يعرف بجرح. ¬

_ (¬1) ترجمته في: "الثقات": (5/ 429)، و"التهذيب": (10/ 307)، و"الميزان": (5/ 309). (¬2) أخرجه أبو داود (2413)، وأحمد (27231)، وابن خزيمة (2041). (¬3) "الصحيح": (3/ 266). (¬4) "الثقات": (2/ 300). وكذا أيضًا وقع فيه "بصري" كما وقع في مطبوعة التهذيب, وصوابه "مصري" كما نقله المزي في "تهذيب الكمال": (7/ 230). (¬5) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (7/ 428)، و"الجرح والتعديل": (8/ 301)، و"الثقات": (5/ 442)، و"التهذيب": (10/ 292)، و"الميزان": (5/ 196).

164 - (مد) ميمون أبو المُغَلِّس (¬1): عن أبي نَجيح الثقفي رفَعَه: "مَن كان موسرًا ولم ينكح فليس منّا" وعنه ابن جريج. قال ابن معين: هو مرسل، وأبو نجيح هو والد عبد الله. وكذا قال عمرو بن علي. وقال العجلي: أبو المغلّس تابعي ثقة (¬2). أقول: علَّم له في "التهذيب" علامة المراسيل لأبي داود، وقال: عن أبي نجيح الثقفي. وفي ترجمة أبي نجيح السلمي من "الإصابة" (¬3) ذكر لهذا الحديث، فراجعه. وإذا وقع في رواية أبي داود: "الثقفي" صح ما قال ابن معين، وعمرو بن علي، وأبو داود. والله أعلم. 165 - (د ت س) ناجية بن كعب: البخاري (4/ 2/ 107): "ناجية بن كعب الأسدي ... عن علي، وعبد الله. روى عنه أبو إسحاق، وأبو حسّان الأعرج". ¬

_ (¬1) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (7/ 340)، و"الجرح والتعديل": (8/ 236)، و"الثقات": (5/ 419)، و"الميزان": (6/ 250)، و"التهذيب": (10/ 396). (¬2) وقال الذهبي: لا يعرف ولا هو بحجة. (¬3) (7/ 411 - 412).

وفي "التهذيب" (¬1): "أن الراوي عن عبد الله بن مسعود، وعنه أبو حسان، هو ناجية بن خُفَاف، فأما ناجية بن كعب فإنما روى عن علي وعنه أبو إسحاق. وحكى عن علي بن المديني، قال: لا أعلم أحدًا روى عنه غير أبي إسحاق. قال: وقال العجلي: ناجية بن كعب كوفي ثقة ... وقال الجوزجاني: مذموم". 166 - (د ت س) نافع بن أبي نافع: تفرّد عنه ابن أبي ذئب. (م) (¬2). البخاري (4/ 2/ 83): "نافع البزاز، هو نافع بن أبي نافع. قال أبو عاصم، عن ابن أبي ذئب، عن نافع مولى أبي أحمد، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا سَبَق إلا في كذا وكذا". أقول: متنه في "السنن" (¬3) وغيره: "لا سَبَق إلا في خفّ أو حافر أو نصل". ¬

_ (¬1) (10/ 399)، وله ترجمة في "الجرح والتعديل": (8/ 486)، و"الثقات": (2/ 308) للعجلي، و"الميزان": (5/ 364). (¬2) "المنفردات والوحدان" (ص 228). وله ترجمة في "الجرح والتعديل": (8/ 453)، و"الثقات": (5/ 468)، و"الميزان": (5/ 367). (¬3) أبو داود (2574)، والترمذي (1700)، والنسائي (3585)، وفي الكبرى (4410).

وفي "التهذيب" (¬1) عن ابن معين: ثقة. وعن ابن المديني: مجهول. وقد تابعه أبو الحكم مولى بني ليث، عن أبي هريرة، ولم يذكر النصل. رواه عنه محمَّد بن عمرو بن علقمة. "مسند" (2/ 425، 385، 256) (¬2). وكذلك يروي عن سليمان بن يسار، عن أبي عبد الله مولى الجُنْدَعيين، عن أبي هريرة. وقيل غير ذلك، كما يأتي في ترجمة أبي عبد الله (¬3). وفي ترجمة أبي عبد الله من "التهذيب" (¬4): "عن العجلي: ثقة. وعن الذهلي: أنه هو نافع بن أبي نافع الذي روى عنه نُعيم المُجْمِر وابن أبي ذئب". فأما الذي روى عنه ابن أبي ذئب فهو الذي بدأنا به، وقد قالوا فيه: مولى أبي أحمد. والظاهر أن المراد: أبو أحمد بن جحش (¬5)،/ وهو أسدي وليس بجندعي ولا خندعي. وأما الذي روى عنه نُعيم المجمر ... (¬6). ¬

_ (¬1) (10/ 410) (¬2) (9487، 8993، 7482) على التوالي. (¬3) رقم (198). (¬4) (12/ 150). (¬5) ترجمته في "الإصابة": (7/ 6 - 7) وهو أخو أم المؤمنين زينب بنت جحش، صحابي شهد بدرًا. (¬6) كذا تركه المؤلف في الأصل.

وعند البخاري ترجمة أخرى (¬1): "نافع مولى حمنة بنت شجاع. سمع أبا هريرة قال: لا سبق إلا في خف. وسمع أم قيس". 167 - (4) نُبَيح، أبو عمرو العَنَزيّ: تفرّد عنه الأسود بن قيس (م، ن) (¬2). البخاري (4/ 2/ 132): "نبيح بن عبد الله أبو عمرو العنزي. كناه شريك. سمع أبا سعيد الخدري، وجابر بن عبد الله. روى عنه الأسود بن قيس. يعد في الكوفيين". وقال ابن أبي حاتم (¬3): " ... روى عن أبي سعيد الخدري، وابن عمر، وجابر. روى عنه الأسود بن قيس. سمعت أبي يقول ذلك ... سئل أبو زرعة عن نبيح، فقال: كوفي ثقة، لم يرو عنه غير الأسود بن قيس". وفي "التهذيب" (10/ 417): " ... روى عن ابن عباس، وابن عمر، وأبي سعيد، وجابر. وعنه الأسود بن قيس، وأبو خالد الدالاني. قال أبو زرعة: ثقة، لم يرو عنه غير الأسود بن قيس ... وقال العجلي: كوفي تابعي ثقة. ¬

_ (¬1) "التاريخ الكبير": (8/ 83). (¬2) "المنفردات والوحدان" (ص 251) لمسلم، و"الوحدان" (ص 261 - ملحق بكتاب الضعفاء) للنسائي. وله ترجمة في "الثقات": (5/ 484)، و"الميزان": (5/ 370). (¬3) "الجرح والتعديل": (8/ 508).

وذكره علي بن المديني في جملة المجهولين الذين يروي عنهم الأسود بن قيس. وصحح الترمذي حديثه، وكذلك ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم". أقول: وجدت له في "مسند أحمد": عن ابن عباس عن أُبَيّ قال لعمر: يا أمير المؤمنين، إني تلقّيت القرآن ممن تلقّاه من جبريل عليه السلام وهو رطب. "المسند" (5/ 117) (¬1). [و] عن أبي سعيد حديثين: الأول: (3/ 48) (¬2) ذكر أحمد حديث أبي المتوكل، عن أبي سعيد مرفوعًا: "يخرج أناس من النار بعد ما احترقوا وصاروا فحمًا، فيدخلون الجنة، فيَنْبُتون فيها كما تَنبت القثاءة (¬3) في حميل السيل". ثم قال (¬4): "ثنا وكيع، عن علي بن صالح، عن الأسود بن قيس، عن نبيح العنزي، عن أبي سعيد الخدري قال: فينبتون كما تنبت السعدانة". وقضيته أن حديث نبيح كحديث أبي المتوكل سواء، إلا تلك الكلمة، والأمر في الكلمة هين. والحديث في "الصحيحين" (¬5) من طرق عن أبي سعيد مطولًا ومختصرًا. ¬

_ (¬1) (21112). وإسناده صحيح. (¬2) (11441). وإسناده صحيح. (¬3) في الطبعة المحققة "ينبت الغُثاء"، ووقع في بعض النسخ كما ذكر المؤلف تبعًا للطبعة القديمة. (¬4) (11442). (¬5) البخاري (22، 6560)، ومسلم (183).

الحديث الثاني: (3/ 51) (¬1) قال أحمد: ثنا يحيى بن آدم، ثنا زهير، عن الأسود بن قيس، عن ربيح (كذا) (¬2)، عن أبي سعيد الخدري: "أنهم خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سفر، فكانوا رُفقاء، رفقة مع فلان ورفقة مع فلان. قال: فنزلت في رفقة أبي بكر، فكان معنا أعرابي من أهل البادية، فنزلنا بأهل بيت من الأعراب، وفيهم امرأة حامل، فقال لها الأعرابي: أيسرك أن تلدي غلامًا؟ إن أعطيتني شاة ولدت غلامًا. فأعطته شاة، وسجع لها أساجيع. قال: فذبح الشاة. فلما جلس القوم يأكلون، قال رجل: أتدرون ما هذه الشاة؟ فأخبرهم. قال: فرأيت أبا بكبر متبرّئًا (¬3) مستنبلًا؟ (¬4) متقيئًا". وقد أخرج البخاري في "الصحيح" (¬5) باب أيام الجاهلية، من حديث عائشة: "كان لأبي بكر غلام ... ، فجاء يومًا بشيء فأكل منه أبو بكر، فقال له الغلام: ... كنت تكهّنتُ لإنسان في الجاهلية، وما أُحسِن الكهانة، إلا أني ¬

_ (¬1) (11482). قال الهيثمي في "المجمع": (4/ 92): رجاله ثقات. (¬2) كذا في ط المسند القديمة، وكذا وقع في غالب نسخه الخطية، وهو تحريف، ووقع في بعض النسخ وفي ط المحققة على الصواب. وسيشير المؤلف إلى الصواب فيها قريبًا. (¬3) في بعض النسخ: متبرزًا، وهي كذلك في نسخة السندي، قال: مِن تبرَّز، أي: خرج إلى الفضاء لقضاء الحاجة. حاشية المسند: (18/ 60). (¬4) قال السندي: مُسْتَنبلاً: النبل: بنون، ثم باء مفتوحتين: حجارة يستنجى بها، فلعل استنبل يكون بمعنى طلب النبل للاستنجاء بها كما هو المعتاد بعد قضاء الحاجة. المصدر نفسه. (¬5) (3842).

خدعته، فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلتَ منه. فأدخل أبو بكر يده فقاء كلَّ شيء في بطنه". قال الحافظ في "فتح الباري" (¬1): "ووقع لأبي بكر مع النُّعَيمان ... قصة ذكرها عبد الرزاق بإسناد صحيح ... " فذكر قصةً تشبه ما رواه نُبيح، لكن النعيمان أنصاريّ من قوم أبي سعيد. قال الحافظ: "ولأبي بكر قصة أخرى في نحو هذا، أخرجها يعقوب بن شيبة في مسنده من طريق نُبيح العنزي عن أبي سعيد قال: كنا ننزل رُفقاء ... ". فبان أن الحديث لنبيح العنزي، وما وقع في نسخة "مسند أحمد": "ربيح" تحريف. ولنبيح عن أبي سعيد قصة في مقدمة "الإصابة" (¬2). ولنبيح عن جابر في "مسند أحمد": 1 - (3/ 292) (¬3): "غزونا - أو سافرنا - مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن يومئذ بضعة عشر ومائتان، فحضرت الصلاة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هل في القوم شيء (¬4) من ماء ... ". ¬

_ (¬1) (7/ 154). (¬2) (1/ 164). (¬3) (14115). ورجاله ثقات. (¬4) "شيء" ليست في المسند، ولعل نظر المؤلف ذهب إلى قوله بعد ذلك: "فجاء رجل يسعى بإداوة فيها شيء من ماء".

وأشار الحافظ في "فتح الباري" (¬1) إلى أن هذه قصة الحديبية، وهي ثابتة في الصحيح من حديث سالم بن أبي الجعد، عن جابر، لكن فيها أنهم كانوا خمس عشرة مائة. ولعل الوهم هنا من الأسود؛ فقد أعاد أحمد الحديث (3/ 358) (¬2) فلم يذكر قوله: "ونحن يومئذ بضعة عشر ومائتان"، وإنما قال في آخره: "قال الأسود: حسبته قال: كنا مائتين أو زيادة". 2 - (3/ 297) (¬3): "إن قتلى أحد حُملوا من مكانهم، فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أن ردوا القتلى إلى مضاجعها". 2 - [(أ)] (¬4) - (3/ 297) (¬5): "انطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في دَين كان على أبي، فأتيته كأني شرارة". 3 - (3/ 299) (¬6): "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا دخلتم ليلاً فلا يأتينّ أحدُكم أهلَه طروقًا. قال جابر: فوالله لقد طرقناهنّ بعدُ". 4 - (3/ 302) (¬7): "كان أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم يمشون أمامه إذا خرج، ويدعون ظهره للملائكة". ¬

_ (¬1) (7/ 440). (¬2) (14860). (¬3) (14169). وأخرجه الترمذي (1717)، وابن حبان (3183). وإسناده صحيح. (¬4) ليست في الأصل. (¬5) (14170). (¬6) (14194). وأخرجه الطيالسي (1768)، وابن حبان (2713). (¬7) (14236). أخرجه ابن ماجه (246)، وابن حبان (6312).

5 - (3/ 303) (¬1): "أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم أستعينه في دَين ... ". 6 - (3/ 358) (¬2): "قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا جابر! ألك امرأة؟ قال: قلت: نعم. قال: أثيبًا نكحت أم بكرًا؟ ... ". 7 - (3/ 358) (¬3): "عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه أراد الغزو، فقال: يا معشر المهاجرين والأنصار! إن من إخوانكم قومًا ليس لهم مال ولا عشيرة، فليضمّ أحدُكم إليه الرجلين أو الثلاثة، فما لأحدنا من ظَهْرِ جَمَلِه إلا عُقبة كعُقبة أحدهم ... ". 8 - (3/ 358) (¬4): "فقدت جملي ليلةً ... " فذكر قصة الجمل، وفيها زيادة في بعضها ما قد يخالف الروايات الصحيحة. 9 - (3/ 397 -) (¬5): "خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة إلى المشركين؛ ليقاتلهم، وقال أبي عبد الله: يا جابر، لا عليك أن تكون في نظاري أهل المدينة ... "، فذكر قصة قتل أبيه، ودفنه، وقضائه الدين الذي عليه، مطولًا. والقصة في الصحيح (¬6) من رواية غير نبيح، وفي رواية نبيح زيادة غير ¬

_ (¬1) (14245). (¬2) (14861). (¬3) (14863). (¬4) (14864). (¬5) (15281). (¬6) البخاري (1351، 1352).

منكرة، وفيه: "فبينما أنا في خلافة معاوية ... "، ذكر أن عمال معاوية حفروا، فانفتح القبر، قال: "فأتيته فوجدته على النحو الذي دفنته، لم يتغير إلا ما لم يدع القتل أو القتيل". وليس هذا بمنافٍ لما في "الصحيحين" من أنه حفر عن أبيه بعد ستة أشهر؛ فإن الحفر بعد ستة أشهر كان ليفرده بقبرٍ على حِدة، وما في رواية نبيح قصة أخرى لها شاهد في "الموطأ" (¬1) إلا أن فيما وقع في "الموطأ" وهمًا أو إيهامًا ليس في رواية نبيح. 168 - (د س ق) نُجَيّ الحضرمي (¬2) عن علي، وعنه: ابنه عبد الله. قال العجلي: كوفي تابعي ثقة. وقال ابن حبان: لا يعجبني الاحتجاج بخبره إذا انفرد. 169 - (بخ د) نُعَيم بن حنظلة: تفرد عنه الركين بن الربيع. (م) (¬3). البخاري (4/ 2/ 96): "نعيم بن حنظلة. يعدّ في الكوفيين. عن عمار. روى عنه رُكَين بن الربيع". ¬

_ (¬1) (1348). (¬2) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (8/ 121)، و"الجرح والتعديل": (8/ 503)، و"الثقات": (5/ 480)، و"الميزان": (5/ 373)، و"التهذيب": (10/ 422). (¬3) "المنفردات والوحدان" (ص 194). وله ترجمة في "الثقات": (5/ 477)، و"الميزان": (5/ 395).

وقال ابن أبي حاتم (¬1): "نعيم بن حنظلة. ويقال: النعمان بن حنظلة. روى عن عمار بن ياسر. روى عنه الرُّكين بن الربيع. سمعت أبي يقول ذلك". وفي "التهذيب" (10/ 463): " ... روى عن عمار بن ياسر حديث: "من كان ذا وجهين". وروى عنه الركين بن الربيع. قال العجلي: كوفي تابعي ثقة. وقال علي بن المديني في هذا الحديث: إسناده حسن، ولا نحفظه عن عمار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا من هذا الطريق". أقول: حديثه عن عمار مرفوعًا: "من كان له وجهان في الدنيا كان له يوم القيامة لسانان من نار". أخرجه أبو داود (¬2). وفي "الصحيحين" (¬3) وغيرهما من حديث أبي هريرة: "تجد من شرار الناس يوم القيامة عند الله ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه". هذا لفظ البخاري في الأدب (¬4). قال الحافظ في "الفتح" (¬5): "وأخرج أبو داود من حديث عمار بن ¬

_ (¬1) "الجرح والتعديل": (8/ 460)، (¬2) (4863). وأخرجه الدارمي (2764)، والبخاري في "الأدب المفرد" (1310). وحسنه العراقي في "المغني": (2/ 830). (¬3) البخاري (3494)، ومسلم (2526). (¬4) (409). (¬5) (10/ 475).

ياسر ... " فذكر حديث نعيم عن عمار، كما تقدم، ثم قال: "وفي الباب عن أنس. أخرجه ابن عبد البر بهذا اللفظ". أقول: ولم يزد حديثُ نعيم عن عمار على حديث أبي هريرة إلا بذكر لسانين من نار، ويشهد له على ذلك ما ورد في عدة أحاديث مِن مشابهة العقوبة للذنب. ويؤكده قوله تعالى: {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} [الأنعام: 139]، وقوله سبحانه: {جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ: 26]. 170 - (ق) نَهِيك بن يَرِيم (¬1): عن مُغِيث بن سُمَي، عن ابن الزبير وابن عمر في التغليس بصلاة الفجر (¬2). وعنه: الأوزاعي. قال ابن معين: ليس به بأس. وذكره أبو زرعة الدمشقي في نفرٍ ثقات. وحكى الترمذي (¬3) عن البخاري أنه قال: "حديث حسن". 171 - (بخ 4) هانئ بن هانئ الهَمْداني (¬4): ¬

_ (¬1) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (8/ 122)، و"الجرح والتعديل": (8/ 497)، و"الثقات": (7/ 545)، و"الميزان": (5/ 400)، و"التهذيب": (10/ 480). (¬2) أخرجه ابن ماجه (671). (¬3) ذكره في "تهذيب الكمال": (7/ 364)، والحافظ في "التهذيب". (¬4) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (8/ 229)، و"الجرح والتعديل": (9/ 101)، و"الثقات": (5/ 509)، و"التهذيب": (11/ 22 - 23).

عن علي، وعنه أبو إسحاق السبيعي وحده. (م) (¬1). قال ابن المديني: مجهول. وقال حرملة عن الشافعي: لا يعرف، وأهل العلم بالحديث لا يثبتون حديثه لجهالة حاله. وذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من أهل الكوفة، وقال: كان يتشيّع. وقال النسائي: ليس به بأس. 172 - (4) هشام بن عمرو الفَزاري (¬2): تفرّد عنه حماد بن سلمة. (م، ن) (¬3). البخاري (4/ 2/ 195 -): " ... شهاب، نا حماد بن سلمة، عن هشام بن عمرو، عن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، عن علي بن أبي طالب قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول في آخر وتره: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك. قال محمَّد: سمعت أبا العباس يقول: حدثني الدارمي، ثنا حبان بن هلال، قال: نا حماد بن سلمة، ... قال أبو العباس: قيل لأبي جعفر الدارمي: روى عن هذا الشيخ غير حماد؟ فقال: لا أعلمه، وليس لحماد عنه إلا هذا". وقال ابن أبي حاتم (¬4): "روى عن عبد الرحمن بن الحارث بن ¬

_ (¬1) "المنفردات والوحدان" (ص 136). (¬2) ترجمته في: "الثقات": (7/ 568)، و"الميزان": (5/ 429). (¬3) "المنفردات والوحدان" (ص 251، 244) لمسلم، و"الوحدان" (ص 260) للنسائي. (¬4) "الجرح والتعديل": (9/ 64).

هشام. روى عنه حماد بن سلمة حديث علي رضي الله عنه في الدعاء. سمعت أبي يقول ذلك. ... نا محمَّد بن حمّويه بن الحسن، قال: سمعت أبا طالب قال: قال أحمد بن حنبل: هشام بن عمرو الفزاري من الثقات ... سألت أبي عن هشام بن عمرو الفزاري، فقال: شيخ قديم". وفي "التهذيب" (11/ 54 -): " ... قال ابن معين: لم يروه غيره، وهو ثقة. وقال أبو حاتم: ثقة، شيخ قديم. وقال أبو داود: هو أقدم شيخ لحماد. وقال أبو طالب عن أحمد: من الثقات". أقول: وفي "صحيح مسلم" (¬1) من حديث أبي هريرة عن عائشة رضي الله عنها قالت: فقدت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلةً من الفراش، فالتمسته، فوقعت يدي على بطن قدمه، وهو في المسجد، وهما منصوبتان، وهو يقول: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك". 173 - (صد) هشام بن هارون الأنصاري المدني (¬2): عن معاذ بن رفاعة، عن أبيه، في الدعاء للأنصار. وعنه: زيد بن الحُباب. قال ابن المديني: ليس هو بالمنكر، إلا أن هشامًا شيخ لا أعلم أحدًا روى عنه غير زيد بن الحباب. ¬

_ (¬1) (486). (¬2) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (8/ 198)، و"الجرح والتعديل": (9/ 69)، و"الثقات": (7/ 569)، و"التهذيب": (11/ 56)، و"الميزان": (5/ 430).

* (هِصّان بن كاهن) (¬1) قال ابن المديني: مجهول لم يرو عنه إلا حميد بن هلال. 174 - (ت) همّام بن نافع الصنعاني، والد عبد الرزاق (¬2): عن عكرمة، ووهب بن منبِّه، وميناء مولى عبد الرحمن بن عوف، وقيس بن يزيد الصنعاني. وعنه: ابنه عبد الرزاق، وقال: حج أكثر من ستين حجة. وقال ابن معين: ثقة. وقال العقيلي: حديثه غير محفوظ. (وفي "الميزان" عن العقيلي: أحاديثه غير محفوظة) (¬3). 175 - (د) هَيّاج بن عمران البُرْجُمي: تفرّد عنه الحسن البصري. (م) (¬4). البخاري (4/ 2/ 242): "هياج بن عمران البصري. ¬

_ (¬1) ترجمته في: "الجرح والتعديل": (9/ 121)، و"الثقات": (5/ 512)، "التهذيب": (11/ 64). (¬2) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (8/ 237)، و"الجرح والتعديل": (9/ 107)، و"الثقات": (7/ 586)، و"التهذيب": (11/ 67)، و"الميزان": (5/ 433). وكتب في موضع آخر: همام بن نافع الحميري والد عبد الرزاق. (¬3) في كتاب العقيلي: (4/ 371) وفي المحققة (6/ 306): حديثه غير محفوظ. قلت: لهمّام في المسند حديثان برقم (4294 و7745) يرويهما ابنه عبد الرزاق عنه عن مِيناء الخزاز، وميناء هالك لا تقوم به حجة. (¬4) "المنفردات والوحدان" (ص 106).

سمع عِمران بن حُصَين، وسمُرة: نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن المثلة. قاله مكي بن إبراهيم، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن هياج". وقال ابن أبي حاتم (¬1): " ... روى عن عمران بن حصين، وسمرة بن جندب. روى عنه الحسن البصري. سمعت أبي يقول ذلك". وفي "التهذيب" (11/ 89): "هياج بن عمران بن الفضيل التميمي البرجمي البصري. عن عمران بن حصين وسمرة بن جندب في النهي عن المثلة. روى عنه الحسن البصري. قال علي بن المديني: مجهول. وقال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث" (¬2). والحديث أخرجه أبو داود (¬3): "ثنا محمَّد بن المثنى، ثنا معاذ بن هشام، حدثني أبي، عن قتادة، عن الحسن، عن الهياج بن عمران أن عمران أبق له غلام، فجعل لله عليه لئن قدر عليه ليقطعنّ يده، فأرسلني لأسأل، فأتيت سمرة بن جندب فسألته، فقال: "كان نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم يحثّنا على الصدقة، وينهانا عن المُثْلة. فأتيت عمران بن حصين فسألته، فقال: كان ¬

_ (¬1) "الجرح والتعديل": (9/ 112). وله ترجمة في "الثقات": (5/ 512)، "الميزان": (5/ 443). (¬2) علق الذهبي في "الميزان": "وصدَق عليٌّ". (¬3) (2667).

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحثّنا على الصدقة، وينهانا عن المُثْلة". وأخرجه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 428) (¬1) من طريق سعيد، عن قتادة، عن الحسن: أن هياج بن عمران أتى عمران بن حصين ... ". وهذا يحتمل حضور الحسن لسؤال هياج من عمران. وأخرجه بعد قليل (¬2) من طريق همام، عن قتادة "أن الحسن حدثهم عن هياج ... ". وأخرجه (4/ 429 و439) (¬3) من طريق كثير بن شِنظير، عن الحسن، عن عمران بن حصين قال: ما قام فينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطيبًا إلا أمرنا بالصدقة، ونهانا عن المثلة. قال: وقال: ألا وإن من المثلة أن ينذر الرجل أن يخرم أنفه، ألا وإن من المثلة أن ينذر الرجل أن يحج ماشيًا. فليهْدِ هديًا وليركب". وقال عَقِبه (¬4): "ثنا أبو كامل، ثنا حماد، عن حميد، عن الحسن، عن عمران بن حصين ... ونهانا عن المثلة". وأخرجه (4/ 432) (¬5) من طريق يونس أنه نبئ عن الحسن أن رجلاً قال لعمران بن حصين. ¬

_ (¬1) (19844). (¬2) (19846). (¬3) (19857 و). (¬4) (19858). (¬5) (19877).

هذا معنى عبارته. وأخرجه (4/ 436) (¬1): ثنا وكيع، ثنا محمَّد بن عبد الله الشعيثي، عن أبي قلابة، عن سمرة بن جندب وعمران بن حصين قالا: "ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطبة إلا أمرنا بالصدقة، ونهانا عن المثلة". وأخرجه (4/ 440) (¬2): ثنا هاشم، ثنا المبارك، عن الحسن، أخبرني عمران بن حصين قال: "أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالصدقة، ونهى عن المثلة". وأخرجه (4/ 445) (¬3) من طريق هشيم: أنا منصور وحميد ويونس، عن الحسن، عن عمران بن حصين قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخطبنا، فيأمرنا بالصدقة، وينهانا عن المثلة". وأخرجه (5/ 12) (¬4): ثنا هشيم، ثنا حميد، عن الحسن، قال: جاءه رجل فقال: إن عبدًا له أبق، وإنه نذر إن قدر عليه أن يقطع يده، فقال الحسن: ثنا سمرة قال: "قلّما خطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطبة إلا أمر فيها بالصدقة، ونهى فيها عن المثلة". وأخرجه (5/ 20) (¬5): ثنا وكيع، ثنا يزيد - يعني ابن إبراهيم - عن الحسن، عن سمرة .... ¬

_ (¬1) (19909). (¬2) (19950). (¬3) (19996). (¬4) (20136). (¬5) (20225).

أقول: أما قول مبارك بن فضالة عن الحسن: "حدثنا عمران بن حصين"، فقد أنكر الإمام أحمد ذلك على المبارك، كما في ترجمة المبارك من التهذيب" (¬1). وأما رواية هُشيم عن حميد عن الحسن: "ثنا سمرة"، فقد ذكرها ابن حجر في "التهذيب" (¬2) مستدلًّا بها على سماع الحسن من سمرة لغير حديث العقيقة. وفي ذلك نظر؛ لأن هشيمًا مدلس، وفوق ذلك ففي "التهذيب" (¬3) عن البزار: "سمع الحسن ... ، وكان يتأول، فيقول: حدثنا وخطبنا، يعني قومه الذين حدثوا وخطبوا بالبصرة". وقال قبل ذلك عن ابن المديني في قول الحسن: "خَطَبَنا ابنُ عباس بالبصرة" قال: إنما أراد خطبَ أهلَ البصرة. وأما رواية أبي قلابة عن سمرة وعمران، فأبو قلابة كان يرسل عمن لم يلقه، ولكنه قد لقي سمرة وسمع منه. وفي ترجمة أبي قلابة من "التهذيب" (¬4) أن أبا حاتم قال: "لا يعرف له تدليس"، قال ابن حجر: "وهذا مما يقوي من ذهب إلى اشتراط اللقاء في التدليس، لا الاكتفاء بالمعاصرة". أقول: وفيه نظر. ¬

_ (¬1) (10/ 29). (¬2) (2/ 269). (¬3) في الصفحة نفسها. (¬4) (5/ 226).

والشعيثي ضعّفه أبو حاتم، مع حكايته عن دُحَيم توثيقه. 176 - (مد) واصل بن أبي جميل (¬1): في "معجم ابن الأعرابي" (¬2) عن أحمد بن حنبل: واصل مجهول، ما روى عنه غير الأوزاعي. أقول: وذكر في "التهذيب" أنه روى عنه عمر (¬3) بن موسى بن وجيه. وكأنّ أحمد لم يعتدّ (¬4) بابن وجيه؛ لضعفه. قال الكوسج عن ابن معين: لا شيء. وقال ابن أبي مريم عنه: مستقيم الحديث. 177 - (بخ ت ق) الوليد بن جميل (¬5): فلسطيني، روى عن القاسم أبي عبد الرحمن، ويحيى بن أبي كثير، ومكحول. ¬

_ (¬1) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (8/ 173)، و"الجرح والتعديل": (9/ 30)، و"الثقات": (7/ 559)، و"الميزان": (6/ 2)، و"التهذيب": (11/ 102 - 103). (¬2) (2/ 553 - 554). ووقع فيه "واصل مولى ابن عيينة" ونبّه المحقق إلى أنه هكذا في النسخة، وإنما تكلم أحمدُ على ابن أبي جميل، أما مولى ابن عيينة فوثقه، فلعل ما وقع في النسخة خطأ. (¬3) كذا في الأصل بدون واو، وفي التهذيب "عمرو"، واختلفت المصادر هل هو عمرو أو عمر، وانظر تعليق المؤلف على "تاريخ البخاري": (6/ 197). (¬4) في الأصل: "لم يتعد". (¬5) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (8/ 142)، و"الجرح والتعديل": (9/ 3)، و"الثقات": (7/ 549)، و"التهذيب": (11/ 132)، و"الميزان": (6/ 11).

وعنه: سلمة بن رجاء، وأبو النضر، وصدَقَة السمين، ويزيد بن هارون. قال ابن المديني: لا أعلم روى عنه إلا يزيد .. أحاديثه تشبه أحاديث القاسم. ورضيه (؟) (¬1). وقال أبو زرعة: ليّن الحديث. وقال أبو حاتم: روى عن القاسم أحاديث منكرة. وقال الآجري عن أبي داود: شيخ دمشقي، ما به بأس. وقال ابن عدي: له عن القاسم، ولم أجد له عن غيره شيئًا. 178 - (خ) الوليد بن عبد الرحمن الجارودي: تفرّد عنه ابنه المنذر. (فتح المغيث) (¬2). في "التهذيب" (11/ 139): "الوليد بن عبد الرحمن بن حبيب بن عائذ بن حبيب بن الجارود أبو العباس الجارودي البصري. روى عن سعيد، وحماد بن زيد، وأبي طلحة الراسبي، وغيرهم. وعنه: ابنه المنذر، وقال: مات في جمادى الآخرة سنة ثنتين ومائتين ... وقال الدارقطني: ثقة ... ". 179 - (د) الوليد بن عَبَدة، مولى عمرو بن العاص، ويقال: عمرو ابن الوليد بن عَبَدة (¬3): ¬

_ (¬1) وهكذا النص أيضًا في التهذيب، فلعله لم يكن واضحًا في نسخة المؤلف، أو أنه يشكّك في هذا الرضا المزعوم! (¬2) (2/ 50). وله ترجمة في "الثقات": (9/ 225) لابن حبان. (¬3) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (6/ 378)، و"المنفردات والوحدان" (ص 207)، و"الميزان": (4/ 212) جاء فيهما باسم عمرو فقط. وجاء في "الجرح والتعديل": =

عن قيس بن سعد بن عبادة، وعبد الله بن عمرو. روى عنه: يزيد بن أبي حبيب. قال أبو حاتم: مجهول. وقال ابن يونس: حديثه معلول. وذكره في موضع آخر: عمرو بن الوليد بن عبدة، وكان من أهل الفضل والفقه. وذكره يعقوب بن سفيان في ثقات المصريين. 180 - (د س) وَهْب بن جابر الخَيْواني: تفرّد عنه أبو إسحاق السبيعي. (م) (¬1). البخاري (4/ 2/ 163 -): "وهب بن جابر الخيواني، سمع عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: كفى بالمرء إثمًا أن يضيّع مَن يقوت. قاله سفيان، عن أبي إسحاق. يعدّ في الكوفيين". وقال ابن أبي حاتم (¬2): " ... روى عن عبد الله بن عمرو. روى عنه أبو إسحاق الهمْداني، سمعت أبي يقول ذلك ... أنا يعقوب بن إسحاق - فيما كتب إليّ - قال: نا عثمان بن سعيد، قال: سألت يحيى بن معين عن وهب بن جابر، فقال: ثقة". ¬

_ = (6/ 266 و9/ 11)، و"الثقات": (5/ 184 و493)،، و"التهذيب": (8/ 116 و 11/ 141) بالاسمين، ووقع في "الجرح والتعديل": "الوليد بن عبيدة" والظاهر أنه تصحيف، وانظر تعليق المؤلف هناك. (¬1) "المنفردات والوحدان" (ص 139). وله ترجمة في "الثقات": (5/ 489)، و"الميزان": (6/ 24). (¬2) "الجرح والتعديل": (9/ 23).

وفي "التهذيب" (11/ 160): " ... روى عنه أبو إسحاق الهمْداني وحده. قال عثمان الدارمي عن ابن معين: ثقة. وقال العجلي: كوفي تابعي ثقة. وقال ابن البراء عن علي بن المديني: وهب بن جابر مجهول، سمع من عبد الله بن عمرو قصة يأجوج ومأجوج، و"كفى بالمرء إثمًا أن يضيّع من يقوت"، ولم يرو غير ذين. وقال النسائي: مجهول". أقول: حديثه في "المستدرك" (4/ 500 -)، ووقع في سنده تخليط من النساخ، وصوابه: " ... عبد الرزاق، أبنا معمر، عن أبي إسحاق، عن وهب بن جابر الخيواني". ولفظه: "قال: كنت عند عبد الله بن عمرو، فقدم عليه قَهْرمان من الشام، وقد بقيت ليلتان من رمضان، فقال له عبد الله: هل تركتَ عند أهلي ما يكفيهم؟ قال: قد تركت عندهم نفقة. فقال عبد الله: عزمت عليك لما رجعت فتركت لهم ما يكفيهم؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يعول. ثم أنشأ يحدثنا، فقال: إن الشمس إذا غربت سلّمت وسجدت واستأذنت، قال: فيُؤذَن لها، حتى إذا كان يومًا غربت، فسلّمت وسجدت واستأذنت، فلا يُؤذَن لها، فتقول: يا رب! إن المشرق بعيد، وإني إن لا يؤذن لي لا أبلغ. قال: فتجلس ما شاء الله، ثم يقال لها: اطلعي من حيث غربت. قال: فمن يومئذ إلى يوم القيامة لا ينفع نفسًا إيمانُها لم تكن آمنت من قبل. قال: وذكر يأجوج ومأجوج. قال: وما يموت الرجل منهم حتى يولد له من صلبه ألف، وإن من ورائهم لثلاث أمم ما يعلم عدّتهم إلا الله عزَّ وجلَّ: منسك، وتاويل، وتاريس - وفي نسخة: وناويس - ".

قال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين". وأقرّه الذهبي على عادته في التسامح فيما لا يخاف منه فتنة. فأما المرفوع، وهو قوله: "كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يقوت"، فلا نكارة فيه فإن معناه صحيح؛ فإن نفقة الزوجة وصغار الولد والأبوين المحتاجين والمماليك واجبة، فتضييعهم تركٌ للواجب، وهو إثم قطعًا. ويشتدّ الإثم باشتداد الضرر الذي يصيبهم بسبب التضييع. وأما الموقوف فقصة الشمس قد ورد فيها قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} الآية [يس: 38]، والكلام في معناها يُطلَب من التفسير، وجاء فيها حديث "الصحيحين" (¬1) عن أبي ذر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له حين غربت الشمس: أتدري أين تذهب؟ الحديث. ولم أره إلا من رواية الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن أبي ذر، بالعنعنة، والأعمش وإبراهيم مدلسان، وصاحبا الصحيح ربما لا يدقّقان في هذا؛ لاعتقادهما أنه ليس فيه عقيدة ولا حكم. وعلى هذا، فالحديث لا يقوم حجةً على أصحاب الهيئة، ولا يتوجّه به لكفارهم وملحديهم طعنٌ في الأحاديث أو في الإسلام. فأما ما في حديث وهب بن جابر عن عبد الله بن عمرو، فلم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعبد الله معروف بالأخذ عن أهل الكتاب وغيرهم. ¬

_ (¬1) البخاري (3199)، ومسلم (159).

نعم، ما فيه من أن الشمس ستطلع في آخر الزمان من مغربها، مما تواترت به الأخبار، وليس عند أهل الهيئة الحديثة ما يردّه؛ فإنهم يزعمون أن هذا الطلوع والغروب إنما هو نتيجة دوران الأرض حول الشمس. فمن المحتمل - على رأيهم - أن يعرض للأرض ما يعكس دورتها. على أن من يؤمن بالله تبارك وتعالى يعلم قدرته على خرق العادت. وكذلك عدم نفع إحداث الإيمان أو التوبة بعد طلوع الشمس من مغربها، ثابت في الأخبار، وفُسّر به قول الله عزَّ وجلَّ: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} الآية [الأنعام: 158]. والكلام في تقرير ذلك في محلّه. وأما يأجوج ومأجوج، فالكلام فيهم طويل، والأثر موقوف، وابن عمرو كان يأخذ عن أهل الكتاب وغيرهم. فليس في القصة ما يدل على ضعف وهبٍ. والله أعلم. 181 - (تمييز) وَهْب بن عُقبة العجلي (¬1): وثَّقه ابن معين. 182 - (ت س) يحيى بن إسحاق، ويقال: ابن أبي إسحاق، الأنصاري (¬2): عن عمه رافع بن خَديج، ومُجاشع بن مسعود. وعنه يحيى بن أبي كثير. ¬

_ (¬1) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (8/ 165)، و"الجرح والتعديل": (9/ 26)، و"الثقات": (5/ 488)، و"التهذيب": (11/ 165). (¬2) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (8/ 259)، و"الجرح والتعديل": (9/ 125)، و"الثقات": (5/ 520)، و"التهذيب": (11/ 156)، و"الميزان": (6/ 35).

قال ابن معين: ثقة. أقول: أما حديثه عن رافع، فلفظه عند الترمذي (¬1): أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إذا اضطجع أحدكم على جنبه الأيمن، ثم قال: اللهم أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وألجأت ظهري إليك، وفوّضت أمري إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك أومِن بكتابك وبرسلك (¬2). فإن مات من ليلته دخل الجنة". وقال الترمذي: حسن غريب من حديث رافع. وأخرج قبله (¬3) حديث البراء المشهور: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له: "ألا أُعلِّمك كلمات تقولها إذا أويت إلى فراشك، فإن مِتّ من ليلتك مِتّ على الفطرة، وإن أصبحت أصبحت وقد أصبتَ خيرًا، تقول: اللهم إني أسلمت نفسي إليك، ووجّهت وجهي إليك، وفوّضت أمري إليك، رغبةً ورهبةً إليك، وألجأت ظهري إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت". قال البراء: فقلت: وبرسولك الذي أرسلت. قال: فطعن بيده في صدري، ثم قال: وبنبيك الذي أرسلت". وأما حديثه عن مجاشع، فلفظه في "مسند أحمد" (3/ 468) (¬4): "عن مُجاشع بن مسعود أنه أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بابن أخٍ له يبايعه ¬

_ (¬1) (3395). (¬2) كذا، وفي الترمذي: "وبرسولك". (¬3) (3394). (¬4) (15847).

على الهجرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا، بل يُبَايع على الإسلام؛ فإنه لا هجرة بعد الفتح، ويكون من التابعين بإحسان". وأخرج أحمد القصة أيضًا (3/ 468) (¬1) من طريق أبي عوانة، عن عاصم الأحول، عن أبي عثمان النهدي، عن مُجاشع بن مسعود قال: انطلقتُ بأخي معبد إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد الفتح، فقلت: يا رسول الله! بايعه على الهجرة. فقال: مضت الهجرة لأهلها. قال: فقلت: فماذا؟ قال: على الإسلام والجهاد". ومن طريق زهير، عن عاصم، عن أبي عثمان، عن مجاشع، بنحوه (3/ 469) (¬2)، وفي آخره: "على الإسلام، والإيمان، والجهاد. قال: فلقيت معبدًا بعدُ - وكان هو أكبرهما -, فسألته، فقال: صدق مجاشع". ومن طريق يزيد بن زُرَيع (¬3)، عن خالد الحذّاء، عن أبي عثمان، عن مجاشع قال: قلت: يا رسول الله! هذا أخي مجالد بن مسعود يبايعك على الهجرة، قال: لا هجرة بعد فتح مكة، ولكن أبايعه على الإسلام". 183 - (ص س) يزيد بن جارية الأنصاري (¬4): عن معاوية حديث: "من أحبّ الأنصار أحبه الله" (¬5). ¬

_ (¬1) (15848). (¬2) (15851)، وأخرجه البخاري (4305) من هذا الطريق بهذا اللفظ. (¬3) (15580). وأخرجه البخاري (3078). (¬4) ترجمته في: "الجرح والتعديل": (9/ 255)، و"التهذيب": (11/ 317). (¬5) أخرجه النسائي في الكبرى (8274)، وأحمد (16871، 16919). وإسناده صحيح، وانظر حاشية "المسند": (28/ 84 - 85).

قال النسائي: ثقة. 184 - (س) يزيد بن محمَّد بن خُثَيم (¬1): عن محمَّد بن كعب القُرَظي، عن محمَّد بن خثيم، عن عمار: كنت أنا وعليّ رفيقين في غزوة .. الحديث (¬2). وعنه: محمَّد بن إسحاق. قال ابن معين: ليس به بأس. وقال البخاري: لا يعرف سماع بعضهم من بعض. 185 - (د ت ق) يَسار المدني، مولى ابن عمر (¬3): عن مولاه، وعنه: أبو علقمة، مولى ابن عباس. قال أبو زرعة: مدني ثقة. 186 - (بخ 4) يُسَيع بن معدان (¬4): ¬

_ (¬1) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (8/ 356)، و"الثقات": (7/ 628)، و"الجرح والتعديل": (9/ 288)، و"التهذيب": (11/ 357)، و"الميزان": (6/ 113). (¬2) أخرجه النسائي في "الكبرى" (8485)، وأحمد (18321 و18326)، والحاكم: (3/ 140 - 141) وغيرهم. وقد أعله البخاري بالانقطاع، وفيه ابن خثيم مجهول، والراوي عنه محمَّد بن إسحاق تفرّد به عنه، والكلام فيه معروف. وللحديث شواهد من حديث علي وغيره. (¬3) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (8/ 421)، و"الجرح والتعديل": (9/ 306)، و"الثقات": (5/ 557)، و"التهذيب": (11/ 376)، و"الميزان": (6/ 118). (¬4) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (8/ 425)، و"الجرح والتعديل": (9/ 313)، و"الثقات": (5/ 558)، و"التهذيب": (11/ 380).

عن عليّ والنعمان بن بشير. وعنه: ذَرّ بن عبد الله المُرهبي. قال ابن المديني: معروف. وقال النسائي: ثقة. في "تاريخ البخاري": أن سلمة بن صالح روى عن علقمة بن مرثد عن يسيع، ثم قال: يتكلمون في سلمة. 187 - (م) يعقوب بن عبد الله بن أبي طلحة (¬1): عن عمه أنس بن مالك، وامرأة من آل أبي قتادة. وعنه: أسامة بن زيد الليثي، وعبد الله بن أبي بكر بن حزم. وقال أبو زرعة: ثقة، لم يرو عنه إلا أسامة بن زيد. وقال النسائي: مشهور الحديث. 188 - (بخ ت) يوسف بن مِهْران: تفرّد عنه عليّ بن زيد بن جُدعان. (م) (¬2). البخاري (4/ 2/ 375): "يوسف بن مهران، عن ابن عباس قال: كنا مع جابر بن عبد الله إذ مرّ به ابن عمر. رواه آدم، عن سليمان بن المغيرة، عن علي بن زيد بن جدعان، عن يوسف بن مهران. قاله عبد الوارث، وحماد ¬

_ (¬1) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (8/ 389)، و"الجرح والتعديل": (9/ 208)، و"التهذيب": (11/ 391). (¬2) "المنفردات والوحدان" (ص 179). وله ترجمة في "الثقات": (5/ 551)، و"التهذيب": (11/ 424)، و"الميزان": (6/ 148).

ابن سلمة، وغير واحد، عن علي بن زيد. وقال شعبة عن علي بن زيد: عن يوسف بن ماهك. وروى منصور بن صفية عن يوسف صاحب الكتب. قال منصور: وكان رجلاً يكون مع ابن الزبير، وكان يهوديًّا فأسلم. وقال ابن أبي عدي، عن حميد، عن يوسف بن يعقوب المكي قال: كنت عند ابن عباس، فأُتيَ بسارق". وقال ابن أبي حاتم (¬1): " ... روى عن ابن عباس، وابن عمر. روى عنه علي بن زيد بن جدعان. سمعت أبي يقول ذلك. قال أبي: وروى بعضهم عن علي بن زيد فقال: عن يوسف بن ماهك. ويوسف بن مهران أصح. نا علي بن الحسن الهسِنْجاني، قال أحمد - يعني ابن حنبل -: قال: نا عفان، نا حماد بن زيد قال: سمعت علي بن زيد وذكر يوسف بن مهران فقال: كنّا نشبّه حفظَه بحفظ عمرو بن دينار. سألت أبي عن يوسف بن مهران، فقال: لا أعلم روى عنه غير علي ابن زيد بن جدعان، يُكتب حديثُه ويُذاكر به. سئل أبو زرعة عن يوسف بن مهران فقال: مكي ثقة". وذكر في ترجمة يوسف بن الزبير (¬2) أنه هو صاحب الكتب، وأفرد ¬

_ (¬1) "الجرح والتعديل": (9/ 229). (¬2) (9/ 222).

يوسف بن يعقوب المكي الذي روى عنه حميد بترجمته (¬1). وفي "التهذيب" (11/ 424): "يوسف بن مهران البصري: روى عن ابن عباس، وابن عمر، وابن جعفر، وجابر. وعنه: علي بن زيد بن جدعان وقال: كان يُشبه حفظه حفظ عمرو بن دينار. وقال الميموني عن أحمد: يوسف بن مهران لا يعرف، ولا أعرف أحدًا روى عنه إلا علي بن زيد ... ، يكتب حديثه ويذاكر به. وقال أبو زرعة: ثقة. وقال ابن سعد: ثقة قليل الحديث". أقول: له في مسند الفضل بن عباس من "مسند أحمد" حديث (1/ 212) (¬2) من طريق شعبة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن ماهك عن ابن عباس عن الفضل: كنت رديف النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلبّى في الحجّ حتى رمى الجمرة يوم النحر". وأعاده (ص 213) (¬3)، وأشار إلى النظر في قوله: "بن ماهَك" (¬4). وقد تقدم عن البخاري أن شعبة قاله كذلك. وقاله غيره: "ابن مهران". فأما هذا الحديث، فمعروف من رواية علي بن الحسين، وعطاء، وسعيد بن جبير، وغيرهم، عن ابن عباس. ¬

_ (¬1) (9/ 233). (¬2) (1808). (¬3) (1827). (¬4) وذلك بقوله: "قال روح - يعني في حديثه -: قال: حدثنا علي بن زيد، قال: سمعت يوسف بن ماهك، كلاهما قال: ابن ماهك".

ووجدت له في مسند ابن عباس من "مسند أحمد" (1/ 214 - () 374) أحاديث: 1 - (ص 215) (¬1) عن ابن عباس قال: "قُبِض النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو ابن خمس وستين". وقد أخرج مسلم (¬2) عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس مثله، وذكره البخاري في "التاريخ الصغير" (ص: 16) (¬3) ثم قال: "ولا يتابَع عليه، وكان شعبة يتكلم في عمار". أقول: وقد ثبت من رواية عمرو بن دينار، وأبي حمزة الضُّبَعي، وعكرمة، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مات وهو ابن ثلاث وستين. وحكى الحافظ في "الفتح" (¬4) أن بعضهم جمع بين القولين بأن من قال: "خمس وستون" جبر الكسر، قال: "وفيه نظر؛ لأنه يخرج منه أربع وستون فقط، وقيل من تنبه لذلك". أقول: في رواية عن عمار، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقام بمكة خمس عشرة سنة (¬5)، وفي رواية غيره: ثلاث عشرة. فيمكن ¬

_ (¬1) (1846). (¬2) (2353). وهو عند أحمد (1945، 3380) أيضًا. (¬3) وهو المطبوع الآن باسم التاريخ الأوسط: (1/ 338 - ط مكتبة الرشد). (¬4) (8/ 151). (¬5) (2399، 2640). ولفظه: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقام بمكة خمس عشرة سنة, ثمان سنين أو سبعًا يري الضوء ويسمع الصوت، وثمانيًا أو سبعًا يوحى إليه، وأقام بالمدينة عشرًا".

أن يكون التجوز في هذا. وقد قيل: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولد في رمضان، وأنزل عليه في رمضان. فإذا صح ذلك فهذه أربعون سنة كوامل، ثم بقي صلى الله عليه وآله وسلم أواخر سنة البعثة، وثلاث عشرة سنة كاملة، وأوائل سنة الهجرة. فإذا ألغي الكسران قيل: ثلاث عشرة، وإذا جبر كل منهما فعُدَّ سنةً كاملة، فتلك خمس عشرة. وعلى هذا، يكون عمره صلى الله عليه وآله وسلم الحقيقي ثلاث (¬1) وستين سنة ونحو ستة أشهر. فتدبر. وبالجملة، فمن وثّق يوسف نظَرَ في هذا الحديث إلى موافقة عمار له، والله أعلم. 2 - (ص 237) (¬2) عن ابن عباس قال: لما مات عثمان بن مظعون قالت امرأة: هنيئًا لك الجنة ... فذكر نحو حديث أم العلاء الذي في "الصحيحين" (¬3)، وزاد: "فلما ماتت زينب (وقال في رواية: رقية) ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الحقي بسلفنا الصالح الخَيْر عثمان بن مظعون، فبكت النساء، فجعل عمر يضربهنّ بسوطه (¬4)، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده وقال: ¬

_ (¬1) كذا، والوجه: "ثلاثًا". (¬2) (2127 و3103). (¬3) البخاري (1243)، ولم أجده في مسلم. (¬4) في الأصل: (بسطوطه).

مهلًا يا عمر، قال: ابكين، وإياكُنّ ونعيق الشيطان، ثم قال: إنه مهما كان من العين والقلب فمن الله عَزَّ وَجَلَّ ومن الرحمة، وما كان من اليد ومن اللسان فمن الشيطان". وزاد في الرواية التي سمّى فيها رقية: "وقعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على شفير القبر، وفاطمة إلى جنبه تبكي، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يمسح عين فاطمة بثوبه رحمة لها". وذكر هذا الحديث ابن حجر في ترجمة رقية من "الإصابة" (¬1)، ثم قال: "قال الواقدي: هذا وهم، ولعلها غيرها من بناته؛ لأن المثبت أن رقية [ماتت] (¬2) ببدر"، يعني أنها ماتت بالمدينة والنبي صلى الله عليه وآله وسلم ببدر. وعثمان بن مظعون إنما مات بعد بدر، فقد ماتت رقية قبله. وهذا واضح. وأما زينب فمحتمل، ولا يعارضه ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال ذلك عند وفاة ابنه إبراهيم، قال: الحق بسلفنا ... (¬3)؛ لما جاء أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول ذلك لكل من مات من المهاجرين بعد عثمان بن مظعون. بقي أنه قد يُستنكَر خروج فاطمة عليها السلام عند موت زينب إلى ¬

_ (¬1) (7/ 649). (¬2) ما بين المعكوفين مستدرك من الإصابة. (¬3) أخرجه الطبراني في "الكبير": (1/ 286) وذكره البخاري في "التاريخ الكبير": (7/ 378) في ترجمة معمر بن يزيد السلمي.

المقابر، إلا أنه قد يقال: اغتفر لها ذلك عند موت شقيقتها، والله أعلم. وقصة عمر في النهي قد جاء نحوها من حديث أبي هريرة. راجع "المسند" (2/ 110) (¬1). 3 - (ص 245) (¬2) عن ابن عباس أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: "لو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر فأدسه في في فرعون". وقد روى شعبة نحوَه عن [عدي بن ثابت] (¬3) عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس مرفوعًا، ورواه شعبة - أيضًا - عن عدي بن ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قولَه (¬4). 4 - (ص 245) (¬5) عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: قال لي جبريل عليه السلام: إنه قد حُبِّبَ إليك الصلاة فخذ منها ما شئت. 5 - (ص: 245) (¬6) عن ابن عباس أن رجلاً أتى عمر فقال: امرأةٌ جاءت ¬

_ (¬1) (5889). (¬2) (2203). (¬3) ما بين المعكوفين مستدرك من المسند. (¬4) أخرجه أحمد (2144)، والترمذي (3108)، وابن حبان (6215) والحاكم: (2/ 340)، وغيرهم، وقد اختلف في وقفه ورفعه كما ذكر المؤلف، وأكثر أصحاب شعبة أوقفوه، وهو الصحيح. (¬5) (2205). (¬6) (2206)

تبايعُه، فأدخلتُها الدَّولَج ... " فذكر القصة، ولها شواهد في "الصحيحين" (¬1) وغيرهما. راجع آخر تفسير سورة هود من "فتح الباري" (¬2). 6 - (ص 245) (¬3) عن ابن عباس قال: جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورديفه أسامة بن زيد، فسقيناه من هذا الشراب، فقال: أحسنتم، هكذا فاصنعوا. وقد تابعه عليه جماعة (¬4)، وأخرج مسلم (¬5) نحوه عن بكر بن عبد الله المزني، عن ابن عباس. 7 - (ص 251) (¬6) عن ابن عباس أنه قال: لما نزلت آية الدين قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن أول مَن جحد آدم عليه السلام، وأول من (؟ ما) (¬7) جَحَد آدم: أن الله عَزَّ وَجَلَّ لما خلق آدم مسح ظهره، فأخرج منه ما هو من ذراري إلى يوم القيامة، فجعل يعرض ذريته عليه، فرأى فيهم رجلاً يَزْهَر ... ". ¬

_ (¬1) من حديث ابن مسعود عند البخاري (4687)، ومسلم (2763) وغيرهما. (¬2) (8/ 355 - 357). (¬3) (2207). (¬4) انظر المسند (2294 و3114). (¬5) (1316). (¬6) (2270). وأخرجه الطيالسي (2692)، وابن أبي عاصم في "السنة" (204)، وأبو يعلى (2710) وغيرهم. (¬7) كذا، وقد استشكل المؤلف النص، وجاء في المحققة: "أو: أول مَن جحد آدم" فزال الإشكال.

وهذه القصة قد جاء نحوها من حديث أبي هريرة، أخرجه الحاكم في "المستدرك" (1/ 64)، ولبعض معناها شواهد، انظر: "المستدرك" (2/ 544 -). 8 - () (ص 254) (¬1) عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ما من أحد من ولد آدم إلا قد أخطأ أو همّ بخطيئة، ليس يحيى بن زكريا، وما ينبغي لأحد أن يقول: أنا خيرٌ من يونس بن متّى عليه السلام. فأما ما يتعلق بيحيى عليه السلام، فقد أخرج ابن جرير (¬2) نحوه من رواية ابن المسيب، عن ابن العاص - إما عبد الله وإما أبوه -, ثم ذكر ابن المسيب من عنده قولًا قد ينكر معناه. وأخرجه ابن جرير (¬3) بسند ليس بذاك عن ابن المسيّب، عن ابن العاص مرفوعًا، ومعه تلك الزيادة مرفوعة. وأخرجه من وجهٍ ثالث جيّد عن ابن المسيّب قوله. راجع "تفسير ابن جرير" (3/ 159) (¬4). 9 - (ص 267) (¬5) عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتاه فيما يراه النائم ملكان، فقعد أحدهما عند رجليه والآخر عند رأسه، فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه: اضرب مَثَل هذا ومَثَل أمّته. ¬

_ (¬1) (2294). (¬2) (15/ 481). (¬3) المصدر نفسه. (¬4) (5/ 378). (¬5) (2402).

فقال: إن مَثَله ومَثَل أمّته كمثل قوم سَفْر ... " ومعناه حق. وفي "الأدب المفرد" (¬1) للبخاري، باب قوس قزح: "نا الحسن بن عمر، نا عبد الوارث، عن علي بن زيد، حدثني يوسف بن مهران، عن ابن عباس قال: المجرّة باب من أبواب السماء، وأما قوس قُزَح فأمان من الغرق بعد قوم نوح". وأخرج نحوه (¬2) من طريق أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، لكن فيه: "والقوس" لم يقل: "قوس قزح"، والخطب سهل. وأخرج نحوه (¬3) في المجرّة خاصة من طريق أبي الطفيل، عن علي رضي الله عنه. وآخر في "المستدرك" (4/ 569) في صفة الحشر. وأما عن ابن عمر، ففي "مسند أحمد" (2/ 117 -) (¬4) عنه، عن عبد الله بن عمر: أنه كان عنده رجل من أهل الكوفة، فجعل يحدثه عن المختار، فقال ابن عمر: إن كان كما تقول، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إن بين يدي الساعة ثلاثين دجالًا كذابًا. (أبو الأحوص، مولى بني ليث) (¬5). ¬

_ (¬1) (765). (¬2) (767). (¬3) (766). (¬4) (5985). (¬5) كتب المؤلف بين هلالين بلا رقم. وترجمته في: "التاريخ الكبير": (8/ 7 - الكنى)، =

189 - (د ت) أبو بُسْرة الغِفاري (¬1): عن البراء بن عازب: "صحبت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثمانية عشر شهرًا فما رأيته ترك الركعتين ... " (¬2). وعنه: صفوان بن سُلَيم. ذكر الترمذي أنه سأل البخاري عنه فلم يعرفه إلا من حديث الليث هذا. وقال الذهبي في "الميزان" (¬3): لا يعرف. وقال العجلي: مدني تابعي ثقة. 190 - (مدت) أبو بِشْر، مؤذّن مسجد دمشق (¬4): عن عمر بن عبد العزيز، وراشد بن سعد. ¬

_ = و"المنفردات والوحدان" (ص 122)، و"الجرح والتعديل": (9/ 335)، و"الثقات": (5/ 564)، و"التهذيب": (12/ 5). قال في التهذيب: قال النسائي: لم نقف على اسمه ولا نعرفه ولا نعلم أن أحدًا روى عنه غير ابن شهاب، وقال الدوري عن ابن معين: ليس بشيء. وأخرج حديثَه ابنُ خزيمة وابن حبان في صحيحهما، وقال الحاكم أبو أحمد: ليس بالمتين عندهم. (¬1) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (8/ 16 - الكنى)، و"ثقات العجلي": (2/ 387)، و"الجرح والتعديل": (9/ 348)، و"الثقات": (5/ 573) لابن حبان، و"التهذيب": (12/ 20). (¬2) أخرجه أبو داود (1222)، والترمذي (550) وقال الترمذي: حديث البراء حديث غريب، وسألت محمدًا (يعني البخاري) عنه فلم يعرفه، إلا من حديث الليث بن سعد، ولم يعرف اسم أبي بسرة الغفاري، ورآه حسنًا. (¬3) (6/ 169). (¬4) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (8/ 15 - الكنى)، و"الجرح والتعديل": (9/ 347)، "ثقات العجلي": (2/ 387)، و"الثقات": (5/ 564) لابن حبان، و"التهذيب": (12/ 21).

وعنه: معاوية بن صالح. قال العجلي: أبو بشر المؤذن شامي تابعي ثقة. وقد روى أصبغ بن زيد الوراق، عن أبي بشر، عن أبي الزاهرية. وقال ابن معين: "أبو بشر، عن أبي الزاهرية: لا شيء"، فلا يُدرَى هما واحد أم اثنان؟. 191 - (خ م) أبو بكر بن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب (¬1): عن أبيه، عن ابن عمر حديث: "رأيتُ كأنيّ أنزع بدلوٍ على قَليب ... " الحديث (¬2). وعنه: عبيد الله بن عمر العُمري. قال العجلي: مدني ثقة. أقول: أخرج له الشيخان الحديث المذكور في المتابعات، كما صرح به ابن حجر في "الفتح" (¬3)، والحديث معروف عن سالم عن ابن عمر (¬4)، وكذلك معروف من حديث أبي هريرة (¬5). ¬

_ (¬1) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (8/ 12 - الكنى)، و"ثقات العجلي": (2/ 388)، و"الجرح والتعديل": (9/ 345)، و"التهذيب": (12/ 24). (¬2) أخرجه البخاري (3682)، ومسلم (2393). (¬3) (7/ 46). (¬4) أخرجه البخاري (3633). (¬5) أخرجه البخاري (3664)، ومسلم (2392).

192 - (4) أبو حيَّة بن قيس الوادعي (¬1): عن علي. وعن عبد خير عنه م. روى عنه: أبو إسحاق، فقط. قال ابن المديني: مجهول. وقال ابن الجارود في "الكنى": وثقه ابن نُمَير. وقال أحمد: شيخ، وقال الحاكم أبو أحمد: وروى عنه المنهال بن عمرو إن كان محفوظًا. 193 - (د) أبو سفيان (¬2): عن عَمرو بن حَريش، عن عبد الله بن عمرو بن العاص: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمره أن يجهّز جيشًا .. الحديث في شراء البعير بالبعيرين إلى أجل. هكذا في "سنن أبي داود" (¬3) من طريق حماد بن سلمة، عن ابن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن مسلم بن جبير، عن أبي سفيان. وأخرجه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 216) (¬4): "عن يعقوب بن ¬

_ (¬1) ترجمته في: "المنفردات والوحدان" (ص 140)، و"الجرح والتعديل": (9/ 360)، و"الثقات": (5/ 180) وسماه: عَمْرو بن عبد الله الأصم الهمداني الكوفي، و"التهذيب": (12/ 81). (¬2) ترجمته في: "الجرح والتعديل": (9/ 382)، و"الميزان": (6/ 205)، و"التهذيب": (12/ 113). (¬3) (3357). (¬4) (7025).

إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن ابن إسحاق، حدثني أبو سفيان الجرشي - وكان ثقةً فيما ذكر أهل بلاده - عن مسلم بن جبير مولى ثقيف، وكان مسلم رجلاً يؤخذ عنه، وقد أدرك وسمع، عن عمرو بن حَريش الزبيدي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قلت: يا أبا محمَّد، إنّا بأرضٍ لسنا نجد بها الدينار والدرهم، وإنما أموالنا المواشي ... ". وقال أحمد - أيضًا - (2/ 171) (¬1): ثنا حسين - يعني ابن محمَّد - ثنا جرير - يعني ابن حازم -, صا عن محمَّد - يعني ابن إسحاق - عن أبي سفيان، عن مسلم بن جبير، عن عمرو الحريش قال: سألت عبد الله بن عمرو ... وقيل غير ذلك، كما في ترجمة عمرو من "التهذيب" (¬2). ورجح ابن حجر في "التعجيل" (¬3) رواية إبراهيم بن سعد لاختصاصه بابن إسحاق، ولمتابعة جرير له. وقال ابن معين في أبي سفيان: "ثقة مشهور"، كأنه اعتمد على قول أبي إسحاق. وقال في عمرو بن حريش: "هذا حديث مشهور"، كأنه نظر إلى ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بنحوه. وعلى كل حال، فأبو سفيان هذا الظاهر أنه لا يُعرف إلا في هذا الحديث، وأما قول ابن معين: "مشهور" فكأنه عني: مشهورًا بين أهل بلاده؛ لقول ابن إسحاق: "ثقة فيما ذكر أهلُ بلاده". ¬

_ (¬1) (6593). (¬2) (8/ 19 - 20). (¬3) (2/ 255).

وأما مسلم بن جبير، ففي "تاريخ البخاري" (4/ 1/ 258): "مسلم ابن جبير الحرشي، عن ابن عمر. نسبه هشيم، عن يعلى بن عطاء". ونحوه في كتاب ابن أبي حاتم، و"الثقات"، وهكذا نقله عنهما في "التهذيب" (¬1). وذكر مسلم في "الوحدان" (¬2) مسلم بن جبير فيمن تفرد عنه يعلى بن عطاء. لكن جوّز ابن حجر في "التهذيب" و"التعجيل" (¬3) أن يكون هذا الراوي عن ابن عمر هو المذكور في حديث ابن إسحاق. أقول: وفي قول ابن إسحاق: " [و] كان مسلمٌ رجلاً يؤخذ عنه، وقد أدرك وسمع"= ما يقوِّي ذلك. وأما عمرو بن الحَريش الزبيدي، فقد زعم ابن حبان (¬4) أنه هو عمرو بن حبشي الزبيدي الذي روى عن علي، وابن عباس، وابن عمر، وعنه: أبو إسحاق السبيعي، وعبد الله بن المقدام بن الورد الطائفي. والله أعلم. 194 - (ت) أبو سَهْلة، مولى عثمان: قال ابن أبي حاتم (¬5): " ... روى عن عثمان بن عفان رضي الله عنه. ¬

_ (¬1) "الجرح والتعديل": (8/ 181)، و"الثقات": (5/ 393)، و"التهذيب": (10/ 124). (¬2) (ص 168). (¬3) (2/ 255). (¬4) في "الثقات": (5/ 173). (¬5) "الجرح والتعديل": (9/ 347). وذكره مسلم في "الوحدان" (ص 102).

روى عنه قيس بن أبي حازم. سئل أبو زرعة عن اسمه، فقال: لا أعرف اسمه". وفي "الثقات" (¬1): "يروي عن عثمان بن عفان. روى عنه قيس بن أبي حازم". وفي "التهذيب" (12/ 122): " ... روى عن مولاه، وعائشة. وعنه: قيس ... قال العجلي (¬2): تابعي ثقة". وذكر أن الترمذي وابن ماجه أخرجا له حديثًا واحدًا (¬3). أقول: حديثه في "المستدرك" (3/ 99): " ... إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن أبي سهلة مولى عثمان، عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ادعوا لي - أو: ليت عندي - رجلاً من أصحابي. قالت: قلت: أبو بكر؟ قال: لا. قلت: عمر؟ قال: لا. قلت: ابن عمك عليّ؟ قال: لا. قلت فعثمان؟ قال: نعم. قالت: فجاء عثمان، فقال: قومي. قال: فجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسر إلى عثمان، ولون عثمان يتغيّر، قال: فلما كان يوم الدار قلنا: ألا تقاتل؟ قال: لا؛ إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عهد إليّ أمرًا فأنا صابرٌ نفسي عليه". قال الحاكم: "صحيح الإسناد" وأقره الذهبي. ¬

_ (¬1) (5/ 570). (¬2) "الثقات": (2/ 406). (¬3) الترمذي (3711)، وابن ماجه (113). قال الترمذي: حسن صحيح.

وأخرج له الحاكم (¬1) شاهدًا من طريق الفرج بن فَضالة، عن الزُّبيدي، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعثمان: إن الله مقمِّصك قميصًا، فإن أرادك المنافقون على خلعه فلا تخلعْه". قال الحاكم: "صحيح"، تعقبه الذهبي فقال: "أنى له الصحة ومداره على الفرج بن فضالة؟ ". أقول: أخرج الترمذي (¬2) من طريق الليث بن سعد، عن معاوية بن صالح، عن ربيعة بن يزيد، عن عبد الله بن عامر، عن النعمان بن بشير، عن عائشة مرفوعًا: "يا عثمان! إنه لعل الله يقمِّصك قميصًا، فإن أرادوك على خلعه فلا تخلعه لهم". قال الترمذي: "وفي الحديث قصة طويلة، وهذا حديث حسن غريب". 195 - (بخ ت ق) أبو صالح الخُوزي (¬3): عن أبي هريرة مرفوعًا: "من لم يدعُ الله غَضِب الله عليه" (¬4). ¬

_ (¬1) (3/ 100). وأخرجه أحمد (24466). (¬2) (3705). (¬3) ترجمته في: "الجرح والتعديل": (9/ 393)، و"الميزان": (6/ 212)، و"التهذيب": (12/ 131). (¬4) أخرجه أحمد (9701)، والبخاري في "الأدب المفرد" (658)، والترمذي (3373)، والحاكم: (1/ 491) من طريق مروان بن معاوية الفَزَاري، بهذا الإسناد.

وعنه: أبو المليح الفارسي. وعن أبي المليح جماعة. قال ابن الدورقي عن ابن معين: ضعيف، وأبو المليح لم يُذكر إلا بهذا الحديث. وقد قال نصر بن محمَّد عن ابن معين: إن أبا المليح هذا ثقة. 196 - (ت ق) أبو صالح، مولى عثمان (¬1): عن مولاه. وعنه أبو عقيل زُهرة بن معبد. قال العجلي: روى عنه زُهرة بن معبد والمصريون، ثقة. أقول: سماه البخاري وغيره "بُركان"، وسمّاه ابن حبان وجماعة "الحارث بن عبد". قال البخاري في "التاريخ" (1/ 2/ 148): "بركان، أبو صالح، مولى عثمان بن عفان ... قال لنا يحيى بن عبد الله: أخبرنا عبد الله، عن أبي معن، قال: ثنا أبو عقيل (هو زهرة بن معبد)، عن أبي صالح، قال عثمان: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه". وأخرجه النسائي في "السنن" (¬2): أنا عمرو بن علي، ثنا ابن مهدي، ثنا ابن المبارك، ثنا أبو معن، ثنا زهرة بن معبد ... وأخرجه هو والترمذي (¬3) من طريق الليث، عن زهرة بن معبد، فذكره ¬

_ (¬1) ترجمته في: "ثقات العجلي": (2/ 408)، و"الجرح والتعديل": (3/ 95)، و"الثقات": (4/ 84)، و"التهذيب": (12/ 132). (¬2) (3170) وفي الكبرى (4364). (¬3) النسائي (3169)، والترمذي (1667).

وقال: "رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل". قال الترمذي: "حديث حسن صحيح غريب". وأخرجه أحمد في "المسند" (¬1) من طرقٍ إلى زهرة. وقال في "المسند" (1/ 71) (¬2): "ثنا أبو عبد الرحمن المقرئ، ثنا حَيْوة، أنبأنا أبو عقيل، أنه سمع الحارث مولى عثمان يقول: جلس عثمان يومًا، وجلسنا معه، فجاءه المؤذن، فدعا بماءٍ في إناء - أظنه سيكون فيه مدّ -، فتوضأ، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتوضأ وضوئي هذا، ثم قال: ومن توضأ وضوئي، ثم قام فصلى صلاة الظهر غفر له ما كان بينها وبين الصبح ... ". وذكر بقية الصلوات، إلى أن قال: "وهن الحسنات يذهبن بالسيئات، قالوا: هذه الحسنات فما الباقيات يا عثمان؟ قال: هن لا إله إلا الله وسبحان الله والحمد لله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله". وفي "التعجيل" (¬3) أنه في النسخة المعتمدة من المسند: "الحارث بن عبد"، وفي ترجمته: مولى. 197 - (د) أبو عاصم الغَنَوي: البخاري في: "الكنى" (رقم 527) (¬4): "أبو عاصم، عن أبي الطُّفَيل، عن ابن عباس قال: الذبيح، قال حجاج بن منهال، عن حماد بن سلمة". ¬

_ (¬1) (442، 470, 477). (¬2) (513). (¬3) (1/ 407). وله ترجمة في "الوحدان" لمسلم (ص 246). (¬4) (8/ 60).

وقال ابن أبي حاتم (¬1): "أبو عاصم الغنوي. روى عن أبي الطفيل. روى عنه حماد بن سلمة". ثم قال: "ذكره أبي، عن إسحاق بن منصور، عن يحيى بن معين أنه قال: أبو عاصم الغنوي ثقة. سألت أبي عن أبي عاصم الغنوي، فقال: لا أعلم أحدًا روى عنه غير حماد بن سلمة، ولا أعرفه ولا أعرف اسمه". ونحوه في "التهذيب" (12/ 143)، وزاد: "في الرمل، وغيره". أقول: حديثه بطوله في "مسند أحمد" (1/ 297) (¬2)، قال أحمد: "ثنا سُرَيج ويونس، قالا: ثنا حماد - يعني ابن سلمة -، عن أبي عاصم الغَنَوي، عن أبي الطفيل ... "، ثم قال (¬3): "ثنا مؤمل، ثنا حماد، ثنا أبو عاصم الغنوي، قال: سمعت أبا الطفيل" فذكره .... وذكره (1/ 311) (¬4): "ثنا روح، ثنا حماد، عن عاصم الغنوي، عن أبي الطفيل - كذا قال روح: "عاصم"، والناس يقولون: "أبو عاصم" ... -" فذكر بعض الحديث. وقال (1/ 372) (¬5): "ثنا روح، ثنا حماد، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن أبي الطفيل قال: قلت لابن عباس: ... " فذكر بعض الحديث. ثم ¬

_ (¬1) "الجرح والتعديل": (9/ 413) (¬2) (2707). (¬3) (2708). (¬4) (2842). (¬5) (3534).

قال (¬1): "ثنا يونس وسريج، قالا: ثنا حماد، عن أبي عاصم الغنوي، عن أبي الطفيل" فذكر الحديث. وأخرج أبو داود في "السنن" (¬2) في المناسك، باب في الرمل: "حدثنا أبو سلمة موسى بن إسماعيل، ثنا حماد، ثنا أبو عاصم الغنوي، عن أبي الطفيل ... ". 198 - (س) أبو عبد الله، مولى الجُنْدَعيّين: قال البخاري في "الكنى" برقم (416) (¬3): "أبو عبد الله. قال عمرو بن الربيع: أخبرنا الليث، عن عبيد الله بن أبي جعفر، عن محمَّد بن عبد الرحمن، عن سليمان بن يسار، عن أبي عبد الله مولى الجندعيين، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا يحل سبق إلا على خف أو حافر. وقال ابن بكير، عن الليث، عن ابن أبي جعفر، عن محمَّد بن عبد الرحمن، عن أبي عبد الله مولى الجندعيين مثله. وقال ابن بكير، عن الليث، عن خالد، عن سعيد بن أبي هلال، عن صالح مولى الجندعيين عن أبي هريرة قوله". ¬

_ (¬1) (3535). (¬2) (1885). (¬3) من التاريخ: (8/ 48). وله ترجمة في "الجرح والتعديل": (9/ 400)، و"ثقات العجلي" (2/ 412).

وقال في "التاريخ" (2/ 2/ 278) في باب صالح ممن أول اسم أبيه أو نسبته خاء معجمة "صالح مولى الجندعيين - كذا! والظاهر: الخندعيين؛ لأنه في باب الخاء -، عن أبي هريرة قوله. قاله لي ابن بكير، عن الليث، عن خالد، عن سعيد بن أبي هلال، عن أبي الأسود. وعن الليث، عن عبد الله بن أبي جعفر، عن محمَّد بن عبد الرحمن، عن أبي عبد الله مولى الجندعيين (كذا)، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "لا سَبَق إلا في خف أو حافر". وفي "ثقات ابن حبان" (¬1) في الكنى: "أبو عبد الله مولى الجندعيين، عن أبي هريرة. روى عنه سليمان بن يسار". وفي الأسماء (¬2): "صالح أبو عبد الله مولى الجندعيين، من أهل المدينة. روى عن أبي هريرة، روى عنه أبو الأسود محمَّد بن عبد الرحمن بن نوفل، وسعيد بن أبي هلال". وقال النسائي في "السنن" (¬3): أخبرنا إبراهيم بن يعقوب، ثنا ابن أبي مريم، أنبأنا الليث، عن ابن أبي جعفر، عن محمَّد بن عبد الرحمن، عن سليمان بن يسار، عن أبي عبد الله مولى الجندعيين، عن أبي هريرة قال: "لا يحل سبق إلا على خف أو حافر". ¬

_ (¬1) (5/ 564). (¬2) (4/ 374). (¬3) (3587) وفي الكبرى (4412)

وفي "مسند أحمد" (2/ 358) (¬1): ثنا إسحاق، ثنا ابن لهيعة، عن أبي الأسود قال: سألت سليمان بن يسار عن السبق، فقال: حدثني أبو صالح قال: سمعت أبا هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "لا سبق إلا في خف أو حافر". وفي "التهذيب" (¬2): "قال الحاكم: قال بعضهم: عن أبي صالح مولى الجندعيين". وفيه: "قال الذهلي: أبو عبد الله هذا هو نافع بن أبي نافع الذي روى عنه نعيم المجمر وابن أبي ذئب". كذا قال. وقد مضى ما فيه في نافع (¬3). وفيه: "وقال العجلي: مدني تابعي ثقة". [* 198] أبو العُشَراء الدارمي. 199 - (د س ق) أبو عمير بن أنس بن مالك (¬4): عن عمومةٍ له من الأنصار من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وعنه: أبو بشر جعفر بن أبي وحشية. قال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث. وقال ابن عبد البر: مجهول لا يحتج به. ¬

_ (¬1) (8673). (¬2) (12/ 150). (¬3) رقم (166). (¬4) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (8/ 63)، و"الجرح والتعديل": (9/ 416)، و"الثقات": (4/ 84)، و"التهذيب": (12/ 188).

أقول: له حديث في بدء الأذان، أخرجه أبو داود وغيره (¬1)، وشواهده معروفة. وآخر فيه: "لا يشهدهما منافق - يعني صلاة الصبح والعشاء -. قال: قال أبو بشر: يعني لا يواظب عليهما". أخرجه أحمد في "المسند" (5/ 57) (¬2). وإذا كان المعنى كما ذكر أبو بشر، فشواهده معروفة. وثالثٌ: "قالوا: غُمّ علينا هلال شوال، فأصبحنا صيامًا، فجاء ركب من آخر النهار، فشهدوا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنهم رأوا الهلال بالأمس، فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يفطروا من يومهم، وأن يخرجوا لعيدهم من الغد" (¬3). وهذا صححه ابن المنذر، وابن السكن، وابن حزم. 200 - (بخ س) أبو العلانية المَرَئي (¬4): عن أبي سعيد في نبيذ الجَرّ (¬5). وعنه: محمَّد بن سيرين، وعبد الكريم أبو أمية. ¬

_ (¬1) (498). (¬2) (20580). (¬3) أخرجه أحمد (20584)، وابن ماجه (1653) وغيرهما. (¬4) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (7/ 269)، و"الجرح والتعديل": (8/ 201)، و"الثقات": (5/ 393)، و"التهذيب": (12/ 192 - 193). والمَرَئي بفتح الميم والراء. قيده في التقريب. (¬5) أخرجه النسائي في الكبرى (6806).

قال أبو داود: ثقة. 201 - (بخ م) أبو عيسى الأُسْواري (¬1): عن أبي سعيد، وابن عمر، وأبي العالية. وعنه: ثابت البُنَاني، وقتادة، وعاصم الأحول. قال ابن المديني: مجهول، لم يرو عنه إلا قتادة. وقال أحمد: لا أعلم أحدًا روى عنه إلا قتادة. وقال الطبراني: ثقة. وقال البزار: مشهور. له في مسلم حديث أبي سعيد في النهي عن الشرب قائمًا (¬2). قال ابن حجر: هو متابعة. 202 - (4) أبو المطوّس (¬3). ¬

_ (¬1) ترجمته في: "التاريخ الكبير": (8/ 57 - الكنى)، و"الجرح والتعديل": (9/ 412)، و"الثقات": (5/ 580)، و"التهذيب": (12/ 195). (¬2) (2025). (¬3) وقد اختلف فيه هل هو المطوّس، أو أبو المطوّس، أو ابن المطوس، أو يزيد بن المطوس. وترجمته في: و"الجرح والتعديل": (9/ 448)، و"الثقات": (5/ 465)، و"المجروحين": (3/ 157)، و"الميزان": (6/ 248)، و"التهذيب": (12/ 238). قلت: لم ينقل المؤلف كلام الأئمة فيه, وهذا ملخصها من التهذيب: "قال ابن معين: أبو المطوس عبد الله أراه كوفيًّا ثقة، وقال البخاري: اسمه يزيد بن المطوس، وقال أبو حاتم: لا يسمى. وقال أحمد: لا أعرفه ولا أعرف حديثه عن غيره، وقال البخاري: لا أعرف له غير حديث الصيام ولا أدري سمع أبوه من أبي هريرة أم لا، وقال ابن حبان: يروي عن أبيه ما لم يتابع عليه، لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد".

203 - (خت) أبو نَصْر الأسدي: قال البخاري في "الكنى" رقم (725) (¬1): "أبو نصر. حدثنا إبراهيم بن نصر، قال: نا الأشجعي، عن سفيان، عن الأغر، عن خليفة بن حصين، عن أبي نصر، عن ابن عباس: كان بين الأوس والخزرج". وقال ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (¬2): "أبو نصر الأسدي. روى عن ابن عباس أنه سأله عن: {وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 1 - 2]. و [روى] (¬3) الثوري عن الأغرّ بن الصبّاح، عن خليفة بن حصين، عن أبي نصر، عن ابن عباس، سمعت أبي يقول ذلك ... سئل أبو زرعة عن أبي نصر الأسدي الذي روى عن ابن عباس روى عنه خليفة بن حصين؟ فقال: كوفي (¬4) ". وفي "التهذيب" (12/ 255): "أبو نصر الأسدي، بصري، روى عن ابن عباس: "إذا زنى بأم امرأته حرم عليه امرأته". وعنه: خليفة بن حصين بن قيس بن عاصم المنقري. قال البخاري: لم يعرف سماعه من ابن عباس. وقال أبو زرعة: أبو نصر الأسدي الذي يروي عن ابن عباس ثقة". ¬

_ (¬1) من التاريخ (8/ 76). (¬2) (9/ 448). (¬3) كذا كتبها الشيخ في الأصل بين معكوفتين، وهي هناك "روى". (¬4) بعده في المطبوعة: " [ثقة] " هكذا بين معكوفتين، وقد أشار المؤلف في تعليقه هناك أنها من نسخة م. وسينقل التوثيق بعد قليل عن ابن حجر في التهذيب.

أقول: أما أثره في تفسير الفجر، فأخرجه ابن جرير (¬1) عن ابن حميد، عن مهران، عن سفيان، عن الأغر المنقري، عن خليفة بن الحصين، عن أبي نصر، عن ابن عباس، قوله: {وَالْفَجْرِ} قال: النهار ... ، {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} قال عشر الأضحى. ثم قال: "حدثني محمَّد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: قوله: {وَالْفَجْرِ} يعني: صلاة الفجر". وقال الحاكم في "المستدرك" (2/ 522): "حدثني أبو بكر محمَّد بن أحمد بن بالويه، ثنا بشر بن موسى، ثنا خلاد بن يحيى، ثنا سفيان، عن الأغر، عن خليفة بن حصين بن قيس، عن أبي نصر، عن ابن عباس رضي الله عنه: {وَالْفَجْرِ} قال: فجر النهار، {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} قال: عشر الأضحى". قال الحاكم: "صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وأبو نصر هذا هو الأسود بن هلال". كذا قال! ولا أراها إلا من جمحاته! فإنهم لم يذكروا في التابعين الأسود بن هلال إلا واحدًا نسبوه محاربيًّا، وكنّوه أبا سلام، ولم يذكروا له رواية عن ابن عباس، ولا رواية لخليفة بن حصين عنه. وقال البخاري في "الصحيح" (¬2) في باب ما يحل من النساء وما يحرم، من كتاب النكاح: "وقال عكرمة، عن ابن عباس: إذا زنى بأخت امرأته لم تحرم عليه امرأته ... ¬

_ (¬1) (24/ 344). (¬2) (7/ 10 - 11).

وقال عكرمة، عن ابن عباس: إذا زنى بها (يعني أم امرأته، كما في "الفتح") لا تحرم عليه امرأته. ويُذكر عن أبي نصر أن ابن عباس حرّمه. وأبو نصر هذا لم يُعرف بسماعه من ابن عباس". قال في "الفتح" (¬1): "قوله: ويذكر عن أبي نصر ... وصله الثوري في "جامعه" من طريقه، ولفظه: أن رجلاً قال: إنه أصاب أم امرأته، فقال له ابن عباس: حرمت عليك امرأتك. وذلك بعد أن ولدت منه سبعة أولاد كلهم بلغ مبالغ الرجال ... وأبو نصر هذا بصري أسدي وثقه أبو زرعة". ¬

_ (¬1) (9/ 156).

تراجم منتخبة من التهذيب والميزان

آثار الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي (14) تراجم منتخبة من التهذيب والميزان تأليف الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني 1312 هـ - 1386 هـ تحقيق علي بن محمد العمران وفق المنهج المعتمد من الشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد (رحمه الله تعالى) تمويل مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

بسم الله الرحمن الرحيم

رَاجَعَ هَذا الجزْء مُحَمَّد أجمَل الإصْلَاحِي عادل بْن عَبْد الشّكُور الزّرقي

مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية SULAIMAN BIN ABDUL AZIZ AL RAJHI CHARITABLE FOUNDATION حقوق الطبع والنشر محفوظة لمؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الطبعة الأولى 1434 هـ دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع مكة المكرمة - هاتف 5473166 - 5353590 فاكس 5457606 الصف والإخراج دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

مقدمة التحقيق

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة التحقيق الحمد لله، اللهم صل على محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد، فهذا كتاب منتخبٌ في تراجم رواة الحديث، انتخب المصنف تراجمه من كتابين يُعدّان من أشهر كتب الرجال، وهما "ميزان الاعتدال" للحافظ الذهبي (ت 748 هـ)، و"تهذيب التهذيب" للحافظ ابن حجر العسقلاني (ت 852 هـ). وواضح من هذا المنتخب أن المصنف قد مرّ على ذينك الكتابين قراءةً وتدبّرًا ونقدًا، مكّنه أولاً من انتخاب (321) ترجمة من آلاف التراجم، ومكّنه ثانيًا من الانتخاب من الترجمة نفسها. فلم يعمد المصنف لاختصار الكتابين ولا لتهذيبهما، بل كان غرضه تقييد ما مرّ به في تلك التراجم من ملاحظات تفيد في التفقّه في علم الجرح والتعديل، ومعرفة مناهج الأئمة، وأسباب الطعن في الرواة، واختلاف أقوال الإمام الواحد ... وغير ذلك. ولم يقتصر عمله على مجرّد الانتخاب بل كان له تعليقات ومناقشات وفوائد مهمة، سيأتي بيان سبيله فيها. ويأتي هذا الكتاب وغيره من كتب الشيخ في التراجم والرواة تتميمًا لدراسته الاستقرائية لرجال الحديث، فلم تتأتّ للمؤلف هذه المَلَكة القوية في الجرح والتعديل والبصر بهذا الفنّ إلا بعد طول مُثافنةٍ لكتب الفنّ دراسةً

وتحقيقًا وتمحيصًا، حتى إنه يضارع أئمة النقد الكبار كالذهبي وابن حجر، فهو في عصرنا هذا مثلما كان أولئك النقاد في عصورهم، وقد لقَّبَه شيخنا العلامة بكر أبو زيد رحمه الله بـ "ذهبي العصر". وقد أطلق على الشيخ هذا اللقب - وهو حقيق به - ولم يكن قد طُبع له إلا كتابان: "التنكيل" و"الأنوار" ورسالتان: "مقام إبراهيم" و"علم الرجال". وها نحن اليوم نضع بين يدي القراء جملة أخرى من الكتب تؤكَّد استحقاقه لهذا اللقب، واستحقاقه لأن يكون هو رائد هذا الفن غير مُدافَع في هذا العصر. ومع أن المؤلّف ترَكَ كتابَه هذا مسوّدة يعوزها بعض الترتيب والتحرير، وتكميل بعض التراجم ... إلى غير ذلك، إلا أنَّ فيه مادة مفيدة وتعليقات مهمة تستحق أن يُطلع عليها ويُستفاد منها. وسأقيد هنا بعض المباحث التي تفيد في كشف جوانب من منهج الكتاب وطريقة تدوينه وغرض انتخابه ونسخته الخطية وهي: - أولاً: اسم الكتاب وثبوته للمؤلف. - ثانيًا: ما يتعلّق بالترتيب. - ثالثًا: طريقته في الانتخاب. - رابعًا: طريقته في النقد. - خامسًا: النسخة الخطية. - سادسًا: منهج التحقيق. وختمتُ المقدمة بذكر الفوائد التي قيَّدها الشيخ في آخر النسخة.

ثم ختمتُ الكتاب بالفهارس التفصيلية المتنوّعة. وصلى الله على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلم. وكتب علي بن محمَّد العمران 11 ربيع الأول 1432 هـ

* أولا: اسم الكتاب وثبوته للمؤلف

* أولاً: اسم الكتاب وثبوته للمؤلف: لم يسمّ المؤلف كتابه في النسخة التي بين أيدينا، ولا ذكره في أيٍّ من كُتبه، فلعله كان ينوي تسميته حال تبييضه، ولم يتمكن من ذلك. فاجتهدت في اختيار اسم يُناسب موضوعه فسميته "تراجم منتخبة من "التهذيب والميزان" والتعليق عليها". والكتاب بخط الشيخ المعروف في عامة كتبه، وفيه من الدلائل ما يُثبت أنه من تأليفه فمنها: 1 - استعماله لفظ (أقول) عند التعليق أو التعقيب .. كما هو شأنه في باقي كتبه، وقد يستعمل اسمه الصريح "قال عبد الرحمن" كما في رقم (148). 2 - أحال على كتابه "الوحدان" في ترجمة رقم (185). 3 - نَفَس الشيخ في التعليق والتعقيب والمناقشة لا يخفى على مَن قرأ كتبه وخبرها. * ثانيًا: ما يتعلّق بالترتيب: الكتاب مرتّب على حروف المعجم كأصْلَيه، هذا من حيث الجملة، لكن وقع في ذلك بعض الخلل يتضح بالآتي: 1 - التراجم ليست مطَّردة الترتيب في داخل الحرف الواحد، فقد يتقدم إسماعيل على إسحاق، ثم يذكر إسماعيل ثم يعود إلى

إسحاق وهكذا. كما في (6، 7). وكذا في اسم غالب حيث ذكره ثم ذكر عيسى ثم عاد إلى غالب رقم (221 و222). 2 - قد تقع بعض الأسماء في غير حروفها، كما وقع لاسم (76 أسيد) فقد وقع بين حرفي التاء والثاء. وكما وقع في اسم (55 بهز) ذكره في حرف الألف. 3 - أحيانًا يذكر الأسماء في حرف، ثم يدخل في حرف آخر، ثم يعود للأول كما في حرف (د، ر). 4 - قد يعيد الترجمة مرتين كما في ترجمة إبراهيم الهروي، فقد ذكره مرتين، انظر رقم (25 و50). وترجمة إبراهيم بن مهاجر فقد ذكر برقم (30 و67). وقد يعيد الترجمة ثم يشير إلى تقدمها انظر ترجمة غالب بن حجرة (ص 146). 5 - استقرَّ ترتيب الكتاب في الجملة غير أنه عاد فوقع في آخره بعض الاضطراب، فبعد ما انتهى إلى الكنى عاد إلى حرف الياء، ثم عاد إلى الكنى, ثم ختم بترجمتين من "الميزان" و"لسانه". أقول: وسبب هذا الخلل في الترتيب أن الكتاب لا يزال مسوّدة لم يبيّض بعد. وسبب آخر هو أن المؤلف كان يقرأ في "التهذيب" فينتخب بعض التراجم ثم يعود إلى "الميزان" فينتخب أخرى فيكتبها ولا تكون في ترتيبها المعجميّ. وسبب ثالث أنّه بعد أن يفرغ من الحرف قد يعود إلى الحرف الذي قبله لمناسبة معينة أو إعادة تصفّح؛ فيرى ما هو جدير بالانتخاب فيذكره في غير مكانه. وكان في النية أن أرتّب التراجم على

* ثالثا: طريقته في الانتخاب

الجادة لكن رأيتُ إبقاءها كما تركها المؤلف، ثم أصنع لها فهرسًا على الترتيب المعجميّ. **** * ثالثًا: طريقته في الانتخاب: 1 - سبق أن ذكرنا أن المؤلف انتخب هذه التراجم من كتابي "الميزان والتهذيب". 2 - يذكر المؤلف اسم المترجَم ثم أبيه وجده ونسبته ويقتصر كثيرًا على اسم الأب أو النسبة وقد يذكر جرّ نسبه. 3 - لم يلتزم المؤلف بذكر من أخرج للمترجم، فقد يذكره بحسب الرموز المعروفة في "التهذيب" و"الميزان" وقد يغفله وهو الأكثر، ولم يظهر لي تعليل واضح في ذلك. 4 - يبدأ الترجمة بذكر الأقوال في الراوي جرحًا وتعديلًا وهو الأغلب، وقد يبدؤها بذكر من روى عن المترجَم. ولا يستوعب الأقوال في الترجمة بل يذكر جملةً منها. وقد يذكر الاسم ويترك تحته بياضًا، وقد يذكره ويقول: سيأتي بعد كذا .. 5 - أغلب تراجم الكتاب انتقاء دون تعليق للشيخ، وبتأمّل الانتقاء وحده يُفْهَم غرض الشيخ منه. وقد يعلّق مصدِّرًا ذلك بـ "أقول" كما هي عادته، أو بـ "قال عبد الرحمن" وهو قليل. وقد يَطُول التعليق ليبلغ صفحات، وقد يكون في بضعة أسطر.

* رابعا: طريقته في النقد

6 - قد يترك الشيخ بعض الفراغات في بعض الحروف أملًا في إلحاق ترجمة أو فائدة، وقد يترك ورقة بكاملها للغرض نفسه. 7 - قد يذكر المؤلف فوائد لا تعلّق لها بترتيب التراجم كما في رقم (56)، وقد يستطرد فيذكر فوائد لها تعلق بالترجمة وإن كانت من تراجم أخرى. 8 - قد يذكر رواةً شاركوا صاحب الترجمة في الحكم وإن كانوا خارج الحرف استطرادًا. انظر رقم (84). 9 - يلاحظ أنه لم يذكر في بعض الحروف أحدًا كما في حرف الجيم والذال، وذكر في حرف الدال واحدًا ثم عاد فذكر ثلاثة، ولم يذكر في حرف الخاء غير ثلاثة. 10 - غالب التراجم المنتخبة هي للضعفاء أو المتكلم فيهم، وقد يذكر بعض الثقات لفائدة في الترجمة كما في (201 و202 و203). 11 - في موضع واحد من الكتاب ترجمة رقم (189) جعل لأئمة الجرح والتعديل رموزًا ولم يذكرهم بأسمائهم. **** * رابعًا: طريقته في النقد: 1 - الحكم على الراوي (149). 2 - يلاحظ أنه يهتمّ بذكر الأقوال التي تفصّل حال الراوي خاصة كلام ابن عدي وابن حبان، ويسوق الأحاديث المنتقدة عليه. وعمدته فيها "ميزان الاعتدال" انظر (80).

3 - يناقش المناكير التي تُذْكر في ترجمة الراوي (60، 70، 166). 4 - يناقش الأئمة في التعليل والحكم على الرواة (150). وقد أطال جدًّا في نقاش ما وهم فيه عاصم بن ضمرة رقم (159) (ص 66 - 71). وكذا في ترجمة عبد الملك العرزمي (191) (ص 91 - 98). 5 - يفسر كلام أئمة الجرح والتعديل ويفسّر اصطلاحاتهم (137 و 201). 6 - يذكر من ضعّف الراوي ثم يقول: ومع هذا قال فلان: ثقة (103). يعني تفرّد بتوثيقه. وكذا يذكر من وثّق الراوي ثم يقول: ضعّفه فلان. يعني تفرّد بتضعيفه (163 و200). 7 - أولى المؤلف اهتمامًا بذكر اختلاف الروايات عن الإمام الواحد، وقد يغفلها في بعض الأحيان. 8 - لم يقتصر المؤلف على كتاب الذهبي وابن حجر بل كان يعود للأصول كـ" الجرح والتعديل" و"تاريخ البخاري" و"اللسان"، وكتب الحديث كالسنن والمسند والمستدرك وغيرها ... 9 - النسخة المطبوعة من "تهذيب التهذيب" كثيرة الخطأ، فكان المؤلف كثير التشكّك مما يقع فيها؛ فكان أحيانًا يصلح الخطأ إذا كان ظاهرًا، أو يضع فوق الكلمة علامة التضبيب كصنيع المحدثين، أو بين هلالين مع علامة الاستفهام. ومع ذلك فقد فاتت تصحيفات بيَّنْتُها في التعليقات، ولم تكن لتتبيَّن لولا مراجعة الأصول، وكثير منها لم يكن مطبوعًا في حياة الشيخ رحمه الله، كالكامل لابن عدي والمجروحين لابن حبان والضعفاء للعقيلي وغيرها.

* خامسا: النسخة الخطية

* خامسًا: النسخة الخطية: نسخة الكتاب محفوظة ضمن مؤلفات الشيخ المعلمي في مكتبة الحرم المكي الشريف برقم (4659) تقع في (308 ص) حسب ترقيمنا، وكان المؤلف قد بدأ بترقيمها بنفسه لكنه وقف عند ص40. ويبدأ الكتاب من ص 4 وقبلها ثلاث ورقات فيها بعض التقييدات في الرواة، وفوائد تتعلق بتوثيق العجلي وكلامه على الرواة. والنسخة مسوّدة المؤلف كما هو ظاهر من كثرة الضرب والتخريج واللحَق (¬1) وسرعة الخط والبياضات التي يتركها لما يمكن إلحاقه من التراجم أو إضافته من التعليقات، وقد ألحقَ صفحتين بعد الورقة (84) تتعلقان بحديث كان قد ناقشه هناك. وفي آخر الرسالة مجموعة أوراق عددها 24 صفحة فيها بعض الفوائد في الرواة في ثلاث صفحات وسأثبتها في آخر المقدمة، ثم في باقي الصفحات جَمْعٌ لطرق حديث: "خير الناس بعد نبيها أبو بكر وبعد أبي بكر عمر" ... ولم نثبته لأن البحث لم يزل في مراحله الأولى لم يحرّر بعد. **** * سادسًا: منهج التحقيق: قمت باستخراج الكتاب من مسوّدته، وقابلته بأصله، وتركته كما تركه مصنِّفه، فلم أصلح خلل الترتيب الأبجدي، وإنما صنعتُ فهرسًا للتراجم مرتبًا على المعجم. وعند كلّ ترجمة أُحيل على مكانها من كتابَي "ميزان ¬

_ (¬1) حتى إنه في ص 26 أضاف لحقًا بعد أربع صفحات إلى ص 31.

الاعتدال" و"تهذيب التهذيب" باعتبارهما أصْليَ المؤلف، وزدت الإحالة إلى "تهذيب الكمال" لأنه عمدة ما جاء بعده في كتب الرجال. وقد رجعتُ إلى أصول المؤلف فوثَّقت النقولَ منها، ومن غيرها من أُمّات كتب الرجال، ورجعت لبعض الأصول الخطية منها عند الشكّ في كلمة أو عبارة، واستدعاني إلى ذلك سقم طبعة "تهذيب التهذيب"، وسقم طبعات غالب الأصول الرجالية كالكامل لابن عدي والمجروحين لابن حبان والضعفاء للعقيلي. وحافظت على نص المؤلف فلم أتصرف فيه بالتغيير أو نحوه إلا إن وقع نقص نتيجة لانتقال النظر، أو سقط لا بد من تكميله، أو سبق قلم؛ فأصلح ذلك مع الإشارة إليه، أو أبقيه على حاله إن لم أجسر على تعديله وأشير إلى صوابه في الهامش. ***

الفوائد المدونة في آخر النسخة

الفوائد المدوَّنة في آخر النسخة - الحسن بن بشر بن سَلْم الهَمْداني البجلي (¬1). قال ابن حجر: كان ينبغي أن يقول: الهَمْداني وقيل: البجلي [لأن النِّسْبَتين لا تجتمعان إلا على تأويل بعيد]. - قال ابن معين: إذا حدّث الشعبي عن رجل فسمّاه فهو ثقة (¬2). - "فتح الباري" (¬3) أول باب ما جاء في السهو: عبد الله ابن بُحينة ... بُحينة اسم أمه أو أم أبيه، وعلى هذا فينبغي أن يكتب (ابن بحينة) بألف. وكذا في "التهذيب" (¬4) في سعيد ابن مرجانة. - إسماعيل بن صَبيح الحنفي (¬5). ضبطه عبد الغني بفتح أوله، وهو مقتضى صنيع ابن ماكولا. - في ترجمة إسماعيل بن عيّاش (¬6). أن ثياب نيسابور يرقم على الثوب المائة وأقل وثمنه دون عشرة. ¬

_ (¬1) التهذيب: (2/ 256). وما بين المعكوفين منه. وقد كتب المؤلف قبله رمز (ت) وهو إشارة إلى "تهذيب التهذيب" لا إلى من أخرج له، وكذا صنع في ثلاث فوائد بعده. (¬2) نفسه: (5/ 67). (¬3) (3/ 62). (¬4) (4/ 78 - 79). (¬5) (1/ 306) والذي فيه: اليشكري الكوفي. (¬6) (1/ 324). وهذا من قول الجوزجاني فيه قال: ما أشبه حديثه بثياب نيسابور يرقم ... إلخ.

- إسماعيل بن موسى (¬1). قال ابن حجر: لم أر في النسخة التي بخط الحافظ أبي علي البكري. [يعني من كتاب "الثقات" لابن حبان]. - إسحاق بن الفرات (¬2). قال الشافعي: أشرتُ على بعض الولاة أن يولّي إسحاق بن الفرات القضاء وقلت: إنه يتخيّر وهو عالم باختلاف من مضى. - وفي ترجمة سعيد بن المسيب (¬3). مرسلات إبراهيم صحيحة إلا حديث الضحك في الصلاة، وحديث تاجر البحرين. - إسحاق بن وهب بن زياد العلاف (¬4). روى عنه البخاري في الصحيح وأبو زرعة وأبو حاتم. وإسحاق بن حاتم بن بيان العلاف روى عنه ابن خزيمة وغيره. - إسحاق بن يحيى بن طلحة (¬5). تزوَّج امرأتين بين زواجه هذه وزواجه هذه خمس وسبعون سنة. ¬

_ (¬1) التهذيب: (1/ 336). أراد الشيخ تقييد أن "الثقات" لابن حبان منه نسخة بخط أبي علي البكرى كانت عند الحافظ. (¬2) (1/ 247). (¬3) (4/ 85). (¬4) (1/ 253). (¬5) (1/ 255).

- أبو إسحاق إبراهيم بن محمَّد بن الحارث بن أسماء بن خارجة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفَزَاري (¬1). له كتاب "السِّيَر" نظَرَ فيه الشافعي وأملى كتابًا على ترتيبه ورَضِيَه. ويقال: إنه أول من عمل في الإسلام أصطرلابًا. - أُبي بن عمارة (¬2). ذكر أبو الفتح الأزدي في "المخزون": لا يحفظ أنه روى عنه غير أيوب بن قطن. - أجلح بن عبد الله (¬3). قال شريك عنه: سمعنا أنه ما يسبّ أحدٌ أبا بكر وعمر إلا مات قتلًا أو فقيرًا. - أحمد بن إسحاق السّرماري (¬4). قال: أعلم يقينًا أني قتلت به ألف تركيّ، ولولا أن يكون بدعة لأمرت أن يُدفن معي، يعني سيفَه. - أحمد بن إسحاق بن يزيد (¬5). وقال ابن منجويه: [كان يحفظ حديثه]. ¬

_ (¬1) التهذيب: (1/ 152 - 153). (¬2) نفسه: (1/ 187). (¬3) (1/ 190). (¬4) (1/ 14). (¬5) (1/ 14).

قلت (أي ابن حجر): وبهذا ذكره ابن حبان في "الثقات" وعنه ينقل ابن منجويه. - بُكَير بن عبد الله بن الأشج (¬1). قال أحمد بن صالح المصري: إذا رأيت بكير بن عبد الله روى عن رجل فلا تسأل عنه فهو الثقة الذي لا شكَّ فيه. أقول: يحتمل أن يريد أن شيوخ بكير الذين يسميهم كلهم ثقات، ويحتمل أن يريد لا تطلب لبكير متابعًا، فبكير الثقة الذي لا يُشَكّ فيه، وكأنّ هذا أقرب. - الحسين بن علي بن الأسود العجلي (¬2). ذكر ابن حجر أن أبا داود لا يروي إلا عن ثقة عنده، واستدلّ بذلك على أنه لم يرو عن الحسين أو لم يقصد الرواية عنه. - في ترجمة الحسن بن بشر من "التهذيب" (¬3). ذكر بعض زيادات ابن سفيان في "صحيح مسلم". - زائدة بن قدامة ذكر الحاكم في "المستدرك" (1/ 141) أنه لا يحدّث إلا عن الثقات. ... ¬

_ (¬1) التهذيب: (1/ 492 - 493). (¬2) (2/ 344). (¬3) (2/ 257).

نماذج من النسخة الخطية

الورقة الأولى من "تراجم منتخبة"

الورقة الأخيرة من "تراجم منتخبة"

النص المحقق

آثار الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي (14) تراجم منتخبة من التهذيب والميزان تأليف الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني 1312 هـ - 1386 هـ تحقيق علي بن محمد العمران وفق المنهج المعتمد من الشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد (رحمه الله تعالى) تمويل مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

1 - [ص 2] إسحاق بن يحيى (¬1): يقول البخاري: أحاديثه معروفة (¬2). ويقول ابن عديّ: غير محفوظة؟ 2 - في ترجمة إسماعيل بن إبراهيم بن مَعْمر من "التهذيب" (¬3): قال أبو زُرعة: كان أحمد لا يرى الكتابة عن أبي نَصْر التمَّار، ولا عن أبي مَعْمر، ولا عن يحيى بن معين، ولا أحدٍ ممن امْتُحِن فأجاب. وفي ترجمة أبي كُريب محمَّد بن العلاء (¬4): "قال حجّاج بن الشاعر: سمعت أحمد بن حنبل يقول: لو حدَّثتُ عن أحدٍ ممن أجاب في المحنة لحدثتُ عن أبي مَعْمر، وأبي كُريب" (¬5). ¬

_ (¬1) هو ابن الوليد بن عُبادة. ت الكمال: 1/ 202 - 203، التهذيب: 1/ 256، الميزان: 1/ 204. (¬2) قول البخاري ليس في كتبه وإنما نقله مغلطاي في "إكمال تهذيب الكمال": (2/ 120)، نقلاً عن الحاكم في "المستدرك"، - ولم أجده في المطبوع منه - وعن مغلطاي نقله الحافظ في "التهذيب". (¬3) 1/ 273 - 274. وانظر ت الكمال: 1/ 216، الميزان: 1/ 220. (¬4) التهذيب: 9/ 387. (¬5) وفي الرواية بيان لسبب ذلك قال: "فأما أبو معمر، فلم يزل بعد ما أجاب يذم نفسه على إجابته وامتحانه، ويحُسّن أمر من لم يجب. وأما أبو كُريب، فأُجري عليه ديناران وهو محتاج، فتركهما لما علم أنه أُجري عليه لذلك". والمقصود بالمحنة: محنة القول بخلق القرآن. وعلق الذهبي على هذا الخبر في "السير": (11/ 87) بقوله: "هذا أمر ضيق ولا حرج على من أجاب في المحنة، بل ولا على من أكره على صريح الكفر عملًا بالآية، وهذا هو الحق".

3 - في ترجمة إسماعيل بن إبراهيم بن عُليَّة (¬1): قال أبو داود السجستاني: ما أحدٌ من المحدثين إلا قد أخطأ إلا إسماعيل بن عُليَّة، وبِشْر بن المفضَّل ... وقال أحمد بن سعيد الدارمي: لا يُعرف لابن عُليَّة غلط إلا في حديث جابر في المُدبَّر (¬2)، جعل اسم الغلام اسم المولى، واسم المولى اسم الغلام. 4 - إسماعيل بن حَفْص بن عمر بن دينار (¬3): قال أبو حاتم: كتبت عنه عن أبيه، وكان أبوه يكذب، وهو بخلاف ابنه. قال ابن أبي حاتم: فقلت: لا بأس به؟ فقال: لا يمكنني أن أقول: لا بأس به (¬4). 5 - إسماعيل بن أبي خالد الأَحْمَسي (¬5): من أجلة التابعين، كان طحّانًا (¬6)، كان لا يروي إلا عن ثقة، ويدلس، ¬

_ (¬1) ت الكمال: 1/ 216، التهذيب: 1/ 275، الميزان: 1/ 216. (¬2) أخرجه مسلم رقم (997). أقول: وأورد له ابن معين - رواية الدوري: 2/ 30 - أخطاء أخرى. (¬3) ت الكمال: 1/ 225، التهذيب: 1/ 288، الميزان: 1/ 225. (¬4) نقل الذهبي عن أبي حاتم أنه قال فيه: "لا بأس به". قال الحافظ: "وهو خطأ". (¬5) ت الكمال: 1/ 227، التهذيب: 1/ 291. (¬6) كتب المصنف بعده هكذا (؟ لحانًا) إشارة إلى احتمال تصحيف كلمة (طحان). واتفقت مصادر ترجمة الأحمسي في على أنه كان "طحَّانًا".

ومرسلاته ليست بشيء. 6 - إسحاق بن راهويه (¬1): أملى أحد عشر ألف حديث من حفظه، ثم قُوبلت على كتابه فما زاد حرفًا ولا نقص. وقد خُطِّئ في حديث. 7 - إسحاق بن إبراهيم بن نَصْر البخاري (¬2): روى عنه البخاري في "الصحيح" (¬3)، ولم يذكروا عنه راويًا آخر. 8 - [ص3] إسماعيل بن رافع (¬4): يضعِّفه الجمُّ الغفير، ويقول الترمذي عن البخاري: ثقة مقارب الحديث؟ (¬5). 9 - إسماعيل بن سُمَيع الحنفي (¬6): خارجيٌّ، أخرج له مسلم. ¬

_ (¬1) ت الكمال: 1/ 175، التهذيب: 1/ 216، الميزان: 1/ 182 - 183. ذكر في الميزان حديثًا مما قيل إنه أخطأ فيه. (¬2) ت الكمال: 1/ 178، التهذيب: 1/ 219، إكمال تهذيب الكمال: 2/ 75. (¬3) في مواضع كثيرة - وربما نسبه إلى جده - ونقل مغلطاي عن كتاب "الزهرة" أن البخاري روى عنه نيفًا وخمسين حديثًا. (¬4) ت الكمال: 1/ 230، التهذيب: 1/ 294، الميزان: 1/ 227. (¬5) بعده في الأصل: "عُبيد الله بن زَحْر" ولم تتضح علاقتها بسياق الكلام. (¬6) ت الكمال: 1/ 235، التهذيب: 1/ 305، الميزان: 1/ 233.

10 - إسحاق بن سليمان بن أبي سليمان الشيباني (¬1): قال البخاري في "الصحيح" (¬2): قال عمر: ... ووصله في "التاريخ" (¬3) من طريق إسحاق هذا. 11 - خ "مقرونًا حديثًا واحدًا" م د س. إسحاق بن سويد (¬4): تابعي. وثّقه أحمد وابن معين والنسائي. وقال العجلي: ثقة كان يحمل على عليٍّ رضي الله عنه. وقال أبو العرب: كان يحمل على علي تحاملًا شديدًا، [و] قال: لا أحبّ عليًّا (¬5). ومن لم يحبّ الصحابة فليس بثقةٍ ولا كرامة. 12 - إسماعيل بن عبد الملك (¬6): قال أحمد: منكر الحديث. قيل: أي شيءٍ من منكره؟ قال: يروي عن عطاء: "الشَّرْبةُ التي تُسكِر حرام". قيل: وهذا منكر؟ قال: نعم. عن عطاء خلاف هذا. ¬

_ (¬1) التهذيب: 1/ 235. (¬2) في كتاب الجهاد، باب الجعائل والحملان في السبيل. (¬3) (6/ 364 - 365). (¬4) هو ابن هُبيرة العدوي. ت الكمال: 1/ 188، التهذيب: 1/ 236. (¬5) بقي من كلام أبي العرب: أنه ليس بكثير الحديث. (¬6) ت الكمال: 1/ 242، التهذيب: 1/ 316، الميزان: 1/ 237.

12 - في ترجمة إسماعيل بن عياش (¬1): قال عبد الله بن أحمد: عرضتُ على أبي حديثًا حدثناه الفضل بن زياد ثنا ابن عياش عن موسى بن عُقبة عن نافع عن ابن عمر مرفوعًا: "لا تقرأ الحائض ولا الجُنب شيئًا من القرآن" فقال أبي: هذا باطل. 14 - في ترجمة إسماعيل بن مجالد (¬2): قال العُقيلي: لا يتابع على حديثه. واستنكر له حديثَه عن هلال الوزَّان عن عروة عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لحسّان: "اهجهم فإنّ روح القدس سيعينك". 15 - إسحاق بن إبراهيم بن يونس (¬3): نا بشر بن هلال ثنا داود بن الزبرقان عن داود بن أبي هند عن ثابت عن أنس [ص 4]: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرَّ بصبيانٍ فسلَّم عليهم". قال ابن عديّ (¬4): لم أكتبه إلا عن إسحاق ... وأخاف أن يكون "داود" تكرر في كتابه، فظنه ابن أبي هند، وإلا فالحديث عند داود بن الزِّبْرِقان عن ثابت بغير واسطة. * إبراهيم بن طَهْمان: حديثٌ غلط. (الصفحة الآتية). [رقم 22]. ¬

_ (¬1) ت الكمال: 1/ 247، التهذيب: 1/ 321، الميزان: 1/ 240. وفي "الكامل" و"الميزان" أحاديث أخرى مما أنكرت عليه. (¬2) ت الكمال: 1/ 252، التهذيب: 1/ 327، الميزان: 1/ 246. (¬3) ت الكمال: 1/ 179، التهذيب: 1/ 220. (¬4) الكامل: 3/ 95 في ترجمة داود بن الزبرقان.

16 - إبراهيم بن مَرزوق بن دينار (¬1): من شيوخ النسائي فيما ذكر صاحب "النبل" (¬2). قال النسائي في موضع: صالح، وفي آخر: لا بأس به، وفي ثالث: ليس لي به علم. 17 - إسحاق بن إسماعيل بن عبد الله بن زكريا المَذْحِجي (¬3): قال النسائي في موضع: صالح، وفي آخر: لا أدري ما هو، وفي ثالث: كتبت عنه ولم أقف عليه. 18 - إسحاق بن إسماعيل الطالْقاني (¬4): قول أحمد: قد يكون صغيرًا يضبط (¬5). 19 - إسحاق بن أَسِيد (¬6): عن جماعة، وعنه حَيْوة بن شُريح والليث وغيرهما. ¬

_ (¬1) ت الكمال: 1/ 136، التهذيب: 1/ 163، الميزان: 1/ 65. (¬2) ص 69، وذكره النسائي في "تسمية شيوخه" رقم 99. (¬3) ت الكمال: 1/ 183، التهذيب: 1/ 225، الميزان: 1/ 184. (¬4) ت الكمال: 1/ 183، التهذيب: 1/ 226. (¬5) نص الرواية: عن أبي بكر المرُّوذي قال: سمعت أبا عبد الله سُئل عن إسحاق بن إسماعيل قال: لا أعلم إلا خيرًا. قلت: إنهم يذكرون أنه كان صغيرًا. قال: قد يكون صغيرًا يضبط. (¬6) أَسِيد - بالفتح - الأنصاري المروزي. ت الكمال: 1/ 184، التهذيب: 1/ 227، الميزان: 1/ 184.

قال أبو حاتم: شيخ ليس بالمشهور ولا يُشْتغَل به. وقال ابن عديّ: مجهول، وكذا قال الحاكم أبو أحمد. وعن يحيى بن بُكَير: لا أدري حاله. 20 - إسحاق بن راشد الجَزَريّ (¬1): الوجادة والتحديث بها، [و] حُسْن رأي الباقر في الزهري، وتعظيم الزهري أهلَ البيت (¬2). 21 - إسحاق بن عبد الله بن أبي فَرْوة (¬3): تالفٌ، كتب عليُّ بن المديني عن رجلٍ عنه، وقال: أعرفها لا تقلب. 22 - إبراهيم بن طَهْمان (¬4): قال ابن عمّار: ضعيف مضطرب الحديث، تعقَّبه (¬5) جَزَرة: ابن عمّار من أين يعرف حديث إبراهيم؟ إنما وقع إليه حديث إبراهيم في الجمعة - يعني الذي رواه ابن عمّار عن المعافى عن إبراهيم عن محمَّد بن زياد عن أبي هريرة: أول جمعة جُمعت بجُواثا - والغلط فيه من المعافى؛ لأن جماعةً رووه عن إبراهيم عن أبي حمزة عن ابن عباس. وكذا هو في تصنيفه. وقال السليماني: أنكروا عليه حديثه عن أبي الزبير عن جابر في رفع ¬

_ (¬1) ت الكمال: 1/ 185، التهذيب: 1/ 230. (¬2) هذه ثلاث فوائد استخلصها المؤلف من قصص وحوادث وردت في ترجمة إسحاق بن راشد. (¬3) ت الكمال: 1/ 192، التهذيب: 1/ 240، الميزان: 1/ 193. (¬4) ت الكمال: 1/ 115، التهذيب: 1/ 129، الميزان: 1/ 38. (¬5) الأصل: "تعقب".

اليدين، وحديثه عن شُعبة عن قتادة عن أنس: "رُفِعَت لي سدرة المنتهى" (¬1). 23 - خ ت ق. إسحاق بن محمَّد بن إسماعيل (¬2): قال أبو داود: لو جاء بذاك الحديث عن مالكٍ يحيى بن سعيد لم يُحْتمل له، ما هو من حديث عبيد الله بن عمر، ولا من حديث يحيى بن سعيد، ولا من حديث مالك. يعني حديثَ الإفك الذي حدّث به عن مالك وعبيد الله عن الزهري. وقال الدارقطني: ضعيف. وقد روى عنه البخاري، ويُوَبِّخونه على هذا (¬3). وقال الحاكم: عِيبَ على محمدٍ إخراج حديثه. ¬

_ (¬1) في الورقة (5/ أ) [10 بترقيم المؤلف] فوائد لا تنتظم مع ترتيب الكتاب، نسوقها هنا للفائدة: "شاهد الحاكم و (ابن السّكَن): إسحاق بن سالم، سعيد بن محمَّد الوراق، عبد الأعلى بن عامر". يعني توافقهما في التصحيح لهؤلاء الرواة. ثم قال: "ممن ذكره ابن حبان في "الثقات" وفي "الضعفاء": "صفوان بن أبي الصهباء، وعبد الله بن شريك، وعبد السلام بن أبي الجنوب, [و] محمَّد بن ذكوان". وذكر عبد الله بن إنسان الثقفي الطائفي في "الثقات": 7/ 17"، وقال: "كان يخطئ". قال الذهبي في "الميزان: 3/ 107": "وهذا لا يستقيم أن يقوله الحافظ إلا فيمن روى عدة أحاديث، فأما عبد الله هذا فهذا الحديث أول ما عنده وآخره، فإن كان قد أخطأ فحديثه مردود على قاعدة ابن حبان". وفي "التهذيب: 5/ 149" عن الذهبي نحو هذا، وفي آخر: فإن كان أخطأ فيه فما هو الذي ضبَطَه"؟ (¬2) ت الكمال: 1/ 197، التهذيب: 1/ 348، الميزان: 1/ 198 - 199. (¬3) كما في سؤالات حمزة للدارقطني رقم 190، ودافع عن البخاري الحافظ في "مقدمة الفتح": (ص/ 409).

24 - إسحاق بن يحيى بن طلحة (¬1): قال ابن حبان: سَبْرت أخباره، فأدى الاجتهاد إلى أن يُتْرَك ما لم يُتابع عليه، ويحتج بما وافق الثقات (¬2). 25 - إبراهيم بن عبد الله بن حاتم الهَرَوي (¬3): قال أبو داود: ضعيف. وقال النسائي: ليس بالقوي. قال ابن حجر: فتبين بهذا أن تضعيفه راجعٌ إلى المذهب (¬4). 26 - [ص 6] إبراهيم بن محمَّد بن عَرْعَرة (¬5): تشديد أحمد وغضبه وقوله: كَذَب وزوَّر، مع أن الأمر مُحتمل (¬6). ¬

_ (¬1) ت الكمال: 1/ 202، التهذيب: 1/ 254، الميزان: 1/ 204. (¬2) هذا ما استقر عليه قوله في "الثقات": (6/ 45). وكان قد ذكره في "المجروحين": (1/ 133) وقال: "كان رديء الحفظ سيئ الفهم، يخطئ ولا يعلم، ويروي ولا يفهم". (¬3) ت الكمال: 1/ 118، التهذيب: 1/ 132 - 133، الميزان: 1/ 42. وسيُعيده المؤلف رقم (50). (¬4) يعني أن أكثر النقاد على توثيقه، ومن ضعّفه كان بسبب المذهب. قال ابن الدورقي لابن معين: أما تتقي الله في الثناء على إبراهيم الهروي، وذكر ما كان منه في زمن ابن أبي دؤاد يعني في المحنة. يعني محنة القول بخلق القرآن. راجع "التهذيب". (¬5) ت الكمال: 1/ 131، التهذيب: 1/ 155، الميزان: 1/ 56 - 57. (¬6) بعده في الأصل ترجمة: إسحاق بن يحيى بن طلحة .. وإسرائيل بن يونس، لكن المؤلف ضرب عليهما.

27 - أبان بن صالح (¬1): وثّقه ابن معين وأبو حاتم وأبو زُرعة وغيرهم. وقال ابن عبد البر: ضعيف. وقال ابن حزم: ليس بالمشهور. قال ابن حجر: هذه غفلة منهما، وخطأ تواردا عليه. 28 - إبراهيم بن سعيد الجوهري (¬2): قال: كل حديث لا يكون عندي من مائة وجه فأنا فيه يتيم. 29 - إبراهيم بن أبي بكر عبد الله بن محمَّد بن أبي شيبة (¬3): قال أبو حاتم: صدوق (¬4) ... وأغربَ ابنُ القطان فزعم أنه ضعيف، وكأنه اشتبه عليه بجَدِّه، ووقع نحو ذلك للبيهقي (¬5). 30 - إبراهيم بن مهاجر (¬6): قال ابن أبي حاتم: قلت لأبي: ما معنى: لا يُحتج بحديثهم؟ قال: كانوا قومًا لا يحفظون، فيحدثون بما لا يحفظون، ترى في أحاديثهم اضطرابًا ما شئت. ¬

_ (¬1) ت الكمال: 1/ 93، التهذيب: 1/ 94 - 95. (¬2) ت الكمال: 1/ 112، التهذيب: 1/ 123، الميزان: 1/ 35. (¬3) ت الكمال: 1/ 120، التهذيب: 1/ 136. (¬4) الأصل: "صدق" سهو. (¬5) في "السنن": 1/ 306. (¬6) البجلي أبو إسحاق، ت الكمال: 1/ 139، التهذيب: 1/ 167، الميزان: 1/ 67. وسيكرره المصنف رقم (67).

31 - إبراهيم بن موسى بن يزيد الرَّازي (¬1): قال أبو زُرعة: هو أتقن من أبي بكر بن أبي شيبة، وأصح حديثًا منه، لا يحدث إلا من كتابه ... وقال أبو زُرعة: كتبت عن إبراهيم بن موسى مائة ألف حديث، وعن أبي بكر بن أبي شيبة مائة ألف حديث. 32 - [ص 7] إبراهيم بن يعقوب الجُوْزَجاني (¬2): حَريزي، صحّفها ابن السمعاني (¬3) فقال: جريري. 33 - خ ت ق. أبيّ بن العباس بن سهل بن سعد الساعدي (¬4): ضعّفه أحمد وابن معين وغيرهما، وقال البخاري: ليس بالقوي، ومع ذلك أخرج له في "الصحيح" (¬5) حديثًا في ذِكْر خيل النبي - صلى الله عليه وسلم - (ليس فيه حُكْم ولا سنة). 34 - أجْلَح بن عبد الله (¬6): قال يعقوب بن سفيان: ثقة حديثه لين. ¬

_ (¬1) ت الكمال: 1/ 141، التهذيب: 1/ 170. (¬2) ت الكمال: 1/ 147، التهذيب: 1/ 181، الميزان: 1/ 75 - 76. (¬3) في "الأنساب" 3/ 243. وانظر ما علّقه المصنف في حاشية "الإكمال": 2/ 212. وفي الأصل كلمة كتبت بخط أصغر فوق السطر لم أتبينها. (¬4) ت الكمال: 1/ 150، التهذيب: 1/ 186، الميزان: 1/ 78. (¬5) رقم (2855). (¬6) ت الكمال: 1/ 154، التهذيب: 1/ 189، الميزان: 1/ 78 - 79.

35 - أحوص بن حكيم (¬1): قال ابن المديني مرَّة: ثقة، ومرة: صالح، ومرة: لا يُكتب حديثه. 36 - إدريس الصنعاني (¬2): عن هَمْدان بَرِيد عمر، وعنه: ربيعة بن عثمان. قال البخاري في "الصحيح" (¬3): "وقال عمر: المُصلّون أحقّ بالسواري من المتحدِّثين إليها". وأشار إليه في "التاريخ" (¬4). وأخرجه ابن أبي شيبة عن وكيع عن ربيعة بن عثمان. في هذا تقوية البخاري لمن لم يرو عنه إلا واحد. ومثله: حسّان بن فائد العبسي، ورُزَيق أبو وهنة، وعبد الله بن طلحة الخزاعي، [و] عبد الله بن قدامة بن صَخْر، [و] عبد الحميد بن عبد الله بن أبي عَمرو (¬5). 37 - أسامة بن زيد بن أسلم (¬6): قال ابن معين: أسامة وعبد الله وعبد الرحمن أولاد زيد بن أسلم إخوة، وليس حديثهم بشيء. ¬

_ (¬1) ت الكمال: 1/ 157، التهذيب: 1/ 192، الميزان: 1/ 167. (¬2) التهذيب: 1/ 195. (¬3) كتاب الصلاة، باب الصلاة إلى الأسطوانة قبل حديث (502). (¬4) 2/ 36. (¬5) الاسمان الأخيران كُتبا في أعلى الصفحة دون إشارة توضَح مكانهما ولعلهما في المكان الذي أثبتناه. (¬6) ت الكمال: 1/ 166، التهذيب: 1/ 207، الميزان: 1/ 174.

وقال مرة: ضعيف. ومرة: ليس به بأس. وقال أحمد: منكر الحديث ضعيف. وقال ابن عديّ: لم أجد له حديثًا منكرًا، لا إسنادًا ولا متنًا، وأرجو أنه صالح. 38 - أسباط بن نَصْر (¬1): قال ابن معين: ليس بشيء. وقال مرة: ثقة. 39 - إسحاق بن الربيع البصري (¬2): قال عَمرو بن علي: ضعيف الحديث حدّث بحديثٍ منكر عن الحسن عن عُتي عن أُبيَ: كان آدمُ رجلاً طوالًا كأنه نخلة سَحوق. 40 - أحمد بن الأزهر (¬3): قال ابن معين: من هذا الكذّاب الذي يحدث عن عبد الرزاق بهذا الحديث؟ (¬4). 41 - [ص 8] أحمد بن جَوّاس (¬5): روى عنه بَقيّ بن مخلد، وقد قال: إنه لم يحدّث إلا عن ثقة. ¬

_ (¬1) ت الكمال: 1/ 171، التهذيب: 1/ 211 - 212، الميزان: 1/ 175 - 176. (¬2) ت الكمال: 1/ 186، التهذيب: 1/ 232، الميزان: 1/ 191. (¬3) ت الكمال: 1/ 27، التهذيب: 1/ 11 - 12، الميزان: 1/ 82. (¬4) كان يحيى قد اتهمه بحديث منكر في فضائل علي، ثم إنه عَذَره وقال: أما إنك لست بكذاب، وتعجّب من سلامته وقال: الذنب لغيرك في هذا الحديث. وانظر القصة في المصادر السالفة. (¬5) ت الكمال: 1/ 34، التهذيب: 1/ 22.

42 - أحمد بن سعيد بن بشر (¬1): قال النسائي: ليس بالقوي، لو رجع عن حديث بُكير بن الأشج في الغار لحدثت عنه (¬2). 43 - أحمد بن صالح السوّاق (¬3): قال أبو زُرعة: صدوق، وقال ابن أبي حاتم: روى عن مؤمّل أحاديث في الفتن توهِّن أمرَه. 44 - أحمد بن عبد الله بن يونس (¬4): قال: أتيت حمَّاد بن زيد فسألته أن يملي عليَّ شيئًا من فضائل عثمان رضي الله عنه. فقال: من أين أنت؟ قلت: من أهل الكوفة. فقال: كوفي يطلب فضائل عثمان! والله لا أمليتها عليك إلا وأنا قائم وأنت جالس! 45 - أحمد بن عبد الرحمن بن وهب (¬5): مما أُنكر عليه: حديثه عن عمِّه عن عيسى بن يونس عن حَريز بن عثمان عن عبد الرحمن بن جُبير بن نُفير عن أبيه عن عَوف بن مالك، رفَعَه: "تفترق أمتي على بضع وستين فرقة". قالوا: هذا حديث نُعيم بن حمَّاد عن عيسى، تفرد فيه، وأُنكر عليه. ¬

_ (¬1) ت الكمال: 1/ 40، التهذيب: 1/ 31، الميزان: 1/ 100. (¬2) ومع ذلك فقد ذكره في أسماء شيوخه رقم (66) فلعله تغيّر اجتهاده فيه. (¬3) التهذيب: 1/ 43. (¬4) ت الكمال: 1/ 53، التهذيب: 1/ 50. (¬5) ت الكمال: 1/ 56، التهذيب: 1/ 54، الميزان: 1/ 113.

وقالوا: إنما هذا (¬1) حديث صفوان بن عَمرو حديث معاوية، قلبه نُعيم، وسرقه منه جماعة (¬2). ومنها: عن عمه عن عبيد الله (¬3) بن عمر وابن عُيينة ومالك عن حُميد عن أنس: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في الفريضة". ومنها: عن عمه عن مَخْرمة عن أبيه عن نافع عن ابن عمر مرفوعًا: "إذا كان الجهاد على باب أحدكم فلا يخرج إلا بإذن أبويه". ومنها: عن عمّه عن حَيْوة عن أبي صخر عن أبي حازم عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعًا: "يأتي على الناس زمانٌ يرسل إلى القرآن فيرفع من الأرض". تفرد أحمد برفعه. ومنها: عن عمّه عن مالك عن نافع عن ابن عمر مرفوعًا: "إن الله زادكم صلاة إلى صلاتكم وهي الوتر"، وهو حديث موضوع على مالك (¬4). 46 - خ. أحمد بن شبيب بن سعيد الحَبَطي (¬5): قال أبو حاتم: صدوق. وقال الأزدي: منكر الحديث غير مرضيّ (¬6). وقال ابن عبد البر: ¬

_ (¬1) الأصل: "هو" والمثبت من التهذيب. (¬2) ساق الحافظ كلام الأئمة على الحديث في ترجمة نُعيم بن حماد من "التهذيب": 10/ 460. (¬3) كذا في الأصل والتهذيب، وصوابه "عبد الله" مكبّر كما في الميزان وغيره, وهو الذي يروي عنه عبد الله بن وهب. انظر ت الكمال: (4/ 216). (¬4) في "الميزان": "ابن وهب". (¬5) ت الكمال: 1/ 43، التهذيب: 1/ 36، الميزان: 1/ 103. (¬6) عبارة أبي حاتم كما في كتاب ابنه (1/ 55) ونقله المزي: ثقة صدوق. وقال الحافظ =

متروك. فكأنه تَبعَ الأزديَّ، فإنه إنما أُنكِر عليه حديث سعيد بن إسحاق الذي أشار إليه أبو عمر (¬1). 47 - أبان بن إسحاق الأسدي (¬2): قال ابن معين: ليس به بأس. وقال العجلي: ثقة. وقال الأزدي: متروك الحديث (¬3). 48 - أبان بن تَغْلِب (¬4): قال الأزدي: كان غاليًا في التشيّع، وما أعلم به في الحديث بأسًا. 49 - أحمد بن المفضَّل (¬5): قال أبو حاتم: كان صدوقًا من رؤساء الشيعة. قال الأزدي: منكر الحديث، روى عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن عاصم بن ضَمْرة عن علي مرفوعًا: "إذا تقرَّب الناسُ إلى خالقهم بأنواع البر، فتقرّبْ إليه بأنواع العقل". ¬

_ = ابن حجر معلقًا على كلام الأزدي: لم يلتفت أحدٌ إلى هذا القول، بل الأزدي غير مرضيّ. (¬1) في "التمهيد": (21/ 26) لكنه فيه "يتكلمون فيه" فلعل الحافظ وقف على نسخة غير التي بأيدينا. (¬2) ت الكمال: 1/ 92، التهذيب: 1/ 93، الميزان: 1/ 5. (¬3) انظر تعليق الذهبي على كلام الأزدي. (¬4) ت الكمال: 1/ 92، التهذيب: 1/ 93، الميزان: 1/ 5. وانظر تعليق الذهبي على كلام الأزدي فهو مهم. (¬5) ت الكمال: 1/ 81، التهذيب: 1/ 81، الميزان: 1/ 157.

قال ابن حجر: هذا حديث باطل، لعله أُدْخل عليه. 50 - [ص 9] إبراهيم بن عبد الله بن حاتم الهَرَوي (¬1): من أصحاب ابن أبي دؤاد. قال الأزدي: ثقة صدوق، إلا أنه رديء المذهب زائغ. 51 - إبراهيم بن المنذر الحِزامي (¬2): ذمَّه أحمد لتخليطه (¬3) في القرآن. ووثّقه جماعة. وقال الساجي: عنده مناكير. قال الخطيب: أما المناكير فقلّما توجد في حديثه، إلا أن يكون عن المجهولين. وسبقه الأزدي بمعناه (¬4). 52 - إبراهيم بن مهدي المِصِّيصي (¬5): قال أبو حاتم: ثقة. وقال العُقيلي عن ابن معين: جاء بمناكير. وقال الأزدي: له عن علي بن مُسْهِر أحاديث لا يتابع عليها. 53 - إبراهيم بن محمَّد بن يوسف الفريابي (¬6): قال أبو حاتم: صدوق. وقال الساجي: يحدث بالمناكير والكذب. وقال ¬

_ (¬1) تقدمت ترجمته برقم (25). (¬2) ت الكمال: 1/ 138، التهذيب: 1/ 166، الميزان: 1/ 67. (¬3) تشبه في الأصل: "لتخليقه"، وما أثبت موافق لما جاء في ترجمته أنه "خلّط في القرآن". (¬4) انظر كلامه في "إكمال تهذيب الكمال": (1/ 294). (¬5) ت الكمال: 1/ 140، التهذيب: 1/ 169، الميزان: 1/ 68. (¬6) ت الكمال: 1/ 135، التهذيب: 1/ 161، الميزان: 1/ 61.

الأزدي: ساقط. وردَّ ذلك صاحب "الميزان" (¬1). 54 - الأخضر بن عجلان الشيباني (¬2): قال ابنُ معين: صالح. وقال مرة: ليس به بأس (¬3). وقال أبو حاتم: يُكتب حديثه. وقال النسائي: ثقة. وقال الترمذي في "العلل الكبير" (¬4): إن البخاري قال: أخضر ثقة. وقال الأزدي: ضعيف لا يصح. يعني حديثه. 55 - ع. بَهْز بن أسد العَمّي البصري (¬5): قال أحمد: إليه المنتهى في التثبت. ووثّقه القطان وابن معين. وقال العجلي: ثقة ثبت في الحديث، رجل صالح، صاحب سنة. وقال الأزدي: صدوق، كان يتحامل على عثمان، سيئ المذهب (¬6). 56 - [ص10] أحمد بن صالح المصري (¬7): قال يعقوب بن سفيان: كتبت عن ألف شيخ وكسر، كلهم ثقات، ما أحدٌ منهم أتّخِذه عند الله حجة إلا أحمد بن صالح بمصر، وأحمد بن حنبل بالعراق. ¬

_ (¬1) قال: لا يُلتفت إلى قول الأزدي؛ فإن في لسانه في الجرح رهَقَا. (¬2) ت الكمال: 1/ 158، التهذيب: 1/ 193، الميزان: 1/ 168. (¬3) وفي رواية أخرى له: "ثقة". الدوري (4515). (¬4) (1/ 479). (¬5) ت الكمال: 1/ 381 - 382، التهذيب: 1/ 497، الميزان: 1/ 353. (¬6) قال الذهبي: كذا قال الأزدي! والعُهْدةُ عليه، فما علمتُ في بهزٍ مَغْمزًا. (¬7) ت الكمال: 1/ 46، التهذيب: 1/ 39، الميزان: 1/ 103.

أقول: ربما يُستدلّ بهذا على أن شيوخ يعقوب كلهم ثقات، وليس بلازم، لأنه موصوف بكثرة الكتابة، فلعله كتب عن عددٍ أكثر مما ذكر، وإنما خصّ هنا الثقات منهم. وقال أبو داود: كان يقوِّم كلَّ لحن في الحديث. وقال غيره: كان يصلي بالشافعي. كان النسائي سيئ الرأي فيه (¬1)، وينكر عليه أحاديث، منها: عن ابن وهب عن مالك عن سُهيل عن أبيه عن أبي هريرة رفعه: "الدين النصيحة". قال ابن عديّ: قد رواه عن ابنِ وهب يونُس بن عبد الأعلى، وحدّث به عن مالكٍ محمدُ بن خالد بن عَثْمة. 57 - [ص 11] أحمد بن نُفَيل السَّكوني (¬2)، و: 58 - أحمد بن يحيى بن محمَّد بن كثير الحرّاني (¬3): روى عن كلًّ منهما النسائي وحده. وقال في الأول: لا بأس به, وفي الثاني: ثقة. قال الذهبي في الأول: مجهول. وفي الثاني: لا يعرف. قال ابن حجر في كلٍّ: يكفيه رواية النسائي. ¬

_ (¬1) لجفوةٍ وقعت بينهما، فجمع النسائي الأحاديث التي أخطأ فيها أحمد بن صالح، فشنّع بها عليه. (¬2) ت الكمال: 1/ 89، التهذيب: 1/ 88. (¬3) ت الكمال: 1/ 89, التهذيب: 1/ 89.

59 - أبان بن طارق (¬1): روى عنه رجلان. وقال أبو زُرعة: مجهول. وذكر له ابن عديّ حديث: "من دخل على غير دعوة دخل سارقًا وخرج مغيرًا". قال: وليس له أنكر منه. وله غيره حديثان أو ثلاثة. 60 - أبان بن عبد الله بن أبي حازم البَجَلي (¬2): وثّقه أحمد وابن معين وابن نُمير والعِجلي. ويقول النسائي: ليس بالقوي، ويقول ابن حبان: كان ممن فحش خطاؤه، وانفرد بالمناكير. ويقول ابن عديّ: لم أجد له حديثًا منكرَ المتن. وفي "الميزان": ومما أُنكِر عليه: ما روى مالك بن إسماعيل النَّهْدي حدثني سليمان بن إبراهيم بن جرير عن أبان بن عبد الله البَجَلي عن أبي بكر بن حَفْص عن علي رضي الله عنه مرفوعًا: "جريرٌ منا أهلَ البيت، ظهرًا لبطن، ظهرًا لبطن". وسليمان بن إبراهيم ذكره ابن حجر في "لسان الميزان" (3/ 77) (¬3) وقال: "لا يُعرف حاله ... روى عن أبيه عن جده. وأبوه لم يسمع من جده. قاله البخاري. وله حديث في ترجمة أبان بن عبد الله في الميزان"، يعني هذا الحديث. أقول: وأبو بكر بن حَفْص هو عبد الله بن حَفْص بن عمر بن سعد بن ¬

_ (¬1) ت الكمال: 1/ 94، التهذيب: 1/ 96، الميزان: 1/ 9. (¬2) ت الكمال: 1/ 94، التهذيب: 1/ 96، الميزان: 1/ 9. (¬3) (4/ 131 - البشائر).

أبي وقاص. لم يدرك عليًّا. ومع ذلك فالأولى الحمل على سليمان؛ لأنه إذا لم يُعرف حالُه وانفرد عن أبانٍ بهذا، فلم يتحقق أن أبانًا رواه. والله أعلم. 61 - أبان بن أبي عياش (¬1): ساقط. وقال شُعبة: لأن يزني الرجل خير من أن يروي عن أبان. وروى عنه: أبو إسحاق الفزاري، وعمران القطان، ومَعْمر، ويزيد بن هارون. وكتب ابن معين عن عبد الرزاق عن مَعْمر عن أبان نسخة، فقال له أحمد: تكتب هذه وأنت تعلم أن أبانًا كذّاب؟ قال: يرحمك الله يا أبا عبد الله! أكتبها وأحفظها حتى إذا جاء كذّاب يرويها عن مَعْمر عن ثابت عن أنس، [ص 12] أقول له: كذبت إنما هو أبان. 62 - إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة (¬2): قال أحمد: ثقة. وقال ابن معين: ليس بشيء (¬3). وقال أبو حاتم: " ... منكر الحديث ... " وقال البخاري: منكر الحديث. وقال النسائي: ضعيف. وقال الدارقطني: متروك (¬4). وقال أبو أحمد الحاكم: حديثه ليس بالقائم. وقال ابن حبان: كان يقلب الأسانيد ويرفع المراسيل. وقال العُقيلي: له غيرُ حديثٍ لا يتابع على شيء منها. ¬

_ (¬1) ت الكمال: 1/ 95، التهذيب: 1/ 97 - 101، الميزان: 1/ 10. (¬2) ت الكمال: 1/ 100، التهذيب: 1/ 104، الميزان: 1/ 19. (¬3) هذه رواية الدوري، وفي رواية الدارمي (148): صالح. زاد في "تهذيب الكمال": يُكتب حديثُه ولا يحتج به. (¬4) وقال أيضًا في "السنن" (1/ 62): ليس بالقوي في الحديث. وهو الذي نقله الذهبي. وقال مرةً: ضعيف.

(منها): حديثه عن داود عن عكرمة عن ابن عباس: كان يعلمهم من الأوجاع كلها، ومن الحُمّى: باسم الله الكبير ... الحديث. وقال الترمذي (¬1) بعد تخريجه: يُضعَّف في الحديث. 63 - إبراهيم بن إسماعيل بن يحيى بن سلمة بن كُهَيل (¬2): أدْخَل حديثًا في حديث (¬3). 64 - إبراهيم بن بشَّار الرَّمادي (¬4): قال البخاري: يَهِم في الشيء بعد الشيء، وهو صدوق. وقال أيضًا (¬5): قال لي إبراهيم ... 65 - إبراهيم بن عبد الرحمن بن مهدي (¬6): قال ابن عديّ: روى عن الثقات المناكير، ولم أر له حديثًا منكرًا يُحكَم عليه بالضعف من أجله .... وقال ابن عديّ أيضًا: يمكن أن يكون من الراوي عنه (¬7). ¬

_ (¬1) "الجامع" رقم (2075). (¬2) ت الكمال: 1/ 101، التهذيب: 1/ 106، الميزان: 1/ 20. (¬3) ذكره العقيلي في "الضعفاء": (1/ 44 - 45). (¬4) ت الكمال: 1/ 103، التهذيب: 1/ 108 - 110، الميزان: 1/ 23. (¬5) في "التاريخ الكبير": (2/ 140). (¬6) ت الكمال: 1/ 121، التهذيب: 1/ 140، الميزان: 1/ 44 - 45. (¬7) هذا ما نقله الحافظ في التهذيب، وفي "الكامل": (1/ 265) بعد أن ساق له عدة أحاديث: "وهذه الأحاديث بهذا الإسناد لم أره إلا من رواية إبراهيم هذا ولعل هذا من قبل جعفر بن عبد الواحد فإنه لين، ولم أر لإبراهيم حديثًا ... ".

أقول: يعني أنه لما كان الراوي عنه غير قوي، لم يتبين أن إبراهيم روى تلك المناكير؛ فلذلك لم يحكم عليه بالضعف. 66 - إبراهيم بن عبد الملك البصري القنَّاد (¬1): نقل الساجي عن ابن معين تضعيفه (¬2). وقال النسائي: لا بأس به. وقال ابن حبان في "الثقات" (¬3): يُخطئ. وقال العُقيلي: يَهِم في الحديث. وأورد له عن قتادة عن أنس حديث: "مرَّ بشاةٍ ميتة"، وحديث: "إذا تلقَّاني عبدي شبرًا تلقيته ذراعًا". قال: وكلاهما غير محفوظ من حديث قتادة. 67 - [ص 13] إبراهيم بن مُهاجر بن جابر البَجَلي (¬4): قال الثوريّ وأحمد: لا بأس به. وقال القطان: لم يكن بقوي. وقال النسائي في موضع: ليس بالقوي في الحديث. وفي آخر: ليس به بأس. وقال ابن سعد: ثقة. وقال ابن معين: ضعيف. وقال ابن حبان: كثير الخطأ. وقال الحاكم: قلت للدارقطني: فإبراهيم بن مهاجر؟ قال: ضعَّفوه ... قلتُ: بحجة؟ قال: بلى، حدَّث بأحاديث لا يتابع عليها. 68 - أسامة بن زيد الليثي (¬5): قال أحمد: ليس بشيء. وقال لابنه عبد الله عنه: روى عن نافع أحاديث مناكير. قال عبد الله: فقلت له: أراه حسن الحديث. فقال: إن تدبَّرت حديثَه ¬

_ (¬1) ت الكمال: 1/ 122، التهذيب: 1/ 142، الميزان: 1/ 46 - 47. (¬2) وكذا نقل ابن البرقي عن ابن معين، ذكره مغلطاي: (1/ 247). (¬3) (6/ 26). (¬4) تقدم برقم (30). (¬5) ت الكمال: 1/ 169، التهذيب: 1/ 208 - 210، الميزان: 1/ 174.

فستعرف فيه النُّكْرة. وقال ابن معين في رواية: ثقة صالح. وفي أخرى: ليس به بأس. وفي ثالثة: أنكروا عليه أحاديث. وقال الدارقطني: لما سمع يحيى القطان أنه حدث عن عطاء عن جابر رفعه: "أيام منى كلها مَنْحر" قال: اشهدوا أني قد تركت حديثه. وأنكر عليه القطانُ أيضًا حديثًا آخر (¬1) رواه عن الزهري قال: سمعت سعيد بن المسيب. ورواه الناس عن الزهري عن سعيد بالعنعنة، فقال القطان: يقول: سمعت سعيد بن المسيب! 69 - أفلح بن سعيد الأنصاري (¬2): وثّقه ابن معين وغيره. وذكره ابن حبان في "الثقات" (¬3). وقال في "الضعفاء" (¬4): يروي عن الثقات الموضوعات, لا يحلُّ الاحتجاج به، ولا الرواية عنه بحال. ثم أورد له حديثه عن عبد الله بن رافع عن أبي هريرة مرفوعًا: "إن طالت بك مُدة فسترى قومًا يغدون في سخط الله، ويروحون في لعنته، يحملون سياطًا مثل أذناب البقر". قال: وهذا بهذا اللفظ باطل. وقد رواه سُهيل عن أبيه عن أبي هريرة بلفظ: "اثنان من أمتي لم أرهما: رجال بأيديهم سياط مثل أذناب البقر، ونساء كاسيات عاريات". قال ابن حجر: والحديث في "صحيح مسلم" (¬5) من الوجهين، ... ¬

_ (¬1) وانظر بما أجاب الحافظ في التهذيب. (¬2) ت الكمال: 1/ 282، التهذيب: 1/ 367 - 368، الميزان: 1/ 274. (¬3) (8/ 134). (¬4) (1/ 176). (¬5) رقم (2128، 2857).

[ص 14] وذهل ابنُ الجوزي فأورد الحديث من الوجهين في الموضوعات ... قلّد فيه ابن حبان من غير تأمل. قال الذهبي: ابن حبان ربما ثَلَب (¬1) الثقة، كأنه لا يدري ما يخرج من رأسه ... ، بل حديث أفلح حديث صحيح غريب، وهذا - يعني الآخر - شاهدٌ لمعناه. 70 - بَدَل بن المُحبَّر (¬2): روى عنه البخاري في "الصحيح" حديثين (¬3)، ووثّقه أبو زُرعة وأبو حاتم. وقال الحاكم عن الدارقطني: ضعيف (¬4)، حدث عن زائدة بحديث لم يتابع عليه. حديث ابن عقيل عن ابن عمر. الحديث رواه البزار [عن الفلاس قال] (¬5): ثنا بَدَل ثنا زائدة عن ابن عقيل عن ابن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره أن ينادي في الناس: "أنّ من شهد ألا إله إلا الله دخل الجنة .. " الحديث. قال البزار: [و] رواه حُسين الجُعفي عن زائدة عن ابن عقيل عن جابر. ¬

_ (¬1) في الميزان: "قصّب". (¬2) ت الكمال: 1/ 330، التهذيب: 1/ 423، الميزان: 1/ 300. (¬3) قاله الحافظ في "الهدي": (ص / 412). أحدهما في الصلاة (792)، والآخر في الفتن (7102). أقول: وله في البخاري ثلاثة أحاديث أخرى بالأرقام: (2082، 3113، 3384). (¬4) قال في "الميزان": "هذا عَجَب! فقد قال أبو حاتم: هو أرجح من بَهْز وحَبان وعفّان". (¬5) من "الإكمال": (2/ 358)، وسقطت من التهذيب والأصل.

قال ابن حجر في "المقدمة" (¬1): "هو تعنُّت"، يعني كلام الدارقطني. أقول: إن لم يكن إلا هذا فهو تعنت؛ إذ لا مانع أن يكون ابن عقيل رواه على الوجهين، فإنه كان سيئ الحفظ، فحَفِظه زائدةُ على الوجهين، ورواه مرة كذا، ومرة كذا. على أنه ليس تخطئة بَدَل بأولى من تخطئة حسين الجعفي. بل القياس يقتضي أن الصواب رواية بدل؛ فإنّ غالب رواية ابن عقيل إنما هي عن جابر. فمن قال: ابن عقيل عن جابر، فقد سلك الجادة، فهو أولى أن يكون خطأ ممن خالف الجادة. وهب أن بدلاً أخطأ في هذا الحديث، فليس ذلك بموجب ضعفه مطلقًا؛ فإنه ما من ثقة إلا يوجد له خطأ. والله أعلم. هذا، وظاهر عبارة الدارقطني أنه إنما ضعفه لأنه لم يعلم أحدًا روى الحديث عن زائدة غيره. كأنه لم يقف على رواية الجعفي. والله أعلم. 71 - [ص 15] بشير بن المهاجر الغَنَوي (¬2): وثّقه ابن معين والعجلي. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال أحمد: منكر الحديث، قد اعتبرتُ أحاديثه فإذا هو يجيء بالعجب. وقال البخاري: يخالف في بعض حديثه (¬3). وقال ابن عديّ: روى ما لا يتابع عليه ... وقال ¬

_ (¬1) (ص/412). (¬2) ت الكمال: 1/ 364، التهذيب: 1/ 468، الميزان: 1/ 329. (¬3) في "التاريخ" زيادة: "هذا" إشارة إلى الحديث الذي سيذكره المصنف عن البخاري، وبه جزم مغلطاي في "الإكمال": (2/ 424) وأنه أراد بالمخالفة هذا الحديث لا مطلقًا.

ابن حبان في "الثقات" (¬1): دلَّسَ عن أنس ولم يره، وكان يُخطئ كثيرًا. وقال الساجي: منكر الحديث [عنده مناكير ...] (¬2). قال البخاري (¬3): "رأى أنسًا. حدثني خلَّاد أنبأنا بشير بن المهاجر سمعت ابن بريدة عن أبيه سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم -: "رأس مائة سنة يبعث الله ريحًا باردة تقبض فيها روح كلّ مسلم". 72 - [ص 16] بكر بن خُنَيس العابد (¬4): وصفَه ابنُ معين وأبو حاتم ويعقوب بن شيبة والجُوزجاني وابن أبي شيبة وابن عديّ بالصلاح والزهد والعبادة، وطعنوا هم وغيرهم في روايته. قال الجُوزجاني: كان يروي كلَّ منكر. وقال ابن عديّ: يحدث بأحاديث مناكير عن قوم لا بأس بهم، وهو في نفسه رجل صالح إلا أن الصالحين يُشبَّه عليهم الحديث، وربما حدَّثوا بالتوهُّم. وقال ابن حبان: روى عن البصريين والكوفيين أشياء موضوعة يسبق إلى القلب أنه المتعمِّد لها. ومع هذا كله قال العجلي: كوفي ثقة! 73 - بكر بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى (¬5): روى عنه ابنا أبي شيبة وغيرهما. ولم ينقل فيه كلام، إلا أن الدارقطني ¬

_ (¬1) (6/ 98). (¬2) من "الإكمال": (2/ 423)، وسقطت "مناكير" من التهذيب. (¬3) في "التاريخ الكبير": (2/ 101). (¬4) ت الكمال: 1/ 371، التهذيب: 1/ 481، الميزان: 1/ 344. (¬5) ت الكمال: 1/ 373، التهذيب: 1/ 485.

وابن حبان وثَّقاه. 74 - تميم بن عطية العنسي (¬1): وثّقه دُحَيم وأبو زُرعة الدمشقي. وقال أبو حاتم: محلّه الصِّدق، ما أنكرتُ من حديثه شيئًا إلا ما روى إسماعيل عنه عن مكحول قال: جالست شريحًا كذا وكذا شهرًا. وما أرى مكحولًا رأى شريحًا بعينه قط، [و] يدل حديثه على ضعف شديد. قال ابن أبي حاتم: وقد روى الوليد - يعني ابن مسلم - عن تميم عن مكحول قال: قدمتُ الكوفة فاختلفت إلى شُريح ستة أشهر ما أسأله عن شيء، أكتفي بما يقضي به (¬2). 75 - تميم بن محمود (¬3): عن عبد الرحمن بن شِبل، حديث: "كان ينهى عن نقرة الغراب ... ". قال البخاري: في حديثه نظر. وقال العُقيلي: لا يُتابع عليه. وذكره ابن حبان في "الثقات" (¬4)، وأخرج هو وابن خُزيمة والحاكم حديثه في صحاحهم. 76 - أَسِيد بن المُتشمِّس (¬5): ذكره ابن المديني في المجهولين الذين روى عنهم الحسن. وقال ابن ¬

_ (¬1) ت الكمال: 1/ 399، التهذيب: 1/ 513، الميزان: 1/ 360. (¬2) "الجرح والتعديل": (2/ 443). (¬3) ت الكمال: 1/ 399، التهذيب: 1/ 514، الميزان: 1/ 360. (¬4) (9/ 229). (¬5) ت الكمال: 1/ 266، التهذيب: 1/ 347، الميزان: 1/ 258.

أبي خيثمة في "تاريخه" (¬1): سمعت ابن معين يقول: إذا روى الحسن البصري عن رجل فسماه فهو ثقة يحتج بحديثه. 77 - [ص 17] ثابت بن عجلان الأنصاري (¬2): قال ابن معين: ثقة. وقال دُحَيم والنسائي: ليس به بأس. وقال أبو حاتم: لا بأس به صالح الحديث. وقال أحمد: أنا متوقف في أمره (¬3). وقال العُقيلي: لا يتابع في حديثه. وساق له ابن عديّ ثلاثة أحاديث غريبة. وقال عبد الحق في "الأحكام" (¬4): لا يحتج به. وردّه ابن القطان وقال في قول العُقيلي: "لا يتابع": هذا لا يضر إلا من لا يُعْرف بالثقة، وأما من وُثَّق فانفراده لا يضره. قال ابن حجر: وصدق، فإن مثل هذا لا يضره إلا مخالفته الثقات، لا غير، فيكون حديثه حينئذٍ شاذًّا (¬5). 78 - ثابت بن موسى الضرير العابد (¬6): قال ابن معين: كذّاب. وقال أبو حاتم: ضعيف، أنكروا حديثه عن ¬

_ (¬1) ليس في المطبوع منه. (¬2) ت الكمال: 1/ 407، التهذيب: 2/ 10، الميزان: 1/ 364. (¬3) وفي رواية ابنه عبد الله أنه سأله: هو ثقة؟ فسكت، كأنه مرّض في أمره. (¬4) الوسطى: (2/ 169)، وكلام ابن القطان في "بيان الوهم": (5/ 362 - 363). (¬5) لكن قال الذهبي في الميزان (1/ 365) تعليقًا على ابن القطان: "أما من عُرِف بالثقة فنعم، وأما من وُثّق ومثل أحمد الإمام يتوقف فيه، ومثل أبي حاتم يقول: صالح الحديث، فلا نُرقّّيه إلى رتبة الثقة؛ فتفرّد هذا يعدّ منكرًا ... " اهـ. (¬6) ت الكمال: 1/ 410، التهذيب: 2/ 15، الميزان: 1/ 367.

شريك عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر مرفوعًا: "من كَثُرت صلاته بالليل حَسُن وجهه بالنهار". قال ابن عديّ وابن حبان: إنما هو قول شريك، وهم فيه ثابت. وقال العُقيلي: كان ضريرًا عابدًا، وحديثه باطل ليس له أصل، ولا يتابعُه عليه ثقة. وقال ابن حبان: كان يُخطئ كثيرًا، لا يجوز الاحتجاج بخبره إذا انفرد. وقال مُطيّن: كان ثقة! 79 - حاجب بن سليمان (¬1): روى عنه النسائي وقال: ثقة. وقال في موضع آخر: لا بأس به. وقال الدارقطني في "العلل" (¬2): لم يكن له كتاب، إنما كان يحدّث من حفظه. وقال في حديثه عن وكيع عن هشام عن أبيه عن عائشة: "قَبّل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعضَ نسائه ثم صلى ولم يتوضأ": الصواب عن وكيع بهذا الإسناد: "كان يقبِّل وهو صائم". 80 - الحارث بن عمير، أبو عمير البصري (¬3): كان حمَّاد بن زيد يقدِّمه ويثني عليه. ووثّقه ابنُ معين وأبو حاتم وأبو زُرعة والنسائي والعجلي والدارقطني. ¬

_ (¬1) المنبجي أبو سعيد. ت الكمال: 2/ 9، التهذيب: 2/ 132، الميزان: 1/ 429. (¬2) ليس في المطبوع منه، ونقله عنه مغلطاي: (3/ 274). وهو في كتاب "السنن": (1/ 136) بنصه. وانظر بم تعقبه الزيلعي في "نصب الراية": (1/ 75). (¬3) ت الكمال: 2/ 24، التهذيب: 2/ 153، الميزان: 1/ 440.

وقال الأزدي: ضعيف منكر الحديث. وقال الحاكم: روى عن حُميد الطويل وجعفر بن محمَّد أحاديث موضوعة. [ص 18] وقال ابن حبان: كان ممن يروي عن الأثبات الأشياء الموضوعات. وساق له عن جعفر عن أبيه عن جده عن علي مرفوعًا: "إن آية الكرسي، وشهد الله أنه لا إله إلا هو، والفاتحة، مُعلّقات بالعرش، يقلن: يا رب تُهْبطنا إلى أرضك وإلى من يعصيك ... " الحديث بطوله، وقال: موضوع لا أصل له. قال ابن حجر: والذي يظهر لي أن العلة فيه ممن دون الحارث (¬1). وذكر له في "الميزان" حديثين آخرين (¬2): الأول: محمَّد بن زنبور المكي عنه عن حُميد عن أنس مرفوعًا: "من رابط ليلةً حارسًا من وراء المسلمين كان له أجرُ من خَلَفه ممن صلى وصام". الثاني: ابن حبان ثنا الحسن بن سفيان ثنا محمود بن غيلان أنبأنا أبو أسامة ثنا الحارث عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس قال العباس: لأعلمنّ ما بقاءُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فينا، فأتاه فقال: يا رسول الله، لو اتخذنا لك مكانًا تكلِّم الناسَ منه. قال: "بل أصبر عليهم، ينازعوني ردائي ويطؤون عقبي، ويصيبني غبارهم حتى يكون الله هو يُرِيحني منهم". وقد رواه حمَّاد بن زيد عن أيوب، فأرسله، أو أن ابن عباس قاله. شكّ. ¬

_ (¬1) وقال الذهبي في شأنه: "ما أراه إلا بيّن الضعف". (¬2) والحديثان ذكرهما ابن حبان في ترجمته في "المجروحين": (1/ 223).

81 - ع. حبيب بن أبي ثابت (¬1): قال ابن معين: ثقة حجة. قيل له: ثبت؟ قال: نعم، إنما روى حديثين - يعني منكرين -: حديث المُسْتحاضة تصلي وإن قطرَّ الدم على الحصير، وحديث القُبلة للصائم. 82 - حَرِيش بن الخِرِّيت (¬2): قال ابن عديّ: لا أعرف له كثير حديثٍ فأعْتبِر حديثَه حتى أعرف صدقه من كذبه. 83 - خ م د. حسَّان بن إبراهيم الكِرْماني (¬3): وثّقه أحمد وابن معين وابن المديني. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال ابن عديّ: قد حدَّث بأفراد كثيرة، وهو عندي من أهل الصدق، إلا أنه يغلط في الشيء ولا يتعمد. وقال العُقيلي: في حديثه وهم (¬4). وقال ابن حبان في "الثقات" (¬5): ربما أخطأ. قال ابن عديّ: سمع من أبي سفيان طريف عن أبي نضرة عن [أبي سعيد] الخدري حديث: "مفتاح الصلاة الوضوء". فحدّث به مرة عن أبي سفيان ولم يُسمّه، ومرة ظن أنه أبو سفيان [ص 19] الثوريّ فقال: ثنا سعيد بن مسروق! ¬

_ (¬1) ت الكمال: 2/ 43، التهذيب: 2/ 178، الميزان: 1/ 451. (¬2) ت الكمال: 2/ 93، التهذيب: 2/ 241، الميزان: 1/ 476. (¬3) ت الكمال: 2/ 95، التهذيب: 2/ 245، الميزان: 1/ 477. (¬4) نقله مغلطاي: (4/ 53) وليس في مطبوعة العقيلي. (¬5) (6/ 224).

وفي "مقدمة الفتح" (¬1): أنكر عليه أحمد بن حنبل أحاديث، منها: حديثه عن عاصم الأحول عن عبد الله بن الحسن عن أمه عن أمها في دخول المسجد والدعاء. وقال: ليس هذا من حديث عاصم، هذا من حديث ليث بن أبي سُليم. 84 - الحسن بن إسحاق بن زياد الليثي (¬2): روى عنه البخاري في "الصحيح" (¬3)، والنسائي - وقال: ثقة - وغيرهما. وقال أبو حاتم: مجهول (¬4). وانظر: سعيد بن ذُؤيب، وصالح بن جُبير، وطَلْق بن السمح، عباس بن الحسين القنطري، علي بن صالح المكي، محمَّد بن مرداس الأنصاري، محمَّد بن الحكم المروزي (¬5). مُهنّأ بن عبد الحميد: روى عنه أحمد وإسحاق الكوسج ونَصْر بن علي وغيرهم. قال أبو حاتم: مجهول؟ ¬

_ (¬1) (ص/ 416). وانظر "الضعفاء": (1/ 255) للعقيلي فقد ذكر هذا الحديث وغيره. (¬2) ت الكمال: 2/ 105، التهذيب: 2/ 255. (¬3) قال مغلطاي (4/ 67): أربعة أحاديث. وانظر الصحيح الأرقام: (4189، 4228). (¬4) هذا إنما قاله أبو حاتم في الحسن بن إسحاق بن زياد الهروي "الجرح والتعديل": (3/ 2)، وانظر تعليق العلامة المعلمي في هامشه. وهو من ترجم له في "الميزان": (2/ 4)، و"اللسان": (3/ 30). (¬5) هؤلاء الرواة ذكرهم المؤلّف استطرادًا؛ لأن حالهم نظير حال صاحب الترجمة، فكلهم قد قال فيهم أبو حاتم: مجهول، ووثقهم غيره، أو روى عنهم جمعٌ من الأئمة. وانظر رقم (102).

عمر بن بيان التغلبي: روى عنه طُعْمة والأجْلَح. قال أبو حاتم: معروف. 85 - خ. الحسن بن بشر بن سَلْم (¬1): قال أحمد: ما أرى كان به بأس في نفسه، وقد روى عن زهير عن أبي الزبير عن جابر في الجنين (¬2). وروى عن مروان بن معاوية حديثًا فأسنده، قد سمعته أنا من مروان. يعني مرسلًا. وقال أيضًا: روى عن زهير مناكير. وقال ابن خراش: منكر الحديث. وقال ابن عديّ: أحاديثه يقرب بعضها من بعض، وليس هو بمنكر الحديث. وفي "مقدمة الفتح" (¬3): أن البخاري إنما أخرج له حديثين من روايته عن مُعافى بن عِمران، وهما ثابتان من غير طريقه. 86 - الحسن بن دينار (¬4): كان عند شُعبة، فقال: حدثنا حُميد بن هلال عن مجاهد: سمعتُ عمر. فجعل شُعبة يقول: مجاهد سمع عمر؟ فذهب الحسن فجاء بحر السقّاء، فقال له شُعبة: يا أبا الفضل، تحفظ عن حُميد بن هلال شيئًا؟ قال: نعم، حدثنا حُميد بن هلال ثنا شيخ من بني عدي يقال له: أبو مجاهد قال: سمعت عمر. فقال شُعبة: هي هي (¬5). ¬

_ (¬1) ت الكمال: 2/ 105، التهذيب: 2/ 255، الميزان: 2/ 4. (¬2) تشبه في الأصل: "الخفين" وما أثبت من المصادر. (¬3) (ص/416). (¬4) أبو سعيد البصري. التهذيب: 2/ 275، الميزان: 2/ 10. (¬5) ساق الحافظ هذه القصة لبيان أن الحسن كان لا يتعمد الكذب. وإلا فهو ضعيف لم يوثّقه أحد.

87 - الحسن بن سوَّار (¬1): ذكر أبو إسماعيل الترمذي أنه ذكر لأحمد عن الحسن بن سوّار عن عكرمة بن عمّار عن ضَمْضم بن جَوْس عن عبد الله بن حنظلة بن الراهب قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطوف بالبيت على ناقة، لا ضَرْب ولا طرد، ولا إليك! إليك!. فقال أحمد: هذا الشيخ [ص20] ثقة ثقة، والحديث غريب، ثم أطرق ساعة وقال: أكتبتموه من كتاب؟ قلنا: نعم. قال العُقيلي: قد رواه قُرَّان بن تَمَّام عن أيمن بن نابل عن قدامة بهذا اللفظ، ولم يتابع عليه، وروى الناسُ: الثوريّ وجماعةٌ عن أيمن عن قدامة بلفظ: "يرمي الجمرة". 88 - الحسن بن صالح بن حَيّ (¬2): قال أبو صالح الفراء: ذكرت ليوسف بن أسباط عن وكيع شيئًا من أمر الفتن، فقال: ذاك يشبه أستاذه، يعني الحسن بن حيّ، فقلت ليوسف: أما تخاف أن تكون هذه غيبة؟ فقال: لِمَ يا أحمق؟ أنا خيرٌ لهؤلاء من آبائهم وأمهاتهم، أنا أنهى الناس أن يعملوا بما أحدثوا فتتبعهم أوزارُهم، ومن أطراهم كان أضرَّ عليهم. قال ابن نُمير: كان أبو نعيم يقول: ما رأيت أحدًا إلا وقد غلط في شيء غير الحسن بن صالح. ¬

_ (¬1) ت الكمال: 2/ 131، التهذيب: 2/ 281، الميزان: 2/ 16. (¬2) ت الكمال: 2/ 133، التهذيب: 2/ 285، الميزان: 2/ 19.

89 - الحسن بن عُبيد الله بن عروة النَّخَعي (¬1): وثّقه ابن معين والعجلي وأبو حاتم والنسائي وغيرهم. وقال البخاري: لم أخرج حديث الحسن بن عبيد الله؛ لأن عامَّة حديثه مضطرب. 90 - الحسن بن علي النوفلي (¬2): قال البخاري: منكر الحديث. وكذا قال غيره. زاد أبو حاتم: روى ثلاثة أحاديث أو أربعة أو نحوها مناكير. وقال الحاكم وأبو سعيد النقاش: يحدِّث عن أبي الزِّناد بأحاديث موضوعة. له عند الترمذي وابن ماجه حديثه عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعًا: "أمرني جبرائيل بالنضح" (¬3). وقد روي بهذا الإسناد مرفوعًا: "لا يمنعنَّ أحدُكم السائل أن يعطيه وإن كان في يده قُلْب من ذهب". كذا في "التهذيب" (¬4). وفي "الميزان": "لا يمنعن أحد منكم السائل وإن رأى في يده قُلْبَين من ذهب". [ص 21] قال العُقيلي (¬5) في الأول: جاء بإسناد صالح غير هذا. ¬

_ (¬1) ت الكمال: 2/ 138، التهذيب: 2/ 292. (¬2) ت الكمال: 2/ 153، التهذيب: 2/ 303 - 304، الميزان: 2/ 28. (¬3) الترمذي (50)، وابن ماجه (463). (¬4) طبعة "التهذيب" كثيرة الأخطاء وهذا منها. (¬5) "الضعفاء": (1/ 234).

وقال في الثاني: لا يُحفظ إلا عنه، ولا يتابع عليه. وقال ابن حبان: حديث باطلٌ (¬1). 91 - الحسن بن يحيى الخُشَني (¬2): ضعّفه ابن معين والنسائي وغيرهما. وفي "التهذيب": وقال ابن أبي مريم عن ابن معين: ثقة خراساني. وأخشى أن يكون يحيى إنما قال هذا في الحسن بن يحيى البصري، نزيل خراسان (¬3). وقد أشرتُ إلى ذلك بهامش نسختي من "التهذيب". وفي "التهذيب" عن دُحَيم قال: لا بأس به. وعن الآجُرّي عن أبي داود: سمعت أحمد يقول: ليس به بأس. وقد يحتمل في هذين أن يكونا إنما قالا ذلك في البصري. والله أعلم. وحطّ عليه ابن حبان وذكر حديثه عن سعيد بن عبد العزيز عن يزيد بن أبي مالك عن أنس: "ما من نبي يموت فيقيم في قبره أربعين صباحًا ... " الحديث. وقال: هذا باطل موضوع. وأورد له ابن عديّ أحاديث، منها: ¬

_ (¬1) ذكر ابن حبان في "المجروحين": (1/ 234 - 235) (ق/ 79 - 80) للنوفلي حديثين: الأول حديث النضح. والثاني حديث: "ما زال جبريل يوصيني بالمملوك ... ". وقال: جميعًا باطلان. ولم يذكر حديث القلبين من ذهب. (¬2) ت الكمال: 2/ 171، التهذيب: 2/ 326، الميزان: 2/ 47. (¬3) ولابن أبي مريم رواية عن ابن معين في توثيق هذا الخراساني نقلها في "التهذيب".

حديثه عن هشام بن عُروة عن أبيه عن عائشة مرفوعًا: "من وقَّر صاحبَ بدعة فقد أعان على هدم الإسلام". وحديثه عن ابن ثوبان عن أبيه عن مكحول عن كثير بن مُرّة عن معاذ مرفوعًا: "تنزلون منزلًا يقال له: الجابية، أو الجويبية (¬1)، يصيبكم فيها داء مثل غدّة الجمل ... " الحديث. 92 - حسين بن الحسن الأشقر (¬2): قال البخاري: فيه نظر. وقال مرة: عنده مناكير. وقال أبو زُرعة: منكر الحديث. وقال ابن معين: كان من الشيعة الغالية. قيل: فكيف حديثه؟ قال: لا بأس به. قيل: صدوق؟ قال: نعم، كتبت عنه. وقال أحمد: لم يكن عندي ممن يكذب (¬3). فقيل له: روى عن ابن عُيينة عن ابن طاووس عن أبيه عن حُجر المَدَري: قال: [قال] لي عليّ: إنك ستُعْرض على سَبِّي فَسُبَّني، وتعرض على البراءة مني فلا تتبرأ مني. فاستعظمه أحمد وأنكره. قال: وبه إلى طاووس: أخبرني [ص 22] أربعة من الصحابة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه". فأنكره جدًّا، وكأنه لم يشكّ أن هذين كذب. (يعني على ابن عُيينة). وقال عليّ بن المديني فيهما: "هما كذب، ليسا من حديث ابن عُيينة". ¬

_ (¬1) الأصل: "الجوبية". والتصويب من "الكامل": (2/ 324)، والميزان. (¬2) ت الكمال: 2/ 177، التهذيب: 2/ 335 - 336، الميزان: 2/ 54. (¬3) هذه رواية الأثرم، وفي رواية ابن هانئ: (2/ 243): منكر الحديث صدوق.

وذكر العُقيلي (¬1) حديثه عن ابن عُيينة عن ابن أبي نَجيح عن مجاهد عن ابن عباس رفعه: "السُّبَّاق ثلاثة" - ويأتي في ترجمة الحسين بن المتوكل (¬2) - قال العُقيلي: لا أصل له عن ابن عُيينة. وذكر له أيضًا: عن قيس بن الربيع عن يونس عن أبيه عن علي رضي الله عنه: أتيتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - برأس مَرْحَب. قال: لا يتابع عليه، ولا يعرف إلا به. وقال الأزدي: ضعيف، سمعت أبا يعلى قال: سمعت أبا مَعْمر الهُذَلي يقول: الأشقر كذّاب. 93 - الحسين بن علي بن الأسود العِجْلي (¬3): سمع منه أبو حاتم وقال: صدوق. وقال ابن عديّ: يسرق الحديث، وأحاديثه لا يتابع عليها. وقال الأزدي: ضعيف جدًّا، يتكلمون في حديثه. وقال ابن حبان في "الثقات" (¬4): ربما أخطأ. 94 - الحسين بن عياش الرَّقّي (¬5): قال النسائي: ثقة. وضعّفه الساجي والأزدي. قال الذهبي: بلا مستند، غير انفراده عن جعفر بن بُرْقان عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة مرفوعًا: "لا نكاح إلا بولي، والسلطانُ وليّ من لا وليّ له". ¬

_ (¬1) "الضعفاء": (1/ 249). (¬2) رقم (96). (¬3) ت الكمال: 2/ 182، التهذيب: 2/ 343، الميزان: 2/ 66. (¬4) (8/ 190). (¬5) ت الكمال: 2/ 198، التهذيب: 2/ 362، الميزان: 2/ 68.

95 - الحسين بن عيسى بن مسلم الحَنَفي (¬1): روى عنه جماعة. قال البخاري: مجهول وحديثه منكر. وقال أبو زُرعة: منكر الحديث. وقال أبو حاتم: ليس بالقوي، روى عن الحكم بن أبان أحاديث منكرة. وقال ابن عديّ: له من الحديث شيءٌ قليلٌ، وعامة حديثه غرائب، وفي بعض حديثه مناكير. أخرج له أبو داود وابن ماجه (¬2) حديث: "ليؤذِّن لكم خياركم، وليؤمكم قُرَّاؤكم" وهو الذي أشار إليه البخاري. 96 - [ص 23] الحسين بن المتوكِّل (¬3): كذَّبه أخوه محمَّد، وابنُ بنت أخته أبو عَروبة. وذكره ابن حبان في "الثقات" (¬4)، وقال: يُخطئ ويُغرِب. ذكر له في "الميزان" عن حسين بن حسن الأشقر عن ابن عُيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس رفعه: "السُّبَّق ثلاثة: يوشَع إلى موسى، ويس إلى عيسى، وعليّ إليَّ". 97 - حَشْرج بن نُباتة (¬5): وثّقه أحمد وابن معين وأبو داود وعباس بن عبد العظيم. وقال ¬

_ (¬1) ت الكمال: 2/ 199، التهذيب: 2/ 364، الميزان: 2/ 68. (¬2) أبو داود (590)، ابن ماجه (726). (¬3) ت الكمال: 2/ 200، التهذيب: 2/ 365 - 366، الميزان: 2/ 59، 69. (¬4) (8/ 189). (¬5) ت الكمال: 2/ 208، التهذيب: 2/ 377، الميزان: 2/ 74.

أبو زُرعة: لا بأس به، مستقيم الحديث. وقال أبو حاتم: صالح، يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال النسائي مرة: ليس به بأس. ومرة: ليس بالقوي. وأخرج له الترمذي (¬1) حديثًا واحدًا: "الخلافة في أمتي ثلاثون سنة". وحَسَّنه. وله عن سعيد بن جَمْهان عن سفينة في بناء المسجد، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ليضع أبو بكر حجره إلى جنب حجري ... " الحديث. وفيه: "هؤلاء الخلفاء بعدي". قال البخاري: لم يتابع عليه. قال ابن عديّ: قد قمت بعذره ... فأوردته بإسنادٍ آخر. قال ابن حجر: هو أضعف من الأول؛ لأنه من رواية محمَّد بن الفضل بن عطية، وهو ساقط. وقال الساجي: ضعيف. وقال ابن حبان: كان قليل الحديث، منكر الرواية، لا يجوز الاحتجاج بخبره إذا انفرد. 98 - حُصين بن عبد الرحمن الحارثي (¬2): عن الشعبي. وعنه إسماعيل بن أبي خالد وحجّاج بن أرطاة. قال أحمد: ليس يُعرف، ما رَوى عنه غير هذين، وأحاديثه مناكير. وذكره ابن حبان في "الثقات" (¬3). ¬

_ (¬1) رقم (2226). (¬2) ت الكمال: 2/ 212، التهذيب: 2/ 383، الميزان: 2/ 75. (¬3) (6/ 211). وقال الذهبي: صدوق إن شاء الله.

99 - حُصين بن عمر الأَحْمَسي (¬1): كذَّبه أحمد. وقال ابن معين: ليس بشيء. وقال ابن المديني: ليس بالقوي، روى عن مُخارق أحاديث منكرة. وقال البخاري وجماعة: منكر الحديث. أخرج له الترمذي (¬2) حديثه عن مُخارق [ص 24] بن عبد الله عن طارق عن عثمان بن عفان مرفوعًا: "مَن غشَّ العرب لم يدخل في شفاعتي، ولم تنله مودّتي". 100 - حَفْص بن غِياث (¬3): من أركان الحديث، ساء حفظه بأخرة، فوهَّموه في أحاديث. منها: حديثه عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر: كنا نأكل ونحن نمشي. قال ابن معين: تفرد، وما أراه إلا وَهَم فيه. وقال أحمد: ما أدري ماذا؟ وقال أبو زُرعة: رواه حَفْص وحده. وقال ابن المديني: إنما هو حديث أبي البَزَرَى. أقول: الحديث عند الترمذي (¬4) من طريق عمران بن حُدير عن أبي البَزَرى ¬

_ (¬1) ت الكمال: 2/ 213، التهذيب: 2/ 385، الميزان: 2/ 76. (¬2) رقم (3928). وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حصين بن عمر الأحمسي عن مخارق، وليس حصين عند أهل الحديث بذاك القوي. اهـ. (¬3) ت الكمال: 2/ 232، التهذيب: 2/ 415، الميزان: 2/ 90. (¬4) رقم (1880) وقال: هذا حديث صحيح غريب ... وقال في "العلل الكبير" (339) إنه سأل البخاري عن هذا الحديث فقال: هذا حديث فيه نظر. ثم بيّن الترمذي أنه لا =

عن ابن عمر: "كنا نأكل ونحن نسعى، ونشرب ونحن قيام" الحديث. 101 - الحكم بن ظُهَير (¬1): قال ابن معين: سمعت منه، وليس بثقة. وقال البخاري وغيره: متروك. ومما أنكروا عليه: حديثه عن عاصم عن زِرّ عن ابن مسعود مرفوعًا: "إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه". وحديثه عن زيد بن رُفَيع عن ميمون بن مِهْران عن ابن عباس مرفوعًا: "الوضوء قبل الطعام يجلب اليُسْر وينفي الفقر". وقال: "التقَلُّم يوم الجمعة يخرج الداء، ويدخل الشفاء". وحديثه عن السدِّي عن عبد الرحمن بن سابط (¬2) عن جابر، أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهوديٌّ فقال: أخبرني عن النجوم التي رآها يوسف ساجدة له. فلم يجبه، فأتاه جبريل فأخبره ... ". وحديثه عن [عاصم عن زِرّ عن عبد الله] (¬3): "إذا بويع لخليفتين .. ". 102 - [ص 25] الحَكَم بن عبد الله الأنصاري (¬4): روى عنه جماعة (¬5). وقال أبو حاتم: مجهول (¬6). ¬

_ = يُعرف عن عبيد الله إلا من رواية حفص. (¬1) ت الكمال: 2/ 242، التهذيب: 2/ 427، الميزان: 2/ 94. (¬2) الأصل: "السائب" خطأ. (¬3) بياض بالأصل، والاستدراك من "الضعفاء": (1/ 259) للعقيلي. (¬4) ت الكمال: 2/ 243، التهذيب: 2/ 429، الميزان: 2/ 98. (¬5) ووثقه البخاري وغيره. (¬6) تقدم نظير هذا عدة أمثلة عند رقم (84).

103 - الحكم بن عبد الملك القرشي (¬1): ضعّفه ابن معين وغيره. وقال أبو داود: منكر الحديث. وقال العُقيلي: روى أحاديث لا يتابع عليها. منها: لما قَرُب من مكة قال: "إن أبا سفيان قريب منكم فاحذروه". ومنها: "آمنَ الناسُ إلا أربعة". وقال ابن حبان: ينفرد عن الثقات بما لا يتابع عليه. وقال يعقوب بن شيبة: ضعيف الحديث جدًّا، له أحاديث مناكير. ومع هذا كله قال العِجْلي: ثقة! 104 - الحكم بن عطية العَيْشي (¬2): ضعّفه أبو الوليد الطيالسي، وليّنه سليمان بن حرب. وقال ابن معين: ثقة. وقال أحمد: لا بأس به، إلا أن أبا داود (الطيالسي) روى عنه أحاديث منكرة. وسئل أحمد عنه مرة فقال: لا أعلم إلا خيرًا. فقيل له: روى عن ثابت عن أنس قال: كان مهر أم سلمة متاعًا قيمته عشرة دراهم. فأقبل أحمد يتعجب. وقال: هؤلاء الشيوخ لم يكونوا يكتبون، إنما كانوا يحفظون ... ¬

_ = أقول: جاء في التهذيب: قال ابن أبي حاتم عن أبيه: "كان يحفظ وهو مجهول". والذي في "الجرح والتعديل": (3/ 122) "كان يحفظ" من كلام عبد الرحمن بن أبي حاتم، ثم قال: سألت أبي عنه فقال: مجهول. (¬1) ت الكمال: 2/ 244، التهذيب: 2/ 431، الميزان: 2/ 99. (¬2) ت الكمال: 2/ 246، التهذيب: 2/ 435، الميزان: 2/ 100.

أحدهم يسمع الشيء فيتوهم فيه. وقال أحمد مرة: كان عندي صالح الحديث، حتى وجدت له حديثًا أخطأ فيه. وقال المرُّوذي عن أحمد: حدَّث بمناكير (¬1). وفي "الميزان": أبو داود عن الحكم عن ثابت عن أنس ... الحديث المذكور آنفًا. وبه: "تسمونهم محمدًا ثم تلعنونهم". [ص 26] عن عبد الرحمن بن مهدي ثنا الحكم ثنا توبة العَنْبري عن أبي العالية: أن سائلاً سأل فألْحَف، فأعطته امرأة كسرة، فقال: لو ناولْتِ كلبًا كان خيرًا لك. وقال أبو حاتم: يُكتب حديثه، وليس بمنكر الحديث ... ليس هو بالمتين (¬2). 105 - د سي ق. الحكم بن مُصعب القرشي (¬3): عن محمَّد بن علي بن عبد الله بن عباس، وعنه الوليد بن مسلم. قال أبو حاتم: لا أعلم روى عنه غيره (¬4). ¬

_ (¬1) انظر أقوال الإمام أحمد في "موسوعة أقوال الإمام" (198). (¬2) كذا في الأصل ومثله في تهذيب الكمال والتهذيب، وفي "الجرح والتعديل": (3/ 126): "بالمتقن". (¬3) ت الكمال: 2/ 250، التهذيب: 2/ 439، الميزان: 2/ 103. (¬4) سيأتي ما فيه.

وذكره ابن حبان في "الثقات" (¬1) وقال: يُخطئ. له عندهم حديث واحد في لزوم الاستغفار. قال ابن حجر: هذا مُقِلٌّ جدًّا، فإن كان أخطأ فهو ضعيف. وقد قال أبو حاتم: مجهول. وذكره ابن حبان في "الضعفاء ... " (¬2) أيضًا، وقال: روى عنه أبو المغيرة أيضًا، لا يجوز الاحتجاج بحديثه، ولا الرواية عنه إلا على سبيل الاعتبار. انتهى. وهو تناقضٌ صعب. وقال الأزدي: لا يتابع على حديثه، فيه نظر. 106 - حكيم بن جُبير (¬3): له حديث (¬4) ت (2/ 339). 107 - حمزة بن أبي حمزة ميمون النَّصيبي (¬5): قال أحمد: مطروح الحديث. وقال ابن معين: ليس حديثه بشيء. وقال أيضًا: لا يساوي فَلْسًا. وقال البخاري وأبو حاتم: منكر الحديث. وقال النسائي والدارقطني: متروك الحديث. وقال أبو زُرعة: ضعيف الحديث. ¬

_ (¬1) (6/ 187). (¬2) (1/ 249) (ق/ 85). (¬3) الأسدي. ت الكمال: 2/ 257، التهذيب: 2/ 445، الميزان: 2/ 106. (¬4) "له حديث" ملحقة في رأس الصفحة، يشير المصنف إلى ما جاء في ترجمته من سؤال ابن المديني ليحيى بن سعيد: من تَرَكه؟ قال: شعبةُ من أجل حديث الصدقة. يعني حديث: "من سأل وله ما يُغنيه ... ". أخرجه أصحاب السنن. (¬5) ت الكمال: 2/ 293، التهذيب: 3/ 28 - 29، الميزان: 2/ 129.

وقال أبو داود: ليس بشيء. وقال ابن عديّ: عامة ما يرويه مناكير موضوعة، والبلاء منه. ومرة قال: يضع الحديث. وقال ابن حبان: ينفرد عن الثقات بالموضوعات، حتى كأنه المتعمّد لها، ولا تحلّ الرواية عنه. وقال الحاكم: يروي أحاديثَ موضوعة. ومن مناكيره (¬1): عن عطاء عن ابن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى على مقبرة، فقيل: يا رسول الله، أي مقبرة هذه؟ قال: "مقبرة بأرض العدو، يقال لها: عَسْقلان ... وعروس الجنة عسقلان". [ص 27] ومنها: عن نافع عن ابن عمر مرفوعًا: "لا تخللوا بالقَصَب، فإنه يورث الأكلة، فإن كنتم لا بدَّ فاعلين، فانتزعوا قشره الأعلى". ومنها: عن أبي الزبير عن جابر مرفوعًا: "من نسي أن يسمي على طعامه، فليقرأ إذا فرغ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ". 108 - حُميد بن الأسود (¬2): وثّقه أبو حاتم، وأخرج له البخاري في "الصحيح" (¬3) مقرونًا بغيره في موضعين. وقال أحمد: سبحان الله! ما أنكر ما يجيء به! وقال العُقيلي: كان عفّان يحمل عليه؛ لأنه روى حديثًا منكرًا. وقال الساجي والأزدي: صدوق عنده مناكير. ¬

_ (¬1) ذكرها في الميزان. (¬2) ت الكمال: 2/ 299، التهذيب: 3/ 36، الميزان: 2/ 132. (¬3) رقم (4536، 6016).

109 - خالد بن عُبيد العَتَكي (¬1): قال أحمد بن سيّار: كان شيخًا نبيلاً، وكان العلماء يعظِّمونه، وكان ابن المبارك ربما سوَّى عليه ثيابه إذا ركب. وقال ابن عديّ: عن العباس بن مُصعب، ثنا العلاء بن عمران، أنا خالد بن عُبيد [سمعتُ أنسًا]، فذكر عشرة أحاديث منكرات. قال العباس: وكان الشيخ رجلاً صالحًا، ولا أدري كيف هذا؟ وقال ابن حبان: يروي عن أنس نسخة موضوعة ما لها أصول، يعرفها من ليس الحديث صناعته أنها موضوعة، لا يحلُّ كَتْب حديثه إلا على جهة التعجب. منها: عن أنس عن سلمان مرفوعًا لعلي: "هذا وصيي، وموضع سرِّي، وخير من أترك بعدي" (¬2). قال البخاري: في حديثه نظر. وقال الحاكم: حدث عن أنس بأحاديث موضوعة. 110 - [ص 28] الخليل بن زكريا الشيباني (¬3): قال جعفر الصائغ: سمعتُ الخليل يقول، وكان ثقة مأمونًا. وقال القاسم المُطرِّز: ثنا جعفر الصائغ ثنا الخليل بن زكريا. قال القاسم: وهو والله كذّاب. ¬

_ (¬1) ت الكمال: 2/ 357، التهذيب: 3/ 105، الميزان: 2/ 157. (¬2) "المجروحين": (1/ 279) (ق/ 93). (¬3) ت الكمال: 2/ 402، التهذيب: 3/ 166، الميزان: 2/ 190.

وقال العُقيلي: يحدّث عن الثقات بالبواطيل. وقال ابن عديّ بعد أن أورد له أحاديث: وهذه الأحاديث مناكير كلها من جهة الإسناد والمتن جميعًا، ولم أر لمن تقدم فيه قولاً، وقد تكلموا فيمن كان خيرًا منه بدرجات؛ لأن عامة أحاديثه مناكير. وقال صالح بن محمَّد: لا يكتب حديثه. وقال الساجي: يخالف في بعض حديثه. وقال ابن السّكَن: قدم بغداد وحدَّث بها (¬1) عن ابن عَون، وحبيب بن الشهيد، أحاديث مناكير لم يروها غيره. وفي "الميزان": ومن أنكَرِ ما له: حديثه عن ابن عون عن نافع عن ابن عمر: مرّ نبي الله - صلى الله عليه وسلم - بعُسْفان، فرأى مُجَذّمين، [فأسرع] وقال: "إنْ كان شيء من الداء يُعدي فهذا". 111 - [ص 29] خلَّاد بن يحيى (¬2): روى عنه البخاري في "الصحيح" (¬3). وقال ابن نُمير: صدوق إلا أنّ في حديثه غلطًا قليلاً. وقال الدارقطني: ثقة، إنما أخطأ في حديث واحد ... رفعه، ووقفه الناس. 112 - داود بن الحُصين (¬4): وثّقه جماعة، وليّنه آخرون، واستنكر ابن المديني وأبو داود أحاديثه عن ¬

_ (¬1) تحتمل في الأصل: "فيها". (¬2) ابن صفوان السّلمي. ت الكمال: 2/ 407، التهذيب: 3/ 174، الميزان: 2/ 180. (¬3) نقل مغلطاي (4/ 234) عن كتاب "الزهرة": "أربعة أحاديث". (¬4) ت الكمال: 2/ 412، التهذيب: 3/ 181، الميزان: 2/ 195.

عكرمة، حتى قال ابن المديني: مرسل الشعبي أحب إليَّ من داود عن عكرمة عن ابن عباس. (مسند 1/ 300) (¬1). 113 - [ص 30] رُبَيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري (¬2): روى عنه عدة. وزعم أحمد بن حَفْص السعدي - وليس بثقة - أن أحمد قال: ليس بمعروف. وقال البخاري: منكر الحديث. وذكره ابن حبان في "الثقات" (¬3). 114 - الربيع بن عبد الله بن خُطَّاف (¬4): وثّقه ابن مهدي. فذكر ذلك للقطان، فجعل يضرب فخذه تعجُّبًا من ابن مهدي، ونهى عن الرواية عنه، وقال: أنا أعلم به. وقال أحمد: ثقة. وقال ابن عديّ: لم أر له حديثًا يتهيأ لي (¬5) أن أقول من أي جهة إنه ضعيف. 115 - ربيعة بن سيف بن ماتِع (¬6): تابعي. قال البخاري في موضع: روى أحاديث لا يتابع عليها. وفي آخر: عنده مناكير. وكذا قال ابن يونس. وقال النسائي في موضع: ليس به ¬

_ (¬1) حديث: طلّق ركانة امرأته ... في مجلس واحد. من طريق داود عن عكرمة عن ابن عباس. (¬2) ت الكمال: 2/ 455، التهذيب: 3/ 238، الميزان: 2/ 228. (¬3) (6/ 309). (¬4) ت الكمال: 2/ 463، التهذيب: 3/ 249، الميزان: 2/ 232. (¬5) الأصل: "له" والمثبت من "الكامل" (3/ 136) والتهذيب. (¬6) ت الكمال: 2/ 467، التهذيب: 3/ 255، الميزان: 2/ 233.

بأس. وقال في "السنن" (¬1) بعد ذكر حديثه في قصة فاطمة في النهي عن بلوغ الكدى: ضعيف. وقال ابن حبان في "الثقات" (¬2): يُخطئ كثيرًا. وقال العِجْلي: ثقة. وقال الدارقطني: صالح. وله حديث منكر جدًّا في ترجمة عبد الله بن صالح كاتب الليث من "الميزان" (¬3). وآخر (¬4) في [ترجمة هشام بن سعد] (¬5). 116 - خ د. الربيع بن يحيى بن مِقْسَم (¬6): روى عنه البخاري في "الصحيح" (¬7). وقال أبو حاتم: ثقة ثبت. وقال ابن قانع: ضعيف. وقال الدارقطني: ضعيف يُخطئ كثيرًا، حدث عن الثوريّ عن ابن المُنْكَدِر عن جابر: جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الصلاتين. وهذا حديث ليس لابن المُنْكَدِر فيه ناقة ولا جمل، [ص 31] وهذا يسقط مائة ألف حديث. وقال أبو حاتم في "العلل" (¬8): هذا باطل عن الثوري (¬9). ¬

_ (¬1) رقم (1880). (¬2) (6/ 301). (¬3) (3/ 157). (¬4) الميزان: (5/ 424). (¬5) ما بينهما طمس في الأصل. (¬6) ت الكمال: 2/ 466، التهذيب: 3/ 252، الميزان: 2/ 233. (¬7) نقل مغلطاي (4/ 346) عن كتاب الزهرة: "ثلاثة أحاديث". وانظر البخاري رقم (3385). (¬8) رقم (313). (¬9) إلى هنا من كلام ابن حجر في التهذيب.

وفي "مقدمة الفتح" (¬1): "قال الدارقطني: يُخطئ كثيرًا عن الثوريّ وشعبة. قلت: ما أخرج عنه البخاري إلا من حديثه عن زائدة فقط". وفي "الميزان": وأما الدارقطني فقال: ضعيف يُخطئ كثيرًا، قد أتى عن الثوريِّ بخبر منكر، عن محمَّد بن المُنْكَدِر عن جابر في الجمع بين الصلاتين. قال بعض الحُفّاظ: هذا يُسْقِط كذا كذا ألف حديث (¬2). 117 - داود بن أبي صالح الليثي المدني (¬3): عن نافع عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يمشي الرجل بين المرأتين. وعنه جماعة. قال البخاري: لا يتابع عليه، ولا يعرف إلا به. وقال أبو زُرعة: لا أعرفه إلا في حديث واحد، وهو حديث منكر. وقال أبو حاتم: مجهول، حدَّث بحديث منكر. وقال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الثقات حتى كأنه يتعمد. 118 - داود بن أبي عَوف سُويد التميمي البُرْجُمي (¬4): شيعي، كان الثوريّ يوثّقه ويعظّمه، ووثّقه أحمد ويحيى، وقال النسائي: ليس به بأس. وقال ابن حبان في "الثقات" (¬5): يُخطئ. ¬

_ (¬1) (ص/422). (¬2) قاله الدارقطني في "سؤالات الحاكم" (319) لكن فيه: "مائة ألف حديث". (¬3) ت الكمال: 2/ 417، التهذيب: 3/ 188، الميزان: 2/ 199. (¬4) ت الكمال: 2/ 423، التهذيب: 3/ 196، الميزان: 2/ 208. (¬5) (6/ 280).

وقال العُقيلي: كان من غُلاة الشيعة (¬1). وقال الأزدي: زائغ ضعيف. 119 - [ص 32] دُرُسْت بن زياد العَنْبري (¬2): قال ابن معين: لا شيء. وقال أبو زُرعة: واهي الحديث. وقال البخاري وأبو حاتم: حديثه ليس بالقائم (¬3). زاد أبو حاتم: عامته عن يزيد الرَّقاشي، ليس يمكن أن يُعتبر بحديثه. يعني: أن يزيد ضعيف أيضًا، فلا يُدْرى البلاء في تلك الأحاديث منه أم من دُرُست. 120 - رَوح بن جَناح (¬4): قال دُحَيم: ثقة إلا أن مروان - يعني أخاه - أوثق منه. وقال أبو حاتم: يُكتب حديثهما ولا يحتجّ بهما، ورَوح ليس بالقوي. وقال النسائي: ليس بالقوي. وأنكر عليه الجُوزجاني والعُقيلي والحاكم أبو أحمد حديثَه عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة مرفوعًا: "في السماء الدنيا بيتٌ يقال له: البيت المعمور ... " الحديث. ساقه في "الميزان". قال أبو أحمد: منكر، لا نعلم له أصلاً من حديث أبي هريرة، ولا من ¬

_ (¬1) في المطبوعة: (2/ 37): "كان من الشيعة". واتهمه بالغلو في التشيع ابن عدي في "الكامل": (3/ 83). (¬2) ت الكمال: 2/ 433، التهذيب: 3/ 209، الميزان: 2/ 216. (¬3) تحرف قول البخاري في التهذيب إلى: "بالقديم"! (¬4) ت الكمال: 2/ 492، التهذيب: 3/ 292، الميزان: 2/ 247.

حديث سعيد بن المسيب، ولا من حديث الزهري. أخرج له الترمذي والنسائي (¬1) من حديثه عن مجاهد عن ابن عباس مرفوعًا: "فقيهٌ واحد أشدّ على الشيطان من ألف عابد" (¬2). قال الساجي: منكر. وقال ابن حبان: منكر الحديث جدًّا، يروي عن الثقات ما إذا سمعه الإنسان شهد له بالوضع. وذكر هذا الحديث. 121 - زافر بن سليمان (¬3): قال أحمد وابن معين وأبو داود: ثقة. زاد أبو داود: كان رجلاً صالحًا. وقال البخاري: عنده مراسيل ووهم. وقال النسائي: ليس بذاك القوي. وأنكر عليه البخاري والنسائي حديثه عن مالك عن يحيى بن سعيد عن أنس: لما كان اليوم الذي احتلمت فيه ... (¬4). [ص 33] قال النسائي: منكر. وقال البخاري: تفرد به عن مالك. 122 - زائدة بن أبي الرُّقاد (¬5): قال أبو حاتم: يحدّث عن زياد النُميري عن أنس أحاديث مرفوعة ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، وصوابه: "ابن ماجه". والنسائي لم يخرج له شيئًا. (¬2) الترمذي (2681)، ابن ماجه (222). (¬3) ت الكمال: 3/ 6، التهذيب: 3/ 304، الميزان: 2/ 253. (¬4) أخرجه ابن المقري في "معجمه" رقم (256)، وابن عدي: (3/ 232)، والخطيب في "تاريخه": (8/ 494). (¬5) ت الكمال: 3/ 6 - 7، التهذيب: 3/ 305، الميزان: 2/ 255.

منكرة، ولا ندري منه أو من زياد، ولا أعلم روى عن غير زياد، فكنا نعتبر بحديثه. (يعني أن زيادًا ضعيف، فلا يُدرى البلاء منه أو من زائدة، ولو كان لزائدة أحاديث عن غير زياد لاعْتُبِرت، ليُعرف حاله منها). وقال البخاري: منكر الحديث. وقال النسائي مرة: لا أدري من هو (¬1). ومرة: منكر الحديث. ومرة: ليس بثقة. ومع هذا أخرج له حديثًا واحدًا في قول: "تلك اللوطية الصغرى" (¬2). وقال أبو داود: لا أعرف خبره. 123 - زهير بن مرزوق (¬3): علي بن غراب عن زهير عن علي بن زيد بن جُدعان عن سعيد بن المسيب عن عائشة: أنها قالت: يا رسول الله، ما الشيء الذي لا يحلُّ منعه؟ قال: "الماء والملح والنار". قالت: قلت: يا رسول الله، هذا الماء قد عرفناه، فما بال الملح والنار؟ قال: "يا حُميراء، من أعطى نارًا فكأنما تصدَّق بجميع ما أنضجت تلك النار، ومن أعطى مِلْحًا فكأنما تصدق بجميع ما طَيَّب ذلك الملح، ومن سقى مسلمًا شَربة من ماء حيث يوجد الماء، فكأنما أعتق رقبة، ومن سقى مسلمًا شربة من ماء حيث لا يوجد الماء فكأنما أحياها. ¬

_ (¬1) قال د/ بشار عواد في حاشية تهذيب الكمال - تبعًا لمغلطاي -: "لا أعلم من أين نقل المزي قول النسائي: لا أدري من هو"؟. قلت: قاله في "السنن الكبرى": (8/ 196) وزاد: "هو مجهول". (¬2) "السنن الكبرى" رقم (8947). (¬3) ت الكمال: 3/ 38، التهذيب: 3/ 350، الميزان: 2/ 275.

[ص 34] قال البخاري: منكر الحديث، مجهول. وقال ابن معين: لا أعرفه. قال ابن عديّ: إنما لم يعرفه ابن معين, لأن له حديثًا واحدًا معضلاً. والحديث أخرجه ابن ماجه (¬1)، وذكره ابن الجوزي في "الموضوعات" (¬2)، وأعله بعلي بن زيد. وكذلك ضعفه الهيثمي في "الزوائد" (¬3) قال: لضعف علي بن زيد. كذا قالا! وعلي بن زيد مُضَعَّف، ولكن ما أراه يحتمل هذا، وعلي بن غراب مضعَّف أيضًا ومدلس. فهذا وجه قول ابن معين: لا أعرفه (¬4). 124 - زياد بن عِلاقة (¬5): وثقوه، وقال الأزدي: سيئ المذهب، كان منحرفًا عن أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم -. 125 - زيد بن جَبِيرة بن محمود (¬6): قال ابن معين: لا شيء. وقال البخاري: منكر (¬7) الحديث. وقال مرة: ¬

_ (¬1) رقم (2474). (¬2) رقم (1080). (¬3) كذا قال المؤلف، وهو سبق قلم، فإن الذي ذكره في "الزوائد" وضعفه بعلي بن زيد هو البوصيري في "مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه": (2/ 55). أما الهيثمي في "مجمع الزوائد": (3/ 133) فقد ذكره ثم قال: "رواه ابن ماجه باختصار ورواه الطبراني في الأوسط وفيه زهير بن مرزوق قال البخاري: مجهول منكر الحديث". (¬4) أي لم يتبين أمره لابن معين؛ لأن في الإسناد غيره ممن يضعّف فلا يدرى الوهم ممن، إذ يحتمل أن يكون الواهم غير زهير بن مرزوق. (¬5) ت الكمال: 3/ 55، التهذيب: 3/ 380. (¬6) ت الكمال: 3/ 69، التهذيب: 3/ 400، الميزان: 2/ 289. (¬7) الأصل: "متروك" سهو.

متروك الحديث. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث، منكر الحديث جدًّا، متروك الحديث، لا يكتب حديثه. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال الساجي: حدَّث عن داود بن الحُصَين بحديث منكر جدًّا. يعني حديث النهي عن الصلاة في سبعة مواطن (¬1). 126 - [ص 35] زيد بن حِبّان الرَّقّي (¬2): قال ابن معين مرة: لا شيء. ومرة: ثقة (¬3). وقال العُقيلي: حدَّث عن مِسْعر بحديث لا يتابع عليه. وقال ابن عديّ: لا أرى برواياته بأسًا، يحمل بعضها بعضًا. 127 - زيد بن الحواري (¬4): قال أحمد: صالح، وهو فوق يزيد الرقاشي، وفضل بن عيسى. وقال ابن معين مرة: صالح. ومرة: لا شيء. ومرة: يكتب حديثه، وهو ضعيف. وليّنه جماعة، فقال العِجْلي: بصري ضعيف الحديث، ليس بشيء. وقال الحسن بن سفيان: ثقة. وقال ابن حبان: يروي عن أنس أشياء موضوعة لا أصول لها، حتى يسبق إلى القلب أنه المتعمّد لها ... وهو الذي روى عن أنس مرفوعًا: "من احتجم يوم الثلاثاء لسبع عشرة من الشهر كان دواء سنة". 128 - زيد بن عيَّاش، أبو عيّاش الزُّرَقي (¬5)، ويقال: المخزومي، ¬

_ (¬1) أخرجه من طريقه الترمذي (346). (¬2) ت الكمال: 3/ 73، التهذيب: 3/ 404، الميزان: 2/ 291. (¬3) هذه الرواية نقلها ابن عدي عن عثمان الدارمي، وليست في "تاريخه" المطبوع. (¬4) ت الكمال: 3/ 75، التهذيب: 3/ 407، الميزان: 2/ 292. (¬5) ت الكمال: 3/ 85, التهذيب: 3/ 423، الميزان: 2/ 295.

ويقال: مولى بني زُهرة: روى عنه عبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان، وعمران بن أبي أنس (¬1) السلمي. روى له أهل السنن حديثًا واحدًا في النهي عن بيع الرطب بالتمر (¬2). قال أبو حنيفة: مجهول. وقال الدارقطني: ثقة. وصحح حديثه الترمذي وابن خُزيمة وابن حبان والحاكم. 129 - السري (¬3): 130 - سعيد بن أوس بن ثابت، أبو زيد الأنصاري (¬4)، إمام اللغة: وثّقه جماعة، وقال ابن حبان: يروي عن ابن عون ما ليس من حديثه، لا يجوز الاحتجاج بما انفرد به من الأخبار، ولا الاعتبار إلا بما وافق فيه الثقات، وهو الذي روى عن ابن عون عن ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أسفر بالفجر، فإنه أعظم للأجر". وليس هو [ص 36] من حديث ابن عون، ولا ابن سيرين، ولا أبي هريرة، إنما هذا المتن من حديث رافع بن خَديج، وهذا مما لا يشكّ عوام أصحابنا أنه مقلوب أو معمول. ¬

_ (¬1) في الأصل: "أنس" بلا نقط، ووضع فوقها علامة للمراجعة، وفي "التهذيب": "أنيس" وصوابه من المصادر. (¬2) أبو داود (3360)، الترمذي (1225)، النسائي (4545)، وابن ماجه (2264). (¬3) كذا بيّض له المؤلف، وفي "التهذيب" ممن اسمه السري أربعة. (¬4) ت الكمال: 3/ 134، التهذيب: 4/ 3، الميزان: 2/ 316.

131 - سعيد بن داود بن سعيد بن أبي زَنْبَر (¬1): روى عنه البخاري في "الأدب" (¬2)، واستشهد به في "الصحيح" (¬3) تعليقًا، وضعّفه ابن المديني وابن معين وغيرهما. وقال أبو زُرعة: ضعيف الحديث، حدَّث عن مالك عن أبي الزِّناد عن خارجة بن زيد عن أبيه بحديث باطل ... يعني حديث: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعطى الزبير يوم خيبر أربعة أسهم. 132 - سعيد بن محمَّد الورَّاق (¬4): سكن بغداد. روى عنه أحمد وقال: لم يكن بذاك. وقد حكوا عنه عن يحيى بن سعيد عن عروة عن عائشة حديثًا منكرًا في السخاء. وضعَّفه ابن معين وغيره. وقال ابن عديّ: ويتبين على رواياته الضعف. وقال الساجي: حدَّث بأحاديث لا يتابع عليها. وقال الحاكم: هو ثقة، [و] ضعَّفه أبو خيثمة. 133 - سَلْم بن قيس العلوي البصري (¬5): غَمَزه شُعبة وأبو داود والنسائي والساجي. وقيل لأبي زرعة: سَلْم أحبّ إليك أو يزيد الرَّقاشي؟ قال: سلم؛ لأنه روى عن أنس حديثين أو ثلاثة، ويزيد أكثر. ¬

_ (¬1) ت الكمال: 3/ 155، التهذيب: 4/ 24، الميزان: 2/ 323. (¬2) بعد رقم (7412). (¬3) رقم (440). (¬4) ت الكمال: 3/ 194، التهذيب: 4/ 77، الميزان: 2/ 346. (¬5) ت الكمال: 3/ 237، التهذيب: 4/ 135، الميزان: 2/ 377.

وعن ابن معين: ثقة (¬1). وقال ابن عديّ: سَلْم مقلّ، له نحو الخمسة، وبهذا القَدْر لا يعتبر أنه صدوق أو ضعيف، لا سيما إذا لم يكن فيما يرويه منكر. 134 - خ ت ق. سلمة بن رجاء التَّمِيمي (¬2): قال ابن معين: ليس بشيء. وقال أبو زُرعة: صدوق. وقال أبو حاتم: ما بحديثه بأس. وقال ابن عديّ: أحاديثه أفراد وغرائب، حدَّث [ص 37] بأحاديث لا يتابع عليها. وقال النسائي: ضعيف. وقال الدارقطني: ينفرد عن الثقات بأحاديث. 135 - سلمة بن ورَدْان (¬3): لم يرو عنه ابن مهدي والقطان. وقال أحمد: منكر الحديث، ضعيف الحديث. وقال ابن معين: ليس بشيء. وقال أبو حاتم: ليس بقوي، وتدبّرتُ حديثه فوجدت عامتها منكرة. وضعفه أيضًا أبو داود والنسائي والعِجْلي والدارقطني وابن حبان وابن عديّ. وحكى ابنُ شاهين (¬4) أن أحمد بن صالح المصري قال: هو عندي ثقة حسن الحديث. ¬

_ (¬1) جاء توثيقه عن ابن معين في روايات خمس عنه (ابن محرز، وابن طهمان، أحمد بن عبد السلام، ابن أبي مريم، ابن شاهين). وضعفه في رواية ابن أبي خيثمة. (¬2) ت الكمال: 3/ 246، التهذيب: 4/ 144، الميزان: 2/ 379. ووقع في "التقريب" بخط الحافظ: "التيمي". (¬3) ت الكمال: 3/ 256، التهذيب: 4/ 160، الميزان: 2/ 383. (¬4) في "الثقات - الجزء الساقط" (ص/ 68).

136 - سليمان بن حيّان، أبو خالد الأحمر (¬1): عظّمه وكيع. وقال ابن المديني: ثقة. وكذا قال ابن معين مرة. وقال مرة: صدوق وليس بحجة. ومرة: ليس به بأس، وكذا قال النسائي. وقال العِجْلي: ثقة ثبت. وقال البزار (¬2): ليس ممن يلزم بزيادته حجة؛ لاتفاق أهل العلم بالنقل أنه لم يكن حافظًا، وأنه قد روى أحاديث عن الأعمش وغيره لم يُتابع عليها. 137 - سليمان بن داود بن الجارود، أبو داود الطيالسي (¬3): قال أبو مسعود الرازي: سألت أحمد عنه فقال: ثقة صدوق، فقلت: إنه يُخطئ، فقال: يحتمل له. (يعني أنه مكثر، فإذا نُظِر إلى مقدار خطائه مع مقدار حديثه، كان الخطأ قليلًا بالنسبة، فيحتمل). [ص 38] وقال ابن عديّ: ... وليس بعَجبٍ ممن يحدِّث بأربعين ألف حديث من حفظه أن يُخطئ في أحاديث منها، يرفع أحاديث يوقفها غيره، ويوصل أحاديث يرسلها غيره. 138 - سليمان بن سفيان التيمي (¬4): قال ابن معين: روى عنه أبو عامر العَقَدي حديثَ الهلال، وليس بثقة. ¬

_ (¬1) ت الكمال: 3/ 271، التهذيب: 4/ 181، الميزان: 2/ 390. (¬2) في كتاب "السنن" كما نقله عنه مغلطاي: (6/ 50). (¬3) ت الكمال: 3/ 272، التهذيب: 4/ 182، الميزان: 2/ 393. (¬4) ت الكمال: 3/ 280, التهذيب: 4/ 194، الميزان: 2/ 399.

وقال ابن المديني: روى أحاديث منكرة. وقال البخاري: منكر الحديث. وكذا قال أبو زُرعة وزاد: روى عن عبد الله بن دينار ثلاثة أحاديث كلها، يعني مناكير، وإذا روى المجهولُ المنكرَ عن المعروفين، فهو كذا، كلمة ذكرها. وقال يعقوب بن شيبة: له أحاديث مناكير. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث، يروي عن الثقات أحاديث مناكير. أقول: وحديث الهلال، رواه عن بلال بن يحيى بن طلحة بن عُبيد الله عن أبيه عن جده: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رأى الهلال قال: "اللهم أهِلَّه علينا بالأمن والإيمان، والسلامة (¬1) والإسلام، ربي وربك الله". ذكره في "الميزان" ثم قال: العَقَدي عن (¬2) سليمان بن سفيان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن أبيه قال: لما نزلت {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود: 105] سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا عمر، كلٌّ ميسَّر لما خُلِق له". قال ابن عديّ: ما أظن له غيرهما. 139 - [ص 39] سليمان بن عُتْبة، أبو الربيع الداراني (¬3): قال أحمد: لا أعرفه. وقال ابن معين: لا شيء. وقال صالح بن محمَّد: روى أحاديث مناكير، وكان الهيثم بن خارجة وهشام بن عمّار يوثقانه. وقال أبو حاتم: ليس به بأس، هو محمود عند الدمشقيين. وقال دُحَيم: ¬

_ (¬1) "والسلامة" ليست في الميزان. (¬2) في الميزان: "حدثنا". (¬3) ت الكمال: 3/ 292، التهذيب: 4/ 210، الميزان: 2/ 404.

ثقة، قد روى عنه المشايخ. وقال أبو زُرعة عن أبي مُسْهر: ثقة. قلت: إنه يسند أحاديث عن أبي الدرداء. قال: هي يسيرة. 140 - سليمان بن عطاء بن قيس القرشي (¬1): قال البخاري: في حديثه مناكير. وقال أبو زُرعة: منكر الحديث. وكذا قال أبو حاتم، وزاد: يُكْتب حديثه. وقال ابن حبان: [شيخ] يروي عن مسلمة بن عبد الله الجهني عن عمه أبي مشجعة بن ربعي أشياء موضوعة لا تشبه حديث الثقات. ذكره في "التهذيب" ثم قال: قلت: لا أدري التخليط فيها منه أو من مسلمة؟. وحكاها في "الميزان" فقال: ... عن عمه أشياء موضوعة، فالتخليط منه أو من مسلمة. وقال ابن عديّ: في أحاديثه - وليس بالكثير مقدار ما يرويه - بعض الإنكار كما قال البخاري. وقد ساق في "الميزان" له مناكير عن مسلمة عن عمه. 141 - سليمان بن قَرْم (¬2): أخرج له مسلم (¬3). وقال عبد الله بن أحمد: كان أبي يتتبع حديث قُطْبة بن عبد العزيز، وسليمان بن قَرم، ويزيد بن عبد العزيز بن سِيَاه، وقال: هؤلاء قومٌ ثقات، وهم أتمّ حديثًا من سفيان وشعبة، وهم أصحاب كتب، ¬

_ (¬1) ت الكمال: 3/ 293، التهذيب: 4/ 211، الميزان: 2/ 404 - 406. (¬2) ت الكمال: 3/ 295، التهذيب: 4/ 213، الميزان: 2/ 409. (¬3) حديثًا واحدًا (2640) في المتابعات.

وإن كان سفيان وشعبة أحفظ منهم. وقال أحمد أيضًا: لا أرى به بأسًا، لكنه كان يفرط في التشيّع. [ص40] وقال ابن معين مرة: ضعيف. ومرة: ليس بشيء. وقال أبو زُرعة: ليس بذاك. وقال أبو حاتم: ليس بالمتين. وقال النسائي: ضعيف. وقال ابن عديّ: له أحاديث حِسَان أفراد، وهو خير من سليمان بن أرقم بكثير، وتدلّ صورته على أنه مُفرط في التشيّع. وقال في سليمان بن معاذ - وقد قال أبو حاتم وغيره إنه هو -: في بعض ما يروي مناكير. وقال الحاكم: غمزوه بالغلوّ في التشيّع وسوء الحفظ معًا. وقال ابن حبان: كان رافضيًا غاليًا في الرفض، ويقلب الأخبار مع ذلك. وذكر له في "الميزان" قال: قلت لعبد الله بن الحسن: في أهل قبلتنا كفار؟ قال: نعم، الرافضة. (أقول: هذا يدلّ على عدم غلوّه) (¬1). وعن ثابت عن أنس مرفوعًا: "طلب العلم فريضة على كل مسلم". قال: ورواه حسّان بن سِيَاه عن ثابت. أقول: حسّان تالف، وقد رُوي الحديث من وجوه أُخر ضعيفة، حتى حكم بعض الحُفّاظ المتأخرين أنه حسن لغيره. والأشبه أن سليمان سمعه من حسّان أو غيره ثم دلّسه أو أخطأ فيه. والله أعلم. ¬

_ (¬1) ما فهمه المصنف لعله بناه على أن سليمان بن قرم لم يردّ على عبد الله بن الحسن، وأنه نقل الخبر عنه فلو كان غاليًا لردّ عليه، أو كتم هذا القول عنه.

وله عن الأعمش عن عَمرو بن مُرّة عن عبد الله بن الحارث عن زهير بن الأقمر عن عبد الله بن عَمرو قال: كان الحَكَم بن أبي العاص يجلس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وينقل حديثه إلى قريش، فلعنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن يخرج من صُلبه إلى يوم القيامة. أقول: لا يبعد أن يكون هذا مما دلسه الأعمش، فإنه على إمامته فعول لمثل ذلك. والنكارة في هذا الحديث من وجهين: [ص 41] الأول: التفرد من هذا الوجه. الثاني: في قوله: "ومن يخرج من صلبه إلى يوم القيامة". فأما لعن الحكم فقد جاء من غير وجهٍ، وقد لعنه النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلًا بطرده من المدينة كراهية أن يجاوره فيها. وفي "المستدرك": (4/ 481) من طريق أحمد بن محمَّد الرشديني ثنا إبراهيم بن منصور ثنا المحاربي عن محمَّد بن سُوقة عن الشعبي عن عبد الله بن الزبير: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن الحَكَم وولدَه. قال الحاكم: صحيح. تعقَّبه الذهبي قال: الرشديني ضعفه ابن عديّ. وفيه من طريق جعفر بن سليمان ثنا علي بن الحكم البناني عن أبي الحسن الجزري عن عمرو بن مُرة الجهني - وكانت له صحبة -: أن الحكم بن أبي العاص استأذن على النبي - صلى الله عليه وسلم - فعرف صوته وكلامه، فقال: "ائذنوا له، عليه لعنة الله وعلى من يخرج من صلبه، إلا المؤمن منهم، وقليل ما هم ... ". قال الحاكم: "صحيح الإسناد". قال الذهبي: "لا والله فأبو الحسن من المجاهيل".

وفي "التهذيب" (¬1): قال ابن المديني: أبو الحسن الذي روى عن عَمرو بن مُرة، وعنه علي بن الحكم مجهول، ولا أدري سمع من عَمرو ابن مرة أم لا؟ وقال الحاكم في "المستدرك" (¬2): أبو الحسن هذا اسمه عبد الحميد بن عبد الرحمن ثقة مأمون. كذا قال! 142 - سُهَيل بن أبي حزم (¬3): قال أحمد: روى أحاديث منكرة. وقال البخاري: لا يتابع في حديثه، يتكلمون فيه. وقال أيضًا: ليس بالقوي عندهم. ونحو هذا عن أبي حاتم والنسائي. وقال ابن معين: صالح، وقال مرة: ضعيف. وقال ابن حبان: ينفرد عن الثقات بما لا يشبه حديث الأثبات. وقال ابن عديّ: مقدار ما يرويه أفراد ينفرد [ص 42] بها عمن [يرويه عنه] (¬4). ووثّقه العِجْلي. 143 - م ق. سُويد بن سعيد (¬5): قال أحمد: صالح. وقال أبو حاتم: كان صدوقًا، وكان يدلس. وقال البخاري: كان قد عمي، فيلَقَّن ما ليس من حديثه. وقال أبو زُرعة: أما كتبه فصحاح ... فأما إذا حدَّث من حفظه فلا. وقال أيضًا: قلنا لابن معين: إن ¬

_ (¬1) (12/ 73). (¬2) (1/ 172). (¬3) ت الكمال: 3/ 330 - 331، التهذيب: 4/ 261، الميزان: 2/ 434. (¬4) الأصل: "يروي" والتصحيح من "الكامل": (3/ 450). و"عنه" سقطت من "التهذيب". (¬5) ت الكمال: 3/ 337، التهذيب: 4/ 272، الميزان: 2/ 438.

سويدًا يحدِّث عن [ابن أبي الرجال عن] ابن أبي روَّاد عن نافع عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قال في ديننا برأيه فاقتلوه". فقال يحيى: ينبغي أن يُبدأ بسويد فيقتل. قيل لأبي زرعة: إن سويدًا يحدّث بهذا عن إسحاق بن نجيح، فقال: نعم، هذا حديث إسحاق. ثم قال: عسى قيل له (يعني: لسويد: إنه خطأ) فرجع. وقال النسائي: ليس بثقة ولا مأمون، أخبرني سليمان بن الأشعث قال: سمعت يحيى بن معين يقول: سُويد بن سعيد حلال الدم. ومما أنكروا عليه: حديثه عن عيسى بن يونس عن حَريز بن عثمان عن عبد الرحمن بن جُبير بن نُفير عن أبيه عن عَوف بن مالك رَفَعه قال: "تفترق هذه الأمة بضعًا وسبعين فرقة، شرها فرقةً قومٌ يقيسون الرأي، يستحلّون به الحرام، ويحرّمون به الحلال". قال ابن عديّ: وهذا إنما يُعرف بنُعيم بن حمَّاد، فتكلم الناس فيه بِجَرّاه (¬1). ثم رواه ... الحكم بن المبارك، ويقال: إنه لا بأس به، ثم سرقه قوم ضعفاء. وقال الدارقطني: تكلم فيه يحيى بن معين، وقال: حدَّث عن أبي معاوية عن الأعمش عن عطية عن أبي سعيد رَفَعه: "الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة". قال ابن معين: وهذا باطل عن أبي معاوية. [ص 43] قال الدارقطني: فلم يزل يُظنّ أن هذا كما قال يحيى، حتى ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، وفي "الكامل": (3/ 429)، و"التهذيب": "مجراه".

دخلت مصر ... فوجدت هذا الحديث في "مسند أبي يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن يونس البغدادي المِنْجنيقي" - وكان ثقة - رواه عن أبي كُريب عن أبي معاوية، كما قال سُويد سواء، وتخلَّص سويد. ومما أُنكر عليه: حديثه عن أبي مُسْهِر عن أبي يحيى القتَّات عن مجاهد عن ابن عباس رفعه: "من عَشِق وكتم وعفّ ومات مات شهيدًا". ذكر ابن حبان والحاكم أنه لما بلغ ابن معين أن سويدًا حدَّث بهذا الحديث، قال: لو كان لي فرس ورمح لكنت أغزوه. وقال أبو داود: سمعت يحيى بن معين، وقال له الفضل بن سهل الأعرج: يا أبا زكريا، سُويد عن مالك عن الزهري عن أنس عن أبي بكر: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهدى فرسًا لأبي جهل"؟ فقال يحيى: لو أنّ عندي فرسًا خرجت أغزوه. وقال مَسْلمة في "تاريخه": ثقة ثقة. روى عنه أبو داود. وله في "الميزان" مناكير أخرى، وفيه زيادة فيمن ضعَّفه. 144 - م ت س ق. سُويد بن عَمرو الكلبي (¬1): وثّقه ابن معين، والنسائي. وقال العِجْلي: ثقة ثبت. وقال ابن حبان: كان يقلب الأسانيد، ويضع على الأسانيد الصحاح المتون الواهية. أبو كُريب عنه عن حمَّاد عن أيوب وهشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة بحديث: "أحبب حبيبك هونًا ما"، وإنما هذا من قول علي. ¬

_ (¬1) ت الكمال: 3/ 340، التهذيب: 4/ 277، الميزان: 2/ 443.

أقول: الحديث أخرجه الترمذي (¬1) في أبواب البر والصِّلة [ص 44] من هذا الوجه (¬2)، ثم قال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا بهذا الإسناد من هذا الوجه، وقد رُوي هذا الحديث عن أيوب بإسنادٍ غير هذا، رواه الحسن بن أبي جعفر وهو حديث ضعيف أيضًا، بإسناد له عن عليّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، والصحيح عن علي موقوفٌ قولُه. 145 - ق. سلَّام بن سَلْم الطويل (¬3): قال أحمد: روى أحاديث منكرة. ونحوه عن ابن معين. وقال مرةً: ليس بشيء. والكلام فيه كثير، إلا أن ابن الجارود قال: ثنا إسحاق بن [إبراهيم ثنا إسحاق بن] عيسى ثنا سلَّام الطويل وكان ثقة. ومما أنكر عليه (¬4): حديثه عن حُميد عن أنس: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقت للنُّفساء أربعين يومًا". 146 - سيف بن محمَّد الثوري (¬5)، ابن أخت سفيان الثوري: قال أحمد: كان يضع الحديث. وكذَّبه ابن معين وأبو داود. وأشهر منكراته: حديثه عن عاصم الأحول عن أبي عثمان النهدي عن ¬

_ (¬1) رقم (1997). (¬2) كذا في الأصل. وفي الترمذي المطبوع و (ق 134 ب - نسخة الكروخي): " ... لا نعرفه بهذا الإسناد إلا من هذا الوجه .. ". (¬3) ت الكمال: 3/ 343، التهذيب: 4/ 281، الميزان: 2/ 365. (¬4) ذكره ابن حبان في "المجروحين": (1/ 339) من منكراته. (¬5) ت الكمال: 3/ 354، التهذيب: 4/ 296، الميزان: 2/ 446.

جرير بن عبد الله البَجَلي مرفوعًا: "تُبنى مدينة بين دجلة ودجيل ... " الحديث في شأن بغداد. وقد رواه أيضًا المُحاربي (¬1) عن عاصم، وأعلّه أحمد بقوله: كان المحاربي جليسًا لسيف، وأظن المحاربي سمعه منه. (يعني: فدلسه). قيل لأحمد: إن عبد العزيز بن أبان رواه عن سفيان. فقال: كل من رواه عن سفيان فهو كذّاب. [ص 45] قيل له: إن لُوَينًا حدثناه عن محمَّد بن جابر. فقال: كان محمَّد بن جابر ربما ألحق في كتابه. قال: وهذا الحديث كذب. أقول: وعبد العزيز بن أبان كذبوه في هذا الحديث وغيره. وقد اعتنى الخطيب في مقدمة "تاريخ بغداد" (¬2) بسياق طرق هذا الحديث وتعليلها. وقد رواه عمّار بن سيف، كما يأتي في ترجمته (¬3). 147 - شَبَابة بن سَوّار (¬4): ثقة عندهم، عابوا عليه الإرجاء. وذكر أبو زُرعة أنه رجع عنه. وقال يعقوب بن شيبة: سمعت علي بن عبد الله بن المديني، وقيل له: روى شبابة ¬

_ (¬1) الذي في المصادر سند واحد للحديث يرويه أحمد عن المحاربي عن عاصم به، فالظاهر أنه اشتبه على المصنف فظنها سندين. (¬2) (1/ 28 - 35). (¬3) برقم (208). (¬4) ت الكمال: 3/ 357، التهذيب: 4/ 300، الميزان: 2/ 450.

عن شُعبة عن بُكير عن عطاء عن عبد الرحمن بن يَعْمَر في الدّبّاء، فقال عليٌّ: أيّ شيءٍ تقدر أن تقول في ذاك - يعني: شَبابة -؟ كان شيخًا صدوقًا، إلا أنه كان يقول بالإرجاء، ولا يُنْكر لرجلٍ سمع من رجل ألفًا أو ألفين أن يجيء بحديث غريب. قال يعقوب: وهذا حديث لم يبلغني أن أحدًا رواه عن شُعبة غير شبابة. 148 - شُجاع بن الوليد بن قيس السَّكوني، أبو بدر (¬1): قال أحمد: كان شيخًا صالحًا صدوقًا. وغَمَزه ابن معين مرة. وقال مرة: ثقة. وقال أبو حاتم: شيخ ليّن ليس بالمتين، لا يحتجّ بحديثه. وقال مرة: روى حديث قابوس في العرب، وهو منكر، وشجاع ليّن الحديث، إلا أنه عن محمَّد بن عَمرو بن علقمة روى أحاديث صحاحًا. [ص 46] قال عبد الرحمن (¬2): حديث العرب رواه شجاع عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه - واسمه حُصين بن جندب - عن سلمان: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا سلمان، لا تبغضني، فتفارق دينك. قال: قلت: يا رسول الله، وكيف أبغضك، وبك هدانا الله؟ قال: تبغض العرب فتبغضني". رواه أحمد في "المسند" (5/ 440): حدثنا شجاع بن الوليد قال: ذكره قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن سلمان ... وأخرجه الترمذي (¬3): ثنا محمَّد بن يحيى الأزدي، وأحمد بن منيع، ¬

_ (¬1) ت الكمال: 3/ 366، التهذيب: 4/ 313، الميزان: 2/ 454. (¬2) هو المصنف، عبد الرحمن المعلمي. (¬3) رقم (3927).

وغير واحد قالوا: حدثنا أبو بدر شجاع بن الوليد عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن سلمان .... ثم قال: حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث أبي بدر شجاع بن الوليد، وسمعت محمَّد بن إسماعيل يقول: أبو ظبيان لم يدرك سلمان، مات سلمان قبل علي. وفي ترجمة أبي ظبيان من "التهذيب" (¬1): قال أحمد بن حنبل: كان شُعبة ينكر أن يكون سمع من سلمان. وقال أبو حاتم: قد أدرك ابن مسعود، ولا أظنه سمع منه، ولا أظنه سمع من سلمان حديث العرب، ولا يثبت له سماع من علي، والذي ثبت له: ابن عباس وجرير. وقال ابن حزم: لم يلق معاذًا ولا أدركه. وسئل الدارقطني: ألقي أبو ظبيان عمر وعليًّا؟ قال: نعم. وقال قبل ذلك: قال عباس الدوري: سألت يحيى عن حديث الأعمش عن أبي ظبيان، قال لي عمر: يا أبا ظبيان، اتخذ (¬2) مالاً. فقال يحيى: ليس هذا أبو ظبيان الذي يروي عن علي، وروى عنه (¬3) سلمة بن كُهَيل، ذاك أبو ظبيان آخر، هو القرشي. ¬

_ (¬1) (2/ 379 - 380). (¬2) الأصل و"التهذيب": "اتجد" والتصحيح من رواية الدوري (1392)، و"تهذيب الكمال": (2/ 210). (¬3) في التهذيب: "عن" خطأ، واستشكلها المصنف فكتب بعدها (؟ عنه) وهو الصواب الذي أثبتناه من المصادر.

وأخرج الحاكم في "المستدرك": (4/ 86) الحديث من طريق أحمد بن مهدي بن رُستم ثنا أبو بدر شجاع بن الوليد ثنا قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن سلمان ... فذكره. قال الحاكم: صحيح الإسناد. تعقَّبه الذهبي فقال: قابوس تُكلِّم فيه (¬1). أقول: قابوس صالح الحديث، وقد وُثّق. وراجع ترجمته في "التهذيب" (¬2). 149 - صالح بن بشير المُرّي الواعظ (¬3): اتفقوا على فضله في دينه، وعلى إسقاطه في حديثه. وذكر له في "الميزان" عدة أحاديث، ليس فيها ما ينكر معناه، وإنما نكارتها من جهة التفرّد. 150 - صالح بن محمَّد بن زائدة المدني (¬4): قال أحمد: ما أرى به بأسًا. وقال ابن معين: ضعيف، وليس حديثه بذاك. وقال العِجْلي: يُكتب حديثه، وليس بالقوي. وقال البخاري: منكر الحديث، تركه سليمان بن حرب، روى عن سالم عن أبيه عن عمر رفعه: ¬

_ (¬1) وضعفه الذهبي في مواضع من "التلخيص": (1/ 554، 2/ 415)؛ لكنه قال في "تاريخ الإسلام": (4/ 36): "حسن الحديث". و"تلخيص المستدرك" من مؤلفات الذهبي القديمة. (¬2) (8/ 305 - 306). (¬3) ت الكمال: 3/ 420، التهذيب: 4/ 382، الميزان: 3/ 3. (¬4) ت الكمال: 3/ 435، التهذيب: 4/ 401، الميزان: 3/ 13.

"من وجدتموه غل فأحرقوا متاعه" لا يتابع عليه، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "صلوا على صاحبكم" [ص 48] ولم يحرق متاعه. وقال (¬1): عامة أصحابنا يحتجون بهذا الحديث في الغلول، وهو حديث باطل ليس له أصل، وصالح هذا لا يعتمد عليه. وقال أبو زُرعة وأبو حاتم: ضعيف الحديث. وليّنه أبو داود والنسائي. أقول: حديثه في الغلول يتضمن قصة (¬2)، وقد ذكره في "الميزان"، وذكر أحاديث أخرى. والحجة التي ذكرها البخاري رحمه الله فيها نظر؛ لأن الذي قال فيه: "صلوا على صاحبكم" ولم يأمر بتحريق متاعه، كان قد مات، وتحريق المتاع عقوبة للغال، وليس في تحريق متاع الميت عقوبة له، وإنما هو محض إضرار بغيره، وهو الوارث. فيحمل الأمر بتحريق متاع الغال على ما إذا عُرِف غلوله وهو حي. فلم يبق من النكارة إلا التفرد (¬3)، مع استبعاد أن يكون هذا الحكم مشروعًا ثم لا ينقل إلا هذا النقل. وقد قال يعقوب بن سفيان: كان سليمان بن حرب لا يحدّث عنه بالبصرة، ¬

_ (¬1) أي البخاري. (¬2) أخرجه الترمذي (1461)، وأبو داود (2713)، وأحمد (144). وغيرهم. قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ... وساق نحو كلام البخاري هنا. ونحوه وأكثر منه في "العلل الكبير" (254). وانظر كلام البخاري في "الكبير": (4/ 291)، و"الأوسط" (762). (¬3) وهل يحتمل تفرّد صالح بن أبي زائدة عن مثل سالم بن عبد الله؟ الظاهرُ من ترجمته أنه ضعيف.

فلما استقضي على مكة، والتقى مع المدنيين، أثنوا عليه وعرَّفوه حاله، وقالوا: كان من خيارنا، ومن زهادنا، صاحب غزو وجهاد، فحدّث عنه بمكة، 151 - [ص 49] الضحَّاك بن حُمْرة الواسطي (¬1): قال ابن معين: ليس بشيء. وقال النسائي والدولابي: ليس بثقة. وفي "الميزان": وقال البخاري: منكر الحديث، مجهول. وقال إسحاق بن راهويه: ثقة. وفي "الميزان" عن "الضعفاء" للبخاري: أن إسحاق بن راهويه روى عن بقيّة حدثني الضحَّاك بن حُمْرة واسطيّ، عن أبي نصيرة الواسطي عن أبي رجاء العُطاردي عن عِمران بن حُصين وأبي بكر الصديق رفعاه: "من اغتسل يوم الجمعة كُفّرت عنه ذنوبه وخطاياه، وإذا أخذ في المشي إلى الجمعة كان له بكل خطوة عمل عشرين سنة، فإذا فرغ من الجمعة أجيز بعمل مائتي سنة". أقول: العجب من إسحاق مع إمامته، كيف يحدث بمثل هذا؟! ثم يوثّق الضحَّاك!. فإن كانت العلة فيه من غيره، فكان عليه أن يبين ذلك، وأبو نصيرة الواسطي وثّقه أحمد، وقال ابن معين: صالح. فأما ابن معين؛ فإن كان بلغه هذا الحديث، فالظاهر أنه جعل الذنب فيه للضحاك. وأما أحمد؛ فكأنه لم يبلغه، فإنهم لم ينقلوا عنه كلامًا في الضحَّاك. ¬

_ (¬1) ت الكمال: 3/ 473، التهذيب: 4/ 443 - 444، الميزان: 3/ 36. وحُمْرَة: بضم الحاء المهملة، وبالراء المهملة.

نعم .. يمكن أن يجعل الذنب فيه لبقية، فإنه يدلس التسوية، فيمكن أن يكون أسقط رجلاً فأكثر بين الضحَّاك وأبي نصيرة، أو بين أبي نصيرة وأبي رجاء، ويكون الذنب المباشر [ص 50] لمن أسقطه بقية. وعلى كل حال، فقد دلّ هذا على أن إسحاق رحمه الله ربما توسَّع (¬1). وفي "جامع الترمذي" (¬2): حدثنا محمَّد بن وزير الواسطي ثنا أبو سفيان الحِمْيري هو سعيد بن يحيى الواسطي عن الضحَّاك بن حُمْرة عن عَمرو بن شُعيب عن أبيه عن جده قال: [قال] رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من سبّح الله مائة بالغداة ومائة بالعشي، كان كمن حج مائة مرة، ومن حَمِد الله مائة بالغداة ومائة بالعشي، كان كمن حمل على مائة فرس في سبيل الله، أو قال: غزا مائة غزوة، ومن هلل الله مائة بالغداة ومائة بالعشي، كان كمن أعتق مائة رقبة من ولد إسماعيل، ومن كبر الله مائة بالغداة ومائة بالعشي لم يأت في ذلك اليوم أحدٌ بأكثر مما أتى، إلا من قال مثل ما قال، أو زاد على ما قال". قال الترمذي: حسن غريب. وأنكر الذهبي في "الميزان" (¬3) على الترمذي تحسينه، قال: "لم يصنع شيئًا". أقول: سعيد بن يحيى الحميري الواسطي أبو سفيان (¬4): وثّقه أبو داود. ¬

_ (¬1) يعني في التوثيق. (¬2) رقم (3471). (¬3) (3/ 37) وتحرفت فيه "يصنع" إلى "يضع"! (¬4) ترجمته في "التهذيب": (4/ 99).

وقال أبو بكر بن أبي شيبة: كان صدوقًا. وأخرج له البخاري في "الصحيح" (¬1) حديثًا واحدًا في تفسير سورة (ق) له شاهد، وأخرج له الترمذي هذا الحديث فقط، كما يُعْلم من "مقدمة الفتح" (¬2). وعَمرو بن شعيب عن أبيه عن جده لا يحتمل مثل هذا. فالحَمْل على الضحَّاك. والله أعلم. 152 - [ص 51] ضَمْضم، أبو المثنّى الأُمْلُوكي (¬3): قال ابن القطان: مجهول، وأما قول ابن عبد البر: ثقة، فلا يقبل منه. تعقَّبه ابنُ المَوَّاق بأنه لا فرق بين أن يوثّقه الدارقطني أو ابن عبد البر. 153 - طالب بن حُجير (¬4): قال ابن عبد البر: ثقة. قال ابن القطان: مجهول الحال. 154 - طارق بن زياد (¬5): عن علي قصة المُخْدَج. وعنه إبراهيم بن عبد الأعلى. قال ابن خِرَاش: مجهول. وكذا قال في سلمة بن أبي الطفيل (¬6). وقد روى عن علي مرفوعًا: "إنّ ¬

_ (¬1) رقم (4849). (¬2) (ص/427). (¬3) ت الكمال: 3/ 488، التهذيب: 4/ 463. (¬4) ت الكمال: 3/ 494، التهذيب: 5/ 8، الميزان: 3/ 47. (¬5) ت الكمال: 3/ 491، التهذيب: 5/ 3. (¬6) ترجمته في: التاريخ الكبير: 4/ 77، و"الميزان": 2/ 381. وقال البخاري بعد أن ذكر الحديث: ولا يصحّ.

لك كنزًا في الجنة". 155 - طلحة بن زيد القرشي (¬1): قال أحمد وابن المديني: ليس بشيء، كان يضع الحديث. وقال البخاري وأبو حاتم والنسائي وغيرهم: منكر الحديث. وذكر له في "الميزان" أحاديث: منها: عن عبيدة بن حسّان، عن عطاء، عن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعمر: "أنت وليي في الدنيا ووليي في الآخرة". ومنها: عن عبيدة بن حسّان، عن عطاء الكَيْخَاراني، عن جابر: بينا نحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نفرٍ من المهاجرين، منهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وابن عَوف وسعد، فقال: "لينهض كلُّ رجل إلى كُفئه". ونهض هو - صلى الله عليه وسلم - إلى عثمان، فاعتنقه، ثم قال: "أنت وليي في الدنيا والآخرة". ومنها: عن الأوزاعي عن يحيي بن أبي كثير عن أنس مرفوعًا: "من تكلم بالفارسية زادت في خُبْثه (¬2)، ونقصت من مروءته". قال: وبالإسناد ... فذكر ستة أحاديث موضوعة. [ص 52] ومنها: عن عقيل عن الزهري عن عروة عن عائشة مرفوعًا: "لا ¬

_ (¬1) ت الكمال: 3/ 504، التهذيب: 5/ 15، الميزان: 3/ 52. (¬2) هذه الكلمة جاءت على أنحاء شتى، ففي الأصل "حسنه". وفي "الميزان" و"الكامل": (4/ 109) (2/ ق 107 مخطوط): "خبه". وفي "المستدرك": (4/ 88) (4/ ق 44 أ - خ الأزهر)، و"الموضوعات" (1487)، و"فتح الباري": (6/ 213): "خُبثه". وهو الأصح. وجاءت بتحريفات أخرى في بعض المصادر.

يبرمنَّ أحد منكم أمرًا حتى يشاور". قال: هذا باطل عن عقيل. 156 - طلحة بن يحيى بن طلحة بن عُبيد الله (¬1): قال ابن المديني عن يحيي القطان: لم يكن بالقوي. وقال ابن معين والعِجْلي ويعقوب ابن شيبة: ثقة. وقال أبو زُرعة والنسائي: صالح. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال أبو حاتم: صالح الحديث، حسن الحديث، صحيح الحديث. وقال أحمد مرة: ثقة. ومرة: صالح الحديث ... إنما أنكر عليه حديث: "عصفور من عصافير الجنة". أقول: فعلى هذا، مدار حال طلحة على هذا الحديث؛ فمن لم يستنكره وثّقه مطلقًا، ومن استنكره ألبتة - وهو البخاري - قال: منكر الحديث، ومن تردد فيه ليَّنه. والحديث أخرجه مسلم في "الصحيح" (¬2) من طريق وكيع عن طلحة بن يحيى عن عمته عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين قالت: "دُعي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى جنازة صبي من الأنصار، فقالت: يا رسول الله، طوبى لهذا، عصفور من عصافير الجنة، لم يعمل السوء ولم يدركه. قال: أو غير ذلك يا عائشة؟ إن الله خلق للجنة أهلاً، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلاً، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم". ثم أسنده إلى إسماعيل بن زكريا، وسفيان الثوري، كلاهما عن طلحة. ¬

_ (¬1) ت الكمال: 3/ 514، التهذيب: 5/ 27، الميزان: 3/ 57. (¬2) رقم (2662).

قال: "بإسناد وكيع نحو حديثه". وذكره الذهبي في "الميزان": عن أبي نعيم عن طلحة ثم قال: "انفرد بأول الحديث، أما آخره فجاء من غير وجه". أقول: قال مسلم قبل حديث طلحة: حدثني [ص 53] زُهير بن حرب ثنا جرير عن العلاء بن المسيب عن فضيل بن عَمرو عن عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين قالت: توفي صبي فقلت: طوبى له، عصفور من عصافير الجنة. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أولا تدرين أن الله خلق الجنة وخلق النار، فخلق لهذه أهلًا , ولهذه أهلًا؟ ". 157 - [ص 54] ع. عاصم بن بَهْدلة، وهو ابن أبي النّجود (¬1): قال ابن سعد: كان ثقة، إلا أنه كان كثير الخطأ في حديثه. وقال أحمد: كان خَيِّرًا ثقة، وكان الأعمش أحفظ منه. وقال العِجْلي: ... وكان ثقة. وقال يعقوب بن سفيان: في حديثه اضطراب، وهو ثقة. وقال أبو زُرعة: ثقة، فقال أبو حاتم: محله عندي محل الصدق، صالح الحديث، وليس محله أن يقال: هو ثقة، ولم يكن بالحافظ. 158 - د تم س ق. عاصم بن حُميد السَّكوني الحِمْصي (¬2): كان من أصحاب معاذ. وشهد خُطبة عمر بالجابِيةَ. وعن عَوف بن مالك وعائشة. وعنه جماعة. قال الدارقطني: ثقة. وقال البزار: لم يكن له من الحديث ما نعتبر به حديثه. وقال ابن القطان: لا نعرف أنه ثقة. ¬

_ (¬1) ت الكمال: 4/ 5، التهذيب: 5/ 38، الميزان: 3/ 71. (¬2) ت الكمال: 4/ 7، التهذيب: 5/ 40.

159 - عاصم بن ضَمْرة (¬1): عن علي. قال الشافعي: مجهول. - يريد مجهول الحال -. قال الثوري: كنا نعرف فضل حديث عاصم على حديث الحارث. وقال أحمد: عاصم أعلى من الحارث. ونحوه عن ابن معين. وقال ابن عمّار: عاصم أثبت من الحارث. وقال ابن المديني والعِجْلي: ثقة. وقال النسائي: ليس به بأس. [ص 55] ولينه الجُوزجاني، وابن عديّ، وابن حبان - كما يأتي - وقبلهم ابن المبارك. ذكر البيهقي في "السنن" (3/ 51) حديث عاصم عن علي رضي الله عنه في تطوع النبي - صلى الله عليه وسلم - ست عشرة ركعة في النهار، ثم قال: تفرد به عاصم بن ضَمْرة عن علي رضي الله عنه، وكان عبد الله بن المبارك يضعِّفه، فيطعن في روايته هذا الحديث (¬2). ¬

_ (¬1) ت الكمال: 4/ 10، التهذيب: 5/ 45، الميزان: 3/ 66. (¬2) ورواه الترمذي (599)، والنسائي (874)، وابن ماجه (1161)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن. وقال إسحاق بن إبراهيم - يعني بن راهويه -: أحسن شيء روي في تطوع النبي - صلى الله عليه وسلم - في النهار هذا. وروي عن عبد الله بن المبارك: أنه كان يضعَّف هذا الحديث. وإنما ضعَّفه عندنا - والله أعلم -؛ لأنه لا يروى مثل هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا من هذا الوجه عن عاصم بن ضَمْرة عن علي. وعاصم بن ضمرة هو ثقة عند أهل العلم، قال علي بن المديني: قال يحيى بن سعيد القطان: قال سفيان: كنا نعرف فضل حديث عاصم بن ضمرة على حديث الحارث" اهـ.

وقال الجُوزجاني (¬1): هو عندي قريب من الحارث، وروى عنه أبو إسحاق حديثًا في تطوع النبي - صلى الله عليه وسلم - ست عشرة ركعة. فيا لِعِبادِ الله! أما كان ينبغي لأحد من الصحابة وأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يحكي هذه الركعات .. ؟! وخالف عاصمٌ الأمةَ واتفاقها، فروى: أن في خمس وعشرين من الإبل خمسًا من الغنم. وتبعه ابن عديّ فقال: عن علي بأحاديث باطلة، لا يتابعه الثقات عليها، والبلاء منه. وقال ابن حبان: كان رديء الحفظ، فاحش الخطأ، يرفع عن عليٍّ قولَه كثيرًا، فاستحقّ الترك، على أنه أحسن حالاً من الحارث. دفع ابنُ حجر كلامَ الجُوزجاني فقال: تعصّب الجُوزجاني على أصحاب علي معروف، ولا إنكار على عاصم فيما روى. هذه عائشة أخصّ أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - تقول لسائلها عن شيء من أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم -: سل عليًّا. فليس بعجبٍ أن يروي الصحابي شيئًا يرويه غيره من الصحابة بخلافه، ولا سيما في التطوع. وأما حديث الغنم، فلعل الآفة فيه ممن بعد عاصم. [ص 56] أقول: في "الميزان" بعد ذِكْر بعض كلام الجوزجاني: "يعني أن عائشة وابن عمر وغيرهما حكوا عنه خلاف هذا، وعاصم بن ضَمْرة ينقل أنه عليه السلام كان يداوم على ذلك". أقول: تعصّب الجوزجاني معروف، ولكن الكلام فيما احتج به، وقول عائشة: "سل عليًّا" قالته لمن سألها عن التوقيت في المسح على الخفين، ¬

_ (¬1) في "الشجرة": (ص/ 34 - 42).

فقالت: "سل عليًّا، فإنه أعلم بذلك مني"، وفي رواية: "فإنه كان يسافر مع النبي - صلى الله عليه وسلم -". ومعلوم أن بيان التوقيت لا يتكرر في كل سفر، ولم تشهد هي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - جميعَ أسفاره، فمثل هذا لا يتعجَّب من جهلها به. أما التطوع الذي يتكرر كل يوم، فجهلها به عجيب ولا بد (¬1). على أن المُستَنْكَر هنا تفرّد عاصم عن علي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - , فلم يتابعه أحد عن علي، ولا روى مثله أحد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. والأقرب في الجواب، إنما هو ردّ دعوى نقل المداومة. ولفظ الحديث، كما في "مسند أحمد" (1/ 162): ... غُنْدر عن شُعبة عن أبي إسحاق قال: سمعت عاصم بن ضَمْرة يقول: سألنا عليًّا رضي الله عنه عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من النهار. فقال: " ... إذا كانت الشمس من ههنا كهيئتها من ههنا عند العصر صلى ركعتين، وإذا كانت الشمس من ههنا كهيئتها من ههنا عند الظهر صلى أربعًا، ويصلي قبل الظهر أربعًا، وبعدها ركعتين، وقبل العصر أربعًا ... ". فالعبارة لا تقتضي المداومة، غاية الأمر أنها تقتضي تكرر ذلك. على أن في رواية عند البيهقي آخر الحديث: "وقلّ ما يداوم عليها"، لكن في "مسند أحمد" وغيره: "وقلّ من يداوم عليها". [ص 57] هذا، والأربع قبل الظهر، والركعتان بعدها، قد جاءت في ¬

_ (¬1) ذكر الجوزجاني هذا في كتابه (37) فقال: "فإن قال قائل: كم من حديث لم يروه إلا واحد! قيل: صدقت. كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجلس فيتكلم بالكلمة بالحكمة لعله لا يعود لها آخر دهره، فيحفظها عنه رجل، وهذا ركعات - كما قال عاصم - كان يداوم عليها. فلا يشتبهان" اهـ.

أحاديث أخر، منها: من حديث عائشة في "الصحيح" (¬1)، وكذلك الأربع قبل العصر قد جاءت من حديث ابن عمر عند أبي داود وغيره (¬2)، وسنده قوي. وكذلك الركعتان إذا كانت الشمس من المشرق كما تكون عند العصر من المغرب، هي ركعتا الضحى، وقد جاءت من وجوهٍ أخرى. وتبقى الأربع قبل الزوال، فهي محل الإنكار. نعم، الوقت وقت صلاة، ولعله - صلى الله عليه وسلم - صلاها في بعض الأيام، ولكن هذا الاحتمال مبنيّ على أنها نَفْل مطلق، كما يقال: لعله - صلى الله عليه وسلم - تطوع في بعض الأيام بين الظهر والعصر غير راتبتهما, ولكن رواية عاصم تقتضي أنها نافلة موقتة. والله أعلم. وأما حديثه في الزكاة، فمخالفته في موضعين: الأول: أنه ذكر صدقة الإبل كما هو معروف، إلى أن قال: "وفي خمس وعشرين خمس شياه، فإذا زادت ففيها ابنة مخاض إلى خمس وثلاثين ... ". والمتفق عليه أن في خمس وعشرين بنت مخاض إلى خمس وثلاثين. الثاني: أن في رواية الثوريّ عن أبي إسحاق عن عاصم: "فإذا زادت الإبل على عشرين ومائة، تستأنف الفريضة". والمعروف أنها لا تستأنف، بل يكون في كل خمسين حقّة، وفي كل أربعين بنت لبون أبدًا. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم رقم (730). (¬2) أبو داود رقم (1271)، والترمذي رقم (430)، وأحمد (5980).

[ص 58] وقد رواه شُعبة وشَريك وزهير عن أبي إسحاق عن عاصم فقال: "فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل خمسين حقة، وفي كل أربعين بنت لبون". فأما الأمر الأول؛ فاتفقوا على أنه خطأ، والخطأ إما من عاصم نفسه، وهو ظاهر كلامهم، وإما من أبي إسحاق، وعاصم أولى. على أنه قد جاء عن أبي إسحاق: عن عاصم بن ضَمْرة وعن الحارث الأعور عن علي ... رواه أبو داود (¬1). وعلى هذا فقد توبع عاصم في الجملة، وإن كان الحارث غير قوي، لكن أبو إسحاق مدلس ولم يصرح بالسماع من الحارث. وأما الأمر الثاني؛ فإن ابن معين أحال بالغلط - في ظاهر كلامه - على يحيى بن سعيد القطان، الراوي عن الثوري. ورده يعقوب بن سفيان بأن ابن المبارك قد رواه أيضًا عن الثوري، قال: وقد أنكر أهل العلم هذا على عاصم. وذكر البيهقي (¬2) أنه يحتمل أن ابن معين إنما أحال بالغلط على الثوري. أقول: وقد تقدم أن شُعبةَ وشريكًا وزهيرًا رووه عن أبي إسحاق عن عاصم بخلاف ما قال الثوري. والثوريُّ إمام متقن، ولكن لا بد للجواد من كبوة. على أن هذا الأمر الثاني قد جاء ما يوافقه [ص 59] عن إبراهيم النخعي، ¬

_ (¬1) رقم (1572). (¬2) "السنن الكبرى": (4/ 92 - 93).

وأخذ به بعض أهل العراق. والمقصود هنا أن قول ابن حجر: فلعل الآفة فيه ممن بعد عاصم ضعيفٌ بالنسبة إلى الأمر الأول، وهو الذي عناه الجوزجاني. هذا، وقد قال الدارقطني (¬1): "هو صالح الحديث، وأما حبيب بن أبي ثابت فروى عنه مناكير، وأحسب أن حبيبًا لم يسمع منه". أقول: وعلى فرض أنه سمع منه في الجملة، فحبيب مدلِّس، وقد قال الآجري عن أبي داود: ليس لحبيب عن عاصم بن ضَمْرة شيء يصح. والذي يتحرّر: أن عاصمًا صدوق، وليس بحجة فيما يخالف فيه. والله أعلم. 160 - عاصم بن عمر بن حَفْص بن عاصم بن عمر بن الخطاب (¬2): قال أحمد وابن معين وأبو حاتم: ضعيف. وقال البخاري: منكر الحديث. وضعفه آخرون. وقال أحمد بن صالح المصري: أربعة إخوة ثقات، فعدَّه فيهم. وعاب ¬

_ (¬1) كذا في الأصل وهو سبق قلم، صوابه "البزار" وهو نص كلامه في "التهذيب". أما الدارقطني فقد قال فيه: "فيه نظر" كما في تخريج الأحاديث الضعاف في سنن الدارقطني" رقم (164) وسقط كلامه عليه من "السنن": (1/ 225)، وانظر (من تكلم فيه الدارقطني: 206 - ضمن ثلاث رسائل في الجرح والتعديل). تحقيق د/ عامر صبري. (¬2) ت الكمال: 4/ 14، التهذيب: 5/ 51، الميزان: 3/ 69 - 70.

النسائيُّ هذا القول على أحمد بن صالح. وذكر له في "الميزان" (¬1) عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سابق بين الخيل، وجعل بينهما سَبَقًا، وجعل بينهما محللاً، وقال: "لا سَبَق إلا في نَصْل أو حافر". وبه مرفوعًا: "من لبَّد رأسَه فقد وجب عليه الحلاق". وبه: "أنا أول من تنشق عنه الأرض، ثم أبو بكر، ثم عمر ... " الحديث. وبه: "إنما هي هذه ثم عليكن بظهور الحُصُر". 161 - [ص 60] عاصم بن هلال (¬2): قال ابن معين: ضعيف. وقال أبو زُرعة: حدث بأحاديث مناكير عن أيوب. وقال أبو حاتم: صالح، شيخ، محله الصدق. وقال أبو داود والبزار: ليس به بأس. وقال النسائي: ليس بالقوي. روى ابن عديّ عن ابن صاعد عن محمَّد بن يحيى القُطَعي عن محمَّد بن راشد عن حسين المُعلِّم عن عَمْرو بن شعيب عن أبيه عن جده حديث: "لا طلاق إلا بعد نكاح". وعن ابن صاعد عن القُطَعي عن عاصم هذا عن أيوب عن نافع عن ابن عمر رفعه مثله. قال ابن صاعد: وما سمعناه إلا منه، ولا أعرف له علة. ¬

_ (¬1) نقلاً عن "الكامل": (5/ 229 - 231) وساق له ابن عدي غيرها. (¬2) ت الكمال: 4/ 21، التهذيب: 5/ 58، الميزان: 3/ 72.

قال ابن عديّ: فذكرت ذلك لأبي عروبة، فأخرج إليَّ فوائد القُطَعي، فإذا حديث عَمرو بن شعيب، وإلى جنبه (¬1) حديث ابن عمر بالسند المذكور، ومتنه: "يوم يقوم الناس لرب العالمين". قال: فعلمنا أن ابن صاعد دخل عليه حديث في حديث، ومتن "يوم يقوم الناس .... " مشهور لأيوب، على أن عاصم بن هلال يحتمل ما هو أنكر من هذا. وقال ابن حبان: كان ممن يقلب الأسانيد توهّمًا لا عمدًا، حتى بطل الاحتجاج به. وسَرَد له ابن عديّ عدة أحاديث، وقال: عامة ما يرويه ليس يتابعه عليه الثقات. ذكره الذهبي في "الميزان" ثم قال: قلت: نكارة حديثه من قِبَل الأسانيد لا المتون. أقول: هذا معنى كلام ابن حبان. 162 - عامر بن صالح بن عبد الله بن عروة بن الزبير بن العوَّام (¬2): كذَّبه ابن معين. وضعَّفه جماعة. وانفرد أحمد فوثقه. وقال أبو حاتم: صالح الحديث، ما أرى به بأسًا، كان يحيى بن معين يحمل عليه، وأحمد يروي عنه. قال أبو داود: حدَّث عنه أحمد بثلاثة أحاديث. ¬

_ (¬1) كذا بالأصل، وفي "التهذيب": "وأبي حبيبة" تحريف. أما في "الكامل": (5/ 229) و (2/ ق 284 - نسخة أحمد الثالث): "وبعقبه". (¬2) ت الكمال: 4/ 31، التهذيب: 5/ 71، الميزان: 3/ 74.

أقول: كأنَّ هذا الرجل تحَفَّظ لمّا سمع منه أحمد، فلم يحدِّث بما يظهر أنه منكر، وأما ابن معين؛ فإنه استقصى اختباره، فإنه قال: قد كتبت عامة هذه الأحاديث عنه. وأما أبو حاتم فكأنه قلَّد أحمد، ولم يتتبع أحاديث [عامر بن] صالح. والله أعلم. 163 - عامر بن عبد الواحد الأحول (¬1): قال أحمد مرة: ليس بقوي. ومرة: ليس حديثه بشيء. وقال أبو داود: سمعت أحمد يضعّفه. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال ابن معين: ليس به بأس. وانفرد أبو حاتم فقال: ثقة لا بأس به (¬2). 164 - عبّاد بن راشد التميمي (¬3): من أوهام ابن حبان (¬4). ¬

_ (¬1) ت الكمال: 4/ 35، التهذيب: 5/ 77، الميزان: 3/ 76. (¬2) "الجرح والتعديل": (6/ 326 - 327) ثم سأل ابن أبي حاتم أباه، يُحْتج بحديثه؟ قال: لا بأس به. وقال الذهبي في الميزان: "وثقه أبو حاتم ومسلم". ولم أجد توثيق مسلم له، إلا أن يكون أخذه من إخراج مسلم له في "الصحيح" انظر رقم (379). (¬3) ت الكمال: 4/ 46، التهذيب: 5/ 92 - 93، الميزان: 3/ 79. (¬4) حيث نسب إليه أنه روى عن الحسن البصري حديثًا طويلًا أكثره موضوع. قال الحافظ: يشير إلى حديث المناهي. وليس هو من رواية عباد بن راشد، إنما هو من رواية عباد بن كثير ... وذكر أنه من أوهام ابن حبان.

165 - عبّاد بن كثير الثقفي البصري (¬1): جاور بمكة. اتفقوا على صلاحه في نفسه، وروايته الكذب. قال أحمد: روى أحاديث كذب لم يسمعها، وكان صالحًا. قيل: فكيف روى ما لم يسمع؟ قال: البلاءُ (¬2) والغَفْلة. 166 - عبّاد بن كثير الرَّملي الفَلَسطيني (¬3): وثّقه زياد بن الربيع، وابن معين مرَّةً. وقال مرَّةً: ليس به بأس. وقال البخاري: فيه نظر. وقال أبو حاتم: ظننت أنه أحسن حالاً من عبّاد بن كثير البصري، فإذا هو قريب منه، ضعيف الحديث. وقال أبو زُرعة: ضعيف الحديث. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال علي بن الجُنيد: متروك. وقال ابن حبان: كان يحيى بن معين يوثقه، وهو عندي لا شيء في الحديث؛ لأنه يروي عن سفيان عن [منصور] (¬4) عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "طلب الحلال [ص 62] فريضة بعد الفريضة". ومَن روى عن الثوريّ مثل هذا الحديث [بهذا الإسناد] بطل الاحتجاجُ بخبره فيما يروي، [مما] (¬5) يشبه حديث الأثبات. ¬

_ (¬1) ت الكمال: 4/ 53، التهذيب: 5/ 100، الميزان: 3/ 85. (¬2) تحرفت في الأصل تبعًا للتهذيب إلى "البله"، والمثبت من "الجرح والتعديل": (6/ 85) و"تهذيب الكمال". (¬3) ت الكمال: 4/ 54، التهذيب: 5/ 102، الميزان: 3/ 84. (¬4) من "المجروحين" (ق 176) والميزان. وسقط "عن منصور"، "عن علقمة" من التهذيب. (¬5) ما بين المعكوفات من "المجروحين" (ق 176). و"مما" كانت في الأصل والتهذيب: "فيما"، وفي مطبوعة "المجروحين": "ما لا".

قال: والدليل على أنه ليس بعباد بن كثير الذي كان بمكة: أن الذي كان بمكة مات قبل الثوري، ولم يشهده الثوري، وكان يحيى بن يحيى في ذلك الوقت طفلًا (¬1). يعني: ويحيى بن يحيى هو الذي روى عن عبَّاد عن الثوريّ هذا الحديث. وقال الساجي: ضعيف يحدّث بمناكير. وقال الحاكم: روى أحاديث موضوعة، وهو صاحب حديث "طلب الحلال فريضة بعد الفريضة". وذكر له في "الميزان" أحاديث أخرى. أقول: كأن لم يبلغ ابن معين شيء من منكراته، أو بلغه بعضُها وفي السَّنَد عباد بن كثير، فظنه عبَّاد بن كثير البصري. وحديث "طلب الحلال" يشبه أن يكون من قول الثوري، فغلط عبَّادٌ فأسنده. 167 - عباس بن الفضل الأنصاري الواقفي (¬2): قال أبو حاتم عن أحمد: حديثه عن يونس وخالد وداود وشعبة صحيح، وأنكرت من حديثه عن سعيد عن قتادة عن عكرمة أو جابر بن زيد عن ابن عباس، قال: قال لي كعب: يلي من ولدك رجل. وهو [ص 63] حديث كذب. وروى عن عُيينة (بن عبد الرحمن) عن أبيه عن ابن معقل حديثًا منكرًا. ¬

_ (¬1) هذا معنى كلام ابن حبان كما ساقه الذهبي في الميزان, وهو في المجروحين بسياق آخر. (¬2) ت الكمال: 4/ 73، التهذيب: 5/ 126، الميزان: 3/ 99.

وقال عبد الله بن أحمد: لم يسمع منه أبي، ونهاني أن أكتب عن رجل عنه. وقال عبد الله بن أحمد: سألت ابن معين عنه فقال: ليس بثقة. فقلت: لِمَ يا أبا زكريا؟ قال: حدَّث عن سعيد عن قتادة عن جابر بن زيد عن ابن عباس: "إذا كان سنة مائتين" حديث موضوع (¬1). وقال البخاري وأبو حاتم: منكر الحديث. وقال أبو زُرعة: كان لا يصدق. قولهم: "شيخ" (¬2) 168 - في ترجمة العباس بن الفضل العدني (¬3): نزيل البصرة، من "التهذيب" (¬4)، أنها ليست عبارة جرح ولا عبارة تعديل. قال: وبالاستقراء يلوح لك أنه ليس بحجة، ومن ذلك قوله: يُكتب حديثه. 169 - عبد الله بن إبراهيم بن أبي عَمرو الغفاري (¬5): قال أبو داود والساجي: منكر الحديث. وقال الدارقطني: حديثه منكر. ¬

_ (¬1) انظر "الجرح والتعديل": (6/ 212 - 213). (¬2) هذه العبارة كتبها الشيخ كالعنوان في رأس الصفحة. (¬3) ت الكمال: 4/ 75، التهذيب: 5/ 128، الميزان: 3/ 99. (¬4) كذا في الأصل، وهو سبق قلم صوابه "الميزان"، فهو الذي ذكر هذه الفائدة عن قول أبي حاتم "شيخ" وذكر الاستقراء. (¬5) ت الكمال: 4/ 81 , التهذيب: 5/ 137، الميزان: 3/ 102.

وقال ابن حبان: كان يروي عن الثقات المقلوبات، وعن الضعفاء المُلْزقات، روى عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر رفعه: "ما جُزْت (¬1) ليلة أسري بي من سماء إلى سماء إلا رأيت اسمي مكتوبًا: محمَّد رسول الله أبو بكر الصديق". قال: وهذا خبر باطل، وليس هو من حديث عبد الرحمن المشهور، والقلب إلى أنه من عَمَل عبد الله أمْيَل. وذكر له في "الميزان" أحاديث منها: عن مالك عن نافع عن ابن عمر مرفوعًا: "أُحْشَر يوم القيامة بين أبي بكر وعمر حتى أقف بين الحرمين، فيأتيني أهل مكة والمدينة" (¬2). 170 - عبد الله بن الحسين الأزدي، أبو حريز، قاضي سجستان (¬3): قال أحمد: منكر الحديث. وقال ابن معين مرة: ضعيف. ومرة: ثقة. وقال أبو زُرعة: ثقة. وقال أبو داود: ليس بشيء. وقال النسائي: ضعيف. وقال في موضع آخر: ليس بالقوي. وقال ابن عديّ: عامة ما يرويه لا يتابعه عليه أحد. وقال أبو حاتم: حسن الحديث، ليس بمنكر الحديث، يُكتب حديثه. أقول: قد يُسْتغرب هذا مع قول أحمد: منكر الحديث، وقول ابن عديّ: عامة ما يرويه لا يتابعه عليه أحد. ¬

_ (¬1) في الأصل تبعًا للتهذيب: "جئت"، والمثبت من "المجروحين" (ق 137). (¬2) أخرجه من طريق الغفاري ابن عساكر في "تاريخه": (44/ 190 - 191). (¬3) ت الكمال: 4/ 113، التهذيب: 5/ 187، الميزان: 3/ 120.

وكأنَّ السرّ في ذلك أن أكثر ما يُروى عنه من طريق الفضيل بن ميسرة، وفي أحاديث الفضيل عنه مناكير، والفضيل قال أحمد: ليس به بأس. وقال ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وقال النسائي: لا بأس به. وقد قال ابن المديني: سمعت يحيى بن سعيد يقول: قلت للفضيل بن ميسرة: أحاديث أبي حريز؟ قال: سمعتها، فذهب كتابي، فأخذته بعد ذلك من إنسان. فكأنَّ أحمد لم يقف على هذه القصة، أو وقف عليها ولم يعتدّ بها، فبنى على أن ما حدَّث به الفضيل [ص 65] عن أبي حريز ثابت عن أبي حريز، فحمل الإنكار عليه. وهكذا - والله أعلم - حال يحيى بن معين لمّا قال في أبي حريز: ضعيف. ثم كأن يحيى وقف على القصة، فرأى أن أحاديث فُضيل عن أبي حريز مدخولة من جهة احتمال عدم صحة الكتاب الذي أخذه فُضيل أخيرًا، ولم يلزم فُضيلًا جرحٌ بذلك؛ لأنه قد بين حقيقة الحال. وهكذا حال أبي حاتم فيما يظهر؛ حمل تلك المناكير على ذلك الكتاب، فليست عنده بصحيحة عن أبي حريز، ولا محمولة على فُضيل لبيانه. والله أعلم. 171 - عبد الله بن حَفْص (¬1): عن يعلى بن مرة (¬2). ¬

_ (¬1) ت الكمال: 4/ 114، التهذيب: 5/ 189. (¬2) ترك له المؤلف (ق 65 ب) بياضًا. ولم يرو عنه غير عطاء بن السائب. وقد قال فيه =

172 - [ص 66] عبد الله بن صالح، أبو صالح المصري، كاتب الليث (¬1): أثنى عليه أكثر المصريين. وقال أحمد: كان أول أمره متماسكًا، ثم فسد بأخرة، وليس هو بشيء. وقال مرة: روى عن الليث عن [ابن] أبي ذئب. وأنكر أحمد أن يكون الليث سمع من ابن أبي ذئب. وقال أحمد بن صالح المصري: أخرج أبو صالح درجًا قد ذهب أعلاه، ولم يدر حديث من هو، فقيل له: هذا حديث ابن أبي ذئب. قال ابن معين: يمكن أن يكون ابن أبي ذئب كتب إليه - يعني إلى الليث بهذا الدرج -. أقول: إن كان أحمد بن صالح قال ما قال ظنًّا، فالظن لا يغني، وإن كان تحقق القصة، فقد لزم أبا صالح الوهن, لأنه حدَّث عن الليث عن ابن أبي ذئب بما لم يتحقق تلقي الليث له من ابن أبي ذئب سماعًا أو عرضًا أو مكاتبة. وأحسن أحواله أن يكون تحقق أن ذلك الدرج مما تلقاه عن الليث، وتحقق أن الليث قد رواه في الجملة عن ابن أبي ذئب، ولم يعلم أبغير واسطة، أو بواسطة، فرواه عن الليث عن ابن أبي ذئب على احتمال الانقطاع، فيكون من قبيل تدليس التسوية. والكلام فيه كثير. وذكر له في "الميزان" عدة أحاديث. قال: "وقد قامت ¬

_ = علي بن المديني وابن معين وابن عدي: لا أعرفه. (¬1) ت الكمال: 4/ 164، التهذيب: 5/ 256، الميزان: 3/ 154.

القيامة على عبد الله بن صالح بهذا الخبر الذي قال: ثنا نافع بن يزيد عن زُهْرة بن معبد عن سعيد بن المسيب، عن جابر مرفوعًا: "إن الله اختار أصحابي على العالمين، سوى النبيين والمرسلين، واختار من أصحابي أربعة [ص 67]: أبا بكر وعمر وعثمان وعليًّا، فجعلهم خير أصحابي، وفي أصحابي كلهم خير". ثم ذكر أن محمَّد بن يحيى قَدِم مصر، فذهب وأحمد بن صالح إلى أبي صالح، فقال محمَّد: يا أبا صالح! والله والله، ما كانت رحلتي إلا إليك، أخرج إليَّ حديثَ زُهرة بن معبد عن ابن المسيب عن جابر. فقال أبو صالح: والله لو كان في يدي ما فتحتها لك. أقول: هذه حماقة شديدة من أبي صالح. "الميزان": عن أبي زرعة أنه سئل عن هذا الحديث، فقال: باطل، وضعه خالد (بن نجيح) المصري، ودسَّه (¬1) في كتاب أبي صالح. قيل لأبي زرعة: فمن رواه عن سعيد بن أبي مريم؟ قال: هذا الكذّاب (¬2). قال أحمد بن محمَّد التستري: كان محمَّد بن الحارث العسكري حدثني به عن أبي صالح وسعيد. وفي "التهذيب" نحو هذه القصة، وفيه: وقال البرذعي عن أبي زرعة: كان - عثمان بن صالح - يسمع الحديث مع خالد بن نجيح، وكان خالد إذا ¬

_ (¬1) مطبوعة الميزان: "دلّسه". (¬2) في المصادر: "كذاب".

سمعوا من الشيخ أملى عليهم ما لم يسمعوا؛ فبُلُوا به وبُلي به أبو صالح أيضًا في حديث زُهرة بن معبد عن سعيد بن المسيب عن جابر. ليس له أصل، وإنما هو من خالد بن نجيح. وفي "الميزان": قد رواه أبو العباس محمَّد بن أحمد الأثرم - صدوق - حدثنا علي بن داود القَنْطَري - ثقة - حدثنا سعيد بن أبي مريم وعبد الله بن صالح عن نافع .. فذكره. ثم قال: فلعله مما أُدْخِل على نافع، مع أن نافع بن يزيد صدوق يَقِظ، فالله أعلم. [ص 68] وقال ابن أبي حاتم في ترجمة خالد بن نجيح (¬1): "كان يصحب عثمان بن صالح المصري، وأبا صالح كاتب الليث، وابن أبي مريم، سمعت أبي يقول ذلك، ويقول: هو كذّاب، كان يفتعل الأحاديث ويضعها في كتب ابن أبي مريم، وأبي صالح، وهذه الأحاديث التي أُنكِرت على أبي صالح يتوهّم أنها مِن فعله". وفي ترجمة أبي صالح عن أبي حاتم (¬2): "الأحاديث التي أخرجها أبو صالح في آخر عمره، فأُنكِرت عليه؛ أرى أن هذا مما افتعل خالد بن نجيح، وكان أبو صالح يصحبه، وكان أبو صالح سليم الناحية، وكان خالد بن نجيح يفتعل الكذب (¬3) ويضعه في كتب الناس". ¬

_ (¬1) "الجرح والتعديل": (3/ 355). (¬2) نفسه: (5/ 87). (¬3) في المطبوع وغيره: "يفتعل الحديث" وهو استعمال مشهور لأبي حاتم، وفي التهذيبين كما هو مثبت.

وقال ابن حبان (¬1) في أبي صالح: "منكر الحديث جدًّا، يروي عن الأثبات ما ليس من حديث الثقات، وكان صدوقًا في نفسه؛ وإنما وقعت المناكير في حديثه من قِبَل جارٍ له كان يضع الحديث على شيخ عبد الله بن صالح، ويكتب بخط يشبه خط عبد الله، ويرميه في داره وبين كتبه، فيتوهم عبد الله أنه خطه؛ فيحدث به". وقال ابن حجر في "المقدمة" (¬2): في ترجمة عثمان بن صالح: "خالد بن نجيح هذا كان كذّابا، وكان يحفظ بسرعة، وكان هؤلاء إذا اجتمعوا [ص 69] عند شيخ فسمعوا منه وأرادوا كتابة ما سمعوه اعتمدوا في ذلك على إملاء خالد عليهم، إما من حفظه أو من الأصل، فكان يزيد فيه ما ليس فيه ... وقد ذكر الحاكم أن مثل هذا بعينه وقع لقتيبة بن سعيد معه، مع جلالة قتيبة". أقول: حاصل قصة قتيبة أنهم استغربوا حديثه عن الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل عن معاذ بن جبل في الجمع بين الصلاتين. فروى الحاكم في "علوم الحديث" (¬3) (ص 120 - 121) بسنده إلى البخاري أنه قال: قلت لقتيبة بن سعيد: مع من كتبت عن الليث بن سعد حديث يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل؟ فقال: كتبته مع خالد المدائني. قال البخاري: وكان خالد المدائني يُدْخِل الأحاديث على الشيوخ. ¬

_ (¬1) "المجروحين": (2/ 40) (ق 137). (¬2) (ص/ 445). (¬3) (ص/ 379 - ط ابن حزم). وخالد بن القاسم المدائني غير خالد بن نجيح المصري.

173 - عبد الله بن عُصْم - ويقال: ابن عصمة - أبو عُلْوان الحنفي العِجْلي (¬1): روى عن ابن عمر، وأبي سعيد الخدري، وعن ابن عباس إن كان محفوظًا. وعنه: أيوب بن جابر، وإسرائيل بن يونس، وشريك النخعي. قال ابن معين: ثقة. وقال أبو زُرعة: ليس به بأس. وقال أبو حاتم: شيخ. وقال ابن حبان في "الثقات" (¬2): يُخطئ كثيرًا. وذكره في "الضعفاء" (¬3) فقال: منكر الحديث جدًّا على قلة روايته، يحدث عن الأثبات ما لا يشبه أحاديثهم، حتى يسبق إلى القلب أنها موهومة أو موضوعة. أقول: روى شريك عنه عن ابن عمر مرفوعًا: "إن في ثقيف كذّابًا ومبيرًا". رواه جماعة عن شريك (¬4)، وأخرجه الترمذي (¬5) ثم قال: حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث شريك. أقول: شريك في حفظه مقال، ولكن تفرده عن مثل عبد الله بن عُصْم لا ¬

_ (¬1) ت الكمال: 4/ 211، التهذيب: 5/ 321، الميزان: 3/ 174. (¬2) (5/ 57). (¬3) (2/ 5) (ق 128). (¬4) أحصيت منهم عشرة: (أبو كامل، وكيع، هاشم، حجاج الشاعر، أسود بن عامر - خمستهم في المسند)، (الفضل بن موسى، عبد الرحمن بن واقد - الترمذي)، (الطيالسي - مسنده)، (محمَّد بن الحسن - دولابي)، (أبو نعيم - دمشق). (¬5) رقم (2220، 3944).

يُستنكر، فأما تفرد ابن عُصم عن ابن عمر ففيه نظر. وقد جاء هذا الحديث من حديث أسماء بنت أبي بكر، أخرجه مسلم في "صحيحه" (¬1). وروى أيوب بن جابر عنه عن ابن عمر: "كانت الصلاة خمسين، والغسل من الجنابة سبع مرار، والغسل من البول سبع مرار، فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأل حتى جُعِلت الصلاة خمسًا، والغسل من الجنابة مرة، [ص 71] والغسل من البول مرة". "مسند أحمد" (2/ 109) (¬2). فأما الصلاة فقد ثبت ذلك في حديث الإسراء. وقد روى شريك عن عبد الله بن عُصم قصة الصلاة فقط، ولكن رواه عن ابن عباس، لا عن ابن عمر، وسيأتي (¬3). وأما الغُسل من الجنابة، وغَسل البول فلا أعرفه إلا في هذا الحديث. ولكن أيوب بن جابر ضعيف عندهم (¬4)، ضعفه ابن معين وأبو زُرعة جدًّا، فكأنهما حملا هذا الحديث على أيوب دون عبد الله بن عصم. فأما ابن حبان (¬5) فإنه ضعف أيوب أيضًا, ولكن بكثرة الخطأ والوهم، فهو عنده من أهل الصدق في الجملة. ¬

_ (¬1) رقم (2545). (¬2) وأبو داود رقم (247). (¬3) آخر الترجمة. (¬4) ترجمته في "التهذيب": 1/ 399 - 400. (¬5) "المجروحين": (1/ 167) (ق 56) قال: "يخطئ حتى خرج عن حدّ الاحتجاج به لكثرة وهمه". وقال بعد أن ساق هذا الحديث في ترجمة عبد الله بن عُصم (2/ 5): "على أن أيوب بن جابر أيضًا شبه لا شيء".

وروى أيوب بن جابر عنه عن أبي سعيد الخدري قال: "صلى رجل خلف النبي - صلى الله عليه وسلم -، فجعل يركع قبل أن يركع، ويرفع قبل أن يرفع، فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة قال: من فعل هذا؟ قال: أنا يا رسول الله، أحببت أن أعلم تعلم ذلك أم لا. فقال: اتقوا خِداج الصلاة، إذا ركع الإِمام فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا". "مسند" (3/ 43). وروى حجّاج وأبو النضر عن شريك عنه عن أبي سعيد مرفوعًا: "لا يحلُّ لأحدٍ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحُلَّ صرار ناقة بغير إذن أهلها، فإنه خاتمهم عليها، فإذا كنتم بقَفْر فرأيتم الوطب، أو الراوية، أو السقاء من اللبن، فنادوا أصحاب الإبل ثلاثًا، فإن سقاكم فاشربوا وإلا فلا، وإن كنتم مرملين - قال أبو النضر: ولم يكن معكم طعام - فليمسكه رجلان منكم، ثم اشربوا". "مسند" (3/ 46). [ص 72] وفي هذا الباب أحاديث، راجع "سنن البيهقي" (9/ 358). وروى مُصعب بن المقدام، وحُجَين بن المثنّى، عن إسرائيل عنه عن أبي سعيد: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ الراية فهزَّها، ثم قال: "من يأخذها بحقها؟ فجاء فلان فقال: أنا. قال: "امض"، ثم جاء رجل فقال: "امض"، ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "والذي كَرَّم وجه محمَّد لأعطينها رجلاً لا يفر. هاك يا علي"، فانطلق حتى فتح خيبر وفَدَك، وجاء بعجوتهما وقديدهما.- قال مُصعب: بعجوتها وقديدها -. "مسند" (3/ 16). أقول: أصل القصة مشهور، رواها جماعة من الصحابة، وبعض ذلك في "الصحيحين" (¬1)، ولكن في سياق هذه الرواية ما يُنكَر. ¬

_ (¬1) في البخاري رقم (2975)، ومسلم رقم (2407) من حديث سلمة بن الأكوع.

من ذلك قوله: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "والذي كَرَّم وجه محمَّد". ولا يعرف عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه حلف بمثل هذه اليمين، وإنما كان بعض أصحابه يحلف بها. ومن ذلك قوله: إنه - صلى الله عليه وسلم - هزَّ الراية ... إلخ. والمشهور أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قابل القوم يومين، ثم قال: "لأعطينَّ الرايةَ غدًا رجلاً يحبّ الله ورسوله، فأصبح الناس وكلٌّ يرجوها، فأرسل إلى علي رضي الله عنه، وكان أرمد، فتفل في عينيه فبرأ، فأعطاه الراية". ومنها قوله: "حتى فتح خيبر وفَدَك". والمعروف أن فَدَك لم تُفتح بحرب، ولكن لما فُتِحت خيبر أرسل أهل فَدَك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فصالحوه. [ص 73] وبالجملة؛ فأصل القصة ثابت، وعبد الله غير ضابط، يروي فيزيد وينقص، وكذلك يظهر من حديثه السابق (¬1) "لا يحلُّ لأحد ... " إلخ. وروى شريك عنه عن ابن عباس قال: "فُرِضَ على نبيكم - صلى الله عليه وسلم - خمسون صلاة، فسأل ربه عزَّ وجلَّ، فجعلها خمسًا" "المسند" (1/ 315). 174 - عبد الله بن مُحرَّر العامري، الجَزَري، قاضيها (¬2): قال ابن المبارك: كنت لو خُيرت أن أدخل الجنة وبين أن ألقى عبد الله ابن مُحرّر، لاخترت أن ألقاه، ثم أدخل الجنة، فلما لقيته كانت بعرة أحبّ إليّ منه. ¬

_ (¬1) (ص/ 103). (¬2) ت الكمال: 4/ 263، التهذيب: 5/ 389، الميزان: 3/ 214.

وقال أحمد: ترك الناسُ حديثه. وقال البخاري وأبو حاتم: منكر الحديث. وروى عبد الرزاق عنه عن قتادة عن أنس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عقَّ عن نفسه بعد النبوَّة. قال عبد الرزاق: إنما تركوه لحال هذا الحديث. أقول: وذكر له في "الميزان" مع هذا الحديث غيره من المناكير. 175 - عبد الله بن محمَّد العَدَوي التميمي (¬1): قال البخاري وأبو حاتم والدارقطني: منكر الحديث. روى له ابن ماجه (¬2) حديثًا واحدًا في الجمعة. قال ابن عبد البر: جماعةُ أهلِ العلم بالحديث يقولون: إن هذا الحديث من وضع عبد الله بن محمَّد (¬3). 176 - [ص 74] عبد الخبير بن قيس بن ثابت بن شمَّاس الأنصاري (¬4): عن أبيه عن جده، في ذِكْر من قتله أهل الكتاب له أجر شهيدين (¬5). وعنه فَرَج بن فَضالة. ¬

_ (¬1) ت الكمال: 4/ 280، التهذيب: 6/ 20 - 21، الميزان: 3/ 199. (¬2) رقم (1081). وانظر للكلام عليه "فتح الباري": (4/ 189 - 190) لابن رجب. (¬3) بقية كلامه "وهو عندهم موسوم بالكذب". (¬4) ت الكمال: 4/ 358، التهذيب: 6/ 123, الميزان: 3/ 258. (¬5) عند أبي داود (2488).

قال البخاري: حديثه ليس بقائم. وكذا قال أبو حاتم وابن عديّ والحاكم أبو أحمد، وزادوا: منكر الحديث. 177 - عبد الرحمن بن إسحاق، أبو شيبة الواسطي (¬1): قال أحمد: ليس بشيء، منكر الحديث. وقال ابن معين: ضعيف، ليس بشيء. وقال البخاري: فيه نظر. وتكلم فيه غيرهم. وذكر له في "الميزان": مروان بن معاوية، عنه، حدثني عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه رفَعَه: "كل شهر حرام تامّ، ثلاثون يومًا وثلاثون ليلة" (¬2). 178 - عبد الرحمن بن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مُلَيكة (¬3): قال أحمد والبخاري: منكر الحديث. وقال ابن معين: ضعيف. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال ابن حبان: ينفرد عن الثقات بما لا يُشْبه حديث الأثبات. [ص 75] في "الميزان": علي بن الجعد أنبأنا عبد الرحمن بن أبي بكر المُلَيكي عن القاسم عن عائشة مرفوعًا: "من أُعْطي حظَّه من الرفق أُعْطي حظَّه من خير الدنيا والآخرة" (¬4). أبو حذيفة ثنا عبد الرحمن بن أبي بكر المُلَيكي عن زُرَارة بن مُصعب ¬

_ (¬1) ت الكمال: 4/ 368، التهذيب: 6/ 136، الميزان: 3/ 262. (¬2) الحديث في "الكامل": (4/ 305)، وفي "مشكل الآثار" رقم (502) وضعَّفه. (¬3) ت الكمال: 4/ 377، التهذيب: 6/ 146، الميزان: 3/ 264. (¬4) الحديث في "مسند علي بن الجعد" رقم (2911)، ومن طريقه في "الكامل": (4/ 295).

عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعًا: "من قرأ آية الكرسي، وحم المؤمن عُصِم من كل سوء" (¬1). 179 - عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة (¬2): ضعَّفه ابن المديني. وقال أحمد: متروك. وقال ابن نُمير: لا أُقْدِم على ترك حديثه. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال أبو حاتم: شيخ. وقال ابن معين مرة: صالح. ومرة: ليس به بأس. وقال ابن سعد والعِجْلي: ثقة. ذكر له في "الميزان" حديثه عن حَكيم بن حَكيم بن عباد عن أبي أمامة ابن سهل أن رجلاً رُمي (¬3) بسهم فقتله، وليس له وارث إلا خال، فكتب أبو عُبيدة إلى عمر، فكتب: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الخالُ وارثُ من لا وارث له" (¬4). 180 - [ص 76] عبد الرحمن بن حَرْملة الكوفي (¬5): عن ابن مسعود. وعنه ابن أخيه القاسم بن حسّان. قال ابن المديني: لا أعلم رُوي عنه شيء إلا من هذه الطريق، ولا نعرفه من أصحاب عبد الله. وقال البخاري: لم يصح حديثه. وقال ابن أبي حاتم: ¬

_ (¬1) الحديث في "ضعفاء العقيلي": (2/ 325). (¬2) ت الكمال: 4/ 386، التهذيب: 6/ 155 - 156، الميزان: 3/ 268. (¬3) كذا في "الميزان" والأصل تبعًا له، وفي المصادر: "أن رجلاً رمى رجلاً ... ". (¬4) الحديث ساقه في "الميزان" من "المستدرك" (1/ 46)، وهو عند الترمذي (2103)، والنسائي في الكبرى (6317)، وابن ماجه (2737). (¬5) ت الكمال: 4/ 391 - 392، التهذيب: 6/ 161، الميزان: 3/ 270.

سألت أبي عنه فقال: ليس بحديثه بأس، وإنما روى حديثًا واحدًا ما يمكن أن يعتبر به، ولم أسمع أحدًا ينكره، أو يطعن عليه (¬1). وأشار الذهبي في "الميزان" إلى حديثه، وقال: هذا منكر. أقول: لفظ حديثه عند أبي داود (¬2): أن ابن مسعود كان يقول: كان نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يكره عشر خِلال: الصُّفْرة - يعني الخَلوق -, وتغيير الشيب، وجر الإزار، والتختم بالذهب، والتبرج بالزينة لغير محلها، والضرب بالكِعَاب، والرُّقَى إلا بالمعوّذات، وعقد التمائم، وعزل الماء لغير أو غير محله، أو عن محله، وفساد الصبي غيرَ مُحرَّمِه". ونحوه عند النسائي (¬3). وليس فيه نكارة من جهة المعنى. ويُحْمَل تغيير الشيب على تغييره بالسواد. وإنما النكارة من جهة تفرده به عن ابن مسعود، ولم يعتدّ أبو حاتم بهذا. والله أعلم. 181 - عبد الرحمن بن زيد بن أسْلَم (¬4): قال عبد الله بن أحمد: سمعت أبي يضعِّف عبد الرحمن، وقال: روى ¬

_ (¬1) ثم أشار ابن أبي حاتم إلى أن البخاري أدخله في كتاب "الضعفاء"، وأن أباه قال: يُحوّل منه "الجرح والتعديل": (5/ 223). (¬2) رقم (4222). (¬3) رقم (5088). وفي "الكبرى" (9310). (¬4) ت الكمال: 4/ 403، التهذيب: 6/ 177، الميزان: 3/ 278.

حديثًا منكرًا: "أُحِلّت لنا ميتتان ودمان" (¬1). 182 - عبد الرحمن بن عدي البَهْراني (¬2): روى عن أخيه عبد الأعلى، ويزيد بن مَيْسرة بن حَلْبَس. وعنه صفوان بن عَمرو، وعبد الله بن بُسر الحُبْراني، وإسماعيل بن عياش. [ص 77] قال أبو حاتم: لا أعرفه، وحديثه صالح. وقال ابن القطان: لا يعرف (¬3). 183 - عبد الرحمن بن أبي المَوَال (¬4): وثّقه ابن معين مرة، وأبو داود، والترمذي والنسائي. وقال أحمد وغيره: لا بأس به. وقال أحمد أيضًا: كان يروي حديثًا منكرًا عن ابن المُنْكَدِر عن جابر في الاستخارة، ليس أحدٌ يرويه غيره (¬5). قال: وأهل المدينة يقولون: ¬

_ (¬1) انظر "الضعفاء": (2/ 331) للعقيلي، و"الكامل": (1/ 21، 379، 4/ 186، 271)، و"علل الدارقطني": (11/ 266). (¬2) ت الكمال: 4/ 441، التهذيب: 6/ 228. (¬3) له في "مراسيل أبي داود" حديث واحد (331). (¬4) ت الكمال: 4/ 479 - 480، التهذيب: 6/ 282، الميزان: 3/ 306. (¬5) قال ابن عدي بعد حكاية قول أحمد: والذي أُنكر عليه حديث الاستخارة، وقد رواه غير واحد من الصحابة كما رواه ابن أبي الموال. قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": (11/ 187): "قلت: يريد أن للحديث شواهد، وهو كما قال مع مشاححة في إطلاقه. قال الترمذي بعد أن أخرجه: حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث بن أبي الموال وهو مدني ثقة روى عنه غير واحد، وفي الباب عن ابن مسعود وأبي أيوب. قلت: وجاء أيضًا عن أبي سعيد وأبي هريرة وابن عباس وابن عمر ... " ثم تكلم =

إذا كان حديث غلط: ابن المُنْكَدِر عن جابر، وأهل البصرة يقولون: ثابت عن أنس، يُحِيلون (¬1) عليهما (¬2). 184 - عبد الرحمن بن النعمان بن معبد بن هَوْذَة (¬3): قال أبو حاتم: صدوق. وقال ابن معين: ضعيف. أخرج له أبو داود حديثًا واحدًا عن أبيه عن جده: "أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإثمد عند النوم، وقال: ليتقه الصائم" (¬4). وقال عقبه: قال لي يحيى بن معين: هو منكر. 185 - عبد الرحمن بن نمر (¬5): في الوحدان (¬6). 186 - عبد الرحيم بن هارون الغسَّاني (¬7): روى عنه جماعة. وقال أبو حاتم: مجهول لا أعرفه. وأورد له ابن عديّ ¬

_ = عليها. وانظر "هُدى الساري": (ص/ 439). (¬1) في الأصل تبعًا للتهذيب: "يحملون" تحريف، وصوابه ما أثبت من المصادر. (¬2) قال الحافظ في "الفتح": (11/ 187): "وقد استشكل شيخنا في شرح الترمذي هذا الكلام وقال: ما عرفت المراد به فإن ابن المنكدر وثابتًا ثقتان متفق عليهما! قلت: يظهر لي أن مرادهم التهكم والنكتة في اختصاص الترجمة الشهرة والكثرة". (¬3) ت الكمال: 4/ 482، التهذيب: 6/ 286، الميزان: 3/ 308. (¬4) رقم (2377). (¬5) ت الكمال: 4/ 483، التهذيب: 6/ 287، الميزان: 3/ 309. (¬6) انظر رسالة "الوحدان" للمؤلف رقم (90). (¬7) ت الكمال: 4/ 497، التهذيب: 6/ 308، الميزان: 3/ 321.

أحاديث ثم قال: لم أر للمتقدمين فيه كلامًا، وإنما ذكرته لأحاديث رواها مناكير عن قوم ثقات. وقال ابن حبان في "الثقات" (¬1): يعتبر بحديثه إذا حدَّث عن الثقات من كتابه، [ص 78] فإن فيما حدَّث به من حفظه بعض المناكير. وقال الدارقطني: متروك الحديث، يكذب. فمن أفراده: حديثه عن ابن أبي روَّاد عن نافع عن ابن عمر رفعه: "إذا كذب العبد كذبة تباعد منه الملك مسيرة ميل". الحديث أخرجه الترمذي (¬2) وقال: حسن غريب (¬3) لا نعرفه إلا من هذا الوجه، تفرَّد به عبد الرحيم. وله في "الميزان" أحاديث أخرى. 187 - عبد العزيز بن أبان الأموي السعيدي (¬4): قال أحمد: لما حدَّث بحديث المواقيت تركته، ولم أخرج عنه في "المسند" شيئًا، قد أخرجت عنه على غير وجه الحديث. وقال ابن معين: كذّاب خبيث يضع الحديث. وقيل لابن معين: ما تنقم عليه؟ قال: غير شيء، أحاديث كذب ليس لها أصل، منها: حديث عن سفيان عن مغيرة عن إبراهيم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ¬

_ (¬1) (8/ 413). (¬2) رقم (1972). (¬3) في المطبوع: (4/ 348): "حسن جيد غريب ... "، وفي المخطوط: (ق 133/ ب) وتهذيب الكمال وتهذيبه كما هو في الأصل. (¬4) ت الكمال: 4/ 510، التهذيب: 6/ 329، الميزان: 3/ 336.

للعباس: "يكون من ولدك من يملك كذا ويفعل كذا". فقال العباس: أفلا أختصي يا رسول الله؟ ومنها: حديث عن سفيان عن الأعمش عن أبي وائل عن حذيفة: "تخرج رايات من المشرق ... ". قال ابن معين: هذه الأحاديث كذب، لم يحدث بها أحدٌ قط إلا سقط حديثه ... (¬1). 188 - عبد العزيز بن جُرَيج المكّي (¬2): عن عائشة وجماعة. وعنه: ابنه عبد الملك وخُصيف. [ص 79] قال البخاري: لا يتابع في حديثه. وقال ابن حبان في "الثقات" (¬3): لم يسمع من عائشة. وكذا قال العِجْلي (¬4). ¬

_ (¬1) بقية الرواية - يسأل الحسين بن حبان ابن معين -: "قلت له: فقد حدث به السويدي عن محمَّد بن حمزة، عن سفيان؟ قال أبو زكريا: عُنِيت بهذا فسألت عنه بالشام واستقصيت أمره, فإذا هو: عن رجل، عن سفيان. فقلت له: فهو ذا، هذا الرجل يوافق عبد العزيز. قال: لعل هذا الرجل هو عبد العزيز! ". ت الكمال: (4/ 511). (¬2) ت الكمال: 4/ 512، التهذيب: 6/ 333، الميزان: 3/ 338. (¬3) (7/ 114). (¬4) قال الحافظ ابن حجر: "لكن في "مسند أحمد: 6/ 227" وغيره التصريح بسماعه منها من رواية خصيف عنه". أقول: لكن خصيف ليس بالقوي فيخشى أن يكون من أوهامه، خاصة أن أحمد قد قال: انه شديد الاضطراب في المسند. ترجمته في "التهذيب": 3/ 143.

189 - عبد العزيز بن عُبيد الله بن حمزة بن صُهَيب الحِمْصي (¬1): عن نافع وابن المُنْكَدِر وعدة. وعنه إسماعيل بن عيَّاش. قال أحمد: كنتُ أظن أنه مجهول حتى سألت عنه بحمص، فإذا هو عندهم معروف، ولا أعلم أحدًا روى عنه غير إسماعيل. وقال ابن معين: ضعيف الحديث، لم يحدث عنه غير إسماعيل. وقال أبو زُرعة: مضطرب الحديث، واهي الحديث. [قال أبو حاتم] (¬2): يروي عن أهل الكوفة والمدينة، ولم يرو عنه غير إسماعيل، وهو عندي عجيب، ضعيف، منكر الحديث، يُكْتب (¬3) حديثه، ويروي أحاديث مناكير، ويروي أحاديث حِسَانًا. د: ليس بشيء. س: ليس بثقة، ولا يكتب حديثه. قط (¬4): متروك. 190 - عبد الكريم بن رَوْح بن عَنْبسة (¬5): روى عنه جماعة. وقال أبو حاتم؟ مجهول. 191 - عبد الملك بن أبي سليمان (¬6): كان شُعبة يعجب من حفظه. وقال الثوري: حفاظ الناس: إسماعيل بن ¬

_ (¬1) ت الكمال: 4/ 524، التهذيب: 6/ 348، الميزان: 3/ 346. (¬2) سقطت من الأصل تبعًا للتهذيب، والاستدراك من "الجرح والتعديل": (5/ 387)، وت الكمال. (¬3) تحرفت في الأصل تبعًا للتهذيب إلى: "ينكر"، والإصلاح من المصدرين السالفين. (¬4) هكذا جعلها المؤلف - للأول مرة - رموزًا لـ (أبو داود، والنسائي، والدارقطني). (¬5) ت الكمال: 4/ 540، التهذيب: 6/ 372، الميزان: 3/ 358. (¬6) ت الكمال: 4/ 555، التهذيب: 6/ 396، الميزان: 3/ 370.

أبي خالد، وعبد الملك بن أبي سليمان ... وذَكَر جماعة. وسماه الثوريّ وابن المبارك: الميزان. وسئل ابن معين عن حديث عطاء عن جابر في الشُّفْعة فقال: هو حديث لم يحدَّث به أحد إلا عبد الملك، وقد أنكره الناس عليه، ولكن عبد الملك ثقة صدوق، لا يُرَدّ على مثله ... قال شُعبة: لو جاء عبد الملك بآخر مثله لرميت بحديثه. [ص80] وقال أمية بن خالد: قلت لشعبة: مالكَ لا تحدث عن عبد الملك بن أبي سليمان، وقد كان حسن الحديث؟ قال: من حُسْنها فررت. وقال أحمد: هذا حديث منكر، وعبد الملك ثقة. وفي "سنن البيهقي" (6/ 107) عن أبي قدامة السَّرَخْسي سمعت يحيى بن سعيد القطان يقول: لو روى عبد الملك حديثًا آخر مثل حديث الشفعة لتركت حديثه (¬1). قال: ورواه مسدد عن يحيى القطان عن شُعبة أنه قال ذلك. وقال ابن عمّار الموصلي: ثقة حجة. وقال العِجْلي: ثقهَ ثبت. وقال النسائي ويعقوب بن سفيان وغيرهم: ثقة. وقال أبو زُرعة: لا بأس به. وقال الترمذي: ثقة مأمون، لا نعلم أحدًا تكلم فيه غير شُعبة، وقد كان حدَّث عنه ثم تركه، ويقال: إنه تركه لحديث الشفعة الذي تفرد به. ¬

_ (¬1) وذكره عنه في "الكامل": (5/ 302).

وقال ابن حبان في "الثقات" (¬1): ربما أخطأ .. والغالب على من يحفظ ويحدِّث أن يهم، وليس من الإنصاف تركُ حديثِ شيخٍ ثَبْتٍ صَحَّتْ عدالتُه (¬2) بأوهام يهم فيها. والأولى فيه قبول ما يروي بتَثبُّت، وترك ما صح أنه وهم فيه، ما لم يفْحُش، فمن غلب خطاؤه على صوابه استحق الترك. أقول: وحديث الشُّفْعة هو حديث عبد الملك عن عطاء عن جابر رفعه: "الجارُ أحقّ بشفعة جاره، ينتظر به وإن كان غائبًا، إذا كان طريقهما واحدًا". [ص 81] أقول: ترك الشيخان هذا الحديث، مع شهرته، فلم يخرجاه في "صحيحيهما"، وزاد البخاري فلم يخرّج لعبد الملك شيئًا، وإنما ذكر له في التعاليق. ولم أجد من طريق عطاء حديثًا في الشفعة. فأما جابر فالمشهور عنه حديث أبي الزبير، وأثبت الروايات فيه رواية ابن وهب عن ابن جُريج أن أبا الزبير أخبره أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الشفعة في كل شركٍ، في أرضٍ أو رَبْعةٍ أو حائطٍ، لا يصلح أن يبيع حتى يعرض على شريكه، فيأخذ أو يدع، فإن أبى فشريكه أحق حتى يؤذنه". أخرجه مسلم (¬3). وأخرجه من وجهٍ آخر عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر. ومن وجهٍ ثالث عن أبي خيثمة عن أبي الزبير عن جابر. ¬

_ (¬1) (7/ 97 - 98). (¬2) تحرفت "عدالته" في الأصل تبعًا للتهذيب إلى "عنه السنة" وهو من طرائف التحريف! والتصحيح من "الثقات". (¬3) رقم (1608) من الأوجه الثلاثة.

والألفاظ متقاربة. وهذا لم يخرجه البخاري؛ لأنه لم يخرج لأبي الزبير، ولكن أخرج من طريق مَعْمر عن ابن شهاب عن أبي سلمة عن جابر: "قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالشفعة في كل ما لم يُقْسم، فإذا وقعت الحدود وصُرِّفت الطرق فلا شفعة". أخرجه البخاري (¬1) من طريق عبد الواحد بن زياد، ومن طريق عبد الرزاق، ومن طريق هشام بن يوسف، كلهم عن مَعْمر. وقد تابع مَعْمرا عبد الرحمن بن إسحاق (¬2)، وصالح بن أبي الأخضر (¬3)، والمتن مختصر. [ص 82] وأخرج البيهقي في "السنن" (6/ 103) من طريق سَلْم بن إبراهيم الوراق، عن عكرمة بن عمّار عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن جابر رفعه: "إذا وقعت الحدود فلا شُفعة". وسَلْم: كذَّبه ابن معين (¬4). ولم يخرج مسلم هذا الحديث؛ لأن أصحاب الزهري ذكروا عنه روايات مختلفة، هذه إحداها (¬5). ¬

_ (¬1) رقم (2214، 2213، 2495) على التوالي. (¬2) ذكره البخاري عقب حديث رقم (2214) معلقًا، ووصله مسدد في "مسنده" كما في "الفتح" (4/ 476). (¬3) أخرجه أحمد رقم (14999). (¬4) انظر "التهذيب": (4/ 137). (¬5) الأصل: "أحدها".

والثانية: رواية مالك في "الموطأ" (¬1) عن الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. والثالثة: رواية أبي عاصم الضحَّاك بن مَخْلد عن مالك (¬2) في غير "الموطأ". رواه عن مالك عن الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة عن أبي هريرة قال: "قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالشُّفْعة فيما لم يُقْسَم، فإذا حُدّت الحدود، وصُرِّفت الطرق، فلا شفعة". وروي كذلك من غير وجه عن مالك. انظر "سنن البيهقي" (6/ 103). وقال أبو عاصم: الحديث عن سعيد مرسل، وعن أبي سلمة موصول (¬3). يعني: أن قوله: "عن أبي هريرة" (¬4) يرجع إلى أبي سلمة خاصة، فكأن التقدير: الزهري عن سعيد قال: "قضى ... ". والزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: "قضى ... ". وقال أبو عاصم مرة: عن مالك عن سعيد بن المسيب، أو عن أبي سلمة عن أبي هريرة. وكذلك روي عن ابن جريج وابن إسحاق عن الزهري، وهما مدلسان. وروى يونس عن الزهري عن سعيد بن المسيب: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى ... " (¬5). ¬

_ (¬1) رقم (2079). (¬2) أخرجها ابن ماجه رقم (2497). (¬3) نقله عنه ابن ماجه عقب إخراج الحديث السالف من طريقه. (¬4) وقع في الأصل في هذا الموضع والذي يليه "جابر" سبق قلم. (¬5) هذه الطرق أخرجها البيهقي في "الكبرى": (6/ 103 - 104) والمؤلف ينقل منه.

والنكارة في هذا الحديث من جهة تفرد عبد الملك عن عطاء؛ مع أن عطاء عُمَّر دهرًا، وكان متصدِّرًا للتحديث والإفتاء، والشفعةُ مما يكثر السؤال عنه والحاجة إلى الفتوى فيه. ولعطاء أصحاب أكثر لزومًا له وحديثًا عنه من عبد الملك، ومنهم فقهاء يحتاجون إلى مثل هذا. [ص 83] وأكد ذلك: أنه لم يُرْو هذا الحديث عن جابر أيضًا، مع أن لجابر عدة أصحاب لازموه، وبعضهم كتب عنه. فأما النكارة من جهة المعنى؛ فقد دفعها بعضهم: بأن حديث مَعْمر عن جابر موافق لحديث عبد الملك بمفهومه، لقوله: "فإذا حُدّت الحدود وصُرِّفت الطرق". هذا، وإنما شدّد شُعبةُ والقطان على عبد الملك في هذا الحديث؛ لأنه لم يعرف له وجهٌ يحمل فيه على الخطأ، فلو عُرِف وجهٌ تتبينُ به مظنة الخطأ، لما شددوا عليه (¬1). وتفسير هذا: أن هناك ثلاثة احتمالات: الأول: أن يكون الحديث صحيحًا، واتفق ما ذُكِر من التفرد على خلاف العادة الغالبة. الثاني: أن يكون عبد الملك أخطأ. ¬

_ (¬1) انظر مقدمة المصنّف على "الفوائد المجموعة" للشوكاني، فقد ذكر هذا الحديث مثالاً على ما يعلّه الأئمة بعلة ليست بقادحةٍ مطلقًا، لكنهم يرونها كافية للقدح في ذاك المنكر، وإن كان ظاهر السند الصحة.

الثالث: أن يكون كذب. فإذا بان وجه الخطأ تعين، وانتفى الاحتمال الثالث، وإلا بقي الاحتمال الثالث قائمًا. والجائز على الثقات - الذي لا يخلو منه أحد منهم - إنما هو الخطأ؛ فلذلك لم يتركوا من تبيَّن خطاؤه في حديث أو أحاديث. وبهذا عُلِم ما في كلام ابن حبان. 192 - [ص 84] عبد الوهاب بن عطاء الخفَّاف (¬1): قال المرُّوذي: قلت لأحمد بن حنبل: عبد الوهاب بن عطاء ثقة؟ فقال: ما تقول؟! إنما الثقة يحيى القطان. وقال أحمد: كان يحيى بن سعيد حسن الرأي فيه. وقال أيضًا: كان عالمًا بسعيد. وقال أحمد مرة: ضعيف. وقال ابن معين: لا بأس به. وقال مرة: يكتب حديثه. وقال الدوري عنه: ثقة. وقال البرذعي: قيل لأبي زرعة [وأنا شاهد: فالخفّاف؟ قال: هو أصلح منه قليلاً - يعني من علي بن عاصم -. وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سُئل أبو زرعة عنه فقال] (¬2): روى عن ثور بن يزيد حديثين ليسا من حديث ثور. وذكَر عن يحيى (¬3) بن معين هذين الحديثين، فقال: لم يذكر فيهما الخَبَر. ¬

_ (¬1) ت الكمال: 5/ 19، التهذيب: 6/ 450، الميزان: 3/ 395. كتب الشيخ في رأس الصفحة فوق الترجمة "ثقة"، فكأنه يرى توثيقه. (¬2) ما بين المعكوفين سقط من الأصل تبعًا للتهذيب, والاستدراك من "سؤالات البرذعي": 397، و"الجرح والتعديل": (6/ 72)، وت الكمال. (¬3) في "الجرح": "ليحيى".

وقال صالح بن محمَّد الأسدي: أنكروا على الخفاف حديثًا رواه عن ثور عن مكحول عن كُريب عن ابن عباس في فضل العباس (¬1). قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للعباس: "إذا كان غداة الاثنين فأْتني أنت وولدك حتى أدعو لك بدعوة ينفعك الله بها وولدك. فغدا وغدونا معه، وألبسنا كساء، ثم قال: اللهم اغفر للعباس وولده مغفرةً ظاهرة وباطنة، لا تغادر ذنبًا، اللهم احفظه في ولده". قال الترمذي: حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه (¬2). وانظر "كنز العمال" (5/ 212)، وترجمة مالك بن حمزة بن أبي أسيد، وحديثه في "دلائل أبي نعيم" (ص 154)، وترجمة عبد الله بن الغسيل من "الإصابة"، وحديثه في "الخصائص الكبرى" (2/ 77) (¬3). "الدلائل" لأبي نعيم (ص 154): ثنا أبو الحسن محمَّد بن الحسن قال: ثنا محمَّد بن يونس السامي ثنا عبد الله بن عثمان (¬4) بن إسحاق بن سعد بن ¬

_ (¬1) تحرفت في التهذيب: "القتلى"! (¬2) الترمذي رقم (3762). (¬3) من قوله "وانظر كنز العمال ... " إلى هنا ملحق في رأس الصفحة، ثم ألحق الشيخ ورقةً فيها نصوص شواهد الحديث الذي أُنكر على عبد الوهاب تبدأ بقوله: "الدلائل لأبي نعيم ... " إلى " ... يدل على تغايرهما". وقد رجّحت أن هذه الورقة تابعة للكتاب في هذا الموضع بإشارة للشيخ تدل على اللحق، ولتعلقها بالحديث في الترجمة, ومن عادة الشيخ أن يبسط الكلام على الحديث الذي أنكر على الراوي، ولأن وضعها في هذا المكان من المجموع لم يكن اعتباطًا. (¬4) الأصل: "عمير" وشك فيها المصنف فوضع فوقها خطًّا. وقد جاء على الصواب في السند الثاني.

أبي وقاص حدثني مالك بن حمزة عن أبيه عن أبي أسيد الساعدي البدري قال: لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العباس، فقال: "لا ترم من منزلك غدًا أنت وبنوك". وحدثنا القاضي أبو أحمد ثنا الحسن بن علي بن زياد ثنا عبد الرحمن ابن يحيى الهاشمي المدني ثنا عبد الله بن عثمان عن جده أبي أُمّة (¬1) - واسمه مالك بن حمزة بن أبي أسيد الساعدي - قال: شهدت جدي يحدث قال: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للعباس: لا تبرح أنت وبنوك غدًا ... فأتاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: السلام عليكم، كيف أصبحتم؟ قالوا: بخير بحمد الله، بأبينا أنت وأمنا يا رسول الله. قال: تقاربوا ... فلما أمكنوه اشتمل عليهم بملاءته، ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: اللهم هذا العباس عمي، وهؤلاء أهل بيتي، استرهم من النار كستري إياهم بملاءتي هذه, فأمنت أسكفة الباب، وحوائط البيت: آمين آمين آمين، ثلاثًا". وذكره السيوطي في "الخصائص الكبرى" (2/ 77) قال: أخرج البيهقي وأبو نعيم عن أبي أسيد الساعدي .. فذكره مختصرًا، ثم قال: وأخرج أبو نعيم عن عبد الله بن الغسيل قال: كنت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمر بالعباس فقال: يا عم، اتبعني ببنيك ... فذكره بنحوه. وفي "الإصابة": عبد الله بن الغسيل ذكره ابن منده وقال: إنه مجهول، يعدّ في بادية البصرة. وأورد له من طريق غريبة عن عامر بن [عبد] الأسود العَبْقسي (¬2) عن عبد الله بن الغسيل قال: كنت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمر بالعباس، فقال: يا عم ... فذكره, ثم قال: وجوَّز ابن الأثير أن يكون هو عبد الله بن ¬

_ (¬1) الأصل: "أمية" وفوقها خط. وتصحيح السند من "الدلائل" ومصادر الترجمة. (¬2) نسبة إلى: عبد القيس.

حنظلة ... ، لكن قول ابن منده: إنه من بادية البصرة، يدل على تغايرهما. وما (¬1) أنكروا عليه غيره. وكان ابن معين يقول: هذا الحديث موضوع. قال صالح: وعبد الوهاب لم يقل فيه: حدثنا [ثور] (¬2)، ولعله دلَّس فيه، وهو ثقة. وقال البخاري: يكتب حديثه. قيل له: يحتج به؟ قال: أرجو؛ إلا أنه كان يدلس عن ثورٍ وغيره أحاديث مناكير. 193 - عُبيد الله بن أبي زياد القدَّاح (¬3): قال أبو داود (¬4): أحاديثه مناكير. وقال ابن عديّ: لم أر في أحاديثه منكرًا. 194 - [ص 85] عُبيد الله بن عبد الله، أبو المُنيب العَتَكي (¬5): عن عبد الله بن بريدة، وعكرمة، وسعيد بن جُبير، وغيرهم. قال ابن معين والعباس بن مُصعب والحاكم: ثقة. وقال النسائي مرة: ثقة. وقال مرة: ضعيف. وقال أبو داود: ليس به بأس. وقال ابن عديّ: عندي لا بأس به. وقال الإِمام أحمد: عبد الله بن بريدة الذي روى عنه حسين بن واقد، ما أنكرهما، وأبو المنيب أيضًا. ¬

_ (¬1) هنا رجع الكلام على عبد الوهاب وروايته لهذا الحديث. (¬2) من التهذيب. (¬3) ت الكمال: 5/ 35، التهذيب: 7/ 14، الميزان: 3/ 405. (¬4) في رواية أبي عُبيد الآجري عنه. (¬5) ت الكمال: 5/ 44، التهذيب: 7/ 26، الميزان: 3/ 408.

وذكره البخاري في "الضعفاء" وقال: عنده مناكير. فقال أبو حاتم: صالح، يُحوَّل من كتاب "الضعفاء". وقال العُقيلي: لا يتابع على حديثه. وقال الحاكم أبو أحمد: ليس بالقوي عندهم. وقال ابن حبان: ينفرد عن الثقات بالأشياء المقلوبات. وقال أبو قدامة السَّرَخْسي: أراد ابن المبارك أن يأتيه، فأُخْبِر أنه يروي عن عكرمة: "لا يجتمع الخراج والعُشْر"، فلم يأته. وقال حامد بن آدم: روى عنه ابن المبارك أحاديث في السنن. 195 - خ ت. عثمان بن فَرْقد العطَّار (¬1): قال أبو حاتم: روى حديثًا منكرًا، حديث شُقْران: ألقى في قبره - صلى الله عليه وسلم - قطيفة حمراء. وقال ابن حبان في "الثقات" (¬2): مستقيم الحديث. وقال الدارقطني: يخالف الثقات. وقال الأزدي: يتكلمون فيه. في "مقدمة الفتح" (¬3): ليس له عند البخاري سوى حديث واحد، أخرجه مقرونًا بعبد الله بن نُمير، كلاهما عن هشام عن أبيه، عن عائشة في أواخر [ص 86] البيوع، في قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} [النساء: 6]، وذَكَر له آخر في حديث الإفك، قال فيه: قال محمَّد عن عثمان بن فرقد عن هشام عن أبيه: سببتُ حسّانًا عند عائشة .. الحديث. ووصله من حديث عبدة عن هشام. وأخرج له الترمذي حديث شُقْران واسْتَغْربه. ¬

_ (¬1) ت الكمال: 5/ 133، التهذيب: 7/ 148، الميزان: 3/ 449. (¬2) (7/ 195). (¬3) (ص/ 445).

أقول: لفظ الترمذي (¬1): ثنا زيد بن أخزم الطائي البصري ثنا عثمان بن فرقد سمعت جعفر بن محمَّد عن أبيه قال: الذي أَلْحَد قبرَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو طلحة، والذي ألقى القطيفة تحته شقران مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال جعفر: وأخبرني عُبيد الله بن أبي رافع قال: سمعت شُقران يقول: أنا والله طرحت القطيفة تحت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال الترمذي: حسن غريب. وروى علي ابن المديني عن عثمان بن فرقد هذا الحديث. ثم أخرج (¬2) عن بُندار عن غُنْدر والقطان عن شُعبة عن أبي جمرة عن ابن عباس قال: "جُعِل في قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - قطيفة حمراء". قال: حديث حسن صحيح. أقول: وحديث ابن عباس أخرجه مسلم في "صحيحه" (¬3). وفي "سنن البيهقي" (3/ 408) من طريق ابن إسحاق حدثني حسين بن عبد الله عن عكرمة عن ابن عباس قال: "وقد كان شُقران حين وُضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حفرته أخذ قطيفة قد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلبسها ويفرشها، فدفنها معه في القبر، وقال: والله لا يلبسها أحد بعدك. فدفنت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". قال: وقد روي عن يزيد بن الأصم عن ابن عباس: أنه كره [ص 87] أن ¬

_ (¬1) رقم (1047). (¬2) "الجامع" (1048). (¬3) رقم (967).

يُجْعَل تحت الميت ثوب في القبر. أقول: الحسين هو ابن عبد الله بن عُبيد الله بن العباس، وهو ضعيف عندهم، وليس بالساقط، قد قال ابن معين مرة: ليس به بأس، يُكتب حديثه (¬1). وعلى كل حال؛ فنكارة حديث عثمان إنما هي من جهة تفرده عن جعفر عن أبيه، وعن جعفر عن عُبيد الله بن أبي رافع عن شُقران. 196 - د ت. عثمان بن واقد بن محمَّد بن زيد بن عبد الله بن عمر (¬2): قال أحمد: لا أرى به بأسًا. وقال ابن معين: ثقة. وقال الآجري عن أبي داود: ضعيف. قلت له: إن الدوري يحكي عن ابن معين: أنه ثقة. فقال: هو ضعيف، حدَّث بحديث: "من أتى الجمعة من الرجال والنساء فليغتسل"، ولا نعلم أحدًا قال هذا غيره. وذكر ابن حبان في "الثقات" (¬3). وقال الدارقطني: كوفي ليس به بأس. أقول: حديثه في غسل الجمعة رواه نافع عن ابن عمر رفعه: "من أتى الجمعة من الرجال والنساء فليغتسل، ومن لم يأتها فليس عليه غُسل من الرجال والنساء". أخرجه البيهقي في "السنن" (3/ 188). وقد أخرجه أبو عوانة وابن خُزيمة وابن حبان في "صحاحهم" (¬4)، كما ¬

_ (¬1) ترجمته في "التهذيب": (2/ 341 - 342). (¬2) ت الكمال: 5/ 140، التهذيب: 7/ 158، الميزان: 3/ 456. (¬3) (7/ 197). (¬4) أبو عوانة في "مستخرجه" (2099)، وابن خزيمة (1752)، وابن حبان (1226).

في "الفتح" (¬1)، وذكر أن رواة الحديث عن نافع بلغوا مائة وستين (¬2) رجلاً، أي ولم يأت بهذه الزيادة إلا عثمان. قال في "الفتح": [ص 88]، قال البزار: أخشى أن يكون عثمان بن واقد وهم فيه. أقول: وله عند ابن حبان شاهد (¬3). 197 - عطاء الزيَّات (¬4): (خطأ لابن المبارك). 198 - عطاء بن مسلم الخَفَّاف (¬5): قال الدارمي عن يحيى: ثقة. وقال معاوية عنه: ليس به بأس، وأحاديثه منكرات. وقال أحمد: مضطرب الحديث. وذكر أبو زُرعة وأبو حاتم أنه كان رجلاً صالحًا، دفن كتبه، ثم كان يحدث من حفظه، فيَهِم. زاد أبو حاتم: فلا يثبت حديثه، وليس بقوي. وقال أبو داود: ضعيف، روى حديثه خالد عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه: "اغد عالمًا"، وليس هو بشيء. وفي "شرح الإحياء" (1/ 102): وأخرج البيهقي، والطبراني في ¬

_ (¬1) (2/ 416 - 417). (¬2) كذا، وفي "الفتح": "مائة وعشرين". ونقل ابن الملقن في "البدر المنير": (4/ 650) عن ابن منده في "مستخرجه" أن عدد رواة الحديث عن نافع فوق الثلاثمائة. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) ت الكمال: 5/ 182، التهذيب: 7/ 121. (¬5) ت الكمال: 5/ 174، التهذيب: 7/ 211، الميزان: 3/ 473.

"الأوسط"، والبزار في "مسنده" من رواية عطاء بن مسلم الخفاف [ص 89] عن خالد الحذَّاء عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه رفعه: "اغد عالمًا أو متعلمًا، أو مستمعًا، أو محبًّا, ولا تكن خامسًا فتهلك" (¬1). ثم قال البيهقي: تفرد به عطاء عن خالد، وإنما يروى عن ابن مسعود وأبي الدرداء من قولهما. قال عطاء: قال لي مِسْعر: زدتنا خامسة لم تكن عندنا ... ثم حكى (¬2) عن أبي زرعة العراقي أنه قال: هذا حديث فيه ضعف ... 199 - عكرمة بن خالد بن سلمة بن العاص (¬3): سمعتُ أبي، سمعتُ ابنَ عمر رَفَعه: "لا تضربوا الرقيق، فإنكم ما تدرون ما توافقون". وعنه جماعة. قال الدارقطني: لم يسند عكرمة غير هذا الحديث. وكذا قال ابن عديّ، وزاد: إلا شيئًا يسيرًا. قال ابن معين: ليس بشيء. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال النسائي: ضعيف. قال البخاري: ولم يثبت سماع خالد من ابن عمر. وجزم شيخه ابن المديني بأنه لم يسمع منه (¬4). ¬

_ (¬1) البيهقي في "الشعب" (1581)، والطبراني في "الأوسط" (5167)، والبزار (3626). (¬2) أي الزبيدي في "شرح الإحياء". (¬3) ت الكمال: 5/ 207، التهذيب: 7/ 259، الميزان: 4/ 10. (¬4) انظر "التهذيب" (3/ 96).

200 - علي بن ثابت الجَزَري (¬1): قال ابن عمّار: يقول أهل بغداد: إنه ثقة، إنما سمعت منه حديثين (يعني أنه لم يَخْبُره). ووثّقه أحمد وابن معين وابن نُمير وابن سعد والعِجْلي وأبو زُرعة وأبو داود وابن حبان وقال: ربما أخطأ. وقال صالح بن محمَّد: صدوق. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه. وقال النسائي: ليس به بأس، وقال الساجي: لا بأس به. وضعفه الأزدي وحده. 201 - م ق. [ص90] علي بن الحسن بن سُليمان الحَضْرمي (¬2): قال أبو داود: ثقة، ولم أسمع منه شيئًا. أقول: هذا محمول على أنه رأى أحاديثه عند من سمعوا منه، فعرف حاله، ولم يسمع هو منه. 202 - علي بن حَفْص المدائني (¬3): قال أحمد: علي بن حَفْص أحبّ إليَّ من شَبَابة. ووثّقه ابن المديني وأبو بكر بن أبي شيبة وأبو داود وابن معين مرة، وقال مرة: ليس به بأس. وكذا قال النسائي. وقال أبو حاتم: صالح الحديث، يُكتب حديثه ولا يحتج به. ¬

_ (¬1) ت الكمال: 5/ 226، التهذيب: 7/ 288، الميزان: 4/ 36. (¬2) ت الكمال: 5/ 234، التهذيب: 7/ 297 - 298. (¬3) ت الكمال: 5/ 243، التهذيب: 7/ 309، الميزان: 4/ 45.

203 - علي بن حَوشَب (¬1): قال دُحَيم: لا بأس به. قيل له: ولم لا تقول: إنه ثقة، ولا تعلم إلا خيرًا؟ فقال: قد قلت لك: إنه ثقة. 204 - علي بن سُويد (¬2): شيخ للحِمّاني. زعم أبو زُرعة أنه مُعلّى بن هلال، غيّره الحماني (¬3). 205 - علي بن ظَبْيان (¬4): قال ابن المديني: حدثنا بثلاثة أحاديث مناكير: عن عُبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر: "المُدَّبر من الثُّلث". وعن ابن أبي خالد عن الشعبي: "إذا مسح ببعض رأسه أجزأه". وعن عبد الملك عن عطاء، في الكتابة على الوصفاء. قال: وسمعت معاذًا يذكره، وقال ليحيى بن سعيد: إنّه من أصحاب الحديث، وإنه! فنظر (¬5) إليَّ يحيى، فقال: إنه يروي عن عُبيد الله عن نافع عن ابن عمر رفعه: "المُدَّبر من الثلث". فانتفض يحيى حتى سقطت قَلَنسوته ¬

_ (¬1) ت الكمال: 5/ 245، التهذيب: 7/ 315. (¬2) التهذيب: 7/ 331، الميزان: 4/ 52. (¬3) قال في الميزان: فيقال: هو معلى بن هلال، دلَّسه الحِماني. (¬4) ت الكمال: 5/ 263، التهذيب: 7/ 341، الميزان: 4/ 54. (¬5) الأصل والتهذيب: "نظر"، والمثبت من ت الكمال، وبه يستقيم سياق القصة فيكون المعنى: أن معاذًا أخذ يمدح ابن ظبيان ويقول: إنه .. وإنه .. ، فنظر يحيى إلى ابن المديني متعجبًا ...

من رأسه. فقال له معاذ: يا أبا سعيد، وأنت لم تسمع هذا من عُبيد الله؟ فنظر [ص 91] إليَّ يحيى وغمزني، أي لا يبصر الحديث (يعني معاذًا). واتفقوا على ضعفه (¬1). ويظهر أنه صدوق في الأصل، إلا أنه كثير الغلط. قال محمَّد بن عبد الله بن نُمير: ضعيف، يُخطئ في حديثه كله. 206 - علي بن عبد الله بن المديني (¬2): قال: ما نظرت في كتاب شيخ، فاحتجت إلى السؤال به عن غيري. 207 - عمّار بن سيف (¬3): أثنوا عليه في دينه، وأما حديثه فقال (¬4) ابن معين مرة: ثقة. ومرة: ليس حديثه بشيء. وقال البخاري: لا يتابع، منكر الحديث، ذاهب. وقال أبو حاتم: كان شيخًا صالحًا، وكان ضعيف الحديث، منكر الحديث. وضعفه أبو زُرعة والبزار وغيرهما. وقال أبو داود: كان مغفلًا. وقال الدارقطني: متروك. وقال أبو نعيم الأصبهاني: روى المناكير، لا شيء. وقال الحاكم: روى عن إسماعيل بن أبي خالد والثوريّ المناكير. ومع هذا كله قال العِجْلي: ثقة ثبت متعبد ... وذكروا له حديثه عن عاصم الأحول عن أبي عثمان [عن] جرير بن عبد الله البَجَلي: "تُبنى مدينة بين دجلة ودُجيل" الحديث. ¬

_ (¬1) وإن قال الحاكم: صدوق، تبعًا لشيخه أبي علي النيسابوري. (¬2) ت الكمال: 5/ 269 - 277، التهذيب: 7/ 349 - 357، الميزان: 4/ 58 - 61. (¬3) ت الكمال: 5/ 314، التهذيب: 7/ 402، الميزان: 4/ 85. (¬4) الأصل: "وقال".

وقد تقدم نحوه في ترجمة سيف بن محمَّد الثوري (¬1). وذكر عمّار أنه سمع عاصمًا يحدِّث به في مجلس سفيان الثوري، ورواه عمّار مرة عن سفيان الثوريّ عن عاصم. وأسند العُقيلي عن المخرّمي عن ابن معين قال: سمعت يحيى بن آدم يقول لنا: إنما أصابَ [ص 92] عمّارٌ هذا على ظهرِ كتابٍ فرواه (¬2). 208 - عمّار بن أبي فروة (¬3): قال البخاري: لا يتابع في حديثه. وقال ابن عديّ: ما أقل ما له من الحديث، ومقدار ما يرويه لا أعرف له شيئًا منكرًا. أقول: كأنه يعني منكر المتن، فأما الإسناد فنعم؛ فإنه روى عن الزهري أنه حدثه أن عُروة وعَمْرة حدثاه عن عائشة ترفعه: "إذا زنت الأمة فاجلدوها ... " الحديث (¬4). ورواه مالك، وابن عُيينة، ومَعْمر عن الزهري عن عُبيد الله عن أبي هريرة، وزيد بن خالد. زاد ابنُ عُيينة، وشبل: ... وقيل غير ذلك عن الزهري. فلم يتابع عمّار على قوله: "عن عروة وعَمْرة عن عائشة". راجع ¬

_ (¬1) رقم (145). (¬2) يعني حديث: "تُبنى مدينة ... ". (¬3) ت الكمال: 5/ 316، التهذيب: 7/ 405، الميزان: 4/ 87. (¬4) أخرجه ابن ماجه رقم (2566)، والنسائي في "الكبرى" رقم (7225). وانظر "الضعفاء" للعقيلي: (3/ 321)، و"الكامل" (5/ 74).

"الميزان". 209 - [ص 93] عمر بن إبراهيم العبدي، أبو حَفْص البصري (¬1): قال أحمد: كان عبد الصمد يحمده، وهو يروي عن قتادة أحاديث مناكير، يخالف. قال: وقد روى عبَّاد بن العوّام عنه حديثًا منكرًا. [يعني حديثه] (¬2) عن قتادة عن الحسن عن الأحنف بن قيس عن العباس مرفوعًا: "لا تزال أمتي على الفطرة ما لم يؤخِّروا المغرب حتى تشتبك النجوم". وقال عبد الصمد: كان ثقة، وفوق الثقة. وقال ابن معين مرة: صالح. ومرة: ثقة. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال ابن عديّ: يروي عن قتادة أشياء لا يوافق عليها، وحديثه خاصة عن قتادة مضطرب. وقال ابن حبان في "الثقات" (¬3): يُخطئ ويخالف. وفي "الضعفاء" (¬4): كان ممن ينفرد عن قتادة بما لا يشبه حديثه ... فإن اعتبر به معتبر لم أر بذلك بأسًا. وقال الدارقطني: ليِّن يترك. وقال البزار: ليس بالحافظ. وفي "الميزان" الحديث المتقدم. ¬

_ (¬1) ت الكمال: 5/ 331، التهذيب: 7/ 425، الميزان: 4/ 98. (¬2) زيادة مني للفصل بين كلام أحمد الذي ينتهي عند قوله "منكرًا"، وكلام المصنف في بيان الحديث المنكر، كما فعل الحافظ المزي في ت الكمال. (¬3) (8/ 446). (¬4) (2/ 89).

و: شاذ (¬1) بن فياض ثنا عمر بن إبراهيم عن قتادة عن أنس مرفوعًا: "الحجر الأسود من حِجار الجنة" (¬2). وروي عن أنسٍ قوله (¬3). 210 - عُمر بن إسماعيل بن مُجَالد (¬4): قال أبو زُرعة: أتيناه فأخرج إلينا كراسة لأبيه، فيها أحاديث جياد، عن مجالد، وبيان، والناس، فكنا نكتب إلى العصر، فيقرأ علينا، فلما أردنا أن نقوم قال: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس رفعه: "أنا مدينة العِلْم وعليٌّ بابُها"، فقلت له: ولا كلّ هذا بِمَرّة. قال: فأتيت يحيى بن معين [ص 94] فذكرت ذلك له، فقال: قل له: يا عدوَّ الله! متى كتبتَ أنت هذا عن أبي معاوية؟ إنما كتبت عن أبي معاوية ببغداد، ومتى حدَّث أبو معاوية هذا الحديث ببغداد؟ وقال عبد الله بن أحمد عن يحيى بن معين: ليس بشيء، كذَّاب خبيث، ¬

_ (¬1) الأكثر على ضبط الذال من "شاذ" بالتشديد. انظر "الإكمال": (5/ 4)، و"توضيح المشتبه": (5/ 262)، وحاشية "التقريب" (2730). (¬2) أخرج المرفوع الفاكهي في "أخبار مكة" (7)، والبيهقي: (5/ 75)، والطبراني في "الأوسط": (4951)، وابن عدي في "الكامل": (5/ 42)، والعقيلي في "الضعفاء": (3/ 147). من هذا الطريق مرفوعًا. قال أبو حاتم في "العلل" (814): "أخطأ عمر بن إبراهيم". وقال الطبراني: "لم يرو هذا الحديث عن قتادة إلا عمر بن إبراهيم، تفرّد به شاذ". وأشار إليه الترمذي في "الجامع": (3/ 226) وقال: "غريب". (¬3) أخرجه أحمد في "المسند" رقم (13944) من طريق شعبة عن قتادة عن أنسٍ قوله، وهو الأصح كما تقدم. (¬4) ت الكمال: 5/ 332، التهذيب: 7/ 427، الميزان: 4/ 102.

رجل سوء، حدَّث عن أبي معاوية - فذكر الحديث -, وقال: وهو حديث ليس له أصل. قال عبد الله: وسألت أبي عنه فقال: لا أراه إلا صدق. وقال عبد الله أيضًا عن ابن معين: كتبتُ عن إسماعيل بن مجالد، وليس به بأس، وكنت أرى أن ابنه هذا عمر شويطر، ليس بشيء، كذّاب، رجل سوء، حدَّث عن أبي معاوية بحديث ليس له أصل، فذكره. ونحو هذا قال ابن الجُنيد عن يحيى. وقال يحيى بن أحمد بن زياد: سألتُ ابنَ معين عن هذا الحديث، فأنكره. أقول: يظهر مما هنا، ومما في ترجمة عبد السلام بن صالح (¬1)، أن ابن معين أول ما سمع بهذا الحديث من عبد السلام. فإن ابن الجُنيد سأله عن عبد السلام فقال: قد سمع، وما أعرفه بالكذب. فذكر له هذا الحديث فقال: ما بلغني إلا عنه، وما سمعت به قط. وكأنه عَقِب هذا ذكر له عبد الله بن أحمد، وابن الجُنيد: أن عمر بن إسماعيل يحدَّث بهذا الحديث، فقال ما قال. وإنما بادر إلى تكذيبه وتوقّف عن تكذيب عبد السلام؛ [ص 95] لأن هيئة عبد السلام كانت عنده حسنة، ثم بعد هذا بلغه عن محمَّد بن جعفر الفيدي أنه حدَّث بهذا الحديث، وأخبره ابن نُمير أن أبا معاوية حدَّث به قديمًا، فأخذ ابن معين يوثِّق عبد السلام ويدافع عنه، وفي هذا الوقت أخبره أبو زُرعة عن عمر بن إسماعيل فقال ما قال. فأما ابن عديّ؛ فحمل الحديث على عبد السلام، وزعم أنَّ كلَّ من ¬

_ (¬1) انظر "تهذيب التهذيب": (6/ 319 - 322).

حدَّث به غيره إنما سرقه منه. وقد يُدْفَع هذا بما ذكره ابن معين عن ابن نُمير، إلا أن يقال: لعل ابن نُمير بنى على الظن والحُسبان. هذا, ولعبد السلام مصائب أخرى، ولا سيما ما رواه عن علي الرضا بن موسى بن جعفر بن محمَّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. راجع ترجمة علي من "تهذيب التهذيب" (¬1). وكذلك عمر بن إسماعيل، له مصائب أخرى، راجع ترجمته في "لسان الميزان" (¬2). أقول: وعلى فرض أن أبا معاوية روى هذا الحديث عن الأعمش فهو مدلس، والأعمش مدلس، ويمكن - إن كان أبو معاوية رواه - أنه دلَّسه عن بعض الضعفاء, ثم تركه تورُّعًا. والله أعلم. 211 - خت م د ت ق. عمر بن حمزة بن عبد الله بن عمر بن الخطاب (¬3): قال أحمد: أحاديثه مناكير. وقال ابن معين: أضعف من عمر بن محمَّد بن زيد. وقال النسائي: ضعيف. وقال ابن حبان في "الثقات" (¬4): كان ممن يُخطئ. وقال ابن عديّ: هو ممن يُكتب حديثه. وقال الحاكم في ¬

_ (¬1) (7/ 387 - 389). (¬2) (6/ 69 - 70). (¬3) ت الكمال: 5/ 340، التهذيب: 7/ 437، الميزان: 4/ 112. (¬4) (7/ 168).

"المستدرك" (¬1): [ص 96] أحاديثه كلها مستقيمة. 212 - عمر بن زيد الصنعاني (¬2): عبد الرزاق عنه أخبرني أبو الزبير عن جابر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن أكل الهرّة وأكل ثمنها. ذكر له البخاري في "التاريخ" (¬3) هذا، ثم قال: فيه نظر. وقد روى يحيى بن أبي بُكير عنه عن محارب عن ابن عمر مرفوعًا: "ليس على مداوٍ ضمان". ذكر له ابن حبان في "الضعفاء" (¬4) هذا الحديث، وقال: ينفرد بالمناكير عن المشاهير حتى خرج عن حدِّ الاحتجاج به. وقال أبو نعيم الأصبهاني: روى عن محارب وأبي الزبير المناكير، لا شيء. 213 - عُمر بن شَبَّة (¬5): وثقوه، وذكروا أنه غلط في حديث رواه عن الحسين بن حَفْص عن سفيان الثوريّ عن زبيد عن مرة عن ابن مسعود مرفوعًا: "إنكم محشورون ¬

_ (¬1) لم أجده في المطبوع، ونقله عنه مغلطاي في "إكماله": (10/ 39) وتبعه الحافظ في التهذيب. (¬2) ت الكمال: 5/ 349 - 350، التهذيب: 7/ 449، الميزان: 4/ 118. (¬3) (6/ 157). (¬4) (2/ 82). (¬5) ت الكمال: 5/ 358، التهذيب: 7/ 460.

إلى الله حُفاةً عراة غُرلاً، وإن أول الخلائق يُكسى إبراهيم ... " الحديث. وإنما رواه الناس عن الثوريّ عن المغيرة بن النعمان عن سعيد بن جُبير عن ابن عباس (¬1). 214 - عمر بن عبد الله بن أبي خَثْعم (¬2): عن يحيى بن أبي كثير. وعنه زيد بن الحُباب، وأبو عمران موسى ابن إسماعيل الجَبُّلي (¬3). في "الميزان": قال البخاري: منكر الحديث، ذاهب. وفي "التهذيب": قال الترمذي عن البخاري: ضعيف الحديث، ذاهب. وضعَّفه جدًّا (¬4). وقال البرذعي عن أبي زرعة: واهي الحديث، حدَّث عن يحيى بن [ص 97] أبي كثير ثلاثة أحاديث، لو كانت في خمسمائة حديث لأفسدتها. وقال ابن عديّ: منكر الحديث، وبعض حديثه لا يتابع عليه. ¬

_ (¬1) ثم قال الحافظ: كذلك أخرجه البخاري عن محمَّد بن كثير عن الثوري عن المغيرة والإسناد الأول خطأ. (¬2) ت الكمال: 5/ 362، التهذيب: 7/ 468، الميزان: 4/ 131. (¬3) الأصل تبعًا للتهذيب: "الختلي". والتصحيح من "توضيح المشتبه": (2/ 199). وجَبُّل قرية بين بغداد وواسط. (¬4) الذي في "الجامع" بعد رقم (435): "سمعت محمَّد بن إسماعيل يقول: عمر بن عبد الله بن أبي خثعم منكر الحديث، وضعّفه جدًّا. وفي موضع آخر (2888) نقل عنه "منكر الحديث" فقط. والذي في "العلل الكبير" رقم (34): "منكر الحديث ذاهب".

وفي "الميزان": له حديثان منكران: "من صلى بعد المغرب ستّ ركعات"، و"من قرأ الدُّخَان في ليلة". ثم قال: أبو هشام الرفاعي، ثنا زيد بن الحُباب، ثنا عمر بن عبد الله عن يحيى بن أبي كثير عن أنس: جاء رجلٌ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما لي إن شهدت ألا إله إلا الله، وكَبّرته وحَمِدته وسَبّحته؟ فقال: "إن إبراهيم سأل ربه فقال: يا رب، ما جزاء من هَلَّل مخلصًا من قلبه؟ قال: جزاؤه أن يكون كيوم ولدته أمه من الذنوب. قال: يا رب، فما جزاء من كبَّرك؟ قال: عظم مقامه. قال يا ربّ فما جزاء من حَمِدك؟ قال: الحمد مفتاح شكري، والحمد يعرج إلى رب العالمين. قال: فما جزاء من سبَّحك؟ قال: لا يعلم تأويل التسبيح إلا رب العالمين" (¬1). والحديث الأول: أخرجه الترمذي وابن ماجه (¬2) من طريق زيد بن الحُباب عن عمر عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعًا: "من صلى بعد المغرب ست ركعات لم يتكلم فيها بينهن بسوء، عُدِلْن له بعبادة ثنتي عشرة سنة". قال الترمذي: "غريب لا نعرفه إلا من حديث زيد بن حُباب عن عمر بن أبي خَثْعم. قال: وسمعت محمَّد بن إسماعيل يقول: عمر بن عبد الله بن أبي خَثْعم: منكر الحديث، وضعَّفه جدًّا". ¬

_ (¬1) أخرجه ابن عدي في "الكامل": (5/ 64) وقال: "وهذا الحديث بهذا الإسناد لا أعلم يرويه عن يحيى بن أبي كثير غير عمر بن عبد الله". (¬2) الترمذي (435)، وابن ماجه (1374).

[ص 98] والحديث الثاني: أخرجه الترمذي (¬1) من طريق زيد بن الحُباب بمثل سندِ الأول. ومتنُه: "من قرأ حم الدخان في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك". قال الترمذي: "غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وعمر بن أبي خَثْعم يُضعَّف. قال محمَّد: وهو منكر الحديث". 215 - عمر بن عطاء بن وَرَاز (¬2): قال أحمد: ليس بقوي. وقال ابن معين: ليس بشيء. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال في موضع آخر: ضعيف. وقال ابن خُزيمة: يتكلم فيه أصحابنا لسوء حفظه. وذكره يعقوب بن سفيان في باب من يُرْغَب عن الرواية عنهم، وسمعت أصحابنا يضعفونهم. وفي "التهذيب": وقال أبو زُرعة: ثقة لين. وراجعت كتاب ابن أبي حاتم، فإذا فيه (3/ 1/ 125 - 126) ترجمة عمر بن عطاء بن أبي الخُوَار، ثم ذكر عن أبي زرعة أنه قال: "مكّي ثقة". ثم عقبها بترجمة عمر بن عطاء بن وَرَاز، وفيها عن أبي زرعة: "مكي لين". هكذا في نسخة، ووقع في أخرى: "مكي ثقة لين". وأخشى أن تكون كلمة "ثقة" هنا من زيادة الناسخ، طمح بصره إلى الترجمة السابقة، أعني ترجمة ابن أبي الخُوَار. ¬

_ (¬1) رقم (2888). (¬2) ت الكمال: 5/ 375، التهذيب: 7/ 483، الميزان: 4/ 133. و (وَرَاز) بفتح الواو والراء الخفيفة آخره زاي. قيده في "التقريب" (4949).

216 - [ص 99] خ م د س. عَمرو بن محمَّد بن بُكَير، الناقد أبو عثمان (¬1): قال أحمد: يتحرَّى الصدق. وقال ابن معين: صدوق. وقال أبو حاتم: ثقة أمين صدوق. وقال أبو داود: ثقة. وقال الحسين بن فَهْم: ثقة ثبت، صاحب حديث. وروى عن ابن عُيينة عن ابن أبي نَجيح عن مجاهد عن أبي مَعْمر عن ابن مسعود حديثًا هو ثابتٌ بغير هذا الإسناد، فقال ابنُ المديني أو أحمد: هذا كذب، لم يَرْو هذا ابنُ عُيينة عن ابن أبي نَجيح. فَذكَر ابنُ حجر أنه أخطأ في ذلك، وأن البخاري لم يخرج له عن ابن عُيينة شيئًا (¬2). أقول: كأنه خشي من غلطه على ابن عُيينة ألا يكون أتقن الأخذ عنه. 217 - عخ م د ت س. عَمرو بن مسلم الجَنَدي (¬3): عن طاووس وعكرمة. وعنه جماعة، منهم: مَعْمر وابن جُريج وابن عُيينة. قال أحمد مرة: ضعيف. ومرة: ليس بذاك. وقال ابن معين مرة: لا بأس به. وقال مرة: ليس بالقوي. وذكر مرةً أنه أضعف من هشام بن حُجير. وكذا حكى ابن المديني عن يحيى القطان. ¬

_ (¬1) ت الكمال: 5/ 457، التهذيب: 8/ 9، الميزان: 4/ 207. (¬2) قاله في "هُدى الساري": (ص/ 454). أقول: وقد أخرج له مسلم عن ابن عيينة أحاديث كثيرة. (¬3) ت الكمال: 5/ 464، التهذيب: 8/ 104، الميزان: 4/ 209.

وقال النسائي: ليس بالقوي. وأخرج له حديث الخال (¬1)، وقال: عَمرو ليس بذاك. وقال الساجي: صدوق يهم. وقال ابن خِراش وابن حزم: ليس بشيء. وقال ابن عديّ: ليس له حديث منكر جدًّا. وذكره ابن حبان في "الثقات" (¬2). ذكره له في "الميزان": عن طاووس عن عائشة مرفوعًا: "إن الله ورسوله مولى من لا مولى له، والخال وارث من لا وارث له" (¬3). وقال: له في مسلم (¬4) حديث: "العجز والكَيْس [بقَدَر] ". 218 - [ص 100] ع. عَمرو بن يحيى بن عُمارة (¬5): وثّقه أبو حاتم والنسائي وابن سعد، وكذا - فيما نقل ابن خلفون - العِجْلي وابن نُمير. وقال ابن معين: صويلح، وليس بالقوي. وقال مرة: ثقة إلا أنه اختلف عنه في حديثين: "الأرض كلها مسجد"، و"كان يسلم عن يمينه". ¬

_ (¬1) في "الكبرى" (6318، 6319) وسيورد المؤلف لفظه بعد قليل من الميزان. ولم يرد فيها قوله "ليس بذاك"، لكن نقل قوله المزّي في "تحفة الأشراف": (11/ 426) وفيه: "عمرو بن مسلم ليس بذاك القوي". والحديث أخرجه الترمذي (2104). (¬2) (7/ 217). (¬3) هو حديث الخال، السابق ذكره وتخريجه. (¬4) رقم (2655). (¬5) ت الكمال: 5/ 476، التهذيب: 8/ 118، الميزان: 4/ 213.

أقول: أما حديث "الأرض مسجد" (¬1)، فقد شرحته في موضعٍ آخر. وحاصله: أن عبد الواحد بن زياد وغيره رووه عن عَمرو عن أبيه عن أبي سعيد مرفوعًا. وكذلك قاله السفيانان وغيرهما مرة. وقالوا في أخرى: عن عَمرو عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ورواه حمَّاد بن سلمة عن عَمرو: فقال مرة: عن أبيه عن أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال مرة: عن أبيه فيما يحسب عَمرو. فظهر من ذلك أن عمرًا كان ربما شك في الوصل، ولا أرى هذا يقتضي ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (492)، والترمذي (317)، وابن ماجه (745)، وأحمد في "المسند" (11788، 11919) وغيرهم. قال الترمذي عقبه: "حديث أبي سعيد قد روي عن عبد العزيز بن محمَّد روايتين منهم من ذكره عن أبي سعيد ومنهم من لم يذكره. وهذا حديث فيه اضطراب؛ روى سفيان الثوري عن عمرو بن يحيي عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسل. ورواه حماد بن سلمة عن عمرو بن يحيى عن أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ورواه محمَّد بن إسحاق عن عمرو بن يحيى عن أبيه قال: وكان عامة روايته عن أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يذكر فيه عن أبي سعيد [عن النبي - صلى الله عليه وسلم -]، وكأن رواية الثوري عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أثبت وأصح [مرسلا] ". وانظر "العلل الكبير" رقم (63). ورجح الدارقطني في "العلل": (11/ 320 - 321) رواية الإرسال.

وهنًا (¬1). وقد روى الحديث عمارة بن غزية عن يحيى بن عمارة عن أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2). فتبين أن الحديث موصولٌ في نفس الأمر. فجَزْم عَمرو بالوصل تارة لا يدل على وهمه، ولا على إقدامه بمجرد الظن. وتوقفه عن الوصل تارةً يدل على تثبته وتوقيه. وأما حديث السلام: فأخرجه النسائي (¬3) وغيره من طريق حجّاج بن محمَّد قال: قال ابن جريج: أنبأنا عَمرو بن يحيى عن محمَّد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع بن حبان: أنه سأل عبد الله بن عمر عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: الله أكبر كلما وضع، الله أكبر كلما رفع، ثم يقول: السلام عليكم ورحمة الله عن يمينه، السلام عليكم ورحمة الله عن يساره. [ص 101] ثم قال النسائي: أخبرنا قتيبة قال حدثنا عبد العزيز - يعني ¬

_ (¬1) قال أبو بكر ابن المنذر في "الأوسط": (2/ 182): "روى هذا الحديث حماد بن سلمة والدراوردي وعباد بن كثير كرواية عبد الواحد متصلًا عن أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وإذا روى الحديث ثقة أو ثقات مرفوعًا متصلًا وأرسله بعضهم، يثبت الحديث برواية من روى موصولاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يوهن الحديث تخلُّف من تخلَّف عن إيصاله، وهذا السبيل في الزيادات في الأسانيد والزيادات في الأخبار، وكثير من الشهادات". ونقل الحافظ في "التلخيص": (1/ 296) عن ابن دقيق العيد قال: حاصل ما علل به الإرسال، وإذا كان الواصل له ثقة فهو مقبول. (¬2) أخرجه ابن خزيمة رقم (792)، والبيهقي (2/ 435). (¬3) رقم (1320)، وأحمد (6397)، وابن خزيمة (576) وغيرهم.

الدراوردي - فساقه بإسناده نحوه (¬1). وأخرجه البيهقي في "السنن" (2/ 178) من طريق حجّاج ثم قال: "أقام إسناده حجّاج بن محمَّد وجماعة، وقصَّر به بعضهم عن ابن جريج. واختلف فيه (على) عبد العزيز بن محمَّد الدراوردي على (؟) (¬2) عَمرو بن يحيى. ومَن أقامه حجة، فلا يضره خلاف من خالفه، والله أعلم". 219 - العوَّام بن حمزة (¬3): قال القطان: ما أقربه من مسعود بن علي، ومسعود لم يكن به بأس. وقال ابن راهويه: ثقة. وقال أبو زُرعة: شيخ. قيل: فكيف ترى استقامة حديثه؟ قال: لا أعلم إلا خيرًا. وقال ابن معين: لين. وقال أحمد: له ثلاثة أحاديث مناكير. وقال أبو داود: ما نعلم له حديثًا منكرًا. وقال مرة: ثقة. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال ابن عديّ: قليل الحديث، وأرجو أنه لا بأس به (¬4). 220 - [ص 102] ر م 4. العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب (¬5): وثّقه أحمد. ولينه ابن معين وأبو زُرعة وأبو حاتم، وذكر أنه أنكر من حديثه أشياء. ¬

_ (¬1) وقال النسائي عقبه فيما نقله في "التحفة": (6/ 257): "هذا حديث منكر، والدراوردي ليس بالقوي". (¬2) علامة الاستفهام، و (على) بين المعكوفتين من المصنف. ويستقيم النص بدونها إذا ما قرأنا (واخْتَلَف) مبنية للمعلوم. (¬3) ت الكمال: 5/ 505، التهذيب: 8/ 163، الميزان: 4/ 223. (¬4) ترك الشيخ بعده بياضًا بمقدار نصف الصفحة. (¬5) ت الكمال: 5/ 526، التهذيب: 8/ 186، الميزان: 4/ 22.

وقال أبو داود: سهيل - يعني ابن أبي صالح - أعلى عندنا من العلاء، أنكروا على العلاء صيام شعبان. يعني حديث "إذا انتصف شعبان فلا تصوموا" (¬1). وقال الترمذي: هو ثقة عند أهل الحديث. 221 - د. غالب بن حَجْرة (¬2): روى عنه جماعة، أخرج له أبو داود حديثًا في الأطعمة (¬3). قال الآجري: سألت أبا داود عنه فقال: أعرابي، تريد أن تحتج به؟! أي شيء عنده؟! (¬4). 222 - عيسى بن جارية الأنصاري المدني (¬5): روى عنه جماعة. قال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: ليس بذاك، لا أعلم أحدًا روى عنه غير يعقوب. وقال الدوري عن ابن معين: عنده مناكير، حدَّث عنه يعقوب القُمّي، وعنبسة قاضي الري. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (2337)، والترمذي (738)، والنسائي في "الكبرى" (2923)، وابن ماجه (1651)، وغيرهم. قال النسائي عقبه: "لا نعلم أحدًا روى هذا الحديث غير العلاء بن عبد الرحمن". وقال الترمذي: حسن صحيح لا نعرفه إلا من هذا الوجه. (¬2) ت الكمال: 6/ 5، التهذيب: 8/ 241 - 242. (¬3) رقم (3798). (¬4) "السؤالات": (2/ 69) وتصحفت في أصله الخطي "تريد" إلى "يزيد"، ونقلها مصحفةً محقق "تهذيب الكمال". (¬5) ت الكمال: 5/ 542، التهذيب: 8/ 207، الميزان: 4/ 230.

* غالب بن حَجْرة (تقدم قبل ترجمة). 223 - غالب بن خُطَّاف القطان (¬1): روى عنه الجماعة. وقال أحمد: ثقة ثقة. ووثّقه ابن معين والنسائي وأبو حاتم وابن سعد وغيرهم. وقال ابن عديّ - بعد أن ساق له أحاديث -: الضعف على أحاديثه بَيّن، وفي حديثه النُّكْرة. قال ابن حجر في "المقدمة" (¬2): أورد له أحاديث، الحملُ فيها على الراوي عنه عمر بن مختار البصري، [ص 103] وهو من عجيب ما وقع لابن عديّ. أقول: ظاهر "التهذيب" و"الميزان" أن ابن عديّ ساق له أحاديث من غير رواية عمر بن المختار عنه، وإنما ذكر له من رواية عمر عنه حديثًا واحدًا (¬3). 224 - ع. فِراس بن يحيى الهَمْداني (¬4): وثّقه أحمد وابن معين والنسائي والعِجْلي وابن عمّار. وقال يحيى ¬

_ (¬1) ت الكمال: 6/ 5، التهذيب: 8/ 242، الميزان: 4/ 42. (¬2) (ص/ 456) ونحوه في التهذيب. (¬3) وهو كما ذكر المصنف انظر "الكامل": (6/ 7 - 8). وقال الذهبي معلقًا على الحديث: "الآفة من عمر، فإنه متّهم بالوضع، فما أنصف ابن عدي في إحضاره هذا الحديث في ترجمة غالب، وغالبٌ من رجال الصحيحين .. ". (¬4) ت الكمال: 6/ 21، التهذيب: 8/ 259، الميزان: 4/ 263.

القطان: ما بلغني عنه شيء، وما أنكرت من حديثه إلا حديث الاستبراء. وقال أبو حاتم: شيخ، ما بحديثه بأس. وقال عثمان بن أبي شيبة: صدوق. قيل له: ثبت؟ قال: لا. وقال (¬1) يعقوب بن شيبة: في حديثه لين، وهو ثقة. 225 - الفضل بن دَلْهَم (¬2): قال الأثرم عن أحمد: ليس به بأس، إلا أن له أحاديث. وذكر أحمد حديثه عن الحسن عن قَبيصة بن حُريث، عن سلمة بن المُحَبَّق حديث: "خذوا عني"، فقال: هذا حديث منكر. يعني أنه أخطأ فيه؛ لأن قتادة وغيره رووه عن الحسن عن حِطّان بن عبد الله الرَّقاشي عن عُبادة. وذكر له البخاري (¬3) هذا الحديث، وقال: هذا أصح. يعني حديث حِطّان. 226 - ع. الفضل بن موسى السِّيناني (¬4): إمام. وثّقه ابن المبارك ووكيع وأبو نعيم وابن معين والبخاري. وقال أبو حاتم: صدوق صالح. وقال عبد الله بن علي بن المديني: سألت أبي عن حديث الفضل بن موسى عن مَعْمر عن ابن طاووس عن أبيه عن ابن الزبير مرفوعًا: "من شَهَر ¬

_ (¬1) الأصل: "وقا" سهو. (¬2) ت الكمال: 6/ 35، التهذيب: 8/ 276، الميزان: 4/ 271. (¬3) في "التاريخ الكبير": (7/ 116 - 117). (¬4) ت الكمال: 6/ 43، التهذيب: 8/ 286، الميزان: 4/ 280.

سيفه فدمه هدر" (¬1) فقال: منكر ضعيف. قال: وسألت أبي عن الفضل [ص 104] وأبي تُمَيلة، فقدَّم أبا تُميلة، وقال: روى الفضل مناكير. وفي "مقدمة الفتح" (¬2) أن البخاري إنما أخرج له ثلاثة أحاديث، ثم ذكرها وليس فيها من روايته عن مَعْمر. 227 - ي م 4: فُضَيل بن مرزوق (¬3): وثّقه السفيانان، وابن معين. وقال مرة: صالح الحديث، إلا أنه شديد التشيّع. وقال أحمد: لا أعلم إلا خيرًا. وقال أبو حاتم: صالح الحديث، صدوق يهم كثيرًا، يكتب حديثه. قيل (¬4): يحتج به؟ قال: لا. وقال النسائي: ضعيف. وقال الحاكم: ليس هو من شرط الصحيح، وقد عِيب على مسلم إخراجه لحديثه. 228 - القاسم بن الفضل بن مَعْدان (¬5): وثّقه يحيى القطان، وابن مهدي وأحمد وابن معين وغيرهم. قال العُقيلي (¬6): سأله شُعبة عن حديث أبي نضرة - يعني: عن أبي سعيد ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي رقم (4097). (¬2) (ص/456). (¬3) ت الكمال: 6/ 55، التهذيب: 8/ 298، الميزان: 4/ 282. (¬4) في المصادر: "قلت". (¬5) ت الكمال: 6/ 79، التهذيب: 8/ 329، الميزان: 4/ 297. (¬6) "الضعفاء": (3/ 478).

[في] قصة كلام الذئب، وفيه: "لا تقوم الساعة حتى يكلّم الرجلَ عَذَبتُه وشِراكُ نعله [ويخبره فَخِذُه] (¬1) بما أحْدَث أهلُه"- فحدَّثه، فقال شُعبة: لعلك سمعته من شهر بن حوشب؟ قال: لا (¬2). حدثناه أبو نضرة، فما سكت حتى سكت شُعبة. 229 - س. قدامة بن محمَّد بن قُدامة بن خَشْرم بن يسار الأشجعي (¬3): قال عثمان عن ابن معين: لا أعرفه. قال عثمان: يعني لا يخبره، وأما قدامة فمشهور. وقال أبو حاتم: ليس به بأس. وقال أبو زُرعة: لا بأس به. وذكره ابن حبان في "الضعفاء" (¬4) وقال: كان يروي المقلوبات، [ص 105] لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد. وروى له ابن عديّ أحاديث من حديثه عن إسماعيل بن شيبة، ثم قال: ولقدامة غير ما ذكرت؛ وكلّ هذه الأحاديث بهذا الإسناد غير محفوظة. أقول: شيخ قدامة في تلك الأحاديث هو إسماعيل بن شيبة، ويقال: ابن إبراهيم بن شيبة، ويقال: إسماعيل بن شبيب. ¬

_ (¬1) من كتاب "الضعفاء". (¬2) في "الضعفاء": "بلى". (¬3) ت الكمال: 6/ 111، التهذيب: 8/ 365، الميزان: 4/ 306. (¬4) (2/ 219).

ترجمته في "لسان الميزان" (1/ 410) (¬1) وفيها ذِكْر تلك الأحاديث، وأن النسائي قال فيه: منكر الحديث. وفي نسخة: متروك الحديث. وأن العُقيلي قال: أحاديثه مناكير غير محفوظة من حديث ابن جُريج، وساق أحاديث كلّها من رواية قدامة عنه. وأن ابن عديّ قال: يروي عن ابن جريج ما لا يرويه غيره. وأن ابن حبان ذكره في "الثقات" (¬2) وقال: يُتَّقى حديثه من رواية قدامة عنه. فظهر من هذا أن النسائي حَمَل تلك الأحاديث على إسماعيل، فجرَّحه، ولم يجرِّح قدامة، بل أخرج له في "السنن" (¬3)، وأن ابن حبان عكس القضية، فذكر قدامة في "الضعفاء"، وإسماعيل في "الثقات"، وقال: يُتَّقى حديثه من رواية قدامة عنه. وأما ابن عديّ، فكأنه متوقف. وقد قوي صنيع النسائي بتقوية أبي زرعة وأبي حاتم لقدامة. 230 - [ص 106] قيس بن أبي حازم (¬4): قال ابن معين: هو أوثق من الزهري. وقال ابن المديني: قال لي يحيى بن سعيد: قيس بن أبي حازم منكر الحديث. ثم ذكر له يحيى أحاديث مناكير، منها حديث: كلاب الحَوْأب. ¬

_ (¬1) (2/ 232 - ط أبو غدة). (¬2) (8/ 93). (¬3) رقم (4937، 4938). (¬4) ت الكمال: 6/ 129، التهذيب: 8/ 386 - 389، الميزان: 4/ 312.

وقال يعقوب بن شيبة: " .. وقد تكلم أصحابنا فيه، فمنهم من رفع قدره وعظَّمه وجعل الحديث عنه من أصحّ الإسناد، ومنهم من حمل عليه وقال: له أحاديث مناكير. والذين أطروه حملوا هذه الأحاديث على أنها عندهم غير مناكير، وقالوا: هي غرائب". وقال إسماعيل بن أبي خالد: حدثنا قيس هذه الأسطوانة. يعني في الثقة. وقال إسماعيل أيضًا: كبر قيس حتى جاز المائة بسنين كثيرة، حتى خرف وذهب عقله. أقول: فقد لا يبعد أن تكون تلك المناكير مما حدَّث به قيسٌ بعد اختلاطه. فإن قيل: إن منها ما حدَّث به عنه إسماعيل بن أبي خالد نفسه، وإسماعيل ثقة ثبت، لا يُظن به أن يروي عن قيس ما سمعه منه بعد تغيره. أقول: إسماعيل على ثقته مدلس، فلا يبعد أن يروي عنه ما سمعه منه بعد تغيُّره، معتمدًا على أنه قد بين للناس أن قيسًا اختلط. وبالجملة، فهنا ثلاثة احتمالات: الأول: صحة تلك المناكير. الثاني: ضعف قيس، حتى قبل تغيره. الثالث: أن يكون [ص 107] إنما روى تلك المناكير بعد تغيره، وروى عنه إسماعيل بعضها, ولم يصرح بأنه إنما سمعها بعد اختلاطه؛ اكتفاءً منه بأنه قد بين أن قيسًا اختلط، على قياس ما عُرِف من تدليسه. والقلبُ إلى هذا الثالث أَمْيَل.

231 - كثير بن أبي كثير التيمي الكوفي (¬1): قال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: ضعيف. وقال أبو حاتم: مستقيم الحديث. 232 - كعب بن عبد الله: وقيل: ابن فرَّوخ، البصري، أبو عبد الله (¬2): قال أبو حاتم: ثنا عَمرو بن علي، ثنا أبو علي الحنفي ثنا كعب أبو عبد الله البصري وكان ثقة (¬3). وأخرج النسائي (¬4) حديثه عن حمَّاد عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصبح جُنبًا ... الحديث. ثم أتبعه بحديث الثوريّ عن حمَّاد عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة. وقال: هذا أولى بالصواب. وكعب لا نعرفه، وحديثه خطأ. 233 - كُلْثوم بن جَوْشَن (¬5): وثّقه البخاري، كما في "الميزان" و"التهذيب". وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: ليس به بأس. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث. وقال أبو داود والأزدي: منكر ¬

_ (¬1) ت الكمال: 6/ 162، التهذيب: 8/ 428. (¬2) ت الكمال: 6/ 167، التهذيب: 8/ 435. (¬3) وانظر "السنن الكبرى" (3/ 285) للنسائي فقد نقل عن عَمرو بن علي مثله في سياق السند. (¬4) رقم (3009, 3010). (¬5) ت الكمال: 6/ 172، التهذيب: 8/ 442 - 443، الميزان: 4/ 333.

الحديث. وذكره ابن حبان في "الثقات" (¬1)، ثم ذكره في "الضعفاء" (¬2) فقال: يروي عن الثقات الملزوقات (¬3)، وعن الأثبات الموضوعات, لا يحلُّ الاحتجاج به بحال. وأورد له - كما في "الميزان" - حديثه عن أيوب عن نافع عن ابن عمر مرفوعًا: "التاجر الصدوق الأمين المسلم مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة". قال الذهبي: لم يذكر ابن حبان له سواه، وهو حديث جيد الإسناد، صحيح المعنى، ولا يلزم من المعية [ص 108] أن يكون في درجتهم، ومنه قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ ...} الآية [النساء: 69]. أقول: تفرده به عن أيوب عن نافع عن (¬4) ابن عمر كافٍ في شدة النكارة، ولا سيما والحديث مما تكثر الحاجة إلى ذكره وروايته لو كان صحيحًا. ولا أظن البخاري - إن كان وثَّق كلثومًا هذا - وقف على هذا الحديث. وأخرج (¬5) الترمذي (¬6) من طريق الثوريّ عن أبي حمزة عن الحسن عن ¬

_ (¬1) (7/ 356). (¬2) (2/ 230) (ق 192). (¬3) تحرفت في مطبوعة "المجروحين" إلى "المقلوبات"، وهي على الصواب في المخطوط والتهذيب. (¬4) سقطت من الأصل سهوًا. (¬5) الأصل: "وقال"، وكان المؤلف قد كتب "وأخرج" ثم ضرب عليها وغيّر السياق، ثم عاد إلى السياق المناسب لها ونسي تغييرها. (¬6) رقم (1209).

أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء". قال الترمذي: (¬1) لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث الثوريّ عن أبي حمزة. وأبو حمزة اسمه عبد الله بن جابر. أقول: هو على غرابته أولى من حديث كلثوم. وكلثوم يروي عن الحسن أيضًا، فكأنه سمع الحديث من الحسن فاشتبه عليه، والحسن لم يسمع من أبي سعيد، كما قال ابن المديني وبهز بن أسد. 234 - خ د ت. كُليب بن وائل (¬2): قال ابن معين والدارقطني: ثقة. وقال ابن معين مرة: لا بأس به. وكذا قال يعقوب بن سفيان. وقال أبو داود: ليس به بأس. وقال العِجْلي: يُكتب حديثه. وقال أبو زُرعة: ضعيف. أقول: ذكر في "التهذيب" أن له في الكتب ثلاثة أحاديث. وذكره في "مقدمة الفتح" (¬3)، وقال: روى له البخاري (¬4) حديثه عن ربيبة النبي - صلى الله عليه وسلم - في النهي عن الدُّبَّاء والحَنْتم فقط. وله شواهد من حديث أنس وغيره. ¬

_ (¬1) قال قبله: "حديث حسن ... ". (¬2) ت الكمال: 6/ 175، التهذيب: 8/ 446، الميزان: 4/ 334. كتب المصنف فوق الترجمة في رأس الورقة: "مسند" (2/ 115). (¬3) (ص/459). (¬4) رقم (3491).

وله في "سنن أبي داود" (¬1) حديث أشار له في "التهذيب" (¬2) في ترجمة حبيب بن أبي مُليكة، قال: وهو في فضل عثمان. وفي "سنن الترمذي" (¬3): حديث أشار إليه في "التهذيب" (¬4) في ترجمة سنان بن هارون، قال: في دلائل النبوة، وفيه ذكر عثمان. 235 - [ص 109] كَهْمَس بن المِنْهال (¬5): ذكره البخاري في "الضعفاء" (¬6) وقال: كان يقال: فيه القدر. وأخرج له مقرونًا بغيره حديثًا في مناقب عمر (¬7). 236 - محمَّد بن إبراهيم بن مسلم، أبو أُمية الثَّغْري الحافظ (¬8): حديث أخطأ في سنده، وقد أخطأ شيخه أبو عاصم في متنه (¬9). ¬

_ (¬1) رقم (2726). (¬2) (2/ 191 - 192). (¬3) رقم (3708). (¬4) (4/ 243). (¬5) ت الكمال: 6/ 179 - 180، التهذيب: 8/ 451، الميزان: 4/ 336. (¬6) (317 - ت حافظ زبير). قال أبو حاتم: "يكتب حديثه, مع محله الصدق ... يحوَّل من كتاب الضعفاء" يعني: كتاب البخاري. "الجرح والتعديل": (7/ 171). (¬7) رقم (3686). وانظر "هُدى الساري": (ص / 456). بعد الترجمة ترك المصنف أكثر (ق 109 أ) بياضًا. (¬8) ت الكمال: 6/ 202، التهذيب: 9/ 15، الميزان: 4/ 367. (¬9) ساقه في التهذيب: 9/ 16. والميزان.

237 - د ت س. محمَّد بن إبراهيم بن مسلم بن مِهْران (¬1): قال ابن معين: ليس به بأس، روى عنه يحيى القطان. وقال الدارقطني: لا بأس به. وقال ابن حبان في "الثقات" (¬2): يُخطئ. وقال ابن عديّ: ليس له من الحديث إلا اليسير، ومقدار ما له لا يتبين صدقه من كذبه. 238 - محمَّد بن إسحاق بن يسار (¬3): قال يعقوب بن سفيان: قال علي: لم أجد لابن إسحاق إلا حديثين منكرين: نافع عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا نَعَس أحدُكم يوم الجمعة". والزهري عن عروة [ص 110] عن زيد بن خالد: "إذا مسَّ أحدُكم فرجَه" (¬4). والباقي - يعني المناكير في حديثه - يقول: ذكر فلان، ولكن هذا فيه: حدَّثنا (¬5). 239 - محمَّد بن إسماعيل بن البَخْتَري (¬6): قال الذهبي: غَلِط غلطة ضخمة. ¬

_ (¬1) ت الكمال: 6/ 203، التهذيب: 9/ 16. (¬2) (7/ 371). (¬3) ت الكمال: 6/ 221 - 227، التهذيب: 9/ 38 - 46، الميزان: 4/ 388 - 395. (¬4) الحديث الأول أخرجه أبو داود (1119)، والترمذي (526) وغيرهما. والحديث الثاني أخرجه أحمد (21689) وغيره. (¬5) انظر "المعرفة والتاريخ": (2/ 28). (¬6) ت الكمال: 6/ 238، التهذيب: 9/ 56 - 57، الميزان: 4/ 401.

240 - خ د. محمَّد بن إسماعيل بن أبي سَمِينة (¬1): وثّقه أبو حاتم وصالح بن محمَّد. توقف أبو داود في صحَّة حديثٍ أخرجه عنه عن معاذ بن هشام عن أبيه عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن ابن عباس: "يقطع الصلاة الكلب والحمار والخنزير والمجوسي واليهودي والمرأة". قال أبو داود: لم أسمعه إلا منه، وذاكرتُ به فلم يعرف (¬2). 241 - ع. محمَّد بن بَشَّار، بُندار (¬3): ذكر عبد الله بن علي ابن المديني أنه أخبر أباه أن بندارًا روى عن (¬4) ابن مهدي عن أبي بكر بن عياش عن عاصم عن زِرّ عن عبد الله رفعه: "تسحَّروا، فإن في السحور بركة" (¬5). فقال (ابن المديني): هذا كذب. وأنكره أشد الإنكار، وقال: حدثني أبو داود موقوفًا (¬6). ¬

_ (¬1) ت الكمال: 6/ 240، التهذيب: 9/ 59، الميزان: 4/ 402. (¬2) "السنن" (704). (¬3) ت الكمال: 4/ 247، التهذيب: 9/ 70، الميزان: 4/ 410. (¬4) تكررت في الأصل. (¬5) أخرجه النسائي (2144) وغيره. (¬6) قال البزار بعد أن أخرجه (5/ 225): "هذا الحديث قد رواه غير واحد عن عبد الرحمن عن أبي بكر بهذا الإسناد موقوفًا, ولا نعلم أحدًا أسنده عن عبد الرحمن عن أبي بكر إلا محمَّد بن بشار ... ".

242 - محمَّد بن ثابت (¬1): قال عثمان الدارمي عن ابن معين: ليس به بأس. وقال الدوري عنه: ليس بشيء. وقال مرة عنه: ضعيف. قال: فقلت له: أليس قد قلتَ مرةً: ليس به بأس؟ قال: ما قلت هذا قط. وقال معاوية عن ابن معين: (¬2) يُنكر عليه حديث ابن عمر في التيمم، لا غير. وقال البخاري: يخالف في بعض حديثه، روى عن نافع عن ابن عمر في التيمم، ورواه أيوب [ص 111] والناس: عن نافع عن ابن عمر فعله. وقال أبو حاتم: ليس بالمتين، يكتب حديثه، وهو أحبُّ إلي من أبي أمية بن يعلى، وصالح المُرِّي، روى حديثًا منكرًا. وقال أبو حاتم أيضًا: يُكتب حديثه، وليس بقوي. وقال أبو زُرعة: ليس بالقوي (¬3). وقال النسائي مرة: ليس به بأس. وقال مرة: ليس بالقوي. وقال ابن عديّ: عامة أحاديثه مما لا يتابع عليه. وقال أبو داود: ليس بشيء. وقال الحاكم أبو أحمد: ليس بالمتين عندهم. وقال العِجْلي ومحمد بن سليمان لُوَيْن: ثقة. ¬

_ (¬1) ت الكمال: 6/ 257، التهذيب: 9/ 85، الميزان: 4/ 415. (¬2) زاد في الميزان: ليس به بأس. [المؤلف]. (¬3) قاله في ترجمة محمَّد بن ثابت العصري، وقال: إنه العبدي نفسه. "الجرح والتعديل": (7/ 217)، و"التهذيب": (9/ 85). ووقع في الأخير: "ثقة يكتب حديثه"!

وفي "سنن أبي داود" (¬1): باب التيمم في الحضر، ذكر أبو داود حديث أبي الجهيم الثابت في "الصحيحين" (¬2): "أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من نحو بئر جمل، فلقيه رجل فسلم عليه، فلم يرد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أتى على جدار فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام". ثم أخرج (¬3) من طريق محمَّد بن ثابت عن نافع قال: انطلقت مع ابن عمر إلى ابن عباس، فقضى ابن عمر حاجته، وكان من حديثه يومئذٍ أن قال: مرَّ رجل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... ، فذكره بنحوه، إلا أن فيه: "فضرب بيديه على الحائط، ومسح بهما وجهه، ثم ضرب ضربة أخرى فمسح ذراعيه، ثم رد على الرجل السلام، وقال: "إنه لم يمنعني أن أرد عليك السلام إلا أني لم أكن على طُهر". قال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل يقول: روى محمَّد بن ثابت حديثًا منكرًا في التيمم. قال ابن داسة: قال أبو داود: لم يُتَابعْ محمَّد بن ثابت في هذه القصة على "ضربتين" عن النبي - صلى الله عليه وسلم - , ورووه فِعْل ابن عمر. حدثنا جعفر بن مسافر، ثنا عبد الله بن يحيى البُرُلُّسي أنا حَيْوة بن شُريح عن ابن الهاد أن نافعًا حدثه عن ابن عمر قال: أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الغائط، فلقيه رجل عند بئر جمل، فسلم عليه، فلم يرد عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ¬

_ (¬1) رقم (329). (¬2) البخاري (337)، ومسلم (369). (¬3) "السنن" رقم (330 , 331).

أقبل (¬1) على الحائط، فوضع يده على الحائط، ثم مسح وجهه ويديه، ثم رد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الرجل السلام. [ص 112] أقول: جعفر بن مسافر وشيخه صالحان، ولكن ليسا ممن يغتفر له التفرد. وعلى فرض صحة خبرهما، فغايته أن يشهد لحديث محمَّد بن ثابت بصحة الرفع في الجملة، وهو مع ذلك يوهنه فيما تضمنه مِن ذِكْر الضربتين والذراعين (¬2). والمعروف في الضربتين والذراعين إنما هو من فِعْل ابن عمر وقوله. والله أعلم. 243 - محمَّد بن جابر السُّحَيْمي (¬3): من زيادة ابن حجر (¬4): وأورد الخطيب في ترجمة (القائم) (¬5) العباسي (¬6)، من طريق إسحاق بن أبي إسرائيل، عن محمَّد بن جابر عن الأعمش عن أبي الودَّاك عن أبي سعيد حديث: "منا السفَّاح، والمنصور، والقائم، والمهدي .. " الحديث، وفيه: "أما القائم فتأتيه الخلافة لا يُهراق فيها محجمة دم ... " الحديث. وهو منكر جدًّا. ¬

_ (¬1) "حتى أقبل" تكررت في الأصل. (¬2) وانظر "السنن الكبرى": (1/ 206) للبيهقي. (¬3) ت الكمال: 6/ 259، التهذيب: 9/ 88، الميزان: 4/ 416. (¬4) يعني على أبي الحجاج المزي في الكلام على الراوي. (¬5) كتب المصنف: "القاسم (القائم) " فالقاسم كما في مطبوعة التهذيب الذي ينقل منه، والقائم بين قوسين تصحيح من الشيخ، وهو الصواب. (¬6) "تاريخ بغداد": (9/ 399).

244 - س. محمَّد بن جعفر بن محمَّد بن حَفْص، أبو بكر البغدادي الرافقي، المعروف بابن الإمام (¬1): قال النسائي ومَسْلمة: ثقة. وقال النسائي في موضع آخر: ما نعلم إلا خيرًا، روى لنا عن علي بن المديني حديثًا غريبًا. 245 - م د. محمَّد بن حاتم بن ميمون (¬2): روى عنه مسلم فأكثر (¬3). وقال عبد الله بن علي ابن المديني: قلت لأبي: شيء رواه ابن حاتم عن ابن مهدي عن شُعبة عن سالم (¬4) عن قبيصة بن هُلْب عن أبيه مرفوعًا: "لا يأتي أحدكم بشاةٍ لها يعار". قال: هذا كذب، إنما روى هذا أبو داود (¬5). أقول: الحديث في "مسند أحمد" (5/ 226، 227) من طريق [ص 113] أبي داود الطيالسي عن شُعبة أخبرني سِماك بن حرب قال: سمعت قَبيصة بن ¬

_ (¬1) ت الكمال: 6/ 264، التهذيب: 9/ 95. (¬2) ت الكمال: 6/ 268، التهذيب: 9/ 101، الميزان: 4/ 423. (¬3) في "الزهرة" روى عنه مسلم ثلاثمائة حديث. (¬4) كتب فوقها الشيخ: " [الصواب] سِماك وهو ابن حرب". يعني أن "سالم" قد تكون محرفة عن "سماك" وهو من يروي عنه هذا الحديث كما سيأتي. لكن السند هكذا في "تاريخ بغداد": (2/ 266)، وت الكمال، والتهذيب كما هو مثبت في سياق القصة في جواب ابن المديني لابنه. فهذه الرواية هي التي أنكرها ابن المديني. أما الرواية الصواب فهي رواية أبى داود الطيالسي "مسنده 1182" عن شعبة عن سماك به، التي ذكرها المصنف من "المسند"، وهي في "معرفة الصحابة" لأبي نعيم (6604). (¬5) في ت الكمال بقيةٌ لسؤال عبد الله لأبيه، سأله عن حديث آخر فأنكره.

هُلْب يحدث عن أبيه: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: .... - وذكر الصدقة -, فقال: "لا يجيئني أحدُكم بشاةٍ لها يعار يوم القيامة". فمراد ابن المديني: أنه لم يرو هذا عن شُعبة إلا أبو داود، فرواية ابن حاتم له عن ابن مهدي عن شُعبة كذب، والكذب قد يكون غلطًا، فإذا ظهر صدق الراوي في عامة روايته، ثم روى مثل هذا تعيَّن أن يُحْمَل على الغلط. وقال صاحب "الميزان": وقال يحيى وابن المديني: كذّاب. كذا قال! والذي في "التهذيب": وقال أحمد بن محمَّد الجعفي: سمعت ابن معين يقول: محمَّد بن حاتم بن ميمون كذّاب. وأحمد بن محمَّد الجُعْفي فيه نظر. راجع "لسان الميزان" (¬1) (1/ رقم 839 و886)، فإن صح هذا عن ابن معين فلعله إنما بنى قوله على الحديث المذكور (¬2). 246 - محمَّد بن الحسن بن زَبَالة (¬3): كذبوه. قال ابن معين: والله ما هو بثقة، حدَّث عن مالك عن هشام عن أبيه عن عائشة مرفوعًا: "فُتِحت المدينة بالقرآن، وفُتِحت البلاد بالسيف". وقال هاشم بن مرثد عن ابن معين: كذّاب خبيث، لم يكن بثقة ولا مأمون، يسرق. وقال الساجي: وضع حديثًا على مالك. ¬

_ (¬1) (1/ 658 - ط أبو غدة). (¬2) جاء أيضًا عن ابن معين رواية ابن محرز (376): "ليس بشيء يكذب". (¬3) ت الكمال: 6/ 277، التهذيب: 9/ 115، الميزان: 4/ 434.

وقال ابن عديّ: أنكر ما روى حديث هشام بن عروة: "فُتِحت القرى بالسيف". 247 - محمَّد بن ذكوان الأزدي الطَّاحي، ويقال: الجَهْضَمِي، مولاهم البصري، خال ولد حمَّاد بن زيد (¬1): قال البخاري وأبو حاتم: منكر الحديث. زاد أبو حاتم: ضعيف الحديث، كثير الخطأ. وقال النسائي: محمَّد بن ذكوان بن منصور: منكر الحديث. قال ابن عديّ: أراد حديثه عن منصور عن (¬2) إبراهيم عن علقمة عن عبد الله [ص 114] أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تعجَّل من العباس صدقة عامين. وقال الساجي: عنده مناكير. وذكره ابن حبان في "الثقات" (¬3) ثم أعاده في "الضعفاء" (¬4) وقال: سقط الاحتجاج به. وذكر ابن أبي حاتم (¬5) ثم صاحب "التهذيب" في ترجمته عن أبي داود الطيالسي أن شُعبة قال: حدثني محمَّد بن ذكوان وكان كخير الرجال. وأن يحيى بن معين قال: محمَّد بن ذكوان الذي روى عنه شُعبة ثقة. وفي التهذيب أن شُعبة إنما روى عنه حديثًا واحدًا. وفي كتاب ابن أبي حاتم بسنده إلى أبي داود الطيالسي، فذكر ما تقدم ¬

_ (¬1) ت الكمال: 6/ 303، التهذيب: 9/ 156، الميزان: 4/ 462. (¬2) تكررت في الأصل. (¬3) (7/ 419) لكن فيه "محمَّد بن دينار" وانظر (7/ 379، 397). (¬4) (2/ 262). (¬5) "الجرح والتعديل": (7/ 251).

عن شُعبة، وزاد: قال أبو داود: ولم يرو شُعبة عن محمَّد بن ذكوان إلا هذا الحديث. أقول: قد روى شُعبة عن رجل آخر اسمه محمَّد بن ذكوان، وهو الأسدي، بَيَّاع الأكسية، كوفي. وفي "الوحدان" (¬1) لمسلم، فيمن تفرَّد عنه شُعبة: محمَّد بن ذكوان الجزري. فكلمة ابن معين يمكن أن يكون عنى بها غير الذي تكلم فيه البخاري وأبو حاتم وغيرهما. ويقوِّي هذا أن الذين تكلموا فيه مشهور، روى عنه جماعة. فقول ابن معين: "الذي روى عنه شُعبة" يشعر بأنه غيره. وفي ترجمة مزاحم بن زفر بن الحارث الضبي: عن أبي داود الطيالسي أن شُعبة قال: حدثني مزاحم بن زفر وكان كخير الرجال (¬2). 248 - [ص 115] خ حديثًا توبع عليه، م د ت س. محمَّد بن سابق (¬3): قال عُبيد الله بن إسماعيل البغدادي عن أحمد: إذا أردت أبا نعيم فعليك بابن سابق. وقال العِجْلي: كوفي ثقة. وقال يعقوب بن شيبة: كان شيخًا صدوقًا ثقة، وليس ممن يوصف بالضبط للحديث. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: ضعيف. ¬

_ (¬1) (ص/ 232). (¬2) انظر "الجرح والتعديل": (1/ 153، 8/ 405)، و"التهذيب": (10/ 100). (¬3) ت الكمال: 6/ 315، التهذيب: 9/ 174، الميزان: 5/ 1.

روى محمَّد بن سابق عن إسرائيل عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله مرفوعًا: "ليس المؤمن بالطعَّان ... " (¬1) الحديث. رواه أبو بكر بن أبي شيبة عنه وقال: إن كان محمَّد بن سابق حفظه فهو غريب. وقال ابن المديني: هذا حديث منكر من حديث إبراهيم عن علقمة، وإنما روى هذا أبو وائل من غير حديث الأعمش. وقال الترمذي: حسن غريب. وقال الخطيب (¬2): يرويه ليث بن أبي سُليم، عن زُبيد اليامي عن أبي وائل عن عبد الله. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (3839)، والترمذي (1977)، والحاكم: (1/ 57)، والبزار (3207)، وغيرهم. قال البزار: "هذا الحديث لا نعلم رواه عن الأعمش إلا إسرائيل ولا نعلم رواه عن إسرائيل إلا محمَّد بن سابق" - يعني متصلاً -. (¬2) في "تاريخ بغداد": (5/ 339). وكلامه بتمامه: "رواه ليث بن أبي سُليم عن زبيد اليامي عن أبي وائل عن عبد الله إلا أنه وقفه ولم يرفعه. ورواه إسحاق بن زياد العطار الكوفي - وكان صدوقًا - عن إسرائيل، فخالف فيه محمَّد بن سابق. أخبرنيه أحمد بن عبد الملك، أخبرنا عبد الرحمن بن عمر، حدثنا محمَّد بن أحمد بن يعقوب، حدثنا جدي قال: حدثني إسحاق بن زياد العطار من كتابه، عن إسرائيل، عن محمَّد بن عبد الرحمن، عن الحكم، عن إبراهيم، عن علقمة عن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء". لم يزد يعقوب بن شيبة في ذكر محمَّد بن عبد الرحمن على هذا, ولم يعرفه، ولا قال: إنه ابن أبي ليلى، فالله أعلم" اهـ.

249 - محمَّد بن سالم الرَّبَعي (¬1): عن ثابت عن أنس رفعه: "إذا اشتكى أحدكم فليضع يده ... " (¬2). رواه عنه جماعة. قال الطبراني: تفرد به محمَّد بن سالم عن ثابت (¬3). وقال أبو حاتم: لا بأس به. 250 - محمَّد بن سليمان بن عبد الله، ابن الأصبهاني (¬4): قال أبو حاتم: لا بأس به، يكتب حديثه ولا يحتجّ به. وقال ابن عديّ: مضطرب الحديث، قليل الحديث، ومقدار ما له قد أخطأ في غير شيء منه. روى له النسائي (¬5) حديثه عن سُهيل عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعًا: "من صلى ثنتي عشرة ركعة ... " الحديث. وقال: هذا خطأ، ابن الأصبهاني ضعيف، رواه فُليح عن سُهيل عن أبي إسحاق [ص 116] عن المسيب بن رافع [عن عنبسة] (¬6) عن أم حبيبة، وهذا أولى بالصواب. ¬

_ (¬1) ت الكمال: 6/ 317، التهذيب: 9/ 177. (¬2) أخرجه الترمذي رقم (3588) وقال: "حسن غريب ومحمد بن سالم هذا شيخ بصري"، والطبراني في "الصغير" (1/ 181)، و"الدعاء" (1127). (¬3) ثم قال الطبراني: إن ابن الطبّاع تفرّد به عن محمَّد بن سالم. لكن رواية الترمذي من طريق عبد الوارث بن سعيد عن محمَّد بن سالم فيها استدراك عليه. كما أشار إليه المزي في "تهذيبه". (¬4) ت الكمال: 6/ 332، التهذيب: 9/ 201، الميزان: 5/ 15. (¬5) رقم (1811)، وفي "الكبرى" رقم (1482، 1483). وأخرجه أيضًا ابن ماجه (1142). (¬6) سقط من الأصل واستدركناه من المصادر.

251 - محمَّد بن سنان القَزَّاز (¬1): قال ابن خراش: كذَّاب. روى حديث والان عن رَوح بن عبادة، فذهب حديثه. قال يعقوب بن شيبة: قال لي علي بن المديني: ما سمع هذا الحديث من رَوح بن عبادة غيري، وغير سهل بن أبي خَدُّويه. وقال الحاكم عن الدارقطني: لا بأس به. قال ابن حجر: إن كان عمدة من كذَّبه كونه ادعى سماع هذا الحديث من ابن عبادة، فهو جرح ليِّن؛ لعله استجاز روايته عنه بالوجادة. وقال مسلمة في "الصِّلة": ثقة. 252 - محمَّد بن أبي سُوَيد الثقفي (¬2): ... مَعْمر عن الزهري عن سالم عن أبيه: "أن غيلان أسلم وله عشر نسوة" (¬3). قال الترمذي: سمعت محمدًا يقول: هذا غير محفوظ، والصحيح ما رواه شعيب وغيره عن الزهري قال: حُدِّثت عن محمَّد بن سُويد الثقفي أن غيلان أسلم .... فذكره (¬4). ¬

_ (¬1) ت الكمال: 6/ 335، التهذيب: 9/ 206، الميزان: 5/ 21. (¬2) ت الكمال: 6/ 338، التهذيب: 9/ 211، الميزان: 5/ 22. (¬3) أخرجه الترمذي رقم (1128). (¬4) كتب الشيخ على رأس (الورقة 116): "وهم لمعمر". فكأنه هو غرضه من إيراد هذه الترجمة.

253 - د ق. محمَّد بن الصبَّاح الجَرْجَرائي (¬1): قال أبو زُرعة ومحمد بن عبد الله الحضرمي: ثقة. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وذكره ابن حبان في "الثقات" (¬2). وفي "تاريخ بغداد" (5/ 364): "قرأت على أبي بكر البرقاني، عن محمَّد بن العباس قال: حدثنا أحمد بن محمَّد بن مسعدة أخبرنا جعفر بن درستويه حدثنا أحمد بن محمَّد بن القاسم بن محرز قال: سألت يحيى بن معين عن محمَّد بن الصبَّاح الجَرْجَرائي، فقال: ليس به بأس، من أهل المُخَرَّم ولكن انتقل. قلت: عنده عن الوليد بن مسلم كتاب صالح، وعن ابن عُيينة حديث كثير. فقال: ليس به بأس. وفي "التهذيب": وقال أحمد بن محمَّد بن القاسم بن محرز ... فذكرها. وأحمد بن محمَّد هذا تدل القصة على أنه كان من أهل العلم، ولكن اقتصر الخطيب في ترجمته في "تاريخ بغداد": (5/ 83) على قوله: "أحمد بن محمَّد بن قاسم بن محرز، أبو العباس، بغدادي، يروي عن يحيى بن معين. حدَّث عنه جعفر بن درستويه بن المرزبان الفارسي". هذه الترجمة برمتها! وهذا لا يخرج أحمد عن حدِّ الجهالة (¬3). ¬

_ (¬1) ت الكمال: 6/ 349، التهذيب: 9/ 228، الميزان: 5/ 30. (¬2) (9/ 103). (¬3) ابن محرز: هو صاحب "السؤالات" ليحيى بن معين، طبعت باسم "معرفة الرجال"، وليس له ترجمة وافية، لكن سؤالاته تدل على علمه بالحديث، وقد اتصل بيحيى قبل (سنة 225). واعتمد روايته عن ابن معين الخطيب في "تاريخه" والحافظ في =

(¬1) وقال يعقوب بن شيبة: ذُكِر ليحيى بن معين فقال: حدَّث بحديث منكر عن علي بن ثابت عن إسرائيل عن ابن أبي ليلى عن نافع عن ابن عمر مرفوعًا: "صنفان ليس لهما في الإِسلام نصيب: المرجئة والقدرية". قال يعقوب: وهذا حديث منكر جدًّا من هذا الوجه، كالموضوع، وإنما يرويه علي بن نزار شيخ ضعيف واهي (¬2) الحديث عن ابن عباس، يعني بواسطة عكرمة. قال: ولم يذكر يحيى [بن معين] محمدَ بن الصبَّاح هذا بسوء. أقول: الحديث يرويه علي بن نزار وغيره عن أبيه نزار عن عكرمة عن ابن عباس - زاد في رواية: وعن جابر - مرفوعًا. قال ابن عديّ: وهو أحد ما أنكر على علي بن نزار وعلى أبيه. وله طرق أخرى ضعيفة عن جماعة من الصحابة. وأطلق بعضهم عليه الوضع، وقال بعضهم: إنه حسن، وفي "سنن الترمذي" (¬3): غريب حسن صحيح. كذا في "النسخة الميرية" (2/ 23) (¬4). ¬

_ = "التهذيب" ومغلطاي في "إكماله"، والذهبي في كتبه. انظر مقدمة "تاريخ ابن معين - رواية الدوري": (1/ 142 - 143). (¬1) رجع الكلام عن محمَّد بن الصبّاح. وقوله: "ثابت عن إسرائيل ... " كذا عند ابن محرز، وفي بقية المصادر: "عن إسماعيل بن أبي إسحاق". (¬2) الأصل تبعًا للتهذيب: "وأهل" وفوقها ثلاث نقاط، إشارة إلى شكه فيها، ثم كتب المصنف بعدها بين قوسين (وأصل) مقترحًا هذه القراءة. لكن في "تاريخ بغداد" (5/ 367)، وت الكمال: (6/ 349): "واهي" كما أثبتناه, ومع ذلك فقد ضَبَّبَ المزي على هذا الموضع في نسخته. فالله أعلم. (¬3) رقم (2149)، وأخرجه ابن ماجه (62). (¬4) لكن في المخطوط (ق 143 - نسخة الكروخي)، و"تحفة الأشراف": (5/ 169): "حسن غريب".

رواه من طريق نزار، ثم قال: "حدثنا محمَّد (¬1) بن رافع حدثنا محمَّد بن بشر حدثنا سلَّام بن أبي عَمرة عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه". أقول: وسلَّام تالف لا يُفْرَح بمتابعته. وعلى كل حال، فلم أجد هذا الحديث مسندًا عن ابن عمر إلا من الوجه الذي ذكره ابن المديني عن الجَرْجَرائي. وكأنَّ الجرجرائي كفَّ عن روايته، فإن [عادة] (¬2) الخطيب إسناد ما يعرض من الأحاديث مثل هذا, ولم يسند هذا الحديث، وإنما أسند القصة إلى يعقوب بن شيبة. ولم ينسب صاحب "كنز العمال" هذا الحديث إلى تخريج ابن عمر إلا عن "تاريخ بغداد" للخطيب، فكأن السيوطي مع تنقيبه لم يجد الحديث عن ابن عمر إلا في هذه القصة. 254 - [ص 118] خ فَرْدُ حديثٍ كما في "الخلاصة"، م ت س ق. محمَّد بن عبَّاد بن الزِّبْرِقان (¬3): قال أحمد: حديثه حديث أهل الصدق، وأرجو أنه لا يكون به بأس. وقال مرة: يقع في قلبي أنه صدوق. وقال أبو زُرعة عن ابن معين: لا بأس به. وقال صالح جَزَرة: لا بأس به. وقال ابن قانع: كان ثقة. وقال عبد الله بن علي ابن المديني: قلت لأبي: روى محمَّد بن عبَّاد عن ¬

_ (¬1) الأصل: "محمود" سهو. (¬2) زيادة يستقيم بها السياق. (¬3) ت الكمال: 6/ 360، التهذيب: 9/ 244.

سفيان عن عَمرو بن دينار عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما وجَّه أبا موسى إلى اليمن ...) فقال: هذا كذب باطل؛ إنما روى هذا الشيباني عن سعيد. قال: ولم يرو عَمرو بن دينار عن أبي بردة، ولا عن سعيد بن أبي بردة شيئًا. وأنكره جدًّا. وقال الخطيب (¬1): أنا محمَّد بن الحسين [أنا] (¬2) أبو سهل بن زياد ثنا موسى بن هارون ثنا محمَّد بن عباد ثنا سفيان عن عَمرو قال: ذكروا القدرية عند ابن عباس بعد ما ذهب بصره، فقال: هل في البيت أحدٌ منهم؟ فأروني آخذ برأسه. وقال ابن عباس: إنه منظوم بالتوحيد، إنه حين جاءه جبريل في الصورة التي لم يكن يراه فيها، وهو لا يعرفه، وسأله عن الإيمان فقال: هو كذا وكذا، والإيمان بالقدر خيره وشره. قال موسى بن هارون: لا نعلم في الأرض أحدًا رواه عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير محمَّد بن عباد. قال عبد الله بن علي بن المديني: وقال أبي: سمعتُ هذا الحديث من سفيان، وليس فيه هذا المرفوع. وأنكره. 255 - [ص 119] محمَّد بن عبد الله بن خالد، أبو لقمان (¬3): قال الخطيب (¬4): كان ضعيفًا، يروي المنكرات عن الثقات. ثم ساق له ¬

_ (¬1) "تاريخ بغداد": (2/ 374 - 375). (¬2) الأصل: "أبو" سهو. (¬3) التهذيب: 9/ 253، الميزان: 5/ 50. (¬4) في "تاريخ بغداد": (5/ 430).

عن أبي النَّضْر هاشم بن القاسم عن الثوريّ عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضَمْرة عن علي رفعه: "إن الله يغضب لغضب عمر". قال الذهبي في "الميزان": هذا خبر منكر. 256 - محمَّد بن عبد الله بن عبد الأعلى، المعروف بابن كُنَاسَة (¬1): روى عنه أحمد وجماعة. ووثّقه ابن معين وابن المديني وأبو داود والعِجْلي ويعقوب بن شيبة. وقال أبو حاتم: كان صاحب أخبار، يُكتب حديثه ولا يحتج به. روى له النسائي (¬2) حديثه عن هشام بن عروة عن أخيه عثمان عن أبيه عروة عن الزبير حديث: "غَيِّروا الشيب ... ". قال ابن معين: إنما هو عن عروة مرسل. وقال الدارقطني: لم يتابع عليه، رواه الحُفّاظ من أصحاب هشام عن عروة مرسلًا (¬3). 257 - محمَّد بن عبد الله بن المثنى بن عبد الله بن أنس بن مالك الأنصاري (¬4): وثّقه ابن معين. وقال أبو حاتم: صدوق. وقال مرة: لم أر من الأئمة إلا ¬

_ (¬1) ت الكمال: 6/ 373، التهذيب: 9/ 259، الميزان: 5/ 38. (¬2) رقم (5074)، وفي "الكبرى" رقم (9292) وقال: غير محفوظ. (¬3) انظر "العلل": (4/ 234 - 235) للدارقطني، و"تاريخ بغداد": (5/ 404 - 406). (¬4) ت الكمال: 6/ 383، التهذيب: 9/ 274.

ثلاثة: أحمد بن حنبل، وسليمان بن داود الهاشمي، ومحمد بن عبد الله الأنصاري. وقال النسائي: ليس به بأس. وأنكر عليه يحيى القطان، ومعاذ بن معاذ، ثم أحمد وأبو خيثمة وابن المديني حديثه عن حبيب بن الشهيد عن ميمون بن مهران عن ابن عباس: "احتجم النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم صائم". قال أحمد: كانت ذهبتْ للأنصاريّ كُتُب، فكان بعدُ يحدِّث من كتب غلامه أبي حكيم. يعني: فكان هذا من ذاك. وقال يعقوب بن سفيان: سُئل علي ابن المديني عن حديث الأنصاري عن حبيب بن الشهيد، فقال: ليس من ذلك شيء، إنما أراد [حديث] حبيب عن ميمون عن يزيد بن الأصم: "تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ميمونة مُحرِمًا". ذكره في "التهذيب"، ونحوه في "الميزان"، و"مقدمة الفتح" (¬1)، و"تاريخ بغداد" (5/ 410). [ص120] وذَكَر (¬2) قبل ذلك الحديث، ثم قال: "لم يروه عن حبيب هكذا غير الأنصاري، والصواب ما أخبرنا ... عن سفيان، عن حبيب بن الشهيد عن ميمون بن مهران عن يزيد بن الأصم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج ميمونة وهو محل. وقد روى الأنصاري أيضًا حديث يزيد بن الأصم هذا هكذا". 258 - ع. محمَّد بن عبد الله بن مسلم، ابن أخي الزهري (¬3): قال أحمد: لا بأس به. وقال مرة: صالح الحديث. وقال ابن معين: ¬

_ (¬1) (ص/462). (¬2) أي: الخطيب في تاريخه. (¬3) ت الكمال: 6/ 387، التهذيب: 9/ 278، الميزان: 5/ 38.

ضعيف. وقال مرة: ليس بذاك القوي. وقال مرة: صالح. وقال مرة: (هو) أحب إليَّ من ابن إسحاق في الزهري. وقال أبو حاتم: ليس بالقوي، يكتب حديثه. وقال أبو داود: ثقة. وعدَّه الذُّهلي (¬1) في الطبقة الثانية من أصحاب الزهري، مع أسامة بن زيد وابن إسحاق وفُلَيح. قال: وهؤلاء كلهم في حال الضعف والاضطراب. قال: وقد روى ثلاثة أحاديث لم نجد لها أصلاً. • حديثه عن عمه عن سالم عن أبي هريرة رفعه: "كل أمتي معافى إلا المجاهرون". • وبه عن أبي هريرة قوله إذا خطب: "كل ما هو آتٍ قريب، لا بُعْدَ لما هو آتٍ ... " الحديث. • وحديثه عن امرأته أم الحجّاج بنت الزهري، قالت: كان أبي يأكل بكفه، فقلت: لو أكلت بثلاثة أصابع، قال: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأكل بكفّه كلها". • وحديثًا رابعًا تفرَّد به الواقدي (¬2). [ص 121] أقول: أما الذي رواه الواقدي فلم يثبت عن محمَّد، لحال الواقدي. ¬

_ (¬1) كلام الذهلي - وهو الخبير بحديث الزهري - ساقه المصنف من التهذيب مع بعض الاختصار، وهو بتمامه في ت الكمال نقلًا عن العقيلي في "الضعفاء": (4/ 88 - 89). (¬2) هذا الرابع زاده الحافظ في التهذيب، وليس من كلام الذُّهلي. وقال عقبه: والواقدي غير حجة.

وأما حديث محمَّد عن امرأته، فإن كان منكرًا فالحَمْل فيه على المرأة. وأما قول أبي هريرة في خُطبته، فلا بعد أن ينفرد به محمَّد عن عمه؛ إذ ليس المرويّ مما يبعد أن لا يحدِّث به الزهري إلا مرة؛ لأنه ليس بمرفوع، ولا فيه حُكم يُحتاج إليه. وانحصر النظر في حديث: "كلُّ أمتي مُعافىَ"، وقد أخرجه الشيخان في "الصحيحين" (¬1)، وجَمْجم الحافظ ابن حجر رحمه الله في "التهذيب"، وفي "مقدمة الفتح" (¬2)، فلم يذكر إخراج الشيخين له، كأنه لم يستحضر عذرًا لهما, ولذلك لم يتعرَّض في "الفتح" (¬3) عند شرح هذا الحديث للإشارة إلى أن محمدًا تفرد به. 258 - محمَّد بن عبد الرحمن الطُّفاوي (¬4). خ د ت س: قال أبو زُرعة: منكر الحديث (¬5). وذكر له ابن عديّ عدة أحاديث. قال ابن حجر: الذنب فيها لعَمْرو بن عبد الجبار الراوي عن الطُّفاوي. وعدَّ في "مقدمة الفتح" (¬6) أحاديثه التي أخرجها له البخاري، قال في ¬

_ (¬1) البخاري (6069)، ومسلم (2990). (¬2) (ص/ 462). (¬3) (10/ 501). (¬4) ت الكمال: 6/ 409، التهذيب: 9/ 308، الميزان: 5/ 64. (¬5) نقله عنه ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل": (7/ 334)، لكن نقل عنه في "العلل" (7): "صدوق إلا أنه يهم أحيانًا" ونحوه قال أبو حاتم في "الجرح"، وأكثر الأئمة على تقويته. (¬6) (ص/ 463).

واحد منها: انفرد به الطفاوي. ثم قال: ثم وجدت له متابعًا. 260 - محمَّد بن عبد الكريم المروزي (¬1): قال ابن أبي حاتم (¬2): كتب إلى أبي، وأبي زرعة، وإليَّ ببعضِ حديثه، فوجد أبي في حديثه حديثًا كذبًا، فقال: هذا كذب، والشيخ كذّاب. 261 - [ص 122] خ؟. محمَّد بن عُبيد الله، أبو جعفر بن أبي داود بن المُنادي (¬3): قال ابن أبي حاتم: سمعت منه مع أبي، وسئل أبي عنه فقال: صدوق. وقال ابن عُقدة عن محمَّد بن عبدوس، وعبد الله بن أحمد: ثقة. وقال الآجري: حدثنا عنه أبو داود بحديث كثير، وسمعته ينكر حديثه عن أبي أسامة عن عُبيد الله بن عمر، يعني عن نافع عن ابن عمر قال: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على مريض يعوده، فأُلقيَتْ إليه وسادة، فلم يجلس عليها. قال الخطيب: قد روي عن محمَّد بن عبد الله المُخَرّمي عن أبي أسامة، فإن كان الناقل حَفِظَه فقد توبع ابن المنادي، وإلا فأنا أخشى أن يكون الناقل سقطت عليه الياء من عُبيد الله والد محمَّد، ونَسَب محمدًا مُخرّميًا؛ لأنه كان ينزل المُخَرّم (¬4). ¬

_ (¬1) التهذيب: 9/ 315، الميزان: 5/ 76. (¬2) "الجرح والتعديل": (8/ 16). (¬3) ت الكمال: 6/ 421، التهذيب: 9/ 325. (¬4) انظر كلام الخطيب بتمامه في "التاريخ": (2/ 327 - 328).

262 - محمَّد بن عمر الواقدي (¬1): قال الساجي: متَّهم، حدثني أحمد بن محمَّد بن محرز سمعت أحمد بن حنبل يقول: لم نزل ندافع أمر الواقدي حتى روى عن مَعْمر عن الزهري عن نبهان عن أم سلمة حديث: "أفعمياوان أنتما"، فجاء بشيء لا حيلة فيه، والحديث حديث يونس لم يروه غيره. وقال أحمد بن منصور الرمادي: قدم علينا علي بن المديني بغداد سنة سبع أو ثمان وثمانين، قال: والواقدي قاضٍ علينا. قال: وكنت أطوف مع علي، فقلت: تريد أن تسمع من الواقدي؟ فكان مترويًا في ذلك، ثم قلت له بعد، فقال: أردت أن أسمع منه، فكتب إليَّ أحمد فذكر الواقدي فقال: كيف تستحل أن تكتب عن رجلٍ روى عن مَعْمر حديث نبهان، وهذا حديث يونس تفرد به؟ (¬2). 263 - محمَّد بن عَمرو الأنصاري، أبو سهل (¬3): قال ابن المديني: سألت يحيى بن سعيد عنه فضعفه جدًّا، قلت: ما له؟ قال: روى عن القاسم عن عائشة في الكبش الأقرن، وروى عن الحسن أوابد. وقال أحمد: كان يحيى بن سعيد يضعفه جدًّا. وكذا قال أبو داود، إلا أنه لم يقل: جدًّا. ¬

_ (¬1) ت الكمال: 6/ 452، التهذيب: 9/ 363، الميزان: 5/ 108. (¬2) انظر باقي القصة في المصادر السالفة. (¬3) ت الكمال: 6/ 461، التهذيب: 9/ 378، الميزان: 5/ 120.

وقال ابن معين ويعقوب بن سفيان: ضعيف. وقال ابن نُمير: ليس يساوي شيئًا. وقال النسائي: ليس بالقوي عندهم. 263 - ق. محمَّد بن عَون، أبو عبد الله الخُراساني (¬1): قال ابن معين وأبو داود: ليس بشيء. وقال البخاري ويعقوب بن سفيان: منكر الحديث. وقال النسائي والدولابي والأزدي: متروك الحديث. [ص 123] وقال النسائي مرة: ليس بثقة. وقال أبو زُرعة: ضعيف الحديث، ليس بقوي. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث، منكر الحديث، روى عن نافع حديثًا ليس له أصل. وفي "التهذيب": روى له ابن ماجه (¬2) حديثًا عن نافع عن ابن عمر: قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحَجَر، ثم وضع شفتيه عليه، فسكن طويلاً، ثم التفت فإذا بعمر يبكي، فقال: "يا عمر، ههنا تُسْكَب العبرات" (¬3). وكأنه الحديث الذي أشار إليه أبو حاتم. وقال ابن خُزيمة: في القلب منه شيء. وقال ابن عديّ: عامة ما يرويه لا يتابع عليه. ¬

_ (¬1) ت الكمال: 6/ 466، التهذيب: 9/ 384، الميزان: 5/ 122. (¬2) رقم (2945). (¬3) والحديث أخرجه ابن خزيمة (2506)، والحاكم: (1/ 634) وصحح إسناده!، والعقيلي: (4/ 113)، وابن عدي: (6/ 244)، وابن حبان في "المجروحين": (2/ 272).

265 - محمَّد بن القاسم الأسدي، أبو إبراهيم (¬1): قال البخاري: كذَّبه أحمد. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: أحاديثه موضوعة. وقال أبو داود: غير ثقة ولا مأمون، أحاديثه موضوعة. وقال الدارقطني: يكذب. وضعَّفه النسائي، وأبو حاتم وغيرهما. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: ثقة، وقد كتبتُ عنه (¬2). 266 - محمَّد بن كثير بن أبي عطاء الثقفي مولاهم، أبو أيوب الصنعاني، نزيل المِصِّيصَة (¬3): قال يونس بن حبيب: قلت لابن المديني: إن محمَّد بن كثير حدَّث عن الأوزاعي عن قتادة عن أنس قال: نظر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أبي بكر وعمر فقال: "هذان سيدا كهول أهل الجنة ... " (¬4) الحديث. فقال علي: كنت أشتهي أن ¬

_ (¬1) ت الكمال: 6/ 480، التهذيب: 9/ 407، الميزان: 5/ 136. (¬2) نقل هذه الرواية عنه ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل": (8/ 65). لكن نقل عنه عباس الدوري وابن محرز خلاف ذلك، قال الدوري: وذكر (يعني يحيى بن معين) محمَّد بن القاسم الأسدي، فلم يرضه. قال (الدوري): ومذهب يحيى عندي في محمَّد بن القاسم أن محمَّد بن القاسم رجل لم يكن من أصحاب الحديث، ولم يكن له تيقظ أصحاب الحديث. "تاريخه": (2/ 534). وقال ابن محرز: سألت يحيى بن معين، عن محمَّد بن القاسم الأسدي صاحب حديث الأوزاعي عن حسان ... فقال: هو هذا محمَّد بن القاسم ليس بشيء، كان يكذب، قد سمعت منه. "السؤالات" (3). (¬3) ت الكمال: 6/ 486، التهذيب: 9/ 415، الميزان: 5/ 143. (¬4) أخرجه أحمد في "فضائل الصحابة" رقم (121)، والطبراني في "الأوسط" رقم (6869)، و"الصغير": (2/ 77)، وقال في الأول: "لم يرو هذا الحديث عن =

أرى هذا الشيخ، فالآن لا أحبُّ أن أراه. 267 - محمَّد بن كثير القرشي الكوفي، أبو إسحاق (¬1): روى عنه ابن المديني وابن معين وغيرهما. قال أحمد: خَرَقنا حديثه. وقال ابن المديني: كتبنا عنه عجائب، وخططت على حديثه. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال الدوري عن ابن معين: شيعي ولم يكن به بأس. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث، وكان يحيى بن معين يُحْسن القول فيه. وقال إبراهيم بن الجُنيد (¬2): قلت لابن معين: محمَّد بن كثير الكوفي؟ قال: ما كان به بأس. قلت: إنه روى أحاديث منكرات. قال: ما هي؟ [ص 124] قلت: عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي عن النعمان بن بشير يرفعه: "نضَّر الله امرأً سمع مقالتي ... ". وبهذا الإسناد يرفعه: "اقرأ القرآن ما نهاك، فإذا لم يَنْهَك (¬3) فلست تقرؤه". قال: ومن يروي هذا عنه؟ فقلت (¬4): رجل من أصحابنا. فقال: عسى هذا سمعه من [السِّنْدي بن شاهِك] (¬5)! فإن كان هذا الشيخ روى هذا فهو ¬

_ = الأوزاعي إلا محمَّد بن كثير، ولم يروه عن قتادة إلا الأوزاعي". (¬1) التهذيب: 9/ 418، الميزان: 5/ 142. (¬2) "السؤالات" (887). (¬3) الأصل تبعًا للتهذيب: "هناك ... يهنك". وهو تحريف، والتصحيح من مصادر الحديث كما سيأتي. (¬4) الأصل: "فقال" والتصحيح من المصادر. (¬5) الأصل: "السدي" تبعًا للتهذيب، وفيه بعده بياض بمقدار كلمة! وهو تحريف صوابه: =

كذّاب، وإلا فإني قد رأيت حديث الشيخ مستقيمًا. أقول: الحديث الأول: ذكر في "الميزان" أن عبد الله بن أيوب المُخَرّمي رواه عن محمَّد بن كثير بسنده (¬1). [وهو] مروي عن جماعة من الصحابة، وصححه الحاكم في "المستدرك" (1/ 88) من طريق عبد الله بن بكر السهمي ثنا حاتم بن أبي صغيرة عن سِماك بن حرب عن النعمان بن بشير قال: "خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: .... ". ¬

_ = السنديّ بن شاهك. كما في "السؤالات"، و"تاريخ بغداد": (3/ 192). والسندي بن شاهك هذا هو: الأمير أبو نصر، مولى أبي جعفر المنصور. ولي إمرة دمشق للرشيد، ثم وليها بعد المئتين. قال الذهبي: وكان ذميم الخلق سنديًّا يجعل القول قول المدعي ... وساق من نوادره. توفي سنة 204 ببغداد وهو جد الشاعر المشهور كُشاجم. انظر "تاريخ الإِسلام" وفيات 204 ص/ 185، و"وفيات الأعيان": (5/ 310)، و"الأعلام": (7/ 168). وفي "الطيوريات": (1/ 19) عن الجاحظ قال: "كان السِّنديّ بن شاهِك لا يستحلف الحائك ولا المُكاري ولا الملاح، ويجعل القول قول المدّعي ويقول: هؤلاء قوم قد بان لي ظلمهم. وكان كثيرًا يقول: اللهم إني أستخيرك في الحمال ومعلم الكتاب"!! وانظر "عيون الأخبار": (1/ 70). أقول: وقصد ابن معين بقوله هذا التهكم، وأن هذا الخبر غريب كأنما هو من أخبار السندي بن شاهك المستغربة العجيبة. والله أعلم. (¬1) أخرجه ابن عدي في "الكامل": (6/ 253 - 254) والذهبي عنه ينقل. لكن بقية لفظه ليس فيه قوله: "اقرأ القرآن ما نهاك ... ". وقال ابن عدي عقبه: "وهو غريب من وجهين، أحدهما: من حديث ابن أبي خالد، والثاني: حيث قال: النعمان بن بشير عن أبيه" اهـ.

قال الحاكم: وقد روي عن الشعبي ومجاهد عن النعمان بن بشير عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وعلى هذا، في رواية محمَّد بن كثير إنما هي لتفرده به عن إسماعيل عن الشعبي عن النعمان. وأما الحديث الثاني؛ ففي "شرح الإحياء" (4/ 469) أنه أخرجه الطبراني وأبو نعيم ومن طريقهما أخرجه الديلمي في "مسند الفردوس"، من حديث عبد الله بن عَمرو بن العاص. قال العراقي: بسند ضعيف. ولفظه: "اقرأ القرآن ما نهاك، فإن لم ينهك فلست تقرؤه" (¬1). وفي "التهذيب": وروى محمَّد بن منصور الطوسي عن محمَّد بن كثير هذا عن الأعمش عن عدي بن ثابت عن زِر بن حُبيش عن عبد الله عن علي - كذا قال - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من لم يقل عليٌّ خير البشر فقد كفر" (¬2). قال في "الميزان": "ومن مناكيره: عن عَمرو بن قيس عن عطية عن أبي سعيد مرفوعًا: "اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني في "الكبير"، كما في "المجمع": 1/ 184، وفي "مسند الشاميين" رقم (1345)، والشهاب في "مسنده" رقم (392). وفي سنده شهر بن حوشب. (¬2) أخرجه من هذا الطريق الخطيب في "تاريخه": (3/ 192) ومن طريقه ابن الجوزي في "الموضوعات" رقم (649). وأخرج الخطيب نحوه أيضًا في (7/ 421)، ومن طريقه ابن الجوزي في "الموضوعات" رقم (651) من حديث جابر بن عبد الله. قال الخطيب: هذا منكر. وقال الذهبي: باطل. (¬3) أخرجه الترمذي رقم (3127) وقال: حديث غريب، والطبراني في "الأوسط" (7839) وقال: لم يرو هذا الحديث عن عمرو بن قيس إلا محمَّد بن كثير ... =

قال: رواه ابن وهب عن الثوريّ عن عَمرو بن قيس: كان يقال: "اتقوا ... " فذكره. 268 - محمَّد بن كثير بن مروان الفِهْري الشامي (¬1): روى عن ابن أبي الزِّناد عن أبيه عن خارجة بن زيد عن أبيه مرفوعًا: "لا يُقَرّ مصلوبٌ على خشبة أكثر من ليلة واحدة" (¬2). قال ابن معين لإدريس بن عبد الكريم لما سأله عنه: إذا مررت به فارجمه. وذكر له هذا الحديث. وقال ابن معين أيضًا: ليس بثقة. وقال علي بن الجُنيد: منكر الحديث. وقال ابن عديّ: روى بواطيل، والبلاء منه. 269 - م ت ق. محمَّد بن محمَّد بن مرزوق الباهلي (¬3): روى عنه مسلم (¬4) وأبو حاتم وابن خُزيمة وغيرهم. قال أبو حاتم: صدوق. وذكره ابن حبان في ["الثقات" (¬5)]. ووثّقه الخطيب. ¬

_ = والعقيلي في "الضعفاء": (4/ 129). وانظر كلام المصنف عليه في تعليقه على "الفوائد المجموعة": (ص/ 243) للشوكاني. (¬1) التهذيب: 9/ 419، الميزان: 5/ 145. (¬2) أخرجه ابن عدي: (6/ 255)، ووقع فيه وفي التهذيب والميزان وغيرها في رواية الحديث: "أكثر من ليلة واحدة"، لكن في جواب ابن معين: ذاك الذي لا يقر مصلوب على خشبة أكثر من ثلاثة أيام". (¬3) ت الكمال: 6/ 497، التهذيب: 9/ 431، الميزان: 5/ 151. (¬4) قال في "الزهرة": سبعة أحاديث. (¬5) (9/ 125).

وذكر له ابن عديّ (¬1) حديثه عن الأنصاري عن أبيه عن ثُمامة عن أنس مرفوعًا: "ليس الخَبَر كالمُعاينة". (وفي "الميزان": "ليس المخبر كالمعاين"). وحديثه عن الأنصاري أيضًا عن محمَّد بن عَمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعًا: "إذا أكل ناسيًا في رمضان فلا قضاء عليه ولا كفارة" (¬2). ثم قال ابن عدي: لم أر له أنكر منهما، وهو ليّن. 270 - محمَّد بن مروان بن قدامة العُقيلي (¬3): روى عنه مسدَّد ويحيى بن معين وغيرهما. قال أحمد: حدَّث بأحاديث وأنا شاهد، لم أكتبها، تركتها على عمد. كأنه ضعفه. وقال ابن معين: صالح. وقال مرة: ليس به بأس، قد كتبت عنه أحاديث. وحكى العُقيلي (¬4) عن ابن معين أنه قال: ليس به بأس. قيل له: إنه يروي عن هشام عن الحسن: "يجزئ من الصوم السلام". فكأنه استضعفه. وقال أبو زُرعة: ليس عندي بذاك، وقال أبو داود: صدوق. وقال مرة: ثقة. ¬

_ (¬1) "الكامل": (6/ 291) ولفظه كلفظ الميزان. وقال ابن عدي عقبه: "وهذا بهذا الإسناد لم يروه عن الأنصاري غير ابن مرزوق هذا". (¬2) "الكامل": (6/ 291) وقال عقبه: "وهذا غريب المتن والإسناد ... ". (¬3) ت الكمال: 6/ 500، التهذيب: 9/ 435، الميزان: 5/ 158. (¬4) في "الضعفاء": (4/ 133).

وأورد له العُقيلي حديثه عن يونس بن عُبيد عن الحسن عن ابن مُغفَّل في صفة الدجال، وقال: لا يتابع عليه. 271 - [ص 126] محمَّد بن مُصْعَب القُرْقُساني (¬1): قال أحمد: لا بأس به. وقال ابن معين: ليس بشيء. وذكر عنه حديثًا، ثم قال يحيى: لم يكن من أصحاب الحديث، كان مغفلًا. وقال النسائي: ضعيف. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبا زرعة عنه فقال: صدوق في الحديث، ولكنه حدَّث بأحاديث منكرة. قلت: فليس هذا مما يضعفه؟ قال: نظن أنه غلط فيها. قال: وسألت أبي عنه فقال: ضعيف الحديث، ليس بقوي. قلت: إن أبا زرعة قال كذا، وحكيت له كلامه. فقال: ليس هو عندي كذا، ضُعِّفَ لمَّا حدَّث بهذه المناكير. 272 - محمَّد بن المُعَلَّى بن عبد الكريم اليامي (¬2): قال إبراهيم بن موسى: كان من الثقات. وقال أبو زُرعة: صدوق في الحديث. وقال أبو حاتم: صدوق لا بأس به. أورد له البخاري (¬3) حديثه عن ابن إسحاق، عن ابن المُنْكَدِر عن جابر حديث: "إذا شرب الخمر فاجلدوه ... " الحديث. قال البخاري: لم يُتابع عليه. ¬

_ (¬1) ت الكمال: 6/ 517، التهذيب: 9/ 458، الميزان: 5/ 167. (¬2) ت الكمال: 6/ 523، التهذيب: 9/ 466، الميزان: 5/ 170. (¬3) في "التاريخ الكبير": (1/ 244).

وقال العُقيلي في "الضعفاء" (¬1): ثنا محمَّد بن سعيد: سئل أبو عبد الله - يعني عبد الرحمن بن الحكم بن بشير بن سلمان (¬2) - عن محمَّد بن المعلَّى؟ فقال: لم يكن صاحبَ حديث، وكان رجلاً صالحًا، وكان في كتابه إسناد مقلوب، فوقفته عليه، فأبى. يعني حديث: "إذا شرب ... ". الذي ذكره البخاري، فإن الصواب: عن ابن إسحاق عن الزهري عن قبيصة مرسل. قال العُقيلي: هذا أولى (¬3). 273 - محمَّد بن موسى بن أبي نُعَيم (¬4): روى عنه أحمد بن سنان القطان، وقال: ثقة صدوق. وأبو حاتم وقال: صدوق. وأبو زرعة وغيرهم. وقال أبو حاتم: سألت يحيى بن معين عن ابن أبي نعيم، فقال: ليس بشيء. وقال الآجري: سئل أبو داود عن ابن أبي نعيم فقال: سمعت ابن معين يقول: أكذب الناس، عِفْر من الأعفار (¬5). أقول: فكأنّ هذا الرجل كان إذا جاءه أهل العلم، كابن سنان وأبي حاتم حدثهم بأحاديث مستقيمة، ويحدث غيرهم بالمناكير، فاغترَّ به ابن سنان ¬

_ (¬1) (4/ 144). مع اختلاف في النص، فلينظر. (¬2) في التهذيب: "سليمان" خطأ. (¬3) من قوله: "وأورد له البخاري ... " إلى الآخر من كلام ابن حجر في التهذيب. (¬4) ت الكمال: 6/ 533، التهذيب: 9/ 481، الميزان: 5/ 174. (¬5) العِفْر: الرجل الخبيث الداهي.

وأبو حاتم فصدقاه، واطلع ابن معين على حقيقة حاله فقال كَلِمَته. وقوله: "أكذب الناس، عِفْر من الأعفار" يشير إلى ما قلت. والله أعلم. 274 - مبارك بن حسّان السّلَمي، أبو يونس، ويقال: أبو عبد الله (¬1): قال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: ثقة. وقال أبو داود: منكر الحديث. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال ابن حبان في "الثقات" (¬2): يُخطئ ويخالف. وقال ابن عديّ: روى أشياء غير محفوظة. وقال الأزدي: متروك، يُرمَى بالكذب. 275 - د ق. مُسلم بن خالد الزَّنْجي (¬3): قال عثمان الدارمي، وأحمد بن محمَّد بن مُحْرز عن ابن معين: ثقة (¬4). وقال أحمد: [مسلم بن خالد كذا] (¬5) وكذا. [و] قال محمَّد بن عثمان بن أبي شيبة عن ابن معين [وأبو جعفر النُّفيلي، وأبو داود: ضعيف] (¬6). ¬

_ (¬1) ت الكمال: 7/ 25، التهذيب: 10/ 26، الميزان: 4/ 350. (¬2) (7/ 501) (¬3) ت الكمال: 7/ 98، التهذيب: 10/ 128، الميزان: 5/ 227. (¬4) وقال مثل ذلك في رواية الدوري وابن أبي خيثمة. (¬5) سقطت من الأصل، والاستدراك من المصادر، وكلمة "كذا وكذا" يستعملها أحمد في تليين الراوي. (¬6) ما بين المعكوفين ساقط من الأصل والتهذيب، فالتبست العبارة, والاستدراك من "تهذيب الكمال - ط، ص 1325 - خط". وظاهر الرواية موهم أن محمَّد بن عثمان يروي عن الثلاثة أنهم قالوا ذلك، لكن الظاهر أنه يروي عن ابن معين ذلك فقط، ثم هو أيضًا قول النفيلي وأبي داود، لكن جمعها المزي في عبارة واحدة اختصارًا.

وقال ابن المديني: ليس بشيء. وقال البخاري: منكر الحديث، يُكتب حديثه ولا يحتج به، تعرف وتنكر. وقال ابن سعد: كان كثير الغلط في حديثه، وكان في هَدْيه نِعْم الرجل. وقال الساجي: صدوق، كان كثير الغلط. [ص 128] وقال يعقوب بن سفيان: سمعت مشايخ مكة يقولون: كان لمسلم بن خالد حَلْقة أيام ابن جُريج، وكان يطلب ويسمع، ولا يكتب، فلما احتيج إليه وحدَّث كان يأخذ سماعه الذي قد غاب عنه. يعني: (فضُعِّف حديثه لذلك). قال الذهبي في "الميزان" (¬1): 276 - [ص 129] مسلم بن قُرْط (¬2): عن عروة عن عائشة في الاستطابة بثلاثة أحجار. وعنه أبو حازم سَلَمة بن دينار. ذكره ابن حبان في "الثقات" (¬3)، وقال: يُخطئ. قال ابن حجر: هو مُقِلٌّ جدًّا، وإذا كان مع قلة حديثه يُخطئ فهو ضعيف. وقد قرأت بخط الذهبي: لا يعرف. وحَسَّن الدارقطني حديثَه المذكور (¬4). ¬

_ (¬1) ترك المصنف بقية (ق 128 أ - 128 ب) بياضًا. ولعله أراد نقل قول الذهبي بعد ما ساق له عدة روايات مما أنكر عليه قال: "فهذه الأحاديث وأمثالها تُردّ بها قوة الرجل ويُضعّف"، وقد نقله الحافظ عنه في التهذيب. (¬2) ت الكمال: 7/ 102، التهذيب: 10/ 134، الميزان: 5/ 231. (¬3) (7/ 447) وليس فيه قوله: "يخطئ". وقد نقلها المزي والحافظ. (¬4) في "السنن": (1/ 54 - 55) وفي المطبوعة: "إسناد صحيح". لكن في نقل ابن =

277 - مسلمة بن محمَّد الثقفي البصري (¬1): قال ابن معين: ليس حديثه بشيء. وقال الآجري عن أبي داود: حدَّثنا عنه مُسدَّد أحاديث مستقيمة. قال: فقلت لأبي داود: إنه حدَّث عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة: "إياكم والزنج، فإنه خَلْق مُشوَّه". فقال: من حدَّث بهذا فاتهمه. قال الساجي في هذا الحديث: رفعه عنه بعضهم، ووقفه بعضهم. وقال أبو حاتم: شيخ، ليس بالمشهور، يكتب حديثه. وذكره ابن حبان في "الثقات" (¬2). 278 - مُطرَّف بن عبد الله بن مُطرَّف اليَسَاري (¬3): روى عنه البخاري حديثين قد توبع فيهما (¬4). وقال أبو حاتم: مضطرب الحديث، صدوق. ووثّقه ابن سعد والدارقطني وابن حبان. وقال ابن عديّ: يأتي بمناكير. ثم ساق له أحاديث بواطيل من رواية أحمد بن داود بن أبي صالح الحرَّاني عنه. وأحمد هذا كذَّبه الدارقطني، فالذنب له لا لمطرِّف. ¬

_ = الملقن في "البدر المنير": (2/ 336)، والعظيم ابادي في "التعليق المغني" وابن حجر أنه قال: "حسن". وقال في "العلل": (14/ 205): "متصل صحيح عن أبي حازم". (¬1) ت الكمال: 7/ 112، التهذيب: 10/ 147، الميزان: 5/ 237. (¬2) (9/ 180). (¬3) ت الكمال: 7/ 129، التهذيب: 10/ 175، الميزان: 5/ 249. (¬4) رقم (352، 6382).

ذكر معنى هذا الذهبي في "الميزان"، وابن حجر في "تهذيب التهذيب"، و"مقدمة الفتح" (¬1). 279 - د ت ق. مُظاهِر بن أَسْلم المَخْزومي (¬2): عن القاسم بن محمَّد، وسعيد المقبري. وعنه: ابن جُريج، والثوري، وأبو عاصم، وغيرهم. له عندهم: عن القاسم، عن عائشة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "طلاق الأمة تطليقتان، وعدّتها حيضتان" (¬3). قال الترمذي: "وفي الباب عن عبد الله بن عمر". وقال: "حديث عائشة حديث غريب، لا نعرفه مرفوعًا إلا من حديث مظاهر بن أسلم. [ص 130] ومظاهر لا نعرف له في العلم غير هذا الحديث. والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم، وهو قول سفيان الثوريّ والشافعي وأحمد وإسحاق". وقال ابن معين: ليس بشيء، مع أنه رجل لا يُعْرَف. وقال أبو حاتم: منكر الحديث، ضعيف الحديث. وقال أبو داود: رجل مجهول، وحديثه في طلاق الأمَة منكر. وقال النسائي: ضعيف. وقال أبو عاصم: ليس بالبصرة حديث أنكر من حديث مظاهر. وقال البخاري: ضعَّفه أبو عاصم. وقال الساجي، وابن عديّ: تفرد به عن القاسم. ¬

_ (¬1) (ص/ 466). (¬2) ت الكمال: 7/ 135، التهذيب: 10/ 183، الميزان: 5/ 255 - 256. (¬3) أخرجه أبو داود رقم (2189)، والترمذي رقم (1182)، وابن ماجه رقم (2080).

وذكر له ابن عديّ حديثًا آخر عن المَقْبُري عن أبي هريرة في قراءة آخر آل عمران. قال: "وما أظن له غير ذلك". أقول: حديث ابن عمر الذي أشار إليه الترمذي: ذكره مالك في "الموطأ" (¬1) من قول ابن عمر. وأخرجه ابن ماجه (¬2): "حدثنا محمَّد بن طريف وإبراهيم بن سعيد الجوهري، قالا: ثنا عمر بن شبيب المُسْلي، عن عبد الله بن عيسى، عن عطية، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "طلاق الأمة اثنتان، وعدتها حيضتان". وعمر بن شبيب قال ابن معين: ليس بثقة، و [ضعّفه] أبو زُرعة، وغيرهما (¬3). ولم يخرِّج له إلا ابن ماجه، وليس له عنده إلا هذا الحديث. وعطية ضعَّفوه. وما حكاه الترمذي بقوله: "والعمل على هذا ... " ليس على إطلاقه. وراجع: "سنن البيهقي" (7/ 368). ¬

_ (¬1) رقم (1675). (¬2) رقم (2079). وأخرجه الدارقطني: (4/ 38)، والبيهقي: (7/ 369). وقال عقبه: "تفرد به عمر بن شبيب المُسْلي هكذا مرفوعًا وكان ضعيفًا، والصحيح ما رواه سالم ونافع عن ابن عمر موقوفًا". (¬3) ترجمته في "التهذيب": (7/ 361 - 362).

280 - [ص 131] بخ م 4. معاوية بن هشام القصَّار (¬1): صدوق يهم. ذكر الذهبي في "الميزان"، وابن حجر في "التهذيب" أنه روى عن هشام بن سعد، عن سعيد بن أبي هلال، عن عبد الله بن عَمرو، مرفوعًا: "مَدْيَن وأصحاب الأيكة أمتان بُعِثَ إليهما شعيب" (¬2)، وأن هذا وهم، والصواب: ما رواه عَمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال عن عَمرو ابن عبد الله، عن قتادة قال: الأيكة: الشجر الملتفّ (¬3). 281 - معاوية بن يحيى الصَّدَفي، أبو رَوْح الدِّمشقي (¬4): كان بالري: ضعَّفوه. 282 - ومعاوية بن يحيى، أبو مطيع الدمشقي الأَطْرابُلُسي (¬5): قال ابن معين، وأبو داود، والنسائي: ليس به بأس. وقال ابن معين مرة: صالح، ليس بذاك القوي. وقال أبو زُرعة، وهشام بن عمَّار، وأبو علي النيسابوري: ثقة. وقال أبو حاتم: صدوق مستقيم الحديث. وقال صالح بن محمَّد: صحيح الحديث. وقال البغوي، والدارقطني: ضعيف. عده الدارقطني في "المتروكين" (¬6)، وقال: هو أكثر مناكير من الصدفي. ¬

_ (¬1) ت الكمال: 7/ 162 - 163، التهذيب: 10/ 218، الميزان: 5/ 263. (¬2) أخرجه ابن عساكر وابن مردويه - كما في "الدر المنثور": (6/ 107) -. (¬3) أخرجه الطبري في "تفسيره": (17/ 125). (¬4) ت الكمال: 7/ 163، التهذيب: 10/ 219، الميزان: 5/ 263. (¬5) ت الكمال: 7/ 164، التهذيب: 10/ 220، الميزان: 5/ 264. (¬6) (ص/ 363).

ذكر في "الميزان" أن ابن عديّ ذكر من طريق "هشام بن عمّار، ثنا بقية، ثنا معاوية بن يحيى، عن أبي الزِّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، مرفوعًا: "إن المعونة من الله على قدر المؤنة، وإن الصبر يأتي على قدر المصيبة" (¬1). داود بن رُشيد، ثنا بقية، عن معاوية بن يحيى، عن أبي الزِّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، مرفوعًا: "من حدَّث بحديثٍ فعَطَس عنده فهو حق" (¬2). قال الذهبي: لعل هذا في الحديثين هو الصّدفي. أقول: بقية يروي عن الرجلين، وذكروا أبا الزِّناد في شيوخ أبي مطيع، فإن ثبت أنه من شيوخ الصدفي أيضًا قَوِي ما قال الذهبي، وإلا فيحتمل أن يكون الصَّدَفي روى هذين عن رجلٍ عن أبي الزِّناد، فسوَّاهما بقيةُ بإسقاط الواسطة، وبقية معروف بتدليس التسوية. [ص 132] ومما يؤيد أنه الصدفي: اقتصار بقية على قوله "معاوية بن يحيى"، والله أعلم. وذكر في "الميزان" أيضًا: "الوليد بن مسلم، عن معاوية أبي مطيع، عن خالد الحذَّاء، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقبل ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في "الشُّعَب" (9483)، وابن عدي (6/ 402)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (992). (¬2) أخرجه أبو يعلى رقم (6322)، والطبراني في "الأوسط" رقم (6505)، وابن عدي "الكامل": (6/ 402)، والدارقطني في "أطراف الغرائب" (5250 ت السريّع) والبيهقي في "الشعب" (8920) وغيرهم. قال الطبراني وابن عدي والدارقطني: تفرد به معاوية بن يحيى. وقال البيهقي: منكر.

من بعض نواحي المدينة، يريد الصلاة، فوجدهم قد صلوا، فانصرف إلى منزله، فجمع أهله ثم صلى بهم (¬1). هشام بن عمّار، ثنا أبو مطيع معاوية بن يحيى، ثنا أرطاة بن المنذر، عن ابن أبي البكرات، عن أبي موسى الأشعري قال: ذُكِر القَدَر عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "إن أمتي لا تزال مستمسكة من دينها ما لم يُكذِّبوا بالقَدَر، فإذا كذَّبوا بالقَدَر فعند ذلك هلاكهم" (¬2). أقول: الوليد مدلس (¬3). 283 - [ص 133] معروف بن عبد الله الخيَّاط (¬4): قال أبو حاتم: ليس بالقوي. وقال ابن حبان في "الثقات" (¬5): صدوق. وقال ابن عديّ: له أحاديث منكرة جدًّا، وعامة ما يرويه لا يتابع عليه. ثم ساق عدة مناكير من رواية عمر بن حَفْص المُعمَّر، عن معروف. قال الذهبي، وابن حجر: البلاء فيها من عمر بن حَفْص (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني في "الأوسط" (4598)، وابن حبان في "المجروحين": (3/ 4)، وابن عدي (6/ 402). قال الطبراني: "لم يرو هذا الحديث عن خالد الحذَّاء إلا أبو مطيع .. ولا يُروى عن أبي بكرة إلا بهذا الإسناد". (¬2) أخرجه الطبراني في "مسند الشاميين" (692)، وابن عدي (6/ 403). (¬3) ترك المؤلف باقي (ق 132 أ - 132 ب) بياضًا. (¬4) ت الكمال: 7/ 174، التهذيب: 10/ 232، الميزان: 5/ 269. (¬5) (5/ 439). وليس فيه قوله: "صدوق". (¬6) وقال الذهبي في ترجمته من "الميزان": (4/ 110): "شيخ أعتقد أنه وضع على معروف الخياط أحاديث".

284 - مُعلَّى بن هلال الطحَّان (¬1): كذَّبوه. ولما روى عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن عبد الله قال: "التقنُّع من أخلاق الأنبياء، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتقنَّع" بلغ ذلك ابن عُيينة فقال: إن كان المعلَّى يحدِّث بهذا عن ابن أبي نجيح ما أحوجه أن تُضْرَب عنقُه! 285 - 4. المُغيرة بن زياد البَجَلي، أبو هشام المَوصلي (¬2): وثَّقه وكيع، وابن عمّار، ويعقوب بن سفيان، والعِجْلي. وقال ابن معين: ثقة ليس به بأس. وفي رواية: ليس به بأس، له حديث واحد منكر. وقال يحيى القطان: حديثه في التعليم (¬3) منكر. يعني حديثه عن عبادة بن نُسَيّ، عن الأسود بن ثعلبة، عن عبادة بن الصامت. وقال أحمد: مضطرب الحديث، منكر الحديث، أحاديثه مناكير، وقال أبو زرعة، وأبو حاتم: لا يحتجّ به. وقال أبو حاتم: صالح، صدوق، ليس بذاك القوي، بابَّة مُجالِد. وقال أبو داود: صالح. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال في موضع آخر: ليس بالقوي. وفي "الميزان": "قال أحمد: ضعيف الحديث له مناكير، روى عن عطاء عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من صلى في يوم اثنتي عشرة ركعة". وحدَّث عن عطاء عن ابن عباس في الجنازة تمرُّ وهو غير متوضئ؟ قال: يتيمم. ¬

_ (¬1) ت الكمال: 7/ 179، التهذيب: 10/ 240، الميزان: 5/ 277. (¬2) ت الكمال: 7/ 193، التهذيب: 10/ 258 - 260، الميزان: 5/ 285. (¬3) علّق المؤلف في الهامش: "في التهذيب: التفهيم". والحديث عند أحمد (22689)، وأبي داود (3416)، وابن ماجه (2157).

[ص 134] أقول: أما حديث التعليم، فقد رواه بِشْر بن عبد الله بن يسار، عن عبادة بن نُسي، عن جنادة بن أبي أمية، عن عبادة بن الصامت بنحوه. وبشرٌ في حدِّ المستور، وإن ذكره ابن حبان في "الثقات" (¬1)، وصحح له الحاكم في "المستدرك" (¬2)؛ لما عُرِف من تسامحهما. ورواية بشر - على ستره - تشهد لرواية المغيرة في الجملة. أي تدل على أن للحديث أصلاً من رواية عُبادة بن نُسي (¬3). 286 - [ص 135] مِغْراء العَبْدي، أبو المُخارِق (¬4): نقل أبو العرب وابن خلفون عن العِجْلي أنه قال: لا بأس به. فذكر ابن القطان أنه لم ير ذلك في كتاب العِجْلي، قال: ولا يعرف فيه تجريح. وأنكر على عبد الحق طعنه في حديثه (¬5). 287 - المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش المَخْزومي (¬6): قال الآجري: عن أبي داود: ضعيف. قال: فقلت له: إن عباسًا حكى عن ¬

_ (¬1) (6/ 95). (¬2) (3/ 401) وهو حديث التعليم السالف، وقال: "حديث صحيح الإسناد ... ". . (¬3) ترك المؤلف (ق 134 ب) بياضًا. (¬4) ت الكمال: 7/ 190، التهذيب: 10/ 254 - 255، الميزان: 5/ 283. (¬5) انظر "بيان الوهم والإيهام": (3/ 96). وترجمة مغراء توجد في بعض نسخ كتاب العجلي انظر "معرفة الثقات": (2/ 292). (¬6) ت الكمال: 7/ 197، التهذيب: 10/ 264، الميزان: 5/ 289.

ابن معين أنه ضعّف الحِزامي ووثَّق المخزومي، فقال: غَلِط عباس. 288 - المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المَخْزومي (¬1): حكى ابن أبي حاتم في ترجمته (¬2) عن الدوري عن ابن معين أنه قال: ثقة. وذلك وهم من ابن أبي حاتم؛ فقد سأل معاوية بن صالح ابن معين عنه، فقال: لا أعرفه. وإنما الذي حكى الدوري عن ابن معين توثيقه: مغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش (¬3). 289 - ع. المغيرة بن عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد بن حِزام ... (¬4): قال أحمد: ما بحديثه بأس. وقال أبو داود: رجل صالح. وقال مرة: لا بأس به. وقال الدوري عن ابن معين: ليس بشيء. (أقول: قد تقدم في الذي قبله بترجمة قول أبي داود: غلط عباس). وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال أبو زُرعة: هو أحب إليّ من ابن أبي الزِّناد، وشعيب. يعني في حديث أبي الزِّناد. وقال ابن عديّ: ينفرد بأحاديث. ثم ذكر منها جملة، ثم قال: عامَّتها مستقيمة. ¬

_ (¬1) ت الكمال: 7/ 198، التهذيب: 10/ 265، الميزان: 5/ 289. (¬2) "الجرح والتعديل": (8/ 225). (¬3) هذا كلام الحافظ المزي، وتبعه ابن حجر. وانظر الترجمة السابقة. (¬4) ت الكمال: 7/ 199، التهذيب: 10/ 266، الميزان: 5/ 288 - 289.

وأورد له عن أبي الزِّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة مرفوعًا في القضاء باليمين والشاهد (¬1). وقد رواه ابن عجلان وغير واحد عن أبي الزِّناد عن ابن أبي صفية عن شُريح قوله (¬2). 290 - [ص 136] د ت ق. المُفَضَّل بن فَضالة بن أبي أُمية القرشي (¬3): من أهل البصرة. قال ابن معين: ليس بذاك. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه. وقال أبو داود: بلغني عن علي أنه قال: في حديثه نكارة. وقال الترمذي: المصري أوثق منه وأشهر. وقال النسائي: ليس بالقوي. له في "السنن" (¬4) عن حبيب بن الشهيد عن ابن المُنْكَدِر عن جابر: أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - بيد مَجْذوم، فوضعها معه في القصعة، فقال: "كلْ بسم الله، ثقةً بالله، وتوكُّلا عليه". قال ابن عديّ (¬5): لم أر له أنكر من هذا. ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي في "الكبرى" (5969)، والبيهقي (10/ 169)، وابن عدي في "الكامل": (6/ 356). (¬2) أخرجه النسائي في "الكبرى" (5970). (¬3) ت الكمال: 7/ 205، التهذيب: 10/ 373، الميزان: 5/ 294. (¬4) أبو داود (3925)، والترمذي (1817)، وابن ماجه (3542)، وغيرهم. قال الترمذي: هذا حديثٌ غريب، لا نعرفه إلا من حديث يونُس بن محمَّد، عن المفضَّل بن فَضالة، والمفضَّل بن فَضالة هذا شيخ بصري، والمفضَّل بن فَضالة، شيخٌ آخر مِصري، أوثق من هذا وأشهر، وقد روى شُعبة هذا الحديث، عن حبيب بن الشهيد، عن ابن بُريدة, أن عمر أخذ بيد مَجذوم، وحديث شُعبة أشبه عندي وأصح. (¬5) "الكامل" (6/ 409).

قال: ورواه شُعبة عن حبيب فقال: عن ابن بريدة أن عمر أخذ بيد مجذوم ... الحديث. 291 - ع. مَكِّي بن إبراهيم (¬1): قال أحمد، والعِجْلي وغيرهما: ثقة. وقال ابن معين: صالح. وقال أبو حاتم: محله الصدق. وقال ابن سعد: كان ثقة ثبتًا. وقال الخليلي: ثقة متفق عليه، وأخطأ في حديثه عن مالك عن نافع عن ابن عمر، في الصلاة على النجاشي. والصواب: عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة. وعن ابن معين أنه سُئل عن حديث مكِّي عن نافع عن ابن عمر - المذكور -, فقال: باطل. وذكر عبد الصمد بن الفضل: سألنا مكيًّا عن هذا الحديث، فحدثنا به من كتابه عن مالك عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة. (يعني على الصواب). وقال: هكذا في كتابي. وقال الخطيب (¬2): يقال: إن مكي بن إبراهيم [ص 137] رواه بالريّ، فلما جاء بالحج (كذا) (¬3) سئل عنه، فأبى أن يحدِّث به. وفي ترجمة سهل بن زَنْجلة من "التهذيب" (¬4) أن إبراهيم الحربي سئل عن حديث سهل عن مكي عن مالك - المتقدم - فأنكره. ¬

_ (¬1) ت الكمال: 7/ 219، التهذيب: 10/ 293. (¬2) "تاريخ بغداد": (13/ 117). (¬3) هكذا كتب المصنف استشكالًا للعبارة في التهذيب، وهي في "تاريخ بغداد" و"تهذيب المزي": " .. وهو جائي من خراسان يريد الحج فلما رجع من حجه ... ". (¬4) (4/ 252).

قال الخطيب (¬1): وقد قال مكي: حدثتهم بالبصرة عن مالك عن نافع - يعني بهذا الحديث - وهو خطأ، إنما حدثنا مالكٌ عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة. أقول: والحديث في "الموطأ" (¬2) عن مالك عن ابن شهاب عن سعيد عن أبي هريرة، وكذلك هو في "الصحيحين" (¬3) وغيرهما. وكأن ابن معين، وأبا حاتم إنما ضنَّا على مكيّ بكلمة "ثقة"؛ لشأن هذا الحديث، والله أعلم. 292 - ق. منصور بن صقر، ويقال: سُقير (¬4): في "تاريخ الخطيب" (13/ 79) وغيره عن ابن أبي حاتم أن أباه سُئل عن حديث منصور هذا عن موسى بن أعين، عن عُبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، مرفوعًا: "إن الرجل ليكون من أهل الجهاد، ومن أهل الصلاة والصيام وممن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وما يجزى يوم القيامة أجره إلا على قدر عقله"، فقال أبو حاتم: سمعت ابن أبي الثلج يقول: ذكرت هذا الحديث ليحيى بن معين فقال: هذا حديث باطل، إنما رواه موسى بن أَعْين عن صاحبه عُبيد الله بن عَمرو (الرقي) عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروه عن نافع عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) (9/ 116). (¬2) رقم (157). (¬3) البخاري (1245)، ومسلم (2162). (¬4) ت الكمال: 7/ 231، التهذيب: 10/ 309، الميزان: 5/ 310. ووقع في الأصل تبعًا للتهذيب: "شقير" بالمعجمة، تحريف.

قال أبو حاتم: وكان موسى، وعُبيد الله بن عمرو صاحبين يكتب بعضهم عن بعض، وهو حديث باطل في الأصل. زاد الذهبي في "الميزان": "وقال ابن أبي الثلج: كنا نذكر هذا الحديث لابن معين سنتين أو ثلاثًا، فيقول: باطل، ولا ندفعه بشيء، حتى قدم علينا زكريا بن عدي، فحدّثنا به عن عُبيد الله بن عَمرو عن ابن أبي فروة". وقال أبو حاتم في [ص 138] منصور: ليس بقوي، كان جنديًّا، وفي حديثه اضطراب. وذكر المِزِّي في ترجمة منصور حديثًا رواه ابن ماجه (¬1) عن سهل بن أبي الصُّغْدي، عن منصور، عن ثابت بن محمَّد العبدي، عن ابن عمر (¬2). وقد رواه الطبراني (¬3) عن عُبيدٍ العِجْل، عن أحمد بن إشكاب، عن منصور، فقال: عن محمَّد بن ثابت العبدي، عن عَمرو بن دينار، عن ابن عمر. قال المزي: "وهو الصواب". وكأنه حمل الخطأ على منصور، بأن يكون رواه مرة على الصواب، ومرة أخطأ، على ما وُصِف به من الاضطراب. وقال ابن حبان (¬4) في منصور: "يروي المقلوبات، لا يجوز الاحتجاج ¬

_ (¬1) رقم (2489). (¬2) حديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل حريم النخل مدَّ جريدها. (¬3) في "الكبير": (12/ رقم 13647). (¬4) "المجروحين": (3/ 39 - 40).

به إذا انفرد". وقال العُقيلي: "في حديثه بعض الوهم" (¬1). 293 - د ت س. مُهاجر بن عكرمة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام (¬2): ... 294 - [ص 139] موسى بن عبد العزيز العَدَني، أبو شعيب القِنْباري (¬3): عن الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس، مرفوعًا، حديث صلاة التسبيح. أخرجه البخاري في "جزء القراءة" (¬4)، وأبو داود، والنسائي (¬5). قال ابن معين: لا أرى به بأسًا. وقال النسائي: ليس به بأس. وذكره ابن حبان في "الثقات" (¬6). وقال ابن المديني: ضعيف. وقال السليماني: منكر الحديث. ¬

_ (¬1) "الضعفاء": (4/ 192). (¬2) بيّض له المؤلف فترك (ق 138 ب) فارغة. وترجمته في ت الكمال: 7/ 240، والتهذيب: 10/ 322. (¬3) ت الكمال: 7/ 268، التهذيب: 10/ 356، الميزان: 5/ 337. والقِنبار: شيء يُخْرَز به السفن. وأخطأ ابن حبان فقال: إنه موضع بعدن. (¬4) رقم (149). (¬5) أبو داود (1297)، وابن ماجه (1387). ولم يخرجه النسائي، ولعل التحريف الذي وقع في التهذيب هو الذي أوْهَم المصنف، حيث تحرف فيه رمز (ق) إلى (س). (¬6) (9/ 159).

295 - موسى بن عُبيدة الرَّبَذي (¬1): قال أحمد: لا تحلُّ الرواية عنه، فقيل له: إن شُعبة روى عنه، فقال: لو بان لشعبة ما بان لغيره ما روى عنه. وقال أحمد أيضًا: "حديثه عن عبد الله بن دينار، كأنه ليس عبد الله بن دينار ذاك، وعن أبي حازم أيضًا". وقال مرّةً: "لم يكن به بأس، ولكنه حدَّث بأحاديث منكرة". وقال ابن معين: "ليس بالكذوب، ولكنه روى عن عبد الله بن دينار أحاديث مناكير". وقال أيضًا: "إنما ضعف حديثه؛ لأنه روى عن عبد الله بن دينار مناكير". وقال ابن المديني: "ضعيف الحديث، حدَّث بأحاديث مناكير". وقال أبو داود: "أحاديثه مستوية، إلا عن عبد الله بن دينار". وقال الساجي: منكر الحديث، وكان رجلاً صالحًا، وكان القطان لا يحدث عنه، وقد حدَّث عنه وكيع وقال: كان ثقة، وقد حدَّث عن عبد الله بن دينار أحاديث لم يتابع عليها. قال: وقيل ليحيي بن معين: إن موسى يحدِّث عن الزهري أحاديث. [ص 140] فقال: إنها مناولة. قيل: إنه يحدث عن أبي حازم عن أبي هريرة. ¬

_ (¬1) ت الكمال: 7/ 268، التهذيب: 10/ 356 - 357، الميزان: 5/ 338.

قال (¬1): لم يسمع من أبي حازم، هي من كتابٍ صار إليه. وفي "الميزان": وقال ابن سعد: ثقة، وليس بحجة. وقال يعقوب بن شيبة: صدوق، ضعيف الحديث جدًّا (¬2). هذا، وقد وصفوا موسى بالصلاح والعبادة، وذكر زيد بن الحُبَاب وغيره أنه لما دُفِن شموا من قبره رائحة المسك. قال زيد: وليس بالرَّبَذة يومئذ مسكٌ ولا عنبر. 296 - ناصح بن العلاء، أبو العلاء البَصْري (¬3): ثنا عمّار بن أبي عمّار، مولى بني هاشم، أنه مر على عبد الرحمن بن سمرة وهو على نهر أم عبد الله، يُسيَّل الماء مع غِلْمَته ومواليه، فقال له عمّار: يا أبا سعيد! الجمعة، فقال له عبد الرحمن بن سَمُرة: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: "إذا كان يوم مطرٍ وابلٍ فليصلِّ أحدُكم في رَحْله". لفظ "المسند" (¬4) من طريق ابن المديني (5/ 62). رواه عنه مسلم بن إبراهيم، والقواريري، وسعيد بن منصور، وعلي ابن المديني، وبشر بن معاذ، وغيرهم. قال القواريري - "مسند" (¬5) (5/ 62) -: كنت أمرُّ بناصحٍ فيحدثني، فإذا ¬

_ (¬1) سقطت "قال" من التهذيب فصارت العبارة: "عن أبي هريرة ولم يسمع .. ". (¬2) وقولهما في التهذيب أيضًا. (¬3) ت الكمال: 7/ 305، التهذيب: 10/ 403، الميزان: 5/ 365. (¬4) رقم (20620). (¬5) رقم (20621).

سألته الزيادة قال: ليس عندي غير ذا، وكان ضريرًا. وقال البخاري: لم يكن عنده إلا هذا الحديث، وهو ثقة. كذا في "التهذيب"، قال: "وقال في موضع آخر: منكر الحديث" (¬1). وفي "الميزان": "قال البخاري: منكر الحديث. وقال مرة: ثقة. [كذا] (¬2) قال ابن الجوزي! وإنما قال ذلك البخاري راويًا له عن علي ابن المديني". أقول: وفي "تاريخ البخاري" (¬3): "منكر الحديث". وقال الدوري عن ابن معين: ضعيف. وقال مرة: ثقة. وقال أبو حاتم: منكر الحديث. وقال أبو داود: ثقة. وحكى ابن شاهين عن ابن المديني أنه قال: ثقة. وقال الدارقطني: ليس بالقوي. وقال مرة: ثقة. وكذا قال الحاكم أبو عبد الله. وقال الحاكم أبو أحمد: ليس بالقوي عندهم. وقال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به. وقال ابن عديّ: لم يروه عن عمّار غيره، وبه يعرف. وفي "الميزان": وقال النسائي: ضعيف. ¬

_ (¬1) اختصر الحافظ الرواية من كتاب المزي، فأوهم أن البخاري له قولان، وإلا فالبخاري يحكي كلام شيخه علي بن المديني، كما سيأتي من كلام الذهبي. (¬2) سقطت من الأصل، وهي في الميزان. (¬3) (8/ 121).

297 - [ص 141] نُعيم بن حمَّاد (¬1): أحد الأجلة. روى عن عيسى بن يونس، عن حَريز بن عثمان، عن عبد الرحمن بن جُبَير بن نُفَير، عن أبيه, عن عَوف بن مالك، مرفوعًا: "تفترق أمتي على بضعٍ وسبعين فرقة ... " (¬2) الحديث. قال دُحيم: هذا حديث صفوان بن عَمرو، حديث معاوية. يعني أن إسناده مقلوب. وأنكر ابن معين هذا الحديث وقال: ليس له أصل. قيل: فنعيم؟ قال: ثقة. قيل: يحدِّث ثقةٌ بباطل؟ قال: شُبِّه له. وقال عبد الغني بن سعيد: بهذا الحديث سقط نُعيم عند كثير من أهل العلم بالحديث، إلا أن يحيى بن معين لم يكن ينسبه إلى الكذب، بل كان ينسبه إلى الوهم. 298 - 4. هُبَيرة بن يريم (¬3): قال أحمد: لا بأس بحديثه، هو أحسن استقامةً من غيره. يعني الذين ¬

_ (¬1) ت الكمال: 7/ 350، التهذيب: 10/ 458، الميزان: 5/ 392. (¬2) أخرجه البزار رقم (2755)، والطبراني في "الكبير" (18/ رقم 90)، والحاكم (3/ 547)، وغيرهم. قال البزار: "هذا الحديث لا نعلم أحدًا حدّث به إلا نعيم بن حماد، ولم يتابع عليه". (¬3) ت الكمال: 7/ 390، التهذيب: 11/ 23، الميزان: 5/ 418.

تفرد أبو أسحاق بالرواية عنهم. وقال أيضًا: هُبيرة أحبّ ألينا من الحارث. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال أيضًا: أرجو أن لا يكون به بأس، ويحيى وعبد الرحمن لم يتركا حديثه، وقد روى غير حديث منكر. وقال ابن سعد: كانت منه هفوة أيام المختار وكان معروفًا وليس بذاك. وقال الجوزجاني: كان مختاريًّا، كان يجيز (¬1) على القتلى (¬2) يوم الجارز (¬3). وقال الساجي: قال يحيى بن معين: هو مجهول. وقال أبو حاتم: شبيهٌ بالمجهول. ¬

_ (¬1) الأصل "يجير" بالراء، والتهذيب "يخير" تحريف. وفي كتاب الجوزجاني "الشجرة" (ص 42) و"تاريخ البخاري": (8/ 241)، و"سؤالات أبي داود" (445) للآجري و"الكامل": (3/ ق 210): "يجيز" بالزاي. يقال: أجاز على الجريح يجيز عليه لغة في يُجهز. انظر "اللسان" (5/ 325) و"التاج": (8/ 40). ووقع في مطبوعة "الكامل": (7/ 133)، ومطبوعة الميزان: "يجهز". فالظاهر أنه تصحيح من الطابع. (¬2) كذا تبعًا للتهذيب. وفي جميع المصادر: "الجرحى". (¬3) كذا تبعًا للتهذيب. ووقع في المصادر على أنحاء شتى، وصوابه: "يوم الخازر"، قال ياقوت في "معجم البلدان": (2/ 386): "خازِر - بعد الألف زاي مكسورة، وقد حكي عن الأزهري أنه رواه بفتح الزاي - وهو نهر بين إربل والموصل ... وهو موضع كانت عنده وقعة بين عبيد الله بن زياد، وإبراهيم الأشتر في أيام المختار ... سنة 66".

299 - أبو عُبيدة بن محمَّد بن عمَّار بن ياسر (¬1): قال ابن معين: ثقة. وكذا قال عبد الله بن أحمد بن حنبل. وقال أبو حاتم مرة: منكر الحديث. ومرة: صحيح الحديث. ومرة: اسمه سلمة. والأكثر أن سلمة أخوه. 300 - [ص 142] أبو عَلْقمة الفَرْوي، عبد الله بن هارون بن موسى (¬2): قال ابن أبي حاتم: كتبتُ عنه بالمدينة، وقيل لي: إنه تُكلِّم فيه. وذكره ابن حبان في "الثقات" (¬3) وقال: يخطئ ويخالف. وقال الدارقطني في "غرائب مالك": متروك الحديث. وقال الحاكم أبو أحمد: منكر الحديث. وقال ابن عديّ: له مناكير (¬4). قال ابن حجر: وأورد له ابنُ عديّ حديثين باطلين بإسناد الصحيح: الأول: ... أنا القعنبي، ثنا ابن أبي ذئب، عن ابن شهاب، عن أنس، مرفوعًا: "أقيلوا ذوي الهيئات زلاتهم". والثاني: من روايته عن أبيه، عن بُكَير، عن الزهري، عن عُبيد الله، عن ابن عباس، مرفوعًا: "لا سَبَق إلا في خفّ أو نَصْل أو حافر". قال ابن عديّ: هذان باطلان بهذا الإسناد. انتهى. ¬

_ (¬1) ت الكمال: 8/ 364 - 365، التهذيب: 12/ 160، الميزان: 6/ 222. (¬2) ت الكمال: 8/ 375، التهذيب: 12/ 172، الميزان: 3/ 230 و6/ 227. (¬3) (8/ 367). (¬4) هذه اللفظة ليست في "الكامل": (4/ 260) (2/ ق 159).

هكذا نقلته من "الميزان" (¬1). ووجدت في "كامل ابن عديّ" (¬2) له حديثًا ثالثًا بإسنادٍ آخر، قال ابن عديّ عقيبه: بهذا الإسناد ليس له أصل. ثم أخرج له حديث الحجّ مفردًا، ثم قال: لم أر لهارون (¬3) (كذا) أنكر من هذه الأحاديث". 301 - [ص 143] هُذَيْل بن الحَكَم (¬4): قال البخاري: منكر الحديث. وقال العُقيلي: لا يقيم الحديث. روى حَفْص الرَّبَالي، وعمر بن شَبَّة وغيرهما عن هُذَيل، عن عبد العزيز بن أبي رَوَّاد، عن عكرمة، عن ابن عباس، مرفوعًا: "موت الغريب شهادة". ورواه محمَّد بن صُدْران، عن هُذيل، عن عبد العزيز، عن نافع، عن ابن عمر، نحوه (¬5). قال ابن معين: هذا الحديث منكر، ليس بشيء، وقد كتبتُ عن الهذيل ولم يكن به بأس. ¬

_ (¬1) سبق أن المؤلف نقل كلام ابن حجر من التهذيب، وإن كان الذهبي قد ذكر هذين الحديثين في (3/ 230). (¬2) (4/ 260 - 261) (2/ ق 159). (¬3) في "الكامل" على الصواب: "عبد الله بن هارون". (¬4) ت الكمال: 7/ 392، التهذيب: 11/ 26، الميزان: 5/ 419. (¬5) انظر هذه الطرق في "الكامل": (7/ 124).

302 - هُرَيم بن سفيان البَجَلي (¬1): قال ابن معين، وأبو حاتم: ثقة. وقال عثمان بن أبي شيبة: صدوق ثقة. وقال البزار: صالح الحديث، ليس بالقوي. 303 - خت م 4. هشام بن سعد (¬2): قال أحمد: لم يكن بالحافظ. وقال مرة: كذا وكذا، كان يحيى بن سعيد لا يروي عنه. وقال مرة: ليس هو مُحكم الحديث. وقال ابن معين: صالح، وليس بمتروك الحديث. وقال مرة: ليس بذاك القوي. وقال مرة: ليس بشيء، كان يحيى بن سعيد لا يحدث عنه. وقال ابن المديني: صالح، وليس بالقوي. وقال أبو زُرعة: محلُّه الصدق، وهو أحبّ إليَّ من ابن إسحاق. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به، هو ومحمد بن إسحاق عندي واحد. وقال ابن سعد: كان كثير الحديث، يُستضْعَف، وكان متشيّعًا. وقال النسائي: ضعيف. وقال مرة: ليس بالقوي. وذكره يعقوب بن سفيان في الضعفاء. وقال العِجْلي: جائز الحديث حسن الحديث. وقال أبو داود: هشام بن سعد أثبت الناس في زيد بن أسلم. وذكر له ابن عديّ أحاديث: منها: حديثه عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، في المُواقِع في رمضان. ¬

_ (¬1) ت الكمال: 7/ 394، التهذيب: 11/ 30. (¬2) ت الكمال: 7/ 402، التهذيب: 11/ 40، الميزان: 5/ 423.

وقال مرة: عن الزهري عن أنس. قال: والروايتان جميعًا خطأ، [ص 144] وإنما رواه الثقات عن الزهري، عن حميد، عن أبي هريرة. وهشام خالف فيه الناس. وله غير ما ذكرت، ومع ضعفه يكتب حديثه. وقال الخليلي (¬1): أنكر الحُفّاظ حديثَه في المُواقع في رمضان ... ، وإنما رواه الزهري عن حُميد. قال: ورواه وكيع عن هشام بن سعد، عن الزهري، عن أبي هريرة، منقطعًا. قال أبو زُرعة الرازي: أراد وكيع السّتْر على هشام بإسقاط أبي سلمة. وذكر الذهبي في "الميزان" حديثَه عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة في المُواقع، وفيه: "كُلْه أنتَ وأهلُك، وصُمْ يومًا، واستغفر الله". قال: فيُسْتغرب مِن هذا قوله: "صم يومًا، واستغفر الله". قال: ومن مناكيره ما ساق الترمذي (¬2) له عن سعيد بن أبي هلال، عن ربيعة بن سيف، عن عبد الله بن عَمرو رفَعَه (¬3): "من مات يوم الجمعة أو ليلتها غفر له"، أو كما قال. أقول: وربيعة بن سيف فيه نظر. ¬

_ (¬1) في "الإرشاد": (1/ 345). (¬2) رقم (1074). (¬3) الأصل: "عمر فرفعه (كذا) " والمثبت من الميزان والترمذي.

304 - هشام بن عُبيد الله الرازي (¬1): قال أبو حاتم: صدوق. وقال ابن حبان في "الضعفاء" (¬2): "كان يهم ويخطئ عن الثقات، روى عن مالك عن الزهري عن أنس مرفوعًا: "مَثَل أمتي مَثَل المطر، لا يُدْرَى أوله خير أم آخره". حدثناه جعفر بن إدريس القَزْويني بمكة، ثنا حمدان بن المغيرة عنه. وروى عن ابن أبي ذئب، عن نافع، عن ابن عُمر، مرفوعًا: "الدجاج غَنَم فقراء أمتي، والجمعة حجّ فقرائها". حدثناه عبد الله بن محمَّد القيراطي، ثنا عبد الله بن يزيد مَحْمِش (¬3)، عنه" (¬4). قال الذهبي في "الميزان": كلاهما باطلان. وقال ابن حجر في "اللسان" في الحديث الثاني: "خطأ بلا شك". وقال في الأول: "ذكر الدارقطني في "الغرائب" أنه تفرَّد به عن مالك، وأنه وَهِم فيه، ودخل عليه حديث في حديث". وذكر في "التهذيب" أن الحَمْل في الحديث الثاني على مَحْمِش؛ فإن ¬

_ (¬1) التهذيب: 11/ 47 - 48، الميزان: 5/ 425 - 426، اللسان: 8/ 335 - 337. (¬2) (3/ 90)، و (ق 240 - 241). (¬3) في مطبوعة "المجروحين" و"الميزان": "مجمش" بالجيم، وصوابه ما أثبت، وانظر لضبطه "تكملة الإكمال": (5/ 287)، و"التبصير": (4/ 1265). (¬4) قال ابن حبان بعد ما ساقهما: "أما حديث الأخير فهو موضوع لا أصل له، وحديثه الأول قد روي عن أنس ولم يصح من غير حديث الزهري".

في ترجمته من "الميزان" (¬1): أنه كان يُتَّهم بوضع الحديث، فبرئ هشام من عهدته. 305 - [ص 145] د. هوذة بن خليفة (¬2): قال أبو داود عن أحمد: ما كان أصْلَح حديثه. وقال الأثرم: سمعت أحمد ذكر عوفًا فقال: أدرك شريحًا، ما كان أضبط هذا الأصم عنه! - يعني هوذة - أرجو أن يكون صدوقًا إن شاء الله تعالى. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: ضعيف. وقال أبو حاتم: صدوق. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال ابن سعد: طلب الحديث وكتب، فذهبت كتبه ولم يبق عنده إلا كتاب عَوف الأعرابي وشيء يسير لابن عون، وابن جريج. أقول: فكأنَّ أحمد سمع منه من كتاب عوف، أو ممّا بقي من كتبه. فيتلخَّص أن الرجل ثقة في حديثه عن عوف، أو قُل: ثقة فيما حدَّث من أصله، وأما ما سوى ذلك ففيه ضعف. 306 - الهيثم بن خالد البَجَلي، الكوفي، الخشَّاب (¬3): روى مُطيّن عنه عن مالك بسند الصحيح، مرفوعًا: "لو يعلم الناس ما في سورة {الَّذِينَ كَفَرُوا} [البينة: 1] لعطلوا الأهل والمال" الحديث. ¬

_ (¬1) (3/ 241). (¬2) ت الكمال: 7/ 429، التهذيب: 11/ 74، الميزان: 5/ 436. (¬3) ت الكمال: 7/ 443، التهذيب: 11/ 95، الميزان: 5/ 447.

قال مُطيّن: قال لي ابن نُمير: هذا رجلٌ قد كفانا مؤنته. قال الذهبي في "الميزان": يعني لأنه روى الباطل. 307 - الوَضِين بن عطاء (¬1): وثّقه أحمد، وابن معين، ودُحَيم. وقال الوليد بن مسلم: لم يكن في الحديث بذاك. وقال ابن سعد: كان ضعيفًا في الحديث. وقال الجوزجاني: واهي الحديث. وقال أبو حاتم: تعرف وتنكر. وقال إبراهيم الحربي: غيره أوثق منه. وقال أبو داود: صالح الحديث. وقال الساجي: عنده حديث واحد منكر عن محفوظ بن (¬2) علقمة، عن عبد الرحمن بن عائذ عن علي حديث "العينان وكاء [ص 146] السَّهْ" (¬3). قال الساجي: رأيت أبا داود أدخل هذا الحديث في كتاب "السنن"، ولا أراه ذكره فيه إلا وهو عنده صحيح. 308 - ع. وكيع بن الجراح (¬4): قال ابن عمّار: قلت له: عدّوا عليك أهل البصرة أربعة أحاديث غلطت فيها. فقال: حدثتهم بعبَّادان بنحو من ألف وخمسمائة، وأربعة ليس بكثير في ألف وخمسمائة. ¬

_ (¬1) ت الكمال: 7/ 458، التهذيب: 11/ 120، الميزان: 6/ 8. (¬2) وقع في التهذيب: "عن" خطأ. (¬3) أخرجه أبو داود رقم (203)، وابن ماجه رقم (477)، وأحمد (887) وغيرهم. (¬4) ت الكمال: 7/ 461، التهذيب: 11/ 123، الميزان: 6/ 9 - 10.

309 - الوليد بن جميل (¬1): عن القاسم أبي عبد الرحمن، وغيره. وعنه: يزيد بن هارون، وغيره. قال ابن المديني: أحاديثه تشبه أحاديث القاسم بن عبد الرحمن (¬2). وقال أبو زُرعة: لين الحديث. وقال أبو حاتم: شيخ روى عن القاسم أحاديث منكرة. وقال أبو داود: ما به بأس. أقول: يظهر أن في حديثه عن القاسم مناكير، فمن يقوِّي القاسم ويقول: إن المناكير إنما وقعت من الرواة عنه يضعّف الوليد، ومن يحمل على القاسم يقوي الوليد. فعلى كل حال أحاديثه عن القاسم ليست بعمدة. 310 - وهب بن إسماعيل الأسدي (¬3): روى عن وِقاء بن إياس مناكير، فمنهم من حملها على وهب فضعَّفه ومنهم من حملها على وِقاء فقوَّى وهبًا. 311 - [ص 147] ياسين بن شيبان العِجْلي (¬4): عن إبراهيم بن محمَّد بن علي بن أبي طالب، عن أبيه، عن جده، مرفوعًا: "المهدي منا أهل البيت، يصلحه الله في ليلة". ¬

_ (¬1) ت الكمال: 7/ 468، التهذيب: 11/ 132، الميزان: 6/ 11. (¬2) بقي من كلامه قوله: "ورَضِيَه". (¬3) ت الكمال: 7/ 492، التهذيب: 11/ 158، الميزان: 6/ 24. (¬4) ت الكمال: 8/ 5، التهذيب: 11/ 172، الميزان: 6/ 33. ويقال: ابن سنان، ويقال: ابن سيّار.

رواه عنه أبو نعيم ووكيع وابن نُمير وغيرهم. قال يحيى بن يمان: رأيت سفيان الثوريّ يسأل ياسين عن هذا الحديث. قال ابن معين: ليس به بأس. وقال مرة: صالح. وقال أبو زُرعة: لا بأس به. وقال البخاري: فيه نظر، ولا أعلم له حديثًا غير هذا. 312 - ع. يحيى بن زكريا بن أبي زائدة (¬1): ثقة متقن فقيه. قال ابن معين: لم يُخطئ إلا في حديث واحد، رواه عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن قبيصة بن برمة، قال: قال عبد الله: ما أحبّ أن يكون عَبيدكم مؤدّبيكم. وإنما هو عن واصل، عن قبيصة. وخطَّأه أبو زُرعة، وأبو حاتم في حديث آخر. 313 - يحيى بن محمَّد بن قيس المحاربي، أبو زُكَير (¬2): قال ابن معين: ضعيف. وقال الفلاس: ليس بمتروك. وقال الساجي: صدوق، وفي حديثه لين. وقال العُقيلي: لا يتابع على حديثه. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه. وقال أبو زُرعة: أحاديثه متقاربة، إلا حديثين. وذكر له ابن عديّ أربعة أحاديث، ثم قال: عامة أحاديثه مستقيمة إلا هذه. وذكر له الذهبي في "الميزان" أحاديث: منها: "الفلاس، ثنا يحيى بن محمَّد بن قيس، ثنا هشام (ابن عروة)، عن ¬

_ (¬1) ت الكمال: 8/ 33، التهذيب: 11/ 208، الميزان: 6/ 79. (¬2) ت الكمال: 8/ 84، التهذيب: 11/ 274، الميزان: 6/ 48.

أبيه، عن عائشة، مرفوعًا: "كلوا البلح بالتمر، فإن الشيطان يغضب ويقول: عاش ابن آدم حتى أكل الجديد بالخَلَق" (¬1). قال الذهبي: حديث منكر. 314 - [ص 148] ت. يزيد بن بيان العُقيلي، المعلّم، الضرير، مؤذّن مسجد مطرِّف بن عبد الله بن الشخِّير (¬2): عن أبي الرَّحَّال الأنصاري، عن أنس مرفوعًا: "ما أكرم شابٌّ شيخًا لسنِّه إلا قيّض الله له من يكرمه عند سنه". وعنه: عَمرو بن علي الفلاس، ويعقوب بن سفيان، وعبد الله الدارمي، وغيرهم. أثنى عليه الفلاس خيرًا. وقال (¬3) البخاري: فيه نظر. وقال العُقيلي: لا يتابع على حديثه، ولا يعرف إلا به. وقال الدارقطني: ضعيف. وقال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به. وذكر ابن عديّ حديثَه، ثم قال: هذا منكر. 315 - [ص 148] ت. يزيد بن زياد، ويقال: ابن أبي زياد، القرشي، الدِّمشقي (¬4): عن الزهري، وغيره. ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي في "الكبرى" (6690)، وابن ماجه (3330)، وابن حبان في "المجروحين" (3/ 120) وقال: لا أصل له من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) ت الكمال: 8/ 117، التهذيب: 11/ 316، الميزان: 6/ 94. (¬3) تكررت في الأصل. (¬4) ت الكمال: 8/ 125، التهذيب: 11/ 328 - 329، الميزان: 6/ 99.

وعنه: أبو نعيم، وغيره. حكى ابن شاهين عن وكيع أنه قال: كان رفيعًا من أهل الشام في الفقه والصلاح. وقال البخاري، وأبو حاتم: منكر الحديث. وقال النسائي: متروك الحديث. وقال الترمذي: ضعيف الحديث. ذكر له في "الميزان" حديثه عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة، مرفوعًا: "من أعان على قتل مسلمٍ بشَطْر كلمة لقي الله يوم القيامة مكتوبًا على جبهته: آيسٌ من رحمة الله" (¬1). ثم قال: سئل أبو حاتم عن هذا الحديث، فقال: باطل موضوع. وذكر له أيضًا حديثه عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، مرفوعًا: "لا تجوز شهادة خائن ... " (¬2). 316 - [ص 149] يزيد بن أبي زياد، الهاشمي، مولاهم، الكوفي (¬3): علَّق له البخاري، وأخرج له مسلم مقرونًا، واتفقوا على صِدْقه في نفسه. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه (2620)، وابن عدي في "الكامل": (7/ 260)، والعقيلي (4/ 382). (¬2) أخرجه الترمذي (2298)، وابن حبان في "المجروحين": (3/ 100)، وابن عدي (7/ 260). قال الترمذي: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن أبي زياد الدمشقي، ويزيد يضعّف في الحديث، ولا يُعرف هذا الحديث من حديث الزهري إلا من حديثه". (¬3) ت الكمال: 8/ 126، التهذيب: 11/ 329، الميزان: 6/ 97.

ولينه ابن مهدي، وأحمد، وابن معين، وأبو زُرعة، وأبو حاتم، وأبو داود، والنسائي، وغيرهم. وقال ابن المبارك: ارم به. وحكى ابن شاهين عن أحمد بن صالح المصري أنه قال: ثقة، ولا يعجبني قول من تكلم فيه. وقال ابن فضيل: كان من أئمة الشيعة الكبار. ونص يعقوب بن سفيان، وابن سعد (¬1)، وابن حبان، على أنه تغير بأخرة. وقال الدارقطني: ضعيف، يُخطئ كثيرًا، ويُلقن إذا لُقّن. يزيد، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله: كنا جلوسًا عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، إذ جاءه فِتْية من قريش، فتغير لونه، فقلنا: يا رسول الله! إنا لا نزال نرى في وجهك الشيء تكرهه. فقال: "إنَّا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا، وإن أهل بيتي سيلقون بعدي تطريدًا وتشريدًا، حتى يجيء قوم من ههنا - وأومأ بيده نحو المشرق - أصحاب رايات سود، فيسألون الحق ولا يعطونه، مرتين أو ثلاثًا، فيقاتلون فيعطون ما سألوا، فلا يقبلون حتى يدفعوها إلى رجلٍ من أهل بيتي، يملؤها عدلًا كما مُلِئت ظلمًا وجورًا، فمن أدرك ذلك منكم فليأته ولو حبوًا على الثلج" (¬2). ذكر وكيع هذا الحديث، فقال: ليس بشيء. ¬

_ (¬1) "ابن سعد" تكررت في الأصل. (¬2) أخرجه ابن ماجه (4082)، والطبراني في "الأوسط" (5695)، وابن عدي (4/ 228، 7/ 276)، والعقيلي: (4/ 381).

وقال أبو أسامة: لو حلف لي خمسين يمينا قَسامةً ما صدَّقته. أهذا مذهب إبراهيم؟! أهذا مذهب علقمة؟! أهذا مذهب عبد الله؟! وله في "الميزان" أحاديث أخرى. 317 - يعقوب بن محمَّد بن عيسى الزهري (¬1): قال أحمد: ليس بشيء، ليس يسوى شيئًا. وقال أبو زُرعة: واهي الحديث. وقال مرة: ليس عليه قياس، هو وابن زبالة والواقدي وعمر بن أبي بكر المليكي يتقاربون [ص 150] في الضعف. وقال أبو حاتم: هو على يَدَي عَدْلٍ، أدركته ولم أكتب عنه. (وقع في "التهذيب": "هو عندي عدل". وهو من الخطأ الغليظ). وقال الساجي: منكر الحديث. وكان ابن المديني يتكلم فيه. وكان إبراهيم بن المنذر يطريه. وقال ابن معين: أحاديثه تشبه أحاديث الواقدي. وقال مرة: ما حدثكم عن الثقات فاكتبوه. وقال مرة أخرى: صدوق، ولكن لا يبالي عمن حدَّث. حدَّث عن هشام بن عروة (في "الميزان" أنه روى هذا عن رجلٍ عن هشام، وفيه أنه أخطأ من زعم أنه روى عن هشام؛ فإنه لم يدرك هشامًا) عن أبيه عن عائشة مرفوعًا، قال: "من لم يكن عنده صدقة فليلعن اليهود" (¬2). هذا كذب ¬

_ (¬1) ت الكمال: 8/ 179، التهذيب: 11/ 396، الميزان: 6/ 128. (¬2) أخرجه الخطيب في "تاريخه": (14/ 269)، ومن طريقه ابن الجوزي في "الموضوعات" (1050).

وباطل، لا يحدث بهذا أحدٌ يعقل. وقال العُقيلي: في حديثه وهم كثير، ولا يتابعه عليه إلا من هو نحوه. وقال ابن سعد: كان حافظًا للحديث. وقال الحجّاج بن الشاعر: ثنا يعقوب بن محمَّد الزهري، ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات" (¬1)، وقال الحاكم: ثقة مأمون. قال: وروى البخاري في "صحيحه" عن "يعقوب" غير منسوب، ويشبه أن يكون هو (¬2). أقول: الأكثر على أنه غيره. وملخَّص كلام الأجلة فيه: أنه في الأصل صدوق، ولكنه يروي عن الضعفاء الواهيات، ويُخطئ فيما يروي عن الثقات. 318 - خت م 4. أبو حسَّان الأعرج: اسمه مسلم بن عبد الله (¬3): روى عنه قتادة، وعاصم الأحول، قيل: وابن سيرين. وسئل ابن المديني: من روى عنه غير قتادة؟ فقال: لا أعلم. (ولم يُنقل عن ابن المديني [ص 151] أنه عدَّ أبا حسّان في المجاهيل، فكأنه لم يعدّه فيهم لشهرته في نفسه، وإن لم يعلم أنه روى عنه غير واحد). كان خارجيًّا، خرج معهم فقتل سنة 130. ¬

_ (¬1) (9/ 282). (¬2) انظر "تقييد المهمل وتمييز المشكل": (3/ 1062 - 1064) لأبي علي الغساني. (¬3) ت الكمال: 8/ 288، التهذيب: 12/ 72.

وقد قال أحمد: مستقيم الحديث، أو مقارب الحديث، وقال ابن معين: ثقة. وقال أبو زُرعة: لا بأس به. وقال العِجْلي: بصري، تابعي، ثقة، ويقال: إنه كان يرى رأي الخوارج. وقال ابن سعد: كان ثقة إن شاء الله. وقال ابن عبد البر: هو عندهم ثقة، إلا أنه روى عن قتادة قال: سمعت أبا حسَّان الأعرج وكان حروريًّا. 319 - [ص 152] بخ د ت ق. أبو يحيى القَتَّات (¬1): قال عثمان الدارمي عن ابن معين: ثقة. وقال أحمد بن سنان القطان عن ابن معين: هو في الكوفيين مثل ثابت في البصريين. وقال عباس عن ابن معين: في حديثه ضعف. وقال أحمد: كان شريك يضعفه. وقال الأثرم عن أحمد: روى إسرائيل عن أبي يحيى القتات أحاديث مناكير جدًّا كثيرة، أما حديث سفيان عنه فمقارب. فقلت لأحمد: فهذا من قِبَل (¬2) إسرائيل؟ قال: أي شيء أقدر أقول لإسرائيل، مسكين، من أين يجيء بهذه؟ هو ذا حديثه عن غيره. (أي: أن حديث إسرائيل عن غير أبي يحيى ليس فيها مثل ما في حديثه عنه من المناكير). وقال علي بن المديني: قيل ليحيى بن سعيد: إن إسرائيل روى عن أبي يحيى القتَّات ثلاثمائة، وعن إبراهيم بن مهاجر ثلاثمائة. فقال: لم يُؤت منه، أُتيَ منهما جميعًا، من أبي يحيى ومن إبراهيم. ¬

_ (¬1) ت الكمال: 8/ 458, التهذيب: 12/ 277، الميزان: 6/ 260. (¬2) في التهذيب: "قبيل".

320 - الحكم بن مروان (¬1): روى عنه أحمد وغيره. قال عباس عن ابن معين: ليس به بأس. وقال أبو حاتم: لا بأس به. وقال الحسين بن حبان: سألت ابن معين: أنكرتم على الحكم بن مروان شيئًا؟ فقال: ما أراه إلا صدوقًا. قلت: يحدِّث بحديث عن زهير، عن أبي الزبير، عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كبر غداةَ عرفة إلى صلاة العصر من أيام التشريق. فقال: هذا باطل، ريح، شُبِّه له. وقال محمود بن غيلان: ضَرَب أحمد وابن معين وأبو خيثمة على اسمه وأسقطوه (¬2). وذكره ابن حبان في "الثقات" (¬3). 321 - [ص 153] عُبيد بن أبي قُرَّة (¬4): روى عنه الإِمام أحمد وغيره. وقال ابن معين: ما به بأس. وقال يعقوب بن شيبة: ثقة صدوق. وذكره (¬5) ابن حبان في "الثقات" (¬6) وقال: ¬

_ (¬1) الميزان: 2/ 102 اللسان: 3/ 253. (¬2) هذه المقولة ذكرها الحافظ في زياداته على الذهبي في هذه الترجمة, وسبق أن نقلها أيضًا في ترجمة الحكم بن عبد الله بن أبي مطيع البلخي "اللسان": (3/ 248) وهو أشبه؛ لأن الحكم بن مروان لم يسقطه ابن معين، بل وثقه في بعض الروايات. (¬3) (8/ 194). (¬4) الميزان: 3/ 419، اللسان: 5/ 358 - 360. (¬5) الأصل: "وذكر" سهو. (¬6) (8/ 431).

ربما خالف. وذكره ابن عديّ في "الكامل" (¬1)، وأورد له عدة مناكير من روايته عن ابن لهيعة. وروى أحمد وغيره عنه، عن الليث، عن أبي قَبِيل، عن أبي ميسرة مولى العباس، عن العباس قال: كنت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة، فقال: انظر، هل ترى في السماء من نجم (¬2)؟ قال: قلت: نعم. قال: ما ترى؟ قال: قلت: أرى الثُّرَيا، قال: أما إنه يلي هذه الأمة بعددها من صُلبك، اثنين في فتنة. "مسند" (¬3) (1/ 209). قال أبو حاتم: لم يروه إلا عُبيد. وقال البخاري: لا يتابع في حديثه هذا. (يعني عن العباس). وقال الذهبي في "الميزان": "هذا باطل". وتعقَّبه ابن حجر بقوله: "لم أر من سبق المؤلف إلى الحُكْم على هذا الحديث بالبطلان". ثم نقل عن ابن أبي حاتم أن أباه كان يستحسن هذا الحديث ويُسَرُّ به. قال: واعتمد البيهقي في "الدلائل" (¬4) عليه، وقد أخرجه الحاكم في ¬

_ (¬1) (5/ 350). (¬2) في الميزان ولسانه: "شيء"، و"المسند" ومصادر أخرى كما هنا. (¬3) رقم (1786)، وأخرجه الحاكم (3/ 326)، والخطيب في "تاريخه": (11/ 95)، وابن عدي في "الكامل": (5/ 350). (¬4) (6/ 518).

"المستدرك" (¬1). وقال في "تعجيل المنفعة" (¬2): "ثم تذكَّرت أن للحديث علة أخرى غير تفرُّد عُبيد به تمنع إخراجه في الصحيح، وهو (وهي) (¬3) ضَعْف أبي قَبِيل؛ لأنه كان يكثر النقل من الكتب القديمة، فإخراج الحاكم له في الصحيح من تساهله. وفيه أيضًا: أن الذين ولوا الخلافة من ذرية العباس أكثر من عدد أنجم الثريا، إلا إن أريد التقييد فيهم بصفة، وفيه مع ذلك نظر". أقول: وأبو ميسرة هذا لم يُذكر إلا بهذه الرواية, ولم يتكلم فيه أحد بجرحٍ ولا تعديل، فهو في عِداد المجاهيل، وابن حبان يذكر أمثاله في "الثقات" على قاعدته. أما أبو قَبيل (¬4)؛ فتابعيّ جليل، وثقه أحمد، وابن معين، وأبو زُرعة، وأحمد بن صالح المصري، والعِجْلي، والفسوي. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. ولم ينقل عن أحد تضعيفه، إلا أن الساجي نقل عن ابن معين أنه ضعفه، فتنظر عبارة [ص 154] ابن معين. ¬

_ (¬1) (3/ 326). (¬2) (1/ 853). (¬3) كذا في الأصل. (¬4) ترجمته في ت الكمال: 2/ 329، التهذيب: 3/ 72 - 73. واسمه: حيّ بن هانئ المعافري المصري.

ومع ذلك، فالمشهور عن ابن معين أنه قال: ثقة. وهذا هو الموافق لبقية الأئمة، فهو المعتمد. وقال ابن حبان في "الثقات" (¬1): "يُخطئ". ولم يُبَيَّن ما أخطأ فيه، ولا يتبين في هذا الحديث خطأ. وإكثاره النقل عن الكتب القديمة ليس بجرح. نعم، هو مظنة الغلط، ولكن ظاهر هذه الرواية يأبى احتمال الغلط. والحق إن شاء الله تعالى أن أبا قبيل لم يحدِّث بهذا قط، وكذلك الليث، وكفى بتفرّد مثل عُبيدٍ به عن مثل الليث دليلًا على ذلك. والظاهر أن الحديث أُدخل على عُبيد، كما أُدْخِلت أحاديث على أبي صالح كاتب الليث، وغيره من أصحاب الليث وابن لهيعة. فعُبيد صدوق، ليس بمتقن. والله أعلم. ¬

_ (¬1) (4/ 178).

مجموع الرسائل الحديثية

آثَار الشّيخ العَلّامَة عبد الرّحمن بن يحيى المُعَلِّمِيّ (15) مجموع الرسائل الحديثية (1 - 14) تأليف الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني 1312 هـ - 1386 هـ تحقيق علي بن محمَّد العمران وفق المنهج المعتمد من الشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد (رحمه الله تعالى) تمويل مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الرّاجحي الخيرية دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

بسم الله الرحمن الرحيم

راجع هذا الجزء محمد أجمل الإصلاحي عادل بن عبد الشكور الزّرقي

مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية SULAIMAN BIN ABDUL AZIZ AL RAJHI CHARITABLE FOUNDATION حقوق الطبع والنشر محفوظة لمؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الطبعة الأولى 1434 هـ دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع مكة المكرمة - هاتف 5473166 - 5353590 فاكس 5457606 الصف والإخراج دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

مقدمة التحقيق

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فهذا مجموع يضم عدة رسائل في علوم الحديث وما يتعلّق به، من تأليف الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي (ت 1386) رحمه الله تعالى، وهذه الرسائل كتبها المؤلف في فترات مختلفة، فبعضها إبّان إقامته في الهند، كرسالة "علم الرجال" و"التعليق على الأربعين" وغيرها، وبعضها إبَّان استقراره في مكة المكرمة. وهذا مسرد الرسائل بحسب ترتيبها في هذا المجموع: 1 - الاستبصار في نقد الأخبار. 2 - رسالة في أحكام الجرح والتعديل. 3 - إشكالات في الجرح والتعديل. 4 - الحاجة إلى معرفة علم الجرح والتعديل. 5 - الأحاديث التي استشهد بها مسلم في بحث الخلاف في اشتراط العلم باللقاء. 6 - رسالة في الصيغ المحتملة للتدليس، أظاهرةٌ هي في السماع أم لا؟ 7 - فوائد في كتاب "العلل" لابن أبي حاتم. 8 - أحكام الحديث الضعيف.

1) الاستبصار في نقد الأخبار.

9 - محاضرة في علم الرجال وأهميته. 10 - مُلَخّص طبقات المُدلِّسين. 11 - تنزيه الإِمام الشافعي عن مطاعن الكوثري. 12 - شرح حديث: "آية المنافق ثلاث ... ". 13 - التعليق على "الأربعين في التصوف" للسلمي. 14 - صفة الارتباط بين العلماء في القديم. وسنتحدّث عن كل رسالة بما يُعرِّف بها، ويكشف عن غرضها وموضوعها، وبيان أصولها المعتمدة في التحقيق وطريقة العمل عليها. 1) الاستبصار في نقد الأخبار. هذه الرسالة سمَّاها مؤلفها بهذا الاسم، كما هو واضح على صفحة الغلاف. وغرض المؤلف منها كما يقول في مقدمتها (ص 5): "رسالة في معرفة الحديث، أتوخَّى فيها تحرير المطالب، وتقرير الأدلة، وأتتبع مذاهب أئمة الجرح والتعديل؛ ليتحرر بذلك ما تعطيه كلماتهم في الرواة ... ". ثم شرح الأسباب التي دفعته إلى تأليفها، فأشار إلى أمرين رئيسين: الأول: اختلاف اصطلاحات الأئمة في إطلاق عبارات الجرح والتعديل. الثاني: اختلافهم في الاستدلال على أحوال الرواة. وتمنَّى إنْ تَمّت رسالتُه هذه أن يتضح بها سبيل القوم في نقد الحديث،

ويتبيّن أن سلوكَه ليس بالأمر العسير على أولي الهمم العالية، فيكون منهم أئمة مجتهدون في ذلك. انظر (ص 6). ثم ذكر أن نقد الخبر على أربع مراتب هي: الأولى: النظر في أحوال رجال سنده واحدًا واحدًا. الثانية: النظر في اتصاله. الثالثة: البحث والنظر في الأمور التي تدل على خطأ إن كان. الرابعة: النظر في الأدلة الأخرى مما يوافقه أو يخالفه. وأراد أن يعقد لكل واحدة من هذه الأربع مقالةً خاصّة، لكن لم يصلنا إلا كلامه على المقالة الأولى، ولا ندري هل كتب غيرها فَضَاع أو توقف عندها فلم يكملها؟ وقد قسَّم المؤلف الكلامَ في هذه المقالة إلى أربعة أبواب: الأول: الإِسلام. الثاني: البلوغ. الثالث: العقل. الرابع: العدالة. ثم بعد أن تكلم عن كل باب ختم بالكلام على العدالة وتعريفها وأدلتها، ثم عقد عشرة فصول متعلّقة بها وهي: 1 - الصحابة (ص 19 - 29). 2 - التابعون (ص 30 - 34). 3 - فصل حدّ الكبيرة (ص 35). 4 - فصل في الإصرار على الصغيرة (ص 35 - 36). 5 - فصل صغائر الخسة (ص 36 - 38). 6 - فصل في خوارم المروءة (ص 38 - 40). 7 - فصل في التفسيق (ص 40). 8 - فصل إذا وقع ما تقرَّر أنه كبيرة فَلْتة (ص 41 - 43).

النسخة الخطية

9 - فصل في المبتدع (ص 43 - 44). 10 - فصل في المعدّل والجارح (ص 44 - 62). وبهذا القدر ينتهي الموجود من الرسالة، ولم ينته الكلام في نظري على هذه المقالة وهي "النظر في أحوال رجال سنده واحدًا واحدًا". وهذه المقالة تمثّل نحو ربع الرسالة من حيث التقسيم الذي ذكره في أولها لا من حيث حجم الرسالة (¬1). النسخة الخطية: تحتفظ مكتبة الحرم المكي الشريف بنسخة الرسالة الوحيدة برقم [4783]، كتبت في دفتر معتاد بخط مؤلفها المعروف، تقع الرسالة في 62 صفحة بترقيم المؤلف. كتب المؤلف عنوان الرسالة في صفحتها الأولى: "الاستبصار في نقد الأخبار" ثم كتب في منتصف الصفحة على الجهة اليسرى بقلم الرصاص - ثم أعاد عليه بقلم أسود -: "قوله تعالى: {وَكانُوا مُستبصِرينَ} يحتمل معنيين، الأول: أنهم كانوا عارفين، فيكون استفعل بمعنى فعل مع ما .... الثاني: أنهم كانوا معتقدين أنهم ذوو معرفة، فيكون استفعل للاعتقاد، على ما في شرح الرضيّ للشافية. ومثَّل له بقوله: "استكرمته" أي: اعتقدت فيه الكرم، واستسمنته، أي: اعتقدت فيه السّمن، واستعظمته أي: عددته ذا عَظَمَة". والنسخة أقرب إلى كونها مبيَّضة مقارنةً بما تركه المؤلف من كتب ورسائل، على أنها لا تخلو من الضرب والتخريج والبياضات. ¬

_ (¬1) انظر في احتمال ارتباط هذه الرسالة بالتي تليها (ص 11).

2) رسالة في أحكام الجرح والتعديل

والرسالة لم يصلنا منها إلا هذا القَدْر، وتنتهي عند قوله: "من الإسناد رجل أو نحو ذلك". وهذا القدر لا يمثل إلا نحو الربع كما سلف. **** 2) رسالة في أحكام الجرح والتعديل: هذه الرسالة لم يسمها مؤلفها بهذا الاسم، ولكنا أخذناه من قوله: "وقد عنَّ لي أن أجمع رسالة في أحكام الجرح والتعديل ... ". وكان غرض المؤلف منها أمرين، الأول: حل مشكلات الفن. الثاني: تيسير طرق الاجتهاد في هذا الفن، ليتمكَّن العالم من الحكم على الرواة بنفسه بالحجة والدليل. لكن القَدْر الذي وصلنا من هذه الرسالة ناقص الأول والآخر، مشوّش الترتيب، وهي تقع بحسب ما وصلنا ضمن مجموعة أوراق للشيخ فيها مسائل عدة (تصحيح الكتب، وبحث إعادة الصلاة، والكلام على الفاتحة، وهذه الرسالة). وهي تبدأ من الورقة 25 ب (¬1)، فقد وضع المؤلف خطًّا في الثلث الأخير من الورقة وبدأ بقوله: "هذا وضبط الخبر وإتقانه يحتاج ... " وكان قبله قد كتب سطرًا وضرب عليه. وهذه البداية تدلّ على أن هناك كلامًا سبق لكن لم نجده ضمن هذه الأوراق. ويستمرّ الكلام متواصلًا في موضوع الضبط إلى ص 28، ثم تبدأ ¬

_ (¬1) الترقيم حديث وليس من الشيخ.

ص 29 بقوله: "وقد عنَّ لي أن أجمع ... " - كما سبق نقله - وبيَّن غرضه من تأليف الرسالة ... وعند النظر والتأمل يتبين أن هذا الكلام هو الأشبه أن يكون بدايةً للرسالة، لذا فقد قدّمناه إلى أولها، فالقطعة من [ص 25 - 28] في موضوع الضبط، ومن [ص 29 - 34] في موضوع العدالة، والعدالة كما لا يخفى مقدَّمة في الكلام على الضبط. هذا ما يتعلق بترتيب الرسالة والتقديم والتأخير فيها. أما موضوعات الرسالة، فقد مهّد المؤلف للكلام على العدالة والصدق ومَن هو الذي ينبغي أن يُصدّق بالكلام على آية: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ ...} [التوبة: 61] ودلالتها على تصديق المؤمنين فيما أخبروا به. ثم عَقَد فصلًا في المراد بالمؤمنين في الآية، وذَكَر الاحتمالات في ذلك، واختار أنه مَن أظهر الإِسلام وظهرت دلائلُ إيمانه. ثم عَقَد فصلاً في دلالة الآية على قبول خبر العدل بخلاف غيره ممن تلبّس بالفسق. وانفصل منه إلى فصل في العدالة، تكلم فيه عن معناها لغة، ثم ذكر قولَه تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ ...} ودلالتها على العدالة. ثم عقد فصلًا في المقصود من العدل وما الذي يخرم العدالة، وتخريج ما ورد من إشكالات في الباب، ثم فصلًا مختصرًا في الصغائر متى تخلّ بالعدالة.

ثم تبدأ الورقة 33 بالبسملة (¬1)، ثم تكلم عن الطعن في العدالة بالبدعة وذكر الأقوال في ذلك، ثم أورد سؤالًا لبعضهم وهو: كيف يكون الرجل عدلًا في شيء وغير عدل في شيء آخر؟ وأجاب عنه. وبه ينتهي الكلام على العدالة. ثم تبدأ القطعة التي أخرناها [25 ب - 28] وسلف الحديث عنها (¬2) بالكلام على ضبط الخبر، وأنه يحتاج إلى التيقظ في ثلاثة مواضع: عند تلقي الخبر، وبين التحمل والأداء، وعند الأداء. وتكلّم عليها. ثم ذكر أمثلةً على التساهل والغفلة في الرواية من بعض الصالحين، وأن المدار في قبول الرواية على الأمن من وقوع الغلط في الرواية, وأنه لا بد من التمييز بين الرواة، وأن الأخبار المحتج بها ثلاثة أقسام، ومعرفة الرواة يُحتاج إليها في كل الأقسام، وشَرْح ذلك. ثم تكلم على قلّة من يُتقن هذا الفن، وأنه في القرون المتأخرة صار نسيًا منسيًّا، وأن الناظرين في العلم من المعاصرين فريقان، وذَكَرهما. وانقطع الكلام عند قوله: "وإيضاح ذلك بوجوه". وبدأ ورقة جديدة بقوله: "فصل المجهول" ولم يكتب تحته شيئًا، فهل استكمل المؤلف مباحث هذه الرسالة أو لا؟ الله أعلم. وهذه الرسالة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالرسالة التي قبلها "الاستبصار"؛ فإنّ ¬

_ (¬1) وهذه طريقة للمؤلف عرفناها في عدد من كتبه أنه إن طال الفاصل الزمني بين كتابة فصلين أو بحثين في رسالة واحدة أن يبدأ الكتابة بالبسملة أو الحمدلة. (¬2) (ص 9).

النسخة الخطية

موضوعهما واحد، وهو الجرح والتعديل، وموضوع العدالة ... وأخشى أن تكون هذه الرسالة مسوّدة لرسالة "الاستبصار"، مع أن فيها فوائد ومعلومات ومكمّلات ليست في "الاستبصار"، كالحديث عن الضبط وتفاصيل الكلام على العدالة. النسخة الخطية: للرسالة نسخة واحدة محفوظة في مكتبة الحرم المكي الشريف برقم [4693] ضمن مجموع في عشر ورقات [25 ب - 34]، تقع في دفتر غير مسطّر من القطع الكبير، بخط مؤلفها المعروف. وهي نسخة مسوّدة كتب بعضها بالمداد الأسود وبعضها بقلم الرصاص، كثيرة الضرب والتخريج كشأن مسوّدات المؤلف. وقد مضى الكلام على إعادة ترتيب النسخة، بحيث جعلناها تبدأ من [29 - 34] ثم من [25 - 28]. 3) إشكالات في الجرح والتعديل: صدَّر المؤلف هذه الخاطرة بقوله: "مهمة"، ثم قرَّر أن أئمة الجرح والتعديل كثيرًا ما يوثقون رواة لم يدركوهم، وضَرَب عدة أمثلة، وأنه لا يُنكر على المتبحر في هذا العصر إذا تتبّع حديثَ الراوي أن يخلُص إلى حكم فيه، لكن بقيت إشكالات تتعلق بذلك، فذكر أربعة إشكالات ولم يجب عنها. والظاهر أن الشيخ قيَّد هذه الأسئلة على أمل أن يجيب عنها لاحقًا بجواب مفصّل، أو يعثر على مَن أجاب عنها من الأئمة، أو على سبيل التنزّل للاحتجاج لمن لديهم اعتراضات على هذا الفن، وهذه طريقة للمؤلف معروفة أنه قد يحتج لبعض الأقوال والمذاهب بما لم يخطر لهم على بال،

ثم يكر عليها بالجواب والتفنيد. وعلى كل حال فهي تفتح أُفقًا في البحث والنظر في هذا العلم. وإن كان المؤلف لم يجب عن هذه الأسولة في هذه الورقات فقد أجاب عنها في أواخر ما وُجِد من رسالة "الاستبصار في نقد الأخبار - ضمن هذا المجموع" (ص 59 - 62) فإنه قال هناك: "قد يتوهَّم من لا خبرةَ له أنّ كلام المحدِّث فيمن لم يدركه إنّما يعتمد النقلَ عمّن أدركه، فالمتأخّر ناقلٌ فقط، أو حاكم بما ثبت عنده بالنقل. وهذا الحصر باطل، بل إذا كان هناك نقل، فإنّ المتأخِّر يذكره، فإن لم يذكره مرّة ذكره أخرى، أو ذكره غيره. والغالب فيما يقتصرون فيه على الحكم بقولهم: "ثقة" أو "ضعيف" أو غير ذلك إنما هو اجتهاد منهم، سواء أكان هناك نقلٌ يوافق ذلك الحكم أم لا، وكثيرًا ما يكون هناك نقل يخالف ذاك الحكم. واعتمادهم في اجتهادهم على طرق". ثم ذكر ثلاث طرق تكفي في الجواب عن عُظْم هذه الإشكالات هنا. ويمكن أن يُجاب عن تلك الأسولة بجواب جُمْليّ فيقال: لا يخلو الناظر في كلام أولئك الأئمة من حالين: إما أن يكون خبيرًا في فن الجرح والتعديل عارفًا به، أو يكون مقلَّدًا لا خبرة له فيه. فالثاني يسوغ له تقليد إمامٍ في الفنّ كما يسوغ له التقليد في الحكم الشرعي. والأول عنده أهليّة النظر والحكم، فينظر في حال الراوي كما نظر فيه النقَّاد قبله، فقد يوافقهم على الحكم أو يخالفهم، كما هو واضح من عمل الأئمة واختلافهم في الراوي الواحد بين مُضعِّف وموثِّق وغير ذلك.

النسخة الخطية

أما كون الإِمام الناقد قد يخطئ في حكمه فأمْرٌ وارد؛ لأن حكمه مبنيّ على النظر والتأمل في القرائن، والحكم يكون نتيجة لغلبة الظن، كما هو الشأن في تصحيح الحديث وتضعيفه. ثم لا يتصوّر أن يوجد راوٍ أو حديث يوثَّقه أو يصححه إمام - ويكون مخطئًا في نفس الأمر - وتمضي الأمةُ على الخطأ ولا يوجد مَن يصحح هذا الخطأ أو يخالف هذا الناقد، فإن هذا يخالف حفظ الله للسنة الثابت بقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)}. والله أعلم. النسخة الخطية: لهذه الرسالة نسخة واحدة في مكتبة الحرم المكي الشريف برقم [4658/ 4] ضمن مجموع غير مرقم، يحوي عدة رسائل، وتقع في 3 صفحات في دفتر عادي متوسط الحجم. **** 4) الحاجة إلى معرفة علم الجرح والتعديل: لم يعنون المؤلف هذه الرسالة الموجزة، فاجتهدتُ في وضع عنوان مناسب لموضوعها؛ إذ أراد المؤلف منها بيانَ أهمية علم الجرح والتعديل، وأنه لا بد من معرفته لمن أراد الاجتهاد. وطريقته التي سلكها في التمهيد لهذه النتيجة: أنه قرَّر أن الله خلق الناس لعبادته وطاعته، وطاعته لا تكون إلا باتباع خاتمة الشرائع شريعة نبينا محمَّد - صلى الله عليه وسلم - التي تكفل الله بحفظها، فقيَّض للدين حَفَظة وللسنة نَقَلَة. وذكر حُسْبان

النسخة الخطية

بعض الناس: أن الجهاد في تمييز الحق من الباطل قد انتهى دوره، وأن هؤلاء على أقسام ... فأخذ في حوار الفرقة الثانية منهم، القائلة بأنه لا طريق إلى معرفة صحاح الأحاديث من ضعافها إلا بأقوال أئمة الحديث الذين ميزوا الصحيح من غيره ... فوصل معهم إلى أن معرفة صحاح الحديث وضعافه ليس بمتعسّر ويمكن لمن سلك سبيل القوم أن يصل إليه. ثم أخذ في حوار الفرقة الثالثة، وهم مَن يرون أنه لا طريق إلى معرفة أحوال الرواة إلا بما قاله فيهم أئمةُ الحديث كما هو مدوّن في كتب الرجال ... فوصل معهم إلى أنه ينبغي البحث عن أحوال الرواة والتعرُّف على مذاهب أئمة الجرح والتعديل. وختم الرسالة بتقرير أن أهل العلم يحتاجون إلى أمرين: الأول: تحقيق الحق فيما اختلف فيه أئمة الجرح والتعديل, ومعرفة عادة كل إمام في إطلاقاته. الثاني: معرفة الطريق التي سلكها الأئمة لنقد الرواة، ثم السعي في اتباعهم فيها. النسخة الخطية: للرسالة نسخة واحدة محفوظة في مكتبة الحرم المكي الشريف ضمن مجموع برقم [4693] وتقع في صفحتين (40 أ - ب) من القطع الكبير، كتبت بقلم الرصاص وهي مسوّدة فيها الكثير من الضرب والتخريج واللحق. ****

5) الأحاديث التي استشهد بها مسلم في بحث الخلاف في اشتراط العلم باللقاء.

5) الأحاديث التي استشهد بها مسلم في بحث الخلاف في اشتراط العلم باللقاء. هذا العنوان كتبه المؤلف في رأس الصفحة الأولى من نسخة الرسالة التي بخطه. وواضح من العنوان موضوع هذه الرسالة، وهي تندرج تحت بحث "رواية الرجل بصيغةٍ محتملة للسماع عمن عاصره ولم يثبت له لقاؤه" وقد كفانا المؤلف رحمه الله شرح هذه المسألة، وما المقصود بهذه الأحاديث التي استشهد بها مسلم، وذلك في كتابه "التنكيل" (¬1)، فقد ذكر فيه أنه كان يريد الكلام على تلك الأحاديث هناك إلا أن المكان لم يتسع لذلك، فكانت هذه الرسالة المكان المناسب للتوسع في الكلام عليها، وننقل هنا نصَّه بطوله، ففيه ما يكفي لبيان موضوع الرسالة، وما المقصود بهذه الأحاديث. قال المعلمي: "ذكر مسلم في مقدمة "صحيحه" (¬2) عن بعض أهل عصره: أنه شَرَط أن يثبت لقاء الراوي للمروي عنه ولو مرة، فإن لم يثبت لم يُحكم لما يرويه عنه بالاتصال. وذكروا أن الذي شَرَط ذلك هو البخاري وشيخه عليُّ بن المديني (¬3)، وحكى مسلم إجماعَ أهل العلم سَلَفًا وخَلَفًا على الاكتفاء بالمعاصرة وعدم التدليس، وألزم مخالفَه أن لا يَحكم بالاتصال فيما لم يصرِّح فيه الراوي بالسماع، وإن ثبت اللقاء في الجملة، ولم يكن الراوي مدلسًا. ¬

_ (¬1) (1/ 134 - 137). (¬2) (1/ 28 - 35). (¬3) انظر "الإكمال": (1/ 164) للقاضي عياض. وعنه نقله غالب من بَعْده.

وتوضيح هذا الإلزام: أنه كما أن الراوي الذي يُعرَف ويشتهر بالإرسال عمن عاصره ولم يلقه قد يقع له شيء من ذلك، فكذلك الراوي الذي لم يُعرفْ ويشتهرْ بالإرسال عمن لقيه وسمع منه قد يقع له شيء من ذلك. فإن كان ذلك الوقوع يوجب التوقف عن الحكم بالاتصال في الأول، فلْيوجبه في الثاني. وإن لم يوجبه في الثاني فلا يوجبه في الأول. أجاب النووي (¬1) بما إيضاحه أن رواية غير المدلس بتلك الصيغة عمن قد لقيه وسمع منه، الظاهر منها السماع، والاستقراء يدلّ أنهم إنما يطلقون ذلك في السماع إلا المدلِّس. أقول: فمُسْلِم يقول: الحال هكذا أيضًا في رواية غير المدلس عمن عاصره. والرواية عن المعاصر على وجه الإيهام تدليسٌ أيضًا عند الجمهور، ومَن لم يطلق عليها ذلك لفظًا لا ينكر أنها تدليس في المعنى، بل هي أقبح عندهم من إرسال الراوي على سبيل الإيهام عمن قد سمع منه. هذا، وصنيع مسلم يقتضي أن الإرسال على أي الوجهين كان إنما يكون تدليسًا إذا كان على وجه الإيهام. ويوافقه ما في "الكفاية" للخطيب (ص 357). وذَكَر مسلم (¬2) أمثلةً فيها إرسال جماعة بالصيغة المحتملة عمن قد سمعوا منه، ولم تُعَدَّ تدليسًا ولا عُدُّوا مدلسين. ومحمل ذلك أن الظن بمن وقعت منهم أنهم لم يقصدوا الإيهام، وأنهم اعتمدوا على قرائن خاصة ¬

_ (¬1) في "شرح مسلم": (1/ 128). (¬2) في مقدمة "صحيحه": (1/ 33 - 35).

كانت قائمة عند إطلاقهم تلك الرواية تدفع ظهور الصيغة في السماع. وقد كنتُ بسطتُ ذلك، ثم رأيت هذا المقام يضيق عنه. ولا يخالف ذلك ما ذكروه عن الشافعي أن التدليس يثبت بمرة (¬1) , لأنا نقول: هذا مسلَّم، ولكن محلّه حيث تكون تلك المرة تدليسًا بأن تكون بقصد الإيهام. والأمثلة التي ذكرها مسلم لم تكن كذلك، بدليل إجماعهم على أن أولئك الذين وقعت منهم تلك الأمثلة ليسوا مدلسين. وزعم النووي في "شرح صحيح مسلم" (¬2) أنه لا يحكم على مسلم بأنه عمل في "صحيحه" بقوله المذكور. وهذا سهو من النووي، فقد ذكر مسلم في ذلك الكلام أحاديثَ كثيرة زعم أنه لم يُصرَّح فيها بالسماع ولا عَلِمَ اللقاء، وأنها صحاح عند أهل العلم، ثم أخرج منها في أثناء "صحيحه" تسعة عشر حديثًا كما ذكره النووي نفسه، ومنها ستة في "صحيح البخاري" كما ذكره النووي أيضًا. هذا, ولم يجيبوا عن تلك الأحاديث إلَّا بأن نفيَ مسلمٍ العلمَ باللقاء لا يستلزم عدم علم غيره. وهذا ليس بجواب عن تصحيح مسلم لها، وإنما هو جواب عن قوله: إنها عند أهل العلم صحاح. وقد دفعه بعض علماء العصر (¬3) بأنه لا يكفي في الردّ على مسلم، مع العلم بسعة اطلاعه. ¬

_ (¬1) انظر "الرسالة" (ص 379) للشافعي. (¬2) (1/ 14). (¬3) لعله يقصد الشيخ شبّير العثماني في كتابه "فتح الملهم بشرح صحيح مسلم": (1/ 109 و402). فإنه أشار إلى مثل ذلك.

النسخ الخطية

أقول: قد كان على المجيبين أن يتتبعوا طرق تلك الأحاديث وأحوال رواتها، وعلى الأقل كان يجب أن يعتنوا بالستة التي في "صحيح البخاري". وكنتُ أظنهم قد بحثوا، فلم يظفروا بما هو صريح في ردّ دعوى مسلم، فاضطروا إلى الاكتفاء بذاك الجواب الإجمالي. ثم إنني بحثتُ، فوجدت تلك الستة قد ثبت فيها اللقاء، بل ثبت في بعضها السماع، بل في "صحيح مسلم" نفسه التصريح بالسماع في حديث منها. وسبحان من لا يضل ولا ينسى! وأما بقية الأحاديث، فمنها ما يثبت فيه السماع واللقاء فقط، ومنها ما يمكن أن يجاب عنه جواب آخر، ولا متسع هنا لشرح ذلك". النسخ الخطية: للرسالة نسختان خطيتان: الأولى: بخط مؤلفها، وهي محفوظة في مكتبة الحرم المكي الشريف برقم [4677]، وتقع في أربع صفحات من القطع الكبير، في كل صفحة نحو 38 سطرًا، وقد كتبت بخط دقيق جدًّا، وقد وقع تآكل في أطراف الورقة السُّفلية أتى على بعض الكلام، وقد اسْتُدرك من النسخة الثانية الآتي وصفها، وهي كعادة ما كتب المؤلف فيها الضرب واللحق إلا أنها مع ذلك قد وصلتنا كاملة، وإن لم يبتدئ المؤلف فيها بمقدمة ولا خاتمة. الثانية: بخط الشيخ حماد الأنصاري (ت 1417 هـ) رحمه الله، كتبها من النسخة السالفة بتاريخ (20/ 4/ 1382) أي في حياة مصنفها، وهي محفوظة أيضًا في مكتبة الحرم المكي الشريف. ****

6) رسالة في الصيغ المحتملة للتدليس أظاهرة هي في السماع أم لا؟

6) رسالة في الصِّيَغ المحتملة للتدليس أظاهرةٌ هي في السماع أم لا؟ ابتدأ المؤلف هذه الرسالة بسؤال طويل استغرق أربع صفحات، وظاهر السؤال أنه من إنشاء غيره، ففي أوله: "ما قولكم - رحمكم الله - في قول المحدّث ... ". وواضح من السؤال والمناقشة الواردة فيه وصياغته أنه للمؤلف، افترض أن هناك سائلًا يستشكل ويحاور ليظهر البحث على شكل حوار بين شخصين أو فريقين، وقد صنع المؤلف ذلك في غير موضع من كُتُبه ورسائله. والسؤال على طوله لم يكن مجرّد سؤال، بل فيه حوار وأجوبة وإشكالات؛ غرضها تحديد مناط الخلاف، وتخليص الإشكال المراد الجواب عنه. والمسألة التي ناقشها المؤلف هنا هي قول المحدّث "عن فلان" أو "قال فلان" أو "ذكر فلان" ونحوها من الصَّيَغ المحتملة للتدليس هل هي ظاهرةٌ في السماع أم لا؟ ثم شرع المؤلف في جواب السؤال بقوله: "الجواب ... " واختار أن هذه الصيغة ليست ظاهرة في السماع وبيَّن وجه ترجيحه، وأجاب عما يمكن أن يُعترض به عليه. ثم ذكر مسألة مغفولًا عنها في الكتب وهي العنعنة المتكررة في الأسانيد في نحو قوله في الحديث: "حدثنا عبد الله بن يوسف قال: أخبرنا مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة" ... فذكر ما في كتب المصطلح

النسخة الخطية

وأنه وهمٌ، وذكر الاحتمالات الممكنة فيمن يقول: "عن". وهذه الرسالة ناقصة لم يصلنا منها إلا هذا القدر، فهل أكملها المؤلف ولم نظفر بباقيها، أو وقف المؤلف عن إكمالها؟ وقد بحث المؤلف مسألة التدليس في العديد من كتبه، وتطرّق إلى هذه المسألة في كتاب "التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل": (1/ 141 - 143)، وتكلم فيه بنحو كلامه هنا. وقد ألحقنا بالرسالة فائدة قيّدها المؤلف في أحد كنانيشه تتعلق بهذا البحث، غالبها ملخّص من "فتح المغيث" للسخاوي رحمه الله. النسخة الخطية: نسختها الوحيدة في مكتبة الحرم المكي الشريف برقم [4784]، وتقع في 6 صفحات، في أوائل دفتر من القطع المتوسط، يليها رسالة في "حقيقة التأويل" وهي ضمن رسائل العقيدة في هذه الموسوعة. وهي بخط مؤلّفها المعروف، شِبْه مبيضة، قليلة الضرب والإلحاق، ولم يعنونها المؤلف، أما العنوان المكتوب على ظهر الدفتر وهو "رسالة في التدليس" فمن صُنع المفهرس. **** 7) فوائد في كتاب "العلل" لابن أبي حاتم الرازي: في هذه الورقات استخرج المؤلف عدة فوائد من كتاب "العلل" للإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي (ت 327)، وقد بلغت أكثر من خمسين

النسخة الخطية

فائدة. كتبها المؤلف بحسب ورودها في الكتاب، ولم يرتبها ترتيبًا معينًا، بل حرص على ذكرها مرتبة بحسب ورودها في الكتاب، وكان يشير إلى رقم الحديث للدلالة على موضع الفائدة. وهذه الفوائد المقيّدة في الأوراق تقف عند حديث رقم [488]، وعدد أحاديث العلل [2840]، فتكون الفوائد مستخرجة من نحو سدس أحاديث الكتاب، ولا ندري هل استكمل المؤلف بقية فوائد الكتاب في أوراق مستقلّة أو وقف عند هذا الحد؟ لكنّا وجدنا المؤلف قد قيَّد على نسخته من كتاب "العلل" المحفوظة في مكتبة الحرم المكي بعض الفوائد على غلاف المجلد الثاني وبدأ بالحديث رقم [1410]؛ فجعلناها ذيلًا لهذه الفوائد بحسب ترتيبها. وكانت طريقة المؤلف الإشارة إلى الفائدة بأوجز عبارة وألْخَص إشارة، وهذه التقييدات أشبه بالتنبيهات والإشارات التي يفهمها العارف بالفن والمدقِّق فيه، فقد يكتفي المؤلف بذكر رأس الحديث، أو كلمتين، أو كلمة واحدة. النسخة الخطية: لهذه الفوائد نسخة بخط مؤلفها في مكتبة الحرم المكي الشريف برقم [4662]، تقع في 3 صفحات من القطع العادي، بخط دقيق، ويظهر منها حرصه على ترتيب الفوائد على حسب أرقام الأحاديث فكان يدخل الفائدة في مكانها من الترتيب بين الأسطر. ****

8) أحكام الحديث الضعيف

8) أحكام الحديث الضعيف: لم يسمّ المؤلف رسالته هذه، لكنه قال في صدرها: "فهذه رسالة في أحكام الحديث الضعيف ... " فاقتبسنا هذا العنوان منه. وقد بيَّن المؤلف سبب تأليفها بقوله: "جمعتُها لما رأيتُ ما وقع للمتأخرين من الاضطراب فيه؛ فنَسَب بعضُهم إلى كبار الأئمة الاحتجاجَ به، ونَسَب غيرُه إلى الإجماع استحبابَ العمل به في فضائل الأعمال ونحوها، وتوسّع كثيرٌ من الناس في العمل به، حتى بنوا عليه كثيرًا من المحدَثات، وأكَّدوا العمل بها، وحافظوا عليها أبلغ جدًّا من محافظتهم على السنن الثابتات، بل والفرائض القطعيات. بل كثيرًا ما بنوا عليه عقائد مخالفة للبراهين القطعية من الكتاب والسنة والمعقول. ولم يقتصروا على الضعاف بل تناولوا الموضوعات"، ثم قال بعد أن ذكر بعض جَدَل المثبتين للعمل به: "وتلك المطاولة هي التي ألجأتني إلى تأليف رسالة مستقلة". وأشار أيضًا إلى أمرٍ آخر كان سببًا في إفرادها بالتأليف قال: "وذلك أنني ألَّفت كتابًا نبَّهتُ في مقدمته على الأمور التي يسلُكُها كثير من المتأخرين في الاحتجاج وهي غير صالحةٍ لذلك، وذكرتُ من جملتها العمل بالضعيف، وحاولت أن أحقِّق الكلامَ فيه، فطال الكلام جدًّا قبل أن أستوفي البحث كما أحبّ، فآثرت إفراده برسالة مستقلة". وهذا الكتاب الذي عناه المؤلف هو كتاب "العبادة" انظر (1/ 243)، فقد أشار هناك إلى أنه أفرد الحديث الضعيف برسالة مستقلة، وقد أشار أيضًا إلى أنه أفرد الحديث الضعيف برسالة في رسالة "حقيقة البدعة" (ص 87) ضمن رسائل العقيدة في هذه الموسوعة المباركة.

بدأ المؤلف رسالته بذكر موضوع الرسالة والسبب الذي دعاه لتأليفها - كما سلف - ثم ذكر الأقوال في حكم العمل بالحديث الضعيف، ومحصّل ما ذكره ثلاثة مذاهب: المنع مطلقًا، الجواز، الاستحباب، وذَكَر من قال بذلك وحجج بعضهم، وأن هذا الاختلاف والمطاولة دعته إلى تأليف الرسالة. ثم عقد فصلاً ذكر فيه مهماتٍ خمسًا تتعلق بالحديث الضعيف، أما تعريفه فمذكور في كتب المصطلح (ص 156 - 158). وتقرير هذه المهمّات في بداية الرسالة كان لغرض الإحالة إليها فيما يأتي من فصول الرسالة، كما في الفصل الذي يليه. ثم عَقَد فصلاً ذكر فيه القوادح التي قيلت في حكاية الإجماع على أن الأحكام لا تثبت بالحديث الضعيف، فذكر خمسة قوادح، وأجاب عنها جميعًا، فسَلِمَت حكايةُ الإجماع من أيّ قادح مؤثّر. ثم عَقَد فصلًا ذكر فيه التسلسلَ التاريخيَّ للكلام في مسألة العمل بالحديث الضعيف، فذكر أن أول مَن تكلم في هذه المسألة القاضي أبو بكر ابن العربي (ت 543)، ثم ذكر مَن بعده، وما وقع لهم من الاختلاف ... وأنه ليس من غرضه في الرسالة استيعاب أقوالهم، بل علينا أن نعترض الحجج والدلائل ونغترف الحق من معدنه. وفَصَل منه إلى فَصْل ذكر فيه الآثار المروية عن أئمة السلف التي استند إليها مَن حكى الإجماعَ على جواز العمل بالضعيف ... وأنه عند إنعام النظر فيها لا تدل على الجواز بل هي صريحة في خلافه.

فذكر عبارة عبد الرحمن بن مهدي المشهورة وعبارة للإمام أحمد، وأن العبارات الأخرى لا تخرج عن هذا المعنى، وأن ابن الصلاح قد لخَّص في "مقدمته" ما جاء عن السلف باحتياطٍ تام، وساق عبارته ... بخلاف النووي الذي لخَّص كتاب ابن الصلاح فإنه زاد زيادةً نابية غيَّرت كلام ابن الصلاح وخرجت عن مراد عبارات أئمة السلف. ثم عَقَد فصلاً في أن عبارات السلف تلك إنما فيها تساهلهم في رواية الضعيف لا العمل به ولا استحبابه، وذكر كيف فهم النووي منها جواز العمل بالضعيف بل استحبابه. وخَلَص منه إلى فصلين في ردّ ذلك الفهم الذي أوقع النوويّ وغيره في ذلك القول، وما المراد بتساهل الأئمة في الرواية, وما هو الضعيف الذي تساهلوا فيه. وعقد مناظرة بين مَن يرى أن المباح يجوز أن يُعمل على زَعْم أنه عبادة ... ثم عَقَد فصلًا في زيادة إيضاح هذا المعنى الذي تقرر في الفصول السابقة، وجعله على شكل مناظرة أيضًا. ثم ذكر ما وقع في "مستدرك الحاكم" في عبارة ابن مهدي السابقة من زيادة لفظ "المباحات والدعوات" بما يخالف المصادر الأخرى الخالية من هذه الزيادة، فشكَّك في صحة هذه الزيادة، وأنها ربما تكون إقحامًا من الناسخ، وذَكَر مستند هذا الاحتمال. ثم تكلم عليها على اعتبار ثبوتها، فخرَّجها بتخريج يدل على عبقرية المؤلف وتمكُّنه رحمه الله، ولا أظن أحدًا سبقه إليه ولا حام طائره عليه.

ثم عَقَد فصلًا في بيان أن هذا التساهل المرويّ عن بعض السلف لم يكن إجماعًا، بل وُجد من يتشدّد مطلقًا فلا يروي إلا عن ثقة. وعقد فصلًا بعده ذكر فيه فرضيَّة ثبوت ذلك الإجماع المحكيّ في التساهل، وأنه إن ثبت فهو إجماع سكوتيّ ضعيف. ثم توّج هذه الفصول بفصلٍ ذكر فيه أمورًا أخرى استدلَّ بها المجوَّزون على جواز العمل بالحديث الضعيف؛ فذكر خمسة أدلة، وأجاب عنها جميعًا. وبهذا الفصل تنتهي هذه القطعة من الرسالة، ولا أدري أهي آخر ما كتب الشيخ من هذه النسخة المبيَّضة، أم كتب شيئًا مكمّلًا لها؟ ولتمام الفائدة فقد أتْبَعنا هذه القطعة المبيَّضة من الرسالة فصلين من النسخة المسوَّدة، الأول: فصل ذَكَر فيه المؤلف نصوص الإِمام الشافعي في هذا البحث، مع تخريج نصوصه الموهمة للعمل بأحاديث وُصِفت بالضعف. وتأتي أهمية ذِكْر نصوص الشافعي هنا وتخريجها: أن المصنف استظهر أن كلام الشافعي من ضمن الحجج التي استند إليها النواوي في حكايته الاتفاق على جواز بل استحباب العمل بالحديث الضعيف. أما الفصل الثاني الذي ألحقناه فهو يتعلّق ببعض الأفعال التي استحسن بعضُ الأكابر العملَ بها وظهر أن مستندهم حديث ضعيف. ثم تطرّق إلى موضوع البدعة وأدلة ذمّها بإطلاق، وأنه إذا ثبت ذلك فإن البدعة من الكبائر، ولا يخرج العمل المُحْدَث عن كونه بدعة إلا بحجّة يحصل بها اليقين، والضعيفُ بعيد عن ذلك.

وصف النسخ الخطية

ثم نقل نقلاً طويلًا من "إعلام الموقعين" لابن القيم في مسألة "هل لترك النبي - صلى الله عليه وسلم - دلالة" مع التعليق عليه وتأييده. ثم ذكر بعض حجج القائلين بالعمل بالحديث الضعيف، فذكر حجتين، الأولى: الإجماع على أن المباح يصير قُرْبة بالنية. والثانية: أنه يُعمل بالضعيف احتياطًا. وأجاب عنهما، وقد تقدمت هاتان الحُجّتان في القطعة الأولى مع ثلاثٍ أُخريات، لكنه هنا تبسّط وأطال في الجواب عنهما. وصف النسخ الخطية: وصلنا من هذه الرسالة أربع قطع كلها محفوظة في مكتبة الحرم المكي الشريف، وهذا وصفها: القطعة الأولى: وهي برقم [4658/ 10] وتقع في 40 صفحة في دفتر من القطع العادي غير مرقمة الصفحات، ويبدو أنها آخر ما حرّره المؤلف في هذه الرسالة، لاكتمال مادتها مقارنة ببقية القطع، وتحرير مباحثها، وقلة الضرب والتغيير فيها، وتسلسل موضوعاتها. القطعة الثانية: وهي برقم [4658/ 10] أيضًا وتقع في الدفتر السالف نفسه لكن من طرفه الآخر، وتقع في 26 صفحة، وتبدأ بقوله: "وكثيرًا ما يحتجون بالحديث مع اعترافهم ... " وأكثر مباحث هذه القطعة موجودة في القطعة السالفة أو في القطع الأخرى التي سيأتي وصفها، مع اختلاف في بعض العبارات أو الإضافات القليلة. القطعة الثالثة: وهي برقم [4658/ 8] وتقع في 35 صفحة في دفتر من القطع العادي مرقَّمة ترقيمًا حديثًا، ويبدو أنها الإخراج الأول للكتاب؛ فقد

9) محاضرة في علم الرجال وأهميته.

أعاد المؤلف كتابة صدر الرسالة مرتين، وهي كثيرة الضرب والتغيير واللحق، وغالب موضوعاتها موجودة في القطعة الأولى غير بحث في نصوص الإِمام الشافعي في هذا البحث، فإنه لا وجود له في باقي القطع، فأخذناه وألحقناه في ذيل القطعة الأولى كما سلف الإشارة إليه. القطعة الرابعة: وهي برقم [4658/ 10] وتقع في 28 صفحة مضروب على 10 صفحات منها، وهي بخط أحد تلاميذ المؤلف أو ورّاقيه ممن استعان بهم في تبييض بعض كتبه (¬1)، وعليها خط الشيخ في مواضع متفرقة بالزيادة والضرب والتخريج، وفيها خرم عدة أوراق في موضعين أو أكثر، عُرِف ذلك باستخدام الناسخ لنظام التعقيبة، ومن خلال اختلال سياق الكلام، وتبدأ هذه القطعة بقوله: "في صلاة النافلة وكذلك إذا ثبت ... ". وهذه الورقة مضروب عليها، وأغلب هذه القطعة في مبحث حُجج مَن قال بجواز أو استحباب العمل بالحديث الضعيف والجواب عما استدلوا به، وقد ألحقنا هذه القطعة في ذيل الرسالة. **** 9) محاضرة في علم الرجال وأهميته. كانت دائرة المعارف العثمانية بحيدراباد دكن تعقد لقاءً ثقافيًا سنويًّا، وتدعو فيه جمعًا من العلماء لإلقاء كلمات أو محاضرات، فشارك المؤلف في موسم سنة 1354 بمحاضرته هذه التي عنونها بـ "علم الرجال وأهميته". ¬

_ (¬1) وهذا التلميذ هو مَن نسخ رسالة "العبادة" في إحدى نسخها المبيّضة.

فبدأ كلامه في تفاوت العلوم في مقدار شرفها، وأن لدين الإِسلام ينبوعين عظيمين: القرآن والسنة، ثم عرَّف السنة وكيف انتقلت إلينا عبر الرواية, وأن الرواة متفاوتون في القوة والضعف، ومن هنا نشأ علم الرجال ومعرفة الرواة، وذكر تأصيل الكلام في الجرح والتعديل ومَن أوّل من تكلم في الرجال؟ وكيف تطوَّر إلى أن صار عِلْمًا برأسه. ثم تطرّق إلى طرق اختيار الأئمة للرواة فذكر جملةً منها. ثم عقد عنوانًا وسمه بـ "حفظ علماء السلف لتراجم الرجال" ذكر فيه حفظ الأئمة لرواة الحديث ومعرفتهم بأحوالهم. ثم عنون بـ "طائفة من مشاهير المكثرين من الجرح والتعديل" فعدّ منهم اثنين وخمسين عالمًا؛ بدأهم بشعبة بن الحجاج (ت 161) وانتهى بالسخاوي (ت 902). ثم عنون بـ "تدوين العلم وحظّ علم الرجال منه" فذكر طائفةً من أخبار مَن دوَّن العلم من السلف من الصحابة فالتابعين فمن بعدهم. ثم عنون بـ "طريقة العلماء في صنع كتب الرجال" فذكر أن ترتيبهم كان على حروف المعجم، وأن أجود ذلك طريقة "التهذيب"، وذَكَر فوائد الترتيب على هذا النحو ونماذج منها، وما وقع في بعض الكتب من خلط الطابعين وتصحيفاتهم. ثم عنون بـ "وضع التراجم" وذكر فيه طريقة العلماء في الترجمة للرواة، وبماذا يبدؤون، وأهمّ ما يذكرون، وبماذا ينتهون؟ وفوائد ذلك كله.

نسخة الرسالة

ثم ذكر أنواع كتب التراجم، فمنها ما هو خاص بالأنساب، أو المشتبه، أو بالكنى, وذكر بعض كتب هذه الأنواع وفوائدها، وما وقع من أوهام لمن لم يتنبّه لفوائد استعمالها. ثم عقد عنوانًا سماه "إحياء كتب الرجال ولمن الفضل في ذلك؟ " ذكر في هذا المبحث أنواع الكتب المؤلفة في علم الرجال وما الذي طُبع في كل نوع، مع ذِكْر جهة الطبع وفي أيّ بلد، خلص بعده إلى نتيجة هي: أن للهند ولا سيما حيدراباد دكين الفضل الأكبر في نشر كتب الرجال والحديث ومتعلقاتهما. وفي ختامها أنشأ قصيدة في مدح الدائرة والقائمين عليها. نسخة الرسالة: اعتمدنا في إخراج هذه الرسالة على مطبوعة قديمة للرسالة ضمن مجموع ضمّ عدّة محاضرات ألقيت في دائرة المعارف العثمانية سنة 1937 م، وتقع هذه الرسالة في المجموع (ص 73 - 97)، وهي نسخة صحيحة نادرة الغلط، استفدت منها في تقويم الطبعات التالية للرسالة، وقد طبعت المحاضرة عدة طبعات تالية، وتبيّن لنا عند الوقوف على الطبعة القديمة ومقارنتها أنهم حذفوا جميعَ حواشي المؤلف التي فيها العزو والدلالة على مصادر النقول! ولا أدري ما الذي حملهم على ذلك؟! وقد أثبتناها معزوّة إلى [المؤلف] بين معكوفين. ****

10) ملخص طبقات المدلسين لابن حجر

10) ملخَّص طبقات المدلسين لابن حجر هذا جزء لطيف في الرواة الذين وُصفوا بالتدليس، اختصره المؤلف رحمه الله تعالى من كتاب "طبقات المدلسين" للحافظ ابن حجر العسقلاني (ت 852) رحمه الله، المسمى "تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس". وكتاب الحافظ مِن أجْمع ما كُتِب فيمن وُصف من الرواة بالتدليس، رتّبهم على خمس طبقات ذكرها في مقدمة كتابه، وقد بلغ عدد تراجم الكتاب كله مئة وإحدى وخمسين ترجمة. ولم يبين المؤلف رحمه الله سببَ اختصاره للكتاب، وإخراجه في هذا الحجم اللطيف، إلا أن يقال: إنه اختصره ليخفّ ويسهل استحضاره لأسماء الرواة ومن وُصِفوا بالتدليس. ويمكننا أن نذكر أهم معالم اختصاره للكتاب، ثم طريقة العمل فيه في النقاط الآتية: 1 - لم يحذف المؤلف أي ترجمة من الكتاب، بل ذكر جميع التراجم المئة وإحدى وخمسين. 2 - تصرف المؤلف في سياق الأسماء للرواة، فقد يختصرها حتى لا يُبقي إلا اسم العَلَم فقط، مثل "عطية" و"بقية" و"مكحول"، أو يقتصر على اللقب فقط. 3 - حرص المؤلف على ذِكْر مَن وصَفَ الراوي بالتدليس.

4 - حافظ المؤلف على ذكر الرموز التي تبيّن مَنْ أخرج له من أصحاب الكتب، وربما ذهل فأغفل ذكر الرموز في عدد من التراجم، انظر رقم (67، 103، 112 - 116, 133). 5 - قد يعلق على بعض التراجم بفائدة، أو استدراك على ابن حجر، كما في التراجم رقم (41، 47، 60، 68). 6 - يبدو أن الطبعة التي اختصر منها المؤلف ليست بالجيدة، فوقع فيها بعض الأخطاء في الأسماء كما في ذوات الأرقام (44، 103، 107، 133)، وفي الرموز كما في الأرقام (47، 59، 56، 124، 138، 145) وإن كانت ليست بالكثيرة، وقد أصلحنا ما وقع فيها من وهم وتحريف مع الإشارة إليه؛ إما بالرجوع إلى الأصل "الطبقات" أو بالرجوع إلى المصادر الأخرى؛ إلاَّ أنّ الأصل أيضًا في طبعته التي اعتمدنا العزو إليها على جودتها (¬1) هي الأخرى لم تخلُ من بعض ذلك أو من خلافٍ مع المصادر الأخرى. 7 - لم نعزُ كلّ ترجمة إلى مكانها في "الطبقات"؛ لأن الكتابين مرقّمان ترقيمًا متطابقًا في التراجم، فأغنى عن الإحالة في كل ترجمة. 8 - ذكرتُ الخلافَ المهم بين ما اختصره الشيخ وبين أصله "الطبقات". 9 - أحلت على الكتب التي ذكرها المؤلف. 10 - صنعت فهرسًا في آخر الكتاب مرتبًا على حروف المعجم، مع الرمز للترجمة من أي مراتب المدلسين هي. ¬

_ (¬1) بتحقيق د. أحمد بن علي سير المباركي ط الأولى 1413.

النسخة الخطية

النسخة الخطية: النسخة بخط مؤلفها العلامة المعلمي، محفوظة في مكتبة الحرم المكي الشريف، ضمن مجموع رقم [4717]، في الصفحات (ص 107 - 132) بترقيم المؤلف. وخطها واضح، تكاد تخلو من الضرب والتخريج على غير عادة الشيخ في كتبه، وقد يعلق في هامشها بعض الفوائد أو التصحيحات. **** 11) تنزيه الإِمام الشافعي عن مطاعن الكوثري هذه الرسالة تتبّع المؤلف فيها مطاعن الشيخ محمَّد زاهد الكوثري (ت 1371) التي ذكرها في كتابه "تأنيب الخطيب" وفي تعليقاته على كتاب "الانتقاء" لابن عبد البر، وكان المؤلف قد تعرَّض لذلك في كتابه العظيم "التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل" في ترجمة الإِمام الشافعي (رقم 189)؛ لكن رأى أن يُفْرد الكلام على ذلك في رسالة مستقلة مع زيادات وإضافات كما سيأتي. وسأتكلم في التعريف بهذه الرسالة في عدة مباحث: أولًا: عنوان الرسالة عنوان الرسالة أثبته المؤلف على الورقة الظهرية بخطه المعروف، وهو (تنزيه الإِمام الشافعي عن مطاعن الكوثري) ثم كتب تحته: "تأليف العلامة المحقق الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي العتمي حفظه الله". وكان كتب أولًا: "تأليف الشيخ ... " ثم ضرب على "الشيخ" وأخّر مكانها إلى بعد

"المحقق". وكل هذا بخط الشيخ فيما يظهر. والسؤال المتبادر كيف يكتب الشيخ عن نفسه "العلامة المحقق ... "؟ وقد عُلم ما كان عليه الشيخ من التواضع وهضم النفس، بل كان كثيرًا ما يشير إلى نفسه بـ "الحقير" زيادةً في التواضع؟ فجوابي الآن أمران: الأول: إما أن يكون كاتب هذا غيره كبعض طلابه أو أقرانه، حاول محاكاة خطه فقارب جدًّا، وقد وقفت على بعض مصنفات الشيخ بغير خطه بل بخط يشبهه ويحاكيه، وقد يؤيد هذا الاحتمال قوله في آخر الاسم: "حفظه الله" فليس من عادة من يكتب اسمه أن يقول هذا، وإنما جرت العادة أن يقال: "لطف الله به" أو "كان الله له" أو "ستر الله عيبه ... " ونحوها من العبارات. وحينئذٍ ننفصل من هذا الإشكال. الثاني: أنه بخط الشيخ، فحينئذٍ نقول: لعل الشيخ لما انتهى من الكتاب، وجهَّزه للطباعة وحَرَص على نشره (كما سيأتي) كأنما قيل له: إن الطابع يريد أن يكتب على الغلاف ثناء على المؤلف من نحو هذه العبارات، وربما اقترحها عليه وطلب منه أن يكتبها، فاستجاب له الشيخ نزولًا عند رغبته ... خاصة وأن الناشر يريد أن يَنْفُق كتابه ... وأيضًا هو ردّ على الكوثري، وهو معروف في الأوساط العلمية في مصر وغيرها بكونه وكيل المشيخة العثمانية سابقًا، وقد أضفى عليه طلابُه وغيرُهم من الألقاب والأوصاف (¬1) ما يخيف أيّ ناشر من التجاسُر على أن ¬

_ (¬1) وقد أشار المؤلف في مواضع عديدة في "التنكيل" إلى هذه الألقاب وأنها تُخْلَع عليه لإرهاب من يريد تعقبه والردّ عليه.

ثانيا: سبب التأليف

يطبع كتابًا في الردّ عليه إلا أن يتقيه بنفس السلاح ... فكان ما ذكرته سابقًا. والله أعلم. ثانيًا: سبب التأليف ذكر المؤلف في مقدمة رسالته هذه (ص 3) أن الأستاذ محمَّد زاهد الكوثري ألَّف كتابًا سماه "تأنيب الخطيب" وفيه ما لا يوافقه عليه أهل العلم ... فجمع كتابًا في الرد عليه سماه "التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل" وأنه قد طَبَع "طليعتَه" بمصر، فبدا له أن يفرد ما يتعلّق بردّ مزاعم الكوثري التي حاول بها الطعن في الإِمام الشافعي في كتاب مفرد، وهو هذا. إذًا كان هذا الردّ جزءًا من "التنكيل" ثم أفرده الشيخ وجعله رسالةً مستقلّة وسماه باسم مستقل. وأعاد ذلك في رسالته "شكر الترحيب" (ص 9 و24) إذ قال في الموضع الثاني: "وقد شرحتُ ذلك في ترجمة الشافعي من "التنكيل"، ورأيت أن أفردها عن "التنكيل" لطولها". وقد كان الشيخ حريصًا على طبع هذه الرسالة مفردة، هي وترجمة الخطيب البغدادي التي في "التنكيل"؛ ففي رسالة بعث بها المؤلف إلى العلامة المحدّث أحمد محمَّد شاكر (ت 1377) قال فيها: "في عزمي أن أفرد من كتابي (يعني التنكيل) ترجمةَ الإِمام الشافعي وترجمة الخطيب؛ لأن الكلام طال فيهما فصار كل منهما يصلح أن تكون رسالة مستقلة. فهل هناك في القاهرة مِن الشافعية مَن ينشط لطبع تينك الرسالتين على نفقته؟ فإن كان فأرجو من فضلكم أن تعرّفوني حتى أرسلهما إليكم، وتنوبوا عني فيما يلزم".

ثالثا: موضوعات الرسالة

لكن السؤال هل ترجمة الشافعي في "التنكيل" متطابقةٌ مع هذه الترجمة المفردة؟ الجواب: كلا، ففي كل منهما ما ليس في الأخرى فالترجمة المفردة فيها زيادات في أثناء المباحث، وتوسّع في الكلام والنقاش كما في (ص 6، 9، 10، 12، 13 - 16, 25، 26 - 27، 28 - 30)، كما تمتاز بأنّ فيها فصلاً كاملاً من (ص 51 - 66) ليس في الترجمة التي في "التنكيل". وهذا الفصل يتعلّق بتتبّع تعليقات الكوثري على "الانتقاء" لابن عبد البر، فيما حاول به الطعن علي الإِمام الشافعي. فيكون المؤلف في رسالته هذه - المفردة - قد ردّ مطاعن الكوثري التي في "التأنيب" والتي في تعليقاته على "الانتقاء". نعم في الرسالة المفردة نقصٌ سببه فقدان بعض الأوراق من أوائل الرسالة، فيها مبحث الطعن في نسب الشافعي، والرد على خمس كلمات للشافعي طعن الكوثريُّ في فصاحتها. وهذه المباحث موجودة في "التنكيل": (1/ 406). ثالثًا: موضوعات الرسالة كتب المؤلف للرسالة مقدمة مقتضبة بيَّن فيها سبب تأليف الكتاب، ولماذا أفرده عن "التنكيل" ... وتقدم القول أنه قد سقط من النسخة ما يتعلق برد مطاعن الكوثري حول نسب الشافعي، وبعض الألفاظ اللغوية. وتبدأ الرسالة بالكلام على بقية المآخذ اللغوية عند شرح معنى "الفِهْر" ...

ثم عقد المؤلف فصلًا لرد محاولة الأستاذ إثبات تتلمذ الشافعي على محمَّد بن الحسن، وأطال في الرد وأطاب بالروايات التاريخية، والواقع العملي من مناظرات الشافعي مع أصحاب محمَّد ومع محمَّد نفسه مما هو ثابت في "الأم" للشافعي ... ثم عقد فصلًا مختصرًا في مناظرة الحسن بن زياد مع الشافعي وفيه تقويم لعلم الحسن من أخبار تاريخية ... بعده فصَّل المؤلف بما لا مزيد عليه في قضية كلام ابن معين في الشافعي فأتى فيها بتحقيق بالغ ... (ص 32 - 41). ثم نظر في كلام الشافعي في فقه أبي حنيفة، وزَعْم الكوثري أن الشافعية حائرون في تطبيق فروع الشافعي على أصوله (ص 41 - 46). وأخيرًا رد مزاعم الكوثري في كون الشافعي رجع عن جميع أقواله في القديم ... (ص 46 - 50). ثم توّج الرسالة فعقد فصلًا في نقض ما علقه الكوثري على كتاب "الانتقاء" لابن عبد البر فيما يتعلّق بمطاعنه على الشافعي. وذكر الشيخ أن الكوثري علق على "الانتقاء" إلى ص 88 من طبعة حسام الدين القدسي ثم أوقفه القدسيُّ عن التعليق بعد ما اكتشف أنه مدخول في علمه وعمله كما صرح بذلك في مقدمته. وهذا الفصل برمّته ليس في "التنكيل"، والمرجّح أن المؤلف حذفه من التنكيل بعد أن كان قيده في مسوّداته اكتفاءً بوجوده في هذا الجزء.

رابعا: النسخة الخطية

رابعًا: النسخة الخطية نسخة الكتاب محفوظة في مكتبة الحرم المكي الشريف رقم [2791 عام] وهي بخط الشيخ المعلمي رحمه الله. تقع في 45 صفحة في حقيقة الأمر، وإن كان الترقيم الذي تنتهي به الرسالة هو 43؛ لأنه لم يدخل في الترقيم صفحة المقدمة وصفحة كاملة ملحقة بـ (ص 4) ضلَّت طريقها فجُلّدت في آخر المخطوط. وإذا اعتبرنا أن المؤلف قد أحال بأن ينقل ما في (ص 108 - 110)، فإن العدد لصفحات المخطوط يكون 48 صفحة. في صفحة العنوان أربعة أسطر في رأس الصفحة مضروب عليها لعلها كانت جزءًا من ترجمة سابقة. ثم كتب عنوان الرسالة في منتصف الصفحة "تنزيه الإِمام الشافعي عن مطاعن الكوثري" وبعده "تأليف العلامة المحقق الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي العتمي حفظه الله". وتحته فهرس مقتضب لمحتويات الرسالة في ستة أسطر. والنسخة أشبه بالمبيضة، ولا تخلو من الضرب والإلحاق والإحالات، وواضح أن هذا الدفتر الذي كتب فيه الرسالة كان إحدى مسوّدات كتاب "التنكيل"، فحذف منه المؤلف التراجم التي قبل ترجمة الشافعي وأضاف ورقةً كتبَ فيها العنوان والمقدمة. ثم لما انتهت ترجمة الشافعي بدأ بترجمة محمَّد بن أبي الأزهر، وهي كذلك في "التنكيل": (رقم 190). لكن يشهد أنها مسوّدته أن رقم الترجمة في المسوّدة هو 215، بينما رقمها في المطبوعة 190. فقد نقَّح الشيخ كتاب "التنكيل" وحذف نحو 25 ترجمة من المبيّضة.

خامسا: منهج التحقيق.

وقد وقع نقص في النسخة يتعلق بمطاعن الكوثري في نسب الشافعي، ومطاعن في خمس كلمات أُخِذت على عربيته. وهي موجودة في "التنكيل" فلا أدري أسقطت من النسخة أم أراد الشيخ أن يبيضها فلم يتمكن. وقد عاد الشيخ على النسخة مرة ثانية فأصلح فيها واستكمل مواضع بالإحالة والترتيب، وعلق كل ذلك بقلم الرصاص كما في (ص 4، 31، 27 وظهر 26). خامسًا: منهج التحقيق. نسختُ الكتاب من المخطوط، وقابلته مرة ثانية لمزيد الاطمئنان والتأكد، ثم قابلته من جديد على ترجمة الشافعي التي في "التنكيل"، واستفدت منها. وقابلت النصوص التي ينقلها المؤلف عن الكوثري على كتابه "التأنيب" في طبعته الجديدة، وكذلك تعليقاته على "الانتقاء" لابن عبد البر، وقد راجعت طبعتَه الجديدة بتحقيق الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله، فإنه قد أثبت تعليقات الكوثري بعُجَرها وبُجَرها! وأبقيتُ النقص الذي في أول المخطوط على حاله ولم أكمله من "التنكيل" لأمرين: الأول: لأني لاحظتُ أن غالب المباحث في كتابنا هذا تختلف بالزيادة أو النقص أو تغيير العبارة عما في "التنكيل". الثاني: أن هذه المواضع موجودة في "التنكيل" وهو ضمن هذه الموسوعة فليراجعها مَن أحبّ. ****

12) شرح حديث: "آية المنافق ثلاث ... "

12) شرح حديث: "آية المنافق ثلاث ... " لم يعنون المؤلف هذه الرسالة، فوضعت لها هذا العنوان اجتهادًا، وإن كان بداية البحث تتعلق بـ "إذا" وإفادتها التكرار. ثم ذكر حديث: "آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب ... " وأن (إذا) يُقصد بها التكرار والمداومة ومَن غلبت عليه هذه الخصال، ثم ذكر الحديث الآخر الذي ذكرت فيه أربع خصال، وأنها تعود في حقيقة الأمر إلى الثلاث الواردة في الحديث الأول. ثم ذكر بعض ما يَرِد على معنى الحديث وأجاب عنه. ثم ذكر خلاصة البحث وهي: أن من غَلَب عليه الكذب في الحديث والغدر بالعهد والخيانة بالأمانة مهما كانت = فهو منافق خالص. وصف النسخة: للرسالة نسخة واحدة في مكتبة الحرم المكي الشريف برقم [4691] بخط مؤلفها المعروف، وتقع في 3 صفحات من القطع الكبير. **** 13) التعليق على الأربعين في التصوّف للسُّلَمي ألَّف الشيخ محمَّد بن الحسين أبو عبد الرحمن السُّلَمي (ت 412) كتابًا جمع فيه أربعين حديثًا في التصوُّف، ووضع لكل حديث بابًا ... فلما رأت دائرة المعارف العثمانية طبع هذه الأربعين التمس مجلس الدائرة من الشيخ المعلمي أن يكتب تعليقًا يُطبع مع الأربعين يتضمن النظر في أحاديث الكتاب صحة وضعفًا (¬1). ¬

_ (¬1) انظر تقديم المؤلف (ص 363).

فلبَّى المعلمي الطلب وكتب هذا التعليق، إلا أنه لم يُطْبَع مع الأربعين، لسبب غير معلوم لدينا. وقد كتب الشيخ تقديمًا بين يدي تخريجه لأحاديث الأربعين نبَّه فيه إلى سبعة أمور مهمة تتعلّق بالكتاب وبعلوم الحديث. ومما ذكره مما يتعلق بأحاديث الكتاب أنه مشتمل على ما حقه أن يُحْكَم بثبوته، وما حقه أن يحكم ببطلانه، وما هو على الاحتمال. وذكر أيضًا أن عادة رواة الحديث الحرص على شيئين: العلو والغرابة، وهذا ما وقع فيه السلمي. وذكر أيضًا أن المؤلفين في استدلالهم بالحديث على قسمين: الأول: من يكون اعتقاده مبنيًّا على دليل يريد أن يبيِّنه، فيذكر المسألة ثم يذكر الدليل. والثاني: مَن يكون اعتقاده مبنيًّا على أمر آخر، ويريد أن يستدلّ عليه بالحديث، كالمقلد يعتقد المسألة تقليدًا ثم يحاول الاستدلال بالحديث. والسلمي من القسم الثاني كما سيتبين من عنوانات أبوابه. ثم شرع المؤلف في الكلام عليها حديثًا حديثًا ... وقد سلك المؤلف طريقة الاختصار في التخريج بما يتناسب مع حجم الرسالة، فيذكر مَن أخرج الحديث غير السلمي، وينظر في إسناده، فيذكر من طُعِن عليه فيه، ويذكر شواهده إن وُجدت، ويعزو إلى المصادر بالجزء والصفحة غالبًا.

وصف النسخة الخطية

وينبغي التنبيه إلى أن الشيخ لم يحقق نص الأربعين (¬1) وإنما تركّز عمله في التخريج والتعليق على ما يورده من الأحاديث. وصف النسخة الخطية: للكتاب نسخة واحدة بخطّ مؤلفها، محفوظة في مكتبة الحرم المكي الشريف برقم [4832]، وتقع في 9 صفحات من القطع الكبير، في كل صفحة نحو 31 سطرًا. وهي مبيّضة بخط واضح جميل دقيق. ثم ألحق المؤلف بين الأسطر أو في الهوامش بعضَ الفوائد والزيادات بقلم الرصاص، وبعضها يتعلق بمعلومات طبع بعض الكتب، فأثبتّها مُنبِّهًا على ذلك. كتب المؤلف في رأس الورقة الأولى بعد البسملة: "تعليق على الأربعين في التصوّف للسلمي". وكتب آخرها: "عبد الرحمن بن يحيى اليماني، المصحح بدائرة المعارف العثمانية 27 رجب سنة 1369". ثم ألحقَ ورقةً بالمراجع التي اعتمدها في العزو والإحالة مع تواريخ طبعاتها، وقد بلغت واحدًا وثلاثين كتابًا. العمل في الكتاب: لما كان المؤلف قد كتب تعليقاته في أوراق منفصلة عن الأحاديث بحيث تطبع معها = ذهبت إلى طبعة دائرة المعارف من الأربعين فأثبتّها مع ¬

_ (¬1) والمتن الذي أوردناه للأربعين هو من طبعة دائرة المعارف ط 2، 1402 مع بعض التصحيحات التي نبهنا عليها في الحواشي.

14) صفة الارتباط بين العلماء في القديم

أبوابها جاعلًا الإسناد بحرف أصغر قليلاً من المتن، ثم أتبعته بتعليق الشيخ مصدِّرًا له بـ "قال المعلمي" ويبدأ التعليق بسطر جديد، فإذا انتهى التعليق فصلت بينه وبين الحديث الآتي بعدة نجوم صغيرة (****) ... وهكذا حتى نهاية الكتاب. علقت على الكتاب بالعزو إلى الكتب التي لم يُشر المؤلف إلى صفحاتها أو إلى الكتب التي اختلفت طبعاتها عن طبعات المؤلف، وجعلت العزو برقم الحديث إن وُجد أو إلى الجزء والصفحة. أكملت التخريج بالعزو إلى كتبٍ أخرى لم يذكرها المؤلف، وكثير منها طُبعت لاحقًا؛ إذ كَتَب المؤلفُ التعليقَ قبل أكثر من ستين عامًا. ومما يجدر ذكره أن الإِمام السخاوي (ت 902) قد ألَّف تخريجًا لأحاديث الأربعين لم يطّلع عليه المؤلف، وقد طبع سنة 1408 هـ بتحقيق علي حسن الأثري في جزء، وقد استفدتُ منه وضمنت فوائدَه وزوائدَه في هوامش الكتاب، وقد اتفقت أحكام المؤلف والسخاوي في غالب الأحاديث بحمد الله تعالى. وأخيرًا ذكرت قائمة المراجع التي اعتمدها المؤلف وأثبتها في ورقة في آخر التعليق. **** 14) صفة الارتباط بين العلماء في القديم هذا العنوان من وضع المؤلف رحمه الله، وهذه الرسالة عبارة عن محاضرة ألقاها المؤلف سنة 1356 في أحدِ المواسم الثقافية التي كانت

نسخة الرسالة

تعقدها دائرة المعارف العثمانية بحيدراباد دكن، كما سلف في الكلام على رسالة "علم الرجال وأهميته". وكانت بمناسبة زيارة وفد من علماء الأزهر دائرة المعارف العثمانية. فألقيت عدد من الكلمات كان من جملتها كلمة الشيخ هذه. قصد المؤلف برسالته أن يبين كيف كان التواصل بين العلماء في القديم، وما كان يجري بينهم من المراسلات، سواء منها الأخوية أو العلمية، وأن كثيرًا من المؤلفات كانت بسبب تلك المراسلات ... وأن الأمر اختلف في الأعصار المتأخرة فلا صِلَة بين علماء الأقطار، ولا بين علماء القُطر الواحد ... وذَكَر الحجَّ وأنه من أعظم مواسم التواصل العلمي عند العلماء، وأن العالم ربما أنفق ضنائنه ليتزوّد للسفر ليجتمع بعالم آخر، أو لتحصيل سماع، وذكر أمثلة لذلك عن السلف. وأعاد الشكاية مما حصل ويحصل في عصره من قلة التواصل بين أهل العلم وطلابه مع أنهم من أحوج الناس إليه. ثم حثّ على التواصل العلمي بين الجهات والمجامع العلمية كالأزهر والدائرة وغيرها. نسخة الرسالة: طُبعت هذه المحاضرة في حياة الشيخ رحمه الله، ضمن مجموع يضم كلمات العلماء التي أُلقيت في المؤتمر السالف الذكر، وهو بعنوان "رسالة علمية تاريخية نُشرت تذكارًا لورود البعثة الأزهرية إلى عاصمة الدولة

الآصفية"، فقابلتها عليها، وأصلحت ما بدا من خطأ أو نحوه على قلّته. والحمد لله رب العالمين. وكتب علي بن محمد العمران في 15/ 5/ 1433 [email protected]

نماذج من النُّسخ الخطية

الورقة الأولى من "الاستبصار في نقد الأخبار"

الورقة الأخيرة من "الاستبصار"

ورقة من رسالة "الأحاديث التي استشهد بها مسلم"

ورقة من رسالة في الصيغ المحتملة للتدليس

ورقة من رسالة "أحكام الحديث الضعيف"

ورقة من نسخة أخرى من "أحكام الحديث الضعيف"

ورقة من "ملخّص طبقات المدلسين"

الورقة الأولى من "تنزيه الإمام الشافعي"

الورقة الأخيرة من "تنزيه الإِمام الشافعي"

الورقة الأولى من "التعليق على الأربعين للسلمي"

النص المحقق

آثَار الشّيخ العَلامَة عَبد الرّحمن بن يَحيَى المُعَلّمِيّ (15) مجَمُوعُ الرسَائِل الحَدِيِثَيّةَ (1 - 14) تَأليِف الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني 1312 هـ - 1386 هـ تَحقيِق عَلِي بن مُحَمَّد العِمرَان وَفقَ المنَهَجّ المعُتَمَد مِنَ الشَيخّ العَلَامَة بَكر بن عْبَد الله أَبو زَيْد (رَحِمَهُ الله تعالى) تَمويل مُؤَسَّسَةِ سُليْمان بن عَبْدِ العَزيْز الرّاجِحيِّ الخَيْريَّةِ دَارُ عَالم الفَوَائد للنشر وَالتّوزيع

الرسالة الأولى الاستبصار في نقد الأخبار

الرسالة الأولى الاستبصار في نقد الأخبار

[ص 1] بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنّ محمدًا عبده ورسوله. اللهم صلّ على محمَّد وعلى آل محمَّد كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمَّد وعلى آل محمَّد كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. أما بعد، فهذه - إن شاء الله تعالى - رسالة في معرفة الحديث، أتوخّى فيها تحريرَ المطالب، وتقرير الأدلة، وأتتبع مذاهبَ أئمة الجرح والتعديل فيها؛ ليتحرَّر بذلك ما تعطيه كلماتُهم في الرواة. فإنّ منهم من لا يطلق "ثقة" إلا على مَن كان في الدرجة العُليا مِن العدالة والضبط، ومنهم مَن يطلقها على كلّ عدلٍ ضابط وإن لم يكن في الدرجة العليا، ومنهم من يطلقها على العدل وإن لم يكن ضابطًا، ومنهم مَن يطلقها على المجهول الذي روى حديثًا واحدًا قد تُوبع عليه، ومنهم مَن يطلقها على المجهول الذي روى حديثًا له شاهد، ومنهم من يطلقها على المجهول الذي روى حديثًا لم يستنكره هو، ومنهم من يطلقها على المجهول الذي روى عنه ثقة، إلى غير ذلك مما يأتي إن شاء الله تعالى. [ص 2] وهم - مع ذلك - مختلفون في الاستدلال على أحوال الرواة؛ فمنهم المبالغ في التثبُّت، ومنهم المسامح. ومَنْ لم يعرف مذهب الإِمام منهم ومنزلته من التثبُّت لم يعرف ما تعطيه كلمتُه، وحينئذٍ فإما أن يتوقَّف،

وإما أن يحملها على أدنى الدرجات، ولعل ذلك ظلم لها. وإما أن يحملها على ما هو المشهور في كتب المصطلح، ولعلَّ ذلك رفعٌ لها عن درجتها. وبالجملة، فإن لم يتوقف قال بغير علم، وسار على غير هدى. وأرجو - إذا يسَّر الله تبارك وتعالى إتمام هذه الرسالة كما أحبّ - أن يتضح لقارئها سبيل القوم في نقد الحديث، ويتبين أن سلوكها ليس من الصعوبة بالدرجة التي يُقطع بامتناعها، وعسى أن يكون ذلك داعيًا لأولي الهمم إلى الاستعداد لسلوكها، فيكون منهم أئمة مجتهدون في ذلك إن شاء الله تعالى. هذا؛ ونقد الخبر على أربع مراتب: الأولى: النظر في أحوال رجال سنده واحدًا واحدًا. الثانية: النظر في اتصاله. الثالثة: البحث والنظر في الأمور التي تدل على خطأ إن كان. الرابعة: النظر في الأدلة الأخرى مما يوافقه أو يخالفه. فلنعقد لكلِّ واحدة من هذه الأربع مقالةً، ونسأل الله تبارك وتعالى التوفيق. ***

المقالة الأولى: في النظر في أحوال الرواة

[ص 3] المقالة الأولى: في النظر في أحوال الرواة شرط قبول الخبر: أن يكون المُخبِر حين أَخبر به مسلمًا بالغًا عاقلًا عدلاً ضابطًا. الباب الأول: في الإِسلام أما الإِسلام فلاشتراطه أدلّة: منها: أنَّ عامَّة الأدلة على مشروعية العمل بخبر الواحد في الدّين خاصة واردةٌ في خبر المسلم. ومنها: قول الله تبارك وتعالى في المنافقين والرد عليهم: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 61]. أي: ويصدِّق المؤمنين. ومنها: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6]. والكفر أشدّ الفسق قال تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} إلى قوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [الجرز (¬1): 18 - 20]. ¬

_ (¬1) كذا في الأصل: "الجُرُز" وقد سمّاها المؤلف كذلك في عدة مواضع من كتبه، ولم أجد من سمى سورة السجدة بهذا الاسم، وقد ورد فيها قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ}.

وقال سبحانه: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ} [البقرة: 99]. والآيات في ذلك كثيرة. وتبادُر المسلم من نحو قولك: "رأيتُ رجلاً فاسقًا" من العُرف الحادث [ص 4] بعد صدر الإِسلام، وسببه: أنه صار الغالب إذا ذُكِر الكافر أن يُذْكر بلفظه الخاص به "كافر" أو ما يعطي ذلك مثل: "يهودي، ونصراني، ومجوسي". وإذا ذُكِر المسلم الذي ليس بعَدْل أن يُذكر بنحو: "فاسق، وفاجر"، ومثل هذا العرف لا يعتدّ به في فهم القرآن. وغَفَل بعضهم عن هذا فظنَّ أن دخول الكافر في الآية إنما هو من باب الفحوى، قال: لأنه أسوأ حالاً من الفاسق. ونُوقش في ذلك بأن الفسق مظنة التساهل في الكذب، إذ المانع من الكذب هو الخوف من الله عزَّ وجلَّ، ومن عيب الناس، ومرتكب الكبيرة قد دلَّ بارتكابه إياها على ضعف هذا الخوف من نفسه. وأما الكافر فقد يكون عدلاً في دينه بأن يكون يحسب أنه على الدين الحقّ، ويحافظ على حدود ذلك الدين، ويخاف الله عَزَّ وَجَلَّ والناس بحسب ذلك. أقول: في هذا نظر؛ فإن الحجة قد قامت على الكافر، فدلَّ ذلك على كذبه في زعمه أنه يعتقد أنَّ دينه حقّ.

والكافر الذي بلغته دعوة الإِسلام لا يخلو عن واحد من ثلاثة أمور: الأول: التقصير في البحث عن الدين الحق. الثاني: الهوى الغالب. الثالث: العناد. ولو برئ من هذه الثلاثة لأسلم، قال الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ في جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت (¬1): 68 - 69]. [ص 5] وقد اتفقوا على أنّ من كان مسلمًا مخالطًا للمسلمين، ثم ارتكب كبيرة قد قامت الحجة القاطعة بأنها كبيرة - كأن ترك صوم رمضان - فهو فاسق، فإن زاد على ذلك فزعم أنه لا حجَّة عنده على تحريم ما ارتكبه كان مرتدًّا، وهو في باب الأخبار أسوأ حالاً من المسلم المرتكب الكبيرة مع اعترافه بأنها كبيرة. فإن قيل: إننا نجد من الكفار من يبالغ في تحرِّي الصدق والأمانة، حتى إن مَن يَخبر حاله، ويتّبع أخباره، قد يكون أوثق بخبره من خبر كثير من عدول المسلمين. قلت: وكذلك في فُسّاق المسلمين ممن يترك الصلاة المفروضة - مثلًا - من يكون حاله في إظهار تحرِّي الصدق والأمانة كحال الكافر المذكور. ¬

_ (¬1) عبارة المؤلف: "خاتمة العنكبوت".

وحل الإشكال من أوجه: الأول: أنَّ الظاهر من حال الكافر والفاسق الذي يُعرف بتحرِّي الصدق أن المانع له من الكذب الخوف من الناس، وحبُّ السمعة الحسنة بينهم، وعلى هذا فهذا المانع إنّما يؤثر في الأخبار التي يخافُ من اطلاع الناس على جَليَّة الحال فيها، فلا يُؤمن ممن هذا حاله أن يكذب إذا ظن أنه لا يُوقَفُ على كذبه. فالعدل في خبر هذا أن نتبيّن [ص 6] فيه، فإن ثبت بدليل موثوق به أنه صَدَق عُمل به لذلك الدليل، وإلا اطُّرح لعدم الوثوق به حينئذٍ. الوجه الثاني: أنه لا يُسْتنكر من الشارع أن لا يعتدّ بصدق مثل هذا؛ لأنه ليس بصدقٍ يحمده عليه الشارع؛ إذ الباعثُ عليه هو رئاء الناس كما علمت. الوجه الثالث: أنه لو فُرِض أنه يحصل من الوثوق بخبره كما يحصل بخبر المسلم العدل، فقد يكون الشارع جعل كفرَ هذا الرجل أو فسقَه مانعًا من قبول خبره في الدين؛ زجرًا له، وعونًا له على نفسه، لعله يستنكف من تلك الحال فيتوب، ورفعًا لتلك المرتبة العليّة - وهي أن يُدان بخبر الرجل - عمن لا يستحقها. الوجه الرابع: أن السبب الباعث على الحكم قد يكون خفيًّا، أو غير منضبط، فإذا كان هكذا فلو كلَّف الشارعُ الناس ببناء الحكم عليه كان في ذلك مفاسدُ، منها: أنه من باب التكليف بما لا يطاق، ومنها: أنه فتحٌ لباب اتباع الهوى، ولكثرة الاختلاف، ولاتهام الحكام، وغير ذلك. فاقتضت الحكمةُ أن يبني الشارعُ الحكمَ على أمر آخر يشتمل على

ذلك السبب غالبًا، ثم تكفَّل الله عَزَّ وَجَلَّ بتطبيق العدل بقضائه وقدره. مثال ذلك: أن السبب الباعث على شرع العقوبة للمذنب هو الذنب، فإذا شُرعت العقوبة على وجهين - مثلًا -[ص 7] فإنما ذلك لاختلاف حال ذلك الذنب. فمن ذلك الزنا شُرِع الحدُّ عليه على وجهين: الأول: الجلد. الثاني: الرجم. ولا يخفى أن الجلد أخفّ من الرجم، وأنّ حقّه أن يكون الرجم عقوبة لمن يكون زناه جرمًا أغلظ مِنْ زنا عقوبته الجلد، ولكنَّ الغِلَظَ والخِفَّة في الإجرام بالزنا أمرٌ لا ينضبط؛ لأن شديد الشهوة أقرب إلى العذر من ضعيفها، وشدّتها وضعفُها أمرٌ خفيٌّ وغير منضبط، والعاشق أقرب إلى العذر من غيره، والعشق يخفى ولا ينضبط. والمصادف للمرأة بغتةً أقرب إلى العذر من المتصدّي لها. والعاجز عن التزوّج بالمرأة أقرب إلى العذر من القادر على زواجها، في أمورٍ أخر. فلذلك علّق الشارع الفرق بالإحصان وعدمه؛ لأن الغالب أن يكون المحصَن أضعف عذرًا من غيره، على أنه قد يتَّفق خلاف ذلك، فقد يكون شابٌّ فقيرٌ، قوي البنية، شديدُ الشهوة، عاشقًا لامرأة عاجزًا عن التزوّج بها، وهو يحبس نفسه عن التعرُّض لها، والقرب من مكانها، ثم حاول أن يدافع داعيته فتزوج امرأة فقيرة، فبات معها ليلة فهلكت، ثم لم يستطع الزواج بغيرها, ولم تزل نفسُه متعلّقة بمعشوقته، فبينا هو ليلةً في خلوة لم يفجأه إلا دخول معشوقته عليه، ورميها نفسها [ص 8] بين ذراعيه، فلم يتمالك أن كان ما

كان. وآخر غنيٌّ ضعيفُ البنية، ضعيف الشهوة، لم يتزوّج حتى شاخ وضعف، فتعرَّض مرةً لامرأة لو شاء لتزوّجها, ولكنه لم يلتفت إلى ذلك، بل تَبِعها ووقع عليها. فظاهرٌ أنَّ ذنب هذا الشيخ الذي لم يُحصَن أغلظ من ذنب ذلك الشاب الذي قد أُحْصِن بدرجات، ولكن مع ذلك حدُّ الشابِّ المحصن الرجم، وحدُّ الشيخ الذي لم يحصَن الجلد. إلا أننا نقول: إن الحكمة اقتضت في القانون الكلي أن يُناط الفرقُ بالإحصان وعدمه، والله سبحانه وتعالى هو الرقيب على عباده، يطبق العدل بقضائه وقدره، كأن يستر ذلك الشاب، ويفضح هذا الشيخ، أو غير ذلك، فإنه سبحانه بكل شيء خبير، وعلى كل شيء قدير. ومن ذلك: القاتل إذا تعمّد الضرب قد تكون عقوبته الدية، وقد تكون القتل قودًا، والمعقول أنَّ جرمه إنما يختلف بأن يكون قَصَد القتل أو لم يقصده، ولكنَّ قَصْده القتل أمرٌ خفيٌّ لا يُعْلَم كما ينبغي إلا بقوله، والقاتل غالبًا يدفع عن نفسه القتل، فهو - وإن قصد القتل - حريٌّ بأن يقول: لم أقصده، والقرائن عامتها مشتبهة، فناط الشارعُ الفرقَ بأقوى القرائن، وهي الآلة، وموضع الضرب بها، فإن كان الضرب في ذلك المكان بمثل تلك الآلة من شأنه أن يقتل حُكِم [ص 9] بالقَوَد؛ إذ الغالب أن القاتل قَصَد القتل، وإلا فلا. وكأنه - والله أعلم - بناءً على هذا ذهب مالك رحمه الله إلى أن الوالد إذا

قتل ولده قِتْلَة شنيعة - كأن أضجعه فذبحه - وجب القصاص، وإلا فلا. كأنه بنى دفعَ القصاص عن الوالد بأن الغالب أنه لا يقصد القتل، فلم يوجب القصاص عليه إلا في الحال التي يمتنع فيها أن يكون لم يقصد القتل. هذا وقد يتفق في مَنْ حقّه - بحكم الشرع - أن يُقاد منه أن لا يكون قصد القتل، وفي مَن حقه أن لا يقاد منه أنه قصد القتل، فمثل هذا يُطبق الله سبحانه وتعالى العدل فيه بقضائه وقدره. إذا تقرّر هذا فمظنّة أن لا يكذبَ المخْبِر في خبرٍ عن الشرع مما لا ينضبط، فضبطه الشارع بالإِسلام والعدالة، وقد يتفق في المسلم العدل أن يكذب خطأ أو عمدًا، وفي غيره أن يصدق، ولكن الله تبارك وتعالى يطبق العدل بقضائه وقدره، فيهدي أهلَ العلم إلى معرفة خطأ ذاك أو عَمْده، ويغنيهم عن خبر الكافر أو الفاسق بأن ييسر لهم علمه من غير طريقه. فإن قيل: قد لا يهتدي بعضهم إلى الخطأ، وقد لا يقف بعضهم على الدليل. قلت: إن قصَّر فهو الموقِعُ نفسَه في ذلك، وإن لم يقصّر [ص 10] فذلك داخل في تدبير الله عزَّ وجلَّ، وتطبيقه العدل والحكمة بقضائه وقدره، والبحث طويل، وفي هذا كفاية إن شاء الله تعالى. ***

الباب الثاني: في البلوغ

[ص 11] الباب الثاني: في البلوغ وأما البلوغ فهو حدُّ التكليف، ولا يتحقق الخوف من الله عزَّ وجلَّ والخوف من الناس إلا بعده؛ لأن الصبي مرفوع عنه القلم فلا يخاف الله عزَّ وجلَّ، وكذلك لا يخاف الناس؛ لأنهم إن ظهروا على كذبٍ منه قالوا: صبي، ولعله لو قد بلغ وتمَّ عقلُه لتحرَّز. ومع هذا فلا تكاد تدعو الحاجة إلى رواية الصبي؛ لأنه إن روى فالغالب أن المرويّ عنه حيّ فيراجع، فإن كان قد مات فالغالب - إن كان الصبي صادقًا - أن يكون غيره ممن هو أكبر قد سمع من ذلك المخبر أو غيره، فإن اتفق أن لا يوجد ذلك الخبر إلا عند ذلك الصبي، فمثل هذا الخبر لا يوثَقُ به. هذا وعامة الأدلة على شَرْع العمل بخبر الواحد موردها في البالغين. ***

الباب الثالث: في العقل

الباب الثالث: في العقل وأمّا العقل فالأمر فيه أظهر، إذ المراد به هنا أن لا يكون مجنونًا، فأما المغفّل فيأتي الكلام فيه في الباب الخامس إن شاء الله تعالى. ***

الباب الرابع: في العدالة

[ص 12] الباب الرابع: في العدالة وأما العدالة، فقد قال الله عزَّ وجلَّ: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] , وقال سبحانه: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]. وقال تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95]. والشهادة والحكم كالإخبار، والأصل اتحاد الحكم فيهما وفي الرواية إلا ما قام الدليل على الافتراق فيه. وقد تقدّم في الكلام على الشرط الأول ما يتعلق بهذا (¬1)، فلا حاجة إلى إعادته. هذا؛ و"العدالة" مصدر عَدُل الرجل صار عادلاً، والعدل في الحكم: الإنصاف فيه، كأنه مِن عَدْل الغرارتين على البعير مثلاً، أي التسوية بينهما حتى تكونا متعادلتين، فيبقى الحمل معتدلًا مستقيمًا لا ميل فيه. فالعدل في الحكم إذًا: أن ينظر ميل المائل عن الحقّ فيردّه إليه، وحاصله: أن يتحرَّى الحق فيقضي به. فالعدالة إذًا هي الاستقامة على حدود الشرع. والفِسْقُ هو: الخروج عن هذه الصفة. قالوا: وأصله من فَسَقت الرطبةُ إذا خرجت عن قشرتها. هذا، وقد تقرّر في أقوال أهل العلم سلفًا وخلفًا أنّ المعصية الصغيرة لا ¬

_ (¬1) (ص 5 - 6).

تقتضي الخروج عن العدالة، وقد قال الله تبارك وتعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ [ص 13] وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [النجم: 31، 32]. فههنا احتمالان: الأول: أن يقال: إن الفسوق يختص بالخروج الفاحش، فلا يسمَّى ارتكاب الصغيرة فسوقًا وإن كان عصيانًا، وقد يستدلُّ على هذا بقول الله تبارك وتعالى - بعد آية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ ..} الآية -: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات: 7]. فكما أن الفسوق أعمُّ من الكفر؛ لأن من الفسوق ما هو دون الكفر، فكذلك يظهر أنّ العصيان أعمُّ من الفسوق، وأنّ من العصيان ما هو دون الفسوق. الاحتمال الثاني: أن يُقال: الفسوق من الأشياء التي تتفاوت كالعلم مثلاً، فكما لا يوصَف من علم مسألةً أو مسألتين بأنه عالم على الإطلاق، فكذلك لا يوصف من فَسَق بصغيرة أو صغيرتين بأنه فاسق على الإطلاق. [ص 14] والآية الأولى وهي قوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ} إنما بُنيت على من هو فاسق لا على من وقع منه فسوق.

وقال الله عَزَّ وَجَلَّ في سورة الحجرات في سياق الآيتين السابقتين وهما: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ} {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ}: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11]. وقال الله تبارك وتعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ في الْحَجِّ} [البقرة: 197]. وقال سبحانه: {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} [البقرة: 282]. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4]. لمّا ذكر الكبيرة الموجبة للحدّ ورد الشهادة قال: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}. ولمّا ذكر ما قد يكون دونها - أي صغيرة - من السخرية بالمسلم، [ص 15] ولمزه، ونبزه بلقب، ومضارة الكاتب أو الشاهد، وما قد يقع في الحج من ذلك وما يشبهه سماها: فسوقًا. ****

فصل -1

[ص 27] (¬1) فصل -1 الصحابة اسم الصحابي يعمُّ عند الجمهور كلَّ من رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم مسلمًا ومات على ذلك. والمراد رؤيته إياه بعد البعثة وقبل الوفاة. والاسم يشمل من ارتدَّ بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ممن كان قد رآه مسلمًا إذا عاد إلى الإِسلام ومات عليه، كطُلَيحة بن خويلد، وعُيينة بن حصن، وأضرابهما. لكن قضيّة ما نُقِل عن الشافعي وغيره - مِن أنّ الردة تُحبط العمل الصالح قبلها ولو عَقَبَتْها توبة - أن هؤلاء لا حظّ لهم في فضل الصحبة. وذهب الجمهور إلى أن الصحابة كلَّهم عدول، قال ابن الأنباري: "وليس المراد بعدالتهم ثبوت العصمة لهم، واستحالة المعصية منهم، وإنما المراد قبول رواياتهم من غير تكلُّف للبحث عن أسباب العدالة والتزكية (¬2)، إلا إن ثبت ارتكاب قادح، ولم يثبت ذلك ولله الحمد. فنحن على استصحاب ما كانوا عليه في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى يثبت خلافه، ولا التفات إلى ما يذكره أصحاب السير، فإنه لا يصح، وما ¬

_ (¬1) هذه الورقة (27) كان قد كتب عليها المؤلف: "الفرع السابع" ثم ضرب عليها وكتب ما هو مثبت، ثم كتب بقلم الرصاص: "من هنا إلى ص 44 محلّه بعد صفحة 15". (¬2) في "فتح المغيث": "وطلب التزكية".

صحَّ فله تأويل صحيح" فتح المغيث (ص 378) (¬1). وقال الخطيب في "الكفاية" (ص 46) (¬2): "باب ما جاء في تعديل الله ورسوله للصحابة، وأنه لا يحتاج إلى سؤال عنهم، وإنما يجب فيمن دونهم ... " فذكر عدة آيات [ص 28] وأحاديث في الثناء عليهم، إلى أن قال: "فهم على هذه الصفة إلا أن يثبت على أحدٍ ارتكاب ما لا يحْتَمِل إلا قصد المعصية، والخروج من باب التأويل، فيُحْكَم بسقوط العدالة، وقد برأهم الله من ذلك، ورَفَع أقدارهم [عنه]، على أنه لو لم يرد من الله عَزَّ وَجَلَّ ورسوله فيهم شيء مما ذكرناه لأوجبت الحالُ التي كانوا عليها؛ من الهجرة، والجهاد والنُّصرة، وبذل المُهَج والأموال، وقتل الآباء والأولاد، والمناصحة في الدين، وقوة الإيمان واليقين = القطعَ على عدالتهم، والاعتقاد لنزاهتهم، وأنهم أفضل من جميع المعدَّلين والمُزَكَّين الذين يجيئون مِنْ بعدهم أبد الآبدين". أقول: أما الآيات فمنها: 1 - {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ في صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ ¬

_ (¬1) (4/ 100 - ط السلفية ببنارس). (¬2) طبعة دائرة المعارف (ص 46، 49)، وما بين المعكوفين منه.

يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ في قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 8 - 10]. 2 - [ص 29] {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100]. 3 - {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 117]. 4 - {لَقَدْ رَضِيَ الله عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا في قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 18]. 5 - {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ في وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ في التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ في الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ الله الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح (¬1): 29]. 6 - [ص30] {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ ¬

_ (¬1) عبارة المؤلف: "خاتمة الفتح".

جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران: 172 - 174]. 7 - {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ الله الْحُسْنَى وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [الحديد: 10]. 8 - {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 121، 122]. 9 - {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ} [آل عمران: 110]. 10 - {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]. [ص 31] ومن تدبَّر هذه الآيات وغيرها من القرآن وجدَ الثناء على المهاجرين عامًّا سالمًا من التخصيص، فإذا تتبَّع السنة أيضًا لم يجد ما ينافي ذلك، سوى فلتاتٍ ربما كانت تقع من بعضهم فلا تضرهم. فمنها: ما جرى منهم يوم بدر، مِنْ ترجيح أخذ الفداء، فأقرّهم الله عزَّ وجلَّ عليه وأنزل: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ

(68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬1) [الأنفال: 68 - 69]. ومنها: تولي بعضهم يومَ أحد فأنزل الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} (¬2) [آل عمران: 155]. ومنها: قصة مِسْطَح بن أُثاثة لما خاض مع أهل الإفك فكان ما كان، وأقسم أبو بكر أن لا ينفق عليه، فأنزل الله عزَّ وجلَّ: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ في سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ الله لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬3) [النور: 22]. ومنها: قصة حاطب بن أبي بلتعة (¬4). وأشدّ ما وقع من ذلك قصة عبد الله بن أبي سرح، مع أنه ليس من المهاجرين الأولين، وإنما كان ممن أسلم قبيل الفتح، ثم ارتد، فأمر النبي صلى الله [ص 32] عليه وآله وسلم يوم الفتح بقتله فلم يقتل وأسلم (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1763)، وأحمد (208) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه. (¬2) أخرجه البخاري (4066) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وأحمد (490) في حكاية بين عبد الرحمن بن عوف والوليد بن عقبة. (¬3) أخرجه البخاري (4750) عن عبد الله بن عتبة عن عائشة. وأخرجه البخاري (2595)، ومسلم (2770) عن عروة عن عائشة. (¬4) أخرجها البخاري (3007)، ومسلم (2494) من حديث عليّ رضي الله عنه. (¬5) أخرجه أبو داود (2685)، والنسائي في "الكبرى" (3516)، والحاكم: (3/ 47) وصححه على شرط مسلم، والبيهقي: (4/ 70) من حديث مصعب بن سعد عن أبيه.

قال ابن عبد البر (¬1): "فحسن إسلامه، فلم يظهر منه شيء ينكر عليه بعد ذلك، هو أحد النجباء العقلاء الكرماء من قريش". ثم ذكر ولايته مصر وفتحه أفريقية والنوبة، ثم قال: "ودعا ربه فقال: اللهم اجعل خاتمة عملي صلاة الصبح، فتوضأ ثم صلى الصبح، فقرأ في الركعة الأولى بأم القرآن والعاديات، وفي الثانية بأم القرآن وسورة، ثم سلّم عن يمينه، وذهب يسلم عن يساره، فقبض الله روحه. ذكر ذلك كله يزيد بن أبي حبيب وغيره". ومع ذلك فلم يُرْوَ عنه من الحديث شيء إلا حديث واحد قد رواه غيره من الصحابة، ومع ذلك لم يصح السند إليه. وأمّا الأنصار فحالهم قريب من حال المهاجرين، إلا أنه لم يعم الإيمان جميع الأوس والخزرج بل كان منهم أفراد منافقون. وقد ذكر الله عَزَّ وَجَلَّ ذلك في كتابه، لكن أولئك الأفراد كانوا قليلاً، كما يظهر من الآيات والأحاديث، وكما يُعْلَم ذلك بدلالة المعقول؛ فإنهم لو كانوا هم الأكثر أو كثيرًا، لكانوا أظهروا كُفْرَهم، ولم يحتاجوا إلى النفاق، ومع ذلك فقد كانوا معروفين عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، إن لم يكن عِلْمَ اليقين فالظن، قال الله عزَّ وجلَّ: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ الله أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ في لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} [القتال (¬2): 29 - 30]. ¬

_ (¬1) في "الاستيعاب" (2/ 375 - 378 - بهامش الإصابة). (¬2) كذا عبارة المؤلف، يعني سورة محمَّد.

[ص 33] وكانوا مع ذلك خائفين كما قال الله عَزَّ وَجَلَّ فيهم: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} [المنافقون: 4]. وكانوا مع ذلك إلى نقص بالهلاك أو التوبة والإخلاص، والغالب على الظن أنّ من بقي منهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يتعرَّض أحدٌ منهم لأن يذكر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم شيئًا لخوفهم من المؤمنين، وعلمهم أنَّ أحدَهم لو أخبر بشيء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكَذَب فيه لأنكره عليه المؤمنون وفضحوه بما كانوا يظنونه من نفاقه، أو لأعْلَمهم بنفاقه حذيفةُ أو غيرُه ممن كان قد أسرَّ إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأسماء المنافقين. وأمّا الأعراب فقد قال الله عزَّ وجلَّ: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ في قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 14]. والظاهر أنَّ أهلَ هذه الآية آمنوا بعد ذلك أو غالبهم، كما تقتضيه كلمة "لمّا". وقد ذكر الله عَزَّ وَجَلَّ فِرقَهَم في سورة التوبة [95 - 105] فذكر أنّ منهم منافقين، ومنهم مؤمنون مخلصون، ومنهم مخلّطون يرجى لهم الخير، وقال في آخر ذلك: {وَقُلِ اعْمَلُوا [ص 34] فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 105]. ثم ابتلاهم الله عَزَّ وَجَلَّ بعد غزوة العُسْرة بوفاة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فارتدَّ أقوامٌ من الأعراب، فعرفهم المؤمنون حقّ المعرفة.

وأمّا الطُّلقاء من أهل مكة فلم يرتدّ منهم أحد بعده صلى الله عليه وآله وسلم، وقد شملتهم بعضُ الآيات المتقدّمة كما يعلم بمراجعتها، وكذلك تشملهم بعض الأحاديث، كالحديث المشهور: "خير الناس قرني ... " (¬1). وبالجملة فتعديل الله عَزَّ وَجَلَّ ورسوله ثابت للمهاجرين عامة، ولم يجئ مايخصِّصه. وأمّا الأنصار؛ فالثناء عليهم عام، ولكن قد كان من الأوس والخزرج منافقون لكنهم قليل، ولم يحضر من المنافقين أحدٌ بيعةَ العقبة، ولا شهد بدرًا ولا أحدًا، فإنَّ كبيرهم اعتزل بهم، والظاهر أنه لم يبايع تحت الشجرة أحدٌ منهم، وقد قيل: إنه كان هناك واحد منهم فلم يبايع وقد سُمّي (¬2). وقول الله عَزَّ وَجَلَّ في ذكر تخلُّفهم عن غزوة تبوك: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} الآية [التوبة: 46، 47] يقتضي أنه لم يشهد تبوك أحدٌ منهم. ولكن رُوي أن اثني عشر منهم اعترضوا النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم مَرْجِعَه من تبوك، وأرادوا تَرْديته من العقبة (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2652)، ومسلم (2533) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. (¬2) هو الجدّ بن قيس أخو بني سَلِمة. انظر "السيرة النبوية": (ق 2/ 3/ 316) لابن هشام. (¬3) أخرجه البيهقي في "الكبرى": (9/ 23) من مرسل عروة بن الزبير، وذكره الواقدي في "المغازي" (3/ 1042).

[ص 35] وقد يقال - إن صح الخبر -: لعلّ هؤلاء لم يشهدوا تبوك، وإنّما ترصَّدوا قدومَه صلى الله عليه وآله وسلم من تبوك، فالتقوه ببعض الطريق لمَّا هموا به. ومع ذلك ففي الخبر أن حذيفة عرف هؤلاء. هذا، وقد سبق أن الظاهر أنّ من بقي من المنافقين لم يُرْوَ عن أحدٍ منهم شيء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وأمّا الأعراب فقد تمّ امتحانهم بوفاته صلى الله عليه وآله وسلم، فَمَن ثبت منهم على الإِسلام فقد ثبتت عدالته، ومن ارتدّ فقد زالت، فمن عاد بعد ذلك إلى الإِسلام فيحتاج إلى عدالة جديدة. وأمّا الطُّلقاء فقد شملتهم بعض الآيات كما عرفتَ، ولم تقع منهم ردّة. ولو اقتصر المخالف في المسألة على القول بأن مَنْ تأخَّر إسلامُه وقلَّت صحبتُه يحتاج إلى البحث عنهم لكان لقوله وجهٌ في الجملة. وأوجه من ذلك مَنْ كان من الأعراب، ويحتمل أنّه ممن ارتدّ عقب وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأما من عُلِم أنه ممن ارتدّ فالأمر فيه أظهر. هذا، وقد كان العرب يتحاشَون من الكذب، وتأكَّد ذلك فيمن أسلم، وكان أحدهم - وإن رقَّ دينُه - لا يبلغُ به أن يجترئ على الكذب على الله ورسوله، وكانوا يرون أنّ أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متوافرون، وأنه إن تجرَّأ أحدٌ على الكذب افْتُضِح. [ص 36] ولو قال قائل: إنّ الله تبارك وتعالى منعَ القومَ مِن تعمُّدِ الكذب على نبيه عليه الصلاة والسلام بمقتضى ضمانه بحفظ دينه، ولا سيّما مع إخباره بعدالتهم لَمَا أبْعَد.

تنبيه

ومَنْ تدبّر الأحاديث المروية عمن يمكن أن يُتكلَّم فيه من الطلقاء ونحوهم = ظهر له صِدْق القوم؛ فإنَّ المرويّ عن هؤلاء قليل، ولا تكاد تجد حديثًا يصحّ عن أحدٍ منهم إلا وقد صحَّ بلفظه أو معناه عن غيره من المهاجرين أو الأنصار. وقد كانت بين القوم إحَنٌ (¬1) بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلو استساغ أحدٌ منهم الكذب لاختلق أحاديث تقتضي ذمَّ خصمه، ولم نجد من هذا شيئًا صحيحًا صريحًا. وفوق هذا كله فأهل السنة لم يدَّعوا عصمةَ القوم، بل غاية ما ادَّعوه أنه ثبت لهم أصل العدالة، ثم لم يثبت ما يزيلها. والمخالف يزعم أنه قد ثبت عنده في حقِّ بعضهم ما يزيل العدالة، فانحصر الخلاف في تلك الأمور التي زعمها، فإذا أثبت أهل السنة أنها لم تصح، وأن ما صحَّ منها لا يقتضي زوال العدالة استتبَّ الأمر. فأمّا من ثبتَ شهادةُ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم له بالمغفرة والجنة فقد تضمن ذلك تعديلهم أوّلًا وآخرًا. والله الموفق. [ص 37] تنبيه: أما الخطأ فقد وقع من بعض الصحابة، كقول ابن عمر: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اعتمر مرةً في رجب (¬2)، وغير ذلك مما يعرف بتتبع كتب السنة (¬3). ¬

_ (¬1) أي: حقد وعداوة. (¬2) أخرجه البخاري (1775، 1776)، ومسلم (1255) وقد استدركت عليه عائشة رضي الله عنها هذا القول، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعتمر في رجب قط. (¬3) وقد تتبّع الزركشيّ ما استدركته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها على الصحابة في كتاب سمّاه "الإجابة عما استدركته عائشة على الصحابة".

مسألة: قال الخطيب في "الكفاية" (ص 52): "ومن الطريق إلى معرفة كونه صحابيًّا: تظاهرُ الأخبار بذلك. وقد يُحْكَم بأنه صحابي إذا كان ثقة أمينًا مقبول القول، إذا قال: "صَحِبتُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكثر لقائي له ... وإذا قال: أنا صحابي ولم يُحْكَ عن الصحابة رَدُّ قوله ولا ما يعارضه ... = وجبَ إثباته صحابيًّا حكمًا بقوله لذلك، أو قول آحاد الصحابة: [إنه صحابي] (¬1) ". أقول: فعُرِف من هذا أن من لم تثبت صحبتُه إلا بقوله حُكْمه حكم التابعين في البحث عن عدالته؛ لأنها لا تثبت صحبته حتى تثبت عدالته. **** ¬

_ (¬1) من "الكفاية".

فصل -2

[ص 39] فصل- 2 التابعون التابعيُّ: مَن أدرك بعض الصحابة، ورأى بعضهم، وسمع منه سماعًا يُعتدُّ به، بأن يكون السامع مميزًا، وقيل: بل تكفي الرؤية مع التمييز. والذي يظهر في حديث: "خيرُ الناسِ قر ني، ثمّ الذين يلو نهم" (¬1) أن الدخول في "الذين يلونهم" يُشْترط فيه زيادة على ما تقدَّم، قال ابن الأثير في "النهاية" (¬2) عن أبي عبيد الهروي: "فيه: "خيركم قرني ثم الذين يلونهم" يعني الصحابة ثم التابعين (¬3)، والقرن أهلُ كلّ زمان، وهو مقدار التوسط في أعمار أهل كل زمان، مأخوذ من الاقتران، وكأنه المقدار الذي يقترن فيه أهل ذلك الزمان في أعمارهم وأحوالهم، وقيل: القرن أربعون سنة، وقيل: ثما نون، وقيل: مائة". أقول: والقول الثاني كأنّه ضابط تقريبيّ للأول. هذا، والقرون تتداخل - أعني أن القرن الأول إذا أخذَ في النقصان أخذ الذي يليه في الزيادة، وهكذا - فقد يقال: إن قَرْنه صلى الله عليه وآله وسلم بقي على الغلبة إلى تمام ثلاثين سنة من الهجرة، ثم أخذ في الضعف، وذلك حين بدأ الناسُ في الإنكار على أمراء عثمان، وأخذ القرنان يصطرعان، فكان ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) (4/ 51) (¬3) "الغريبين": (5/ 1533 - ط نزار الباز).

[ص 40] بعد خمس سنين قتل عثمان، وذلك مصداق حديث البراء بن ناجية عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "تدور رحى الإِسلام لخمس وثلاثين أو ست وثلاثين أو سبع وثلاثين، فإن يهلكوا فسبيل مَنْ هلك، وإن يقم لهم دينهم يقم لهم سبعين عامًا". قال: فقلت: مما بقي أو ممّا مضى؟ قال: "ممّا مضى" (¬1). وفي بعض الروايات "مما بقي". وروى شريك عن مجالد، عن الشعبي، عن مسروق، عن ابن مسعود مرفوعًا: "إن رحى الإِسلام ستزول بعد خمس وثلاثين، فإن اصطلحوا فيما بينهم على غير قتال يأكلوا الدنيا سبعين عامًا رغدًا، وإن يقتتلوا يركبوا سَنَن من قبلهم" (¬2). فكان لخمس وثلاثين حَصْر عثمان، ولم يقم الدين كما ينبغي؛ إذ لم يصطلحوا على غير قتال، بل كان هلاك ما بالقتل والفرقة والفتنة، فكان سبيلهم سبيل الأمم الماضية من الاختلاف، ثم تمت الغلبة للقرن الثاني بعد سنوات بقتل أمير المؤمنين علي عليه السلام، ثم بتسليم ابنه الحسن الخلافة لمعاوية، وذلك مصداق حديث سفينة مولى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "الخلافة ثلاثون ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (3730)، وأبو داود (4254)، والطيالسي (383)، والحاكم (3/ 123) وغيرهم. قال الحاكم: صحيح الإسناد. (¬2) أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده - كما في "إتحاف الخيرة": (8/ 11) - والبزار: (5/ 323)، والطبراني في "الكبير": (10/ 158)، قال البوصيري: بسندٍ ضعيف لضعف مجالد بن سعيد.

عامًا ثم يكون بعد ذلك الملك" (¬1). أقول: فتمَّت الغلبة للقرن الثاني بنحو أربعين سنة من الهجرة، فثلاثون سنة منها كانت للقرن الأول، وعشر بينه وبين الثاني، ثم تمَّت للقرن الثاني ثلاثون سنة لستين من الهجرة، فكانت ولاية يزيد، ثم قتل الحسين بن عليّ عليه السلام. وقد صحَّ عن أبي هريرة [ص 41] أنه كان يتعوَّذ من عام الستين وإمارة الصبيان (¬2)، فمات قبلها. ثم كانت وقعة الحرَّة، وإحراق الكعبة، ثم كان بعد السبعين رمي الكعبة بالمجانيق، وقتل ابن الزبير، واستتباب الأمر لعبد الملك. وعلى هذا المنوال يكون انتهاء القرن الثاني سنة سبعين، وانتهاء الثالث على رأس المائة. ومن أسباب الفضل للثاني والثالث: أنه لم يزل فيهما بقايا من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وانتهى ذلك بعد انتهاء المائة بقليل، مصداقًا ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (21919)، وأبو داود (4647)، والترمذي (2226)، والنسائي في "الكبرى" (8099)، وابن حبان (6943)، والحاكم: (3/ 71، 145) وغيرهم من طرق عن سعيد بن جُمهان عن سفينة به. والحديث صححه أحمد كما في "السنة" (636) للخلال، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن" وصححه ابن حبان. (¬2) تعوّذه من عام الستين وإمارة الصبيان أخرجه الطبراني في "الأوسط" (1397) وقال: لم يرو هذا الحديث عن علي بن زيد إلا حماد، تفرّد به رَوح بن عبادة. ورواه أبو هريرة مرفوعًا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "تعوّذوا بالله من رأس السبعين وإمارة الصبيان" أخرجه أحمد (8319، 8320)، والبزار (16/ 249).

لقوله صلى الله عليه وآله وسلم قبيل موته: "أرأيتكم ليلتكم هذه فإن [على] رأس مائة سنة [منها] لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحدٌ" (¬1). هذا، والظاهر أنه يدخل في القرن الأول من أسلم في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يجتمع به، وكذلك من أسلم بعده بقليل، وكذا من ولد بعده بقليل، بحيث يكون منشؤه في عهد كثرة الصحابة وظهورهم؛ فإنه يقتدي بهم، ويقتبس من أخلاقهم وآدابهم، حتى يستحكم خلقُه على ذلك. ولا مانع من أن يكون هؤلاء في القرن الأول وإن لم يكونوا صحابة. وعلى هذا فالدرجات تتفاوت. فمَنْ وُلد بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقرب إلى نيل خصائص القرن الأول ممن ولد بعده بخمس [ص 42] سنوات - مثلًا - وهكذا، حتى إن من ولد بعده صلى الله عليه وآله وسلم بخمس عشرة سنة أقرب إلى القرن الثاني، وقد يكون بعض من يولد متأخرًا أمكن في خصائص القرن الأول ممن ولد متقدِّمًا لأسباب أخرى، ككثرة مجالسة أفاضل الصحابة، وقس على هذا. ومن استحكمت قوَّته في عهد القرن الأول فهو منهم، وإن بقي إلى الثاني والثالث، وهكذا. وقد يكون هذا هو السرّ - والله أعلم - في الشكِّ في أكثر روايات الحديث: أكرّر النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم "ثم الذين يلونهم" مرتين أم ثلاثًا؟ وذلك أنه بعد انتهاء قَرْنه، ثم الذي يليه، ثم الذي يليه، تبقى جماعة من أهل الثالث يعيشون في الرابع. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (116)، ومسلم (2537) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وما بين المعكوفات منهما.

[ص 43] هذا، وقد احْتُجَّ بهذا الحديث على أن الظاهر في التابعين وأتباعهم العدالة، فمن لم يُجْرَح منهم فهو عدل. وقد يوجَّه ذلك بأنَّ الخيرَ لم يرتفع من الأمة جملةً بعد تلك القرون، فثناؤه صلى الله عليه وآله وسلم عليها، وذمه من بعدها إنما هو بناء على الأغلب، فكأنه يقول: إن غالب أهلها أخيار، وغالب من بعدها أشرار. وإذا ثبت أن غالبهم أخيار، فمن لم يُعْرَف حاله منهم حُمِل على الغالب. أقول: وفي هذا نظر من وجهين: الأول: أنه قد يجوز أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم راعى الكثرة، فيكون حاصل ذلك أن القرن الأول - وهم الصحابة ومن انضمَّ إليهم - غالبهم عدول، والقرن الثاني نصفهم عدول، والقرن الثالث ثلثهم عدول، والثلث كثير، وأما بعد ذلك فإن العدالة تقلُّ عن ذلك. وعلى تسليم الغلبة في القرن الثاني - أيضًا - فقد يكون في الثالث التعادل، واستحقوا الثناء لأنّ شرّهم لم يكن أكثر من خيرهم، بخلاف من بعدهم. الوجه الثاني: أن الغلبة تصْدُق بخمسة وخمسين في المائة - مثلًا -، ومثل هذا [ص 44] لا يحصل به الظن المعتبر في أنَّ مَنْ لم يُعْرَف حاله من المائة فهو من الخمسة والخمسين، ولو قال المحدِّث: "أكثر مشايخي ثقات"، لما كان توثيقًا لمن لا يُعْرَف حاله منهم. وتمام هذا البحث يأتي في الكلام على المجهول إن شاء الله تعالى (¬1). **** ¬

_ (¬1) لم يتمكن المؤلف من كتابة هذا البحث.

فصل -3

[ص 16] (¬1) فصل - 3 اختلف في حدِّ الكبيرة اختلافًا كثيرًا، ومن أحبَّ الاطلاع على ذلك فليراجع كتاب "الزواجر" (¬2) لابن حجر المكي. وقد وردت الأحاديث في النصَّ على بعض الكبائر، وثبت بالأدلة أن من الذنوب الأخرى ما هو أشدُّ من بعض النصوص أو مثله، فالمدار على الاجتهاد. **** فصل - 4 اشتهر بين أهل العلم أنّ الإصرار على الصغيرة يصيّرها كبيرة، وقال جماعة: كالكبيرة في ردِّ الشهادة والرواية, وقيَّده جماعة بالإصرار على كثير من الصغائر، بحيث تصير معاصي الرجل أغلب من طاعاته، لنصِّ جماعةٍ من الأئمة كالشافعي وغيره على أنَّ من غلبت طاعاتُه معاصيه فهو عدل. وعبارة الشافعي: "لا أعلم أحدًا أُعطي طاعة الله حتى لم يخلطها بمعصية الله إلا يحيى بن زكريا عليه السلام، ولا عُصِي الله فلم يُخْلَط بطاعته، فإذا كان الأغلب الطاعة فهو المعدّل، وإذا كان الأغلب المعصية فهو المجرَّح". أسنده الخطيبُ في "الكفاية" (ص 79) وذكر هناك أقوالًا أخرى في هذا المعنى، وبَسَط الكلامَ فيه ابنُ حجر المكي في "الزواجر" (2/ 187). ¬

_ (¬1) عدنا إلى هذا الموضع (ص 16) بإشارة المؤلف في آخر (ص 44). (¬2) (1/ 4 - 10).

فصل - 5

[ص 17] أقول: قد يصعب الحكم على من يجتنب الكبائر كلها بأنَّ الغالب عليه المعصية، والغالب على من يستكثر من الصغائر إلى ما يقارب هذا الحدّ أنه لا يسلم من بعض الكبائر، وفي "الصحيحين" (¬1) عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "الحلال بيِّن، والحرام بيِّن، وبينهما مشتبهات لا يعلمهنَّ كثيرٌ من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه". فالصغائر حِمَى الكبائر، فمن وقع في الصغائر إلى الحدِّ المتقدّم ذِكْره فالغالب أنه يقع في الكبائر، والله أعلم. فان فُرِضَ أنه لم يوقَفْ له على كبيرة فقد يقال: يجعل حكمه حكم مرتكب الكبيرة؛ لما تقدَّم أنَّ الغالب أنه لا يسلم منها. **** فصل - 5 عدُّوا مما يُسْقط العدالة: صغائر الخِسّة، ومثَّلوه بالتطفيف بحبَّةٍ، وسرقة باذنجانة. وكذلك قالوا في الرشوة، وأكل مال اليتيم، والغصب، وجزم كثيرون بأنَّ هذه كلّها كبائر، سواء وقعت في كثير أو قليل. راجع "الزواجر" (1/ 221). أقول: الظاهر أنها كبائر، وعلى فَرْض أنها صغائر فالغالب أن صاحبها لا يسلم من الكبائر؛ لأنَّ مَنْ لم يمنعه دينه وإيمانه وتقواه من المعصية لتحصيل منفعة تافهة، فَلأَنْ لا يمنعه ذلك من تحصيل ما هو أعظم منها = أولى ¬

_ (¬1) البخاري (52)، ومسلم (1599) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما.

وأحرى. قال الله تبارك وتعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75]. [ص 18] أي أنّ منهم من هو عظيم الأمانة، حتى لا يغلب هواه وشهوتُه أمانتَه ولو عَظُمت المنفعةُ التي تحصل له بالخيانة. والقنطار جاء عن الحسن البصري: أنه ملء مَسْك ثور ذهبًا (¬1). ومنهم من ليس عنده من الأمانة ما يغلب به هواه وشهوته في اليسير كالدينار، أي: وإذا كان هواه وشهوته يغلبان أمانته في الدينار فأولى من ذلك أن يغلباها فيما هو أكثر منه. [ص 19] ومما يلتحق بهذا الفرع: تقبيل الأجنبية، أو معانقتها على رؤوس الأشهاد، ويظهر - والله أعلم - أنه كبيرة من جهة المجاهرة بالفحش. وفي "الصحيحين" (¬2) وغيرهما: "كلُّ أُمتي مُعافى إلا المجاهرين ... " الحديث. وفي المجاهرة بالمعصية عدة مفاسد، منها: حَمْل الناس على فعل مثلها. وفي "صحيح مسلم" (¬3): " ... ومن سنَّ في الإِسلام سنةً سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء". ¬

_ (¬1) انظر "معاني القرآن": (1/ 383) للز جاج، و"المفردات" (ص 677) للر اغب الأصبهاني. (¬2) البخاري (6069)، ومسلم (2990) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) (1017) من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه.

فصل -6

ومثل هذا الفعل ظاهر في انتفاء الحياء أو ضعفه. وفي "الصحيح" (¬1): "إنّ مما أدرك الناسُ من كلام النبوَّة الأولى: إذا لم تستَحْيِ فاصنع ما شئت". ومعناه - والله أعلم - إذا فقد الإنسان الحياء صنع ما شاء، أي: فالظنُّ به أنه لا يحجم عن ارتكاب كل ما تدعوه إليه نفسُه (¬2). **** [ص 20] فصل - 6 اشتهر بين أهل العلم: أنّ ممّا يخرم العدالة: تعاطي ما ينافي المروءة، وقيَّده جماعةٌ بأن يكثر ذلك من الرجل، حتى يصير إخلاله بما تقتضيه المروءة غالبًا عليه، قال الشافعي - رحمه الله تعالى -: "ليس من الناس أحدٌ نعلمه - إلا أن يكون قليلاً - يمحض الطاعة والمروءة حتى لا يخلطهما بمعصية، ولا يمحض المعصية وترك المروءة حتى لا يخلطهما شيئًا من الطاعة والمروءة، فإذا كان الغالب على الرجل الأظهر من أمره الطاعة والمروءة قُبِلَت شهادته، وإذا كان الأغلب الأظهر من أمره المعصية وخلاف المروءة رُدَّت شهادتُه". "مختصر المزني - بهامش الأم": (5/ 256) (¬3). أقول: ذكروا أنّ المدار على العرف، وأنه يختلف باختلاف حال الرجل وزمانه ومكانه، فقد يعدُّ الفعل خرمًا للمروءة إذا وقع مِنْ رجل من أهل ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3483، 3484) من حديث أبي مسعود البدري رضي الله عنه. (¬2) انظر "فتح الباري": (6/ 523). (¬3) (5/ 310 - طبعة المعرفة).

العلم، لا إذا كان من تاجر - مثلًا -. وقد يُعدّ ذلك الفعل مِنْ مِثْل ذلك الرجل خرمًا للمروءة في الحجاز - مثلًا - لا في الهند. وقد يُعدّ خرمًا للمروءة إذا كان في الصيف لا إذا كان في الشتاء. أو يعدُّ خرمًا في عصر ثم يأتي عصرٌ آخر لا يعدُّ فيه خرمًا. ثم أقول: لا يخلو ذلك الفعل الذي يعدُّه أهلُ العرف خرمًا للمروءة عن واحد من ثلاثة أوجه: الأول: أن يكون - مع صرف النظر عن عرف الناس - مطلوبًا فعله شرعًا، وجوبًا أو استحبابًا. الثاني: أن يكون مطلوبًا تركه بأن يكون حرامًا أو مكروهًا أو خلاف الأولى. الثالث: أن يكون مباحًا. [ص 21] فأمّا الأول، فلا وجه للالتفات إلى العرف فيه؛ لأنه عُرْفٌ مصادم للشرع، بل إذا ترك ذلك الفعل رجل حفظًا لمروءته في زعمه، كان أحقّ بالذم ممن يفعله لمجرد هواه وشهوته. وأمّا الثاني، فالعرف فيه معاضد للشرع، فالاعتداد به في الجملة متجه؛ إذ يقال في فاعله: إنه لم يستحيِ من الله عَزَّ وَجَلَّ ولا من الناس، وضعف الحياء من الله عَزَّ وَجَلَّ ومن الناس أبلغ في الذمِّ من ضعف الحياء من الله عزَّ وجلَّ فقط، وقد مرَّ حديث "كلُّ أُمّتي معافَى إلا المجاهرين" (¬1). ¬

_ (¬1) سبق (ص 35).

فصل - 7

وأمّا الثالث فقد يقال: يلتحق بالثاني؛ إذ ليس في فعل ذلك الفعل مصلحة شرعية، وفيه مفسدة شرعية، وهي: تعريض النفس لاحتقار الناس وذمهم. [ص 22] هذا وقد يقال: إذا ثبت صلاح الرجل في دينه، بأن كان مجتنبًا الكبائر وكذا الصغائر غالبًا فقد ثبتت عدالته، ولا يُلتفت إلى خوارم المروءة؛ لأن الظاهر في مثل هذا أنه لا يتصوّر فيه أن يكون إخلاله بالمروءة غالبًا عليه، وعلى فَرْض إمكان ذلك، فقد تبيّن من قوَّة إيمانه وتقواه وخوفه من الله عزّ وجلَّ ما لا يحتاج معه إلى معاضدة خوفه من الناس، بل يظهر في هذا أنّ عدم مبالاته بالنّاس إنما هو من كمال إيمانه وتقواه. وأمّا من كثر منه ارتكاب الصغائر، ومع ذلك كثر منه مخالفة المروءة، ولم يبلغ أن يقال: إن معاصيه أغلب من طاعاته = فهذا محلُّ النظر، وفَصْل ذلك إلى المعدِّل؛ فإن كان يجد نفسه غير مطمئنة إلى صدقه، فليس ممن يُرْضى، وقد قال الله عزَّ وجلَّ: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282]. **** فصل - 7 التفسيق مَنوطٌ بالإثم، فمن ارتكب مفسِّقًا جاهلاً أو ناسيًا أو مخطئًا فلم نؤثَّمْه لعذره فكذلك لا نفسِّقُه. راجع كلام الشافعي رحمه الله تعالى في "الأم" (6/ 210). ****

فصل - 8

فصل - 8 [ص 23] ما تقرّر في الشرع أنه كبيرة إذا وقع من الإنسان فلتة، كمن أغضبه إنسان فترادّا الكلامَ حتى قذفَه على وجه الشّتْم، ففي الحكم بفسقه نظر؛ لأن مثل هذا قد لا يوجب سوء ظن الناس بالمشتوم، فإن سامع مثل هذا قد يفهم منه الشتم فقط، لا أن الشاتم يثبت نسبة الفاحشة إلى المشتوم. والذي يدفعُ الإشكالَ من أصله أن يتوب ويستغفر، فعلى فرض أنها كبيرة فقد تاب منها، وقد تقرّر في الشرع أن التوبة تجبُّ ما قبلها، وأنّ التائب من الذنب كمن لا ذنب له. وعلى هذا يُحْمَل ما روي عن أبي داود الطيالسي، عن شعبة: أنه ذَكَر أبا الزبير: محمَّد بن مسلم بن تَدْرُس وسماعه منه قال: "فبينا أنا جالس عنده إذ جاءه رجل فسأله عن مسألة فردَّ عليه، فافترى عليه، فقلت له: يا أبا الزبير تفتري على رجل مسلم؟! قال: إنه أغضبني، قلت: ومن يغضبك تفتري عليه؟ لا رويتُ عنك شيئًا". ذَكَر هذا في ترجمة أبي الزبير في "التهذيب" (¬1). لكن قال في ترجمة محمَّد بن الزبير التميمي: "وأسند ابنُ عديّ من طريق أبي داود الطيالسي قلت لشعبة: مالَك لا تحدِّث عن محمَّد بن الزبير؟ فقال: مرّ به رجل فافترى عليه، فقلت له، فقال: إنه غاظني" (¬2). واتفاق القصة لكلٍّ من الرجلين: محمَّد بن الزبير، ومحمد بن مسلم أبي الزبير ليس بممتنع، لكن تقارب الاسمين يقرب احتمال الخطأ، والله أعلم. ¬

_ (¬1) "تهذيب التهذيب": (9/ 442). وانظر لتحقيق حال أبي الزبير "عمارة القبور - المبيضة" (ص 77 - 81) و"المسوّدة" (ص 82 - 87) للمؤلف. (¬2) المصدر نفسه: (9/ 167).

[ص 24] وفي ترجمة أبي حُصَين عثمان بن عاصم الأسدي الكوفي من "التهذيب": "وقال وكيع: كان أبو حصين يقول: أنا أقرأ من الأعمش، فقال الأعمش لرجل يقرأ عليه: اهمز الحوتَ، فهمزه، فلما كان من الغد قرأ أبو حصين (¬1) في الفجر (نون) فهمز الحوتَ، فقال له الأعمش - لمّا فرغ -: أبا حصين كسرتَ ظهرَ الحوت! فقذفه أبو حصين، فحلف الأعمش ليحدَّنّه، فكلَّمَه فيه بنو أسد فأبى، فقال خمسون منهم: [والله لنشهدنَّ أن أمه كما قال.] (¬2) فغضب الأعمش وحلف أن لا يساكنهم وتحوَّل عنهم" (7/ 127). أقول: هذه الرواية منقطعة؛ لأنّ أبا حصين توفِّي قبل مولد وكيع أو بعده بقليل على اختلاف الروايات في ذلك (¬3). فإن صحَّت، فهمز الحوت معناه أن يقال: "الحؤت" بهمزة بدل الواو، وهي لغة قد قرأ ابن كثير {بِالسُّؤْقِ وَالْأَعْنَاقِ} (¬4) [ص: 33] قالوا: "وكان أبو حيَّة النُّميري يهمز كلَّ واوٍ ساكنة قبلها ضمة" (¬5) "روح المعاني": (7/ 354). فكأنّ أبا حصين ظنَّ أنَّ مراد الأعمش بقراءة "الحوت" مهموزًا إظهار ¬

_ (¬1) بعده في الأصل، والتهذيب: "قرأ". خطأ. (¬2) سقط من الأصل والتهذيب، والاستدراك من "تاريخ دمشق": (38/ 413)، و"السير": (5/ 414). (¬3) في سندها أيضًا محمَّد بن يزيد أبو هشام الرفاعي. ضعيف. (¬4) انظر "المبسوط" (ص 279) لابن مهران. (¬5) وانظر "المحرر الوجيز": (4/ 262)، و"البحر المحيط": (7/ 59)، و"الدرّ المصون": (8/ 619)

فصل -9

أنه يعرف ما لا يعرف غيره، فقرأ بها أبو حصين إعلامًا بأنه يعرفها. فأما القذف فلم يُرِد به أبو حصين الإثبات، وإنما هو شتم جرّ إليه الغضب، ولم يلتفت أحدٌ من أئمة الحديث والفقه إلى هذه القصة، بل احتجّوا بأبي حُصين، وأطابوا الثناء عليه. **** [ص 25] فصل - 9 في المبتدع البدعة التي جَرَت عادتُهم بالبحث عن صاحبها عند الكلام في العدالة، هي البدعة في الاعتقاديات وما بُني عليها أو أُلْحِق بها. وأهلُ العلم مختلفون في هذا الضرب من البدعة أيكون جرحًا في عدالة صاحبه؟ والذي يظهر لي أنه ينبغي أولاً النظر في أدلة تلك المقالة، ثم في أحوال الرجل وأحوال عصره وعلاقته بها، فإن غلب على الظن - بعد الإبلاغ في التثبُّت والتحرّي - أنه لا يخلو في إظهاره تلك المقالة عن غَرَض دنيوي من عصبية، أو طَمَع في شهرة، أو حبّ دنيا، أو نحو ذلك = فحقّه أن يُطْرَح، وكذلك إن احْتُمِل ذلك احتمالًا قويًّا بحيث لا يغلب على ظنِّ العارف به تبرئته ممّا ذُكِر. وإن ظهر أنه أنّما أداه إليها اجتهادُه، وابتغاؤه الحقَّ، وأنه حريص على إصابة الحق في اتباع الكتاب والسنة، فلا ينبغي أن يُجْرَح بمقالته، بل إن ثبتت عدالتُه فيما سوى ذلك، وضبطُه، وتحرِّيه، نُظِر في درجته من العلم والدين والصلاح والتحري والتثبُّت. فإنْ كان عالي الدرجة في ذلك احتجَّ

فصل -10

به مطلقًا، وإلا فقد قيل: يُقبل منه ما لا يوافق مقالته، ويتوقَّف عما يوافقها لموضع التهمة. وليس هذا بشيء؛ لأنه إن كان حقيقًا بأن يُتَّهم في شيء من روايته بما ينافي العدالة فلم تثبت عدالته، وقد شرحت هذا في "التنكيل" (¬1). **** [ص 45] فصل - 10 في المُعَدِّل والجارح أما المعدِّل: فشرطه أن يكون في نفسه: بالغًا، عاقلاً، عدلاً، عارفًا بما يُثبت العدالةَ وما ينافيها، ذا خبرة بمن يعدِّله. ولا بدّ أن يكون متيقِّظًا، عارفًا بطباع الناس وأغراضهم (¬2). وهل يكفي الواحد؟ اختلف في ذلك: فقال أبو عبيد القاسم بن سلَّام: لا بد من ثلاثة، واحتجَّ بما في "صحيح مسلم" (¬3) من حديث قَبيصة بن المُخَارق عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "إن المسألة لا تحلّ إلاَّ لأحد ثلاثة: رجلٌ تحمّل حَمالة ... ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحِجا من قومه: لقد أصابت فلانًا فاقةٌ، فحلَّت له المسألة حتى يصيب قَوامًا من عيش". ¬

_ (¬1) (1/ 71 - 86). وكان المؤلف قد كتب: "تعزيز الطليعة" ثم ضرب عليها وكتب ما هو مثبت. (¬2) تحتمل: "أعرافهم" وما أثبته أقرب. (¬3) (1044).

قال أبو عبيد: "وإذا كان هذا في حقِّ الحاجة فغيرها أولى". "فتح المغيث" (ص 123) (¬1). أقول: وممّا يساعده أنَّ العدالة تتعلق بما يخفى من حال الإنسان كالحاجة، ولكن يَرِد عليه أمور: منها: أنّ هذا الحديث تفرّد به عن قبيصةَ كنانةُ بن نعيم، ولم يعدِّله ثلاثة تعديلاً سالمًا (¬2) وإنما قال ابن سعد (¬3): "وكان معروفًا ثقة إن شاء الله " فلم يجزم. ووثَّقه العجلي، وسيأتي في بحث المجهول أنَّ في توثيقه نظرًا، وأن مذهبه قريب من مذهب ابن حبان. ووثَّقه ابنُ حبان، ومذهبه معروف في التسامح، ويأتي بيانه أيضًا (¬4). فإذا عدَدْنا إخراج مسلم لحديثه توثيقًا، فلم يسلم له إلا مسلم. [ص 46] الأمر الثاني: أنّ هؤلاء كلّهم لم يدركوا كنانة، وإنما وثَّقوه بناء على مذاهبهم: أن من روى عنه الثقات، ولم يُجْرَح، ولم يأت بمنكر، فهو ثقة، وسيأتي الكلامُ في هذا إن شاء الله تعالى. الأمر الثالث: ظاهر الحديث أنه لا يحلّ للمحتاج المسألة حتى يقوم ثلاثةٌ من ذوي الحِجا من قومه فيخبروا أنه نزلت به فاقة، ولا يُعْرَف أحدٌ قال بهذا، بل مدار الحلِّ عند أهل العلم على نفس الحاجة، فإن احتاجَ في نفسه ¬

_ (¬1) (2/ 8 - 9). (¬2) "تعديلًا سالمًا" كتبت فوق السطر بخط غير واضح فلعلها ما أثبت. (¬3) "الطبقات": (9/ 226). (¬4) لم يتسنَّ للمؤلف كتابة هذا المبحث هنا، وقد تكلم عن توثيق العجلي وابن حبان في "التنكيل": (1/ 113 - 114، ورقم 200).

إلى المسألة حلَّت له، ولا نعلم أحدًا تكلَّف العملَ بهذا. وليس هذا من ردِّ السنة بعدم العمل بموافق لها، أو عامل بها، وإنما المقصود أنَّ مثل هذا قد يُسْتنكر فيصير الحديث منكرًا، فيقدح في راويه - أعني كنانة بن نعيم - مع قِلَّة ما له من الحديث، ومع أنّه في حديثه هذا شيء من الاختلاف: فرواه حماد بن زيد، عن هارون بن رئاب، عن كنانة، كما مرَّ. ورواه ابنُ عيينة عن هارون فقال في أوله: "إن المسألة لا تصلح" وقال مرة: "حرمت" أخرجه أحمد في "المسند" (3/ 475) (¬1). ورواه إسماعيل بن عُلَيّة، عن أيوب، عن هارون فلم يذكر محلَّ الشاهد أصلاً، بل قال: "إنّ المسألةَ لا تحلّ إلا لثلاثة ... ورجلٌ أصابته فاقة فيسأل حتى يصيب قَوامًا من عيش" أخرجه أحمد في المسند (5/ 60) (¬2). [ص 47] الأمر الرابع: أنَّ مقتضى حَمْل الشاهد والمخبر على المحتاج أن لا يحلَّ أن يشهد أحدٌ أو يخبر حتى يعدِّله ثلاثة، وهذا لا قائل به، ولا يعلم واحد - فضلاً عن ثلاثة - عدَّل كنانةَ قبل أن يخبر. الأمر الخامس: أنّ الأولوَّية التي ادّعاها أبو عبيد غير ظاهرة، بل الصواب عكس ما قال، وبيان ذلك: أن الحكمة في تحريم المسألة حتى يشهد ثلاثة من ذوي الحِجا من قوم مَن يريد المسألة هي: أولاً: منع أهل الستر عن المسألة بدون حاجة؛ لأن أحدَهم يرى أنه لو ¬

_ (¬1) رقم (15916). (¬2) رقم (20601). لكن رواه اثنان عن ابن عُليّة بالشاهد عند الطبراني في "الكبير" (15337) قال: واللفظ لحديث ابن عُليّة.

اسْتَشهد ثلاثةً من قومه لا يشهدون له، وإن أقدم على المسألة بدون شهادة، كان عند الناس أنه أقدم على محرَّم، وهو يكره ذلك لحبّه السِّتْر. وثانيًا: شَرْع طريقٍ يُرجى أن يستغني بها المحتاج من أهل الصلاح أو الستر، فلا يحتاج إلى المسألة البتة، وإيضاحه: أنه لا يقدم على المسألة بدون استشهاد، فيضطرّ إلى أن يطالب ثلاثة من ذوي الحجا من قومه بأن يشهدوا له، ولا ريب أنهم إذا علموا حاجته وجب عليهم أحدُ أمرين: إما أن يقوموا فيشهدوا، وإما أن يواسوه من أموالهم بما يغنيه عن المسألة. ولعلّ هذا الثاني يكون أيسر عليهم؛ لأنهم يرون أنّ اقتصارهم على أن يقوموا فيشهدوا يحمل الناس على أن يَرْموهم باللؤم، ويقول الناس: أما كان في أموال هؤلاء الثلاثة متَّسَع لأن [ص 48] يواسوا ابنَ عمّهم بما يسدّ فاقته إلى أن يجد قوامًا من عيش؟ ولهذا - والله أعلم - شَرَط في الحديث أن يكونوا من قومه، وأن يكونوا من ذوي الحجا، وأن يكونوا ثلاثة؛ لأن الغالب أن الثلاثة لا يكونون كلهم فقراء أو لؤماء. وعلى فرض أنهم قاموا فشهدوا، فالغالب أن قومه عندما يسمعون شهادة الثلاثة من ذوي الحجا فيهم، يجمعون له ما يكفيه بدون أن يحتاج إلى مسألة، وعلى هذا فقد أغنى الله عَزَّ وَجَلَّ ذلك المحتاج بدون مسألة؛ لأن مطالبته الثلاثة بأن يشهدوا ليست مسألةً لهم، وإظهاره الحاجة ليس بمسألة صريحة، وإظهاره العزمَ على المسألة ليس بمسألة، فتدبَّر. وليس في الشهادة والإخبار أثر لهذا المعنى، على أن المحتاج مضطر إلى أن يستشهد الثلاثة، فلا يكون في اشتراط ذلك مفسدة، والشاهد والمخبر غير مضطرين إلى الشهادة والإخبار. بل إن شَرَط أن يتقدّم تعديل الثلاثة على

الشهادة والإخبار - كما هو مقتضى حملهما على المسألة كما مر - وَجَد الشاهدُ عذرًا لعدم حضوره إلى الحاكم، وأما المخبر فيجد عذرًا لكتمانه العلم. [ص 49] وقال جماعة: لا بد من اثنين، قال السخاوي في "فتح المغيث" (ص 123) (¬1): حكاه القاضي أبو بكر ابن الباقلاني عن أكثر الفقهاء من أهل المدينة وغيرهم؛ لأن التزكية صفة فيحتاج في ثبوتها إلى عدلين. كالرشد والكفاءة وغيرهما، وقياسًا على الشاهد بالنسبة لما هو المُرَجَّح فيها عند الشافعية والمالكية، بل هو قول محمَّد بن الحسن، واختاره الطحاوي". وعارض الخطيب في "الكفاية" (ص 47) هذا القياس بقياس آخر حاصله: أنه لا يكفي في شهود الزنا إلا أربعة، ومع ذلك اكْتُفِيَ في إثبات الإحصان الذي به يثبت الرجمُ باثنين، وقد اكْتُفِيَ في الأخبار بواحد، والعدالة صفة كالإحصان، فيجب أن يُكْتَفى في إثباتها بدون ما اكْتُفِيَ به في الأخبار، إلا أنه غير ممكن. وكأنّ الخطيبَ عَدَل عما هو أوضح من هذا خوفَ النقض؛ وذلك أنَّ أوضح من هذا أن يقال: لم يكتف في عدد شهود الزنا بأقلّ من أربعة واكْتُفِيَ في عدد مزكِّيهم باثنين اتفاقًا وبواحد عند قوم، فقياس ذلك أن يكفي في عدد مزكّي المُخبِر دون ما يكفي في عدد المخبر. ونقضُه أن يقال: قد اكتفى قوم في الأموال بشاهد ويمين، ولم يكتفوا في تعديل [ص 50] هذا الشاهد إلا باثنين. ¬

_ (¬1) (2/ 8).

وهذا كلّه جعاجع، والصواب إنما هو النظر في النصوص، فإن وُجِد فيها دلالة بيِّنة فذاك، وإلا نُظِر في التعديل أشهادة هو أم خبر؟ أم شهادة في تعديل الشاهد وخبر في تعديل المخبر؟ فإن تعيَّن واحدٌ من هذه الثلاثة فذاك، وإلا نُظِر في الحكمة التي لأجلها فرّق الشارع بين الشهادة والخبر، ثم ينظر في التعديل أمثل الشهادة في تلك الحكمة، أم كالخبر؟ فهذه ثلاثة مسالك. فأما النصوص فهاكها، فمنها حديث "الصحيحين" (¬1) عن أنس في الثناء على الميّت وفيه: مُرَّ بجنازة فأثنوا عليها خيرًا، فقال النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: "وجبت"، ثم مَرُّوا بأخرى فأثنوا عليها شرًّا، فقال: "وجبت"، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما وجبت؟ قال: "هذا أثنيتم عليه خيرًا فوجبت [له] الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرًّا، فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض". ولهما (¬2) من طريق أبي الأسود عن عمر نحو هذه كقصته، فقال أبو الأسود: فقلت: وما "وجبت" يا أمير المؤمنين؟ قال: قلت كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "أيُّما مسلم شهد له أربعة بخبر أدخله الله الجنه"، فقلنا: وثلاثة؟ قال: "وثلاثة"، فقلنا: واثنان؟ قال: "واثنان"، ثم لم نسأله عن الواحد. أقول: وتفسير هذا ما رواه أحمد وابن حبان والحاكم من حديث أنس مرفوعًا: "ما من مسلم يموت فيشهد له أربعة من جيرانه الأدنين أنهم لا ¬

_ (¬1) البخاري (1367)، ومسلم (949). (¬2) هو في البخاري (1368) دون مسلم. وأخرجه الترمذي (1059)، والنسائي (1934).

يعلمون منه إلا خيرًا إلا قال الله تعالى: قد قبلت قولكم وغفرت له ما لا تعلمون" (¬1). ذكره الحافظ في "الفتح" (¬2) وإيضاحه: أن في "الصحيحين" أيضًا عنه صلى الله عليه وآله وسلم [ص 51]: "كلُّ أُمتي معافى إلا المجاهرين" (¬3). وعقَّبه البخاري (¬4) بحديث ابن عمر مرفوعًا: "يدنو أحدُكم من ربه حتى يضع كَنَفه عليه، فيقول: عملت كذا وكذا، فيقول: نعم، ويقول: عملت كذا وكذا، فيقول: نعم، فيقرره، ثم يقول: إني سترت عليك في الدنيا فأنا أغفرها لك اليوم". وفي معنى هذا أحاديث أخرى في أنَّ من ستره الله عزَّ وجلَّ من المؤمنين في الدنيا لم يفضحه في الآخرة. ومن السرِّ في ذلك - والله أعلم - أن الإنسان إذا أظهر المعصية كان ذلك مما يجرِّئ الناسَ عليها، أولاً: لأنه يكثر تحدّثهم بها فتتنبَّه الدواعي إلى مثلها (¬5)، وقد قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النور: 19]. وثانيًا: لأنه إذا لم يُعاجل بالعقوبة هانت على الناس. ثالثًا: لأن العاصي يتجرأ على المعاصي بعد ذلك؛ لأنه كان يخاف أولاً ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (13541)، وابن حبان (3026)، والحاكم: (1/ 534). (¬2) (3/ 231). (¬3) تقدم تخر يجه. (¬4) (6070). (¬5) تحتمل: "فعلها".

على شرفه وسمعته، وبعد الفضيحة لم يبق ما يخاف عليه، بل يقول كما تقول العامة: "يا آكل الثوم كل وأكثر". رابعًا: أنه يحرص على أن يدعو الناس إلى مثل فعله؛ ليشاركوه في سوء السمعة، فتخف الملامة عنه. خامسًا: يخرج بذلك عن قول الله عزَّ وجلَّ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110] , لأنه إن أمر بمعروف أو نهى عن المنكر، قيل له: ابدأ بنفسك ألم تفعل كذا وكذا. سادسًا: يكون سببًا لعدم إفادة أمر غيره بالمعروف ونهيه عن المنكر؛ لأن [ص 52] مَن يُؤمر أو يُنهى يقول: لستُ وحيدًا في هذا، قد فعل فلان كذا، وفلان كذا، وأنا واحد من جملة الناس. سابعًا: أن ذلك يقلِّل خوف الناس من الله عزَّ وجلَّ، يقول أحدهم: أنا من جملة عباد الله العاصين، هذا فلان وهذا فلان وذاك فلان، وقد تقدم في فصل (5) (¬1) حديث: "ومن سنَّ في الإِسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده". وفي "الصحيحين" (¬2): "لا تقتل نفسٌ ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها؛ لأنه أول من سنّ القتل". وقد قال الله عزَّ وجلَّ: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل: 25]. ¬

_ (¬1) (ص 37). (¬2) البخاري (3335)، ومسلم (1677) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

وقوله: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} يصح أن يكون حالاً من الفاعل والمفعول معًا، فيدخل فيه أن المتبوع يحمل من أوزار مَن تَبِعه وإن لم يعلم بأنهم يتَّبِعونه، كما أنَّ ابن آدم الأول لم يكن يعلم بمن سيستنّ به في القتل. وليس ما تقدَّم بمخالفٍ لقول الله عزَّ وجلَّ: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [النجم: 38]. وما في معناها؛ لأن التحقيق أنَّ المتبوع إنما عُذِّب بوزره. وبيان ذلك: أنّ أصل الإثم في المعصية مَنوطٌ بتعمّدها، وأما زيادة قدره فمَنوطٌ بما ينشأ عنها من المفاسد. ألا ترى لو أنّ ثلاثة صوبوابنادقهم إلى ثلاثة قاصدين [ص 53] رميهم، ثم أطلقوابنادقهم، أنّ أصل الإجرام قد وقع من كلٍّ منهم، وأما زيادة مقداره فموقوف على ما ترتَّب على ذاك الفعل، فلو أخطأ أحدهم، وأصاب آخر فجَرَح، وأصاب الثالث فقَتَل، لكان جرم الثالث أغلظ من جرم الثاني، وجرم الثاني أغلظ من جرم الأول. وقد حرّم الله عزَّ وجلَّّ ما حرّم ولم يفصَّل ما يترتَّب على المحرَّمات من المفاسد، فمن علم بالتحريم ثم أقدم على الفعل، فقد التزمَ ما يترتَّب عليه من المفاسد، فدخلت كلُّها في وِزْره وإن لم يعلم بتفصيلها، فتدبّر. هذا وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله عَزَّ وَجَلَّ يقول: "وغفرت له ما لا يعلمون" ظاهرٌ في أن شهادتهم إنما تنفع إذا كانت مطابقةً لعلمهم لأنه إنما يغفر له ما لا يعلمون، فإن كانوا علموا شرًّا فكتموه، وقالوا: لم نعلم إلا خيرًا أو نحو ذلك، لم ينفعه ذلك، بل يضرهم؛ لأنهم شهدوا زورًا. وبناءُ النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم الحكم على ثناء الناس بقوله: "وجبت" صريحٌ في أن الذين أثنوا كانوا عدولًا عنده صلى الله عليه وآله

وسلم، فبنى على أن شهادتهم مطابقة للواقع في أن الذي أثنوا عليه خيرًا لم يظهر منه للناس إلا الخير. وإذا كان الإنسان بحيث لا يظهر منه لجيرانه الأَدْنين ونحوهم من أهل الخبرة إلا الخير، فهو العدل، والمثني عليه منهم بذلك مُعَدِّل له، فالمثنون [ص 54] على الميت من جيرانه وأهل الخبرة به معدِّلون له. وقد نصَّ في الحديث على أنه يكفي في ذلك الأربعة، ويكفي الثلاثة، ويكفي الاثنان، ففي هذا دليل واضح على كفاية الاثنين في التعديل. ويبقى النظر في الواحد، فقد يقال: قد ثبت من حديث جابر وغيره أنه كان للصحابة رضي الله عنهم أن يراجعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرّتين، فإذا قال الثالثة، لم يكن لهم أن يراجعوه بعدها (¬1). وشواهد هذا في الأحاديث كثير، فابتداؤه صلى الله عليه وآله وسلم بذكر الأربعة يشعر بالنهي عن السؤال عن الواحد، وذلك أنه صلى الله عليه وآله وسلم لعله إنما ابتدأ بالأربعة مستشعرًا أنهم سيراجعونه فيسألونه عن الثلاثة، ثم يراجعونه ثانية، فيسألونه عن الاثنين، ثم يقفون لما تقرَّرَ عندهم من المنع عن المراجعة فوق اثنتين. وفي هذادلالة ما على أنّ ثناء الواحد لا يكفي لبناء الحكم بوجوب الجنّة، فأما وجوب الجنة في نفس الأمر فقد ظهر ممّا تقدّم أنها تجب لمن لم يَظْهر منه إلا الخير، وإن لم يثن عليه أحد، ففائدة الشهادة على هذا إنما ¬

_ (¬1) قصة حديث جمل جابر في الصحيح ليس فيها ذلك، ووقع التصريح بذلك عند أحمد في "المسند" (14846) قال: "كنّا نراجعه مرتين في الأمر إذا أمرنا به، فإذا أمَرَنا الثالثة لم نراجعه .. ". وانظر رسالة المؤلف في "حجيّة خبر الواحد".

هي لحكم (¬1) من يسمعها ممن لم يخبر حال الميت بمقتضاها؛ كقوله صلى الله عليه وآله وسلم "وجبت". وقد يحتمل أن الشهادة تنفع، فمن لم يشهدوا له في الدنيا، وكان في نفسه لم يظهر للناس منه إلا الخير، فيحتاج في الآخرة إلى أن يسأله الله عزَّ وجلَّ، كما في حديث [ص 55] ابن عمر المتقدم (¬2)، ثم يقول له: "إني سترت عليك في الدنيا، فأنا أغفرها لك اليوم"، ومن شهدوا له لم يحتج إلى هذا السؤال. والعلم عند الله عزَّ وجلَّ. وقد يُقال: إنّ قول عمر: "ثم لم نسأله عن الواحد" يُشعر بأنه لم يفهم من الحديث أنّ الواحد لا يكفي. وأقول: إذا صحّ أنّ في الحديث إشارة إلى ذلك لم يضرها أن يتردّد فيها الصحابي. لكن لقائل أن يقول: سلّمنا إشارة ما إلى أنه لا يكفي ثناء الواحد على الميت في الحكم له بالجنة، ولكن لا يلزم من هذا عدم الاكتفاء بتعديل الواحد للشاهد والمخبر، فإنَّ الحكمَ للميت بالجنة لا ضرورةَ إليه ولا كبير حاجة. فإذا كان من أهل الجنة ولم يحكم له الناس بذلك، لم يترتَّب على ذلك مفسدة، بخلاف الشهادات والأخبار، فإنّ الضرورة فيها قائمة، وفي ردّ شهادة العدل وخبر الصادق ما لا يخفى من المفاسد، فتأمّل. ومن النصوص: ما وقع في قضية الإفك من سؤال النبي صلى الله عليه ¬

_ (¬1) تحتمل: "بحكم". (¬2) (ص 48).

وآله وسلم أسامة عن عائشة، فأخبر أنه لا يعلم إلا خيرًا، وكذلك سأل بريرة، وسأل أيضًا زينب بنت جحش وكلتاهما أثنت خيرًا، وبنى النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك قوله على المنبر: "من يعذرني مِن رجلٍ قد بلغني أذاه في أهل بيتي، فوالله ما عَلِمتُ على أهلي إلا خيرًا" (¬1). وفي الاحتجاج بهذا نظر؛ لأنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان هو نفسه خبيرًا بعائشة، وإنما استظهر بسؤال غيره؛ لئلا يقول المنافقون: إنَّه لحبِّه إيّاها ... (والعياذ بالله). وهذا - والله أعلم - من الحكمة في تأخير الله عَزَّ وَجَلَّ إنزال براءتها. وقال البخاري في "الصحيح" (¬2): " (باب إذا زكى رجلٌ رجلاً كفاه)، وقال أبو جميلة: وجدت منبوذًا فلما رآني عمر قال: عسى الغُوَير أبؤسًا، كأنّه يتهمني. [ص 56] قال عريفي: إنه رجل صالح، قال: كذاك، اذهب وعلينا نفقته". وهذا الأثر أخرجه مالك في "الموطأ" (¬3)، وفيه بعد قوله "كذاك" قال: نعم. فقال عمر: اذهب فهو حُرّ ولك ولاؤه، وعلينا نفقته. والحجة فيه: أن عمر قَبِل تعديل التعريف وحده، وبنى على ذلك تصديق أبي جميلة في أنّ ذلك الطفل كان منبوذًا، وأقرّه في يده، ولا يقرّ اللقيط إلا في يد عدل، وحكم له بولائه، وأنفق عليه من بيت المال. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2661)، ومسلم (277) من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬2) كتاب الشهادات، باب 16 قبل حديث (2662). معلقًا، ووصله البيهقي: (6/ 201). وانظر "فتح الباري": (5/ 275). (¬3) (2155).

وقد أُجيب عن هذا بأنه مذهبٌ لعمر، مع أنّ أبا جميلة إما صحابي، وإما من كبار التابعين، فلا يلزم من الاكتفاء في تعديله بواحد أن يُكْتَفى بذلك فيمن بعد ذلك. وهذا الجواب ضعيف، والظاهر أنّ هذا مذهب عمر، فإن لم يكن في النصوص ما يخالفه، ولا نُقِل عن الصحابة ما يخالفه صحّ التمسُّكُ به. ثم ذكر البخاري (¬1) في الباب حديث أبي بكرة: أثنى رجلٌ على رجل عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: "ويلك قطعت عنقَ صاحبِك، قطعتَ عنقَ صاحبِك" مرارًا، ثم قال: "من كان منكم مادحًا أخاه لا محالة، فليقل: أحسب فلانًا، والله حسيبه ولا أزكِّي على الله أحدًا، أحسبه كذا وكذا، إن كان يعلم ذلك منه". قال ابن حجر في "الفتح" (¬2): "ووجه احتجاجه بحديث أبي بكرة: أنّه صلى الله عليه وآله وسلم اعتبر تزكية الرجل إذا اقتصد؛ لأنه لم يعب عليه إلا الإسراف والتغالي في المدح. واعترضه ابنُ المنيِّر بأنّ هذا القدر كافٍ في قبول تزكيته، وأمّا اعتبار النصاب فمسكوت عنه. وجوابه: أنّ البخاريَّ جرى على قاعدته بأنّ النصاب [ص 57] لو كان شرطًا لذُكِر؛ إذ لا يُؤخَّر البيانُ عن وقت الحاجة". أقول: لا يخفى حال هذا الجواب، فإنه ليس في الحديث أنّ الممدوح شهد أو أخبر، ولا أنّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم بنى على مدح المادح ¬

_ (¬1) (2662). (¬2) (5/ 276).

حكمًا يحتاج فيه إلى عدالة الممدوح، وليس هناك حاجة لبيان نصاب التعديل. نعم الأشبه بدقة نظر البخاري - رحمه الله تعالى - ولُطْف استنباطه، أنه فهم من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمادح: "قطعتَ عنقَ صاحبِك" ثناءً على الممدوح؛ فإنّ قَطْع العنق كناية عن الإهلاك، والمعنى كما قال الغزالي: "إنّ الآفة على الممدوح أنّه لا يأمن أن يُحْدِث فيه المدح كِبرًا أو إعجابًا، أو يتّكِل على ما شهره به المادح، فيفتر عن العمل؛ لأنّ الذي يستمرّ على العمل غالبًا هو الذي يعدّ نفسَه مقصّرًا" ذكره في "الفتح" (¬1). فكأنّ البخاري - رحمه الله - فهم أنّ المدح إنّما يقطع عنق من له عنق، والكافر والفاسق مقطوعة أعناقهما، ففي قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "قطعت عنق صاحبك" دلالة على أنّه صلى الله عليه وآله وسلم قضى بأنّ للممدوح عنقًا، يخشى أن يقطعها المادحُ بمدحِه، والعنق هي العدالة، فقد تضمّن ذلك القضاء بأنّ الممدوح عدل. وهذا - على لُطْفه - لا يكفي للحجة، وفيه بَعْد ذلك أنّه ليس في الحديث أنّه صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يعرف الممدوح، حتّى يُقال: [ص 58] إنّه إنّما أثبت له سلامة العنق بثناء ذاك المادح. وأمّا المسلك الثاني: فالأقرب أنّ تزكية الشاهد شهادة، وأما تزكية المخبر فإن كانت ممّن جاوره وصَحِبه مدّة فظاهر أنّها خبر، وإن كانت ممّن تأخّر عنه كتعديل الإِمام أحمد لبعض التابعين فقد يُقال إنها حكم؛ لأنّ أئمة هذا الفن في معنى المنصوبين من الشارع أو من جماعة الأئمة (¬2)، لبيان ¬

_ (¬1) (10/ 478)، وهو في "الإحياء": (3/ 170). (¬2) تحتمل: "الأمة".

أحوال الرواة ورواياتهم. وقد يقال: إنّها فتوى لأنّها خبر عمّا أدّى إليه النظر والاجتهاد، وهو إن لم يكن حكمًا شرعيًّا فتُبنى عليه أحكام شرعية كما لا يخفى. والأقرب أنّها خبر أيضًا. وأمّا المسلك الثالث: فقد شرحت في "رسالة الاحتجاج بخبر الواحد" (¬1) بعضَ ما ظهر لي من الحكمة في أنّه لا يكفي في الزنا أقلّ من أربعة شهود، وفي الدماء وغيرها بشاهدين، وفي الأموال بشاهد ويمين المدَّعِي عند قوم، والاكتفاء في الخبر بواحد. والذي يظهر من ذلك: أنّ تعديل الشاهد كالشهادة بالدماء ونحوها في أنه لا يكفي إلا اثنان، وأنّ تعديل المخبر كالخبر. وعلى كلّ حال فخبر من عدَّلَه اثنان أرجح من خبر من لم يعدِّله إلا واحد، وإن قامت الحجةُ بكلًّ منهما، والله أعلم. [ص 59] هذا كلّه حال المعدِّل، فأمّا الجارح فشرطه: أن يكون عدلاً، عارفًا بما يوجب الجرح إن جَرَح ولم يفسِّر، وقلنا بقبوله. واشترط بعضُهم أيضًا أن لا يكون بينه وبين المجروح عداوة دنيوية شديدة, فإنها ربما أوقعت في التحامل، ولا سيّما إذا كان الجرح غير مفسّر. وزاد غيره: العداوة الدينية، كما يقع بين المختلفين في العقائد، وقد بسطتُ القولَ في ذلك في "النقد البريء" (¬2). ¬

_ (¬1) (ص 28 فما بعدها). (¬2) هذا العنوان القديم لكتاب "التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل". وانظر البحث فيه: (1/ 87 - 98).

فرع

فرع تقدَّم أنّ من شَرْط المعدِّل أن يكون ذا خبرة بمن يعدِّله، وذكروا أنّ الخبرة تحصل بالجوار أو الصحبة أو المعاملة. ولا شكّ أنّه لا يكفي جوار يوم أو يومين، وكذلك الصحبة، وكذا المعاملة لا يكفي فيها أن يكون قد اشترى منه سلعة أو سلعتين، بل لا بدّ من طول الجوار أو الصحبة أو المعاملة مدّة يغلب على الظنّ حصول الخبرة فيها، والمدار في ذلك على غَلَبة ظنّ المزكِّي الفَطِن العارف بطباع الناس وأغراضهم. واشتراط الخبرة بهذا التفصيل في مزكِّي الشاهد لا إشكال فيه، وإنّما الإشكال [ص 60] في تزكية الرواة، فإنّ ما في كتب الجرح والتعديل من الكلام في الرواة المتقدّمين غالبه من كلام من لم يُدْرِكهم، بل ربما كان بينه وبينهم نحو ثلاثمائة سنة، هذا الدارقطني المولود سنة 306 يتكلّم في التابعين فيوثِّق ويضعِّف. قد يتوهَّم من لا خبرةَ له أنّ كلام المحدِّث فيمن لم يدركه إنّما يعتمد النقلَ عمّن أدركه، فالمتأخّر ناقلٌ فقط، أو حاكم بما ثبت عنده بالنقل (¬1). وهذا الحصر باطل، بل إذا كان هناك نقل، فإنّ المتأخِّر يذكره، فإن لم يذكره مرّة ذكره أخرى، أو ذكره غيره. والغالب فيما يقتصرون فيه على الحكم بقولهم: "ثقة" أو "ضعيف" أو غير ذلك إنما هو اجتهاد منهم، سواء أكان هناك نقلٌ يوافق ذلك الحكم أم لا، وكثيرًا ما يكون هناك نقل يخالف ذاك الحكم. ¬

_ (¬1) وهذا التوهم ساقه المؤلف على شكل أسولة في (الرسالة الثالثة) من هذا المجموع ولم يجب عليها هناك، فخذ جوابها من هنا.

[ص 61] واعتمادهم في اجتهادهم على طرق: الطريقة الأولى: النظر فيمن روى عن الرجل، فإن لم يرو عنه إلا بعض المتَّهمين، كابن الكلبي والهيثم بن عدي، طرحوه ولم يشتغلوا به. وإن كان قد روى عنه بعضُ أهل الصدق، نظروا في حال هذا الصدوق، فيكون له واحدة من أحوال: الأولى: أن يكون يروي عن كلّ أحدٍ حتى من عُرِف بالجرح المسقط. الثانية: كالأولى إلا أنه لم يرو عمّن عرف بالجرح المسقط. الثالثة: كالأولى إلا أنه لم يُعْرَف بالرواية عمّن عُرِف بالجرح، وإنّما شيوخه بين عدول ومجاهيل، والمجاهيل في شيوخه كثير. الرابعة: كالثالثة إلا أنّ المجاهيل من شيوخه قليل. الخامسة: أن يكون قد قال: "شيوخي كلهم عدول" أو: "أنا لا أحدِّث إلا عن عَدْل". فصاحبُ الحال الأولى لا تفيد روايته عن الرجل شيئًا، وأمّا الأربع الباقية فإنها تفيد فائدةً ما، تَضْعُف هذه الفائدة في الثانية، ثم تقوى فيما بعدها على الترتيب، فأقوى ما تكون في الخامسة. الطريقة الثانية: النظر في القرائن؛ كأن يوصَف التابعيّ بأنّه كان من أهل العلم، أو من سادات الأنصار، أو إمامًا في مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو مؤذنًا لعمر أو قاضيًا لعمر بن عبد العزيز، أو يذكر الراوي عنه أنّه أخبره في مجلس بعض الأئمة وهو يسمع، كما قال الزهري.

وعكس هذا أن يوصَفَ الرجلُ بأنّه كان جنديًّا أو شرطيًّا أو نحو ذلك من الحِرَف التي يكثر في أهلها عدم العدالة. [ص 62] الطريقة الثالثة - وهي أعمّ الطرق -: اختبار صدقه وكذبه بالنظر في أسانيد رواياته ومتونها، مع النظر في الأمور التي قد يستفاد منها تصديق تلك الروايات أو ضعفها. فأمّا النظر في الأسانيد، فمنه: أن ينظر تاريخ ولادته، وتاريخ وفاة شيخه الذي صرّح بالسماع منه. فإن ظهر أنَّ ذلك الشيخ مات قبل مولد الراوي، أو بعد ولادته بقليل بحيث لا يمكن عادةً أن يكون سمع منه ووعى = كذَّبوه. ومنه: أن يسأل عن تاريخ سماعه من الشيخ، فإذا بيّنه وتبين أنّ الشيخ قد كان مات قبل ذلك = كذَّبوه. ومنه: أن يسأل عن موضع سماعه من الشيخ، فإن ذكر مكانًا يعرف أن الشيخ لم يأته قط = كذَّبوه. وقريب من ذلك: أن يكون الراوي مكيًّا لم يخرج من مكة، وصرَّح بالسماع من شيخ قد ثبت عنه أنّه لم يأت مكة بعد بلوغ الراوي سنَّ التمييز، وإن كان قد أتاها قبل ذلك. ومنه: أن يحدِّث عن شيخٍ حيّ، فيُسأل الشيخ عن ذلك فيكذبه. فإذا لم يوجد في النظر في حاله وحال شيوخه ما يدلّ على كذبه، نُظِر في حال شيوخه المعروفين بالصدق، مع الشيوخ الذين زعم أنّهم سمعوا منهم على ما تقدّم. فإذا كان قد قال: حدّثني فلان أنّه سمع فلانًا، فتبيَّن بالنظر أن فلانًا الأوّل لم يلق شيخه = كذَّبوا هذا الراوي.

وهكذا في بقية السند. لكن إذا وقع شيء من هذا، ممّن عُرِفَت عدالته وصدقه، وكان هناك مظنة للخطأ حملوه على الخطأ، وقد يختلفون، فيكذِّبه بعضهم، ويقول غيره: إنما أخطأ هو، أو شيخه، أو سقط من الإسناد رجل، أو نحو ذلك (¬1). ¬

_ (¬1) هذا آخر ما وُجد من الكتاب، ولا أدري هل أكمله المؤلف أو لا؟

الرسالة الثانية رسالة في أحكام الجرح والتعديل

الرسالة الثانية رسالة في أحكام الجرح والتعديل

[ص 29] (¬1) وقد عنَّ لي أن أجمع رسالة في أحكام الجرح والتعديل, ومذاهب أئمة الفن في ذلك تفصيلًا بقدر الإمكان، وأرجو إذا يسّر الله عزَّ وجلَّ ذلك أن تنحلّ به كثير من مشكلات الفن، بل أن يتيسَّر للعالم في هذا العصر السبيلُ إلى أن يعرف بالحجة والدليل درجات التابعين وأتباعهم فمن بعدهم، حتى يمكنه أن يوثّق من لم يعلم أحدًا وثقه، ويجرح من لم يعلم أحدًا جرحه. هذا, ولست بجاهلٍ قصور باعي، وقلة اطلاعي، ولكن عسى أن يكون الله تبارك وتعالى قد أراد إظهار شيء من هذا العلم على يدي، والله على كل شيء قدير. فإذا أتمَّ الله عَزَّ وَجَلَّ ذلك شرعتُ إن شاء الله تعالى في رسالة في أحكام الاتصال والانقطاع، ثم أخرى في أحكام الشذود والعلل. والله المستعان، وعليه التكلان. قال الله تبارك وتعالى في صفات المنافقين: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ} [التوبة: 61]. قولهم: {هُوَ أُذُنٌ} معناه كما في كتب اللغة والتفسير: أنه يُكثر الاستماعَ والتصديقَ لما يقال (¬2). يريدون أنه يصدّق ما يُخْبَر به صدقًا كان أو كذبًا. ¬

_ (¬1) لم يتحرر ترتيب الرسالة، فابتدأناها بهذا الموضع؛ لأنه أشبه شيء ببدايتها، وأخرنا [ص 25 ب - 28 ب] إلى آخرها. (¬2) الكلمة غير واضحة ولعلها ما أثبت.

واختلف المفسرون (¬1)؛ فقال قوم: المعنى أن هؤلاء كانوا يؤذون النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيبلغه أذاهم، فيصدّق من بَلّغه، فيلومهم بعض المؤمنين فيما قالوه، فيجحدون، ويقولون (¬2): محمَّد أذن. وقال قوم: بل المعنى أنهم كانوا يؤذون النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ويقولون: لا علينا أن نقول ما شئنا، فإذا بلغ محمدًا، فلامنا، أتيناه فجحدنا ذلك، وحلفنا له فصدَّقَنا، فإنه أذن. والمعنى الأول هو الصواب إن شاء الله تعالى. وقوله تعالى: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ} الظاهر أن الخطاب هنا عام، كأنه قيل: خير لكم أيها الناس، ويشهد له قوله فيما بعد: {وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ}. وخصَّ جماعةٌ الخطاب بالمؤذِين القائلين: هو أذن. وعليه، فوَجْه كون إيمان الرسول بالله وإيمانه للمؤمنين خيرًا لهم أنه صلى الله عليه وآله وسلم إذا عرف أذاهم يَعِظُهم ويذكِّرهم، وفي ذلك أعظم الخير لهم إن انتفعوا به، فإن لم ينتفعوا فخير رفضوه. وقوله تعالى: {يُؤمِنُ بِاللهِ} فيه معنى التصديق بما يوحى إليه، وذلك تنبيه على أن من أخبارهم التي يحاولون جَحْدها ما جاء به الوحي من عند الله عزَّ وجلَّ. ¬

_ (¬1) انظر تفسير ابن جرير: (11/ 354 - 356)، وابن عطية: (3/ 52). (¬2) غير محررة في الأصل، ولعلها ما أثبت.

وقوله: {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} اتفقوا على أن المعنى: أي ويصدِّق المؤمنين، كما قالوا في قوله تعالى حكاية عن أخوة يوسف في خطابهم أباهم: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف: 17] أن المعنى: وما أنت بمصدِّق لنا. قالوا: وأصله من الأمن الذي هو طمأنينة النفس، وانتفاء الخوف عنها. فقوله: آمنت لفلان، معناه: جعلته آمنًا من تكذيبي له. ثم قالوا: والأصل: "آمنت فلانًا"، ثم قال بعضهم: إنما يزاد اللام للتقوية. وقال غيره: بل على تضمين "آمن" معنى أذعن وسلَّم. وقد يقال: مما حسَّن ذلك هنا: إن قولك "آمنت فلانًا"، المتبادر منه عند الإطلاق: جعلته آمنًا فقط، فإذا قيل: آمنت لفلان، عُرِف أن المراد الأمن من التكذيب. ويلوح لي أن أصل التقدير: آمنت نفسي لفلان، أي جعلتُها آمنةً له لا تخاف كذبه، فهذا أقرب إلى إفادة التصديق من التقدير الأول، ويمكن غير ذلك. والمقصود هنا إنما هو أن {يُؤْمِنُ لِلمُؤمِنِينً} في الآية بمعنى يصدِّقهم. وهذا لا خلاف فيه. [ص 30 ب] (¬1) فقد نصّت الآية على أن تصديق المؤمنين فيما يخبرون به من صفات الحقّ التي أثنى الله عَزَّ وَجَلَّ بها على رسوله، وقد أمر أُمته باتباعه ¬

_ (¬1) ضرب المؤلف على [ص 30 أ] كاملة.

فصل

والتأسّي به، فكان حقًّا على الأمة تصديق المؤمنين فيما يخبرون به. فصل المراد بالمؤمنين في الآية إما مَنْ أظهر الإِسلام، وإما مَن أظهره ولم يعلم منه ما يريب في إيمانه، وإما مَن أظهره وظهرت دلائل إيمانه، بمحافظته على مقتضى الإيمان, ومجانبته ما يخالفه، حتى اطمأنت إليه نفوسُ من عَرَفه ويخالطه بأنه مؤمن صادق. وإما من أعْلَم الله عَزَّ وَجَلَّ رسولَه بأنه مؤمن حقًّا. الأولان باطلان؛ لأن مجرد إظهار الإِسلام ليس بإيمان على الحقيقة، قال تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14]. ومجرد عدم العلم بما يريب، بدون اختبار ولا مخالطة، لا يدلُّ على ثبوت الإيمان. ويؤكَّد ذلك أنه قد تقرّر في الأصول أن تعليق الحكم بالمشتق يؤذن بعلَّة ما منه الاشتقاق، فإيمان المؤمنين هو العلة المقتضية لتصديقهم. ولا شك أن فيمن كان يظهر الإِسلام من لم يؤمن، بل ومن هو منافق. والحاصلُ لهؤلاء بإظهارهم الإِسلام لا يقتضي أن لا يكذبوا، فلا يقتضى تصديقهم. وأما الرابع: ففيه بعد؛ لأن الله عَزَّ وَجَلَّ لم يكن يُطْلِع رسولَه على حال كلّ واحد في صدق الإيمان أو عدمه, بل قد قال سبحانه لرسوله: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [التوبة: 101].

وقال تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ في لَحْنِ الْقَوْلِ} [القتال: 30]. والمعرفة بلحن القول لا يختص به صلى الله عليه وآله وسلم، وإن كنا لا ننفي أن يكون الله عَزَّ وَجَلَّ أطلعه على بعضهم، أو على جميعهم بعد ذلك. فالمتعيّن هو الثالث، وهو أن المراد بالمؤمنين في الآية هم الذين ظهرت دلائل الإيمان عليهم بمحافظتهم على مقتضاه، ومجانبتهم ما يخالفه، وعُرِف أن ذلك [ص 32] صار خُلقًا لهم، بحيث تطمئنّ نفوسُ عارفيهم إلى صدق إيمانهم، فيكون كلّ منهم بذلك قد آمن عارفيه، أي جعلهم آمنين من أن يقع منه ما يخالف الإيمان من كذب أو غيرهم (¬1)، فاستحقّ أن يؤتمن ويؤمَّن من التكذيب. وقريب من هؤلاء قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث المشهور: "المؤمنُ مَن أَمِنَه الناسُ على دمائهم وأموالهم" (¬2). وإنما يأمنه الناس إذا كانوا قد اختبروه فعرفوه بعدم الاعتداء والخيانة، فكذلك في الآية. والله أعلم. ويؤكد هذا المعنى مفهوم قوله تعالى عزَّ وجلَّ: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ ¬

_ (¬1) كذا ولعلها: "أو غيره". (¬2) أخرجه الترمذي (2627)، والنسائي (4995)، وأحمد (8931)، وابن حبان (180)، والحاكم: (1/ 10) وغيرهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال الترمذي: حسن صحيح، وصححه ابن حبان والحاكم على شرط مسلم.

فصل

فَتَبَيَّنُوا} (¬1) [الحجرات: 6]. والمراد بالفاسق عندهم: أي من بان لهم أنه فاسق، فإنهم لم يكلَّفوا علم الغيب. ومن التزم الإيمان, واستمرّ مدّةً محافظًا على ما اقتضاه، مجانبًا لما نافاه، حتى اطمأنت النفوس إلى أن ذلك خلق ثابت له، فليس بفاسق عندهم اتفاقًا. فهؤلاء هم المؤمنون في الآية الأولى، ويزيده في حق الآية وضوحًا، بل يصل درجة اليقين القاطع: ما عرف من الدلائل على وجوب العمل بخبر الواحد الثقة، وقد ذكرت كثيرًا منها في رسالة "العمل بخبر الواحد" (¬2). والله أعلم. فصل دل قوله تعالى: {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} بمنطوقه، وقوله: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} بمفهومه: أن من عُرِف بالإيمان والمحافظة على ما يقتضيه، واجتناب ما ينافيه، حتى اطمأنت النفوس إلى أن ذلك خلق له، فهو حقيق بأن يصدَّق في خبره، وهو المسمى عندهم بالعدل. ودلت الأولى بمفهومها، والثانية بمنطوقها على أن من عُثِر منه على ما يقتضي الفسق، وجب التبيُّن في خبره. فخبر العدل بَيِّن بنفسه، وخبر الفاسق غير بَيِّن بنفسه، بل يحتاج إلى ¬

_ (¬1) في الأصل سقط من الآية {بِنَبَإٍ}. (¬2) وهي مطبوعة ضمن "رسائل أصول الفقه" في هذه الموسوعة المباركة.

التبين، أي بالنظر، فإن وُجدت بينة على صدقه أُخذ به؛ لدلالة تلك البينة، وإلّا طُرِح. ****

فصل العدالة

فصل العدالة يقال: حَكَم عَدْل، وشَاهِد عَدْل، أي لا يخشى أن يميل عن الحق، كما يقال: هو رضًا ومأمون، أي: يرضاه الناس ويأمنونه، لثقتهم بأنه لا يجور. فالعدل في الرواية هو من يوثَق بأنه لا يكذب؛ لأنه مسلم معروف بالاستقامة في الدين، ولزوم ما يقتضيه، واجتناب ما ينافيه من الكذب وغيره. وقال الله عَزَّ وَجَلَّ في ما حكاه عن المنافقين، وردَّه عليهم: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ} [التوبة: 61]. كان هؤلاء يؤذون النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم بألسنتهم بأشياء يقولونها، فتبلغ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فربما ذَكَر لهم ذلك، ووعظهم، فكانوا يجحدون ذلك، ثم يقولون لمن لقوه من المؤمنين: محمَّد أُذُن. يعنون: يقبل ما يُبَلِّغه الناس عنا ويصدِّقه، مع أننا لم نقله، فردَّ الله عَزَّ وَجَلَّ عليهم بقوله: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ}. يظهر أن الخطاب هنا عام، أي أُذُن خيرٍ لكم أيها الناس، بقرينة قوله بعد ذلك: {وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ}. فإن كان خطابًا للمؤذين فقط، فوَجْه كون قبوله لما يَبْلُغه عنهم خيرًا لهم أنه يبعثه ذلك على أن يَعِظَهم وينصحهم، وفي ذلك خير لهم إن أرادوا الانتفاع به.

وقول: {يُؤمِنُ بِاللهِ} تنبيه على أن من أخبارهم التي تبلغه ما يأتيه به الوحي من عند الله، وهو مؤمن بالله، فكيف لا يصدّق ما يوحيه إليه؟ وقوله: {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} أي يصدَّقهم، كما اتفق عليه المفسرون. فالمعنى: إن الأخبار التي تبلغه عنكم [ص 32] فيصدقها, ليست إلا من أحد هذين الوجهين: الأول: الو حي. الثاني: إخبار المؤمنين. إما بمعنى: الذين آمنوه وغيره من أن يكذبوا. وإما بمعنى: المؤمنين بالله ورسوله. وإما بالمعنى الثاني مع الإشارة إلى المعنى الأول. ويظهر أن هذا الأخير أرجح، فالمعنى: أنه يصدِّق المؤمنين الذين آمنوا بالله ورسوله، وظهر للرسول وغيره بطول اختبارهم ما بان به صحةُ إيمانهم، وتحرّيهم ما يقتضيه الإيمان من الصدق وغيره، وتجنّبهم ما ينافيه، فبذلك جعلوا النبيّ وغيره ممن عَرَف حالَهم لا يخافون منهم أن يأتوا ما ينافي الإيمان الراسخ من الكذب وغيره، فكما آمنوا النبيَّ وغيرَه من أن يَكْذِبوا كان من الحق أن يؤمِنَهم من أن يكذِّبهم، بل كان من الحقّ أن يصدّقهم. فحاصل المعنى أنه صلى الله عليه وآله وسلم إنَّما يصدق من الأخبار ما كان صدقًا، إما يقينًا وهو الوحي، وإما ظاهرًا شرعًا وعقلاً، وهو خبر من عرف إيمانه واستقامته.

فصل

وقد تقرر في الأصول أن تعليق الحكم بالمشتق يؤذِنُ بعِلّية ما منه الاشتقاق، فكأنه قيل: وإنما يصدقهم لإيمانهم، فيفهم منه أن من ليس بمؤمن لا يحقّ أن يصدَّق. وقد تقدم أن المراد الإيمان مع الثبات على ما يقتضيه، بحيث يحصل لمن عرف صاحبه الوثوق به، والركون إليه. وعلى هذا فيخرج الكافر والفاسق، وقد قال الله عزَّ وجلَّ: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} فنصّ على أن خبر الفاسق لا يحق أن يصدَّق، بل ينبغي التبيّن فيه، فإن وُجِدت بيّنة على صدقه، وإلّا طُرِح. والكافرُ فاسقٌ وزيادة. فصل جاء عن الإِمام الشافعي وغيره: أنه ليس من شرط العدل أن لا يعصي الله عَزَّ وَجَلَّ البتة، فإن هذا يؤدّي إلى أن لا تُقْبَل شهادة ولا رواية, ولا يُقام إمام ولا قاضٍ، إلى غير ذلك، ولكن المراد من كانت الطاعات أغلب عليه من المعاصي (¬1). أقول: وفي كلام الشافعي وغيره أنه لا تُقْبَل شهادة من شرب الخمر، أو زَنَى، إلى غير ذلك، إلا (¬2) من ظهر منه شيء من ذلك ثم ظهرت توبته. فواجبٌ حَمْل النقل الأول على هذا، أي أنّ مَن كان الغالب عليه الطاعة، وإنما تقع المعصية منه زلة، ثم يتوب منها، ثم أخرى ثم يتوب منها، فإنه يقبل، يعني عند ظهور توبته مما سبق منه من المعاصي. ¬

_ (¬1) حكاه عنه المزني في "مختصره" (5/ 310 ط المعرفة). (¬2) في الأصل: "إلى" سبق قلم.

فأما من كان الغالب عليه المعصية، فإنه ما دام على ذلك لا تتحقق له توبة. وفي كتب الفقه ما يوضّح هذا، وهو أن يشترط في قبول من ظهرت معصيته وتاب منها: أن تظهر توبته بأن تمضى مدةٌ يظهر منه فيها الندم على تلك المعصية، والامتناع عن العَوْد إليها، حتى يكون الظاهر أنه لن يعود. أقول: والظاهر أنه يُغْتَفر لمن عُرِفت عدالته، وظهرت استقامته من الرواة ما قد يقع منه مما يكون الظاهر أنه وقع فلتة. فقد حكى وكيع قصةً لأبي حصين عثمان بن عاصم الأسدي مع الأعمش، وفيها: أن أبا حصين قذف الأعمش [فحلف] ليحدّنّه، فكلّمه فيه بنو أسد. القصة (¬1). والقذف كبيرة، ولا سيَّما لمثل الأعمش، ولكن لم يجرح أحدٌ أبا حصين بهذا، بل وثقوه، وأحسنوا الثناء عليه، فكأنهم حملوا هذا على أنه فلتة جرى على لسان الرجل عند الغضب. والظاهر أنه تاب في الحال؛ لما عُرِف من فضله وصلاحه قبل ذلك وبعد. وجاء عن أبي داود الطيالسي عن شعبة: أنه سمع أبا الزبير محمَّد بن مسلم بن تَدْرُس غاضَبَه إنسانٌ، فافترى عليه. يريدُ: فَقَذَفه (¬2). لكن عندي في صحة هذا وقفة، فقد جاء عن أبي داود الطيالسي مثل ¬

_ (¬1) القصة في "تاريخ دمشق": (38/ 413)، و"السير": (5/ 415). (¬2) القصة في "تهذيب الكمال": (6/ 503) و"تهذيب التهذيب": (9/ 440). وانظر ما سلف (ص 41).

فصل

هذا في محمَّد بن الزبير التميمي الحنظلي (¬1)، فلعلّ محمَّد بن الزبير هو صاحب الواقعة، ووقع الوهم في جَعْلها لأبي الزبير محمَّد بن مسلم. والله أعلم. فصل وذكروا أن المعاصي الصغيرة لا تخلُّ بالعدالة إلا في صورتين: الأولى: أن تدل على الخِسّة، كسرقة تمرة، وخيانة فلس. الثانية: أن يصرّ صاحبها عليها. **** ¬

_ (¬1) انظر "تهذيب التهذيب": (9/ 167). وانظر "الاستبصار في نقد الأخبار - ضمن هذا الكتاب" (ص 41) للمؤلف.

[ص 33] بِسمِ اللهِ الرّحَمنِ الرّحَيمِ العدالة مباحثها مستوفاة في كتب الفقه ومصطلح الحديث، وقد نظرتُ في عدة من كتب الجرح والتعديل, فرأيتُ تصريحَ الأئمة بالجرح بالمعاصي قليلاً، وإنما أقصد في رسالتي هذه قَصْد ما تكثر الحاجة إليه، مع الحاجة إلى تحقيقه. فمن ذلك: البدع التي لا يُحْكَم بكفر أصحابها؛ فقيل: جرح مطلقًا. وقيل: جرح إذا كان صاحبها داعيةً، يدعوا الناسَ إلى بدعته. وقيل: ليست بجرح مطلقًا, ولكن لا يقبل من صاحبها ما يرويه مما يوافق بدعته لمكان التهمة. وقيل: ليست بجرح، ويقبل من صاحبها ما رواه، وإن وافق هواه. أقول: [الذي] (¬1) ينبغي اختياره أن المدار على قوَّة التهمة، فالرواة على طبقات: الأولى: من اشتهر بالثقة والصدق والأمانة، وكثر ثناء أهل العلم عليه. فهذا ينبغي أن يُقْبل منه كلّ ما روى، وإن كان له هوً ى يدعو إليه، وروى ما يوافقه، وذلك أن الذي يغلب على الظن في مثله (¬2) أنه إنما يدعو لاعتقاده أنه يدعو إلى حقّ، وأنه صادق فيما رواه مما يوافق هواه، وهو من جملة ما أداه إلى ذلك الهوى. ¬

_ (¬1) زيادة يستقيم بها السياق. (¬2) الأصل: "مثل" سهو.

الطبقة الثانية: مَنْ لم يبلغ تلك الدرجة، وقد وثَّقه بعض الأئمة. فهذا ينبغي التوقُّف عما يرويه موافقًا لهواه، ولا سيما إن كان داعية، فإن الداعية تكثر منه الخصومة، والخصومة توقع في اللجاج، واللجاج مظنة المجازفة. فقد يتأوّل أحدهم إذا لج أنه لا حَرَج عليه في أن يكذب لنصرة ما هو الحق عنده، وقد لا يشمل الكذب، ولكن يورِّي تورية خفيَّة، ويدلِّس تدليسًا خفيًّا، وإن كان ممن يتقي التدليس في غير ذلك. فأما الطبقة الأولى فلا يُعْرَف أحد منهم كان يخاصم ويلجّ. الثالثة: من لم يوثق. فهذا أولى بالاتهام، فإن كان ممن يصلح للمتابعة في الجملة، فالصالح من حديثه للمتابعة هو ما لا يُتَّهم فيه. وبهذا أجبتُ لمَّا حُكِي لي عن بعض المتأخرين - ممن كان يُظهر التشيع بلا غلوّ شديد - أنه ناظر بعضَ العلماء من أهل السنة، واحتج بأحاديث. فأجابه السنِّي: أنها ضعيفة؛ لأن في أسانيدها مَنْ ضعَّفه الأئمة. فقال: إنما ضعفوه بأنه كان يتشيّع، فلي الحق أن أردّ الأحاديث التي تحتجّون بها؛ لأن في رواتها من كان يُظهر النصب، فإن ما تسميه أنت تشيعًا، أقول أنا: هو السنة في الحقيقة، وما تسميه أنت مذهب أهل السنة، أسميه أنا: نصبًا، وأقول: هو البدعة في الحقيقة.

قال: فقال ذلك العالم السني: إذن يسقط الاحتجاج بالأحاديث من الجانبين. هذا معنى الحكاية. وعلى ما قدمتُه لا تسقط الأحاديث بحمد الله عزَّ وجلَّ، ولكن الإنصاف أن لا يحتج على المتشيع بأحاديث الطبقة الثانية ممن عرفوا بالسنة ولا يحتج هو بأحاديث الطبقة الثانية ممن عرفوا بالتشيُّع. فإذا وافق على هذا، وكان الإنصاف، فما أسرع ما يكون الاتفاق، وإن أبى فقد سقطت شبهتُه، وظهرَ عنادُه. وقد ذكرتُ هذا لبعض أهل العلم، فقال: وكيف يكون الرجل عدلاً في شيء، وغير عدل في شيء؟ والجواب: أن العدالة تتفاوت قوة وضعفًا، كما لا يخفى. [ص 34] وقد جاء عن شريك أن رجلاً ادّعى على آخر عنده بمائة ألف دينار، فأقر، فقال: أما إنه لو أنكر لم أقبل عليه شهادة أحدٍ بالكوفة إلا شهادة وكيع وعبد الله بن نُمير (¬1). يعني أن المال عظيمًا (¬2)، فلا تنتفي تهمة الشاهد فيه حتى يكون عظيم ¬

_ (¬1) القصة في "تاريخ بغداد": (13/ 499). وقد حكم عليها المؤلف بالانقطاع، وأجاب عنها بأنها "لو ثبتت لوجب حملها على أن مراده القبول الذي تطمئن إليه نفسه، فإن القاضي قد لا يكون خبيرًا بعدالة الشاهدين وضبطهما وتيقظهما وإنما عدّلهما غيره، فإذا كان المال كثيرًا جدًّا بقي في نفسه ريبة ... ". انظر "التنكيل": (1/ 69) و"تعزيز الطليعة" (ص 132 - 133) للمؤلف. (¬2) كذا والوجه "عظيم".

العدالة، ولو كان ألف دينار فقط لكان بالكوفة يومئذٍ ألف عدل أو أكثر ممن تنتفي التهمة بشهادة رجلين منهم فيه. وذكر الشافعي في "الأم" أنه ينبغي للقاضي إذا سأل عن الشهود مَنْ يطلب منه بيان حالهم أن يبين للمسؤول مقدار ما شهدوا فيه، قال: "فإن المسؤول عن الرجل قد يعرف ما لا يعرف الحاكم من أن يكون الشاهد ... وتطيب نفسه على تعديله في اليسير، ويقف في الكثير" الأم (6/ 309) (¬1). وقد قال الله تبارك وتعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75]. يعني أن منهم من هو عظيم الأمانة حتى لو ائتمن على قنطار لأداه، ومنهم من هو ضعيف الأمانة حتى لو ائتمن على دينار واحد لخان فيه. والقنطار المال العظيم، جاء عن الحسن البصري: أنه ملء مَسْك ثورٍ ذهبًا (¬2). وغالبُ المسلمين تطيب أنفسُهم ببذل الزكاة المفروضة، والسفر للحج، والقتال في سبيل الله عند رجاء السلامة، ولو كُلِّفوا أعظم من هذا ما فعله إلا قليل. قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا ¬

_ (¬1) (7/ 508). (¬2) ذكر القول في "تفسير الطبري": (5/ 259) و"تفسير ابن المنذر": (1/ 259) لكن منسوبًا إلى أبي نضرة العبدي.

وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} [القتال: 36 - 37]. يعني - والله أعلم - لا يسألكم أموالكم كلها فرضًا محتومًا. وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [النساء: 66]. وقد تقرر في الشهادة أنه لا تقبل شهادة الرجل لنفسه، ولا حيث يجرّ لنفسه نفعًا، إلى غير مما هو معروف في الفقه بدون تفرقة بين الناس، حتى لو كان الرجل بغاية العدالة لما خرج عن ذلك، وعللوه بالتهمة. وتقرر في الشريعة قبول إقرار الرجل على نفسه، وإن كان غاية في الكفر، أو الفجور، وإنما ذلك لبعد التهمة. والله أعلم. ***

(¬1) [ص 25 ب] هذا، وضبط الخبر وإتقانة يحتاج إلى التيقُّظ في ثلاثة مواضع: الأول: عند تلقّي الخبر، فيجب على المتلقّي أن يتثبّت في حال المخبِر أنه فلان بن فلان، وفي إخباره بالخبر أنه أخبر به من لفظه جازمًا به، أو قُرئ عليه وهو منصت لا يخفى عليه من القراءة شيء حتى أقرَّ به، أو عُرض عليه مكتوبًا فتأمله حقّ التأمل، وهكذا في سائر أنواع التحمّل، كلٌّ بحسبه. ثم يتثبّت في أخذه للخبر، فإن كتبه بإملاء الشيخ، تثبَّت في كتابته حتى يثق بأنه كتبه كما تلقَّاه، لم يزد ولم ينقص ولم يغير. ويدخل في ذلك نَقْط ما يحتاج إلى النقط، وضَبْط ما يحتاج إلى ضبط. وإن كَتَبه مما قُرئ على الشيخ تثبَّت في المنقول عنه أنه مكتوب كما قُرئ على الشيخ، ثم في المنقول أنه كُتِب كما في المنقول عنه. وإن حَفِظه راجع نفسه حتى يثق بأنه حفظه كما يجب، وإن اقتصر على فهمه راجع نفسه حتى يثق بأنه فهمه كما يجب، وقس على هذا. الموضع الثاني: بين التحمّل والأداء، فإن كان مسموعه في كتاب احتاط لحفظ الكتاب، فلا يزيد فيه ولا ينقص ولا يغير، ولا يُمَكِّن منه مَن يُحْتَمل أن يصنع ذلك. وإن كان حَفِظَه أو فَهِمَه تعاهَد حِفْظه أو فَهْمه، [ص 26] وذاكر الحفَّاظ، ¬

_ (¬1) أخرنا من هذا الموضع [ص 25 ب - 29] إلى آخر الرسالة مع تقدمه في الترقيم؛ ليتناسب مع ترتيب موضوعات الرسالة.

وتفطّن لمظان الاشتباه والالتباس، فاحترز منها. الموضع الثالث: عند الأداء، فأولاً: يمرّ بفكْرِه على الموضعين الأولين ليستحضر هل تثبَّت فيهما كما يجب، ثم يتثبَّت في الإلقاءبحيث يثق بأنه ألقاه كما تلقاه. ومن اختبر الناسَ، وعرفَ أحوالهَم، عرف أن من المؤمنين الصالحين [من] (¬1) تغلب عليه الغفلة، وقلّة التيقّظ، كأن ترى في زمن سفيان بن عيينة رجلاً، فيقول لك هو: أنا سفيان بن عيينة، أو يقول لك آخر لا تعرفه: هذا سفيان بن عيينة، ثم يخبرك بخبر، فتذهب فتقول: أخبرني سفيان بن عيينة. هذا مع أنه لم يقم عندك دليلٌ يحقق أن الذي أخبرك سفيان بن عيينة حقًّا. والضابطُ المتيقِّظ يقول في مثل هذا: لقيتُ رجلاً لا أعرفه زعم، أو قال لي رجل آخر لا أعرفه: إنه سفيان بن عيينة، فأخبرني. هذه صورة من صور الغفلة، وصورها كثيرة، فقد تغلب الغفلة على الرجل حتى إن من يعرف حاله لا يثق بخبره ألبته، فيصير حينئذٍ في الحال (¬2). ومن اختبر أحوال الناس وجدهم يتباينون في الضبط والإتقان، فقد تكون مؤمنًا صالحًا، فيلقاك رجل لا تعرفه، فيقول لك: أنا فلان بن فلان، ويخبرك بخبر، فتذهب فتقول: أخبرني فلان بن فلان. ¬

_ (¬1) الأصل: "مع" سهو. (¬2) كذا، وتقدير باقي الكلام "بحيث لا تُقبل روايته" وقد كرر المؤلف هذا المعنى في الفقرة التالية.

ولو تيقظت لكنت تقول: لقيت رجلاً لا أعرفه، فزعم لي أنه فلان بن فلان، وأخبرني. وقد ترى رجلاً يقرأ ورقةً على شيخ، فتذهب فتنسخ تلك الورقة، وتقول: أخبرنا الشيخ. ولو كنت يقظًا لكنت أولاً تتفقّد حالَ الشيخ عند القراءة عليه، فلعلّه يكون ساهيًا، أو ناسيًا، ثم تتفقّد حالَ القراءة، فلعلها أن تكون فيها خلاف المقروء. في صور كثيرة أمثال هذه يتفاوت الناس في الاحتراز منها؛ فرُبَّ مؤمن صالح لا يتهمه العارف به بكذب، ولكنه لا يثق بكثير من أخباره. فخبر هذا لعدم ضبطه في معنى خبر الفاسق الذي لا يوثق بخبره لفسقه. وقد يكون الرجل مؤمنًا صالحًا ضابطًا, ولكن يتفق في بعض أخباره أن يكون مظنّة للغلط، وتقوم قرينة على الغلط، فيكون خبره في هذا الموضع في معنى خبر الفاسق أو أضعف منه. وذلك أن من قضية الإيمان أن تؤمِّن الناسَ من أن تأتي إليهم ما لا يحل لك، كما في الحديث المشهور: "المؤمن مَن أمِنَه الناسُ على دمائهم وأموالهم" (¬1). ومما لا يحل: الكذب، فإذا أمنت الناس من الكذب كان عليهم أن يؤمِّنوك من التكذيب. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه (ص 69).

والفاسق قد أخاف الناسَ فهو خارج عن (¬1) نص الآية وكما هو خارج من الحديث، فخبر المؤمن بيِّن بنفسه، فلا يحتاج إلى تبين، بخلاف الفاسق. وفي هذا كالإيماء إلى أن المدار على الأمن والبيان. وعلى هذا فإذا لم يحصل الأمن والبيان بخبر المؤمن الذي ليس بفاسق، كأنْ كان مغفّلًا يكثر وهمه وجب التبين في خبره. [ص 27] وكذلك المؤمن الذي [ليس] (¬2) بفاسق ولا مغفّل إذا عرض في بعض أخباره ما يَريبُ فيه، كأن يكون مظنة خطأٍ وهناك قرينة على الخطأ، فيجب التبين في ذلك الخبر وأشباهه. فلا سبيل إلى معرفة ما يجب قبوله من المنقول من غيره إلا بمعرفة أحوال الناقلين، ثم بمعرفة ما يوقف على مظان الخطأ وقرائنه (¬3). وإذا كانت الآية مفتقرة إلى معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان على علمائها أن يعرفوا أحوال الرواة؛ ليعرفوا من يجب قبول روايته من غيره. وإذا كان المخبر مؤمنًا غير فاسق ولا مغفّل أو في معناه، ولم يكن هناك مظنة خطأ، ولا دلالة عليه، فخبره بيّن بنفسه، يجب قبوله منه وتصديقه فيه. فأدى الصحابةُ رضي الله عنهم ما تحمّلوه بعضهم إلى بعض، وإلى ¬

_ (¬1) تحتمل قراءتها: "من". (¬2) زيادة يستقيم بها السياق. (¬3) ضرب المؤلف على أكثر الصفحة وبقي قوله: "هذا وإذا كثرت الوسائط فالمأمور به" ثم انقطع الكلام فالظاهر أنه كلام تابع للمضروب عليه أيضًا.

التابعين، وأدى التابعون بعضهم إلى بعض، وإلى أتباعهم، وهكذا. وصار في وسع المتأخّر أن يعرف ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالتلقي ممن قبله، إلا أن المنقول اختلط فيه الحق بالباطل، والصحيح بالسقيم، فلم يكن بُدٌّ للعلماء من تمييز ذلك. وقد أرشد الكتاب والسنة إلى طريق التمييز، وتلقّى الأئمةُ ذلك فشرحوه، وعملوا به، كلٌّ بقدر وُسْعه. وملخص ذلك: أن المحتجّ به من الأخبار ثلاثة: الأول: المقطوع بصحته، كالمتواتر. الثاني: ما جمع ثلاث شرائط: أن يكون راويه عدلاً ضابطًا، وأن يكون متصلاً، وأن لا يكون شاذًّا ولا معللًا. الثالث: ما قصر عن هذه الدرجة إذا وُجِد ما يعضده، بحيث يحصل بالمجموع ظنّ قويّ، كالحاصل بخبر من اجتمعت فيه الشرائط. [ص 28] ومعرفة أحوال الرواة في العدالة والضبط مفتقرٌ إليها في الأضْرُب الثلاثة، أما في الثاني والثالث فواضح، وأما في المقطوع به فلأن معظم الموجود منه في الأحاديث هو ما يفيد القطع بمعونة القرائن، والعدالةُ والضبط من أعظم القرائن. وكما يفتقر إلى معرفة ثبوت العدالة والضبط أو انتفائهما، أو أحدهما، فإنه يفتقر إلى معرفة درجة الراوي في ذلك. أما في الضرب الأول: فلأن العدالة التامة والضبط التام أقوى مما

دونهما، فقد يفيد القطع خبر الثلاثة إذا كانوا تامي العدالة والضبط، ولا يفيده خبر الأربعة أو الخمسة من العدول الضابطين دون درجة أولئك. وأما في الثاني: فليعرف الراجح، فيقدّم عند التعارض. وأما في الثالث: فليعرف ما يصلح للشواهد والعواضد والمتابعات، ومقدار صلاحيته لذلك، فقد يصدق على ثلاثة أنهم ليسوا من أهل العدالة والضبط، بحيث لو تابعه آخر مثله لصار الخبر صالحًا للحجة. ودرجة الثاني متوسطة بحيث لو تابعه آخر مثله لم يبلغ ذلك، بل يحتاج إلى متابعة اثنين أو ثلاثة مثلاً، وهكذا. ودرجة الثالث بعيدة بحيث لو تابعه عشرة مثله لم يغن شيئًا، بل يقال: كأنهم تواطؤوا أو سرقه بعضُهم من بعض، أو وضعه بعضُ الدجّالين على هؤلاء فلقَّنهم، أو نحو ذلك. وكذلك معرفة الاتصال، ومعرفة الشذود والعلة، يُحْتَاج إليها في الأضرب الثلاثة، كما يعلم بالتأمل. وقد بلغ هذا العلم أوْجَه في القرون الأولى، ثم تباعد الناس عنه في القرون الوسطى؛ لاستغناء جمهورهم عن الاتباع بالتقليد، ومن احتاج إلى السنة من المقلدين إنما همّه نُصرة مذهبه، فينظر إلى الأحاديث المروية، فيرى منها ما يوافق مذهبه ومنها ما يخالفه، فيجتهد في تقوية ما يوافقه، وتضعيف ما يخالفه، فإذا وجد في الأصول المختلف فيها ما يساعده التزمه ونَصَره، وسعى في توهين ما يخالفه، وإن لم يجد أصلاً يساعده على هواه اخترع أصلاً وسعى في تثبيته بين أهل مذهبه على الأقل، ولهذا يكثر

تناقضهم حتى في الأصول. والمقصود: أن مرتبة التحقيق في هذا الفن عزَّ وجودُها في القرون الوسطى، إلا الواحد بعد الواحد. فأما القرون المتأخرة فصار هذا العلم نسيًا منسيًّا؛ لأن كلَّ فرقةٍ قنعت بما عندها في كتب مذهبها، وأقرت مخالفيها على ما عندهم في كتب مذهبهم. وضَعُف العلمُ جملةً، بل هُجِرت كتب السنة نفسها، فكم من كتاب من كتبها لا يوجد في مكاتب العالم منه إلا نسخة أو نسختان، ومنها ما فُقِد ألبته، إلا أنّ الاعتناء بالسنة في الجملة بقيت منه بقيّة في اليمن والهند، ثم في هذا القرن بدأ الناس يتراجعون إلى الاعتبار بالسنة شيئًا فشيئًا. ولله الحمد. والناظرون في هذا الفن من أهل العصر فريقان: فريق ليسوا من المعتنين بالسنة أصلاً، وإنما يضطرّ أحدُهم إلى تثبيت حديث أورده، فيتعاطى الكلام عليه. وهؤلاء لا يُعْبأ بهم، ولا بغلطهم. وفريق لهم عناية بالسنة في الجملة، وأكثرهم من يرى أنه إذا طالع بعضَ كتب المصطلح كـ "شرح ألفية العراقي"، و"شرح تدريب النواوي"، ثم حَصَلت له نسخةٌ من "تهذيب التهذيب"، ونسخة من "لسان الميزان" فقد أخذ بناصية الفن! وهيهات هيهات العقيقُ وأهلُه ... وهيهاتَ خِلٌّ بالعقيق نُحاوله (¬1) ¬

_ (¬1) البيت لجرير في "ديوانه" (ص 385). وفيه:

وإيضاح ذلك بوجوه (¬1). فصل المجهول (¬2) ¬

_ = فأيهات أيهات العقيقُ ومَن به ... وأيهات وصلٌ بالعقيق تواصله وبسياق المؤلف في "الصحاح": (6/ 2258)، و"اللسان": (13/ 552). (¬1) هنا انقطع الكلام فلعله سقط صفحة أو أكثر. (¬2) لم يكتب المؤلف تحت هذا العنوان شيئًا وأبقى باقي الصفحة بياضًا، فهل كتب المؤلف بقية المبحث في مكان آخر أم وقف به القلم هنا؟ فالله أعلم.

الرسالة الثالثة إشكالات في الجرح والتعديل

الرسالة الثالثة إشكالات في الجرح والتعديل

مهمة

بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرّحَيمِ مُهمّة نَجِد أئمة الجرح والتعديل يوثِّقون كثيرًا ممن لم يروهم ولم يدركوهم، وذلك كأبان بن صالح، توفي سنة بضع عشرة ومئة، ووثَّقه ابن معين والعجليّ ويعقوب بن شيبة وأبو زُرعة وأبو حاتم. وهؤلاء كلهم لم يُدْركوه، وأكبرهم ابن معين، وإنما ولد سنة 158 أي بعد وفاة أبان بنحو أربعين سنة. ونعجة بن عبد الله الجهني توفي سنة مئة ولم يصرح بتوثيقه غير النسائي، ومولد النسائي سنة 215. ومثل هذا كثير. فلا يُنكَر على المتبحّر في الحديث حتى في عصرنا هذا أن يقضي للتابعي فمَن دونه بتحرِّي الصدق في الحديث والضبط له؛ وذلك بأن يتتبّع أحاديث الراوي ويعتبرها، فيجد لها أو لأكثرها متابعات ثابتة وشواهد صحيحة، وإن لم يجد للقليل منها متابعة ولو شاهدًا خاصًّا وجد لها شواهد عامة بمطابقتها القواعد الشرعية وموافقة للقياسات الجليّة، فيغلب على ظنه أن ذلك الراوي صدوق في الحديث ضابط له. لكن بقيت إشكالات: الأول: أننا نجد بعض الأئمة يوثّق مَن لم يُدركه مع أنه لم يقف له إلا على الحديث والحديثين، ومثل هذا لا يظهر منه صدق الراوي ولا ضبطه. وهب أنه ترجح عند النسائي صدق الراوي وضبطه لمّا وجد ثقةً قد تابعه فروى ذينك الحديثين عن شيخه كما رواهما، فما يُدريه لعل لذلك الراوي أحاديث أُخَر قد تفرّد بها, ولا يلزم من صدقه وضبطه في الحديثين صدقه

وضبطه مطلقًا، وهو إذا وثَّقه قَبِلَ الناسُ ذلك منه، فاحتجوا بذلك الراوي مطلقًا. الإشكال الثاني: أن الحفَّاظ يختلفون في الرجال فقد يعتمد الحافظ في توثيق الراوي على أنه وجد له متابعًا هو ثقة عنده، وقد اطلع غيره على جرح ذلك المتابع. ومَن يجيء بعده يعتمد توثيقه ولا يشعر أنه إنما وثَّقه لظنه أن المتابع له ثقة. الإشكال الثالث: أن الحفّاظ لا يستنكرون تفرُّد الصحابي بل ولا تفرُّد التابعي بل ولا تفرُّد الراوي عن التابعين إذا روى عن تابعيّ لم تَكْثُر الرواةُ عنه. وعلى هذا فإذا وجد أحدُ الحفَّاظ لبعض أتباع التابعين حديثين قد رواهما عن بعض التابعين الذين لم يكثر الرواةُ عنهم عن بعض الصحابة، ولم يجد ذينك الحديثين من جهةٍ أخرى = فالظاهر أنه يعتمد على الشواهد المعنوية. وقد يُخطئ الحافظ في فهم الشواهد المعنوية، فقد يكون ذانك الحديثان في القدر، ويكون مذهب ذلك الحافظ على وفق معناهما، فلا يستنكرهما، وقد يكون مذهبه خطأ. وإذا وثّق ذلك الراوي قبل الناسُ توثيقه مطلقًا. وربما كان ظاهر الحديثين على معنى منكر، ولكن الحافظ تأوّلهما على معنى صحيح فوثَّق الراوي، فيأتي مَن بعده يحتج بهما على ظاهرهما. الإشكال الرابع - وهو أشدها -: أنه لا يلزم من معرفة الصدق في الحديث والضبط له معرفة العدالة المطلقة، وقد تقرَّر في الفقه أن المعدِّل لا بدّ أن يكون ذا خبرة بمن يعدّله، وأيّ خبرةٍ للحافظ بمن مات قبله بزمان طويل؟!

فإن قيل: لعله ثبت عنده تعديل الراوي عن بعض الثقات الذين خَبَروه من أهل عصره. قلت: هذا قد يقع وقد يُحتَمل ولكن في بعض الأفراد، فأما احتماله في جميع الموثقين فكلّا، بل من سَبَر هذا الفنّ عَلِم أنّ الأئمة كثيرًا ما يوثقون مِن عندهم بدون نقل، ولو كان هناك نقل لكان الأولى بالموثِّق أن يذكره. ومع ذلك فهب أنه كان عند الموثّق نقل بذلك، فهذا النقل يحتاج إلى معرفة رواته، وإذا لم يُسمّهم الموثق كان إطلاقه التوثيق بمنزلة إرساله الحديث، وأكبر أمْرِه أن يكون بمنزلة قوله: "حدثني الثقة عن الثقة". وقد قالوا: إن الحديث لا يثبت بذلك فكذلك التعديل، فلو صرّح به فقال: أخبرني ثقة عن ثقة عن ثقة: أنّ فلانًا كان عدلاً، هل تثبت العدالةُ بهذا؟ (¬1). ¬

_ (¬1) ذكر المؤلف هذه الإشكالات ولم يجب عنها هنا، لكنه أجاب عنها في آخر رسالة "الاستبصار في نقد الأخبار - ضمن هذا المجموع" (ص 59 - 62) فلتراجع. وقد ذكرتُ ذلك وما يمكن أن يُجاب به عن بعض هذه الأسولة في المقدمة (ص 13 - 14).

الرسالة الرابعة الحاجة إلى معرفة علم الجرح والتعديل

الرسالة الرابعة الحاجة إلى معرفة علم الجرح والتعديل

قال تبارك وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، وعبادته سبحانه وتعالى هي طاعته، وطاعتُه هي امتثال ما أمر به، واجتناب ما نهى عنه، فلذلك بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، وعلّمهم الكتابَ والحكمةَ، ليبينوا للناس أمرَ الله عَزَّ وَجَلَّ ونهيَه، فيكون لمن أراد أن يقوم بما خُلق لأجله سبيلٌ إلى معرفته، فيسعى في تحصيله، وذاك السعي بنفسه عبادة، وتقوم الحجة على من لم يُرِد ذلك، فيحيا من حيَّ عن بيّنة، ويَهْلِك من هلك عن بيّنة. ولما قضى سبحانه وتعالى أن نبوّة محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم خاتم النبيين وشريعتَه خاتمةُ الشرائع قضى أن تبقى محفوظةً إلى قيام الساعة، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]. والذِّكْر متناولٌ للسنة إن لم يكن بلفظه فبمعناه؛ لأن المقصود من حفظ القرآن إنما هو حفظ ما يعلم به أمر الله عَزَّ وَجَلَّ ونهيه، وهذا ثابت للسنة. ومَنْ أوفى بعهده من الله؟ فقد وفّى سبحانه وتعالى بعهده، فقيَّض للدين حَفَظَة، وللسنة نَقَلَة. فإن قيل: قد اختلط بها ما ليس منها. قلنا: أما أن تلتبس بها ألبتة بحيث لا يمكن تمييز الحق من الباطل، فلا والله. وأما بحيث يشتبه، فيتوقف التمييز على النظر والاجتهاد، فنعم، وتلك سنة الله عزَّ وجلَّ.

قال الله تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام: 112، 113]. قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 142]. وقال سبحانه: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ في جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [خاتمة العنكبوت]. يحسب كثير من الناس أن الجهاد في تمييز الحق من الباطل في السنة قد انتهى دوره، وهم فرق: الأولى: غُلاة المقلدين، الذين يزعمون أنه لم يبق للناس طريق إلى معرفة الشريعة إلا بأقوال أئمتهم أو القياس عليها. الثانية: من يترقّى عن هذه الدرجة، ولكنه يزعم أنه لا طريق إلى معرفة صحاح الأحاديث من ضعافها إلا بأقوال أئمة الحديث الذين ميزوا الصحيح من غيره. الثالثة: من يترقّى عن هذه الدرجة، ولكنه يرى أنه لا طريق إلى معرفة أحوال الرواة إلا بما قاله فيهم أئمة الحديث، كما هو مدون في كتب الرجال. فأما الفرقة الأولى: فليس هذا مقام البحث معها.

وأما الفرقة الثانية: فيقال لهم: أرأيتم أولئك الأئمة أمعصومين كانوا؟ فإن قالوا: لا. قيل لهم: فالعادة تقضي بأنهم لم يسلموا من الخطأ. فإن قالوا: العبرة بالغالب. قيل لهم: أفرأيتم إذا كانت الطريق لمعرفة ما غلطوا فيه موجودة، لماذا تسدونها؟ أو رأيتم ما اختلف فيه إمامان، فصححه أحدهما، وضعفه آخر؟ فإن قلتم: يُتوقّف فيه. قيل لكم: فإذا كانت السبيل إلى معرفة المصيب منهما موجودة، لماذا تقطعونها؟ أو رأيتم ما لم يُنْقَل عن الأئمة فيه تصحيح ولا تضعيف، ومعرفة حاله ممكنة، لماذا تتركونها؟ فإن قالوا: إنما ذهبنا إلى ما ذهبنا إليه لقصور عِلْم الناس، فإن غاية أحدهم أن يعرف أن رواة هذا الحديث ثقات، قد سمع كلٌّ منهم ممن قبله، وهذا وحده لا يقتضي الصحة؛ فإن شَرْط الصحيح أن يسلم من الشذوذ والعلة، ومعرفة العلل بغاية الصعوبة. قيل لهم: أرأيتم تلك الصعوبة، أتَبْلُغ أن يُقْطَع لأجلها بأن بلوغ تلك الرتبة مستحيل؟ فإن قالوا: نعم.

قيل لهم: هذا خلاف قضاء الله السابق، ووعده الصادق، فإن معرفة حكم تلك الأحاديث من الدين الذي تكفَّل الله عَزَّ وَجَلَّ بحفظه. وإن قالوا: أما الاستحالة فلا, ولكن بلوغها متعسّر. قيل لهم: فهلموا إلى السعي في سبيلها، والاجتهاد في تحصيلها، وقد قال الله عزَّ وجلَّ: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا ...} الآية [العنكبوت: 69]. وأما الفرقة الثالثة؛ فيقال لهم: أرأيتم من لم يوثّق، ولم يجرَّح؟ فإن قالوا: مجهول. قلنا: أرأيتم إن أريناكم الطريق إلى معرفة أحوال كثير من هؤلاء، أتسلكونها على ما فيها من التعب؟ أو رأيتم من قال فيه بعض الأئمة: روى عنه ثقة ولم أر في حديثه ما يدلُّ على ضعفه، أيكون هذا توثيقًا؟ فإن قالوا: لا. قيل: فإنّ من أهل العلم مَن يقول في مثل هذا: هو "ثقة"، فمَنْ عُلِم أن هذا مذهبه، هل يُعتدّ بتوثيقه؟ فإن قالوا: لا. قيل لهم: فلعل كثيرًا من الموثِّقين يرى هذا المذهب، فكيف تستندون إلى توثيقهم بدون أن تعرفوا مذهبهم؟ أو رأيتم ألفاظ الجرح والتعديل، هل الأئمة متفقون على معانيها؟

فإن قلتم: غالبًا. قلنا: بل هناك اختلاف، لا بد لكم مِن معرفة مَن مِن الأئمة يقول بهذا ومَن منهم يقول بذاك، لتُعرف قيمة الكلمة الصادرة عن كل منهم. أو رأيتم من اختُلِف فيه، فوثقه بعض، وجرحه بعض؟ فإن قالوا: الجرح إن كان مفسّرًا مقدّم. قيل لهم: فهل حققتم ما هو المفسر من ألفاظ الجرح والتعديل؟ فإن الظاهر من رأيكم أن نحو قولهم: "ضعيف" غير مفسَّر، أفرأيتم من كان منهم لا يطلق هذه الكلمة إلا لمعنى ترونه جرحًا، ألا تكون هذه الكلمة من المفسَّر؟ وبالجملة، فإنه ينبغي لكم أن تبحثوا عن مذاهب أئمة الجرح والتعديل, لتعرفوا مذهب كلِّ واحد في حدّ مَن يُطلِق عليه "ثقة" وفي حدّ مَن يُطلِق عليه "ضعيف" وغير ذلك. بل وأن تبحثوا عن الطريقة التي سلكها أئمة الحديث في تعرُّف أحوال الرواة، وتسعوا في اتباعهم فيها. فإن قالوا: هذا صعب. كان الكلام معهم كما تقدم مع الفرقة الثانية. وبالجملة، فإن بأهل العلم أشدّ الحاجة إلى أمرين: الأول: تحقيق الحق فيما اختلف فيه بما يقتضي القبول أو الرد، مع السعي في معرفة رأي كل إمام من أئمة الجرح والتعديل في ذلك، ومعرفة عادة كل إمام في استعماله ألفاظ الجرح والتعديل, في أيّ حال يطلق "ثقة"،

وفي أيّ حالٍ يطلق "ضعيف" إلى غير ذلك. الثاني: معرفة الطريق التي سلكها الأئمة لنقد الرواة، ثم السعي في اتباعهم فيها.

الرسالة الخامسة الأحاديث التي استشهد بها مسلم في بحث الخلاف في اشتراط العلم باللقاء

الرسالة الخامسة الأحاديث التي استشهد بها مسلم في بحث الخلاف في اشتراط العلم باللقاء

الأحاديث التي استشهد بها مسلم رحمه الله في بحث الخلاف في اشتراط العلم باللقاء

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الأحاديث التي استشهد بها مسلم رحمه الله في بحث الخلاف في اشتراط العلم باللقاء (¬1) 1 - حديث هشام بن عُروة عن أبيه عن عائشة: "كنت أُطيِّبُ" (¬2). ورواه جماعةٌ عن هشام عن أخيه عثمان عن أبيه (¬3). أقول: فهذا تدليس من هشام، وراجع ترجمة هشام في "مقدمة الفتح" (¬4) و"معرفة الحديث" للحاكم (ص 104). 2 - هشام عن أبيه عن عائشة: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا اعتكف" (¬5). ورواه مالك عن الزهري عن عروة عن عمرة عن عائشة (¬6). في أبواب الاعتكاف "باب لا يدخل البيت إلا لحاجة" عندما روى ¬

_ (¬1) انظر مقدمة "صحيح مسلم": (1/ 31 - 33). (¬2) أخرجه النسائي في "الكبرى" (4149)، والدارمي (1842)، وابن حبان (3772). (¬3) أخرجه البخاري (5928)، ومسلم (1189)، والنسائي وغيرهم (2690)، وأحمد (24988)، وغيرهم. (¬4) (ص 448). وانظر "التنكيل" رقم (261). (¬5) مقدمة صحيح مسلم (1/ 31). (¬6) في "الموطأ" (866). وعنه أخرجه مسلم (297)، وأبو داود (2467)، والترمذي (804)، وأحمد (24731).

البخاري (¬1) المتن بمعنى هذا عن الليث عن الزهري عن عروة وعَمرة، ذكر الحافظ (¬2) أن منهم من اختصر على عروة، ثم قال: "اتفقوا على أن الصواب قول الليث، وأن الباقين اختصروا منه ذِكرَ عَمْرة، وأن ذِكْر عَمرة في رواية مالك من المزيد في متصل الأسانيد". أقول: ويؤيد ذلك ما في كتاب الحيض من "صحيح البخاري" (¬3) من طريق هشام عن أبيه، وفيه من قوله: "أخبرتني عائشة أنها كانت تُرجِّل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي حائض، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حينئذ مجاور في المسجد، يُدني لها رأسه فتُرَجَّله وهي حائض". 3 - الزهري وصالح بن أبي حسان عن أبي سلمة عن عائشة: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُقبِّلُ وهو صائم" (¬4). فقال يحيى بن أبي كثير: أخبرنى أبو سلمة أن عمر بن عبد العزيز أخبره أن عروة أخبره أن عائشة أخبرته" (¬5). أقول: الظاهر أن الحديث عند أبي سلمة من الوجهين، وإنما رواه بنزولٍ توقيرًا لعمر بن عبد العزيز وإظهارًا لفضله، وهذا أولى بلا ريب من اتهام أبي سلمة بالتدليس. ¬

_ (¬1) (2029). (¬2) "فتح الباري" (4/ 273). (¬3) (296). (¬4) أخرجه أحمد (26196). (¬5) أخرجه أحمد (25613)، والنسائي في "الكبرى" (3055).

4 - وروى ابن عيينة وغيره عن عمرو بن دينار عن جابر، قال: "أطعمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحومَ الخيل ... " (¬1). ورواه حمَّاد بن زيد، عن عَمرو، عن محمَّد بن علي عن جابر (¬2). أقول: عمرٌو ذكره ابنُ حجر في "طبقات المدلسين" (¬3) وقال: "أشار الحاكم في "علوم الحديث" إلى أنه كان يدلس". أقول: عبارة الحاكم في "المعرفة" (ص 111) (¬4) في الكلام على المدلسين: "هذا باب يطول، فليعلم صاحب الحديث أن الحَسَن لم يسمع من أبي هريرة ... وأن الأعمش لم يسمع من أنس ... وأنَّ قتادة لم يسمع من صحابي غير أنس، وأنَّ عامة حديث عمرو بن دينار عن الصحابة غير مسموعة". وقد حمل الترمذي رواية حماد على الوهم، وقال: "سمعت محمدًا - البخاري - يقول: ابن عيينة أحفظ من حماد". ولكن ذكر الحافظ في "الفتح" (9/ 513) (¬5) أنَّ حمادًا توبع، ثم قال: ¬

_ (¬1) أخرجه الحميدي (1309)، والترمذي (1793)، والنسائي (4328)، وابن حبان (5268). قال الترمذي بعد أن ذكر الطريق الأخرى: "ورواية ابن عيينة أصحّ، وسمعت محمدًا يقول: سفيان بن عيينة أحفظ من حماد بن زيد". (¬2) أخرجه النسائي في "الكبرى" (4820). (¬3) (ص 88 - 89). (¬4) وقع في الأصل (ص 11) سهو. (¬5) (9/ 646 - السلفية).

"والحق أنه إن وُجِدت روايةٌ فيها تصريحُ عمرو بالسماع من جابرٍ، فتكون روايةُ حمادٍ من المزيد في متصلِ الأسانيد، وإلاَّ فرواية حمادِ بن زيدٍ هي المتصلة". أقول: إن لم يثبت عن عَمرو ما يدلّ على التدليس غير هذا، فينبغي حملُ كلام الحاكم على الصحابة الذين لم يلقهم عمرٌو، وقد بيَّن الأئمة كثيرًا منهم، كما في ترجمة عمرو من "التهذيب" (¬1)، وهذا عند الحاكم تدليس كما صرَّح به. والحق [أنه] لا يلزم من ثبوتِ هذا عن الراوي أن يُحْكَم عليه بالتدليس في شيوخه الذين قد سمع منهم. ثم يُحمل ما وقع في هذا الحديث على نحو ما تقدم في الذين قبله، وهو أن عمرًا أراد تكريم محمَّد بن علي؛ لقرابته من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفضله، فروى عنه ما قد سمعه هو من شيخه، والله أعلم. ثم رأيت في "مسند أحمد (3/ 268) (¬2): "ثنا محمَّد بن جعفر، ثنا شعبة، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن عبد الله، قال: "كنا نفعله على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"، يعني العَزْل، قال: قلت لعمرو: أنتَ سمعتَه من جابر؟ قال: لا". والحديث في "الصحيحين" (¬3) من طريق عمرو عن عطاء عن جابر مصرحًا فيه بالسماع، فقد يقال: إن عمرًا إنما يفعل مثل هذا فيما سمعه نادرًا، حيث يكون قد حدَّث بالحديث على وجهه، ويكون سمعه من ثِقة متفق عليه. ¬

_ (¬1) (8/ 28). (¬2) (14957). (¬3) البخاري (5209)، ومسلم (1440/ 136).

5 - "عبد الله بن يزيد الأنصاري، وقد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم -، روى عن حذيفة حديثًا، وعن أبي مسعود حديثًا, ولم يصرح بالسماع، ولا علمنا لُقِيَّهُ لهما" (¬1). أقول: أما حديث حذيفة فذكر النووي أنه قوله: "أخبرني النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بما هو كائن". الحديث خرَّجه مسلم (¬2). أقول: أخرج أولاً (¬3) معناه مطولًا من طريق أبي إدريس عن حذيفة، ومن طريق أبي وائل عن حذيفة، ثم ذكره، فهو متابعة. والحديث مشهور عن حذيفة، فإن صحَّ قول مسلم في عدم العلم بلقاء عبد الله بن يزيد لحذيفة، فالجواب أنه لمَّا لم يكن له عنه إلا حديث واحدٌ، والحديث مشهورٌ من غير طريقه عن حذيفة، لم يحتَجْ أهلُ العلم إلى الكلام فيه، بل رووا الحديثَ على أنه متابعة، فهو مقبول في مثل ذلك، وإن كان محكومًا عليه بالانقطاع. وأما حديثه عن أبي مسعود ففي "شرح النووي" (¬4) أنه حديث: نفقة الرجل على أهله. أقول: والحديث في "الصحيحين" (¬5) من طُرُق، وفي رواية للبخاري: " ... عن عبد الله بن يزيد أنه سمع أبا مسعود ... " (¬6) فقد ثبت اللقاء والسماع ¬

_ (¬1) مقدمة مسلم: (1/ 33) باختصار وتصرّف. (¬2) (2891/ 24). (¬3) (2891/ 22). (¬4) (1/ 137). (¬5) البخاري (4006، 5351)، ومسلم (1002) وغيرهما. (¬6) هي التي برقم (4006).

لهذا الحديث نفسه. راجع "الفتح" (9/ 401) (¬1). 6 - "أبو عثمان النهدي، وأبو رافع الصائغ، وهما ممن أدرك الجاهلية، وصَحِبا البدريِّين، ونقلا عنهم الأخبار، حتى نزلا إلى مثل أبي هريرة. قد أسند كلُّ واحد منهما عن أُبيّ بن كعب حديثًا, ولا يُعلم لقاؤهما له" (¬2). أقول: حديث أبي عثمان قال النووي (¬3): إنه قوله: "كان رجلٌ لا أعلم أحدًا أبعدَ من المسجد بيتًا منه ... " خرَّجه مسلم (¬4). والجواب عنه: أن في "مسند أحمد" (5/ 133) (¬5): "ثنا سفيان عن عاصم عن أبي عثمان عن أُبيّ ... " فذكر الحديث، ثم قال أحمد: "ثنا علي بن إسحاق، ثنا عبد الله بن المبارك، أنا عاصم الأحول، عن أبي عثمان، حدثني أُبيُّ بن كعب، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أمَا إنّ لكَ ما احتسبتَ". وهي قطعة من هذا الحديث، فثبت اللقاء والسماع (¬6). [ص 2] قال النووي (¬7): "وأما حديث أبي رافع عنه فهو: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) (9/ 498). (¬2) مقدمة صحيح مسلم (1/ 34). (¬3) في "شرح مسلم": (1/ 139). (¬4) (663). (¬5) (21213). (¬6) "وهي قطعة ... " من نسخة الأنصاري، وقد أتى عليها التَلَف في النسخة التي بخط المؤلف. (¬7) "شرح مسلم": (1/ 139).

كان يعتكف في العشر الأُخَر، فسافر عامًا، فلما كان في العام المُقبل اعتكف عشرين يومًا" رواه أبو داود (¬1). أقول: لم يخرجه مسلم رحمه الله في "الصحيح"، وذلك يدلّ على توقُّفٍ له فيه؛ لأنه ليس هناك طريقٌ أخرى صحيحة يورِدُها، ويجعلَ هذه متابعةً لها، والحديث في حُكمٍ وسُنَّةٍ. وقد أنصف بذلك. 7 - "أسند أبو عمرو الشيباني، وأبو معمر عبد الله بن سَخْبَرَة، كلُّ واحدٍ منهما عن أبي مسعود، خبرَيْن" (¬2). قال النووي (¬3): "حديثا الشيباني أحدُهُمَا حديث: "جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إنه أُبْدعَ بي ... "، والآخر: "جاء رجلٌ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بناقةٍ مخطومةٍ، فقال: لك بها يوم القيامة سبعمائة"، أخرجهما مسلم (¬4)، وأسند أبو عمرو أيضًا عن أبي مسعود حديث: "المستشار مؤتمن" رواه ابن ماجه" (¬5). أقول: ومتن الأول: "مَن دلَّ على خيرٍ فله مثلُ أجر فاعله". ¬

_ (¬1) (2463). وأخرجه ابن ماجه (1770)، والنسائي في "الكبرى" (3330)، والطيالسي (555)، والحاكم: (1/ 439). (¬2) مقدمة مسلم (1/ 34). (¬3) "شرح مسلم": (1/ 140). (¬4) (1893 و1892) على التوالي. (¬5) (3746). وأخرجه أحمد (22360).

وأما الثاني (¬1)، فمتنه "لتأتينَّ" أي الناقة، وكلها في فضائل الأعمال، وشواهدُ الأول من السنن الثابتة معروفةٌ، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "من سنَّ سنَّةً حسنة فله أجرها، وأجر من عمل بها" (¬2)، وقوله: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثلُ أجورِ مَن تبعه" (¬3). ودليل الثاني: قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ في سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ في كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} [البقرة: 261]. وللثالث شواهد من حديث جابر وابن عباس وأبي هريرة ومعناه ثابتٌ في العقول: أنَّ الإنسان لا يستشير على الحقيقة إلا من يأتمنه، فمن استشارك فقد ائتمنك. قال النووي (¬4): "وأما حديثا أبي معمر، فأحدهما: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يمسح مناكبنا في الصلاة" أخرجه مسلم (¬5)، والآخر: "لا تجزي صلاةٌ لا يقيم الرجل صلبَه فيها في الركوع" أخرجه أصحاب السنن وغيرهم (¬6)، وقال الترمذي: "هو حديث حسن صحيح". ¬

_ (¬1) "وأما الثاني" ضرب عليها المؤلف سهوًا. (¬2) أخرجه الترمذي (2675)، وابن ماجه (203)، وأحمد (19200) من طرق عن جرير البجلي. (¬3) أخرجه مسلم (2674) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬4) "شرح مسلم": (1/ 140). (¬5) (432). (¬6) أخرجه أبو داود (855)، والترمذي (265)، والنسائي (1026).

أقول: أما الحديث الأول فأخرج معه مسلمٌ عدّة أحاديثَ صحيحة تؤدّي معناه، فهو في حكم المتابعة، وأقربُ تلك الشواهد من لفظه حديث النعمان بن بشير (¬1)، فهو إذًا في معنى المتابعة. وأما الحديث الثاني فلم يخرِّجه مسلم، ولعلّ ذلك لأنه في حُكْمٍ مختلَفٍ فيه، ولم يجد له شاهدًا صريحًا صحيحًا. ومن شواهده: حديث المسيء صلاتَه وفيه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "ارجع فصلِّ فإنك لم تُصَلّ"، وهو في "الصحيحين" (¬2)، لكن لم يقع في روايتهما أن الرجل إنما قصَّر بأنه لم يُقم صُلبَه في الركوع والسجود، وإن وقع معنى ذلك في رواية لغيرهما كما في "الفتح" (¬3). ومن شواهده قول زيد بن وهب: "رأى حذيفةُ رجلاً لا يتم الركوع والسجود، فقال: ما صليت، ولو متَّ مِتَّ على غير الفطرة التي فطر الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - " أخرجه البخاري (¬4)، ولكن في الحكم له بالرفع خلافٌ، والله أعلم. 8 - قال مسلم: "وأسند عُبيدُ بن عُمير عن أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثًا، وعُبيد بن عمير ولد في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (436). (¬2) البخاري (757، 793)، ومسلم (397). (¬3) (2/ 220). (¬4) (389). (¬5) مقدمة الصحيح: (1/ 34).

قال النووي: "هو قولها لمَّا مات أبو سلمة، قلت: غريبٌ وفي أرض غريبة، لأبكينَّه بكاء يُتَحدثُ عنه. أخرجه مسلم" (¬1). أقول: حاصله أنه بعد موت أبي سلمة جاءت امرأةٌ لتسعدها في البكاء، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - للمرأة: "أتريدين أن تُدْخِلي الشيطانَ بيتًا قد أخرجه الله منه" فهو في النهي عن النياحة، وهو ثابت بأحاديث كثيرة، وفيه فضيلة لأبي سلمة، وذلك أيضًا ثابت. 9 - قال مسلم: "وأسند قيسُ بن أبي حازم - وقد أدرك زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أبي مسعود الأنصاري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أخبار" (¬2). قال النووي: "هي حديث: "إن الإيمان ههنا، وإن القسوة وغلظ القلوب في الفدَّادين" وحديث: "إن الشمس والقمر لا يكسفان لموث أحد"، وحديث: "لا أكاد أُدرك الصلاة مما يطوَّلُ بنا فلان" أخرجها كلها البخاري ومسلم" (¬3). أقول: قال البخاري في "الصحيح" (¬4) في كتاب الكسوف: "حدثنا شهاب بن عَبّاد، قال: حدثنا إبراهيم بن حميد، عن إسماعيل، عن قيس، قال: سمعت أبا مسعود يقول ... " فذكر الحديث الثاني. ¬

_ (¬1) شرح مسلم: (1/ 140). والحديث في مسلم (2131). (¬2) مقدمة الصحيح: (1/ 34). (¬3) شرح مسلم: (1/ 140). الحديث الأول عند البخاري (4387)، ومسلم (51). والحديث الثاني عند البخاري (1041)، ومسلم (911). والحديث الثالث عند البخاري (90)، ومسلم (466). (¬4) (1041).

وقال في أبواب الإمامة (¬1): "حدثنا أحمد بن يونس قال: حدثنا زهير، قال: حدثنا إسماعيل، قال: سمعت قيسًا قال: أخبرني أبو مسعود ... " فذكر الحديث الثالث، فثبت اللقاء والسماع، ولله الحمد. 10 - قال مسلم: "وأسند عبد الرحمن بن أبي ليلى - وقد حفظ عن عمر، وصَحِب عليًّا - عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثًا" (¬2). قال النووي: "وهو قوله: "أمر أبو طلحة أمَّ سُلَيم، اصنعني طعامًا للنبي - صلى الله عليه وسلم -. أخرجه مسلم" (¬3). أقول: هو عنده في كتاب الأشربة والأطعمة "باب جواز استتباع غيره" (¬4) ساق مسلم الحديثَ من طريق "إسحاق بن عبد الله، عن أبي طلحة أنه سمع أنسًا"، ثم من طريق "بُسر بن سعيدٍ، حدثني أنس"، ومن طريق أخرى عنه "سمعتُ أنسا"، ثم ذكر رواية ابن أبي ليلى، فهي عنده متابعةٌ، ثم ذَكَره من طريق خمسةٍ آخرين عن أنس. [ص 3] 11 - قال مسلم: "وأسند ربعيُّ بن خِراش، عن عِمران بن حصين، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثين. وعن أبي بكرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثًا. وقد سمع ربعيٌّ من عليًّ، وروى عنه" (¬5). ¬

_ (¬1) (702). (¬2) مقدمة الصحيح: (1/ 34). (¬3) شرح مسلم: (1/ 140 - 141). (¬4) (2040/ 142 - 143). (¬5) مقدمة الصحيح: (1/ 35).

قال النووي: "أما حديثاه عن عمران فأحدهما في إسلام حُصين والد عِمران، رواه عبد بن حُمَيد في "مسنده" والنسائي في كتابه "عمل اليوم والليلة" بإسناديهما الصحيحين. والحديث الآخر: "لأعطينَّ الرايةَ رجلاً يحبّ اللهَ ورسولَه" رواه النسائي في "سننه"" (¬1). أقول: لم يخرجهما مسلم، ولا فيهما حكم، وقد توبع ربعيٌّ على كلًّ منهما. قال النووي: "وأما حديثه عن أبي بكرة فهو: "إذا المسلمان حمل أحدهما على أخيه السلاح، فهما على حرف جهنم" أخرجه مسلم، وأشار إليه البخاري" (¬2). أقول: ذكراه في المتابعات. 12 - قال مسلم: "وأسند نافع بن جبير بن مطعم عن أبي شريح الخزاعي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثًا" (¬3). قال النووي: "أما حديثه فهو حديث: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره" أخرجه مسلم في كتاب الإيمان هكذا، وقد أخرجه البخاري ومسلم أيضًا من رواية سعيد بن أبي سعيد المقبري" (¬4). ¬

_ (¬1) شرح مسلم: (1/ 141). (¬2) مسلم (2888)، وعلقه البخاري في كتاب الفتن، باب إذا التقى المسلمان بسيفيهما (7083). (¬3) مقدمة الصحيح: (1/ 35). (¬4) شرح مسلم: (1/ 141).

أقول: أخرج مسلم (¬1) حديثَ أبي هريرة بمثل أبي شُرَيح، ثم أخرجَ حديث نافع عن أبي شريح (¬2)، فهو شاهدٌ مع ثبوته عن أبي شريح من طريق سعيد المقبريّ سماعًا من أبي شريح. 13 - قال مسلم: "وأسند النعمانُ بن أبي عيّاش، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أحاديث" (¬3). قال النووي: "الأول: "من صام يومًا في سبيل الله ... "، والثاني: "إن في الجنة شجرة ... "، أخرجهما معًا البخاري ومسلم، والثالث: "إن أدنى أهل الجنة ... " أخرجه مسلم" (¬4). أقول: قال البخاري في "التاريخ" (4/ 2/ 77): "النعمان بن أبي عيّاش الزُّرَقي الأنصاري، سمع أبا سعيد الخدري ... "، وقال في "الصحيح" (¬5) في كتاب الرِّقاق، في باب صفة الجنة والنار: "وقال إسحاق بن إبراهيم: أنبأنا المغيرة بن سلمة، حدثنا وُهيبٌ، عن أبي حازم، عن سهل بن سعدٍ ... قال أبو حازم: فحدّثتُ به النعمان بن أبي عياش، فقال أخبرني (¬6) أبو سعيد ... " ¬

_ (¬1) (47). (¬2) (48). (¬3) مقدمة مسلم: (1/ 35). (¬4) شرح مسلم: (1/ 141 - 142). الحديث الأول: البخاري (2840)، ومسلم (1153). الحديث الثاني: البخاري (6553)، ومسلم (2828). الحديث الثالث: مسلم (188). (¬5) (6553). (¬6) في نسخة: "حدثني".

فذكر الحديث الثاني، بل رواه مسلمٌ نفسه في أوائل كتاب الجنة (¬1) بهذا السند نفسه، وفيه: "قال: أبو حازمٍ فحدثتُ به النعمان بن أبي عياش الزرقي، فقال: حدثني أبو سعيد الخدري". 14 - قال مسلم: "وأسند عطاء بن يزيد الليثي عن تميم الداري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثا" (¬2). قال النووي: "هو حديث: "الدين النصيحة"" (¬3). أقول: أخرجه مسلم (¬4) في كتاب الإيمان, باب: بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون، وذكر معه أحاديث تؤدي معناه، منها: حديث أبي هريرة: "لا تؤمنوا حتى تحابوا" (¬5)، وحديث جرير: "بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم" (¬6). وقد رُوي "الدين النصيحة" من حديث ثوبان وغيره (¬7)، ومعناه ثابتٌ بنصوص كثيرة، كقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، وقوله ¬

_ (¬1) (2827 - 2828). (¬2) مقدمة مسلم: (1/ 34). (¬3) شرح مسلم: (1/ 142). (¬4) (55). (¬5) (54). (¬6) (56) (¬7) من حديث ثوبان أخرجه الطبراني في "الأوسط" (1184). ورُوي من حديث ابن عباس عند أحمد (3281)، ومن حديث أبي هريرة عند النسائي (4199) وأحمد (7954).

صلى الله عليه وآله وسلم: "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يُسْلِمُه" (¬1)، وقوله: "من غَشّنا فليس منّا" (¬2) إلى غير ذلك. 15 - قال مسلم: "وأسند سليمان بن يسار عن رافع بن خديج، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثا" (¬3). قال النووي: "هو حديث المحاقلة أخرجه مسلم" (¬4). أقول: في باب كِراء الأرض بالطعام (¬5)، وأخرج له عدة متابعاتٍ، وشواهد. [ص 4] 16 - قال مسلم: "وأسند حُميد بن عبد الرحمن الحميري عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث" (¬6). قال النووي: "من هذه الأحاديث: "أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل" أخرجه مسلم". ثم ذكر عن الحميدي: أنه ليس للحميري عن أبي هريرة في الصحيح غيره، قال النووي: "وربما اشتبه بحُميد بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، وقد رَوَيَا له في "الصحيحين" أحاديث كثيرة ... وليس للحميري عن أبي هريرة أيضًا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2442)، ومسلم (2580) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. (¬2) أخرجه مسلم (101) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) مقدمة الصحيح: (1/ 35). (¬4) شرح مسلم: (1/ 142). (¬5) (1547). (¬6) مقدمة صحيح مسلم: (1/ 35).

في سنن أبي داود والترمذي والنسائي غير هذا الحديث" (¬1). أقول: ولم أرَ له في حديث أبي هريرة من "مسند أحمد" على طوله غير هذا الحديث على ما فيه. قال مسلم في (باب: فضل صوم المحرم)، والترمذي في (باب: ما جاء في صوم المحرم)، والنسائي في (باب: فضل صلاة الليل) (¬2): "حدَّثنا (وقال النسائي: أخبرنا) قتيبة (زاد مسلمٌ والنسائي: ابن سعيدٍ)، ثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن حُميد بن عبد الرحمن (الحميري، كذا قال مسلم والترمذي، أما النسائي فقال: هو ابن عوفٍ) عن أبي هريرة". وقال أبو داود (¬3): (باب: في صوم المحرّم): "حدثنا مسدد وقتيبة بن سعيد، قالا: ثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة". وقال أحمد في "المسند" (3/ 344) (¬4): "ثنا عفان، ثنا أبو عوانة، عن أبي بشر عن، حُميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة". وأخرجه النسائي (¬5) عن سويد بن نصر، عن عبد الله، عن شعبة، عن أبي بشرٍ جعفر بن أبي وحشيَّة، أنه سمع حُميد بن عبد الرحمن يقول: قال ¬

_ (¬1) شرح مسلم: (1/ 143). (¬2) مسلم: (2/ 821)، والترمذي: (3/ 117)، والنسائي: (3/ 206). (¬3) (2/ 298). (¬4) (8534). (¬5) (1614).

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... "، قال النسائي: "أرسله شعبة". ورواه أحمد (2/ 535) (¬1): عن أبي الوليد الطيالسي، عن أبي عوانة، عن عبد الملك، عن حُميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة. ورواه البيهقي في "السنن" (4/ 291) من طريق "مسدَّدٍ، ثنا أبو عَوانة، عن عبد الملك بن عمير، عن محمَّد بن المُنتَشِر، عن حُميد بن عبد الرحمن الحميري، عن أبي هريرة". وقد رواه مسلم (¬2) أيضًا من طريق جرير، عن عبد الملك بن عُمير، عن محمَّد بن المنتشر، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، ومن طريق زائدة عن عبد الملك بن عمير، قال مسلم: "بهذا الإسناد في ذكر الصيام عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمثله". وقد أخرجه ابن ماجه (¬3) من طريق "زائدة عن عبد الملك بن عمير، عن محمَّد بن المنتشر، عن حميد بن عبد الرحمن الحميري، عن أبي هريرة قال: جاء رجلٌ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: فقال: أيُّ الصيام أفضلُ بعد شهر رمضان؟ قال: شهر الله الذي تدعونه المحرَّم". قال البيهقي: "وخالفهم في إسناده عبيد الله بن عمرو الرَّقيُّ" ثم ساقه من طريق الربيع بن نافع، عن عبيد الله، عن عبد الملك بن عمير، عن جندب بن سفيان البجلي، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول، فذكره. ¬

_ (¬1) (10915). (¬2) (1163/ 203). (¬3) (1742).

أقول: ورجاله ثقات، ويمكن أن يكون شعبة - والله أعلم - إنما أرسله لهذا الاختلاف. وقال البخاري في "التاريخ" (1/ 2/ 343): "حُميد بن عبد الرحمن الحميري البصري عن أبي هريرة وابن عباس ... ". أقول: وفي الحديث نظرٌ من وجوه: الأول: ما ذكره مسلم من أنه لا يعلم لـ "حميد الحميري" لقاءٌ لأبي هريرة. الثاني: ما سمعتَ من الاختلاف. والثالث: أنه لا يُتابَعُ عن أبي هريرة، ولا عن جُندب، مع ما لأبي هريرة من الأصحاب الحفاظ المكثرين. الرابع: أنه بالنسبة إلى الصوم ليس له شاهدٌ - فيما أعلم- إلاَّ ما رواه الترمذي (¬1) من طريق عبد الرحمن بن إسحاق، عن النعمان بن سعد عن علي، وقال الترمذي: "حسن غريب" (¬2). وعبد الرحمن بن إسحاق هو: ابن شيبةَ الواسطيَّ، قال أحمد: ويحيى: "ليس بشيء"، وقال أحمد وغيره: "منكر الحديث"، وقال مرة: "ليس بذاك، وهو الذي يُحدّثُ عن النعمان بن سعد أحاديث مناكير"، وضعَّفه غيرهم أيضًا. ¬

_ (¬1) (2527). (¬2) وفي نسخة "غريب" فقط.

والنعمان بن سعدٍ تفرَّد عنه عبد الرحمن بن إسحاق، فيما قال أبو حاتم (¬1)، وكذا قال البخاري (4/ 3/ 77)، كما ثبت في بعض نسخ "التاريخ". قال ابن حجر في "التهذيب" (¬2): "والراوي عنه ضعيف فلا يحتجُّ بخبره". أقول: وذكره ابن حبان في "الثقات" (¬3) والثقة عنده: مَن روى عن ثقة، وروى عنه ثقة، ولم يروِ منكرًا. وهذا الشرط مع تساهله مفقودٌ هنا؛ لأنّ الراوي عنه غير ثقة، وروى عنه المناكير، كما مرَّ. الخامسُ: أن الثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يكن يصومُ شهرًا كاملًا إلا أنه كان يكثرُ الصيامَ في شعبان، والله أعلم. ¬

_ (¬1) "الجرح والتعديل": (8/ 446). (¬2) (10/ 453). (¬3) (5/ 472).

الرسالة السادسة رسالة في الصيغ المحتملة للتدليس أظاهرة هي في السماع أم لا؟

الرسالة السادسة رسالة في الصيغ المحتملة للتدليس أظاهرةٌ هي في السماع أم لا؟

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ما قولكم - رحمكم الله - في قول المحدث: "عن فلان" أو "قال فلان" أو "ذكر فلان" ونحوها من الصِّيَغ المحتملة للتدليس، أظاهرةٌ هي في السماع أم لا؟ فإن قلتم: نعم، فيلزم من ذلك أن يكون المتكلّم بها مريدًا خلافَ ظاهرها، كاذبًا إذا لم ينصب قرينةً تصرفها عن ظاهرها؛ لما تقرَّر في موضعه (¬1): أن نيّة التورية بدون قرينة لا تُخرج الكلامَ عن كونه كذبًا. وليس هذا من المواضع التي رُخِّص في الكذب مع التورية فيها ولا يشبهها؛ لأن الكذب فيها لدفع مضرَّة ولا تترتّب عليه مفسدة، وما هنا ليس كذلك؛ لأن المفسدة قائمة وهي ظنّ السامع الحديثَ صحيحًا، فيحلّ به الحرام ويحرم الحلالَ، وإذا ثبت هذا لزم أن يكون التدليس جرحًا. فإن قلتم: إن المدلِّس إذا اشتهر بالتدليس صارت هذه الصِّيَغ غير ظاهرةٍ في السماع بالنسبة إليه، وهذه قرينةٌ كافية, لأن الكلام يكون معها محتملًا فيخرج عن الكذب حتمًا. قيل: نعم ولكن ما حصلت هذه القرينة إلا بعد أن وقع منه التدليس مرارًا، فقد دلَّس مرارًا قبل أن تحصل القرينة بمعرفة عادته، وهذا كافٍ في الجرح. ¬

_ (¬1) انظر رسالة "أحكام الكذب" للمؤلف ضمن مجموع رسائل أصول الفقه.

على أنه بعد أن عُرِفت عادتُه، كثيرًا ما يقع أن يسمع منه مَن لم يعرف عادتَه من الغرباء ونحوهم [ص 2] وربما كان يحضر حَلْقة المحدِّث مائة ألف أو أكثر. وإذا راجعنا تراجم المدلسين من كتب الرجال وجدنا الرجلَ منهم قد يوثِّقه جماعة ولا يذكرون التدليس، وإنما يذكره واحد أو اثنان، وذلك قاضٍ بأنه لم يكن مشهورًا بالتدليس الشهرةَ الكافية. ولا يظهر كبيرُ فرقٍ بين من يدلس عن الضعفاء مطلقًا كبقية بن الوليد ومَن لا يدلّس إلا عن ثقة عنده، ومَن لا يدلّس إلا عن ثقة متفق عليه، كسفيان بن عُيينة. أما الثاني فلأنّ الثقة عنده قد يكون مجروحًا عند غيره، فالمفسدة باقية وإن كانت أخفّ من الأول. وأما الثالث فلأن الثقات يتفاوتون في الحفظ والإتقان، ويظهر أثرُ ذلك عند التعارض، فإذا روى رجلٌ مكافئ لابن عُيينة حديثًا بالسماع من عَمرو بن دينار عن ابن عمر، وروى ابنُ عيينة حديثًا يعارضه عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة. فربما رجّح من يظن أن ابن عُيينة سمع الحديث من الزهري حديثَ الزهري، ويكون ابن عُيينة إنما سمع الحديث من عبد الرزاق عن معمر عن الزهري، ولكنه دلَّسه. ولو علم المرجّح بهذا لرجّح حديث عَمرو بن دينار. نعم، إن مثل هذا قليل ولكن أصل الكذب باقٍ ولم تُدْفَع به مضرّة كما

في الكذب على الزوجة ونحوه مما رخّص فيه، وإيهام العلوّ ليس فيه دفع مضرّة بل ولا جلب [3] مصلحة. وقد صدق الخطيب في قوله: "وذلك خلاف موجب العدالة ومقتضى الديانة؛ من التواضع في طلب العلم، وترك الحميّة في الإخبار بأخذ العلم عمن أخذه" (¬1). هذا، ويشتدّ الأمر فيمن كان يقول: "حدثنا" ثم يسكت، ثم يقول: "فلان ... " يريد: قال فلان ولم يسمعه منه. ومَن كان يقول: "حدثنا فلان وفلان" ولم يسمعه من الثاني إنما أراد: وقال فلان أو نحوه. ومَن كان يدلّس تدليس التسوية كالوليد بن مسلم فيقول: "حدثنا الأوزاعي عن الزهري" مع أن الأوزاعي إنما رواه عن إبراهيم بن مرة عن الزهري، وإبراهيم بن مرة قد ضعَّفه الوليدُ نفسُه. وإن قلتم: ليست الصيغة ظاهرةً في السماع، فإنه ينحلّ الإشكال المتقدّم، لكن يورد إشكال أشدّ منه، وهو أنهم صرَّحوا بأنها إذا صدرت ممن لم يوصف بالتدليس تُحْمَل على السماع، تحسينًا للظن بمن ثبتت عدالتُه. فيقال لهم: الفَرْض أنها ليست ظاهرةً في السماع، وعليه فلا يكون إطلاقها مع عدم السماع قبيحًا ولا مكروهًا حتى يلزم من احتماله إساءة الظن بالراوي. وإذا ثبت هذا لم يبق حجة لحملها على السماع إلا في حق مَن ثبت ¬

_ (¬1) "الكفاية" (ص 358).

أنه لم يكن يطلقها إلا إذا سمع كشعبة. وأما مَن لم يوصَف [ص 4] بالتدليس، ولا بِعَدَمِه - وهم غالب الرواة - فلا وجه لِحَمْلِها على السماع، سواء أثبتَ اللقاء أم لم يثبت. الجواب: أننا نختار الشق الثاني، وهو أن الصيغة ليست ظاهرةً في السماع، ولكن كانت عادة أكثر السلف الاحتياط، بأن لا يذكر أحدُهم صيغةً تحتمل السماع وتحتمل خلافه إلا وقد سمع. وسلكَ المدلّسون مسلك التوسُّع، فمَن لم يكن يدلّس فهو محتاط ملتزم ما لو أخلَّ به لما أثِمَ، ومَن دلّس فهو غير محتاط ولكن لا يصدق عليه الكذب؛ لأن الصيغة في نفسها محتملة الأمرين على السواء. ثم إن أئمة الحديث تتبّعوا الرواة وفتَّشوا عن أحوالهم، فمَن عثروا منه على ترك ذلك الاحتياط أخبروا الناس بأنه مدلّس، ومَن لم يجدوه أخلَّ بها أصلاً اقتصروا على تعديله وتوثيقه والثناء عليه. وبهذا التقرير سلم المدلِّسون من الكذب، وثبت أن من كَثُرت مخالطةُ المحدّثين له والسماع منه، ولم يصفوه بالتدليس = فهو ممن لم يكن يطلق الصَّيَغ المتقدمة إلاَّ للسماع، ما لم تكن هناك قرينة واضحة كالعلم بأنه لم يدرك مَن حَكى عنه. فيبقى من لم يرو إلاَّ بضعةَ أحاديث ولم يُعْنَ أئمة الحديث بامتحانه. ومثل هذا إن كان قد عدّله بعضُ أئمة الحديث فالظنّ بالمعدّل أنه قد احتاط حتى عرف أن ذلك الشيخ لا يدلّس، والظن بذلك الشيخ أنه يحتاط كما كان أكثر الرواة يحتاطون، ولو لم يكن إلا الحَمْل على الغالب لكفى.

[ص 5] وههنا فائدة مغفولٌ عنها (¬1) [وهي أن "عن" المتكررة في] (¬2) ثاني حديث في "صحيح البخاري" (¬3) وهو قوله: "حدثنا عبد الله بن يوسف قال: أخبرنا مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة" جرى علماء المصطلح في نحو ذلك على أن كلمة "عن" الأولى من لفظ مالك، والثانية من لفظ هشام، والثالثة من لفظ عروة. ولذلك يقولون: إن المدلّس إذا عنعن لم يكن حجة. وغير ذلك مما تجده في فصل التدليس من "فتح المغيث" (¬4) وغيره. وهو عندي سهو وإنما الأُولى من قول عبد الله بن يوسف متعلّقة بقوله: "أخبرنا"، والثانية والثالثة محتملتان، فيحتمل أن تكونان (¬5) أيضًا من قول عبد الله بن يوسف، ويكون التقدير هكذا: "أخبرنا مالك عن هشام أنه أخبره (عن أبيه) أنه أخبره (عن عائشة). ويحتمل أن يكون هكذا: " ... عن هشام قال: أخبرنا هشام (عن أبيه) قال: أخبرني أبي (عن عائشة). ويحتمل أن يكون مالك ابتدأ وقال: "هشام ... " وقِسْ عليه. ¬

_ (¬1) ذكر المؤلف هذا المبحث في "التنكيل": (1/ 142 - 144). (¬2) ضرب المؤلف على ما بين القوسين، ربما أملًا في صياغةٍ جديدة للعبارة لكنه ذهل عن كتابتها فأبقيتها من أجل السياق. (¬3) رقم (2). (¬4) (1/ 208 فما بعدها). وانظر "تدريب الراوي": (1/ 256 فما بعدها). (¬5) كذا، والوجه: "أن تكونا".

ولم يكن أحدٌ من المدلسين يقول في ابتداء الحديث: "عن فلان". ولكن كانوا كثيرًا ما يبتدئون بالاسم، كما تجد أمثلته في فصل التدليس من "فتح المغيث" (¬1)، واعترف بكثرته، وقد اطّلعتُ على أمثلةٍ أخرى، ولم أجد مثالاً واحدًا أن أحدًا من المدلسين أو غيرهم ابتدأ بقوله: "عن فلان". وهذا السهو لا يُغيّر حكمًا ولكن ما حقّقتُه يساعد على ما قدّمته: أن الصيغة غير ظاهرة [ص 6] في السماع، وذلك أن قول ابن عُيينة مثلًا "الزهري ... " (¬2). ... ¬

_ (¬1) (1/ 208 - 229). (¬2) هنا انتهى ما وُجد من هذه الرسالة، وترك المؤلف باقي ص 6 بياضًا.

فائدة

فائدة (¬1): قد ترِدُ (عن) ولا يُقصد بها الرواية, بل يكون المراد سياق قصَّة، سواء أدركها [أو لم يُدركها] (¬2)، ويكون هناك شيء محذوف تقديره "عن قصة فلان" وله أمثلة كثيرة، مِن أَبْيَنِها: ما رواه ابن أبي خيثمة في "تاريخه": ثنا أبي ثنا أبو بكر بن عياش ثنا أبو إسحاق - هو السبيعي - عن أبي الأحوص - يعني عوف بن مالك - أنَّه خرج عليه خوارج فقتلوه. قال شيخنا: فهذا لم يردْ أبو إسحاق بقوله "عن أبي الأحوص" أنه أخبره به [ص 15] وإن كان قد لقيه وسمع منه, لأنه يستحيل أن يكون حدثه به بعد قتله، وإنما المراد على حذف مضاف تقديره "عن قصة أبي الأحوص". وقد روى ذلك النسائي في "الكنى" (¬3): من طريق يحيى بن آدم عن أبي بكر بن عياش سمعت أبا إسحاق يقول: خرج أبو الأحوص إلى الخوارج فقاتلهم فقتلوه. ولذا قال موسى بن هارون - فيما نقله ابن عبد البر في "التمهيد" (¬4) عنه -: كان المشيخة الأولى جائزًا عندهم أن يقولوا: "عن فلان" ولا يريدون بذلك الرواية, وإنما معناه "عن قصة فلان" اهـ. ¬

_ (¬1) من "فتح المغيث": (1/ 194). (¬2) الاستدراك من "فتح المغيث": (1/ 194). (¬3) عزاه أيضًا إلى "الكنى" الحافظ في "التهذيب": (8/ 169). وهو في "السنن الكبرى": (8517). (¬4) (23/ 343).

ابن الصلاح (¬1): إنَّ (التدليس) رواية الراوي عمّن لقيه ما لم يسمعه منه موهمًا أنّه سمعه منه، أو عمّن عاصره ولم يلقه موهمًا أنّه قد لقيه وسمعه اهـ. (وفرَّق الجمهور فسمَّوا الثاني: الإرسال الخفي). قال الحافظ أبو الحسن بن القطان في "بيان الوهم والإيهام" (¬2) له قال: "والفرق بينه وبين الإرسال: هو أن الإرسال روايته عمَّن لم يسمع منه ... " وارتضاه شيخنا لتضمنه الفرق بين النوعين، وخالف شيخه في ارتضائه هذا من شرحه (¬3) حَدَّ ابن الصلاح، وفي قوله في "التقييد" (¬4): إنه المشهور بين أهل الحديث. وقال: إن كلام الخطيب في "كفايته" يؤيِّد ما قاله ابن القطان. قلت: وعبارته فيها: هو تدليس الحديث الذي لم يسمعه الراوي ممن دلَّسه عنه بروايته إياه على وجهٍ أنه سمعه منه، ويعدل عن البيان لذلك (¬5). قال: "ولو بيَّن أنَّه لم يسمعه من الشيخ الذي دلَّسه عنه وكشف ذلك لصار بيانه مرسلًا للحديث غير مدلس فيه؛ لأنّ الإرسال للحديث ليس بإيهام من المرسل كونه سامعًا ممن لم يسمع منه، و (لا) (¬6) مُلاقيًا لمن لَمْ ¬

_ (¬1) (ص 73). والنقل من "فتح المغيث": (1/ 208 - 209). (¬2) (5/ 493). (¬3) انظر (ص 73 - 75). (¬4) (1/ 452). (¬5) (ص 358) وفيه: "بذلك". (¬6) في الأصل: "ما"، ووضع المؤلف بجوارها ما هو مثبت؛ تصحيحًا منه لهذا الحرف. وفي "فتح المغيث": (1/ 209) بدونها، والنص مستقيم بلا إضافة.

يلْقه؛ إلا أن التدليس الذي ذكرناه متضمن للإرسال لا محالة، لإمساك المدلس عن ذكر الواسطة. وإنما يفارق حال المرسل بإيهامه السماع ممن لم يسمعه فقط، وهو المُوهِنُ لأمره، فوجب كون التدليس متضمِّنًا للإرسال، [ص 18] والإرسال لا يتضَمَّن التدليس، لأنّه لا يقتضي إيهام السَّماع ممن لم يسمع منه، ولهذا لم يذمّ العلماء من أرسل، يعني: لظهور السقط وذمُّوا من دلّس". وأصرح منه قول (ابن) عبد البر في "التمهيد" (¬1): "التدليس عند جماعتهم اتفاقًا هو: أن يروي عمَّن لقيه وسمع منه وحدّث عنه بما لم يسمعه منه، وإنما سمعه من غيره عنه ممن تُرضى حاله أو لا تُرضى. على أنَّ الأغلب في ذلك أنه لو كانت حاله مرضية لذكره، وقد يكون لأنه استصغره". قال: وأما حديث الرجل عمّن لم يلقه كمالك عن سعيد بن المسيب، والثوري عن إبراهيم النخعي، فاختلفوا فيه: فقالت فرقة: إنَّه تدليس ... وقالت: طائفة من أهل الحديث: إنما هو إرسال ... قال: وإن كان هذا تدليسًا؛ فما أعلم أحدًا من العلماء قديمًا ولا حديثًا سلِمَ مِنه، إلا شعبة والقطان ... انتهى. وكلامه بالنظر لما اعتمده يُشير أيضًا إلى الفرق بين التدليس والإرسال ¬

_ (¬1) (1/ 15).

الخفي والجليّ، لإدراك مالك لسعيد في الجملة، وعدم إدراك الثوري للنخعي أصلاً ... صرَّح في مكان آخر فيه (¬1) بذمّه في غير الثقة فقال: ولا يكون ذلك عندهم إلا عن ثقة، فإن دلس عن غير ثقة فهو تدليس مذموم عند جماعة أهل الحديث، وكذلك إن حدَّث عمَّن لم يسمع منه، فقد جاوز حدَّ التدليس الذي رخَّص فيه مَنْ رخَّص من العلماء إلى ما ينكرونه ويذمُّونه ولا يحمدونه. وسبقه لذلك يعقوب بن شيبة كما حكاه الخطيب عنه (¬2)، وهو مع قوله في موضع آخر: إنّه إذا وقع فيمن لم يلقه أقبح (وأشنع) (¬3). يقتضي أن الإرسال أشد، بخلاف الأول فهو مشعر بأنه أخف فكأنّه (هنا) (¬4) عيَّن (¬5) الخفيّ لما فيه من إيهام اللقي والسماع معًا، وهناك عين الجليّ لعدم الالتباس فيه ... (¬6). ¬

_ (¬1) (1/ 28). (¬2) في "الكفاية" (ص 362). (¬3) في الأصل: "واسمع"، ووضع المؤلف بجوارها ما هو مثبت؛ تصحيحًا لهذه الكلمة. والذي في "فتح المغيث": "وأسْمَج". (¬4) في الأصل: "هذا"، ووضع المؤلف بجوارها ما هو مثبت؛ تصحيحًا لهذا الحرف. وفي "فتح المغيث" على الصواب. (¬5) في "الفتح": "عنى" في الموضعين. (¬6) "فتح المغيث": (1/ 211).

"مسند أحمد" (¬1): يحيى عن شعبة قال: حدثني الحكم قال: قلت لمِقْسَم: أُوتر بثلاثٍ ثم أخرج إلى الصلاة مخافة أن تفوتني؟ قال: لا وَتْر إلا بخمس أو سبع، قال: فذكرت ذلك ليحيى بن الجزَّار ومجاهد فقالا لي: سلْه عمَّن؟ فقلت له. فقال: عن الثقة، عن عائشة وميمونة [عن النبي - صلى الله عليه وسلم -]. ¬

_ (¬1) (25616).

الرسالة السابعة فوائد في كتاب "العلل" لابن أبي حاتم

الرسالة السابعة فوائد في كتاب "العلل" لابن أبي حاتم

فوائد في كتاب العلل

فوائد في كتاب العلل - العمل بالضعيف في الدعاء. [13] (¬1). - إذا روى الرجلُ الحديثَ على وجهين: تارةً كذا، وتارةً كذا، ثم رواه فجمعهما معًا دلَّ ذلك على صحتهما معًا. [25، 469]. - منكر. [48، 53، 55, 73, 105, 108, 117, 130, 158, 166, 196, 197، 267، 416، 417، 437، 459، 467، 470، 472، 478، 480، 496]. - تدليس ابن عيينة يَقْدَح؟ [60]. - "لو كان صحيحًا لكان في مصنفات ابن أبي عَروبة". قاله في حديث استنكره، رواه ابن عيينة، عن ابن أبي عَروبة. [60]. - أصحُّ حديثٍ في المسح على الخفّين. [65]. - دخل حديثٌ في حديثٍ. [63، 86، 207، 226، 237، 245، 265، 319، 503]. - "لو أنَّ عروة سمع من عائشة لم يُدخل بينهم أحدًا، وهذا يدلُّ على وَهَنِ الحديث" [74]. - "يخرج فيبول فيمسحُ فيُقال له: الماءُ قريبٌ. فيقول: ما أدري لعلَّي لا أبلغُ" لا يصح في هذا الباب حديث. [94]. ¬

_ (¬1) الرقم هنا وما سيأتي هو رقم الحديث الذي منه الفائدة، وهو من وضع المؤلف رحمه الله.

- زيد العَمِّي يقال له: زيد بن أسلم؟ [100]. - اختصار شعبةَ لحديثٍ [107]. - قول أبي حاتم: الذي أرى أن يُذكر الله على كلِّ حالٍ على الكنيفِ وغيره [124]. - حميدة بنت عبيد بن رفاعة تُكنى أم يحيى. [126]. - ليس في "إسباغُ الوضوءِ يزيد في العمر" حديثٌ صحيحٌ. [128]. - إبراهيم بن طهمان قد يَصِلُ الحديثَ في كلامه لا يُمَيّزِه المُسْتَمعُ. [170]. - سببُ الخطأ في حديثٍ. [207، 226, 237, 245, 265]. - "فلو كان عند ابن عجلان، عن أبيه، عن أبي هريرة لم يُحَدِّث به عن محمَّد بن عَمرو، عن مَلِيح، عن أبي هريرة". [223]. - بعضُ أصحابِ قتادةَ وتفاضلهم. [228]. - سببُ الخطأ في حديث. [236]. - سببُ الخطأ في حديث. [237]. - لم يَضبِط هذا الحديث، وكان ثِقَةً. [239]. - من وجوه الإنكار. [239]. -[ص 2] يتعلق برواية الليث، عن سعيد بن أبي هلال. [240]. - هذا زادَ رجلاً، وذاك نقص رجلاً، وكلاهما صحيحين (¬1)؟ [241]. - حديثُ قتيبة في الجمع. [245]. ¬

_ (¬1) كذا، والوجه: "صحيحان".

- حكمٌ من الأحكام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يُشاركه فيه أحدٌ؟ [248]. - عبد الملك بن أبي سليمان لم يرو عن نافع. [253]. - الحسن بن عياش. [256]. - الثوري [258]. - لولا أنهم سمعوه من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما كانوا يقولونه. [270]. - الحِمَّاني، عن علي بن سويد، عن نُفَيْع. علي بن سويد هنا هو مُعَلَّى بن هلال بن سويد. [286]. - محمَّد بن مسلم بن أبي الوَضَّاح، عن زكريا، عن الشعبي. زكريا هو ابن حكيم الحَبَطي ليس هو ابن أبي زائدة. [295]. - أبان العطار، عن قتادة، عن أبي سعيد - من أَزْدِ شَنُوءَةَ -, عن أبي هريرة: أوصاني خليلي بثلاثٍ. ورواه سعيد بن أبي عَروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي هريرة. قال أبو زرعة وأبو حاتم: سعيد أحفظهم. [297]. [نعم, ولكن لعل قتادة: "ثنا أبو سعيد" فحَسِبَه ابن أبي عروبة "الحسن البصري"؛ لأنَّ كنيته "أبو سعيد"] (¬1). ¬

_ (¬1) كتب الشيخ هذا التعقيب بين معكوفين. وقد وضعنا تعليقات الشيخ بعده بين معكوفات.

- "فكيف سمع عطاءٌ من ابن عمر، وهو قد سمِعَ من سعد بن سعيد، عن محمَّد بن إبراهيم، عن قيس بن عمرو ... ". [309]. [كأنه يعني أن رواية عطاءٍ للحديث نازلًا تدل أنه ليس عنده عن ابن عمر، وإلَّا لاجتزأ به]. - المتصلُ أشبه؛ لأنه اتفق اثنان. [330]. - موقوفٌ أصَحُّ، لا يجيءُ مثل هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم [334]. - شريكُ النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم الذي قال (¬1): "كان لا يُداري ولا يُماري" مَن هو؟ [350]. - اضطرابُ يونسَ في حديث، وتصحيح رواية ابن المبارك عنه. [357، 358]. - "هذا حديث كذب، لا أصل له، ومحمد بن الصلت لا بأس به، كَتَبْتُ عنه" [374]. -[ص 3] "لو كان عند قيس، عن المغيرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يحتج أن يفتقر إلى أن يُحَدَّث عن عمر، موقوف". [376]. - قول ابن معين: "أنا نظرت في كتاب إسحاق، فليس فيه هذا". ورَدَّ أبي حاتم بقوله: "كيف نظر في كتبه كله، إنما نظر في بعضٍ، وربما كان في موضعٍ آخر". [378]. ¬

_ (¬1) في الأصل "كان" سبق قلم. والمقصود قول الشريك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.

- النكارةُ للتفرد. [391]. - حديث استحبَّ إسحاق بن راهويَه العمل به، وقال أبو حاتم: إنه "باطل موضوع". [410]. - مدرج. [419]. - وقع في سند (أبو إسحاق الفَزَاري) قال أبو حاتم: "هذا خطأ، إنما هو أبو إسحاق الحجازي، وهو عندي إبراهيم بن أبي يحيى". [420]. - إسماعيل بن عياش، عن ثعلبة بن مسلم الخَثْعَمِي، عن نافع سألتُ عائشة. نافع هو مولى ابن عمر. [423]. - جعل إسنادين في إسنادٍ. [424]. - زيادة "وإذا قرأ فأنصتوا" غير محفوظة. [465]. - باطل بهذا الإسناد. [473]. - منكر بهذا الإسناد. [478]. - "كان الوليدُ صنَّف كتابَ الصلاةِ، وليس فيه هذا الحديث". [487]. - "قلتُ لأبي: لِمَ حَكمتَ لرواية ابن لهيعة؟ فقال: لأنَّ في رواية ابن لهيعة زيادةَ رجلٍ، ولو كان نقصانُ رجلٍ كان أسهل على ابن لهيعة حفظه". [488]. ***

- (¬1) حديث عِراك بن مالك عن عائشة: "حوّلوا مقعدي إلى القبلة" موقوف. [50]. - مكان القلم من أُذُن الكاتب. [141]. - "أحلوا حلاله وحرِّموا حرامه". [1410]. - كيفية الغلط. [1667]. - قول أبي حاتم: "حسن". [1676]. - "يُشَرِّفون المترَفين". [1856]. - وحسَّن صورته. [1858]. - معاوية بن يحيى الأطرَابُلُسي أيدلّس؟ [1892]. - محمَّد بن مصعب وَهِمَ في معنى الحديث. [1897]. - هشام بن عمار وصورة التلقين. [1899، 1482، 1576، 2615]. - محمَّد بن يزيد الأسلمي. [1902]. - محمَّد بن أبي يحيى الأسلمي = محمَّد بن فُلَيح. [2311]. - خطأ شديد من شريك. [2319]. - تدليس بقيَّة للموضوعات، ومنها: حديث "النظر إلى الفرج"، و"من أصيب بمصيبة"، و"لا تأكلوا بهاتين، ولكن كلوا بثلاث". ثلاثة أحاديث موضوعة من تدليس بقية. [2394]. ¬

_ (¬1) هذه الفوائد قيَّدها الشيخ على غلاف نسخته من العلل.

- "من خضب بالسواد". [2411]. - زيادة الحافظ على الحافظ تُقبل. [2416]. - "إذا بلغكم عني حديث". [2445]. - حديث غلط، خفي على أحمد. [2451]. - "أنا سابق العرب". [2577]. - سلوك الجادة. [2582]. - دَوْس. [2592]. - معاوية. [2594، 2601, 2634]. - زهير بن العلاء. [2616]. - من أعاجيب الغلط. [2622]. - إسماعيل بن عياش وابنه. [2637]. - العرب. [2641]. - مِنْ تدليس ابن عيينة. [2648]. - عبد الرحمن بن مَغْراء. [2657]. - "ادعي لي". [2660]. - "أقدمكم سِلْمًا". [2664]. - "وأَخبِرْه أنه يلي الأمةَ من بعدي". [2671].

- "لا تخبرهما يا عليّ". [2677]. - آخى بين نفسه وبين عليّ. [2678]. - "سُدُّوا هذه الأبواب". [2672، 2657، 2661]. - محمَّد بن كثير. [2681]. - حكاية للفَلَّاس مردودة. [2731]. - يَتثبَّت دُحيم دون سليمان بن عبد الرحمن، وهشام بن عمار، وهشام بن خالد. [2462].

الرسالة الثامنة أحكام الحديث الضعيف

الرسالة الثامنة أحكام الحديث الضعيف

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى. أما بعد، فهذه رسالة في أحكام الحديث الضعيف، جمعتُها لما رأيت ما وقع للمتأخرين من الاضطراب فيه؛ فنَسَب بعضُهم إلى كبار الأئمة الاحتجاجَ به، ونَسَب غيرُه إلى الإجماع استحبابَ العمل به في فضائل الأعمال ونحوها، وتوسّع كثيرٌ من الناس في العمل به، حتى بنوا عليه كثيرًا من المحدَثات، وأكَّدوا العمل بها، وحافظوا عليها أبلغ جدًّا من محافظتهم على السنن الثابتات، بل والفرائض القطعيات. بل كثيرًا ما بنوا عليه عقائد مخالفة للبراهين القطعية من الكتاب والسنة والمعقول. ولم يقتصروا على الضعاف بل تناولوا الموضوعات. وأنكر جماعةٌ جواز العمل بالضعيف مطلقًا، حتى قال بعضهم كما نقله ابن حجر الهيتمي في "شرح الأربعين النووية" (¬1): "إن الفضائل إنما تُتلقى من الشارع، فإثباتها بما ذُكِر اختراعُ عبادة وشَرْعٌ لما لم يأذن به الله". ومَن تأمل هذه العبارة وجدها تُنبئ أن إثبات الفضائل بالضعيف شرك؛ لأن شَرْع ما لم يأذن به الله كذلك، قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ الله} [الشورى: 21]. وسيأتي تقرير هذا المعنى إن شاء الله تعالى (¬2). ¬

_ (¬1) (ص 6). (¬2) (ص 174 - 175).

ومن المانعين القاضي أبو بكر ابن العربي، والمحقق الشاطبي صاحب [ص 2] كتاب "الموافقات" في أصول الفقه وغيره. ثم نصّ بعضُ الفقهاء الشافعية كالزركشي في مقدمة "الذهب الإبريز" (¬1) والخطيب الشربيني في "شرح المنهاج" (¬2) أن العمل بالحديث الضعيف جائز فقط لا مستحبّ، وردّه بعضهم كابن قاسم في "حواشيه على التحفة" (¬3) وأثبت الاستحباب. هذا، وقد نصّ النوويّ نفسُه في كتاب "الأذكار" (¬4) على الاستحباب. واستشكل جماعةٌ القولَ بالجواز أو الاستحباب مع الإجماع على أن الضعيف لا يثبت به حكم، والجواز والاستحباب من الأحكام الخمسة. وأُجيب من طرف القائلين بالجواز والاستحباب بأجوبةٍ عامّتها من قبيل ما عُرِف في الجدليّات من المطاولة وتشتيت ذهن الناظر، ليقْنَع بالتقليد الصِّرْف. وتلك المطاولة هي التي ألجأتني إلى تأليف رسالة مستقلة. وذلك أنني ألَّفت كتابًا (¬5) نبَّهتُ في مقدمته على الأمور التي يسلكُها كثير من المتأخرين في الاحتجاج وهي غير صالحةٍ لذلك، وذكرتُ من جملتها العمل بالضعيف، وحاولت أن أحقِّق الكلامَ فيه، فطال الكلام جدًّا قبل أن أستوفي البحث كما أحبّ، فآثرت إفراده برسالة مستقلة. ¬

_ (¬1) في تخريج أحاديث فتح العزيز، لم يطبع بعد. (¬2) (1/ 62). (¬3) (1/ 240). (¬4) (ص 8). (¬5) هو كتاب "العبادة" ذكر المؤلف فيه (ص 669) هذا البحث وأنه أفرده في رسالة.

هذا، وبعد أن توسطت هذه الرسالة، ووجدتُ الكلام في هذه المسألة مرتبطًا بالكلام على البدع والمحْدَثات عزمتُ على إفراد رسالةٍ أخرى في تحقيق ما هي البدعة؟ (¬1) ومِن الله أستمدُّ التوفيق والعون بفضله وكرمه. ... ¬

_ (¬1) طُبعت ضمن هذا المشروع المبارك ضمن الرسائل العقدية.

فصل

[ص 3] فصل تعريف الضعيف مذكور في كتب المصطلح وغيرها فلا نطيل بذكره، وإنما ننبّه هنا على مهمّات: الأولى: يُعْلَم من إمعان النظر في فصل "الحسن" من كتب الاصطلاح المطوّلة كـ "فتح المغيث" (¬1) أنه إنما استقرّ الاصطلاح على جَعْل الحسن قسمًا برأسه من الترمذي فمَنْ بعدَه. ويتحقق بذلك ما قاله بعض الأجلّة (¬2): أن ما استقر الاصطلاح على تسميته بالحسن كان المتقدّمون يطلقون عليه تارةً "صحيح" وتارة "ضعيف". فإذا نظروا إليه من حيث هو صالح للحجة قالوا: صحيح، وإذا نظروا إليه من حيث هو قريب مما لا يصلح للحجة قالوا: ضعيف. ويقرُب من هذا ما قاله السخاوي: "ينبغي أن تتأمل أقوال المزكّين ومخارجها، فقد يقولون: فلان ثقة أو ضعيف، ولا يريدون به أنه ممن يُحتج بحديثه ولا ممن يُردّ، وإنما ذلك بالنسبة لمن قُرِن معه ... وعلى هذا يُحمل أكثر ما ورد من اختلاف كلام أئمة الجرح والتعديل". "فتح المغيث" ص 142 - 143 (¬3). الثانية: إذا وجدنا مسألةً ذهب إليها إمام، وشاع أنه إنما استند إلى حديث ضعيف، لم يَجُز أن نَنْسب إليه أنه يرى الاحتجاج بالضعيف، بل ¬

_ (¬1) (1/ 71 وما بعدها). (¬2) لعله أراد الشيخ محمَّد تقي العثماني في مقدمة كتابه "فتح الملهم شرح مسلم". (¬3) (2/ 127).

نقول: لعله ظن الحديث صحيحًا، إما لعدم علمه [ص 4] بجرح الراوي، وإما لأنه اعتضد عنده بدليل قويّ عنده، إما بفهمه من القرآن، أو الأحاديث الثابتة، أو قياس، أو قول صحابيّ، أو إجماع ظنّه، أو عَمَل أهل بَلَدِه، أو غير ذلك. الثالثة: إذا عَرَضتْ للمجتهد مسألة لم يجد لها دليلًا وإنما بلَغَه فيها حديثٌ ضعيف، فيجوز أن يؤدّيه اجتهاده إلى تصحيحه؛ لأن أمامه ثلاثة احتمالات: أحدها: أن تكون الشريعةُ أهملت هذه المسألة. الثاني: أن الأمة أضاعت الدليلَ الخاصَّ بتلك المسألة. الثالث: أن يكون هناك دليل محفوظ، ولكن خفي على المجتهد. والأوّلان باطلان فيتعيّن الثالث، وفيه احتمالان: أحدهما: أن يكون ذلك الدليل غير هذا الضعيف ومخالفًا له. الثاني: أن يكون هو ذلك الضعيف يُروى من طريق ثابتة، أو دليلًا آخر موافقًا له، والنظر يُساعد على ترجيح هذا الثاني. فعلى هذا لم يَبْقَ هذا الضعيف ضعيفًا عند المجتهد، بل ترقّى عنده إلى رتبة الحسن بهذا النظر. فتدبّر. الرابعة: قد يكون نوع أو فرد من الحديث صحيحًا في نظر مجتهد وهو ضعيف عند غيره، فإذا احتجّ ذلك المجتهد بما هذا حاله من الحديث أو عَمِل به فإنما عمل بالصحيح [ص 5] في رأيه، فمِنَ الغفلة والمغالطة أن

فصل

يُنسَب إليه أنه يعمل بالضعيف أو يُحتج بفعله على جواز العمل بالضعيف مطلقًا. الخامسة: قد يكون نوع أو فرد من الحديث ضعيفًا عند مجتهد ضعفًا يسيرًا، فينصّ أنه إذا اعتضد بكذا (ويذكر عاضدًا ضعيفًا) صار حجةً، مع أنّ ذلك العاضد لا يُصَيّر كلَّ حديث ضعيف حجة عند ذلك المجتهد، وعلى هذا فلا يصح أن يُنسَب إلى ذلك المجتهد العمل بالضعيف. [ص 6] فصل نقل بعضُهم حكايةَ الإجماع على أن الأحكام لا تثبت بالضعيف، كما سيوافيك في كلام الدواني، وقد يخدش في ذلك أمور: الأول: ما نُسِب إلى أبي حنيفة رحمه الله أنه يحتج بالضعيف ويقدّمه على القياس (¬1). ولم يُنقل عن أبي حنيفة نصّ بهذا على أنه أصل وقاعدة، وإنما حُكيت عنه مسائل ذهب إليها ولم يوجد لها دليل إلا حديث ضعيف مع مخالفتها للقياس. ولما كان المشهور عن أبي حنيفة أنه يقدّم القياس على الأحاديث الصحيحة, ولهذا سمّوه وأصحابَه "أهل الرأي" حاول بعض أتباعه أن يدفع هذا ويبالغ في نفيه فقال: بل مذهب أبي حنيفة تقديم الحديث الضعيف على القياس، وحكى تلك المسائل، وأضاف إلى ذلك: ¬

_ (¬1) انظر "أصول البزدوي" (ص 5)، و"الإحكام" (7/ 54) لابن حزم، و"إعلام الموقعين": (2/ 145). وانظر للمؤلف: "التنكيل": (1/ 37 - 40)، و"تنزيه الإِمام الشافعي": (ص 329 - 330 ضمن هذا المجموع).

أن أصحاب أبي حنيفة مجمعون على أن مذهبه تقديم الضعيف على القياس، كأنه أراد أن جميع أصحابه ينقلون عنه تلك المسائل ويذكرون في الاستدلال لها تلك الأحاديث الضعيفة. وهذا كلّه مناورة، وقد عُلم جوابه من المهمّة الثانية (¬1). ومن راجع أصول الحنفية تبيَّن له الصواب. الأمر الثاني: ما نُقل عن أحمد بن حنبل رحمه الله أنه يحتج بالضعيف إذا لم يكن في الباب غيره (¬2)، وقد عُلِم جوابه من المهمّة الأولى (¬3)، وبذلك أجاب بعض المحققين من أتباعه. ويؤيّده أن الناقلين مثّلوا الضعيفَ الذي يأخذ به إذا لم يجد غيره [ص 7] بحديث عَمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وهو من قبيل الحسن عند أحمد، كما يظهر من كلامه فيه؛ قال مرة في عَمْرو: له أشياء مناكير وإنما يُكتب حديثُه يُعتبر به، فأما أن يكون حجةً فلا. وقال مرةً: أنا أكتبُ حديثَه، وربما احتججنا به، وربما وَجَس في القلب منه شيء. وقال مرة: أصحاب الحديث إذا شاؤوا احتجوا بحديث عَمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وإذا شاؤوا تركوه (¬4). وقال البخاري: رأيت أحمد بن حنبل وعلي ابن المديني وإسحاق بن راهويه وأبا عُبيد وعامة أصحابنا يحتجون بحديث عَمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ما تركه أحدٌ ¬

_ (¬1) (ص 156). (¬2) انظر "إعلام الموقعين": (2/ 55 و145 - 146). (¬3) (ص 156). (¬4) انظر نصوص أحمد في "موسوعة أقوال أحمد في الرجال": (3/ 99 - 100).

من المسلمين (¬1). "تهذيب التهذيب" (¬2) ترجمة عَمرو. ويتلخّص من كلام أحمد: أن حديث عَمرو ليس عنده بحجة مطلقًا وإنما يُحتج بأحاديثه التي لم يجس في النفس منها شيء، فإذا وَجَس في النفس من حديثه شيء لم يحتج به، وذلك بأن يكون الحديث منكرًا أي مخالفًا لدليل أقوى منه. وهذا شأن الثقات كلهم ولكن كأنّ هذا الضرب من المناكير وقع في حديث عَمرو أكثر مما وقع في حديث وكيع وأضرابه، ولم يبلغ في الكثرة إلى حدّ يوقع الشكَّ في جميع حديثه. على أنّ يعقوب بن شيبة قال: "والأحاديث التي أنكروا من حديثه إنما هي لقومٍ ضعفاء رووها عنه، وما روى عنه الثقات فصحيح". وقال أبو زُرعة: "عامة المناكير تُروى عنه إنما هي عن المثنّى بن الصبّاح وابن لهيعة والضعفاء, وهو ثقة في نفسه ... ". وقال إسحاق بن راهويه: "إذا كان الراوي [ص 8] عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ثقة فهو كأيوب عن نافع عن ابن عمر". "تهذيب التهذيب" (¬3) أيضًا. فإن ثبت عن أحمد الاحتجاج بالضعيف المصطَلَح عليه إذ (¬4) لم يجد في الباب غيره، فقد مرَّ توجيه ذلك في المهمة الثالثة (¬5). ¬

_ (¬1) انظر نحوه في "التاريخ الكبير": (6/ 343). (¬2) (8/ 48 - 55). (¬3) نفسه. (¬4) كذا في الأصل. (¬5) (ص 157).

وأما ما رواه عبد الله بن أحمد: "أنه سأل أباه عن الرجل يكون ببلدٍ لا يجد فيها إلا صاحبَ حديث لا يدري صحيحه من سقيمه، وصاحبَ رأي، فمن يسأل؟ قال: يسأل صاحبَ الحديث" (¬1). فوجْهُه أنه رأى أن كلام الرجلين يمكن أن يصيب ويمكن أن يُخطئ، والخطأ مع قَصْد الاتِّباع خير من الخطأ على قَصْد العمل بالرأي، والفَرْضُ أن صاحبَ الرأي جاهل بالحديث كما هو ظاهر. وفي مذهب أحمد كثير من المسائل بناها على القياس وخالف أحاديث ضعيفة وردت فيها، منها المسائل التي نُسِب إلى أبي حنيفة أنه بناها على أحاديث ضعاف مخالفة للقياس، كانتقاض الوضوء بالقهقهة في الصلاة وغيرها. الأمر الثالث: ما حُكي عن أبي داود أنه يحتجّ بالضعيف إذا لم يكن في الباب غيره. وكأنّهم أخذوا ذلك من قوله في "رسالته إلى أهل مكة" (¬2): "وأما المراسيل فقد كان يحتج بها العلماء فيما مضى ... فإذا لم يكن مسند غير (¬3) المراسيل، ولم يوجد المسند، فالمرسل يُحتجّ به، وليس هو مثل المتصل في القوّة ... وأما ما كان في كتابي من حديث فيه وهن شديد فقد بينتُه، ومنه ما لم يصح سندُه. وما لم أذكر فيه شيئًا فهو صالح". هذا مع أن في كتابه أحاديث ضعيفة سكت عنها. ¬

_ (¬1) في "مسائل عبد الله" (ص 275) بنحوه، وانظر "تاريخ بغداد": (13/ 448)، و"ذم الكلام": (2/ 264) للهروي. (¬2) (ص 64 - 69). (¬3) كذا، والذي في الأصول الخطية للرسالة "ضد" وهو الأصح من جهة المعنى.

وعبارته تُشْعِر بأنه متردّد في تصحيح المرسل مطلقًا، ومال إلى تصحيحه إذا لم يوجد غيره، وكأنّ ذلك لِمَا مرَّ في المهمة الثالثة (¬1). مع أن "غير المراسيل" (¬2) بلفظ الجمع ربما يُشْعِر باشتراطه اعتضاد المرسل بمرسل آخر كما هو رأي الشافعي على ما يأتي. وأما قوله: "وما كان في كتابي فيه وهن شديد .. إلخ" فقد بيَّن المحققون أن مراده بالصالح ما هو أعم من الصالح للحجة والصالح للاعتبار، فيُحْمَل ما في الكتاب من [ص 9] أحاديث ضعيفة سكت عنها على أنها عنده صالحة للاعتبار فقط. ويرشد إلى هذا قوله: "وهن شديد" فإنه يدل على أنه لم يبيِّن ما فيه وهن وليس بالشديد. انظر "فتح المغيث" (¬3) وغيره. الأمر الرابع: ما ذهب إليه مالك وغيره من الاحتجاج بالمرسل، وقد عُلِم جوابه من المهمة الرابعة (¬4). الأمر الخامس: ما ذهب إليه الشافعي من الاحتجاج بالمرسل إذا اعتضد بمرسل آخر من وجه آخر، أو بقول صحابيّ أو نحوه على تفصيل له في ذلك (¬5). وقد عُلِم الجواب عنه من المهمة الخامسة (¬6). ¬

_ (¬1) (ص 157). (¬2) سبق أن الثابت في الأصول في لفظة "غير المراسيل" = "ضد المراسيل" وعليه يكون المعنى: إذا لم يوجد مسند مضاد للمرسل، ولم نجد مسندًا يُغني عنه فإنه يُقبل. (¬3) (1/ 88). (¬4) انظر (ص 157). (¬5) ذكره في كتاب "الرسالة" (ص 462 فما بعدها). (¬6) انظر (ص 158).

فصل

[ص 10] فصل قال الجلال الدواني في كتابه "أنموذج العلوم" (¬1): "اتفقوا على أن الحديث الضعيف لا تثبت به الأحكام الشرعية، ثم ذكروا أنه يجوز بل يستحبّ العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال ... وفيه إشكال؛ لأن جواز العمل واستحبابه كلاهما من الأحكام الخمسة". نقله السيد الإِمام عبد الرحمن بن سليمان الأهدل في "المنهج السوي" (¬2). أقول: أول من أحفظ عنه الكلام في مسألة العمل بالضعيف في الفضائل صراحةً هو القاضي أبو بكر بن العربي المتوفى سنة 543، فإنهم نقلوا عنه أنه أنكر جواز العمل به (¬3)، ولعله صاحب العبارة التي حكاها ابن حجر الهيتمي عن بعض المانعين: "إن الفضائل إنما تُتلقّى عن الشارع فإثباتها بما ذكر اخْتِراع عبادة وشَرْعٌ لما لم يأذن به الله" (¬4). ثم الشيخ عز الدين بن عبد السلام، فقد ذكر الحافظ ابن حجر في شروط جواز العمل بالضعيف ثلاثة شروط (¬5): أحدها: أن يكون الضعف غير شديد، فيخرج من انفرد من الكذابين ¬

_ (¬1) (ص 2) ونقله عنه جمال الدين القاسمي في "قواعد التحديث" (ص 117 - 118). (¬2) (ص). (¬3) انظر "فتح المغيث": (1/ 333)، و"تدريب الراوي": (1/ 351). (¬4) في "الفتح المبين" (ص 36). (¬5) في "تبيين العجب لما ورد في فضل رجب" (ص 9).

والمتهمين بالكذب ومَن فَحُش غلطُه. ونَقَل العلائيُّ الاتفاقَ عليه (¬1). الثاني: أن يندرج تحت أصلٍ معمولٍ به. الثالث: أن لا يعتقد عند العمل به ثبوته بل يعتقد الاحتياط. وقال: هذان ذكرهما ابن عبد السلام وابن دقيق العيد. هكذا نقله السيوطي في "تدريب الراوي" (¬2). ثم ابن دقيق العيد ولد سنة 635 وتوفي سنة 703. وقد مرَّ نقل ابن حجر عند اشتراط الشرطين السابقَين. وقال الزركشي في مقدمة "الذهب الإبريز" (¬3) [ص 11] بعد أن ذكر جواز العمل بالضعيف: "وههنا أمران: أحدهما: قال أبو الفتح القُشيري - هو ابن دقيق العيد - حيث قلنا: يُعْمَل بالحديث الضعيف لدخوله تحت العمومات، فشرطه أن لا يقوم دليل على المنع منه أخصّ من تلك العمومات، مثاله: الصلاة المذكورة في ليلة أول جمعة من رجب، فإن الحديث فيها ضعيف، فمن أراد فِعْلها وإدراجها تحت العمومات الدالة على فضل الصلاة ¬

_ (¬1) نقله السيوطي في "التدريب". (¬2) (1/ 351). (¬3) كتاب "الذهب الإبريز في تخريج أحاديث فتح العزيز" للزركشي (795) لا يزال مخطوطًا. انظر "الفهرس الشامل - قسم الحديث": (2/ 797). وكلام ابن دقيق العيد في كتابه "إحكام الأحكام بشرح عمدة الأحكام": (2/ 150 - بحاشية الصنعاني) وقد نقله أيضًا ابن الملقن في "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام": (2/ 398 - 404).

والتسبيحات لم يستقم؛ لأنه صح عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم نَهْيٌ أن تُخَصّ ليلة الجمعة بقيام، وهذا أخصّ من العمومات الدالة على فضيلة الصلاة". والنووي ولد سنة 631 وتوفي سنة 676. وهو الذي اشتهر عنه هذا القول، ونصّ عليه في عدة [من] كتبه، وحَكَى الاتفاقَ عليه، وفي أكثر كتبه ذِكْر الجواز فقط (¬1)، وفي "الأذكار" (¬2) الجواز والاستحباب، ولم ينص على شرطٍ أصلاً كما قاله السيوطي في "التدريب" (¬3) إلا أن الشروط المذكورة تؤخذ من كثير من أقواله. ويظهر لي أن الصلاة ليلة أول جمعة من رجب هي التي أثارت هذا البحث، فقد حكى أبو شامة في كتابه "الباعث" (¬4) أن ابن الصلاح كان متولّيًا لمنصب الفتوى، فاسْتُفْتي عن الصلاة المذكورة، فأجاب بإنكارها وأنها محْدَثة، ثم اسْتُفتي مرة أخرى، فأجاب بنحو جوابه الأول. ثم فُصِل عن منصب الفتوى وأُقيم فيه الشيخ عز الدين ابن عبد السلام، فشدّد النكير على صلاة الرغائب، فعارضه ابنُ الصلاح [ص 12] وجوَّزها؛ معتذرًا بأنه قد ورد فيها حديث، وبأنها داخلة في عموم الترغيب في الصلاة، وصلاة الليل خاصة، فردّ ابنُ عبد السلام وتلامذتُه كأبي شامة وابن دقيق العيد بما تراه في ¬

_ (¬1) انظر "الأربعين" (ص 3)، و"المجموع": (1/ 59). (¬2) (ص 8). (¬3) (1/ 351). (¬4) (ص 145).

كتاب "الباعث" لأبي شامة (¬1). وكان النوويّ من جملة من ردّ على ابن الصلاح، وصرّح بأن الصلاة المذكورة بدعة قبيحة (¬2). ثم كأنَّ النوويَّ استخلص من البحث جواز العمل بالضعيف في الفضائل، وأيّد ذلك بما نقله عن أئمة السلف من النصوص في تساهلهم في رواية ما لم يكن فيه حُكم، كما ستراها. وكأنّه اعتضد ذلك عنده بفروعٍ للشافعي سَتَرِدُ عليك إن شاء الله، فجزم بالاتفاق على ذلك، ثم رأى أن الجواز لا فائدة له؛ لأن الفَرْض أنه ثابت بدون الضعيف فزاد الاستحباب كما صرّح به في "الأذكار" (¬3). ومن العجب أن كتاب أبي شامة "الباعث على إنكار البدع والحوادث" لم يتصدَّ للكلام في العمل بالحديث الضعيف، مع أن القصد الأول منه إبطال الصلاة المذكورة، وتعرّض فيه لغالب ما جرى من الاحتجاج من الطرفين، نعم يؤخذ منه ما يخالف قولَ النوويِّ كما ستراه إن شاء الله. ثم جاء مَن بَعْد النووي، فمنهم من ردّ عليه قوله أصلاً كالمحقق الشاطبي في "الاعتصام" (¬4). ومنهم من أرْعَبَتْه حكاية الاتفاق ولكنه لم ير ¬

_ (¬1) (ص 145 وما بعدها)، وهناك رسالة بعنوان "مساجلة علمية بين الإمامين العز بن عبد السلام وابن الصلاح حول صلاة الرغائب المبتدعة"، من مطبوعات المكتب الإِسلامي بتحقيق الشيخ الألباني. (¬2) انظر "المجموع شرح المهذب": (4/ 56). (¬3) (ص 8). (¬4) (2/ 16 - 20 ت مشهور).

وجهًا للاستحباب. قال الزركشي في مقدمة "الذهب الإبريز" بعد ما تقدم نقله عنه: "الثاني: أن هذا الاحتمال الذي قلناه من جواز إدراجه تحت العمومات يريد به في الفعل [ص 13] لا في الحكم باستحباب ذلك الشيء المخصوص بهيئته الخاصة؛ لأن الحكم باستحبابه على هيئته الخاصة يحتاج إلى دليل عليه ولا بدّ، بخلاف ما إذا بُني على أنه من جملة الخيرات التي لا تختص [بذلك الوقت] (¬1) ولا بتلك الهيئة. وهذا هو الذي قلنا باحتماله وجواز العمل به". ونحو هذا قال الخطيب الشربيني في "شرح المنهاج" (¬2) فاعترضه ابنُ قاسم وأثبت الاستحباب. ومنهم من تحيّر وقرر الإشكال كالدواني (¬3)، ومنهم من قلّد النووي وتمحّل في الاعتذار كابن حجر الهيتمي (¬4)، على أنه قال في "رسالة البسملة": "إنما يُعمل به حيث لم يعارضه ما هو أولى منه بالاعتماد والعمل، وهذا معلوم من كلامهم بلا شكّ، فإذا دلّ ضعيف على ترغيب في فعل شيء خاصة وقد عارضه صحيح يدل على كراهيته - مثلًا - ولو بطريق العموم = وجب أن يعمل بمدلول ذلك العام في هذا الشيء الخاص، ولم يَجُز العمل بالضعيف فيه". ¬

_ (¬1) مستدركة من كتاب ابن دقيق العيد. (¬2) (1/ 62)، وكلام ابن قاسم في حاشيته على "تحفة المحتاج": (1/ 240). (¬3) سبق العزو إلى كتابه "أنموذج العلوم". (¬4) في "شرح الأربعين" وقد سبق.

فصل

وهذا - وإن لم يتنبّه قائله - يقتلع جواز العمل بالضعيف من أصله، كما سترى إن شاء الله تعالى. ومنهم من فصَّل، ولا داعي لاستيعاب أقوالهم، بل علينا أن نعترض الحجج والدلائل ونغترف الحقَّ من معدنه فأقول: [ص 14] فصل الآثار المروية عن أئمة السلف - وإليها استند النووي في حكاية الإجماع فيما يظهر - لم أر فيها ما هو ظاهر في جواز العمل بالضعيف ولا استحبابه. بل إذا أمعنت النظرَ وجدتها صريحة في خلافه، وهذا أشهرها: قال السخاوي في "فتح المغيث" (¬1): "قال الحاكم: سمعت أبا زكريا الغُبَري (¬2) يقول: الخبر إذا ورد لم يحرّم حلالًا, ولم يحلّ حرامًا, ولم يوجب حكمًا، وكان في ترغيب أو ترهيب = أُغْمِض عنه وتُسُهِّل في رواته. ولفظ ابن مهدي فيما أخرجه البيهقي في "المدخل" (¬3): إذا روينا عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم في الحلال والحرام والأحكام شدّدنا في الأسانيد وانتقدنا في الرجال، وإذا روينا في الفضائل والثواب والعقاب ¬

_ (¬1) (1/ 332). (¬2) كذا في الأصل، كما في الطبعة التي نقل عنها المؤلف وصوابه: "العنبري" كما في ط المحققة، وقول العنبري ذكره الخطيب في "الكفاية" (ص 134). (¬3) ليس في المطبوع منه، وقد أخرجه الحاكم في "المستدرك": (1/ 490) وفي "المدخل إلى الإكليل" (ص 59).

سهّلنا في الأسانيد وتسامحنا في الرجال. ولفظ أحمد في رواية الميموني عنه: الأحاديث الرقائق يُحتمل أن يُتَسَاهل فيها حتى يجيء شيء فيه حكم" اهـ "فتح المغيث" ص 130. وقال الخطيب في "الكفاية" (¬1): "باب التشدّد في أحاديث الأحكام والتجوّز في فضائل الأعمال. قد ورد عن غير واحدٍ من السلف أنه لا يجوز حمل الأحاديث المتعلقة بالتحليل والتحريم إلاَّ عمن كان بريئًا من التهمة بعيدًا عن الظِّنّة. وأما أحاديث الترغيب والمواعظ فإنه يجوز كَتْبها عن سائر المشايخ". ثم أسند عدة آثار منها عن الإِمام أحمد أنه قال: "إذا روينا عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم [ص 15] في الحلال والحرام والسنن والأحكام تشدّدنا في الأسانيد، وإذا روينا عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم في الفضائل وما لا يضع حكمًا ولا يرفعه تساهلنا في الأسانيد" "الكفاية" ص [134]. وقال ابن عبد البر في كتاب "فضل العلم" بعد أن ذكر حديثًا ضعيفًا في فضل العلم: "الفضائل تُرْوَى عن كل أحد والحجة من جهة الإسناد إنما تُتقصَّى في الأحكام وفي الحلال والحرام" "مختصر جامع بيان العلم" ص (¬2). ¬

_ (¬1) (ص 133). (¬2) بيَّض المؤلف رقم الصفحة، وكلام ابن عبد البر في "جامع بيان العلم": (1/ 152).

وثَمَّ عبارات أخرى لا تخرج عن هذا المعنى، أي التساهل في الأخذ والرواية عن الضعفاء فيما رووه في الفضائل، مما ليس فيه حكم ولا حلال ولا حرام ولا سنة. وقد لخص ابن الصلاح في "مقدمته" (¬1) عبارات القوم باحتياطٍ تامٍّ رغمًا عما حُكي عنه من تمحّله أخيرًا لصلاةِ ليلةِ أول جمعة من رجب وأشياء تُشْبهها، كما ذكره أبو شامة في "الباعث" (¬2). وكأنّ ابن الصلاح - غفر الله له - أراد أن يكون كتابه "المقدمة" أصلاً لأهل الحديث إلى يوم القيامة، فتورّع أن يحْدِث فيه حَدَثًا أو يؤوي محدثًا. وأما النووي رحمه الله فإنه رغمًا عن إنكاره الصلاةَ المذكورة زاد في "مختصره لمقدمة ابن الصلاح" (¬3) زيادةً نابية، وهذه عبارته: "ويجوز عند أهل الحديث وغيرهم التساهل في الأسانيد، ورواية ما سوى الموضوع من الضعيف، والعمل به من غير بيان ضعفه، في غير صفات الله تعالى والأحكام كالحلال والحرام وغيرهما، وذلك [ص 16] كالقصص وفضائل الأعمال والمواعظ وغيرها مما لا تعلُّق له بالعقائد والأحكام، والله أعلم". فقوله: "والعمل به" من زيادته. ولولا أن القول بجواز العمل متواتر عن النووي، نصّ عليه في كثير من كتبه لقلتُ: إن هذه الكلمة ملحقة في عبارته؛ لأنها كما ستعرف مناقضة لما قبلها وما بعدها، ومناقضة للنصوص التي ¬

_ (¬1) (ص 103). (¬2) (ص 145). (¬3) "التقريب لسنن البشير النذير": (1/ 350 - مع شرحه تدريب الراوي).

فصل

لخَّصها, وليست في عبارة أصله. إنني قد استعجلتُ بهذا الحكم قبل أن أضطَرَّ الناظر في هذه الرسالة إلى مشاركتي فيه, ولكنَّ الخطب سهل. [ص 17] فصل أنت ترى النصوص المتقدّمة عن ابن مهدي وغيره ليس فيها ذِكْر لجواز العمل بالضعيف ولا استحبابه، وإنما فيه تساهلهم في روايته بشرطه، لكن قد لا يبعد أن يكون النووي رحمه الله رأى تساهلهم في رواية الضعيف في الفضائل دون الأحكام يستلزم جواز العمل به في الفضائل، وإلّا لَمَا كان هناك معنى للفرق، فإن تشدّدهم في رواية ما فيه حُكم إنما هو لعلمهم أنهم إذا لم يُشدّدوا في روايته يُخشَى أن يَعملَ به من يسمعه، وذلك لا يجوز، فتساهلهم في الفضائل يدلّ على أنهم لم يروا محذورًا في أن يعمل بها من يسمعها، وهذا معنى الجواز. ثم رأى أن العمل المتوقّع من العامة إذا سمعوا الضعيف في الفضائل هو العمل طلبًا للفضل، ومعنى ذلك أنهم يرونه مظنّة لأن يُؤجروا عليه، وعليه فلو كان أولئك الأئمة يرون أن العمل به ليس مظنة للأجر لكانوا يرون العمل به طلبًا للأجر بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، فكيف يقع منهم تساهل يؤدّي إلى إيقاع الناس في الضلالة؟! فتعيّن أنهم كانوا يرون العملَ به مظنَّة للأجر، وهذا هو الاستحباب، فلهذا صرَّح النووي في "الأذكار" (¬1) بالاستحباب، وكأنه حمل ما صرَّحوا به من أنهم لا يتساهلون في رواية ما فيه حكم أو سنة ¬

_ (¬1) (ص 8).

فصل

أو يرفع حكمًا أو يضعه = على ما عدا ذلك الضرب من الجواز والاستحباب. [ص 18] فصل يجب أولاً أن نعلم ما هو التساهل الذي كان يعتمده ابن مهدي وغيره، فأقول: حاصل ما في "فتح المغيث" (¬1): أن التساهل هو أن لا يَنصّ على ضعف الحديث بل يكتفي بسياق إسناده، أو ذِكْره بصيغة التمريض، نحو رُوِي ويُروَى. أقول: وعندي في هذا نظر؛ فإننا نجد في الكتب أحاديث ضعيفة في العقائد والأحكام قد رواها ابنُ مهدي وغيره ولم يبين ضعفها. وهذا "مسند أحمد" فيه أحاديث كثيرة ضعيفة في العقائد والأحكام ولم يبيِّن ضعفها، بل غالب مصنفات المتقدمين كذلك، كمصنَّفَي عبد الرزاق وابن أبي شيبة ومسانيد إسحاق والحميدي وعبد بن حُمَيد، وسنن النسائي الكبرى, وسنن الدارمي وابن ماجه، وتاريخ البخاري، وغيرها. والذي أراه أن تشديد ابن مهدي هو أنه كان يتأمَّل الحديثَ الذي قد سمعه، فإن كان في العقائد والأحكام بدأ فنظر في إسناده ومتنه، فإذا تبيَّن له أن الحديث شديد الضعف بحيث لا يصلح للحجة ولا للاعتبار لم يَرْوِه أصلاً، فإن اضطرّ لروايته بيَّن ضعفه. وإن كان الحديث في غير العقائد والأحكام رواه ما لم يعلم أنه موضوع، فإذا علم أنه موضوع لم يروه أصلاً، فإن اضطر إلى روايته بيَّن وضعَه. فهذا الصنيع هو الذي ينطبق على ما نجده ¬

_ (¬1) (1/ 331 - 332).

فصل

في الكتب عن ابن مهدي والإمام أحمد وأكثر الأئمة، فاعْلَمْه، والله أعلم. [ص 19] فصل ثم يجب ثالثًا أن نحقق الأمور التي كانوا يتساهلون في رواية ما ورد فيها مما ليس بموضوع ولكنه غير صالح للمتابعة، فأقول: يُعلَم من صنيع النووي ومَن وافقه: أنه يدخل في ذلك ما وَرَد بفضيلة لعملٍ خاصّ ولم تثبت له تلك الفضيلة، ولكنه مندرج تحتَ عمومٍ ثابت بالاستحباب. وهذا كأنْ يَرِد ضعيفٌ بفضيلةٍ لصيامِ أولِ يومٍ من صفر أو قيام ليلته، أو بفضيلةٍ لقراءة سورة الأنعام في صلاة الصبح أو في ركعتَيْ تطوّع. ويظهر من كلام بعضهم إلحاق ما اندرج تحت عموم ثابت بالإباحة، كأنْ يَرِد ضعيف بفضل التختُّم بخاتم فضة عقيق. فقال النووي بجواز واستحباب العمل بأشباه هذا، واقْتَصَر بعضهم على الجواز، واستشكله بعضهم كما مر. ورأى العلائي أن مثل هذا إن جاز في الضعيف الصالح للمتابعة فلا يتصوّر جوازه في شديد الضعيف، فلذلك زاد هذا الشرط وحكى الاتفاقَ عليه، كما تقدم مع ابن الصلاح والنووي قالا: "ما سوى الموضوع". وعلينا أن نتدبّر النصوصَ السابقةَ وغيرها لتحقيق الأمور التي يتساهلون فيها، فأقول: [ص 20] الأحاديث الواردة في فضائل الأعمال على أضْرُب: الأول: ما ورد بفضيلةٍ لعملٍ قد ثبت أنه مشروع بخصوصه، كأن يَرِدَ ضعيفٌ بفضيلةٍ للصلوات الخمس وصوم رمضان وصوم التطوّع مطلقًا،

وصوم الاثنين والخميس ونحو ذلك. الثاني: ما ورد بفضيلةٍ لعملٍ خاصّ قد ثبتت مشروعيةُ ما هو أعمّ منه ولم تثبت له خصوصية، كأن يَرِد ضعيفٌ بفضيلةٍ لصيامِ ثاني يوم من صفر أو قيام ليلته، أو بفضيلةٍ لقراءة سورة الأنعام في صلاة الصبح أو في ركعتي تطوّع. الثالث: ما ورد بفضيلةٍ لعملٍ هو مع صرف النظر عن الضعيف مباح، كأن يَرِد ضعيف بفضيلة للقيام في الشمس على رجلٍ واحدة. الرابع: ما ورد بفضيلةٍ لعملٍ قد دلّ غير الضعيف على أنه حرام أو مكروه. فأما الرابع فلا نزاع أنه لا يجوز العمل به، وقد تقدَّم كلام [ص 21]، ابن دقيق العيد وابن حجر الهيتمي. وأما الثالث فَلِكَي تعلم ما فيه يجب أن تنظر في المباح هل يجوز أن يُعْمَل على زَعْم أنه عبادة؟ ومن أمثلته أن يتحرّى إنسانٌ الجلوس مستقبِلًا مطلع سُهيل، أو النوم في ضوء القمر، أو الإمساك عن المُفَطِّرات ليلة العيد، زاعمًا أن هذه الأعمال يُرجى لفاعلها الأجر والثواب. فإننا نقول لمن زَعَم زَعْمًا من هذا الضرب: أمِن المشروع فِعْل هذا العمل التماسًا للأجر والثواب؟ فإن قال: لا، فقد كفانا شأنه. وإن قال: نعم، قلنا: آللهُ عزَّ وجلَّ شَرَعَه أم غيرُه؟

فإن قال: غيره، فقد أشرك. قال الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ الله} [الشورى: 21]. وإن قال: بل الله عزَّ وجلَّ شرعه. قيل له: فهل أعْلَمَ به رسولَ الله صلَّى الله عليه وآله وسلم؟ فإن قال: لا! قيل له: فأَنَّى عَلِمْتَه؟ أتعلم الغيب؟ أم تدّعي النبوَّة لك أو لأحدٍ بعد محمَّد صلَّى الله عليه وآله وسلم، وقد قال الله تبارك وتعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]. نزلت قُبيل موت النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم. وجاء عن عمر وابن عباس وغيرهم [ص 22] كمالك والشافعي وأحمد والبخاري وغيرهم تفسيرها بأن جميع أحكام الدين قد أوحاها الله إلى نبيّه صلَّى الله عليه وآله وسلم، وبلَّغها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى أمّته (¬1). وإن قال: بل أعْلَم الله عزَّ وجلَّ رسولَه صلَّى الله عليه وآله وسلم مشروعيّة هذا العمل. قيل له: هل أمره بتبليغ ذلك؟ فإن قال: لا! قيل له: فليست إذن مما شرعه للأمة، إذ لو كان مما شُرِع للأمة لأمره بتبليغه، وأيضًا فكيف علمتَ أنتَ أنَّ الله شَرَعَه؟! ¬

_ (¬1) انظر تفسير الطبري: (8/ 79 - 80)، و"الدر المنثور": (2/ 456).

وإن قال: بل أمره بتبليغه. قيل له: فهل بلّغه؟ فإن قال: لا، فقد كفر؛ لاتهامه النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم بعدم تبليغ ما أمره الله بتبليغه، وأيضًا فكيف علمتَها أنت؟ وإن قال: بل بلّغَه. قيل له: فهل حَفِظَتْها الأمة؟ فإن قال: لا. قيل له: فأين قول الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]. الآية تدل على حفظ السنة أيضًا؛ لأن المقصود من حفظ القرآن هو أن تبقى الحجةُ قائمةً والهدايةُ دائمًة إلى يوم القيامة، حتى لا تدعو الحاجة إلى بعث نبي بعد خاتم الأنبياء صلَّى الله عليهم وسلم. ولذلك لما قيل لابن المبارك: هذه الأحاديث المصنوعة؟ قال: تعيش لها الجهابذة {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (¬1). فاحتجَّ بالآية على حفظ السنة من أن يُلْصَق بها ما ليس منها على وجهٍ لا يمكن تمييزه، ونحن نحتجّ بها على حفظ السنة من أن يضيع منها دليل لا يُغني عنه غيره. [ص 23] وأيضًا فكيف علمته أنت؟! وإن قال: بل حفظَتْها الأمة. قيل له: فأوْجِدْنا في الشريعة ذلك. ¬

_ (¬1) "تقدمة الجرح والتعديل": (1/ 3 و2/ 18).

فإن قال: أنا لا أستحضر ذلك، ولكن لعله في دلالة آيةٍ من القرآن لم أتنبّه لها، أو في سنة ثابتة محفوظة لم أقف عليها. قيل له: فمن أين علمتَ أن ذلك موجود محفوظ؟ والأصل عدم الشرع، ولو كان هناك دليل على شَرْع هذه الأعمال لَعَلِمه العلماء أو بعضُهم، ولو علموه لأخبروا به وتُنُوقِل عنهم. وادّعاؤك على الله عزَّ وجلَّ أنه شَرَع ذلك العمل، وليس بيدك دليل على ذلك، كذب على الله، وقد قال تعالى: [{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} [النحل: 116]] (¬1). [ص 24] فأنت ترى أن مَن تحرّى شيئًا من المباحات زاعمًا أنه يُرجى لعامله الأجر والثواب دائرٌ بين الشرك والكفر والكذب على الله والتكذيب بآياته، وأقلّ أحواله أنه مبتدع ضالّ إذا عَذَرْناه فلم نُكفّره. إذا تقرر هذا فكيف يسوغ قلب الحكم لمجرّد حديث ضعيف فيقال: لو لم يَرِد الحديث الضعيف لكان تحرِّي هذا العمل رجاءً للأجر والثواب إما شركًا وإما كفرًا، وإذا عُذِر صاحبه لم يكفَّر ولكنه مبتدع ضال، ولمّا ورد الحديث الضعيف بالدلالة على استحبابه صار تحرّيه رجاء الأجر والثواب جائزًا أو مستحبًّا. وبعبارة أخرى: لولا الضعيف لما كان هذا العمل من الدين، ولكن ¬

_ (¬1) ترك المؤلف مكان الآية بياضًا، والظاهر أنه أراد الآية التي أثبتّها.

فصل

ورود الضعيف جَعَله من الدين!! وبالنظر إلى النصوص السابقة نقول: ألا ترى هذا الضعيف فيه حُكم وحلال وحرام وسنة ويضع حُكمًا ويرفعه؟ فارجع إلى تلك النصوص وانظر هل تدل على أن القوم كانوا يتساهلون في رواية ما هذا شأنه؟ [ص 25] بالأدلة (¬1) الثابتة جملةً وتفصيلاً، فليس في ذلك الضعيف أمر زائد على الثابت، فهذا هو الذي تدلّ النصوص السابقة على أن العلماء يتساهلون في روايته؛ لأنهم يرون أنه لا يُخشى من تساهلهم فيه إلا أن يسمعه بعض المسلمين فيُجوِّز كونه صحيحًا، فيزداد إقبالًا على الطاعة، وهذه هي الفائدة في تساهلهم في رواية ما هذا شأنه. فصل ونزيد ذلك إيضاحًا فنقول: لو سألتَ عالمًا هل صوم يوم عَرفة لغير الحاج سنة ومستحبّ؟ لبادرك بالجواب قائلاً: نعم! فلو قلتَ له: فهل صوم ثاني يوم من صفر سنة ومستحبّ؟ لبادر قائلاً: لا! فإن احتاط في الجواب قال: أما من حيث خصوصه فلا, ولكن صيام التطوّع مستحبّ في أيّ يوم كان، ما عدا ما ثبت النهي عنه. فقد علمتَ من هذا أن إثبات السّنِّية والاستحباب على الخصوص حكم ¬

_ (¬1) كذا تبدأ هذه الورقة [25] وفي الكلام نقص، يدل على أنّ هناك سقطًا في صفحات المخطوط.

مستقلّ. [ص 26] ولو سألتَه: هل يمكن أن يكون مِنْ أَجْر المكثر من صيام التطوّع غيرِ خارجٍ عن المشروع أن يُسْقَى من حوض النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم قبل مَن كان أقلّ صيامًا منه؟ لقال لك: يمكن! فلو قلتَ له: فهل يمكن أن يكون مِن أجْر صائم يوم الأربعاء وثاني صفر أن يُسقى من الحوض قَبْل صائمِ اليومِ الذي قبله وسائر الأيام؟ لقال لك: لا! فإن طالبتَه بالفرق، قال: الشرع لم يُحدّد أجر صيام التطوّع وغيره من الطاعات، بل نصّ على بعض الأجر ووعد بالمزيد والمضاعفة، فيمكن أن يكون التقديم في السقي من الحوض من ذلك المزيد، ولا يلزم من عدم نص الشرع عليه - على فرض أنه واقع في نفس الأمر - نقصٌ في الدين. ولا يلزم من تجويز ذلك كَذِبٌ على الله تعالى ولا زيادةٌ في دينه ولا غير ذلك مما تقدم. وأمّا ثاني يوم من صفر فلو كان له هذه المزيّة لخَصَّه الشارع بالحضّ على صيامه كما خصّ يوم عرفة ويوم عاشوراء، فلو جوَّزنا له هذه المزيّة، مع أن الشرع لم ينص على مزيّة له، لكُنّا قد جوّزنا أن يكون صيامه سنةً ومستحبًّا على الخصوص. وهذا حُكْم مستقل، لو كان واقعًا ولم ينص عليه، لكان الدين ناقصًا. [ص 27] وإذ قد عُلِمَ أن الدين كامل؛ فإنّ في زَعْم أن [صيامَ] ثاني صفر سُنةٌ ومستحبّ على الخصوص شرعًا لِمَا لم يأذن به الله، وكذبًا عليه ... إلى غير ذلك من الموبقات.

فلو ورد حديثان ضعيفان، أحدهما: أن المكثرين من صيام التطوع يُسْقَون قبل غيرهم. والآخر: أن صائمي ثاني يوم من صفر يُسقون قبل غيرهم. فأيُّ الحديثين تدلّ النصوص التي تقدمت عن الإِمام أحمد وغيره على أنهم يتساهلون في روايته؟ آلأول الذي ليس فيه حكم زائد ولا سنة ولا حلال ولا حرام؟ أم الثاني وفيه حكم زائد وسنة وحلال وحرام، على ما مرَّ تقريرُه؟ بقي شيءٌ وهو أن الحاكم قال في أول كتاب الدعوات من "المستدرك": ["وأنا بمشيئة الله أُجري الأخبار التي سقطت على الشيخين في كتاب الدعوات على مذهب أبي سعيد عبد الرحمن بن مهدي في قبولها؛ فإني سمعت أبا زكريا يحيى بن محمَّد العنبري يقول: سمعت أبا الحسن محمَّد بن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي يقول: كان أبي يحكي عن عبد الرحمن بن مهدي، يقول: إذا روينا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحلال والحرام والأحكام شدّدنا في الأسانيد وانتقدنا الرجال، وإذا روينا في فضائل الأعمال والثواب والعقاب والمباحات والدعوات تساهلنا في الأسانيد"] (¬1) "المستدرك" ج 1 ص 490. فزاد في عبارة ابن مهدي "المباحات والدعوات" فلقائل أن يقول: هذه الزيادة تمنع حمل التساهل في كلام ابن مهدي على التساهل في رواية الضعيف على الضرب الأول، وتُعيِّن أنه أراد الضرب الثاني والثالث. وأقول: أما المباحات فلم يُرِد ابن مهدي أنه يتساهل في الضعاف الواردة بفضائل لما ثبت في الشرع أنه مباح، فإن هذه الضعاف فيها سنن ¬

_ (¬1) ترك المؤلف ثلاثة أسطر لكلام الحاكم، فأضفناها من "المستدرك".

[ص 28] وأحكام وحلال وحرام كما سمعتَ، وإنما أراد أن يَرِدَ ضعيف يقتضي إباحة شيء وقد ثبت من الشرع أنه مباح. وأما الدعوات فعندي كالشكّ في صحة زيادتها, ولا آمن أن يكون بعض النّسّاخ زادها في "المستدرك" ظنًّا منه أنها سقطت من الأصل، وأنها لولا أنها في عبارة ابن مهدي لما استند إليها الحاكم معتذرًا بها عن إيراده أحاديث ضعيفة في الدعوات، ولم يتنبّه لاحتمال أن يكون الحاكم استند إلى عبارة ابن مهدي = يرى أن الدعوات تدخل في "فضائل الأعمال والثواب والعقاب". ويَقْوى الشكُّ إذا لاحظنا أن قوله: "والدعوات" وقع آخر الأنواع: "فضائل الأعمال والثواب والعقاب والمباحات والدعوات" والأخير موضع الزيادة. وقد ذكر السخاويُّ (¬1) عبارة ابن مهدي ونَسَبَها إلى "المدخل" (¬2) للبيهقي ولم يذكر فيها المباحات والدعوات كما سبق. وقد وقع في "المستدرك" المطبوع شبيه بهذا. [ص 29] ولنصرف النظر عن ذلك ونبني على أن زيادة "والدعوات" صحيحة عن ابن مهدي، ثم نقول: الدعاء يُفارق سائر الأعمال، فإن الدعاء غير محدود، بل لكلّ إنسان أن يُنشئ ما شاء من الأدعية، وله أن يحفظ دعاء غيره ويُكثر من الدعاء به إذا وجده مناسبًا لحاله، حاويًا لما يُسْتحْسَن شرعًا ¬

_ (¬1) في "فتح المغيث": (1/ 332). (¬2) تقدم أنه ليس في المطبوع (ص 18).

في الدعاء؛ من تعظيم الربّ، وإظهار الخضوع والافتقار، مع جَمْع المقاصد واختصار اللفظ ونحو ذلك. ولا يُعَدُّ بحفظه له والإكثار من الدعاء به مُحْدِثًا. وله أن يتلقّف الدعاء من كافر إذا رآه دعاءً حسنًا. وعَلِمَ ابنُ مهدي أن أكثر الناس لا يُحْسِنون الدعاء، ويحتاجون إلى أن يتحَفَّظوا أدعيةَ غيرهم، [ص30] وإذا أنشأ أحدُهم دعاءً لنفسه، أو تلقَّفَ دعاءً من غيره ممن هو قريب منه لم يُؤمَن أن يكون في ذلك الدعاء مخالفةٌ للشرع باعتداء، أو وصف الله عزَّ وجلَّ بما لا ينبغي. فرأى ابن مهدي أن تعريض العامة لتلقّف الدعاء الذي ورَدَ به الضعيف، وهو دعاءٌ حَسَن في نفسه، وليس فيه مخالفة للشرع = خير لهم من تركهم يُنْشِؤون الأدعية لأنفسهم، فربما وقعوا في المحظور. ولم يخش ابن مهدي من العامة أن يسمع أحدهم الدعاء في الحديث الضعيف فيحفظه ويدعو به لمجرّد أنه منسوب إلى النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم؛ فإن العامةَ في ذلك الزمان كانوا يعلمون أن فيما يُروَى عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم ما يثبت (¬1) وما لا يثبت [ص31]، وكانوا أيضًا يعلمون قُبْح الإحْداث والابتداع، فلم يكن يَتَوقّع من العامة إذا رَوى لهم الحديثَ المشتملَ على الدعاء إلا أن يقول أحدهم: لا أدري أثبتَ هذا عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم أم لا يثبت، ولكنني أراه دعاء بليغًا موجزًا، جامعًا للمقاصد، مناسبًا لحالي، وقد علمتُ برواية العلماء له وسكوتهم عنه أنه ليس فيه ما يُنْكَر شرعًا؛ مِن اعتداء، أو وصفٍ لله عَزَّ وَجَلَّ بما لا يجوز، ¬

_ (¬1) الأصل: "ما لا يثبت" سبق قلم.

فصل

فَلَأن أتحَفَّظه وأدعو به أسْلَم لي من أن أُنشئ دعاءً لنفسي أو أتَلَقّف دعاءً من غيري ممن هو قريب منّي. ولسنا نشكّ أن العاميَّ في ذلك الزمان لم يكن ليقدِّم مثل هذا الدعاء على الأدعية التي أخبر بثبوتها عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم، ولا يتحرَّاه كما يتحرّاها، ويواظب عليه كما يواظب عليها. فقد تبيَّن بحمد الله عَزَّ وَجَلَّ أنه ليس في النصوص المتقدّمة مُتَمَسَّك لما ذهب إليه النووي وموافقوه، بل إنها تدلّ على خلاف ما قالوه، والله أعلم. [ص 32] فصل هذا التشديد والتساهل المرويّ عن ابن مهدي ومن معه ليس إجماعًا، فإن من الأئمة من كان يشدّد مطلقًا فلا يروي إلا عن ثقة، وفي "كفاية الخطيب" آثار من ذلك؛ ففيها "باب ما جاء أن الحديث عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم لا يُقبل إلا عن ثقة"، "ذم الرواية عن غير الأثبات" (¬1)، "باب السماع من الأُمناء وكراهة النقل والرواية عن الضعفاء" (¬2)، "باب كراهة الرواية عن أهل المجون والخلاعة" (¬3). ونَقَل في هذه الأبواب عن الأئمة نصوصًا توافقها. ¬

_ (¬1) "الكفاية" (ص 31 - 34). (¬2) (ص 132) وفيها: "باب في اختيار السماع ... ". (¬3) (ص 156 - 158).

فصل

فلو فَرَضْنا أن النصوص الواردة في التساهل تدلّ على ما ذهب إليه النووي وموافقوه، فإن نصوصَ غيرهم ممن ذكره الخطيب في هذا الأبواب تخالف ذلك؛ فبطلت دعوى الإجماع قطعًا. ولا يجوز أن يقال: تُحمل نصوص التشديد مطلقًا على النصوص المفصلة؛ لأن ممن جاء عنه التشديد مطلقًا مَن لم يجئ عنه التفصيل، ولا يصح تخصيصُ أو تقييدُ نصِّ إمام بنصّ غيره. ألا ترى أن نصوص مالك العامة لا يجوز تخصيصها أو تقييدها بنصوص الشافعي؟! [ص 33] فصل ولو سَلِمَت دعوى الإجماع من النقض فغايتُه أن يكون إجماعًا سكوتيًّا ضعيفًا، والإجماعُ السكوتيّ القويّ: أن يُنْقَل أن بعض المجتهدين قال: كيتَ وكيتَ، وبلغ ذلك سائرَ المجتهدين في ذلك العصر فسكتوا. والضعيف هو: أن يُنْقَل عن بعض المجتهدين، ثم يبحث المطّلع فلا يعلم لهم مخالفًا. وقد أنكر الإمامان الشافعي وأحمد تسمية مثل ذلك إجماعًا، وقالا: ينبغي أن يقول: "قال جماعة ممن قبلنا, ولا أعلم لهم مخالفًا" أو نحو هذا. ويظهر من مذهبيهما أن مثل هذا حجة ضعيفة يُصار إليه إذا لم يوجد دلالة من الكتاب ولا من السنة، وعلى هذا تدلّ الآثار عن الصحابة. وعلى كل حال فإن القائلين بحجيّة الإجماع السكوتي يعترفون بأنه حجة ظنيّة، والدلائل الظنية لا تثبت بها مسائل الأصول، ومسألتنا منها.

فصل

[ص 34] فصل وقد استدلّ المجوّزون بأمور أخرى: منها: حديث رُوي عن جابر عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "من بَلَغه عن الله شيء وفيه فضيلة فأخَذَ به إيمانًا رجاء ثوابه أعطاه الله ذلك". ورُوي نحوه عن ابن عمر مرفوعًا، وعن أنسٍ مرفوعًا. وهذا الحديث ذكره ابن الجوزي في "الموضوعات" (¬1) والسيوطي في "اللآلئ المصنوعة" ج 1 ص 111 - 113 (¬2). وطرقه تدور على الكذابين والمتهمين. واعلم أن الزنادقة والضُّلّال والكذّابين في تلك القرون كان ربما اجتمع منهم (¬3) جماعة، فتواطؤوا على وضع حديث، ثم يذهب كلّ منهم يرويه بإسنادٍ غير إسناد صاحبه ليُشَبِّهوا على الناس. وكان جماعةٌ منهم إذا سمعوا حديثًا غريبًا من كذّاب ذهب كلّ منهم يخترع له إسنادًا. وكانوا كثيرًا ما يُغَلّطون المغفّلين من الرواة إما بالتلقين وإما بالإلحاق في كتبهم، وإما بغير ذلك. كل هذا معروف لمن مارس الحديث، فلا يغرّنّك تعدد الطرق مع دورانها على الهلْكَى والمتروكين والمغفّلين، وإن نُسِب بعضهم إلى الزهد والصلاح؛ فقد كان كثيرٌ من الزنادقة والضُّلّال يُظهرون الزهد والصلاح، و [كان] كثير من الزُّهّاد جُهّالًا يستحبّون الكذب في الحديث ترغيبًا للناس ¬

_ (¬1) (501). وحديثا ابن عمر وأنس أخرجهما ابن الجوزي في "الموضوعات" أيضًا (1642 و1643). (¬2) (1/ 214) (¬3) الأصل: "منهما" سبق قلم.

في الخير - زعموا - حتى تأوّل بعضهم الحديث المتواتر: "من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوّأ مقعدَه من النار" فقالوا: إنما نكذب له لا عليه!!! (¬1). هذا، ولو صحّ الحديث المذكور لما كان فيه حجة للمجوّزين، بل يُحْمَل على مَن بلغه حديث ظاهره الصحة [ص 35] وهو في نفس الأمر باطل، توفيقًا بينه وبين أدلة المنع من العمل بالضعيف كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وقد رأيت رسالةً لبعض الإمامية في هذه المسألة، نَقَل فيها عن علمائهم المنعَ من العمل بالضعيف، ثم ذهب يتأوّل ويتمحّل، وذكر أثرًا عن الإمام جعفر الصادق في معنى الحديث الذي ذكرناه، فإن صحّ فقد علمتَ محله، والله أعلم. ومنها: أن في العمل بالضعيف احتياطًا، والاحتياط مرغّب فيه شرعًا. والجواب: أن الاحتياط إنما يُطْلَب في مواضع الاشتباه، كما في الحديث المتفق عليه: "الحلال بيِّن والحرام بيِّن، وبينهما مشتبهات لا يعلمهنّ كثير من الناس، فمن ترك الشُّبُهات فقد استبرأ لدينه وعِرْضِه" (¬2). وفيما رُوي عن الحسن بن علي عن جده صلَّى الله عليه وآله وسلم: "دَعْ ما يَرِيبك إلى ما لا يَرِيبك، فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر "الموضوعات": (1/ 138) لابن الجوزي. وعلامات التعجّب الثلاث من المؤلف. (¬2) البخاري (52)، ومسلم (1599) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما. (¬3) أخرجه أحمد (1723)، والترمذي (2518)، والنسائي (5711)، وابن حبان (722) وغيرهم. قال الترمذي: حسن صحيح، وصححه ابن حبان والحاكم: (2/ 13).

وأنت إذا تأملت ما تقدم وما يأتي عَلِمتَ أن الحديث الضعيف المتفرّد بعمل لا يوقع في الشُّبْهة بل الراجح أنه باطل، وعلى فَرْض الاشتباه فالاحتياط ترك العمل به؛ لأن غاية ما يحتمل في ترك العمل أن يكون تركًا لمستحبّ، وأما العمل فيُخشى منه الابتداع والإحْداث في الدين، والكذب على الله تعالى، واتهام سلف الأمة بالتفريط، وغير ذلك مما تقدّم. فالمُقْدِم على العمل إن كان الأمر عنده مشتبهًا، بمنزلة من يُقْدِم على [ص 36] الوقوع على امرأةٍ يشك أأُمه هي أم زوجته! ومنها: أن المباح يصير قُرْبةً بالنية. والجواب: أن محلّ ذلك في مباح من شأنه أن يُعين على عبادة ثابتةٍ شرعًا، كالأكل بنيّة التقوِّي على الجهاد، فأما أن يعمد جاهل إلى أمر مباح، فيزعم أنه عبادة مقصودة، ويتعبد به، ويحافظ عليه؛ فذلك هو الإحْداث في الدين والكذب على ربّ العالمين، والتكذيب بآياته في حفظ الذكر وإكمال الدين، إلى غير ذلك مما مرّ. ومنها: ما أجاب به ابنُ حجر الهيتمي في "شرح الأربعين" (¬1) عمن قال من المانعين: "إن الفضائل إنما تُتلقّى من الشارع، فإثباتها بما ذُكِر اختراعُ عبادة وشَرْعٌ لما لم يأذن به الله". قال الهيتمي: "وليس ذلك من باب الاختراع والشرع المذكورَين، وإنما هو من باب ابتغاء فضيلة ورجائها بأمارةٍ ضعيفة من غير ترتُّب مفسدة عليه". ¬

_ (¬1) (ص 32).

والجواب: أن ابتغاء فضيلةٍ ورجاءها بأمارةٍ ضعيفة إنما يجوز فيما يكفي في ثبوته دلالة الحسّ والمشاهدة والقرائن، وذلك كمعرفة أن فلانًا عا لم، وفلانًا فقير، وفلانًا صالح؛ فإنّ توقير العالم والصالح ومواساة الفقير فضائل ثابتة بالشرع. ولكن معرفة أن فلانًا عالم وفلانًا صالح وفلانًا فقير [ص 37] لا تتوقّف على الحجج النقلية بل مدارها على الحسّ والمشاهدة والتسامع والقرائن، فإذا وُجِدت أمارة ضعيفة أن فلانًا فقير - مثلًا - كان للمكلّف ابتغاءُ فضيلة الصدقة عليه استنادًا إليها، وذلك كأن يرى ثوبَه خَلَقًا. ويُعتدّ هنا بالأمارات التي لا تثبت بها الأحكام الشرعية، وذلك كخبر الكافر والفاسق والصبي، وكالرؤيا ونحوها. وليس مسألتنا من هذا القبيل في شيء وإنما هي من قبيل الأحكام الشرعية التي إنما يُستدلّ عليها بالحجج المعتبرة شرعًا في ثبوت الأحكام. وهذا واضح والحمد لله. ومنها: أن يُقال: إذا جاز أن يفعل المباح، ويختار صيام يوم معيّن، وقيام ليلةٍ معيّنة لمجرَّد سبب دنيوي، وذلك كالتختُّم بالعقيق تزيُّنًا به، وصوم ثاني يوم من صَفَر لأنه كان فارغًا فيه، وقيام ليلته لأنه سهر فيها، فكيف لا يجوز لسبب ديني وهو التماس فضيلة زائدة ولا سيما إذا ورد بها ضعيف. والجواب: أن التزيّن واغتنام الفراغ والسهر ليس فيها كَذِب على الله ولا تكذيب بآياته ولا زيادة في دينه، وعليك أن ترجع إلى ما قدمنا من الأسئلة التي تورَد على من تحرّى النومَ في ضوء القمر ونحو ذلك، زاعمًا أنه يُرجى لفاعله الأجر والثواب.

وقد قدمنا أن الأسئلة بعينها تورَد على من تحرّى [ص 38] صوم ثاني صفر، زاعمًا أنه يُرجَى لصائمه أجرٌ وثواب أفضل مما يُرجَى لصائم اليوم الذي قبله ونحوه. فإنه يقال لهذا: أمِن المشروع صوم هذا اليوم لهذا الرجاء؟ فإن قال: نعم، قيل له: آلله عزَّ وجلَّ شَرَعَه أم غيره؟ .. (إلى آخر ما تقدّم) (¬1). فأما المتزيّن ومغتنم الفراغ ومغتنم السهر؛ فإنهم لو سُئلوا الأسئلة المذكورة لمرّوا في أجْوِبتها على الوجه الصحيح إلى أن يقال لهم: "فأوْجِدونا في الشريعة ذلك" فيقولون: قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ} [الأعراف: 32]، {فَإِذَا فَرَغتَ فَآنصب} [الشرح: 7]، والسهر ضرب من الفراغ، والإجماع المحقق منعقد على الجواز. فتدبَّر (¬2). ... ¬

_ (¬1) (ص 175 وما بعدها). (¬2) هنا تنتهي هذه القطعة من الكتاب. وقد ألحقنا بها موضعين من القطع الأخرى كما سيأتي التنبيه عليه.

فصل

[فصل] (¬1) نصوص الإمام الشافعي في هذا البحث قال الإمام الشافعي في صدر "الرسالة" (¬2): " ... وصنف كفروا بالله فابتدعوا ما لم يأذن به الله، ونصبوا بأيديهم حجارة وخشبًا وصورًا استحسنوها، ونبزوا أسماء افتعلوها، ودعوها آلهةً عبدوها، فإذا استحسنوا غيرَ ما عبدوا منها ألقوه ونصبوا بأيديهم غيره فعبدوه ... فكانوا قبل إنقاذه إياهم بمحمد صلَّى الله عليه وآله وسلم أهلَ كفر في تفرُّقهم واجتماعهم، يجمعهم أعظم الأمور الكفر بالله وابتداع ما لم يأذن به الله ... فليست تنزل بأحدٍ من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله جل ثناؤه الدليل على سبيل الهدى فيها". وقال: "والعلم طبقات شتى، الأولى: الكتاب والسنة إذا ثبتت السنة (¬3)، ثم الثانية: الإجماع فيما ليس فيه كتاب ولا سنة، والثالثة: أن يقول بعض أصحاب النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم ولا نعلم له مخالفًا منهم، والرابعة: اختلاف أصحاب النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم في ذلك، الخامسة: القياس على بعض الطبقات، ولا يُصار إلى شيء غير الكتاب والسنة وهما ¬

_ (¬1) هذا الفصل ألحقناه هنا، وهو من القطعة الثانية من الرسالة [4658/ 10] (17 ب - 19 ب). ولعله من ضمن ما استدل به النواوي على جواز العمل بالضعيف، كما ذكر المؤلف [ص 6] من هذه القطعة من الرسالة. (¬2) (ص 10). (¬3) "إذا ثبتت السنة" ليست في ط دار الوفاء.

موجودان". "الأم" (7/ 246) (¬1). وقال: " ... لا يجوز لمن استأهل أن يكون حاكمًا أو مفتيًا أن يحكم ولا أن يفتي إلا من جهة خبر لازم، وذلك الكتاب ثم السنة، أو ما قاله أهلُ العلم لا يختلفون فيه، أو قياس على بعض. هذا، ولا يجوز له أن يحكم ولا يفتي بالاستحسان ... " "الأم" (7/ 271) (¬2). وقال - رحمه الله - بعد أن ساق المأثور عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم في دعاء الافتتاح: "فإن زاد فيه شيئًا أو نقصه كرهته ولا إعادة" "الأم" (1/ 92). ونحو هذا ذكر في التلبية، وروى فيها "عن عبد الله بن أبي سلمة أنّه قال: سمع سعدٌ بعضَ بني أخيه وهو يلبي: يا ذا المعارج، فقال سعد: المعارج؟ إنّه لذو المعارج، وما هكذا كنا نلبي على عهد رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم". "الأم" (2/ 132 - 133) (¬3). وذكر في موضع آخر بعد أن ذكر تلبية النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم: "ولا أحبّ أن يزيد على هذا في التلبية حرفًا إلا أن يرى شيئًا يعجبه فيقول: لبيك لا عيش إلا عيش الآخرة، فإنّه لا يُرْوَى عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم أنّه زاد في التلبية حرفًا غير هذا عند شيء رآه فأعجبه". (2/ 173) (¬4). ¬

_ (¬1) (8/ 764 - دار الوفاء). (¬2) (9/ 67 - 68). (¬3) (3/ 391 - 392). (¬4) (3/ 525).

أقول: ومثل هذا ما جاء أنّ رجلًا عطس عند ابن عمر فقال: الحمد لله والسلام على رسول الله. فقال ابن عمر: وأنا أقول: الحمد لله والسلام على رسول الله، وليس هكذا علمنا رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم، علّمنا أن نقول: "الحمد لله على كل حال". "جامع الترمذي" (2/ 123) (¬1)، وأخرجه الحاكم في "المستدرك" (¬2) وقال: صحيح غريب، وأقرّه الذهبي. وقال الشافعي (¬3): "وأحبّ أن يستلم الركنَ اليماني بيده ويقبّلها ولا يقبّله؛ لأنّي لم أعلم أحدًا روى عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم أنّه قبّل إلا الحجر الأسود، وإن قبّله فلا بأس به، ولا آمره باستلام الركنين اللذين يليان الحجر الأسود، ولو استلمهما أو ما بين الأركان من البيت، لم يكن عليه إعادة ولا فدية، إلا أني أحبّ أن يقتدي برسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم". وبعد كلام روى "عن محمد بن كعب القُرَظي أنّ رجلًا من أصحاب النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم كان يمسح الأركان كلها، ويقول: لا ينبغي لبيت الله تعالى أن يكون شيء منه مهجورًا. وكان ابن عباس يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} ... " "الأم" (2/ 146 - 147) (¬4). وذكر بعد ذلك أنّ الذي كان يستلمه ابنُ الزبير، وذَكَر قولَ ابن عباس ثم ¬

_ (¬1) (2738) وقال: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث زياد بن الربيع". (¬2) (4/ 265) وعبارته: "هذا حديث صحيح الإسناد غريب في ترجمة شيوخ نافع". (¬3) (3/ 428). (¬4) (3/ 430 - 431).

قال: "وبهذا نقول" (¬1). وقد روى الإمام أحمد (¬2) وغيره أنّ ابن عبّاس طاف مع معاوية فكان معاوية يستلم الشاميين وابن عباس يمنعه ويقول: "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة". وفي بعض الروايات: أنّ معاوية رجع عن ذلك (¬3). وقد عقد البيهقي في "السنن" بابًا لذلك، وذكر فيه جواب الشافعي عن شبهة الهجران بقوله: "قال الشافعي: ولم يدَّع أحدٌ استلامهما هجرةً لبيت الله ونسكه، ولكنّه استلم ما استلم رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم وأمسك عمّا أمسك عنه". "سنن البيهقي" (5/ 77). وقد جاء عن عمر وعثمان عدم استلام الشاميين واحتجَّا بأنّ النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم لم يفعله (¬4). أقول: وقول الشافعي: "وإن قبّله فلا بأس به ... " يمكن أن يكون أراد بالبأس الإعادة والفدية، أي: أنّه لا إعادة عليه ولا فدية كما بيّنه بعد ذلك، ولكنّه قال في موضع: "وأيّ البيت قَبَّل فحَسَنٌ غير أنّا نأمر بالاتباع"، وهذا لا يخلو عن إشكال، ولعله أراد أنّه مباح إذا لم يزعم فاعله أنّه من الدين، بل فعله بباعث المحبة، كالذي كان يقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} في كل ركعة، مع أنّ بينهما فرقًا، فإنّ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} في الصلاة ثابت إجمالًا، وتقبيل ما ¬

_ (¬1) (3/ 435). (¬2) (2210)، وأخرجه البخاري (1608) معلقًا، والحاكم: (3/ 542). (¬3) في "المسند" (1877) وفيه قول معاوية لما ذكر له ابنُ عباس الآية: "صدقت". (¬4) خبر عمر رواه أحمد (253، 313)، وخبر عثمان رواه أحمد أيضًا (512).

بين الأركان لم يثبت إجمالًا ولا تفصيلًا، والقياس فاسد الاعتبار لمخالفته النص، فإنّ تقبيل النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم الحجرَ الأسود، وتركه تقبيل غيره واضح في الدلالة على الفرق، هذا مع ما جاء من مزيّة الحجر الأسود على سائر البيت، والله أعلم. وذكر الشافعيُّ في الحجِّ أدعيةً بعضها عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم بسندٍ لا يثبت، وبعضها حكاها عن بعض التابعين وبعضها لم يحكه عن أحد، ويعبر عنها بقوله: "أستحب" ونحوه، وقد يتوهّم أنّ تلك الأدعية مستحبة على التعيين، وليس هذا مراد الشافعي إن شاء الله، وإنّما مراده - إن شاء الله - أنّ الدعاء المناسب للمقام مستحب، وذلك الدعاء الذي ذكره مناسب، وروايته عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم أو عن بعض السلف يُكْسِب النفسَ طمأنينة بسلامة الدعاء ممّا يكره، ولو عَدَل الحاجُّ عنه إلى دعاء آخر مناسب كان قد أتى بالمستحب؛ ولهذا قال الشافعي في باب القول عن رؤية البيت بعد أن ساق بعض الأدعية: "فأستحبّ للرجل إذا رأى البيت أن يقول ما حكيت، وما قال مِنْ حَسَن أجزأه إن شاء الله تعالى". (2/ 144) (¬1). وهذا كثيرٌ في كلام الشافعي يقول: أستحبُّ كذا، ويذكر مثالًا خاصًّا يريد - والله أعلم - أنّه فَرْد من أفراد المستحب المطلق لا أنّه مستحب بعينه. فمن ذلك أنّ مالكًا - رحمه الله - كره عند الذبح أن يُصَلّى على النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم (¬2)، فقال الشافعي: "والتسمية على الذبيحة "باسم ¬

_ (¬1) (3/ 423). (¬2) انظر "البيان والتحصيل": (3/ 281)، و"مواهب الجليل": (1/ 383).

الله" فإذا زاد على ذلك شيئًا مِنْ ذِكْر الله عَزَّ وَجَلَّ فالزيادة خير، ولا أكره مع تسميته عند (¬1) الذبيحة أن يقول: صلَّى الله على محمد رسول الله، بل أحبُّه له، وأحب أن يُكثر الصلاةَ عليه، فصلّى الله عليه في كل الحالات؛ لأنّ ذكر الله عزَّ وجلَّ والصلاة عليه إيمان بالله تعالى وعبادة له يُؤجَر عليها إن شاء الله تعالى من قالها ... قال: ولسنا نعلم مسلمًا، ولا نخاف عليه أن تكون صلاته عليه صلَّى الله عليه وآله وسلم إلا إيمان بالله (¬2)، ولقد خشيت أن يكون الشيطان أدْخَلَ على بعض أهل الجهالة النهيَ عن ذِكْر اسم رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم عند الذبيحة، ليمنعهم الصلاةَ عليه في حالٍ لمعنى يعرض في قلوب أهل الغفلة ... ". "الأم" (2/ 305) (¬3). يعني بقوله: "لمعنى ... " إلخ أن ينوي الذبح لله وللرسول، أو يظن ذِكْر الرسول لازمًا لزوم ذكر اسم الله أو نحو ذلك. وقوله: "فالزيادة خير" يريد الخيرية المطلقة المشتركة بين هذا الموضع وغيره، وهكذا قوله: "بل أحبه له" مراده أنّ الصلاة على النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم محبوبة مطلقًا، وهذا الموضع من أفراد ذلك المطلق، وهذا ظاهر في سياق عبارته، وإن غلط في هذا بعض الفقهاء فزعم أنّها مستحبة في هذا الموضع بعينه على الخصوص. وقد يُحْتَجّ لمالك بأنّ الصلاة على النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم عند الذبح لم تُنقل عنه صلَّى الله عليه وآله وسلم، ولا عن أحدٍ من أصحابه ولا ¬

_ (¬1) في "الأم": "على". (¬2) كذا في الأصل، وفي ط. دار الوفاء: "الإيمان بالله". (¬3) (3/ 621 - 622).

أئمة التابعين، وقد احتجّ الشافعي بمثل هذا في مواضع قد تقدم بعضها (¬1). وتَرْكُه صلَّى الله عليه وآله وسلم من سنّته، وقد مرّ احتجاج ابن عباس بقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (¬2) [الأحزاب: 21]، ومثلها في الحجة قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران: 31]. وغيرها من الآيات في الأمر بطاعته صلَّى الله عليه وآله وسلم؛ فإنّ مِنْ اتباعه تَرْكَ ما تركه، وقد غضب النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم على النفر الذين أراد بعضهم أن يصوم ولا يفطر، وأراد الآخر أن يقوم الليل ولا ينام، وأراد الثالث أن يتجرّد للعبادة فلا يتزوّج، وممّا قاله صلَّى الله عليه وآله وسلم في زَجْرهم وزجر أمثالهم: "فمن رغب عن سنتي فليس مني". ومرّ احتجاج عمر وغيره، وسيأتي مزيد لذلك في بيان أن ترك النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم حجة (¬3). وذكر الشافعي - رحمه الله - في باب (الاغتسال للعيد) (¬4) [قال: كان مذهب سعيد وعروة في أن الغسل في العيدين سنة، أنه أحسن وأعرف وأنظف، وأنْ قد فعله قومٌ صالحون، لا أنه حَتْمٌ بأنه سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -]. ... ¬

_ (¬1) (ص 191). (¬2) (ص 192). (¬3) (ص 200 وما بعدها). (¬4) (2/ 489). إلى هنا انتهت هذه القطعة من النسخة الثانية من الرسالة، وقد نقلتُ باقي كلام الشافعي من "الأم".

فصل

[فصل] (¬1) نعم قد توجد مسائل عن بعض الأكابر استحسنوا فيها العمل بحديث يظهر أنه ضعيف، ولكن مثل ذلك لا يثبت به أصل عظيم من الأصول الشرعية تُعارَض به الأصول القطعية؛ لاحتمال أن ذلك الحديث كان عند مَن قال بموجبه صحيحًا، أو كان له عاضد ولو من القياس، أو يكون ذلك سهوًا منه، أو غير ذلك. وقد يُروى عن بعضهم المحافظة على بعض المباحات على هيئة يتوهَّم الناسُ أنه كان يرى أنها مستحبة، ولم يكن هو يراها مستحبة، وقد تكون له نية يصيرُ ذلك المباح بها قربة، ولكن لا تتفق هذه النية لكل أحد. كما يروى أن مالكًا رحمه الله كان إذا أراد الخروج إلى مجلس الحديث اغتسل (¬2)، وأن البخاري قال: ما وضعت في كتابي الصحيح حديثًا إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين (¬3). فكأنهما كانا يغتسلان لأن الغسل يورث ...... (¬4). [فصل] [ص 21] [والبدعة] بالتعريف المذكور (¬5) مذمومةٌ قطعًا ولا يُستثنى منها ¬

_ (¬1) من هنا إلى آخر الرسالة أضفناه من القطعة الثانية من الرسالة [4658/ 10] (ق 23 ب - 33 ب) وقد حصل فيها خرم في موضعين كما سيأتي التنبيه عليه. (¬2) انظر "تهذيب الأسماء واللغات": (ق 1/ 2/ 76). (¬3) انظر "تاريخ بغداد": (2/ 9)، و"السير": (12/ 402). (¬4) هنا خرم ورقة أو أكثر. (¬5) بسبب الخرم السالف سقط ما قبل هذا من الكلام، وواضح أن حديث المؤلف عن =

شيء، وأدلة ذلك لا تحصى، وقد بسطها الشاطبي في "الاعتصام" (¬1)، وسأشير إلى بعضها: فمنها: أن الله تعالى قسَّم الكفر في كتابه إلى قسمين: الكذب عليه، والتكذيب بآياته، والآيات في ذلك كثيرة، منها قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [العنكبوت: 68]، وقوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [الزمر: 32]. وكلّ من عمل عملًا يرجو ثوابه من الله تعالى، فقد نَسَب ذلك العمل إلى الدين، فإن كان عنده سلطان أنه من الدين وإلا فهو كاذب على الله تعالى، والسلطان إما يقينيّ بذاته كآيةٍ من القرءان قطعية الدلالة، وإما مُسْتَنِد إلى يقينيّ كحديث صحيح، فإنه ليس قطعيًّا في نفسه عند أكثر العلماء، ولكنه مستند إلى أصل قطعي، وهو وجوب العمل بالحديث الصحيح، فإن مجموع الأدلة على ذلك يفيد اليقين، وإن كان كلّ فرد منها لا يفيده. وما لم يكن قطعيًّا ولا يستند إلى قطعيّ فهو من الخَرْص الذي قال الله تعالى فيه: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} [الذاريات: 10]، ومن الظن الذي قال فيه: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36]، فصاحبه كاذب على الله عزَّ وجلَّ ولا بدّ. ¬

_ = البدعة فأضفناه بين معكوفين، والتعريف الذي أراده المؤلف هو "إلصاق أمر بالدين وليس من الدين". انظر "حقيقة البدعة" (ص 88 - ضمن رسائل العقيدة) للمؤلف. (¬1) (3/ 62 - 66).

والبدعةُ المذمومةُ التي سبق تعريفها (¬1) كلها داخلة في هذا، ولكن من النّاس من يُعْذَر، على ما يأتي إيضاحه في موضعه إن شاء الله تعالى (¬2). ومن هنا تضافرت الأحاديث على ذمها كلها، ومن تلك الأحاديث ما رواه مسلم وغيره من طرق متواترة إلى جعفر الصادق عن أبيه قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: كانت خطبة النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم يوم الجمعة: يحمد الله ويثني عليه، ثم يقول بعد ذلك - وقد علا صوتُه -: "أمّا بعد، فإنّ خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشرّ الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة" مسلم ج 3 ص 11 (¬3). ولولا عِظَم خطر الإحداث في الدين لما كرّر النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم هذا الكلام كلَّ جمعة. وقد اتفق المحققون أنّ المرادَ بالبدعة في هذا الحديث البدعةُ في الدين - على ما قدمنا تعريفها - ولكن منهم من أدخل فيها ما كان مِنْ هَدْيه صلَّى الله عليه وآله وسلم بالقوّة، فاحتاج إلى استثنائه من هذا الحديث وغيره من الأحاديث الكثيرة. ومنهم مَن نَظَر إلى أنّ البدعة لغةً أعمّ من البدعة في هذه الأحاديث، فاحتاج إلى قسمتها إلى الأحكام الخمسة. وقد نصّ هذا الحديثُ وغيرُه [ص 22] من الأحاديث أنّ البدع شر الأمور، وأنّ كلّ بدعة ضلالة. فأقلّ ما ¬

_ (¬1) انظر (ص 197) حاشية رقم (5). (¬2) (ص 211 - 212). (¬3) (867).

[ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - وهل هو حجة]

يدلّ عليه ذلك أنّها من الكبائر، وحينئذٍ فلا يخرج العمل عن كونه بدعة إلا بحجّةٍ يحصل بها اليقين، أو غَلَبة الظن المستنِد إلى يقين = بأنّ ذلك العمل من هدي النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم، والضعيفُ بعيد عن ذلك، ولا ينفعه ثبوتُ عمومٍ يندرج تحته، فإنّ الأمر بمطلق قيام الليل وصيام التطوع يدلّ على تساوي الليالي والأيام، فمن قام ليلة النصف من شعبان أو صام يومها رجاء ثوابٍ أعظمَ من ثواب ليلة النصف من صفر، فإن واظب عليها احتاج إلى سلطانٍ بأن من هَدْي النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم المواظبة عليها، فإن لم يكن له سلطان على ذلك، فعمله بدعة، وقد علمتَ أنّ ذلك العموم لا يدلّ على ما ذكر، وأنّ الحديث الضعيف لا يصلح سلطانًا، وقس على ذلك. ولا يُظَنّ بالصحابة والتابعين وسلف الأمة أن تفوتهم سنةٌ من سنن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم فينفرد بها بعض الضعفاء, والمنفردُ بها إن كان واحدًا فذلك حديث غريب، وقد أَبْلَغ الأئمةُ في ذمّ الغرائب كما سلف (¬1). [تَرْك النبي - صلى الله عليه وسلم - وهل هو حجة] واعلم أنّ عامة الفضائل التي يحاول المتأخرون إثباتها بالأحاديث الضعيفة مما لم يُنْقَل من وجه صحيح أنّه عمل النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم بها ولا أصحابه، ولا أئمة التابعين، وكثيرٌ منها لم يعمل به [ص 26] مَنْ بعدهم إلى قرون، وما كان كذلك وجب الحكم بأنّ النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم لم يعملوا به .... وفي "إعلام الموقعين": "فصل، وأمّا نقلهم لتركه صلَّى الله عليه وآله ¬

_ (¬1) من هنا ضرب المؤلف على 9 صفحات إلى أواخر [ق 25 ب].

وسلم فهو نوعان، وكلاهما سنة، أحدهما: تصريحهم بأنّه ترك كذا ... والثاني عدم نقلهم لما لو فعله لتوفرت هِمَمهم ودواعيهم أو أكثرِهم أو واحد منهم على نقله، فحيث لم ينقله واحد منهم البتة، ولا حدّث به في مجمع أبدًا عُلِم أنه لم يكن". أقول: وما نُقِل من وجه غير ثابت فكأنّه لم يُنْقَل. ثم ذَكَر أمثلة من ذلك، إلى أن قال: "ومن ههنا يُعلَم أنّ القول باستحباب ذلك خلاف السنة، فإنّ (¬1) تَرْكه صلَّى الله عليه وآله وسلم سنة كما أن فِعْله سنة، فإذا استحببنا فِعْل ما تَرَكه كان نظير استحبابنا تَرْك ما فَعَله ولا فرق ... ". أقول: يعني أنّ استحباب ترك السنة الثابتة تكذيب له صلَّى الله عليه وآله وسلم، وشَرْعٌ في الدين يناقض ما شرعَه، واستحبابُ فعلِ ما تركه كَذِبٌ على الله تعالى، وشَرْعٌ في الدين ما لم يشرعه. فأمّا إذا تركنا للتكاسل ما فَعَلَه فإنّه أهون جدًّا من استحبابنا فعل ما تركه؛ لأنّ غاية الأوّل أن يكون معصية أو مكروهًا أو خلاف الأولى، وليس فيه كذب على الله ولا تكذيب بآياته. وأمّا الثاني فهو كذب على الله وشَرْعٌ في الدين لما لم يأذن به الله، وفيه مع ذلك تكذيب فيما نصّ عليه من إكمال الدين، وفيما تكفّل به من حفظ الشريعة أو رَمْيٌ للنبيّ صلَّى الله عليه وآله وسلم بأنّه لم يبلّغ ما أنزل الله إليه، أو للصحابة بأنّهم لم يبلغوا ما سمعوا، أو لأئمة التابعين أو من بعدهم. ورَمْيٌ لهم جميعًا بأنّهم كانوا مقصرين عن فضيلة من الفضائل حتى جاء هذا المبتدع فأحياها والعياذ بالله". ¬

_ (¬1) الأصل: "وما" والمثبت من "الإعلام".

ثم قال: "فإن قيل: من أين لكم أنّه لم يفعله، وعدم النقل لا يستلزم نقل العدم؟ فهذا سؤال بعيد جدًّا عن معرفة هديه وسنته وما كان عليه، ولو صحّ السؤال وقُبِل (¬1) لاستحبَّ لنا مستحبٌّ الأذان للتراويح، وقال: من أين لكم أنّه لم يُنْقَل؟ واستحبَّ لنا مستحبٌّ آخر الغُسلَ لكلّ صلاة، وقال: من أين لكم أنّه لم ينقل؟ ... واستحبّ لنا آخر صلاة ليلة النصف من شعبان أو ليلة أول جمعة من رجب وقال: من أين لكم أنّ إحياءها لم يُنقل؟ وانفتح بابُ البدعة، وقال كلُّ من دعا إلى بدعة: من أين لكم أن هذا لم يُنقل". "إعلام الموقعين" (2/ 440) (¬2). أقول: والسؤال الذي فرضَه مردودٌ إجماعًا، ويكفي لدفعه من الشرع [ص 27] قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، وما عُلِم من الدين بالضرورة بأنّ محمدًا صلَّى الله عليه وآله وسلم خاتم الأنبياء، وكتابه خاتم الكتب، وشريعته خاتمة الشرائع. ومن جهة العقل والعادة ما عُلِم بالتواتر من شِدّة حرص النبيّ صلَّى الله عليه وآله وسلم على تبليغ جزئيات الدين، وحرص أصحابه - مع كثرتهم - على حفظ ذلك وتبليغه إلى من بعدهم وهلمّ جرًّا، حتّى لقد أنكر بعضُ العلماء الحديثَ الذي يجمع شروط الصحة ولكنه فرد، وأنكر مالكٌ كثيرًا من الأحاديث الصحيحة؛ لأنّه وجد عملَ أهلِ المدينة على خلافها. وكذا أبو حنيفة رحمه الله فإنّه يتردّد في الأحاديث الأفراد إذا خالفت العمل. ¬

_ (¬1) الأصل: "وقيل" خطأ. والمثبت من "الإعلام". (¬2) (4/ 264 - 265).

ونحن نرى العمل بالأحاديث الأفراد الصحيحة؛ لأنّها داخلة في الأصل القطعي الموجِب للعمل بالحديث الصحيح؛ ولأنّا نرى أنّ ما تكفَّل الله تعالى به من حفظ الشريعة يحصل بذلك. وقد يجوز أن ينفرد الصحابيُّ بالسنة، ويتفق له أن يحدِّث بها جماعةً محصورين، فيبلّغها واحد منهم فقط. على أنّنا نتردَّدُ في الحديث الفَرْد وإن كان رواته ثقات، إذا كان عن عمل يتكرّر سببُه كثيرًا، أو من شأنه أن تتوفر الرغبات على نقله، وانضمَّ إلى ذلك غرابةُ المعنى؛ بأن لم يوجد له شبيه في الشريعة. • وممّا احتجّ به القائلون بالعمل بالضعيف: الإجماعُ على أنّ المباح يصير قُربةً بالنية. والجواب: أن محلّ ذلك في المقاصد الشرعية الثابتة إذا كان يمكن تحصيلها بوسائل كثيرة، كلّ واحدةٍ منها كافية في ذلك، ولم يعيِّن الشرعُ وسيلةً منها على سبيل التحديد، بل ترك النظر للمكلف؛ فإنه يعلم حينئذ أنّ على المكلّف أن يتوصل إلى ذلك المقصد بأي وسيلة شاء من الوسائل المباحة في نفسها، فإذا كان المقصد واجبًا ثبت أنه يجب على المكلّف أن يتوسل إليه بوسيلة من تلك الوسائل، وهي حينئذ واجبة على التخيير، فإذا اختار واحدًا منها صار ذلك الواحد قربة؛ لأنّه حينئذٍ واجب، وإن كان المقصد مندوبًا كانت تلك الوسائل مندوبة على التخيير، فإذا اختار واحدًا منها صار مندوبًا، ويكون التوسل بأحدها إلى ذلك المقصد من هدي النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم بالفعل إن ثبت عنه أنّه تولسل به لذلك المقصد، ومن هديه صلَّى الله عليه وآله وسلم بالقوة إن كان استغنى عنه بغيره، ولكن

على العامل أن يعلم أنّ تلك الوسيلة [ص 28] ليست قربةً بذاتها، وإنّما تكون قُربة للتوسل بها إلى قربة، وعليه إذا كان متبوعًا أن يحترز عن إيهام تابعيه أنّها قربة بذاتها. فمن ذلك الحج والجهاد مقصدان شرعيّان أُمِرْنا بهما ويمكننا التوسل إليهما بأمور متعددة، كالسفر إلى الحج مشيًا وركوبًا على الخيل والبغال والحمير والجمال والفِيَلة، وفي السفن البحرية شراعية أو بخارية، وفي القطار والسيارات والطيارات وغير ذلك، ولم يحدد لنا الشرع شيئًا منها على سبيل التقييد. وتوسَّل النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم بالركوب على الناقة وكثير من أصحابه بالمشي، فكانت هاتان الوسيلتان من هديه صلَّى الله عليه وآله وسلم بالفعل، وأمّا التوسل بركوب الباخرة أو القطار أو السيارة أو الطيارة، فلم يقع في عهده صلَّى الله عليه وآله وسلم، ولكنّه من هديه بالقوة. وممّا يصرح بذلك قول الله عزَّ وجلَّ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]. وركوب السيارة والطيارة ونحوهما سبيل من السبل، وقس على هذا حال الجهاد، فالتوسّل إليه بالسيف والرمح من هديه صلَّى الله عليه وآله وسلم بالفعل، وبالبندق والمدفع وغيرهما من هديه بالقوة، وممّا يصرّح بذلك قول الله عزَّ وجلَّ: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60]. ومن ذلك: أنّ قراءة القرآن مقصد شرعي أُمِرنا به مطلقًا أي: بدون تعيين وسيلة من وسائله على وجه التحديد والتقييد، فكان ذلك أمرًا بوسائله على وجه التخيير، فيدخل في ذلك التوسل بالنظارات الزجاجية فهي من هدي

النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم بالقوة؛ لأنّها إنّما لم تُستعمل في عهده؛ لأنّها لم تكون موجودة. وقد يكون للمقصد الشرعي وسيلة متيسرة في عهد النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم فيعمل به ثم بعده تختل تلك الوسيلة، إمّا بحيث لا تبقى كافية لتحصيل المقصد، وإمّا بحيث يصير غيرها أصلح منها، وحينئذٍ فينبغي العدولُ عن الوسيلة التي كانت في عهده صلَّى الله عليه وآله وسلم، وقد تتعين وسيلةٌ لم تكن على عهده فتصير واجبة لعينها، وذلك كتحصيل البنادق والمدافع ونحوهما من آلات الجهاد. وقد تصير وسيلةً لم تكن على عهده أصلح من التي كانت على عهده، فتصير مستحبةً لعينها، وعلى هذين القسمين يدور قسم الواجب والمستحب من أقسام البدعة على ما قَسّمه بعضُ [ص 29] العلماء. ويدخل فيما تقدم اغتسال مالك عند إرادة التحديث، والبخاري عند إرادة إثبات الحديث في الصحيح (¬1)؛ لأنّ من المقاصد الشرعية وجوب التحفُّظ عن الخطأ في الحديث عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم، وفي الحكم على الحديث بالصحة، ولا سيما إذا كان الحاكم يرى أن حكمه سيُعْمَل به إلى يوم القيامة, ومن الوسائل إلى التحفّظ الاغتسال ليكون أقوى للنشاط وصفاء الذهن ولطف الفطنة، وكان النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم مستغنيًا عن ذلك بما وهبه الله تعالى له من القوة والعصمة، وأمّا أصحابه فكانوا أحضر أذهانًا وأقوى فطنة مما بعدهم، مع أنّهم لا يكادون يخشون الخطأ؛ لأنّهم سمعوا الحديث من فيه صلَّى الله عليه وآله وسلم مرارًا، فهم على يقين لا شكّ فيه، ويدخل في هذا كلّ ما لعله يصح ممّا يشبه ذلك عن ¬

_ (¬1) انظر تخريجهما فيما سلف (ص 197).

أئمة السلف، على أنّنا نعلم أنّه لم يكن أحد منهم معصومًا عن الخطأ، والله أعلم. إذا أحطت خبرًا بما تقدم، ثم وزنتَ به مسحَ الرقبة في الوضوء، وتخصيصَ ليلة النصف من شعبان بالقيام، ويومها بالصيام، اتضح لك الفرق، فإنّ هذه وأمثالها مقاصد لا وسائل، والعامل بها إنّما يتديَّن بها على أنّها قربة بذاتها، والحجة قائمة على أنّها ليست من هدي النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم لا بالفعل ولا بالقوة، بل الحجة قائمة على أنّ من هديه صلَّى الله عليه وآله وسلم تركها بالفعل، وليس هناك ما يقتضي أنّها من هديه بالقوة، بل إنّ الهدي بالقوة إنّما يتصوّر في الوسائل كما تقدم، فأمّا المقاصد الشرعية فكلها من هديه صلَّى الله عليه وآله وسلم بالفعل، وتحقيق هذا يحتاج إلى إطالة. • وممّا احتجُّوا به: أنّ في العمل بالضعيف احتياطًا. والجواب: يا حبذا الاحتياط، فإنّ الشرع يحثّ عليه، وفي القرآن آيات كثيرة تشير إليه، والأحاديث فيه كثيرة، قد ذكرنا بعض ذلك في موضع آخر، وإنّما علينا أن نعرف ما هو الاحتياط، فأقول: محل الاحتياط عند الاشتباه، فينبغي للمكلف حينئذ أن يختار ما لا خطر فيه، أو ما هو أقلّ خطرًا. والحديثُ الضعيف بعد ثبوت ضعفه ليس بحجة، بل قد قدمنا ما يُعْرَف منه أنّ الحجة قائمة على بطلانه. ثم نقول: لا يخلو الضعيف أن يكون يقتضي فعلاً أو تركًا، فأمّا الأوّل فإنّك إن عملت ما دلّ عليه وقعت في البدعة، وهي حرام أو شرك، كما يأتي تحقيقه - إن شاء الله تعالى -, وإن تركتَ العملَ به فغاية الأمر أنّ هناك احتمالاً ضعيفًا

أنّك تركت مستحبًّا، [ص 30] فأخبرني الآن كيف الاحتياط؟ أليس هو أن تترك العمل بالضعيف لئلا تقع في البدعة الحرام أو الشرك؟! تدبّر. وأمّا الثاني فكذلك؛ لأنّ الضعيف إن اقتضى تركًا لما قام الدليل على أنّه واجب أو مستحب فواضح، وإن اقتضى تركًا لما قام الدليل على أنّه مباح، فَتَرْك المباح الذي قام الدليل على إباحته خوفًا من أن يكون حرامًا أو مكروهًا تدين بتركه، والتدين بما قام الدليل على أنّه ليس من الدين بدعة حرام أو شرك، قال تعالى {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 118 - 121]. وجاء في أسباب النزول ما حاصله: أنّ شياطين الجن والإنس أوحوا إلى المشركين أن يقولوا للمسلمين: أمّا ما ذبح الله تعالى - يعنون الميتة - فلا تأكلون، وأمّا ما ذبحتم بأيديكم فتأكلون. وهذه شبهة قد تحمل بعض الناس على أن لا يأكل اللحم أصلاً، يقول: إذا حرم ما ذبح الله فما ذبحت أولى، وتحمل آخرين على كل الميتة قائلين: إذا أحلّ لنا ما ذبحناه فما ذبح الله تعالى أولى، فأنزل الله تعالى هذه الآيات، وبيّن فيها أنّ كلا القولين شرك منافٍ للإيمان؛ لأنّ كلاًّ منهما تديُّن بما لم يشرعه الله عزَّ وجلَّ. فإن قلت: إنّما كان التديُّن بالامتناع عن أكل ما ذبحناه وسمينا الله عليه

ممّا أحلّه لنا كفرًا منافيًا للإيمان؛ لأن حِلّه قطعىّ، ولا كذلك التدين بالامتناع عمّا ورد بتحريمه حديثٌ ضعيف، ولم يكن حِلّه قطعيًّا. قلت: الفرق ضعيف؛ لأنّ الدليل الشرعي المعتدّ به يجب العمل به قطعًا، وذلك كالحديث الصحيح فإنّه، وإن كان ظنيًّا في ذاته إلا أن وجوب العمل بالحديث الصحيح مطلقًا قطعي، وكذلك سائر الأدلة الظنية المعتدّ بها شرعًا، فإنّ كلَّ فردٍ منها يرجع إلى أصلٍ من أصول الفقه، وأصول الفقه قطعية، وما كان منها ظنيًّا فإنّه يرجع إلى أصل فوقه قطعيّ من أصول الشريعة، وإنّما يتوقف عن التكفير [ص 31] للعذر. وافرض أنّ رجلاً قال: أنا أعْلَم أن وجوب العمل بالحديث الصحيح أصلٌ قطعيّ من أصول الشريعة، وأعْلَم أن الحديث في حلِّ لحم الضبّ صحيح، وليس عندي ما يعارضه، ولكنّي أقول: إنّ لحم الضبّ حرام، فإنّ العلماء يكفِّرون هذا الرجل، وسيأتي نقل بعض عباراتهم. ومنها: ما قاله ابن حجر الهيتمي في كتابه "الإعلام بقواطع الإسلام"، قال: "ووقع قريبًا أنّ أميرًا بني بيتًا عظيمًا فدخله بعض المجازفين من أهل مكة، فقال: قال صلَّى الله عليه وآله وسلم: "لا تُشدُّ الرّحال إلّا إلى ثلاثة مساجد"، وأنا أقول: تُشدّ الرحال إلى هذا البيت أيضًا. وقد سُئلت عن ذلك، والذي يتّجِه ويتحرّر فيه أنّه بالنسبة لقواعد الحنفية والمالكية وتشديداتهم = يكفر بذلك عندهم مطلقًا، وأمّا بالنسبة لقواعدنا وما عُرِف من كلام أئمتنا السابق والّلاحق = فظاهر هذا اللفظ أنّه استدراك على حَصْره صلَّى الله عليه وآله وسلم، وأنّه ساخر به، وأنّه شَرَع شرعًا آخر غير ما شرعَه نبيُّنا صلَّى الله عليه وآله وسلم، وأنّه ألْحَقَ هذا البيت بتلك المساجد الثلاث في

الاختصاص عن بقية المساجد بهذه المزية العظيمة، التي هي التقرُّب إلى الله تعالى بشدّ الرحال إليها. وكلُّ واحد من هذه المقاصد الأربعة التي دلّ عليها هذا اللفظ القبيح الشنيع كفرٌ بلا مِرْية، فمتى قَصَد أحدَهما فلا نزاع في كفره، وإن أطلق فالذي يتجه الكفر أيضًا؛ لما علمتَ أنّ الّلفظ ظاهر في الكفر، وعند ظهور اللفظ فيه لا يحتاج إلى نية كما عُلِم من فروع كثيرة مرّت وتأتي. وإن أُوِّل بأنّه لم يُرِد إلا هذا البيت لكونه أعجوبةً في بلده، يكون ذلك سببًا في مجيء الناس إلى رؤيته، كما أنّ عَظَمة تلك المساجد اقتضت شدّ الرحال إليها، قُبِل منه ذلك، ومع ذلك فيُعَزَّر التعزير البليغ بالضرب والحبس وغيرهما بحسب ما يراه الحاكم، بل لو رأى اقتضاءَ (¬1) التعزيرِ إلى القتل كما سيأتي عن أبي يوسف لأراح الناسَ من شرِّه ومجازفته، فإنّه بلغ فيها الغايةَ القصوى. تاب الله علينا وعليه آمين". "الإعلام" ص 36 (¬2). والحاصل أنّ محلّ الاحتياط إنّما هو عند الاشتباه، كما يُروى عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم أنّه رأى تمرةً مُلقاة فقال: "لولا أنّي أخشى أن تكون من تمر الصدقة لأكلتها" (¬3). كأنّه كان وجدها في موضع يحتمل أن تكون من تمر الصدقة وأن تكون من غيره، والاحتمالان متكافئان ولو كان في موضعٍ ¬

_ (¬1) في المطبوعة: "إفضاء". (¬2) (ص 253 - 254 - ط دار إيلاف). (¬3) أخرجه أحمد (6720) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وحسَّنه الحافظ العراقي في تخريج الإحياء (2/ 99)، وقال الهيثمي في "المجمع": (3/ 88): رجاله موثقون.

الغالبُ فيه أن لا تكون من تمر الصدقة لما (¬1) كفّ عنها، والله أعلم. والدليل على ذلك أنّه صرّح أنه إنّما مَنَعه عنها خشيةَ أن تكون من تمر الصدقة، مع أنّه يحتمل أن تكون [ص 32] لفقيرٍ تَرِبٍ لها عنده بال، ولكن لما كان هذا الاحتمال ضعيفًا لم يعتدّ به النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم. فتدبّر. والمسلم لا يخلو أن يكون مجتهدًا أو مقلّدًا، فأمّا المجتهد فإنّه ينبغي له إذا بلغه حديثٌ لم يتبين له أصحيح هو أم ضعيف أن يتوقّف عن الحكم حتى يتبين له، ولكنّه إذا اضطر إلى العمل في تلك المسألة قبل التبيُّن عمل بحسب ما عنده من الأدلة الثابتة وأعرض عن ذلك الحديث. وعلى هذا جرى عمل الأئمة. ألا ترى الإمام الشافعي رحمه الله تعالى كثيرًا ما يبلغه الحديث لا يعلم صحَّتَه فيجزم بالحكم بخلافه ثم يقول: إلا أن يصح الحديث فيؤخذ به. وقد جمع الحافظ ابن حجر في ذلك كتابًا سماه "المنحة فيما علّق الشافعيُّ القولَ به على الصحة". ولكن إذا كان ذلك الحديث يقتضي تحريمًا فقد قال إمام الحرمين في حديث المستور: يجبُ الانكفاف حتى يتبين (¬2). ونازعه ابنُ السبكي بأنّ اليقين لا يزال بالشك (¬3). وفي "فتح المغيث" عن الحافظ ابن حجر ما يوافق إمام الحرمين، وأنّ ذلك ما دام يُرجى التبيُّن، فأمّا إذا يئس منه فلا يجب الانكفاف، وتنقلب الإباحة كراهية. وتردد السخاوي في معنى انقلاب ¬

_ (¬1) الأصل: "كما" سهو. (¬2) في "البرهان": (1/ 614). (¬3) في "جمع الجوامع - مع حاشية العطار": (2/ 176).

الإباحة كراهية، أإثبات للكراهية هو أم نفي لها. "فتح المغيث" ص 138 (¬1). وأقول: الظاهر أنّه إثبات لها، أي: أنّ ذلك الشيء الذي كان قبل سماع الحديث باقيًا على الإباحة الأصلية يصير بعد سماع الحديث واليأس من معرفة حال راويه مكروهًا احتياطًا، جرى الحافظُ في هذا على ما تقدم عن النووي. والذي أراه أنّ المجتهد إذا سمع حديثًا يقتضي تحريمًا من مستور، وهو يستطيع البحث عن حاله عن قُرْب؛ فالظاهر ما قاله إمام الحرمين وتبعه الحافظ من وجوب الانكفاف والبحث. وإذا بحث ولم يتبين له ولكنّه يرجو أن يتبين له في المستقبل، فالظاهر استحباب الانكفاف احتياطًا لبقاء الشبهة. فأمّا إذا ترجّح أنّ ذلك المستور لا سبيل إلى معرفة حاله فلا يستحب الانكفاف، بل يحرم الانكفاف لأجل ذلك الحديث؛ لأنّه قد تبين واستقرّ أنّه ليس بحجة فلم تبق الشبهة. وذلك مثل أن يقف المجتهد على حديث رُوي عن مستور كان قبل عصره بقرون، وتتبَّع كلام الحفّاظ في ذلك الرجل فلم يجد لهم كلامًا فيه أو وجد بعضهم قد نصّ على أن ذلك الرجل مستور. هذا حكم المستور، فأمّا مَن قد عُلِم ضعفه فإنّه لا يقام لحديثه وزن أصلاً؛ لأنّه لما عُلم ضعفُه فقد عُلم أنّ حديثه ليس بحجة، فزال تعادل الاحتمالين الذي يتحقق به الاشتباه الداعي إلى الاحتياط. والله أعلم. وأمّا المقلّد إذا سمع أنّ من العلماء مَن يخالف إمامَه، فالظاهر أنّه ينبغي له الاحتياط إلا أن يظفر بعالمٍ متبحِّر عارف بكتاب الله وسنة رسوله، مطلع ¬

_ (¬1) (2/ 53 - 54).

على مذاهب العلماء وأدلتهم، معروف بالتورّع والتقوى في ... (¬1). فإن لم يغنه ذلك فألتمس منه أن ينظر هل العمل بالضعيف مستند إلى أصل قطعيّ كالصحيح والحسن؟ فسيعلم إن شاء الله أنّه ليس كذلك، وإذا علم هذا فليعلم أنّ الأئمة قد نصُّوا على أنّ أصولَ الفقه لا بد أن تكون قطعية والعمل بما ليس بقطعيٍّ ولا يستند إلى قطعيٍّ تديُّن بغير سلطان، وهو كذب على الله، وتكذيب له، وهما مصدر الكفر والشرك، كما في آيات كثيرة من القرآن، وسيأتي إيضاح ذلك إن شاء الله تعالى. فإن بقي في نفسه شيء فليوازن بين الأجر الذي يرجوه من العمل بالضعيف وبين ما يُخْشَى عليه من العمل به من البدعة بل الكفر بل الشرك، وليعلم أنّ الاحتياط واجب عليه كما في حديث "الصحيحين": "الحلال بَيّن والحرام بَيّن" (¬2) وغيره، وسيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى. وليعلم أنّه إن ترك العمل خوفًا أن يكون بدعة أو كفرًا أو شركًا كتب الله له أجرَ ذلك الخوف وأجرَ ذلك العمل لو كان مشروعًا، كما ورد فيمن ترك التطوُّع لسفرٍ أو مرض أو شغل بل هذا أولى؛ لأنّ تارك التطوع لسفر ونحوه تركه لحظ نفسه، وتارك العمل خوفًا أن يكون مسخطًا لله تعالى تركه طاعة لربه عزَّ وجلَّ، وأنّه إن أقْدَم عليه مع احتماله أنّه بدعة أو كفر أو شرك كان عليه وزر من فَعَل ذلك، كمن أقْدَم على وطء امرأة يتردّد فيها أزوجته هي أم أمه، والله أعلم. ¬

_ (¬1) هنا سقطت ورقة أو أكثر. (¬2) تقدم تخريجه.

ولله درّ الإمام مالك بن أنس رحمه الله فإنّه كان أحْذَر الأئمة من البدع، وأدقّهم نظرًا في معرفة مسالكها وغوائلها، وعلمًا بما حُفَّت به من الشهوات، وما للناس إليها من الرغبات، والأصل الذي قال به في سَدّ الذرائع هو أعظم سدٍّ لصدِّ سيلها الجارف، والله المستعان، وهو حسبي ونعم الوكيل.

الرسالة التاسعة محاضرة في علم الرجال وأهميته

الرسالة التاسعة محاضرة في علم الرجال وأهميته

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى. إنه قد استقر في الأذهان، واستغنى عن إقامة البرهان، ما للعلم من الشرف والفضيلة، وأنه هو الوسيلة لرفع الإنسان في المعنى عما ارتفع عنه في الصورة من البهائم. وممّا لا نزاع فيه أنّ العلوم تتفاوت في مقدار ذلك الشرف؛ منها الشريف والأشرف، والمهمّ والأهمّ. ومهما يتصور لعلوم الفلسفة والطبيعيات والرياضيات والأدبيات والصناعيات وغيرها من العلوم الكونيات - مهما يُتَصوّر لها من الشرف والفضيلة، والمرتبة الرفيعة - فإنها لا تُداني في ذلك العلمَ الذي مع مشاركته لها في ترقية المدارك، وتنوير العقول، ينفرد عنها بإصلاح الأخلاق، وتحصيل السعادة الأبديَّة، وهو علم الدين. ومهما ترقّى الإنسان في الصنائع والمعارف الكونية، وتسهيل أسباب الراحة؛ فإن ذلك إن رفعه عن البهمية من جهة، فإنه ينزل به عنها من جهة أخرى، ما لم تتطهّر أخلاقُه، فيتخلَّق بالرأفة والرحمة، والإيثار والعفة والتواضع، والصدق والأمانة، والعدل والإحسان, وغيرها من الأخلاق الكريمة. كل من كان له وقوفٌ على أحوال الأمم والأفراد في هذا العصر، عَلِم أنه بحق يسمى عصر العلم، ولكنه يرى أنه مع ذلك يجب أن يسمى - بالنظر

إلى تدهور الأخلاق - اسما آخر! النفوس الأرضية تربة، من شأنها أن تنبت الأخلاق الذميمة ما لم تُسْقَ بماء الإيمان الطاهر، وتشرق عليها شمسُ العلم الديني الصحيح، وتهبّ عليها رياح التذكير الحكيم. فأيّ أرضٍ أَمْحَلت من ذلك الماء، وحُجِب عنها شعاع تلك الشمس، وسُدَّتْ عنها طرق تلك الرياح؛ كان نباتها كما قال الملائكة عليهم السلام: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة: 30]. للدين - وهو الإسلام - ينبوعان عظيمان: كتاب الله عزَّ وجلَّ، وسنة رسوله صلَّى الله عليه وآله وسلم. السنة عبارة عما ثبت عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم من الأقوال والأفعال وغيرها مما هو تبيينٌ للقرآن، وتفصيل للأحكام، وتعليم للآداب، وغير ذلك من مصالح المعاش والمعاد. أوّل من تلقّى السنّة هم الصحابة الكرام، فحفظوها وفهموها، وعلموا جملتها وتفصيلها، وبلّغوها كما أُمِروا إلى من بعدهم. ثمّ تلقّاها التابعون، وبلّغوها إلى من يليهم وهكذا! فكان الصحابيّ يقول: سمعتُ رسولَ الله صلَّى الله عليه وآله وسلم يقول كيت وكيت، ويقول التابعي: سمعت فلانًا الصحابي يقول: سمعت النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم، ويقول الذي يليه: سمعتُ فلانًا يقول: سمعت فلانًا الصحابي يقول: سمعت النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم، وهكذا.

كلُّ من علم أنّ محمدًا صلَّى الله عليه وآله وسلم خاتم الأنبياء، وأنّ شريعتَه خاتمة الشرائع، وأنّ سعادة المعاش والمعاد والحياة الأبدية في اتّباعه = يعلم أنّ النّاس أحوج إلى حفظ السنة منهم إلى الطعام والشراب. قد وقعت الروايةُ ممّن يجب قبولُ خبرِه، وممّن يجب ردُّه، وممّن يجب التوقف فيه. وهيهات أن يعرف ما هو من الحقّ الذي بلَّغه خاتمُ الأنبياء عن ربّه عزَّ وجلَّ، وما هو من الباطل الذي يُبرَّأ عنه الله ورسوله؛ إلاّ بمعرفة أحوال الرواة. وهكذا الوقائع التاريخية، بل حاجتها إلى معرفة أحوال رواتها أشدُّ؛ لغلبة التساهل في نَقْلها. على أنّ معرفة أحوال الرجال هي نفسها من أهمّ فروع التاريخ. وإذ كان لا بدّ من معرفة أحوال الرواة؛ فلا بدّ من بيانها؛ بأن يخبر كلُّ مَن عَرَف حالَ راوٍ بحاله ليعْلَمَه الناسُ. وقد قامت الأمّة بهذا الفرض كما ينبغي. أوّل من تكلّم في أحوال الرجال القرآن، ثمّ النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم، ثم أصحابه. والآيات كثيرة في الثناء على الصحابة إجمالًا، وذم المنافقين إجمالًا، ووردت آياتٌ في الثناء على أفراد مُعَيَّنين من الصحابة - كما يُعلم من كتب الفضائل - وآيات في التنبيه على نفاق أفراد مُعَيَّنين، وعلى جرح أفراد آخرين. وأشهر ما جاء في هذا قوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا}

[الحجرات: 6]. نزلت في رجل بِعَينه، كما هو معروف في موضعه (¬1)، وهي مع ذلك قاعدة عامّة. وثبتت عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم أحاديثُ كثيرة في الثناء على أصحابه جملةً، وعلى أفراد منهم معينين؛ معروفة في كتب الفضائل. وأخبارٌ أُخَر في ذمّ بعض الفِرَق إجمالًا؛ كالخوارج، وفي تعيين المنافقين وذم أفراد معينين؛ كعيينة بن حصن (¬2)، والحَكَم بن أبي العاص (¬3). وثبتت آثار كثيرة عن الصحابة في الثناء على بعض التابعين، وآثار في جرح أفراد منهم. وأمّا التابعون؛ فكلامهم في التعديل كثير، ولا يُروى عنهم من الجرح إلا القليل، وذلك لقرب العهد بالسراج المنير، عليه وعلى آله أفضل الصلاة والتسليم، فلم يكن أحدٌ من المسلمين يجترئ على الكذب على الله ورسوله. وعامّة المُضَعَّفين من التابعين إنّما ضُعّفوا للمذهب؛ كالخوارج أو لسوء الحفظ، أو للجهالة. ثمّ جاء عصر أتباع التابعين فما بعده، فكَثُر الضعفاء والمغَفَّلون، ¬

_ (¬1) نزلت في الوليد بن عقبة في قصة بعثه لأخذ الزكاة من الحارث بن أبي ضرار. أخرجه عنه أحمد (18459) والطبراني في "الكبير" (3395). وأخرجه الطبري في "تفسيره": (21/ 349) من حديث أم سلمة، والبيهقي في "الكبرى": (9/ 54) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (¬2) صحيح البخاري طبع المصطفائي بالهند - ص 894. [المؤلف]. (¬3) الإصابة - وفتح الباري في تفسير سورة الأحقاف. [المؤلف].

والكذّابون والزنادقة، فنهض الأئمة لتبيين أحوال الرواة وتزييف ما لا يثبت، فلم يكن مِصْرٌ من أمصار المسلمين إلَّا وفيه جماعة من الأئمة يمتحنون الرواة، ويختبرون أحوالهم وأحوال رواياتهم، ويتتبَّعون حركاتهم وسكناتهم، ويُعلنون للناس حكمهم عليهم. واستمرّ ذلك إلى القرن العاشر، فلا تجد في كتب الحديث اسمَ راوٍ إلّا وجدت في كتب الرجال تحقيقَ حاله. وهذا مصداق الوعد الإلهي؛ قيل لابن المبارك: هذه الأحاديث المصنوعة؟! قال: تعيش لها الجهابذة، وتلا قول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (¬1) [الحجر: 9]. وكان نشاط الأئمة في ذلك آيةً من الآيات؛ فمن أمثلة ذلك: قال العراقي في "شرح مقدمة ابن الصلاح" (¬2): "رُوّينا عن مؤمّل (¬3) أنّه قال: حدّثني شيخ بهذا الحديث - يعني حديث فضائل القرآن سورة سورة - فقلت للشيخ: من حدّثك؟ فقال: حدّثني رجلٌ بالمدائن، وهو حيٌّ، فصرت إليه، فقلت: من حدّثك؟ قال: حدثني شيخٌ بواسط، وهو حيٌّ، فصرت إليه، فقال: حدّثني شيخٌ بالبصرة، فصرت إليه، فقال: حدّثني شيخٌ بعبّادان، فصرت إليه، فأخذ بيدي، فأدخلني بيتًا، فإذا فيه قوم من المتصوفة ومعهم شيخٌ، فقال: هذا الشيخ حدّثني، فقلت: يا شيخ من حدّثك؟ فقال: لم يحدّثني أحد، ولكننا ¬

_ (¬1) فتح المغيث للسخاوي ص 109. [المؤلف]. وهو في "تقدمة الجرح والتعديل": (1/ 3 و2/ 18). (¬2) "التقييد والإيضاح": (1/ 547 - ت خياط). (¬3) هو ابن إسماعيل توفي سنة 206. [المؤلف].

رأينا النّاس قد رغبوا عن القرآن، فوضعنا لهم هذا الحديث ليصرفوا قلوبهم إلى القرآن!! " (¬1). لعلّ هذا الرجل قطع نحو ثلاثة أشهر مسافرًا لتحقيق رواية هذا الحديث الواحد. وللأئمة طرق في اختبار الرواة؛ منها: النظر إلى حال الراوي في المحافظة على الطاعات واجتناب المعاصي، وسؤال أهل المعرفة به. قال الحسن بن صالح بن حَيّ: "كنّا إذا أردنا أن نكتب عن الرجل سألنا عنه، حتّى يقال: أتريدون أن تزوجوه؟! " (¬2). ومنها: أن يحدث أحاديث عن شيخ حيٍّ، فيسأل ذلك الشيخ عنها. مثاله: قول شعبة: قال الحسن بن عمارة: "حدّثني الحكم، عن يحيى بن الجزّار، عن علي: سبعةَ أحاديث، فسألتُ الحَكَم عنها، فقال: ما سمعتُ منها شيئًا! " (¬3). ومنها: أن يحدّث عن شيخ قد مات، فيقال للرّاوي: متى ولدت؟ ومتى لقيت هذا الشيخ؟ وأين لقيته؟ ثم يقابل بين ما يجيب به وبين ما حفظ من وفاة الشيخ الذي روى عنه ومحل إقامته وتواريخ تنقله. مثاله: ما جاء عن عُفَير بن مَعْدان أنّ عمر بن موسى بن وجيه حدّث عن ¬

_ (¬1) "التقييد والإيضاح" ص 112 - 113. [المؤلف]. (¬2) "الكفاية" ص 93. [المؤلف]. (¬3) "تهذيب التهذيب" ترجمة الحسن. [الؤلف]. وأخرجه في "الجرح والتعديل": (1/ 138).

خالد بن مَعْدان، قال عُفير: فقلت له: في أيّ سنة لقيته؟ قال: في سنة ثمان وخمسين ومائة، في غزاة إرْمِينِيَّة. قلت: اتق الله يا شيخ، لا تكذب! مات خالد سنة أربع وخمسين ومائة، أزيدك أنّه لم يغز إرْمِينية!! (¬1). ومنها: أن يسمع من الراوي أحاديث عن مشايخ قد ماتوا، فتُعْرَض هذه الأحاديث على ما رواه الثقات عن أولئك المشايخ، فينظر: هل انفرد هذا الراوي بشيء أو خالف أو زاد أو نقص؟ فتجدهم يقولون في الجرح: "ينفرد عن الثقات بما لا يتابع عليه"، "في حديثه مناكير" "يخطئ ويُخالف"، ونحو ذلك. ومنها: أن يسمع من الراوي عدّة أحاديث، فتُحْفَظ أو تُكْتَب، ثم يَسأل عنها بعد مدة، وربّما كَرَّر السؤال مرارًا لينظر أيُغيّر أو يُبدّل أو يزيد أو ينقص؟ دعا بعض الأمراء أبا هريرة، وسأله أن يحدّث، وقد خبَّأ الأمير كاتبًا حيث لا يراه أبو هريرة، فجعل أبو هريرة يحدّث، والكاتب يكتب، ثم بعد سنة دعا الأمير أبا هريرة، ودسّ رجلًا ينظر في تلك الصحيفة، وسأل أبا هريرة عن تلك الأحاديث، فجعل يُحدِّث والرجل ينظر في الصحيفة، فما زاد ولا نقص، ولا قدّم ولا أخّر (¬2). وسأل بعضُ الخلفاء ابنَ شهاب الزُّهري أن يملي على بعض ولده، فدعا بكاتب، فأملى عليه أربع مائة حديث، ثمّ إنّ الخليفة قال للزهري بعد ¬

_ (¬1) "لسان الميزان" ترجمة عمر. [المؤلف]. وأخرجه في "الجرح والتعديل": (6/ 133)، و"الكفاية" (ص 119). (¬2) انظر "المستدرك" ج 3 ص510. [المؤلف]. وأخرجه البخاري في "التاريخ الكبير": (9/ 33)، والحاكم: (3/ 510) وقال: صحيح الإسناد.

مدّة: إنّ ذلك الكتاب قد ضاع، فدعا الكاتب فأملاها عليه، ثمّ قابلوا الكتابَ الثاني على الكتاب الأوّل، فما غادر حرفًا (¬1). وكانوا كثيرًا ما يبالغون في الاحتياط، حتّى قيل لشعبة: لم تركت حديث فلان؟ قال: رأيته يركض على بِرْذَون (¬2). وقال جرير: رأيت سِماك بن حرب يبول قائمًا، فلم أكتب عنه (¬3). وقيل للحكم بن عُتَيبة: لِمَ لَمْ تروِ عن زاذان؟ قال: كان كثير الكلام (¬4). وكانوا يطعنون فيمن خالط الأمراء، أو قبل عطاياهم، أو عظَّمهم، بل ربّما بالغوا في ذلك، كما وقع لمحمد بن بشر الزَّنْبَري المصري مع سعة علمه، كان يملي الحديث على أهل بلده، فاتفق أن خرج الملك غازيًا، فخرج الزَّنْبري يشيّعه، فلمّا انصرف وجلس يوم الجمعة في مجلسه، قام إليه أصحاب الحديث فنزعوه من موضعه، وسبّوه وهمُّوا به، ومزّقوا رواياتهم عنه. ثمّ ذكره ابن يونس في "تاريخ مصر" فقال: "لم يكن يشبه أهل العلم" (¬5). ¬

_ (¬1) انظر ترجمة الزهري في "تهذيب التهذيب". [المؤلف]. وهو في "المحدّث الفاصل" (ص 397). (¬2) "الكفاية" (ص 112). (¬3) "الضّعَفاء": (2/ 178)، و"الكامل": (3/ 460). (¬4) هذه الآثار من "الكفاية" وغيرها. [المؤلف]. وانظر "شرح الألفية" للعراقي (ص 146). (¬5) انظر ترجمة الزنبري في "لسان الميزان" [7/ 13 - 14]. [المؤلف]. وانظر "تاريخ ابن يونس - المجموع": (1/ 436 - 437).

وإنّما كانوا يتسامحون فيمن بلغ من الجلالة بحيث يُعلَم أنّه إنّما يُخالط الأمراء ليأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويكفَّهم عن الباطل ما استطاع؛ كالزُّهري، ورجاء بن حَيْوة. روى الشافعيّ قال: حدّثنا عمّي، قال: دخل سليمان بن يسار على هشام بن عبد الملك، فقال له: يا سليمان! الذي تولّى كِبْره من هو؟ يعني في قول الله تعالى: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 11]. قال: عبد الله بن أُبيّ، قال: كذبت؛ هو فلانٌ! قال: أمير المؤمنين أعلم بما يقول. فدخل الزُّهريّ، فقال: يا ابن شهاب! من الّذي تولى كِبْره؟ قال: ابنُ أُبَيّ، قال: كذبت، هو فلان! فقال الزُّهريّ لهشام: أنا أكذب لا أبا لك؟! والله لو نادى منادٍ من السماء: إن الله أحلَّ الكذب ما كذبت! حدّثني عروة وسعيدٌ وعبيد الله وعلقمة، عن عائشة: أنّ الذي تولّى كِبْره عبد الله بن أُبيّ (¬1). وذكر تمام القصة، وفيها خضوع هشام للزُّهري واسترضاؤه له (¬2). وقد وقعت للزُّهري قصة تشبه هذه مع الوليد بن عبد الملك، وفيها: أنّ الوليد قال له: يا أبا بكر، من تولّى كِبْره، أليس فلانًا؟ قال الزهري: قلت: لا! فضرب الوليد بقضيبه على السرير: فمن؟ فمن؟ حتى ردّد ذلك مرارًا، قال الزهري: لكن عبد الله بن أُبيّ (¬3). ¬

_ (¬1) القصة في "سير النبلاء": (5/ 339). (¬2) انظر "فتح الباري" في باب حديث الإفك في المغازي، وانظر ترجمة ابن شهاب في "تهذيب الكمال". [المؤلف]. (¬3) انظر "فتح الباري". [المؤلف]. وهو في "فوائد ابن أخي ميمي الدقاق" (ص 113 - ت نبيل جرار).

وفي جواب سليمان لهشام لطيفة، حيث لم يقل: "أمير المؤمنين أعلم" ويسكت، بل قال: "أعلم بما يقول" أي: أعْلمُ بقول نفسه، لا أعلم بحقيقة الحال، ولكنّ المقام لم يكن لتُغني فيه مثل هذه الإشارة، فلذلك قيّض الله تعالى الزُّهريّ ووفّقه فقال ما قال. وقوله لهشام - وهو الملك -: "لا أبا لك" جرأةٌ عظيمة. وكانوا من الورع وعدم المحاباة على جانب عظيم، حتى قال زيد بن أبي أُنَيسة: أخي يحيى يكذب (¬1). وسُئل جرير بن عبد الحميد عن أخيه أنس، فقال: قد سمع من هشام بن عروة، ولكنّه يكذب في حديث الناس فلا يكتب عنه (¬2). وروى عليُّ بن المديني عن أبيه، ثم قال: "وفي حديث الشيخ ما فيه" (¬3)! وأشار إلى تضعيفه غير مرّة. وقال أبو داود: ابني عبد الله كذّاب (¬4). وكان الإمام أبو بكر الصِّبْغي ينهى عن السماع من أخيه محمد بن إسحاق (¬5). ¬

_ (¬1) "تهذيب التهذيب" [11/ 184] ترجمة يحيى. [المؤلف]. (¬2) "لسان الميزان" ترجمة أنس. [المؤلف]. وهو في "الجرح والتعديل": (2/ 289). (¬3) "تهذيب التهذيب" [5/ 175] ترجمة عبد الله بن نجيح. [المؤلف]. (¬4) "لسان الميزان" ترجمة عبد الله. [المؤلف]. وانظر "الكامل": (5/ 436). (¬5) انظر ترجمة محمد في "لسان الميزان". [المؤلف]. وهو في "الميزان": (4/ 398) ذكره الحاكم عنه.

حفظ علماء السلف لتراجم الرجال

حفظ علماء السلف لتراجم الرجال كان الرجل لا يسمى عالمًا حتى يكون عارفًا بأحوال رجال الحديث؛ ففي "تدريب الراوي" (¬1): "قال الرافعي وغيره: إذا أُوصيَ للعلماء لم يدخل الذين يسمعون الحديث، ولا عِلْم لهم بطرقه، ولا بأسماء الرواة ... وقال الزركشي: أما الفقهاء؛ قاسم المحدِّث عندهم لا يُطلق إلا على من حفظ متن الحديث، وعَلِم عدالةَ رواته وجرحها ... وقال التاج السبكي: ... إنما المحدِّث مَن عَرَف الأسانيد والعلل وأسماء الرجال ... ". وذَكَر عن المِزِّي أنه سُئل عمن يستحق اسم الحافظ، فقال: "أقل ما يكون أن يكون الرجال الذين يعرفهم ويعرف تراجمهم وأحوالهم وبلدانهم أكثر من الذين لا يعرفهم؛ ليكون الحكم للغالب" (¬2). فكان العالم يعرف أحوال من أدركهم؛ إما باختباره لأحوالهم بنفسه، وإما بإخبار الثقات له، ويعلم أحوال من تقدمه بإخبار الثقات، أو بإخبار الثقات عن الثقات، وهكذا، ويحفظ ذلك كله، كما يحفظ الحديث بأسانيده، حتى كان منهم من يحفظ الألوف، ومنهم من يحفظ عشرات الألوف، ومنهم من يحفظ مئات الألوف بأسانيدها (¬3). فكذلك كانوا يحفظون تراجم الرواة بأسانيدها، فيقول أحدهم: أخبرني فلان أنه سمع فلانًا قال: قال فلان: لا تكتبوا عن فلان فإنه كذاب، وهكذا. ¬

_ (¬1) (1/ 30 - 35). (¬2) المصدر نفسه (1/ 37). (¬3) انظر مقدمة "تدريب الراوي". [المؤلف].

طائفة من مشاهير المكثرين من الجرح والتعديل

طائفة من مشاهير المكثرين من الجرح والتعديل 1 - شُعبة بن الحجَّاج. ولد سنة (82)، وتوفي سنة (160)، وهو أول من تجرَّد لذلك وشدَّد فيه. جاء عنه أنه قال: سمعت من طلحة بن مُصَرِّف حديثًا واحدًا، وكنتُ كلما مررتُ به سألته عنه، فقيل له: لِمَ يا أبا بسطام؟! قال: أردت أن أنظر إلى حفظه، فإن غيَّر فيه شيئًا تركته (¬1). 2 - سفيان الثوري (97 - 161). وله في ذلك نوادر؛ قال في ثور بن يزيد: "خذوا عن ثور، واتقوا قَرْنَيْه" (¬2). وكان ثور قدريًّا، يميل إلى النَّصْب، فهذان قرناه. 3 - الإمام مالك بن أنس (93 - 179). وكان لا يروي إلا عن ثقة. 4 - ابن المبارك (118 - 181). وكان ربما جعل كلامه في الرجال شعرًا ليشتهر، فمنه قوله (¬3): أيها الطالبُ علمًا ... ائتِ حمادَ بن زيد فاطلبنَّ العلمَ منه ... ثم قيده بقيد لا كثورٍ وكجَهْم ... وكعَمْرو بن عُبيد وفي ترجمة أبي إسحاق الفَزَاري من "تهذيب التهذيب" (¬4) وغيره: أن هارون الرشيد أخذ زنديقًا فأراد قتله، فقال: أين أنت من ألف حديث ¬

_ (¬1) "الكفاية" 133. [المؤلف]. (¬2) "تهذيب التهذيب": (2/ 34). (¬3) المصدر نفسه: (2/ 35). (¬4) (1/ 152) وانظر "سير النبلاء": (8/ 542).

وضعتها؟! فقال له: أين أنت يا عدوَّ الله من أبي إسحاق الفَزاري وابن المبارك ينخلانها حرفًا حرفًا؟! 5 - يحيى بن سعيد القطان (120 - 198). من المُشدِّدين. 6 - عبد الرحمن بن مهدي (133 - 198). من المعتدلين. 7 - محمد بن سعد صاحب "الطبقات" (168 - 230). 8 - يحيى بن معين (158 - 233). وهو أكثر الأئمة كلامًا في الجرح والتعديل، وله "كتاب الضعفاء" و"كتاب الكنى". وجمع تلميذه عباس الدُّوري من كلامه "تاريخًا"، وكذلك فعل غير واحد من تلامذته. 9 - علي بن المديني (161 - 234). ومن مؤلفاته: "كتاب الضعفاء"، "العلل"، "المدلّسون"، "الأسماء والكنى"، "المسند بعلله" (¬1). 10 - أبو خيثمة (160 - 234). وله كلام كثير في الرجال، نقله ابنه أحمد في "تاريخه". 11 - الإمام أحمد بن حنبل (164 - 241). وكلامه كثير، يرويه عنه ابنه عبد الله وغيره من تلامذته، وله كتاب "العلل" (¬2). 12 - البخاري (194 - 256). وله من التصانيف: "التواريخ الثلاثة"، "الكنى المجرَّدة"، "الضعفاء". 13 - مسلم (204 - 261). له "التاريخ"، "الطبقات"، "الأسماء والكنى"، "المفاريد والواحدان". ¬

_ (¬1) في "فهرست ابن النديم" ص 322. [المؤلف]. (¬2) في "فهرست ابن النديم" ص 320. [المؤلف].

14 - أحمد بن عبد الله بن صالح العِجْلي (182 - 261). وهو أكبر من البخاري ومسلم، ولكن تأخرت وفاته، له "كتاب الثقات". 15 - أبو زُرْعة الرازي (200 - 264). وله كلام كثير، غالبه في كتاب "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم. 16 - أبو داود صاحب "السنن" (202 - 275). سأله عن الرجال تلميذه أبو عُبيد الآجُرِّي، وجمع من ذلك كتابًا. 17 - أبو حاتم الرازي (195 - 277). له كلام كثير، غالبه في كتاب "الجرح والتعديل" لابنه. 18 - صالح بن محمد جزرة (205 - 293). له "تاريخ الري"، وغيره. 19 - النسائي (215 - 303). له كتاب "الضعفاء"، وغيره. 20 - زكريا الساجي (تقريبًا 220 - 307). له كتاب "العلل"، وغيره. 21 - أبو بشر الدّولابي (224 - 310). له كتاب "الكنى" وغيره. 22 - أبو جعفر العُقَيلي (؟ - 322). له كتاب "الضعفاء". 23 - ابن أبي حاتم (240 - 327). له كتاب "الجرح والتعديل" وغيره. 24 - أبو سعيد بن يونس (281 - 347). له "تاريخ مصر". 25 - ابن حبّان (تقريبًا 275 - 354). له كتاب "الثقات"، وكتاب "الضعفاء" وغيرهما. 26 - أبو أحمد بن عدي (277 - 365). له كتاب "الكامل في الضعفاء وغيرهم ممن تُكلِّم فيه". 27 - أبو أحمد الحاكم (284 - 378). له كتاب "الكنى".

28 - الدارقطني (306 - 385). له كتاب "العلل" وغيره. 29 - ابن شاهين (298 - 385). له كتاب "الثقات". 30 - أبو عبد الله الحاكم (321 - 405). له "تاريخ نيسابور" وغيره. 31 - حمزة السَّهمي (تقريبًا 340 - 427). قال الذهبي: صنّف التصانيف، وجرّح وعدّل وصحّح وعلّل (¬1)، وله "تاريخ جرجان" (¬2). 32 - ابن حزم الأندلسي (384 - 456). له كلامٌ كثيرٌ في الرجال في كتابه "المحلّى" وغيره. 33 - الخطيب البغدادي (392 - 463). له "تاريخ بغداد" وغيره. 34 - ابن ماكولا (422 - 475 وقيل بعدها). له كتاب "الإكمال" وغيره. 35 - شجاع الذُّهلي (430 - 507). سأله السِّلَفي عن المشايخ، وجمع من ذلك كتابًا. 36 - الشَّنْتَريني (443 - 522). له كتابٌ في "رجال مسلم" وغيره. 37 - أبو سعد ابن السَّمعاني (506 - 562). له كتاب "الأنساب" وغيره. 38 - ابن عساكر (499 - 571). له "تاريخ دمشق" وغيره. 39 - ابن بَشْكُوال الأندلسي (494 - 578). له كتاب "الصلة" وغيره. 40 - ابن الجوزي (510 - 597). له "التاريخ المنتظم" (¬3)، وكتاب ¬

_ (¬1) تذكرة الحفاظ - ج 3 ص 273. [المؤلف]. (¬2) ستطبعه الدائرة إن شاء الله تعالى قريبًا. [المؤلف]. وقد طُبع بتحقيق المؤلف رحمه الله في مجلد واحد. (¬3) قد طبعت الدائرة جزئين منه، والباقي تحت الطبع. [المؤلف].

"الضعفاء" وغيرهما. 41 - عبد الغني المقدسي (541 - 600). له كتاب "الكمال" وغيره. 42 - أبو الحسن ابن القطّان (لعله قبل 570 - 628). له كتاب "الوهم والإيهام" يتضمّن كلامًا كثيرًا في الرجال. 43 - ابن الدُّبَيْثي (558 - 637). له "تاريخ واسط"، وذيل لـ "تاريخ السمعاني لبغداد" وغيرهما. 44 - ابن النّجّار (578 - 643). له "ذيل تاريخ بغداد" في ستة عشر مجلدًا. 45 - الزَّكي المُنْذري (581 - 656). له "معجم" في مجلّدين، وغيره (¬1). 46 - الدِّمْياطي (613 - 705). له "المعجم" وغيره. وشهد له المِزّيُّ أنّه أعلم من أدركه من الحفّاظ بالرّجال. 47 - المِزِّيّ (654 - 742). له "تهذيب الكمال"، وغيره. 48 - الذّهبيّ (673 - 748). له "تاريخ الإِسلام"، و"الميزان"، و"تذكرة الحفاظ"، و"الكاشف"، و"المغني"، و"تذهيب التهذيب"، وغيرها (¬2). 49 - مُغُلْطاي (689 - 761). له "إكمال تهذيب الكمال" وغيره. 50 - العراقي (725 - 806). له معجم جماعة من رجال القرن الثامن (¬3). ¬

_ (¬1) وله "التكملة في وفيات النقلة" طبع في أربعة مجلدات. (¬2) ومن أهمّها "سير أعلام النبلاء" مطبوع في خمسة وعشرين مجلدًا. (¬3) وله "ذيل ميزان الاعتدال" طبع في مجلد.

51 - ابن حجر (773 - 852). له "تهذيب التهذيب"، و"لسان الميزان"، و"تعجيل المنفعة"، و"الدرر الكامنة" وغيرها. 52 - السّخاوي (830 - 901). له "الضوء اللامع" وغيره. قال في كتابه "فتح المغيث" (¬1) بعد أن سرد أسماء جماعة من أئمة الجرح والتعديل, وختم بذكر شيخه ابن حجر ما لفظه: "وطُوِيَ البِساط بعده إلاّ لمن شاء الله، ختم الله لنا بخير". **** ¬

_ (¬1) (4/ 360).

تدوين العلم وحظ علم الرجال منه

تدوينُ العلم وحَظُّ علم الرجال منه ذكروا أنّ تدوين العلم في الكتب في العهد الإسلامي شُرِعَ فيه حوالي نصف القرن الثاني؛ فألّف ابنُ جُريج (80 - 150)، وابن أبي عَرُوبة (؟ - 156)، والربيع بن صُبَيح (؟ - 160). ويتوهّم بعض الناس أنّه قبل ذلك لم يكن عند أحدٍ من المسلمين كتابٌ ما، يتضمّن علمًا غير كتاب الله عزّ وجلَّ. وهذا خطأ؛ فقد كان عند جماعةٍ من الصحابة صحائف (¬1) في كلٍّ منها طائفة من الأحاديث النبوية، منها: صحيفةٌ كانت عند أمير المؤمنين عليٍّ - عليه السلام. ذكرها البخاري (¬2) وغيره، وجمع ابن حجر في "فتح الباري" (¬3) قِطَعًا منها. وكان عند عَمرو بن حزم كتابٌ كتبه النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم إلى أهل اليمن، فيه أحكامٌ كثيرة (¬4). وكان عند أنس كتابٌ في أحكام الزكاة كتبه أبو بكر الصديق، قال في ¬

_ (¬1) جمع الأستاذ أحمد الصويان كتابًا جيدًا سماه "صحائف الصحابة" طبع سنة 1410، جمع فيه نماذج منها، وتكلم على طرقها وأسانيدها ومظان وجودها. (¬2) ص 251. [المؤلف]. "صحيح البخاري" (111 و1870 و3047 وغيرها). (¬3) (4/ 85). (¬4) "المستدرك" ج 1 ص 295 - 296. [المؤلف]. وأخرجه النسائي (4855) وفي "الكبرى" (7031) من مرسل الزهري، وأخرجه البيهقي في الكبرى: (4/ 91 و92 و94) من طُرق عدة.

أوّله: "هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم على المسلمين" (¬1). وفي رواية عند الحاكم وغيره: "كتب رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم كتاب الصدقة، فلم يخرجه إلى عُمّاله حتّى قُبِض، فقرنه بسيفه، فعمل به أبو بكر حتّى قُبِض ... " وذكر الكتاب (¬2). وكان لسَمُرة بن جندب كتبٌ فيها ما سمعه من النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم؛ يروي عنها الحسن البصري (¬3). وكان لجابر بن عبد الله صحيفة كذلك، يروي عنها الحسن (¬4) أيضًا وطلحة بن نافع (¬5). وكان لعبد الله بن عمرو صحيفة كتبها بإذن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم، يرويها عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو، عن أبيه ¬

_ (¬1) البخاري ص 195. [المؤلف]. أخرجه البخاري (1454)، وأبو داود (1567)، وابن ماجه (1800). (¬2) "المستدرك" ج 1 ص 392. [المؤلف]. وأخرجه أيضًا أبو داود (1568) ومن طريقه البيهقي في "الكبرى": (4/ 105) من طريق الزهري عن سالم عن أبيه ... (¬3) "تهذيب التهذيب" ترجمة الحسن. [المؤلف]. (4/ 198 و246)، وساق منها البزار في مسنده نحو مئة حديث. (¬4) "تهذيب التهذيب" ترجمة الحسن. [المؤلف]. (¬5) "تهذيب التهذيب" ترجمة طلحة. [المؤلف]. وذكر صحيفته البخاري في "التاريخ": (6/ 451 و7/ 186) وفي "الجرح والتعديل": (7/ 135)، وفي "السير": (6/ 197) وغيرها.

عن جدّه (¬1). وفي "المستدرك" (¬2) عن الحسن بن عمرو بن أمية الضمري قال: حدثت عن أبي هريرة بحديث؛ فأنكره، فقلت له: إنّي قد سمعته منك! قال: إن كنت سمعته منّي فإنه مكتوبٌ عندي، فأخذ بيدي إلى بيته، فأراني كتابًا من كتبه ... فذكر القصة. استنكره الذهبي لما في "البخاري" (¬3) وغيره عن أبي هريرة قال: "ما من أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم أحدٌ أكثر حديثًا عنه منّي، إلاّ ما كان من عبد الله بن عَمرو؛ فإنّه كان يكتب ولا أكتب". لكن قال ابن عبد البر: يمكن أنّه لم يكن يكتب في العهد النبوي، ثمّ كتب بعده (¬4). وأمّا التابعون؛ فقلّ عالمٌ منهم لم يكن عنده كتب، ولكن كانت الأحاديث تُجمع كيفما اتّفق، بلا تأليف ولا ترتيب؛ كما في "صحيفة همّام بن منبّه اليماني عن أبي هريرة"، وهي نحو من مائة وأربعين حديثًا، تجدها في "مسند أحمد" (2/ 312 - 319). ¬

_ (¬1) "طبقات ابن سعد" ج 4 قسم 2 ص 9. [المؤلف]. وذكرها الرامهرمزي في "المحدث الفاصل" (ص 367)، والخطيب في "تقييد العلم" (ص 84) وكان يسميها "الصحيفة الصادقة" وقد ساق الإمام أحمد في مسنده كثيرًا من أحاديثها بطريق عمرو بن شعيب، وجمع أحاديثها الإمام مسلم والضياء في كتابين مفردين. (¬2) ج 3 ص 511. [المؤلف]. (¬3) (113). (¬4) "فتح الباري" [1/ 207] باب كتابة العلم. [المؤلف].

التدوين

وهي في "الصحيحين" وغيرهما مفرّقة (¬1) التدوين فأمّا التدوين بالترتيب والتأليف: فقد رُويت عن زيد بن ثابت الصحابي المشهور رسالة طويلة، كتبها في أحكام المواريث حوالي سنة 40 للهجرة (¬2). وفي "سنن البيهقي" (¬3) قِطَعٌ كثيرة منها. وذكر غير واحد أنّ الحسن بن محمد ابن الحنفية المتوفّى سنة (95) وضع كتابًا في بعض العقائد. ولكن في ترجمته من "تهذيب التهذيب" (¬4) ما يؤخذ منه أنّها رسالة صغيرة. وفي ترجمة الحلّاج من "تاريخ الخطيب" (¬5) أنّ للحسن البصري (21 - 110) كتابًا اسمه كتاب "الإخلاص" كان يُروى ويسمع في القرن الثالث. وفي "فهرست ابن النديم" (¬6) أنّ لمكحول الشاميّ المتوفّى (سنة 112) أو بعدها كتابين: "كتاب السُّنن"، و"كتاب المسائل" في الفقه. ¬

_ (¬1) وقد طبعت مفردة بتحقيق د. رفعت فوزي في مجلد عن دار الخانجي بمصر. (¬2) "سنن البيهقي" ج 6 ص 248. [المؤلف]. (¬3) (6/ 213، 225، 226، 227، 229 وغيرها). (¬4) (2/ 320 - 321). (¬5) ج 8 ص 138. [المؤلف]. (¬6) ص 318. [المؤلف].

فأمّا ما ذكروه (¬1) أنّ أوّل من دوّن الحديث ابن شهاب الزُّهري في سنة مائة أو نحوها، بأمر عمر بن عبد العزيز، وبعث به عمر إلى كل أرضٍ له عليها سلطان (¬2)؛ فلا أدري أمُرتَّبًا كان ذلك الكتاب أم لا؟! فأمّا التأليف في أحوال الرجال؛ فإنّه تأخر قليلًا، وقد ذكر ابن النديم، أنّ لِلَّيث بن سعد (94 - 175) "تاريخًا"، وأنّ لابن المبارك (118 - 181) "تاريخًا" (¬3). وقال الذهبي في ترجمة الوليد بن مسلم الدّمشقي (119 - 195): "صنّف التصانيف والتواريخ" (¬4). ثمّ ألّف ابن معين وابن المديني وغيرهما؛ واتّسع التأليف جدًّا. ولكن في القرن العاشر وهَلُمّ جرًّا تقاصرت الهمم، وهُجِرَ علم الرجال، فقلَّ من بقي يعتني بقراءة كتب الرجال أو نسخها أو نشرها. فأمّا التأليف، فأقلّ وأقلّ، الّلهم إلا أن يجمع أحدهم تراجم لبعض المجاذيب والدّراويش يملؤها بالخوارق، أو يجمع آخرُ تراجمَ لبعض ¬

_ (¬1) "فتح المغيث" ص 339. [المؤلف]. (¬2) أخرجه ابن أبي خيثمة في "تاريخه": (4/ 247) ومن طريقه ابن عبد البر في "الجامع": (1/ 331). والذي ذكره البخاري في "صحيحه" في كتاب العلم، باب كيف يُقبض العلم قال: وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم: انظر ما كان من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاكتبه فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء ... (¬3) "الفهرست" ص 281 وص 319. [المؤلف]. (¬4) "تذكرة الحفاظ" ج 1 ص 275. [المؤلف]. وهو في "السير": (9/ 211).

الأدباء، ينتقي من شعرهم ما يستظرفه من الغزل ونحوه، ممّا إن لم يضرّ لم ينفع، إلاّ ما شاء الله تعالى. حتّى أيقظ الله تعالى الأمّةَ لعلم الحديث وعلم الرجال، والفضل في ذلك - بعد الله عزَّ وجلَّ - للهند، وأعظمه لدائرة المعارف كما سيأتي. ****

طريقة العلماء في وضع كتب الرجال

طريقة العلماء في وضع كتب الرِّجال أمّا ترتيب التراجم فمعروف، وأجوده طريقة "التهذيب" وفروعه؛ فإنّه على ترتيب حروف الهجاء باعتبار اسم الراوي بجميع حروفه، وكذا باعتبار اسم أبيه وجدّه فصاعدًا. مثاله: إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن جحش، وبعده إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن عبيد الله. وكذلك يُرتّب باعتبار النسب، مثاله: إبراهيم بن ميمون الصّنعاني، إبراهيم بن ميمون الكوفي، إبراهيم بن ميمون النحّاس. وإفادة الترتيب سهولة الكشف واضحة، ولكن ثَمّ فائدة أعظم منها، وهي التنبيه على ما قد يقع من سقط، أو زيادة, أو تصحيف، أو تحريف. مثال السَّقط: ما وقع في "التقريب" المطبوع بدهلي سنة (1320)؛ ذكر في المحمدين تراجم من اسمه محمد بن إبراهيم، ثم ذكر بعدها محمد بن كعب الأنصاري، ثم محمد بن أحمد!! وكيف يكون كعبٌ بين إبراهيم وأحمد؟! والصواب كما في "تهذيب التهذيب" وغيره: محمد بن أُبيّ بن كعب. ومثال الزيادة: ما وقع في "الميزان" المطبوع بمصر (¬1)، ذُكر في آخر تراجم البكرين: بكر بن يونس، ثم بكر بن الأعنق! والصواب: بكرٌ الأعنق ¬

_ (¬1) ووقع في ط البجاوي على الصواب: (1/ 349).

كما في "لسان الميزان" (¬1). ومن عادتهم أنّ من عُرفَ باسمه ولقبه فقط أن يذكروه آخر الأسماء الموافقة لاسمه. وفي "الميزان" (¬2) بعد بكر هذا بكر بن بشر! والصواب بُكير بن بشر؛ كما في "الّلسان" (¬3). وأما التصحيف، فأمثلته في "الميزان" كثيرة، فمنها ذكر إبراهيم بن حميد، ثم إبراهيم بن أبي حنيفة، ثم إبراهيم بن حبَّان، والصواب: ابن حيَّان كما في "اللسان" (¬4). وذكر إبراهيم بن خيثم وبعده إبراهيم بن الخضر! وخيثم تصحيف، والصواب: خُثَيم؛ كما في "اللسان" (¬5)؛ بل ليس في الأسماء خيثم، وإنّما فيها خثيم وخيثمة. وذكر أصبغ بن محمد وبعده أصبغ بن بنانة تصحيف، والصواب: نباتة، كما في "اللسان" (¬6). وذكر الحارث بن شريح وبعده الحارث بن سعيد، وشريح تصحيف، ¬

_ (¬1) (2/ 358). (¬2) طبعة مصر سنة 1325 هـ، وكذا ما سيأتي من إحالات المؤلف عليه. (¬3) (2/ 360). (¬4) (1/ 270). (¬5) (1/ 273). (¬6) (9/ 262).

وضع التراجم

والصواب: سُريج؛ كما في "اللسان" (¬1). والتحريف في "الميزان" كثيرٌ أيضًا؛ فمنه أنّ فيه (أسامة بن يزيد بن أسلم) وبعده (أسامة بن يزيد الليثي)، ثم (أسامة بن سعد)، ويزيد في الأوّلين تحريف، والصواب: زيد فيهما، كما في "اللسان" (¬2) وغيره. وفيه إسماعيل بن مسلم، وبعده إسماعيل بن سلمة، وسلمة تحريف، والصواب: مسلمة؛ كما في "اللسان" (¬3). فهذه الأغلاط الواقعة في "الميزان" المطبوع بمصر يُنبّه عليها ترتيب الأسماء في التراجم كما هو ظاهر، على أنّه ربّما أخلَّ الذهبيّ في "الميزان" بالترتيب، ولكن "اللسان" يحُوّل الترجمة المخالفة للترتيب إلى موضعها، وربّما أبقاها حيث وقعت في "الميزان". وضع التراجم طريقهم في ذلك: أن يذكروا أوّلًا اسم الراوي ونسبه وكنيته ولقبه، ونسبته إلى قبيلته وبلدته وحِرْفته، ونحو ذلك ممّا يميزه عن غيره؛ فإنّه كثيرًا ما يشترك الرجلان فأكثر في الاسم واسم الأب، ونحو ذلك، فيُخْشى الاشتباه. ذكر ابن أبي أُصيبعة في "عيون الأنباء" (¬4) أنّ النضر بن الحارث بن ¬

_ (¬1) (2/ 514). (¬2) (9/ 255) (¬3) (9/ 161). (¬4) (2/ 19).

كلدة - الذي كان يؤذي النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم - هو ابن الحارث ابن كلدة الثقفي، طبيب العرب! وتبعه الآلوسي في "بلوغ الأرب" (¬1) فقال: "النضر بن الحارث الثقفي" وهذا خطأ؛ فإنّ الطبيب هو الحارث بن كلدة بن عمرو بن عِلاج (¬2) بن أبي سلمة بن عبد العزّى بن غيرة بن عوف بن قُسيّ (¬3). وقَسيٌّ هو ثقيف (¬4). والنّضر هو ابن الحارث بن كلدة بن علقمة (¬5) بن عبد مناف بن عبد الدار بن قُصيّ بن كلاب بن مُرّة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فِهر بن مالك بن النضر؛ وهو قريش، وقيل: فِهر هو قريش (¬6). وذكر الفاضل محمد فريد وجدي في "كنز العلوم واللغة" في ترجمة أُبيّ بن كعب الصحابيّ المشهور أنّه ابن كعب الأحبار التابعيّ المشهور! وكذا ذكر في ترجمة كعب، وهذا خطأ؛ فإنّ أُبيًّا هو ابن كعب بن قيس بن عُبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النّجّار (¬7)، وهو تيم الله بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج (¬8)، والخزرج وإخوتهم الأوس هم الأنصار، ¬

_ (¬1) (3/ 335). (¬2) وقع في ترجمة الحارث من "الإصابة" المطبوع بمصر سنة 1318 بمطبعة السعادة: "ابن أبي علاج". وفي ترجمة ابنه الحارث بن الحارث: "ابن علاج". [المؤلف]. (¬3) "الإصابة" ووقع فيها: "قصي" وهو تحريف. [المؤلف]. (¬4) "السيرة" و"القاموس". [المؤلف]. (¬5) ويقال: ابن الحارث بن علقمة بن كلدة. [المؤلف]. (¬6) "السيرة". [المؤلف]. (¬7) "تهذيب التهذيب" وغيره. [المؤلف]. (¬8) "السيرة" و"التاج". [المؤلف].

وكعب الأحبار هو ابن ماتع الحميري، من آل ذي رُعين، أو من ذي الكلاع (¬1). ووقع في بعض كتب الخطيب البغداديّ (¬2): "قرأتُ على القاضي أبي العلاء الواسطي، عن يوسف بن إبراهيم الجُرجاني، قال: ثنا أبو نعيم ابن عدي ... " فعمد بعض أفاضل العصر، فكتب بدل "أبو نعيم": "أبو أحمد"! وكتب على الحاشية ما لفظه: "أبو نعيم أصل، وليس بشيء! " وحاصله أنّ الصواب: أبو أحمد، لا أبو نعيم، وهذا خطأ أوقعه فيه أنه يعرف أبا أحمد عبد الله بن عديّ (¬3) الجُرجاني الحافظ مؤلّف كتاب "الكامل" توفي سنة (365)، ولا يعرف أبا نُعيم عبد الملك بن محمد بن عدي الجرجاني الإستراباذي الحافظ المتوفّى سنة (323). ولكلٍّ من الحافظين ترجمةٌ في "تذكرة الحفّاظ"، و"أنساب السمعاني"، و"طبقات الشافعية"، و"معجم البلدان": جُرجان. ولأبي نُعيم ترجمة في "تاريخ الخطيب". وكذا ترجم الخطيب ليوسف بن إبراهيم المذكور، فقال: "قدم بغداد، وحدّث بها عن أبي نُعيم عبد الملك بن محمد بن عَديّ الجرجاني ... ¬

_ (¬1) "تهذيب "التهذيب". [المؤلف]. (¬2) هو كتاب "الكفاية" انظر (ص 115 - 116) وتعليق الشيخ المعلمي هناك يدلّ على أن هناك من توهَّم فعلّق بما يجلّي الأمر. (¬3) في "طبقات الشافعية": "عبد الله بن محمد بن عدي"، فإن صحّ فهو منسوب في "تذكرة الحفاظ" وغيرها إلى جدّه .. [المؤلف].

حدّثنا عنه القاضي أبو العلاء الواسطي ... " (¬1). • ثم يذكرون مشايخه والرواة عنه، ولذلك فوائد كثيرة. منها: معرفة مقدار طلبه للعلم ونشره له. ومنها: أنّه كثيرًا ما يقع في أسانيد كتب الحديث ونحوها ذكر الاسم - مثلًا - بدون ما يتميز به، كأن يقع "محمد بن الصبّاح الدُّولابي عن خالد عن خالد عن محمد عن أنس"، وطريق الكشف أن تنظر ترجمة الدّولابي تجد في شيوخه خالد بن عبد الله الواسطيّ الطحان، ثمّ تنظر في ترجمة الطحّان تجد في شيوخه خالد بن مهران الحذَّاء، ثم تنظر ترجمة الحذَّاء تجد في شيوخه محمد بن سيرين، ثم تنظر ترجمة ابن سيرين تجد في شيوخه أنس بن مالك. وإن شئت فابدأ من فوق فانظر ترجمة أنس بن مالك تجد في الرواة عنه محمد بن سيرين، وهكذا. وممّا وقع لنا في هذا أنّنا وجدنا في بعض الكتب (¬2) التي تُصحَّح وتطبع في الدائرة سندًا فيه: " ... يحيى بن روح الحرّاني، قال: سألت أبا عبد الرحمن بن بكّار بن أبي ميمونة - حرّاني من الحفّاظ - كان مخلد بن يزيد يسأله ... " فذكر قصة. وقد كان بعض أفاضل العصر صحَّح ذلك الكتاب، فكتب على قوله: ¬

_ (¬1) "تاريخ الخطيب" ج 14 ص 325. [المؤلف]. (¬2) هو كتاب "الكفاية" أيضًا. انظر (ص 115).

"سألتُ أبا عبد الرحمن بن بكّار بن أبي ميمونة": "كذا"! كأنّه خشي أن يكون الصواب: سألت أبا عبد الرحمن بكّار بن أبي ميمونة على ما هو الغالب من صنيعهم؛ أن يذكروا اسم الرجل بعد كنيته، فأردنا أن نُحقّق ذلك، فلم نجد فيما بين أيدينا من الكتب ترجمة لبكّار بن أبي ميمونة! ولا ليحيى بن روح الحرّاني! ولا وجدنا في الكنى أبا عبد الرحمن بن بكّار! ولا أبا عبد الرحمن بكارًا! فراجعنا بعض مظانّ القصة، فإذا فيها "أبا عبد الرحمن بكار بن أبي ميمونة"، ولكن لم يُقنعنا ذلك، ثمّ انتبهنا إلى ما في القصة أنّ مخلد بن يزيد كان يسأل هذا الرجل، فقلنا: عسى أن نجد له ذكرًا في ترجمة مخلد، فلمّا نظرنا فيها وجدنا في الرواة عن مخلد أحمد بن بكّار، فأسرعنا إلى ترجمته، فإذا هو ضالّتنا، وهو أبو عبد الرحمن أحمد بن بكّار ابن أبي ميمونة. ومنها: دفع شبهة التكرار، فقد يُتَوهّم في المثال المذكور أنّ "عن خالد" الثانية مزيدة تكرارًا. ومنها: التنبيه على السّقط، كأن يقع في المثال الماضي: "عن خالد" مرّة واحدة. وعلى الزيادة كأن يقع فيه: "عن خالد" ثلاث مرّات. وعلى التصحيف والتحريف كأن يقع فيه "عن خاله". وعلى التقديم والتأخير كأن يقع فيه: "عن خالد الحذّاء، عن خالد الطحّان"، والصواب عكسه. ومنها: أن يُعرف تاريخ ولادة صاحب الترجمة، وتاريخ وفاته تقريبًا إذا

لم يعرف تحقيقًا. مثاله: بُكير بن عامر البَجَلي، لم يُعلَم تاريخ ولادته ولا وفاته، ولكن روى عن قيس بن أبي حازم، وروى عنه وكيع وأبو نعيم، ووفاة قيس سنة 98، ومولد وكيع سنة 128، ومولد أبي نعيم سنة 130، وهؤلاء كلُّهم كوفيّون، وقد ذكر ابن الصلاح (¬1) وغيره أنّ عادة أهل الكوفة أن لا يسمع أحدُهم الحديث إلّا بعد بلوغه عشرين سنة، فمقتضى هذا أن يكون عُمْرُ بُكير يوم مات قيس فوق العشرين، فيكون مولد بُكير سنة 78 أو قبلها، ويُعلم أنّ سماع وكيع وأبي نُعيم من بُكير بعد أن بلغا عشرين سنة، فيكون بُكير قد بقي حيًّا إلى سنة 150، فقد عاش فوق سبعين سنة. وهناك فوائد أخرى. وبذلك يُعلَم حسن صنيع المزيّ في "تهذيب الكمال" فإنّه يحاول أن يذكر في ترجمة الرّجل جميع شيوخه وجميع الرواة عنه، ولنِعْمَ ما صنع، وإن خالفه الحافظ ابن حجر في "تهذيب التهذيب" (¬2). ومن لم يهتد إلى الكشف على الطريق السابق وقع في الخطأ. • ثم يذكرون في الترجمة ما يتعلّق بتعديل الرّجل أو جرحه مفصّلًا. وفائدة ذلك واضحة، وتفصيله يطول. ولكن أذكر أمرًا واحدًا، وهو أنّهم قد يذكرون في ترجمة الرجل ما يُعلم منه أنّه ثقةٌ في شيء دون آخر، كأن يكون مُدلسًا فيُحتج بما صرّح فيه بالسماع فقط، أو يكون اختلط بأخرة ¬

_ (¬1) (ص 129). (¬2) (1/ 4).

فيُحتج بما حدّث به قبل الاختلاط فقط، أو يكون سيئ الحفظ، فيُحتج بما حدّث به من كتابه فقط، أو نحو ذلك، فربّما أخرج البخاري ومسلم، أو أحدُهما لبعض هؤلاء من صحيح حديثه، فيقع الوهم لبعض العلماء أنّ ذلك الرّجل ثقة مطلقًا بحجّة أنّه أخرج له صاحب "الصحيح"! • ثمّ يذكرون في آخر الترجمة تأريخ ولادة الرّاوي، وتأريخ وفاته. ولذلك فوائد كثيرة ذكرها في "فتح المغيث" (ص 460) (¬1). وممّا وقع لنا ممّا يتعلّق بهذا أنّه وقع في بعض الكتب (¬2) التي تُصحّح وتُطبع في الدائرة سندٌ فيه " ... أحمد بن محمد بن أبي الموت أبو بكر المكيّ، قال: قال لنا أحمد بن زيد بن هارون ... "، وقد كتب عليه بعض الأفاضل ما معناه: "الصواب: أحمد عن يزيد بن هارون، وأحمد هو الإمام أحمد بن حنبل، ويزيد بن هارون هو الواسطيّ الحافظ المشهور"! وإنّما حمله على هذا أنّه لم يجد ترجمةً لأحمد بن زيد بن هارون، وهكذا نحن، فقد جهدنا أن نظفر له بترجمة في الكتب التي بين أيدينا فلم نجد! ولكنّنا مع ذلك نعلم أنّ ما كتبه ذلك الفاضل خطأ؛ لأنّ الإمام أحمد توفي سنة 241، وابن أبي الموت له ترجمة في "لسان الميزان" (¬3)، وفيها ما لفظه: "وأرّخ ابن الطحّان في "ذيل الغرباء" وفاتَه في ربيع الآخر سنة 351 ¬

_ (¬1) (4/ 310 - 313). (¬2) هو "الكفاية" أيضًا. انظر (ص 20) ووقع التعليق هناك في هذا الموضع: "كذا في الأصلين". فلعلّ التعليق كان على نسخة هذا الفاضل. (¬3) (1/ 652).

بمصر، وعاش تسعين سنة"، فعلى هذا يكون مولده سنة 260، أي: بعد وفاة الإمام أحمد بن حنبل بنحو عشرين سنة، فكيف يحمل قوله: "قال لنا أحمد" على الإمام أحمد بن حنبل؟! هذا، ومن المؤلفات في علم الرجال ما هو خاصٌّ بالأنساب، كـ "أنساب السمعاني"، وهو حقيقٌ بأن يطبع (¬1)؛ فإنّ النسخة التي طبعت بالتصوير في أوروبا كثيرة التصحيف والتحريف مع تعليق الخط وغير ذلك. وفائدته عظيمة، ولا سيّما في أنساب الرجال الذين لا توجد تراجمهم في الكتب المطبوعة. وكثيرًا ما يُستفاد منه في غير الأنساب. ومن غريب ذلك: أنّه تكرّر في "المستدرك" (¬2) و"سنن البيهقي" (¬3) ذكر الحسن بن محمد بن حليم المروزيّ، فتارة يأتي هكذا، وتارة يقع ابن حكيم! وبعد أن كدنا نيأس من تصحيحه قلنا: قد يجوز أن يكون ربّما نسب إلى الجد المشتبه، فيقال: الحليميّ، أو: الحكيميّ، فراجعنا "الأنساب" فإذا به ذكره في "الحليمي" باللام، وذكر أنّه منسوب إلى جده "حليم". ومن الكتب ما يكون خاصًّا بالمشتبه، والمطبوع منها كـ "المؤتلف والمختلف" لعبد الغني، و"المشتبه" للذهبي، غير وافٍ بالمقصود. وقد قرّرت الدائرة طبع كتاب "الإكمال" لابن ماكولا، وهو أهمّ الكتب ¬

_ (¬1) تولّى المؤلف تحقيق كتاب "الأنساب" فأنجز منه ستة مجلدات، واخترمته المنيّةُ قبل إتمامه، وتولّى اتمامه بعده جماعة من الباحثين فطبع في 13 مجلدًا. (¬2) (1/ 83، 84، 225 وغيرها) على الوجه الأول، وعلى الثاني: (4/ 433). (¬3) (1/ 17، 51, 270، 187 وغيرها) على الوجه الأول، وعلى الثاني: (1/ 368).

في هذا الشأن (¬1). ولابن حجر كتابُ "تبصير المنتبه" هذّب فيه كتاب "المشتبه" للذهبيّ، وسدّ ما فيه من الخلل، وزاد زيادات مهمّة، وفيه أشياء ليست في "الإكمال". وفي المكتبة الآصفية نسخةٌ منه جيدة، وهو حريٌّ بأن يُطبع (¬2)، وقد استفدنا منه كثيرًا. ومن غريب ذلك أنّه تكرّر في "سنن البيهقي" ذكر أبي محمد أبي الشيخ عبد الله بن محمد بن حيّان الأصبهاني، فيقع تارة "حيّان"، وتارة "حبان"! ونظرنا في "التبصير" (¬3) فوجدناه عدّد "حَبان" و"حِبان" وغيرهما ممّا يقع على هذه الصورة، إلاّ "حيّان" فإنّه تركه اعتمادًا على أنّ كلَّ ما وقع على هذه الصورة ممّا لم يذكره فهو "حيّان"، كعادته في أمثال ذلك! وهذا وإن كان كافيًا لحصول الظنّ، ولكن لم نقنع به، ثم قلنا فيه: يجوز أن يكون ربّما نسب إلى جده هذا، فنظرنا في "مشتبه النسبة" من "التبصير" (¬4) فإذا هو فيه (الحيّاني)، ذكره في حرف الجيم مع الجُبّائي. ومن الكتب ما يختصّ بالكنى، وهو مهمٌّ لمعرفة ضبط الكنية، فإنّها تقع في الكتب مصحّفة ومحرّفة، أبو سعد وأبو سعيد، أبو الحسن وأبو الحسين، أبو عبد الله وأبو عبيد الله. ¬

_ (¬1) وقد تولى المؤلف تحقيقه، وأنجز منه ستة مجلدات طبعت في حياته. (¬2) طبع في أربعة مجلدات بتحقيق علي محمد البجاوي. (¬3) (1/ 277). (¬4) (1/ 290).

والعالم محتاج إلى جميع كتب الرجال؛ لأنّه يجد في كلًّ منها ما لا يجد في غيره، وإن لم يكن عنده إلا بعضها فكثيرًا ما يبقى بحسرته، وكثيرًا ما يقع في الخطأ. زعم بعض علماء العصر أنّ الحديث الذي في "صحيح مسلم" (¬1) عن أبي وائل، عن أمير المؤمنين عليًّ عليه السلام (¬2) في تسوية القبور ضعيفٌ؛ لأنّ أبا وائل هو عبد الله بن بَحِير بن ريسان القاصّ قد جرّحه العلماء. كأنّ هذا العالم نظر في فصل الكنى من "الميزان"، وليس فيه أبو وائل إلا واحد، هو عبد الله بن بَحِير، فرجع إلى ترجمته من "الميزان" ونقل كلام الأئمة فيه، ولم ينظر أنّه ليس عليه علامة مسلم! والحديث في "صحيح مسلم" كما عُلِم، وإنّما عليه علامة أبي داود والترمذي وابن ماجه، ولا نظر أنّه لم يذكر لعبد الله بن بحير رواية إلاّ عن أوساط التابعين، وأبو وائل الذي في الحديث يرويه عن أمير المؤمنين علي عليه السلام! ولو ظفر هذا العالم بـ "التقريب" أو "الخلاصة" أو "تهذيب التهذيب" لوجد في فصل الكنى أبا وائل آخر، هو: شقيق بن سلمة، تابعيٌّ كبير مخضرم، روى عن الخلفاء الأربعة وغيرهم، وأخرج له البخاري ومسلم وغيرهما. واتفق الأئمة على توثيقه، ولذلك لم يذكر في "الميزان" لأنّ "الميزان" خاصٌّ بمن تُكلِّم فيه. ¬

_ (¬1) (969). (¬2) هكذا في رواية، وفي أخرى: "عن أبي وائل، عن أبي الهياج، عن علي". وأرى كليهما صحيحًا. [المؤلف].

وأغرب من هذا ما وقع في "مجلّة المنار" (¬1)؛ رأيت في بعض أجزائها القديمة ذكر كلام ابن حزم في ترتيب كتب الحديث، أظنه نقله من "تدريب الرّاوي" ووقع في العبارة: "وكتاب ابن المنذر"، فكتب في حاشية المجلّة: "ابن المنذر: إبراهيم وعلي" (¬2) كأنّه نظر فصل الأبناء من "الخلاصة"، فوجد فيه ذلك! وإبراهيم بن المنذر وعليُّ بن المنذر لم يُذكر لأحدهما كتابٌ، وإنّما "ابنُ المنذر" في عبارة ابن حزم هو الإمام محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري، صاحب التصانيف، توفي سنة 318، ولم يُذكر في "الخلاصة" لأنّه لم يرو عنه أحدٌ من الأئمة الستة لتأخره، وهو مُترجَم في "تذكرة الحفاظ" و"الميزان" و"لسانه" و"طبقات الشافعية" وغيرها. **** ¬

_ (¬1) (22/ 273). (¬2) كذا، وقد جاء التعليق على المجلة هكذا: "لا أدري هل هو إبراهيم بن المنذر المتوفى سنة 236 أو علي بن المنذر المتوفى سنة 256". فمقتضى هذا يكون صواب العبارة "إبراهيم أو علي".

إحياء كتب الرجال، ولمن الفضل في ذلك؟

إحياء كتب الرجال، ولمن الفضل في ذلك؟ قد أسلفت أنّه في القرن العاشر من الهجرة وما بعده هُجر علم الرِّجال، حتّى أحياه الله عزَّ وجلَّ بواسطة المطابع، وأذكر الآن ما طُبع من كتبه ليُعلم لمن الفضل في ذلك. الكتب الخاصة بأسماء الصحابة: 1 - " الإصابة" طبع بالهند، سنة 1264 هـ, ثم بمصر، سنة 1323 هـ. 2 - "أسد الغابة" طبع بمصر، سنة 1286 هـ. 3 - "تجريد أسماء الصحابة" طبع بدائرة المعارف، سنة 1315 هـ. 4 - "الاستيعاب" طبع بدائرة المعارف، سنة 1318 هـ، ثم بمصر، سنة 1323 هـ. وقرّرت الدائرة طبع كتابين آخرين: كتاب "أسماء الصحابة" لابن منده، و"درّ السحابة" للصاغاني. الخاصة بالحفاظ: 1 - " طبقات الحُفاظ" للسيوطي، طبع في أوربا، سنة 1250 هـ. 2 - "تذكرة الحفّاظ" للذهبي، طبع بدائرة المعارف، سنة 1334 هـ. 3 - "ذيله" طبع بدمشق، سنة 1347 هـ. توابع أسماء الرجال: 1 - " المشتبه" للذهبي، طبع في أوربا سنة 1300 هـ. 2 - "الأسماء والكنى" للدولابي، طبع في دائرة المعارف، سنة 1322 هـ.

أسماء الرجال

3 - "المؤتلف والمختلف" لعبد الغني، طبع في الهند، سنة 1327 هـ. 4 - "أنساب السمعاني"، طبع بالتصوير (¬1) في أوربا، سنة 1330 هـ. وقرّرت دائرة المعارف طبع "الإكمال" لابن ماكولا، وهو أجلّ الكتب في بابه، ولعلّها تطبع كتاب "الأنساب" (¬2) و"التبصير" لابن حجر. أسماء الرجال: 1 - " التقريب"، طبع بالهند مرّات أوّلها سنة 1271 هـ. 2 - "الخلاصة"، طبع بمصر مع "فتح الباري" على نفقة المرحوم السيد صديق حسن، سنة 1301 هـ. 3 - "الميزان"، طبع بالهند سنة 1301 هـ، ثم بمصر سنة 1325 هـ. 4 - "إسعاف المُبطّأ في رجال الموطأ"، طبع بحيدراباد دكن، سنة 1320 هـ. 5 - "طبقات ابن سعد"، طبع في أوربا سنة 1322 هـ. 6 و7 و8 - "الضعفاء الصغير" للبخاري، "الضعفاء" للنسائي، "المنفردات والوحدان" لمسلم، طبعت في حيدراباد سنة 1323 هـ، ثمّ طبع الأولان بالهند سنة 1325 هـ. 9 - "الجمع بين رجال الصحيحين" (¬3)، طبع في دائرة المعارف سنة 1323 هـ. ¬

_ (¬1) أي: المخطوط، في مجلد ضخم. (¬2) انظر ما سلف (ص 249 - 250) حول كتابي الإكمال والأنساب. (¬3) لأبي الفضل بن طاهر المقدسي (ت 507).

10 - "تعجيل المنفعة"، طبع في دائرة المعارف، سنة 1324 هـ. 11 - "تهذيب التهذيب"، طبع في دائرة المعارف، سنة 1325 هـ. 12 - "التاريخ الصغير" للبخاري، طبع في الهند، سنة 1325 هـ. 13 - "لسان الميزان"، طبع في دائرة المعارف، سنة 1329 هـ. وقرّرت الدائرة طبع أمّهات الكتب في الفنّ: "التاريخ الكبير" للبخاري، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم، و"التاريخ الكبير" لابن أبي خيثمة (¬1). ولعلّها تطبع "التاريخ الأوسط" للبخاريّ، فإنَّ نسخته موجودة (¬2). وقد طبعت كتب أخرى يُستفاد منها كثير من تراجم الرجال، ولكن منها ما لم يوضع لذلك بخصوصه، ومنها ما هو خاص ببلد أو طائفة. وقد طبعت دائرة المعارف من هذا الضرب "مرآة الجنان" لليافعي، و"الجواهر المضيئة في طبقات الحنفية"، وقررت طبع تاريخ "المنتظم" لابن الجوزي، و"طبقات الحنابلة" (¬3) لابن رجب، ولعلها تطبع "تاريخ جرجان" (¬4). ¬

_ (¬1) طُبع الأوّلان عن الدائرة، وكان للمؤلف اليد الطولى في العمل عليهما، أما الثالث فلم يطبع فيها، وطبع قريبًا الموجود منه طبعتين في دار الفاروق الحديثة وفي دار غراس. (¬2) طبع في مجلد واحد في الهند، ثم حقق في رسالتين جامعيتين وطبع في 5 مجلدات عن مكتبة الرشد بالرياض. (¬3) يعني: "ذيل الطبقات"، أما الطبقات فلابن أبي يعلى الحنبلي حققه الفقي أيضًا في مجلدين وطبعت مع الذيل. (¬4) طبع "المنتظم" و"تاريخ جرجان" عن الدائرة، أما "ذيل الطبقات" فطبع بمصر بعناية =

وكلّ من له إلمام بالفن يعلم أنه ليس في كتب الرجال المطبوعة أجمع ولا أوسع ولا أنفع من "تهذيب التهذيب" و"لسان الميزان"، ويشاركهما "تعجيل المنفعة" في عظمها، وكلها من طبع دائرة المعارف. وليس فيما لم يطبع منها أجلّ من "التاريخ الكبير" للبخاري، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم، و"التاريخ الكبير" لابن أبي خيثمة، وقد قررت دائرة المعارف طبع هذه الثلاثة (¬1). ومن تتبع ما أنتجته النهضة العلمية في القرن الرابع عشر بالهند ومصر والشام وغيرها من المعارف والمؤلفات والرسائل وغيرها، علم أن للهند - ولا سيما حيدراباد دكن - الفضل الأكبر في ذلك بما نشرته من كتب الحديث، وكتب الرجال؛ فإن شأن الهند - وخاصة دائرة المعارف - في الحديث لا يقلّ عن شأنها في الرجال، وحسبك أنّ من مطبوعات دائرة المعارف: "كنز العمّال" و"مسند الطيالسي" و"المستدرك" و"السنن الكبرى" للبيهقي وغيرها. وقد قررت طبع "مسند الإمام إسحاق بن راهويه"، و"مسند أبي عوانة" (¬2). كما طبعت في علم مصطلح الحديث أهمّ المؤلفات فيه: "علوم ¬

_ = الشيخ حامد الفقي سنة 1952، ثم حققه أستاذنا د. عبد الرحمن العثيمين وطبع سنة 1420 في خمسة مجلدات. (¬1) انظر ما سبق (ص 255). (¬2) طبع الثاني منهما في الدائرة، مع نقص فيه، ثم طبع ما يكمله في خمسة مجلدات، ثم حقق كاملًا في عدة رسائل جامعية بالجامعة الإِسلامية بالمدينة النبوية المنورة.

الحديث" للحاكم، وكتاب "الكفاية" للخطيب البغدادي. وقد أخذت الدائرة بنصيبٍ من سائر العلوم؛ كاللغة والنحو والفلسفة والرياضيات والتاريخ, ولكن إذا كان في طبع مؤلفات أسلافنا في هذه العلوم ونحوها حفظ ونشر لأعمال نوابغ الإِسلام؛ ففي طبع كتب الحديث والرجال فوق ذلك حفظ ونشر للإسلام نفسه. على أنّ حاجة التاريخ إلى معرفة أحوال ناقلي الوقائع التاريخية أشدّ من حاجة الحديث إلى ذلك، فإنّ الكذب والتساهل في التاريخ أكثر، بل إنّ معرفة أحوال الرجال هي من أهم أنواع التاريخ، والعلومُ الدينية والتاريخية أَوْلَى العلوم بالحفظ؛ لأنّه إذا ضاع منها شيء لم يمكن تداركه بعد ختم النبوّة. وأمّا العلوم الأخرى فليست كذلك؛ لأنّها نتيجة العقول والتجارب، فإذا ضاع منها شيء يمكن استنتاجه ثانيًا، وهكذا. ولن تزال الدائرة إن - شاء الله تعالى - مُجِدّة في سعيها، مستمرة في عملها، معتمدة على فضل الله تبارك وتعالى، وحسن توفيقه، ثمّ على عناية صاحب الجلالة السلطان - سلطان العلوم - السلطان مير عثمان علي خان بهادر -حفظه الله -، كشأنه دائمًا في العناية بالدائرة وبغيرها من معاهد العلم التي عُمِرت بها البلاد وحييت بها العباد. طوبى لدكن ما حوتـ ... ـهُ من معاهد للمعارف فيها رياض العلم تُتْـ ... ـحِف باللطائف كلّ طائف أثمارها متدليا ... تٌ طَوع كفّي كلّ قاطف

وحياضها بالعذب تر ... وي كل مرتشفٍ وغارف فيها الجوامع والمدا ... رس والمطابع والمتاحف ومن الجوامع أمُّها الـ ... ـكبرى تحيّر كل واصف بحر به التقت العلو ... م من السوالف والخوالف وترى بها دارًا لتر ... جمة التآليف الطرائف وبها كماعلمت رجا ... لُ العلم دائرة المعارف نشرت علومًا ما لها ... من معدن إلا الصحائف هذا رشاشٌ من فوا ... ضل ذي الفضائل والعوارف عثمان من عمّت موا ... هبه الموافق والمخالف يرعى المخالف من رعيّـ ... ـته كما يرعى المؤالف مغرًى بما فيه السعا ... دةُ والعُلى لا بالزخارف فليحي سلطان العلو ... م وإنّها معنا هواتف عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني

الرسالة العاشرة ملخص طبقات المدلسين

الرسالة العاشرة مُلَخّص طبقات المُدلِّسين

ملخص من "طبقات المدلسين" للحافظ

الحمد لله ملخَّص من "طبقات المدلسين" للحافظ أ) من لم يوصف بالتدليس إلا نادرًا (¬1): 1 - أبو نعيم الأصبهاني: يطلق في الإجازة "أخبرنا". 2 - أحمد بن محمد بن إبراهيم بن حازم السمرقندي، أبو يحيى الكرابيسي: يدلس عن محمد بن نصر الإجازة. 3 - أحمد بن محمد بن يحيى بن حمزة الدمشقي القاضي: يدلس عن أبيه بالإجازة. 4 - (خ 4) إسحاق بن راشد الجَزَري: يقول في الوجادة: "حدثنا". 5 - (ع) أيوب السِّخْتياني: يدلِّس عن أنس بالعنعنة (¬2). 6 - [خ م س] أيوب بن النجَّار اليمامي: صح أنه قال لم أسمع من يحيى بن أبي كثير إلا حديثًا واحدًا، وقد روى عنه أكثر من حديث. 7 - (ع) جَرير بن حازم: ممن وصفه بالتدليس يحيى الحِمَّاني في حديثه عن أبي حازم عن سهل بن سعد في صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -. 8 - (م 4) الحسين بن واقد المروزي: ثقة، وصفه الدارقطني وأبو يعلى الخليلي بالتدليس. 9 - [ص 108] (م 4) حفص بن غِياث: وصفه أحمد والدارقطني. ¬

_ (¬1) وعددهم ثلاثة وثلاثون. (¬2) فقد رأى أنسًا ولم يسمع منه، ومع ذلك حدث عنه عدة أحاديث بالعنعنة.

10 - (ع) خالد بن مِهْران الحذَّاء: روى عن عِراك بن مالك حديثًا سمعه من خالد بن أبي الصلت عنه في استقبال القبلة في البول. 11 - (ع) زيد بن أسلم: روى عن ابن عمر في "رد السلام بالإشارة" قال ابن عيينة (¬1): قلت لإنسان: سله أسمعه من ابن عمر؟ فسأله، فقال أما أنا فكلَّمني وكلّمته، أخرجه البيهقي (¬2). وفي هذا الجواب إشعار بأنه لم يسمع هذا بخصوصه منه، مع أنه مكثر عنه، فيكون قد دلسه. 12 - (س) سلمة بن تمام الشَّقَرِي: ذكر ابن أبي حاتم ما يدل أنه كان يدلس. 13 - (د س ق) شِبَاك الضبِّي، صاحب إبراهيم النخعي: وصفه الدارقطني والحاكم. 14 - (ع) طاوس: يدلس عن ابن عباس، وروى عن عائشة، وقد قال ابن معين: لا أراه سمع منها، وقال أبو داود لا أعلمه سمع منها. 15 - [ص 109] (ع) أبو قِلابة الجَرْمي: وصفه الذهبي والعلائي. 16 - (م 4) عبد الله بن عطاء الطائفي: قضيته في التدليس مشهورة (¬3)، رواها شعبة عن أبي إسحاق السَّبيعي. ¬

_ (¬1) الأصل: "ابن عبيد" تحريف. (¬2) في "السنن الكبرى": (2/ 259). (¬3) أخرجها البخاري في "التاريخ الكبير": (5/ 165)، و"الأوسط" رقم (651) وغيره.

17 - (ع) ابن وهب: وصفه ابن سعد في "الطبقات" (¬1). 18 - (خ م د س ق) عبد ربه بن نافع أبو شهاب الحَنّاط: أشار الخطيب في مقدمة "تاريخه" (¬2) إلى أنه دلس حديثًا. 19 - الدارقطني: قال أبو الفضل بن طاهر: كان يقول: "قُرئ على أبي القاسم البغوي: حدثكم فلان"، فيوهم أنه سمع منه، لكن لا يقول: وأنا أسمع. 20 - (ع) عَمْرو بن دينار: أشار الحاكم في "علوم الحديث" (¬3) إلى أنه كان يدلس. 21 - (ع) الفضل بن دُكَين أبو نعيم: وصفه أحمد بن صالح المصري. 22 - (ع) مالك: كان يسوّي. 23 - (ق س) البخاري: في قوله: "قال فلان" (¬4). 24 - محمد بن عِمران بن موسى المَرْزباني: الكاتب الأخباري كان يطلق التحديث والإخبار في الإجازة. ذكر ذلك الخطيب وغيره. ¬

_ (¬1) (9/ 526 - ط الخانجي). (¬2) "تاريخ بغداد": (1/ 30). (¬3) (ص/ 355 - ط ابن حزم). (¬4) وصفه بذلك ابن منده، قال الحافظ في "الطبقات" (ص 91): "ولم يوافَق ابن منده على ذلك. والذي يظهر أنه كان يقول فيما لم يسمع "قال", وفيما سمع "قال لنا" لكن لا يكون على شرطه، أو موقوفًا "قال لي" أو "قال لنا". وقد عرفت ذلك بالاستقراء من صنيعه" اهـ.

25 - [ص 110] (ت ق) محمد بن يزيد بن خُنَيس العابد: قال ابن حبان: يعتبر حديثه إذا بيَّن السماعَ في روايته. 26 - محمد بن يوسف بن مَسْدي الحافظ الأندلسي: نزيل مكة في المائة السابعة، كان يدلس الإجازة، وله معجم مشهور مات بمكة سنة (663). 27 - (بخ (¬1) م د س) مَخْرمة بن بُكَير: يدلس عن أبيه، انظر ترجمته. 28 - (ت) مسلم صاحب "الصحيح": قال ابن منده: كان يقول في ما لم يسمعه من مشايخه: "قال لنا فلان" وهو تدليس، وردَّ ذلك شيخنا أبو الفضل بن الحسين (¬2)، وهو كما قال. 29 - (ع) موسى بن عقبة المدني: وصفه الدارقطني، أشار إلى ذلك الإسماعيلي. 30 - (ع) هشام بن عروة: في الحكاية المشهورة أنه قدم العراق ... الخ (¬3). 31 - (ع) لاحق بن حُمَيد أبو مِجْلَز: أشار ابن أبي خيثمة عن ابن معين أنه كان يدلس، وجزم بذلك الدارقطني. 32 - [ص 111] (ع) يحيى بن سعيد الأنصاري: وصفه ابن المديني والدارقطني. ¬

_ (¬1) الأصل: "خ" والمثبت من المصادر. (¬2) يعني الإمام العراقي صاحب الألفية في الحديث ت (806). (¬3) انظرها في "تهذيب التهذيب": (11/ 50).

33 - (ع) يزيد بن هارون: قال: ما دلست إلا في حديث واحد فما بورك فيه. ب) من احتمل الأئمة تدليسه لإمامته، أو لأنه كان لا يروي إلا عن ثقة (¬1): 34 - إبراهيم بن سليمان الأفطس الدمشقي: عن مكحول وغيره، وعنه يحيى بن حمزة وجماعة. قال أبو حاتم: لا بأس به، وأشار البخاري إلى أنه كان يدلس. 35 - (ع) إبراهيم النخعي: وصفه الحاكم (¬2). وقال أبو حاتم: لم يلق أحدًا من الصحابة، إلا عائشة رضي الله عنها، ولم يسمع منها (¬3). 36 - (ع) إسماعيل بن أبي خالد: وصفه النسائي. 37 - (خت (¬4) 4) أشعث بن عبد الملك الحُمْراني: قال معاذ: سمعته يقول: كلّ شيء حدّثتكم عن الحسن سمعته منه إلا ثلاثة أحاديث: حديث "الذي يركع دون الصف"، وحديث "عدة الحائض"، وحديث "علي في الخلاص". 38 - [ص 112] (م 4) بشير بن المهاجر الغَنَوي: قال ابن حبان في "الثقات" (¬5): كان يدلس. ¬

_ (¬1) وهم ثلاثة وثلاثون شخصًا. (¬2) في "علوم الحديث": (ص/ 349). (¬3) علق الشيخ بعد هذا: "في "التقريب" في ترجمة إبراهيم بن يزيد التيمي: "ثقة إلا أنه يرسل ويدلس". (¬4) زيادة من المصادر. (¬5) (6/ 98).

39 - (م 4 (¬1)) جُبير بن نُفير: قال الذهبي في "طبقات الحفاظ" (¬2): ربما دلَّس عن كبار الصحابة. 40 - (ع) الحسن البصري: وصفه بتدليس الإسناد النسائيُّ وغيره. 41 - الحسن بن التميمي أبو علي المُذْهب: راوي "مسند أحمد" عن القَطيعي. فيه نظر، انظر "الميزان" (¬3). 42 - (ع) الحسن بن مسعود أبو علي الدمشقي ابن الوزير: محدِّث مكثر، مذكور بالحفظ، وصفه ابن عساكر بالتدليس، وقال: مات سنة (543). 43 - (ع) الحَكَم بن عُتَيبة: وصفه النسائي، وحكاه السُّلمي عن الدارقطني. 44 - (ع) حماد بن أسامة أبو أسامة: قال المُعَيطي (¬4): كان كثير التدليس ثم رجع عنه. وقال ابن سعد: كان كثير الحديث، ويدلّس ويبين تدليسه. 45 - (م 4 (¬5)) حماد بن أبي سليمان: ذكر الشافعي أن شعبة حدث بحديث عن حماد عن إبراهيم قال: فقلت لحماد: سمعته من إبراهيم؟ قال: لا، أخبرني به مغيرة بن مِقْسَم عنه. ¬

_ (¬1) زيادة في التقريب: "بخ". (¬2) (1/ 52). (¬3) (2/ 33 - 35). وقوله: "فيه نظر، انظر الميزان" من كلام المعلمي. يعني أن وصفه بالتدليس فيه نظر، وقد ناقش الذهبي دعوى الخطيب في "الميزان". (¬4) الأصل: "القبطي". والمثب من "الطبقات" و"الميزان". (¬5) زاد في التقريب رمز (بخ).

46 - [ص 113] (ع) خالد بن معدان: قال الذهبي: كان يرسل ويدلس. 47 - (ع (¬1)) زكريا بن أبي زائدة: قال أبو حاتم: كان يدلس عن الشعبي، وابن جريج. ووصفه الدارقطني بالتدليس. "قلت (¬2) وكذا أبو زرعة قال: كان يدلس كثيرًا عن الشعبي، ووصفه أيضًا أبو داود". 48 - (ع) سالم بن أبي الجعد: ذكره الذهبي في "الميزان" (¬3) بذلك. 49 - (م 4) سعيد بن عبد العزيز الدمشقي: روى عن زيادة بن أبي سَوْدَة، فقال أبو الحسن بن القطَّان: لا ندري سمعه منه، أو دلَّسه عنه. 50 - (ع) سعيد بن أبي عَرُوبة: وصفه النسائي وغيره. 51 - (ع) سفيان الثوري: وصفه النسائي وغيره، وقال البخاري: ما أقلّ تدليسه! 52 - (ع) سفيان بن عيينة: وصفه النسائي وغيره، وكان لا يدلس إلا عن ثقة، وادعى ابنُ حبان أن ذلك كان خاصًّا به. 53 - [ص 114] (خت م 4) أبو داود الطيالسي: قال يزيد بن زُرَيع: سألته عن حديثين لشعبة، فقال: لم أسمعهما منه، قال: ثم حدث بهما عن شعبة. قال الذهبي: دلَّسهما عنه، فكان ماذا؟ ¬

_ (¬1) الأصل: "م" والمثبت من المصادر. (¬2) من كلام المعلمي. (¬3) (2/ 299).

قلت (¬1): ويحتمل أن يكون تذكرهما، وإن كان دلسهما نُظِر، فإن ذكر صيغةً محتملة فهو تدليس الإسناد، وإن ذكر صيغةً صريحة، فهو تدليس الإجازة. 54 - (ع) سليمان بن طَرْخان: وصفه النسائي. 55 - (ع) الأعمش: وصفه الكرابيسي والنسائي والدارقطني وغيرهم. 56 - (خت م 4 (¬2)) شَريك القاضي: كان من الأثبات، ولما ولي القضاء تغير حفظه، وكان يتبرأ من التدليس، ونَسَبه عبد الحق في "الأحكام" إلى التدليس، وسبقه إلى وصفه به الدارقطني. 57 - (4) شعيب، والد عَمْرو بن شعيب: فيه نظر (¬3). 58 - [ص 115] (ع) عبد الرازق: نسبه بعضهم إلى التدليس، وقد تبرأ منه (¬4) في قصته في تعلّقه بالكعبة، ويحتمل أن يكون نفى الإكثار من التدليس، بقرينة ذكره بقيَّة. 59 - (خ م د ت (¬5) س) عكرمة بن خالد بن سعيد بن العاص بن هشام المخزومي: وصفه الذهبي والعلائي. ¬

_ (¬1) هذا من كلام (ابن حجر). (¬2) الأصل: "ت" فقط، والمثبت من المصادر. (¬3) من كلام المعلمي. (¬4) الأصل: "عنه". (¬5) الأصل: "ن".

60 - (4) عَمرو بن شعيب: فيه نظر (¬1). 61 - (ع) محمد بن خازم أبو معاوية: وصفه الدارقطني. 62 - (ق) محمد بن حمَّاد الطَّهراني: الراوي عن عبد الرزاق، أشار أبو محمد ابن حزم إلى أنه دلّس حديثًا. 63 - (ع) يحيى بن أبي كثير: وصفه النسائي. ويقال: لم يصح له سماع من صحابي. 64 - (ع) يونس بن عُبيد: وصفه النسائي، وكذا السلمي عن الدارقطني. 65 - (م س ق) يونس بن عبد الأعلى الصَّدَفي: روى عن الشافعي عن محمد بن خالد الجَنَدي: حديث أنس الذي أخرجه ابن ماجه، وأشار الذهبي إلى أن يونس سوَّاه. 66 - [ص 116] (م 4) يونس بن أبي إسحاق السبيعي: يقال: إنه روى عن الشعبي حديثًا، وهو حديثه عن الحارث عن علي رضي الله عنه حديث: أبو بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة، فأسقط الحارث. ج) من أكثر من التدليس فلم يحتجّ إلا بما صرّحوا، وقَبلهم بعضٌ مطلقًا، وردَّهم بعضٌ مطلقًا (¬2): 67 - [د] أحمد بن عبد الجبار العُطَاردي: تكلموا فيه. وقال ابن عدي: لا أعلم له خبرًا منكرًا، وإنما نسبوه إلى أنه لم يسمع من كثير ممن حدَّث عنهم. ¬

_ (¬1) قوله: "فيه نظر" من كلام المعلمي. (¬2) وعدتهم مئه وستة عشر نفسًا.

68 - (4) إسماعيل بن عَيَّاش أبو عتبة العَنْسي: مختلَفٌ في توثيقه، وحديثه عن الشاميين مقبول عند الأكثر، وأشار ابن معين، ثم ابن حبان في "الثقات" (¬1) إلى أنه كان يدلس. (في "تهذيب التهذيب" (¬2) في ترجمته: وقال نصر بن محمد الأسدي عن (ابن معين): إذا حدَّث إسماعيل بن عياش عن الشاميين - وذكر الخبر - فحديثه مستقيم، وإذا حدَّث عن الحجازيين والعراقيين خلَّطَ ما شئت) (¬3). 69 - (ع) حبيب بن أبي ثابت: يكثر التدليس، وصفه ابن خزيمة، والدارقطني وغيرهما. 70 - (خ د ت ق) الحسن بن ذكوان: مختلَف في الاحتجاج به، وله في "صحيح البخاري" حديث واحد (¬4)، وأشار ابنُ صاعد إلى أنه كان مدلسًا. 71 - [ص 117] (ع) حُمَيد الطويل: كثير التدليس عن أنس، حتى قيل إن معظم حديثه عنه بواسطة ثابت وقتادة، ووصفه النسائي وغيره. 72 - (د) شعيب بن أيوب الصريفيني: وصفه ابن حبّان والدارقطني. ¬

_ (¬1) كذا في الأصل و"الطبقات": (ص/ 132)، ولم أجد له ترجمة في "الثقات" المطبوع، وترجم له ابن حبان في "المجروحين": (1/ 124 - 126) ولم يصفه بالتدليس. (¬2) (1/ 321 - 324). (¬3) ما بين القوسين من كلام المعلمي رحمه الله. (¬4) رقم (6566).

73 - شعيب بن عبد الله: قال علي بن المديني ... قصة فيها ذكر فرقد ونوف. 74 - (د ت س) صفوان بن صالح بن دينار: وثقه أبو داود وغيره، ونُسِب إلى التسوية. 75 - (ع (¬1)) طلحة بن نافع الواسطي أبو سفيان: الراوي عن جابر، معروف بالتدليس، ووصفه الدارقطني وغيره. 76 - عبد الله بن مروان أبو شيخ الحراني: روى عن زهير عن معاوية وغيره، روى عنه حسين بن منصور وإبراهيم بن الهيثم. قال ابن حبان في "الثقات" (¬2): يُعتبر حديثه إذا بيَّن السماع في خبره. 77 - عبد الله بن أبي نَجِيح المكي: المفسّر عن مجاهد، وكان يدلس عنه، وصفه بذلك النسائي. 78 - [ص 118] (بخ د س) عبد الجليل بن عطية القيسي في أبو صالح البصري: وثقه ابن معين. وقال البخاري: يهم في الشيء، وقال ابن حبان: يعتبر حديثه إذا بين السماع. 79 - (خت 4 (¬3)) عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود: يدلس عن أبيه، وصرح بالسماع في حديث الضب، حديث ثأخير الصلاة، محرم الحرام. 80 - (ع) عبد الرحمن بن محمد المحاربي: وصفه العقيلي. ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، والتقريب والتهذيب. وفي "الطبقات": (ص/ 135): "خت م 4". (¬2) (8/ 345). (¬3) رمز له في "التقريب" و"الطبقات": (ص/ 137): "ع".

81 - عبد العزيز بن عبد الله القرشي البصري أبو وهب الجدعاني: روى عن سعيد بن أبي عَروبة، وخالد الحذّاء، وبَهْز بن حكيم. روى عنه الحسن بن مدرك وغيره. قال ابن حبان في "الثقات" (¬1): يعتبر حديثه إذا بين السماع. وتكلم فيه ابن عدي وقال: عامة ما يرويه لا يتابع عليه. 82 - (م 4) عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي روَّاد: صدوق ونُسِب إلى الإرجاء، وفي حفظه شيء، ونسب إلى التدليس، وممن ذكره فيهم العلائي. 83 - [ص 119] (ع) ابن جُريج: وصفه النسائي وغيره. وقال الدارقطني: شر التدليس تدليس ابن جُريج، فإنه قبيح التدليس، لا يدلس إلا فيما سمعه من مجروح. 84 - (ع) عبد الملك بن عُمير القبطي الكوفي: مشهور بالتدليس، وصفه الدارقطني وابن حبان وغيرهما. 85 - (م 4) عبد الوهاب بن عطاء الخَفَّاف: قال البخاري: كان يدلس عن ثور الحمصي وأقوام أحاديث مناكير. 86 - [ت ق] عُبيدة بن الأسود بن سعيد الهَمْداني: أشار ابن حبان في "الثقات" (¬2) إلى أنه كان يدلس. ¬

_ (¬1) (8/ 394). (¬2) (8/ 437).

87 - عثمان بن عمر (¬1) الحنفي: عن ابن جُريج، وعنه محمد بن حرب النسائي (¬2). قال ابن حبان في "الثقات" (¬3): يُعْتَبر حديثه إذا بيَّن السماع. 88 - (خت م 4) عكرمة بن عمار اليمامي: وصفه أحمد والدارقطني. 89 - (س ق) علي بن غراب الكوفي القاضي: اختلف فيه، ووثقه ابن معين، ووصفه الدارقطني وغيره بالتدليس. 90 - [ص 120] عمر بن علي بن أحمد بن الليث البخاري الليثي أبو مسلم: الحافظ المشهور، كان واسع الرحلة كثير التصانيف في المتأخرين. مات سنة (466) وقيل: مات سنة (68)، وصفه يحيى بن منده. وقال شيرويه: كان يحفظ ويدلس. 91 - (ع) عَمرو بن عبد الله السبيعي: مشهور بالتدليس، وصفه النسائي وغيره. 92 - (ع) قتادة: مشهور بالتدليس، وصفه النسائي وغيره. 93 - (خت د ت ق) مبارك بن فضالة: مشهور بالتدليس، وصفه به الدارقطني وغيره، وقد أكثر عن الحسن البصري. 94 - محمد بن البخاري: روى عن وكيع، وعنه ولداه عمر وإبراهيم، ¬

_ (¬1) كذا في الأصل وبعض نسخ "الطبقات"، وفي النسخ الأخرى والمصادر: "عمران". (¬2) الأصل: "الساحى" بلا نقط، وفي نسخ الطبقات اختلاف، والمثبت من "اللسان": (5/ 403). (¬3) (8/ 453).

أشار ابن حبان إلى أنه كان يدلس. 95 - محمد بن صدقة الفَدَكي: من أصحاب مالك، وصفه الدارقطني وابن حبان. 96 - (خ د س ت) محمد بن عبد الرحمن الطُّفاوي: وصفه أحمد والدارقطني. 97 - [ص 121] محمد بن عبد الملك الواسطي الكبير أبو إسماعيل: روى عن إسماعيل بن أبي خالد وطبقته، وعنه وهب بن بقية، وصفه ابن حبان بالتدليس، وكذا أطلق الذهبي في "تذهيب التهذيب". 98 - (خت م 4) محمد بن عجلان: وصفه ابن حبان. 99 - (خ ن (¬1) د س ق) محمد بن عيسى بن نجيح أبو جعفر ابن الطباع: قال صاحبه أبو داود: كان مدلسًا. وكذا وصفه الدارقطني. 100 - محمد بن محمد بن سليمان الباغندي الحافظ البغدادي أبو بكر: المشهور بالتدليس مع الصدق والأمانة، مات بعد الثلاثمائة. قال الإسماعيلي: لا أتهمه ولكنه يدلس. وقال [ابن] المظفَّر: لا ينكر منه إلا التدليس. وقال الدارقطني: يكتب عن بعض أصحابه، ثم يسقط بينه وبين شيخه ثلاثة. 101 - [ص 122] (ع) أبو الزبير: مشهور بالتدليس. ووهم الحاكم في ¬

_ (¬1) كذا، وفي "الطبقات" و"التقريب" بدلاً من "خ ن": "خت".

"كتاب علوم الحديث" (¬1) فقال في سنده: وفيه رجال (¬2) غير معروفين بالتدليس. وقد وصفه النسائي وغيره. 102 - (ع) ابن شهاب: وصفه الشافعي والدارقطني. 103 - [س ق] محمد بن مصفَّى (¬3): قال أبو حاتم ابن حبان: سمعت أبا الحسن بن جَوْصا يقول: سمعت أبا زرعة الدمشقي يقول: كان صفوان بن صالح، ومحمد بن مُصفَّى يسوِّيان الحديث كبقية بن الوليد. ذكره في آخر مقدمة "الضعفاء" (¬4). 104 - (ق) مُحْرز بن عبد الله أبو رجاء الجزري: وصفه ابن حبان في "الثقات" (¬5). 105 - (ع) مروان بن معاوية الفزاري: كان مشهورًا بالتدليس، وكان يدلس الشيوخ أيضًا، وصفه الدارقطني بذلك. 106 - مصعب بن سعيد أبو خيثمة المِصّيصي: [ص 123] أصله من خراسان، روى عن أبي خيثمة الجعفي وابن المبارك وغيرهما. وعنه الحسن بن سفيان وأبو حاتم الرازي وجماعة. قال ابن عدي: كان يصحِّف. ¬

_ (¬1) (ص 199 - ت السلوم). (¬2) كذا وفي "الطبقات": (ص 152): "فقال في سندٍ هو فيه: رجاله ... ". (¬3) الأصل: "مصطفى" وكذا في الموضع الثاني، سبق قلم. (¬4) (1/ 94). (¬5) (7/ 504).

وقال ابن حبان في "الثقات" (¬1): كان يدلّس، وكُفّ في آخر عمره. 107 - (ع) المغيرة بن مِقْسَم: وصفه النسائي بالتدليس، وحكاه العجلي عن ابن (¬2) فضيل. قال أبو داود: كان لا يدلس. وكأنه أراد ما حكاه العجلي: أنه كان يرسل عن إبراهيم، فإذا وُقِف أخبرهم ممن سمعه. 108 - (م 4) مكحول: يقال: إنه لم يسمع من الصحابة إلا عن نفر قليل. ووصفه بذلك ابن حبان. وأطلق الذهبي أنه كان يدلس، ولم أره للمتقدمين إلا في قول ابن حبان. 109 - (ت ق) ميمون بن موسى المرائي: وصفه النسائي والدارقطني، وكذا حكاه ابن عدي عن أحمد بن حنبل. 110 - [ص 124] (ع) هشام بن حسَّان: وصفه ابن المديني وأبو حاتم ... يرون أنه أرسل حديث الحسن عن حوشب. 111 - (ع) هُشَيم: مشهور بالتدليس، وصفه النسائي وغيره، وله قصة. 112 - [م 4] يزيد بن أبي زياد الكوفي: من أتباع التابعين، تغير في آخر عمره، وضُعّف بسبب ذلك، وصفه الدارقطني والحاكم وغيرهما بالتدليس. 113 - [4] يزيد بن عبد الرحمن أبو خالد الدالاني: مشهور بكنيته، وهو من أتباع التابعين، وثقه ابن معين وغيره، وصفه حسين الكرابيسي بالتدليس. ¬

_ (¬1) (9/ 175). (¬2) الأصل: "أبي" تحريف.

114 - [د س ق] يزيد بن عبد الرحمن بن أبي مالك الهَمْداني الدمشقي: وصفه أبو مُسْهِر بالتدليس. 115 - [م قد س] أبو حَرّة الرقاشي البصري: صاحب الحسن وعنه القطان، وصفه أحمد والدارقطني. 116 - [ع] أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود: ثقة مشهور، حديثه عن أبيه في السنن وعن غير أبيه في الصحيح .. والأكثر على أنه لم يسمع من أبيه، وثبت له لقاؤه، وسماع كلامه. د) من اتفق على أنه لا يحتج إلا بما صرحوا فيه بالسماع لكثرة تدليسهم عن الضعفاء والمجاهيل: 117 - (م 4 (¬1)) بقية: له في مسلم حديث واحد (¬2)، وكان كثير التدليس عن الضعفاء والمجهولين، وصفه الأئمة بذلك. 118 - (م 4) حجَّاج بن أرطاه: أخرج له مسلم مقرونًا بآخر، ووصفه النسائي وغيره بالتدليس عن الضعفاء .... 119 - حُميد بن الربيع الكوفي الخَزّاز - بمعجمات - اللخمي: مختلَف فيه، وقد وصفه بالتدليس عن الضعفاء عثمان بن أبي شيبة ... 120 - (م ق) سويد بن سعيد الحَدَثاني: وصفه الدارقطني والإسماعيلي وغيرهما، وتغير في آخر عمره بسبب العمى، وسماع مسلم منه قبل ذلك. ¬

_ (¬1) زاد في "الطبقات": "خت". (¬2) رقم (1429).

121 - (خت 4) عبَّاد بن منصور الناجي البصري: ذكره أحمد والبخاري والنسائي والساجي وغيرهم بالتدليس عن الضعفاء. 122 - [ص 126] (بخ (¬1) د ت ق) عطية [العوفي]: ضعيف الحفظ، مشهور بالتدليس القبيح. 123 - (ع) عمر بن علي المقدَّمي: شديد الغلو في التدليس، وصفه بذلك أحمد وابن معين والدارقطني وغير واحد. وقال ابن سعد: ثقة، وكان يدلس تدليسًا شديدًا، يقول: ثنا، ثم يسكت، ثم يقول: هشام بن عروة أو الأعمش أو غيرهما. قلت (¬2): وهذا ينبغي أن يسمى: تدليس القطع. 124 - (خت (¬3) ق) عيسى بن موسى البخاري، لقبه غُنْجار: صدوق، لكنه مشهور بالتدليس عن الثقات ما حمله عن الضعفاء والمجهولين. 125 - (خت م مقرونًا 4) ابن إسحاق: صدوق مشهور بالتدليس عن الضعفاء والمجهولين، وعن شرّ منهم. وصَفَه بذلك أحمد والدارقطني وغيرهما. 126 - (د س ق) محمد بن عيسى بن القاسم بن سُميع: دمشقي فيه ضعف، وصفه بالتدليس ابن حبان. ¬

_ (¬1) الأصل: "خ" تحريف. (¬2) هذا من كلام الحافظ ابن حجر. (¬3) الأصل: "خ ت" والمثبت من المصادر.

127 - [ص 127] (ع) الوليد بن مسلم الدمشقي: معروف موصوف بالتدليس الشديد مع الصدق. 128 - (س) يعقوب بن عطاء بن أبي رباح: في ترجمته في "ثقات ابن حبان" (¬1) ما يقتضي ذلك. هـ) من ضُعِّف بأمر آخر سوي التدليس: فحديثهم مردود ولو صرحوا بالسماع، إلا أن يوثق من كان ضعفه يسيرًا كابن لهيعة (¬2): 129 - (ق) إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى: ضعفه الجمهور، ووصفه أحمد والدارقطني وغيرهما بالتدليس. 130 - (ت ق) إسماعيل بن أبي خليفة أبو إسرائيل المُلائي: ضعفوه، وأشار الترمذي إلى أنه كان يدلس. 131 - بشير بن زاذان: روى عن رِشْدين بن سعد وغيره، روى عنه قاسم بن عبد الله السرَّاج. ضعفه الدارقطني، ووصفه ابن الجوزي بالتدليس عن الضعفاء. 132 - (ت) تَلِيد بن سليمان المُحَاربي الكوفي: مشهور بالضعف، قال أحمد والعجلي والدارقطني: يدلس. 133 - [د ت ق] جابر (¬3) بن يزيد الجُعْفي: ضعَّفه الجمهور، ووصفه الثوري والعجلي وابن سعد بالتدليس. ¬

_ (¬1) (7/ 639). (¬2) وهم أربعٌ وعشرون نفسًا. (¬3) رسمها في الأصل: "حسان"! تحريف.

134 - (ت (¬1) ق) الحسن بن عُمارة: ضعَّفه الجمهور، وقال ابن حبان: كان بليته التدليس. 135 - الحسين بن عطاء بن يسار المدني: عن أبيه، قال أبو حاتم: منكر الحديث. وقال ابن الجارود: كذاب. وقال ابن حبان في "الثقات" (¬2): كان يخطئ ويدلس. وقال في "الضعفاء" (¬3): لا يجوز أن يحتج به. 136 - (ت ق) خارجة بن مصعب الخراساني: ضعفه الجمهور، وقال ابن معين: كان يدلس عن الكذابين. 137 - (بخ ت ق) سعيد بن المَرْزُبان أبو سعد (¬4) البقَّال: من أتباع التابعين، ضعيف مشهور بالتدليس، وصفه أحمد وأبو حاتم والدارقطني وغيرهم. 138 - (4 (¬5)) صالح بن أبي الأخضر: ذكر رَوْح بن عبادة أنه سئل عن حديثه عن الزهري، فقال: سمعت بعضًا، وقرأت بعضًا. وذكر رَوْح بن عبادة: ووجدت بعضًا، ولست أفصل ذا من ذا. ¬

_ (¬1) الأصل: "خت د" والمثبت من المصادر. (¬2) (6/ 209). (¬3) (1/ 243). (¬4) الأصل وبعض نسخ الطبقات: "سعيد"، والتصحيح من المصادر. (¬5) الأصل: "د تم" والمثبت من المصادر.

139 - (مد ق) عبد الله بن زياد بن سمعان (¬1) المدني: ضعفه الجمهور، ووصفه ابن حبان بالتدليس. 140 - (م د ت ق) ابن لهيعة: قال ابن حبان: كان صالحًا، ولكنه كان يدلس عن الضعفاء. 141 - عبد الله بن معاوية بن عاصم بن المنذر بن الزبير بن العوام: روى عن هشام بن عروة .. ، روى عنه الفلاس وغيره. ضعفه البخاري والنسائي، وأشار ابن حبان إلى تدليسه. 142 - (ق (¬2)) عبد الله بن واقد أبو قتادة الحرَّاني: متفق على ضعفه. وصفه أحمد بالتدليس. 143 - (بخ د ت ق) عبد الرحمن بن زياد بن أَنعُم: ذكر ابن حبان في "الضعفاء" (¬3) [ص 130] أنه كان مدلسًا، وكذا وصفه الدارقطني. 144 - عبد العزيز بن عبد الله بن وهب الكلاعي: ضعيف. قال ابن حبان: يعتبر حديثه إذا بين السماع. 145 - (ق (¬4)) عبد الوهاب بن مجاهد بن جَبْر: قال الحاكم: كان يدلس عن شيوخ ما سمع منهم قط. وروى عن الحسن بن محمد بن عبد الله بن أبي يزيد أنه لم يسمع من أبيه شيئًا، وإنما أخذ الكتب. ¬

_ (¬1) كتب فوقها بخط أصغر: ظ: سليمان. والصواب ما هو مثبت. (¬2) كذا في الأصل، ولم يرمز له في الطبقات بشيء وقد رمز له في"التقريب": "تمييز". فلعله اشتبه على المؤلف بعبد الله بن واقد الحنفي، فهو الذي أخرج له ابن ماجه. (¬3) (2/ 50). (¬4) سقط الرمز من مطبوعة "الطبقات".

146 - (د س ق) عثمان بن عبد الرحمن الطرائفي: قال ابن حبان: روى عن قوم ضعاف أشياء فدلسها عنهم. 147 - علي بن غالب المصري: عن واهب بن عبد الله، وعنه: يحيى بن أيوب. ضعفه أحمد وغيره، وقال ابن حبان: كان كثير التدليس. 148 - عَمْرو بن حكّام: قال الحاكم: كان يدلس عمن لم يسمع منه. قال ابن المديني: سمع في شبابه عن شعبة، فلما مات أخذ كتبه. 149 - مالك بن سليمان الهروي قاضي هراة: ضعفه النسائي. ووصفه ابن حبان بالتدليس. 150 - (د ت س) محمد بن كثير الصنعاني: قال العقيلي في ترجمة عمرو الأموي: أحد الضعفاء. روى عن الثوري عن أبي حازم عن سهل حديث: "ازهد في الدنيا" قال: وهذا لا أصل له عن الثوري، وقد تابعه عليه محمد بن كثير الصنعاني عن الثوري، ولعله أخذه عنه ودلسه؛ لأن المشهور به خالد. 151 - الهيثم بن عدي الطائي: اتهمه بالكذب البخاري. وتركه النسائي وغيره. وقال أحمد: كان صاحب أخبار وتدليس. 152 - (د ت ق) ويحيى بن أبي حَيَّة الكلبي أبو جَناب: ضعَّفوه. وقال أبو زرعة وأبو نعيم وابن نُمير ويعقوب بن سفيان والدارقطني وغير واحد: كان مدلسًا.

فائدة

فائدة: وقال البيهقي في "المعرفة" (¬1): رُوِّينا عن شعبة قال: كنت أتفقّد فم قتادة، فإذا قال: "ثنا" و"سمعت" حفظته، وإذا قال: "حدث فلان" تركته. قال: وروينا عن شعبة أنه قال: كفيتكم تدليس ثلاثة: الأعمش وأبي إسحاق وقتادة. قلت: فهذه قاعدة جيّدة في أحاديث هؤلاء الثلاثة؛ أنها إذا جاءت من طريق شعبة دلت على السماع (¬2)، ولو كانت معنعنة. ونظيره: الليث عن أبي الزّبير من جابر. ¬

_ (¬1) (1/ 86). (¬2) الأصل: "السما" سهو.

الرسالة الحادية عشرة تنزيه الإمام الشافعى عن مطاعن الكوثري

الرسالة الحادية عشرة تنزيه الإمام الشافعى عن مطاعن الكوثري

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد، فإني لما وقفت على كتاب (تأنيب الخطيب) للأستاذ العلامة محمد زاهد الكوثري، ورأيته تعدّى ما يوافقه عليه أهلُ العلم؛ من توقير الإمام أبي حنيفة وحُسْن الذبّ عنه، إلى الطعن في غيره من أئمة الفقه والحديث= جمعتُ كتابًا في ردّ الباطل من مطاعن الكوثري سميته (التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل). ثم اقتضبتُ منه نموذجًا سمّيته (طليعة التنكيل)، وقد طُبعت الطليعة بمصر. والآن بدا لي أن أفرد ما يتعلّق برَدِّ مزاعم الكوثري التي حاول بها الغضّ من الإمام الشافعي، وهذا هو. الإمام الشافعي هو [محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف، القرشي المطَّلبي الشافعي أبو عبد الله] (¬1). ¬

_ (¬1) ترك المصنف بعد قوله: "الشافعي هو" بياضًا، فلعل هناك أوراقًا أراد المؤلف أن يلحقها بهذا الموضع لم تكن قد تحرّرت مادتها، أو ألحقها لكنها لم تبق في موضعها وضاعت ضمن ما ضاع (كما مرّ شرحه في المقدمة)؛ فأكملتُ اسمه وجرّ نسبه من "التنكيل": (رقم 189) وتركتُ باقي بحث المصنف مع الكوثري في محاولة طعنه في نَسَب الإِمام الشافعي، فقد أطال فيه المصنف بما لا مزيد عليه هناك: (1/ 688 - 700).

[الجواب عن مطاعن الكوثري على الإمام الشافعي في اللغة]

[الجواب عن مطاعن الكوثري على الإمام الشافعي في اللغة] [ص 1] قال الأستاذ (¬1): "وقوله في تفسير الفِهْر في قول عمر: (كأنهم اليهود قد خرجوا من فِهْرهم): البيت المبني بالحجارة الكبار، مع أنه موضع عبادتهم أو اجتماعهم ودرسهم مطلقًا، سواء كان في بنيان أو صحراء". أقول: عليه في هذا أمور: الأول: لم يذكر ما يثبت التفسير المذكور عن الشافعي. الثاني: أن الأثر منسوب إلى عليّ كما في "نهاية ابن الأثير" (¬2) لا إلى عمر، ولفظه في "النهاية": "خرجوا من فهورهم". الثالث: قوله: "مطلقًا، سواء كان في بنيان (¬3) أو صحراء". لم أجدها في كتب اللغة ولا الغريب، ولا يلزم من إطلاقهم أن يكون مطلقًا في نفس الأمر. راجع "مفردات الراغب" يتبين لك كثرة الكلمات التي أطلقوها وحقّها أن تقيّد. الرابع: قول الأثر نفسه: "خرجوا من فهورهم" ظاهر في التقييد. ¬

_ (¬1) "تأنيب الخطيب" (ص 49 - ط الكليات الأزهرية). وهذا سادس الكلمات التي ذكرها الكوثري في محاولته الطعن في فصاحة الشافعي، وليس في المخطوط الذي بين أيدينا الجواب عن المواضع الخمسة قبله وهي في "التنكيل": (1/ 701 - 703). فلعلها سقطت من النسخة كما سقط ما يتعلّق بالنسب كما مرّ قريبًا. (¬2) (3/ 482). (¬3) الأصل: "بناء" سبق قلم، وقد سبق نقل الكلمة على الصواب من نصّ الكوثري في الصفحة السابقة.

الخامس: قد اختلفوا في تفسير الفهر، وفي "القاموس" (¬1): "مدراس اليهود تجتمع إليه في عيدهم، أو هو يوم يأكلون فيه ويشربون"، فلماذا لا يجعل قول القائل: "البيت المبني بالحجارة الكبار" قولًا آخر - إن صحّ - عمن يُعتدّ به كالشافعي. السادس: الكلمة نبطية أو عبرانية كما في "النهاية". والغلط في تفسير الكلمة الأعجمية لا ينافي فصاحة العربي، فقد قال قائلهم: "لم تدر ما نسج اليَرَنْدَج قبلها" (¬2) فزعم أن اليَرَنْدَج شيء يُنسج، وإنما هو الجلد الأسود. وقال الآخر: "ولم تذق من البقول الفستقا" (¬3) فزعم أن الفستق بقلة. ولهذا نظائر معروفة، والله أعلم. قال الأستاذ: "ووصف الماء بالمالح مع أن الماء لا يوصف به، وفي القرآن: {مِلْحٌ أُجَاجٌ} [الفرقان: 53، فاطر: 12]، [ص 2] وأما المالح فيوصف به نحو السمك". ¬

_ (¬1) (ص 589). (¬2) صدر بيت عجزه: * ودراس أعوص دارسٍ متجدّد * لعمرو بن أحمر الباهلي. انظر "الشعر والشعراء" (1/ 359) و"الجمهرة" (ص 1328). وفي بعض المصادر: "متخدّد". (¬3) عجز بيت صدره: * برّيّة لم تأكل المرقَّقا * لأبي نُخيلة الراجز. انظر "الشعر والشعراء": (2/ 602)، و"الجمهرة" (ص 1329).

أقول: المعروف عن الأصمعي ومن تبعه أن لا يقال "مالح" لا في الماء ولا في السمك ونحوه. وذكر ابن السِّيد في "الاقتضاب" (ص 116) ذلك، ثم نقضه بعدَّة حُجَج أثبت بها أنه يقال: "سمك مالح" و"شجر مالح"، ثمّ قال: "وحكى عليّ بن حمزة عن بعض اللغويين أنه يقال: ماء ملح، فإذا وصف الشيء بما فيه من الملوحة قلت: سمك مالح، وبقلة مالحة، قال: ولا يقال: ماء مالح؛ لأن الماء هو الملح بعينه. وهذا قول غير معروف، وهو مع ذلك مخالف للقياس؛ لأن صفة الماء بأنه مالح أقرب إلى القياس من وصف السمك؛ لأنهم قالوا: مَلُح الماءُ وأمْلَح، فأسندوا إليه الفعل كما يُسند إلى الفاعل، ولم يقل أحد: ملح السمك، إنما قالوا: ملَحْتُ السمكَ، إذا جعلتَ فيها الملح". ثم قال: "وأنشد أبو زياد الأعرابي قال: أنشدني أعرابيٌّ فصيح: صَبَّحن قوًّا والحمامُ واقعُ ... وماءُ قوًّ مالحٌ وناقع (¬1) " وفي "اللسان" (¬2) عن ابن الأعرابي: "ماء أجاج ... وهو الماء المالح". وعن الجوهري: "ولا يقال: مالح، قال أبو الدُّقَيش: ماء مالح ومِلْح". ثم قال: "قال ابن برّي: قد جاء المالح في أشعار الفصحاء ... وقال عمر بن أبي ربيعة: ولو تَفَلت في البحر والبحرُ مالح ... لأصبح ماء البحر من ريقها عذبا قال ابن برّي: وجدت هذا البيت المنسوب إلى عمر بن أبي ربيعة في شعر أبي عيينة محمد (¬3) ابن أبي صُفرة .... ". ¬

_ (¬1) البيت في "مقاييس اللغة": (5/ 347)، و"اللسان": (2/ 599). (¬2) (2/ 599). (¬3) كذا في "اللسان" وصوابه: "أبي عيينة بن محمد". انظر التعليق على "التنكيل": (1/ 685).

أقول: والحاصل أن قولهم: "ماء مالح" ثابت عن العرب الفصحاء نصًّا، وثابت قياسًا، لكن أكثر ما يقولون: "ملح"، ولما غلب على ألسنة الناس في عصر الشافعي "مالح" أتى بها الشافعيُّ في كتبه؛ لأنه كان يتحرَّى التقريب إلى فهم الناس كما يأتي عن الربيع (¬1). [ص 3] قال الأستاذ: "وقوله: ثوب نسوي لفظة عامية". أقول: هذا أيضًا لم يذكر ما يثبته عن الشافعي، ولم أجده في مظانه، ومع ذلك فإن كان نسبةً إلى (النساء) ففي "القاموس" و"شرحه" (¬2): "قال سيبويه في النسبة إلى نساء: نِسْوي". وإن كان نسبة إلى بلد (نسا) فقد قال ياقوت (¬3): "والنسبة الصحيحة إليها: نَسائي وقيل: نَسَويّ أيضًا، وكان من الواجب كسر النون". كذا قال، ونسويّ هو القياس كما لا يخفى. قال الأستاذ: "وقوله: العَفْريت - بالفتح - مما لم يقله أحد". أقول: ولا قاله الشافعي، ولو قاله لعددناها لغةً لبعض العرب. قال: "وقوله: أشْلَيت الكلبَ، بمعنى زجرته، خطأ صوابه أن ذلك بمعنى أغريته كما قال ثعلب وغيره". أقول: لم يكفِ هذا المعترض الأنْوَك (¬4) أنْ كذَب على الشافعي حتى كذَب على ثعلب وغيره أيضًا، والموجود في كتب الشافعي استعمال ¬

_ (¬1) وانظر: "التنكيل": (1/ 408). (¬2) "تاج العروس": (20/ 238). (¬3) "معجم البلدان": (5/ 282). (¬4) أي: الأحمق.

الإشلاء بمعنى الإغراء، وثعلب إنما زعم أنه بمعنى أن تدعوه إليك، فأما الإغراء فإنما يقال: آسدته". وصحح غيرُه استعمال "أشليته" بمعنى أغريته وبمعنى دعوته. أقول: وقد يكون أصله بمعنى الدعاء فيشمل ما إذا دَعَوتَه إليك وكان نائمًا مثلًا، وما إذا دَعَوتَه ليحمل على الصيد، فالأول هو الدعاء والثاني يتضمّن الإغراء والثالث يتضمّن الزجر، والقرينة تبيّن المراد. والذي في كلام الشافعي الإغراء كما في قول الشاعر: قَصَدْنا أبا عمرو فأشلى كلابَه ... علينا فكِدْنا بين بيتيه نؤكل (¬1) قال (¬2) الأستاذ: "وقوله في (مختصر المزني): وليست الأذنان من الوجه فيغسلان. والصواب: فيغسلا". أقول: عليه في هذا أمور: الأول: أن النصب في مثل هذا إما ممتنع وإما مرجوح، وفي "الهمع" (2/ 12): "وإن تقدمت جملة اسمية نحو: ما زيد قادم فيحدثنا، فأكثر النحويين على أنه لا يجوز النصب؛ لأن الاسمية لا تدل على المصدر. وذهب طائفة إلى جوازه، وقال أبو حيان: الصحيح الجواز بشرط أن يقوم مقام الفعل ظرف أو مجرور .... ". ¬

_ (¬1) البيت لزياد الأعجم. انظر "مقاييس اللغة": (3/ 210)، و"الصحاح": (6/ 2395). (¬2) من هنا إلى قوله " ... يجزمون بها" كتبه المؤلف في ورقة مفردة لتلحق في مكانها، لكنها ضلَّت طريقها فوضعت في آخر النسخة، وجُلد المخطوط فاستقرت الورقة في المكان الخطأ!

فإن قيل: بأنّ "ليس" فعل. قلتُ: هي فعل جامد فلا دلالة فيها على المصدر، فأما دلالتها على النفي فهي كدلالة حرف النفي، بل قال جماعة: إن النصب بعد الفاء مطلقًا ليس بواجب. وقال الرضي في "شرح الكافية" (2/ 245): "وقد يبقى ما بعد فاء السببية على رفعه قليلًا، كقوله تعالى: {وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 36]. وقوله (¬1): * ألم تسأل الرَّبْعَ القواء فينطق * وقوله (¬2): * لم تَدْرِ ما جزعٌ عليك فتجزعُ * جاء جميع هذا على الأصل، ومعنى الرفع فيه كمعنى النصب لو نصب .... جاز لك أن لا تصرف في المواضع المذكورة إلى النصب اعتمادًا على ظهور المعنى ... ". ومع هذا فقد جاء إهمال "أن" مضمرة وظاهرة، وعدّ ابنُ هشام (¬3) من الأوّل قول الله عزَّ وجلَّ: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ} [الزمر: 64]، وقوله: ¬

_ (¬1) صدر بيت عجزه: * وهل تُخبرَنْك اليومَ بيداءُ سَلْمق * انظر "اللسان": (1/ 300)، و"خزانة الأدب": (8/ 527). (¬2) عجز بيت صدره: * فلقد تركتِ صغيرةً مرحومةً * من قصيدة لمويلك المزموم. انظر "الحماسة": (1/ 439) لأبي تمام. (¬3) في "مغني اللبيب": (2/ 839 و1/ 46).

{وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ} [الروم: 24]. ومن الثاني قراءة ابن محيصن: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233]. وفي "الهمع" (2/ 3): "قال الرؤاسي من الكوفيين: فصحاء العرب ينصبون بـ "أنْ" وأخواتها الفعلَ، ودونهم قوم يرفعون بها، ودونهم قوم يجزمون بها". [ص 4] الثاني: أن المزني لم يسق عبارات الشافعي بنصها، فقد قال أول "المختصر" (¬1): "اختصرت هذا الكتاب مِنْ عِلْم محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله ومن معنى قوله؛ لأقرّبه على من أراده". وربما صرح بنسبة بعض ما ينقله عن الشافعي إلى بعض كتب الشافعي المطبوعة في "الأم" فإذا قابلنا العبارتين وجدناهما مختلفتين. فقول المعترض: "وقوله ... " يعني الشافعي جهل أو مجازفة. الثالث: أن النساخ لم يزالوا من قديم الزمان يخطئون ويزيدون وينقصون؛ فنسبة عدم حذف النون إلى المزني يتوقّف على وجودها في النسخة التي بخطه (¬2). الرابع: قول المعترض: "يغسلا" لحن عند النحويين، والصواب "تغسلا"؛ لأن الأذن أنثى، وقد قالوا في قول الشاعر (¬3): ¬

_ (¬1) (ص 1). (¬2) زاد في التنكيل: "أو على نص ثقة سمع منه أنه قالها". (¬3) هو عامر بن جُوين الطائي. وصدره: * فلا مزنة ودَقَت وَدْقها * والبيت في "الكامل" للمبرد: (2/ 841)، وانظر هامشه.

* ولا أرضَ أبْقَلَ إبقالَها * وقول الآخر (¬1): إن السماحة والشجاعة ضُمِّنا ... قبرًا بمرو على الطريق الواضح إنه ضرورة شعرية مع تأويل الأرض بالمكان، والسماحة والشجاعة بالجود والبأس مثلًا، [ص 5] ولا ضرورة في النثر، ولا يسوغ التأويل بعد النص على التأنيث في قوله: "ليست" وكذلك مع التصريح بالتأنيث لا يتّجه الحمل على مذهب الكوفيين من جواز نحو: الشمسُ غَرَب. فإن زعم أنها كذلك في "مختصر المزني": "فيغسلان" وأن المعترض لم يخف عليه ما ذكرنا لكنه سامَحَ في ذلك لاحتمال أن يكون التصحيف من النسّاخ. قلنا: فكذلك إثبات النون على فرض أنه لحن. ثم قال الأستاذ: "ولفظ الشافعي إثبات النون، وحَذْفها من تصرّف الطابع، وأمانته في العلم كأمانته ... ". أقول: قوله: "ولفظ الشافعي" مجازفة كما مرّ. وقوله: "وحذفها من تصرف الطابع" مجازفة من وجهين: الأول: أن الأستاذ لم يراجع الأصول القَلَمية المطبوع عنها وإلا لصرّح بذلك، وهبه راجعها فقد يكون إسقاط النون من تصرّف ناسخ المسودة ولم ¬

_ (¬1) هو زياد الأعجم من قصيدة في رثاء المغيرة بن المهلب. انظر "الأغاني": (15/ 371) و"الشعر والشعراء": (1/ 431).

يتضح ذلك عند المقابلة على الأصول، كما يقع مثل ذلك كثيرًا. الوجه الثاني: أن الذي في خاتمة طبع "الأم" أن القائم بالتصحيح مصححو دار الطباعة: نصر (¬1) بن محمد العادلي، ومحمد البلبيسي، ومحمود حسن زناتي. ولعل مع هؤلاء غيرهم. ولم يذكر لصاحب العزة أحمد بك الحسيني إلا أن الطبع على نفقته. ومع هذا كله فلم يزل المصححون للكتب - والأستاذ منهم - يصلحون ما يتبيّن لهم أنه خطأ في الإعراب، حملًا على أن ذلك من النسّاخ كما عُرِف من عادتهم حتى في كتاب الله عزَّ وجلَّ. وجرت عادة المصحّحين في مصر على مثل ذلك الإصلاح بدون تنبيه في الحواشي على ما كان في الأصل أو بعض الأصول، ولو تُتُبَّعتْ [ص 6] الأصولُ القَلَمية التي طُبِعت عنها الكتب التي صَحّحها الأستاذ لوُجِد فيها من ذلك شيء كثير إن لم يوجد فيها ما يثبت المحذور حقًّا. وأول ما نقله في "التأنيب" عن "تاريخ الخطيب" قوله ص 15: "رأى أبو حنيفة أنس بن مالك ... ". وكلمة "أبو حنيفة" ليست في التاريخ. ونقل ص 37 عبارة عن التاريخ حذف منها كلمة "بن محمد" وزاد كلمة "قال". ونقل ص 38 عن التاريخ عبارة فحذف منها كلمة "مؤمن". وليس مقصودي الاعتراض في هذه الأمثلة على الأستاذ؛ فإن هذه الأمور وأمثالها لا يسلم منها الإنسان، ولعله قد وقع لي أمثالها أو أشدّ منها! على أنه قد وقع للأستاذ ما يمسّ الأمانة مسًّا واضحًا، ومرّ أمثلة من ¬

_ (¬1) في "التنكيل": "نصري".

ذلك في "الطليعة" (¬1)، ومع ذلك كابر في "الترحيب" (¬2) مكابرةً مكشوفة، كما ترى ذلك في مواضعه من هذا الكتاب (¬3). واغتياظ الأستاذ من السيد الحسيني لطبعه بعض كتب الشافعية يُنبئ عن هوًى مُطْبق وغلوٍّ مفرط. وقد وقفتُ على "مُنية الألمعي" للعلامة قاسم بن قُطلوبغا الحنفي ومقدمة الأستاذ عليها، وتصفّحت ما فصَّله قاسم من الأغلاط الكثيرة التي كانت في نسخة الزيلعي، ومع ذلك أصلحها أحباب الكوثري في الطبع بدون تنبيه، فاعتذر الأستاذ في المقدمة بقوله: "وفي عداد تعقبات العلامة الحافظ قاسم أمور قد ينتبه إليها الفَطِن بنفسه لظهور أنها من قبيل سَبْق القلم، فيوجد بعض ما هو من هذا القبيل على الصحة في النسخة المطبوعة؛ لأن الانتباه إلى الصواب مِن فضل الله سبحانه؛ وفضل الله لا يكون وقفًا على أحد". فترى الأستاذ يناقش طابع كتاب الشافعي في حرف واحد، ويعدّ فعله خيانة، أما تصرّف أحباب الكوثري الكثير ... (¬4) في كتاب الزيلعي بدون تنبيه فيعدّه من فضل الله عليهم. ولا ريب أن الأستاذ يرى فضل الله عزَّ وجلَّ عليه أعظم من فضله على أولئك المتقدمين بدرجات كثيرة، فكم نراه يتصرّف في الكتب التي يطبعها مستندًا إلى أن ذلك من فضل الله عزَّ وجلَّ عليه! ¬

_ (¬1) انظر (ص 5 - وما بعدها). (¬2) (ص 318 وما بعدها - مع التأنيب). (¬3) يعني "التنكيل" وذلك باعتبار هذه الرسالة كانت جزءًا من التنكيل ثم أفردها المؤلف. (¬4) كلمة غير واضحة.

قال الأستاذ (¬1): "وقوله: الواو للترتيب، والباء للتبعيض، مما لا يعرفه أحد من أئمة اللسان، بل الأولى للجمع مطلقًا، والثانية للإلصاق". أقول: هذه مجازفة قبيحة، أما في الواو فمن وجهين: الأول: زعم أن الشافعي قال: "الواو للترتيب" ولم يقل الشافعيُّ هذا قطّ ولا ما يؤدّي معناه. فأما إيجابه ترتيب الوضوء فهذه عبارته كما في "الأم" (¬2): "قال الله عزَّ وجلَّ: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] قال: وتوضأ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم كما أمره الله عزَّ وجلَّ، وبدأ بما بدأ الله تعالى به، قال: فأشبه - والله تعالى أعلم - أن يكون على المتوضئ شيئان: أن يبدأ بما بدأ الله ثم رسوله عليه الصلاة والسلام منه ... فمن بدأ بيده قبل وجهه [ص 7] ... كان عليه عندي أن يعيد ... وإنما قلت: يعيد، كما قلتُ وقال غيري في قول الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158]، فبدأ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم بالصفا وقال: "نبدأ بما بدأ الله به" (¬3). ولم أعلم خلافًا أنه لو بدأ بالمروة ألغى طوافًا حتى يكون بدؤه بالصفا. وكما قلنا في الجمار: إن بدأ بالآخرة قبل الأولى أعاد حتى تكون بعدها، وإن بدأ بالطواف بالصفا والمروة قبل الطواف بالبيت أعاد، فكان الوضوء في هذا المعنى أوكد من بعضه عندي، والله أعلم". ¬

_ (¬1) (ص 50). (¬2) (2/ 65). (¬3) أخرجه مسلم (1218) بلفظ: "أبدأ بما ... ".

فلم يزعم الشافعي أن الواو للترتيب ولكنه نظر إلى قاعدة التقديم والتأخير وإلى البيان الفعلي من النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم مع ... (¬1) ظنية على ذلك، فقد تقرّر في علوم البلاغة أن تقديم ما لا يقتضي التركيب تقديمه يحتاج في الكلام البليغ إلى نكتة، والقرآن أبلغ الكلام، فتقديمه في آية الوضوء الوجهَ على ما عداه، واليدين على الباقي، والرأسَ على الرجلين لا بدّ له من نكتة. ويرى الشافعي أنه إذا كان المجموع عبادة واحدة فأظهر النُّكت هي أنه ينبغي الترتيب كذلك، واحتج على هذا بحديث: "نبدأ بما بدأ الله به" ودلالته على ذلك ظاهرة، وعلى هذا فهذه هي النكتة الظاهرة في مثل هذا فلا يُعدَل عنها إلا بدليل. الوجه الثاني: زَعْم المعترض أنه لا يعرف أحدٌ من أئمة اللسان أنَّ الواوَ للترتيب فيه مجازفة؛ فقد نُقِل القولُ بأنها للترتيب عن قُطْرب والربعي والفرّاء وثعلب وأبى عمر الزاهد (¬2) وهشام. ذكر ذلك ابنُ هشام في "المغني" (¬3) وذكر معهم الشافعي، فردّه الأمير بقوله "لا يكفي في [ص 8] هذه النسبة مجرّد قوله بالترتيب في الوضوء لأن له دليلًا آخر". وأقول: يمتنع أن يخفى على الأئمة المذكورين ما جاء في الكلام البليغ وفي كلام الفصحاء مما يبطل أن تكون الواو للترتيب بمنزلة (الفاء وثم)، فيظهر أنهم إنما أرادوا أن الظاهر معها في الكلام البليغ هو الترتيب، ومرجع ¬

_ (¬1) كلمة غير محررة في الأصل. (¬2) تحرف في "التنكيل" إلى "الزاهي". (¬3) (ص 464 - دار الفكر).

ذلك في التحقيق إلى قاعدة التقديم والتأخير كما مرّ إيضاحه، وعلى هذا فلا قائل بأنها للترتيب، ولا مُنكر من أئمة اللغة لقاعدة التقديم والتأخير. وبهذا يرتفع الخلاف البتة، والله الموفق. وأما الباء فمن وجهين أيضًا: الأول: زعم أن الشافعي قال: "الباء للتبعيض" ولم يقل الشافعي هذا، وهذه عبارته في "الأم" (1/ 22) (¬1): " ... كان معقولًا في الآية أن مَن مسح مِن رأسه شيئًا فقد مسح برأسه، ولم تحتمل الآية إلا هذا، وهذا أظهر معانيها، أو مسح الرأس كله، ودلّت السنةُ على أنه ليس على المرء مسح الرأس كله ... ". وهذا قد يأتي على كون الباء للإلصاق، فقد مثّل له أهلُ العربية بقولهم: "أمسكت بزيد". ولا يخفى أن معناه إلصاق اليد ببعض بدنه. لكن انظر إلى ما زعَمَه بعض الحنفية: أن التقدير "وامسحوا أيديكم برؤوسكم"، ففيه نظر من جهات: منها أن تقدير "أيديكم" لا حجة عليه، فلماذا لا يكون المقدَّر عامًّا، فيصدق بمسح أيِّ شيء كان بالرأس، ومن ذلك طرف الإصبع، وبذلك يتحقَّق قول الشافعي. ومنها: أن الباء في "مسحت ذا بكذا" باء الآلة كما لا يخفى، وهي تعطي أن الآلة غير مقصودة لذاتها وإنما المقصود غيرها، وذلك كقولك: مسحتُ يدي بالمنديل، [ص 9] فيلزم من ذلك أن يكون المقصود فيما لو كان التقدير: "وامسحوا أيديكم برؤوسكم"، هو تنشيف الأيدي؛ فعلى هذا يكون تنشيفها ¬

_ (¬1) (2/ 56).

بعد غسلها فرضًا. غايةُ الأمر أن النصّ على الآلة الخاصة وهي الرأس يدلّ على تعيّنها فيدل أنها مقصودة أيضًا، وهذا لا ينفعهم؛ لأن الفرض حينئذٍ يكون هو تنشيف اليد بالرأس، فلا بد من تحقق ما يحصل به تنشيف اليد بالرأس. ثم إذا أمكن تنشيفها بقدر إصبع من الرأس كفى، كما لو نشّف يده بقَدْر إصبع من المنديل، بأن يمرّ بعض اليد على ذاك القدر ثم بعض آخر وهكذا. وقد اضطرب الحنفيةُ في تطبيق مذهبهم على الآية اضطرابًا شديدًا راجع "روح المعاني" (2/ 257 - 258). الوجه الثاني: قول المعترض: إن القول بأن الباء قد تجيء للتبعيض لا يعرفه أحدٌ من أئمة العربية؛ مردود فقد قال ابن هشام في "المغني" (¬1): "أثبت ذلك الأصمعي والفارسي والقتبي وابن مالك، قيل: والكوفيون". فتدبّر ما تقدّم ثمّ فكِّر في سير هؤلاء القوم في الطعن في فصاحة الشافعي تجده من جهةٍ أحثّ سير وأنصبه وأتعبه، ومن جهةٍ أخرى كالإنسان الذي يقف في مكان لا يجاوزه ولكن يرفع رجليه ويضعهما كهيئة الماشي بأقصى ما يمكنه من السرعة، فينصب نفسَه (¬2) أشدّ النصب وهو لم يقطع من الأرض مقدار أصبع واحد! وقدِّر ما يصيب هذا (¬3) الخائب من الحسرة إذا كان يتوهَّم أنه يسير ويقطع الأرض ينضو إلى مطلوبه، ثمّ لمّا بلغ به الإعياء كلّ مبلغ وخارت ¬

_ (¬1) (ص 142). (¬2) تكررت في الأصل. (¬3) هذه الكلمات الثلاث غير محررة في الأصل، وهذا ما استظهرته.

قواه وسقط على الأرض سُئل عن حاله وتبيّن له أنه لم يقطع من الأرض مقدار أصبع!! ثم انظر ألا يكون هذا أوضح حجة على فصاحة الشافعي؟ والعلماء يعرفون أن في لغة العرب اتساعًا تضيق عنه قواعد النحو أو تكاد، حتى إن في القرآن مواضع يصعب تطبيقها على تلك القواعد، كقوله تعالى: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [النساء: 162]، وقوله: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} [طه: 63]، وقوله: {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ} [الزخرف: 88]، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ} [المائدة: 69]، وقوله: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ} [البقرة: 177] وغير هذا، حتى ألَّف بعض أهل العلم في مشكل إعراب القرآن خاصة. ولولا العلم اليقيني بأنه يستحيل أن يكون في القرآن لحن لَجَزم كثير من المتقيّدين بقواعد النّحاة بأن كثيرًا من تلك المواضع لحن. بل قد روي عن بعض المتقدمين أنه زعم أن الكاتب أخطأ! وأُجيب عن ذلك بما هو معروف (¬1). ومما يُجاب به عن ذلك: أن القائل بأنه خطأ غَفَل عن تقدير معنويّ يصحّ به ذلك اللفظ، أو جَهِل لغة قبيلة من العرب غير قبيلته، ثم ظن أن القائل له: "هي في المصحف كذا" إنما عني مصحفًا خاصًّا لا المصحف الإمام، أو لم يكن قد بلغه العناية التي قِيمَ بها في المصحف الإمام. ولا مانع أن يخفى التواتر عن رجل، كما يقال: إنه خفي على ابن مسعود في شأن المعوّذتين (¬2). ¬

_ (¬1) انظر "جامع البيان": (7/ 684 و17/ 240) للطبري. (¬2) أخرجه البخاري (4977)، وأحمد (21181 و21186).

والمقصود هنا أن في القرآن مواضع كثيرة تشكل فصاحتها على كثير من الناس، فما الظنّ بعربيّ فصيح نُقِل عنه كلام كثير جدًّا؟! فإذا تدبّرت هذا ثم تدبّرت ما تقدّم وأنعمتَ النظر اتضح لك حالُ الشافعي في فصاحته. ثم اسمع الآن بعض الثناء عليه بالفصاحة، فمما ذكره الحافظ ابن حجر في "توالي التأسيس" (¬1) - ومن عادته أن لا يجزم إلا بما كان ثابتًا -: "قال زكريّا الساجي: حدثنا جعفر بن أحمد قال: قال أحمد بن حنبل: كلام الشافعي في اللغة حُجّة". "قال داود بن عليّ إمام أهل الظاهر في "مناقب الشافعي" له: قال لي إسحاق بن راهويه: ذهبت أنا وأحمد بن حنبل إلى الشافعي بمكة فسألته عن أشياء، فوجدته فصيحًا حسن الأدب، فلما فارقناه أعلمني جماعة من أهل الفهم بالقرآن أنه كان أعلم الناس في زمانه بمعاني القرآن، وأنه قد أوتي فيه فهمًا ... " (¬2). [ص10] "وقال ابن أبي حاتم عن الربيع قال: قال ابن هشام (صاحب السيرة وهو من أهل العلم بالعربية): الشافعي ممن يؤخذ عنه اللغة. قال ابن أبي حاتم: وحُدِّثتُ عن أبي عبيد القاسم بن سلام نحوه. وقال أيضًا: سمعت الربيع يقول: كان الشافعي عربي النفس واللسان. قال: وكتب إليَّ عبد الله بن أحمد قال: قال أبي: كان الشافعي من أفصح الناس. وقال الساجي: سمعت ¬

_ (¬1) كذا أثبت المؤلف اسم الكتاب كما هو في طبعته الأولى، وصواب اسمه "توالي التأنيس" بالنون كما نص عليه تلميذه السخاوي في "الجواهر والدرر": (2/ 682). والنص فيه (ص 85 - ط. دار الكتب). (¬2) انظر "توالي التأنيس" (ص 90).

جعفر بن محمد الخوارزمي يحدَّث عن أبي عثمان المازني عن الأصمعي قال: قرأتُ شِعر الشَّنْفَرى على الشافعي بمكة. وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا عبد الرحمن بن أخي الأصمعي: قلنا لعمّي: على مَن قرأت شعرَ هذيل؟ قال: على رجل من آل المطلب يقال له: محمد بن إدريس" (¬1). "وقال أبو عبد الله محمد بن إبراهيم البوشنجي: تصفحنا أخبار الناس فلم نجد بعد الصدر الأول من هذه الأمة أوضح شأنًا، ولا أبين بيانًا، ولا أفصح لسانًا من الشافعي، مع قرابته من رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم" (¬2). "وقال الحاكم: سمعت محمد بن عبد الله الفقيه: سألت أبا عمر غلام ثعلب عن حروف أُخِذَت على الشافعي، مثل قوله: "ماء مالح". ومثل قول: "انبغى أن يكون كذا وكذا"؟ فقال لي: كلام الشافعي صحيح. وقد سمعت أبا العباس ثعلبًا يقول: يأخذون على الشافعي، وهو من بيت اللغة يجب أن يؤخذ عنه" (¬3). "وقال الآبري: أخبرنا أبو نعيم الإستراباذي: سمعت الربيع بن سليمان يقول مرارًا: لو رأيتَ الشافعيّ وحسن بيانه وفصاحته لعجبت منه، ولو أنه ألَّف هذه الكتب على عربيّته التي كان يتكلّم بها معنا في المناظرة لم يُقْدَر على قراءة كتبه لفصاحته وغرائب ألفاظه، غير أنه كان في تأليفه يجتهد أن يوضّح للعوام" (¬4). ¬

_ (¬1) هذه الأخبار في "توالي التأنيس" (ص 96 - 97). (¬2) المصدر السابق (ص 101). (¬3) المصدر السابق (ص 103). (¬4) المصدر السابق (ص 151).

فصل

[ص11] فصل [زَعْم الكوثري: تتلمذ الشافعي على محمد بن الحسن] يحاول الأستاذ أن يثبت أن الشافعي تلميذ محمد بن الحسن، ولا أرى حاجة إلى الكلام معه في كلِّ عبارة، ولكني ألخص هذا البحث فأقول: ثبت بالروايات الجيّدة أن الشافعي شرع في طلب العلم وسِنّه نحو عشر سنين، وذلك نحو سنة 160، فأخذ عن علماء مكة والمدينة، وخرج مرة أو أكثر إلى اليمن، وأقام بالبادية مدّة، وكان فيمن أخذ عنه من الفقهاء بمكة مَن كان على طريقة أهل العراق كسعيد بن سالم القدّاح. وكان الشافعيّ يبحث مع مَن يقدم مكة من علماء الآفاق. وفي "توالي التأسيس" (ص 58) (¬1): "قال زكريا الساجي: حدثنا الزعفراني قال: حجّ بشر المريسي [الحنفي] سنة إلى مكة، ثم قدِم فقال: لقد رأيت بالحجاز رجلًا ما رأيت مثله سائلًا ولا مجيبًا - يعني الشافعي -. قال: فقدِم الشافعيُّ علينا بعد ذلك فاجتمع إليه الناس، فجئت إلى بِشر فسألته فقال: إنه قد تغيّر عما كان عليه ... ". وفيها (ص 56) (¬2) "وأخرج الآبري من طريق الزعفراني قال: كنا نحضر مجلس بشر المريسي فكنّا لا نقدر على مناظرته، فقدم الشافعي فأعطانا كتاب الشاهد واليمين، فدرسته في ليلتين، ثم تقدّمت إلى حَلْقة بشرٍ فناظرته فيه فقطعته، فقال: ليس هذا من كيسك، هذا من كلام رجل رأيته بمكة معه نصف عقل أهل الدنيا". ¬

_ (¬1) (ص 91). (¬2) (ص 81).

فواضح أن اجتماع بشر بالشافعي كان قبل ورود الشافعي بغداد لأول مرة وإلا لِمَ احتاج إلى أن يقول "بالحجاز رجلًا" أو "كلام رجل رأيته بمكة" بل كان يسميه لأنهم قد عرفوه. والمقصود أن الشافعي بقي نحو عشرين سنة في طلب العلم وكتابته والمناظرة فيه بمكة والمدينة وما [ص 12] حولهما، ثم تولى بعض الولايات باليمن وكان يقضي ويفتي. وفي "توالي التأسيس" (ص 78) (¬1): "قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن إدريس ورّاق الحميدي، حدثنا الحميدي قال: قال الشافعي: .... ثم وليت نجران وبها بنو الحارث بن عبد المدان وموالي ثقيف .... وتظلّم عندي ناس كثير، فجمعتهم وقلت: اجمعوا لي سبعة يكون مَن عدّلوه عدلًا ومَن جرّحوه مجروحًا، ففعلوا .... حتى أتيت على جميع الظلامات، فلما انتهيت جعلت أحكم وأسجّل .... حتى حُمِلت إلى العراق، وكان محمد بن الحسن جيّد المنزلة عند الخليفة، فاختلفتُ إليه، وقلت: هو أولى من جهة الفقه، فلزمته، وكتبت عنه، وعرفتُ أقاويلهم، وكان إذا قام ناظرتُ أصحابَه، فقال لي: بلغني أنك تُناظر فناظرني في الشاهد واليمين، فامتنعتُ، فألحّ عليّ، فتكلّمت معه، فرُفع ذلك إلى الرشيد، فأعجبه ووصلني". وقد ذكر الأستاذ طرفًا من هذه الحكاية ص 184 وثبّتها ثم حمّلها ما لا تطيقه، فمِن جملة ما قاله: "وبها يعلم أيضًا أن محمد بن الحسن بعد أن درّب الشافعي على الأخذ والردّ هكذا رفع حديثه إلى الرشيد". ولا أثر للتدريب في هذه الرواية ولا غيرها، وإنما حقيقة الأمر أن الشافعي جالس محمد بن ¬

_ (¬1) (ص 127 - 128).

الحسن ليأخذ عنه كتب أهل الرأي سماعًا ليعرف أقوالهم، ومغزاه في ذلك أمران: الأول: مغزى كلّ عالم متديّن، وهو أن يعرف أقوالهم وما يحتجّون به، حتى إذا بان له في بعض المسائل حجةٌ لم يكن قد وقف عليها أو خللٌ في حجة كان من قبل يحتجّ بها أخذ بذلك. وهذا لا يستأنف عنه المجتهد المتديّن، فإن غالب حجج الفقه ظنّيات لا يأمن المجتهد أن يكون [ص 13] أخطأ في كثير مما قد قاله وأن يكون عند غيره ما ليس عنده. المغزى الثاني: ما صرّح به في بعض الروايات أنه أراد أن يعرف أقاويلهم وما يحتجون به، ليتمكّن من الردّ عليهم فيما يراه خطأً ومناظرتهم فيه؛ فإن عِماد المناظرة أن يحتجّ على المخالف بأقواله فيبين له تناقضه. وهذا النوع لا تكاد تخلو عنه مناظرة من مناظرات الشافعي معهم، ولو لم يعرف أقاويلهم ما أمكنه ذلك. فلا نزاع أن الشافعي سمع تلك الكتب من محمد، والشافعيُّ باقٍ على مذهبه لم يقلّد محمدًا ولا تابعه متابعة التلميذ المطلق لأستاذه، بل كان محمَّد إذا قام ناظر الشافعيُّ أصحابَ محمد، يقرّر الشافعيُّ مذهبه؛ ليبيّن لأصحاب محمد أنه الصواب. وتأبّيه من مناظرة محمد أوّلًا من كمال عقله ووفور أدبه؛ لأنه كان هو المحتاج إلى سماع تلك الكتب من محمد، ويخاف أن يتكدّر محمدٌ فيتعسّر على الشافعي في تلك الكتب. وفي "توالي التأسيس" (ص 55) (¬1) من طريق الربيع قال: "قال لي ¬

_ (¬1) (ص 78 - 79).

الشافعي: سالت محمد بن الحسن كتابًا فدافعني به، فكتبت إليه: قل لمن (¬1) لم ترعيـ ... ـنا مَن رآه مثلَه ومَن كأنّ مَن رآ ... هـ قد رأى مَن قبله العلمُ ينهى أهلَه ... أن يمنعوه أهلَه لعلّه يبذله ... لأهله لعلّه قال: فحمل محمدٌ الكتابَ في كُمّه وجاءني به معتذرًا من حينه". [ص 14] وقول الأستاذ: "رفع حديثه إلى الرشيد" بناه على أن كلمة "رفع" في الحكاية مبنيّة للفاعل، والذي تدلّ عليه الروايات الأخرى أنها مبنيّة للمفعول وأن الرافع غير محمد. ومما بناه الأستاذ على تلك الحكاية قوله: "فبهذه الرواية يعلم أن ما في "الأم" من محادثات للشافعي مع بعض الناس في مسائل ليس مناظرة للشافعي مع محمد بن الحسن بل مع بعض أصحابه، على خلاف ما توهّمه بعضهم". أقول: من مكارم أخلاق الشافعي وكمال عقله وصدق إخلاصه أن غالب ما يسوقه من المناظرات لا يسمّي مَن ناظره؛ لأن المقصود إنما هو تقرير الحقّ ودفع الشبهات وتعليم طرق النظر. وتسميةُ المناظر يُتوهّم فيها حظّ النفس، كأنه يقول: ناظرتُ فلانًا المشهورَ فقطعته. وفيها غضٌّ ما مِن المناظر فيما يبينه من خطائه واحتجاجه بما ليس بحجة. والواقع أن المناظرات التي في "الأم" منها ما هو مع محمد بن الحسن، ومنها ما هو مع بعض أصحابه في حياته أو بعد وفاته، وربما صرّح الشافعي ¬

_ (¬1) كتب المؤلف بعدها علامة استفهام بين هلالين (؟)، ولعله استشكل وزن البيت.

باسم محمد بن الحسن لفائدة. فقد صرّح الشافعي باسم محمد بن الحسن وأن المناظرة كانت معه في مواضع من كتابه "الرد على محمد بن الحسن" كما تراه في "الأم" (ج 7 ص 278 سطر 1 وص 283 سطر 24 وص 301 سطر 15) (¬1). وذلك أنّ الكتاب معنون بـ "الردّ على محمد بن الحسن" فربما رأى الشافعيّ أن الحاجة تدعو إلى التصريح بأن المناظرة معه توكيدًا للحجة؛ لئلا يقول قائل: إنما تردّ عليه بعد موته، فلعلّه لو كان حيًّا لعرفَ كيف يجيب. [ص 15] وربما بدأ الشافعيّ المناظرةَ مع غير مسمّى ثم احتاج في أثنائها فسمّى محمد بن الحسن، كما تراه في "الأم" (ج 3 ص 106) (¬2) ساق المناظرة مِن غير مسمّى ثم قال في آخر الصفحة: "وقلت لمحمد بن الحسن: أنت أخبرتني عن أبي يوسف عن عطاء بن السائب .... " صرّح به هنا ليتصل إسنادُ ذاك الخبر بالرجال المعروفين، ثم ذكره بعد ذلك في أثناء المناظرة (ص 107 سطر 16) (¬3)؛ لأنه قد عُرِف سابقًا فلم يبق معنًى لإبهامه، وانظر (ج 7 ص 82). وربما لم يسمّه ولكن يكني عنه بما يظهر أنه محمد بن الحسن كما في (ج 1 ص231 وج 4 ص 5 وج 7 ص 79) (¬4). وربما يكون في السياق ما يدل أنه محمد بن الحسن كما في (ج 1 ص 56 ¬

_ (¬1) (9/ 86 و92 و96 و106 - 109). (¬2) (4/ 252). (¬3) (4/ 253). (¬4) هذه المواضع وما بعدها يصعب تحديد الصفحة (من الطبعة الجديدة)؛ لأن المؤلف لم ينقل نصًّا معينًا يمكن البحث عنه.

وج 3 ص 189 وج 4 ص 17 وج 5 ص 119). هذا ومناظرة الشافعي لمحمد بن الحسن في الشاهد واليمين معروفة في تلك الرواية وغيرها، ومع ذلك ذكر الشافعي في "الأم" (¬1) المناظرةَ في هذه المسألة ولم يصرّح باسم محمد بن الحسن. فالتحقيق أن المناظرات التي في "الأم" منها ما هو مع محمد بن الحسن، ومنها ما هو مع غيره، فمنها ما يُعرف أنه مع محمد كما مرّ، ومنها ما يعرف أنه مع غيره كما في (ج 3 ص 195 وص 275) (¬2)، ومنها ما هو على الاحتمال. ولا يلزم من تمنّع الشافعي أوّلًا من مناظرة محمد ألا يكون ناظره بعد ذلك مرارًا، فإن محمدًا اغتبط بمناظرةِ الشافعيِّ، وعرفَ الشافعيُّ إنصافَ محمد فكثرت المباحثةُ بينهما. وفي "توالي التأسيس" (ص 71) (¬3) من طريق "أبي حسان الحسن بن عثمان الزيادي قال: كنت في دهليز محمد بن الحسن فخرج محمد راكبًا، فنظر فرأى الشافعي قد جاء، فثنى رجله ونزل وقال لغلامه: اذهب فاعتذر، فقال له الشافعي: لنا وقت غير هذا [ص 16]، قال: لا، وأخذ بيده فدخلا الدار. قال أبو حسان: وما رأيت محمدًا يعظم أحدًا إعظام الشافعي". ¬

_ (¬1) (8/ 15 وما بعدها). (¬2) انظر الحاشية رقم (4) ص 309. (¬3) (ص 132).

ومن تدبّر مناظرات الشافعي لمحمد وجدها مناظرة الأكفاء، وعلم منها أن الشافعي كان حينئذ مجتهدًا، وأن محمدًا كان مع مكانته من العلم والسنّ والمنزلة من الدولة وكثرة الأتْباع على غاية من الإنصاف في البحث والنظر وإن لم يرجع في كثير من ذلك أو أكثره عن قوله. وكان الشافعي على وفور أدبه وحُسْن معاشرته لمحمد وغيره لا يقصّر في إظهار حجته؛ ومن اللطائف في ذلك ما تراه في "الأم" (ج 6 ص 160) (¬1) ذكر الشافعيُّ مناظرته مع بعض الناس إلى أن قال: "وكانت حجته في أن لا تُقتل المرأةُ على الردّة = شيئًا رواه عن عاصم عن أبي رزين ¬

_ (¬1) (7/ 417). وقال في "التنكيل": (1/ 720): "ومن براعة الشافعي الفائقة ومهارته الخارقة: أنه يجمع في مناظراته بين لطف الأدب وحسن العشرة واستيفاء الحق حتى في التشنيع، ساق في كتاب "اختلاف الحديث" بابًا تراه في هامش "الأم" (ج 7/ ص 105 - 125) في أحكام الماء وفيه ذكر القلتين وغير ذلك الأحاديث ومناظرة مع مَن لم يسمّه، لكن يتبين بالسياق أنها مع محمد بن الحسن إلى أن قال (ص 115): "وقلت له: ما علمتكم اتبعتم في الماء سنةً ولا إجماعًا ولا قياسًا، ولقد قلتم فيه أقاويل لعله لو قيل لعاقل: تخاطأ، فقال ما قُلْتُم لكان قد أحسن التخاطؤ"! ثم ذكر الأحاديث وسأله: أثابتة هي؟ فاعترف بثبوتها فقال (ص 116): "فقلت له: لقد خالفتها كلها وقلت قولًا اخترعته مخالفًا للأخبار خارجًا من القياس، قال: وما هو؟ قلت: اذكر القَدْرَ ... قال: الذي إذا حرك أدناه لم يضطرب أقصاه" فأجابه، ثم ساق الكلام إلى أن قال (ص 120): "قلت ... إني لأحسبكم لو قال هذا غيركم لبلغتم به أن تقولوا: القلم عنه مرفوع! فقال: لقد سمعت أبا يوسف يقول: قول الحجازيين في الماء أحسن من قولنا، وقولنا فيه خطأ"، ثم ساق إلى أن قال: (ص 121 - 122): "فقال: ما أحسن قولكم في الماء؟ قلت: أفترجع إلى الحسن؟ فما علمته رجع .... ".

عن ابن عباس رضي الله عنهما في المرأة ترتدّ عن الإِسلام: تُحبَس ولا تُقتل. وكلّمني بعض من يذهب هذا المذهب وبحضرتنا جماعة من أهل العلم بالحديث، فسألناهم عن هذا الحديث، فما علمتُ واحدًا منهم سكت عن أن قال: هذا خطأ، والذي روى هذا ليس ممن يُثبت أهلُ العلم حديثَه، فقلت له: قد سمعت ما قال هؤلاء الذين لا شكّ في علمهم بحديثك، وقد روى بعضهم عن أبي بكر أنه قتل نِسوة ارتددن عن الإِسلام فكيف لم تصرْ إليه؟ قال: إني إنما ذهبت في ترك قتل النساء إلى القياس ... ". فكأنّ الشافعي كان متوقعًا البحث في ذاك المجلس في حكم المرتدّة، وعَلِم أن مناظره سيحتجّ بحديث أبي حنيفة عن عاصم، وكره الشافعيّ أن يقول هو في أبي حنيفة ما يسوء القوم، فأحضر الشافعيُّ معه مَن لا نزاع في معرفتهم بالحديث ورُواته؛ حتى إذا جاء ذاك الحديث سألهم ليكون الغضُّ [ص 17] من أبي حنيفة منهم، فتقوم حجةُ الشافعي، ويسلم بما يتوقّاه من سوء العشرة. وأعجب من هذا أن الشافعي حاول الجري على هذه الطريقة بعد أن فارق القومَ ومضت على ذلك مدة، فأثبت الحكايةَ في كتابه على ما مرّ لم يعرض فيها تسمية أبي حنيفة، بل حاول أن يعمِّيه حتى كأنه لا شأن له بذلك الحديث ولا بكلام أولئك الذين حضروا من أهل المعرفة بالحديث. وقد ذكر البيهقي في "السنن" (8/ 203) حكاية الشافعي، فقال صاحبُ "الجوهر النقي": "أبو رزين صحابي، وعاصم وإن تكلّم فيه بعضهم، قال الدارقطني: في حفظه شيء، وقال ابن سعد: ثقة إلا أنه كثير الخطأ في حديثه.

فإن ضعّفوا هذا الأثرَ لأجله فالأمر فيه قريب فقد وثّقه جماعةٌ، خرّج له في "الصحيحين" مقرونًا بغيره، وخرّج له الحاكم في "المستدرك" وابن حبان في "صحيحه". وإن ضعّف لأجل أبي حنيفة فهو وإن تكلّم فيه بعضُهم فقد وثّقه كثيرون وأخرج له ابن حبان في صحيحه ... " (¬1). ولا يشك عالمٌ أن قول الجماعة: "الذي روى هذا ليس ممن يُثبتُ أهلُ العلمِ حديثَه" لا يصلح أن يُراد به عاصم، فإن حال عاصم عندهم أعلى من ذلك، وقد قال أحمد وأبو زُرعة: "ثقة"، فأما أبو حنيفة فالكلام في روايته وخاصة لهذا الحديث معروف، ومنزلته عند ابن حبان تُعرف مما قاله في "الضعفاء" (¬2). وقد نقل الأستاذ بعضه كما يأتي في ترجمة محمد بن حبان (¬3). ومع هذه المجاملة الشريفة من الشافعي وأنه قائل تلك الكلمة التي يبالغ بعض الناس فيقول: تكاد تكون هي رأس مال الحنفية: "الناسُ عيال في الفقه على أبي حنيفة"، وعَرْضه أقوال أهل الرأي مع أقوال فقهاء أهل الحديث جنبًا لجنب وكانت قبله مهجورة، حتى إن ابن المبارك ذكر شيئًا (¬4) في كتبه فلم يزل به الناس حتى جاء عنه أنه قال في أواخر عمره: "لأن عشت لأخرجنّ أبا حنيفة من كتبي" (¬5). وحتى تذاكر أهلُ العلم في مسألةٍ فقال ¬

_ (¬1) وقد أطال المؤلف في "التنكيل": (1/ 734) في نقد ابن التركماني. (¬2) "الضعفاء والمجروحون": (3/ 61 - 73). (¬3) من "التنكيل": (1/ 745)، وانظر"التأنيب" (ص 145). (¬4) غير محررة في الأصل ولعلها ما أثبت. (¬5) "تاريخ بغداد": (13/ 443).

أبو عبيد: "قال أبو حنيفة"، فأنكر عليه الأسود بن سالم أشدّ الإنكار، كما ترى في ترجمة الأسود (¬1). أقول: إنه مع هذا كان جزاء الشافعي في ذلك كله من الأستاذ ما ترى بعضه في هذه الترجمة، حتى إنه حاول الطعن في نَسَبِه المجمع عليه؟! وحَسْبكمُ هذا التفاوتُ بيننا ... وكلُّ إناءٍ بالذي فيه ينضحُ (¬2) دع كثرة المؤلفين في مناقب أبي حنيفة من الشافعية! فأما الخطيب فإنما سرد أقوال الناس [ص 18] في الغضِّ كما ساق ما روي في المناقب، وذاك واجبه من جهة أنه مؤرّخ ومحدّث، ومع ذلك فأعرض سائر الشافعية عما نقله الخطيب، بل منهم مَن عارضه، ومنهم من ردّ عليه كما حكاه الأستاذ. ولما تعرّض للردّ عليه الملك عيسى ومأجوره ابن قُزْغلي - وفي ردّهما ما فيه من التهافت - لم يعرض لهما أحدٌ من الشافعية بل استمروا على مجاملتهم التي قد تبلغ في بعضهم أن تكون إدهانًا واضحًا! وكذلك لما أشيع ذلك الكتيب المجهولُ مؤلِّفُه "كتاب التعليم" - وفيه ما فيه من الطعن في الشافعي وغيره - مرّ به الشافعيةُ مرور الكرام، وأقصى ما كان منهم أنْ ذَكَر بعضُهم أن مؤلفه مجهول. وكأنّ الأستاذ اغترّ بتلك المجاملة والإدهان فظنّها استكانة لا حَراك بعدها؛ فجاء بما جاء به, ولم يدر أن للصبر حدًّا، وأن للحق أنصارًا، وأن وراء الأكمة رجالًا! ¬

_ (¬1) من "التنكيل" رقم (54). (¬2) البيت للحيص بيص في "ديوانه": (3/ 404) ضمن أبيات.

فصل

وعلى كلِّ حال فلسنا نطالب الأستاذ ولا غيره بالتغاضي عن عيبٍ للشافعيِّ إن وجدوه، ولا على أن يذكروا ما فيه شُبهة ونظر، وإنما نلوم على الاختلاق ومحاولة تقوية ما لا شكّ في أنه اختلاق، والله الهادي. فصل قال الأستاذ ص 187: "وكان (الحسن بن زياد) يأبى الخوض في القياس في مورد النص، كما فعل مع بعض المشاغبين في مسألة القهقهة في الصلاة". أقول: الحكاية في ترجمة الحسن من "لسان الميزان" (¬1). وعُذْر الأستاذ بارد، فقد كان يمكن الحسنَ أن يجيب بما عنده من النص ويقول: "لا قياس مع النص". والحقّ أن الحسن أعْرَف من الأستاذ بالمناظرة؛ فرأى أنه إذا أجاب بما ذُكِر وَرَدَ عليه ما لا قِبَل له به، فعمل بقولهم: إن الفرار بقراب أكْيَس (¬2). وقد ذكر الحنفية أن أبا يوسف كان يتبرّم بمناظرة الحسن بن زياد، فقال أبو يوسف يومًا لأصحابه: إذا جاء الحسن فابدأوه بالسؤال، فجاء الحسن فقال: السلام عليكم، ما تقول يا أبا يوسف في كذا؟ وذَكَر مسألةً. فهذا يدلّ أن الحسن كان ضعيف الاستحضار، ولكنه كان يتحفّظ في بيته بعض المسائل ويراجع وينظر، ويستكثر من الأسئلة والمعارضات، ¬

_ (¬1) (3/ 48 - 49). (¬2) انظر "الصحاح": (1/ 200)، و"تاج العروس": (2/ 310). و"بقراب" ضُبطت بضم القاف وكسرها. والمعنى: أن نفرّ ونحن بقربٍ من السلامة أكيس من أن نتورط بثباتنا.

فصل

وعلِم أبو يوسف هذا فأحبّ أن يسألوا الحسنَ عن مسألة لم يكن قد استعدّ لها فيضعف الحسن، فخاف الحسن من ذلك فبَدَرَهم. [ص 19] فصل قال الأستاذ ص 165: "ومن الغريب أنه إذا روى ألف راو عن ابن معين أن الشافعي ليس بثقة مثلًا، تعدّ هذه الرواية عنه كاذبة، بخلاف ما إذا كانت الرواية عنه في أبي حنيفة أو أحد أصحابه". أقول: قد كان على الأستاذ أن يذكر ثلاث روايات أو روايتين على الأقل ويقابل بينها وبين الروايات في حقّ أبي حنيفة. والكلمة المذكورة "ليس بثقة" تُذْكَر عن محمد بن وضّاح الأندلسي عن ابن معين. قال ابن عبد البر في كتاب العلم (¬1) كما في "مختصره" ص 201: "ومما نقم على ابن معين وعيب به أيضًا قوله في الشافعي: إنه ليس بثقة، وقيل لأحمد بن حنبل: إن يحيى بن معين يتكلّم في الشافعي، فقال أحمد: من أين يعرف يحيى الشافعيَّ؟ هو لا يعرف الشافعي ولا يعرف (¬2) ما يقول الشافعي - أو نحو هذا - ومن جَهِل شيئًا عاداه! قال أبو عمر: صدق أحمد بن حنبل رحمه الله أن ابن معين كان لا يعرف ما يقول الشافعي، وقد حُكي عن ابن معين أنه سئل عن مسألة من التيمّم فلم يعرفها. ولقد أحسن أكثم بن صيفي في قوله: ويل لعالمِ أمرٍ مِن ¬

_ (¬1) "جامع بيان العلم": (2/ 1114 - 1115). (¬2) كتب المؤلف: "ولا يقول (؟ ولا يعرف) " إشارة إلى وقوع خطأ في المختصر، وهو على الصواب في الأصل كما أصلحه المؤلف.

جاهله، مَن جَهِل شيئًا عاداه، ومن أحبَّ شيئًا استعبده. وعن أحمد بن زهير قال: سئل يحيى بن معين وأنا حاضر عن رجل خَيَّر امرأته فاختارت نفسها، فقال: سل عن هذا أهلَ العلم. وقد كان عبد الله الأمير بن عبد الرحمن بن محمد الناصر يقول: إن ابن وضّاح كَذَب على ابن معين في حكاية عنه أنه سأله عن الشافعي فقال: "ليس بثقة". وزعم عبد الله أنه رأى أصل ابن وضّاح الذي كتبه بالمشرق وفيه: سألت يحيى بن معين عن الشافعي؟ فقال: هو ثقة. قال: وكان ابن وضَّاح يقول: ليس بثقة [ص20] فكان عبد الله الأمير يحمل على ابن وضّاح في ذلك. وكان خالد بن سعد يقول: إنما سأله ابنُ وضّاح عن إبراهيم بن محمد الشافعي، ولم يسأله عن محمد بن إدريس الشافعي الفقيه. وهذا كلُّه عندي تخرُّص وتكلُّم على الهوى، وقد صحّ عن ابن معين من طرق أنه كان يتكلم في الشافعي على ما قدّمتُ لك حتى نهاه أحمد بن حنبل، وقال له: لم تر عيناك قط مثل الشافعي" (¬1). وفي "تهذيب التهذيب" (¬2): "قال ابن عبد البر في كتاب "جامع بيان العلم": كان الأمير عبد الله بن الناصر يقول: رأيتُ أصلَ محمد بن وضّاح الذي كتبه بالمشرق وفيه: سألت يحيى بن معين عن الشافعي فقال: ثقة. وقال الحاكم: تتبّعنا التواريخ وسواد الحكايات عن يحيى بن معين فلم نجد في رواية واحد منهم طعنًا على الشافعيّ، ولعل من حكى عنه غير ذلك قليل ¬

_ (¬1) هنا ينتهي كلام ابن عبد البر. وفي (ط) زيادة: "ونبَّهه على موضعه من العلم" بعد قوله: "نهاه أحمد بن حنبل". (¬2) (9/ 31).

المبالاة بالوضع على يحيى والله أعلم". وفي ترجمة محمد بن وضّاح من "لسان الميزان" (¬1): "وقال ابن عبد البر: كان الأمير عبد الله ... قال عبد الله: قد رأيتُ أصلَ ابن وضّاح الذي كتبه بالمشرق، وفيه: سألتُ يحيى بن معين عن الشافعي؟ فقال: دَعْنا، لو كان الكذب حلالًا لمنعَتْه مروءتُه أن يكذب". وفي الترجمة قبل ذلك: "قال ابن الفَرَضي .... وكان (ابن وضّاح) عالمًا بالحديث زاهدًا عابدًا، وكان أحمد بن خالد لا يقدّم أحدًا عليه، وكان يعظّمه جدًّا ويصف فضله وورعه، غير أنه كان يكثر الردّ للحديث فيقول: ليس هذا "من كلام النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم"، وهو ثابت من كلامه، وله خطأ كثير يُحْفَظ عنه، وأشياء كان [ص 21] يغلط فيها، وكان لا علم عنده بالفقه ولا بالعربية". أقول: فحاشا ابن وضّاح أن يُتَّهم بالكذب، فأما أن يخطئ ويغلط فمحتمل، إذ قد وُصف بذلك كما رأيت. ويُستدل على خطائه هنا بأمور: الأول: ما تقدّم أنه رُئي في أصله، والأصل أولى بالصحة من الحفظ، ولا سيَّما إذا كان الراوي معروفًا بالخطأ والغلط. الثاني: تفرّده بهذه الكلمة عن ابن معين مع كثرة أصحاب ابن معين الملازمين له، الذين هم أحرص على سؤال ابن معين ونَقْل كلامه من ابن وضَّاح، كابن أبي خيثمة، وعباس الدوري، وعثمان الدارمي، وإسحاق الأزرق، وأحمد بن سعيد بن أبي مريم، والغلابي وأضرابهم. ¬

_ (¬1) (7/ 568).

فأما الحكاية التي قدَّمها ابن عبد البر وفيها: "أن يحيى بن معين يتكلَّم في الشافعي" فإن صحّت هذه الحكاية فهذه كلمة مجملة، يحتمل أن يُراد بها ما ليس بجرح، فإنّ مَن قال في رجلٍ قولًا، يغضّ به منه فقد تكلّم فيه وإن لم يكن ذلك جرحًا. وقد ذكر ابن عبد البر كما في مختصر كتاب "العلم" (ص 193) (¬1): أن ابن معين سُئل عن الشافعي فقال: "ما أحبّ حديثَه ولا ذِكْرَه". فهذا تكلُّم في الشافعي وليس بجرح. ولم أقف لابن معين على كلمة ظاهرة في الجرح تشهد لما رُوي عن ابن وضّاح. وقد تقدَّم عن الحاكم نفي ذلك البتة. الأمر الثالث: أنه لم يأت عن غير ابن معين من الأئمة طعن في الشافعي، وقد قال ابن عبد البر (ص 193) (¬2) عَقِب الكلمة المارّة قريبًا: "لم يتابع يحيى بن معين أحدٌ في قوله في الشافعي". والذين أحسنوا الثناء عليه ووثّقوه كثير ممن هو أكبر من ابن معين، ومن أقرانه، وممن دونه، حتى قال أبو زُرعة الرازي: "ما عند الشافعي حديث غلط فيه". [ص 22] وقال أبو داود: "ليس للشافعي حديث أخطأ فيه". وقال النسائي: "كان الشافعي عندنا أحد العلماء، ثقةً مأمونًا". أما ثناء أحمد عليه وتبجيله فمشهور. وبالنظر إلى اشتهار الشافعي وانتشار علمه وكثرة مخالفيه وحُسَّاده = لو كان هناك ما يقتضي أن يقال فيه: "ليس بثقة" أو ما يَقْرُب من ذلك لما تفرّد بها ¬

_ (¬1) "جامع بيان العلم": (2/ 1083). (¬2) المصدر السابق.

ابن معين لو صحّت عنه. الأمر الرابع: أنه بالنظر إلى ما ذُكِر لو كان ابن معين قال تلك الكلمة أو نحوها؛ لكَثُر تناقل الناس لها، ولم ينفرد بها رجل من أهل الأندلس. الأمر الخامس: في ترجمة الشافعي من "تذكرة الحفاظ" (1/ 330): "قال ابن معين: ليس به بأس". وفي ترجمته من "تهذيب التهذيب" (¬1): "قال الزعفراني عن يحيى بن معين: لو كان الكذب له مطلقًا لكانت مروءتُه تمنعه أن يكذب". فهذه الأمور تجعلنا نشكّ في صحة تلك الكلمة عن ابن معين، ولو جاءت عن ابن معين كلمة في غير الشافعي واتفق فيها نحو هذا لشكّكنا فيها أيضًا، فأما أن تعتدل الروايتان في القوّة فنصدِّق إحداهما ونكذِّب الأخرى اتباعًا للهوى، فنرجو أن لا يكون ذلك منّا، فكيف أن نكذِّب روايةَ ألفٍ ونصدّق روايةَ واحد كما زعمه الأستاذ؟! فإن قيل: دع تلك الرواية, فقد تعدّدت الروايات في غضّ ابن معين من الشافعي في الجملة، وذلك يدلّ على لينٍ ما في الشافعي. قلت: أما في ظنّ ابن معين فنعم، وأما في نفس الأمر فلا. وقد تقدّم قول أحمد ردًّا على ابن معين: "من أين يعرف يحيى الشافعيَّ، هو لا يعرف الشافعي ولا يعرف [ص 23] ما يقول الشافعي" أو كما قال. وتقدَّم ما قاله ابن عبد البر عَقِب ذلك، وهذا يُشعر بأنّ ابن معين استنكر بعضَ أقوال الشافعي، وقد جاء أنه استنكر تسمية الشافعي مَنْ حارب عليًّا ¬

_ (¬1) (9/ 30).

عليه السلام بُغاة، وفيهم أم المؤمنين عائشة وطلحة والزبير، كأن يحيى عدّ ذلك تشيّعًا، فردّ عليه أحمد، وبيَّن أنَّ الشافعي لم يزد على اتباع القرآن. قال الله عزَّ وجلَّ: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9]. هكذا أحفظ معنى هذه الحكاية ولم أهتد عند كتابة هذا إلى موضعها (¬1). وقد يكون عرَض ليحيى ما أورثه نُفرةً طبيعية عن الشافعي؛ فكان يبدر منه ما فيه خشونة. وقد أشار أحمد على إسحاق بن راهويه بمجالسة الشافعي، فقال إسحاق: ما أصنع به؟ سِنّهُ قريب من سِنّنا، أترك ابن عُيينة والمقرئ؟ " كما في "الجرح والتعديل" (3/ 2/ 202). وفي "الانتقاء" (ص 75) (¬2): عن صالح بن أحمد بن حنبل: "لقيني يحيى بن معين فقال لي: أما يستحي أبوك مما يفعل؟ فقلت: وما يفعل؟ قال: رأيته مع الشافعي، والشافعي راكب وهو راجل، ورأيته قد أخذَ بركابه. فقلت ذلك لأبي، فقال لي: قل له إذا لقيته: إن أردت أن تتفقّه فتعال فخُذ بركابه الآخر". وفي "توالي التأسيس" (ص 57) (¬3) نحو ذلك مختصرًا، ثم قال: ¬

_ (¬1) ذكر معنى هذه الحكاية شيخ الإسلام ابن تيمية في "الفتاوى": (4/ 438)، فلعل المؤلف قرأها فيه. ولم أجدها في مصدر آخر. (¬2) (ص 126). (¬3) (ص 86).

"وأخرج ابن عدي من وجه آخر: أن الشافعيَّ لما قدم بغداد لزمه أحمد مع بغلته، فأخلى الحلقة التي كان يجتمع فيها مع يحيى بن معين وأقرانه، فذكر نحوه". فكان ابن معين يرى العلمَ كلَّ العلم هو [ص 24] جمع الأحاديث وتتبّعها، ثم النظر فيما يصحّ وما لا يصح، والبحث عن الخطأ والعلل وأحوال الرجال، ونحو ذلك مما يتعلق بالرواية. وكان يجتمع هو وأحمد وأقرانهما لذلك، وكان سنّ الشافعي قريبًا من سنهم، وليس بالمكثر من الحديث، بل كلّ من أحمد ويحيى أكثر منه حديثًا وأعلم بالرواة منه. فلم ير ابن معين لانقطاع أحمد إلى الشافعي ولزومه له معنى. فأما الفقه فلم يكن يحيى يبالي به؛ فإنه كان في نفسه يأخذ بما يتّضح له من السنة، ويقلّد في الباقي، ولا يبحث مع أحدٍ ولا يناظر، ولا يهمه اختلاف الناس شيئًا. وكان أحمد على خلاف ذلك، فإنه كان يتفقّه ويرى وجوب الاجتهاد، ويسوؤه ردّ بعض الناس للسنة. وكان هو وكثير من أهل الحديث ينكرون على أهل الرأي ولا يستطيعون مناظرتهم، فكان أهل الرأي يسخرون من أهل الحديث ويستضعفونهم ويرمونهم بالجهل والغباوة ويستطيلون عليهم. وفي كتاب ابن أبي حاتم (3/ 2/ 203) و"توالي التأسيس" (ص 56) (¬1) عن أحمد: "كانت أقضيتنا - أصحاب الحديث - في أيدي أصحاب أبي حنيفة ما تُنْزَع حتى رأينا الشافعي ... ". ¬

_ (¬1) (ص 83 - 84).

وكان الشافعي قد تمكّن من العلم بالكتاب والسنة، وعرف طرق الاجتهاد، وعرف كلامَ أهل الرأي وأقوالَهم، مع ما أوتيه من العقل والفهم وقوّة العارضة، والتمكُّن من مناظرة أهل الرأي والاستعلاء عليهم؛ فوجد به أحمد ضالّته المنشودة، ولم يكن لابن معينٍ شأن في ذلك، فاختلف نظرُ الشيخين - أحمد وابن معين - فكان ابن معين يرى أن أحمد يضيّع أوقاته فيما لا يعني ويترك [ص 25] ما هو العلم حقًّا- في رأي ابن معين - وهو ما كانوا يجتمعون عليه من قبل من علوم الرواية, فلذلك كان ابن معين يلوم أحمد فيبالغ كما مرّ وأحمد لا يُصغي إليه. ولما كان السبب في هذا هو الشافعي، تولّدت في نفس ابن معين شِبْه نُفرةٍ عن الشافعي. وقد يكون انضمّ إلى ذلك أن الشافعي كان يشعر في نفسه بفضله على أهل الحديث لما تقدّم، ويرى أن يحيى لا شأن له بالفقه، فلم يختلف الشافعيُّ إلى يحيى، ولا اعتنى بتبجيله واسترضائه، وقد كان يحيى تعوّد من المشايخ الذين يَرِدون بغداد مراعاة جانبه، والإبلاغ في ملاطفته (¬1)، فكان ذنب الشافعي إلى ابن معين أنه سلبه صاحبَه ورفيقَه وأنيسَه وصديقَه الذي كان لا يكاد يفارقه حَضَرًا وسفرًا منذ شرعا في طلب الحديث [ص 26]؛ وبذلك فوّت عليه ما كان يجده فيٍ الاجتماع والمذاكرة من فائدة ولذَّة، وأنه مع ذلك لم يهَبْه ولم يعرف له حقًّا كما اعتاده من سائر المشايخ الذين هم أكبر من الشافعي سنًّا وأقدم سماعًا، وفيهم مَن هو أكثر حديثًا. ¬

_ (¬1) ذكر المؤلف أمثلة من ذلك من "تهذيب التهذيب"، ثم ضرب عليها. انظر "التهذيب": (11/ 280 - 288) في ترجمة يحيى بن معين، و (1/ 334) في ترجمة موسى بن إسماعيل.

أضف إلى ذلك ما كان أحمد يستقبل به عتاب ابن معين كقوله: "إن أردتَ الفقهَ فتعال فالزم ذَنب هذه البغلة". وغير ذلك من الكلمات التي مِن شأنها أن تزيد في حَنَقِه (¬1). فإن قيل: فإذا كان هناك نُفرة كما وصفتَ، فماذا عليكم من أن تصح تلك الكلمة عن ابن معين، فتجيبوا عنها بنحو ما أُجيب عن كلام النسائي في أحمد بن صالح، بل قد يكون الجواب عن هذه أظهر؛ لأنه قد رُوي عن ابن معين نفسه ما يخالفها، بل يمكنكم أن تقولوا: تلك الكلمة جرح غير مفسَّر فلا يُعتَدّ بها في مقابل توثيق الجمهور. قلت: الأمرُ كما وصفتَ، ولكن الباعث على الشكّ في صحّتها أن هناك أمورًا تخدش في ذلك كما تقدّم، وأن القول بصحتها يقتضي التشنيع على ابن معين عند أهل العلم لمخالفته الجمهور بلا حجة ولا شبهة، حتى حَمَل ذلك ابن عبد البر المالكي على أن يقول ما تقدّم في حق ابن معين (¬2). وإذا كان الغضّ ابن معين بغير حق واضح فدَفْعه عنه أوجب علينا من دفع مثله عن الشافعي؛ لأن الطعن في ابن معين أضرّ على السُّنَّة وأرْوَج للبدعة؛ فإنه يفتح لأهل الباع البابَ إلى ردِّ كثير من الأحاديث والآثار الصحيحة، وتقوية كثير من الموضوعات والواهيات والضعاف؛ يقول أحدهم في الراوي: إنما وثَّقه أو إنما صرّح بجرحه ابنُ معين، وقد طعنتم فيه. ¬

_ (¬1) زاد في "التنكيل": (1/ 725): "وقد كان الشافعيّ حَسَن الظنّ بإبراهيم بن أبي يحيى يكثر الرواية عنه، وابن معين والجمهور يكذّبون ابنَ أبي يحيى". (¬2) (ص 32 - 33).

فصل

[ص 27] فصلٌ قال الأستاذ ص 135 - بعد أن ذكر ما رُوي عن الشافعي أنه قال: أبو حنيفة يضع أوَّل المسألة خطأ ثم يقيس الكتابَ كلَّه عليها -: "ولأبي حنيفة بعض أبواب في الفقه من هذا القبيل، ففي (كتاب الوقف) أخذ بقول شريح القاضي وجعله أصلاً، ففرَّع عليه المسائل، فأصبحت فروع هذا الباب غير مقبولة حتى ردَّها صاحباه، وهكذا فَعَل في (كتاب المزارعة)، حيث أخذ بقول إبراهيم النخعي، فجعله أصلًا ففرّع عليه الفروع. ولكن ما هو من هذا القبيل من مسائل (؟) (¬1) أبي حنيفة ربما لا يبلغ في العدّ عدد أصابع اليد الواحدة، في حين أنّ ما عند ذلك العائب من هذا القبيل بحيث يَحارُ منه كبار الفقهاء من أهل مذهبه، فتجدهم مضطربين فيما يختارون في المذهب بين قديم المسائل وجديدها، وبين الأجوبة الشَّفْعية المروية عن الإمام التي يقال فيها: (فيها قولان)، فيَشْكُون من عدم مشي الفروع على الأصول، وعدم الاطراد في التأصيل والتفريع، مما ليس هذا موضع شرحه وله محلّ آخر". أقول: الكتاب من كتب الفقه، مثل (كتاب الوقف)، قد يتفرّع عنه آلاف المسائل كما لا يخفى. ولا أعلم للشافعي كتابًا واحدًا يكون من ذاك القبيل الذي يوجد لأبي حنيفة. فأما المسائل فالكتب في فقه أبي حنيفة التي ليست من ذاك القبيل لا يُحْصَى ما فيها من المسائل المضطَرب فيها. هذه مسألة من أول مسائل الطهارة، وهي تحديد الماء الكثير الذي [ص 28] لا ينجس بوقوع نجاسة فيه لم تُغيّره، نَقَل الحنفيةُ عن أئمتهم: أنه ما ¬

_ (¬1) علامة الاستفهام من المؤلف، ولعلها إشارة منه إلى إيهام الكوثري أن المنتقَد على أبي حنيفة مجرّد مسائل وليس أبوابًا كما هو الواقع.

إذا وُضِعت النجاسةُ في أحد طرفيه لم تخلص إلى الآخر، وأنَّ المرجع في ذلك إلى ظنِّ المبتلى، ولا يخفى أن المبتلى المسكين يضطرب نظره؛ لأنه يشعر بالفرق بين ما إذا كانت النجاسة قليلة وما إذا كانت كثيرة، وبين ما إذا (¬1) كانت مما يذوب أو ينتشر كالدّهن، وما إذا لم تكن كذلك. وهكذا يرى أن الحال يختلف باختلاف عمق الماء، ثم يرى أنَّ الماء لو كان بحيث يظنّ أن النجاسة إذا وقعت في أحد طرفيه لم تخلص إلى الطرف الآخر، هل له أن يتوضأ من موقعها أو مما قرب منه؟ إلى غير ذلك. ونقلوا عن أئمتهم أيضًا أن الكثير ما إذا حُرِّك أحدُ جانبيه لم يتحرّك الآخر. واضطربوا في تعيين الحركة؛ أحَرَكة المتوضّئ أم حركة المغتسِل؟ مع أن كلًّ منهما غير منضبطة. ثم عادوا فقالوا: إن الاضطراب إنما هو ضابط للخلوص، فلم يخلّصوا المبتلىَ المسكين من ملاحظة الخلوص بما مرّ فيه. ثم عادوا فأطبقوا أو أكثرهم على التحديد بعشرٍ في عشر، وذكروا أنّ محمدًا كان يقول به ثم رجع عنه، ولكنه أيسر لهم من القولين الأوّلين. ثم عادوا فقالوا: إنما ذلك ضابط للخلوص، فنكسوا المبتلَى على رأسه؛ لأنه يرى أنَّ هذا الضابط ليس من الشارع حتى يسوغ أن يُقْصَر النظر عليه ولا يُلتفت إلى المعنى، بل ولا من الإمام ولا أحد أصحابه. وقولُ أحدِ أصحابه به ثم رجوعه عنه يزيده وهنًا؛ لأنه لولا أنه بان له فساده لما رجع عنه. ومع ذلك اضطربوا في تقدير العمق، فقيل: أن يكون [ص 29] الماء بحيث لا ينحسر بالاغتراف، وهذا لا يخلو عن تردّد. وقيل: أربع أصابع ¬

_ (¬1) الأصل: "إذ".

مفتوحة. وقيل: ما بلغ الكعب، وقيل: شبر، وقيل: ذراع، وقيل: ذراعان. إلى غير ذلك. راجع كتبهم المطوّلة. ومَن طالع كتب الحنفية وكتب الشافعية عَرَف أن المسائل المضطربة عند الحنفية أكثر جدًّا منها عند الشافعية. فأما قديم المسائل وجديدها فهي معروفة عند الشافعية، والمذهب هو الجديد باتفاقٍ منهم، وإنما هناك بضع عشرة مسألة عُرف للشافعي فيها قول قديم وقول جديد، ثم جاء في الجديد ما أوجب ترجيح القديم، وذلك كامتداد وقت المغرب إلى دخول وقت العشاء، كان الشافعي يقول به قديمًا؛ لأنه قول جمهور أهل العلم، ثم وقف عنه في الجديد لحديث صلاة جبريل، فقال بعدم الامتداد إلاَّ أن يصحّ الحديثُ الآخر، وهو حديث الشّفَق، فصحّ الحديثُ عند أصحابه فقالوا به. وأما المسائل التي يقول الشافعي: "فيها قولان" ولا يرجّح، فقد ذكروا أنّ ذلك اتفق في ستّ عشرة مسألة، فهذه يؤخذ الترجيح فيها مِن عَرْضها على أصول الشافعي، وما من إمام إلا وتوجد مسائل لا تحصى لم ينصّ عليها؛ لأن الفروع أكثر من أن يُحاط بها. وتركه الترجيح فيها لا يزيد عن تركه ذكرها رأسًا، ثم يستنبط أصحابه الحكمَ فيها من أصوله، فهكذا يستنبطون الترجيح. فإن قيل: لكن تركه الترجيح فيها مع ذكره لها يدلّ على عجزه. قلت: أما العجز عند نصّه عليها فلا بأس به؛ إذ ليس من شَرْط المجتهد أن لا تعرض له مسألة إلّا عَرَف الحكمَ فيها فورًا، فرُبّ مسألة تُعَنِّي المجتهدَ أيّامًا أو أشهرًا أو أكثر، ورُبّ مسألة لا تزال مشكلة عنده. هذا عمر بن

الخطاب أشكلت عليه مسائل حتى [ص 30] أوصى بأنه لا يقول فيها شيئًا. وأما العجز المطلق فهذا غير لازم، فلو أن الشافعيَّ صبَر نفسَه وداوم النظر في تلك المسائل لكان الظاهر أن يتبيَّن الراجح فيها، ولكن لم يكن هناك ما يدعوه إلى ذلك؛ إما لأن تلك المسائل لم يتفق وقوعُها حينئذٍ فيلزم الشافعي أن يعمل أو يفتي أو يقضي فيها، وإمّا لغير ذلك. ودلالة عدم ترجيحه فيها على ديانته وورعه لا تخفى. وقد جاء عن حفص بن غِياث أنه قال: "كنت أجلس إلى أبي حنيفة فأسمعه يُسأل عن مسألة في اليوم الواحد فيفتي فيها بخمسة أقاويل، فلما رأيتُ ذلك تركته وأقبلتُ على الحديث" (¬1). وأجاب عنه الأستاذ ص 119 بقوله: "يوجد بين الأئمة من يُروى عنه عدة أجوبة في مسألة واحدة؛ كالروايات الستّ عن مالك في المسح على الخفّين، وكالأجوبة المشفّعة في "الأم" للشافعي ... وأما مذهب أبي حنيفة فلا تجد في مسائل ظاهر الرواية إلا قولًا واحدًا منه في كل مسألة. وأما كتب النوادر فحكم مسائلها في جنب مسائل ظاهر الرواية كحكم القراءات الشاذّة ... على أن قيمة روايات النوادر تقدّر بأحوال رواتها". كذا قال! وعليه في هذا ما لا يخفى. أما الروايات الستّ عن مالك فليست كلها في درجة واحدة، فالراجح منها واحدة، وباقيها كروايات النوادر عند الحنفية. وأما الأجوبة المشفّعة فقد مرّ الكلامُ فيها. وأما الروايات عن أحمد ففيها راجح ومرجوح، فالراجح بمنزلة ظاهر الرواية عند الحنفية، وليس في ذلك ما يدلّ على أن مالكًا أو الشافعي أو أحمد كان يقول ¬

_ (¬1) أخرجه الخطيب في "تاريخه": (13/ 425).

في اليوم الواحد في المسألة الواحدة خمسة أقاويل؛ يجزم بهذا ثم يجزم بهذا وهكذا ولا ما يقرب من ذلك، بل لا أراه اتفق لواحد منهما مثل ذلك في قولين فكيف خمسة؟ والاضطراب في اليوم الواحد يشعر بما لا يشعر به أن يقول العالم قولًا ثم يرجع عنه بعد سنة - مثلًا - فتدبّر. [ص 31] وقول الأستاذ: "إنه لا يوجد في كتب ظاهر الرواية إلا قول واحد لأبي حنيفة في كل مسألة" مجازفة! وهذه كتبهم موجودة بأيدي الناس. وعلى فرض صحة ذلك فإنما وجهه: أنّ مؤلفي تلك الكتب نقلوا آخر أقواله أو أقواها عندهم؛ ولهذا رجّحت كتبهم لا لضعف الكتب الأخرى مطلقًا. فأما قوله: "إن الشافعية يَشْكُون من عدم مشي الفروع على الأصول"، فلا أدري مَن هو الذي شكا ذلك من الشافعية؟ ولا شكّ أنّ في الفروع ما يصعب على بعض المتفقّهة تطبيقه على الأصول، ولكن عامة هذا في الفروع التي لم ينص عليها الإمام، والإمامُ غير مسؤول عن ذلك. فأما الفروع التي نصّ عليها فلا يكاد يوجد فيها ذلك إلا أن يكون قليلًا. لكن طالع كتب الحنفية وتأمل العجب العُجاب من ذلك، بل طالع مناظرات الشافعي مع أئمتهم ليتبين لك كثرة تناقضهم. هذا مع أن أصول الفقه عند الشافعية حرّة غالبًا؛ ولهذا لا تكاد تجد في كتبهم الأصولية محاولة تطبيق الفروع عليها، فأما أصول الفقه عند الحنفية فمبنية على الفروع، فكم من فرع شاذٍّ حاولوا أن يخترعوا أصلًا يردونه إليه؛ ولهذا يكثر التناقض في أصولهم نفسها بينا تراهم يردُّون كثيرًا من الأحاديث

فصل

الصحيحة المشهورة لمخالفتها القياس - زعموا - إذا بهم يدَّعون أن الحديث الضعيف مقدّم عند أبي حنيفة على القياس، إلى غير ذلك مما يطول. هذا كلام استجراني إليه الأستاذ وأنا كاره، والذي لا أشكّ فيه أن في كلِّ مذهب من المذاهب فروعًا غير مرضيّة بل وأصولًا ضعيفة، وأنّ فرض الله عزَّ وجلَّ على العالم أن يتفقّد ذلك تفقّدَ محترِسٍ من هواه مؤثرٍ لعبادة الله، والله المستعان والمسؤول منه الهداية والتوفيق (¬1). فصل ذكر الأستاذ ص 137 قول ابن أبي حاتم عن ابن عبد الحكم: "قال لي محمد بن إدريس الشافعي: نظرتُ في كتبٍ لأصحاب أبي حنيفة فإذا فيها مائة وثلاثون ورقة، فعددتُ فيها ثمانين ورقة خلاف الكتاب والسنة". قال ابن أبي حاتم: "لأن الأصل كان خطأً فصارت الفروع ماضية على الخطأ". قال الأستاذ: " .... بل أفرضُ أن متن الرواية مما أسرّ به الشافعي إلى محمد بن عبد الحكم على خلاف ما تواتر عن الشافعي أنه قال: الناس كلهم عيال في الفقه على أبي حنيفة، وأنه حَمَل من محمد بن الحسن حِمْل جمل من علمه، وأنه أمنّ الناس عليه في الفقه ... وعلى فرض أن أحد أصحاب أبي حنيفة أخطأ في غالب مسائل كُتيّب، فماذا على أبي حنيفة من ذلك؟ والشافعيُّ نفسُه رجع عما حواه (كتاب الحجة) كله المعروف بالقديم، وأمر بغسله والإعراض عنه ... ولولا أن الشافعي رأى قديمه كلَّه مخالفًا للكتاب والسنة لما رجع هذا ¬

_ (¬1) كتب في أسفل الصفحة بقلم الرصاص: "يلخص هنا ما يأتي ص 106". ولقد لخصه المؤلف في ظهر ص 31.

الرجوع ولا شدّد هذا التشدّد ... وذلك العالم المفروض خطاؤه لم يعترف بعدُ بالخطأ اعترافَ الشافعيّ بخطئه في القديم ... وها هو محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ... ألَّف كتابًا سماه: "ما خالف فيه الشافعي كتاب الله وسنة رسوله ... " فهل نصدّقه فيما يقول بالنظر إلى مبالغة ابن خزيمة في الثناء عليه حيث يقول: "ليس تحت قبّة السماء أحد أعلم باختلاف الصحابة والتابعين واتفاقهم من محمد بن عبد الله بن عبد الحكم". ولو كان أصل الحكاية: نظرتُ في كتابٍ لأبي حنيفة لاستقام المعنى، على تقدير التغاضي .... ". أقول: أما فرض (¬1) أن تلك الحكاية مما أسرّ به الشافعيُّ إلى ابن عبد الحكم؛ فلا معنى للإسرار، فلم يكن الشافعي يخاف من الحنفية وقد هاجمهم وصادمهم في مقرّ ملكهم بغداد في حياة محمد بن الحسن وبعده، حتى كادت قُواهم تضمحلّ، لولا أنهم لجأوا إلى قوة الدولة كما هو معروف في التاريخ, ومرّت الإشارة إلى طَرَف منه في ترجمة محمد بن سعد العوفي (¬2)، فبقوّة الدولة ثم بتعصّب الدول التي جاءت بعد ذلك، وبتعصّب الأعاجم، وباختلاق المناقب الغالية، كما مرّ بعضُ أمثلته في ترجمة محمد بن سعيد البورقي (¬3) انتشر مذهب أبي حنيفة. فالملوك والأمراء يرون مذهب أبي حنيفة أقرب إلى أهوائهم لتحليل بعض المسكر وغيره، ولا سيَّما مع ما فيه من الحِيَل التي كان يتقرّب بها القُضاة إلى الأمراء، حتى ¬

_ (¬1) هنا أشار المؤلف بعلامة (=) إلى أن تكملة الكلام في (ص 108)، وما أحال إليه الشيخ كان قد ضرب عليه هناك، لكنه وضع أمامه علامة (=) إشارة إلى نقله في هذا الموضع. (¬2) من "التنكيل": (1/ 755 - 759) وليس فيها ما أشار إليه المؤلف. (¬3) من "التنكيل": (2/ 759 - 763).

قيل في أبي جعفر الطحاوي ما قيل، كما ذكره ابن النديم في "الفهرست" (¬1) وغيره. ثم الأعاجم من ملوك وأمراء وغيرهم يميلون إلى أبي حنيفة؛ للموافقة في الجنسية، كما أن من أسباب غلوّ الفارسيين في الحسين بن علي وابنه عليّ عليهم السلام [ص 109] ما قيل: إن أمّ علي بن الحسين هي ابنة كسرى ملك الفرس، والأستاذ نفسه يشهدُ عليه مَن هو مِن أخصِّ أصحابه وهو الحسام القدسي بشدّة التعصّب لقومه الشراكسة! (¬2). وقول الأستاذ: "على خلاف ما تواتر عن الشافعي ... " مجازفة لعلّ الأستاذ لا يستطيع إثبات صحة تلك الكلمات عن الشافعي فضلًا عن تواترها، ولا سيّما مع تكلُّم الأستاذ في الربيع، ومع ذلك فلا منافاة بين تلك الكلمات وبين ما رواه ابن عبد الحكم. وقد أشار ابن أبي حاتم ثم الخطيب إلى أن مراد الشافعي بتلك الكتب بعضَ ما أشار إليه في الرواية الثانية واعترف به الأستاذ؛ ك (كتاب الوقف) و (كتاب المزارعة) وغيرهما. وما زعمه الأستاذ في الكتاب القديم للشافعي علَّق عليه في الحاشية ما (¬3) فيه: " ... قال البيهقي: رأيت في كتاب زكريا بن يحيى الساجي بإسناده عن البويطي قال: سمعت الشافعيّ رضي الله عنه يقول: لا أجعل في حلٍّ من روى عني كتابي البغدادي. وهو قديمه، ويروي الراعي الأندلسي في "الانتصار": أمر الشافعيُّ بغسل قديمِه كلِّه". ¬

_ (¬1) (ص 260). (¬2) وانظر "التنكيل": (1/ 790). (¬3) كذا في الأصل.

وهذا لا يكفي في إثبات ذلك؛ إذ لم يبيّن فيه سند الساجي وسند الراعي. وعلى فرض صحة ذلك فلا يَفْهم منه عاقلٌ أن الشافعيَّ رجع عن قديمه كله؛ لأن في القديم مسائل مقطوعًا بها، ومسائل مجمعًا عليها، ومسائل ناظر الشافعيُّ الحنفيّةَ فيها، ثم حكى في الجديد مناظرته لهم، فغايةُ الأمر أنه رجع عن عددٍ من المسائل كانت مفرَّقةً في الأبواب، وألَّف في مصر كتبَه وهذّبها؛ فصارت حاويةً لما كان في (كتاب الحجة)، مع تهذيب وتنقيح، وخالية عن تلك الفروع التي رجع عنها الشافعي، فإذا رأى أنه بعد ذلك لم يبق لكتابه القديم حاجة للاستغناء عنه بالكتب الجديدة المهذَّبة المنقَّحة، فليس في ذلك ما يعادل ما أنكره الشافعي على أبي حنيفة ولا يقاربه. فقول الأستاذ: "ولولا أن الشافعي رأى قديمَه [ص 110] كلَّه مخالفًا للكتاب والسنة لما رجع هذا الرجوع" مِن أقبح المجازفات التي تقدح في عقل صاحبها فضلًا عن علمه وتديّنه، والأستاذ مع ذلك يكثر من قوله: "نسأل الله السلامة. نسأل الله العافية" ونحو ذلك! فأما ما ادّعاه الشافعي من مخالفة نحو ثلثي تلك الكتب للكتاب والسنة، فقد اعترف بذلك أصحاب أبي حنيفة، ومنهم الأستاذ كما تقدَّم في ذِكر (كتاب الوقف) و (كتاب المزارعة) وغيرهما. وأما تأليف ابن عبد الحكم كتابًا فيما خالف فيه الشافعيُّ الكتابَ والسنة، فليس لنا ولا للأستاذ تصويب ابن عبد الحكم ولا تخطئته حتى نعرف ما هي المسائل التي ذكرها، فإن اكتفينا بالإجمال كان الظاهر أنه أصاب في بعضها وأخطأ في بعضها, وليس الشافعي بمعصوم عن الخطأ،

ولا ابن عبد الحكم بمحجوب عن الصواب؛ فإن قَصَرْنا النظرَ على حالِ الرجلين إجمالًا فالشافعي أولى بالصواب. والعلم بالاتفاق والاختلاف في أقاويل الصحابة والتابعين لا يستلزم العلم بمعاني النصوص ودقائق الفقه. وابن عبد الحكم وإن ترك مذهب الشافعي لعدم ظَفَرِه برئاسة أصحابه فقد كان يُعْظِم الثناءَ عليه، ومن ذلك قوله: "وإن كان أحدٌ من أهل العلم حجة فالشافعي حجة في كل شيء". كما في ترجمة الشافعي من "تهذيب التهذيب" (¬1). وذكر ابن خزيمة أنه لا يعرف عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم سنةً لم يودعها الشافعي كتابه كما في "تعجيل المنفعة" (ص 5) (¬2) (¬3). ... ¬

_ (¬1) (9/ 30). (¬2) (1/ 239 - ط البشائر). (¬3) هنا انتهى النقل من (ص 108 - 110) الذي أحال عليه الشيخ في ظهر ص 31.

فصل

[ص 32] فصل [النظر في مطاعن الكوثري على الإمام الشافعي في حواشي "الانتقاء"] جرت عادة الأستاذ فيما يوكَلُ إليه من تصحيح الكتب التي يُراد طبعها أن يعلّق عليها آراءه بل مقاصده، فيأتي بدواهي! والواجب على ملتزمي الطبع أن لا يمكّنوه من ذلك بعد أن علموا غُلوَّه، فإنَّ فَرْض المصحّح إنما هو تصحيح الألفاظ، فإن كان ولا بدّ من تعرّضه للمعاني فليقتصر على ما لا اختلاف فيه بين أهل العلم، لا أن يسعى في تأييد مذهبه وانتقاص غيره. فإن كان لملتزم الطبع هوًى في ذلك فعلى الأقل يقتصر على ما لا يشكّ في تحقيقه. وقد حَرَصت في كتابتي هذا النقد على أن لا أراجع الكتب التي علّق عليها الأستاذ خوفًا من التطويل، وإن كنت أعلم أنني لو راجعتها لظفرتُ بعِدّة مناقضات للأستاذ، لكن دعت الحاجة إلى مراجعة "الانتقاء" لابن عبد البر، فرأيتُ الأستاذ قد علَّق عليه على عادته، فأحببتُ أن أشير إلى تعاليق الأستاذ عليه وبيان حالها. فمن ذلك: أن ابن عبد البر بدأ بمناقب مالك ثم الشافعي ثم ذكر أبا حنيفة، فذكر الأستاذ (ص 9) (¬1) أن ابن عبد البر اقتصر على هؤلاء كما ¬

_ (¬1) (ص 34) من الطبعة التي حققها الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله، ومما يؤسف له أنه قد أبقى جميع تعليقات الكوثري ورمز لها بـ (ز)، وعلّل إبقاءها بقوله في المقدمة (ص 22): "استمرارًا لطيّب عَرفها وزاكي نفعها"! مع أنه يعلم أن ناشرها الأول الحسام القدسي أوقف الكوثري عن التعليق ص 88 من الكتاب معللًا ذلك بأنه "اطلع على دِخلة في علمه وعمله" ولم يشر لذلك أبو غدة! وكان المأمول أن يُبقي المفيدَ من التعليقات - إن كان -, ويطوي البساط على باقيها.

اقتصر عليهم أبو داود في أثرٍ روي عنه (¬1). ومقصود الأستاذ هنا إخراج أحمد من الفقهاء! فهذه إحدى عقاربه! ولم يكن له في ذكر ذلك حاجة. وقد ذكرتُ في ترجمة أحمد (¬2) ما فيه كفاية. ثم ثنّى الأستاذ بزعم أن ابن عبد البر إنما اختار ذاك الترتيب؛ لأنه يفضّل البلدان كذلك، فيفضّل المدينة على مكة، ومكة على الكوفة، ولولا ذلك لقدّم التابعي - يعني أبا حنيفة -. ثم قال الأستاذ: "ومراتبهم [ص 33] في الفقه الإسلامي مما يستغني عنه التنويه" يزعم أن أبا حنيفة أعلاهم مرتبةً. وأقول: لا يخفى أن ابن عبد البر إن كان رأى أنّ المدينة أفضل من مكة فإنما ذاك من جهة العلم؛ لأن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم كان معظم أيام التشريع بالمدينة وبها قُبِض. وكان عامة علماء الصحابة بالمدينة، فكان أهلها أعلم من أهل مكة. ثم لا يخفى أن ابن عبد البر مالكيّ، فمالكٌ عنده أعلاهم مرتبةً في العلم، وقد أكّد ذلك في "الانتقاء" بأنه لم يذكر في ترجمة مالك والشافعي شيئًا عِيبا به، إلا أن يعرض له عارض فيدفعه، وقال (ص 15) (¬3): "رواية هؤلاء الأئمة الجِلّة عن مالك وهو حيّ دليل على جلالة قدره، ورفيع مكانه، في علمه ودينه وحفظه وإتقانه". ¬

_ (¬1) الأثر هو: "رحم الله مالكًا كان إمامًا، رحم الله الشافعي كان إمامًا، رحم الله أبا حنيفة كان إمامًا" أخرجه ابن عبد البر في "الانتقاء" (ص 67). (¬2) من "التنكيل" رقم (32). (¬3) (ص 44 - 45 ط المحققة).

وقال في مقدمة ترجمة الشافعي: "ونقتصر ... على ما يكفي ويدلّ ويشهد بتقدّمه في علم الحلال والحرام، وإمامته عند جمهور أهل الإسلام" (¬1). وقال في مقدمة ترجمة أبي حنيفة: "وأذكر ... بعضَ ما حضر في ذِكره من أخبار أبي حنيفة وفضائله، وذِكْر بعض من أثنى عليه وحَمِده، ونبدأ بما (¬2) طُعِن فيه عليه، لردِّه بما أصَّله لنفسه في الفقه، وردّ بذلك أخبار الآحاد الثقات ... وكان مع ذلك أيضًا لا يرى الطاعات وأعمال البر من الإيمان ... وقد أثنى عليه قوم كثير لفهمه ويقظته وحُسن قياسه وورعه ومجانبته السلاطين، فنذكر في هذا الكتاب عيونًا من المعنيين جميعًا ... " (¬3). وذَكَر المطاعن من ص 147 إلى ص 152 (¬4). وبذلك علمت منازلهم عند ابن عبد البر. فلو سكت الأستاذ لكان خيرًا له. وقال ابن عبد البر (ص 12) (¬5): "روى عنه - يعني مالكًا - من الأئمة سوى هؤلاء [ص 34] أبو حنيفة". فعلّق الأستاذ على ذلك تعليقًا طويلًا؛ بيَّن أولًا أنه لم يثبت رواية أبي حنيفة عن مالك، ثم قال: "نعم ثبت نظر مالك في كتب أبي حنيفة وانتفاعه بها ... " وأطال في ذلك وذَكَر روايات فيها نظر، ودَفَع روايات تذكُر انتفاعَ أبي حنيفة بعلم مالك، وبعضها قويّ فلا أطيل بمناقشته. ¬

_ (¬1) (ص 115). (¬2) كذا في الطبعة القديمة، وفي المحققة: "ونُبَذًا مما" وهو الصواب. (¬3) (ص 184). ووقع فيها بدل "وردّ بذلك أخبار الآحاد": "وردّ بذلك كثيرًا من ... ". (¬4) في المحققة (ص 271 - 298). (¬5) (ص 41).

وذكر ابن عبد البر (ص 24) (¬1) محاورة الشافعي ومحمد بن الحسن فعلّق عليها الأستاذ ما يعلم ما فيه مما قدّمته في ترجمة الخطيب (¬2). وذكر ابن عبد البر (ص 27 - 28) (¬3) قولَ ابن وهب: "لولا أني أدركت مالكًا والليث بن سعد لضللت". فعلّق عليها الأستاذ بنقل رواية أخرى فيها: "يعني لاختلاف الأحاديث" ثم قال: "كما يقع لكثير من الرواة البعيدين عن الفقه غير المميزين ما قارن العمل به عما سواه". ومقصوده بهذا: الإشارة إلى أن الأحاديث الصحيحة التي ردّها أبو حنيفة أو لم يطلع عليها مِن هذا القبيل الذي لا يُعْتَدّ به. وقد ذكرنا في الفقهيّات طرفًا (¬4) من الكلام معه في بعض تلك الأحاديث. وذكر ابن عبد البر (ص 29) (¬5) ما جاء عن عبد الرحمن بن مهدي أنه سُئل: مَن أعلم، مالك أو أبو حنيفة؟ فقال: مالك أعلم من أستاذ أبي حنيفة ... " فعلّق عليها الأستاذ: "هذا على حسب معياره وتقديره، وهو الذي استعصى عليه وجه الجواب لما اعترضوا عليه حين صلَّى بعد أن احتجم من غير إحداث وضوء ... وإن كان لا ينكر فضل هذا الديلمي في الرواية والكلام في الحديث ورجاله، ولكن لكل علم رجال وميزان". ¬

_ (¬1) (ص 56). (¬2) من "التنكيل" رقم (26). (¬3) (ص 60 - 61). (¬4) كانت العبارة: "وقد تقدم في الباب الثالث طرف". فأصلحها إلى ما هو مثبت ونسي أن يضرب على "الثالث" وأن يصلح "طرف" لتكون مفعولًا. (¬5) (ص 63).

والحكاية التي ذكرها هي في "الانتقاء" نفسه (ص 72) (¬1) وليس فيها أنه استعصى عليه الجواب وإنما فيه أنهم "عابوه وأنكروا عليه، وكان سبب كتابه إلى الشافعي بذلك [ص 35] فوجّه (إليه الشافعي) بالرّسالة". فيظهر أن ابن مهدي أجابهم ولكن لما رأى أنه قد يَرِد عليه من المسائل ما يحتاج إلى مناظرة أهل الرأي فيه - وكان الشافعي قد اشتهر بتفوّقه عليهم - أحبَّ ابنُ مهدي أن يستفيد ببعض ما يكتبه الشافعي. ومن البعيد أن يكتب ابنُ مهدي إلى الشافعي يسأله عن تلك المسألة، فيكتب إليه الشافعيُّ برسالته في أصول العلم. وقول الأستاذ: "هذا الديلمي" مِن بالغِ أدبه! وذكر ابن عبد البر (ص 34 - 35) (¬2) من طريق "عبد الله بن أحمد قال: نا أبي قال: نا سُريج بن النعمان، قال: نا عبد الله بن نافع، قال: كان مالك بن أنس يقول: الإيمان قول وعمل، ويقول: القرآن كلام الله، ويقول: مَن قال: "القرآن مخلوق" يوجع ضربًا ويُحْبَس حتى يتوب. وكان مالك يقول: الله في السماء وعِلْمه في كلّ مكان لا يخلو منه شيء". فعلَّق عليه الأستاذ: "ابن نافع وسُريج في حفظهما وضبطهما على ما تعرف، ولم يروِ أحدٌ من أصحاب مالك عنه مثل هذا، بل المتواتر عنه عدم الخوض ... ويأتي عنه أيضًا بسنده ما ذكر هنا بدون زيادة - وكان مالك يقول: الله في السماء إلخ، فآثار الافتعال ظاهرة على هذه الزيادة، على أنّ هذه الرواية مما شذّ به عبد الله بن أحمد عن أبيه، وقول أبيه في ابن نافع الصائغ معروف، وكم فيما يُنْسَب إلى عبد الله ما يضرب به عرض الحائط، وَيرُوج على من لا ينظر إلى ما يدخل في روايات المكثرين عن آبائهم". ¬

_ (¬1) (ص 122 - 123). (¬2) (ص 71).

أقول: أما عبد الله بن نافع فقال أبو طالب عن أحمد: "لم يكن صاحب حديث، كان ضعيفًا فيه". وقال أبو داود عن أحمد: "كان عبد الله بن نافع أعلم الناس برأي مالك وحديثه، وكان يحفظ حديثَ مالك كلَّه [ص 36] ثم دخله بأَخَرةٍ شكّ". قال أبو داود: "وكان عبد الله عالمًا بمالك، وكان صاحب فقه، وكان ربّما أدلّ على مالك". قال: "وسمعت أحمد بن صالح يقول: كان أعلم الناس بمالك وحديثه". وقال ابنُ معين - لما سُئل: مَن الثّبْت في مالك؟ - فذكرهم ثم قال: وعبد الله بن نافع ثبت فيه". وذكر البخاري وأبو حاتم وابن حبان لِينَ حفظه وصحَّة كتابه، ويتلخّص من كلامهم أنه ثقة ثبت في روايته عن مالك، فأما روايته عن غيره فما كان من كتابه فصحيح، وما كان من حفظه ففيه لِيْن. فأما قول أحمد: "ثم دخله بأخرةٍ شكّ". فالظاهر أن هذا لا يضره هنا، فإن عبد الله توفي سنة 204، وسُريج كبير يروي عن فُلَيح بن سليمان المتوفى سنة 168، مع أنّ الشكّ لا ينافي الضبط، فإنه يبيّن فيما يشكّ فيه أنه شكّ، ولم يشكّ ابن نافع في هذه الرواية. وأما سُريج فقال ابن معين والعجلي وأبو داود وابن سعد: "ثقة"، زاد أبو داود: "حدثنا عنه أحمد بن حنبل، غَلِط في أحاديث". والمُكْثِر إذا غلط في أحاديث فحكمه أن يحتجّ به فيما لم يتبيَّن غلطه فيه. وقال الحاكم عن الدارقطني: "ثقة مأمون". وأما عبد الله بن أحمد فقد مرّت ترجمته (¬1)، وهو ثقة فاضل وإن رَغِم الجهميةُ. ¬

_ (¬1) من "التنكيل": (1/ 284 - 285).

وأما أنه لم يرو أحدٌ من أصحاب مالك عنه مثل هذا، فلم أتتبّع ذلك، ولا أثق بمجازفة الأستاذ! وهب أن الأمر كذلك فلا ضير، فإن عبد الله بن نافع كان أعلمهم بمالك وألْزَمهم له ومِن أثبَتهم فيه. وأما أن المتواتر عنه عدم الخوض، فذاك فيما يَدِقّ، فأما أن الله في السماء وعلمه في كلّ مكان، أي أنه يعلم كلّ شيء، فهذا صريح الفطرة والعقل، صريح في القرآن والسنن الصحاح. وأما قول: "ويأتي عنه أيضًا بسنده ما ذُكر هنا بدون زيادة ... ". فالذي جاء بعد ذلك هو: "جعفر بن محمد الصائغ يقول: سمعت [ص 37] سُريج بن النعمان يقول: سمعتُ عبد الله بن نافع الصائغ يقول: كان مالك بن أنس يقول: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص" (¬1). وهذه رواية مختصرة؛ لأن الرواية الأولى جمعت عِدّة أقوال كما رأيت، فاقتصر الراوي في هذه على بعض تلك الأقوال؛ لأن الحال كان يقتضيه وحده. ومثل هذا كثير من صنيعهم، وقد قدمتُ بعض الكلام في ذلك في ترجمة الخطيب (¬2). أما قول الأستاذ: "فآثار الافتعال ظاهرة على هذه الزيادة". فمِن أماني الأستاذ! وعلق الأستاذ (ص 59) (¬3) كلامًا في مسألة القضاء بالشاهد واليمين وقد بسطتها في الفقهيات (¬4). ¬

_ (¬1) "الانتقاء" (ص 73). (¬2) في "التنكيل" رقم (26). (¬3) (ص 107). (¬4) من "التنكيل": (2/ 239 وما بعدها).

ثم علّق الأستاذ على ترجمة الشافعي فبدأ (ص 66) (¬1) بما يتعلّق بنسب الشافعي، وقد مرّ (¬2). وعلّق على (ص 67) (¬3) عند ذِكْر أن الشافعي قَدِم بغداد سنة 195 ثم سنة 198 فقال: "وقَدِم العراق قبلها في عهد طلبه للعلم حين حُمِل مع بعض العلوية من اليمن سنة 184، وإذ ذاك تلقى الفقه عن محمد ... ". وقد تقدّم (¬4) الكلامُ فيه في هذا، وأثبتنا أن الشافعي في قَدْمته الأولى كان مجتهدًا، وأشرنا إلى بعض مناظراته مع محمد في "الأم" (¬5). وفي ذلك ما يكفي لكشف تَعْمِية الأستاذ. وعلّق على (ص 69 وص 74) (¬6) ما له فيه غرض لا حاجة بنا إلى التشاغُل به. وعلَّق على (ص 76 - 77) (¬7) عند ذِكْر ثناء أحمد على الشافعي: "وأما ما يرويه أبو الحسين بن أبي يعلى في "طبقاته" في ترجمة أبي بكر المرّوذي أنه قال: قلت لأحمد: أترى أن يكتب الرجلُ كتبَ الشافعي؟ قال: لا. قلت: أترى أن ¬

_ (¬1) (ص 116). (¬2) مبحث نسب الشافعي سقط من أول النسخة كما سبق الإشارة إليه، وانظر المبحث في "التنكيل": (1/ 688 - 701). (¬3) (ص 117). (¬4) (ص 21 وما بعدها). (¬5) (ص 24 - 26). (¬6) (ص 119 - 125). (¬7) (ص 129).

يكتب "الرسالة"؟ قال: لا تسألني عن شيء مُحْدَث، قلت: كتَبْتَها؟ قال: معاذ الله لا نكتب كلامَ [ص 38] مالك ولا سفيان ولا الشافعي ولا إسحاق بن راهويه ولا أبي عبيد. وما يروونه عنه أيضًا أنه سُئل عن "موطأ مالك" و"جامع سفيان" أيهما أحبّ إليك؟ قال: لا هذا ولا ذاك. وما يرويه أبو موسى المديني في "النُّصح الجلي" بطريق الحسين بن عبد الله عن الأثرم عن أحمد أنه قال: كنت أجالسه - يعني الشافعي - هنا كثيرًا، فلما قدم مصر تغيّر وجاء بالتأويل والرأي. ونحوها = فأخبار تالفة اختلقها الحشويةُ على لسانه لصرف وجوه الأمة عن أئمة الفقه، كما فعلوا مثل ذلك مع أبي حنيفة ... ". أقول: الذي يسمّيهم الأستاذ "حشوية" ويريد بهم الحنابلة؛ فيهم ثقات أفاضل وفيهم غير ذلك، فإذا كان رجال هذه الحكايات مِن ثقاتهم فإننا نقبلها على الرأس والعين، ونقول: قد ثبت عن أحمد أنه كان يكره كتابة كلامه وكلام غيره، ويرى للعالم أن يكتب السننَ والآثارَ، وينظر في كلام العلماء يستعينُ به على الفهم، فقد لا يكون أحمد كتب شيئًا من كتب الشافعي وإن كان قد سمعَ بعضَها وطالعَ بعضها، وكذلك كُتُب غيره. وقد يكون أحمد يفرّق بين الناس، فلم يَرَ للمرّوذي أن يكتب كتب الشافعي ورخَّصَ لغيره. وأما قوله في "الموطأ" و"جامع سفيان" فإنما أراد به ما فيهما من المسائل. فأما الأحاديث والآثار فقد كتبها أحمدُ نفسُه وأثبتها في "مسنده" و"زهده". وأما الرواية الثالثة وفيها: "فلما قَدِم مصر تغيّر وجاء بالتأويل والرأي". فالحسين بن عبد الله إن كان هو ورّاق داود فقد ضعّفه الدارقطني ورُمي

بسرقة الحديث، وإن كان غيره فمجهول كما ذكره ابن حجر في "لسان الميزان" (ج 2 رقم 1317) (¬1). وهب أنّ الحكاية صحّت فقد كان أحمد يكره الكلام في المسائل التي لم تقع، فلا يمتنع أن يكره توسّع الشافعي فيها في كتبه المصرية، ولعله لم يعجبه رجوع الشافعي عن بعض مسائله البغدادية. وليس في ذلك ما ينافي استمراره على ولاء الشافعي والثناء عليه كما ثبت من وجوه كثيرة، وإنما مقصوده بهذا القول - إن كان قاله - التحذير من تقليد الشافعي [ص 39] والإعراض عن الكتاب والسنة، والشافعيُّ نفسُه على هذا، وإنما ألّف تلك الكتب لينتفع الناسُ بها في تعلّم طريق النظر. وهذا المزني يقول في أول "مختصره" (¬2): "اختصرتُ هذا الكتاب من عِلْم محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله، ومن معنى قوله؛ لأقرِّبه على من أراده مع إعْلامِيه نَهْيَه عن تقليده غيره، لينظر فيه لدينه ويحتاط فيه لنفسه". وللأستاذ في هذا التعليق أغراض: الأول: الطمع في التخلّص مما رواه ثقات الحنابلة في الكلام في أبي حنيفة وأصحابه. الثاني: الطمع في التخلّص مما رووه في العقائد. الثالث: أن يفتن بين الشافعية والحنابلة. الرابع: أن يحكي شيئًا يرى فيه غضًّا من الشافعي. ¬

_ (¬1) (3/ 175 - 176). (¬2) (ص 1).

فلينظر الأستاذ كيف خاب أملُه وبان فَشَلُه! وذكر ابنُ عبد البر (ص 78) (¬1) ذمَّ الشافعي النظرَ في الكلام، فعلّق عليه الأستاذ: "يعني نظر مثل مخاطبه في مثل كلام حفص الفَرْد، بقرينة السباق والسياق، جمعًا بين الأقوال المرويّة عن الشافعي. ولم يزل السلف ينهون العوام عن الخوض في الكلام لا سيّما في كلام أهل البدعة، ولكلّ علمٍ رجال". أقول: هذا من تحريف الكَلِم عن مواضعه، والشافعيُّ وغيره من الأئمة ينهون عن النظر في الكلام مطلقًا، وليس من الكلام إظهار ما تعرفه الفِطَر السليمة والعقول المستقيمة، وجاءت به نصوصُ الكتاب والسنة وآثار السلف، بدون تعمّق في اللازم، ولازم اللازم، وهلمَّ جرًّا. والأستاذ يحاول أن يجعلَ أئمة السنة سلفًا وخَلَفًا عامَّةً جُهّالًا في العقائد، ويجعلَ الجَعْدَ بن درهم [ص40]، والجهمَ بن صفوان في أكثر أقواله، وأبا حنيفة فيما يقال، وأتباعه دُعاة المحنة في عهد المأمون، وأتباعَهم كابن الثلجي والأشعري - قبل أن يرجع - والماتريدي وأتباعَهم هم فرسان الكلام، وهم العلماء بالله، حتى أراه يجعلهم أعلم بذلك من أصحاب النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم. وقد كاد الأستاذ يصرِّح بهذا في بعض تعاليقه، وقد توغّل بعض أئمته إلى أبعد من هذا مما يلزمهم، وهو معروف في محلّه. وقد قال موسى بن سيار الأسواري في أوائل القرن الثاني: "إن أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم كانوا أعرابًا جُفاةً فجئنا نحن ¬

_ (¬1) (ص 131 - 132).

أبناء فارس فلخّصنا هذا الدين" كما في "لسان الميزان": (6/ 136) (¬1). وكأني بالأستاذ يقف على هذه المقالة فيقول في نفسه: "صدق"! وذكر ابن عبد البر (ص 79) (¬2) عن الشافعي: ما في أهل الأهواء أشْهَد بالزور من الرافضة. فقال الأستاذ: "وهم الخطّابية الذين يستجيزون الكذب على المخالف، وعَدَت عدواها بعض الحمقى من الرواة". يشير إلى ما افتراه ابن السبكي على الحنابلة (¬3). وذكر ابن عبد البر (ص 81) (¬4) عن الشافعي قوله: "الإيمان قول وعمل وعقد، ويزيد وينقص". وفي السند عبيد الله بن عمر البغدادي، فعلّق عليه الأستاذ: " ... يرمى بالرواية عمن لم يلحق ... ليس في موضع التعويل فيما ينفرد به" وقد اعتمد الأستاذ ما رواه عبيد الله هذا في أن محمد بن الحسن هو الذي خلّص الشافعي من القتل لمّا حُمل إلى بغداد! وذكر ابن عبد البر في (ص 80 - 81) (¬5) بعضَ ما يُروى عن الشافعي مما يدلّ على تصديقه بالقدر والرؤية، ثم قال: "هذا هو الصحيح عنه [ص 41] وقد روى عنه بعضُ أهلِ الكلام خلافَ ذلك ولا يصح عنه". ¬

_ (¬1) (8/ 232). (¬2) (ص 133). (¬3) كتب المؤلف بعده: "وقد تقدم الكلام فيه في الباب الثاني" ثم ضرب عليه. وكلام ابن السبكي في "طبقات الشافعية": (2/ 119 و4/ 34). (¬4) (ص 134). (¬5) (ص 135).

فقال الأستاذ: "لعله يريد القاضي عبد الجبار الهَمَذاني، حيث قال في "طبقات المعتزلة": إن إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي المدني أخذ المذهب عن عَمرو بن عبيد. ولا نزاع في كون إبراهيم معتزليًّا. ومسلم بن خالد الزنجي أخذ المذهب عن غيلان بن مسلم الدمشقي، وكان الشافعي تلميذًا لإبراهيم بن أبي يحيى ولمسلم بن خالد، فاجتمع للشافعي رجلان من أهل الحق من القائلين بالعدل والتوحيد: إبراهيم ومسلم. اهـ. إلى آخر ما ينقله الرازي عنه. وصِلَته بحفص الفرد وبِشر بن غياث وإبراهيم بن عُليّة صِلَةُ ردٍّ عليهم. وأما أخْذ أبي عبد الرحمن أحمد بن يحيى الشافعي عنه ببغداد، وكونه أول من خَلَفه هناك، فلا عَتْب به عليه، فكم من تلميذ حاد عن طريقة أستاذه. وما يُروى عن المزني في القرآن فغير ثابت عنه ... وأما التمسّك بأنه لم يُمتحَن غير البويطي مِن أصحابه في القرآن فأوهن (¬1) من بيت العنكبوت، فإن موافقتهم إنما كانت (¬2) في اللفظ ولا تثريب في ذلك عليهم". أقول: ظاهر هذا الكلام لا بأس به، ولكن قد عوّدنا الأستاذ أنه إنما يحوم حول أغراضه، فلا لوم علينا إذا قلنا: قد يكون للأستاذ في هذا الكلام أغراض: منها: أن يرى الناسُ أنه كما نُسِبت المذاهبُ المستشنعةُ إلى أبي حنيفة فقد نُسبت إلى الشافعي. ومنها: أن يخيّل للقارئ بجمع هذه الأمور صحّة نِسبة البدعة إلى الشافعي. ¬

_ (¬1) الأصل: "فأوهى" والمثبت من كتاب الكوثري. (¬2) في تعليق الكوثري: "ما كانت إلا".

ومنها: أن يباعد الشافعيَّ وأصحابَه عن فضيلة القول بخلق القرآن؛ فإنها في زَعْم الأستاذ فضيلة!! ثم أقول: أما إبراهيم بن أبي يحيى فَقَدريّ، وإنما أخذ الشافعيُّ عنه أحاديث وآثارًا. ولم يزل أهل العلم يروون عن [ص 42] القدريّة. وقد ثبتت براءةُ الشافعي من القدر بعدَّة كلمات منقولة عنه، ولم يُنقل عنه خلافها. وقد جالسه أحمد بن حنبل وغيره فلم يروا من اعتقاده إلا ما يسرّهم. وأما مسلم بن خالد فلم يثبت عنه القول بالقَدَر. وأما بِشر المريسي فضالّ مُضلّ، واتفق للشافعي الاجتماع به، فكان يذاكره في الفقه ويعذله في الكلام وينصحه في تركه، فلم يقبل، فهجره الشافعي. وأما ابن عُليّة فكان الشافعي مهاجرًا له. وأما حفص الفَرْد فتعرّض للشافعي مرة أو مرتين فكفّره الشافعي. وقد اجتمع الشافعي ببعض من يغلو في الرأي ويردّ السنن، فناظرهم عدة مناظرات، كما تراه في "الرسالة" و"الأم" و"اختلاف الحديث" فكَسَر الله تعالى به شوكَتَهم، ولم يتعلّق به شيء من أوضارهم. وأما أبو عبد الرحمن البغدادي فأخذ عن الشافعي الفقه، ثم مال إلى الدنيا في أيام المأمون فوافق الجهمية، والشافعيُّ بريٌّ من بدعته. وأما المحنة بخلق القرآن فقد صَبَر لها خليفةُ الشافعي، وهو أبو يعقوب البُوَيطي حتى مات في قيوده. فإن كان دُعاة المحنة اكتفوا به لكونه رئيس الجماعة فلم يعرضوا لغيره من أصحاب الشافعي فذاك، وإن كانوا عَرَضوا

لهم، فاتقوا بإظهار القول كما اتقى محمد بن عبد الله بن عبد الحكم وغيره فعذرهم ظاهر. وعلّق الأستاذ (ص 85 - 87) (¬1) في مسألة القضاء بشاهد ويمين، وقد بسطناها في الفقهيَّات (¬2)، وذكر الأستاذ أشياء قد أجاب عنها الشافعي بما لا مزيد عليه. وعلق الأستاذ على (ص 88) (¬3) كلامًا في ابن جهضم الذي روى ابن عبد البر من طريقه رؤيا فيها بشارة للشافعي، وههنا استيقظ الحسام القدسي القائم بطبع الكتاب لعقارب الأستاذ فأوقفه عن التعليق - أحوجَ ما كان إليه وأحْرَصَ ما كان عليه - كما نبّه على ذلك في المقدمة إذ قال: "كان الشيخ محمد زاهد الكوثري يصحّح الكتاب ويعلّق [ص 43] عليه، ثم أوقفتُ ذلك في الصفحة 88 لما اطلعتُ عليه مِن دِخْلَة في علمه وعمله ... ". فلقد أحسن القُدسيّ إلى العلم وأهله وإلى نفسه ومكتبته وإليّ خاصةً؛ إذ كفاني مُؤْنة الردّ على تخرّصات الأستاذ. وههنا أخْتِم ترجمة الإمام الشافعي، فأما فضائله ومناقبه فمعروفة. ¬

_ (¬1) (ص 141). (¬2) من "التنكيل": (2/ 239 وما بعدها). (¬3) (ص 142).

الرسالة الثانية عشرة شرح حديث: "آية المنافق ثلاث ... "

الرسالة الثانية عشرة شرح حديث: "آية المنافق ثلاث ... "

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ اعلم - وفقني الله وإيّاك - أنّ (إذا) قد تفيد التكرار في نحو قولك: ما لي أرى زيدًا إذا دَخَل عمروٌ قام، وعلامتها أن تحلّ محلها (كلّما) وذلك خاصٌّ بما إذا تجرَّدت عن الاستقبال وصارت للاستمرار، فتدبّر أيُّها الذوَّاق. إذا تقرّر ذلك فقوله - صلَّى الله عليه وآله وسلم -: "آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخْلَفَ، وإذا اؤتمن خان" رواه البخاريُّ (¬1)، وكذا مسلمٌ (¬2) بزيادة بعد ثلاث: "وإنْ صامَ وصلى وزعم أنَّه مسلم". ورَوَيا أيضًا (¬3): "أربعٌ من كنَّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومَن كانت فيه خَصلةٌ منهنَّ كان فيه خَصلة من نفاقٍ حتى يدعَها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدَّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر" هـ. فـ (إذا) فيهما من هذا الباب - أعني -: أنّ المراد مَنْ غلبت عليه هذه الخصالُ أضدادَها فهو منافق؛ لأنه يبعد أن يُحمل الحديث على ظاهره مِنْ عموم هذه الخصال الأربع وانتفاء أضدادها قطعًا، فلم يبقَ إلا أن نحمله على أقرب شيءٍ إلى المحضيّة، وذلك الغلبة. فنحن نعتقد أنّ هذه الخصال لا تغلب إلا على منافق خالصِ النفاق الشرعي الذي هو خلاف الإيمان. ¬

_ (¬1) (33) من حديث أبي هريرة. (¬2) (59/ 109) من حديثه أيضًا. (¬3) البخاري (34)، ومسلم (58) من حديث عبد الله بن عمرو.

ومعنى الحديثين واحدٌ، فإنّ قوله في الأول: "وإذا وعد أخلفَ" يشمل قوله في الثاني: "وإذا عاهد غدر" فما في الأول مطلقٌ، وما في الثاني مقيَّدٌ. وقد يقال: يُحمل المطلق على المقيّد - كما هو مقرّر في الأصول - فعليه لا يكون إخلاف الوعد آيةً للنفاق إلا إذا غدر بعهدٍ، وهذا هو الموافق لمذهب الشافعيّة: أنّ الوفاء بالوعد لا يجب. فأمّا قوله تعالى في الثناء على إسماعيل - عليه السلام -: {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} [مريم: 54] فإنه لا يفيد إلا أنّ ذلك من الخصال المحمودة، وهي تشمل الواجب والمندوب فلا يدلُّ على الوجوب. ويدلُّ على ذلك قوله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "وإذا وعد الرجل أخاه ومِن نيّته أن يفي فلم يفِ ولم يجئْ للميعاد فلا إثم عليه" رواه أبو داود والترمذي عن زيد بن أرقم (¬1). ثم قوله فيهما: "وإذا حدّث كذب" يشمل قوله في الثاني: "وإذا خاصم فجر" فهو من عطف المقيّد على المطلق، وذلك يفيدُ مزيد الاهتمام بشأنه. وبهذا تقرَّر أن معنى الحديثين واحدٌ فلا حاجة لما قاله بعضُهم: "إنّ الشيء قد يكون له علاماتٌ كثيرة" فإنّه يفيد التغاير، والتوفيق بين الحديثين أولى عند العارفين مع أنّه واضحٌ. وقد استفدنا بذلك مسألة نفيسة، ولمّا غفلوا عن نيّة التكرار وقعوا في إشكالٍ حتى قال أكثرُهم: إنّ ذلك خاصٌّ ¬

_ (¬1) أبو داود (4995)، والترمذي (2633) وقال: "هذا حديث غريب وليس إسناده بالقوي، علي بن عبد الأعلى ثقة، ولا يُعرف أبو النعمان ولا أبو وقاص وهما مجهولان".

بمنافقي زمانه - عليه الصلاة والسلام -، وهذه دعوى لا دليل عليها. فأمّا ما رواهُ مقاتل عن الحسن أنّ رسول الله صلىّ الله عليه وآله وسلم لمّا قال ذلك شغل قلوبَ أصحابه أن يسألوه؛ فأمروا فاطمة ابنته أن تسأله، وذكروا لها شغل قلوبهم، فأخبرت فاطمة النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم، فأمر سلمانَ فنادى: الصلاة جامعة، فصعد المنبر ثم قال: "أيُّها الناس إني كنتُ قلتُ لكم: ثلاث من كنَّ فيه فهو منافقٌ، ولم أعنكم به إنّما عنيتُ المنافقين، أمّا قولي: إذا حدث كذب فإنهم أتوني فقالوا لي: إيمانُنا كإيمانك، وتصديق قلوبنا كتصديق قلبك فأنزل الله تعالى: {إذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ ...} إلى {.. لَكَاذِبُونَ} وأمّا قولي: "وإذا اؤتمن خان" فإنّ الصلاة والدين كلُّه أمانة فإنهم {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ ...} الآية [النساء: 142]، وفيهم قال الله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ} إلخ [الماعون: 4 - 5]، وأمّا قولي: "وإذا وعد أخلف" فإنّ ثعلبة بن حاطبٍ أتاني وقال: إنّي مولَعٌ بالساعة ولي غُنيمات فادعُ الله أن يبارك لي فيهنَّ، فعليَّ عهدُ الله لأتصدقنَّ وأكوننّ من الصالحين، فدعوتُ الله فَنَمَت وزادت حتى ضاقت عليها الفجاج فسألته الصدقة فبخل بها؛ فأنزل فيه: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ ...} الآية [التوبة: 75] " فسُرّي عن الصحابة وتصدّقوا بمالٍ عظيم". كذا نقلتُ هذا الحديث من "تحفة الزمن في تاريخ سادات اليمن" (¬1) ¬

_ (¬1) (ص70). والحديث أخرجه بطوله الثعلبي في "الكشف والبيان": (5/ 73 - 75)، وذكر الطبري طرفًا منه: (11/ 585).

للحسين بن عبد الرحمن الأهدل، فإن صحَّ فليس فيه إلا أنَّه لم يَعْنِ مخاطبيه، وذلك حقٌّ؛ فإنّهم رضي الله عنهم لم تغلب عليهم تلك الخصال، فأمّا المنافقون فإنها غالبةٌ عليهم، كما يدلُّ عليه قوله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ ...} فإنّ (إذا) فيها مفيدةٌ للتكرار، وكذلك قوله: "فإنّ الصلاة والدين كلّه أمانة ... إلخ". و (إذا) في قوله: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى} مفيدةٌ للتكرار. وأمّا قصةُ ثعلبة فإنّه لم يتكرر منه الغدر بالعهد، لكنّه لما كان لله ورسوله وأصرّ عليه غُلِّظ عليه. وهذا الحديث - إن صحَّ - فليس بيانًا لاختصاص الحديث السابق بمنافقي زمانه - عليه أفضل الصلاة والسلام - وإنّما هو بيانٌ لمصداقه من القرآن، فإنه تعالى خصَّ بالمنافقين بتكرر أنّهم إذا جاؤوه كذبوا فصارت علامةً لهم، وخصَّهم بالوصف بتكرّر خيانة الأمانة، ومنها الصلاة فصارت علامةً لهم، وحكم على ثعلبة (¬1) بالنفاق لغدره بالعهد المغلّظ وإصراره عليه فصارت علامةً. وقصّة ثعلبة تعضد ما قلناه مِن أنّ إخلافَ الوعد لا يكون آية النفاق حتى تكون غدرًا بالعهد، وإذا علمتَ أن الصلاة والدين كلّه أمانة سَهُل عليك الأمرُ، وحقًّا هي أمانة يدلُّ عليها هذا الحديث وغيره كقوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72] إلى غير ذلك من الآيات مع ¬

_ (¬1) لا تثبت قصة ثعلبة من وجه يصح، وانظر كتاب "ثعلبة من حاطب الصحابي المفترى عليه" لعداب الحمش.

قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: "لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له" (¬1). رواه البيهقي في "شعب الإيمان" (¬2) عن أنس قال: قلّما خطَبنا رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم إلاّ قال. بل ظاهر هذا الحديث أنّ كلاًّ من الخيانة والغدر بالعهد كفرٌ على حِدَته. وأمّا قول من قال: "المقصود بالنفاق النفاق اللغوي وهو مخالفة الباطن للظاهر" (¬3). فيقال له: كلامُ الشارع محمولٌ على اصطلاحه، ولا يحمل على خلافه إلا بدليلٍ ولا حاجة إليه. فخلاصة البحث: أنّ من غلب عليه الكذب في الحديث، والغدرُ بالعهد، والخيانةُ بالأمانة مهما كانت = فهو منافقٌ خالصٌ. لا يقال: إنّ الحديثين مُطْلِقان للأمانة وحديث مقاتل عن الحسن - إن صحّ - مقيِّدٌ لها بالدِّين فيُحْمَل المطلق على المقيّد؛ لأننا نقول: إنّما يُحْمَل المطلق على المقيَّد إذا كان ذكرُ المقيّد تأصيلاً، كذكر الغدر بالعهد في الحديث الثاني، وأمّا إذا ذُكِر تمثيلاً كحديث مقاتل فلا؛ لأنّه إنّما استدل على أنّ خيانة الأمانة ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (12383)، وأبو يعلى (2863)، وابن حبان (194)، والبيهقي (6/ 288) وغيرهم من حديث أنسٍ رضي الله عنه. وسنده حسن. (¬2) (4045) وليس فيه هذا اللفظ، وهو في "سننه الكبرى": (6/ 288)، وفي "مسند أحمد". (¬3) انظر "إكمال المعلم": (1/ 222) للقاضي عياض.

من آيات النفاق بأنّ الله تعالى خصَّ المنافقين بتضييع الصلاة ونحوها، وهي من الأمانة، فتدبّر. على أنّه ما مِن واحدة من الثلاث إلا وقد ورد أنّها كفرٌ؛ فأمّا الخيانة والغدر بالعهد فقد مرّ حديث البيهقي، وأمّا الكذب فقوله تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} [النحل: 105] (¬1)، مع الحديث [الذي] (¬2) رواه مالكٌ والبيهقي في "شعب الإيمان": "أيكون المؤمن كذابًا" (¬3). والحديث الآخر وفيه: "أيكذب المؤمن؟ " قال: "لا، {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ...} الآية" (¬4) وهو في "منتخب كنز العمال" وله طرقٌ. وحديث أحمد والبيهقي: "يطبع المؤمن على الخلال ¬

_ (¬1) وعنه صلّى الله عليه وآله وسلم في حديث رواه أبو داود [3599] قال: صلّى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم صلاة الصبح فلما انصرف قام قائمًا فقال: "عدلت شهادة الزور بالإشراك ثلاث مرات ثم قرأ: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} [الحج: 30 - 31]. [المؤلف]. (¬2) زيادة ليستقيم السياق. (¬3) مالك في "الموطأ" (2832)، والبيهقي في "الشعب" (4472) من حديث صفوان بن سليم مرسلًا. (¬4) أخرجه ابن أبي الدنيا في "الصمت" (474) و"مكارم الأخلاق" (140)، والطبري في "تهذيب الآثار": (مسند علي - 224) وغيرهم من طريق يعلي بن الأشدق عن عبد الله بن جراد عن أبي الدرداء. قال الذهبي في "الميزان": عبد الله بن جراد مجهول لا يصح خبره؛ لأنه من رواية يعلي بن الأشدق الكذَّاب.

كلها إلا الخيانة والكذب" (¬1)، وقوله: "يُطْبَع المؤمن" يدلّك على ما قلناه من شرط التكرار، ومثله قوله في حديث متفق عليه (¬2): "وما يزال الرجل يكذبُ ويتحرَّى الكذب حتى يُكْتَب عند الله كذابًا" (¬3). ¬

_ (¬1) أحمد (22170)، وابن أبي عاصم في "السنة" (101) من حديث أبي أمامة، وأخرجه أبي عاصم (102)، والبيهقي في "الشعب" (4471) وغيرهم من حديث ابن عمر. وله شواهد أخرى، وكلها لا تخلو من ضعف. انظر "السلسلة الضعيفة" (3215). (¬2) البخاري (6094)، ومسلم (2607) واللفظ له من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. (¬3) وأمّا قولهم في إخوة يوسف إنّ أباهم ائتمنهم على يوسف فخانوه ووعدوه بحفظه وأخلفوا وحدّثوه بأنّ الذئب أكله فكذبوا. فنقول: أمّا الخيانة فوقعت، وكذا الكذب ولكن ذلك لم يتكرر منهم فضلاً عن أن يغلب عليهم، وأمّا إخلاف الوعد فقد قررنا أنه لا يكون آيةً للنفاق إلا أن يكون غدرًا بالعهد وقد رأيت حين أخذ عليهم أبوهم الموثق كيف حافظوا عليه فارتفع الإشكال، ولله الحمدُ. ثم إنَّ قصتهم هذه ممّا يُشكل على مذهب القائل: إنّ الأنبياء معصومون عن الصغائر والكبائر قبل النبوة وبعدها: فأولاً: يُنظر هل هم أنبياء أم لا؟ نقول: إنّهم أنبياء لقوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ} [البقرة: 136]، وقوله جل شأنه: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ} [النساء: 163] إلى غير ذلك. ثم واقعتهم مع يوسف كانت قبل النبوة لقوله فيها: {قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89)}. وعلى هذا فيبقى الإشكال على قول إنّ الأنبياء معصومون قبل النبوة وبعدها. وأمّا المعصية التي ارتكبوها فالظاهر أنّها كبيرة, ولا يتخرّج هذا إلا على قول من قال: =

ثم اعلم أن نقائض هذه الخصال من شعب الإيمان كما تدلّ على ذلك آيات القرآن، كقوله تعالى في وصف المؤمنين: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون: 8]، وقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:3] وقوله - جلّ شأنه - في صفة عباده: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان: 72]، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] إلى غير ذلك. وهذا آخر ما استرسل به القلم في هذا البحث، وفقنا الله تعالى لما يحبه ويرضاه، وجنَّبنا ما لا يحبه ويرضاه. وفقنا الله للإيمان، وجنّبنا مداحض الخذلان، وحَفِظَنا من الخسران، وأعاذنا من الشيطان، وكتب لنا النجاة من النيران، والخلود في الجنان في الرَّوح والريحان، والفضل والرضوان. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد سيّد ولد عدنان، وعلى آله وأصحابه والتابعين بإحسان. والحمد لله رب العالمين. والله وليُّ التوفيق، وهو حسبنا ونعم الوكيل. ¬

_ =إنّهم قبل النبوة غير معصومين، وهذا قول خطرٌ، فالأولى التوقّف حتى يبيّن الله تعالى الحقَّ في ذلك. والله وليُّ التوفيق، وهو حسبنا ونعم الوكيل. [لمؤلف]. تنبيه: من قوله: "ثم إنّ قصتهم ... " إلخ، وُجد بآخر الرسالة والظاهر أنها متعلقة بما تقدم في الحاشية من مسألة إخوة يوسف وما جرى لهم.

الرسالة الثالثة عشرة التعليق على "الأربعين في التصوف" للسلمي

الرسالة الثالثة عشرة التعليق على "الأربعين في التصوف" للسلمي

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله. اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد، فإنه عَرَض عليَّ مجلسُ (دائرة المعارف العثمانية) كتاب (الأربعين في التصوّف) لأبي عبد الرحمن محمد بن الحسين السُّلَمي النيسابوري، وهو كتاب يشتمل على أربعين حديثًا تتعلق بالتصوّف، فقرَّر المجلس طَبْعه في مطبعة الدائرة، وأن يُرتّب ويُطبع معه تعليق يتضمّن النظرَ في حال تلك الأحاديث صحةً أو ضعفًا، فأُمِرتُ بترتيب ذاك التعليق، فحاولت أن أقوم بما تيسّر لي من ذلك، وأقدِّم قبل ذلك التنبيهَ على أمور: الأول: رُوي عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم حديثٌ لفظه: "مَن حفظ على أمتي أربعين حديثًا من السنة كنت له شفيعًا وشهيدًا يوم القيامة" (¬1). قال النووي (¬2): "اتفق الحفّاظ على أنه حديث ضعيف وإن كثرت طرقه". فعمل جماعةٌ بما فهموه من هذا الحديث، فجمع كل منهم أربعين حديثًا في مؤلَّف. ¬

_ (¬1) هذا الحديث له طرق كثيرة وألفاظ متعددة، خرّجه ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (161 - 184) من طريق ثلاثة عشر صحابيًّا، وضعَّفه من جميع طرقه، واتفقت كلمة الحفاظ على تضعيفه. وانظر "المقاصد الحسنة" (ص 411)، و"البدر المنير": (7/ 278). (¬2) في خطبة "الأربعين" (ص 5).

وقد ذكر صاحب "كشف الظنون" (¬1) طائفة كثيرة من الأربعينات، وذكر عن النووي أنّ أول مَن عَلِمه عَمِل ذلك: عبد الله بن المبارك المتوفي سنة 188، ثم تعدّى الأمر إلى غير الحديث، فألّف فخر الدين الرازي المتوفي سنة [606] (¬2) مؤلّفًا في علم الكلام يشتمل على أربعين مسألة، وسمَّاه "كتاب الأربعين في أصول الدين". وقد طُبع في دائرة المعارف سنة [1353] (¬3). الأمر الثاني: الأحاديث المرويّة على ثلاثة أقسام: الأول: ما حقّه أن يُحكم بثبوته. الثاني: ما حقّه أن يُحكم ببطلانه. الثالث: ما هو على الاحتمال، لا يترجّح فيه جانب الثبوت ولا جانب البطلان. وكان المتثبّتون من أئمة الحديث يحتاطون في الرواية، فيروون ما تبيّن لهم أنه من القسم الأول، ولا يروون ما تبيَّن أنه من القسم الثاني إلا إذا احتاجوا إلى بيان بطلانه أو جرح راويه، أو تعليل حديثٍ آخر به، أو نحو ذلك، فحينئذٍ يروونه ويبيّنون بطلانه. وأما القسم الثالث، فإن كان فيه حُكم أو سُنَّة لم تثبت بغيره لم يرووه إلا مع بيان أنه لا يصلح للحجة وحده، وإن كان على خلاف ذلك تسهَّلوا في ¬

_ (¬1) (1/ 52 - 61). (¬2) ترك المؤلف سنة وفاته بياضًا. (¬3) ترك المؤلف سنة الطبع بياضًا.

روايته، وذلك كأنْ يكون فيه حُكْم أو سُنَّة ثابتة بغيره، أو يكون فيه ترغيب في عمل ثابت، كالصلوات الخمس وقيام الليل وصيام رمضان، أو تنفير عما ثبتت حُرمته، كالزنا والربا وشرب الخمر. وقد عقد الخطيب البغداديّ لهذا المطلب بابًا في "الكفاية" ص 133. وكان الأئمة كما يحتاطون في أنفسهم يبينون لمن دونهم من الرواة الذين لا يتمكّنون من التمييز، فيقولون: لا ترووا عن فلان، أو: لا ترووا عن فلان إلا ما كان في الرقائق، ويقولون للراوي: لا تروِ هذا الحديث. ثم كثُر التساهل من جهتين: الأولى: قول بعض المتأخرين: إنه يجوز العمل بالحديث الضعيف، وزاد غيره فقال: بل يُستحبّ، وقد كشف غلط هؤلاء أبو إسحاق الشاطبي في "الاعتصام" ج 1 ص 303 - 308. الجهة الثانية: تساهل الحُفَّاظ في رواية كل ما سمعوه بلا بيان، وإن كان من القسم الثاني فضلًا عن الثالث. وكانوا يعتذرون بأنهم لم يلتزموا الصحة، وقد بيَّنوا الأسانيد، فمَن أحبّ معرفة صحة الحديث أو بطلانه أو ضعْفه فعليه أن ينظر في إسناده ويسأل العلماء. وأُلفت على هذه الطريقة كثير من المؤلفات، ثم جاء قوم فحذفوا الأسانيد واقتصروا على جمع الأحاديث منسوبةً إلى الكتب المسندة فيها، ثم جاء آخرون فأخذوا كثيرًا من تلك الأحاديث فضمّنوها مؤلفاتهم غير مسندة ولا منسوبة. [ص 2] والسُّلمي أورد في "الأربعين" الأحاديث بأسانيدها، وفيها من الأقسام الثلاثة كما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

الأمر الثالث: لا يلزم من ضعف السند ضعف الحديث لاحتمال أن يكون ثابتًا بإسنادٍ آخر، وقد لا يكون ثابتًا ولكن معناه ثابت بدليل آخر من الكتاب أو السنة أو الإجماع. وكذلك لا يلزم من ثقة رجال الإسناد وثبوت أنَّ كلًّا منهم قد لقي شيخَه أن يكون الحديث صحيحًا، لاحتمال أن يكون هناك خطأ أو غلط لو فتَّش عنه العارفُ الماهرُ لوَجَده. فلهذا كان الواجب على مَن يتكلّم في الأحاديث ولم يبلغ درجة التحقيق أو لم يعمل بِحَسَبها أن يحتاط فيقول في التضعيف: "لا يصح بهذا السند"، "في سنده فلان وهو ضعيف" أو نحو ذلك. ويقول في التصحيح: "رجاله ثقات" أو "رجاله رجال الصحيح" أو نحو ذلك، فإذا كان بعض الأئمة قد ضعَّف الحديث أو صحّحه أحال عليه. الأمر الرابع: الإنسان مُولَعٌ بالحرص على التفوّق بأن يُظهر أن عنده ما ليس عند غيره، فرواة الحديث يحرصون على شيئين: الأول: علوّ الإسناد، بأن يكون الحديث عند الرجل بوسائط أقل مما عند نُظرائه، كأن يكون بينه وبين النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم أربعة، وبين نُظرائه وبين النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم أكثر من ذلك. الثاني: الغرابة، كأن يكون عنده أحاديث لا توجد عند غيره، أو تكون عنده وعندهم من وجوه مشهورة، وهي عنده من أوجهٍ أخرى ليست عندهم. وكثيرًا ما جرّ الحرص على العلوّ والغرابة إلى تقديم الصحيح على الأصح، والضعيف على الصحيح، والغلط على الصواب، والباطل على

الثابت، بل جرَّ بعضَ لا خير فيه إلى الكذب، وأوقع بعضَ أهلَ الصدق في أن اتُّهم بالكذب، ومنهم السلميّ؛ فإن أكثر مطالبه التي ترجم بها في "الأربعين" استدلّ عليها بأحاديث واهية - كما ستراه - وقد كان يمكنه أن يستدلّ بما هو أثبت منها، كما سأنبّه على بعضه، ولكن الحرص على العلوّ والغرابة أوقعه في اختيار تلك الواهيات. الأمر الخامس: إذا كان الحديث صحيحًا فلا بدّ أن يكون مرويًّا في القرون الأولى كما هو واضح، لكن كانت الأحاديث أولاً منتشرة، فقد يكون الحديث مرويًّا معروفًا عند أهل الشام ولم يبلغ أهلَ اليمن مثلًا، وقِس على ذلك، فلم يزل أهل الحديث يرحلون ويجمعون، حتى كان في أوائل القرن الثالث أئمة لا يكاد يوجد حديث صحيح لا يعرفونه, كالإمام أحمد ويحيى بن معين ثم البخاري وأبو حاتم وأبو زُرعة، وحينئذٍ أُلّفت الكتب من مسانيد ومصنفات. فإذا وُجِد في كتب المتأخرين حديث لا يوجد في كتب المتقدمين فتلك علامة ظاهرة على وهنه، فإما أن يكون كذبًا خطأً أو عمدًا، وإما أن يكون مما تركه المتقدمون عمدًا لعلمهم ببطلانه. الأمر السادس: الأحاديث التي لا توجد إلا في التواريخ وكتب الرجال عامتها ضعيفة جدًّا؛ لأن أهل التواريخ إنما يذكرونها غالبًا للطعن علي الراوي الذي تفرَّد بها؛ ولهذا الأمر والذي قَبْله قال السيوطي في مقدمة " جمع الجوامع" (¬1) كما نقله علي المتقّي في مقدمة "كنز العمال" (¬2): أن ما نَسبَه إلى كتاب "الضعفاء" للعُقيلي، أو "الكامل" لابن عدي، أو "تاريخ ¬

_ (¬1) (1/ 44 - ط الأزهر). (¬2) (1/ 10).

بغداد" للخطيب، أو "تاريخ دمشق" لابن عساكر، أو "نوادر الأصول" للحكيم الترمذي، أو "تاريخ نيسابور" للحاكم، أو "تاريخ ابن الجارود" أو إلى "مسند الفردوس" للديلمي = "فهو ضعيف، فيُستغنَى بالعزو إليها أو إلى بعضها عن بيان ضعفه". الأمر السابع: المؤلفون في استدلالهم بالأحاديث على قسمين: الأول: مَن يكون اعتقاده مبنيًّا على دليل يريد أن يبيّنه، فيذكر المسألة ثم يذكر الدليل الذي لأجله اعتقد ما اعتقد. الثاني: مَن يكون اعتقاده مبنيًّا [3] على أمر آخر، ويريد أن يستدلّ عليه بالحديث، وذلك كالمقلّد يعتقد المسألة تقليدًا ثم يحاول الاستدلال بالحديث. فالأول بمنزلة القاضي العادل، والثاني بمنزلة المدعي أو المحامي عنه؛ ولهذا يغلب في القسم الأول صحة الدليل وصحة دلالته، ويكثر في الثاني خلاف ذلك. والسلميّ من القسم الثاني كما سيتبيّن لك، والله المستعان. وأَشْرعُ في الكلام على الأحاديث بحسب ترتيبها.

[1] باب الدليل على أن الصوفية هم رفقاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ صلَّى الله على سيدنا محمد وسلم. أخبرني شيخ الإسلام حافظ العصر أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر رحمه الله، عن أبي الحسن علي بن محمد بن محمد بن أبي المجد قراءة قال: أنبأنا أبو الفتح محمد بن عبد الرحيم ابن النشو إجازة، أنا أبو محمد عبد الوهاب بن ظافر بن رواج، أنا الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد بن أحمد السلفي، أنا أبو الطيب طاهر بن المسدد الجنزي، أنا أبو الحسن علي بن عبد الرحمن النيسابوري، أنا أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي رحمه الله قال (¬1). [1] باب الدليل على أن الصوفية هم رُفقاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبرنا محمد بن محمد بن سعيد الأنماطي ثنا الحسن بن علي بن يحيى بن سلام ثنا محمد بن علي الترمذي ثنا سعيد بن حاتم البلخي ثنا سهل بن أسلم عن خلاد بن محمد عن أبي حمزة السكري عن يزيد النحوي عن عكرمة: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا على أصحاب الصُّفّة فرأى فقرهم وجهدهم وطيب قلوبهم، فقال: "أبشروا يا أصحاب الصُّفة من بقي من أمتي على النعت الذي أنتم عليه راضيًا بما فيه فإنه من رُفقائي يوم القيامة". قال المعلمي: رجال السند بين المؤلف وبين أبي حمزة السُّكّري لم أعرفهم إلا محمد بن عليّ الترمذي، وهو الحكيم الترمذي المشهور، ترجمته في ¬

_ (¬1) بعدها في (ط): " [اتصل] هكذا بين معكوفين، ولم يتضح لي المراد منها.

[2] باب من صفة الفقراء

"لسان الميزان" ج 5 ص 308 (¬1)، والحديث في "كنز العمال" ج [16577] (¬2) نَسبَه إلى "تاريخ بغداد" (¬3) فقط. وقد تقدّم في الأمر السادس من المقدمة (¬4) قول السيوطي: إن ما ينسبه إلى "تاريخ بغداد" أو إلى "نوادر الأصول" للحكيم الترمذي فهو ضعيف (¬5). **** [2] باب من صفة الفقراء أخبرنا أبو القاسم عبد الرحمن بن أحمد بن متويه البلخي ثنا فهدي بن جَسْنَسْفَنَّة ثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي ثنا عثمان بن عبد الرحمن الحراني ثنا الوازع بن نافع عن أبي سلمة: عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "حوضي ما بين عدن إلى عَمّان؛ شرابه أبيض من اللبن وأحلى من العسل، من شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبدًا، وأول مَن يَرِدُه صعاليك المهاجرين"، قلنا: ومَن هم يا رسول الله؟ قال: "الدُّنْس الثياب، الشُّعْث الرؤوس، الذين لا تُفْتَح لهم أبواب السُّدَد، ولا يزوَّجون المنعّمات، الذين يُعطُون ما عليهم ولا يُعطَون ما لهم، وليأتينَّ أقوام فيقولون: أنا فلان بن فلان ولأقولن: إنكم بدّلتم بعدي". ¬

_ (¬1) (7/ 386 - 389 - ط المحققة). (¬2) ترك المؤلف بقية الإحالة غفلًا فأكلمته برقم الحديث فيه. (¬3) (13/ 276) أخرجه من طريق السلمي. (¬4) (ص 367). (¬5) والحديث أخرجه الديلمي في "مسند الفردوس". وذكره الألباني في "السلسلة الضعيفة" (1589) وقال: ضعيف جدًّا مظلم ...

قال المعلمي

قال المعلمي: في سنده الوازع بن نافع، ضعيف جدًّا. قال فيه الإمام أحمد ويحيى بن معين وأبو داود: "ليس بثقة". والكلام فيه كثير، راجع ترجمته في "لسان الميزان" ج 6 ص 213 (¬1). لكن قد جاء الحديث مع اختلاف غير كثير من غير طريقه. راجع "مسند أحمد" ج 5 ص 275 (¬2)، و"المستدرك" ج 4 ص 184 (¬3). **** [3] باب استعمال الخُلُق ولو مع الكفار أخبرنا زاهر بن أحمد الفقيه ثنا علي بن محمد بن الفرج الأهوازي ثنا سليمان بن الربيع الخزاز ثنا كادح بن رحمة عن أبي أمية بن يعلى عن سعيد بن أبي سعيد: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أوحى الله سبحانه وتعالى إلى إبراهيم عليه السلام: إنك خليلي، حَسِّن خُلقك ولو مع الكفار تدخل ¬

_ (¬1) (8/ 367). (¬2) رقم (6162) من حديث عبد الله بن عمر. (¬3) راويه عن أبي سلمة - وهو الوازع - مُجمع على ضعفه، فقد روى أحاديث موضوعة. لكن أخرج هذا الحديث الترمذي (2444)، وأخرجه ابن ماجه (4303) وأحمد (22367)، والطيالسي في "مسنده" (1088) ومن طريقه البيهقي في "الشعب" (10003)، والحاكم في "المستدرك": (4/ 184) وغيرهم من طرقٍ عن محمد بن مهاجر عن العباس بن سالم عن أبي سلام ممطور الحبشي. قال الترمذي: غريب من هذا الوجه، ونحوه قال الطبراني في "الأوسط"، وحسَّن إسناده البزار، وقال الحاكم: "صحيح الإسناد".

قال المعلمي

مداخل الأبرار، فإن كلمتي سبقت لمن حَسُن خلقه، أظِلُّه تحت عرشي وأُسكنه حظيرة قدسي، وأُدْنيه من جواري". قال المعلمي: في سنده ثلاثة في نَسَق ضعفاء جدًّا. الأول: أبو أمية إسماعيل بن يعلى الثقفي. قال فيه ابن معين: "متروك الحديث"، وقال البخاري: "سكتوا عنه". وراجع "لسان الميزان" ج 1 ص 445 (¬1). الثاني: سليمان بن (¬2) الربيع النهدي. تركه الدارقطني وقال: "ضعيف". راجع "لسان الميزان" ج 3 ص 91 (¬3). الثالث: كادح بن رحمة. قال فيه ابن عدي: "أحاديثه غير محفوظة ولا يُتابع في أسانيده ولا في متونه". وقال الحاكم وأبو نعيم: "روى عن مِسْعر والثوري أحاديث موضوعة". راجع "لسان الميزان" ج 4 ص 480 (¬4) (¬5). ¬

_ (¬1) (2/ 186). (¬2) وقع في الأصل: "بن أبي" سبق قلم. (¬3) (4/ 152). (¬4) (6/ 407). (¬5) ذكر السخاوي في تخريجه (3) أن كادحًا ضعيف جدًّا لكن لم ينفرد به, فقد رواه الطبراني في "الأوسط" وعنه أبو نعيم في "الأربعين". قال الطبراني: لا يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا بهذا الإسناد. قال: ومداره على إسماعيل بن يعلي بن أُمية, وهو ضعيف عندهم.

[4] باب فيمن تخلى من جميع ماله ثقة بالله عز وجل

[4] باب فيمن تخلّى من جميع ماله ثقةً بالله عزَّ وجلَّ أخبرنا أبو الحسن محمد [بن محمد بن الحسن] بن الحارث الكارزي أنا علي بن عبد العزيز ثنا أبو نعيم الفضل بن دُكين ثنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: سمعت عمر يقول: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نتصدق، فوافق ذلك مالًا كان عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته، فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ماذا أبقيتَ لأهلك؟ " قلت: مثله. وأتى أبو بكر بكل ما عنده فقال: "يا أبا بكر، ماذا أبقيتَ لأهلك؟ " قال: الله ورسولَه، قلت: لا أسابقك إلى شيء أبدًا. قال المعلمي: الحديث في "سنن أبي داود" ج 4 ص 235 (¬1) في كتاب الردة (¬2)، و"سنن الترمذي" ج 2 ص 292 (¬3). وقال: "حديث حسن صحيح"، و"المستدرك" ج 1 ص 414 وقال: "صحيح على شرط مسلم" وأقرّه الذهبي (¬4) (¬5). ¬

_ (¬1) (1678). كتب المؤلف فوقها بقلم الرصاص: "الهند سنة 1371" يقصد تاريخ طبعة السنن التي يعزو إليها. (¬2) "في كتاب الردة" ملحقة بقلم الرصاص بخط المؤلف. (¬3) (3675). كتب المؤلف فوقها بقلم الرصاص: "مصر سنة 1393" يشير إلى سنة طبع نسخته من الترمذي. (¬4) قال السخاوي: مسلم لم يخرج لهشام بن سعد أصلًا، إنما أخرج له متابعة. لكن قال البزّار (1/ 394): وهشام لم أر أحدًا يتوقّف في حديثه لعلّة توجب التوقّف. وكتب المؤلف بعده بقلم الرصاص: "قلت: لا أسابقك إلى شيء أبدًا". (¬5) وأخرج الحديث الدارمي في "مسنده" (1701)، وابن أبي عاصم (1240)، والضياء في "المختارة"، وغيرهم.

[5] باب في جواز الكرامات للأولياء

[5] باب في جواز الكرامات للأولياء أخبرنا محمد بن محمد بن يعقوب الحافظ ثنا أحمد بن عبد الوارث بن جرير العسال بمصر أنا الحارث بن مسكين أنا ابن وهب أخبرني يحيى بن أيوب عن ابن عجلان عن نافع: عن ابن عمر أن عمر رضي الله عنه بعث جيشًا فأمَّر عليهم رجلًا يدعى سارية، فبينما عمر يخطب فجعل يصيح: يا ساريةَ الجبل، يا ساريةَ الجبل. فقَدِم رسولٌ من الجيش، فقال: يا أمير المؤمنين لقينا عدونا فهزمونا، فإذا صائح يصيح: يا سارية الجبل، فاسندنا ظهورنا إلى الجبل فهزمهم الله تعالى، فقلنا لعمر: كنت تصيح بذلك. قال ابن عجلان: وحدثني إياس بن معاوية بن قرة أنا عمر بن أحمد بن عثمان بن شاهين ثنا عبد الله بن سليمان بن الأشعث ثنا أيوب بن محمد الوزان ثنا خطاب بن سلمة الموصلي ثنا عمر (¬1) بن أبي الأزهر عن مالك بن أنس عن نافع: عن ابن عمر أن عمر رضي الله عنه خطب يومًا بالمدينة فقال: يا سارية الجبل من استرعى الذئب فقد ظلمه، فقيل: يذكر السارية والسارية بالعراق فقال الناس لعلي رضي الله عنه: ما سمعت [عمر] (¬2) يقول: يا سارية وهو يخطب على المنبر؟ فقال: ويحكم دعوا عمر فإنه ما دخل في شيء إلا خرج منه، فلم يلبث إلا يسيرًا حتى قدم سارية فقال: سمعت صوتَ عمرَ فصعدت الجبلَ. ¬

_ (¬1) في المصادر: "عمرو". وعمرو بن الأزهر ممن رُمي بالوضع. (¬2) في المطبوعة "عمن" والتصحيح من هامشها.

قال المعلمي

قال المعلمي: القصة بالسند الأول أخرجها البيهقي في "الدلائل" (¬1) وجماعة، ذكر ذلك ابن حجر في ترجمة سارية من "الإصابة" (¬2) وقال: "وهذا إسناد حسن". وفي السند يحيى بن أيوب الغافقي صدوق يخطئ لا يحتجّ بما ينفرد به. راجع ترجمته في "الميزان" ج 3 ص 282 (¬3)، و"تهذيب التهذيب" ج 11 ص 186. ورويت القصة من وجوه أخرى ضعيفة كما في "الإصابة". وأما السند الثاني (¬4) ففيه خطاب بن سلمة وشيخه لم أعرفهما (¬5). **** [6] باب استعمال مكارم الأخلاق والحث على الإنفاق كراهية الادخار والوقوف عند الشبهات أخبرنا إبراهيم بن أحمد بن محمد بن رجاء ثنا أبو الطيب الزراد المنبجي، ثنا هلال بن العلاء ثنا عمر بن حفص ثنا حوشب ومطر عن الحسن: عن عمران بن حصين قال: أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطرف عمامتي من ورائي ثم قال: يا عمران، إن الله يحب الإنفاق ويبغض الإقتار، فكُلْ وأطعم ولا تصره صرًّا ¬

_ (¬1) (6/ 370) من طريق السلمي. وذكر الحافظ معه اللالكائي في "شرح السنة" والديرعاقولي في "فوائده" وابن الأعرابي في "كرامات الأولياء". (¬2) (3/ 6). (¬3) (4/ 362). (¬4) أخرجه اللالكائي في "كرامات الأولياء" (67)، والخطيب في "الرواة عن مالك". (¬5) وللقصة شواهد أخرى. انظر "المقاصد الحسنة" (ص 474).

قال المعلمي

فيعسر عليك الطلب، واعلم أن الله يحب البصر النافذ عند مجيء الشبهات، والعقل الكامل عند نزول الشهوات، ويحب السماحة ولو على تمرات، ويحب الشجاعة ولو على قتل حية. قال المعلمي: الحديث في "كنز العمال" ج 3 ص 313، نسَبه إلى "تاريخ ابن عساكر" (¬1) فقط، وقد تقدم في الأمر السادس من المقدمة (¬2) قول السيوطي: إن ما كان كذلك فهو ضعيف. وفي السند عمر بن حفص لم أعرفه، وفي الضعفاء بهذا الاسم جماعة، والله أعلم (¬3). **** [7] باب في صفة المؤمنين وصفة العلماء أخبرنا أحمد بن محمد القحطي التاجر ثنا محمد بن أحمد بن ثوبان ثنا محمد بن إسماعيل الصائغ ثنا أبو الصلت الهروي ثنا يوسف بن عطية عن قتادة عن الحسن: ¬

_ (¬1) (52/ 138). (¬2) (ص 7). (¬3) والحديث أخرجه البيهقي في "الزهد"، وأبو نعيم في "الأربعين". قال البيهقي: تفرّد به عمر بن حفص. وقال السخاوي في "تخريجه": "لكن العلاء والد هلال قال فيه أبو حاتم: "منكر الحديث، ضعيف" وقال ابن حبان: "لا يجوز الاحتجاج به، وكذا ضعَّفوا شيخه عمر بن حفص. وأما رواية الحسن عن عمران فجزم ابن معين وابن المديني وأبو حاتم وآخرون بأنه لم يسمع منه وهو المعتمد".

قال المعلمي

عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ليس الإيمان بالتمنّي ولا بالتحلِّي ولكن ما وَقَر في القلب وصدَّقه العمل، والعلم علمان: علم باللسان وعلم بالقلب، فعلم القلب النافع وعلم اللسان حجة الله على ابن آدم. قال المعلمي: في سنده ضعيفان: الأول: أبو الصلت الهروي، واسمه عبد السلام بن صالح، أثنى عليه ابن معين ووهّنه الأكثرون. قال النسائي: "ليس بثقة"، وقال أبو حاتم: "لم يكن بصدوق وهو ضعيف" وضرب أبو زرعة على حديثه وقال: لا أحدِّث عنه ولا أرضاه. راجع "الميزان" ج 2 ص 139 (¬1)، و"تهذيب التهذيب" ج 6 ص 319، وفيه ج 7 ص 388 عدة مناكير الحَمْلُ فيها على أبي الصلت. وراجع كتاب ابن أبي حاتم ج 3 قسم 1 ص 48 رقم 357. والثاني: يوسف بن عطية بن ثابت الصفّار. قال فيه ابن معين وأبو داود "ليس بشيء" وقال [ص 4] البخاري: "منكر الحديث" وقال أبو حاتم وأبو زرعة والعجلي والدارقطني: "ضعيف الحديث". وراجع ترجمته في "تهذيب التهذيب" ج 11 ص 418. والحديث قطعتان: الأولى: إلى قوله: "وصدّقه العمل" ذكرها السيوطي مفردة في "الجامع الصغير" (¬2) ونَسَبها إلى "تاريخ ابن النجّار" و"مسند الفردوس"، وقد مرّ في ¬

_ (¬1) (3/ 330). (¬2) (5/ 355 - مع شرحه "فيض القدير").

[8] باب في الاكتفاء من الدنيا بأقل القليل وكراهية مخالطة الأغنياء

الأمر السادس من المقدمة (¬1) ما يعلم منه أن مثل ذلك ضعيف. القطعة الثانية: قوله: "العلم علمان ... " إلخ نسبها في "الجامع الصغير" (¬2) إلى ابن أبي شيبة والحكيم الترمذي، وأنها عندهما عن الحسن البصري مرسلًا، ونسبَها أيضًا إلى "تاريخ بغداد"، وأنها فيه من حديث جابر. وفي شرح الجامع الصغير ج 2 ص 439: "قال المنذري: حديث صحيح" يعني القطعة الثانية، والله أعلم. ثم رأيت القطعة الثانية في "تاريخ بغداد" ج 3 ص 346 من طريق يحيى بن يمان عن هشام عن الحسن عن جابر. والحديث في مصنّف ابن أبي شيبة رواه عن ابن نُمير عن هشام عن الحسن مرسلًا، وهذا أصحّ، يحيى بن يمان تغيّر حفظه وكثر خطاؤه، كما في ترجمته من "تهذيب التهذيب" ج 11 ص 306، وعبد الله بن نُمير أثبت منه بكثير، انظر ترجمته في "تهذيب التهذيب" ج 6 ص 57 (¬3). **** [8] باب في الاكتفاء من الدنيا بأقلّ القليل وكراهية مخالطة الأغنياء أخبرنا إبراهيم بن أحمد بن محمد البزاري أنا الحسن بن سفيان ثنا مخلد بن محمد ثنا سعيد بن محمد الوراق عن صالح بن حسان الأنصاري عن عروة: عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن أردْتِ اللحوق بي فليكْفِك من الدنيا بقدر زاد الراكب، وإياك ومخالطة الأغنياء". ¬

_ (¬1) (ص 367). (¬2) (4/ 512 - مع شرحه). (¬3) وانظر تخريج السخاوي (7).

قال المعلمي

قال المعلمي: في سنده صالح بن حسّان قال فيه الإمام أحمد وابن معين: "ليس بشيء"، وقال البخاري وأبو حاتم: "منكر الحديث". راجع "تهذيب التهذيب" ج 4 ص 384. والحديث ذكره ابن الجوزي في "الموضوعات" (¬1) وأعلّه بصالح بن حسان. راجع "اللآلئ المصنوعة" ج 2 ص 173 (¬2). وأخرجه الحاكم في "المستدرك" ج 4 ص 312 من وجهٍ آخر عن سعيد بن محمد الورّاق عن صالح بن حسّان وقال: "صحيح الإسناد" تعقّبه الذهبي فقال: "قلت: الورّاق عدم" يعني أنه شديد الضَّعْف. أقول: وصالح بن حسّان مثله أو أضعف. أخرجه الترمذي في آخر كتاب اللباس (¬3) وقال: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث صالح بن حسّان، سمعت محمدًا يقول: صالح بن حسّان منكر الحديث، وصالح بن [أبي] حسّان الذي روى عنه ابنُ أبي ذئب ثقة ... إلخ. **** ¬

_ (¬1) (1618). (¬2) (2/ 323). (¬3) (1780).

[9] باب في القناعة

[9] باب في القناعة أخبرنا أبو العباس محمَّد بن يعقوب الأصم ثنا الربيع بن سليمان ثنا أسد بن موسى ثنا أبو بكر الداهري ثنا ثور (¬1) بن يزيد عن خالد بن مهاجر: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ابنَ آدم عندك ما يكفيك وأنت تطلب ما يطغيك، ابنَ آدم لا بقليل تقنع ولا من كثير تشبع، إذا أصبحتَ معافًى في جسمك، آمنا في سِرْبك, عندك قوت يومك؛ فعلى الدنيا العفاء". قال المعلمي: في سنده أبو بكر الداهري، واسمه عبد الله بن حكيم، قال فيه الإِمام أحمد وابن المديني: "ليس بشيء"، وقال ابن معين والنسائي: "ليس بثقة". وراجع ترجمته في "لسان الميزان" ج 3 ص 277 (¬2)، والحديث في "كنز العمال" [7081] (¬3) منسوبًا إلى "كامل ابن عديّ" (¬4) وغيره (¬5). **** [10] باب في طلب المدعين بصحة دعواهم أخبرنا علي بن الفضل بن محمَّد بن عقيل ثنا محمَّد بن عبد الله بن سليمان ¬

_ (¬1) (ط): "سرير" والتصحيح من هامشها كما في نسخة من الأربعين. (¬2) (4/ 464). (¬3) تركه المؤلف بياضًا، فأضفنا الرقم. (¬4) (4/ 140). (¬5) والحديث أخرجه الطبراني في "الأوسط" (8875) والبيهقي في "الشعب" (9876) ولكنه عند الطبراني من حديث عمر، فإن كان كذلك فهو منقطع، وللحديث شواهد.

قال المعلمي

الحضرمي ثنا محمَّد بن العلاء ثنا زيد ثنا ابن لهيعة ثنا خالد بن يزيد السكسكي عن سعيد بن أبي هلال عن محمَّد بن أبي الجهم: عن الحارث بن مالك رضي الله عنه أنه مرّ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له: "كيف أصبحت يا حارثة"، فقال أصبحت مؤمنًا حقًّا، فقال: "انظر ما تقول إن لكل حق حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ " قال: عَزفَتْ نفسي عن الدنيا كأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون، وكأني انظر إلى أهل النار يتضاغون، فقال: "يا حارثة عرفت فالزم" قالها ثلاثًا. قال المعلمي: في سنده ابن لهيعة واسمه عبد الله مشهور بالضعف، راجع ترجمته في "تهذيب التهذيب" ج 5 ص 373. وللحديث طُرق أخرى (¬1). راجع "الإصابة" (¬2) ترجمة الحارث بن مالك بن قيس، وفيها عن ابن صاعد: "هذا الحديث لا يثبت موصولاً". **** [11] باب المجاهدة في استواء السر مع الظاهر أخبرنا أبو عمرو محمَّد بن محمَّد بن أحمد الرازي ثنا علي بن سعيد العسكري ثنا عباد بن الوليد ثنا أبو شيبان كثير بن شيبان ثنا الربيع بن بدر عن راشد بن محمَّد قال: قال ابن عمر رضي الله عنهما: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أشدّ الناس عذابًا يوم القيامة من يرى الناس فيه خيرًا ولا خير فيه". ¬

_ (¬1) فقد رُوي من حديث أنس بن مالك، ومن مرسل زيد السلمي وزبيد اليامي. راجع تخريج السخاوي (10). (¬2) (1/ 596).

قال المعلمي

قال المعلمي: الحديث في "الجامع الصغير" مع شرحه ج 1 ص 203 ونَسَبه إلى هذا الكتاب "الأربعين للسلمي" وإلى "مسند الفردوس". قال الشارح: "وهو حديث ضعيف. وصاحب الفردوس متأخر فلعلّه إنما أخذه من هذا الكتاب، فيكون مما انفرد به المؤلف. وفي سند المؤلف: الربيع بن بدر، ضعيف جدًّا، راجع ترجمته في "تهذيب التهذيب" ج 3 ص 239. **** [12] باب المواظبة على الذكر والشكر والصبر أخبرنا أبو عمرو محمَّد بن جعفر بن مطر ثنا آدم بن موسى الولاهنجي ثنا محمود بن غيلان ثنا المؤمل ثنا حماد بن سلمة عن طلق بن حبيب: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أربع من أعطيهن فقد أُعْطي خيرَ الدنيا والآخرة: قلبًا شاكرًا، ولسانًا ذاكرًا، ونفسًا على البلاء صابرًا، وثقةً بما تكفّل الله". قال المعلمي: الحديث في "الجامع الصغير" مع الشرح ج 1 ص 178 بلفظ: " ... والآخرة لسان ذاكر وقلب شاكر، وبَدَن على البلاء صابر، وزوجة لا تبغيه خونًا في نفسها". ونَسَبه إلى الطبراني في "الكبير" (¬1) والبيهقي في "الشعب" (¬2). ¬

_ (¬1) (11275)، وأخرجه أيضًا أبو نعيم في "الحلية": (3/ 65). (¬2) (4115).

[13] باب في سبيل المنقطعين إلى الله تعالى

وفي الشرح: "قال العلقمي: بجانبه علامة الحُسْن" (¬1). وفي سنده المؤمّل بن إسماعيل، وثّقه ابنُ معين وضعَّفه الأكثرون لكثرة غلطه. راجع ترجمته في "تهذيب التهذيب" ج 1 ص 380. **** [13] باب في سبيل المنقطعين إلى الله تعالى أخبرنا أبو الحسن محمَّد بن أبي الحسن بن منصور ثنا إسحاق ابن أبي حسان الأنماطي ثنا محمَّد بن علي بن الحسن بن شقيق ثنا إبراهيم بن الأشعث ثنا فضيل بن عياض عن هشام عن الحسن: عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من انقطع إلى الله كفاه الله كل مؤنة (¬2) ورزقه من حيث لا يحتسب، ومن انقطع إلى الدنيا وكلَه الله عَزَّ وَجَلَّ إليها". قال المعلمي: الحديث في "كنز العمال" ج 2 ص 24 بلفظ: "من توكّل على الله كفاه مؤنته ... " إلخ، ونَسَبه إلى الديلمي والشاشي وابن جرير (¬3). وفي سند المؤلف: إبراهيم بن الأشعث خادم الفضيل غَمَزه أبو حاتم، وذكره ابن حبان في "الثقات" (¬4) وقال: "يغرب وينفرد فيخطئ ويخالف". ¬

_ (¬1) وحسَّنه السخاوي في "تخريجه" (12). وفي الباب أيضًا عن ثوبان وحذيفة. (¬2) كذا في (ط) وأشار في هامشها إلى نسخة بـ "مؤونته". (¬3) ليس في "مسند الشاشي" المطبوع، وليس في "تفسير الطبري" ولا "تهذيب الآثار" المطبوع. (¬4) (8/ 66).

[14] باب في تركهم الدنيا وإعراضهم عنها

راجع ترجمته في "لسان الميزان" ج 1 ص 36 (¬1). **** [14] باب في تركهم الدنيا وإعراضهم عنها أخبرنا علي بن عبد الحميد الغضائري ثنا عبد الله بن معاوية الجمحي ثنا ثابت بن يزيد عن هلال بن خباب عن عكرمة: عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على حصير قد أثر في جنبه، فقال: يا رسول الله، لو اتخذت فراشًا ألين من هذا. فقال: "ما لي وللدنيا أو ما للدنيا ولي، إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب سار في يوم صائف، حتى أتى شجرة، فاستظلّ في ظلها ساعة، ثم راح وتركها". قال المعلمي: الحديث في "مسند أحمد" ج 1 ص 301 (¬2)، و"المستدرك" ج 4 ص 304 وقال: "صحيح على شرط البخاري" وأقرَّه الذهبيّ، وأصله في "الصحيحين" (¬3) من رواية ابن عباس عن عمر (¬4). ¬

_ (¬1) (1/ 245). والحديث أخرجه الطبراني في "الصغير" (321) و"الأوسط" (3359)، والبيهقي في "الشُّعَب" (1044). ومع ضعف إبراهيم فإن سماع الحسن من عمران قد تقدم ما فيه في الحديث السادس. (¬2) (2744). (¬3) البخاري (2468)، ومسلم (1479) في الحديث الطويل في قصة تطليق النبي - صلى الله عليه وسلم - لنسائه. (¬4) والحديث أخرجه أيضًا ابن حبان (6352)، وله شاهد من حديث ابن مسعود عند الترمذي (2377)، والحاكم (4/ 310) قال الترمذي: "حسن صحيح".

[15] باب في حب الفقراء والفقر وسؤال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إياه

[15] باب في حب الفقراء والفقر وسؤال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إياه أخبرنا الحسين بن علي التميمي ثنا أبو قريش محمَّد بن جمعة ثنا أبو سعيد الأشج، ثنا أبو خالد الأحمر عن يزيد بن سنان عن ابن المبارك عن عطاء بن أبي رباح: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: أَحِبَّ المساكين؛ فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اللهم أحيني مسكينًا وأمِتْني مسكينًا واحشرني في زمرة المساكين". قال المعلمي: الحديث في "المستدرك" ج 4 ص 322، قال الحاكم: "صحيح الإسناد" وأقرَّه الذهبي (¬1). **** [16] باب في ترك ما لا يعنيهم من الأمور أخبرنا أبو الحسين العطار الحافظ ببغداد ثنا محمَّد بن محمَّد بن سليمان ثنا زياد بن بارويه القصري ثنا يحيى بن المتوكل البصري ثنا يحيى بن أبي أنيسة عن الزهري عن علي بن الحسين عن [الحارث بن هشام]: عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من حُسْن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه". قال المعلمي: في سنده يحيى بن أبي أُنَيْسَة، وهو ضعيف جدًّا. راجع ترجمته في ¬

_ (¬1) والحديث أخرجه ابن ماجه (4126)، والطبراني في "الدعاء" (1425) وله شواهد من حديث أنس وعبادة بن الصامت.

[17] باب في كتمانهم المصائب

"تهذيب التهذيب" ج 11 ص 183 (¬1). والحديث في "سنن الترمذي" ج 2 ص 52 (¬2) من طريق أخرى عن الزهري عن علي بن الحسين عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم. وهو مرسل ولا ذِكر فيه للحارث بن هشام. والترمذي (¬3) من طريق أخرى عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة ... قال: "لا نعرفه إلا من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعًا إلا من هذا الوجه" (¬4). **** [17] باب في كتمانهم المصائب أخبرنا أبو علي حامد بن محمَّد الرفاء ثنا محمَّد بن صالح ثنا عبد الله بن عبد العزيز حدثني أبي عن نافع: عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن من كنوز البر كتمان المصائب". ¬

_ (¬1) أخرجه من طريق السلمي أبو الفضل بن طاهر في "صفة التصوّف" وذكر له طرقًا أخرى إلى علي بن أبي طالب. كما ذكر السخاوي. وليس في المطبوعة (ص 154 - 155) هذا الطريق. (¬2) (2318). (¬3) (2317). وأخرجه ابن ماجه (3976)، وابن حبان (229). (¬4) من قوله: "والترمذي من طريق ... " إلى هنا مكتوب بقلم الرصاص بخط المؤلف ومكان النقاط كلمة لم تتبين لي. والحديث رُوي عن جماعة من الصحابة نحو العشرة، انظر "تخريج السخاوي" (16) و"جامع العلوم والحكم": (1/ 287)، وكل طرقه ضعيفة ولم يصح إلا من حديث عليّ مرسلًا كما قال البخاري.

قال المعلمي

قال المعلمي: في سنده رجلان فيهما نظر. الأول: محمَّد بن صالح، وهو الأشجّ الهَمَذاني، ذكره ابنُ حبّان في "الثقات" (¬1) وقال: "يُخطئ". وترجمته في "لسان الميزان" ج 5 ص 203 (¬2). الثاني: عبد الله بن عبد العزيز وهو - فيما أرى - ابن أبي روّاد، قال فيه ابنُ الجُنيد: "لا يساوي شيئًا، حدّث بأحاديث كذب" راجع "لسان الميزان" (¬3) ج 3 ص 310 (¬4). **** [18] باب في أحوال الاستقامة أخبرنا محمَّد بن عبد الله بن إبراهيم بن عبلة ثنا إبراهيم بن علي ثنا يحيى بن يحيى أنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه: عن عروة رضي الله عنه قال: قال سفيان بن عبد الله الثقفي للنبي - صلى الله عليه وسلم -: قل لي في الإِسلام قولًا لا أسأل أحدًا بعدك، قال: "قل: آمنتُ بالله ثم استقم". ¬

_ (¬1) (9/ 148). (¬2) (7/ 202). (¬3) (3/ 310). (¬4) والحديث أخرجه البيهقي في "الشعب" (9574)، والروياني في "مسنده" (1472)، وأبو نعيم في "الحلية": (8/ 197) وغيرهم. وهو حديث ضعيف بل باطل قاله أبو زرعة في "العلل" (2518). وروي الحديث من طريق جماعة من الصحابة. وانظر تخريج السخاوي (17)، و"السلسلة الضعيفة" (693).

قال المعلمي

قال المعلمي: في السند مقال وظاهره أنه مرسل. لكن الحديث أخرجه مسلم في "صحيحه" (¬1) - كتاب الإيمان - باب جامع وصف الإِسلام، من وجهٍ آخر متصلًا. **** [19] باب في لبس البِذْلة من الثياب أخبرنا محمَّد بن أحمد بن حمدان وأبو بكر محمَّد بن عبد الله بن قريش وجماعة قالوا: أنا الحسن بن سفيان ثنا ابن أبي الحواري ثنا أبو الفقير عبد العزيز بن عمير من أهل خراسان نزيل دمشق ثنا زيد ابن أبي الزرقاء ثنا جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران عن يزيد بن الأصم: عن عمر رضي الله عنه قال: نظر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى مصعب بن عُمير مقبلاً، عليه إهاب كَبْش قد تنطَّق به، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:"انظروا إلى هذا الذي نوَّر (¬2) الله قلبَه، رأيته بين أبوين يَغْذُوانه بأطيب الطعام والشراب ولقد رأيت عليه حلة اشتراها أو شريت بمائتي درهم، فدعاه حبُّ الله وحب رسوله إلى ما ترون". قال المعلمي: روى المؤلف هذا الحديث من طريق الحسن بن سفيان، ثنا ابن أبي الحواري، ثنا أبو الفقير بن عمير (¬3) ... ، وقد رواه أبو نعيم في "الحلية" ¬

_ (¬1) (38). (¬2) (ط): "نزل". والتصحيح من هامشها كما في نسخة من الأربعين. (¬3) كذا في طبعة الأربعين وهو تحريف صوابه: "ثنا إبراهيم الحوارني، ثنا أبو الفقير عبد العزيز بن عمير"، كما هو عند أبي نعيم، وقد أخرجه من طريق السلمي البيهقيُّ =

ج 1 ص 108 من طريق الحسن بن سفيان، ثنا إبراهيم الحوراني، ثنا عبد العزيز بن عمير. وابن أبي الحواري معروف واسمه أحمد بن عبد الله بن ميمون، يروي عن عبد العزيز بن عمير كما في ترجمة عبد العزيز من كتاب ابن أبي حاتم، وصفة الصفوة ج 4 ص 208. وإبراهيم الحَوْراني معروف أيضًا، وهو إبراهيم بن أيوب، له ترجمة في كتاب ابن أبي حاتم (¬1)، و"تهذيب تاريخ دمشق" ج 2 ص 99 (¬2)، وذكره ابن السمعاني في "الأنساب" (¬3) 180 ب، وذكره ابنُ ماكولا في "الإكمال" (¬4)، وله ترجمة في "لسان الميزان" ج 1 ص 36 (¬5). وفي النسخة تخليط آخر الترجمة قوله في السطر الذي قبل الأخير "بمصر" وبعد ذلك كلمة لا محلّ لها، والسطر الأخير ابتداء ترجمة رجلٍ آخر. فأما ابن أبي الحواري فموثّق، وأما إبراهيم بن أيوب الحوراني ففيه كلام، كما تراه في "لسان الميزان". وأما عبد العزيز بن عمير فعابدٌ لم يذكروا حاله في الرواية. والحديث منقطع؛ لأن يزيد بن الأصم لم يثبت إدراكه لعمر بل ذكر ¬

_ = في "الشعب" (5779) بهذا الإسناد على الصواب. (¬1) (2/ 88). (¬2) انظر أصله "تاريخ دمشق": (6/ 358). (¬3) (4/ 303). (¬4) (3/ 25). (¬5) (1/ 246). ولا تخليط في الطبعة المحققة.

[20] باب الدليل على أن لله في الأرض أولياء وبدلاء

الواقدي كما في "تهذيب التهذيب" ج 11 ص 314 أن يزيد مات سنة 103 وعمره 73 سنة، فيكون مولده بعد وفاة عمر بمدّة. **** [20] باب الدليل على أن لله في الأرض أولياء وبُدَلاء حدثنا محمَّد بن جعفر بن مطر ثنا أحمد بن عيسى بن هارون ثنا عمرو (¬1) بن يحيى ثنا العلاء بن زيدل: عن أنس رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "بُدلاء أمتي أربعون رجلاً: اثنان وعشرون بالشام، وثمانية عشر بالعراق، كلما مات منهم واحد أبدل الله مكانه آخر، إذا جاء الأمر قُبِضوا". قال المعلمي: في سنده العلاء بن زيدل نسبوه إلى وضع الحديث. راجع ترجمته في "تهذيب التهذيب" ج 8 ص 182 (¬2). لكن جاءت في معناه روايات أخرى، راجع "اللآلئ المصنوعة" ج 2 ص 178 (¬3). **** ¬

_ (¬1) كذا وهو تصحيف وصوابه "عُمر". (¬2) والحديث أخرجه ابن عدي: (5/ 220 - 221)، ومن طريقه ابن الجوزي في "الموضوعات" (1640) وغيرهم. قال ابن حبان عن العلاء: روى عن أنسٍ نسخةً موضوعة لا يحلّ ذكره إلا تعجُّبًا. "المجروحين": (2/ 180). (¬3) (2/ 330).

[21] باب في السخاء بالطعام ووضع المائدة دائما

[21] باب في السخاء بالطعام ووضع المائدة دائمًا أخبرنا محمَّد بن أحمد بن حمدان ثنا الحسن بن سفيان ثنا إبراهيم بن سعيد ثنا أبو نعيم ثنا مندل عن عبد الله بن يسار مولى عائشة بنت طلحة: عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تزال الملائكة تصلي على أحدكم ما دامت مائدته موضوعة". قال المعلمي: [ص 6] لم أجد هذا الحديث في غير هذا الكتاب (¬1)، وفي سنده رجلان فيهما نظر. الأول: مِنْدَل، وهو مندل بن علي العنزي فيه ضعف، راجع ترجمته في "تهذيب التهذيب" ج 10 ص 298. الثاني: عبد الله بن يسار مولي عائشة بنت طلحة، ولم أعرفه (¬2)، ولعل البلاء منه، فإن الحديث أراه منكرًا، الله أعلم. **** ¬

_ (¬1) أخرجه من طريق السلمي البيهقيُّ في "الشعب" (9179)، وأخرجه الطبراني في "الأوسط" (4729) ومن طريقه أبو نُعيم في "الأربعين" (29). قال السخاوي: ومداره على مندل، والأكثرون على ضعفه. وضعَّفه الهيثمي في "المجمع": (5/ 24) به. وانظر "السلسلة الضعيفة" (5272). (¬2) ذكره البخاري في "الكبير": (5/ 110)، وابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل": (5/ 76) ولم يذكرا فيه جرحًا ولا تعديلاً، وذكره ابن حبان في "الثقات": (7/ 17) فلم يزد عليهما. والذي أبعد نظر المؤلف عن الوقوف عليه أنهم ذكروه في رسم "عبد الله بن سَيَّار"، قال ابن حبَّان: "وقيل: يسار، وقيل: سنان".

[22] باب الدليل على أن اليد العليا هي المتعففة عن السؤال

[22] باب الدليل على أن اليد العليا هي المتعفِّفة عن السؤال أخبرنا محمَّد بن محمَّد بن أحمد بن إسحاق الحافظ ثنا صالح بن محمَّد بن يونس ثنا الحسين بن عبد الرحمن الخراساني ثنا محمَّد بن يوسف ثنا موسى بن طارق عن موسى بن عقبة عن عبد الله بن دينار: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اليدُ العليا المتعفِّفة واليدُ السُّفلى السائلة". قال المعلمي: الحديث في "الصحيحين" (¬1) وغيرهما من طرق أخرى عن ابن عمر، والمحفوظ فيه: "اليد العليا هي المنفقة" وجزم جماعة بأن مَن قال: "المتعفِّفة" فقد صحَّف. راجع "فتح الباري" (¬2) - كتاب الزكاة - باب لا صدقة إلا عن ظَهْر غِنى. **** [23] باب فيمن عبد الله سرًّا فكافأه على ذلك أخبرنا محمَّد بن جعفر بن مطر ثنا حميد بن علي القيسي المعروف بزَوْج غَنَج ثنا هُدْبة بن خالد ثنا حماد بن سلمة عن ثابت: عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا كان يوم القيامة بعث الله قومًا عليهم ثياب خضر بأجنحة خضر، فيسقطون على حيطان الجنة، فتشرف عليهم خَزَنَة الجنة، فيقولون لهم: من أنتم؟ أما شهدتم الحساب وما شهدتم الوقوف بين يدي الله؟ فقالوا: لا، نحن قوم عَبَدْنا الله سرًّا فأحبّ أن يدخلنا الجنة سرًّا". ¬

_ (¬1) البخاري (1429)، ومسلم (1033). (¬2) (3/ 297) وتخريج السخاوي (22).

قال المعلمي

قال المعلمي: في سنده حُمَيد بن علي القيسي، قال الحاكم: "كذّاب خبيث" (¬1)، وذكر ابن حبّان (¬2) أنه أتاه فحدّث بأحاديث هذا أحدها، قال ابن حبان: "فقمنا وتركناه، وعلمنا أنه [إن لم] يتعمّد، فإنه لا يدري ما يقول" راجع "لسان الميزان" ج 2 ص 365 (¬3). **** [24] باب في القناعة والوَرَع والشفقة على المسلمين وحُسْن المجاورة وقلة الضحك أخبرنا محمَّد بن زيد بن محمَّد ثنا أحمد بن العباس بن حزم ثنا محمَّد بن إسماعيل ثنا المحاربي عن أبي رجاء الخراساني عن برد بن سنان عن مكحول عن واثلة بن الأسقع: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا أبا هريرة كن ورعًا تكن أعبد الناس، وكن قَنِعًا تكن أشكر الناس، وأحِبّ للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمنًا، وأحسن مجاورة من جاورك تكن مسلمًا، وأقِلّ الضحك؛ فإن كثرة الضحك تُميت القلب". ¬

_ (¬1) "المدخل إلى الصحيح": (1/ 140). (¬2) في "المجروحين" (1/ 263 - 264) وعبارته: "فقمنا وتركناه، وعلمت أنه لا يخلو أمره من أحد شيئين إما أن يكون هو الذي يتعمَّد قلب هذه الأحاديث، أو قُلِبت له فحدّث بها، فلا يجوز الاحتجاج به بعد روايته مثل هذه الأشياء عن هؤلاء الثقات ... ". (¬3) (3/ 300). وكان في الأصل: "أنه لا يتعمد" والتصحيح من "الميزان" و"اللسان".

قال المعلمي

قال المعلمي: الحديث في "سنن ابن ماجه" ج 2 ص 277 (¬1) من طريق أخرى عن أبي رجاء عن بُرْد بن سنان، قال السندي في حواشيه: "قال في الزوائد: هذا إسناد حسن، وأبو رجاء اسمه محرز بن عبد الله الجزري" هكذا قال، ومحرز هو أبو رجاء الجزري. ترجمته في "تهذيب التهذيب" ج 10 ص 56 - 57. وفي سند المؤلف "عن أبي رجاء الخراساني" وهو رجل آخر اسمه عبد الله بن واقد، ترجمته في "تهذيب التهذيب" ج 6 ص 64. وأخرج الترمذي في "سننه" ج 2 ص 50 (¬2) نحوه من طريق جعفر بن سليمان عن أبي طارق عن الحسن عن أبي هريرة ثم قال: "غريب لا نعرفه إلا من حديث جعفر بن سليمان، والحسن لم يسمع من أبي هريرة شيئًا ... وروى أبو عبيدة الناجي عن الحسن هذا الحديث قولَه، لم يذكر فيه: عن أبي هريرة عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم". وأخرج الطبراني في "المعجم الصغير" ص 219 من طريق أخرى عن أبي هريرة مرفوعًا نحوه، وفي هذه الطرق كلها مقال، والله أعلم (¬3). **** ¬

_ (¬1) (4217). (¬2) (2305). (¬3) وأخرجه هناد في "الزهد" (1031)، والبخاري في "الأدب المفرد" (252)، وأبو يعلى (5865)، والبيهقي في "الشعب" (5366) وغيرهم.

[25] باب في اختيار الفقر على الغنى

[25] باب في اختيار الفقر على الغنى أخبرنا سليمان بن محمَّد بن ناجية المديني ثنا أبو عمرو أحمد بن المبارك المستملي ثنا أبو خالد الفراء ثنا عبد الله بن المبارك عن يحيى بن أيوب عن عبيد الله بن زَحَر عن علي بن يزيد عن القاسم: عن أبي أُمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عرض عليَّ ربي أن يجعل لي بطحاء مكة ذهبًا، فقلت: لا يا رب، ولكن أشبعُ يومًا وأجوعُ يومًا، فإذا جعت تضرّعتُ إليك، وإذا شبعتُ حمدتك وذكرتك". قال المعلمي: الحديث في "مسند أحمد" ج 5 ص 254 (¬1)، و"سنن الترمذي" ج 2 ص 56 (¬2). والسند واهٍ؛ يحيى بن أبوب هو الغافقي تقدم ذكره في الكلام على الحديث الخامس، وعبيد الله بن زَحَر ضعَّفه الجمهور حتى قال ابن حبان: "يروي الموضوعات عن الأثبات، فإذا روى عن علي بن يزيد أتى بالطامات، وإذا اجتمع في إسناد خبر عبيد الله بن زَحَر وعلي بن يزيد والقاسم أبو عبد الله لم يكن متن ذاك الخبر إلا مما عملته أيديهم". وعليّ بن يزيد هو ابن أبي هلال الألهاني، اتفقوا على ضعفه، والقاسم هو ابن عبد الرحمن أبو عبد الرحمن الشامي مُختَلف فيه. راجع تراجمهم في "تهذيب التهذيب" ج 7 ص 13 وص 396 وج 8 ص 322 (¬3). **** ¬

_ (¬1) (22188). (¬2) (2347) وقال: "حديث حسن" وذكر ضَعْف علي بن يزيد. (¬3) والحديث أخرجه من طريق السلمي البيهقي في "الشعب" (1394).

[26] باب في الابتداء بتعهد الفقراء دون الأهل والعيال

[26] باب في الابتداء بتعهُّد الفقراء دون الأهل والعيال أخبرنا محمَّد بن نصر بن أشكيب الزعفراني البخاري ثنا حامد بن سهل ثنا ابن أبي عمر ثنا سفيان عن عطاء بن السائب عن أبيه: عن علي رضي الله عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لفاطمة: "لا أعطيكم وأَدَعُ أهلَ الصُّفة تطوى بطونُهم من الجوع". أخبرنا إسماعيل بن أحمد الجرجاني أنا محمَّد بن الحسن بن قتيبة العسقلاني ثنا حامد بن يحيى ثنا سفيان بمثله. قال المعلمي: الحديث في "مسند أحمد" ج 1 ص 79 (¬1) عن سفيان وهو ابن عُيينة عن عطاء بن السائب. وأخرجه أحمد أيضًا ج 1 ص 106 (¬2) مطوّلًا عن عفّان عن حمّاد عن عطاء بن السائب. وأخرجه ابن سعد في "الطبقات" ج 8 ص 15 - 16 (¬3) قال: "أخبرنا عفان بن مسلم ثنا حماد بن سلمة أخبرنا عطاء بن السائب ... " فذكره مطوّلًا. وعطاء بن السائب ثقة إلا أنه تغيَّر بأَخَرة. ويظهر من ترجمته في "تهذيب التهذيب" ج 7 ص 205 - 206 أن سماع ابن عُيينة منه جيد. والله أعلم (¬4). **** ¬

_ (¬1) (596). (¬2) (838). (¬3) (10/ 25 - 26). (¬4) وأخرجه من طريق السلمي البيهقيُّ في "الشعب" (3205). وأخرجه أيضًا الحميدي (48)، والعدني في مسنديهما. قال السخاوي: سنده صحيح.

[27] باب إباحة الكلام على لسان التفريد

[27] باب إباحة الكلام على لسان التفريد أخبرنا محمَّد بن الحسن بن إسماعيل السراج ثنا محمَّد بن عبد الله بن سليمان الحضرمي مُطيَّن ثنا علي بن منذر ثنا ابن فضيل ثنا أبي عن نافع: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما قُبِض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى أبو بكر فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال: إن كان محمَّد إلهكم الذي تعبدون فإن إلهكم قد مات، وإن كان إلهكم الذي في السماوات فإن إلهكم حي لا يموت، ثم تلا: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران: 144]. قال المعلمي: الحديث في "مصنف ابن أبي شيبة" (¬1) مطوّلاً، رواه عن ابن فضيل بسنده، وهو صحيح، والقصة مشهورة من حديث ابن عباس كما في "صحيح البخاري" (¬2) وغيره. والمعنى متقارب. **** [28] باب في خدمة المشايخ بأنفسهم الوافدَ عليهم والغريبَ أخبرنا أبو العباس الأصم ثنا هلال بن العلاء الرقّي؛ وأخبرنا عبد الله بن محمَّد بن علي بن زياد ثنا محمَّد بن حمدون ثنا هلال بن العلاء ثنا أبي ثنا طلحة بن زيد ثنا الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة: عن أبي قتادة قال: قدم وفد النجاشي على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقام بخدمتهم، فقال له ¬

_ (¬1) (38176)، وأخرجه من طريق ابن فضيل البزار (103) وقال: ولا نعلم رواه عن نافع عن ابن عمر إلا فُضيل بن غزوان. قال السخاوي: وهو صحيح. (¬2) (3667) ومواضع أخرى هذا أتمها. وأخرجه ابن حبان (6620) والحاكم (2/ 295).

قال المعلمي

أصحابه: نحن نكفيك ذلك، قال: "إنهم كانوا لأصحابي مكرمين وأنا أحب أن أكافئهم". وأخبرنا أحمد بن علي المقرئ ثنا هلال بنحوه. قال المعلمي: في سنده طلحة بن زيد وهو القرشي أبو مسكين، قال فيه الإِمام أحمد وعلي بن المديني: "يضع الحديث". راجع "تهذيب التهذيب" ج 5 ص 15 - 16 (¬1). **** [29] باب في اتخاذ المُرَقَّعة ولبسها أخبرنا علي بن بندار بن الحسين الصوفي ثنا محمَّد بن علي بن سعيد المركب ثنا محمَّد بن عبد الله المخرمي ثنا محمَّد بن حفص ثنا ورقاء عن أبي إسحاق عن يحيى: عن أم الحصين قالت: كنتُ في بيت عائشة رضي الله عنها وهي ترقع قميصًا لها بألوان من رقاع، بعضها بياض وبعضها سواد وبعضها غير ذلك، فدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ما هذا يا عائشة؟ " قالت: قميص لي أرقعها، فقال: "أحسنت لا تضعي ثوبًا حتى ترقعيه فإنه لا جديد لمن لا خَلَق له". قال المعلمي: لم أجده في كتاب آخر (¬2)، وفي سنده جماعة لم أعرفهم، وأبو إسحاق ¬

_ (¬1) أخرجه أبو نعيم في "الأربعين" (26) والبيهقي في "شعب الإيمان" (8704). قال أبو نعيم: غريب تفرَّد به ابن العلاء. وهلال بن العلاء قال النسائي: رأيت له أحاديث مناكير، وقال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج بخبره. (¬2) أخرجه أبو نعيم في "الأربعين" (40) من حديث محمَّد بن علي المركب بسند =

[30] باب في أخذ الركوة في الأسفار

هو عَمْرو بن عبد الله الهَمْداني السبيعي، مدلس ولم يذكر السماع. ولفظ البخاري في "الأدب المفرد" (¬1): [حدثنا حَرَمي بن حفص، حدثنا] عبد الواحد قال: حدثنا سعيد بن بشر بن عبيد قال: حدثني أبي قال: دخلتُ على عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها فقالت: أمسك حتى أخيّط نقبتي، فأمسكتُ فقلت: يا أمّ المؤمنين لو خرجت فأخبرتهم لعدّوه منكِ بخلاً، قالت: أبصِر شأنك، إنه لا جديد لمن لا يلبس الخَلَق. (باب 218 الرفق في المعيشة ص 68) (¬2). **** [30] باب في أَخْذ الرَّكْوة في الأسفار أخبرنا يوسف بن يعقوب بن إبراهيم الأبهري ثنا محمَّد بن عبد الرحمن بن أسد القاضي ثنا أسد بن محمد ثنا أبو جابر ثنا سعيد بن يزيد عن جعفر بن محمَّد عن أبيه عن جده عن أبيه: عن جده قال: خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - البَراز (¬3) فأخذت الرَّكْوة خرجت في أثره - وذكر الحديث. قال المعلمي: لم أجده أيضًا، وفي سنده جماعة لم أعرفهم (¬4). ¬

_ = المؤلف ولفظه. قال السخاوي: ورجاله ثقات. (¬1) رقم (471). وما بين المعكوفين مستدرك منه. ط. الخانجي. (¬2) من قوله: "ولفظ البخاري ... " ملحق بقلم الرصاص بخط المؤلف. (¬3) كذا في (ط) وفي تخريج السخاوي: "إلى البراز". (¬4) ومثله قال السخاوي في تخريجه (30).

[31] باب السنة في الاجتماع على الطعام وكراهية الأكل فرادى

[31] باب السنة في الاجتماع على الطعام وكراهية الأكل فُرادَى أخبرنا إسماعيل بن أحمد الجرجاني أنا محمَّد بن الحسن بن قتيبة ثنا أحمد بن عبد العزيز الواسطي ثنا الوليد بن مسلم ثنا وحشي بن حرب بن وحشي عن أبيه: عن جده: أن رجلاً قال: يا رسول الله، إنَّا نأكل فلا نشبع! فقال: "لعلكم تفترقون على طعامكم، اجتمعوا عليه واذكروا اسم الله عَزَّ وَجَلَّ يبارك لكم فيه". قال المعلمي: الحديث في "مسند أحمد" ج 3 ص 501 (¬1)، و"سنن أبي داود" ج 3 ص 172 (¬2)، وفي سنده وحشيّ بن حرب عن أبيه وفيهما مقال. راجع "تهذيب التهذيب" ج 11 ص 111. **** [32] باب إباحة الكلام في باطن العلم وحقيقته أخبرنا حامد بن عبد الله الهروي ثنا نصر بن محمَّد بن الحارث البوزجاني ثنا عبد السلام بن صالح ثنا سفيان بن عيينة عن ابن جريج عن عطاء: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن من العلم كهيئة المكنون لا بعرفه إلا العلماء بالله عزَّ وجلَّ، فإذا نطقوا به لا ينكره إلا أهل الغِرَّة بالله تعالى". ¬

_ (¬1) (16078). (¬2) (3764)، وأخرجه ابن ماجه (3286)، وابن حبان (5224)، والحاكم (2/ 103) وغيرهم. وله شواهد من حديث جماعة من الصحابة. راجع حاشية "المسند". و"السلسلة الصحيحة" (664).

قال المعلمي

قال المعلمي: الحديث في "منتخب كنز العمال" ج 5 ص 51 ونسبه إلى الديلمي (¬1) فقط، وهو متأخّر عن المؤلف، وقد تقدم في الأمر السادس (¬2) ما يُعلم منه أنه ضعيف. وفي سنده نصر بن محمَّد البوزجاني عن عبد السلام بن صالح، فنصر لم أعرفه، وعبد السلام تقدّم بيان حاله في الكلام على الحديث السابع (¬3). يرويه عن سفيان بن عُيينة عن ابن جُريج عن عطاء عن أبي هريرة، وكلٌّ من هؤلاء الأربعة كان مشهورًا بالإمامة والجلالة وكثرة الحديث والأصحاب، وأهلُ الحديث بغاية الحرص على حفظ حديث هؤلاء ونَقْله، فمن الممتنع أن يكون مثل هذا الحديث عند أولئك الأربعة ولا يُروى إلا بهذا الإسناد. وعبد السلام وإن كان ضعيفًا لا أحسبه إلاَّ بريئًا من عُهْدةَ هذا الحديث؛ إذ لو كان حدَّث به لاشتهر عنه وعُدّ في مناكيره، فلا أحسب البلاءَ إلا ممن دونه، والله المستعان (¬4). **** ¬

_ (¬1) في "مسنده" (799). وأخرجه الخطيب في "تلخيص المتشابه" (953). (¬2) (ص 7). (¬3) (ص 377). (¬4) وقال السخاوي: "سنده ضعيف". وانظر "السلسلة الضعيفة" (870 و5116).

[33] باب ترك التكلف للضيف وإحضاره ما حضره

[33] باب ترك التكلف للضيف وإحضاره ما حضره أخبرنا محمَّد بن محمَّد بن يعقوب الحافظ ثنا محمَّد بن سعيد بن عمران ثنا أحمد بن عبد الله بن زياد الإيادي ثنا موسى بن محمَّد السكري ثنا بقية بن الوليد ثنا إسماعيل بن يحيى التيمي عن مسعر عن عَمرو بن مرة عن أبي البختري قال: نزلنا على سلمان الفارسي بالمدائن فقَرَّب إلينا خبزًا وسمكًا وقال: كلوا، نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن التكلُّف ولولا ذلك لتكلفتُ لكم. قال المعلمي: في سنده إسماعيل بن يحيى التيمي، رموه بوضع الحديث. راجع "لسان الميزان" ج 1 ص 441 (¬1). لكن قد رُوي الحديث عن سلمان من أوجهٍ أُخر. راجع "مسند أحمد" ج 5 ص 441 (¬2)، و"المستدرك" ج 4 ص 123. **** [34] باب في ترك التنعُّم أخبرنا محمَّد بن محمَّد بن يعقوب الحافظ ثنا سعيد بن عبد العزيز ثنا ابن مصفى ثنا بقية ثنا السري بن يَنعُم عن مُريح بن مسروق الهوزني: عن معاذ بن جبل رضي الله عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما بعثه إلى اليمن قال: "إياك والتنعُّم، فان عباد الله ليسوا بالمتنعّمين". قال المعلمي: الحديث في "مسند أحمد" ج 5 ص 243 (¬3) من وجهٍ آخر عن بقيّة، ¬

_ (¬1) (2/ 181). (¬2) (23732). وقد أخرج البخاري (7293) عن عمر: "نُهينا عن التكلُّف". (¬3) (22105). وفي "الزهد" (ص 6).

[35] باب في ما جاء في تصحيح الفراسة

وسنده صالح. **** [35] باب في ما جاء في تصحيح الفراسة أخبرنا أحمد بن علي الرازي ثنا محمَّد بن أحمد بن السكن ثنا موسى بن داود ثنا محمَّد بن كثير الكوفي ثنا عمرو بن قيس عن عطية: عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله تعالى". قال المعلمي: في سنده محمَّد بن كثير الكوفي، ضعيف جدًّا. راجع "تهذيب التهذيب" ج 9 ص 418، وتابعه مصعب بن سلام في "تاريخ البخاري" ج 4 قسم 1 ص 354، و"سنن الترمذي" ج 3 ص 191 (¬1)، ومصعب كثير الغلط تنقلب عليه الأحاديث. راجع ترجمته في "تهذيب التهذيب" ج 10 ص 161. وقد قال الترمذي: "هذا حديث غريب إنما نعرفه من هذا الوجه". وللحديث شاهدان ضعيفان في تفسير ابن جرير ج 14 ص 19 (¬2). والله أعلم. **** ¬

_ (¬1) (3127)، وأخرجه الطبراني في "الأوسط" (7843)، والعقيلي في "الضعفاء": (4/ 129)، وأبو نعيم في "الحلية": (10/ 281) وغيرهم، من طرق عن محمَّد بن كثير الكوفي وقد ذكر المؤلف ضعفه وله شواهد عديدة لكنها ضعيفة، انظر "السلسلة الضعيفة" (1821). (¬2) (14/ 96 - 97 - دار هجر).

[36] باب استجلاب محبة الله تعالى بالمداومة على خدمته

[36] باب استجلاب محبة الله تعالى بالمداومة على خدمته أخبرنا أحمد بن محمَّد بن عبدوس الطرائفي ثنا عثمان بن سعيد الدارمي ثنا سعيد بن أبي مريم ثنا يحيى بن أيوب أنا ابن زَحَر عن علي بن يزيد عن القاسم: عن أبي أمامة رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "قال الله تبارك وتعالى: ما زال العبد يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه [فإذا أحببته] فأكون سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به، وقلبه الذي يعقل به، فإذا دعاني أجبته وإذا سألني أعطيته". قال المعلمي: سنده ساقط كما تقدّم في الكلام على الحديث الخامس والعشرين (¬1)، لكن له عدة شواهد (¬2)، أصحّها ظاهرًا في "صحيح البخاري - كتاب الرقاق - باب التواضع". قال البخاري (¬3): "حدثني محمَّد بن عثمان بن كرامة حدثنا خالد بن مَخْلَد، حدثنا سليمان بن بلال، حدثني شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عن عطاء، عن أبي هريرة ... ". وذكر الذهبي في "تذكرة الحفاظ" ج 3 ص 268 - 269 (¬4) ثلاثةً غير البخاري رووه عن ابن كرامة ثم قال: "فهؤلاء الأربعة من الثقات رووه عن ¬

_ (¬1) وأخرجه الطبراني في "الكبير" (7739)، والبيهقي في "الزهد" (710) من طريق السلمي. (¬2) عن عدد من الصحابة، منهم ميمونة, وأبو هريرة, وابن عباس، انظر "تخريج الأربعين" (36) للسخاوي. (¬3) (6502). (¬4) (3/ 1085).

[37] باب كراهية جمع المال لئلا يرغب العبد في الدنيا

محمَّد [بن عثمان بن كرامة] وهو مما انفرد به، وليس هو في "مسند أحمد" على كبره. وذَكرَ ترجمة خالد بن مخلد في "الميزان" ج 1 ص 300 وفيها: "قال أحمد: له مناكير، وقال يحيى وغيرُه: لا بأس به، وقال أبو حاتم: يُكتَب حديثه ولا يُحتج به، وقال ابنُ سعد: منكر الحديث ... ، وذكره ابن عدي (¬1) ثم ساق له أحاديث استنكرها ... "، ثم ذكر له أحاديث غلط فيها يقلب أسانيدها، ثم قال: "ومما انفرد به: ما رواه البخاري في "صحيحه" ... " فذكر الحديث المذكور ثم قال: "فهذا غريب جدًّا لولا هيبة الجامع الصحيح لعدَدْته في منكرات خالد ... ". وترجمة خالد في "تهذيب التهذيب" ج 3 ص 116 - 118 وفيها: "وقال ابن عدي بعد أن ساق له أحاديث: لم أجد في حديثه أنكر مما ذكرته، ولعلها توهّم منه أو حملًا على حِفْظه". قال ابن حجر في "فتح الباري" ج 11 ص 270 (¬2): "لكن للحديث طُرق أخرى يدلّ مجموعها أن له أصلاً ... " فذكرها ونصّ على ضعفها، قال: "وفيها عن أبي أمامة أخرجه الطبراني والبيهقي في الزهد، وسنده ضعيف". **** [37] باب كراهية جمع المال لئلا يرغب العبد في الدنيا أخبرنا أبو عمرو بن مطر ثنا أبو خليفة ثنا الرمادي ثنا ابن عيينة عن الأعمش عن ¬

_ (¬1) في "الكامل": (3/ 34). (¬2) (11/ 341).

قال المعلمي

شِمر بن عطية عن المغيرة بن سعد بن الأخرم عن أبيه: عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تتخذوا الضيعة فترغبوا في الدنيا". قال المعلمي: [ص 8] الحديث أخرجه الترمذيّ ج 2 ص 53 (¬1)، وأخرجه الحاكم في "المستدرك" ج 4 ص 332 وقال: "صحيح الإسناد" وأقرَّه الذهبي. وهذا مبنيٌّ على التوسُّع، فإنه لا يثبت عن المغيرة بن سعد بن الأخرم إلا هذا الحديث، ولا يُعرف أبوه إلا بهذه الرواية, وقد قيل: إن لسعدٍ صحبة، وردّ ذلك البخاري كما في ترجمة سعد من "الإصابة" (¬2). وأئمةُ الحديث مختلفون في توثيق من لم يَرْوِ عنه إلا واحد، ومَنْ لم يَرْو إلا حديثًا واحدًا، فمنهم مَن لا يوثقه ولا يُصحِّح الحديث، ومنهم من يوثّقه ويصحح الحديث إذا وُجِد له متابع صحيح، ومنهم مَن يكتفي بأن يكون له شاهد صحيح، ومنهم من يكتفي بأن لا يكون الحديث منكرًا. واشتهر هذا الأخير عن ابن حبّان؛ ولذلك ذكر المغيرةَ وأباه في "الثقات" (¬3)، ولم يُنقَل توثيق سعدٍ عن غيره. فأما المغيرة فذكره العجلي في "ثقاته" (¬4) أيضًا. وقد تتبَّعتُ توثيق العجليّ فوجدته قريبًا من ابن حبان، والله أعلم. ¬

_ (¬1) (2328) وحسَّنه الترمذي. وأخرجه أحمد (3579)، وابن حبان (710)، والطيالسي (377) وغيرهم. (¬2) (3/ 46). (¬3) (3/ 150 و7/ 463). (¬4) (2/ 292) وقال: "ثقة كوفي".

[38] باب في صفة العقلاء

[38] باب في صفة العقلاء أخبرنا عبد الله بن محمَّد بن علي ثنا علي بن سعيد العسكري ثنا أحمد بن يحيى بن مالك السوسي ثنا داود بن المحبّر ثنا عباد بن كثير عن عبد الله بن دينار: عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "العاقلُ الذي عَقَل عن الله أمره". قال المعلمي: في سنده داود بن المحبّر، أثنى عليه ابن معين في نفسه ووهَّنه الجمهور، ويُروى عنه "كتاب العقل"، قال الدارقطني: "كتاب العقل وضعه أربعة: أولهم: ميسرة بن عبد ربه [أحد الدجالين] ثم سرقه منه داود بن المحبّر فركّبه بأسانيد غير أسانيد ميسرة ... ". وقال ابن عدي: "عن داود كتاب قد صنفه في فضل العقل وفيه أخبار كلها أو عامتها غير محفوظات ... ". وقال الحاكم: "حدَّث ببغداد عن جماعة من الثقات بأحاديث موضوعة، حدّثونا عن الحارث بن أبي أسامة عنه بكتاب العقل، وأكثر ما أودع ذلك الكتاب من الحديث الموضوع على رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم". راجع "تهذيب التهذيب" ج 3 ص 199 - 201. أقول: والظاهر أن هذا الحديث من ذاك الكتاب (¬1). **** ¬

_ (¬1) أخرجه الحارث بن أبي أسامة في "مسنده" كما في "بغية الباحث" (812) عن داود، وأخرجه الديلمي في "مسنده". وأخرجه البيهقي في "الشعب" (4359) من قول أنس بن مالك موقوفًا.

[39] باب في إباحة السماع

[39] باب في إباحة السماع أخبرنا محمَّد بن محمَّد بن يعقوب الحافظ ثنا محمَّد بن عبد الله بن يوسف الهروي بدمشق ثنا سعيد بن محمَّد بن زُريق الرسْعَني ثنا عبد العزيز الأوَيسي ثنا إبراهيم بن سعد عن محمَّد بن إسحاق عن عثمان بن عروة عن أبيه: عن عائشة قالت: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أيام التشريق وعندي جاريتان لعبد الله بن سلام تضربان بدفّين لهما وتغنيان، فلما دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلت: أمسكا، فتنحّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى سرير في البيت، فاضطجع وسجَّى بثوبه، فقلت: ليحلنّ اليومَ الغناء أو ليحرّمن قالت: فأشرتُ إليهما أن خُذا، قالت: فأخذتا فوالله ما نسيت (¬1) ذلك أن دخل أبو بكر وكان رجلاً مطارًا يعني حديدًا وهو يقول: أمزامير الشيطان في بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فكشف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأسه وقال: يا أبا بكر لكل قوم عيد، وهذا أيام عيدنا (¬2). قال المعلمي: في سنده محمَّد بن إسحاق، وهو مدلَّس ولم يصرّح بالسماع. والقصة ثابتةٌ في "الصحيحين" (¬3) من أوجهٍ أُخر بسياق فيه مخالفة لما هنا، فراجعها مع الكلام عليها في "فتح الباري" ج 2 ص 300 - 304 (¬4) وذلك في أوائل (كتاب العيدين). **** ¬

_ (¬1) كذا في (ط)، وفي هامشها: "لعله: ما نشبت". (¬2) قال السخاوي: "أخرجه بطوله أبو علي بن خزيمة في الجزء الثالث من "حديثه"". (¬3) البخاري (987 و3529)، ومسلم (892). (¬4) (2/ 440 - 441).

[40] باب في إباحة الرقص

[40] باب في إباحة الرقص أخبرنا أبو العباس أحمد بن سعيد المعداني الفقيه بمرو ثنا محمَّد بن سعيد المروزي ثنا الترقفي ثنا عبد الله بن عمرو الوراق ثنا الحسن بن علي بن منصور ثنا غياث البصري عن إبراهيم بن محمَّد الشافعي: أن سعيد بن المسيب مر في بعض أزقّة مكة فسمع الأخضر الجُدّي يتغنّى في دار العاص بن وائل: تضوّع مسكًا بطن نَعمان أن مَشَت ... به زينبٌ في نِسوةٍ عَطِراتِ فلما رأتْ ركْبَ النميريِّ أعرضَتْ ... وكنّ مِنَ أن يلقينَه حَذِراتِ قال: فضرب برجله الأرض زمانًا وقال: هذا ما يلذ سماعه، وكان يرون أن الشعر لسعيد (¬1). قال المعلمي: في السند مَن لم أعرفه. والقصة في "الأغاني" ج 6 ص 38 قال: "أخبرني محمَّد بن خلف وكيع، قال حدثني عبد الله بن أبي سعد، قال: ¬

_ (¬1) أخرجها أبو الفضل بن طاهر في "صفوة التصوّف" (ص 333) من طريق السلمي. قال السخاوي في "تخريجه" (40): "وقد ذكر ابن طاهر في هذا الباب حديث هشام بن عروة, عن أبيه، عن عائشة: بينما الحبشة يَزْفنون بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. الحديث. وهو حديث صحيح. وعجبتُ للمؤلف [السلمي] رحمه الله كيف اقتصر على هذه الحكاية المنقطعة، ولم يذكر هذا الحديث. وقد ترجم البيهقي في الشهادات من "سننه": "من رخَّص في الرقص إذا لم يكن فيه تكسُّر وتخنُّث". وأورد فيه حديث هانئ بن هانئ, عن علي، قال: "أتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنا وجعفر وزيد ... " ثم قال عقبه: هانئ بن هانئ ليس بالمعروف جدًّا، وفي هذا - إن صحَّ - دلالة على جواز الحَجْل، وهو أن يرفع رِجْلاً ويقفز على الأخرى من الفرح، فالرقص الذي يكون على مثاله يكون مثله في الجواز، والله أعلم.

حدثني الحسن بن علي بن منصور، قال: أخبرني أبو عتاب، عن إبراهيم بن محمَّد بن العباس المطّلبي ... ". وكذلك هي في "أمالي القالي" ج 2 ص 24 قال: "حدثني أبي وعبد الله (؟) بن خلف، قالا: حدثنا ابن أبي سعيد (؟) قال: حدثني عبد الله بن عبد الرحمن (؟) الشافعي، قال: سمع سعيد بن المسيّب ... ". وفي الأسانيد ما نراه من الاختلاف، والراوي عن ابن المسيّب هو إبراهيم بن محمَّد بن العباس المطّلبي الشافعي، وله ترجمة في "تهذيب التهذيب" ج 1 ص 154 وأرّخ وفاته سنة 237 أو بعدها بسنة. ويُعْلَم من الترجمة أنه لم يدرك ابن المسيب ولم يَرْوِ عمن أدركَ ابنَ المسيّب، وابن المسيب توفي سنة 93 وقيل بعدها وقيل قبلها و (¬1). فالقصة معضلَة، وليس في رواية "الأغاني" قوله: "الأرض زمانًا" وإنما فيها "فضرب رجله وقال". وليس في "الأمالي" الضرب بالرِّجل أصلاً. ويظهر من تدبُّر القصة أن ابن المسيب لم يطرب للغناء وإنما أعجبه الشعر لما فيه من وصف المرأة بالحياء والخفر والتقوى والتستُّر. راجع الأبيات في "الأغاني". وما وقع في "الأربعين": "وكان يرون أن الشعر لسعيد" إيهام أوْقَعَ فيه الاختصار، وإنما البيتان من قطعة لمحمد بن عبد الله - أو عبيد الله - بن نُمير الثقفي النصري، ولكن في القصة أن ابن المسيب بعد أن قال كلمته أنشد ثلاثةَ أبيات ليست من قطعة النُّميري أولها: ¬

_ (¬1) كذا في الأصل.

وليست كأخرى أوسعت جيب درعها ... وأبْدَتْ بنانَ الكفّ للجمرات ذكرها في "الأغاني" ثم قال: "قال: فكانوا يرون أن هذا الشعر [يعني هذه الثلاثة الأبيات] لسعيد بن المسيّب، ونحوه في "الأمالي". **** وقد تم بحمد الله عزَّ وجلَّ الكلام على "الأربعين"، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على خاتم أنبيائه محمَّد وآله وصحبه وسلّم. 27 رجب سنة 1369 عبد الرحمن بن يحيى اليماني المصحح بدائرة المعارف العثمانية

المراجع (الكتب المحال عليها في التعليق)

المراجع (¬1) الكتب المُحال عليها في التعليق - الإصابة، لابن حجر - طبع مصر سنة 1320 هـ. - الاعتصام، للشاطبي - طبع مصر سنة 1331 هـ. - الأغاني - طبع مصر سنة 1323 هـ. - إكمال ابن ماكولا - نسخة خطية للمكتبة الآصفية بحيدراباد دكين. - أمالي القالي - طبع مصر سنة 1344 هـ. - الأنساب، لابن السمعاني - المطبوع بالزنكوغراف بأوربا سنة 1912 م. - تاريخ البخاري الكبير - طبع دائرة المعارف سنة 1360 هـ. - تاريخ بغداد، للخطيب - طبع مصر سنة 1349 هـ. - تفسير ابن جرير- طبع مصر سنة 1321 هـ. - تهذيب تاريخ ابن عساكر - طبع الشام سنة 1329 هـ. - تهذيب التهذيب - طبع دائرة المعارف سنة 1325 هـ. - الجامع الصغير, للسيوطي - مع شرح العزيزي طبع مصر سنة 1324 هـ. - الحلية، لأبي نعيم - طبع مصر سنة 1351 هـ. - سنن الترمذي - طبع مصر سنة 1292 هـ. - سنن أبي داود - طبع الهند سنة 1271 هـ. - سنن ابن ماجه - مع حواشي السندي طبع مصر سنة 1313 هـ. - صحيح البخاري - مع فتح الباري طبع مصر سنة 1319 هـ. ¬

_ (¬1) من صُنع المؤلف.

- صحيح مسلم - مع شرح الأبي والسنوسي طبع مصر سنة 1327 هـ. - صفة الصفوة، لابن الجوزي - طبع دائرة المعارف سنة 1359 هـ. - طبقات ابن سعد - طبع أوربا سنة 1322 هـ. - فتح الباري - طبع مصر سنة 1319 هـ. - كتاب ابن أبي حاتم - نسخة مأخوذة بالتصوير عن النسخة المحفوظة - بخزانة كوبريلي في إستانبول. - كتاب ابن أبي حاتم - المجلد الثالث طبع دائرة المعارف سنة 1360 هـ. - الكفاية، للخطيب - طبع دائرة المعارف سنة 1357 هـ. - كنز العمال - طبع دائرة المعارف سنة 1312 هـ. - اللآلي المصنوعة، للسيوطي - طبع مصر سنة 1317 هـ. - لسان الميزان - طبع دائرة المعارف سنة 1329 هـ. - المستدرك - طبع دائرة المعارف سنة 1334 هـ. - مسند الإِمام أحمد - طبع مصر سنة 1313 هـ. - مصنف ابن أبي شيبة - نسخة قلمية ملك دائرة المعارف. - المعجم الصغير, للطبراني - طبع الهند سنة 1311 هـ. - منتخب كنز العمال - بهامش مسند أحمد طبع مصر سنة 1313 هـ. - الميزان، للذهبي - طبع مصر سنة 1325 هـ.

الرسالة الرابعة عشرة صفة الارتباط بين العلماء في القديم

الرسالة الرابعة عشرة صفة الارتباط بين العلماء في القديم

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أرانا بأعيننا ما كنا نتمنّى أن نراه من مظاهر الارتباط والتعاون العلمي بين العلماء، فأصبح علماء الهند يستقبلون وفدًا كريمًا من خيرة إخوانهم علماء مصر، تكلّفوا المشاقَّ والمتاعب حُبًّا في تعرّف أحوال إخوانهم في الهند، وتوثيق عُرى التواصل معهم، تمهيدًا للتعاون معهم فيما يرفع شأن الإِسلام والعلم. كان العلماء في العصور الأولى متواصلين على بُعْد الأقطار وصعوبة الأسفار، فلا تكاد تطّلع على ترجمة رجل منهم إلا وجدت فيها ذِكْرَ ارتحاله في أوان الطلب إلى الأقطار النائية للقاء العلماء والأخذ عنهم، وسياحته بعد التحصيل، وكلما دخل بلدةً سأل عمن بها من العلماء، واجتمع بهم، واستفاد منهم وأفادهم، وبقي يواصلهم طول عمره بالمكاتبة والمراسلة، وكانت المكاتبات لا تنقطع بين علماء الأقطار لتبادل الأفكار في المسائل العلمية. وفي الجزء الأول من "إعلام الموقعين" (ص 28 وما بعدها) ذَكَر رسالةً من الليث بن سعد إلى مالك تشتمل على عدة مسائل، وفيها ما يدل أنّ المكاتبة بينهما في المسائل العلمية كانت متواصلة. وهكذا كانت المكاتبة بين الشافعي وأحمد بن حنبل. في "توالي التأسيس" (¬1) لابن حجر العسقلاني: "قال أبو ثور: كتب عبد الرحمن بن مهدي إلى الشافعي وهو شاب أن يضع له كتابًا، فوضع له ¬

_ (¬1) (ص 78). وسبق أن اسمه الصحيح "توالي التأنيس".

كتاب الرسالة". وفيه (¬1): "عن عبدوس العطار: سمعت علي ابن المديني يقول للشافعي: اكتب كتاب خبر الواحد إلى عبد الرحمن بن مهدي، فإنه يُسَرّ بذلك". وأمثلة هذا كثيرة. وكثير من المؤلفات العلمية كان سببها المكاتبة بين العلماء، وكثير من الفتاوى المطولة صادر عن ذلك كما يعلم بمراجعتها كـ "فتاوى السبكي الكبير" وغيره. كما أنّ كثيرًا من التواريخ استفاد مؤلفوها كثيرًا مما فيها أو أكثره بمكاتبة العلماء، كـ "تاريخ ابن خلكان" و"إنباء الغمر" و"الدرر الكامنة" لابن حجر العسقلاني، و"الضوء اللامع" للسخاوي، وغير ذلك مما تقدم أو تأخر. وقد كان هذا العمل - أعني المكاتبة بين العلماء في المسائل العلمية - جاريًا في اليمن إلى مدّة غير بعيدة، وقد رأيتُ في المخطوطات اليمنية كثيرًا من ذلك. فأصبح العلماء في هذا العصر متقاطعين، لا صِلَة بين علماء هذا القُطْر وعلماء القطر الآخر، بل ولا بين علماء القطر الواحد! بل ولا علماء البلد الواحد!! فقد كان علماء البلد الواحد في العصور السابقة لا يكاد يمرّ عليهم يوم إلا وهم يجتمعون فيه ويتذاكرون. ¬

_ (¬1) الموضع نفسه.

أمّا الآن فقد تمر على العالم شهور، بل سنون، لا يجتمع بعالم آخر قد يكون معدودًا من جيرانه! وإذا جمعتهما الجماعة أو الجمعة أو العيد فقد يرجعان عن المصلى ولم يلتقيا! وإذا التقيا تجنَّب كلٌّ منهما فتح باب المذاكرة، إمّا رغبة عن العلم، وإمّا استحقارًا لصاحبه، وإمّا أَنَفَة أن يظن الناس أنّ صاحبه أعلم منه، وإمّا خوفًا من أن تجرّ المذاكرةُ إلى المنازعة أو غير ذلك!! وهكذا يحج كل سنة جماعةٌ من العلماء، ويرجع كل منهم ولم يجتمع بأحد من علماء الحرمين، أو العلماء الذين حجوا في ذلك العام. وقد كان العلماء في العصور السابقة على خلاف هذه الحال، فكان من أعظم ما يهتمّ به العالم إذا حجّ: الاجتماع بالعلماء والاستفادة منهم وإفادتهم. ولقد كان بعض العلماء يحجّ وأعظم البواعث له على الحج الاجتماع بالعلماء، مع أنّ هذه العبادات أعني الجماعة والجمعة والعيد والحج مِن أعظم الحِكَم في شَرْعِها: الاجتماع والتعارف، وتبادل الفوائد العلمية وغيرها. وهكذا قد يتفق لأحد علماء هذا العصر سفر إلى بلد من البلدان فيَرِدُه، ويمكث فيه مدّةً لا يسأل عمن به من العلماء، ولا يجتمع بهم، وإذا اجتمع بهم تجنَّب المذاكرة العلمية، فلا يكاد يفيد ولا يستفيد، وإذا كان يصنع هذا مع جيرانه من العلماء، فكيف يُرْجَى منه خلافُه مع علماء البلدان البعيدة عنه؟! وكم من عالم تُشْكِل عليه مسألة، أو يخشى أن يكون مخطئًا فيها، فلا

يدعوه التوفيق إلى الاجتماع بغيره من العلماء والبحث معهم فيها، أو إلى مكاتبتهم في ذلك. هذا مع تيسر طرق المواصلات في هذه الأعصار، فأصبحت المسافة التي كانت لا تُقْطَع إلا في أشهر أو سنين، مع المشاق والمخاوف والعوائق والقواطع تُقْطَع الآن في أيام، مع الأمن والراحة، وكذلك حال المكاتبات. ولقد كان العالم يبيع ضنائنه لكي يتزوَّد لسفر بعيد ليجتمع بعالم آخر، وكثيرًا ما كانت تعرض لهم المشاق الشديدة في البر والبحر، ويُعرّضون أنفسهم للمهالك، كلُّ ذلك رغبةً في العلم. حتى لقد كان بعض الصحابة - رضي الله عنهم - يسافر من المدينة إلى مصر ليجتمع بصحابي آخر هنالك ليستثبته في حديث واحد سمعاه معًا من النبي - صلى الله عليه وسلم -!! ففي "مسند الإِمام أحمد" (ج 4، ص 62) و (ج 5 ص 375) (¬1) من طريق عبد الملك بن عُمير عن مُنيب (¬2) عن عمه قال: بلغ رجلاً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يحدث ... فرحل إليه وهو بمصر، فسأله عن الحديث، فقال: نعم سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من ستر أخاه المسلم في الدنيا ستره الله يوم القيامة". قال: وأنا سمعته من النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم. ¬

_ (¬1) (16596 و23185). (¬2) وقع في النسخة المطبوعة في الموضع الأول: "مسيب"، وفي الثاني: "هييب"، وفي "تعجيل المنفعة" المطبوع بمطبعتنا - دائرة المعارف -: "منيب" ذكره بعد منصور. [المؤلف].

وفي "المسند" أيضًا (جلد 4، ص 153) (¬1) عن ابن جريج قال: سمعت أبا سعيد (¬2) يحدث عن عطاء قال: رحل أبو أيوب إلى عقبة بن عامر ... فأتى عقبة، قال: حدِّثْنا ما سمعتَ من النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبق أحدٌ سمعه. قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَنْ سَتَر على مؤمن في الدنيا ستره الله يوم القيامة". فأتى راحلته فركب ورجع. وعقبةُ بن عامر كان بمصر. لمّا بلغتُ إلى هنا انتبهت لاتفاق عجيب، وهو أنّ الآثار التي استشهدت بها تدور على مصر، فالليث بن سعد مصري، والشافعي استوطن مصر، والأثران اللذان نقلتهما عن "المسند" كانت الرحلة فيهما إلى مصر، و"المسند" طبع مصر، وكتابا "تهذيب التهذيب" و"تعجيل المنفعة" كلاهما من تأليف الحافظ ابن حجر المصري!! وفي "سنن أبي داود" (¬3) وغيرها عن كثير بن قيس قال: كنت جالسًا مع أبي الدرداء في مسجد دمشق، فجاءه رجل فقال: يا أبا الدرداء، إنّي جئتك من مدينة رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ لحديث بلغني أنّك تحدّثه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ما جئت لحاجة - يعني غير ذلك -. هكذا كان القوم، فأصبح أحدنا يتثاقل عن بضع خطوات يمشيها إلى عالم، أو يضنّ ببضعة أَفْلُس يبتاع بها طوابع للبريد ليكتب بها إلى عالم. ¬

_ (¬1) (17391). (¬2) كذا في "المسند" المطبوع، وفي "تهذيب التهذيب" المطبوع بمطبعتنا - دائرة المعارف -: (أبو سعد الأعمى)، وفي "تعجيل المنفعة": (أبو سعد، ويقال: أبو سعيد) [المؤلف]. (¬3) (3641).

وكم من عالم أخطأ في مسألة فلم يهتم إخوانه من العلماء بأن يزوروه ويذاكروه فيها، أو يكاتبوه في شأنها، بل غاية ما يصنع أحدهم أن ينشر اعتراضه في مجلة أو رسالة يُشنِّع على ذلك العالم ويُجَهّله، أو يبدّعه ويكفّره، فتكون النتيجة عكس المطلوب. وكم من مسائل يُفْتَى فيها بمصر بشيء، وبالشام بخلافه، وفي الهند بخلاف ذلك، ولو كانت المواصلات جارية بين العلماء لما وقع هذا الخبط الشديد الذي يوسع خَرْقَ الافتراق ويؤول إلى النزاع والشقاق. وعلماء الدين أحوج الناس إلى التواصل والتعاون خصوصًا في العصر الذي تفشّى فيه وباء الإلحاد، وقلَّت الرغبة في العلوم الدينية، بل كادت تعم النُّفْرة عنها، واستغنى كلّ أحد برأيه. فعلماء الدين مفتقرون إلى التعاون لإيجاد طرقٍ تقرَّب المسافة بينهم وبين المتعلّمين العلومَ الحديثة، وتُجْلى فيها المسائل الدينية في معارض تتفق وطريقَ التفكير العصري، فيُسْتطاع بذلك إيقاف الوباء عن زيادة الانتشار ومعالجة المرضى، بل والدعاية المثمرة إن شاء الله. فأمّا الدواء المعروف الآن، وهو التكفير والتضليل، فإنه لا يزيد الداء إلا إعضالاً، ومثله مثل رجل ظهر ببعض أصابعه برص فقطعه! فظهر البرص بأخرى فقطعها!! فقيل له: حنانيك قبل أن تقطع جميع أعضائك! وهذا موضوع واسع، أكتفي بالإلماع إليه. وأهم من ذلك حال الجوامع والمدارس والدوائر العلمية، فإن احتياجها إلى التواصل والتعاون أشد؛ لأنّ النقص في بعضها يضر الأمة جمعاء، خصوصًا في هذا العصر الذي

اضطربت فيه نُظُم التعليم، واحتاج الناس إلى التغيير فيها والتبديل بحسب ما تقتضيه المصلحة. فمن الواجب أن تكون المدارس الإِسلامية والمعاهد العلمية في العالم كله على صلة بالأزهر المعمور وتَوَاصلٍ بينها لتوحيد نظام التعليم على حسب ما تقتضيه الدواعي العصرية، فمن المؤسف أن نرى بعض المدارس لا تزال تشغل طلبتها بعلم الكلام والطبيعة على ما كان مألوفًا منذ ألف سنة، وتشغلهم في النحو والصرف بالكتب التي ألفت قبل مئات من السنين، فربما مكث الطالب سنين في المدرسة ثم خرج منها كيوم ولدته أمه! ولو وُثَّقت الروابط بين الجوامع والمدارس لاستفاد بعضها من بعض، وانتفع جميعها بما يهتدي إليه بعضها، فتكون يدًا واحدة على ترقية العلم ونشره، واختيار الطرق الصحيحة القريبة الفائدة. وحال المطابع وخزائن الكتب على هذا القياس، فكم من مطبعة تظفر بنسخة ناقصة من كتاب تريد طبعه، وقد يكون ذلك الكتاب في بعض المكاتب في قُطر آخر، أو في ملك أحد العلماء، ولكن عدم التواصل يحول بين المطبعة وبين العلم بذلك، فإما أن تطبعه ناقصًا، فيكون في ذلك مضرّة عظيمة؛ لأنّ المطابع الأخرى تُعرض عن طبعه مرة أخرى، مخافة الخسارة المالية، وإمّا أن تهمل طبعه، وقد يؤدي ذلك إلى تلفه، وعلى الأقلّ إلى تأخير الفائدة المرجوّة من نشره. إنّنا بهذه المناسبة نعلن شكرنا للحكومة المصرية الجليلة والخزانة الخديوية، فإنّنا بالمواصلة معها استطعنا أن نستفيد ونفيد العلم وأهله فوائد عظيمة، فمن ذلك:

- أنّها أفضلت علينا بإرسال نسخة من "السنن الكبرى" للبيهقي أخذَتْها من النسخة المحفوظة فيها بالتصوير الشمسي. - وكذلك بنسخة من "التاريخ الكبير" للبخاري. - ونسخة من "الأربعين في أصول الدين" للفخر الرازي. - وتكفلت لنا بطبع "علوم الحديث" للحاكم، و"إعراب ثلاثين سورة" لابن خالويه، وغير ذلك. ولا نزال نستفيد منها، وسوف تبقى مواصلتنا معها مستمرة إن شاء الله. وكذلك حاولنا أن نستفيد من الأزهر المعمور، وبعض أكابر العلماء بمصر، فكاتبناهم لاقتباس رأيهم في الكتب التي ينبغي طبعها، فتفضلوا علينا بآرائهم في ذلك كما أثبتناه في "برنامج الجمعية". بل وكاتبنا في ذلك أكثر مشاهير علماء العالم، ووردت الأجوبة من بعضهم كما أثبت في البرنامج. وبالجملة فجمعيتنا هذه مَدِينة للحكومة المصرية وعلماء مصر أعظم الدَّين، ولن يزال اتصالنا بهم مستمرًّا - إن شاء الله تعالى -، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يجزيهم عنّا وعن العلم وأهله أفضل الجزاء. هذا مثالٌ مِن أمثلة التواصل العلمي بين الدوائر العلمية وما ينطوي عليه من الفوائد العظيمة. والحاجة داعية إلى توسيع نطاق التواصل، ولا سيما بتبادل بعض الوفود من قُطْر إلى قُطْر، ومن بلد إلى بلد، ومن مدرسة إلى مدرسة.

وقد أخذت مصر بفضيلة السبق إلى هذا الأمر ببَعْثها هذا الوفد المحترم، وعسى أن تكون قدوة صالحة لغيرها من الأقطار، وسوف يكون لهذا التزاور ثمرةٌ عظيمة إن شاء الله تعالى. وإنّي وإخواني الأفاضل رفقاء الدائرة نشكر لأعضاء الوفد الأجلة تفضلهم علينا، وعنايتهم بنا، وستبقى أشخاصُهم الكريمة ماثلةً في قلوبنا وكلماتهم التشجيعية رنانة على أسماعنا, ولن تزال الروح التي نفخوها فينا بلطفهم وحنانهم باعثةً لنا على دوام الجد في العمل بنفوس لا تعرف الكسل ولا الملل - إن شاء الله تعالى -. وحبذا لو كان من الممكن طول إقامة الوفد ها هنا مدة طويلة، ليتكرر اجتماع العلماء بهم، وشفاء الصدور بالاستفادة والمذاكرة، فإنّ قلوب علماء هذه العاصمة وفضلائها حرّى متعطشة إلى الارتشاف من علم علماء الوفد، والتشفي بمذاكرتهم. ولكن إذا كان طول إقامة الوفد متعذرًا، فإنّنا نعللْ أنفسنا بعودة أخرى - والعود أحمد - وبالمواصلة بالمكاتبة التي ستبقى - إن شاء الله تعالى - مستمرة. ونرجو من حضرات الأساتذة الأجلة أعضاء الوفد أن يفسحوا لنا جانبًا من صدورهم، ويربطونا بصلة من عنايتهم، فإنّه لا غنى بنا عن ألطافهم بالإرشاد والإمداد العلمي والدعوات المقبولة إن شاء الله. نسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقنا جميعًا لدوام الاجتهاد في خدمة العلم والدين، وأن ينجح مقاصد الوفد، ويثمر أعماله.

وفي الختام نُحمِّل الوفد تحيتنا إلى رجال الأزهر المعمور، وسائر إخواننا المصريين، فليحيى الأزهر! ولتحيى مصر!

مجموع رسائل الفقه

آثَار الشّيخ العَلّامَة عبَد الرّحمن بن يحيى المعَلِّمِيّ (16) مجموع رسائل الفقه تأليف الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني 1312 هـ - 1386 هـ تحقيق محمد عُزير شمس المجلد الأول وفق المنهج المعتمد من الشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد (رحمه الله تعالى) تمويل مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

بسم الله الرحمن الرحيم

راجع هذا الجزء مُحَمَّد أجمَل الإصلَاحي سُليمَان بن عبَد الله العمير

مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية SULAIMAN BIN ABDUL AZIZ AL RAJHI CHARITABLE FOUNDATION حقوق الطبع والنشر محفوظة لمؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية الطبعة الأولى 1434 هـ دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع مكة المكرمة - هاتف 5473166 - 5353590 - فاكس 5457606 الصف والإخراج دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

مقدمة التحقيق

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة التحقيق الحمد لله رب العالمين، القائل في كتابه المبين: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ}، والصلاة والسلام على رسوله القائل: "من يُردِ الله به خيرًا يُفقِّهه في الدين"، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد، فبين أيدينا مجموعة الرسائل الفقهية للعلّامة المحقق الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني رحمه الله، الذي عرفه الناس بتحقيقاته ومؤلفاته المطبوعة في الدفاع عن الحديث وأهله مثل "التنكيل" و"الأنوار الكاشفة"، وجلُّ آثارِه التي ألَّفها بقيت مخطوطة في حياته، وكان تلاميذه والمحبون له يحثُّونه على نشرها، فيقول: إن كان فيها فائدة فسيأتي فيما بعدُ مَن يقوم بطبعها. وقد آن الأوان لنشرها في هذا المشروع العلمي المبارك إن شاء الله، الذي يجمع جميع آثاره وكتاباته في المسوَّدات والدفاتر، ويُخرِج كثيرًا منها إلى النور لأول مرة. ورسائل هذه المجموعة كتبها الشيخ في فتراتٍ مختلفة من حياته التي تقلَّب فيها في بلدان مختلفة، فقد كتب بعضها في اليمن ناقش فيها أحد فضلاء الزيدية في مسألة اشتراط الصوم في الاعتكاف، وهذا قبل أن يرتحل إلى جازان سنة 1336، وهو في ريعان شبابه في الثالثة والعشرين من عمره، وقد كان الشريف محمَّد بن علي الإدريسي حاكمًا لعسير والمخلاف

السليماني آنذاك، فولاّه رئاسة القضاء هناك، ولما ظهر له ورعه وعلمه وزهده وعدله لقَّبه بشيخ الإِسلام، وكان إلى جانب القضاء يشتغل بالتدريس والمذاكرة مع الإدريسي والتأليف في بعض المسائل. ومنها "مسألة منع بيع الأحرار" التي كتب فيها مرارًا، وعرضها على الإدريسي لينظر فيها. ولما توفي الإدريسي سنة 1341 وتغيرت الأحوال ارتحل الشيخ إلى عدن، وبقي فيها سنةً مشتغلاً بالتدريس والوعظ، ومما ألَّفه هناك رسالة في "حقيقة الوتر ومسماه في الشرع"، فقد ألَّفها في رمضان سنة 1342. وفي أواخر هذه السنة سافر الشيخ إلى إندونيسيا، وبقي فيها إلى سنة 1344، ثم انتقل إلى الهند، واستقر فيها بحيدر آباد إلى سنة 1371، اشتغل فيها مصححًا لأمهات الكتب في الحديث والرجال والتراجم وغيرها من الفنون بدائرة المعارف العثمانية، وهو إلى جانب ذلك يكتب في بعض المسائل الفقهية التي يرى الحاجة إلى تحرير القول فيها، منها "جواب الاستفتاء عن حقيقة الربا" الذي ردَّ فيه على بعض علماء الهند، ومنها "رسالة في المواريث" التي ردَّ فيها على كتاب "الوراثة في الإِسلام" (المطبوع بالهند سنة 1341) الذي أثار ضجة في الأوساط العلمية. وهناك كتبٌ ورسائل في علوم أخرى غير الفقه ألَّفها الشيخ في الهند، دخلت ضمن هذه الموسوعة. انتقل الشيخ في أواخر سنة 1371 إلى مكة المكرمة، وعُيِّن أمينًا لمكتبة الحرم المكي في شهر ربيع الأول سنة 1372 وبقي على هذا المنصب إلى وفاته سنة 1386. وكان يشتغل في هذه الفترة بفهرسة المخطوطات، وتصحيح الكتب وتحقيقها لتطبع في دائرة المعارف العثمانية بحيدراباد،

وتأليف أغلب الرسائل والكتب في الفقه وغيره، ولم ينشر منها في حياته إلاَّ القليل، مثل "مقام إبراهيم" و"الأنوار الكاشفة" و"طليعة التنكيل". وتوفي الشيخ وترك وراءه مجموعة من المسوَّدات في أوراق ودفاتر بأحجام مختلفة، استُخْرِج منها ما يُنشر في هذه السلسلة. وقد أُسنِدَ إليَّ تحقيق الرسائل الفقهية منها، وهي 38 رسالة متفاوتة في الحجم، بعضها تامَّة حرَّرها المؤلف، وأخرى ناقصة لم يُكمِلها، أو ضاعت بعض أوراقها، فلم نجدها في الدفاتر. ثم بعضها مبيَّضة، وأخرى مسوَّدة كثُر فيها الشطب أو الزيادة بين الأسطر وفي الهوامش، أو الإلحاق في أوراق مستقلة وجزازات. وبعد كلِّ هذا وذاك فبعضها مضطربة الأوراق، تحتاج إلى إعادة الترتيب بعد التأمل فيها ومعرفة سياق الكلام، وسيأتي في منهج التحقيق ذِكر ما بذلنا في تحقيقها وإخراجها من جُهد. ويهمنا هنا بيان منهج الشيخ في تناوله لهذه المسائل الفقهية، والسمات البارزة لكتاباته. وأوّل ما نذكره بهذا الصدد أنه كتب في النوازل المهمة التي وقعت في عهده، مثل بيع الأحرار الذي شاع في زمنه، وحول أجور العقار بمكة المكرمة، وتوسعة المسعى، ونقل مقام إبراهيم، وتوكيل الولي غير المجبر بتزويج موليته، ومسألة الطلاق الثلاث المجموع، وغيرها من القضايا والنوازل التي كانت بحاجة إلى تفصيل القول وبيان ما هو الحق والصواب أو الراجح فيها، ودفع الشُّبَه الواردة عليها. وقد كان لكتاباته أثرٌ ملموسٌ في الأوساط العلمية، فأَيَّده العلماء، وكان سندًا قويًّا للحكّام فيما نفَّذوا من إصلاحات. ومع أن الشيخ كان يشتغل بتحقيق المخطوطات وتصحيح الكتب والعمل في المكتبة، إلاَّ أنه لم ينقطع عما يجري في

المجتمع من أمور تحتاج إلى تحرير القول فيها من الناحية الشرعية، فقام بها أحسن قيام، ووقف موقفَ الفقيه الذي ينظر إلى مقاصد الشرع ويتأمل في النصوص ويستنبط منها ما فيه صلاح العباد والبلاد. والأمر الثاني الذي نلاحظه في هذه الرسائل أنه يردُّ على من يثير الشغب في المسائل المجمع عليها، مثل ما فعل الجيراجي في كتابه "الوراثة في الإِسلام" الذي أراد أن يهدم به نظام المواريث، فانبرى له الشيخ، وألَّف في الردّ عليه، وأطال في مناقشته، وفسَّر آيات المواريث تفسيرًا صحيحًا يجلو كلَّ غبار، وينسف ما بناه الجيراجي في كتابه المذكور. وهذا يدل على غيرته وحميته للدين، ودفاعه عن القرآن والسنة وإجماع الأمة. وهكذا ردّ في رسالته عن الربا على من يُجوِّز بعض أنواعه، مثل فائدة البنوك والبيع المسمَّى ببيع الوفاء أو بيع العهدة، وأطال المناقشة والحوار معه، وذكر مفاسدها من وجوه. أما المسائل الخلافية مثل سنة الجمعة القبلية، وعدد الركعات في قيام رمضان، والوتر، وإعادة الصلاة، وإدراك الركعة بإدراك الركوع وغيرها، فقد تأنّى فيها الشيخ، ونظر في الأدلة الواردة في هذه المسائل، وتكلم على الأحاديث تصحيحًا وتضعيفًا، ثم تطرَّق إلى دلالتها وبيان اختلاف العلماء فيها، ورجَّح ما رآه راجحًا دون القدح في المذاهب أو الأئمة. يقول في آخر رسالته في الوتر: "هذا ما اقتضاه قول الحق الذي أوجبه الله على كلِّ مسلم على مَبْلغِ علمه ومقدار فَهْمِه. وليس فيما قلنا غضاضة على أئمة مذهبنا، فإنهم حَفَظَة الدين وأئمة اليقين، وهم جبال العلم وبحاره، وشموس الحق وأقماره، وإنما معنا آثار فوائدهم وأسْقاطُ موائدهم".

ويقول في آخر رسالته في عدم إدراك الركعة بإدراك الركوع: "لا يُنكَر أن للقول بالإدراك قوَّةً مَّا لذهاب الجمهور إليه، فلا لومَ على مَن قوِي عنده جدًّا فقال به. فأما أنا فلا أرى له تلك القوة، والأصل بقاء النصوص على عمومها". ويقول في قيام رمضان: "أما الحدّ المحتَّم فلا، وأما الأفضل فالاقتصار على الإحدى عشرة، وفي بعض الليالي ثلاث عشرة، إلا إذا شقَّ عليهم إطالتها حتى يستغرق الوقتَ الأفضل، فلهم أن يزيدوا في العدد، على حسب ما يخفُّ عليهم، وعلى هذا جرى عمل السلف". وبمثل هذه الآراء النيَّرة يُنهي كتاباته في المسائل الخلافية، فهو مع ترجيحه لرأي معيَّن يجعل الأمر واسعًا، فلا يتعصب لمذهب ولا يتشدد في الدفاع عنه. وقد كانت نشأة الشيخ على المذهب الشافعي، وله اطلاع واسع على نصوص الإِمام الشافعي في كتاب "الأم"، وأقوال الشافعية في كتب الفقه، إلاَّ أن ذلك لم يمنعه من مناقشة الإِمام وأصحابه في بعض المسائل، مثل سنة الجمعة القبلية، حيث خالف المذهب وناقش الأصحاب، وردّ على جميع ما استدلوا به. وقال في آخره: "مَن كان منكم يحبُّ ثبوتها انتصارًا لمن أثبتها من العلماء فهذا غرض آخر، ليس من الدين في شيء. والعلماء مأجورون على كل حال، وليس في المخالفة لهم تبعًا للدليل غضاضةٌ عليهم، إذ ليس منهم من يُبرَّئ نفسَه عن الخطأ ويدَّعي لنفسه العصمة. ومَن كان منكم يحبُّ ثبوتها لكونه من المقلدين للمذهب القائل بثبوتها، فهذا لا ينبغي له أن يُعوِّل على ثبوتها من حيث الدليل وعدمه, لأنه مقلِّد لا يَسأل عن حجة، ولا يُسأل عن حجة، فهو ملتزم لقول من قلَّده. فإن تاقت نفسُه إلى

الاحتجاج فليوطَّن نفسه على قبول الحجة، ولو على خلافِ قولِ إمامه، وإلاَّ وقع في الخطر من تقديم هواه على ما جاء به الرسول، وجَعْلِ كلامِ مقلَّدِه أصلًا يُرَدُّ إليه ما خالفه من كلام الله ورسوله. والله يهدي من يشاء إلى سراطٍ مستقيم". كان الشيخ عالمًا بالحديث والرجال والعلل، وتغلب عليه هذه النزعة عندما يذكر الأحاديث، فيتكلم عليها تصحيحًا وتضعيفًا، ويأتي بالطرق والشواهد، ويترجم لرجال الأسانيد، ويشير إلى بعض العلل الخفية، ويُعقَّب أحيانًا على الحافظ ابن حجر والنووي وغيرهما من النقّاد. والأمثلة على ذلك كثيرة في هذه الرسائل، ويكفي مراجعة رسالته "سنة الجمعة القبلية"، و"هل يُدرِك المأموم الركعة بإدراكه الركوع مع الإِمام"، و"القبلة وقضاء الحاجة"، وبحث في حديث قيس بن عمرو في صلاة ركعتي الفجر بعد الفرض، ومسألة إعادة الصلاة، وبحث في حديث معاذ بن جبل في صلاته بقومه، وبحث في وقت تشريع ونزول آية صلاة الخوف، وغيرها، فقد أطال الشيخ فيها الكلام على نقد الأحاديث الواردة في الباب، وناقش بعض العلماء في القديم والحديث من الذين تكلموا عليها وعلى فقهها، ووفَّق بين الأحاديث التي ظاهرها التعارض. وقلَّما تخلو رسالة من هذه الرسائل الفقهية من فائدة حديثية، أو تنبيه على إشكال وحلّه، أو تعقيب على وهم، أو كلام على الرجال والعلل، يكون من بنات فكره ودقائق استنباطه. وإلى جانب تمكُّنه من علوم الحديث والرجال كان واسعَ الاطلاع على كتب التراث في فنون مختلفة، وقد استفاد منها وأحال إليها كثيرًا في هذه الرسائل، ولو قرأنا مثلًا رسالته "مقام إبراهيم" و"توسعة المسعى" و"سير

النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحج" و"مسألة منع بيع الأحرار" نعرف سعة اطلاعه على كتب التاريخ والتفسير واللغة والفقه وغيرها، وقد مكَّنه الاشتغال بتحقيق الكتب والعمل في المكتبة من الاطلاع على أغلب ما وصل إلينا من كتب التراث، يأخذ منها ما يشاء ويدع ما يشاء مع التنبيه على ما فيها من أوهام وأخطاء. ويميل الشيخ كثيرًا إلى أسلوب الحوار والمناقشة، لتوضيح بعض المسائل والردّ على بعض الشبه والإشكالات، وقد ألَّف بعض رسائله بصورة أسئلة وأجوبة، ومنها في هذه المجموعة أسئلة وأجوبة في المعاملات، بسّط فيها مسائل البيوع وسهَّلها، وهي من أكثر الأبواب الفقهية تعقيدًا وصعوبةً. وكان للشيخ خبرةٌ في القضاء عدة سنوات، فاستطاع بذلك أن ينقد بعض الأحكام التي صدرت من أحد القضاة، ويبيِّن ما فيها من خللٍ من الناحية القضائية، ومخالفةٍ لحكم الشريعة، كما في الرسالتين (24، 33) ضمن هذه المجموعة. وكذلك في مسألة منع بيع الأحرار انتقد صنيع القضاة في الحكم بالرق على شخص دون النظر في ذلك من جميع الجوانب، وردَّ على أولئك الذين توهَّموا من بعض النصوص في كتب الفقه تأييدًا لمطلبهم، وعكَف على هذه الكتب واستخرج منها نصوصًا كثيرة من أبواب مختلفة تُؤيّد ما ذهب إليه، وبيَّن بعض أحكام الرقّ في الشريعة بتفصيل. وقد ظهر لي في أثناء تحقيق هذه الرسائل أن الشيخ لا يُصرِّح غالبًا باسم الشخص المردود عليه من المعاصرين، فينقل كلامه ويناقشه دون أن يجرح شخصه أو يفضحه، وإذا ذكر اسمه ذكره بكل ثناء وتبجيل دون تشهير وتجهيل، وهذه عادة مطّردة للشيخ في سائر مؤلفاته مع جميع المعاصرين له

حتى مع أشدّ المخالفين لأهل الحديث، كما هو معروف. ويبدو جليًّا من قراءة هذه المجموعة وغيرها من مؤلفاته أن الشيخ كان يستحضر نصوص كتاب "الأم" للشافعي، وتحقيقات الحافظ ابن حجر في "الفتح"، وتراجم الرجال في "الميزان" و"اللسان" و"التهذيب"، وآثار الصحابة والتابعين في "تفسير" الطبري، فهو كثير الاعتماد عليها والإحالة إليها في بحوثه، ويعقّب عليها أحيانًا ويستدرك. كما أنه كثير التتبع لـ "مسند" الإِمام أحمد و"السنن الكبرى" للبيهقي لمعرفة طرق الحديث وألفاظه، أما الصحيحان والسنن الأربع فقد كانت منه على طرف الثمام، يعتمد عليها بالدرجة الأولى، ويستنبط منها ما يفيد في المسألة المبحوث عنها. هذه بعض الملامح العامة لهذه الرسائل الفقهية، وهناك استطرادات وفوائد كثيرة منثورة في أثنائها، فلا يغتر القارئ بعناوين الرسائل التي لا تُبيَّن له كلَّ ما بداخلها، وعليه أن يقرأها بعناية، ويجني ثمارها بنفسه، ويستفيد من أسلوب الشيخ وطريقته، ويستمتع بمناقشته واستنباطه، ويطّلع على آرائه ونظراته، ويقتبس من دراساته وتحقيقاته.

التعريف بهذه الرسائل وأصولها

التعريف بهذه الرسائل وأصولها توجد هذه الرسائل مثل سائر مؤلفات الشيخ في مكتبة الحرم المكي، التي كان أمينًا لها من سنة 1372 إلى وفاته سنة 1386، وهي في دفاتر وكراسات وأوراق من أحجام مختلفة، وقد سُجِّلت كلها في السجلّ العام للمكتبة، ووُضِعت عليها أرقام. وأخطأ المفهرسون أحيانًا فرتّبوا الأوراق ورقّموها دون رعاية الترتيب الصحيح لها. وقد عانيتُ كثيرًا في بعض الرسائل المضطربة وإعادة ترتيبها، حتى استقام السياق. وأصابَ بعضَ هذه الرسائل البللُ أو الاهتراء من أطرافها أو القطع من المجلد أو الخرق، فأثَّر كلُّ ذلك على الكلام الموجود في تلك الأوراق، وبعضها مخرومٌ من أولها أو من آخرها، ولم أجد بقية الكلام في الدفاتر والأوراق. وأحيانًا كتب الشيخ تتمةً أو ملخصًا في أوراق مستقلة ضاع بعضها وبقي البعض. وفيما يلي تعريف بهذه الرسائل ومخطوطاتها، وذِكرٌ لمناسبة تأليفها إن وُجدتْ، واستعراضٌ لأهم موضوعاتها ومباحثها، يكون مدخلاً للقراء إليها إن شاء الله، وقد رتبتها بحسب مكانها من الكتب الفقهية. 1 - القِبْلة وقضاء الحاجة: توجد نسختها الخطية في مكتبة الحرم المكي برقم [4692] في قطعتين، أولاهما في 13 صفحة، والثانية في عشر صفحات، وبعدها صفحات مشطوب عليها، وكلتاهما بخط المؤلف في قطع طويل مقاسه 32 × 21 سم. وفيهما تخريجات وزيادات في مواضع.

أما القطعة الأولى فقد بدأها الشيخ بذكر أحاديث النهي عن استقبال القبلة عند قضاء الحاجة، وهي سبعة أحاديث تكلم على أسانيدها ومتونها واختلاف ألفاظها. ثم بيَّن معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أتى أحدكم الغائط" وهل يفيد إخراج الأبنية؟ فذكر أن المراد هنا المعنى الكنائي، أي إرادة قضاء الحاجة بغضّ النظر عن الحقيقة، فيشمل الأبنية وغيرها، وأيَّد ذلك بأمور، وتوصّل إلى أنه لا حجة فيه لمن خصَّص الحكم المذكور بغير الأبنية. ثم ذكر الأحاديث التي تدلُّ على الرخصة، وتكلم عليها وعلى معانيها، فذكر أن من الناس من أخذ بها وقال بنسخ النهي، وفرَّق بعضهم بين البناء والفضاء، فحملوا النهي على الفضاء، والفعل على البناء. ومن أهل العلم من بقي على عموم النهي، ورجَّح المؤلف هذا الرأي بقوله: "وهو الحق إن شاء الله تعالى". وأيَّد ذلك بأمور، ثم أورد ثلاثة اعتراضات وإيرادات على هذا الرأي، وردَّ عليها، وأطال الكلام على حديث ابن عمر: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على لبنتين مستقبلاً بيت المقدس لحاجته" أو "مستقبل الشام مستدبر القبلة"، وناقش أقوال العلماء في تأويله وكونه ناسخًا للنهي، وتكلم على تعليل النهي. ثم عقد "الباب الثاني في الرخصة"، وكأن ما سبق كان هو الباب الأول، ذكر فيه بقية الأحاديث الدالة على الرخصة في استقبال القبلة عند قضاء الحاجة، وأطال الكلام في نقدها وتحقيقها، ودراسة رجال أسانيدها، وبه تنتهي القطعة الأولى. أما القطعة الثانية فعنون لها بـ "حكم القبلة وقضاء الحاجة"، وأورد

2 - فائدة في السواك

حديث أبي أيوب الأنصاري وبعض الأبحاث المتعلقة به، وتكلم على فقه الحديث وبسط الكلام فيه. ثم ذكر حديث عائشة قالت: ذُكِر لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أن ناسًا يكرهون أن يستقبلوا القبلة بفروجهم، فقال: "أوَ قد فعلوها؟ حَوِّلوا مقعدي قِبَلَ القبلة". وأطال الكلام في تخريجه وبيان الاختلاف فيه على خالد الحذاء، وأورد كلام النقاد في تضعيف الحديث، وكيف أن بعض المتأخرين حسَّنه بل صححه. ثم تكلم عن سماع عراك من عائشة وردّ على من أثبت السماع، وأطال الكلام حوله. وهو المبحث الأول من المباحث التي كان الشيخ يريد أن يكتبها، ولم أجد المباحث الأخرى المتعلقة بالحديث في هذه القطعة. وفي أثنائها الكلام على اشتراط اللقاء أو الاكتفاء بالمعاصرة بين الرواة لصحة الحديث، تناوله المؤلف بطريقة جديدة. 2 - فائدة في السِّواك: توجد ضمن مجموع في مكتبة الحرم المكي برقم [4707]، ذكر فيها أولاً الأحاديث الواردة في فضل السّواك، وتكلم على أسانيد بعضها، ثم انتقل إلى بيان أهمية السِّواك، وأنه مطهرة للفم وطريق القرآن، وكما أن مسَّ المصحف مع الحدث حرام، وتلطيخه بالنجس المستقذر إن قارنه استهزاءٌ فكفرٌ وإلَّا فحرام، وكذا تلطيخ الذكر أو اسم من أسماء الله أو اسم من أسماء أنبيائه أو ملائكته ونحوه يحرم في الأماكن النجسة ويُكره في الأماكن المستكرهة، فكان القياس أن يحرم القراءة والذكر ونحوها عند تغيُّر الفم؛ لأن التلفظ بالقرآن بمنزلة كتابته، بل هو أبلغ. وأما مجرد الريق وما عسُر إزالتُه من التغيُّر فيُعفى عنه للضرورة.

3 - مسألة بطلان الصلاة بتغيير الآيات في القراءة

3 - مسألة بطلان الصلاة بتغيير الآيات في القراءة: لم يذكر لها الشيخ عنوانًا، وهي برقم [4708] في مكتبة الحرم المكي، وقد ألَّفها سنة 1339 م، ومناسبة تأليفها أن الإِمام في صلاة الجمعة قرأ سورة الغاشية، فأبدل لفظ الغاشية بالخاشعة، ففتح عليه المصلُّون فلم يتنبه، فلما سلَّم قال السيد صالح بن محسن الصيلمي: أعيدوا الصلاة، فنازعه السيد العربي محمَّد بن حيدر النعمي بأنه لا يلزم في مذهبهما (أي المذهب الزيدي) إعادة في مثل ذلك، ثم قال له: الإِمام حاكم وهو شافعي. فسُئل المؤلف عن هذه الصلاة في مذهب الشافعية، فقال: صحيحة، فطلب منه الصيلمي دليل الشافعية على عدم بطلان الصلاة، فأجاب وقرّر المسألة ناقلاً فيها الآيات والأحاديث، ومحرِّرًا مذهب الشافعية في ذلك. وقد استدل على استصحاب الأصل فيه بحديث علي بن أبي طالب الذي رواه أبو داود أن رجلاً دعاه وعبد الرحمن بن عوف فسقاهما الخمر قبل أن تُحرَّم، فأمَّهم علي في المغرب، فقرأ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} فخلَّط فيها. وليس فيه أنهم أُمِروا بالإعادة. وردَّ على قول الصيلمي: "إن سبب البطلان هو الإتيان بكلمة ليست من القرآن"، فلفظ "الخاشعة" قد جاءت في القرآن مع أن إتيانه بها خطأ، والكلام الأجنبي لا يبطل صلاة المعذور فيه، سواء كان جاهلاً أو ناسيًا أو مخطئًا، كما يدل عليه حديث معاوية بن الحكم السلمي وحديث ذي اليدين وغيرهما. وتكلم في أثنائه على تحريم الكلام في الصلاة ومتى كان ذلك، واختلاف العلماء في المدة التي لا يجوز للمسافر أن يقصر فيها إذا مكث

4 - هل يدرك المأموم الركعة بإدراكه الركوع مع الإمام؟

بمنزلٍ، ومسألة القراءة خلف الإِمام، وأطال الكلام في هذه المسألة، وتكلم على حديث عبادة بن الصامت وأبي هريرة، وتوصَّل إلى أن الفاتحة لا بدّ منها للإمام والمأموم في كل ركعة لحديث المسيء صلاته. وأما قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204] فقيل: نزلت في القراءة خلف الإِمام، وقيل: في الكلام والإمام يخطب، وقيل: في الكلام في الصلاة، ورجَّح الثاني، وقال: وهو الذي يميل إليه المفسرون، وهو موافق لحديث: "من قال لصاحبه يوم الجمعة والإمام يخطب: "صَهْ" فقد لغا، ومن لغا فلا جمعة له". وعليه فالظاهر وجوب الإنصات إلا إذا كان الكلام لمصلحة الخطبة، كما ورد في بعض الأحاديث. وختم الرسالة بحكم النفخ والتنحنح ونحوه هل يُعدُّ كلامًا يُبطل الصلاة؟ فقال: الأصح عند أصحاب الشافعي: نعم، والصحيح هو الصحيح، والله أعلم. ومراده بالصحيح أي في المذهب الشافعي، وهو يقابل الأصح. 4 - هل يدرك المأموم الركعة بإدراكه الركوع مع الإِمام؟ لم تصل إلينا نسختها بخط المؤلف؛ لأنه كان قد أهداها إلى تلميذه الشيخ محمَّد أحمد المعلمي في مكتبة الحرم المكي الشريف، عندما أراد العودة إلى وطنه اليمن سنة 1373 بعد ملازمته لمدة سنتين، وحصل عليها منه الشيخ عبد الرحمن بن عبد القادر المعلمي (ابن أخت المؤلف) سنة 1395، فبادر بنسخها في دفتر خاص، وأعطى النسخة الأصلية لأحد الأقارب ليقوم بعضهم بنشرها في صنعاء، ولكنها لم تُنشر هناك، بل فُقدت تلك النسخة ولم يُعرَف مصيرها.

ثم قام بتحقيقها الشيخ عبد الرحمن بن عبد القادر المعلمي بالاعتماد على منسوخته التي كانت طبق الأصل كما شهد بذلك تلميذ المؤلف الشيخ محمَّد أحمد المعلمي، ونشرتها مكتبة الإرشاد بصنعاء سنة 1414. وعلى هذه الطبعة اعتمدتُ في تحقيقها وإخراجها من جديد حسبَ المتبع في تحقيق هذه السلسلة المباركة، وقد أذن المحقق جزاه الله خيرًا بالإفادة من طبعته والاعتماد عليها. وقد أصلحتُ بعض الأخطاء والتصحيفات بالرجوع إلى المصادر، ونقلتُ بعض حواشي المؤلف إلى مكانها الصحيح. ومناسبة تأليفها أن الشيخ محمَّد عبد الرزاق حمزة أطلعَ المؤلفَ على رسالته في اختيار إدراك المأموم الركعةَ بإدراكه الركوعَ مع الإِمام، وأشار عليه أن يكتب ما يظهر له في هذه المسألة، فكتب هذه الرسالة وناقش فيها الشيخَ محمَّد عبد الرزاق حمزة فيما ذهب إليه، فأجمل أولًا ذكر الأدلة الخمسة التي احتجَّ بها الشيخ، ثم تكلم عليها واحدًا واحدًا، ونظر في جميع الأحاديث على طريقة المحدثين، وبحث عن معانيها وفقهها. وقد أطال الكلام على حديث أبي بكرة، وعلى معنى "الركعة" في حديث: "من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها" هل هي بمعنى الركوع لغةً وشرعًا كما ادعى الشيخ، وأورد من الأحاديث والنصوص ما يدل على خلاف ذلك. وتكلم على ضعف زيادة "قبل أن يقيم الإِمام صلبه" في هذا الحديث. وفي أثنائها أبحاث وتحقيقات في علوم الحديث والرجال، نثرها المؤلف بمناسبة الكلام على الأحاديث. وختم الرسالة بقوله: "لا يُنكَر أن للقول بالإدراك قوةً مَّا لذهاب الجمهور - ومنهم جماعة من علماء الصحابة - إليه، وما جاء مما يدلُّ عليه

5 - بحث في حديث قيس بن عمرو في صلاة ركعتي الفجر بعد الفرض

على ما فيه، فلا لومَ على مَن قوي عنده جدًّا فقال به. فأما أنا فلا أرى له تلك القوة، والأصل بقاء النصوص على عمومها، واشتغال الذمة بالصلاة كاملةً، والله الموفق". ولا أدري هل طبعت رسالة الشيخ محمَّد عبد الرزاق حمزة أم لا، وينبغي أن تُطبع وتُقرأ مع رسالة العلامة المعلمي هذه للاطلاع على أدلة الفريقين ومناقشتها مناقشة علمية هادئة. وقد ألَّف العلماء كثيرًا في هذه المسألة وخاصة في بلاد الهند، ولم أر مَن حرَّر القول فيها وتناولها بالأسلوب الذي تميَّز به المؤلف. 5 - بحث في حديث قيس بن عمرو في صلاة ركعتي الفجر بعد الفرض: توجد نسخته الخطية ضمن مجموع في مكتبة الحرم المكي برقم [4693] في ورقتين (ق 8 - 9)، تكلم فيه الشيخ على حديث قيس بن عمرو قال: رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يصلي بعد صلاة الصبح ركعتين، فقال: "أصلاةَ الصبح مرتين؟ " فقال الرجل: إني لم أكن صلَّيتُ الركعتين اللتين قبلهما فصلَّيتهما الآن، قال: فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ذكر الشيخ طُرق الحديث وألفاظه من كتب الحديث أولاً، ولاحظ اختلاف الألفاظ في موضعين: الأول في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أصلاة الصبح مرتين" فقد روي بألفاظ مختلفة. والثاني أن في عامة الروايات: "فسكت النبي - صلى الله عليه وسلم - "، وفي رواية الدراوردي وحدها: "فقال: فلا إذًا". وتكلم على الموضعين، وبيَّن المعاني المحتملة لهما، ورجَّح من حيث الإسناد والمعنى ما هو الراجح في نظره. وردَّ على بعض الحنفية (وهو الشيخ أنور شاه الكشميري)

6 - إعادة الصلاة

تأويله لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فلا إذًا" بمعنى: "فلا جوازَ إذًا"، وبيَّن أنه ليس فيما استشهد به ما تقوم به الحجة. وكان مقصود المؤلف هنا الكلام على هذا الحديث، لا على أصل المسألة، فإن للكلام فيها موضعًا آخر. ونبَّه في آخره على حديث المغيرة في إدراك النبي - صلى الله عليه وسلم - الناس وهم يصلون الصبح خلفَ عبد الرحمن بن عوف وقد صلَّوا ركعة، قال المغيرة: "قام النبي - صلى الله عليه وسلم - فصلَّى الركعةَ التي سُبق بها، ولم يَزِد على ذلك"، وردَّ على الكشميري تأويله لقوله: "ولم يزد على ذلك" على أنه لم يتدارك ركعتي الفجر. 6 - إعادة الصلاة: هكذا عنون المؤلف هذه الرسالة، وهي ضمن المجموع السابق برقم [4693] (الورقة 10 - 26). وقد بدأها بذكر حديث ابن عمر مرفوعًا: "لا تصلُّوا صلاةً في يومٍ مرتين" بطرقه وألفاظه في كتب الحديث، وتكلم على معنى إعادة الصلاة، هل هو صلاتها مرتين أو أكثر، ثم أورد بعض الآثار عن ابن عمر في مشروعية الإعادة مع الجماعة، وذكر الأحاديث المرفوعة الدالة على مشروعية الإعادة، وهي عشرة أحاديث خرَّجها وتكلم على أسانيدها. وبعد الانتهاء منها عنون بقوله: "الفقه"، تكلم فيه على فقه هذه الأحاديث، وأن الأصل عدم مشروعية الإعادة، وأن دلالة الأحاديث المذكورة على مشروعية الإعادة في أربع صور، فما عداها باقٍ على الأصل. وهذه الصور هي: 1 - من صلَّى في بيته أو نحوه، ثم أدرك الجماعة في المسجد. 2 - إذا رأى إنسانًا يريد الصلاة وحدَه، فيتصدَّق عليه.

3 - أن يكون الرجل إمامًا راتبًا، فيصلَّي في غير مسجده، ثم يرجع إلى مسجده فيصلَّي بهم. 4 - في صلاة الخوف. ثم شرح معنى حديث ابن عمر بألفاظه المختلفة: "لا تصلُّوا صلاةً في يومٍ مرتين" أو: "لا تُعاد الصلاة في يومٍ مرتين" أو: "لا صلاةَ مكتوبة في يومٍ مرتين"، وتوصَّل إلى أنه عام، وأحاديث الباب خاصَّة، فيُعمل بها فيما دلَّت عليه، وما بقي فللعام. وذكر المؤلف اختلاف الناس في إعادة صلاة الفجر والعصر والمغرب، فقد منع بعضهم من إعادة الصبح والعصر للنهي عن الصلاة بعدهما، ومن إعادة المغرب قياسًا على الوتر، ورجَّح المؤلف إعادتها كلها، وناقش أدلة القائلين بكراهتها. ثم عقد فصلاً بقوله: "هل يُعيد إمامًا؟ "، فذكر أدلة المجيزين، وهي ثلاثة أحاديث: 1 - حديث جابر في قصة معاذ، وتكلم على طرقه، ومن رواه عن جابر (مثل عمرو بن دينار، وعبيد الله بن مقسم، وأبي الزبير، وأبي صالح، ومحارب بن دثار، وعبد الرحمن بن جابر) وما وقع في رواياتهم من الاختلاف، وأطال الكلام عليها، وعلى أن معاذًا كان يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - المغرب أو العشاء. 2 - حديث جابر في صلاة الخوف، ذكره من طرق وخرَّجه من كتبٍ مختلفة، وتكلم على رجال الأسانيد، ثم قال: إن حديث جابر قد يُحمل على

ثلاثة أوجه: الأول أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتمَّ تلك الصلاة، وأتموها لأنفسهم. والثاني: أن يكون أتمَّ وقصَروا. والثالث: أن يكون قَصَر وقصروا، ولكنه أعاد صلاته، فصلَّى بهؤلاء صلاةً كاملة، وبهؤلاء صلاةً كاملة. ورجَّح المؤلف الوجه الثالث، وأبطل الوجهين الأولين، وأيَّد موقفه ببعض الروايات التي تصرَّح بذلك. وفي أثناء الكلام على ذلك تحدَّث عن مشروعية صلاة الخوف متى كانت، وذكر اختلاف الروايات في هذا الأمر، وحقَّق الكلام حوله بعد ما سرد هذه الروايات. 3 - حديث أبي بكرة في صلاة الخوف، خرَّجه من المصادر وذكر طرقه وألفاظه وتكلم عليها. وبعد ذكر أدلة المجيزين وضع عنوان "أجوبة المانعين" منها: أنه يحتمل في هذه الوقائع أن تكون الإعادة لما كانت الفريضة تُصلَّى مرتين، ثم نُسِخ ذلك. ومنها في خصوص قصة معاذ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعلم بذلك. وردّهما المؤلف، واستحسن ما قاله الشيخ شبير أحمد العثماني الحنفي في "شرحه لصحيح مسلم" بشأن حديث معاذ بحيث تتفق الروايات المختلفة في الظاهر. وشرح معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ: "إما أن تُصلّي معي، وإما أن تخفِّف على قومك". وذكر من أجوبتهم الخاصة بقصة معاذ: احتمال أن يكون معاذ كان يُصلَّي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - على أنها نافلة له، ثم يُصلَّي بقومه على أنها فريضته، ثم ردَّه. كما ذكر دعواهم النسخ بما لا طائل تحته. ثم عقد فصلًا ردّ فيه على بعض الحنفية في تأويله لحديث معاذ وحديث صلاة الخوف، واستبعد ذلك التأويل جدًّا.

7 - بحث في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه في صلاته بقومه

ثم عقد فصلاً ذكر فيه أن أجود ما رأى للمانعين قول الشيخ شبير أحمد العثماني في "شرحه لصحيح مسلم" في الاحتجاج لما ذهبوا إليه، فقد احتجوا بحديث: "الإِمام ضامن" وحديث: "إنما جُعِل الإِمام ليُؤتمَّ به" وقوله: "فلا تختلفوا عليه". وناقشهم المؤلف في دلالة هذه الأحاديث على المنع. وفي الفصل الأخير من الرسالة تكلم على مسألة اقتداء المفترض خلف المتنفل، واحتج لصحتها، وردَّ على شبه المانعين. وبه ختم الرسالة. هذا استعراض سريع لموضوعاتها ومباحثها، وهي من أهم الرسائل التي أُلَّفت في الباب، وقد أكثر من التأليف فيه علماء الهند من أهل الحديث والحنفية باللغة الأردية، ولم أجد من استوفى الكلام عليه مثل المؤلف، فرحمه الله رحمةً واسعة. 7 - بحث في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه في صلاته بقومه: توجد مخطوطته ضمن مجموع في مكتبة الحرم المكي برقم [4665] (الورقة 6/ أ - 8/ ب)، وهي متآكلة من بعض الجوانب، والخط دقيق لا بأس به، وفي بعض المواضع كُتِب بقلم الرصاص. ويبدو أن أوله ناقص، فقد بدأ بقوله: "أقول: معنى هذا بنحو لفظه في رواية ابن عيينة في صحيح مسلم وغيره، وقد تقدم". يشير بذلك إلى حديث جابر بن عبد الله في قصة معاذ بن جبل، وقد أخرجه مسلم (465) وغيره، والكلام التالي كله مبني عليه. فقد تكلم على معنى الحديث، وأن شكوى الناس كان من تأخير معاذ وتطويله في القراءة، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتعجيل في الإتيان إلى الصلاة والاختصار في القراءة. وعليه يُحمل قوله - صلى الله عليه وسلم - في رواية

أخرى: "إما أن تصلّي معي وإما أن تخفِّف على قومك". وتكلم بعد ذلك على إعادة الصلاة وذكر أن دلائلها قد تقدمت، ومنها ما كان في آخر حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومنها ما أمر أصحابه أن يعملوا به من بعده. أما حديث ابن عمر في النهي عن الإعادة فتاريخه مجهول، وغايته أن يكون عامًّا يُخصُّ منه ما قام الدليل على خصوصه، ومنه قصة معاذ وما في معناها. وردَّ على الطحاوي وبعض الحنفية من الهند في تأويلهم لقول معاذ: "إما أن تصلّي معي وإما أن تخفّف على قومك". وناقش ما قاله الشيخ شبير أحمد العثماني الحنفي في شرحه لصحيح مسلم بهذا الصدد، وردّ على من قال من الحنفية بالهند من أن أصل القصة أن معاذًا كان يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - المغرب، ثم يرجع إلى قومه فيصلَّي بهم العشاء، وادعى حذفَ "المغرب" من الرواية، وأن بعض الرواة وهموا في ذلك، ليستقيم له ما أراد من عدم تكرار الصلاة كما هو مذهب الحنفية. وقد أطال الكلام على هذا، وشدَّد النكير عليه وقال: إن ما ذهب إليه من توهيم الرواة يلزم منه وهمهم جميعًا، فإن الروايات على كثرتها ليس فيها رواية واحدة تحتمل ما قاله احتمالًا قريبًا. وإذا كان العالم لا يخشى على دينه من ارتكاب مثل هذه التأويلات، فينبغي له على الأقل أن يستحضر أن ارتكابه لها يُجرِّئ مخالفيه على ارتكاب مثلها في معارضته. ثم عقد المؤلف فصلاً ذكر فيه تأويلات بعض الحنفية لحديث معاذ، منها أن ما فعله كان بغير علم النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومنها أنه كان في الوقت الذي كانت الفريضة فيه تُصلَّى مرتين ثم نُسِخ، وردَّ عليها جميعًا في ضوء الأحاديث وأقوال المحققين من العلماء. وبه ينتهي الموجود من المخطوط، ويبدو أن

8 - حقيقة "الوتر" ومسماه في الشرع

له تتمة لم نجدها ضمن المجموع، فقد أشار في أثناء الكلام على بعض الموضوعات إلى أنها ستأتي فيما بعد. ولعل ما سبق من كلامه في رسالته "إعادة الصلاة" يقوم مقام المفقود. 8 - حقيقة "الوتر" ومسماه في الشرع: وصلت إلينا هذه الرسالة بخط المؤلف في مكتبة الحرم المكي برقم [4245]، وهي أوراق متفرقة عددها 25 ورقة، وقد رُقّمت ترقيمًا مسلسلًا دون ترتيبها بعناية. وسبب تأليفها أن بعض الإخوان سأل الشيخ في رمضان سنة 1342 عن بعض أحكام الوتر المختلف فيها، طالبًا بيانَ الراجح من الأقوال مع ذكر الدليل. ولما بدأ الشيخ بتصفح الأدلة وجد أحكام الوتر مترابطةً آخذًا بعضها برقابِ بعض، فعزَم على تأليف كتاب يشتمل على عامة أحكام الوتر. وقد ذكر الشيخ في ورقة منها العناوين الرئيسة، وهي: (وجوب، عدد، نية، قراءة مخصوصة، سبْقُ شَفْع، أول وقته وآخره، في السفر على الدابة، قضاء، قنوت، محلّ قنوت، ما يقال فيه، فصل ووصل، الركعتان بعده، فعله من قعود، أفضليته). ولكن الأوراق الموجودة لا تحتوي إلاَّ على أبحاثٍ معدودة منها. ويبدو لي أن الشيخ كتب هذه الأوراق في أوقاتٍ مختلفة، بدليل اختلاف الخط والورق، وتكرار بعض الصفحات في تناول موضوع واحد بأسلوبٍ واحد مع قليل من الخلاف، ومن أظهر الأدلة على أن الشيخ كتبها في أوقات مختلفة أنه يبدأ الكتاب بقوله: "بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله الذي لا تنحصر مواهبه .... مقدمة في حقيقة الوتر ... ". وفي ورقة أخرى

يقول: "الحمد لله. مبحث في الوتر. (مقدمة) بعد استقراء الأحاديث والآثار تلخص لنا ... ". وفي ورقة مستقلة يكتب: "الحمد لله. مبحث في الوتر. أجاز الشافعية الاقتصار على واحدة ... ". وفي ورقة رابعة يبدأ بقوله: "الحمد لله. بحث في حقيقة الوتر ومسماه في الشرع ... " ثم يورد الأحاديث الواردة في الباب. فهو كلّ مرة يبدأ الكتابة من جديد، ويكرِّر بعض الموضوعات التي تحدَّث عنها سابقًا. وكان غرضه - كما ذكر في مقدمة الكتاب - أن يبيِّن حقيقة الوتر أولاً، أي المعنى الذي يكون إطلاق لفظ الوتر عليه حقيقة شرعية، ثم يشرع في بيان الوجوه المختلف فيها، مُفرِدًا كلَّ وجهٍ بمقالة. وقد عنون "المقالة الأولى في حقيقة الوتر"، كما ذكر بعد الخطبة: "مقدمة في حقيقة الوتر". ولم نجد بعدها عناوين المقالات الأخرى، ولكنه عنون بقوله: "مبحث في الوتر"، و"بحث في حقيقة الوتر ومسماه في الشرع"، و"الفصل الثاني في الاقتصار على ثلاث". وهي فصول متفرقة ضاعت بعض أوراقها، وما بقي منها يحتوي على مباحث في الوتر فصَّل الكلام عليها، وتوسَّع في مناقشة آراء بعض العلماء فيها. وقد قمتُ أولاً بنسخ كل ورقة على حدة، ثم تأملتُ في سياق الكلام، ورتَّبتُ الأوراق حسب ما يقتضيه الموضوع والسياق، ووجدتُ أحيانًا تكرارًا في الكلام في بعض الصفحات فحذفته، واتبعتُ إشاراتِ المؤلف في الإلحاقات والتكملة وفي ترتيبِ أول الكتاب، فقد كتب في أعلى صفحة الخطبة إلى اليسار: (الخطبة، ثم المقدمة، ثم المقالة الأولى، ثم كلام

الشافعي، ثم تلخيصه، ثم كلام الباجي، ثم كلام ابن رشد، ثم تلخيصهما). وهو خلاف الترتيب الذي في النسخة، فكأن الشيخ أراد ترتيب الموضوعات فيما بعد حسب الترتيب المذكور، فجعلتُه كما أراد، وهو أولى بالسياق. أما الإلحاقات والزيادات فقد أشار إليها بالأرقام، وربما يكتبها في صفحات مستقلة، فقمتُ بإلحاقِ هذه الزيادات في أماكنها. وأرجو أن يستفاد منها مع النقص الحاصل في النسخة. ويمكن تلخيص محتويات الموجود من هذه الرسالة بما يلي: بدأه الشيخ بالخطبة وبيان سبب التأليف، ثم نقل عن الحافظ في "الفتح" الموضوعات التي وقع الخلاف فيها في الوتر. ثم كتب مقدمة في حقيقة الوتر، فذكر أن الوتر أُطلِق على ثلاثة معانٍ في السُّنَّة كما يظهر ذلك باستقراء الأحاديث والآثار: أولها: أن يُراد به صلاة الليل التي غايتها ثلاث عشرة، سواء صُلِّيتْ وصلًا أو فصلاً. والثاني: أن يُراد به الركعة الفردة، سواء وقعتْ موصولةً أو مفصولةً. والثالث: أن يُراد به ما كان وِترًا بتسليمة واحدة، سواء كان واحدةً أو ثلاثًا أو خمسًا. وقد مثّل لها بالأحاديث الواردة في الباب، وقال: إن المعنى الثالث هو الذي عليه أكثر الأحاديث.

بعد بيان حقيقة الوتر في السُّنَّة ذكر في المقالة الأولى رأي الإِمام الشافعي في "الأم" في بيان حقيقة الوتر وأنها ركعة واحدة، وذكر مذهب الإِمام مالك وأبي حنيفة نقلاً عن الباجي وابن رشد، وأورد الأحاديث الواردة في الاقتصار على ركعة واحدةٍ في الوتر، وذكر صنيع أصحاب السنن وخاصةً الإمام النسائي في بيان عدد الوتر، فإنه قصد بعقد أبواب الوتر أن الوتر ما صُلَّي وترًا بتسليمةٍ واحدة، سواء كان ركعةً أو ثلاثًا أو خمسًا أو سبعًا أو تسعًا، وهذا المعنى هو الذي عليه عامة الأحاديث والآثار. وإذا أُطلق الوتر على أكثر من ذلك فالمراد به صلاة الليل. ثم تكلم على معنى حديث: "صلاة الليل مثنى مثنى، والوتر ركعة من آخر الليل"، وأنه لا يفيد الحصر، فقد منعت منه قرائن، منها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد ثبت عنه الوصل بثلاث وبخمس وبسبع وبتسع. وأورد بعض الأحاديث التي تُوهم أن الإحدى عشرة والثلاث عشرة كانت موصولة، ولكن عامة الأحاديث أنها لم تقع إلاّ مفصولةً. ثم ذكر الأحاديث التي احتج بها الشافعية للاقتصار على ركعة واحدة في الوتر، وقال: في كلّ أدلتهم نظرٌ. ثم تكلم على هذه الأحاديث، وبيَّن معانيها، وناقشهم طويلاً، وقرَّر أن إطلاق الوتر على الركعة الواحدة خاصٌّ بما إذا كانت مفصولةً، ويُشترط الشفع قبل الواحدة، ولا يكفي في ذلك سنة العشاء. ثم عقد "الفصل الثاني في الاقتصار على الثلاث"، وذكر مذهب الشافعية والحنفية في ذلك، وأورد أحاديث الإيتار بثلاثٍ وحديث النهي عن الثلاث: "لا توتِروا بثلاثٍ تشبِّهوا بصلاة المغرب"، وبيَّن المقصود منهما بعد

9 - مبحث في الكلام على فرضية الجمعة وسبب تسميتها

ما نقل عن الحافظ في "الفتح"، وعقَّب عليه بأنه ليس المراد من إطلاق "أوتر بواحدة" و"أوتر بثلاثٍ" الاقتصار عليها بدون سبق غيرها، كما يدلُّ عليه صنيع الإِمام النسائي في سننه. ثم حقَّق الكلام على حديث: "لا توتروا بثلاث" وبيَّن صحته، ثم ذكر أن النهي عن التشبيه بصلاة المغرب هل هو فيما يتعلَّق بالكمّ وحده أو بالكيف وحده أو بهما معًا؟ ورجَّح أن الحديث باللفظين (اللذين أوردهما) نصٌّ أو ظاهرٌ في إرادة الكم، فلو اقتصر في ليلةٍ على ثلاث ركعات عدا سنة العشاء والفجر فقد شبَّه، سواءٌ وصلها بتشهدٍ واحد أو تشهدين، أو فَصَلَها بزمن قصير أو طويل. وفي النهاية لخَّص كلامه في الفصلين، فقال: لا بُدَّ أن يتقدم الواحدةَ شَفْعٌ غير سنة العشاء، كما يدلُّ عليه سياق حديث: "صلاة الليل مثنى مثنى". وهذا الشَّفع الذي يتقدم الواحدةَ لا بدَّ أن يكون أربعًا فأكثر، نظرًا لحديث: "لا تُوتِروا بثلاثٍ، أوتِروا بخمسٍ ... ". فتقرر أنه لا بدَّ أن يُصلّي الإنسان بعد سنة العشاء وقبل سنة الصبح خمسًا على الأقل. وبهذا ينتهي هذا البحث المتعلق بالاقتصار على الواحدة أو الثلاث في الوتر. ووجدنا في المخطوط ثلاثة أوراق تتعلق بالموضوع، فألحقناها في آخر الرسالة، ولم نجد تتمة الكلام الموجود فيها. 9 - مبحث في الكلام على فرضية الجمعة وسبب تسميتها: توجد ثمان صفحات بخط الشيخ في مكتبة الحرم المكي برقم [4691]، وهي أوراق مفرقة كتبها الشيخ في أوقات مختلفة، تتناول الكلام على فرضية الجمعة، وتاريخ نزول سورة الجمعة، وبيان المراد بقوله: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ}، وسبب تسمية الجمعة، ودراسة ما ورد في هذا الباب من

الروايات والأقوال. وبعد إمعان النظر فيها ظهر لي أن الشيخ نفسه أشار إلى بحث مستقل له في هذا الموضوع، حيث قال (ص 5 من المخطوط): "أقول: قد بسطتُ الكلام على الحديثين وعلى تاريخ نزول سورة الجمعة في مبحث مستقل، أفردتُه لبيان المراد بقوله: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ}، وبينتُ فيه أن الذي يظهر أن معظم سورة الجمعة نزل قبل إسلام أبي هريرة بمدةٍ قد لا تبلغ سنةً فيما يظهر، والله أعلم". والمبحث المشار إليه هو ما في الصفحات الأربع الأولى من هذا المخطوط، إلاَّ أنه ناقص الأول مع الأسف. أما الصفحتان (5 - 6) ففي بدايتهما الكلام الذي نقلتُه الآن، فيبدو أن الشيخ كتب مرةً ثانية في موضوع تسمية الجمعة، ويختلف الخط والورق هنا عن الصفحات السابقة. ثم كتب مرة ثالثة في ورقة ذات وجهين (ص 7 - 8) في هذا الموضوع، والصفحة (8) منهما مشطوب عليها. وبعد دراسة هذه الأوراق المتفرقة وترتيبها كما سبق جمعتُها تحت عنوان واحدٍ، وإن كان فيها شيء من التكرار بسبب كتابة المؤلف لها في أوقاتٍ مختلفة، فلا تخلو من فائدة جديدة ونظرات في الموضوع من جوانب متعددة. ومن أهم المباحث التي حوتها هذه الأوراق بيان المراد من قوله تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة: 3]، وأنهم العرب كما يظهر من سياق الآية، ولكن يعارضه ما رواه الترمذي (¬1) عن أبي هريرة قال: كنا عند رسول ¬

_ (¬1) رقم (3310).

الله - صلى الله عليه وسلم - حين أنزلت سورة الجمعة، فتلاها، فلما بلغ {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} قال له رجل: يا رسول الله! مَن هؤلاء الذين لم يلحقوا بنا؟ فلم يكلِّمه، قال: وسلمان الفارسي فينا، قال: فوضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سلمان يده فقال: "والذي نفسي بيده، لو كان الإيمان بالثريا لتناوله رجالٌ من هؤلاء". فما معنى الحديث؟ ذكر المؤلف أنه ليس فيه التصريح بأن فارسًا هي المراد بقوله تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ}، بل أعرض النبي - صلى الله عليه وسلم - عن السائل ليردَّه الإعراض إلى التدبُّر، ثم نبَّه النبي - صلى الله عليه وسلم - على أنه كان الأولى بالسائل أن يسأل عن أمر آخر، وهو: هل التعليم والتزكية يختص بالأميين أو لا يختص؟ فأجاب عن هذا بقوله: "لو كان الإيمان بالثريا ... "، أي أنه لا يختص. وهذا هو الذي يسمّيه البلاغيون "الأسلوب الحكيم". قال المؤلف: "هذا بحمد الله ظاهر جدًّا، وإن لم أرَ من نبَّه عليه". وهذا تحقيق نفيس يُشَدُّ إليه الرحال، يُدفع به التعارض بين سياق الآية وظاهر ما يُفهم من الحديث، ولم يسبقه أحدٌ فيما أعلم. وفي الرسالة أبحاث وتحقيقات أخرى متناثرة في اللغة والتاريخ والرجال، وفيها أيضًا الكلام على الإسناد المشهور في كتب التفسير: (أسباط عن السدّي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن عبد الله بن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ....)، ما المراد بذلك؟ وكيف صار هذا الإسناد في أول تفسير كثير من الآيات بهذا الشكل؟ قال المؤلف بعد ما ذكر أقوال بعض العلماء: والذي يقع لي: أن هذه كانت نسخة عند السدّي لم يكن فيها إسناد، فأخذها أسباط، وسأله عن إسنادها، فقال: "عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة عن

10 - سنة الجمعة القبلية

ابن مسعود، وعن ناسٍ من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -". يريد السدّي أن في النسخة ما سمعه من أبي مالك من قوله، وفيها ما سمعه من أبي صالح عن ابن عباس، وفيها ما سمعه من مرة عن ابن مسعود، وفيها ما بلغَ السديَّ عن بعض الصحابة. والذي يدل على هذا اتفاق لفظ الإسناد في السياق في جميع المواضع، كما في تفسير ابن جرير، ولو كان السدّي هو الذي يذكر السند في أول كلَّ أثر لاختلف سياقه حتمًا، كما تقضي به العادة". ثم قال الشيخ: لا أدري أسباطٌ أم مَن بعده مزج هذه النسخة ببقية تفسير السدّي مما يقوله هو أو يرويه مما ليس في النسخة، فعمدَ إلى هذا السند فأثبته في أول كلّ أثر من الآثار التي كانت في النسخة، ومن هنا جاء الضعف والنكارة فيما يُروى بهذا السند". وهذا تحقيق علميٌّ نفيس بشأن تفسير السدّي، لم أجد مَن سبقه إليه، وبناء عليه بيَّن خطأ الحاكم الذي يختصر هذا السند فيقول: "عن أسباط عن السدّي عن مرة عن ابن مسعود". وينظر تفصيل الكلام حوله في الرسالة. 10 - سنة الجمعة القبلية: توجد نسختها في مكتبة الحرم المكي برقم [4684] في 22 صفحة، وهي مسوَّدة المؤلف فقد كثر فيها الشطب والاستدراك في الهوامش بخطه الدقيق المعروف، وهو يُقرأ بصعوبة في بعض المواضع. وقد ألَّف هذه الرسالة عندما سُئل: هل للجمعة سنة قبليَّة؟ فأجاب أن المقرر في المذهب أنها كالظهر في ذلك، فسُئِل النظر في ثبوت ذلك وعدمه من حيث الدليل، فاستجاب لذلك، وقبل الكلام في هذه المسألة بحثَ عن التنفل يوم الجمعة قبل الزوال، وتحقيق وقت الجمعة، وقرَّر في ضوء

الأحاديث والآثار التي ذكرها أن التنفل يوم الجمعة قبل الاستواء مرغَّبٌ فيه، وأنها نفلٌ مطلقًا لكونها واقعةً قبل دخول وقت الجمعة على ما عليه الجمهور. وذهب الإِمام أحمد وإسحاق بن راهويه إلى أن وقت الجمعة يدخل قبل الزوال، واستُدِلَّ لهما بأحاديث ذكرها المؤلف وتكلم على فقهها ومعانيها، ثم قرَّر أن تأخير أذان الجمعة إلى خروج الخطيب دليل ظاهر على أنه ليس للجمعة سنة قبلية؛ لأن صلاتها بعد خروج الخطيب ممنوعة، فلو كانت ثابتة لسُنَّ الأذان قبل خروج الخطيب حتى يتمكن الناس من فعلها بعد الأذان، فإن وقت الرواتب القبلية بين الأذان والإقامة، فلو قُدِّمت لم تقع الموقعَ. ثم ذكر المؤلف أدلة القائلين بسنة الجمعة القبلية، وناقشها مناقشة تفصيلية، وتوسَّع في الكلام على الاحتجاج باللفظ الوارد في بعض الروايات في قصة سُليك الغطفاني: "أصلَّيت ركعتين قبلَ أن تجيء"، وأن زيادة "قبل أن تجيء" لم تثبت، وأن الاستدلال بها على ثبوت سنة الجمعة القبلية لا يصح. وختم الرسالة بنصيحة للمثبتين أن يُبكِّروا إلى الجامع فيصلُّوا النفل المطلق إلى خروج الإِمام ليحوزوا بذلك فضيلةً أعظم، وذكر أن الانكفاف عن الراتبة القبلية للجمعة امتثال للسنة، والإقدام عليها بعد العِلم بقيام الدليل على عدم مشروعيتها معصية. وقد اختلف العلماء قديمًا في هذه المسألة، وكان شيخ الإِسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم من المانعين، ووافقهما المؤلف وأتى باستنباطات وفوائد ومناقشات لا توجد عند غيره، وحرَّرها تحريرًا بالغًا. وللشيخ الألباني كلام في هذه المسألة ضمن كتابه "الأجوبة النافعة" (ص 21 - 35).

11 - بحث في وقت تشريع ونزول آية صلاة الخوف

11 - بحث في وقت تشريع ونزول آية صلاة الخوف: توجد النسخة الخطية منه ضمن المجموع رقم [4665] (الورقة 8/ ب - 9/ أ)، وينطبق عليها الوصف الذي ذكرناه سابقًا. ويبدو أنه تتمة للكلام السابق على رواية قتادة عن سليمان بن قيس، كما أشار إليه المؤلف في أوله. ويقصد بهذه الرواية حديث جابر بن عبد الله في قصة قصر الصلاة في الخوف، الذي أخرجه الطبري في تفسيره (7/ 414). فذكر أنه يعارضه حديث أبي عياش الزرقي أن آية صلاة الخوف نزلت بعُسفان، وخرَّجه من مصادر مختلفة، ثم ذكر أحاديث أخرى في الباب عن ابن عباس وأبي هريرة وخالد بن الوليد، وتكلم عليها. وبه ينتهي المخطوط الذي بين أيدينا. وقد فصَّل المؤلف الكلام على هذا الموضوع في رسالته "إعادة الصلاة"، وبيَّن اختلاف الروايات في الباب، ولم يترجح له شيء كما صرَّح به هناك. 12 - قيام رمضان: وصلت إلينا نسخة المؤلف من هذه الرسالة في مكتبة الحرم المكي برقم [4685] في 14 صفحة من القطع الطويل. وهي بخط واضح، وكأنها مبيضة، ومع ذلك ففيها إلحاقات وزيادات وشطب في بعض الصفحات، على منهج المؤلف في أغلب ما وصل إلينا بخطه. وتوجد منها نسخة أخرى منسوخة عن أصلٍ آخر للمؤلف بخط تلميذه الشيخ عبد الرحمن بن أحمد المعلمي، انتهى من نسخها في 29 صفر سنة 1383، وقال في آخرها: "إلى هنا انتهى النقل لتأليف قيام رمضان، وأفاد

المؤلف أن له بقية، فبحثنا عليه أن يُكمل التأليف بإلحاح، ولشغلتِه (كذا) بما هو أهم لم يفرغ لإكماله، وصارت هذه النسخة ناقصة الإكمال". هذه العبارة تدل على أن المؤلف كان ينوي أن يضيف إليها أشياء أخرى، ولكنه لم يجد الفرصة لذلك، فبقيت كما هي في النسختين. وقد اعتمدتُ في تحقيقها على نسخة المؤلف، ثم بعث الشيخ عبد الرحمن بن عبد القادر المعلمي (ابن أخت المؤلف) مشكورًا بالنسخة الثانية أخيرًا، فقابلتها عليها، ووجدتُ في بعض المواضع من هذه النسخة اضطرابًا في الترتيب ونقصًا وأخطاءً، فلم أشر إلى شيء منها لعدم الفائدة، وإنما أثبتُّ تلك الفروق التي لها وجه صحيح، وكانت كذلك في أصل المؤلف. تناول المؤلف في هذه الرسالة مباحث تتعلق بقيام رمضان، واستوفى الكلام عليها، فذكر أولاً فضل قيام الليل مطلقًا ثم في رمضان خاصةً، وبيَّن عدة صفاتٍ إذا اتصف بها قيام الليل عظُم أجره، وسمَّاها مكملات، وهي: أن يكون تهجدًا أي بعد النوم، وأن يكون بعد نصف الليل، وأن يستغرق ثلث الليل، وأن يكثر فيه من قراءة القرآن، وأن يكون مثنى مثنى ثم يوتر بركعة، وأن لا يزيد على إحدى عشرة ركعة، وأن يكون فرادى، وأن يكون في البيت. وأورد بعض الأحاديث الواردة في هذا الباب، وعقد فصلاً للمقارنة بين حديثي زيد بن ثابت وعائشة رضي الله عنهما في صفة قيام النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض الليالي وصلاة بعض الناس خلفه، وعدم خروجه في بعض الليالي خشية أن تفرض عليهم صلاة الليل. وأجاب عن بعض الإشكالات الواردة على الحديثين.

ثم ذكر مجمل ما كان عليه قيام رمضان في العهد النبوي، وما صار إليه في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حيث استمر قيامهم في المسجد في جميع ليالي رمضان، فجمعهم عمر على إمام واحد، ولم ينكر عليه أحدٌ من الصحابة، فكان في ذلك حجة على صحة اجتهادهم، وعلى أنه لو اتفق مثل ذلك في العهد النبوي لما أنكره النبي - صلى الله عليه وسلم -. وبهذا خرج ذلك العمل المتصل عن البدعة، فإنه إذا قام الدليل على أن الحكم مشروع، وتُرِك في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لعدم مقتضيه، ثم وُجد المقتضي بعده، فالعمل به حينئذٍ سنة لا بدعة. أما عدد الركعات فقد تكلم عليه المؤلف، وذكر الأوجه التي وردت في الأحاديث والآثار، ونقل عن بعض الأئمة آراءهم، وقال في آخر البحث: "أما العدد المحتم فلا، وأما الأفضل فالاقتصار على الإحدى عشرة، وفي بعض الليالي ثلاث عشرة، إلاَّ إذا شقَّ عليهم إطالتُها حتى يستغرق الوقتَ الأفضلَ، فلهم أن يزيدوا في العدد، على حسب ما يخفُّ عليهم. وعلى هذا جرى عمل السلف". وعقد فصلاً لبيان الاختلاف في الأفضل: أفي البيت أم في المسجد؟ وفرادى أم جماعةً؟ ذكر فيه بعض الآثار وأقوال الأئمة نقلاً عن كتاب محمَّد بن نصر المروزي وغيره، وقال في آخره: "ومن تدبَّر السنة وحقَّق ثم تتبع أحوال الناس، علم أنه قد تطرَّق إلى هذا الأمر غير قليل من الخطأ والغلط ومخالفة السنة، وشرحُ ذلك يطول". وبهذه الإشارة ختم الرسالة، ولم يدخل في التفصيل والشرح، فإن بيان السنة الثابتة يُغني عن الخوض فيما يخالفها.

13 - مسألة اشتراط الصوم في الاعتكاف

وبعد الانتهاء من الرسالة ألحق المؤلف بها الجواب عن الإشكال الوارد على حديث خشية افتراض قيام الليل، مع ما ثبت في حديث الإسراء من أن الله تعالى قال: "هنَّ خمسٌ وهي خمسون، لا يُبدَّلُ القول لديَّ". فإذا أُمِنَ التبديل فكيف يقع الخوف من الزيادة؟ وقد ذُكِرتْ عنه عدة أجوبة كما في "فتح الباري" وغيره، وكان المؤلف قد ترك التعرض لهذا البحث لدقته، ولكن لما أثاره الشيخ محمَّد عبد الرزاق حمزة رأى أن ينظر فيه، فتكلم عليه بكلام لم يُسبَق إليه، وردَّ على بعض الأجوبة الضعيفة وبيَّن وهاءها. وقال: تأخير البيان عن وقت الخطاب جائز على الصحيح، وإنما الممتنع تأخيره عن وقت الحاجة. ومثَّل له بقصة إبراهيم عليه السلام في ذبح ابنه. 13 - مسألة اشتراط الصوم في الاعتكاف: لم يعنون لها المؤلف، وتوجد مخطوطته في أربع صفحات من الحجم الكبير في مكتبة الحرم المكي برقم [4676]. ومناسبة تأليفها أنه جرت مذاكرة بينه وبين السيد صالح بن محسن الصيلمي الزيدي في اشتراط الصوم في الاعتكاف، فقال الصيلمي: علماؤنا يُلزِمونكم القول باشتراط الصوم في الاعتكاف بقياس العكس، فقال المؤلف: ما وجهُ تأتّي قياس العكس هنا؟ (ثم تكلم عن هذا القياس في ضوء كتب الأصول)، فإن لنا في النصوص الصحيحة ما يُقِرُّ الناظر. ثم ذكر الأحاديث الواردة في الباب وتكلم عن معانيها، واختلاف العلماء فيها، وتكلم على لفظ "لا اعتكاف إلا بصوم" في الحديث هل هو مدرج من كلام الزهري أو من كلام عائشة، وليس مسندًا إلى السنة؟ وردّ على من استدل بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعتكف إلا صائمًا، بقوله: إن هذا دليل الاستحباب لا

الوجوب. ونقل ما يستلزم أنه - صلى الله عليه وسلم - اعتكف بلا صوم، وهو حديث عائشة عند البخاري ومسلم أنه اعتكف عشرًا من شوال، وفي رواية لمسلم: "اعتكف العشر الأول من شوال"، فإن أول شوال يوم العيد، وصومه حرام. واحتج أيضًا بحديث الصحيحين عن عمر رضي الله عنه أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلةً في المسجد الحرام، قال: فأوفِ بنذرك". والليل ليس ظرفًا للصوم، فلو كان شرطًا لأمره - صلى الله عليه وسلم - به. وذكر أيضًا الحديث الذي رواه الحاكم: "ليس على المعتكف صيامٌ إلاَّ أن يجعله على نفسه". وقد أجاب عنه الصيلمي بما نقل المؤلف خلاصته، ثم ردّ عليه المؤلف بتفصيل، وناقشه في تأويله لحديث: "ليس على المعتكف صيام إلاَّ أن يجعله على نفسه"، وطالبه الدليل الذي يقتضي اشتراط الصوم، وحديث "لا اعتكاف إلا بالصيام" سبق ما فيه. ولو فُرِض اعتباره دليلاً فهناك طرقٌ مسلوكة في الجمع بينه وبين سائر الأدلة، وهي أن نقول بنفي الكمال، كما قالوه في الأحاديث التي وردت بمثل هذه الصيغة. وبعد ما انتهى المؤلف من بحث هذا الموضوع ألحق به رسالةً منه إلى الصيلمي وردّ الأخير عليه، فيهما خلاصة ما سبق من الكلام في هذه المسألة. وتوجد على حاشية الصفحة الثانية تعليق نحوي لا علاقة له بموضوع هذه الرسالة، يشرح فيه جزءًا من متنٍ في النحو، وهو قوله: (الكلام هو اللفظ المركب المفيد بالوضع. وكل كلمة إما معربة وإما مبنية، والمعرب إما أن يكون أصليَّ الإعراب أو فرعيَّه، والمبني إما أن يكون أصليّ البناء وإما فرعيَّه).

14 - مقام إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام

14 - مقام إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: نُشرت هذه الرسالة بعناية الشيخ محمَّد حامد الفقي بمطبعة السنة المحمدية بالقاهرة في محرم سنة 1378، ولم نعثُر على الأصل الذي اعتُمد عليه في هذه النشرة. والموجود في مكتبة الحرم المكي برقم [4687] مسودة أولية لها بخط الشيخ في دفتر صغير مسطّر في 31 صفحة، مع ملاحق في 9 صفحات، وفيها شطب كثير واستدراكات وتخريجات طويلة. وعندما قابلناها بالمطبوع ظهر لنا فرق كبير بينهما، ففي المطبوع زيادات كثيرة لا توجد في المسوَّدة، وتعديلات في مواضع في الكلمات والفقرات، وبذلك عرفنا أن النسخة المطبوعة نسخة محرَّرة من هذه الرسالة، وأنها طبعت بالاعتماد على مبيضة المؤلف، فهي أجدر بأن يُعتمد عليها عند إعادة تحقيقها دون المسوَّدة التي كتبها المؤلف كتابةً أولية. ومع ذلك فقد استفدنا من هذه المسودة تصحيح بعض الأخطاء الموجودة في المطبوع. وكانت مناسبة تأليفها أن الملك سعود بن عبد العزيز رحمه الله عندما بدأ بتوسعة المسجد الحرام وتوسعة المطاف حول الكعبة المشرفة، اقتضى ذلك نقل "مقام إبراهيم" وتأخيره عن موضعه، حتى لا يؤدي الطائفين، ولا يعوقهم عن سيرهم. فظنَّ بعض الناس أن في ذلك مخالفةً وتغييرًا للمشاعر، فكتب المؤلف هذه الرسالة لبيان أن الحق والهدى هو في نقل "المقام" وتأخيره عن موضعه، اقتداءً بفعل عمر بن الخطاب الذي أقرَّه عليه الصحابة رضي الله عنه وعنهم وأرضاهم جميعًا. وقد اطلع مفتي المملكة العربية السعودية سماحة الشيخ محمَّد بن إبراهيم آل الشيخ على هذه الرسالة فقرظها بما يلي:

"الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه. وبعد، فقد قُرئتْ عليَّ هذه الرسالة التي ألَّفها الأستاذ عبد الرحمن المعلمي اليماني، بشأن "مقام إبراهيم" وتنحيته عن مكانه الحالي، فيما إذا أُريد توسيع المطاف. فوجدتُها رسالة بديعة، وقد أتى فيها بعين الصواب في هذه المسألة. وفَّقنا الله وإياه لما يحبُّه ويرضاه، وجعل عملَ الجميع خالصًا لوجهه الكريم. أملاه الفقير إلى عفو ربه: محمَّد بن إبراهيم آل الشيخ. وصلى الله على عبد الله ورسوله محمَّد وآله وصحبه وسلم". لقيت رسالة المعلمي هذه قبولًا من العلماء، ولكن الشيخ سليمان بن حمدان ردَّ عليها بكتابه "نقض المباني من فتوى اليماني، وتحقيق المرام فيما تعلق بالمقام" أساء فيه للمعلمي، ووصفه بأوصاف لا تليق، فأشار عليه الشيخ محمَّد بن إبراهيم بأن لا ينشره لما فيه من أخطاء وأغلاط، ولكنه بادر إلى طبعه وتوزيعه دون أن يغيِّر شيئًا من الأخطاء. فألَّف الشيخ محمَّد بن إبراهيم ردًّا عليه بعنوان "نصيحة الإخوان ببيان ما في "نقض المباني" لابن حمدان، من الخبط والخلط والجهل والبهتان" (¬1).انتصر فيه للمعلمي، وبيَّن ما وقع فيه ابن حمدان من الأخطاء الفاحشة والأغلاط الشنيعة. وأعقبها أيضًا برسالة "الجواب المستقيم في جواز نقل مقام إبراهيم" مؤيدًا فيها ما قاله المعلمي. ¬

_ (¬1) طبع ضمن فتاواه (5/ 56 - 132).

وقد ألّف بعض العلماء في ذلك الوقت رسالة باسم "سبيل السلام في إبقاء المقام" تأييدًا لابن حمدان. وفي هذا الموضوع قال الشيخ عبد الرحمن الدوسري (ت 1399) في كتابه "الحج - أحكامه ومنافعه" (ص 35، 36): "وقد حصل خلافٌ هذه السنوات في تحويل المقام عن مكانه إلى ما يعادله من الشرق بسبب الضيق والازدحام، وقد أفتى أكثر العلماء بجوازه للضرورة التي هي أشد من الضرورة التي حدت بأمير المؤمنين إلى تحويله، وقد أبدوا تعليلات كافية لكل منصف. ولكن حصلت معارضة في وقت كانت السماء كثيفةً بالغيوم، فتوقف التنفيذ إلى تحريك جديد نرجو من الله تعجيله ما دامت السماء صحوًا" (¬1). قدَّم المعلميّ لهذه الرسالة بمقدمة فسَّر فيها بعض الآيات، واستنبط منها ضرورة توسعة المطاف، ونقل المقام من مكانه إذا كان مظنة تضييق على الطائفين، كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في عهده، وأقرَّه سائر الصحابة، فكان إجماعًا. ولا ريب أنه إذا تحققت العلة ولم يكن هناك مانع من تأخير المقام، فتأخيره هو الطريقة المثلى. ثم أشار إلى ثلاث معارضات يعتبرها بعضهم موانع، فذكرها مع ما لها وما عليها: المعارضة الأولى: قول بعضهم: إن المقام ليس هو الحجر فقط، بل هو الحجر والبقعة التي هو فيها الآن، وتأخير البقعة غير ممكن. فإذا نُقِل الحجر عنها فإما أن يفوت العمل بالآية، وإما أن يبقى الحكم للبقعة لأنها موضع الصلاة. ¬

_ (¬1) هذه الفقرة من إفادات الشيخ سليمان العمير حفظه الله.

المعارضة الثانية: تأخير المقام عن موضعه مما تنكره قلوب الناس، فينبغي اجتنابه، كما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أبقى الكعبة على بناء قريش، ولم يَبنِه على قواعد إبراهيم لهذا السبب. المعارضة الثالثة: أن المقام استقرَّ في موضعه طوال هذه القرون، مع كثرة الحجاج وازدحامهم في المطاف في كثير من الأعوام، ولو كان تأخيره جائزًا لما غفل عنه الناس طول هذه المدة، وفي ذلك دلالة واضحة على اختصاصه بموضعه الذي استمر فيه. أما المعارضة الأولى فقد ردّ عليها بتفصيل، وعقد لذلك عدة فصول: الأول: في بيان ما هو المقام؟ الثاني: لماذا سُمّي الحجر مقام إبراهيم؟ الثالث: أين وضع إبراهيم المقام أخيرًا؟ الرابع: أين كان موضعه في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ الخامس: لماذا حوّل عمر رضي الله عنه "المقام"؟ السادس: متى حوَّل عمر رضي الله عنه "المقام"؟ ولماذا قدَّره المطَّلب واحتاج عمر إلى تقديره؟ وتوصّل أخيرًا إلى أن القول بأن موضعه الآن هو موضعه الأصلي ضعيف، بحيث لا يحتاج إلى فرض صحته وما يتبع ذلك. وردَّ على المعارضة الثانية أيضًا بثلاثة أوجه، وعلى المعارضة الثالثة بأن إعراض من بيننا وبين الصحابة عن تأخير المقام مرةً ثانية محمول على عدم

15 - رسالة في توسعة المسعى بين الصفا والمروة

تحقُّق العلة، وأن مثل هذا الإجماع الفعلي - لو تحقق - لا يمنع من العمل بما يأمر به القرآن وما أجمع عليه الصحابة في عهد عمر رضي الله عنه. وختم الرسالة بتلخيص وتوضيح لما توصَّل إليه بعد البحث والتحقيق. وبعد، فهذه أول رسالة علمية تناولت هذه الموضوع بهذا التفصيل، وبأسلوب علمي هادئ يدلُّ على تمكن المؤلف من علوم الحديث واللغة والتاريخ والتفسير، واطلاعه الواسع على المكتبة الإِسلامية، ودقة استنباطه، وقوة مناقشته للمعارضين دون تجريح أو تحقير، مع تواضع جمّ واعترافٍ بالآخرين. رحمه الله رحمةً واسعة. 15 - رسالة في توسعة المسعى بين الصفا والمروة: توجد نسخته بخط المؤلف في مكتبة الحرم المكي برقم [4683] في 5 ورقات، وفيها شطب في بعض المواضع وإلحاقات. ويبدو أنه ألَّفها عندما قام الملك سعود بن عبد العزيز رحمه الله بتوسعة المسجد الحرام سنة 1377، واقتضى ذلك توسعةَ المسعى أيضًا تيسيرًا للحجاج والمعتمرين، فبيَّن المؤلف حكم الشرع في هذه المسألة. بدأها بذكر قوله تعالى: {إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} وكيفية سعي النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهما، وكيف كان حال الصفا والمروة فيما مضى، وهل يمتنع توسيعه وقوفًا على عمل من مضى وإن ضاق وضاق؟ أم ينبغي توسيعه؟ ذكر الشيخ أن الطريق الذي بينهما كان واقعًا بين الأبنية من الجانبين، يتسع تارةً ويضيق أخرى، وذلك يدلُّ على أنه لم يحدَّد، ولم يجيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من أصحابه ومن بعدهم بيانٌ لتحديد عرض المسعى، وهذا

يُشعِر بأن تحديده غير مقصود شرعًا، وإلّا لكان أولى بالتحديد من عرفات ومزدلفة ومنى، وقد ورد في تحديدها ما ورد. فهل يبقى المسعى كما هو وقد ضاق بالساعين وأضرَّ بهم؟ أم ينبغي توسعته؟ لأن المقصود هو السعي بين الصفا والمروة، وهو حاصل في المقدار الذي يوسع به هذا الشارع. نقل المؤلف بعض النصوص من كتب الفقه للدلالة على أن السعي كالطواف، وكما أن المكان الذي يختص به الطواف لا يقتصر على ما كان في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد وُسَّع المسجد وزيد فيه مرةً بعد أخرى، وما زيد فيه صحَّ الطواف فيه، فكان المسعى أولى. واستدل المؤلف بقوله تعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125] أن التطهير يشمل التطهير من الأرجاس المعنوية والحسّية، ويقتضي كذلك أن يكون الموضع بحيث يسعهم، وتوسعة المسجد هي نفسها توسعةٌ للمطاف. وردّ على شبهة من توقَّف عن تأخير مقام إبراهيم، واختصر الكلام الذي قاله في رسالته "مقام إبراهيم". وانتقل بعد ذلك إلى حكم توسعة المسعى، وقال إنه مثل توسعة المطاف، فإن أمر الله سبحانه بالسعي بين الصفا والمروة يوجب تهيئةَ موضعٍ يسعى الناس فيه يكون بحيث يكفيهم، وعدمَ الاقتصار على ما كان يكفي الناسَ في الماضي وضاق بهم الآن، وإذا وُسِّع الآن بحيث يكفي الناسَ فقد يجيء زمانٌ يقتضي توسعتَه أيضًا. وقد صدق ظنُّ المؤلف، فقد جاء هذا العصر الذي ازدحم الناس فيه للحج والعمرة، وضاقت التوسعة الأولى للمسعى، واضْطُرَّ إلى التوسعة

الثانية التي عُمِلت في عهد الملك عبد الله بن عبد العزيز حفظه الله، وعادَ الكلام من جديد في هذا الموضوع وخالفَ بعض العلماء وكتبوا فيه، وسيزول الخلاف بمرور الأيام، ولا يبقى له أثر في المستقبل إن شاء الله. وقد استعرض المؤلف بعض التغييرات التي حصلت للمسعى في بعض جهاته فيما مضى، ونقل من كتب التاريخ نصوصًا تدل على ذلك، وذكر إشكال القطبي أن السعي بين الصفا والمروة من الأمور التعبدية، ولا تُعتبر تلك العبادة إلا في ذلك المكان المخصوص الذي سعى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه، ثم أورد جواب القطبي عنه أن المسعى في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كان عريضًا، وبُنِيت الدُّور بعد ذلك في عرض المسعى القديم، فهدمها المهدي وأدخل بعضها في المسجد الحرام، وترك بعضها للسعي فيه، ولم يُحوِّل تحويلًا كليًّا، وإلّا لأنكره علماء الدين. رد المؤلف على القطبي قوله: "إن المسعى كان عريضًا، فبُنِيت فيه الدور"، وقال: إن المسعى لو كان محدَّدًا لبَعُد أن يجترئ الناس على البناء فيه، ويُقِرَّهم العلماء والأمراء. ولو صحَّ قول القطبي لدلَّ إقرار أهل العلم للمهدي أنهم يرون جواز توسعة المسعى من الجانب الآخر، فيرون أنه إذا ضاق ما أبقاه المهدي بالناس أمكن توسعة المسعى من الجهة الأخرى، فهذا أيضًا يدل على جواز التوسعة عند الحاجة. واستشهد بقول عمر بن الخطاب للذين نازعوا في بيع دورهم لتوسعة المسجد: "إنما نزلتم على الكعبة فهو فِناؤها, ولم تنزل الكعبة عليكم" على أن ما حول الكعبة هو من اختصاصها، وكذلك ما بين الصفا والمروة من اختصاصهما، فإذا جُعِل بعضُه مسعًى صار مسعًى يصح السعي فيه، وبقي

16 - رسالة في سير النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحج، والكلام على وادي محسر

الباقي صالحًا لأن يُزاد في المسعى عند الحاجة، فما زيد فيه صار منه. ثم إن الصفا والمروة هما الشعيرتان بنصّ القرآن، فأما ما بينهما فهو بمنزلة الوسيلة ليُسعَى فيه بينهما، والوسائل تحتمل أن يُزاد فيها بحسب ما هي وسيلة له، ولا يجب أن تُحدَّد تحديدَ الشعائر نفسها. بهذا الفقه الدقيق ختم المؤلف كلامه في هذه الرسالة، التي تعتبر أولَ بحثٍ علمي رصين في هذا الموضوع، ولم أجد أحدًا سبقه إلى التأليف فيه، فجزاه الله عن العلم وأهله خير الجزاء. 16 - رسالة في سير النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحج، والكلام على وادي محسِّر: توجد نسختها بخط المؤلف في مكتبة الحرم المكي برقم [4704] في أربع صفحات، ويبدو أنها مبيضة، فليس فيها الشطب والإلحاق والتخريج كما في سائر مسوَّداته. وهي بقطع طويل 25 × 20 سم. وليس عليها تاريخ التأليف أو النسخ. بدأها المؤلف بذكر الأحاديث الواردة في سير النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحج بين المشاعر، وشرح كلمتي "العَنَق" و"النصّ" وأنهما من سير الإبل، وبيَّن أنه من عرفة إلى مزدلفة لم يُسرع النبي - صلى الله عليه وسلم - فوق العادة، وأنه ليس بينهما مكانٌ يُشرَع فيه الإبطاء أو الإسراع المعتاد، وإنما المدار على الزحام وعدمه. أما من مزدلفة إلى جمرة العقبة فقد كان يسير سيرًا لينًا، حتى أتَى واديَ محسِّر، فقرعَ ناقتَه فيه لتُسرِع فوق العادة، حتى جاوز الوادي. ففهم الصحابة منه أن مثل ذلك الإسراع مشروع في ذلك المكان. وقد اختُلِف في سبب الإسراع هناك على أقوال:

الأول: أن ذلك الوادي مأوى للشياطين. الثاني: أن النصارى كانوا يقفون بمحسّر، فأوضعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - مخالفةً لهم. الثالث: أن المشركين كانوا يقفون به يتفاخرون بآبائهم. الرابع: أن وادي محسِّر موضع نزل به عذاب. وقد ضعَّف المؤلف الأقوال الثلاثة الأولى، ورجَّح الرابع وذكر له شاهدًا، وهو الإسراع في أرض ثمود. ثم قال: ولا يخدش في هذا الوجه أن نجهل ما هو العذاب الذي نزل بمحسّر، فقد ذكروا أنه عذاب أصحاب الفيل، وهو مخالف للمشهور أنه كان بالمغمَّس حذاءَ عرفة. وقيل: إن العذاب هو أن رجلاً اصطاد فيه، فنزلت نار فأحرقتْه. ثم عقد فصلاً لبيان أن محسِّرًا هل هو من منًى أو مزدلفة أم لا؟ فقد جاء ما يدلُّ على أنه من مزدلفة في الاسم مع خروجه منها في الحكم، وجاء ما يدلُّ على أنه من منًى في الاسم، وجاء ما يدلُّ على أنه ليس من منى ولا مزدلفة. وقد أورد المؤلف الروايات الواردة في هذا الباب وتكلم عليها، ورجَّح القول الأخير: إنه ليس من مزدلفة ولا من منًى، وهو المعروف في كتب الفقه والمناسك في المذاهب الأربعة. واستغرب قول ابن حزم: إن محسّرًا من الحلّ، وختم الرسالة بنقل كلام شيخ الإِسلام ابن تيمية وابن القيم اللذين صرَّحا بأن محسِّرًا برزخ بين مزدلفة ومنًى، لا من هذه ولا من هذه. هذه خلاصة مباحث هذه الرسالة الصغيرة، وفيها فوائد أخرى تتعلق

17 - فلسفة الأعياد وحكمة الإسلام

بنقد الأحاديث والأخبار والكلام عليها تصحيحًا وتضعيفًا، ومناقشة للأدلة التي احتجّ بها كل فريق. ولم أجد من أفردها بالبحث والدراسة غير المؤلف. 17 - فلسفة الأعياد وحكمة الإِسلام: توجد نسختها بخط المؤلف في مكتبة الحرم المكي برقم [4668/ 1] (5 ورقات بقطع طويل 32 × 21 سم). ذكر فيه أولاً معنى العيد في العرف العام، وتحدث عن منشأ الأعياد عند الأمم، وأن غالب الأعياد الدينية في غير الإِسلام اصطلاحيٌّ. ثم عنونَ بقوله: "نظرية الإِسلام في الأعياد" وذكر أن الشريعة الإِسلامية لم تنظر إلاَّ إلى النعم الحقيقية التي تعمُّ جميعَ المسلمين، والموجود من هذه النعم الذي يتكرر كلَّ عام أمرانِ: تمام صيام شهر رمضان والخروج من مشقة الصيام، وتمام الحج والخلاص من مشقة الإحرام، فشُرِع عيد الفطر وعيد الأضحى لمن لم يحج، واقتضت الحكمة أن تكون الأعمال المشروعة في العيد جامعةً بين الزينة والعبادة، وأن يكون الاجتماع الحسي باعثًا على الاجتماع المعنوي. وبعد الانتهاء من ذكر حكمة الإِسلام في الأعياد أشار إلى أن المسلمين لا يكاد يوجد منهم من يستحضر هذه المعاني ويبني عمله على تلك المقاصد، ولا يكاد يوجد من علمائهم من يبيِّن لهم ذلك. ثم ذكر أن الأعياد الاصطلاحية لم تلتفت إليها الشريعة الإِسلامية من حيث هي أعياد، وفي عيدي الفطر والأضحى ما يفي بذلك، فعيد الفطر تذكارٌ لنزول القرآن في رمضان، وعيد النحر تذكارٌ لتمام الدين وعزِّه.

ثم نظرت الشريعة إلى الأيام التي حدثت فيها نعم عظمى عامة فرأتْ أن المثلية تُذكِّر بالنعم، فشرعت في أمثال تلك الأيام عباداتٍ مخصوصة، فإذا حدثت النعمة في يوم عيَّنت العبادة في مثله من كل أسبوع، وإذا حدثت النعمة في شهر عيَّنت العبادة في مثله من كلِّ سنة. فمن الأول: يوم الجمعة، وقد تحدَّث عن فضله وأهميته, وردَّ على من يعدُّونه عيدًا لأن كثيرًا مما شُرِع في العيد شُرِع فيه، وناقشهم في الأمور التي ذكروها، ومنها النهي عن تخصيص يوم الجمعة بصيام وليله بقيام، وبيَّن الحكمة في ذلك، كما ذكر حكمة تشريع صيام يوم الاثنين شكرًا على النعمتين العظيمتين: ولادة رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنزال القرآن عليه، كما في حديث أبي قتادة الذي رواه مسلم (1162). ثم تطرَّق إلى الرد على القائلين بالاحتفال بالمولد النبوي بطريقة لطيفة حيث قال: "إن المسلمين - ويا للأسف - نسُوا صوم يوم الاثنين وما في صومه من شكر الله عزَّ وجلَّ، وما يتضمن ذلك من محبته - صلى الله عليه وسلم -، حتى إن أكثرهم يجهل ذلك، ولم أرَ طولَ عمري من يصومُه بتلك النية ولا من يذكره. إلاَّ أنني سمعتُ من يذكر الحديث احتجاجًا على مشروعية الاحتفاء بثاني عشر ربيع الأول، فالله المستعان". ثم تكلم عن مشروعية صوم عاشوراء، وهناك أيام حدثت فيها نِعَمٌ في العهد النبوي، ولم يُشرَع تخصيص أمثالها بعبادةٍ اكتفاءً عنه بغيرها، وهكذا الأيام التي حدثت فيها النِّعم بعد العهد النبوي ليس لأحدٍ تخصيص أمثالها بعبادة مخصوصة, لأن الدين قد كمُل في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولأن كلَّ نعمةٍ عامة للمسلمين حدثتْ بعده - صلى الله عليه وسلم - فهي فرع عن النعم التي حدثت في عهده. والمقصود من الكلام السابق كله بيان أن الأيام التي تحدُثُ فيها النِّعم العظام لا يجعلها الشرع أعيادًا، وإنما يجعلها مواسم للعبادات شكرًا على

18 - توكيل الولي غير المجبر بتزويج موليته

تلك النعم، مع حِكَمٍ أخرى. وختم المؤلف هذه الرسالة بذكر أهم المقاصد في الأعياد، وهو الاجتماع، وبيَّن كيف راعت الشريعة الاجتماع في تعاليمها، فقد شُرِعت الجماعة في الصلوات الخمس لأهل كل قرية أو محلة، ثم شُرِعت الجمعة ليجتمع أهل كل مدينة في مسجد واحد، ثم شُرِع العيد لاجتماعٍ أعمَّ من الجمعة، ثم شرع الحج ليجتمع في موضع واحدٍ جميع المسلمين. ولكن المسلمين - ويا للأسف - جهلوا هذه الحكم، فقليلٌ منهم يجتمعون هذه الاجتماعات المشروعة، والمجتمعون قليلاً ما يبحثون عن مصالحهم، حتى إن الخطب الجمعية والعيدية والحجية نراها بمعزلٍ عن هذا. 18 - توكيل الولي غير المجبر بتزويج موليته: وصلت إلينا هذه الرسالة بخط المؤلف، وهي محفوظة في مكتبة الحرم المكي برقم [4688] في 34 صفحة من الدفتر الصغير من الدفاتر التي صُنعت بالهند، كما يدلُّ على ذلك صفحة الغلاف. ويُستنبط منه أن الشيخ ألَّفها في الهند قبل سنة 1371. والنسخة بخط واضح، وفيها شطب في بعض الصفحات، وفي هوامشها إلحاقات وزيادات في مواضع. ومناسبة تأليفها كما ذكر المؤلف أنه جرت المذاكرة في توكيل الولي غير المجبر بتزويج موليته إذا وقع التوكيل قبل إذنها، وبعد مراجعة المظانّ وجد الحاجة ماسة إلى البسط والتحقيق في المسألة، فألَّف هذه الرسالة عند ذلك. نقل فيها أولاً كلام الإِمام الشافعي من كتاب الأم وكلام الفقهاء

19 - الحكم المشروع في الطلاق المجموع

الشافعية من المصادر الأخرى، ثم تكلم على قياس غير المجبر على المجبر، وقياسه على الوصي والقيم كما ذكر بعضهم، وتحدَّث عن وجوه الفرق بينهما. ثم ذكر شُبه القائلين بجواز توكيل غير المجبر قبل إذنها، وهي عشر شبه، وردَّ عليها من وجوه كثيرة، وأطال في الردّ والمناقشة، وانتهى في الأخير إلى أن التعسُّفات التي ذكرها الفقهاء المتأخرون لا تقوى على تخصيص أو تقييد نصّ الإِمام الشافعي على بطلان توكيل غير المجبر إلا بأن تأذن له المرأة أن يوكّل بتزويجها، فالحق الذي لا يجوز غيره إبقاء نصّه على ظاهره. وفي أثناء هذه الردود والمناقشات تكلم عن الوكالة وشروطها والمباحث المتعلقة بها، وعلَّق على النصوص التي نقلها من كتب الفقه، وردّ على ابن حجر الهيتمي وغيره فيما ذهبوا إليه. وهذه الرسالة تدل على سعة اطلاع المؤلف على كتب الفقه الشافعي، ورسوخه في الفقه، وقوة مناقشته للفقهاء، فيما خالفوا فيه الحقَّ والصواب، وفهم نصوص الإِمام الشافعي كما ينبغي. 19 - الحكم المشروع في الطلاق المجموع: توجد مخطوطته بخط المؤلف في مكتبة الحرم المكي برقم [4682]. وهي عبارة عن أوراق متفرقة من الكتاب، كتب الشيخ فصولًا منه، وزاد عليها زيادات في ملاحق، وأشار إلى أنها توضع في أماكنها. وقد بدأها المؤلف بالآيات وتفسيرها، ولما انتهى منها في خمس

صفحات قال في آخرها: "هذا ما يتعلق بهذه المسألة من كتاب الله عزَّ وجلَّ، فلننظر الآن ما يتعلق بها من السنة". ثم عنون بقوله: "الأحاديث التي احتجَّ بها مَن يرى أن من قال: طلقتُ ثلاثًا أو ألفًا أو كعدد ذرات العالم أو نحو ذلك فهي مرة واحدة، تكون له بعدها الرجعة". ثم كتب "بسم الله الرحمن الرحيم" وسرد هذه الأحاديث وتكلم عليها طويلاً، وخاصة حديث ابن عباس المشهور الذي رواه مسلم، ومرسل عروة، وغيرهما من الأحاديث والآثار. ثم بدأ الشيخ من جديد بعد كتابة البسملة وعنوان الكتاب: "الحكم المشروع في الطلاق المجموع"، فقال: "الباب الأول في الطلاق المأذون فيه"، وذكر ثلاثة مذاهب للعلماء في ذلك، مع الاحتجاج لكل منها ومناقشتها، وردّ كلّ فريق على الآخر وجوابه. وبعد ما انتهى من الباب الأول عقد بعد البسملة "الباب الثاني في الوقوع" وذكر تحته: "المسألة الأولى في وقوع الطلاق البدعي"، فذكر مذهب الجمهور القائلين بوقوعه ومذهب المانعين، واحتجاج الجمهور بحديث ابن عمر المشهور الذي لهم فيه أربع حجج، وقد سردها، ثم ذكر جوابَ المانعين وردَّهم عليها، مع مناقشة ما قاله كلُّ فريق ودفع ما لا يصح منه. وبه انتهى ما وصل إلينا أو ما ألَّفه الشيخ من هذا الكتاب، فلم يتكلم في الباب الثاني إلاَّ على مسألة واحدة، ولعله كان يريد أن يضيف إليها مسائل أخرى من مسائل الطلاق، ولكنه لم يفرغ لها. والقضية الأساسية التي تناولها الشيخ بالبحث والدراسة في الكتاب قضية الطلاق الثلاث المجموع، التي كثر التأليف فيها منذ زمن شيخ

الإِسلام ابن تيمية وابن القيم إلى الآن (¬1)، وخاصةً في بلاد الهند وباكستان. والجمهور من أتباع المذاهب الأربعة يدَّعون الإجماع على وقوعها ثلاثًا، والقائلون بوقوعها واحدةً يذكرون الخلاف في ذلك منذ زمن الصحابة والتابعين، ويردُّون دعوى الإجماع، ويقولون: إنها من مسائل الخلاف. وقد ذكر الشيخان (ابن تيمية وابن القيم) في كتبهما نصوصًا كثيرة من مصادر مختلفة تبيِّن اختلاف السلف في هذه المسألة، بل من أتباع المذاهب الأربعة جماعة من العلماء ممن كان يفتي بأنها واحدة، كما فصَّل ذلك الشيخ سليمان العمير في كتابه "تسمية المفتين". وقد احتدَّ النقاش في هذه القضية في هذا العصر بعد ما ألَّف العلامة المحدث أحمد محمَّد شاكر كتابه المشهور "نظام الطلاق في الإِسلام" وقرَّر فيه أن الثلاث تقع واحدةً، ونصر مذهب شيخ الإِسلام وغيره في هذا الباب، واحتجَّ لها بحجج شرعية ولغوية. فقام بالردّ عليه الشيخ محمَّد زاهد الكوثري الحنفي بكتابه "الإشفاق على أحكام الطلاق"، ودافع عن مذهب الجمهور، ولكنه على عادته لم يقتصر على البحث العلمي في القضية، بل تعدَّاه إلى التضليل والتبديع والتفسيق، حتى قال في موضع منه (ص 89): "إن كان ابن تيمية لا يزال بعدُ شيخ الإِسلام فعلى الإِسلام السلام". فانبرى له العلامة المعلَّمي، وألَّف هذا الكتاب، وناقش أدلة الفريقين مناقشة علمية هادئة، دون أن يصرِّح باسم الكوثري أو أحد من المخالفين، وتكلَّم على المسألة بمختلف جوانبها، وحقّق الأحاديث والآثار الواردة فيها، ونثر في ¬

_ (¬1) ذكر الشيخ سليمان العمير في كتابه "تسمية المفتين أن الطلاق الثلاث بلفظ واحد طلقة واحدة" (ص 27 - 34) أكثر هذه الكتب المفردة.

20 - رسالة في المواريث

أثنائها فوائد علمية كثيرة على طريقته في البحث والتحقيق. وهكذا أصبح كتابه هذا متميزًا بين الكتب التي أُلَّفت في هذه المسألة. 20 - رسالة في المواريث: كان الشيخ أسلم الجيراجي الهندي (¬1) قد ألَّف كتابًا بعنوان "الوراثة في الإِسلام"، ونشره بالمطبعة الملية في علي كره بالهند سنة 1341. وقد أحدث هذا الكتاب ضجَّةً في الأوساط العلمية لآراء المؤلف الجريئة والمخالفة لإجماع الأمة في باب المواريث، فصرَّح في مقدمته أنه وجد غالب أصول علم الفرائض مختلَّة، وأكثر مبانيه سقيمة ومعتلَّة، تخالف الكتاب، وتباين العقل والصواب، وذلك لأن الفقهاء قد خلطوا بأحكام الكتاب آراءهم، وتشبثوا بالروايات الضعيفة، وأسسوا عليها أصول الميراث، وسار عليها سلفهم وخلفهم. فقام الجيراجي في ظنه بالنقد والتصحيح، وبيان مواضع الزلل والخطأ، وتفسير آيات المواريث، وتمهيد القواعد وتحريرها بمقتضاها. ¬

_ (¬1) هو ابن الشيخ سلامة الله الجيراجْفوري، نسبةً إلى "جَيْراج فور" من مديرية أعظم كره في شمال الهند، ولد سنة 1299/ 1881 م، وحفظ القرآن في صباه، ودرس العلوم الشرعية على المشايخ في بوفال، واشتغل مدرسًا في جامعة علي كره والجامعة الملية الإِسلامية, وألَّف كتبًا في تاريخ الإِسلام وتاريخ القرآن، وله دراسات قرآنية ومقالات دعا فيها إلى إنكار حجية السنة، والاقتصار على القرآن الكريم في أمور الدين، واعتبار الحديث شيئًا تاريخيًّا لا حاجة إليه في التشريع. توفي سنة 1375/ 1955 م.

ويذكر في إحدى مقالاته (¬1) أنه أثناء دراسته للسراجية توقف في مسألة حجب ابن الابن مع عمه، ولم تلقَ في نفسه قبولاً، فبحث في كتب علم الفرائض، فلم يجد له موافقًا، ثم قال: "وأخيرًا وجدتُ القرآن يوافقني في ذلك". وأخرج كتابًا بالأردية بعنوان "محجوب الإرث" (¬2) نقدًا لقواعد الميراث المجمع عليها بين المسلمين. وقد بني الجيراجي كتابيه على أسس باطلة، واستنبط من القرآن الكريم استنباطات خاطئة، وادَّعى أن الوصية للوالدين والأقربين فرض على المسلم، وعليه أن يكتبها في حياته لوالديه ولأقربيه ويجعل ماله بينهم حسب ما تقتضي مصالحهم الشخصية، فإنه أدرى بها، ولم يعتبرها منسوخةً بآية المواريث كما يقوله جمهور الأمة، وقال: إنما يُقسَم المالُ بين الورثة إذا مات المورث بلا وصية، فحينئذٍ يُعمَل بآية المواريث ويُعطى كل ذي حق حقه. وخالف إجماع العلماء على أن أولاد الأم من ذوي الفروض، وأن بني الأعيان والعلات ملحقون بالعصبة، وانتقد صنيعهم في ذلك، وفسَّر آية الكلالة تفسيرًا بعيدًا، وقال: إن الفقهاء ظلموا الأَقرباء لأنهم جعلوا الأباعد من أولاد الأم ذوي فرض، والأقربين من بني الأعيان والعلات عصبة، وهي لا ترث إلا ما بقي من ذوي الفروض. وتوصَّل إلى أن أولاد الأم ليسوا بذوي فرض، بل حكمهم كحكم سائر الإخوة والأخوات، وهم يرثون إذا لم يكن هناك أحدٌ من بني الأعيان والعلّات. ¬

_ (¬1) مجلة "طلوع إسلام" (عدد يناير 1956) ص 15. (¬2) أول ما نُشر في مجلة "معارف" (عدد يوليو وسبتمبر 1919 م)، ثم طُبع مستقلًّا.

ونفى أن يكون الجد والجدة من ذوي الفروض, لأنه ليس لهما فرضٌ مقدر في الكتاب، ولم يأخذ بالسنة والآثار الواردة في هذا الباب، بل استهزأ بها وقال: أشكلت مسألة الجد على عمر رضي الله عنه حتى قضى فيها بمئة قضية. وأنكر العصبة وتعريفَ الفقهاء للعصبة (وهو: كل من ليس له فرض معيَّن في كتاب الله، ويأخذ من التركة ما أبقته أصحاب الفرائض)، وافترض مسائل يرى فيها خللًا عظيمًا بسبب هذا التعريف، وخالف الحديث الثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فِلأَولَى رجلٍ ذكرٍ"، فقال: إنه ليس بحكم كلّي، بل قضى به - صلى الله عليه وسلم - في قضية خاصة، وتوصَّل إلى أن العصوبة ليست بشيء، وأن المال كله للأقربين. وخالف تعريف الفقهاء لذوي الأرحام (وهم أقرباء الميت الذين ليسوا بذوي فرضٍ ولا عصبة) وتقسيمهم أربعة أقسام، وقال: إن هذا كله ليس عليه دليل ولا برهان، بل هو مناقض للقرآن، ورأى أن ذوي الأرحام كالعصبة ليسوا من الوراثة في شيء إلاَّ أن يكونوا أقربين. وهذا المعنى هو المراد في قوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ} [الأحزاب: 6] , فالأقرباء من الأصول والفروع والأطراف - كالوالدين والأولاد والإخوة والأخوات والأعمام - كلهم داخلون في ذوي الأرحام. ويطول بنا الكلام لو استعرضنا أراءه الشاذة في العول والرد والحجب وغيرها من القضايا، وأخطاءه في تفسير آيات الوراثة, وقد أشرنا إلى بعض

ما في كتابه من الضلالات لبيان أنه يهدم علم المواريث المجمع عليه. فانبرى له بعض علماء الهند وقاموا بالرد عليه باللغة الأردية (¬1). ولما كان العلامة المعلمي في الهند آنذاك، وأدرك خطورة هذا الأمر، ألَّف هذه الرسالة التي بين أيدينا، وقد سمّاها الأستاذ عبد الله المعلمي في ترجمته للشيخ: "إغاثة العلماء من طعن صاحب الوراثة في الإِسلام"، ولم أجد هذا العنوان بخط المؤلف. توجد النسخة الخطية منها ضمن مجموع في مكتبة الحرم المكي برقم [4701] (الصفحات 1 - 26، 33 - 39، 54 - 58، 67 - 74، 81 - 84، 92 - 100) بخط المؤلف، وقد كانت مضطربة الأوراق، فقمتُ بترتيبها حسب سياق الكلام، وفي النسخة تخريجات وإضافات كثيرة تبدأ من صفحة وتنتقل إلى صفحة أخرى، وشطبٌ في مواضع وبياضات في أخرى. ويبدو أنه كتب لبعض مباحثها تكملة في دفتر آخر يشير إليها بالصفحات بعد ما يذكر بعض العبارة من أولها، ولم أجد هذه التكملة ضمن مسوَّدات المؤلف. وقد بني المؤلف كتابَه - كما ذكر في أوله - على تفسير الآيات التالية: 1 - آية الوصية [سورة البقرة: 180]. 2 - آية الوصية للزوجة [سورة البقرة: 240]. 3 - {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ ......} الآيات [سورة النساء: 7 - 12]. 4 - {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ .......} [سورة النساء: 176]. ¬

_ (¬1) ردَّ عليه الشيخ أبو الحسنات الندوي في مجلة "معارف" (عدد يوليو 1923 م) وآخرون.

5 - {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ ....} [سورة النساء: 33]. 6 - {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا .... وَأُولُو الْأَرْحَامِ ....} [سورة الأنفال: 72 - 75]. 7 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ ...} [سورة المائدة: 106]. وقال: "فلنبدأ بتفسير الآيات على هذا الترتيب، ثم نقتصُّ أثر الجيراجي على حسب ترتيبه". والمسوَّدة التي وصلتنا تحتوي على تفسير الآيات الأربع الأولى، ثم الردّ على الجيراجي فيما قاله بشأن آية الوصية، وبيان أنها منسوخة بدلالة الكتاب والسنة والإجماع، ثم الكلام على ذوي الفروض وأن أولاد الأم منهم، ثم الكلام على العصبة وسياق أدلة القول بالتعصيب والردّ على ما قاله الجيراجي، ثم الكلام على ذوي الأرحام ومناقشة الجيراجي فيما قاله. وبقي الكلام على "العَوْل" الذي عنونَ له المؤلف في المسوَّدة (ص 74)، وترك بعده بياضًا، وأشار في أثناء الرسالة إلى مبحث "الحجب" كثيرًا، ولكنه لا يوجد في المسوَّدة، فهل كتب المؤلف هذين المبحثين في الدفتر الآخر أو لم يتمكن من كتابتهما؟ لا نستطيع الجزم بشيء من ذلك. وقد خالف الجيراجي الجمهورَ في العول والحجب، وعنون لهما في كتابه، ولذا أراد المعلمي مناقشته في هذين البابين أيضًا. ولكن المسوَّدة للأسف تخلو من الكلام عليهما، ويوجد فيها (ص 81 - 84، 92 - 100) بدلاً من ذلك تفسير قوله تعالى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ ....} [سورة النساء: 11] مرتين، فأثبتناه كما هو، لما فيه من زيادة الفائدة

21 - مسألة منع بيع الأحرار

على ما ذكر من تفسير الآيات سابقًا، وتوضيح لبعض المباحث في المواريث وأسباب اختلاف العلماء فيها. 21 - مسألة منع بيع الأحرار: توجد مخطوطتها في مكتبة الحرم المكي برقم [4696]، وقد كتب فيها الشيخ أربع مرات لأهميتها، فإنهم كانوا آنذاك يبيعون الأحرار ويجعلونهم رقيقًا دون بينة ولا شهادة، بل يُكرِهونهم على الإقرار بأنهم عبيد، وكان القضاة يوافقونهم على ذلك، ولا يسمعون الشهادة ولا يقبلون الدعوى. فأراد الشيخ أن يحرّر المسألة بأدلتها، فنقل كلام الفقهاء والشراح من كتب الفقه الشافعي، وترجَّح لديه إثبات البينة وسماع شهادة الحسبة. بدأ الشيخ الرسالة الأولى منها ببيان أهمية الحرية وعِظَمها، وفضل عتق الرقبة في الكتاب والسنة، وذكر أن سبب الرقّ أصله الكفر، وإنما يُسترقُّ الكافر بالسبي أو الأسر أو نحوه، وهذا من مدة طويلة إن لم يكن مفقودًا فنادر. وأما غير الكافر فإنما يُسترقّ بتبعيته له. ثم ذكر حكم الإماء المجلوبة في حال الجهل أنه لا يجوز بيعها ولا شراؤها، كما حرَّر السبكي الأحكام المتعلقة بهنَّ، ثم تحدَّث عن كيفية ثبوت الرقّ، فقال: إنما يثبت باليد أو بالبينة أو بالإقرار ونحو ذلك، وفصَّل في ذكر الشروط المتعلقة بكل قسم منها، ونقل نصوص الفقهاء الشافعية فيما إذا ثبت الإقرار المعتبر فهل تُسمَع الدعوى بعده؟ وقرَّر أن الإقرار بالرقّ لا حكمَ له لغلبة السفه وعدم المعرفة، وقيام أمارة الإكراه، مع غلبة الحرية - وهي الأصل - وندورِ الرقّ المتيقن. فعليه كلُّ مسترَق ادَّعى الحرية فالقول قوله بيمينه، سواء سبق منه إقرار بالرق

أم لا، إلاَّ أن يقيم مسترِقُّه بينةً برقِّه. وحذَّر المؤلف من التساهل في هذا الأمر، فإنه من أخطر الخطر، ثم قدَّم ما كتبه للإمام الإدريسي للنظر فيه. وأشار في آخره أنه أراد أن ينقل عبارات شرّاح المنهاج والمنهج والحواشي في أبواب مختلفة فلم تساعده العزيمة. وقد بدأ الرسالة الثانية بذكر ضياع حقوق الله بين الناس وفُشوّ السوء والفحشاء بينهم، ومن ذلك ما شاع من بيع الأحرار وإكراههم على الإقرار. وربما يحضر بعض هؤلاء العبيد إلى القاضي فيدَّعي الحرية، أو تجيء شهادة حسبة، فلا يسمعها اعتمادًا على ظاهر كلام أهل المذهب. ونظرًا إلى أهمية هذا الموضوع نقل المؤلف هنا من أبواب مختلفة من المنهاج والتحفة والحاشية للشرواني لإيضاح هذا الحكم في الفقه الشافعي، ثم قدَّم ما كتبه للإمام الإدريسي للنظر والجزم بما تبرأ به الذمة، وهو بحمد الله من العلم والتحقيق بمرتبة الاجتهاد. وذكر في أول الرسالة الثالثة أنه قد حمله على تأليفها ما طرأ على الناس من أحكام الأرقاء، وجرأة كثير من الناس على بيع الأحرار، مع إكراههم على الإقرار أو ترغيبهم به. ومع ذلك فإن بعض الحكَّام يقضي بمجرد الإقرار بالرقّ، ولا يقبل دعواه الحرية، ولا يسمع شهادة الحسبة. فأحبَّ المؤلف أن يذكر هنا عبارات كتب الفقه الشافعي، للردّ على هؤلاء القضاة، وتقرير ما يراه المؤلف من سماع البينة على الحرّية. وفي أول الرسالة الرابعة ذكر أنه وقعت المذاكرة فيما اشتهر آنذاك في بعض البلدان من بيع الأحرار والاعتماد على الإقرار، وما يقضي به بعض الحكام من عدم سماع دعوى من أقرَّ بالرقّ إذا ادَّعى الحرية، وعدم سماع

22 - أسئلة وأجوبة في المعاملات

شهادة حسبة على ذلك، كيف حكمه؟ فذكر المؤلف نصوص كتب الفقه الشافعي، وتوصَّل إلى أن الحرية من أعظم حقوق الله تعالى، والأصلية أولى من العتق، ولا فرقَ بين كون العتق وقع ممن يريد أن يتملكه أو يبيعه أو من غيره. فالذي يظهر أن شهادة الحسبة لا تُردُّ في هذا، إذ هو مما لا يتأثر برِضا الآدمي. وبه انتهت الرسالة الرابعة. وقد تناول المؤلف هذا الموضوع في كل رسالة من هذه الرسائل بأسلوب مختلف وبخطبة جديدة وتمهيد مستقل، ففي بعضها اهتم بذكر نصوص الفقه الشافعي، وفي بعضها ذكر أحكام الإماء المجلوبة حسب ما فصَّلها السبكي، وفي بعضها تحدَّث عن أحكام الإقرار وشهادة الحسبة، وفي بعضها تكلَّم عن فضل عتق الرقبة في الإِسلام. ويبدو أن الشيخ كان مهتمًّا جدًّا بهذه النازلة، وأراد من الإِمام الإدريسي أن يَبُتّ في الأمر للقضاء على ظاهرة بيع الأحرار، وتوجيه القضاة إلى سماع دعوى الحريّة وإقامة البينة عليها بعد الإقرار بالرق، واعتبار شهادة الحسبة في هذا الأمر، لدفع المفاسد المترتبة على الرق. 22 - أسئلة وأجوبة في المعاملات: لم يضع لها الشيخ عنوانًا في مخطوطته التي وصلتنا منها بمكتبة الحرم المكي برقم [فلم 3555] في 7 ورقات، وعنون لها المفهرس "رسالة أسئلة وأجوبة في البيع". وقد بدأها الشيخ بتعريف البيع وما الذي يجوز بيعه وما الذي لا يجوز بيعه، والبيوع المنهي عنها في الأحاديث وتفسيرها، ثم عقد باب الربا تحدث فيه عما يتعلق به، ثم باب بيع الأصول والثمار، وباب الخيار، تكلم فيه عن أقسامه السبعة وأحكامها، وبعده باب السَّلم وباب

23 - الإسلام والتسعير ونحوه (أو) حول أجور العقار

القرض وباب أحكام الدين. وفي الأخير عنونَ باب الحوالة والضمان، ولم يكتب بعده شيئًا. والرسالة بصورة سؤال وجواب بأسلوب سهل مبسط، لعلَّ الشيخ ألَّفها لطلاب العلم الذين يصعب عليهم فهمُ ما في المتون الفقهية المختصرة، التي يتشعب فيها الكلام، ويكثر ذِكْرُ الاختلافات والحدود والقيود، وكل ذلك باختصار شديد وإيجاز مخل بالمعنى. فأراد الشيخ أن يوضح أبواب المعاملات بطريقة السؤال والجواب، فإنها أدعى إلى فهمها واستيعابها. ولم يُكمل الشيخ للأسف هذه الرسالة، وتوقف عند باب الحوالة والضمان، ومع ذلك فما كتب منها يصلح أن يكون أنموذجًا يُحتذى لتدريس الفقه للمبتدئين والمتوسطين، وينبغي أن يُؤلَّف في جميع أبواب الفقه على هذا المنوال. وقد حاول بعضهم ذلك فيما صدر من كتب ورسائل، ولكنها لا ترقى إلى مستوى رسالة المؤلف هذه في الوضوح والاختصار، واستيعاب أهم الموضوعات ورؤوس المسائل في الباب، دون التعرض لاختلافات الفقهاء والمناقشات. 23 - الإِسلام والتسعير ونحوه (أو) حول أجور العقار: كتب الشيخ مرتين في هذا الموضوع، وذكر كلاًّ من هذين العنوانين بخطه في أول كل كتابة بعد البسملة، وهما في مجموعة واحدة ضمن مكتبة الحرم المكي برقم [4694]. والكتابة الأولى في ثلاث صفحات، والثانية في صفحتين. ولعلَّ الشيخ كان يريد أن يتوسع في الكلام على هذا الموضوع المهم، ولكنه لم يتفرغ لذلك بسبب أشغاله الأخرى.

بدأ الشيخ الكتابة الأولى بالإشارة إلى كثرة الضجيج من ارتفاع أجور العقار، وكتابة أحد العلماء في هذا الباب بما يفهم منه أن غلوّ الملّاك في زيادة الأجور عمل مذموم، فهو إما حرامٌ عليهم وإما قريبٌ منه. وما دام الأمر كذلك فعلى ولي الأمر منعُ الناس منه، وعليهم طاعته كما في الكتاب والسنة، وقد أورد المؤلف بعض هذه النصوص. ثم ذكر أن أحاديث التسعير ليس فيها نهيٌ عنه، وإنما فيها أن الناس طلبوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُسعِّر فقال: "إن الله هو القابض الباسط الرازق المسعَّر، وإني لأرجو أن ألقى الله عزَّ وجلَّ ولا يطلبني أحدٌ بمظلمة ظلمتها إياه في دمٍ ولا مال". فهذه واقعة حال، وقوله هذا تعليل للامتناع عن التسعير في تلك الواقعة. ويحتمل أن يكون غلاء السعر الذي حدث حينئذٍ لم يكن مصطنعًا، فليس للإمام أن يسعّر حتى يتبينَّ له جَشَعُ التجار وتواطؤهم. وتكلم بعد ذلك عن أحاديث النهي عن الاحتكار، وما رُوي عن سعيد بن المسيب ومعمر أنهما كانا يحتكران حملَه على وجهٍ غير الوجه المنهي عنه، فإن التمر مثلًا يكثر في الموسم ويُعرَض للبيع، فشراء التاجر حينئذٍ وادخاره إلى أن يحتاج الناس إلى التمر لقوته، وحينئذٍ ترتفع الأسعار في الجملة، فيُخرِجه للبيع، عملٌ لا تظهر فيه مفسدة، بل لو مُنِع التجار من الشراء حينئذٍ لتضرَّر أهل النخل. فهذا - والله أعلم - هو الذي كان يفعله معمر وسعيد، فلا يُترك لأجله العمل بالنهي عن الاحتكار. وبهذا ينتهي الكلام في الكتابة الأولى. أما الكتابة الثانية فهي بعنوان "حول أجور العقار". وقد بدأها الشيخ أيضًا بذكر ارتفاع أجور العقار، وأن الشيخ عبد الله الخياط وغيره كتبوا في

24 - مناقشة لحكم بعض القضاة في قضية تنازع فيها رجلان

ذلك، والقضية تحتاج إلى تحقيق علمي مُشبع. وتواضع المؤلف فذكر أنه لا يزعم أنه أهل له، ولكنه سيحاول كتابة ما عسى أن يكون حافزًا لمن هو أهل له على النظر في القضية وفصْل القول فيها. ثم أدار الحوار بين أرباب العقار وغيرهم في هذه القضية، وفيه احتجاج كل فريق لما ذهب إليه، وأطال في ذكر حجج أصحاب العقار، وتوقف في أثنائها، ولم يتمكن من استيفاء الكلام في الموضوع، ولعله لم يجد الفرصة لذلك. 24 - مناقشة لحكم بعض القضاة في قضية تنازع فيها رجلان: توجد نسختها الخطية في مكتبة الحرم المكي برقم [4690] في ثلاث صفحات طوال، وهي ليست بخط المعلمي، ولعله أملاها على كاتبه عند ما كان شيخ الإِسلام عند الإدريسي، ثم أضاف إليها إضافاتٍ بخطه في مواضع عديدة في الهوامش. وموضوع الرسالة يدور حول نقض المعلمي لقضاء قاضٍ في قضية تشاجر فيها رجلان، وفيها بحث مسائل في الدعوى والشهادة واختلاف البينات وتعارضها، ومسألة غرز الأخشاب في جدار الغير. وقد ذكر فيها أولاً أنه ليس من وظيفة المدَّعي والمدعى عليه بيان الأحكام الشرعية، بل وظيفتهما الدعوى والإجابة بشروطها المعروفة، وأن دعوى الحسبة المعتمد قبولُها فيما تُقبل فيه شهادتها غير حقوق الله المحضة، لكنها لا تُسمَّى حسبة إلاّ إذا كانت ممن لا يجرُّ بها لنفسه نفعًا أو يدفع بها ضررًا. وذكر أنه يُشترط لأداء الشهادة لفظ "أشهد"، ولا يكفي لفظ

"أعلمُ" كما صرَّحوا به، فالشهادة الموردة من طرف المدَّعي بهذا اللفظ باطلة. وعلى فرض صحتها فقد عارضتها الشهادة الواردة من طرف المدعى عليه، ولا سيَّما المصرِّحة بالملك. ثم تحدث عن اختلاف البينات وتعارضها، ونقل من كتب الشافعية ما يخالف حكم القاضي في هذه القضية، ففيها: "لو وُجِدتْ دكّة في شارع ولم يُعرَف أصلُها، كان محلُّها مستحقًّا لأهلها، فليس لأحدٍ التعرض لها بهدمٍ وغيره ما لم تقم بينة بأنها وُضِعتْ تعديًا". وبهذا يظهر بطلان ما حكم به الحاكم من هدم الدكاكين المذكورة، بل الحق الذي لا ريب فيه بقاؤها على ما هي عليه. ثم تكلم عن مسألة غرز الأخشاب في جدار الغير، فإن المدَّعي ذكر في دعواه مذهب الشافعي خلاف ما هو مثبت في الكتب المعتمدة، وحكم الحاكم بمضمون ذلك. فبيَّن المؤلف صوابَ ذلك نقلاً عن "المنهاج"، وذكر أنه عكس ما فهمه المدَّعي والقاضي. ***

رسائل المجلد الثالث

رسائل المجلد الثالث (¬1) 25 - مسائل القراءة في الصلاة والردّ على أحد شرَّاح الترمذي: توجد نسخته الخطية في مكتبة الحرم المكي برقم [4695] ضمن دفتر طويل في 94 صفحة حسب ترقيم المؤلف، إلاَّ أن إحدى عشرة صفحة من أولها (بعد المقدمة) لا توجد ضمن الدفتر، ولم نجدها في مسوّدات المؤلف الأخرى. وتوجد في أثنائها صفحات عديدة غير مرقمة، وكأنها كانت مسوَّدات من الكتاب كتبها الشيخ وتركها كما هي، وفي بعضها تكرار لما كتبه في المبيَّضة، وبعضها جديد يحتوي على إضافات ومناقشات مهمة تخلو منها المبيَّضة، فاستخرجنا هذا الجديد وألحقناه بآخر الكتاب، واستغنينا عن المكرر الذي ليس فيه أيّ إضافة. والنسخة أصابها بلل في بعض الصفحات، وفيها إلحاقات وزيادات كثيرة في الهوامش، وشطب وضرب على بعض الصفحات والأسطر. وكان سبب التأليف كما ذكر المؤلف في المقدمة أنه وقف على شرحٍ لـ "جامع الترمذي" لأحد علماء الحنفية من المعاصرين، اعتنى فيه بالمسائل الخلافية وسرْد الأدلة وتنقيحها روايةً ودرايةً، وقد طالعه المؤلف من أوله إلى أواخر كتاب الصلاة، فظهرت له مواضع تحتمل التعقُّب والمناقشة، فقيَّد ذلك، ثم رأى أن الكلام في مسائل القراءة في الصلاة يطول، فأفرده مرتبًا في هذا الكتاب. ¬

_ (¬1) هذه الرسائل عثرنا عليها بعد الانتهاء من تحقيق الرسائل السابقة، فأفردناها في المجلد الثالث، وعرَّفنا بأصولها ومحتوياتها هنا.

وقد جاء في بالي في أول الأمر أنه أحد الشروح المعروفة لعلماء الحنفية في الهند، مثل "الكوكب الدرّي" للشيخ رشيد أحمد الكنكوهي (ت 1323)، أو "العرف الشذي" للشيخ أنور شاه الكشميري (ت 1352)، أو "الطيب الشذي" للشيخ أشفاق الرحمن الكاندهلوي (ت 1377). ولكن بعد مراجعتها ظهر لي أن الشرح المقصود غير هذه الكتب. ويبدو أن مؤلفه أحد علماء حيدرآباد، فإن الشيخ ذكره في أثناء "جواب الاستفتاء عن حقيقة الربا" وأشار إلى أنه أستاذ صاحب "الاستفتاء". فقال: "وقد سلك بعض متأخري الحنفية مسلكًا رديئًا في التفصّي من الأدلة التي تخالفهم من الكتاب والسنة، وذلك أن أحدهم يذكر الدليل ثم يبيِّن صورةً قد خُصَّت من عمومه ويقول: هذا متروك الظاهر إجماعًا. ويرى أنه بذلك قد أسقط الاستدلال بذلك الدليل البتة. وكثيرًا ما يسلكه صاحب الاستفتاء وأستاذه في "شرح سنن الترمذي"، ولعله يُنشر فيقف العلماء على ما فيه من العجائب" (ص 447). وقال: "وهذه قاعدة أخرى له ولأستاذه في "شرح الترمذي"، يَعمِد إلى الأحاديث التي تخالفه وتكون بغاية الصحة، فيذكر اختلافًا لفظيًّا أو قريبًا منه أو معنويًّا، والترجيح ممكن، فيزعم ذلك اضطرابًا قادحًا. وليس هذا سبيل أهل العلم" (ص 460). أفادنا المؤلف أن شارح الترمذي هذا أستاذ صاحب "الاستفتاء" وأن شرحه لم يُنشَر حتى يطلع العلماء على غرائبه وأوهامه، وأنه اتخذ منهجًا لردّ الأحاديث الصحيحة والتفصّي منها مما لا يوافقه عليه أهل العلم. والكتاب الذي بين أيدينا ناقش فيه المعلمي الشارحَ المذكور، ووصفه

أحيانًا بـ "المفتي" (ص 42، 43 وغيرها). وقد كان المفتي آنذاك في مدينة حيدرآباد السيد محمَّد مخدوم الحسيني مفتي المدرسة النظامية، وكان بينه وبين المعلمي علاقة كما يظهر من الرسالة السابعة والعشرين. فهل الشارح هو المفتي المذكور؟ وسواء كان هو أو غيره فأين شرحُه على الترمذي الآن؟ لقد بحثنا عنه في فهرس مكتبة الجامعة النظامية بحيدرآباد، فلم نعثر عليه. ولو وجدناه لاستفدنا منه في تصحيح هذا الكتاب وترتيبه، فقد اقتبس المعلمي نصوصًا كثيرةً منه في أوراق متفرقة دون ترقيم، ثم ردّ عليها وأطال الكلام في المناقشة. تكلَّم المؤلف في هذا الكتاب على ست مسائل، وناقش شارح الترمذي فيها: 1 - [المسألة الأولى: هل يجب قراءة الفاتحة في الصلاة؟]. لم يظهر عنوان هذه المسألة بسبب ضياع الصفحات الأولى من الكتاب، إلاَّ أن الكلام فيها على أحاديث وجوب القراءة في الصلاة، وتخريجها وبيان معناها وما يستنبط منها. وقد بيَّن المؤلف هنا ما وقع فيه شارح الترمذي من أخطاء في الكلام على الأحاديث. 2 - المسألة الثانية: هل تجب الفاتحة في كل ركعة؟ استدلَّ بالأحاديث على الأمر بالفاتحة في كل ركعة. واختصر المؤلف الكلام هنا، فلم يزد على صفحة. 3 - المسألة الثالثة: هل تجب الزيادة على الفاتحة؟ تكلم فيها على حديث: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب فصاعدًا" كما ورد في بعض رواياته، وقد فصَّل القول في زيادة "فصاعدًا"، وردَّ على شارح الترمذي فيما

ذهب إليه من بيان معنى "فصاعدًا" في الحديث، وتوسَّع في مناقشته في ضوء أقوال أئمة اللغة، مع بيان نظائره في الأحاديث والآثار. 4 - المسألة الرابعة: قراءة المأموم الفاتحة. وقد أطال فيها الكلام أكثر من مئة صفحة، استعرض فيها أدلة من أوجبها، ثم أدلة القائلين بأن المأموم لا يقرأ مطلقاً أو لا يقرأ فيما يجهر فيه الإِمام، وتكلم بتفصيل على آية الإنصات وسبب نزولها، وحديث: "وإذا قرأ فأنصتوا"، وحديث: "ما لي أنازع القرآن"، وقول الزهري: "فانتهى الناس عن القراءة ... "، وحديث: "من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة"، وحديث أبي بكرة: "زادك الله حرصًا ولا تعُدْ"، ودعوى الإجماع على عدم القراءة خلف الإِمام، وغير ذلك من الموضوعات والأبحاث. 5 - المسألة الخامسة: هل يزيد المأموم في الأُولَيين من الظهر والعصر على الفاتحة؟ ذكر المؤلف أولًا أدلة المنع من ذلك وأجاب عنها، ورجَّح الجواز، واستدلَّ لذلك ببعض الأحاديث والآثار. 6 - المسألة السادسة: إذا كان المأموم أصمَّ أو بعيدًا عن الإِمام لا يسمع قراءته، فهل يقرأ غير الفاتحة والإمام يجهر؟ ذكر فيها أن ظواهر الأحاديث المنعُ من ذلك من حيث ألفاظها، أما من حيث المعنى فالظاهر عدم المنع. ثم قال: والذي أختاره لنفسي عدم القراءة بغير الفاتحة لظواهر الأحاديث، ولأنه قد يُخِلّ باستماع غيره من المقتدين الذين يسمعون، وهذا ظاهر في الأصمّ وممكن في البعيد. إلى هنا ينتهي الكلام على المسائل الست، وبعده أوراق متفرقة كتبها المؤلف في الرد على شارح الترمذي ووضعها في أثناء الكتاب في مواضع،

26 - مسألة في إعادة الإمام الصلاة دون من صلى وراءه في الجماعة

فأفردناها وألحقناها بآخره، وفيها نقول من كلام الشارح ثم الرد عليه ومناقشته. 26 - مسألة في إعادة الإمام الصلاةَ دون من صلَّى وراءه في الجماعة: توجد نسختها ضمن المجموع رقم [4696] في ثلاث صفحات، وفيها السؤال والجواب. والسؤال هو ما دليل قول الفقهاء: "لو بان حدثُ الإِمام بعد الصلاة وقد صلَّى بجماعة، لزمته الإعادة دونهم". بدأ المؤلف الجواب ببيان أن الأصل في جميع الأعمال عدم الوجوب، فلا يجب علينا شيء إلا بدليل، وقد قال الله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}، فلا يلزم من بطلان صلاة الإِمام بطلانُ صلاة المأموم إلاَّ حيث وقع من المأموم تقصير. ولا يُنكَر أن بين الإِمام والمأموم رابطة قوية، بحيث يؤدي تمام صلاة الإِمام إلى تمام صلاة المأموم ونقصُها إلى نقصها، وكذا العكس. أما أن يؤدي بطلانها إلى بطلانها فلا يطلق ذلك. وقد استدل على ذلك ببعض الأحاديث والآثار. 27 - صيام ستة أيام من شوال: توجد نسخته بخط المؤلف في مكتبة الحرم المكي برقم [4911] في 15 صفحة طويلة. وفيها زيادات واستدراكات وضرب وشطب في بعض الصفحات، وملاحق وتتمات في مواضع. وهي تامة من أولها إلى آخرها، وقد حصل اضطراب في ترتيب بعض الصفحات، إلاّ أن ترقيم المؤلف عليها يدلُّنا على الترتيب الصحيح.

وقد ألَّف الشيخ هذه الرسالة ردًّا على من قال: إن صيامها بدعة، وإن حديثها موضوع لأنه تفرد به سعد بن سعيد الأنصاري، وقد طعن فيه أئمة الحديث. فردَّ على كونه بدعةً ببيان صحةِ الحديث، وعملِ بعض الصحابة والتابعين به، وإطباق المذاهب على استحباب صيامها. وأما القول بأنه موضوع فلا يُتصوَّر أن يصدر عن عارفٍ بالحديث، وأعجب من ذلك توجيه وضعه بأنه تفرد به سعد بن سعيد. قال المؤلف: "وستعلم حال سعد وتَعلم طرقَ الحديث". ثم ذكر أن هذا الحديث روي عن جماعة من الصحابة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقف المؤلف على رواية عشرةٍ منهم، وتكلم عليها في عشرة فصول: الفصل الأول: في حديث أبي أيوب. الفصل الثاني: في حكم الحديث. الفصل الثالث: في المتابعات. الفصل الرابع: في حديث ثوبان. الفصل الخامس: في حديث أبي هريرة. الفصل السادس: في حديث جابر. الفصل السابع: في بقية الأحاديث. الفصل الثامن: في الآثار. الفصل التاسع: في مذاهب الفقهاء. الفصل العاشر: في معنى الحديث.

28 - جواب الاستفتاء عن حقيقة الربا

أطال المؤلف الكلام في هذه الفصول، وقام بتحقيق جميع الأحاديث والآثار وبيان مذاهب الفقهاء بما يشفي ويكفي. وقد سبقه إلى التأليف في هذا الموضوع بعض المؤلفين، فللدمياطي (ت 705) "تحرير الأقوال في صوم الست من شوال"، وللعلائي (ت 761) "رفع الإشكال عن صيام ستة من شوال"، ولقاسم بن قطلوبغا (ت 879) "تحرير الأقوال في صوم الست من شوال" طبع في لقاء العشر الأواخر رقم 26، ولمحمد بن طولون الصالحي (ت 953) "تكميل الأعمال بإتباع رمضان بصوم ست من شوال" ذكره في "الفلك المشحون" (ص 88)، ولمرتضى الزبيدي (ت 1205) "الاحتفال بصوم الستّ من شوال". وجمع ابن الملقّن (ت 804) طُرق هذا الحديث وتكلم عليها في "تخريج أحاديث المهذب" كما أشار إليه في "البدر المنير" (5/ 752) وجمع العراقي طرق الحديث عن بضعة وعشرين رجلاً رووه عن سعد بن سعيد، كما في "فيض القدير" للمناوي (6/ 161). ولم يطلع المؤلف على شيء من هذه المؤلفات، بل قام بتتبع كتب الحديث والرجال والفقه بنفسه، وألَّف هذه الرسالة التي بين أيدينا. 28 - جواب الاستفتاء عن حقيقة الربا: وصل إلينا هذا الكتاب في دفترين: الأول في مكتبة الحرم المكي برقم [4244]، ويحتوي على المقدمة والقسم الثاني، وهو دفتر صغير عادي، والنص فيه ضمن الأوراق (5 - 42)، وقد أشار المؤلف في الورقة (13/ ب) إلى "ملحق طويل ص 333"، وقد وجدناه في الدفتر الثاني، فنقلناه إلى مكانه، وهذا الملحق في 12 صفحة من القطع الطويل.

والثاني برقم [4686]، ويحتوي على القسم الأول من الكتاب كما أشار إليه المؤلف في آخره. وهو دفتر طويل في 50 صفحة. ويلاحظ أن الصفحة 15 في الواقع 6 صفحات، رقَّمها المؤلف 15/ 1، 15/ 2 ... وهكذا إلى الأخير. والأوراق الستة الأولى من المخطوط مخرومة الأطراف ومبلولة، ذهب بسببها كثير من الكلمات والجمل في أعلى الصفحات وجوانبها، فأثبتنا ما استطعنا أن نقرأ منها، وتركنا البياض لما ضاع، ولا سبيل إلى استرجاعها إلاَّ إذا وُجِدت نسخة أخرى، والأمل في الحصول عليها ضعيف. كان سبب تأليفه أن بعض الفضلاء في حيدرآباد نشر سنة 1347 رسالة بعنوان "الاستفتاء في حقيقة الربا" أجلب فيها بخيله ورَجِله لتحليل ربا القرض، وأُرسِلتْ من طرف الصدارة العالية (مشيخة الإِسلام) إلى علماء الآفاق لِيُبدوا رأيهم فيها (¬1). فوردتْ بعض الأجوبة منهم، وأجودها جواب الشيخ أشرف علي التهانوي (ت 1362) بعنوان "كشف الدجى عن وجه الربا"، حرَّره الشيخ ظفر أحمد التهانوي تحت إشرافه. وقد راجع الشيخ المعلمي صاحب رسالة الاستفتاء وناقشه في بعض المباحث، وأراد أن يكتب عنها جوابًا بعد ما تنبَّه لدقائق في أحكام الربا وحِكَمه، واطلع على كلام الشاطبي في "الموافقات" وغيره، فألَّف هذا ¬

_ (¬1) نشر السيد رشيد رضا نصَّ الاستفتاء في مجلة "المنار" ثم ردَّ عليه وكتب مقالاً طويلاً في الربا (30/ 273، 419، 449).

الجواب وقسَّمه قسمين: الأول لبيان أحكام الربا وأنواعه، والثاني في البحث مع صاحب الاستفتاء. أما القسم الأول فسوف نلقي نظرةً سريعة لمعرفة محتوياته. بدأه الشيخ بمعرفة الحِكَم للأحكام الشرعية، وفوائد البحث عنها، ثم تطرق إلى الكلام على البيع وبيَّن أصوله، ثم انتقل إلى الحديث عن الربا، وأن ما ينشأ عنه من المفسدة غير موجود في البيع والقرض والهبة، وردّ على أولئك الذين يقولون: إن الربا ليس بظلم لكونه برضا الطرفين مثلما هو في البيع، ولأن فيه فائدةً للمقرض (لما يحصل له من النفع) والمستقرض (لأنه يتجر به فيستفيد). كما ردّ على شُبههم في بيان مضرة القرض (بدون ربا) بالنسبة للمقرِض، وذكر فوائد كثيرة للإقراض بدون ربًا. ثم وضع عنوان "مفاسد الربا"، وقدم لها بتمهيد في بيان أن المقصود من تشريع الأحكام هو تطبيق العدل، ومن أجله وُضعت العقوبات، وتحدث على سبيل المثال عن عقوبة الزنا لبيان أن حكمة التشريع تقتضي أن يكون بناء الأحكام على الغالب، وأن سنة الله فيها التدريج. ثم انتقل إلى الكلام على مفاسد الربا، وتوصَّل في النهاية على أن مَنْع الربا يضطرُّ كلَّ فردٍ من الأفراد إلى أن يكون عضوًا عاملًا نشيطًا، ينفع الناس وينتفع، ويفتح باب الغنى لأهل الكدّ والعناء، ويستخرج الأموال من أيدي من لا يستحقها. وبعد إيضاح الفرق بين البيع والربا ووجه التحليل والتحريم في الشريعة أورد سؤالاً، وهو أن الفقهاء يحلِّلون بيع السلعة نَساءً بأكثر من ثمنها نقدًا،

كما يجوِّزون أن يُسلِم الرجل عشرة دراهم في خمسة عشر صاعًا إلى الحصاد مثلاً، مع أن السعر حين العقد عشرة آصُع. فما الفرق بين المسألتين وبين الربا؟ أجاب عنه المؤلف بعدة أجوبة، وفصَّل الكلام فيها. ثم تكلم على الدين الممطول به والمال المغصوب، ولماذا لم تَفرِض الشريعة على المماطل والغاصب ربح المال مدةَ المطل والغصب عقوبةً له؟ وإنما شرعت عقوبته بالحبس والتعزير. ثم تحدث عن الربا مع الحربي الذي أجازه أبو حنيفة وحرَّمه الجمهور، وعن المضاربة التي يمكن لذوي الأموال من العجزة والكسالى أن يربحوا فيها ولكن بدون ضرر على غيرهم. وعنون بعد ذلك بقوله: "وجوه الربا"، وتكلم فيها عن بعض الصور التي تحتاج إلى إيضاح، مثل: العِينة، والانتفاع بالرهن (الذي يقال له: بيع العهدة، وبيع الوفاء ... إلى غير ذلك من الأسماء)، وأطال البحث فيهما، وذكر رأي الحنفية في بيع الوفاء واضطراب أقوالهم في كتبهم، وقام بتحرير المسألة على أصول مذهبهم، كما ردَّ على الحضارمة الشافعية الذين أجازوه بدعوى احتياج الناس واضطرارهم إلى هذه المعاملة، وبحثَ عن الضرورة وعن حكمها في فصل مستقل، ثم ردَّ عليهم في قولهم: إنهم لم يقصدوا الضرورة المتعارفة، وإنما أرادوا الحاجة. فأبطل المؤلف هذه أيضًا، وأدار الحوار معهم لبيان بطلانها، وذكر أن المفاسد التي تترتب على بيع الوفاء شديدة، وأشدها أنه ربًا في القرض، وعدَّد بعض المفاسد الأخرى. ثم وضع عنوان "ربا البيع"، وأورد الأحاديث الواردة في النهي عن بيع الذهب بالذهب إلاَّ مثلًا بمثلٍ سواءً بسواءٍ يدًا بيد، وهكذا الفضة بالفضة إلى

آخرها، وجواز بيع جنسٍ منها بجنس آخر متفاضلًا نقدًا، ومَنْعه نسيئةً. وعقد بعد ذلك فصلاً أوضح فيه الفرق الذي ذكره سابقًا بين القرض بربًا وبين بيع السلعة بثمن إلى أجل أزيد من ثمنها نقدًا، وبين السَّلَم في سلعة إلى أجلٍ بأقل من ثمنها نقدًا، وبيَّن أن العلة في الذهب والفضة الثمنية، وفي الأربعة الباقية الطعم أو القوت مع الادخار. ورجَّح أن العلة في النهي عن بيع الفضة بالذهب نساءً هو الربا فقط لأمور ذكرها، وأن العلة في الأربعة الأخرى يحتمل أن تكون الربا، ويحتمل أن تكون الاحتكار، وأن تكون مجموع الأمرين. وفي آخر هذا القسم عقد بابين لبيان أحكام هذه الأجناس الستة: الباب الأول في تبايعها مع النسيئة، وفيه فصلان: الفصل الأول فيما اتحد فيه جنس العوضين، تكلم عليه في فرعين: الأول فيما تظهر فيه زيادةٌ ما في العوض المؤجل لا يقابلها شيء في المعجل، والثاني فيما لم تظهر فيه زيادة ما في المؤجل. وذكر صورهما. والفصل الثاني: في بيع واحدٍ من الستة بآخر منها نسيئةً. الباب الثاني في تبايعها نقدًا، ذكر فيه أن الذي حرَّمه الشارع هو البيع بالزيادة والرجحان، فقد صحَّ قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فمن زاد أو ازداد فقد أربى"، وأرشد إلى المخلص من ذلك بقوله: "بعِ الجَمْعَ بالدراهم، ثم اشترِ بالدراهم جَنِيبًا"، وقال: "فإذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كلبف شئتم إذا كان يدًا بيدٍ". وتكلم المؤلف على معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا ربا إلاَّ في النسيئة"، وبيَّن كيف جمع العلماء بينه وبين الأحاديث الأخرى، ورجَّح أن الربا في عرف اللغة خاصّ بالنسيئة، وقد دلَّ القرآن وحديث "لا ربا إلاَّ في النسيئة" على أنه في

الشرع كذلك، وإطلاق الربا في البيع المحرم نقدًا إنما هو من باب التشبيه، والجامع بينهما أن كلاًّ منهما زيادة محرمة. وخصَّص فصلاً للكلام على الاحتكار وإيضاح علاقته بهذا الحكم، تحدث فيه عن احتكار الذهب والفضة، واحتكار بقية الأصناف، وتوصل إلى أن الربا والاحتكار أخوان، يتعاونان على الظلم والعدوان، ولذلك حرَّمهما الشرع. وذكر في الخاتمة ملخَّص ما ذكره سابقًا في موضوع الربا والاحتكار، وقال في آخرها: "المسألة تستدعي بسطًا لا أرى هذا محله". وأشار إلى أن هذا نهاية القسم الأول. أما القسم الثاني من الكتاب فهو في البحث مع صاحب الاستفتاء. ذكر المؤلف أولاً خلاصة الاستفتاء، وقال إن صاحبه لخَّصه في أربعة مقاصد: الأول: أن الربا المنهي عنه في القرآن مجمل عند الحنفية وغيرهم. الثاني: أن السنة فسَّرته بحديث عبادة وغيره: "الحنطة بالحنطة ... " وبالآثار في ربا الجاهلية، وهو الزيادة عند حلول أجل الدين في مقابل مدّ الأجل. والقرض ليس بدَين, لأنه لا يكون إلى أجل عند الفقهاء، فعلى هذا لا يكون الربا إلاَّ في البيع. الثالث: أن النفع المشروط في القرض ليس بربًا منصوص. الرابع: أن النفع المشروط في البيع لا يصح قياسه على الربا المنصوص، ولو صحَّ فالأحكام القياسية قابلة للتغيُّر بتغيُّر الزمان، فلا محيصَ من تحليله في هذا الزمان، كما قالوا بجواز الاستئجار على تعليم

القرآن والأذان والإمامة وغيرها، مع أن حرمة الاستئجار في بعض ذلك ثابت بالنص. تكلم المؤلف بعد ذلك على جميع هذه الأمور، وناقش صاحب الاستفتاء وردّ على حججه بتفصيل، وبيَّن وهاءها. وقد تكلم في أثنائها على معنى الربا في اللغة، وأنه في القرآن مبيَّن وليس مجملاً، وأن الزيادة المشروطة في القرض ربًا منصوص في الكتاب والسنة، ثم أورد بعض الشُّبه والمعارضات ودفعها. ثم عنون بقوله: "أدلة تقتضي التحريم وليس فيه لفظ الربا". ثم ذكر الإجماع على تحريم اشتراط الزيادة في القرض، ونقل بعض الآثار عن الصحابة والتابعين، وردَّ على قول صاحب الاستفتاء في أثر: إنه موقوف وليس في حكم المرفوع، وإنه متروك العمل، وإنه يعارضه الأحاديث الصحيحة, لأنه لا يصلح لبيان الربا المذكور في القرآن. وقد ناقش المؤلف جميع هذه الأمور، وتكلم على جميع الآثار الواردة في الباب، وقال في آخرها: هذه نصوص الصحابة والتابعين ما بين صحيح وما يقرب منه كلها متفقة على المنع من الزيادة المشروطة وتحريمها. وصاحب الاستفتاء لم يستطع أن يحكي حديثًا - ولو موضوعًا - ولا أثرًا عن صحابي أو تابعي أو فقيه يدلُّ على أن الزيادة المشروطة وما في معناها ليست بربًا، وإنما بيده أحاديث حسن القضاء وقياسٌ ساقط. تكلم المؤلف على أحاديث حسن القضاء والألفاظ الواردة بها، وبيَّن معناها، وردَّ على احتجاج صاحب الاستفتاء بها على تجويز اشتراط الزيادة في القرض. ثم تكلم على القياس في هذه المسألة، وناقش صاحب الاستفتاء في ذلك. ثم انتقل إلى الحديث عن تغيُّر الأحكام بتغيُّر الزمان،

29 - كشف الخفاء عن حكم بيع الوفاء

وقال إن هذا جرى على ألسنة بعض العلماء يريدون به شيئًا محدودًا، فأراد دعاة الضلالة في عصرنا أن يوسِّعوا دائرتَه، بحيث يزلزلون به قواعد الشريعة من أساسها. وفي آخر الكتاب تحدَّث المؤلف عن أحوال هذا العصر، وذكر أن المرض الحقيقي هو التبذير والكسل، ونتيجتهما الفقر، ثم ينشأ عن الفقر أمراض أخرى. والذي يُرخِّص في الربا إنما نظر إلى أمر واحد، وهو فقر جماعة المسلمين، وعلاجه هذا لا يُغني في ذلك شيئًا. وفقر جماعة المسلمين إنما نشأ عن التبذير والكسل وتوابعهما، فالتبعة عليهم. ولا يُعقَل أن يكون التقصير منهم والغرامة على الشريعة. ثم قام المؤلف بوصف أحوال المسلمين في حيدرآباد، فذكر أن نصف التبذير في الرسوم والعادات الاجتماعية، وثلثه في الملاهي، وسدسه في المعيشة، وفصَّل الكلام على هذه الأمور، وبيَّن العلاج وما يجب على العلماء والمرشدين بشأنها. وبه انتهى الكتاب. 29 - كشف الخفاء عن حكم بيع الوفاء: توجد نسخته ضمن الدفتر الذي فيه "جواب الاستفتاء عن حقيقة الربا" برقم [4244]، وهي أربع صفحات من القطع الصغير من آخر الدفتر، وقد كتبها المؤلف مقلوبًا على خلاف الكتاب السابق للتمييز بينهما، ولم يتمه. كتبه المؤلف عندما سأله بعض الإخوان عن حكم بيع الوفاء وبيع العهدة وغير ذلك من الأسماء، وهو شائع في بلاد حضرموت وكثير من البلدان. فراجع بعض ما تيسَّر من كتب علماء حضرموت، ونقل منها

30 - النظر في ورقة إقرار

نصوصًا، وتلخَّص له منها أمور: الأول: أن هذه المعاملة إذا كانت على ما ذكروه - من تقدُّم المواطأة ووقوع العقد باتًّا - حكمها في مذهب الشافعي ما قدَّمتْ من نفاذ العقد وبتاته، ويكون رضا المشتري قبل العقد بما تواطأ عليه وعدًا منه يُستحبُّ له الوفاء به ولا يجب. الثاني: أن العمدة في إلزام المشتري بالوفاء هو تقليد الإِمام مالك. الثالث: أنه يمكن الاعتماد في ذلك على مذهب أحمد في جواز البيع بشرط. الرابع: إمكان الاعتماد على مذهبه في جواز تأبيد الخيار. الخامس: إمكان الاعتماد على مذهب أبي حنيفة. السادس: العذر عن الخروج عن المذهب بالضرورة. السابع: اعتماد المتأخرين على عمل من قبلهم من العلماء. كان المؤلف يريد أن ينظر في هذه الأمور واحدًا واحدًا، ولكنه توقف في أثناء الكلام على الأمر الثاني، ولم يتمّه. وقد سبق في "جواب الاستفتاء عن حقيقة الربا" الكلام على بيع الوفاء، وتكلم فيه على بعض الأمور السابقة، فيؤخذ رأي المؤلف فيها من هناك. 30 - النظر في ورقة إقرار: توجد نسخته في مكتبة الحرم المكي ضمن المسوَّدات التي عثرنا عليها أخيرًا، وهي في ثلاث صفحات من القطع الطويل، وفي بعضى المواضع منها

31 - قضية في سكوت المدعى عليه عن الإقرار والإنكار

شطب وإلحاق وزيادات في الهوامش. تكلم فيه المؤلف على ألفاظ ورقةٍ يُفهم منها الإقرار ومناقضة الإقرار، وذكر أنه إذا نُظر إلى السياق وإلى تسامح العوامّ في ألفاظهم وإلى كيفية الاشتراك بين المقرّ وإخوته = لم تكن تلك الألفاظ ظاهرةً فيما يناقض الإقرار، بل هي محمولة على ما يوافقه. ثم شرح ما فيها من الألفاظ والعبارات مع الاستناد إلى نصوص الكتب من الفقه الشافعي. 31 - قضية في سكوت المدعى عليه عن الإقرار والإنكار: توجد مخطوطتها ضمن المجموع رقم [4696] في صفحتين. والقضية هي أن رجلين ادُّعِي عليهما قتلُ شخص عمدًا وعدوانًا، فأجابا أنهما هجما عليه لقصد ضربه لا قتله، وأخذا يضربانه، فاستلَّ سكّينًا من حزام أحدهما، فأمسكا يده، وتجاذبا السكّين، فوقعتْ به طعنةٌ في جانب ظهره الأيسر. وكلٌّ منهما قال: لا أدري ممن الطعنة، ثم قال أحدهما: أنا القاتل، ثم رُوجع الآخر على أن يُقرّ أو يُنكر، فأصرَّ على قوله: لا أدري ممن؟ تكلم المؤلف على هذه القضية في ضوء ما وجده في كتب الفقه الشافعي، وذكر أن كون لفظ "لا أدري" في فعل نفسه يُعتبر إقرارًا غير ظاهر، لأن مبنى الإقرار على اليقين، ولا نظير لها في باب الإقرار يُقاس عليه، ولكنها قد تؤدّي إلى ما هو في حكم الإقرار، بأن يُصرَّ المدَّعى عليه، فيحكم القاضي بأنه كالمنكر الناكل، ويحلف المدعي اليمين المردودة.

32 - الفسخ بالإعسار

32 - الفسخ بالإعسار: توجد النسخة الخطية منها في مكتبة الحرم المكي برقم [4707] في صفحة واحدة بقطع صغير ضمن مجموع. ذكر فيها المؤلف أن الفسخ بالإعسار ثابت في المذهب الشافعي، وإذا بحثنا عن علته ظهر لنا أن النكاح عقدٌ بمقابلٍ كالبيع، فهو إباحة الانتفاع بالبضع إلى مقابل الصداق والإنفاق. والمذهب أن المشتري إذا أعسر بالثمن أو كان ماله غائبًا بمسافة قصرٍ فللبائع الفسخ. وإذا بحثنا عن علة الفسخ بالإعسار ظهر لنا أنها تعذُّر تسليم العوض. والعلة موجودة فيما إذا غاب غيبةً منقطعةً، أو امتنع ولم يُقدَر على ضبطه. 33 - مسألتان في الضمان والالتزام: توجد مخطوطتهما ضمن المجموعة السابقة برقم [4707] في أربع صفحات، وفي هوامشها زيادات وإلحاقات. تكلم فيها الشيخ على قضيتين حكم فيهما القاضي بما هو مخالف للحق والصواب، ونقل من كتب المذهب الشافعي ما يُبيَّن ذلك. وقد حرَّر القضية الأولى في ربيع الثاني سنة 1337. 34 - مسألة الوقف في مرض الموت: هي في ثلاث صفحات من الأصل ضمن المجموعة السابقة برقم [4707]، وفي الصفحة الأخيرة منها كتابات على الهوامش وفي أولها نقص.

35 - الفوضى الدينية وتعدد الزوجات

نقل فيها الشيخ نصوصًا من كتب المذهب الشافعي تُصرِّح بأنه لو وقف في مرض الموت ما يخرج من ثلثه على ورثته بقدر أنصبائهم صحَّ، من غير احتياج إلى الإجازة. ثم ذكر ما يخالف هذا في الظاهر، وتكلم عليه في ضوء كتب المذهب. 35 - الفوضى الدينية وتعدُّد الزوجات: توجد مخطوطتها في مكتبة الحرم المكي ضمن المسوَّدات والأوراق التي عثرنا عليها أخيرًا، ولم تفهرس حتى الآن. وهي في ثمان صفحات من القطع الطويل، وفي كل صفحة منها 34 سطرًا. وفيها شطب كثير وطمس في بعض المواضع. ذكر الشيخ في مقدمتها أن حبّ الاشتهار بحرية الفكر جعل الناس يُغفِلون النظر في صواب الفكر وخطئه، وأصبحت حرية الفكر مرادفةً للخروج عما كان عليه الآباء والأجداد، فهل يستحق صاحبها أن يقال له حرَّ الفكر؟ ومن يترك تقليد أسلافه ويُقلِّد بعض الملحدين فهل خرج هذا من الرق إلى الحرية؟ كلّا، بل خرج من رقًّ إلى رقًّ. ثم تكلم على مسألة تعدد الزوجات، وبيَّن أنها مسألة معلومة من دين الإِسلام بالضرورة، بل ومن الفطرة ومن المصلحة. وردّ على الشبهة التي أثارها بعض المتأخرين استنادًا إلى آيتي سورة النساء (3، 129) أن إحداهما تُلزِم المسلم إذا خاف عدمَ العدل أن يقتصر على واحدة، والأخرى تُفيد أن كلَّ مسلم يعلم أنه لا يستطيع العدل، فأنَّى يتصور أن لا يخاف عدم العدل؟

36 - مسألة في رجل حنفي تزوج صغيرة بولاية أمها

ردَّ الشيخ على هذه الشبهة وبيَّن أن ظاهر القرآن لا يدلُّ على المنع، بل يدلُّ على الجواز. ثم فسَّر الآيتين تفسيرًا يوضّح المقصود منهما، وذكر أربعة أدلة بالتأمل في آية {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا} تدلُّ أن المراد بالعدل هنا العدل الكامل. ثم عنون بقوله: "تعدد الزوجات والفطرة" و"تعدد الزوجات والمصالح" ذكر تحتهما أمورًا تدلُّ على أن التعدد مناسب للفطرة وفيه مصالح عديدة. ثم تحدث تحت عنوان "مفاسد تعدد الزوجات" عن ثماني مفاسد يذكرها الناس، ونظر فيها واحدةً واحدةً، وبيَّن أنها أقلّ بمقابل المصالح. بل إن الزوج إن عدلَ عن طلاق زوجته ووقع في الزنا = تحصل به مفاسد أشدُّ من مفاسد التعدُّد. ثم عدَّدها، وقال: إن وراء ذلك مفاسد أخبث وأخبث، من فساد الأخلاق وخراب الدين وغير ذلك. 36 - مسألة في رجل حنفي تزوَّج صغيرة بولاية أمها: توجد نسختها في مكتبة الحرم المكي ضمن المسوَّدات التي لم تفهرس، وهي صفحتان من القطع الطويل، وقد أصابها البلل فطمسَ بعض الكلمات. وفي آخرها نقص. كتبها الشيخ ردًّا على سؤال السيد محمَّد مخدوم الحسيني مفتي المدرسة النظامية بحيدرآباد، ذكر فيها المذهب الشافعي في هذه المسألة نقلًا عن كتاب "الأم" وغيره، وبيَّن الخلاف بينه وبين المذهب الحنفي.

37 - مسألة في صبيين مسلمين أخذهما رئيس الكنيسة فنشآ على دينه وبلغا عليه وتزوجا ثم أسلما

37 - مسألة في صبيَّين مسلمين أخذهما رئيس الكنيسة فنشآ على دينه وبلغا عليه وتزوجا ثم أسلما: عثرنا عليها ضمن المسودات والأوراق غير المفهرسة في مكتبة الحرم المكي. وقد كتب الشيخ جواب هذه المسألة مرتين، والأولى كأنها مسوّدة، فقد شطب على كثير منها، وهي ناقصة. والثانية كاملة تحتوي على تفصيل أكثر، مع ذكر النصوص من كتب الفقه، وهي التي أثبتنا نصَّها هنا. وفيها تداخل وشطب وضرب على بعض الكلمات والفقرات. ذكر الشيخ أن لهذين الصبيين خمس حالات: 1 - حالة صغرهما قبل دخول الكنيسة. 2 - حالة دخولها والتلبس بالنصرانية. 3 - حالة بلوغهما على ذلك. 4 - حالة عقد الزواج بينهما. 5 - حالة عودهما إلى الإِسلام. ثم تكلم عن كل حالة بتفصيل، وذكر نصوص كتب الفقه الشافعي، واستنبط منها ما يبيِّن حكم ذينك الصبيين اللذين بلغا وتزوجا على النصرانية ثم أسلما.

38 - بحث في قصة بني هشام بن المغيرة واستئذانهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يزوجوا عليا رضي الله عنه

38 - بحث في قصة بني هشام بن المغيرة واستئذانهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يزوِّجوا عليًّا رضي الله عنه: توجد مخطوطته ضمن المسوَّدات والأوراق التي اكتشفناها أخيرًا في مكتبة الحرم المكي. ولم نجد منه إلا ورقةً واحدة بقطع طويلٍ وفيها زيادات وإلحاقات في الهوامش، وبحثنا عن البقية فلم نعثر عليها. وقد كان الشيخ أراد أن يتناول عدة مباحث متعلقة بالحديث المذكور، كما أشار إليها في ركن الصفحة في آخرها بقوله: (الأول: الطعن في المسور وابن الزبير، الثاني: صغر سنّهما، الثالث: التفرد، الرابع: استبعاد ذلك لما عُرِف من فضل علي وإجلاله للنبي - صلى الله عليه وسلم - وإكرامه لفاطمة، وبُغضه لأبي جهل وحزبه). والموجود منه يحتوي على تخريج الحديث الوارد في الباب، والكلام على المبحث الثاني فقط. وفيه تحقيق تاريخ ولادة راوي الحديث المسور بن مخرمة، فإن المؤرخين لم يختلفوا أن مولده كان بعد الهجرة، وقصة خِطبة علي كانت بعد مولد المسور بنحو من ست سنين أو سبع. ردَّ عليه الشيخ برواية الصحيحين في هذه القصة أن المسور قال: "فسمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب الناس في ذلك على منبره هذا، وأنا يومئذٍ محتلم". وتخريج الشيخين والإمام أحمد في "المسند" بدون إنكار لهذا اللفظ يدلُّ دلالةً ظاهرة على أن ما حكاه المؤرخون لا يُعرَف له أساس ثابت. ***

منهج التحقيق

منهج التحقيق سُلَّمت إليَّ أغلبُ هذه الرسائل الفقهية بعد نسخها من أصولها الخطية المحفوظة في مكتبة الحرم المكي، وقد قابلتُها على الأصول مقابلةً دقيقة، واضطررتُ إلى مراجعة أصولِ كثيرٍ منها، إما لرداءة التصوير، أو لاضطراب الأوراق، أو لمعرفة السياق الصحيح للتخريجات والزيادات بقلم المؤلف. وقد قام بنسخ كثيرٍ منها من الأصول أو المصورات مجموعة من الأفاضل تُراجَع أسماؤهم في مقدمة المشروع، وقمتُ بنسخ وقراءة ما لم يُنسَخْ منها. وكان أصعب هذه الرسائل "رسالة في المواريث" التي كثرت فيها الزيادات والإلحاقات من المؤلف، والتخريجات التي تبدأ من صفحة وتستمر إلى الصفحة التي قبلها أو بعدها في الهوامش، ثم الكتابة الدقيقة بين الأسطر في مواضع كثيرة منها، وأحيانًا تكون مقلوبة الصفحة. وبعد الانتهاء من النسخ والمقابلة قمتُ بضبط النصّ، ووضعه في فقرات متناسبة، وتخريج الأحاديث والأقوال والأشعار والنصوص من المصادر التي ذكرها المؤلف، ومن غيرها، وعلّقتُ تعليقات مختصرة للتنبيه على خطأ أو خلل في العبارة، أو فائدة تتعلق بالموضوع، واستدركتُ بعض الكلمات ووضعتُها بين المعكوفتين في النص للدلالة على أنها ليست من الأصل، وينبغي إضافتها ليستقيم السياق، ومثل هذه الزيادات قليلة، وكثير منها مأخوذ من المصادر التي ينقل منها المؤلف. وإذا كان هناك خرمٌ في الأصل أو بياض فإني أضع مكانه معكوفتين أو نقطًا، وأشير إلى ذلك في الهامش في بعض الأحيان، وقد لا أشير إذا كثر ذلك وتتابع.

وقد أشار المؤلف إلى بعض المصادر بذكر الجزء والصفحة، فأبقيتها كما هي في النصّ، وأحلتُ إلى الطبعات المحققة المتداولة في الهامش، وإذا كانت الطبعة التي يذكرها المؤلف هي المعروفة فاكتفيتُ بالإحالة إليها في النصّ، ولم أكرَّرها في الهامش. ورسائل هذه المجموعة كانت متفرقة، كتبت في فترات مختلفة، ويصعب ترتيبها تاريخيًا، فرتبتها حسب الأبواب الفقهية، فقدَّمتُ منها ما كانت متعلقة بالعبادات، وأتبعتُها بما كانت في المعاملات. ثم صنعتُ لها فهارس لفظية وعلمية تكشف عمّا فيها من أبحاث وتحقيقات نادرة، وفوائد واستدراكات مهمة، تدلُّ على تفوق العلامة المعلمي على كثير من أهل عصره في علوم الحديث والفقه والرجال. وفي الختام أدعو الله أن يوفقنا جميعًا لخدمة ديننا ولغتنا، وإخراج دفائن الكنوز من تراثنا، إنه سميع مجيب. محمَّد عزير شمس

نماذج من النُّسخ الخطية

القبلة وقضاء الحاجة

فرضية الجمعة وسبب تسميتها

سنة الجمعة القبلية

حقيقة الوتر ومسماه في الشرع

حقيقة الوتر ومسماه في الشرع

مقام إبراهيم

توسعة المسعى

رسالة في سير النبي صلَّى الله عليه وسلم في حجه بين المشاعر

فلسفة الأعياد في الإِسلام

الحكم المشروع في الطلاق المجموع

توكيل الولي غير المجبر

الإِسلام والتسعير ونحوه

أسئلة وأجوبة في المعاملات

جواب الاستفتاء عن حقيقة الربا

رسالة في المواريث

رسالة في المواريث

النص المحقق

آثَار الشّيخ العَلّامَة عبَد الرّحمن بن يحيى المعَلِّمِيّ (16) مجموع رسائل الفقه تأليف الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني 1312 هـ - 1386 هـ تحقيق محمد عزير شمس المجلد الأول وفق المنهج المعتمد من الشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد (رحمه الله تعالى) تمويل مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

الرسالة الأولى القبلة وقضاء الحاجة

الرسالة الأولى القِبلة وقضاء الحاجة

أحاديث النهي ثابتة في الصحيح

بسم الله الرحمن الرحيم القِبْلة وقضاء الحاجة أحاديث النهي ثابتة في الصحيح: 1 - ففي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي أيوب الأنصاري، فرواه البخاري (¬1) عن آدم عن ابن أبي ذئب عن الزهري عن عطاء بن يزيد عن أبي أيوب مرفوعًا: "إذا أتى أحدُكم الغائطَ، فلا يستقبل القبلة، ولا يُولِّها ظهرَه، شرقوا أو غرِّبوا". وعن ابن المديني عن ابن عيينة عن الزهري بسنده: "إذا أتيتم الغائطَ، فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها، ولكن شرِّقوا أو غرِّبوا" (¬2). ورواه مسلم (¬3) عن يحيى بن يحيى عن ابن عيينة بسنده مثله، إلا أنه قال: "ولا تستدبروها ببول ولا غائط، ولكن ... ". وبمعناه رواه عن سفيان بن عيينة جماعة، منهم: أبو نعيم عند الدارمي (¬4)، ومُسَدَّد عند أبي داود (¬5)، ومحمد بن منصور عند النسائي (¬6)، ¬

_ (¬1) رقم (144). (¬2) البخاري (394). (¬3) رقم (264). (¬4) رقم (671). (¬5) رقم (9). (¬6) (1/ 22).

وسعيد بن عبد الرحمن المخزومي عند الترمذي (¬1). ورواه الإِمام الشافعي في كتاب "اختلاف الحديث" بهامش "الأم" (7/ 269) (¬2) عن ابن عيينة بسنده: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تُستقبل القبلة بغائط أو بول، ولكن شرِّقوا أو غرِّبوا". ورواه الإِمام أحمد في "المسند" (5/ 421) عن ابن عيينة بسنده: "لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول، ولكن شرِّقوا أو غرِّبوا". ورواه الزعفرانيُّ عن ابن عيينة بسنده عن أبي أيوب الأنصاري قال: "لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول، ولا تستدبروها". وقال مرةً: يبلغُ به النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -. "سنن البيهقي" (1/ 91). وبالجملة؛ فالأكثر عن ابن عيينة إثبات قوله: "إذا أتيتم الغائط" أو معناها. وقد تابعه ابن أبي ذئب كما مرَّ، ومعمر عند النسائي (¬3) وعند أحمد في "المسند" (5/ 416 و417 و421)، وفي بعضها: "الخلاء" بدل "الغائط"، ويونس عند ابن ماجه (¬4)، ولفظه: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يستقبل الذي يذهب إلى الغائط القِبْلةَ، وقال: "شرِّقوا أو غرَّبوا". ¬

_ (¬1) رقم (8). (¬2) (10/ 219) ط. دار الوفاء. (¬3) (1/ 23). (¬4) رقم (318).

وكذلك رواه إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن رافع بن إسحاق عن أبي أيوب، رواه عنه مالك في "الموطأ" (¬1)، ولفظه: "إذا ذهب أحدكم الغائطَ أو البولَ، فلا يستقبلِ القبلةَ ولا يستدبِرْها بفرجه". هكذا في "موطأ يحيى بن يحيى". ورواه أحمد في "المسند" (5/ 414) عن إسحاق بن عيسى عن مالك بلفظ: "إذا ذهبَ أحدُكم إلى الغائط أو البول، فلا يستقبلِ القبلةَ ولا يستدبِرْها". وبهذا اللفظ رواه ابن القاسم عن مالك عند النسائي (¬2). ورواه أحمد (5/ 415) عن عفان عن همام عن إسحاق بسنده، ولفظه: "نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نستقبل القبلتين ونستدبرهما" وقال همام: يعني الغائطَ والبولَ. وأخرجه البيهقي (¬3) من طريق عمر بن ثابت عن أبي أيوب مرفوعًا: "لا تستقبلوا القبلةَ ولا تستدبروها بغائط ولا بول، ولكن شرِّقوا أو غرِّبوا". 2 - وفي "صحيح مسلم" (¬4) من طريق سُهَيل بن أبي صالح عن القعقاع بن حكيم عن أبي صالح [عن] أبي هريرة مرفوعًا: "إذا جلس أحدكم على حاجته فلا يستقبل القبلةَ ولا يستدبِرْها". ¬

_ (¬1) (1/ 193). (¬2) (1/ 22, 23). (¬3) في السنن الكبرى (1/ 91) ولكن من طريق عطاء بن يزيد عن أبي أيوب. (¬4) رقم (265).

وقد رواه أبو داود (¬1) من طريق ابن عجلان عن القعقاع بسنده، ولفظه: " ... فإذا أتى أحدكم الغائطَ فلا يستقبلِ القبلةَ ولا يستدبِرْها". وهو عند النسائي (¬2) بلفظ: "إذا ذهب أحدكم إلى الخلاء فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها". وهو في "سنن البيهقي" (1/ 91) من طُرق عن ابن عجلان بلفظ: "فإذا ذهب أحدكم إلى الغائط"، وفي رواية: "فإذا ذهب أحدكم الخلاءَ". وزاد في رواية: "لغائط ولا بول". ورواه الشافعي عن ابن عيينة عن ابن عجلان بسنده: "فإذا ذهب أحدكم إلى الغائط، فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها بغائط ولا ببول" هامش "الأم" (1/ 11) (¬3). 3 - وفي "صحيح مسلم" (¬4) من حديث سلمان: "نهانا - يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يستنجي أحدُنا بيمينه أو يستقبل القبلة". وأخرجه أبو داود والنسائي (¬5) وغيرهما بزيادة: "بغائط أو بول". 4 - وفي "مسند أحمد" (4/ 190 - 191) من طرق، و"سنن ابن ماجه" (¬6) عن عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي قال: أنا أول من سمع ¬

_ (¬1) رقم (8). (¬2) (1/ 22). وفيه "الغائط" بدل "الخلاء". (¬3) (2/ 48) ط. دار الوفاء. (¬4) رقم (262). (¬5) أبو داود (7) والنسائي (1/ 44). (¬6) رقم (317).

النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يبولن أحدكم مستقبلَ القبلة"، وأنا أول من حدَّث الناس بذلك. وسنده [صحيح] على شرط الشيخين، وصححه ابن حبان (¬1)، لكن نقل بعضهم عن ابن يونس أنه معلول. والله أعلم. 5 - وفي "سنن أبي داود" وابن ماجه (¬2) وغيرهما من طريق أبي زيد مولي بني ثعلبة عن معقل بن أبي معقل الأسدي قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نستقبل القبلتين ببول أو غائط". وأبو زيد لم يُوَثَّق، وقال ابن المديني: ليس بالمعروف. 6 - وفي "سنن ابن ماجه" (¬3) من طريق ابن لهيعة عن أبي الزبير عن جابر حدثني أبو سعيد الخدري: "أنه شهد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى أن نستقبل القبلة بغائط أو ببول". وابن لهيعة ضعيف. [ص 2] 7 - وفي "مسند أحمد" (3/ 487): ثنا روح وعبد الرزاق قال (¬4) (كذا) أنا ابن جريج قال: حدثني عبد الكريم بن أبي المُخَارق أن الوليد بن مالك بن عبد القيس أخبره - وقال عبد الرزاق: من عبد القيس - أن ¬

_ (¬1) رقم (1419). (¬2) أبو داود (10) وابن ماجه (319). قال البوصيري: أبو زيد مجهول الحال، فالحديث ضعيف به. (¬3) رقم (320). (¬4) في طبعة الرسالة (15984): "قالا" على الصواب فيزول استشكال المؤلف رحمه الله.

محمَّد بن قيس مولى سهل بن حُنَيف من بني ساعدة أخبره أن سهلاً أخبره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثه، قال: "أنت رسولي إلى أهل مكة .... وإذا تخليتم فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها". وأخرجه الدارمي (1/ 170) ثم قال: عبد الكريم شبه المتروك. وفي الباب: عن أبي أمامة أشار إليه الترمذي، وعن سهل بن سعد، وأسامة بن زيد، وسراقة بن مالك - ورجح أبو حاتم وقْفَه - وعن أسامة بن زيد، وعن نافع عن رجل من الأنصار عن أبيه، وهو في "الموطأ" (¬1). إلى غير ذلك، وتأتي في أحاديث الرخصة، وفيها دلالة على هذا في الجملة. والذي علينا أن ننظر في قوله: "إذا أتى أحدكم الغائط" هل يفيد إخراج الأبنية؟ فأقول: المتبادر من هذه العبارة أنها كناية عن إرادة قضاء الحاجة، كما ذكروا أن قوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء: 43] كناية عن الحَدَث، ومن شأن الكناية أن يكون النظر فيها إلى المعنى الكنائي، سواءً أوافق الحقيقة أم لا، كما ذكروه في: طويل النجاد، وكثير الرماد ونحوهما، كما إذا قيل: إن اللصوص نهبوا قافلة وذهبوا. فيقال: يد السلطان طويلة. أي: أن قدرته متمكنة من أخذهم، ولو بعدوا. ويؤيد أن المعنى هو هذا أمور: منها: أن الصحابي فهم العموم، كما في رواية عنه في الصحيحين (¬2) ¬

_ (¬1) (1/ 193). (¬2) البخاري (394) ومسلم (264).

وغيرهما، ذكر الحديث ثم قال: "فقدمنا الشامَ، فوجدنا مراحيضَ قد بُنِيت قِبَلَ القبلة، فننحرف عنها ونستغفر الله". قال الشافعي: "وسمع أبو أيوب الأنصاري النهي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يعلم ما علم ابن عمر من استقباله بيتَ المقدس لحاجته، فخاف المأثم في أن يجلس على مرحاضٍ مستقبلَ الكعبة، وتحرَّف لئلا يستقبل الكعبة، وهكذا يجب عليه إذا لم يعرف غيره". كتاب اختلاف الحديث بهامش "الأم" (7/ 270 - 271) (¬1). ومنها: أنه كذلك فهم الرواة، فأسقط بعضهم العبارة المذكورة: "إذا أتى أحدكم الغائط" كما مر في رواية أحمد والزعفراني عن ابن عيينة، وأسقط بعضهم قوله: "ببول أو غائط" كما مر عن صحيح البخاري. فلو حملت تلك الرواية على الحقيقة لشملت من أتى مكانًا منخفضًا، فمشى فيه أو وقف أو جلس لغير قضاء الحاجة. وتصرف بعضهم فيها، فقال بعضهم: "إذا أتى أحدكم الخلاء". وقال غيره: "إذا جلس أحدكم لحاجته". إلى غير ذلك، كما مر بعضه. ومنها: أنه لا فرق في المعنى بين المكان المنخفض في الفضاء، وهو حقيقة الغائط لغة، وبين المكان المرتفع والمكان المستوي، بل ولا بين الفضاء والبيوت؛ لأننا إن قلنا بأن الانحراف يكفي، فواضح. وإن قلنا: لا بد أن تجعل القبلة عن اليمين أو اليسار، وأن [هذا] قد يتعسَّر في المراحيض، فهذا لا يدفع أصل العموم؛ لأن أكثر العمومات مقيدة ¬

_ (¬1) (10/ 221) ط. دار الوفاء.

بالاستطاعة، قال الله تبارك وتعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]. بل يمكننا أن نقول: إن تبادر المعنى الكنائي من العبارة المذكورة يدل أنها صارت حقيقةً عرفيةً فيه. فإن قيل: فما فائدة الإتيان بها مع "إذا"؟ فإنه لو اجتزئ عنها بقوله: "لا تستقبلوا القبلة ببول ولا غائط" لصح المعنى. قلت: من فائدتها التنبيه على أنه ينبغي للإنسان أن يستحضر هذا الحكم قبل القعود, لأنه إذا لم يفعل قد يغفل عنه، وقد لا يتذكره إلا بعد الشروع، فيشق عليه التحرف. والحاصل أنه لا حجة في العبارة المذكورة لمن يُخصِّص الحكم المذكور. والله أعلم. ***

أحاديث الرخصة

أحاديث الرخصة 1 - حديث ابن عمر في الصحيحين (¬1) وغيرهما، وهو من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري وعبيد الله بن عمر العمري عن محمَّد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع عن ابن عمر. فأما رواية يحيى؛ ففي "الموطأ" (¬2) الرخصة في استقبال القبلة لبولٍ أو غائط، مالك عن يحيى بن سعيد عن محمَّد بن يحيى بن حَبَّان عن عمه واسع بن حَبَّان عن عبد الله بن عمر أنه كان يقول: إن أُناسًا يقولون: إذا قعدت لحاجتك فلا تستقبل القبلة ولا بيت المقدس. قال عبد الله: لقد ارتقيتُ على ظهر بيتٍ لنا، فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على لَبِنَتين مستقبلَ بيت المقدس لحاجته ... ". "الموطأ" بهامش شرح الباجي (1/ 336). وأخرجه الشافعي عن مالك. هامش "الأم" () (¬3). وقال البخاري (¬4): باب من تبرز على لبنتين. حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن يحيى ... " فذكره، وكذلك رواه غيرهم عن مالك. وكذلك أخرجه مسلم (¬5) عن القعنبي عن سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد الأنصاري. ¬

_ (¬1) البخاري (145، 148) ومسلم (266). (¬2) (1/ 193، 194). (¬3) كذا في الأصل دون تقييد الصفحة. وهو في "الأم" (10/ 220) ط. دار الوفاء. (¬4) الصحيح مع الفتح (1/ 246، 247). (¬5) رقم (266).

وأخرجه الدارقطني (¬1) من طريق هشيم عن يحيى عن محمَّد عن واسع: سمعت ابن عمر يقول: ظهرتُ على إجَّارٍ (¬2) على بيت حفصة في ساعة لم أظنَّ [أحدًا يخرج في] تلك الساعة، فاطلعت فإذا أنا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - على لبنتين مستقبلَ بيتِ المقدس". وقال البخاري (¬3): باب التبرز في البيوت. قال: حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا يزيد (هو ابن هارون) قال أخبرنا يحيى (وهو ابن سعيد الأنصاري) .... فذكره بنحو لفظ "الموطأ". وكذلك رواه عن يزيد أحمد في "المسند" (2/ 41)، والدارمي في "مسنده" (1/ 17)، وأبو بكر بن خلاد ومحمد بن يحيى عند ابن ماجه (¬4)، ولكن سقط منه قوله: "ولا بيت المقدس". وأخرجه البيهقي في "السنن" (1/ 92) عن الحاكم عن ابن الأخرم عن إبراهيم بن عبد الله عن يزيد بن هارون بسنده، وفيه: "على لبنتينِ لحاجته مستقبلَ الشام مستدبرَ القبلة". كذا قال! وإبراهيم بن عبد الله هو السعدي النيسابوري، قال الذهبي في "الميزان" (¬5): صدوق. قال الحاكم: كان يَستخفُّ بمسلم، فغمزه مسلم بلا حجة. ¬

_ (¬1) في السنن (1/ 61). (¬2) الإجَّار: السطح بلغة أهل الشام والحجاز. (¬3) الصحيح مع الفتح (1/ 250). (¬4) رقم (322). (¬5) (1/ 44).

أقول: صنيعه في هذا الحديث مما يصلح حجة لمسلم، فإن الناس قالوا عن يزيد وعن غير يزيد عن يحيى: "مستقبلاً بيت المقدس"، وقال إبراهيم هذا: "مستقبل الشام مستدبر القبلة". انتقل ذهنه إلى رواية عبيد الله، كما يأتي. وأما رواية عبيد الله ففي الصحيحين وغيرهما، وليس فيه قوله: "إن ناسًا يقولون"، وإنما هو من قوله: "ارتقيتُ على ظهر ... "، ولفظه في آخره عند مسلم: "مستقبل الشام مستدبر القبلة"، وعند البخاري: "مستدبر القبلة مستقبل الشام". هكذا اختلف الرواة عن عبيد الله في تقديم إحدى الصفتين على الأخرى، وجاء في بعض الروايات "مستدبر الكعبة"، وفي أخرى "مستدبر البيت". ولم يقل "مستقبلاً بيت المقدس", لأن مَن بالمدينة إذا استقبل [ص 3] بيت المقدس متحريًا، لم يكن مستدبرَ الكعبة، بل يكون متحرفًا عنها شرقًا، فعبر بقوله: "مستقبل الشام" لأن مَن بالمدينة إذا استدبر الكعبة متحريًا، كان مستقبلاً مشارقَ الشام. ولقائل أن يقول: فيما ذكرته نظر: أولاً: لاحتمال أن يكون ابن عمر قال مرةً كما ذكر يحيى، ومرة كما ذكر عبيد الله، وحفظ واسعٌ اللفظينِ، وحدَّث بهذا تارة، وبذاك أخرى، وكذلك محمَّد بن يحيى، ثم سمع يحيى من محمدٍ أحدَ اللفظين، وعبيد الله الآخر. فإذا سلمنا أن ابن عمر إنما قال أحد اللفظين كما تدل عليه رواية مسلم

وغيره عن القعنبي عن سليمان بن بلال عن يحيى عن محمَّد عن واسع قال: كنت أصلي في المسجد وعبد الله بن عمر مُسنِدٌ ظهرَه إلى القبلة [فلما] قضيتُ صلاتي انصرفتُ إليه من شِقِّي، فقال عبد الله: يقول ناس .... "، فدل هذا على أن سماع واسعٍ من ابن عمر إنما كان في هذه الواقعة، ويبعد أن يجمع ابن عمر بين اللفظين، فقد يكون التصرف من واسع، عبَّر مرة بهذا، ومرة بهذا، أو من محمَّد، فحفظ عنه يحيى إحدى العبارتين، وحفظ عبيد الله الأخرى. وأما ثانيًا: فإذا سلمنا أن واسعًا إنما أتى بإحدى العبارتين، وكذلك محمَّد, لأن الظاهر الرواية باللفظ، ولم يقم دليل على خلاف ذلك في حقِّ واسعٍ ولا محمدٍ، فغاية الأمران يرجح قول يحيى "مستقبلاً بيت المقدس" على قول عبيد الله "مستقبل الشام"؛ لأنه يبعد الإتيان باللفظين جميعًا، ولأن المعنى متقارب. فأما قول عبيد الله: "مستدبر القبلة، أو الكعبة، أو البيت"، فهي زيادة من ثقة ضابط فوجب قبولها، فعلى هذا يترجح أن يكون أصل لفظ ابن عمر "مستقبلاً بيتَ المقدس مستدبرَ القبلةِ"، ولَأن يُظَنَّ بيحيى أنه ترك هذه الزيادة "مستدبر القبلة" أقربُ من أن يُظَنَّ بعبيد الله أنه زادها بناءً على فهمه. أقول: هذا متجه، ولكن قد بيّنَّا أن مَن بالمدينة إذا استقبل بيت المقدس تمامًا لم يكن مستدبر الكعبة تمامًا، بل يكون منحرفًا عنها شرقًا. فإن قلت: قد يكون أراد ببيت المقدس الشام، فإن مَن بالمدينة إذا استدبر الكعبة تمامًا، كان مستقبلاً مشارق الشام، ويكون هذا هو الحامل لعبيد الله على تعبيره بقوله: "مستقبل الشام".

قلت: قد يعكس هذا فيقال: أراد بقوله: "مستدبر القبلة" أي مستدبرًا جهتها في الجملة، فإن مَن بالمدينة إذا استقبل بيت المقدس تمامًا كان مستدبرًا القبلة في الجملة، أي: أن البيت حينئذٍ ليس أمامه، ولا عن يمينه ولا عن يساره، بل هو من خلفه مائلاً إلى يساره. فإن قلت: يُرجَّح الأولَ قولُ ابن عمر: "إن أُناسًا يقولون ... فلا تستقبل القبلة"، وإنما يكون للقصة علاقة بهذا إذا كان فيها استدبار القبلة تمامًا، فيقاس الاستقبال على الاستدبار. قلت: ويُرجِّح الثانيَ قولُ ابن عمر: "ولا بيت المقدس"، وإنما يكون للقصة علاقةٌ باستقبال بيت المقدس إذا كان فيها استقباله تمامًا. فإن قلت: فما الذي يتجه؟ قلت: كلام ابن عمر يحتمل وجهين: الأول: أن يكون قوله: "إن أُناسًا يقولون ... فلا تستقبل القبلة، ولا بيت المقدس" لم يقصد به إنكار كل من الأمرين، وإنما قصد به إنكار تسوية بيت المقدس بالقبلة، فيتحصل من هذا أنه إنما أنكر النهي عن استقبال بيت المقدس، فكأنه قال: يقولون: لا تستقبل القبلة ولا بيت المقدس، فيسوُّون بينهما، وإنما الثابت النهي عن استقبال القبلة فقط، وإلى هذا ذهب العيني (¬1). الوجه الثاني: أن يكون من رأي ابن عمر أن الاستقبال والاستدبار يكفي فيهما الجهة، ولا يقدح فيه التحرف عن العين، فمَن بالمدينة إذا استقبل بيت ¬

_ (¬1) في "عمدة القاري" (2/ 282).

المقدس عينه، فقد استدبر جهة القبلة، وإن لم يكن مستدبرًا لعين الكعبة تمامًا، ويرى أنه إذا جاز مثل هذا جاز استدبار البيت عينه، وكذلك من بالمدينة إذا استدبر البيت تمامًا فقد استقبل جهة بيت المقدس، وإن لم يكن مستقبلاً لعين بيت المقدس، وإذا جاز هذا جاز استقبال عين بيت المقدس. [ص 4] وعلى كل حال، فقد ترجح في الرواية قوله: "مستقبلاً بيت المقدس مستدبرًا القبلة"، وظاهر قوله: "مستقبلاً بيت المقدس" استقباله تمامًا، وحينئذٍ فاستدبار القبلة ليس بمعنى استدبار البيت تمامًا، بل بالتحرف عنه إلى جهة الشرق. [ص 5] هذه الألفاظ الصحيحة صريحة في أن المدار على استقبال القبلة بالنجس حال خروجه من أحد الفرجين، وقد عورضت بحديثين: الأول: حديث الصحيحين عن ابن عمر قال: "إن ناسًا يقولون: إذا قعدت على حاجتك، فلا تستقبل القبلة ولا بيت المقدس، فقال عبد الله بن عمر: فلقد ارتقيتُ يومًا على ظهر بيتٍ لنا، فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على لَبِنَتين مستقبلاً بيت المقدس لحاجته" لفظ البخاري (¬1). وفي رواية (¬2): "مستقبل الشام، مستدبر القبلة". الحديث الثاني: أخرج أحمد وأبو داود وابن خزيمة والحاكم في المستدرك (¬3) وقال: صحيح على شرط مسلم، وأقره الذهبي، بسند صحيح ¬

_ (¬1) رقم (145). (¬2) رقم (148). (¬3) أحمد (3/ 360) وأبو داود (13) وابن خزيمة (58) والحاكم (1/ 154).

إلى ابن إسحاق حدثني أبان بن صالح عن مجاهد عن جابر قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد نهانا أن نستدبر القبلة أو نستقبلها بفروجنا إذا أهرقنا الماء، ثم رأيناه قبل موته وهو يبول مستقبل القبلة". وحديث ثالث: اتفق البخاري وأبو حاتم وغيرهما على تعليله. انظره في ترجمة خالد بن أبي الصلت من التهذيب (¬1). فمن الناس من أخذ بهذين الحديثين، وقال: إنهما ناسخان للنهي، فإن الأول أباح الاستدبار، والثاني أباح الاستقبال. وفرق جماعة - كمالك والشافعي وغيرهما - بين البناء والفضاء، فحملوا النهي على الفضاء، والفعل في الحديثين على البناء. ومن هؤلاء من زاد فقال: فالإباحة في الفضاء إذا كان بينه وبين القبلة ساتر، ويستدل لهذا بما رواه الحاكم في "المستدرك" (¬2) وغيره من طريق الحسن بن ذكوان عن مروان الأصفر قال: رأيت ابن عمر أناخ راحلته مستقبل القبلة ثم جلس يبول إليها، فقلت: يا أبا عبد الرحمن! أليس قد نُهي عن هذا؟ قال: إنما نُهي عن ذلك في الفضاء، فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس به" قال الحاكم: صحيح على شرط البخاري، فقد احتج بالحسن بن ذكوان. وللشافعية كلام طويل في تقرير المسألة وتفصيله، يقيسون فيه على ¬

_ (¬1) (3/ 97). والحديث أخرجه ابن ماجه (324) عن عائشة. (¬2) (1/ 154).

سُترة المصلي في الجملة. ومن أهل العلم من بقي على عموم النهي، وهو الحق إن شاء الله تعالى. فأما حديث ابن عمر فليس بصريح في المخالفة؛ لاحتماله أن مقصود ابن عمر إنما هو الإنكار على من يُسوَّي بين الكعبة وبيت المقدس، وبيان أن استقبال بيت المقدس غير محظور، ويكون رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - قاعدًا يبول مستقبل بيت المقدس، ولا يلزم من ذلك إخلال في حق الكعبة؛ لأن استدبار البائل لها، ولا سيَّما إذا كان مستور الدبر، كما هو المعروف في عادة العرب؛ لأن غالب لباسهم الأزر، فأما من زعم أن مثل هذه الحال داخلة في النهي، فقد أبطل. أما أولاً: فلأن الروايات الصحيحة التي قدمتُها لا تشمل هذه الحال، فإن جاء في بعض الروايات ما يظهر منه شمولها فهو من تصرف الرواة، فلا يُعبأ به، والواجب في ذلك حمل المطلق على المقيد. وأما ثانيًا: فالمعقول أن هذه الحال أبلغ في احترام القبلة مِمَّا ثبت الإذن به، واتفق عليه الناس، وهو أن يشرق أو يغرب من كانت قبلته في الشمال أو الجنوب. فإن قيل: إن فيه مواجهتها بالدُّبر. قلت: مثله مباح إجماعًا في المشي والجلوس وغير ذلك، ونظيره المفروض من استقبالها في الصلاة، مع أن فيه مواجهتها بالقُبُل. فإن قيل: فإن قول ابن عمر: "مستدبر القبلة" قد يُشعِر بخلاف ما ذكرتَ.

قلت: قال الحافظ في "الفتح" (¬1): [ولم يقع في رواية يحيى]: "مستدبر القبلة" أي الكعبة، كما في رواية عبيد الله بن عمر؛ لأن ذلك من لازمِ مَن استقبل الشام [بالمدينة، وإنما ذكرت في رواية عبيد الله] للتأكيد والتصريح به. [ص 6] وقد يورد على ما تقدم أمور: الأول: أن الأئمة فهموا من رواية يحيى مثل ما يُفهَم من رواية عبيد الله ففي "الموطأ" (¬2): "الرخصة في استقبال القبلة لبول أو غائط"، وذكر رواية يحيى. وذكر الشافعي في كتاب اختلاف الحديث (¬3) رواية يحيى، واحتج بها على الرخصة في البيوت، وقال البخاري في "الصحيح" (¬4): "باب من تبرَّز على لبنتين"، ثم ذكر رواية يحيى، ولفظ التبرز ظاهر في التغوط، ثم قال: "باب التبرز في البيوت"، وذكر القصة من الوجهين. الأمر الثاني: ما ذكرته من أن مَن بالمدينة إذا استقبل بيت المقدس تمامًا لم يكن مستدبر الكعبة تمامًا، بل يكون متحرفًا عنها إلى جهة المشرق = صحيح في نفسه، ولكن قد يقال: لا أثر له، أما على القول بالتوسعة في القبلة، فأهل المدينة قبلتهم في الجنوب كله؛ لأن البيت جنوبهم، كما دل عليه ¬

_ (¬1) (1/ 250). (¬2) (1/ 193). (¬3) مع "الأم" (10/ 220). (¬4) مع "الفتح" (1/ 246، 250).

الحديث الذي صححه الترمذي (¬1) وغيره: "ما بين المشرق والمغرب قبلة". بل في حديث أبي أيوب في هذا الباب: "ولكن شرِّقوا أو غرَّبوا". فدل على أن التحرف اليسير لا يكفي، بل لا بد أن تكون القبلة عن يمين قاضي الحاجة أو يساره، والتحرف الحاصل لمن بالمدينة عند استقباله بيت المقدس ليس بهذا القدر، ولا قريب منه. وأما على القول: بأن القبلة هي البيت نفسه، وأنه يضرُّ في الصلاة التحرف اليسير إذا عرف، فقد يقال: لا يلزم من القول بذلك في الصلاة أن يقال به في قضاء الحاجة، وقد ثبت في قضاء الحاجة قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ولكن شرِّقوا أو غرَّبوا". وعلى تسليم اللزوم، فإنما ذلك عند ظن التحرف، ومثل ذاك التحرف - أعني تحرُّفَ مَن بالمدينة عن الكعبة إذا استقبل بيت المقدس - إنما يحصل به الظن لمن عرف الحساب ونحوه، وبنى عليه، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "نحن أمة أمية، لا نكتب ولا نحسب ... " الحديث. والظاهر عند عدم الحساب أن المدينة بين مكة والقدس، من استقبل أحدهما استدبر الآخر. الأمر الثالث: أن تجويز أن يكون عبيد الله إنما سمع القصة باللفظ الذي رواه يحيى، ولكنه تصرف فيها التصرف المذكور، يؤدي إلى سقوط الثقة بالأحاديث التي يحتمل أنها رُوِيتْ بالمعنى، وهي غالب السنة. [ص 7] قال عبد الرحمن: أما الأمر الأول؛ فأرى أن الأئمة لاحظوا ما دلَّ عليه كلام ابن عمر من أن ¬

_ (¬1) رقم (344).

الموضع الذي رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - قاعدًا عليه كان معدًّا لقضاء الحاجة، وإذا كان كذلك ثبت وقوع الاستدبار عند التغوط، إن لم يكن في هذه الواقعة ففي غيرها؛ لأن الموضع كان معدًّا لذلك، وفي "الفتح" (¬1): أنه جاء في رواية لابن خزيمة: "فرأيته يقضي حاجته محجوبًا عليه بلَبِنٍ". قال: وللحكيم الترمذي بسند صحيح: "فرأيته في كنيف". وبهذا يندفع ما يتراءى أن من تقدم من أهل العلم أغفلوا الاحتجاجَ بما ذُكِر، واقتصروا على الاحتجاج بالواقعة التي ذكرها ابن عمر. ثم يحتمل أن مالكًا لم يستحضر ما قدمناه من أن مَن بالمدينة إذا استقبل بيتَ المقدس تمامًا لم يكن مستدبرًا الكعبةَ تمامًا، بل يكون منحرفًا عنها إلى الشرق. ويحتمل أن يكون استحضر ذلك، ولكنه بني على رأيه في التوسعة في القبلة، ومثله البخاري، وأما الشافعي فيتعين في حقه الاحتمال الأول. إذا تقرر هذا فالجواب عما يحتج به بأن ذلك الموضع كان معدًّا لقضاء الحاجة أنه يحتمل أنه يكون معدًّا للبول فقط، وعلى تسليم أنه كان معدًّا للأمرين، فالتوسعة في القبلة إنما هي إذا لم يحصل العلم أو الظن بالانحراف عن البيت، كما هو مقرر في مذهب مالك نفسه. والحجة على ذلك واضحة؛ فإن من بالمسجد الحرام لا تصح صلاته إذا كان البيت عن يمينه أو يساره يقينًا أو ظنًّا، فكذلك من بَعُدَ، وإنما الرخصة في الصلاة والتشديد في قضاء الحاجة عند الاشتباه. ¬

_ (¬1) (1/ 247).

وعلى هذا فنقول: قد ذكروا أن قبلة المسجد النبوي مقطوع بمُسامتتها للبيت، وفي بعض الآثار أن جبريل أقامها للنبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1)، فيحتمل مثل ذلك في بيت المقدس لما كان قبلةً، وإذا علم النبي - صلى الله عليه وسلم - السمتَ الذي يستقبل به بيت المقدس تمامًا، والسمت الذي يستقبل به الكعبة تمامًا، فقد علم أنه إذا استقبل بيت المقدس لم يكن مستدبرًا البيتَ، بل منحرفًا عنه كما مر. وأما الأمر الثاني؛ فقد تقدم الجواب عنه قريبًا. وقوله في حديث أبي أيوب: "ولكن شرِّقوا أو غرِّبوا" يحتمل أنه عند الاشتباه كما مر، ويحتمل أن يكون المراد: فانحرفوا إلى جهة الشرق أو إلى جهة الغرب. فإن مَن كان مستقبلاً بعض الربع الجنوبي إذا مال عنه يَسْرةً صَدق عليه أنه شرَّقَ، أو يَمنةً صَدق أنه غرَّب، وإن كان مع انحرافه لا يزال مستقبلاً بعضَ الجنوب. وقد يحتمل أن يكون الأمر بالتشريق أو التغريب أريد بهما جعلُ القبلة عن اليمين أو اليسار تمامًا، ولكن يكون ذلك عند التيسر، ولما كان يكثر التعسير في البيوت اكتُفي فيها بالتحرُّف، كما قال أبو أيوب: "فننحرف ونستغفر الله". ولما كان الانحراف في البيوت كافيًا جاز بناء المرحاض فيها منحرفًا فقط، وإن أمكن خلافه، على أنه قد لا يتيسر في البيوت الضيقة بناء المرحاض بحيث تكون القبلة عن يمين القاعد فيه أو يساره تمامًا، وقد يجوز أن يكون ذلك الموضع الذي في بيته - صلى الله عليه وسلم - اتخذ قبل نزول الحكم، ¬

_ (¬1) ذكر ذلك شيخ الإِسلام في "مجموع الفتاوى" (27/ 420) نقلًا عن مالك قال: بلغني أن جبريل هو الذي أقام قبلته للنبي - صلى الله عليه وسلم -. وانظر "المغانم المطابة" للسمهودي (2/ 77).

فإن حجرات النبي - صلى الله عليه وسلم - أو بعضها كانت بيوتًا [] (¬1). وقد يحتمل أن يكون ذلك الموضع بُنِي للنبي - صلى الله عليه وسلم - قبل هذا الحكم، ولا يدفع هذا قول عائشة: "والبيوت يومئذٍ ليس فيها [كُنُفٌ] (¬2) "؛ لاحتمال أن يكون المعنى ليس فيها كلها، فلا ينافي أن يكون قد كان في بعضها، ولم يُغيِّره النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الحكم؛ لأنه منحرف، وفي تغييره كلفة. وأما الأمر الثالث؛ فلا ريب أن الأصل والظاهر هو الرواية باللفظ، أو بما لا يخالفه مخالفةً لها شأن، وأنه لا يجوز تجويز خلاف هذا لغير دليل، وأنا إنما جوزته في رواية عبيد الله لما يتراءى من الأدلة. [ص 8] على أني أقول: قد تقدم ترجيح ما في رواية يحيى من قوله: "مستقبلاً بيت المقدس" بما لا غبار عليه، وإذا صح وصححنا زيادة عبيد الله، فالراجح من وجوه الاختلاف فيها تأخيرها بلفظ: "مستدبرًا القبلةَ". ويحتمل في حقه الاحتمالان اللذان تقدما في حق مالك فقد جاء عن ابن عمر التوسعة في القبلة، وعليه فالجواب ما تقدم. والله أعلم. هذا ولأهل العلم في هذا الحديث أقوال أخرى: منها: أنه لا يحتج به، لاحتمال أن القصة كانت قبل النهي، وفي هذا بحثٌ محلُّه كتب الأصول. ومنها: عكسه، وهو أنه ناسخ للنهي إما مطلقًا، وإما بالنسبة إلى الاستدبار أو إلى البيوت، أو إلى المراحيض، ورُدّ من وجوه: ¬

_ (¬1) هنا بياض في الأصل. (¬2) هنا بياض في الأصل. وقول عائشة في حديث الإفك الطويل: "وذلك قبل أن نتخذ الكُنُفَ قريبًا من بيوتنا"، أخرجه البخاري (2661، 4750) ومسلم (2770).

الأول: أن الفعل لا ينسخ القول، وفي هذا بحث محلُّه كتب الأصول. وقد جاء عن الصحابة الاحتجاج بالفعل على نسخ القول، كما في الوضوء مما غيَّرت النار، مع أنه قد يقال: ليس هذا مجرد فعل، بل فيه تقرير؛ لأن الظاهر أن المرحاض إذا كان في البيت لا يختص بالرجل، بل تشاركه فيه النساء، بل هن أولى. الثاني: أنه لو كان هناك نسخٌ لأعلنه النبي - صلى الله عليه وسلم - كما أعلن النهي، ومن البعيد أن ينسخ الحكم فلا يبينه - صلى الله عليه وسلم -، بل يقتصر على الفعل في خلوته. وقد يدفع هذا بأنه بني المرحاض في بيته - صلى الله عليه وسلم - على الهيئة المؤذنة بالنسخ، فعلم بذلك أهل البيت، وقد احتج الصحابة على نسخ عدم وجوب الغسل على من أكسل بخبر بعض أمهات المؤمنين، بأنه وقع ذلك منه - صلى الله عليه وسلم - ومنها فاغتسلا، مع ما في هذا من الاحتمال، ومن كان له معرفة بالسيرة عرف أنه - صلى الله عليه وسلم - كان ربما اكتفى في تبليغ النسخ بإخبار الواحد أو الاثنين، وفي ذلك من الحكمة ما ليس هذا محلَّ بيانه. الثالث: أن التاريخ مجهول، وعليه فإما أن يترجح احتمال أن الواقعة كانت قبل النهي على حسب الإباحة الأصلية، فلا يكون هنا نسخ، وإما أن يتوقف على الجزم، ويعمل بعموم النهي احتياطًا. ومنها: أن هذا الحديث مخصَّص لعموم أحاديث النهي على ما هو مختارُ كثيرٍ من الأصوليين، أنه عند جهل التاريخ، إذا أمكن الحمل على العموم والخصوص حُمِل عليه. وقد يُردُّ هذا بأن التخصيص بيان لا يجوز تأخيره عن وقت الخطاب عند قوم، وعن وقت الحاجة عند آخرين، وهذه الواقعة ليست مقترنةً

بخطاب النهي كما هو ظاهر، فإن كانت متأخرة فقد تأخرت عن وقت الحاجة حتمًا؛ لأن الحاجة إلى قضاء الحاجة متكررةٌ كلَّ يوم، وإذا تأخرت عن وقت الحاجة فلا تخصيص، وإنما يبقى احتمال النسخ، وقد مرَّ ما فيه. وإن كانت متقدمة عن النهي، فالأولى حملها على موافقة الإباحة الأصلية، كما مر. ومنها: حمل الواقعة على خصوصيةٍ للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وقوَّاه بعض الأجلة بما قيل: إن فضلاته - صلى الله عليه وسلم - طاهرة. وليس بالبين: أولاً: لأن في الطهارة نظرًا. ثانيًا: لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يعاملها معاملة الأنجاس، فيبعد عند قضاء الحاجة، ويستنجي، وغير ذلك. فالظاهر أن تعاملها في استقبال القبلة كذلك، وهو أحق بإكرام قبلة ربه عزَّ وجلَّ. ثالثًا: الظاهر من كون المرحاض في البيت أنه لا يختص بالرجل، بل يحتاج إليه النساء، كما مر. وبالجملة فالذي يترجح لي في هذا الحديث ما قدمتُه، وحاصله أن الذي في حديث النهي هو النهي عن استقبال القبلة بالبول أو استدبارها بالغائط، والقبلة في الأصل هي سَمْتُ البيت نفسه، ومن وسَّع فيها فمحل التوسعة عند الاشتباه. فأما من علم أو ظن أنه منحرف عن سمت البيت، فلا صلاة له، وليس ذلك قبلةً في حقه، وإذا لم يكن قبلةً في حقه فلا حرج عليه

في استقباله. [ص 9] إذا تقرر هذا فأقول: نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - المسلمين عن مثل ذلك الفعل، كما نهاهم الله عَزَّ وَجَلَّ أن يقولوا لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: "رَاعِنا"، كما كان اليهود يقولونها، يريدون بها معنى سوء. والله أعلم. وجاء عن الشعبي ولم يصح كما يأتي، أنه قال: [] (¬1). ورُدَّ بأنه لو لوحظ هذا لمنع قضاء الحاجة في الفضاء مطلقًا؛ لأن ما يحتمل معاينة المصلين من الملائكة ومسلمي الجن في حال الاستقبال يجيء مثله في غيره. فالمعتمد ما تقدم، وهو ملاقٍ للتعليل المشهور بالإكرام، فإنّ تحرِّي تركِ ما قد يكون إهانةً إكرامٌ، وإذا ظهر أن المفسدة المنظور إليها في المنصوص هي إنما ذلك الفعل، مظنةَ أن يقصد به إهانة القبلة، تكذيبًا لآيات الله، تبين أن مجرد كشف العورة ليس كذلك؛ لأنه لا يكادُ يقصد به الإهانة، وتبين أن استدبار من يريد البول فقط القبلةَ لا محذور فيه، وإن كان بعض ألفاظ النصوص قد يشمله، وقد منعه بعض الشافعية، وتلك ظاهرية صرفة. وظهر أيضًا صحة ما اقتضاه إطلاق النصوص من شمول النهي للتغوط نحو القبلة مع عدم الانحناء، كما إذا كان بين قاضي الحاجة وبين القبلة ساتر، وكما إذا كان في البيوت أو في المواضع المعدَّة لقضاء الحاجة. لأن (¬2) القبلة هي الكعبة، وإهانتها إنما تتحقق بتنجيسها وتقذيرها ونحو ¬

_ (¬1) هنا بياض في الأصل. وأثر الشعبي سيأتي (ص 32). (¬2) من هنا إلى "الباب الثاني" مكتوب في أسفل الصفحة في الركن مقلوبًا.

ذلك، ولو رُئي رجل يبول أو يتغوط مستقبلاً بيت الملك من مسافة ميل أو أبعد، لم يعد ذلك إهانةً لبيت الملك، اللهم إلا أن يقصد الإهانة، فتكون الإهانة في الحقيقة بالقصد أو بتحري ذلك، فيدل على قصد الإهانة. فإن قلت: فليكن العلة هو أن ذلك الفعل قد يُقصد به الإهانة. قلت: الأفعال التي قد يُقصَد بها الإهانة كثيرة، وفيها ما ليس يُنهى عنه عند عدم قصد الإهانة إجماعًا، كوضع مرحاض البيت في قبلته، وكالجلوس مستدبر القبلة. فإن قلت: الاستقبال بالبول والغائط أظهر في احتمال قصد الإهانة، وأشبه بالإهانة بالفعل؛ لأنه لو كان بالقرب يحصل به التنجيس، وهو إهانة بالفعل. أقول: هذا في نظري قوي.

الباب الثاني في الرخصة

الباب الثاني في الرخصة 2 - ترجم البخاري لحديث أبي أيوب بقوله: [باب لا تُستقبل القبلة بغائطٍ أو بولٍ إلاَّ عند البناء: جدارٍ أو نحوه] (¬1). فقال الحافظ في "الفتح": [] (¬2). أقول: المختار من هذه الأجوبة هو الثالث، والاعتراض عليه ليس بسديد؛ لأن البخاري إنما فصَّل التراجم لأحكام أخرى، فإنه قال: "باب من تبرز على لبنتين"، ثم ذكر حديث ابن عمر، ومراده الدلالة على استحباب مثل أن يكون قاضي الحاجة على لبنتين أو نحوهما مما يرفعه عن الأرض؛ لأن ذلك أبعد عن احتمال تنجس رجله أو ثيابه. ثم قال: "باب خروج النساء إلى البراز"، وساق حديث الإذن في ذلك، ثم قال: "باب التبرز في البيوت"، وساق فيه حديث ابن عمر، قال الحافظ في "الفتح" (¬3): "عقب المصنف بهذه الترجمة ليشير إلى أن خروج النساء للبراز لم يستمر، بل اتُّخِذتْ بعد ذلك الأخليةُ في البيوت، فاستغنين عن الخروج إلا للضرورة". ¬

_ (¬1) هنا بياض في الأصل. (¬2) بياض في الأصل. وراجع "الفتح" (1/ 245) حيث ذكر ثلاثة أجوبة لمن قال: ليس في حديث الباب دلالة على الاستثناء المذكور، ثالثها أن الاستثناء مستفاد من حديث ابن عمر المذكور في الباب الذي بعده. (¬3) (1/ 250).

وحاصله الاستدلال بأن الخروج إنما هو رخصة قبل اتخاذ الأخلية في البيوت، فلا ينبغي للمرأة التي في بيتها خلاء أن تخرج. نعم قد يقال: إذا كان البخاري إنما أخذ الاستثناء من حديث ابن عمر، فقد كان ينبغي له أن يذكره في تلك الترجمة، أو يشير إليه. وبالجملة، فمن المحتمل أن البخاري إنما أخذ الاستثناء من حديث ابن عمر، ولم يلتفت إلى هذا الاعتراض الصناعي، ومن المحتمل أن يكون جوَّز دلالة قوله في الحديث: "إذا أتى أحدكم الغائط" على الاستثناء المذكور [ص10] ببول أو استدباره بغائط؛ لأنه لم يستقبل القبلة ولم يستدبرها. وقوله: "ولكن شرِّقوا أو غرِّبوا" محمولٌ إما على موضع الاشتباه، وإما على أن المراد: انحرِفُوا إلى جهة الشرق، أو إلى جهة الغرب، وذلك الانحراف يحصل بمثل انحراف من بالمدينة إذا استقبل بيت المقدس تمامًا، وإما على أنه ترغيب في الاحتياط، وليس على الوجوب، والصارف ما تقدم من أن المحذور هو استقبال نفس القبلة أو استدبارها، وإما على أنه مقيد بعدم المشقة، كما يشير إليه قول الله عزَّ وجلَّ: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" (¬1). وذلك الموضع الذي كان في بيته - صلى الله عليه وسلم - مما يشق فيه التشريق والتغريب تمامًا؛ إما لأن البقعة ضيقة، لا يتيسر وضع المرحاض فيها إلا على تلك الهيئة، وإما لأنه بُنِي قبل النهي؛ وكان في تغييره كلفة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (7288) ومسلم (1337) عن أبي هريرة.

فغاية ما في هذا الحديث أنه يدل على جواز الاقتصار على التحرف عن القبلة الخاصة إذا لم يتيسر أن يجعلها عن يمينه أو يساره، وهذا مما ينبغي الأخذ به، وقد أخذ به أبو أيوب كما تقدم، مع أنه لم ينقل عنه إلا حديث النهي. والله أعلم. 3 - أخرج الدارقطني (¬1) من طريق عيسى الحناط عن الشعبي عن ابن عمر قال: "أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في حاجة، فلما دخلت إليه فإذا النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحَرَج على لبنتينِ مستقبلَ القبلة". قال الدارقطني: عيسى بن أبي عيسى الحناط ضعيف. وأخرج هو (¬2) وغيره من طريق عيسى الحناط أيضًا قال: قلت للشعبي: عجبت لقول أبي هريرة ونافع عن ابن عمر! قال: وما قالا؟ قلت: قال أبو هريرة: "لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها". وقال نافع عن ابن عمر: "رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ذهب مذهبًا مواجه القبلة". فقال: أما قول أبي هريرة ففي الصحراء، إن لله تعالى خلقًا من عباده يصلون في الصحراء، فلا تستقبلوهم ولا تستدبروهم، وأما بيوتكم هذه التي تتخذونها للنتن، فإنه لا قبلة لها. قال الدارقطني: عيسى بن أبي عيسى هو عيسى الحناط، وهو عيسى بن ميسرة، وهو ضعيف. أقول: عيسى مجمع على ضعفه، وقال جماعة: متروك الحديث (¬3). ¬

_ (¬1) في "السنن" (1/ 60). والحرج مجتمع شجر ملتفّ كالغيضة. "النهاية" (1/ 362). (¬2) المصدر نفسه (1/ 61). (¬3) انظر "تهذيب التهذيب" (8/ 234 - 236).

4 - أخرج جماعة منهم الحاكم في "المستدرك" والدارقطني (¬1) من طريق صفوان بن عيسى ثنا الحسن بن ذكوان عن مروان الأصفر قال: رأيت ابن عمر أناخ راحلته مستقبلَ القبلة، ثم جلس يبول إليها، فقلت: يا أبا عبد الرحمن أليس قد نُهِي عن هذا؟ قال: "إنما نُهِي عن ذلك في الفضاء، فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس". قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط البخاري، فقد احتج بالحسن بن ذكوان. وأقره الذهبي. "المستدرك مع تلخيصه" (1/ 154). وقال الدارقطني: هذا صحيح، كلهم ثقات. وقال الحافظ في "الفتح" (¬2): رواه أبو داود والحاكم بسند لا بأس به. أقول: بلى وأي بأس؟ فإن الحسن بن ذكوان ضعفه الأئمة: أحمد ويحيى وعلي وأبو حاتم والنسائي وغيرهم. قال أحمد: أحاديثه أباطيل، يروي عن حبيب بن أبي ثابت، ولم يسمع من حبيب، إنما هذه أحاديث عمرو بن خالد الواسطي. وجاء نحو هذا عن يحيى بن معين وأبي داود، كما في "التهذيب" (¬3). قال: وأورد ابن عدي حديثين من طريق الحسن بن ذكوان، وقال: إنما سمعهما الحسن من عمرو بن خالد عن حبيب، فأسقط الحسن بن ذكوان عمرو بن خالد من الوسط. أقول: إن كان الحسن قال: حدثنا حبيب أو نحو ذلك، فهذا هو الكذب. ¬

_ (¬1) "المستدرك" (1/ 154) و"سنن الدارقطني" (1/ 58). (¬2) (1/ 247). والحديث عند أبي داود (11). (¬3) (2/ 276، 277).

وإن كان قال: قال حبيب أو نحو ذلك، فهذا تدليس عن الهلكى، فإن عمرو بن خالد تالف، رماه بالكذب ووضع الحديث: وكيع وأحمد وإسحاق ويحيى وأبو زرعة وأبو داود وغيرهم (¬1). فعلى القول بأن التدليس عن مثل هذا يُسقِط العدالة فظاهر، وأما على القول إنه لا يسقطها إذا كان إذا سئل بيَّن، فالمتفق عليه بين أهل العلم أن مثل هذا لا يُعتدُّ بما رواه غير مصرِّح بالسماع، وحديثه هذا لم يصرح فيه بالسماع، فسقط إجماعًا. فأما قول الحاكم: "إن البخاري احتج به" ففيه نظر؛ إنما أخرج له البخاري حديثًا واحدًا في الشفاعة (¬2)، رواه من طريق يحيى القطان عن الحسن بن ذكوان حدثنا أبو رجاء. قال الحافظ في "الفتح" (¬3): الحسن بن ذكوان .... تكلم فيه أحمد وابن معين وغيرهما، لكنه ليس له في "البخاري" سوى هذا الحديث، من رواية يحيى القطان عنه، مع تعنته - يعني يحيى - في الرجال، ومع ذلك فهو متابعة. وقال في المقدمة (¬4): روى له البخاري حديثًا واحدًا ... ، ولهذا الحديث شواهد كثيرة. ¬

_ (¬1) انظر "تهذيب التهذيب" (8/ 26، 27). (¬2) رقم (6566). (¬3) (11/ 441). (¬4) مقدمة "الفتح" (ص 397).

أقول: فالحديث من رواية يحيى القطان، وتثبته معروف، وهو متابعة [ص 11] وصرح الحسن بالسماع، فكيف يقاس عليه حديث هذا الباب؟ لا والله، بل حديثه في الباب ساقط؛ لاحتمال أنه سمعه من أحد الوضاعين. والله أعلم. 5 - أخرج جماعة منهم الحاكم في المستدرك وابن خزيمة كما في الفتح وأحمد وأبو داود وغيرهم (¬1) من طريق ابن إسحاق حدثني أبان بن صالح عن مجاهد عن جابر قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد نهانا أن نستدبر القبلة أو نستقبلها بفروجنا إذا أهرقنا الماء، ثم رأيناه قبل موته وهو يبول مستقبلَ القبلة". قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. وأقره الذهبي. المستدرك مع تلخيصه (1/ 154). أقول: ابن إسحاق فيه كلام كثير، يتحصل منه أنه مدلس، في حفظه شيء. فأما التدليس؛ فمأمونٌ هنا للتصريح بالسماع. وأما سوء الحفظ؛ فتردد نظرهم فيه، وقال الذهبي في "الميزان" (¬2) بعد حشد الأقوال: فالذي يظهر لي أن ابن إسحاق حسن الحديث صالح الحال ¬

_ (¬1) أحمد (3/ 360) وأبو داود (13) والترمذي (9) وابن ماجه (9) وابن خزيمة (58) وابن حبان (1420) والحاكم (1/ 154) والبيهقي (1/ 92). وانظر "الفتح" (1/ 245). (¬2) (3/ 475).

صدوق، وما انفرد به ففيه نكارة، فإن في حفظه شيئًا، وقد احتج به أئمة. فالله أعلم. وقد استشهد به (¬1) مسلم بخمسة أحاديث لابن إسحاق ذكرها في "صحيحه". وفي "طبقات المدلسين" (¬2) لابن حجر: أن مسلمًا إنما أخرج لابن إسحاق مقرونًا بغيره. وأبان: وثقه ابن معين وأبو زرعة وأبو حاتم وغيرهم (¬3). وقال ابن عبد البر (¬4) في حديثه هذا: ليس صحيحًا؛ لأن أبان بن صالح ضعيف. وقال ابن حزم (¬5) لما ذكر حديثه هذا: أبان ليس بالمشهور. ذكر ذلك ابن حجر في "التهذيب" (¬6) وتعقبهما. ومجاهد: إمام، لكن ذكر ابن حجر في "التهذيب" (¬7) عن القطب الحلبي قال: مجاهد معلوم التدليس، فعنعنته لا تفيد الوصل. قال ابن حجر: ولم أر مَن نسبه إلى التدليس، نعم إذا ثبت قول ابن معين ¬

_ (¬1) كذا في الأصل بزيادة "به". وفي "الميزان" بحذفها، وهو الوجه. (¬2) "تعريف أهل التقديس" (ص 51) ط. مكتبة المنار. ولا يوجد في طبعة المباركي. (¬3) انظر "تهذيب التهذيب" (1/ 94). (¬4) في "التمهيد" (1/ 312). (¬5) في "المحلى" (1/ 198). (¬6) (1/ 95). (¬7) (10/ 44).

إن قول مجاهد: "خرج علينا علي" ليس على ظاهره فهو عين التدليس. أقول: قد صرحوا بأن مجاهدًا روى عن جماعة من الصحابة الذين عاصرهم وأنه لم يسمع منهم، وهذا تدليس عند جماعة من أهل العلم، وعلى القول بأنه لا يسمى تدليسًا فهو في معناه، خصوصًا على ما ذهب إليه الجمهور من حمل الرواية عن المعاصر على السماع وإن لم يعلم اللقاء، على أني لم أجد ما يصرح بسماع مجاهد من جابر، وقد راجعت مسند جابر في مسند أحمد فلم أر لمجاهد عنه إلا أحرفًا لم يصرح في شيء منها بالسماع. ومع ذلك فقد روى منصور عن مجاهد عن ابن عباس حديث: "مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بحائطٍ من حيطان المدينة أو مكة، فسمع صوت إنسانين يُعذَّبان". ورواه الأعمش عن مجاهد عن طاوس عن ابن عباس، أخرجهما البخاري (¬1). قال ابن حجر في "الفتح" (¬2): إخراجه له على الوجهين يقتضي صحتهما عنده، فيُحمل على أن مجاهدًا سمعه من طاوس عن ابن عباس، ثم سمعه من ابن عباس بلا واسطة أو العكس، ويؤيده أن في سياقه عن طاوس زيادة. وصرَّح ابن حبان (¬3) بصحة الطريقين معًا، وقال الترمذي (¬4): رواية الأعمش أصح. ¬

_ (¬1) رقم (216, 218). (¬2) (1/ 317). (¬3) في "صحيحه" (7/ 400). (¬4) عقب الحديث (70).

وفي "الفتح" (¬1) في الكلام على هذه المسألة: وقال قوم بالتحريم مطلقًا، وهو المشهور عن أبي حنيفة وأحمد، وقال به أبو ثور صاحب الشافعي، ورجحه من المالكية ابن العربي، ومن الظاهرية ابن حزم، وحجتهم أن النهي مقدم على الإباحة، ولم يصححوا حديث جابر. أقول: الحق في هذه الأمور أنه لم يتعيَّن من واحدٍ منها ما هو بيَّنٌ في تضعيف الحديث، إلا أنها بمجموعها تُزلزِل الثقة به، على أنه على فرض صحته واقعةُ حالٍ يكفي في دفعها الاحتمال، فيحتمل أن جابرًا أراد بالقبلة: القبلةَ الموسعة، وهي جهة الجنوب لأهل المدينة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد علم عينَ القبلة، فلعله تحرَّف عنها يمنةً أو يسرةً، فكان في الحقيقة غير مستقبل القبلة، وبنى جابر على توسعة القبلة. ومما يؤيد هذا قول أبي أيوب - كما في رواية عنه في "الصحيحين" (¬2) -: "فقدمنا الشام فوجدنا مراحيضَ قد بُنِيتْ قِبَلَ القبلة، فننحرف عنها ونستغفر الله". فإن قوله: "ونستغفر الله" يدل أنه يشكُّ في الانحراف هل يدفع الإثم؟ ويوضحه قوله في رواية أخرى: "والله ما أدري ما أصنعُ بكِسْر (¬3) أبيكم هذه"، فهذا يدل أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يرون أن النهي يتناول ما عن يمين القبلة الخاصة ويسارها، فكأن جابرًا كان قد استقر في نفسه هذا المعنى، فلما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يبول مستقبلاً يسارَ القبلة الخاصة أو يمينَها، ¬

_ (¬1) (1/ 246). (¬2) البخاري (394) ومسلم (264). (¬3) الكِسْر: ناحية البيت، ولكل بيتٍ كسران عن يمين وشمال. انظر "النهاية" (4/ 172).

وقع له أنه مستقبلٌ القبلةَ الموسعةَ، ورأى أن هذا يخالف أصل النهي، لشمول النهي عنده كما سلف. ثم أقول: إن احتمل في واقعة جابر مشقة جَعْلِ القبلة عن اليمين أو اليسار تمامًا فظاهر، وإن لم يحتمل لأن الظاهر أنه لو كان هناك مشقة لكان الظاهر أن يلاحظها جابر ويخبر بها، ففي الحديث على فرض صحته دليل على أن الانحراف يكفي ولو عند عدم المشقة، وعليه يُشبِه حملُ قوله في حديث أبي أيوب: "ولكن شرِّقوا أو غرِّبوا" على معنى: انحرِفُوا إلى جهة الشرق أو إلى جهة الغرب كما مر، أو على أن الأمر بجعل القبلة يمينًا أو يسارًا تمامًا للندب فقط، ولكن واقعة جابر لبيان الجواز. والله أعلم. [ص 12] 6 - أخرج الإِمام أحمد والدارقطني وآخرون (¬1) من حديث عائشة أنها قالت: "ذُكِر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ناسًا يكرهون أن يستقبلوا القبلةَ بفروجهم، فقال: أو قد فعلوها؟ حوِّلوا مقعدي قِبَل القبلة". وفي سنده اضطراب كثير، فرواه الإِمام أحمد في المسند (6/ 137): ثنا وكيع ثنا حماد بن سلمة عن خالد الحذاء عن خالد بن أبي الصلت عن عِراك عن عائشة. ورواه (ص 219): ثنا بهز ثنا حماد بن سلمة ثنا خالد الحذاء عن خالد بن أبي الصلت قال: ذكروا عند عمر بن عبد العزيز رحمه الله استقبال القبلة بالفروج. فقال عراك بن مالك: قالت عائشة: .... ¬

_ (¬1) أحمد (6/ 227) والدارقطني (1/ 60). وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة في "المصنف" (1/ 151) وابن ماجه (324) والطحاوي في "معاني الآثار" (4/ 234).

ورواه (ص 183): ثنا عبد الوهاب الثقفي ثنا خالد عن رجل عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: ما استقبلتُ القبلةَ بفرجي منذ كذا وكذا، فحدَّث عراك بن مالك عن عائشة. وفي (ص 227): ثنا أبو كامل ثنا حماد بن سلمة عن خالد الحذاء عن خالد بن أبي الصلت أن عراك بن مالك حدث عن (كذا وكأنها زائدة) عمر بن عبد العزيز أن عائشة قالت .... وقال (ص 239): ثنا يزيد أنا حماد بن سلمة عن خالد الحذاء عن خالد بن أبي الصلت قال كنا عند عمر بن عبد العزيز، فذكروا الرجل يجلس على الخلاء فيستقبل القبلة، فكرهوا ذلك، فحدث عن (كذا وكأنها زائدة) عراك بن مالك عن عائشة. وقال (ص 184): ثنا علي بن عاصم قال خالد الحذاء: أخبرني عن خالد بن أبي الصلت قال: كنت عند عمر بن عبد العزيز في خلافته، قال: وعنده عراك بن مالك، فقال عمر: ما استقبلتُ القبلةَ ولا استدبرتُها ببول ولا غائط منذ كذا وكذا، فقال عراك: حدثتني عائشة. وفي ترجمة خالد بن أبي الصلت من "التهذيب" (¬1): وقال إبراهيم بن الحارث: أنكر أحمد قول من قال [عن] عراك: سمعت عائشة. وقال: عراك من أين سمع من عائشة؟ وقال أبو طالب عن أحمد: إنما هو عراك عن عروة عن عائشة، ولم يسمع عراك منها. ¬

_ (¬1) (3/ 98).

وفي ترجمة عراك (¬1): عن الأثرم أنه ذكر لأحمد رواية خالد بن أبي الصلت عن عراك سمعت عائشة. فقال أحمد: مرسل، عراك بن مالك من أين سمع عن عائشة؟ إنما يروي عن عروة، هذا خطأ. ثم قال: من يروي هذا؟ قلت: حماد بن سلمة عن خالد الحذاء. فقال: قال غير واحد عن خالد الحذاء ليس فيه سمعتُ. وقال غير واحد أيضًا عن حماد بن سلمة ليس فيه سمعت. وقال أحمد في موضع آخر: أحسن ما روي في الرخصة - يعني في استقبال القبلة - حديث عراك، وإن كان مرسلاً؛ فإن مخرجه صحيح (¬2). وفي ترجمة خالد بن أبي الصلت من "التهذيب" (¬3): قال البخاري: خالد بن أبي الصلت عن عراك مرسل ..... قال البخاري في "التاريخ" (¬4): قال موسى: ثنا حماد هو ابن سلمة عن خالد الحذاء عن خالد بن أبي الصلت قال: كنا عند عمر بن عبد العزيز فقال عراك بن مالك: سمعت عائشة .... وقال موسى: ثنا وهيب عن خالد عن رجل أن عراكًا حدّث عن عمرة عن عائشة. وقال ابن بكير: حدثني بكر عن جعفر بن ربيعة عن عراك عن عروة أن عائشة كانت تنكر قولهم: لا يستقبل القبلة. وهذا أصح. قال (¬5): وقال الترمذي في العلل: سألت محمدًا - البخاري - عن هذا الحديث. فقال: فيه اضطراب، والصحيح عن عائشة قولها. وذكر أبو حاتم ¬

_ (¬1) من "تهذيب التهذيب" (7/ 173). (¬2) في "التهذيب": "حسن" بدل "صحيح". (¬3) (3/ 97). (¬4) "التاريخ الكبير" (3/ 156). (¬5) في "التهذيب" (3/ 98).

نحو قول البخاري، وأن الصواب: عراك عن عروة عن عائشة قولها، وأن من قال فيه: عن عراك سمعت عائشة مرفوعًا، وهم فيه سندًا ومتنًا. أقول: فهذا كلام أئمة الفن: أحمد والبخاري وأبي حاتم، جزموا بأن عراكًا لم يسمع من عائشة، وزاد البخاري وأبو حاتم فحكما بأن المرسل المرفوع خطأ، وأن الصواب موقوف على عائشة. وأخرج الدارقطني (¬1) الحديث من طريق يحيى بن مطر نا خالد الحذاء عن عراك بن مالك عن عائشة قالت: "سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... ". ثم قال: هذا القول أصح، هكذا رواه أبو عوانة والقاسم بن مطيب ويحيى بن مطر عن خالد الحذاء عن عراك. ورواه علي بن عاصم وحماد بن سلمة عن خالد الحذاء عن خالد بن أبي الصلت عن عراك. وتابعهما عبد الوهاب الثقفي إلا أنه قال: عن رجل. ثم ساقه من طريق علي بن عاصم، ثم قال: هذا أضبط إسناد (؟) (¬2)، وزاد فيه خالد بن أبي الصلت، وهو الصواب. ثم ساقه من طريق يحيى بن إسحاق ووكيع كلاهما عن حماد بن سلمة عن خالد عن خالد عن عراك عن عائشة مرفوعًا. وقوله في الأول: وهذا القول أصح، وفي الثاني: وزاد فيه خالد بن أبي الصلت وهو الصواب، ليس تناقضًا، وإنما صحَّح من الأول قولهم: عراك ¬

_ (¬1) في "السنن" (1/ 59). (¬2) كذا في الأصل. وكأنه يشير إلى الإشكال في كلمة "إسناد" أو "أضبط". وانظر ما يأتي (ص 57).

عن عائشة، أي ليس فيه تصريح بالسماع، وصوَّب من الثاني زيادة خالد بن أبي الصلت، فليس في كلامه مخالفة لكلام من تقدمه، كما قد يتوهم. [ص 13] وساق الحازمي في "الاعتبار" (¬1) الحديث من طريق علي بن عاصم، ثم قال: وتابعه حماد بن سلمة وعبد الله بن المبارك. أقول: لم أظفر برواية ابن المبارك، ولا أدري كيف السند إليه، وهل مراد الحازمي متابعته لعلي في زيادة خالد بن أبي الصلت في السند فقط، أو في ذلك وفي ذكر عراك أنه سمع من عائشة؟ وبالجملة فالحق زيادة خالد بن أبي الصلت في السند، فأما تصريح عراك بالسماع، فإنه ثابت عن علي بن عاصم عن خالد الحذاء عن خالد بن أبي الصلت، ولكن علي بن عاصم على يَدَيْ عدلٍ. قال يزيد بن هارون: ما زلنا نعرفه بالكذب. ذكره في "التهذيب" (¬2). وقال محمَّد بن المنهال (¬3): ثنا يزيد بن زريع قال: لقيت علي بن عاصم بالبصرة، وخالد الحذاء حي، فأفادني أشياءَ عن خالد، فسألته عنها، فأنكرها كلها، وأفادني عن هشام بن حسان حديثًا، فأتيت هشامًا فسألته عنه، فأنكره. وقال البخاري (¬4): قال وهب بن بقية: سمعت يزيد بن زريع ثنا علي عن خالد بسبعة عشر حديثًا، فسألنا خالدًا عن حديث فأنكره، ثم آخر فأنكره، ثم ثالث فأنكره، فأخبرناه، فقال: كذّاب فاحذروه. ¬

_ (¬1) (ص 25) ط. المنيرية. (¬2) (7/ 346). (¬3) "التهذيب" (7/ 347). (¬4) "التاريخ الكبير" (6/ 290، 291).

وفيه (¬1): قال عباد بن العوام: ليس يُنكَر عليه أنه لم يسمع، ولكنه كان رجلاً موسرًا، وكان الوراقون يكتبون له، فنراه أُتِي من كتبه. وذكر نحوه عن يعقوب بن شيبة. أقول: فأحسن حال علي بن عاصم أنه كان يعتمد على وراقين غير مرضيين، فيُدخِلون في كتبه أحاديثَ لم يسمعها، ومنها ما هو كذب وغلط، فلا يَفطَن لذلك، ويتحفظ من تلك الكتب، ويحدث بما وجده فيها، فبهذا وقع ما حكاه يزيد بن زريع، وهذا أمرٌ لا يمكن من يدافع عن علي بن عاصم أحسن منه، وإذًا فعلي بن عاصم لا يُعتدُّ بحديثه. وأما حماد بن سلمة؛ فيتلخص مما تقدم أن جماعة رووه عنه، وفيه عراك عن عائشة منهم وكيع وبهز ويزيد بن هارون وعبد الوهاب الثقفي وأبو كامل، وهؤلاء أئمة أثبات، ورواه موسى بن إسماعيل عن حماد فقال فيه: عراك بن مالك سمعت عائشة. وموسى ثقة متقن، ولكن أعرف الناس به تلميذاه البخاري وأبو حاتم حكمَا على روايته بالغلط, وكذلك الإِمام أحمد. والذين قالوا: عن حماد عن خالد عن خالد عن عراك عن عائشة أكثر، وبعضهم أثبتُ من موسى وأكبر منه، فسماعهم من حماد أقدم من سماع موسى، وحماد تغير حفظه بأَخَرةٍ. وقولهم موافق لرواية غير حماد عن خالد، ومع ذلك فخالد الحذاء تغير حفظه بأخرة، ولا يبعد أن يكون الاضطراب منه، فقد رواه عنه وهيب فقال: عراك عن عمرة عن عائشة. ¬

_ (¬1) "التهذيب" (7/ 345).

وفوق هذا كله، فخالد بن أبي الصلت مجهول الحال، قال الإِمام أحمد: ليس معروفًا. وقال عبد الحق: ضعيف. وقال ابن حزم: مجهول (¬1). يريد: مجهول الحال. فلا يدفعه تعقب ابن مفوّز بقوله: هو مشهور بالرواية، معروف بحمل العلم. ولا ينفعه ذكر ابن حبان له في "الثقات" (¬2)، فإن معنى الثقة عنده كما صرح به: أن يروي الرجل عن ثقة، ويروي عنه ثقة، ولا يكون حديثه منكرًا. وهذا خلاف ما عليه الجمهور، ومع ذلك فإنه لا يراعي هذا الشرط كما ينبغي، بل قد عرفتُ بالتتبع أنه ربما ذكر الرجل، ولا يدري عمن روى، ولا من روى عنه، ولا ما روى، وربما كان ينظر في "تاريخ البخاري" ثم يلخصه في "الثقات"، ووجدتُ تراجم كثيرة في "تاريخ البخاري" لا يصرح فيها البخاري بقوله: "روى عن فلان، وروى عنه فلان". ووجدتُ ابن حبان يذكرهم في الثقات قائلاً: "يروي المراسيل، روى عنه أهل بلده"، أو نحو ذلك. فهذا ظاهر جدًّا أنه إنما وجد التراجم في تاريخ البخاري، فذكرهم في الثقات، مع الجهل بهم البتةَ. وكذلك قد يصرح البخاري بمن روى عنه الرجل، ولا يذكر من روى عنه، أو عكس ذلك، فيذكره ابن حبان، فيصرح بما صرح به البخاري، ويُمَجْمِجُ (¬3) عما تركه البخاري، وقد نبهتُ في حواشي "تاريخ البخاري" ¬

_ (¬1) انظر "تهذيب التهذيب" (3/ 98). (¬2) (6/ 252) وفيه: "خالد بن الصلت"، وهو خطأ. (¬3) أي لا يُبيِّن.

على كثير من هذا. وأوضح من ذلك أن حديث خالد هذا منكر كما يأتي، فلم يتحقق فيه شرطُ أن لا يكون حديثه منكرًا. ورأيت لبعض أجلّة العصر كلامًا في تصحيح هذا الحديث، وجزم بأنه صحيح على شرط مسلم. وأقول: في هذا نظر من وجوه: أظهرها: أن خالد بن أبي الصلت مجهول الحال كما علمت، وليس من مذهب مسلم الاحتجاج بأمثاله. الثاني: أن المعاصرة لم تتحقق، فإنه لا يثبت أن عراكًا أدرك سِنَّ السماع والضبط في حديث عائشة. نعم احتج ابن دقيق العيد على ذلك بأنه عراكًا سمع من أبي هريرة وروى عنه، ووفاة أبي هريرة وعائشة في عام واحد. ولكن في هذا نظر؛ لأنه لم يثبت ثبوتًا يقوم به الحجة أن أبا هريرة وعائشة توفيا في عام واحد، وإنما قال ذلك هشام بن عروة: إن عائشة توفيت سنة 57، وتوفي أبو هريرة بعدها في السنة. وهشام لم يدرك ذلك، وقد قال بعضهم: إن أبا هريرة تأخر إلى سنة 58، وقال بعضهم: تأخر إلى سنة 59. ***

حكم القبلة وقضاء الحاجة

حكم القبلة وقضاء الحاجة في الصحيحين (¬1) وغيرهما من حديث أبي أيوب قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلم: "إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ببول ولا غائط، ولكن شرِّقوا أو غرِّبوا". ولم يذكر البخاري قوله: "ببول ولا غائط"، ولكنه أشار إلى صحتها بقوله في الترجمة: "باب لا تُستقبل القبلة ببول ولا غائط"، وفي موضع آخر (¬2): "باب قبلة أهل المدينة ... لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تستقبلوا القبلة بغائط أو بول، ولكن شرِّقوا أو غرِّبوا". وفي "صحيح مسلم" (¬3) وغيره عن سلمان: "نهانا - يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نستقبل القبلة بغائط أو بول ... " الحديث. وفي ترجمة البخاري إشارة إليه. [ص2] فيه مباحث: الأول: احتجّ بعضهم بقوله: "إذا أتى أحدكم الغائط" على اختصاص الحكم بما عدا الأبنية، ويأتي الكلام في ذلك في البحث عن الرخصة إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) البخاري (144) ومسلم (264). (¬2) صحيح البخاري مع الفتح (1/ 498). (¬3) رقم (262).

الثاني: قال الحافظ في "الفتح" (¬1): "والظاهر من قوله: "ببولٍ" اختصاص النهي بخروج الخارج من العورة، ويكون مثار إكرام القبلة عن المقابلة بالنجاسة ... وقيل: مثار النهي: كشف العورة". أقول: الذي تدل عليه الأحاديث هو الأول، أعني النهي عن أن يبول الإنسان مستقبلًا القبلة، أو يتغوط مستدبرًا لها. فقوله: "عن المقابلة بالنجاسة" إن أراد به عن هذه النجاسة الخاصة حال إخراجها من البدن فذاك، وإن أراد به التعميم فيشمل أن القصد مستقبلًا القبلة بالفروج، دون أن يكون في إناءٍ بولٌ فيُراقَ إلى جهة القبلة، فليس هذا في النصوص، ولا في معنى ما فيها، كما يأتي في بيان العلة، إن شاء الله تعالى. وأما الثاني: وهو كشف العورة، فخلاف المتبادر من النصوص، وخلاف قوله: "إذا أتى أحدكم الغائط"، وقوله: "ببول أو غائط"، وإهمالٌ لما ذكرته النصوص، ونَصْبٌ لما لم تذكره، وإطلاقٌ لما قيدتْ به الاستقبال؛ من كونه عند قضاء الحاجة ببول أو غائط، وتقييدٌ لما أطلقته من ذلك، إذ لم تقيد بالكشف، فالصواب الأول. المبحث الثالث: العلة، اشتهر بينهم أنها الإكرام عن أن تُستقبَل بالبول والغائط، وأوضحه بعض المحققين بقوله: "لمنافاة الإخراج المذكور لما شُرِع استقبالها لأجلهِ، وهو الصلاة". وأقول: الحكم المنصوص: نهي، فيقتضي أن العلة مفسدة فيما نهي عنه، ¬

_ (¬1) (1/ 246).

فقه هذا الحديث

فإذا اعتددنا بما تقدم، قلنا: إن استقبالها بما ذكر إهانةٌ لها، ولذا نراه بيِّنًا عند التحقيق باعتبار القصد والنية، ألا ترى أن أهل الشام لما كانوا يذكرون عليًّا عليه السلام بلفظ "أبو تراب" قاصدين الغضَّ منه، كان ذلك شتمًا، وإن لم تكن تلك الكنية في نفسها دالَّةً على نقصٍ ولا مُشعِرةً به، بل تُشعِر بالمدح بالنظر إلى سببها. وكذلك لما كتب زياد إلى الحسن عليه السلام: "إلى الحسن بن فاطمة" قاصدًا الغضَّ منه، عدَّ الحسن ذلك غضًّا [منه]. ويَهجِسُ (¬1) في نفسي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما كان يستقبل أولاً بيت المقدس، ثم حُوِّل إلى الكعبة، وغاظ اليهودَ تركُه قبلتَهم إلى غيرها غيظًا شديدًا كما هو معروف، كان ذلك مظنةَ أن يَحمِلَ بعضَهم الغيظُ على أن يتحرى استقبال الكعبة بالبول والغائط، قائلاً: إنها لا تصلح لأن تُستقبلَ بل لأن تُستقبلَ بهذا، ويكون فعله هذا تغاليًا في الكفر، وتكذيبًا بآيات الله، وإهانةً للقبلة. [ص3] فقه هذا الحديث الذي يتحقق من الواقعة هو استقبال الشام بالبول. أما الشام: فإن الرواية اختلفت؛ فجاء "مستقبلَ الشام"، وجاء "مستقبلًا بيتَ المقدس". وبيت المقدس من الشام، لكن الذي يترجح "مستقبلًا بيتَ المقدس"، فإنها الثابتة عن يحيى بن سعيد الأنصاري، وهو أكبر من عبيد الله وأجلُّ، وموصوف بالفقه، وبأنه كان يؤدي الحديث على وجهه. ¬

_ (¬1) أي: يخطر في البال.

وأما البول: فلأن الجالس لحاجته إن كان للبول فقط فواضح، وإن كان للغائط فمن لازمهِ عادةً البولُ وإن قلَّ، وليس في كلام ابن عمر ذكرٌ للغائط، والظاهر أنه لم يُثبِته؛ لأنه إنما حانتْ منه التفاتةٌ، والظاهر أنه يَصرِف نظره قبل أن يستثبت، وأقوى من هذا أن الله تبارك وتعالى لم يكن ليكشف لأحدٍ تلك الحالَ من رسوله - صلى الله عليه وسلم -. إذا تقرر هذا فقد يقال: لا حجة للمرخصين في هذه الواقعة البتة. أما أولًا: فلأن من كان بالمدينة إذا استقبل بيت المقدس تمامًا لم يكن مستدبرًا الكعبةَ تمامًا، بل يكون منحرفًا عنها إلى جهة الشرق، فلو كان ثَمَّ تغوّط لما كان إلى القبلة. وأما ثانيًا: فلأنه ليس في الواقعة ذِكرٌ للغائط. فإن قيل: فما وجه احتجاج ابن عمر بالقضية على ما أنكره من قول الناس: "لا تستقبل القبلة ولا بيت المقدس"؟ قلت: أما احتجاجه بالنسبة إلى بيت المقدس فواضح، وأما بالنسبة إلى القبلة فلعله لم يُرِد إنكارَ قولِ الناس فيها، وإنما أنكر التسويةَ بينها وبين بيت المقدس، فكأنه قال: يقولون: لا تَستقبلِ القبلةَ ولا بيتَ المقدس، فيسوُّون بينهما، وإنما الثابت أن لا تُستقبلَ القبلةُ، فأما بيت المقدس فالواقعة تردُّه. وقد يؤيد هذا أنه لم يتعرض في قوله: "إن أُناسًا يقولون .... " لاستدبار القبلة. فإن قيل: فلماذا ذكر في وصف الواقعة قوله: "مستدبر القبلة"؟ قلت: ليس هذا في رواية يحيى، وإنما هو في رواية عبيد الله، واختُلِف

فيه تقديمًا وتأخيرًا وغير ذلك كما مر، ويحيى أكبر وأجلُّ وفقيه، وممن يؤدي الحديث على وجهه، وعبيد الله إمام في الرواية، ولكن من المحتمل أن يكون تصرَّفَ في اللفظ بحسب ما فهمه من المعنى، كأنه سمع القصة باللفظ الذي رواه يحيى، فوقع في نفسه أن مقصود ابن عمر إنكار النهي عن استقبال القبلة واستدبارها بالحاجة، فلما أدّى الحديث تصرَّفَ في لفظه بحسب ذلك، فأسقط أول الكلام "إن أُناسًا يقولون ... " كما مر، وقال: "مستقبل الشام" بدل "مستقبلًا بيت المقدس" كأنه علم ما قدمتُه من أن [مَن] بالمدينة إذا استَقبَل بيتَ المقدس تمامًا لم يكن مستدبر الكعبة تمامًا؛ فوقع له أن مراد ابن عمر ببيت المقدس مطلقُ الشام، ومَن بالمدينة إذا استدبر الكعبة تمامًا يكون مستقبلًا مشارقَ الشام. وزاد قوله: "مستدبر القبلة، أو الكعبة، أو البيت" لأنه فهم أن ذلك هو المقصود من القصة. ومما يُقوِّي هذا اضطرابُه في هذه اللفظة، فتارةً يؤخَّرها على الأصل من كونها زيادة، وتارةً يقدَّمها نظرًا إلى أنها هي المقصودة بحسب ما فهمه، وتارةً يقول: "القبلة" على الأصل، وتارةً يقول: "الكعبة أو البيت"، حرصًا على أداء ما فهمه من المعنى؛ لأن استقبال الشام يصدق باستقبال بيت المقدس، فلا يلزم منه استدبار الكعبة كما مر، وإن لزم استدبار القبلة، على رأي من يقول: إنها الجهة، أي: سمت البيت وما عن يمينه ويساره إلى حد ربع السماء. [ص 4] قوله: "إذا أتى أحدكم الغائط"، احتج به بعضهم على أن النهي لا يتناول البيوت؛ لأن الغائط هو المكان المنخفض من الأرض في الفضاء، ونسب ذلك إلى البخاري؛ إذ ترجم لحديث أبي أيوب بقوله: "باب لا

تُستقبل القبلةُ ببولٍ ولا غائطٍ إلا عند البناء: جدارٍ أو نحوه". وبسط الحافظ في "الفتح" (¬1) الكلام على ذلك بما لا أرى تحته طائلاً، فإن المتبادر من الحديث أن قوله: "إذا أتى أحدكم الغائط" إنما هو كناية عن إرادة قضاء الحاجة، كما أن قوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} كناية عن الحدث. فحاصل معنى الجملة: إذا أراد أحد منكم أن يقضي حاجته، والمعتبر في الكنايات هو المعنى، ولا يفهم منها موافقة الحقيقة ولا مخالفتها، كما في قولنا: "يد السلطان طويلة" فإنما فيها أنه يقدر على تنفيذ إرادته فيمن يبعد عنه، ولا يفهم من ذلك طول الجارحة البتة. فإن قيل: فعلى هذا لا يظهر لهذه الجملة فائدة، إذ لو تُرِكتْ واقتُصِر على قوله: "لا يستقبل أحد منكم القبلة ... " لكان المقصود واضحًا. قلت: من فائدتها التنبيه على أنه ينبغي النظر قبل الجلوس حتى لا يغفل قاضي الحاجة عن التحري، أو يحتاج إلى الاستدارة بعد جلوسه، وقد لا يمكنه ذلك. نعم، في شرح الموطأ للباجي (¬2) ما يتحصل منه دعوى أن هذه العبارة إنما تكون كنايةً عن الخِراءة. أولاً: لأن الشارع لا يستنكر التصريح بالبول، بل جاء: "لا يقلْ أحدكم: ¬

_ (¬1) (1/ 245). (¬2) "المنتقى" (2/ 390) ط. دار الكتب العلمية.

هَرَقْتُ الماء، وليقلْ: بُلْتُ" (¬1). ثانيًا: لأن الملازمة الغالبة التي بُنِي عليها مدارُ الكناية إنما هي بين إتيان المكان المنخفض في الفضاء وبين الخِراءة؛ لأن العرب لها كانوا يأتون الغِيطانَ، فأما البول وحده فلم يكونوا يأتونها له. وهذا أيضًا ليس بشيء. أما الوجه الأول: فلأنه أريد هنا ما يشمل البول والخِراءة، فجيء بهذه الكناية لتعمَّهما، ولو لُوحِظ عدم الكناية عن البول لاحْتِيجَ أن يقال مثلاً: "إذا أراد أحدكم أن يبول أو أتى الغائط". وهو تطويل لا حاجة إليه، وما ورد من كراهية أن يقال: "هَرَقْتُ الماء" إنما هو - والله أعلم - لأن هذه الكناية غير واضحة، فارتكابها أقبح من التصريح. أما الوجه الثاني: فقد دفعه في الحديث قوله: "فلا تستقبلوا القبلةَ ببولٍ ولا غائطٍ"، ومن الواضح أنه لا معنى للمنع من استقبالها بالبول حال التغوط، وإباحته عند عدم التغوط. وقد ظهر من الحديث أن المدار على استقبالها بالنجس حال خروجه، ولا يختص ذلك باجتماعٍ ولا افتراقٍ، ولا بمكان دون مكان، والذين فرَّقوا بين الأبنية وغيرها، عللوا ذلك بأمور: الأول: تضايق المنازل، وتعسر التحرف فيها. قال الشافعي في "كتاب ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني في "الكبير" (22/ 62) وفي "مسند الشاميين" (3394) عن واثلة بن الأسقع بنحوه، قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (1/ 210): فيه عنبسة بن عبد الرحمن بن عنبسة، وقد أجمعوا على ضعفه.

اختلاف الحديث" هامش "الأم" (7/ 270) (¬1): "وكانت المذاهب بين المنازل متضايقةً، لا يمكن من التحرُّفِ فيها ما يمكن في الصحراء". وهذا حق، ولا يقتضي الإباحة في البيوت مطلقًا، ولا في المراحيض مطلقًا، بل المدار على التعسُّر، فمن لم يتيسَّر له لقضاء حاجته إلا موضعٌ يتعسَّر فيه عدمُ الاستقبال أو الاستدبار جاز له ذلك. ومع هذا فإنما يحتاج إلى هذا إذا قلنا: إن الاستقبال يحصل باستقبال الجهة كالجنوب لأهل المدينة، وكذلك الاستدبار على ما يظهر من قوله: "ولكن شرِّقوا أو غرَّبوا". وليس هذا بلازم؛ لاحتمال المدار على تحرَّي استقبال يمين الكعبة واستدبارها، كما هو مذهب الشافعي. ومعنى قوله: "شرِّقوا أو غرِّبوا" شرِّقوا عن القبلة أو غرِّبوا عنها، فيصدق ذلك بالتحرُّف عن يمين البيت. فأهل المدينة - وهم المخاطبون بهذا - البيتُ جنوبَهم بانحرافٍ يسيرٍ جدًّا في الجنوب، فإذا اتجه أحدهم نحو البيت فقد استقبل القبلة، وإذا تحرَّف إلى الشرق أو الغرب لم يصدُقْ عليه أنه استقبلها أو استدبرها، وصدق عليه أنه شرَّق عنها أو غرَّب. والسر في ذلك أنه إذا اعتُبِرت السماءُ أرباعًا: شرق وغرب وشمال وجنوب، فإن أحدنا إذا كان مستقبلًا بعض أجزاء الجنوب ثم تحرَّف يمنةً يقال: شرَّق، لا يقال: إلى جهة المشرق، وإن كان لا يزال مستقبلًا بعض ¬

_ (¬1) (10/ 220) طبعة دار الوفاء.

أجزاء الجنوب. وقِسْ على ذلك. وعلى هذا فلا حاجة لتخصيص النهي بالقضاء البتةَ؛ لأن المراحيض وإن كان قد يتعسَّر فيها جعلُ القبلة يمينًا أو يسارًا على التحقيق، فلا يتعسَّر فيها التحرُّف، وبه يحصل المقصود من عدم استقبال القبلة أو استدبارها. [ص 5] 6 - أخرج الإِمام أحمد وابن ماجه (¬1) وغيرهما من حديث عائشة قالت: ذُكِر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ناسًا يكرهون أن يستقبلوا القبلةَ بفروجهم، فقال: "أوَقد فعلوها، حوِّلوا مقعدي قِبَلَ القبلة". هذا الحديث ينفرد به خالد الحذاء، واختلف عنه فيه على أوجه: الأول: عنه عن عراك عن عائشة. ذكره الدارقطني (¬2) من طريق يحيى بن مطر عن خالد، وذكر أنه تابعه أبو عوانة والقاسم بن مُطيَّب. الوجه الثاني: عنه عن رجل عن عراك عن عمرة عن عائشة. قال البخاري في التاريخ (2/ 1/) (¬3). الوجه الثالث: عنه عن رجل عن عراك عن عائشة. قال أحمد في المسند (6/ 183): ثنا عبد الوهاب الثقفي ثنا خالد ... الوجه الرابع: عنه عن خالد بن أبي الصلت عن عراك عن عائشة. هكذا قاله حماد بن سلمة، فيما رواه عنه وكيع وبهز وأبو كامل ويزيد بن هارون، رواه عنهم أحمد في المسند (6/ 137 و219 و227 و239). ¬

_ (¬1) أحمد (6/ 227) وابن ماجه (324). وسبق تخريجه من مصادر أخرى. (¬2) في "السنن" (1/ 59). (¬3) "التاريخ الكبير" (3/ 156). وسبق نقل العبارة فيما مضى.

الكلام في الحديث

وكذلك يحيى بن إسحاق عند الدارقطني (¬1) وغيرهم. وأخرجه ابن ماجه (¬2) من طريق وكيع عن حماد فذكره، وفي النسخة بعده: "قال أبو الحسن القطان: حدثنا يحيى بن عبيد ثنا عبد العزيز بن المغيرة عن خالد الحذاء عن خالد بن أبي الصلت مثله". الوجه الخامس: مثل الذي قبله، إلا أن فيه عن عراك: "حدثتني عائشة". هكذا رواه علي بن عاصم عن خالد الحذاء، أخرجه عن علي أحمد في "المسند" (6/ 184) وغيره، وتابعه موسى بن إسماعيل عن حماد بن سلمة عن خالد الحذاء. قال البخاري في التاريخ [] (¬3). الكلام في الحديث حكم الإِمام أحمد والبخاري وأبو حاتم بأنه مرسل، وأن عراكًا لم يسمع من عائشة. وزاد البخاري وأبو حاتم فحكما بأنه مع إرساله غلط، وأن الصواب موقوف على عائشة. قال البخاري في التاريخ [] (¬4). وساق الدارقطني (¬5) الحديث من طريق من رواه عن خالد الحذاء عن عراك عن عائشة، ثم قال: وهذا القول أصح. ثم قال: "ورواه علي بن عاصم وحماد بن سلمة عن خالد بن أبي الصلت عن عراك ... " ثم ذكره من طريق ¬

_ (¬1) في "السنن" (1/ 60). (¬2) رقم (324). (¬3) هنا بياض في الأصل، والنص فيه (3/ 156)، وسبق ذكره. (¬4) بياض في الأصل، وانظر "التاريخ الكبير" (3/ 156). ونقل النص فيما مضى. (¬5) في "السنن" (1/ 59).

علي بن عاصم، ثم قال: "وهذا أضبط (كذا) إسناد، وزاد فيه خالد بن أبي الصلت، وهو الصواب". فيظهر دفعًا للتناقض عن كلامه أن مراده بقوله في الأول: وهذا القول أصح" أراد به صحته في عنعنة عراك. وأما قوله في الثاني: "وهذا أضبط إسناد ... وهو الصواب"، فإنما صوَّب به زيادة خالد بن أبي الصلت في السند، ولم يتعرض للسماع، فكلامه موافق لكلام أحمد ومن معه، أو غير مخالفٍ له، فمن توهم خلاف ذلك فلم يتدبر. وخالفهم بعض المتأخرين فقال: "إسناده حسن، ورجاله ثقات معروفون، وأخطأ من قال خلاف ذلك، وقد علل البخاري الخبر بما ليس بقادح ... فإن ثبوت ما قال لا يستلزم نفي هذا، فبعد صحة الإسناد يجب القول بصحتهما". واختار بعض أجلة العصر أن الحديث صحيح على شرط مسلم، وقال الذهبي في ترجمة خالد بن أبي الصلت من "الميزان" (¬1): "هذا حديث منكر .... ". أقول: ههنا مباحث: الأول: في سماع عراك من عائشة. احتج بعضهم عليه برواية علي بن عاصم التي مرّت وما معها، وبأن مسلمًا أخرج في "الصحيح" (¬2) حديث عراك عن عائشة: "جاءتني مسكينة تحمل ابنتين .... ". وبأنه عاصرها وكان ¬

_ (¬1) (1/ 632). (¬2) رقم (2630).

معها في المدينة، والحجة في المعاصرة أنه سمع من أبي هريرة، وإنما ماتت عائشة في رمضان سنة 57، فصلى عليها أبو هريرة ثم مات بعدها في السنة، ورواية الرجل عمن عاصره واحتمل لقاؤهما محمول على السماع عند الجمهور، كما شرحه مسلم في مقدمة "صحيحه" (¬1)، وشدد النكير على من خالفه. أقول: أما الحجة الأولى: ففيها أن علي بن عاصم كذَّبه جماعة، وقال يزيد بن زريع: لقيتُ علي بن عاصم بالبصرة وخالد الحذاء حي، فأفادني أشياء عن خالد، فسألته عنها فأنكرها كلها، وأفادني عن هشام بن حسان حديثًا، فأتيت هشامًا فسألته عنه فأنكره". وفي رواية أخرى عن يزيد بن زريع: "ثنا علي - بن عاصم - عن خالد بسبعة عشر حديثًا، فسألنا خالدًا عن حديث فأنكره، ثم آخر فأنكره، ثم ثالث فأنكره، فأخبرناه فقال: كذاب فاحذروه". ذكر ذلك في "التهذيب" (¬2). وأقوى ما اعتُذِر به عن علي بن عاصم قول عبّاد بن العوّام: "كان رجلاً موسرًا، وكان الوراقون يكتبون له، فنراه أُتِي من كتبه". ذكره في "التهذيب" (¬3)، ونحوه عن يعقوب بن إسحاق. أقول: إذا قبلنا هذا فلا مَحِيصَ عن القول بأنه كان يعتمد على وراقين لا يُوثَق بهم، ثم لا يَفْطَن لتخليطهم، بل ولا لكذبهم، وفوق ذلك فقد ذكروا أنه ¬

_ (¬1) (1/ 29 وما بعدها). (¬2) (7/ 347). (¬3) (7/ 345).

كان يحتقر كبار العلماء ويعيبهم، وإذا نبَّهه أحد منهم على غلط لم يقبل منه، ومثل هذا لا يصلح للمتابعة فضلاً عن الحجة. فأما رواية أحمد عنه وتقويته من شأنه، وقوله: "إنما كان كثير الغلط"، فالظاهر أن أحمد لم يبلغه كلام يزيد بن زريع، أو حملها على أن ذلك كان من علي أولاً، ثم تاب وصلح في الجملة، وعلى كل حال فالجرح المفسر الواضح يجب قبوله. وأما متابعة حماد بن سلمة فيما رواه موسى بن إسماعيل عنه، فحماد تغير حفظه بأَخَرة، وموسى ممن سمع عنه بأخرة، وقد رواه القدماء الأثبات من أصحاب حماد عنه فقالوا: عن عائشة، أو نحو ذلك. وهناك أمور أخرى تُبطل ما ذكر في الرواية المذكورة: منها: أن خالدًا الحذاء تغير حفظه بأخرة، وقد ظهر أن ذلك في هذا الحديث كما مر، وقد رواه عنه وهيب أحد الأثبات المتقنين فقال: " ... خالد عن رجل عن عراك عن عمرة عن عائشة" كما مر، فأدخل بين عراك وعائشة واسطة، وإذا ثبتت الواسطة بطل السماع، وتجويز الرواية من الوجهين كما تقدم في شأن مجاهد [ص 6] إنما يُصار إليه في الأسانيد القوية الثابتة، وليس ما هنا كذلك. ومنها: حال خالد بن أبي الصلت، وسيأتي. وأما الحجة الثانية: وهي أن مسلمًا أخرج لعراك عن عائشة في صحيحه. فجوابه من وجوه:

الأول: أن مسلمًا رحمه الله أخرج حديث المسكينة أولاً من حديث عروة عن عائشة (¬1)، ثم أخرجه من حديث عراك عن عائشة، فطريق عراك متابعة، وهم يتسامحون فيها. الثاني: أنه في فضائل الأعمال، وهم يتسامحون في روايتها. والثالث: فإن عراكًا معروفٌ بالرواية عن عروة، وإذا انضمَّ إلى هذا أن عروة قد روى الحديث المذكور، وقع في النفس أن عراكًا إنما سمعه منٍ عروة، وبذلك تُعلَم الواسطة، وإذا عُلِمت الواسطة صار الإرسال صوريًّا فقط. غاية الأمر أن يكون انضمَّ إلى هذه الأمور تجويز مسلم أن يكون عراك سمع من عائشة، وهذا التجويز تتفاوت درجاته، كما يأتي في الحجة الثالثة، وإن صح استناد مسلم إلى تجويز سماع عراك من عائشة، فإنما ذلك عند انضمامه إلى الأوجه المتقدمة، ومع هذا فرأيُ مسلم - إن صح أنه كان يجوِّز سماع عراك من عائشة - معارِضٌ لرأي أحمد والبخاري وأبي حاتم. والله أعلم. وأما الحجة الثالثة: فالمذهب الذي انتصر له مسلم في أول صحيحه، حاصله أنه إذا روى ثقة غير مدلَّس عن ثقة، وكانا معًا في عصر، وكان جائزًا ممكنًا أن يكون سمع منه وشافهه، فالرواية محمولة على السماع. وعلى هذا فالشروط ثلاثة: الأول: الثقة مع عدم التدليس. الثاني: ثبوت المعاصرة. ¬

_ (¬1) رقم (2629).

الثالث: أن يكون جواز اللقاء والسماع جوازًا ظاهرًا. وهذا مأخوذ من قول مسلم في المقدمة (¬1): "وجائزٌ ممكنٌ لقاؤه والسماع منه". فقوله: "ممكن" في معنى قوله: "جائز"، وإنما زاده تأكيدًا، ليفيد أنه لا بد أن يكون الجواز ظاهرًا قريبًا. فأما الشرط الأول، فعراك ثقة، ولم يوصف بالتدليس نصًّا، إلا أن في كلام أحمد وغيره في إنكار سماعه من عائشة الحكم عليه بأنه قال عن عائشة، ولم يسمع منها. وأما الشرط الثاني، فإنما يتحقق بثبوت أن الراوي بلغ سنَّ السماع والضبط قبل وفاة الشيخ بمدة يتحقق فيها الشرط الثالث، وليس هنا من هذا الثبوت إلا أن عراكًا سمع من أبي هريرة وضبط عنه، وأن أبا هريرة توفي بعد عائشة في السنة أي بنحو ثلاثة أشهر على الأكثر، ومن البعيد بالنظر إلى العادة أن يقال: إنه سمع من أبي هريرة وضبط عنه في وقتٍ كان قبله بشهر أو شهرين أو ثلاثة غيرَ أهلٍ للسماع والضبط. والجواب [عن] هذا: أولاً: أن في هذا الاستبعاد نظرًا. ثانيًا: أن القول بأن أبا هريرة توفي بعد عائشة في السنة لم يثبت ثبوتًا تقوم به الحجة، وإنما نُقل عن هشام بن عروة، ومولد هشام سنة 61. ¬

_ (¬1) (1/ 29).

ثالثًا: قد خالف هشامًا غيرُه في موت أبي هريرة، فقد قال ضمرة بن ربيعة وأبو معشر والهيثم بن عدي: مات سنة 58. وقال الواقدي وأبو عبيد وغيرهما: مات سنة 59. زاد الواقدي أنه صلى على أم سلمة في شوال سنة 59، ثم توفي بعد ذلك فيها. وغلَّطه ابن حجر (¬1) في وفاة أم سلمة، وغلَطُه في ذلك لا يلزم منه غلطه في موت أبي هريرة، نعم رجح ابن حجر قول هشام ومن تبعه، ولكن ترجيحه لا يوجب أن يكون قوله حجة تبنى عليه الأحكام. ثالثًا: قد استقرأتُ حديث أبي هريرة في "مسند أحمد"، فلم أجد لعراكٍ عنه إلا أحرفًا يسيرةً بمتونٍ قصيرة، والذي رأيتُه منها حديث: "ليس على المسلم في فرسه ولا عبده صدقة" (¬2)، وحديث: "إن شرَّ الناس ذو الوجهين، يأتي هؤلاء بوجهٍ وهؤلاء بوجهٍ" (¬3)، وحديث: "لا ترغبوا عن آبائكم، فمن رغب عن أبيه فإنه كفر" (¬4)، وحديث: "من أدرك من الصلاة ركعةً فقد أدركها" (¬5). فهذه الأربعة متون قصيرة كما ترى. والخامس: "خُثَيم بن عراك عن أبيه أن أبا هريرة قدم المدينةَ في رهطٍ من قومه والنبي - صلى الله عليه وسلم - بخيبر ... " (¬6). وظاهر هذا الإرسال. ¬

_ (¬1) "تهذيب التهذيب" (12/ 266). (¬2) "المسند" (2/ 242، 254 ومواضع أخرى). (¬3) "المسند" (2/ 307، 455). (¬4) "المسند" (2/ 526). (¬5) "المسند" (2/ 265). (¬6) "المسند" (2/ 345).

هذا ولا آمَنُ أن يكون زاغ نظري عن حديث أو حديثين آخرين (¬1)، ولا أن يكون لعراك عن أبي هريرة شيء آخر في غير "مسند أحمد" (¬2)، ولكن هذا كافٍ فيما أريده، وهو أن عراكًا إنما أدرك من السماع والضبط قبل وفاة أبي هريرة بيسير، فإن أبا هريرة مع كثرة حديثه كان يبذل نفسه للحديث، ويكثر من التحديث، وكان يكون تارةً هو الإِمام فيخطب الناس ويحدِّثهم، وتارةً يكون الإِمام غيره فيقوم أبو هريرة عند المنبر قبل أن يخرج الإِمام فيذكِّر ويحدِّث. فلو قيل: إن عراكًا إنما سمع من أبي هريرة وضبط عنه في مجلس أو مجلسين قبيل وفاته، لما كان بعيدًا؛ إذ لو أدرك مدةً طويلة من حياة أبي هريرة لكثرت روايته عنه. [ص 7] وأما الشرط الثالث: فلو تحقق الشرط الثاني لتحقق هذا، فإن عراكًا كان مع عائلته بالمدينة، فمدارُ الكلام عند التحقيق إنما هو على الشرط الثاني. فإن قيل: إنما مدار اشتراط العلم باللقاء وعدمه إنما هو على أن المحدث إذا روى عن رجل ولم يصرح بالسماع، هل يكون الظاهر السماع؟ قد اتفقوا على أنه إذا تحقق اللقاء ولو مرةً كان الظاهر في كل ما يحدث به الراوي عن ذلك الشيخ السماع، وإن عُلِم أن تلك اللُّقية لا تَسَعُ تلك الأحاديث كلها، بل يشمل كلامهم ما لو قال الراوي: كنت جالسًا مع ¬

_ (¬1) رحم الله المؤلف، فلم يفته شيء مما في "المسند" من هذا الطريق. (¬2) يراجع لأحاديث عراك عن أبي هريرة في غير "المسند": "إتحاف المهرة" (15/ 367 - 369).

جماعة فمرّ بنا فلان فسلّم، ويعني: ولم يكلِّم أحدًا، فمثل هذا يثبت به اللقاء، حتى لو حدَّث هذا الراوي عن ذلك المارَّ بألف حديث، ولم يُصرِّح في شيء منها بالسماع؛ لكانت كلها محمولةً على السماع. ثم اتفقوا على أن الراوي إذا عُرِف منه التدليس، كان كلُّ ما رواه ولم يصرِّح بالسماع محمولًا على الانقطاع. فهذا يدل على أن رواية الرجل عن آخر ظاهرها السماع، وإنما لم يُحمل على ذلك روايةُ المدلس؛ لأنه قد عُرِف منه مخالفة هذا الظاهر، فصار ذلك قرينةً يسقط بها الظهور. ثم إذا تقرر هذا، فقد يقال، ينبغي أن يُكتفَى باحتمال الإدراك؛ لأن الرجل إذا روى عمّن لم يتحقق إدراكه له ولكنه محتمل، كان الظاهر السماع؛ لأنه لم يتحقق ما ينافيه. وبعبارة أخرى: ليس هناك قرينة يُردُّ بها ذلك الظاهر. فالجواب: أن ابن المديني والبخاري اشترطا ثبوت اللقاء، ومعنى هذا أنهما يريانِ أن رواية الرجل عن الشيخ بدون تصريحٍ بالسماع إنما يكون ظاهرها السماع إذا كان قد لقيه ولو مرةً. نعم، زعم بعض أكابر العصر أن البخاري إنما يشترط اللقاء لصحة الحديث صحة أكيدة بحسب ما اشترطه في جامعه، وأنه لا يشترط اللقاء لأصل الصحة. وعلى هذا فلا خلاف بين قوله والقولِ الذي حكاه مسلم عن الجمهور. وهذا لا يصح؛ فإن مسلمًا صحب البخاري وحذا حذوَه، وكان من أعرف الناس بقوله، فلو كان هذا هو قول البخاري لما خفي على مسلم، ولو

عرفه لما كان هناك ما يحمله على تشديد النكير على هذا القول، كما تراه في مقدمة "صحيحه". وأوضح من ذلك: أننا نجد في كتب البخاري، كالتاريخ الكبير وغيره، أنه يحكم بعدم الصحة، ثم يُعلِّلها بعدم العلم باللقاء. والمقصود أن ذهاب ابن المديني والبخاري هذا المذهب يدل أن عندهما أن رواية الراوي عن الشيخ بدون تصريح بالسماع لا يكون ظاهرها السماع إلا إذا كان قد تحقق اللقاء. وأما مسلم ومن وافقه فإنهم وإن لم يشترطوا تحقُّقَ اللقاء فقد اشترطوا تحقُّقَ المعاصرة وإمكانَ اللقاء إمكانًا بينًا كما علمت، فكان من لازم قولهم أن رواية الرجل عن شيخٍ بدون تصريحٍ بالسماع، إنما يكون ظاهرها السماع بذينك الشرطين. وإذ لم يكن هناك مذهبٌ ثالثٌ، فهذا إجماعٌ منهم على أنه عند عدم تحقق الشرطين المذكورينِ لا يُحَمل على السماع، ولزِمَ من ذلك إجماعهم على أنه حينئذٍ لا يكون ظاهرُ الرواية السماعَ. وسرُّ المسألة: أن يُنظَر في الظهور المذكور من أين جاء؟ أمن وضع اللغة أم من العرف أم من العقل؟ فأقول: أما اللغة فلا شأنَ لها بهذا، فإن قول الرجل: "قال أو حدَّث أو ذكر أو نحو ذلك فلانٌ" حقيقة، سواء أكان سمعه منه أم لم يسمعه. وأما العرف؛ فالعرف العام لا يتحقق، وما يتراءى منه مصدره العقل، كما يأتي.

وأما العرف الخاص بأن يقال: كان من عادة أهل الحديث أن لا يروي أحدهم عمّن لقيه، أو عمّن عاصره، أو عمّن لم يتضح عدم سماعه منه إلا ما سمعه منه. فهذا يحتاج إلى [نقلٍ]، فإن عَدَدْنا كلامَ مسلم في المقدمة نقلاً، فقد خالفه قول ابن المديني والبخاري وهما أكبر منه وأجلُّ، وأعلمُ بمذاهب المحدثين وبعلل الحديث. نعم، ما اتفق عليه المذهبان يمكن أن يسلَّم، لذا فيقال: الثابت أنه كان من عادة المحدثين أن لا يروي أحدهم عمّن لقيه إلا ما سمعه منه، فإن بدا له أن يخبر عنه بما لم يسمعه بيَّن ذلك، كأن يقول: بلغني عن فلان. وشذّ أفراد فكانوا يروون عمّن لقوه ما لم يسمعوا منه، ويكتفون في البيان الذي يُخرِجهم عن الكذب بأنه قد عُرِف من شأنهم ذلك، وهؤلاء هم المدلِّسون الثقات. لكن يبقى علينا أمران: الأول: النظر في هذه العادة متى ابتدأت، فإننا نعلم أن كثيرًا من الصحابة كانوا يحدِّثون عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بما لم يسمعوه منه، وإنما سمعوه من غيرهم من الصحابة عنه - صلى الله عليه وسلم -. الثاني: أن هذا إنما ينفعنا بالنظر إلى من اشتهر بطلب الحديث، وكثرت مجالسته لأهله حتى يظهر أنه [] (¬1)، فيخرج المقلون، ويمكن التخلص عن هذين، كما يأتي إن شاء الله تعالى. [ص 8] وأما العقل: فمدخله قوي هنا، بأن يقال: الإنسان العاقل المتثبت ¬

_ (¬1) هنا خرم في الأصل.

لا يخبر إلا بما يَثِقُ به، لأمرين: الأول: التدين. الثاني: خشية الاتهام بالكذب. فإنه إذا أخبر عن رجل خبرًا (¬1) يحتمل أنه سمعه منه، ثم ظهر صحةُ عدمِ ذلك الخبر، اتُّهِم المخبر بالكذب، ولا يدفع ذلك عنه أن يقول: أنا لم أسمعه منه، إنما أخبرني عنه مخبر؛ لأنه يقال: يحتمل أن يكون صادقًا في هذا، وأن يكون إنما أراد أن يدفع عن نفسه الكذب، فإذا تكرر هذا منه قويت التهمة. فالعاقل المتثبت ينفي هذا من أول الأمر، ولمّا عُرِف هذا في الناس علموا أن العاقل المتثبت لا يخبر إلا بما يثق به، ولمّا كانت الثقة التامة إنما تحصل غالبًا بالمشاهدة صار يتراءى للناس أن العاقل المتثبت إذا أخبر عن شخص بخبر، فالظاهر أنه سمعه منه، فهذا مصدر الظهور فيما أرى. فأما الصحابة رضي الله عنهم فكانوا بغاية التحرز فيما يخبرون به عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكان الرجل منهم يعلم تحرِّيَ الآخر الصدقَ وشدةَ احترازه عن الغلط، فإذا أخبره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بشيء كان عنده في الوثوق نحوًا مما لو سمعه هو من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكانوا مع ذلك معروفين عند إخوانهم وعند التابعين بالصدق والأمانة، فكان أحدهم إذا سمع من أخيه الحديث وثقَ به هذه الثقةَ، فيرى أنه ليس في الإخبار به عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بدون بيان الواسطة غِشٌّ في الدين، ولا تعرُّضٌ للاتهام. ¬

_ (¬1) في الأصل: "أخبارًا".

أما عدم الغشّ فظاهر، وأما التعرُّض للاتهام؛ فلأنه يعلم صدق أخيه وتحرُّزه، فيثِقُ بأنه لن يظهر على الخبر المذكور أنه كذب، لا عمدًا ولا خطأً، فإن فُرِض في النادر أن يظهر أنه خطأٌ أمكنه أن يعتذر بأنه إنما أخبره فلان، ويرى أنه لن يُتَّهم بالكذب، لا هو ولا أخوه، ولا أن يُتَّهم بأنه كذب بقوله: إنما أخبره فلان؛ لعلمِ الناس بصدق الصحابة وأمانتهم. فمن تدبَّر هذا وعلم مصدر الظهور السابق، علم أن قول الصحابي: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - كيتَ وكيتَ، لا يكون ظاهرًا في أنه سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -. بل هو على الاحتمال في أن يكون سمعه منه - صلى الله عليه وسلم -، أو من صحابي آخر عنه - صلى الله عليه وسلم -. وأما التابعون فلم تكن لهم تلك الثقةُ، ولكن بقي قريبٌ منها، فإن العصر كان الغالب فيه الديانة والأمانة، واستعظام الكذب على الله وعلى رسوله، فانقسموا إلى ثلاثة أقسام: الأول: من جرى على نحو ما وقع من الصحابة، فربما روى عمّن لقيه ما لم يسمعه منه، فمن هؤلاء: أيوب السختياني، وزيد بن أسلم، وطاوس، وأبو قلابة الجرمي، وعمرو بن دينار، وموسى بن عقبة، وأبو مِجْلز، والحسن البصري، والحكم بن عتيبة، وسالم بن أبي الجعد، وسعيد بن أبي عروبة، ويحيى بن أبي كثير، وأبو سفيان طلحة بن نافع، وعبد الملك بن عمير، وعكرمة بن عمار، وأبو الزبير المكي، وابن شهاب، ومكحول، وعدة قد جمعهم ابن حجر في "طبقات المدلسين". وأكثر هؤلاء إنما كانوا يفعلون ذلك عند الوثوق بصدق من بينهم وبين من سَمَّوه، فيرون أنه ليس في فعلهم غِشٌّ في الدين، وأنه إن ظهر غلطٌ واعتذروا لا يُتَّهمون؛ لعلم الناس بصدقهم وأمانتهم، وأن من تدبر هذه

الحال وعرف مصدر الظهور الذي تقدم بيانه، يرى أنه لا يظهر من روايتهم على الوجه المذكور أنهم سمعوا، بل يكون على الاحتمال، فحالهم قريب من حال الصحابة رضي الله عنهم. وقليلٌ من هؤلاء كانوا يتساهلون فيروون على الوجه المذكور وإن لم يَثِقُوا بمن بينهم وبين من سمَّوا، والعذر في حقهم أنهم إن شاء الله كانوا أولاً يفعلون ذلك ثم يبينون في المجلس إلى إن اشتهر عنهم أنهم يفعلون ذلك، فعدوا تلك قرينة تصرف عن الظهور، وأهل الحديث يسمون ما وقع من هذا القسم تدليسًا، وهذا الاسم مناسب للمتساهلين، ولكن قد أطلق عليهم وعلى الآخرين. القسم الثاني: قوم لم يكونوا يفعلون ذلك، ولكنهم كانوا يروون عمن عاصروه ولم يَلْقَوه، كأنهم يرون أن الظهور الذي تقدم بيانه إنما يقوى إذا عُلِم أن الراوي قد لقي من سمى. وأنت إذا تدبرت لم تستبعد هذا، فاعتبِرْه بأهل عصرك، إذا أخبرك واحد منهم عن آخر لم تعلم أنه لقيه، هل يكون الظاهر عندك أنه سمعه منه؟ فإن قلت: بلى قد يكون الظاهر في ذلك إذا كانا في بلد واحد. قلتُ: أَنْعِمِ النظرَ وكثِّر الأمثلة، فإنك تجد أنه لا يظهر السماع حتى يكون الظاهر اللقاء، بل قد ترتاب في ظهور السماع مع ظهور اللقاء، بل ومع العلم به إذا كان معروفًا أن اللقاء وقع نادرًا، كأن يكون تاجر لا شأن له بمخالطة الملك، ولكنك تعلم أنه قد رأى الملك مرةً في مجلسٍ وسمع كلامه، فتدبر. والسرّ في هذا أن ذلك التاجر لا يخشى الاتهام بالكذب إذا ظهر بطلان الخبر؛ لأنه يقول: إنما أخبرني [تعلمون الملك ولا]، فإن قلت []

فلعل [] أحدهم كان [] مع من سمعه كذلك، وكان المعروف ذلك في عصرهم، وإن خفي بعضه [] على من بعدهم. ومن هؤلاء: قيس بن أبي حازم، وسعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، والشعبي، وابن سيرين، وعطاء، ومجاهد، [] من القسم الأول في جماعة كثير. راجع إن أحببتَ "المراسيل" لابن أبي حاتم. وحالهم في اشتراط الوثوق بالواسطة بينهم وبين من سمَّوا كحال القسم الأول. [ص 9] القسم الثالث: الذين لم ينقل عنهم الرواية عمن لقوه لِما لم يسمعوا، ولا الرواية عمّن عاصروه ولم []، فأخذوا أنفسهم بالأحوط لدينهم، فمن هؤلاء فيما أرى: القاسم بن محمَّد بن أبي بكر، وخارجة بن زيد بن ثابت، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وعبيدة السلماني، وعلقمة بن قيس، والأسود بن يزيد، وأبو بردة بن أبي موسى، ومطرف بن عبد الله بن الشخير، وموسى بن طلحة، وجابر بن زيد، في آخرين. وكلام أئمة الحديث في تراجم من ذكرنا وغيرها يدل أن الإرسال الخفي كان فاشيًا في التابعين، ودونه التدليس عمّن يوثق به، ودونه التدليس مع التساهل، وتجدهم لا يحكمون بالتدليس إلا بحجة، وكثيرًا ما يكتفون في الحكم الإرسال (¬1) الخفي بالقرائن، بل وبعدم ثبوت السماع، فيقولون: ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولعل الصواب: "بالإرسال".

لا يثبت له سماع من فلان، ونحو ذلك، يوجد هذا في كلام أحمد وابن معين وأبي زرعة وأبي حاتم وغيرهم. وذلك يرد على مسلم رحمه الله ما زعمه في مقدمة صحيحه من أن قول البخاري مُحدَث، ويدل دلالة واضحة أنه كان عندهم أنه لا يكون الظاهر السماع في رواية أحدهم عمّن عاصره، ولم يتبين لقاؤه له، أو تبين لقاؤه له لُقيةً لا يتضح فيها إمكان السماع، كأن يقول: رأيته يطوف بالبيت، ونحو ذلك، وإذا كان كذلك فليس في روايته عنه ما لم يسمعه منه شبهة كذب، ولا ما يخالف الأمانةَ، وذلك أن السامع المتدبر يكون الأمر عنده على الاحتمال، فعليه أن يسأل ليتضح له الحال. وإذا كان الأمر هكذا، فالقول بالنسبة الى التابعين هو القول الذي زعم مسلم رحمه الله أنه محدث، وقد سبق أنه قول الأئمة أحمد ويحيى وعلي والبخاري وأبي زرعة وأبي حاتم وغيرهم ممن تجد كلامه في تراجم أصحاب القسم الثاني، وحجتهم واضحة، وبذلك يردُّ على مسلم قوله (¬1): "فإن كانت العلة في تضعيفِك الخبرَ وتركِك الاحتجاجَ به إمكان الإرسال فيه لزمك أن لا تُثبِت إسنادًا معنعنًا ... وذلك أن الحديث الوارد علينا بإسناد هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، فبيقينٍ نعلم أن هشامًا قد سمع من أبيه، وأن أباه قد سمع من عائشة ... وقد يجوز إذا لم يقل هشام في رواية يرويها عن أبيه: سمعت أو أخبرني أن يكون بينه وبين أبيه في تلك الرواية إنسان آخر ... وكما يمكن ذلك في هشام عن أبيه، فهو أيضًا ممكن عن أبيه عن عائشة". ¬

_ (¬1) في مقدمة "صحيحه" (1/ 30، 31).

وإيضاح ذلك أن مسلمًا يوافق على عدم قبول عنعنة المدلس، وفي تمثيله بهشام نظر؛ لأنه وُصِف بالتدليس وإن لم يتفق عليه، فنحصر الكلام في عروة، فنقول: إنما قبلنا عنعنة عروة؛ لأن عروة لم يوصف بالتدليس، وقد عُرِف بالثقة والأمانة وكثرة السماع من عائشة. ثم ههنا مسلكان: الأول: ردّ ما قدمناه في الاعتذار عن المتثبتين من القسم الأول. فنقول: لا يلزم من ثقة أحدهم بمن بينه وبين من سمَّى أن يكون في نفسه ثقة، فلعله قد بان لغيره منه ما لم يَبِنْ له، وعلى فرض أنه ثقة فلعله تبين لغيره منه أنه غلط في تلك الرواية. مثال ذلك: أن يكون سمعه من عمرة أنها سمعت عن عائشة، فيرويه هو عن عائشة، وتكون عمرة قد غلطت فيه لمّا حدثته عروة، فيكون غلطها إنما يتبين برواية أخرى عنها، فلو رواه عن عمرة عن عائشة لعرفنا غلط عمرة بالمقابلة بروايتها الأخرى، ولما رواه عن عائشة لم يتبين ذلك، بل تترجح رواية عروة لظن أنه سمعه من عائشة، وإذا كان هذا الاحتمال قائمًا فروايته ذلك عن عائشة لا تخلو من الغش وقلة التثبت، وإذ كان الظن به أنه يتحفظ من مثل ذلك، فالظاهر من روايته عن عائشة أنه سمعه منها، وإذ كان الظاهر ذلك فروايته عنها تعرض للكذب، إن لم نقل: إنه كذب. وإنما تخلص المدلسون من الكذب بما قدمنا أن الظن بهم أنهم كانوا أولاً يدلسون ويبينون في المجلس، حتى عُرِف ذلك من شأنهم، فزال الظهور المذكور، وبزواله زال الغِشُّ، وعروة لم يفعل ذلك؛ وإلا لوصفه أهل العلم بأنه يدلس.

فأما الصحابة رضي الله عنهم فقد كان معروفًا عنهم أنهم كثيرًا ما يروون عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما لم يسمعوه منه، وإنما سمعوه من غيرهم من الصحابة عنه. المسلك الثاني: أن لا يتعرض لرد ما قدمناه في الاعتذار من المتثبتين من القسمم الأول، ونقول: [ص 10] [] تتبعوا روايات التابعين، وبحثوا عنها، وقابلوا بعضها ببعض، فبان لهم من كان قد يقع منه التدليس من غيره، فبينوا ذلك، ولما لم يَصِفْ أحد منهم عروة بالتدليس ثبت عندنا أنه لم يكن يدلس، فأما الإرسال الخفي فقد عرف أنه كان فاشيًا في التابعين، وفُشوُّه يجعله محتملًا من كل أحد منهم، وبذلك يزول الظهور البتة، وبزواله يزول الغش والكذب البتة. والله المستعان.

الرسالة الثانية فائدة في السواك

الرسالة الثانية فائدة في السِّواك

فائدة فى السَّواك قال - عليه أفضل الصلاة والسلام -: "لولا أن أَشُقَّ على أمّتي لأمرتُهم بتأخير العشاء وبالسَّواك عند كل صلاة". متفق عليه (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "السِّواك مَطْهرةٌ للفم مَرْضاة للربّ" رواه الشافعي وأحمد والدارمي والنسائي، ورواه البخاري في صحيحه بلا إسناد (¬2). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "ما جاءني جبريلُ - عليه السلام - قطُّ إلا أمرني بالسِّواك، لقد خَشِيتُ أن أُحْفِيَ مُقدَّمَ فيَّ". رواه أحمد (¬3). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "تَفضُل الصلاة التي يُستاك لها على الصلاة التي لا يُستاكُ لها سبعين ضعفًا". رواه البيهقي في "شعب الإيمان" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (887) ومسلم (252) من حديث أبي هريرة بالاقتصار على الجزء الثاني. وأخرجه بتمامه أحمد (7339، 7342) وأبو داود (46) والنسائي (1/ 266، 267) وغيرهم من حديث أبي هريرة. (¬2) أخرجه الشافعي في "الأم" (2/ 52) وأحمد (24203، 24332) والدارمي (690) والنسائي (1/ 10) من حديث عائشة. وعلَّقه البخاري قبل الحديث (1934). (¬3) في "المسند" (22269) من حديث أبي أُمامة. وفي إسناده عبيد الله بن زحر وعلي بن يزيد الألهاني، وهما ضعيفان. وأخرجه أيضًا ابن ماجه (289) والطبراني في "لكبير" (7876). (¬4) (6/ 70) ط. الهند، من حديث عائشة. وأخرجه أيضًا أبو يعلى في "مسنده" (8/ 142) وابن عدي في "الكامل" (6/ 399) وابن حبان في "المجروحين" (2/ 309) وفي إسناده معاوية بن يحيى الصدفي، وهو ضعيف.

وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لولا أن أَشُقَّ على أمتي لأمرتُهم بالسّواك عند كل صلاة، ولأخَّرتُ العشاءَ إلى ثلث الليل". رواه الترمذي (¬1)، وقال: هذا حديث حسن صحيح. وعنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إنّ أفواهكم طُرُقُ القرآن، فطيِّبوها بالسِّواك". قال السيد المرتضى في "شرح الإحياء" (¬2): "قال العراقي (¬3): أخرجه أبو نعيم (¬4) من حديث علي، ورواه ابن ماجه (¬5) موقوفًا على عليٍّ، وكلاهما ضعيف. ورواه البزار (¬6) مرفوعًا وإسناده جيّد. قلتُ: وكذا أخرجه السِّجْزي في "الإبانة" من حديث عليًّ مرفوعًا، ورواه أبو مسلم الكَجِّي في "السنن"، وأبو نعيم من حديث الوضِيْن، وفي إسناده مَنْدَل وهو ضعيف". وقوله: "رواه البزار ... " إلخ صرَّح به في "شرح التقريب" (¬7) بلفظ: "إن العبد إذا تسوَّك ثم قام يُصلِّي قام الملَكُ خلفه، فيستمع لقراءته، فيدنُو منه أو كلمة نحوها، حتى يضع فاه على فِيه، فما يخرجُ مِن فيه شيءٌ إلا صار في ¬

_ (¬1) رقم (23) من حديث زيد بن خالد الجهني. وأخرجه أيضًا أحمد (17032) وأبو داود (47) والنسائي في "الكبرى" (3041). (¬2) "إتحاف السادة المتقين" (2/ 348). (¬3) في "تخريج الإحياء" (1/ 132). (¬4) في "حلية الأولياء" (4/ 296). وقال: "غريب من حديث سعيد، لم نكتبه إلا من حديث بحر". (¬5) رقم (291). قال البوصيري في الزوائد: إسناده ضعيف. (¬6) كما في "كشف الأستار" (1/ 242). وسيأتي لفظه والكلام عليه. (¬7) "طرح التثريب" (2/ 66).

جَوْف الملَك، فطَهِّروا أفواهَكم للقرآن". قال: ورجاله رجال الصحيح، إلاّ أنّ فيه فُضَيل بن سليمان النميري وهو وإن أخرج له البخاري ووثَّقه ابن حبّان فقد ضعَّفه الجمهور (¬1)، فتأمّل. إذا تأمّلتَ ما مرَّ من الأحاديث علمتَ أنّ أمر السواك أمر مهمٌّ، وقد بيَّن الحديثُ الآخر أقوى علله، وهو أنّه مَطْهرة للفم، وهو طريق القرآن؛ لأن الإنسان لا يخلو من التلفظ بقرآنٍ أو ذكرٍ أو اسمٍ من أسماء الله أو اسمٍ من أسماءِ أنبيائه، وكما أن مسَّ المصحف مع الحدث حرام، وتلطيخه بالنجس المستقذَر حتى الرَّيق إنْ قارنَه استهزاءٌ فكفرٌ وإلاّ فحرامٌ، وكذا تلطيخ الذكر أو اسمٍ من أسماء الله أو اسمٍ من أسماء أنبيائه أو ملائكته ونحوه يَحرُم ذلك في الأماكن النجسة، وعند فعل المحرَّمات ومباشرة النجاسات، ويُكْرَه في الأماكن المستكْرَهةِ، وعند فعل المكروهات ومباشرة سائر المستقذرات، فكان القياس أنّه يحرم القراءة والذكر ونحوها عند تغيُّرِ الفم, لأنّ التلفظ بالقرآن بمنزلة كتابتها بل هو أبلغ، وأمّا مجرّد الرَّيق وما عَسُرَ إزالته من التغيُّر فيُعفَى عنه للضرورة. ¬

_ (¬1) انظر "تهذيب التهذيب" (8/ 292).

الرسالة الثالثة مسألة بطلان الصلاة بتغيير الآيات فى القراءة

الرسالة الثالثة مسألة بطلان الصلاة بتغيير الآيات فى القراءة

الحمد لله. الحمد لله حمدًا لا انقطاعَ له أبدًا، فإن إحسانه علينا غير مقطوعٍ عنا، والصلاة والسلام على مولانا محمدٍ رسوله الأمين، وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد، فإنه لمّا كان في يوم الجمعة لأربعٍ خلون من شوال 1339 قرأ إمامُ الصلاةِ في الجمعة بسورتَي الأعلى والغاشية؛ فأبدل لفظ الغاشية بالخاشعة، ففتح عليه الحقيرُ فلم يتنبّه، ثم فتح عليه السيّد الضياء صالح بن محسن الصَّيلمي، وكرّر مرارًا فلم يتنبّه، بل استمرّ على القراءة، فلمّا سلّم قال الصَّيلمي: "أعيدوا الصلاةَ"، فنازعه السيّد العربي محمَّد بن حيدر النعمي بأنّه لا يلزم في مذهبهما إعادةٌ في مثل ذلك، ثم قال له: "الإمامُ حاكمٌ وهو شافعيٌّ". فسُئِلَ الحقيرُ عن الصلاة في مذهبنا، فقلتُ: صحيحة. فلما كان بعد ذلك قال لي الصَّيلمي: "ما دليل الشافعية على عدم بطلان الصلاة؟ ". فقلتُ له: أمّا صلاتُك أنتَ فقد بطلتْ بمذهبك؛ لأنّ فيه أنّه ليس للمأموم الفتحُ على الإِمام في ما زاد على الواجب، وهو منه الفاتحة وثلاث آياتٍ في جميع الصلاة لا في كلَّ ركعةٍ، هذا [مع] (¬1) أنّه كرَّر الردَّ بعد أن تجاوز القارئ الآية بآياتٍ. فقال: لستُ ملتزمًا للمذهب، يعني: بل مجتهد. ¬

_ (¬1) هنا كلمة غير واضحة. ولعلها ما أثبت أو نحوها.

فقلتُ - وعلى تسليم دعواه -: إذًا ليس لك أن تناظرني؛ لأنّي مقلّدٌ آخُذُ قولَ إمامي، ولا يلزمني معرفة دليله. لكني أتنازل عن هذا فأقول: لا يلزم إمامي الحجةُ؛ لأنه متمسك بالأصل، وهو عدم البطلان، فالبيّنة عليك. ولكنّي أتنازل عن هذا فأقول: لا يخلو دعوى البطلان إمّا أن تكون لتغيير نظم القرآن، وإمّا للإتيان بكَلِمٍ ليست من القرآن. أمّا الأول فيدلّ على استصحابِ الأصل فيه حديث عليًّ عند أبي داود والترمذيّ والنسائي والحاكم (¬1) قال: "صنعَ لنا عبد الرحمن بن عوفٍ طعامًا، فدعانا وسقانا من الخمر، فأخذتِ الخمرُ منّا وحضرتِ الصلاةُ، فقدّموني، فقرأتُ: (قل يا أيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون، ونحن نعبد ما تعبدون). فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43]. هكذا ذكره الجلال السيوطي في "أسباب النزول" (¬2). ولفظ أبي داود بعد السند إلى علي: عن عليًّ - عليه السلام -: "أن رجلاً من الأنصار دعاه وعبد الرحمن بن عوفٍ، فسقاهما قبل أن تُحرَّم الخمر، فأمَّهم عليٌّ في المغرب، فقرأ: (قل يا أيها الكافرون) فخلّط فيها، فنزلت: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ}. والاستدلال بهذا مِن حيثُ إنَّه لم يرد أنّهم أُمِروا بالإعادة، والأصل عدم ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3671) والترمذي (3026) و"السنن الكبرى" للنسائي (11041) و"المستدرك" (2/ 307). (¬2) "لباب النقول" (ص 68، 69).

الأمر، بل والظاهر، إذ لو كان لنُقِل. وأمّا قولهم: "الدليل إذا تطرَّقَه الاحتمال سقط به الاستدلال" فليس هذا منه. فإن قيل: هذا قبل تحريم الكلام في الصلاة. قلنا: لسنا في الكلام، بل نحن في تغيير النظم، إذ قد يقال: إن تغيير النظم أشدُّ من الكلام الأجنبيّ. وسيأتي بحث الكلام إن شاء الله. فإن قيل: قد نُسِخ جواز صلاة السكران. قلنا: نعم، ولكن لم يُنسَخ جواز صلاة من غيَّر النظمَ غيرَ مُتعمِّدٍ، مع أنهم في تلك الصلاة كان التخليط بسببهم؛ إذ الشربُ باختيارهم؛ فصحّة صلاة من خلّط بغير سببٍ منه من باب أولى. فإن قيل: فإنّما كان نسخ صلاة السكران بسبب التخليط. قلنا: هذا لا يدل على بطلان الصلاة تلك ولا ما بعدها، فإنه إنما هو تحريم الصلاة مع وجود سبب التخليط، بل سبب () (¬1) مُبطل، فإذا وقع سبب آخر للتخليط ليس باختيار المخلّط فهو معذور فيه، مع أنّ التخليط الذي في الحديث فظيعٌ في نفسه، وأمّا المخلِّط فمعذورٌ. فإن قيل: لم يعد القارئ لتصحيح القراءة؟ قلتُ: ليست القراءة واجبةً حتى تبطل الصلاة لبطلانها، إذِ الواجبُ في مذهبه الفاتحة، وفي مذهب غيره هي وثلاث آياتٍ في عموم الصلاة، وقد قرأ سورة الأعلى في الركعة الأولى، مع أنَّ التخليط هنا لم يكدْ يغيِّر المعنى، ومع ذلك فالحديث لم يرد فيه إعادته القرآن. ¬

_ (¬1) كلمة غير واضحة.

وأمّا الثاني وهو: أن يكون سبب البطلان هو الإتيان بكلمةٍ ليست من القرآن، فلفظُ الخاشعة قد جاءت في القرآن، مع أنَّ إتيانه بها خطأٌ، والكلام الأجنبيُّ لا يبطل صلاة المعذور فيه، سواءً كان جاهلاً أو ناسيًا أو مخطئًا، فقد قال تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]، وهي دعوة مجابةٌ لجميع الأمة، وفي الحديث: "رُفِع عن أمّتي الخطأ والنسيان وما استُكْرِهوا عليه" (¬1). فإن قيل: رُفِع الإثمُ لا الحكم. قلنا: كلاّ، ففي مسلمٍ وغيره (¬2) عن معاوية بن الحكم السُّلَمي قال: "بينا أنا أصلّي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذْ عطسَ رجلٌ من القوم؛ فقلتُ: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلتُ: واثُكْلَ أُمِّياه! ما شأنكم تنظرون إليَّ؟! فجعلوا يضربون أيديَهم على أفخاذهم، فلمّا رأيتُهم يُصمِّتونني لكنّي سكتُّ، فلمّا صلّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبأبي هو وأمّي ما رأيتُ معلِّمًا قبله ولا بعده أحسنَ تعليمًا منه، فوالله ما كَهَرني ولا ضربَني ولا شتمَني، ثم قال: "إنّ هذه الصلاة لا يصلُح فيها شيءٌ من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن"، أو كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر الحديث. ¬

_ (¬1) أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الأثار" (3/ 95) وابن حبان (7219) والدارقطني (4/ 170 - 171) والحاكم (2/ 198) والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 356) من حديث ابن عباس بلفظ: "إن الله تجاوز عن أمتي ... ". وإسناده صحيح. وأخرجه ابن ماجه (2045) أيضًا، ولكن في إسناده انقطاع بين الأوزاعي وابن عباس. (¬2) مسلم (537) وأبو داود (930، 931) والنسائي (3/ 14 - 18).

والدليل منه أنه تكلّم جاهلاً فلم يأمرْهُ الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالإعادة، مع وضوح أنّ ذلك كان بعد تحريم الكلام، كما لا يخفى من إنكارِ الصحابة ثم كلامِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا حريٌّ أن يكون مجمعًا عليه؛ لأنّ الجاهل المعذور إذا أتى مبطلاً لا يلزمه الإعادةُ، ومنه أهل قُباء الذين كانوا يصلُّون مستقبلين بيتَ المقدس فأُخْبِروا بتحويل القبلة فداروا كما هم (¬1) فهم قد فعلوا بعضَ الصلاةِ الى غير القبلة ولم يؤمروا بالإعادة، وأدلّة هذا كثيرةٌ، هذا في الجهل. وأمّا السهو أو النسيانُ ففيه حديث ذي اليدين المشهور، ولفظ البخاريّ (¬2) فيه: عن أبي هريرة قال: صلّى بنا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فساقه. ولمسلمٍ وأحمدَ وغيرهما (¬3) عن أبي هريرة قال: بينما أنا أصلّي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وذو اليدين هذا غير ذي الشمالين الشهيد ببدرٍ، فإنّ هذا عاش بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحدَّث بهذا الحديث كما عند الطبراني (¬4). وإسلامُ أبي هريرة وعمران بن حصين - الراوي الآخر - متأخّر عن تحريم الكلام، وكذا إسلامُ معاوية بن حُدَيج قبل موته - صلى الله عليه وسلم - بشهرين، وله حديث عند أبي داود (¬5) بسندٍ صحيحٍ، فيها السهو وخطاب طلحة للنّبى - صلى الله عليه وسلم - والبناء. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (40، 399) ومسلم (525) من حديث البراء بن عازب. (¬2) رقم (6051). (¬3) مسلم (573) وأحمد (9444) والنسائي في الكبرى (567). (¬4) في "المعجم الكبير" (4224). (¬5) رقم (1023).

فهذه الأحاديثُ متأخرة عن تحريم الكلام بالإجماع، على قول من قال: إنّ النسخ بمكة، وعلى قول من قال: إن النسخ بالمدينة أوائلَ الهجرة، على أن الصحيح أنه كان بالمدينة، لحديث زيد بن أرقم عند البخاري (¬1) وغيره: "إنْ كنا لنتكلم في الصلاة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، يُكلَّم أحدنا صاحبَه بحاجته، حتى نزلت: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ ...} الآية [البقرة: 238]، فأُمِرْنا بالسكوت". والآية مدنية باتفاقٍ. ولا يعارضه حديث عبد الله عند البخاري (¬2) وغيره أيضًا أنَّه قال: "كنا نُسلِّم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في الصلاة، فيردّ علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي سلّمنا عليه، فلم يردَّ علينا، وقال: "إنّ في الصلاة لشُغلاً". فإنّ عبد الله رجع من الحبشة إلى مكة أولاً، ثم رجع إلى الحبشة، ثم رجع إلى مكة في ثلاثة وثلاثين رجلاً، فمات منهم رجلان بمكة وحُبِس منهم سبعة، وتوجّه الى المدينة أربعةٌ وعشرون رجلاً، فشهدوا بدرًا، ومنهم عبد الله كما في سيرة ابن إسحاق (¬3)، وتضافرت عليه الأحاديث. مع أن عبد الله وافق زيدًا على أنّ الناسخ: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} كما في البخاري (¬4)، والآية مدنيةٌ باتفاق. وقد حقّق الحافظ في "الفتح" (¬5) هذا المبحثَ بما لا مزيدَ عليه، وأكثرَ ¬

_ (¬1) رقم (1200). (¬2) رقم (1199). (¬3) انظر "سيرة ابن هشام" (1/ 681). (¬4) رقم (1199، 1200). (¬5) (3/ 74، 75).

من الأدلة على أن تحريم الكلام إنّما كان بالمدينة، فراجعْه إن شئت، فإنّ أكثر ما ذكرناه هنا مأخوذٌ منه. وفي هذا أوضح حجّةٍ على من قال: إنّ الكلامَ يُبطِل الصلاة ولو سهوًا. ولا حجّة لهم في قولهم: "كيف يُعذَر الناسي وله حالة تُذكِّره، وهي أقوالُ الصلاة وأفعالها". فإنَّ هذا لا يصدُقُ على من ظنَّ التمامَ مع أنّ النصّ قد ورد بضدِّ ما قالوه، فإنّ في حديث ذي اليدين أنَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - تكلّم، وذا اليدين تكلّم، والصحابة تكلّموا. فإن قيل: في هذه سلّمنا، فكيف بالعقل حالَ مباشرة أفعال الصلاة وأقوالها، فإنّ العلّة موجودةٌ في ذلك ولا نصَّ؟ قلتُ: يُلْحَق ظنُّ التمام بمثله؛ لأنَّه وإن لم تكنِ العلّة المذكورة موجودةً فثَمَّ علّةٌ أخرى وهي عدم الضبط، بل هذه أشدُّ، وحيث لم يعتبر الشرعُ تلك فلا تُعتَبر هذه. ولا دليل في الحديث لمن قال: "إنّ الكلام لمصلحة الصلاة لا يُبطلها ولو عمدًا"، ويستدلُّ له بأنّ ذا اليدين والصحابة تكلّموا بعد قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كلُّ ذلك لم يكن" أو نحو ذلك، فعلموا أن الصلاة لم تُقصَر مع أنّها لم تتمَّ. فقد أجاب بعضُهم بأن الصحابة لم ينطقوا، وإنما أومَؤوا، كما صرّح به في "سنن أبي داود" (¬1)، ويحمل ما ذكره غيره من القول على المجاز. وهذا وجيهٌ في غير ذي اليدين. وأما هو فأجيبَ عنه وعن غيره بتقدير [] (¬2): ¬

_ (¬1) رقم (1008). (¬2) هنا كلمة غير واضحة.

بأنّ إجابة النبي - صلى الله عليه وسلم - بل ومخاطبته لا تُبطِل, لأنّهم قد كانوا يقولون في التشهد: "السلام عليك أيّها النبي ورحمة الله وبركاته" وهو حيٌّ حاضرٌ. وأقول: ولو سُلَّم أن خطابه كغيره فلا نُسلِّم أنهم غير معذورين، فإنّهم قد يكونون يظنُّون أن السلام والتحوّل عن القبلة والكلام مُبطِل للصلاة، وأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - سيستأنف لهم الصلاة، فهم يظنون أنّهم ليسوا حالَ الكلامِ باقين في حكم الصلاة. لكن حديث معاوية بن حُدَيج - المتقدم ذكره - فيه خطاب طلحة له - صلى الله عليه وسلم -[] (¬1) من هذا الاحتمال بعض الضعف؛ لأنَّ إسلام معاوية قبل موت النبي - صلى الله عليه وسلم - بشهرين، والراجح تأخُّر قضيّته عن قضيّة ذي اليدين، والظاهر أنَّ طلحة كان قد علم أن السهو لا يقطع الصلاة. وإن كان هذان الوجهان ضعيفين فيبقى الجواب الأول، وهو أنّ خطابه عليه الصلاة والسلام لا يُبطِل. وأمّا الخطأ - ومنه واقعتنا الحاضرة - فهو بالجهل أشبهُ منه بالنسيان؛ لأنّ علّة من أبطل بالنسيان أن للمصلي حالةً تُذكّره من أفعال الصلاة وأقوالها، وهذا غير موجود في الجهل. وقد قدَّر أصحابنا الكلام الذي لا يُبطِل سهوه بستِّ كلماتٍ أخذًا من حديث ذي اليدين، وحجّتهم أنّ ظاهر النصِّ والقياس إبطال الكلام مطلقًا كما هو مذهب الحنفية، وقد مرّ توجيهه وما فيه. فلمّا ورد النصُّ بخلاف ذلك لزِمَ قصْرُه حيث ورد. وهذا مثل قولهم في المدة التي لا يجوز للمسافر أن يقصر فيها إذا مكث بمنزلٍ ولم ينوِ إقامةَ أربعةِ أيام كواملَ, لأن ظاهر ¬

_ (¬1) هنا كلمة غير واضحة.

حديث: "يقيم المهاجر [بمكة] بعد قضاء نسكه ثلاثًا" - متفق عليه - (¬1) على أن الثلاث لا تقطع السفر، وأفهمَ أنّ الأربعة تقطعه، ويلحق نيّةَ الإقامة الإقامةُ بالفعلِ. وحديث "الصحيحين" (¬2) عن أنس في القصر، وفيه: قال: "أقمنا بها عشرًا" أي بمكة، قالوا: العشر بمكة وضواحيها، والتي بمكة نفسها أربعة أيام. فلما رُدَّ بإقامته - صلى الله عليه وسلم - ثمانية عشر يومًا يقصُر، حملوه على أنه لم يَنْوِ ذلك، بل كان متردّدًا متى [] (¬3) داع الحاجة يرحل. وقد يقال عليه: إن المسافر لا يسلب اسم السفر حتى يرجعَ إلى أهله، أو يستوطنَ بلدًا آخر، أو يقيمَ فيه مدةً تسلُبه اسمَ السفر عُرفًا، والأدلةُ علَّقتِ القصرَ باسم السفر، فما دام اسمُ السفر موجودًا فالقصر مشروع. وأمّا دليلاً الأربعة أيام فلم يدلاّ على سلب اسم السفر [] (¬4)، أنّ الأول يدلُّ على أنّ الأربعة أيام ترفع حكم السفر؛ لأنّ المهاجر حُرِّم عليه طولُ المكث بمكة لحكمةٍ أخرى. وأمّا حديث أنس فلا دليلَ فيه، لأنّه من جملة وقائع الأحوال، ثم عثرت على كلام لابن القيم، وفي هذا خلافٌ طويل بين السلف، وكذا في مسافة القصر، والظاهر أنها ما يسمّى سفرًا للآية وهي على إطلاقها. ثم السفر ليس ¬

_ (¬1) البخاري (3933) ومسلم (1352) - واللفظ له - من حديث العلاء بن الحضرمي. (¬2) البخاري (1081) ومسلم (693). (¬3) هنا كلمة غير مقروءة. (¬4) هنا كلمة غير واضحة ولعلها: سُلِّم.

مجملاً حتى يُبيَّن بما يرد من الأحاديث، بل هو مطلق في كل سفر، ولا يُقيَّد بما ورد من فعله - صلى الله عليه وسلم -, فإنّ الأفعال وقائعُ أحوال، ولا دليلَ على أنه لو وقعَ دونها في المسافة أو فوقَها في مُدّة اللبثِ لأتمّ، فتأمّلْ. وهذا بعد ما تصفحَّتُ الأحاديث المستدلَّ بها في ذلك؛ فلم أرَ فيها ما يصحُّ الاحتجاجُ به، ولكنّي تعظَّمتُ هذه العبارة حتى عثرتُ على قول ابن القيّم في "زاد المعاد" (¬1): "ولم يَحُدَّ - صلى الله عليه وسلم - لأمته مسافةً محدودةً للقصر والفطر، بل أطلق لهم ذلك في مطلق السفر والضرب في الأرض، كما أطلق لهم التيمّم في كلِّ سفرٍ، وأمّا ما يُروى عنه [من التحديد باليوم أو] (¬2) اليومين أو الثلاثة فلم يصحَّ عنه فيها شيءٌ البتة، والله أعلم". وإن كان قوله: "كما أطلق لهم التيمُّم في كلِّ سفرٍ" لا حجَّة فيه؛ لأنَّ العلة في التيمُّم عدمُ الماء، وإنّما خرج السفر مخرجَ الغالب، وأمّا في القصر فالعلّةُ في نفس السفر. وأمّا تحديد الكلام بالستِّ كلماتٍ فيقال: (التي دلَّ الحدُّ عليه) (¬3) السهو سهوان كما تقدّم، إمّا أن يكون في أثناء الصلاة فيغفل عنها، ويتكلّم بكلامٍ غير مُبطِلٍ وإن كثرُ ما دام معذورًا (¬4)، فيه للنصِّ. فإن قيل: سلّمنا أنه قد خرج من الصلاة مثلاً، فله الكلام (على الأخير ¬

_ (¬1) (1/ 463). (¬2) سقطت من الأصل، استدركناها من "الزاد". (¬3) هكذا وجدت، وقبلها كلام قد خُط عليه. (¬4) فوق هذه الكلمة كُتب: "وإما أن يكون بطل".

بقدر الحاجة) (¬1)، في الأخير للنصِّ، فكيف يُلحق الأول به مع أنّ فيه تقصيرًا ليس في الثاني، وهو أنَّ له حالةً تذكّره؟ قلنا: وقد يقال: وفي الثاني تقصير أيضًا، وهو عدم الضبط مع إمكانه لولا السهو، فلمّا لم يعتبر الشارع عدم العذر فلا نعتبره. وأمّا كونه ستَّ كلماتٍ أو أقلَّ أو أكثرَ فواقعةُ حالٍ لا يُقيَّد بها الحكمُ، ولا دليلَ على أنَّه يُبِطل ما فوقها، وهذا لا غبار عليه إن شاء الله تعالى. فإن قيل: التقصير حاصلٌ لعدم الضبط. قلنا: لا تقصيرَ في ذلك يوجب العقوبة؛ إذ قد وقع ذلك منه - صلى الله عليه وسلم - وإن اختلف السبب. وأمّا ما أشرنا إليه سابقًا أن مذهب الهدويّة (¬2) أنّ الفتح على الإِمام إنّما جاز للضرورة، وهم بَنَوا قولهم على أنّ القراءة مع قراءة الإِمام مُبطِلة، ولعمري إنّه لظاهر قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204]، نزلت في القراءة خلف الإِمام، وقيل: في الكلام والإمام يخطب، وأُطلِق القرآنُ على الخطبة مجازًا، وقيل: في الكلام في الصلاة؛ فعلى هذا تكون ناسخةً لجواز الكلام. وفي حديث مسلمٍ (¬3) وغيره: "وإذا قرأ فأنصتوا" يعني الإمامَ، وأحاديث ¬

_ (¬1) هذه العبارة وجد عليها بعض الضرب. (¬2) كذا في الأصل، والصواب: "الهادوية" نسبة الى الهادي. (¬3) رقم (404) من حديث أبي موسى الأشعري. وأخرجه أيضًا أحمد (19723) وأبو داود (973) والنسائي (2/ 242) وابن ماجه (847). قال أبو داود: قوله "فانصتوا" =

كثيرة يُخصِّصها حديث أبي داود والترمذي والنسائي (¬1) عن عبادة بن الصامت قال: كنّا خلفَ النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الفجر، فقرأ فثقُلَتْ عليه القراءة، فلما فرغ قال: "لعلكم تقرأون خلف إمامكم؟ " قلنا: نعم يا رسول الله. قال: "لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب، فإنه لا صلاةَ لمن لم يقرأ بها". وفي روايةٍ لأبي داود (¬2): "وأنا أقول ما لي ينازعني القرآن، فلا تقرأوا بشيء من القرآن إذا جهرتُ إلا بأمّ القرآن". مع عموم الأدلة المُلزِمة بقراءة الفاتحة. وفي "أسباب النزول" (¬3): "وأخرج ابن أبي حاتم (¬4) عن الزهري قال: نزلت هذه الآية يعني قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ ...} الخ في فتًى من الأنصار كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلّما قرأ شيئًا قرأه". ¬

_ = ليس بمحفوظ، لم يجيء به إلا سليمان التيمي في هذا الحديث. وأعلَّه كذلك الدارقطني في "العلل" (7/ 254) وأبو علي النيسابوري كما في "السنن الكبرى" للبيهقي (2/ 156). وقد رُوي أيضًا من حديث أبي هريرة، أخرجه أبو داود (604) والنسائي (2/ 141، 142) وابن ماجه (846)، قال أبو داود: "وهذه الزيادة وإذا قرأ فأنصتوا" ليست بمحفوظة، الوهم من أبي خالد". وتكلم فيه أيضًا ابن معين وأبو حاتم الرازي والدارقطني والبيهقي، انظر "سنن" الدارقطني (1/ 329) والبيهقي (2/ 156) ولكن صححه مسلم في صحيحه (1/ 304) دون أن يخرّجه. (¬1) أبو داود (823) والترمذي (311) والنسائي (2/ 141). وقال الترمذي: حديث حسن. (¬2) رقم (824). (¬3) "لباب النقول" (ص 105، 106). وانظر "الدر المنثور" (6/ 721). (¬4) وأخرجه أيضًا الطبري في "تفسيره" (10/ 659).

وقال سعيد بن منصور في "سننه" (¬1): حدثنا أبو معشر عن محمَّد بن كعب قال: "كانوا يتلقَّفون من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذا قرأ قرأوا معه، حتى نزلت هذه الآية التي في الأعراف: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا}. فهذا دليلٌ على أنّهم كانوا يقرأون غير الفاتحة. وفي حديث أبي داود (¬2): "فجاء رجلٌ فقرأ خلفه بسبح اسم ربّك الأعلى". وفي حديث أبي هريرة عند مالكٍ وأحمد وأبي داود والترمذي والنسائي، ولابن ماجه نحوه (¬3): "أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انصرف من صلاةٍ جهرَ فيها بالقرآن، قال: "هل قرأ معي أحدٌ منكم؟ " فقال رجلٌ: نعم يا رسول الله، قال: "إني أقول ما لي أُنازَع". قال: فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". قال بعضهم: لعلّ هذا هو الناسخ لما تقدّم، يعني حديثَ عبادة ونحوه؛ لأنّ أبا هريرة متأخر الإِسلام. قلتُ: هذا باطلٌ من وجوه: أولاً: دعوى النسخ مع إمكان الجمع، بل الجمع هو الظاهر، فالقصة واحدةٌ، وإنّما زاد عبادة: "إلا بأمّ القرآن"، وهي زيادة ثقةٍ مخصِّصةٌ لعموم ¬

_ (¬1) رقم (978 - تفسير). (¬2) رقم (828) من حديث عمران بن حصين. (¬3) "الموطأ" (1/ 86) و"مسند" أحمد (7270) و"سنن" أبي داود (826) والترمذي (312) والنسائي (2/ 141) وابن ماجه (848).

الحديث، أو مقيَّدةٌ لإطلاقه، مع أن حديث عبادة أصله في الصحيحين (¬1) بلفظ: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب". وأمّا اختلاف العبارتين فهذا من الرواية بالمعنى، وهو واضحٌ، وممّا يدلُّك على ذلك حديث أبي هريرة عند مسلمٍ (¬2) وغيره قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من صلَّى صلاةً لم يقرأ فيها بأمّ القرآن فهي خِداجٌ، ثلاثًا، غير تمامٍ". فقيل لأبي هريرة: إنّا نكون وراء الإِمام؟ قال: اقرأْها في نفسك، فإنّي سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "قال الله تعالى: قسمتُ الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل ... " الحديث. واستدلالُ أبي هريرة به من حيث إنّه قال: "قسمتُ الصلاة"، ثم فسَّرها بالفاتحة، فدلّ على أنّ الفاتحة هي الجزء الأهمُّ في الصلاة، كما في قوله: "الحجُّ عرفة" (¬3)، فكيف يخفى عليه أن الحديث الذي رواه ناسخٌ لغيره؟ مع أنّ الحديث الذي رواه وذكرناه آنفًا هو عين حديث عبادة، إلا أنّه في حديث عبادة تلك الزيادة. وقوله: "لا صلاة ... " إلخ، النفي واقع على الذات, لأن ألفاظ الشارع محمولة على عُرفه، ولا يسمّى عنده صلاة إلا الصحيح المجزئ، فغير الصحيح المجزئ لا يسمّى عنده صلاة، فنفيه حقيقةٌ, ولو سُلَّم امتناع انتفاء ¬

_ (¬1) البخاري (757) ومسلم (394). (¬2) رقم (395). وأخرجه أيضًا أبو داود (821) والترمذي (2953) والنسائي (2/ 135). (¬3) أخرجه أبو داود (1949) والترمذي (889) والنسائي (5/ 264) وابن ماجه (3015) من حديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي. وإسناده صحيح.

الذات فأقرب المجازات الصحة والإجزاء، وهذا واضح لا غبار عليه، مع ورود أحاديث كثيرة تنصُّ على وجوبها وبطلان الصلاة عند عدمها. وبهذا - ولله الحمد - تقرّر أن الفاتحة لا بدّ منها للإمام والمأموم في كل ركعة، لحديث المسيء صلاته (¬1)، وفيه: "ثم اقرأْ بما تيسَّر معك من القرآن". فعلَّمه إلى تمام ركعة، وقال في آخره: "ثم افعلْ ذلك في صلاتك كلها". وفي رواية لأحمد وابن حبان (¬2): "ثم افعلْ ذلك في كل ركعة". وقد تحقَّق من حديث عبادة أن الفاتحة لا تصحُّ الصلاة إلا بها، فتكون هي الذي تيسَّر، وإذا لم يُسلَّم هذا فلا أقلّ من ثبوت وجوب ما تيسَّر في كلّ ركعة، ثم عيَّن حديثُ عبادة وحديثُ أبي هريرة الفاتحةَ، فتكون هي بمكان ما تيسَّر، وذلك في كلّ ركعةٍ، كذا قالوه. وبعدُ، فقد تقرّر أن الرجل المسيء صلاته هو خلاّد بن رافع الأنصاري، كما ذكره ابن حجر وبيَّن مستنده في ذلك في "الفتح" (¬3)، وخلاّد استشهد ببدرٍ، فدلّ على أنه كان أولَ الأمر يكفي في القراءة ما تيسر من القرآن: الفاتحةُ أو غيرها، ثم أوجبت الفاتحة، وعلى هذا يدلُّ حديث أبي داود (¬4) عن أبي سعيد قال: "أُمِرْنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسَّر"، وعن أبي هريرة (¬5) قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اُخرجْ فنادِ في المدينة أنّه لا صلاة ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (757) ومسلم (397) من حديث أبي هريرة. (¬2) "مسند أحمد" (18995) و"صحيح ابن حبان" (1787) من حديث رفاعة الزرقي. (¬3) (2/ 277). (¬4) رقم (818). (¬5) عند أبي داود (819).

إلا بقرآنٍ، ولو بفاتحة الكتاب فما زاد". وفي روايةٍ (¬1): "أن أناديَ أنه لا صلاة إلا بقرآنٍ: فاتحة الكتاب فما زاد". فهذا يشير إلى النسخ؛ لأنّ النداء لا يكون إلا في أمرٍ تجدّد, لأنَّ إسلام أبي هريرة متأخّر جدًّا، ويستحيل أن يكون مَضَت تلك المدّة الطويلة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يُعلِمِ الناسَ بوجوب قراءة الفاتحة حتى يحتاج في إعلامهم حينئذٍ إلى نداءٍ إلا وهي لم تكن واجبةً، وهذا - إن شاء الله - مُتَّجهٌ. وقد يقال: هذه الأحاديث دلّت على وجوب قدر زائدٍ على الفاتحة. فنقول: قال الحافظ في "الفتح" (¬2): "وتُعقِّب بأنّه - أي قوله: "فصاعدًا" - ورد لدفع توهّم قصر الحكم على الفاتحة، قال البخاريّ في "جزء القراءة" (¬3): وهو نظير قوله: "تُقطَع اليدُ في رُبع دينارٍ فصاعدًا" (¬4)، وفي حديثٍ لأبي هريرة موقوفًا (¬5): "وإن لم تزِدْ على أمّ القرآن أجزأتَ"، ولابن خزيمة (¬6) من حديث ابن عبّاس أنّ النّبي - صلى الله عليه وسلم - قام فصلّى ركعتين لم يقرأ فيهما إلا بأمّ الكتاب. واعلم أنّ الأدلة تُعطِي أنّ القراءة إذا جهر الإِمام حرامٌ إلا بالفاتحة، ¬

_ (¬1) عند أبي داود أيضًا (820). (¬2) (2/ 243). (¬3) (ص 48) بتخريجه "تحفة الأنام". (¬4) أخرجه البخاري (6789) ومسلم (1684) من حديث عائشة. (¬5) أخرجه البخاري (772). (¬6) في "صحيحه" (513).

وكذا الدعاء، فإنّ ظاهر الآية الوجوب، وقد قال: "فأنصِتوا"، وظاهر النهيّ التحريم، وقد قال: "لا تفعلوا" و"فلا تقرأوا" وغير ذلك، لكنّه يجوز قول: "سبحان ربي الأعلى" عند قراءة الإِمام: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} لوروده (¬1). فأمّا قول: "وأنا على ذلك من الشاهدين" بعدَ {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين: 8]، وقول: "بلى" بعدَ {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:40]، و"آمنا بالله" بعد {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [المرسلات: 50] فذلك بعد تمام القراءة، فهو بمنزلة التأمين. نعم، أمّا الدعاء عند آيات الثواب والاستعاذة عند ذكر العذاب، فإن دعا الإِمام فللمأموم الدعاء؛ لأنّ الإِمام حينئذٍ ليس في قراءة. وأمّا من قال: "إن الآية نزلت في الكلام في الخطبة" - وهو الذي يميل إليه المفسِّرون - فهو موافقٌ لحديث: "من قال لصاحبه يوم الجمعة والإمام يخطب "صَهْ" فقد لغا، ومن لغا فلا جمعة له" (¬2). وعليه فالظاهر وجوب الإنصات إلا إذا كان الكلام لمصلحة الخطبة، كما في حديث الذي سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب بقوله: "متى الساعة؟ " فقال: "ما أعددتَ لها؟ " (¬3). فافهم. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (2066) وأبو داود (883) من حديث ابن عباس. (¬2) أخرجه أبو داود (1051) من حديث علي بن أبي طالب، وإسناده ضعيف. (¬3) أخرجه البخاري (3688، 6167، 6171، 7153) ومسلم (2639) من حديث أنس بن مالك. وليس فيه أنه سأله وهو يخطب. بل في بعض طرقه أنه سأل والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان خارجًا من المسجد.

وهل النفخُ والتنحنح ونحوه يُعدُّ كلامًا يُبطِل الصلاة؟ الأصحُّ عند أصحاب الشافعيّ: نعم، والصحيح هو الصحيح، والله أعلم.

الرسالة الرابعة هل يدرك المأموم الركعة بإدراكه الركوع مع الإمام

الرسالة الرابعة هل يدرك المأموم الركعة بإدراكه الركوع مع الإمام

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصلَّى الله وسلَّم على محمَّد وآله وصحبه. أما بعد، فإن الأخ العلامة الشيخ محمَّد عبد الرزاق حمزة المدرس بالمسجد الحرام، ومدير دار الحديث - عافاه الله -، أَطلَعني على رسالته المحررة في اختيار إدراكِ المأموم الركعةَ بإدراكه الركوعَ مع الإِمام، وأشار عليَّ أن أكتبَ ما يظهر لي في هذه المسألة، فأستعين الله تبارك وتعالى وأقول: قال البخاري في "جزء القراءة" (¬1): "والقيام فرضٌ في الكتاب والسنة، قال تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]، وقال: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} [المائدة: 6] , وقال النبى - صلى الله عليه وسلم -: "صَلِّ قائمًا، فإن لم تستطعْ فقاعدًا" (¬2) ". وبسط الكلامَ في تثبيت فرضية قراءة الفاتحة في كل ركعة حتى على المأموم، وساق في موضعٍ آخرَ الأحاديثَ في وجوب قضاء المسبوق ما فاته، ولم يُنازِعْه الشيخ إلا في هذه القضية، فظاهرُ صنيعهِ أنه يُسلِّم ما استدلَّ به البخاري على فرضية القيام (¬3)، وعلى فرضية قراءة الفاتحة في كل ¬

_ (¬1) (ص 283 - 285) بتخريجه "تحفة الأنام". (¬2) أخرجه البخاري في "صحيحه" (1117) من حديث عمران بن حصين. (¬3) إذا كان الإِمام في الركوع فكبَّر المسبوق للإحرام قائمًا لا يُعدُّ هذا إدراكًا منه للقيام =

ركعة حتى على المأموم (¬1)، وعلى فرضية قضاء ما فات، مع أن تلك الأدلة تتناول هذه القضية [أيضًا، فجعلها] مستثناةً من ذلك العموم. ويتلخَّص من كلامه الاحتجاجُ على هذا التخصيص (¬2) بأمور: الأول: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا جِئتُم إلى الصلاة ونحن سجودٌ فاسجدوا ولا تَعُدُّوها شيئًا، ومن أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة". قال الشيخ: "سكت عليه أبو داود (¬3) والمنذري، واحتجَّ به ابن خزيمة في "صحيحه" (¬4) .... ". ¬

_ = الذي هو الركن، كيف وقد فاته بفوات قيام الإِمام؟ وإنما هذا قيام يشترطونه لتكبيرة الإحرام حتى فيمن أدرك الإِمام ساجدًا، وقيام الركن شأنه الطول، قال تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}، وأقلُّ ما يُقدَّر طوله بقراءة الفاتحة، فأما التكبيرة فالشأن أن تتأخر تكبيرة المأموم ولو كان غير مسبوق، وليس القيام كذلك، وأيضًا فإنه شُرِع للمسبوق أن يدخل في الصلاة على أي حال كان الإِمام، فقد لزمه في ذلك أن يشرع له تكبيرة الإحرام، إذ لا يدخل في الصلاة إلا بها، وليس قيام الركن كذلك. [المؤلف]. (¬1) من لم يقل بفرضيتها على المأموم قد يكون لقوله وجه فيما إذا خصَّ ذلك بالجهرية وبالمأموم الذي يسمع قراءة الإِمام، فإن استماعه يمكن أن يقال: إنه نابَ منابَ قراءته، ودون هذا من يقول بعدم فرضيتها على المأموم ولو لم يسمع قراءة الإِمام، إذا كان عند قراءة الإِمام قائمًا معه في الصلاة، فقد يقال: إن احتباسه مع الإِمام والإمام يقرأ ربما يقوم مقام قراءته، والمسبوق خارج عن هذا كله. [المؤلف]. (¬2) في المطبوع: "التلخيص". ولعل الصواب ما أثبته كما يظهر من السياق. (¬3) رقم (893). (¬4) رقم (1622).

الثاني: ابن وهب: حدثني يحيى بن حميد عن قُرَّة بن عبد الرحمن عن ابن شهاب الزهري، أخبره أبو سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أدرك ركعةً من الصلاة فقد أدركها قبل أن يُقيمَ الإمامُ صُلْبَه" (¬1). قال الشيخ: "أخرجه الدارقطني وابن خزيمة (¬2) محتجًّا على أن من أدرك الركوع مع الإِمام أدرك الركعة". الثالث: حديث مالك عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعًا: "من أدرك من الصلاة ركعةً فقد أدركها" (¬3). الرابع: الحسن البصري عن أبي بَكْرة: أنه انتهى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو راكع، فركع قبل أن يَصِلَ إلى الصفّ، فذَكَر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "زادك الله حِرْصًا ولا تَعُدْ". أخرجه البخاري في "صحيحه" (¬4)، وذكروا أنَّ فيه (¬5) دلالتين: الأولى: لولا أن أبا بكرة كان يرى أنه بإدراكه الركوعَ يدرك الركعة لما بادر إلى الركوع قبل أن يبلغ الصفَّ. ¬

_ (¬1) هكذا في "سنن" الدارقطني (ص 132)، وهكذا في "سنن" البيهقي (2/ 89)، وهكذا نقله الشيخ عن "تلخيص الحبير" عن ابن خزيمة. وذكره الشيخ في تعداد الأدلة بلفظ: "من أدرك ركعة من الصلاة قبل أن يقيم الإِمام صلبَه فقد أدرك الركعة". [المؤلف] (¬2) "سنن الدارقطني" (1/ 346، 347)، و"صحيح ابن خزيمة" (1595). (¬3) أخرجه بهذا الطريق البخاري (580) ومسلم (607). (¬4) رقم (783). (¬5) في المطبوعة: "أفيه".

الثانية: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقرَّ أبا بكرةَ على السلام معه، ولم يأمره بإتمامٍ ولا إعادة. الخامس: أشار الشيخ إلى دليل خامس، وهو: أنه ثبت عن جماعة من الصحابة القولُ بالإدراك، ولم يتحققْ عن أحدٍ منهم خلافهُ، وتَبِعَهم الجمهور. ****

النظر في هذه الأمور

النظر في هذه الأمور أما الحديث الأول: فتفرَّد به يحيى بن أبي سليمان، رواه عن زيد بن أبي عتّاب وسعيد المقبري عن أبي هريرة. ويحيى هذا قال فيه البخاري (¬1): "منكر الحديث، روى عنه أبو سعيد [عبد الرحمن بن عبد الله بن عبيد] مولى بني هاشم وعبدُ الله بن رجاء البصري مناكير، [يعني: وهما ثقتان، فالحمل في تلك المناكير على يحيى]، ولم يتبينْ سماعه من زيدٍ ولا من ابن المقبري به". ومذهب البخاري وشيخِه ابن المديني أن ذلك في حكم المنقطع، وجرى المتأخرون على هذا المذهب ونسبوه إلى المحققين، وخالفهم مسلم، فذكر في مقدمة "صحيحه" (¬2) أنه يكتفي بثبوت المعاصرة وإمكانِ اللقاء والسماع، لكن في سياق كلامه وفحواه ما يدلُّ أن مراده الإمكان البيِّن، وقد شرحتُ ذلك في موضع آخر (¬3). وقال أبو حاتم (¬4) في يحيى هذا: "مضطرب الحديث ليس بالقوي، يكتب حديثه"، وقال البيهقى فى "المعرفة" (¬5) في هذا الحديث: "تفرد به ¬

_ (¬1) في "جزء القراءة خلف الإِمام" (ص 380). والزيادات بين المعكوفتين من المؤلف للإيضاح. (¬2) (1/ 29، 30). (¬3) انظر (ص 64 وما بعدها). (¬4) انظر "الجرح والتعديل" (9/ 155). (¬5) "معرفة السنن والآثار" (3/ 9).

يحيى بن أبي سليمان هذا، وليس بالقوي". كذا في "التعليق على الدارقطني" (ص 132) (¬1). وذكر البيهقي هذا الحديث في "السنن" (ج 2 ص 89) ثم قال: "تفرد به يحيى بن أبي سليمان المدني، وقد رُوِي بإسنادٍ آخر أضعف من ذلك عن أبي هريرة"، ثم ساق الحديث الآتي. وذكر الذهبي يحيى هذا في "ميزانه" (¬2)، وذكر له حديثًا آخر، كأنه استنكره. وقال ابن خزيمة بعد أن أخرج في "صحيحه" (¬3) هذا الحديث: "في القلب شيء من هذا الإسناد، فإني لا أعرف يحيى بن أبي سليمان بعدالة ولا جرح، وإنما أخرجتُ خبره لأنه لم يختلف فيه العلماء". كذا في "تهذيب التهذيب" (¬4). وظاهر هذا أن ابن خزيمة لم يكن حين كتب هذا يعرف اختلافًا في إدراك الركعة بإدراك الركوع، ثم كأنه اطلع بعدُ على الخلاف، فرجع إلى القول بعدم الإدراك، فقد نقلوا ذلك عنه. والله أعلم. ويعارض ما تقدم أن أبا داود أخرج الحديث في "سننه" (¬5) وسكت ¬

_ (¬1) "التعليق المغني على سنن الدارقطني" (1/ 349) ط. عبد الله هاشم يماني. (¬2) "ميزان الاعتدال" (4/ 383). (¬3) (3/ 58). (¬4) (11/ 228). (¬5) رقم (893).

عليه، وقد قال في "رسالته إلى أهل مكة" (¬1): "ما كان في كتابي من حديثٍ فيه وهنٌ شديد فقد بينتُه، ومنه ما لا يصلح سنده، وما لم أذكر فيه شيئًا فهو صالح". وأن المنذري سكت عنه كما ذكر الشيخ، وأن ابن حبان ذكر هذا في "ثقاته" (¬2)، وأن شعبة روى عنه، كما في ترجمة يحيى من "التهذيب" (¬3)، وقد ذكروا شعبة فيمن لا يروي إلا عن ثقة، وأن الحاكم أخرج هذا الحديث في "المستدرك" (ج 1 ص 216)، وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ويحيى بن أبي سليمان من ثقات المصريين". فأما سكوت أبي داود فإنما يدلُّ أنه يرى أن هذا الحديث ليس فيه وهن شديد، وهذا هو مراده بقوله "صالح"، على أنه إنما ذكره (¬4) في "باب الرجل يُدرِك الإِمام ساجدًا كيف يصنع"، فلعل مراده أنه ليس فيه وهنٌ شديد بالنسبة إلى ذلك الباب, لأن ذاك الحكم متفق عليه، فلا يلزم من هذا أنه ليس فيه وهن شديد مطلقًا. وقد عُرِف من تصرفات البخاري في "صحيحه" ما يُشبِه هذا، فإنه ربما يذكر الحديث في غير مظنته، ويُعرِض عنه في مظنته حيث يترجَّح له في تلك المظنّة خلافُ ذلك الحديث، كأنه يرى أنه صحيح حيث ذكره لا في مظنته. وأما ابن حبان فإنه يذكر في "الثقات" كل من رَوى عن ثقة وروى عنه ¬

_ (¬1) (ص 69، 70) ط. المكتب الإِسلامي سنة 1417. (¬2) (7/ 604). (¬3) (11/ 228). (¬4) في المطبوع: "أنكره" تحريف.

ثقة، ولم يجد له منكرًا خرج هو بذلك من (¬1) الثقات ... ، فتوسَّع، كما شرحتُه في ترجمته من "التنكيل" (¬2)، وأوضحتُ هناك ما يُوثَق به من توثيق ابن حبان مما لا يُوثَق به ... من الثاني (¬3)، كما يُعلم مما شرحتُه هناك. وأما ما (¬4) في ترجمة يحيى هذا من "التهذيب": أن شعبة روى عنه ... ثقة"، فإن ابن حجر التزم أن يذكر في ترجمة شعبة جميعَ شيوخه (¬5)، ولم يذكر فيهم يحيى هذا، وإنما ذكر أبا بَلْج يحيى بن أبي سُليم، وهو رجل آخر، فأخشى أن يكون وقع اشتباه. ومع ذلك ففي "فتح المغيث" للسخاوي (ص 134) (¬6): "من (¬7) كان لا يروي إلا عن ثقة إلا في النادر: الإِمام أحمد، وشعبة ... وذلك في شعبة على المشهور ... ، وإلا فقد قال عاصم بن علي: سمعتُ شعبة يقول: لو لم أحدِّثْكم إلا عن ثقةٍ لم أحدِّثْكم عن ثلاثة (¬8) وفي نسخة ثلاثين (¬9) ... ، وعلى كل حال فهو لا يروي عن متروك ولا عمن أُجمِع على ضعفه". ¬

_ (¬1) في المطبوع: "في". (¬2) (1/ 450, 451). (¬3) كذا في المطبوع، ولم أعرف وجه الصواب. (¬4) "ما" ساقطة من المطبوع. (¬5) انظر "تهذيب التهذيب" (4/ 338 - 343). (¬6) (2/ 42) ط. الجامعة السلفية. (¬7) في "فتح المغيث": "ممن"، وفي هامشه إشارة إلى أن في بعض النسخ: "من". (¬8) انظر "حلية الأولياء" (7/ 156) و"سير أعلام النبلاء" (7/ 209). (¬9) انظر "الكفاية" للخطيب (ص 90).

وأما "مستدرك" الحاكم فقد عُرِف أن فيه تخليطًا كثيرًا، وتساهلاً في التصحيح وفيما يقع فيه من التوثيق، وقد شرحتُ ذلك في ترجمة الحاكم من "التنكيل" (¬1). وقد ذكر هو يحيى هذا في موضع آخر، واقتصر على قوله: "يحيى مدني سكنَ مصر، لم يُذكَر بجرح"، ذكر ذلك ابن حجر في "التهذيب" (¬2)، وقال: "كأنه جعله مصريًّا لرواية أهل مصر عنه"، يعني: والمعروف أنه مدني سكن البصرة، فأما رواية بعض المصريين عنه فكأنهم لَقُوه بالمدينة أو بالموسم أو نحو ذلك، وكفى بكلمة البخاري جرحًا، وقد جاء عنه أنه قال: "كل من قلتُ فيه منكر الحديث لا تحلُّ الرواية عنه". انظر "فتح المغيث" طبع الهند (ص 162) (¬3). ومما يُوضَّح وهنَ هذا الحديث أن يحيى هذا تفرَّد به عن رجلين معروفين، أحدهما - وهو سعيد المقبري - مشهور جدًّا، فكيف يُقبَل من مثل يحيى مثلُ هذا التفرد؟ وأما الحديث الثاني: فتفرَّد به يحيى بن حُميد بن أبي سفيان المعافري المصري، رواه عن قُرَّة بن عبد الرحمن بن حَيْوِيل (¬4) عن الزهري عن أبي ¬

_ (¬1) (1/ 472، 473). (¬2) (11/ 228). (¬3) (2/ 125) ط. الجامعة السلفية. وانظر "ميزان الاعتدال" (1/ 6) و"لسان الميزان" (1/ 220). (¬4) في المطبوع: "جبرئيل" تحريف.

سلمة عن أبي هريرة. ويحيى بن حميد هذا قال فيه البخاري (¬1): "مجهول لا يُعتَمد على حديثه"، وضعفه الدارقطني (¬2)، وذكره "العقيلي" (¬3) في الضعفاء, وتقدم عن البيهقي أن هذا الحديث أضعفُ من سابقه. وقال ابن يونس في "تاريخ مصر" (¬4): "أسند حديثًا واحدًا، وله مقطعات". وقال ابن عدي (¬5): "تفرد بهذه الزيادة، ولا أعرف له غيره". أقول: وإذا لم يكن له غير هذا الحديث، وقد تفرد به، فكيف يُقبَل؟ فإن قيل: فقد ذكره ابن حبان في "الثقات" (¬6)، وأخرج ابن خزيمة حديثه هذا في "صحيحه". قلت: أما "ثقات" ابن حبان فقد تقدم ما فيها، وأما ابن خزيمة فإنه يُخرج في "صحيحه" للمجهول إذا لم يَستنكِرْ حديثَه، وكأنه لم يَستنكر هذا لأنه عند كتابة الصحيح كان يرى الإدراك متفقًا عليه بين أهل العلم، كما تقدم في الكلام على الحديث الأول. ومع هذا فقُرَّة بن عبد الرحمن فيه كلام (¬7)، قال الإِمام أحمد: "منكر الحديث" وقال ابن معين: "ضعيف الحديث"، وقال أبو زرعة: "الأحاديث التي ¬

_ (¬1) في "جزء القراءة" (ص 351، 352). (¬2) انظر "ميزان الاعتدال" (4/ 370) و"لسان الميزان" (8/ 431). (¬3) (4/ 398). (¬4) نقل عنه في "لسان الميزان" (8/ 432). (¬5) "الكامل" (7/ 228). (¬6) (9/ 251). (¬7) انظر أقوال النقاد فيه في "تهذيب التهذيب" (8/ 373، 374).

يرويها مناكير"، وأخرج له مسلم في "صحيحه" (¬1) مقرونًا بآخر، ولعل اعتماده كان على ذاك الآخر، وذكره ابن حبان في "الثقات" (¬2) وأشار إلى لينٍ فيه. نعم، قوله أولَ الحديث: "من أدرك ركعةً من الصلاة فقد أدركها" معروفٌ صحيحٌ، كما يأتي في الحديث الثالث، وإنما المنكر زيادته: "قبل أن يُقيمَ الإِمام صُلبه". وقد دفع البخاري في "جزء القراءة" (¬3) هذه الزيادة بأن مالكًا وجماعة من الأئمة رووا الحديث عن الزهري بسنده ولم يذكروا هذه الزيادة، قال (¬4): "وقوله: قبل أن يُقيمَ الإمامُ صلبه، لا معنى له ولا وجهَ لزيادته". يعني أن معنى الحديث في رواية مالك والأئمة: من أدرك من الصلاة في وقتها ركعةً أي واحدة من الثنتين اللتين هما الصبح، أو الثلاث التي هي المغرب، أو الأربع التي هي الظهر أو العصر أو العشاء للمقيم = فقد أدركها، أي أدرك الصلاة أداءً، أي أنها لم تَفُتْه. وإذا كان كذلك فلا معنى ولا وجهَ لزيادة "قبل أن يقيم الإِمام صلبه"، غاية الأمر أن يكون أحد الرواة توهَّم أن معنى الحديث: من أدرك الركوع مع الإِمام فقد أدرك الركعة؛ فزاد هذه الزيادة تفسيرًا في زعمه؛ وقد جوَّز بعضهم أن تكون من زيادة الزهري, لأنه قد عُرِف عنه أنه كان كثيرًا ما يَصِلُ الحديثَ بكلامٍ من عنده على وجه التفسير أو نحوه، فربما التبس ذلك على بعض الضعفاء كقُرَّة. ¬

_ (¬1) رقم (1591/ 92). (¬2) (7/ 342 - 344). (¬3) (ص 352 - 355). (¬4) (ص 355).

قال البخاري في موضع آخر من "جزء القراءة" (¬1): "قال مالك: قال ربيعة للزهري: إذا حدثتَ فبيَّنْ كلامَك من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -". لكن سيأتي في الكلام على الحديث الثالث ما يدفع هذا التجويز، فالظاهر أن الزيادة من قرة بن عبد الرحمن أو يحيى بن حُمَيد. وأما الحديث الثالث: فلا خلافَ في صحته، وهو في "الموطأ" و"الصحيحين" (¬2) وغيرهما، والتشبُّثُ به في هذه المسألة مبنيٌّ على زعم أن معناه: من أدرك من الصلاة مع الإِمام ركوعًا فقد أدرك الركعة، وقد يُستأنس لهذا بالزيادة المتقدمة، وبما في "صحيح مسلم" (¬3) عن حرملة عن ابن وهب عن يونس عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعًا: "من أدرك ركعة من الصلاة مع الإِمام فقد أدرك الصلاة". فأما الزيادة السابقة فقد فُسِّر ما فيها، وأما زيادة "مع الإِمام" فقد ردَّها مسلم نفسُه، فرواه [عن يونس] وعن جماعة عن الزهري، قال (¬4): "وليس في حديث أحدٍ منهم "مع الإِمام". وله في "صحيح البخاري" (¬5) و"جزء القراءة" (¬6) و"سنن [النسائي] " (¬7) ¬

_ (¬1) (ص 230، 231). (¬2) "الموطأ" (1/ 10) والبخاري (580) ومسلم (607). (¬3) رقم (607/ 162). (¬4) تعقيبًا على الحديث المذكور. (¬5) رقم (580). (¬6) بأرقام (202، 203، 206 - 216) بتخريجه "تحفة الأنام". (¬7) هنا بياض في الأصل، وقد ذكر النسائي (1/ 274) طرق هذا الحديث.

وغيرها طرق كثيرة عن يونس وغيره بدون هذه الزيادة، والظاهر أن الوهم في زيادتها من حرملة، وهو الذي روى عن ابن وهب عن يحيى بن حميد الحديث، فكأنه جاءه الوهم من هناك. وقد أخرج البخاري في "جزء القراءة" (¬1) من طريق سليمان بن بلال أخبرني عبيد الله بن عمر ويحيى بن سعيد ويونس عن ابن شهاب [الزهري] عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أدرك من الصلاة ركعةً فقد أدرك الصلاة إلا أن يقضي ما فاته". وهو ذاك الحديث عينُه، وزيادة "إلا أن يقضي ما فاته" تدفع زيادةَ يحيى بن حميد وزيادة حرملة. وفي روايةٍ في "صحيح مسلم" (¬2) وغيره من طريق الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعًا: "من أدرك ركعةً من الصبح قبل أن تطلعَ الشمسُ فقد أدرك الصبحَ، ومن أدرك ركعةً من العصر قبل أن تغربَ الشمس فقد أدرك العصر". والحديث بهذا اللفظ ونحوِه أشهر، فقد صحَّ هكذا كما ترى عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة، وهو سند الأول، وأخرجه البخاري في "الصحيح" (¬3) بنحوه من طريق يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة، وأخرجه مسلم (¬4) من طريق عطاء بن يسار وبُسر بن سعيد والأعرج عن أبي هريرة، ¬

_ (¬1) رقم (207). (¬2) رقم (608/ 163). (¬3) رقم (556). (¬4) رقم (608).

ومن حديث عائشة (¬1). ووقع في بعض الروايات بلفظ: "سجدة" (¬2)، ولفظ حديث عائشة: "من أدركَ من الصلاة سجدةً ... " وفي آخره: "والسجدة إنما هي الركعة" (¬3). وفي "الفتح" (¬4) في شرح قوله: "فقد أدرك الصبح": " .. يُحمَل على أنه أدرك (¬5) الوقت، فإذا صلَّى ركعةً أخرى فقد كملتْ صلاته .. وقد صرَّح بذلك في رواية الدراوردي عن زيد بن أسلم، أخرجه البيهقي (¬6) من وجهين، ولفظه: "من أدرك من الصبح ركعة (¬7) قبل أن تطلع الشمس، وركعةً بعد ما تطلع الشمس، فقد أدرك الصلاة". وأصرحُ منه رواية أبي غسَّان محمَّد بن مُطرِّف عن زيد بن أسلم عن عطاء - وهو ابن يسار - عن أبي هريرة بلفظ: "من صلَّى ركعةً من العصر قبل أن تغرب الشمس ثم صلَّى ما بقي بعد غروب الشمس فلم تَفُتْه العصر"، وقال مثل ذلك في الصبح. وقد تقدمتْ رواية المصنِّف (¬8) من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة، وقال فيها: "فليُتِمَّ ¬

_ (¬1) رقم (609). (¬2) هي رواية البخاري (556). (¬3) "صحيح مسلم" (609). (¬4) "فتح الباري" (2/ 56). (¬5) في المطبوع: "إدراك"، والمثبت من الفتح. (¬6) في "السنن الكبرى" (1/ 378، 379). (¬7) في المطبوع: "ركعة أخرى"، وهو خطأ، ولا معنى له. والتصويب من الفتح والبيهقي. (¬8) أي البخاري (556).

صلاتَه". وللنسائي (¬1) من وجه آخر: "من أدرك ركعةً من الصلاة فقد أدرك الصلاة كلها إلا أنه يقضي ما فاته". وللبيهقي (¬2) من وجه آخر: "من أدرك ركعةً من الصبح قبل أن تطلع الشمسُ فلْيُصَل إليها أخرى". وهذا كله يُبيِّن أنه لا وجهَ لزيادة "مع الإِمام"، ولا لزيادة "قبل أن يُقِيمَ الإمامُ صُلْبَه"، كما يُبيِّن أنه لا وجهَ للتشبُّث بهذا الحديث في قضية إدراك الركعة بإدراك الركوع. ويُوضَّح هذا أن أبا هريرة نفسه لم يفهم هذا من الحديث، فقد صحّ عنه كما يأتي: "لا يُجزِئك إلا أن تُدرِكَ الإمامَ قائمًا" (¬3). وهكذا الزهري، صحّ عنه أنه ذكر الحديث عن أبي سلمة مرفوعًا بلفظ: "من أدرك من الصلاة ركعةً واحدة فقد أدركها"، ثم قال الزهري (¬4): "ونرى لما بلغنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه من أدرك من الجمعة ركعة واحدة فقد أدرك" (¬5)، يعني أن كون الجمعة مع الإِمام هو في معنى الوقت للصلاة في أن كلاًّ منهما إذا فات فاتت الصلاة، فإن (¬6) كانت السنة بأنه يكفي لإدراك الوقت إدراكُ ركعةٍ، فكذلك ينبغي أن يكفي لإدراك الجمعة مع الإِمام إدراكُ ركعة. ¬

_ (¬1) (1/ 275). (¬2) "السنن الكبرى" (1/ 379). (¬3) أخرجه البخاري عنه في "جزء القراءة" (ص 267). (¬4) كما فى "جزء القراءة" (ص 359). (¬5) أخرجه النسائي (3/ 112) وابن خزيمة في "صحيحه" (1850) والحاكم في "المستدرك" (1/ 291) من طريق الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعًا. (¬6) في المطبوع: "فإنه" خطأ.

ويوضَّحه أيضًا أن الركعة في عرف الشرع حقيقةٌ في واحدة من الاثنتين اللتين هما الصبح، أو من الثلاثِ التي هي المغرب، أو من الأربعِ التي هي الظهر أو العصر أو العشاء في حقَّ المقيم ونحو ذلك. وقد دفع الشيخ - عافاه الله - هذا، فقال: "بل الركعة حقيقة في الركوع لغةً وشرعًا كالسجدة في السجود، وإطلاقُها على ما يشمل القيامَ والقراءةَ والركوعَ والسجودَ من باب إطلاق الجزء على الكلّ، كإطلاق السجدة على ذلك، وكإطلاق العين على الجاسوس، والرقبة على العبد أو الجارية. ومما جاء في إطلاقها على الركوع أحاديث ... ". فذكر حديث يحيى بن أبي سليمان وحديث يحيى بن حُميد المتقدمَين، وحديث البراء في وصف صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفيه: "فوجدت قيامه كركعتِه وسجدتِه، واعتدالَه في الركعة كسجدتِه" (¬1). وستة أحاديث في وصف الكسوف. ثم قال: "فأنت ترى في هذه الأحاديث إطلاق الركعة على الركوع بدون قرينة, لأنها حقيقة، وإن كانت اشتهرتْ في عرف المتأخرين فيما هو أعمُّ من الركوع، فذلك لا ينافي حقيقتها اللغوية والشرعية في الركوع". أقول: في هذا كلِّه نظر، نعم إطلاق "ركعة" على المرَّة من الركوع موافق للحقيقة اللغوية، لكن لا يلزم أن يكون هكذا في الشرع. وقوله: "من باب إطلاق الجزء على الكل" حقٌّ، فيكون مجازًا لغةً، لكن لا يلزم من ذلك أن ¬

_ (¬1) لفظ حديث مسلم (471): "فوجدتُ قيامَه، فركعتَه، فاعتدالَه بعد ركوعه، فسجدتَه، فجلْسته بين السجدتين، فسجْدتَه، فجلْستَه ما بين التسليم والانصراف = قريبًا من السواء".

يكون مجازًا في الشرع. وكافَّة الحقائق الشرعية - أعني الألفاظ. التي نقلها الشارع عن معانيها اللغوية إلى معانٍ شرعية - بين معانيها الشرعية ومعانيها اللغوية علاقات مجازية، كالإيمان والصلاة والزكاة والصيام وغيرها. وأما تلك الأحاديث التي ذكرها الشيخ فالأولانِ لم يثبتا كما مرَّ، ومع ذلك فالقرينة فيهما قائمة، وهي في الأول قوله: "إذا جئتم إلى الَصلاة ونحن سجودٌ فاسجدوا ولا تعدُّوها شيئَا"، وفي الثاني قوله: "قبل أن يُقيمَ الإمامُ صُلْبه"، فكلٌّ من هاتين العبارتين تقتضي أن تكون كلمة "ركعة" في بقية الحديث مرادًا بها الركوعُ، فلولا هذا الاقتضاء لما سلَّمنا أن الركعة في الحديثين عبارة عن الركوع، على أننا إنما نُسلِّم ذلك على فرض صحة الزيادة المقتضية، فأما إذا أبطلناها فلا، كما تقدم. والقرينة في حديث البراء في قوله "قيامه كركعتِه (¬1) ": أنه من الممتنع أن يكون القيامُ وحدَه مساويًا لما يَشملُه ويشمَلُ الركوعَ والاعتدالَ والسجدتينِ والجلسةَ بينهما، ضرورةَ أن الجزء لا يساوي الكل. وأما قوله فيه: "واعتداله في الركعة كسجدته"، فالقرينة فيه أن يظهر أن تعريف الركعة للعهد الذكري، وبذلك تكون الثانية عينَ الأولى، ويساعد ذلك قولُه: "واعتداله". ومع هذا فليس هذا اللفظ في "الصحيح"، والذي في البخاري (¬2): "كان ركوعُ النبي - صلى الله عليه وسلم - وسجودُه وإذا رفعَ رأسَه من الركوع وبين السجدتينِ ¬

_ (¬1) في المطبوع: "كركعتيه". (¬2) رقم (801).

قريبًا من السواء"، ونحوه في "صحيح مسلم" في رواية (¬1)، وفي أخرى (¬2): "فوجدتُ قيامَه فركعتَه فاعتدالَه بعد ركوعِه فسجدتَه [فجلستَه] (¬3) بين السجدتين ... ". وأصل هذا الحديث من لفظ الصحابي لا من لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومع ذلك فقد اختلفت رواياتها وألفاظها، فيمكن أن يكون ما وقع في بعض الروايات من التعبير عن الركوع بالركعة إنما هو ممن بعد الصحابي. وأما الأحاديث في صلاة الكسوف فأصلها من لفظ الصحابي أيضًا، ومع ذلك اختلفت رواياتها وألفاظها، فيمكن أن يكون ما وقع في بعض الروايات من التعبير عن الركوع بالركعة إنما هو ممن بعد الصحابي. ومع ذلك فالقرينة قائمة، وهي ما يُعلَم من السياق والروايات الأخرى، وأرى الأمر في ذلك أوضح من أن يُحتاج إلى الإطالة. على أن ورود الكلمة في النصوص الشرعية مع دلالة القرينة على أن المراد منها معناها اللغوي، لا يَدفعُ أن يكون الشرع نقلَها إلى معنى آخر تكون فيه حقيقةً شرعية. هذه كلمة "صلاة" نقلها الشارع إلى معنى غير معناها لغةً، ومع ذلك وردت في عدة نصوص بحسب معناها اللغوي، كقوله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103]، وقوله: {وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ} [التوبة: 99]، وقوله: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]. ¬

_ (¬1) رقم (471/ 194). (¬2) رقم (471/ 193). (¬3) ساقطة من المطبوع، استدركناها من صحيح مسلم.

فإن قيل: فإنه يكفي القائلَ بأن لفظ "ركعة" حقيقة شرعية في المرَّة من الركوع أن يقول: قد ثبت أنها حقيقة لغوية في ذلك، والأصلُ موافقة الشرع للّغة. قلت: فعلينا البيان، في الصلاة الشرعية أمران يحتاج كلٌّ منهما إلى لفظ يدل عليه: الأول: المرة من الركوع. والثاني: الواحدة التي تتألف صلاة المغرب من ثلاثٍ منها، والصبح والجمعة من اثنتين، وكذا بقية الفرائض في حقّ المسافر. أما المقيم فمن أربع، وهكذا يختلف حال سائر الصلوات كالعيدين والاستسقاء والنوافل. والحاجة في الشرع إلى ذكر الثاني أكثر منها (¬1) إلى ذكر الأول، وبتتبُّعِ النصوص الشرعية يتضح أنها [تُعبِّر] (¬2) عن الأول غالبًا بالركوع، وتُعبَّر عن الثاني بالركعة، وكثُر هذا جدًّا من لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - ولفظ أصحابه في حياته وبعد وفاته، وبتدبُّرِ ذلك يتبينُ أن الذي كان يتبادر في عهده - صلى الله عليه وسلم - من كلمة "ركعة" في الكلام الشرعي هو الأمر الثاني، فهي حقيقة شرعية. فمما ورد من لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصةً مما ورد في "الصحيحين" أو أحدِهما: حديثُ أبي هريرة (¬3) مرفوعًا: "من أدرك من الصبح ركعةً قبل أن تطلع الشمس .. ومن أدرك من العصر ركعة قبل أن تغرب الشمس ... ". ¬

_ (¬1) في المطبوع: "منهما" خطأ. (¬2) ساقطة من المطبوع، زدناها ليستقيم السياق. (¬3) أخرجه البخاري (579) ومسلم (608).

وحديث عائشة (¬1) مرفوعًا نحوه. وحديثها (¬2) مرفوعًا: "ركعتا الفجر خيرٌ من الدنيا وما فيها". وحديث عثمان (¬3) مرفوعًا: "من توضأ نحوَ وضوئي هذا ثم صلَّى ركعتين ... ". وحديث أبي قتادة (¬4) مرفوعًا: "إذا دخل أحدُكم المسجدَ فلْيُصلِّ ركعتين". وحديث جابر (¬5) في القدوم من سفر مرفوعًا: "صلِّ ركعتينِ". وحديثه (¬6) في الداخل يوم الجمعة وقت الخطبة مرفوعًا: "قُمْ فصَلَّ الركعتين". وحديثه (¬7) أيضًا مرفوعًا: "إذا جاء أحدكم يومَ الجمعة وقد خرج الإِمام فلْيُصَلَّ ركعتين". وحديثه في الاستخارة (¬8) مرفوعًا: " ... فليركَعْ ركعتين من غيرِ الفريضة ... ". ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (609). (¬2) أخرجه مسلم (725). (¬3) أخرجه البخاري (159) ومسلم (226). (¬4) أخرجه البخاري (444) ومسلم (714). (¬5) أخرجه البخاري (443) ومسلم (715). (¬6) أخرجه البخاري (930، 931) ومسلم (875). (¬7) أخرجه البخاري (1166) ومسلم (875/ 57). (¬8) أخرجه البخاري (1162).

وحديث أبي ذر (¬1) مرفوعًا: " ... ويُجزِئ من ذلك كلِّه ركعتانِ يركعهما في الضحى". وحديث أم حبيبة (¬2) مرفوعًا: "من صلَّى اثنتي عشرةَ ركعةً ... ". وحديث ابن عمر (¬3) مرفوعًا: "الوتر ركعةٌ من آخرِ الليل". وحديثه (¬4) أيضًا مرفوعًا: "فإذا خشي أحدُكم الصبحَ صلَّى ركعةً واحدة". إلى غير ذلك من الأحاديث في "الصحيحين"، وأما في غيرهما فكثير. ومما في "الصحيحين" أو أحدِهما: الأحاديثُ التي يُنَصُّ فيها على العدد فقط، كحديث أبي سعيد (¬5) مرفوعًا: "إذا شك أحدُكم فلم يَدْرِ كم صلَّى؟ ثلاثًا أم أربعًا؟ فليَطْرَح [الشَّكَّ] (¬6) ولْيَبْنِ (¬7) على ما استيقَنَ، ثم يسجد ... فإن كان صلَّى خمسًا شَفعْنَ له صلاته، وإن كان صلَّى إتمامًا لأربعٍ كانتا ترغيمًا للشيطان". فإن المتبادر الواضح أن المراد ثلاث ركعات ... وهكذا، ومثل هذا في الأحاديث كثير، ويدخل فيه تسميةُ صلاة الوتر وترًا، وقول الله تبارك وتعالى: ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (720). (¬2) أخرجه مسلم (728). (¬3) أخرجه مسلم (752). (¬4) أخرجه البخاري (990) ومسلم (749). (¬5) أخرجه مسلم (571). (¬6) ساقطة من المطبوع، استدركناها من صحيح مسلم. (¬7) في المطبوع: "وليبني" خطأ.

{وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [الفجر: 3] على ما رواه الإِمام أحمد وغيره (¬1) عن عمران بن حُصين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُئل عن ذلك، فقال: " [هي] (¬2) الصلاةُ، بعضها شَفْعٌ وبعضها وِتْر". وأما الحديث الرابع: وهو حديث الحسن عن أبي بَكْرة، ففي "الفتح" (¬3): "أعلَّه بعضهم بأن الحسن عنعنه، وقيل: إنه لم يسمع من أبي بكرة، وإنما يروي عن الأحنف عنه، ورُدَّ هذا الإعلال برواية سعيد بن أبي عروبة عن الأعلم قال: حدثني الحسن أنّ أبا بكرة حدَّثه. أخرجه أبو داود والنسائي". أقول: وهكذا رأيتُه في عدة نسخ من "المجتبى" من سنن النسائي (¬4)، لكنه في نسخ "سنن" أبي داود (¬5): "أن أبا بكرةَ حدَّثَ"، وهذا في حكم العنعنة، وبين سياق أبي داود والنسائي اختلافٌ مع أن السند واحد، روياه عن حُميد بن مَسْعَدة عن يزيد بن زُريع ممن سمع منه قديمًا. والحسن معروف بالرواية عمن لم يَلْقَه، بل وُصِفَ بالتدليس، كما في "طبقات المدلِّسين" (¬6) لابن حجر، وروايتُه عن الأحنف عن أبي بكرة ¬

_ (¬1) انظر "مسند أحمد" (19919، 19935، 19973) و"سنن الترمذي" (3342) و"المستدرك" (2/ 522). وإسناده ضعيف لإبهام الراوي عن عمران. (¬2) ساقطة من المطبوع، والزيادة من المصادر السابقة. (¬3) "فتح الباري" (2/ 268). (¬4) (2/ 118). (¬5) رقم (683). (¬6) "تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس" (ص 102).

مشهورة في حديث: "إذا التقى المسلمانِ بسيفَيْهما ... " (¬1)، لكن لا يلزم من ذلك أن لا يسمع من رجلٍ غيرِ الأحنف عن أبي بكرة. وقد يَشُدُّ الاتصالَ أن البخاري أخرج الحديث في "صحيحه"، ومذهبه اشتراط ثبوت اللقاء حتى فيمن لم يُعرف بالتدليس ولا بالرواية عمن لم يَلْقَه، فما بالك بهذا؟ وفي "مراسيل" ابن أبي حاتم (¬2) عن بَهْز بن أسد في شأن الحسن: "وسمع من أبي بكرة شيئًا". وعلى كلّ حالٍ فلم تَسْلَمْ صحةُ هذا الحديث من مقالٍ. ولننظر فيما ذكر من الدلالتين: فأما الأولى وهي قولهم: "لولا أن أبا بكرةَ كان يرى أنه بإدراكه الركوعَ يُدرِك الركعة لما بادر إلى الركوع قبل أن يبلغ الصفَّ" = ففيها نظر، لماذا لا يُبادِر لإدراك فضلِ (¬3) الركوع مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن عَلِمَ أنه لا تُحْسَبُ له ركعة؟ بل قد يقال: إن هذا هو الذي ينبغي أن يُظَنَّ بالصحابي، لا أن يُظَنَّ به أنه حَرَصَ على إدراك الركعة وإن فاته الخيرُ الكثير فيها تفاديًا من أن يكون عليه ركعةٌ أخرى بعد سلام الإِمام، فإن هذا يدلُّ على الكسلِ والتبرُّمِ بالتعب اليسير في العبادة والرغبةِ عن زيادة الأجر، فإنه إذا أدرك بعض الركعة ولم تُحْسَبْ له ثم صلّاها بعد سلام الإِمام كُتِبَ له أجرُ الصلاة كاملةً وزيادةُ أجرِ ما أدركه من تلك الركعة، فأما من لم يُدرِك إلا بعض الركعة وحُسِبَتْ له ركعة فإنه يفوته بعضُ أجر الصلاة كما لا يخفى. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (31) ومسلم (2888). (¬2) "المراسيل" (ص). (¬3) في المطبوع: "أفضل" خطأ.

وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "زادك الله حِرْصًا، ولا تَعُدْ" يُشْعِر بما ذكرنا، فإنه يدل أن ذاك الحرص محمود، فلذلك دعا بالزيادة منه، وإنما نهى عن العود إلى الإخلال بالمشروع (¬1) من السكينة والوقار ونظم الصلاة، والحرصُ المحمود هو (¬2) الحرص على زيادة الأجر، لا على التخلُّص من زيادة العمل غيرَ مُبالٍ بما فيها من زيادة الأجر. فإن قيل: فإن في "جزء القراءة" (¬3) للبخاري من طريق عبد الله بن عيسى الخزَّاز عن يونس عن الحسن عن أبي بكرة: ... فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلاةَ قال لأبي بكرة: "أنت صاحب النَّفَسِ؟ " قال: نعم، جعلني الله فداءك، خَشِيتُ أن تفوتني ركعةٌ معك، فأسرعتُ المشيَ. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "زادك الله حرصًا، ولا تَعُدْ، صَلِّ ما أدركتَ، واقْضِ ما سبقَ". وفي مسند أحمد (ج 5 ص 42) (¬4): " ... بشَّار الخيَّاط (¬5) قال سمعتُ عبد العزيز بن أبي بكرةَ يُحدِّث: أن أبا بكرة جاء والنبى - صلى الله عليه وسلم - راكع ... فسمع النبى - صلى الله عليه وسلم - صوتَ نعلِ أبي بكرةَ وهو يُحْضِرُ، يريد أن يُدرِك الركعةَ ... ". قلت: عبد الله بن عيسى الخزَّاز مُجمَعٌ على ضعفه (¬6). وبشار الخياط ¬

_ (¬1) في المطبوع: "بالشروع" خطأ. (¬2) في المطبوع: "وهو"، ولا حاجة إلى الواو هنا. (¬3) (ص 340). (¬4) رقم (20435). (¬5) كذا في المسند، وفي "تعجيل المنفعة" (ص 51): "الحنَّاط". (¬6) انظر "تهذيب التهذيب" (5/ 353) و"ميزان الاعتدال" (2/ 470).

هو ابن عبد الملك ضعفه ابن معين (¬1)، فلا ينفعه ذكر ابن حبان له في "ثقاته" (¬2)؛ لما عُرِفَ من توسُّعه. وشيخه عبد العزيز فيه مقال (¬3)، وروايته مرسلة، لأنه لم يُدرِك القصة، ولعل قوله: "يريد أن يُدرك الركعةَ" من ظنِّ عبد العزيز، ومع ذلك فوَقْعُ كلمة "ركعة" في هاتين الروايتين في سياق بيان أنه جاء والنبي - صلى الله عليه وسلم - راكع ربما يُسوِّغ في حملها على معنى الركوع، والله أعلم. وأما الدلالة الثانية وهي قولهم: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقرَّ أبا بكرةَ على السلام معه، ولم يأمره بإتمامٍ ولا إعادةٍ" = ففي هذه الدعوى نظرٌ، ولفظ البخاري في "الصحيح" (¬4) من طريق همَّام عن زياد الأعلم عن الحسن عن أبي بكرة: ... فذَكَر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "زادك الله حرصًا ولا تَعُدْ"، كما تقدم أولَ الرسالة، وليس فيه ما يُثبِت هذه الدعوى. ونحو ذلك من "سنن" أبي داود والنسائي (¬5) من طريقي سعيد بن أبي عَروبة عن زياد الأعلم. ونحوه في "مسند أحمد" (ج 5 ص 39) (¬6) من طريق أشعث عن زياد الأعلم. ونحوه في "المسند" أيضًا (ج 5 ص 46) (¬7) من طريق قتادة وهشام عن الحسن البصري. ¬

_ (¬1) انظر "تعجيل المنفعة" (ص 51) و"ميزان الاعتدال" (1/ 310) و"لسان الميزان" (2/ 285). (¬2) "الثقات" (6/ 113). (¬3) انظر ترجمته في "تهذيب التهذيب" (6/ 332). (¬4) رقم (783). (¬5) أبو داود (683) والنسائي (2/ 118). (¬6) رقم (20405). (¬7) رقم (20470، 20471).

ورواه حماد بن سلمة عن زياد الأعلم بسنده، واختُلِفَ على حماد:، ففي "المسند" (ج 5 ص 45) (¬1) عن عفّان عن حمّاد بنحو رواية الجماعة، وفي "سنن" أبي داود (¬2) عن موسى بن إسماعيل عن حمّاد، وفيه: "فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاتَه قال: أيُّكم الذي ركع دون الصف، ثم مشى إلى الصفّ؟ فقال أبو بكرة: أنا ... ". وأرى رواية عفّان أرجحَ لمزيد إتقان عفان، ولموافقته روايةَ الجماعة كما تقدم، وحماد بن سلمة على إمامته كان يخطئ, وقد رَوى بهذا الإسناد عينهِ حديثًا آخر في تقدُّم النبي - صلى الله عليه وسلم - ليؤُمَّهم، وتذكُّرِه أن عليه غسلاً، وفي آخره: "فلما قضى الصلاة قال: إنما أنا بشرٌ" (¬3). وقد لا يبعد أن يكون ذهن حماد انتقل من أحد الحديثين إلى الآخر، ثم أتمَّ التفسير بما يناسب، وجاء نحو هذه الزيادة في رواية عبد الله بن عيسى الخزّاز، وفي رواية بشار الخياط عن عبد العزيز بن أبي بكرة، وفي روايةٍ نقلَها الشيخ أول رسالته عن "تلخيص الحبير" (¬4) عن ابن السكن، فلا أدري ما سندها؟ وعسى أن تكون راجعةً إلى ما ذكر. وعلى كل حال، فالروايات الصحيحة المتينة لا أثرَ فيها لقوله: "فلما قضى ... " ولا ما في معناها، على أنها لو صحَّتْ لما كانت صريحةً في ¬

_ (¬1) رقم (20457). (¬2) رقم (684). (¬3) أخرجه أحمد في "المسند" (20420) وأبو داود (234) وابن خزيمة (1629) وغيرهم. (¬4) "التلخيص" (1/ 285).

الفورية، وقد قال الله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37]، ومعلوم أن بين القضاء والتزويج مهلةٌ، وقال تعالى: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا} [القصص: 29]، وبين قضائه الأجلَ وشروعِه في السير وبين الإيناس مهلة. وعلى فرض صحة تلك الزيادة وأن الظاهر في مثلها الفورية، فقد يكون أبو بكرة ممن يرى أن الركعة لا تُدرَك بالركوع، فرأى أن السياق قرينة على عدم الفورية، فيكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد علم أن الذي (¬1) لم يدرك إلا الركوع سيقوم لإتمام صلاته، فلما سلَّم وقام بعضهم يُتِمُّ اشتغلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بالذكر، حتى سلَّم من سُبِقَ، وحينئذٍ سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأرى أن من تدبَّر وأنعمَ النظر [أقرَّ] (¬2) بأن هذا احتمالٌ غير بعيد، بل يتبين له أنه ليس هناك ما يدل دلالةً تقوم بها الحجة على أن ركوع النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي أدركه أبو بكرة كان هو الركوع في الركعة الأولى، بل من المحتمل أن يكون هو الركوع في الثانية. وهَبْ أنه يَقوَى عندك أنه الركوع في الركعة الأولى، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل عقب السلام، فأجابه أبو بكرة فورًا، فهل تجد تلك القوة كافيةً لتخصيص هذه القضية من النصوص العامة الموجبة للقيام، ولقراءة الفاتحة، ولقضاء المسبوق ما قد فاته، إلى غير ذلك مما مر ويأتي؟ ¬

_ (¬1) في المطبوع: "النهي" مكان "الذي". وهو تحريف. (¬2) زيادة على المطبوع ليستقيم السياق.

وأما الأمر الخامس: فقد أجاب عنه البخاري في "جزء القراءة" (¬1) بقوله: ثنا عُبيد بن يَعيش، قال: حدثنا يونس، [قال: حدثنا ابن إسحاق] (¬2) قال: أخبرني الأعرج، قال: سمعتُ أبا هريرة يقول: "لا يُجزِئك إلا أن تُدرِكَ الإمامَ قائمًا قبلَ أن يركع". حدثنا (¬3) عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني جعفر بن ربيعة (¬4) عن عبد الرحمن بن هرمز قال: قال أبو سعيد رضي الله عنه: "لا يَركعْ أحدُكم حتى يقرأَ أمَّ القرآن". قال البخاري: وكانت عائشة تقول ذلك. وقال علي بن عبد الله (¬5) (ابن المديني): إنما أجاز إدراكَ الركوع من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - الذين لم يروا القراءةَ خلف الإِمام، منهم: ابن مسعود وزيد بن ثابت وابن عمر، فأما من رأى القراءة فإن أبا هريرة قال: "اقرأْ بها في نفسِك يا فارسيُّ"، وقال: "لا تعتدَّ بها حتى تُدرِكَ الإِمام قائمًا". وقال البخاري في موضع آخر (¬6): حدثني مَعْقِل بن مالك، ثنا أبو عوانة، عن محمَّد بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، عن أبي هريرة قال: "إذا أدركتَ القومَ ركوعًا لم تعتدَّ بتلك الركعة". ¬

_ (¬1) (ص 267 وما بعدها). والأثر الأول برقم (140). (¬2) ساقطة من المطبوع، والاستدراك من "جزء القراءة". (¬3) المصدر السابق رقم (141). (¬4) في المطبوع: "أي ربيعة" خطأ. والتصويب من المصدر السابق. (¬5) نقل عنه البخاري في "جزء القراءة" (ص 269 - 271). (¬6) "جزء القراءة" (ص 439).

وفي موضع آخر (¬1): عن يحيى بن بُكَير عن الليث عن جعفر بن ربيعة عن عبد الرحمن بن هرمز أن أبا سعيد الخدري كان يقول: "لا يركعنَّ أحدُكم حتى يقرأَ بفاتحةِ الكتاب"، قال: وكانت عائشة تقول ذلك. أجاب الشيخ - عافاه الله - بقوله: ما حكاه البخاري عن أبي هريرة هو من طريق ابن إسحاق، ومُعارَضٌ بما ذكر مالك في "الموطأ" (¬2) بخلافه، ويقول شارحه ابن عبد البر (¬3): "هذا قول لا نعلم أحدًا من فقهاء الأمصار قال به، وفي إسناده نظر. وما حكاه عن أبي سعيد وعائشة من قولها .. ليس نصًّا صريحًا في عدم الاعتداد .. بل هو في إتمام الفاتحة قبل أن يركع .... أقول: محمَّد بن إسحاق ثقة عند كبار الأئمة، وقد ساق البخاري في "جزء القراءة" (¬4) كلامًا طويلاً في تثبيته، وقد صرَّح هنا بالسماع، فانتفتْ تهمةُ التدليس. وأما ما في "الموطأ" فبلاغ منقطع لا تقوم به حجة، وربما يكون مالك إنما أخذه من عبد الرحمن بن إسحاق، فقد أشار البخاري إلى روايته نحو ذلك، وساق البخاري كلامًا في توهين عبد الرحمن هذا (¬5)، والبخاري وشيخه ابن المديني إمامان مجتهدان مقدَّمان في معرفة النقل والنقلة، فلا يُدفَع كلامهما في ذلك إلا بحجة واضحة. ¬

_ (¬1) (ص 242, 243). (¬2) (1/ 11) ولفظه: "من أدرك الركعة فقد أدرك السجدة". (¬3) "الاستذكار" (1/ 62) ط. دار الكتب العلمية. (¬4) (ص 301 - 304). (¬5) (ص 285 - 287).

وما ذكره عن أبي سعيد وعائشة إنما احتجَّا به؛ لأنه يدل أن المأموم إذا أدرك الإِمام قُبيلَ الركوع لم يكن له أن يدع الفاتحة أو بعضها، ثم يعتد بتلك الركعة، فإذا لم يتحمل عنه الإِمام بعضًا من الفاتحة فقط، فَلَأنْ لا يتحمَّلها عنه كلَّها، ومعها القيامُ أولى. وإذا كان الظاهر أن القول بالإدراك مخالفٌ للقول بافتراض الفاتحة على المأموم، وكان المصرِّحون من الصحابة بالإدراك هم من الذين عُرِف عنهم القولُ بعدم افتراض الفاتحة على المأموم، وجاء عن جماعةٍ من القائلين بالافتراض من الصحابة ما هو صريحٌ أو ظاهرٌ في عدم الإدراك، ولم يثبت عن أحدٍ منهم خلافُ ذلك = فإنه يَقوى جدًّا ظنُّ أن القائلين بالافتراض قائلون بعدم الإدراك، فكلام البخارىَّ وشيخِه متينٌ جدًّا. وأما أن الجمهور الغالب على الإدراك فحقٌّ، ولكن هل يكفي هذا لتخصيصِ (¬1) النصوص الدالة على فرضية القيام وفرضية الفاتحة وفرضية قضاء ما فات؟ ومع تلك الأدلة الاعتبار الواضح، فإن المعهود في فرائض الصلاة أن لا يسقط شيء منها إلا لعذرٍ بيِّن، وليس المسبوقية كذلك، لتمكُّنِ المسبوق بدون مشقةٍ تُذْكَر من الإتمام بعد سلام الإِمام. ومن المسبوقين من يكون مقصَّرًا تقصيرًا واضحًا، فقد رأينا من يتكاسل عن القيام فلا يُكبَّر إلا عند ركوع الإِمام، ومنهم من يتشاغل بمحادثة رفيقه، أو تجميلِ لِبْسته، أو التفرُّجِ على بعض الأشياء، أو يتخطَّى الصفوفَ لِيُزاحِم في الصفّ الأول بدون فُرجةٍ فيه، أو يتشاغل بذكر أو دعاء، إلى غير ذلك. ¬

_ (¬1) في المطبوع: "التخصيص" خطأ.

والقائلون بالإدراك لم يُفرَّقوا فيما أعلم. نعم، لا يُنكَر أنَّ للقول بالإدراك قوةً مَّا لذهاب الجمهور - ومنهم جماعة من علماء الصحابة - إليه، وما جاء مما يدلُّ عليه على ما فيه، فلا لومَ على من قوِيَ عنده جدًّا فقال به. فأما أنا فلا أرى له تلك القوة، والأصل بقاء النصوص على عمومها، واشتغال الذمة بالصلاة كاملةً، والله الموفق.

الرسالة الخامسة بحث فى حديث قيس بن عمرو "صلاة ركعتي الفجر بعد الفرض"

الرسالة الخامسة بحث فى حديث قيس بن عمرو "صلاة ركعتي الفجر بعد الفرض"

[ق 8] بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلله فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه وبركاته على محمَّد وآله. أما بعد، فهذا بحث في حديث قيس بن عمرو، التمسه مني بعض الإخوان. قال الإِمام أحمد في "المسند" (5/ 447) (¬1): ثنا ابن نمير ثنا سعد بن سعيد حدثني محمَّد بن إبراهيم التيمي عن قيس بن عمرو قال: رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يُصلِّي بعد صلاة الصبح ركعتين، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أصلاةَ الصبحِ مرتينِ؟ " فقال الرجل: إني لم أكن صلَّيتُ الركعتين اللتين قبلهما، فصليتهما الآن، قال: فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأخرجه ابن ماجه (¬2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا عبد الله بن نمير ثنا سعد بن سعيد ... فذكره. وكذلك هو في "مصنَّف" (¬3) أبي بكر بن أبي شيبة. وأخرجه أبو داود (¬4): ثنا عثمان بن أبي شيبة، نا ابن نمير ... فذكره، ¬

_ (¬1) رقم (23760). (¬2) رقم (1154). (¬3) (2/ 254). (¬4) رقم (1267).

وفيه: "صلاة الصبح ركعتان" بدل قوله في رواية أحمد وأبي بكر: "أصلاة الصبح مرتين". وأخرجه الشافعي في "الأم" (1/ 131) (¬1) أنا سفيان بن عيينة عن ابن قيس عن محمَّد بن إبراهيم التيمي عن جده قيس قال: رآني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أصلي ركعتين بعد الصبح، فقال: "ما هاتان الركعتان يا قيس؟ " فقلت: لم أكن صليتُ ركعتي الفجر، فسكت عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -. وكذلك أخرجه البيهقي في "السنن" (1/ 456) من طريق الشافعي والحميدي كلاهما عن ابن عيينة، إلا أن في رواية الحميدي: ثنا سفيان ثنا سعد بن سعيد بن قيس عن محمَّد بن إبراهيم التيمي عن قيس جد سعد. قال البيهقي: زاد الحميدي في حديثه: قال سفيان: وكان عطاء بن أبي رباح يروي هذا الحديث عن سعد. قوله في "مصنف" ابن أبي شيبة (¬2): ثنا هشيم قال أخبرنا عبد الملك عن عطاء أن رجلاً صلَّى مع النبي عليه السلام صلاة الصبح ... فقال النبي: "ما هاتان الركعتان؟ " فقال ... ، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يأمره ولم ينهه. ثنا هشيم قال أخبرنا شيخ يقال له مِسْمع بن ثابت قال: رأيتُ عطاءً فعل مثل ذلك. وأخرجه الترمذي (¬3): ثنا محمَّد بن عمرو السواق البلخي ثنا ¬

_ (¬1) (10/ 101) ضمن "اختلاف الحديث" ط. دار الوفاء. (¬2) (2/ 254). (¬3) رقم (422).

عبد العزيز بن محمَّد عن سعد بن سعيد عن محمَّد بن إبراهيم عن جدّه قيس قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأقيمت الصلاة، فصليتُ معه الصبح، ثم انصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - فوجدني أصلَّي، قال: "مهلًا يا قيس! أصلاتانِ معًا؟ " قلت: يا رسول الله، إني لم أكن ركعتُ ركعتي الفجر، قال: "فلا إذًا". قال الترمذي: ... وإسناد هذا الحديث ليس بمتصل، محمَّد بن إبراهيم التيمي لم يسمع من قيس. وقال أبو داود: روى عبد ربه ويحيى ابنا سعيد هذا الحديث مرسلاً أن جدَّهم صلَّى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - أقول: رواية عبد ربه عند أحمد في "المسند" (5/ 447) (¬1): ثنا عبد الرزاق أنا ابن جريج قال: وسمعت عبد الله (كذا) بن سعيد أخا يحيى بن سعيد يحدث عن جده قال: خرج إلى الصبح ... فمرَّ به النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "ما هذه الصلاة؟ "، فأخبره فسكت النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومضى ولم يقل شيئًا. وذكره البيهقي في "السنن" (1/ 487) عن الحاكم عن الأصمّ عن الربيع بن سليمان عن أسد بن موسى عن الليث عن يحيى بن سعيد عن أبيه عن جده أنه جاء والنبي - صلى الله عليه وسلم - يصلَّي صلاة الفجر، فصلَّى معه، فلما سلَّم قام فصلَّى ركعتي الفجر، فقال له النبى - صلى الله عليه وسلم -: "ما هاتان الركعتان؟ " فقال: ... ، فسكتَ ولم يقل شيئًا. وفي ترجمة قيس من "الإصابة" (¬2) أن ابن مندة ذكر رواية أسد ثم قال: ¬

_ (¬1) رقم (23761). (¬2) (9/ 137) ط. التركي.

غريب، تفرَّد به أسد موصولًا، وقال غيره: عن الليث عن يحيى أن جدّه (في النسخة: حديثه (¬1)) مرسل". أقول: سعد بن سعيد ليس بالحافظ عندهم (¬2)، وقد اختلفت الألفاظ في موضعين كما ترى: أما الأول: ففي رواية ابن نمير عنه "أصلاة الصبح مرتين؟ "، هكذا رواه أحمد وأبو بكر بن أبي شيبة عن ابن نمير، وفي رواية عثمان بن أبي شيبة "صلاة الصبح ركعتان"، وهي قريب من التي قبلها، فإن خالفتْها فأحمد وأبو بكر أثبتُ، وفي رواية سفيان بن عيينة عن سعد "ما هاتان الركعتان؟ "، ويوافقها ما في مرسل عبد ربه: "ما هذه الصلاة؟ "، وفي مرسل يحيى، وأسنده أسد: "ما هاتان الركعتان؟ "، وفي رواية الدراوردي عن سعد: "مهلًا يا قيس! أصلاتان معاً؟ ". والدراوردي ليس بالحافظ؛ إلا أن هذا اللفظ يقرب في المعنى من لفظ ابن نمير. [ق 8 ب] وأما الموضع الثاني: ففي عامة الروايات: "فسكت النبي - صلى الله عليه وسلم -"، وفي رواية الدراوردي عن سعد وحدها: "فقال: فلا إذًا". فأما الموضع الأول ففيه احتمالان: الأول: أن ترجَّح رواية ابن عيينة لجلالته وقِدَم سِنِّه وسماعه، وذلك مظنة أن سماعه من سعد أقدم من سماع غيره، وإذا اختلفتْ رواية رجلٍ فالرواية التي ذكرها قبل تقدمه في السنّ أولى؛ لأن العادة أن الرجل كلما ¬

_ (¬1) كذا في المطبوعة. (¬2) انظر "تهذيب التهذيب" (3/ 470).

تقدَّم في العمر ضعف حفظه. ولموافقتها - أعني رواية ابن عيينة عن سعد - لمرسل عطاء، والظاهر أنه إنما سمعه من سعد كما تقدم عن ابن عيينة، ولرواية عبد ربه ويحيى أخوي سعد، وهما أجلُّ من سعد، ولا سيما يحيى، فإن ابن عيينة عَدَّه في محدثي الحجاز الذين يجيئون بالحديث على وجهه. وعلى هذا، فالظاهر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما سأل عن تينك الركعتين خشيةَ أن تكونا مما لا يجوز صلاته في ذلك الوقت، فلما ذكر الرجل أنهما ركعتا الفجر لم يُصلِّهما قبل الفريضة فقد أدركهما حينئذٍ سكت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فدلَّ سكوتُه على الجواز، كما فهمه عطاء والشافعي وغيرهما. الاحتمال الثاني: أن يقال: لا منافاة بين قوله: "ما هاتان الركعتان؟ " وبين قوله: "أصلاة الصبح مرتين؟ "، فلعله - صلى الله عليه وسلم - جمع بين اللفظين. فأما قوله: "أصلاتان معًا؟ " فهو محتمل لأن تكون بمعنى: "أصلاة الصبح مرتين؟ ". وأما ما في رواية الدراوردي: "صلاة الصبح ركعتان" فهو قريب من ذلك، مع أن الدراوردي ليس بالحافظ. وعلى هذا الاحتمال فيكون قد قال - صلى الله عليه وسلم -: "أصلاة الصبح مرتين؟ " وهذا يحتمل وجهين: الأول: إبقاؤه على ظاهره، وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم أن راتبة الصبح محلها قبلها، والغالب أداؤها كذلك، فلما رأى الرجل صلَّى بعد الصبح ركعتين جوَّز أن يكون إنما أعاد الصبح، فأنكر عليه ذلك، فلما أخبره بأنه لم يُصلِّ الصبح مرة أخرى، وإنما تداركَ الراتبة، سكت عنه.

الوجه الثاني: أن يحمل على نحو ما وقع في حديث عبد الله بن سَرْجَس في "صحيح مسلم" (¬1) وغيره أن رجلاً دخل المسجد والنبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الصبح، فصلى ركعتين وحده، ثم دخل مع الجماعة فصلى، قال: فلما سلَّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا فلان! بأيِّ الصلاتين اعتددتَ؟ أبصلاتك وحدك أم بصلاتك معنا؟ ". فلم يكن صلاة الرجل وحدَه مَظِنةَ أنه قصد بها الفرض، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - نزَّلها منزلتَها، كناية عن أن ذلك الوقت إنما تصلح فيه الفريضة، كما صرّح به في الحديث الآخر: "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاةَ إلا المكتوبةُ". فيحمل قوله في حديث قيس: "أصلاة الصبح مرتين" على نحو هذا، بأن يقال: لم يكن هناك مظنة لإعادة الرجل صلاةَ الصبح بعد أن صلاها مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما نُزِّلتْ منزلةَ ذلك كنايةً عن أن الوقت إنما تصلح فيه الفريضة؛ لأنه وقت كراهة. أقول: وينبغي تدبر هذا الموضع، فإن فيه دقةً، فاعلم أن قوله - صلى الله عليه وسلم - للذي صلَّى بعد إقامة الصبح: "بأيَّ صلاتَيْك اعتددت؟ " يتضمن إنكارينِ: الأول: إنكار اشتغاله بصلاة غير المكتوبة، وقد أقيمت المكتوبة. وكنى عن هذا الإنكار بتنزيل صلاته وحده منزلة الفريضة، فكأنه قال: هذا الوقت - أي وقت إقامة المكتوبة - لا تصلح فيه إلا المكتوبة، فلعلك أردتَ بصلاتك أن تكون هي المكتوبة، وهذا كما تقول لمسلم تعلم أنه مفطر في نهار رمضان بغير عذر، وقد سمعته يشتم إنسانًا: لا ينبغي للصائم أن يشتم ¬

_ (¬1) رقم (712).

الناس، تُنزِّله منزلةَ الصائم توبيخًا له؛ لأنه كذلك ينبغي له أن يكون. الإنكار الثاني: مبني على الأول، أي لا ينبغي أن يحضر الرجل الجماعةَ، فيصلِّي تلك الصلاةَ وحده، ثم يصلِّيها مع الجماعة. فأما قوله - صلى الله عليه وسلم - للذي صلَّى بعد الفراغ من الصبح: "أصلاة الصبح مرتين؟ " فإنه إنما يظهر منه الإنكار الثاني، وأما الأول فلا، وذلك أن الأول مبني على أن الوقت يصلح للصبح، ولا يصلح لغيرها، وهذا واضح في الصلاة بعد الإقامة، بخلاف الصلاة بعد الفراغ من الصبح, لأنك إن أردت الصلاحية في مثل تلك الحال، فالوقت في مثل تلك الحال غير صالح للصبح, لأن الرجل قد أدَّاها في جماعة في المسجد، فلم يبقَ الوقتُ صالحًا [ق9 أ] لأن يعيدها وحده. وإن أردت الصلاحية في الجملة فهي ثابتة لها، ولراتبتها؛ لأنه بين طلوع الفجر وطلوع الشمس الوقتُ صالح لراتبة الصبح وفريضتها. فعلى كلا الحالين لا يصح أن يقال: إن ذاك الوقت إنما يصلح للفريضة، فتدبرْ، وأَنْعمِ النظر! فعلى الاحتمال الثاني يتعين الوجه الأول، وهو الموافق للظاهر، فيكون في الحديث النهي عن أن تُصلَّى الصبحُ مرتين. على أنه لو صح الوجه الثاني لوجب استثناء راتبة الصبح بدليل آخر الحديث. وأما الموضع الثاني: فلا ريب في مخالفة رواية الدراوردي لسائر الروايات؛ لأن عامة الروايات تتفق على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سكت ولم يقل شيئًا،

والدراوردي يقول: "فقال: فلا إذًا". وهَبْ أن رواية الدراوردي صحت، فهي موافقة في الحكم لراوية الجماعة، وذلك أننا إذا قلنا في الموضع الأول بالاحتمال الأول، وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما سأله عن تلك الصلاة خشيةَ أن يكون مما لا يجوز في ذلك الوقت، فأخبره الرجل بأنها راتبة الفجر تداركَها، فسواءٌ أسكتَ النبي - صلى الله عليه وسلم - أم قال: "فلا إذًا"؛ لأن سكوته دلَّ على أنه تبين أنها مما يجوز، إذ لو كانت مما لا يجوز لبيَّن له ذلك، وتأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز. فإن قيل: اكتفى ببيانٍ سابقٍ بالنهي عن الصلاة بعد الصبح حتى ترتفع الشمس. قلنا: اعتذار الرجل يدلُّ أنه لم يبلغه ذلك، أو لم يفهم منه النهي عن تدارك راتبة الفجر، فكيف يسكت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أن يبيَّن له في وقت حاجته اكتفاءً ببيانٍ لم يحصل له؟ مع أن السكوت مُوهِمٌ للجواز، كما لا يخفى. وإن صح قوله: "فلا إذَنْ" فهو أوضح من السكوت؛ لأن هذه العبارة معناها في العربية: "فإذا كان كذلك فلا"، فمؤدَّاها هنا: "فإذا كانت صلاتك إنما هي راتبة الصبح تداركتَها فلا". والمنفي بـ "لا" هو ما دل عليه قوله: "ما هذه الصلاة؟ " من أن من الصلاة ما هو ممنوع في ذلك الوقت، فكأنه قال: "فلا منْعَ". ونظير هذا ما في "الصحيحين" (¬1) أنهم أخبروا النبي - صلى الله عليه وسلم - قبيلَ طواف الوادع أن صفية حاضت، فقال: "أحابِستُنا هي؟ " قالوا: إنها قد أفاضت. قال: ¬

_ (¬1) البخاري (1757) ومسلم (1211/ 384) من حديث عائشة.

"فلا إذنْ"، أي إذا كانت قد أفاضت فليستْ بحابستنا. ومثله ما في "صحيح مسلم" (¬1) في حديث النعمان بن بشير لما نَحَلَه أبوه غلامَا، وجاء يُشهد النبى - صلى الله عليه وسلم -، فقال - صلى الله عليه وسلم - لبشير: "أكلَّ بَنِيكَ قد نَحَلْتَ مثل ما نحلتَ النعمانَ؟ " قال: لا. قال: "فأَشْهِدْ على هذا غيري"، ثم قال: "أيسرُّكَ أن يكونوا إليك في البرِّ سواءً؟ " قال: بلى. قال: "فلا إذَنْ" أي فإذا كان كذلك بأن كان يسرُّك استواؤهم في البر، فلا يصح أن تُفضِّل بعضَهم على بعض في النحلة. وحكى صاحب "فيض الباري" (¬2) من الحنفية عنهم أنهم قدَّروا: "فلا جوازَ إذنْ" قال: "إلا أنه لا يظهر فيه معنى الفاء ... ". ثم ذهب يُوجِّه ذلك، ويحاول أن يصير المعنى ما عبَّر عنه بلغة أردو بقوله: "بهر بهي نهين" أي "وأيضًا لا"، أو "ومع ذلك لا". ولم أر فيما استشهد به ما تقوم به الحجة. ومقصودي هنا الكلام على هذا الحديث لا على أصل المسألة، فإن للكلام فيها موضعًا آخر، حتى لو ثبت ما تقوم به الحجة على المنع من تدارك ركعتي الفجر بعد صلاتها وقبل طلوع الشمس، لكان الجواب عن حديث قيس أنه لم يثبت ثبوتًا تقوم به الحجة وحده، فأما دلالته فظاهرة، والله أعلم. ¬

_ (¬1) رقم (1623/ 17). (¬2) هو الشيخ محمَّد أنور شاه الكشميري، وكلامه في "العرف الشذي" (1/ 402، 403).

نعم، أنبِّه على شيء واحدٍ، وهو أن صاحب "الفيض" ذكر ما وقع عن أبي داود (¬1) في باب المسح على الخفين في حديث المغيرة في إدراك النبي - صلى الله عليه وسلم - الناسَ وهم يصلُّون الصبحَ خلف عبد الرحمن بن عوف وقد صلَّوا ركعة، قال المغيرة: "قام النبى - صلى الله عليه وسلم - فصلَّى الركعة التى سُبِقَ بها، ولم يَزِدْ على ذلك". فحمل صاحب "الفيض" قولَه: "ولم يَزِدْ على ذلك" على أنه لم يتدارك ركعتي الفجر، لا ما ذكره أبو داود من نفي سجود السهو. أقول: يحتمل في الواقعة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلَّى ركعتي الفجر راكبًا قبل أن يصلَ إلى الجماعة لأنه كان مسافرًا، بل هذا هو الظاهر. وقوله: "ولم يَزِدْ شيئًا" يحتمل ما قال أبو داود، ويحتمل [ق9 ب]، معنى ثالثًا، وهو أنه لم يزِدْ ركعة أخرى، والحامل على هذا أنه قد يُتوهَّم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعتدُّ بالركعة التي صلَّاها خلف عبد الرحمن. فتأمل! والله أعلم. ¬

_ (¬1) رقم (152).

الرسالة السادسة إعادة الصلاة

الرسالة السادسة إعادة الصلاة

[ق10] إعادة الصلاة أخرج أبو داود والنسائي وابن حِبّان في "صحيحه" وغيرهم (¬1) من طريق حسين بن ذَكْوان المعلِّم عن عمرو بن شعيب عن سليمان مولى ميمونة قال: أتيتُ ابنَ عمر على البلاط وهم يُصلُّون، فقلتُ: ألا تصلِّي معهم؟ قال: قد صليتُ، إني سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا تُصَلُّوا صلاةً في يومٍ مرتينِ". لفظ أبي داود. ولفظ النسائي: "لا تُعاد الصلاةُ في يومٍ مرتينِ". وفي رواية لغيره (¬2): "والناس في صلاة العصر"، ذكره الدارقطني (ص 159) (¬3) وقال: تفرد به حسين المعلم عن عمرو بن شعيب. وللطحاوي (¬4) من طريق عمرو بن شعيب أيضًا عن خالد بن أيمن المعافري قال: "كان أهلُ العوالي يُصلُّون في منازلهم، ويُصلُّون مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنهاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُعيدوا الصلاةَ في يومٍ مرتين". قال عمرو: فذكرت ذلك لسعيد بن المسيب، فقال: صدق. ¬

_ (¬1) أبو داود (579) والنسائي (2/ 114) وابن حبان (2396). وأخرجه أيضًا أحمد (4689) وابن خزيمة (1641) والدارقطني (1/ 415، 416) والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 303) بهذا الإسناد. (¬2) هي رواية الدارقطني (1/ 416). (¬3) (1/ 416) من طبعة عبد الله هاشم يماني. (¬4) "شرح معاني الآثار" (1/ 317).

أقول: أما الحديث الأول فترجم له أبو داود: "باب إذا صلَّى في جماعة ثم أدرك جماعة"، وترجم له النسائي "سقوط الصلاة عمن صلَّى مع الإِمام في المسجد جماعةً"، أراد بذلك الجمعَ بين حديث ابن عمر وأحاديث الإعادة، وستأتي. وذلك أن حديث ابن عمر عامٌّ، وأحاديث الإعادة أخصُّ منه، وعبارة النسائي أفقه، كما ستعلم إن شاء الله تعالى. وحمل بعضهم (¬1) حديث ابن عمر على النهي عن الإعادة على سبيل الفرض، وليس بواضح. نعم، لفظه في رواية: "لا صلاة مكتوبة في يوم مرتين" (¬2)، وهذا يحتمل معنى أنها إنما تكتب مرة، ولا تُكتب مرة أخرى، أي لا تُفرَض، فيكون حاصله أنه لا تُفرض إعادة الصلاة. وأما مرسل خالد، وقد صدَّقه ابن المسيّب، فقوله: "مرتين" يحتمل أن يكون راجعًا إلى الصلاة، والتقدير: "أن يُعيدوا الصلاة، يصلوها في يوم مرتين"، فتكون كحديث ابن عمر باللفظ الأول. ويحتمل أن يكون راجعًا إلى الإعادة، أي "إعادتين" وهذا هو الظاهر، فإن قولك: "أعدتُ الصلاةَ مرتين" ظاهره أنك صلَّيتَها ثمَّ أعدتَها ثم أعدتَها. فإن قيل: الواقع من فعل القوم إنما هو أنهم كانوا يُصلُّون في منازلهم، ويصلُّون مع النبي - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) هو البيهقي، انظر "السنن الكبرى" (2/ 303). (¬2) في المصدر السابق.

قلت: نعم، ولكن كان علمهم بمشروعية إعادة الصلاة في الجملة مظنةَ أن يرغب بعضهم في إعادتها أكثر من مرة. وحديث ابن عمر يحتمل هذا المعنى، بل لفظ النسائي ظاهر فيه، وهو: "لا تُعاد الصلاةُ في يوم مرتين". وقد اختلف النقل عن ابن عمر؛ ففي "مصنَّف ابن أبي شيبة" (¬1): عن يونس عن الحكم عن الأعرج قال: أتيتُ على ابن عمر والناسُ في صلاتهم الظهر، فظننته في غير طُهرٍ، فقلت له: يا أبا عبد الرحمن! آتِيْك بطهر. قال: إني على طهارة، وقد صليتُ، فبأيِّهما أَحتسبُ. قال يونس: فذكرت ذلك للحسن، فقال: رحم الله أبا عبد الرحمن، يجعل الأولى المكتوبة، وهذه نافلةً. وعن عبد الوهاب الثقفي عن عبد الله بن عثمان عن مجاهد قال: خرجتُ مع ابن عمر من دار عبد الله بن خالد، حتى إذا نظرنا إلى باب المسجد إذِ الناس في صلاة العصر، فلم يزل واقفًا حتى صلَّى الناس، وقال: إني صلّيتُ في البيت (¬2). وعن أبي خالد الأحمر عن الضحاك بن عثمان عن نافع أن ابن عمر اشتغل ببناءٍ له، فصلَّى الظهر، ثم مرَّ بمسجدِ بني عوف وهم يصلّون، فصلَّى معهم (¬3). ¬

_ (¬1) رقم (6709). (¬2) المصدر السابق (6739). (¬3) المصدر السابق (7625).

وفي "الموطأ" (¬1): عن نافع أن رجلاً سأل ابنَ عمر فقال: إني أُصلِّي في بيتي، ثم أُدرِكُ الصلاةَ مع الإِمام، أفأُصلَّي معه؟ فقال له عبد الله بن عمر: نعم ... ". وفي "مصنف ابن أبي شيبة" (¬2): عن ابن نُمير عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال: "إذا صلَّى الرجل في بيته ثم أدرك جماعةً صلَّى معهم، إلا المغرب والفجر". وفي "الموطأ" (¬3) عن نافع عن ابن عمر نحوه. وفي هذه الآثار كالدلالة على أن أصل الحديث إنما هو النهي عن الإعادة مرتين، كما في رواية النسائي، لا عن الصلاة مرتين. وبالجملة، فالذي استقر عليه رأيُ ابن عمر مشروعية الإعادة مع الجماعة، وإنما استثنى المغرب والفجر؛ لأن المغرب وتر، وللنهي عن الصلاة بعد صلاة الفجر، وإنما لم يستثنِ العصر؛ لأن مذهبه جواز الصلاة بعد العصر حتى تصفرَّ، كما في "فتح الباري" (¬4). ولننظر في الأدلة على مشروعية الإعادة: 1 - في "صحيح مسلم" (¬5) وغيره من حديث أبي ذر: قال لي ¬

_ (¬1) (1/ 133). (¬2) رقم (6726). (¬3) (1/ 133). (¬4) (2/ 63). (¬5) رقم (648).

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كيف أنت إذا كانت عليك أمراءُ يُؤخِّرون الصلاةَ عن وقتها، أو يُمِيتُون الصلاةَ عن وقتها؟ ". قال: قلت: فما تأمرني؟ قال: "صلِّ الصلاةَ لوقتها، فإن أدركتَها معهم فصَلِّ، فإنها لك نافلة". وفي روايةٍ لمسلم (¬1): "صلِّ الصلاةَ لوقتها، فإن أدركتَ الصلاة معهم فصَلِّ، ولا تقلْ: إني قد صلَّيتُ، فلا أُصلِّي". وبمعناه أحاديث عن ابن مسعود (¬2) وعبادة بن الصامت (¬3) وغيرهما، وليس فيها التقييد بخوف فتنة أو نحوه. 2 - أخرج ابن خزيمة وابن حبان في "صحيحيهما" (¬4)، والحاكم في "المستدرك" (¬5) وقال: صحيح كما في "تلخيص المستدرك" (1/ 244)، وابن السكن وصححه (¬6)، والترمذي (¬7) وقال: حسن صحيح، والنسائي (¬8) وأبو داود (¬9) وغيرهم عن يعلى بن عطاء عن جابر بن يزيد بن الأسود عن أبيه قال: "شهدتُ مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حَجَّتَه، فصليتُ معه صلاة الصبح في ¬

_ (¬1) رقم (648/ 242). (¬2) أخرجه مسلم (534). (¬3) أخرجه أبو داود (433). (¬4) ابن خزيمة (1279، 1638، 1713) وابن حبان (1564، 1565، 2395). (¬5) (1/ 244، 245) (¬6) نقل تصحيحه الحافظ في "التلخيص الحبير" (2/ 29). (¬7) رقم (219). (¬8) (2/ 112، 113). (¬9) رقم (575، 576).

مسجد الخيف، فلما قضى صلاتَه وانحرف إذا هو برجلين في أُخرى القوم لم يُصلِّيا معه، فقال: "عليَّ بهما"، فجِيءَ بهما تُرْعَدُ فَرائصُهما، فقال: "ما مَنَعَكما أن تُصلِّيا معنا؟ "، فقالا: يا رسول الله، كنَّا صلَّينا في رِحالِنا. قال: "فلا تفعلا، إذا صلَّيتما في رِحالكما، ثم أتيتُما مسجدَ جماعةٍ فصلِّيا معهم، فإنها لكما نافلةٌ". أقول: جابر بن يزيد بن الأسود، قال ابن المديني: لم يروِ عنه غير يعلى بن عطاء (¬1)، ولذلك قال الشافعي: "إسناده مجهول، نقله البيهقي (¬2). وقد وثَّقه النسائي (¬3)، وصحَّح حديثه جماعة كما مر. ولأئمة الحديث مذاهبُ في توثيق من لم يروِ عنه إلا واحد، ليس هذا موضعَ شرحها. وقد أخرجه الدارقطني (ص 159) (¬4) بسندٍ رجاله موثَّقون عن بقيَّة حدثني إبراهيم (بن عبد الحميد) بن ذي حماية حدثني عبد الملك بن عُمير عن جابر بن يزيد عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه. وإبراهيم، قال أبو زرعة (¬5): ما به بأس، وقال ابن حبان في أتباع التابعين من "الثقات" (¬6): من فقهاء أهل الشام، كان على قضاء أهل حمص. ¬

_ (¬1) انظر "تهذيب التهذيب" (2/ 46). (¬2) في "السنن الكبرى" (2/ 302). (¬3) انظر "التلخيص الحبير" (2/ 29). (¬4) (1/ 414). (¬5) انظر "الجرح والتعديل" (2/ 113). (¬6) (6/ 13).

وهذه متابعة جيدة، وذكر الدارقطني وجهين آخرين (¬1)، فراجعه. 3 - مالك في "الموطأ"، وابن خزيمة في "صحيحه"، والحاكم في "المستدرك" وقال: صحيح، والنسائي (¬2) وغيرهم عن زيد بن أسلم عن بُسْر بن مِحْجَن الدِّيلي: أنه كان جالسًا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأُوذِنَ (¬3) بالصلاة، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلَّى بهم، ثم رجعَ ومِحْجَنٌ في مجلسه كما هو، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما منعَكَ أن تُصَلِّي؟ ألستَ برجلٍ مسلم؟ " قال: بلى يا رسول الله، ولكني يا رسول الله كنتُ قد صلَّيتُ في أهلي. قال: "فإذا جئتَ فصَلِّ مع الناس وإن كنتَ قد صلَّيتَ". لفظ الحاكم في المستدرك (1/ 244)، ثم قال: هذا حديث صحيح، ومالك بن أنس الحَكَم في حديث المدنيين، وقد احتجَّ به في "الموطأ". أقول: لم يذكروا لبُسْرٍ إلا راويًا واحدًا هو زيد بن أسلم (¬4)، فحاله شبيهة بحال جابر بن يزيد، لكن رواية زيد مع جلالة محله تُقوِّي حالَه، وقد جاء عن زيد أنه سُئل عن حديثٍ فقيل له: عمَّن هذا؟ فقال: يا ابن أخي، لم نكن نجالس السفهاء (¬5). ¬

_ (¬1) انظر "سننه" (1/ 414). (¬2) "الموطأ" (1/ 132) و"المستدرك" (1/ 244) والنسائي (2/ 112) ولم أجده عند ابن خزيمة. وأخرجه أيضًا أحمد (16395) وابن حبان (2405) والبيهقي (2/ 300). (¬3) في الموطأ والمسند: "فأُذَّن". (¬4) انظر "تهذيب التهذيب" (1/ 438). (¬5) انظر "تهذيب التهذيب" (3/ 396).

4 - أبو داود (¬1) وغيره من طريق سعيد بن السائب عن نوح [بن] (¬2) صعصعة عن يزيد بن عامر قال: جئتُ ... فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا جئتَ إلى الصلاة فوجدتَ الناسَ، فصَلِّ معهم وإن كنتَ قد صلَّيتَ، تَكُنْ لك نافلةً، وهذه مكتوبة". أقول: نوح بن صعصعة لم يُذكَر له راوٍ إلا سعيد بن السائب (¬3)، واستنكروا قوله: "وهذه مكتوبة". 5 - مالك في "الموطأ" (¬4) عن عَفِيف السَّهمي عن رجلٍ من بني أسد أنه سأل أبا أيوب الأنصاري فقال: إنّي أصلَّي في بيتي، ثم آتي المسجدَ، فأجدُ الإمامَ يُصلِّي، أفأُصلَّي معه؟ فقال أبو أيوب: نعم، فَصَلَّ معه، فإنَّ من صنَعَ ذلك فإن له سَهْمَ جَمْعٍ، أو مثلَ سَهْمِ جَمْعٍ. وأخرجه أبو داود (¬5) بسند صحيح إلى بُكَير بن عبد الله بن الأشجِّ عن عَفِيف بن عمرو بن المسيّب، وفيه: فقال أبو أيوب: سألنا عن ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "فذلك له سهمُ جَمْعٍ". وقال بعضهم: "يعقوب بن عمرو بن المسيب" بدل "عفيف"، كما في "تاريخ" البخاري (4/ 2/ 190) (¬6). ¬

_ (¬1) رقم (577). (¬2) ساقطة من الأصل. (¬3) انظر "تهذيب التهذيب" (10/ 485). (¬4) (1/ 133). (¬5) رقم (578). (¬6) "التاريخ الكبير" (8/ 390).

عفيف: وثَّقه النسائي (¬1)، ويكفيه رواية مالك وبُكير عنه، ومالك مشهور بأنه لا يروي إلا عن ثقة، وكذلك بُكير، قال عمرو بن الحارث (¬2): إذا رأيتَ بكير بن عبد الله روى عن رجلٍ فلا تسأل عنه فهو الثقة الذي لا شكَّ فيه. ذكره في "التهذيب" في ترجمة بكير. 6 - أحمد في "المسند" (4/ 215) (¬3): ثنا يعقوب ثنا أبي عن ابن إسحاق قال: حدثني عمران بن أبي أنس عن حنظلة بن علي الأسلمي عن رجلٍ من بني الدِّيل قال: "صليتُ الظهر في بيتي، ثمّ خرجتُ بأباعِرَ لي لأُصْدِرَها إلى الراعي، فمررتُ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يُصلِّي بالناس الظهرَ، فمضيتُ فلم أُصَلَّ معه، فلما أَصدَرتُ أباعرِي ورجعتُ ذُكِرَ ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لي: "ما مَنَعَك يا فلانُ أن تُصلِّي معنا حينَ مررتَ بنا؟ " قال: قلت: يا رسول الله، إنّي قد كنتُ صلَّيتُ في بيتي، قال: "وإنْ". [ق11] أقول: الرجل من بني الدِّيل صحابي، ورجال السند كلهم ثقات، إلا أن في ابن إسحاق كلامًا، والراجح عندهم أنه ثقة يُدلَّس، وقد صرَّح هنا بالسماع، فزالت تهمة التدليس. 7 - أبو داود والترمذي (¬4) وقال: حديث حسن، وابن خزيمة وابن حبان في "صحيحيهما" (¬5)، والحاكم في "المستدرك" (1/ 209) وقال: صحيح ¬

_ (¬1) انظر "تهذيب التهذيب" (7/ 236). (¬2) بل أحمد بن صالح المصري كما في "التهذيب" (1/ 492، 493). (¬3) رقم (17890). (¬4) أبو داود (574) والترمذي (220). (¬5) ابن خزيمة (1632) وابن حبان (2397، 2398، 2399). وأخرجه أيضًا أحمد =

على شرط مسلم، وغيرهم عن أبي سعيد الخدري قال: جاء رجل وقد صلَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمدة، فقال: "أيكم يَتَّجِرُ على هذا؟ "، فقام رجل فصلَّى معه. لفظ الترمذي، ولفظ أبي داود والحاكم: "ألا رجلٌ يتصدق على هذا فيُصلِّي معه". وجاء بمعناه من حديث أبي أمامة عند أحمد (5/ 254) (¬1)، ومن حديث أنس عند الدارقطني (ص 103) (¬2)، وفي "كنز العمال" (¬3) أنه أخرجه أبو عوانة والضياء في "المختارة" (¬4). وقال الترمذي (¬5): وفي الباب عن أبي أمامة وأبي موسى (¬6) والحكم بن عُمير (¬7). ¬

_ = (11613، 11019) والدارمي (1/ 318) والبيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 69). (¬1) رقم (22189، 22316). وإسناده ضعيف جدًّا، لضعف عبيد الله بن زحر وعلي بن يزيد الألهاني. (¬2) (1/ 276). (¬3) (7/ 643) برقم (20692). (¬4) رقم (1670، 1671). وأخرجه أيضًا الطبراني في "المعجم الأوسط" (7282). وإسناده حسن. (¬5) عقب الحديث (220). (¬6) أخرجه ابن ماجه (972) والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 308) والدارقطني (1/ 280) والحاكم في "المستدرك" (4/ 334) والبيهقي (3/ 69) بلفظ: "الاثنان فما فوقهما جماعة". وإسناده ضعيف جدًّا، الربيع بن بدر متروك، ووالده وجدّه مجهولان. (¬7) في الأصل: "عمرو"، والتصويب من الترمذي. والحديث أخرجه ابن سعد في "الطبقات" (7/ 415) وابن عدي في "الكامل" (5/ 250) باللفظ المذكور. وفي إسناده عيسى بن إبراهيم القرشي، قال البخاري: "منكر الحديث".

وجاء من مرسل أبي عثمان النهدي (¬1)، والحسن البصري. قال ابن أبي شيبة في "المصنف" (¬2): ثنا هُشيم نا خصيف بن يزيد التيمي (¬3) قال: نا الحسن أن رجلاً دخل المسجدَ وقد صلَّى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "ألا رجلٌ (¬4) بقوم إلى هذا فيصلِّي معه؟ "، فقام أبو بكر فصلَّى معه، وكان قد صلَّى تلك الصلاة. 8 و9 و10 - حديث جابر في صلاة معاذ، وحديثه في صلاة الخوف، وحديث أبي بكرة في صلاة الخوف أيضًا، وستأتي إن شاء الله تعالى. ... ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف برقم (7173). (¬2) رقم (6723). (¬3) كذا في نسخ "المصنّف"، والصواب: "خصيب بن زيد التميمي"، كما في "التقريب" وغيره من كتب الرجال. (¬4) في الأصل: "رجلاً". والتصويب من "المصنّف".

الفقه

الفقه لا يخفى أن الأصل عدم مشروعية الإعادة، وهذه الأحاديث إنما دلَّت على مشروعية الإعادة في صور: الأولى: من صلَّى في بيته أو نحوه، ولو جماعةً، ثم أدرك الجماعة في المسجد. وقولي: "ولو جماعةً" مأخوذ من عموم الأحاديث؛ إذ لم تُقيَّد الصلاة في الرحل بكونها فرادى. الثانية: فيما إذا رأى إنسانًا يريد الصلاة وحده، فيتصدَّق عليه. الثالثة: في الرجل يكون إمامًا راتبًا، فيصلَّي في غير مسجده، ثم يرجع إلى مسجده، فيصلِّي بهم. الرابعة: في الخوف. فما عدا هذه الصور باقٍ على الأصل من عدم مشروعية الإعادة، إلا أن يتفق ما هو في معنى واحدةٍ منها. فأما حديث ابن عمر مرفوعًا: "لا تُصلُّوا صلاةً في يومٍ مرتين" أو "لا تُعاد الصلاة في يومٍ مرتين" أو "لا صلاةَ مكتوبة في يومٍ مرتين"، فإن كان باللفظ الثاني، ومعناه النهي عن إعادتها مرتين، بأن يصلِّيها ثم يعيدها ثم يعيدها، فلا مخالفةَ فيه لما تقدم، إلا أن يُتصوَّر في بعض الصور الأربع ما يستلزم مثل هذا، كأن يصلّي في بيته، ثم يعيد مع الإِمام، ثم يريد أن يتصدق بإعادتها مع من يريد أن يصلِّي وحدَه.

وإن كان باللفظ الثالث: لا تُكْتَب أي لا تُفْرَض صلاةٌ واحدةٌ في يوم مرتين، وحاصله أن تكون إعادةُ صلاةٍ من المكتوبات مفروضةً كأصلها، فلا خلاف فيه أيضًا. وإن كان باللفظ الأول: "لا تُصلُّوا صلاةً في يومٍ مرتين" فهو عام، وأحاديث الباب خاصة، فيعمل بها فيما دلَّت عليه، وما بقي فللعام. وهذا فيما يظهر مُجمَعٌ عليه في الظهر والعشاء، واختلف الناس في الباقي. أما الصبح والعصر، فللنهي عن الصلاة بعدهما. وأما المغرب فقياسًا على الوتر. والذي يترجح إعادة الصبح أيضًا للحديث الثاني، وكذلك العصر للحديث الأول، وقياسًا على الثاني من باب أولى؛ لأنه قد ورد جواز الصلاة بعد العصر في غير هذا. وقد يقال: إنه بين طلوع الفجر وطلوع الشمس إنما المنهيُّ عنها ما عدا راتبةِ الصبح وفريضتِها، فهي خارجة عن النهي، فكذلك الصبح إذا أُعيدَتْ حيث تُشْرَع إعادتها، ونحوه يقال في إعادة العصر. هذا، والأحاديث في الأوقات المكروهة تدلُّ أن الكراهة إنما تشتدُّ في وقت طلوع الشمس ووقت غروبها. وأما بين صلاة الصبح وطلوع الشمس، وبين صلاة العصر ووقت الغروب، فإنما هما كالحِمَى لسدِّ الذريعة. فلو قيل: إن ما عدا الفريضتين مما له سببٌ متقدمٌ أو مقارنٌ إنما يمتنع عند الطلوع وعند الغروب، لكان مذهبًا يتفق به عامة الأدلة، كذا كان يخطر

لي، ثم رأيتُ بعض أجلَّة العصرِ نحا نحوه. فأما المغرب فقد جاءت إعادتها في إمامة معاذ بقومه، كما يأتي، وكذلك في الخوف كما يأتي، وعموم الأدلة يقتضي إعادتَها بصفتها، وجاء عن جماعةٍ من السلف أنه يَشْفَعُها بركعة، كما قيل بنحوه في الوتر. وجاء عن بعضهم ما يدلُّ على التخيير بين أن يُعيدَها بصفتها، وأن يُعيدَها ويَشْفعَها بركعة. والأقرب - والله أعلم - أنه يُعيدها بصفتها، ومما يُؤيِّد هذا احتمالُ أن يكون في صلاته الأولى خللٌ ضارٌّ لم يتنبه له، فتكون الثانية هي فرضَه على الحقيقة، أو تكون الثانية أكثرَ أجرًا، فيتفضل الله عزَّ وجلَّ بجعلها فريضتَه حتى يكون له فيها الثواب الفرض. وهذا مجمل ما جاء عن ابن عمر وابن المسيِّب أن تعيين أيهما الفرض إلى الله عزَّ وجلَّ، ولا يُنافي هذا ما جاء من السنة، وفي كلام ابن عمر وغيره أن الثانية نافلة، فإن هذا - والله أعلم - مبنيٌّ على الظاهر من أنه قد صلَّى صلاةً صحيحة بَرِئتْ بها ذمتُه في الظاهر، فتدبَّر! والله أعلم. ***

فصل هل يعيد إماما؟

فصل هل يُعيد إمامًا؟ * أدلة المجيزين: الأول: حديث جابر في قصة معاذ رواه عن جابر جماعةٌ أجلُّهم عمرو بن دينار، ورواه عن عمرٍو جماعةٌ أجلُّهم ابن جريج. قال الشافعي: أخبرنا عبد المجيد قال: أخبرني ابن جريج عن عمرو عن جابر قال: "كان معاذ يُصلِّي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - العشاءَ، ثم ينطلق إلى قومه، فيصلِّيها بهم، هي له تطوع، وهي لهم المكتوبة". (الأم 1/ 153) (¬1). ورواه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬2) - كما يظهر من "الفتح" (¬3) وغيره -: أخبرنا ابن جريج قال: أخبرني عمرو. وكذلك أخرجه الدارقطني (ص 102) (¬4) وغيره - من طريق عبد الرزاق. وأخرجه الدارقطني (¬5) أيضًا: حدثنا أبو بكر النيسابوري نا إبراهيم بن مرزوق ثنا أبو عاصم عن ابن جريج .... ¬

_ (¬1) (2/ 347) ط. دار الوفاء. (¬2) رقم (2266). (¬3) (2/ 195، 196). (¬4) (1/ 275). (¬5) (1/ 274).

وقد طعن بعضهم في زيادة "هي له تطوع" قال: قد رواه عن جابر جماعة غير عمرو - كما سيأتي - وعن عمرو جماعة غير ابن جريج - كما سيأتي - ولم يذكروا هذه الزيادة. ثم قال بعضهم: إنما وجدت في رواية الشافعي، وقد علمت أنها ثابتة من غير طريقه. وقال غيره: إنما هي في رواية ابن جريج، ويوشك أن تكون مدرجة، وجزم بعض المتأخرين أنه أدرجها ابن جريج، وقوى ذلك بموافقتها لمذهب ابن جريج. أقول: إن أراد أن ابن جريج أدرجها عمدًا؛ لتلتبس بالحديث وتُحسَب منه، فهذه تهمة باطلة تنافي أصلَ العدالة، فضلاً عما عُرِف به ابن جريج من التقوى والجلالة. فإن قيل: فإنه معروف بالتدليس. قلت: تدليسه المعروف عنه أنه إذا قال: "قال فلان" احتمل أن لا يكون سمعه منه، وقد أخبر بذلك عن نفسه، أي أنه لا يلتزم إذا قال: "قال فلان" أن يكون سمعه منه، بل قد يقول فيما لم يسمعه ممن سمَّاه، وقال - كما في "تهذيب التهذيب" (¬1) -: إذا قلت: "قال عطاء" فأنا سمعتُه منه، وإن لم أقلْ: سمعتُ. فأوضح أنه إنما يلتزم في قوله: "قال فلان" أن يكون سمعه من فلان إذا قال: "قال عطاء"، فأما في غيره فلا. ¬

_ (¬1) (6/ 406).

[ق12] وهكذا ينبغي أن تكون الحال في كل ثقةٍ عُرِف بالتدليس، فأما من يُدلِّس بدون أن يدلَّ على أنه يُدلِّس فالظاهر أن ذلك يَخدِش في عدالته. والمقصود أن اعتياد ابن جريج أن يقول: "قال فلان" ولم يسمع من فلان بعد أن بيَّن أنه قد يقول ذلك فيما لم يسمعه، لا يستلزم أن يلبس شيئًا من كلامه بالحديث؛ ليحسب من الحديث. وإن أراد أن ابن جريج زادها على وجه التفسير بحسب اعتقاده، كما يقع كثيرًا من أهل العلم، يذكر الرجل الآية، ثم يُتبِعها بشيء من عنده على وجه التفسير، وكذلك في الأحاديث، وقد بيَّن علماء الحديث نوع المدرج، وأن غالبه يكون على هذه الوجه = فيرُدُّه أن العادة في مثل هذا أن الشيخ إذا تكررت روايته للحديث إنما يتفق الإدراج في بعض الروايات، وبقية الروايات إما أن تسكتَ عنه، وإما أن تُفصَّل، فتُميّز الحديثَ من كلام الشيخ. وهذا الحديث قد روي عن ابن جريج من أوجهٍ كما علمتَ، وتلك الجملة متصلة بالقصة فيها كلها. فالظاهر أنه إن كان هناك إدراج فهو من عمرو بن دينار؛ لأنه هو الذي تعددت عنه الروايات، ولم تقع الجملة المذكور إلا في رواية ابن جريج. فإن قيل بذلك، دُفِع بأن الإدراج خلاف الأصل، إذ الغالب مِن حال الثقة الضابط أنه إن أراد أن يُتبعَ الحديثَ بشيء من عنده فصَّل ذلك وبيَّنه. وابن جريج إمام فقيه متقن، وهو بلديُّ عمرو، ولازمه مدةً، فمن البعيد أن يشتبه عليه الأمر في هذا بأن تكون تلك الجملة من كلام عمرو، فيحسبها ابن جريج من الحديث، ويستمرَّ عليه الوهم.

والحاصل: أن انفراد رواية ابن جريج بذكر تلك الجملة دون بقية الرواة عن عمرو ودون بقية الرواة عن جابر يُشعِر بالإدراج، والأصل المذكور - أي أن الغالب من حال العدل الضابط أن لا يُتبع الحديثَ بشيء من كلامه بدون فصل أو بيان، والغالب من حال الفقيه المتقن التمييز بين ما يذكره الشيخ على أنه من الحديث، وما يزيده من عنده في الحديث - يُنافي الإدراجَ. فالميزان الترجيح بين هذين. وقد يُرجَّح عدم الإدراج: أولاً: بأن الإدراج في الأصل خلاف الظاهر الغالب، فلا يُصار إليه إلا بحجة واضحة، ولا يكفي ما يوقع في الشكّ والتردّد. وثانيًا: لا يُستغرب أن ينفرد ابن جريج بالزيادة عن عمرو، فإنه بلديُّه، قديم السماع منه، وهو فقيه يعقل قيمة هذه الزيادة فيعتني بحفظها، فأما من ليس بفقيه فقد يرى أن من صلَّى صلاة صحيحة ثم أعادها، لا يتصور فيه إلا أن تكون الأولى فرضه، والثانية نافلة، فيتوهم أن الزيادة المذكورة لا حاجة إليها. وقد قال الشافعي (¬1): أخبرنا إبراهيم بن محمَّد عن ابن عَجْلان عن عبيد الله بن مِقْسَم عن جابر أن معاذ بن جبل كان يُصلَّي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العشاءَ، ثم يرجع إلى قومه فيصلِّي بهم العشاء، وهي له نافلة. وإبراهيم بن محمَّد هو ابن أبي يحيى الأسلمي، كذَّبه جماعة، وكان الشافعي يُوثِّقه في حديثه، وكذلك وثَّقه ابن الأصبهاني، وقوَّاه ابن عُقدة ¬

_ (¬1) في "الأم" (2/ 347، 348).

وابن عدي (¬1). ويظهر أن إبراهيم كان - أولاً - متماسكًا، وذلك لما سمع منه الشافعي، ثم تغيَّر بعده. وعلى كل حال، فرواية إبراهيم لا تصلح للحجة، وقد رواه غيره عن ابن عجلان، ولم يقل: "وهي له نافلة". راجع "مسند أحمد" (3/ 302) (¬2). وقال بعضهم: هَب الجملة المذكورة ثبتت عن جابر فذلك ظن منه، ولا يلزم أن يكون مطابقًا للواقع، وهَبْ أن معاذًا أخبر جابرًا بذلك، فذلك رأي لمعاذ، ولا يلزم أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - عرف ذلك، وأقرَّه عليه. وغير ذلك مما قالوه، وسيأتي النظر فيه جملة إن شاء الله تعالى. ومنهم منصور بن زاذان: في "صحيح مسلم" (¬3) ولفظه: "أن معاذ بن جبل كان يصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشاء الآخرة، ثم يرجع إلى قومه، فيصلِّي بهم تلك الصلاةَ". ومنهم سفيان بن عيينة: قال الشافعي: أخبرنا سفيان بن عيينة أنه سمع عمرو بن دينار يقول: سمعت جابر بن عبد الله يقول: كان معاذ بن جبل يصلِّي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - العشاء أو العَتمةَ، ثم يرجع فيُصلِّيها بقومه في بني سلمة، قال: فأخَّر النبي - صلى الله عليه وسلم - العشاء ذاتَ ليلةٍ. قال: فصلَّى معه معاذ. قال: فرجع فأمَّ قومَه فقرأ بسورة البقرة ... فقال: يا رسول الله، إنك أخَّرتَ العشاء، ¬

_ (¬1) انظر "تهذيب التهذيب" (1/ 158 - 160). (¬2) رقم (14241). (¬3) رقم (465/ 180).

وإن معاذًا صلَّى معك ثم رجع فأمَّنا، فافتتح بسورة البقرة، فلما رأيتُ ذلك تأخرتُ وصلَّيتُ، وإنما نحن أصحاب نواضِحَ نعمل بأيدينا، فأقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - على معاذ فقال: "أفتَّانٌ أنتَ يا معاذ؟ أفتَّانٌ أنت يا معاذ؟ اقرأْ بسورة كذا وسورة كذا" (الأم 1/ 152) (¬1). ثم قال الشافعي: "وأخبرنا سفيان بن عيينة قال حدثنا أبو الزبير عن جابر مثله، وزاد ... ". الحميدي عن ابن عيينة عن عمرو وأبي الزبير معًا: أخرجه أبو عوانة في "صحيحه" (2/ 156) والبيهقي في "السنن" (3/ 112) عن الحميدي عن ابن عيينة عن عمرو فقط، ثم ذكر زيادة "أبي الزبير" التي رواها الشافعي، ذكره البيهقي أيضًا. ورواه عن ابن عيينة عن عمرو فقط جماعة، منهم الإِمام أحمد في "المسند" (3/ 308) (¬2)، ومن طريقه أبو داود (¬3). ومنهم محمَّد بن منصور عند النسائي (¬4)، ومنهم محمَّد بن عبَّاد عند مسلم (¬5)، فلم يذكروا العشاء في أول الحديث، ولفظ مسلم: "كان معاذ يُصلِّي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يأتي فيؤمُّ قومَه، فصلَّى ليلةً مع النبي - صلى الله عليه وسلم - العشاء ... ". ¬

_ (¬1) (2/ 346) ط. دار الوفاء. (¬2) رقم (14307). (¬3) رقم (790). (¬4) (2/ 102). (¬5) رقم (465).

فصل

وممن رواه عن عمرو: شعبة، في "صحيح البخاري" (¬1) باب إذا طوَّل الإِمام، أخرجه عن بندار عن غندر عن شعبة عن عمرو قال: سمعت جابر بن عبد الله قال: كان معاذ بن جبل يُصلِّي مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم يرجع فيؤمُّ قومَه، فصلَّى العشاءَ فقرأ بالبقرة ... ". وكذلك رواه أحمد في "المسند" (3/ 369) (¬2) عن غندر. ومنهم سُلَيم بن حيّان عند البخاري في "الصحيح" (¬3) في الأدب باب من لم يرَ إكفارَ من قال ذلك متأوّلًا، ولفظه: "إن معاذ بن جبل كان يُصلِّي مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم يأتي قومَه فيصلِّي بهم الصلاة، فقرأ بهم البقرة ... ". ومنهم أيوب السختياني، وستأتي روايته بعدُ إن شاء الله تعالى. فصل وممن رواه عن جابر: عبيد الله بن مِقْسم، قال أحمد في "المسند" (3/ 302) (¬4): ثنا يحيى عن ابن عجلان حدثني عبيد الله بن مِقْسم عن جابر بن عبد الله: "أن معاذ بن جبل كان يُصلِّي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - العشاء، ثم يأتي قومَه، فيصلِّي بهم تلك الصلاةَ". وكذلك أخرجه أبو داود (¬5) في باب إمامة من صلَّى بقومٍ، وقد صلَّى ¬

_ (¬1) رقم (701). (¬2) رقم (14960). (¬3) رقم (6106). (¬4) رقم (14241). (¬5) رقم (599).

تلك الصلاة، عن عبيد الله بن عمر بن مَيْسَرة عن يحيى بن سعيد عن ابن عجلان. وأخرجه في باب تخفيف الصلاة (¬1): حدثنا يحيى بن حبيب بن عربي ثنا خالد بن الحارث ثنا محمَّد بن عجلان عن عبيد الله بن مِقْسم عن جابر، ذكر تلك القصة. وقد ساقه بتمامه البيهقي في "السنن" (3/ 116)، قال: "كان معاذ يُصلِّي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العشاءَ، ثم يرجع فيصلِّي بأصحابه، فرجع ذات ليلة ... ". ومنهم أبو الزبير، وقد تقدم رواية ابن عيينة عنه مع روايته عن عمرو بن دينار. ورواه الليث بن سعد عن أبي الزبير مختصرًا: "صلَّى معاذ بن جبل الأنصاري لأصحابه العشاءَ فطوَّل عليهم ... ". أخرجه مسلم في "الصحيح" (¬2). ومنهم أبو صالح، وروايته أيضًا مختصرة، قرنه النسائي (¬3)، باب خروج الرجل من صلاة الإِمام ... ، بمحارب، ولم يُسمِّ الصلاة. وأخرج أبو داود (¬4) باب تخفيف الصلاة عن أبي صالح فقط، أخصر من ذلك، ولم يُسمِّ جابرًا، بل قال: "عن أبي صالح عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -". ¬

_ (¬1) رقم (793). (¬2) (465/ 179). (¬3) في "سننه" (2/ 97، 98). (¬4) رقم (792).

ومنهم محارب بن دثار: قال النسائي (¬1) في باب القراءة في العشاء الآخرة بـ (سبح اسم ربك الأعلى): أخبرنا محمَّد بن قدامة قال حدثنا جرير عن الأعمش عن محارب بن دِثار عن جابر قال: قام معاذ فصلَّى العشاء الآخرة فطوَّل، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أفتّانٌ يا معاذ؟ ... ". وأشار إليه البخاري في "الصحيح" قال (¬2): قال عمرو وعبيد الله بن مِقْسم وأبو الزبير عن جابر: "قرأ معاذ في العشاء بالبقرة"، وتابعه الأعمش عن محارب. ورواه النسائي (¬3) في موضع آخر لكن مقرونًا بأبي صالح كما مر. [ق13] ومنهم عبد الرحمن بن جابر: قال أبو داود (¬4) والطيالسي في "مسنده" (ص) (¬5): "مرَّ حَزْم بن أبي كعب بمعاذ بن جبل، وهو يصلِّي بقومه صلاة العتمة، فافتتح بسورة طويلة ... ". ¬

_ (¬1) في "سننه" (2/ 172). (¬2) عقب الحديث (705). (¬3) (2/ 97، 98). (¬4) رقم (791). (¬5) كذا في الأصل بدون ذكر رقم الصفحة، وعزاه إليه الحافظ في "الفتح" (2/ 193). ولم أجد الحديث في مسنده، وأخرجه البزار (كما في "كشف الأستار" رقم 483) من طريق الطيالسي عن طالب عن ابن جابر عن أبيه. انظر "الإصابة" (2/ 523).

فصل

فصل وقع في رواية الثلاثة الآخرين بعض الاختلاف: أما أبو الزبير: فقد تقدم رواية ابن عيينة عنه، وكذلك رواية الليث، وفيها: "صلَّى معاذ بن جبل الأنصاري لأصحابه العشاء". ووقع في روايةٍ عنه عند عبد الرزاق: "المغرب" كذا نبَّه عليه ابن حجر في "فتح الباري" (¬1). وأما محارب: فتقدم برواية الأعمش عنه: "قام معاذ فصلَّى العشاء الآخرة"، ورواه ابن مهدي عن الثوري عن محارب "المغرب"، ذكره النسائي (¬2) في باب القراءة في المغرب بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}. وقال أحمد في "المسند" (3/ 300) (¬3): ثنا وكيع عن سفيان عن محارب .. عن جابر: "أن معاذًا صلَّى بأصحابه، فقرأ البقرة في الفجر، وقال عبد الرحمن - يعني ابن مهدي -: المغرب". وقال أبو داود الطيالسي في "مسنده" (ص 239) (¬4): حدثنا شعبة عن محارب قال: سمعت جابرًا يقول: انتهى رجل من الأنصار معه ناضحانِ له إلى معاذٍ وهو يصلَّي المغرب، فاستفتح معاذ بسورة البقرة أو النساء - قال شعبة: شكَّ محارب -، فلما رأى ذلك الرجل صلَّى، ثم انطلق، فبلغ الرجلَ أن معاذًا يقول: هو منافق، فأتى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكر ذلك له، فقال رسول ¬

_ (¬1) (2/ 193). (¬2) (2/ 168). (¬3) رقم (14202). (¬4) رقم (1728).

الله: "يا معاذُ، أفتَّان أفتان، أو قال: فاتن، أَوَ لَا قرأتَ بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} , و {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} أو {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} - قال شعبة: شكَّ محارب - وراءك ذو الحاجة والصغير، أو قال: الضعيف - شكَّ محارب". وقد رواه أبو عَوانة في "صحيحه" (2/ 158) من طريق أبي النضر وأبي داود الطيالسي قالا: ثنا شعبة عن محارب قال: سمعت جابرًا قال: "أقبل رجلٌ بناضحينِ، وقد جَنَحَ الليلُ، فوافق معاذًا يصلِّي المغرب"، وذكر حديثه في هذا. وأخرجه أحمد في "المسند" (3/ 299) (¬1) عن محمَّد بن جعفر وحجاج عن شعبة، ولفظه: "أقبل رجل من الأنصار ومعه ناضحانِ له، وقد جَنَحَتِ الشمسُ، ومعاذٌ يُصلِّي المغرب ... " فساقه قريبًا من لفظ الطيالسي. وأخرجه البخاري في "الصحيح" (¬2) عن آدم عن شعبة، وفيه: "أقبل رجل بناضحَينِ وقد جنح الليلُ، فوافق معاذًا يُصلِّي، فترك ناضِحَه وأقبل إلى معاذ، فقرأ بسورة البقرة أو النساء ... فلولا صلَّيتَ بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} , {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا}، {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} ". أحسب هذا في الحديث. قال البخاري (¬3): وتابعه سعيد بن مسروق ومِسْعَر والشيباني. قال عمرو وعبيد الله بن مقسم وأبو الزبير عن جابر: "قرأ معاذ في العشاء بالبقرة"، وتابعه الأعمش عن محارب. ¬

_ (¬1) رقم (14190). (¬2) رقم (705). (¬3) بعد الحديث المذكور.

وذكر الحافظ في "الفتح" (¬1) أن رواية مِسْعر عن محارب وصلها السرَّاج، وأنه وقع عنده "البقرة والنساء". وأما رواية سعيد بن مسروق فعند أبي عوانة في "صحيحه" (2/ 158) وفي النسخة خطأ، ولفظها: "أن معاذًا أمَّ قومَه في صلاة المغرب، فمرَّ غلام من الأنصار ... "، وذكر حديثه في هذا. وأما عبد الرحمن بن جابر: فقال أبو داود (¬2) في باب تخفيف الصلاة: حدثنا موسى بن إسماعيل ثنا طالب بن حبيب، سمعت عبد الرحمن بن جابر يحدث عن حزم بن أبي كعب: أنه أتى معاذَ بن جبل وهو يُصلِّي بقومٍ صلاةَ المغرب - في هذا الخبر - قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا معاذُ، لا تكن فتّانًا، فإنه يصلِّي وراءك الكبيرُ والضعيفُ وذو الحاجة والمسافر". وفي "الفتح" (¬3) أبو يعلى بإسناد حسن من رواية عيسى بن جارية ... عن جابر قال: "كان أُبي بن كعب يُصلِّي بأهل قباء، فاستفتح سورة طويلة، فدخل معه غلام من الأنصار .... " وفي آخره من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ منكم منفِّرينَ ... فإنَّ خلفكم الضعيفَ والكبيرَ والمريضَ وذا الحاجة". وذكر الحافظ (¬4) أن هذه القصة هي نفس القصة التي في "الصحيحين" (¬5) ¬

_ (¬1) (2/ 201، 193). وهو في "مسند السرّاج" (175) تحقيق إرشاد الحق الأثري. (¬2) رقم (791). (¬3) (2/ 198). وهو في "مسند" أبي يعلى (1792). (¬4) في المصدر السابق. (¬5) البخاري (702) ومسلم (466).

عن أبي مسعود الأنصاري: "أن رجلاً قال: والله يا رسول الله إني لأتأخر عن صلاة الغداة من أجل فلان مما يطيل بنا ... ". وفي "مسند أحمد" (5/ 355) (¬1): ثنا زيد بن الحُباب حدثني حسين ثنا عبد الله بن بُريدة قال: سمعتُ أبي بُريدةَ يقول: إن معاذَ بن جبل يقول (¬2): صلَّى بأصحابه صلاةَ العشاء، فقرأ فيها بـ {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ}، فقام رجل ... وأتى الرجل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فاعتذر إليه، فقال: إني كنتُ أعمل في نخلٍ، فخِفتُ على الماء، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صَلِّ بـ {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} ونحوِها من السور". وفي "المسند" أيضًا (3/ 124) (¬3): ثنا إسماعيل بن إبراهيم ثنا عبد العزيز بن صُهَيب - وقال مرة: أخبرنا عبد العزيز بن صُهيب - عن أنس بن مالك قال: كان معاذ بن جبل يؤمُّ قومَه، فدخل حرامٌ وهو يريد أن يسقي نخلَه، فدخل المسجدَ ليصلِّي مع القوم، فلما رأى معاذًا طوَّلَ تجوَّزَ في صلاته، ولَحِقَ بنَخْلِه يَسْقيه ... فأقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - على معاذ، فقال: "أفتَّانٌ أنتَ؟ أفتَّان أنت؟ لا تُطوِّلْ بهم، اقرأ بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} ونحوهما". ¬

_ (¬1) رقم (23008). (¬2) كذا بزيادة "يقول" في الطبعة القديمة من "المسند". ولا توجد في الأصول الخطية والنسخة المحققة. (¬3) رقم (12247).

وفي "المسند" أيضًا (5/ 74) (¬1): ثنا عفّان ثنا وُهَيب ثنا عمرو بن يحيى عن معاذ بن رِفاعة الأنصاري عن رجل من بني سَلِمةَ يقال له: سُلَيم، أتى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إن معاذ بن جبل يأتينا بعد ما ننام، ونكون في أعمالنا بالنهار، فيُنادِي بالصلاة، فنخرج إليه، فيُطوَّل علينا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا معاذ بن جبل، لا تكنْ فتَّانًا، إما أن تُصلِّي معي، وإما أن تُخفَّفَ على قومك" ... ثم قال سليم: ستَرونَ غدًا إذا التقى القومُ إن شاء الله، قال: والناس يتجهزون إلى أُحُدٍ، فخرَج، وكان في الشهداء، رحمة الله ورضوانه عليه. وذكره الحافظ في "الفتح" (¬2) ثم قال: وقد رواه الطحاوي والطبراني من هذا الوجه عن معاذ بن رفاعة أن رجلاً من بني سلمة .. فذكر مرسلاً، ورواه البزار من وجه آخر عن جابر، وسماه سليمًا أيضًا. أقول: والسياق يُشبِه سياق رواية عبيد الله بن مِقْسَم عن جابر كما في "سنن" البيهقي (3/ 117)، لكن ليس في رواية ابن مقسم "إما أن تصلي معي، وإما أن تخفف على قومك". ومعاذ بن رفاعة لم يدرك سليمًا؛ لأن سليمًا استشهد بأحد كما في القصة، ولكن يمكن أن يكون سمعها من جابر أو غيره. والله أعلم. ¬

_ (¬1) رقم (20699). (¬2) (2/ 194). وأخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 409)، والطبراني في "الكبير" (7/ 67).

قال الحافظ في "الفتح" (¬1): وجمع بعضهم بين هذا الاختلاف بأنهما واقعتان، وأيَّد ذلك بالاختلاف في الصلاة: هل هي العشاء أو المغرب؟ وبالاختلاف في السورة: أهي البقرة، أو {اقْتَرَبَتِ}؟ وبالاختلاف في عذر الرجل: هل هو لأجل التطويل فقط لكونه جاء من العمل وهو تَعْبان، أو لكونه أراد أن يَسْقِيَ نخلَه إذ ذاك، أو لكونه خاف على الماء في النخل كما في حديث بريدة ... ويحتمل أن يكون النهي أولًا وقع لما يخشى من تنفير بعض من يدخل في الإِسلام، ثم لما اطمأنَّتْ نفوسُهم بالإِسلام ظنَّ أن المانع زال، فقرأ بـ {اقْتَرَبَتِ} ... فصادف صاحب الشغل. أقول مستعينًا بالله عزَّ وجلَّ: حديث أنس سندُه بغاية القوة، وهو ظاهر في أن الصلاة التي أطالها معاذ هي الصبح، فمن المحتمل أن يكون معاذ صلَّى الصبح فأطال ففارقه حرام، وصلَّى العشاء فأطال ففارقه سُلَيم، اتفق الأمرانِ في يومٍ، أو أيامٍ متقاربة، فكان معاذ يَعْتِبُ على كلًّ منهما، فبلغَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - الأمرانِ، فعاتب معاذًا، ولذلك كرَّر عليه: "أفتّان أفتّان أفتّان". وانفرد أنس بذكر قصة حرام؛ لأنه خاله، وانفرد جابر بذكر قصة سليم؛ لأنه من رهطه، وقضى الله عَزَّ وَجَلَّ أن استشهد الرجلان: سُلَيم وحرام، الأول بأُحُد والثاني ببئر معونة. وأما حديث حسين - وهو ابن واقد - عن عبد الله بن بريدة عن أبيه: فأحسِبُه انتقل ذهن الراوي من قصة إلى قصة، فجاء المتن ملفَّقًا، وقد استنكر أحمد أحاديث حسين بن واقد عن عبد الله بن بريدة جدًّا. ¬

_ (¬1) (2/ 194).

فصل

وكذلك حديث طالب بن حبيب عن عبد الرحمن بن جابر: أخشى أن يكون ملفَّقًا من عدة قصص، وأخشى أن لا يكون هناك وجودٌ لحَزْم بن أبي كعب، وإنما وقع تحريف وتغيير، وذهاب إلى واقعة أبي بن كعب، وأكثر ما يقع في الكتب [ق14] في هذه الطريق: "حزم بن أبي كعب"، وقد قال البخاري (¬1) في طالب: "فيه نظر"، ولم يُوثَّقه أحد، إلا أن ابن حبّان ذكره في "الثقات" (¬2)، وليس ذلك بنافعٍ له؛ لما عُرِف من شرط ابن حبان، مع تساهله حتى أنه لا يفي بشرطه، كما بينتُه في موضع آخر. وأما محارب: فإنه لم يضبط هذا الحديث، كما عُرِف من كثرة شكِّه فيه، واضطرابِه، كما يُعلَم مما تقدم، وأحسبه سمع في هذا الباب عدة أحاديث متقاربة المعنى، فكان يلتبس عليه بعضها ببعض. وبالجملة، فما وقع في تلك الرواية عن أبي الزبير من ذكر المغرب إذا ضُمّ إلى وقوع ذلك في أكثر الروايات عن محارب، مع وقوعه في روايةٍ لطالب، وإن ظهر أنه خطأ، فإنه يدل على أنّ هناك قصةً أخرى تتعلق بالمغرب. فصل قال البخاري في "الصحيح" (¬3): "باب إذا صلَّى ثمَّ أمَّ قومًا: حدثنا سليمان بن حرب وأبو النعمان قالا: حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن ¬

_ (¬1) في "التاريخ الكبير" (4/ 360). (¬2) (6/ 492). (¬3) (2/ 203) (مع الفتح)، ورقم الحديث (711).

عمرو بن دينار عن جابر قال: "كان معاذ يُصلِّي مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم يأتي قومَه فيُصلِّي بهم". وكذلك أخرجه أبو عوانة في "صحيحه" (2/ 157) من طريق أبي معمر وعبد الوارث عن أيوب عن عمرو، ومن طريق سليمان بن حرب ومسدد ومحمَّد بن أبي بكر المقدَّمي كلهم عن حماد بن زيد عن أيوب عن عمرو. وقال مسلم في "الصحيح" (¬1): حدثنا قُتيبة بن سعيد وأبو الربيع الزهراني، قال أبو الربيع: ثنا حماد بن زيد حدثنا أيوب عن عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله قال: "كان معاذ يُصلِّي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العشاءَ، ثم يأتي مسجدَ قومه فيُصلِّي بهم" قال النووي في "شرح مسلم" (¬2): "قال أبو مسعود الدمشقي: قتيبة يقول في حديثه: عن حماد عن عمرو، ولم يذكر فيه أيوب، فكان ينبغي لمسلم أن يبينه، وكأنه أهمله لكونه جعل الرواية مَسُوقةً عن أبي الربيع وحده" أقول: هذا العذر غير كافٍ، بل لا بدَّ أن يزاد فيه أحد أمرين: إما أن يكون مسلم استثبت قتيبة لما قال حماد عن عمرو، فقال: الناس يروونه عن حماد عن أيوب عن عمرو، فقال قتيبة: نعم هو كذلك، ولكن مسلمًا لم يطمئن كل الاطمئنان إلى هذا لشبهة التلقين. وأشار إلى ذلك بجعله السياق لأبي الربيع. ¬

_ (¬1) رقم (465/ 181). (¬2) (4/ 183).

الثاني: أن يكون مسلم جزم بأن في رواية قتيبة تقصيرًا محضًا، لا يلزم منه اختلاف. وفي "جامع الترمذي" (ص 75) (¬1): باب ما ذُكِر في الذي يُصلَّي الفريضة ثم يؤمُّ الناسَ بعد ما صلَّى: حدثنا قتيبة حدثنا حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله: أن معاذ بن جبل كان يُصلَّي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المغربَ، ثم يرجعُ إلى قومه فيؤمُّهم". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أصحابنا: الشافعي وأحمد وإسحاق، قالوا: إذا أمَّ الرجلُ القومَ في المكتوبة وقد كان صلّاها قبل ذلك، أن صلاة من ائتمَّ به جائزة، واحتجوا بحديث جابر في قصة معاذ، وهو حديث صحيح، وقد رُوِي من غير وجهٍ عن جابر ... أقول: يظهر أن الترمذي يخالف مسلمًا في هذا الحديث؛ فمسلم يرى أن حديث قتيبة هو حديث أبي الربيع نفسُه، وعنده فيما يظهر أن حماد بن زيد إنما روى عن أيوب عن عمرو بلفظ أبي الربيع، وأن كلمة "العشاء" صحيحة في الحديث، وإن لم تقع في رواية سليمان بن حرب وعارم، وأن قتيبة قصَّر في الإسناد، ووهم في قوله: "المغرب" بدل "العشاء". وأما الترمذي فيرى - فيما يظهر - أن حديث قتيبة غير حديث أبي الربيع، وأن حماد بن زيد سمع الحديث من عمرو بن دينار، كما رواه قتيبة، وفيه "المغرب"، وسمعه من أيوب عن عمرو، كما رواه سليمان بن حرب وعارم، أو بزيادة "العشاء" كما قال أبو الربيع. ¬

_ (¬1) (2/ 477 تحقيق أحمد شاكر)، ورقم الحديث (583).

أقول: وإذا كان هكذا فزيادة أبي الربيع "العشاء" فيها نظر؛ لاحتمال أنه زادها بناءً على المعنى، على ما يظهر من أكثر الروايات. ثم رأى الترمذي أن معاذًا كان يصلِّي المغرب مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم يرجع إلى قومه فيصلَّي بهم، وإنما اختار الترمذي هذه الرواية لِنصِّها على المغرب؛ لأنه قد يستبعد هذا فيها: أولاً: ما جاء عن بعض السلف من كراهية إعادتها، أو عن جماعة منهم أنه إذا أعادها شَفعَها بركعةٍ، كما ذكره الترمذي في موضع آخر (¬1). ثانيًا: لضيق وقتها. فجواز الإعادة فيها يدلُّ على الجواز في غيرها من باب أولى، خاصةً الظهر والعشاء. فإن قيل: إن هذه الرواية تنفرد بذكر المغرب. قلت: إنما تنفرد بالنص عليها فقط، وكثير من الروايات تُطلِق، فتشمل المغرب، فقد تقدمت رواية شعبة عن عمرو: "كان معاذ بن جبل يُصلّي مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم يرجع فيؤمُّ قومه، فصلَّى العشاء ... " ونحوها رواية سُلَيم بن حيان، وقد تقدمت، وكذلك جاء في أكثر الروايات عن ابن عيينة كما مرَّ، وغيرها. بل أوضح الروايات في ذلك ما اختاره البخاري (¬2) رحمه الله في هذا الباب، وهي رواية سليمان بن حرب وعارم عن حماد بن زيد عن أيوب عن ¬

_ (¬1) عقب الحديث (219). (¬2) في "صحيحه" (711).

عمرو، ولفظها: "كان معاذ يُصلَّي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يأتي قومه، فيصلي بهم". فهذا لفظ الحديث بتمامه. وعلى هذا، فالظاهر أن جابر رضي الله عنه كان تارةً يقصد أن يخبر بجواز الائتمام بمن قد كان صلَّى تلك الصلاة، وهي مسألة الباب، فيُخبر بما وقع في رواية أيوب عن عمرو. وتارةً يقصد أن يُخبر بما يتضمن ذلك، ويتضمن النصّ على المغرب، وتعجيل النبي - صلى الله عليه وسلم - بها وتخفيفه فيها وامتداد وقتها، فيخبر بنحو رواية حماد بن زيد عن عمرو، وهي التي عند الترمذي. وتارةً يقصد الإخبار بذلك - أي بجواز الائتمام - وبما يشرع للإمام من التخفيف، وبيان ما يقرؤه من السور، فيخبر بنحو رواية شعبة عن عمرو. أو ينصُّ على العشاء، ويذكر القصة. فأما رواية من رواه بالنصّ على العشاء ولم يذكر القصة، فكأنه مقتطع من الذي قبله. والله أعلم. وكان عمرو بن دينار قد ضبط وأتقن، فكان يتبع جابرًا، فيحدِّث تارةً هكذا، وتارةً هكذا. وأما محارب: فالتبس عليه الأمر، كما تقدم بيانه. وأما أبو الزبير: فإن كانت روايته التي عند عبد الرزاق وفيها ذكر المغرب بمعنى رواية حماد بن زيد عن عمرو، فلا غبار عليها، وهي مؤكِّدة لرواية حماد عن عمرو. وإن كانت فيها أن الصلاة التي طوَّل فيها معاذ هي المغرب فهي شاذّة. والله أعلم.

الدليل الثاني حديث جابر في صلاة الخوف

الدليل الثاني حديث جابر في صلاة الخوف في "الصحيحين" من طريق أبي سلمة عن جابر: "أقبلنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كنّا بذات الرِّقاع قال: كنا إذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: فجاء رجل من المشركين، وسيفُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُعلَّقٌ بشجرة، فأخذ سيفَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاخْتَرَطَه ... فنودي بالصلاة، فصلَّى بطائفة ركعتين، ثم تأخَّروا، وصلَّى بالطائفة الأخرى ركعتين، قال: فكانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربع ركعات، وللقوم ركعتان". لفظ مسلم، أخرجه في صلاة الخوف (¬1) عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عفَّان عن أبان عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة، وذكر البخاري في "الصحيح" (¬2) عن غزوة ذات الرِقاع فقال: "وقال أبانٌ حدثنا يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة". وأخرجه مسلم أيضًا (¬3) من طريق معاوية بن سلّام عن يحيى عن أبي سلمة عن جابر، مسلسلًا بالإخبار، ذكر الصلاة فقط. وقال البخاري (¬4): وقال لي عبد الله بن رجاء أخبرنا عمران القطّان عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلَّى بأصحابه في الخوف في غزوة السابعة غزوة ذات الرقاع". ¬

_ (¬1) رقم (843). (¬2) رقم (4136) تعليقًا. (¬3) رقم (843/ 311). (¬4) رقم (4125).

وفي "فتح الباري" (¬1): أن السرَّاج أخرجه في "مسنده" (¬2) المبوَّب فقال: حدثنا جعفر بن هاشم ثنا عبد الله بن رجاء، فذكره ... ، وفيه: "أربع ركعات؛ صلَّى بهم ركعتين، ثم ذهبوا، ثم جاء أولئك، فصلَّى بهم ركعتين". قال البخاري (¬3): "وقال مسدَّد عن أبي عوانة عن أبي بشر: اسم الرجل غَوْرَث بن الحارث، وقاتلَ فيها مُحارِبَ خَصَفَةَ". قال في "الفتح" (¬4): "أخرجه مسدد في "مسنده" رواية معاذ بن المثنى عنه ... عن أبي بشر عن سليمان بن قَيْس عن جابر ... قال: غزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُحارِبَ خَصَفَةَ بنخلٍ ... ". أقول: وقد أخرجه الإِمام أحمد في "مسنده" (3/ 364) (¬5): ثنا عفان ثنا أبو عوانة ثنا أبو بشر عن سليمان بن قَيْس عن جابر بن عبد الله قال: "قاتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُحارِبَ خَصَفَة بنخلٍ، فرأوا من المسلمين غِرَّةً، فجاء رجل منهم يقال له: غَوْرث بن الحارث ... ، فلما كان الظهر أو العصر صلَّى بهم صلاةَ الخوف، فكان الناس طائفتين، طائفة بإزاء عدوَّهم، وطائفة صلَّوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فصلَّى بالطائفة الذين كانوا معه ركعتين، ثم انصرفوا ... وجاء أولئك فصلَّى بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين، فكان للقوم ركعتان ركعتان، ولرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعُ ركعات". ¬

_ (¬1) (7/ 419). (¬2) رقم (1560). (¬3) رقم (4136). (¬4) (7/ 428). (¬5) رقم (14929).

وأخرجه أحمد أيضًا (3/ 390) (¬1) ثنا سُرَيج ثنا أبو عوانة ... فذكره بسنده ومعناه. وأخرجه الحاكم في "المستدرك" (3/ 29) من طريق عارم عن أبي عوانة، وقال: صحيح على شرط الشيخين، وأقرَّه الذهبي. وفي "تفسير ابن جرير" (5/ 145) (¬2): ثنا ابن بشَّار قال: ثنا معاذ بن هشام قال: ثنا أبي عن قتادة عن سليمان اليَشْكُري أنه سأل جابر بن عبد الله عن إقصار الصلاة، أيَّ يومٍ أُنزِلَ؟ أو أيّ يومٍ هو؟ فقال جابر: انطلقنا نَتلقَّى عِيرَ قريش آتيةً من الشام، حتى إذا كنا بنخلٍ جاء رجل من القوم ... ثم نُودِيَ بالصلاة، فصلَّى رسول الله بطائفة من القوم، وطائفة أخرى يَحرُسونهم، فصلَّى بالذين يَلُونه ركعتين، ثم تأخَّر الذين يَلُونه على أعقابهم، فقاموا في مَصَافِّ أصحابهم، ثم جاء الآخرون فصلَّى بهم ركعتين، والآخرون يَحرُسونهم، ثم سلَّم، فكانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - أربعَ ركعات، وللقوم ركعتين ركعتين، فيومئذٍ أنزل الله إقصارَ الصلاة، وأمر المؤمنين بأخْذِ السلاح". أقول: رواية أبي سلمة صحيحة, وأما رواية سليمان بن قيس فإن أبا بشر وقتادة لم يسمعا منه؛ لأنه تقدم موته، ولكن كان قد كتب عن جابر صحيفة، فهي صحيفة جابر المشهورة، فمن الناس من يروي ما فيها عن جابر رأسًا، ومنهم من يقول: عن سليمان عن جابر، ذكر هذا البخاري في "تاريخه" ¬

_ (¬1) رقم (15190). (¬2) (7/ 414) ط. دار هجر.

وأبو حاتم وغيرهما (¬1). وفي "الكفاية" للخطيب (ص 354): "وقال همَّام بن يحيى: قدِمَتْ أمُّ سليمان اليشكري بكتاب سليمان، فقُرِئ على ثابت وقتادة وأبي بشر والحسن ومُطرِّف، فروَوْها كلَّها، وأما ثابت فروى منها حديثًا واحدًا. وفي "معرفة علوم الحديث" للحاكم (ص 110) من طريق ابن المديني سمعت يحيى يقول: قال التيمي: ذهبوا بصحيفة جابر إلى الحسن فرواها، وذهبوا بها إلى قتادة فرواها، وأتوني بها فلم أَرْوِها. أقول: وقد رُوِي هذا الحديث عن الحسن عن جابر، فيمكن أن يكون من هذه الصحيفة. قال الشافعي في "الأم" (1/ 153) (¬2): حدثنا الثقة ابن عُلَيَّة أو غيره عن يونس عن الحسن عن جابر بن عبد الله "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلِّي بالناس صلاة الظهر في الخوف ببطنِ نخلٍ، فصلَّى بطائفةٍ ركعتين ثم سلَّم، ثم جاءت طائفة أخرى فصلَّى بهم ركعتين ثم سلَّم". وفي "سيرة ابن هشام" (¬3) في غزوة ذات الرقاع: حدثنا عبد الوارث بن سعيد التنّوري - وكان يُكنى أبا عبيدة - قال: حدثنا يونس بن عبيد عن ¬

_ (¬1) انظر "التاريخ الكبير" (4/ 31) و"الجرح والتعديل" (4/ 136) و"تهذيب التهذيب" (4/ 214، 215). (¬2) (2/ 451، 452) ط. دار الوفاء. (¬3) (2/ 204).

الحسن بن أبي الحسن عن جابر بن عبد الله في صلاة الخوف، قال: صلّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف، ثم انصرف بالناس، قال ابن هشام: بطائفة ركعتين ثم سلَّم، وطائفة مُقبِلون على العدو، قال: فجاءوا فصلَّى بهم ركعتين أخريين ثم سلَّم. وأخرجه النسائي في "السنن" (¬1): أخبرنا عمرو بن علي قال: حدثنا عبد الأعلى قال: حدثنا يونس عن الحسن قال: حدَّث جابر بن عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلَّى بأصحابه صلاةَ الخوف، فصلَّت طائفة معه، وطائفة وجوهُهم قِبَلَ العدوِّ، فصلَّى بهم ركعتين، ثم قاموا مقامَ الآخرين، وجاء الآخرون، فصلَّى بهم ركعتين، ثم سلَّم". وكذلك أخرجه البيهقي في "السنن" (3/ 259) من طريق أخرى عن عبد الأعلى. وقال النسائي (¬2): أخبرني إبراهيم بن يعقوب قال: حدثنا عمرو بن عاصم قال: حدثنا حماد بن سلمة عن قتادة عن الحسن عن جابر بن عبد الله "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلَّى بأصحابه ركعتين ثم سلَّم، ثم صلَّى بآخرين أيضًا ركعتين ثم سلَّم". وبنحوه أخرجه البيهقي في "السنن" (3/ 86) بسند رجاله ثقات عن سليمان بن حرب عن حماد بن سلمة، وأخرجه أيضًا (3/ 259). ¬

_ (¬1) (3/ 179). (¬2) (3/ 178).

وقال الدارقطني في "سننه" (ص 186) (¬1): حدثنا الحسين بن إسماعيل ومحمد بن محمود السراج قال: نا محمَّد بن عمرو بن أبي مذعور ثنا عبد الوهاب الثقفي ثنا عنبسة عن الحسن عن جابر أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان محاصرًا بني محاربٍ بنخلٍ، ثم نودي في الناس أن الصلاة جامعة، فجعلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طائفتين: طائفة مقبلة على العدو يتحدَّثون، وصلَّى بطائفة ركعتين، ثم سلَّم، فانصرفوا، فكانوا مكانَ إخوانهم، وجاءت الطائفة الأخرى فصلّى بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين، فكان للنبي - صلى الله عليه وسلم - أربع ركعات، ولكل طائفة ركعتين". قال صاحب "التعليق المغني" (¬2): عنبسة هو ابن سعيد القطان ... لم يُحفَظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صلَّى صلاة الخوف قطُّ في حضرٍ. أقول: بل الراجح أن هذا عنبسة بن أبي رائطة الغنوي، ضعَّفه ابن المديني، وقال أبو حاتم: [ق16] روى عنه عبد الوهاب الثقفي أحاديث حسانًا ... وليس بحديثه بأس (¬3). والقصة في السفر، لا في الحضر. أقول: حديث جابر قد يحمل على ثلاثة أوجه: الأول: أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أتمَّ تلك الصلاة، ولا يُلتفَت إلى ما في رواية الحسن من ذكره "ثم سلَّم" بعد الركعتين الأوليين، وكذلك الطائفتان كلٌّ ¬

_ (¬1) (2/ 60). (¬2) (2/ 60). (¬3) انظر "تهذيب التهذيب" (8/ 158، 159)، و"الجرح والتعديل" (6/ 400).

منها أتمّتْ لنفسها بعد أن صلَّت معه - صلى الله عليه وسلم - في ركعتين. وقوله: "إنه كان له - صلى الله عليه وسلم - أربع، ولهم ركعتان ركعتان" يُحمَل على ما كان في الجماعة، فأربعتُه - صلى الله عليه وسلم - كلُّها كانت في الجماعة، وأما أصحابه فإنما كان لكلًّ منهم في الجماعة ركعتان فقط، فأمّا ركعتاهم الأخرى فإنما أتمُّوها لأنفسهم. الوجه الثاني: أن يكون - صلى الله عليه وسلم - أتمَّ، وقَصَروا. الوجه الثالث: أن يكون - صلى الله عليه وسلم - قَصَر وقَصروا، ولكنه أعاد صلاته، صلَّى بهؤلاء صلاةً كاملة، وبهؤلاء صلاةً كاملة. أما الوجه الأول: فلم يذهب إليه أحدٌ فيما أعلم؛ لأنه قد ثبت من حديث عائشة وغيرها أن الصلاة كانت قبل الهجرة ركعتين ركعتين، فلما هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - أُتِمَّتْ صلاة الحضر، وبقيتْ صلاة السفر على ما كانت قبل (¬1). وعلى هذا، فيتعين حملُ القصر الذي وقع في رواية قتادة عن سليمان بن قيس: "أنه إنما نزل يومئذٍ" على قصر آخر، وقد حمل جماعة من الصحابة، فمن بعدَهم القصرَ في الآية - وهو قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} - على قصرٍ آخر خاصّ بالخوف، فمنهم من قال بقصر الصلاة في الخوف إلى ركعة، ومنهم من قال: المراد بالقصر قصر الصِّفة. وقد يقال: هو القصر إلى ركعة، ولكن بالنظر إلى الجماعة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (350، 3935) ومسلم (685) عن عائشة. وفي الباب عن ابن عباس عند مسلم (687)، وعن أبي هريرة عند أحمد في "المسند" (9200).

وذلك أوضح بعض الصور الثابتة، وهي أن يصلي الإِمام بطائفةٍ ركعةً، ثم تُتِمُّ لنفسها وتذهب، وتجيء الأخرى فيصلي بها ركعته الأخرى وتتم لنفسها، فلكلٍّ من الطائفتين ركعة واحدة في الجماعة. [وقريب منه] في الصفة الأخرى، وهو أن يَصُفَّهم صفَّين، ويكبِّر بهم جميعًا، ثم يتناوبون، فإنهم وإن كانت لهم في نية الجماعة ركعتان، لكن لم يتمَّ لكلًّ منهم بالنظر إلى متابعة الإِمام إلا ركعة واحدة. هذا، وقد احتج جماعة على أن المراد بالقصر في الآية هو القصر المشهور، أي من أربع إلى اثنتين، بأن يعلى بن أمية سأل عمر عن الآية وقال: فقد أَمِنَ الناسُ، فقال عمر: عجبتُ مما عجبتَ منه، فسألتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فقال: "صدقةٌ تصدَّقَ الله بها عليكم، فاقبلوا صدقتَه" رواه مسلم (¬1). وسأل رجل ابن عمر فقال: سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وقد يجاب عن هذا باحتمال أن عمر لما سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر الآية، وإنما قال مثلاً: كيف تَقْصُر ونحن آمنون؟ وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ربما أجمل في تفسير بعض الآيات جريًا مع حكمة الله عَزَّ وَجَلَّ في ترك مجالٍ للتدبر والاجتهاد. وفي "صحيح مسلم" (¬3) عن عمر أنه خطب فقال في خطبته: إني لا أدع ¬

_ (¬1) رقم (686). (¬2) أخرجه مسلم (689). (¬3) رقم (567، 1617).

فصل

بعدي شيئًا أهم عندي من الكلالة، وما راجعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ما راجعتُه في الكلالة، حتى طعنَ بأصبعه في صدري، فقال: "ألا يكفيكَ آيةُ الصيف التي في سورة النساء؟ ". هذا، مع أن عمر كان يتردد في معنى الآية، ولم يزل على ذلك حتى مات. غاية الأمر أن عمر وابنه ويعلى لم يكونوا يفهمون أن القصر في الآية غير القصر المشهور، وهذا لا حجةَ فيه مع وجود القائل بأنه غيره من الصحابة أيضًا. والله أعلم. وكذلك الوجه الثاني، لم يذهب إليه أحد فيما أعلم لاتفاقهم وإن كان منهم من يرى جواز الإتمام في السفر، فهم متفقون فيما ذكر غير واحد على أنه إذا أتمَّ الإمامُ لزِم المأمومَ الإتمامُ. وأما الوجه الثالث: فهو الذي ذهب إليه الشافعي وغيره، ويوافقه ما جاء في رواية الحسن من قوله بعد الركعتين الأوليين: "ثم سلَّم"، وقد جاء مثله من رواية الحسن عن أبي بكرة، كما يأتي، وعليه حمل أبو داود رواية أبي سلمة وسليمان اليشكري عن جابر، فإنه ذكر حديث الحسن عن أبي بكرة ثم قال (¬1): "وكذلك رواه يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك قال سليمان اليشكري عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -". فصل تقدم الكلام في صحيفة سليمان اليشكري، والظاهر أن أولئك الأئمة لم يعتمدوا عليها إلا بعد الوثوق بصحتها، ورواية قتادة عنها قوية، فقد قال ¬

_ (¬1) عقب الحديث رقم (1248).

البخاري في "التاريخ الكبير" (4/ 1/ 186): قال أحمد بن ثابت نا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر ... وعن معمر قال: رأيتُ قتادة قال لسعيد بن أبي عَروبة: أَمسِكْ عليَّ المصحفَ، فقرأ البقرة فلم يُخْطِ حرفًا، فقال: يا أبا النضر، لَأنا لصحيفة جابرٍ أحفظُ منّي لسورة البقرة. إلا أنَّ في صلاحيتها للاحتجاج بها وحدَه نظرًا، ولا سيَّما إذا لم يُصرِّح قتادة في روايته بأنه روى عن تلك الصحيفة، فإن قتادة مدلِّس، ومن الجائز أن يُدلَّس عن سليمان ما أخذه من واسطة غير تلك الصحيفة. هذا، وظاهرٌ من رواية قتادة عن سليمان في هذه القصة أن الصلاة التي وصفها كانت قبل نزول قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ ...}، ولذلك احتاج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أن يصلّي بالقوم صلاتين، لتكون لكل من الطائفتين صلاةٌ تامة في الجماعة بدون خلل في المتابعة. ولم يبين في هذه الرواية وغيرها مما تقدم: هل صلّى النبي - صلى الله عليه وسلم - في تلك الغزوة بعد هذه الصلاة على وجه آخر مما أذن الله عَزَّ وَجَلَّ فيه؟ [ق17] لكن قال البخاري في غزوة ذات الرقاع من "الصحيح" (¬1): وقال بكر بن سَوادة: حدثني زياد بن نافع عن أبي موسى أن جابرًا حدَّثهم قال: "صلّى النبي - صلى الله عليه وسلم - بهم يومَ مُحارِبٍ وثعلبةَ". وقد أخرجه ابن جرير في "تفسيره" (5/ 146) (¬2) عن ابن أخي ابن وهب عن عمه قال: أخبرني عمرو بن الحارث أن بكر بن سَوادة ¬

_ (¬1) (7/ 417) مع "الفتح". (¬2) (7/ 417) ط. دار هجر.

حدَّثه ... يوم مُحارِب وثعلبةَ، لكل طائفة ركعة وسجدتين". وأخرج ابن جرير أيضًا (¬1): حدثنا محمَّد بن المثنى قال: ثنا محمَّد بن جعفر قال: ثنا شعبة عن الحكم عن يزيد الفقير عن جابر بن عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلَّى بهم صلاةَ الخوف، فقام صفٌّ بين يديه، وصفٌّ خلفَه، فصلَّى بالذين خلفه ركعةً وسجدتينِ، ثم تقدم هؤلاء حتى قاموا مقامَ أصحابهم، وجاء أولئك حتى قاموا مقامَ هؤلاء، فصلَّى بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعةً وسجدتينِ، ثم سلَّم، فكانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - ركعتين ولهم ركعة". وبنحوه أخرجه أبو عوانة في "صحيحه" (2/ 362) من طريق سليمان أبي إسحاق الشيباني عن يزيد الفقير. وكذلك أخرجه النسائي في "السنن" (¬2) عن إبراهيم بن الحسن عن حجّاج بن محمَّد عن شعبة، وأخرجه أيضًا (¬3) من طريق يزيد بن زريع عن المسعودي عن يزيد الفقير، فساقه بمعنى حديث شعبة عن الحكم إلى قوله: "وسجدتين"، وزاد بعدها: "ثمّ إنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سلَّم، فسلَّم الذين خلفه، وسلَّم أولئك". وحديث شعبة أصح؛ لأن المسعودي ليس بالحافظ، وتغيَّر بأَخَرةٍ. فكأنه - صلى الله عليه وسلم - بعد أن صلّى بهم الظهر صلاتين كما تقدم أنزل الله عزَّ وجلَّ الآيات، فصلّى بهم العصر على قصر الخوف، بأن كانت لكل من الطائفتين ¬

_ (¬1) (7/ 419). (¬2) (3/ 174). (¬3) (3/ 175).

ركعة واحدة، إما مطلقًا، وإما في جماعة. والله أعلم. وقد جاء عن جابر صفة أخرى، أخرج مسلم في "الصحيح" (¬1) من طريق عطاء عن جابر قال: "شهدتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف، فصفَّنا صفَّين، صفٌّ خلفَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والعدوُّ بيننا وبين القبلة، فكبّر النبي - صلى الله عليه وسلم - وكبّرنا جميعًا، ثم ركع وركعنا جميعًا، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعًا، ثم انحدر بالسجود والصفُّ الذي يليه، وقام الصفُّ المؤخَّر في نَحْر العدوّ، فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - السجود وقام الصفُّ الذي يليه انحدر الصفُّ المؤخَّر بالسجود، وقاموا، ثم تقدم الصفُّ المؤخَّر، وتأخَّر الصفُّ المقدَّم ... ". وبنحوه رواه عَزْرة بن ثابت عن أبي الزبير، أخرجه أبو عوانة في "صحيحه" (2/ 361). وقال النسائي (¬2): أخبرنا عمرو بن علي قال: حدثنا عبد الرحمن عن سفيان عن أبي الزبير عن جابر قال: "كنّا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بنخلٍ، والعدوُّ بيننا وبين القبلة، فكبَّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكبَّروا جميعًا ... ". ذكر الصفة التي في رواية عطاء. وبنحوه رواه أيوب عن أبي الزبير، أخرجه أبو عوانة في "صحيحه" (2/ 360). ولا مانع من صحة هذا أيضًا: بأن يكون - صلى الله عليه وسلم - صلَّى بهم في تلك الغزوة ¬

_ (¬1) رقم (840). (¬2) (3/ 176).

بعد نزول الآيات مرةً هكذا، ومرةً هكذا، لكن أبا الزبير زاد فيه. أخرج ابن جرير (¬1) من طريق ابن عيّاش أخبرني عبيد الله بن عمر عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال: كنتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلقينا المشركين بنَخْلٍ، فكانوا بيننا وبين القبلة، فلما حضرتْ صلاةُ الظهر صلَّى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن جميع، فلما فرغنا تذامرَ المشركون فقالوا: لو كنّا حملنا عليهم وهم يصلُّون! فقال بعضهم: فإنَّ لهم صلاةً ينتظرونها تأتي الآنَ، هي أحبُّ إليهم من أبنائهم، فإذا صلَّوا فمِيلُوا عليهم. فجاء جبريل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالخبرِ وعلَّمه كيف يُصلَّي، فلما حَضَرَتِ العصرُ قام نبيُّ الله مما يلي العدوَّ، وقمنا خلفه صفَّينِ، فكبَّر نبيُّ الله [وكبَّرنا] معه جميعًا ... ". ثم أخرجه ابن جرير (¬2) من طريق حمّاد بن مَسْعدة عن هشام بن أبي عبد الله عن أبي الزبير عن جابر، ومن طريق إسماعيل بن إبراهيم عن هشام أيضًا، وقال في كلٍّ منهما: "نحوه". وقال البخاري في "الصحيح" (¬3) في غزوة ذات الرقاع: وقال معاذ: حدثنا هشام عن أبي الزبير عن جابر قال: "كنّا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بنخلٍ ... " فذكر صلاة الخوف. قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (¬4): سياق رواية هشام عن أبي الزبير ¬

_ (¬1) في "تفسيره" (7/ 439، 440). (¬2) (7/ 440). (¬3) (7/ 421) مع "الفتح". (¬4) (7/ 423).

هذه تدل على أنه حديث آخر في غزوة أخرى ... وهذه القصة إنما هي في غزوة عُسْفان، وقد أخرج مسلم (¬1) هذا الحديث من طريق زهير بن معاوية عن أبي الزبير بلفظٍ يدلُّ على مغايرة هذه القصة لغزوة محارب في ذات الرقاع، ولفظه عن جابر: "غزونا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - قومًا من جُهَينة، فقاتلونا قتالًا شديدًا، فلما أن صلَّينا الظهر قال المشركون: لو مِلْنا عليهم ... ". أقول: وكذلك رواه عبد الرزاق عن سفيان عن أبي الزبير، أخرجه أبو عوانة (2/ 360). وحديث أبي عياش الزرقي وحديث عند الواقدي عن خالد بن الوليد، كلها تذكر هذه القصة بعُسْفان، ثم قال (¬2): وهو ظاهر فيما قرَّرتُه أن صلاة الخوف بعُسْفان غير صلاة الخوف بذات الرقاع، وأن جابرًا روى القصتين معًا، فأما رواية أبي الزبير عنه ففي قصة عُسْفان، وأما رواية أبي سلمة ووهب بن كيسان وأبي موسى المصري عنه ففي غزوة ذات الرقاع، وهي غزوة محارب وثعلبة. أقول: وعلى هذا، فراوية عطاء عن جابر إنما هي في الصلاة بعُسْفان، ويكون أبو الزبير وَهِمَ في قوله: "بنخلٍ"، وقد روى الشيخان من طريق صالح بن خوّات قصتين: الأولى: عمن صلَّى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم ذات الرقاع صلاة الخوف، أن طائفة صفَّتْ معه، وطائفة وِجاهَ العدوّ، فصلّى بالذين معه ركعة ثم ثبت ¬

_ (¬1) رقم (840/ 308). (¬2) أي الحافظ في "الفتح" (7/ 423).

فصل

قائمًا، وأتمُّوا لأنفسهم ثم انصرفوا، فصفُّوا وِجاهَ العدو، وجاءت الطائفة الأخرى فصلّى بهم الركعة التي بقيت، ثم ثبت جالسًا، وأتمُّوا لأنفسهم، ثم سلَّم بهم". لفظ مسلم (¬1). وهذه الصفة توافق الصفة التي رواها أبو موسى المصري ويزيد الفقير عن جابر، إلا أن في هذه بيان أن كلًّا من الطائفتين أتمَّتْ لأنفسها، فإذا كانت القصة واحدةً تعيَّن أن القصر إنما هو باعتبار الجماعة، وأن قوله هناك: "ولهم ركعة" أي في الجماعة، فلا يُنافي إتمامَهم لأنفسهم. والقصة الثانية: صالح عن سهل بن أبي حَثْمة "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلَّى بأصحابه في الخوف، فصفَّهم خلفه صفَّين ... " (¬2) فذكر قصة وقع في حكايتها اضطراب، وذكر الحافظ في "الفتح" (¬3) أن سهلاً لم يشهد ذات الرقاع، وأن مراد [صالح بن] (¬4) خوَّات بقوله في الأولى: "عمن صلى ... " رجل آخر غير سهل، أستظهِرُ أنه خوَّات والد صالح. [ق 18] فصل رواية قتادة عن سليمان اليشكُري تدلُّ أن ذلك اليوم نزلت الآية، وشُرِعت صلاة الخوف على الصفة التي يُصلِّي فيها الإِمام صلاةً واحدة، ويعارضه ما رواه منصور بن المعتمر عن مجاهد عن أبي عيّاش الزُّرَقي قال: ¬

_ (¬1) رقم (842). وأخرجه البخاري (4129). (¬2) أخرجه مسلم (841). ورواه البخاري (4131) بهذا الطريق. (¬3) (7/ 425). (¬4) زيادة من "الفتح".

"كنّا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعُسْفان، وعلى المشركين خالد بن الوليد، فصلّينا الظهر، فقال المشركون: لقد أصبنا غِرّةً ... فنزلت آية القصر بين الظهر والعصر، فلما حَضَرَتِ العصرُ قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستقبلَ القبلة، والمشركون أمامه، فصفَّ خلفَ رسول - صلى الله عليه وسلم - صفٌّ، وصفَّ بعد ذلك الصفِّ صفٌّ آخر، فركع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وركعوا جميعًا ... "، فذكر مثل الصفة التي تقدمت عن عطاء عن جابر، ثم قال: "فصلّاها بعُسْفان، وصلَّاها في بني سُلَيم". رواه أبو داود (¬1) عن سعيد بن منصور عن جرير بن عبد الحميد عن منصور. وخرَّجه الحاكم في "المستدرك" (1/ 338) من طريق سعيد بن منصور، وقال: صحيح على شرط الشيخين، وأقرّه الذهبي. ورواه البيهقي في "السنن" (3/ 256) من طريق يحيى بن يحيى وسعيد بن منصور كلاهما عن جرير. وأخرجه أحمد في "المسند" (4/ 59) (¬2): ثنا عبد الرزاق ثنا الثوري عن منصور ... وقال: "فنزل جبريل عليه السلام بهذه الآيات بين الظهر والعصر {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} [النساء: 102] وبنحوه أخرجه أبو داود الطيالسي (¬3) عن ورقاء عن منصور. ¬

_ (¬1) رقم (1236). (¬2) رقم (16580). (¬3) في "مسنده" (1347).

ورواه النسائي في "السنن" (¬1) عن عمرو بن علي عن عبد العزيز بن عبد الصمد ثنا منصور، وقال: "فنزلت - يعني صلاة الخوف - بين الظهر والعصر". وأخرجه أحمد في "المسند" (4/ 60) (¬2): ثنا محمَّد بن جعفر ثنا شعبة عن منصور قال: سمعتُ مجاهدًا يُحدِّث عن أبي عيّاش الزُّرَقي - قال: قال شعبة: كتب به إليَّ، وقرأتُه عليه، وسمعته منه يُحدَّث به، ولكني حفظتُه من الكتاب - "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في مَصَافِّ العدوِّ بعُسْفانَ، وعلى المشركين خالد بن الوليد، فصلَّى بهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الظهر، ثم قال المشركون: إنّ لهم صلاةً بعد هذه، هي أحبُّ إليهم من أبنائهم وأموالهم، فصلَّى بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العصر، [فصَفَّهم] صفَّينِ خلفَه ... ". فلم يذكر نزول جبريل، ولا نزول الآية، ولا قال في آخره: "فصلّاها بعُسْفانَ، وصلَّاها في بني سُلَيم". وكذلك أخرجه النسائي (¬3) عن أبي موسى وبُندار كلاهما عن غُندر، مع اختلاف يسير. أقول: حديث أبي عيّاش صحَّحه الحاكم كما تقدم، وكذلك الدارقطني (¬4)، وأخرجه ابن حبان في "صحيحه" (¬5) وعندي فيه وقفة، فإنني ¬

_ (¬1) (3/ 177). (¬2) رقم (16581). (¬3) (3/ 176). (¬4) في "سننه" (2/ 60). (¬5) رقم (2876).

لم أرَ في شيء من طرقه تصريحَ مجاهدٍ بالسماع من أبي عياش، ومجاهد معروف بالإرسال عمن لم يَلْقَه حتى من عاصره. ثم رأيتُ البيهقي قال في "السنن" (3/ 257): "وقد رواه قتيبة بن سعيد عن جرير، فذكر سماع مجاهد من أبي عياش ... ". أقول: وقد روى ابن أبي نَجِيح نحوه عن مجاهد مرسلاً، أخرجه ابن جرير في تفسيره (5/ 142) (¬1) من طريقين عن ابن أبي نَجِيح، قال في الأول: حدثني محمَّد بن عمرو (هو الباهلي) قال: ثنا أبو عاصم قال: ثنا عيسى عن ابن أبي نَجِيح عن مجاهد في قوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101]، قال: "يومَ كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بعُسْفانَ، والمشركون بضَجْنانَ، فتوافقوا، فصلَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه صلاة الظهر ركعتين، أو أربعًا - شكّ أبو عاصم - ركوعُهم وسجودُهم وقيامُهم معًا جميعًا، فهمَّ المشركون أن يُغِيروا على أمتعتهم وأثقالهم، فأنزل الله عليه: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ}، فصلَّى العصر ... وقصرَ العصر إلى ركعتين". ثم قال: حدثني المثنَّى قال: ثنا أبو حُذيفة قال: ثنا شبل عن ابن أبي نَجِيح عن مجاهد: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاة} قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بعُسْفان، والمشركون بضَجْنانَ، فتوافقوا، فصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه صلاة الظهر ركعتين، ركوعُهم ... وقصرت صلاة العصر إلى ركعتين". كذا قال، فإن كان المراد القصر المشهور من أربع إلى اثنتين، ويكون ¬

_ (¬1) (7/ 411، 412) ط. دار هجر.

لفظ مجاهد "الظهر أربعًا" كما شكَّ فيه أبو عاصم، فقد تقدَّم أن صلاة السفر لم تكن أربعًا قطُّ. وإن أراد قصر الخوف إلى ركعة مطلقًا، أو بالنظر إلى الجماعة والمتابعة، فكان ينبغي أن يقول في آخره: "وقصرت صلاة العصر إلى ركعة". وقد روى النسائي (¬1) وغيره من طريق سعيد بن عُبيد الهُنَائي ثنا عبد الله بن شَقِيق ثنا أبو هريرة قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نازلًا بين ضَجْنانَ وعُسْفانَ، مُحاصِرًا المشركين، فقال المشركون: إنّ لهؤلاء صلاةً هي أحبُّ إليهم من أبنائهم وأبكارهم، أَجْمِعوا أمركم، ثم مِيلُوا عليهم مَيلةً واحدة، فجاء جبريل عليه السلام فأمره أن يَقْسِم أصحابَه نصفينِ، فيُصلِّي بطائفةٍ منهم، وطائفةٌ مقبلون على عدوِّهم ... فيصلِّي بهم ركعةً، ثم يتأخَّر هؤلاء، ويتقدَّم أولئك فيصلِّي بهم ركعة، تكون لهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ركعة ركعة، وللنبي - صلى الله عليه وسلم - ركعتان". سعيد بن عُبَيد: قال أبو حاتم: "شيخ"، وذكره ابن حبان في "الثقات" (¬2)، وذلك لا يكفي في رفع جهالة حاله، مع أن هذه الصفة - كما يظهر - مخالِفة للصفة التي في حديث أبي عيّاش. وأخرج الحاكم في "المستدرك" (¬3) من طريق يونس بن بكير عن النضر أبي عمر عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "خرج رسول الله ¬

_ (¬1) (3/ 174). وأخرجه أيضًا أحمد في "المسند" (10765) والترمذي (3035) وابن حبان (2872). وحسَّنه الترمذي. (¬2) (6/ 352). وانظر "تهذيب التهذيب" (4/ 62). (¬3) (3/ 30).

- صلى الله عليه وسلم - في غزاةٍ، فلقي المشركين بعُسْفَانَ ... "، فذكر نحو ما في حديث أبي عيّاش. قال الحاكم: صحيح على شرط البخاري، وأقرَّه الذهبي، مع أن النضر أبا عمر وهو النضر بن عبد الرحمن الخزّاز لم يخرج له البخاري، بل هو أجمعوا على ضعفه (¬1). وقال ابن حجر في "الفتح" (¬2): وقد روى الواقدي من حديث خالد بن الوليد قال: "لما خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الحديبية لقيتُه بعُسفانَ، فوقفتُ بإزائه، وتعرضتُ له، فصلَّى بأصحابه الظهر، فهَمَمْنا أن نُغِير عليهم، فلم يَعْزِم لنا، فأَطلعَ الله نبيَّه على ذلك، فصلَّى بأصحابه العصر صلاة الخوف ... " الحديث. أقول: حال الواقدي مشهور، ولكن ابن حجر استأنس به مع ما تقدم، وذلك أن ما جاء من حديث أبي عيّاش وأبي هريرة من الصلاة بعُسْفَان لم يتعين تاريخها، وقد جاء في المغازي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى على عُسْفَان مرتين: مرةً في غزوة بني لِحْيان، ذكر ابن إسحاق (¬3) أنها كانت على رأس ستة أشهر بعد فتح بني قريظة. والثانية: في عمرة الحديبية. ولم يُذكر في شيء منهما قتال، ولا مقاربة لجيش قريش إلا ما رواه الواقدي. ¬

_ (¬1) انظر "تهذيب التهذيب" (10/ 441، 442). (¬2) (7/ 423). (¬3) انظر "سيرة ابن هشام" (2/ 279).

نعم ذكر ابن إسحاق (¬1) في غزوة بني لِحْيان أن بني لحيان تحصَّنوا من المسلمين، فقال المسلمون: لو أنّا هبطنا عُسْفانَ لرأى أهلُ مكة أنّا قد جئنا مكة، فخرج - يعني النبي - صلى الله عليه وسلم -- في مائتي راكب من أصحابه حتى نزل عُسْفان، ثم بعث فارسَيْن من أصحابه حتى بلغا كُراع الغَمِيم، ثم كرَّا، ورجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قافلًا. فيحتمل أن قريشًا لما بلغهم خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى بني لِحْيان، ثم نزول عسفان، خافوا - كما ظنَّه المسلمون - أن يكون قاصدًا مكة، فبعثوا خيلَهم وعليها خالد لترقب ما يفعله المسلمون، وتقاربوا ولم يكن قتال، والله أعلم بحقيقة الحال. هذا، وقد اختلف في غزوة ذات الرقاع: أهي غزوة مُحارِب خَصَفة، أم غيرها؟ فأكثر أهل المغازي على الأول، وزعم الواقدي أنها غيرها، وتبعه القطب الحلبي في "شرح السيرة"، ذكره الحافظ في "الفتح" (¬2). واختلف أيضًا في غزوة ذات الرقاع: فقال موسى بن عقبة: لا ندري كانت قبل بدر، أو بعدها، أو قبل أُحُد أو بعدها. قال ابن حجر (¬3): الذي ينبغي الجزم به أنها بعد غزوة بني قريظة؛ لأنه تقدم أن صلاة الخوف في غزوة الخندق لم تكن شُرِعتْ، وقد ثبت وقوع صلاة الخوف في غزوة ذات الرقاع. ¬

_ (¬1) انظر "سيرة ابن هشام" (2/ 280). (¬2) (7/ 418). (¬3) في "الفتح" (7/ 417).

أقول: لم أجد نصًّا في أن صلاة الخوف لم تكن قد شرعت في الخندق، إلا ما جاء عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه ذكر تأخير النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة يوم الخندق، ثم قال: "وذلك قبل أن يَنزِل في القتال ما نزل" (¬1). وقد بيَّنه في رواية أخرى، قال: "وذلك قبل أن ينزل صلاة الخوف {فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا}. راجع "مسند أحمد" (3/ 25) (¬2). فيحتمل أنهم في الخندق لم يكونوا متمكنين من الصلاة جماعة على ما في آيات النساء: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ ...} مع ما بينه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما كانوا متمكّنين من الصلاة على ما في قوله تعالى في سورة البقرة: {فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا}، وإذا كان هكذا لم يكن في حديث أبي سعيد ولا قصة الخندق [ق 19] دليل على أن صلاة الخوف لم تكن قد شُرعتْ، وإنما في ذلك دليل على أنه لم يكن قد شُرع هذا القدر منها، وهو الذي تضمَّنه قوله تعالى: {فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا}. والصلاة في ذات الرقاع كانت جماعة على ما بيَّن به النبي - صلى الله عليه وسلم - آية النساء. وعلى هذا، فليس فيما ذُكِر دليلٌ على تأخر ذات الرقاع عن الخندق، وما اتصل به من أمر بني قريظة. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "المسند" (11198) والنسائي (2/ 17) وابن خزيمة (996، 1703) وغيرهم. وإسناده صحيح. (¬2) رقم (11199).

وفي "الفتح" (¬1) أيضًا: عن ابن إسحاق وابن سعد وابن حبان أنها كانت قبل الخندق وقريظة، وأن أبا معشر يجزم بأنها كانت بعد الخندق وقريظة، وذهب البخاري إلى أنها كانت بعد خيبر، واحتج على ذلك بما صح عن أبي موسى الأشعري أنه شهد ذات الرقاع، مع أن أبا موسى إنما جاء بعد أيام خيبر (¬2)، وبما رواه عبد الله بن يزيد المقرئ عن حَيْوة وابن لهَيعة عن أبي الأسود عن عروة عن مروان أنه سأل أبا هريرة: هل صلَّى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف؟ فقال أبو هريرة: نعم، في غزوة نجد. علَّق البخاري طرفًا منه (¬3) وأخرجه أبو داود في "السنن" (¬4)، وذكر أبو داود عقبه (¬5) بسند فيه مقال: عن عروة بن الزبير عن أبي هريرة قال: "خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى نجد، حتى إذا كنا بذات الرقاع ... ". وأبو هريرة إنما جاء أيام خيبر. وحكى الحافظ في "الفتح" (¬6) عن البيهقي وغيره: أنهم ذهبوا إلى أنها غزوتان، أطلق على كل منهما ذات الرقاع. ¬

_ (¬1) (7/ 417). وانظر "سيرة ابن هشام" (2/ 203) و"الطبقات" (2/ 61) و"الثقات" (1/ 257). (¬2) انظر صحيح البخاري مع "الفتح" (7/ 416، 417). (¬3) عقب الحديث (4137). (¬4) رقم (1240). وأخرجه أيضًا أحمد (8260) والنسائي (3/ 173) وابن خزيمة (1361) وغيرهم. (¬5) رقم (1241). وأخرجه أيضًا الطحاوي في "معاني الآثار" (1/ 314) والبيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 264). (¬6) (7/ 417). وانظر "دلائل النبوة" (3/ 372).

أقول: وما وقع في رواية قتادة عن سليمان بن قيس عن جابر: "انطلقنا نتلقَّى عِيرَ قريش آتيةً من الشام" (¬1) ظاهرٌ في تقدُّم ذلك على خيبر، بل وعلى الحديبية، وهي قبله، وذلك أنهم إنما يتلقَّون عِيرَ قريش إذا لم يكن بينهم موادعة، وقد وادعهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديبية، واستمرَّ ذلك حتى غَدَرتْ قريش بإعانة بني بكر على خزاعة، فغزاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وافتتح مكة. هذا، وقد يُتوهَّم من قوله في رواية قتادة عن سليمان "نتلقَّى عِيرَ قريش آتيةً من الشام" أن هذا في غزوة بدر، وليس كذلك، بل هذه عِيرٌ أخرى. هذا، ومقتضى ما أطلق عليه أكثر أهل المغازي من أن ذات الرقاع، أو غزوة محارب وثعلبة بنَخْلٍ، كانت قبل الخندق وقريظة، فهي قبل غزوة بني لِحْيان، وقبل الحديبية فتكون الصلاة فيها قبل الصلاة بعُسْفان، وقد يجوز أن يكون أبو عيَّاش لما ذكر شأن عُسْفان إنما ذكر نزول جبريل ينذر النبي - صلى الله عليه وسلم - بما همَّ به المشركون، فتوهم بعضهم أنه نزل بالآيات في صلاة الخوف. وبالجملة، فلم يتضح أيهما السابق، غزوة محارب وثعلبة أم عُسْفان؟ والله أعلم. **** ¬

_ (¬1) سبق ذكرها وتخريجها.

الدليل الثالث

الدليل الثالث قال الإِمام أحمد في "المسند" (5/ 39) (¬1): ثنا يحيى عن أشعث عن الحسن عن أبي بكرة: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلَّى بهؤلاء الركعتين، وبهؤلاء الركعتين". وقال النسائي في السنن (¬2): أخبرنا عمرو بن علي قال: حدثنا يحيى بن سعيد قال: حدثنا الأشعث عن الحسن عن أبي بكرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صلَّى صلاة الخوف بالذين خلْفَه ركعتين، والذين جاءوا بعدُ ركعتين، فكانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - أربعَ ركعاتٍ ولهؤلاء ركعتين ركعتين. وقال الإِمام أحمد (5/ 49) (¬3): ثنا رَوح ثنا أشعث عن الحسن عن أبي بكرة قال: "صلَّى بنا النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاةَ الخوف، فصلّى ببعض أصحابه ركعتين ثم سلَّم، فتأخَّروا، وجاء آخرون فكانوا في مكانهم، فصلَّى بهم ركعتين ثم سلَّم، فصار للنبي - صلى الله عليه وسلم - أربعُ ركعات، وللقومِ ركعتان ركعتان". وقال النسائي (¬4): أخبرنا محمَّد بن عبد الأعلى وإسماعيل بن مسعود واللفظ له، قالا: حدثنا خالد عن أشعث عن الحسن عن أبي بكرة: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلَّى بالقوم في الخوف ركعتين ثم سلَّم، ثم صلَّى بالقوم الآخرين ركعتين ثم سلَّم، فصلَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعًا". ¬

_ (¬1) رقم (20408). (¬2) (3/ 179). (¬3) رقم (20497). (¬4) (3/ 178).

وقال أبو داود في "السنن" (¬1): حدثنا عبيد الله بن معاذ نا أبي نا الأشعث عن الحسن عن أبي بكرة قال: "صلَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - في خوف الظهر، فصفَّ بعضُهم خلفه، وبعضُهم بإزاء العدوّ، فصلَّى ركعتين ثم سلّم، فانطلق الذين صلَّوا معه فوقفوا موقفَ أصحابهم، ثم جاء أولئك فصلَّوا خلفه، فصلَّى [بهم] ركعتين ثم سلَّم، فكانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعًا، ولأصحابه ركعتين ركعتين". وبذلك كان يُفتي الحسن. قال أبو داود: وكذلك في المغرب، يكون للإمام ستّ ركعات، وللقوم ثلاث ثلاث. قال أبو داود (¬2): وكذلك رواه يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك قال سليمان اليشكري عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وذكر البيهقي في "السنن" (¬3) رواية قتادة ويونس عن الحسن عن جابر، وقد تقدمت في الدليل الثاني، ثم قال: وخالفهما أشعث فرواه عن الحسن عن أبي بكرة، ووافقه على ذلك أبو حُرَّة الرقاشي. ثم ساقه من طريق سعيد بن عامر عن الأشعث، وفيه: "صلَّى ببعضهم ركعتين ثم سلَّم، فتأخَّروا، وجاء الآخرون فصلَّى بهم ركعتين ثم سلم ... ". ثم ذكر (¬4) رواية أبي داود، وقال في زيادة "وكذلك في المغرب": ¬

_ (¬1) رقم (1248). (¬2) عقب الحديث المذكور. (¬3) (3/ 259). (¬4) (3/ 260).

وجدتُه في كتابي موصولًا بالحديث، وكأنه من قول الأشعث، وهو في بعض النسخ: "قال أبو داود: وكذلك في المغرب". وقد رواه بعض الناس عن أشعث في المغرب مرفوعًا، ولا أظنُّه إلا واهمًا في ذلك. ثم ذكر (¬1) رواية المغرب: أخبرنا محمَّد بن عبد الله الحافظ [هو الحاكم] أخبرني أبو علي الحسين بن علي الحافظ أبنا عبدان الأهوازي ثنا محمَّد بن معمر القيسي ثنا عمرو بن خليفة البكراوي ثنا أشعث بن عبد الملك الحُمْراني عن الحسن عن أبي بكرة: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلَّى بالقوم في الخوف صلاةَ المغرب ثلاث ركعاتٍ ثم انصرف، وجاء الآخرون فصلَّى بهم ثلاثَ ركعات". أقول: وحديث المغرب أخرجه شيخه الحاكم بهذا السند في "المستدرك" (1/ 337) وقال: سمعتُ أبا علي الحافظ يقول: هذا حديث غريب ... قال الحاكم: وإنه صحيح على شرط الشيخين، وفي "تلخيص" الذهبي: على شرطهما وهو غريب. وأخرجه الدارقطني في "سننه" (ص 187) (¬2): حدثنا علي بن إبراهيم النجار ثنا محمَّد بن إسحاق بن خزيمة حدثنا محمَّد بن معمر ... ولعمرو بن خليفة ترجمة في "الميزان" (¬3)، وفيها: ربما كان في روايته ¬

_ (¬1) (3/ 260). وما بين المعكوفتين من المؤلف. (¬2) (2/ 61) (¬3) لم أجد ترجمته فيه، ولعل المؤلف اعتمد على ما في "لسان الميزان" (6/ 205) وتعقيب الحافظ عليه بقوله: "قلت". فاعتبر الكلام السابق من "الميزان".

تنبيه

بعض المناكير، ذكره ابن حبان في "الثقات" (¬1). زاد ابن حجر في "لسان الميزان" (4/ 363) (¬2): قلت: هو البكراوي، روى عنه أيضًا محمَّد بن مَعْمر القيسي، وأخرج له ابن خزيمة في "صحيحه" (¬3). [ق 20] أقول: أما مخالفة أشعث وأبي حُرَّة ليونس وقتادة: فلا أراها مما يضر؛ لأن الحسن إمام واسع الرواية، لا ينكر له أن يكون عنده الحديث من وجهين وأكثر. وأما قول البيهقي فيمن روى عن الأشعث في المغرب: "ولا أراه إلا واهمًا" ظنٌّ منه، وقد خالفه غيره فصحَّحه، واحتمال الوهم لا أراه قويًّا. بقي أن الحسن وصفه النسائي وغيره بالتدليس، ولم يُصرِّح بسماعه من أبي بكرة، إلا أن الذي يظهر من كلام ابن المديني والبخاري في شأن أحاديث الحسن عن سمرة أنه إذا ثبت سماع الحسن من رجل - ولو مرةً - كان حديثه كلُّه عن ذلك الرجل صحيحًا، فلا أدري أذهبا إلى أنه إنما يُدلِّس عمن لم يسمع منه، أم إلى أنه إذا دلَّس عمَّن قد سمع منه لا يصنع ذلك إلا فيما سمعه من ثقةٍ متفقٍ عليه، كما قيل في ابن عيينة؟ والله أعلم. تنبيه: ما وقع في رواية أحمد (¬4) عن رَوْح: "عن أبي بكرةَ قال: صلَّى بنا ¬

_ (¬1) (7/ 229). (¬2) (6/ 205) ط. مكتب المطبوعات الإِسلامية. (¬3) انظر رقم (1368). (¬4) رقم (20497).

النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ... " يقتضي أن أبا بكرة شهد القصّةَ، وعليه فتكون غيرَ القصّةِ التي في حديث جابر قطعًا؛ لأن أبا بكرة إسلامه متأخر، ولكن أخشى أن يكون رَوْح وَهِم في ذلك، وأن يكون أبو بكرة إنما سمع هذا من بعض من تقدَّمه من الصحابة. وكلام الحافظ في "الفتح" (¬1) في غزوة ذات الرقاع يُوهِم أن حديث أبي بكرة في "سنن" أبي داود والنسائي يصرح فيه بشهوده القصة، وليس الأمر كذلك. والله المستعان. ... ¬

_ (¬1) (7/ 424).

أجوبة المانعين

أجوبة المانعين منها: أنه يحتمل في هذه الوقائع أن تكون لما كانت الفريضة تُصلَّى مرتين، وقد نُسِخ ذلك. ورُدَّ بأنه إن كان المراد أن الفريضة كانت تصلَّى مرتين فرضًا، بمعنى أنه كان فرضًا على المسلم أن يُصلِّيها مرتين، فهذا لم يكن قطُّ، ونفيه معلوم. وإن أريد أنه كان يجوز إعادتها مرةً ثانية، فذاك الجواز باقٍ اتفاقًا في الجملة، وإنما الخلاف في بعض صوره، وقد تقدمت أدلته. وعلى هذا، يكون المجيب معترفًا بإمامة المتنفل للمفترض، ومدعيًا النسخ، فيُطالَب بالناسخ. فأما حديث: "لا تُصلُّوا صلاةً في يومٍ مرتين" والنهي عن الإعادة مرتين، فقد تقدم الكلام عليهما. ومنها: في خصوص قصة معاذ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعلم بذلك. ويُردُّ بأننا ذهبنا مذهب جابر في قوله: "كنا نَعْزِل والقرآنُ يَنزِل" (¬1)، كفانا ذلك في ردَّ جوابكم. وتقريرُ هذا المذهب: أنه كما أن تقرير النبي - صلى الله عليه وسلم - يدلُّ على الجواز، فأولى منه تقرير الله عزَّ وجلَّ في وقت وجود الواسطة لتبليغ أحكامه بينه وبين عباده، وهو الرسول، وقد صحّ أن الصحابة كانوا مكروهًا لهم سؤالُ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذلك يدلّ على أنه كان لهم أن يتمسّكوا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5208) ومسلم (1440).

بالأصل والظاهر ونحو ذلك، ويعملوا بما ظهر لهم حتى يجيئهم من الشارع ما يخالف ذلك، وهذا يُشعر بأن الشارع إنما أذن بذلك؛ لأن الله عزَّ وجلَّ رقيبٌ عليهم، فإذا علم منهم خطأً في الدين بيّنه لهم على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فأما إن وقعت من بعضهم معصية يعلم أنها معصية، وأن الله عزَّ وجلَّ يستره ولا يفضحه، وإنما يُنبِّه على ما يتعلق بالأحكام. وإن لم يُسَلَّم هذا المذهب، فإننا نُثبِت عِلْمَ النبي - صلى الله عليه وسلم - صُنْعَ معاذٍ: أولاً: لأنه أعلمُ بالله [من] أن يُقدِم على ما لا يثق بصحته، وقد أثنى عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه أعلم الأمة بالحلال والحرام (¬1)، وأنه يأتي يوم القيامة أمامَ العلماء [برَتْوةٍ] (¬2)، وهو الذي بيَّن للأمة متابعةَ الإِمام، إذ كانوا أولاً إذا جاء الرجل الجماعة، فوجدهم يصلُّون وراء النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل [فيُشير] إليه أحدهم أنه قد سُبِق بكذا، فيبدأ فيصلّي ما سُبِق به لنفسه حتى يدرك الإِمام فيما هو فيه فيوافقه، فجاء معاذ فقال: لا أجدُه على حالٍ إلا كنتُ عليها، فوافق النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما هو فيه، فلما سلّم النبي - صلى الله عليه وسلم - قام معاذ فأتمَّ ما سُبِق به، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن معاذًا قد سَنَّ لكم، فهكذا فاصنعوا" (¬3) أو كما قال. فكيف يُظَنُّ به ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (3793، 3794) وابن ماجه (154) من حديث أنس بن مالك، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. (¬2) الرتوة: رمية السهم. والحديث أخرجه الطبراني في "الكبير" (20/ رقم 41) وأبو نعيم في "الحلية" (1/ 229) من حديث محمَّد بن كعب القرظي مرفوعًا. وله طرق أخرى، انظر التعليق على "المسند" (108). (¬3) أخرجه أحمد (22124) وأبو داود (506، 507) والحاكم في "المستدرك" (2/ 274) وغيرهم من حديث معاذ، ورجاله ثقات، إلا أن عبد الرحمن بن أبي ليلى =

وبقومه - وفيهم كما في "الفتح" (¬1) عن ابن حزم ثلاثون عَقَبيًّا، وأربعون بدريًّا - أن يُقدِموا على ما لا يثقون بصحته، بدون ضرورة تُلجِئهم إلى ذلك. وثانيًا: صنيعُه ذلك كان ظاهرًا مكشوفًا، كان يصلّي مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم يصلِّي بعشيرته، وهم كثير، وكان يصلّي معهم من يمرُّ على مسجدهم من غيرهم، كما في قصة حرام. ولم يكن بينهم وبين المسجد النبوي إلا نحو ميل، ولا يمرُّ عليهم يوم إلا ويجتمع فيه جماعة منهم بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان - صلى الله عليه وسلم - كثيرَ التفقُّد للأنصار، ولا سيّما في أمر دينهم، والظاهر أنهم لم يكونوا [يقررون] إمامًا في مسجد من مساجدهم إلا بإذن النبي - صلى الله عليه وسلم -. هب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعلم بذلك تلك المدة التي كان معاذ يصلّي فيها معه - صلى الله عليه وسلم - ثم يصلي بهم قبل أن يَشْكُوه سُلَيم أو حرام، أو كلاهما، فقد علم - صلى الله عليه وسلم - عند الشكوى، فلم ينكر ذلك عليهم، وإنما أنكر تأخير معاذ وتطويله، فلم ينكر عليهم صنيعهم فيما سبق، ولا بيَّن لهم أنه لا يجوز، ولا نهاهم عن مثله. فإن قيل: فقد جاء في رواية معاذ بن رِفاعة: "يا معاذ بن جبل، لا تكن فتانًا، إما أن تصلِّي معي، وإما أن تُخفَّف على قومك" (¬2). قلت: تلك الرواية مرسلة، ولم تأت هذه الزيادة في شيء من الروايات الموصولة حتى الرواية التي يُشبِه سياقُها سياقَ هذه المرسلة، وهي رواية ¬

_ = لم يسمع من معاذ، فهو منقطع. (¬1) (2/ 196). وانظر "المحلَّى" (4/ 234). (¬2) سبق تخريجها.

عبيد الله بن مِقْسَم. وهبْ تلك الزيادة: "إما أن تُصلِّي معي، وإما أن تُخفِّف على قومك" صحَّت، فدونك تحقيق معناها: حكى ابن حجر في "الفتح" (¬1) عن الطحاوي أنه قال: معناها: إما أن تصلِّي معي، ولا تصلِّ بقومك، وإما أن تُخفِّف بقومك، ولا تُصلِّ معي. ثم قال ابن حجر: لمُخالفِه أن يقول: بل التقدير: إما أن تُصلِّي معي فقط إذا لم تُخفِّف، وإما أن تُخفِّف بقومك فتصلِّي معي، وهو أولى من تقديره؛ لما فيه من مقابلة التخفيف بترك التخفيف، لأنه هو المسؤول عنه المتنازَع فيه. وقال العلامة الجليل شَبِّير أحمد العثماني الحنفي في "شرحه لصحيح مسلم" (¬2): الظاهر من مجموع الروايات أنهم يَشْكُون تأخير معاذ في مجيئه إلى الصلاة؛ لصلاته مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، حتى كان ينام القوم، ويشقّ عليهم الانتظار، ثم قراءته السورَ الطويلة، وهذا صريح في سياق أحمد (يعني في المرسل المذكور)، وفي بعض روايات حديث الباب: فقال الرجل: يا رسول الله، إنك أخَّرتَ العشاء، وإن معاذًا صلَّى معك ثم أمَّنا، وافتتح سورة البقرة (أقول: وقد مر نحوه في رواية ابن عيينة) ... ففيه كما ترى شكاية التأخير، ثم التطويل، فأرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذًا إلى إزالة شكواهم بأن يكتفي بأداء صلاته مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويترك الإمامة، أو بأن يخفِّف على قومه ... وفي ¬

_ (¬1) (2/ 197). وقول الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 410). (¬2) "فتح الملهم" (3/ 431 - 432) ط دار إحياء التراث العربي.

رواية للبزار "لا تكن فتّانًا تَفْتِن الناس، ارجِعْ إليهم فصَلِّ بهم قبل أن يناموا ... ". [ق 21] أقول: هذا تحقيق جيد، ومن الواضح جدًّا أن قوله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ: "لا تكن فتّانًا" إنما معناه: لا تكن سببًا لافتتان بعضهم بتشديدك عليهم، فكأنه قال: لا تُشدِّد عليهم. وإن قوله عقب هذه الجملة: "إما أن تصلّي معي، وإما أن تُخفِّف على قومك" إنما هو بيان لقوله: "لا تكن فتّانًا" أو استئناف بياني، كأنه لما قال لمعاذ: "لا تكن فتّانًا" قال معاذ: كيف أصنع؟ فقال: إما .... وهذا واضح جدًّا بدلالة المقام، وبعدم الإتيان بالواو بين الجملتين. إذا تحرَّر هذا، فقوله: "إما أن تُصلِّي معي، وإما أن تُخفِّف على قومك" إنما هي إرشاد إلى ترك التشديد الذي هو مَظِنّة الفتنة، كما قال العثماني نفع الله به: إرشاد إلى إزالة شكواهم. ثم ها هنا احتمالان: الأول: أن يكون مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - النهى عن التأخير وعن التطويل، حتى كأنه قال: لا تُؤخَّر ولا تُطوَّل، أو عجل وخفَّف. وعليه، فالظاهر أن يتضمّن قوله: "إما أن تُصلِّي معي، وإما أن تُخفَّف على قومك" النهيَ عن كلًّ من الأمرين. وقد تبين من الروايات الصحيحة - كما ذكره العثماني - أن التأخير إنما كان يقع بسبب أن معاذًا كان يبدأ فيصلِّي مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فحينئذٍ لا بدّ أن تتضمّن الجملة تخييرَ معاذ بين أن يترك الصلاة بهم ليقدموا غيره ممن لا

يصلّي مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيعجِّل بهم؛ لأنه لا يحتاج إلى التأخير؛ لعدم صلاته مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو يترك معاذ الصلاة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فيعجِّل بهم، لعدم احتياجه إلى التأخير. فإذا قلنا: إن الجملة المذكورة تتضمن النهي عن الجمع بين الصلاة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - والصلاة بالقوم، فقد اتضح أن علة هذا النهي هي لزوم التأخير الذي شكاه القوم، وفيه تشديدٌ عليهم يُخشَى منه افتتانُ بعضهم. والحاصل: أنه على هذا الاحتمال يكون تقدير الطحاوي صحيحًا في الجملة، ولكن علة المنع إنما هي استلزام التأخير كما هو واضح من دلالة المقام والسياق. وعلى هذا، فلو فُرِض أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عجَّل العشاء في بعض الأيام بحيث لو صلَّى معاذ معه، ثم عاد إلى قومه معاذٌ في وقت لا يكون فيه تأخير يشقُّ عليهم، أو رَضُوا كلُّهم بالتأخير وأحبُّوه، أكان لهم أن يؤمَّهم معاذ بعد أن صلَّى مع النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ وذلك أنهم يقولون: إنما نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعنًى هو الآن منتفٍ، وهو التأخير الذي يُخشَى منه الفتنة. وعلى هذا، فليس في الجملة المذكورة إنكاره لعلة أخرى، وإذًا فليس فيها إنكار لائتمام المفترض بالمتنفل، وإذًا فسكوته - صلى الله عليه وسلم - عن التعرض لذلك بعد علمه بصنيعهم تقريرٌ على صحة ذلك، وهو المطلوب. وذكر بعض أئمة الحنفية في الهند (¬1): أن الجملة المذكورة شبيهة بقوله ¬

_ (¬1) هو الشيخ أنور شاه الكشميري (ت 1352) في كتابه "فيض الباري على صحيح البخاري" (2/ 228).

تعالى حكايةً عن المشركين: {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ}، حيث قُوبل في الآية الافتراء بالجنون، لما أن من لازم الجنون عدم الافتراء، فكأنه قيل: أافترى أم لم يفترِ، فكذلك قُوبل في الحديث صلاة معاذ معه - صلى الله عليه وسلم - بتخفيفه لقومه، كما أن تخفيفه بهم يتوقف على صلاته بهم، وصلاته بهم تستلزم عدمَ صلاته مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكأنه قيل: إما أن تُصلِّي معي، وإما أن لا تُصلِّي معي. وأقول: لا بأس بهذا، وإنما الشأن في وجه الاستلزام، فاستلزام الجنون لعدم الافتراء واضح معلوم للمخاطب، وكذلك استلزام صلاة معاذ بقومه لعدم صلاته مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من حيثُ إن المطلوب أن يصلّي بهم معجّلاً، لما عُلِم من المقام والسياق من النهي عن التأخير، لما فيه من التشديد الذي يُخشى منه الفتنة. هذا هو الذي يفهمه القوم، ويقتضيه المقام والسياق وعدمِ الإتيان بالواو بين الجملتين، كما مرَّ. فإن زعم زاعم أن للاستلزام وجهًا آخر فهو باطل، إذ لم يكن القوم يعرفونه، ولا في المقام والسياق ما يدل عليه. الاحتمال الثاني: أن يكون مراده - صلى الله عليه وسلم - إنما هو النهي عن الجمع بين التأخير والتطويل. وعليه، فالتقدير كما قال ابن حجر، وقد يؤيده أن التأخير إنما شقَّ عليهم تلك الليلة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخَّر العشاء فوق العادة، فتأخّر معاذ (¬1) فوق ما ¬

_ (¬1) في الأصل: "بلال"، سبق قلم.

كان يتأخّر تلك الليلةَ، وهذا بيِّنٌ في الروايات المفصّلة الصحيحة كرواية ابن عيينة: "وقال الرجل: يا رسول الله، إنك أخَّرتَ العشاء ... ". ومما يوضِّح هذا أن الروايات المفصّلة الصحيحة مقتصرة على [النهي] عن التطويل، وذلك يدلّ أنه هو الذي استوعب الحال. فأما الزيادة التي نقلها العثماني: "ارجعْ إليهم قبل أن يناموا" فهي تدلّ على تقرير النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم، وأن يأتمُّوا بمعاذ بعد أن يصلِّي معه - صلى الله عليه وسلم -. وبيان ذلك: أن عادة بني سلمة كانت أن الأقوياء منهم يأتون إلى مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيصلُّون معه المغرب، ثم يرجعون إلى بيوتهم فيصلُّون، والرامي يرى موقعَ سهمه، كما يأتي عن جابر، ثم إذا جاء وقت العشاء أتوا المسجدَ النبوي وصلَّوا العشاء مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم يرجعون إلى بيوتهم، ومنهم معاذ، غير أنه انفرد بأنه كان إذا رجع إلى قومه صلَّى بالمتأخرين منهم، فإذا رجع عقب المغرب صلَّى بهم المغرب كما في حديث الترمذي، وقد تقدم، وإذا رجع عقب العشاء صلَّى بهم العشاء كما في حديث "الصحيحين" وغيرهما، فكان له في المغرب والعشاء مجيئان ورجوعان، ولا يحسن حمل الرجوع في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ارجِعْ إليهم قبل أن يناموا" على الأول؛ لأن الحمل عليه يُحوِج إلى تقدير، والأصل عدمه، ولأن المتبادر إنما هو الرجوع الثاني؛ لأنه هو الذي شَكَوا من تأخُّره حتى يناموا. إذا تقرر هذا، فمعنى هذه الزيادة - والله أعلم - هكذا: إذا جئتَ لتصلِّي العشاء معي فانظر، فإن وجدتَني عجَّلتُها فصلِّ معي، ثم ارجِعْ إليهم قبل أن يناموا، وإن وجدتَني أخَّرتُها فلا تنتظرْني، وارجِعْ إليهم قبل أن يناموا.

وفي هذه مراعاة لرغبة معاذ ورغبة قومه؛ لأن معاذًا كان يرغب في أن يصلّي مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقومه - وإن شكا بعضُهم من تشديده - راغبون في أن يُصلِّي هو بهم، إذْ لم يكن فيهم أعلم ولا أفضل ولا أحبّ إليهم منه. [ق 22] ومن أجوبتهم الخاصة بقصة معاذ أيضًا: أنه يحتمل أن يكون معاذ كان يُصلِّي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - على أنها نافلة له، ثم يُصلَّي بقومه على أنها فريضته. ورُدَّ بأن هذا خلاف الظاهر، بل الظاهر من حال مَن يعلم أن عليه فريضة يجب عليه أداؤها أنها إذا حضرتْ فصلّاها، إنما يَقصِد أداءها، ويتأكد ذلك بعدم الوقوف، أو من المحتمل أن يموت أو يعرض له عارض. وقال بعض الشافعية: لا يُظَنُّ بمعاذٍ أن يترك فضيلة الفرض خلف أفضل الأئمة في المسجد الذي هو من أفضل المساجد. حكاه ابن حجر في "الفتح" (¬1) ثم قال: للمخالف أن يقول: إذا كان ذلك بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يمتنع أن يحصل له الفضل بالاتباع. أقول: الأصل عدم الأمر، وإنما دلَّت الظواهر على إذنه - صلى الله عليه وسلم - لهم أن يُصلَّي معاذ معه، ثم يؤمَّهم. فإن ادَّعَى مدّعٍ أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر معاذًا أن ينوي بصلاته معه نافلة، وبصلاته بقومه الفرض، فعليه البيان، والأصل عدم ذلك. وفوق هذا، فقد جاء في رواية ابن جريج عن عمرو عن جابر: "هي له تطوع، ولهم المكتوبة" وقد تقدم الكلام مع من زعم أنها مدرجة. ¬

_ (¬1) (2/ 196).

فأما من قال: "ذاك ظنٌّ من جابر فلا حجة فيه" (¬1)، فقد دفعه ابن حجر في "الفتح" (¬2) بقوله: " ... مردود؛ لأن جابرًا كان ممن يصلّي مع معاذ، فهو محمول على أنه سمع ذلك منه، ولا يُظَنُّ بجابر أنه يخبر عن شخصٍ بأمر غير مشاهد، إلا بأن يكون ذلك الشخص أَطْلَعَه عليه". أقول: في هذا نظر، فقد يجوز أن يكون جابر بني على الظاهر، نعم، إذا كان هذا هو الظاهر عند جابر، وكان ممن يصلِّي مع معاذ، ففي ذلك دليل على أنه لم يكن عند القوم خبر بما يخالف ذلك، وهذا يدلُّ على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أذِنَ لهم أن يصلِّي بهم معاذٌ بعد أن يُصلَّي به، لم يأمر معاذًا بأن ينوي بالأولى النافلة، وبالثانية الفريضة؛ إذ لو أمره بذلك لأخبر قومه؛ ليعرفوا الحكم، ولئلا تكون صلاتهم مختلة، فإن الحنفية لا يجيزون صلاة المقتدي إذا كان يرى أن إمامه قد أدّى تلك الصلاة، وإنما يُعيدها نافلةً. ومن أجوبتهم: دعوى النسخ، واستدلُّوا على النسخ بقوله في تلك الرواية: "إما أن تُصلِّي معي، وإما أن تُخفِّف على قومك"، وقد تقدم الكلام عليه. واستدلُّوا أيضًا بحديث ابن عمر: "لا تُصلُّوا صلاةً في يوم مرتين" وقد تقدم الكلام عليه. واستدلُّوا بحديث: "الإِمام ضامنٌ"، وحديث: "إنما جُعِل الإِمام ليُؤتَمَّ به". وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) قاله الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 409). (¬2) (2/ 196).

فصل

فصل أجاب بعض أئمة الحنفية في الهند (¬1) عن حديث معاذ: بأن أصل القصة إنما هي أن معاذًا كان يُصلِّي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - المغرب، ثم يرجع إلى قومه، فيؤمُّهم في العشاء والصبح، فإن في حديث الترمذي (¬2): "أن معاذ بن جبل كان يُصلَّي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المغربَ، ثم يرجع إلى قومه، فيؤمُّهم". وفي "الصحيحين" (¬3): "كان معاذ بن جبل يُصلَّي مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم يرجع فيؤمُّ قومَه، فصلَّى بهم العشاء، فقرأ بالبقرة". وفي موضع في رواية الترمذي اختصار فلم يذكر العشاء، وفي حديث الصحيح اختصار فلم يذكر المغرب، فلما تعدّد اللفظ منهما تصرَّف فيه الرواة على حسب ظنونهم. أقول: قد تقدَّم الكلام على حديث الترمذي، ويكفيك أن تراجع الروايات، وتتدبَّرها, لتعلم حال هذا الجواب. والله المستعان. وأجاب هذا الإمام (¬4) عن حديث صلاة الخوف أن الصلاة التي قيل في حكايتها إنه صلَّى بطائفةٍ ركعتين، ثم صلَّى بطائفة ركعتين، فكان له أربع ركعات، ولكل طائفة ركعتان، ووقع في بعض الروايات زيادة "ثم سلم"، إنما المراد بها الصفة التي رواها صالح بن خوّات عمن شهد ذات الرقاع، أنه ¬

_ (¬1) هو الشيخ أنور شاه الكشميري في "فيض الباري" (2/ 229 - 230). (¬2) رقم (583). (¬3) البخاري (701) ومسلم (465). (¬4) "فيض الباري" (3/ 247).

صلَّى بطائفةٍ ركعةً ثم ثبت قائمًا، وأتمُّوا لأنفسهم وذهبوا، وجاءت الطائفة الأخرى فصلَّى بهم ركعةً، وثبتَ جالسًا حتى أتمُّوا لأنفسهم، ثم سلَّم. وإنما تجوَّز الراوي فاعتبرَ ثباتَ الإِمام قائمًا حتى صلَّت الطائفة الأولى ركعتها الثانية، ركعةً متابعة له أي الإِمام، وكذلك اعتبر ثباته جالسًا حتى صلت الطائفة الثانية ركعتها ركعة أخرى له. فالحاصل: أن الإِمام صلّى بالطائفة الأولى ركعة على الحقيقة، وانتظرها حتى صلَّت ركعة أخرى، فكان كأنه صلَّى ركعة أخرى، فتكون له ركعتان بهذا التجوُّز. ثم صلَّى بالطائفة الثانية ركعةً على الحقيقة، ثم انتظرها حتى صلَّت ركعة أخرى، فكان كأنه صلَّى ركعة أخرى. وأما زيادة "ثم سلَّم" في الوسط فتجوُّزٌ أيضًا، والمعنى أن الطائفة الأولى سلَّمت لأنفسها، فأضيف ذاك السلام إلى الإِمام. أقول: لا يخفى ما في هذا التأويل من البعد، مع أنه لا مُلْجِئَ إليه؛ لأن الرباعية تتكرَّر في اليوم ثلاث مرات، وقد يُحتاج في الغزوة الواحدة إلى صلاة الخوف في يومين وأكثر. والظاهر أن الصلاة التي صلّاها بنخلٍ ركعتين ثم ركعتين هي الظهر كما في رواية الشافعي وغيرها، وأن الصلاة التي صلّاها كما في رواية صالح بن خوّات عمن شهد هي العصر، وقد جاء مثلها عن جابر كما تقدم، ورواية قتادة عن سليمان بن قيس تُؤيِّد ذلك، وقد تقدَّم البحث فيها. وهبْ أنه لا دليلَ على هذا، فهو على الأقلّ محتملٌ احتمالًا ظاهرًا، وإذا كان كذلك فلا مُلجِئَ إلى ما ادّعاه هذا الإِمام من حمْلِ الكلام على التعمية والإلغاز. والله الموفق.

وقد يجاب: بأن في رواية قتادة عن سليمان بن قيس أن تلك الصلاة كانت قبل نزول آية النساء في صلاة الخوف، وأن الآية نزلت بعدها، وعلى هذا فهذه الصفة منسوخة. أقول: قد تقدَّم الكلام على رواية قتادة عن سليمان، وأن قتادة مدلِّس، فيجوز أن يروي عن سليمان ما سمعه من غيره مما ليس في الصحيفة، وعلى فرض أنه إنما يروي عنه من تلك الصحيفة، ففي جواز الاحتجاج بما في الصحيفة وحده نظر، مع أن اعتماد جماعة من الأكابر عليها يُقوِّي شأنها، ولكن الذي يظهر من اعتمادهم عليها إنما هو في الرواية، ولم يتبين اعتمادهم عليها في الاحتجاج. فأما فتوى الحسن بصلاة الخوف مرتين بكل طائفة مرة، فلعله إنما اعتمد في ذلك على روايته عن أبي بكرة، ولعل روايته عن جابر لم تكن عن الصحيفة، بل عن طريق غيرها، كما يظهر من زيادته في روايته: "ثم سلَّم"، وليس ذلك في رواية أبي بشر وقتادة، حتى إن قتادة لما أراد [أن] يروي بزيادة "ثم سلَّم" رواه عن الحسن عن جابر، كما مر. وقد تقدم أن رواية مجاهد عن أبي عيّاش الزُّرَقي معارضة لرواية قتادة عن سليمان في تاريخ نزول الآية، وإن لم يتضح التاريخ، وأن البخاري رجَّح تأخُّر غزوة ذات الرقاع، فتكون على هذا قصة جابر متأخرةً عن قصة أبي عيّاش، وكذلك رواية أبي بكرة، إن صحّ ما في بعض الروايات أنه شهد تلك الصلاة مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهي متأخرة عن نزول الآية [ق 23] حتمًا، وإلا فالأمر محتمل.

فإن قيل: مما يدلّ على تقدُّمِ هذه الصلاة على نزول الآية أنها مخالفة لظاهر الآية، فإن في الآية: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} [النساء: 102] فظاهر قوله: {فَإِذَا سَجَدُوا} الأمرُ بتأخُّرهم عقب الركعة الأولى. قلت: قد يحتمل أن يكون صالحًا للسجود في الأولى، والسجود في الثانية، فيكون ذلك صالحًا لهذه الصفة التي فيها أنه يُصلِّي بكل طائفة مرةً. وعلى فرض أنه صالح لها، فقد تقدم أن الصفة التي فيها صلاة الإِمام بكل طائفةٍ ركعة هي من القصر الذي أباحه الله عَزَّ وَجَلَّ أول هذه الآية، إذ قال سبحانه: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101]. فقوله بعد ذلك: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} إنما هو بيان لذلك القصر الذي أباحه، أو لبعض أنواعه، وإذا كان كذلك فليس الأمر لإيجاب هذه الصفة بعينها، لما علمتَ أنها بيان للمباح، بدليل اقتصاره على نفي الجناح. ومما يدل على هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد صلَّى بعد نزول الآية صلاة الخوف بأوجهٍ أخرى، منها ما يخالف ظاهر الآية. فبان بهذا أن تلك الصلاة التي فيها أنه صلَّى بهؤلاء مرةً، وبهؤلاء مرةً، أن فرض تقدمها على نزول الآية، فليس في الآية ولا في صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعض الأحيان بحسب ظاهر الآية ما يوجب نسخَ الصفة السابقة، فتدبر! والله الموفق.

فصل

فصل أجود ما رأيته للمانعين ما قاله العلامة الجليل شبِّير أحمد العثماني الحنفي في "شرحه لصحيح مسلم" فإنه ذكر ما يحتجُّ به أصحابه من حديث "الإِمام ضامن" (¬1) وحديث "إنما جُعل الإمام ليؤتمَّ به" (¬2) وقوله: "فلا تختلفوا عليه" (¬3)، ثم قال: ولا يخفى على المنصف الممعن أن مسألة الائتمام - أي متابعة المأموم للإمام - إنما كملت على لسان الشارع شيئًا فشيئًا ... ثم استشهد بقضية القراءة: أي أنهم كانوا أولاً يقرؤون خلف الإِمام، ثم أُمِروا بالاكتفاء بقراءته، وأنها تكون لهم قراءة. وبقصة معاذ: إذ كانوا أولاً يجيء المسبوق، فيبدأ بصلاة ما سبُق به لنفسه، ثم يدخل مع الإِمام فيما هو فيه، فخالفهم معاذ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن معاذًا قد سنَّ لكم" ثم قال: فينبغي أن يُحمَل كل ما جاء في الأحاديث مما ينافي مقتضى هذا الائتمام ولم يُعلَم تاريخه، على ما قبل أوامر الائتمام ونواهي الاختلاف. أقول: أما القراءة فلسنا نوافقه على مذهبه فيها، غاية الأمر أن بعض ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (7818) والترمذي (207) وابن خزيمة (1528) وغيرهم من حديث أبي هريرة، وإسناده صحيح. (¬2) أخرجه البخاري (722) ومسلم (414) من حديث أبي هريرة، وفي الباب عن أنس وعائشة وغيرهما. (¬3) ضمن الحديث السابق.

الصحابة كان يقرأ زيادة على الفاتحة خلف النبي - صلى الله عليه وسلم -[] فنهاهم، ولم يكن ذلك مشروعًا ثم نُسخ. وأما قصة معاذ: فأخرجها أبو داود وغيره (¬1)، وفيها كلام. وعلى كل حال، فينبغي أن نتدبَّر ما أشار إليه العثماني من الأوامر والنواهي، فإذا كانت دلالتها واضحةً على المنع من اقتداء المفترض بالمتنفل، بحيث لا يمكن الجمع بينها وبين أدلة المجيزين إلا بنسخ أحد [القبيلين] للآخر، فدلائل المنع أولى بأن تكون الناسخة. والله أعلم. ومما احتجوا به حديث: "الإِمام ضامن". قالوا: وصلاة المأموم لا تكون في ذمة الإِمام، فتعين أن يكون "ضامن" بمعنى متضمن، أي محتوٍ مشتمل، كما قال الشاعر (¬2): بالباعثِ الوارثِ الأمواتِ قد ضَمِنَتْ ... إيّاهم الأرضُ في دهرِ الدَّهاريرِ فالمعنى أن صلاة الإِمام متضمنة لصلاة المأموم بأن تكون صلاة المأموم في ضمن صلاة الإِمام. قالوا: والشيء لا يتضمّن ما فوقه، وإنما يتضمّن ما هو مثله أو دونه. أقول: لا يخفى أن "ضامن" بمعنى متضمِّن أي محتوٍ مشتمل، قليل في الاستعمال، ومع ذلك فالذي في الحديث "الإِمام ضامن"، فحَمْلُه على ¬

_ (¬1) سبق تخريجه والكلام عليه. (¬2) البيت للفرزدق في "ديوانه" (1/ 214) ولأمية بن أبي الصلت في "الخصائص" (1/ 307، 2/ 195).

معنى: "صلاة الإِمام ضامنة" محُوِجٌ إلى تقديرٍ الأصلُ عدمه، وفي تضمُّن الشيء ما هو مثله نظرٌ، والمعروف أن الشيء إنما يتضمن ما هو دونه، كما في تضمن الأرض للموتى. وعلى هذا، فيلزم من الحمل على هذا المعنى أن لا يصحَّ اقتداء المفترض بالمفترض، والمتنفل بالمتنفل. وقولهم: "صلاة المأموم لا تكون في ذمة الإِمام" إن سلم فذاك إذا حُمِل على ضمان الدين. والصواب أنّ ما في الحديث من باب ضمان العين، كما في ضمان العين المستعارة والمستأجرة والمستأجَر على إصلاحها، ويُؤيِّده قولُه عقبه: "والمؤذن مؤتمن"، وفي بعض طرقه زيادة "اللهم أَرشِدِ الأئمة، واغفر للمؤذنين" (¬1). وكما أن ضامن العين المالية يكون عليها بدلُها إذا تَلِفتْ، وأَرْشُ نقصِها إذا نقصتْ، على التفصيل المعروف في الفقه، فكذلك الإِمام ضامن لصلاة المأموم عليه بدلُها إذا تَلِفتْ بسببه، وأرْشُ نقصِها إذا نقصَتْ بسببه، غير أن البدل والأَرْشَ هنا إنما يُستوفى في الآخرة، فإذا كان الإِمام مُحدِثًا وهو يعلم ذلك، ولا يعلمه المأموم، فصلاة المأموم في نفس الأمر تالفة، والإمام ضامن لها غارم، ومعنى الغرامة - والله أعلم - أن الله عزَّ وجلَّ يكتب للمأموم صلاة صحيحة، ويَحْرِم الإمامَ ثوابَ صلاة من صلواته الصحيحة. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (7818) والترمذي (207) وابن خزيمة (1528) وغيرهم من حديث أبي هريرة. وإسناده صحيح.

أو قُلْ: يأخذ صلاةً من صلوات الإِمام الصحيحة، فيجعلها للمأموم بدلاً من صلاته التي أتلفها الإِمام، ويكون الإِمام مسؤولًا عن صلاته هذه التي صلّى وهو مُحدِث، وعن صلاته التي أُخِذت منه؛ لأنها إذا أُخِذت منه صار في معنى مَن لم يُصلِّها. وقِسْ على هذا، وكذلك في النقص. ومما يُؤيِّد هذا ما أخرجه الحاكم في "المستدرك" (1/ 216) وابن ماجه (¬1) من طريق عبد الحميد بن سليمان أخي فليح عن أبي حازم: أن سهل بن سعد كان يُقدِّم فتيانًا يصلُّون به، فقلت: أنت صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، [ق 24] ولك من الفضل والسابقة، تُقدِّم هؤلاء الصبيان، فيصلُّون بك؟ أفلا تتقدَّم فتصلِّي لقومك؟ فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الإِمام ضامن، فإن أتمَّ كان له ولهم، وإن نقصَ كان عليه ولا عليهم" فلا أريد أن أتحمَّلَ ذلك. لفظ الحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم، وأقرَّه الذهبي. كذا قال، مع أن عبد الحميد لم يُخرِّج له مسلم، وضعّفه ابن معين وابن المديني وغيرهما، وأحسنُ ما قيل فيه قول الإِمام أحمد: ما كان أرى به بأسًا (¬2) (¬3). ¬

_ (¬1) رقم (981). (¬2) انظر "تهذيب التهذيب" (6/ 116). (¬3) في موسوعة أقوال الإِمام أحمد: أنه سُئل عن حديثه فقال: "لا أدري، إلا أنه ما أرى كان به بأسًا" اهـ. هكذا بتقديم "أرى" على "كان".

وبالجملة، فهو كما قال ابن عَدي: ممن يُكتَب حديثُه، فيصلح للاستشهاد والاعتضاد. وقوله: "فإن أتمَّ كان له ولهم، وإن نقصَ كان له ولا عليهم" لها شواهد ذكر البخاري في "الصحيح" (¬1) بعضها في باب إذا لم يُتِمَّ الإِمام وأتمَّ مَن خلفه، وذكر ابن حجر في "فتح الباري" (¬2) بعضها. ووجه التفرقة بين الإِمام والمؤذن - والله أعلم - أن الذي يتعلق بالمؤذن شيء واحد وهو دخول الوقت، والعلم بذلك متيسر للناس، فيمكنهم إذا قصَّر المؤذن أو أخطأ أن يعرفوا ذلك بسهولة، ولا يضطرُّهم شيء إلى اتباع المؤذن إذا تبين لهم خطاؤه. وأما الإِمام فإنه يتعلق به أشياء كثيرة في الصلاة: فمن إخلاله وتقصيره ما لا يمكن أن يعرفه المقتدي، كالحدث الخفي، والنجاسة الخفية، والإخلال بقراءة الفاتحة في السرّية، وعدم الاطمئنان في الركوع والسجود، ولا سيّما في الظلمة، وغير ذلك. ومنه ما قد يعلمه المقتدي، ولا يمكنه الإتمام لنفسه، كترك الإِمام القراءة بالسور المستحبة، كالجمعة والمنافقين في عشاء الجمعة، والسجدة والدهر في صبحها. ومنها: ما يمكنه أن يُتِمَّه لنفسه، ولكن يفوته فيه فضل الاتباع، فإن فضل الصلاة في الجماعة ببضع وعشرين، فالسنة التي يؤديها الإِمام والمأموم معًا ¬

_ (¬1) (2/ 187) "مع الفتح". (¬2) (2/ 187).

كالتسبيح في الركوع والسجود يكون ثوابها - والله أعلم - بذلك التضعيف، فإذا تركها الإِمام، وأدَّاها المأموم فالأصل أن لا يكون له ذلك التضعيف، إلا أن يُعوَّضه الله عزَّ وجلَّ من حسنات الإِمام؛ لأن الفوات إنما جاء بتقصير الإِمام. فقوله: "الإِمام ضامن" لو انفردت كان الظاهر أن يتضمن ما تعمَّد الإخلالَ به، أو أخطأ ولكن لتقصيرٍ بيِّن. فأما إذا قُرنتَ بقوله: "والمؤذن مؤتمن" فإن ذلك يُشعِر بأن الإِمام يضمن وإن لم يُقصِّر، وذلك أن من الأشياء ما تُضمن بشرط التقصير كالوديعة، ومنها ما تضمن وإن لم يقصّر، كالمبيع في يد المشتري إذا عرض له نقص كقطع رجل الدابة مثلاً، ثم ظهر به عيب قديم، فأراد المشتري أن يردَّه، فإن النقص الحادث محكوم به على المشتري، وإن كان بدون تقصيره، والمؤتمن يضمن إذا قصَّر. فلو كان الإِمام لا يضمن إلا إذا قصَّر لكان مساويًا للمؤذن، فلما فرق بينهما فقيل: "الإِمام ضامن، والمؤذن مؤتمن" دلَّ ذلك على أن ضمان الإِمام أشدُّ، وتأكَّد ذلك بما في بعض الروايات: "اللهم أَرشدِ الأئمة واغْفِر للمؤذنين"، فدعا للأئمة بالإرشاد حتى لا يقع منهم إخلال، ودعا للمؤذنين بالمغفرة، وذلك يُشعِر بأن الأئمة إذا أخلُّوا فلا بدَّ من الضمان، وأما المؤذنون فيُرجَى أن لا يَضمَنوا، ولذلك دعا لهم بالمغفرة. هذا ما يُشعِر به هذا اللفظ، وأما حقيقة الحال فتُعلَم بالرجوع إلى الأصول القطعية. فإن قيل: وكيف يَضْمَن المتنفل، ويَغْرَم للمفترض؟ قلت: إذا رضي أن يكون إمامًا فقد التزم، فيلزمه ما التزم، وإن كان متنفلًا.

والمقصود أن الحديث ظاهر في هذا المعنى، وهو معنى صحيح لا غبار عليه، فلا وجهَ لحمله على ذلك المعنى البعيد، مع ما يلزم عليه مما مرّ. والله أعلم. [ق 25] ومما احتجوا به حديث: "إنما جُعِل الإمام ليؤتمَّ به". قال العثماني (¬1): "يدلُّ على أن الإِمام لا يكون إمامًا إلا إذا ربط المقتدي صلاتَه بصلاته، بحيث يُمكِنه الدخولُ في صلاته بنية الإِمام ... ". أقول: قد يقرّر هذا بأن الحديث دلّ على أن شرع الإِمام إنما كان للائتمام، وعُلِم بذلك أنه إذا انتفى الائتمام انتفى شرع الإمامة، والائتمام يشمل الائتمام في أصل الصلاة المَنْوبَّة وفي أعمالها، فإذا أراد مفترض أن يقتدي بمتنفل، قيل له: أنت غير مؤتمًّ به في أصل صلاتك فكيف تتخذه إمامًا أو أنت ناوٍ أن لا تأتم به في أصل صلاتك، فكيف يصحّ مع ذلك نيتك أن تتخذه إمامًا؟ والجواب: أنها قد تقدمتْ أدلة الجواز، واستقر الأمر على أن ذلك قد كان جائزًا صحيحًا يومًا ما في عهده - صلى الله عليه وسلم -، والأصل استمرار ذلك إلا أن يثبت ناسخ، فاعلم الآن أن هذا الحديث لا يصلح ناسخًا؛ لأنه صريح في أن شرع الإمامة لم يكن أصلاً إلا للائتمام، فالائتمام المراد فيه، إما أن يصدق بائتمام المفترض بالمتنفل على ما تقدم في أدلة الجواز وإما أن لا يصدق، الثاني باطل؛ لأنه قد ثبت الجواز والصحة بعد شرع الإمامة، كما تقدم في أدلة الجواز، فتعين الأول. ¬

_ (¬1) "فتح الملهم" (3/ 433).

فتقرر بهذا أنه يكفي في الائتمام في أصل الصلاة أن ينوي كلٌّ منهما الصلاة، وأن تتفق الصلاتانِ بأن لا تكون إحداهما صلاة جنازة، والأخرى ذات ركوع وسجود، ونحو ذلك مما هو مفصَّل في كتب الفقه. فإن قيل: سلَّمنا أن الحديث صريح في أن الإمامة إنما شُرِعت للائتمام، ولكنا نقول: هذه العلة لم يجب العمل بحسبها تمامًا من أول الأمر، بل كان الأمر على التدريج، فكأنه قيل: المقصود من شَرْعِ الإمامة هو الائتمام في كل شيء، ولكن في ذلك الوقت رُخِّص بالإخلال ببعض ذلك لحكمة التدريج. أو يقال: الإمامة إنما شُرِعت للائتمام، والائتمام يتفاوت، فاكتُفِي أولَ الأمر بائتمام غير كامل؛ لمصلحة التدريج إلى الائتمام الكامل. قلت: في هذا نظر من وجوه: الأول: أن الحديث وإن احتمل هذا المعنى، فهو محتمل لما قلنا، لعل ما قلنا أقرب. الثاني: أن التدريج إنما يقع في الشرع لمصلحة، كالتدريج في تحريم الخمر وغيره، وقد تظهر المصلحة في سنة معاذ، وذلك أن المسبوق يَشُقّ عليه أن يتابع الإِمام فيما هو فيه، ثم يقضي بعد ذلك ما فاته؛ لأنه قد يدركه في ثانية المغرب بحيث لا تحسب له تلك الركعة، وقد أتى ببعضها، فيحتاج إلى أن يتشهد معه التشهد الأول والثاني، وليسا محسوبَيْنِ له، ثم يقوم فيصلّي ركعة ويتشهد، ثم أخرى ويتشهد. وقريب من هذا قد يتفق في الصلوات الأخرى، فأما إذا بدأ فصلَّى

لنفسه حتى لحِقَ الإِمام فوافقه، فإنه يسلَّم معه، فرُخَّص لهم أولاً فيما يَخِفُّ عليهم، ومع ذلك فليس في ذلك مخالفةٌ لحديث: "إنما جُعِل الإِمام ليؤتمَّ به"؛ لأن المسبوق إنما كان يصلّي ما سبق به منفردًا قبل أن يجعل الإِمام إمامًا له، فإذا وصل إلى ما فيه الإِمام اتخذه إمامًا من حينئذ، ووافقه وتابعه. فأما اقتداء المفترض بالمتنفل: فلا يظهر لي فيه شيء من هذا القبيل. الثالث: أن العمل إذا شُرِع لمعنى، واقتضت الحكمة التدريج في إبلاغَ ذلك العمل غايتَه فالمعقول أن يرعى فيه أولاً المقصود الأهم، ويكون التدريج في الفروع. وأنتم تزعمون أن الموافقة في النية هي الأصل، حتى أن لا ينعقد عندكم إلا بها، فلو كان الأمر كما زعمتم لكان الظاهر أن يُهتمّ أولاً بالموافقة في النية، ويكون التدريج في الموافقة الظاهرة، فكيف وانعكس الحال؟! الرابع: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فصَّل في حديث: "إنما جُعِل الإِمام ليؤتمَّ به" أشياء، قال: "فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا صلَّى جالسًا فصلُّوا جلوسًا" وزاد في رواية: "فإذا كبَّر فكبَّروا ... وإذا سجد فاسجدوا" إلى غير ذلك. فنصَّ على المتابعة التي قد علموا أنها مشروعة، فلو أريد به نسخ جواز اقتداء المفترض بالمتنفل لكان أولى بأن ينصَّ عليه مما ذكر. الخامس: أنه نصَّ على المتابعة في الأفعال تفصيلاً، والمتابعة في النية على حسب دعواكم أهمُّ منها، فلو كان الأمر كما قلتم لكان النص على المتابعة في النية - على حسب دعواكم - أولى.

هذا، وقد نصّ في هذا الحديث على قوله: "وإذا صلّى جالسًا فصلُّوا جلوسًا" فبيَّن أن هذا من الائتمام الذي شُرِعت له الإمامة، وعندكم أن هذا منسوخ، وقال جماعة منهم أبو حنيفة وأبو يوسف والشافعي: إن الإِمام إذا صلَّى قاعدًا لعذرٍ وجب على المأموم إذا لم يكن معذورًا أن يصلَّي قائمًا، ولا يخفى فُحْشُ المخالفة في هذا. واتفقوا على صحة اقتداء المتنفل بالمفترض مع اختلاف النية، وهو مخالف قطعًا لهذا الحديث، لو كان شاملًا للائتمام في النية على ما قلتم في اقتداء المفترض بالمتنفل. واتفقوا على أن من المخالفة في بعض ما نصّ عليه في التفصيل ما لا يبطل الصلاة ولا القدوة، حتى ولو كانت لغير عذر، فما لم ينصّ عليه أولى. فغاية الأمر أن يكون اقتداء المفترض بالمفترض أولى من اقتدائه بالمتنفل؛ لمخالفته له في بعض النية، فإن كان لعذر ما فلا حرج، وبهذا تتفق الأدلة بدون حاجة إلى نسخ، ولا فسْخٍ. هذا، وفي "الفتح" (¬1): عن ابن حبان أن القصة التي في هذا الحديث - وهي أنه - صلى الله عليه وسلم - جُحِش شِقُّه الأيمن، فصلَّى جالسًا، فصلّى وراءه قوم قيامًا، فأشار إليهم أن اجلسوا، فلما سلّم قال: "إنما جُعِل الإِمام ليؤتمَّ به ... " - كانت في ذي الحجة سنة خمس. وعلى هذا فهي متقدمة على صلاته في الخوف بطائفةٍ ركعتين، ثم بطائفةٍ ركعتين؛ لأنها كانت بنَخْلٍ في غزوة محارب وثعلبة، وهي ذات الرقاع، فإن البخاري اختار أنها كانت بعد خيبر، ¬

_ (¬1) (2/ 178). وانظر "صحيح ابن حبان" (5/ 492).

واستدلّ على ذلك بأدلّة. والله أعلم. ومما احتجوا به قوله في بعض طرق هذا الحديث: "ولا تختلفوا عليه" (¬1). قال العثماني (¬2): "فإنه يشمل الاختلافَ عليه في الأفعال الباطنة". ويُجاب: بأن حقيقة اختلافهم عليه هو أن يكون بعضهم موافقًا، وبعضهم مخالفًا. ولفظ مسلم (¬3): "إنما جُعِل الإِمام ليؤتمَّ به، فلا تختلفوا عليه، فإذا كبَّر فكبِّروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهمَّ ربَّنا ولك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلَّى جالسًا فصلُّوا جلوسًا أجمعون". فقوله: "أجمعون" يعود - والله أعلم - إلى جميع الجمل قوله: "فإذا كبَّر فكبِّروا ... " وما بعدها. وقد علمتَ من الكلام على الدليل السابق جوازَ أن يصلِّي المأمومون كلهم مفترضين، والإمام متنفل، وأن ذلك ليس من الخلاف للائتمام الذي شُرِعت له الإمامة، فأولى من ذلك أن يكون بعضهم مفترضًا، وبعضهم متنفلًا. وبالجملة، فالتفصيل في الحديثين يدلُّ أن الموافقة والمتابعة المطلوبة ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) "فتح الملهم" (3/ 433). (¬3) رقم (414).

إنما هي في الصفة الظاهرة، فأما الباطن فأصل مقصود الشارع من الباطن الإخلاصُ والخضوع وصدق التوجه إلى الرب سبحانه، وكلّ مصلٍّ مأمورٌ بذلك، فإذا اتفقوا فيه فقد اتفقوا في كل شيء من مقصود الباطن. هذا، وإذا دقَّ عليك فهمُ بعض ما تقدم، فيكفيك أن تعلم أن غاية ما في قوله: "إنما جُعِل الإمام ليؤتم به" وقوله: "فلا تختلفوا عليه" أن يكون ظاهر اللفظ يتناول الموافقة في نية الصلاة فرضًا ونفلًا. ويجاب عنه: بأن هذا العموم - على تسليمه - مخصَّص بأدلة الجواز، وقد تقدَّم عن ابن حبان والبخاري ما يقتضي أن بعض أدلة الجواز متأخرة حتمًا عن هذا الحديث. وما ذكره العثماني من أنَّ الظاهر التأخرُ، لا يصادم النقل. فإن سُلِّم الجهل بالتاريخ، أو تأخَّر هذا الحديث عن أدلة الجواز، فالصحيح في الأصول: العمل بالتخصيص أيضًا، وقد تأكّد ذلك بأنه في التفصيل اقتصر على الأعمال الظاهرة، مع أن المتابعة فيها كانت معلومة عندهم، فلو أريد نسخُ جواز ائتمام المفترض بالمتنفل لكان النصّ عليه في التفصيل أولى وأحرى. وأيضًا، فهذا العموم - على تسليمه - قد خُصَّ عند جماعة منهم أبو يوسف وأبو حنيفة والشافعي، قالوا: إذا صلَّى الإمام جالسًا لم يجب الجلوس على المأموم، بل يجب عليه القيام في الفرض. بل خُصَّ بالنظر إلى اختلاف النية اتفاقًا، فأجازوا ائتمام المتنفل بالمفترض.

فصل

وكذلك دلالته على بطلان القدوة والصلاة أو إحداهما عند المخالفة غير سالم؛ لاتفاقهم على أن من المخالفة في بعض ما نصّ عليه في التفصيل ما لا يبطل الصلاة ولا القدوة، ولو لم يكن للمخالف عذر. [ق 26] فصل مما يُستدل به لصحة اقتداء المفترض بالمتنفِّل: قصةُ عمرو بن سَلِمة الجَرْمي أنه كان يؤمُّ قومَه في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ست أو سبع سنين. أخرجه البخاري في "الصحيح" (¬1) في المغازي آخر الأبواب المتعلقة بفتح مكة، وفي "سنن" أبي داود (¬2) ما يدلُّ أنه استمرَّ على ذلك، فإن فيها عن عمرو أنه قال: "فما شهدتُ مجمعًا من جَرْمٍ إلا كنتُ إمامَهم". وقد أجيب عن هذا بأنه لم يُنقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علم بذلك. ورُدَّ بأن ذلك كان في زمن نزول الوحي، وقد قال جابر: "كنا نَعزِل والقرآن ينزل" (¬3). وقد تقدم تقرير ذلك في الكلام على قصة معاذ. أقول: في قصته أنه كان قبل إسلام قومه يمرُّ بهم الركبان، فيسمع منهم القرآن فيحفظه، فحفظ قرآنًا كثيرًا، ولما وفد قومه، ثم أرادوا أن ينصرفوا، قالوا: يا رسول الله! فمن يؤمُّنا، قال: "أكثركم جمعًا للقرآن، أو أخذًا للقرآن". قال: فلم يكن [أحدٌ] من القوم جمَعَ ما جمعتُ، فقدَّموني. هكذا ¬

_ (¬1) رقم (4302). (¬2) رقم (587). (¬3) سبق تخريجه.

في "سنن" أبي داود (¬1). وفي "التهذيب" (¬2): "روى ابن منده في كتاب "الصحابة" حديثه من طريق صحيحة، وهي رواية الحجاج بن المنهال عن حماد بن سلمة عن أيوب عن عمرو بن سَلِمة قال: كنتُ في الوفد الذين وفدوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقد روى أبو نعيم في "الصحابة" (¬3) من طُرقٍ ما يقتضي ذلك، وقال ابن حبان (¬4): له صحبة. أقول: إن صحَّ ذلك فالذي يقتضيه العادة أن يكون أبوه عرضه على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأخبره بما حفظه من القرآن. وعليه، فيكون قوله - صلى الله عليه وسلم - لما سألوه عمن يؤمُّهم: "أكثركم جمعًا للقرآن" كالنص عليه. والله أعلم. ¬

_ (¬1) رقم (585 - 587). (¬2) "تهذيب التهذيب" (8/ 42، 43). وانظر "الإصابة" (7/ 398). (¬3) "معرفة الصحابة" (3/ 415، 416). (¬4) في "الثقات" (3/ 278).

الرسالة السابعة بحث في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه في صلاته بقومه

الرسالة السابعة بحث في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه في صلاته بقومه

(أقول: معنى هذا بنحو لفظه في رواية ابن عيينة في "صحيح مسلم" (¬1) وغيره، وقد تقدم). ففيه - كما نرى - شكاية التأخير، ثم التطويل، فأرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذًا إلى إزالة شكواهم بأن يكتفي بأداء صلاته مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ويترك الإمامة، أو بأن يُخفِّف على قومه. ولما كان التشديد عليهم من وجهين يحصل التخفيف أيضًا بأمرين: أن لا يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فتزول الشكوى بالتأخير والانتظار الشديد. وفي رواية البزار: "لا تكن فتَّانًا تَفْتِن الناس، ارجعْ إليهم فصلِّ بهم قبل أن يناموا". "مجمع الزوائد" (ص 195) (¬2). ويقرأ أوساط السور لتزول شكوى التطويل. فالتخفيف هنا مقابل التشديد الذي ذكروه، فيشمل التعجيل في الإتيان إلى الصلاة، والاختصار في القراءة. وبمجموعهما يحصل الأمن من تفتين القوم. قال عبد الرحمن: لا شك أن شكواهم - على ما في رواية ابن عيينة الصحيحة, ورواية معاذ بن الحارث المرسلة - كانت من أنه يتأخَّر ثم يُطوِّل. وهذا يحتمل أمرين: الأول: أن تكون الشكوى من الجمع بين الأمرين، فلو تأخَّر وخفَّف، أو ¬

_ (¬1) رقم (465) من حديث جابر بن عبد الله في قصة معاذ بن جبل رضي الله عنه. (¬2) (2/ 133) من حديث جابر بن عبد الله. قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح خلا معاذ بن عبد الله بن حبيب، وهو ثقة لا كلام فيه.

تقدَّم وطوَّل لم يشكُوا. الثاني: أن تكون من كل منهما، حتى لو تقدَّم وطوَّل أو تأخَّر وخفَّف ما زالت شكواهم. فإن بنينا على الأول كان معنى "إما أن تُصلِّي معي وإما أن تُخفِّف على قومك": إما أن تصلِّي معي وتَدَعهم يقدَّمون غيرك فيصلي بهم قبل رجوعك، فيحصل التخفيف عنهم بالتعجيل، وإما أن تُخفِّف بهم إذا أبيت إلاَّ أن تصلي معي ثم تؤمَّهم. وإن بنينا على الثاني كان المعنى: إما أن تصلِّي معي وتدعَهم يؤمُّهم غيرك فيعجِّل بهم ويخفِّف، وإما أن لا تصلَّي معي فتؤمَّهم فتعجِّل بهم وتخفَّف. فأما الأول فواضح أنه ليس فيه المنع من أن يصلي معه - صلى الله عليه وسلم - ثم يصلي بهم، وإنما فيه المنع من أن يصلِّي معه - صلى الله عليه وسلم - ثم يطوِّل بهم. وأما الثاني ففيه المنع من أن يصلِّي معه - صلى الله عليه وسلم - ثم يصلي بهم، ولكن مغزى المنع إنما هو [] (¬1) التشديد عليهم بالتأخير. هذا واضح لا غبار عليه. وإذا كان كذلك فلا دلالة في العبارة المذكورة على المنع لمغزًى آخر. وعليه، فسكوت النبي - صلى الله عليه وسلم - حينئذٍ عن بيان امتناع أن يؤمَّ القوم في أداء فريضتهم من قد أدَّاها = دليل واضح على جواز ذلك. فأما إذا فرضنا أن الفريضة إنما هي واحدة ولكن كانت تعاد، فإعادتها غير مفروضة، فليست المعادة بفريضة. ¬

_ (¬1) كلمة غير واضحة, وكأنها: "استلزام".

على أن قصة أهل العوالي - مع إرسالها - قد قدّمنا أن ظاهر ذلك المرسل النهيُ عن أن يعيد ثم يعيد، بأن يصلِّيها أولاً ثم يعيدها ثم يعيدها، وهذا لا ينفع المانعين بل يضرهم بمفهومه؛ لأن النهي عن إعادتها مرتين يُفْهِم صفة الإذن بإعادتها مرة. وقدمنا أن حديث ابن عمر يتفرد به حسين المعلم، وقد روي عنه بلفظ "لا تُعاد الصلاة في يوم واحد مرتين"، وهذا اللفظ ظاهره لفظ المرسل المذكور. وروي أيضًا بلفظ: "لا صلاة مكتوبة في يوم مرتين"، وهذا اللفظ يحتمل احتمالاً ظاهرًا توجُّه النفي إلى كونها مكتوبةً مرتين، فيكون حاصله أن من صلَّى الفريضة مرة فقد أدّى ما عليه، ولا يُفرض عليه إعادتها. فهذه الألفاظ مختلفة المعاني، ولا يُدرى أيّها قال النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلا يصلح أن يحتجَّ بما يكون معنى [في] (¬1) بعضها دون الباقي؛ لاحتمال أن ذلك اللفظ لم يقله النبي - صلى الله عليه وسلم -. هذا، وقد تقدَّمتْ دلائل الإعادة. ومنها ما كان في آخر حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومنها ما أمر أصحابه أن يعملوا به من بعده. وهَبْ أن حديث ابن عمر صحَّ بلفظ صريح في النهي عن الإعادة، فتاريخه مجهول، وغايته أن يكون عامًّا يُخصُّ منه ما قام الدليل على خصوصه، ومنه قصة معاذ وما في معناها. وجعل بعضهم الناسخ هو ما جاء في مرسل معاذ بن الحارث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ: "إما أن تصلِّي معي وإما أن تُخفِّف على قومك". ¬

_ (¬1) كلمة غير واضحة ولعلها كذلك.

وأجيب عن هذا بأنه مرسل لم يأتِ هو ولا معناه في شيء من الروايات الموصولة، حتى الرواية التي يُشبه سياقُه سياقَها. أعني رواية عبيد الله بن مِقْسم التي تقدمت عن أبي داود والبيهقي. ومع ذلك، ففي معنى هذه العبارة نظر. حكى ابن حجر في "الفتح" (¬1) عن الطحاوي أن معناها: "إما أن تصلِّي معي ولا تصلِّ بقومك، وإما أن تُخفِّف بقومك ولا تُصلِّ معي". قال ابن حجر: "لمخالفِه أن يقول: إن التقدير: "إما أن تصلِّي معي فقط إذا لم تخفِّف، وإما أن تخفِّف بقومك فتصلِّي معي"، وهو أولى من تقديره؛ لما فيه من مقابلة التخفيف بترك التخفيف, لأنه المسؤول عنه المتنازع فيه". وذكر بعض أئمة الحنفية بالهند أن هذا من باب ما حكاه الله عزَّ وجلَّ عن المشركين من قولهم: {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} [سبأ: 8]. فأصلُ مقصودهم: افترى أم لم يفترِ، ولكن أُقِيمَ {أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} مقام "أم لم يفترِ"؛ لاستلزام الجنون عدمَ الافتراء. فكذلك هنا المقصود: إما أن تصلّي معي، وإما أن لا تصلِّي معي، ولكن أقيم التخفيف بقومه مقام عدم الصلاة مع النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن التخفيف بقومه إنما يكون مع صلاته بهم، وصلاته بهم تستلزم عدم صلاته مع النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ للمنع من أن يؤمَّ الناس في أدائهم فريضتَهم مَن قد أدَّاها. أقول: وفَهْم هذا المعنى يتوقف على سبق العلم بالمنع المدَّعَى، على ¬

_ (¬1) (2/ 197).

أنه يردُّه أن سياق هذه الجملة هكذا: "يا معاذ بن جبل، لا تكن فتّانًا، إما أن تصلّي معي، وإما أن تخفِّف على قومك". وذلك واضح في أن قوله: "إما أن تصلّي معي، وإما أن تخفِّف على قومك" إنما هو إرشاد إلى اجتناب ما تُخشَى منه الفتنة من التشديد. وقد قال العلامة المحقق شبير أحمد العثماني الحنفي في "شرحه لصحيح مسلم" (¬1): "والظاهر من مجموع الروايات أنهم يَشْكُون تأخير معاذ في مجيئه إلى الصلاة؛ لصلاته مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، حتى كان ينام القوم ويشقّ عليهم الانتظار، ثم قراءته السور الطويلة، وهذا صريح في سياق أحمد (يعني في مرسل معاذ بن رفاعة)، وفي بعض روايات حديث الباب: فقال الرجل: يا رسول الله، إنك أخَّرتَ العشاء، وإن معاذًا صلَّى معك، ثم أمَّنا وافتتح سورة البقرة، وإنما نحن أصحابُ نواضِحَ نعملُ بأيدينا" اهـ. "تلخيص الحبير" (ص 126) (¬2). وقرر العثماني النسخَ بأن أحكام الإمامة إنما تمَّتْ على لسان الشارع شيئًا فشيئًا، فقد كانوا أولاً إذا جاء الرجل والإمام في الصلاة سأل: كم قد صلَّوا؟، فيشار إليه بذلك، فيبدأ فيصلِّي ما سُبِق به، حتى يدرك الإِمام فيوافقه فيما بقي، ثم نُسِخ ذلك وأُمِروا بالمتابعة. وكانوا أولاً يقرؤون خلف الإِمام، ثم نُسِخ ذلك، وجُعِلتْ قراءة الإِمام قراءةً للمأموم. ¬

_ (¬1) (3/ 431). (¬2) (2/ 41) ط. النمنكاني.

فصل

قال: "فينبغي أن يُحمل كل ما جاء في الأحاديث مما ينافي مقتضى هذا الائتمام - ولم يُعلَم تاريخه - على ما قبل أوامر الائتمام ونواهي الاختلاف". أقول: سيأتي إن شاء الله تعالى النظر فيما ذكروه من أوامر الائتمام ونواهي الاختلاف، وهناك يُنظَر فيما ذكره العثماني إن شاء الله تعالى. فصل ذهب بعض أئمة الحنفية بالهند (¬1) إلى أن أصل القصة إنما هي أن معاذًا كان يصلَّي المغرب مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم يرجع إلى قومه فيصلّي بهم العشاء. واستدل بما روي عن جابر: "كنا نصلِّي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المغرب، ثم نأتي بني سلمةَ ونحن نُبصِر مواقعَ النَّبْل". "مسند" (3/ 382) (¬2). فهذه عادة بني سلمة قومِ معاذ، فلا بد أن تكون عادة معاذ أيضًا، كيف وقد جاء ذلك نصًّا في حديث الترمذي (وقد مرَّ)، ولكن حُذِفَت كلمة المغرب من العبارة، فصارت هكذا - مثلاً -: "كان معاذ يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - (المغربَ)، ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم العشاء، فصلَّى بهم ليلةً فقرأ بالبقرة ... ". فلما حُذِفت كلمة "المغرب" توهَّم السامعون أن المراد: "كان معاذ يصلِّي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - العشاء، ثم يرجع إلى قومه فيصلِّي بهم العشاء". فلما توهَّموا هذا تصرَّفوا في الألفاظ، على قاعدة الرواية بالمعنى. يقول عبد الرحمن: ليس فيما ذكره ما يَصلُح للتشبث، فإنه إن ثبت أن معاذًا كان يصلِّي المغرب مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم يرجع إلى قومه فيصلَّي بهم ¬

_ (¬1) هو الشيخ أنور شاه الكشميري كما سبق (ص 222). (¬2) (23/ 319) (15096) ط. الرسالة. وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه (337).

المغرب، كما فهمه الترمذي وتقدم بيانه، فهذا غير مخالف لعادة قومه، بل هو موافق لها، فإن ادعى أن بني سلمة كانوا كلهم يصلُّون المغرب مع النبي - صلى الله عليه وسلم - طُولِب بالحجة. فإن قال: قد ثبت في الصحيحين (¬1) وغيرهما أن بني سلمة كانت منازلهم بعيدة من مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأرادوا أن يتحوَّلوا إلى قرب المسجد، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا بني سلمة، ألا تحتسبون آثاركم! "، وفي رواية: " دياركم، تُحسب آثاركم". فالجواب: أنه لا يلزم من ذلك أنهم كانوا بعد ذلك يحضرون كلهم. فإن زعمتَ ذلك فارفض الحديث من أصله، وقيل: إنه لم يكن لبني سلمة مسجد، ولا صلَّى بهم معاذ قطُّ!! فأما حديث جابر في حضورهم المغرب، فليس فيه أنهم كانوا يحضرون جميعًا، فالحق أنه كان منهم من يحضر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في المغرب والعشاء وغيرهما، ومنهم من يتأخر فيصلُّون في مسجدهم، كما كان شأن غيرهم من العشائر في المدينة. فقد كان بالمدينة عدة مساجد يُصلَّى فيها، والأحاديث في ذلك معروفة. هذا، وفي "الفتح" (¬2): "ولابن مردويه ... عن أبي نضرة عنه (يعني جابرًا) قال: كانت منازلنا بسَلْعٍ. ولا يعارض هذا ... لاحتمال أن تكون ديارهم كانت من وراء سَلْعٍ، وبين سَلْعٍ والمسجدِ قدرُ ميل". ¬

_ (¬1) البخاري (655) ومسلم (665) من حديث أنس. (¬2) (2/ 140)

وعلى هذا، فكان معاذ ومن خفَّ من بني سلمة يشهدون المغرب مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم يأتون بني سلمة وهم يبصرون مواقع النَّبل, فيصلِّي معاذ بالذين تأخَّروا، ثم يتأخَّر في شغلٍ إن كان له، ثم يَخِفُّ هو وجماعة فيشهدون العشاء مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم يرجعون إلى بني سلمة، فيصلي معاذ العشاء بالذين تأخروا. فإن قيل: وكيف يؤخِّر المتأخرون المغرب هذا التأخير؟ قلت: وأيُّ تأخيرٍ إذا كان معاذ يأتيهم والرامي يرى موقع سهمه؟! والظاهر أنه كان إذا اتفق أن يتأخر أكثر من ذلك قدَّموا غيره. هذا كله إذا بنينا على أن معاذًا كان يصلِّي المغرب مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم يعود فيصلِّيها بقومه، كما اقتضاه حديث الترمذي وعمومُ غيره من الروايات، كما تقدم. فأما إذا وافقنا مسلمًا على أن في حديث قتيبة وهمًا، وأن الصواب كما رواه أبو الربيع، وأخرجنا المغرب من عموم الروايات العامة، أو حملناها كلها على خصوص العشاء = فأيُّ مانع من أن يكون معاذ كان يعتاد عدم الرجوع إلى قومه بعد المغرب، أو أيُّ مانع من أن يكون كان يعود إليهم، ثم يرجع إلى مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - لصلاة العشاء، ثم يعود إلى قومه؟ فقد كان معاذ شابًّا نشيطًا حريصًا على الخير، فلا وجه لأن نقيسه على أنفسنا في عجزنا وكسلنا. ولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجِّل العشاء تعجيلنا. ومع هذا، فإن ما ذهب إليه من توهيم الرواة يلزم منه وهمهم جميعًا، فإن الروايات على كثرتها ليس فيها رواية واحدة تحتمل ما قاله احتمالاً قريبًا. حتى رواية قتيبة عند الترمذي، فإن ظاهرها ما فهمه الترمذي، بل لا

تكاد تظهر فائدة إن قيل: كان معاذ يصلِّي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - المغرب، ثم يعود فيصلِّي بقومه العشاء. ولو قيل هكذا لكان ظاهره أنه لم يكن بين صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - المغرب وبين صلاة بني سلمة العشاء إلا مقدار المسافة! وهذا باطل اتفاقًا. وهَبْ أن العالم لا يخشى على دينه من ارتكاب مثل هذه التأويلات، فينبغي له - على الأقل - أن يستحضر أن ارتكابه لها يُجرِّئ مخالفيه على ارتكاب مثلها في معارضته، ولا سيما المخالفين في أصول الدين من أهل البدع، بل والكفار أيضًا، فيحرِّفون السنن الصحيحة كيفما شاء لهم الهوى، فإذا قيل لهم: هذا تأويل بعيد، قالوا: إن في كلام أئمتكم تأويلاتٍ مثله أو أبعد منه. هذه نفثةُ مصدورٍ، والله عليم بما في الصدور. اللهم يا مقلِّب القلوب ثبِّتْ قلبي على دينك، واهْدِني لما اختُلِفَ فيه من الحق بإذنك، واجعلْ هواي تبعًا لما جاء به نبيك - صلى الله عليه وسلم -. ***

فصل

فصل اعتذر القائلون بمنع أن تؤدَّى الفريضة خلف من قد أدّاها بأمور: منها: أن ما فعله معاذ كان بغير علم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلا حجة فيه. والجواب: أننا إن أخذنا بمذهب جابر وأبي سعيد إذ قالا: "كنا نَعزِلُ والقرآن ينزل، لو كان شيئًا يُنهى عنه لنهى عنه القرآن". فإن هذا العذر واضح. وتقرير مذهبهما في هذا: أنه كما تقرر عند أهل العلم أن تقرير النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة، فأولى منه تقرير الله عزَّ وجلَّ في الوقت الذي يكون فيه الواسطة - وهو الرسول - بين أظهر الناس. ويؤيده ما ثبت من أن الصحابة كانوا مَنْهيِّين عن سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن ذلك يستلزم أن يكون مأذونًا لكلًّ منهم أن يعمل بما يظهر له في الحكم، وإن كان عنده فيه تردُّد. وإنما ذلك لأن الله عزَّ وجلَّ رقيب عليهم، والرسول بين أظهرهم، فإذا علم الله عزَّ وجلَّ خطأهم في شيء أوحى إلى رسوله ما يبين به الحكم. وسيأتي إن شاء الله تعالى النظر في ما ذكروا أنه حجة على ما ذهبوا إليه. وإن لم نذهب هذا المذهب فإننا نقول: ظاهر الروايات أن صلاة معاذ بقومه الصلاةَ [التي] قد صلَّاها مع النبي - صلى الله عليه وسلم - تكرر كثيرًا، وأن معاذًا كان كأنه الإمام الراتب لبني سلمة، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - مما يتعاهد الأنصار في أمر دينهم، وكانوا مما لا يكادون يصنعون في دينهم إلا ما يثقون بصحته، والظاهر أنهم لم يكونوا يبنون مسجدًا ولا يُرتِّبون إمامًا إلا بعد استئذان النبي

- صلى الله عليه وسلم -، وقد كان في بني سلمة رجال من أهل العلم والدين، ذُكر في "الفتح" (¬1) عن ابن حزم: أنه كان فيهم ثلاثون عَقَبيًّا وأربعون بدريًّا. ولا يحفظ عن غيرهم من الصحابة امتناع ذلك، بل قال منهم بالجواز: عمر، وابن عمر، وأبو [الدرداء وأنس وغيرهم] (¬2). ومعاذ نفسه جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أعلم الأمة بالحلال والحرام (¬3)، وأنه يأتي يوم القيامة أمام العلماءِ بِرَتْوةٍ (¬4)، وهو أول من سنَّ متابعة الإمام ... وهم في الصلاة، فقال: لا أراه على حال إلا كنت عليها، فدخل في الصلاة، ووافق النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فيما هو فيه، فلما سلَّم النبي - صلى الله عليه وسلم - قام معاذ فأتمَّ ما فاته، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن معاذًا قد سنَّ لكم" (¬5)، فأمرهم بمثله ... هذا، وسيأتي ما يُعلَم منه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرَّر معاذًا وبني سلمة على ما كان منهم. وقد ذهب جمعٌ من أهل العلم إلى أن قول الصحابي بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة، فأولى منه قوله في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه يكون أبلغ تحريًا واحتياطًا، كما لا يخفى. هذا مع انضمامه إلى ما تقدم. ¬

_ (¬1) (2/ 196) (¬2) كلمات لم تظهر في التصوير. والمثبت من "الفتح". (¬3) أخرجه الترمذي (3790، 3791) من حديث أنس. (¬4) أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (58/ 406) من حديث أبي عون الثقفي مرسلًا. (¬5) أخرجه أحمد (22124) وأبو داود (506) وغيرهما من حديث معاذ.

وسيأتي إن شاء الله تعالى النظر فيما ذكروا أنه يُعارِض ذلك. هذا، وفي هذا الحديث كرواية ابن عيينة وغيره أن القوم أخبروا النبي - صلى الله عليه وسلم - , ثم يصلِّي بهم، ولم يثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنكر عليهم ذلك، بل ظاهر أكثر الروايات أنه أقرَّهم على فعلهم، وإنما أنكر على معاذ التطويل. وما أوردوه مما يعتبر أنه إنكار، وهو ما في رواية ... (¬1) لم يصح، [بل هو] مرسل، ولم يقع في الرواية المتصلة، حتى رواية عبيد بن مقسم التي يُشبِه سياقها سياقَ ذلك المرسل، ولو صح ذلك القول فلا دلالة فيه على المدعَى، كما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. ومنها: أنه يحتمل أن يكون هذا كان في الوقت الذي كانت الفريضة فيه تُصلَّى مرتين. قاله الطحاوي. قال في "الفتح" (¬2): "أي فيكون منسوخًا"، وقال: "تعقبه ابن دقيق العيد بأنه يتضمن إثبات النسخ بالاحتمال، وهو لا يسوغ، وبأنه يلزمه إقامة الدليل على ما ادعاه من إعادة الفريضة". ثم ذكر أن الطحاوي ذكر دليله، وهو حديث ابن عمر مرفوعًا: "لا تُصلُّوا الصلاةَ في اليوم مرتين"، ومرسل خالد بن أيمن، وصدقة بن المسيب في قصة العوالي، وقد ذكرتها فيما تقدم. أقول: الظاهر أن ابن دقيق العيد إنما طالب بالدليل على أن الفريضة كانت تُعاد فريضةً، أي أنه كان مفروضًا صلاتها مرتين، فإن هذا هو الذي ينفع الطحاوي. ¬

_ (¬1) هنا كلمات غير واضحة. (¬2) (2/ 196).

فيقال: كان معاذ يصلِّي مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي فريضة عليه، ثم يعيدها بقومه وهي فريضة عليه أيضًا. ولا دلالة في حديث ابن عمر وقصة أهل العالية على هذا.

الرسالة الثامنة حقيقة "الوتر" ومسماه في الشرع

الرسالة الثامنة حقيقة "الوتر" ومُسماه في الشرع

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي لا تنحصر مواهبُه، ولا تنقطع رغائبُه، ولا تُقلِعُ عن الجود سحائبُه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً تثبت حقَّ الإيمان، وتُذهِب كيدَ الشيطان، وتوجب رضا الملك الديّان. وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه الذي به استقام من الحق سبيلُه، ومُحِيَتْ شُبَهُ الشرك وأباطيلُه. اللهمّ صلِّ على محمدٍ نبيك الأمين، وآله المطهَّرين، وأصحابه الهُداة المهديين، والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلِّم تسليمًا كثيرًا. أما بعد، فإنه لمّا كان أوائل رمضان سنة 1342 سألني بعض الإخوان عن شيء من أحكام الوتر المختلف فيها، طالبًا بيانَ الراجح من الأقاويل مع بيان الدليل. ولما أخذتُ أتصفَّح الأدلة وجدتُ أحكام الوتر آخذًا بعضُها برقابِ بعضِ، فانجرَّ بي الحالُ إلى توسعة المجال، فعزمتُ - متوكلًا على الله تعالى - على جمع كتابٍ يشتمل على عامة أحكام الوتر. على أن الباع قصير، والجناح كسير، ولكن لي في الله سبحانه وتعالى حُسن الظنَّ وصادق الرَّجاء، والفضلُ بيد الله يؤتيه من يشاء. قال الحافظ في "الفتح" (¬1): (فائدة) قال ابن التين: اختلف في الوتر في سبعة أشياء: في وجوبه، وعدده، واشتراط النية فيه، واختصاصه بقراءة، واشتراط شَفْعٍ قبلَه، وفي آخر وقته، وصلاته في السفر على الدابة. قلت: وفي قضائه، والقنوت فيه، وفي محلّ القنوت منه، وفيما يقال فيه، وفي فصله ووَصْله، وهل تُسَنُّ ركعتان قبله؟ وفي صلاته من قعود. لكن هذا ¬

_ (¬1) (2/ 478).

مقدمة في حقيقة الوتر

الأخير ينبني على كونه مندوبًا أو لا. وقد اختلفوا في أول وقته أيضًا، وفي كونه أفضل صلاة التطوع، أو الرواتب أفضل منه، أو خصوص ركعتي الفجر. هـ. مقدمة في حقيقة الوتر الوتر عند أصحابنا صلاةٌ مندوبة مؤكَّدة، أقلُّها ركعة، وأكثرها إحدى عشرة، وقتها ما بين العشاء والفجر. ولا فرقَ عندهم في إطلاق الوتر على الإحدى عشرة بين فَصْلها بتسليمةٍ واحدةٍ وفَصْلها بأكثر. وأما تحقيق حقيقة الوتر في السُّنَّة فنقول: بعد استقراء الأحاديث والآثار تلخَّص لنا أن الوتر قد أُطلِق على ثلاثة معانٍ: أولها: أن يُطلَق مرادًا به صلاةُ الليل التي غايتها ثلاث عشرة، سواءٌ صُلِّيتْ وصلًا أو فصلاً، وعلى هذا حديث الحاكم والبيهقي ومحمد بن نصر (¬1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا توتروا بثلاثٍ تُشبِّهوا بالمغرب، ولكن أوتروا بخمسٍ أو بسبعٍ أو بتسعٍ أو بإحدى عشرة أو بأكثر من ذلك". وعليه أيضًا حديث أحمد وأبي داود (¬2) بإسنادٍ صحيح عن عائشة وقد سُئلتْ: بكَمْ كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُوتر؟ فقالت: كان يُوتر بأربعٍ وثلاث، وستٍّ وثلاث، وثمانٍ وثلاث، وعشرٍ وثلاث، ولم يكن يُوتِر بأنقصَ من سبعٍ ¬

_ (¬1) "المستدرك" (1/ 304) و"السنن الكبرى" (3/ 31) و"مختصر قيام الليل وكتاب الوتر" (ص 125) من حديث أبي هريرة. (¬2) "المسند" (25159) وأبو داود (1362).

ولا بأكثر من ثلاثَ عشرةَ. وهذا الوجه هو الأقرب لمذهبنا. الثاني: أن يُطلَق مرادًا به الركعة الفردة، سواء أوقعتْ موصولةً أو مفصولةً. وعلى هذا حديث الصحيحين (¬1) - واللفظ لمسلم -: "صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشيتَ الصبح فأوتِرْ بركعةٍ". وعليه حديث مسلم (¬2) عن ابن عمر وابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الوتر ركعة من آخر الليل". هكذا ورد عنهما. وقد رواه أبو داود والنسائي (¬3) كلاهما بإسنادٍ صحيح تحت ترجمة (باب كم الوتر)، ولفظه: عن ابن عمر أن رجلاً من أهل البادية سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صلاة الليل، فقال بإصبعَيْه هكذا "مثنى مثنى، والوتر ركعةٌ من آخر الليل". ولا يخفى أن تعريف المسند إليه ظاهره الحصر، فهو في قوةِ "ليس الوتر إلا ركعة من آخر الليل". مع أنه قد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصلَ بين ثلاثٍ وبين خمسٍ وبين سبعٍ وبين تسعٍ. والجمعُ بين ذلك أن الوتر في قوله: "الوتر ركعة من آخر الليل" يُرادُ به تلك الركعة الفردة وإن وُصِلَتْ. الثالث: أن يُطلَق مرادًا به ما كان وترًا بتسليمةٍ واحدةٍ، سواءً أكان واحدةً أو ثلاثًا أو خمسًا ... إلخ. وعلى هذا أكثر الأحاديث. ¬

_ (¬1) البخاري (1137) ومسلم (749/ 146) عن ابن عمر. (¬2) رقم (753). (¬3) أبو داود (1421) والنسائي (3/ 233).

منها حديث عائشة عند أحمد والشيخين (¬1) بلفظ: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلَّي من الليل ثلاثَ عشرةَ ركعةً يوتر بخمسٍ". ومنها حديثها المتفق عليه (¬2): "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلِّي وأنا راقدةٌ معترضةٌ على فراشِه، فإذا أراد أن يُوتِر أيقظَني فأوترتُ". وفي رواية لمسلم (¬3): فإذا أوتر قال: "قُومي فأوتري يا عائشة". وفي روايةٍ له أيضًا (¬4): فإذا بقي الوترُ أيقظَها فأوترتْ. أقول: وقد رأيت أن أقدَّم تحقيق حقيقة الوتر، أعني المعنى الذي يكون إطلاقُ لفظ الوتر عليه حقيقةً شرعية، ثم أشرعُ في بيان الوجوه المختلَف فيها، مفردًا كلَّ وجهٍ بمقالةٍ إن شاء الله تعالى. **** ¬

_ (¬1) "المسند" (24239) ومسلم (737). ولم أجده عند البخاري بهذا اللفظ. (¬2) البخاري (997) ومسلم (744). (¬3) رقم (744/ 134). (¬4) رقم (744/ 135).

المقالة الأولى في حقيقة الوتر

المقالة الأولى في حقيقة الوتر قال الربيع في كتاب "اختلاف مالك والشافعي" (¬1): "باب ما جاء في الوتر بركعةٍ واحدة. سألتُ الشافعي عن الوتر: أيجوز أن يُوتِر الرجلُ بواحدةٍ ليس قبلها شيء؟ قال: نعم. والذي أختار أن أُصلَّي عشر ركعاتٍ ثم أُوتِرَ بواحدةٍ". ثم ساق الأدلة إلى أن قال (¬2): "فقلتُ للشافعي: فإنا نقول: لا نُحِبُّ لأحدٍ أن يُوتِر بأقلَّ من ثلاثٍ، ويُسلِّمَ بين الركعة والركعتين من الوتر". ثم ساق جواب الشافعي، وفي آخره: "قال الشافعي رحمه الله تعالى: وقد أخبرنا عبد المجيد عن ابن جريج عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يُوتِر بخمس ركعاتٍ لا يجلس ولا يُسلِّم إلّا في الآخرةِ منهن. فقلت للشافعي: فما معنى هذا؟ قال: هذه نافلةٌ، يَسَع أن يُوتِر بواحدةٍ وأكثر، ونختار ما وصفتُ من غيرِ أن نُضيِّق غيرَه. وقولكم - والله يَغفِر لنا ولكم - لا يوافق سنةً ولا أثرًا, ولا قياسًا ولا معقولاً، قولُكم خارجٌ من كل شيء من هذا وأقاويلِ الناس. إما أن تقولوا: لا يوتر إلا بثلاثٍ كما قال بعض المشرقيين، ولا يسلّم إلا في واحدةٍ منهن لئلا يكون الوتر واحدةً. [وإما أن ¬

_ (¬1) ضمن كتاب "الأم" (8/ 554) ط. دار الوفاء. (¬2) المصدر نفسه (8/ 556).

لا تكرهوا الوتر بواحدةٍ، وكيف تكرهون الوتر بواحدةٍ] (¬1) وأنتم تأمرون بالسلام فيها، فإذا أمرتم به فهي واحدة. وإن قلتم: كرهناه لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يُوتِر بواحدةٍ ليس قبلها [شيء]، فلم يُوتِر النبي - صلى الله عليه وسلم - بثلاثٍ ليس قبلهن شيء، وقد استحسنتم أن تُوتِروا بثلاثٍ". فأول كلامه رضي الله عنه - ولا سيَّما قوله: "لئلا يكون الوتر واحدة" - يُفِيد أن الوتر هو ما صُلَّي بتسليمةٍ واحدةٍ: ركعة أو ثلاثًا أو أكثر، ولا يَشْرَكُه في اسم الوتر ما سبقَه من شَفْعٍ مفصولًا عنه. وآخر كلامه يُشبه خلافَ ذلك. وكلام المزني في "المختصر" (¬2) يؤيِّد الأول. وقد يقال: إن قول الشافعي: "وقد استحسنتم أن تُوتِروا بثلاث" تسليمٌ جدلي، كأنه قال: لا يخلو قولكم: "يُوتِر بثلاثٍ مفصولة" أن يكون وجهه كراهية الوتر واحدةً، أو كراهية مخالفة السنة في الوتر بواحدةٍ لم يسبقها شَفْعٌ، فإن كان الأول فإن اشتراطكم الفصلَ هو عينُ ما فررتم منه، إذ الركعة صُلِّيتْ مفردةً، فهي الوتر، ولا تَشْرَكها الركعتان في اسم الوتر لوجود الفصل، وإن كان الثاني فمن تأمل كلام الإمام رضي الله عنه حقَ تأمُّلِه تبيَّن أن الوتر عنده هو ما صُلِّي بتسليمةٍ واحدة وترًا: ركعةً أو ثلاثًا أو أكثر. ولا يقدح في هذا قوله في آخر كلامه: "وقد استحسنتم أن تُوتروا بثلاثٍ", لأنه على سبيل التسليم الجدلي، لما ستراه. وتفسير كلام الإِمام بعبارةٍ أخرى: قولكم: "لا نحب أن يوتر [إلا] ¬

_ (¬1) ساقط من الأصل، استدركناه من "الأم". (¬2) (ص 114) (ضمن المجلد الثامن من كتاب "الأم" طبعة دار الفكر بيروت).

بثلاثٍ مفصولة" لا يخلو عن أحد أربعة وجوه: إما أن يكون كراهيةَ إيقاع ركعةٍ منفردة، ولم يُعهَد ذلك في الصلاة. وإما أن يكون كراهيةَ الاقتصار عليها، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقتصر. وإما أن يكون ذهابًا إلى حديث "مثنى مثنى". وإما أن يكون كراهيةَ إيقاعها بدون سَبْقِ شَفْعٍ قبلها. فأما الأول فشرطكم الفصلَ وقوعٌ فيما فررتم منه، ووجودُ الركعتين قبلها لا يُخلِّصها من كونها مفردة. وأما الثاني فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقتصر على الثلاث أيضًا، فلِمَ اقتصرتم عليها؟ وأما الثالث فإن أقلَّ ما يقع عليه "مثنى مثنى" أربع، فلِمَ اقتصرتم على ركعتين؟ وأما الرابع فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يُوتِرْ بثلاثٍ لم يَسْبِقْها شَفْع، وأنتم تزعمون أن الثلاث المفصولة وترٌ ولا تشترطون قبلها شفعًا. إذا تقرر ما ذُكِر علمتَ أن الوتر في كلام الإمام عبارة عمّا صُلِّي وترًا بنيته موصولًا بتسليمةٍ واحدة: ركعة أو ثلاث أو خمس أو أكثر. وأما أهل مذهبه فإن الوتر في كلامهم عبارةٌ عما صُلِّي بنية الوتر، من ركعةٍ إلى أحد عشر، مع الوصل أو الفصل. قلت: وظاهر قول الربيع: "فإنا لا نحب لأحدٍ أن يُوتِر بأقلَّ من ثلاثٍ، ويُسلِّم بين الركعة والركعتين من الوتر": أن مذهب مالك أن الوتر عبارة عن

تلك الثلاث المفصولة، وعليه بني الشافعي جوابَه في الوجه الرابع حيث قال: "وقد استحسنتم أن توتروا بثلاثٍ"، والظاهر أن ذلك قولٌ في مذهب مالك. والراجح عنده أن الوتر هو الركعة المفصولة. قال الباجي في "شرح الموطأ": فأما المسألة الثانية في عدد الوتر، فإن مالكًا رحمه الله ذهب إلى أن الوتر ركعة واحدة، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: الوتر ثلاث ركعات. والدليل على ما نقوله قول عائشة رضي الله عنها في الحديث: "يُوتِر منها بواحدةٍ" (¬1). قال ابن رشد في "بداية المجتهد" (¬2): وأما صفته - أي الوتر - فإن مالكًا رحمه الله استحبَّ أن يُوتر بثلاثٍ يُفصَل بينها بسلام. وقال أبو حنيفة: الوتر ثلاث ركعات من غير أن يُفصَل بينها بسلام. وقال الشافعي: الوتر ركعة واحدةٌ. ولكلِّ قولٍ من هذه الأقاويل سلفٌ من الصحابة والتابعين. إلى أن قال: فمن ذهب إلى أن الوتر ركعة واحدة، فمصيرًا إلى قوله عليه الصلاة والسلام: "فإذا خشيتَ الصبحَ فأوْتِرْ بواحدة" (¬3)، وإلى حديث عائشة أنه كان يُوتِر بواحدة (¬4). ومن ذهب إلى أن الوتر ثلاث من غير أن يُفصَل بينها، وقصرَ حكم الوتر على الثلاث فقط ... إلخ. ¬

_ (¬1) (2/ 161) ط. دار الكتب العلمية. (¬2) (1/ 236 - 238) ط. دار الكتب الإِسلامية بمصر. (¬3) أخرجه البخاري (1137) ومسلم (749) من حديث ابن عمر. (¬4) أخرجه أبو داود (1336، 1337) والنسائي (2/ 30 , 3/ 65) وابن ماجه (1177، 1358). وصححه ابن حبان (2422. 2423) وغيره.

إلى أن قال: وأما مالك فإنه تمسك في هذا الباب بأنه عليه الصلاة والسلام لم يُوتر قطُّ إلّا في إثر شَفْعٍ، فرأى أن ذلك من سنة الوتر، وأن أقل ذلك ركعتان، فالوتر عنده على الحقيقة إما أن يكون ركعةً واحدةً، ولكن من شرطها أن يتقدمها شَفْع، وإما أن يرى أن الوتر المأمور به هو يشتمل على شَفْع ووتر، فإنه إذا زيد على الشفع وترٌ صار الكلُّ وترًا. ويشهد لهذا المذهب حديث عبد الله بن قيس المتقدم (¬1)، فإنه سمَّى الوتر فيه العدد المركب من شفع ووتر، ويشهد لاعتقاده أن الوتر هو الركعة الواحدة أنه كان يقول: كيف يوتر بواحدة ليس قبلها شيء؟ وأي شيء يُوتِر له؟ وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تُوتِر له ما قد صلَّى" (¬2). فإن ظاهر هذا القول أنه كان يرى أن الوتر الشرعي هو العدد الوتر بنفسه، أعني الغير المركب من الشفع والوتر، وذلك أن هذا هو وتر لغيره، وهذا التأويل عليه أولى. هـ. قلتُ: فكلام الباجي قاطعٌ بأن الوتر عند مالك ركعة واحدة، ومفادُه أن الشفع الذي قبلها لا يجوز أن يكون بنية الوتر. وأما ابن رشد فرجَّح ذلك أيضًا، وكلاهما نسباه إلى الشافعي. وأجاز ابن رشد أن يكون مالك يرى أن الوتر يشتمل على شفعٍ ووتر، أي مفصولين، لاستدلاله بحديث عبد الله بن قيس، ولفظه: "قلت لعائشة: بكم كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُوتر؟ قالت: كان يُوتِر بأربعٍ وثلاثٍ، وستٍّ وثلاث، وثمانٍ وثلاث، وعشرٍ وثلاث. ولم يكن يُوتِر بأنقصَ من سبعٍ، ولا بأكثر من ثلاث عشرة". وأما مع الوصل فثلاثٌ ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (1362) من حديث عبد الله بن أبي قيس عن عائشة. ويقال له "ابن قيس" أيضًا. (¬2) أخرجه البخاري (990) ومسلم (749).

بتسليمة، أو خمسٌ أو سبع أو تسع، فآخر كلامه أن مالكًا - بناءً على الراجح عنه - يُسمِّي المجموع وترًا، إلاَّ أنه لم يُجِز الوصل. فقد تبيَّن لك أن الراجح عنده عن مالك أن الوتر هو حقيقة شرعية في الركعة الواحدة، ولو أُجِيز الوصلُ بثلاثٍ أو أكثر لكان ذلك وِترًا أيضًا. وأما إذا حصل الفصل بين ركعتين وركعة مثلًا، فلا يكون الوتر إلّا الركعة، فتأمَّلْ. وظاهر كلامهما نسبة ذلك إلى الشافعي، وهو صحيح. ****

مبحث في الوتر [بواحدة]

مبحث في الوتر [بواحدة] أجاز الشافعية الاقتصار على واحدةٍ ليس بين العشاء وطلوع الفجر غيرُها، واستدلُّوا بأحاديث: منها: حديث مسلم (¬1) عن ابن عمر وابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الوترُ ركعةٌ من آخر الليل". ومنها: عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الوتر حقٌّ على كل مسلمٍ، من أحبَّ أن يُوتِر بخمسٍ فليفعلْ، ومن أحبَّ أن يُوتِر بثلاثٍ فليفعلْ، ومن أحبَّ أن يُوتِر بواحدةٍ فليفعلْ". رواه أبو داود (¬2) بإسناد صحيح، كما قاله النووي في "شرح المهذَّب" (¬3). ورواه النسائي وابن ماجه (¬4)، وصححه ابن حبان والحاكم (¬5)، كما في "الفتح" (¬6) وغيره. وعند الدارقطني (¬7) بإسنادٍ قال بعض شُرَّاحه (¬8): رواتُه كلهم ثقات عن ¬

_ (¬1) رقم (753). (¬2) رقم (1422). (¬3) "المجموع" (4/ 17). (¬4) النسائي (3/ 238، 239) وابن ماجه (1190). (¬5) "صحيح ابن حبان" (2407، 2410، 2411) و"المستدرك" (1/ 302، 303). (¬6) (2/ 482). (¬7) في "سننه" (2/ 33). (¬8) هو شمس الحق العظيم آبادي في "التعليق المغني" (2/ 34).

عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوتر بركعة. قال في "المغني" (¬1): وفي "صحيح ابن حبان" (¬2) من حديث ابن عباس أنه - صلى الله عليه وسلم - أوترَ بركعة. قال بعضهم (¬3): قال العراقي: وممن أوترَ بعد العشاء بركعةٍ من الصحابة: الخلفاء الأربعة، وسعد بن أبي وقاص، ومعاذ بن جبل، وأُبي بن كعب، وأبو موسى الأشعري، وأبو الدرداء، وحذيفة، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، ومعاوية، وتميم الداري، وأبو أيوب الأنصاري، وأبو هريرة، وفضالة بن عُبيد، وعبد الله بن الزبير، ومعاذ بن الحارث القاري. هـ قلت: في البخاري (¬4) أن سعد بن أبي وقاص أوتر بواحدةٍ. وفيه أيضًا (¬5) كذلك عن معاوية، وأن ابن عباس أقرَّه على ذلك بقوله لمن اعترض عليه: دَعْه فإنه فقيهٌ. والبحث معهم يتوقف على مقدمة، وهي تحقيق مسمَّى "الوتر" ما هو؟ أهو صلاة الليل التي يكون آخرها فردًا مطلقًا، أو الركعة الفردة منها مطلقًا، أو هو آخر صلاةٍ في الليل تكون وترًا بتسليمةٍ واحدة، سواء أكانت واحدةً أو أكثر؟ ¬

_ (¬1) "مغني المحتاج" (1/ 221). (¬2) رقم (2424). (¬3) هو الشوكاني، انظر "نيل الأوطار" (3/ 39). (¬4) رقم (6356). (¬5) رقم (3764).

بحث في حقيقة "الوتر" ومسماه في الشرع

بحث في حقيقة "الوتر" ومسمَّاه في الشرع روينا في "صحيح مسلم" (¬1) بسنده إلى أبي مِجْلَز قال: سألتُ ابن عباس عن الوتر، فقال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ركعةٌ من آخر الليل"، وسألتُ ابن عمر فقال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ركعةٌ من آخرالليل". وهذا الحديث بعض حديث. أقول: رويناه في "سنن أبي داود" و"سنن النسائي" و"سنن ابن ماجه". قال أبو داود (¬2): (باب كم الوترُ؟) حدثنا محمَّد بن كثير أنا همام عن قتادة عن عبد الله بن شقيق عن ابن عمر أن رجلًا من أهل البادية سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صلاة الليل، فقال بإصبعَيْه هكذا: "مَثْنَى مَثْنَى، والوتر ركعة من آخر الليل". قلت: وهذا الإسناد صحيح. وقال النسائي (¬3): (باب كم الوترُ؟) أخبرنا محمد بن يحيى بن عبد الله قال: حدثنا وهب بن جرير قال: حدثنا شعبة عن أبي التيَّاح عن أبي مِجْلَز عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الوتر ركعةٌ من آخر الليل". أخبرنا محمد بن بشار قال: حدثنا يحيى ومحمد قالا: حدثنا - ثم ذكر كلمةً معناها - شعبة عن قتادة عن أبي مِجْلَز عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الوتر ركعةٌ من آخر الليل". ¬

_ (¬1) رقم (753). (¬2) في "سننه" (2/ 62) رقم (1421). (¬3) (3/ 232).

أخبرنا الحسن بن محمد عن عفان قال: حدثنا همام قال: حدثنا قتادة عن عبد الله بن شقيق عن ابن عمر أن رجلًا من أهل البادية سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صلاة الليل، قال: "مثنى مثنى، والوتر ركعةٌ من آخر الليل". وهذا الإسناد الأخير صحيح. وقال ابن ماجه (¬1): حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، ثنا عبد الواحد بن زياد، ثنا عاصم عن أبي مِجْلَز عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صلاة الليل مثنى مثنى، والوتر ركعة". قلت: أرأيتَ إن غلَبتْني عيني، أرأيتَ إن نِمْتُ؟ قال: "اجعَلْ "أرأيتَ" عند ذلك النجم". فرفعتُ رأسي، فإذا السِّماكُ. ثم أعاد فقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صلاة الليل مثنى مثنى، والوتر ركعةٌ قبلَ الصبح". وإسناده صحيح، ولفظ "قبل الصبح" هو بمعنى اللفظ الآخر: "من آخر الليل". وقد ورد إطلاق الوتر على الركعة الواحدة الموصولة بالشفع، كما في روايةٍ لأبي داود (¬2) في حديث سعد بن هشام عن عائشة، وفيها: "فصلَّى ثماني ركعاتٍ يُخيَّلُ إليَّ أنه يُسوَّي بينهن في القراءة والركوع والسجود، ثم يوتر بركعةٍ ... " الحديث. مع أن عامة طرق الحديث عند أبي داود (¬3) وعند مسلم (¬4) وغيرهما مبينةٌ أن الركعة متصلة بالثمان، وذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - صلَّى تسعًا جميعًا، وإنما أفردت الركعة في هذه الرواية لأنه فصلَ بينها وبين الثمان ¬

_ (¬1) رقم (1175). (¬2) رقم (1352). (¬3) رقم (1342, 1343, 1346, 1347). (¬4) رقم (746).

بتشهدٍ، ولم يُسلِّم إلّا في التاسعة، كما في عامة الروايات. وقد تُحمل هذه الرواية على أن يُوتِر بركعة بمعنى يُوتِر الثمانَ، أي يُصيِّرها وترًا. وإن لم يُقبل هذا التأويل فهذا إطلاق ثالث مجازًا، ومنه أيضًا رواية أبي سلمة عند مسلم (¬1) قالت (¬2): "كان يصلِّي ثلاث عشرة ركعةً، يُصلِّي ثمانَ ركعات ثم يُوتِر، ثم يُصلِّي ركعتين وهو جالس، فإذا أراد أن يركع قام فركع، ثم يُصلَّي ركعتين بين النداء والإقامة من صلاة الصبح". كما ثبت عنها في مسلم (¬3) وغيره من رواية سعد بن هشام، وفيه: "ويُصلِّي تسعَ ركعاتٍ لا يجلس فيها إلاَّ في الثامنة، فيذكر الله ويحمده ويدعوه، ثم ينهض ولا يُسلِّم، ثم يقوم فيصلَّي التاسعة ... " الحديث. وأصرحُ منه رواية النسائي (¬4) في حديث سعد بن هشام المذكور، ولفظه: "قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أوتر بتسع ركعاتٍ لم يقعد إلا في الثامنة، فيحمد الله ويذكره ويدعو، ثم ينهض ولا يُسلِّم، ثم يُصلَّي التاسعة ... " الحديث. وهذا الإطلاق مجازٌ أيضًا. وقد يُطلق الوتر مجازًا على مطلقِ صلاة الليل، لاشتمالها على الوتر، رواه بعضهم عن الطيبي، ومرَّ نَقْلُه فيه عن "سنن الترمذي"، واقتضاه كما ¬

_ (¬1) رقم (738/ 126). (¬2) أي عائشة رضي الله عنها. (¬3) رقم (746). (¬4) (3/ 240).

ذكرنا صنيع الإمام النسائي، بل يقتضيه كلام أكثر العلماء لتأوُّلهم إطلاقَ الوتر على الثلاث عشرة في بعض الأحاديث على أنه أدخل فيه سنة العشاء أو افتتاح الوتر أو سنة الصبح، ومنه حديث أم سلمة وحديث الحاكم السابقانِ، وحديث أبي داود (¬1) بإسناد صحيح إلى عبد الله بن أبي قيس قال: قلتُ لعائشة رضي الله عنها: بكَمْ كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُوتر؟ قالت: كان يُوتِر بأربعٍ وثلاث، وستٍّ وثلاث، وثمانٍ وثلاث، وعشرٍ وثلاث. ولم يكن يُوتِر بأنقصَ من سبعٍ ولا بأكثر من ثلاث عشرة. وهذا الحديث دليل واضح على ما قلناه؛ لأنه صُرِّح فيه بالتقطيع، وقد عرفتَ أن عامة الأحاديث على إطلاق الوتر على القطعة الأخيرة. وقوله: "ولم يكن يُوتِر بأنقصَ من سبعٍ" مع أن القطعة الأخيرة قد صحَّ وقوعُها ركعةً واحدةً. وليس من هذا بعض روايات حديث ابن عمر (¬2): "صلَّى ركعةً واحدةً تُوتِرُ له ما قد صلَّى"؛ إذ لا يتعين أن يكون معنى "تُوتِر له ما قد صلَّى" أي تُصيِّره وترًا، بل المعنى: تكون منه وترًا. وهذا الإطلاق هو الأقرب إلى مذهبنا؛ لأن الوتر عند أصحابنا عبارة عن صلاةٍ مخصوصةٍ، أقلُّها ركعةٌ وأكثرها أحد عشر. قالوا: وما ورد من أنه ثلاثة عشر أو خمسة عشر، فهو بضمِّ ركعتين خفيفتين عند افتتاح الوتر، وركعتين قبليَّة الصبح. قلت: وهذا هو المجاز الذي قلناه، وقلنا: إنه كذلك إذا ورد مطلقًا على أحد عشر مقطعة أو نحوها، وحقيقة فيما صُلِّي وترًا بتسليمةٍ واحدةٍ، ولم يثبت ذلك في أكثر من تسعٍ. ¬

_ (¬1) رقم (1362). (¬2) عند البخاري (990) ومسلم (749).

ولا ينافي ما ذكرناه من وَصْل الثلاث والخمس والسبع والتسع قولُه - صلى الله عليه وسلم -: "صلاة الليل مثنى مثنى"، وإن اقتضى ذلك الحصر؛ لأننا نقول: صلاة الليل غير الوتر، كما هو مفهوم من السنة. ولذلك ترى الأئمة كالشيخين وغيرهما يُفرِدون كلًّا بترجمة (¬1). وحينئذٍ فالصلاة التي تُقدَّمُ على الوتر ينبغي أن تكون مثنى مثنى، فإذا جاء الوتر كان الإنسان بالخيار: إن شاء صلَّى واحدةً، وإن شاء صلَّى ثلاثًا، وإن شاءَ سبعًا، وإن شاء تسعًا، كما مرَّ. ويَدُلُّك على ذلك أنه لو قال: "صلاة الليل مثنى مثنى، والوتر ثلاث" أو نحو ذلك لكان الكلام ¬

_ (¬1) ذكر المؤلف في هامشه ما يلي: قال في "الفتح" في أول أبواب الوتر: ولم يتعرَّض البخاري لحكمه، لكن إفراده بترجمةٍ عن أبواب التهجد والتطوع يقتضي أنه غير ملحقٍ بها عنده. ثم ذكر أن ذلك يقتضي أنه يُوجِبه، ولكنه أورد ما يُنافي الوجوب. وأقول: بل المقتضي لإفرادِه بترجمة هو ما عرفتَ، ومما يدلُّك على ذلك أن صلاة الليل كانت مشروعةً من أول الإسلام، بخلاف الوتر، فإنما شُرِع أخيرًا. ويُبيِّن هذا حديثُ "السنن": "إنَّ الله أمدّكم بصلاةٍ هي خيرٌ لكم من حُمر النعم. قلنا: وما هي يا رسول الله؟ قال: الوتر". الحديث سيأتي إن شاء الله. لا يقال: إن شرطَ وقوعه في الليل يُدخِلُه في صلاة الليل، فإنا نقول: هذا وإن اقتضَتْه اللغة، لكن صلاة الليل أُطلِقَتْ شرعًا على صلاةٍ مخصوصة، ولا تَشْمَلُ كلَّ ما وقع بالليل، إذ لا تَشْمَلُ المغربَ والعشاء ورَواتبَها اتفاقًا، فكذا الوتر. ولا يَرِدُ على هذا أن الوتر يكفي عن صلاة الليل, لأننا نقول: ذلك مثل سنة الوضوء وتحية المسجد، يكفي عنهما وقوعُ صلاةٍ في وقتهما. فتأمَّل. [المؤلف]. والحديث الذي ذكره أخرجه أبو داود (1418) والترمذي (452) وابن ماجه (1168) من حديث خارجة بن حُذافة. قال الترمذي: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن حبيب.

صحيحًا. وسيأتي بحث صلاة الليل مثنى مثنى إن شاء الله تعالى. وصنيع الإمام النسائي رحمه الله يقتضي أن الوتر عنده هو ما صُلِّي وترًا بتسليمةٍ واحدةٍ، سواء أكان واحدةً أو ثلاثًا أو سبعًا أو تسعًا، وأنه قد يُطلَق على الإحدى عشرة والثلاث عشرة مجازًا. وهذا هو الحق عندي، وعامة الأحاديث والآثار تدلُّ عليه إلا ما ندر. قال أولًا (¬1): (باب كم الوتر؟)، فأورد فيه حديث: "الوتر ركعة من آخر الليل" بروايتين، ثم ختمه بأصله أن رجلًا من أهل البادية سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صلاة الليل، قال: "مثنى مثنى، والوتر ركعة من آخر الليل". ثم قال (¬2): (باب كيف الوتر بواحدة؟) وأورد فيه حديث ابن عمر بلفظ: "صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا أردتَ أن تنصرف فاركعْ بواحدة" وروايات أخرى بألفاظ مختلفة. وختمه بحديث عروة عن عائشة: "كان يُصلِّي من الليل إحدى عشرة ركعة يُوتِر منها بواحدة ... " إلخ. ثم قال (¬3): (باب كيف الوتر بثلاث؟)، وأورد حديث عائشة، وفيه: "يُصلَّي أربعًا فلا تسأَلْ عن حسنهن وطولهن، ثم يصلَّي أربعًا فلا تسألْ عن حسنهن وطولهن، ثم يُصلِّي ثلاثًا ... " الحديث. ثم ثنَّى بحديث سعد بن هشام عن عائشة "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان لا يُسلِّم في ركعتي الوتر". ثم أطال بالاختلافات الواقعة في بعض أحاديث [الوتر] بالثلاث. ¬

_ (¬1) "سنن النسائي" (3/ 232). (¬2) المصدر نفسه (3/ 233). (¬3) المصدر نفسه (3/ 234).

ثم قال (¬1): (باب كيف الوتر بخمسٍ؟)، وصدَّره بحديث الحكم عن مِقْسم عن أم سلمة: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُوتِر بخمسٍ وبسبعٍ لا يَفصِل بينها بسلامٍ ولا بكلام". ورواه أخرى عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس عن أم سلمة بلفظ "بسبعٍ أو بخمسٍ". ثم رواه بسنده إلى الحكم عن مقسم قال: "الوتر سبع، فلا أقلَّ من خمس". فذكرتُ ذلك لإبراهيم فقال: عمن ذكره؟ قلت: لا أدري. قال الحكم: فحججتُ فلقيتُ مِقْسمًا، فقلت له: عمن؟ قال: عن الثقة عن عائشة وعن ميمونة. قلت: وفي "تهذيب التهذيب" (¬2): قال أحمد وغيره: لم يسمع الحكم حديث مقسم - كتاب - إلا خمسة أحاديث، وعدَّ منها حديث الوتر. ومِقْسم من رجال البخاري، وممن طُعِن فيه منهم، وقد وثَّقه جماعة، ولكن في "تهذيب التهذيب" (¬3): وقال البخاري في "التاريخ الصغير": لا يُعرف لمِقسمٍ سماعٌ عن أمّ سلمة ولا ميمونة ولا عائشة. قلتُ: والرواية الوسطى بواسطة ابن عباس. قلتُ: ورجال الثالثة رجال الصحيح إلاَّ شيخ النسائي محمد بن إسماعيل بن إبراهيم، فهو من أفراده، وقال عنه - كما في "الخلاصة" (¬4) وغيرها -: ثقة حافظ. وأما مِقْسم فقد علمتَ ما فيه. ¬

_ (¬1) المصدر نفسه (3/ 239). (¬2) (2/ 434). (¬3) (10/ 289). (¬4) (ص 327)، و"تهذيب التهذيب" (9/ 56).

ثم ذكر النسائي (¬1) حديث عائشة: "كان يوتر بخمسٍ ولا يجلس إلّا في آخرهن". ثم قال (¬2): (باب كيف الوتر بسبعٍ؟)، فذكر حديث سعد بن هشام عن عائشة مختصرًا بلفظ: "قالت: لما أسنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخذَ اللحمَ، صلَّى بستّ ركعاتٍ لا يقعد إلا في آخرهن" الحديث. ثم ذكره مطوَّلًا. ثم قال (¬3): (باب كيف الوتر بتسعٍ؟)، فذكر حديث سعد بن هشام عن عائشة، وفيه: "ويصلّي تسع ركعاتٍ لا يجلس فيهن إلاَّ عند الثامنة، ويحمد الله ويصلّي على نبيه - صلى الله عليه وسلم - ويدعو بينهن، ولا يسلَّم، ثم يُصلِّي التاسعة ... " الحديث. ثم أعاده بروايات أخرى. ثم روى بسنده إلى الأسود عن عائشة قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلّي من الليل تسعَ ركعات". ثم أراد أن يُبيِّن أن الوتر إذا أُطلِق على أكثر من ذلك فالمراد به صلاة الليل، والحال أنه قد ذكره في (باب كيف الوتر بواحدةٍ؟)، وذلك صريح في أن الوتر في هذا الحديث واحدة. ثم ذِكْره هنا في (باب الوتر بإحدى عشرة) صريح في أن الوتر فيه بإحدى عشرة. وهذا بحسب الظاهر مناقضة، والسرُّ ما ذكرناه من أنه أراد أن يُبيِّن ما أشرنا إليه، فحينئذٍ الاستدلال بهذا الحديث في البابين هو باعتبارين، فذكره هناك باعتبار أن الوتر هو ما صُلَّي وترًا بتسليمةٍ واحدة، وذكره هنا باعتبار أن الوتر قد يطلق على صلاة الليل، فقال (¬4): (باب ¬

_ (¬1) (3/ 240). (¬2) (3/ 240). (¬3) (3/ 241). (¬4) "سنن النسائي" (3/ 243).

كيف الوتر بإحدى عشرة)، فذكر حديث عروة عن عائشة: "كان يُصلِّي من الليل إحدى عشرة ركعة ويُوتر منها بواحدة" الحديث. ثم قال (¬1): (باب الوتر بثلاثَ عشرةَ)، وذكر فيه حديث أم سلمة: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُوتِر بثلاثَ عشرةَ ركعةً، فلما كبر وضعُف أوتَر بتسعٍ". وهو بمعنى الذي قبله، فالمراد بالوتر فيه صلاة الليل. فالحق - إن شاء الله - أن الوتر حقيقة شرعية تقعُ على ما صُلِّي وِترًا بتسليمةٍ واحدةٍ، سواء أكان ركعةً أو ثلاثًا أو خمسًا أو سبعًا أو تسعًا، ولا يثبت أكثر من ذلك. وهذا المعنى هو الذي عليه عامة الأحاديث والآثار, وهو المتبادر من لفظ الوتر؛ إذ الوتر في اللغة هو كما في "القاموس" (¬2): "الفرد أو ما لم يتشفَّعْ من العدد"، وذلك إنما يُعتبر فيما جُمِع، لا فيما فُرِّق. فلو صلَّى ركعتين ثم سلَّم ثم صلَّى ثلاثًا، لم يَنْبغِ أن يُطلَق الوتر إلاّ على الثلاث التي وقعت بتسليمة واحدة، ولا تشركُ معها الركعتان، لانفصالِ كلٍّ من الصلاتين عن الأخرى وانقطاعها. وقد أفهمك حسنُ صنيع الإمام النسائي رحمه الله ما قلناه من أن لفظ: "الوتر ركعة من آخر الليل" هو بعض الحديث الآخر، وإنما أفرده ابن عباس وابن عمر لأن أبا مِجْلَز إنما سألهما عن الوتر كما في مسلم (¬3)، وأصل ¬

_ (¬1) (3/ 243). (¬2) (2/ 152). (¬3) رقم (753).

الحديث مشتمل على بيان صلاة الليل؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أجاب به من سأله عنها كما مرَّ، فأخذا من الحديث ما يتعلق به الغرض، ومثل هذا كثير في الأحاديث. وقد روى البخاري ومسلم حديث: "صلاة الليل مثنى مثنى" عن ابن عمر بروايات مختلفة (¬1)، فإما أن تُحمَل على التعدد، وإما أن تكون من باب الرواية بالمعنى، وقد ثبت للواقعة التعددُ مرتين، وذلك في رواية عبد الله بن شقيق عند مسلم (¬2) عن عبد الله بن عمر أن رجلًا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا بينه وبين السائل، فقال: يا رسول الله، كيف صلاةُ الليل؟ قال: "مثنى مثنى، فإذا خشيتَ الصبحَ فصلِّ ركعةً، واجعل آخرَ صلالك وترًا". ثم سأله رجل على رأس الحول وأنا بذلك المكان من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلا أدري أهو ذلك الرجل أو رجل آخر، فقال له مثله. انتهى. فيمكن أن يكون الجواب الثاني مغايرًا للجواب الأول في اللفظ، وقول ابن عمر: "فقال له مثله" أي مثل معناه. قال في "الفتح" (¬3): ووقع في "المعجم الصغير" (¬4) للطبراني أن السائل هو ابن عمر لكن يُعكِّر عليه روايةُ عبد الله بن شقيق عن ابن عمر (¬5) أن رجلًا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا بينه وبين الرجل ... ، فذكر الحديث، وفيه: ثم سأله رجلٌ ¬

_ (¬1) انظر "صحيح البخاري" (472، 473، 990، 993، 1137) ومسلم (749). (¬2) رقم (749/ 148). (¬3) (2/ 478). (¬4) (1/ 103). (¬5) عند مسلم (749/ 148).

على رأس الحول وأنا بذلك المكان منه، قال: فما أدري أهو ذلك الرجل أو غيره. وعند النسائي (¬1) من هذا الوجه أن السائل المذكور من أهل البادية. وعند محمد بن نصر في كتاب "أحكام الوتر" - وهو كتاب نفيس في مجلدة - من رواية عطية عن ابن عمر أن أعرابيًا سأل. فيحتمل أن يُجمَع بتعدد من سأل، وقد سبق في باب الحِلَق في المسجد أن السؤال المذكور وقعَ في المسجد والنبي - صلى الله عليه وسلم - على المنبر. هـ (¬2). أقول: قد يثبت برواية "المعجم" زيادة مرة ثالثة للتعدد، وأما رواية أعرابي فهي بمعنى رجل من أهل البادية، وكلاهما بمعنى رواية عبد الله بن شقيق التي أشار إليها الحافظ. ولا يثبت زيادة تعدد برواية ابن عباس، لاحتمال أنه سمعه مع ابن عمر، ولا سيَّما والسؤال وقع في المسجد والنبي - صلى الله عليه وسلم - على المنبر، والغالب حضور ابن عباس حينئذٍ. وقد أفهمَ قولُ "الفتح": "وعند النسائي من هذا الوجه ... " إلخ، أن الحديث واحدٌ وإن اختلفت الروايات، وهو ظاهر. وقد عرفتَ لفظ النسائي، وعلى كثرة الروايات فالظاهر أن لفظ النسائي من أصحِّها؛ لأن ابن عباس وابن عمر أفرداه في مقام الفتوى في الوتر كما علمتَ. إذا تقرر ذلك فلنُعِدْ لفظَ الإمام النسائي (¬3) لنبني عليه البحث في حقيقة الوتر: عن ابن عمر أن رجلًا من أهل البادية سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صلاة ¬

_ (¬1) (3/ 233). (¬2) الهاء رمز "انتهى". (¬3) (3/ 233).

الليل، قال: "مثنى مثنى، والوتر ركعة من آخر الليل". أقول وبالله التوفيق: قوله: "الوتر ركعة من آخر الليل" قد يقال: إنه يفيد الحصر، وهو أن الوتر لا يكون إلّا كذلك، وليس مرادًا هنا, لأن من قال به في مثل هذا شَرَطَ أن لا تمنع منه قرينة، وقد منعتْ منه ههنا قرائن, لأن القول به يقتضي أن لا تصلَّى تلك الركعة إلا مفصولةً، إذ لو وُصِلَتْ بركعتين مثلًا فإما أن ينوي بالثلاث وترًا، والوتر لا يكون إلّا واحدةً، وإما أن ينوي بالثنتين من قيام الليل وبالثالثة وترًا, ولم يُرِدْ مثل هذا مَن جمع صلاتين مختلفتين بتسليمة واحدة. وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - الوصلُ بثلاثٍ وبخمسٍ وبسبعٍ وبتسعٍ، وورد في الإحدى عشرة إفراد واحدةٍ آخرَ صلاةِ الليل، كما يقتضيه هذا الحديث، وثبت عنه الثلاث عشرة بما يحتمله، وكل ذلك يُطلَق عليه لفظ الوتر. من ذلك: حديث مسلم (¬1) عن عروة عن عائشة قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُصلِّي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء - وهي التي يدعو الناس العَتَمة - إلى الفجر إحدى عشرة ركعة، يُسلِّم بين كل ركعتين ويُوتِر بواحدة" الحديث. ومن ذلك: حديث مسلم (¬2) عن ابن عباس، وفيه: "فصلَّى ركعتين، فأطال فيهما، ثم انصرف فنامَ، ففعل ذلك ثلاث مرات بستّ ركعات، كلَّ ذلك يستاك ويتوضأ، ويقرأ هذه الآيات، ثم أوتر بثلاثٍ" الحديث. ¬

_ (¬1) رقم (736/ 122). (¬2) رقم (763/ 191).

ومن ذلك: حديث أحمد والشيخين (¬1) عن عائشة: "كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُصلَّي من الليل ثلاث عشرة ركعةً، يُوتِر بخمسٍ لا يجلس في شيء إلّا في آخرها". ولمسلم (¬2) في حديث عائشة وقد سألها سعد بن هشام عن وتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفيه: "ويُصلِّي تسعَ ركعات لا يجلس فيها إلّا في الثامنة، فيذكر الله ويحمده ويدعوه، ثم ينهض ولا يُسلِّم، ثم يقوم فيصلِّي التاسعة"، وساق الحديث إلى أن قالت: "فلما أسنَّ نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وأخذه اللحم أوتر بسبعٍ" الحديث. وأما الإحدى عشرة فيحتمله حديث عائشة عند الشيخين (¬3): "كان يصلي من الليل عشر ركعات، ويُوتِر بسجدةٍ" لاحتمال أن يكون وصل الأحد عشر بتشهدين: تشهُّد في العاشرة ولم يُسلِّم، وتشهُّد في الحادية عشرة وسلَّم. وقد وقعت مثل هذه العبارة بمثل هذه الصورة في بعض روايات حديث سعد بن هشام عند أبي داود (¬4)، ولفظه: "فصلَّى ثمان ركعاتٍ يُخيَّل إليَّ أنه يُسوِّي بينهن في القراءة والركوع والسجود، ثم يوتر بركعة ... " الحديث. يحتمل أن التسع موصولة، وقولها مع ذلك: "يوتر ¬

_ (¬1) "المسند" (24239) وصحيح مسلم (737/ 123). ولم أجده بهذا اللفظ عند البخاري. (¬2) رقم (746). (¬3) مسلم (738/ 128). ولفظ البخاري (1140): "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعةً, منها الوتر وركعتا الفجر". (¬4) رقم (1352).

بركعةٍ" مجاز كما سيأتي. وأصرح منه حديث البخاري (¬1) عن عروة عن عائشة: "وقد كان يُصلَّي إحدى عشرة ركعةً، كانت تلك صلاتَه" الحديث. وأما الثلاث عشرة فيحتمله حديث النسائي (¬2) بإسنادٍ فيه أحمد بن حرب، قال فيه ابن أبي حاتم: صدوق، وقال النسائي: لا بأس به. ذكر ذلك في "تهذيب التهذيب" (¬3). قال: وذكره ابن حبان في "الثقات" (¬4)، وخرَّج له في "صحيحه". قلت: وبقية رجاله رجال الصحيح، فهو إسناد صحيح. ولفظ الحديث: عن أم سلمة قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوتر بثلاثَ عشرةَ ركعةً، فلما كبر وضعُفَ أوتَر بتسع". فظاهر الحديث أن الثلاث عشرة موصولة، ولكن عامة الأحاديث أن الإحدى عشرة والثلاث عشرة لم تقع إلا مفصولةً، ومنه حديث الشيخين (¬5) عن عائشة: "كان يصلِّي من الليل عشر ركعات ويوتر بسجدةٍ". وحديث البخاري (¬6) عن عروة عنها، وفيه: "كان يصلِّي إحدى عشرة ركعة، كانت ¬

_ (¬1) رقم (1123). (¬2) (3/ 243). (¬3) (1/ 23). (¬4) انظر (8/ 39). (¬5) مسلم (738/ 128). وسبق التنبيه على لفظ البخاري (1140). (¬6) رقم (1123).

تلك صلاته ... " الحديث. وحديث مسلم (¬1) عنها، وفيه: "إحدى عشرة ركعة، يُسلِّم بين كلِّ ركعتين، ويُوتر بواحدةٍ ... " الحديث. ومنه حديث أم سلمة أن الترمذي رواه في "سننه" (¬2) بلفظ النسائي، إلا أنه قال: "بسبعٍ". ثم قال (¬3): حديث أم سلمة حديث حسن، وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الوتر بثلاثَ عشرة وإحدى عشرة وتسعٍ وسبعٍ [وخمسٍ] وثلاثٍ وواحدة. قال إسحاق بن إبراهيم: معنى ما رُوِي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يُوتِر بثلاثَ عشرةَ، قال: إنما معناه أنه كان يُصلِّي من الليل ثلاث عشرة ركعةً مع الوتر، فنُسِبَتْ صلاة الليل إلى الوتر. ورَوَى في ذلك حديثًا عن عائشة. واحتجَّ بما رُوِي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أوتروا يا أهل القرآن". قال: إنما عَنَى به قيام الليل، يقول: إنما قيام الليل على أصحاب القرآن. هـ قلتُ: استدلالُه بحديث: "أوتروا يا أهل القرآن" يُعكَّر عليه أن في آخره كما في "بلوغ المرام" (¬4): "فإن الله وِتْرٌ يحبُّ الوتر". قال: رواه الخمسة (¬5)، وصححه ابن خزيمة (¬6). فالتعليل بقوله: "فإن الله وتر" يستدعي مناسبةً مَّا، فتأمَّلْ. ¬

_ (¬1) رقم (736/ 122). (¬2) رقم (457). (¬3) أي الترمذي بعد رواية الحديث في "سننه" (2/ 320، 321). (¬4) (2/ 14) مع "سبل السلام". (¬5) أحمد في "المسند" (877) وأبو داود (1416) والترمذي (453) والنسائي (3/ 288، 229) وابن ماجه (1169). (¬6) رقم (1067).

وأما قوله: "إنها أرادت كان يُصلَّي من الليل ... " إلخ، فجيد جدًّا، وعامة الأحاديث تؤيِّده، وكل ما روي في الثلاث عشرة فمُفصَّلٌ بالتقطيع والوتر فيه، إلّا هذا الحديث وحديث الحاكم (¬1): "لا تُوتِروا بثلاثٍ تُشبِّهوا بالمغرب، أوتروا بخمسٍ أو بسبعٍ أو بتسعٍ أو بإحدى عشرة أو أكثر من ذلك"، فهما مجملان، فيُحملانِ على الأصحّ الأغلب. إذا تقرر ما ذُكِر فقد أجاز أصحابنا الاقتصارَ على ركعة واحدةٍ بعد العشاء، واستدلُّوا بحديث مسلم (¬2) عن ابن عمر وابن عباس مرفوعًا: "الوتر ركعةٌ من آخر الليل". وحديث أبي أيوب مرفوعًا: "الوتر حقٌّ على كل مسلم، فمن أحبَّ أن يُوتر بخمسٍ فليفعل، ومن أحبَّ أن يُؤتِر بثلاثٍ فليفعلْ، ومن أحبَّ أن يُوتِر بواحدةٍ فليفعلْ" كما رواه أبو داود (¬3) بسند صحيح. قاله النووي في "شرح المهذّب" (¬4). ورواه النسائي وابن ماجه، وصححه ابن حبان والحاكم (¬5) كما في "الفتح" (¬6). ¬

_ (¬1) في "المستدرك" (1/ 304). (¬2) رقم (753). (¬3) رقم (1422). (¬4) (4/ 17). (¬5) "سنن" النسائي (3/ 238) وابن ماجه (1190) وابن حبان (2407) و"المستدرك" (1/ 302). (¬6) (2/ 482).

وحديث عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوتر بركعةٍ. رواه الدارقطني (¬1). قال بعض شرَّاحه (¬2): رواته كلهم ثقات. ومثله في صحيح ابن حبان (¬3) عن ابن عباس، قاله في "المغني" (¬4). قالوا: وقد ثبت عن جماعة من الصحابة الإيتار بركعةٍ، كسعد بن أبي وقّاص، ومعاوية وصوَّبه ابن عباس (¬5)، بل رُوي عن الخلفاء الأربعة وغيرهم من الصحابة فمَن بعدهم. وفي كلٍّ من أدلتهم نظر: أما حديث: "الوتر ركعة من آخر الليل" فهو من الإطلاق الثاني كما مر، وليس فيه الاقتصار عليها، بل قد ثبت عن ابن عمر التصريحُ بخلافه كما مرَّ عن "سنن أبي داود" (¬6). نعم، هو دليلٌ على مَن يقول: لا تكفي الواحدة وترًا وإن سبَقَها شفعٌ بغير نية الوتر. وأما حديث أبي أيوب ففي "بلوغ المرام" (¬7): ورجَّح النسائي وقفَه، ¬

_ (¬1) (2/ 33). (¬2) هو شمس الحق العظيم آبادي في "التعليق المغني" (2/ 34). (¬3) رقم (2424). (¬4) "مغني المحتاج" (1/ 221). (¬5) أخرجه البخاري (3764). (¬6) رقم (1421) عن ابن عمر أن رجلًا من أهل البادية سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صلاة الليل، فقال بإصبعيه هكذا: "مثنى مثنى، والوتر ركعة من آخر الليل". (¬7) (2/ 8) مع "سبل السلام".

قال الشارح ابن الأمير (¬1): وكذا صحَّح أبو حاتم والذهلي والدارقطني في "العلل" والبيهقي وغير واحدٍ وقفَه. قال المصنِّف: وهو الصواب. انتهى. وأما قول الشارح بعد ذلك: "قلت: وله حكم الرفع، إذ لا مَسْرحَ للاجتهاد فيه أي في المقادير"، ففيه نظر ظاهر. ومع الإغماض عن ذلك فهو محمولٌ على الإطلاق الثالث، وليس فيه الاقتصار على .... ، وغايةُ ما فيه أن يكون دليلًا على من يقول: لا تكفي الواحدة وترًا وإن سبَقَها شفعٌ بغير نية الوتر، كما في ........ (¬2). وأما حديث عائشة عند الدارقطني، وابن عباس عند ابن حبان (¬3)، أن النبي - صلى الله عليه وسلم -[أوتَر] بركعةٍ، فهو محمولٌ على الإطلاق الثاني أو الثالث، وكأنه مختصر من أحاديثهما المطولة، كما في الصحيحين (¬4) عن عائشة كان يصلِّي من الليل عشر ركعات ويُوتِر بسجدة, وعنها عند مسلم (¬5): إحدى عشرة. وحديث ابن عباس عندهما (¬6)، وفيه: "فصلَّى ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم أوتر". قال في "الفتح" (¬7): وظاهره أنه فصلَ بين كل ركعتين، ووقعَ التصريحُ ¬

_ (¬1) في "سبل السلام" (2/ 8). وانظر "العلل" لابن أبي حاتم (2/ 428 - 430) و"علل الدارقطني" (6/ 95 - 97) و"السنن الكبرى" للبيهقي (3/ 24). (¬2) مكان النقط كلمات غير واضحة. (¬3) سبق تخريجهما. (¬4) البخاري (1140) ومسلم (738/ 128). (¬5) رقم (736). (¬6) البخاري (993) ومسلم (763/ 182). (¬7) (2/ 483).

بذلك في رواية طلحة بن نافع (¬1)، حيث قال فيها: يُسلِّم من كلِّ ركعتين، ولمسلم (¬2) من رواية علي بن عبد الله بن عباس التصريحُ بالفصل أيضًا، وأنه استاك بين كل ركعتين، إلى غير ذلك. هـ يُقوِّي أنها لا تُصلَّى إلا مفصولةً حديثُ علي عليه السلام قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَوتِرُوا يا أهلَ القرآن، فإن الله وِترٌ يحبُّ الوتر" رواه الخمسة (¬3)، وصححه ابن خزيمة (¬4) قاله في "بلوغ المرام" (¬5). ووجهُ التقويةِ المقابلةُ بين قوله: "فإن الله وِتر يحبُّ الوتْرَ". فتأمَّلْ، ويقويه صدرُ الحديث نفسه. قال في "الفتح" (¬6): وقد فسَّره ابن عمر راوي الحديث، فعند مسلم (¬7) من طريق عُقبة بن حُرَيث قال: قلتُ لابن عمر: ما معنى مثنى مثنى؟ قال: تُسلِّم من كل ركعتين. وفيه ردٌّ على من زعم من الحنفية أن معنى "مثنى" أن يتشهد بين كل ركعتين؛ لأن راوي الحديث أعلم بالمراد به، وما فسَّره به هو المتبادر إلى الفهم؛ لأنه لا يقال في الرباعية مثلًا: إنها مثنى مثنى. ¬

_ (¬1) عند ابن خزيمة (1093). (¬2) رقم (763/ 191). (¬3) أحمد في المسند (877) وأبو داود (1416) والترمذي (453) والنسائي (3/ 228، 229) وابن ماجه (1169). (¬4) برقم (1067). (¬5) (2/ 14) مع "سبل السلام". (¬6) (2/ 479). (¬7) رقم (749/ 159).

واستُدِلَّ بهذا على تعيُّن الفصل بين كل ركعتين من صلاة الليل. قال ابن دقيق العيد: وهو ظاهر السياق، لحصْر المبتدأ في الخبر. وحمله الجمهور على أنه لبيان الأفضل، لما صحَّ من فعله - صلى الله عليه وسلم -[بخلافه] (¬1). قلت: ولم يُبيِّن ذلك. فأما أحاديث الوصل بين التسع والسبع والخمس والثلاث فلا تُعكِّر عليه؛ لأنها وتر. وقوله: "مثنى مثنى" واقع على صلاة الليل. وأما حديث عائشة عندهما (¬2) وفيه: "كان يُصلِّي أربعًا فلا تسألْ عن حسنهن وطولهن، ثم يُصلِّي أربعًا فلا تسألْ عن حسنهن وطولهن، ثم يُصلِّي ثلاثًا"، فقد أجاب عنه الباجي في "شرح الموطأ" (¬3)، وعبارته: وقوله (¬4): "يصلي أربعًا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن" تُرِيد - والله أعلم - أنه كان يَفصِل بينهما بكلام، ولكنها جمعتهما في اللفظ لأحد معنيين: أحدهما: أن صفتهما وطولهما وحسنهما من جنس واحدٍ، وأن الأربع الأُخر ليست من جنسهما وإن كانت قد أخذتْ من الحُسن والطول حظَّها. والمعنى الثاني: أنه يحتمل أنه كان يُصلِّي أربعًا ثم ينام، ثم يصلي أربعًا ثم ينام، ثم يُصلِّي ثلاثًا. ثم استدل بحديث ابن عباس في تقطيع النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاته بالنوم .... ¬

_ (¬1) زيادة من الفتح ليتم المعنى. (¬2) البخاري (1147) ومسلم (738). (¬3) "المنتقى" (1/ 215 - 216) ط. السعادة. (¬4) كذا في الأصل، وفي المنتقى.

ويؤيد ما قاله قولها في آخر الحديث: "قلتُ: يا رسول الله، أتنامُ قبلَ أن توتر؟ ... " إلخ. وكذا حديث عائشة عند مسلم (¬1) برواية القاسم بن محمد: "كانت صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الليل عشر ركعات، ويُوتِر بسجدة، ويركع ركعتي الفجر، فتلك ثلاث عشرة" (¬2) = محمول على أنه كان يصلِّيها مثنى مثنى، لما ثبت عنها في رواية عروة (¬3): "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُصلَّي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء - وهي التي يدعو الناس العَتَمة - إلى الفجر إحدى عشرة ركعة يُسلَّم بين كل ركعتين، ويُوتر بواحدةٍ، فإذا سكت المؤذن من صلاة الفجر وتبيَّن له الفجر وجاءه المؤذن، قام فركع ركعتين خفيفتين ... " الحديث. وأما رواية أبي سلمة عند مسلم (¬4) قالت: "كان يُصلِّي ثلاث عشرة ركعةً، يُصلِّي ثمانَ ركعاتٍ ثم يُوتِر، ثم يُصلَّي ركعتين وهو جالس، فإذا أراد أن يركع قام فركعَ، ثم يُصلَّي ركعتين بين النداء والإقامة من صلاة الصبح"، فيحتمل وجهين: الأول: أن يُحمل على الفصل مثنى مثنى. الثاني: أنه جمع التسع معًا، كما شرحته رواية سعد بن هشام، وقد ورد في بعض طرقه عند أبي داود (¬5): "فيُصلِّي ثماني ركعاتٍ يُسوِّي بينهن في ¬

_ (¬1) رقم (738/ 128). (¬2) في الأصل: "ثلاثة عشر"، والتصويب من صحيح مسلم. (¬3) أخرجها مسلم (736/ 122). (¬4) برقم (738/ 126). (¬5) رقم (1347).

القراءة والركوع والسجود، ولا يجلس في شيء منهن إلّا الثامنة، فإنه كان يجلس، ثم يقوم ولا يُسلِّم، فيصلِّى ركعةً يُوتِر بها ... " الحديث. وفي رواية أخرى (¬1): "فصلَّى ثمانَ ركعاتٍ يُخيَّلُ إليَّ أنه يُسوِّي بينهن في القراءة والركوع والسجود، ثم يُوتر بركعةٍ" الحديث. لكن قد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - الوصلُ بثلاثٍ وبخمسٍ وبسبعٍ وبتسعٍ، وحيئذٍ فالحصر المفهوم من قوله: "صلاة الليل مثنى مثنى" والحصر المفهوم من قوله: "والوتر ركعة من آخر الليل" غير مرادَيْن. والحصر في مثل هذا مختلف فيه، ومن قال به قال: ما لم تَصْرِف عنه قرينة، وكفى بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - قرينةً، وليس هنا ما يُلْجِئ إلى دعوى الخصوصية، وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - الفصلُ كما ثبتَ الوصلُ. وممّا ذُكِر تقرر أن إطلاق الوتر على الركعة الواحدة خاصٌّ بما إذا كانت مفصولةً. وقد ورد إطلاق الوتر على الثلاث أو الخمس أو السبع أو التسع التي تُوقَعُ موصولةً: فمنه حديث مسلم (¬2) عن ابن عباس، وفيه: "فصلَّى ركعتين أطالَ فيهما [القيامَ والركوعَ والسجود] (¬3)، ففعلَ ذلك ثلاث مراتٍ، ستَّ ركعاتٍ، كلَّ ذلك يستاك ويتوضأ، ويقرأ هؤلاء الآيات، ثم أوتَر بثلاثٍ" الحديثَ. ومنه حديث أحمد والشيخين (¬4) عن عائشة كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلَّي ¬

_ (¬1) عند أبي داود (1352). (¬2) رقم (763/ 191). (¬3) مطموس في الأصل. (¬4) "المسند" (24239) ومسلم (737) ولم أجده عنده البخاري بهذا اللفظ.

من الليل ثلاثَ عشرةَ ركعةً، يُوتِر بخمسٍ لا يجلس في شيء إلا في آخرها. ولمسلم (¬1) في حديث عائشة، وقد سألها سعد بن هشام عن وتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفيه: "ويُصلّي تسعَ ركعاتٍ لا يجلس فيها إلاَّ في الثامنة، فيذكر الله ويحمده ويدعوه، ثم ينهض، ولا يُسلِّم، ثم يقوم فيصلَّي التاسعة". ثم ساق الحديث إلى أن قالت: "فلما أسنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخذَه اللحمُ أوترَ بسبعٍ" الحديث. وقد رواه أبو داود (¬2). فتلخَّص لنا أن الوتر بهذا الاعتبار عبارةٌ عن ما صُلِّي وترًا بتسليمةٍ واحدةٍ، سواء أكان ركعةً أو ثلاثًا أو أكثر وترًا. والظاهر أنه حقيقة شرعية فيه، لأن عامة الأحاديث عليه إلّا الأقلّ. ويُؤيِّد ما قلناه أن الخلاف كان شائعًا: هل تُختَم صلاة الليل بركعةٍ مستقلةٍ أو بثلاثٍ أو أكثر من ذلك؟ ويُطلقون على ذلك لفظ "الوتر"، كما هو شأن الإطلاق الثالث. يدلُّك عليه حديثُ البخاري (¬3) عن القاسم عن عبد الله بن عمر مرفوعًا: "صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا أردتَ أن تنصرفَ فاركعْ ركعةً تُوتِر لك ما صلَّيت". قال القاسم: ورأينا أناسًا منذ أدركنا يُوتِرون بثلاثٍ، وإن كلًّا لواسعٌ، وأرجو أن لا يكون بشيءٍ منه بأسٌ. هـ. ¬

_ (¬1) رقم (746). (¬2) رقم (1342). (¬3) رقم (993).

قال في "الفتح" (¬1): قوله: "يوترون بثلاث، وإن كلاًّ لواسعٌ" يقتضي أن القاسم فهم من قوله: "فاركَعْ ركعةً" أي منفردةً منفصلةً، ودلَّ ذلك على أنه لا فرقَ عنده بين الوصل والفصل في الوتر. والله أعلم. هـ فإنهما ذكَرا حديثهما لمجرد إفادة وقوع الفصل من النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما فعل الصحابي فلا حجة فيه كما لا يخفى، على أن أكثر ما رُوي من ذلك محتمل. فإن قيل: سلَّمنا هذه الاحتمالات، ولكن ظاهر هذه الأحاديث لا يأبى جواز الاقتصار على ركعة، ومثل هذا الظاهر يُكتفَى به ما لم يُعارضه ما هو أقوى منه. قلت: فقد عارضه ما هو أقوى منه في ذلك، حديث الصحيحين (¬2): "صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدُكم الصبحَ صلَّى ركعةً واحدةً تُوتِر له ما قد صلَّى". قال في "الفتح" (¬3): واستُدِلَّ به على تعيُّن الشَّفْع قبل الوتر، وهو عن المالكية بناءً على أن قوله: "ما قد صلَّى" أي من النفل. وحملَه من لا يشترط سبقَ الشَّفْع على ما هو أعمُّ من النفل والفرض، وقالوا: إنَّ سبْق الشَّفْع شرطٌ في الكمال لا في الصحة. هـ ثم أيَّده بحديث أبي أيوب وما رُوي عن بعض الصحابة. ¬

_ (¬1) (2/ 485). (¬2) البخاري (990) ومسلم (749) عن ابن عمر. (¬3) (2/ 481).

قلت: أما الحمل على ما هو أعمُّ من النفل والفرض فيُبطِله السياق، بل المتعين: "تُوتِر له مما قد صلَّى" أي من صلاة الليل التي الكلام فيها. وأما تأييده بحديث أبي أيوب فقد علمتَ ما في حديث أبي أيوب، وكذا ما رُوي عن بعض الصحابة كما مرَّ آنفًا. وقد ورد النهيُ عن البُتَيراء كما أشار إليه في "الفتح" (¬1). وفيه: أن الطحاوي (¬2) حملَ البتيراء على إفراد ركعةٍ واحدةٍ وإن سبقها شَفْعٌ. قال الحافظ (¬3): مع احتمال أن يكون المراد بالبتيراء أن يُوتِر بواحدةٍ فردةٍ ليس قبلها شيء. وقد يطلق الوتر على صلاة الليل، كما نقله بعضهم عن الطيبي (¬4). ومن ذلك حديث أحمد وأبي داود (¬5) عن عائشة، وقد سبق، وإسناده صحيح كما مرّ. وفيه: "ولم يكن يُوتِر بأنقصَ من سبعٍ، ولا بأكثر من ثلاثَ عشرةَ". والمراد بالوتر في هذا الحديث مطلق صلاة الليل كما مرَّ في الإطلاق الأول، فلا ينافي ما ثبتَ أنه كان يُوتِر بواحدةٍ وبثلاثٍ وبخمسٍ، إذ هذا من الإطلاق الثالث، فالمراد بالسبع إلى الثلاث عشرة صلاة الليل، مع قطع النظر عن الوصل والفصل، والمراد بالواحدة واحدةٌ سبَقَها شَفْعٌ سِتٌّ فأكثر، وبالثلاث ثلاثٌ سبقها شَفْعٌ أربعٌ فأكثر، وبالخمس خمسٌ سَبقَها شَفْعٌ ¬

_ (¬1) (2/ 486). (¬2) في "شرح معاني الآثار" (1/ 279). (¬3) في "الفتح" (2/ 486). (¬4) بعده بياض في الصفحة. (¬5) "المسند" (25159) وأبو داود (1362).

ركعتانِ فأكثر، جمعًا بين الأحاديث. وبما ذُكر تقرر اشتراط الشفع قبل الواحدة، ولا يكفي في ذلك سنة العشاء، لما مرَّ أن سياقَ حديث "صلاة الليل مثنى مثنى" يُبيِّن أن قوله: "تُوتِر له ما قد صلَّى" أي من صلاة الليل التي الكلام فيها. وكذا حديث "ولم يكن يُوتِر بأنقصَ من سبعٍ" إذ الوترُ فيه من الإطلاق الأول كما علمتَ، وهو وإن شملَ صلاةَ الليل مطلقًا فليس منه بَعديَّةُ العشاء. ****

الفصل الثاني في الاقتصار على ثلاث

الفصل الثاني في الاقتصار على ثلاث أجازه أصحابنا لما مرَّ، وقد علمتَ الجواب عليه. وقال بعض الحنفية بتعيينه وصلًا، قال في "الفتح" (¬1): "واحتج بعض الحنفية لما ذهب إليه من تعيين الوصلِ والاقتصارِ على ثلاثٍ: بأن الصحابة أجمعوا على أن الوتر بثلاثٍ موصولةٍ حسنٌ جائز، واختلفوا فيما عداه. قال: فأخذنا بما أجمعوا عليه، وتركنا ما اختلفوا فيه". هـ أما تجويز أصحابنا فكما مرَّ في الاقتصار على الواحدة أن ظواهر ما استدلُّوا به لا تأبى ما قالوه، ومثلُ ذلك يُعمل به ما لم يعارضه أقوى منه. قلت: وقد عارضه حديث عائشة المارّ، وفيه: "ولم يكن يُوتِر بأنقصَ من سبعٍ". وعارضه أيضًا ما ساقَه في "الفتح" في سياق الرد على الحنفي. قال (¬2): "وتعقَّبه محمَّد بن نصر المروزي بما رواه (¬3) من طريق عراك بن مالك عن أبي هريرة مرفوعًا وموقوفًا: "لا تُوتِروا بثلاثٍ تُشبِّهوا بصلاة المغرب"، وقد صححه الحاكم (¬4) من طريق عبد الله بن الفضل عن أبي سلمة والأعرج عن أبي هريرة مرفوعًا نحوه، وإسناده على شرط ¬

_ (¬1) (2/ 481). (¬2) (2/ 481). (¬3) ومن طريقه الحاكم في "المستدرك" (1/ 304). (¬4) في "المستدرك" (1/ 304).

الشيخين، وقد صححه ابن حبان (¬1) والحاكم (¬2)، ومن طريق مِقْسم عن ابن عباس وعائشة كراهية الوتر بثلاث، وأخرجه النسائي (¬3) أيضًا. وعن سليمان بن يسار أنه كره الثلاث في الوتر، وقال: "لا يُشبِه التطوعُ الفريضةَ". فهذه الآثار تقدح في الإجماع الذي نقلوه. وأما قول محمد بن نصر: "لم نجد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خبرًا ثابتًا صريحًا أنه أوتر بثلاثٍ موصولةً، نعم ثبت عنه أنه أوتر بثلاثٍ، لكن لم يبيِّن الراوي هل هي موصولة أم مفصولة". انتهى. فيَرِدُ عليه ما رواه الحاكم (¬4) من حديث عائشة أنه كان - صلى الله عليه وسلم - يُوتِر بثلاثٍ لا يقعد إلاَّ في آخرهن. وروى النسائي (¬5) من حديث أبي بن كعب نحوه، ولفظه: "يُوتِر بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، ولا يُسلِّم إلاَّ في آخرهن". وبيَّن في عدة طرق أن السوَر الثلاث بثلاث ركعات. ويُجاب عنه باحتمال أنهما لم يثبتا عنده. والجمع بين هذا وبين ما تقدم من النهي عن التشبه بصلاة المغرب أن ¬

_ (¬1) رقم (2429). (¬2) (1/ 304). (¬3) (3/ 239، 240). (¬4) في "المستدرك" (1/ 304). وفيه في المتن "لا يسلم"، وأشار في الهامش إلى "لا يقعد". وهو الصواب في هذه الرواية, كما نبَّه على ذلك شمس الحق العظيم آبادي في "التعليق المغني" (2/ 26، 27)، وبيَّن تحريف بعض الحنفية فيه. (¬5) (3/ 235، 236).

يُحمل النهي على صلاة الثلاث بتشهدين، وقد فعله السلف أيضًا، فروى محمد بن نصر (¬1) من طريق الحسن أن عمر كان ينهض في الثالثة من الوتر بالتكبير، ومن طريق المِسور بن مَخْرمة أن عمر أوتر بثلاثٍ لم يُسَلِّم إلاَّ في آخرهن، ومن طريق ابن طاوس عن أبيه أنه كان يُوتِر بثلاثٍ لا يَقعد بينهن، ومن طريق قيس بن سعد عن عطاء وحماد بن زيد عن أيوب مثله. انتهى. أقول: وقوله: "وقد فعله السلف ... إلخ" يُوهِم أنه صلاة الثلاث بتشهدين وتسليمة واحدةٍ، ولم يذكر ما هو صريح في ذلك إلا ما يوهمه حديث عمر. ثم قال بعدُ: وروى محمد بن نصر (¬2) عن ابن مسعود وأنس وأبي العالية أنهم أوتروا بثلاثٍ كالمغرب، وكأنهم لم يبلغهم النهي المذكور. وسيأتي في هذا الباب قول القاسم بن محمد في تجويز الثلاث، ولكن النزاع في تعيُّن ذلك، فإن الأخبار الصحيحة تأباه. انتهى (¬3). أقول: قد سُقتُ هنا عبارة "الفتح" بطولها لأَبني عليها: فأولًا: هل فيما ذكره دليلٌ لأصحابنا على جواز الاقتصار على (¬4) الثلاث؟ فنقول: يُوهِم ذلك قولُ محمد بن نصر: "نعم، ثبت عنه أنه أوتر ¬

_ (¬1) "مختصر قيام الليل وكتاب الوتر" (ص 122). (¬2) المصدر نفسه (ص 122، 123). (¬3) أي كلام الحافظ في "الفتح" مع ما تخلَّله من كلام المؤلف. (¬4) في الأصل: "عن" سهوًا.

بثلاثٍ ... إلخ". والجواب عنه أن ما ثبت من ذلك هو بعدَ سَبْقِ شَفْعٍ، كما في حديث عائشة المتفق عليه (¬1): "يُصلِّي أربعًا، فلا تسألْ عن حسنهن وطولهن، ثم يُصلِّي أربعًا، فلا تسألْ عن حسنهن وطولهن، ثم يُصلِّي ثلاثًا" الحديث. وكذا رواية عند مسلم (¬2) في حديث ابن عباس، وفيها: "فصلَّى ركعتين أطال فيهما، ثم انصرف فنام حتى نفخَ، ففعلَ ذلك ثلاثَ مراتٍ ستَّ ركعات، كلَّ ذلك يستاك ويتوضأ، ويقرأ هؤلاء الآيات، يعني آخرَ آل عمران، ثم أوتَر بثلاثٍ" الحديثَ. وعلى هذا يُحمل ما رواه الحاكم عن عائشة، وما رواه النسائي من حديث أبي بن كعب (¬3)، وكذا ما رُوي عن عُمر ومَن بعده، وأشار إليه من قول القاسم وقد مرَّ، وعلى ما ذكرناه هنا وفي الفصل الأول يدلُّ سياق الإمام النسائي في "سننه" حيث قال (¬4): (باب كيف الوتر بواحدةٍ؟) ثم ساق حديث ابن عمر: "صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا أردت أن تنصرف فاركعْ واحدة" برواياته. ثم عقَّبه بحديث عائشة: "كان يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة يُوتِر منها بواحدة" الحديث. ثم قال (¬5): (باب كيف الوتر بثلاث؟) وساق حديث عائشة الذي مرَّ، وفيه: "أربعًا وأربعًا وثلاثًا". فأَفْهَمك بحِذْقِه أن ليس المراد من إطلاقِ "أوتر بواحدة" [و] "أوتر بثلاث" الاقتصار عليها ¬

_ (¬1) البخاري (1147) ومسلم (738). (¬2) رقم (763/ 191). (¬3) سبق تخريجهما. (¬4) (3/ 233). (¬5) (3/ 234).

بدون سَبْقِ غيرها، فافهمْ. ثانيًا: هل فيما ذكره دليلٌ على أصحابنا؟ أقول: نعم. ولنبدأ بتحقيق الكلام في حديث: "لا توتِروا بثلاثٍ": أولاً: حديث الدارقطني (¬1) عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تُوتِروا بثلاث، أوتروا بخمسٍ أو سبعٍ، ولا تُشبِّهوا بصلاة المغرب". قال: كلهم ثقات. ورواه من طريق أخرى بمثله إلّا أنه قال: "بسبع". قال الشارح (¬2) على الرواية الأولى: وأخرجه الحاكم في "المستدرك" (¬3) بهذا الإسناد والمتن، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يُخرجاه. وكذا أخرجه البيهقي (¬4). وأخرجه الحاكم (¬5) أيضًا من جهة أخرى بقوله: حدثنا، وساق السند إلى عِراك بن مالك عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُوتروا بثلاثٍ تُشبِّهوا بصلاة المغرب، ولكن أوتروا بخمسٍ أو بسبعٍ أو بتسعٍ أو بإحدى عشرةَ أو بأكثر من ذلك". وأخرج محمد بن نصر المروزي في "قيام الليل" (¬6) له: حدثنا ... ¬

_ (¬1) في "سننه" (2/ 24, 25). (¬2) هو العلامة المحدث شمس الحق العظيم آبادي في "التعليق المغني على سنن الدارقطني" (2/ 24، 25). (¬3) (1/ 304). (¬4) في "السنن الكبرى" (3/ 31). (¬5) في "المستدرك" (1/ 304). (¬6) (ص 125).

إلخ، وساق السند إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحوه. وهكذا أخرجه ابن المنذر وابن حبان (¬1)، كما في "التلخيص" (¬2). وقال الحافظ في "فتح الباري" (¬3): وقد صححه الحاكم من طريق عبد الله بن الفضل، وإسناده على شرط الشيخين، وقد صححه ابن حبان. انتهى. وقال في "التلخيص" (¬4): حديث أبي هريرة رجاله كلهم ثقات، ولا يضره وقفُ من أوقفَه. انتهى. وقد صحح زين الدين العراقي إسنادَ طريقين: طريق عراك بن مالك، وطريق عبد الله بن الفضل، كما في "النيل" (¬5). وصححه مجد الدين الفيروزابادي في "سفر السعادة" (¬6)، وكذا أقرَّ على صحته الحافظ ابن القيم في "إعلام الموقعين عن ربّ العالمين" (¬7) (¬8). أقول: أما الحديث فقد صحَّ، وقد مرَّ جمعُ الحافظ بينه وبين أحاديث الوتر بثلاث ركعات، وفي النفس من ذلك شيء. والتحقيق أن يقال: إن هذا ¬

_ (¬1) رقم (2429). (¬2) "التلخيص الحبير" (2/ 15). (¬3) (2/ 481). (¬4) (2/ 15). (¬5) "نيل الأوطار" (3/ 43). (¬6) (ص 64) ط. دار القلم بيروت. (¬7) (2/ 354). (¬8) إلى هنا انتهى النقل من "التعليق المغني" للعظيم آبادي.

الحديث ورد بمتنين: أحدهما هو قوله: "لا توتروا بثلاثٍ، أوتروا بخمسٍ أو بسبعٍ، ولا تُشبَّهوا بصلاة المغرب". والثاني قوله: "لا توتروا بثلاثٍ تُشبِّهوا بصلاة المغرب، ولكن أوتروا بخمسٍ أو بسبعٍ أو بتسعٍ أو بإحدى عشرةَ أو بأكثر من ذلك". وظاهر المتن الأول أن قوله: "ولا تُشبِّهَوا بصلاة المغرب" عطفُ تفسيرٍ لقوله: "لا تُوتِروا بثلاثٍ"، قيل لبيان علته، ويحتمل أن يكون نهيًا آخر. وأما المتن الثاني فإن "تُشبِّهوا" بدل من "لا تُوتِروا"، فلا يحتمل إلّا معناه. وبيانه أن النهي عن التشبيه بصلاة المغرب هل هو فيما يتعلق بالكمّ وحده أو بالكيف وحده أو بهما معًا؟ فإن كان بالكمّ فقط امتنع أن يصلي في الليل ثنتين، ثم بعد وقتٍ يُصلِّي واحدة؛ لأن المجموع حينئذٍ ثلاث، وهي قدر المغرب. وإن كان بالكيف فقط امتنع أن يصلِّي ثلاثًا معًا وإن سبقَ قبلَها عددٌ من الشفع. وإن كان بهما معًا لم يمتنع إلا أن يُجمع بين الثلاث ويقتصر عليها. فأقول: الحديث باللفظ الأول ظاهر في إرادة الكمّ محتملٌ للإطلاق، وباللفظ الثاني نصٌّ في إرادة الكمّ، فتعيَّن أن يكون الأول كذلك. إذا تقرر هذا فالحديث نصٌّ في النهي عن التشبيه بالمغرب بالكمّ، ثم هذا الكمّ هل هو معتبر في الوتر بالإطلاق الأول أو بالإطلاق الثالث؟ أقول: الحديث باللفظ الأول محتملٌ للأمرين، وباللفظ الثاني متعين للإطلاق الأول كما مرَّ؛ لأن فيه: "أو بأحد عشر أو بأكثر من ذلك"، وغاية صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الليل ثلاثة عشر على نزاعٍ.

ثانيًا: لو كان من الإطلاق الثالث لاقتضى أن الأحد عشر تُصلَّى بتسليمةٍ واحدة، وكذا الأكثر من ذلك، وهو غريب. ثالثًا: إن الوتر عند أصحابنا غايته أحد عشر، وهذا أربَى عليها، فثبتَ أن الوتر فيه من باب الإطلاق الأول، أي عبارة عن صلاة الليل يصلِّيها - صلى الله عليه وسلم -، مع قطع النظر عن النية وعن الوصل والفصل، وحينئذٍ فيتعين حمل اللفظ الأول عليه. فثبت أن مورد النهي عن التشبيه بالمغرب هو في الكمّ فقط، وفي مطلق صلاة الليل الذي كان يُصلِّيها - صلى الله عليه وسلم -. إذا تقرر ذلك فلو اقتصر في ليلةٍ على ثلاث ركعات عدا سنة العشاء والفجر فقد شبَّه، سواء وصلَها بتشهُّدٍ واحد أو تشهدين، أو فصلَها بزمن قصير أو طويل، مع اتحاد النية بأن نوى بها الوتر، أو تفريقها بأن نوى بالركعتين من قيام الليل ونوى بالركعة الوتر، وإذا صلَّى في ليلةٍ عدا سنة العشاء والفجر اثنتين وثلاثًا، أو أربعًا وثلاثًا، أو ستًّا وثلاثًا، أو ثمانيًا وثلاثًا، أو عشرًا وثلاثًا = لم يقع في التشبيه أصلًا، سواء وصلَ الثلاثَ بتشهد أو تشهدين، أو فصلَها بزمن قصير أو طويل، مع اتحاد النية أو تفريقها، وحينئذٍ فالجمع الصحيح بين هذا الحديث وبين ما ورد من الإيتار بثلاثٍ: أن ما ورد من إطلاق الإيتار بالثلاث فالمراد به جمعها بعد أن يسبقها عددٌ من الشفع، ومن استقرأ الآثار وجدها كذلك إلّا ما شذّ. ويدلُّك على ذلك ظاهر وتر عمر أنه كان ينهض في الثالثة من الوتر بالتكبير، وما رُوِي عن ابن مسعود وأنس وأبي العالية أنهم أوتروا بثلاثٍ كالمغرب، وكفى بهؤلاء، ويبعد كل البعد أن لا يطلعوا على حديث النهي عن التشبيه بالمغرب، بل الظاهر أنهم كانوا أعلمَ به من غيرهم، حيث فهموا

تنبيه

أن مورده النهي عن التشبيه بالاقتصار على الثلاث في ليلة، لا التشبيه بالكيف، فكانوا رضي الله عنهم يُصلُّون ما شاء الله، ثم يُوتِرون بثلاثٍ كما عرفتَ. نعم، قد يقال: إن التشبيه بالكيف يُحكَم بالنهي عنه قياسًا على التشبيه بالكمّ، ولا سيَّما وقد نصّ على العلة في نفس الحديث. قلتُ: هذا قوي، ويدلُّ له أنَّ عامة ما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وتر الثلاث ليس فيه النصُّ على شيء أنه بتشهدين، وأما بتشهدٍ واحدٍ فكثير كما مرَّ. وأما فعلُ ابن مسعود وأنس وأبي العالية وظاهر ما رُوي عن عمر فمحمولٌ على أنهم لم يعتبروا القياس المذكور، كأنهم رأوا أن تشبيه النفل بالفرض ليس علةً كاملةً، إذ قد ورد صلاةُ أربعٍ قبل الظهر لا يُسلِّم إلاَّ في آخرهن، وذلك يُشبه الظهر. وقد مرّ حديث عائشة "أربعًا وأربعًا وثلاثًا" وغير ذلك. ولكن ظاهر الحديث خلاف ذلك، فاعتبار القياس قوي، وعليه فيمتنع الوتر بثلاثٍ بتشهدين ولو كان قد صلَّى قبلها عددًا من الشفع، وعليه فالجمع الذي ذكره الحافظ يعتبر لاعتبار الكيف، والله أعلم. تنبيه قد مرَّ في الفصل الأول أنه لا بدّ أن يتقدم الواحدةَ شَفْعٌ غير سنةِ العشاء، كما يدلُّ عليه سياقُ حديث "صلاة الليل مثنى ... " إلى آخره، وتقرر في هذا الفصل أن الشفع الذي يتقدم الواحدة لا بدَّ أن يكون أربعًا فأكثر، ولا يُعتَدُّ فيه بسنة العشاء لما قرَّرناه أن لفظ: "لا توتِروا بثلاثٍ، أوتروا بخمسٍ ... " إلخ من الإطلاق الأول، أي أن الوتر عبارة عما يَشملُ صلاةَ الليل إلى ثلاث عشرة ركعة، وسنة العشاء ليست من ذلك.

فتقرر أنه لا بدَّ أن يُصلَّي الإنسان بعد سنة العشاء وقبل سنة الصبح خمسًا على الأقل، فإنه أقلُّ ما تُؤدَّى به السنةُ خارجًا من النهي، ومن أراد أدنى الكمال فلا بدَّ من سبعٍ، لحديث عائشة المتقدم: "ولم يكن يُوتِر بأنقصَ من سبعٍ ". والله أعلم. ****

اللفظ الثاني (¬1): "ولم يكن يُوتر بأنقصَ من سبعٍ"، إن قلتم: حقيقة، قلنا لكم: فكيف بقولها: "ولا بأكثر من ثلاث عشرة"؟ وتقدير: "ولا يصلي بأكثر من ثلاث عشرة" من الحذف، وقد مرَّ ما فيه، على أن الباء تدفع ذلك. وتقدير: "ولا يُوتِر بأكثر ... " إلخ، وإن دفع الباء فهو لا يُجدِيْ شيئًا. على أنه لا يضرُّنا القول بأنه حقيقة لاحتمال الوصل، وليس في قولها: "بأربع وثلاثٍ" أنه لم يكن يُصلِّي السبع إلّا كذلك. وقد ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - وَصْلُ السبع من عدة روايات. وإن قلتم: مجاز، فهو بجميع طرقه لا يدلُّ على ما قلتم كما مرَّ، بل غاية ما فيه أن يحتمل ذلك، فيُطلب دليلٌ غيره، والدليل بيدنا. وإن قلتم: حقيقة باعتبار مجاز باعتبار، فقد مرَّ ما فيه، وغاية ما فيه الاحتمال أيضًا. اللفظ الثالث: "يُوتر بثلاث عشرة"، إما أن تقولوا: مجاز، أو حقيقة ومجاز باعتبارين، وكلُّ ذلك بأنواعه لا يُجدِيكم شيئًا، بل غايته الاحتمال. اللفظ الرابع: "أوترَ بسبعٍ". إن قلتم: حقيقة، فلا بأس، لاحتمال الوصل، ولكن جَعْله مقابلًا لما بعده يُنافي ذلك. اللفظ الخامس: ["لا تُوتِروا بثلاثٍ"]، كالذي قبله. اللفظ السادس: "أوتروا بخمسٍ أو بسبعٍ أو بتسعٍ أو بإحدى عشرة أو بأكثر من ذلك". يأتي فيه ما مرَّ في اللفظ الأول. وقد سبق ما يؤكِّد مجازية هذا الحديث فراجعه. ¬

_ (¬1) الكلام من هنا غير متصل بما قبله، وهكذا وُجد في الأصل ناقصًا.

والحق في الألفاظ الستة من الأحاديث الثلاثة أنها كلَّها مجازاتٌ عن صلاة الليل، فمعنى الحديث الأول: كان يُصلَّي بالليل أربعًا وثلاثًا، وستًّا وثلاثًا، وثمانيًا وثلاثًا، وعشرًا وثلاثًا. ولم يكن يُصلَّي في ليلةٍ أقلَّ من سبعٍ ولا أكثر من ثلاث عشرة. فقولها: "أربع وثلاث، وستّ وثلاث، وثمان وثلاث" كرواية مسروق عند البخاري قال: سألتُ عائشة رضي الله عنها عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالليل، فقالت: "سبع وتسع وإحدى عشرة سوى ركعتي الفجر". وقولها: "وعشر وثلاث" كرواية عروة عند البخاري عنها أيضًا قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بالليل ثلاث عشرة ركعةً، ثم يُصلَّي إذا سمع النداء بالصبح ركعتين خفيفتين". ومعنى الحديث الثاني: كان يصلي بالليل ثلاث عشرة ركعة، فلما كَبُرَ وضعُفَ صلَّى سبعًا. وهو شبيهٌ بحديث عائشة. ومعنى الحديث الثالث: لا تُصلُّوا في الليل ثلاثًا مقتصرةً عليها، تُشبهوا المغرب، صلُّوا خمسًا أو سبعًا أو تسعًا أو إحدى عشرة أو أكثر من ذلك. وقد مرَّ شرحه مستوفًى. ****

قال (¬1) شيخ الإسلام (¬2): "واستشكل وجوب الثلاثة عليه لضعف الخبر، وبجَمْعِ العلماء بين أخبار الضحى المتعارضة في سنيتها بأنه كان لا يداوم عليها، مخافةَ أن تُفرَض على أمته فيَعْجِزوا عنها, ولأنه قد صحَّ عنه أنه كان يُوتِر على بَعيرِه، ولو كان واجبًا عليه لامتنعَ ذلك. وقد يُجاب عن الأول باحتمال أنه اعتضد بغيره. وعن الثاني بأن صلاة الضحى واجبةٌ عليه بالجملة. وعن الثالث باحتمال أنه صلاها على الراحلة وهي واقفة، على أن جواز أدائها على الراحلة من خصائصه أيضًا". قلت: هذه الأجوبة لا تُجدي شيئًا. أما الأول: فإن مجرد احتمال الاعتضاد ليس اعتضادًا. وأما الثاني: فلا نعرف معنى الوجوب على الجملة، هل معناه أن ركعتي الضحى وجبتْ عليه في العمر مرةً أو غير ذلك؟ وأما الثالث فاحتمال وقوف الراحلة يُبعِده حديث سعيد بن يسار عند البخاري (¬3) قال: "كنتُ أسير مع عبد الله بن عمر بطريقِ مكة، فقال سعيد: فلما خشيتُ الصبحَ نزلتُ فأوترتُ ثم لحِقْتُه. فقال عبد الله بن عمر: أين كنتَ؟ فقلتُ: خشيتُ الصبحَ فنزلتُ فأوترتُ، فقال عبد الله: أما لك في رسول الله أسوةٌ حسنة؟ قلتُ: بلى والله! قال: فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يُوتِر على البعير". ¬

_ (¬1) لم نجد الكلام المتعلق به في النسخة، وأبقيناه كما هو. (¬2) أي زكريا الأنصاري في "أسنى المطالب في شرح روض الطالب" (3/ 98) ط. دار الكتب العلمية. (¬3) رقم (999).

قلتُ: فواقعةُ سعيد بن يسار كانت في حالة السير، كما يدلُّ عليه قوله: "ثم لَحِقتُه"، وقوله: "فقال: أين كنت؟ "، وذلك يدلُّ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يوتر عليها في حالِ السير. وأما قوله: "على أن جواز أدائها على الراحلة من خصائصه أيضًا"، فهو مردود بما قلنا, ولنا أدلة أخرى على عدم وجوب الوتر عليه - صلى الله عليه وسلم -، ربما نُشير إليها في المقالة الثانية. وأما ما رواه البخاري (¬1) عن نافع "أن ابن عمر كان يُسلِّم بين الركعة والركعتين في الوتر"، فإنه وإن كان ظاهره إيقاع الوتر على الثلاث المفصولة، فليس لكم فيه دليل: أولاً: أنه أطلق ذلك؛ لأن الناس كانوا يُوترون بثلاث، كما في البخاري (¬2): "قال القاسم: ورأينا أناسًا منذُ أدركنا يُوترون بثلاث". وحكاه مالك (¬3) عن عمل أهل المدينة وإن لم يأخذ به، فصار عندهم لكثرة فعل الوتر ثلاثًا يتبادر منه عند الإطلاق تلك الثلاث حتى كأنه خاص بها، فلذلك عبَّر به نافع مع وجود الفصل. ثانيًا: أن قوله: "في الوتر" ليس معناه: في وتره, وإنما معناه: في الثلاث التي تُوتِر الناسُ بها. ¬

_ (¬1) رقم (991). (¬2) رقم (993). (¬3) في "الموطأ" (1/ 125).

ثالثًا: روى الطحاوي (¬1) من طريق سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه أنه كان يَفصِل بين شَفْعِه ووترِه بتسليمةٍ، ذكره في "الفتح" (¬2)، وعامة الأحاديث والآثار على هذا كما شرحنا، مع أن غاية ما في قول نافع أن يكون أثرًا عن تابعي، فلا حجة فيه على كل حال. وأما جوابكم عن المبحث الثاني فلا كلامَ لنا معكم فيه هنا؛ لأنا نُوافقكم في أن الوتر ليس ثلاثَ عشرة. وأما كون ذلك صلاةَ ليلٍ فسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى. وأما جوابكم عن المبحث الثالث، فقد مرَّ عند قولنا: "وأما حديث الشيخين عن عائشة: كان يُصلِّي من الليل عشرَ ركعاتٍ ويُوتِر بسجدةٍ ... " إلخ. ومن أصحابنا من اختار أن أكثر الوتر ثلاث عشرة ركعةً، ووافق الأكثر في عدم اشتراط الوصل. وينحصر الجواب عليه بالوجه الثالث الذي ذكرناه عن حديث ابن أبي قيس، وهو أن عامة الأحاديث والآثار مُطبِقةٌ على إطلاق الوتر الشرعي على ما صُلَّي وترًا موصولًا دون غيره، وأن الوصل لم يثبت في أكثر من تسع. وبذلك يتعيَّن كون إطلاق الوتر في هذه الثلاثة الأحاديث مجازًا عن صلاة الليل، كما أفاده الترمذي والنسائي في حديث أم سلمة وأشار إليه أبو داود في حديث ابن أبي قيس، وظهر لنا رجحانُه في حديث أبي هريرة. وهذا ما اقتضاه قولُ الحق الذي أوجبه الله على كلَّ مسلمٍ على مبلغِ ¬

_ (¬1) في "شرح معاني الآثار" (1/ 279). (¬2) (2/ 482).

علمه ومقدارِ فهمه. وليس فيما قلناه غضاضةٌ على أئمة مذهبنا، فإنهم حَفَظَةُ الدين وأئمة اليقين، وهم جبالُ العلم وبِحارُه، وشُموسُ الحقِّ وأقمارُه، وإنما معنا آثارُ فوائِدهم وأسْقاطُ موائِدهم. وحسبنا الله ونعم الوكيل.

الرسالة التاسعة فرضية الجمعة وسبب تسميتها

الرسالة التاسعة فرضية الجمعة وسبب تسميتها

بسم الله الرحمن الرحيم [ص 1] فلمّا قرأ {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} قال رجل: مَن هؤلاء؟ ... " (¬1). فهذا الحديث يدلُّ على أنّ السورة لم تنزل إلا بعد إسلام أبي هريرة، وكان أسلم سنة ... (¬2)، لكن قال في "الفتح": "قوله: فأُنزِلتْ عليه سورة الجمعة: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} " كأنّه يريد: أُنزِلت عليه هذه الآية من سورة الجمعة، وإلاّ فقد نَزلَ منها قبل إسلام أبي هريرة الأمرُ بالسعي. ووقع في رواية الدراوردي عند مسلم: "نزلت عليه سورة الجمعة، فلمّا قرأ: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ} ". "فتح الباري" (ج 8 ص 453) (¬3). أقول: والدراوردي سيئ الحفظ، وإنّما أخرج له البخاري مقرونًا بغيره، وكان لحّانًا. فرواية سليمان أثبت. وعليها فقوله: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} بدلُ بعضٍ من سورة الجمعة، على وِزان قولهم: "أكلتُ الرغيفَ ثُلُثَه". فيتحصل من ذلك أنّ المراد: نزلت هذه الآية من هذه السورة؛ كما قال الحافظ. وقول الحافظ: "فقد نزلَ قبل إسلام أبي هريرة الأمرُ بالسعي"؛ لم أقف ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4897) ومسلم (2546) من حديث أبي هريرة قال: "كنّا جلوسًا عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، إذ نَزَلت عليه سورة الجمعة، فلما قرأ ... ". (¬2) هنا بياض في الأصل، وفي "الإصابة" (13/ 42): كان إسلامه بين الحديبية وخيبر. (¬3) (8/ 642) ط. السلفية.

على مستندٍ صريح له، وعلى تسليمه فلم تُحدَّد القبلية. ويمكن أن يكون استندَ إلى تقدُّم فرضية الجمعة، واستظهر أنّها إنما كانت بهذه الآية، وهو كما ترى. واحتجاج الشافعي والبخاري وغيرهما بآية السعي على فرضية الجمعة لا يستلزم أنّهم يرون أنّ الجمعة لم تُفرَض إلاَّ بها، إذ لا مانعَ من أن يُفرَض الشيء ثم بعد مدّةٍ يُنزِل الله تعالى في القرآن الأمرَ به، ولهذا نظائر. والقرآن نفسه فيه آيات مكية تأمر بالشيء، وآيات مدنية متأخرة تأمر بذلك الشيء نفسه. فلا دليلَ فيما ذكرنا على تقدُّم الآية ولا تأخُّرها. وهكذا لا دليلَ فيما عُلِم من أنّ قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11] الآية مدنية، على أنّ السورة كلها مدنية، ولا على أنّ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9 - 10] الآيتين مدنية، ولا على أنّهما نزلتا معها في وقت واحد. على أنّ من الناس من استشكل هذا الحديث لأمر آخر؛ وهو أنّه يظهر منه أنّ المراد بقوله تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ} فارس. وهذا بعيدٌ جدًّا من ظاهر القرآن؛ لأنّ الضمير في قوله: {مِنْهُمْ} يعود على الأمّيين حتمًا، والأمّيون هم العرب، باتفاق المفسّرين من السلف وأهل اللغة وغيرهم. فتقدير الآية: "وآخرين من العرب"، وفارس ليسوا من العرب. وفي سند الحديث ثَور بن زيد عن سالم أبي الغيث؛ وقد تُكُلِّم في كلٍّ منهما (¬1)، وإن أخرج لهما الشيخان. ¬

_ (¬1) انظر "تهذيب التهذيب" (2/ 32 و445).

وقد روى العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال: "لما نزلت {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} [محمد: 38] قالوا: يا رسول الله، مَن هؤلاء؟ ... وسلمانُ إلى جنبه، فقال: هم الفرس، هذا وقومه". "المستدرك" (ج 2 ص 458)، وقال: صحيح على شرط مسلم. وأخرجه ابن جرير في "تفسيره" (¬1) وغير واحد. وهذه القصة تُشبِه تلك، ولا يبعد أن تكون واحدةً؛ فانتقل ذهن سالم أو ثور من آية القتال إلى آية الجمعة. وقد روى الترمذي الحديثين (¬2)، وقال في كل منهما: غريب. أمّا أنا فأرى أنّه لا مانع من صحتهما معًا؛ كما ذكره الحافظ في "الفتح" (¬3). والقصة التي ذكر فيها آية الجمعة ليس فيها تصريح بأنّ فارسًا هي المراد بقوله تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ} , وإنّما فيها: "قال: قلت: مَن هم يا رسول الله؟ فلم يراجعه حتى سأل ثلاثًا، ومعنا سلمان الفارسي، فوضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده على سلمان، ثم قال: لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجالٌ أو رجلٌ من هؤلاء". ¬

_ (¬1) (21/ 234). وأخرجه أيضًا ابن أبي حاتم في تفسيره" كما في "تفسير ابن كثير" (7/ 306)، والطبراني في "الأوسط" (8838) والبيهقي في "دلائل النبوة" (6/ 334) وغيرهم. (¬2) رقم (3260، 3310). (¬3) (8/ 642).

إنّما أعرض النبي - صلى الله عليه وسلم - مرّة بعد مرّة لأنّ في الآية نفسها البيان [...]. [ص 4] فإن كان السائل لم يفهم هذا فهو مقصَّر، يستحقُّ الإعراض عنه، ليردَّه الإعراضُ إلى التدبُّر. وإن فهم هذا وأراد تعيينَهم بقبائلهم أو بأسمائهم، فلا فائدةَ في بيان ذلك. ثم نبَّه النبي - صلى الله عليه وسلم - على أنّه كان الأَولى بالسائل أن يسأل عن أمر آخر، وهو: هل التعليم والتزكية يختصُّ بالأمّيين أو لا يختصُّ؟ فأجاب عن هذا بقوله: "لو كان الإيمان ... إلخ" أي: أنّه لا يختصُّ. وهذا هو الذي يُسمِّيه أهل المعاني: الأسلوب الحكيم، وذكروا له أمثلةً من القرآن وغيره. ولو كان المراد أنّ الآخرين هم فارس لكان السؤال في محلّه، فلا يكون وجهٌ للإعراض، كما لم يقع الإعراض في القصة الأخرى، ولكان الجواب مصرِّحًا بذلك؛ كأن يقول: هم الفرس، كما قال في القصة الأخرى، والله أعلم. وهذا بحمد الله ظاهر جدًّا، وإن لم أرَ من نبَّه عليه. وإذ لم نظفر بما نعلم منه تاريخ النزول فلننظر من جهة أخرى. فأقول: الاحتمال الثالث بعيد, لأنّ الآية عليه تكون مجملةً، وهو خلاف الظاهر الغالب. ويبقى النظر في الاحتمالين الأولين: فإن كان نزول الآية متأخرًا، أي: بعد إسلام أبي هريرة أو قبله قريبًا منه تعيّن الاحتمال الأول؛ لأنّ الأحاديث كلها يُطلَق فيها "يوم الجمعة" على أنه عَلَم. ولو لم يكن جُعِل علمًا إلا أخيرًا لجاء في بعض الأحاديث ذكره باسمٍ آخر، أعني ببعضها ما كان قبل نزول الآية؛ إذ يبعد جدًّا أن تكون الأحاديث المروية في الجمعة إنّما سُمِعتْ وحُفِظَتْ بعد إسلام أبي هريرة أو قريبًا منه.

فصل

وإن كان نزول الآية بمكة أو أوائل قدوم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينةَ فالاحتمال الثاني أقرب. وعلى كلا الاحتمالين فتسمية هذا اليوم "يوم الجمعة" تسمية شرعية؛ إمّا بالقرآن وإمّا بالسنة، متقدّمة على القرآن أو متأخرة عنه، والله أعلم. فالشرع سمّاه يوم الجُمُعة بضمتين؛ كما في قراءة العامة، فأخذَه بنو تميم وخفّفوه بإسكان الميم، وقرأ به بعض الشواذّ، وسمعه بنو عقيل فحرَّفوه، مع ملاحظة المعنى؛ فقالوا: يوم الجُمَعة، بضمٍّ ففتحٍ، والله أعلم. [ص 2] فصل يَرِد في الأحاديث عند ذكر اليوم "يوم الجمعة"، ويَرِد فيها "الجمعة" مفردًا، ويجيء فيها عند ذكر الصلاة "صلاة الجمعة"، ويَرِد فيها "الجمعة" مفردًا؛ فأيُّ هذه الأصلُ؟ أقول: أما تسمية الصلاة أو اليوم ابتداءً بهذا المصدر الذي معناه الاجتماع فبعيد، فتبقى احتمالات: الأول: أن يكون أول ما نظر الشرع إلى الصلاة فسمّاها "صلاة الجمعة"؛ أي: صلاة الاجتماع، ثم أتبعَها اليوم، فقال: "يوم الجمعة". وتقديره: يوم صلاة الاجتماع. الثاني: عكسه. الثالث: أن يكون نَظَر إليهما معًا؛ فسمّى الصلاة "صلاة الجمعة" واليوم "يوم الجمعة".

والأول أقوى؛ لأنّ الجمعة إذا أُطلِقَتْ في الشرع يتبادر منها إلى ذهن العارف به الصلاة، ولأنّ المعهود من الشارع وضع الأسماء للأحكام الشرعية، في أدلةٍ أخرى لا أُطيل بذكرها. [ص 3] ففي هذه الآيات تسمية هذا اليوم "يوم الجمعة". فهل سُمّي هذا اليوم "جمعة" من أول وهلة، ثم قالوا "يوم الجمعة" من باب إضافة العام إلى الخاص؟ أم الجمعة شيء أضيفَ إليه اليوم، فصار من باب العَلَم المضاف، ثم توسّعوا فأطلقوا على اليوم نفسه "جمعة"؛ كما قالوا في يوم السبت أنّ أصل السبت الراحة والقطع، فكأنّه قيل: "يوم الراحة"، ثم توسعوا فأطلقوا السبت على اليوم نفسه؟ ادّعى بعضهم الأول، وهو واهمٌ فيه؛ لما ستسمعه. واختلفوا في أصل معنى "جمعة" الذي أُضِيف إليه هذا اليوم. فالقول الأول: إنّه بمعنى الاجتماع. قال الزمخشري في "الأساس" (¬1): "وجمَّع القومُ: شهدوا الجمعة، وأدام الله جمعةَ ما بينكما؛ كما تقول: ألفةَ ما بينكما". وفي "القاموس" (¬2): "ويوم الجمعة ... وأدام له جمعةَ ما بينكما: أُلفةَ ما بينكما". قال شارحه (¬3): "قاله أبو سعيد". أقول: وهذا تنبيهٌ على أنّ "جمعة" من قولهم: "جمعةَ ما بينكما" مصدرٌ كالألفة، وأنّ الجمعة في قولنا "يوم الجمعة" من هذا المعنى. وقد بيّن ذلك ¬

_ (¬1) (ص 100) ط. دار صادر. (¬2) (3/ 14) ط. بولاق. (¬3) "تاج العروس" (20/ 459) ط. الكويت.

المُطرَّزي في "المُغرِب" (¬1)؛ قال: "والجمعة من الاجتماع كالفرقة من الافتراق؛ أُضِيفَ إليها اليوم والصلاة، ثم أكثر الاستعمال حتى حُذِف منها المضاف". وصرّح أبو البقاء بالمصدرية؛ قال (¬2): "الجمعة - بضمتين وبإسكان الميم - مصدرٌ بمعنى الاجتماع"، نقله في "روح المعاني" (¬3). فمن مثّله بـ "أُلْفة" مثّله بنظيره، ومن مثّله بـ "فُرقة" مثّله بضدِّه؛ لأنّ العرب كثيرًا ما تُسوِّي بين النظيرينِ وبين الضدّينِ؛ كما هو مقرر في محلّه. أقول: وهذا القول هو الظاهر، بل الصواب. وزاد أبو البقاء (¬4): "وقيل في المُسَكَّن هو بمعنى المجتمَع فيه؛ كرجلٍ ضُحْكةٍ؛ أي: كثيرٌ الضحكُ منه". أقول: إنما خصَّه بالمسكّن لأنه يكون حينئذٍ صفةً، والصفة تجيء على "فُعْلة" بضمًّ فسكون، ولا تجيء بضمتين. والذين قالوا إنّ كلّ "فُعْلٍ" بضم فسكون يجوز أن يقال فيه "فُعُل" بضمّتين استثنوا الصفة؛ كما نصّ عليه الرضيُّ (¬5) وغيره. وهذا يردُّ على الآلوسي فيما صدَّر به، وهو القول الثاني؛ قال (¬6): ¬

_ (¬1) (1/ 158). (¬2) "الكليات" (ص 355). (¬3) (28/ 99). (¬4) لم أجد قوله في "الكليات". (¬5) انظر "شرح الرضي على الشافية" (1/ 46). (¬6) "روح المعاني" (28/ 99).

"وذكروا أنّ الجُمُعة بالضم مثل الجُمْعة بالإسكان؛ ومعناه: المجموع، أي: يوم الفوج المجموع؛ كقولهم "ضُحْكة" للمضحوك منه". ويُردُّ عليه بأمور أخرى لا حاجة لبسطها؛ فإنّ هذا القول بعيدٌ على كل حال. والأولى حملُ المسكَّن على الذي بضمّتين، وأن يكون المعنى واحدًا كما هو الظاهر، فالصواب أنّه على اللغتين مصدرٌ بمعنى الاجتماع. وممّا يؤيِّد ذلك أن لغة الحجازيين بضمتين، وبها نزل القرآن، والتسكين لغة تميم، ولم يُقرأ بها إلا في الشواذّ. وفي "شرح القاموس" تخليطٌ سأنبِّه عليه فيما يأتي إن شاء الله تعالى. [ص 4] ثم اختلف أهل القول الأول في الاجتماع الذي أُضِيف إليه هذا اليوم. فالجمهور من أهل اللغة وغيرهم: أنّه اجتماع الناس. قال النووي في "تهذيب الأسماء واللغات" (¬1): "وسُمّي يوم الجمعة لاجتماع الناس فيه؛ هذا هو الأشهر في اللغة، وقيل ... "؛ فذكر القول الثالث. وفي "النهاية" (¬2): "ويوم الجمعة سُمّي لاجتماع الناس فيه". واختُلِف في المراد باجتماع الناس، فالجمهور أنّ المراد اجتماعهم للصلاة؛ نصَّ عليه جماعة، منهم ابن دريد في "الجمهرة" (¬3)، ولفظه: "والجمعة مشتقّة من اجتماع الناس فيها للصلاة". ¬

_ (¬1) (2/ 1/ 54). (¬2) (1/ 297). (¬3) (1/ 484).

وقال الراغب (¬1): "وقولهم: "يوم الجمعة"، لاجتماع الناس فيه للصلاة". واختاره ابن حزم (¬2) كما سيأتي. قال في "الفتح" (¬3): "وقيل لأنّ كعب بن لؤي كان يجمع قومه فيه، فيذكِّرهم ويأمرهم بتعظيم الحرم، ويُخبرهم بأنه سيُبعَث منه نبي، روى ذلك الزبير في "كتاب النسب" عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف مقطوعًا، وبه جزم الفرّاء وغيره. وقيل: إنّ قُصَيًّا هو الذي كان يجمعهم؛ ذكره ثعلب في "أماليه" (¬4). وقيل: سُمِّي بذلك لاجتماع الناس للصلاة فيه؛ وبهذا جزم ابن حزم فقال (¬5): إنّه اسمٌ إسلاميٌّ لم يكن في الجاهلية، وإنّما كان يُسمَّى العَرُوبة. انتهى. وفيه نظر، فقد قال أهل اللغة: إنّ العَروبة اسمٌ قديم كان للجاهلية، وقالوا في الجمعة: هو يوم العروبة. والظاهر أنّهم غيّروا أسماء الأيام السبعة بعد أن كانت تُسمَّى: أوَّل، أَهْون، جُبار، دُبار، مُؤنِس، عَرُوبة، شِيَار (¬6). ¬

_ (¬1) في "مفردات القرآن" (ص 202). (¬2) في "المحلى" (5/ 45). (¬3) (2/ 353). (¬4) لم أجده في المطبوع، وهو ناقص. (¬5) في "المحلَّى" (5/ 45). (¬6) قال بعض شعراء الجاهلية، ويقال: إنه النابغة: أُؤمِّل أن أعيشَ وأنَّ يومي ... لأوَّلَ أو لأهْونَ أو جُبَارِ أو التاليْ دُبارِ فإن أَفُتْه ... فمُؤنِسَ أو عَروبةَ أو شيارِ =

وقال الجوهري (¬1): كانت العرب تُسمِّي يوم الاثنين "أهون" في أسمائهم القديمة. وهذا يُشعِر بأنّهم أحدثوا لها أسماء، وهي هذه المتعارفة الآن؛ كالسبت والأحد إلى آخرها. وقيل: إنّ أوّل من سمّى الجمعة "العَروبة" كعب بن لُؤي، وبهذا جزم الفرّاء وغيره. فيحتاج من قال إنّهم غيَّروها إلَّا (¬2) الجمعة، فأبقَوه على تسمية العروبة، إلى نقلٍ خاص". "فتح الباري" (ج 2 ص 239) (¬3). أقول: قوله: "وقيل: إنّ أوّل من سمى الجمعة "العَروبة" كعب بن لؤي، وبهذا جزم الفرّاء وغيره" مخالفٌ لما تقدّم عن الفرّاء، وكأنّ العبارة انقلبت، والصواب: "إنّ أوّل من سمّى العَروبةَ الجمعةَ"، وهكذا قال غيره. والنظر الذي أطال في بيانه لا طائلَ تحته، فإنّه إن لم يثبت أنّ العرب قبل الإسلام تكلّمت بالأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة والسبت، فيمكن أن تكون هذه الأسماء كلها إسلامية. وإن ثبت أنّهم تكلَّموا ببعضها كالسبت، ولم يثبت في بعضها كالجمعة، فلا مانعَ من أن يكونوا غيّروا بعضًا وأبقَوا بعضًا؛ فأبقَوا العَروبةَ باسمها، حتّى غُيِّرت في الإسلام، وما الذي يوجب أن يكون التغيير كلُّه وقع في وقت واحد؟ وقول أهل اللغة: "الأسماء القديمة" يحتمل أن يكون المراد بالقِدَم ما ¬

_ = انظر: "الصحاح" (هون) و"صبح الأعشى" (2/ 365). وهما بلا نسبة في "اللسان" (عرب، جبر، دبر، شير، أنس، وأل، هون) و"التذكرة الحمّدونية" (7/ 361). (¬1) في "الصحاح" (6/ 2218). (¬2) في الأصل "إلى"، وهو خطأ. والتصويب من "الفتح". (¬3) (2/ 353) ط. السلفية. هنا انتهى النقل الطويل من "الفتح".

قبل الإسلام، أو أنّ بعضها قديمٌ غُيِّر في الجاهلية، وبعضها قديم غُيِّر في الإسلام. وهذا ابن مُقْبِل وهو مخضرم، أدرك الجاهلية وعاش إلى زمن عمر، وخاصم إليه يقول: وإذا رأى الوُرَّادَ ظلَّ بأَسْقُفٍ ... يومًا كيوم عَرُوبةَ المتطاولِ (¬1) كذا أنشده ياقوت في "معجم البلدان" (أسقُف) (¬2)، وهذا القُطامي، وهو شاعر إسلامي، يقول: نفسي الفداءُ لأقوامٍ هُمُ خَلَطوا ... يومَ العَروبةِ أورادًا بأورادِ (¬3) ونقل المرزوقي في "الأزمنة والأمكنة" (¬4) كلامًا عن الخليل، استشهد فيه بهذين البيتين. واستشهد بهما ابن دريد في "الجمهرة" (¬5)، وزاد قوله: يُوائِم رَهْطًا للعَروبة صُيَّما وفي هذا أوضحُ دليل على أنّ تسمية هذا اليوم يومَ العروبة لم تنقطع قبل الإِسلام؛ كما انقطع أوّلُ وأهونُ وبقية الستة. وإنّما يُردُّ قولُ ابن حزم وموافِقيه (¬6) - وهم الجمهور - لو ورد بنقلٍ ¬

_ (¬1) انظر "ديوانه" (ص 221). وفيه: "الرُّوَّاد". (¬2) (1/ 181). (¬3) " ديوانه" (ص 88). (¬4) (1/ 271). (¬5) (1/ 319، 320). (¬6) في الأصل: "وموافقوه".

صحيح أنّ العرب قبل الإسلام كانوا يقولون يوم الجمعة. ولا سبيلٍ إلى إثبات هذا, ولا إلى إثبات أنّ كعبًا أو قُصَيًّا سمّياه الجمعة، ولا أنّهما كانا يجمعان الناس فيه؛ وإنّما يوجد نقلُ ذلك في أخبار القُصّاص التي لا تَصلُح للاعتماد. فالاجتماع المحقَّق في هذا اليوم هو اجتماع الناس للصلاة، وإنّما وقع ذلك في الإِسلام، ولم يتحقّق أنّه قيل "يوم الجمعة" إلا في الإسلام. على أنّه لو ثبت أنّ كعبًا أو قُصيًّا كان يجمع الناس فيه لم يلزم من ذلك تسميتُه يوم الجمعة. وقد قال السُهيلي: "وكعب بن لُؤي هذا أوّل من جمع يومَ العروبة، ولم تُسَمَّ العَروبةُ الجمعةَ إلا مُذْ جاء الإسلام في قول بعضهم. وقيل: هو أول من سمّاها الجمعة". "الروض الأُنف" (ج 1 ص 6). [ص 5] أقول (¬1): قد بسطتُ الكلام على الحديثين وعلى تاريخ نزول سورة الجمعة في مبحثٍ مستقلّ (¬2)، أفردتُه لبيان المراد بقوله: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ}، وبيّنتُ فيه أنّ الذي يظهر أنّ معظم سورة الجمعة نزل قبل إسلام أبي هريرة بمدةٍ قد لا تبلغ سنةً فيما يظهر، والله أعلم. وعلى هذا فالّذي يظهر أن يكون التسمية وقعت بالسنة، ثم أقرّها القرآن. ¬

_ (¬1) يبدو أنه تتمة لكلام لا يوجد هنا. (¬2) هو الكلام الذي سبق.

فصل ما وجه التسمية

فصل ما وجه التسمية المشهور بين أهل العلم أنّه سُمّي يوم الجمعة لاجتماع الناس فيه. قال النووي في "تهذيب الأسماء واللغات" (¬1): "سُمِّيَ يوم الجمعة لاجتماع الناس فيه، هذا هو الأشهر في اللغة". وفي "النهاية" (¬2): "يوم الجمعة سُمّي لاجتماع الناس فيه". ثم اختلفوا؛ فقال قائل: إنّ أوّل ذلك اجتماع الناس في الجاهلية عند كعب بن لُؤيّ، أو ابنه قُصَيّ. وقد تقدّم ردُّ ذلك (¬3). وقال ابن سيرين على ما في "مسند عبد بن حميد" (¬4): إنّه اجتماع الأنصار عند أسعد بن زُرارة، كما تقدّم. وقد قدّمنا ترجيحَ أنه لم يُسمَّ يومَ الجمعة يومئذٍ، وإنّما سمّاه النبي - صلى الله عليه وسلم -. والظاهر أنّ ذلك بعد الهجرة، حين خصَّه بإبقاء الصلاة فيه ركعتين مع الخطبتين، وأوجب الاجتماع فيه. ¬

_ (¬1) (2/ 1/ 54) (¬2) (1/ 297). (¬3) انظره فيما سبق. (¬4) قال الحافظ في "الفتح" (2/ 353): "أخرجه عبد بن حميد عن ابن سيرين بسند صحيح إليه ... ". والمقصود به "تفسيره" لا "المسند". وانظر "الدر المنثور" (14/ 469، 470).

وبهذا يترجح أنّه اجتماع الناس للصلاة بعد فرض الاجتماع؛ وهو المشهور. وممّن صرّح به ابن حزم كما في "فتح الباري" (¬1)، وابن دريد في "الجمهرة" (¬2)، وعبارته: "والجمعة مشتقة من اجتماع الناس فيها للصلاة". وقال الراغب (¬3): "وقولهم: يوم الجمعة، لاجتماع الناس للصلاة". القول الثاني: "أنّه سُمّي بذلك لأنّ كمال الخلائق جُمِع فيه، قال في "الفتح": "ذكره أبو حذيفة البخاري في "المبتدأ" عن ابن عباس، وإسناده ضعيف". "فتح الباري" (ج 2 ص 39) (¬4). أقول: ورواه ابن جرير في "تاريخه" (¬5)، قال: [حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط عن السدّي في خبرٍ ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن عبد الله بن مسعود، وعن ناسٍ من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: ... وإنما سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السموات والأرض]. ¬

_ (¬1) (2/ 353). وانظر "المحلَّى" (5/ 45). (¬2) "جمهرة اللغة" (1/ 484). (¬3) في "مفردات القرآن" (ص 202). (¬4) (2/ 353) ط. السلفية. قال الذهبي في "السِّير" (9/ 478): "كتاب المبتدأ كتاب مشهور في مجلدتين، ينقل منه ابن جرير فمَن دونه، حدَّث فيه ببلايا وموضوعات". (¬5) (1/ 59)، وترك المؤلف فراغًا بعد "قال" عدة أسطر، وقد أثبتُّ النصَّ نقلًا عن المصدر، فإن الكلام الآتي مبني عليه. وذكر ابن جرير في تفسيره (20/ 393) إسناده إلى السدّي.

أقول: أمّا أبو صالح فقد اتفقوا على ضعف ما يرويه عن ابن عباس؛ لأنّه لم يَلْقَه، وإنّما أصاب كتبًا فروى منها، وقد بان بنكارة ما يرويه أنّ تلك الكتب جمعَها من لا يُوثَق به. وأمّا أبو صالح في نفسه فصدوق، وإنّما ضعَّفه بعض الحفاظ لنكارة ما رواه، والحمل في النكارة على تلك الكتب. فأمّا زعْمُ الكلبي أنّ أبا صالح قال له: "كلُّ ما حدَّثتُك كذب" (¬1)، فالكلبي تالف، وفيما يرويه عن أبي صالح عجائب، فكأنّه حاول أن يُلقِي التَّبِعةَ على أبي صالح. وأمّا أبو مالك فثقة، ومُرَّة من سادات التابعين. ولكن في السُّدَّي ومن دونه كلام، فالسّدي مختلف فيه، وقد حُكِي عن الإمام أحمد توثيقُه، وحُكي عنه أنّه قال: "إنه ليُحسِن الحديث، إلاّ أنّ هذا التفسير الذي يجيء به قد جعل له إسنادًا واستكلفه" (¬2). وفي "الإتقان" في طريق السُّدي عن أبي مالك عن مُرّة عن ابن مسعود وناس من الصحابة: "لم يورد منه ابن أبي حاتم شيئًا؛ لأنّه التزم أن يُخرِج أصحَّ ما ورد، والحاكم يُخرِج منه في "مستدركه" أشياء ويصحّحه ... وقد قال ابن كثير: إنّ هذا الإسناد يروي به السُّدي أشياء فيها غرابة". "الإتقان" (ج 2 ص 188) (¬3). ¬

_ (¬1) انظر "تهذيب التهذيب" (9/ 179، 180). (¬2) انظر "تهذيب التهذيب" (1/ 314). (¬3) "الإتقان" (6/ 2334، 2335) طبعة المدينة.

أقول: وفي "تهذيب التهذيب" (¬1) في ترجمة إسماعيل بن عبد الرحمن القرشي: "قد أخرج الطبري وابن أبي حاتم وغيرهما في تفاسيرهم تفسير السُدّي مفرَّقًا في السُّور". أقول: يؤخذ من هذا أنّ ابن أبي حاتم إنّما تجنَّب رواية السُّدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس. [ص 6] وعن مرّة عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهذا يشهد لقول ابن كثير. ومع ذلك فإن كان هذا التفسير نسخة ذكر السُّدي هذا الإسناد في أولها، ثم ساق التفسير. فالذي يظهر بل يكاد يتيقّن أنّه لم يُرِد أنّ كل جملة من جمل التفسير محكية عن هؤلاء كلهم، وإنّما أراد أنّ منها ما هو عن أبي مالك من قوله، ومنها ما هو عن أبي صالح. أقول: أسباط مُضعَّف، والسُّدّي فيه كلام، وأبو صالح لم يسمع من ابن عباس، وإنّما وجد كتبًا فروى منها. وقد دلّ نكارةُ ما يرويه على أنّ تلك الكتب لم تكن معتمدة؛ بل زعم الكلبي أنّ أبا صالح قال له: "كلُّ ما حدَّثُتك كذب"، ولكن الكلبي تالف. واعلم أنّ هذا السند بهذا السياق رُوِيتْ به نسخةٌ من التفسير؛ فرَّقَها ابن جرير في مواضعها، وذكرها السيوطي في "الإتقان"، قال: "لم يُورِد منه ابن أبي حاتم شيئًا (¬2)؛ لأنه التزم أن يُخرِج أصحَّ ما ورد، والحاكم يُخرِج منه في "مستدركه" أشياء ويُصحِّحه؛ لكن من طريق مرّة عن ابن مسعود وناس ¬

_ (¬1) (1/ 315). (¬2) بل أخرج منه أشياء كما يظهر بمراجعة تفسيره.

فقط دون الطريق الأول. وقد قال ابن كثير: "إنّ هذا الإسناد يروي به السُّدّي أشياء فيها غرابة". "الإتقان" (ج 2 ص 188). أقول: وكأنّ هذه النسخة هي المرادة بما حكاه السّاجي عن الإمام أحمد أنّه قال في السُّدّي: "إنّه ليُحسِن الحديث؛ إلاّ أنّ هذا التفسير الذي يجيء به قد جعل له إسنادًا واستكلفه" (¬1). والّذي يقع لي أنّ هذه كانت نسخةً عند السُّدّي لم يكن فيها إسناد، فأخذها أسباطٌ، وسأله عن إسنادها، فقال: "عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مُرَّة عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -". يريد السُّدّي أنّ في النسخة ما سمعه من أبي مالك من قوله، وفيها ما سمعه من أبي صالح عن ابن عباس، وفيها ما سمعه من مرّة عن ابن مسعود، وفيها ما بلغَ السديَّ عن بعض الصحابة. وقد روى السُّدّي عن أنس وابن عباس قليلًا، فالغالب أنَّ ما قال: إنّه "عن ناسٍ من الصحابة" إنّما بلغه. والذي يدلّ على هذا اتفاقُ لفظ الإسناد في السياق في جميع المواضع، كما في "تفسير ابن جرير"، ولو كان السُّدّي هو الذي يذكر السند في أول كل أثرٍ لاختلف سياقه حتمًا؛ كما تقضي به العادة. ثم لا أدري أسباطٌ أم مَن بعده مزجَ هذه النسخة ببقية تفسير السُّدّي، مما يقوله هو أو يرويه ممّا ليس في النسخة؛ فعَمَدَ إلى هذا السند فأثبته في أوّل كل أثر من الآثار التي كانت في النسخة. فقد يكون الأثر في الأصل عن ¬

_ (¬1) انظر "تهذيب التهذيب" (1/ 314).

فصل

أبي مالك من قوله فقط، وقد يكون عن أبي صالح فقط، وقد يكون ممّا بلغ السُّدّيَّ عن بعض الصحابة، وقد يكون مما سمعه من مُرّة عن ابن مسعود. فمن هنا جاء الضعف والنكارة فيما يُروَى بهذا السند، إذ لا [.... في] نكارة ما يقوله [أو يرويه] من كتبه أو ممّا بلغه، وما يرويه أبو صالح من كتبه، وما بلغَ السُّديَّ ولا ندري ممن سمعه. فالسدي بريءٌ من نكارة ذلك، وإنّما يضرُّه لو جاء منكر يرويه عن مرّة عن ابن مسعود، وهذا لم يثبت، لأنّنا لا ندري أنّ تلك الآثار هي في نفس الأمر عن مرّة عن ابن مسعود. وإذا كان الأمر هكذا فقد أخطأ الحاكم خطأً فاحشًا، إذ يُخرِج بهذا السند، فيختصر السند، يقول: عن أسباط عن السُّدّي عن مرّة عن ابن مسعود. [ص 7] فصل [.......] (¬1) يحذف المضاف، ويقام المضاف إليه مقامه؛ فيقال: الجمعة، فهكذا يقال: صلاة الجمعة. وكثيرًا ما يُحذَف المضاف، ويُقام المضاف إليه مقامه، فيقال: الجمعة، وفي ذلك احتمالات: الأول: أن يكون الأصل الأول، ثم أُضيفتْ إليه الصلاة، على تقدير صلاة يوم الجمعة. الثاني: عكسه، بأن يكون الأصل الثاني، ثم أضيف إليها اليوم، على تقدير صلاة يوم الجمعة. ¬

_ (¬1) هنا خرم في الركن الأيمن من الصفحة ذهب ببعض الكلمات.

الثالث (¬1): أن يكون كلاهما أصلًا. فقد يقال في الترجيح: إنّ الثالث مرجوح؛ لأنّ فيه ضربًا من الاشتراك، وقد تقرّر في الأصول أنّ المجاز والإضمار أولى منه؛ فيبقى النظر بين الأولَين، فيُرجَّح الأوّل بوروده في القرآن، والأصل عدم الإضمار. وبما تقدّم من احتمالِ أن لُوحِظ في التسمية مع اجتماع الناس للصلاة اجتماعُ كمال الخلائق، واجتماعُ خلق آدم، ويبعد ملاحظتهما في تسمية الصلاة بصلاة الجمعة ابتداءً، وإذا بَعُد فيه بَعُد في يوم الجمعة، على تقدير يوم صلاة الجمعة. ويُرجَّح الثاني بأنّ الصلاة معنىً شرعي، والمعهود من الشارع تسمية المعاني الشرعية؛ فهي الأولى بأن يكون التفتَ إليها أولاً فسمّاها، ثم أضاف اليوم إليها. وبأنّ لفظ "الجمعة" إذا ورد في الشرع مطلقًا تبادر إلى ذهن العارف به الصلاة. فقد يقال: إذا تعارض الترجيح وجب المصير إلى الاحتمال الثالث؛ وقد نصّ عليه المُطرِّزي في "المُغْرِب"؛ كما تقدّم من قوله: "الجمعة من الاجتماع كالفُرقة من الافتراق، أُضيفَ إليها اليوم والصلاة". ويُجاب عن الاشتراك بأنّه ليس اشتراكًا حقيقيًّا؛ لأنّه لم يتَّحد الاسم، وإنّما الأصل يوم الجمعة وصلاة الجمعة. وفي هذا نظر؛ لأنّ المضاف إليه واحد، ومعناه مختلف؛ لأنّ ملاحظة اجتماعِ كمالِ الخلائق واجتماعِ خَلْقِ آدم إنّما يَقرُب احتمالُه في "يوم الجمعة" إذا لم تُضمَر فيه "صلاة"، ويبعُد في "صلاة الجمعة" إذا لم تُضمَر ¬

_ (¬1) في الأصل: "الثاني" سهوًا.

فيه "يوم". نعم، قد يقال: لا مفرَّ من هذا الاشتراك جمعًا بين الأدلة والأقوال، فعلى كلّ حالٍ الأقربُ أنّ كلاًّ منهما أصلٌ لما ذكر، أو أنّ الأصلَ "صلاة الجمعة"؛ لقوة دلالة التبادر. وعلى كلًّ فقد دلّت هذه التسمية في الكتاب والسنة على أنّ هذه الصلاة من شأنها الاجتماع.

الرسالة العاشرة سنة الجمعة القبلية

الرسالة العاشرة سنة الجمعة القبلية

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيِّبًا مباركًا فيه، وصلاته وسلامه على خير خلقه محمدٍ وآله وصحبه. وبعد، فقد سألني بعضُ الإخوان: هل للجمعة سُنَّة قبليَّة؟ فأجبته: أنَّ المقرَّر في المذهب (¬1) أنّها كالظهر في ذلك. فسألني النظرَ في ثبوت ذلك وعدمِه من حيث الدليل. فأقول: الكلامُ في هذه المسألة يَستدعي تقديم البحث عن شيئين: الأول: التنفُّل يوم الجمعة قبل الزوال. والثاني: تحقيق وقت الجمعة. فأما الأول: فقد ثبت في "صحيح البخاري" (¬2) عن سلمان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يغتسلُ رجلٌ يومَ الجمعة ويتطهَّرُ ما استطاع من طهرٍ ويدَّهنُ من دهنه أو يمسُّ من طيبِ بيته، ثم يخرج فلا يفرِّق بين اثنين، ثم يصلَّي ما كُتِب له، ثم يُنصِت إذا تكلّم الإمام، إلا غُفِر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى". وفي "صحيح مسلم" (¬3) عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من اغتسلَ ثم أتى الجمعةَ، فصلّى ما قُدِّر له، ثم أنصتَ حتى يفرغ من خطبته, ثم يصلَّي معه، غُفِر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وفضْلَ ثلاثة أيام". ¬

_ (¬1) أي: الشافعي، وكان الشيخ قد كتب: "عند أصحابنا الشافعية"، ثم ضرب عليها. (¬2) رقم (883). (¬3) رقم (857).

فدلَّ هذان الحديثان على فضيلة التنفُّل يوم الجمعة قبل الزوال، ودخل في إطلاقها حالُ الاستواء يوم الجمعة، ولكنه معارض بعموم أحاديث النهي. وقد يُرجَّحُ الجواز بحديثين ضعيفين، روى أحدَهما الشافعيُّ (¬1) عن أبي هريرة، ولفظه: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاةِ نصفَ النهار حتى تزول الشمسُ إلا يومَ الجمعة". وأخرجَ الآخرَ أبو داود (¬2) بإسناده إلى أبي الخليل عن أبي قتادة عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم -: أنّه كَرِه الصلاةَ نصفَ النّهار إلاَّ يومَ الجمعة، وقال: "إنَّ جهنّم تُسْجَرُ إلا يومَ الجمعة". قال أبو داود: وهو مرسل، مجاهد أكبر من أبي الخليل، وأبو الخليل لم يسمع من أبي قتادة. وفي إسناده: ليث بن أبي سليم، ضعيفٌ لا يُحتجُّ به. [ص 2] وأنت خبيرٌ أنَّ كِلا الحديثين لا يُحتجُّ به. وقد ذكر الإمام الشافعيُّ كما في "الأم" الحديثَ المذكور، ثم أعقبَه بآثارٍ عن عمل الصحابة في زمن عمر رضي الله عنه، ثم قال (¬3): "فإذا رَاحَ النَّاسُ للجمعة صَلَّوا حتى يصير الإمام على المنبر، فإذا صَارَ على المنبرِ كفَّ ¬

_ (¬1) في كتاب "الأم" (2/ 397). وفي إسناده إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، وقد اتفقوا على ضعفه. وشيخ الشافعي إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى متروك. (¬2) رقم (1083). (¬3) (2/ 398).

منهم مَنْ كان صلَّى ركعتين فأكثر، تكلَّم حتى يأخذ في الخطبة، فإذا أخذ فيها أنصتَ، استدلالًا بما حكيتُ، ولا يُنهى عن الصلاة نصفَ النهار مَن حضر الجمعة" اهـ. والظاهر أنَّ الإمام اعتبر ما دلّت عليه الآثار, إجماعًا، وذكر الحديث المذكور استئناسًا؛ إذ لعلَّه إن كان إسناده ضعيفًا يكون صحيحًا في نفس الأمر، ويكون هو مستند الإجماع. وأمَّا الإمام مالك فإنَّ عمل أهل المدينة حُجَّةٌ عنده. وإذا تقرَّر ما ذُكِرَ عرفتَ أنَّ التنفُّل يوم الجمعة قبل الاستواء مُرغَب فيه، وكذا عنده؛ لأنَّ فِعْلَ الصَّحابة - الذي رواه الشافعي وغيره - لا أقلَّ من أن يكون مرجِّحًا لإطلاق الحديثين السابقَيْن وغيرهما، مع ما انضمَّ إلى ذلك مما مرَّ. والصلاة في ذلك نفْلٌ مطلق قطعًا؛ لكونها واقعةً قبل دخول وقت الجمعة على ما عليه الجمهور. [ص 3] الأمر الثاني: تحقيق وقت الجمعة. ذهب الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه إلى أنَّ وقت الجمعة يدخل قبل الزوال، واسْتُدِلَّ لهما بحديث "الصحيحين" (¬1) عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: "ما كنَّا نَقِيلُ ولا نتغدَّى إلا بعد الجمعة"، هذا لفظ مسلم (¬2). ¬

_ (¬1) البخاري (939) ومسلم (859). (¬2) وهو لفظ البخاري أيضًا.

وفي رواية (¬1): "في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". وفي "الصحيحين" (¬2) أيضًا عن سلمة بن الأكوع قال: "كنا نصلَّي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجمعة، ثم ننصرف وليس للحيطان ظِلٌّ يُستَظَلُّ به"، هذا لفظ البخاري. وفي لفظٍ لمسلم: "كُنَّا نُجَمِّعُ معه إذا زالت الشمس، ثم نرجعُ نتتبَّعُ الفَيء". وفي "صحيح مسلم" (¬3) عن جابر: "كُنَّا نصلَّي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم نرجِع فنُريحُ نَواضِحَنا". قال حسن - يعني أحد الرواة -: قلت لجعفرٍ - يعني شيخ حسنٍ -: في أيِّ ساعةٍ تلك؟ قال: زوالَ الشمسِ. انتهى. ثم قال (¬4): وحدثني القاسم بن زكريا، نا خالد بن مخلد، ح وثني عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي نا يحيى بن حسّان، قالا جميعًا: نا سليمان عن جعفر عن أبيه: أنه سأل جابر بن عبد الله: متى كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُصلَّي الجمعة؟ قال: "كان يُصلِّي، ثم نذهب إلى جِمَالنا فنُرِيحها". زاد عبد الله في حديثه: "حين تزول الشمس". يعني: النواضحَ. وقد وردت آثار عن عمل الخلفاء الأربعة ومعاوية وابن مسعود وجابر وسعيد بن زيد وسعد بن أبي وقاص، لا يصحّ منها شيءٌ فلا نُطيل بذكرها. ¬

_ (¬1) لمسلم. (¬2) البخاري (4168) ومسلم (860). (¬3) رقم (858). (¬4) أي مسلم (858/ 29).

وأما الأحاديث المارَّة، فكُلُّها لا تخلو عن نظر. أما حديث سهل: "ما كنا نَقِيل ولا نتغدّى إلا بعد الجمعة"، فالجواب عنه: أنَّهم كانوا يُبكَّرون إلى الجامع؛ امتثالًا للأمر، وطلبًا لعِظَم الأجر، فكانوا يشتغلون عن القيلولة والغداء بالمُكْثِ في المسجد والصلاة، فإذا خرجوا ناموا وتغدَّوا. وأطْلَق "نَقِيل" على النوم بعد الظهر؛ لأنه عِوَض عن القيلولة التي هي نوم نصف النهار. [ص 4] وأما حديث سلمة؛ فقد فسَّرتْه رواية مسلم: "كنا نُجمَّع معه إذا زالت الشمس"، ومع ذلك فالنفي منصبٌّ على القيد، أي: ليس هناك من الظلِّ ما يُستظلُّ به، كما تدل عليه الرواية الأخرى "نتتبَّعُ الفيءَ". فإن قيل: فقد كان النَّبي - صلى الله عليه وسلم - يُطيل الخطبة، كما يدلُّ عليه حديث مسلم (¬1) عن أم هشام قالت: ما حفظتُ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} إلاَّ من فِي رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقرؤها على المنبر كلَّ جمعة. ويُطيل الصلاة، فيصلِّيها بالجمعة والمنافقين، كما في "صحيح مسلم" (¬2) عن علي وابن عباس وأبي هريرة. وهذا يدلّ أنه كان يشرع في الخطبة قبل الزوال، إذ لو كان بعده لما فرغ إلا وقد صار للحيطان ظلٌّ يُستظَلُّ به، وقد نفاه سلمة في حديثه الثابت في "الصحيحين". ¬

_ (¬1) رقم (873). (¬2) رقم (877، 879).

وأما رواية مسلم: "كنا نُجمِّع معه إذا زالت الشمس، ثم نرجع نتتبَّعُ الفيء"، فذلك في بعض الحالات، فإن قوله: "نتتبَّعُ الفيء" يدلُّ على أنّه قد صار للحيطان ظلٌّ يُستَظلُّ به. فالجواب: أن هذا تمَحُّلٌ، والظاهر أن أحاديث سلمة متفقة غير مفترقة، وقد كانت حيطان بيوت الصحابة قصيرةً جدًّا، فلا يبعد أن لا يكون لها ظلٌّ يُستظلُّ به إذا وقعت الخطبة والصلاة عقبَ الزوال على الفور، وفي دلالة رواية مسلم على ذلك ظاهرة. وأما حديث سهل؛ فالظاهر أن قوله: "حين تزول الشمس" في رواية عبد الله مدرج من قول جعفر، بدليل أنه في رواية حسن روى له الحديث بدونها، فسأله حسن: أي ساعة تلك؟ - أي: ساعة وقوع الصلاة فيما يظهر - قال: زوال الشمس. وفي رواية القاسم بن زكريّا خاليًا عنها. وفي رواية عبد الله ذكرها. وعلى فرضِ صحتها عن جابر فيكون الظرف متعلقًا بـ "يُصلِّي" وإن بعُد، والله أعلم. وذلك أنه ثبت في "صحيح البخاري" (¬1) وغيره عن أنس قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلِّي الجمعة حين تميل الشمس". و (كان) تُشعِر بالدوام. نعم، الأحاديث متضافرة على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يَخرج أولَ ما تميلُ ¬

_ (¬1) رقم (904).

الشمسُ، وهذا شيءٌ متعيِّن. [ص 5] ومما هو صريحٌ فيه (¬1): أن أذان الجمعة كان في عهده - صلى الله عليه وسلم - عقبَ خروجه وسلامه على الناس وجلوسه على المنبر. فلو كان يكون خروجه - صلى الله عليه وسلم - متأخَّرًا عن دخول الوقت لشَرع - والله أعلم - الأذان حينئذٍ كسائر الصلوات. وأمَّا حديث البخاري (¬2) عن أنسٍ: كان النَّبي - صلى الله عليه وسلم - إذا اشتدَّ البردُ بكَّر بالصلاة، وإذا اشتدَّ الحرُّ أبردَ بالصلاة، يعني: الجمعة. فقوله: "يعني الجمعة" لا يُدْرَى مِن قَولِ مَن هي؟ ولهذا قال ابن المنيِّر - كما نقله عنه الشُّرَّاح (¬3) -: إنَّما قيل ذلك قياسًا على الظهر لا بالنَّصَّ؛ لأنَّ أكثر الأحاديث تدلُّ على التفرقة في الظُّهر، وعلى التبكير في الجمعة مطلقًا من غير تفصيل. قال (¬4): والذي نحَا إليه المؤلِّف مشروعيَّة الإبراد بالجمعة، ولم يَبُتَّ الحكم بذلك؛ لأنَّ قوله: "يعني: الجمعة" يحتمل أن يكون قول التابعيِّ ممَّا فهمه، وأن يكون من نقله، فرجح عنده إلحاقها بالظُّهر؛ لأنَّها إمَّا ظهرٌ وزيادة، أو بدلٌّ عن الظُّهر. اهـ. قلتُ: أمَّا قوله: "يعني الجمعة"، فهو من لفظ التابعيِّ، كما يدلُّ عليه قول البخاري (¬5) بعد ذلك: قال يونس بن بُكَير: أخبرنا أبو خَلْدة، وقال: ¬

_ (¬1) هذه العبارة تكررت عند المؤلف. (¬2) رقم (906). (¬3) انظر "فتح الباري" (2/ 389). (¬4) المصدر نفسه. (¬5) عقب الحديث (906).

"بالصَّلاة"، ولم يذكر الجمعة. وأبو خلدة هو التابعيُّ الرَّاوي عن أنس. نعم، قال القسطلَّاني (¬1): أخرجه الإسماعيلي من وجهٍ آخر عن يونس، وزاد: "يعني الظُّهر". وأقول: لا يخفى أنَّ التبكير إلى المسجد يوم الجمعة مشروعٌ مطلقًا، فيكون الاجتماع في المسجد قبل الزَّوال، فلم يُشرع الإبراد؛ لأنَّ الإبراد إنَّما شُرِعَ - كما قال العلماء - تخفيفًا على المُصَلِّين، حتى لا يخرجوا من بيوتهم إلاَّ وقد بَرَدَ النَّهار. وقد يُجابُ عن هذا بجوابين: الأول: أنَّه لا مانعَ أن يكون التبكير في شدَّة الحرِّ خِلافَ التبكير في غيره. والثاني: بمنع كون العِلَّة هي كراهة المشقَّة؛ بل العِلَّة هي كون جهنَّم تفوح حينئذٍ. وحديث "الصحيحين" (¬2): "إذا اشتدَّ الحَرُّ فأَبرِدُوا، فإنَّ شِدَّة الحرِّ من فَيْحِ جهنَّم" نصٌّ على هذه العِلَّة. وهي نفسُها العلَّة في النهي عن الصَّلاة عند الاستواء، ففي حديث عمرو بن عَبَسَة: "ثمَّ صَلِّ فإنَّ الصَّلاة مشهودةٌ محضورةٌ، حتى يَستقِلَّ الظلُّ بالرُّمح، [ص 6] ثم أَقْصِرْ عن الصَّلاة فإنَّ حينئذٍ تُسْجَرُ جهنَّم ... " الحديث، وهو في "صحيح مسلم" (¬3). ¬

_ (¬1) "إرشاد الساري" (2/ 174)، وقد ذكره الحافظ في"الفتح" (2/ 389). (¬2) أخرجه البخاري (533) ومسلم (615) من حديث أبي هريرة. (¬3) رقم (832).

والأحاديث تدلُّ على أنَّ جهنَّم تُسْجَر عند الاستواء (¬1)، وتتنفَّس في الصَّيف (¬2)، أي: ما بعد ذلك حتى يُقبِل الفيءُ. وإذا تقرَّر ذلك فحضورُ المُصلِّين في المسجد لا يمنع من الإبْراد. وقد يُجاب عن هذا بالحديث الذي رواه أبو داود (¬3)، وفيه: "إنَّ جهنَّم تُسجَرُ إلاَّ يوم الجمعة"؛ [ص 7] وكأنَّ الفرق - والله أعلم - أنَّ السَّجرَ أي: الإيقاد من فعل الملائكة عن أمر الله تعالى، فهو ظاهرٌ في تجلّي العَذَاب، بخِلاف التنفُّس فإنَّه من جِهة النَّار، فكان عدم السَّجر في يوم الجُمعة أنسب من عدم التنفُّس. ويؤيِّده قيام الدَّليل على عدم كراهية الصَّلاة يوم الجمعة عند الاستواء. وهو يدلُّ على انتفاء العِلَّة أو معارضتها بأقوى منها، كعِظَم تجلِّي الرَّحمة يوم الجمعة على المجمِّعين. والجواب: أنَّنا نُسلِّمُ عدمَ السَّجْر يوم الجمعة لما ذكرتم، وأمَّا التنفُّس فالظَّاهر أنَّها تتنفَّس يوم الجمعة كتنفُّسها في سائر الأيام, لأن في حديث "الصحيحين": "فإنَّ شِدَّة الحَرِّ من فَيحِ جهنَّم" الحديث. ومن المحسوس أنَّ الحَرَّ في يوم الجمعة لا يَخِفُّ عن الأيَّام التي قبله وبعده، بل هو موجودٌ فيه كما فيها، وهو من فَيْحِ جهنَّم بالنَّصِّ. ¬

_ (¬1) كما في حديث عمرو بن عبسة المذكور، وفي حديث أبي هريرة الذي أخرجه ابن ماجه (1252). قال البوصيري: إسناده حسن. (¬2) كما في حديث أبي هريرة الذي أخرجه الترمذي (2592) وصححه. (¬3) رقم (1083). قال أبو داود: هو مرسل؛ مجاهد أكبر من أبي الخليل، وأبو الخليل لم يسمع من أبي قتادة.

فإن قيل: فإن مشروعيَّة التنفُّل حينئذٍ تُنافي وجود فيحِ جهنَّم في ذلك الوقت في يوم الجمعة، وكونُه هو العِلَّة في الأمر بالإبراد، ولا سيَّما عند مَن حمل الأمر بالإبراد على ظاهره من الوجوب. فالجواب: أنَّنا نختار مذهب الجمهور أنَّ الأمر بالإبراد إنَّما هو للنَّدب؛ لما هو مقرَّرٌ في محلِّه. والفرق بينَه وبين السَّجْر ما تقدَّم، فتكون مخالفته خلافَ الأولى فقط. ثم نقول: إنَّ العِلَّة التي هي تنفُّس جهنَّم حينئذٍ عارضها يوم الجمعة ما هو أقوى منها، وهو عِظَم تجلَّي الرَّحمة. فانتفت خلافيَّة الأولى، وثبَت الندب بدليله المتقدَّم. فإن قلت: فقد ثبت بهذا مقصودنا من عدم مشروعيَّة الإبراد بالجُمعة. فالجواب: أنَّنا نقول: إنَّ إبراده - صلى الله عليه وسلم - بالجمعة لم يكن لهذه العِلَّة، وإنَّما هو لعِلَّة أخرى؛ وهي: كراهيةُ أن يشقَّ على أصحابه؛ باجتماعهم، وتزاحمهم، وتضايقهم في ذلك العريش في وقت شِدَّة الحَرِّ. فإنْ قلْتَ: فإنَّ مشروعيَّة التبكير يوم الجمعة تنافي ذلك. فالجواب: ما مرَّ من أنَّ التبكير يختلف باختلاف الأوقات، ففي وقت البرد يكون آخر الساعات حين الاستواء، وفي أوقات الحرِّ يكون آخر السَّاعات حين إقبال الفيءِ. سلَّمنا أنَّ التبكير لا يختلف، بل هو على القسم الأوَّل مطلقًا؛ ولكنَّا نقول: فههنا عِلَّةٌ أخرى، وهي حرصُه - صلى الله عليه وسلم - على أنْ يَعِيَ أصحابُه موعظتَه، ويكون خشوعهم في الفريضة على أتمِّ الأحوال. وهذا ممَّا يمنع عنه اشتدادُ الحرِّ، فلذلك أبرد.

إذا تأمَّلتَ ما ذُكِرَ علمتَ أنَّ الظَّاهِرَ [ص 8] أنَّ الإبراد بالجمعة سُنَّة، وأنَّه لا يُنافي ندبَ التنفُّل قبلها إلى أن يخرج الإمام، وحينئذٍ فيكون تأخير الأذان مع الإبراد بالجمعة إلى خروج الإمام كتأخيره في الظُهر إلى البرد، فقد ثبت الأمرُ بذلك في "الصحيحين" (¬1) عن أبي ذرّ قال: "أذن مؤذّن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - الظهر، فقال: أبرِدْ أبرِدْ، أو قال: انتظِرْ انتظِرْ ... " الحديث. فالسُنَّة في الظهر أن يؤذَّن لها إذا أُريد حضورُ المُصَلِّين، وهو يختلف باختلاف الحر والبرد. والسُنَّة في الجُمعة أن يؤذَّن لها إذا خرج الخطيب، وهو يختلف باختلاف الحر والبرد أيضًا. إذا تقرَّر ما ذُكِر فاعلم أنَّ تأخير أذان الجُمعة إلى خروج الخطيب دليلٌ ظاهرٌ على أنَّه ليس للجُمعة سُنَّة قبلية؛ لأنَّ صلاتها بعد خروج الخطيب ممنوع. فلو كانت ثابتةً لسُنَّ الأذان قبل خروج الخطيب حتى يتمكَّن النّاس من فعلها بعد الأذان؛ عملًا بحديث "الصحيحين" (¬2) وغيرهما عن عبد الله بن مغفَّل المُزَني رضي الله عنه أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "بين كلِّ أذانينِ صلاة، ثلاثًا، لمن شاء". وقد حمل الأئمة هذه الصلاة على الرَّواتب القبليَّة. وعليه، فيكون وقتها - أي الرَّواتب القبليَّة - بين الأذان والإقامة، فلو قُدِّمَت لم تقع الموقع. فتأمَّل هذا تَجِدْهُ ظاهرًا في نفي أنْ تكون للجُمعة سُنَّة قبلِيَّةٌ. ¬

_ (¬1) البخاري (535) ومسلم (616). (¬2) البخاري (624) ومسلم (838).

ويؤيِّدُه حديث البخاري (¬1) عن ابن عمر رضي الله عنهما، من رواية مالكٍ عن نافعٍ عنه، قال: "صَلَّيتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كان يصلَّي قبل الظهر ركعتين، وبعدها ركعتين، وبعد المغرب ركعتين في بيته، وبعد العشاء ركعتين، وكان لا يصلَّي بعد الجمعة حتى ينصرف فيصلَّي ركعتين". وهذا في "صحيح مسلم" (¬2) مختصرًا. وأخرجاه (¬3) في التطوُّع، من رواية عبيد الله عن نافع عن ابن عمر، بلفظ: "سجدتين، سجدتين". [ص 9] وإفراده للجمعة ههنا يردُّ على من زعم أنَّ حكمها حكم الظُّهر، وذكرُه الرَّكعتين بعدها فقط يدلُّ على أنَّه لا قبليَّة لها. ومن الباطل جواب ابن بطَّال (¬4) عن هذا بأنَّ ابن عمر إنَّما أعاد ذكر الجمعة بعد ذكر الظُّهر من أجل أنَّه كان - صلى الله عليه وسلم - يصلَّي سُنَّة الجمعة في بيته بخِلافِ الظُّهر. فَمِن أين له أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي قبلية الظهر أبدًا في بيته وبعدِيَّتَّها في المسجد أبدًا، حتى تَثبت مخالفتُها للجمعة في الثانية وموافقتها لها في الأولى، فيقال: ذَكَر ابنُ عمر ما خالفت فيه الجمعةُ الظهرَ وما وافقتها فيه؟ على أنَّ قضيَّة جوابه أنَّ الجمعة تسمَّى ظهرًا، وهذا واضحُ البطلان. ¬

_ (¬1) رقم (937). (¬2) رقم (882/ 71). (¬3) البخاري (1172) ومسلم (729). (¬4) في شرحه على "صحيح البخاري" (2/ 526).

فتبيَّن أنَّ حديث ابن عمر يردُّ على مَن زعم أنَّ حُكْم الجمعة حُكْم الظُّهر، ويدلُّ على أنَّه لا قبليَّة للجمعة، فتأمَّل. وممَّا يؤيِّد ذلك: ورود الأمر بالصلاة بعد الجُمعة، وهو حديث أبي هريرة - عند مسلم (¬1) - قال: قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذَّا صلَّى أحدكم الجُمعةَ فليُصَلِّ بعدها أربعًا"، وفي رواية: "فإن عَجِلَ بك شيءٌ فصلِّ ركعتين في المسجد وركعتين إذا رجعت". فقد فُهِم من هذا الحديث نفيُ قبليَّة الجُمعة، إذ لو كانت لذُكِرَتْ، وليس هذا عمدتنا في ذلك. وظاهر من هذا الحديث أن هذه الأربع مؤكدة، بل ظاهره كما قال بعضُهم الوجوب، لولا أن في الرواية الأُخرى (¬2): "من كان منكم مصلّيًا بعد الجمعة فليصلِّ أربعًا". وهذا بخلاف بعديَّة الظهر، فإنَّ المؤكَّد منها ركعتان فقط. ولا ينافي تَأَكُّدَ الأربعِ حديثُ ابن عمر السابق في اقتصاره - صلى الله عليه وسلم - على ركعتين؛ إذ قد يُقال: إنَّ الأربع تتأكَّد في حق المأمومين كما يقتضيه الأمر، ولا تتأكَّد في حق الإمام، لأنَّه قد حصل له مزيد الأجر بنصبه في الخطبة بخلافهم. وليس لقبليتها حديث صحيح، بل الأحاديث تُفيد عكسَ ذلك كما مرَّ. وبهذه الدلائل يُخصَّص عموم حديث ابن حبان (¬3): "ما من صلاةٍ مفروضةٍ إلاَّ وبين يديها ركعتانِ"، كما سيأتي إن شاء الله. ¬

_ (¬1) رقم (881). (¬2) "صحيح مسلم" (881/ 69). (¬3) في "صحيحه" (2455، 2488) من حديث عبد الله بن الزبير. وإسناده قوي.

[ص 10] وقد استدلَّ من يقول بأن لها سُنَّة قبليَّة بأمور: أحدها: القياس على الظهر. وهو - وإن ذكره النووي - بعيد، كما ذكره العراقي (¬1) وغيره. وما قيل: إنَّ البخاري أَوْمَأَ إليه بقوله في ترجمته: "باب الصلاة بعد الجُمعة وقبلها" فيه نظر. بل قد يُدَّعَى العكس؛ لأنَّ الحديث الذي أَوْردَه يدلُّ على أنَّه ليس للجُمعة سُنَّة قبليَّة، ويدل على أنَّها مخالِفة للظهر، وهو حديث ابن عمر الذي مرَّ قريبًا. ومن تراجم البخاري: "باب الصلاة قبل العيد وبعده" (¬2). ومراده أنها غير مشروعة، كما تدل عليه الأحاديث التي أوردها. فيكون مراده هنا أن الصلاة بعد الجُمعة مشروعة وقبلها غير مشروعة، فقدَّم المثبَت وأخّر المنفيَّ. والمراد بالصلاة قبل الجُمعة أي: الراتبة، فأما النفل المطلق فهو مشروع قطعًا كما مر. ومع ذلك فالقياس إنما يُعمَل به في إثبات الأحكام لا في إثبات عبادة مستقلّة. وقد أجاب بعضُ العلماء أن القول بالقياس هنا إنما هو بناءً على أن الجُمعة ظهرٌ مقصورة. وهذا باطل، والصحيح أن الجمعة صلاة مستقلّة. وزعم بعضهم أن الجمعة هي الظهر، وإنما أُقيمت الخطبتان مقام ¬

_ (¬1) انظر: "طرح التثريب" (3/ 41). (¬2) "الصحيح مع الفتح" (2/ 476).

ركعتين، وكأنَّ هذا القائل غرَّه اتفاق العدد بين الركعتين والخطبتين، ولا أدري ماذا يقول في خُطبتي العيدين والكسوفين والاستسقاء عِوَض عن ماذا؟ والاستدلال بنحو هذا محض التكلُّف والتمحُّل الذي لا حاجةَ بطالب الحق إليه، والله أعلم. واستدلُّوا بحديث "الصحيحين" المتقدم: "بين كل أذانين صلاة". وهذا غفلة، فإنّ الأذانين في الحديث إنما أُريد بهما الأذان المشروع والإقامة اتفاقًا، والأذان المشروع في الجمعة هو الذي عند خروج الإمام، والصلاةُ بينه وبين الإقامة حرام إجماعًا، إلا ما سيأتي في ركعتي التحيَّة. ولو كان المراد أي أذانين كان؛ لكان الأحرى بذلك أذانا الصبح، ولم يقل أحد بأنه يُسَنُّ بينهما صلاة. أما سُنَّة الصبح فليست بينهما، وإنما هي بعدهما بين الأذان والإقامة. [ص 11] واستدلُّوا بأحاديث أُخرى ذكرها الحافظ في "الفتح" مع أجوبتها، وهذه عبارته (¬1): وورد في سُنَّة الجمعة التي قبلها أحاديث أخرى ضعيفة. منها: عن أبي هريرة، رواه البزار (¬2) بلفظ: "كان يصلي قبل الجمعة ركعتين وبعدها أربعًا". وفي إسناده ضعف. ¬

_ (¬1) "فتح الباري" (2/ 426). (¬2) أخرجه الخطيب في "تاريخ بغداد" (6/ 365) من طريقه، وفيه: " ... وبعدها ركعتين".

وعن علي، رواه الأثرم والطبراني في "الأوسط" (¬1) بلفظ: "كان يصلي قبل الجمعة أربعًا وبعدها أربعًا"، وفيه محمد بن عبد الرحمن السهمي، وهو ضعيف عند البخاري وغيره، وقال الأثرم: إنه حديث واهٍ. ومنها: عن ابن عباس مثله، وزاد: "لا يفصل في شيءٍ منهنّ"، أخرجه ابن ماجه (¬2) بسند واهٍ. قال النووي في "الخلاصة" (¬3): "إنّه حديث باطل". وعن ابن مسعود عند الطبراني (¬4) أيضًا مثله، وفي إسناده ضعف وانقطاع. ورواه عبد الرزاق (¬5) عن ابن مسعود موقوفًا، وهو الصواب. وروى ابن سعد (¬6) عن صفيّة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - موقوفًا نحو حديث أبي هريرة. إلخ. قلت: والموقوف عن ابن مسعود ذكره الترمذي (¬7) بقوله: ورُوي عن عبد الله بن مسعود أنه كان يصلي قبل الجمعة أربعًا وبعدها أربعًا. ¬

_ (¬1) (2/ 172). (¬2) رقم (1129). قال البوصيري في "الزوائد": إسناده مسلسل بالضعفاء, عطية متفق على ضعفه، وحجاج مدلس، ومبشر بن عبيد كذاب، وبقية هو ابن الوليد مدلّس. (¬3) (2/ 813). (¬4) في "الأوسط" (4/ 196). (¬5) في "المصنّف" (3/ 247). (¬6) في "الطبقات" (8/ 491). (¬7) في "الجامع" عقب الحديث رقم (523).

وقد استدلُّوا به على وقفه، قالوا: لأن الظاهر أنه توقيف. والجواب: أنه إن صحَّ فلا حُجَّة فيه، وقولهم: إن الظاهر أنه توقيف ممنوع، بل الظاهر أن المراد بذلك النفل المطلق الذي يصلِّيه الإنسان ما بين دخوله الجامع وخروج الإمام؛ كما مَرَّ بيانُه، بل هذا هو المتعين، لما مرّ أن السُنَّة في خروج الإمام أول الوقت وقبلَ الأذان، وأنَّ ذلك صريح في نفي مشروعية سنةٍ قَبْليّة للجمعة، والله أعلم. واستدلُّوا بما قاله العراقي في "شرح سنن الترمذي"؛ بعد ذكر حديث ابن ماجه المتقدم في عبارة "الفتح" قال: "وقد وقع لنا بإسنادٍ جيد من طريق القاضي أبي الحسن الخلعي من رواية ابن إسحاق عن عاصم بن عثمان عن علي". كذا وجدت نقل عبارته، ولتراجع (¬1). والجواب: أنَّ ابن إسحاق مختلفٌ فيه، وهو بَعْدُ مُدَلِّس، وقد عَنْعَنَ، ولم أقف على الإسناد بطوله حتى أعرفَ حاله، وفيما ذكرتُ كفاية. وهَبْ أنَّه صحَّ فالمراد النَّفْل المطلق؛ لما مرَّ، والله أعلم. واستدلُّوا بأحاديث: "أربع بعد الزوال". والجواب: أنَّ في بعضها التقييد بقبل الظهر، والمطلقُ يُحمَل على المقيَّد. وعلى فَرْضِ عدم الحمل فيكون عامًّا مخصوصًا بالجمعة؛ لما مرَّ أن السُنَّة خروج الإمام عقب الزوال، وبخروجه تمتنع الصلاة إلاَّ ركعتي التحية، والله أعلم. ¬

_ (¬1) في "طرح التثريب" (3/ 42): "من طريق أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي". وهو الصواب، و"ابن إسحاق" و"عثمان" تحريف.

واستدلَّ بعضهم بحديث أبي داود والترمذي (¬1)، عن عطاء قال: "كان ابن عمر رضي الله عنهما إذا صلَّى الجمعة بمكة تقدَّم فصلَّى ركعتين، ثم يتقدَّم فيصلِّي أربعًا ... "، الحديث. والجواب: أنَّ الاستدلال به غفلة؛ لأنَّ الكلام في الصلاة بعد الجمعة. وقوله "تقدم" أي: من موقفه الذي صلَّى فيه الجمعة، يتقدَّم عنه فيصلِّي ركعتين، ثم يتقدَّم فيصلَّي أربعًا، وهذا لفظ الترمذي: [ص 13] "وابن عمر بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - صلَّى في المسجد بعد الجمعة ركعتين، وصلَّى بعد الركعتين أربعًا". حدثنا بذلك ابن أبي عمر حدثنا سفيان بن عيينة عن ابن جريج عن عطاء، قال: "رأيتُ ابن عمر صلَّى بعد الجمعة ركعتين، ثم صلَّى بعد ذلك أربعًا". ولفظ أبي داود في باب الصلاة بعد الجمعة: عن عطاء عن ابن عمر قال: "كان إذا كان بمكة فصلَّى الجمعة تقدم فصلَّى ركعتين، ثم تقدم فصلّى أربعًا، وإذا كان بالمدينة صلّى الجمعة ثم رجع إلى بيته فصلَّى ركعتين، ولم يصلِّ في المسجد". فقيل له، فقال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل ذلك. وكلاهما صريح أنَّ هذه إنَّما هي الصَّلاة بعد الجمعة. وفي رواية أُخرى (¬2): عن عطاء أنَّه رأى ابن عمر يُصَلِّي بعد الجمعة، فينماز عن مصلَّاه الذي صلَّى فيه الجمعة قليلًا غير كثير، قال: فيركع ركعتين. قال: ثم يمشي أنفسَ من ذلك، فيركع أربع ركعات. قلت - القائل ابن جريج الراوي عن عطاء - لعطاء: كم رأيتَ ابن عمر يصنع ذلك؟ قال: مرارًا. ¬

_ (¬1) أبو داود (1130) والترمذي (2/ 401، 402). (¬2) عند أبي داود (1133).

وهذا الحديث ممَّا يدلُّ على الفَرْق بين الجمعة والظهر، والله أعلم. واستدلُّوا بما رواه الطبراني في "الأوسط" (¬1) بسنده إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ شَهِدَ منكم الجمعة فليُصَلِّ أربعًا قبلها وبعدها أربعًا". والجواب: أنَّه حديثٌ ضعيفٌ، فيه محمد بن عبد الرحمن السهمي، كما في "شرح البخاري" (¬2)، وقد ضعَّفه البخاري وغيره كما مرَّ، والله أعلم. واستدلُّوا بحديث أبي داود وابن حبان (¬3) من طريق أيوب عن نافع قال: "كان ابن عمر يُطيل الصلاة قبل الجمعة، ويصلِّي بعدها ركعتين في بيته، ويُحدِّث أنَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يفعلُه". والجواب: قال الحافظ (¬4): وتُعُقَّب بأن قوله: "كان يفعل ذلك" عائد على قوله: "ويصلِّي بعد الجمعة ركعتين في بيته". ويدلُّ له رواية الليث عن نافع عن عبد الله: أنَّه كان إذا صلَّى الجمعة انصرف فسجد سجدتين في بيته، ثم قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع ذلك"، رواه مسلم (¬5). وأما قوله: "كان يطيل الصلاة قبل الجمعة" فإن كان المراد بعد دخول الوقت فلا يصح أن يكون [ص 14] مرفوعًا؛ لأنَّه - صلى الله عليه وسلم - كان يخرج إذا زالت ¬

_ (¬1) (2/ 172)، ولفظه: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلّي قبل الجمعة أربعًا وبعدها أربعًا ... ". (¬2) "فتح الباري" (2/ 426). (¬3) أبو داود (1128) وابن حبان (2476). (¬4) "فتح الباري" (2/ 426). (¬5) رقم (882).

الشمس فيَشْتَغِل بالخطبة، ثُمَّ بصلاة الجمعة. وإن كان المراد قبل دخول الوقت فذاك مطلقُ نافلةٍ لا صلاةٌ راتبةٌ، فلا حجَّة فيه لسُنَّة الجمعة التي قبلها، بل هي تنفُّل مطلقٌ، والله أعلم. واستدلُّوا بحديث ابن حبان في "صحيحه" (¬1): "ما من صلاةٍ مفروضةٍ إلاَّ وبين يديها ركعتان". والجواب: أنَّه عام مخصوص بالجمعة كما مرَّ بيانُه، مع أنَّه مُقيَّدٌ بحديث "الصحيحين": "بين كلِّ أذانينِ صلاةٌ"، وقد مرَّ الكلام عليه. مع أنَّ ابن حبان يُطلِق الصحيح على الحَسَن، وربَّما يُصحِّح ويُحسِّن ما لا يُوافَق عليه، والله أعلم. واستدلُّوا بحديث ابن ماجه (¬2) بسند صحيح عن أبي هريرة وجابر قالا: "جاء سُلَيْك الغَطَفاني والنَّبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب، فقال له النَّبي - صلى الله عليه وسلم -: "أصلَّيْتَ ركعتين قبل أن تجيء؟ " قال: لا، قال: "فصلِّ ركعتين وتَجوَّزْ فيهما". قال في التحفة (¬3): وقوله: "أصلّيتَ" إلى آخره يمنع حملَه على تَحيَّة المسجد - أي: وحدها - حتى لا ينافي الاستدلال به لندبها للداخل حال الخطبة، فينويها مع سُنَّة الجمعة القبليَّة إن لم يكن صلاَّها قبل .. إلخ [ص 15]، إذ المعروف في هذا الحديث الاقتصار على "أصليت" ونحوه، وهو كذلك في "الصحيحين" وغيرهما. ولم تجئ هذه الزيادة - أي قوله: ¬

_ (¬1) رقم (2455)، وقد سبق ذكره. (¬2) رقم (1114). (¬3) "تحفة المحتاج" (2/ 224).

"قبل أن تجيء" - إلَّا في هذه الرواية التي أخرجها ابن ماجه. والجواب عنها من وجوه: الأوَّل: أنَّ حفص بن غياث قال عنه يعقوب: ثقة ثبت إذا حدَّث من كتابه ويُتَّقى بعض حفظه. وقال ابن عمار: كان لا يحفظ حسنًا، وكان عَسِرًا. فأطلق هذان وصفَهُ بسوء الحفظ. وقال أبو عُبيد الآجرِّي عن أبي داود: كان حفص بأَخَرةٍ دَخَله نسيان. فقيَّد أبو داود سوء الحفظ بأَخَرَة. وقال أبو زُرعة: ساءَ حفظُه بعد ما استُقْضي، فمَن كَتب عنه من كتابه فهو صالح، وإلَّا فهو كذا. قلت: وهو كما في "تهذيب التهذيب" (¬1): كوفيّ استُقْضي بها وببغداد. وقال ابن معين: جميع ما حدَّث به ببغداد من حفظه. قلت: فحديثه ببغداد كان بأَخَرةٍ، وكان بعد ما استُقْضي، وكان من حفظه. وداود بن رُشَيد بغداديٌّ كما في ترجمته (¬2)، فحديثه عنه بأخرةٍ بعد ما استُقْضي، من حفظه. وقد قال داود بن رشيد نفسه - كما في "تهذيب التهذيب" (¬3) -: حفصٌ كثير الغلط. ¬

_ (¬1) (2/ 415 وما بعدها). وفيه أقوال النقاد. (¬2) "تهذيب التهذيب" (3/ 184). (¬3) (2/ 416).

وأمَّا رواية الشيخين عنه فهي محمولة على ما ثبت عندهما أنَّه حدَّث من كتابه، وليس هذا لأحدٍ غيرهما؛ لالتزامهما الصحيحَ وتحرِّيهما وتيقُّظهما. وفي "تدريب الراوي" (¬1) للسيوطي عن ابن الصلاح قال: من حكم لشخصٍ بمجرَّد رواية مسلم عنه في "صحيحه" بأنَّه من شرط مسلم، فقد غفل وأخطأ، بل ذلك متوقِّفٌ على النَّظَر في كيفيَّة رواية مسلمٍ عنه، وعلى أيِّ وجهٍ اعتمد عليه. الوجه الثاني: قال في "تهذيب التهذيب" (¬2): وذكر الأثرم عن أحمد بن حنبل أنَّ حفصًا كان يدلِّس. وقال ابن سعد: كان ثقة مأمونًا، كثير الحديث يُدلّس. والمدلِّس لا يكون حجَّةً إلاَّ فيما صرَّح فيه بالسَّماع، وقد عَنْعن في هذا الحديث. الوجه الثالث: أنَّ الأعمش على جلالة قدره معدودٌ في المدلِّسين، والمدلِّس لا يكون حجَّة إلاَّ فيما صرَّح فيه بالسَّماع، وقد عَنْعن في هذا الحديث. نعم، قال الحافظ في "المقدمة" (¬3) في ترجمة حفص بن غياث: "اعتمد البخاري على حفص هذا في حديث الأعمش؛ لأنَّه كان يُميِّز بين ما ¬

_ (¬1) (1/ 129). (¬2) (2/ 417). (¬3) "هدى الساري" (ص 398).

صرَّح به الأعمش بالسماع، وبين ما دلَّسه، نبَّه على ذلك أبو الفضل ابن طاهر، وهو كما قال". وهذا لا يردُّ ما ذكرناه؛ لأنَّه لم يميِّز هنا، مع أنَّه في نفسِهِ مدلِّسٌ أيضًا كما مَرَّ عن الإمام أحمد وابن سعد. الوجه الرابع: أبو صالح شيخ الأعمش، هل هو ذكوان المدني السَّمَّان، أو باذام مولي أم هانئ؟ فإنَّ كلاًّ منهما كنيته أبو صالح، عن أبي هريرة وعنه الأعمش. فإن كان الثاني، فهو مُضعَّف، ورواية الأعمش عنه منقطعة. [ص 16] ففي "تهذيب التهذيب" (¬1): "أنَّ أبا حاتم قال: لم يسمع - يعني: الأعمش - عن أبي صالح مولي أُم هانئ، هو يدلِّس عن الكلبي". قال (¬2): "وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: الأعمش عن أبي صالح - يعني: مولى أم هانئ - منقطع". والذي يظهر أنَّ أبا صالح الذي روى عنه الأعمش هذا الحديث هو الأول: ذكوان المدني السَّمان؛ لأنَّ الثاني قال عنه ابن عدي - كما في "تهذيب التهذيب" (¬3) -: عامة ما يرويه تفسير، وما أقلَّ مَا لَهُ من المسند. ¬

_ (¬1) (4/ 224). (¬2) المصدر السابق (4/ 225). (¬3) (1/ 417).

الطريق الأخرى: الأعمش عن أبي سفيان عن جابر. وفيها نَظَرٌ من وجوه: الأوَّل - وهو الخامس من أوجه الجواب -: رواية الأعمش عن أبي سفيان. قال في "تهذيب التهذيب" (¬1) في ترجمة الأعمش: "وقال أبو بكر البزَّار: لم يسمع من أبي سفيان شيئًا، وقد روى عنه نحو مئة حديث، وإنَّما هي صحيفة عرفت". وقد يجاب عن هذا بأنَّ غاية ما فيه أنْ يكون روى عنه بالوجادة، وهي طريق من طرق الرواية. الثاني - وهو السادس من أوجه الجواب -: حال أبي سفيان في نفسه. قال في "تهذيب التهذيب" (¬2): قال أحمد: ليس به بأس ... إلى أن قال: وقال ابن أبي خيثمة عن ابن مَعِين: لا شيء، ثم ذكر أقوال الأئمة فيه، وأكثرهم على توثيقه، وقد روى له الشيخان والجماعة. الوجه الثالث - وهو السابع من أوجه الجواب -: رواية أبي سفيان عن جابر. في "تهذيب التهذيب" (¬3): وقال أبو خيثمة عن ابن عُيينة: حديث أبي سفيان عن جابر إنما هي صحيفة، وكذا قال وكيع عن شعبة ... إلى أن قال: ¬

_ (¬1) (4/ 224). (¬2) (5/ 27). (¬3) (5/ 27).

وفي "العلل الكبير" لعلي بن المديني: أبو سفيان لم يسمع من جابر إلاَّ أربعة أحاديث. وقال فيها (¬1): أبو سفيان يُكتب حديثه وليس بالقويَّ، وقال أبو حاتم عن شعبة: لم يسمع أبو سفيان من جابر إلاَّ أربعة أحاديث. قال الحافظ (¬2): قلتُ: لم يخرج البخاري له إلاَّ أربعة أحاديث عن جابر، وأظنُّها التي عناها شيخه علي بن المديني، منها حديثان في الأشربة قَرنه بأبي صالح، وفي الفضائل حديث: "اهتز العرش" كذلك، والرابع في تفسير سورة الجمعة، قَرَنه بسالم بن أبي الجَعْد. [ص 17] فتبَيّن أنَّ هذا الحديث ممَّا لم يسمعه أبو سفيان عن جابر. وقد يُجاب عن هذا بأنَّ غاية ما فيه أنَّه من الصَّحيفة، ولعلَّها كانت صحيحة، فيكون مناولةً أو وجادةً، وأبو سفيان ثقةٌ عند الأكثر. الوجه الثامن: قال أبو داود (¬3): حدَّثنا محمد بن محبوب وإسماعيل بن إبراهيم، المعنى، قالا: ثنا حفص بن غياث، وساق الإسناد كإسناد ابن ماجه (¬4) بطريقيه، وذكر الحديث، وآخره: فقال له: "أصليتَ شيئًا؟ قال: لا". ومحمد بن محبوب وإسماعيل بن إبراهيم أرجح من داود بن رُشَيد. [ص 18] الوجه التاسع: أنَّه قد روى حديثَ سُلَيك عن الأعمش ¬

_ (¬1) أي في "العلل "الكبير". والنصّ في "التهذيب" الموضع السابق. (¬2) بعد ما سرد الأقوال السابقة في المصدر السابق. وانظر "هدي الساري" (ص 431). (¬3) في "سننه" (1116). (¬4) رقم (1114).

عيسى بن يونس، وحديثه عند مسلم (¬1)، وأبو معاوية، وحديثه عند أحمد والدارقطني (¬2)، وسفيان، وحديثه عند أحمد والدارقطني (¬3) أيضًا. وخالفوا حفص بن غياث سنَدًا ومتنًا. أمَّا في السند: فلم يذكر أحد منهم الرواية الأخرى عن أبي صالح عن أبي هريرة، بل كلُّهم اقتصروا عن أبي سفيان عن جابر. وإنَّما قال الحافظ في "الإصابة" (¬4) في ترجمة سُلَيك وذكر هذا الحديث: "وروى ابن ماجه وأبو يعلى من طريق الأعمش [عن أبي صالح] (¬5) عن أبي هريرة ... " إلخ. ولا أدري كيف روايةُ أبي يعلى؟ فلْتُرَاجع (¬6)، إن لم يكن ذِكر أبي يعلى خطأ، والأصل "أبي داود". وأمَّا في المتن، فكلُّهم لم يذكروا تلك الزيادة. الوجه العاشر: أنَّه قد روى حديث سُليك عن أبي سفيان: الوليدُ أبو بشر، وهو الوليد بن مسلم بن شهاب التميمي العنبري. وحديثه عند أبي ¬

_ (¬1) رقم (875/ 59). (¬2) "المسند" (3/ 316، 317) و"سنن الدارقطني" (2/ 13). (¬3) "المسند" (3/ 389) و"سنن الدارقطني" (2/ 14). (¬4) (4/ 442). (¬5) ليست في الأصل، وزيدت من "الإصابة". (¬6) الحديث عد أبي يعلى (2272) من طريق الأعمش عن أبي سفيان عن جابر، دون الطريق الثاني.

داود وأحمد والدارقطني (¬1)، ولم يذكر في حديثه تلك الزيادة. الوجه الحادي عشر: أنَّه قد روى حديثَ سُليك عن جابر: عمرو بن دينار، وحديثه في الصحيحين (¬2) وغيرهما. وأبو الزبير، وحديثه عند مسلم والشافعي وابن ماجه (¬3)، ولم يذكرا في حديثهما تلك الزيادة. الوجه الثاني عشر: أنَّه قد روى حديثَ سُليك: أبو سعيد الخدري رضي الله عنه, وحديثه عند الترمذي وأحمد والشَّافعيِّ وابن ماجه (¬4)، ولم يذكر تلك الزِّيادة. والحاصل: أنَّ إسناد الحديث عن أبي هريرة انفرَد به حفصُ بن غياث عن الأعمش، وانفرَد به الأعمش عن أبي صالح، وانفرَد به أبو صالح عن أبي هريرة، وانفرَد بإدخال هذه الزِّيادة فيه داود بن رُشَيد عن حفص بن غياث. وانفرَد بإدخال الزِّيادة في حديث جابر: داود بن رُشَيد عن حفص، وحفص عن الأعمش، والأعمش عن أبي سفيان، وأبو سفيان عن جابر. وقد روى الحديثَ عن حفصٍ محمدُ بن محبوب وإسماعيل بن إبراهيم، فلم يذكراها. ورواه عن الأعمش عيسى بن يونس وأبو معاوية وسفيان، فلم يذكروها. ¬

_ (¬1) أبو داود (1117) وأحمد (3/ 297) والدارقطني (2/ 13). (¬2) البخاري (930) ومسلم (875/ 54). (¬3) مسلم (875/ 58) و"الأم" للشافعي (2/ 399) وابن ماجه (1112). (¬4) الترمذي (511) و"المسند" (3/ 25) و"الأم" (2/ 399) وابن ماجه (1113).

ورواه عن أبي سفيان الوليدُ بن مسلم بن شهاب التميمي العنبري فلم يذكرها. ورواه عن جابر عَمْرو بن دينار وأبو الزُّبير فلم يذكراها. ورواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أبو سعيد الخدري فلم يذكرها. [ص 19] والظاهر - والله أعلم - أنَّ داود بن رُشيد أو حفص بن غِياث فَهِم من قوله في عامة الروايات: "أصليت" أنَّ المراد: "أصليتَ قبل أن تجيء"، فأدرج هذه الزيادة تفسيرًا أو غلطًا. وسبب الفهم أنَّ أكثر الروايات تُشعِر أنَّ سبب خطاب النَّبي - صلى الله عليه وسلم - لسُليك هو أنَّه رآه دخل المسجد ولم يُصلِّ، فلمَّا قال له: "أصلَّيْتَ؟ " لم يمكن أن يكون المراد: أصليتَ في المسجد؟ فلم يبقَ إلاَّ أن يكون المراد: أصليتَ قبل أن تجيء؟ وهذا الفهم فيه نَظَرٌ من وجوه: الأول: أنَّ الذي يدلُّ عليه حديث أبي سعيد رضي الله عنه أنَّ سبب خطاب النَّبي - صلى الله عليه وسلم - لسُلَيك هو أنَّه رآه بهيئة بذَّةٍ، فدعاه رجاءَ أنْ يراه الناس بتلك الهيئة فيتصدَّقوا عليه، ثم سأله: "أصلَّيت؟ " لاحتمال أنْ يكون صلَّى قبل أن يدعوه، فقال: لا، فأمره بالصلاة. وهذا لفظ الحديث عن الإمام أحمد (¬1): عن أبي سعيد قال: "دخل رجلٌ المسجدَ يومَ الجمعة والنَّبي - صلى الله عليه وسلم - على المنبر، فدعاه فأمره أن يُصلِّي ¬

_ (¬1) في "المسند" (3/ 25).

ركعتين. ثم دخل الجمعةَ الثانية ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر، فدعاه، فأمره. ثم دخل الجمعةَ الثالثة، فأمره أن يصلِّي ركعتين، ثم قال: "تصدقوا" ففعلوا، فأعطاه ثوبين ممَّا تصدَّقوا، ثم قال: "تصدَّقوا"، فألقى أحد ثوبَيْهِ، فانتهره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكرِهَ ما صَنَع. ثم قال: "انظروا إلى هذا! فإنَّه دخل المسجد في هيئةٍ بذَّةٍ، فدعوتُه، فرجوتُ أن تُعطوا له، فتصدَّقوا عليه وتَكْسُوه، فلم تفعلوا، فقُلت: تصدَّقوا فتصدَّقوا، فأعطيتُه ثوبين ممَّا تصدَّقوا، ثم قلت: تصدَّقوا، فألقى أحدَ ثوبيه. خُذْ ثوبك"، وانتهره. وظاهره: أنَّ الأمرَ بالصدقة وإعطاء سُليك الثَوْبَيْن وإلقاءه أحدهما كان في المرَّة الثالثة. ورواية الشافعي (¬1) تُخالف ذلك، فراجِعْها. والمقصود بيان خطأ من ظنَّ أنَّ المراد: أصلَّيتَ قبل أنْ تجيء. [ص 20] الوجه الثاني: أنَّه قد يقال: سلَّمنا أنَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - رآه حين دخل المسجد، ولكن جوَّز أن يكون قد جاء قبل ذلك، وإنَّما خرج إلى باب المسجد لحاجةٍ كأن يتنخَّم، ثم عاد. فبناءً على ذلك التجويز سأله هل صلَّى؟ الوجه الثالث: أن يُقَال: سَلَّمْنا أنَّ النَّبي صلَّى اللهُ عليه وسلم رآه حين دخل المسجد، وأنَّه لم يُجوِّز أن يكون قد جاء قبل ذلك، ولكنَّا نقول: إن قوله: "أصَلَّيْتَ" ليس للاستفهام الحقيقي، وإنَّما هو بمعنى الأمر، كما في قوله سبحانه وتعالى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا} [آل عمران:20]. والمعنى: وقيل للَّذين أوتوا الكتاب والأميين: ¬

_ (¬1) في "الأم" (2/ 400)، فسياقها يدل على أن ذلك في المرة الثانية.

أسْلِموا، ذكره في "المغني" (¬1). فإن قيل: فما تصنعون بجواب سُلَيْك بقوله: لا؟ فالجواب: أنّه فهم أنَّ الاستفهام على بابه، ولذلك أعاد النَّبي صلَّى الله عليه والِهِ وسلَّم الأمر صريحًا، فتأمّل. فإنْ أبيت إلاَّ أنْ تجعل المعنى: أصَلَّيت قبل أن تجيء، فقد حمله أبو شامة على أن المراد: قبل أن تجيء إلى هنا من مؤخر المسجد. ومع هذا فقد قال الحافظ المزي وابن تيمية: إن هذه الكلمة "تجيء" تصحفت في "سنن أبي داود"، والصواب: "قبل أن تجلس". وردَّه بعض المعاصرين، فإن بعض المتقدمين إسحاق بن راهويه أو غيره بني عليها مذهبه، فقال في تحية المسجد: إن كان الرجل قد صلَّى في بيته فلا يُصلَّها، وإلَّا فليصلِّها. وهذا الجواب قوي إن صحَّ النقلُ، ولكن ذلك لا يفيد القائلين بقبلية الجمعة شيئًا، لما مرَّ إيضاحه، ولله الحمد. وعلى كل حالٍ فلا يمكن أن يكون المراد قبليَّة للجمعة؛ لأنَّ الأدلَّة الصريحة قد قامت على أنَّ الجمعة لا قبليَّة لها؛ لما مرَّ آنفًا من أنَّ محلَّ القبليَّة بعد دخول الوقت، وبين الأذان والإقامة. وقد عُلِمَ أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يخرج أوَّل دخول الوقت - إن لم يكن قبله - عامدًا إلى المنبر، فيؤذِّن المؤذَّنُ، فيقوم النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - للخطبة. وليس بين خروجه - صلى الله عليه وسلم - وبين فريضة الجمعة إلاَّ الخطبتان، والصَّلاة حينئذٍ حرامٌ إلاَّ ركعَتَي التَّحيَّة. فكيف تكون للجمعة قبليَّة ويكون أداؤها في وقتها الذي هو أول الوقت ¬

_ (¬1) "مغني اللبيب" (1/ 13).

وبين الأذان والإقامة حرامًا, ولو أُدِّيَت فيه لم تنعقد؟! هذا محالٌ. وأيضًا، قد دلَّ حديث ابن عمر وغيره على عدمها كما مرَّ، فتعيَّن الجمع بين الأدلَّة بما ذكرناه، والله الموفِّقُ، لا ربَّ غيرُه. [ص 21] وقال بعضهم: إنَّ هذه الأدلَّة التي استدلَّ بها المثبتون وإن كان بعضها غير صحيحٍ، وبعضها غير صريحٍ = فلا أقلَّ من أنْ تفيد بمجموعها المطلوب؛ لِما صرَّحوا به أنَّ الضَّعيف إذا تعدَّدتْ طرقُهُ بَلَغَ رتبة الحَسَن، فيحتجُّ به. وهَبْ أنَّه لا يكون كذلك، فقد صرَّحوا أنَّ الضَّعيف يُعمَلُ به في فضائل الأعمال. وأقول: الجواب أنَّ بلوغ الضَّعيف رتبةَ الحسن له شروطٌ لم توجد هنا. وكذلك العمل بالحديث الضَّعيف في فضائل الأعمال له شروطٌ لم تُوجد هنا. مع أنَّ تلك الأحاديث جميعها غير صريحة في إثبات صلاةٍ قبل الجمعة، بنيَّة راتبةٍ قبليةٍ للجمعة، لِما قدَّمْنَاهُ. وأنَّ ما صحَّ منها فهو محمولٌ على النَّفْلِ المطلق الذي يُصلِّيه الإنسان ما بين دخوله الجامع وخروج الإمام، ولا سيَّما وقد قام الدَّليل على نفي أن تكون للجمعة راتبةٌ قبلية؛ كما مرَّ بيانه. وفي الختام نقول للمثبتين: مَن كان منكم يُحِبُّ ثبوت راتبةٍ قبليَّةٍ للجمعة ليصلِّيها هو والمسلمون، فيَحُوزوا الفضيلة، فما عليه إلاَّ أن يُبكِّرَ إلى الجامع فيصلِّي النَّفل المطلق إلى خروج الإمام، فيحوز فضيلةً أعظم ممَّا طلَبَ.

بل إنَّ الانكفاف عن صلاةٍ راتبةٍ قبليَّةٍ للجمعة امتثالًا للسُنَّة، يُحصِّل له فضيلةً لا تقِلُّ عمَّا طلَبَ. بل إنَّ الإقدام على صلاة راتبةٍ قبليَّةٍ للجمعة بعد العلم بقيام الدَّليل على عدم مشروعيِّتها معصية كما لا يخفى. ومن بقي في قلبه ريبٌ في بطلانها، فما عليه إلاَّ أن يصلي ركعتين أو أربعًا من جملة النفل المطلق الذي قبله، وينوي في قلبه أنه إذا كان في مشيئة الله تعالى للجمعة راتبة قبلية، فهي هذه، وإلَّا فهي نفل مطلق. والتردد في النية مغتفر في مثل هذا. [ص 22] ومن كان منكم يحبُّ ثبوتها انتصارًا لمَنْ أثبتها من العلماء فهذا غرضٌ آخر، ليس من الدَّين في شيءٍ. والعلماء رضي الله عنهم مأجورون على كُلِّ حال، وليس في المخالفة لهم تبعًا للدَّليل غضاضةٌ عليهم؛ إذ ليس منهم من يُبرِّئُ نفسَه عن الخطأ ويدَّعي لنفسه العِصْمة. وأيُّهما أسهل؟ مخالفة الله ورسوله، أو مخالفة عالمٍ من العلماء؟ مع أنَّ مخالفة العالم لا تستلزم نقصَه ولا الحط منه؛ فقد كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ربَّما خالفوه في الآراء التي ليست من قبيل الوحي. ولم يُعَدَّ ذلك استنقاصًا منهم له - صلى الله عليه وسلم -، وإلَّا لكَفرُوا. بل كان - صلى الله عليه وسلم - ربَّما رَجَعَ إلى قولهم في ذلك. ومن كان منكم يحبُّ ثبوتها لكونه من المقلِّدين للمذهب القائل بثبوتها = فهذا لا ينبغي له أن يُعوِّل على ثبوتها من حيث الدَّليل وعدمه؛ لأنَّه مقلِّدٌ لا يَسأَلُ عن حُجَّة، ولا يُسأَل عن حُجَّة، فهو ملتزمٌ لقول من قلَّده، ولو ثبتت الحُجج القطعيَّة بخلافه. فالواجب عليه أن يقول: أنا مقلِّدٌ لفلان، وفلانٌ قال بثبوتها، ويقف عند ذلك.

فإن تاقت نفسُه إلى الاحتجاج فليُوَطِّن نفسَهُ على قبول الحُجَّة، ولو على خلاف قول إمامه، وإلَّا وَقَعَ في الخطَر من تقديم هواه على ما جاء به الرَّسول - صلى الله عليه وسلم -، وجعلِ كلام مقلَّدهِ أصلًا يُردُّ إليه ما خالَفَه من كلام الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. والله يهدي من يشاء إلى سراطٍ (¬1) مستقيمٍ. ¬

_ (¬1) كذا بالسين، وهي لغة فصيحة. والصاد أعلى وإن كانت السين هي الأصل. قال الفراء: الصاد لغة قريش الأولين التي جاء بها الكتاب وعامة العرب يجعلها سينًا. انظر "تاج العروس" (سرط).

الرسالة الحادية عشرة بحث في وقت تشريع ونزول آية صلاة الخوف

الرسالة الحادية عشرة بحث في وقت تشريع ونزول آية صلاة الخوف

فصل

فصل قد علمتَ من رواية قتادة عن سليمان بن قيس (¬1) والكلام عليها أن ظاهرها أن ذلك أول ما نزلت الآية، أعني قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101]. وقد عارض هذا حديث آخر. أخرج أبو داود (¬2) عن سعيد بن منصور عن جرير بن عبد الحميد عن منصور عن مجاهد عن أبي عياش الزرقي قال: "كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعُسْفان، وعلى المشركين خالد بن الوليد، فصلينا الظهر، فقال المشركون: لقد أصبنا غِرَّةً، لقد أصبنا غفلة، لو كنا حملنا عليهم وهم في الصلاة! فنزلت آية القصر بين الظهر والعصر، فلما حضرت العصر قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستقبلَ القبلة، والمشركون أمامه، فصفَّ خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صفٌّ، وصفَّ بعد ذلك الصفِّ صفٌّ آخر، فركع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وركعوا جميعًا ... " فذكر الصفة التي تقدمت [في] رواية عطاء عن جابر، ثم قال: "فصلَّاها بعُسْفان، وصلَّاها يوم بني سُلَيم". وأخرجه الحاكم في "المستدرك" (1/ 334) من طريق ابن منصور، وقال: "صحيح على شرط الشيخين" وأقره الذهبي. ¬

_ (¬1) أخرجها الطبري في "تفسيره" (7/ 414) من حديث جابر بن عبد الله في قصة قصر الصلاة في الخوف. (¬2) رقم (1236).

وأخرجه البيهقي في "السنن" (3/ 256) من طريق يحيى بن يحيى وسعيد بن منصور كلاهما عن جرير. وأخرجه النسائي (¬1) عن محمد بن المثنى ومحمد بن بشار عن محمد (غندر) قال: حدثنا شعبة عن منصور، قال: سمعت مجاهدًا يحدث عن أبي عيَّاش الزُّرقي - قال شعبة: كتب به إليَّ وقرأتُه عليه وسمعتُه منه يحدِّث، ولكني حفظته. قال ابن بشار في حديثه: حفظي من الكتاب -, فذكره وليس فيه: "فنزلت آية القصر بين الظهر والعصر". وهكذا رواه أحمد أيضًا عن غندر. "المسند" (4/ 60) (¬2). وأخرجه النسائي (¬3) أيضًا عن عمرو بن علي عن عبد العزيز بن عبد الصمد ثنا منصور، فذكره. وفيه: "فنزلت - يعني صلاة الخوف - بين الظهر والعصر". ورواه أحمد (¬4) أيضًا: "ثنا عبد الرزاق ثنا الثوري عن منصور ... "، وفيه: "فنزل جبريل عليه السلام بهذه الآيات بين الظهر والعصر: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} [النساء: 102]. ورواه أبو داود الطيالسي (¬5) عن ورقاء عن منصور، وفيه: "فنزل جبريل ¬

_ (¬1) (3/ 176). (¬2) رقم (16581). (¬3) (3/ 177). (¬4) رقم (16580). (¬5) في "مسنده" (1347).

عليه السلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الظهر والعصر، فأخبره، ونزلت هذه الآية: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ ...}. وأخرج الحاكم في "المستدرك" (3/ 30) قصة شبيهةً بهذه من طريق النضر أبي عمر عن عكرمة عن ابن عباس، وقال: "صحيح على شرط البخاري"، وأقره الذهبي. والنضر أبو عمر هو النضر بن عبد الرحمن الخزاز، مجمع على ضعفه. وأخرج النسائي (¬1) وغيره من طريق سعيد بن عبيد الهُنائي ثنا عبد الله بن شقيق ثنا أبو هريرة قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نازلًا بين ضَجْنانَ وعُسْفانَ محاصرًا المشركين، فقال المشركون: إنّ لهؤلاء صلاةً هي أحبُّ إليهم من أبنائهم وأبكارهم، أجْمِعوا أمركم، ثم مِيلُوا عليهم ميلةً واحدة، فجاء جبريل عليه السلام فأمره أن يقسم أصحابه نصفين، فيصلي بطائفة منهم، وطائفة مقبلون على عدوِّهم ... فيصلِّي بهم ركعة، ثم يتأخر هؤلاء ويتقدم أولئك، فيصلي بهم ركعة تكون لهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ركعة ركعة، وللنبي - صلى الله عليه وسلم - ركعتان". سعيد بن عبيد، قال أبو حاتم: "شيخ"، وذكره ابن حبان في "الثقات" (¬2) وقد عُلِم شرطه. ¬

_ (¬1) (3/ 174). وأخرجه أيضًا أحمد في "المسند" (10765) والترمذي (3035) وابن حبان (2872)، وحسَّنه الترمذي. (¬2) (6/ 352). وانظر "تهذيب التهذيب" (4/ 62).

وقد روى أبو داود (¬1) وغيره من طريق أبي الأسود أنه سمع عروة بن الزبير يحدِّث عن مروان بن الحكم أنه سأل أبا هريرة: هل صلَّيتَ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف؟ قال أبو هريرة: نعم، فقال مروان: متى؟ قال أبو هريرة: عامَ غزوة [نجد] (¬2)، قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى صلاة العصر، فقامت معه طائفة، وطائفة أخرى مقابلَ العدو وظهورُهم إلى [القبلة, فكبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكبروا جميعًا: الذين معه والذين مقابلي العدو، ثم ركع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعة واحدة، وركعت الطائفة التي معه]، ثم سجد فسجدت الطائفة التي تليها، والآخرون قيامٌ مقابلي العدو، ثم قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، [وقامت] الطائفة التي معه، فذهبوا إلى العدو فقابلوهم. وأقبلت الطائفة التي كانت مقابلي العدو [فركعوا وسجدوا ورسول الله]- صلى الله عليه وسلم - قائم كما هو، ثم قاموا فركع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعة أخرى وركعوا [معه]، وسجد وسجدوا معه. ثم أقبلت الطائفة التي كانت مقابلي العدو، فركعوا وسجدوا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاعدٌ ومن معه، ثم كان السلام، فسلَّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[وسلَّموا جميعًا، فكان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -] ركعتين (¬3)، ولكل رجل من الطائفتين ركعة ركعة". وعلَّق البخاري في غزوة ذات الرقاع في "الصحيح" (¬4) طرفًا منه. وهذه الصفة يمكن موافقتها للصفة التي رواها سعيد بن عبيد عن ابن ¬

_ (¬1) رقم (1240). (¬2) مخروم في الأصل، وكذا ما يأتي بين المعكوفتين فيما بعد، واستدركتها من سنن أبي داود. (¬3) كذا كتبها المؤلف. والجادة ورواية السنن: "ركعتان" بالرفع. (¬4) رقم (4137).

شقيق عن أبي هريرة، كما مرَّ. فإن كانت قصة واحدة فهي مخالفة للصفة التي في حديث مجاهد عن ابن عباس. وفي "فتح الباري" (¬1) أن الواقدي روى بسنده إلى خالد بن الوليد قال: "لما خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الحديبية [لقيتُه] (¬2) بعُسْفان، فوقفتُ بإزائه، وتعرَّضتُ له، فصلَّى بأصحابه الظهر، فهممنا أن نُغِيرَ عليهم فلم يعزم لنا، فأطلعَ الله نبيَّه على ذلك، فصلَّى بأصحابه العصرَ صلاةَ الخوف" الحديث. أقول: والواقدي لا يُفرح به. ¬

_ (¬1) (7/ 423). (¬2) مخروم في الأصل، واستدركته من "الفتح".

الرسالة الثانية عشرة قيام رمضان

الرسالة الثانية عشرة قيام رمضان

بسم الله الرحمن الرحيم قيام رمضان وردت عدة نصوص في الترغيب في القيام مطلقًا، كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان: 64]، وغيرها. ونصوصٌ تؤكّد قيام رمضان، وخاصةً ليلةَ القدر، كحديث "الصحيحين" (¬1): "من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدَّم من ذنبه". وفي حديث آخر (¬2): "من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدم من ذنبه". وثبتت نصوص أخرى تبيِّن عدة صفاتٍ إذا اتصف بها قيام الليل عَظُم أجرُه، وكبُر فضلُه، وإن خلا عن بعضها أو عنها كلّها لم يمنع ذلك من حصول أصل قيام الليل. فلنسمِّها "مكمِّلات"، وهي: 1 - أن يكون تهجّدًا، أي بعد النوم. ومن أدلّة ذلك حديث "الصحيحين" (¬3) وغيرهما عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا، وفيه: "وأحبُّ الصلاة إلى الله تعالى صلاة داود، كان ينام نصفَ الليل ويقوم ثُلثَه وينام سُدسَه". وفي "صحيح مسلم" (¬4) عن جابر مرفوعًا: "من خاف أن لا يقوم من ¬

_ (¬1) البخاري (37) ومسلم (759) من حديث أبي هريرة. (¬2) أخرجه البخاري (1901) ومسلم (760) من حديث أبي هريرة. (¬3) البخاري (1131) ومسلم (1159/ 189). (¬4) رقم (755).

آخر الليل فليُوتِرْ أوّلَه، ثم ليرقُدْ، ومن طَمِعَ أن يقوم من آخر الليل فإن صلاة آخر الليل مشهودةٌ محضورةٌ، وذلك أفضل". 2 - أن يكون بعد نصف الليل. ومن أدلّته ما تقدم. 3 - أن يستغرق ثلث الليل. ومن أدلّته: حديث عبد الله بن عمرو المتقدم. وقد قال الله عزَّ وجلَّ في آخر سورة المزمل: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [لمزمل: 20]. يريد به: ما تيسر من قيام الليل. 4 - أن يُكثِر فيه من قراءة القرآن. وهو مِن لازم الثالث؛ لما عُرِف من نظام الصلاة. 5 - أن يكون مثنى مثنى، ثم يوتر بركعة. هذا هو الأكثر من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبه أمر مَن سأله عن قيام الليل. وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - صُوَرٌ أخرى، منها: مثنى مثنى ويوتر بثلاث. 6 - أن لا يزيد عن إحدى عشرة ركعة. كما ثبت من حديث عائشة في "الصحيحين" (¬1) وغيرهما، قالت: "ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزيد في رمضانَ ولا غيرِه على إحدى عشرة ركعةً ... ". أجابت بهذا مَنْ سألها عن صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الليل في رمضان. وذلك ¬

_ (¬1) البخاري (1147، 2013) ومسلم (738).

صريح في أن المشروع في قيام رمضان هو المشروع في غيره، إلاَّ أنه آكدُ (¬1) فيه. وقد جاء عنها أنه صلَّى في بعض الليالي ثلاث عشرة ركعة (¬2). وفي "المستدرك" وغيره (¬3) عن أبي هريرة مرفوعًا: "لا تُوتِروا بثلاثٍ تَشبَّهوا بالمغرب، ولكنْ أوتروا بخمسِ أو بسبعٍ أو بتسعٍ أو بإحدى عشرة أو بأكثر من ذلك". والمراد - والله أعلم - بالوتر في هذا الحديث: قيام الليل، كأنه كره الاقتصار على ثلاثٍ وأمرَ بالزيادة عليها. وأكثرُ ما جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بينه بتكبيرةٍ واحدةٍ تسع ركعات. فهو - والله أعلم - أكثر الوتر الحقيقي، فأمَّا الوتر بمعنى قيام الليل المشتمل على الوتر فلا مانعَ من الزيادة فيه، والأفضلُ ما تقدّم. 7 - أن يكون فُرادى. كما هو الغالب من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وهو كاللازم للأمر الآتي. ¬

_ (¬1) في النسخة اليمنية: "يتأكد". (¬2) أخرجه البخاري (1170) ومسلم (737). (¬3) أخرجه الحاكم في "المستدرك" (1/ 304) والبيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 31، 32) من طريق الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن عراك بن مالك عن أبي هريرة. وإسناده صحيح. وأخرجه بنحوه ابنُ حبان (2429) والدارقطني (2/ 24، 25) والحاكم (1/ 304) والبيهقي (3/ 31) من طريق سليمان بن بلال عن صالح بن كيسان عن عبد الله بن الفضل عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وعبد الرحمن الأعرج عن أبي هريرة. وصححه الحاكم.

ومع ذلك، فقد ثبت عن ابن مسعود اقتداؤه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض قيام الليل. وكذلك عن [ص 2] ابن عباسٍ لمّا بات في بيت النبي - صلى الله عليه وسلم -. وسيأتي ما يشهد لذلك. 8 - أن يكون في البيت. ومن أدلته: حديث "الصحيحين" (¬1) وغيرهما عن زيد بن ثابت قال: "احتجرَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حُجَيرةً بخَصَفةٍ أو حصيرٍ، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلّي فيها، قال: فتتبَّع إليه رجالٌ وجاءوا يُصلُّون بصلاته، قال: ثم جاءوا ليلةً فحضروا، وأبطأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنهم، قال: فلم يخرج إليهم، فرفعوا أصواتهم وحَصَبُوا الباب، فخرج إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُغضَبًا، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما زال بكم صنيعُكم حتى ظننتُ أنه سيُكْتَب عليكم، فعليكم بالصلاة في بيوتكم، فإن خير صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة". هذا لفظ مسلمٍ في الصلاة، باب "استحباب صلاة النافلة في البيت"، ونحوه للبخاري في "صحيحه"، في كتاب الأدب، "باب ما يجوز من الغضب". والحديث وارد في قيام رمضان كما يأتي، وذلك قاضٍ بشمول الحكم له نصًّا، فلا يُقبَل أن يُخرَج منه بتخصيص (¬2). ¬

_ (¬1) البخاري (6113) ومسلم (781). (¬2) أتعجّب مما وقع في "فتح الباري" في باب التراويح: "وعن مالك ... وأبي يوسف وبعض الشافعية: الصلاةُ في البيوت أفضل، عملًا بعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة". وهو حديث صحيح أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة" [المؤلف].

وذكر مسلم رواية أخرى (¬1) قال في متنها: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - اتخذ حُجْرةً في المسجد من حصيرٍ، فصلَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها لياليَ حتى اجتمع إليه ناسٌ، فذكر نحوه وزاد فيه: "ولو كُتِبَ عليكم ما قمتم به". وهذه الرواية في "صحيح البخاري" (¬2) في كتاب الاعتصام، "باب ما يُكْره من كثرة السؤال، ومن تكلُّفِ ما لا يعنيه"، وقوله تعالى: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101]، وفيها بعد قوله: "ليالي": "حتى اجتمع إليه ناسٌ، ففقدوا صوتَه ليلةً، فظنوا أنه قد نام، فجعل بعضهم يتنحنح ليخرج إليهم، فقال: "ما زال بكم الذي رأيتُ من صنيعكم حتى خشيتُ أن يُكْتَب عليكم، ولو كُتِب عليكم ما قمتم به، فصلُّوا أيها الناس في بيوتكم؛ فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة". وفي رواية للبخاري (¬3) في كتاب الصلاة، في "باب صلاة الليل" قُبيلَ "أبواب صفة الصلاة": "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اتخذ حجرةً - قال: حسبتُ أنه قال: من حصيرٍ - في رمضان، فصلَّى فيها لياليَ، فصلَّى بصلاته ناسٌ من أصحابه، فلما علم بهم جعل يقعد ... ". علَّل أمرهم بالصلاة في البيوت بأنها في غير المكتوبة خير وأفضل، ¬

_ راجع "الفتح" (4/ 252)، والصواب أنه متفق عليه من حديث زيد بن ثابت، كما ذكره المؤلف. (¬1) رقم (781/ 214) (¬2) رقم (7290). (¬3) رقم (731).

مقارنة بين حديث زيد وحديث عائشة

فثبت أنه إنما أمرَهم أمرَ إرشادٍ لتحصيل زيادة الفضل، وأن الصلاة في المسجد فيها خيرٌ في الجملة وفضلٌ، وذلك شامل لقيام رمضان. والظاهر أنه - صلى الله عليه وسلم - كان تلك الليالي معتكفًا، والمسجد بيت المعتكف، فلا يكون في صلاته فيه ما ينافي منطوق الحديث. وكأنه كان يقتدي به أولاً المعتكفون، ومَنْ في معناهم من أهل الصُّفَّة الذين لا بيتَ لهم إلَّا المسجد، فلم ينكر عليهم. ثم حضر غيرهُم، ولم يشعُرْ - صلى الله عليه وسلم -، فلمَّا شَعَرَ قعد. وما يقع في بعض روايات حديث عائشة ممّا قد خالف ما هنا: الظاهرُ أنه من تصرُّفِ بعض الرواة، من باب الرواية بالمعنى على حسب ما فهم، والله أعلم. مقارنة بين حديث زيدٍ وحديث عائشة قد وردت القصة من حديث عائشة، ولكن في حديث زيدٍ زيادتان: الأولى: ما فيه مِنْ ذكر [ص 3] تنحنُحِ القوم، ورفْعِهم أصواتهَم، وحَصْبِهم البابَ، وغضَبِ النبي - صلى الله عليه وسلم -. الثانية: ما فيه مرفوعًا: "فعليكم بالصلاة في بيوتكم؛ فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة". والزيادة الأولى تُفْهِم أن صنيعهم ذاك هو الذي خشي النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُعاقَبوا عليه بفرضِ قيام الليل في المسجد عليهم. وأشار إلى ذلك البخاريُّ؛ إذ ذكر الحديث في كتاب الاعتصام "باب ما

يُكْرَه من كثرة السؤال، ومن تكلُّفِ ما لا يعنيه"، وقوله تعالى: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}، وذكر معه حديث: "إنَّ أعظم المسلمين جرمًا من سأل عن شيء لم يُحرَّم فحُرِّم من أجْلِ مسألته" (¬1). والزيادة الثانية تُفْهِم أن سبب احتباس النبي - صلى الله عليه وسلم - عنهم هو إرادة صَرْفِهم إلى الصلاة في بيوتهم؛ لأنها أفضل. ولو خلا الحديث عن هاتين الزيادتين لكان ظاهره أن الصنيع الذي خشي أن يترتَّبَ عليه الفرض هو مثابرة القوم على الحضور، وأن سبب احتباس النبي - صلى الله عليه وسلم - هو إرادة قطع المثابرة قبل أن يترتّب عليها الفرض. والظاهر أن خلوَّ حديث عائشة عن هاتين الزيادتين سببه أنها كانت في بيتها إذْ كان زيدٌ في المسجد شريكًا في القصة، وأن ذلك أدّى إلى هذا الفهم على ما فيه، ففي "الصحيحين" (¬2) من طريق مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة، قالت: "إن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لَيدَعُ العملَ وهو يُحِبُّ أن يعملَ به، خشيةَ أن يعملَ به الناس فيُفْرَضَ عليهم". لا أرى مأخذ هذا المعنى إلاَّ ما فُهِم من تلك القصة، بسبب خلوِّها عن تَيْنِكَ الزيادتين. قد يقال: إنّ هذا وإن استقام بالنظر إلى بعض روايات حديث عائشة، فلا يستقيم بالنظر إلى بعضها. ¬

_ (¬1) البخاري (7289) من حديث سعد بن أبي وقاص. (¬2) البخاري (1128) ومسلم (718).

فأمّا الأول: فرواية عمرة عن عائشة، وأكثر الروايات عن أبي سلمة عن عائشة. ولفظ البخاري (¬1) عن عمرة: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلِّي من الليل في حُجرته، وجدار الحجرة قصير، فرأى الناسُ شخصَ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقام ناسٌ يصلُّون بصلاته، فأصبحوا فتحدثوا بذلك، فقام ليلةَ الثانية (¬2)، فقام معه ناس يصلُّون بصلاته، صنعوا ذلك ليلتين أو ثلاثًا، حتى إذا كان بعد ذلك جلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يخرج، فلما أصبح ذكر ذلك الناس، فقال: "إني خَشِيتُ أن تُكتَبَ عليكم صلاةُ الليل". ذكره البخاري قبل أبواب صفة الصلاة، في "باب إذا كان بين الإمام وبين القوم حائط أو سترة". ثم قال بعده: "باب صلاة الليل"، فأخرج (¬3) من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان له حصيرٌ يَبْسُطه بالنهار، ويحَتجِرُه بالليل، فثاب إليه ناسٌ فصلَّوا وراءه". [ص 4] كذا أخرجه مختصرًا. وقد أخرجه مسلم (¬4)، ولفظه: "كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حصيرٌ، وكان يُحَجِّرُه من الليل، فيصلّي فيه, فجعل الناس يصلّون بصلاته، وَيْبسُطُه بالنهار. فثابوا ذاتَ ليلةٍ، فقال: "يا أيها الناس، عليكم من الأعمال ما تُطِيقون؛ فإن الله لا يَمَلُّ حتى تَمَلُّوا، وإن أحبَّ الأعمالِ إلى الله ما دُووِمَ عليه ¬

_ (¬1) رقم (729). (¬2) كذا الرواية عند الأكثر، وانظر توجيهها في "الفتح" (2/ 214). (¬3) رقم (730). (¬4) رقم (782).

وإنْ قَلّ". وكان آل محمد - صلى الله عليه وسلم - إذا عملوا عملًا أثبتوه". وفي "فتح الباري" (¬1) في "باب تحريض النبي - صلى الله عليه وسلم - على قيام الليل" ما لفظه: "في رواية أبي سلمة المذكورة قبيل صفة الصلاة: "خشيتُ أن تُكْتَب عليكم صلاة الليل". كذا قال، وتبعه العينيّ (¬2)! وإنما هذا في رواية عمرة، كما مرّ. وأمّا الثاني: فما في "الصحيحين" (¬3) وغيرهما من رواية مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلَّى ذاتَ ليلة في المسجد، فصلَّى بصلاته ناس، ثم صلَّى من القابلة فأكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة - أو الرابعة - فلم يخرج إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فلما أصبح قال: "قد رأيتُ الذي صنعتم، ولم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيتُ أن تُفْرَضَ عليكم" وذلك في رمضان". ففي هذه الرواية جاء هذا التعليل من لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكيف يستقيم أن يقال: إنه إنما فُهِم من حديث عائشة لخلوِّه عن الزيادتين الثابتتين في حديث زيد؟! أقول: في "فتح الباري" (¬4) في الكلام على رواية عروة: "ظاهر هذا الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - توقَّعَ ترتُّبَ افتراضِ الصلاة بالليل جماعةً على وجود ¬

_ (¬1) (3/ 13). (¬2) في "عمدة القاري" (7/ 177). (¬3) البخاري (1129) ومسلم (761). (¬4) (3/ 13).

المواظبة عليها، وفي ذلك إشكال ... ". [ص 5] وحاصِلُ الإشكال موضَّحًا: أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا قد عرفوا فضل قيام رمضان، ولم يكونوا يعلمون أنه في البيوت أفضل، فلمّا سمعوا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج يصلِّيه (¬1) في مسجده، ويأتمُّ به مَنْ حضر؛ ظنّوا معذورين أن حضورهم للصلاة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد أفضل، والمداومةُ التي كانت قد وقعت منهم قبل أن يذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - قصةَ الفرض = كان الظاهر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقرّهم عليها، فتأكّد العذر، ولو كان العمل مشروعًا ولم يقطعه النبي - صلى الله عليه وسلم - لكان عملًا كلّه خير. والفرضُ الذي خشيه النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2) كان عقوبةً، بدليل قوله: "ولو كُتِب عليكم ما قمتم به". وقد فهم البخاري ذلك، فأخرج الحديث في باب ما يُكرَه من السؤال (¬3)، وذكر معه آية: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} , وحديث: "إن أعظمَ المسلمين جرمًا مَن سأل عن شيء لم يُحرَّم فحُرِّم من أجل مسألته". وقد قال الله عزَّ وجلَّ: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 160 - 161]. فكيف تكون المداومة على عملٍ ¬

_ (¬1) في النسخة اليمنية: "يصلي". (¬2) هنا كلمتان بين السطرين لم أستطع قراءتهما, وليس هناك إشارة لحق، والكلام متصل بدونهما. (¬3) "الصحيح" مع الفتح (13/ 264).

مشروعٍ فاضلٍ سببًا لمثل هذا الفرض؟ وقد أجيب عن هذا الإشكال أجوبة لا تُسْمِن ولا تُغنِي من جوع، وفيه إشكال آخر، بناءً على فرضِ أن أصل ذلك العمل مشروع، وإنما تركه النبي - صلى الله عليه وسلم - لمانعٍ، وهو الخشية؛ فإنه لو صحَّ هذا لكان على الخلفاء الراشدين أن يعملوا بهذا عند زوال المانع بوفاته - صلى الله عليه وسلم -، فيؤمُّوا الناسَ في قيام رمضان في المساجد. فلماذا تركوه؟ أجاب بعضهم: أن الصحابة كانوا في زمن أبي بكر مشغولين بحروب الردّة، ولهذا لمّا استقرّ الأمر عمل به عمر. وفي هذا أوّلاً: أنّ تضايق المدينة في قصة الردّة لم يَطُلْ، وبقي أبو بكر بعد ذلك مدةً متمكِّنًا كلَّ التمكُّن من القيام بالناس في المسجد لو أراد، وأن عمر لم يَقُم بالناس في المسجد قطّ، وإنّما أمر بما أمر به في آخر خلافته، فإنه استُشهِد آخرَ سنة 23. وقد روى عبد الرحمن بن عبد القاريُّ القصةَ كما في "صحيح البخاري" (¬1) أنه شهدها، وفي القصة ما يقتضي أن يكون عبد الرحمن حينئذٍ من أصحاب عمر، يدخل بدخوله ويخرج بخروجه، مع أن عُمره لوفاة عمر كان تقريبًا عشرين سنة، وعلى ما رجحه ابن حجر في "الإصابة" (¬2) أربع عشرة سنة. ورواها أيضًا روايةً واعيةً نوفلُ بن إياس الهذلي كما يأتي، مع أنهم لم يذكروه فيمن وُلِد في العهد النبوي، فعُمْرُه لوفاة عمر نحو ثلاث عشرة سنة. ¬

_ (¬1) رقم (2010). (¬2) (8/ 62) حيث رجَّح أنه وُلد في آخر عُمْر النبي - صلى الله عليه وسلم -.

فهذا ممّا يدلُّك أنّ ما وقع من عمر رضي الله عنه من جَمْعِهم على أُبي بن كعب إنما كان في آخر خلافته. وهذا كلُّه يُثبِت أن الصواب ما دلَّ عليه حديث زيد. فأمّا ما في رواية عروة [ص 4] فقد فتح الله علىّ بجوابين: الأول: أن يقال: إن هذا اللفظ الذي وقع في رواية عروة منسوبًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس هو عين اللفظ النبوي، بل قد يكون اللفظ النبوي هو الذي وقع في حديث زيد أو في رواية عمرة. فأما ما في رواية عروة فتصرَّف فيه الراوي على وجه الرواية بالمعنى، على حسب فهمه. الجواب الثاني: أنه على فرض أن ما وقع في رواية عروة هو عين لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فالتوفيق بينه وبين حديث زيد - مع تجنُّب الإشكالين - متيسِّر بحمد الله، بأن يقال: إنه - صلى الله عليه وسلم - احتبس عنهم أوّلاً؛ ليصرِفَهم إلى الصلاة في البيوت، لمزيد فضلها، كما في حديث زيد، ثم كأنهم لمّا صنعوا ما صنعوا من التنحنُح ورفْع الأصوات وحَصْب الباب هَمَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن يستجيب لإلحاحهم، فيخرج فيصلِّي بهم، لكنه خشي أن يكون في ذلك ما يؤكّد شناعةَ صنيعهم؛ لأنه يثبت بذلك [ص 6] أنهم اضطروا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إلى فعل ما يكرهه، ولعلّ هذا يوجب أن يُعاقَبوا بأن يُفرض عليهم ذلك العمل. فلم يخشَ ترتُّبَ الفرض على المواظبة، بل على إلحاحهم إذا تأكّدت شناعتُه باستجابته لهم. فتدبَّرْ. ولم أرَ مَنْ نحا هذا المنحى مع ظهوره، ومع استشكالهم ظاهرَ ما وقع في رواية عروة. فكأنهم احتاجوا إلى المحافظة على ظاهر ما في رواية عروة

ليدفعوا أن يكون ما أمر به عمر بدعةً، كما يدلُّ عليه قول كثيرٍ منهم: إنما ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - الاستمرار على إقامتها جماعةً في المسجد لمانعٍ، وهو خشية أن تُفْرضَ، وبموته - صلى الله عليه وسلم - زال هذا المانع. وإذا ثبت أن الحكم مشروعٌ، وتُرِك في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لمانعٍ؛ فإنه إذا زال المانع بعده لم يكن العمل بذلك الحكم بدعة. وستعلم قريبًا - إن شاء الله تعالى - ما يغني عنه في دفع البدعة. وقد أخرج الإمام أحمد في "مسند" (¬1) رواية أبي سلمة من طرقٍ، ثم أخرج (¬2) من طريق ابن إسحاق: "حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: كان الناسُ يصلّون في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رمضان بالليل أوزاعًا، يكون مع الرجل شيء من القرآن فيكون معه النفرُ الخمسةُ أو الستة، أو أقلُّ من ذلك أو أكثر، فيصلُّون بصلاته. قالت: فأمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ليلةً من ذلك أن أَنصِبَ له حصيرًا على باب حجرتي، ففعلتُ، فخرج إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن صلَّى العشاء الآخرة. قالت: فاجتمع إليه مَن في المسجد، فصلَّى بهم ... فقال: "أيّها الناس! أما والله ما بِتُّ - والحمد لله - ليلتي هذه غافلًا، وما خفي عليّ مكانكم، ولكني تخوَّفْتُ أن يُفتَرض عليكم، فاكْلَفُوا من الأعمال ما تُطِيقون ... ". في النفس شيء من هذه الرواية؛ قصةُ الأوزاع لم أجدها في شيء من ¬

_ (¬1) (6/ 61، 241، 36، 73، 104). (¬2) (6/ 267).

الروايات الأخرى، وإنَّما المحفوظ أن ذلك كان في عهد عمر، كما في "الموطأ" (¬1) وغيره عن ابن شهاب عن عروة عن عبد الرحمن بن عبدٍ القاريِّ أنه قال: "خرجتُ مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليلةً في رمضان إلى المسجد، فإذا الناسُ أوزاعٌ متفرقون، يُصلّي الرجل لنفسه، ويُصلّي الرجل فيصلي بصلاته الرهْطُ". وبقيةُ الكلام في رواية ابن إسحاق، كأنه ضمَّ رواية عروة إلى رواية أبي سلمة، مع زيادة تطويل. وابن إسحاق صدوق، وثَّقه جماعة (¬2)، وأثنى عليه الإمام أحمد وغيرُه، لكنْ قال أيوب بن إسحاق بن سافري - وهو صدوق -: سألت أحمد، فقلت له: يا أبا عبد الله! إذا انفرد ابن إسحاق بحديثٍ تقبله؟ قال: "لا والله؛ إني رأيته يُحدِّث عن جماعةٍ بالحديث الواحد، ولا يَفصِل كلامَ ذا من كلامِ ذا". وقد تابعه محمد بن عمرو بن علقمة (¬3) في "سنن أبي داود" (¬4)، ولكنه مختصر. ومحمد بن إبراهيم التيمي: وثَّقه جماعةٌ، واحتجَّ به الشيخان وغيرهما، ¬

_ (¬1) "الموطأ" (1/ 114) والبخاري (2010). (¬2) انظر "تهذيب التهذيب" (9/ 39 وما بعدها) وفيه قول الإمام أحمد المذكور (9/ 43). (¬3) كانت غير واضحة في الأصل، فوضع المصنف بجوارها علامة, وكتب في الحاشية: "بيانه: محمد بن عمرو بن علقمة". (¬4) رقم (1374).

وقال الإِمام أحمد: "في حديثه شيء، يروي أحاديث مناكير، أو منكرة" (¬1). والخطبُ سهلٌ هنا، فقصةُ الأوزاع لها شواهد في الجملة، وبقيةُ الزيادة في رواية أبي سلمة إن لم تصحّ عنه فقد صحَّ أكثرها من رواية عروة. أمّا شواهد قصة الأوزاع ففي "سنن البيهقي" (¬2) بسندٍ صحيح عن ثعلبة بن أبي مالك القُرَظي قال: "خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذاتَ ليلةٍ في رمضان، فرأى ناسًا في ناحية المسجد يصلّون، فقال: "ما يصنع هؤلاء؟ ". قال قائل: يا رسول الله، هؤلاء ناسٌ ليس معهم قرآن، وأُبي بن كعب يقرأ، وهم معه يصلّون بصلاته. قال: "قد أحسنوا، أو قد أصابوا". [ص 7] ولم يكره ذلك لهم". قال البيهقي: "هذا مرسل حسن، ثعلبة بن أبي مالك القرظي من الطبقة الأولى من تابعي أهل المدينة، وقد أخرجه ابن منده في "الصحابة"، وقيل: له رؤية، وقيل: سِنُّه سنُّ عطية القرظي، أُسِرا يوم قريظة ولم يُقْتَلا, وليست له صحبة". وفي "الإصابة" (¬3): "لا يمتنع أن يصح سماعُه". ثم قال البيهقي: "وقد رُوي بإسنادٍ موصول إلّا أنه ضعيف". فذكر ما رواه أبو داود في "السنن" (¬4) من طريق مسلم بن خالد عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة، بنحو حديث ثعلبة. ¬

_ (¬1) "تهذيب التهذيب" (9/ 6). (¬2) (ج 2 ص 495) [المؤلف]. (¬3) (2/ 78). (¬4) رقم (1377).

قال أبو داود: "هذا الحديث ليس بالقويّ، مسلم بن خالد ضعيف". أقول: مسلم بن خالد ضعَّفه جماعةٌ من جهة حفظه، وقد وثَّقه ابن معين (¬1). وقد كان في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل الصّفة كانوا ملازمين المسجدَ، وكان مِنْ غيرهم مَنْ ينام في المسجد، كابن عمر، فهؤلاء كانوا يصلّون في المسجد حتمًا. وقد عُلِم ممّا تقدم أنه ليس هناك دليلٌ يمنع الاقتداءَ في قيام الليل، بل قد ثبت اقتداء ابن مسعود بالنبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2)، وكذلك اقتداء ابن عباس (¬3). وثبت في قصة عمر أن الناس كانوا قبل ذلك يصلّون أوزاعًا في المسجد، ولم ينكر عليهم أحد صلاتهم تلك، حتى جمعهم عمر على إمام واحد. هذا، وقد جاء من حديث أنس (¬4) وجابر (¬5) ما يوافقُ في الجملة حديثَي زيد وعائشة. وفي "مسند أحمد" و"السنن" (¬6) من حديث أبي ذر: "صُمنا مع ¬

_ (¬1) انظر "تهذيب التهذيب" (10/ 129). (¬2) أخرجه البخاري (1135) ومسلم (773) عن ابن مسعود. (¬3) أخرجه البخاري (726) ومسلم (763) عن ابن عباس. (¬4) أخرجه مسلم (1104). (¬5) أخرجه ابن خزيمة (1070) وابن حبان (2409، 2415)، وفي إسناده عيسى بن جارية، وهو ضعيف. (¬6) أخرجه أحمد (5/ 163) وأبو داود (1375) والترمذي (806) والنسائي (3/ 83، 84)، وابن ماجه (1327). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يُصلِّ بنا حتى بقي سبعٌ من الشّهر، فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل، ثم لم يقم بنا في التالية (¬1)، وقام في الخامسة حتى ذهب شطر الليل. فقلنا: يا رسول الله! لو نفَّلْتَنا بقيةَ ليلتنا هذه، فقال: "إنه من قام مع الإمام حتى ينصرف كُتِب له قيامُ ليلة". ثم لم يقم بنا حتى بقي ثلاث من الشهر، فصلى بنا في الثالثة ودعا أهله ونساءه، فقام بنا حتى تخوَّفْنا الفلاح". قيل لأبي ذرّ: وما الفلاح؟ قال: السحور. قد عُرِف من عادة النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان، ويعتكف معه بعض أصحابه، فلعل المعتكفين هم الذين صلَّوا معه، وقد يكون معهم غيرهم ممّن هو في حكم المعتكف، فقد كان أهل الصّفّة لا مأوى لهم إلا المسجد. نعم، قوله في الثالثة: "ودعا أهله ونساءه" يدلُّ على أنه يُشْرَع للإمام إذا كان معتكفًا أن يدعو أهله للقيام معه في المسجد في مثل تلك الليلة. وفي "مختصر كتاب قيام الليل" لمحمد بن نصر (ص 96): "قال مالك: كان عمر بن حسين من أهل الفضل والفقه، وكان عابدًا ... وكان في رمضان إذا صلَّى العشاء انصرف، فإذا كانت ليلة ثلاث وعشرين قامها مع الناس، ولم يكن يقومُ معهم غيرَها. وقد يجوز أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما دعا من خَشِيَ أن يَغفُلَ في بيته، وفي قصته لمّا أيقظ عليًّا وفاطمة ما يدفع استبعاد هذا. والله أعلم. **** ¬

_ (¬1) في الأصل: "الثالثة" سبق قلم.

مجمل ما كان عليه قيام رمضان في العهد النبوي وما صار إليه في عهد عمر

مجمل ما كان عليه قيام رمضان في العهد النبوي وما صار إليه في عهد عمر تبيَّن ممّا تقدم أن أصل قيام الليل في رمضان وغيره يحصل بمطلق الصلاة بعد العشاء وراتبتها، [ص 8] وأن له مكمِّلاتٍ يَعظُم بها الأجرُ، ويتضاعف الفضل، وكان الغالب في العهد النبوي تمكُّن الناس من المكمِّلات ومحافظتهم عليها، وأكثر ما كان يعرض لهم ممّا يخالف ذلك هو خوف عدم الاستيقاظ بعد النوم في الوقت المتّسع، فلذلك كان كثير منهم يَدَعون المكمِّلَين الأوّلَين - وهما: كون القيام بعد النوم، وكونه بعد نصف الليل -, وربّما كان يتفق أن يوجد جماعة منهم يريدون القيام وليس معهم كثير من القرآن يحصِّلون به المكمِّل الرابع - وهو كثرة قراءة القرآن في القيام - على وجهه، فيريدون أن يعتاضوا عن القراءة بالسماع، فيلتمسون من بعض القرَّاء أن يؤمَّهم في المسجد. وبذلك يترك المأمومون والإمام المكمِّلَينِ الأخيرينِ، وهما: كون القيام فُرادَى، وكونه في البيت. أمّا المأمومون فلعدم تمكُّنِهم من ذلك، مع سماع كثير من القرآن، وأمّا الإمام فيرجو أن يكون في معونته لهم على العبادة، وما يُرجَى من انتفاعهم بسماع القرآن ما يُعوِّضه. لكنّ هذا لم يكثر في العهد النبويّ، ولا اتصل في جميع ليالي رمضان؛ لحرص المهاجرين والأنصار على حفظ القرآن، ونشاطهم في الخير، وضعف رغبة الوافدين من الأعراب في النوافل، كقيام الليل. فلمّا كان في عهد عمر رضي الله عنه كثُر الواردون من الآفاق، ممن

ليس معهم كثير من القرآن، ولهم مع ذلك رغبة في القيام؛ لتمكُّنِهم في الإسلام، ووُجِد في شبّان أهل المدينة جماعة لا يَنْشَطون للقيام الطويل في البيوت، فكان جماعة من الفريقين يقومون في المسجد: مَنْ كان معه قرآن قام وحدَه، ومن لم يكن معهم التمسوا من بعض القرَّاء أن يؤمَّهم، يرون أن لهم أسوةً بمن كانت حاله في العهد النبوي شبيهةً بحالهم. ولكثرة هؤلاء واستمرار عذرهم استمرَّ قيامهم في المسجد في جميع ليالي رمضان، ولم ينكر عليهم أحد من الصحابة، فكان في ذلك حجة على صحّة اجتهادهم، وعلى أنه لو اتّفق مثلُ ذلك في العهد النبوي لما أنكره النبي - صلى الله عليه وسلم -. وبهذا خرج ذاك العمل المتصل عن البدعة. فإنه إذا قام الدليل على أن الحكم مشروع، وتُرِك في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لعدم مقتضيه، ثم وُجِد المقتضي بعده؛ فالعمل به حينئذٍ سنةٌ لا بدعة. فلمّا شاهد عمر رضي الله عنه حالَهم عرفَ عذرَهم، وصوَّبَ اجتهادَهم، لكنه رأى أنه قد نشأ من عملهم مفاسدُ، منها: ظاهرة التفرّق والتحزُّب التي يكرهها الشرع، ومنها: تشويش بعضهم على بعض. وفي "مسند أحمد" (¬1) و"سنن أبي داود" و"المستدرك" وغيرها (¬2)، بسندٍ على شرط الصحيحين "عن أبي سعيد الخدريّ، قال: اعتكف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد، فسمعهم يجهرون بالقراءة، وهو في قُبّةٍ له، فكشفَ ¬

_ (¬1) ج 3 ص 94 [المؤلف]. (¬2) أخرجه أحمد (11896) وأبو داود (1332) والنسائي في "الكبرى" (8092) وابن خزيمة (1162) والحاكم (1/ 310، 311) والبيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 11). وصححه الحاكم. وهو حديث صحيح.

الستورَ، وقال: "ألا إن كلَّكم مناجٍ ربَّه، فلا يُؤذِينَّ بعضُكم بعضًا, ولا يرفعنَّ بعضُكم على بعضٍ [ص 9] بالقراءة - أو قال: في الصلاة -". هؤلاء كانوا - والله أعلم - ممّن المسجدُ بيته: معتكفين، أو من أهل الصّفّة، أو من الفريقين. وكانوا يُصلُّون فُرادى، ويجهرون بالقراءة، فيُشوِّشُ بعضُهم على بعضٍ، فأرشدهم - صلى الله عليه وسلم - إلى المخافتة. ولا يجيء مثل هذا في القائمين بالمسجد في عهد عمر؛ لأن كثيرًا منهم كانوا يُصلّون جماعاتٍ؛ ليسمع المأمومون القرآن، كما تقدم، فلو أُمِروا بالمخافتة لفات المقصود من تلك الجماعات كما لا يخفى. ومنها: أن بعضهم كانوا يتحرَّون الاقتداء بمن يُعجِبهم صوتُه، وإن كان غيره أقرأَ منه وأجدرَ أن يُقْتَدى به. أنكر عمر رضي الله عنه - بحقٍّ - هذه المفاسد، ولم يجد ما يدفعها بدون إخلالٍ بالمقصود إلّا أن يجمعهم على إمامٍ واحد، مقدِّرًا أنه لو اتفق مثل ذلك في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمر بذاك. وبهذا خرج العمل عن أن يكون بدعة، كما يُعْلَم ممّا مرّ. فأمّا ما في "صحيح البخاري" (¬1) من قول عمر: "نِعْمتِ البدعةُ هذه، والتي ينامون عنها أفضل" = فإنّما أراد البدعة لغةً، على أنّ في "طبقات ابن سعد" (ج 5 ص 42) (¬2) بسندٍ صحيح عن نوفل بن إياس الهذلي قال: كنا نقوم في عهد عمر بن الخطاب فِرَقًا في المسجد في رمضان، ههنا وههنا، ¬

_ (¬1) رقم (2010). (¬2) (7/ 63) ط. الخانجي.

فكان الناس يميلون إلى أحسنهم صوتًا، فقال عمر: ألا أراهم قد اتخذوا القرآن أغانِيَ؟ أما والله لئن استطعتُ لأغيِّرنَّ هذا. قال: فلم يمكث إلا ثلاثَ ليالٍ حتى أمر أُبيٍ بن كعب فصلَّى بهم. ثم قام في آخر الصفوف فقال: لئن كانت هذه بدعةً فنعمتِ البدعةُ هي". فهذا - والله أعلم - من باب قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف: 81] (¬1). والظاهر أن الذين كانوا يصلّون فرادى دخلوا في الجماعة؛ لئلّا يُشوِّش عليهم قارئُ الجماعة، وقد يكون بقي منهم من يُصلِّي على الانفراد. وفي "مختصر كتاب قيام الليل" لمحمد بن نصر (ص 96) (¬2): "شعبة عن أشعث بن سليم: أدركتُ أهلَ مسجدنا يُصلِّي بهم إمام في رمضان، ويُصلُّون خلفه، ويُصلِّي ناس في نواحي المسجد لأنفسهم فرادى، ورأيتهم يفعلون ذلك في عهد ابن الزبير في مسجد المدينة. شعبة عن إسحاق بن سويد: كان صفُّ القرّاء في بني عديّ في رمضان: الإمامُ يصلّي بالناس، وهم يصلّون على حِدَةٍ. وكان سعيد بن جبير يصلي لنفسه في المسجد، والإمامُ يصلي بالناس. وكان ابن أبي مُليكة يصلي في رمضان خلف المقام، والناسُ بَعْدُ في سائر المسجد من مصلًّ وطائفٍ بالبيت. وكان يحيى بن وثّاب يصلِّي بالناس في رمضان، وكانوا يصلّون لأنفسهم وُحدانًا في ناحية المسجد. ¬

_ (¬1) الزيادة من "فهذا" إلى هنا من النسخة اليمنية. (¬2) من طبعة الهند. والنصوص الآتية كلها منه.

وعن إبراهيم: كان المجتهدون يصلّون في جانب المسجد، والإمامُ يصلي بالناس في رمضان. وكان ابن مُحَيريز يصلّي في رمضان في مؤخر المسجد، والناس يصلّون في مُقَدَّمه للقيام". هذا، وقد عُلِم حالهم بالنظر إلى أكثر المكمِّلات، فأمّا الباقي، وهي الثالث - أن يستغرق القيام ثلث الليل -, والخامس - وهو أن يكون القيام مثنى مثنى، والوتر ركعة، وفي بعض الليالي ثلاث -, والسادس - وهو أن لا يزيد على إحدى عشرة، وفي بعض الليالي: ثلاث عشرة - = فإنهم حافظوا عليها حتى ضعفوا عن المحافظة على الثالث والسادس معًا، فاختاروا الثالث لكثرة العبادة. روى مالك في "الموطأ" (¬1) عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد قال: "أمر عمر بن الخطاب أُبيّ بن كعب وتميمًا الدّاريّ أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة. قال: وكان القارئ يقرأ بالمئين، حتى كنّا نعتمد على العِصِيّ، وما كنا ننصرف إلا في فروع الفجر". وفي "فتح الباري" (¬2) أن سعيد بن منصور رواه من طريق محمد بن إسحاق "حدثني محمد بن يوسف عن جده السائب بن يزيد قال: كنّا نصلي في زمن عمر في رمضان ثلاث عشرة". ¬

_ (¬1) (1/ 115). (¬2) (4/ 254).

وحُمِلَ هذا على بعض الليالي، والغالبُ إحدى عشرة، كما في رواية مالك. وعُلِم من رواية مالك وغيرها أن القوم كانوا يقومون ثلث الليل أو أكثر، فيشُقُّ عليهم طولُ الوقوف كما مرّ. فروى مالك في "الموطأ" (¬1) عن يزيد بن رومان أنه قال: "كان الناس يقومون في زمان عمر بن الخطاب في رمضان بثلاث وعشرين". وفي "سنن البيهقي" (¬2) بسندٍ صحيح [ص 10] عن يزيد بن خُصيفة عن السائب بن يزيد قال: "كانوا يقومون على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في شهر رمضان بعشرين ركعة ... ". قال البيهقي: "يمكن الجمع بين الروايتين، فإنهم كانوا يقومون بإحدى عشرة، ثم كانوا يقومون بعشرين ويوترون بثلاث، والله أعلم". وفي القسطلاني (¬3): "ذكر في النوادر عن ابن حبيب: أنها كانت أولًا إحدى عشرة ركعة، إلّا أنهم كانوا يطيلون القراءة، فثقُلَ عليهم ذلك، فزادوا في أعداد الركعات وخفّفوا في القراءة ... ". أقول: ولم يلتزموا ذلك، وفي "مختصر كتاب الوتر" لمحمد بن نصر (¬4) ¬

_ (¬1) (1/ 115). (¬2) ج 2 ص 496 [المؤلف]. (¬3) "إرشاد الساري" (3/ 426). (¬4) (ص 91، 92).

و"فتح الباري" (¬1) أعداد مختلفة: 1 - إحدى عشرة. 2 - ثلاث عشرة. 3 - ست عشرة، والوتر. 4 - إحدى وعشرون. 5 - ثلاث وعشرون. 6 - أربع وعشرون، والوتر. 7 - خمس ترويحات، إلى عشرين ليلة، ثم في العشر الأخيرة سبع ترويحات. 8 - ست ترويحات، إلى عشرين ليلة، ثم في العشر الأخيرة سبع ترويحات. 9 - مثله، ويوتر بسبع. 10 - أربع وثلاثون، والوتر. 11 - ست وثلاثون، والوتر ثلاث. 12 - ثمان وثلاثون، والوتر واحدة. 13 - إحدى وأربعون. 14 - أربعون، والوتر سبع. 15 - ست وأربعون، والوتر ثلاث. ¬

_ (¬1) (4/ 253, 254).

وفي "مختصر كتاب قيام الليل" لمحمد بن نصر (¬1): "قال إسحاق بن منصور: قلت لأحمد بن حنبل: كم من ركعة يُصلَّى في قيام رمضان؟ فقال: قد قيل فيه ألوان نحوًا من أربعين، إنما هو تطوُّع". ثم قال: "الزعفراني عن الشافعي: رأيت الناس يقومون بالمدينة تسعًا وثلاثين ركعة. قال: وأحبُّ إليَّ عشرون. قال: وكذلك يقومون بمكة. قال: وليس في شيء من هذا ضيقٌ ولا حدٌّ يُنتهَى إليه؛ لأنه نافلة، فإن أطالوا القيام وأقلُّوا السجودَ فحسنٌ وهو أحبّ إليّ، وإن أكثروا الركوع والسجود فحسن". أقول: أمّا الحدّ المحتّم فلا، وأمّا الأفضل فالاقتصار على الإحدى عشرة، وفي بعض الليالي ثلاث عشرة، إلاَّ إذا شقَّ عليهم إطالتُها حتى يستغرقَ الوقتَ الأفضلَ، فلهم أن يزيدوا في العدد، على حسب ما يخفُّ عليهم (¬2)، وعلى هذا (¬3) [ص 11] جرى عمل السلف كما مرَّ. **** ¬

_ (¬1) (ص 92). (¬2) الكلمتان الأخيرتان لم تظهرا في التصوير، وكذا استظهرتهما. (¬3) كلمة لم تظهر في التصوير من الأصل، وهو واضح في النسخة اليمنية.

الاختلاف في الأفضل: أفي البيت أم في المسجد؟ فرادى أم جماعة؟

الاختلافُ في الأفضل: أفي البيت أم في المسجد؟ فرادى أم جماعة؟ قد تقدّم أن كونها في البيت هو أحدُ المكمِّلات، وحديثُ زيد بن ثابتٍ نصٌّ صريح في ذلك. وقد عُورض بحديث أبي ذر، وبما جرى في عهد عمر وبعده، وتقدم الجواب عن ذلك واضحًا. "المعاني والآثار" للطحاوي (ج 1 ص 207) (¬1): "عن إبراهيم، قال: لو لم يكن معي إلا سورتين لردّدتهما أحبُّ إليَّ من أن أقوم خلف الإمام في رمضان". وفي رواية (¬2): "لو لم يكن معي إلا سورة واحدة لكنت أن أردّدها أحبُّ إليّ من أن أقوم خلف الإمام في رمضان". وفي "مختصر كتاب قيام الليل" لمحمد بن نصر (ص 96 - 97): "قال الشافعي: إن صلَّى رجلٌ لنفسه في بيته في رمضان فهو أحبّ إليّ، وإن صلَّى في جماعة فهو حسن". وفيه (ص 91): "وقيل لأحمد بن حنبل: يُعجِبك أن يُصلّي الرجل مع الناس في رمضان، أو وحده؟ قال: يصلّي مع الناس. قال: ويُعجِبني أن يصلِّي مع الإمام ويوتر معه، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن ¬

_ (¬1) (1/ 351). (¬2) المصدر نفسه.

الرجل إذا قام مع الإمام حتى ينصرف كُتِب له بقية ليلته" (¬1). قال أبو داود: شهدتُه - يعني أحمد - شهر رمضان يقوم مع إمامه إلا ليلةً لم أحضرها. وقال إسحاق: قلت لأحمد: الصلاة في الجماعة أحبُّ إليك أم يُصلِّي وحده في قيام شهر رمضان؟ قال: يُعجبني أن يصلّي في الجماعة، يحيي السنة. وقال إسحاقُ كما قال". وفي "مختصر كتاب قيام الليل" لمحمد بن نصر المروزي (ص 95): "باب ذكر من اختار الصلاة وحده على القيام مع الناس إذا كان حافظًا للقرآن". فذكر حديث زيد بن ثابت، ثم قال: "وقال الليث: ما بلغنا أن عمر وعثمان كانا يقومان في رمضان مع الناس في المسجد. وقال مالك: كان ابن هرمز - من القرَّاء - ينصرف فيقوم بأهله في بيته، وكان ربيعة ينصرف، وكان القاسم وسالم ينصرفان لا يقومان مع الناس، وقد رأيتُ يحيى بن سعيد يقوم مع الناس، وأنا لا أقوم مع الناس، لا أشك أن قيام الرجل في بيته أفضل من القيام مع الناس، إذا قوي على ذلك، وما قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلّا في بيته". ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (1375) والترمذي (806) والنسائي (3/ 202، 203) من حديث أبي ذر، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

ثم ذكر بعد ذلك أن يحيى بن سعيد ترك القيام معهم، وقال: "كنت أقوم، ثم تركت ذلك، فإن استطعت أن أقوم بنفسي أحبُّ إليّ". وذكر عن مجاهد عن ابن عمر: "تُنصِتُ خلفَه كأنك حمار؟! صلِّ في بيتك". ثم ذكر عن ابن عمر أنه كان ينصرف، لا يصلّي معهم. ومثله عن القاسم، وسالم، ونافع، وعروة. وذكر عن مجاهد قال: "إذا كان مع الرجل عشر سورٍ فليردِّدْها, ولا يقوم في رمضان خلف الإمام". وذكر آخِرَ (ص 91) عن عمرو بن مهاجر أن عمر بن عبد العزيز قد كانت تقوم العامّة بحضرته في رمضان بخمس عشرة تسليمة، وهو في قبّته لا ندري ما يصنع. وذكر عن جماعةٍ أنهم كانوا يقومون في نواحي المسجد فرادى، لا يصلّون مع الجماعة. وذكر (ص 90 - 91) عن جماعةٍ صلاتها جماعةً في المسجد. والذي أرى أنَّ محلَّ ذلك فيمن له عذر، ومن الأعذار دفعُ توهُّم أن صلاتها جماعةً في المسجد منكرةٌ مطلقًا، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ربّما يفعل الشيء لبيان الجواز. وجاء عن أبي بكر، وعمر، وابن عباسٍ: أنهم كانوا لا يُضَحُّون خشيةَ أن يعتقد الناس وجوبَ التضحية. فكان هؤلاء الأكابر يتركونها ليعلم الناسُ أنها ليست بواجبة، وهم في تركهم ذلك مُحسِنون، مُثابُون عليه؛ لما قصدوا به من بيان السُّنَّة.

فأمّا من لا عذر له البتَّةَ ففي السُّنّة كفاية. وفي "طبقات ابن سعد" (ج 7 قسم 2 ص 26) (¬1) عن بكار بن محمد أنَّ ابن عون كان في شهر رمضان لا يزيد على المكتوبة في الجماعة، ثم يخلو في بيته. ومن تدبّر السُّنَّة وحقَّق، ثم تتبَّع أحوال الناس، علم أنه قد تطرَّق إلى هذا الأمر غير قليل من الخطأ والغلط ومخالفة السنة. وشرحُ ذلك يطول، نسأل الله تعالى أن يثبّت قلوبنا على دينه، ويهدينا لما اختُلِف فيه من الحق بإذنه، ويرزقنا الاعتصام بكتابه وسنة نبيّه صلَّى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه. **** ¬

_ (¬1) (9/ 263) ط. الخانجي.

[ملحق]

[ملحق] (¬1) [ص 12] في "فتح الباري" (¬2): استشكل الخطابيّ أصل هذه الخشية، مع ما ثبت في حديث الإسراء من أنَّ الله تعالى قال: "هن خمس، وهي خمسون، لا يُبدَّل القول لديّ" (¬3). فإذا أُمِن التبديل فكيف يقع الخوف من الزيادة؟. ثم ذكر أجوبة. وقد كنت تركتُ التعرّض لهذا البحث لدقّته، مع أن الخشية قد ثبتت قطعًا بحديث زيد هذا في "الصحيحين" وغيرهما، وحديث عائشة في "الصحيحين" وغيرهما أيضًا من أوجهٍ عنها، وبحديثٍ لجابرٍ في صحيحي ابن خزيمة وابن حبان (¬4). فثبت أن ما في حدث الإسراء لا ينبغي أن يُفْهَم منه ما يناقض هذه الخشية، فمن فَهِم ذلك فقد أخطأ ولا علينا أن لا نبيّن وجه خطائه (¬5). ثم أثار هذا البحث أخي العلامة الشيخ محمد عبد الرزاق، فرأيتُ أن أنظر فيه، وأسأل الله التوفيق. ¬

_ (¬1) زيادة توضيحية من عندي. (¬2) (3/ 13). (¬3) أخرجه البخاري (349) ومسلم (163) من حديث أبي ذر. (¬4) سبق تخريج هذه الأحاديث. (¬5) كذا رسمها المؤلف بالمدّ, وهو صحيح في اللغة.

استشكالُ الخطابيّ مبنيّ على أن كلمة "لا يُبدَّل القول لديَّ" قُصِد بها القضاء على معنى قوله: "هن خمس" بأنه لا يُغيَّر في المستقبل. ويردُّه أن عقب هذه الجملة في الحديث نفسه: "فرجعتُ إلى موسى، فقال: راجعْ ربك، فقلت: استحييتُ من ربّي". ولو كان معنى (¬1) ما تقدم إخبارَ الله عزَّ وجلَّ بأنّ مقدار الخمس لا يتبدَّل في المستقبل؛ لعلم موسى أنه لم يبقَ موضعٌ للمراجعة، ولأجاب محمَّد بما يُفْهِم ذلك، ولم يقتصر على قوله: "استحييتُ من ربّي". فإن قيل: لعل في الكلام تقديمًا وتأخيرًا، كما تُشْعِر به بعض الروايات الأخرى، ولعلّ محمدًا لم يخبر موسى بما يدلّ على امتناع التغيير، وقصد محمد أنه يمنعه الاستحياء، حتى على فرض عدم إخبار الله عزَّ وجلَّ بأنه لن يقع تغيير، أو لعلّهما فهما أن المراد أنه لن يقع تغيير بالزيادة، وجوَّزا أن يقع تغيير بالنقصان. قلت: هذا كلّه تمحُّلٌ لا مُلجِئ إليه، ولم أر في الروايات الأخرى ما يصح الاستناد إليه في زعم أن هناك (¬2) تقديمًا وتأخيرًا ينفع الخطّابيّ. وتجويزُ أن يكون محمد أخفى عن موسى خبرَ الله عزَّ وجلَّ بعدم التغيير، فلمّا أمره بالمراجعة أجاب بما أجاب به = تجويزٌ ركيك، لا يخلو عن شناعةٍ يجب تنزيه النبي - صلى الله عليه وسلم - عنها. ¬

_ (¬1) في النسخة اليمنية: "ولولا". (¬2) في اليمنية: "في القضاء على أن في هذه" بدلًا في زعم أن هناك.

وتجويزُ أن يكونا فهما أن عدم التغيير يختصّ بالزيادةِ ركيكٌ أيضًا. وربما يكون أقرب منه أن يفهم أن المراد عدم التغيير بالنقصان، وذلك أنه سبحانه سُئل التخفيف فخفّف، ثم سُئل فخفّف، مرارًا، ثم قال: "هن خمس، وهي خمسون، لا يُبدَّل القول لديَّ". فلو كان المراد أن مقدار الخمس لن يُغيَّر بعد ذلك لقَرُب أن يُفْهَم منه المنع عن سؤال التخفيف بعد ذلك، وأنه لن يكون تخفيف. فإن قيل: فإذا لم يتوجه قوله: "لا يبدَّل القول لديّ" إلى قوله: "هن خمس" فإلى ماذا يتوجّه؟ قلت: قيل بتوجُّهه إلى قوله؛ "وهي خمسون"، وهذا قريب؛ لأن قوله "وهي خمسون" وَعْدٌ منه تعالى بأن يُثيِب على الخمس ثواب خمسين. وقوله: "لا يبدّل القول لديّ" قد عُرِفَ من كتاب الله عزَّ وجلَّ توجّهه إلى الوعد، ونحوه. قال تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} [يونس: 64]. وقال سبحانه: {لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} [ق: 28، 29]. [ص 13] وفي "تفسير ابن جرير" (ج 11 ص 88) (¬1): "وأما قوله: {لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ}؛ فإن معناه: لا خُلْفَ لوعده، ولا تغييرَ لقوله عمّا قال". ¬

_ (¬1) (12/ 225) ط. التركي.

ولا يلزم من امتناع تغيير الخمسين ثوابًا أن لا يُزاد في المستقبل على الخمس، ويثاب على الزائد ثواب مستقلّ، ولا أن لا يُنْقَص العدد عن خمسٍ ويبقى الثواب خمسين. وقيل بتوجّهه إلى ما وقع ابتداءً من فرض خمسين، والمعنى: هن خمسٌ كما أقوله الآن، وهنّ خمسون كما قلتُه أوّلًا, وليس ما جرى من التخفيف تبديلًا للقول الأول "لا يبدَّل القول لديّ"، ولكنه كان المراد به خمسون ثوابًا وهذا ثابت لم يبدَّل ولن يبدَّل. وهذا القول هو الظاهر من العبارة، وقد ذكره السهيلي في "الروض الأنف" (ج 1 ص 252) (¬1)، قال: "والوجه الثاني: أن يكون هذا خبرًا لا تعبُّدًا، وإذا كان خبرًا لم يدخُلْه النسخ، ومعنى الخبر: أنه عليه السلام أخبره ربّه أن على أمته خمسين صلاة، ومعناه أنها خمسون في اللوح المحفوظ، ولذلك قال في آخر الحديث: "هي خمس وهي خمسون، والحسنة بعشر أمثالها". فتأوّله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أنها خمسون بالفعل، فلم يزل يراجع ربه حتى بيَّن له أنها خمسون في الثواب لا في العمل. فإن قيل: فما معنى نقصها عشرًا بعد عشر ... ". ذكر جوابًا غير مرضيّ، وقد فتح الله تعالى بجوابٍ أوجَهَ، وهو أن الله تبارك وتعالى قد حَطَّ مِنْ أوّل مرة خمسًا وأربعين، ولكن اقتضت حكمته إجمال الخبر أولًا، فيكون المراد منه أنها خمسون ثوابًا، ويَفْهَم ¬

_ (¬1) ط. الجمالية بمصر.

الرسول منه أنها خمسون عملًا؛ ليترتَّب على هذا الفهم أولًا: أن يعزم الرسول على أن يعمل هو وأمّته خمسين إن لم يخفّف الله عزَّ وجلَّ، وثانيًا: المراجعة. وبذلك العزم استحق الرسول وأمّته - بفضل الله وكرمه - ثواب الخمسين. فأمّا حكمة المراجعة فقد أفاض فيها الشرّاح. وإذْ كان المحطوط في علم الله خمسًا وأربعين (¬1)، فقد حطّ في ضمنها جميع الأعداد الداخلة فيها. والإخبارُ بحطَّ الأقل لا ينفي حطَّ الأكثر؛ فإن العدد لا مفهوم له عند جمهور الأصوليين، ولو كان له مفهوم فظاهرٌ ضعيفٌ غير مرادٍ، كالإخبار أوَّلًا بخمسين وظاهره أنها خمسون عملًا. وتأخير البيان عن وقت الخطاب جائز على الصحيح، وإنما الممتنع تأخيره عن وقت الحاجة. وقريب من هذا قصة إبراهيم عليه السلام في ذبح ابنه. قال الله عزَّ وجلَّ: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 102 - 107]. ¬

_ (¬1) في اليمنية: "وإذ حطت الخمس والأربعون".

رأى - والله أعلم - في نومه أنه مُضْجِعٌ ابنَه يُعالج ذبحَه، أي: يُمِرُّ الشفرة على عنقه، معتمدًا عليها، شأنَ المقاصد قطعَ العنق وإبانة الرأس. هذا - والله أعلم - هو الذي رآه، وهو معنى قوله: {أَنِّي أَذْبَحُكَ}. وعلم إبراهيم أن الله تعالى أمره [ص 14] أن يفعل ذاك الفعل، وهذا حقّ، وفهم أيضًا أنه - بمقتضى العادة - إذا فعل ذاك الفعل قُطِع عنق ابنه، وبان رأسُه، ومات. ولم يُرِد الله عزَّ وجلَّ هذا, ولا أمر به، ولكنه سبحانه أراد أن يكون الأمر بحيث يَفْهَم إبراهيم منه هذا؛ ليكون ذلك ابتلاءً لإبراهيم وابنه، حتى إذا عزما وعملاً العملَ المرئيَّ في النوم - الذي عندهما أنه موجب لموت الابن - كان لهما ثواب مَنْ قَبِل تلك النتيجة، وقام بها طاعة لله عزَّ وجلَّ. فلمّا أطاعا لذلك، وعمل إبراهيم مثل العمل الذي رآه في نومه، وأخذ يكُدُّ الشفرة لتقطع، ويكفّها الله عزَّ وجلَّ عن القطع، كما كفَّ النار عن الإحراق، ولم يزل إبراهيم يكُدُّ الشفرة ولا تَقْطع حتى ناداه الله عزَّ وجلَّ: {أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا}. أي: قد جئت بمصداقها كاملًا، وهو تلك المعالجة؛ فإنه إيّاها رأى (¬1) في نومه، ولم ير ما يزيد عنها. فعلى هذا لا نسخَ في القصة البتةَ. فإن قيل: ربما يدفع هذا قوله: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}، فإنه إذا لم يؤمر في نفس الأمر إلّا بالمعالجة التي وفَى بها، فقد وفَى بها، فلماذا الفدية؟ قلت: كان إبراهيم قد عزم على قطع العنق، وإبانة الرأس، وإماتة ابنه، ¬

_ (¬1) في اليمنية: "فإنه رأى إياها".

وإبراهيمُ قد يعدُّ ذاك العزم بمثابة النذر، ويحزُّ في نفسه أن لا يفي به، وإن لم يكن مأمورًا به. فمِنْ هنا - والله أعلم - طيَّب الله عزَّ وجلَّ نفسه بالفدية. وقد استنبط بعض الفقهاء من الآية أنّ من نذر ذبح ابنه كان عليه أن يذبح شاةً. ورُدَّ بأن إبراهيم نذر مباحًا في شريعته، وليس بمباحٍ في شريعتنا. والاستنباط لطيف، والردُّ صحيح. وقد تعرَّض لهذا المعنى في قصة إبراهيم بعضُ أهل العلم، فردّه بعضهم بتشنيعٍ لا حقيقة له (¬1)، بل يلزمه مثله أو أشدّ منه في دعوى النسخ التي ارتكبها. ومَنْ اعترف في المجمل الذي له ظاهر بجواز تأخّر بيانه إلى وقت الحاجة، لزمه أن يجيز مثل ما قلناه في المسألتين وأشدَّ منه، ولو لم تظهر حكمة فكيف يأباه هنا مع ظهور الحكمة البالغة؟! فأما من ينكر تأخير البيان مطلقًا، فالكلام معه مبسوط في كتب الأصول. فإن قيل: لماذا لا يجوز النسخ مع وجود الفائدة للتكليف، بأنْ يكون الله تعالى أمر إبراهيم بذبح ابنه ابتلاءً، فلما تبيَّن امتثاله واستعداده وعزمه الصارم ¬

_ (¬1) انظر "أحكام القرآن" للجصاص (3/ 377) والردّ عليه في "أحكام القرآن" للكياالهراسي (4/ 358). وراجع "أحكام القرآن" لابن العربي (4/ 1619) و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (15/ 111).

على العملِ نَسَخَهُ الله تعالى؟ ونحو هذا يقال في قصة الصلاة. قلت: أنا لم أَخْتَرْ عدم النسخ تفاديًا من النسخ قبل العمل، بل لما في السياق ممّا يبيّن عدم النسخ، كما مرَّ.

الرسالة الثالثة عشرة مسألة اشتراط الصوم في الاعتكاف

الرسالة الثالثة عشرة مسألة اشتراط الصوم في الاعتكاف

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله سيدنا محمد الأمين، وعلى آله وصحبه الطّاهرين. جرت المذاكرة بين الحقير وبين السيد العلامة صالح بن محسن الصَّيلمي من علماء المذهب الزيدي - حرسه الله - في اشتراط الصوم في الاعتكاف. فقلت له: الجديد عندنا عدمُه إلا إذا نذر أن يعتكف صائمًا لزِمه جمعُهما على الأصح. فقال: فلو نذر أن يعتكف مصلّيًا؟ قلت: فله أن يُفرِد الاعتكاف عن الصلاة. فقال: فهل قياس العكس عندكم معتبر في الأصول؟ قلتُ: نعم على الأصح. فقال: علماؤنا يُلزمونكم القولَ باشتراطِ الصوم في الاعتكاف بقياس العكس. فقلت له: ما وجهُ تأتّي قياس العكس هنا؟ فإنما قياس العكس كما قال الجلال المحلي في "شرح جمع الجوامع" (¬1): "إثبات عكسِ حكمِ شيءٍ لمثله، لتعاكسهما في العلة". واستدلّ له بقوله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه وقد قال لهم: ¬

_ (¬1) (2/ 343).

"وفي بُضْعِ أحدكم صدقة". فقالوا: أيأتي أحدنا شهوتَه وله فيها أجر؟ [فقال] (¬1): "أرأيتم لو وضعَها في حرام أكان عليه وِزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر". قال: رواه مسلم (¬2). ثم أتيتُ إليه ناقلًا ما لفظُه: قال العلامة البَنَّاني في "حاشيته على شرح المحلّي لجمع الجوامع" (¬3): "قوله: "وهو إثبات عكس حكم ... إلخ"، الحكم في الحديث المذكور هو ثبوت الوزر، وعكسه ثبوت الأجر، والشيء الوضع في الحرام، ومثل ذلك الشيء هو الوضع في الحلال الثابتِ له العكسُ المذكور، وجعل الوضع في الحرام والوضع في الحلال مِثْلَين من حيث إن كلاًّ منهما وضعٌ، وإلَّا فهما ضدّانِ في الحقيقة. وقوله: "لتعاكسهما" أي: الحكمين. وقوله: "في العلة" وهي الوضع في الحرام الذي هو علة ثبوت الوزر، والوضع في الحلال الذي هو علة ثبوت الأجر، فكلٌّ من ثبوت الأجر وثبوت الوزر عكسٌ للآخر؛ لأن كلاًّ من الوضع في الحرام والوضع في الحلال عكسٌ للآخر فتعاكُسُ العلتين المذكورتين مقتضٍ لكون الحكم المترتب على إحداهما عكسَ الحكم المترتب على الأخرى" هـ. قلت: ولا تناقضَ في قوله: "لأن كلاًّ من الوضع في الحرام والوضع في الحلال عكسٌ للآخر" مع قوله سابقًا: "والشيء الوضع في الحرام، ومثل ذلك الشيء هو الوضع في الحلال"؛ لأنَّ جَعْلهما مِثْلين هو باعتبار مطلق الوضع، وجَعْلهما ضدَّين هو باعتبارِ محلّه، كما يؤخذ من كلامه. فطَبِّقُوا ¬

_ (¬1) بياض في الأصل. (¬2) رقم (1006) عن أبي ذر. (¬3) (2/ 343).

مسألة شرطية الصوم على قياس العكس كما طبق الحديث، ولا يخفى عليكم حقيقة العلة والتعاكس عند الأصوليين، وإنما نريد بذلك معرفة كيفية الاستدلال بقياس العكس فيها, استفادةَ الحكم وتسليمه، فإن لنا في النصوص الصحيحة ما يُقِرُّ الناظرَ ويُخرِس المناظر: أولها: ما في "شرح السيد المرتضى على الإحياء" بعد نقل حديث الصحيحين وأبي داود والنسائي (¬1) من طريق عُقيل عن الزهري عن عروة عن عائشة: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكف العَشْرَ الأواخر من رمضان حتى قبضه الله عزَّ وجلَّ، ثم اعتكف أزواجُه من بعدِه. قال (¬2): ثم قد استُدِلَّ بالحديث المذكور أنه لا يُشترط لصحة الاعتكاف الصومُ، وذلك من وجهين: أحدهما: أنه اعتكف ليلًا أيضًا مع كونه فيه غيرَ صائم، ذكره ابن المنذر. ثانيهما: أن صومه في شهر رمضان إنما كان للشهر؛ لأن الوقت مستحقّ له، ولم يكن للاعتكاف. ذكره المزني والخطابي. وبهذا قال الشافعي وأحمد في أصح الروايتين عنه، وحكاه الخطابي (¬3) عن علي وابن مسعود والحسن البصري. وقال مالك وأبو حنيفة والجمهور: يُشترط لصحة الاعتكاف الصومُ، ورُوي ذلك عن علي وابن عمر وابن عباس وعائشة، وروى الدارقطني (¬4) في حديث عائشة المتقدم من رواية ابن جريج عن ¬

_ (¬1) البخاري (2026) ومسلم (1172) وأبو داود (2462) والنسائي في الكبرى (3324). (¬2) "إتحاف السادة المتقين" (4/ 233، 234). (¬3) "معالم السنن" (3/ 339). (¬4) في "السنن" (2/ 201).

الزهري بزيادة: "وأنَّ السنة للمعتكف ... " فذكر أشياء، منها: "ويُؤمَر من اعتكف أن يصوم". ثم قال الدارقطني: إن قوله: "وأن السنة ... إلخ" ليس من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه من كلام الزهري، ومن أدرجه في الحديث وهِمَ. ولكن في "سنن أبي داود" (¬1) صريحًا أنه من كلام عائشة، أي فمثلُه لا يُعرف إلا سماعًا. هـ. قلت: الحديث لفظه: "السنة على المعتكف أن لا يعودَ مريضًا, ولا يشهدَ جنازةً، ولا يمسَّ المرأةَ ولا يُباشرها, ولا يخرجَ لحاجةٍ إلا لما لا بدَّ منه، ولا اعتكافَ إلا بصومٍ، ولا اعتكافَ إلا في مسجد جامع". فإن أراد بقوله: "فمثلُه لا يُعرف إلا سماعًا" أنه من قول الصحابي: "السنة كذا"، ففيه نظر؛ إذ يحتمل بل يظهر أن قولها: "ولا اعتكافَ إلا بصومٍ ... إلخ" ليس مسندًا إلى السنة، وإنما بينَتْ فيه برأيها، ومثل ذلك لا يمتنع قولُه من قبل الرأي. فليتأملْ. وقد يُحمَل قوله: "ويؤمَر" على الندب، كما يُحمل "لا اعتكاف إلا بصوم" على نفي الكمال، جمعًا بين الأدلة وإلحاقًا للضعيف بالقوي. وأمَّا ما استدل به مُثبِت الشرطية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعتكف إلا صائمًا، فيقال له: قد تقرر في الأصول أن فعله - صلى الله عليه وسلم - غير الجبلِّي يخصُّه للندب مجردُ قصد القربة، وذلك بأن تدل قرينةٌ على قصدها بذلك الفعل، مجرَّدًا عن قيد الوجوب، والقرينة ههنا ما تراه من الأدلة، فالمواظبة دليل الاستحباب. على أنك سترى في الأدلة ما يستلزم أنه - صلى الله عليه وسلم - اعتكف بلا صوم، وهو حديث ¬

_ (¬1) رقم (2473).

الشيخين (¬1) عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يعتكف، فلما انصرف إلى المكان الذي أراد أن يعتكف فيه إذا أَخْبِيةٌ: خِباء عائشة، وخباء حفصة، وخباء زينب، فقال: "آلبرَّ تقولون بهن؟ " ثم انصرف فلم يعتكف، حتى اعتكف عشرًا من شوال. قال الشرقاوي (¬2): وعند مسلم: "حتى اعتكف العشر الأُول من شوال" وفيه دليل على جواز الاعتكاف بغير صوم, لأن أول شوال يوم العيد، وصومه حرام. واعتُرِض بأن المعنى كان ابتداؤه في العشر الأول [ص 2] وهو صادق بما إذا ابتدأ باليوم الثاني، فلا دليل فيه لما قاله. قلت: ولسقوط هذا الاعتراض - كما لا يخفى على الناظر - لم يعتبره علماؤنا, ولا عدُّوه قادحًا، فهم يستدلّون بالحديث المذكور غيرَ ملتفتين إلى ذلك الاعتراض، وقد يَستبعدُ اعتكافَه - صلى الله عليه وسلم - ليوم العيد مَن يَقيسُه على أبناء زماننا في جَعْله يومَ العيد يومَ راحةٍ ورفاهية، وراحةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخلوةُ بمولاه، كما كان يقول: "يا بلالُ، أَرِحْنا بالصلاة" (¬3). والظاهر أنه اعتكف من ليلة العيد، ثم خرج لصلاة العيد، وعاد وأكمل العَشْر. ومن الأدلة: حديث "الصحيحين" (¬4) عن عمر رضي الله عنه أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: كنت نذرتُ في الجاهلية أن اعتكف ليلةً في المسجد الحرام، ¬

_ (¬1) البخاري (2034) ومسلم (1173). (¬2) "فتح المبدي" (2/ 170). (¬3) أخرجه أحمد (23088) وأبو داود (4985) من طريق سالم بن أبي الجعد عن رجلٍ من أسلم مرفوعًا. وفي إسناده اختلاف، انظر "العلل" للدارقطني (4/ 121 - 122). (¬4) البخاري (2042) ومسلم (1656).

قال: "فأوفِ بنذرِك". قال الشرقاوي (¬1): واستُدِلَّ به على جواز الاعتكاف بغير صوم, لأن الليل ليس ظرفًا للصوم، فلو كان شرطًا لأمره عليه الصلاة والسلام به، لكن عند مسلم من حديث سعيد عن عبيد الله: "يومًا" بدل "ليلة". فجمعَ ابن حبان (¬2) وغيره بين الروايتين بأنه نذرُ اعتكاف يومٍ وليلة، فمن أطلق ليلةً أراد بيومها، ومن أطلق يومًا أراد بليلته. وقد ورد الأمر بالصوم في رواية عمرو بن دينار عن ابن عمر (¬3) صريحًا، لكن إسناده ضعيف ... إلخ. قلت: ولذلك يَضعُف استدلالنا بهذا الحديث إلا من حيث الاستدلال باعتكافه - صلى الله عليه وسلم - العشرَ من رمضان ليلًا ونهارًا، كما مرَّ نقلُه عن ابن المنذر، فأما كونُه لم يُنْقَل أمره بالصوم فقد يحتمل أنه أمره ولم يُنْقل، أو أن عمر كان يعرف اشتراط الصوم للاعتكاف. ومن الأدلة ما رواه الحاكم (¬4) وقال: صحيح على شرط مسلم: "ليس على المعتكفِ صيامٌ إلا أن يجعله على نفسه". فأجاب عليَّ السيدُ العلامة المذكور بما خلاصته: الجمهور على أن الصوم شرط في الاعتكاف، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا اعتكافَ إلا بالصيام". ولو لم يكن الصيام شرطًا في الاعتكاف لما وجب في نذره ¬

_ (¬1) "فتح المبدي" (2/ 170). (¬2) في "صحيحه" (10/ 226، 227). وانظر "فتح الباري" (4/ 274). (¬3) أخرجه أبو داود (2474) والنسائي في الكبرى (3341)، وفي إسناده عبد الله بن بُديل، وهو ضعيف. (¬4) "المستدرك" (1/ 439).

كالصلاة حتى عند الشافعي، وأمَّا حديث: "ليس على المعتكف صيامٌ إلا أن يجعله على نفسه"، فالمعنى: الصوم لا يجب بنية الاعتكاف إلا حيث يجب الاعتكاف جمعًا بين الأدلة، وأما حديث عمر فقد تبين سقوط الاستدلال به. فثبت شرطيةُ الصوم بالدليل، ويُستَظهر عليه بقياس العكس، وهو إثبات خلاف حكم الأصل في الفرع، فالأصل الصلاة والفرع الصيام، والعلة عدم وجوب الصلاة بالنذر، أعني بنذر الاعتكاف مصلّيًا، وعكس العلة وجوب الصيام بالنذر، والحكم في الأصل عدم اشتراط الصلاة في صحة الاعتكاف، والحكم في الفرع خلافه، وهو اشتراط الصيام في صحة الاعتكاف. أقول: أمَّا قوله: "لا اعتكاف إلا بالصيام"، فلم أطَّلع عليه بهذا اللفظ، وإنما في "سنن" أبي داود (¬1) من لفظ عائشة: "ولا اعتكافَ إلا بصوم" وقد سبق الكلام عليه (¬2). وما سبقت الإشارة إليه من حديث الزهري، وفيه: ¬

_ (¬1) رقم (2473). (¬2) بعده في هامش النسخة ما يلي بخط المؤلف (وهو تعليق نحوي خارج عن الموضوع): (الكلام هو اللفظ) وهو الصوت الخارج من الفم متقطعًا أحرفًا (المركب) من كلمتين فأكثر (المفيد) فائدةً يحسُنُ السكوت عليها (بالوضع) العربي أو القصد. (وكل كلمة إما معربة) وهي ما يتغير آخرها لاختلاف العوامل لفظًا أو تقديرًا، وهي الاسم الذي لم يُشبِه الحرفَ، والفعل المضارع الذي لم يتصل بنونِ إناثٍ أو توكيد. (وإما مبنية) وهي بخلاف الأُولى وهي الحرف والفعل الماضي والأمر والمضارع المتصل بما مرّ، (والمعرب إما أن يكون أصليَّ الإعراب) وهو الاسم، (أو فرعيَّه) وهو الفعل المضارع. (والمبنيُّ إما أن يكون أصليَّ البناء) وهو الحرف والفعل (وإما فرعيَّه) وهو الاسم.

"ويؤمر المعتكف بالصوم"، وقد سبق ما فيه. وما في رواية عمرو بن دينار قد سبق تضعيفه. وأمَّا قولهم: ولو لم يكن الصيام شرطًا في الاعتكاف لما وجب في نذره كالصلاة، فنقول: إن أريدَ بقوله: "وجب" أي الصيام، وبقوله: "في نذره" أي الاعتكاف، والمعنى: لو لم يكن شرطًا لما وجب حيث نذرَ الاعتكاف، فنحن لا نقول بوجوب الصوم في الاعتكاف المنذور وإن أريدَ: لو لم يكن الصوم شرطًا في الاعتكاف لما وجب الصوم حيث نذرَ مع الاعتكاف، كما لا تجب الصلاة حيث نُذِرَتْ مع الاعتكاف، فنقول: إن أريد بعدم وجوب الصلاة أنه لا يلزم مطلقًا فليس مذهبنا، أو أنه لا يلزم الجمع بينها وبين الاعتكاف كما يلزم الجمع بين الصوم والاعتكاف حيث نذرَ أن يعتكف صائمًا، فهذا مذهبنا، والإلزام ممنوع، إذ جَعْلكم له شرطًا ينافي كونَ النذر علةً لوجوبه، فلا يصدق عليه أنه وجب النذر. وقد فرق أصحابنا بين الصلاة والصيام بأن الصيام مشروع في الاعتكاف إجماعًا، وأنه مناسب له، إذ كلٌّ منهما كَفٌّ، ولا كذلك الصلاة، مع أنها أفعال مباشرة. وأمَّا تأويل حديث "ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعله على نفسه" فمردود، إذ لا يخفى أن المعتكف يصدق على المعتكف اعتكافًا منذورًا أو غيرَ منذور، وقوله: "إلا أن يجعله" أي: الصيامَ كما يعيِّنه السياق، فالمعنى: ليس على من نوى اعتكافًا منذورًا أو غيرَ منذورٍ أن يصوم إلا حيثُ نذر الصيام، وذلك ظاهر. [ص 3] وأمَّا قولكم: "جمعًا بين الأدلة"، فأين الدليل الذي يقتضي شرطيةَ الصوم، فلم تذكروا إلا قوله: "ولا اعتكاف إلا بالصيام"، وقد علمت ما فيه.

ولو فرضنا اعتباره دليلًا فلنا طريقٌ مسلوكة في الجمع بينه وبين سائر الأدلة، وهي أن نقول بنَفْي الكمال، كما قالوه في "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد" (¬1)، وكما قال بعضهم في: "لا صلاةَ لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" (¬2)، وقال بعضهم في: "لا وضوءَ لمن لم يذكر اسم الله عليه" (¬3)، وقولهم: "لا إيمانَ لمن لا أمانةَ له، ولا دينَ لمن لا عهدَ له" (¬4)، كما تقدم بيانه. والمطلوب هو موافقة الحق، وسلوكُ المسالك المألوفة بالمدارك المعروفة خيرٌ من ارتكاب الوعور، لا سيما إذا كان غلطًا وشططًا. وأما القياس، فقياس العكس عند أصحابنا مختلَفٌ في حجيته، وعلى الأصح أنه حجة فقد عرَّفْناكم أن الشافعي نصَّ على عدم شرطية الصيام للاعتكاف، ونصَّ على عدم وجوب الجمع بين الاعتكاف والصلاة على الناذر أنْ يعتكفَ مصلِّيًا, ولم ينصَّ على وجوب الجمع بين الاعتكاف والصيام على الناذر أنْ يعتكفَ صائمًا ولا عدمه، فقاسه بعض الأصحاب على الصلاة فلم يُوجبه، وأكثر الأصحاب على أنه يجب للحديث: "ليس ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني في "السنن" (1/ 420) والحاكم في "المستدرك" (1/ 246) والبيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 57) عن أبي هريرة. وإسناده ضعيف جدًّا، ويُروى من وجوهٍ أخرى كلها ضَعيفة. انظر "العلل المتناهية" (1/ 412، 413). (¬2) أخرجه البخاري (756) ومسلم (394) عن عبادة بن الصامت. (¬3) أخرجه أبو داود (101، 102) عن أبي هريرة، وأخرجه الترمذي (25) عن رباح بن عبد الرحمن عن جدته عن أبيها. وهو حديث حسن بشواهده. (¬4) أخرجه أحمد في "المسند" (12383، 12567، 13199) وأبو يعلى في "مسنده" (2863) والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 288، 9/ 231) عن أنس بن مالك، وهو حديث حسن.

على المعتكف صيامٌ إلا أن يجعله على نفسه"، وفرقوا بينه وبين الصلاة كما مرَّ آنفًا. فإن قيل: قد ثبت "ليس على المعتكف صيامٌ إلا أن يجعله على نفسه" المفيد لوجوب الجمع بين الاعتكاف والصيام على من نذَره، وأنتم معشر الشافعية تقولون: لا يجب الجمع بين الاعتكاف وبين الصلاة على ناذره، وتلك مناقضة، إذ يلزمكم من قولكم: "لا يجب الجمع بين الاعتكاف والصلاة" أن تقولوا بعدم وجوب الجمع بينه وبين الصيام، ويلزمكم من إيجابكم الجمعَ في الصيام إيجابُه في الصلاة. قلنا: أمَّا وجوب الجمع في الصيام فقد نصَّ عليه إمام الكون - صلى الله عليه وسلم -، وأما نصُّ الإمام على عدم وجوب الجمع في الصلاة، فعلى فرضِ أنه لا دليل له عليه من النصوص فقد بينّا الفارق، على أن هذه المنازعة المفروضة لا تكون إلا من طرف قائلٍ بوجوب الجمع في الصلاة، وأما قائل شرطية الصوم فقد صدقته النصوص على العموم والخصوص (¬1). **** ¬

_ (¬1) بعدها رسالة من المعلمي إلى الصيلمي وردّ الأخير عليها.

[ص 4] سيدي العلّامة الهُمام ضياء الإسلام السيد صالح بن المحسن الصَّيلمي، حفظه الله تعالى، والسلام عليه ورحمة الله وبركاته. قال الجلال المحلّي في "شرح جمع الجوامع" عند ذكر قياس العكس مالفظُه: "وهو إثباتُ عكس حكم شيءٍ لمثله، لتعاكُسِهما في العلة" ثم [قال:] (¬1) ومن أدلته قوله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه عندما قال لهم في تَعداد وجوه البرّ: "وفي بُضْع أحدكم صدقة". فقالوا: أيأتي أحدُنا شهوتَه وله فيها أجر؟ قال: "أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وِزْرٌ؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر". قال البَنَّاني في حاشيته: قوله: "وهو إثبات عكس حكم ... إلخ"، الحكم في الحديث المذكور هو ثبوت الوزر، وعكسه ثبوت الأجر، والشيء الوضع في الحرام، ومثل ذلك الشيء هو الوضع في الحلال الثابتِ له العكسُ المذكور، وجعل الوضع في الحرام والوضع في الحلال مِثْلَين من حيث إن كلًّا منهما وضعٌ، وإلَّا فهما ضدّانِ في الحقيقة. وقوله: "لتعاكسهما" أي: الحكمين. وقوله: "في العلة" وهي الوضع في الحرام الذي هو علة ثبوت الوزر، والوضع في الحلال الذي هو علة ثبوت الأجر، فكلٌّ من ثبوت الأجر وثبوت الوزر عكسٌ للآخر؛ لأن كلاًّ من الوضع في الحرام والوضع في الحلال عكسٌ للآخر فتعاكُسُ العلتين المذكورتين مقتضٍ لكون الحكم المترتب على إحداهما عكسَ الحكم المترتب على الأخرى". وقولكم: "ما مذهب الشافعية في الاعتكاف؟ " فالاعتكاف عندهم ليس من شرطه الصيامُ إلا إن نَذَرَه، كأن يقول: لله عليَّ أن أعتكفَ صائمًا، بخلاف ¬

_ (¬1) بياض في الأصل.

الصلاة، فلو قال: أن أعتكفَ مصلِّيًا فله إفراد الاعتكاف عنها. وقولكم: "إنه يلزمهم القول باشتراط الصيام في الاعتكاف بقياس العكس" لم يظهر وجهُه، ففضلًا انقلُوا تحت هذا لفظ "الغاية" مع شرحها. واستشهادكم على الحقير ببضاعته (ولكنما أعمى القلوبَ التعصُّبُ) ليس في محله، فإنما يتعصب من لم يجد مَحِيصًا عن اللزوم، فأما نحن معشرَ الشافعية فلنا عن التعصب - لو فُرِض - مندوحةٌ بأن اشتراط الصيام هو القول القديم لإمامنا، مع أن لنا على القول الجديد نصوصًا صحيحة، منها: اعتكافه - صلى الله عليه وسلم - الليلَ والنهارَ في العشر الأواخر من رمضان ونحوها، كما في حديث الصحيحين. ومنها: ما في الصحيحين (¬1) أيضًا عن ابن عمر رضي الله عنهما أن عمر رضي الله عنه سأل النبي صلَّى الله وسلم عليه وعلى آله قال: كنتُ نذرتُ في الجاهلية أن أعتكفَ ليلةً في المسجد الحرام قال: "فأَوْفِ بنذرك". ومنها: ما نقله ابن حجر في "التحفة" (¬2) عند قول "المنهاج": "بل يصحُّ اعتكافُ الليل وحده" قال: للخبر الصحيح: "ليس على المعتكفِ صيامٌ إلا أن يجعله على نفسه" (¬3). **** أخانا في الله سبحانَه، الوجيه في الأولى والآخرة، العلامة الشيظَمِي (¬4) ¬

_ (¬1) سبق تخريج الحديثين. (¬2) "تحفة المحتاج" (3/ 469). (¬3) سبق تخريجه. (¬4) هو بمعنى الطويل الجسيم الفتيّ من الناس أو الإبل أو الخيل، فهو صفة وليس نسبة إلى عَلم أو قبيلة.

عبد الرحمن بن يحيى المعلمي، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ونحمد الله إليكم حمدًا كثيرًا مؤبَّدةً أوقاتُه، والصلاة والسلام على خِيَرَة الخلق وآلِه، حَمَلةِ الشرع وهُداتِه، وأيَّده من نعش الهدى نهوضَه المبارك وغاراته. أما بعدُ، فنقول: (مسألة) العترةُ جميعًا وابن عباس وعبد الله بن عمر ومالك والأوزاعي وأبو حنيفة وأبو ثور: الصوم شرط في الاعتكاف، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا اعتكافَ إلا بالصيام". ولو لم يكن الصيام شرطًا في الاعتكاف لما وجب في نذره كالصلاة. عبد الله بن مسعود والحسن البصري والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه: لا، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس على المعتكف صيامٌ إلا أن يجعله على نفسه"، أراد: الصوم لا يجبُ بنية الاعتكاف إلا حيث يجب الاعتكاف، جمعًا بين الأدلة وصيانةً لمنطقه عن اللغو، ولأنه مهما أمكن الجمع بالتأويل وجب. قالوا: قال لعمر: "أوف بنذرك"، وقد نذر اعتكافَ ليلةٍ. قلنا: "بيومها"، بدليل أن إحدى الروايتين أنه نذرَ اعتكافَ يومٍ، فثبتَ اشتراطُ الصيام في صحة الاعتكاف بالدليل وقياس العكس استظهارًا. وقياس العكس إثبات خلاف حكم الأصل في الفرع، فالأصل الصلاة، والفرع الصيام، والعلة عدم وجوب الصلاة بالنذر، أعني: بنذر الاعتكاف مصلِّيًا، وعكس العلة وجوب الصيام بالنذر، والحكم في الأصل عدم اشتراط الصلاة في صحة الاعتكاف، والحكم في الفرع خلافه، وهو اشتراط الصيام في صحة الاعتكاف، وبهذا يستوي قياسُ العكس على سُوقِه.

الرسالة الرابعة عشرة مقام إبراهيم

الرسالة الرابعة عشرة مقام إبراهيم

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أحاط بكلّ شيءٍ علمًا، وأتقن كلَّ شيءٍ خلقًا وأمرًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبدُه ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه. أمّا بعد، فهذه رسالة في شأن "مقام إبراهيم"، وما الذي ينبغي أن يُعمَل به عند توسعة المطاف؛ حاولتُ فيها تنقيحَ الأدلّة ودلالتها على وجه التحقيق، معتمدًا على ما أرجوه من توفيق الله - تبارك اسمُه - لي، وإن قلَّ علمي، وكلَّ فَهمي. فما كان فيها من صواب فمن فضل الله عليَّ وعلى النّاس، وما كان فيها من خطأ فمنّي، وأسأل الله التوفيق والمغفرة. قال الله تبارك وتعالى في سورة البقرة (الآية 125): {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} وقال سبحانه في سورة الحج (الآية 26): {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}. جاء عن جماعة من السلف تفسير "التطهير" في الآيتين بالتطهير من الشرك والأوثان.

وهذا من باب ذكر الأهمّ الذي يقتضيه السبب؛ فإنّ إخلال المُشركين بتطهير البيت كان بشركهم ونَصْبِهم الأوثانَ عنده. ولا ريبَ أنّ التطهير من ذلك هو الأهمّ، لكنّ "التطهير" المأمور به أعمّ. أخرج ابن أبي حاتم (¬1) عن مجاهد وسعيد بن جبير قالا: "من الأوثان والريب، وقول الزور والرّجس". ذكره ابن كثير وغيره (¬2). وقال البغوي (¬3): قال ابن جبير وعطاء: "طهِّراه من الأوثان والريب وقول الزُّور". وأخرج ابن جرير (¬4) عن عُبيد بن عُمير قال: "من الآفات والريب". **** ¬

_ (¬1) في "تفسيره" (1/ 227). (¬2) "تفسير ابن كثير" (1/ 613) و"الدر المنثور" (1/ 633). (¬3) في "معالم التنزيل" (1/ 114). (¬4) في "تفسيره" (2/ 532، 533).

أقام إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - البيتَ على الطهارة بأوفى معانيها؛ فالأمر بتطهيره أمرٌ بالمحافظة على طهارته، وأن يُمنَع ويُزال عنه كلُّ ما يخالفها. وقوله: {لِلطَّائِفِينَ ...} الآية، يدلُّ على أنّه مع أنّ التطهير مأمورٌ به لحرمة البيت، فهو مأمورٌ به لأجل هذه الفِرَق - الطائفين والعاكفين والقائمين والرُّكع السجود - لتؤدَّي هذه العباداتِ على الوجه المطلوب. وهذا يبيّن أن "التطهير" المأمورَ به لا يَخُصُّ الكعبة، بل يَعُمُّ ما حواليها، حيث تُؤدَّى هذه العبادات، وأنّ في معنى التطهير إزالةَ كلِّ ما يمنع من أداء هذه العبادات، أو يُعسّرها، أو يُخِلُّ بها، كأن يكون في موقع الطواف ما يَعُوق عنه؛ من حجارةٍ أو شوكٍ أو حُفَر. فثبت الأمر بأن يُهيَّأَ ما حول البيت تهيئةً تمكِّن الطائفين والعاكفين والمصلِّين من أداء هذه العبادات بدون خلل ولا حرج. لم يُحدّد الشارع ما أمر بتهيئته حول البيت بمقدارٍ مسمًّى، لكن لمّا أمر بالتهيئة لهذه الفرق على الإطلاق عُلِم أنّ المأمور به تهيئةُ ما يكفيها ويتّسع لهذه العبادات مع اليُسر. فلمّا كان المسلمون قليلًا في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، كان يكفيهم المسجد القديم. نعم كثُر الحُجّاج في حجّة الوداع، لكن لم يكن منتظرًا أن يكثروا تلك الكثرة، أو ما يقرب منها في السنوات التي تليها، وكانت بيوت قريش ملاصقةً للمسجد، لا تمكن توسعته إلا بهدمها، وهدمُها يُنفِّرهم، وعهدهم

بالشرك قريب. فلمّا كثروا في زمن عمر رضي الله عنه، وزال المانع؛ هدم الدُّور، وزاد في المسجد، وهكذا زاد مَن بعده من الخلفاء بحسب كثرة المسلمين في أزمنتهم. وادَّخر الله تعالى الزيادة العظمى لصاحب الجلالة الملك سعود بن عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود، أيّده الله، وأوزعَه شكر نِعَمِه، وزادَه من فضله. ****

قدّم الله تعالى في الآيتين "الطّائفين" على "العاكفين" و"المصلين"، والتقديم في الذكر يُشعِر بالتقديم في الحكم، فقد بدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - في السعي بالصفا، وقال: "نبدأ بما بدأ الله به" (¬1)، وبدأ في الوضوء بالوجه. فيؤخذ من هذا أنّ التهيئة للطائفين أهمّ من التهيئة للعاكفين والمُصلّين. فعلى هذا يُقَدّم الطائفون عند التعارض، ولا يكون تعارضٌ عند إقامة الصلاة المفروضة جماعةً مع الإمام؛ لأنّ الواجب عليهم جميعًا الدخولُ فيها، وإنّما يمكن التعارضُ بين الطائفين وبين العاكفين والمصلّين تطوّعًا. وإذْ كان المسجد - بحمد الله - واسعًا، وسيزداد سعةً، فإنّما يقع التعارض في المطاف، كما إذا كثُر الطائفون، وكان في المطاف عاكفون ومصلّون تطوّعًا، وضاق المطاف عن أن يسعَهم جميعًا بدون حرجٍ ولا خلل. فإن قُدِّم بقرب البيت العاكفون والمصلّون، وقيل للطائفين: طوفوا من ورائهم، كان هذا تأخيرًا لمن قدّمه الله، ولزم منه (¬2) الحرج على الطائفين، لطول المسافة عليهم، مع أنّ الطواف يكون فرضًا في الحجّ والعمرة، وإذا خرج العاكفون والمصلّون عن المطاف، وأدّوا عبادتهم في موضع آخر من المسجد، زال الحرجُ والخللُ البتّة. **** ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1218) ضمن حديث جابر الطويل. (¬2) ط: "فيه"، والتصويب من المخطوطة.

منذ بعث الله تعالى نبيّنا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - لم يزل عدد المسلمين يزداد عامًا فعامًا، وبذلك يزداد الحُجّاج والعُمّار، ومع ذلك فقد توفّرت في هذا العصر أسبابٌ زاد لأجلها عدد الحجّاج والعمّار زيادةً عظيمة. منها: حدوث وسائط النقل الأمينة السريعة المريحة. ومنها: الأمن والرّخاء الّلذان لا عهدَ لهذه البلاد بهما, ولذلك زاد عدد السّكان والمقيمين زيادةً لا عهدَ بها. ومنها: الأعمال العظيمة التي قامت وتقوم بها الحكومة السعودية لمصلحة الحجّاج، بما فيها تعبيد الطُّرق، وتوفير وسائط النقل، والعمارات المريحة، كمدينة الحُجّاج بجُدّة، والمظلاّت بمنًى ومزدلفة وعرفة، وتوفير المياه، وكلّ ما يحتاج إليه الحجّاج في كلّ مكان، وإقامة المستشفيات العديدة، والمَحْجَر الصحي الذي قضت به الحكومة السعودية على ما كانت بعض الدول تتعلّل به لمنع رعاياها عن الحجّ أو تصعيبه عليهم، والعمارة العظمى للمسجد النبوي، والتوسعة الكبرى الجارية الآن (¬1) للمسجد الحرام، وغيرُ ذلك ممّا زاد في رغبة المسلمين من جميع البلاد في الحجّ. فزاد عدد الحجّاج في السنين الماضية، ويُنتظَر استمرار الزيادة عامًا فعامًا، لذلك أصبح المسجد - على سعته - يضيق بالمصلّين في كثيرٍ من أيّام الجُمَع في غير موسم الحجّ، فما الظنُّ به فيه؟ فوفّق الله تعالى جلالة الملك المعظّم سعود بن عبد العزيز - أطال الله عمره في صالح الأعمال - لتوسعته، والعمل فيه جارٍ. ¬

_ (¬1) محرم سنة 1378 هـ[المؤلف].

وأشدُّ ما يقع الزّحام في الموسم: في المطاف، وتنشأ عن ذلك مضارُّ تلحقُ الأقوياءَ، فضلاً عن الضعفاء والنساء، ويقع الخلل في هذه العبادة الشريفة - وهي الطواف -؛ لزوال ما يُطلَب فيه من الخشوع والخضوع والتذلُّل، وصدق التوجّه إلى الله عزّ وجلَّ؛ إذ يهتمُّ كلُّ من وقع في الزّحام بنفسه. وقد يكون مع الرجل القويّ - أو الرجلين - ضعيفٌ أو امرأة أو أكثر فيحاول القويّ أن يدفع الزّحام عن نفسه وعمّن معه، فيدفع من بجنبه وأمامه ليشقّ له ولمن معه طريقًا على أيّ حالٍ، فيؤذي بعضهم بعضًا، وربّما وقع النزاع والخصام والضرب والشتم، ويقع زحام الرّجال للنساء، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنّ الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم" (¬1)، وقد رأينا من النّاس من يُسِيء بغيره الظنّ، وربّما أدّى ذلك إلى الإيذاء بالدّفع والشّتم، وربّما بالضرب. ومن المعلوم أنّ صحة الطواف لا تتوقّف على أدائه في المطاف، وإنّما شرطه أن يكون في المسجد، لكن جرى العمل على أن يكون في المطاف، ولو مع الزّحام؛ لأسباب: منها: أنّ خارج المطاف غير مهيّأ للطواف فيه بغير حرج. ومنها: أنّ غير الطائفين يقفون ويجلسون ويسلُكون وراءَ المطاف وعند زمزم، فيشقُّ على الطائفين تخلُّل تلك الجموع. ومنها: أنّ من أهل العلم من يشترط لصحّة الطواف في المسجد أن لا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2038، 2039) ومسلم (2175) من حديث صفية بنت حُيي.

يحول بين الطّائف والكعبة بناءٌ ونحوه، وممّن ذكر ذلك صاحب "الفروع" (ج 2 ص 390) (¬1). وإزالة هذه العوائق إنّما تتمّ بتوسعة المطاف. فلم يكن بُدٌّ من توسعة المطاف، والعمل بذلك جارٍ، ولله الحمد. إنّ أضيق موضعٍ في المطاف هو ما بين المقام والبيت، ويزداد ضِيقُه بالنّاس شدّة؛ لقربه من الحجر الأسود والمُلتزم، حيث يقف جماعةٌ كثيرة للاستلام والالتزام والدعاء. وإذا كانت توسعة المطاف مشروعةً، فتوسعة ذلك الموضع مشروعةٌ، وما لا يتمُّ المشروع إلاّ به - ولا مانعَ منه - فهو مشروع. يرى بعضُ أهل العلم أنّ هذا منطبقٌ على تأخير المقام، وأنّ التوسعة المطلوبة لا تتمّ إلاّ به. فأمّا ما يقوله بعضهم من إمكان طريقة أُخرى لتوسعة المطاف في تلك الجهة أيضًا مع بقاء "المقام" في موضعه، وذلك بأن يُحدّد موضعٌ يكفي المصلّين خلفَه، ويُوسّعَ المطافُ من وراء ذلك توسعةً يكون مجموع عرضها وعرض ما بين المقام والبيت مُساويًا لعرض المطاف بتوسعته في بقيّة الجهات، فإذا كثُر الطائفون سلك بعضُهم أمام المقام كالعادة، وسلك بعضُهم في التوسعة التي خلفه، وخلف موضع المُصلّين فيه = ففي هذه الطريقة خلَلٌ من أوجهٍ: الأوّل: أنّها مخالفةٌ لعمل مَن عملُهُ حُجّة؛ فإنّ موضع المقام في الأصل ¬

_ (¬1) (6/ 37) ط. مؤسسة الرسالة.

بلصق الكعبة، وسيأتي إثباته. فلمّا كَثُر النّاس في عهد عمر رضي الله عنه، وصار بقاءُ المقام بجنب الكعبة - ويصلّي الناس خلفَه - مظنّةَ تضييقِ المطاف على الطائفين = أخّرهُ ليبقى ما أمامه للطائفين مُتّسعًا لهم، ويخلو ما وراءه للمصلين، وأقرّه سائر الصحابة رضي الله عنهم، فكان إجماعًا، وهو حُجّة. وقيل: إنّ النّبي - صلى الله عليه وسلم - هو الّذي أخّرَ المقامَ للعلّة نفسِها. وأيًّا ما كان فهو حجّة، وكان ممكنًا حينئذٍ أن يبقى المقامُ بجنب الكعبة، ويُحْجَر لمن يصلّي خلفَه موضعٌ يطوف الطائفون من ورائه، ويُوسَّع لهم المطاف من خلف. وهذا نظير الطريقة الأخرى التي يشير بها بعضهم الآن، وأبعد منها عن الخلل، وقد أعرض عنها مَن عمله حُجّة، واختار تأخير المقام عن موضعه الأصليّ. وإذا كانت الحالُ الآنَ كالحال حينئذٍ، فالذي ينبغي هو الاقتداء بالحجّة، وتأخير المقام. وإذا ساغ لهذه العلّة تأخيره عن موضعه الأصليّ؛ فلَأن يَسُوغ لأجلها تأخيرُه عن موضعه الثاني أولى. الثاني: أنّ تلك الطريقة لا تقي بالمقصود؛ لأنّ حاصلها أن يكون للمطاف في ذاك الموضع فرعٌ يسلك وراء المقامِ وموضعِ المصلِّين فيه. وهذا مظنّة أن يَحرِص أكثر الطائفين على أن يسلكوا أمام المقام كالعادة، واختصارًا للمسافة، ويَحرِص على ذلك المطوّفون، وخلف

المطوّف جماعةٌ لا يجدون بُدًّا من متابعته، فيبقى الزّحام قريبًا ممّا كان. الثالث: أنّه إن أُحيط موضعُ المصلين خلفَ المقام بحاجز شقَّ الدّخولُ إليه والخروجُ منه، وإن لم يُحجَز كان مظنّة أن يسلكه بعض الطائفين اختصارًا للمسافة، فيقع الخلل في العبادتين. وإنّما كان يمنعهم من ذلك فيما مضى - مع بُعد المسافة -: توهُّمهم أنّ الطواف لا يصحّ إلا في المطاف. وسيزول هذا الوهم عند توسعة المطاف من خلفه. وبقيت أوجهٌ أُخرى؛ كتقديم حقّ المصلين على حق بعض الطائفين، وتطويل المسافة عليهم، واحتمال أن يضيق الموضع الذي يُخصَّص للمصلين خلف المقام؛ لأنّهم يكثرون في بعض الأوقات، ويَحرِص كثيرٌ منهم على المُكْث هناك للدعاء وغير ذلك. وبالجملة فلا ريب أنّه إذا تحقّقت العلّة، ولم يكن هناك مانعٌ من تأخير المقام؛ فتأخيره هو الطريقة المُثلى. هل هناك مانعٌ؟ يُبدي بعض الفضلاء مُعارضاتٍ، يرى أنّها تشتمل على موانعَ، وسأذكرها مع ما لها وما عليها، وأسأل الله التوفيق: المعارضة الأولى: يقول بعض الناس: ذكر جماعةٌ من المفسّرين ما يدلُّ على أنّ المقام ليس هو الحجر فقط، بل هو الحجر والبقعة التي هو فيها الآن، وتأخير

البقعة غير ممكن، فإذا نُقِلَ الحجر عنها، فإمّا أن يفوتَ العملُ بالآية، وإمّا أن يبقى الحكم للبقعة؛ لأنّها موضع الصلاة. وأقول: إنّ النّظر في هذا يقتضي بسطَ ما يتعلّق بالمقام، وسأشرح ذلك في فصولٍ:

الفصل الأول ما هو المقام؟

الفصل الأول ما هو المقام؟ عامّة ما ورد فيه ذكر المقام من الأحاديث والآثار وكلام السّلف والأئمة - ويأتي كثيرٌ منها - يُبيّن أنّ "مقام إبراهيم" الذي في المسجد هو الحجر المعروف، غير أنّ بعض من رُوي عنه هذا رُوي عنه تفسير المقام في الآية بأنّه الحجُّ كلُّه، أو المشاعر. وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما ما يبيَّن عدم الخلاف (¬1)، وأنّ من قال: "الحجّ كلُّه" أو "المشاعر" إنّما أراد أنّ الآية كما تنصُّ على شَرْعِ الصلاة إلى هذا الحجر الذي قام عليه إبراهيم لعبادة ربّه عَزَّ وَجَلَّ - كما يأتي -, فهي تدلُّ على شرع العبادة في كل موضعٍ قام فيه إبراهيم للعبادة، على ما بيَّنه الشرع، وذلك هو الحجّ والمشاعر، ولهذا جاء عنهم في تفسير كلمة {مُصَلًّى} قولان (¬2): الأوّل: قِبْلَة؛ يُصلّون خلفه، أو يُصلّون عنده. الثاني: مَدْعىً. فالأوّل بالنسبة إلى الحجر. والثاني - كما أفاده ابن جرير - (¬3) بالنسبة إلى المشاعر؛ لأنّ الدعاء ¬

_ (¬1) فقد روى الطبرى في "تفسيره" (2/ 525، 526) عنه عدة روايات. (¬2) انظر "تفسير الطبري" (2/ 529). (¬3) "تفسيره" (2/ 530).

مشروعٌ عندها كلّها، بل يجمع العبادات المختلفة المشروعة فيها؛ إذ المطلوب بتلك العبادات هو ما يُطلَب بالدعاء من رضوان الله ومغفرته، وخير الدنيا والآخرة، فالدُّعاء عبادةٌ، والعبادة دعاءٌ. فأمّا ما ذُكِرَ في المعارضة عن (¬1) بعض المفسرين؛ فأوّلهم - فيما أعلم - الزّمخشري، وتبعه بعض من بعده. والزَّمخشري - على حسن معرفته بالعربية - قليل الحظِّ من السنّة، ورأى أنّه لا يكون الحجر مصلّى على الحقيقة إلاّ إذا كانت الصلاة عليه، وذلك غير مشروع ولا ممكن؛ لأنّه يصغر عن ذلك. ولو وُفِّقَ الزمخشري للصواب لجعل هذا قرينةً على أنّ المراد بكلمة {مُصَلًّى} قِبلة، كما قاله السلف، أي: يُصلَّى إليه؛ كما بيّنه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعمل به أصحابه فمن بعدهم. ومن العلاقات المعتبرة في المجاز: المُجاورة، وهي ثابتةٌ هنا؛ فإنّ الصلاة إذا وقعت إلى الحجر فهي بجواره. ووجهٌ آخر: وهو أن تكون كلمة {مُصَلًّى} اسمَ مفعول، والأصل: "مصلّى إليه"، حُذِفَ حرف الجرّ، فاتصل الضمير واستتر، كما يقوله ابن جنّي في "مُزَمَّل" من قول امرئ القيس (¬2): كأنّ أبانًا في عَرانين وَبْلِه ... كبيرُ أُناسٍ في بِجادٍ مُزمَّلِ ¬

_ (¬1) ط: "من". والمثبت من المخطوطة. (¬2) في المعلقة. انظر "ديوانه" (ص 25). ط. دار المعارف.

أنّ الأصل "مُزَمَّل به" فحذفَ حرف الجرّ، فاتصل الضميرُ واستتر (¬1). والنُّكتة على الوجهين هي - والله أعلم -: التنبيهُ على أنّ المزيّة للحجر لقيام إبراهيم عليه للعبادة، والمشروعُ لهذه الأمّة التأسّي به. والقيام على الحجر لمثل عبادة إبراهيم لا يمكن إلاّ نادرًا، فعُوّض عنه بما يمكن دائمًا، وهو القيام للصلاة، وهو يصغر عن الصلاة عليه، ودفنُه - ليتسع مع بعض ما حوله للصلاة - يؤدي إلى اندثاره. ولماذا التكلُّف؟ وإنّما المقصود: أن يكون للقيام في الصلاة تعلُّقٌ به، فشُرِعَت الصلاة إليه. وعبارة الزمخشري (¬2): "مقام إبراهيم: الحَجر الذي فيه أثر قدميه، والموضع الذي كان فيه الحَجر حين وضع عليه قدميه". ويُبطِل هذا القولَ - مع ما تقدّم - أنّ المذكور في الآية مقامٌ واحدٌ لا مقامان، وأنّ وضع الرِّجْل على الحجر بدون قيام حقيقيٍّ لا يكفي لأن يُطلَق عليه كلمة "مقام" على الحقيقة، وأنّ الذي كان من إبراهيم على الحجر فسُمّي لأجله "مقام إبراهيم" قيامٌ حقيقي، لا وضعُ رِجْلٍ فقط، وأنّ الموضع الذي قام فيه على الحَجَر ليس هو موضعه الآن، وأنّ المقام كان أولاً بلصق الكعبة، وكان الحكم معه، ثم حُوِّل إلى موضعه الآن، فتحوَّل الحكم معه. وسيأتي إثبات هذا كلّه في الفصول الآتية إن شاء الله تعالى. **** ¬

_ (¬1) انظر "الخصائص" (3/ 221، 1/ 193). وفيه: "مزمَّل فيه". (¬2) في "الكشاف" (1/ 93) ط. دار المعرفة.

الفصل الثاني لماذا سمي "الحجر" مقام إبراهيم؟

الفصل الثاني لماذا سُمّي "الحَجر" مقامَ إبراهيم؟ أعلى ما جاء في هذا: ما أخرجه البخاري (¬1) وغيره من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في خبر مجيء إبراهيم بإسماعيل عليهما السلام وأمّه إلى مكة، وما جرى بعد ذلك، وفيه في ذكر بناء البيت: "حتّى إذا ارتفع البناءُ جاء بهذا الحَجر، فوضعه له، فقام عليه وهو يَبني". وفي روايةٍ أُخرى (¬2): "حتّى إذا ارتفع وضَعُفَ الشيخ عن نقل الحجارة، فقام على المقام". وعند ابن جريرٍ (¬3) بسند صحيح يُلاقي سندَ البخاري الثاني: "فلمّا ارتفع البناء وضعُفَ الشيخ عن نقل الحجارة قام على حَجرٍ، فهو المقام". وفي "فتح الباري" (¬4): أنّ الفاكهيّ أخرج نحو هذه القصّة من حديث عثمان، وفيه: "فكان إبراهيم يقوم على المقام يبني عليه، ويرفعه له إسماعيل، فلمّا بلغ الموضع الذي فيه الركن وضعه - يعني الحَجر الأسود - موضعه، وأخذ المقام فجعله لاصقًا بالبيت ... ثم قام إبراهيم على المقام، فقال: يا أيها الناس! أجيبوا ربّكم". ¬

_ (¬1) رقم (3364). (¬2) عند البخاري (3365). وقد سقطت هذه الفقرة من النسخة المطبوعة مع "الفتح" الطبعة السلفية الأولى. (¬3) في "تفسيره" (2/ 560) و"تاريخه" (1/ 259، 260). (¬4) (6/ 406).

قال في "الفتح" (¬1): "روى الفاكهيُّ بإسنادٍ صحيح من طريق مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "قام إبراهيم على الحَجَر، فقال: يا أيها النّاس! أجيبوا ربّكم". وفي أوّل الخبر عند البخاري (¬2) عن كثير بن كثير قال: "إنّي وعثمان بن أبي سليمان جلوسٌ مع سعيد بن جبير، فقال: ما هكذا حدّثني ابن عباس، ولكنّه قال". وفي "فتح الباري" (ج 6 ص 283) (¬3) بيانُ ما نفاه سعيد بن جبير، ذكر ذلك عن رواية الفاكهيّ والأزرقيّ وغيرهما. وفيه: أنّهم سألوا سعيد بن جبير عن أشياء، قال: "قال رجلٌ: أحقٌّ ما سمعنا في المقام - مقام إبراهيم - أنّ إبراهيم حين جاء من الشام حلف لامرأته أن لا ينزل بمكّة حتّى يرجع، فقرَّبتْ إليه امرأةُ إسماعيل المقام، فوضع رجله عليه حتّى لا ينزل؟ فقال سعيد بن جبير: ليس هكذا ... ". والخبرُ - وفيه قريبٌ من هذا - عند الأزرقيّ (ج 2 ص 24) (¬4) وفي آخره: "فلمّا ارتفع البُنيان وشقَّ على الشيخ تناولُهُ؛ قرّب له إسماعيل هذا الحَجَر، فكان يقوم عليه ويبني، ويُحوَّلُهُ في نواحي البيت حتّى انتهى إلى وجه البيت. يقول ابن عباس: فذلك مقام إبراهيم عليه السلام، وقيامه عليه". ¬

_ (¬1) (6/ 406). (¬2) رقم (3363). (¬3) (6/ 400) ط. السلفية. (¬4) (2/ 32) ط. رشدي ملحس.

وقصّة مجيء إبراهيم ولقائه امرأة إسماعيل قد ذكرها ابن عباس (¬1)، وليس فيها ما يُحكى من وضع رجله على الحَجر. وكان مجيئه ذلك قبل بناء البيت. فهبْ أنّه ثبت وضعُه رجلَه على الحَجر وهو على دابّته، فليس هذا بقيام على الحَجر، ولا هو في عبادة، فلا يناسب مزيّةً للحَجَر، وإنّما القيام الحقيقيّ على الحَجر الذي يُناسب مزيّةً له: هو ما وقع بعد ذلك من قيامه عليه لبناء الكعبة، ثمّ للأذان بالحجّ. فهذا هو الثابت في وجه تسمية الحَجَر "مقامَ إبراهيم". **** ¬

_ (¬1) أخرجها البخاري (3364) عنه.

الفصل الثالث أين وضع إبراهيم المقام أخيرا؟

الفصل الثالث أين وضع إبراهيم المقامَ أخيرًا؟ تقدّم في الفصل السّابق من حديث عثمان رضي الله عنه: "فجعله لاصقًا بالبيت". ومن حديث ابن عبّاس: "فكان يقوم عليه ويبني، ويُحوِّلُهُ في نواحي البيت حتى انتهى إلى وجه البيت". وقد ظهر أنّ منشأ مزيّته وحصول الآية فيه - وهي أثرُ قدمَيْ إبراهيم - هو قيامه عليه لبناء البيت. فالظاهر أن يكون إبراهيم أبقاه إلى جانب البيت في ذلك الموضع الظاهر - وهو عن يَمْنة الباب - لتُشاهَد الآية، ويُعرَف تعلُّقه بالبيت. وجاء عن بعض الصحابة - وهو نوفل بن معاوية الدّيليّ رضي الله عنه أنّه رآه في عهد عبد المطلب ملصقًا بالبيت (¬1). وسنده ضعيف. ويأتي بيان أنّ ذلك في الموضع المسامت له الآن. وإقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - له هناك، يصلي هو وأصحابه خلفه بدون بيان أنّ له موضعًا آخر: يدلُّ على أنّ ذلك هو موضعه الأصليّ. ولم أجد ما يخالف هذا من السنّة والآثار الثابتة عن الصحابة، ولا ما هو صريحٌ في خلافه من أقوال التابعين. إلاّ أنّ المحبّ الطبري قال في "القِرى" (ص 309): قال مالك في ¬

_ (¬1) أخرجه الفاكهي (1/ 442) والأزرقي (2/ 30).

"المدونة": كان المقام في عهد إبراهيم عليه السلام في مكانه اليوم، وكان أهل الجاهلية ألصقوه إلى البيت خيفة السّيل، فكان ذلك في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وعهد أبي بكر رضي الله عنه، فلمّا ولي عمر رضي الله عنه ردّه بعد أن قاس موضعه بخيوط قديمة قِيسَ بها، حتّى أخَّروه، وعمر هو الذي نصب معالم الحرم بعد أن بحث عن ذلك". هذا آخر كلامه في "المدونة" فيما نقله صاحب "التهذيب مختصر المدونة". ولم أجد أصل ذلك الكلام في مظنّته من "المدونة" المطبوعة. ثم قال المحبُّ: "وقال الفقيه سَنَد بن عنان المالكي في كتابه المترجم بـ "الطّراز" - وهو شرحٌ لـ "المدونة" -: وروى أشهب عن مالك قال: سمعتُ من يقول من أهل العلم: إنّ إبراهيم عليه السلام أقام هذا المقام، وقد كان ملصقًا بالبيت في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر رضي الله عنه وقبل ذلك، وإنّما أُلصِقَ إليه لمكان السيل؛ مخافة أن يذهب به، فلمّا ولي عمر رضي الله عنه أخرج خيوطًا كانت في خزانة الكعبة، وقد كانوا قاسوا بها ما بين موضعه وبين البيت في الجاهلية، إذ قدّموه مخافة السيل، فقاسه عمر، وأخّره إلى موضعه اليوم، قال مالك: والذي حمل عمر ... ". إنّ بين سند بن عنان وبين أشهب نحو ثلاث مائة سنة. فإن صحَّ عن مالك فهذا الذي أخبره بالحكاية لم يذكر مستنده، ولا أحسبه استند إلاَّ إلى حكاية مجملة وقعت له عن تحويل عمر رضي الله عنه للمقام، وما جرى بعد ذلك، فقال ما قال. وسيأتي - إن شاء الله - تحقيق تلك القضية بما يتّضح به أن ليس فيها دلالةٌ على ما ذكر.

وعلى كلّ حال؛ فهذه الحكاية المنقطعة لا تصلح لمقاومة ما تقدم من الأدلة، والله المستعان. فالذي تعطيه الأدلة: أنّ إبراهيم عليه السلام وضع المقام عند جدار الكعبة في الموضع المسامت له الآن. ****

الفصل الرابع أين كان موضعه في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -؟

الفصل الرابع أين كان موضعه في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ في هذا ثلاثة أقوال: الأوّل: أنّه كان في موضعه الذي هو به الآن. والأدلة الصحيحة الواضحة تردّ هذا القول، كما يأتي في القول الثالث. ولكنّي أذكر ما جاء في هذا، مع النظر فيه؛ ليعرف: أخرج الأزرقيّ (¬1) عن ابن أبي مُليكة قال: "موضع المقام هذا الذي هو به اليوم هو موضعه في الجاهلية، وفي عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، إلاّ أنّ السيل ذهب به في خلافة عمر رضي الله عنه، فجُعِلَ في وجه الكعبة حتى قدم عمر، فردّه بمحضرٍ من الناس". سند الأزرقي رجاله ثقات، وابن أبي مُليكة من ثقات التابعين، لكنّ الأزرقيّ نفسه لم يوثّقه أحدٌ من أئمة الجرح والتعديل، ولم يذكره البخاري، ولا ابن أبي حاتم، بل قال الفاسيّ في ترجمته من "العقد الثمين" (¬2): "لم أر من ترجمه". فهو - على قاعدة أئمة الحديث - مجهول الحال، وقد تفرّد بهذه الحكاية، والله أعلم. ¬

_ (¬1) "أخبار مكة" (2/ 35). (¬2) (2/ 49).

وقال الأزرقيّ (¬1) أيضًا: حدّثني جدّي، حدّثنا داود بن عبد الرحمن عن ابن جريج عن كثير بن كثير بن المطلّب بن أبي وَداعة السَّهميّ عن أبيه عن جدّه قال: "كانت السيولُ تدخل المسجدَ الحرام ... ربّما دفعت المقام عن (¬2) موضعه، وربّما نَحَّتْه إلى وجه الكعبة، حتى جاء سيلٌ في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه يُقال له: سيل أمّ نَهْشل .. فاحتمل المقام من موضعه، فذهب به، حتّى وُجدَ بأسفل مكة، فأُتي به، فرُبطَ إلى أستار الكعبة في وجهها، وكُتب في ذلك إلى عمر رضي الله عنه، فأقبل عمر رضي الله عنه فَزِعًا، فدخل بعمرة في شهر رمضان، وقد غُمّي موضعُهُ وعفّاه السيل، فدعا عمر بالنّاس، فقال: أَنشُد الله عبدًا عنده علم في هذا المقام، فقال المطَّلب بن أبي وَداعة السّهمي: أنا يا أمير المؤمنين عندي ذلك، فقد كنت أخشى عليه هذا، فأخذتُ قَدْرَه من موضعه إلى الركن، ومن موضعه إلى باب الحِجْر، ومن موضعه إلى زمزم بمِقَاطٍ (¬3)، وهو عندي في البيت، فقال له عمر: فاجلسْ عندي. وأرسِلْ إليها، فأُتي بها، فمدّها، فوجدها مستويةً إلى موضعه هذا، فسأل النّاس وشاورهم، فقالوا: نعم هذا موضعه، فلمّا استثبت ذلك عمر رضي الله عنه وحُقَّ عنده أمر به، فأعلم ببناء رَبَضِه تحت المقام ثم حوّله، فهو في مكانه هذا إلى اليوم". جدُّ الأزرقي وداود وابن جريج وكثير بن كثير: ثقاتٌ، لكن له عدّة علل: الأولى: حال الأزرقي كما مرّ. ¬

_ (¬1) "أخبار مكة" (2/ 33). (¬2) في المطبوعة: "من", والتصويب من المخطوط وكتاب الأزرقي. (¬3) المقاط: الحبل الصغير الشديد الفتل يكاد يقوم من شدة فتله.

الثانية: أنّ ابن جريج - على إمامته - مشهورٌ بالتدليس، ولم يُصرّح هنا بالسماع من كثير بن كثير. الثالثة: أنّه قد صحّ عن ابن جريج قولُه: "سمعت عطاء وغيره من أصحابنا ... " فذكر ما سيأتي في القول الثالث، على وجهٍ يُشعِر باعتماده له. الرابعة: أنّ كثير بن المطلب مجهول الحال (¬1)، ولا يُخرِجه عن ذلك ذِكْرُ ابن حبان له في "الثقات" على قاعدته التي لا يوافقه عليها الجمهور. وقد روى ابن جريج عن كثير بن كثير عن أبيه عن جدّه حديثًا، فذكر ابن عيينة أنّه سأل كثير بن كثير عنه، فقال: ليس من أبي سمعتُه، ولكن من بعض أهلي عن جدّي (¬2). وروى غير ابن عيينة عن ابن جريج عن كثير بن كثير عن أبيه عن جده حديثًا قريبًا من الأوّل، ولعلّه هو. راجع "المسند" (ج 6 ص 399) (¬3). فإن كان حديثًا واحدًا فليس لكثير بن المطلب في الكتب الستّة و"المسند" شيء. نعم أخرج ابن حبّان في "صحيحه" (¬4) الحديث الثاني من طريق الوليد بن مسلم عن زهير بن محمد عن كثير بن كثير. وفيه ما يقتضي أنّه ¬

_ (¬1) انظر "تهذيب التهذيب" (8/ 429) و"الثقات" (5/ 331). (¬2) انظر "مسند أحمد" (27243) و"سنن أبي داود" (2016) و"معاني الآثار" للطحاوي (1/ 461) و"مشكل الآثار" (2608) و"السنن الكبرى" للبيهقي (2/ 273). (¬3) رقم (27244). (¬4) رقم (2364).

حديثٌ آخر، لكنّ الوليد شاميّ، ورواية أهل الشام عن زهير أنكرها الأئمة؛ لأنّ زهيرًا حدّثهم من حفظه، فغلط وخلّط (¬1). الخامسة: أنّه لمّا جرى ذكر المطَّلب في القصة ذُكِر بما ظاهره أنّ المُخبِر غيرُه: "فقال له المطلب بن أبي وداعة السهميّ ... فقال له عمر ... ". وهذا يَرِيب في قوله في السند: "عن كثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة السّهمي عن أبيه عن جده"؛ ويُشعِر بأنّ الحكاية منقطعة. وقال الأزرقي (¬2): حدثني ابن أبي عمر قال: حدثنا ابن عيينة عن حبيب بن أبي الأشرس قال: "كان سيلُ أمّ نهشل قبل أن يعمل عمر رضي الله عنه الرّدمَ بأعلى مكة، فاحتمل المقام من مكانه، فلم يُدْرَ أين موضعه، فلمّا قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل: من يعلم موضعه؟ فقال المطّلب بن أبي وداعة: أنا يا أمير المؤمنين! قد كنتُ قدّرتُه وذَرعتُه بمقاط - وتخوفتُ عليه هذا - من الحِجر إليه، ومن الركن إليه، ومن وجه الكعبة إليه، فقال: ائْتِ به، فجاء به، ووضعه في موضعه هذا، وعمِلَ عمرُ الردمَ عند ذلك". قال سفيان: فذلك الذي حدّثنا هشام بن عروة عن أبيه: "أنّ المقام كان عند سُقْع (¬3) البيت، فأمّا موضعه الذي هو موضعه: فموضعه الآن، وأمّا ما يقوله الناس: إنّه كان هنالك موضعه، فلا". ¬

_ (¬1) انظر "تهذيب التهذيب" (3/ 349، 350). (¬2) "أخبار مكة" (2/ 35). (¬3) في كتاب الأزرقي: "سفع" وهو تصحيف. وفي المخطوطة: "صُقْع"، والسُّقع والصُّقع بمعنى الناحية. انظر"القاموس" (سقع).

قال سفيان: وقد ذكر عمرو بن دينار نحوًا من حديث ابن [أبي] (¬1) الأشرس هذا، لا أُميّز أحدهما عن صاحبه. الأزرقي قد تقدّم حاله. لكن قال الفاسيّ في "شفاء الغَرام" (ج 1 ص 206): وروى الفاكهيّ (¬2) عن عمرو بن دينار وسفيان بن عيينة مثل ما حكاه عنهما الأزرقيّ بالمعنى. أقول: ليته ساق خبر الفاكهيّ؛ فإنّ الفاكهيَّ وإن كان كالأزرقيّ في أنّه لم يوثّقه أحدٌ من المتقدمين ولا ذكره، فقد أثنى عليه الفاسيّ في ترجمته من "العقد الثمين" (¬3)، ونزّهه عن أن يكون مجروحًا، وفضّل كتابه على كتاب الأزرقي تفضيلاً بالغًا، ومع هذا فالأخبار التي يتفقان في الجملة على روايتها نجد الفاسيّ ومِن قبلِه المحب الطبري يُعنَيانِ غالبًا بنقل رواية الأزرقيّ، ويسكتان عن رواية الفاكهي، أو يشيران إليها إشارة فقط. وأحسب الحامل لهما على ذلك حسن سياق الأزرقي. وقد قيل لشعبة رحمه الله: مالك لا تحدّث عن عبد الملك بن أبي سليمان، وقد كان حسن الحديث؟ قال: مِنْ حُسْنها فررتُ (¬4). ويَرِيبني من الأزرقي حسنُ سياقه للحكايات وإشباعُه القولَ فيها، ومثل ذلك قليلٌ فيما يصح عن الصحابة والتابعين. ¬

_ (¬1) الزيادة من الأزرقي. وهو حبيب بن أبي الأشرس كما سبق. (¬2) في "أخبار مكة" (1/ 456). (¬3) (1/ 411). (¬4) انظر "تهذيب التهذيب" (6/ 397).

ويَرِيبني أيضًا منه تحمُّسُه لهذا القول؛ فقد روى (ج 2 ص 23) (¬1) عن ابن أبي عمر بسندٍ واهٍ إلى أبي سعيد الخدري، أنّه سأل عبد الله بن سلام عن الأثر الذي في المقام، فقال: "كانت الحجارة ... وذكر الخبر، وفيه في ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فصلّى إلى الميزاب وهو بالمدينة، ثمّ قدم مكة، فكان يصلي إلى المقام ما كان بمكة". وقد روى الفاكهي (¬2) هذا الخبر كما ذكره الفاسيّ في "شفاء الغرام" (ج 1 ص 206)، ولم يَسُقْ الفاسيّ سنده ولا متنه بتمامه، إنّما ذكر قطعة منه، هي بلفظها في رواية الأزرقي. ثم قال: "وفيه أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قدم مكة من المدينة، فكان يصلّي إلى المقام، وهو مُلْصَقٌ بالبيت، حتّى توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -". أسقط الأزرقيّ في روايته قوله: "وهو ملصق بالبيت حتّى توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"، وجعل موضعها: "ما كان بمكة". وقال في (ج 2 ص 27) (¬3): حدّثني محمد بن يحيى قال: حدّثنا سُليم بن مسلم عن ابن جريج عن محمد بن عبّاد بن جعفر عن عبد الله بن صفوان قال: أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه عبد الله بن السائب العابديّ - وعمر نازلٌ بمكة في دار ابن سباع - بتحويل المقام إلى موضعه الذي هو فيه اليوم، قال: فحوَّلَه ثم صلّى المغرب، وكان عمر قد اشتكى رأسه، قال ¬

_ (¬1) (2/ 30) ط. رشدي ملحس. (¬2) في "أخبار مكة" (1/ 442). وفي إسناده شيخ الفاكهي: عبد الله بن شبيب الربعي، أخباري ضعيف. انظر "لسان الميزان" (4/ 499). (¬3) (2/ 35).

[عبد الله بن السائب] (¬1): فلمّا صليتُ ركعةً جاء عمر فصلّى ورائي، قال: فلمّا قضى صلاته، قال عمر: أحسنتَ، فكنتُ أوّل من صلّى خلف المقام حين حُوّل إلى موضعه". عبد الله بن السائب القائل. ولم تَرُقْ الأزرقيَّ كلمةُ "حُوّل" فعقّبه بقوله: "حدثني جدّي قال: حدثنا سليم بن مسلم عن ابن جريج عن محمد بن عبّاد بن جعفر عن عبد الله بن السائب - وكان يصلّي بأهل مكة - فقال: "أنا أوّل من صلّى خلف المقام حين رُدّ في موضعه هذا ... ". هذا؛ وأمّا بقية السند بعد الأزرقيّ: فشيخه ابن أبي عمر سيأتي. وسفيان بن عيينة إمام. وحبيب بن أبي الأشرس ضعيف، راجع ترجمته في "الميزان" و"لسانه" (¬2). وعمرو بن دينار ثقةٌ جليل، لكن لا يُدرَى ما قال. نعم يستفاد إجمالاً أنّه قد ذكر ما يتعلّق بالتقدير. فأمّا ما ذكر في هذه الرواية من رأي ابن عيينة فقد ثبت عنه (¬3) ما يناقضه برواية ابن أبي حاتم الرازي وهو إمام، عن أبيه، وهو من كبار الأئمة المتثبتين، عن ابن أبي عمر شيخ الأزرقي، عن ابن عيينة نفسه. وسيأتي. وأبو حاتم هو القائل في ابن أبي عمر هذا - شيخه وشيخ للأزرقي -: "كان شيخًا صالحًا، وكان به غفلة، رأيت عنده حديثًا موضوعًا حدّث به عن ¬

_ (¬1) هذه الزيادة من المؤلف على نصّ الأزرقي، لتوضيح القائل. (¬2) "الميزان" (1/ 450، 454) و"اللسان" (2/ 544). (¬3) "عنه" ساقطة من المطبوع. وهي مثبتة في المخطوط.

ابن عيينة، وكان صدوقًا" (¬1). أقول: ابن أبي عمر ثقةٌ فيما يرويه عنه أبو حاتم ومسلم ونحوهما من المتثبتين؛ لأنّهم يحتاطون وينظرون في أصوله، وإنّما تخشى غفلته فيما يرويه عنه من دونهم، ولا سيَّما أمثال الأزرقيّ. القول الثاني: قال بعضهم: كان المقام لاصقًا بالكعبة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، حتّى أخّره هو - صلى الله عليه وسلم - إلى موضعه الآن. ذكر ابن كثير (¬2) أنّ ابن مردويه روى بسنده إلى شريك عن إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد قال: قال عمر بن الخطاب: يا رسول الله! لو صلينا خلف المقام؟ فأنزل الله: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} فكان المقام عند البيت، فحوّله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى هذا". أشار ابن كثير إلى ضعفه. وقال ابن حجر في "الفتح" (ج 8 ص 29) (¬3): أخرج ابن مردويه بسند ضعيف، فذكره. أقول: شريكٌ من النبلاء، إلاَّ أنّه يخطئ كثيرًا ويدلَّس (¬4). وإبراهيم بن ¬

_ (¬1) انظر "الجرح والتعديل" (8/ 124) و"تهذيب التهذيب" (9/ 519). (¬2) في "تفسيره" (1/ 612, 613). (¬3) (8/ 169) ط. السلفية. (¬4) انظر "تهذيب التهذيب" (4/ 335، 337).

مهاجر صدوقٌ كثير الخطأ، يحدّث بما لا يحفظ فيغلَط (¬1). وقد صحّ عن مجاهد أنّ عمر هو الذي حوّل المقام، كما سيأتي. وفي "شفاء الغرام" (ج 1 ص 206): "ذكر موسى بن عقبة في مغازيه ... قال موسى بن عقبة ... : وكان - زعموا - أنّ المقام لاصقٌ في الكعبة، فأخّره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مكانه هذا". موسى بن عقبة ثقةٌ أدرك بعض الصحابة، لكن ذكروا أنّه تتّبع المغازي بعد كِبَر سنّه، فربّما يسمع ممّن هو دونه (¬2)، وقد قال: "زعموا". القول الثالث: قال آخرون: كان المقام في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعده لاصقًا بالكعبة، حتى حوّله عمر رضي الله عنه. قال ابن كثير (¬3): قال عبد الرزاق عن ابن جريج حدثني عطاء وغيره من أصحابنا قالوا: "أول مَن نقله عمر بن الخطاب رضي الله عنه". وقال عبد الرزاق (¬4) أيضًا: عن معمر عن حميد الأعرج عن مجاهد قال: "أوّل من أخّر المقام إلى موضعه عمر بن الخطاب". ¬

_ (¬1) "تهذيب التهذيب" (1/ 168). (¬2) انظر: المصدر السابق (10/ 361). (¬3) (1/ 612). وهو في "مصنف عبد الرزاق" (5/ 48). (¬4) "المصنف" (5/ 47, 48).

وقال ابن حجر في "الفتح" (ج 8 ص 129) (¬1): "كان المقام من عهد إبراهيم لِزْقَ البيت، إلى أن أخّره عمر رضي الله عنه إلى المكان الذي هو فيه الآن". أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" بسند صحيح عن عطاء وغيره وعن مجاهد أيضًا. ونقل الفاسيّ (¬2) عن كتاب "الأوائل" لأبي عروبة - أراه الحرّاني حافظٌ ثقة - عن سلمة - أراه ابن شبيب ثقة - عن عبد الرزاق ... ، فذكر السندين اللذين ذكرهما ابن كثير، وقال في متن الأول: "إنّ عمر رضي الله عنه أوّلُ من رفع المقام، فوضعه في موضعه الآن، وإنّما كان في قُبُلِ الكعبة". وقال في الثاني: عن مجاهد قال: "كان المقام إلى جنب البيت، وكانوا يخافون عليه من السيول، وكان الناس يُصلُّون خلفه". قال الفاسي: انتهى باختصار؛ لقصة ردّ عمر للمقام إلى موضعه الآن، وما كان بينه وبين المطّلب بن أبي وداعة السهميّ في موضعه الذي حرّره المطّلب. فلا أدري: أخبرٌ آخر هذا عن مجاهد؟ أم هو ذاك الخبر اختصره عبد الرزاق في "مصنفه"، وحدّث به سلمة من حفظه؟ أم ماذا؟ وعلى كلّ حال؛ فالذي نقل ابن كثير وابن حجر عن "مصنف عبد الرزاق" ثابتٌ، فيتعين حمل هذه الرواية على ما لا يخالفه. ¬

_ (¬1) (8/ 169). (¬2) في "شفاء الغرام" (1/ 206).

وفي "الدُّرّ المنثور" (¬1): أخرج ابن سعد عن مجاهد قال: قال عمر بن الخطاب: "من له علمٌ بموضع المقام حيث كان؟ فقال أبو وَدَاعة بن هُبيرة (¬2) السهمي: عندي يا أمير المؤمنين! قدَّرتُه إلى الباب، وقدرتُه إلى ركن الحجر، وقدرته إلى الرُّكن الأسود، وقدرته، فقال عمر: هاته، فأخذه عمر، فردّه إلى موضعه اليوم للمقدار الذي جاء به أبو وداعة". لا أدري ما سنده، وبقيّة الروايات في هذا تذكر المُطّلب بن أبي وداعة، لا أبا وداعة نفسه. وقال ابن كثير (¬3): قال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبي، أخبرنا ابن أبي عمر العدني، قال: قال سفيان - يعني ابن عيينة، وهو إمام المكّيين في زمانه -: "كان المقام من سُقْع البيت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فحوّله عمر إلى مكانه بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبعد نزول قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} قال: ذهب السيل به بعد تحويل عمر إياه من موضعه هذا، فردّه عمر إليه". وقال سفيان: "لا أدري كم بينه وبين الكعبة قبل تحويله". قال سفيان: "لا أدري: أكان لاصقًا بها أم لا؟ ". وقال ابن حجر في "الفتح" (ج 8 ص 129) (¬4): أخرج ابن أبي حاتم ¬

_ (¬1) (1/ 629) ط. هجر. (¬2) كذا في الأصل. والصواب "ضُبَيرة" كما ضبطه الحافظ في "تبصير المنتبه" (3/ 831). (¬3) (1/ 612). والنص في "تفسير ابن أبي حاتم" (1/ 372). (¬4) (8/ 169).

تمحيص هذه الأقوال

بسندٍ صحيح عن ابن عيينة قال: "كان المقام في سُقع البيت في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فحوّله عمر، فجاء سيلٌ فذهب به، فردّه عمر إليه"، قال سفيان: "لا أدري أكان لاصقًا بالبيت أم لا؟ ". هذا بغاية من الصحة عن سفيان بن عيينة؛ كما تقدم أواخرَ الكلام على القول الأول. تمحيص هذه الأقوال قد يُنتصر للأوّل بأنّ عمر رضي الله عنه لم يكن ليخالف النبي - صلى الله عليه وسلم -. وما معنى تقدير المطَّلب وتحرّي عمر؟ فالظاهر أنّ المقام لم يزل بموضعه اليوم، فقدّره المطّلب منه، فذهب به السيل، وطمس موضعه، فجُعل بجنب الكعبة حتى يقدم عمر، فقدم وتحرّى، وردّه حيث كان. وكأنّ هذه القضية بلغت بعضَ الناس مجملةً أنّه كان بجنب الكعبة، وأنّ عمر نقله إلى موضعه اليوم، فتوهّموا أنّه كان بجنب الكعبة منذ قديم، فراحوا يخبرون بذلك. ويُنتصَر للثاني بأنّ أولئك الأئمة لم يكونوا ليتوهموا بدون أصل، فلعلّ النبي - صلى الله عليه وسلم - حوّل المقام أخيرًا, ولم يبلغهم ذلك، وثبت عندهم أنّه قد كان في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - بجنب الكعبة، فاستصحبوا ذلك، والباقي كما مرّ. ويُنتصَر للثالث بأنّه قد يقع من عمر رضي الله عنه ما هو في الصورة مخالفة، وهو في الحقيقة موافقة بالنظر إلى مقاصد الشرع واختلاف الأحوال، وقد يخفى علينا وجه ذلك، ولكنّا نعلم أنّ الصحابة رضي الله عنهم

لا يُجمعون إلاّ على حقّ. وتقدير المطَّلب وتحرّي عمر - إن صحّ - فقد يخفَى علينا سببه. وإذا كان ذلك محتملاً؛ فليس لنا أن نجعل جهلنا به حجةً على توهيم أولئك الأئمة وهم هم، ومنهم عطاء وقَدمُه وفضلُ علمه بالمناسك، ومجاهد وقَدمُه وفضلُ علمه بالتفسير، ومالك وابن عيينة، وهما هما. ولم تكن قضية المطّلب لِتخفَى على أئمة مكة: عطاء ومجاهد وابن عيينة، بل قد ذكرها الأخيران فيما روي عنهما، والمخالف لهؤلاء ليس مثلَهم، ولا قريبًا منهم؛ فهو أحقُّ بالوهم. أقول: قد أغنانا الله - وله الحمد - عن هذا الضرب من الاحتجاج بثبوت النقل عمّن لا يمكن أن يُظنَّ به التوهم. أخرج البيهقي (¬1) من طريق أبي ثابت - وهو محمد بن عبيد الله المدني (¬2)، ثقة من شيوخ البخاري في "صحيحه" - عن الدراوردي عن هشام بن عروة عن أبيه (¬3) عن عائشة رضي الله عنها، أنّ المقام كان زمانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزمانَ أبي بكر رضي الله عنه ملتصقًا بالبيت، ثمّ أخَّره عمر رضي الله عنه". ¬

_ (¬1) في "دلائل النبوة" (2/ 63). وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" (1/ 629) إلى "سننه"، ولا يوجد فيه. (¬2) انظر "تهذيب التهذيب" (9/ 324). (¬3) "عن أبيه" ساقطة من المطبوع، وزيدت من مخطوطة المؤلف، وكذا في "الدلائل" و"تفسير ابن كثير".

ذكره ابن كثير في "تفسيره" (¬1) بسند البيهقي، ورجاله ثقات. وقال ابن كثير: وهذا إسناد صحيح. وذكره ابن حجر في "الفتح" (¬2)، وقال: بسند قوي. وذكر الفاسي في "شفاء الغرام" (¬3): أنّ الفاكهيّ روى عن يعقوب بن حُمَيد بن كاسب قال: حدّثنا عبد العزيز بن محمد عن هشام بن عروة عن أبيه - قال عبد العزيز: أُراه عن عائشة -: "أنّ المقام كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى سُقع البيت". يعقوب بن حُميد متكلَّم فيه، ووثّقه بعضهم (¬4). والاعتماد على حديث أبي ثابت. وقال البخاري في "صحيحه" (¬5) في أبواب القبلة: باب في قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}، ثمّ ذكر حديث ابن عمر (¬6) رضي الله عنهما لمّا سُئل عن رجلٍ طاف بالبيت للعمرة، ولم يَطُفْ بين الصفا والمروة، أيأتي امرأته؟ فقال: قدم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فطاف بالبيت سبعًا، وصلّى خلف المقام ركعتين، وطاف بين الصفا والمروة" الحديث. ¬

_ (¬1) (1/ 612). (¬2) (8/ 169). (¬3) (1/ 207). والنصّ عن الفاكهي (1/ 455) والأزرقي (2/ 35). (¬4) انظر "تهذيب التهذيب" (11/ 383). (¬5) (1/ 499) مع "الفتح". (¬6) رقم (395).

ثم حديث ابن عمر (¬1) وحديث ابن عباس (¬2) رضي الله عنهم في دخول النبي - صلى الله عليه وسلم - الكعبة. وفي الأوّل: "ثم خرج فصلّى في وجه الكعبة ركعتين". وفي الثاني: "فلمّا خرج ركع ركعتين في قُبُلِ الكعبة، وقال: "هذه القبلة". والقدوم الذي ذكره ابن عمر في حديثه الأول كان في عمرة؛ لأنّ ابن عمر أجاب به السائل عن العمرة، وأُراها عمرة القضية. وفي "المسند" (ج 4 ص 355) (¬3) من حديث ابن أبي أوفى: "اعتمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فطاف بالبيت، وطفنا معه، وصلى خلف المقام وصلينا معه ... ". وسنده بغاية الصحة. وقد أخرجه البخاري مختصرًا في "باب عمرة القضية" من المغازي (¬4). وذكر ابن حجر (¬5) هناك مَنْ صرّح فيه بقوله: "في عمرة القضية"، وسياقه واضحٌ في ذلك. ولفظ "وجه الكعبة" ورد في عدة أخبارٍ تقدّمت. وفي "القِرَى" (ص 315) عن ابن عمر: "البيت كلُّه قبلة، قبلته وجهه". ¬

_ (¬1) رقم (397). (¬2) رقم (398). (¬3) رقم (19131). (¬4) رقم (4255). (¬5) في "الفتح" (7/ 509).

نسبه إلى سعيد بن منصور. والمراد به في تلك الأخبار - كما يقضي به سياقُها - تارةً: جدارُها المقابل لموضع المقام الآن، وتارةً: ما بجانب هذا الجدار من المطاف. والأخبار التي أطلقته على هذا تُبيّن أنه ليس منه موضع المقام الآن، بل هو الموضع الذي كان فيه المقام قبل أن يُحوِّله عمر رضي الله عنه إلى موضعه الآن. ولفظ "قُبُل الكعبة" في حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هو أيضًا ذاك الموضع. وابن عباس إنّما سمع هذا الحديث من أسامة رضي الله عنه كما بيّنه ابن حجر في "الفتح" (¬1)، وراويه عن ابن عباس عطاء، يرويه عطاء تارة عن ابن عباس عن أسامة، وتارة عن أسامة نفسه. وقد تقدّم قول عطاء: "إنّ عمر رضي الله عنه أوّل من رفع المقام فوضعه في موضعه الآن، وإنّما كان في قُبُل الكعبة". بل ثبت في حديث عطاء عن أسامة عند النسائي (¬2) بسند رجالُه ثقات: " ... ثمّ خرج فصلّى خلف المقام ركعتين، وقال: "هذه القبلة". ويؤيد ذلك ما في "السيرة" عن ابن إسحاق (¬3): حدّثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور، عن صفية بنت شيبة أنّ ¬

_ (¬1) (1/ 501). (¬2) (5/ 220). (¬3) انظر "سيرة ابن هشام" (2/ 411).

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمّا نزل مكة واطمأنّ الناس، خرج حتى جاء البيت، فطاف على راحلته، يستلم الرُّكن بمِحْجَنٍ في يده، فلمّا قضى طوافه دعا عثمان بن طلحة، فأخذ منه مفتاح الكعبة ففتحت له، فدخلها ... ". محمد بن جعفر وعبيد الله من رجال "الصحيح". وابن إسحاق حسن الحديث. فهذا الخبر يدلُّ على أنّ صلاته - صلى الله عليه وسلم - بعد خروجه كانت ركعتي الطواف، ومن سنته - صلى الله عليه وسلم - أن يصلّيهما خلف المقام. فأمّا صلاتُه في الكعبة - على القول بها - فهي تحيّتها. ثبت بما تقدم أنّ صلاته - صلى الله عليه وسلم - عقبَ خروجه من الكعبة كانت خلف المقام، وأنّ المقام حينئذٍ كان عند جدار الكعبة. لمّا دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - الكعبة كان ابن عمر غائبًا، فبلغه ذلك، فأقبل "يركبُ أعناقَ الرجال"، "المسند" (ج 6 ص 13) (¬1)، فجاء وقد خرج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبلال في الكعبة لمّا يخرج، فكان هَمُّ ابن عمر أن يزاحم ليسأل بلالاً: ماذا صنع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الكعبة؟ وفي تلك الأثناء صلّى النبي - صلوات الله وسلامه عليه - خارج الكعبة. فكأنّ ابن عمر اشتغل بالمزاحمة والمساءلة، فلم يُحقّق أإلى المقام صلّى النبي - صلى الله عليه وسلم - أم عن يساره، أم عن يمينه؟ فاقتصر على قوله: "في وجه الكعبة". ¬

_ (¬1) رقم (23897). وإسناده ضعيف، لضعف عثمان بن سعد أحد رجال الإسناد.

فأمّا ما في أكثر روايات حديث أسامة رضي الله عنه: "في قُبُل الكعبة"، فيظهر أنّ ذلك مراعاة لقوله عقب ذلك: وقال: "هذه القبلة". خشي أن يتوهّم أنّ الإشارة إلى المقام، مع قول الله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}؛ فعدل إلى قوله: "في قُبُل الكعبة"؛ ليعلم أنّ الإشارة إليها، أو إلى ذلك الموضع منها، كما يأتي. في "صحيح مسلم" (¬1) عن جابر - في حجّة الوداع، بعد ذكر الطواف -: "ثم نفذَ إلى مقام إبراهيم ... فجعل المقام بينه وبين القبلة". هكذا في عدة نسخ من "الصحيح" وكتب أخرى (¬2). وذكره الطبري في "القِرَى" (ص 310) بلفظ: "ثم تقدّم" (¬3)، وكذا نقله الفاسيّ (¬4) عنه. ¬

_ (¬1) رقم (1218). (¬2) انظر "المنتقى" لابن الجارود (469). (¬3) هذا اللفظ في كثير من مصادر السنة، انظر: "سنن أبي داود" (1905)، والدارمي (1857) و"صحيح ابن حبان" (3944) و"مسند عبد بن حميد" (1135) و"مصنف ابن أبي شيبة" (ص 378، 427 - من الجزء المفقود) و"السنن الكبرى" للبيهقي (5/ 7، 91) و"دلائل النبوة" (5/ 534). وهو بلفظ "عمد" في "مسند أحمد" (14440) و"صحيح ابن خزيمة" (2754) و"منتقى ابن الجارود" (465). وبلفظ "قام" في "سنن النسائي" (5/ 235، 241) وابن ماجه (3074). وبلفظ "أتى" في "سنن الترمذي" (856) والنسائي (5/ 228) وابن ماجه (1008، 2960) و"صحيح ابن خزيمة" (2755) و"مصنف ابن أبي شيبة" (ص 422). وبلفظ "انطلق" عند ابن حبان (3943)، وبلفظ "ذهب" عند البيهقي (5/ 90). (¬4) في "شفاء الغرام" (1/ 206).

وزعم الطبري أنّه يُشعِر بأنّ المقام لم يكن حينئذٍ ملصقًا بالكعبة. ولم يصنع شيئًا. أمّا كلمة "تقدّم" - إن صحّت - فدلالتها على الملاصقة أقرب؛ لأنّه كان في الطواف، فأنهاه عند الرّكن، فإذا واصل مَشْيه بعد ذلك إلى يَمْنة الباب فهذا تقدُّم، ولو كان المقام حينئذ في موضعه الآن لكان المشي إليه مشيًا عن الكعبة، فكان حقُّه أن يقال: "تأخَّر". وأمّا قوله: "فجعل المقام بينه وبين الكعبة" فلا يخفى أنّ المصلَّي إلى المقام إذ كان بِلِصْقِ الكعبة إمّا أن يكون عن يمينه، أو يساره، أو خلفه، فإذا كان خلفه فقد جعله بينه وبين الكعبة. فقد ثبت بما تقدّم - لا سيّما حديث عائشة رضي الله عنها - صحّةُ القول الثالث الذي عليه أئمة مكّة: عطاء ومجاهد وابن عيينة، مع أنّ الإنصاف يقصي بأنّ قولهم مجتمعين يكفي وحده للحجّة في هذا المطلب، والله أعلم. ****

الفصل الخامس لماذا حول عمر رضي الله عنه المقام؟

الفصل الخامس لماذا حوّل عمر رضي الله عنه المقام؟ قد تقدّم أوّل الرّسالة ما تقدّم. عَلم عمر رضي الله عنه أنّ أئمة المسلمين مأمورون بتهيئة ما حول البيت للطائفين والعاكفين والمصلّين؛ ليتمكنوا من أداء عبادتهم على الوجه المطلوب بدون خلل ولا حرج. وعلم أنّ هذه التهيئة تختلف باختلاف عدد هؤلاء. وعلم أنّهم قد كثروا في عهده، وينتظر أن يزدادوا كثرةً، فلم تبقَ التهيئة التي كانت كافيةً قبل ذلك كافيةً في عهده. ورأى أنّ عليه أن يجعلها كافية، فإن كان ذلك لا يتمّ إلا بتغيير يتمُّ به المقصود الشرعي، ولا يفوت به مقصودٌ شرعيّ آخر، فقد علم أنّ الشريعة تقتضي مثل هذا التغيير، فليس ذلك بمخالفة للنبي - صلى الله عليه وسلم -، بل هو عين الموافقة، وشواهد هذا كثيرة، وأمثلته من عمل عمر رضي الله عنه وغيره من أئمة الصحابة رضي الله عنهم معروفة. فهذه حجّة بيّنة لعمر رضي الله عنه. هذه الحجة لا تُبِيح له من التغيير إلا ما لا بدّ منه. وللمقام حقوق: الأول: القرب من الكعبة.

الثاني: البقاء في المسجد الذي حولها (¬1). الثالث: البقاء على سمت الموضع الذي هو عليه. فقد تقدّم في حديث ابن عباس وأسامة رضي الله عنهم قولُ النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد صلاته إلى المقام: "هذه القبلة". قال ابن حجر في "الفتح" (¬2): "الإشارة إلى الكعبة ... أو الإشارة إلى وجه الكعبة، أي: هذا موقف الإمام ... ". وفي "المسند" (ج 5 ص 209) في حديث أسامة: "ثمّ خرج، فأقبل على القبلة، وهو على الباب، فقال: "هذه القبلة، هذه القبلة" مرّتين أو ثلاثًا". فقد يُجمَع بين الرّوايتين بأنّه قال هذه الكلمة "هذه القبلة" عند خروجه، ثم قالها عقب صلاته. فتكون الأولى إشارة إلى الكعبة، والثانية إشارةً إلى موقف الإمام. وهذا الثاني محمولٌ على الندب كما في "الفتح" (¬3)، وهو ظاهر. وجرى العمل على اختيار وقوف الإمام على ذاك السَّمت: إمّا خلف المقام، وإمّا أمامه. وبعد كثرة الناس وتضايق ما خلف المقام، بقي العمل على اختيار وقوف الإمام قُدّام المقام. ¬

_ (¬1) ما زيد في المسجد القديم فله حكمه، كما يصح فيه الطواف وغير ذلك. [المؤلف]. (¬2) (1/ 501). (¬3) (1/ 502).

وفي "المسند" (ج 6 ص 14) في ذكر موضع صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الكعبة: "وجعل المقام خلف ظهره". وذكر المحب الطبري في "القِرَى" (ص 312 وما بعدها)، والفاسيّ في "شفاء الغرام" (ج 1 ص 219) أخبارًا وآثارًا تتعلّق بذاك الموضع، منها: من "سنن سعيد بن منصور" عن ابن عبّاس أنّه قال - وهو قاعدٌ قبالةَ البيتِ والمقام -: "البيت كلُّه قبلة، وهذه قبلته". وقد تقدّم في الفصلين الثاني والثالث ما يدلّ على أنّ إبراهيم عليه السلام انتهى إلى ذلك الموضع في قيامه على المقام لبناء البيت، وقام عليه وهو فيه للأذان بالحجّ. فالبيت الذي بناه إبراهيم عليه السلام قبلة، والجانب الذي كان القيام فيه - وهو ما بين الحِجْر والحَجَر - خاصٌّ في ذلك. والموضع الذي كان القيام عنده أخصّ. وشُرعت الصلاة إلى المقام؛ لأنّ عليه كان القيام. فارتباطه بذاك الموضع من جدار الكعبة واضحٌ، وتعلُّق الصلاة بأن تكون إلى القبلة أبلغُ وأهمُّ من تعلُّقها بأن تكون قربَ القبلة. التغيير الذي لا بدّ منه يقتصر على التخفيف من الحق الأوّل للمقام - وهو القرب من الكعبة - ولعلّه أخفُّ حقوقه، وبذلك عمل عمر؛ أخّر المقام بقدر الحاجة محافظًا على الحقّين الأخيرين: بقاء المقام في المسجد، على السّمت الخاص. تقدّم في قول ابن عيينة الثابت عنه: "فحوّله عمر إلى مكانه بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - ,

وبعد قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} ". لماذا زاد ابن عيينة: "وبعد قوله تعالى .... " مع أنّ ذلك معلومٌ قطعًا ممّا قبله؟ لا يبعدُ أن يكون ابن عيينة أومأ إلى سبب تأخير عمر للمقام؛ لأنّ الآية أمرت بالصلاة خلفه، وبقاؤه بجانب الكعبة - والنّاس بين مصلٍّ خلفه وطائفٍ - يلزمه عند كثرة الناس أن يقع الخلل والحرج في العبادتين كما مرّ. وأخرج الفاكهيّ (¬1) بسندٍ ضعيف عن سعيد بن جبير: "كان المقام في وجه الكعبة .. فلمّا كثر الناس خشي عمر بن الخطاب أن يطأوه بأقدامهم، فأخّره إلى موضعه الذي هو به اليوم، حِذاءَ موضعه الذي كان قُدّام الكعبة". نقله الفاسيّ في "شفاء الغرام" (ج 1 ص 207) بسنده. وقال الفاسيّ (¬2): ذكر الفقيه محمَّد بن سُراقة العامري في كتابه "دلائل القِبلة": "وهناك بجنب الكعبة كان موضع مقام إبراهيم عليه السلام، وصلّى النبي - صلى الله عليه وسلم - عنده حين فرغ من طوافه ركعتين ... ثم نقله - صلى الله عليه وسلم - إلى الموضع الذي هو فيه الآن ... لئلا ينقطع الطواف بالمصلين خلفه، أو يترك الناس الصلاة خلفه لأجل الطواف حين أكثر الناس، وليدور الصّف حول الكعبة، ويروا الإمام من كلّ وجه". وذكر ابن فضل الله العمري في "مسالك الأبصار" (ج 1 ص 103) مثل هذا الكلام. ¬

_ (¬1) في "أخبار مكة" (1/ 454). (¬2) في "شفاء الغرام" (1/ 207).

والمقصود منه ذكر العلّة، وإنّما كثر الناس في عهد عمر. وقوله: "وليدور الصفّ ... " مبنيٌّ على ما كان عليه العمل من وقوف الإمام خلف المقام. وقال ابن حجر في "الفتح" (ج 8 ص 119) (¬1) في الكلام على قول البخاري في تفسير البقرة: باب {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} بعد تثبيت تحويل عمر رضي الله عنه للمقام: "ولم تنكر الصحابة فعل عمر، ولا مَن بعدهم، فصار إجماعًا، وكأنّ عمر رأى أن إبقاءه يلزم منه التضييق على الطائفين أو على المصلين، فوضعه في مكان يرتفع به الحرج، وتهيأ له ذلك؛ لأنّه (¬2) الذي كان أشار باتخاذه مصلّى. [وأوّل من عمل عليه المقصورة الآن] (¬3) ". قوله: "فصار إجماعًا"، قد عرفتَ مستنده. وكلٌّ من المستند والإجماع يدلُّ على أنّه إذا وُجِد مثل ذلك المقتضي اقتضى فعلَ مثلِ ما فعل عمر رضي الله عنه. وقوله: "وتهيأ له ذلك ... "، لعلّ الإشارة إلى عدم الإنكار، أي: إنّه قد يكون في الصحابة ومَن بعدهم مَن يخفى عليه المقتضي، ولكن منعَه من ¬

_ (¬1) (8/ 169) ط. السلفية. (¬2) ط: "لأن". (¬3) هذه العبارة التي وضعتُ عليها الحاجزين وقعت في نسخة "الفتح" المطبوعة متصلة بما قبلها كأنها تتمة له، وإنما هي ابتداء كلام لا أشك أن ابن حجر ترك بعده بياضًا، لأنه لم يعرف من أول من عمل المقصورة. وإنما عملت بعد عمر بنحو ست مئة سنة. راجع "شفاء الغرام" وغيره. [المؤلف].

الإنكار عِلمُه بأنّ عمر رضي الله عنه - مع مكانته في العلم والدّين - هو الذي أشار باتخاذ المقام مصلّى، فله فضل علم بالمقام وحكمه، فهذا قريبٌ. فأما ما يتوهم أنّ مشورة عمر تُعطيه دون غيره حقًّا بأن يغير بدون حجة، أو بحجة غير تامّة، فهذا باطل قطعًا. وحُجة عمر رضي الله عنه بحمد الله تعالى تامّة عامّة. ****

الفصل السادس متى حول عمر رضي الله عنه المقام؟ ولماذا قدره المطلب، واحتاج عمر إلى تقديره؟

الفصل السادس متى حوَّل عمر رضي الله عنه المقام؟ ولماذا قدَّرَهُ المُطَّلِبُ، واحتاجَ عُمَرُ إلى تقديرِه؟ لم أَقِفْ على ما يُعلَمُ به تاريخُ التحويلِ، غيرَ أَنّه قد يُظَنُّ أَنّه حوَّلَهُ عند زيادتهِ في المسجدِ الحرامِ؛ لأَنَّ السببَ واحدٌ وهو كثرةُ النَّاسِ؛ ولأَنَّ تأخيرَ المقامِ يستدعي توسعةَ المسجدِ خلفَه. وقد زعم الواقديُّ - كما حكاهُ ابن جرير في "تاريخه" (¬1) - أَنَّ الزيادةَ كانت سنةَ سبعَ عشرةَ، وأَنَّ عمرَ رضي اللهُ عنه اعتمرَ في رَجَب، ومَكَثَ بمكّةَ عشرينَ يومًا لأَجلِ الزيادة وغيرِها. وحالُ الواقديِّ معروفةٌ. وفي خبرِ الأَزرقيّ المُتَقدّم في الفصل الرابع: "أَنَّه لمّا ذهبَ السيلُ بالمقامِ أَرسلوا إلى عمر، فجاءَ مسرعًا وقدم بعُمرةٍ في رمضان". ورأيتُ بعضَهم ذَكَر "أَنَّ ذلك كانَ سَنَةَ سَبعَ عشرةَ" والعلمُ عندَ الله تعالى. ومرَّ في خبرِ الأزرقيِّ: "كانت السيولُ تدخلُ المسجدَ الحرام، فربّما رفعتِ المقامَ من موضعِهِ، وربّما نحَّتْهُ إلى وجهِ الكعبةِ، حتّى جاءَ سيلٌ في خلافةِ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه". فعلى فَرْضِ صحّةِ هذا يلزمُ أَنْ يكونَ التحويلُ قبلَ مدّةٍ أَقلّها ثلاثُ سنين ¬

_ (¬1) (4/ 68) ط. دار المعارف.

أَو نحوُها. وقد تقدّمَ النَّظرُ في حالِ هذا الخبرِ. وأَمّا ما تقدَّمَ عن مجاهدٍ: "كانَ المَقامُ إِلى جَنْبِ البيتِ، وكانوا يخافونَ عليه من السيولِ، وكانَ النَّاسُ يصلّونَ خلفَه"، ثمَّ ذكرَ قصّةَ عمر والمطَّلب، ولم يَسُقِ الفاسيُّ لفظَها، - كما تقدّمَ -: فالجمعُ بينَ هذا وبينَ ما صحَّ عن مجاهدٍ - ونَقَلَهُ ابنُ كثيرٍ وابنُ حجرٍ عن "مصنّفِ عبد الرازق" - وبقيّة الأَدلّةِ وطُرُقِ القصَّةِ: أَنَّ المَقامَ كانَ إِلى جَنْبِ البيتِ، فأَخَّرَهُ عمرُ، فخافوا عليه من السيولِ، فقدَّرَهُ المُطَّلِبُ. وهذا هو المفهومُ من روايةِ ابن أبي حاتمٍ (¬1)، عن ابن أَبي عمر، عن ابن عُيينةَ. والذي يظهرُ: أَنَّ المَقامَ لمّا كانَ بجنبِ الكعبةِ أَوَّلًا كانَ بمأْمَنٍ من السيلِ؛ إِمّا لأَنّه كانَ قد نَشِبَ في الأرضِ إِذ لم تكنْ مُبلَّطةً، وإمّا لغيرِ ذلك، فلمّا حوَّلَه عمرُ رضي اللهُ عنه رأى المُطَّلِبُ أَنَّه أَصبحَ عُرضةً للسيلِ. قد تقدَّمَ في الفصلِ السابقِ بيانُ ارتباطِهِ بالسَّمْتِ الخاصِّ الذي كانَ عليهِ وهو عندَ الكعبةِ، وأُبقي عليه عندَ تحويلِهِ. وتقدَّمَ بيانُ مزيّةِ ذاك السَّمْتِ وسببِها، وهو يَقْتَضي أَنْ يكونَ قَدْرُ ذاكَ السَّمْتِ موقفَ رجلٍ واحدٍ، وهو مقدارُ طولِ المَقام. فكأنَّ المَقامَ - مع مزيّتِهِ - علامةٌ محدَّدةٌ لذاكَ السَّمْتِ، عَلَّمَ المطّلبُ هذا، أَو رأى احتياطَ عمرَ رضيَ اللهُ عنه عند تحويله المقامَ للمحافظةِ على ¬

_ (¬1) ط: "أبي حاتم".

السَّمْتِ، ورأَى أَنَّ المَقامَ لمّا كانَ عندَ البيتِ كانَ السَّمْتُ معلومًا على التحديدِ بالمقامِ نفسِهِ. وكذلك لمّا حوَّلَ المَقامَ على السَّمْتِ، بقيَ السَّمتُ معلومًا على التحديدِ بالمقامِ نفسِهِ، لكنْ إِذا جَرَفَ السيلُ المقامَ، وعَفَّى موضعَه، ولم يكنْ هناك تقديرٌ محفوظٌ: أَشكلَ تحديدُ السَّمْتِ. وكثرةُ رؤيةِ النَّاسِ للمَقامِ في الموضعين لا تضمنُ معرفةَ التحديدِ يقينًا. واعتبِرْ ذلك إِنْ شئتَ في منزلِك: اعْمِدْ إِلى صندوقٍ مثلًا باقٍ منذُ مدّةٍ في موضعٍ واحدٍ إِلى جنبِ جدارٍ مع خُلُوِّ ما عن يمينِه ويسارِهِ, قد شاهدَهُ عيالُك مرارًا لا تُحصى، فَقَدِّرْ في غَيْبَتهم موضعَه بخيطٍ مثلًا، ثُمَّ حوِّلْه إلى موضعٍ آخرَ غيرِ مُسامِتٍ للأَوَّلِ، واكْنِسْ موضعَه، ثمَّ ادْعُهُم واطْلُبْ منهم تحديدَ موضعِه الأَوَّلَ، وانظر النتيجةَ. من الجائزِ أَنْ يكونَ قد اتفقَ لبعضِهم الانتباهُ لعلامةٍ خاصّةٍ تبقى في الأرضِ أَو الجدارِ، لكنْ هذا احتمالٌ فقط. لهذا - واللهُ أَعلمُ - قدَّرَ المطَّلِبُ موضعَ المَقامِ. ولهذا سألَ عمرُ رضي اللهُ عنه النَّاسَ وأَخذَ بتقديرِ المُطَّلِبِ. هذا ما ظهرَ لي في توجيهِ ما اتَّفَقَتْ عليه رواياتُ قصّةِ المُطَّلِبِ على وجهٍ يوافقُ حديثَ عائشةَ رضي الله عنها، وقولَ أَئمّةِ مكّةَ، مع بُعْدِ أَنْ يكونَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - هو الذي حوَّلَهُ ولم يُنقَل ذلك، ولا عرفه أئمةُ مكة. على أنه لو ترجَّح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي حوَّله لكانت الحجّةُ لاختيارِ تأخيرِهِ الآنَ بحالها، بل أَقوى.

فأَمّا القولُ بأَنَّ موضعَه الآنَ هو موضعُهُ الأَصليّ، فهو مِنَ الضَّعفِ بحيثُ لا يحتاجُ إِلى فرضِ صحّتِهِ وما يتبعُ ذلك. واللهُ أًعلمُ. المُعارَضةُ الثانية: قد يُقالُ: ثَبَتَ عن عائشةَ رضي اللهُ عنها أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لها: "ألم تَرَيْ أنّ قومكِ حين بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم؟ " قالت: فقلت: يا رسول الله! ألا تردُّها على قواعد إبراهيم؟ قال: "لولا حَدَثانُ قومك بالكفر لفعلتُ". لفظ البخاري (¬1). وفي رواية له (¬2): "لولا أنّ قومكِ حديثٌ عهدُهم بجاهليّة، فأخاف أن تنكر قلوبهم ... ". وتأخير المقام عن موضعه ممّا تنكره قلوب الناس، فينبغي اجتنابه. والجواب من أوجهٍ: الأول: أنّ بقاء الكعبة على بناء قريش لم يترتّب عليه - فيما يتعلق بالعبادات - خللٌ ولا حرج، ولذلك لم يأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كبار أصحابه ببنائها حين يبعد العهد بالجاهلية، وإنّما أخبر عائشة رضي الله عنها؛ لأنّها رغبَتْ في دخول الكعبة، فأرشدها إلى أن تصلّي في الحِجْر، وبيّن لها أنّ بعضه أو كلّه من الكعبة، قصّرت قريش دونه. ولا أرى عائشة رضي الله عنها كانت ترى إعادة بنائها على القواعد أمرًا ذا بال؛ فإنّه لم يُنقَل أنّها أرسلت إلى عمر أو عثمان رضي الله عنهم تخبرهم ¬

_ (¬1) رقم (1583). (¬2) رقم (1584).

بما سمعَتْ. وفي "صحيح مسلم" (¬1) عنها أنّه - صلى الله عليه وسلم - قال لها: "فإن بدا لقومكِ أن يَبنُوها بعدي فهَلُمِّي لأُرِيكِ ما تركوا منه" أي: من الحِجْر. وصرّح بعض أهل العلم بأنّ إعادة بنائها على القواعد كان هو الأولى فقط. وترجم البخاري في كتاب العلم (¬2) لهذا الحديث: "باب من ترك بعضَ الاختيار مخافةَ أن يقصُرَ فهمُ بعض الناس عنه، فيقعوا في أشدَّ منه". وإبقاء المقام في موضعه - بعد كثرة الناس هذه الكثرة التي عرفناها، ويُنتظر ازديادها - يترتّب عليه الخلل والحرج، كما تقدّم. الوجه الثاني: أنّ الإنكار الذي خشيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مفسدةٌ عظيمة؛ إذ هو إنكار قلوب بعض من دخل في الإِسلام، ولمّا يؤمنْ قلبه. وإنكار هؤلاء هو - والله أعلم - ارتيابهم في صدق قوله؛ إذ قال - صلى الله عليه وسلم - لهم: "إنّ البناء الموجود يومئذٍ ليس على قواعد إبراهيم". يقولون: لا نعرف قواعد إبراهيم إلا ما عليه البناء الآن، ولم يكن أسلافنا ليغيّروا بناء إبراهيم. فيؤدي ذلك إلى تمكن الكفر في قلوبهم. ولهذا - والله أعلم - لم يعلن النبي - صلى الله عليه وسلم - القول، إنّما أخبر به أمّ المؤمنين. ¬

_ (¬1) رقم (1333/ 403). (¬2) (1/ 224 مع الفتح).

وإلى هذا - والله أعلم - تشير ترجمة البخاري في كتاب العلم كما مرّ آنفًا. فأما تفسير بعض الشرَّاح (¬1) إنكار قلوبهم بأن ينسبوه إلى الفخر دونهم، فلا يخفى ضعفه، وأيُّ مفسدةٍ في هذا؟ وقد كان ميسورًا أن يشركهم في البناء، أو يَكِلَه إليهم، ويَدَعَ الفخر لهم. والحامل لهذا القائل على ما قاله: ظنُّه أن المراد بقومها الذين قصَّروا هم الذين بنوه البناء الأخير الذي حضره النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان قبل البعثة بخمس سنين فيما قيل، فرأى ذاك القائل أنه لا مجال للارتياب في صدق القول؛ لأن العهد قريب، وأكثرهم شاهدوا ذلك. والظاهر أن التقصير كان قديمًا، وقد ورد أن قريشًا بَنَتِ الكعبة في عهد قُصيّ، فلعل التقصير وقع حينئذٍ، وإنما بنوها أخيرًا على ما كانت عليه من عهد قصي، وجهل التقصير لطول المدة. والمقصود: أن الإنكار الذي خَشِيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مفسدة عظيمة لا يقاربها إنكار بعض الناس تأخير المقام. والعالم تُعرض عليه الحجة فيزول إنكاره، والجاهل تبعٌ له. وقد جرت العادة بأن الناس يستنكرون خلاف ما ألِفُوه، ولكنه إذا عُمِل به وظهرت مصلحته انقلب الإنكار رضًا وشكرًا. الوجه الثالث: أن المقام نفسه أُخِّر في صدر الإِسلام عن موضعه الأصلي بجنب الكعبة للعلة الداعية إلى تأخيره الآن نفسها، وكان من ¬

_ (¬1) نقله ابن بطال في شرح البخاري (1/ 205) عن أبي الزناد.

المحتمل قبل تأخيره أن تنكره قلوب بعض الناس. فلم يُلتفت إلى ذلك. المعارضة الثالثة: قد يقال: استقرّ المقامُ في هذا الموضع قرابة أربعة عشر قرنًا, ولا شكّ أنّ الحجاج كثروا في بعض السنين، وازدحموا في المطاف، ولم يخطر ببالِ أحدٍ تأخيرُ المقام. وفي ذلك دلالة واضحة على اختصاصه بموضعه الذي استمرّ فيه، إن لم يكن على وجه الوجوب فعلى وجه الاستحباب؛ لأنّ تأخيره لو كان جائزًا لما غفل عنه الناس طول هذه المدة، مع وجود الكثرة والزحام في كثير من الأعوام. أقول: قد تقدّم بيان العلة التي اقتضت تأخير الصحابة رضي الله عنهم للمقام من موضعه الأصليّ، وهي أنّ الطائفين والمصلّين خلف المقام كثروا في عهدهم، وكان ينتظر أن يستمرَّ ذلك ويزدادوا في مستقبلهم إلى ما شاء الله، ورأوا أنّ بقاء المقام بجنب البيت يؤدي - مع تلك الكثرة - إلى دخول الخلل والحرج على الفريقين والعبادتين، ويستمرّ ذلك إلى ما شاء الله، وذلك مخالفٌ للتهيئة المأمور بها. وأرى هذه العلة متحقّقةً الآن على وجه لم يتحقق منذ تأخير الصحابة رضي الله عنهم للمقام إلى هذا العهد الأغرّ. ويمكن استثبات هذا بسؤال الخبراء بالتاريخ. فإذا ثبت هذا؛ فإعراضُ مَن بيننا وبين الصحابة عن تأخير المقام مرّة ثانية محمولٌ على أنّه لعدم تحقّق العلة. وكما أنّ إعراض النبي - صلى الله عليه وسلم - عن تأخير المقام لمّا تبين أنّه لعدم تحقّق

العلة في عهده، لم يمنع الصحابة من تأخيره عند تحقّق العلّة من بعده، فهكذا هذا, ولا يختلف الحال بقصر المدّة وطولها. على أنّه لو فرض أنّ هذه العلّة تحقّقت بتمامها فيما بين عصر الصحابة وعصرنا، ففي أيّ عصر؟ وهل استكملت بالسكوتِ حينئذٍ شرائط الإجماع؟ وقد ذكر ابن حجر الهيتمي في "تحفته" (¬1): أنّ الحاكم النيسابوري - وهو من أكابر القرن الرابع، ولد سنة 321 - قال عند ذكر الحديث في النهي عن الكتابة على القبور: "ليس العمل عليه؛ فإنّ أئمة المسلمين من المشرق إلى المغرب مكتوبٌ على قبورهم، فهو عملٌ أخذ به الخلف عن السّلف". فردّه ابن حجر وقال: "ويُرَدُّ بمنع هذه الكلية وبفرضها، فالبناء على قبورهم أكثر من الكتابة عليها في المقابر المسبّلة، كما هو مشاهد، لا سيّما بالحرمين ومصر، وقد علموا بالنهي عنه، فكذا هي. فإن (¬2) قلت: هو إجماع فعليّ، وهو حجة، كما صرّحوا به. قلت: ممنوع، بل هو أكثريٌّ فقط، إذ لم يُحفَظ ذلك حتّى عن العلماء الذين يرون منعه. وبفرض كونه إجماعًا فعليًّا، فمحلُّ حجيته - كما هو ظاهر - إنّما هو عند صلاح الأزمنة، بحيث ينفذ فيها الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، ¬

_ (¬1) "تحفة المحتاج" (3/ 197). وقول الحاكم في "المستدرك" (1/ 370). وانظر ردّ الذهبي عليه في تلخيصه. (¬2) ط: "قال"، خطأ مطبعي.

وقد تعطّل ذلك منذ أزمنة". ويقول ابن حجر الهيتمي هذا في الكتابة والبناء على القبور، وذلك شائع ذائع، لا يخفى على عالم، وكذلك النهي عنه. فأمّا تحقّق العلة حول الكعبة، فإن فُرِض وقوعه فيما مضى فلم يعلم به من علماء ذاك العصر إلا القليل، ومن الممتنع أن يقوم إجماعٌ صحيحٌ يمنع من العمل بما يأمر به القرآن، أو ممّا أجمع على مثله أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ****

تلخيص وتوضيح

تلخيص وتوضيح يتلخّص ممّا تقدّم: أنّ الآيتين الّلتين صدّرتُ بهما الرسالة وغيرهما من الأدلة، تأمر بتهيئة ما حول البيت للطائفين - مبدوءًا بهم - وللعاكفين والمصلِّين، وأنّ المقصود من التهيئة لهذه الفِرق: تمكينها من أداء تلك العبادات على وجهها بدون خلل ولا حرج. إنّ هذه التهيئة تختلف باختلاف قلّة تلك الفِرق وكثرتها. ففي يوم الفتح كان المهمّ إزالة الشرك وآثاره، وفي حجة أبي بكر رضي الله عنه سنة تسعٍ كان الناس قليلاً، يكفيهم المسجد القديم، ولا يؤدي بقاء المقام في موضعه الأصليّ بلصْقِ الكعبة، وصلاة من يصلّي خلفه، إلى تضييقٍ على الطائفين ولا خللٍ في العبادتين. وفي حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - كثر الحاجّون لأجل الحجّ معه - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكن ينتظر أن تستمر تلك الكثرة في السنين التي تلي ذلك، وكان تأخير المقام حينئذٍ يستدعي توسعة المسجد؛ ليتسع ما خلف المقام للعاكفين والمصلين؛ وكانت بيوت قريش ملاصقة للمسجد، وتوسعته تقتضي هدمَ بيوتهم، وعهدُهم بالشرك قريب، وتنفيرهم حينئذٍ يُخشى منه مفسدة عُظمى لدنو وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلذلك لم يوسِّع النبي - صلى الله عليه وسلم - المسجدَ، وخيَّم هو وأصحابه بالأبطح، وكان يصلِّي هناك. فلما كان في عهد عمر رضي الله عنه كثر الناس كثرةً يتوقع استمرارها في السنين المقبلة، وتمكن الإِسلام من صدور الناس، ولم يبقَ خشيةٌ من نفرة من عساه أن ينفر ممن يهدم بيته, فهدم عمر ما احتاج إلى هدمه من

بيوتهم، ووسَّع المسجد بقدر الحاجة حينئذٍ، وأخَّر المقام،، وزاد مَنْ بعده في توسعة المسجد لِيُخْلُوا المسجدَ القديم للطائفين. ثم لا نعلم: كثُر الحجّاجُ والعمّار بعد ذلك بقدر ما كثروا في هذه السنين. والنظر ينفي ذلك، كما تقدم أولَ الرسالة. وكانوا إذا كثروا في سنة لم ينتظر أن تستمر مثل تلك الكثرة فيما يليها من السنين. وكان المقام في القرون الأولى بارزًا، لم يكن عليه بناء، ولا بالقرب منه بناء. فكان من السهل على الطائفين عند الكثرة أن يطوفوا من ورائه، وَيكُفَّ غيرُهم في ذاك الوقت عن الصلاة خلفه؛ إذ كان يغلب على الناس معرفة أن إيذاء الطائف والمصلي خلف المقام لغيره حرام، وأن المندوب والمستحب إذا لزم من فعله مكروه ذهب أجر, فكيف إذا لزم منه الحرام؟ وأن من ترك المندوب اجتنابًا للمكروه أو الحرام ثبت له أجر ذلك المندوب أو أعظم منه. وما نُقِل عن ابن عمر (¬1) رضي الله عنهما من المزاحمة على استلام الحجر الأسود، إنما معناه: أنه كان يتحمل إيذاء الناس له، إن آذاه أحد منهم، ولا يؤذيهم هو، بل كان ينتظر حتى يجد فُرجةً أخرى فيتقدم، وهكذا. وكان جمهور الصحابة وأفاضل التابعين يتجنبون المزاحمة. **** ¬

_ (¬1) أخرج الترمذي (959) عن عبيد بن عمير أن ابن عمر كان يُزاحم على الركنين زحامًا ما رأيتُ أحدًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله. قال الترمذي: هذا حديث حسن.

إن الحجّاج والعمّار قد كثروا في عصرنا كثرةً لا عهدَ بها، ويُنتظر استمرارها وازديادها عامًا فعامًا، وأصبح المطاف يضيق بالطائفين في موسم الحج ضيقًا شديدًا، يؤدي إلى الحرج والخلل، كما أشرتُ إليه أولَ الرسالة، ولا تتم التهيئة المأمور بها إلا بتأخير المقام، كما تقدم بيانه أيضًا. فصارت الحال أشدَّ مما كانت عليه حين أخَّر عمر رضي الله عنه المقامَ. إن الحكم المتعلق بالمقام - وهو اتخاذه مصلَّى، أي يُصلَّي إليه - لو كان يختص بموضع لكان هو موضعه الأصلي الذي انتهى إليه إبراهيم في قيامه عليه لبناء الكعبة، وقام عليه فيه للأذان بالحج، ونزلت الآية: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} وهو فيه، وصلَّى إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - مرارًا، تلا في بعضها الآية، وهو فيه. فلما أجمع الصحابة رضي الله عنهم على تأخيره، وانتقال الحكم - وهو الصلاة إليه - معه؛ ثبت قطعًا أن الحكم يتعلق به، لا بالموضع، إلا أنه يُراعى ما راعَوه من بقائه على السَّمت الخاص في المسجد، قريبًا من الكعبة القربَ الذي لا يؤدي إلى ضيق ما أمامه على الطائفين. **** إننا نقطع بأن تأخير الصحابة للمقام كان عملًا بكتاب الله تعالى الآمر بالتهيئة للطائفين أولاً، وللعاكفين والمصلِّين بعدهم، واتباعًا لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حقَّ الاتباع بالنظر إلى المقصود الشرعي الحقيقي. وإنه لا يَخدِش في ذلك أن فيه مخالفة صورية. فكذلك إذا تحقق الآن مثل ذاك المقتضي: فالعمل بمثل عمل الصحابة

مع رعاية ما رَاعَوه هو عمل بكتاب الله عزَّ وجلَّ، واتباع لسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، وإجماع المسلمين الإجماعَ المتيقن. ولا يَخدِش في ذلك أن فيه مخالفة صورية. وكما يقول أهل العلم: إن الحكم يدور مع علته. وبعد، ففي علماء المسلمين - بحمد الله عزَّ وجلَّ - من هم أعلمُ مني وأعرف، ولا أكاد أكون - بالنسبة إليهم - طالب علم، ولا سيما سماحة المفتي الأكبر إمام العصر في العلم والتحقيق والمعرفة، الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، مدَّ الله تعالى في حياته، وهو المرجع الأخير في هذا الأمر وأمثاله. وإنما كتبتُ ما كتبتُ لِيُعرَض على سماحته، فما رآه فهو الأولى بالحق، والحقيق بالقبول. وكما قلت في أول الرسالة: "ما كان فيها من صواب فمن فضل الله عليَّ وعلى الناس، وما كان فيها من خطأ فمني، وأسأل الله التوفيق والمغفرة". والحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على خاتم المرسلين، وإمام المهتدين محمَّد وعلى آله أجمعين.

الرسالة الخامسة عشرة رسالة في توسعة المسعى بين الصفا والمروة

الرسالة الخامسة عشرة رسالة في توسعة المسعى بين الصفا والمروة

بسم الله الرحمن الرحيم قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158]. الصفا والمروة معروفان، نصّت الآية على أنّهما شعيرتان من شعائر الله، والعبادة المتعلقة بهما هي التَّطَوُّف بهما، وبينته السنةُ بما هو معروف. قام النبي - صلى الله عليه وسلم - أول مرّة على موضع مخصوص من الصفا لا تُعرف عينُه الآن، ثم سعى إلى المروة فقام [في] موضع مخصوص منها كذلك، ثم عاد في الشوط الثاني إلى الصفا كالمروة، وهكذا سبعًا، قد يكون قام ثانيًا وثالثًا ورابعًا على الموضع الأول من كلٍّ منهما أو على ما يقرب منه، ثم أُقيم بعد ذلك (¬1) حاجزٌ حصر الموضع الذي يُقام عليه من كلًّ منهما في مقدار معين، وكان ذلك المقدار يتّسع للناس فيما مضى، وأصبح الآن يضيق بهم، فهل يمتنع توسيعه وقوفًا على عمل من مضى؛ وإن ضاق وضاق؟ أم ينبغي توسيعه؟ لأنّ نصّ الكتاب ورد على "الصفا والمروة" وهما أوسع من ذاك المقدار. وحَصْرُ من مضى لذاك المقدار قد يكون لمزاحمة الأبنية وكفاية ذاك المقدار للناس إذ ذاك، فلم تَدْعُ الحاجةُ حينئذٍ لتوسعته بهدم الدور. وهكذا يأتي في المسعى، أي: الطريق الذي يقع فيه السعي، فإنه واقع بين الأبنية من الجانبين، يتّسع تارة، ويضيق أخرى، وذلك يدلُّ على أنّه لم يُحدَّدْ، ولم يجئ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من أصحابه ومَن بعدهم بيانٌ ¬

_ (¬1) كتب فوقها بخط دقيق غير واضح أربع كلمات (يوم في زمنها العصور المتصل).

لتحديد عرض المسعى، إلا ما ذكره الأزرقي (¬1) في زمانه: أنّه ذَرَع ما بين العَلَمَين الأخضرين اللّذَين يَلِيانِ المروةَ، فوجد ذلك خمسة وثلاثين ذراعًا ونصفَ ذراعٍ. وهذا المقدار لا يستمرُّ في بقية المسعى ويظهر [كما هو ثابت] عند الأزرقي أنَّ موضع هذه الأعلام ليس من المسعى الأصلي، وإنّما هو مما حوّله المهدي العباسي إليه. وعدمُ مجيء شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2) وأصحابه في تحديد عرض المسعى يُشْعِر بأنّ تحديده غير مقصود شرعًا؛ وإلا لكان لتعرُّضِه لمزاحمة الأبنية أولى بالتحديد من عرفات ومزدلفة ومنى، وقد ورد في تحديدها ما ورد. فهل يبقى المسعى كما هو، وقد ضاق بالسّاعين وأَضرَّ بهم؟ أم ينبغي توسعته؟ لأنّ المقصود هو السعي بين الصفا والمروة، وهو حاصل في المقدار الذي توسع به هذا الشارع، كما هو حاصل في هذا الشارع نفسه. والله تبارك وتعالى عالم الغيب والشهادة لا يُكلِّف خلقَه بعبادة إلا ويُيسَّرها لهم أو يُرخِّص لمن شقّ عليه شيء منها أن يدَعَ ما شقَّ عليه، وقد أصبح السعي بحيث يضيق بالناس في أيام الموسم ويشقُّ عليهم، ولا سيَّما على النساء والضعفاء والمرضى، بل يلقَى منه الأقوياء شدّة، وسيزداد الحُجّاج إن شاء الله كثرةً سنةً بعد سنة. ¬

_ (¬1) "أخبار مكة" (2/ 119). (¬2) أشار لها بـ (ص) لضيق المكان.

في "النهاية" لمحمد الرملي الشافعي (ج 2 ص 416): "لم أرَ في كلامهم ضبطَ عرضِ المسعى، وسكوتهم عنه لعدم الاحتياج إليه، فإنّ الواجب استيعاب المسافة التي بين الصفا والمروة كل مرة، ولو التوى في سعيه عن محلِّ السعي يسيرًا لم يضرّ، كما نصّ عليه الشافعي". وقال النووي في "شرح المهذب" (ج 8 ص 76): "وقال الشافعي والأصحاب: لا يجوز السعي في غير موضع السعي، فلو مرّ وراء موضع السعي في زقاق العطّارين أو غيره لم يصحّ سعيُه؛ لأنّ السعي مختصّ بمكان، فلا يجوز فعله في غيره كالطواف ... ، قال الشافعي في القديم: فإن التوى شيئًا يسيرًا أجزأه، وإن عَدَل حتى يفارق الوادي المؤدّي إلى زقاق العطّارين لم يَجُز، وكذا قال الدارمي: إن التوى في السعي يسيرًا جاز، وإن دخل المسجد أو زقاق العطارين فلا. والله أعلم". قوله: "لا يجوز السعي في غير موضع السعي"، يتبادر منه المكان المحدّد. ويحتمل أن يُراد: المكان المُعَدّ للسعي، فيشمل ما زاد على المسعى القديم توسعةً له. [ص 2] وقوله: "كالطواف" يُعيِّن المعنى الثاني، فإن المكان الذي يختصّ به الطواف لا يقتصر على ما كان في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد كان المسجد في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الموضع المعروف الآن بالمطاف، وكان الطواف لا يجوز خارجه، ثم وُسّع المسجد مرة بعد أخرى. واتفق أهل العلم على أنّ ما زِيد في المسجد فصار منه؛ صحّ الطوافُ فيه، وإذا صح هذا في المطاف مع مشاركة الاعتكاف والصلاة وغير ذلك للطواف في الأحكام أنه تثبت تلك الأحكام كلها للزيادة ثبوتَها للأصل؛ ففي

المسعى أولى. والأصل في هذا قول الله تبارك وتعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125]. والتطهير يشمل التطهير من الأرجاس المعنوية والحسية. والطوافُ والعكوفُ والصلاة موضعُها حولَ البيت، فما حولَ البيت داخل في الأمر بالتطهير. فأَمْرُ الله تعالى تطهيرَ ما حول البيت للطائفين والعاكفين والمصلين، كما يُوجب تطهيرَ الموضع لهؤلاء، يقتضي أن يكون الموضع بحيثُ يَسَعُهم، ولا تقتضي الحكمة أن يُوسَّع الموضع من أول مرّة إلى الغاية التي يُعلم أنّه لن يضيق بالناس مهما كثروا إلى يوم القيامة، وإنّما تقتضي أن يكون أوّلًا بحيث يكفي الناسَ في ذاك العصر، ومع ذلك فلا ريبَ أن النّاس إذا كثروا بعد ذلك ولم يَسَعْهم الموضع وجب توسعته بدلالة الآية, لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم أُمّته مِن بعده مُخَاطَبون بما خُوطِب به إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام من تطهير ما حولَ البيت للطائفين والعاكفين والمصلّين، أي: بالقدر الذي يكفيهم كما مرّ. وبهذا جَرى عملُ الأمة؛ فقد وُسِّع المسجد في عهد عمر، ثم في عهد عثمان، ثم في عهد ابن الزبير رضي الله عنهم، ثم بعد ذلك، وأكرم الله عزَّ وجلَّ إمام المسلمين صاحب الجلالة الملك سعود بن عبد العزيز - أيّده الله - لهذه التوسعة العظيمة. ولعلها مهما عَظُمت لا تكون آخرَ توسعةٍ. وهذه التوسعات كلها عملٌ بالآية. وتوسعة المسجد هي نفسها توسعةٌ للمطاف، لاتّفاق العلماء على صحة

الطواف فيما يُزاد في المسجد، غير أنّ منهم من شرطَ أن لا يَحُول بين الطائف والكعبة بناء، ولهذا ولأن ما وراء الموضع المعروف بالمطاف الآن غير مهيّأ للطواف، ويكون فيه المصلّون والجالسون والمشاة وغيرهم فيشقُّ الطواف فيه، لِمَا ذُكر = اقتصر الناس على الموضع المعروف بالمطاف، وأصبح يضيق بهم جدًّا أيامَ الموسم، فدعت الحاجة إلى توسعته، وبلغني أنّ التوقف عن ذلك منشؤه التوقف عن تأخير مقام إبراهيم. والبحث في مقام إبراهيم يطول، غير أنّه يمكن اختصاره بأنّ توسعة المطاف واجبة [ص 3] قطعًا عند تحقُّق الضيق كما اقتضته الآية، والأمر بتطهير الموضع للطائفين وغيرهم يستلزم الأمر بتهيئته لهم، وإبقاءُ مقام إبراهيم في مكانه يُنافِي ذلك، وليس على إبقائه حُجة تترجّح على هذه الحجة أو تُكافِئها. والمقام: هو الحَجَر المعروف، وأصله كما في "صحيح البخاري" (¬1) في ذكر إبراهيم من أحاديث الأنبياء عن ابن عباس: أنّ إبراهيم عليه السلام كان يقوم عليه وهو يبني الكعبة عندما ارتفع البناء. وعلى هذا فموضعه في الأصل عند جدار البيت، وأكثر الروايات وأثبتُها أنّ عمر هو الذي أخّره إلى موضعه الآن، وقيل: أخّره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: جاء الإسلام وهو في محلِّه الآن، وأيًّا ما كان فإنّما أُخّر لئلا يُضيّق هو والمصلُّون خلفه على الطائفين، كما نبّه عليه ابن حجر في "الفتح" (ج 8 ص 129) (¬2). فهذا المعنى هو الموجب لتأخيره. ¬

_ (¬1) رقم (3364). (¬2) (8/ 169) ط. السلفية.

وفي تأخيره لهذا المعنى الشهادةُ لهذا المعنى بأنّه موجب لتأخير المقام؛ فإن كان أُخّر قبل الإسلام فقد أقرّه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي أخّره فالأمر أوضح، وإن كان عمر هو الذي أخّره فإنّما عمِلَ بدلالة القرآن كما مرّ، وكأنّ الضيق إنّما تحقّق في عهده حين أكثر المسلمون، ومع دلالة القرآن عملُ الخليفةِ الراشد، وإجماع الصحابة فمن بعدهم، ودلالة القرآن مستغنية بنفسها. وهذا المعنى الذي اقتضى تأخيره إذ ذاك قائم الآن، فاقتضاؤه للتأخير الآن بغاية الوضوح. فأمّا ما رُوي (¬1) أنّ السيلَ احتمله في عهد عمر، فتحرّى عمر إعادته في مكانه, فكأنّ عمر لمّا أخّره قبل ذلك تحرّى أن يبقى مع تأخيره مُسامتًا (¬2) للموضع الذي كان يليه من جدار الكعبة لا يميل عنه يَمْنةً ولا يسرةً؛ لأنّ المعنى المذكور إنما أوجب التأخير فاقتضى .... (¬3)، فلمّا احتمله السيلُ بعد ذلك تحرّى عمر إعادته إلى مكانه لأجل المسامتة. وعلى القول بأنّه أُخِّر قبل عمر فتحرِّيه إعادته إلى مكانه قد تكون لما ذُكِر، وقد تكون لأنّه لم يكن يرى إذ ذاك داعيًا (¬4) لتحويله؛ لأنّه لم يكن قد حصل به التضييق. وعلى ما ذكر فإذا أُخِّر الآن فينبغي أن لا يخرج به عن مسامتة الموضع الذي يُسامِته الآن من الكعبة لا عن يَمْنة ولا يَسْرة. فأمّا ما اشتهر أنّ موضعه الأول كان في الحفرة المحدثة إلى جانب ¬

_ (¬1) أخرجه الأزرقي في "أخبار مكة" (2/ 35). (¬2) في الأصل كلمة غير واضحة. وهكذا قدرتها. (¬3) كلمتان إحداهما لم أتبينها والأخرى لم تظهر في التصوير. (¬4) في الأصل: "داع".

الباب فهذا لم يثبت، وأقوى شيء فيه ما ذكره الأزرقي في "تاريخه" (1/ 239) (¬1): روى عن جده ثنا داود بن عبد الرحمن [عن ابن جريج عن كثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة السهمي عن أبيه عن جده قال: كانت السيول تدخل المسجد الحرام من باب بني شيبة الكبير قبل أن يردم عمر بن الخطاب الردم الأعلى، وكان يقال لهذا الباب باب السيل، قال: فكانت السيول ربما دفعت المقام عن موضعه، وربما تحته إلى وجه الكعبة، حتى جاء سيل في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقال له سيل أم نهشل ... إلى آخر الخبر] (¬2). وقد يمكن الجمع بين تهيئة المطاف والمحافظة على موضع المقام في الجملة، بأن يُهْدَم البناء ويعلّم موضع المقام بعلامة ثابتة، ثم يوضع في صندوق ثقيل وتُجعل له ظُلَّة خفيفة على عَجَل، ففي أيام الموسم يؤخَّر الصندوق بالظلَّة إلى حيث تدعو الحاجة مع المحافظة على السمت، ثم عند زوال الموجب يعاد إلى موضعه الآن. وكالحكم في المطاف الحكم في المسعى، أَمْرُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ بالسعي بين الصفا والمروة يوجب تهيئة موضع يسعى الناسُ فيه يكون بحيث يكفيهم، فإذا اقتصر من مضى على موضع يكفي الناسَ في عصرهم، ثم ضاق بالناس فصار لا يكفيهم، وجبَ توسعته بحيث يكفيهم، وإذا وُسِّع الآن بحيث يكفي الناس، فقد يجيء زمان يقتضي توسعته أيضًا. هذا، وقد جرى تغييرٌ للمسعى في بعض جِهاته في زمن المهدي ¬

_ (¬1) (2/ 33) ط. رشدي ملحس. (¬2) ما بين المعكوفين من كتاب الأزرقي.

العباسي، ففي تاريخ الأزرقي (ج 2 ص 59 - 60) (¬1) في زيادة المهدي سنة 160 فما بعدها: "ودخلت أيضًا دار خيرة بنت سباع الخزاعية، بلغ ثمنها ثلاثة وأربعين ألف دينار دُفِعت إليها، وكانت شارعة على المسعى يومئذ قبل أن يؤخَّر المسعى". وفيه (ص 63) (¬2) في ذِكْر زيادة المهدي الثانية: "وكان المسعى في موضع المسجد الحرام اليوم". [ص 4] وفيه (ص 64) (¬3): "واشتروا الدور وهدموها، فهدموا أكثر دار ابن عباد بن جعفر العائذي، وجعلوا المسعى والوادي فيها .... ". ويشهد لهذا انحراف المسعى في ذاك الموضع، وكأنّه كان قبل ذلك على خط مستقيم بين الصفا والمروة، أو أدنى إلى الاستقامة. وذكر القطبي في تاريخه (ص 47 من الطبعة الأولى) هذا التحويلَ ثم قال: "وههنا إشكال لم أرَ من تعرّضَ له، وهو أن السعي بين الصفا والمروة من الأمور التعبدية التي أوجبها الله علينا في ذلك المحلّ المخصوص، ولا يجوز لنا العدول عنه، ولا تُعتبر تلك العبادة إلا في ذلك المكان المخصوص الذي سعى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه، وعلى ما ذكره هؤلاء الثقات أدخل ذلك المسعى في الحرم الشريف، وحُوَّل المسعى إلى دار ابن عباد كما تقدم، وأمّا المكان الذي يُسعى فيه الآن فلا يتحقَّق أنه بعض من المسعى ¬

_ (¬1) (2/ 74, 75) ط. رشدي ملحس. (¬2) (2/ 79). (¬3) (2/ 80).

الذي سعى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو غيره، فكيف يصحّ السعيُ فيه وقد حُوِّل عن محلّه كما ذكر هؤلاء الثقات؟ ولعلّ الجواب عن ذلك أنّ المسعى في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان عريضًا، وبُنيت تلك الدور بعد ذلك في عَرْض المسعى القديم فهدمها المهدي وأدخل بعضها في المسجد الحرام، وترك بعضها للسعي فيه، ولم يحوّل تحويلًا كليًّا، وإلا لأنكره علماء الدين من العلماء المجتهدين رضي الله عنهم أجمعين مع توفُّرهم إذ ذاك، فكان الإمامان أبو يوسف ومحمد بن الحسن رضي الله عنهما والإمام مالك رضي الله عنه موجودين [] (¬1)، وقد أقرُّوا ذلك وسكتوا. وكذلك مَن صار بعد ذلك الوقت في رتبة الاجتهاد، كالإمام الشافعي وأحمد بن حنبل وبقية المجتهدين رضي الله عنهم فكان إجماعًا .... وبقي الإشكال في جواز إدخال شيء من المسعى في المسجد، وكيف يصير ذلك مسجدًا، وكيف حال الاعتكاف فيه؟ وحلُّه بأن يُجعل حكم المسعى حكم الطريق، فيصير مسجدًا ويصحُّ الاعتكاف فيه، حيث لم يضر بمن يسعى، فاعلم ذلك، وهذا مما انفردتُ ببيانه ولله الحمد". أقول: أمّا أوّل كلامه فيكفي في الجواب عنه الاعتبار بالمطاف، للاتفاق على صحة الطواف فيما زيد في المسجد في غير الموضع الذي طاف فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -، والذي كان في عهده لا يجوز الطواف إلا فيه. ¬

_ (¬1) لعل هنا تكملة لم تظهر في التصوير لعدم وضوح الأصل.

وأمّا حدسه "أنّ المسعى كان عريضًا فبُنِيَت فيه الدور"، فيَخْدِش فيه أنّ المسعى لو كان محدّدًا لبعُدَ أن يجترئ الناسُ على البناء فيه، ويُقِرّهم العلماء والأمراء، حتى يشتري المهدي منهم تلك الدور بأغلى الأثمان. ثم على فرض صحة هذا الحدس فلم يُجعل المسعى أوّلًا عريضًا إلا لترقُّب أن يكثر الناس فلا يسعهم ما دونه، وعلى هذا فقد كان يجب أن ينكر أهلُ العلم فعل المهدي، قائلين: إنّ هذا الذي أبقيتَ، وإن كان يكفي الناسَ الآن، فقد يكثرون فيما بعد ويضيق بهم، [ص 5] ولا يمكن أن يرد إليه هذا الذي تريد إدخاله في المسجد كما يمكن هدم الدور؛ لأنّه لا يمكن إزالة حكم المسجد ولا جَعْلُه مسجدًا ومسعى معًا؛ لأن كلاًّ منهما يختصّ بحكم، فالحائض ليس لها أن تلبث في المسجد؛ ولها الّلبث في المسعى، فلو طافت المرأة للإفاضة طاهرًا، وبقي عليها السعي فحاضت عقب الطواف، أمكنها أن تسعى في المسعى وتُتمّ نُسكَها وتسافر، ولا يمكنها ذلك في المسجد، إلى غير ذلك من الأحكام. فلو صحّ حَدْس القطبي لدلّ إقرار أهل العلم له على أنّهم يرون جواز توسعة المسعى من الجانب الآخر، فيرون أنّه إذا ضاق ما أبقاه المهدي من المسعى بالناس أمكن توسعة المسعى من الجهة الأخرى، فهذا أيضًا يدلُّ على جواز التوسعة كما ترى. وقد يقال بناءً على حَدْس القطبي: لعل أهل العلم إذ ذاك علموا أنّ المسعى في الأصل حَصَرَ جميعَ ما بين الصفا والمروة، وأنّه لا يمتنع البناء فيما زاد على الحاجة، فإذا زادت الحاجة هُدِم من الأبنية ما تُوفي به الحاجة، فعلى كلّ حال لا بدّ من التوسعة عند الحاجة.

هذا، وإن الله تبارك وتعالى وضع البيت ولم يكن فيما حوله حقٌّ لأحد, ثم جعل له حِمًى واسعًا وهو الحرم الذي لا يحلُّ صيده، ولا تُعضَد شجره، فهذا الحرم كلّه من اختصاص البيت تقام فيه مصالِحُه، غير أنّه [يجوز] للناس أن يضعوا أيديهم على ما زاد عن مصالح البيت وينتفعوا به، على أن مصالح البيت [إن احتاجت] (¬1) يومًا ما إلى شيء مما بأيدي الناس من الحرم أُخِذ منهم، ووُفّيت به مصالح البيت. وإلى هذا يشير قول عمر للذين نازعوا في بيع دورهم لتوسعة المسجد قال: "إنما نزلتم على الكعبة فهو فناؤها, ولم تنزل الكعبة عليكم". تاريخ الأزرقي (ج 2 ص 55). فما حول الكعبة هو من اختصاصها, ليُجعَل منه مسجدٌ يُطاف فيه ويُعكَف ويُصلَّى، فإذا جُعِل بعضُه مسجدًا صار مسجدًا، وبقي الباقي صالحًا لأَنْ يزاد في المسجد عند الحاجة، فما زيد فيه صار منه. وما بين الصفا والمروة من اختصاصهما ليجعل منه مسعى يُسعى فيه بينها، فإذا جُعل بعضُه مسعى صار مسعى يصحّ السعي فيه، وبقي الباقي صالحًا لأن يُزاد في المسعى عند الحاجة، فما زيد فيه صار منه. والكعبة هي الشعيرة في الأصل، شُرِعَ الطوافُ بها والعكوف عندها والصلاة، وهذه الأمور لا بُدَّ لها من موضع، فهو حولها، فالموضع كالوسيلة ليكون فيه الطواف بالكعبة وغيره. وهكذا الصفا والمروة هما الشعيرتان بنصّ القرآن، فأمّا ما بينهما فهو بمنزلة الوسيلة ليسعى فيه بينهما، والوسائل تحتمل أن يُزاد فيها بحسب ما ¬

_ (¬1) طمس في الأصل، لعله ما أثبته.

هي وسيلة له، كطواف الطائفين، وسعي الساعين، ولا يجب أن تُحدَّد تحديدَ الشعائر نفسها. والله الموفق.

الرسالة السادسة عشرة رسالة في سير النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحج والكلام على وادي محسر

الرسالة السادسة عشرة رسالة في سير النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحج والكلام على وادي محسِّر

بسم الله الرحمن الرحيم في "الصحيحين" (¬1) وغيرهما عن هشام بن عروة عن أبيه قال: سُئل أسامةُ وأنا جالس: كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسير في حجة الوداع حينَ دَفَع؟ قال: "كان يسيرُ العَنَقَ، فإذا وجدَ فجوةً نصَّ". لفظ البخاري، وزادا في رواية: "قال هشام: والنصُّ فوق العَنَق". المشهور أن العَنَق سيرٌ فيه إسراع، وقد يَرِدُ على ذلك أنّ في روايةٍ في "صحيح مسلم" (¬2). عن أسامة بن زيد: "فما زال يسير على هيئته (ويُروى: على هِينَتِه) حتى أتى جَمْعًا". وفي روايةٍ في "المسند" (¬3) سندها صحيح: "فجعل يَكْبَحُ راحلتَه حتى إنّ ذِفْرَاها لتكاد تُصِيب قادمةَ الرَّحْل، وهو يقول: يا أيها الناس، عليكم بالسكينة والوقار، فإن البرَّ ليس في إيضاع الإبل". وفي أخرى (¬4) سندها حسن: "فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا الْتحَمَ عليه الناسُ أعنقَ، وإذا وجدَ فُرْجةً نصَّ". وفي "المسند" و"صحيح مسلم" (¬5) في حديث جابر: "وقد شَنَقَ ¬

_ (¬1) البخاري (1666) ومسلم (1286). (¬2) رقم (1286/ 282). (¬3) رقم (21756, 21803). (¬4) رقم (21760، 21761). (¬5) "صحيح مسلم" (1218). وحديث جابر في "المسند" (14440)، وليس فيه هذا اللفظ.

للقصواء الزِّمامَ، حتى إن رأسَها لَيصيبُ مَوْرِكَ رَحْلِه، ويقول: أيها الناس السكينةَ السكينةَ، كلَّما أتى حَبْلًا من الحِبال (¬1) أرخَى لها حتى تَصعَد". وفي معنى ذلك أخبار أخرى، فأيُّ إسراعٍ يكون لناقةٍ مُنوَّقةٍ، مشنوقٍ لها الزمامُ أشدَّ الشَّنْقِ، ملتحمٍ عليها المشاةُ والركبان؟ وقد يُجاب بأن العَنَق في الأصل كما هو في "الفائق" (¬2): "الخَطْو الفسيح"، فالسرعة فيه من جهة سعة الخطو، لا من جهة سرعة تتابُعِه، والإبلُ بطبيعة حالها واسعةُ الخطو. وفي "فقه اللغة" للثعالبي (¬3): "فصل في ترتيب سير الإبل: عن النضر بن شُميل: أولُ سيرِ الإبل الدَّبيبُ، ثم التزيُّد، ثم الذَّمِيل، ثم الرَّسِيم ... ، فصل في مثل ذلك عن الأصمعي: العَنَق من السير المُسْبَطِرّ، فإذا ارتفع عنه قليلًا فهو التزيد، فإذا ارتفع عن ذلك هو الذَّميل، فإذا ارتفع عن ذلك فهو الرَّسِيم". وقضيةُ هذا أن أول سير الإبل يسمَّى عَنَقًا. وبعدُ، فقد عُرِف بالوصف حقيقةُ سيرِ ناقتِه - صلى الله عليه وسلم - عند الازدحام. فأما النصُّ فهو كما قال هشام فوق ذلك، كأنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا وجد فجوةً أي خُلوًّا عن المزاحمين أرخَى الزِّمامَ، فتُسرِع قليلًا بطبيعة حالها. ولم يُعيِّن الصحابة مواضعَ تلك الفَجَوات؛ لأنه لا دَخْلَ لخصوص المكان فيها، وإنما المدار على الخُلوِّ من المزاحمين كما مرّ. ¬

_ (¬1) الحبل: التلّ اللطيف من الرمل الضخم. وفي "شرح السنة" (7/ 165): الحبال ما كان دون الجبال في الارتفاع. (¬2) (1/ 429). (¬3) (ص 203).

وقد عُلِم مما مرَّ أنه من عرفةَ إلى مزدلفةَ لم يُسرِع النبي - صلى الله عليه وسلم - فوق العادة، وأنه ليس بينهما مكانٌ يُشْرَع فيه الإبطاء أو الإسراعُ المعتاد، وإنما المدار على الزحام وعدمه. فأما من مزدلفةَ إلى جَمْرةِ العقبة ففي "المسند" (¬1) بسند صحيح عن أسامة: "لما دَفَعَ من عرفةَ ... كَفَّ رأسَ راحلته، حتى أصاب رأسُها واسطةَ الرَّحْل أو كاد يُصيبه، يشير إلى الناس بيده: السكينةَ السكينةَ، حتى أتى جَمْعًا، ثم أردف الفضلَ بن عباس ... فقال الفضل: "لم يزلْ يَسير سَيْرًا لينًا كسَيْره بالأمس حتى أتى على وادي مُحسِّر، فدَفَعَ في حتى استوتْ به الأرضُ". وفي حديث جابر في "المسند" و"صحيح مسلم" (¬2) وغيرهما: "حتى أتى بطنَ محسِّر، فحرَّك قليلًا". وفي "سنن النسائي" (¬3) من حديث أبي الزبير عن جابر: "أفاض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليه السكينة، وأمرهم بالسكينة، وأوضَعَ في وادي مُحسِّر ... ". وهو في "المسند" وبقية السنن, قال الترمذي: "حسن صحيح". وفي بعض رواياته في "المسند" و"سنن ابن ماجه" (¬4): "وقال: لِتأخُذْ أمتي نُسكَها، فإني لا أدري لَعلِّي لا ألقاهم بعد عامي هذا". ¬

_ (¬1) رقم (21812). (¬2) مسلم (1218). وليس في "المسند" هذا اللفظ. (¬3) (5/ 258). وهو في "المسند" (15207)، وأخرجه أبو داود (1944) والترمذي (886) وابن ماجه (3023) أيضًا. (¬4) "المسند" (14553، 14946) وابن ماجه (3023).

[ص 2] وفي "المسند" و"سنن الترمذي" (¬1) من حديث علي: " ... ثم أفاض حتى انتهى إلى وادي مُحسِّر، فقَرَع ناقته، فخَبَّتْ به حتى جاوز الوادي"، لفظ الترمذي، وقال: "حسن صحيح". في هذه الأحاديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خصَّ واديَ مُحسِّر دون ما قبله وما بعده بأن قرعَ ناقتَه فيه لِتُسرِع فوق العادة، ولم يكن لذلك سببٌ طبيعي، ففهمَ الصحابة رضي الله عنهم أن ذلك لأمرٍ شرعي، وأن مثل ذلك الإسراع مشروع في ذلك المكان، ولذلك نَصُّوا عليه وفاءً بما أُمِروا به من التبليغ، وعَمِلوا به بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، جاء ذلك عن عمر وابن عمر، وأخذتْ به الأمة، فهو سنة ثابتة. وهل يُشرَع مثلُ ذلك الإسراع عند المرور بمُحسِّر في الطلوع إلى عرفةَ وعند المرور به في غير الحج؟ لم أجِدْ دليلاً خاصًّا على ذلك، وقد يُستدلّ على عدمه بأنه لم يُنقَل أنه - صلى الله عليه وسلم - أسرعَ فيه عند طلوعه إلى عرفة، وقد يُدفَع هذا باحتمال أنه عند الطلوع لم يكن قد أمر بالإسراع، فتركَه لأنه لم يكن مشروعًا حينئذٍ، أو لعله أسرعَ ولم يُنقَل ذلك؛ لأنهم لم يَعتنُوا ببيان سَيْرِه في طلوعه كما اعتنَوا ببيان سيره في نزوله، واكتفاءً بدلالة إسراعه به في نزوله على أن الإسراع فيه مشروعٌ مطلقًا. فما هذه الدلالة؟ مدارها على المعنى الذي لأجله شُرِع الإسراعُ، وفي ذلك أقوال: الأول: أن ذلك الوادي مأوًى للشياطين، وكأن هذا مأخوذ من قصة الوادي الذي نام فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه عن صلاة الصبح، فلما استيقظوا وقد طلعت الشمسُ أمرهم بالخروج منه، وعلَّل ذلك بأن فيه شيطانًا، ¬

_ (¬1) "المسند" (562) والترمذي (885).

فاقْتادُوا رواحلَهم حتى خرجوا منه، فصلَّى بهم (¬1). ويردُّ هذا أن الخروج إنما كان لمصلحة الصلاة، لا لكراهية الكون في الوادي، فقد باتوا فيه وناموا. وأيضًا فلم يُسرِع، ولا أمرهم بالإسراع في خروجهم. الثاني: أن النصارى كانوا يقفون بمُحسِّر، فأوضعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - مخالفةً لهم. وكأنّ هذا مأخوذ مما رُوِي أن عمر قال وهو يُوضِعُ: إليك تَعْدُو قَلِقًا وَضِينُها مُعترِضًا في بطنِها جنينُها مخالفًا دينَ النصارى دينُها (¬2) ولا يخفى أن هذا لا يدلُّ على أن النصارى كانوا يقفون بمحسِّر، ويكفي في معنى البيت مخالفةُ النصارى في شركهم وعدمِ حجِّهم. وأيضًا فلو ثبت أنهم كانوا يقفون به فالمخالفةُ تحصلُ بعدم الوقوفِ، فلا تقتضي الإسراعَ. الثالث: أن المشركين كانوا يقفون به يتفاخرون بآبائهم. وكأن هذا مبنيٌّ على الذي قبله، ولكن لما كانت دعوى وقوف النصارى لا سندَ لها أبدلوا بالمشركين, لأنه قد رُوِي ما يُشبه ذلك (¬3) في تفسير قوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة: 200]. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (680) وغيره من حديث أبي هريرة. (¬2) أخرجه الشافعي في "الأم" (3/ 552) وابن أبي شيبة في "المصنّف" (15889، 26564). والأبيات بلا نسبة في "اللسان" (قلق، وضن). (¬3) انظر ما رُوي في هذا الباب في "الدر المنثور" (2/ 444 - 446).

ويردُّه أنه إذا كانت الآية تشير إلى ذلك فإنها تشير إلى أن ذلك كافٍ عند قضاء المناسك، وأكثر الروايات توافق ذلك، وأنهم كانوا يتفاخرون بمنى، وفي بعضها: عند الجمرة، وفي بعضها: يوم النحر. وليس في الروايات ذِكرٌ لمُحسِّر. وأيضًا فمخالفتهم في ذلك لا تقتضي الإسراع. الرابع: وهو المشهور أن وادي مُحسِّر موضعٌ نزل به عذاب، قال ابن القيم في "الهَدْي" (¬1): "فلما أتى بطنَ محسِّر حرَّك ناقته وأسرعَ السير، وهذه كانت عادتَه في المواضع التي نزلَ فيها بأسُ الله بأعدائه، فإنَّ هنالك أصاب أصحابَ الفيل ما قصَّ الله علينا, ولذلك سُمِّي ذلك الوادي وادي مُحسِّر، لأن الفيل حَسُرَ فيه، أي أعيا وانقطع عن الذهاب. وكذلك فعلَ في سلوكه الحِجْرَ وديارَ ثمود، فإنه تَقنَّع بثوبه وأسرع السيرَ (¬2)، ومُحسِّر برزخ ... ". وسيأتي بقية عبارته. وهذا القول مقبول، وشاهده - وهو الإسراع في أرض ثمود - منقول، ووَجِيهٌ أن يُكرَه الكونُ بمنازل غضب الله عَزَّ وَجَلَّ فوق ما لا بدَّ منه من المرور السريع، كما يُستَحَبّ الكونُ واللبثُ بمنازل بركة الله عَزَّ وَجَلَّ كمكة والمدينة. ولا يخَدِشُ في هذا الوجه الوجيه أن نجهل ما هو العذاب الذي نزلَ بمُحسِّر، فإنّ ما ذكروه من أنه عذاب أصحاب الفيل، وأن الفيل حُبِسَ هناك، متعقَّب بأن المعروف في الأخبار والأشعار والآثار أن ذلك كان بالمغمَّس (¬3) حذاءَ عرفة، [ص 3] وأن الفيل حُبِس دون الحرم، لكن لا مانع ¬

_ (¬1) "زاد المعاد" (2/ 236). (¬2) أخرجه البخاري (3380) ومسلم (2980) من حديث ابن عمر. (¬3) انظر "سيرة ابن هشام" (1/ 47، 48) و"تاريخ الطبري" (2/ 132).

فصل

أن تكون طليعة من أصحاب الفيل تقدَّمت الفيلَ والجيشَ فبلغتْ مُحسِّرا. وقيل: إن العذاب هو أن رجلاً اصطادَ فيه، فنزلتْ نار فأحرقتْه. وقد علمتَ أن وجاهة القول الرابع لا يَخدِش فيها الجهلُ بتعيين العذاب. وإذا كان ذاك المعنى هو المتجه فلا ريبَ أن اقتضاءه للإسراع في مُحسِّر كراهيةُ الكون به فوق ما لا بُدَّ منه من المرور السريع، لا يختص بالحاجّ المفيض من مزدلفة، فيُلْحَق به غيره استنباطًا، والله أعلم. فصل إذا ثبت أن مُحسِّرًا يُكرَه الكون به فوق ما لا بدَّ منه من المرور السريع، وجب أن لا يكون من البقعة التي شُرِعت فيها البيتوتةُ لياليَ التشريق، والكون بها بقيةَ نهار الثامن وليلة التاسع ويوم النحر وأيام التشريق، وهي منى، فلا يكون مُحسِّر من منى في الحكم، فأما في الاسم فقد جاء ما يدل على أنه من مزدلفة في الاسم مع خروجه منها في الحكم، وجاء ما يدل على أنه من منى في الاسم، وجاء ما يدل على أنه ليس من منى ولا مزدلفة. فأما الأول: فأخرجه ابن جرير في "تفسيره" (¬1) عن زيد بن أسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "عرفةُ كلها موقفٌ إلا عُرَنَة، وجَمْعٌ كلها موقف إلا مُحسَّرًا". وأخرج (¬2) عن ابن الزبير: "كلُّ مزدلفةَ موقفٌ إلا واديَ مُحسِّر". وعن عروة ¬

_ (¬1) (3/ 521)، وهو مرسل. (¬2) أي ابن جرير في "تفسيره" (3/ 521). وأخرجه أيضًا عبد الرزاق في "تفسيره" (1/ 79).

ابن الزبير (¬1) مثله. وخبر عبد الله بن الزبير في "الموطأ" (¬2) عن هشام بن عروة عنه. والأصل في الاستثناء الاتصال، فيكون محسِّر داخلًا في مزدلفةَ في الاسم خارجًا عنها في الحكم. فعلى هذا لا يكون من مني في الاسم أيضًا. فإن قيل: قضية هذا أن تكون عُرَنَة داخلةً في اسم عرفة وإن خرجت عنها في الحكم. قلت: لا مانعَ من هذا، بل يشهد له ما ذكره صاحب "القِرى" (¬3) وغيره بعد ذكر تحديد ابن عباس لعرفة أنه يدخل فيها عُرنة، ويوافقه حديث ابن عمر في "المسند" و"سنن أبي داود" (¬4): "غدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... حتى أتى عرفةَ، فنزل بنَمِرَة، وهي منزل الإمام الذي ينزل به بعرفة ... ". ونَمِرة من عُرَنة. وأما الثاني: فيدلُّ عليه ما في "المسند" و"صحيح مسلم" و"سنن النسائي" (¬5) من حديث الليث بن سعد عن أبي الزبير عن أبي مَعبد مولى ابن عباس عن ابن عباس عن أخيه الفضل - وكان رديفَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال عشيةَ عرفة وغداةَ جَمْعٍ للناس حين دَفَعوا: "عليكم بالسكينة"، وهو كافٌّ ¬

_ (¬1) "تفسير ابن جرير" (3/ 521). (¬2) (1/ 388). (¬3) "القرى لقاصد أم القرى" (ص 346، 347). (¬4) "المسند" (6130) و"سنن أبي داود" (1913). وإسناده حسن. (¬5) "المسند" (1796) و"صحيح مسلم" (1282) والنسائي (5/ 258).

ناقتَه حتى دخل مُحسِّرًا - وهو من منى - قال: "عليكم بحصى الخَذْف الذي يُرمَى به الجمرة"، وقال: لم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُلبِّي حتى رمى الجمرة. لفظ مسلم. وفي "المسند" و"سنن النسائي": "حتى إذا دخل". ثم ساقه مسلم (¬1) من طريق ابن جريج عن أبي الزبير، ولم يسق المتنَ، وقد ساقه الإمام أحمد في "المسند" (¬2)، وفيه: "حتى إذا دخل منًى حين هبط محسَّرًا قال: عليك بحصى الخَذْف ... ". ولم يكن مقصود الفضل إلا الإخبار بما كان من النبي - صلى الله عليه وسلم - في مَسِيره من المزدلفة إلى جمرة العقبة، بدون نظرٍ إلى حكم البيتوتة، فغايةُ ما يُؤخذ من خبره أن مُحسِّرًا من منًى في الاسم. ومسلم أخرج هذا الحديث في "صحيحه" في أحاديث استدامة التلبية إلى رمي جمرة العقبة، ولم يُخرِجه في الموضع الذي يتعلق بحكم البيتوتة، وبين الموضعين أربعة عشر بابًا في تبويب النووي. ولم أجد هذا الخبر عن أبي معبد إلا من رواية أبي الزبير، وقد رواه جماعة غير أبي معبد عن ابن عباس، ورواه جماعة غير ابن عباس عن الفضل، ولم أرَ في شيء من رواياتهم هذه الكلمة أو معناها أن مُحسِّرًا من منى. وأبو الزبير وثَّقه جماعة، وليَّنه آخرون. قال الشافعي: "أبو الزبير يحتاج إلى دعامة" (¬3). ¬

_ (¬1) رقم (1282). (¬2) رقم (1794). (¬3) انظر "تهذيب التهذيب" (9/ 441).

وقد لا يبعد أن تكون كلمة "وهو من منى" - وهي في الرواية التي اتفق طى إخراج لفظها الإمام أحمد ومسلم والنسائي - مدرجةً من قول أبي الزبير، وأن راوي الرواية الأخرى خفي عليه الإدراجُ، وروى بالمعنى. والله أعلم. [ص 4] وأما الثالث: وهي أن مُحسِّرًا ليس داخلًا في اسم منى ولا اسم مزدلفة فهو المشهور، وفي "تاريخ الأزرقي" (ج 2 ص 155) (¬1): "حدثني جدّي، حدثنا مسلم بن خالد عن ابن جريج ... قلت لعطاء: وأين المزدلفة؟ قال: المزدلفة إذا أفضْتَ من مأزِمَيْ عرفةَ فذلك إلى مُحسِّر ... ". وفيه (ص 139) (¬2) بهذا السند عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: أين منى؟ قال: من العقبة إلى محسِّر. قال عطاء: فلا أحِبُّ أن ينزل أحد إلا فيما بين العقبة إلى محسِّر. وهو خبر واحد قطعَه. وقد روى ابن جرير في "تفسيره" (¬3) القطعة الأولى: "حدثنا هناد قال: ثنا ابن أبي زائدة قال: أنا ابن جريج قال: قلت لعطاء ... ". وسنده صحيح. فأما سند الأزرقي ففيه مسلم بن خالد فيه لين، لكنه فقيه مكة في عصره، وهذا الحكم مما يُعنَى به فقهاء مكة. وشيخه ابن جريج إمام، وهو فقيه مكة في عصره أيضًا، وهو ممن روى حديث أبي الزبير السابق، وكأنه لم يُعوِّل على ما فيه مما يدل أن محسِّرًا من منى. وعطاء إمام، وهو فقيه مكة في ¬

_ (¬1) "أخبار مكة" (2/ 191، 192) ط. رشدي ملحس. (¬2) (2/ 172). (¬3) (3/ 519).

عصره، وروى عن ابن عباس حديثَ الفضل وغيره. ثم جاء فقيه عصره الإمام الشافعي، وهو مكي أخذ عن مسلم بن خالد وغيره، قال في "الأم" (ج 2 ص 179) (¬1): "والمزدلفة من حين يُفضِي من مأزِمَيْ عرفة - وليس المأزمان من مزدلفة - إلى أن يأتي قرنَ مُحسِّر". وقال (ص 182) (¬2): "ومِنًى ما بين العقبة - وليست العقبة من منى - إلى بطن محسِّر، وليس بطنُ مُحسِّر من منى". وهذا القول أعني أن محسِّرًا ليس من المزدلفة ولا من منى، هو المعروف في كتب الفقه والمناسك في المذاهب الأربعة. وقال ابن حزم في "المحلَّى" (ج 7 ص 188): المسألة 853: "وعرفة كلها موقف إلا بطنَ عُرَنة، ومزدلفة كلها موقف إلا بطنَ مُحسِّر, لأن عرفة من الحلّ، وبطن عُرَنة من الحرم فهو غير عرفة، وأما مزدلفة فهي المشعر الحرام وهي من الحرم، وبطن محسِّر من الحلّ فهو غير مزدلفة". ولا ريب أن منى عنده من الحرم، فهي غير محسِّر الذي هو عنده من الحلّ. وقد أغربَ في زعمه أن بطن عُرَنة من الحرم، وأغربُ من ذلك زعمُه أن محسِّرًا من الحلّ. احتجّ ابن حزم باختلاف المكانين في أن هذا من الحلّ وهذا من الحرم على تغايرهما واختلاف حكمهما، وإنها لحجةٌ لو صحَّ ذاك الاختلاف. ¬

_ (¬1) (3/ 549) ط. دار الوفاء. (¬2) (3/ 561).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مناسكه" (¬1): "ومزدلفة كلها يقال لها المشعر الحرام، وهي ما بين مأزِمَيْ عرفة إلى بطن مُحسِّر، فإن بين كل مشعرينِ حدًّا ليس منهما، فإن بين عرفة ومزدلفة بطن عُرَنة، وبين مزدلفة ومنًى بطن محسر". كأنه نظر إلى عبارة ابن حزم، وأعرض عما فيها من الخطأ. وقد أوضح ابن القيم ذلك، فقال في "الهدي" (¬2): "ومُحسِّر برزخ بين مِنًى وبين مزدلفة، لا من هذه ولا من هذه، وعُرَنة برزخ بين عرفة والمشعر الحرام، فبين كل مشعرينِ برزخٌ ليس منهما، فمِنًى من الحرم وهي مشعر، ومُحسِّر من الحرم وليس بمشعر، ومزدلفة حرم ومشعر، وعُرنة ليست مشعرًا وهي من الحلّ، وعرفة حِلّ ومشعر". ولا ريب أن الشيخين كانا عارفين بحديث أبي الزبير عن أبي معبد، ومع ذلك قطعَا بأن مُحسِّرًا ليس من مِنًى، وفي هذا سند قوي لما تقدم من الكلام فيه. والله أعلم. ¬

_ (¬1) ضمن "مجموع الفتاوى" (26/ 134). (¬2) "زاد المعاد" (2/ 236، 237).

الرسالة السابعة عشرة فلسفة الأعياد وحكمة الإسلام

الرسالة السابعة عشرة فلسفة الأعياد وحِكمة الإسلام

فلسفة الأعياد وحكمة الإسلام

الحمد لله ... فلسفة الأعياد وحِكْمَة الإسلام العيد في العرف العام: يوم مخصوص من العام، تحتفل به الأمة بمظاهر السرور، وأهمها الزينة، ولذلك يسمى أيضًا يوم الزينة، كما أخبر الله عزَّ وجلَّ عن كليمه عليه السلام أنَّه قال لفرعون وقومه: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} [طه: 59]. منشأ الأعياد إنَّ بروز الأمة بمظاهر السرور والزينة يُعبِّر عن سرور عظيم عامّ حدث لها، والسرور العام إنَّما ينشأ عن نعمةٍ عظيمةٍ عامةٍ حدثت للأمة. إذن فالعيد يوم مخصوص من السنة، تحدث فيه كل سنة نعمة عظيمة للأمة، تبعث في قلوب أبنائها سرورًا عظيمًا، يسوقهم بطبيعة الحال إلى الاجتماع على إظهار الزينة بأنواعها. إذن فالعيد ناشئٌ عن سبب طبيعي ثابت. لكنَّ هذه الحال وإن انطبقت على بعض الأعياد، كيوم وفاء النيل بمصر، فإن غالب الأعياد ليس كذلك. فمن ذلك أنَّ كثيرًا من الأمم تتَّخذ يوم استقلالها عيدًا. ومن ذلك أول يوم من السَّنة؛ فإنَّ كثيرًا من الأمم تتَّخذ أول يوم من سنتها عيدًا. فحدوث الاستقلال نعمة عظيمة على الأمة، ولكن اليوم الذي يقابله من

السنة الثانية والثالثة وهكذا لم يحدث فيه شيء. وأول السَّنة التي ابتُدِئ بها التاريخ قد يكون يوم حدوث نعمةٍ، وقد يكون مبنيًّا على أمرٍ فلكي أو اصطلاحي. فأقول: لا ريب أنَّ اليوم المقابل ليوم الاستقلال من كل سنة، ومثله أول السنة، لم تحدث فيه نعمةٌ عظيمةٌ، ولكن المفكِّرين من الأمم جعلوه عيدًا لأغراض سياسية. فإذا ساغ لنا أن نعدَّ يوم وفاء النيل - مثلًا - عيدًا طبيعيًا، فلنعدَّ اليوم المقابل ليوم الاستقلال - مثلًا - عيدًا اصطلاحيًّا. إلاَّ أنَّ ههنا فرقًا بين اليوم المقابل ليوم الاستقلال، وبين أول السنة في التواريخ التي ابتُدِئت بمجرَّد الاصطلاح. فالأول وإن لم تحدث فيه نعمةٌ فإنها حدثت في مثله، وكما قيل: الشيء بالشيء يُذكَر، وليس الثاني كذلك. ولكن لما كانت المثلية توجد في كل أسبوعٍ، وفي كل شهرٍ، وفي كل فصلٍ، وكان تذكُّر النِّعْمة لا يقتضي حدوث سرورٍ عظيمٍ يبعث على إظهار الزينة؛ لم يخرج اليوم المقابل [ص 2] ليوم الاستقلال - مثلًا - من كونه عيدًا اصطلاحيًا. ****

الأعياد الدينية

الأعياد الدينية أمَّا الأديان التي عَبِثَتْ بها الأهواء فغالب أعيادها اصطلاحيٌّ، والبحث فيه يطول، والذي يهمُّنا هنا البحث عن الأعياد الثابتِ شرعُها عن الله تبارك وتعالى، وإنَّما يتيسَّر لنا ذلك في دين الإسلام. نظرية الإسلام في الأعياد قد علمت مما تقدَّم أنَّ الأعياد على نوعين: طبيعي واصطلاحي. فأمَّا ما يتعلَّق بالطبيعي فإنَّ الشريعة الإسلامية لم تنظر إلاَّ إلى النِّعَم الحقيقية التي تعمُّ جميعَ المسلمين. والموجود من هذه النِّعَم متكرِّرًا كلَّ عام أمران: الأول: تمام صيام شهر رمضان، والخروج من مشقَّة الصيام. الثاني: تمام الحج، والخلاص من مشقة الإحرام. وصيام شهر رمضان والحج من أركان الإسلام، ومن أعظم النِّعَم على المسلمين أن يتمَّ صيامهم ويتم حجُّهم. فإن قيل: فإن الحجَّاج إنَّما هم طائفةٌ من المسلمين. قلت: نعم، ولكن حج البيت كل سنة فرض كفاية على جميع المسلمين؛ فإذا قام به بعضهم فقد تمَّت النِّعْمة على الجميع بسقوط الإثم. زِدْ على ذلك أنَّ تمكُّن المسلمين من إتمام الحج من مظاهر ظهور الإسلام واجتماع المسلمين؛ وذلك من أعظم النَّعَم عليهم.

وأظهر من ذلك: أنَّ من حِكَم شرع الحج اجتماعَ المسلمين، وكان ظاهرُ هذا وجوبَه على كل فرد منهم كل سنة. لأنَّه يُشَرع في الصلوات الخمس اجتماعُ أهل كل محلَّةٍ، وفي الجمعة اجتماع أهل كل مدينةٍ، وفي عيد الفطر اجتماع أهل كل مدينةٍ وما حولها؛ حتى النساء، بما فيه العواتق ذواتُ الخدور والحيَّض؛ كما في الحديث الصحيح (¬1). فما بعد ذلك إلاَّ اجتماع أهل قطر، وهذا أهمله الشارع اكتفاءً بالحج. فكان الظاهر أن يُشرَع في الحج اجتماع جميع المسلمين، ولكن لما كان في ذلك مشقةٌ عليهم، وضياعٌ لمصالحهم خفَّف الله عنهم. ومن هنا يُفهَم ما صحَّ: أنَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - سُئِل عن وجوب الحج؛ أكلَّ سنةٍ؟ - يعني: على كل فردٍ - فقال: "لا, ولو قلتُ: نعم لوجبَتْ" (¬2). فاكتفى الشرع بأن يحجَّ من أهل كل جهةٍ طائفةٌ، ثم هذه الطائفة تُبلِّغ مَنْ وراءها آثار الاجتماع في الحج. كما قال الله تعالى في الجهاد: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122]. وكلَّف الذين لم يحجّوا باجتماع أهل كل بلد في بلدهم ليحصل بذلك ما يحصل من حضور الاجتماع الأعظم. ومن جهة أخرى فالغالب أنَّ كل فردٍ من المسلمين يكون له قريب أو صديق في الحج، وتمام النِّعْمة على ذلك يوجب سرور هذا. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (974) ومسلم (890) من حديث أم عطية. (¬2) أخرجه مسلم (1337) من حديث أبي هريرة.

ومع ذلك شرع للمقيمين صيام تسع ذي الحجة، ولا سيَّما التاسع، وبتمامها تتم عليهم نعمة أخرى، وشرع لمن أراد التضحية منهم أن لا يحلق شعرًا, ولا يقُصَّ ظُفْرًا حتى يُضحِّي؛ كما جاء في الحديث (¬1). وشرع لهم في عيد الأضحى: أن لا يَطْعَموا شيئًا حتى يُصلُّوا العيد، وبعد صلاة العيد ينفكُّ عنهم قيدُ الإمساك عن القَرْض (¬2) وعن الأكل؛ وهذه نعمةٌ أخرى. لم تكن الشريعة الإِسلامية - وهي من وضع الحكيم العليم عزَّ وجلَّ - لتكتفي بهذا؛ بل نظرت إلى الأعمال التي ينبغي للمسلمين عملُها في عيدهم، فوجدت أنَّ تمام النِّعْمة كما يبعث المسلم - كغيره - على السرور طبعًا، والسرور يبعث على إظهار الزينة = فإنه يبعثه أيضًا على شكر المنعم عزَّ وجلَّ. لهذا اقتضت الحكمة أن تكون الأعمال المشروعة في العيد جامعةً بين الزينة والعبادة. فالتكبير، والصلاة، وأداء الفطرة، والصدقة من الأضحية = عبادةٌ محضةٌ. والتنظُّف، والتطيُّب، ولبس الجديد، والاجتماع، والتقرُّب بالأضحية = تتضمَّن الأمرين. أمَّا كونها عبادة فقد جاء في الحديث: "النَّظَافة من الإيمان" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1977) من حديث أم سلمة. (¬2) أي استعمال المقراض لقصّ الشعر. (¬3) أخرجه الطبراني في "الأوسط" (7311) وأبو نعيم في "أخبار أصبهان" (1/ 183) من حديث ابن مسعود بلفظ: "النظافة تدعو إلى الإيمان". ولا يصح، قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (1/ 236): فيه إبراهيم بن حيان، قال ابن عدي: أحاديثه موضوعة. =

وجاء: أنَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحبّ الطِّيب (¬1)، وأن الملائكة يحبُّون الطِّيب. وجاء عنه - صلى الله عليه وسلم - الندبُ إلى حسن اللباس، وقال: "إنَّ الله يحبُّ أن يرى أثر نعمته على عبده" (¬2). وقال للَّذي أخبره أنَّه يحبُّ أن يكون ثوبه حسنًا، ورأسه دهينًا، ونعلاه حسنتين: "إنَّ الله جميل يحبُّ الجمال" (¬3). وعدم التنظُّف والتطيُّب يؤذي المجتمعين، واجتناب أذية الناس عبادةٌ. والاجتماع الحسي باعث على الاجتماع المعنوي؛ [ص 3] ولا سيَّما والمشروع أن يكون الإمام هو الأمير؛ فيخطب فيهم ببيان المصالح العامة التي ينبغي أن يتعاونوا عليها، ويمثل بصلاته بهم واقتدائهم به تقدُّمَه إياهم في طاعة الله عزَّ وجلَّ، وتبَعَهم له في ذلك، أعني في مصالح الإسلام والمسلمين. والتقرب بالأضحية ظاهر. وأمَّا كون هذه الأشياء من الزينة - أعني ما يعمُّ التوسُّعَ في الأكل ونحوه - فظاهر. ¬

_ = وقال العراقي في "تخريج الإحياء" (1/ 49، 125): سنده ضعيف جدًّا. (¬1) أخرجه أحمد (3/ 128، 199، 285) والنسائي (7/ 61) من حديث أنس بن مالك مرفوعًا: "حُبِّب إليَّ الطيبُ والنساء ... " وإسناده حسن. (¬2) أخرجه الترمذي (2820) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. وإسناده حسن. (¬3) أخرجه مسلم (91) من حديث ابن مسعود.

بقي ما أبيح في العيد من اللهو؛ كالضرب بالدفِّ، واللعب بالسلاح، وهذا أيضًا مشتملٌ على الأمرين. أمَّا كونه زينةً فظاهر. وأمَّا أنَّ فيه عبادةً فلِمَا جاء عنه - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال للحبشة - عندما كانوا يلعبون بحِرَابِهم -: "إيهِ بني أرفدةَ؛ لتعلم اليهود والنصارى أنَّ في ديننا فسحةً" (¬1). واللعب بالسلاح تدرُّبٌ على الجهاد، وأيضًا فإنَّ في إسعاف النفس ببعض حظوظها إجمامًا لها، وترويحًا عنها لتنشط للعبادات والأعمال المصلحية، ولا سيَّما وهي خارجةٌ من عمل شاقٍّ حالَ بينها وبين شهواتها؛ وهو الإحرام لمن حجَّ، وسرد الصيام في عِدَّة رمضان، وصيام تسع ذي الحجة لمن لم يحج، مع إمساكه عن الحلقِ وقصِّ الأظفار حتى يُضحِّي , وعن الطعام حتى يرجع من الصلاة، وأنت خبيرٌ أن اللهو إنَّما يحدث بعد ذلك. هذه حكمة الإسلام في الأعياد، ولكن - يا للأسف - إن المسلمين لا يكاد يوجد منهم من يستحضر هذه المعاني ويبني عملَه على تلك المقاصد، ولا يكاد يُوجد من علمائهم من يُبيِّن لهم ذلك؛ فالله المستعان. وكما رخَّص الشارع في بعض اللهو وغيره في العيدين، كذلك رخَّص فيها عند حدوث نعمةٍ عظمى؛ كالزواج، والختان، والقدوم من سفر؛ ولم ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (6/ 116، 233) والحميدي في "مسنده" (254) من حديث عائشة. وإسناده حسن.

يُرخِّص في ذلك في مثل ذلك اليوم من الأسبوع، أو الشهر، أو السنة؛ لما علمت. أمَّا الأعياد الاصطلاحية فلم تلتفت إليها الشريعة من حيث هي أعياد، وما كان فيها من أغراض سياسية أدرجته الشريعة في الأعياد الطبيعية - كما مرَّت الإشارة إليه -, أو في عبادة تخصُّه؛ كما في يوم الجمعة؛ كما يأتي. مع أنَّ في عيدَي الفطر والأضحى ما يفي بذلك؛ فعيد الفطر تذكار لنزول القرآن في رمضان؛ كما يأتي. وعيد النحر تذكارٌ لتمام الدين وعزِّه. والعُرْف يقضي بأنَّ أمةً من الأمم لو جاهدت في سبيل استقلالها مثلًا، فانتصرت في عدة انتصارات = فإنَّما تجعل العيدَ اليومَ الذي تميَّز فيه نتيجة جهادها. وهذا المعنى نفسه بالنسبة إلى الإسلام كافٍ في عيد الأضحى؛ كما يأتي. ولكن الشريعة نظرت إلى الأيام التي حدثت فيها نِعَمٌ عظمى عامة؛ فرأت أن المثلية تذكِّرُ بالنِّعَم كما مرَّ. وتذكُّر النِّعْمة، وإن لم يكفِ في البعث على إظهار الزينة = فإنه يكفي للبعث على الشكر. فشَرَعت في أمثال تلك الأيام عباداتٍ مخصوصة، واختارت أقرب ما يكون من المثلية. فإذا حدثت النِّعْمة في يومٍ عيَّنت العبادة في مثله من كل أسبوع، ولا تخرج عن هذا إلاَّ لمعنىً آخر؛ كما سيأتي في صيام عرفة ويوم عاشوراء. وإذا حدثت النِّعْمة في شهرٍ عيَّنت العبادة في مثله من كلِّ سنة. فمن الأول: يوم الجمعة؛ ففي "صحيح مسلمٍ" (¬1) عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم -: "خيرُ ¬

_ (¬1) رقم (854) عن أبي هريرة.

يومٍ طلعتْ عليه [الشمسُ] (¬1) [ص 4] يوم الجمعة؛ فيه خُلِق آدم، وفيه أُدخِلَ الجنةَ، وفيه أُخرِجَ منها, ولا تقوم الساعة إلاَّ في يوم الجمعة". وخروج آدم عليه السلام من الجنة نعمةٌ في حقِّنا؛ لأنَّه سبب وجودِنا. وقيام الساعة نعمةٌ على المؤمنين؛ لأنَّ فيه القضاءَ لهم على أعدائهم، والأخذَ لهم بحقوقهم، بل إدخالهم الجنة، وتجلَّي الرب عزَّ وجلَّ لهم. ولما كانت هذه النَّعَم عامةً لجميع بني آدم شرع الله تعالى لهم جميعًا تخصيصَ هذا اليوم؛ ولكن اقتضت حكمته عزَّ وجلَّ أن لا يَدُلَّهم على يوم الجمعة من أول وهلةٍ؛ بل يأمرهم بتخصيص يومٍ من الأسبوع، ويدع تعيينه إلى اجتهادهم. ففي الصحيحين (¬2) عن النَّبي: "نحن الآخِرون السابقون يوم القيامة؛ بيدَ أنَّهم أُوتوا الكتابَ من قبلِنا، وأُوتيناه من بعدِهم، ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم - يعني يوم الجمعة - فاختلفوا فيه، فهدانا الله إليه" الحديث. وهداية هذه الأمة له: ما ثبت في السيرة وغيرها أنَّ المسلمين في المدينة قبل هجرة النَّبي - صلى الله عليه وسلم - اتفقوا - إمَّا بأمرٍ منه - صلى الله عليه وسلم - أو باجتهادهم - على أن يخصِّصوا يومًا معيَّنًا من الأسبوع يجتمعون فيه لذكر الله تعالى والاتفاق على مصالح المسلمين؛ إذْ لا يتيسَّر لهم الاجتماع كلَّ يوم؛ لاشتغالهم بنخيلهم وتجارتهم، وغير ذلك من مصالح دنياهم، فأجمعوا على يوم الجمعة. ¬

_ (¬1) سقطت من الأصل. (¬2) البخاري (876) ومسلم (855) عن أبي هريرة.

وكانت صلاة الظهر يومئذٍ ركعتين؛ كما في الصحيحين (¬1)، عن عائشة رضي الله عنها قالت: "فُرِضت الصلاة ركعتين، ثم هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ففُرِضَتْ أربعًا، وتُرِكَت صلاة السفر على الفريضة الأولى". أقول: وتُرِكَت ظهر يوم الجمعة في حقّ المجتمعين الاجتماعَ المخصوص، كما هو ظاهر، وههنا مباحث علمية ليس هذا موضعها. والمقصود: أن الله عزَّ وجلَّ شرع يوم الجمعة ما شرع من العبادة الزائدة على بقية الأيام؛ من الاجتماع، والخطبة، والغُسل، والسواك، والطيب، والتبكير إلى الجامع، وكثرة الصلاة قبل خروج الإمام = شكرًا له عزَّ وجلَّ على ما تقدَّم من النَّعَم وغيرها. ومن الناس من يَعُدُّ يوم الجمعة عيدًا؛ لأنَّ كثيرًا مما شُرِع في العيد من التطيُّب والتنظُّف والاجتماع والخطبة، شُرِع فيه. ولأنَّه صحَّ النهي عن تخصيصه بصيام (¬2)؛ كما نَهَى عن صيام يوم العيد (¬3). وليس هذا بظاهر. أمَّا التطيُّب والتنظُّف فإنَّما شرعت فيه لحقوق المجتمعين؛ كما صحَّ أنَّ الصحابة كانوا أولاً يجتمعون، ومنهم من لم يغتسل ولم يتطيَّب، فيؤذي ¬

_ (¬1) البخاري (3935) ومسلم (685) عن عائشة. (¬2) أخرجه البخاري (1985) ومسلم (1144) من حديث أبي هريرة. وفي الباب أحاديث أخرى. (¬3) أخرجه البخاري (1991) ومسلم (783) من حديث أبي سعيد الخدري. وفي الباب أحاديث أخرى.

بعضهم بعضًا، فأُمِرُوا بذلك (¬1). وأمَّا الاجتماع والخطبة فأمر مصلحيٌّ لا يقتضي أن يُعَدَّ ذلك اليوم عيدًا. وأمَّا النهي عن تخصيص يوم الجمعة بالصيام؛ فلو كان لأنَّه عيدٌ لنَهَى عن صيامه مطلقًا، وليس كذلك؛ وإنَّما نَهَى أن يُصام وحده، فلو صامه مع الخميس [ص 5] أو مع السبت صحَّ؛ كما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وههنا فائدةٌ يتعطَّش إليها القارئ، وإن كانت خارجةً عن الموضوع وهي حكمة النهي عن تخصيص يوم الجمعة بصيامٍ، وليله بقيام. فأقول: قد قيل: لأنَّه عيدٌ، وقد تقدَّم ما فيه. وقيل: لئلا يَضعُفَ بقيام ليلته وصيامه عن العبادات المشروعة فيه. وهذا أيضًا باطلٌ؛ لجواز قيام ليلته لمن يريد قيام ليلة السبت، وصيامه لمن يريد صيام يوم السبت؛ كما تقدَّم. والضعف حاصلٌ هنا، وقيل، وقيل. وعندي أنَّه - صلى الله عليه وسلم - إنَّما نَهَى عن ذلك؛ لأنَّ الله عزَّ وجلَّ لم يشرع التخصيص بذلك. وربما يتوَّهم بعض الناس مشروعية التخصيص بذلك لما ليوم الجمعة من الفضيلة؛ فبيَّن - صلى الله عليه وسلم - أنَّ فضيلة اليوم لا تقتضي مشروعية تَخصيصِه بجميع العبادات؛ بأن يكون لها فيه أجرٌ أعظم منها في سواه؛ وإنَّما يشرع التخصيص بالعبادة التي شرع الله تعالى التخصيص بها. فيوم الجمعة بالنسبة إلى قيام ليلته وصيام نهاره بمنزلة يوم الثلاثاء في أنَّ الله عزَّ وجلَّ لم يشرع تخصيص كل منهما بذلك. فمن خصَّص أحدهما ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (903) ومسلم (847) من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬2) في الحديث الذي خرجناه آنفا.

ظانًّا أنَّ أجر ذلك فيه أعظم من غيره فهو مبتدعٌ. وإنَّما نصَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - على يوم الجمعة لأنَّه مظنَّة أن يتوهَّم الناس فيه زيادة الأجر لفضيلته. ولذلك أكَّد - صلى الله عليه وسلم - النهي عن صيامه، حتى لمن لم يتعمَّد تخصيصَه التماسًا لزيادة الأجر. ولم يقل ذلك في يوم الثلاثاء مثلًا؛ فلو صامه أحدنا وحدَه غيرَ متعمِّدٍ للتخصيص، وإنَّما وقع ذلك اتفاقًا، ما كان بذلك بأسٌ. نعم، لما كان في الأعمال المشروعة في الجمعة ما فيه حظٌّ للنفس شرع الله تعالى للأمة صيام يوم الخميس؛ ليكون الصائم له مستحقًّا لما يكون في يوم الجمعة من حظِّ النفس. ولا ينافي ذلك ما جاء من حكمة استحباب صوم يوم الخميس؛ بأنَّه يومٌ تُعرَض فيه الأعمال (¬1). ومن ذلك يوم الاثنين؛ ففي "صحيح مسلم" (¬2) عن أبي قتادة قال: سُئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صوم يوم الاثنين؛ فقال: "فيه وُلِدْتُ، وفيه أُنزِل عليَّ". فشرع الله تعالى للمسلمين صيام يوم الاثنين؛ شكرًا على هاتين النَّعَمتين العظيمتين: ولادة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وإنزال القرآن عليه (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (747) من حديث أبي هريرة، وفي سنده محمد بن رفاعة بن ثعلبة القرظي، لم يوثقه غير ابن حبان. ولكن للحديث شواهد منها حديث أسامة بن زيد الذي أخرجه أبو داود (2436) والنسائي (4/ 201، 202)، وبمجموعهما يرتقي الحديث إلى الحسن. (¬2) رقم (1162/ 198). (¬3) في هامش (ص 1) عبارة تناسب السياق المذكور هنا: "ولأنه لو فُتح هذا الباب لآل إلى تعميم الأيام، إذ لم يبقَ غيرُ خمسة أيام، وهي ما عدا الاثنين والخميس، وفي =

وبهذا مع ما تقدّم عُلِمَ الجواب عن طعن بعض أهل الأديان في الإِسلام؛ بأنَّه لم يشرع لأهله أن يتّخذوا يوم ولادة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، أو يوم بَعْثِه عيدًا. وطعن بعضهم في القرون الإسلامية الأولى بذلك، لأنَّه لم يحدث الاحتفال بيوم 12 ربيع الأول إلاَّ في القرن ...... (¬1). فيقال لهم: إنَّ النِّعْمة كان حدوثها يومَ وُلِد - صلى الله عليه وسلم -[ص 6]، ويوم بُعِث؛ وأمَّا مثل ذلك اليوم من كل أسبوع، أو شهر، أو فصل، أو سنة = فلا يحدث فيه إلاَّ تذكُّر النِّعْمة. وتذكُّر النِّعْمة لا يُحْدِث في النفس سرورًا دنيويًّا، يبعثها على إظهار الزينة حتى ينبغي أن نتّخذه عيدًا، وإنَّما يُحدِث فيها سرورًا دينيًّا يبعثها على شكر تلك النِّعْمة. وقد شرع الله عزَّ وجلَّ لنا أقرب الأمثال لذلك اليوم، وهو مثله من كل أسبوع؛ أن نقوم بشكره عزَّ وجلَّ على تَينكَ النِّعمتين العظيمتين؛ بعبادةٍ خالصة عن حظِّ النفس، وهي الصيام الذي يناسب السرور الديني، فإن السرور الديني يبعث على الرغبة عن الدنيا. وقد ذكَّرني هذا الاعتراض ما صحَّ أنَّ اليهود قالوا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: آيةٌ في كتابكم معشرَ المسلمين لو علينا معشرَ اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. فأجابهم الفاروق رضي الله عنه بأنَّها ¬

_ = ذلك حرجٌ يؤدي إمّا إلى الاشتغال عن المصالح، وإمَّا إلى التهاون بالجميع". (¬1) بياض في الأصل. ومعلوم أن ابتداء الاحتفال بالمولد كان في القرن السادس على يد السلطان المظفر كوكبوري صاحب إربل، والله المستعان.

نزلت يوم الجمعة يوم عرفة؛ والنَّبي - صلى الله عليه وسلم - بعرفةَ (¬1). يعني: وكلاهما يوم عبادة شرعها الله تعالى للمسلمين، فيوم عرفة يوم شُرِع فيه للحجاج الوقوف بعرفات، وذكر الله تعالى، ولغيرهم الصيام، ويوم الجمعة قد تقدم العبادات التي فيه. والعبادة هي التي ينبغي عملها عند تذكُّر النِّعَم لا الزينة. وعندي: أنَّ هذا الاعتراض من خُبْثِ المغضوب عليهم - قاتلهم الله -؛ طمعوا أن يَستزِلُّوا المسلمين إلى إحداث يخالفون به نفس تلك الآية العظيمة؛ فكبَتَهم الله: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب: 25]. ولكن المسلمين- ويا للأسف - نَسُوا صومَ يوم الاثنين وما في صومه من شكر الله عزَّ وجلَّ، وما يتضمَّن ذلك من محبَّته - صلى الله عليه وسلم -؛ حتى إنَّ أكثرهم يجهل ذلك. ولم أرَ طولَ عمري من يصومه بتلك النيَّة، ولا مَن يذكره؛ إلاَّ أنني سمعتُ مَن يذكر الحديثَ احتجاجًا على مشروعية الاحتفال بثاني عشر ربيع الأول؛ فالله المستعان. فأمَّا صوم يوم عاشوراء فكان من بقايا شرائع الأنبياء المتقدّمين، وجاء: أنَّه اليوم الذي أنجى الله تعالى [فيه] موسى وقومه، وغرَّق فرعون وقومه. فصامه موسى عليه السلام، وأمر بصيامه، وصامه النَّبي - صلى الله عليه وسلم -، وأرشد إلى صيامه (¬2)، عملاً بقول الله عزَّ وجلَّ: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (45، 4407) ومسلم (3017) من حديث طارق بن شهاب عن عمر. (¬2) أخرجه البخاري (2004) ومسلم (1130) من حديث ابن عباس.

وقد كانت أيامٌ حدثتْ فيها نِعَمٌ في العهد النبوي، ولم يشرع تخصيص أمثالها بعبادةٍ اكتفاءً عنه بغيرها. وبما أنَّ الله تعالى قد أكمل الدين؛ فليس لأحدٍ إحداثُ شيء من ذلك. وهكذا الأيام التي حدثت فيها النِّعَم بعد العهد النبوي ليس لأحدٍ تخصيصُ أمثالها بعبادةٍ مخصوصةٍ؛ لأن الدِّين قد كمل في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولأنّ كل نعمةٍ عامةٍ للمسلمين حدثَتْ بعده - صلى الله عليه وسلم - فهي فرعٌ عن النِّعَم التي حدثتْ في عهده عليه الصلاة والسلام. ومن الباب - أعني حدوثَ النِّعْمة في شهرٍ -: شهر رمضان، قال الله عزَّ وجلَّ: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]. فالفاء في قوله: {فَمَنْ} للتعليل؛ تدلُّ على أنَّ ما قبلها علّة لما بعدها. ومثلُ (الشهر) إنَّما يحصل في السنة مرّةً، وهذا واضحٌ بحمد الله تعالى. [ص 7] ومن ذلك: تسع ذي الحجة؛ شرع الله تعالى لغير الحاجّ صيامها، وعدَّه شكرًا له عزَّ وجلَّ على تيسير طريق الحج لإخوانهم، وعلى النِّعَم التي شرع الحج شكرًا لها. وأكَّد لهم صوم يوم عرفة؛ لأنَّه يوم الحج الأكبر. وإخوانهم من جميع بلدان المسلمين قد برز فيهم الاجتماع الحسيّ بأجلى مظاهره؛ وهو رمز إلى اجتماع كلمة المسلمين جميعًا. وتلك من أعظم النِّعَم التي يجب شكرها لغيرهم، والله أعلم. فأمَّا سبب تخصيص الحج بالأيام من ذي الحجة فلم أستحضر الآن الأصلَ في ذلك؛ إلاَّ أنَّ الاستقراء يدلُّ على أنَّ لذلك سببًا، من جنس ما تقدَّم.

وعلى كل حال، فليس المقصود هنا استيفاء العبادات، وإنَّما المقصود: بيان أن الأيام التي تحدثُ فيها النِّعَم العظام مرَّة من الزمان لا يجعلها الشرع أعيادًا، وإنَّما يجعلها مواسم للعبادات؛ شكرًا على تلك النِّعَم، مع حِكَمٍ أخرى. أمَّا المقاصد السياسية في الأعياد فأهمها: الاجتماع؛ ليطَّلع كلٌّ من أفراد الأمة على أحوال غيره، ويتبادلوا الأفكار، ويوحدوا صفَّهم، وغير ذلك. وقد راعتِ الشريعة الإِسلامية الاجتماعَ على غاية ما يمكن؛ فشُرِعَت الجماعة في الصلوات الخمس لأهل كل قريةٍ أو محلّةٍ، وشُرِعَ تقليل المساجد وتوسيعُها؛ حتى لا يزيد عددها على قدر الحاجة، فيكون الزائد كمسجد الضرار تفريقًا بين المؤمنين، مع ما في ذلك من تحجير البقعة لغير حاجةٍ، وكان يمكن أن تنفع المسلمين باتخاذها مدرسةً أو نحوها. وبعض الأئمة يرى أنَّ الجماعة فرض عينٍ؛ بل منهم من جعلها من شروط الصلاة. ثم شُرِعت الجمعة ليجتمع أهل كل مدينةٍ في مسجدٍ واحدٍ؛ ولذلك لم يُجوِّز بعضُ الأئمة تعدُّد الجمع في البلد الواحد وإن اتّسعَ وضاق المسجد, بل يجب على المسلمين توسيع المسجد ولو إلى أميال. وهذا هو الموافق للسنة، وعمل القرون الأولى مع اتساع المدن وكثرة الناس، وهو الموافق لحكمة الاجتماع. ثم شُرِع العيد لاجتماعٍ أعمَّ من الجمعة؛ حتى شُرع فيه إخراج النساء؛ صغارًا وكبارًا، حتى الحيَّض - كما مرَّ - وبعض الأئمة يرى أن العيد فريضة.

ثم شُرع الحج؛ ليجتمع في موضعٍ واحدٍ جميعُ المسلمين. هذا هو الأصل؛ على ما تقدَّم. ولكن - ويا للأسف - المسلمون جهلوا هذه الحِكَم؛ فقليلٌ منهم يجتمعون هذا الاجتماعات المشروعة، والمجتمعون قليلًا ما يبحثون عن مصالحهم. حتى إنَّ الخطب الجُمعية والعيدية والحَجّيَّة تراها بمعزلٍ عن هذا. وأكثر الحجَّاج لا يبحثون عن شيء من مصالح المسلمين في سائر الأقطار. اللهم أَيقِظِ المسلمين لتدبُّر دينهم الكافل لمصالح دنياهم وأخراهم، بيدك الخير، وعلى كل شيء قدير (¬1). ¬

_ (¬1) إلى هنا انتهت الرسالة. وقد كتب المؤلف على صفحة غلافها ما يلي: ما عليه كثير من الناس [من ذكر] الأيام التي وقعتْ في مثلها بليَّة أو مصيبة؛ كما كان ... وكما يفعله النصارى في تذكار صلب المسيح عليه السلام، وأيام قتل الشهداء، وغير ذلك، لا يُعلَم في الإسلام شيءٌ من ذلك. وسببه أنَّ المشروع عند المصائب الصبر؛ فإذا شرع ذلك في يوم حدوث المصيبة فبالأولى فيما يماثله من الأيام؛ لأنَّه لم يحدُثْ في المثل شيءٌ. وأمَّا ما سُمِح به يومَ حدوثِ المصيبة من إراقة الدمع؛ فذلك لأنَّه أمرٌ طبيعيٌ، لا يُستطاع دفعُه، ولا يكون هكذا في مثل ذلك اليوم. وهكذا ما أُمِرتْ به زوجةُ المتوفى من الإحداد فهو أمرٌ خاصٌّ بها لمدَّةٍ معيَّنةٍ وقد صحَّ النهي عما عدا ذلك. وإذا تأمّل العاقل وجد أنَّ هذا النوع من الأعياد يُنتِج نقيضَ المقصود؛ ولأننا نرى الأقوام المعتنين بها تكون حالُهم فيها حالَ سرورٍ وفرحٍ، ولهو ولعب؛ إذا استثنينا بعض الحركات التكلُّفية التي أصبحت مظهرًا من مظاهر اللهو واللعب أيضًا، والله المستعان.

الرسالة الثامنة عشرة توكيل الولي غير المجبر بتزويج موليته

الرسالة الثامنة عشرة توكيل الولي غير المجبر بتزويج موليته

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله على إفضاله، والصلاة والسلام على خاتم أنبيائه، سيّدنا محمد وآله. وبعدُ، فقد جرت المذاكرة في توكيل الولي غير المجبر بتزويج موليته إذا وقع التوكيل قبل إذنها، فلمّا راجعتُ المظانَّ وجدت الحاجة ماسةً إلى بسطٍ وتحقيق، فأقول مستعينًا بالله سبحانه: [ص 2] قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: "وإذا جاز للمرأة أن تُوكِّل وليَّينِ جاز للوليِّ الذي لا أمرَ للمرأة معه أن يوكّل، وهذا للأب خاصة في البكر، ولم يجُزْ لوليًّ غيره (¬1) للمرأة معهم أمرٌ، أن يُوكِّل أبٌ في ثيّب، ولا وليٌّ غيرُ أبٍ، إلا بأن تأذن له أن يوكّل بتزويجها، فيجوز بإذنها". "الأم" (ج 5 ص 14) (¬2). وأمّا كلام الأصحاب، فقال الشيخ أبو إسحاق في "المهذَّب": "ولا يصحُّ التوكيلُ إلا ممّن يملك التصرفَ في الذي يُوكَّل فيه بمِلْكٍ أو ولاية، فأمّا من لا يملك التصرفَ في الذي يُوكَّل فيه - كالصبي، والمجنون، والمحجور عليه في المال، والمرأة في النكاح، والفاسق في تزويج ابنته - فلا يملك التوكيلَ فيه .... وأمّا من لا يملك التصرف إلا بالإذن كالوكيل والعبد المأذون له، فإنّه لا يملك التوكيل إلا بالإذن. واختلف أصحابنا في ¬

_ (¬1) وقوله "غيره" أي: غير الولي الذي لا أمر للمرأة معه, أو غير الأب في البكر. (¬2) (6/ 43) ط. دار الوفاء.

غير الأب والجد من العصبات هل يملك التوكيل في التزويج من غير إذن المرأة؟ منهم مَنْ قال: يملك؛ لأنّه يملك التزويج بالولاية من جهة الشرع، فيملك التوكيل من غير إذن كالأب والجدّ. ومنهم من قال: لا يملك؛ لأنّه لا يملك التزويج إلا بالإذن، فلا يملك التوكيل إلا بإذن، كالوكيل والعبد المأذون". "المهذب" (ج 1 ص 351) (¬1). [ص 3] أقول: مسألة "المهذَّب" في الولي غير المجبر الذي أذنت له بالزواج، ولم تأذنْ له بالتوكيل ولا نهتْه عنه، وهي غير مسألتنا. وقال الرافعي في "المحرر" (¬2): "وأمّا غير المجبر فإن نهتْه عن التوكيل لا يُوكِّل، وإن أذنتْ له وَكَّل، وإن قالت له: زوَّجني، فهل له التوكيل؟ فيه وجهان أصحهما نعم. ولا يجوز [له] التوكيل من غير استئذانها في النكاح في أصح الوجهين". وعبارة "المنهاج" (¬3): "وغير المُجْبِر إن قالت له وكِّلْ وَكَّلَ، وإن نهتْه فلا، وإن قالت: زوِّجْني فله التوكيل في الأصح، ولو وَكَّل قبل استئذانها لم يصحَّ على الصحيح". قال الخطيب في "المغني" (¬4) بعد قول "المنهاج": "على الصحيح": المنصوص، يريد نصّ الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، وقد تقدم. ¬

_ (¬1) (3/ 347) تحقيق الزحيلي. (¬2) (ص 293) ط. دار الكتب العلمية. (¬3) "منهاج الطالبين" (2/ 432) ط. دار البشائر. (¬4) "مغني المحتاج" (3/ 158).

وفي "الروض" مع شرحه: (ولغير المجبر) بأن كان غير أب وجدٍّ مطلقًا أو أحدهما في الثيّب (التوكيل) أيضًا، لكن (بعد الإذن له) منها (في النكاح والتوكيل أو في التوكيل فقط) أي: دون النكاح (وكذا في النكاح وحده) أي: دون التوكيل؛ لأنّه تصرّف بالولاية فيتمكن من التوكيل بغير إذن، كالوصيّ والقيّم، هذا (إن لم تنهَه) عن التوكيل، فإن نهتْه عنه لم يوكّل, لأنّها إنّما تزوج بالإذن، ولم تأذن في تزويج الوكيل بل نهتْ عنه، أمّا توكيله بغير إذنها له فلا يصح؛ لأنّه لا يملك التزويج بنفسه. "شرح الروض" (ج 3 ص 135) (¬1). ومقابل الأصح في عبارة "المنهاج" هو الوجه الذي صرّح به في "المهذب"، وذكر دليله، وهو موافق لنصّ الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، وإن كان الأصح خلافه عند الأصحاب. وممّا يوضح ما قلنا ما في "صحيح مسلم" (¬2) وغيره من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنّ النّبي صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: "الثيّب أحقُّ بنفسها من وليّها، والبكر تُستأمر وإذنها سكوتها"، وفي لفظٍ لأبي داود والنسائي وصححه ابن حبّان (¬3): "ليس للولي مع الثيب أمر، واليتيمة تُستأمر". [ص 4] وشبهتهم قياس غير المجبر إذا أذنت له بالتزويج على المجبر، ¬

_ (¬1) "أسنى المطالب شرح روض الطالب" ط. مصر 1313 هـ. (¬2) رقم (1421). وأخرجه أيضًا أبو داود (2099) والنسائي (6/ 85). (¬3) انظر: "سنن أبي داود" (2100) و"النسائي" (6/ 85) و"صحيح ابن حبان" (4089).

ويُفرَّق بأنّ المجبر ولايته تامّة بدونْ إذنها، وغير المجبر إنّما تتمّ ولايته بإذنها، بل لو قيل: إنّه إنّما يستفيد الولاية بإذنها لما كان عجبًا، ألا ترى أنّها لو دَعَتْ إلى كُفْءٍ فقيرٍ مستضعف دميمٍ بصداقِ قليل، ودعا غير المجبر إلى من هو خير من ذاك كفاءةً وكمالًا وجمالاً ومالاً وجاهًا بصداقٍ أضعافِ ما بذله الآخر لوجب إجابتها، حتى لو لم يُجِب الوليُّ إلى تزويجها بمن رغبتْ فيه عُدَّ عاضلاً فيزوِّجها السلطان، ولو قالت للمجبر: لا توكِّلْ، فوكّل صحّ، ولو أذنت لغير المجبر بالتزويج وقالت: لا توكِّلْ، لم يكن له أن يوكِّل اتفاقًا كما مرّ. ومنهم من قاسه على الوصي والقيّم، قال في "المغني" (¬1): "بل هو أولى منهما؛ لأنهما نائبان، وهو ولايته أصلية بالشرع، وإذنها بالتزويج شرط في صحة تصرفه، وقد حصل". أقول: لك أن تقول: بل الأصل هو إذنها, ولكن يشترط له أن يكون المأذون له أولى العصبات بدليل الحديث المذكور آنفًا وما معه، ثم نقول: يُفرَّق بين الولي وبين الوصيّ والقيم بأنّ الضرورة دعت إلى ذلك في الوصي والقيم، لعدم إمكان الإذن من الصبي ونحوه، ولهذا لو أذنت الصغيرة لوليها غير المجبر أن يزوِّجها لم يعتدّ بإذنها، فأمّا المرأة البالغة العاقلة فإنّ استئذانها في التوكيل ممكن، وإذنها معتدٌّ به شرعًا، بل المدار عليه كما مرّ. فإن قلت: إنّما قصدوا أنّ الوصي له أن يوكِّل، وإن لم يأذن له الموصي، والقيم له أن يوكِّل وإن لم يأذن له القيّم. ¬

_ (¬1) "مغني المحتاج" (3/ 158).

قلتُ: وعلى هذا أيضًا فبينهما وبين الولي غير المجبر فرق، وهو أنّ عمل الوصي والقيم يكون كثيرًا متشعبًا، تدعو الحاجة إلى أن يستعينا بغيرهما ويُوكِّلاه؛ فلذلك عُدّ سكوت الموصي والقيم عن اشتراط عدم التوكيل بمنزلة الإذن بالتوكيل، ألا ترى أن الوكيل إذا كان العمل كثيرًا لا يستطيع مباشرته، وعَلِمَ الموكِّلُ ذلك عند التوكيل؛ عُدَّ توكيله وسكوته عن المنع عن التوكيل إذنًا بالتوكيل، فأمّا الولي فإنّما هي كلمة واحدة يقول لها، وإن فرض أنّه قد يعرض له ما يحوجه إلى التوكيل فذلك نادرٌ، يمكنه حينئذٍ أن يستأذن المرأة في التوكيل، فأمّا الوصيُّ والقيّم فعملهما كثيرٌ كما مرّ، ولا يمكن الوصيَّ استئذانٌ عند عروض الحاجة؛ لأنّه قد مات، وكثيرًا ما يتعسّر الاستئذان من القاضي لبعد مكانه ونحو ذلك بخلاف الوكيل، فإنّ تعسُّر مراجعته للموكل كالنادر، وكذا العبد المأذون له في التجارة، فأمّا احتياج وليِّ المرأة إلى التوكيل فأقلُّ وأندر، وتعسُّر مراجعتها ممّا لا يكاد يقع. والحاصل أنّ المعنى الذي يدور عليه جواز التوكيل من النائب وعدمه هو كونه يكثر احتياجه إلى التوكيل، وعسر الاستئذان من المنيب، وهذا المعنى موجود في الوصي والقيم، وقليل في الوكيل والعبد المأذون له في التجارة ونادرٌ جدًّا في ولي النكاح، فإذا منعنا الوكيل والعبد المأذون له في التجارة من التوكيل فوليُّ النكاح أولي، نعم إنّ له ولايةً شرعية، ولكنّه لا يملك بها الأمر الذي يريد أن يوكل به وهو العقد، وإنّما ملكه بإذنها، والله أعلم، على أنّ في الوصي والقيم خلافًا، والذي اختاره محمد رملي أنّه ليس لهما أن يوكلا إلا فيما عجزا عنه أو لم تلق بهما مباشرته. واعلم أنّ من قال: ليس لغير المجبر التوكيل حتى يأذن له به، ولا يكفي

إذنها له بالتزويج، يقول: إنّه لو وكَّل قبل إذنها بالتوكيل وبعد إذنها بالتزويج كانت الوكالة باطلة، ولو عقد الوكيل كان عقدُه باطلاً، كما يُعلَم من تمثيلهم له بالوكيل والعبد المأذون، وتوكيلهما بدون إذن الموكل والسيد باطلٌ، وتصرُّف من وكَّلاه باطلٌ. وممّا يبيِّن أنّ الشيخ رحمه الله ذكر مسألة الولي في الفصل المتقدم الذي لم يذكر فيه إلا من كان توكيله باطلاً، وتصرف وكيله باطلاً، فأمّا "المحرّر" و"المنهاج" فإنهما زادا المُحرِمَ في النكاح (¬1)، ولكن بيَّن الشراح أنّ المراد المحرم الذي وكَّل ليعقد الوكيل حال الإحرام، وهذا التوكيل باطلٌ، ولو عقد الوكيل كان العقد باطلاً، والله أعلم. فأمّا غير المجبر فللقائل بجواز توكيله قبل إذنها أن يتمسّك بشُبهٍ: الشبهة الأولى: قد يقال: إنّما تُبطِلون توكيله؛ لأنّه لا يملك تزويجها حينئذٍ، ويجاب عنه: بأنّه من المتفق عليه أنّ الولي غير المجبر وليٌّ قبل إذنها، أي: أنّ له ولايةً شرعية ثابتة، سواءً أحبَّتْ ذلك أم كرهتْ، فلِمَ لا يكون له أن يجعل للوكيل مثل ما له من تلك الولاية؟ الجواب من وجوه: الأول: أنّ المقصود من الولاية إنّما هو تولّي العقد، والولاية المذكورة لا تُسوِّغ الوليَّ تولي العقد أصلاً، فهي كالعدم، ولو دعت إلى كفءٍ وأبى الوليُّ زوَّجَها السلطان. ¬

_ (¬1) انظر "المحرر" (ص 195) و"منهاج الطالبين" (2/ 159).

الثاني: أنّه لمّا كان المقصود من الولاية تولي العقد فهو ثمرتها، والولي قبل إذنها لا يستحق [ص 5] الثمرة، فلا يؤثّر رضاه بجعلها لآخر، كالوصية بأكثر من الثلث توقف على إجازة الورثة بعد موت المُورِث، فلو أجازوا والمورِث في الغرغرة كانت إجازتهم لغوًا، مع أنّه في مرض الموت قد صار لهم اختصاص ما بالتركة، ولكن هذا الاختصاص إنّما يتم بالموت، فكذلك الولي له اختصاصٌ ما, ولا يتمّ إلا بإذنها. الثالث: أنّ الوكالة إنّما شُرِعت لينوب الوكيل عن الموكِّل في فِعلٍ يفعله، ولذلك عرَّفها الفقهاء كما في "التحفة" (¬1) بأنها تفويضُ شخص لغيره ما يفعله عنه في حياته ممّا يقبل النيابة، ولهذا يقال في الصيغة: وكَّلتُك بتزويجها أو نحو ذلك، ولا يقال: وكَّلتك بأن تكون وليًّا أو نحوه، وولاية غير المجبر قبل إذنها لا يترتب عليها وحدها فعلٌ حتّى يصحّ التوكيل، فتدبَّر. فإن قيل: فقد نصُّوا على أنّه لو نجَّز الوكالة وشرطَ للتصرف شرطًا جاز، وعبارة "المنهاج" (¬2): "فإن نجَّزها وشَرط للتصرّف شرطًا جاز". وعليه فلو قال المجبر: وكَّلتك بتزويجها ولا تَعقِد إلا بإذنها صحّ، مع أنّ الحقّ الذي جعله له لا يترتب عليه وحده فعلٌ، فمسألة توكيل غير المجبر قبل إذنها نظير هذه. فالجواب من وجهين: الأول: أنّ في صحة توكيل المجبر على الصفة المذكورة نظرًا، وفي ¬

_ (¬1) "تحفة المحتاج" (5/ 294). (¬2) "منهاج الطالبين" (2/ 165).

الإيصاء من "شرح الروض" (¬1): "قال العبادي .... فإن قال له: لا تعمل إلا بأمر فلانٍ أو إلا بعلمه أو إلا بحضرته فليس له الانفراد؛ لأنّهما وصيّان". وصححه الشهاب الرملي كما في الحاشية. وعليه فلو قال في الوكالة: وكَّلتك بكذا ولا تتصرف إلا بإذن فلانٍ كانا وكيلين، وهما بمنزلة الوكيل الواحد، ويشترط في كلًّ منهما شروط الوكيل، والمرأة لا تكون وكيلةً في عقد النكاح، ولا سيّما لنفسها، واشتراطُ إذنها توكيل لها، فهو باطل، فتبطل الوكالة من أصلها. وفي "الروض" (¬2): "ولو وكَّل حلالٌ مُحرِمًا ليُوكِّل حلالاً في التزويج جاز". قال في الشرح: لأنّه سفير محض، نعم إن قال له: وكِّل عن نفسك، قال الزركشي: ينبغي أن لا يصحّ قطعًا، كما ذكروا مثله فيما إذا وكَّل الوليُّ المرأةَ لتُوكِّل عن نفسها من يزوِّجها. انتهى". فإن قيل: إنه إن سُلّم في مسألتنا أنّها وكيلة، فإنما وكَّلها في الإذن. قلت: هذا قريب، وعليه فهما وكيلان، هي في الإذن والرجل في العقد، فتركبت من وكالتهما وكالة صحيحة، ولكن لا يأتي مثله في غير المجبر؛ لأنّ الإذن ليس إليه حتى يوكِّلها فيه. والله أعلم. وعلى كل حالٍ فقولهم: "فإن نجزها وشرط للتصرف شرطًا جاز" محلّه [ص 6] في شرط لا يعود على الوكالة بالبطلان. وعلى فرض صحة توكيل المجبر مع قوله: ولا تَعقِد إلا بإذنها، فالفرق بينها وبين غير المجبر إذا وكَّل قبل إذنها، وشرطُ إذنها ما قدمناه، أنّ قول المجبر "ولا تعقد إلا بإذنها" توكيلٌ منه لها في الإذن مع توكيله للرجل في ¬

_ (¬1) "أسنى المطالب شرح روض الطالب" (3/ 71). (¬2) المصدر السابق (3/ 133).

العقد، فتركبت من وكالتهما وكالة صحيحة. وأمّا غير المجبر فإنه لا يملك العقد ولا الإذن، فكيف يوكّل فيهما؟ وأيضًا ولاية المجبر تامة؛ لأنّه يملك التزويج حين وكّل، فصحت وكالته وإن شرط الشرط المذكور، بخلاف غير المجبر فإن ولايته ناقصة، فلم يُغتفر فيها ذلك. والحاصل أنّ ولاية المجبر تامة لا نقصَ فيها، وإنّما النقص فيما جعله للوكيل من الحقّ، وأمّا غير المجبر فولايته ناقصة، والحقّ الذي جعله للوكيل ناقص، والله أعلم. الشبهة الثانية: قد يقال: إنّ عبارة "المنهاج" السابقة آنفًا تشمل مسألتنا؛ لأنّ غير المجبر إذا قال قبلَ إذنها: وكَّلتُك أن تُزوِّجها إذا أذنتْ، فقد نجز الوكالة وشرط للتصرّف إذنها، وإذنُها شرطٌ شرعي. الجواب: مرادهم بالشرط في عبارة "المنهاج" ونظائرها الشرط الجعلي، أعني الذي يجعله الموكِّل من عنده لا الشرط الشرعي، للعلم بأن الشرط الشرعي شرطٌ لملك الموكل لصحة المباشرة، وقد نصُّوا على أنّ الملك المذكور شرطٌ لصحة الوكالة، كما تقدّم أوّلَ هذه الرسالة في عبارة "المهذب"، وستأتي عبارات غيره إن شاء الله تعالى. وممّا يدلُّك على أنّ مرادهم ما ذُكِر قول الشيخ في "المهذب": "وإن عقد الوكالة في الحال، وعلّق التصرف على شرطٍ بأن قال: وكَّلتك أن تُطلِّق امرأتي أو تبيع مالي بعد شهرٍ، صحَّ". "المهذب" (ج 1 ص 352) (¬1). فمثّلها ¬

_ (¬1) "المهذب" (1/ 357) ط. دار المعرفة.

بمثال يكون فيه الموكّل مالكًا للمحلّ، وإنّما شرط شرطًا جعليًّا، وذلك أنّه حالَ التوكيل المرأةُ امرأتُه يَملِك أن يطلَّقها، [ص 7] وكذلك المال ماله يملك بيعه حينئذٍ؛ ولذلك صحّ منه عقد الوكالة في الحال، وإنّما علَّق التصرف بشرطٍ جعلي وهو قوله: بعد شهر. ومثَّل في "شرح الروض" (¬1) بقوله: "وكَّلتك ببيع عبدي، وبِعْه بعد شهر"، ومثله في "المغني" (¬2)، ولفظ المحلِّي (¬3): "نحو وكَّلتك الآن في بيع هذا العبد، ولكن لا تبِعْه حتى يجيء رأسُ الشهر". وفي "شرح المنهج" (¬4): "نحو وكَّلتُك الآن في بيع كذا, ولا تَبِعْه حتى يجيء رجب". وعبارة "التحفة" (¬5) و"النهاية" (¬6): "كوكَّلتك الآن ببيع هذا, ولكن لا تبِعْه إلا بعد شهر"، لكن قال في "التحفة" ما يأتي، وهي: الشبهة الثالثة: قال في "التحفة" (¬7) بعد ما مرّ: "وبذلك يُعلم أن من قال لآخر قبل رمضان: وكَّلتك في إخراج فطرتي وأخرِجْها في رمضان صحَّ؛ لأنّه نجز الوكالة، وإنّما قيّدها بما قيَّدها به الشارع، فهو كقول مُحرِم: زَوِّجْ بنتي إذا ¬

_ (¬1) "أسنى المطالب" (2/ 266). (¬2) "مغني المحتاج" (2/ 223). (¬3) "شرح المحلِّي على منهاج الطالبين" (2/ 341). (¬4) "فتح الوهاب شرح منهاج الطلاب" (3/ 407). (¬5) "تحفة المحتاج" (5/ 312). (¬6) "نهاية المحتاج" (5/ 29). (¬7) "تحفة المحتاج" (5/ 312).

حللتُ، وقول وليٍّ: زَوِّجْ بنتي إذا طُلِّقتْ وانقضتْ عدتها". فيقال: دلّت عبارة "التحفة" على أنّ الشرط في عبارة "المنهاج" السالفة ونظائرها أريد به ما هو أعمُّ من الشرط الجعلي والشرط الشرعي، فعلى هذا يشمل مسألتنا. الجواب: هذه دعوى من ابن حجر يردُّها نصوصهم على أنّه لا يصحّ التوكيل إلاّ ممّن يملك التصرف في الذي يوكَّل فيه بملكٍ أو ولاية، كما تقدّم أولَ هذه الرسالة عن "المهذب". [ص 8] وفي "الروض" (¬1): "الأوّل ما يجوز فيه التوكيل، وله شروط: الأول: الملك، فلا يصح في طلاق من سينكحها وتزويج من ستنقصي عدتها، ونحوه". وفي "المحرر" (¬2): "وفي الموكَّل فيه أن يملِكه الموكِّل، فأظهر الوجهين أنّه لا يجوز أن يُوكِّل ببيع عبدٍ سيملكه، وطلاقِ زوجة سينكحها". وفي "المنهاج" مع المحلّي (¬3): " (وشرط الموكَّل فيه أن يملكه الموكِّل) حين التوكيل (فلو وكّله ببيع عبدٍ سيملكه وطلاقِ من سينكحها بطل في الأصح) لأنّه لا يتمكن من مباشرة ذلك بنفسه، فكيف يستنيب فيه غيره". ¬

_ (¬1) "أسنى المطالب شرح روض الطالب" (2/ 260). (¬2) "المحرر" (ص 195). (¬3) "منهاج الطالبين" (2/ 161) و"شرح المحلّي" (2/ 338).

ونحوه في "المغني" (¬1) و"التحفة" (¬2) و"النهاية" (¬3)، وعبارة "المنهج" مع شرحه (¬4): " (و) شرط (في الموكَّل فيه أن يملِكه الموكِّل) حين التوكيل (فلا يصح) التوكيل (في بيع ما سيملكه وطلاق من سينكحها) لأنّه إذا لم يباشر ذلك بنفسه فكيف يستنيب غيره". فهذه النصوص ونحوها تبيِّن ما قلناه: إنّ مرادهم بالشرط في قولهم: "فإن نجَّزها وشرط للتصرف شرطًا جاز" إنّما هو الشرط الجعلي، وتمثيلهم سلفًا وخلفًا يشهد لذلك، وقد حكى في "النهاية" كلام ابن حجر ثم قال (¬5): "والأقرب إلى كلامهم عدم الصحة؛ إذ كلُّ من الموكَل والوكيل لا يملِك ذلك عن نفسه حال التوكيل". نعم، وافق على صحة التصرف بناءً على ما فهموه في مسألة التعليق، وسيأتي بيان وهمهم فيها إن شاء الله تعالى، ويأتي هناك الكلام على مسألة: زوِّجْ بنتي إذا طلقتْ وانقضتْ عدتها، ومسألة المحرم ستأتي قريبًا. [ص 9] هذا, ولو سلّمنا صحة الوكالة في مسألة الفطرة كما قال في "التحفة"، أو صحة الأداء على ما وافق عليه في "النهاية"، فبينها وبين توكيل الولي غير المجبر قبل إذنها فرقٌ من وجوه: الأول: ما اشتهر بينهم أنّه يُحتاط للأبضاع ما لا يحتاط لغيرها. ¬

_ (¬1) "مغني المحتاج" (2/ 219). (¬2) "تحفة المحتاج" (5/ 301). (¬3) "نهاية المحتاج" (5/ 21). (¬4) "فتح الوهاب شرح منهج الطلاب" (3/ 403). (¬5) "نهاية المحتاج" (5/ 29).

الثاني: أنّ التوكيل في أداء الفطرة ليس فيه افتياتٌ على أحد، وتوكيل غير المجبر قبل إذنها فيه افتياتٌ عليها، وقد قال جماعة من أصحابنا: إنّها إذا أذنت له بتزويجها ولم تتعرّض لنهيه عن التوكيل ولا الإذن له به، أنّه ليس له أن يوكل، وقد مضت هذه المسألة بما لها وعليها، وبيّنا أنّ دليلها قويٌّ، وأنّ المنع هو الموافق لنصّ الإمام الشافعي رحمه الله تعالى. الثالث: أنّ أداء الفطرة عبادة يتشوّف إليها الشارع كالعتق والوقف، فيحتمل أن يُسامح فيها ما لا يسامح في غيرها. الرّابع: أنّ أداء الفطرة أمرٌ هيّن لا يترتب عليه أمرٌ عظيم له خطر، بخلاف التزويج. الخامس: أنّ أداء الوكيل لفطرة الموكِّل يبعد أن يندم عليه الموكِّل، بخلاف التزويج، فيمكن أن يندم، فيحتاط للتوكيل بالتزويج بأن لا يلزم الموكّل به إلاّ إذا وكّل وهو تام الولاية، كما في الوصية لغير الوارث، حيث لم تُعتبر [ص 10] إجازة سائر الورثة في حياة المُورِث ولو عند الغرغرة، وإنّما تعتبر إذا وقعت بعد موته حيث يصير الحقُّ كله للورثة. الشبهة الرابعة: في "الروض" (¬1): "فرعٌ: لو أحرم وكيل النكاح أو موكِّله أو المرأة لم ينعزل، فلا يزوِّج قبل تحلُّله وتحلُّلِ موكِّله، ولو وكَّله مُحرِمًا أو أذنت وهي مُحرِمة صحّ، لا إن شرط العقد في الإحرام". قال في الشرح (¬2) بعد قوله: ¬

_ (¬1) "أسنى المطالب شرح روض الطالب" (3/ 133). (¬2) المصدر نفسه.

"صح": "سواء أقال: لتزوّج بعد التحلل أم أطلق". فيقال: كما صحّ توكيل المحرم وهو لا يملك التزويج، فليصح توكيل غير المجبر قبل الإذن. الجواب: بينهما فرقٌ من وجوه: الأوّل: أنّ ولاية المحرِم تامّة، والإحرام مانع فقط، وولاية غير المجبر ناقصة، وإذنها جزء أو شرط، وقد قال الإمام الرازي (¬1): إنّ المناسبة لا تنخرم بوجود المانع، بل يبقى المقتضي تامًّا، وإنّما يتخلَّف الحكم لوجود المانع، فأمّا فقد الجزء والشرط فلا نزاع أنّ المقتضي لا يتمّ بدونهما. بل قد تقدّم قُبيل الشبهة الأولى أنّ ولاية غير المجبر قبل إذنها بغاية الضعف، فارجع إليه. الوجه الثاني: أن منع المُحرِم من العقد ليس لخللٍ في أصل النكاح والمقصودِ منه، وإنّما هو لاحترام النسك، والتوكيلُ لا يُشعِر بعدم الاحترام، بل نقول: إنّ منع المحرم من العقد ليس لمفسدةٍ ذاتية، وإنّما هو سدٌّ لذريعة الجماع في الإحرام. وأما منع غير المجبر من العقد قبل إذنها فإنّه لِما يُخشى من عقده أن يُخِلّ بمقصود النكاح من الألفة والمودَّة والرحمة بأن يزوِّجها من لا تهواه، وَيحرِمَها من تهواه؛ ولأنّ في ذلك افتياتًا عليها. وإذا كان الشارع قد نهى المجبر أن يزوِّجها حتى يستأمرها، فما بالك بغيره؟ ¬

_ (¬1) المسألة موجودة في كتب الأصول ونصُّوا فيها على قول الإمام الرازي ومخالفتهم له في انخرام المناسبة بوجود مانع.

[ص 11] هذا مع وفور شفقة المجبر ورحمته ومعرفته، وأنّ نظره لها خيرٌ لها من نظرها لنفسها، وتوكيل غير المجبر قبل إذنها لا يخلو من افتيات عليها، كما مرّ في الوجه الثاني من وجوه الفرق بين مسألتنا ومسألة الفطرة، فارجع إليه. الوجه الثالث: أنّ انقضاء الإحرام كالمقطوع بحصوله قريبًا، وإذنها ليس كذلك. الوجه الرابع: أنّ كون الإحرام مانعًا من العقد فيه خلافٌ بين الأمة، وإذن غير المجبرة لا بدّ منه إجماعًا. الوجه الخامس: سيأتي عن ابن حجر في مسألة التعليق ما معناه: أنّه لو أشار المجبر أو المأذون له بالتزويج إلى بنته المعتدّة، وقال: وكَّلتك بتزويج هذه، كان هذا لغوًا، لا يصحّ التوكيل ولا العقد ولو بعد العدّة، وزعم أنّه لو قال: وكَّلتك بتزويجها بعد انقضاء عدتها فسد التوكيل، وصحّ العقد إن وقع بعد انقضاء العدة. مع قوله كغيره في مسألة المحرم (¬1): "لو قال: وكلتك بالتزويج، ولم يقل حالَ الإحرام ولا بعده، صحّ التوكيل والعقد إذا وقع بعد الإحرام". فهذا يدلُّك على أنّ مانعية الإحرام ضعيفة، كما قدّمناه، والله أعلم. تنبيه: بعض هذه الفروق يأتي مثله بين مسألة المحرم ومسألة الفطرة، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر "تحفة المحتاج" مع حواشيه (7/ 257) و"حاشية القليوبي على شرح المحلّي" (2/ 337).

[ص 12] الشبهة الخامسة: أن يقال: النصوص المتقدمة إنّما تفيد بطلان الوكالة، وذلك لا يستلزم بطلان عقد الوكيل، وقد قال الشيخ في "المهذب": "فصلٌ: ولا يجوز تعليق الوكالة على شرط مستقبل ... فإن علَّقها على شرط مستقبل ووجد الشرط وتصرف الوكيل صحّ التصرف؛ لأنّ مع فساد العقد الإذن قائم، فيكون تصرفه بإذن، فصحّ ... وإن عقد الوكالة في الحال، وعلّق التصرف على شرطٍ بأن قال: وكَّلتك أن تطلّق امرأتي أو تبيع ما لي بعد شهرٍ، صحّ؛ لأنّه لم يعلِّق العقد على شرط، وإنّما علّق التصرف على شرطٍ، فلم يمنع صحة العقد". "المهذب" (ج 1 ص 352) (¬1). وعبارة "المحرر" (¬2): "ولا يجوز تعليق الوكالة بالشروط على أظهر الوجهين، ويجوز أن ينجزها ويشترط للتصرف شرطًا". وفي "المنهاج" (¬3): "ولا يصح تعليقها بشرطٍ في الأصح". وفي "الروض" مع شرحه: " (ولو علّقها بشرطٍ) كقوله: إذا قدم زيدٌ أو جاء رأس الشهر فقد وكَّلتك بكذا، أو فأنت وكيلي فيه (بطلت) للشرط. (ونفذ تصرف صادف الإذن) فينفذ تصرفه في ذلك عند وجود الشرط إلا أن يكون الإذن فاسدًا ... وشمِلَ كلامهم النكاحَ، فينفذ بعد وجود [ص 13] الشرط في نحو: إذا انقضت عدة بنتي فقد وكَّلتك بتزويجها، بخلاف نحو: وكَّلتك بتزويجها ثم انقضت عدتها". "شرح الروض" (ج 2 ص 266). ¬

_ (¬1) (1/ 357) ط. دار المعرفة. (¬2) "المحرر" (ص 196). (¬3) "منهاج الطالبين" (2/ 165).

وهذه الشبهة باطلة لوجوه: الأول: أنّ صحة التصرف مع بطلان الوكالة خاصٌّ بما إذا كان الإذن صحيحًا كما مرّ في عبارة "شرح الروض"، وذلك خاص بالوكالة التي لا يكون فيها نقصٌ ما إلا التعليق، كقوله: إذا جاء رأس الشهر فقد وكلتك أن تبيع عبدي هذا. وسيأتي تحقيق ذلك في جواب الشبهة السادسة إن شاء الله تعالى. الوجه الثاني: أنّ الفرق بين الوكالة الصحيحة والوكالة الفاسدة التي يصح معها التصرف لم يذكروا له ثمرةً إلا أنّه إذا سمّى للوكيل جُعلاً يبطُل المسمَّى وتثبت أجرة المثل. وهذه الفائدة إن اعتني بمراعاتها ففي باب الوكالة، فأمّا باب النكاح فإنّما يعتني بذكر الوكالة التي لها مساس بصحته، فإذا قالوا في باب النكاح: لا تصح الوكالة بكذا، لم يجز حمل كلامهم إلا على أنّ النكاح لا يصح بها. ونصُّ الإمام الشافعي الذي قدّمناه إنّما ذكره في النكاح، [ص 14] وكذلك النصوص التي ذكرناها بعده من "المحرر" و"المنهاج" و"الروض"، فأمّا "المهذّب" فإنّ نصّه المتقدم عقب نص الشافعي هو في الوكالة، ولكن فيه دلالة أخرى تمنع احتماله لهذه الشبهة كما سيأتي. الوجه الثالث: ولهذا المعنى الذي ذكرناه في الوجه الثاني فسّر ابن حجر والرملي في شرحيهما على "المنهاج" الضمير المستتر في "يصح" بالنكاح، ولفظهما مع "المنهاج" (¬1): " .... (لم يصح) النكاح (على الصحيح) ". ¬

_ (¬1) "تحفة المحتاج" (7/ 264) و"نهاية المحتاج" (6/ 244).

فأمّا المحلي (¬1) والخطيب (¬2) فإنهما ذكرا التوكيل بدل النكاح، وكأنهما وثقا بأنّ المسألة حيث كانت في باب النكاح فلا بدّ أن يُفهم من بطلان التوكبل بطلان النكاح، ولكن صنيع "التحفة" و"النهاية" أجود. الوجه الرابع: أنّ من ذكر هذه المسألة في الوكالة ذكرها مع الأشياء التي تبطل معها الوكالة أصلاً، أي: بحيث إذا تصرف الوكيل كان تصرّفه باطلاً، كما تراه في عبارة "المهذب" المتقدمة عقب نصّ الشافعي رحمه الله تعالى، فإنه ذكرها مع الصبيّ والمجنون والمحجور عليه في المال والمرأة في عقد النكاح، والوكيل والعبد المأذون إذا لم يؤذن لهما بالتوكيل، [ص 15] وهؤلاء كلهم لا تصح وكالتهم، ولا ينعقد تصرف الوكيل. الوجه الخامس: أنّ الشيخ ذكر أنّ من قال ببطلان توكيل الولي غير المجبر المأذون له بالزواج دون التوكيل، من حجته القياس على الوكيل والعبد المأذون له، ومعلوم أنّ توكيل هذين بدون إذن باطلٌ، ولا ينعقد تصرف من وكّلاه، فكذا يقال في المسألتين المقيسة عليهما كما مرّ، وأولى منها مسألتنا. الشبهة السادسة: أن يقال: قال في "التحفة" بعد قول "المنهاج" (¬3): "فلو وكّله ببيع عبدٍ سيملكه وطلاق من سينكحها بطل في الأصح" ما لفظه (¬4): " ... وكذا لو ¬

_ (¬1) "شرح المحلِّي" (3/ 229). (¬2) "مغني المحتاج" (3/ 158). (¬3) "منهاج الطالبين" (2/ 161). (¬4) "تحفة المحتاج" (5/ 301 - 302).

وكّل من يزوِّج موليته إذا انقضت عدتها أو طلقت، على ما قالاه هنا، واعتمده الإسنوي، لكن رجّح في "الروضة" في النكاح الصحة". ونحوه في "النهاية" (¬1)، قال علي شبراملسي في حواشيه (¬2): "قوله: (على ما قالاه) ضعيفٌ". فيقال: إنّ هذه المرأة تكون غير مجبرة؛ لأنّها قد تزوجت، ومع ذلك لم يذكر اشتراط أن تكون قد أذنت، فهو شاملٌ لمسألتنا. [ص 16] الجواب: أولاً: هذا الوجه الذي رجحه في النكاح من "الروضة" قد جزم بخلافه هو، وأصله في الوكالة منها كما علمت، وقد اعتمد الإسنوي عدم الصحة، وكذا الخطيب في "المغني" (¬3)، والرملي في "النهاية" (¬4)، ووالده في فتاواه كما في "النهاية" (¬5)، وأمّا ابن حجر فميله إلى الصحة بشرط أن يكون في الصيغة تعليق ولو ضمنًا، كما سيأتي نقله في جواب الشبهة التاسعة. والعجبُ منه أنّه استند في ذلك إلى القياس على صورةٍ ذكرها الإسنوي كما سيأتي، وخالف في ذلك نصّ الإسنوي نفسه. ثانيًا: دعوى أنّ هذه المرأة تكون غير مجبرة؛ لأنها قد تزوجت خطأً ¬

_ (¬1) "نهاية المحتاج" (5/ 21). (¬2) بهامش "النهاية" (5/ 21). (¬3) "مغني المحتاج" (2/ 219). (¬4) "نهاية المحتاج" (5/ 21). (¬5) المصدر السابق.

لاحتمال أن يكون الوليُّ أبًا أو جدًّا، وتكون بكرًا لم يدخل بها زوجها حتى طلقها، فيحلّ زواجها عقب الطلاق، أو مات عنها فعليها عدة الوفاة. فقوله: "إذا انقضت عدتها" موجَّه إلى الثاني، وقوله: "أو طلقت" موجَّه إلى الأول. وممّا يدلُّ على أن المسألة مفروضة في المجبرة أنّ الخطيب في "المغني" (¬1) ذكرها بلفظ: "وتزويج بنته إذا انقضت عدتها أو طلقها زوجها". [ص 17] وفي "النهاية" (¬2) ما يدلّ على أنّ المسألة منقولة في النكاح من "الروضة" عن "فتاوي البغوي"، وذكر نصّ عبارة البغوي وهي: "كما لو قال الوليُّ للوكيل: زوِّج بنتي إذا فارقها زوجها أو انقضت عدتها". وفي "التحفة" (¬3) في الكلام على مسألة التعليق: "أو بتزويج بنته إذا طلقت وانقضت عدتها". وقد يُظَنّ أن الصواب "أو انقضت عدتها" كما ذكره نفسه فيما مرّ، وكما ذكره غيره، وأنّ الألف سقط قبل الواو من تحريف النساخ، ولكن في سياق عبارته ما يفيد أنّه بني على العطف بالواو، وعليه فيمتنع فرض المسألة في المجبرة، ولكن يمكن فرضها في غير المجبرة إذا سبق منها الإذنُ لوليها بأن يزوِّجها، فإنّ إذنها حينئذٍ صحيحٌ عند القائل بصحة وكالة الوليّ على الوجه ¬

_ (¬1) "مغني المحتاج" (2/ 219). (¬2) "نهاية المحتاج" (5/ 21). (¬3) "تحفة المحتاج" (5/ 311).

المذكور، بل وأفتى الشهاب الرملي بصحة إذنها مع إفتائه ببطلان الوكالة، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وإذ قد أمكن فرض المسألة المذكورة في المجبرة أو في الإذن مع إشعار القرائن بذلك، فقد سقطت الشبهة في التمسك بها: أولاً: تنزيهًا للأصحاب عن مخالفة نص الإمام. ثانيًا: تقييدًا لنصّ من نصَّ على هذه المسألة ببقيّة [ص 18] نصوصهم التي قدّمنا بعضها، هذا مع أنّ المسألة في نفسها ضعيفة كما مرّ. الشبهة السابعة: أن يقال: سلَّمنا أنّ المسألة السابقة مفروضة في المجبرة أو الآذنة، ولكنّا نقول: إذا صحّ توكيل الأب بزواج ابنته وهي مزوّجة أو معتدّة فلْيصحَّ توكيله وهي ثيّب خلية قبل إذنها من باب أولى؛ لأنّ كونها مزوَّجة أو معتدّة أشدُّ في منع صحة تزويجها من كونها لم تأذن، بدليل أن عدم الإذن لا يكون مانعًا في المجبرة، وأمّا كونها مزوّجة أو معتدّة فإنه مانعٌ مطلقًا. والجواب من وجهين: الأول: أنّ المسألة المذكورة ضعيفة كما مرّ، فلا يفيد القياس عليها. والثاني: أنّ ولاية المجبر والمأذون له تامّة، وولاية غيرهما ناقصة إلى حدًّ كأنها معدومة كما تقدم. فأمّا كونها مزوَّجة أو معتدَّة فإنّما ذلك مانعٌ كالإحرام، فأرجع إلى جواب الشبهة الرابعة.

الشبهة الثامنة: أن يقال: قد نقل الشيخان في "الروضة" وأصلِها صحةَ إذن المرأة لوليّها أن يزوِّجها إذا انقضت عدتها أو طلقت، وأقرَّاه، وأفتى به الشهاب [ص 19] الرملي كما ذكره ولده في "النهاية"، وإذا صحّ ذلك فلْيصحَّ توكيله الوليَّ وهي مزوّجة أو معتدّة، ثم تقاس عليه مسألتنا. الجوابُ: يُعلَم ممّا تقدم في جواب الشبهة السابعة، ومع ذلك فبين المسألتين فرقٌ، وهو أنّ لولاية الوليّ أصلاً شرعيًّا، وإنّما يحتاج إلى الإذن تكميلاً للولاية. وأمّا الوكيل فإنّه إنّما يستفيد الحقَّ من الوكالة، فلا غروَ أن يُكتفَى في الأول بما لا يُكتفَى به في الثاني. وفي "النهاية" (¬1) عن والده الشهاب الرملي ما لفظه: "والفرق بينهما أن تزويج الولي بالولاية الشرعية، وتزويج الوكيل بالولاية الجعلية، وظاهرٌ أنّ الأولى أقوى، فيُكتفى فيها بما لا يُكتفى به في الثانية، وأن باب الإذن أوسع من باب الوكالة". وقال ابن حجر في النكاح من "التحفة" (¬2): "وعليه فالفرق بينها وبين وليّها أنّ إذنها جعليٌّ وإذنه شرعي، أي: استفاده من جهة جعل الشرع له - بعد إذنها - وليًّا شرعيًّا، والجعلي أقوى من الشرعي كما مرّ في الرهن". أقول: ومع هذا فالحق ما جزم به في "التحفة" في باب الوكالة من ¬

_ (¬1) "نهاية المحتاج" (5/ 21). (¬2) "تحفة المحتاج" (7/ 265).

بطلان إذن المزوَّجة أو المعتدَّة، وقد نصّ الله تعالى في كتابه على النهي عن التصريح بخِطْبة المعتدّه، وإن لم يكن استئذانها وإذنها أشدَّ من التصريح بالخِطْبة فما هو بدونه، فأمّا المزوَّجة فالأمر فيها أشدُّ، ومحاسنُ الشريعة تقتضي سدّ هذا الباب كما لا يخفى، والله أعلم. الشبهة التاسعة: قد يقال: أمّا إذا قال غير المجبر قبل إذنها: وكَّلتك أن تزوِّج أختي مثلاً، فلا شكّ في بطلان الوكالة وعدم صحة النكاح لو أنكح الوكيل، ولكن إذا علّق بإذنها كأن قال: إذا أَذِنَت أختي بالنكاح فقد وكَّلتك في تزويجها أو نحو ذلك، فإنها تفسد الوكالة، ويصح النكاح لشمول نصوصهم في تعليق الوكالة لذلك. وقد تقدّم نصُّ "المهذّب" ونصُّ "الروض" مع شرحه مع قول الشرح: "وشمِلَ كلامهم النكاحَ إلخ". وفي "التحفة" (¬1) عقب قول "المنهاج" (¬2): "فلو وكَّله ببيع عبدٍ سيملكه وطلاقِ من سينكحها بطل في الأصح" ما لفظه: "لأنّه لا ولاية له حينئذٍ. وكذا لو وكّل من يزوِّج موليته إذا انقضت عدتها أو طلقت على ما قالاه هنا، واعتمده الإسنوي. لكن رجّح في "الروضة" في النكاح الصحةَ. وكذا لو قالت له وهي في نكاح أو عدّة: أَذِنتُ لك في تزويجي إذا حللتُ، ولو علّق ذلك - ولو ضمنًا، كما يأتي تحقيقه - على الانقضاء أو الطلاق، فَسَدت الوكالة، ونفذ التزويج للإذن". ¬

_ (¬1) "تحفة المحتاج" (5/ 301 - 302). (¬2) "منهاج الطالبين" (2/ 161).

ثم قال بعد قول "المنهاج" (¬1): "ولا يصح تعليقها بشرطٍ في الأصح" ما لفظُه: "فلو تصرَّف بعد وجود الشرط، كأن وكَّله بطلاق زوجةٍ سينكحها [ص 21] أو بيعٍ أو عتقِ عبدٍ سيملكه أو بتزويج بنته إذا طلقت وانقضت عدتها، فطلَّق بعد أن نكح أو باع أو أعتق بعد أن ملك أو زوَّج بعد العدّة، نفذ عملاً بعموم الإذن. وتمثيلي بما ذكر هو ما ذكره الإسنوي في الأولى وقياسها ما بعدها، كما يقتضيه كلام "الجواهر" وغيرها. وقال الجلال البلقيني: يحتمل أن يصح التصرف كالوكالة المعلقة يفسد التعليق ويصح التصرف لعموم الإذن، ولم يذكروه أي: نصًّا، وأن يبطل لعدم ملك المحل حالة اللفظ بخلاف المعلقة فإنّه مالك للمحل عندها، وعلى هذا يلزم الفرق بين الفاسدة والباطلة، وهو خلاف تصريحهم بأنّهما لا يفترقان إلا في الحج والعارية والخُلع والكتابة. انتهى. وقضية ردّه للثاني بما ذكر اعتماده للأول، وليست المعلقة مستلزمة لملك المحل عندها، إذ الصورة الأخيرة فيها تعليق لا ملكٌ للمحل حال الوكالة، نعم الأوجه أنّه لا بدّ في هذه الصور أن يذكر ما يدلّ على التعليق كقوله: التي سأنكحها أو الذي سأملكه، بخلاف اقتصاره على: وكَّلتك في طلاق هذه أو بيع هذا أو تزويج بنتي؛ لأنّ هذا اللفظ يُعَدّ لغوًا لا يفيد شيئًا أصلاً، فليس ذلك من حيث الفرق بين الفاسد والباطل، فتأمّله. ويأتي في الجزية [ص 22] وغيرها ومرّ في الرهن الفرقُ بين الفاسد والباطل أيضًا، فحصرهم المذكور إضافيٌّ، وفائدة عدم الصحة بهما في المتن سقوط المسمّى إن كان ووجوب أجرة المثل". ¬

_ (¬1) "منهاج الطالبين" (2/ 165)، "تحفة المحتاج" (5/ 311).

الجواب: أصل مسألة التعليق إنّما هي في التعليق بشرطٍ جعلي، أي: يجعله الموكِّل، كأن يقول: إذا قدم زيدٌ أو جاء رأس الشهر فقد وكَّلتُك في بيع عبدي هذا. يدلّك على هذا تمثيل "المهذب" (¬1) لتعليق التصرّف بقوله: "وكلتك أن تطلق امرأتي أو تبيع ما لي بعد شهرٍ"، وقد مضى مثله عن غيره، ومسألة تعليق التصرف مرتبطة بتعليق الوكالة. ومثّل في "شرح الروض" (¬2) لتعليق الوكالة بقوله: "كقوله: إذا قدم زيدٌ أو جاء رأس الشهر فقد وكلتك بكذا أو فأنت وكيلي فيه". ومثَّلها المحلّي في "شرح المنهاج" (¬3) بقوله: "نحو: إذا قدم زيدٌ أو إذا جاء رأس الشهر فقد وكّلتك بكذا". وعبارة "المغني على المنهاج" (¬4) مثل عبارة "شرح الروض". وأصرح من ذلك عبارةُ الجلال البلقيني التي تقدمت عن "التحفة"، فإنها صريحة أنّ المعلقة خاصة بما ذكرناه، وأنّ الصور التي مثّل بها ابن حجر ليست من المعلقة، وإن احتمل أن تقاس عليها، فأرجع إلى عبارة البلقيني وتدبرها، [ص 23] فإنّي أخشى أن يكون ابن حجر نفسه لم يتدبرها، كما يدلّ عليه قوله: "وليست المعلقة مستلزمةً لملك المحل عندها، إذ الصورة الأخيرة فيها تعليق لا ملك للمحل حال الوكالة". ¬

_ (¬1) "المهذب" (1/ 357). (¬2) "أسنى المطالب شرح روض الطالب" (2/ 266). (¬3) "شرح المنهاج" (2/ 340). (¬4) "مغني المحتاج" (2/ 223).

فإنّ كلام البلقيني صريحٌ في أنّ المعلقة خاصة بما علقت مع ملك الموكّل للمحل عندها، وأنّ هذه الصور التي ذكرها ابن حجر كلها ليست منها، والبلقيني إمامٌ واسع الاطلاع فلا وجه لردّ قوله بلا حجة. وكأنّ الإسنوي لما رأى تعبير السلف بنحو: "فإن علَّقها على شرط"، سبق إلى ذهنه أنّ المراد بالشرط الشرط الشرعي، فمثّل بقوله: كأن وكّله بطلاق زوجة سينكحها. وتبعه ابن حجر وقاس على هذه الصورة غيرها كما رأيت، والله المستعان. والمراد بملك المحل الذي عبَّر به البلقيني ملك التصرف فيه، الناشئ عن ملك العين تارةً والولاية عليه أخرى، كما في "التحفة" في شرح قول "المنهاج": "وشرط الموكَّل فيه أن يملكه الموكِّل"، فيشمل ملكه لطلاق زوجته وتزويج موليته بشرطه، والله أعلم. فأمّا قول البلقيني: "وعلى هذا يلزم الفرق بين الفاسدة والباطلة .. إلخ". [ص 24] فجوابه من وجوه: الأول: ما ذكره ابن حجر أن الحصر إضافي. الثاني: أن يقال له: لا نزاع أنّ وكالة المحجور عليه في المال يُبنى عليها صحة التصرف، وأنّ الوكالة المعلَّقة في نحو: إذا قدم زيدٌ فقد وكَّلتك بعتق عبدي هذا، يبنى عليها صحة التصرف، فإن سميت الأولى باطلة والثانية فاسدة، فقد اعترفت بالفرق ولا بدّ، وإن قلت: الأولى لغوٌ، قلنا: فلتكن الوكالة بطلاق من سينكحها ونحوها ممّا ذكر معها لغوًا، فلم يلزم الفرق. الوجه الثالث: الوكالة يلزمها الإذن، ثم تارةً تبطل هي ويبطل الإذن،

وتارةً تبطل هي ويصح الإذن، فالتفرقة في الحكم مدارها على صحة الإذن وبطلانه، وأمّا الوكالة فهي باطلة في الصورتين. الوجه الرابع: أنّ من الأبواب التي فرّقوا بين باطلها وفاسدها الإجارة والجعالة، وقد صرّحوا أن ثمرة فساد الوكالة مع صحة الإذن إنّما هي أنّه لو سمّى للوكيل جُعلاً لم يلزم المسمّى، بل يرجع إلى أجرة المثل. وعلى هذا فالوكالة المعلقة من حيث هي وكالة هي صحيحة، وإنّما الفساد فيها من حيث هي إجارة أو جعالة، فليس للوكالة من حيث هي وكالة إلا حكمان: الصحة والبطلان. [ص 25] وممّا يدلُّ على بطلان التصرف فيما إذا وكَّله بطلاق من سينكحها، وغيرها من الصور التي ذكرها في "التحفة" ونحوها، ومنها مسألتنا: اختيارُ "المنهاج" التعبيرَ في ما إذا وكَّله ببيع عبدٍ سيملكه أو طلاق من سينكحها بقوله: "بطل في الأصح" (¬1)، مع تعبيره في المعلَّقة بقوله: "ولا يصح تعليقها بشرطٍ في الأصح" (¬2)، فأشار إلى أنّ الأولى تبطل أصلاً، أي: حتى لا يصح التصرف، وأنّ الثانية تفسد؛ لأنّ نفي الصحة كما يحتمل البطلان يحتمل الفساد. هذا مع أنّ الأولى معلَّقة ضمنًا على تفسير ابن حجر. فإن قلت: فقد عبّر النووي في النكاح بقوله (¬3): "ولو وكَّل قبل استئذانها لم يصحَّ على الصحيح". ¬

_ (¬1) "منهاج الطالبين" (2/ 261). (¬2) المصدر نفسه (2/ 265). (¬3) "منهاج الطالبين" (2/ 432).

قلتُ: قد سبق الجوابُ عن هذا في جواب الشبهة الخامسة. وممّا يدلّ على بطلان التصرف أيضًا قول "الروض" مع شرحه (ج 2 ص 266) (¬1) في المعلقة: " (ونفذ تصرف صادف الإذن) فينفذ تصرفه في ذلك عند وجود الشرط إلا أن يكون الإذنُ فاسدًا. انتهى". ونحوه في "المغني على المنهاج" (¬2)، وكذا في "النهاية" (¬3) وغيرها. والإذن فيما لا يملك فاسد، وقد قال الشهاب الرملي في حواشي "الروض" (¬4): "قوله: (فينفذ تصرفه في ذلك عند وجود الشرط لوجود الإذن) الخالي عن المفسد .. إلخ" [ص 26] والإذن فيما لا يملك غير خالٍ عن المفسد. وقال الشهاب الرملي أيضًا (¬5): "قوله: (وشمل كلامهم النكاح، فينفذ عند وجود الشرط إلخ). كما يصح البيع بالإذن في الوكالة الفاسدة. وهو خطأ صريح مخالف للمنقول، قال في "الروضة": قال الإمام: إذا عينت المرأة زوجًا سواءً شرطنا التعيين أم لا، فليذكره الولي للوكيل، فإن لم يفعل وزوج الوكيل غيره لم يصحّ، وكذا لو زوّجه لم يصح على الظاهر؛ لأنّ التفويض المطلق مع أنّ المطلوب معيّن فاسد. وأيضًا فلو اختلطت محرمة بنسوة محصورات، فعقد على واحدةٍ منهنّ، لم يصح النكاح على الأصح، وإن ظهر كونها أجنبية. وكذلك لو عقد على خنثى فبان امرأة لم يصح. ولو ¬

_ (¬1) "أسنى المطالب شرح روض الطالب" ط. مصر 1313 هـ. (¬2) "مغني المحتاج" (2/ 223). (¬3) "نهاية المحتاج" (5/ 29). (¬4) (2/ 266). (¬5) (2/ 266).

قبل النكاح لزيدٍ بوكالة فأنكرها زيدٌ لم يصح العقد، ولو اشترى له بوكالة فأنكرها صحّ الشراء للوكيل، ولو أذن لعبده إذنًا فاسدًا في النكاح لم يستفد العقد الصحيح ت". والمسألة الأولى مذكورة في متن "الروض" (¬1) في النكاح، ولفظه: "وإذا أذنت له مطلقًا فله التوكيل مطلقًا، فإن عينته وجب تعيينه للوكيل، وإلاّ لم يصحّ، ولو زوّج المعين كما لو قال وليّ الطفل: بعْ ماله بدون ثمن المثل فباع بثمن المثل". قال في الشرح (¬2) عقب قوله: "ولو زوّج المعين" ما لفظه: "لأنّ التفويض المطلق مع أنّ المطلوب معين فاسد". وقال عقب قوله: "فباع بثمن المثل" ما لفظه: "لم يصح لفساد صيغة التفويض". قال المحشي (¬3): "قوله: (لم يصح لفساد صيغة التفويض) ومن هنا يؤخذ أنّ الوكالة الفاسدة لا يصح بها عقد النكاح، وإن صح البيع في الوكالة الفاسدة في الأصح، وهو ظاهر، والفرق وجوب الاحتياط في النكاح بخلاف البيع. وغلط [الإسنوي] في "المهمات" في قوله: إنّ الوكالة الفاسدة يستفيد بها عقد النكاح كالبيع ت. ذكر الزركشي نحوه انتهى. انظر "شرح الروض" (ج 3 ص 135). أقول: وكأنّ حرف "ت" في آخر العبارتين رمزٌ لكتاب "توقيف الحكام ¬

_ (¬1) "أسنى المطالب شرح روض الطالب" (3/ 135). (¬2) المصدر نفسه. (¬3) المصدر نفسه.

على غوامض الأحكام" لابن العماد، ففي "حواشي عبد الحميد على التحفة" عند قول "التحفة" (¬1): "ولو علّق ذلك ولو ضمنًا إلخ" ما لفظه: "قوله: (ونفذ التزويج إلخ) قد بالغ ابن العماد في "توقيف الحكام على غوامض الأحكام" في تخطئة من قال بصحة النكاح عند فساد التوكيل فيه، وقد أشار إلى ذلك شيخنا الشهاب الرملي أيضًا. اهـ سم". وممّن صرّح بفساد الإذن في مسألة توكيل الولي بزواج موليته إذا طلقت إذا انقضت عدتها: ابن حجر نفسه، فإنّه ذكر في النكاح هذه المسألة [ص 27] كما ستأتي عبارته، ثم ذكر قول "المنهاج" (¬2): "وليقل وكيل الولي: زوجتك بنت فلان"، ثم قال في شرحها (¬3): "ثم يقول: موكلي أو وكالة عنه مثلاً، إن جهل الزوج والشاهدان أو أحدهما وكالته عنه، وإلاّ لم يحتج لذلك. تنبيهٌ: ظاهر كلامهم أنّ التصريح بالوكالة فيما ذكر شرط لصحة العقد، وفيه نظر [واضح] ... وليس هذا كما مرّ آنفًا, لأنّ الإذن للوكيل ثَمَّ فاسد من أصله بخلافه هنا". قال عبد الحميد (¬4): "قوله: كما مرّ آنفًا ... أقول: بل في شرح: لم يصح على الصحيح من قوله: لا إذن الولي لمن يزوج إلخ". ¬

_ (¬1) "تحفة المحتاج" (5/ 302). (¬2) "منهاج الطالبين" (2/ 432). (¬3) "تحفة المحتاج" (7/ 265 - 266). (¬4) في حواشيه على التحفة، الموضع السابق.

أقول: وعليه ففي عبارة ابن حجر التصريحُ بفساد الإذن في مسألة توكيل الولي من يزوِّجها إذا طلقها زوجها إلخ، بل في عبارته أن عقد الوكيل غير صحيح؛ لأنّ معنى كلامه: (وليس هذا كما مرّ آنفًا) في مسألة إذن الولي لمن يزوِّج موليته إذا طلقت وانقضت عدتها، حتى يلزم عدم صحة العقد هنا كما أنّه غير صحيح هنالك، أي: في مسألة إذن الولي (لأنّ الإذن) من الولي (للوكيل ثَمَّ فاسدٌ من أصله) فلهذا لم يصح العقد هناك (بخلافه هنا). وفي "حواشي" القليوبي على المحلِّي (¬1): " ... وكذا لو قالت: وكَّلتك في تزويجي إذا انقضت عدتي، فإن كان قائل ذلك الولي لوكيله بطل الإذن أيضًا على المعتمد كما مرّ". فأمّا قول ابن حجر (¬2): "ولو علّق ذلك ولو ضمنًا إلخ"، فقد تعقبه الرملي في "النهاية" (¬3) فقال: "وما جمع به بعضهم بين ما ذكر في البابين بحمل عدم الصحة على الوكالة، والصحة على التصرف، إذ قد تبطل الوكالة ويصح التصرف = رُدّ بأنّه خطأٌ صريح مخالف للمنقول، إذ الأبضاع يُحتاط لها فوق غيرها". قال الشبراملسي في حواشيه (¬4): "قوله: وما جمع به بعضهم أي حج - ابن حجر - حيث قال: ولو علّق ذلك ولو ضمنًا ... ". ¬

_ (¬1) "شرح المحلي مع حاشيتي القليوبي وعميرة" (2/ 341). (¬2) "تحفة المحتاج" (5/ 302). (¬3) "نهاية المحتاج" (5/ 21، 22). (¬4) "حاشية الشبراملسي" (5/ 22).

أقول: وقد تقدم ما كتبه الشهاب الرملي على "شرح الروض"، وما ذكره ابن قاسم عن ابن العماد. ثم إنّ ابن حجر وفى بما وعد، فذكر المسألة ونحوها عند مسألة التعليق، [ص 28] وقد تقدمت العبارة. ثم عاد في النكاح في الكلام على قول "المنهاج" (¬1): "ولو وكّل قبل استئذانها لم يصحّ على الصحيح"، فقال (¬2): "ويصحُّ إذنها لوليّها أن يزوِّجها إذا طلقها زوجها وانقضت عدتها, لا إذن الولي لمن يزوِّج موليته كذلك على ما قالاه في الوكالة، وقد مرّ بما فيه مع نظائره. وعليه فالفرق بينها وبين وليّها أنّ إذنها جعليٌّ، داذنه شرعي، أي: استفاده من جهة جعل الشرع له بعد إذنها وليًّا شرعيًّا، والجعلي أقوى من الشرعي كما مرّ في الرهن، وبهذا جمعوا بين تناقض "الروضة" في ذلك. والجمع يحمل البطلان على خصوص الوكالة والصحة على التصرف لعموم الإذن، قال بعضهم: خطأٌ صريح مخالف للمنقول، ومرّ ما في ذلك في الوكالة". وفي حواشي عبد الحميد (¬3): " (قوله: خطأٌ إلخ) أي: لأنّه لا يصح النكاح بالوكالة الفاسدة. سم ورشيدي" اهـ. ثم إنّ ابن حجر ذكر بعد ما مرّ بقليل مسألة أنّ التصريح بالوكالة إذا لم تعلم شرط لصحة العقد، ونظر فيها، وفرَّق بينها وبين مسألة توكيل الولي المتقدمة بأنّ الإذن للوكيل في مسألة الولي فاسدٌ من أصله، أي: فلذلك كان ¬

_ (¬1) "منهاج الطالبين" (2/ 432). (¬2) "تحفة المحتاج" (7/ 265). (¬3) في الموضع السابق.

العقد غير صحيح. وعلى هذا [ص 29] رجّح في باب الوكالة صحة العقد، ثم تردّد فيه في النكاح في شرح قول "المنهاج": (ولو وكَّل قبل استئذانها إلخ)، ثم أشار بعد ذلك بقليل إلى فساد الإذن من أصله وعدم صحة العقد، وهذا هو المتأخر، فعليه استقرّ قول "التحفة"، وعليه الاعتماد، ولله الحمد. هذا وقد تقدّم في الجواب عن الشبهة السادسة أنّ مسألة توكيل الولي في تزويجها إذا طلقت أو انقضت عدتها مفروضة في الولي المجبر البتةَ، أو فيه وفي غير المجبر الذي قد أذنت له، بناءً على صحة إذنها حينئذٍ. وعليه فلو سلّمنا أنّه إن عقد الوكيل في هذه المسألة صحّ عقده، فلا يلزم مثل ذلك في مسألتنا، وهي ما إذا وكل غير المجبر قبل إذنها وعلّق بإذنها. والفرق بين المسألتين أنّ المجبر والمأذون له ولايتهما تامّة، وإنّما هناك مانع من مباشرة العقد حالاً، فأمّا غير المجبر الذي لم تأذن له فولايته ناقصة، بل كأنّها معدومة كما مرّ قبيل الشبهة الأولى. ومرّ في جواب الشبهة الرابعة فرقٌ بين وجود المانع وفقد الشرط أو الجزء، فأرجع إليه. [ص 30] الشبهة العاشرة: قد يقال: سلَّمنا بطلان الوكالة وعدم صحة التصرف فيما إذا وكّل غير المجبر قبل أن تأذن له، وكذلك في كلّ ما لا يملكه الموكل عند الوكالة إلا ما استثني من النكاح ونحوه، ولكن محلّ ذلك ما لم يكن غير المملوك تبعًا لمملوك، وإلاّ فيصحّ، كما إذا قال: وكَّلتك أن تنكح بنتي البكر التي لا مانع بها، وكل مَن لي عليها ولاية، ففي "الروض" وشرحه: " (فلا يصح) التوكيل

(في طلاق من سينكحها وتزويج من ستنقضي عدتها ونحوه) كبيع من سيملكه أو إعتاق من سيملكه؛ لأنّه لا يتمكن من مباشرة ما وُكِّل فيه حال التوكيل، نعم لو جعل ما لا يملكه تبعًا لما يملكه، كتوكيله ببيع عبده وما سيملكه، ففيه احتمالان للرافعي، والمنقول عن الشيخ أبي حامد وغيره الصحة، كما لو وقف على ولده الموجود ومن سيحدث له من الأولاد". " شرح الروض" (ج 2 ص 260) (¬1). الجواب: قال في "التحفة" (¬2): "ويؤيد ذلك قول الشيخ أبي حامد وغيره: لو وكَّله فيما ملكه الآن وفيما سيملكه صحّ، ويصح في البيع والشراء في: وكَّلتك في بيع هذا وشراء كذا بثمنه، وإذن المقارض للعامل في بيع ما سيملكه، وألحق به الأذرعي الشريك". فإن حملنا الملك في عبارة الشيخ أبي حامد وغيره على ملك العين كما هو [ص 31] المتبادر عند الإطلاق؛ ولذلك مثّلوا في "شرح الروض" و"المغني" و"النهاية" بالبيع، فلا تشمل النكاح والطلاق ونحوهما، وإن حملناه على ملك التصرف شملت ذلك. ثم تبين لي تعين الأول، فقد قال زكريا في "شرح المنهج" (¬3): "فيصحُّ التوكيل ببيع ما لا يملكه تبعًا للمملوك، كما نقل عن الشيخ أبي حامد، وببيع عينٍ يملكها وأن يشتري له بثمنها، كذا على الأشهر في المذهب، وقياس ذلك توكيله بطلاق من سينكحها تبعًا ¬

_ (¬1) هو "أسنى المطالب شرح روض الطالب" ط. مصر 1313 هـ. (¬2) "تحفة المحتاج" (5/ 303). (¬3) "شرح منهج الطلاب" (3/ 51).

لمنكوحته". فأفاد أنّ عبارة أبي حامد إنّما هي في البيع لا تشمل الطلاق، إلا أنّه قد يقاس عليها. وعلى كل حال فالشيخ أبو حامد وغيره إنّما حجتهم القياس على الوقف كما في "شرح الروض" (¬1)، ونحوه في "المغني" (¬2) و"النهاية" (¬3). وفي "شرح المنهج": القياس على التوكيل ببيع كذا وشراء كذا بثمنه. ونحوه في "التحفة" (¬4)، وزاد القياس على القراض. فأمّا القياس على القراض، ففي حواشي عبد الحميد (¬5): "قوله: في بيع ما سيملكه" ما صورته: فقد يقال: هذا البيع لا يتوقف على إذنٍ زائد على العقد المتضمن للإذن. اهـ. سم. أقول: والفرق واضحٌ بين القراض وبين نحو: وكَّلتك أن تبيع عبدي هذا وعبدَ فلانٍ إذا ملكتُه، أو وكُلَّ عبدٍ أملكه، أولاً: لأنّ القراض لا يحصل أصل المقصود منه إلا بأن يشتري ثم يبيع، وهكذا. ثانيًا: أنّ عامل القراض إذا اشترى لم يكن المشترى للمالك فقط، بل للعامل فيه بقدر ربحه. ¬

_ (¬1) "أسنى المطالب" (2/ 260). (¬2) "مغني المحتاج" (2/ 219). (¬3) "نهاية المحتاج" (5/ 22). (¬4) "تحفة المحتاج" (5/ 303). (¬5) في الموضع السابق.

ثالثًا: أنّ التصرف في القراض مرتبط بعضه ببعض، أي: أنّ الثاني مبنيٌّ على الأول، ومتوقفٌ عليه، كأن يشتري برأس المال عبدًا ثم يبيع العبد بنقدٍ ثم يشتري بالنقد ثيابًا، وهكذا. وهذه الأمور كلها ليست في الصورة الأخرى، أعني: نحو وكّلتك أن تبيع عبدي إلخ. نعم، الثالث حاصل في مسألة: وكلتك ببيع هذا وشراء كذا بثمنه، ولكنَّ في صحتها [ص 32] خلافًا، وأشهر القولين صحة التوكيل بالشراء، كما مرّ عن "شرح المنهج"، ونحوه في "المغني" و"النهاية". وأمّا القياس على هذه الصورة فالفرق ما ذكرناه من الارتباط، والحاجة ماسة كثيرًا إليها، كما تبعث الأرملة بصوفها أو غزلها أو سمنها أو نحو ذلك مع رجلٍ، ليبيعه ويشتري لها بثمنه طعامًا أو ثوبًا أو نحوه، وليست الحاجة إلى التوكيل ببيع عبده وعبد فلان إذا ملكه كذلك، مع أنّ المقصود في مثال الأرملة هو أن يشتري لها ببضاعتها طعامًا أو ثوبًا، وإنّما البيع بالنقد وُصلةٌ إلى ذلك، لما عُلم بأنّ التجار إنّما يرغبون أن يبيعوا بالدراهم. وأمّا الشركة فكالقراض، وأمّا القياس على الوقف فإن كان المراد بالملك في عبارة الشيخ أبي حامد ملك العين، فقد قاس البيع على الوقف على ولده ومن سيولد له، وهذا الوقف نفسه مَقِيسٌ على الوقف على الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف، كما ورد في الصحيحين (¬1) في وقف عمر الذي أقره عليه النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم، والقياس على القياس لا يجوز كما تقرّر في الأصول. ¬

_ (¬1) البخاري (2737، 2772، 2773)، ومسلم (1632) من حديث ابن عمر.

وقد يقال: لا حاجة إلى قياس الوقف على ولده ومن سيولد له على ما ذكر، لدخوله في لفظ القربى أو للإجماع عليه. فأقول: إن كان هناك إجماعٌ فذاك، وإلاّ ففي دخوله في القربى نظر؛ [ص 33] لأنّ المراد بالقربى جميع الأقارب الذين يمكن أن يكونوا مصرفًا للوقف دائمًا، كما هو شأن الوقف، فالضرورة داعية إلى إدخال من لم يوجد بعدُ. فأمّا الوقف على ولده ومن سيولد له، فإنّه لم يقصد به أن يكون أولاده مصرفًا للوقف دائمًا؛ لأنّهم لا بدّ أن يموتوا، وعليه فكان يمكنه أن ينتظر حتى ييأس من الولد ثم يقف عليهم وهم موجودون كلهم، ولا يمكنه هذا في القربى كما مرّ. هذا، وقياس الوكالة بالبيع على الوقف مختلٌّ، أوّلاً: لأنّ الوقف من شأنه الدوام، فلا مندوحة مِن ضمّ من لم يوجد من المستحقين إلى الموجودين، بخلاف الوكالة. ثانيًا: الوقف قربة يتشوَّف إليها الشارع كالعتق، فيوسع فيها ما لا يوسع في الوكالة. ثالثًا: المعدوم في الوقف هو بعض الموقوف عليهم، والمعدوم في مسألة الوكالة هو بعض المال، وقد يُغتفر في المعقود له ما لا يُغتفر في المعقود عليه، كالوقف نفسه فإنّه يجوز على الموجود ومن سيوجد، ولا يجوز وقف ما يملكه وما سيملكه، فأمّا صحة وقف الجارية وحملها، فالحمل كالعضو منها، حتى لو بيعت الحامل دخل الحمل في البيع.

ثم قياس النكاح والطلاق على البيع قياسٌ على قياس، مع أنّ البيع قد يتصور فيه من الحاجة إلى التوكيل به فيما لم يملك بعدُ أشدّ ممّا يتصوّر في النكاح، وأيضًا فالأبضاع يُحتاط لها ما لا يحتاط لغيرها. وإن كان المراد بالملك في عبارة الشيخ أبي حامد ملك التصرف، بحيث يشمل النكاح والطلاق والولاية ونحوها، فقد عُلِم فساده ممّا مرّ. وإذا امتنع قياس البيع على الوقف وقياس النكاح على البيع، فما عسى أن يقال في قياس النكاح على الوقف، وهما على طرفي نقيض. [ص 34] وإذا كان الأمر على ما ذُكِر، فهذه التعسُّفات لا تقوى على تخصيص أو تقييد نصّ الإمام الشافعي رحمه الله تعالى على بطلان توكيل غير المجبر إلا بأن تأذن له المرأة أن يوكّل بتزويجها، فالحقُّ الذي لا يجوز غيره إبقاء نصّه على ظاهره. والله أعلم.

الرسالة التاسعة عشرة الحكم المشروع في الطلاق المجموع

الرسالة التاسعة عشرة الحكم المشروع في الطلاق المجموع

الآيات وتفسيرها

بسم الله الرحمن الرحيم الآيات وتفسيرها: قال الله تعالى: 1 - {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)}. 2 - {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)}. 3 - {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)}. 4 - {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)}. 5 - {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)} [البقرة: 228 - 232].

6 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)} [الأحزاب: 49]. 7 - {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1)}. 8 - {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)} [الطلاق: 1 - 3] (¬1). [ص 3] صح عن عروة بن الزبير قال: قال رجل لامرأته على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا آوِيكِ ولا أدعُكِ تَحِلِّين. فقالت له: كيف تصنع؟ قال: أطلِّقك، فإذا دنا مُضِيُّ عدتِك راجعتُك، فمتى تَحِلِّين؟! فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأنزل الله {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}، فاستقبله الناس جديدًا، من كان طلَّق، ومن لم يكن طلَّق" (تفسير ابن جرير ج 2/ ص 258) (¬2). ¬

_ (¬1) بعدها الصفحة الثانية فارغة في الأصل. (¬2) (4/ 126) ط. التركي. وفيها: "لا أُؤْوِيك" بدل "لا آوِيك".

هذا مرسلٌ صحيحٌ (¬1)، وقد رفعه بعضهم، قال: "عن عروة عن عائشة" (¬2). وله عواضد، وسيأتي بسط ذلك في البحث مع الإمام الشافعي رحمه الله تعالى. ومفاده: أن الطلاق في أول الإسلام لم يكن له حد، فكان للرجل إذا طلَّق أن يراجع قبل مضي العدة، ثم إذا طلَّق فله أن يراجع، ثم إذا طلَّق فله أن يراجع، وهكذا أبدًا، فاتخذ بعض الناس ذلك طريقًا للإضرار بالنساء، فأنزل الله سبحانه وتعالى {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (الآيتين: 2 - 3 من آيات البقرة). فقوله تعالى في الآية الأولى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ} الآية، يحتمل في نزولها ثلاثة أوجه: الأول: أن يكون نزولها متقدمًا على نزول ما بعدها بمدة. الثاني: أن تكون نزلت مع ما بعدها معًا. الثالث: أن يكون نزولها متأخرًا عما بعدها في النظم. والأول أقرب؛ لأن المتقدم في النظم يُشعِر بالتقدم بالنزول، وإن لم يكن ذلك حتمًا, ولأن ظاهرها عموم استحقاق الرجعة في كل طلاق، وهذا مطابقٌ للحكم المنسوخ بما بعدها, ولمرسل عروة وعواضده، فإن ظاهره أن قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} أول ما نزل بعد شكوى المرأة، وذلك يقتضي ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي عقب حديث (1192) وابن أبي شيبة في "المصنف" (5/ 260). (¬2) أخرجه الترمذي (1192) والحاكم في "المستدرك" (2/ 279) والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 333).

أن الآيتين نزلتا منفصلتين عن الآية التي قبلها، وقد ثبت تقدمُها بالدليلين الأولين. وعلى هذا فكلمة (المطلقات) على عمومها, ولا ينافيه قوله في أثناء الآية: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ}؛ لأن الآية نزلت قبل تحديد الطلاق كما سمعت، ويكون قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ...} (الآيتين) ناسخًا لبعض ما دخل في الآية الأولى، وهو استحقاق الرجعة بعد الطلاق الثالث. وأما على الوجهين الآخرين، فيحتمل في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ} أن يكون (¬1) من العام المراد به الخصوص، أو من العام المخصوص، أو (¬2) أن يكون باقيًا على عمومه، ولكن الضمير في قوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} أخصُّ من مرجعه، كأنه قال: "وبعولة بعضهن"، والمراد ببعضهن: المطلقات مرةً أو مرتين فقط. وهذا الأخير - وإن ذكروه - بعيدٌ جدًّا؛ لمخالفته سنة الكلام من مطابقة الضمير لمرجعه، وتوجيهُه بإضمار "بعضهن" تعسفٌ، وهو شبيه بالاستخدام، وقد تكلمت على الاستخدام في مقالتي في بيان مَنِ المراد بقوله تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ} (¬3). والحق في توجيه هذا أن الضمير عامٌّ كمرجعه، ولكن قد يرد التخصيص على العام باعتبار الحكم الواقع مع الضمير دون الحكم الأول، ¬

_ (¬1) في الأصل: "تكون". (¬2) في الأول: "و". (¬3) انظر كلام المؤلف على المراد بهم في (ص 316 - 318).

فيكون الظاهر عامًّا باقيًا على عمومه، والضمير عامًّا مخصوصًا. وعلى هذا، فالضمير مطابقٌ لمرجعه على ما هو سنة الكلام. وإذ قد ترجح الاحتمال الأول، فلا حاجة لبسط الكلام في الاحتمال الثاني. وأما الآية الرابعة؛ وهي قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)}. ففيها احتمالان: 1 - أن تكون متقدمة النزول على الآيتين اللتين قبلها. وعليه؛ فهي على ظاهرها من أن الطلاق تحل الرجعة بعده مطلقًا، أي: سواء في المرة الأولى، أو الثانية، أو الثالثة، وهكذا. 2 - وتحتمل أن تكون متأخرة عنهما. وعليه؛ فقوله: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} من العام المراد به الخصوص، أو العام المخصوص، أو على عمومه، ولكنَّ الضمير في قوله: {فَأَمْسِكُوهُنّ} أخص من مرجعه، ولكن هذا الثالث بعيدٌ، أو باطلٌ ههنا، فإن الآية إنما سيقت لأجل هذا الحكم خاصة، أعني قوله: {فَأَمْسِكُوهُنّ} الآية.

وأما آيات سورة الطلاق؛ فيتعين فيها النزول معًا على نظمها؛ لأنها كلامٌ واحدٌ مرتبطٌ أوثقَ الارتباط. ويبقى النظر بينها وبين قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (الآيتين)، فإن كانت آيات سورة الطلاق نزلت قبل آيتي {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} فلا إشكال في هذا. وإن كانت نزلت بعدُ، فتحتاج إلى تأويل، فيقال: إن قوله تعالى: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} إما عامٌّ مرادٌ به الخصوص، وإما عامٌ مخصوص، وإما على عمومه، وإن كان التعليل بقوله تعالى: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} يختص بمن طلقت مرةً أو مرتين فقط. وهكذا الضمير في قوله: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}. والاحتمال الأول أولى؛ لتسلَم الآياتُ من مخالفة الظاهر. ولا ينافي ما تقدم في الآية الرابعة من آيات البقرة، وما قلناه ههنا قولهم: "إن التخصيص أولى من النسخ"، فإن محله حيث لم يتحقق النسخ، وههنا قد تحقق النسخ في الجملة كما تقدم. فأما على قول الحنفية ومن وافقهم: أن العام المتأخر ينسخ الخاص المتقدم، فيتعين القول بتأخر نزول آيات سورة الطلاق، وإلا لزم أن يكون ناسخًا لقوله: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} الآيتين.

فصل

وكذلك لا ينافيه ما جاء أن سورة البقرة نزلت قبل سورة الطلاق بمدة؛ لأن المراد فيه معظم سورة البقرة، فقد صح عن ابن عباس: "أن آخر ما نزل من القرآن آية الربا" يعني التي في سورة البقرة. رواه البخاري وغيره (¬1)، وروي مثله عن عمر (¬2)، ولذلك نظائر في القرآن. انظرها في "الإتقان" (¬3). [ص 4] فصل قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} "ال" للعهد، أي: الطلاق الذي تعهدونه من حيث إن من شأنه أن الرجل إذا أوقعه كان له أن يراجع. وهذه الحيثية كانت سبب نزول الآية، كما تقدم في مرسل عروة، والذي من شأنه ما قاله ذلك الرجل، والذي تقدم ذكره في الآية السابقة، وهي قوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ} إلى قوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ}. ولا ينافي هذا ما اخترناه من تقدم نزول آية {وَالْمُطَلَّقَاتُ} بمدة؛ لأنها في علم الله تعالى متصلة بها، وجعلت في النظم متصلة بها. والعهد هنا أولى من الجنس لأمرين: الأول: لما تقرر في الأصول: أنه إذا تحقق عهدٌ تعين المصير إليه. الثاني: قوله: {مَرَّتَانِ} مع أن جنس الطلاق - مع صرف النظر عن المراجعة - ثلاث بمقتضى هاتين الآيتين. ¬

_ (¬1) البخاري (4544). وأخرجه أيضًا أبو عبيد في "فضائل القرآن" (ص 223 - 224) والطبري في "تفسيره" (5/ 67)، والبيهقي في "دلائل النبوة" (7/ 138). (¬2) أخرجه البيهقي في "الدلائل" (7/ 138). (¬3) (1/ 180).

وقال ابن جرير (¬1): "اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: هو دلالة على عدد الطلاق الذي يكون للرجل فيه الرجعة على زوجته". ثم ذكر مرسل عروة (¬2)، ومرسلًا في معناه عن قتادة (¬3)، وآخر عن ابن زيد (¬4)، ثم ذكر عن السدي (¬5) قال: "هو الميقات الذي يكون عليها فيه الرجعة". ثم ذكر أثرًا عن عكرمة (¬6). ثم قال (¬7): "وقال آخرون: إنما أُنزِلت هذه الآية على نبي الله - صلى الله عليه وسلم - تعريفًا من الله تعالى ذكرُه عبادَه سنةَ طلاقهم" (تفسير ابن جرير 2/ ص 258 - 259). وقد ذكر في موضعٍ آخر عن قتادة، ولفظه (¬8): عن قتادة قال: "جعل الله الطلاق ثلاثًا، فإذا طلَّقها واحدةً فهو أحقُّ بها ما لم تنقضِ عدتُها، وعدتها ثلاث حيض، فإن انقضت العدة قبل أن يكون راجعها، فقد بانت منه بواحدةٍ، وصارت أحقَّ بنفسها، وصار خاطبًا [من الخُطَّاب] (¬9)، فكان الرجل إذا أراد طلاق أهله نظر حَيْضَتها، حتى إذا طهرت طلَّقها تطليقة في ¬

_ (¬1) "تفسيره" (4/ 125) ط. التركي. (¬2) سبق تخريجه. (¬3) "تفسير الطبري" (4/ 126). (¬4) المصدر نفسه (4/ 126). (¬5) المصدر نفسه (4/ 127). وأخرجه أيضًا البيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 367). (¬6) المصدر نفسه (4/ 127). وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة في "المصنف" (5/ 261). (¬7) المصدر نفسه (4/ 127). (¬8) المصدر نفسه (4/ 166). (¬9) ما بين المعكوفتين مخروم من الأصل.

قُبل عدتها، عند شاهدَيْ عدلٍ، فإن بدا [له مراجعتها] راجعها ما كانت في عدتها، وإن تركها حتى تنقضي عدتها فقد بانت منه بواحدةٍ، وإن بدا له طلاقها بعد الواحدة وهي في عدتها نظر حيضتها، حتى إذا طهرت طلَّقها تطليقةً أخرى في قُبل عدتها، فإن بدا له مراجعتها راجعها، فكانت عنده [على] واحدة، وإن بدا له طلاقها طلَّقها الثالثةَ عند طهرها، فهذه الثالثة التي قال الله تعالى ذكره: {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} " (تفسير ابن جرير ج 2/ ص 270) (¬1). [ص 9 مكرر] ودل على هذا قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} ولم يقل: ثلاث، ولا وجه لذلك إلا أنه أراد الذي تكون معه الرجعة، وهو الذي عهده الناس من قبل نزول الآية، والذي تقدم ذكره. قال تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ}. قال ابن جرير (¬2): "فقال بعضهم: هو دلالة على عدد الطلاق الذي يكون للرجل فيه الرجعةُ على زوجته". ثم استدل على ذلك بمرسل عروة وما شاكله، ثم حكى أقوالًا مضطربة، ثم روى عن الضحاك قال (¬3): "يعني تطليقتين بينهما مراجعة، فأمر أن يمسك، أو يطلق بإحسان". ¬

_ (¬1) كتب الشيخ بعدها: "ملحق". ويقصد به الآتي. (¬2) "تفسيره" (4/ 125). (¬3) المصدر نفسه (4/ 132).

واعترضه ابن جرير من جهة غير ما نحن بصدده. ثم قال ابن جرير (¬1): "فبيِّنٌ أن تأويل الآية: الطلاق الذي لأزواج النساء على نسائهم فيه الرجعة مرتان، ثم الأمر بعد ذلك إذا راجعوهن في الثانية إما إمساكٌ بمعروف، وإما تسريحٌ منهم لهن بإحسان بالتطليقة الثالثة". ثم قال (¬2) في قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}: "فقال بعضهم: دل على أنه إن طلق الرجل امرأته التطليقة الثالثة بعد التطليقتين اللتين قال الله تعالى ذكره فيهما: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} فإن امرأته تلك لا تحلُّ له بعد التطليقة الثالثة حتى تنكح زوجًا غيره". ثم أخرج (¬3) عن قتادة قال: "جعل الله الطلاق ثلاثًا، فإذا طلَّقها واحدةً فهو أحقُّ بها ما لم تنقضِ العدة، وعدتها ثلاثُ حِيَض، فإن انقضت العدة قبل أن يكون راجعها، فقد بانت منه بواحدةٍ، وصارت أحقَّ بنفسها، وصار خاطبًا من الخطاب، فكان الرجل إذا أراد طلاق أهله نظر حيضتها، حتى إذا طهرت طلَّقها تطليقةً في قُبُل عدتها، عند شاهدي عدلٍ، فإن بدا له مراجعتها راجعها ما كانت في عدتها، ... وإن بدا له طلاقها طلَّقها الثالثة عند طهرها، فهذه الثالثة التي قال الله تعالى ذكره: {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} ". ¬

_ (¬1) المصدر نفسه (4/ 132). (¬2) المصدر نفسه (4/ 165). (¬3) المصدر نفسه (4/ 166).

ثم روى (¬1) بسند ضعيف عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس يقول: "إن طلَّقها ثلاثًا فلا تحِلُّ حتى تنكح زوجًا غيره". وأخرج عن الضحاك قال (¬2): "إذا طلَّق واحدة أو اثنتين فله الرجعة ما لم تنقضِ العدة، قال: والثالثة قوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} ... ". وعن السدي (¬3): "فإن طلَّقها بعد التطليقتين". ثم حكى عن مجاهد (¬4) ما حاصله أن الطلقة الثالثة قد تقدمت في قوله: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}، وقوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} تفسيرٌ لذلك، كأنه قال: فإن وقع التسريح بالإحسان. وقد قدَّم في تفسير التسريح حديث أبي رزين (¬5) قال: قال رجل: يا رسول الله! يقول الله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} فأين الثالثة؟ قال: "التسريح بإحسان". وروى عن مجاهد وقتادة نحوه (¬6). وحكى عن السدي والضحاك أنهما قالا (¬7): "الإمساك: المراجعة، ¬

_ (¬1) المصدر نفسه (4/ 166). (¬2) المصدر نفسه (4/ 167). (¬3) المصدر نفسه (4/ 167). (¬4) المصدر نفسه (4/ 167). (¬5) المصدر نفسه (4/ 130). (¬6) المصدر نفسه (4/ 131). (¬7) المصدر نفسه (4/ 131، 132).

والتسريح: أن يدعها حتى تمضي عدتها". وعلى كل حال فهم متفقون أن قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} أراد به الثالثة، سواء من قال: إنه لم يتقدم لها ذكر، ومن قال: بل قد تقدم. وهكذا ما روي عن ابن عباس - وإن لم يصح - من قوله: "إن طلَّقها ثلاثًا"، فإنه إنما أراد الثلاث التي تقدمت، وهي المرتان اللتان (¬1) راجع بعد كل منهما، والتسريح. هكذا يجب أن يُفهم، فإنه إن فُهِم على معنى: إن طلَّقها ثلاثًا دفعة واحدة، كان على خلاف سياق القرآن، وخلاف ما عليه سائر المفسرين. [منتصف ص 4] وقوله تعالى: {مَرَّتَانِ} لماذا عُدِل به عن "طلقتان"؟ عنه ثلاثة أجوبة: الأول: أن يقال: إنما عُدِل عنه؛ لأن تكرار الحروف يوجب ثقلًا في اللفظ. وليس هذا الجواب بشيءٍ؛ لأن التكرار هنا لا يوجب ثقلاً يعتدُّ به. وقد وقع في القرآن كثيرًا ما هو مثله، أو أدخلُ منه في شبهة الثقل، مثل {مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً}، {وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا}، {عَاهَدُوا عَهْدًا} , {أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا}، وأبلغ من ذلك قوله تعالى: {وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ}، اجتمعت فيها سبع ميمات. ¬

_ (¬1) في الأصل: "اللتين".

الثاني: ما قاله الجصاص في "أحكام القرآن" وغيره: أنه عُدِل عن "طلقتان" للدلالة على وجوب تفريق الطلاق، إما بأن يطلق واحدةً يقتصر عليها, ولا يطلق أخرى إلا إذا راجع بعد الأولى، وإما بأن يطلق عند كل طهر واحدةً، قولان لأهل العلم. قالوا: فقوله: {مَرَّتَانِ} دلالة على ذلك. قال الجصاص: "وذلك يقتضي التفريق لا محالة؛ لأنه لو طلَّق اثنتين معًا لما جاز أن يقال: طلَّقها مرتين، وكذلك لو دفع رجل إلى آخر درهمين لم يجز أن يقال: أعطاه مرتين حتى يفرق الدفع" (أحكام القرآن ج 1/ ص 378). بل في الطلاق نفسه لو قال قائلٌ: إن فلانًا طلَّق زوجته اليوم مرتين، لفُهِم منه التفريق، ولم يفهم منه أنه قال: أنت طالق طلقتين، أو أنت طالق أنت طالق. ومع ذلك ففي هذا الجواب نظرٌ؛ لأنه كان الظاهر أن يقال: "ثلاث مرات"، فلماذا قال: {مَرَّتَانِ}، ثم ذكر الطلقة الثالثة بعدُ؟ ولأن التفريق يصدق بما لو طلَّقها طلقةً، ثم بعد ساعة طلَّقها أخرى بدون تخلل رجعة، فلو أريد تفريق مخصوص، لكان الظاهر أن يقام عليه دليلٌ. نعم، من قال: إن السنة أن يطلق طلقة واحدة، ثم يدعها حتى تنقضي عدتها، فإن راجعها في العدة ثم بدا له أن يطلق، فليطلق مرة أخرى، فله أن يجيب بأن المراد بـ {مَرَّتَانِ} طلاقان يعقب كلًا منهما رجعة، وهذا لا يكون ثلاثًا، وبأن في الآية دليلًا على هذا التفريق بخصوصه، وهو قوله: {فَإِمْسَاكٌ

بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} بناءً على تفسير الإمساك بالرجعة، والتسريح بعدمها. وفيه: أن ذلك إنما يتم لو كان المعنى: فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان بعد كل مرة، وهذا محتمل فيما حكاه ابن جرير عن الضحاك (¬1) [ص 5] قال: "يعني: تطليقتين بينهما مراجعة، فأمران يُمسِك أو يُسرِّح بإحسان، قال: فإن هو طلَّقها ثالثة فلا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره". وقد فسره ابن جرير بقوله: "وكأن قائلي هذا القول الذي ذكرناه عن السدي والضحاك ذهبوا إلى أن معنى الكلام: الطلاق مرتان، فإمساكٌ [في] كل واحدة منهما لهن بمعروف أو تسريح لهن بإحسان" (تفسير ابن جرير ج 2/ ص 260) (¬2). أقول: ولفظ السدي (¬3): "إذا طلَّق واحدةً أو اثنتين إما أن يمسك - ويُمسك: يراجع بمعروف -, وإما سكت عنها حتى تنقضي عدتها، فتكون أحقَّ بنفسها". وقوله: "واحدة أو اثنتين" أراد به على ما فهمه ابن جرير: الأولى أو الثانية, ولم يرد اثنتين لم تتخللهما رجعة. ولكن ابن جرير رد هذا القول بحديث رواه، كما سيأتي. ¬

_ (¬1) (4/ 132). (¬2) (4/ 132). (¬3) المصدر نفسه (4/ 132).

وأقول: إن فيه بعدًا من جهة أن الظاهر في قوله: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} أنه بعد المرتين كما تقتضيه الفاء. الجواب الثالث: أنه إنما لم يقل: "طلقتان" إشعارًا بأنه لو قال: طلقتك وطلقتك وطلقتك، أو قال: طلقتك ثلاثًا، أو ألفًا، أو عدد ذرات العالم، كان هذا كله مرةً واحدةً، كما تقول: ضرب فلانٌ عبده اليوم مرتين، فيصدق بما لو ضربه كل مرة من المرتين ضربةً، أو ضربتين، أو ضربات. ويحتج لهذا القول بأن الآية نزلت لإبطال ما سبق من تكرر الطلاق مع تكرر الرجعة مرارًا لا حدَّ لها، [إذ] كان لأحدهم أن يقول: أنت طالق ألفًا ثم يراجعها، ثم يقول: أنت طالق ألفًا ثم يراجعها، ثم يقول: أنت طالق ألفًا ثم يراجعها، وهكذا مرارًا لا حدَّ لها. فقيل لهم: إن الطلاق الذي تعقبه الرجعة مرتان، لا مِرارٌ لا حدَّ لها، فالمرة الواحدة هي طلاق تعقبه رجعة، مع صرف النظر عن ذلك الطلاق أطلقةً كان أم ألفًا (¬1). وهذا جوابٌ جيد، لكنه لا يأتي إلا على قول الظاهرية والزيدية وعامة الشيعة ومن وافقهم: إن الطلاق الثلاث الذي يحرمها حتى تنكح زوجًا غيره، إنما هو طلاق يتبعه رجعة، ثم طلاق يتبعه رجعة، ثم طلاق. فأما أن يقول: طلقتك ألفًا، أو يكرر لفظ الطلاق في كلامٍ واحدٍ، أو يطلق مرارًا كثيرةً لم تتخللها رجعة، فهذا كله مرةٌ واحدةٌ. ¬

_ (¬1) كتب المؤلف هنا: "ملحق". ويقصد به الكلام الآتي.

ويحتجون بالآية، والإنصاف أن ظاهرها معهم، فإنها أثبتت أن للرجل أن يطلق ثم يراجع، ثم يطلق ثم يراجع، ولم تحدّد الطلاق الواقع كل مرة. ويحتجون بالآية الرابعة من آيات البقرة، فإنه تعالى قال: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ} والإمساك هنا الرجعة اتفاقًا، قالوا: فأثبت لهم الرجعة بعد الطلاق، ولم يحدد الطلاق بحدّ، فهو صادق بأن يقول: طلقتك، وأن يقول: طلقتك وطلقتك وطلقتك، أو طلقتك ألفًا، أو عدد ذرات العالم، ولا حدَّدتْه بأنه أول طلاق، ولا أنه طلاق قد تقدمه طلاق ورجعة. فإن قيل: إنك قد قدمت استظهار أن هذه الآية متقدمة على قوله: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ}! قلت: نعم، ولكن لهم أن يقولوا: إن آيتي {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} أقرت الآية الرابعة على هذا المعنى، ووافقتها عليه - كما تقدم - وإنما خالفتها في المرة الثالثة. [ص 5 مكرر] ويحتجون أيضًا بآيات سورة الطلاق، والكلام فيها كالكلام في الآية الرابعة من آيات البقرة سواء. واحتج مخالفوهم بقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا}. أخرج أبو داود بسندٍ صحيحٍ كما في الفتح (¬1) عن مجاهد قال: "كنت ¬

_ (¬1) (9/ 362). والأثر عند أبي داود (2197).

عند ابن عباس فجاءه رجل، فقال: إنه طلَّق امرأته ثلاثًا، فسكت حتى ظننت أنه سيردُّها إليه، فقال: ينطلق أحدكم فيركب الأُحموقةَ، ثم يقول: يا ابن عباس! يا ابن عباس! إن الله قال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا}، وإنك لم تتق الله، فلا أجد لك مخرجًا، عصيتَ ربك، وبانتْ منك امرأتك". ويجاب عن هذا بأن هذه الجملة وردت بعد أوامر ونواهي ليس فيها النهي عن جمع الطلاق، على أن من جملة الأوامر الطلاق للعدة، ومعلوم أن من طلَّق واحدة لغير العدة لا تبين منه امرأته جماعًا. فهذا يدل أن المخرج في الآية ليس في خصوص عدم البينونة، فمن لم يتق الله فطلق لغير العدة، ضيَّقَ الله تعالى عليه بوجوب الرجعة، ومن لم يتق الله فقال: هي طالقٌ ثلاثًا، أو ألفًا، يُضيَّق الله عليه بأن لا تقع إلا واحدة، فإن وافق ذلك هواه ضيَّق الله عليه من جهة أخرى، كأن يوقع الخلاف بينه وبين امرأته، فيضطر إلى مفارقتها، أو يعيش معها في نَكَدٍ، أو غير ذلك. على أننا قد قدمنا أن الظاهر أن هذه الآيات نزلت قبل النسخ، وعليه فهذه الآية تشير إلى ما تقدم قبلها في الآية {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا}. فكأنه قال: إن اتقيتم الله تعالى فلم تراجعوا المطلقات إلا بمعروف، جعل الله لكم مخرجًا بأن يستمر الحكم بعدم تحديد الطلاق، وإن لم تتقوا بل أخذتم تراجعون ضرارًا، فسيضيِّق الله تعالى عليكم.

وقد وقع هذا الوعيد، فإنهم لما أخذوا يراجعون ضرارًا، كما في مرسل عروة، ضيَّق الله عليهم بتحديد الطلاق، والله أعلم. هذا ما يتعلق بهذه المسألة من كتاب الله عزَّ وجلَّ، فلننظر الآن ما يتعلق بها من السُّنَّة.

الأحاديث التي احتج بها من يرى أن من قال: طلقتك ثلاثًا، أو ألفًا، أو كعدد ذرَّات العالم، أو نحو ذلك، فهي مرة واحدة، تكون له بعدها الرجعة [ص 6] بسم الله الرحمن الرحيم في "صحيح مسلم" (¬1) بسندٍ على شرطهما عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال: "كان الطلاق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمرٍ قد كانت لهم فيه أناةٌ، فلو أمضيناه عليهم. فأمضاه". وبسندٍ آخر (¬2) على شرطهما عن ابن جريج أخبرني ابن طاوس عن أبيه أن أبا الصهباء قال لابن عباس: "أتعلم أنما كانت الثلاث تُجعَل واحدةً على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وثلاثًا من إمارة عمر؟ فقال ابن عباس: نعم". وبسندٍ آخر (¬3) على شرطهما عن إبراهيم بن مَيْسَرة أن أبا الصهباء قال لابن عباس: "هاتِ من هَنَاتِك! ألم يكن الطلاقُ الثلاثُ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر واحدةً؟ فقال: قد كان ذلك، فلما كان في عهد عمر تَتايَعَ الناسُ في الطلاق، فأجازه عليهم". ورجال هذه الأسانيد أئمة أثبات. ¬

_ (¬1) رقم (1472). (¬2) تابع للرقم السابق. (¬3) تابع للرقم المذكور.

وفي "المستدرك" (¬1) من طريق ابن أبي مليكة أن أبا الجوزاء أتى ابن عباس فقال: "أتعلم أن ثلاثًا كن يُرْدَدْنَ على عهد رسول الله إلى واحدة؟ قال: نعم". وفي "مسند أحمد" (¬2): ثنا سعد بن إبراهيم، ثنا أبي، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني داود بن الحصين، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس، قال: طلَّق رُكانةُ بن عبد يزيد أخو بني المطَّلب امرأتَه ثلاثًا في مجلس واحد، فحزِن عليها حزنًا شديدًا. قال: فسأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كيف طلقتَها؟ قال: طلقتُها ثلاثًا. قال: فقال: في مجلسٍ واحدٍ؟ قال: نعم. قال: فإنما تلك واحدةٌ، فارجِعْها إن شئت. قال: فراجعَها، فكان ابن عباس يرى أنما الطلاق عند كل طهر. وقد احتج الإمام أحمد بحديث آخر بسند هذا سواء (¬3). وفي "سنن أبي داود" (¬4) من طريق ابن جريج أخبرني بعض بني أبي رافع مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عكرمة مولى ابن عباس عن ابن عباس قال: طلق عبد يزيد أبو ركانة ... فقال (النبي - صلى الله عليه وسلم -): راجعْ أمَّ ركانة وإخوتِه. فقال: إني طلقتها ثلاثًا يا رسول الله! قال: قد علمتُ، راجعْها، وتلا: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}. ¬

_ (¬1) (2/ 196). وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، وتعقبه الذهبي فقال: ابن المؤمل ضعفوه. (¬2) (1/ 265). (¬3) هو حديث إرجاع النبي - صلى الله عليه وسلم - ابنته زينب على زوجها بالنكاح الأول. أخرجه أحمد في "المسند" (2366) من طريق ابن إسحاق بهذا الإسناد. (¬4) رقم (2196).

وعورض هذا بحديث ضعيف (¬1)، ضعفه الإمام أحمد وغيره في "أن ركانة طلَّق البتة". وفي "صحيح مسلم" (¬2) من طريق محمد بن سرين قال: "مكثتُ عشرين سنة يحدثني من لا أتهم: أن ابن عمر طلَّق امرأته ثلاثًا وهي حائض، فأمر أن يراجعها، فكنت لا أتهمهم ولا أعرِفُ وجهَ الحديث، حتى لقيت أبا غلاب يونس بن جبير، وكان ذا ثبت، فحدثني أنه سأل ابن عمر، فحدثه أنه طلَّق امرأته تطليقةً وهي حائض". أقول: [ليس] بين ما أخبره الجماعة الذين لا يتهمهم، وما أخبره أبو غلاب عن ابن عمر [تعارض]، بل يُجمع بينهما بأنه طلَّق ثلاثًا في اللفظ، وواحدة في الحكم. وعلى هذا يُحمل ما جاء في عدة روايات من أنه طلَّق تطليقةً واحدةً، وكأن ابن عمر أو من بعده كان يعبر بهذا؛ لأنه يرى أن الحكم قد تغير بسبب استعجال الناس، كما مر في حديث ابن عباس، فصار الإنسان إذا طلَّق ثلاثًا حسبت عليه ثلاثًا, ولا يصرح بقوله ثلاثًا؛ لئلا يخطئ الناس بظن أن هذه الصورة مستثناة مما أمضاه عمر. وعلى هذا أيضًا يُحمل ما في "صحيح مسلم" (¬3): "وكان عبد الله إذا سئل عن ذلك قال لأحدهم: أما أنت طلقتَ امرأتك مرةً أو مرتين، فإن ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (2206، 2208). (¬2) رقم (1471/ 7). (¬3) رقم (1471/ 1).

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرني بهذا، وإن كنتَ طلقتَها ثلاثًا، فقد حرمتْ عليك حتى تنكح زوجًا غيرك، وعصيتَ الله فيما أمرك من طلاق امرأتك". ومثله ما يُروى عن عمر: أن رجلاً قال له: إني طلقت امرأتي البتةَ وهي حائض. فقال: عصيتَ ربك، وفارقتَ امرأتك. قال: فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر ابن عمر أن يراجع امرأته؟ قال: إنه أمر ابن عمر أن يراجعها بطلاق بقي له، وأنت لم تُبقِ ما ترتجعُ به امرأتك. رواه الدارقطني (¬1) من طريق إسماعيل بن إبراهيم الترجماني عن سعيد بن عبد الرحمن الجمحي، والسند بعد ذلك صحيح. والترجماني قالوا: "لا بأس به". ووثقه بعض المتأخرين (¬2)، والجمحي مختلف فيه (¬3). [ص 7] وقد أطال أهل العلم الكلامَ في هذه المسألة، فلنقدم كلام الإمام الشافعي رحمه الله تعالى في كتاب "اختلاف الحديث" (¬4). قال: "باب في طلاق الثلاث المجموعة"، ثم ذكر حديث ابن عباس بمعنى الرواية الثانية عند مسلم، ثم أسند عن ابن عباس: "أن رجلاً قال له: طلَّقتُ امرأتي ألفًا. فقال: تأخذ ثلاثًا، وتَدَعُ تسعمائة وسبعًا وتسعين" (¬5). وبسند آخر: "قال رجلٌ لابن عباس: طلقتُ امرأتى مائةً. فقال: تأخذ ثلاثًا، وتَدَعُ سبعًا وتسعين". ¬

_ (¬1) (4/ 8). (¬2) انظر "تهذيب التهذيب" (1/ 271, 272). (¬3) انظر المصدر السابق (4/ 55، 56). (¬4) ضمن كتاب "الأم" (10/ 256، 257) ط. دار الوفاء. (¬5) أخرجه أيضًا عبد الرزاق في "المصنف" (6/ 397) والبيهقي (7/ 337).

قال الشافعي: "فإن كان معنى قول ابن عباس أن الثلاث كانت تُحسَب على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يعني أنه بأمر النبي". أقول: هذا هو المتعين قطعًا؛ لأن هذا الجعل إنما يكون قضاءً أو إفتاءً، ولم يكن يقع القضاء والإفتاء في عهده - صلى الله عليه وسلم - إلا منه، أو بأمره، أو بعلمه، إذ لا يجوز أن يكون وقع القضاء والإفتاء في هذا الحكم العظيم من أصحابه - صلى الله عليه وسلم - باجتهادهم، ثم لا يبلغه ذلك، مع ما تُشعِر به الآثار من تكرر ذلك واستمراره. وعلى فرض أنه كان يقع ذلك ولم يبلغه - وهو محالٌ عادةً - فكفى بتقرير الله عَزَّ وَجَلَّ حجةً. وفي "الصحيح" (¬1) عن جابر: "كنا نَعزِل والقرآن ينزل، لو كان شيئًا يُنهَى عنه لنَهَى عنه القرآن". وإذا كنا نحتج بتقرير النبي - صلى الله عليه وسلم -، فالاحتجاج بتقرير الله عَزَّ وَجَلَّ أولى، فإن الوصلة كانت حينئذٍ موجودة بينه وبين عباده بوجود الوحي، فإذا لم يبين للناس خطأ ما يفعلونه حينئذٍ، فقد أقرهم عليه، ويوضح هذا قول الله عزَّ وجلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ}. وما تضافرت به الآثار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكره المسائل حتى قال: "إن أعظم المسلمين في المسلمين جرمًا من سأل عن شيءٍ لم يُحرَّم على الناس، فحُرِّم من أجل مسألته". رواه الشيخان (¬2) من حديث سعد بن أبي وقاص. ¬

_ (¬1) البخاري (5208) ومسلم (1440). والفقرة الأخيرة عند مسلم فقط. (¬2) البخاري (7289) ومسلم (2358).

وإنما المعنى أن الناس كانوا مأمورين أن يعملوا بما ظهر لهم من الشريعة، وبأصل الإباحة وعدم التكليف، متَّكلِين على أن الله تبارك وتعالى يعلم بهم وبما فعلوه، فإن أخطأوا غفر لهم خطأهم، وبين لهم على لسان رسوله، كما في "صحيح البخاري" (¬1) عن سهل بن سعد قال: "أنزلت {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} ولم ينزل {مِنَ الْفَجْرِ}، فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجلَيْه الخيطَ الأبيض والخيط الأسود، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله بعد {مِنَ الْفَجْرِ}، فعلموا أنما يعني الليل والنهار". ويوضح هذا ما في "صحيح مسلم" (¬2) عن أبي هريرة قال: "خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أيها الناس! قد فرض الله عليكم الحج فحُجُّوا. فقال رجل: أكلَّ عامٍ يا رسول الله؟ فسكت، حتى قالها ثلاثًا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو قلت: نعم، لوجبتْ، ولما استطعتم"، ثم قال: "ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيءٍ فأْتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيءٍ فدعوه" (صحيح مسلم ج 4/ ص 102). لما كان الأصل عدم التكليف بالحج، وقوله: "قد فرض الله عليكم الحج، فحجوا" يتحقق بمرةٍ واحدةٍ في العمر، كان عليهم أن يفهموا المرة الواحدة، ويقتصروا عليه، عالمين أن الله تعالى إذا أراد كل سنة فسيُبينه لهم ¬

_ (¬1) رقم (1917). وأخرجه أيضًا مسلم (1091). (¬2) رقم (1337).

بدون سؤال. وهكذا ما كان الأصل فيه الإباحة، كان عليهم أن يستمروا على استباحته، فإذا أراد الله تعالى تحريمه، فسيبينه بدون سؤال. واعلم أن سكوت الشرع عن تنبيههم على خطئهم في القضاء والفتوى في الطلاق - لو كانوا أخطأوا - أبعدُ جدًّا من سكوته عن تنبيههم على الخطأ في فعل العَزْل، وتناوُلِ ما لم يروه حرامًا، والاقتصار على حجة واحدة، فدلالة السكوت على التقرير في الأول وأنهم مصيبون أوضح من الدلالة في الثاني، فتدبَّر هذا. مع أن الحكم في قضية ركانة، وقضية ابن عمر من النبي نفسه - صلى الله عليه وسلم -. [ص 8] ولضعف أو بطلان احتمال أن ما كان يقع في عهده - صلى الله عليه وسلم - مِنْ جعلِ الثلاث واحدةً، كان بغير أمره وبغير تقريره، لم يعتمد الشافعي على هذا الجواب، ولا اعتدَّ به، وإنما أشار إليه إشارةً، وإنما أمعنتُ في بيان سقوطه؛ لأن بعض أهل العلم ممن بعده اعتمد عليه، والله المستعان. قال الشافعي (¬1): "فالذي يُشبِه - والله أعلم - أن يكون ابن عباس قد علم أن كان شيئًا فنُسِخ. فإن قيل: فما دلَّ على ما وصفتَ؟ قيل: لا يُشبِه أن يكون يروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا ثم يخالفه بشيءٍ لم يعلمه كان من النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه خلافُه. ¬

_ (¬1) في "اختلاف الحديث" ضمن كتاب "الأم" (10/ 257، 258) ط. دار الوفاء.

فإن قيل: فلعل هذا شيءٌ روي عن عمر، فقال فيه ابن عباس بقول عمر. قيل: قد علمنا أن ابن عباس يخالف عمر في نكاح المتعة، وبيع الدينار بالدينارين، وفي بيع أمهات الأولاد، وغيره، فكيف يوافقه في شيءٍ، ويروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه خلافه؟ فإن قيل: فلِمَ لم يذكره؟ قيل: وقد يُسأل الرجل عن الشيء، فيجيب فيه ولا يتقصَّى فيه الجواب، ويأتي على الشيء، ويكون جائزًا له، كما يجوز له لو قيل: أصلَّى الناس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بيت المقدس؟ أن يقول: نعم. وإن لم يقل: ثم حُوِّلتِ القبلة. قال: فإن قيل: فقد ذكر [على] عهد أبي بكر، وصدر من خلافة عمر. قيل - والله أعلم -: وجوابه حين استفتي يخالف ذلك، كما وصفتُ". أقول: أطال النووي في "شرح مسلم" (¬1) في الرد على احتمال النسخ، ورده واضح، فإن قول ابن عباس: "كان الطلاق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر الثلاثُ واحدةً، فقال عمر .. " صريحٌ في أن الطلاق كله كان على هذا، فإن هذه قضيةٌ عامةٌ، وليس مثلها ما لو قيل: "أصلَّى الناسُ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بيت المقدس"؛ لأن هذه قضية خاصة، فالأولى تدل على الاستمرار، بخلاف الثانية. وقول ابن عباس في جواب السائل: "قد كان ذلك، فلما كان في عهد ¬

_ (¬1) (10/ 71، 72).

عمر تتايعَ الناسُ في الطلاق، فأجازه عليهم" صريحٌ في أنه أراد أن يُبين تغيرَ الحكم، فلو علم نسخًا في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لما عدل عنه، بل كان يقول: قد كان ذلك في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم نسخ، أو نحو هذا. واحتمالُ أن يكون النسخ وقع في آخر الحياة النبوية، فلم يعمل بموجبه في العهد النبوي، ولم يطلع عليه ابن عباس، يردُّه استمرار الحكم في عهد أبي بكر، وثلاث سنين من إمارة عمر، فيكونون قد أجمعوا على الخطأ. واحتمال أن يكونوا اطلعوا في عهد عمر على ناسخٍ، يردُّه أن عمر إنما بني التغيير على قوله: "إن الناس قد استعجلوا في أمرٍ كانت لهم فيه أناةٌ"، ولو كان اطلع على ناسخٍ لما عَدَلَ عنه، بل كان يقول: قد كنا نَقضِي بكذا حتى وقفنا على هذا النص، ويذكره. وهكذا ابن عباس، إنما بنى التغييرعلى قوله: "فلما كان في عهد عمر تتايعَ الناسُ في الطلاق، فأجازه عليهم"، فبيَّن أن الإجازة كانت بسبب التتايع، فلو كانت الإجازة للاطلاع على ناسخٍ لما عدلَ عنه. وقد سلَّم الشافعيُّ أن الاستمرار في عهد أبي بكر ومدة من إمارة عمر يدفع النسخ، وإنما عارض ذلك بفتوى ابن عباس. وهذه معارضة ضعيفة، بل باطلة على أصل الشافعي الذي يوافقه عليه جمهور أهل العلم: أن العبرة بما رواه الراوي وإن خالفه. وقد قرر الشافعي هذه القاعدة في مواضع من "الأم"، منها: مسألة التحريم بالرضاع من جهة الفحل (¬1)، وغيرها. ¬

_ (¬1) (8/ 768، 769) من "اختلاف مالك والشافعي".

ومن يقول: إن فتوى الراوي بخلاف مرويِّه تَخْدِش في مرويَّه، يستثني من ذلك ما إذا بيَّن الراوي مستندَ فتواه، وتبين لنا ضعف ذلك المستند. وقد بيَّن ابن عباس هنا أن مستند التغيير هو أن الناس تتايَعوا في الطلاق، فأجازه عليهم عمر. وإجازة عمر ليست عند ابن عباس حجة، كما ذكر الشافعي، فلم يبق إلا أنه وافقه على أن التتايع يقتضي الإجازة، وسيأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى. [ص 9] على أنه قد جاء عن ابن عباس الفتوى بأن الثلاث واحدة. قال أبو داود في "سننه" (¬1): روى حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس: "إذا قال أنت طالق ثلاثًا، بفمٍ واحدٍ، فهي واحدة". ورواه إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن عكرمة هذا قوله، لم يذكر ابن عباس، وجعله قول عكرمة. (سنن أبي داود 1/ 298). أقول: الظاهر صوابهما معًا، إذ لا مانعَ أن يرويه أيوب تارةً عن عكرمة عن ابن عباس، وتارةً عن عكرمة من قوله، فإن أبيتَ إلا الترجيح فقد اختلف الناس أيهما أرجح: حماد أم إسماعيل - وهو ابن عُلَية -؟ فقدَّم عثمان بن أبي شيبة ابنَ عُلَية. وقال يحيى بن معين: حماد بن زيد أثبت من عبد الوارث وابن عُلَية والثقفي وابن عيينة. وقال أيضًا: ليس أحدٌ أثبتَ في أيوب منه. وقال أيضًا: من خالفه من الناس جميعًا، فالقول قوله في أيوب. ¬

_ (¬1) بذيل رقم (2197).

وقال يعقوب بن شيبة: ابن زيد معروفٌ بأنه يقصر في الأسانيد، ويُوقِف المرفوع، كثير الشك بتوقِّيه .. وكان يُعدُّ من المتثبتين في أيوب. وقال ابن أبي خيثمة: سمعت يحيى - هو ابن معين - يقول: لم يكن أحدٌ يكتب عند أيوب إلا حماد. وقال الخليلي: المعتمد في حديثٍ يرويه حماد، ويخالفه غيره عليه، والمرفوع إليه (¬1). أقول: كأنه يريد بقوله: "والمرفوع إليه" أنه إذا رفع حديثًا ووقفه غيره، فالقول قوله؛ لأنه كان كثير التوقي يتوقف عن الرفع لأدنى شك، كما مر عن يعقوب بن شيبة. ثم قال أبو داود (¬2): "وصار قول ابن عباس فيما حدثنا ... ". ذكر أثرًا أفتى فيه ابن عباس وغيره في البكر يطلقها زوجها ثلاثًا، فكلهم قال: "لا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره". وعقَّبه بقوله (¬3): حدثنا محمد بن عبد الملك بن مروان نا أبو النعمان نا حماد بن زيد عن أيوب عن غير واحدٍ عن طاوس: أن رجلاً يقال له أبو الصهباء كان كثير السؤال لابن عباس، قال: أما علمتَ أن الرجل كان إذا طلَّق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها، جعلوها واحدةً على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وصدرًا من إمارة عمر؟ قال ابن عباس: بلى، كان الرجل إذا طلَّق ¬

_ (¬1) انظر أقوال هؤلاء النقاد في "تهذيب التهذيب" (3/ 10، 11). (¬2) رقم (2198). (¬3) رقم (2199).

امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدةً على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وصدرًا من إمارة عمر، فلما رأى الناس قد تتايعوا فيها، قال: أجيزوهن (¬1) عليهم. ثم أخرج (¬2) رواية ابن طاوس عن أبيه بلفظ الرواية الثانية عند مسلم. فقوله: "وصار قول ابن عباس" ظاهرٌ في اعترافه بأن رواية حماد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس ثابتة، وأن لابن عباس قولين، كان يقول بأحدهما، ثم صار إلى الآخر، فإن أراد أنه كان يقول بأنها واحدةٌ، كما في رواية حماد، ثم صار إلى وقوع الثلاث، فهي دعوى بلا دليلٍ، وهكذا إن أراد عكسه، فالأولى أنه كان يفتي بهذا تارةً، وبهذا أخرى، يتوخى في كل قضية ما هو الأولى بها، كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى. وقد استدل بعضهم لما تقدم عن الشافعي من احتمال أن ابن عباس اطلع على ناسخٍ بما رواه أبو داود (¬3) قال: حدثنا أحمد بن محمد المروزي، حدثني علي بن حسين بن واقد، عن أبيه عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} الآية، وذلك أن الرجل كان إذا طلَّق امرأته فهو أحقُّ برجعتها وإن طلَّقها ثلاثًا، فنسخ ذلك، فقال: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} الآية. (سنن أبي داود ج 1/ ص 296). ¬

_ (¬1) كذا في الأصل. وعند أبي داود: "أُجِيزُهن". (¬2) رقم (2200). (¬3) رقم (2195).

أقول: علي بن حسين بن واقد، قال أبو حاتم: ضعيف الحديث. وقال النسائي: ليس به بأس (¬1). وعلى كلتا العبارتين فلا يصلح للحجة، وإنما يصلح على الثانية للمتابعة. وأبوه (¬2) وثقه يحيى، وقال أبو زرعة وأبو داود والنسائي وأحمد في رواية: ليس به بأس. وقال ابن حبان في "الثقات": كان من خيار الناس، وربما أخطأ في الروايات. وقال أحمد في رواية أخرى: في أحاديثه زيادة، ما أدري أي شيءٍ هي، ونفضَ يده. [ص 10] أقول (¬3): فالحديث غير صالح للحجة، ومع ذلك فإن كان مراده بقوله: "وإن طلَّقها ثلاثًا" يعني مجموعةً، فيؤخذ من ذلك أن هذا منسوخٌ، ومن جملة ما نسخ، فقد دلت الأحاديث الصحيحة الثابتة على بطلان هذا الحديث، بدلالتها على أن ابن عباس لم يكن يعلم ناسخًا، بل صرَّح بأن الحكم بجعل الثلاث واحدةً استمرَّ في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وثلاثًا من إمارة عمر. وفيما تقدم عن سنن أبي داود من فتوى ابن عباس ثم عكرمة بعده بكونها واحدةً، دليلٌ آخر على بطلان هذا الحديث, لأنه مروي من طريق عكرمة عن ابن عباس. ¬

_ (¬1) "تهذيب التهذيب" (7/ 308). (¬2) انظر المصدر السابق (2/ 373، 374). (¬3) قبلها في الأصل ورقة من مكان آخر.

وإن كان مراده بقوله: "وإن طلَّقها ثلاثًا" أي متفرقةً، بأن يطلق ثم يراجع، ثم يطلق ثم يراجع، ثم يطلق، فله شاهدٌ، وهو ما رواه مالك في "الموطأ" (¬1) عن هشام بن عروة عن أبيه قال: "كان الرجل إذا طلَّق امرأته، ثم ارتجعَها قبل أن تنقضي عدتها، كان ذلك له، وإن طلَّقها ألفَ مرة، فعَمَدَ رجلٌ إلى امرأته فطلَّقها، حتى إذا شارفَتْ انقضاءَ عدتها راجعها، ثم طلَّقها، ثم قال: لا والله لا أُوْوِيكِ (¬2) إليَّ، ولا تَحِلَّين أبدًا، فأنزل الله تبارك وتعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} فاستقبل الناس الطلاقَ جديدًا من يومئذٍ، من كان طلَّق منهم أو لم يطلِّق". وذكر أيضًا (¬3) عن ثور بن زيد الدِّيلي: "أن الرجلَ كان يطلق امرأته، ثم يراجعها, ولا حاجةَ له بها, ولا يريدُ إمساكها، كيما تطول بذلك عليها العدة لِيُضارَّها، فأنزل الله تبارك وتعالى: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} يَعِظُهم الله بذلك". (الموطأ هامش المنتقى ج 5/ ص 175). وذكره الشافعي عقبَ ما حكيناه عنه سابقًا، فقال (¬4): "فإن قيل: فهل من دليلٍ تقوم به الحجة في ترك أن تُحسَب الثلاث واحدةً في كتاب أو سنة، أو أمرٍ أبين مما ذكرت؟ قيل: نعم، أخبرنا مالك ... ". ¬

_ (¬1) (2/ 588). (¬2) في "الموطأ": "لا آويك". (¬3) "الموطأ" (2/ 588). (¬4) "الأم" (10/ 258).

فذكره ثم قال: "وذكر بعض أهل التفسير هذا، فلعل ابن عباس أجاب على أن الثلاث والواحدة سواء". أقول: روى ابن جرير (¬1) مرسل عروة بنحوه عن ابن حميد عن جرير عن هشام به، وعن أبي كريب عن ابن إدريس عن هشام به، وزاد بعد قوله: "ولا تحلين لي": قالت له: كيف؟ قال: أطلقك حتى إذا دنا أجلك راجعتك، ثم أطلقك فإذا دنا أجلك راجعتك، قال: فشكت ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأنزل الله ... " (تفسير ابن جرير 2/ 258). وأخرج (¬2) عن قتادة وابن زيد نحو هذا المعنى، وأشار إليه الشافعي بقوله: "وذكر بعض أهل التفسير هذا". وقد أغرب يعلي بن شَبِيب، فروى (¬3) حديث عروة عن هشام عن أبيه عن عائشة. (جامع الترمذي ج 1/ ص 224، المستدرك ج 2/ ص 280). ويعلى (¬4) مجهول الحال، وإن ذكره ابن حبان في "الثقات" (¬5)، فإن مذهب ابن حبان أن يذكر في "ثقاته" المجهول الذي روى عن ثقة، وروى عنه ثقة، ولم يكن حديثه منكرًا، كما نص على ذلك في "الثقات" (¬6)، ¬

_ (¬1) "تفسيره" (4/ 125، 126). (¬2) المصدر نفسه (4/ 126). (¬3) أخرجه من طريقه الترمذي (1192) والحاكم (2/ 279، 280) كما ذكره المؤلف. (¬4) انظر "تهذيب التهذيب" (11/ 401، 402). (¬5) (7/ 652). (¬6) المصدر نفسه (1/ 13).

وأوضحه ابن حجر (¬1) وغيره. انظر "فتح المغيث" (¬2). وكذلك لا ينفعه إخراج الحاكم له في "المستدرك"؛ لما علم من تساهله. [ص 11] نعم، إن مرسل عروة اعتضد، ولكنه لا علاقة له بمسألتنا، والكلام الآن في مقامين: الأول: فيما ظنه بعضهم أن هذا المرسل وعواضده يدل على نسخ ما تضمنته أحاديث جعل الثلاث واحدة، والظاهر من كلامهم تجويز أن ابن عباس إنما عني بقوله: "إنما كانت الثلاث تُجعل واحدةً على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - " بيانَ ما ذكره عروة بقوله: "كان الرجل إذا طلَّق امرأته ثم ارتجعها قبل أن تنقضي عدتها كان ذلك له، وإن طلَّقها ألف مرة". فاعلم أن قوله: "كانت الثلاث تُجعل واحدة" يُشعِر بأن هذا في وقت كان للطلاق فيه حد معين، والحالة التي ذكرها عروة لم يكن فيها حسابٌ أصلًا، فلم يكن للحكم تعلق بأن يقال: طلَّق واحدة، طلَّق ثنتين، طلَّق ثلاثًا، وإنما كان المعتبر الطلاق من حيث هو طلاق، إن طلَّق وانقضت العدة بانت، وإن راجع في العدة رجعت، وكأنه لم يُطلق، ثم إن طلَّق وانقضت العدة بانت، وإن راجع فيها رجعت وكأنه لم يُطلق، وهكذا أبدًا، فكان الطلاق بمنزلة العتق، فلو فُرِض أن الرجل إذا أعتق عبده كان له أن يرجع عن العتق إلى شهر مثلًا، ثم إذا أعتق ثانيًا فهكذا، وإذا أعتق ثالثًا فهكذا، وهكذا أبدًا، ¬

_ (¬1) "لسان الميزان" (1/ 209). (¬2) "فتح المغيث" (2/ 45).

ففي هذه الحال لا يكون باعث للسيد أن يقول لمملوكه: أعتقتك ثلاثًا، أو أربعًا، أو غير ذلك، ولا يكون وجهٌ لأن يقال: إذا قال: أعتقتك ثلاثًا جُعِلت واحدةً، أو حُسِبت بواحدة، فتدبر. وإنما يأتي هذا لو كان الحكم أن من أعتق عبده كان له أن يرجع إلى شهر مثلًا، ثم إذا أعتق ثانيًا فهكذا، فإذا أعتق ثالثًا لم يكن له الرجوع. ففي هذا يمكن أن يقول بعض الناس لمملوكه: أعتقتك ثلاثًا، إما على وجه التوكيد، كأنه يقول: أعتقتك وعزمتُ على نفسي أن لا أرجع، كما لا يرجع من أعتق ثم رجع ثم أعتق ثم رجع ثم أعتق، وإما لظنه (¬1) - خطأً أو صوابًا - أنه إذا قال ذلك، كان كأنه قد أعتقه ورجع، ثم أعتقه ورجع، ثم أعتقه. وههنا يصح أن يقال: إذا قال: أعتقتك ثلاثًا جُعِلت واحدة. وإذا فرضنا أن الحكم كان على هذا برهةً، ثم غُيِّر إلى أن من قال: أعتقتك ثلاثًا لم يكن له الرجوع، فحينئذٍ يليق أن يقول من يخبر عن الحكم السابق: "إنما كانت الإعتاقات الثلاث تجعل واحدة". هذا وأنت خبيرٌ أن الحالة الأولى في مرسل عروة نُسِختْ نسخًا قطعيًّا بصريح القرآن، وكان النسخ بعد قدوم النبي - صلى الله عليه وسلم - بمدةٍ لا أراها تتجاوز ثلاث سنين، وانتشر ذلك في الصحابة انتشارًا تامًّا، وقضى به النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلمه الصحابة، واستقبل الناس الطلاقَ من يومئذٍ جديدًا، كما قال عروة، وقالت امرأة رفاعة (¬2): "إن زوجي طلقني فبتَّ طلاقي". ¬

_ (¬1) في الأصل: "على لظنه". (¬2) أخرجه البخاري (5260)، ومسلم (1433) من حديث عائشة.

وفي حديث فاطمة بنت قيس في الصحيح (¬1): "فانطلق خالد بن الوليد في نفرٍ، فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيت ميمونة، فقالوا: إن أبا حفص طلَّق امرأته ثلاثاً". وقالت في رواية أخرى (¬2): "وأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "كم طلَّقَك؟ " قلت: ثلاثًا". وفيه في رواية ثالثة (¬3): "وأمر لها الحارث بن هشام وعياش بن أبي ربيعة بنفقة، فقالا لها: والله ما لكِ نفقةٌ إلا أن تكوني حاملًا" أي لأجل تمام الثلاث. بل إن هذا الحكم انتشر حتى عرفه المشركون، كما قد يؤخذ من قول الأعشى، أنشده الشافعي وغيره (¬4): أيا جارتا بِيني فإنكِ طالقه ... وموموقةٌ ما كنتِ فينا ووامقَهْ أجارتَنا بِيني فإنك طالقه ... كذاك أمورُ الناس غادٍ وطارقَهْ وبِيني فإن البينَ خيرٌ من العصا ... وأن لا تزالي فوق رأسِكِ بارقه حبستُكِ حتى لامَني كل صاحب ... وخفتُ بأن تأتِي لديَّ ببائقه (الأم ج 3/ ص 233). [ص 12] فذِكْره الطلاق مرتين، ثم قوله في الثالثة: "وبِيني"، واقتصاره على ذلك ظاهر في أن الحكم قد كان بلغه في الجملة، [ووقع له ما وقع] ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1480/ 38). (¬2) "المصدر نفسه" (1480/ 48) (¬3) المصدر نفسه (1480/ 41) (¬4) الأبيات في ديوان الأعشى (ص 313) و"الأم" (10/ 215) في "اختلاف الحديث".

لبعض الصحابة كرُكَانة، وعُويمر العجلاني، إذ قال بعد أن لاعن زوجته: "هي طالقٌ ثلاثًا" (¬1). وقد مر توجيه ذلك في مثال العتق، وسيأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى. والأعشى هلك قبل فتح مكة، كما ذكره ابن قتيبة (¬2) وغيره. فمع هذا كله أيجوز أن يقال: إن الطلاق كان على ذلك الحكم المنسوخ في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وثلاثًا من إمارة عمر حتى تتايَعَ الناس في الطلاق، فأُجِيزَ عليهم؟ إن العاقل ليستحيي من حكاية هذا القول، فضلاً عن توهمه، فكيف بمن يُجوِّزه، ويُفسِّر به كلام ابن عباس؟ والشافعي رحمه الله تعالى لم يقل هذا، وإن أوهمه قوله بعد أن ذكر مرسل عروة: "فلعل ابن عباس أجاب على أن الثلاث والواحدة سواء". وإنما أورد مرسل عروة جوابًا لقوله: "فإن قيل: فهل من دليلٍ تقوم به الحجةُ في ترك أن تُحسَب الثلاث واحدةً؟ ". المقام الثاني: في النظر في مرسل عروة، هل فيه دلالة على ترك أن تحسب الثلاث واحدة؟ حاصل مرسلِ عروة وما يوافقه: 1 - أن ارتجاع المطلق لزوجته لم يكن له شرط إلا وقوعه في العدة، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5308، 5309) ومسلم (1492) من حديث سهل بن سعد. (¬2) "الشعر والشعراء" (1/ 257).

فلم يكن هناك حدٌّ لسلسلة الطلاق والرجعة. يطلق الرجل ثم يراجع، ثم يطلق ثم يراجع، ثم يطلق ثم يراجع، ثم يطلق ثم يراجع، وهكذا أبدًا. 2 - فاتخذ بعض الناس ذلك طريقًا للإضرار بالنساء. 3 - فأنزل الله تعال الآية، وشرع الحكم المستقر. 4 - فاستقبل الناس الطلاقَ من يومئذٍ جديدًا. فالنسخ إنما كان لحسم مادة الإضرار بالنساء، وقد أبقى الشرع للزوج حقَّ الرجعة اتفاقًا إذا طلَّق واحدةً، ثم راجع قبل انقضاء العدة، ثمَّ طلَّق ثانيةً، ثم راجع قبل انقضاء العدة. مع أن الزوج قد يتمكن بهذا من إضراره بالمرأة، ولكنه يسير، ولو لم يبقَ له ذلك لأضرَّ ذلك بالنساء وبالأطفال وبالأزواج ضررًا شديدًا. ولا يخفى أنه لا فرقَ في احتمال قصد الزوج مضارَّة المرأة بين أن يطلق واحدةً ثم يراجع، ثم يطلق أخرى ثم يراجع، وبين أن يقول: طلقتك عدد ذرات العالم ثم يراجع، ثم يقول مثل ذلك ثم يراجع. فالقول بأنه إذا قال: "طلقتك واحدة" كانت له الرجعة، وإذا قال: "طلقتك ثلاثًا" لم يكن له رجعة، لا يناسب سبب الآية، وما تضمنته من الحكم، فإن سببها هو إضرار الرجال بالنساء، ولا فرق من جهة الإضرار بين أن يطلق واحدة ثم يراجع، أو عدد ذرات العالم ثم يراجع. والحكم بأنه إذا قال: "طلقتك" كانت له الرجعة، ثم إذا قال: "طلقتك" كان له الرجعة أيضًا، إنما أُبقِي - مع احتمال قصد الرجل الإضرار بالمرأة -

دفعًا لضررٍ أشدَّ يلحق بالمرأة وأطفالها، وبالزوج أيضًا، فقد تكون المرأة وسطًا, ولها أطفال صغار، وليس لها من يقوم بها، ويكون الزوج غير غني، فيحتدُّ فيطلق، ثم يندم لما يلحقه من الضرر، مع ما يلحق الزوجةَ وأطفالَها، فأبقى الله عَزَّ وَجَلَّ له فُسحةً لدفع هذا الضرر. ولا فرق في حصول هذا الضرر الشديد بالمرأة والأطفال والزوج بين أن يقول: "طلقتك واحدة"، وبين أن يقول: "طلقتك عدد ذرات العالم". ومن كان له معرفة بأحوال الناس في هذا العصر، وجدَ أن إضرار الرجال بالنساء بأن يطلق أحدهم ثم يراجع، ثم يطلق ثم يراجع = نادرٌ جدًّا، بل لعله معدومٌ، والضرر الشديد الذي يلحق النساءَ والأطفالَ والأزواجَ بمنع الرجعة إذا غضب الرجل فطلقها ثلاثًا = كثيرٌ جدًّا, ولا سيَّما في الأقطار التي تقلُّ الرغبة فيها في زواج الثيبات كالهند. على أن الضرر الأول - مع خفته - يمكن علاجه بالصبر مدةً يسيرةً، والضرر الثاني - مع شدته، وتناوله للمرأة والأطفال والزوج - لا علاج له. [ص 12 مكرر] والتحليل باطلٌ عند جماعة من العلماء، وجائزٌ مع الكراهة الشديدة عند آخرين، وعلى كل حال فهو خبيثٌ شرعًا وطبعًا، ويجرُّ إلى مفاسد شديدة، وأهل التقوى أو الغيرة يُؤثِرون الضررَ الشديد على التحليل. وبالجملة فالضرر الشديد الناجم عن تنفيذ الثلاث محسوسٌ مشاهدٌ بكثرة فاحشة في جميع الأقطار، بل إن الضرر الذي يُخاف من عدم تحديد الطلاق أصلًا، كان يمكن دفعه بأمر الحكام بالتضييق على الأزواج إذا تبين منهم قصد المضارَّة.

فالقول بأن الآية نزلت لتدفع عن النساء هذا الضرر، ومع ذلك أوقعت عليهن وعلى أطفالهن وأزواجهن ضررًا أشد من ذلك، لا علاج له = فيه ما فيه. وإذا تأملتَ ذلك علمتَ أنه لو قال قائلٌ: "إن مرسل عروة أقرب إلى موافقة حديث ابن عباس وما معه، منه إلى مخالفته" لما أبعد. قال الشافعي (¬1) رحمه الله: "فلعل ابن عباس أجاب على أن الثلاث والواحدة سواء". أقول: هذا كلام موجَّه، يحتمل أنه أراد: لعل ابن عباس أجاب على أن الثلاث المجموعة والواحدة سواء في معنى الإضرار بالزوجة، فلا وجه للتفريق بينها في الحكم، فقد أبقى الله تعالى بعد النسخ للرجل أن يطلق ثم يراجع، ثم يطلق ثم يراجع، ثم إذا طلَّق فلا رجعة، فسواءً أثَلاثًا طلَّق في المرة الأولى أم واحدةً، وهكذا الثانية، فإن المقصود من النسخ لا يفرق بين ذلك، فعلى هذا تكون له الرجعة. ويحتمل أن يكون أراد: لعل ابن عباس أجاب على مقتضى ما كان قبل النسخ أن الثلاث والواحدة سواء، إذ لم يكن حدٌّ للطلاق، فإن كان أراد هذا الثاني فقد تقدم جوابه. ثم قال (¬2): "و [إذا] جعل الله عدد الطلاق على الزوج، وأن يطلق متى شاء، فسواء الثلاث والواحدة وأكثر من الثلاث في أن يقضى بطلاقه". ¬

_ (¬1) "الأم" (10/ 258). (¬2) المصدر نفسه.

أقول: وهذا الكلام كأنه موجّه، فقد يحتمل أن يكون من تتمة تفسير قول ابن عباس على الاحتمال الأول، فيكون شرحه هكذا: (وجعل الله عدد الطلاق على الزوج) فجعل له أن يطلق ويراجع، ثم يطلق ويراجع، ثم إذا طلَّق لم يكن له أن يراجع؛ سدًّا لذريعة الإضرار بالزوجة (و) جعل للزوج (أن يطلق متى شاء) فإذا طلَّق وتركها حتى انقضت العدة بانت منه، وحلَّت لغيره، سواء أواحدةً طلَّق أم ثلاثًا أم أكثر. وغرض العاقل من الطلاق إنما هو هذا, ولا غرض له في أن يطلقها طلاقًا لا رجعة فيه، بل إنما يحرص العاقل على أن يطلق طلاقًا تمكنه معه الرجعة، أو النكاح بعقدٍ جديدٍ قبل أن ينكحها غيره, لأنه قد يندم، وقد تتضرر الزوجة أو أطفالها بالطلاق، فيكون عليه أن يدفع عنهم الضرر، وهذا هو الغرض المحمود شرعًا وعقلاً، فلم يكن هناك باعثٌ لشرع طلاق يقع مرةً واحدةً، ومع ذلك لا رجعة فيه. على أنه إن فُرِض غرضٌ فيمكنه تحصيلُه بأن يطلق ثم يراجع، ثم يطلق ثم يراجع، ثم يطلق. فقد جعل الله له أن يطلق متى شاء، ولم يقل له: إذا طلقت ثم راجعت، لم يجز لك طلاق بعد ذلك. وعلى هذا (فسواءٌ الثلاثُ والواحدةُ وأكثرُ من الثلاث في أن يقضى بطلاقه) من حيث هو طلاق يحصل به مقصود العاقل في تخلِّيه عنها، وإحلالها لغيره إذا انقضت عدتها، فإن كانت هذه أول مرة أو الثانية كان له أن يراجعها في العدة، أو يتزوجها بعدها قبل أن تنكح غيرَه، وإن كانت الثالثة لم تحلَّ له حتى تنكح زوجًا غيره.

[ص 13] ويحتمل أن يكون احتجاجًا من الشافعي على وقوع الثلاث المجموعة ثلاثًا تحرمها عليه حتى تنكح زوجًا غيره، وشرحه على هذا هكذا: (وجعل الله عدد الطلاق على الزوج) أي إليه (وأن يطلق متى شاء) فله ثلاث طلقات، يوقع منها ما شاء متى شاء، فإن أوقعها دفعة وقعت (فسواء الثلاث والواحدة وأكثر من الثلاث في أن يقضى بطلاقه) الذي أوقعه، فإن طلَّق ثلاثًا أو أكثر قضي بثلاث، وإن طلَّق واحدة أو اثنتين قضي بذلك. فإذا كان مراد الشافعي هو هذا الثاني، فجوابه: أن الثلاث التي جعلها الله تعالى على الزوج ليست ثلاث طلقات، وإنما هي مرتان، في كل مرة طلاق تعقبه رجعة، والثالثة طلاق تحرم به حتى تنكح زوجًا غيره، كما قدمناه في تفسير الآيات. ومن ادعى أنها ثلاث طلقات يجوز أن تقع معًا، أو تقع اثنتان منها معًا، فعليه البيان. فإن قال: إن الله لما جعل للزوج أن يطلق ثم يراجع، ثم يطلق ثم يراجع، ثم يطلق، كان معقولًا أنه قد جعل الأمر إليه، فإذا كان الأمر إليه وطلق ثلاثًا معًا، فلماذا لا يقع؟ فالجواب: أولاً: أن هذا قياس يعارض النص، فهو فاسد الاعتبار. وثانيًا: أن الله تعالى لم يجعل له إذا طلَّق المرة الأولى أو الثانية أن يراجع إلا إذا قصد بالرجعة الإمساك بمعروف. وثالثًا: أن الطلاق قد يضر بالزوج، وبالمرأة، وبأطفالهما، وبأهليهما،

فحدَّ الله تعالى له حدودًا تمنع أو تقلِّل هذا الضرر، فلم يجعل له أن يطلق وهي حائض، ولا في طهر قد قاربها فيه، والسر في ذلك - والله أعلم - أن الرجل إذا بعد عهده بالمرأة قوي ميله إليها، فإذا طلَّقها مع ذلك كان الظاهر أن رغبته عنها قد استحكمت، وهذا هو المقتضي للرخصة في الطلاق. وإذا كانت المرأة حائضًا كان محتملًا أن يكون قاربها في الطهر الذي قبل تلك الحيضة، فعهده بها قريب، وقرب العهد يُضعِف الميل، بل ربما أوجب النفرة. وينضم إلى ذلك أن نفس الرجل تنفر من الحائض، إما للأذى، وإما لليأس من مقاربتها، وهذه نفرةٌ عارضةٌ، لا يصح أن يكتفى بها لاستحقاق رخصة الطلاق. وهكذا إذا كانت طاهرًا وقد قاربها في ذلك الطهر، فعهده بها قريبٌ، وقرب العهد يُضعِف الميل، أو يوجب النفرة كما مر. فإذا أراد أن يطلقها وهي طاهرٌ في طهرٍ لم يقاربها فيه، فالظاهر أن رغبته عنها قد استحكمت، ولكن ربما تضعف هذه الرغبة أو تزول إذا ازداد العهد بعدًا. مع أن موجب النفرة قد يكون سببًا عارضًا، من ذنب وقع منها، أو إساءة، وإذا طال العهد غفر الذنب، ونسيت الإساءة، فرخص له أن يطلقها، على أن له أن يراجعها ما دامت في عدتها. فإذا طلَّق كان عليه أن لا يقطع عنها النفقة والسكنى، ومن الحكمة في ذلك - والله أعلم - أن يبقى باب الصلح مفتوحًا ميسرًا، والغالب أن يكون

بيتها الذي أمر أن يُسكِنها فيه هو بيته أو قريب منه، وذلك أدعى إلى الصلح، فقد تهيج به الذكرى وهو على فراشه في أثناء العدة، فلا يكون بينه وبينها إلا كشف الستر أو طَرْق الباب، ولعله لو صبر إلى الصبح لفترت رغبته، فلا يراجع، ولعله يبدو له خطؤه في إيقاع الطلاق، ومضرته عليه، ويلومه هذا، وتعذله هذه، ومع ذلك فقد جرَّب الفرقة وجرَّبتها، وذاق كل منهما مرارتها، فإذا وقعت الرجعة، فقد ذاقت هي من الفرقة ما يجعلها تخاف من وقوعها مرةً أخرى، فيدعوها هذا الخوف إلى حسن الطاعة والحرص على رضاه، وتحري ما يوافق هواه، وذاق هو ما يحمله على التأني والتريث في المستقبل، فلا يستعجل بإيقاع الطلاق، مع علم كل منهما بأنهما قد صارا على ثلث الطريق من الفرقة الباتة. [ص 14] فإن لم تعطفه العواطف حتى انقضت العدة، فالظاهر أن النفرة قد استحكمت، ومع ذلك بقي له أن يراجعها, ولكن برضاها، ومهر آخر، وعقد جديد. فإذا راجع من المرة الأولى، ثم طلَّق مرة أخرى بالشروط السابقة، وشرعت في العدة على الصفة الأولى، كان ذلك أدعى إذا وقعت رجعة أن لا تعصيه بعدُ ولا يطلقها, لعلمهما أنهما على ثلثي الطريق، وأنه إن طلَّقها المرة الثالثة حرمت عليه حتى تنكح زوجًا غيره، فتخاف هي أن لا يرغب فيها أحدٌ، وإن رغب فيها فلعله يسيء عشرتها، ويظلمها ويمسكها على البؤس والشقاء، ويخاف هو إن طلَّقها أن تتبعها نفسه كما تبعتْها المرتين الأوليين، فلا يجد إلى ذلك سبيلًا، إذ لعلها لا تتزوج بعده، وإن تزوجت فلعل الزوج الجديد يكون أسعد بها، وأحرص عليها، وإن فارقها هذا الزوج

الجديد فلا ترجع إلى الأول إلا بعقد جديد، ومهر جديد، ثم ترجع إليه بعد أن ذاقت عسيلة غيره، وعرفت ما عرفت، إلى غير ذلك. فإذا علمتَ ما تقدم، فاعلم أن الله تعالى أرحم بعباده من أنفسهم، وأنه لا يُحِلُّ لهم أن يضروا بأنفسهم فضلاً عن غيرهم، فكيف يجعل لأحدهم أن يطلق زوجته ابتداءً طلاقًا يحرمها عليه البتة حتى تنكح زوجًا غيره؟! مع العلم بأن نظر الإنسان قاصرٌ، فقد يظن أنه لم يبق له إليها حاجة، وأنها قد استحكمت نفرته منها، وأن لا ضرر عليه في بينونتها منه، ويكون مخطئًا يتبين له خطؤه بعد ساعة، كما هو مشاهدٌ بكثرة فاحشة في هذه الأزمان. فإن قلت: عليك فيما أطلتَ به مناقشاتٌ: الأولى: أنك جعلت العلة في النهي عن الطلاق في حيضٍ أو طهر قاربها فيه = هي أن تلك مظنة لضعف ميله عنها، فلعله يطلق عن غير نفرة مستحكمة. والشافعي لا يقول بهذا، بل يقول: إن في طلاقها حائضًا إضرارًا بها لطول العدة، وفي طلاقها في طهر قاربها فيه استعجالاً، إذ لعلها تكون قد علقت منه، فيندم على الطلاق. الثانية: أنه إذا سُلِّم لك ما قلت، قيل لك: فإن الطلاق في حيضٍ أو طهرٍ قاربها فيه يقع مع ما فيه من خوف أن لا تكون النفرة قد استحكمت، فكذلك نقول نحن: إن طلاق الثلاث دفعةً يقع وإن خيف فيه ذلك. الثالثة: أن الغضب مظنة عروض النفرة، ولعلها تزول بعد ذلك بسرعة، ومع ذلك يقع فيه الطلاق، فهكذا القول في جمع الثلاث.

الرابعة: أنك جعلت العلة في وجوب النفقة والسكنى للمعتدة هي تيسير سبيل الصلح بالمراجعة، وهذا لا يأتى في المرة الثالثة. فالجواب عن الأولى: أن الصواب - إن شاء الله - ما قلته، فإن تحريم الطلاق في الحيض يتناول اللحظة الأخيرة منه، وأي ضرر عليها بلحظة تزيد في عدتها؟ وقد التزم الشافعي رحمه الله أنها لو رضيت بالطلاق وهي حائض لم يحرم لرضاها بالضرر، وهذا مخالف لعموم قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} فعمَّ من لم ترضَ ومن رضيتْ. ومخالف لعموم السنة، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أخبر بأن ابن عمر طلَّق امرأته وهي حائض، أنكر ذلك ولم يستفصل: أرضيتْ أم لم ترضَ. وقد قال الشافعي رحمه الله تعالى ووافقه الناس: "إن ترك الاستفصال مع قيام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال". ومخالف لما فهمه الصحابة رضي الله عنهم، فإن عبد الرحمن بن عوف سألته امرأته الطلاق فقال لها: "إذا طُهرتِ فآذنيني". [ص 15] والعلة التي تعود على النص بالتخصيص قد أبطلها قوم، ومَن قَبِلها فإنما يقبلها إذا لم توجد علة أخرى سالمة من ذلك. والشافعي رحمه الله تعالى جعل العلة في الحيض شيئًا، وفي الطهر الذي قاربها فيه شيئًا آخر، والعلة التي ذكرتها أنا واحدة لهما معًا، فهي أولى. على أن العلة التي جعلها لتحريم الطلاق في طهر جامعها فيه، تكاد تكون هي العلة التي ذكرتها أنا، بل هي هي، فإن الشافعي رحمه الله تعالى لم

ينظر إلى لحوق الضرر بالحمل خاصة، بل ولا نظر إليه الشارع، فإنه يحل طلاق الحامل وقد تبين حملها، فبالأولى من احتمل أنها قد علقت. فالظاهر أن الشافعي إنما نظر إلى استحكام النفرة وعدمه، فرأى أنه إذا طلَّقها في طهر قد قاربها فيه، فربما لم تكن النفرة قد استحكمت، فلعله لو صبر حتى يجيء إبان حيضها ولم تحض ظن أن تكون حاملاً، فهنالك إن أراد أن يطلق كان له ذلك, لأن الظاهر استحكام النفرة، فإذا ثبت أن العلة في أحد الشِّقين هي كونه مظنة نفرة غير مستحكمة، فلتكن هي العلة في الشِّقين معًا. والجواب عن الثانية: أن الطلاق في حيض أو طهر قاربها فيه غير مجمع على وقوعه، فإذا قلنا بالوقوع فلا يقاس عليه الطلاق المجموع. أولاً: لأنه قياس يعارض النص، فهو ساقط الاعتبار. ثانيًا: لأن الخطر في إيقاع الطلاق المجموع أشد منه في إيقاع الطلاق في حيضٍ أو طهرٍ قاربها فيه؛ لأن هذا إن كان المرة الأولى أو الثانية فقد بقي له حق الرجعة، وإن كان في المرة الثالثة فقد أشعر وقوع الطلاق مرتين قبلها ثم وقوعها باستحكام النفرة. على أن ما احتج به من أجاز الطلاق في الحيض مورده الطلقة الأولى، والله أعلم. وأما الثالثة: فطلاق الغضبان غير مجمع على إجازته، وإذا قلنا بإجازته، فقد علم الجواب مما مر. وأما الرابعة: فوجوب النفقة والسكنى للمبتوتة مختلفٌ فيه، والحجة مع من ينفيه.

قال الشافعي (¬1) رحمه الله تعالى: "وحكم الله تعالى في الطلاق أنه {مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}، وقوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} يعني - والله أعلم - الثلاث، {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} فدل حكمه أن المرأة تحرم بعد الطلاق ثلاثًا حتى تنكح زوجًا غيره". أقول: أما الآية فمخالفك أسعد بها، كما تقدم. وقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} المراد به المرة الثالثة، أي بعد مرتين قد عقبتْ كلاًّ منها الرجعة، هذا ظاهر القرآن، ومقتضى سياقه، وقد تقدم تحقيق ذلك، فانهدم ما بنيتَه. قال (¬2) رحمه الله: "وجَعْلُ حكمِه بأن الطلاق إلى الأزواج يدل على أنه إذا حدث تحريم المرأة بطلاق ثلاث، وجعل الطلاق إلى زوجها، فطلقها ثلاثًا مجموعةً أو مفرقة، حرمت عليه بعدهن حتى تنكح زوجًا غيره، كما كانوا مملكين عتق رقيقهم، فإن أعتق واحدًا أو مائةً في كلمة لزمه ذلك، كما يلزمه كلها، جمع الكلام فيه أو فرَّقه، مثل قوله لنسوةٍ له: أنتن طوالق، ووالله لا أقربكن، وأنتن علي كظهر أمي. وقوله: لفلان عليّ كذا, ولفلان عليّ كذا، فلا يسقط عنه بجمع الكلام معنى من المعاني جميعه كلام، فيلزمه بجمع الكلام ما يلزمه بتفريقه". أقول: يظهر من هذا الكلام أنه رحمه الله ظن أن الثلاث التي ذكر ابن ¬

_ (¬1) "الأم" (10/ 258). (¬2) بعد الكلام السابق مباشرة.

عباس أنها كانت تُجعل واحدةً إنما هي الثلاث الواقعة في كلامٍ واحدٍ، حتى لو طلَّق، ثم بعد ساعة طلَّق، ثم بعد أخرى طلَّق، لم يكن هذا من ذاك، بل تكون ثلاثًا حتمًا. وهذا وهمٌ، وإنما المراد الثلاث التي توقع بدون تخلل رجعة، وقائل هذا يقول: إنما جعل الله إلى الزوج الطلاق مرةً واحدةً، فإذا طلَّق وراجع كان له الطلاق مرة ثانية، وإذا طلَّق وراجع كان له الطلاق المرة الثالثة، كما دل عليه القرآن، وتقدم بيانه. [ص 16] وعليه، فليس هذا بنظير للفروع التي ذكرها، فعتقُه مائة رقيقٍ بكلمة واحدة أو بكلمات متصلة لا شبهة في صحته؛ لأنَّ له في تلك الحال عتقهم جميعهم، ولا كذلك الطلاق، وإنما نظيره أن يطلق زوجته ونساءً غيرها، ثم قال بعد ذلك: إني طلقت هؤلاء النساء مع امرأتي، فلا يحللن لي، فكما يقال هنا: إنك لم تكن تملك طلاقهن، وإنما كان يمكن أن تملكه بزواجهن، وهذا مفروض لا واقعٌ، فلم يقع فيه شيءٌ، فكذلك يقال هنا: إنك لا تملك من طلاق زوجتك إلا مرةً واحدةً، وإنما كان يمكن أن تملك الثانية بمراجعتك من الأولى، وكان يمكن أن تملك الثالثة بمراجعتك من الثانية، وهذا مفروض لا واقعٌ، فلا يقع به شيءٌ. وهكذا لو كان قد طلَّق زوجته وراجعها مرتين، ثم [قال]: هي طالق اثنتين، فقيل له في ذلك، فقال: أردت أن لا أتمكن من نكاحها بعقد جديد، فهكذا من يطلق ثلاثًا، إذا قيل له: إن واحدة تكفي. قال: أردت أن لا أتمكن من مراجعتها. فإن قيل: وكيف تقيس الرجعة على النكاح؟ قلت: لأن كلا منهما عقد تحلُّ به المرأة لمن كانت حرامًا عليه، وقد

قاس الفقهاء من الشافعية وغيرهم الرجعة على النكاح في مواضع، وإن اضطربت فروعهم فيها: هل هي كابتداء النكاح أو كدوامه؟ والصواب أنها كابتداء النكاح وإن خالفته في بعض الأحكام، والاحتجاج لهذا يطول. والأقرب شبهًا بالطلاق المجموع: الهبة التي يجوز الرجوع فيها، كالهبة للفرع عند الشافعية، وللأجنبي عند الحنفية، والبيع مع خيار المجلس، إذا قال قائل: لله عليَّ إذا وهبتُ لابني هذا الثوب الذي عليه، ثم رجعت ثم وهبت، ثم رجعت ثم وهبت، أن لا أرجع في المرة الثالثة. ولله عليَّ إذا بعتُ منك هذه الدار، ثم فسخت في المجلس ثم بعت، ثم فسخت ثم بعت، أن لا أفسخ في المرة الثالثة. ثم قال بعد ذلك لولده: وهبتُك هذا الثوب الذي عليك ثلاثًا، وقال للآخر: بعتك هذه الدار ثلاثًا، فهل ينزل قوله: "ثلاثًا" منزلة قوله: وهبتُ رجعتُ، وهبتُ رجعتُ، وهبتُ، وبعتُ فسختُ، بعتُ فسختُ، بعتُ؟ هذا في غاية البعد. وقد اختلف أصحاب الشافعي في بيع الواهب السلعة الموهوبة، هل يكون رجوعًا عن الهبة؟ فإن قيل: نعم. فهل يصح البيع مع ذلك؟ والراجح عندهم أنه ليس برجوع. واختلفوا في البائع في مدة الخيار إذا وهب المبيع، هل يكون ذلك فسخًا؟ وإذا كان فسخًا فهل تصح الهبة؟

والراجح عندهم هنا أنه فسخٌ. وهذا أقرب جدًّا من قوله: وهبت ثلاثًا، أو بعت ثلاثًا. وفوق ذلك، فالأمر في الفروج أضيق منه في الأموال، والرجعة لا تكون إلا بنية، والقائل: طلقتك ثلاثًا لا التفات له إلى الرجعة. ثم غاية ما يدعى: أن يكون قوله: "طلقتك ثلاثًا" بمنزلة قوله: "طلقتك راجعتك، طلقتك راجعتك، طلقتك". وهذا من التلاعب بالأحكام، واتخاذ آيات الله هزوًا, وليس هذه الرجعة التي شرع الله تعالى بقوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا}. ويُغنِي عن هذا كله ورودُ النص بأن الثلاث واحدة. والله أعلم. [ص 17] قال الشافعي (¬1): "فإن قال قائل: فهل من سنة تدل على هذا؟ قيل: نعم جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إني كنت عند رفاعة فطلقني فبتَّ طلاقي، فتزوجتُ عبد الرحمن بن الزَّبِير، وإنما معه مثل هُدبةِ الثوب، فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته". قال الشافعي: فإن قيل: فقد يحتمل أن يكون رفاعة بتَّ طلاقها في مرات؟ ¬

_ (¬1) "الأم" (10/ 259، 260).

قلت: ظاهره في مرة واحدة ... وفاطمة بنت قيس تحكي للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن زوجها بتَّ طلاقها، تعني - والله أعلم - أنه طلَّقها ثلاثًا، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ليس لك عليه نفقة" لأنه - والله أعلم - لا رجعة له عليها". أقول: حديث امرأة رفاعة في صحيح البخاري (¬1)، وحديث فاطمة بنت قيس في صحيح مسلم (¬2)، وأشار إليه البخاري (¬3). والجواب عن الحديثين: أن كليهما قد جاء مفسرًا في رواية أخرى بما يزيل الشبهة. ففي صحيح البخاري في حديث امرأة رفاعة: " ... فقالت: يا رسول الله! إنها كانت عند رفاعة، فطلقها آخر ثلاث تطليقات". (صحيح البخاري ج 8/ ص 23، ومثله في صحيح مسلم ج 4/ ص 154) (¬4). وفي حديث فاطمة بنت قيس في رواية عند مسلم (¬5): " ... أن فاطمة بنت قيس أخبرته أنها كانت تحت أبي عمرو بن حفص بن المغيرة، فطلقها آخر ثلاث تطليقات". وفي رواية أخرى (¬6): "أن أبا عمرو بن حفص بن المغيرة خرج مع علي بن أبي طالب إلى اليمن، فأرسل إلى امرأته فاطمة ¬

_ (¬1) رقم (5260). (¬2) رقم (1480). (¬3) انظر "الصحيح" مع "الفتح" (9/ 477) وكلام الحافظ عليه. (¬4) البخاري (6084) ومسلم (1433/ 113). (¬5) مسلم (1480/ 40). (¬6) مسلم (1480/ 41).

بنت قيس بتطليقة كانت بقيت من طلاقها". (صحيح مسلم ج 4/ ص 196 - 197). قال (¬1) رحمه الله تعالى: "فإن قيل: أطلَّق أحدٌ ثلاثًا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قيل: نعم، عويمر العجلاني، طلَّق امرأته ثلاثًا، قبل أن يخبرهُ النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها تحرم عليه باللعان، فلم أعلم النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهاه .. ولم أعلمه عاب طلاق ثلاثٍ معًا". أقول: حديث لعان عويمر قد رواه نفرٌ من الصحابة، ولم يذكر الطلاق إلا في رواية سهل بن سعد، رواها الزهري عنه. ثم اختلف على الزهري: فروي عنه كما ذكره الشافعي، رواه مالك وابن جريج وغيرهما (¬2). وروي عنه بلفظ "فطلقها" فقط، رواه الأوزاعي كما في "صحيح البخاري" في تفسير سورة النور (¬3)، وعبد العزيز بن أبي سلمة عند أحمد (مسند ج 5/ ص 337) (¬4). وروي عنه بلفظ "ففارقها" فقط، رواه جماعة منهم: فليح عند البخاري في تفسير سورة النور (¬5)، وعبد العزيز بن أبي سلمة وإبراهيم بن سعد عند ¬

_ (¬1) أي الشافعي في "الأم" (10/ 260). (¬2) رواية مالك عند البخاري (5308) ورواية ابن جريج عنده (5309). (¬3) البخاري (4745). (¬4) "مسند أحمد" (22856). (¬5) البخاري (4746).

النسائي (¬1)، وعقيل عند أحمد (مسند ج 5/ ص 337) (¬2)، وابن أبي ذئب عند البخاري في الاعتصام (صحيح البخاري ج 9/ ص 98) (¬3). وروي عنه بلفظ: "قال: يا رسول الله! ظلمتُها إن أمسكتها، فهي الطلاق، فهي الطلاق، فهي الطلاق". رواه ابن إسحاق، هكذا ذكره الحافظ في "الفتح" (¬4) نقلاً عن "مسند أحمد"، والذي في نسخة المسند المطبوعة بلفظ: "وهي الطلاق، وهي الطلاق، وهي الطلاق" (المسند ج 5/ ص 334) (¬5). ثم قال الحافظ: "وقد تفرد بهذه الزيادة، ولم يتابع عليها، وكأنه رواه بالمعنى؛ لاعتقاده منع جمع الطلقات الثلاث بكلمة واحدة" (فتح الباري ج 9/ ص 365) (¬6). أقول: لم يذكر الزهري صفة الطلاق إلا في هذه الرواية, وابن إسحاق أعلم بالله من أن يسمع من ابن شهاب قوله: "فطلقها ثلاثًا" فيرى هذا المعنى مخالفًا لرأيه، فيعمد إلى إبداله بما يوافق مذهبه على أنه من لفظ الملاعن، وهذا تبديلٌ وتحريفٌ، لا رواية بالمعنى. وليس اتهامه بذلك بأقوى من احتمال أن يكون الزهري كان ربما زاد لفظ "ثلاثًا" لما فهمه من أن الطلاق كان باتًّا، بسبب ¬

_ (¬1) النسائي (6/ 171). (¬2) "المسند" (22853). (¬3) البخاري (7304). (¬4) "فتح الباري" (9/ 451). (¬5) "المسند" (22831) بحذف واوات العطف. (¬6) "فتح الباري" (9/ 451).

أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فرق بينهما الفرقة الباتة، وظن أن سبب التفرقة تلك هو الطلاق، وإن صارت السنة بعد ذلك الفرقة المؤبدة, ولو بلا لفظ طلاق. وفي الصحيحين (¬1) بعد ذكر الطلاق، قال ابن شهاب - وهو الزهري -: "فكانت سنة المتلاعنين"، وفي رواية (¬2): "وكان ذلك تفريقًا بين كل متلاعنين". على أن قوله: "فطلقها ثلاثًا" محتملٌ احتمالاً قريبًا أن يكون معناه: كرَّر الطلاقَ ثلاثًا، فيكون طلَّق تطليقة، ولكن أكّد تأكيدًا لفظيًا. ويؤيد هذا اقتصار ابن شهاب تارةً على "طلَّقها"، وتارةً على "فارقها". وعلى هذا، فرواية ابن إسحاق إنما كانت تفيد طلقة واحدة، إلا أنه أكّد اللفظ، فأعاده ثلاثًا، كما فهمه ابن حجر، فهي مفسَّرة للروايات الأخرى، لا مخالفة. [ص 18] وفوق هذا كله، فلو ثبت أن عويمرًا قال: "طلقتها ثلاثًا" أو نحو هذا اللفظ، وأقره عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن ذلك لا يدل على إمكان وقوع الثلاث معًا، لاحتمال أن يكون لم يقصد إيقاع الثلاث، وإنما قصد إظهار أنه لا يريد أن يراجعها، فكأنه يقول: لو استطعتُ أن أوقع الثلاث معًا لأوقعتُها، كما يُعقَل أن يقول رجلٌ لزوجته: إن شئتِ فطلِّقي نفسك طلقة واحدة، فتقول: طلقتُ نفسي ثلاثًا، وهي تعلم أنه ليس لها إلا واحدة، وإنما قالت ذلك ¬

_ (¬1) البخاري (5308) ومسلم (1492). (¬2) البخاري (5309) ومسلم (1492/ 3).

إظهارًا لشدة رغبتها في أن تبين منه. وإذ قد ثبت أن الطلاق في عهده - صلى الله عليه وسلم - على ما قدمنا من أنه طلاق تحل بعده الرجعة، فإن رجع فله طلاق آخر تحل بعده الرجعة، فإن راجع فله طلاق ثالث لا رجعة بعده، فالظاهر أن عويمرًا كان يعلم ذلك، وعلمه بذلك قرينة على أنه إنما أراد ما ذكرناه، وحاله كحال المرأة التي ملَّكها زوجها طلقةً واحدةً، وهي عارفة بالحكم كما قدمنا. فإن قيل: فإن كان الظاهر أن من قال في عهده - صلى الله عليه وسلم -: "هي طالق ثلاثًا" أو نحو ذلك، إنما يظهر منه أنه قصد إظهار العزم على عدم المراجعة، فلماذا نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن جمع الثلاث؟ قلت: إن صح النهي فسببه مخالفة هذا العزم لمقصود الشارع من الترغيب في المراجعة، وأنه إنما جعل له الرجعة بعد الطلاق الأول والطلاق الثاني، لعله يبدو له فيندم، فالذي يظهر العزم على عدم المراجعة ويؤكده، كأنه يؤكد عزمه على أن لا يفعل الخير، ولا يقبل من الله تعالى رخصته إذا احتاج إليها، وهذا مذمومٌ. ويقرب منه قول الله تعالى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 224]. قال أهل التفسير: معناها: لا تحلفوا بالله على أن لا تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس، ومراجعة الزوجة داخلة في الإصلاح، وقد تكون برًّا وتقوى.

وقال تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ} الآية [النور: 22]. وكما نهاهم عن اليمين مع أنه شرع لهم أن يتخلصوا منها بالكفارة، وإتيان ما هو خير، فكذلك يجوز أن يكون نهاهم عن تأكيد العزم على عدم المراجعة مع تمكنهم من أن يراجعوا بعد ذلك العزم المؤكد. ****

الباب الأول في الطلاق المأذون فيه

[ص 1] الباب الأول (¬1) في الطلاق المأذون فيه اختلف أهل العلم في الطلاق المأذون فيه على مذاهب، بعد اتفاقهم على تحريم إيقاع الطلاق في حيض أو في طهر قاربها فيه. المذهب الأول: أن الطلاق إلى الزوج، فإن شاء طلَّق واحدة، وإن شاء جمع اثنتين، وإن شاء جمع ثلاثًا، وإن شاء طلَّق واحدة، ثم أتبعها واحدةً أو اثنتين في العدة، أو طلَّق اثنتين ثم أتبعها واحدة في العدة، كل ذلك جائزٌ له، وهذا قول الشافعي. المذهب الثاني: أن الذي يحل له أن يوقع طلقةً واحدةً، ثم ينتظر الطهر الثاني، فيطلق أخرى إن أحب، ثم ينتظر الثالث فيطلق الثالثة إن شاء، وهذا قول أبي حنيفة وأهل الكوفة. المذهب الثالث: أن الذي يحل له أن يطلق واحدة، ثم يدعها حتى تنقضي عدتها، وهذا قول مالك والليث والأوزاعي وأحمد وغيرهم. الاحتجاج للمذهب الأول: قال الإمام الشافعي (¬2) رحمه الله تعالى: "قال الله عزَّ وجلَّ: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} الآية، وقال: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ ¬

_ (¬1) قبله في الأصل: "بسم الله الرحمن الرحيم. الحكم المشروع في الطلاق المجموع". ويبدأ من هنا ترقيم جديد للصفحات. (¬2) "الأم" (6/ 457).

تَمَسُّوهُنَّ}، وقال: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} الآية، وقال: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ}، وقال: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}. فالطلاق مباحٌ، إلا أنه ينهى عنه لغير قُبُلِ العدة .. أختارُ للزوج أن لا يطلق إلا واحدةً؛ ليكون له الرجعة في المدخول بها، ويكون خاطبًا في غير المدخول بها .. ولا يحرم عليه أن يطلق اثنتين ولا ثلاثًا, لأن الله تبارك وتعالى أباح الطلاق، وما أباح فليس بمحظور على أهله". (الأم ج 5/ 162). وقال (¬1): "وحكم الله في الطلاق أنه مرتان، فإمساك بمعروف أو تسريحٌ بإحسان، وقوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} يعني - والله أعلم - الثلاث، فلا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره، فدل حكمه أن المرأة تحرم بعد الطلاق ثلاثًا حتى تنكح زوجًا غيره". (كتاب اختلاف الحديث هامش الأم ج 7/ ص 313). [ص 2] جواب أهل المذهب الثاني: أما قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} فـ (طلقوا) صيغة أمرٍ، ولا تدل على التكرار، وتتحقق بمرة واحدة، فأين دلالتها على الجمع؟ ويُبيَّن أن المراد بها طلقة واحدة قوله تعالى في أثناء الآية: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}. والإمساك هنا الرجعة، فدل هذا أن الآية واردة في أول طلاق يطلقه ¬

_ (¬1) "الأم" (10/ 258).

الرجل، وذكر بعده الرجعة، فعلم أنه لا يكون ثلاثًا، وكذلك لا يكون اثنتين لما ذكرنا من عدم دلالة الصيغة على التكرار، ولأنا لا نعلم قائلاً يقول: يجوز جمع طلقتين، لا ثلاث. وأما الآية الثانية وهي قوله تعالى: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا}، فليس فيها دلالة على الجمع، وهي مع ذلك مسوقة لبيان عدم وجوب العدة، لا لسنة الطلاق. وفوق ذلك، فالله عَزَّ وَجَلَّ إنما أباح الطلاق ليتخلص كل منهما من الآخر، والتخلص في غير المدخول بها يحصل بواحدة، فجمع طلقتين أو ثلاث من اتخاذ آيات الله هزوًا، ومن تضييق الرجل على نفسه أن لا تحل له بعقد جديد إذا جمع ثلاثًا، أو تحل له على طلقة واحدة، وهذا إضرار بنفسه وبالمرأة أيضًا، لا تقابله منفعة ما، فأنى يجوز؟ وإنما أجزنا في المدخول بها أن يتبعها طلقة ثانية عن الطهر الثاني، وثالثة عن الثالث, لأنه قد يحتاج إلى إبانتها لئلا يموت قبل انقضاء العدة فترثه إذا كانت رجعية، ولا ترث إذا كانت مبتوتة عند بعض أهل العلم، ولإسقاط نفقتها أو سكناها أو كليهما عند من يقول من أهل العلم: إن المبتوتة لا نفقة لها، أو لا نفقة ولا سكنى، ولتعجل نكاح أختها مثلاً، أو رابعة عند من يقول بحل ذلك في العدة إذا كانت مبتوتة. وأما الآية الثالثة وهي قوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20]، فلا دلالة فيها على الجمع، وإنما سِيقَت للأمر بالوفاء بالصداق.

وأما الآية الرابعة فهي الحجة الواضحة عليكم، قال الجصاص: "وذلك يقتضي التفريق لا محالة؛ لأنه لو طلَّق اثنتين معًا لما جاز أن يقال: طلَّقها مرتين، وكذلك لو دفع رجل إلى آخر درهمين لم يجز أن يقال: أعطاه مرتين حتى يفرق الدفع" (أحكام القرآن ج 1/ ص 378). بل في الطلاق نفسه لو قيل: قد طلَّق فلان زوجته مرتين، لفُهِم منه أنه طلَّقها ثم بعد مدة طلَّقها. ثم ذكر الله عَزَّ وَجَلَّ الثالثة بعدُ إما بقوله: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}، وإما بقوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ} الآية. وأما قولكم: " {فَإِنْ طَلَّقَهَا} أي - والله أعلم -: ثلاثًا" فخطأٌ يخالفه ظاهرُ السياق، وما فهمه المفسرون من السلف، فإنهم اختلفوا على قولين: الأول: أن قوله تعالى: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} هي الثالثة، وقوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} بناءٌ عليها، كأنه قال: فإن وقع التسريح المذكور. الثاني: أن التسريح هنا معناه عدم المراجعة، وقوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} هي الثالثة. وأما ما ذكره ابن جرير (¬1) عن ابن عباس قال: "يقول: إن طلَّقها ثلاثًا لا تحل حتى تنكح زوجًا غيره" (تفسير ابن جرير ج 2/ ص 270)، فسنده ضعيف، وهو مع ذلك محمول على أن المراد منه ثلاثًا متفرقات هذه آخرها، جمعًا بينه وبين الروايات الثابتة عن ابن عباس. ¬

_ (¬1) "تفسيره" (4/ 166). وأخرجه أيضًا ابن أبي حاتم في "تفسيره" (2/ 422) والبيهقي (7/ 376).

اعتراض أهل المذهب الثالث: قالوا لأهل المذهب الثاني: أما ردكم على المذهب الأول تجويزَهم الجمعَ فقد وُفَّقتم فيه، ولكنكم أخطأتم في تجويزكم أن يُتْبِعها طلقة ثانية، ثم طلقة ثالثة، وهي في عدتها من الأولى. والآية الأولى حجة عليكم (¬1)، [ملحق ص 3] فإن قوله: {لِعِدَّتِهِنَّ} معناه: عند شروع عدتهن. قال الحافظ ابن حجر (¬2): "أي عند ابتداء شروعهن في العدة، واللام للتوقيت كما يقال: لقيتُه لليلةٍ بقيتْ من الشهر، قال مجاهد: قال ابن عباس: "في قُبُلِ عدتهن"، أخرجه الطبري (¬3) بسند صحيح، ومن وجه آخر (¬4) أنه قرأها كذلك، وكذا وقع في صحيح مسلم (¬5) من رواية أبي الزبير عن ابن عمر: وقرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قُبُلِ عدتهن}. ونقلت هذه القراءة أيضًا عن أُبيّ وعثمان وجابر وعلي بن الحسين وغيرهم". (فتح الباري ج 9/ ص 276). قالوا: وفي كتب اللغة: "والقُبُل من الزمن أوله". قالوا: فهذا إنما يصدق على الطلقة الأولى، فأما الطلقة الثانية والثالثة ¬

_ (¬1) هنا كتب المؤلف في الهامش: "الصفحة الثالثة بعد" وفيها الكلام الذي يلحق هنا. (¬2) "فتح الباري" (9/ 346). (¬3) "تفسيره" (23/ 25). وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة (5/ 2) والنسائي في "الكبرى" (5586). (¬4) "تفسير الطبري" (23/ 24). (¬5) رقم (1471/ 14).

على قولكم فإن إحداهما تقع بعد مضي ثلث العدة، والأخرى بعد مضي ثلثيها، فليستا في قُبُل العدة، فالآية تنفي قولكم بتاتًا، وتثبت قولنا، والحمد لله. وأما ما اعتذر به بعضكم بأن هذه اللام كاللام في قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} قال: مع أن وقت الظهر لا يتعين عند دلوك الشمس، بل يمتد إلى صيرورة ظل الشيء مثله أو مثليه على الخلاف في ذلك، فعذر باطلٌ؛ لأن في هذه الآية ما يدل على الامتداد، وهو قوله: {إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} فدل على امتداد الوقت، ثم بينت السنة حد امتداد الظهر وحد امتداد العصر، ومع صرف النظر عن هذا فلنا أن نقول: لما دلت السنة على امتداد وقت الظهر علمنا أن الآية نصَّت على وقت الفضيلة، وهو أول الوقت، كما نصت عليه السنة. وقال ابن طاوس: "إذا أردتَ الطلاق فطلِّقها حين تطهر قبل أن تمسها تطليقة واحدة، لا ينبغي لك أن تزيد عليها حتى تخلو ثلاثة قروء، فإن واحدة تُبِينها" (تفسير ابن جرير ج 28/ ص 77) (¬1). فأما من قال من المفسرين كقولكم، فكأنه تأول العدة بالقرء؛ لأن به تكون العدة، فقال: يطلق ثلاثًا عند كل قرء، فمعنى الآية على هذا: فطلقوهن في قُبُل كل قرءٍ من أقراءِ العدة الثلاثة. وهذا خلاف الظاهر بلا حجة، بل هو تعسفٌ واضحٌ. ¬

_ (¬1) (23/ 27) (ط. التركي). ونحوه عن أبيه طاوس في "مصنف عبد الرزاق" (6/ 302).

فإن قلتم: قد قدمنا أن قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} أن هذا في الطلقة الأولى، فعلى هذا لم تبين الآية حكم الثانية والثالثة، فقسناها على الأولى فيما يمكن، وهو أن تكون في الطهر الثاني وفي الثالث. قلنا: فإن الآية نفسها تنفي أن يكون في العدة طلاق غير هذه الطلقة الأولى، فإنه [ص 3] لم يذكر فيها بعد الطلقة الأولى إلا قوله: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}، فالإمساك هنا المراجعة، والفراق عدمها، كما ذكره ابن جرير ونقله عمن تقدم، ولم يذكر غيره. والآية وما بعدها مسوقة لتعليم سنة الطلاق اتفاقًا، وقد بينت أنه لا ينبغي أن يكون بين الطلقة الأولى وبين انقضاء العدة إلا مراجعة أو عدم مراجعة. ومن ادعى أن الفراق هنا بمعنى الطلاق، فدعواه مردودة، فإن الفراق لا يعطي ذلك لغةً ولا شرعًا، وإن كان قد يستعمل فيه، فإن استعماله في الطلاق بخصوصه مجازٌ، ولا قرينة هنا على هذا المجاز، بل القرينة تفيد خلافه، وهي أنه جعله مقابلاً للرجعة، والظاهر في مقابل المعنى الوجودي هو عدمه، فثبت ما قلنا. ويزيده وضوحًا أن قوله: {بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} ظاهر هذا اللفظ في الأصل "انقضت عدتهن" - كما لا يخفى - ولكنه استعمل ههنا في معنى قاربن بلوغ الأجل، واستعمال البلوغ في مقاربته تقتضي مقاربة شديدة، وعند القرب الشديد من انقضاء العدة لا تبقى حاجة لإيقاع طلاق آخر، بل لا يمكن هذا على قول من يقول منكم: إن الأقراء هي الحيض؛ لأن المقاربة الشديدة إنما

تكون في الحيضة الثالثة، وقد اتفقنا على تحريم الطلاق في الحيض مطلقًا. وأيضًا لو أجزنا الطلاق عند مقاربة الانقضاء، فإما أن نجيز طلقة أو طلقتين معًا؟ وقد اتفقنا على منع الطلقتين، وعليه فلا يكون له - على ما فرضناه - أن يُوقِع إلا طلقةً أخرى، فتكون هي الثانية، فلا تحصل بها البينونة، فلا يكون للمطلق غرض صحيح، وإذا كان كذلك كان هذا الطلاق من اتخاذ آيات الله هزوًا والتلاعب بحدوده. على أننا نقول: إن الفوائد التي ذكرتم أنها قد تكون للمطلق إذا طلَّق المدخول بها من حرمان الميراث، وحرمان النفقة والسكنى، وتعجل نكاح أختها مثلاً أو رابعة، كلها أغراضٌ مذمومةٌ شرعًا. أما حرمان الميراث وحرمان النفقة والسكنى فظاهر، وقد قال الله تعالى: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}، {أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}، {أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}، {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ}، والطلاق لحرمان الميراث أو النفقة والسكنى منافٍ لهذا كله. وهكذا تعجل نكاح الأخت - مثلاً - مذموم؛ لأنه يثبت في نفس المطلقة أنه إنما طلَّقها لينكح أختها، فتهيج بذلك بغضاء بين الأختين، ويورث ذلك سوء ظن بين الناس فيه وفي الأخت الثانية؛ لأن عادة الناس أن لا تحتجب المرأة من زوج أختها، كما تحتجب من الأجانب. وأما الرابعة فالحاجة إلى استعجال نكاحها نادرة، ولا يخلو ذلك من إثارة البغضاء بين أهل الأولى وأهل الثانية، بقول أهل الأولى: إنما طلَّق صاحبتنا ليزوج صاحبتهم، وهم أفسدوه، وغير ذلك.

ومع هذا كله، فإن هذه المنافع غير مقررة في الشرع؛ لاختلاف أهل العلم فيها، وعلى ذلك فلا تقوم بكراهية الطلاق من أصله فضلاً عن الطلاق البائن. ولهذا - والله أعلم - حظر الطلاق في الحيض، وفي طهر قاربها فيه، والعلة في ذلك - والله أعلم - أن الزوج بعد مقاربة زوجته يقل ميله إليها إلى مدة، وعند قلة الميل [ص 4] قد يطلق عن غير نفرة صادقة، ولعله لو صبر أيامًا قوي ميله إليها، فأعرض عن الطلاق. فإذا كانت حائضًا كان لعله قريب العهد بها في الطهر الأقرب، ومع ذلك فإن النفس تنفر عن الحائض للأذى، ولحظر الشرع مقاربتها، فالنفس يائسة منها، فلا تتحدث بمقاربتها. والطهر الذي قاربها فيه يكون قريب عهد بها، فإذا حاضت المرأة ثم طهرت كان الميل قد قوي في الرجل؛ لأنه قد بعُدَ عهدُه بها؛ ولأنه يتمثلها قد اغتسلت، وتطيبت، ولبست، وتزيَّنت، فيدعوه ذلك إليها، فيعرض عن الطلاق، ما لم تكن النفرة قد قويت. ومع ذلك لم يأذن له إلا بطلقة واحدة، وفرض عليه نفقتها, لئلا ينسد باب الصلح، وإبقاؤها في بيتها، وهو في الغالب بيته الذي يسكن فيه، أو قريبًا منه، وأطيلت العدة إلى ثلاثة قروء، إذ لعله يقوى ميلُه إليها في أثناء هذه المدة، وينسى ما بعثه على الطلاق من الإساءة، وقد تهيج به الذكرى وهو على فراشه، فلا يكون بينه وبينها إلا أن يراجع، ثم يكشف الستر، أو يدقّ الباب.

فلو جمع الثلاث ربما ندم بعد ساعة، كما هو مشاهدٌ بكثرة فاحشة في جميع البلدان، فأدخل بذلك الضرر على نفسه، وعليها إذا كانت تحبه، أو لا يرغب فيها غيره كما في الهند وغيرها من الأقطار، تقل فيها الرغبة في زواج الثيبات، ولا سيما المطلقات، حتى لا تكاد تسمع بمطلقة تزوجّها رجلٌ آخر. ويدخل الضرر على أطفاله منها، إن كانوا، فإنهم إن بقوا عندها بعدوا عن أبيهم، فأضر ذلك به وبهم، وقد لا يكون عنده من المال ما يكفي لأن يرسل إليهم نفقة تكفيهم، وإن اتفق أن تزوجت رجلاً آخر، فإما أن يكونوا معها، وذلك بلاء عليهم، وإما أن تدَعَهم عند أمها، فيمسوا محرومين من أبيهم وأمهم مع أنهما حيان، وإن أبقاهم عنده فإن لم يتزوج كانوا عذابًا عليه، ولم يكن عنده من يقوم بمصالحهم من النساء، وإن كان فليست كأمهم، وإن تزوج كانت هذه المرأة عدوةً طبيعية لأولاده من الأولى، كما هو مشاهد. فاجعلْ كراهيةَ الشرع وهذه المضارَّ في كِفَّة، وما قد يقصده الزوج من تلك المنافع في كفة، وانظر أيهما يرجح. هذا، مع ما تقدم من أن تلك المنافع مذمومة وغير مقررة في الشرع، مما يبعد أن يُقِيم لها الشرعُ وزنًا البتة. قالوا: ولو كان لهذه المنافع أثرٌ في الشرع لكان أباح إيقاع الثلاث دفعةً، وقد اتفقنا على رده، وكان يلزمكم إذ لم تُسندِوا جواز إتباع الطلقة الثانية ثم الثالثة إلا إلى احتمال تلك الأغراض أن تقيّدوا الجواز بوجود غرضٍ مباحٍ منها إن كان، فكيف تكون سندًا لتشريع عامٍ وهي نادرة؟! هذا خلاف سنة الشرع، فإن سنته أن يُراعي الغالب ويُلغي النادر، لا عكسه.

قالوا: فإذا قلنا: إن قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} إنما هو في الطلقة الأولى، فالقياس الصحيح في الثانية والثالثة أن لا تُوقَع كلٌّ منهما إلا عندما يحتاج إليها كالحاجة إلى الأولى، وإنما يحتاج إلى الثانية إذا راجع من الأولى، فيحتاج حينئذٍ إلى ثانية لحل العصمة، فيحتاط لها كما احْتِيط للأولى، فلا توقع إلا في قُبُل العدة، والمعنى حينئذٍ كما في الأولى تمامًا، ثم لا تُوقع الثالثةُ إلا عند الحاجة إليها كالحاجة إلى الأولى وإلى الثانية، وإنما يكون ذلك إذا راجع من الثانية، واحتاج إلى الطلاق، فحينئذٍ يحتاط لها كما في الأُوليين، فلا تُوقَع إلا في قُبُل العدة، والمعنى قبل إيقاعها كالمعنى في الأوليين تمامًا، وأما بعد إيقاعها فقد اختلف المعنى، إذ لا رجعةَ بعدها. وأما إذا قلنا: إن قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} يصدق بالطلقة الأولى وبالثانية وبالثالثة - وإن كانت بعض الأحكام المذكورة في السياق تختصُّ بالأولى والثانية - فالأمر أظهر، فإن كلاًّ من الثلاث تكون منصوصًا في الآية على إيقاعها في قُبُل العدة، وقد تقدم بقية الكلام. قالوا: وأما ما تُفسَّرون به قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} الآيتين: أن المرة الأولى في طهرٍ لم يقربْها فيه، والثانية في الطهر الثاني، والثالثة في الطهر الثالث، فمردودٌ عليكم. أخرج مالك رحمه الله في "الموطأ" (¬1) عن هشام بن عروة عن أبيه قال: "كان الرجل إذا طلَّق امرأته ثم ارتجعها قبل أن تنقضي عدتها كان ذلك ¬

_ (¬1) (2/ 588).

له، وإن طلَّقها ألف مرة، فعَمَدَ رجلٌ إلى امرأته فطلَّقها، حتى إذا شارفتْ انقضاءَ عدتها راجعها، ثم طلَّقها، ثم قال: لا والله لا آوِيكِ إليَّ، ولا تحِلِّينَ أبدًا، فأنزل الله تبارك وتعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}، فاستقبل الناس الطلاقَ جديدًا من يومئذٍ، من كان طلَّق منهم أو من لم يطلِّق". ("الموطأ" بهامش شرحه "المنتقى" ج 5/ ص 125). [ص 5] هذا مرسلٌ صحيحٌ، وهكذا رواه ابن إدريس وجرير بن عبد الحميد عن هشام. انظر تفسير ابن جرير (ج 2/ ص 259) (¬1). وقد رفعه بعضهم، أخرجه الحاكم في "المستدرك" (¬2)، وصححه من طريق يعلى بن شَبِيب عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، وله عواضد. أخرج ابن جرير (¬3) عن قتادة قال: "كان أهل الجاهلية يطلق أحدهم امرأته ثم يراجعها, لا حدَّ في ذلك، هي امرأته ما راجعها في عدتها، فجعل الله حد ذلك يصير إلى ثلاثة أقراء، وجعل حدَّ الطلاق ثلاث تطليقات". وأخرج (¬4) عن ابن زيد: " ... وطلق رجل امرأته حتى إذا كادت أن تَحِلَّ ارتجعها، ثم استأنف بها طلاقًا بعد ذلك لِيُضارَّها بتركها, حتى إذا كان قبل انقضاء عدتها راجعها، وصنع ذلك مرارًا، فلما علم الله ذلك منه، جعل الطلاق ثلاثًا: مرتين، ثم بعد المرتين إمساكٌ بمعروف أو تسريح بإحسان". ¬

_ (¬1) "تفسيره" (4/ 125, 126). (¬2) "المستدرك" (2/ 279، 280). وأخرجه أيضًا الترمذي (1192). (¬3) في "التفسير" (4/ 126). (¬4) المصدر نفسه (4/ 126).

فقوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} يعني - والله أعلم -: الطلاق الذي تعقبه رجعة؛ لأن هذا هو المعهود لهم سابقًا، والمعهود في القصة التي كانت سبب النزول، والمعهود في الآية التي قبلها، وهي قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} إلى قوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ}. فكأنه قال: الطلاق الذي تعقبه رجعة إنما هو مرَّتان، لا مِرارٌ كثيرة، كما أراد ذلك الرجل المضارُّ أن يفعل. وعليه، فكل مرة من المرتين عبارة عن طلاق عقبتْه رجعةٌ, لأن هذا ردّ على ذلك المضارّ الذي أراد أن يفعل هذا، أي الطلاق والرجعة مرارًا. وقوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} أريد به - والله أعلم -: وبعد أن يطلق أحدكم [ثم يراجع] ثم يطلق ثم يراجع، لا يبقى له إلا أن يمسكها ويحتفظ بها، أو يُسرِّحها السراحَ الأخير، وهو الطلاق الثالث. قال في الفتح (¬1): "معنى قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} فيما ذكر أهل العلم بالتفسير، أي: أكثر الطلاق الذي يكون بعده الإمساك أو التسريح مرتان، ثم حينئذٍ إما أن يختار استمرار العصمة فيمسك الزوجة، أو المفارقة فيسرِّحها بالطلقة الثالثة، وهذا التأويل نقله الطبري وغيره عن الجمهور". ثم ذكر القول الثاني، وسيأتي، ثم قال (¬2): "ويرجِّح الأولَ ما أخرجه ¬

_ (¬1) (9/ 366). (¬2) أي الحافظ في "الفتح" (9/ 366).

الطبري (¬1) وغيره من طريق إسماعيل بن سميع عن أبي رزين قال: "قال رجل: يا رسول الله! الطلاق مرتان، فأين الثالثة؟ قال: إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان". أقول: وفي رواية للطبري (¬2): "قال رجل: يا رسول الله! يقول الله: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} فأين الثالثة؟ قال: التسريح بإحسان". (تفسير ابن جرير 2/ ص 260). ثم قال الحافظ (¬3): "وسنده حسن، لكنه مرسلٌ؛ لأن أبا رزين لا صحبة له، وقد وصله الدارقطني (¬4) من وجهٍ آخر، فقال: "عن أنس" لكنه شاذ، والأول هو المحفوظ ... والأخذ بالحديث أولى، فإنه مرسل حسن، يعتضد بما أخرجه الطبري (¬5) من حديث ابن عباس بسندٍ صحيحٍ قال: "إذا طلَّق الرجل امرأته تطليقتين، فليتق الله في الثالثة، فإما أن يُمسِكها فيُحسِن صحبتها، أو يُسرَّحها فلا يظلمها من حقها شيئًا". (فتح الباري ج 9/ ص 293). وقال ابن جرير (¬6): "فقال بعضهم: عَنَى الله تعالى ذِكره بذلك الدلالةَ ¬

_ (¬1) "تفسيره" (4/ 130). (¬2) المصدر نفسه (4/ 131). وأخرجه أيضًا عبد الرزاق في "تفسيره" (1/ 93) و"المصنف" (11091) وأبو داود في "المراسيل" (ص 145) وابن أبي حاتم في "التفسير" (2/ 419). (¬3) في "الفتح" (9/ 366). (¬4) في "سننه" (4/ 4) وقال: والصواب مرسل. (¬5) في "التفسير" (4/ 128). (¬6) المصدر نفسه (4/ 130).

على اللازم للأزواج للمطلقات اثنتين بعد مراجعتهم إياهن من التطليقة الثانية من عشرتهن بالمعروف، أو بفراقهن بطلاق". ثم قال (¬1) بعد أن ذكر الحديث وغيره، وذكر القول الثاني: "فإن اتباع الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولى بنا من غيره، فإذ كان ذلك هو الواجب، فبيِّنٌ أن تأويل الآية: الطلاق الذي لأزواج النساء على نسائهم فيه الرجعة مرتان، ثم الأمر بعد ذلك إذا راجعوهن في الثانية إما إمساك بمعروف، وإما تسريح منهم لهن بإحسان بالتطليقة الثالثة". (تفسير ابن جرير ج 2/ ص 259 - 260). [ص 6] أقول: والقول الثاني حكاه ابن جرير فقال (¬2): "وقال آخرون: بل عنى الله بذلك الدلالة على ما يلزمهم لهن بعد التطليقة الثانية من مراجعةٍ بمعروف، أو تسريحٍ بإحسان بترك رجعتهن حتى تنقضي عدتهن". ثم روى عن السدي (¬3) قال: "إذا طلَّق واحدةً أو اثنتين إما أن يمسك، ويمسك: يراجع بمعروف، وإما سكت عنها حتى تنقضي عدتها". وعن الضحاك (¬4) قال: "يعني تطليقتين بينهما مراجعة، فأمر أن يمسك أو يسرح بإحسان". وروى عنه قبل ذلك (¬5): "والتسريح أن يدَعَها حتى تمضي عدتها". (تفسير ابن جرير ج 9/ ص 260). ¬

_ (¬1) في "التفسير" (4/ 132). (¬2) المصدر نفسه (4/ 131). (¬3) المصدر نفسه (4/ 131، 132). (¬4) المصدر نفسه (4/ 132) (¬5) المصدر نفسه (4/ 132).

وأخرج (¬1) في تفسير سورة الطلاق عن الضحاك في قوله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا}، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} قال: "يعني بالمخرج واليسر: إذا طلَّق واحدةً ثم سكت عنها، فإن شاء راجعها بشهادة رجلين عدلين، فذلك اليسر الذي قال الله، وإن مضت عدتها ولم يراجعها كان خاطبًا من الخُطَّاب، وهو الذي أمر الله به، وهكذا طلاق السنة، فأما من طلَّق عند كل حيضة فقد أخطأ السنة، وعصى الرب، وأخذ بالعسر". (تفسير ابن جرير ج 28/ ص 82). أقول: قال ابن جرير (¬2) في تحرير القول الثاني: "وكأن قائلي هذا القول الذي ذكرناه عن السدي والضحاك ذهبوا إلى أن معنى الكلام: الطلاق مرتان، فإمساكٌ [في] كل واحدة منهما لهن بمعروف، أو تسريح لهن بإحسان". أقول: وحاصله هكذا: المرة الأولى فمراجعةٌ أو تركٌ حتى تنقضي عدتها، فإذا راجع وأراد الطلاق فالمرة الثانية، فمراجعةٌ أو تركٌ حتى تنقضي عدتها، ثم قال تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}. ومعناها على هذا: فإذا راجع من الثانية، ثم بدا له الطلاق فإن طلَّقها ... إلخ. وعلى هذا، فهذا القول الثاني لا يخالف القول الأول فيما ذهب إليه ¬

_ (¬1) "التفسير" (23/ 44). (¬2) المصدر نفسه (4/ 132).

أهل المذهب الثالث (¬1). أقول: والقائلون بأن الإمساك هو الرجعة يقولون كما ذكر بأن .... (¬2) فبعد المرتين إما مراجعة و .... في الاعتراض إما مراجعة وإما طلاق. فإن قيل: لكنه جاء الطلاق بعد ذلك في قوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ}. [قيل]: هو مبني على فرض الإمساك وهو المراجعة؛ لأنه قد حصر الأمر بعد الثنتين في مراجعة أو عدمها، فإن عدمت حتى انقضت العدة كما هو ظاهر، فلا موقع للطلاق الثالث، وإنما يكون له موقع على فرض وقوع المراجعة، فتدبر. وأما من قال: المرتان طلقتان عند كل طهر واحدة، فلم يتبين ما يفسرون به الإمساك والتسريح، وعلى كل حال فقولهم مردود من أصله. وعلى كلٍ من الأقوال الثالثة، فقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ} المراد بها الطلاق الثالث. أما على قول من قال: الإمساك الإبقاء في العصمة، والتسريح الطلاق، فإنه يقول: إن قوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} مبني على التسريح، كأنه قال: فإن وقع منه التسريح الذي تقدم ذكره. والتسريح هو الطلاق الثالث عند هؤلاء. وأما من قال: الإمساك المراجعة بعد كل من الطلقتين، والتسريح عدم ¬

_ (¬1) بعدها صفحتان كتبهما المؤلف، ثم شطب عليهما. وكتب بعد صفحات ملحقًا يناسب هذا المكان. (¬2) الكلمات مخرومة في الأصل في مواضع النقط.

المراجعة، فإنه يقول: إن الطلقة الثالثة إنما ذكرت في قوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا}. وأما من قال: المرتان طلقتان في كل طهر واحدة، فلا بد أن يوافق أحد القولين المتقدمين، ولو كان يقول بخلاف ذلك لكان الظاهر أن يحكيه ابن جرير. نعم، ذكر ابن جرير (¬1) في تفسير {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ} عن ابن عباس قوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} يقول: "إن طلَّقها ثلاثًا لا تحل حتى تنكح زوجًا غيره". رواه من طريق عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة، وفي كل منهم كلام، وهو مع ذلك منقطع، فإن ابن أبي طلحة لم يسمع من ابن عباس، وصحيفة علي بن أبي طلحة عن ابن عباس يستأنس بها أهل العلم، ولا يحتجون بها. على أن هذا الأثر لو صح لوجب حملُه على معنى "إن طلَّقها" الثالثةَ، فتمَّ طلاقُها "ثلاثًا"، توفيقًا بين هذا وبين الروايات الصحيحة عنه (¬2). واحتج أهل المذهب الثاني بالآية {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} فإن المراد بالإمساك المراجعة، وبالتسريح الطلاق، كأنه قال: وبعد المرتين إما مراجعة وإما طلاق. وهذا يدل أن المرة الثانية طلاق لم يعقبه رجعة، إذ لو كانت طلاقًا ¬

_ (¬1) في "تفسيره" (4/ 166). (¬2) هنا نهاية الملحق، وما بعدها وراء صفحة الملحق.

ورجعة لما أمكن أن تكون بعدها مراجعة أخرى، وإذا ثبت أن المرة الثانية طلاقٌ تصلح بعده المراجعة ويصلح الطلاق، فقد وقعت المرة الثالثة من الطلاق عقب الطلاق الثاني بدون تخلل رجعة، وإذا جاز هذا بين الثانية والثالثة فليجز بين الأولى والثانية، ولا قائل بالفرق. فالجواب: أن جمهور السلف فسروا الإمساك ههنا بالإبقاء في العصمة، لا بالمراجعة، ونظيره قوله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب: 37]. وقد أخرج الحاكم في "المستدرك" (¬1) عن أنسٍ قال: "جاء زيد بن حارثة يشكو إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من زينب بنت جحش، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أمسِك عليك أهلَك، فنزلت". وذكر ابن جرير (¬2) أثرًا عن ابن زيد، وفيه: "فجاء فقال: يا رسول الله! إني أريد أن أفارق صاحبتي، قال: مالك؟ أرابَكَ منها شيءٌ؟ قال: لا والله ما رابني منها شيءٌ يا رسول الله، ولا رأيت إلا خيرًا، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أمسِكْ عليك زوجك واتق الله". وروى أثرًا عن قتادة بنحوه (¬3). (تفسير ابن جرير ج 22/ ص 9). وأصرح منه قوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10]. ¬

_ (¬1) (2/ 417). (¬2) "تفسيره" (19/ 116). (¬3) المصدر نفسه (19/ 115).

وأكثر ما يجيء الإمساك في القرآن بهذا المعنى، أي عدم الإرسال. وإنما ذكرت الآيتين لئلا يقول قائل: قد جاء في القرآن {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} في موضعين، والمراد به في كل منهما "فراجعوهن"، فينبغي أن يكون قوله هنا: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} أي مراجعة. على أنه قد يقال: فرق بين قوله: {فَإِمْسَاكٌ}، وقوله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ}، فإن الاسم يدل على الثبات واللزوم، فيقتضي أن هذا الإمساك هو الإبقاء في العصمة؛ لأنه استمرار شيء ثابت، والفعل يدل على التجدد والحدوث، فيقتضي في قوله: "فأمسكوا" أي أحدثوا إمساكًا، وهو المراجعة، فتأمل. وقال ابن جرير (¬1) بعد أن ذكر أثر عروة وما في معناه: "فتأويل الآية على هذا الخبر الذي ذكرنا: عدد الطلاق الذي لكم أيها الناس فيه على أزواجكم الرجعةُ تطليقتان، ثم الواجب على من راجع منكم بعد التطليقتين إمساكٌ بمعروف، أو تسريح بإحسان". ثم حكى قول من قال: إن "المرتان" طلقتان في كل طهر واحدة، ثم الواجب بعد ذلك إما إمساك بمعروف وإما تسريح بإحسان، ثم رده بأنه مخالفٌ لظاهر التنزيل، ولمرسل عروة وعواضده. ثم حكى الخلاف في تأويل الإمساك والتسريح قال (¬2): فقال بعضهم: ¬

_ (¬1) "تفسيره" (4/ 127). (¬2) المصدر نفسه (4/ 130).

عنى الله تعالى ذكره بذلك الدلالة على اللازم للأزواج للمطلقات اثنتين بعد مراجعتهم إياهن من التطليقة الثانية من عشرتهن بالمعروف أو فراقهن (¬1) بطلاق". وذكر حديث أبي رزين الآتي وآثارًا لا أراها صريحة فيما قال. ثم قال (¬2): "وقال آخرون: بل عني الله بذلك الدلالة على ما يلزمهم لهن بعد التطليقة الثانية من مراجعة بمعروف، أو تسريح بإحسان بترك رجعتهن". ثم روى عن السدي قال (¬3): "إذا طلَّق واحدة أو اثنتين، إما أن يمسك - ويمسك: يراجع بمعروف - وإما سكت عنها حتى تنقضي عدتها". وعن الضحاك قال (¬4): "يعني تطليقتين بينهما مراجعة، فأمر أن يمسك أو يسرح بإحسان". ثم رد هذا التأويل بحديث أبي رزين (¬5): "قال رجل: يا رسول الله! قول الله {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} فأين الثالثة؟ قال: التسريح بإحسان". ثم قال (¬6): "فبيَّنٌ أن تأويل الآية: الطلاق الذي لأزواج النساء على ¬

_ (¬1) في الأصل: "بفراقهن"، والتصويب من تفسير الطبري. (¬2) المصدر السابق (4/ 131). (¬3) المصدر نفسه (4/ 131، 132). (¬4) المصدر نفسه (4/ 132). (¬5) المصدر نفسه (4/ 132، 130). (¬6) المصدر نفسه (4/ 132).

السنة

نسائهم فيه الرجعة مرتان، ثم الأمر بعد ذلك إذا راجعوهن في الثانية إما إمساكٌ بمعروف، وإما تسريحٌ لهن بإحسان بالتطليقة الثالثة". (تفسير ابن جرير ج 2/ ص 259 - 260). [ص 7] السُّنَّة المذهب الأول: قالوا: السنة معنا، ففي حديث عائشة الذي في الصحيحين (¬1) وغيرهما في قصة امرأة رفاعة: أنها جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إني كنت عند رفاعة، فطلقني فبتَّ طلاقي، فتزوجت عبد الرحمن بن الزَّبِير، وإنما معه مثل هُدْبة الثوب، فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى يذوق عسيلتك، وتذوقي عسيلته". قال الإمام الشافعي (¬2): "فإن قيل: فقد يجوز أن يكون رفاعة بتَّ طلاقها في مرات. قلت: ظاهره مرةً واحدةً". وفي حديث فاطمة بنت قيس، وهو في صحيح مسلم (¬3)، وأشار إليه البخاري (¬4): "أن زوجها طلَّقها ثلاثًا، فلم يجعل لها النبي - صلى الله عليه وسلم - سكنى ولا نفقة". ¬

_ (¬1) البخاري (2639) ومسلم (1433). (¬2) "الأم" (10/ 259). (¬3) رقم (1480). (¬4) انظر "الصحيح" مع "الفتح" (9/ 477) وكلام الحافظ عليه.

وفي الصحيحين (¬1) من حديث عائشة: "أن رجلاً طلَّق امرأته ثلاثًا، فتزوجت فطلق، فسئل النبي - صلى الله عليه وسلم -: أتحلُّ للأول؟ قال: لا، حتى يذوق عُسيلتها، كما ذاق الأول". وفي الصحيحين (¬2) من حديث سهل بن سعد في قصة عويمر العجلاني: "أنه بعد أن لاعنَ زوجته قال: كذبتُ عليها يا رسول الله إن أمسكتُها، فطلقها ثلاثًا قبل أن يأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". قال الإِمام الشافعي (¬3): "وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - علَّم عبد الله بن عمر موضع الطلاق، ولو كان في عدد الطلاق مباحٌ ومحظورٌ علَّمه - إن شاء الله - إياه؛ لأن من خفي عليه أن يطلق امرأته طاهرًا، كان ما يُكره من عدد الطلاق ويُحَبّ - لو كان فيه مكروه - أشبه أن يخفى عليه ... وطلق ركانة امرأته البتة، وهي تحتمل واحدةً، وتحتمل ثلاثًا، فسأله النبي - صلى الله عليه وسلم - عن نيته وأحلفه، ولم نعلمه نهى أن يطلق البتة يريد بها ثلاثًا، وطلق عبد الرحمن بن عوف امرأته ثلاثًا". رده: قالوا: أما الحديث الأول فقد جاء مفسرًا على خلاف ما ظننتم، ففي الصحيحين (¬4): " ... فقالت: يا رسول الله! إنها كانت عند رفاعة، فطلَّقها آخر ثلاث تطليقات" (صحيح البخاري ج 8/ ص 23، صحيح مسلم ج 4/ ص 154). ¬

_ (¬1) البخاري (5261) ومسلم (1433/ 115). (¬2) البخاري (5308) ومسلم (1492). (¬3) "الأم" (6/ 457). (¬4) البخاري (6084) ومسلم (1433/ 113).

وهكذا الحديث الثاني، ففي رواية عند مسلم (¬1): "أن فاطمة بنت قيس أخبرته أنها كانت تحت أبي عمرو بن حفص بن المغيرة، فطلقها آخر ثلاث تطليقات"، وفي رواية أخرى (¬2): " ... فأرسل إلى امرأته فاطمة بنت قيس بتطليقة كانت بقيت من طلاقها". (صحيح مسلم ج 4/ ص 196 - 197). وأما الحديث الثالث فالظاهر أنه مختصرٌ من حديث امرأة رفاعة، كما جوزه الحافظ في الفتح (¬3)، قال: "وسيأتي في شرح قصة رفاعة أن غيره وقع له مع امرأته نظير ما وقع لرفاعة، فليس التعدد في ذلك ببعيد". (فتح الباري ج 9/ ص 295). وذكر في (ص 375 - 380) (¬4) تلك الروايات، وهي بين ضعيفٍ أو غلطٍ في قصة امرأة رفاعة، فانظرها إن شئت. وأما الحديث الرابع فقصة عويمر، رواها جماعة من الصحابة، ولم يذكر أحدٌ منهم الطلاق إلا في رواية الزهري عن سهل بن سعد. والزهري يقول تارة: "فطلقها"، رواه عنه هكذا الأوزاعي، كما في صحيح البخاري في تفسير سورة النور (¬5)، وعبد العزيز بن أبي سلمة عند أحمد (المسند ج 5/ ص 337) (¬6). ¬

_ (¬1) رقم (1480/ 40). (¬2) رقم (1480/ 41). (¬3) (9/ 367). (¬4) (9/ 464 - 469). (¬5) البخاري (4745). (¬6) رقم (22856).

وتارةً يقول: "ففارقها"، هكذا رواه عنه جماعة، منهم فليح عند البخاري في تفسير سورة النور (¬1)، وابن أبي ذئب عند البخاري أيضًا في الاعتصام (¬2)، وعبد العزيز بن أبي سلمة وإبراهيم بن سعد عند النسائي (¬3)، وعقيل عند أحمد (المسند ج 5/ ص 337) (¬4). وتارة يقول: "فطلقها ثلاثًا"، هكذا رواه مالك وابن جريج (¬5) وغيرهما. قال الحافظ في الفتح (¬6): "في رواية ابن إسحاق - يعني عن الزهري -: ظلمتُها إن أمسكتُها، فهي الطلاق، فهي الطلاق، فهي الطلاق". أقول: والذي في مسند أحمد "هي الطلاق، وهي الطلاق، وهي الطلاق". (مسنده 5/ 334) (¬7). ثم قال الحافظ (¬8): "وقد تفرد بهذه الزيادة ولم يتابع عليها، وكأنه رواه بالمعنى؛ لاعتقاده منع جمع الطلقات". (فتح الباري 9/ 365). وفي هذا نظر، فمن البين أن اختلاف هذه الألفاظ: "فطلقها"، ¬

_ (¬1) رقم (4746). (¬2) رقم (7304). (¬3) (6/ 171). (¬4) رقم (22853). (¬5) انظر البخاري (5308، 5309). (¬6) (9/ 451). (¬7) رقم (22831). (¬8) "الفتح" (9/ 451).

"ففارقها"، "فطلقها ثلاثًا" ليس من سهل بن سعد، وإنما هو من الزهري، ومن الجائز أن يعني الزهري بقوله: "فطلقها ثلاثًا" أنه كرر الطلاق ثلاثًا، وهذا اللفظ يصدق بما إذا كان التكرار صالحًا للتوكيد، فتكون هذه الرواية موافقة لرواية ابن إسحاق، ومن الجائز أيضًا أن يكون الزهري سمع الحديث من سهل باللفظ الذي ذكره ابن إسحاق، ولكن كان الزهري يرويه بالمعنى، فقال مرة: "فطلقها ثلاثًا" بناءً على ما ظنه من أن هذا اللفظ يثبت به ثلاث طلقات، ثم تردد في ذلك، فكان يقول تارةً: "فطلقها" ويقتصر عليه، وتارةً: "ففارقها" ويقتصر عليه، وذكر ابن إسحاق أصل اللفظ الذي سمعه (¬1) من سهل، فقد كان لابن إسحاق اختصاص بالزهري، قال ابن عيينة: "رأيت الزهري قال لمحمد بن إسحاق: أين كنت؟ فقال: هل يصل إليك أحد؟ قال: فدعا حاجبه وقال: "لا تحجبه إذا جاء". (ذكره في تهذيب التهذيب) (¬2). فأما أن يسمع ابن إسحاق "فطلقها ثلاثًا" فيراها مخالفة لرأيه، فيبدلها بلفظ يوافق رأيه، وينسبه إلى صاحب القصة، فهذا بغاية البعد، وليس هذا من الرواية بالمعنى، بل من التحريف والتبديل، وحاشا ابن إسحاق من ذلك (¬3). [ص 8] قالوا: وعلى فرض أنه ثبت ثبوتًا لا ريب فيه أن عويمرًا طلَّق ملاعنته ثلاث طلقات بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم ينكر عليه، ودل ذلك على الجواز، فليس في هذا ما يدل على إباحة جمع الطلاق مطلقًا، فليجز مثل ¬

_ (¬1) أي الزهري. (¬2) (9/ 40). (¬3) ثم الكلام يتصل بعد خمس ورقات في الأصل.

ذلك في مثل هذه الواقعة، وهي أن يطلق الزوج زوجته التي اطلع على زناها ولاعنَها فالتعنت، ولا يُقاس عليها من ليس مثل معناها. على أنه قد أغنى الله الملاعن عن الطلاق بقضائه بالتفريق بينهما مؤبدًا بغير طلاق. وقد أخرج النسائي (¬1) وغيره بسند صحيح عن مخرمة بن بكير عن أبيه قال: سمعت محمود بن لبيد قال: "أُخبِر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن رجل طلَّق امرأته ثلاث تطليقات جميعًا، فقام غضبانَ، فقال: أيُلْعَب بكتاب الله وأنا بين أظهركم، حتى قام رجلٌ وقال: ألا أقتله؟ ". (سنن النسائي 2/ 695). ومحمود بن لبيد ولد في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فالحديث مرسلٌ صحيحٌ. وأخرج البيهقي (¬2) وغيره من حديث أبي موسى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما بالُ رجالٍ يلعبون بحدود الله؟ طلقتك راجعتك، طلقتك راجعتك! ". ورجاله رجال الصحيح إلا أن فيهم من يدلس. وفي رواية: "لِمَ يقول أحدكم لامرأته: قد طلقتك، قد راجعتك؟ طلقوا المرأة في قُبُل عدتها" (سنن البيهقي 7/ 322 - 323). وأخرج الحاكم (¬3) وغيره من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) (6/ 142). (¬2) "السنن الكبرى" (7/ 322). وأخرجه أيضًا ابن ماجه (2017). (¬3) "المستدرك" (2/ 196). وأخرجه أيضًا أبو داود (2178) وابن ماجه (2018).

(ملحق)

"أبغض الحلال إلى الله الطلاق". قال الحاكم: صحيح الإسناد. وقال الذهبي: على شرط مسلم. وأورده البيهقي (¬1) من طرق موصولاً ومن أخرى مرسلاً، ورجّح بعضُ الحفاظ إرساله، قال صاحب الجوهر النقي: " ... فهذا يقتضي ترجيح الوصل, لأنه زيادة وقد جاء من وجوه". (الجوهر النقي مع سنن البيهقي) (¬2). أقول: وإن كان مرسلاً فمرسلٌ صحيحٌ، له شواهد وعواضد، فهو صالحٌ للحجة، إن شاء الله تعالى. ولا خفاء أن الله عَزَّ وَجَلَّ إنما أحله مع بغضه له؛ لعلمه أن الحاجة تشتدُّ إليه، ومن القواعد المقررة أن ما أبيح للضرورة قُدِّر بقدرها، والضرورة أو الحاجة المشروعة يكفي للتخلص منها واحدة، وأما المنافع التي تقدم أن الزوج قد يحتاج إلى تعجلها، فقد مر الكلام عليها. (ملحق) ما يختص بالمذهب الثاني: قالوا: قد صح عن ابن مسعود أنه قال: "طلاق السنة أن يطلقها في كل طهر تطليقة، فإذا كان آخر ذلك فتلك العدة التي أمر الله بها" (سنن الدارقطني 427) (¬3). أخرجه من طريق حفص بن غياث عن الأعمش عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله. ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (7/ 322). (¬2) "الجوهر النقي" (7/ 323). (¬3) (4/ 5).

وقال ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): حدثنا حفص بن غياث عن الأعمش عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله، فذكره بنحوه. وأخرجه ابن جرير (¬2) مطولاً: ثنا ابن حميد ثنا جرير عن مطرِّف عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله في قوله: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} قال: "يطلقها بعد ما تطهر من قبل جماع، ثم يدعها حتى تطهر مرة أخرى، ثم يطلقها إن شاء، ثم إن أراد أن يراجعها راجعها، ثم إن شاء طلَّقها، وإلا تركها حتى تتم ثلاثُ حِيضٍ، وتبين منه". (تفسير ابن جرير 2/ 259). قالوا: وقول الصحابي: "السنة كذا" في حكم الرفع. وجاء عن ابن عباس نحوه. أخرج ابن جرير (¬3) في تفسير سورة الطلاق، من طريق ابن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس: "أنه كان يرى طلاق السنة طاهرًا من غير جماع، وفي كل طهر، وهي العدة التي أمر الله بها" (تفسير ابن جرير ج 28/ ص 77). قالوا: وهذا هو المروي عن مجاهد وقتادة وغيرهما من التابعين. ¬

_ (¬1) (9/ 515). (¬2) "تفسيره" (4/ 128). (¬3) المصدر نفسه (23/ 23).

وقد ثبت في الصحيحين (¬1) وغيرهما من حديث ابن عمر في قصة طلاقه امرأته وهي حائض أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعمر: "مُرْه فليراجعْها، ثم ليمسكْها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعدُ، وإن شاء طلَّق قبل أن يمس". قالوا: وإنما لم يرخص له أن يطلق في الطهر الذي يلي تلك الحيضة؛ لأن محل الطلاق كان في الطهر الذي قبلها, ليكون بينه وبين الطلقة الثانية طهر وحيضة كاملة، فلما أوقعه في الحيضة أمره أن لا يوقع الطلقة الثانية إن أراد إلا بعد أن تطهر ثم تحيض ثم تطهر، ليتم له طهر وحيضة كاملة بين الطلقتين، فدل الحديث على جواز إيقاع الطلقة بعد الطلقة إذا كان بينهما طهر لم يقربها فيه، ثم حيضة كاملة. جواب المذهب الثالث: قالوا: الأعمش وأبو إسحاق إمامان ولكنهما مدلسان، وابن حميد هو محمَّد بن حميد الرازي متهم، والصحيح عن ابن مسعود أنه قال: "الطلاق للعدة طاهرًا من غير جماع". أخرجه ابن جرير من طرق (تفسير ابن جرير ج 28/ ص 76 - 77)، وذكر الحافظ في الفتح (¬2) أن سنده صحيح. (فتح الباري ج 9/ ص 276) (¬3). وقال ابن أبي شيبة (¬4): ثنا وكيع عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي ¬

_ (¬1) البخاري (5251) ومسلم (1471). (¬2) "الفتح" (9/ 346). (¬3) أشار المؤلف هنا إلى ملحق في آخر الرسالة. (¬4) "المصنف" (9/ 511) طبعة عوامة.

الأحوص عن عبد الله قال: "من أراد الطلاق الذي هو الطلاق، فليطلقها تطليقة ثم يدعها حتى تحيض ثلاث حيض". وبسند صحيح عن طاوس (¬1): "طلاق السنة أن يطلق الرجل امرأته طاهرًا في غير جماع، ثم يدعها حتى تنقضي عدتها". وبسندٍ صحيح عن أبي قلابة (¬2) نحوه. وقال (¬3): ثنا ابن إدريس عن هشام عن ابن سيرين عن عَبيدة عن علي قال: "ما طلَّق رجل طلاق السنة فندم"، وفسَّره في رواية أخرى (¬4) فقال: "يطلقها واحدة ثم يتركها حتى تحيض ثلاث حيض". وقال (¬5): ثنا وكيع عن سفيان عن مغيرة عن إبراهيم قال: كانوا يستحبون أن يطلقها واحدةً، ثم يتركها حتى تحيض ثلاثَ حِيَضٍ. ثنا (¬6): شبابة بن سوَّار عن شعبة عن الحكم وحماد في الطلاق السنة قالا: "يطلق الرجل امرأته ثم يدعها حتى تنقضي عدتها" (¬7). وأما أثر ابن عباس فهو مختصر من حديثه في قصة طلاق ركانة، ¬

_ (¬1) المصدر نفسه (9/ 511). (¬2) المصدر نفسه (9/ 512). (¬3) المصدر نفسه (9/ 511). (¬4) المصدر نفسه (9/ 512). (¬5) المصدر نفسه (9/ 512). (¬6) المصدر نفسه (9/ 512). (¬7) هنا نهاية الملحق، ثم يرجع الكلام إلى صفحة (8).

وسيأتي، وليس فيه ذكر "السنة"، وإنما فيه بعد أن ذكر القصة: "فكان ابن عباس يرى إنما الطلاق عند كل طهر". ولفظ "السنة" في هذا المختصر إما من قول عكرمة، وإما من قول من بعده، وسيأتي بقية الكلام على هذا. قالوا: وأما حديث ابن عمر فالطلقتان فيه ليستا متتابعتين، فإنه أمره بالمراجعة من الأولى، وعليه فالطلقة الثانية تكون في قُبُل العدة، فأين هذا من مذهبكم؟ وقد ذكر العلماء توجيهات أخرى غير ما قلتم، منها قولهم: لو طلَّقها عقب تلك الحيضة كان قد راجعها ليطلقها، وهذا عكس مقصود الرجعة، فإنها شرعت لإيواء المرأة، ولهذا أسماها إمساكًا، فأمره أن يمسكها في ذلك الطهر، وأن لا يطلق فيه حتى تحيض حيضة أخرى ثم تطهر، لتكون الرجعة للإمساك. ويؤيد ذلك أن الشارع أكد هذا المعنى حين أمره أن يمسكها (يمسها) في الطهر الذي يلي الحيض الذي طلَّقها فيه، لقوله في رواية عبد الحميد بن جعفر (¬1): "مُره أن يراجعها، فإذا طهرت مسَّها، حتى إذا طهرت أخرى فإن شاء طلَّقها، وإن شاء أمسكها". فإذا كان قد أمره بأن يمسكها (يمسَّها) في ذلك الطهر، فكيف يصح له أن يطلقها فيه؟ وقد ثبت النهي عن "الطلاق في طهرٍ جامعها فيه" (فتح الباري ¬

_ (¬1) ذكرها الحافظ في "الفتح" (9/ 350).

ج 9/ ص 280) (¬1). وقوله في الرجعة: إنها شرعت لإمساك المرأة يُبيّنه أن الله تعالى قيَّد استحقاقها بإرادة الإصلاح، قال تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا}، وقال: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}، وقال: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}. وفي الحديث دليل لنا، فإنه ذكر الطلقة الثانية، ثم قال: "فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء", ولم يذكر بعد الطلقة الثانية إلا التنبيه على الآية، ودلالة الآية ظاهرة فيما ذهبنا إليه، فلذلك - والله أعلم - اكتفى بها عن أن يقول: ثم لا تطلق الثالثة إلا إذا راجعت من الثانية, ولو كان الأمر كما قلتم لكان الظاهر أن يذكر الثالثة (¬2) , لأن ما قلتم خلاف ظاهر الآية (¬3). وأما سكوت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن تعليم ابن عمر، فالظاهر أن عمر وابنه كان يعلمان ذلك، وقد روي عنهما تحريم إيقاع الثلاث جميعًا، والظاهر أن ابن عمر كان يعلم حرمة الطلاق في الحيض، وإنما وقعت منه زلَّةٌ، ولم يعلم هو وأبوه كيف المَخْلَص منها، فلذلك سأل عمر النبي - صلى الله عليه وسلم -. والله أعلم. ومما يدل على علمه ما ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تغيظ لما أخبره عمر. وأما ركانة فإنه أخبر أنه إنما أراد واحدة، وحلف على ذلك، فلما تبين أنه إنما طلَّق واحدةً، لم يكن هناك باعث في الحال إلى بيان تحريم إيقاع ¬

_ (¬1) (9/ 350). (¬2) في الأصل: "الثانية". (¬3) ثم يتصل الكلام بالملحق الذي في الصفحة الآتية.

الثلاث دفعة. وأما عبد الرحمن بن عوف فقد ثبت أنه إنما طلَّقها آخر ثلاث تطليقات كانت لها، انظر الجوهر النقي مع سنن البيهقي (ج 7/ ص 330). أقول: ولقصة ابن عمر وركانة تعلقٌ بوقوع الثلاث دفعة أو عدمه، وكذلك حديث أبي موسى، وحديث محمود بن لبيد، بل لهذا الحكم - أعني تحريم إيقاع الثلاث دفعة أو إباحته - علاقة بذلك، فانتظر بيانها في الباب الثاني، إن شاء الله تعالى. ****

الباب الثاني في الوقوع

[ص 1] الباب الثاني (¬1) في الوقوع المسألة الأولى: في وقوع الطلاق البدعي الجمهور على وقوعه (¬2). احتج الجمهور من القرآن بقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} الآية، وقوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} الآية، وقوله: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ} الآية، وقوله: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ}، وقوله: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} الآية، وقوله: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ} الآية. قالوا: والطلاق في هذه الآيات عامٌّ يتناول الطلاق المأذون فيه وغيره؛ لأن الطلاق كلمة معروفة المعنى في اللغة، لم يخصها الشارع بالطلاق المأذون فيه. واحتجوا بقوله تعالى: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} إلى قوله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} فأفهم أن من لم يتق الله لم يجعل له مخرجًا، أي: بل يضيق عليه، والتضييق هو أن يعتد عليه بطلاقه. ¬

_ (¬1) قبله: "بسم الله الرحمن الرحيم". وهذا الباب أربع صفحات بدون ترقيم في الأصل، ورقمناه ترقيمًا جديدًا من واحد. (¬2) بعدها بياض في الأصل بقدر خمسة أسطر.

ومن السنة بحديث الصحيحين (¬1) وغيرهما - بل هو متواترٌ - أن ابن عمر طلَّق امرأته وهي حائض، فأخبر عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، فقال له: "مره فليراجعها" الحديث. قالوا: والمراجعة إنما تكون بعد طلاق واقع. قالوا: وقد أخرج ابن وهب في مسنده (¬2) عن ابن أبي ذئب، أن نافعًا أخبره: أن ابن عمر طلَّق امرأته وهي حائض، فسأل عمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال: "مره فليراجعها، ثم يمسكها حتى تطهر"، قال ابن أبي ذئب في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وهي واحدة". قال ابن أبي ذئب: وحدثني حنظلة بن أبي سفيان أنه سمع سالمًا يحدث عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك. وأخرجه الدارقطني (¬3) من طريق يزيد بن هارون عن ابن أبي ذئب وابن إسحاق جميعًا عن نافع عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "هي واحدة". (فتح الباري ج 9/ ص 282 - 283) (¬4). وفي صحيح البخاري (¬5) عن سعيد بن جبير عن ابن عمر قال: "حُسِبَتْ علي بتطليقة". ¬

_ (¬1) البخاري (5251) ومسلم (1471). (¬2) انظر "فتح الباري" (9/ 353). (¬3) "سننه" (4/ 9). (¬4) "فتح الباري" (9/ 353). (¬5) رقم (5253).

قال المانعون: أما عموم الآيات فيخصه قوله تعالى: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}، فدل اتفاقًا على أن المأذون فيه هو الطلاق للعدة، فما وقع من صورة طلاق وليس للعدة فهو غير مأذون فيه اتفاقًا. والأصل في النكاح أنه عقد لازمٌ يحب الله بقاءه، ولا يرضى قطعه، وقد مر دليل ذلك، وفي بعض الشرائع المتقدمة لا يمكن قطعه البتة، وإنما رخص الله تعالى لهذه الأمة في قطعه لشدة الحاجة إليه، فالطلاق رخصة، فإذا أوقعه الرجل كما أذن الله له وقع، وإذا أوقعه كما نهاه الله تعالى لم يقع. [ص 2] واحتج الجمهور من السنة بحديث ابن عمر المشهور بل المتواتر، ولهم فيه حجج: الأولى: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - "فليراجعها"، والمراجعة حقيقة شرعية في ردّ الزوج لو أوقع عليها طلاقًا رجعيًا إلى عصمة نكاحه في العدة. الثانية: قوله: "ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعدُ، وإن شاء طلَّق قبل أن يمسَّ"، ولو كانت طلقته التي طلَّقها في الحيض لاغيةً لما منعه من تطليقها في الطهر الذي يليها. الثالثة: ما في الصحيحين (¬1) عن سعيد بن جبير عن ابن عمر قال: "حُسِبَتْ علي بتطليقة". قال في الفتح (¬2): "وقد أخرجه أبو نعيم من طريق ¬

_ (¬1) البخاري (5253). وأخرجه مسلم (1471/ 11، 12) من طريق أنس بن سيرين بنحوه. (¬2) (9/ 352).

عبد الصمد بن عبد الوارث عن أبيه مثل ما أخرجه البخاري مختصرًا وزاد - يعني حين طلَّق امرأته -: فسأل عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك". (فتح الباري). وقال بعد ذلك (¬1): "النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الآمر بالمراجعة، وهو المرشد لابن عمر فيما يفعل إذا أراد طلاقها بعد ذلك، وإذا أخبر ابن عمر أن الذي وقع منه حُسِبت عليه بتطليقة كان احتمال أن يكون الذي حسبها عليه غير النبي - صلى الله عليه وسلم - بعيدًا جدًّا مع احتفاف القرائن في هذه القصة بذلك. وكيف يتخيل أن ابن عمر يفعل في القصة شيئًا برأيه وهو ينقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تغيَّظ من صنيعه؟ كيف لم يشاوره فيما يفعل في القصة المذكورة؟ ". ثم ذكر الحجة الرابعة: فقال (¬2): "وقد أخرج ابن وهب في مسنده عن ابن أبي ذئب أن نافعًا أخبره أن ابن عمر طلَّق امرأته وهي حائض، فسأل عمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فقال: "مره فليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر"، قال ابن أبي ذئب في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وهي واحدة". قال ابن أبي ذئب: وحدثني حنظلة بن أبي سفيان أنه سمع سالمًا يحدث عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك. وأخرجه الدارقطني (¬3) من طريق يزيد بن هارون عن ابن أبي ذئب وابن إسحاق جميعًا عن نافع عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "هي واحدة". ¬

_ (¬1) "فتح الباري" (9/ 353). (¬2) المصدر نفسه (9/ 353). (¬3) في سننه (4/ 9).

وعند الدارقطني (¬1) في رواية شعبة عن أنس بن سيرين عن ابن عمر في القصة فقال عمر: يا رسول الله! أفتُحتسب بتلك التطليقة؟ قال: "نعم". ورجاله إلى شعبة ثقات. (فتح الباري ج 9/ ص 283). وأخرج البيهقي من طريق أبي داود الطيالسي: نا ابن أبي ذئب عن نافع عن ابن عمر: أنه طلَّق امرأته وهي حائض، فأتى عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له، فجعلها واحدة. (سنن البيهقي ج 7/ ص 326). جواب المانعين: قالوا: أما احتجاجكم بقوله: "فليراجعها" "فهو غير ناهض؛ لأن الرجعة المقيدة ببعد الطلاق عرفٌ (¬2) شرعيٌ متأخر، إذ هي لغةً أعم من ذلك" (سبل السلام 2/ 96) (¬3). أقول: في هذا الجواب نظر، فقد جاء ذكر مراجعة الرجل زوجته في أحاديث أخر، كما في حديث: "راجعْ حفصةَ فإنَّها صوَّامة قوَّامة" (¬4)، وحديث: "راجِعْ أمَّ ركانة" (¬5)، وكثر في كلام الصحابة جدًّا، فيظهر من هذا ¬

_ (¬1) المصدر نفسه (4/ 5، 6). (¬2) في الأصل: "عرفي". (¬3) "سبل السلام" (3/ 171) طبعة دار الفكر. (¬4) قاله جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم -، كما في "الاستيعاب" (4/ 1810). وأخرجه ابن سعد في "الطبقات" (8/ 84) والحارث بن أبي أسامة كما في "المطالب العالية" (4154) عن قيس بن زيد، وقيس مختلف في صحبته. انظر "فتح الباري" (9/ 286). (¬5) أخرجه أبو داود (2196) عن ابن عباس.

أن العرف جرى بذلك في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، إذا قيل: "راجع فلان امرأته" ظهر من ذلك أنه طلَّقها، فأقلُّ ما فيه أنه حقيقة عرفية ثابتة في عهده - صلى الله عليه وسلم -. فإن قيل: إذا سلم هذا، فإنما أطلقها النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن الذي وقع صورة طلاق. قلت: إنما فزع عمر وابنه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليبين لهم، وهذا مخالف للبيان. فإن قيل: قد بيَّن بقوله: "فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء" فنبَّه بذلك على أن ما وقع من ابن عمر كان على خلاف ما أمر الله، وهذا يُشعِر بعدم وقوعه، على ما تقدم في الجواب عما احتج به الجمهور من القرآن. قلت: ليس هذا بالبين. قالوا: وأما الحجة الثانية فلا يتعين ما قلتم لاحتمال أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره بالإمساك في ذلك الطهر معاملةً له بنقيض قصده من الاستعجال، وإظهارًا لبطلان تلك الطلقة، ولهذا - والله أعلم - أمره بأن يمس في ذلك الطهر، ولو أذن له بالطلاق فيه فطلق لحصل مقصوده من الاستعجال، ولم يظهر أثر بطلان تلك الطلقة التي طلَّق في الحيض. [ص 3] وأما الحجة الثالثة: فلم يتبين لنا متى حُسِبَتْ عليه، فقد ثبت في "صحيح مسلم" (¬1) عنه: "ثم طلَّقتُها لطهرها". ¬

_ (¬1) رقم (1471/ 11).

فيحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - بيَّن له حين أمره بالمراجعة أن تلك الطلقة محسوبة عليه. ويحتمل أن يكون فِهمَه من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فليراجعها" على ما ذكرتم في الحجتين الأولَيين. ويحتمل أن يكون بعد أن طلَّقها لطهرها أراد أن يراجعها، فبين له النبي - صلى الله عليه وسلم - حينئذٍ. ويحتمل أن يكون تركها حتى انقضت عدتها، [و] أراد أن يتزوجها فسأل، فحُسِبَتْ عليه. وفي هذا الأخير يحتمل أن يكون في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيكون الظاهر أنه هو الذي حسبها، ويحتمل أن يكون بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم -، وعلى هذا فيكون الظاهر أن غيره هو الذي حسبها. وليس هذا كقول الصحابي: "أُمِرنا بكذا"، فإن الظاهر في الأمر أنه من النبي - صلى الله عليه وسلم - , وأما حساب الطلقة فيكون من القاضي والمفتي. ويرجح هذا الأخير أن أكثر الروايات عن ابن عمر تدل أن حساب تلك الطلقة عليه كان باجتهادٍ ممن بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -. ففي رواية (¬1) قال ابن عمر: "فراجعتها وحسبت لها التطليقة". وفي رواية أنس بن سيرين (¬2) أنه قال لابن عمر: قلتُ فاعتددتَ بتلك ¬

_ (¬1) مسلم (1471/ 4). (¬2) المصدر نفسه (1471/ 11).

التطليقة التي طلقتَ وهي حائض؟ قال: "ما لي لا أعتدُّ بها؟ وإن كنتُ عجزتُ واستحمقتُ". وفي رواية يونس بن جبير (¬1) نحوه. وفي رواية عبيد الله (¬2) عن نافع عن ابن عمر، قال عبيد الله: قلت لنافع: ما صَنَعتْ التطليقةُ؟ قال: "واحدة اعتدَّ بها". وفي رواية الزهري (¬3) عن سالم عن عبد الله بن عمر: "وكان عبد الله ابن عمر طلَّقها تطليقةً واحدة فحُسِبَتْ من طلاقها". هذا، وقد كان القول بعدم الوقوع مشهورًا حينئذٍ على ما قال في "الفتح" وعبارته (¬4): "قوله: "باب إذا طلقت الحائض تعتد بذلك الطلاق" كذا بتَّ الحكمَ بالمسألة، وفيها خلاف قديم عن طاوس وعن خِلاس بن عمرو وغيرهما، ومن ثمَّ نشأ سؤال من سأل ابن عمر عن ذلك". (فتح الباري ج 9/ ص 281). فعدم تنصيص ابن عمر ثم ابنه سالم ومولاه نافع بنص صريح مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - على حسب تلك الطلقة مع تكرار السؤال واشتهار الخلاف = ظاهرٌ في أنه لم يكن عند ابن عمر نص صريحٌ، وسيأتي ما يؤكد هذا. ¬

_ (¬1) المصدر نفسه (1471/ 9). (¬2) المصدر نفسه (1471/ 2). (¬3) المصدر نفسه (1471/ 4). (¬4) "فتح الباري" (9/ 351).

وأما الحجة الرابعة؛ فصنيع الدارقطني في "سننه" (¬1) يدل أنه يرى أن ذكر الواحدة في حديث ابن أبي ذئب إنما أصله أن ابن عمر طلَّق واحدة، أي: لم يطلق ثلاثًا، فإنه ساق من طريق أبي الزبير قال: سألت ابن عمر عن رجل طلَّق امرأته ثلاثًا وهي حائض، فقال: أتعرف ابن عمر؟ قال: قلت: نعم، قال: طلقت امرأتي ثلاثًا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي حائض فردها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى السنة". ثم قال (¬2): "هؤلاء كلهم من الشيعة، والمحفوظ أن ابن عمر طلَّق امرأته واحدة في الحيض". ثم ساق (¬3) رواية عبيد الله عن نافع عن عبد الله: "أنه طلَّق امرأته وهي حائض تطليقة". ثم قال (¬4): "وكذلك قال صالح بن كيسان وموسى بن عقبة وإسماعيل بن أمية وليث بن سعد وابن أبي ذئب وابن جريج وجابر وإسماعيل بن إبراهيم بن عقبة عن نافع عن ابن عمر: "أنه طلَّق امرأته تطليقة واحدة"، وكذلك قال الزهري عن سالم عن أبيه، ويونس بن جبير والشعبي والحسن". [ص 4] ثم ساق الأحاديث مستدلاًّ على ذلك (¬5)، فذكر رواية عبيد الله ¬

_ (¬1) (4/ 7). (¬2) المصدر نفسه (4/ 7). (¬3) المصدر نفسه (4/ 7). (¬4) المصدر نفسه (4/ 7). (¬5) المصدر نفسه (4/ 7 وما بعدها).

عن نافع، ثم رواية يونس بن جبير عن ابن عمر، ثم رواية إسماعيل بن أمية عن نافع، ثم رواية صالح عن نافع، وفي طريق منها: "نا نافع أن ابن عمر إنما طلَّق امرأته تلك واحدة" (¬1). وعقبه من طريق يزيد بن هارون أنا محمَّد بن إسحاق وابن أبي ذئب عن نافع عن ابن عمر أنه طلَّق امرأته في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي حائض، فذكر عمر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم ذكر نحوه. وقال ابن أبي ذئب في حديثه: هي واحدة، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء" (¬2). ثم ذكر رواية موسى بن عقبة عن نافع، ثم رواية جابر عن نافع (¬3). فيظهر مما ذكرناه أن الذي فهم الدارقطني من ذكر الواحدة في رواية ابن أبي ذئب: أن المقصود منها أن ابن عمر إنما طلَّق واحدة لا ثلاثًا، وهذا هو الموافق لرواية الجماعة عن نافع. وأما رواية البيهقي من طريق الطيالسي فهي لعمر الله ظاهرة فيما ذهبتم إليه، ولم نجد هذا الحديث في مسند الطيالسي، والطيالسي إمام حافظ ولكنه كثير الخطأ (¬4). قال أبو مسعود: "يخطئ"، وأقره أحمد على هذا القول. ¬

_ (¬1) المصدر نفسه (4/ 9). (¬2) المصدر نفسه (4/ 9). (¬3) المصدر نفسه (4/ 10). (¬4) انظر ترجمته في "تهذيب التهذيب" (4/ 183 - 185). وفيه أقوال النقاد المذكورة.

وقال ابن عدي: "يخطئ في أحاديث منها، يرفع أحاديث يوقفها غيره، ويوصل أحاديث يرسلها غيره، وإنما أتي ذلك من حفظه". وقال ابن سعد: "ربما غلط". وقال أبو حاتم: "كان كثير الخطأ". أقول: ومن قارن الأحاديث التي في مسنده بنظائرها مما يرويه غيره، وجد اختلافًا كثيرًا في المتون، وكأنه كان يروي بالمعنى، فاختصر حديث ابن أبي ذئب، وبنى على ما فهمه فقال: "فجعلها واحدة". والله أعلم. نعم، قال (¬1) بعد ذلك: "نا أبو بكر نا عياش بن محمَّد نا أبو عاصم عن ابن جريج عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "هي واحدة". كذا وقع في النسخة "عياش"، وأحسبه "عباس" وهو الدوري، فإن كان هو فكلهم ثقات، ولكن ابن جريج مشهور بالتدليس، ومع هذا فقد أعرض الدارقطني عن ظاهر هذه الرواية وألحقها برواية الجماعة عن نافع - كما تقدم - أي أن ذكر الواحدة في الحديث إنما هو في أن ابن عمر طلَّق واحدة. وأما حديث الدارقطني من طريق شعبة عن أنس بن سيرين الذي قال الحافظ (¬2): "ورجاله إلى شعبة ثقات"، فقال الدارقطني (¬3): "نا عثمان بن أحمد الدقاق نا عبد الملك بن محمَّد أبو قلابة نا بشر بن عمر نا شعبة" فذكره. ¬

_ (¬1) أي الدارقطني في "سننه" (4/ 10). (¬2) في "الفتح" (9/ 353). (¬3) في "السنن" (4/ 5).

فأما الدقاق، ويقال له: السماك وابن السماك، فثقة، وغمزه الذهبي في الميزان (¬1) بما لا يجرحه. وأما أبو قلابة فثقة، ولكن قال الدارقطني نفسه (¬2): صدوق كثير الخطأ في الأسانيد والمتون، كان يحدث من حفظه، فكثرت الأوهام في روايته. وقال الحاكم عن الدارقطني: لا يحتج بما ينفرد به، بلغني عن شيخنا أبي القاسم ابن بنت منيع أنه قال: عندي عن أبي قلابة عشرة أجزاء، ما منها حديث مسلَّم إما في الإسناد، وإما في المتن، كان يحدث من حفظه فكثرت الأوهام فيه". وقال ابن خزيمة: حدثنا أبو قلابة القاضي أبو بكر (¬3) بالبصرة قبل أن يختلط ويخرج إلى بغداد. أقول: والدقاق بغدادي، وكانت وفاة أبي قلابة سنة (276)، ووفاة الدقاق سنة (344)، أي بعد وفاة أبي قلابة بثمانٍ وستين سنة، فيظهر من هذا أنه إنما سمع من أبي قلابة بأخرة. ثم رأيت السخاوي في "فتح المغيث" (¬4) قد صرح بذلك، فقال عند قول العراقي في فصل معرفة من اختلط من الثقات: "وكالرقاشي أبي قلابة": "وممن سمع منه أخيرًا ببغداد: أبو عمرو عثمان بن أحمد السماك، وأبو بكر ¬

_ (¬1) (3/ 31). (¬2) كما في "تهذيب التهذيب" (6/ 420). وفيه بقية الأقوال المذكورة هنا. (¬3) كذا في "التهذيب" بزيادة "أبو بكر"، ولا وجود لها في "تاريخ بغداد" (10/ 426). (¬4) (4/ 378) طبعة الهند.

محمَّد بن عبد الله الشافعي، وغيرهما، فعلى قول ابن خزيمة سماعهم منه بعد الاختلاط" (فتح المغيث ص 489). وحديث شعبة عن أنس بن سيرين في الصحيحين (¬1) وغيرهما من طرق كثيرة، والذي فيه أن أنس بن سيرين هو الذي سأل ابن عمر فأجابه، فوهم أبو قلابة على بشر عن شعبة في قوله: إن السائل هو عمر سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -، الله أعلم. وقد ذكر الدارقطني (¬2) حديثًا آخر يشبه هذا قال: "نا عثمان بن أحمد الدقاق نا الحسن بن سلام نا محمَّد بن سابق نا شيبان عن فراس عن الشعبي قال: طلَّق ابن عمر امرأته وهي حائض، فانطلق عمر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فأمره أن يراجعها، ثم يستقبل الطلاق في عدتها، وتحتسب بهذه التطليقة التي طلَّق أول مرة". وأخرجه البيهقي (¬3) من طريق ابن أبي خيثمة قال: "ثنا محمَّد بن سابق أبو جعفر إملاءً من كتابه" فذكره. (سنن البيهقي ج 7/ ص 326). أقول: ابن سابق وشيبان وفراس كلهم من رجال الصحيحين، لكن في مقدمة "فتح الباري" (¬4) في ترجمة ابن سابق: "وثقه العجلي، وقواه أحمد بن حنبل، وقال يعقوب بن شيبة: كان ثقة، وليس ممن يوصف بالضبط، وقال ¬

_ (¬1) البخاري (5252) ومسلم (1471/ 12). (¬2) (4/ 11). (¬3) (7/ 326). (¬4) (ص 439).

النسائي: لا بأس به، وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: ضعيف. قلت: ليس له في البخاري إلا حديث واحد ... وقد تابعه عليه عنده عبيد الله بن موسى". وفي شيبان وفراس كلام يسير غير قادح، إلا أن الحديث مرسل، فإن الشعبي تابعي لم يدرك القصة. وهذا يشبه ما رواه عطاء عن ابن الحنفية (¬1): أن عمارًا مرَّ بالنبي - صلى الله عليه وسلم - .. إلخ. وقد حكم عليه يعقوب بن شيبة بالإرسال. ونحوه ما رواه عكرمة بن عمار عن قيس بن طلق (¬2): أن طلقًا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد قال البيهقي (¬3): منقطع لأن قيسًا لم يشهد سؤال طلَّق. وهكذا قول ضمرة عن عبيد الله بن عبد الله (¬4): أن عمر بن الخطاب سأل أبا واقد الليثي. وقد نص ابن خزيمة على انقطاعه. ولهذا قال الإِمام أحمد: إن "عن عروة أن عائشة" قالت: يا رسول الله، و"عن عروة عن عائشة" ليسا سواء. (انظر فتح المغيث ص 68 - 69) (¬5). ... ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي (3/ 6). (¬2) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 135) و"المعرفة" (1/ 411). (¬3) "معرفة السنن والآثار" (1/ 411). (¬4) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (3/ 294). (¬5) "فتح المغيث" (1/ 196 - 198) طبعة الهند.

له الحمد (¬1): هذه القضية قد عُرِضتْ علي قبل مدة، وأجبت بما ظهر لي، وذكرت [قول] أصحابنا الشافعية: أن الزوجين إذا ادّعيا بعد الطلاق الثلاث أن النكاح الأول كان بشهادة فسَّاق، وغرضهما أن يثبت بطلانه في مذهب الشافعي، لكي يعقدا عقدًا جديدًا بدون تحليل، لم يسمع القاضي الشافعي دعواهما, ولم يقبل منهما بينة. ولم يظهر لي بعدُ ما يخالفه، وأرى أن التسهيل من هذا الوجه مخالفٌ لمقاصد الشريعة، ومفتاح فساد لتخريب حدودها، فإن كان الزوجان يريدان الترخص، فأقرب الطرق وأشبهها بالحق: تقليد من يقول من أهل العلم: إن الطلقات التي لم تتخللها رجعة إنما تحسب طلقة واحدة. القاضي أبو القاسم الداودي: إن الوداد لدى أناسٍ خدعة ... كوميضِ برقٍ في جَهامِ غَمامِ فهو المقال الفرد عند القوم كالـ ... إيمانِ عند محمدِ بن كِرَام (الإعجاز والإيجاز ص 266). ¬

_ (¬1) كذا في آخر الكتاب في صفحة مستقلة, وألحقناه بالكتاب لأنه في موضوعه.

الرسالة العشرون رسالة في المواريث

الرسالة العشرون رسالة في المواريث

فصل فيما كان عليه التوريث في الجاهلية، وكيف أبطل الله تعالى ما فيه من الجور

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله محمَّد وآله وصحبه. فصل فيما كان عليه التوريث في الجاهلية، وكيف أبطل الله تعالى ما فيه من الجور كنتُ أريد أن أُثبِتَ في هذا الفصل ما وقفتُ عليه من الآثار في هذا المعنى، ولكن رأيتُ ذلك يطول، مع ما يستدعي منّي من التصحيح والترجيح والتأويل والتعويل، فاكتفيتُ بالإجمال عن التفصيل. قد تضافرت الآثارُ أن أهل الجاهلية لم يكونوا يُورِّثون النساء والضعفةَ، وفي "صحيح البخاري" (¬1) وغيره عن ابن عباس قال: "كان المال للولد، والوصية للوالدين والأقربين ... ". قوله: "كان المال للولد" أي في الجملة، فإنما كان للذكور الكبار منهم، كما تدلُّ عليه سائر الآثار, وسيأتي بعضها. فمن تأمل الآثار ومناسبة الآيات تبيَّن له أن ترتيبها على ما يأتي: 1 - آية الوصية. 2 - آية الوصية للزوجة. ¬

_ (¬1) رقم (2747، 4578). وأخرجه أيضًا الطبري (6/ 459) وابن المنذر (1433) وابن أبي حاتم (3/ 880) في تفاسيرهم، والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 226).

3 - {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ ...} الآيات. 4 - {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء: 176]. 5 - {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ ...} [النساء: 33]. 6 - {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا ... وَأُولُو الْأَرْحَامِ} [الأنفال: 72 - 75]. 7 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ ...}. فلنبدأ بتفسير الآيات على هذا الترتيب، ثم نقتصُّ أثر الجَيْراجي على حسب ترتيبه. ****

بسم الله الرحمن الرحيم وبه أستعين، وصلى الله وسلَّم وبارك على عبده ونبيه وخليله محمَّد وآله وصحبه، آمين. قال الله تبارك وتعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180]. قوله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا}، فُسِّر الخير بالمال، وفُسِّر بالمال الكثير. أخرج جماعة (¬1) عن علي رضي الله عنه أنه دخل على مولىً له في الموت، وله سبعمائة درهم، فقال: ألا أُوِصي؟ قال: لا، إنما قال الله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا}، وليس لك كثيرُ مالٍ، فدَعْ مالك لورثتك. وأخرج ابن أبي شيبة (¬2) أن رجلاً قال لعائشة رضي الله عنها: أريدُ أن أوصي، قالت: كم مالُك؟ قال: ثلاثة آلاف، قالت: كم عيالُك؟ قال: أربعة، ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق في "المصنَّف" (16351) وسعيد بن منصور (251 - تفسير) وابن أبي شيبة في "المصنف" (11/ 208) والطبري في "تفسيره" (3/ 136، 137) وابن أبي حاتم في "تفسيره" (1/ 298) والحاكم في "المستدرك" (2/ 273، 274) والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 270)، وصححه الحاكم (1/ 298)، فتعقبه الذهبي بقوله: فيه انقطاع. (¬2) في "المصنف" (11/ 208). وأخرجه أيضًا سعيد بن منصور في "سننه" (248 - تفسير) والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 270). وإسناده صحيح.

قالت: قال الله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا}، وهذا شيء يسيرٌ، فاتركْه لعيالك فهو أفضل. ............................ كانوا رضي الله عنهم يرون أن آية الوصية كُتِب فيها الوصية من المال الكثير للوالدين وعامة الأقربين، وآية الميراث نسختْها بالنسبة للوالدين وبعض الأقربين فبقي بقية الأقربين داخلين في آية الوصية. وعندي أنها منسوخة بالنسبة لبقية الأقربين أيضًا، وأُقيمَ مقامَ ذلك قولُه تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى ...} [النساء: 8] كما يأتي إن شاء الله تعالى. {الْوَصِيَّةُ} هي الاسم من أوصى يوصي، وأصلها: أمْرُك من أنت غائبٌ عنه أو ستغيب بأمرٍ يفعله في الغَيبة، ويقال: أوصيتُ زيدًا بالصدقة، كما يقال: أمرتُه بها. ويقال: أوصيتُ لزيدٍ بمالٍ، كما يقال: أمرتُ له بمالٍ. {لِلْوَالِدَيْنِ} اللام في قوله: {لِلْوَالِدَيْنِ} تحتمل معنيين: وذلك أنه مما تقرر في العربية أن الفعل الذي يتعدى بنفسه يجوز في مصدرِه واسم مصدره ونحوِهما التعديةُ باللام دائمًا، وبنفسه بشرطه. قال ابن مالك في "الخلاصة" (¬1): ¬

_ (¬1) "الألفية" بشرح ابن عقيل (3/ 93).

بفعلِه المصدرَ أَلحِقْ في العملْ ... مضافًا أو مجرّدًا أو معَ الْ إن كان فعلٌ مع أنْ أو ما يَحُلّ ... محلَّهُ ولاسْمِ مصدرٍ عَمَلْ قال الشارح (¬1): "وإعمالُ المضاف أكثرُ من إعمال المنوَّن، وإعمالُ المنوَّن أكثر من إعمال المحلَّى بألْ". واتفقوا على أنه إذا لم يُعَدَّ بنفسه يُعدَّى باللام. ولفظ "وصية" اسم مصدرٍ من أوصى، فيجوز تعديته إلى المفعول باللام، فإذا كان محلَّى بألْ فالغالب أو الواجب أن لا يُعدَّى بنفسه، بل يُعدَّى باللام. يقول: على كل مسلم الوصيةُ للمسلمين بالتقوى، وعلى هذا فمعنى الآية: كُتِب عليكم إذا حضر أحدَكم الموتُ إن ترك خيرًا أن يوصيَ الوالدين والأقربين بالمعروف. والمقصود أن يُوصي المحتضر والدَيهِ وأقاربَه بأن يبذلوا المعروفَ من ترِكتِه من صدقةٍ ونحوها، فتكون هذه الآية مشابهةً لقوله عزَّ وجلَّ: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [النساء: 8]. وهذا المعنى مستقيم كما تراه، إلاَّ أنه مخالف لحديث البخاري وغيره عن ابن عباس (¬2)، كما يأتي مع ما سيأتي من أدلة النسخ، فمَن لم يُسلِّم أدلة ¬

_ (¬1) هو ابن عقيل، انظر شرحه (3/ 94). (¬2) سبق تخريجه (ص 693).

النسخِ فلا محيصَ له عن تسليم احتمال الآية لهذا المعنى، والله الموفق. فهذا أحد المعنيين اللذين يحتملهما اللام. المعنى الثاني - وهو المشهور -: أن اللام هي التي في نحو أوصيتُ لزيدٍ بمالٍ، فمعنى الآية عليه: كُتِب عليكم إذا حضر أحدَكم الموتُ إن تركَ خيرًا أن يوصي للوالدين .... ، وعلى هذا المعنى نبني البحث بعون الله تعالى. (للوالدين) هو مثنَّى والدٍ ووالدة، و"والدة" اسم فاعل من ولَدتْ تَلِدُ ولادةً: إذا وضعت حملَها، فهي والدةٌ - اسم فاعل - ووالدٌ أيضًا، حكاه ثعلب (¬1). تُرِك التاء لأمْنِ اللَّبْس، كما قالوه في حامل وحائض وطالق. فأما الذكر فإنه طبعًا لا يلد؛ إذ لا يكون منه في التسبُّب للولد ما يَصدُق عليه ولادة على الحقيقة، وإنما يُقال: وُلِدَ له. قال الله تبارك وتعالى: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} [البقرة: 233]. وقد جاء نسبة الولادة إلى غير الأنثى، قال الله عزَّ وجلَّ: {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} [البلد: 3]، وهو مجازٌ مرسل علاقتُه السببية، كما يقال: بني الأمير المدينةَ، أي أمر ببنائها. ثمّ جرَّدوا لفظ "والدة" عن الوصفية، فأطلقوه على الأم مع عدم ملاحظة الوصفية، يقال: هذه والدتي، بمعنى أمي لا بمعنى التي ولدتْني. ويُبيِّن لك ¬

_ (¬1) كما في "تاج العروس" (ولد).

فصل في معنى "الأقربين" في المواضع كلها

الفرقَ تصوُّرُ الولادة عند قولك: "التي ولدتْني" حتمًا، بخلاف الحال عند قولك: "أمي". وبهذا الاعتبار أُطلِق على الأب "والد" ثم ثَنَّوهما فقالوا: "والدانِ" تغليبًا. ومَن زعم أنه لا تغليبَ لحكاية ثعلب المتقدمة فقد غفلَ؛ لأن "والد" في حكاية ثعلب وصفٌ لا اسمٌ، والوالدان اسمٌ لا وصف. وأيضًا التثنية واردة في الكلام بكثرةٍ، وحكاية ثعلب نادرة. بقي أنه قد يقال للجدّ وإن علا: "والد", وللجدة وإن علَتْ: "والدة"، والجيراجي (¬1) يزعم أنه حقيقة، والحق أنه مجاز بدليل العلامات التي ذكرها أهل العلم للتفرقة بين الحقيقة والمجاز. وسيأتي ما يتعلق بهذا في بحث الأولاد إن شاء الله تعالى. {وَالْأَقْرَبِينَ} فصل في معنى "الأقربين" في المواضع كلِّها الأقربون يحتمل أن يُفسَّر على ثلاثة معانٍ: المعنى الأول: الأشخاص الذين كلُّ واحدٍ منهم أقربُ من سائر الناس مطلقًا، فلا يصدُق على ابن الابن والجدّ؛ لأن الابن أقرب منهما، وإنما يصدُق على الأبوين والبنين. المعنى الثاني: الذين كلُّ واحدٍ منهم أقرب من سائر الأحياء عند الموت. ¬

_ (¬1) في كتابه "الوراثة في الإِسلام" (ص 36).

المعنى الثالث: الأشخاص الذين هم من حيث المجموع أقربُ من غيرهم، وإن كان بعضهم أقربَ من بعض، أو قُل: الذين كلُّ فردٍ منهم أقربُ ممن ليس من الأقارب. وأرجح هذه المعاني: الثالث؛ لأنه هو المتبادر، فإنك إذا قلتَ: هؤلاء أقاربُ زيدٍ، لم يُفهَم منه إلا المعنى الثالث. والأقارب والأقربون واحدٌ، بل لا نعلم لفظ "الأقربين" جاء لغير المعنى الثالث. وهاك إثبات مجيئه بالمعنى الثالث. 1 - اقتصر عليه أهلُ اللغة، قالوا - والعبارة "للقاموس" (¬1) -: "وأقرباؤك وأقاربك وأقربوك: عشيِرتك الأدنَونَ". وقال في العشيرة (¬2): "وعشيرة الرجل: بَنُو أبيه الأدنَونَ أو القبيلة". وكذا في "اللسان" (¬3) إلاَّ أنه قال: "وقيل: القبيلة". وفي "شرح القاموس" (¬4) في "شعب": أن ترتيب بيوت العرب: شَعْب، فقبيلة، فعمارة، فبطن، ففخذ، ففصيلة". ونقل عن بعضهم أن الفصيلة هي العشيرة، وعن آخر أن العشيرة دون الفصيلة. وعلى كلِّ حالٍ فلا أقلّ من العشيرة، وهذا هو الصواب. وأما قولهم: "وقيل: هي القبيلة"، فكأن قائله - والله أعلم - أخذه من ¬

_ (¬1) (1/ 114) ط. بولاق. (¬2) (2/ 90). (¬3) (6/ 250) ط. بولاق. (¬4) "تاج العروس" (3/ 134) ط. الكويت.

قوله عزَّ وجلَّ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]، مع ما ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عند نزولها أنذرَ قريشًا أجمعَ (¬1). وهذا يحتمل التأويل، قال الحافظ في "الفتح" (¬2): يحتمل أن يكون أولاً خَصَّ اتباعًا لظاهر القرآن، ثم عمَّ لما عنده من الدليل على التعميم، لكونه أُرسِل إلى الناس كافَّةً. أقول: وعلى هذا فالوصف في الآية كاشفٌ فقط، بل ليس بوصفٍ، وإنما هو بدلالة الأقربين قد تجرَّد عن الوصفية، وغلب في استعمالِه استقلالُه. ويؤيد هذا أنه لو كان وصفًا لطابق لفظ "العشيرة"، بأن يقال: "القُربَى" مثلاً. ومما يؤيَّد أن العشيرة اسم لأقلِّ العقود في النسب قولُه تعالى في التوبة: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ ...} الآية [24]، وقوله عزَّ وجلَّ في سورة المجادلة: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} الآية [22]. ويؤيده أيضًا أن اشتقاقه من العَشرة، وهي أول عَقدٍ في العدد. هكذا ينبغي توجيه الاشتقاق، فالعشيرة أولُ عقدٍ في النسب، وكذلك الأقربون. وقد أوضح الإِمام الشافعي معنى هذا في "الأم" في باب الوصية للقرابة (ج 4 ص 38) (¬3)، فمثَّل بنسبِ نفسه، فذكر أولاً بني عبد مناف، ثم ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2753، 3527، 4771) ومسلم (204، 206) عن أبي هريرة. (¬2) (5/ 382، 383). وفيه: "اتباعًا بظاهر القرابة" وهو تصحيف. (¬3) (5/ 239) ط. دار الوفاء.

ذكر أنهم تفرقوا، ومن جملة الفِرق بنو المطلب، ثم أخذ يُسلْسِلُهم إلى أن بلغ ببني السائب بن يزيد، فذكر أنهم تفرقوا إلى: بني شافع وبني علي وبني عباس، ثم قال: "فإذا كان من آلِ شافعٍ فقال: لقرابته (¬1)، فهو لآلِ شافعٍ دونَ آل علي وآل عباس، وذلك أن هؤلاء يتميزون ظاهرَ التمييز من البطن الآخر، يعرف ذلك منهم إذا قصدوا آباءهم دونَ الشعوب والقبائل في آبائهم، وفي تناصرهم وتناكحهم". فالحاصل أن الأقرباءَ والأقارب هم أدنى فصيلةٍ للرجل يختصون باسم، ولا عبرة بعدد الآباء. ففي مثال الشافعي لم يكن بنو السائب أقاربَه, لأنهم قد تفرعوا فروعًا اختصَّ كلُّ منهم باسم ...................................... .............................................. بخذلانهم في واقعة شعب ....... بل كان أقاربه - صلى الله عليه وسلم - بني هاشم؛ لأنهم ............ بني المطلب لمكان الموالاة، [كما] في "صحيح البخاري" (¬2) عن جبير بن مطعم. وأقول: كان بنو عبد منافٍ شَعبًا واحدًا، فتفرعوا، فلما جاء الإِسلام وخذل ... عبد مناف بني هاشم وبني المطلب، لم يكن بُدٌّ من التميز .... ، والله أعلم. 2 - في "الصحيحين" (¬3) عن أنس في قصة أبي طلحة في تصدُّقِه ببَيْرُحَاء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: " ... وإني أرى أن تجعلها في الأقربين". قال ¬

_ (¬1) أي إذا أوصى بماله فقال: "هو لقرابتي". (¬2) رقم (3140، 3502، 4229) بلفظ: "إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد". (¬3) البخاري (1461) ومسلم (998).

أنس: فقال أبو طلحة: أفعلُ يا رسولَ الله، فقسمَها أبو طلحة في أقاربِه وبني عمّه". وفي أكثر الروايات أنه جعلها لحسان بن ثابت وأُبي بن كعب، وحسَّان أقربُ إليه. وفي رواية للبخاري (¬1): "فجعلها أبو طلحة في ذوي رحمه، وكان منهم حسَّان وأُبي بن كعب". وجاء من وجهٍ ضعيفٍ (¬2) زيادةُ أوس بن ثابت أخي حسان، أو ابنه شدّاد بن أوس ونبيط بن جابر، وهؤلاء الأربعة يجمعهم مع أبي طلحة مالك بن النجّار، وبعضهم أقرب إلى أبي طلحة من بعضٍ. والظاهر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ الجواب من قول الله عزَّ وجلَّ: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ...}. وكان والدا أبي طلحة قد توفيا، وبنو مالك بن النَّجار هم أقربُ فصيلةٍ لأبي طلحة. 3 - وفي "الصحيحين" (¬3) عن ابن عباس قال: لما نزلت {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} صعد النبي - صلى الله عليه وسلم - الصفا، فجعل ينادي: "يا بني فِهر! يا بني عدي! ... " لبطون قريش. ونحوه في "الصحيحين" (¬4) أيضًا عن أبي هريرة، وذكر فيه: "يا معشر قريش! يا بني عبد مناف! يا بني عباس بن عبد المطلب! يا صفية عمة ¬

_ (¬1) رقم (2758). (¬2) ذكره محمَّد بن الحسن بن زبالة في كتاب المدينة كما في "الفتح" (5/ 381). (¬3) البخاري (4801، 4971) ومسلم (208). (¬4) البخاري (2753، 3527، 4771) ومسلم (204، 206).

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -! يا فاطمة بنت محمَّد! ". وقد قدمنا توجيهه في الكلام على العشيرة. ثم إن المعنى الأول لا يصح في آية الوصية؛ لحديث البخاري (¬1) وغيره عن ابن عباس قال: "كان المال للولد، والوصية للوالدين والأقربين". وسيأتي إن شاء الله تعالى أن حُكمه الرفع. وهو صريح في أن الولد لم يدخلوا في الأقربين، فلم يبقَ إلا الوالدان، وقد ذُكِرا نصًّا، فلا تبقى فائدة لذكر الأقربين، بل يكون في معنى عطف الشيء على نفسه. وكذا لا يأتي في قوله عزَّ وجلَّ: {قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء: 135] على تفسير {أَنْفُسِكُمْ} بأولادكم، ويشهد له ظاهر لفظ {شُهَدَاءَ} وأن الاعتراف قد تضمنه قوله: {قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ}. وكذا لا يأتي في قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة: 215]، فإنهم إنما سألوا عن النفقة التي هي من قبيل الصدقة، ونفقتهم على أولادهم داخلة في نفقتهم على أنفسهم، وإذا كبر الأولاد فالغالب أن يكونوا مستولين على أموال آبائهم، أو يكون الوالدان قد شاخا وعجزا والأولاد أغنياء أو أقوياء، فيكون الوالدان هما المحتاجين إلى أولادهما. ¬

_ (¬1) رقم (2747، 4578).

على أن حديث أنس السابق هو في معنى تفسيرٍ لهذه الآية، وقد علمتَ أنه لا يأتي إلا على المعنى الثالث. والمعنى الثاني - مع ما فيه من التقييد المخالف للظاهر، وكون الأدلة التي ذكرناها في ترجيح المعنى الثالث تردُّه - يلزم عليه مخالفةُ آيات المواريث لآية الوصية في المستحقين. وبيانه: أن الأقربين في آية الوصية وارثون، وفي آيات الميراث موروثون، فمعنى آية الوصية على المعنى الثاني: أن يوصي المحتضر للوالدين والأشخاص الذين هم أقربُ إليه عند الاحتضار. فيخرج ابن الابن إذا كان هناك ابن آخر أو بنت أو أب، فلا يكون ابن الابن علي هذا مستحقًّا. ومعنى آية الميراث: للرجال نصيبٌ يَرِثُه كلٌّ منهم مما ترك والداه أو شخص أقربُ إليه ممن ترك بعده، فيدخل الجدّ في المثال المتقدّم، فيكون ابن الابن في ذلك المثال مستحقًّا. وكذلك يخرج من آية الوصية ابنُ الأخ إذا كان لعمّه المحتضر أولاد؛ لأنه ليس بأقرب إلى عمّه المحتضر، ولكنه يدخل في آيات الميراث، لأن المتوفى أقرب إليه ممن ترك بعده إذا كان ابن الأخ منقطعًا. وهناك صورٌ أخرى لا نُطيل بذكرها. وهذا كافٍ في إبطال المعنى الثاني في آيات الوصية والميراث, لأن آية الوصية كانت قائمة مقامَ بعض التوريث عندنا، وقائمة مقام التوريث أبدًا عند الجيراجي، فيجب عدمُ مخالفتها لآيات المواريث في تعيين المستحقين. ويحتمل أن يُورَد على المعنى الثالث أمورٌ: منها: أن الظاهر أنه بمعنى "ذوي القربي"، لم يقصد التفضيل فيه مع أن الصيغة صيغة التفضيل.

ومنها: أن المعروف في المواريث أنه لو انقرضَ آلُ شافع في مثال الشافعي إلا واحدًا فمات، وعرف عصبة من الفريقين الآخرين آل علي وآل عباس، دُفِع ميراثه إليه، مع أن الآية خصَّت الأقربين. ومنها: أنه يكون ظاهر العموم استحقاق كلِّ واحدٍ منهم ولو اجتمعوا، وهو غير مرادٍ قطعًا. والجواب عن الأمر الأول: أنهم وإن لم يكن كل واحد منهم أقرب مطلقًا فالمجموع أقربون. بل نقول: إن كل واحدٍ أقرب أي ممن لم يدخل في المجموع، كما إذا قلنا: إن أقارب النبي - صلى الله عليه وسلم - هم بنو هاشم، فإننا نقول: أبو سفيان بن الحارث أقرب من أبي سفيان بن حرب. ومع هذا فقد ثبت ورود "الأقربين" بالمعنى الثالث كما قدَّمناه، وورد نظيره في احتمال ورود هذا الاعتراض عليه، كقولهم في تفسير "العشيرة": بنو أبيه الأدنَون بصيغة التفضيل. وعن الأمر الثاني: بأن الآية خرجت مخرجَ الغالب، والغالب أن العشيرة لا ينقرض كلُّها. ومع هذا فالآيات لم تنزل للتحديد المفصّل، وإنما نزلت في مقاماتٍ لا يضرُّ في مثلها الإجمال. أما في آية الوصية فلأنها كانت موكولةً إلى نظر الموصي يجتهد رأيه، وقد علم الله عزَّ وجلَّ أنها ليست حكمًا دائمًا، وإنما هي تدريج اقتضته الحكمة، فاغتُفِر ما يقع فيه من الجنف والإثم، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وأما في آيات المواريث فلأن قوله: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} [النساء: 33]، وقوله: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ

وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} [النساء: 7] هو مجمل على كل حال؛ لأن النصيب مجهول يحتاج إلى بيان، وبيان النصيب لا بدّ أن يصحبه بيان المستحقين. وعن الأمر الثالث: بأن تخصيص العمومات غير مستنكر، وقد قيل: ما من عامّ إلاّ وقد خُصِّص. وهذا اللفظ - أعني "الأقربين" - لا بدّ من تخصيصه على كل حال، حتى لو حُمِل على أحد المعنيين الأولين، وذلك في الكافر والقاتل. وعلى المعنى الثاني لا بدّ من التخصيص؛ لأنه يدخل في آيات المواريث ابنُ الأخ المنقطع وإن كان لعمّه المتوفى أولاد، وكذا يدخل الأخ للأم مع وجود الأولاد والأب، ويخرج العمّ الذي له ولد ولو لم يكن هناك وارثٌ غيره, لأن ولده أقرب إليه من الميت، وغير ذلك. وقال الجيراجي (ص 25): "والمراد بالأقرب أن لا تكون واسطة بينه وبين المورث، إما مطلقًا، أو كانت لكن انتفت قبل وفاة المورث". فإن أراد أن هذا معنى مستقل للأقربين فممنوع، وإن أراد المعنى الثاني بعد إخراج بعض الصور بالتخصيص ففيه ما تقدم. على أنه قال في (ص 11): "لأن قرابة بني الأعيان إلى المورث من جهتي الأب والأم معًا، فهم أقربون إليه من بني العلاّت". الظاهر أنه يريد الاستدلال بالقرآن على حَجْبِهم، فكان الصواب أن يقول: لأنه أقرب إليهم منه إلى بني العلات. وعلى كل حالٍ فهذا معنى آخر غير الذي قدَّمه، فإن هذا مبني على أن الأفضلية .... القرابة، وما تقدم مبني على الأفضلية في قرب القرابة، وهما معنيان متنافيان، فإن تلخيص الأول

كون الميت أقرب إلى الشخص ممن ترك بعده، وبعد التخصيص أن لا يكون بينهما واسطة الشخص ممن ترك بعده، وبعد التخصيص أن لا يكون بينهما واسطة حية، وتلخيص الثاني كون الميت أقربَ إلى الشخص منه إلى غيره. وبَنى على الأول توريثَ ابنِ الابن مع ابنٍ آخر، وعلى الثاني حَجْبَ الإخوة لأمًّ بالأشقّاء والإخوة لأب، وحَجْبَ الإخوة لأبٍ بالأشقّاء. وأنتَ إذا تأملتَ وجدتَ صنيعَه متناقضًا، فإن الميت وإن كان أقربَ إلى ابنِ ابنِه من سائر الناس، فإنه - أعني الميت - أقربُ إلى ابنه منه إلى ابن ابنه. والميت وإن كان أقرب إلى شقيقه منه إلى أخيه لأبيه، فهو أقرب إلى أخيه لأبيه من سائر الناس. الحاصل أن الميت وإن كان أقربَ إلى ابنِ ابنهِ بالمعنى الأول، فليس بأقربَ إليه بالمعنى الثاني، وهو وإن لم يكن اْقربَ إلى أخيه لأبيه بالمعنى الثاني، فهو أقرب إليه بالمعنى الأول. فتوريثُ الجيراجي ابنَ الابن مع ابنٍ آخر - مع إسقاطه الأخَ لأمًّ بالشقيقِ أو الأخ لأبٍ، وإسقاطه الأخَ لأبٍ بالشقيقِ - متناقضان، واحتجاجه بالآية في الموضعين تهافُتٌ كما تراه. وعلى كلِّ حال فكلا المعنيين مردود لما قدَّمنا. واعلم أن الأقربين بالمعنى الثالث لا يدخل فيهم الوالدان ولا الأولاد، بدليل أنك إذا قلتَ: هؤلاء أقاربُ زيدٍ تبادر إلى الذهن أنه ليس له فيهم ولد ولا والد. ووجهُ ذلك - والله أعلم - شدّةُ قرب الولد والوالد، حتى كأنهما مع الشخص شيء واحد، كما يتحصل مما مثَّل به الصحابة رضي الله عنهم في مسألة الجد والإخوة.

وما استدلّ به على دخولهم من حديث "الصحيحين" (¬1) في إنذاره - صلى الله عليه وسلم - ابنتَه عليها السلام مع مَن أنذر عند نزول قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} مدفوعٌ بمثلِ ما تقدم في الجواب عن إنذاره سائرَ بطونِ قريش. ولا ضرر في عدم دخول الوالدين والأولاد في لفظ الأقربين في آية الوصية وآيات الميراث، فإن الوالدين قد ذُكِرا نصًّا في أربعة المواضع، والأولاد في آية الوصية غير مرادٍ دخولهم، لحديث البخاري وغيره عن ابن عباس الآتي إن شاء الله تعالى، وفي آيات الميراث تُرِك ذِكرُهم لأنهم مورثون، وإثباتُ ميراث الرجال والنساء من الأقربين يُفهم منه إرثُهم من أولادهم من باب أولى. وفي هذا نكتة حسنة، وهي أن ما يأخذه أحد الأبوين من مالِ ولده كأنه ليس بميراث استحقَّ بالموت، بل هو حقّ ثابت على كل حال، من باب "أنت ومالُك لأبيك" (¬2)، فيكون في هذا الحثُّ على البرَّ بالأبوين. بل لا يدخل فيه أحدٌ من الأصول والفروع بدليل التبادر أيضًا، وإعطاءُ أولادِ فاطمة عليها السلام من سهم ذوي القربى إنما هو لكونهم أبناءَ ابن عمِّه عليه الصلاة والسلام، ولهذا لا يُسهَم لأبناء الهاشمية من غير هاشمي من خُمُس ذوي القربى. بل قيل: إنه لا تدخل فيه النساء، وليس في المواضع الأربعة ما يدلُّ على دخولهنَّ. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه قريبًا. (¬2) أخرجه أبو داود (3530) وابن ماجه (2292) من حديث عبد الله بن عمرو، وإسناده حسن. وفي الباب عن غيره من الصحابة.

أما آية الوصية فيحتمل - بل هو الظاهر - أنها نزلت قبل أن يفرض الله عزَّ وجلَّ للنساء نصيبًا، فهي مُقِرَّةٌ لعادتهم من حِرمانِ الإناث، غايتُها أنها أثبتت للأم لمزيد استحقاقها. وأما آيات المواريث فلأن لفظ الأقربين فيها مورثون، فالمعنى أن المرأة ترث من أمها ومن ذوي قرابتها, ولكنا نقول: لا مانعَ من أن تدخل فيه النساء تبعًا، كما يدخلن في "قوم". ولا يدخل فيه أقارب الأم, لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يُسهِم لأقاربِ أمَّه من سهم ذوي القربى. رجعنا إلى تفسير آية الوصية: قَالَ تَعَالَى: {وَالْأَقْرَبِينَ} قد علمتَ مما بسطناه في فصل الأقربين أن الراجح بل المتعين في تفسيره أن المراد به هنا مَن له قرابة بالمحتضر، بأن يكون من أدنى فصيلةٍ له تختصُّ باسم. وقدَّمنا أنه لا يدخل فيه أحدٌ من الأصول والفروع ولا أقارب الأم، وأيَّدنا عدم دخول الولد في آية الوصية بحديث البخاري وغيره عن ابن عباس، وسيأتي موضَّحًا في النسخ إن شاء الله تعالى. ومع هذا فالظاهر بل المتيقن أن الوصية للأولاد وإن لم تَشمَلْها الآية كانت جائزةً أولَ الإِسلام، وكان للرجل أن يُوصيَ لأولادِه ويُفضَّلَ بعضَهم على بعض، وإنما الفرق أنه لم يكن لوالديه ولقريبه شيء إلاّ إن أوصى، وكان الأولاد يأخذونه وإن لم يُوصِ. والله أعلم.

{بِالْمَعْرُوفِ} هو ما يعرفه العقلاء ولا ينكرونه، يريد ما يقتضيه العدلُ والحكمة. {حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} ظاهر. قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ بَدَّلَهُ} أي الإيصاء {بَعْدَمَا سَمِعَهُ} عَلِمَه {فَإِنَّمَا إِثْمُهُ} أي إثم تبديله {عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} فهو يسمع ما يقال فيما يتعلق بالوصية وتنفيذها أو تبديلها، ويعلم ما يُفعَل في ذلك، فيُجازي كلاًّ بما يستحقُّ. {فَمَنْ} أي إنسان {خَافَ} عَرف، كما في قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} [النساء: 35]، {مِنْ مُوصٍ جَنَفًا} أي ميلاً إلى مَن لا يستحق أصلاً أو لا يستحقّ الزيادة، ظنًّا من الموصي أنه مستحقّ، {أَوْ إِثْمًا} بإيصائه لمن لا يستحق أصلاً، أو زيادته مَن لا يستحق الزيادة، مع علم الموصي بعدم الاستحقاق، وإنما يُؤثِره محبةً له أو بُغضًا لغيره، {فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ} إما في حياة الموصي ليحمله على تغيير الوصية، أو بعد وفاته ليُسقِطَ بعضهم سَهْمَه أو بعضَه عن طِيب نفسٍ، كما هو مقتضى الصلح، {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}، وإن كان إطلاق قوله: {فَمَنْ بَدَّلَهُ} يتناوله ظاهرًا؛ لأن المراد هناك: مَن بدَّله بمجرد الهوى أو بدون رضا الموصي أو الموصَى لهم، وهذا ليس كذلك. {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} يغفر للمذنب ويرحمه، فضلاً عمن لم يُذنب، والله أعلم.

قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} أي يقاربون الوفاة، {وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} فلْيُوصُوا، أو فعليهم {وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ} بمالٍ يتمتعن به {مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ} الواجب عليهن تربُّصُه. وهذا قبل نزول قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (¬1). قال الله عزَّ وجلَّ: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ ...} الآيات. قد بينّا في المقدمة عادة أهل الجاهلية في عدم توريث النساء والصبيان، وأن آية الوصية لم تعرض لتعديل تلك العادة في غير الأم. وفي هذه الآية إبطال تلك العادة, ولهذا - والله أعلم - اقتصر هنا على إثبات النصيب للرجال والنساء من الوالدين والأقربين، ولم يذكر النصيب من الولد؛ لأنه كان قد تقرر في الجملة بآية الوصية، فافهمْ. وعبَّر بالرجال مع ذكر ما يدلُّ على شموله للصبيان كما يأتي إن شاء الله تعالى، مع أنهم كانوا يثبتون ميراث الرجال أعني البالغين، وذلك لئلا يُتوهَّم نفيُ استحقاقهم. {لِلرِّجَالِ} أي جنسهم الشامل للصبيان، دلَّ على ذلك أمور، أحدها: إثبات النصيب للنساء، وهو يقتضي ثبوتَ النصيب للصبيان من باب أولى؛ لأنهم كانوا يعلَّلون حرمان الصبيان والنساء بعدم الإطاقة للقتال والنصرة، وهذا مستمر في النساء، فأما الصبيان فإنهم وإن لم يطيقوه حالَ الصغر ¬

_ (¬1) بعده بياض كبير في باقي الصفحة, وكأن المؤلف كان يريد مزيد تفسيرٍ للآية فلم يجد وقتًا لإكماله.

فسيطيقونه عند الكِبَر، فإلغاء هذه العلة في النساء يقتضي إلغاءها في الصبيان من باب أولى. وباقي تلك الأمور سيأتي في سياق الآيات إن شاء الله تعالى. {نَصِيبٌ} ثابت للرجل {مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ} أي والداه، وقد تقدم بيان معنى الوالدين في آية الوصية، وهما الأب والأم، {وَالْأَقْرَبُونَ} إليه، وهم أدنى فصيلةٍ له تختصُّ باسمٍ، كما بيَّنّاه في فصله. {وَلِلنِّسَاءِ} أي جنسهن {نَصِيبٌ} ثابت للمرأة {مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ} أي والداها {وَالْأَقْرَبُونَ} إليها. واعلم أن أهل الجاهلية لم يكونوا يقولون في الذكور الكبار أنهم يرثون على كلِّ حال، وإنما كانوا يقولون: إنهم يرثون في الجملة، فلو أُريد في إثبات النصيب للذكور الكبار في الآية أنه ثابتٌ لهم على كل حالٍ لصُرِّح بذلك، فلما لم يُصرَّح به وجاء إثبات النصيب للذكور الكبار في الآية مطلقًا عُلِمَ أنه ليس فيه ردٌّ عليهم من حيث الجملة، فظهر أن المراد في الآية من ثبوت النصيب للذكور الكبار ثبوته في الجملة. ولا يلزم من إقرارهم على الجملة إقرارُهم على التفصيل، كما لو قال لك قائل: في مكة علماء وليس في المدينة عالم، فقلتَ أنت: في مكة علماء وفي المدينة علماء، فأقررتَه على أن في مكة علماء، وقد تكون تخالفُه في تعيينهم وتعيين جهات اتصافهم ومقدارِه، وتقدُّمِ بعضهم على بعض، ولا يُفهَم من إقرارك إياه في ذلك الإجمال إقرارُك إياه في التفصيل. وكانوا يقولون في الصبيان: لا يرثون البتةَ، وذِكْرُهم في القرآن هو ردٌّ على أهل الجاهلية، والردُّ إذا أُطلِق حُمِلَ على المناقضة، ولو أُريد المناقضة

وزيادة لنصَّ على ذلك، ولأفردهم عن الكبار. ونقيض السالبة الكلية موجبةٌ جزئية، وهذا يقتضي أن المراد في الآية من ثبوت النصيب للصبيان ثبوتُه في الجملة. فتحصَّل من هذا أن المراد بالثبوت في الجملة الأولى الثبوتُ في الجملة، وأما الجملة الثانية فكما قلناه في الصبيان سواء، فثبت الإجمال في الجملة الثانية. ويؤيَّد الإجمالَ في الجملتين أن البيان التفصيلي بالكتاب والسنة جاء قاضيًا بما يوافقه، فنصَّ على أن الرجل قد لا يرث قريبَه، والمرأة كذلك، والإجمال والتفصيل لا نسخَ فيه ولا رائحة نسخٍ، فهو أولى مما فيه ذلك، أعني الإطلاق والتقييد أو العموم والخصوص. ثم إن العموم في لفظ "الأقربين" يقتضي بظاهره أن الرجل يرِث في الجملة من كلِّ قريب له، وهذا صحيح على ظاهره، فما من قريب لك إلاَّ ويُتصوَّر أن ترِثَه، وذلك فيما إذا لم يكن له قريبٌ غيرك مثلاً. وكذلك الحال في النساء، فما من إنسان إلاَّ ويتصوّر أن ترِثه عمتُه وخالتُه مثلاً، أعني ميراثَ ذوي الأرحام. فإن قلت: إذنْ تختلف جهةُ ثبوتِ النصيب في الجملتين. قلت: وما المانع من ذلك؟ وقال الجيراجي (ص 19 ونحوه ص 33): "دلَّت الآية على أن للنساء نصيبًا من تركة أبويهن (¬1) وأقربائهن (¬2)، كما أن للرجال نصيبًا منها، سواءً ¬

_ (¬1) الصواب: "آبائهن"، أو يقول: لكل واحدةٍ من أبويها، أو نحو ذلك. [المؤلف]. (¬2) "أقرباء" جمع قريب لا جمع أقرب. والجيراجي يفرّق بين القريب والأقرب ههنا. [المؤلف].

كانت قليلةً (¬1) أو كثيرةً (¬2)، يعني أنه لا يجوز أن يَرِث رجلٌ قريب من المورث ولا ترث امرأة قريبة منه في تلك الدرجة". أقول: قوله: "كما أن ... " ليس من معنى الآية في شيء، فإن كانه فَهِمَه من ذكر الرجال في الآية وأنهم إنما ذُكِروا ليمثّل بهم النساء فهو فهمٌ في غير محلِّه، فقد تقدم حكمةُ ذكرهم، مع أن لفظ "الرجال" في الآية يشمل الصبيانَ كما تقدم. وأهل الجاهلية لم يكونوا يعترفون بأنهم يرثون حتى يحَسُنَ تمثيلُ استحقاق النساء باستحقاقهم واستحقاق الكبار. وإن كان فَهِمَه من اقتران الجملتين فقد تقرر في الأصول أن لا دلالةَ للاقتران، مع أنه لو قيل بها هنا لزم عليها ما لا يلتزمه الجيراجي ولا غيره. وإن كان فَهِمَه من كون الجملة الثانية كالأولى سواء لم يزد في إحداهما قيدٌ ولا شرطٌ، فهو باطل أيضًا؛ لأنه لا يلزم من ذلك تشابهُهما في كل شيء. نعم هما متشابهتان في أن كلًّا منهما أريد بهما الإثبات في الجملة، ولكن هذا التشابه لا يقتضي التشابه في التفصيل، كما هو واضح. وإن كان فَهِمَه من عموم لفظ "الأقربين" فقد قدَّمنا أنه إنما يفيد أنه ما من قريبٍ لرجلٍ إلاَّ ويُتصوَّر أن يكون له نصيبٌ مما ترك، وما من قريبٍ لامرأةٍ إلاَّ ويُتصوَّر أن يكون لها نصيبٌ مما ترك، والنصيب صادق بميراث ذوي الأرحام، فعموم الأقربين يقتضي ما ذكرناه. وفيه التشابه في الجملة كما تراه، ولا يلزم منه التشابه في التفصيل. ¬

_ (¬1) فيه ما فيه. [المؤلف]. (¬2) فيه ما فيه. [المؤلف].

فثبوت النصيب في الجملة للرجل مقيَّد بقيودٍ وشروطٍ، وثبوت النصيب في الجملة للمرأة كذلك، وقد تتحد القيود والشروط وقد تختلف، وليس في نظم القرآن أدنى إشارةٍ إلى أنها لا تكون إلاّ متحدة. فقول الجيراجي "يعني ... " دعوى مجردة، والله المستعان. ولما علم سبحانه وتعالى أن السامعين لهذه الآية سيظنون أنها تتميمٌ وتكميلٌ لآية الوصية، وأن المقصود منها إرشاد المحتضر إلى الوصية للصغار والنساء أيضًا = دفع ذلك بأمرين: الأول: قوله: {مِمَّا قَلَّ مِنْهُ} من المتروك {أَوْ كَثُرَ}، وهذا مخالفٌ لقوله في آية الوصية: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} أي مالاً كثيرًا كما تقدم. الثاني: {نَصِيبًا مَفْرُوضًا} مقطوعًا معينًا من عند الله عزَّ وجلَّ سيبيّنه فيما بعد، وهذا مخالف لقوله في آية الوصية: {بِالْمَعْرُوفِ} أي بحسب ما يراه الموصي. وهذان الأمرانِ ظاهرانِ في نسخ حكم آية الوصية، ولو كان المقصود - كما زعم الجيراجي - أن يُعمَل بهذه الآية حيث لا وصيةَ وأن آية الوصية لا تزال محكمةً، لمَا خالفَتْها في جعل النصيب هنا مما قلَّ أو كثُر وهناك مما كثُر فقط، ولمَا خالفتها في جعل النصيب هنا مفروضًا وهناك بالمعروف. وقد زعم أنه إنما جُعِل بالمعروف في الوصية ومفروضًا في الميراث لأن المورث أدرى من غيرِه بمصالح ورثته، ولأن مراعاة المصالح الشخصية في القانون الكلي ليست بممكنة. وهو مردود بأن المورث وإن كان أدرى فإنه يَعرِض له في الأهواء

والأغراض ما يُعمِي بصرَه ويُصِمُّ سمعَه، ويُوقِعه في الجنَف والإثم، كما شهدتْ به الآية نفسُها. ويكون غيرُه من صالحي جيرانِه وإخوانِه المطَّلعين على أحواله لسلامتهم من الهوى والغرض أقربَ إلى العدل والحكمة في وضع ماله في مواضعه، ولا سيَّما إذا أحيل ذلك إلى نظر قضاةِ المسلمين، فإنهم يكونون طبعًا علماء حكماء، فيكونون أعلم بمصلحة الموصي من نفسه. فلو لم يُرَد النسخُ لمَا فُرِضت الأنصباءُ، بل كان يُحال الأمرُ إلى القضاة والحكَّام. على أن الجيراجي فسَّر قوله تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا ...} بقوله (ص 4): "أي إن عَلم أن الموصي في وصيته جنفَ عن الحق ومال إلى الإثم، فللمسلمين أو لقاضيهم حقٌّ في إصلاحها". وهذا ينقض قولَه (¬1): "إن المورث أدرى من غيره". وأما قوله (¬2): "إن مراعاة الأحوال الشخصية في القانون الكلي ليست بممكنة". فجوابه: أن هذه الأحوال الشخصية لو كانت مراعاتها مقصودة كما زُعِمتْ لم يُشرع ذلك القانون الكلي، بل كان يُحال الأمر إلى قُضاة المسلمين. ثم إن آية الوصية [لما] كانت عامةً لذوي القربى، والميراث الذي أُجمل في هذه الآية وبُيَّن بغيرها لا يَعمُّهم، وكان في الأمرين السابقين ¬

_ (¬1) "الوراثة في الإِسلام" (ص 3). (¬2) المصدر نفسه (ص 4).

الدلالة على نسخ تلك الآية، أراد الله عزَّ وجلَّ أن يُثبِت لذوي القربى غير الوارثين ما يقوم مقامَ ما كان لهم في آية الوصية، حتى يستوفي ما بقي من فوائد الوصية، فيتمّ نسخُ حكم تلك الآية، فقال تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى} من المتوفي غير الوارثين، ولم يقل "الأقربون" ليشير إلى أن المراد هنا غير الوارثين، وذلك من تغيير العبارة، وأيضًا كثرة تكرار كلمة "الأقربون" يُوجِب كراهيةً في الكلام. وأيضًا كلمة "الأقربون" لم تجئ في القرآن إلاّ معطوفةً على الوالدين، أو صفةً لموصوفٍ مذكور في آية {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}، وعبَّر عنها في غير ذلك بأولي القربى ونحوها, ولعلَّ لذلك حكمةً، والله أعلم. {وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا}. في البخاري (¬1) وغيره عن ابن عباس نفْيُ نسْخِ هذه الآية، قال: ولكنها مما تهاونَ الناسُ بها، وهما والبيان: والٍ يرث وذلك الذي يرزق، ووالٍ ليس بوارثٍ، فذاك الذي يقول قولًا معروفًا إنه مالُ يتامَى وما لي فيه شيء. وفيه شيء، فإن الظاهر أن الخطاب يعمُّ الوارثَ والوصيَّ بأن يرزق ويقول معروفًا معًا، غير أن الوصيّ يجب عليه الاقتصاد في العطاء. وإذا حملنا الأمر على الندب كما يشهد له الإجماع على عدم العمل، كان الأحوط للوصي أن لا يُعطي شيئًا، والله أعلم. ¬

_ (¬1) رقم (2759). وأخرجه أيضًا سعيد بن منصور في سننه (576 - تفسير) والطبري في تفسيره (6/ 433) وابن المنذر (1412)، وابن أبي حاتم (3/ 874) وغيرهم.

ولم يقيّد هنا بترك المال الكثير كما في آية الوصية, لأنه لا حاجة لذلك هنا؛ لأنه لا يحضر القسمةَ من الأقربين التماسًا للرزق إلا المحتاجون منهم الذين يقبلون ما يُعطَون ولو قليلاً، ولعل في هذا إشارةً إلى النسخ أيضًا. ولما انتهى حكم الوصية التي كانت مشروعةً، وأقام الله عزَّ وجلَّ مقامَها ما يُغني عنها وزيادة، أشار سبحانه وتعالى إلى كراهة الإيصاء بشيء من المال، فقال: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء: 9]. في "الدر المنثور" (¬1): أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس في الآية قال: يعني الرجل يحضره الموت فيقال له: تصدَّقْ من مالك وأعتِقْ وأعطِ منه في سبيل الله، فنُهُوا أن يأمروا بذلك. يعني أن من حضر منكم مريضًا عند الموت، فلا يأمره أن يُنفِق ماله في العتق أو في الصدقة أو في سبيل الله، ولكن يأمره أن يُبيّن ما له وما عليه ويُوصي لذوي قرابته الذين لا يرثون، يوصي لهم بالخمس أو الربع. يقول: أليس أحدكم إذا مات وله ولدٌ ضِعاف يعني صغارًا، يخشى أن يتركهم بغير مالٍ، فيكونون عِيالاً على الناس؟ فلا ينبغي لكم أن تأمروه بما لا ترضَون به لأنفسكم ولأولادكم. ونهْيُ الحاضرين عن حمل المحتضر على الوصية يدلُّ على نهيه - أعني المحتضر - عن الوصية، ولكن الآية تدلُّ على الكراهة فقط. وفي قوله: {ذُرِّيَّةً ضِعَافًا} تنبيهٌ على شمول لفظ "الرجال" للصبيان. ¬

_ (¬1) (4/ 248). وانظر تفسير الطبري (6/ 447) وابن أبي حاتم (3/ 876، 877) والسنن الكبرى للبيهقي (6/ 270، 271).

ثم قال سبحانه وتعالى مؤكَّدًا هذا المعنى، ومقيِّدًا الأمرَ برزق الحاضرين، ومنبِّهًا على وجوب حفظ أموال الصغار على كل حال: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}. وفي معنى الأكل إضاعتها، كإسراف الوصي في رزق حاضري القسمة، والتسبُّب في ضياعها بحمل المحتضر على الوصية، وغير ذلك. وفي هذه الآية تنبيهٌ أيضًا على شمول لفظ "الرجال" للصبيان. ثم أراد سبحانه وتعالى تفصيلَ ما تقدَّم من الإجمال فقال: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ} أيها الرجال، كما يدلُّ عليه قوله فيما يأتي {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ}، وحكم الإناث كذلك بالقياس، {فِي أَوْلَادِكُمْ} كل رجل في أولاده، فالكلام على التوزيع كما في قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} [المائدة: 6]، أي ليغسلْ كلٌّ منكم يديه. ولعل الجيراجي يزعم أن التقدير: (يوصيكم الله في) شأن (أولاد) من توفى منـ (كم). ويبني على هذا شبهته التي ذكرها (ص 4) بقوله: "أما إذا مات المورث بلا وصية، ولم يقسم ماله بين ورثته، فحينئذٍ يعمل بآية الميراث". وتقرير هذه الشبهة بوجهٍ علمي أن آية الميراث على التقدير الأخير تعُمُّ المتوفى بدون وصية والمتوفى عن وصية، وآية الوصية خاصة في الثاني، والأصلُ في مثل هذا حملُ العام على الخاص، فيُعمل بالاثنين معًا: آية الوصية في معناها، وآية الميراث في الباقي، ولا نسخَ.

والجواب من وجوه: الأول: أن التقدير الثاني مردود، لما فيه من الحذف، وخلافِ الظاهر، والصواب التقدير الأول. الثاني: أن النسخ لازم حتى على زعم الخصم, لأن العام هنا متأخر عن الخاص، لا عن وقت الخطاب فقط، بل عن وقت العمل، ومثل هذا يكون العام فيه ناسخًا للخاص عند الحنفية وغيرهم، وأدلتهم مبسوطة في الأصول. الثالث: أن أدلة النسخ كثيرة، قد مضى بعضها وسيأتي بعضها إن شاء الله تعالى. واعلم أنَّ في هذه الكلمات أدلةً على النسخ. أحدها: كونها من مادة الوصية، ففيه إشارة إلى أن هذه وصية المالك الحقيقي العليم الحكيم، ووصيتُه مقدَّمةٌ على وصية العبد المعرَّض للجنف والإثم. وأكد هذا الوجه بالتصريح بلفظ الجلالة وضعًا للظاهر موضعَ المضمر، وكان الأصل أن يقال: "أوصيكم". ثانيها: كونها بصيغة المضارع. قال الحافظ في "الفتح" (¬1): أفاد السهيلي (¬2) [أن الحكمة في التعبير بلفظ الفعل المضارع لا بلفظ الفعل الماضي الإشارة إلى أن هذه الآية ناسخة للوصية المكتوبة عليهم]. ثالثها: توجيه الخطاب فيه إلى الرجال من حيث هم مورثون، وهو أمرٌ ¬

_ (¬1) (12/ 3). (¬2) وضع المؤلف بعدها نقاطًا، وأشار إلى ص 14 رقم 3. ولم أجد الدفتر المشار إليه، فنقلت ما بين المعكوفتين من "الفتح".

لهم بتنفيذ هذا الحكم، والمراد من ذلك: إما أمرهم بالوصية على مقتضى هذه الآيات، وإما نهيُهم أن يوصوا بما يخالفها، والأول لا فائدة له، فتعيَّن الثاني. والمورث إذا لم يُوصِ بما يخالف وصية الله تعالى كان في معنى المنفِّذ لها، وهذا صريح في نسخ آية الوصية. فإن قيل: يخَدِش في هذه الأوجه الثلاثة أن الله عزَّ وجلَّ إنما قال: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ}، وقد قدَّمتَ أن الأولاد غير داخلين في آية الوصية. قلت: قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ} لا يختص بالأولاد، بل يتناول جميعَ ما ذُكِر في الآيات، كما يأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى. ثم قد تقدم أن الأولاد وإن لم يكونوا داخلين، فالظاهر بل المتيقن أن حكم الوصية كان شاملاً لهم من حيث الجواز، فكان للمحتضر أن يوصي لأولاده ويُفضِّل بعضَهم على بعض. وهذه الأوجه تدلُّ على نسخ حكم الوصية مطلقًا، أعني التي كانت موجودة ولم تشملها الآية والتي شمِلَتْها الآية. واعلم أن الظاهر كون الخطاب في الآية للذكور، ويؤيده قوله فيما يأتي: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ}، ولكن حكم الإناث كذلك، كما دلَّت عليه قواعدُ الشريعة ثم الإجماع. واعلم أن في قوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ} وتناوُلهِ الأبناءَ والآباء وبعضَ الأصناف - كما يأتي - إبطال (¬1) لاختراع الجيراجي في القول المبني على ¬

_ (¬1) كذا في الأصل مرفوعًا، والوجه النصب.

زعم أن ميراث الزوجين وصية من الله، فيُخرج من رأس المال، وميراث غيرهم فريضة، فيكون في الثاني بعد ميراث الزوجين. فإنه يُردّ بأن ميراث الأبناء والآباء وصية بدخولها تحت قوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ}. وسيأتي لهذا مزيدٌ إن شاء الله تعالى. وفي "فتح الباري" (¬1) نقلاً عن السهيلي: "وقال: {فِي أَوْلَادِكُمْ} ولم يقل: "بأولادكم" إشارةً إلى الأمر بالعدل فيهم، ولذلك لم يخصَّ الوصية بالميراث، بل أتى باللفظ عامًّا، وهو كقوله: "لا أشهدُ على جور" (¬2). أقول: قد تقدم أن التقدير: " (في) شأن (أولادكم) "، وسيأتي أن التقدير فيما يأتي: "بأن يكون (للذكر ...) ". (الأولاد) قد مرَّ في آية الوصية معنى الولادة، ونقول هنا: إن الأولاد جمع ولد, والولد مشتق من الولادة، فهو في الأصل مَن ولدتْه المرأة، ولكنه تُوسِّع فيه كما تُوسَّع في "والد"، فأُطلق بمعنى الابن، وبهذا الاعتبار نُسِب إلى الذكر، فقيل: هذا ولدُ زيدٍ. ولا يلزم مما ذكرنا إطلاقه على ابن الابن حقيقةً، أما بحسب الأصل فواضح، فقد مرّ أن معنى الولادة وضْعُ المرأةِ حَمْلَها, ولا شكَّ أن هذا لا يصدُقُ إلا على الموضوع نفسه، فلا يقال حقيقةً: إن حواء هي التي وضعتْ جميع البشر، ولا أن جميع البشر قد ولدوا أو أنها تلد بعد موتِها. ¬

_ (¬1) (12/ 3, 4). (¬2) متفق عليه. أخرجه البخاري (2650) ومسلم (1623) من حديث النعمان بن بشير.

وأما بحسب الاستعمال المتوسَّع فيه فلِوضوح الفرق بين الابن وابن الابن، فلا يلزم من استعمال لفظٍ في الأول حقيقةً استعمالُه في الثاني كذلك، على أنه قد تقرر في الأصول أن القياس في اللغة باطل. فتبيَّن بهذا بطلانُ قولِ الجيراجي (ص 36): "ومنهم من قال: إنه حقيقة في كليهما، وهو الحق؛ لأن الولد مشتق من الولادة فيشمل جميعَ مَن وُلِد من الأعلى إلى الأسفل، وولدُ الولدِ ولدٌ كما أن جزء الجزءِ جزءٌ". وقوله: "كما أن جزء الجزء جزء" فلسفة غريبة تُحوِجُنا المناقشة فيها إلى الخروج عن الموضوع، فلندَعْها ولننظْر في مواضع الحجة، فنعرِض كلمة "ولد" على العلامات التي ذكرها العلماء للتمييز بين الحقيقة والمجاز. وأظهر تلك العلامات هي التبادر عند عدم القرينة، والمتبادر حقيقة. وقد تأملنا مواقع كلمة "ولد" فتبيَّن أنها حقيقة في معنى "ابن"، إلاَّ أنها تُطلَق على الواحد والجمع. وذلك أنه لو أشار رجل إلى شخص قائلاً: انظروا إلى ولدي، تبادرَ إلى الأذهان أنه يريه أنه ابنه، ويبعد في أذهاننا أنه يريد أنه ابنتُه أو ابنُ ابنهِ، فإطلاقها على البنت وابنِ الابن مجاز. ويدلُّ على ذلك إنكارُ النفس أن يقال: "هذه ولدي"، إلاّ إذا كان بمعنى أنها قائمة لي مقام الابن. وقد استدلَّ بعض العلماء على عدم دخول البنات ببعض الآيات التي فيها الافتخار بالولد، كقوله تعالى ..... (¬1)، نعم الجمهور على أن المراد بلفظ "ولد" في الآيات ما يصدق بالابن والبنت وابن الابن وبنت الابن وإن سفلا، وهذا ليس بحجة. ¬

_ (¬1) ترك المؤلف هنا بياضًا, ولم يذكر الآيات.

إذا تقرر هذا فقوله في الآية: {أَوْلَادِكُمْ} لا يتناول من حيث الوضع إلا الأبناء الذكور، دون الإناث ودون بني البنين، لكن السياق دلَّ على دخول الإناث، فكان بمعنى البنين والبنات، وجُمِعوا معًا على أولاد تغليبًا، كما جُمِعَ الآباء والأمهات على آباء، والأبناء والبنات على أبناء في هذه الآية كما يأتي إن شاء الله تعالى. وليس ههنا قرينةٌ تدلُّ على دخول ولد الولد، فالقول بذلك مخالَفةٌ للأصل والظاهر معًا، ويُبطِلُه أن القول بدخولهم يقتضي التسوية بينهم وبينَ الأبناءِ مطلقًا، فيُعطَى ابن الابن مع أبيه وأعمامه، وهذا باطلٌ اتفاقًا. وأيضًا فسّر الأولاد فيما بعدُ بالأبناء في قوله: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ}، وليس أبناء الأبناء بأبناءٍ حقيقةً، وإن أطلق عليهم أبناء مجازًا. بأن (¬1) يكون {لِلذَّكَرِ} منهم {مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} منهم، عدَلَ عن "مِثْلَا حظَّ الأنثى" أو نحوه لفائدتين: الأولى: التنبيه على أن الذكر يُعادِل انثيين في الاستحقاق. الثانية: أنه سيأتي في الآية {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ}، فربما يتوهم أن قوله: "مِثْلَا حظِّ الأنثى" إشارة إلى هذا، والمراد الكلُّ. الثالثة - وهي أهمها -: إفادة حكم الأنثيين إذا انفردتا، فإن أول الصُّوَر الداخلة تحت قوله: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} أن يكون الأولاد ذكرًا وأنثى، ففي هذه الصورة يأخذ الولد الثلثين، وهو بمقتضى الآية مثلُ حظِّ الأنثيين، ففيه الإشارة إلى أن الأنثيين قد تأخذانِ الثلثين في بعض الصور، ¬

_ (¬1) سياق الكلام: يوصيكم الله في أولادكم بأن يكون ... ، وتخلَّله تفسير "الأولاد" والرد على الجيراجي فيه.

وأيّ صورةٍ تلك إلاَّ صورة انفرادهما. وأكّد إرادة هذه الإشارة بعدم ذكر ميراث الأنثيين فيما سيأتي، بل نصّ على ميراث ما فوقهما وعلى ميراث الواحدة، فأفهمَ بذلك أن حكم الثنتين قد ذُكر في الآية، فليلتمسه العلماء. وإذ قد عُلِم حكم البنتين إذا انفردتا، فهاكُم حكم ما فوقهما وما دونهما: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ} أكثر من {اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ}. هذا يُبطِل قولَ الجيراجي (¬1) في العول أن ميراث أحد الزوجين يؤخذ من رأس المال، ثم تكون الفروض منسوبةً إلى الباقي، فللبنتين ثلثا الباقي. فإن قلتَ: إنه زعم أن ميراث الزوجين وصية من الله تعالى، فيدخل في قوله: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ}. قلتُ: سيأتي إن شاء الله تعالى إبطال اختصاص ميراث الزوجين بكونه وصيةً من الله تعالى، ومع ذلك فالذي في الآية: {بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي} أي المورِث، لا مطلق وصية. ولا يفيده قراءة {يُوصِي} بالبناء للمفعول؛ لأنها مجملة، فتُحمل على المبيّنة؛ إذ الأصل الاتفاق. وزعم الجيراجي أن لفظة "فوق" تدل على ما ذهب إليه من توريث أولاد الأولاد مع غير آبائهم من الأولاد، على الطريقة التي اخترعها، قال (¬2): "ولفظة (فوق) ليست إلاَّ للتنبيه على طريقة التقسيم في مثل هذه الصورة؛ لأنه يدلُّ على الكسر ... ". والطريقة التي ابتكرها سيأتي إبطالُها إن شاء الله تعالى في الحجب. ¬

_ (¬1) "الوراثة في الإِسلام" (ص 23). (¬2) المصدر نفسه (ص 39).

وقوله: "كلمة فوق تدلّ على الكسر" ليس بلازم، وإنما هو بمعنى "أكثر من" كما هو معروف عند مَن له علم بالعربية. ثم إن تأويله هذا مع بطلانه لا يدفع الإشكال، وهو السكوت عن ذكر فرض الثنتين، وهلّا قيل: اثنتين فما فوقهما. {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان ميراث أولاد الأولاد في الحجب. {وَ} في آبائكم، يُوصي الله كلَّا منكم في أولاده وفي أبويه {لِأَبَوَيْهِ} وبهذا علمتَ سبب التثنية والإضافة إلى ضمير المفرد الغائب مع قوله أولَ الآية {فِي أَوْلَادِكُمْ}، فتأمَّلْه. ويؤيد هذا التقديرَ قولُه فيما يأتي: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ}. والجملة مستقلة لا مبنية على ما قبلها؛ لأن الضمير يعود إلى الأحد المعلوم مما تقدم، وهو أحد مجرد، ويبيِّن هذا قوله: {إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ}، والمورث المفهوم من أول الآية ذو أولاد. وهكذا جميع الضمائر الآتية تعود إلى الأحد المجرد، وإن شئت فقلْ: إلى المورث. والمراد بالأبوين: الأب والأم، قيل لهما "أبوانِ" تغليبًا. (الأب) الأب معروف، ولا يُطلق على الجدّ إلا مجازًا، على هذا عامة أهل اللغة، وهو الذي يتعيَّن عند عرضِه على العلامات التي ذكرها أهل العلم لتمييز الحقيقة من المجاز، ولا ينافي ذلك ما ورد في الكتاب من إطلاقِه على الجدّ، فإنه مجاز، ولا جَعْلُ بعضِ الصحابة الجدَّ أبًا، فإن المراد أنهم جعلوه كالأب، ولا استدلالُهم بإطلاق القرآن عليه أبًا، فإنهم إنما استدلُّوا

بذلك لأن المجاز لا بُدَّ له من علاقة، ولا سيَّما إذا كان في كلام العليم الحكيم، فإطلاقُه سبحانه وتعالى على الجدّ أبًا يدلُّ أنه كالأب، وهذه الدلالة مما يصلح لتمسُّك المجتهد إذا لم يجد أقوى منها. نرجع إلى تفسير الآية: {لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ} مرَّ ما فيه من الدلالة. {إِنْ كَانَ لَهُ} المورث {وَلَدٌ}. مقتضى الظاهر أن يفسَّر "ولد" بابن، ولكن الجمهور [على] أن المراد: ابن أو بنت أو ابنُ ابنٍ أو بنتُ ابن وإن سفلا، وهذا من عموم المجاز كما تقدم. ومن المفسِّرين من يفهم معنى قوله: "والباقي للولد"، وأنت تعلم أن هذا ليس على إطلاقه، وإنما لهم الباقي بعد ميراث الأبوين وبعد ميراث أحد الزوجين، والتزام الإطلاق والتقييد تكلُّف، إلاّ أن يقال: والباقي بعد الفروض التي لا تسقط للولد، وهو كما ترى. فإن قلت: لكن ما ذكرتَ لا يرد على الجيراجي؛ لأنه يقول: إن ميراث الزوجين وصية داخل تحت قوله: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ}، وأن الفروض منسوبة إلى ما بقي بعد فرض أحد الزوجين. قلت: سيأتي إن شاء الله تعالى إبطالُ قوله هذا. {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ} المورث {وَلَدٌ} قد تقدم تفسيره {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ}، الجملة - قوله: "فإن ... " - مستأنفة، لا مبنية على ما قبلها. {فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} قدَّر بعضهم هنا: وللأب الباقي، وفيه مثل ما تقدم. والآية ظاهرة في أن للأم الثلث مع الأب، وإن كان هناك زوج أو زوجة، وعليه جماعة من الصحابة كعلي وابن عباس رضي الله عنهما، وهو الحق الذي لا ينبغي العدولُ عنه.

وتأوَّل عمر رضي الله عنه وغيره، فذهبوا إلى أن للأم ثلث الباقي بعد بقية ..... ، قالوا: لا تفضل الأم على الأب، ولا يكتفى بتفضيله عليها إلاّ بأن يكون له مثلها. وهذه معارضة للقرآن وللنظر، أما القرآن فظاهر، ودعوى أن المراد: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} أي فقط، تقدم ردُّها. وزَعْمُ الجيراجي أن الفروض منسوبة إلى ما بعد ميراث؟؟؟؟ وصي؛ لأن ميراثهما وصية، تقدمّ إبطالُها، ويأتي له مزيد إن شاء الله تعالى. وأما النظر فلأن الأم أبلغ في الاستحقاق من الأب، وقد جاء في الحديث أن رجلاً قال: يا رسول الله، مَن أَبَرُّ؟ قال: "أمك"، قال: ثم مَن؟ قال: "ثم أمَّك"، قال: ثم مَن؟ قال: "ثمّ أمَّك"، قال: ثم مَن؟ قال: "ثمَّ أباك" (¬1). وكيف لا يكون للأم هذه المزية وهي التي تحمله تسعةَ أشهر تتكبَّدُ فيها صنوف البلاء والمِحن، ثم تُرضِعه حولَين يمتصُّ فيهما قوَّتَها، ويَشْغَلُها عن أكلها وشربها ونومها، ويلطخها بقَذَرِه كلَّ يوم مرارًا. وشفقتُها عليه أضعاف شفقة الأب. فأما قولهم: إنه غير معروف في الفرائض تفضيل أنثى على ذكرٍ في مرتبتها مجتمعين. فيجاب عنه بأنه قد عُهِد التساوي في الإخوة لأم، وإنما لم يُعهَد تفضيل الأنثى لأن البنت مساوية للابن لا مزية لها، وتتقوى بوجوده وتعتضد كما ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (5139) والترمذي (1897) عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، وإسناده حسن.

سيأتي، وكذا الأخت مع الأخ، وليس كذلك الأم مع الأب، فقد تقدم بيانُ مزيتها عليه، ولا يلزم من وجوده معها تقوِّيها واعتضادُه، إذ ربما يفارقها. فتدبَّر. وسيأتي أن المواريث على ضربين: الأول: سببه استحقاق الصلة والمواساة، والثاني: سببه العصبية. وأن الله عزَّ وجلَّ جعل الفروض بإزاء الأول، والباقي بعد الفروض بإزاء الثاني. وسيأتي تفصيل ذلك قريبًا إن شاء الله تعالى. وعلى هذا فلا بِدعَ أن يفرضَ للأم ضِعْفَي فرض الأب, لأنها آكدُ حقًّا منه. فأما تفضيله عليها إذا انفردا فإنما هو لأنها قد استوفت حقَّها وهو الثلث، فهو يستوفي حقَّه وهو السدس، ويأخذ الباقي تعصيبًا. فالسدس هو استحقاقه الذي لا ينبغي أن يُغضَّ عنه، وأما التعصيب فلم يأخذه باستحقاق الصلة، وإنما أخذه بالتعصيب، وإذا لم يحصل على هذا التعصيب في بعض الصور لم يجز لنا أن نعوَّضه مما فُرِض للأم باستحقاقها. ولم يُصرَّح بأن له السدس فيما إذا لم يكن حقه ذلك إذ لا فائدة لذلك، لأنه لا يُخشَى أن يُنقَص عنه، وصُرِّح به حيث خِيفَ أن يُنقص أو يُحرَم منه، وذلك فيما إذا كان هناك ولد، فإنه إذا كان الولد ذكرًا أخذ الباقي بعد الفرائض، ويُحرم الأب لو لم يُسَمَّ له السدس. وإذا كانت أنثى في: بنت 6 | زوج 3 | أم 2 لا يبقى للأب إلاَّ واحدٌ. وإذا كانت بنتان لا يبقى له شيء، فسمَّى الله

تعالى له السدس لذلك، والله أعلم. {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} أي معًا كما هو ظاهر، ويحتمل أوجهًا: 1 - أنه قيدٌ لِيُفَهم منه أنه إذا انفردت الأم لم يكن لها الثلث، وفي هذا متمسَّك للجيراجي القائل (¬1): إنها إذا انفردت كان لها حكم آخر. 2 - ليس قيدًا، بل جيء به لدفع ما يُتوهَّم من أن الأمّ لا تحوز الثلث حتمًا إلا إذا انفردت، فأما إذا كانت مع الأب فإنها لا تحوز إلاَّ مثل نصف ما يحوز هو، سواء أكان ذلك هو الثلث فيما إذا انفردا، أو السدس فيما إذا كان معهما زوج، أو الربع فيما إذا كان معهما زوجة. وهذا متمسَّكٌ لمن يخالف مذهب عمر في العمريتين. 3 - أنه قد يدعى أن فيه معنى الحصْر، أي وورثه أبواه فقط، فيُفهَم منه أنه إذا ورث معهما غيرهما، وذلك الغير لا يكون إلا أحد الزوجين، فلذلك حكم آخر. وفي هذا متمسَّك لمن يذهب مذهب عمر رضي الله عنه في العمريتين. والثالث ضعيف؛ لأن فيه دعوى الحصْر، وليس هنا ما يفيده. والثاني أرجح من الأول، لما تقرر في الأصول أن مفهوم المخالفة لا يُعتدُّ به إلاَّ حيث لم يظهر للقيد فائدة غير نفي حكم غيره، وقد ظهرت هنا فائدة جليلة، وهي ما بيَّناها في الوجه الثالث، وفائدة أخرى، وهي الدلالة على أن الجملة - أعني قوله: "فإن لم يكن له ولد ... " - مستقلة لا مبنيَّة على التي قبلها؛ إذ لو كانت مبنيَّة لكان المعنى: فإن لم يكن للمورث الذي له أبوان ولدٌ وورثه ¬

_ (¬1) في "الوراثة في الإسلام" (ص 41).

أبواه، وهو كما ترى، وفي هذا الإشارةُ إلى أن الجملة الآتية - قوله: "وإن كان له أخوة ... " - مستقلة أيضًا. {فَإِنْ كَانَ لَهُ} المورث {إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} الجملة مستأنفةٌ كما علمتَ، فالإخوة يحجبون الأمَّ إلى السدس مطلقًا، سواء أكان هناك أبٌ أم لا. وقد زعم قوم أن هذه الجملة مبنية على ما قبلها، كأنهم يعنون أن الضمير يعود على مُورِث مخصوص، أي الذي له أبوان، أو أن المعنى: (فإن كان له) مع ذلك أي مع الأبوين (إخوة)، وهو غير ظاهر، وقد تقدم ما يردُّه. وعلى تسليمه فليس فيه تقييد كما توهَّمه الجيراجي (¬1)، وإنما أريد به النصُّ على أن الأخوة يحجبون الأمَّ إلى السدس مع وجود الأب، ويُفهم منه أنهم يحجبون الأم مع عدم الأب من بابِ أولى, لأنهم إذا حجبوها مع ضعفهم بوجوده، فمع قوتهم عند عدمه أولى وأحرى. (الإخوة) اختلف الأصوليون في أصل الجمع: أهو اثنان أم ثلاثة، والصحيح أن العرب مختلفون فيه، ففي لسان قريش أن أقلَّ ما يصدق عليه "الإخوة" ثلاثة، كما صحَّ عن ابن عباس في مراجعته لعثمان (¬2). وفي لسان الأنصار وغيرهم أنه يصدُق على اثنين، كما صحَّ عن زيد بن ثابت (¬3). وفي القرآن مواضع نزلت بلغة قريش، ومواضع بلغة غيرهم، فإجماع الصحابة - وفيهم ¬

_ (¬1) في "الوراثة في الإسلام" (ص 41). (¬2) أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/ 465) والحاكم في "المستدرك" (4/ 335) والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 227). (¬3) أخرجه الحاكم في "المستدرك" (4/ 335) والبيهقي (6/ 227).

أكابر المهاجرين من قريش - على الاعتداد بالاثنين دليلٌ على إرادة لغة الأنصار وغيرهم. وزعم الجيراجي (¬1) أن المراد بـ "إخوة" الجنس، فيدخل الأخ الواحد والأخت الواحدة، واستدل بقوله تعالى: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً ...}، قال: "وهذا يتناول الأخ الواحد والأخت الواحدة بإجماع الفقهاء، مع أن الإخوة والرجال والنساء كلها جمع". أقول: إجماعُهم على تفسير كلمةٍ بمعنىً في موضع لا يلزم منه كونها كذلك في جميع المواضع، ولا سيَّما إذا كان ذلك التفسير مخالفًا للأصل كما هنا، ثم إن الذين أجمعوا هنا هم الذين أجمعوا هناك، فكيف تحتجُّ بإجماعهم تارةً وتردُّه أخرى؟ الله المستعان. فإن قلت: لم أُرد الاحتجاج، وإنما أردتُ الإلزام. قلت: لا إلزام، فإنهم بحمد الله تعالى لم يُجمعوا على ما ذكرتَ في قوله تعالى: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً}، وإنما أجمعوا على أن حكم الأخ الواحد مع الأخت الواحدة للذكر مثل حظِّ الأنثيين، وحجتهم في ذلك القياسُ، لا تفسيرهم الجمع بالجنس. والله أعلم. وحَجْبُ الإخوةِ الأمَّ مُفهِمٌ أنهم يرثون، إذ لا يحجبُ الوارثَ إلا وارث، مع أنهم حجبوا وارثًا قويًّا، وحجبُهم إياها نصٌّ صريح في أنهم يرثون معها؛ إذ لا يُعقل كونهم يحجبونها وهي تحجبهم، ولا نظير لذلك في المواريث، وإذا حجبوها مع ضعفهم بوجود الأب، فمع قوتهم بعدمه أولى وأحرى كما تقدم. ¬

_ (¬1) "الوراثة في الإسلام" (ص 43).

وأجاب الجيراجي عن هذا (ص 41 و42) بأن الإخوة لا يرثون إلاّ من كلالة، أي ممن ليس له ولدٌ ولا أبوان. أقول: هذا التفسير باطل كما سيأتي. ثم قال: "أما سبب التفريق فهو أنه عند عدم الولد والإخوة لما لم يكن الفرع مطلقًا انتقل حظُّه إلى أبويه". أقول: هذا أمر تخيُّلي، بدليل حَجْبِ الولد للزوج إلى الربع والزوجة إلى الثمن، ولا كذلك الأبوان. وانظر المثال الآتي: - ابن بنت زوج 1 2 (¬1) 1 - أب أم زوج 321 بنصّ كتاب الله تعالى 312 بتأويل عمر رضي الله عنه وحَجْبُهم إيّاها إلى السدس يقتضي أنهم كالولد، لكن هذا في الاثنين منهم فما فوق، وبقي حكم الواحد والواحدة مجملاً. وسكت هنا عن حكم الأب معهم، فاحتمل أن يكون إشارة إلى أنه يحجبهم. فإن قيل: هذا لا يستقيم, لأنه قد سكت أيضًا عن حكمهما مع الزوجين. قلنا: لكنه هنا بيَّن مواريث الأبوين، ثم ذكر حكم الأمّ مع الإخوة، فكان ¬

_ (¬1) كذا في الأصل وهو سبق قلم، والصواب العكس، للابن سهمان وللبنت سهم.

مظنَّةَ أن يذكر حكمُ الأب معهم، فالسكوت عن ذكره في مظنته لا يخلو من إشارةٍ إلى أن حكمه لا يتغير بوجودهم، وهو معنى الحجب. لكن تُعارضُه الآيةُ التي آخرَ السورة، فإنه شرط في توريث الإخوة عدم الولد، وسكت عن ذكر الأب، ففيه إشارة إلى أنه لا ينقصهم عن شيء كتب لهم. ويرجِّح ما هنا أنه قال أولاً: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ}، ولم يقل: "أو إخوة"، فدلَّ أنهم لا يساوون الولدَ في حجب الأبوين، ثم ذكر حكم الأم معهم فقط، فدلَّ أن حكم الأب بخلاف ذلك، فهي دلالة مضاعفة. وما في آية الكلالة يقابل الدلالة الأولى فقط. وقد يجاب: أن الدلالة الأولى غايتها إفهام أن الإخوة لا يحجبون كلاًّ من الأب والأم إلى السدس، ثم أخرجت الأم، فبقي من الدلالة الأولى أن الإخوة لا يحجبون الأب إلى السدس، وهذا لا يقتضي أنه يحجبهم، فبقيت الدلالة الثانية، أعني السكوت عن بيان حكمه معهم، وهي وحدها لا تقوى على معارضة دلالة آية الكلالة مع ما يعضدها، كما يأتي إن شاء الله تعالى. ويُرَدُّ بأنه إذا سُلِّم أن الدلالة الأولى تقتضي أن الإخوة لا يحجبون الأب إلى السدس، فما يكون حكمه معهم إن جعلنا له ما بقي؟ كحاله مع أحد الزوجين كان معرضًا للسقوط، وكيف يسقط مع الإخوة ولم يسقط مع البنين؟ وإن قلنا غير ذلك كان تخرُّصًا بلا دليل، فوجب أن نرجع إلى النظر، نجد النظر يقتضي أن الإخوة لا يرثون مع الأب: أما إذا كانوا ذكورًا أو ذكورًا وإناثًا أشقَّاءَ أو لأبٍ فلأنهم عصبة، والأب أقرب تعصيبًا منهم. وأما إن كنَّ

إناثًا شقائقَ أو لأب فلأنهن يَقْوَيْنَ بوجود الأب أشدَّ مما يَقْوَيْنَ بوجودِ أخٍ لهن، فيضعُفُ جانب الاستحقاق فيهن، فيرجعن إلى التعصيب، فيقدَّم الأب لأنه أقربُ تعصيبًا. وأما الإخوة لأمًّ فلأن الله عزَّ وجلَّ إنما فرض لهم ممن يورث كلالةً، أي فيمن إذا كان له إخوة أشقَّاء أو لأبٍ لم يكونوا محجوبين. وقد علمت أن الأشقاء أو لأبٍ لا يرثون مع الأب، فلا يَرِث الإخوة من أمًّ مع الأب. فأنت ترى أن الأبوين لم يقوما مقامَ الولد. وتفريقه بأن ميراث الزوجين وصية من الله، وباقي المواريث فريضة، لا يُجدِي، وسيأتي ردُّه إن شاء الله تعالى في العَوْل. قال (¬1): "أما مع الإخوة الذين هم فرعٌ لأصل المورث، ويقومون مقام فرع المورث عند عدمه". أقول: ليس على إطلاقه، فإن الإخوة لا يحجبون أحدَ الزوجين، وإذا لم يحجبوه اختلفت المقادير، فلم يقوموا مقام الفرع. قال (¬2): "فنصيبُ كلًّ من الأبوين لا يكون إلاّ السدس، كما كان مع فرع المورث". أقول: قد علمتَ أن الإخوة ليسوا بقائمين مقامَ الفرع في كلِّ شيء، ولم يحجبوا أحد الزوجين، وبالأولى أن لا يحجبوا الأب. بل لم يفرض الله عزَّ وجلَّ للأب قطُّ ثلثًا ولا ثلثين حتى يُحجَب إلى السدس. ¬

_ (¬1) "الوراثة في الإِسلام" (ص 42). (¬2) المصدر نفسه (ص 42).

قال (¬1): "لكن الإخوة لما كانوا يُدْلُون إلى الميت بهما، لا يصل إليهم حظُّ الفرع ما دام أحدهما موجودًا". أقول: لا دليلَ على ذلك من النصوص، بل ولا من النظر؛ لأن النظر إما أن يكون قياسًا على ولد الولد مع أبيه، والجدّ مع الأب، والجدة مع الأم، فهو قياس مع الفارق؛ فإن إدلاءَ هؤلاء لا يُشبِهه إدلاءُ الإخوة بالأبوين. والإدلاء ضربان: أحدهما: ابن ابنك، وأبو أبيك. والثاني: ابن أبيك. وحَجْبُ الأب للإخوة الأشقّاء أو لأبٍ في مذهب الجمهور ليس لأنهم يُدلُون به، بل لما سيأتي قريبًا أنهم لا يكونون معه إلاّ عصبةً، وهو أقربُ تعصيبًا منهم، فهو مقدَّم عليهم، وعليه فلا تُقاسُ عليه الأم, لأنها ليست بعصبة. وأما حَجْبُه للإخوة لأمًّ فلأن الله عزَّ وجلَّ لم يفرض لهم إلاَّ ممن يورث كلالة، أي ممن لو كان له إخوة أشقّاء أو لأبٍ لم يكونوا محجوبين، وقد تبيَّن أن هؤلاء يُحجَبون بالأب. قال (¬2): "بل ينتقل ... ". أقول: أما انتقاله إلى الأب فمسلَّم، لكن لكونه أقربَ عصبةً لا للإدلاء، فلا تُقاس عليه الأم، والله أعلم. وهذا التقسيم يكون {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا} المورث. ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 42). (¬2) المصدر نفسه (ص 42).

نقل الآلوسي (¬1) عن الفخر ما يفيد أن في هذا القيد دلالةً على نسخ آية الوصية، وعكسَ الجيراجي (¬2) فزعمَ أن فيه دلالةً على عدم النسخ، وسيأتي ذلك مبسوطًا في الموضع الرابع إن شاء الله تعالى. {أَوْ دَيْنٍ} يكون عليه أي المورث، وفي تأخير الدين عن الوصية والإجماع على تقدمها ثم أدائه بحثٌ لا يُهِمُّنا؛ إذ ليس ذلك من مواضع الخلاف. قال عزَّ وجلَّ: {آبَاؤُكُمْ} أيها الرجال المورثون {وَأَبْنَاؤُكُمْ} أي: هؤلاء المبيَّنُ ميراثُهم آباؤكم وأبناؤكم، {لَا تَدْرُونَ} أنتم أيها المورثون {أَيُّهُمْ} الآباء والأبناء {أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} في الدنيا والآخرة، لقصور علمكم وما يغلب عليكم من الهوى، ولم يذكر "الإخوة" وإن كان قد تقدَّم الرمزُ إلى ميراثهم, لأنه ليس بيانًا تامًّا كما علمتَ. وههنا دليلٌ على نسخ آية الوصية هاكَ بيانَه، وخصّ الآباء والأبناء لأنهم أخصُّ وألصقُ بالمورث، فإذا جُهِل حالُهم فحالُ غيرهم من باب أولى. في تفسير الآلوسي (¬3): وعن ابن عباس [أنهم كانوا يعطون الميراث الأكبر فالأكبر] (ص 18 رقم 1) (¬4). ¬

_ (¬1) "روح المعاني" (2/ 54). وانظر: "تفسير الفخر الرازي" (5/ 66). (¬2) انظر "الوراثة في الإِسلام" (ص 43 - 44، 4، 7). (¬3) (4/ 228). وما بين المعكوفتين منه. (¬4) لم أجد الدفتر الذي يشير إليه المؤلف؛ ليُعْرَف تتمة الكلام.

ويؤيِّد هذا الوجهَ في الدلالة على النسخ وجهٌ آخر، وهو أن الله عزَّ وجلَّ أكَّد معنى ..... (ص 19 رقم 1) (¬1). ووجهٌ آخر، وهو في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} .... (ص 19 رقم 2) (¬2). واعلم أن المواريث على ضربين: الضرب الأول: مَن كان مستحقًّا للصلة والمواساة من الورثة. الضرب الثاني: مَن كان من العصبة الذين من شأنهم الحماية عن المورث والدفاع عنه. وباستقراء المواريث يُعلَم أن الله عزَّ وجلَّ جعل للمستحقين فرائض معلومة، وترك العصبة على ما بقي، ولا يختلف هذا إلاّ لعلةٍ، فالأب جامعٌ بين الأمرين، فقدَّر له الفرض حيث خِيفَ أن ..... عن السدس، وذلك مع الولد، وحيث لم يكن ولد لم يُفرض له، لا لأنه ليس .... الاستحقاق، بل لأن ................... ثم إن من الورثة مَن يجتمع فيه الأمران، كالأب والابن، ويقرب منهما الإخوة الأشقّاء أو لأب. ومنهم مَن ينفرد بالاستحقاق، كالأم والبنت والأخت وأحد الزوجين والإخوة لأم. ومنهم من يضعف استحقاقه، فلا يُعتدّ إلا بعصوبته كالأعمام وبنيهم. ومنهم من ضعف استحقاقه وليس بعصبة. ¬

_ (¬1) لم أجد الموضع المشار إليه. (¬2) لم أجد الموضع المشار إليه.

فأما القسم الثالث والرابع فلم يُذْكرا في القرآن إلا بالإجمال في قوله: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ} إلخ، كما قدمنا. وقدَّم الله تعالى الأول، فذكَر أهم أركانه، وهم الأب والابن والأخ شقيقًا أو لأبٍ، وترك ذِكْر الجدود وأبناء الأبناء إلى الاجتهاد والنظر، وذَكَر الأم مع الأب لأنها قرينته، وكذا البنت مع الابن، مع أنها إذا كانت معه كان لها حكم خاص. وأما الإخوة فإنما ذكرهم إجمالاً على ما تقدم, لأنهم دون الآباء والأبناء في الاستحقاق وفي العصبية، مع أن القرآن كان ينزل بحسب الوقائع والدواعي. وقد عُلِم من ذكر الإخوة في النوع الأول أنهم جامعون بين الاستحقاق والعصبية، وهذا إنما يصحُّ في الأشقاء أو لأب. هذا من حيث استحقاقهم، فأما من حيث حَجْبُهم للأم فلا يلزم ذلك. وبهذا فُهِم من كون الإخوة يحجبون الأمّ أنهم الأخوة من أيّ نوعٍ كانوا، وفُهِم من حَجْبهم الوارثَ أنهم يرثون. ثم ختم هذا النوع بقوله: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} وكان مقتضى الظاهر بالقياس على ما يأتي أن يُذكَر هذا القيد عَقِبَ ميراث الأولاد، فتركه هناك اكتفاءً بهذا إشارةً - والله أعلم - إلى إرادة التقسيم الذي ذكرناه، وأنهم نوع واحد. وأكّد ذلك بقوله: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ ...}، فتبيَّن بذلك أن هذه الآية خاصة بنوع. وكرَّر هذا القيد فيما يأتي ثلاثًا, ولم يكتفِ في التقييد في الأخير لأمرين، الأول: الإشارة - والله أعلم - إلى أن هناك اختلافًا بين ميراث الزوجين والميراث الذي ذكره بقوله: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ ...}، وهذا

الاختلاف ظاهر على قول عامة المسلمين: إن هذا ميراث الإخوة لأم، فإن الاختلاف بينهم وبين الزوجين من حيث إن صلة الزوجين سببية وصلتهم سببية، وذكره عَقِبَ ميراث الأزواج ثم عَقِب ميراث الزوجات، ولم يكتفِ بالأخير منهما لأن الميراثين لا يجتمعان، والله أعلم. ولما خرج عن النوع الأول إلى النوع الثاني يئس السامع أن يبيِّن في هذا الموضع ميراث الداخلين في النوع الأول من الإخوة، وهم الأشقّاء أو لأب، ولم ييأس من بيان حكم الإخوة لأمّ, لأنهم من النوع الثاني، فذكر الله عزَّ وجلَّ النوع الثاني، وهم الأزواج أو الزوجات والإخوة لأم. ولما كان ميراث الأزواج آكدَ من ميراث الإخوة لأمّ، بدليل عدم سقوطه بحال، ويُحتاج إليه في دفع ما يتوهم مما تقدم أن للأولاد جميع المال بعد سدس الأبوين، وللأب جميع المال بعد ثلث الأم وغير ذلك = بدأ عزَّ وجلَّ به فقال: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ ...}. وهل هذا داخل تحت قوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ} كما بيَّنا دخول قوله: {وَلِأَبَوَيْهِ ...}؟ عندي أنه داخل أيضًا، والتقدير هكذا: (يوصيكم الله في أولادكم) كلاًّ منكم في أولاده، (..... و) في آبائكم كلاًّ منكم في أبويه أن يكون (لأبويه .... و) في أزواجكم كلاًّ منكم في زوجه أن يكون (لكم ....). فإن قلت: قد مرَّ أن توجيه الوصية إلى الرجال بصفتهم مورثين المراد منه تحذيرهم من تغيير المواريث بالوصية، وهذا لا يأتي هنا, لأن الأزواج هنا وارثون.

قلت: إن الأزواج غالبًا يكونون ذوي نفوذٍ وسلطانٍ على أزواجهم، يضطرُّونهن إلى الإيصاء لهم، أو يستأثرون بأموالهن بدون وصية، فكانوا هم الذين ينبغي توجيه الوصية إليهم؛ إذ الوصية إنما وُجَّهت إلى مَن يُخشى منه مضارَّة المواريث، وهي هنا مخشيَّة من الأزواج، فتدبَّر. {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَ} أن يكون {لَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ} منكم {يُورَثُ} ميراثَ {كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ} تورث كلالةً، وسيأتي في الآية التي آخرَ السورة أن الكلالة هنا هي قرابة الإخوة العصبيين، فالمعنى على هذا: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ} ميراثَ {كَلَالَةً} أي إخوة عصبية، يعني مستحقًّا أن يَرِثه الإخوة العصبيون بأن لم يكن هناك حاجبٌ لهم، وليس في هذا حصرٌ كما لا يخفى. وعليه ففي الآية الدلالةُ على أن الإخوة لأمٍّ لا يحجُبُهم إلا مَن يحجب الإخوة العصبيين. وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى في الحجب. والقول الآخر: إن الكلالة اسم للمورث الذي ليس له ولدٌ ولا أب، والكلام عليه ظاهر. {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَـ} أن يكون {لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا} الأخ أو الأخت {السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا} الإخوة {أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ}.

وانعقد الإجماع على أن المراد بالأخ والأخت وأكثر من ذلك: الإخوة لأم، وروى البيهقي (¬1) بسند صحيح إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه كان يقرؤها: "وله أخ أو أخت من أم"، ونُسب مثله إلى ابن مسعود وأُبي بن كعب. ولعله - والله أعلم - نَسْخُ لفظ "من أم" له في الآيات ما يدلُّ عليه: أولاً: ما قدَّمنا من أن المذكور في الآيتين الأوليين من كان جامعًا بين الاستحقاق والعصبية، وذكر معهم غيرهم تبعًا، وأجمل ميراث الإخوة فبقيت النفس متطلعة إلى بيانه، فلما خرج من النوع الأول ودخل في النوع الثاني يئس من بيان حكم الأشقّاء أو لأب في هذا الموضع، ولم ييأس من بيان حكم الإخوة لأم، فلما ذكر حكم الإخوة في النوع الثاني كان معلومًا أنهم الإخوة من أم أولاً, لأن النفس إنما بقيت متطلعةً إليهم. وثانيًا: لذكرهم في النوع الثاني: وليس الأشقاء والإخوة لأب منه. وأمر ثالث: وهو أنه فرض للأخ السدس مطلقًا، وقد علمتَ مما تقدم أن الفرائض إنما جُعِلت بإزاء الاستحقاق، والأخ الشقيق أو لأبٍ الغالبُ فيه جانب العصبية. وأمر رابع: وهو أن الكلالة المراد بها قرابة الإخوة العصبيين، كما يأتي في تفسير الآية التي آخر السورة، فكأنه تعالى قال: "وإن كان رجل يورث ¬

_ (¬1) في "السنن الكبرى" (6/ 231). وأخرجه أيضًا سعيد بن منصور في "سننه" (592 - تفسير) والدارمي (2/ 366) والطبري في "تفسيره" (6/ 483) وابن المنذر (1450) وابن أبي حاتم (3/ 887).

بالإخوة العصبية وله أخ أو أخت". فقوله: {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} لا يمكن أن يكون تفسيرًا للكلالة, لأنه عطف عليها بالواو، والعطف يقتضي التغاير، فتعين أن يكون أراد: أخ أو أخت غير عصبيّ، أعني من أمًّ فقط. وهذا الأمر يأتي على تفسير الكلالة بالمورث الذي ليس له ولدٌ ولا أبٌ, لأن قوله: {يُورَثُ كَلَالَةً} معناه - والله أعلم - يُورث من حيث هو كلالة، وإنما يَرِثه مِن حيثُ هو كلالةٌ إخوتُه العصبيون، فكأنه قال: وإن كان رجل يورث بالإخوة العصبية. والله أعلم. وقد نازع الجيراجي في تفسير الآية، ودفع قولَ عامة المسلمين بوجوه، فقال (¬1) (ص 103 مسودة) .... قَالَ تَعَالَى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} أي الإخوة كما يأتي إن شاء الله. {الْكَلَالَةِ} الكلام على الكلالة يحتاج إلى بسط وتحقيق، أما الجيراجي فإنه مرَّض القول فيها، وبنى الكلام على ما زعمه من أن الوارث في قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً} هو العهدي، وقد علمتَ بطلانه. وعلى أن الإخوة لا يرثون مع الولد والأب بالاتفاق، وهو غلط. فإن أراد بالولد ما يتناول البنت كما هو قوله، فإن الجمهور يُورَّثون الإخوةَ مع البنت والبنتين، ¬

_ (¬1) انظر كلامه حول تفسير الآية في "الوراثة في الإسلام" (ص 45 - 48). ولم أجد ردّ المؤلف عليه ولا المسودة التي أشار إليها.

وصحَّ ذلك في أحاديث كثيرة كما ستأتي إن شاء الله تعالى. وإنما نازع ابن عباس في ذلك، ونزاعه ضعيف من حيث الدليل، ويحتمل التأويل كما يأتي إن شاء الله تعالى. ومن الأمة مَن يُورِّث الإخوة مع الأب، وهو مذهب الشيعة ومرويّ عن ابن عباس، وهو مقتضى الرواية عن عمر رضي الله عنه، ومعترك الخلاف في الكلالة هو هذا، أيَرِثُ الإخوة مع الأب أم لا؟ فادّعاءُ الاتفاق فيه غلط محض. وجعل الجيراجي الأمَّ مثل الأب بلا دليل غير مجرَّد الإدلاء (¬1)، والإدلاء - مع كونه لا يتحقق إلاَّ في الإخوة وفي نصيبها من الأشقّاء - لا يصلح أن يكون دليلاً، إذ لا نصَّ من الشارع أنه لا يرث أحدٌ مع مَن يُدلِي به. وبناؤه على تفسيره "الأقربين" قد بطل ببطلان ذلك التفسير كما تقدم. والإجماع إنما انعقد في الإدلاء المسلسل: أبو الأب، أُم الأم، ابن الابن، فلا يقاس عليه الإدلاء غير المسلسل: ابن الأب، ابن الأم. فأما الإجماع في عدم توريث ابن الأخ مع الأخ وابن العم مع العم فإنما هو مبني على أن ابن العم وابن الأخ عصبة محض، وذهاب الجمهور إلى أن الإخوة لا يرثون مع الأب ليس للإدلاء، وإنما هو لأنهم لا يكونون معه إلاَّ عصبة، وهو أقربُ تعصيبًا منهم، كما تقدم في قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ}. أما نحن فنقول في الكلالة: إنها مصدر من: كَلَّ السيفُ إذا ضعُفَ حدُّه، ¬

_ (¬1) انظر "الوراثة في الإِسلام" (ص 42).

والطَّرْفُ: إذا ضعُفَ بصره، والرجلُ: إذا ضعُفَ اقتدارُه. تُطلَق على القرابة الضعيفة، يقولون: هذا ابن عمِّي لَحًّا، وذاك ابن عمِّي كلالةً، يريدون أن بنوَّة عمِّ الأول تامَّة، وبنوَّة عمِّ الثاني ضعيفة. وأحسن ما ذكره أهل اللغة فيها: قول الزمخشري رحمه الله في "أساس البلاغة" (¬1): " [كلَّ فلانٌ كلالةً: إذا لم] يكن ولدًا ولا والدًا، أي كلَّ عن [بلوغ القرابة المماسَّة] ". لكن لا بدَّ من اشتراط كونه ذا قرابةٍ، إذ لا يقال لمن لا قرابة له أصلاً: كلالة. ثم رأيتُ في "شرح السراجية" للسيد الشريف ما لفظه: "لفظ الكلالة في الأصل بمعنى الإعياء وذهاب القوة، كقوله (¬2): فآليتُ لا أرثي لها من كلالةٍ ثم استعيرتْ لقرابة مَن عدا الولد والوالد، كأنها كلالةٌ ضعيفة بالقياس إلى قرابة الولادة. ومما ذُكِر علمتَ أن تُطلَق على الإخوة والأخوات، لكن إذا كانوا من الأقربين، أي أشقَّاء أو لأبٍ، فإنهم لا يعتدُّون بقرابة الأمّ كما قدَّمنا في "الأقربين". ويشهد له قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ ...} كما قدَّمنا، فإنها ¬

_ (¬1) (ص 550) مادة "كلل". (¬2) عجزه: ولا من حَفًى حتى تلاقي محمدا. والبيت للأعشى من داليته المشهورة في الديوان (ص 185).

تدلُّ على أن الإخوة لأمًّ ليسوا بكلالةٍ، للعطف المقتضي للتغاير. وكذا تشهد لذلك الأدلّةُ التي دلَّت على أن المراد بالإخوة في هذه الآية الأشقَّاء أو لأبٍ، ومنها الإجماع. وفي البخاري (¬1) في بعض روايات حديث جابر أنه قال: "يا رسولَ الله، إنما يَرِثني كلالة". وفي بعض الروايات في "الصحيح" (¬2): "كيف أصنعُ في مالي ولي أخواتٌ". ففي هذا إطلاق الكلالة على الأخوات، وكانت أخواته شقائقَ أو من أبيه، فقد جاء بيانُ ذلك في أحاديث أخرى من رواية جابر (¬3) رضي الله عنه. وأخرج الإِمام أحمد (¬4) عن عمرو القاريّ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل على سعدٍ وهو وَجِعٌ مغلوب، فقال: يا رسول الله، إنَّ لي مالاً وإنَّي أورث كلالةً". وقد ثبت في "الصحيح" (¬5) أنه كان له ابنةٌ. فإما أن يكون أطلق الكلالة على البنت لضعفها المعنوي، وإما أن يكون أراد أنه يَرِثه مع ابنته بنو أخيه عتبة وغيرهم، والثاني هو الظاهر. وقد قُرِئ في الآية التي أوّلَ النساء "يُورِث" بكسر الراء مخففةً، وبكسرها مشدَّدة. والظاهر على هاتين القراءتين أن "كلالةً" منصوب على ¬

_ (¬1) رقم (194، 5676) ومسلم (1616/ 8). (¬2) البخاري (6743). وأخرجه أيضًا أبو داود (2886) وأحمد (14298) وغيرهما. (¬3) منها ما أخرجه البخاري (4052)، وفيه: "إنّ أبي قُتِل يومَ أحدٍ، وترك تسع بنات كن لي تسع أخوات ... ". وفي صحيح مسلم (2/ 1087) نحوه. (¬4) في "مسنده" (1440، 1474، 1479). (¬5) البخاري (5659) ومسلم (1628).

المفعولية، فهو يُطلَق على الورثة، والمراد ذوو كلالةٍ، وهو لا يخالف قراءةَ الفتح على ما قدَّرناه في تفسيرها. وجاء في بعض عبارات الصحابة: الكلالة ما دونَ الولد والوالد، وهو ظاهر في أنه يُطلق على الورثة. ففي "سنن البيهقي" (¬1) عن الشعبي قال عمر رضي الله عنه: الكلالة ما عدا الولد. وقال أبو بكر: الكلالة ما عدا الولد والوالد ... إلخ. وهذا هو الراجح عندي أن الكلالة اسم لقرابة الإخوة العصبيين وغيرهم من العصبية، لا للورثة ولا للمورث ولا للوراثة. على أنه لا مانعَ من إطلاقها على كلًّ من هذه تجوُّزًا، وأكثرها الأول، فيقال: هم كلالةٌ، كما يقال: قرابة، أي ذَوُو كلالةٍ، وإطلاقُها على المورث بمعنى: ذُو ذَوي كلالة، أي ذو أقاربَ ذوي كلالةٍ، ففيه كثرة الحذفِ، فهو أضعف من الأول. إلاَّ أن لفظ الكلالة في القرآن لا يُحمل إلاّ على المعنى المشهور المعروف أو ما يُقاربه، كيف وقد صحَّ في حديث جابر بن عبد الله كما تقدم، وسؤاله سبب نزول هذه الآية التي في آخر النساء، كما أخرجه الإِمام أحمد والنسائي (¬2) من حديث أبي الزبير عن جابر، وهو في "سنن أبي داود" (¬3): ثنا أحمد بن حنبل ثنا سفيان قال: سمعتُ ابن المنكدر أنه سمع جابرًا ... فقلتُ: يا رسول الله، ¬

_ (¬1) (6/ 224). وأخرجه أيضًا عبد الرزاق في "المصنف" (19191) وابن أبي شيبة في "المصنف" (11/ 415، 416) والطبري في "تفسيره" (6/ 475، 476). (¬2) "مسند أحمد" (14998)، والنسائي في "الكبرى" (6324، 7513). (¬3) رقم (2886) ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 224) بهذا الإسناد. وهو في "مسند أحمد" (14298).

كيف أصنع في مالي ولي أخواتٌ؟ قال: فنزلت آية الميراث: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ}. وهو في "صحيح مسلم" (¬1) من طريق أخرى عن سفيان. وأطلق في بعض الروايات الثابتة في "الصحيحين" (¬2) فقال: "فنزلت آية الميراث". ووقع في بعض الروايات الصحيحة (¬3): "فنزلت: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ...} "، وهذا في قول بعض العلماء تفسيرٌ من الراوي على ما ظنَّه، أو لعله انتقل ذهنُه إلى قصة بنتَي سعد بن الربيع التي هي سببٌ لنزول قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ ...}، فإنها من رواية جابر. والدليل على ذلك أن جابرًا كما ثبت في "الصحيح" لم يكن له إلاّ أخوات (¬4). أما الحافظ ابن حجر (¬5) فاختار الجمعَ بين الروايات بأن قوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ} الآيات، وقوله: {يَسْتَفْتُونَكَ} الآية، نزلتا معًا في جابرٍ وبنتَيْ سعد بن الربيع، والمتعلق بجابر من الأولى ذكر الكلالة. وأقول: لا ريبَ أن الجمع أولى من ردّ بعض الروايات الصحيحة, ولكن قد يُتعقَّب هذا الجمع بأمرين: أحدهما: أن قضية كون ذكر الكلالة في أول السورة متعلقًا بجابر أن ¬

_ (¬1) رقم (1616/ 5). (¬2) انظر البخاري (5651، 6723، 7309) ومسلم (1616/ 7). (¬3) انظر صحيح مسلم (1616/ 6). (¬4) سبق تخريجه. (¬5) في "فتح الباري" (8/ 244).

يكون لجابر أختٌ أو أخ .................... إما شقائق وإما من أب ........... بيانه في الأحاديث ............ في "الصحيحين" عن عمر سؤال عن الكلالة وقول النبي ............ آية الصيف. وهذا يقتضي أن الآية الأولى نزلت في غير الصيف، وكون الاثنتين نزلتا في جابر يستلزم نزولهما في وقتٍ واحد. ويجاب عن الأول بأن غاية ما في الأحاديث الإخبار بأن لجابرٍ أخواتٍ شقائقَ أو لأب، وليس فيها نفي أن يكون له أخ أو أخت أو إخوة لأم. وعن الثاني بأنه قد لا يكون أراد بقوله "آية الصيف" تمييزها عن (¬1) الآية الأخرى في الكلالة، بل التمييز عن سائر آيات القرآن النازلة في تلك السنة، وربما يُستأنَس لهذا بقوله: "التي آخرَ سورة النساء". وهذا الجواب ليس بالقوي، ولكنه أولى من تغليط بعض الروايات الصحيحة. والله أعلم. فتحصَّل ممّا قدَّمنا أن الكلالة اسم للقرابة الضعيفة، والمراد بها قرابة مَن عَدا الولد والأب, لأن الولد والأب أقرب من غيرهم، وإن كانوا لشدة القرب لا يتناولهم لفظ "الأقربين"، فهي على هذا اسمٌ لقرابة الإخوة العصبيين وغيرهم من العصبة، وفي الآية التي آخرَ النساء اسم لقرابة الإخوة؛ لأنه اقتصر في جواب السؤال عن الكلالة على بيان ميراثهم، فدلَّ على أنهم هم المراد. ¬

_ (¬1) في الأصل: "في".

{إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ} فيه احتمالانِ على قول مَن يجعل الكلالة اسمًا للمورث: أحدهما: أن يقول: إن المراد بـ "امرؤ": كلالة، وعليه فما يكون قوله تعالى: {لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ}؟ أيُجعَل تكرارًا مع ما يتضمنه لفظ كلالة من عدم الولد؟ فما فائدةُ ذلك؟ قد زعم الجيراجي أنه تأكيد، أي لم يكن له ولدٌ إلى أسفل. فإن أراد أن لفظ الكلالة لا يتضمن نفي الولد إلى أسفل، فكيف يقول: تأكيدٌ، وإن أراد أنه يتضمن ولكن أكّد، فكيف يقول: أي لم يكن له ولد؟ وعلى كلِّ حال فالتأكيد غير ظاهر، فيلزم منه أن الشخص لا يمنعه وجودُ الولد عن أن يسمَّى كلالةً، فتكون الكلالة حينئذٍ المراد به من مات أبوه، وهو استعمال معروف، يقال لليتيم: كَلٌّ، ويحتمله قول الشاعر (¬1): وإن أبا المرءِ أحمَى له ... ومولى الكلالةِ لا يَغضبُ وقد رُوي عن عمر ما يوافق هذا، قال في الكلالة: هو ما خلا الأب (¬2). وعلى هذا فيضطرب الكلام في تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً} إذا فُسِّرتْ كلالة بما فُسِّرت به هنا - أعني من توفي أبوه - اسمًا للمورث، فيكون الظاهر أن الإخوة لأمٍّ يرثون مع الولد. وعلى كلِّ حال إن هذا التفسير باطلٌ بدليل السياق، ولو أُريد لقيل: " ... في الكلالة إن هلك" أو "إن كلالة هلك". ¬

_ (¬1) البيت بلا نسبة في "تهذيب اللغة" (9/ 448) و"لسان العرب" (كلل). (¬2) سبق تخريجه.

ثانيهما: أن يقول: إنه أُريد بقوله: {إِنِ امْرُؤٌ ...} بيانُ الكلالة، فيلزمه أن الكلالة هو مَن لا ولد له. وله وجهٌ في اللغة كما تقدم، ووجهٌ آخر وهو أن الرجل إذا لم يكن له ولدٌ كان ضعيفًا، وبموته ينقطع نسبُه، إذ لم يترك مَن ينتسب إليه، ويبقى النظر في البنات، فإنهن وإن كنّ أنفسهنَّ ينتسِبْنَ إلى المورث، إلاّ أنهن ضعافٌ لا يُفِدْن قوةً، مع أنه بموتهنّ ينقطع النسب؛ لأن بَنِيهنّ لا يُنسَبون إليه. وهذا الوجه هو الذي اختاره عمر بن الخطاب [رضي] الله عنه آخرَ عمرِه، فقد روى جماعة منهم الحاكم (¬1) بإسنادٍ - قال: على شرط الشيخين، وأقرَّه الذهبي - عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أوصى عند الموت، فقال: الكلالة ما قلتُ، قال ابن عباس: وما قلتَ؟ قال: مَن لا ولدَ له. وفي "مسند" الطيالسي (¬2) عن شعبة عن عمرو بن مُرَّة أنه قال لمرّة: ومَن شكَّ في الكلالة؟ أمَا هو دون الولد والوالد؟ قال: إنهم يشكُّون في الوالد. وفي حواشي "السراجية": المرويُّ عن ابن عباس في أظهر الروايتين ¬

_ (¬1) في "المستدرك" (2/ 303، 304). وأخرجه أيضًا عبد الرزاق في "المصنف" (19187، 19188)، وسعيد بن منصور في "السنن" (589 - تفسير)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (11/ 415) والطبري في "التفسير" (6/ 480) والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 225). (¬2) رقم (60). ومن طريقه أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 225).

أن الكلالة ما سوى الولد (¬1)، فإنه قد روى عطاء أنه قال: سألتُ ابن عباس رضي الله عنه عن الكلالة، فقال: ما عدا الولد، فقلت: إنهم يقولون: ما عدا الوالد والولد، فغضب، قال: أنتم أعلم أم الله؟ قال الله تعالى: {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} (¬2). وفي "سنن" البيهقي (¬3) وغيره عن الحسن بن محمَّد بن الحنفية أنه سأل ابن عباس عن الكلالة، فقال: ما دون الوالد والولد، فقال الحسن: إنما قال الله عزَّ وجلَّ: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ}. قال: فانتهرني. وقد روى البيهقي في "السنن" (¬4) حديث جابر من طريق أبي داود، وزاد في آخره: "من ليس له ولد وله أخوات". ولم أر هذه الزيادة في نسخة "سنن" أبي داود (¬5)، لكن عقبَ هذا الحديث "باب من ليس له ولد وله أخوات"، فذكر حديث أبي الزبير عن جابر (¬6)، وعندي أن لفظ "باب" ¬

_ (¬1) قال الطبري في تفسيره (6/ 479): هذا قولٌ عن ابن عباس، وهو الخبر الذي ذكرناه قبلُ من رواية طاوس عنه أنه ورَّث الإخوة من الأمّ السدسَ مع الأبوين. وقد أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (19027) والطبري (6/ 468) والبيهقي (6/ 227). (¬2) لم أجد هذه الرواية عن عطاء عن ابن عباس، ويناقضها ما يذكره المؤلف عن ابن الحنفية عن ابن عباس. (¬3) (6/ 225). وأخرجه أيضًا عبد الرزاق في "المصنف" و (19189) وسعيد بن منصور (588 - تفسير) وابن أبي شيبة (11/ 416). (¬4) (6/ 224). (¬5) رقم (2886) وهو في "مسند أحمد" (14298). (¬6) رقم (2887). وأخرجه أيضًا أحمد (14998) وعبد بن حميد في "مسنده" =

مدرج، وأن الصواب ما في "سنن" البيهقي (¬1). وقد راجعتُ "مسند أحمد"، فإذا فيه الحديث (ج 3 ص 308) (¬2)، وزاد بعد قوله: {يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ}: "كان ليس له ولد وله أخوات {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ} " (¬3). فهذه الأدلة تقتضي أن الكلالة اسم للمورث الذي ليس له ولد. وعلى كل حالٍ فالآية تقتضي أن الأب لا يحجب الإخوة. أما إذا قلنا: إن الكلالة هو المورث الذي ليس له ولد، فظاهر؛ لأنه لم يُشترط في توريث الإخوة غير تفسير الكلالة، أعني عدم الولد. وأما إذا قلنا: إنه اسم للإخوة فكذلك؛ لأنّ وجود الابن والأب لا يمنع إطلاق كلالة عليهم، فهم كلالةٌ وإن وُجِد الأب والابن. وإنما اشْتُرِط في توريثهم عدم الولد فقط, وهو يُفهِم أن ¬

_ = (1064) والطيالسي (1742) والنسائي في "الكبرى" (6324، 7513) والبيهقي (6/ 231) وغيرهم. (¬1) أي بحذف كلمة "باب"، وجَعْل ما بعدها متصلاً بالحديث السابق. وهو - كما صححه المعلمي - في طبعة محمَّد عوامة للسنن (3/ 405)، وقد قال في هامشها: هكذا جاء آخر الحديث في الأصول كلها إلا (ك)، فإنه ختم الحديث بكلمة "الكلالة"، وبعدها: "باب من كان ليس له ولد وله أخوات". وفي (ظ) ضبة بين كلمة "الكلالة" و"من كان ... ". وفي (ح) ضبة كذلك لكن مع كتابة كلمة "باب" في الهامش على الحاشية، وأنه كذلك في نسخة. (¬2) كذا في الأصل، والحديث في "المسند" (3/ 307). ورقمه في الطبعة المحققة (14298). (¬3) في هامش الطبعة المحققة: أُقحِم في منتصف الآية في (م) و (س) و (ت): "كان ليس له ولد وله أخوات". ولم ترد في (ظ 4) فحذفناها.

وجود الأب لا ينقصهم شيئًا. وهكذا إذا قلنا: إن الكلالة أُطلِقت على الوراثة. فعلى كل حالٍ إن إطلاق هذه الآية يقتضي أن الإخوة يرثون مع الأب. فإذا أضفنا إلى هذا أن عمر رضي الله عنه كان أشدَّ الناس سؤالاً للنبي - صلى الله عليه وسلم - عن الكلالة، وقد أوصى بما علمتَ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - طعنَ في صدرِه وقال: "أما يكفيك آيةُ الصيف التي في آخر سورة النساء؟ " (¬1)، وهذه الآية تدلُّ على ما علمتَ، وأن هذه الآية وقعتْ جوابًا للاستفتاء عن الكلالة، وجوابُ الاستفتاء ينبغي أن يكون مستوفيًا = تَرجَّح (¬2) أن الإخوة يرثون مع الأب. ولكن قد قدّمنا في تفسير قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ ...} ما يدفع هذا، فارجع إليه. وعليه فيقال: إنه لما سكت هنا عن التقييد بعدم الوالد أحاله على ما تقدم هناك، والقرآن يُبيِّن بعضُه بعضًا. والله أعلم. بقي أن الجيراجي (¬3) زعم أن وجود الأمِّ يمنع إطلاق "كلالة". وهو قول بلا دليل، أما إذا قلنا: إن الكلالة تُطلَق على الإخوة فظاهر، وأما إن قلنا: إنه يُطلَق على المورث، فهذه الآية تدلُّ أنه الذي لا ولد له، وإنما فهمنا نفيَ الأب مما تقدم في الآية التي أوَّلَ النساء، وليس فيها دليلٌ على نفي الأمّ كما تقدم هناك. وإطلاقُ بعض الصحابة وأهل اللغة أنه مَن لا ولدَ له ولا والد، أو على ما عدا الولد والوالد، مع كونه ليس بحجة، فالوالد إنما هو حقيقة في الأب كما تقدم. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (567، 1617) عن عمر. (¬2) جواب "فإذا أضفنا ... ". (¬3) في "الوراثة في الإِسلام" (ص 47).

وزعم (¬1) أن البنت وبنت الابن وبني البنات يدخلون تحت "الولد". فأما البنت وبنت الابن فقد وافقه غيرُه، وبيَّنّا في فصل الأولاد أن ذلك إن قيل له فهو من عموم المجاز، والأولى الوقوف عند الحقيقة، وإنما لا يُفرَض للأخت مع البنت وبنت الابن بأدلة أخرى، كالأحاديث الدالة على أن الإخوة والأخوات مع البنات عصبات. وسيأتي في مبحث ميراث الإخوة من الحجب إن شاء الله تعالى. وقد جاء عن ابن عباس أنه كان ينكر في بنت وأخت أن تُعطَى الأختُ النصفَ، ويقول: إنما قال الله تعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} فقلتم أنتم: لها النصف وإن كان له ولد (¬2). وهذا ضعيف، أما إذا قلنا: إن البنت ليست داخلةً تحت كلمة "ولد" فظاهر، وأما إن قلنا: إنها داخلة فلأنّ الذي في الآية: {فَلَهَا النِّصْفُ} أي فرضًا كما هو ظاهر، ونحن لا نُعطيها النصف فرضًا، بل نُعطيها ما بقي بعد الفرائض. وكونُه يقع نصفًا في بعض الصور لا ينافي الآية، وهذا كما نُعطي الأب النصف في: بنت وأب، مع أن الله تعالى إنما فرض له السدس. والعجب أن ابن عباس يورث الأخ مع البنت، مع أن دلالة الآية على عدم ميراثه معها أوضح من هنا كما سيأتي، وهذا مما يدفع به قوله. ومع هذا ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 29). (¬2) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (19023) والحاكم في "المستدرك" (4/ 339) والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 233).

فقد تضافرت الأدلة الصحيحة الصريحة بتوريث الإخوة مع البنات، كما سيأتي بسطها إن شاء الله تعالى. فأما بنو البنات فإنهم ليسوا بأولادٍ حقيقةً كما هو ظاهر، ودعوى دخولهم بالمجاز لا دليلَ عليها إلا قياسُهم على بني البنين، وهو قياس في اللغة، مع أن قائلهم يقول (¬1): بنونا بنو أبنائنا وبناتُنا ... بنوهنَّ أبناءُ الرجالِ الأباعدِ ونحن إنما ورَّثنا أبناءَ البنين بالنصوص التي وردت في ذلك، كحديث ابن مسعود وغيره، ثم بالإجماع. وليس في بني البنات نصٌّ ولا إجماع، بل الإجماع على أنهم لا يرثون، والله أعلم. {وَلَهُ أُخْتٌ} شقيقة أو من الأب، لا أنها لا تكون كلالةً إلاّ إذا كانت كذلك كما قدَّمنا, ولأن حكم الإخوة من الأمّ قد تقدم في موضعه على خلاف هذا, ولأن الإخوة هنا شُبِّهوا في فرائضهم بالأبناء، وهذا لا ينبغي إلاَّ في الأشقّاء أو لأبٍ, لأنهم من العصبة، فأما الإخوة من أم فإنهم أباعدُ، والإجماع فوق ذلك، والله المستعان. {فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} المرء المورث، أي أخوها من أبيها وأمّها أو من أبيها، وقد تقدم ما تدلُّ عليه نسبة الفرض إلى "ما ترك" من إبطال رأي الجيراجي في العول. ¬

_ (¬1) البيت بلا نسبة في "الحيوان" (1/ 346) و"شرح شواهد المغني" (2/ 848). ونُسب إلى الفرزدق في "خزانة الأدب" (1/ 213)، ولا يوجد في ديوانه.

{وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} فيأخذ جميع مالها أو ما يبقى بعد الفرائض التي لا تسقط، وإن فُسِّر الولد هنا بما يعمُّ البنتَ كان ظاهره أن الأخ يسقط معها, ولا يأتي هنا الجواب المتقدم في الأخت، والجواب أن الدلالة إنما هي بمفهوم الشرط. {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} تقدم ما فيه. {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ} منهم {مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} قد تقدم ما فيه، ولم يكتفِ به هنا عن بيان ميراث الاثنتين, لأن في ذلك نوعَ غموض، فلا يحسن أن يكون غامضًا في الموضعين. وأغمضَ هنا ميراث ما فوق الاثنتين لأنه بيَّنه هناك، وهذا حثٌّ لطالب العلم أن يتدبَّر القرآن كلَّه، ولا يقتصر على بعضه، والله أعلم. وقوله: {إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً} ثلاثتها جموعٌ، زعم الجيراجي أن المراد بها الجنس، حتى تصدُقَ على الأخ الواحد مع الأخت الواحدة مثلاً. وهذا غير لازم، أما "إخوة" فإنه صادق في الصورة المذكورة, لأن أقلّ الجمع اثنان في لسان الأنصار وغيرهم، وصحَّ ذلك في لفظ "إخوة" المتقدم في أول السورة، كما بيَّنا ذلك هناك. وأما "رجال ونساء" فلا داعي لإخراجها عن ظاهرها، بل نقول: إنهما لا يَصدُقان في الصورة المذكورة، ولا يَصدُق "رجال" في صورة: أخ وأخوات، ولا "نساء" في صورة: إخوة وأخت، لكن حكم هاتين الصورتين يُعلَم بالقياس، والله أعلم.

{يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ} حكم الكلالة كراهيةَ {أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}. قال الجيراجي (¬1): "فإن قيل: أيُّ ضلالٍ أكبر من أنه ما اتفق عليها الصحابة رضي الله عنهم، ولم يعلمها عمر رضي الله عنه، فكان يقول: اللهمَّ مَن كنتَ بيَّنتَها له فإنها لم تتبيَّنْ لي (¬2). وما زال الخلاف إلى اليوم. قلنا: ليس هذا ضلالاً، هذا هو البيان الموعود .... ". فقوله: "هذا هو البيان الموعود" لا أدري أشار إلى ما تقدَّم من أنه ما اتفق عليها الصحابة ... إلخ، أم إلى ما بيَّنه هو في تفسيرها؟ والأول بعيد جدًّا، فتعيَّن الثاني، وفيه من التبجُّح ما لا يخفى. ولعَمر اللهِ ما أنصف إذ جعلَ الصحابة رضي الله عنهم - وهم المخاطَبون أولاً وبالذات بقوله: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} - جعلَهم وسائرَ الأئمة وعلماء الأمة وجميع أفرادها أجمعوا كلُّهم على ضلالٍ في بعض أحكام الكلالة لتوريث الإخوة مع الأم، ولم يَجْنِ جَنى البيانِ ولا رُزِقَه إلا الحافظ أسلم الجيراجي! فالله المستعان. قال (¬3): "فيُدرِك بعضهم الصوابَ فيؤجَر عشرة أجور، ويُقصِّر آخر فيؤجَر أجرًا واحدًا". ¬

_ (¬1) "الوراثة في الإِسلام" (ص 51). (¬2) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (10/ 305) والطبري في "التفسير" (7/ 725). (¬3) "الوراثة في الإِسلام" (ص 52).

هذا خلاف الحديث المشهور (¬1): "إذا اجتهد القاضي فأصاب فله أجرانِ، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجرٌ واحد". وكأن الجيراجي ذهب إلى الحديث الآخر: "مَن همَّ بحسنةٍ لم يَعملْها كُتِبتْ له حسنةٌ واحدة، فإن عَمِلَها كُتِبْت له عشرةُ حسنات" (¬2). ولم يعلم أن المراد بقوله: "ولم يعملها" بأن عرضَ له مانعٌ، فكفَّ عنها مختارًا، فأما مَن عمل عملاً ظنَّه حسنةً فلا يدخل في هذا، بل الظاهر أن يُؤتَى الأجر كاملاً، إنما الأعمال بالنيات (¬3). والحديث الأول يدلُّ على هذا, ولكن أعطى الله المصيب أجرينِ، وذلك عبارةٌ عن عشرين حسنةً، وأعطى المخطئ أجرًا كاملاً، وهو عبارة عن عشر حسناتٍ {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261] (¬4). (الوصية) استدلَّ الجيراجي (¬5) بآية الوصية، وقد تقدم تفسيرها وأنها تحتمل وجهين، أحدهما لا دلالةَ فيه على المدَّعَى أصلاً، ولكننا لا نتمسك به، بل نبني كلامنا على الوجه الآخر، فنقول: إن هذه الآية منسوخة بدلالة الكتاب والسنة والإجماع. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (7352) ومسلم (1716) من حديث عمرو بن العاص وأبي هريرة وأبي سلمة. (¬2) أخرجه البخاري (6491) ومسلم (130) من حديث ابن عباس. (¬3) أخرجه البخاري (1) ومسلم (1907) من حديث عمر بن الخطاب. (¬4) بعدها في المجموعة 14 صفحة لا علاقة لها بالمواريث، ثم يبدأ الكلام على الوصية في صفحة 54. (¬5) انظر "الوراثة في الإِسلام" (ص 2 - 7).

أما الكتاب فأوّلاً هي نفسُها تدلُّ على أنها لا تصلُح أن تكون حكمًا دائمًا، وذلك أنه بيَّن فيها أن الموصي مُعرَّضٌ للجنف والإثم، ولم يشرع لذلك حلًّا كافيًا إلاَّ مجرد نفي الإثم عمن أراد أن يصلح بينهم، والصلح مداره على الرضا. واعلم أن الإنسان غالبًا .... ص 4 (¬1). فإذا تأملتَ هذا مع ما سيأتي بيانه من منافاة حكم الوصية للمصلحة الحقيقية، ولاحظتَ أن أهل الجاهلية كانوا يخصُّون أولادهم بأموالهم، إلى غير ذلك من أهوائهم، وكنتَ ممن يفهم حكمة الله عزَّ وجلَّ في الخلق والأمر من بناء الإصلاح على التدريج، رِفقًا بالخلق وتألُّفًا لهم وتعليمًا لهم طُرُقَ الحكمة = علمتَ أن الله عزَّ وجلَّ إنما شرع حكم الوصية تعديلاً لعادات الجاهلية مما لا يُنفِّر النفوس ويُعاكِس المألوف، فبيَّن أن للوالدين والأقربين حقًّا, ولم يُحتِّم أداءه، بل وكَلَه إلى رغباتهم، فمن شاء أكثر ومن شاء أقلَّ. وعلى كل حالٍ فالأمر يهونُ عليهم؛ لأنهم يرون أن الأمر راجعٌ إلى رضاهم، وليس قسرًا عليهم، ولكنه مع هذا نبَّههم على أنهم معرَّضون للجنف والإثم، ولم يجعل لذلك حلاًّ كافيًا كما تقدم. ومن ذلك يعلم المتدبّر أن هذا حكم مؤقَّت، وفي هذا دلالة ظاهرة أن هذا الحكم سيُنْسَخ. ثانيًا: آيات المواريث، والدلالة فيها على النسخ من طريقين، إجمالية وتفصيلية. ¬

_ (¬1) أشار المؤلف هنا إلى ص 4 رقم 1 لإكمال الكلام حول الموضوع في دفتر آخر، ولم نجده، وهكذا أشار المؤلف في الصفحة التالية ومواضع أخرى.

أما التفصيلية فقد تقدمت في تفسير الآيات، وهي في مواضع: 1 - {مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ}. 2 - {نَصِيبًا مَفْرُوضًا}. 3، 4، 5 - {يُوصِيكُمُ اللَّهُ}. 6 - {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ ...}. 7 - {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ} وهو يشتمل على عدة أوجه. 8 - {غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ}. وأما الإجمالية فمن وجوه: 1) تعيين مواريث ..... ص 11 وأجاب الجيراجي (¬1) عن هذا الوجه بما مرَّ دفعُه في تفسير {يُوصِيكُمُ اللَّهُ}. 2) أن آية الوصية خاصة .... ص 13 3) أن قسمة العليم الحكيم ... ص 13 وثَمَّ غيرُ ذلك من الدلالات أشرنا إلى بعضها في تفسير الآيات. واستدلَّ الجيراجي (¬2) على بقاء حكم الوصية لقرابته بآية الوصية في ¬

_ (¬1) في "الوراثة في الإِسلام" (ص 4). (¬2) المصدر نفسه (ص 5).

المائدة، وقد بيَّنا بطلانَ استدلاله في تفسير الآية. والله أعلم. وأما السنة فاستدلَّ الجيراجي (¬1) منها بحديث الصحيحين (¬2): "ما حقُّ امرئ له شيءٌ يُوصي فيه يبيتُ ليلةً أو ليلتين إلاّ ووصيته مكتوبة عنده". ولا دليلَ فيه؛ لأن الوصية ليست قاصرة على الوصية التوريثية، بل من المشروع أن يُوصي الإنسانُ بما له وعليه من الديون والحقوق، وعليه يُحمل الحديث. وبحديث ابن ماجه (¬3): "من ماتَ على وصيةٍ مات على سبيلٍ وسنةٍ". وسنده ضعيف، ومع ذلك فلا دليلَ فيه أيضًا. ثم لو فُرِض أنه ثبتَ شيء من السنة ينصُّ على الوصية التوريثية فهو محمول على أنه كان قبل نسخها، فيكون منسوخًا بما نُسِخت به الآية، والله أعلم. أدلة النسخ من السُّنَّة: عن ابن عباس قال: "كان المال للولد، وكانت الوصية للوالدين، فنسخَ الله من ذلك ما أحبَّ، فجعل للذكر مثلَ حظِّ الأنثيين، وجعل للأبوين لكلَّ واحدٍ منهما السدسَ، وجعل للمرأة الثُّمنَ والربعَ، وللزوج الشَّطْرَ والربع" ¬

_ (¬1) "الوراثة في الإِسلام" (ص 2). (¬2) البخاري (2738) ومسلم (1627) عن ابن عمر. (¬3) رقم (2701) عن جابر بن عبد الله. قال البوصيري في الزوائد: في إسناده بقية, وهو مدلِّس. وشيخه يزيد بن عوف لم أر مَن تكلم فيه.

رواه البخاري في "صحيحه" (¬1) من طريق عطاء عن ابن عباس. قال الحافظ في "الفتح" (¬2): وهو موقوف لفظًا، إلاّ أنه في تفسيره إخبارٌ بما كان من الحكم قبل نزول القرآن، فيكون في حكم المرفوع بهذا التقرير ... وقد أخرجه ابن جرير (¬3) من طريق مجاهد بن جبر عن ابن عباس .... وفي "سنن" أبي داود (¬4) من طريق عكرمة عن ابن عباس: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ}، فكانت الوصية لذلك حتى نسختْها آية المواريث. وفي "الدر المنثور" (¬5): وأخرج أبو داود والنحاس معًا في "الناسخ والمنسوخ" وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} قال: كان ولد الرجل يورثونه (¬6)، و {لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} قال: كان الوصية لهما، فنسختْها {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} الآية. وأخرج وكيع وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر ¬

_ (¬1) رقم (2747، 4578، 6739). وقد سبق في أول الرسالة. (¬2) (5/ 372). (¬3) في "تفسيره" (6/ 459). (¬4) رقم (2869). وأخرجه أيضًا البيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 265). (¬5) (2/ 164، 165). والأثر في "الناسخ والمنسوخ" للنحاس (ص 88، 89) و"تفسير ابن أبي حاتم" (1/ 299). (¬6) في "الدر المنثور": "يَرِثونه".

والبيهقي (¬1) عن ابن عمر أنه سُئل عن هذه الآية {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ}، قال: نسختْها آية الميراث. وعن جابر قال: عادني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر في بني سلمة ماشيَيْنِ، فوجدني النبي - صلى الله عليه وسلم - لا أعقِلُ شيئًا، فدعا بماءٍ فتوضأ، ثم رشَّ عليَّ، فأفقتُ، فقلتُ: ما تأمرُ أن أصنع في مالي؟ فنزلت {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} متفق عليه (¬2). وله رواياتٌ قد تقدَّم الإشارةُ إلى بعضها في الكلالة. وفي رواية الإِمام أحمد والنسائي (¬3) من طريق أبي الزبير عن جابر قال: اشتكيتُ، فدخلَ عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: يا رسولَ الله، أُوصِي لأخواتي بالثلث؟ قال: أحسن، قلتُ: بالشَّطْر؟ قال: أحسن. ثم خرج، ثم دخل عليَّ فقال: "لا أراكَ تموتُ في وجعك هذا، إن الله أنزل وبيَّنَ ما لأخواتك، وهو الثلثان". فكان جابر يقول: نزلتْ هذه الآية فيَّ: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ}. فجابر رضي الله عنه أراد أن يوصي بناءً على آية الوصية، ولكنه استشار النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فأنزل الله عزَّ وجلَّ الميراث. ¬

_ (¬1) العزو إليهم في "الدر المنثور" (2/ 165). وانظر "مصنّف" ابن أبي شيبة (11/ 209) و"تفسير" الطبري (3/ 131، 132) و"السنن الكبرى" للبيهقي (6/ 265). (¬2) البخاري (194، 4577) ومسلم (1616). (¬3) "المسند" (14998) و"السنن الكبرى" للنسائي (6324، 7513). وأخرجه أيضًا أبو داود (2887) وإسناده صحيح.

وعن سعد بن أبي وقّاص قال: مرضتُ عامَ الفتح مرضًا أَشْفَيْتُ [منه] على الموت، فأتاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعودني، فقلتُ: يا رسولَ الله، إنّ لي مالاً كثيرًا وليس يَرِثني إلا ابنتي، أفأُوصي بمالي كلِّه؟ قال: لا، قلت: فثُلثَي مالي؟ قال: لا، قلت: فالشطر؟ قال: لا، قلتُ: فالثلث؟ قال: "الثلث، والثلث كثير، إنك أن تَذَرَ ورثتَك أغنياءَ خيرٌ من أن تَذَرَهم عالةً يتكفَّفُون الناسَ" متفق عليه (¬1). فسعدٌ سأل عن الوصية لغير الورثة، ولم يتعرض لذكر الورثة، فلو كان حكم الوصية التوريثية باقيًا لما سكت عن ذلك، ولمَا أقرَّه النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي رواية الترمذي (¬2) عن سعد قال: عادني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا مريض، فقال: "أوصيتَ؟ " قلت: نعم، قال: "بكم؟ " قلت: بمالي كلِّه في سبيل الله، قال: "فما تركت لولدِك؟ " قلت: هم أغنياء بخير، فقال: "أَوصِ بالعُشر" فما زلتُ أناقِصُه حتى قال: "أوصِ بالثلث، والثلث كثير". ففيها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سألَه أوصيتَ، ففهمَ سعد أن المراد الوصية لغير الورثة، كما يدلُّ جوابُه، ولو كانت الوصية للورثة باقيةً لكانت أول ما يتبادر إلى ذهنه. وعن النعمان بن بشير قال: أعطاني أبي عطيةً، فقالت عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تُشْهِدَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فأتى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني أعطيتُ ابني من عمرة بنت رواحة عطيةً، فأمرتْني أن أُشْهِدَك يا رسولَ الله، قال: "أعطيتَ سائرَ ولدِك مثلَ هذا؟ " قال: لا، قال: "فاتقوا الله واعدِلوا بين ¬

_ (¬1) البخاري (6733) ومسلم (1628). (¬2) رقم (975).

أولادكم"، قال: فرجعَ فردَّ عطيتَه. وفي روايةٍ أنه قال: "لا أشهد على جورٍ" متفق عليه (¬1). قال الحافظ في "الفتح" (¬2): تمسَّك به من أوجبَ التسوية في عطية الأولاد، وبه صرَّح البخاري، وهو قول طاوس والثوري وأحمد وإسحاق، وقال به بعض المالكية. ثم المشهور عن هؤلاء أنها باطلة. وإذا امتنع التفضيلُ في حال الصحة في حين لو أعطى المورث أجنبيًّا لجازت عطيته، فكيف في حال المرض حين يُحْجَر على المورث فيما زاد عن الثلث، كما جاء من حديث أبي بكر (¬3) وعلي (¬4)، وسعد بن أبي وقاص وقد تقدم، وابن عمر (¬5) وابن عباس (¬6) ومعاذ (¬7) وأبي هريرة (¬8) وأبي ¬

_ (¬1) البخاري (2587) ومسلم (1623). والرواية الأخرى عند مسلم (1623/ 14). (¬2) (5/ 214). (¬3) أخرجه ابن عدي في "الكامل" (2/ 794). وفي إسناده حفص بن عمر بن ميمون، وهو ضعيف. (¬4) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (11/ 202) موقوفًا عليه. (¬5) أخرجه ابن ماجه (2710). قال البوصيري في "الزوائد": في إسناده مقال؛ لأن صالح بن محمَّد بن يحيى لم أر لأحدٍ فيه كلامًا لا بجرح ولا غيره. ومبارك بن حسان، وثقَّه ابن معين، وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال أبو داود: منكر الحديث. وذكره ابن حبان في الثقات وقال: يخطئ ويخالف. وقال الأزدي: متروك. (¬6) أخرجه البخاري (2743) ومسلم (1629). (¬7) أخرجه الطبراني في "الكبير" (20/ 54) والدارقطني في "السنن" (4/ 150). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (4/ 212): فيه عتبة بن حميد الضبي، وثقَّه ابن حبان وغيره, وضعَّفه أحمد. وفيه أيضًا إسماعيل بن عياش، وهو ضعيف في روايته عن غير أهل بلده. (¬8) أخرجه ابن ماجه (2709). وفي إسناده طلحة بن عمرو الحضرمي، وهو متروك.

الدرداء (¬1) وأبي أمامة (¬2) وشدَّاد بن أوس (¬3) وعمران بن حصين (¬4) وأبي زيد الأنصاري (¬5) وخالد بن عبيد الله السلمي (¬6). وفي بعضها التصريحُ بإبطال الوصية فيما زاد عن الثلث، وذلك فيما رُوي عن عمران بن حصين أن رجلاً أعتق ستةَ مملوكين له عند موته، لم يكن له مالٌ غيرُهم، فدعا بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجزَّأهم أثلاثًا، ثم أقرعَ بينهم، فأعتقَ اثنين وأرقَّ أربعةً، وقال له قولاً شديدًا. رواه مسلم (¬7). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "المسند" (27482) والبزار (1382 - زوائد) والطبراني في "مسند الشاميين" (1484). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (4/ 212): فيه أبو بكر بن أبي مريم، وقد اختلط. (¬2) أخرجه الطبراني في "الأوسط" (8665). قال الهيثمي (4/ 211): "فيه توبة بن نمير [كذا، والصواب: نَمِر]، ولم أجد من ترجمه. وفيه عبد الله بن صالح كاتب الليث، وقد ضُعَّف ووُثَّق. وبقية رجاله ثقات" اهـ. أما توبة بن نمر، فكان فاضلاً عابدًا تولَّى قضاء مصر، كما في "تعجيل المنفعة" (ص 61). وأما عبد الله كاتب الليث فقد تابعه الإِمام الثقة الثبت سعيد بن أبي مريم عند الدارقطني (4/ 234). (¬3) أخرجه الطبراني في "الكبير" (7171). قال الهيثمي (4/ 213): فيه الوليد بن محمَّد الموقري، وهو متروك. (¬4) أخرجه مسلم (1668). (¬5) أخرجه أحمد (22891) وأبو داود (3960) والنسائي في الكبرى (4973). وفي إسناده انقطاع بين أبي قلابة وأبي زيد. (¬6) أخرجه الطبراني في "الكبير" (4129). قال الهيثمي (4/ 212): إسناده حسن. (¬7) رقم (1668).

وفي رواية أبي داود (¬1) أنه - صلى الله عليه وسلم - قال في هذا المعتق: "لو شهدتُه قبلَ أن يُدفَن لم يُدفَنْ في مقابر المسلمين". ومن الحكمة - والله أعلم - في هذا أن الإنسان في حال صحته شحيحٌ، يأملُ طولَ الحياة ويخشى الفقرَ، فاكتفى الشرع بوازعِه الطبعي عن أن يحَجُر عليه، مع أنه إن أعطى لا يُعطي إلاَّ بسببٍ شديد يُجبِره على عصيانِ شُحِّ نفسِه. ولكن هذا بالنسبة إلى الأجانب، فأما بالنسبة إلى ولده فإنه يُؤثِرهم على نفسه، فمنعَ الله عزَّ وجلَّ من تفضيل بعضهم على بعضٍ سدًّا للذريعة. وأما حالة المرض فإن المرء يخِفُّ شُحُّه، ويَضعُفُ أملُه، وكثيرًا ما يكون له هوًى غيرُ مشروعٍ في أجنبي، أو بُغضٌ لوارثه، فيحمله ذلك على إعطاء الأجنبي وحرمان الوارث، وكثيرًا ما يكون لبعض الأجانب عليه حقوق عظيمة لم يتمكن من أدائها حالَ صحتِه، فجعلَ الله عزَّ وجلَّ له الثلث يُوصِي به حيث أراد، مع التصريح بكراهية ذلك في قوله تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا ...} كما تقدم، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "والثلث كثير"، وأحاديث كثيرة في هذا المعنى. عن عمرو بن خارجة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطبَ على ناقته وأنا تحتَ جِرانِها، وهي تَقْصَعُ بجِرَّتها وإنّ لُعابَها يَسِيل بين كَتِفَيَّ، فسمعته يقول: "إن الله قد أعطى كلَّ ذِي حقٍّ حقَّه، فلا وصيةَ لوارِثٍ" رواه الإِمام أحمد والترمذي وحسَّنه، والنسائي وابن ماجه والدارقطني والبيهقي (¬2). ¬

_ (¬1) رقم (3960) من حديث أبي زيد الأنصاري. وأخرجه أيضًا النسائي في "الكبرى" (4973). (¬2) انظر "المسند" (17664، 18081) والترمذي (2121) والنسائي (6/ 247) وابن =

وعن أبي أمامة قال: سمعتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنَّ الله قد أعطى كلَّ ذي حقًّ حقَّه، فلا وصيةَ لوارث". رواه الإِمام أحمد والترمذي وحسَّنه، وأبو داود وابن ماجه (¬1)، وحسَّنه الحافظ ابن حجر أيضًا (¬2). وفي سنده إسماعيل بن عياش، رُمي بالتدليس، ولكنه هنا صرَّح بالتحديث. وغمزه بعض الأئمة، ولكن بيَّن حالَه جماعةٌ من الأئمة أنه إنما يُضعَّف إذا روى عن الحجازيين، قال بعضهم: لأن كتابه عنهم ضاع، فخلّط في حفظه، أما إذا روى عن الشاميين فأكثر الأئمة يُقَوُّون حديثه، ومنهم من يصححه, منهم: الإِمام أحمد وابن معين وابن المديني والفلاَّس والبخاري ويعقوب بن سفيان وصالح بن محمَّد الأسدي والترمذي والنسائي وأبو أحمد الحاكم والبرقي والساجي والدولابي (¬3). وقد رُوِي الحديث موصولاً من أوجهٍ ضعيفةٍ عن علي (¬4) وابن عباس (¬5) وجابر (¬6) وعبد الله بن عمرو (¬7)، ومرسلًا عن مجاهد (¬8) وعطاء ¬

_ = ماجه (2712) والدارقطني (4/ 152) والبيهقي (6/ 264). وفي إسناده شهر بن حوشب وهو ضعيف، ولكن الحديث صحَّ من طرقٍ أخرى. (¬1) انظر "المسند" (22294) والترمذي (2120) وأبو داود (3565) وابن ماجه (2713). (¬2) انظر "فتح الباري" (5/ 372). (¬3) انظر "تهذيب التهذيب" (1/ 322 وما بعدها). (¬4) أخرجه الدارقطني (4/ 97). وفي إسناده يحيى بن أبي أنيسة الجزري وهو ضعيف. (¬5) أخرجه الدارقطني (4/ 98). وفي إسناده عبد الله بن ربيعة مجهول. (¬6) أخرجه الدارقطني (4/ 97). وقال: الصواب مرسل. (¬7) أخرجه الدارقطني (4/ 98). وفي إسناده سهل بن عمار، كذَّبه الحاكم. (¬8) أخرجه الشافعي في "الرسالة" (ص)، وهو ضمن كتاب "الأم" (1/ 60، 61) ط. دار الوفاء.

الخراساني (¬1)، وأما الموقوفات والمقطوعات فكثيرة في هذا الباب. وقد مال الشافعي إلى تواتر حديث "لا وصية لوارث" (¬2). وكثير من العلماء يقول بأن خبر الآحاد ينسخ القرآن، وحجتهم قوية؛ لأن النسخ إنما هو بيان انتهاء مدَّة الحكم، وهذا إنما يعارض دوامه، ودوامه ظنّي، فكيف لا يكفي في معارضته ظنّي؟ على أنك إذا تأملت ما تقدَّم، وتتبَّعتَ المواريث التي قُسِمتْ في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأحوال الصحابة، وأنه لم يُوصِ أحدٌ منهم وصيةً توريثية = علمتَ أن معنى الحديث متواتر. والله أعلم. الإجماع: الإجماع على نسخ حكم الوصية معلوم، فلا حاجةَ لتعداد أسماء ناقليه. والاختلاف في الناسخ لا يلزم منه الاختلاف في النسخ كما لا يخفى. والله أعلم. **** ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني (4/ 98). (¬2) "الرسالة" (ص 140).

(ذوو الفروض) قال (¬1): "جعل الفقهاء أولاد الأم من ذوي الفروض، وألحقوا بني الأعيان والعلات بالعصبة، واستدلُّوا عليه بقول الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً ...} ... ". أقول: قد مرَّ في تفسير هذه الآية ما يُغنِي عن الإعادة. قال (¬2): "فنقول: إن من الأقسام الثلاثة للإخوة والأخوات أولادهم بالميراث بنو الأعيان ثم بنو العلَّات، كما جاء في الحديث: "إنّ أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العلاَّت" (¬3) , لأن قرابة بني الأعيان إلى المورث من جهتي الأب والأم معًا، فهم أقربون (¬4) إليه من بني العلَّات الذين ليس اتصالهم به إلاّ من جهة الأب وحده، وأما أولاد الأم فهم أبعدُ الكلِّ؛ لأنهم ربما لا يكونون من أولاد آباء المورث، بل من عائلاتٍ أخر". أقول: قوله: "فهم أقربون إليه من بني العلّات" يريد به الاستدلال على حَجْبهم لهم بقوله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ}. ولكنه ¬

_ (¬1) "الوراثة في الإِسلام" (ص 8). (¬2) المصدر نفسه (ص 11). (¬3) أخرجه الترمذي (2095) من حديث علي بن أبي طالب. وفي إسناده الحارث الأعور وهو ضعيف. وقال الترمذي: هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث أبى إسحاق عن الحارث عن علي، وقد تكلم بعض أهل الحديث في الحارث. (¬4) وضع المعلمي في الهامش علامة استفهام (؟) على هذه الكلمة؛ لأنها خطأ في العربية.

فسَّر "الأقربين" في الحجب بقوله (¬1): "والمراد بالأقرب أن لا تكون واسطةٌ بينه وبينَ المورث، إما مطلقًا أو كانت لكن انتفتْ قبل وفاة المورث". وسيأتي تمام البحث في الحجب إن شاء الله تعالى. قال (¬2): "فالفقهاء ظلموا الأقرباء؛ لأنهم جعلوا الأباعدَ من أولاد الأم ذوي فرض، والأقربين من بني الأعيان والعلَّات عصبةً، التي لا يُصيبها إلاّ ما بقي بعد ذوي الفروض". أقول: إذا تأملتَ ما قدَّمنا في تفسير الآية علمتَ أن الفقهاء لم يأتوا بشيء من عند أنفسهم، وإنما قبلوا ما جاءهم عن الله عزَّ وجلَّ وآمنوا به. ومع ذلك فندفع شبهته بمعونة الله عزَّ وجلَّ. قد قدَّمنا في تفسير الآيات أن مدار المواريث على أمرين: استحقاق الصلة والتعصيب، وجعل الفروض المعيَّنة بإزاء الأول، وما يبقى بإزاء الثاني، وفصَّلنا هناك بعض التفصيل. ونزيد هنا أن الضرب الأول هم الذين يستحقون المالَ حقيقةً، وأما الضرب الثاني فغاية الأمر أنه إذا لم يكن هناك أحدٌ يستحقُّ المالَ كانوا أولى من غيرهم. فالحاصل أن استحقاق الضرب الأول آكدُ من الضرب الثاني، وقد يكون الشخص الواحد مستحقًّا للصلة ومن العصبة، وهذا قد يكون أضعفَ استحقاقًا ممن هو من الضرب الأول. كان ذلك - والله أعلم - لأنَّ من لم يكن من العصبة فلا يحتمل النقصَ ولا الحرمان، بخلاف مَن كان من ¬

_ (¬1) "الوراثة في الإِسلام" (ص 25). (¬2) المصدر نفسه (ص 12).

العصبة، فإنه يحتمل ذلك, لأنّ من شأنِه المحاماةَ عن مولاه والدفاع عنه بدون التماس مقابل، فينبغي أن يكون من شأنه الحرصُ على أداء الحقوق اللازمة لمولاه ولو من ماله، أعني العصبة، فضلاً عن المسامحة بما يستحقُّه على المولى. ومما يؤيد هذا حكمُ الشرع بدية الخطأ على عاقلة الجاني. ثم إن للأخ من الأم حقًّا آكدَ من حقَّ الأخ للأب، وذلك أولاً من حيثُ كونُه ولدَ الأمّ التي أُمِرْنا بصلتها أكثرَ من الأب، فوردَ: "بِرَّ أمَّك ثمَّ أمَّك ثمَّ أمَّك ثم أباك" (¬1) أو كما قال. ووردَ أن مِن بِرَّ الوالدين بِرَّ القرابة التي كانت قرابةً بواسطتهما، وبِرَّ أهلِ وُدِّهما (¬2). فُضِّلت على الأب [في الميراث] أيضًا، فجُعل فرضها ......... عدم الولد الثلث، وليس للأب إلاّ ما بقي، فنتجَ من ذلك أن تنالَ ضِعفَه إذا كان معهما زوج. وهذا صريح القرآن، وخلاف ذلك خطأ. وسِرُّ المسألة أن الأب جامع بين السببين اللذين أوضحناهما أولَ هذا البحث، أعني استحقاق الصلة والعصوبة، فاستحقاق الصلة غايته السُّدس، ففُرِض له مع الولد خشيةَ أن ينقصَ منه، ولم يُفرَض له مع عدم الولد لأنه لا يَنقُص عنه. وعلى هذا فأخذُه أكثرَ من الأمّ في بعض الصور ليس تفضيلًا له عليها من حيث استحقاق الصلة، وإنما بقي هناك شيء غير مستحق، والعصبة أولى به، والأب أولى عصبةً هنا. وإذا ثبت أن الأم آكد استحقاقًا من الأب، فكذا يكون ولدها بالنسبة إلى ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) أخرجه مسلم (2552) من حديث ابن عمر.

ولده، فأما الأشقَّاء فلأنهم جامعون بين الوجهين: الاستحقاق من حيث الصلة والعصبية، وقد تقدم أولَ البحث أن الجامع بين الوجهين أضعفُ حقًّا من المنفرد بالاستحقاق من حيث الصلة، وبيَّنا حكم ذلك بحمد الله تعالى ... فإن قلت: يستلزم من هذا أن الإخوة للأم إذا كانوا من العصبة بأن كانوا أبناءَ عم مثلاً يفضلوا على الأشقَّاء؟ قلت: كلاّ، فإن العصوبة هنا لا حكم لها؛ لأن ابن العم لا يُعتَدُّ بعصوبته مع وجود الأخ. وثانيًا: الغالب أن الرجل لا يواصل في حياته أخاه لأمه كما ينبغي، بل هو عنده في عداد الأجانب. وثالثًا: يريد الله عزَّ وجلَّ التأليف بين الناس، ولا سيَّما بين أولاد الأم الواحدة، وإنما يتم هذا بأن يعلموا أن لأحدهم حقًّا على الآخر قد يكون آكدَ من حقِّ الشقيقِ، فضلاً عن الأخ لأب، لعلَّهم إذا علموا هذا قوِيَ ارتباطُهم وتمكَّن اتصالُهم، بخلاف الأشقَّاء والإخوة لأبٍ، فإن الارتباط بينهم مألوف، سواء طمعوا في الميراث أم لا. فإن قلت: فلِمَ لم يُفضِّل الأخ لأم على الشقيق، أو الأخ لأب مطلقًا؟ قلت: الأخ لأم له حقٌّ محدود، لا ينبغي أن يُزاد عليه ولا يُنقَص، وهكذا سائر أصحاب الفروض. وأما العاصب فليس له حقٌّ مبتوت، وإنما له ما فضَلَ، فأصحاب الفروض كأصحاب الديون. فلما جاء الإِسلام ..................................................

وبنى المواريث على أصول أخرى يطولُ بيانُها، وإنما نذكر بعون الله عزَّ وجلَّ أمثلةً منها: الزوج: الزوج: مكلَّفٌ بتسليم مَهْر زوجته ونفقتها طولَ حياتها، وحاملُ المشقَّات في التماسِ رضاها، والصبر على عِوَجها وكفرانها، الذي شهد به النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وبهذه الأمور وغيرها جُعِلَ نصيبُه فرضًا لا يسقط بحالٍ. والزوجة تشبه الزوج في بعض الأمور المتقدمة، ولكنها دونه، فجُعِلت على النصف منه مع المحافظة على أن لا تسقط. الأب: الغالب أن يكون ابنه قد بَرَّه وواساه وخَدَمه في حياته بما يستطيع، فلم يكن حقه بمؤكَّدٍ كالزوج، ولكن يكون مؤكَّدًا في الجملة في الأحوال التي يُخشى فيها من سقوط؟ الابن: هو أحقُّ الورثة لأسبابٍ عديدة، ولكن لم يجعل له الله عزَّ وجلَّ فرضًا لأنه آمِنٌ من السقوط. البنت: هي آكدُ حقًّا من الابن لضعفها وعجزها، فلذلك رُجِّحتْ عليه بأن جُعِل لها فرضٌ لا يُنْقَص عنه. ولكن إذا كان لها أخٌ فإنها ترجع عصبةً، وذلك ¬

_ (¬1) كما في الحديث الذي أخرجه البخاري (3331) ومسلم (1468) عن أبي هريرة.

لاشتدادِ ساعدِها وانجبارِ ضعفِها ووهنِها، فصارت في حكم الابن. الأخ: حق الأخ ضعيف؛ إذ ليس مكلَّفًا بشيء مما تقدم، ولكن له حقٌّ في الجملة، فجعله الله عزَّ وجلَّ عاصبًا، أي إذا بقي شيء بعد الحقوق أخذه. أخت: لها حقٌّ آكدُ من حقّ الأخ؛ لأنها تكون في حياتها أحنَى وأشفقَ على أخيها من الأخ على أخيه، وأيضًا هي أنثى ضعيفةٌ تستحق المواساة في الحياة وبعد الوفاة، فلذلك سمَّى لها الله عزَّ وجلَّ فرضًا يُؤْمَنُ من سقوطه، إلاّ إذا كان هناك أبٌ للميت, لأنه أبوها، فوجوده يَشُدُّ من عضدها ويتكفَّلُ بمواساتها، وجَعْلُ المالِ في يده أولى من جعلهِ في يدها. وكذا إذا كان هناك ابنٌ للميت، أولاً لأن حقَّ الابن آكدُ، وثانيًا لأنها عمَّتُه، فهو أيضًا مكلَّفٌ بصلتها ومواساتها. ولم يُحْرَم الزوج مع الأب؛ لأن الزوج لا يبقى صلةٌ بينه وبين أبي زوجته بعد وفاتها, ولم يُحرم الزوج مع الولد, لأنه إن كان ابنه فالأمر ظاهر، وإن كان ابنَ غيره فلأنه لا صلةَ بينهما. فإذا وَرِث مع الأخت أخ شقيق فإنها تُجعَل عصبةً؛ لأنها بوجود شقيقٍ لها انجبر ضعفُها وكسْرُها، فصارت في حكم الأخ. قال (¬1): "ومن نتائجه أن في بعض الأحيان تَرِث أولاد الأم ويُحرَم بنو ¬

_ (¬1) "الوراثة في الإِسلام" (ص 12).

الأعيان والعلاَّت مثلاً" ثم ذكر المسألة المشتركة، ثم قال: "كيف يجوز ..... " (ص 97) (¬1). **** ¬

_ (¬1) بعده بياض في الصفحة في الأصل.

(العصبة)

(العصبة) نبدأ فنسوقُ أدلة القول بالتعصيب، ثم نعطف على اعتراضات الجيراجي إن شاء الله تعالى. قد قدَّمنا أن مدار الوراثة على أمرين: استحقاق الصلة والعصبية، وأن الأول هو مدار الفروض، والثاني مدار ما يبقى. ولنبسط هنا الكلامَ على هذا الأصل وإن وقعَ تكرارٌ لبعض ما تقدم. أَجَلْنا النظرَ في المواريث المبيَّنة في كتاب الله تعالى فإذا هي فروضٌ مقدَّرة وإرثٌ مطلق، بيَّنت السنة ثم اتفقت الأمة أن المراد بإطلاقه أن جميع المال عند عدم الفروض، والباقي بعد الفروض عند وجودها. ثم أَجَلْنا النظرَ في ذوي الفروض، فإذا هم إما إناث وإما رجال، ليسوا من رجال عشيرة المورث الذين يغضبون له ويعصبون حوله، ولم يخرج من ذلك إلاّ الأب عند وجود الولد. وأَجَلْنا النظر في الضرب الآخر، فإذا هم كلهم من عشيرة المورث بلا استثناء، ثم نظرنا فإذا هم إما رجالٌ فقط، وإما رجالٌ مع أخواتهم، ولم يخرج من ذلك إلا الأخوات مع البنات. فتبين لنا أن مدار الفروض على استحقاق الصلة، ومدار ما يبقى على العصبية. ولكن من الورثة مَن يجمع الأمرين، فاقتضت الحكمة في هذا أنه إذا لم يُخشَ من سقوطه لم يُفرض، وذلك الابن والأب عند عدم الولد، وإذا خُشِي سقوطُه فُرِض له، وذلك الأب عند وجود الولد.

ومن الورثة مَن يكون من نساء العصبة، ولها حالات: إحداها: أن لا يكون معها أحدٌ من رجال العصبة ولا من ذوي الحقوق، ففي هذه الحال لها فرض معين بمقتضى استحقاقها، كالبنات والأخوات الشقائق والأخوات لأبٍ، إذا انفرد كلٌّ من ثلاثة الأنواع عما تقدم. الحال الثانية: أن يكون معها ذو حقّ، فلا يخلو أن يكون الاستحقاقان سواءً أو أحدهما أولى، فإن استويا فلكلٍّ فرضُه، ويشتركون، وإن جرَّ ذلك إلى العَول. وإن كان أحدهما أولى فلا بدَّ من تنفيذه، ثم إن كانا من نوع واحد فُرِض للمرجوح ما بقي من استحقاق النوع إن كان، وهذا حال بنت الابن مع البنت، والأخت لأب مع الشقيقة. وإن كانا من نوعين قُدِّم الراجح وما يساويه من الحقوق، فإن بقي شيء فللمرجوح. وهذا حال الأخوات مع البنات. الحال الثالثة: أن يكون معها أحدٌ من رجال العصبة، فإنها في هذه الحال تتقوَّى به، ويشتدُّ جانبها، وينجبر ضعفُها. ثم إن كان ذلك العاصب أضعفَ منها، بحيث إنها تُقدَّم عليه لو كانت ذكرًا، فإن كان لها فرض تناله، فإنها تستوفي فرضَها كاملاً، وهذا كالبنت مع ابن الابن، وكالأخت الشقيقة مع الأخ لأب. وإن لم يكن لها فرض فإنها تكون معه عصبةً، للذكر مثل حظّ الأنثيين، وهذه مسألة التشبيب. وإن كان مساويًا لها فإنها تتحوَّل عن فرضها، وترجع معه عصبةً، للذكر مثل حظّ الأنثيين، كالبنت مع الابن، والشقيقة مع الشقيق، والأخت لأب مع الأخ لأب، وبنت الابن مع ابن الابن.

وإن كان أولى منها فإنه يُسقِطها، وهذا كبنت الابن مع الابن، وبنت ابن الابن مع ابن الابن، وكالأخت مع الأب والابن وابن الابن، وكالأخت لأبٍ مع الشقيق. ويبقى النظر بين الجدّ والأخت: أهما متساويان أم أحدهما أولى من الآخر؟ فتبيَّن لنا أن الإرث المطلق مداره على الرجال من العشيرة، وإنما يكون للنساء بالعرض ولنساءٍ مخصوصات، وهن ذوات الاستحقاق الذي ثبت الفرض لهنّ من حين انفرادهن، أعني البنات والأخوات. ثم نظرنا في التعصيب الأصلي، فإذا هو مرتَّبٌ على الأولوية الذكرية: الابن فالأب فالأخ. ونظرنا في مدارِه - وهي العصبية - فإذا هي ثابتة فيما بعدُ لبني الإخوة والأعمام وبني الأعمام ثبوتًا لا شكَّ فيه، بحيث يكاد يُساوي عصبية الإخوة بالنسبة إلى الأجنبي. ففهمنا من هذا أن السلسلة ستستمر على الترتيب المذكور: الأولوية الذكرية. ونظرنا في مدار الفروض - وهي استحقاق الصلة - فوجدناها قويةً في بنات البنين وضعيفة فيما عداهن، فعلمنا من ذلك أن السلسلة الفرضية مستمرة في بنات البنين على الترتيب، وأما فيما عداهن كبنات الأخ والعمَّات وبنات الأعمام فلا، وإذا لم يكن هؤلاء مستحقاتِ فرضٍ فلا يمكن أن يُشاركن إخوتهن في التعصيب. ونظرنا في الفروض المقدرة فإذا هي مبنية على الاستحقاق كما مرَّ، وكلٌّ من أهلها قد فُرِض له ما يستحقه، ولم يبقَ له حقٌّ في الباقي, لأن المال

إنما يُستَحقُّ باستحقاقِ صلةٍ وقد استوفاها، أو بتعصيبٍ وليس بعصبة، فلا ينبغي أن يُزَاد لذلك المستَحَقّ الذي قد استوفى استحقاقه شيءٌ ما دام هناك عصبة، وذلك في مثل: بنت، ابن عم. هذا مقتضى النظر المستند إلى الأصول القطعية، وجاءت النصوص طِبْقَه، فروى ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أَلْحِقوا الفرائضَ بأهلها، فما بقي فهو لأَولَى رَجلٍ ذكر" متفق عليه (¬1). وفهم منه جماعة أن المراد بالفرائض الفروض المقدَّرة، وعلى هذا التفسير بني الجيراجي اعتراضاتِه في: (1) أم بنت ابن (2) أم بنت أخت أخ (3) بنتان أخت ابن الأخ (¬2) قائلاً: إن هذه الثلاثة الأمثلة تَنقُض هذا الأصل (¬3). فأقول: بل المراد بالفرائض المواريث المبيَّنة في كتاب الله تعالى أو في سنةِ رسولِه غيرِ هذا الحديث، ويدلُّ على ذلك ما في بعض الروايات الصحيحة (¬4): "اقْسِمُوا المالَ بين أهل الفرائض على كتاب الله تبارك وتعالى، فما تركتِ الفرائضُ فلأَولَى رجلٍ ذكرٍ". ¬

_ (¬1) البخاري (6732) ومسلم (1615). (¬2) في الأصل: "أخ". والتصويب من كتاب الجيراجي. (¬3) "الوراثة في الإِسلام" (ص 16، 17). (¬4) عند مسلم (1615/ 4).

وهذا الاستعمال هو المعروف، قال الله عزَّ وجلَّ: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} إلى قوله: {نَصِيبًا مَفْرُوضًا} {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ}. وكثُر في الأحاديث إطلاقُ الفرائض على مطلق المواريث، واتفقت الأمة على تسمية علم المواريث بالفرائض. ثم إن كان اشتقاقها من الفرض بمعنى الإيجاب - أي لأن الله عزَّ وجلَّ أوجبها بعد أن كانت موكولةً إلى اختيار المورث - فظاهرٌ، وكذا إذا كان من الفرض بمعنى الإنزال أو التبيين أو الإعطاء بغير عوض. وإن كان من الفرض بمعنى التقدير والتحديد فلأن جميع المواريث مقدَّرة محدَّدة، إن لم تكن بأحد الكسور الستة فبغيرها، وإن لم تكن بالتصريح فباللزوم، فالابن إذا انفرد فرضُه الجميع، وإذا كان مع زوج فله ثلاثة أرباعٍ، أو مع زوجةٍ فسبعةُ أثمانٍ، وهكذا، وجميعها مقدَّرة محدودة. وعلى هذا فلا تَرِدُ الأمثلةُ التي اعترض بها الجيراجي؛ لأنها كلَّها من الفرائض المبينة في كتاب الله تعالى وسنة رسوله، فدخلتْ تحت قوله: "ألْحِقوا الفرائضَ بأهلها". ففي المثال الثالث ألحقنا الثلثينِ بالبنتين لأنه فرضُهما بنصّ القرآن، وألحقنا الباقي بالأخت لأنه مفروضٌ لها بمقتضى السنة، ولم يبقَ شيء حتى نجعله لأولى رجلٍ ذكرٍ، وهو ابن الأخ. ومع هذا فمَن يقول بالتفسير الأول يُجيب عن تلك الأمثلة بأنها مما خُصِّص فيه عمومُ هذا الحديث، المثال الأول والثاني بالقرآن، والثالث بالسنة، وتخصيص العموم غير مستنكر، فلا معنى لقول الجيراجي: "يقعُ

مباينًا للقرآن ومناقضًا لما أجمع الفقهاء عليه" (¬1) إلاّ أنه يمكن أن يناقش في هذا التخصيص، وكيف كان أولى من عكسه، وغير ذلك. ولا حاجة لبسط الاعتراض والجواب، إذ كان المعنى الأول هو الراجح. وقد تأوَّل الحديث بقوله: "وعندي أنه ليس بحكمٍ كلَّيٍ، بل قضَى به - صلى الله عليه وسلم - في قضيةٍ خاصة ... " (¬2). أقول: أولاً هذا مجرد احتمال ... (ص 94). وسيأتي في الحجب في بحث ميراث الإخوة أدلةٌ أخرى إن شاء الله تعالى. وقد ثبت في الصحيحين (¬3) وغيرهما مطالبةُ العباس رضي الله عنه بميراثه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم ينكر عليه أحدٌ بحجة أن العمّ لا يرث مع البنت، وإنما دفعوه بحجة أخرى، وإجماع الأمة بعد ذلك، والله أعلم. قال الجيراجي (¬4): "ومن أجل اعتبار العصوبة يقع في مسائل الوراثة خلل عظيم نوضّحها (؟) (¬5) بالأمثلة: (1) عشْرُ بنات وابن 210 ولو كان مكان الابن أخت أو أخ أو ابنه لأخذ ثلثَ التركة بالعصوبة، أي ¬

_ (¬1) "الوراثة في الإِسلام" (ص 16). (¬2) المصدر نفسه (ص 16). (¬3) البخاري (6725) ومسلم (1759/ 53) عن عائشة رضي الله عنها. (¬4) "الوراثة في الإِسلام" (ص 15). (¬5) علامة الاستفهام من المعلمي استنكارًا لتأنيث الضمير الذي يرجع إلى المذكر.

ضِعْفَ ما أخذه الابن، فكأن كلاًّ من هؤلاء أكبر وارث (؟) (¬1) عند الفقهاء من ابن المورث". أقول: إن الشرع جعل البنين شيئًا واحدًا، فالابن الواحد والمئة سواء، فلا يصح أن يُفرَد نصيب واحد من جملة العدد ويُوازَن بينه وبين الأخ مثلًا. وقد فرض الله عزَّ وجلَّ للبنات إذا لم يكن ابنٌ الثلثين بنصّ كتابه، وفرضَ إذا كان ابنٌ أن يكون للذكر مثل حَظّ الأنثيين. فهلَّا اعترض الجيراجي على هذين الحكمين، بأنه في مثاله المذكور أخذت البناتُ أكثر من الثلثين مع أنَّ معهنَّ ابنًا، وأنه لو كان بدلَ الابنِ أبٌ لما أخذنَ إلاّ الثلثين. وأيضًا أخذ الابنُ في المثال سدسًا, ولو كان بدلَه أبٌ أخذ ثلثًا. والمقصود أن نقص الابن في المثال إنما جاءه من زيادة نصيب أخواته على الثلثين، فإن كان للجيراجي اعتراض فليعترضْ على هذا. وخذْ مثالاً آخر: ثلاثون بنتًا ابن للابن هنا نصف الثُّمُن، ولو كانت مكانَه زوجةٌ لحازت الثمنَ، أو زوجٌ لحازَ الربعَ، أو أمٌّ لحازت السدسَ، أو أبٌ لحاز الثلثَ. هذا، مع أن نصيب الزوج لا يجاوز النصفَ، والزوجة الربع، أما الأخ فقد يكون نصيبه الكلّ. ثم إن هذا الحكم - أعني كون الأخت أو الأخ أو ابنه يحوز الباقي - ثابت بالأدلة المتقدمة، وسيأتي نصٌّ في الأولين في بحث ميراث الإخوة من الحجب إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) استفهام إنكاري من المعلمي.

قال (¬1): " (2) زوج |أب |أم |ابنان 3|2|2|5 لو كان ههنا مكانَ الابنين بنتانِ لأخذتا ثُلثين من المال، أي أزيد بكثير من الابنين، والله تعالى جعل حظّ الأنثى نصفًا من الذكر". أقول: هذا الاعتراض يحسُن إيرادُه على العَوْل لا على التعصيب, لأنك تُوافِق أن الابنين ليس لهما إلاّ ما بقي، وتُوافِق على أن للبنتين الثلثينِ، وإنما تُخالِف في العَوْل، فتقول: إن نصيب الزوج يخرج من الرأس، ثم تُقسَم التركة على حسب الفرائض فيكون القَسْم عندك على ما يأتي: زوج |أب |أم |ابنان 2|1|1|4 وكذا لو كان بدلَ الابنين ابنتانِ. وسيأتي إن شاء الله تعالى نقضُ اختراعِك هذا، وبيانُ فساده ومخالفتِه لكتاب الله عزَّ وجلَّ، في فصل العَوْل. وإنما نقول هنا: إنّ غاية ما فيه مساواة البنتين والابنين، فأينَ فيه جَعْلُ حظَّ الأنثى نصفًا من الذكر. قال (¬2): "مسألة"، وذكر مسألة التشبيب، وسيأتي الجواب في بحث ميراث الأولاد مع أولاد الأولاد من الحجب إن شاء الله تعالى. **** ¬

_ (¬1) "الوراثة في الإِسلام" (ص 15). (¬2) المصدر نفسه.

(ذوو الأرحام)

(ذوو الأرحام) قال في فصل العصبة (¬1): "والناس كلهم من أولاد آدم عليه السلام، فلا يمكن أن يخلو ميتٌ من عصبة، فذوو الأرحام - الذين يرثون عندهم إذا لم يكن للميت عصبةٌ - لا تصل إليهم التركة أبدًا". أقول: هم لا يريدون بقولهم: "إن ذوي الأرحام لا يرثون إلاّ إذا لم يكن هناك عصبة" انتفاءَ العصبة في نفس الأمر، بل انتفاء العلم بها، وأنت خبير أن الغالب في الناس جهل الأنساب بعد بضعة آباء، فحينئذٍ يكون الغالب الجهل بالعصبة البعيدة. ولا تحسبنّ هذا الحكم خاليًا عن الحكمة، بل الحكمة فيه بيَّنة، وهو أن العصبة إنما يَرِث لمكان العصبية، أعني كونه يغضب للمتوفى، وَيحمي عنه، ويبذل دمه وماله في الذبّ عنه، وطبعًا إن هذا إنما يكون فيمن يعلم أنه عصبته، أعني أنه ابن عمه أو ابن عمّ أبيه مثلاً، فأما عند الجهل فهذا السبب مفقود، فليسقط اعتبار ما بُني عليه من الميراث. ثم استدل بالآيات التي سبق تفسيرها وإبطالُ ما ادَّعى دلالتها عليه، ثم قال (¬2): "وكان عمر رضي الله عنه يتعجب من أن العمة تورث ولا ترث". أقول: تعجبُ عمر من ذلك دليلٌ على أنها لا ترث، وبيانه أنه رضي الله عنه كان إمامًا صارمًا لا تأخذه في الله لومةُ لائم، فما بالُه يتعجب هنا تعجبًا؟ والتعجب إنما يكون عند رؤية شيء عجيب، والعجيب في الأحكام على وجهين: ¬

_ (¬1) "الوراثة في الإِسلام" (ص 14، 15). (¬2) المصدر نفسه (ص 19).

الأول: ما يُعلَم أنه منافٍ للحكمة ومخالفٌ لها. الثاني: ما لم يُدرِك المتعجب حكمتَه مع إيمانه بأن له حكمة. والأول لا يجيء هنا؛ لأن عمر رضي الله عنه كان إمامًا صارمًا لا تأخذه في الحق لومةُ لائم، فلو علم أن هذا الحكم خطأ بأن كان من حكم أبي بكر أو غيره من الصحابة لخالفهم، كما خالفهم في أحكام كثيرة، فإذْ لم يخالف هذا الحكم علمنا أنه يعلم أنه حكم ممن لا يجوز عليه الخطأ، ولا تنبغي مخالفته، فيكون قد علمه من حكم النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم تتبيَّن له حكمته، فكان يتعجب لذلك. ومع هذا فإننا لا نرى عجبًا في هذا الحكم: أولاً: لأننا نقول: إن العمة ترِث في الجملة، وذلك إذا لم يستغرق الفروض ولم يُعلَم العصبة، وهذا كافٍ في المقابلة، كما أن الأخت ترِث من أخيها النصف فرضًا, ولا يرِث منها إلاّ ما أَبْقَت الفروضُ تعصيبًا. وثانيًا: الوراثة ليست مبنيةً على المقابلة، بل على الأسباب، فأيُّ مانعٍ أن يثبت لزيدٍ حقٌّ على عمرو ولا يثبت لعمرو حقٌّ على زيد؟ وهذا واضح هنا، فإن عصبية ابن الأخ لعمتِه ظاهرة بيَّنة، واستحقاقها صلته ضعيف، وانظر هذا المثال: لو أن أخوينِ أحدهما منقطع، والآخر ذو ولد، فلو مات المنقطع لَورِثه ذو الولد، ولو مات ذو الولد لم يكن لذلك المنقطع شيء. وأنت ترى أن فرض الزوج من زوجته ضِعْفُ فرضها منه وفرض الأب من بنته ثُلُثُ فرضِها منه. وإذا جاز الاختلاف زيادةً ونقصًا جاز وجودًا وعدمًا.

وقد تقدم حديث ابن عباس: "ألحِقوا الفرائضَ بأهلها، فما بقي فلأولَى رجلٍ ذكر". وفي "الفتح" (¬1): قال الخطابي: إنما كَرَّر البيانَ في نعتِه بالذكورة ليُعْلَم أن العصبة إذا كان عمًّا أو ابنَ عمًّ مثلاً، وكان معه أختٌ له، أن الأخت لا ترِث، ولا يكون المال بينهما للذكر مثل حظّ الأنثيين. ولا يُعتَرض بأن هذا معلوم من لفظ "ذكر", لأننا نقول: أكَّده لدفع التجوُّز والتغليب، والله أعلم. وقد جاءت أحاديث في نفي ميراث العمة والخالة، انظرها في "تلخيص الحبير" (¬2). وقد ثبت في الصحيحين (¬3) وغيرهما في كتب الحديث والسير والتاريخ مطالبةُ العباس عمِّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بميراثه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يُنقَل البتةَ أن صفيَّة عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طالبت لا هي ولا ورثتُها, ولا ذُكِرتْ في تلك المحاورات، وهي إنما توفيت في خلافة عمر رضي الله عنه. قال (¬4): "ولو رأى الفقه اليوم لازداد عجبًا، فإن فيه ابن البنت يورث ولا يرِث، وأمّ الأمّ ترِث ولا تورث". أقول: هذه صورة واحدة جعلَها صورتين، فإن ابن البنت إنما ترِثه أمُّ أمِّه لا أبو أمَّه. وقد علمتَ الجوابَ مما تقدم، فابن البنت يرث من ميراث ذوي ¬

_ (¬1) (12/ 12). وكلام الخطابي في "أعلام الحديث" (4/ 2289). (¬2) (3/ 94). (¬3) البخاري (6725) ومسلم (1759/ 53) عن عائشة. (¬4) "الوراثة في الإِسلام" (ص 19).

الأرحام، فلا وجه لنفي إرثِه. وسيأتي ما يتعلق بهذا في بحث ميراث أولاد الأولاد من الحجب إن شاء الله تعالى. قال (¬1): "وكذلك ابن الابن مع ابن الميت لا يَرِث عن جدّه، وجدُّه يَرِث عنه". أقول: أما هذه فهي كمسألة الأخوين المنقطع وذي الولد، وقد تقدمت. وسيأتي بَسْط هذا في الحجب إن شاء الله تعالى. (العول) (¬2) ¬

_ (¬1) المصدر نفسه (ص 19). (¬2) بعده بياض في الأصل بمقدار نصف صفحة.

بسم الله الرحمن الرحيم قال الله تبارك وتعالى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11]. قوله: {وَلِأَبَوَيْهِ} أي المتوفى، فيعمُّ كلَّ متوفى كما لا يخفى، وهذا خبر، والظاهر أن مبتدأه محذوف، تقديره: "إرث" أو نحوه. وقدَّره بعضهم "الثلث". وقال بعضهم: المبتدأ هو (¬1) قوله: {السُّدُسُ}، وقوله: {لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا} بدل بعض. وقد رُدَّ هذا القول الأخير وأجيبَ عن الرد كما في "روح المعاني" (¬2). ولا أرى الجواب مُقنِعًا، ثمّ كلٌّ من القولين الأخيرين يقتضي أن الكلام انتهى عند قوله: {إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ}، ثم استأنف ما بعده. والظاهر هو القول الأول، فيكون قوله: {لِكُلِّ وَاحِدٍ} إلى قوله: {أَوْ دَيْنٍ} تفصيل (¬3) لقوله: {وَلِأَبَوَيْهِ} أي إرثٌ. كما أن قوله في أول الآية: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} تقديره على الصواب: "في توريث أولادكم"، ثم فصَّله بما بعده. وقوله: {لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} ظاهر، ¬

_ (¬1) في الأصل: "بعد". سبق قلم. (¬2) (4/ 223 - 224). (¬3) كذا في الأصل مرفوعًا، والوجه النصب.

ومنطوق الآية خاص بحكم الأبوين عند اجتماعهما معًا مع الولد، ويؤخذ منها بمفهوم الموافقة أنه إذا انفرد أحدهما مع الولد فله السدس. أما أنه لا ينقص عنه فلأنه إذا لم ينقص عنه مع وجود الآخر فكذلك عند فقده، إذ لا يُعرف في الفرائض ذَوا فرضٍ ينقص أحدهما عن فرضه بسبب فقدان الآخر. وأما أنه لا يزيد عليه فلأن سبب النقص هو الولد، وهو موجود، فينقص أحدهما كما ينقص كلّ واحدٍ منهما. ويؤخذ منها بمفهوم المخالفة أنه إذا لم يكن ولدٌ فللأبوين حكم آخر. هذا، ومع وجود الولد والأبوين أو أحدهما قد لا يبقى شيء، كأن يكون الولد ذكرًا. وقد يبقى شيء، كبنتٍ وأبوين، أو وأب فقط. وفي هذه الحال قد يكون ذو فرضٍ كأحد الزوجين، فيأخذ فرضه، فإن لم يكن، أو كان وبقي بعد فرضه شيء - كبنتٍ وأبوين فقط يبقى السدس، أو مع زوجة يبقى ربع السدس - فالجمهور أن ما بقي فللأب، يأخذه بحق العصوبة، لحديث الصحيحين وغيرهما عن ابن عباس مرفوعًا: "ألحِقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولَى رجلٍ ذكر". وحُكي عن الإمامية أن الباقي يُردّ على الورثة - أي دون الزوجة فيما يظهر - على حسب سهامهم. وهو خلاف ما دلَّت عليه السُّنَّة ومضى عليه الجمهور. فإن قيل: فإن القرآن وكَّد أن للأب مع الولد السدس، ومفهوم ذلك أنه ليس له غيره. قلت: وكذلك يقال في الرد في صورة أبوين وبنت: قد نصَّ القرآن أن للبنت النصف، وللأبوين السدسان، فمفهوم ذلك أن لا يُزاد أحد منهم. والحق أن نصَّ القرآن إنما هو في الفرض المحتوم، فلا ينافي أن يؤخذ غيره

بغير طريق الفرض تعصيبًا أو ردًّا على ما يقتضي الدليل. ثم بيَّن تعالى ما أجملَه بمفهوم قوله: {إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ}، فقال: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ}. فقوله: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ} أي: وبقية القضية بحالها، وهي اجتماع الأبوين كما هو ظاهر، فقد يستشكل قوله مع ذلك: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ}. والجواب يختلف باختلاف المذهب، أو يختلف باختلافه المذهب. وهنا مذهبان: الأول: مذهب الجمهور أنه إذا لم يكن ولدٌ ولا إخوةٌ، وكان أبوانِ، فللأمّ ثلثُ ما يأخذانِه، فإن لم يكن معهما أحد الزوجين أخذت ثلثَ التركة، وإن كان معهما زوجة أخذت الأمُّ ثلثَ الباقي، وهو الربع، وإن كان بدل الزوجة زوج (¬1) لم يكن للأم إلا السدس. الثاني: مذهب ابن عباس، وهو أن للأم ثلث التركة في الصور الثلاث. فلنبدأ بالجواب الموافق لمذهب ابن عباس فنقول - على فرض التزامنا مذهبَه -: قوله تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} تأكيد، وحَسُن لأنه لو قيل: "فإن لم يكن له ولد فلأمه الثلث" لقال قائل: هذا إذا لم يكن معها أبٌ، زاعمًا أن هذه الجملة مستقلة عما قبلها، فلا يلزم موافقتها لها في كونها في اجتماع الأبوين. ويؤيد قوله بأن هذه لو كان المعْنِيَّ فيها على اجتماع الأبوين لبيَّن حكم الأب، فلما اقتصر على بيان حكم الأمّ دلَّ أن هذه الجملة إنما هي في حكم الأم عند عدم الأب. ¬

_ (¬1) في الأصل: "زوجة" سبق قلم.

فإن قيل: بناء الجملة على ما قبلها ظاهر، ولو قيل: إنها في حكم الأم عند انفرادها عن الأب، رُدَّ ذلك بأن هذا القيد - وهو قولكم: "عند انفرادها عن الأب" - لا دليلَ عليه، فغاية ما هناك أن يكون قوله: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ [وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ] فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} على إطلاقه، فيعُمُّ الحالين معًا، أعني أن يكون معها أب أو لا يكون، والحكم في ذلك صحيح، فإنها إذا كانت أمٌّ ولا ولد فلها الثلث، سواء أكان الأب موجودًا أم لا. وعلى هذا فلا محذورَ من أن يُفهم هذا، بل قد يقال: إن في فهم ذلك زيادة فائدة صحيحة، وعلى هذا فلا مقتضي للتوكيد. وأما سكوته عن بيان نصيب الأب فلا يدلّ على عدم دخوله في الكلام، إذ قد يترك لأن المعنى: أن الباقي له، أو لأن حكمه يختلف. وعلى فرض الإصرار على دعوى الدلالة فلا محذور فيها كما تقدم. فالجواب أن أكثر أهل العلم قامت عندهم شبهاتٌ نظرية ألجأتْهم إلى القول بأنّ فرض الأم مع الأب والزوج السدس، ومع الأب والزوجة الربع. ولا ندري لعله لولا قوله: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} لقالوا: فرضُ الأم مع الأب السدسُ أبدًا. ولعلهم لا يُسلّمون عمومَ قوله لو قيل: "فإن لم يكن له ولد فلأمه الثلث" لحال وجود الأب، بل يخصُّونها بحالِ انفراد الأم، ويُقوُّون ذلك بعدم ذكر ما للأب. ففائدة التأكيد هي دفع تلك الشبهات، وإثبات أن للأم مع الأب عند عدم الولد والإخوة الثلث مطلقًا، أي سواء كان هناك أحد الزوجين أم لا، كما هو مذهب ابن عباس ومَن وافقه. فإن قيل: الذي حملَ الجمهورَ على ما ذكرتم إنما هو استبعاد أن تفضُلَ الأمُّ الأبَ في مسألة أبوين وزوج، وإنما قالوا في أبوين وزوجة أن للأمّ الربع

لما حملوا عليه الآية كما يأتي. والظاهر أنه لو لم يقل: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} لما زادوا على قولهم، وهو أن يكون للأم مثل نصف ما للأب حيث لم يكن ولد ولا إخوة، فلو أريد دفعُ ما قام لديهم من النظر لصرَّح بأن للأم مع الأب الثلث مع وجود الزوج مثلاً. فالجواب أن سنة الله عزَّ وجلَّ في إيراد الحجج الاكتفاء في أكثرها بالتنبيه عليها تنبيهًا كافيًا، لمن حَرَصَ على الحق وأنعمَ النظر ووُفِّق للصواب وما تقتضي الحكمة من ترجيح مقابله في نفسه، وأن يدع مناصًا لمن كان له هوًى أو قصَّر، ومجالاً لما قد تقتضيه الحكمة في بعض الجزئيات من ترجيح الله عزَّ وجلَّ في فهم القاضي خلاف الراجح، لاقتضاء الحكمة ذلك في تلك الجزئية، وهذا موضَّح في موضع آخر. وههنا تنبيه كافٍ، فإن التأكيد بقوله: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} قد دلَّ على شدّة العناية بتثبيت أن الكلام في حال اجتماع الأبوين، وإنما يكون ذلك لما ذكرنا، ثم قد عمَّت الآية الحالين، أعني أن يكون هناك أحد الزوجين أو لا، ونصَّت نصًّا قاطعًا على ذلك في الجملة، فكانت منه صورة قطعية، وهي أن ينفرد الأبوان وليس معهما أحد الزوجين، ولزم من ذلك أن يكون الحكم كذلك عند وجود أحد الزوجين، إذ المعروف في الفرائض أن الوارث إذا نقصَ فرضُه بسبب وارثٍ آخر كان وجوده ناقصًا لذاك باطّراد، كالولد مع الأم أو الأب أو أحد الزوجين ينقُصُهم على كلّ حال، وكالإخوة مع الأم ينقصونها على كل حال، ففي أبوين وأحد الزوجين من ينقص الأم؟ لا يمكن أن يكون الأب، فإنه إذا لم يكن أحد الزوجين لم ينقصها قطعًا, ولا يمكن أن يكون أحد الزوجين لأن أحدهما لا ينقصها عند عدم الأب.

فإن قيل: نختار أن الذي ينقصها الأب، ولكن نقْصَه لها مشروط بوجود أحد الزوجين، كما أنه ينقصها بوجود الإخوة. فالجواب أنه في صورة أبوين وإخوة لم ينقصها الأب، وإنما الذي نقصَها الإخوة، كما ينقصونها عند عدم الأب. فإن قيل: فإن الإخوة لا يرثون مع الأب شيئًا. قلنا: قد نُقِل عن صاحبنا - أعني ابن عباس رضي الله عنه - أن الإخوة مع الأب والأم يأخذون السدس الذي نقصتْه الأم، ولا يلزمه أن يورثهم مع الأب حيث لا أمّ, لأنهم إنما يأخذون ما لو فُرِض عدمُهم لم يأخذه الأب، وهو ذاك السدس الذي نقصته الأم، فإنه لولاهم لكان لها لا للأب. فإن لم نقل به وقلنا: لا يأخذ الإخوة شيئًا، فعنه جوابان: الأول: أنهم نقصوها والأب حجَبَهم. فإن قيل: لا نظير لهذا في الفرائض ..... مذهب الجمهور فلها نظير، وهو الجد مع الأم لا ينقصها عن الثلث مع أحد الزوجين، فإن كان جدٌّ وأمٌّ وإخوةٌ لأمّ نقصَ الإخوةُ أمَّهم إلى السدس وحجبهم الجدُّ. وأما على مذهب صاحبنا - أعني ابن عباس - فلا يجيء هذا السؤال من أصله لما مرَّ أنه يجعل السدس المنقوص للإخوة، فلا يحجبهم الأب والجدُّ عنه. الجواب الثاني: أن ذلك السدس في الاستحقاق لهم، ولكن الأب يأخذه كِفاءَ ما أنفقه أو يُنفقه عليهم، كما قال قتادة: كان أهل العلم يرون أنهم إنما حجبوا أمَّهم من الثلث لأن أباهم يَلِيْ نكاحَهم والنفقةَ عليهم دون أمَّهم. "تفسير ابن جرير" (4/ 174) (¬1). ¬

_ (¬1) (6/ 468) ط. التركي.

فإن قيل: فالإخوة لأمّ ينقصونها السدس ولا يُعطَونه، فكيف يأخذه أبو الميت وهو لا يلي نفقة هؤلاء الإخوة ولا نكاحهم؛ لأن لهم أبًا غيره؟ فالجواب: قد قال الزيدية ومَن وافقهم: إن الإخوة للأم لا ينقصونها، وهذا بعيد، والأولى مذهب صاحبنا أن السدس يكون للإخوة، فإن لم يقْوَ قولُه في الأشقاء أو لأب فهو قوي في بني الأم. فأما على القول بأنهم ينقصونها ولا يعطون شيئًا، فالجواب: أن سبب نقصانها معهم غير سبب نقصانها مع الأشقاء أو لأب. وبيانه: أن بني الأم إن كانوا كبارًا فقد اعتضدتْ بهم أمهم، واستغنت بمعونتهم، فضعُفَ استحقاقُها، وإن كانوا صغارًا فالغالب أن يكون أبو الميت فارقها، فنكحت أباهم وثبتت قدمُها عنده بولادتها له أولادًا، فضعُفَ استحقاقها من ابنها الميت من جهتين: الأول: فراقها لابنه, الثانية: استغناؤها ببعلها الثاني. فإن قيل: فلمن يكون السدس الذي نقصتْه؟ قلنا: هو باقٍ بعد الفرائض، فيأخذه الأب تعصيبًا. فإن قيل: حاصل هذا الجواب أنه لم ينقصها الأب ولا بنوها، وإنما نقَصَها نقْصُ استحقاقها، فيُقْلَب سؤالكم عليكم، فيقال: لو كان نقصُ استحقاقها ينقصُها لنَقَصَها على كل حال. فالجواب: أما في الحكم فنقصَها بنوها، وأما في الحكمة فنقَصَها نقْصُ استحقاقها, ولكنه لا ينضبط، فضبطه الشرع بوجود الإخوة، فيُقتَصر عليه، كما أن أهل العلم يُعلِّلون شرعَ قَصْر الصلاة في السفر بالمشقَّة، قالوا: ولكن المشقّة لا تنضبط، فضبطها الشرع بالسفر المخصوص، وصار الحكم مقصورًا عليه. على أنه لا يلزم فيمن نقصَ وارثًا عن فرضه أن يكون ذلك

فصل

المنقوص له، ألا ترى إلى مسألة بنت وأم وعصبة، فالبنت تنقص الأم السدس، ولا يكون ذاك السدس لها، بل لو استوفت الأمُّ الثلث لما نقصَ على البنت شيء. فالبنت نقَصَت الأمَّ، والعصبة أخذ. فإن قيل: لكنها تظهر الفائدة إذا كثر الورثة، كبنات وزوج وأم، لو كمل للزوج النصف وللأم الثلث لعالت المسألة، فيكون أصلها ستة وتعول إلى تسعة، فينقص نصيب البنات؛ إذ يكون لهن ثمانية من ثمانية عشر، وبالنقصان صار لهن ثمانية من ثلاثة عشر. قلنا: أما على رأي صاحبنا - أعني ابن عباس - فلا عول، وأما على رأي الجمهور فلو كان الأصل الذي نفيناه معتبرًا لاقتصر به على ما إذا لزم العول، ولا عول في المسألة التي فرضناها، وهي: بنت وأم وعصبة. فإن قيل: إن الأب يحجب الإخوة، والإخوة ينقصون الأم، فيلزم أن يكون الأب ينقص الأم, لأنه إذا حجب من ينقصها فلأن ينقصها هو أولى. قلنا: هذا منقوض بمسألة الأبوين عند انفرادهما، وبالجدّ يحجب الإخوة لأم، ولا ينقص الأم إذا انفرد معها، أو كان معهما أحد الزوجين والله الموفّق. فصل وأما على مذهب الجمهور فإذا التزمناه قلنا: ما تقدم من الجواب الموافق لمذهب ابن عباس حاصلُه أن قوله تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} تأكيد، وله عندنا محامل أخرى يكون لكلًّ منها تأسيسًا، والتأسيس أولى من التأكيد، وبذلك يندفع الإشكالُ البتةَ، وهاك المحامل:

الأول: أن قوله: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} توطئة لما بعده، ليُفهم أن المراد بقوله: {فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} الثلثُ مما وَرِثاه، ولولا قوله: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} لما فُهِم ذلك. أقول: هذا القول بعيد. أولاً: لأن المطَّرد في الأنصباء التي تُذكَر في الفرائض في الكتاب والسنة أنها منسوبة إلى أصل التركة، وليس في قوله: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} ما يَصْرِف عن ذلك، غاية الأمر أن يقال: لو لم يقصد به ذلك لكان فضلاً أو تأكيدًا على ما تقدم، والتأسيس أولى منه. وأقول: التأكيد الواضح أولى من هذا التأسيس الذي لا يفهمه أحد، ولولا أن صاحب هذا القول اعتقدَ أن للأم ثلث الباقي - حيثُ كانت مع الأب وأحد الزوجين - لما وقعَ له هذا الفهم. وقاعدة "التأسيس أولى من التأكيد" محلُّها حيث يتعادل الاحتمالان، فأما حيث يكون احتمالُ التأسيس تعسُّفًا واحتمالُ التأكيد ظاهرًا فالتأكيد أولى. المحمل الثاني: أن المراد بقوله: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} أن يَرِثاه فقط، بأن لا يكون معهما وارثٌ آخر، قالوا: والحصر مأخوذ من التخصيص الذكري كما تدلُّ عليه الفحوى. أقول: لا شكَّ أن التخصيص الذكري قد يفيد الحصر، ولكنَّ محلَّ ذلك حيث يكون المقام مقتضيًا للاستيعاب، كأن يقال: مَن ورِثَ زيدًا؟ أو أخبِرْني بمن ورث زيدًا، فيقال: ورثه أبواه، فإن الاستخبار ههنا عامٌّ عن جميع الورثة، والأصل أن يكون الجواب مطابقًا للسؤال، فيظهر بذلك أن الجواب مستغرقٌ لجميع الورثة. غاية الأمران يقال: لو لم يقصد بقوله: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} الحصر لكان فضلاً أو تأكيدًا، وقد تقدم الجواب عنه.

المحمل الثالث - ولم أرَ مَن تعرَّض له -: أن الإرث إذا أُطلِق في القرآن ولم يُبيَّن النصيب فالمعنى على أنه تعصيب، قال تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11]، فلم يبيَّن كم لهم لأنهم عصبة، ثمَّ بيَّن حكم البنات إذا انفردنَ وسمَّى نصيبهن, لأنهنَّ ذوات فرضٍ. وقال تعالى في الأخ وأخته: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176]، فلم يُسمِّ له نصيبًا لأنه عصبة. إذا تقرر هذا فنقول: قال تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} ولم يُسمَّ لهما نصيبًا، فالمعنى أنهما عصبة، وإذا كانا عصبةً فقاعدة العصبة أن للذكر مثلَا (¬1) حظّ الأنثى. وأما قوله بعدُ: {فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} فالمراد ثلث التركة كما هو ظاهر، ولكن قد دلَّ كونهما عصبة على أن هذا إنما يكون حيث يبقى للأب مِثلَا ذلك، وذلك إذا لم يكن معهم أحد الزوجين. ودلَّ ذلك أنه إذا كان معهما أحد الزوجين كان الباقي بينهما، له سهمان ولها سهم. أقول: الظاهر أن القاعدة صحيحة، ولكن بناء قوله تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} عليها على النهج المذكور ليس هناك, لأنه قد سمَّى نصيبَ الأم، فلم يبقَ إلاّ أن يكون الأب عصبةً، وهو متفق عليه، ولا يفيد ما تقدم. نعم، قد يقال: إنما سمَّى نصيبَ الأمّ بعد أن استقر أنها عصبة، وذلك أنه قال: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ}، ولم يُسمَّ إرثهما معًا، فثبت بمقتضى القاعدة أنهما عصبة، ولا ينقضه تسميةُ نصيب الأمّ بعد ذلك. ¬

_ (¬1) الوجه: "مثلَي" منصوبًا.

وفيه نظر، إذ يقال: لم يقصد بقوله: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} إثبات إرثهما ولا بيان مالهما، وإنما المقصود به بيان وجودهما معه، كقوله: {وَلَهُ أُخْتٌ} من قوله: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ} إلاّ أنه قد يُخدَش في هذا بأنه لو كان هذا هو المقصود لقيل: "وله أبوان" مع أن وجود الأبوين معروف في الكلام بدون هذه الزيادة كما تقدم، وقد يُجاب عن هذا بأنه إنما عدل عن قوله: "وله أبوان" لأن التعبير بقوله: "وله كذا" إنما يَحسُن فيما قد يكون وقد لا يكون، كالولد والإخوة، فأما الأبوان فكلُّ إنسانٍ غير آدم وحواء وعيسى له أبوان. وقد يُخدَش في هذا بأنه حيث جاء في آيات الفرائض "وله ولد" "وله إخوة" المقصود منها وجود من ذُكِرَ حيًّا غيرَ ممنوعٍ من الإرث، فلو قيل: "وله أبوان" لكان: وله أبوان حيَّان غير ممنوعَيْنِ، وهذا صحيح في حقّ كل إنسان. وقد يُجاب بأن الأمر كذلك، ولكن الصورة الظاهرة من قوله: "وله أبوان" قد تُوهِم أن من الناس مَن ليس له أبوان مطلقًا، وهذا مما تقتضي البلاغة اجتنابه. بلى، قد يقال: المعنيانِ محتملانِ، أن يكون المعنى: "وله أبوان"، أو يكون: "وورثه أبواه جميعَ ماله"، أو غير ذلك، ولم يُسمَع بما ذكرنا. وإذا كان الأمر كذلك فالتأسيس أولى من التأكيد. أقول: على كل حال، ليس هذا المحملُ بذاك، والله أعلم. المحمل الرابع - ولم أرَ مَن تعرَّض له أيضًا -: "ورث" ونحوه مما اشتقّ من الإرث قد يُعدَّى إلى المال ونحوه مما كان للموروث منه بدون ذكر

الموروث منه، وهذا هو الغالب في القرآن، كقوله تعالى: {أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}، وقوله: {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ} وغير ذلك في نحو عشرين موضعًا من القرآن، ومنه في قول أكثر المفسرين من الصحابة وغيرهم وعليه سبب النزول قوله تعالى: {لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا}، ففي "صحيح البخاري" (¬1) وغيره عن ابن عباس: "كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحقَّ بامرأته، إن شاء بعضهم تزوَّجَها، وإن شاءوا زوَّجوها، وإن شاءوا لم يُزوِّجوها، وهم أحقُّ بها من أهلها، فنزلت هذه الآيات". فالحاصل أنهم كانوا يَعدُّون امرأة المتوفَّى من جملة تركتِه، فحكمها عندهم حكم المال، يَرِثونها كما يرثون المال. وقد يُعدَّى إلى الموروث منه فقط، فيعدَّى إليه تارةً بنفسه وتارةً بـ "مِن"، كقوله تعالى فيما قصَّه عن زكريا: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم: 5، 6]. وقد يُعدَّى بـ "عن"، كقول عمرو بن كلثوم (¬2): وَرِثنا المجدَ عن آباءِ صدقٍ ... ونُورِثُه إذا مِتْنا بَنِينا وقد يُعدَّى إلى الاثنين معًا، قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} إلى قوله: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا} [مريم: 77 - 80]. ¬

_ (¬1) رقم (4579). وأخرجه أيضًا أبو داود (2089) والنسائي في "الكبرى" (11094) والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 138) وغيرهم. (¬2) في معلقته, انظر "شرح المعلقات" للزوزني (ص 132).

والمعروف بين أهل اللغة وغيرهم أن حقَّه أن يتعدى إلى مفعولين، الأول: مَن كان له المال أو نحوه، الثاني: المال أو نحوه، على حدّ قوله تعالى: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} أي: ونرِثه مالَه وولده، ولكنه قد يُترك ذِكْر أحد المفعولين لعلَّةٍ تقتضي ذلك، ولم يُفرِّقوا بين وَرِثتُه ووَرِثتُ منه ووَرِثتُ عنه. هذا هو المعروف عنهم، ولكننا نُدرِك بذوقنا أن قولك: "ورثَ زيدًا أبواه" يدلُّ على إحاطتهما بإرثه، وأنه إذا أُرِيد خلافُ ذلك قيل: "ورِثَ منه أبواه"، ونُدرِك ذلك في قولِ زكريا: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} وأنه أراد: يرِثني كل ما هو لي أي من العلم والإمامة في الدين ونحو ذلك، وَيرِث بعضَ ما كان لآل يعقوب. ثم وجدتُ أهل العلم قد أدركوا ذلك في الجملة، ففي "فتح الباري" (¬1) - كتاب الفرائض: باب {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} -: وقال السهيلي: ومن العجب أن الكلالة في الآية الأولى من النساء لا يرِث فيها الإخوة مع البنت، مع أنه لم يقع فيها التقييد بقوله: "ليس له ولد"، وقيَّد به في الآية الثانية مع أن الأخت فيها ورثتْ مع البنت. والحكمة فيها أن الأولى عبّر فيها بقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ}، فإن مقتضاه الإحاطة بجميع المال، فأغنى لفظُ "يُورَث" عن القيد، ومثله قوله تعالى: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} أي يُحيط بميراثها. وأما الآية الثانية فالمراد بالولد فيها الذكر كما تقدم تقريره، ولم يُعبَّر فيها بلفظ "يورث"، فلذلك ورثت الأخت مع البنت. ¬

_ (¬1) (12/ 26). وقول السهيلي في كتاب "الفرائض وشرح آيات الوصية" (ص 74، 75).

أقول: وتقرر في قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً} أن الكلالة مصدر بمعنى القرابة بغير الأصلية والفرعية، ويُطلق على الأقارب بغير الأصلية والفرعية، فكأنه قيل: "وإن كان رجلٌ يرثه ذوو كلالة" أو "يرثه كلالة". وهذا لفظ الآية: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12]. فيقال: المراد بالإخوة هنا الإخوة لأم كما قُرِئ به وأُجمِع عليه، وفي القرآن المتلو (¬1) دلالةٌ عليه كما هو معروف في موضعه، فإذا كان المعنى "يرثه ذوو كلالة" فليس فيه تعرضٌ لعدم البنت, لأن ذوي الكلالة قد يرثون معها. وإذا كان كذلك فالآية تعمُّ مَن لم يكن له بنت ومن كانت له بنت, لأن الكلالة اسم للقرابة المذكورة أو ذويها على كل حال، حتى مع وجود الولد والوالد، مع أن الأخوة لأم تحجبهم البنت، فقد كانت هذه الآية أحقَّ بأن يُقيَّد فيها بعد الولد. والجواب أن معنى {يُورَثُ كَلَالَةً} أي يرثه كلالة أو ذوو كلالة، ومعنى يرثه هؤلاء: يحيطون بميراثه، وإنما يحيطون بميراثه إذا لم يكن وارث غيرهم. وأما الآية الثانية فلفظها: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ ¬

_ (¬1) في الأصل: "المدلو".

الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [خاتمة النساء]. والكلام عليها يطول، والمقصود هنا أمران: الأول: أنه قال فيها: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ}، وهو يعمُّ كلَّ هالك، لا يخصُّ من يحيط ذوو الكلالة بإرثه، كما كان في الآية الأولى، فلهذا قيّدها بقوله: {لَيْسَ لَهُ وَلَد}. وأما ميراث الأخوات مع البنات فهو على وجه التعصيب، وهو غير الإرث المذكور في الآية، إذ المذكور فيها الفرض. الثاني: قوله: {وَهُوَ يَرِثُهَا}، وقد قال السهيلي: إنه على الإحاطة، ووافقه غيره. قال أبو السعود (¬1): فالمراد بإرثه لها إحراز جميع مالها، إذ هو المشروط بانتفاء الولد بالكلية، لا إرثه لها في الجملة، فإنه يتحقق مع وجود بنتها. أقول: وفيه نظر؛ لأن الإحاطة يَمنعُ منها أيضًا غيرُ البنت، كالزوج والأم والإخوة لأم. فالأَولى - إذا ثبت أن قولنا: "وَرِث زيدٌ عمرًا" يقتضي الإحاطة - أن يقال: هذا هو الأصل، وقد يُتوسَّع فيُطلَق في ما يقارب الإحاطة، وهو إرث العصبة، فإنه يحيط بالمال إذا انفرد، وكونه ليس له نصيب معيَّن يقتضي إطلاقَ إرثه، على ما تقدم في المحمل الثالث. هذا، وقد تُوجَّه دلالة "وَرِث فلانٌ فلانًا" على الإحاطة بأربعة أوجه: الأول: أن يقال: إن الذوق وكثرة الاستعمال ومواقعه يدلُّ أن حقَّ الإرث أن يُعدَّى فعلُه بنفسه إلى المال ونحوه، وأن يُعدَّى إلى من كان له ¬

_ (¬1) في تفسيره "إرشاد العقل السليم" (2/ 264).

المال ونحوه بـ "عن" أو "من" الابتدائية. وإنما يقال: "ورِثَ فلان فلانًا" على حذفِ مضافٍ، والتقدير في ميراث المال: ورِثَ فلانٌ مالَ فلانٍ. وإذا كان التقدير ذلك فالإحاطة واضحة، لا لعموم الإضافة فحسب، بل لأن الحكم المفرد بما لا يقل شموله لجميع أجزائه يقتضي العموم فيها، كما في: اشتريتُ عبدًا أو دارًا، أو العبد والدار، أو هذا العبد وهذه الدار، فإنما هذا الكلام يدلُّ على شمول الشراء لجميع العبد والدار، فأما حيثُ يقلُّ الشمول أو يندر أو يمتنع مثل ضربتُ زيدًا، فإنه لا يُفهم منه الشمول، ولكن صرَّح ابن جني وغيره بأنه مجاز، أي وقرينته العادة، وناقش فيه بعض الأجلّة مع عدم إنكاره أن نحو اشتريت عبدًا أو دارًا يدلُّ على العموم. فإن قيل: لو كان التقدير في ورثتُ زيدًا: ورثتُ مالَ زيدٍ، لما صحَّ ورثتُ زيدًا مالاً، وقد قال تعالى: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ}، ونحو ذلك وارد في كلامهم. فالجواب: أنه قد يكون بتضمين "ورث" معنى فعلٍ آخر، مثل سلب، وذلك ظاهر في قوله تعالى: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ}، وقد يكون "مالاً" في "ورثتُ زيدًا مالاً" بدلاً لا مفعولاً ثانيًا، وقد يكون "زيدًا" منصوبًا بنزع الخافض، والأصل: ورثتُ من زيد مالاً. فإن قيل: فإذا كان "ورث" أن لا يتعدى إلى زيد مثلاً بنفسه، فكيف يُعدَّى إليه؟ قلت: بـ "عن" أو "من" الابتدائية. فإن قيل: سبق لك في الكلام عن قول زكريا: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} ما يقتضي أنها تبعيضية.

قلت: ذاك الظاهر هناك، وكان أصل الكلام: "ويَرِث مِن ما هو لآل يعقوب". وعلى هذا فإذا عدِّي بـ "من" فالظاهر أنها تبعيضية والكلام على حذف مضاف، ويحتمل أنها ابتدائية. الوجه الثاني: أن يكون الأصل "ورثتُ مالَ زيدٍ" أيضًا, ولكن نزَّلتَ تملُّكَك مالَ زيدٍ كلّه منزلةَ تملُّكِك زيدًا نفسه. وهذا قريب من الذي قبله. الوجه الثالث: أن يكون الأمر كما جرى عليه أهل اللغة أن "ورِث" يتعدى إلى مفعولين، ولكن إذا لم يذكر الثاني دلَّ على شمول الإرث لجميع ما كان للموروث منه, لأن حذف المعمول يُؤذن بالعموم كما صرَّحوا به. الرابع: أن يُدَّعى أن مادة الإرث تقتضي الإحاطة وضعًا، كما يدلُّ عليه التبادر عندما يقال: ورثَ فلانًا أبواه، ونحو ذلك. وتدلُّ عليه الشواهد المتقدمة وغيرها. فإن قيل: أما الوجهان الأولان فيكفي في ردِّهما مخالفتهما لما عليه أهل العربية وغيرهم، من أن "ورِث" يتعدى بنفسه إلى مفعولين. وأما الثالث فقولهم: "حذف المعمول يُؤذِن بالعموم" ليس على إطلاقه، وإنما محلُّه حيث يكون المقام مقامَ ذكر المعمول لو كان خاصًّا، كقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ} [يونس: 25] ونحو ذلك، وقولُه في الآية: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} ليس كذلك، والكلام على نحو ما تقدم في المحمل الثالث. وأما الوجه الرابع فلا نُسلِّم التبادر، وإن سلَّمناه فلنا أن نقول: لعل ذلك لوجهٍ آخر، لا لأن الوضع من أصله يقتضي الإحاطة، وكذلك يقال في الشواهد. فالجواب: أنه يجوز أن يكون المصرّحون بأن "ورِث" ينصب مفعولين

بنوا على الظاهر في نحو {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ}، ولم يراعوا صلب المعنى، ودخول قوله: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} في قاعدة حذف المعمول قد سبق الكلام فيه في المحمل الثالث. ومَنْعُكم الرابع مع تسليم التبادر لا يضرُّنا، فإن مقصودنا أن قول القائل: "ورِث زيدًا أبواه" تُفهَم منه الإحاطة، وهذا أمرٌ ندركه بذوقنا العربي، وكلُّ ممارسٍ للعربية حقَّ الممارسة لا بدَّ أن يجده كما وجدناه. فإن صحت الأوجه المذكورة أو بعضها فذاك، وإلاّ كفانا الفهم. ثم إننا قد أثبتنا أن غيرنا ممن تقدم قد فهم ذلك كما فهمناه، وأوضحُ من ذلك أن الصحابة وعامة علماء الأمة فهموا من قوله تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} نحو ما فهمنا, ولم يصحّ خلافُ أحدٍ منهم غير ابن عباس، مع أنه لم يدَّعِ في دلالة الآية خلافَ ذلك، فقد صحَّ عن مولاه عكرمة قال (¬1): [أرسلني ابن عباس إلى زيد بن ثابت أسألُه عن زوج وأبوين، فقال زيد: للزوج النصف، وللأم ثلث ما بقي، وللأب بقية المال. فأرسل إليه ابن عباس: أفي كتاب الله تجد هذا؟ قال: لا, ولكن أكره أن أفضِّل أمًّا على أب. قال: وكان ابن عباس يُعطي الأمَّ الثلث من جميع المال]. وهذا فصل الخطاب في الآية، فإن زيدًا - وهو أفرضُ الأمة - وابن عباس - وهو حبر الأمة، وهو المخالف في المسألة - اعترفا بأنه ليس في كتاب الله تعالى حجةٌ على بيان نصيب الأمّ في الغرَّاوينِ، وأنهما إنما قالا بالرأي. ومعنى ذلك أن الآية محتملةٌ عندهما للمعنيين، فقوله تعالى: ¬

_ (¬1) لم يذكر النص في الأصل. وراجع له "مصنف عبد الرزاق" (19020) و"السنن الكبرى" للبيهقي (6/ 228).

{وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} يحتمل أن يكون بمعنى: "وله أبوانِ" على ما قدَّمنا على مذهب ابن عباس، ويحتمل أن يكون على معنى الإحاطة بالتركة، أو غيره من المحامل التي تقدمت على مذهب الجمهور، فرجعا إلى النظر، فاقتضى نظر ابن عباس ما رجَّح عنده المعنى الأول، واقتضى نظرُ غيره ما رجَّح عندهم المعنى الثاني، فعلينا أن نتدبَّر جهتَي النظر. أما نظر ابن عباس فالظاهر أنه ما قدمناه من أن المعهود في الفرائض أن من نقصَ وارثًا نقصَه على كل حال، فلو كان الأب ينقُصُ الأمَّ لنَقَصَها على كل حال، وقد ثبت أنه لا ينقُصُها إذا لم يكن ولدٌ ولا إخوة ولا أحد الزوجين، فلا ينقُصُها في غير ذلك. وأما نقصُها مع الإخوة فإنما نقَصَها الإخوة، وهم ينقصُونها على كل حالٍ كما تقدم. وأما نظر الجمهور فأشار إليه زيد بن ثابت بقوله: "لا أُفضِّلُ أمًّا على أبٍ". وبيانه أنه في المسألة المنصوصة والمتفق عليها نجد الأب إما مساويًا للأم وإما زائدًا عليها، فمع الولد الذكر ومع البنتين لكل من الأبوين السدس، ومع البنت الواحدة للأمّ السدس وللأب الثلث. وكذلك الحال مع أولاد الابن. وعند انفراد الأبوين للأم الثلث وللأب الثلثان، وعند انفرادهما مع إخوة للأم السدس وللأب الباقي. فالمعهود في الفرائض أن لا تفضل الأم على الأب، وقد ثبت أنه لا تَفْضُلُه في غير الغرَّاوينِ، فلا تفضُلُه فيهما. فهذان نظرانِ متعارضان، وقد يُرجَّح نظر ابن عباس بأوجهٍ: الأول: أن استحقاق الأم آكَدُ؛ لأن تعبَها في شأن الولد أشدّ.

الثاني: أن بِرَّها آكَدُ، ففي الحديث الصحيح (¬1): "بِرَّ أمَّك ثمَّ أمَّك ثمَّ أمَّك، ثم أباك"، فجعل للأم ثلاثة حقوق من البر، وللأب واحدًا. الثالث: أن الأم ذات فرض، والأب عصبة، ومن شأن صاحب الفرض أن يلزم فرضه، والعصبة يختلف حاله زيادةً ونقصًا، فيأخذ جميعَ المال تارةً، ولا يبقى له إلا شيء يسيرٌ تارةً، ولا يبقى له شيء أخرى، كالأخ الشقيق يأخذ جميع المال إذا انفرد، ولا يبقى له إلا نصفُ السُّدُس مع بنت وأم وزوج، ولا يبقى له شيء مع بنتين وأم وزوج. وقد يُخدَش في هذه الأوجه: أما الأول: فإن الأب يتعب في السعي على الأم والولد معًا، فقد تعب في تحصيل مهر الأم وفي إسكانها والإنفاق عليها وإخدامِها وحفظِها وغير ذلك، ثم في شأن الولد وتأديبه والإنفاق عليه وتزويجه. وأما الثاني: فقد يقال: إن تأكيد الأمر ببرِّ الأمّ ليس هو لكونه آكَدَ من برِّ الأب، وإنما هو لأنه مظنَّة الإهمال، فإن الولد يحترم أباه لعلمِه بمزيَّتِه عليه في العقل غالبًا، ولاحتياجه إليه في مصالح دنياه، وخوف ملامة الناس، وقد يتهاون بأمر أمِّه، يقول: إنما هي امرأة ضعيفة العقل، ولا يحتاج إليها غالبًا، ويكثُر أو يغلب أن يقع بينها النزاع وبين زوجته وأن تتعنَّت في ذلك. وأما الثالث: فإن الأب ذو فرضٍ كالأم، وإنما لم يُسَمَّ له فرضٌ مع عدم الولد لأن الفرائض قد رُتَّبتْ ترتيبًا يُعلَم منه أنه لا ينقص فيه بل يزيد، كما هو الحال في الابن، فلم يُسَمَّ له فرضٌ بل جُعِل عصبةً، ولكن جُعِل ناقصًا لكثير ¬

_ (¬1) البخاري (5971) ومسلم (2548) عن أبي هريرة نحوه.

فصل

من الورثة، فغاية ما ينقص في زوج وأبوين، يبقى له النصف إلاّ نصف السدس. ثمَّ يُرجَّح نظرُ الجمهور بأوجهٍ: الأول: أنه نظر في حال الأبوين أنفسهما، فقاس ما اشتبه من أمرهما على ما تبيَّن، فهو ألصقُ بمحلِّ النزاع من النظر الآخر الذي نظر في حال الورثة إجمالاً. الوجه الثاني: أن المعنى فيه ظاهر، وهو أنه دلَّ على أن استحقاق الأب للمال لا ينقص عن استحقاق الأم، بل يزيد عليها غالبًا. الثالث: أن الأب وإن لم يتحقق أنه ينقص الأمَّ كما ينقص الولد، لكنه مظنة ذلك، بدليل أنه في مسألة أبوين وإخوة تأخذ الأم السدس، ويأخذ هو الباقي. والجواب عن هذا بما تقدم لا يدفع الترجيح به. الرابع: أن الأم مظنَّة أن تكون مع الابن عصبةً أو شبيهةً بالعصبة، وتحقُّقُ أنها ليست كذلك في بعض الصور لا يدفع أن تكون كذلك في غيرها، كما قالوه في: بنتين وبنتِ ابنٍ وابنِ ابنِ ابنٍ، أن بنت الابن تكون عصبة مع ابنِ ابنِ أخيها, ولا تكون عصبةً معه في: بنت وبنت ابن وابنِ ابنِ ابنٍ. فصل أما أنا فالذي ترجح عندي هو نظر الجمهور، وعليه فيختصُّ منطوق الآية بما إذا أحاط أبواه بميراثه، وتدلُّ بمفهومها على أنه إذا كان معهما أحد الزوجين فليس للأم الثلث، وأقرب ما يُحمل عليه أن يكون للأبوين الباقي: له سهمان ولها سهم كما هو مذهب الجمهور، فأما من قال: إن لها في أبوين

وزوجٍ السدس، وفي أبوين وزوجة الثلث، فليس قوله بشيء؛ لأنه اعتمد على النظر من حيث هو، وخرج عن الآية بمعنيَيْها، والصواب إنما هو أن يجعل النظر مرجِّحًا لأحد المعنيين في الآية، ثم يُعمَل بالمعنى الراجح. والله أعلم. ثم قيَّد سبحانه وتعالى ما أطلق أولاً من أن الأبوين إذا أحاطا بالميراث كان للأمّ الثلث بقوله: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ}، وفي كلمة "إخوة" أبحاث: الأول: أنها جمع، ورُوي عن ابن عباس أنه قال لعثمان: فالأخوانِ بلسان قومك ليسا بإخوة، فقال عثمان: لا أستطيع أن أردّ ما كان قبلي، ومضى في الأمصار، وتوارث به الناس. وسُئل عنها زيد بن ثابت فقال: "إن العرب تسمِّي الأخوين إخوة". راجع "سنن" البيهقي (6/ 227). والذي يظهر من هذين الأثرين أن من العرب مَن يُطلق على الأخوينِ "إخوة"، فإن قول ابن عباس لعثمان: "في لسان قومك" يُفهِم بأن من العرب مَن يقول للأخوينِ إخوة، وإلاّ لما خصّ ابن عباس لسانَ قريش، بل يقول: الأخوان ليسا إخوة. فإن قيل: لعله أراد بقومه العرب. قلت: هذا بعيد جدًّا، فإن القوم لم يكونوا يعرفون غير العربية، ولا يُتوهَّم أن يراعوا العجمية فيحملوا القرآن عليها دون العربية. ومع بُعْدِ هذا فلو كان المرادَ لكان الظاهر أن يقال: "في لسان العرب". وقد أكدَّ هذا ما رُوِي عن زيد، فإنه أثبت أن العرب تُسمَّي الأخوين إخوة، وقد خرجت من ذلك قريش بأثر ابن عباس. فإما أن يكون ما ذكره زيد لسان الأنصار فقط،

وإما أن يكون يوافقهم بعضُ القبائل من غيرهم. وعلى الأول فإنما عدلَ زيدٌ عن "الأنصار"، وقال: "العرب"، إشارةً إلى دفع اعتراض، فإنه لو قال "الأنصار" لقيل له: إن القرآن نزل بلسان النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو قرشيّ. فيُحتاج إلى دفعه بأن الأنصار من العرب، والقرآن نزل بلغة العرب عامّةً، وإنما اختار منها ما اقتضت الحكمة اختياره. وأما ما جاء عن بعض الصحابة وغيرهم من أن القرآن نزل بلغة قريش، أو بلغتهم ولغة خزاعة، أو ولغة هوازن ونحو ذلك، فإنما ذلك بالنظر إلى معظمه، فقد جاء عنهم في كلماتٍ كثيرة أنها بلغة اليمن أو بلغة أزد عُمان أو غيرهم، بل وفي كلمات كثيرة أنها بالرومية أو الحبشية أو غيرها (¬1). وقد يُدفَع بأوجُهٍ: الأول: ما احتج به مَن قال: أقلُّ الجمع ثلاثة، وهو أن اللغة خصَّت الاثنين بصيغةٍ غير صيغة الجمع، فيقال هنا: كيف يكون من العرب من يُطلِق الجمع ويريد به اثنين على غير سبيل التجوز، أو كراهية الثقل في نحو {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}، ومبنى لغتهم على الفرق؟ الثاني: أن أئمة اللغة لم ينقلوا عن قبيلة من قبائل العرب أنها تُطلِق الجمع على اثنين مطلقًا, ولا يوجد ذلك في أشعارهم المحفوظة. الثالث: أن أئمة التفسير قد كان منهم كثير من أئمة العربية، وتكلموا على هذه الكلمة، ولا نعلم أحدًا منهم قال: إن من العرب من يُطلِق الجمع على الاثنين. ¬

_ (¬1) جمعها السيوطي في كتابين: "المهذب" و"المتوكلي" وكلاهما مطبوع.

أقول: قد يُجاب عن الأول بأنه قد يكون مَن يطلق من العرب الجمعَ على الاثنين رأى أن صيغة المثنَّى جُعِلت للنصّ على الاثنين، فلا يلزم من ذلك المنعُ من إطلاق الجمع على ما يصدق بالاثنين فأكثر كما في الآية، إذ المقصود بإخوة اثنان فأكثر. ونظيره ما أطبق عليه الفقهاء أنه لو قال: لفلان عندي عبيدٌ، ثم فسَّرهم بثلاثةٍ قُبِل، مع أن "عَبيد" جمع كثرة، وقد خصَّت العرب العشرة فما دونها بصيغ خاصة هي جمع القلة كأَعْبُدٍ، ووافقهم بعض أهل اللغة، ووجَّهوا ذلك بأن جمع القلة إنما جُعِل ليُستَعمل عند إرادة التنصيص على القلة، وجمع الكثرة يصلح للقليل والكثير. وأوضح منه لفظ "بِضْع" في العدد، فإنه [يَصدُق] بثلاثة، وإن كان قد وضع لثلاثةٍ لفظٌ خاصٌّ. وكذلك "الإنسان" يَصُدق بالصبي، وإن كان قد وُضِع للصبي لفظ خاصّ، وأمثال ذلك. وعن الثاني: بأن الشعراء الذين حُفِظتْ أشعارهم هم المشاهير، وكانوا يتحرَّون في أشعارهم أن تكون موافقةً لأشهر لغات العرب، ليَعُمَّ حفظُها وتناشدُها، فيتمُّ غرضُهم من الشهرة وبُعد الصيت، ولهذا نجد المحفوظ من شعر شعراء اليمن لا تكاد توجد فيها كلمة لا تعرِفُها مضر. وعن الثالث: بأننا قد أثبتنا النقل، ودلالته واضحة، ومن نقله من أهل الحديث والتفسير فقد نقل أن العرب تُسمَّي الأخوين إخوة، وذلك كافٍ. لكن هذا كلّه لا يكفي, لأن غايته إثبات لغة غير مشهورة ولا متبادرة إلى الفهم، بل المتبادر خلافها، فحملُ الآية عليها يحتاج إلى دليل.

وعلى هذا فقد يقال: سواء أثبتت تلك اللغة أم لم تثبت، فإنها إن لم تثبت لم يمتنع أن يصح ذاك الاحتمال في الآية على أنه مجاز بأن تُجوَّز بصيغة الجمع عن مطلق ما يدلُّ على التعدد، فيشمل الاثنين وأكثر (¬1). ... ¬

_ (¬1) بعدها بياض في الأصل بقدر نصف صفحة.

بسم الله الرحمن الرحيم قال الله تبارك وتعالى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11]. قوله: {وَلِأَبَوَيْهِ} أي المتوفى، وقد يجتمعان، وقد يكون أحدهما فقط، ومنطوق الآية إنما هو حال اجتماعهما، أما في الجملة الأولى والثانية فظاهر، وأما الثالثة فلأنها مبنية على ما قبلها, ولكن الحكم فيما إذا كان أحدهما فقط يؤخذ من مفهوم الآية وغيره من الأدلة. فأما الجملة الأولى أعني قوله: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ}، فإنها تُثبت حكمَ الأبوين إذا اجتمعا مع الولد، وهو أن لكل منهما السدس، فأما الباقي فالحكم فيه معروف، لم يعلم فيه خلاف إلا في صورة ما إذا كان الولد بنتًا واحدة، وليس معهم أحد الزوجين، فإن البنت تأخذ النصف كما نصّ عليه في أول الآية، ويأخذ الأبوان السدسين، فيبقى سدس، والجمهور أن هذا السدس الباقي يكون للأب على وجه التعصيب، لحديث "ألحِقوا الفرائض بأهلها". وخالف فيها الإمامية، فقالوا بردّ هذا السدس على الأم والبنت، وكذلك إذا كان مع من ذُكِر زوجة، فإنها تأخذ الثمن كما نصّ عليه في آخر الآية، فيبقى ربع السدس. وأما إذا كان أحد الأبوين مع الولد فالحكم أن له السدس فرضًا، وقد فُهم ذلك من الآية، أما أنه لا ينقص عنه فلأنه إذا لم ينقص عنه مع وجود

الآخر فكذلك لا ينقص عنه مع فقده، وأما أنه لا يُزاد عليه فلأن الولد إذا قصر كلاًّ من الأبوين على السدس في حال اجتماعهما فكذلك ينبغي أن يقصر عليه أحدهما عند انفراده. وتفصيل الأحكام معروف. وأما الجملة الثانية أعني قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} فهذه الجملة في بيان حكم الأبوين إذا اجتمعا ولا ولد، أي ولا إخوة كما بيَّنته الجملة الثالثة، وكونها في حال اجتماعها واضح، أولاً لأن الجملة مبنية على الجملة قبلها، وهي كذلك كما مرَّ. ثانيًا لقوله: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ}، مع أنه لو ترك قوله: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} وجُعِلت الجملة غير مبنية على ما قبلها لكانت الجملة مفيدةً بعمومها لحكم اجتماعهما. فيقع السؤال هنا: ما الحكمة في هذا الاعتناء الشديد ببيان حال اجتماعهما؟ ومحطُّ السؤال أن يقال: ما الحكمة في زيادة قوله: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} مع أنها لو تركت لكان ذلك معروفًا ببناء هذه الجملة على التي قبلها؟ فإن ادُّعي أنها مستقلة عن التي قبلها، قلنا: فلو تُرِكت هذه الزيادة لكانت الجملة شاملة بعمومها لحال الاجتماع أيضًا، وتزداد الفائدة بشمولها لحال انفراد أحدهما. وقد تبيَّن من مفهوم الآية وأقوال أهل العلم أن الحكم لا يختلف، فإذا كان للميت أُم وليس له أب ولا ولد ولا إخوة كان فرض الأم الثلث، فالذي يتراءى أن قوله: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} لا تظهر لها فائدة، بل يظهر أنها نقصت الفائدة، ويستند ذلك على مذهب الجمهور القائلين أنهما إذا اجتمعا لم يكن للأم الثلث إلا في حال واحدة، وهي أن لا يكون معهما زوج ولا زوجة.

والجواب على مذهب ابن عباس - القائل: إن فرض الأم مع الأب وأحد الزوجين ثلث التركة - أن الفائدة لقوله: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} هي التنصيص على حال الاجتماع، ليعلم أن وجود الأب لا ينقص الأمَّ عن الثلث بحال، إذ لو لم يذكر ذلك وقيل: "فإن لم يكن له ولد فلأمه الثلث" لقال قائل: هذا في حال انفرادها عن الأب، وكان سهلاً عليه أن يدعي أن الجملة الوسطى مستقلَّة عن الأولى ليست مبنية عليها، ويؤيد قوله بأنها إنما بيَّنت فرض الأم، فلو كان المعنى فيها على اجتماع الأبوين لكان الظاهر أن يبيِّن ما للأب. وأما الجمهور فعنهم أجوبة: الأول: أن قوله: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} تمهيد لما بعدها, ليعلم أن المراد بالثلث في قوله: {فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} ثلث ما ورثاه، ولو قيل: "فإن لم يكن له ولد فلأمه الثلث" لكان صريحًا في أن المراد ثلث التركة. الثاني: أن معنى قوله: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} أنهما ورثاه دون غيرهما، فالفائدة إخراج ما إذا كان معهما أحد الزوجين، قالوا: والحصر مأخوذ من التخصيص الذكري، كما تدلُّ عليه الفحوى. الثالث - ولم أر من تعرَّض له -: أن هذا الفعل - وهو "ورث" - أكثر ما يُعدَّى بنفسه إلى المال ونحوه، كما قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ} [مريم: 40]، وقال سبحانه: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ} [الأعراف: 169]، وقال عزَّ وجلَّ: {وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ} [الشعراء: 85] أي الذين يرثونها،

وقال تعالى: {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ} [المؤمنون: 11]، وقال سبحانه: {أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105]، وقال تبارك اسمه: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ} [الأعراف: 100]، وقال تعالى: {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران: 180، الحديد: 10] أي هو يرثها، وقال تبارك اسمه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} [النساء: 19]. في "صحيح البخاري" (¬1) وغيره عن ابن عباس: "كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحقَّ بامرأته، إن شاء بعضهم تزوَّجها، وإن شاءوا زوَّجوها، وإن شاءوا لم يُزوِّجوها، وهم أحقُّ بها من أهلها. فنزلت هذه الآيات". فكانوا يعاملون المرأة معاملة المال كما هو ظاهر. وقال عزَّ وجلَّ: {أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43، الزخرف: 72] أي جُعِلتم ترثونها. واقرأ (¬2) الأعراف: 128 ومريم: 40 والأحزاب: 27 وفاطر: 32 والزمر: 74 والمؤمن [أو غافر]: 53 والدخان: 28 والشعراء: 59 والشورى: 14 وغيرها. وقد يُعدَّى إلى من كان المال أو نحوه له، كقوله تعالى: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176]، وقال سبحانه: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} [النمل: 16]، وقال تعالى فيما قصَّه عن زكريا: {هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) ¬

_ (¬1) رقم (4579). (¬2) ذُكِرتْ في الأصل أمام أسماء السور أرقام لعلها أرقام الركوعات في المصاحف الهندية، فعدّلناها إلى أرقام الآيات.

يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} [مريم: 5، 6]. وقد يُعدَّى إليه بـ "من" كما في هذه الآية. وقد يُعدَّى إليهما، كما في قوله سبحانه: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} إلى أن قال: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا} [مريم: 77 - 80]. وفي كلام أهل اللغة أن الأصل فيه أن يتعدى إلى مفعولين: الأول من كان له المال ونحوه، والثاني المال ونحوه، وأنه قد يُعدَّى إلى الأول بـ "من". وظاهر صنيعهم أنه سواء عُدَّي إلى الأول بنفسه أو بـ "من" فالمعنى واحد، والذي يشهد به الذوق ويدلُّ عليه {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} أن المعنى يختلف، وأنه إذا عُدَّي بنفسه كان المعنى على الإحاطة بجميع ما كان للموروث منه، وإذا عُدِّي بـ "من" كان على عدم الإحاطة، فزكريا سأل ولدًا يحيط بما هو له ويأخذ بعض ما هو لآل يعقوب، وكأن وجه ذلك أن الأصل تعدِّي الفعل إلى المال ونحوه، كما يدلّ عليه كثرة ذلك في الكلام كما مرَّ، فإذا عدَّي إلى مَن كان له المال ونحوه، فالمعنى على تقدير المال ونحوه. فإذا قيل: ورثتُ زيدًا، فالتقدير: ورثتُ مالَ زيد، وإذا قيل: ورثتُ من زيد، فالتقدير: ورثت من ماله، فإذا قيل: ورثتُ زيدًا مالاً، فالوجه أن يكون ضُمِّن ورث معنى فعلٍ آخر مثل سلب كما في قوله تعالى: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} ضمِّن - والله أعلم - نرث معنى نسلب، أو يكون "مالاً" في قولك: "ورِثتُ زيدًا مالاً" منصوب (¬1) على الحال، لدلالة التنوين على الكثرة أو القلة، ¬

_ (¬1) كذا في الأصل مرفوعًا.

والأصل: ورثتُ مالَ زيد حالَ كونه مالاً كثيرًا أو مالاً قليلاً. أو يكون زيدًا منصوبًا بنزع الخافض، والأصل: ورثتُ من زيد مالاً، فيقدَّر في كل موضع ما يليق به. فإن أبيتَ إلاّ ما يقتضيه صنيع أهل اللغة فإننا نقول: فالأصل أن يقال: ورثتُ زيدًا مالاً، بالتصريح بالمفعولين، فإذا حُذِف الثاني فقيل: "ورثتُ زيدًا" كان حذفه دالاًّ على العموم، كما تقرر في الأصول أن حذف المعمول يُؤذِن بالعموم، فكأنه قيل: ورثتُ زيدًا كلَّ ما كان له. فإن لم تقنَعْ فقد نصَّ أهل العلم على أن المفرد يعمُّ أجزاءه، فإن قيل: اشتريتُ عبدًا أو دارًا، كان المعنى على عموم الشراء، أي أنك اشتريت العبد كلَّه والدارَ كلَّها. واستثنى بعضُ الأجلَّة ما إذا كان الفعل مما يقلُّ في العادة شمولُه لجميع الأجزاء، كضربتُ زيدًا. وزعم ابن جني أن ضربتُ زيدًا مجاز، وإنما يكون حقيقةً لو شمِلَ الضربُ جميع أجزاء المضروب. فأما ورثتُ زيدًا فلا معنى لإرثِ جميع أجزائه إلاّ إرثُ جميع أجزاء ما كان له، فتأمَّلْ. ففي "فتح الباري" (¬1) في كتاب الفرائض: باب {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ}: وقال السهيلي: "الكلالة من الإكليل ... ، ومن العجب أن الكلالة في الآية الأولى من النساء لا يرث فيها الإخوة مع البنت، مع أنه لم يقع فيها التقييد بقوله: "ليس له ولد"، وقُيِّد به في الآية الثانية مع أن الأخت فيها ورثت مع البنت. والحكمة فيها أن الأولى عُبِّر فيها بقوله تعالى: ¬

_ (¬1) (12/ 26).

{وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ}، فإن مقتضاه الإحاطة بجميع المال، فأغنى لفظ "يورث" عن القيد، ومثله قوله تعالى: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} أي يحيط بميراثها. وأما الآية الثانية فالمراد بالولد فيها الذكر كما تقدم تقريره، ولم يُعبَّر فيها بلفظ "يورث"، فلذلك ورثت الأخت مع البنت". أقول: وإيضاحه أن الكلالة اسم للقرابة بغير الولادة، أعني قرابةً غير الولد والوالد، وتُطلَق على .... ، فتقدير الآية: "وإن رجلٌ يرثه كلالة"، ففهم منه أن الكلالة يحيطون بماله، فعُلِمَ بذلك أنه لا ولد له ولا والد. وأما قوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} فمعناه: يفتيكم في الأقارب الذين ليسوا بولد ولا والد، والاسم يلزمهم مع وجود الولد والوالد، كما يلزمهم مع عدمهما، فلم يُفهم من هذا أنه لا ولد ولا والد. وقوله: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ} المرء عام، فيشمل من له ولد ووالد أو أحدهما، فلذلك قيَّده بقوله: {لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ}. وإنما لم يقل: "ولا والد" لأن الإخوة لهم ميراث مع الأب، ولكن يُعطاه الأب كما يأتي. ولكن ميراثهم قد يقصر عن المقدار المذكور هنا، وقد لا يبقى شيء، ففي صورة أب وأختين كان للأب الثلث وللأختين الثلثين (¬1)، فيأخذ الأب الجميع، فإذا كان مع هؤلاء زوج لم يبق بعد فرض الأب والزوج إلا السدس. وفي صورة أبوين وأختين وزوج لا يبقى شيء. فإن قيل: فإن الأب يأخذ ما بقي بعد فرضه وفرض الأم أو الزوج على كل حال، سواء أكانت هناك أخوات أم لا. ¬

_ (¬1) كذا في الأصل منصوبًا، والوجه الرفع.

قلت: نعم، لكنه هنا يأخذه بالتعصيب، ومع وجود الأخوات يأخذه بحقّه عليهن. وقوله: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} قد وافقَ السهيليَّ فيها غيرُه على أن المعنى على الإحاطة، وخالفه في تخصيص الولد بالذكر. قال أبو السعود (¬1): " {إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} ذكرًا كان أو أنثى، فالمراد بإرثه إحراز جميع مالها، إذ هو المشروط بانتفاء الولد بالكلية، لا إرثه لها في الجملة، فإنه يتحقق مع وجود بنتها". أقول: لكن يبقى ما إذا كان معه أحد الأبوين أو كلاهما أو زوج، فإنه في هذه الصور لا يحوز جميعَ التركة كما لا يخفى. فالأقرب أن يقال: إن إطلاق "يرثها" هنا المراد به إثبات العصوبة، وصحَّ ذلك لأن من شأن العصبة أن يحيط بالتركة في بعض الصور، ولا شكَّ أنه في الصور المذكورة يرث بالعصوبة، أما مع الأم والزوج أو أحدهما فظاهر، وأما مع الأب فإن الأخ يستحق الإرث، ولكن يأخذه الأب لما تقدم قريبًا. فإن قيل: فلماذا قُيَّد بعدم الولد مع أن الأخ قد يأخذ بالعصوبة مع البنات؟ قلت: المعنى - والله أعلم - أنه مع عدم الولد يرث البتة، فيفهم منه أنه مع الولد بخلاف ذلك. فإن قيل: فلِمَ لا يقال مثل هذا في {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ}؟ ¬

_ (¬1) تفسيره "إرشاد العقل السليم" (2/ 264).

قلت: الأصل والظاهر هو الإحاطة، وإنما يُعدَل عنها لموجب، ولا موجِبَ في {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ}، والله أعلم. إذا تقرر هذا فنقول: إن قوله تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} معناه إحراز جميع ماله، أما على تقدير "وورثَ مالَه أبواه" فلعموم المال، وأما على تقدير "وورثه أبواه كذا" فلأن حذف المعمول آذنَ بالعموم، فصار المعنى: وورثه أبواه جميع مالِه. وأما على القول بأن "ورثتُ زيدًا" يعمُّ جميع أجزائه، فلكون ذلك باعتبار جميع أجزاء ما كان له فظاهر، وفائدة قوله: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} على هذا واضحة, لأن هذا المعنى لا يتحصل بدونها. الجواب الرابع - ولم أر من تعَّرض له أيضًا -: أن الإرث إذا أُطلق في القرآن ولم يبيَّن النصيب كان المعنى أن الوارث عصبة، يُحرِز جميعَ المال إذا انفرد، والباقيَ بعد فرضٍ فأكثر إن كان. قال تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11]، فلم يُبيِّن مجموع ما لهم لأنهم عصبة، ثمَّ بيَّن نصيب البنات إذا انفردن, لأنهن يكنَّ ذواتِ فرض حينئذٍ. وقد تقدم نحو هذا في قوله تعالى: {وَهُوَ يَرِثُهَا}. إذا تقرر هذا فنقول في قوله تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ}: إن المعنى وكان أبواه عصبة، وذلك عند عدم الولد والإخوة، فيكون الأبوانِ عصبةً. وقوله بعد ذلك: {فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} المراد ثلث التركة، ولكن قد دلَّ كونُهما عصبةً على أن هذا إنما يكون إذا لم يكن هناك أحد الزوجين، وأنه إن كان هناك أحد الزوجين فالباقي بينها وبين الأب، على قاعدة العصبة: للذكر

فصل

مثل حظّ الأنثيين. ولبعض كتّاب العصر جوابٌ بناه على أقوالٍ اخترعها في المواريث، لم يقل بها أحدٌ من أهل العلم، فلا حاجة إلى ذِكْره. فصل وأما الجواب المبني على مذهب ابن عباس فيمكن الإيراد عليه بأوجُهٍ: الأول: أن المستبعد إنما هو أن تأخذ الأم الثلث إذا كان أكثر مما أخذه الأب، وذلك مع الزوج. ولذلك نُقل عن ابن سيرين وقال به أبو بكر الأصمّ في أبوين وزوجة: أن للأم الثلث. وإنما قال الجمهور في هذه أيضًا: إن الأم لا تأخذ إلاّ نصف ما يأخذ الأب, لأنهم فهموا من الآية ذلك على ما تقدم في الأجوبة التي من طرفهم. وكيف يستبعدون أن لا يكون له ضعفاها وقد تقدم أنه مع الولد يساويها؟ وذلك واضح في صورة: أبوين وابن، وأبوين وبنتين. وإذا كان هذا هو الواقع فلو أُريد التنبيه على أن وجود الأب لا ينقص الأمَّ بحالٍ لذكر مع الأبوين الزوج، فتكون الآية نصًّا في ذلك، فأما بدون ذكر الزوج فليست بنصًّ بل ولا ظاهر، لما سمعتَ من الاحتمالات. الوجه الثاني: أن الجمهور موافقون على أن الأم تأخذ الثلث مع وجود الأب في بعض الأحوال كما علمت، فلهم أن يوافقوا على الجواب المذكور، ولكن يقصرون الحكم على الحال المذكورة. الوجه الثالث: أنه على هذا الجواب يكون قوله تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} تأكيدًا، وهو على أجوبتنا تأسيس، والتأسيس أولى من التأكيد. والجواب عن الوجه الأول: أن من سنة الله تبارك وتعالى في العقائد

والأحكام التي تعترضها الأهواء والشُّبه أن لا يكشفها كشفًا تامًّا، لكنه يُنبَّه على الحقّ تنبيهًا كافيًا لمن تدبَّر وحقَّق النظر، وأسلم نفسَه للحق، ووفَّقه الله عزَّ وجلَّ، ويدَعُ مناصًا لمن قصَّر أو استكبر، أو اقتضت الحكمة أن لا يُوفَّق. ويُزاد في الأحكام أنه يدع سبيلًا لأن يوضع في فهم القاضي المحقّ خلافُ الراجح لمناسبته للقضية التي يحكم فيها. وهذا مشروح في موضع آخر. فقوله تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} فيه تنبيه كافٍ على ما ذكر من جهات: الأولى: أن الجملة الوسطى صارت في حكم الله عزَّ وجلَّ بقوله: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} صريحةً في أنها في حال اجتماعهما. الثانية: أن الحكم فيها عام، فيعمُّ جميعَ صور اجتماعهما، وهي ثلاث صور: أبوان فقط، أبوان وزوج، أبوان وزوجة. الثالثة: أن المعروف أن الوارث الذي [ينقص غيره] ينقصه على كل حال، فالولد ينقص الأم إلى السدس، سواء وُجِد الأب أم لا، والإخوة كذلك، وإذا كان الأب لا ينقصها مع عدم أحد الزوجين فكيف ينقصها مع أحدهما؟ فإن قيل: كما نقصها مع وجود الإخوة. قلنا: إنما نقصها الإخوة. أما إذا قلنا بما يُنقل عن ابن عباس أن السدس الذي تنقصه الأم في هذه الحال يكون للإخوة فظاهر، ولا يرِد على هذا ما ذهب إليه ابن عباس وغيره أن الجدّ يحجب الإخوة، فيقال: فكيف لا يحجبهم الأب؟ لأن له أن يجيب بأنهم مع .... والأم لم يأخذوا من نصيب الأب شيئًا، وإنما أخذوا من نصيب الأم.

نعم، يلزمه أن يقول في جد وأم وإخوة أن الإخوة يأخذون السدس، والظاهر أنه يقوله؛ لأن المنقول عنه إنما هو أن الجد أب، لا أنه يحجب الإخوة مطلقًا، فإن حُكي عنه أن الجد يحجب الإخوة فلعل مراده أنه يحجبهم مما كان يأخذه لو لم يكونوا, وليس ذاك السدس من هذا؛ لأنهم لو لم يكونوا لأخذته الأم. وأما إذا قلنا بقول الزيدية وغيرهم إن الإخوة إن كانوا أشقّاء أو لأب لا يُعطَون شيئًا، وإن كانوا لأمّ أخذوا ذاك ... ، فنقول: الأصل على هذا أن السدس للإخوة، وإنما يأخذه الأب إذا كانوا بنيه، بحقّ أبوَّتِه لهم وولايته عليهم، فإن كانوا صغارًا فإنه مظنة أن ينفقه عليهم، وإن كانوا كبارًا فإنه إن أنفقه عليهم فذاك، وإن أنفقه على نفسه فهو في مقابل نفقته الواجبة عليهم، وإن تركه ميراثًا صار إليهم كلُّه أو جلُّه. وقد نُقل نحو هذا عن قتادة، رواه ابن جرير (¬1) وغيره. وأما إذا قلنا بقول الجمهور: إن الإخوة لا يأخذون مع الأب شيئًا ولو كانوا لأم، فالوجه في الأشقاء أو لأب ما تقدم، وأما في أولاد الأم فنقول: إن الأم نقص استحقاقها بسببهم؛ لأنهم إن كانوا كبارًا فذلك مظنة أن ينفعوها ويواسوها من كسبهم، وإن كانوا صغارًا فإنما يكون ذلك إذا فارقها أبو الميت ثم تزوجت أبا الصغار، والغالب أن يكون أبو الصغار حيًّا ينفق عليها وعليهم، وقد تأكدت صلتها به بولادتها الأولاد، فنقص استحقاقها من ابنها الذي قد تكون آذتْ أباه حتى فارقها وتزوجت غيره، وقرَّت عند هذا الآخر ¬

_ (¬1) في "تفسيره" (6/ 467، 468). وأخرجه أيضًا ابن أبي حاتم في "تفسيره" (3/ 883).

حتى ولدت له أولادًا واستغنت به. وإذا نقص استحقاقها ولم يكن لبنيها حقٌّ فالذي نقصَه يكون .... لأبي الميت. على أنه لا يلزم فيمن كان النقص بسببه أن يأخذ هو ذاك المنقوص، ألا ترى أن البنات أو الأخوات ينقصن الأم سدسًا, ولا يكون لهن ذلك السدس، بل يذهب إلى العصبة، وذلك في صورة بنتين أو أختين وأم وعصبة، فالنقص بسبب البنتين أو الأختين، والفائدة للعصبة. ولا يلزم فيمن يحجب وارثًا أو ينقصه أن يحجب من يحجبه ذاك الوارث أو ينقصه، فالجد يحجب الإخوة للأم، ولا يحجب ولا ينقُص من ينقصه الإخوة للأم، وذلك كجدّ وأمّ وزوج، فتأخذ الأم ثلثها, ولا يقال: إن الجدّ يحجب الإخوة للأم لو كانوا، فلينقص من ينقصونه. فأما في أبوين وزوج ولا ولد ولا إخوة، فقد عُلِم أن الزوج لا ينقصها شيئًا إذا لم يكن أب إجماعًا، فكيف ينقصها مع وجود الأب؟ أو بأي وجه نقص استحقاقها؟ فإن الزوج أجنبي لا ينقصها إذا لم يكن أب، ولا يكون ما أخذه الأب كأنه أخذه الزوج، كما قلنا في الأشقاء أو لأب، ولا تنتفع الأم بشيء من زوج بنتها بعد موت الابنة، ولا ينقص استحقاقها بسبب أن بنتها تزوجت، فلم يبق إلا احتمال أن ينقصها الأب، ولو كان ينقصها لنقَصها عند عدم الزوج كما تقدم، فنصّ الله تعالى نصًّا قاطعًا على هذه الحال، أعني أن ينفرد الأبوان ولا زوج ولا زوجة، متناولاً بعمومه الحالين الأخريين. فإن قلتم: الذي ينقصها هو الأب، وإنما لم ينقصها إذا لم يكن معهما أحد الزوجين, لأنه ينال مقدارًا وافرًا، وهو الثلثان، فأما إذا كان معهما أحد الزوجين فإنه لا يبقى له ما يناسب حقَّه فينقصها.

قلنا: قد قدَّمنا أن سنة المواريث على أنه إذا نقص وارثٌ وارثًا كان حكمًا عامًّا بأن ينقصه على كل حال، وما توهمتموه في استحقاق الأب لا أثر له, لأن الله تعالى قال في آخر هذه الآية: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} وإذا سلَّمتم عموم الآية فلم يبقَ إلاّ أن تخصُّوها بما لا علم لكم به، والله المستعان. هذا وقد بقيت جهاتٌ أخرى ستأتي إن شاء الله تعالى. والجواب عن الوجه الثاني: أن قَصْركم هذا النصَّ على ما إذا لم يكن فيها زوج ولا زوجة دعوى فارغة مردودة من جهات: الأولى: أن النصوص العامّة لا تخصُّ بلا حجة. الثانية: أن المعروف في سنة الكلام ونصوص الكتاب والسنة أن العام إن قام دليل على تخصيصه كان الباقي أكثر، وأنتم عكستم هنا، فأخرجتم صورتين وأبقيتم صورة. الثالثة: أن النصّ كما أفاد دخولَ الصورتين بلفظه فقد أفاد دخولهما بمعناه، أعني ما قدَّمناه، إذ لا وجه لأن ينقص الزوج الأمَّ، ولا لأن ينقصها الأب بشرط وجود الزوج. والجواب عن الوجه الثالث: أن قولكم: "التأسيس أولى من التأكيد" محلُّه فيما إذا تعادل الاحتمالان، وسيتبيَّن إن شاء الله تعالى حال الاحتمالات التي ذكرتموها بأجوبتكم. وأما الأجوبة التي من طرف الجمهور فالقدح فيها إجمالاً وتفصيلاً: أما الإجمال فإنه لا داعي إلى تكلُّفها إلا استبعاد أن تأخذ الأم ضِعفَ ما

يأخذ الأب في صورة زوج وأبوين، كما أجاب زيد بن ثابت لما راسله ابن عباس، فقال زيد: لا أفضَّلُ أمًّا على أب. وليس في النصوص ولا النظر ما يمنع أن تفضل الأم الأب حتى نحتاج إلى تأويل الآية. أما النصوص فظاهر، وأما النظر فإن كنتم تقيسون الأبوين على الابن والبنت وعلى الأخ والأخت شقيقين أو لأب فهذا خطأ، فقد بان بقوله تعالى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} أن الأبوين ليسا كالابن والبنت، ولا كالأخ والأخت، فإن الابن والبنت والأخ والأخت لا يكونان إلا عصبة، واتصال الابن والبنت بالمتوفى سواء من كل وجه، وكذا الأخ والأخت، ولا كذلك اتصال الأبوين، فإن اتصال الأم أقوى، فلو كان الأمر إلى القياس لكان الأشبه أن يشبه الأبوان بالبنت وابن الابن والأخت الشقيقة والأخ لأب. وإن نظرتم إلى مقدار التعب والعناء فأفضلية الأم ظاهرة، وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم -: "بِرَّ أمَّك ثم أمَّك ثم أمَّك ثم أباك". فإن قلتم: ولكن الأب هو الذي أنفق المال أي في الغالب. قلنا: ولكن الأم قد تكون أحوجَ إلى المال من الأب، ولا سيَّما عند شيخوختها عندما يُعرِض عنها الأب، مع أن مثل هذه الأمور قد قطعها الله عزَّ وجلَّ بقوله: {لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} الآية كما مرَّ. والنظر الصحيح أن الأم ليست مع الأب عصبةً، وإلاّ لكانت معه عصبة عند وجود الولد أو الإخوة، وأن الأب لا ينقصها عن ثلثها، وإلاّ لنقَصَها عند انفراده معها، فإذا لم يكن لا ذا ولا ذاك فهي ذاتُ فرضٍ أبدًا، ينقصها الولد أو الإخوة إلى السدس، فإن لم يكن ولد ولا إخوة فهي على ثلثها، وأما الأب

ففرضه السدس أبدًا (¬1)، ثم هو عصبة يأخذ الباقي تعصيبًا إذا انفرد، والباقي بعد بقية الفرائض إن كانت ولم يكن ولد ذكر، فإن لم تُبقِ الفرائضُ شيئًا لم يكن له شيء (¬2)، كما هو الحكم في العصبة، ففي صورة بنتين وأبوين وبني ابن لا يبقى شيء لبني الابن. وفي الحديث: "الخراج بالضمان"، فكذلك حال العصبة، حرمانه تارةً، يأخذون جميع المال تارةً (¬3). ومبنى الفرائض على المشاحة والعصبات على المسامحة، فإن أصحاب الفرائض كأصحاب الدين على الميت، والعصبة أولياء الميت، وحقُّ الولي أن يحرِص على توفية الديون التي على ميته ولو من ماله، فإن لم يكن هناك ذو دَين أو كان ولم يستغرق فالوليُّ أولى به ممن لا دينَ له ولا ولاية. وبهذا نجيب الأشقاء في المشتركة، نقول لهم: إنكم عصبة الميتة وعاقلتها, لو جَنَتْ في حياتها جنايةً كان حقًّا عليكم أن تحملوها, ولو ماتت وعليها دَين لا وفاءَ له لكان ينبغي لكم أن تقضوه من أموالكم، فهذه الفرائض التي للأم والزوج والإخوة لأم بمنزلة الدين على أختكم، فلم يُكلِّفكم الله تعالى أن تقضوها من أموالكم، بل كلَّفكم أن تَرضَوا بقضائها من تركتها، وافرِضوا أن لكم ولبعض الأجانب دينًا على أختكم ولا تفي التركةُ بالدَّينين، أليس الذي ينبغي لكم أن تقضوا الأجانب وتُسامحوا بدينكم؟ فكذا يقال ¬

_ (¬1) كتب المؤلف في الهامش: "كذا يظهر، ولكنه لم ينصّ عليه إلاّ مع الولد؛ لأنه والله أعلم مع عدم الولد إن لم يحز أكثر من السدس باسم التعصيب لم ينقص عنه". (¬2) "أي زائد عن السدس، فأما هو فهو فرض فيما يظهر، كما مرّ" (من المؤلف). (¬3) كذا في الأصل، والمعنى واضح.

للأب على أنه قد أخذ دَينه المحتوم وهو السدس. وأما التفصيل فالجواب الأول دعوى بلا دليل، وليس في قوله تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} إشارة ما إلى أن المراد بقوله: {فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} أي ثلث ما أخذاه، بل المتبادر هو المطرد في آيات الفرائض وأحاديثها أن المراد ثلث التركة، والجملة الثانية مبنية على ما قبلها، وهي قوله: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ}، والسدس هنا سدس التركة اتفاقًا، إذ لو كان المراد بالثلث ثلث ما أخذاه لكان المراد بالسدس هنا سدس ما أخذاه، وهو باطل اتفاقًا فيما إذا كان هناك أحد الزوجين. وأما الجواب الثاني فيرد عليه أنه لا دليلَ على الحصر، لا من الطرق التي ذكرها البيانيون ولا من غيرها، فإننا نسلَّم أن الحق غير محصور في تلك الطرق، وأنك إذا قلتَ لإنسانٍ: من ورِثَ فلانًا؟ فقال: ورثَه أبواه، فَهِمَ الحصر، ولكن فَهْمَه هنا من جهة أن مَن الاستفهامية للعموم، فالاستفهام واقع عن جميع الورثة، والجواب مطابق للسؤال، فلما اقتصر المجيب على قوله: ورثه أبواه، كان ظاهر ذلك أنهما جميع الورثة، ولكن لا نجد في الآية ما يماثل هذه الدلالة أو يقوم مقامَها. وقولكم: "إن الحصر مأخوذ من التخصيص الذكري كما تدلُّ عليه الفحوى" جعجعةٌ لا طِحْن، فإن التخصيص الذكري إنما يفيد الحصر حيث كان المقام يقتضي الاستيعاب، كما قدَّمنا في جواب "مَن ورث فلانًا"، وليس هنا كذلك، اللهمَّ إلاّ أن تبنوا على القول بمفهوم اللقب، وهو قول ساقط بالاتفاق بيننا وبينكم.

وأما الجواب الثالث فيردُّه أن أهل اللغة ذكروا أن "ورث" يتعدَّى إلى مفعولين، ولم يفرقوا بين ورثتُه وورثتُ منه. وقولهم: "حذف المعمول يُؤذِن بالعموم" ليس على إطلاقه، فإنه يقال: "قَتلَ فلان" وليس المعنى أنه قتلَ كلَّ أحد، وقالوا: فلان يعطي وفلان يمنع، وليس المعنى يعطي كلَّ شيء ويمنع كلَّ شيء، وإنما يُؤذِن بالعموم حيث كان المقام يستدعي ذكره لو كان خاصًّا، ولا علة لتركه غير العموم، وما هنا ليس كذلك، فإن القصد من قوله: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} إنما هو ذكر وجود الأبوين. وإنما لم يقل: "وله أبوان" لأن مثل هذا إنما يحسن فيما قد يكون وقد لا يكون البتة، كالولد والإخوة، فأما الأبوان فكل إنسانٍ له أبوان عدا آدم وحواء وعيسى عليهم السلام. فإن قيل: إنما المراد بقوله: "وله ولد"، "وله إخوة" من كان حيًّا، فلو قيلَ: "وله أبوان" لكان المعنى: وله أبوان حيَّان، والأبوان الحيَّان قد يكونان وقد لا يكونان في ... قلت: نعم، ولكن الكلام في حسن التعبير. وأما قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً} ففي دعواكم نظر، ولا يلزم من ترك التقييد إغناء الكلام عنه، فقد يترك التقييد في آية لبيان أخرى .... وأما قوله تعالى: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} فقد لقيتمونا ببعض الكلام عليها, ولا حاجة بنا إلى استيفائه، بل يكفينا أن نقول: إذا اتجه أن يكون المراد هنا: يُحرِز جميعَ مالها، فلقائلٍ أن يقول إنما كان ذلك هنا لتقدُّم المبتدأ، كما في قولهم: أنا فعلتُ ذلك، أو أن المقام هنا يستدعي ذكر المفعول، فآذن حذفُه بالعموم، وليس قوله: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} كذلك.

فصل

وأما قول زكريا عليه السلام: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} فكأن إحراز الجميع قوي فيها, ولكن قد يُوجَّه بأن المقام يستدعي ذلك؛ لأنه يسأل ولدًا يخلُفه، ولا يكفي في ذلك أن يرِثه في الجملة، بأن يحرز شيئًا ما مما هو له، وبأن تعدية "يرث" الأول بنفسه والثاني بمن يُشعِر بالفرق، والفرق الظاهر هو ما ذُكر. وأما الجواب الرابع فيرد عليه أن تلك القاعدة إذا سلمت ففيما يكون المقام فيه يستدعي بيان النصيب، فإنه إذا لم تذكر مع ذلك عُلِم أنه إنما تُرِك لنكتةٍ، والنكتة قد تكون العموم كما مرَّ، وقد تكون غير ذلك كما هنا، فإن كون النصيب غير مقدرٍ سبب لتركِ ذكره، فتدبَّر. وقد قدمنا أن قوله تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} لا يستدعي ذِكْرَ المفعول. فصل قد يقال من طرف الجمهور: الكلام في مقامين: الأول في معنى الآية، والثاني في النظر. فأما معنى الآية فإنما دفعتم به الأجوبة السابقة كلامًا, ولكننا نقتصر على الجواب الثالث، ونقول: إن نحو "ورِث فلانٌ فلانًا" يقتضي ظاهره إحرازَه جميعَ ماله، كما يشهد به الذوق، وصَّرح به السهيلي وغيره، وقدَّمنا له ثلاثة أوجه. وإطلاق أهل اللغة أن "ورِث" يتعدى إلى مفعولين وعدم تفرقتهم بين "ورثتُه" و"ورثتُ منه" إن خالف ما قلنا عارضناه بما تقدم من الاستدلال. وقولكم في دفع الوجه الثاني "إن حذف المعمول إنما يؤذن بالعموم" حيث كان المقام يستدعي ذكره لو كان خاصًّا, ولا علة لتركه غير العموم =

مسلَّم، ونقول: إن قوله تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} كذلك، قولكم إن القصد من قوله: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} إنما هو ذكر وجود الأبوين دعوى غير مسلَّمة، فإن وجودهما قد علم من الجملة الأولى. والجواب الذي من طرف ابن عباس قد تقدم أن الكلام عليه يكون تأكيدًا، والتأسيس أولى منه، ويُرجّح قولنا التعبير بقوله: "ورث"، ولو كان الأمر كما قلتم لكان الظاهر أن يقال: "وله أبوان". قولكم إنه عدلَ عن ذلك لأن التعبير به غير جيد= غير مسلم. نعم، لا ننكر أنه يقال: ورث فلانٌ فلانًا, وليس المعنى على العموم حتمًا, ولكن لا بدَّ أن يكون هناك ملاحظة للعموم، وذلك كقوله تعالى: {وَهُوَ يَرِثُهَا} إذا حمل على معنى أنه عصبتها كما تقدم، وقدَّمنا أنه خلاف الأصل، فلا يُصار إليه إلاّ بدليل، فإن أقمتم حجةً على أنه قد يقال مثلاً: مات فلانٌ وورثتْه زوجته" على معنى أنها ورثت فرضها فإننا نُسلِّم ذلك، ولكننا نقول: هذا المعنى أشدُّ في خلاف الظاهر، فلا يُحمل عليه الكلام ما دام المعنى الظاهر محتملاً، وقد يُوجَّه بأن الأصل: ورثتْ منه زوجته، ثم حُذِف حرف الجر، وسُلِّط الفعل على المجرور، كما في نحو: دخلتُ الدارَ. وقولكم في الجواب الإجمالي: إنه لم يَدْعُنا إلى تكلف الجواب إلاّ استبعادُ أن تأخذ الأمُّ ضعفَ الأب، وذكرتم جواب زيد بن ثابت، فقد جاء ذلك في رواية مختصرة، وجاء في أخرى أوضح منها: "عن عكرمة أرسلني ابن عباس إلى زيد بن ثابت أسأله عن زوج وأبوين، فقال زيد: للزوج النصف وللأم ثلث ما بقي وللأب بقية المال، قال: فأتيتُ ابنَ عباس فأخبرتُه، فقال ابن عباس: ارجع إليه فقُلْ له: أبكتابِ الله قلتَ أم برأيك؟ قال: فأتيتُه، فقال: برأيي، فرجعتُ إلى ابن عباس فأخبرتُه، فقال ابن عباس:

وأنا أقول برأيي: للأم الثلث كاملاً" "سنن" البيهقي (6/ 228). فهذا فصل الخطاب في الآية، وهو أنها محتملةٌ كلا القولين باعتراف أفرض الأمة وباعتراف حبرها، وهو صاحب القول المخالف للجمهور، فإن كلا القولين عمدتُه في ترجيح ما ذهب إليه الرأي، وفي ذلك شهادة عظمى من حبر الأمة لصحة احتمال الآية لما قلنا. وأعظم منها اتفاق جمهور الصحابة ثم أئمة التابعين ومَن بعدهم، وبما ذكر يتم إجماع الصحابة على احتمال الآية لما قلناه وترجيح جمهورهم له، فلنقتصر على هذا وننظر في الرأي. وأما المقام الثاني فقد تقدم ما ظهر من النظر من طرف ابن عباس، فقولكم أولاً: إن المعروف من سنة الفرائض أن الوارث الذي ينقص غيره ينقصه على كل حال، والأب لا ينقص الأم عند عدم أحد الزوجين، فلا ينقصها عند وجوده. فهذا معارض بأخصَّ منه، وهو أن الأم لا تفضل الأبَ في الصور المتفق عليها، فهي إما أن تأخذ مثله، وذلك مع الابن أو البنتين فأكثر، وإما أن تأخذ نصف ما أخذ، وذلك مع البنت وعند انفراد الأبوين، وهذا القياس أقوى من قياسكم، فإن غاية قياسكم أن هذه الصورة لا نظير لها في الفرائض، قياسنا يقول مثل قولكم، وهو أن هذه الصورة - أعني أن تأخذ الأم ضعفَ ما يأخذ الأب - لا نظير لها في الفرائض، ثم هو ناظرٌ إلى المعنى، وهو أن الأحكام المتفق عليها تدلُّ أن الأب أكثر حقًّا من الأمّ. وأما قولكم: إن من شأن العصبة أن تختلف أحواله، فتارةً يحوز جميع التركة، وتارةً لا يبقَى له شيء، وتارةً يناله كثير منها، وتارةً قليل= فهذا حق في

غير الأب، فأما الأب فإنه صاحبُ فرضٍ فرض الله له مع الولد السدس، وكان مقتضى ذلك أن يُفرض له مع عدم الولد الثلث كالأم سواء على الأقل، ففي عدم الفرض له إشارة إلى أنه عند عدم الولد لا بدّ أن يحوز الثلث على .... ، وإن كان بعضه باسم الفرض وبعضُه باسم التعصيب، وذلك كالابن لم يفرض الله عزَّ وجلَّ له، ولكن جعله يحجب بعض الورثة وينقص بعضهم، فلو اجتمع جميع الورثة من الأصول والحواشي ومعهم ابن واحد لما ورث منهم معه غير الأبوين وأحد الزوجين، فللأبوين السدسان وللزوج الربع، فيبقى للابن نصف إلاّ نصف السدس، وإذا كان بدلَ الزوج زوجة فأكثر كان لها الثمن، فيبقى للولد النصف وربع السدس، هذا مع أن الأبوين جدّاه، والغالب أن يكون الزوج أباه والزوجة أمه. ولنكتفِ بهذين الوجهين من النظر ثم نقول: لم يعتمد جمهور الصحابة فمن بعدهم على النظر إلا من جهة ترجيحه لأحد المعنيين المحتملين في الآية باعتراف ابن عباس نفسِه كما مرَّ، ولما ترجَّح أن معنى الآية أنه إذا لم يكن للميت ولدٌ وحاز أبواه جميع التركة فلأمَّه الثلث، فقد فُهِم من التقييد بحوزهما جميع التركة أنهما إذا اجتمعا ولم يحوزا جميعَها لم يكن للأم الثلث، والمعقول أنه يكون لها حينئذٍ دون الثلث، فنظر الأئمة إلى حالة انفرادهما، فوجدوا أنها تأخذ مثل نصف ما يأخذ الأب، فقالوا: فالظاهر أنهما إذا اجتمعا ولم يحوزا جميع التركة - وليس هناك من ينقص الأم وهو الولد .... - نقصَ من نصيب الأم بنسبة ما نقص من التركة، وزاد ذلك عندهم قوةً أن ذلك لا ينقصها عن السدس، وهو الفرض المحتوم لها. والله أعلم.

فصل

فصل وأما الجملة الثالثة - وهي قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} فهي مبنية على ما قبلها، فمنطوقها أن الأبوين إذا اجتمعا ومعهما إخوة كان للأم السدس، وقد تقدم أنه رُوي عن ابن عباس أن السدس الذي نقصته الأم يكون للإخوة، ولم يثبت عنه ذلك، وقد تقدم بيان الحكمة في نقصهم الأمّ، وأن السدس وإن أخذه الأب فكأنه لهم، بل لو كان مع الأب أخوات فلا مانع أن يقال: إن لهنَّ الثلثين، ولكن أخذه الأب كما تقدم. وقد استشكل ابن عباس ما جرى عليه العمل من نقص الأم بالاثنين من الإخوة، وقال لعثمان: [لِمَ صار الأخوانِ يردَّانِ الأمَّ إلى السدس، إنما قال الله: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ}، والأخوان في لسان قومك وكلام قومك ليسا بإخوة؟] (¬1). وسُئل زيد بن ثابت عن ذلك فقال: ["إن العرب تسمِّي الأخوينِ إخوةً"] (¬2). فالذي يظهر من قول ابن عباس وقول زيد أن الجمع في لسان قريش إذا أُطلِق كان المتبادر منه الثلاثة، وليس الأمر هكذا عند جميع العرب، وإلّا لما خصَّ ابن عباس قريشًا. ويظهر من قول زيد أن الجمع في لسان الأنصار يُطلَق على الاثنين إطلاقًا مستفيضًا، فجرى العمل قبل ابن عباس وبعده على الاعتداد بالاثنين. ¬

_ (¬1) ما بين المعكوفتين بياض في الأصل. والأثر أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/ 465) والحاكم (4/ 335) والبيهقي (6/ 227). (¬2) هنا بياض في الأصل، والأثر أخرجه الحاكم (4/ 335) والبيهقي (6/ 227).

ومن جملة ما يرجَّح به أن الأحكام المنصوصة المتفق عليها في الفرائض لا تفرِّق بين الاثنين فما فوق، فللبنت أو بنت الابن النصف، وللثنتين فأكثر الثلثان، وكذلك للأخت شقيقةً أو لأبٍ النصف، وللثنتين فأكثر الثلثان، وللأخ لأمٍّ السدس، وللاثنين فأكثر الثلث. ويتأكَّد هذا بأن الظاهر أن الإخوة إنما ينقصون الأمَّ إلى السدس لأجل ميراثهم، حتى مع وجود الأب، فإنهم يرثون تقديرًا كما تقدم، وهم في ميراثهم لا يفترق الاثنان منهم والثلاثة فأكثر، أما الإخوة لأمَّ فظاهر، وأما الأشقاء أو لأب فيعتبر ذلك بإناثهم، فللأختين فأكثر الثلثان.

الرسالة الحادية والعشرون مسألة منع بيع الأحرار

الرسالة الحادية والعشرون مسألة منع بيع الأحرار

(1) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أكرمنا بالهداية، ولاحظَنا بالرّعاية، وحَفَّنا باللطف والعناية، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الهادي من الغَواية، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي أنزل عليه الكتاب فأوضح آيه، صلّى الله وسلَّم عليه وعلى آله وأصحابه أهلِ الفضل والدِّراية. أمّا بعدُ، فإنّي لمّا رأيتُ العِلْمَ قد خبا زِنادُه، وكَبا جَواده، بل كان قد أصبح نَسْيًا منسيًّا، وعَدّ الناسُ من بقيَ من حَمَلتِه مرتكبين شيئًا فريًّا، لولا قيامُ مولانا أمير المؤمنين لتجديده، واجتهاده في بنائه وتشييده. وكنتُ ممَّن تشبّه بأهله، ولبِسَ العِمامةَ مع جهله، أزعجني ما حَدَث في بيع الأحرار، وما يعاملُهم به القضاة من عدم سماع دعوى المبيع ولا شهادةِ الحسبة مؤاخذةً بظاهر الإقرار؛ فرأيتُ القيام بهذه المهمّة عملًا بالظاهر من كوني ممّن يُعتَدُّ به في هذا المجال، وإن كنتُ في الحقيقةِ من جملة الجُهَّال. فأولاً: لا يخفى عِظَمُ خَطَر الحريّة، قال الله تعالى: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد: 11 - 13] إلى غير ذلك من الآيات، بحيث جَعَله كفَّارةً لأكبر الكبائر وهو القتل، وكفَّارةً للظهار، وكفَّارةً للجماع في رمضان إلى غير ذلك. وقد قرنها الله تعالى بالإيمان, قال تعالى: {لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 37]، أي: أنعم الله عليه بالهداية إلى الإِسلام، وأنعمتَ عليه بالفكَّ من رِبْقةِ الرقَّ.

وفي الصّحيحين (¬1) عن أبي هريرة قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: "مَن أعتقَ رقبةً مسلمةً أعتقَ الله بكل عضوٍ منه عضوًا من النار، حتَّى فَرْجَه بفَرْجِه". وروى البيهقيُّ في "شعب الإيمان" (¬2) عن البراء بن عازبٍ قال: "جاء أعرابيٌّ إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: علِّمني عملاً يُدخِلُني الجنّة. قال: "لئن كنتَ أقصرتَ الخطبةَ لقد أعظمتَ المسألة. أعتِقِ النَّسَمةَ، وفُكَّ الرقبةَ". قال: أوَليسَا واحدًا؟ قال: "لا، عِتْقُ النسَمة أن تنفرد بعتقها، وفكُّ الرقبةِ أن تُعِين في ثمنها ... " الحديث. وفي حديثٍ رواه أبو داود والنسائي (¬3): أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ في شأن رجلٍ قَتَل، فقال: "أَعتِقوا عنه، يُعتِقِ اللهُ إليه بكلِّ عضوٍ عضوًا منه من النار". وفي "شعب الإيمان" (¬4): أنّه - صلى الله عليه وسلم - قال: "أفضلُ الصدقة الشفاعةُ, بها يُفَكُّ رقبةٌ". وفي مسلمٍ (¬5) عن أبي هريرة قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَجزِي ولدٌ والده إلا ¬

_ (¬1) البخاري (6715) ومسلم (1509). (¬2) رقم (4026) ط. الهند. وأخرجه أيضًا أحمد في "مسنده" (18647) وابن حبّان في "صحيحه" (374) والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 272، 273). وإسناده صحيح. (¬3) أبو داود (3964) والنسائي في الكبرى (4872) عن واثلة بن الأسقع، وهو حديث صحيح. راجع تعليق المحققين على "المسند" (16012). (¬4) رقم (7279) عن سمرة بن جندب. وفي إسناده أبو بكر الهذلي، وهو ضعيف. وذكر الذهبي في "الميزان" (4/ 497) هذا الحديث من مناكيره. (¬5) رقم (1510).

أن يجده مملوكًا فيشتريَه فيُعتِقَه" هـ. ومن عرف خطرَ حقّ الوالد عرفَ خطرَ العتق، وبطريق العكس فمن استرقّ حرًّا أو شهد عليه، أو حكم بغير تثبُّتٍ أو داهنَ، ثبت له عكسُ ما يثبتُ للمعتق. ومَن تأمّل أحكام الرقيق عرف عناية الشارع، فمنها السراية، ومنها شرط العتق في البيع، وغير ذلك ممَّا نقضت فيه القواعد، وعلّله الفقهاء بتشوّف الشارع إلى العتق. وسببُ الرقِّ أصله الكفر، فانظر كيف لم يرضَ سبحانه وتعالى استرقاقَ المسلم إلا بالتبعيّة، وإنّما يُستَرقُّ الكافر بالسَّبْي أو الأسر أو نحوه، وهذا من مُدَّةٍ طويلةٍ إنْ لم يكن مفقودًا فنادرٌ. وأمَّا غير الكافرِ فإنَّما يُسترقُّ بتبعيّتِه له، وندورُ الأصل يستلزم ندورَ الفرع. مع أنَّ العبيدَ المتوارثين من أزمنة الفتوح لا يكادون يُوجَدون إلا مَمْنُونًا عليهم بالعتق. ومِن العلماء مَن قال: إنَّ الإماء المجلوبةَ لا يجوز بيعها ولا شراؤها في حال الجهل، قد قيل هذا في القرنِ السادس أو السابع، وممَّن قال به القفَّالُ والردَّاد، ومَن قال بالجواز قال: والورعُ اجتنابُه. هذا إذْ ذاك فكيف اليوم؟! وفي "فتاوى ابن زياد" (¬1): مسألةٌ: الجواري المجلوبة الآن قد حرَّر السبكيُّ أحكامها، وحاصله: إمَّا أن يُجهَل حالُها، فالرجوعُ في ظاهر الشرع إلى السيِّد في الصغيرة، وإلى إقرارها واليد في الكبيرة. واليدُ حُجّةٌ شرعيّة ¬

_ (¬1) "غاية تلخيص المراد من فتاوى ابن زياد" (ص 196، 197).

وكذا الإقرار، والورعُ التركُ. وإمَّا أن يُعلَم حالُها, وله مراتب: أحدها: أن يتحقق إسلامها في بلادها, ولم يَجْرِ عليها رِقٌّ قبل ذلك، فلا تحلُّ هذه بوجهٍ من الوجوه إلا بزواجٍ شرعيًّ. ثانيها: كافرةٌ ممّن لهم ذِمَّةٌ وعهدٌ فكذلك. ثالثها: كافرة من أهل الحرب مملوكة للكافر، حربيًّا أو غيره، فهي حلال لمشتريها. رابعها: كافرةٌ من أهل الحرب قهرها وقهرَ سيَّدَها كافرٌ آخر، فإنّه يملكها ويبيعها لمن شاء، وتحلُّ لمشتريها ... ثم قال بعد ذلك ما مضمُونُه: خامسها: كافرةٌ لم يَجْرِ عليها رقٌّ أَخذَها مسلمٌ قهرًا، فإنْ كانت بإيجاف جيشٍ فغنيمةٌ مشتركةٌ بين الغانمين وأهلِ الخمس، أو غزا واحدٌ فأكثر بأمرٍ من الإِمام أو بدونه ولو مُتَلصِّصًا فكذلك (¬1). والرقُّ إنَّما يثبت باليد أو بالبيّنة أو بالإقرار ونحو ذلك. أمَّا باليد ففي حقِّ الصغير والمجنون، فيصدَّق مَن هو في يده في كونه رقيقًا بيمينه مع بيان السبب المعتبر، كما قرّره شُرَّاح "المنهاج" (¬2) في باب اللقيط، عند قول المتن: "ولو رأينا صغيرًا مميزًا ... " إلخ، وفي باب الدعاوي. ¬

_ (¬1) إلى هنا انتهى النقل من "فتاوى ابن زياد". (¬2) انظر: "نهاية المحتاج" (5/ 461).

وأمَّا بالبيّنة فأمرها ظاهرٌ، وشرطها بيانُ السبب المعتبر، كما قرَّروه عَقِبَ ما مرَّ عند قول المتن: "ومَن أقام بيّنةً بِرِقّه عُمِلَ بها" (¬1). ويُشترط أيضًا عدم المعارضة، فإنَّ بيّنةَ الحرّ تُقدَّم على بيّنةِ الرقّ، على ما نقله الهروي عن الأصحاب، وإنْ كان المعتمد خلافَه كما ذكره الرمليُّ في باب الدعاوي (¬2). وإذا لم تعتبر اليد، ولم تَرِدْ بيّنةٌ معتبرة، فالقول قول المُسْتَرَقّ البالغ بيمينه، وإنْ قد استخدم زمانًا وتداولته الأيادي، كما حققوه في باب الدعاوي. وأمَّا الصغير فيُقبَل قولُ مسترِقِّه الذي هو في يده بيمينه ما لم يعتمد على الالتقاط، فإذا بلغ وادَّعى الحريَّة لم يُصدَّق إلا ببيّنةٍ على الأصحّ. أمَّا غيرُ ذي اليد فلا يُصدَّق إلا ببيّنة معتبرةٍ. وأمَّا الإقرار فأولاً: من المعلوم أنَّ الإقرار بالمال شرطه الرشد، ومن المعلوم أن مذهبَ الشافعي أن الرشدَ صلاح الدين والمال، وإنْ تجوَّز بعضُ المتأخرين فيعمل به حيث دعتِ الحاجةُ، والإقرارُ بالرقَّ هل يُعتبر فيه الرشد؟ الذي فهمه ابن حجر والرمليُّ من إطلاق الأصحاب في باب اللقيط عدمُ اعتباره، على أنَّ ابن حجر إلى اعتباره أميلُ، وباعتباره قال سلطان العلماء الشيخ عزُّ الدين عبد العزيز بن عبد السلام رحمه الله تعالى، ورجّحه المغني والزركشي والأذرعي وابن قاسمٍ والسيّد عمر، وهو الظاهر؛ لأنّه إقرار بمالٍ، والعذر عن إطلاق الأصحاب في باب اللقيط أنهم قد قيَّدوه في باب الإقرار، وهو الباب المعقود لذلك. ¬

_ (¬1) المصدر نفسه (5/ 462). (¬2) المصدر نفسه (8/ 345).

تنبيه

وإذا تقرّر هذا فأين الرشد اليوم من أكثر الناس؟! ومن شروط الإقرار أيضًا عدم الإكراه، وقد نصُّوا على أنَّ القول قول مدّعي الإكراه إذا قامت أمارةٌ عليه، وكفى بحال الشخص تحت سيطرة المتغلِّبِ عليه الطامعِ في بيعه بمالٍ كثيرٍ، مع فساد الزمان وجهل الناس وشدّة ظلمهم، فإنها أمارةٌ واضحة على الإكراه. تنبيهٌ: ويُشتَرط في إثبات الرقّ بأدنى دليل، كأن يكون داخلاً تحت الإمكان. فمَن عُلِمت حريته وإسلامه لم تُسمع دعوى الرقّ عليه أصلاً. ويُشترط في الإقرار بالرقّ أيضًا أن لا يسبقه إقرار بالحريّة، كما قرَّروه في باب اللقيط. فإذا ثبت الإقرار المعتبر فهل تُسمع الدعوى بعده؟ قال القليوبي في "حاشيته" على المحلّي (¬1) قُبيلَ باب بيع الثمار: "إنّها لا تُسمع إلا أن يبيِّن له وجهًا محتملاً، وأنّ ابن حجرٍ قال: "تُقبَل مطلقًا لأجل حقّ الله تعالى". وقال في باب الحوالة (¬2): "نعم إنِ اعترفَ العبد قبلها بالرقِّ، أو صرَّح أحدُ الثلاثة قبلها بالملك، لم تُسمَع بيّنتُهم ولا دعواهم، كما اعتمده [شيخنا] (¬3) كشرح شيخنا الرملي، ونقل سماعها مطلقًا؛ لأنَّ الحريّة حقُّ الله تعالى ... " إلخ. ¬

_ (¬1) (2/ 224). (¬2) (2/ 322). (¬3) زيادة من المطبوع.

فأمَّا إذا بيَّن وجهًا محتملاً فإنها تُقبل جزمًا، كما أشاروا إليه في باب الحوالة. وأمَّا ما ذكره عن ابن حجرٍ فلم أره لابن حجر في "التُّحفة" بعد الفحص، بل في كلامه ما يفيد خلافه، قال في بابِ الحوالة (¬1): "إنَّ عدمَ سماعِها هو الأصحُّ، مع تناقضٍ لهما في مواضع" يعني الشيخين. وفي "الداغستاني" (¬2) في باب الحوالة: "قوله: (أو أقامها العبدُ)، قال في "شرح العباب": قال الجلال البلقيني: لم يذكروا إقرار العبد بالرقَّ، والقياس يقتضي تَعيُّنَ إقامة البيّنة حسبةً؛ لأنَّ إقراره بالرقِّ مُكذِّب لبيِّنتِه، فلا يقيمُها. انتهى. ونُقِل عن الأسنوي ما يوافقه، وعن السبكي والأذرعي ما يخالفه، ويؤيّد كلام الجلال والأسنوي امتناعُ سماعها من المتبايعين إذا صرّحا حين البيع بالملك، فإنّ تصريحهما بالملك نظير تصريح العبد بالملك". انتهى، سم بحذفٍ". فقوله: "ونقل عن الأسنوي ما يوافقه"، أي: قال بعدم سماعها إلا إن كانت حسبةً. وقوله: "وعن السبكي والأذرعي ما يخالفه"، أي: قالا بسماعها مطلقًا، كما هو ظاهرٌ. وأمّا الحسبةُ فإنَّه لا شكَّ فيها أنها تُقام على كلِّ حالٍ. ¬

_ (¬1) "تحفة المحتاج" (5/ 237 - 238). (¬2) هو الشرواني، انظر حاشيته على التحفة في الموضع المذكور.

وفي "المنهاج" (¬1): "وتُقبل شهادةُ الحسبة في حقوق الله تعالى، وفيما له فيه حقٌّ مؤكّد كطلاقٍ وعتقٍ ... " إلخ. وفسَّر الشرَّاح (¬2) قوله: "وفيما له حقٌّ مؤكد" بما لا يتأثر برضا الآدمي، ولا شكَّ في أنّ الحريّة كذلك. إذا علمتَ ما مرّ فإنّ المستَرَقَّ في هذا الزمان إن كان مشهورَ النسب فلا تُسمع دعوى مسترِقِّه أصلاً. وإن كان مجهولاً لكونه مجلوبًا من قُطرٍ بعيدٍ فالقول قوله بيمينه، ما لم يَسبِق منه إقرارٌ بالرقَّ مستكملٌ للشروط، وهو عزيزٌ جدًّا، لقيام أمارة الإكراه، وعلَّتُه السَّفَهُ. ولو قامت بيّنةٌ أنّ المسترَقَّ قد أقرّ بالحريّة قبل إقراره بالرقّ قُبِلتْ، وأَبطلَتْ إقرارَه بالرقّ. فأمّا إذا ثبت إقراره المعتبر بالرقِّ ولم يكن مشهور النسب، فهل تُسمَع دعواه الحريّةَ أم لا؟ قد سبق نقل القليوبيَّ عن ابن حجرٍ والرمليّ، ونقلُ ابن قاسم عن السبكيِّ والأذرعي. وأمّا كلام الجلال البلقيني وموافقةُ الإسنوي له فهو عبَّر بقوله: "والقياس يقتضي ... " إلخ، وكثيرًا ما تُنقَض القواعد ويُخالَف القياس في هذا الباب لخطر شأن الحريّة. ¬

_ (¬1) "منهاج الطالبين" (3/ 437). (¬2) انظر "تحفة المحتاج" (10/ 237) و"نهاية المحتاج" (8/ 306).

وبما قرَّرناه تبيّن أن الإقرار بالرقَّ لا حكمَ له، لغلبةِ السفه وعدم المعرفة، وقيامِ أمارة الإكراه، مع غلبة الحريةِ - وهي الأصلُ - ونُدورِ الرقّ المتيقّن. فعليه كلُّ مُسْتَرقٍّ ادَّعى الحريةَ فالقول قوله بيمينه، سواء سبقَ منه إقرارٌ بالرقِّ أمْ لا، إلاّ أن يقيم مُسْترِقُّه بيّنةً برقِّه، فإن أقامها ثبت الرقُّ إلاّ أن تقوم بيّنةٌ بالحريّة، سواء أقامها العبدُ - على ما مرّ عن السبكي، ونقله (ق ل) عن ابن حجرٍ والرملي، ومرّ توجيهُه - أم أُقيمتْ حسبةً، فإنّ بيّنةَ الحريّة تُقَدَّمُ على بيّنةِ الرقيّة، على ما نقله الهروي عن الأصحاب، ويتّجه ترجيحُه لفسادِ الزمان وكثرةِ العدوان، وغلبةِ الحريّة - وهي الأصلُ - ونُدورِ الرقّ. وأيُّ إنسانٍ جلب مُسترَقًّا فالأحوط للمشتري أن لا يشتريه إلا بعد إخبار موثوقٍ بأنّه مملوكٌ حقًّا، وإلاّ فاللازمُ عليه أنْ يشتريَه بخيار الشرط، ثم يؤمِّنه ويطمئنه [.......] (¬1)، ويُسكّن فَزَعه، ويقول له: إن كنتَ حُرًّا فأنت آمِنٌ ضامنٌ، وأنا أقبِضُ منهم دراهمي، وأحمِيْك منهم، وأمنعُهم عن التعرُّض لك، ثم إن أحببتَ البقاء لديَّ وإلاّ أرجعتُك إلى أهلك مع مَن أَثِقُ به. وإن كنتَ مملوكًا فلا تكذِبْ. فإن قال: أنا حُرٌّ، لزِمَه رفعُه إلى الحاكم للبحث عنه، ولا يُسْلِمه إلى جالبِه. وإنْ قال: بل أنا مملوكٌ، فلا بأسَ أنْ يشتريَه معتمدًا على ظاهر اليد مع إقراره، بعد تأمينه وتَطْمِينه. ¬

_ (¬1) هنا كلمتان غير واضحتين.

والحذرَ ثم الحذرَ من التساهل في هذا، فإنَّه من أخطر الخطر، كيف وما يترتَّبُ عليه من المفاسد كثيرٌ؟! كالتسرّي واسترقاق الأولاد، إلى غير ذلك. والنظرُ لمولانا أميرِ المؤمنين، مُقيمِ أَوَدِ الدين، المجتهد المطلق، سيّدنا الإِمام محمَّد بن عليَّ بن إدريس، حفظه اللهُ تعالى، آمين. وقد كنتُ أردتُ نقلَ عباراتِ شُرَّاح "المنهاج" و"المنهج" و"الحواشي" في باب الإقرار، والحَجْر، والحوالةِ، واللقيط، والدعاوي والشهادات، فلم تُساعدني العزيمةُ، ورأيتُ الذي أوردتُ كافيًا. وحسبنا الله ونعم الوكيل. ***

(2) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي لا إله إلا هو، والصلاة والسلام على نبيّه ورسوله محمدٍ وآله وصحبه. وبعدُ، فإنَّ هذا الزمانَ لا يخفى فيه ضياعُ حقوق الله تعالى بين الناس، وفُشوُّ السوء والفحشاء ما بينهم، ومن ذلك ما شاع من بيع الأحرار، وإكراهِهم على الإقرار، أو ترغيبهم بعضهم ببعضِ الثمن وإطماعِه بالهربِ، وبعضهم رغَّبه في تحمُّل مُؤْنتِه ومعيشته واستراحتِه من الطلب والتعب، وربّما حضر إلى بعض الحكام ذلك المقِرُّ فادَّعى الحريّة، أو جاءت شهادةُ حِسبةٍ، فلم يسمعها اعتمادًا على ظاهر كلام أهل المذهب. وأنا أنقلُ هنا بعضَ ما يلوحُ بالمسألةِ من كلام "المنهاج" و"التُحفة" و"الحاشية" للشِّرواني. في الإقرار (¬1): (يصحُّ) الإقرار (من مطلق التصرّف) أي: المكلّف الرشيد ... إلخ. وفي باب اللقيط (¬2): (إذا لم يُقرّ اللقيطُ برِقًّ فهو حرٌّ، إلا أنْ يقيم أحدٌ بينةً لرقّه، وإنْ أقرَّ به) أي: الرقّ، وهو مكلَّفٌ، وعن ابن عبد السلام ما يقتضي اعتبارَ رشده أيضًا، ¬

_ (¬1) "منهاج الطالبين" (2/ 177)، "تحفة المحتاج" مع الحواشي (5/ 354). (¬2) "المنهاج" (2/ 313، 314)، "تحفة المحتاج" (6/ 356).

وظاهر كلامهم خلافُه. (لشخصٍ فصدَّقه قُبِل إن لم يسبق إقراره) أي: اللقيط (بحريّةٍ) كسائر الأقارير، بخلافِ ما إذا أكذبه، وإنْ صدَّقه بعدُ أو سبق إقراره وهو مكلَّفٌ؛ لأنّه به التزمَ أحكام الإقرار المتعلّقة بحقوق الله تعالى والعبادِ، فلم يقدر على إسقاطها. وفي الحاشية (¬1): "اعتمده المغني والسيد عمر، ومال إليه ابن قاسم". عبارةُ المغني: تنبيهٌ: سكتوا عن اعتبار الرشد في المقر ههنا، وينبغي - كما قال الزركشي - اعتباره كغيره من الأقارير، فلا يقبل اعتراف الجواري بالرقّ كما حكي عن ابن عبد السلام؛ لأنَّ الغالب عليهنَّ السفه وعدم المعرفة، قال الأذرعيُّ: "وهذه العلّة موجودة في غالب العبيد، لا سيما من قرُب عهده بالبلوغ". وعبارة السيد عمر: "قوله: فظاهر كلامهم خلافه، قد يقالُ: إنَّما سكتوا عن هذا اكتفاءً بذكره في نظائره، إذِ الغالبُ استيعاب الشروط إنما يكون في الباب المعقود أصالةً لبيان ذلك الحكم كباب الإقرار هنا، ثم رأيتُ المحشي قال: قوله: "اعتبار رشده" قد يؤيّده أنه إقرار بمالٍ، وشرطه الرشدُ، اللهم إلا أن يمنع أن الإقرار بالرقَّ ليس من الإقرار بالمال، وإن ترتّبَ عليه المال، انتهى. وهو إشارةٌ إلى ما نبَّهنا عليه، وأمَّا قوله: "اللهم إلاّ ... إلخ" فلا يخفى ما فيه من البعد بل المكابرة، إذْ لا معنى لقوله: أنا عبده أو نحوه إلا أنا مملوكٌ له، وهو نصٌّ في المالية. هـ. ¬

_ (¬1) "حاشية الشرواني" المطبوعة مع "تحفة المحتاج" (6/ 356 - 357).

وفي الشرح (¬1) بعد: ولو أقرَّ بالرقِّ لمعيَّنٍ ثم بحريّةِ الأصل لم تسمع، لكن إن كان حالَ الإقرار الأول رشيدًا، على ما مرَّ. وقال في بابِ الحجر (¬2): (حجر الصبيَّ يرتفع ببلوغه رشيدًا) لقوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء: 6] ... إلى (والرشدُ صلاح الدين والمال) معًا، كما فسَّر به ابن عباسٍ وغيره الآيةَ السابقة، ووجه العموم فيه مع أنه نكرةٌ مثبتةٌ وقوعُه في سياق الشرط. [وفي الدعاوي] (¬3): (ولو ادُّعيَ رقُّ بالغٍ) عاقلٍ مجهول النسب ولو سكرانَ (فقال: أنا حرٌّ) في الأصلِ، ولم يكن قد أقرَّ له بالملك، قيل: وهو رشيدٌ على ما مرَّ قبيل الجعالة (فالقولُ قولُه). وفي الشهادات (¬4): (وتُقبل شهادة الحسبة في حقوق الله تعالى وفيما له فيه حقٌّ مؤكَّدٌ) وهو ما لا يتأثَّر برضا الآدمي ... إلى أنْ قال: وإنما تُسمَع عند الحاجة إليها حالاً، كأخيها رضاعًا وهو يريدُ أنْ ينكحها، أو أعتقه وهو يريدُ أن يسترِقَّه (كطلاقٍ وعتقٍ وعفْوٍ عن قصاصٍ، وبقاء عدّةٍ وانقضائها، وحدًّ له تعالى). ¬

_ (¬1) "تحفة المحتاج" (6/ 357). (¬2) المصدر نفسه (5/ 162 - 166). (¬3) المصدر نفسه (10/ 301 - 302). (¬4) المصدر نفسه (10/ 237 - 239).

وفي الحاشية على (كطلاقٍ) أي: لأنَّ المكلَّف فيه حقّ الله تعالى، بدليل أنه لا يرتفع بتراضي الزوجين أسنى. هـ نعم في "بغية المسترشدين" (¬1) في الحجر عن الأشخر: مذهب الشافعيّ أن الرشد صلاح المال والدين، بأن لا يرتكبَ محرمًا مبطلاً للعدالة، ومنه أن تغلب طاعاتُه صغائره، إلى أن ذكر وجهًا آخر حكاه عن البعض وتجوّز فيه المتأخرون تيسيرًا، قال: وهو شاذٌّ. وفي باب الخلع (¬2) عن الأشخر أيضًا: هذا إذا قلنا بمذهب الشافعي أن الرشد صلاح الدين والمال، أمَّا إذا قلنا بالوجه الشاذّ أنه صلاح المال ... إلخ وفيه (¬3) عن بافقيه: ومعلومٌ أن الرشد على المذهبِ أن تبلغ مصلحة لدينها ودنياها ... إلخ. وفي فتاوي ابن زياد (¬4): مسألةٌ: عبد مسلمٌ بالغٌ رشيدٌ تحت يد مالكٍ مقرًّ له بالملك مستخدم مستفاض بين الناس أنه عبدُه، ثم أعتقه السيد بحضرة بعض العلماء عتقًا صحيحًا، فانتقل العتيق إلى بلدٍ أخرى وأقرَّ أنَّه مِلْكٌ لشخصٍ آخر، لم يُقْبل إقراره بعد ثبوت العتق، ... إلخ. ¬

_ (¬1) (ص 139). (¬2) (ص 217). (¬3) (ص 218). (¬4) "غاية تلخيص المراد من فتاوى ابن زياد" (ص 144).

وفي الحجر (¬1): مسألةٌ: الرشدُ صلاح الدين والمال، هذا مذهب إمامنا الشافعيِّ رحمه الله، وفي وجهٍ حكاه المتوليّ ... إلخ. إذا تقرر ما نقلناه وعرفتَ أحوال الناس اليوم في بيع الجواري اتَّجه الجزمُ بسماع البيّنةِ على الحريّةِ؛ لأنَّ حقوق الله المتعلّقةِ بها عظيمةٌ، وكم مفاسد تترتب على الرقَّ. وتبيَّن مما نقل عن "المغني" والسيد عمر وابن قاسم عن الزركشي والشيخ عزّ الدين بن عبد السلام سلطان العلماء وغيرهم أن الرشد هنا معتبرٌ كسائر الأقارير. أمَّا حُجَّةُ من لم يشترطه فإنَّما هو مجرد إطلاقهم أنَّ الأصحاب .... ، وقد تبيّن أن إطلاقهم إنّما هو اكتفاء بذكره في أصل المسألة ونظَائرها، وذلك باب الإقرار. وكون الإقرار هنا إقرارًا بمالٍ لا يُمْتَرى فيه. وأمَّا كون الرشد مُعتبرًا في الدين فهو المذهبُ، وإنَّما تجوَّز فيه بعضُ المتأخرين تيسيرًا، وينبغي أنْ يعتبر التيسير قبل ادِّعاء المبيع الحريَّةَ، أو ورود شهادة الحسبة، وأمَّا عندهما ففيه تفويتٌ لحقوق الله تعالى، وخوضٌ في الأوحال، على أنَّ الحسبةَ الظاهرُ سماعُها هنا؛ لكون الغالب فيه حقّ الله تعالى، إذْ لا ترتفع الحرية بالتراضي كما لا يرتفع الطلاق. وأمَّا الرشدُ في الجواري والعبيد اليوم فمفقود؛ إذْ لا تُعرف منهم صلاة ولا صيام بل ولا ذِكرُ الله تعالى إلا نادرًا، مع جهلهم بما يترتب على ¬

_ (¬1) المصدر نفسه (ص 138).

استرقاقهم من المفاسد، وإنما عامَّة قصدهم أن يستريحوا من طلب المعاش، وهذا مع استخفاف الناس بالمسألة وجرأتهم عليها، فطالما باعوا الأحرار وأكرهوهم على الإقرار، أو رغَّبوهم بمالٍ وأطمعوهم بالفرار، أو رغَّبوا في استراحتهم من الكدِّ والتَّعبِ في طلبِ المعاش بحمل المشتري لِمُؤنتهم، ولا سيَّما إذا كان من الأغنياء. وقد قيل في الأعجمي الذي يرى وجوبَ طاعةِ أميره: إنَّ حكمه مأمورًا كحُكْمه مُكْرهًا, ولا يبعد قياس هؤلاء عليه. وللإمام - أيَّده الله تعالى - النظرُ والجزمُ بما تبرأ به الذمَّةُ؛ إذِ الدينُ قِلادةٌ في عُنُقه، وهو بحمد الله من العلم والتحقيق بمرتبةِ الاجتهاد، والحقُّ أحقُّ أنْ يُتَّبع، ولا يرفع الحقَّ كلامُ أحد إلا الله ورسوله. واللهُ أعلمُ. ***

(3) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ربّ العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. وبعد، فقد حملني ما طرأ على الناس من أحكام الأرِقّاء، وجرأة كثيرٍ من الناس على بيعِ الأحرار، مع إكراههم على الإقرار أو ترغيبهم به، ورغبتهم في المعرفة والمعيشة، ومع ذلك فإنَّ بعض الحكام يقضي بمجرد الإقرار بالرقِّ، لم يَعُدْ يقبل دعواه الحرية، ولا يسمع شهادة الحسبة. وهذا ما اطلعتُ عليه من عبارات "المنهاج" مع "التحفة" وحاشية الشِّرواني. متنٌ وشرحٌ: (يصحُّ) الإقرار (من مطلق التصرُّف) أي: المكلّف الرشيد ... إلخ. هـ من الإقرار (¬1). وفي باب اللقيط (¬2): (إذا لم يُقِرّ اللقيط برقٍّ فهو حرٌّ، إلا أنْ يُقيمَ أحدٌ بيِّنةً برقّه، وإنْ أقرَّ به) أي: الرقِّ وهو مكلَّفٌ، وعن ابن عبد السلام ما يقتضي اعتبارَ رشده أيضًا، وظاهر كلامهم خلافُه. (لشخصٍ فصدَّقَه قُبِل إنْ لم يسبق إقراره) أي: اللقيط ¬

_ (¬1) "تحفة المحتاج بشرح المنهاج" (5/ 354). (¬2) المصدر نفسه (6/ 356).

(بحريّةٍ) كسائر الأقارير، بخلافِ ما إذا أكذَبَه, وإنْ صدَّقه بعدُ أو سبق إقراره بالحريّةِ وهو مكلَّف؛ لأنّه به التزمَ أحكام الإقرار المتعلّقة بحقوقِ الله والعباد، فلم يقدر على إسقاطها. وفي الحاشية (¬1) عند قوله: "ما يقتضي رشده": اعتمده المغني والسيد عمر، ومال إليه ابن قاسمٍ. عبارةُ المغني: تنبيهٌ: سكتوا عن اعتبار الرشد في المُقِرَّ ههنا، وينبغي - كما قال الزركشيُّ - اعتباره كغيره من الأقارير، فلا يُقبل اعتراف الجواري بالرقَّ كما حُكِيَ عن ابن عبد السلام؛ لأنَّ الغالبَ عليهنَّ السفهُ وعدم المعرفة. قال الأذرعيُّ: وهذه العلّةُ موجودةٌ في العبيد، لا سيّما من قرُب عهده بالبلوغ. وعبارة السيد عمر: قوله: "وظاهر كلامهم خلافه"، قد يقال: إنّما سكتوا عن هذا اكتفاءً بذكره في نظائره؛ إذِ الغالبُ أنَّ استيعاب الشروط إنّما يكون في الباب المعقود أصالةً لبيان ذلك الحكم، كباب الإقرار هنا، ثم رأيتُ المحشّي قال: قوله: "اعتبار رشده" قد يؤيده أنّه أقرَّ بمالٍ، وشرطه الرشد، اللهم إلا أن يمنع أنَّ الإقرار بالرقَّ ليس من الإقرار بالمال، وإنْ ترتّب عليه المال. هـ وهو إشارة إلى ما نبهنا عليه. وأمَّا قوله: "اللهم إلا ... " إلخ، فلا يخفى ما فيه من البعد بل المكابرة؛ إذْ لا معنى لقوله: أنا عبده أو نحوه إلاّ أنا مملوكٌ له، وهو نصٌّ في المالية. هـ ¬

_ (¬1) "حاشية الشرواني" المطبوعة مع "التحفة" (6/ 356 - 357).

وفي الشرح (¬1) بعد: ولو أقرَّ بالرق لمعيَّن ثم بحرية الأصل لم تُسمع، لكن إنْ كان حالَ الإقرار الأول رشيدًا، على ما مرَّ. وفي الحجر (¬2): (وحجر الصبيّ ببلوغه رشيدًا) لقوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} ... إلى أن قال: (والرشدُ صلاح الدين والمال) معًا، كما فسَّر به ابن عباس وغيره الآية السابقة، ووجه العموم فيه مع أنه نكرة مثبتة وقوعُه في سياق الشرط. وفي الدعاوي (¬3): (ولو ادُّعي رقُّ بالغٍ) عاقلٍ مجهولِ النسب ولو سكرانَ (فقال: أنا حرٌّ) فالقول قوله. هـ وفي الشهادات (¬4): (وتُقبل شهادة الحسبة في حقوق الله تعالى وفيما له فيه حقٌّ مؤكّد) وهو ما لا يتأثّر برضا الآدمي ... إلى أنْ قال: وإنّما تُسمع عند الحاجة إليها حالاً، كأخيها رضاعًا وهو يريد أن ينكحها، أو أعتقه وهو يريد أن يسترقَّه (كطلاقٍ وعتقٍ وعفوٍ عن قصاص، وبقاءِ عِدّةٍ وانقضائها، وحقًّ له تعالى). ¬

_ (¬1) "تحفة المحتاج" (6/ 357). (¬2) المصدر نفسه (5/ 162 - 166). (¬3) المصدر نفسه (10/ 301 - 302). (¬4) المصدر نفسه (10/ 237 - 239).

وفي الحاشية على قوله "كطلاقٍ" أي: لأنَّ المكلّف فيه حقُّ الله تعالى، بدليل أنَّه لا يرتفع بتراضي الزوجين. أسنى هـ. وفي "البغية" (¬1) عن الأشخر: "مذهبُ الشافعيّ أن الرشد صلاح المال والدين، بأن لا يرتكبَ محرمًا مبطلاً للعدالة، ومنه أن تغلب طاعاتُه صغائره ... إلى أنْ ذكر وجهًا آخر حكاه عن البعضِ، ثم قال آخره: وهو شاذٌّ". وفي باب الخُلْعِ (¬2) عن الأشخر أيضًا: "هذا إذا قلنا بمذهب الشافعي أن الرشد صلاح الدين والمال، أمَّا إذا قلنا بالوجه الشاذّ أنّه صلاح المال ... " إلخ. وفيه (¬3) عن بافقيه: "ومعلوم أن الرشد على المذهب أن تبلغ مصلحة لدينها ودنياها". وفي "فتاوى" ابن زياد (¬4): مسألةٌ: عبد مسلم بالغ رشيدٌ تحت يدِ مالكٍ مُقرّ له بالملك مستخدمه مستفاض بين الناس أنه عبد، ثم أعتقه السيّدُ بحضرة بعض العلماء عتقًا صحيحًا، فانتقل العتيقُ إلى بلدٍ أخرى وأقرَّ أنه ملكٌ لشخصٍ آخر، لم يُقبل إقراره بعد ثبوت العتق؛ لأن العتيق المسلم لا يتصور حدوث الرقّ عليه ... إلخ. ¬

_ (¬1) "بغية المسترشدين" (ص 139). (¬2) المصدر نفسه (ص 217). (¬3) المصدر نفسه (ص 218). (¬4) "غاية تلخيص المراد من فتاوى ابن زياد" (ص 144).

وفيها في الحجر (¬1): مسألةٌ: الرشدُ صلاح الدين والمال، هذا مذهب إمامنا الشافعيّ رحمه الله، وفي وجهٍ حكاه المتوليّ. إذا تقرّر ما نقلناه، وعُرِفَ أحوال الناس اليوم في بيع الجواري اتجَّه الجزمُ بسماع البينة على الحريّة؛ لأنَّ الحقَّ في الحرية لله سبحانه وتعالى، وكم يترتب على الرقيّة من مفاسد خطيرة نعوذ بالله من ذلك. فأمَّا صحةُ الإقرار فقد تقرّر أن المذهبَ كون الرشد معتبرًا في الدنيا والدين، وإنْ ذهبَ بعضُ المتأخرين إلى الوجه الضعيفِ طلبًا للتسهيل على الناس؛ لأنَّ المشقّةَ تجلب التيسيرَ، على أنَّ المصلحة في مسألتنا مطابقةُ المذهب في اعتبار الدين حفظًا لحقوق الله تعالى من الضياع، وصدًّا لأهل الفجور والأطماع؛ لعموم البلوى بذلك، فإنَّ الناسَ لا يعرفون ما يترتبُ على الرقِّ من المفاسد، فهم يرتكبون الجرأة على بيع الأحرار طمعًا في الدنيا الفانية، فأمَّا المبيع فإمَّا أن يُكرِهوه على الإقرار، وتعتبرُ عليه بينة الإكراه بعدُ، وإمَّا أنْ يُرغِّبوه فيرغب في الرقِّ لما فيه من حملِ المالك مُؤْنتَه، فيستريح من تعب الطلب للمعاش، وقد شاع نَهْبُ الأحرار، وإكراههم على الإقرار، وبيعهم للتجار، وربّما علم ذلك المشتري فيبتاعه طلبًا للربح، أو يمسكه لئلا تذهب دراهمه. وأمَّا إقرار الجواري فإنّه وإنْ قيل: إنَّ المعتمدَ أنّه لا يُعتبر فيه الرشد، فقد عرفتَ ما فيه ممَّا حكيناه عن المغني والسيد عمر إلحاقًا له بسائر الإقرارات. ¬

_ (¬1) المصدر نفسه (ص 138).

وأمَّا شهادة الحسبة فلا يخفى ما يترتب على استرقاق الحرّ مِنَ المفاسد المُخِلَّةِ بحقوق الله تعالى، وكما قيل في الطلاق: إنه حق الله تعالى بدليل أنَّه لا يرتفع بالتراضي. على أنَّ القول بعدم اعتبار الرشد في إقرار الجواري، فإن كان قبل البينة فتخفيفًا على الناس ينبغي اعتماده, أمَّا بعد ورود البيّنة من قِبل المبيع أو حسبةً فالذي يطمئنُّ إليه القلب - حفظًا لحقوقِ الله تعالى - اعتبار الرشد، تبريئًا لذمّةِ الإِمام والحكام وسائر الناس. ولمولانا - حفظه الله تعالى - النظر، وعليه الجزمُ بما رآه الحقَّ، فإنَّ الحقَّ لا يرفعه قولُ قائلٍ، والله تعالى أعلمُ. ***

(4) بسم الله الرحمن الرحيم وقعت المذاكرةُ في ما اشتهر الآن في بعض البلدان من بيع الأحرار، والاعتماد على الإقرار، وما يقضي به بعض الحكام من عدم سماع دعوى مَنْ أقرَّ بالرقِّ إذا ادَّعى الحريّةَ، وعدم سماع شهادة حسبة على ذلك، كيف حكمُه؟ أقول: في ق ل (¬1) على ح ل قبيل باب بيع الثمار (¬2) ما لفظه: (تنبيهٌ): لو أقرَّ بالرقِّ لشخصٍ فبِيعَ، ثم ادَّعى الحريَّة لم تُقبل دعواه، إلاّ إنْ بيَّنَ له وجهًا محتملاً، وقال ابن حجرٍ: تُقبل مطلقًا لأجل حقِّ الله تعالى. هـ فهذا إنْ صحَّ أغنى، لكن لم نعثر على ما يفيد ذلك لابن حجر، بل صرَّح بعكسه وأطلق، وإليك عبارتَه في "تحفته" في بابِ اللقيط (¬3): "ولو أقرَّ بالرقِّ لمعيَّنٍ ثم بحريّة الأصل لم تُسمَع". هـ نعم قد عُرِفَ أنَّ المذهبَ اشتراطُ الرشد للإقرار بالمال، والرشد هو صلاح الدين والمال، وأمَّا هنا فعبارةُ ابن حجرٍ عند قول "المنهاج" في باب ¬

_ (¬1) قوله (ق ل) رمزٌ للمحشي قليوبي، له حاشيةٌ على (ح ل)، وهو شرح جلال الدين المحلّي على منهاج النووي. (¬2) "حاشية" قليوبي (2/ 224). (¬3) "تحفة المحتاج" (6/ 357).

اللقيط (¬1): (وإنْ أقرَّ به) أي: الرقّ وهو مكلَّف، وعن ابن عبد السلام ما يقتضي اعتبار رشده أيضًا، وظاهر كلامهم خلافه. هـ. وفي الحاشية (¬2): قوله: "ما يقتضي اعتبار رشده" اعتمده المغني والسيد عمر، ومال إليه سم (¬3). عبارة الأول: تنبيهٌ: سكتوا عن اعتبار الرشد في المُقِرِّ هنا، وينبغي - كما قال الزركشي - اعتبارُه كغيره من الأقارير، فلا يُقبل اعتراف الجواري بالرقّ كما حكي عن ابن عبد السلام, لأنَّ الغالبَ عليهنَّ السفه، وعدم المعرفة. قال الأذرعيُّ: "وهذه العلّةُ موجودةٌ في غالب العبيد، لا سيمَّا مَنْ قرُب عهده بالبلوغ". هـ وعبارة السيد عمر: قوله: "وظاهر كلامهم خلافه"، قد يُقال: إنما سكتوا عن هذا اكتفاءً بذكره في نظائره؛ إذِ الغالبُ في استيعاب الشروط إنما تكون في الباب المعقود أصالةً لبيان ذلك الحكم، كبابِ الإقرار، ثمَّ رأيتُ المحشّي قال: قوله: "اعتبار رشده" قد يؤيّده أنّه إقرار بمالٍ، وشرطه الرشد، اللهم إلا أن يمنع أن الإقرار بالرقّ ليس من الإقرار بالمال، وإن ترتّب عليه المالُ، انتهى. وهو إشارةٌ إلى ما نبّهنا عليه. ¬

_ (¬1) المصدر نفسه (6/ 356 - 357). (¬2) "حاشية الشرواني" على الموضع السابق. (¬3) أي ابن قاسم.

وأمّا قوله: "اللهم ... إلخ" فلا يخفى ما فيه من البُعد بل المكابرة؛ إذ لا معنى لقوله: أنا عبدُه أو نحوه إلاّ أنا مملوكٌ له، وهذا نصٌّ في الماليّة. هـ فكلامُه هو لا يرجِّح اعتبارَ الرشد، وأين الرشد اليوم في كثيرٍ من الأحرار فضلاً عن الأرقّاء؟ ولو اعتُبِر هذا لشقَّ على النَّاس، إذ كلُّ من أراد بيعَ رقيقٍ احتاج إلى شاهدين على رِقّه، وعليه فتُسمع بعد ذلك دعوى المبيع؛ إذ لم يكن الحكم برقّه مبنيًّا على إقراره فتُرَدُّ دعواه. وأمّا شهادةُ الحسبة فإليك عبارةَ "المنهاج" مع ملخَّصٍ من عبارة "التحفة" (¬1): (وتُقبل شهادة الحسبة في حقوق الله تعالى وفيما له فيه حقٌّ موكَّدٌ) وهو ما لا يتأثّر برضا الآدمي ... وإنّما تُسمع عند الحاجةِ إليها حالاً، كأخيها رضاعًا وهو يريد أن ينكحها، أو أعتقه وهو يريد أن يسترقّه (كطلاقٍ وعتقٍ) بأن يشهد به أو بالتعليق مع وجود الصفة أو بالتدبير مع الموت أو بما يستلزمه. هـ والحريّة من أعظم حقوق الله تعالى، والأصليّة أولى من العتق، ولا فرقَ بين كونِ العتق وقع ممَّن يريد أن يتملّكه أو يبيعه أو مِنْ غيره، كما هو الظاهر. فالذي يظهر أنَّ شهادة الحسبة لا تُردُّ في هذا؛ إذ هو ممَّا لا يتأثّر برضا الآدميِّ، والله تعالى أعلمُ. ¬

_ (¬1) (10/ 237 - 238).

الرسالة الثانية والعشرون أسئلة وأجوبة في المعاملات

الرسالة الثانية والعشرون أسئلة وأجوبة في المعاملات

بسم الله الرحمن الرحيم س: ما تعريف البيع؟ ج: البيع لغة: إعطاء شيء وأخذ شيء. وشرعًا: مبادلة مالٍ - ولو في الذمة - أو منفعةٍ مباحة بمثل أحدهما، للمِلْك على التأبيد. وفي "العمدة" (¬1): معاوضة مالٍ بمالٍ. س: ما الذي يجوز بيعه، وما الذي لا يجوز بيعه؟ ج: يجوز بيع كل مملوكٍ فيه نفع مباح، غير الكلب، ولا يجوز بيع الكلب، ولا ما لا نفع فيه، كالحشرات، ولا ما نفعه محرم، كالخمر والميتة، ولا بيع الإنسان ما لا يملكه إلا بإذنٍ من مالكه، أو دلالةٍ عليه، ولا بيعُ معدومٍ، كما ستُثمِره شجرته، ولا مجهولٍ كالحمل، والغائب الذي لم تتقدم رؤيته إلا ما يأتي في السَّلَم، ولا بيعُ غيرِ معين، كشاةٍ من قطيع، إلا ما تتساوى أجزاؤه، كصاعٍ من صُبْرةٍ معينة، ولا بيع ما يَعْجِز البائعُ عن تسليمه، كالآبق، والشارد، والطير في الهواء، والسمك في الماء، ولا بيع المغصوب إلا لغاصبه أو لمن يقدر على أخذه من الغاصب. س: لماذا لا يجوز بيع الكلب مع أن فيه نفعًا مباحًا؟ ج: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ثمن الكلب (¬2). ¬

_ (¬1) لابن قدامة (ص 47). (¬2) أخرجه البخاري (5346، 5761) ومسلم (1567) من حديث أبي مسعود. وفي الباب أحاديث أخرى.

فصل

س: فإن أتلف الإنسانُ كلبَ غيره الذي فيه نفع مباح، مثل: كلب الصيد، ألا يُغرم ثمنه؟ ج: ليس عليه غُرمُ ثمنهِ؛ للنهي عن ثمن الكلب مطلقًا. [ص 2] فصل س: هل ثَمَّ بيوعٌ منهيٌّ عنها؟ وما هي؟ ج: نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيوع: الأول: بيع الملامسة. الثاني: بيع المنابذة. الثالث: بيع الحصاة. الرابع: بيع الرجل على بيع أخيه. الخامس: بيع حاضرٍ لبادٍ. السادس: النَّجَش. السابع: بيعتان في بيعة. الثامن: تلقَّي السِّلَع. التاسع: بيع المشتري للطعام قبل أن يستوفيه. العاشر: الربا. س: ما تفسير هذه البيوع؟ ج: الملامسة: أن يقول: أيّ ثوب لمستَه فهو لك بكذا. والمنابذة: أن يقول: أيّ ثوب نبذتَه إليَّ فهو عليّ بكذا.

وبيع الحصاة: أن يقول: ارْمِ هذه الحصاة، فأي ثوب وقعت عليه فهو لك بكذا. أو: ارْمِ بهذه الحصاة، فما بلغَتْه من أرضي هذه فهو لك بكذا. والبيع على بيع أخيه (¬1): وبيع الحاضر للبادي: أن يجيء البدوي ببضاعةٍ فيكون الحضري سمسارًا له، أي دلاَّلاً. والنَّجَش: أن يزيد في السِّلعة من لا يريد شراءها. والبيعتان في بيعة: أن يقول: بعتك هذا بعشرةٍ من هذا النقد، أو خمسة عشر من هذا النقد الآخر. أو: بعتك هذا على أن تبيعني هذا، أو تشتري منه هذا. وتلقَّي السِّلَع: أن يخرج إلى خارج البلدة يتلقَّى القادمين [ص 3] بالسلع، يشتريها منهم قبل أن يُورِدوها السوقَ. وبيع الطعام قبل أن يستوفيه: أن يشتريه ثم يبيعه قبل أن يقبضه. وأما الربا فسيأتي. ¬

_ (¬1) لم يفسّره المؤلف، وهو أن يشتري رجلٌ شيئًا وهما في مجلس العقد لم يتفرقا وخيارهما باقٍ، فيأتي الرجل ويعرض على المشتري سلعةً مثل ما اشترى أو أجود بمثل ثمنها أو أرخص، أو يجيء إلى البائع، فيطلب ما باعه بأكثر من ثمنه الذي باعه من الأول حتى يندم، فيفسخ العقد. انظر "شرح السنة" (8/ 117).

باب الربا

باب الربا س: ما تعريف الربا؟ ج: الربا لغةً: الزيادة. وشرعًا: زيادة مخصوصة. س: ما هي الأموال الربوية بالنص؟ ج: الذهب، والفضة، والبر، والشعير، والتمر، والملح. س: كيف الربا فيها؟ ج: أن يباع شيء منها بجنسه، كذهب بذهب، وبُرّ ببرّ، نسيئةً، أو بتفاوتٍ، كأُوقيةٍ بأوقيةٍ وربع، وصاع بصاعٍ وربع. أو يباع الذهب بالفضة نسيئةً، أو أحد الأربعة الأُخر بآخر منها نسيئةً. ولا يحرم مثل هذا نقدًا بالتفاوت؛ لحديث: "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، سواء بسواء، فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربَى" (¬1). س: فهل يُلحَق بهذه الأموال غيرُها؟ وما هو؟ ج: يُلحَق بالنقدين كلُّ ما يُوزن، وبالأربعة الباقية كلُّ ما يُكال. [ص 4] س: فهل يحِلُّ في التماثل أن يباع الذهب أو غيره مما يُوزن بمثله كيلاً نقدًا؟ أو يباع البرُّ أو غيره مما يُكال بمثله وزنًا نقدًا؟ ج: لا يحِلُّ، وإنما المعتبر التماثل وزنًا فيما يوزن، وكيلاً فيما يكال. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1587) من حديث عبادة بن الصامت.

س: إذا تبايع اثنان بيعًا يُشترط فيه أن يكون نقدًا، فتبايعَا على أنه نقد، ولكنهما تفرقا قبل أن يتقابضا، فما الحكم؟ ج: ما اشترط فيه النقد فلا بدَّ من أن يتقابضا قبل التفرُّق، فإذا تفرقا قبل أن يقبض كل منهما الذي له، أو بعد قبض أحدهما وقبل قبض الآخر = بطل البيع. س: عرفنا أنه يجوز بيع البرِّ بالشعير متفاضلاً نقدًا، فهل يجوز بيع نوع من التمر بنوع آخر منه متفاضلاً نقدًا؟ ج: التمر بأنواعه كلها جنس واحد، لا يجوز بيع نوع منه بآخر إلا متماثلاً. وهكذا غيره، كنوع من البر بنوع آخر، ونوع من الأرز بنوع آخر، بل "كل شيئين جمعهما اسم خاصٌّ فهما جنس واحد". س: فما الحكم في دقيقِ بُرًّ بدقيق شعيرٍ، هل يُعدَّانِ جنسًا واحدًا, لأن كل (¬1) منهما دقيق؟ أم جنسين باعتبار أصلهما؟ ج: المعتبر في الفروع أصولها، فدقيق البر ودقيق الشعير جنسان، وهكذا الأدهان وغيرها. [ص 5] س: فإذا كان الشيئان من جنس واحد، لكن أحدهما أخضر والآخر يابس، كعنب وزبيب، أو أحدهما خالص والآخر ممزوج، أو أحدهما نيْءٌ (¬2) والآخر مطبوخ؟ ¬

_ (¬1) كذا في الأصل مرفوعًا. والوجه النصب. (¬2) ويقال: "نيٌّ"، والمؤلف همزه، وكلاهما لغة.

ج: لا يجوز البيع في مثل هذا أصلاً، إلا العرايا، وهو شراء الرطب في رؤوس النخل بخرْصِه تمرًا، بشرط كونه دون خمسة أوسُقٍ. ****

باب بيع الأصول والثمار

باب بيع الأصول والثمار س: ما الحكم في بيع الأشجار المثمرة؟ ج: في الحديث: "من باع نخلاً بعد أن تُؤبَّر - أي: تُلقَّح - فثمرتُها للبائع إلا أن يشترطَها المبتاع" (¬1). وفُهِم منه أنه إذا باعها قبل التأبير فالثمرة للمشتري. فأما غير النخل مما ثمره ظاهر، فالمدار على ظهور الثمرة، فإن لم تكن ظهرت فهي للمشتري، وإن كانت قد ظهرت فهي للبائع إلا أن يشترطها المشتري. س: فما الحكم في بيع أرضٍ فيها نبات؟ ج: إن كان النبات مما لا يُحصَد إلا مرةً، كالزرع والبصل ونحوه، فهو للبائع ما لم يشترطه المبتاع، وإن كان مما يُجَزُّ مرةً بعد أخرى كالكرَّاث، فالأصول للمشتري، والجزَّة الظاهرة حينَ البيع للبائع إلا أن يشترطها المشتري. فصل س: هل يجوز بيع الثمرة وحدها على شجرها؟ ج: يجوز إذا كان قد بدا صلاحُها, ولا يجوز قبل ذلك. ففي الحديث: "نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الثمرة حتى يبدُوَ صلاحُها" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2204، 2716) ومسلم (1543) من حديث ابن عمر. (¬2) أخرجه البخاري (1486) ومسلم (1534) من حديث ابن عمر.

س: وما حدُّ الصلاح؟ ج: صلاح ثمر النخل أن يحمرَّ أو يصفرَّ، وصلاح ثمر العنب أن يتموَّه، وسائر الثمر بأن يبدو فيه النضج ويطيب أكله. [ص 6] س: قد تُباع الثمرة لتقطع حالاً، وقد تُباع لتقطع وقتَ الجذاذ، فما الحكم؟ ج: كلاهما جائز. س: فإن باعها على أن تبقى إلى الجذاذ، فأصابتها جائحة (الجائحة: الآفة السماوية، كالبَرَد والجراد) أتلفت الثمرَ أو بعضَه، فما الحكم؟ ج: إن أصابتها جائحة رجع بها على البائع؛ لحديث: "لو بِعْتَ من أخيك ثمرًا، فأصابتْه جائحةٌ، فلا يحلُّ لك أن تأخذ منه شيئًا، بمَ تأَخذُ مالَ أخيك بغير حق؟ " (¬1). **** ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1554) من حديث جابر بن عبد الله.

باب الخيار

باب الخيار س: ما هو الخيار؟ ج: الخيار: أن يكون العاقد مخيَّرًا، إن شاء أمضى العقدَ وإن شاء فسخَه. س: كم أقسام الخيار؟ وما هي؟ ج: أقسام الخيار سبعة: خيار المجلس، وخيار الشرط، وخيار العيب، وخيار التدليس، وخيار الغلط ونحوه في المرابحة، وخيار الاختلاف في قَدْر الثمن، وخيار الغَبْن الفاحش. س: ما هو خيار المجلس؟ وما حكمه؟ ج: هو الخيار في مجلس العقد، فيثبت لكلًّ من المتبايعَينِ ما لم يتفرقا بأبدانهما، وينتهي بالتفرق. س: وما خيار الشرط؟ وما حكمه؟ ج: هو أن يشترطا أو أحدهما الخيارَ مدةً معلومة، وينتهي بأن يُسقِطه الذي [اشترطه]. [ص 7] س: ما هو خيار العيب؟ وما حكمه؟ ج: هو أن يجد أحدهما بما اشتراه عيبًا لم يعلمه، فيكون له أن يفسخ العقد، أو يطالب بأَرْشِ العيب، وهو ما ينقص بسببه من الثمن. فإن تَلِفَت السِّلعة أو عُتِقَ العبد أو تعذَّر الردُّ، فله المطالبة بأَرْشِ العيب.

س: ما هو خيار التدليس؟ ج: هو أن يدلِّس البائع بإيهام أن لها صفةً ليست لها، كتصرية الناقة أو الشاة, وهو أن يترك البائع حلبها مدةً، فيجتمع اللبن في ضرعها، فيظن المشتري أن ذلك عادة لها، ويُحمِّر وجهَ الجارية أو يُسوِّد شعرها أو يُجعِّده، فيظن المشتري أن تلك صفتها من غير تصنُّع، وكأن يَعْمِد إلى الرحى التي تدور بالماء فيحبس الماء من فوقها، ثم يرسله عند عرضها على المشتري، فتدور بشدَّة، فيحسب تلك عادتها، وكذلك أن يصف البائع السلعةَ بصفة من شأنها أن تزيد في الثمن، فتبيَّن عدمُها، كأن يزعم أن العبد صانع أو كاتب، أو أن الدابة هِمْلاجةٌ - أي سريعة -, أو أن الفهد صَيُود أو معلَّم، أو أن الطائر مصوَّت، ونحو ذلك. س: فما الحكم في ذلك؟ ج: إن علم بالتصرية قبل الحلب كان له ردُّها وفسخُ العقد، وله ردُّ غيرها مما وقع فيه التدليس. [ص 8] س: ما هو خيار الغلط ونحوه في المرابحة؟ ج: المرابحة: أن يكون الرجل قد اشترى سِلعةً، فيأتيه آخر فيطلبها منه، على أن يُربحه عشرةً في المائة مثلاً، فإذا قال المشتري الأول: اشتريتها بخمسين، فاشتراها الثاني منه بخمسة وخمسين، ثم تبين أن الأول إنما اشتراها بأربعين. فإذا كان الأول كذب كان للثاني الرجوعُ بالزيادة وحَطُّها من الربح، ففي المثال: يرجع بأحد عشر.

وإن كان الأول غلِطَ غلطًا كان الخيار له، إن شاء فسخ العقد وإن شاء دفع الزيادة وحطَّها من الربح، وإن بان أن الثمن الأول مؤجل ولم يبين الأول تأجيله. س: ما هو خيار الاختلاف في قدر الثمن؟ وما حكمه؟ ج: إذا وقع الشراء، ثم اختلفا، فقال البائع: الثمن عشرون، وقال المشتري: بل خمسة عشر، أو نحو ذلك من الاختلاف، ولا بيّنةَ؛ فإنهما يتحالفان، فيحلف كل منهما على دعواه. فإن حلف أحدهما وأبى الآخر حُكِمَ للحالف، وإن حلف هذا وحلف هذا فلكلًّ منهما الخيار، إن شاء أمضى العقد بالقدر الذي قاله الآخر، وإن شاء فسخ. ففي المثال: إن رضي البائع أمضى البيعَ بخمسة عشر، وإن رضي المشتري أمضى العقدَ بعشرين. وإن لم يرضَ أحدهما كان له أن يفسخ. س: ما هو خيار الغبن الفاحش؟ ج: هو أن يتبين أن أحدهما غُبِنَ غبنًا فاحشًا لم تَجْرِ به العادة، فيكون له أن يفسخ. ****

باب السلم

باب السَّلم س: ما هو السَّلم؟ ج: السَّلم - ويقال له: السلف، أيضًا -: بيعٌ عُجِّلَ ثمنُه وأُجِّلَ مثمنُه. س: ما حكمه؟ ج: حكمه الجواز، بشروطٍ معروفة؛ لحديث: "من أسلفَ في تمرٍ فلْيُسْلِفْ في كيلٍ معلوم أو وزنٍ معلوم إلى أجلٍ معلوم" (¬1). س: وما هي الشروط؟ ج: الشرط الأول: أن يكون فيما ينضبط بالصفة، فيضبط بها، كالتمر. الثاني: أن يُذكر قدْرُه بما يُقدَّر به، ككيلٍ ووزنٍ. الثالث: أن يكون إلى أجل معلوم. الرابع: قبض الثمن في مجلس العقد قبل أن يتفرقَا. س: فهل يجوز السَّلم إلى أجلين فأكثر؟ ج: إذا عُيِّنت الأجزاء والآجال، كأن قيل: نصفه إلى شهر، ونصفه الآخر إلى شهرين = جاز. س: فهل يجوز السَّلم في شيئين؟ ج: يجوز السَّلم في شيئين إذا عَيَّن لكل منهما ثمنًا، فأمّا بثمن واحد فلا. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2239) ومسلم (1604) من حديث ابن عباس.

س: فإذا انعقد السَّلم ثم أراد المشتري التصرفَ في المبيع ببيعٍ ونحوه، فهل يجوز؟ [ص 10] ج: لا يجوز للمشتري التصرفُ في المُسْلَم فيه ببيعٍ أو حوالة أو غيرهما، حتى يقبضه. نعم تجوز الإقالة فيه أو في بعضه. ****

باب القرض

باب القرض س: ما هو القرض؟ ج: القرض - ويقال له: السلف، أيضًا -: دفع مالٍ لمن ينتفع به، ويردُّ مثلَه. س: إذا أقرض رجل رجلاً مالاً إلى أجل، فهل له مطالبته قبل الأجل؟ ج: له ذلك؛ فإن القرض لا يتأجل. س: هل للمُقرِض أن يشترط شيئًا ينتفع به غير رد المثل؟ ج: ليس له أن يشترط شيئًا، إلا أن يشترط رهنًا أو كفيلاً. س: فهل يجوز أن يرد المقترض أكثر مما أخذ أو أجود، أو نحو ذلك؟ ج: يجوز ذلك، إذا لم يكن مشروطًا عليه، وكان تبرعًا منه بطيب نفس؛ لحديث: "خير الناس أحسنهم قضاءً" (¬1). س: فإذا أهدى المقترض للمُقرِض هديةً, أو دعاه إلى طعام، أو نحو ذلك، فهل يجوز القبول؟ ج: إذا علم أن الهدية والدعوة ليست توسلاً إلى إمهاله، بل كانت عادةً بينهما قبل القرض؛ جاز القبول، وإلا فلا. **** ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1600) من حديث أبي رافع.

باب أحكام الدين

باب أحكام الدَّين س: إذا كان لرجل دينٌ على آخر إلى أجل، فهل له أن يطالبه قبل ذلك؟ ج: أما القرض فقد تقدم أنه لا يتأجل، وأما غيره، كثمنٍ اتفق [ص 11] المتبايعان على تأجيله إلى أجل معلوم، فليس للدائن المطالبةُ به قبل حلول أجله. س: فهل للدائن المطالبة بالحَجْرِ على المديون إذا خشي أن يَتْلَفَ ماله قبل حلول الأجل؟ ج: لما لم يكن له المطالبة بالدين نفسه، فليس له المطالبة بالحَجْر لأجله. س: فإذا حُجِر على رجل بديون حالَّة، وكان عليه دين مؤجل، فهل يحلُّ؛ ليشارك صاحبه بقية الدائنين في ماله؟ ج: لا يحل، بل ليس له المطالبة به حتى يحل. س: فإذا مات المدين قبل حلول الدين، أفلا يحل الدين؟ ج: لا يحلُّ، ولكن له مطالبة الورثة بأن يوثقوه برهنٍ أو كفيلٍ. س: فإذا كان على الرجل دينٌ إلى أجل، وأراد أن يسافر قبلَ حلوله، فهل يحل الدين؟ ج: لا يحلُّ الدين، ولكن للدائن المطالبةُ بمنع المدين من السفر، أو يوثق برهنٍ أو كفيلٍ.

س: فإذا كان عليه دين حالٌّ ولكنه مُعسِر، فما الحكم؟ ج: قال الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280]. س: فإن ادَّعَى الإعسار، فما الحكم؟ ج: إن لم يُعرَفْ له مال قبل ذلك حُلَّفَ وخُلَّي سبيله، وإن عُرِف له مال [ص 12] لم يُقبل قوله إلا ببينة. س: فإن كان موسرًا وامتنع عن الأداء؟ ج: يحبسه الحاكم حتى يوفيه. س: فإذا كان عليه من الدين ما يزيد عن ماله، فما الحكم؟ ج: لغرمائه أن يطلبوا من الحاكم الحَجْرَ عليه، فتلزمه إجابتُهم. س: فإذا حجر عليه الحاكم، فما ثمرة ذلك؟ ج: ثمرته أنه بعد الحجر لا يصح تصرفه في شيء من المال، ولا يقبل إقراره بشيء منه بغير بينة، ثم يتولى الحاكم قضاء الديون من المال. س: فكيف يصنع بنفقة نفسه وأهله؟ ج: ما دام المال باقيًا، فينفق الحاكم منه على المَدِين، وعلى من تجب عليه نفقته. س: هل الديون سواء في استحقاق القضاء من المال؟ ج: لا، بل يبدأ بما يتعلق بجناية مملوكه، فيدفع إلى المجنيَّ عليه أقلَّ الأمرين من أَرْشِ الجناية أو قيمة العبد الجاني.

باب الحوالة والضمان

ثم بمن له رهين من أهل الدين، فيدفع إليه أقل الأمرين من مقدار حقه أو قيمة الرهن، ويشارك الباقي فيما يبقى. ثم بمن كانت عين ماله التي يطالب بقيمتها باقية لم يتلف منها شيء، ولا زادت زيادة متصلة، ولا قبض من ثمنها شيئًا، وذلك كأن يكون في المطالبين من يطالب بقيمة دابة باعها من المحجور عليه قبل أيام، وهي باقية، ولم يقبض من ثمنها شيئًا. ثم بعد تقديم هؤلاء يقسم الباقي بين بقية الديون، كلٌّ بقدر حقه. [ص 13] س: فإذا كانت له دعوى على آخر بمال، وعليها شاهد واحد، فطلب الغرماءُ إلزامَه بالحلف حتى يثبت الحق، أو الإذن لهم ليحلفوا بدلاً عنه؟ ج: لا يلزمه أن يحلف، ولا يكون لهم أن يحلفوا. **** باب الحوالة والضمان (¬1) ¬

_ (¬1) إلى هنا انتهى الأصل.

الرسالة الثالثة والعشرون الإسلام والتسعير ونحوه وحول أجور العقار

الرسالة الثالثة والعشرون الإسلام والتسعير ونحوه وحول أجور العقار

بسم الله الرحمن الرحيم الإِسلام والتسعير ونحوه كثُر الضجيج من ارتفاع أجور العقار، وكتب بعض أهل العلم ما يفهم منه أن غلوّ المُلَّاك في زيادة الأجور عمل مذموم، فهو عنده إمّا حرام عليهم، وإمّا قريب منه. فإن كان يراه حرامًا فالمنع من ارتكاب الحرام معلوم من الشرع بالضرورة. وإن كان يراه دون ذلك إلا أنّه قريب منه، فلا ريب أنّه فاشٍ منتشرٌ عظيم الضرر، وما كان كذلك فلولي الأمر بل عليه منعُ الناس منه، وعليهم طاعته، قال الله تبارك وتعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [سورة النساء: 59]. وفي الصحيحين (¬1) وغيرهما من حديث ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "السمعُ والطاعةُ على المرء المسلم فيما أحبَّ وكرِهَ، ما لم يُؤمَر بمعصية, فإذا أُمِر بمعصية فلا سمعَ ولا طاعةَ". وفي الصحيحين (¬2) وغيرهما من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال: "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني". ¬

_ (¬1) البخاري (7144) ومسلم (1839). (¬2) البخاري (7137) ومسلم (1835).

فقد أوجب الله طاعة أولي الأمر كما أوجب طاعة الوالدين، ولا ريب أنّه لو لم يجب طاعة أولي الأمر والوالدين (¬1) إلا فيما كان واجبًا بنصّ الشرع، لما ظهرت لتخصيصهم فائدة، [ص 2] فإن ما كان واجبًا بنصّ الشرع فإنّه يجب طاعة كل آمرٍ به كائنًا من كان، ولو لم يجب طاعة ولي الأمر إلا فيما كان واجبًا بنص الشرع لاختلَّت المصالح وعمّ الفساد. فأمّا قول الله تعالى عَقِبَ ما تقدم: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}، فذلك كما بيّنه الحديث السابق فيما إذا أمر الأمير بعملٍ لا يراه معصية لله، والمأمور يرى أنّه معصية لله. فأمّا ما يعترف المأمور أنّه ليس بمعصية لله، ولكنه يقول: لم ينص الشرع على وجوبه عليّ، فيكفي في دفعه أن يقال له: قد نصّ الشرع على وجوب طاعة أولي الأمر، ولم يعارض ذلك شيء. وأمّا أحاديث التسعير فليس فيها نهي عنه، وإنّما فيها أنّ النّاس طلبوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُسَعِّر فقال: "إنّ الله هو القابض الباسط الرازق المسعِّر، وإنّي لأرجو أن أَلْقَى الله عَزَّ وَجَلَّ ولا يطلبني أحدٌ بمظلمةٍ ظلمتُها إياه في دمٍ ولا مال". فهذه واقعة حالٍ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنّ الله هو القابض الباسط الرازق المسعِّر ... " إنّما هو تعليل للامتناع عن التسعير في تلك الواقعة. ويحتمل أن يكون غلاء السعر الذي حدث حينئذٍ لم يكن مصطنعًا، فكان التاجر يجلب المال من المواضع البعيدة غالبًا، فيزيد عليه المعروف، [ص 3] فلم يكن هناك مبرِّرٌ لإجباره بأن يبيع بخسارة أو بدون ربح. وهذا حقٌّ ¬

_ (¬1) في الأصل: "والواجبين" سهوًا.

لا غبارَ عليه، فليس للإمام أن يُسعِّر حتى يتبين له جَشَعُ التجار وتواطؤهم، وعدم قناعتهم بالربح بالمعروف، وتضرر الناس بذلك. ولنفرضْ أنّ بلدًا من بلاد المسلمين حاصرها العدوّ، ولم يكن فيها طعام إلا عند رجلٍ واحدٍ، فأبى أن يبيع لأحدٍ منهم قوتَه إلا بجميع ما يملك في ذلك البلد وغيره، فيبيع ما قيمته درهم بمائة ألف درهم ونحوها، هل يمكِّنُه أمير الواقعة من ذلك؟ فإن تبيّن وجوبُ التسعير في هذه الواقعة مثلاً تبينَ أنّ امتناع النبي - صلى الله عليه وسلم - منه إنّما كان لأنّ الحال حينئذٍ لا تستدعيه. وأحاديث النهي عن الاحتكار معروفة، ولم يعتذر عنها بشيء، إلا أنّ سعيد بن المسيّب لما روى الحديث عن معمر قيل له: إنّك تحتكر، فقال: كان معمر يحتكر. والواجب في مثل هذا أن يُحمَل احتكار معمر وسعيد على وجهٍ غيرِ الوجه المنهي عنه؛ كأن يقال: إن التمر مثلاً يكثُر في الموسم، ويُعرَض للبيع، فيشتري أرباب البيوت وسائر الناس حاجتهم بحسب ما يتيسَّر لهم، وليس كل محتاج للقوت يستطيع أو يرغب أن يشتري قوتَ سنته دفعةً واحدة، فيبقى الأكثر يشتريه التجار، فشراء التاجر حينئذٍ وادخاره إلى أن يحتاج الناس إلى التمر لقُوْتِه، وحينئذٍ ترتفع الأسعار في الجملة، فيُخرِجه حينئذٍ للبيع = عَملٌ لا تظهر فيه مفسدة. بل لو مُنِع التجار من الشراء حينئذٍ لتضرر أهل النخل؛ لأنّ مصلحتهم تقضي بأن يبيعوا كثيرًا منه حينئذٍ ليقضُوا حاجاتهم الأخرى.

فهذا - والله أعلم - هو الذي كان يقع من معمر وسعيد، وكان سعيد يتّجر في الزيت، والزيت يُجلب بكثرة في موسم معين من السنة، ويكون حال جالبيه كحال أرباب النخل في بيع التمر سواء. وإذا كان هذا محتملاً في فعل الصحابي والتابعي الذي يوجبه حسن الظن بهما، بل هو الظاهر بل هو الواقع إن شاء الله، فكيف يُترك لأجله العملُ بالحديث البتة؟ ***

حول أجور العقار

بسم الله الرحمن الرحيم حول أجور العقار كثر الضجيج هذه الأيام من ارتفاع أجور العقار، وكتب في ذلك فضيلة الشيخ عبد الله الخياط وغيره، والقضيةُ وما يشبهها مفتقرة إلى تحقيق علمي مُشْبع لا أزعم أنّي أهلٌ له، ولكنني سأحاول كتابة ما عسى أن يكون حافزًا لمن هو أهل له على النظر في القضية وفَصْلِ القول فيها. يقول أرباب العقار: هذه أموالنا، لا يحلُّ شيء منها لغير مالكه إلا بطيبةٍ من نفسه، كما ثبت ذلك بالنصوص الشرعية القطعية - وقد ذكر فضيلة الشيخ عبد الله الخياط بعضها - ولا تَطِيب أنفسُنا بأن نؤجرها إلا بأجرة نرضاها، وليس في الشرع ما يوجب علينا أن لا نزيد على مقدار معين. فيقال لهم: قد قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يُؤمِن أحدُكم حتى يُحِبَّ لأخيه ما يُحِبُّه لنفسه" (¬1)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "مَثَلُ المؤمنين ... " (¬2)، مع ما ذكر فضيلة الشيخ عبد الله الخياط من أدلة الحثِّ على الفضل والرحمة. فيقول أرباب العقار: إنّنا نُؤاخِي المستأجرين بقدر ما يُؤاخوننا، ونُحِبُّ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (13) ومسلم (45) من حديث أنس بن مالك. (¬2) بياض بالأصل، وتتمة الحديث - وهو مشهور -: "في توادَّهم وتراحُمِهم وتعاطُفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسَّهَر والحمَّى". أخرجه البخاري (6011) ومسلم (2586) من حديث النعمان بن بشير.

لهم ما يحبُّونه لنا، ونَعطِف عليهم بقدر ما يَعطِفون علينا، ونُفضِل عليهم بمثل ما يُفضِلون علينا لو كانوا مكاننا، ونَرحَمهم بقدر ما يرحموننا، ونحن واثقون أنّهم لو كانوا أرباب الدور وكنّا المستأجرين لعاملونا بمثل ما نعاملهم به الآن على الأقل. أرأيتَ قبل أن تعلن الحكومة حرية العقار، أليس قد كان النقص والحيف نال الملَّاك باعتراف الشاكِين الآن؟ فهل حاسبَ المستأجرون أنفسَهم، فزادوا ما يرون أنّ العقارات تستحقّه؟ هيهات! بل عارضوا ما ارتأته الحكومة من إعلان حرية العقار أشدّ المعارضة. هذا، مع أنّ حقّنا حقٌّ يُحتِّمه الشرع، وما يزعمونه من حقٍّ غايته أن يكون مرغَّبًا فيه. وقد قال فضيلة الشيخ عبد الله الخياط: ....... (¬1) [ص 2] فهذا هو الحقُّ الذي لا مَحِيدَ منه. هذا، ومنّا فقراء وأراملُ لا مورد لهم إلا ذاك البيت أو الدكان، ولعلهم لو زادوا ما زادوا ما كفاهم، فكيف يُطلَب منهم الفضل والإيثار؟ ومنّا من له ثروةٌ لا بأس بها, ولكنّه يرى أنّ للصدقة مواضعَ هي أحقُّ بها من تخفيض كراء داره. ومنّا ومنّا ... ، فمن عسى أن يكون أحكمَ من الشريعة التي تركت الأمر إلى الملَّاك، واكتفت بالترغيب, ووكَّلت كلَّ أحدٍ إلى نفسه، وهو أعرفُ بها من سائر الناس. ¬

_ (¬1) بياض في الأصل.

الرسالة الرابعة والعشرون مناقشة لحكم بعض القضاة في قضية تنازع فيها رجلان

الرسالة الرابعة والعشرون مناقشة لحكم بعض القضاة في قضية تنازع فيها رجلان

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمَّد وآله وصحبه. وقفَ الحقيرُ على صورة حكمٍ صدر من محكمة "باجل" لأحمد بن عبد الله مدابش على محمَّد بن علي مغبوش، فرأيت فيه انتقاداتٍ: أولاً: حكى الحاكم دعوى المدّعي أحمد بن عبد الله مدابش، وفيها التعرض لبيان الأحكام الشرعية، وممّا لا يحتاج إلى دليل أن ذلك ليس من وظيفة المدّعي ولا المدَّعى عليه، بل وظيفتهما الدعوى والإجابة بشروطها المعروفة. ثم ما حكاه المدّعي عن أحكام الشرع فيه غلط سنُبيِّنه فيما بعد إن شاء الله تعالى. وتلك الدعوى اشتملت على دعوى لحقٍّ لنفسِه، وهي طلب قَلْعِ الأخشاب، ودعوى لنفسه أيضًا ولكن بصورة حِسْبة، وهي طلب هدم الصفّة لكونها في السبيل. ولا بأس أن دعوى الحِسبةِ المعتمدَ قبولُها في ما تُقبل فيه شهادتها غير حقوق الله تعالى المحضة، لكنها لا تُسمَّى "حِسبة" إلا إذا كانت ممن لا يجَرُّ بها لنفسه نفعًا، أو يدفع بها ضررًا، أمّا ممن يجرُّ بها نفعًا أو يدفع بها ضررًا؛ فلا تُسمَّى دعوى حِسبةٍ، ولا الشهادة المبنيّة عليها شهادة حسبةٍ؛ لما في "البغية" (¬1) عن الأشخر: "مسألة: شهادة الحسبة نوعان: متمحِّضٌ حق لله ¬

_ (¬1) "بغية المسترشدين" (ص 286).

تعالى، كالزنا حيث لم تَسُغ الدعوى به، فالشهادة به لا تكون إلا حسبةً؛ لأنها غير مسبوقةٍ بدعوى (¬1) أو طلبٍ من مدَّعٍ، بل شهادة الشاهد احتسابًا، أي طلبًا للثواب، وحميّةً لدين الله تعالى، فلم يؤثِّر فيها رضَى أحدٍ. وغير متمحِّض: كالزنا حيث ادّعاه القاذف، والطلاق، فإن سَبقتِ الشهادةُ الدعوى كان حِسْبة، وإن تأخرتْ وطلبها المدّعي فغير حِسْبة". انتهى. ثم حكى الحاكم إجابةَ وكيل المدَّعى عليه، وهي تفيد أن المتشاجرَ عليه دُكَّانانِ، أحدهما المغروزُ خشبُه في جدار المدّعي، والآخر المدَّعى كونُه في السبيل. والحاصل أن الحاكم حكى دعوى وإجابةً يَمَلُّها القارئ والسامع، ولم تطَّابقا, ولا بيَّنتا المقصود. ثم حكى بعد ذلك ما أورده المدّعي من الشهود، ولفظ شهادة كلٍّ منهم: "أشهدُ لله تعالى أني أعلم بهذه الساحة المتشاجَر فيها أنها كانت سبيلاً، ولا أدري على كيفَ صارتْ عمارتها". وهذه العبارة في أداء الشهادة منظورٌ في صحّتها، إذ قد صرَّح العلماء أنه يُشترط لأداء الشهادة لفظ "أشهد"، أي: أشهد بأن هذا مِلْك فلان - مثلاً -, كما يُمثَّلون له، ولا يكفي لفظ "أعلم" كما صرَّحوا به. وكذا - فيما يظهر - الصيغة التي حكاها الحاكم؛ لأنهم لم يشهدوا بأن هذا كان سبيلاً، وإنما شهدوا بأنهم يعلمون. ثم العبارة محتملة لكونهم يعلمون ذلك بالمشاهدة، أو بالسماع، والشهادةُ لا تُقبل فيها الألفاظُ المحتملة. وقد قال الشيخ ابن حجر ما لفظه (¬2): "ومعظم ¬

_ (¬1) في الأصل: "بدعوة"، والتصويب من "البغية". (¬2) "الفتاوى الفقهية الكبرى" (4/ 347).

[شهادات] الناس يشوبها جهل وغيره، يُحوِج الحاكم إلى الاستفسار، وإن كانوا عدولاً. كذا قال الشيخان تبعًا للإمام، وبه قال ابن الرِّفعة وغيره، واختاره الأذرعي في مواضع من "شرح المنهاج" وقال: إنه الحق". ثم قال في "التحفة" (¬1): "والوجه أنه إن اشتهر ضبطه وديانته لم يلزمه استفسارُه، وإلاّ لزمه (¬2) " اهـ. ثم الأقرب إلى كلام العامةِ الثاني، لا يقال: غاية ما في المقام أن تكون شهادة بالتسامع، فإن للشهادة بالتسامع شروطًا، منها ما ذكره في "الروضة" (¬3) بقوله: "فرع: لا يكفي أن يقول الشاهد: سمعت الناس يقولون: إنه لفلان، وكذا في النسب، وإن كانت الشهادة مبنيَّةً (¬4) عليه. بل يُشترط أن يقول: أشهد بأنه له، أو بأنه ابنه" إلخ. وبهذا تبيَّن بطلان الشهادة الموردة مِنْ طرف (¬5) المدعي. ثم حكى ما أورد من طرف المدَّعى عليه، وأن لفظ شهادة كل منهم: "أشهد لله تعالى أن هذا الدكَّان كان مفرش فيه السيد قاسم مغني، وبعده ولده السيد قاسم عمره، وفيما بعد حرَّج به واشتراه محمَّد مغبوش". وزاد أحدهم: أنه لا يعلم بالسبيل، وأن السبيل على حاله. ¬

_ (¬1) "تحفة المحتاج" (10/ 237). (¬2) في الأصل: "لزمه استفساره، وإلا لم يلزمه" سبق قلم. (¬3) "روضة الطالبين" (11/ 270). (¬4) في الأصل: "متعينة"، والتصويب من "الروضة". (¬5) غير واضحة بالأصل، ولعلها هكذا.

وحكى شهادة شاهد اسمه عمر بن محمَّد هران الباجلي بقوله: "أشهد لله تعالى أن هذه الساحة أنها كانت ملك السيد قاسم مغني، وبعده ولده السيد أحمد قاسم، وبعد ذلك اشتراها المغبوش وصارت ملكه، والسبيل على حاله". ثم حكى شهادة محمَّد عيسى بن سالم، وحسين بن علي عَنْدَلَهْ، بمعنى شهادة عمر بن محمَّد، إلاَّ أنهما قالا: "حقَّ السيد قاسم" بدل "مِلْك"، وهي في لغة العامة مرادفة لها. فإن لم يكفِ ذلك حلف مع المصرّح. ثم حكى أنه بعث أمينَيْنِ للكشف على المحلّ، فوجدا بين الدكان المدَّعى أنه في السبيل، وبين الدكان المقابل له ثلاثة أذرُعٍ ورُبُعٌ هي عرض السبيل، وأن ذلك - طبعًا - يضرّ بالمارّة، مع أن الشارع قدَّر الطريق سبعة أذرع. هذا خلاصة هذه الدعوى. ولما وصل الحاكم إلى الحكم وقع في حَيْصَ بَيْصَ! وبأن الخُبر، وحار الغُمر، فلم يدر ما يقول في ذلك المقام، إلا أنه هَيْنَم بألفاظٍ نادَتْ عليه بالجهل، وأعلَمتْ أنه ليس للقضاء بأهل. وأمّا ما عندنا في ذلك: فأولاً: الشهادة الواردة من طرف المدّعي قد سبق إبطالها، وعلى فرض صحتها، فقد عارضتْها الشهادةُ الواردة من طرف المدَّعَى عليه، ولا سيّما المصرِّحة بالمِلْك، المبيِّنة لسببه بتسلسل الشراء إلى حيث انتهى علمها لطول المدة، مع أنه لا يُشترط لبيّنةِ الداخل بيانُ السبب.

هذا، وغاية ما هنالك التعارضُ، فينظر إلى المرجّحات، فمن الواضح أن بينة المدعي خارجة، وبينة المدّعى عليه داخلة، وأن الداخلة مقدَّمة - ولو شاهدًا ويمينًا - على الخارجة ولو كثر شهودها، ما لم يبلغوا حدّ التواتر. ولا يقال: إن الشهادة الموردة من طرف المدعي في حكم متقدّمة التاريخ, لأنها أثبتت أنه كان قبل أن يُبْنَى فيه سبيلاً، وأسبقيَّةُ التاريخ مرجِّح في الأظهر، مع أن الطريق له حكم الوقف، إذا لم يكن وقفًا، إذ لا يجوز التعدّي على [....] (¬1) = فإنا نقول: اليد مع صاحب المتأخرة، ولم يُبيَّن شهود المتقدمة أن البناء وقع اعتداءً، بل قالوا: "ولا نعلم على كيف وقعت العمارة". وقد قال في "الروض" (¬2): [ص 2] وتُقدَّم بينةُ صاحب اليد على سابقة التاريخ. قال في "الشرح": فلو كانت سابقة التاريخ شاهدة بوقفٍ، والمتأخرة التي معها اليد شاهدة بملك أو وقفٍ = قُدِّمت التي معها يد. قال البلقيني: وعليه جرى العمل، ما لم يظهر أن اليد عادية، باعتبار ترتُّبِها على بيعٍ صدر من أهل الوقف أو بعضهم بغير سبب شرعي. إلخ. وفي "التحفة" (¬3) - بعد قول المتن: لو كان لصاحب متأخّرة التاريخ يدٌ قُدِّمت -: سواء أشهدت كل بوقف أو ملك، كما أفتى به المصنف كابن الصلاح، واقتضاه قول "الروضة": بَيِّنتَا المُلك والوقف يتعارضان، كبيِّنتَي ¬

_ (¬1) غير ظاهرة في الأصل. (¬2) "أسنى المطالب شرح روض الطالب" (4/ 411). (¬3) "تحفة المحتاج" (10/ 333).

الملك. ثم حكى كلام البلقيني، ثم قال: واعتمده غيره، وفي "الأنوار" عن فتاوى القفال ما يؤيدّه. اهـ. ومع هذا، فإنّ واضع اليد قد وقف الموضع لصالح بيت من بيوت الله تعالى، وذلك في معنى السبيل أو أنفع. مع أن المدة لثبوت يد المدَّعى عليه بعد الأيدي المتسلسلة إليه طائلة، وأن مذهب الحنفيّة في طول المدة معلوم. وفي "حواشي الشرقاوي" على "التحرير"، بعد تعديد شروط الدعوى، ما لفظه: "ويُزاد سابع، وهو أن لا يمضي على الحق المدَّعى به خمسَ عشرةَ سنةً، فإن مضى عليه ذلك لم تُسْمَع الدعوى، كما أفتى به الزيادي، لمنع وليّ الأمر القضاةَ من ذلك. إلخ. وقد اطلعتُ على رسالةٍ للسيد العلامة عبد الرحمن بن عبد الله القديمي، كتبها إلى سيدنا الإِمام أيَّده الله تعالى، قوَّى فيها جانبَ اليد، وأن إجراء مذهب الحنفية هو المطابق للمصلحة، مع كونه قد صار مذهبًا للشافعية بأمر وليّ الأمر. إلخ. ومع هذا، فإن سيّدنا أمير المؤمنين يُلزِم الحكام بأن لا تُسْمَع دعوى مضَتْ عليها عشر سنين إلاّ لعذرٍ، كصِغَرٍ وغَيْبة ونحو ذلك. ومما يتعلّق بقضيّتنا: ما حكاه صاحب "بغية المسترشدين" (¬1) عن السيد الإِمام عبد الله بن الحسين بن عبد الله بافقيه، ولفظه: "ولو وُجِدَتْ ¬

_ (¬1) (ص 142).

دكّة في شارعٍ ولم يُعْرَف أصلها، كان [محلُّها] مستحقًّا لأهلها، فليس لأحدٍ التعرضُ لها بهدمٍ وغيره ما لم تقم بيّنةٌ بأنها وُضِعَتْ تعدِّيًا، كما صرّح به ابن حجر. اهـ. وأمّا قوله أخيرًا: "إن أقلَّ ما يقدر به الطريق سبعة أذرُعٍ" فذلك مفروض فيما إذا اختلف المُحْيُون عند الإحياء في قدره. وعبارة "الروض" (¬1): "وَلْتجعل سبعة أذرع إن اختُلِف عند الإحياء في تقديره" اهـ. وبعد ذلك حكى عن الزركشي - تبعًا للأذرعي - أن مذهب الشافعي التقديرُ بقدر الحاجة، وأن الحديث محمول على ذلك، وصرّح به الماوردي والروياني. فتقررّ ممّا أسلفناه: بطلانُ ما حكم به الحاكم من هدم الدكاكين المذكورة، بل الحق الذي لا ريبَ فيه بقاؤها على ما هي عليه (¬2). [ص 3] وأمّا مسألة غَرْزِ الأخشاب، فالمدّعي ذكر في دعواه أن مذهب الشافعي أنَّ للمعير الرجوعَ قبل البناء وبعده في الأصح، وأن فائدة الرجوع أن لصاحب الدكان بقاء الأخشاب المغرزة في جُدُرِه بأجرة، وله تكليف صاحب الأخشاب قلْعَها، ويُغرم صاحبُ الأخشاب أَرْشَ ما نقص بسبب القلع في جدار المالك، كما هو المعتمد في مذهب الإِمام الشافعيّ. ¬

_ (¬1) "روض الطالب" (2/ 220 - مع شرحه "أسنى المطالب"). (¬2) في طرف الصفحة هنا حاشية يظهر أنها تابعة لكلام مضروبٍ عليه.

هكذا زعم! فلما جاء الحاكم إلى الحكم حكم بمضمون هذا، مقلِّدًا للدعوى!! فرحم الله العلماء، ذكروا أنه يحرم على الحاكم تلقينُ خصمٍ الحجةَ، ولم يَخْطُر أنَّ مِن الخصوم مَنْ يُلقِّن الحاكمَ الحكمَ! فإن الحاكم إنما قلّد المدعي؛ بدليل موافقته له في الغلط، كما يأتي بيانه، اللهم إلاّ أن يكون الحاكم هو صوَّر الدعوى للمدّعي، ثم حكم بما قرّره فيها، فيكون الخطأ منه أولاً وآخرًا [مِنْ] (¬1) غير تلقين أحدٍ له. وأمّا بيان الخطأ في ذلك، فهاك عبارة "المنهاج" في باب الصلح. قال (¬2): "والجدار بين المالكينِ قد يختصُّ به أحدهما، وقد يشتركان فيه، فالمختص ليس للآخر وضْعُ الجذوع عليه بغير إذنٍ - في الجديد - , ولا يُجْبَر المالك، فلو رضي بلا عوض فهو إعارة، له الرجوعُ قبل البناء عليه، وكذا بعده في الأصحّ، وفائدة الرجوع تخييره بين أن يُبْقيه بأجرة، أو يَقْلَع ويغرم أرشَ نقصه". قال في "التحفة" (¬3) وغيرها: "وهو ما بين قيمته قائمًا ومقلوعًا". انتهى. فالغرامة لصاحب الأخشاب على صاحب الجدار، عكس ما فهمه الأغمار! ثم نظرنا إلى الشهادة التي أوردها المدَّعى عليه في مسألة غرز ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق. (¬2) "منهاج الطالبين" (2/ 135 - 136). (¬3) "تحفة المحتاج" (5/ 211).

الأخشاب، فإذا بعضهم يطلق أن الحاضرين بعد النزاع أصلحوا بين المتنازعين. وبعضهم قال: ثم قالوا: أمة محمَّد لله ورسوله وشاهد واحد شهد أنهما اصطلحا على أن يَغْرِز كل منهما خشبته في دكان الآخر. فشهادة هذا عندها زيادة علم، ولا تنافي ما مرّ. فإن كان كذلك، فقد وضح الأمر، ولم يبق إلا أن يُعدَّل هذا الشاهد، وإن كان الحاكم قد ألغى التعديل رأسًا، ويحلف المدَّعى عليه معه، فيُقْضَى له باستحقاق غرز الأخشاب أبدًا. ففي "الروض" ما لفظه مع شرحه (¬1): "ويجوز الصلح على وضعه - أي الجذع - على الجدار، بمال, لأنه انتفاع بالجدار، وهو إما بيع أو إجارة، وسيأتي بيانهما" اهـ. قوله: "وسيأتي" إلخ، أي: في مسألة بيع حق البناء على الجدار أو إجارته. وقد ذكرها في المتن بعد ذلك بقوله: "فرع: تجوز إعادة العلوّ للبناء عليه وإجارته، فإن باعه حقَّ البناء أو العلوّ للبناء عليه بثمن معلومٍ استحقّه، وهو متردّد بين البيع والإجارة، فلو عقد بلفظ الإجارة صحّ، وتأبدّ الحق إن لم يُوَقَّت" اهـ. فلو فُرِض أنه لم تقم له بينة على ذلك، فلا أقل من أن يكون عارية، وقد سبق بيان حكمها. تنبيه: تبيّن أن قول وكيل المدَّعى عليه له دافعٌ ورافعٌ وحججٌ شرعيّة قد أورده، ولكن الحاكم لم يفهم من لفظ "حجج" إلا قراطيس مسوّدة لا يقيم ¬

_ (¬1) "أسنى المطالب شرح روض الطالب" (2/ 223).

لها مذهبُ الشافعي وزنًا في الاحتجاج. وهذا إذا لم يكن جهلًا فهو عدم معرفة. فنسأل الله التوفيق، والهدايةَ إلى أقوم طريق، وصلى الله على سيدنا محمَّد النبي الأمي وآله وصحبه وسلم.

آثار الشّيخ العَلّامَة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي (18) مجموع رسائل الفقه تَأليف الشيخ العَلّامَة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني 1312 هـ - 1386 هـ تحقيق مُحَمَّد عُزير شمس المجلّدُ الثالِث وفق المنهج المعتمد من الشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد (رَحِمَه الله تعالى) تمويل مُؤَسسَةِ سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

راجع هذا الجزء محمد أجمل الإصلاحي سليمان بن عبد الله العمير

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد، فهذا المجلد الثالث من الرسائل الفقهية التي عثرنا عليها بعد الانتهاء من المجلدين الأولين ضمن مسوّدات وأوراق متفرقة، بعضها لم تفهرس ولم تسجَّل في المكتبة حتى الآن، ووجدنا فيها تكملة لبعض الرسائل، ومن أهمها المقدمة والقسم الثاني من رسالة "الربا"، بحيث إنها اكتملت وعرفنا سبب تأليفها. وقد أدرجنا التعريف بأصول هذه الرسائل ومحتوياتها في مقدمة المجلد الأول من مجموع رسائل الفقه (ص 66 - 86)، فليُرجع إليه. وستأتي فهارس هذا المجلد في آخره. والحمد لله أولاً وآخرًا، وصلى الله على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين. محمَّد عزير شمس

الرسالة الخامسة والعشرون مسائل القراءة في الصلاة والرد على أحد شراح الترمذي

الرسالة الخامسة والعشرون مسائل القراءة في الصلاة والرد على أحد شرَّاح الترمذي

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له ولا معين، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله إلى الناس أجمعين، صلَّى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد؛ فإني وقفت على شرح لبعض أجلة علماء العصر من الحنفية لـ "جامع الترمذي"، اعتنى فيه بالمسائل الخلافية، وسرد الأدلة وتنقيحها رواية ودراية، ولم يتقيَّد بأقوال المتقدمين في طرق التأويل والاستدلال، وإن تقيَّد بمذهبه في الأحكام. وقد طالعت منه من أوله إلى أواخر كتاب الصلاة، وكان يظهر لي عند المطالعة مواضع تحتمل التعقب والمناقشة؛ فقيَّدتُ بعض ذلك. ثم رأيت أنَّ الكلام في مسائل القراءة في الصلاة يطول؛ فأفردته مرتبًا في هذه الورقات، وقد علمت أنَّ التآليف في هذه المسائل كثيرة، وأنَّ من لم يعرف مقدار حسن ظن الإنسان بنفسه وبتأليفه وشعره لا بد أن يُسدِّد إليَّ وإلى أمثالي سهام الملام. ولكني أرجو أن لا أَعدَمَ مَنْ عسى أن يَعْذِرني؛ بل أكاد أجزم أنَّ من طالع رسالتي هذه اضطرَّه الإنصافُ إلى أن يشكرني. وإلى الله تعالى أَضْرَع أن يُطهِّر قلبي من الهوى والعصبية، ويخلص عملي كلَّه لوجهه الكريم ونصرةِ شريعته المرضية، وهو حسبي ونعم الوكيل. [.................................................................] (¬1) ¬

_ (¬1) سقط من هنا إحدى عشرة صفحة.

[المسألة الأولى]

[ص 12] فإن كان الواقع هو الأول فقد ثبتت الفاتحة نصًّا، وإن كان الثاني فتثبت استدلالاً، لما عُرِف (¬1) أنَّ هذا الحديث إنما اشتمل على الواجبات، وليس بين تكبيرة الإحرام وقراءة ما تيسَّر حمد وثناء وتمجيد يحتمل الوجوب إلاّ الفاتحة، وهذا ظاهر. ومما يؤيده: حديث مسلم (¬2) وغيره، عن أبي هريرة رضي الله عنه: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: قال الله تعالى: "قَسَمْت الصلاةَ بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل؛ فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله تعالى: حمِدَني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله تعالى: أثنى عليَّ عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدين، قال: مجَّدني عبدي .. " الحديث. نصَّ فيه على أنَّ الفاتحة: حمد وثناء وتمجيد. وجاء في حديث رفاعة (¬3) تارة الأمر بالفاتحة، وتارة الأمر بالحمد والثناء والتمجيد، فتدبَّر. وقد وجدت متابعًا لمحمد بن عمرو (¬4)، وهو: بُكَير بن عبد الله بن الأشجّ، رواه عن علي بن يحيى، أخرجه البخاري في "جزء القراءة" (¬5)، ¬

_ (¬1) تحتمل: "كما عرف". (¬2) رقم (395). وأخرجه أيضًا مالك في "الموطأ" (1/ 84، 85) وأبو داود (821) والترمذي (2953) والنسائي (2/ 135، 136). (¬3) أخرجه أحمد في "المسند" (18995) وأبو داود (861) والترمذي (302) والنسائي (2/ 193) وغيرهم. (¬4) الكلام متعلق بحديث المسيء صلاته من رواية محمَّد بن عمرو، عن علي بن يحيى بن خلاَّد، عن رفاعة بن رافع. وقد أخرجه أحمد في "مسنده" (18995). (¬5) (ص 234 - 236) بتعليقه "تحفة الأنام" ط. الهند.

وسنده على شرط الصحيح، إلاَّ عبد الله بن سُويد، وهو صدوق كما قال أبو زرعة (¬1)، وذكره ابن حبان في "الثقات" (¬2)، ولا مخالفَ لهما. ولكن فيه: عن علي بن يحيى، عن أبي السائب - رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه: "ابدأ فكبِّر، وتحمد الله، وتقرأ بأم القرآن، ثم تركع" الحديث. وذكر الحافظ في "الإصابة" (¬3) أنَّ ابن منده ذكر أبا السائب هذا في الصحابة، وقال: عداده في أهل المدينة. قال الحافظ: "وتعقبه أبو نعيم (¬4) بأنَّ المحفوظ رواية إسحاق بن عبد الله ... وغيرهم كلهم عن علي بن يحيى عن أبيه عن عمه رفاعة بن رافع. انتهى، ولا يمتنع أن يكون لعلي بن يحيى فيه شيخان". أقول: فعلى هذا، هذه رواية صحابي ثالث مصرِّحة بالفاتحة بلا خلاف. وأقوى الأجوبة بعد هذا: احتمال النسخ؛ فإنَّ الأحاديث الصريحة في إيجاب الفاتحة منها ما صرَّح فيه أبو هريرة بسماعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان إسلام أبي هريرة سنة سبع. وقصة المسيء صلاته كانت قبل ذلك ببضع سنوات، أي قبل غزوة بدر؛ لأنَّ صاحب القصة مدني أنصاري بدري ¬

_ (¬1) انظر "الجرح والتعديل" (5/ 66). (¬2) (8/ 343). (¬3) (12/ 284). وانظر "معرفة الصحابة" لابن منده (2/ 905). (¬4) في "معرفة الصحابة" له (4/ 492).

اتفاقًا (¬1)، ومثل هذا لا يُعقل أن يبقى مع النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ يجالسه، ويصلي معه، ويغزو معه سنة أو سنتين ولا يُحسِن الصلاة، فضلاً عن ست أو سبع سنوات! وهذا واضح جدًّا، مستغنٍ عن قول ابن الكلبي: إن صاحب القصة استشهد ببدر (¬2). وإذا صحَّ النسخ فكأنه قبل الأمر بالفاتحة كان الواجب الحمد والثناء والتمجيد مطلقًا، ثم قراءة ما تيسَّر من القرآن؛ على ظاهر رواية إسحاق بن أبي طلحة (¬3). ثم جمع الله تعالى لهم الأمرين في الفاتحة. ولما علم رفاعة أو من بعده ذلك عبَّر تارةً بأصل الحديث، وتارةً بما آل إليه الأمر من فرض الفاتحة، وإنما زاد: "ثم اقرأ ما شئت" ظنًّا أنَّ الفاتحة إنما جاءت بدلًا عن الحمد والثناء والتمجيد. وقد بيَّنت الأحاديث الأخرى الثابتة في الاقتصار على الفاتحة أنَّ الفاتحة جامعة للأمرين: الحمد والثناء والتمجيد، والقراءة. ومما يبيَّن ما قدَّمناه: أنَّ أبا هريرة - راوي الحديث - مذهبه الذي كان يفتي به أنَّ الفاتحة بعينها واجبة، ولا يجب غيرها. ¬

_ (¬1) هو خلَّاد بن رافع، كما في "الفتح" (2/ 277). وانظر "الإصابة" (3/ 311). (¬2) انظر "نسب معد واليمن الكبير" (1/ 424). قال الحافظ في "الإصابة" (3/ 310): لم يذكره في شهداء البدريين غيره. (¬3) التي أخرجها البخاري في "جزء القراءة" (ص 245) وأبو داود (858) والنسائي (2/ 225، 226) وابن ماجه (460) وغيرهم.

[ص 13] وفي "الصحيحين" (¬1) وغيرهما عنه: "وإن لم تَزِدْ على أمِّ القرآن أجزأتْ، وإن زدتَ فهو خير". وفي "سنن أبي داود" (¬2) وغيره عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره فنادى: "أن لا صلاة إلاَّ بفاتحة الكتاب فما زاد". وهذا مما يقوي احتمال النسخ؛ إلاَّ أنَّ في سنده جعفر بن ميمون، مختلف فيه، وقال العقيلي (¬3) في حديثه هذا: "لا يتابع عليه". وسيأتي - إن شاء الله تعالى - الكلام على قوله: "فما زاد"، وأنها لا تدلُّ على وجوب الزيادة. فأما الجواب باحتمال أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قد كان علم أنَّ الرجل لا يحفظ الفاتحة فليس بذاك، وإن ساعده لفظ "معك". ولما كان النزاع إنما هو مع الحنفية، والحديث وارد عليهم، كما هو وارد علينا فلا حاجة إلى التطويل، وفيما قدمناه كفاية لطالب الحق إن شاء الله تعالى. [ص 14] سؤالان وجوابهما: الأول: وقع في بعض روايات حديث رفاعة (¬4) الصحيحة: فقال النبي ¬

_ (¬1) البخاري (772) ومسلم (396). (¬2) رقم (820). وأخرجه أيضًا أحمد في "المسند" (9529) والدارقطني (1/ 321) والحاكم في "المستدرك" (1/ 239) والبيهقي (2/ 37). (¬3) في "الضعفاء الكبير" (1/ 190). (¬4) أخرجه أبو داود (857) والنسائي (2/ 193) وأحمد (18997) وغيرهم.

- صلى الله عليه وسلم -: "إنه لا تتمُّ صلاةٌ لأحدٍ من الناس حتى يتوضأ" وذكر الحديث، وفي آخره - في رواية (¬1) -: "فإذا فعل ذلك فقد تمَّتْ صلاته". وفي رواية (¬2): "لا تتمُّ صلاةُ أحدِكم حتى يفعلَ ذلك". وفي أخرى (¬3): "فإذا لم يفعلْ هكذا لم تَتِمَّ صلاتُه". وفي أخرى (¬4): "فإذا صنعتَ ذلك فقد قضيتَ صلاتك، وما انتقصتَ من ذلك فإنما تَنقُصُه من صلاتك". وفي رواية يحيى بن علي بن يحيى عن جده عن رفاعة بن رافع: "أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينما هو جالس في المسجد يومًا - قال رفاعة: ونحن معه - إذ جاء رجلٌ كالبدوي، فصلَّى فأخفَّ صلاته"، ثم ساق الحديث، إلى أن قال: "فخاف الناس، وكَبُر عليهم أن يكون من أخفَّ صلاته لم يُصلَّ"، ثم ذكر الحديث، وقال في آخره: "فإذا فعلتَ ذلك فقد تمَّتْ صلاتك، وإن انتقصْتَ منه شيئًا انتقصْتَ من صلاتك". قال: "وكان هذا أهونَ عليهم من الأول: أنه مَن انتقصَ من ذلك شيئًا انتقص من صلاته، ولم تذهبْ كلها". رواه الترمذي (¬5)، وقال عقبه: حديث رفاعة حديث حسن. وقد روي عن رفاعة هذا الحديث من غير وجهٍ (¬6). ¬

_ (¬1) هي رواية أبي داود (857). (¬2) عند أبي داود (858). (¬3) عند النسائي (2/ 226). (¬4) عند النسائي (2/ 193). (¬5) رقم (302). (¬6) انظر تعليق المحققين على "المسند" (18995).

وقال في "الفتح" (¬1): "وقع في حديث رفاعة بن رافع عند ابن أبي شيبة في هذه القصة: دخل رجلٌ، فصلَّى صلاةً خفيفةً، لم يتم ركوعها ولا سجودها". فقد يقال: إنما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تتمُّ صلاة لأحدٍ", ولم يقل: "لا تصحُّ"، وقال له: "وإن انتقصتَ منه شيئًا انتقصتَ من صلاتك" أو نحوه؛ فهذا يدلُّ على أنَّ فيما أمره به أشياء تصحُّ الصلاة بدونها. وقد فهم الصحابة ذلك؛ كما صرَّح به في رواية يحيى بن علي بن يحيى. ويؤخذ من قوله: "فأخفَّ صلاته"، وقوله: "وكبُر عليهم أن يكون من أخفَّ صلاتَه لم يُصَلَّ" أنَّ تلك الأشياء هي ما كان من قبيل التخفيف؛ فيدخل فيها تخفيف القيام بتقصير القراءة، وتخفيف الركوع والسجود بعدم الاطمئنان. وفي رواية ابن أبي شيبة ما يظهر منه التخفيف في الركوع والسجود. الجواب: أما رواية يحيى بن علي فلا تقوم بما زاده فيها حجة؛ لجهالته، ولا يُلتفت إلى أنَّ ابن حبَّان ذكره في "الثقات" (¬2)؛ لأنَّ من أصل ابن حبَّان إيراد المجاهيل فيها. والترمذي إنما حسَّن الحديث من حيث هو، وأشار إلى ذلك بقوله: "وقد رُوي من غير وجهٍ"، ولا يلزم من هذا توثيق يحيى بن علي. والزيادة إنما تقبل من الثقة الضابط. وأما قوله: "إنه لا تتمُّ" وما يُشبِه ذلك، فإنه يقال لمن صلَّى من الظهر ثلاث ركعات، ثم قطع الصلاة عمدًا: إنه لم يُتِمَّ صلاته. ويقال لمن صلَّى ¬

_ (¬1) (2/ 277). والحديث في "المصنف" (1/ 287). (¬2) (7/ 612).

وترك بعض المستحبَّات: لم يُتِمَّ صلاته. ويظهر لي أنَّ المعنى الأول هو المتبادر. وأما قوله: "وما انتقصتَ من ذلك فإنما تنقُصُه من صلاتك" فهي عند النسائي من رواية ابن عجلان عن علي بن يحيى، وابن عجلان يدلَّس؛ كما يأتي بيان ذلك في حديث الإنصات. فيُخشى أن يكون سمع الحديث بهذه الزيادة من يحيى بن علي، وقد مرَّ ما فيه. وعلى فرض ثبوت هذه الزيادة فالانتقاص مقابل لعدم الإتمام، وقد مرَّ ما فيه. وعلى فرض أنَّ قوله: "لا تتمُّ"، وقوله: "فإنما تنقصه من صلاتك" - على فرض ثبوتها - يُشِعر أو يدلُّ على أنه إذا ترك شيئًا مما أمره به لا تبطل صلاته، فيجب إلغاء هذا الإشعار؛ لأنه قد أمره - في جملة ما أمره به - بالفرائض القطعية إجماعًا، ومن انتقص شيئًا منها فصلاته باطلة قطعًا. ودعوى حمل هذا على ما كان من قبيل التخفيف مردودة فإنه ساق تحت قوله: "لا تتمُّ صلاة أحدٍ منكم حتى ... " جميع الأعمال، واسم الإشارة في قوله "وما انتقصت من ذلك" يعود إلى جميع الأعمال. وإذا قلنا: إنَّ الذي أساء فيه هذا الرجل هو عدم الاطمئنان في الركوع والسجود، بدليل رواية ابن أبي شيبة = وجب أن لا يدخل ذلك فيما يشعر به قوله: "لا يتم"، وقوله: "تنقصه من صلاتك"؛ لأنه قد قال له باتفاق الروايات كلها: "ارجعْ فصَلِّ فإنك لم تصلِّ". ونفيُ الشارع للصلاة صريح في نفي وجودها الشرعي، وهو إنما يكون بصحتها. والله أعلم.

[ص 15] السؤال الثاني: إذا كانت الصلاة الأولى التي صلاها هذا الرجل باطلة فلمَ لمْ يبيِّن له النبي - صلى الله عليه وسلم - في أثنائها؟ وكيف تركه يتعبد عبادة باطلةً؟ وهكذا يقال في الثانية والثالثة، بل أولى. أَوَلا يكون إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - إياه على الاستمرار فيها دالًّا على صحتها؟ الجواب: هذا سؤال لا يخلو من صعوبة، وقد ذكر الحافظ في "الفتح" (¬1) أجوبة: منها: قول ابن دقيق العيد: "ليس التقرير بدليل على الجواز مطلقًا؛ بل لا بد من انتفاء الموانع، ولا شكَّ أنَّ في زيادة قبول المتعلِّم ما يُلقى إليه بعد تكرار فعله واستجماعِ نفسه وتوجُّهِ سؤاله مصلحةً مانعةً من وجوب المبادرة إلى التعليم؛ لا سيَّما مع عدم خوف الفوات؛ إما بناءً على ظاهر الحال، وإما بوحي خاص". أقول: أما دلالته على الجواز فلا مفرَّ منها؛ ولكن لا يلزم من الدلالة على الجواز الدلالةُ على الصحة، وشاهده ما في "الصحيحين" (¬2) عن ابن المنكدر قال: رأيت جابر بن عبد الله يحلف بالله أنَّ ابن الصيَّاد الدجال، قلت: تحلف بالله؟! قال: إني سمعت عمر يحلف على ذلك عند النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فلم ينكره النبي - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) (2/ 281). وكلام ابن دقيق العيد في "الإحكام" (2/ 11). (¬2) البخاري (7355) ومسلم (2929).

وقد صحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان أولاً يشكُّ في ابن صيَّاد أهو الدجال أم لا (¬1). فأقول: إنَّ العبادة الباطلة إنما يكون التلبُّس بها معصيةً إذا علم المتلبِّس بها أنها باطلة، ولم يتحقَّق هذا في المسيء صلاته؛ فلذلك أقرَّه النبي - صلى الله عليه وسلم - على التلبُّس بها، ثم بيَّن له بطلانها. فالتقرير مجمل؛ لأنه يحتمل أن يكون لأنها صحيحة، ويحتمل أن يكون لما ذكرنا. وتأخير بيان مثل هذا جائز، والحجج عليه كثيرة، ولم يأت من نازع فيه بحجة. وهكذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلَّ فإنك لم تصلِّ" مجمل؛ لأنه لم يبيَّن فيه وجه البطلان، ثم بيَّنه أخيرًا. فإن قيل: فهلاَّ بيَّن له أوَّل مرَّة؟ قلت: في الأجوبة التي نقلها في "الفتح" (¬2): أجاب المازري بأنه أراد استدراجه بفعل ما يجهله مرَّات؛ لاحتمال أن يكون فعله ناسيًا أو غافلاً؛ فيتذكَّره فيفعله من غير تعليم، وليس ذلك من باب التقرير على الخطأ؛ بل من باب تحقُّق الخطأ. وقال النووي (¬3) نحوه، قال: وإنما لم يعلَّمه أولاً ليكون أبلغ في تعريفه وتعريف غيره بصفة الصلاة المُجزِئة. ¬

_ (¬1) هنا في الهامش عبارة بخط دقيق أصابها طمس. (¬2) (2/ 281). (¬3) "شرح صحيح مسلم" (4/ 109).

وقال ابن الجوزي (¬1): يحتمل أن يكون ترديده لتفخيم الأمر وتعظيمه عليه، ورأى أنَّ الوقت لم يَفُتْه فرأى إيقاظ الفطنة للمتروك. وقال ابن دقيق العيد: .... (¬2). وقال التوربشتي: إنما سكت عن تعليمه أولاً لأنه لما رجع لم يستكشف الحال من مورد الوحي، وكأنه اغترَّ بما عنده من العلم، فسكت عن تعليمه؛ زجرًا له وتأديبًا وإرشادًا إلى استكشاف ما استبهم عليه، فلما طلب كشف الحال من مورده أرشد إليه. أقول: أما المرة الأولى فلِمَا قال المازري. وأما في الثانية والثالثة فلِمَا قاله النووي وابن الجوزي وابن دقيق العيد، ولما قاله التوربشتي معًا، والله أعلم. وقد خلط الشارح الكلام على مسألة ركنية الفاتحة بالكلام على وجوب الزيادة عليها مع الكلام على ركنيتها على المأموم، وسألخِّص هنا ما يتعلَّق بهذه المسألة خاصة: زعم أنَّ زيادة "فصاعدًا" في حديث عبادة ثابت، وأنه يقتضي ركنية الزيادة. ثم كرَّ على هذا الحديث بأنه متروك العمل باتفاق، وأن ترك العمل به دليل [على] نسخه، أو على خطأ وقع من بعض رواته، وكأنه يريد أنَّ ذلك دليل على نسخ ركنية الفاتحة. والجواب: أنَّ زيادة "فصاعدًا" غير ثابت، ولو ثبت لم يدلَّ على وجوب ¬

_ (¬1) "كشف مشكل الصحيحين" (1/ 939). (¬2) هكذا بيَّض المؤلف لكلام ابن دقيق العيد. وقد نقله فيما مضى.

الزيادة، ولو دلَّ على وجوب الزيادة فقد قال بذلك بعضُ أهل العلم كما يأتي، نعم ذاك متروك باتفاق الحنفية والشافعية، ولكنَّ المتروك هو الزيادة فقط. فترك الأخذ بها إنما يدلُّ على الخطأ فيها خاصة، وإن دلَّ على نسخٍ فلها خاصة، ودلالته على الخطأ أولى؛ لأنَّ ثَمَّ دلائل أخرى على الخطأ؛ كما يأتي إن شاء الله تعالى. وقد ادعى الشارحُ أنَّ الزيادة نُسِخَت أولاً، وهذا اعتراف بأنَّ نسخ الزيادة لا يلزم منه نسخ المزيد عليه. ثم لو فُرِضَ سقوط الاحتجاج على وجوب الفاتحة بحديث عبادة فالأحاديث على وجوبها كثيرة، على أنَّ زَعْم الاتفاق على عدم وجوب الزيادة غير مسلَّم؛ فقد حكاه الحافظ في "الفتح" (¬1) عن بعض الصحابة وغيرهم، وهو رواية في مذهب أحمد؛ بل هو قول الحنفية، وإن لم يجعلوه فرضًا. ... ¬

_ (¬1) (2/ 243).

[ص 16] واستدلَّ الشارحُ على نسخ ركنية الفاتحة بحديث المسيء صلاته، وقد مرَّ الكلام عليه، وبيَّنا أن تلك القصة كانت قبل بدر، وأحاديث إيجاب الفاتحة متأخرة عن هذا التاريخ, وأنَّ في بعض طرقه تعيين الفاتحة، فإن ثبَّتنا تلك الزيادة فذاك، وإن ادَّعينا النسخَ فأحاديث إيجاب الفاتحة هي الناسخة لتأخرها. ثم قال الشارح: (وأيضًا يدلُّ عليه ما رواه مسلمٌ (¬1) بسند صحيح عن أبي هريرة: "لا صلاة إلاَّ بقراءة"). أقول: هو مرفوع، وغاية ما فيه أنه مطلقٌ وأحاديث إيجاب الفاتحة تُقيِّده. فإن زعم زاعمٌ أنه إنما يقول بالتقييد في مثل هذا إذا كان متصلاً، فإن لم يكن متصلاً فالمتأخر ناسخٌ، فإن جُهل التاريخ فالترجيح. قلنا له: مذهب أبي هريرة تعيين الفاتحة، وذلك يدلُّ إنْ كان نسخٌ على أنَّ المطلق هو المنسوخ. ويؤكِّد هذا أننا لو قلنا: إنَّ المطلق هو الناسخ لزم من يحتجُّ بالإطلاق في حديث المسيء صلاته أنَّ الحكم كان على الإطلاق، ثم نُسخ بتعيين الفاتحة، ثم نسخ تعيين الفاتحة بالإطلاق. ومثل هذا إن وُجِد في الشريعة فنادر، والحمل على الغالب أولى. ثم قال: (وأيضًا روى مسلمٌ (¬2) عن أبي هريرة قال: "في كل صلاةٍ ¬

_ (¬1) رقم (396/ 42). (¬2) رقم (396/ 44).

قراءةٌ، ومن قرأ بأم القرآن أجزأتْ عنه" لعلَّه أراد: أجزأت عن قراءة القرآن، وفتوى الراوي خلاف روايته دليلٌ على نسخ روايته). أقول: لفظ مسلم: "قال أبو هريرة: في كل صلاةٍ قراءة؛ فما أسْمَعَنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أسمَعْناكم، وما أخفَى منا أخفيناه منكم، ومن قرأ بأم الكتاب فقد أجزأتْ عنه، ومن زاد فهو أفضل". وكأنَّ مراد الشارح أنَّ قوله: "في كل صلاة قراءة" يدلُّ على أنَّه يُجزئ ما يحصل به اسم القراءة؛ لأنَّ لفظ "قراءة" مطلقٌ، وأنَّ قوله: "ومن قرأ بأم الكتاب فقد أجزأتْ عنه" لا ينافي الإطلاق. وإنما المعنى: أنه يحصل بها ما يسمَّى "قراءة" كما يحصل بغيرها، وهذا قريب؛ ولكن قوله: "ومن زاد فهو أفضل" يُبطِل هذا الاحتمال، وإنما وِزانُه وِزانُ قولك لخادمك: اشترِ لنا فاكهة العنب وحده يكفي، وإن زدتَ فهو أحسن. فمدلول هذا الكلام: أنَّ العنب لا بد منه على كل حال، ويحسنُ زيادة فاكهة أخرى معه. وتحريره: أنَّ النكرة قد ترِدُ للإطلاق، وقد تردُ للإبهام. وقولك: "اشترِ لنا فاكهة" مبهم فسَّرته بآخر كلامك؛ فكذا لفظ "قراءة" في كلام أبي هريرة. ومع ذلك فمذهب أبي هريرة في تعيين الفاتحة مشهور، فإذا ورد عنه فتوى [ص 17] بصورة الإطلاق وجب تقييدها بما عُرِفَ من مذهبه. ثم ذكر الشارح قول ابن حجر: إنَّ أقوى أجوبة الشافعية عن حديث المسيء صلاته حملُه على العاجز عن تعلُّم الفاتحة؛ جمعًا بينه وبين حديث: "لا تُجزِئ صلاةٌ لا يَقرأ الرجل فيها بأمَّ القرآن" (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن خزيمة (490) وابن حبان (1789، 1794) وغيرهما من حديث أبي هريرة.

ثم اعترضه الشارح بأنه لا يتعيَّن ذلك، قال: (ويمكن أن يكون الأمر كما قلنا: إنَّ ركنية الفاتحة وضمِّ شيءٍ معها من القرآن كان في أول الأمر، وفيه حديث: "لا تجزيء صلاةٌ لا يَقرأ الرجل فيها بأم القرآن"، وغيره من الأحاديث التي تدلُّ بهذا المعنى. ثم لمَّا وقعت المنازعة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - والمخالجة في قراءته - صلى الله عليه وسلم - أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بترك السورة والاكتفاء على الفاتحة. ثم لما نزلت: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ ...} إلخ [الأعراف: 204] أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بترك القراءة مطلقًا. وعلى هذا تتوافق جميع الأحاديث بدون تعارضٍ فيها، والتوافق هو المتعيَّن عند التعارض لو يمكن. ومن هذا الوقت نُسِخت فرضية الفاتحة لما نزل فيه: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20])، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بعده للمسيء: "واقرأ ما تيسَّر معك من القرآن"). [ص 18] أقول: أما حديث المسيء صلاته فقد مرَّ الكلام عليه بما يغني، والحمد لله. وأما ما أبداه الشارح من التوفيق فأقلُّ ما فيه أنه (لَخْبطة). فإنه زعم أنَّ ترتيب نزول الأحكام هكذا: أحاديث وجوب الفاتحة وشيءٍ معها، ثم أحاديث نهي المأموم عن الزيادة، ومنها حديث عمران (¬1) وأبي هريرة في المخالجة والمنازعة، ثم نزول آية الإنصاف، ثم نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - المأموم عن القراءة مطلقًا، ثم نزول آية القراءة، ثم قصة المسيء صلاته. والترتيب الصحيح الثابت بالأدلة العلمية هكذا: آية القراءة؛ فإنها من سورة المزَّمل، وسورة المزَّمل مكية اتفاقًا. ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولعل الصواب "عبادة".

وفي "الإتقان" (¬1) عن جابر بن زيد: "أنَّ أول ما نزل (اقرأ)، ثم (ن والقلم)، ثم المزمل، ثم المُدثِّر، ثم الفاتحة"، ثم ذكر ثلاثًا وثلاثين سورة، ثم قال: "ثم الأعراف"، وذكر الباقي. وفي "الصحيحين" (¬2) عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إني جاورتُ بحراءَ؛ فلما قضيتُ جِواري نزلتُ، فاستبطنتُ الوادي، فنظرت أمامي وخلفي، وعن يميني وشمالي، ثم نظرت إلى السماء؛ فإذا هو - يعني: جبريل - فأخذتْني رجفةٌ, فأتيت خديجة، فأمرتُهم فدثَّروني؛ فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر: 1, 2] ". وهذا ظاهر أنَّ سورة المدثر نزلت في أوائل النبوَّة، وقد قال جابر بن زيد: "إنَّ سورة المزمِّل نزلت قبل سورة المدَّثر". وفي "صحيح مسلم" و"مسند أحمد" (¬3) وغيرهما عن عائشة: ذكرتْ سورة المزمِّل، ثم قالت: "فإنَّ الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة؛ فقام نبي الله وأصحابه حولاً، وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهرًا في السماء، حتى أنزل الله تعالى في آخر السورة التخفيف، وصار قيام الليل تطوُّعًا". وقد زعم بعضهم أنَّ آية القراءة وما بعدها مدنيٌّ؛ ذكره الحافظ في "الفتح" (¬4) في أول كتاب الصلاة، وردَّه، فإن شئت فارجع إليه. ¬

_ (¬1) (1/ 168). (¬2) البخاري (4922، 4924) ومسلم (161/ 257). (¬3) "صحيح مسلم" (746) و"المسند" (24269). وانظر تعليق المحققين عليه. (¬4) (1/ 465).

ثم بعدها آية الإنصات؛ لأنها من سورة الأعراف، وهي متأخرة عن سورة المزمل بكثير، على ما تقدَّم عن جابر بن زيد. واحتمالُ أن يكون ترتيب نزول الآيتين على عكس ترتيب نزول السورتين فيه بُعدٌ. والذي لا نشكُّ فيه أنَّ آية الإنصات مكيَّة اتفاقًا، وسيأتي إيضاح ذلك في مسألة قراءة المأموم، إن شاء الله تعالى. ثم آية القنوت، وحديث المسيء صلاته. أما آية القنوت فلِما يأتي في الكلام على آية الإنصات. ولم يذكر الشارح آية القنوت، وإنما زدتها تتميمًا للفائدة. وأما قصة المسيء صلاته فإنها وقعت قبل بدر؛ كما مرَّ تحقيقه، ولم يتبيَّن لي أيُّ هذين كان قبلُ: آية القنوت أم قصة المسيء صلاته؟ فالله أعلم. ثم أحاديث إيجاب الفاتحة وبقية الأحاديث، ولم يقم عندي دليل على ترتيبها. ولعلَّ من أحاديث وجوب الفاتحة ما تقدَّم على قصة المسيء صلاته؛ بناءً على صحَّة [ص 19] زيادة الأمر بالفاتحة بعينها في حديث المسيء صلاته، ويمكن خلاف ذلك؛ على ما قدَّمناه في الكلام على حديث المسيء صلاته. والذي لا نشكُّ فيه أنَّ حديث أبي هريرة في وجوب الفاتحة متأخر؛ لأنَّ إسلامه كان سنة سبعٍ أيامَ خيبر، وقد صرَّح بالسماع. ولفظه عند البيهقي (¬1) من طريق إسحاق بن راهويه والحميدي عن ابن ¬

_ (¬1) في "السنن الكبرى" (2/ 38).

عيينة بسنده عن أبي هريرة قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "كل صلاةٍ لا يُقرأ فيها بأمَّ الكتاب فهي خِداجٌ، ثم هي خِداجٌ، ثم هي خِداجٌ". فقال: يا أبا هريرة! فإني أكون أحيانًا وراء الإِمام؟، قال: يا فارسي! اقرأ بها في نفسك؛ فإني سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: قال الله عزَّ وجلَّ: "قَسَمتُ الصلاةَ بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل؛ فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله: حمدني عبدي". وذكر الحديث، وهو في "صحيح مسلم" (¬1). وفي حديث أبي داود (¬2) وغيره من طريق جعفر بن ميمون عن أبي عثمان النهدي عن أبي هريرة قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اخرُجْ، فنادِ في المدينة أنه لا صلاةَ إلاَّ بقرآنٍ، ولو بفاتحة الكتاب فما زاد". وفي روايةٍ لأبي داود (¬3): "أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أناديَ أنه لا صلاة إلاّ بقراءة فاتحة الكتاب فما زاد". وجعفر بن ميمون مختلفٌ فيه. وفي "الصحيحين" (¬4) وغيرهما عن عبادة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن". وفي روايةٍ لابن حبان (¬5) وغيره: "لا تُجزِئ صلاةٌ لا يُقرأ فيها بفاتحة ¬

_ (¬1) رقم (395). (¬2) رقم (819). (¬3) رقم (820). (¬4) البخاري (756) ومسلم (394). (¬5) رقم (1789، 1794). وأخرجه ابن خزيمة (490) وغيره.

الكتاب". وفي روايةٍ لأبي داود والترمذي وأحمد وابن حبان في "صحيحه" (¬1)، عن عبادة قال: "كنا خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الفجر؛ فقرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فثقلت عليه القراءة؛ فلما فرغ قال: "لعلكم تقرءون خلف إمامكم؟! " قلنا: نعم هَذًّا يا رسول الله، قال: "لا تفعلوا إلاَّ بفاتحة الكتاب؛ فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها". وفي روايةٍ لأبي داود (¬2) وغيره: " ... هل تقرءون إذا جهرتُ بالقراءة؟ فقال بعضنا: إنا نصنع ذلك، قال: "فلا، وأنا أقول: ما لي ينازعني القرآن، فلا تقرؤوا بشيءٍ من القرآن إذا جهرتُ إلاَّ بأم القرآن". وفي "سنن أبي داود" (¬3) وغيره: عن أبي هريرة قال: "صلَّى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاةً نظنُّ أنها الصبح؛ فلما قضاها قال: "هل قرأ منكم أحد؟! " فقال رجلٌ: نعم أنا يا رسول الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إني أقول ما لي أُنازَع القرآن". وذكر البيهقي (¬4) عن سفيان: فنظرت في شيءٍ عندي؛ فإذا هو: "صلَّى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح"؛ بلا شكًّ. ¬

_ (¬1) أبو داود (823) والترمذي (311) وأحمد (22745، 22746، 22750) وابن حبان (1785، 1792، 1848). (¬2) رقم (824) وأخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 164). (¬3) رقم (827). (¬4) "السنن الكبرى" (2/ 157).

[ص 20] والحفَّاظ يرون أنَّ حديث عبادة الذي في الصحيحين وغيرهما مختصر من حديثه الذي ذكر فيه القصة. وقد قيل: إنَّ حديث أبي هريرة في المنازعة هو في واقعة حديث عبادة بعينها؛ لاتفاقهما في أكثر الأمور. ويشهد لذلك مذهب أبي هريرة في وجوب قراءة الفاتحة على المأموم في الجهرية وغيرها، وهذه القرائن كافية في إفادة الظنَّ عند أهل العلم، فلا التفاتَ إلى قول الشارح: "لا نسلِّم". فعلى ما تقدَّم يكون حديث عبادة متأخرًا عن حديث المسيء صلاته جزمًا؛ لأنَّ أبا هريرة شهد القصة. وفي الاتحاد نظر؛ كما سيأتي إن شاء الله تعالى. ولكن سيأتي في المسألة الرابعة حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: "صلَّينا مع النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فلما انصرف قال: "هل تقرءون إذا كنتم معي في الصلاة؟ "، قلنا: نعم، قال: "فلا تفعلوا إلاَّ بأم القرآن" (¬1). وإسلام عبد الله بن عمرو بن العاص متأخر، والظاهر أنَّ قصته هي قصة عبادة، وذلك كافٍ في الدلالة على تأخُّر حديث عبادة. وحديث عبادة وحديث أبي هريرة أشهر الأحاديث في وجوب الفاتحة. وبقيتْ أحاديث أخرى عن جماعة من الصحابة قد جمع أكثرها البخاري رحمه الله تعالى في "جزء القراءة". فقد ثبت أنَّ أحاديث وجوب الفاتحة متأخرة عن الآيات الثلاث: آية القراءة، وآية الإنصات، وآية القنوت، ومتأخرة عن حديث المسيء صلاته. ¬

_ (¬1) "جزء القراءة" للبخاري (ص 174 - 176).

فلم يبق بيد الشارح ما يستدلُّ به على نسخ أحاديث فرضية الفاتحة، وقد تقدَّم الجواب عن حديث مسلم: "لا صلاة إلاَّ بقراءة"؛ فثبتت فرضية الفاتحة على الإطلاق. فأما أحاديث المخالجة والمنازعة وما ورد في نهي المأموم عن القراءة، فسنتكلَّم عليها في مسألة قراءة المأموم، إن شاء الله تعالى. ثم إنَّ الشارح لم تطب نفسه بما كانت سمحت به من الاعتراف بأنَّ حديث عبادة يدلُّ على الركنية، فقال: (يحتمل حديث: "لا صلاة إلاَّ بفاتحة الكتاب" معنى غير معنى الركنية؛ كما في حديث عائشة الذي رواه مسلم (¬1)، قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا صلاةَ بحضرة الطعام، ولا وهو يدافعه الأخبثانِ". وفي "الشرح الكبير" (¬2): قال ابن عبد البر: أجمعوا على أنه لو صلَّى بحضرة الطعام فأكمل صلاته أنَّ صلاته تُجزِئه، كذلك إذا صلَّى حاقنًا). أقول: لفظ الحديث عند الترمذي (¬3): "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب". ثم اعلم أنه لا يرتاب مسلمٌ أنَّ كلمة التوحيد (لا إله إلاَّ الله) صريحةٌ في نفي وجود إله غير الله تعالى، وقوله: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" مثلها؛ فهي صريحةٌ في نفي وجود صلاة لمن لم يقرأ الفاتحة. ¬

_ (¬1) رقم (560). (¬2) للشمس المقدسي (3/ 595). وانظر "التمهيد" (22/ 206) و"الاستذكار" (6/ 206). (¬3) رقم (247).

ومن توهَّم أنَّ نفي وجود الصلاة بدون الفاتحة لا يصحُّ وإن قلنا بأنها ركنٌ, لأنها قد توجد في الخارج بدون الفاتحة وإن كانت باطلة = فقد غفل غفلةً شديدة؛ لأنَّ الصلاة في لسان الشارع إنما تصدُق على الصحيحة [ص 21]، وهذا إجماع. حتى قال الحنفية: إنَّ نهي الشارع عن صلاة مخصوصة يقتضي صحتها؛ لأنها لو كانت لا تصحُّ لما قدر المكلَّف على تحصيلها، فكيف ينهى عنها؟ فقيل لهم: إنما نهى الشارع عن الصورة الظاهرة من الصلاة الباطلة، وهو قادرٌ على تحصيلها. فردُّوه بأنَّ الصلاة في لسان الشارع محمولة على الصحيحة, هذه حقيقتها، فلا يجوز صرفها عنها بغير حجة. إذا تقرَّر هذا ثبت أنَّ وجود الصورة الباطلة لا يقدح في نفي وجود الصلاة، وهذا واضحٌ جدًّا. فحديث عبادة صريح في نفي وجود الصلاة بدون قراءة فاتحة الكتاب، وذلك صريح في أنها ركنٌ فيها, لا تصحُّ بدونها. وهكذا نقول في حديث: "لا صلاة بحضرة الطعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان" بأنه صريح في أنَّ الصلاة لا تصحُّ في هذين الموضعين. وإنما لم يعملوا بهذا الحديث لقيام الإجماع القطعي عندهم على خلافه؛ فقالوا: إنَّ الإجماع يدلُّ على نسخ الحديث، أو على أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لما تكلَّم به كانت هناك قرائن فهم منها السامعون صرف اللفظ عن حقيقته. ولا يرتاب ذو علم أنَّ الكلمة إذا صُرِفت عن حقيقتها لدليل ثم وقعت تلك الكلمة بعينها في كلام آخر لا يسوغ صرفها عن حقيقتها فيه لغير دليل،

ولو ساغ ذلك لسقطت ظواهر الكلام كلها؛ لأنه ما من كلمة إلاَّ وقد استعملت أو يجوز استعمالها في خلاف ظاهرها مع نصب القرينة على ذلك، ولا يقول بذلك مسلمٌ، بل ولا عاقلٌ. على أنَّ حديث: "لا صلاة بحضرة الطعام" قد ورد بلفظ: "لا يصلي أحدكم بحضرة الطعام" إلخ. كذا هو في "صحيح ابن حبان" (¬1)، ذكره الحافظ في "الفتح" (¬2) ثم قال: "أخرجه مسلمٌ من طريق حاتم بن إسماعيل وغيره عن يعقوب بن مجاهد عن القاسم. وابن حبان من طريق حسين بن علي وغيره عن يعقوب به. وأخرج له ابن حبان (¬3) أيضًا شاهدًا من حديث أبي هريرة بهذا اللفظ". يعني بلفظ: "لا يصلي أحدكم". وقوله: "لا يصلي" إما نهي وإما نفي بمعنى النهي، فلا يكون صريحًا في البطلان، بل يدلُّ عند الحنفية على الصحة، ويحمل عليه لفظ: "لا صلاةَ بحضرة الطعام" جمعًا بين الروايات. بخلاف "لا صلاة بفاتحة الكتاب"، فإنه صريحٌ في النفي المقتضي للبطلان اتفاقًا. ولم يقم دليلٌ يُسوِّغ صرفَه عن ظاهره إلى معنى النهي، والله أعلم. وقد زعم بعضهم أنَّ نفي الشيء شاع استعماله في المجاز، وهو نفي الكمال؛ حتى صار هذا المجاز حقيقة عرفية، وهذا بهتان عظيم! وكيف يجعل الله تبارك وتعالى (لا إله إلاَّ الله) عنوان التوحيد إذا كان ظاهرها لا يفيد التوحيد ¬

_ (¬1) رقم (2074). (¬2) (2/ 242). (¬3) رقم (2072). وفيه: "لا يُصلِّ" بصيغة النهي.

على زعم ذلك القائل؟ ونعوذ بالله من حبٍّ للمذهب يؤدِّي إلى مثل هذا. على أنَّ مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنَّ الحقيقة المستعملة أولى من المجاز المتعارف الأسبق منها، ذكروه في أصولهم (¬1). فإن قيل: إنَّ عموم الحديث مخصوص اتفاقًا، فإنَّ الأبكم ومن لا يُحسِن الفاتحة تصحُّ صلاتهما بدونها، وجمهور العلماء يقولون: إنَّ من أدرك الإِمام راكعًا تصحُّ ركعته مع أنه لم يقرأ. وقال الشافعية: إنَّ ذلك قد يتفق في الصلاة كلها، وتصوير ذلك موجود في كتبهم. وكثير من العلماء أو أكثرهم يقولون: لا قراءة على المأموم في جهرية الإِمام. وطائفة منهم قالوا: لا قراءة على المأموم مطلقًا. ودلالة العموم المخصوص على بقية أفراده ضعيفة [ص 22] حتى ردَّها بعض النظَّار. قلت: أما دعوى أنَّ المأموم لا قراءة عليه مطلقًا أو في ما جهر به الإِمام فلا نسلِّمه، وسيأتي بيان هذه المسألة، إن شاء الله تعالى. وأما المسبوق فقد اختار الإِمام البخاري رحمه الله تعالى، ونقله عن بعض الصحابة: أنه لا يدرك الركعة. وهو قول جماعة من أصحابنا الشافعية، وبه أعمل (¬2). ومع ذلك فالقائلون بسقوط القراءة عن المأموم مطلقًا أو في ما جهر به الإِمام يرون أنَّ قراءة الإِمام الفاتحةَ أجزأتْ عن ذلك المأموم، وعلى هذا فيصدق على صلاة هذا المأموم أنه قرأ فيها بفاتحة الكتاب؛ فلا يكون هذا ¬

_ (¬1) نصَّ عليه ابن الهمام في "التحرير". انظر "تيسير التحرير" لأمير بادشاه (2/ 57). (¬2) للمؤلف رسالة في هذا الباب نُشِرت ضمن هذه المجموعة (1/ 101 - 133).

تخصيصًا للحديث، وإنما فيه لزوم تأويل "يقرأ" في الحديث بما يعمُّ قراءته بنفسه وما يقوم مقامها من قراءة إمامه، وهذا تأويل للفظ "يقرأ"، لا تخصيص للعموم. وأما الأبكم ومن لا يُحسِن الفاتحة فإنهما مُستثنيان بالعقل، لامتناع تكليف ما لا يُطاق، وقد قال الله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]. وحقَّق صدر الشريعة من أئمة الحنفية أنَّ التخصيص بالعقل لا يُضعف دلالة العام. وعبارته في "التنقيح" و"توضيحه" (¬1): "لكن يجب هناك فرق؛ وهو أنَّ المخصوص بالعقل ينبغي أن يكون قطعيًّا؛ لأنه في حكم الاستثناء، لكنه حذف الاستثناء مُعْتَمِدًا على العقل، على أنه مفروغ عنه (¬2)، حتى لا نقول: إنَّ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} [المائدة: 6] ونظائرَه دليلٌ فيه شبهة، وهذا فرق قد تفرَّدتُ به، وهو واجب الذكر؛ حتى لا يُتوهَّم أنَّ خطابات الشرع التي خصَّ منها الصبي والمجنون بالعقل دليل فيه شبهةٌ؛ كالخطابات الواردة بالفرائض، فإنه يكفر جاحدها مع كونها مخصوصة عقلاً، فإنَّ التخصيص بالعقل لا يورث شبهة، فإنَّ كل ما يوجب العقلُ تخصيصَه يخصُّ، وما لا فلا". فإن قلت: العقل إنما يدلُّ على أنَّ العاجز لا تلزمه الفاتحة، ولا يدلُّ على صحة صلاته, لأن كونه لا تلزمه الفاتحة يصدق بأحد حكمين: إما أن ¬

_ (¬1) (1/ 44). (¬2) في الأصل: "مفرغ فيه". والتصويب من المصدر المذكور.

تصحَّ صلاته بدونها، وإما أن لا تلزمه الصلاة أصلاً. قلت: الاحتمال الثاني كان منتفيًا عند الصحابة الذين خُوطبوا بالحديث، وكذا عند غيرهم من الأمة؛ بما علموه من القاعدة الشرعية المقرَّرة للصلاة؛ وهي أنَّ من عجز عن شيءٍ من أركانها كان عليه أن يصلَّي، ويأتي بما قدر عليه. وإذا كان هذا مقرَّرًا عندهم فهو في قوَّة الاستثناء؛ لأنه دليل مقارن للنص، فهو كالعقل فيما ذكره صدر الشريعة. [ص 23] وقد حاول بعضهم (¬1) أن يجيب عن حديث أبي هريرة، فقال: إنَّ الخِداج معناها الناقصة، ويوضِّح ذلك تفسيره بقوله: "غير تمام"، وهذا يدلُّ أنها صحيحة. والجواب: أنَّ الخِداج عند أهل اللغة: إلقاء الناقة ولدها لغير تمام الأيام، وإن كان تامَّ الخلق. وقيل: إلقاؤها إياه ناقصًا قبل الوقت. وقيل: إلقاؤها إياه دمًا. وقيل: إلقاؤها إياه أملطَ، لم ينبتْ عليه شعر. قال الأزهري (¬2): ويقال إذا ألقتْه دمًا: قد خَدجتْ وهو خِداج. وعلى كل حال فالمعنى: إلقاؤها إياه ميتًا, ولم يصرِّحوا فيما رأيت بقولهم "ميتًا" لأنَّ الإلقاء يدلُّ عليه؛ فإنهم لا يقولون: ألقتْ ولدها إلاَّ إذا كان ميتًا. وفي "اللسان" (¬3): "أجهضت الناقةُ إجهاضًا وهي مُجهِضٌ: ألقت ¬

_ (¬1) انظر "فتح الملهم" للشيخ شبير أحمد العثماني (3/ 252) ط. دار إحياء التراث العربي. (¬2) "تهذيب اللغة" (7/ 45). (¬3) "لسان العرب" (8/ 400، 401).

ولدها لغير تمام ... أبو زيد: إذا ألقت الناقة ولدها قبل أن يستبين خلقُه قيل: أجهضت. وقال الفرَّاء: خِدْجٌ، وخَدِيجٌ، وجِهْضٌ، وجَهِيضٌ: للمُجْهَض". وفيه (¬1): "أسقطت المرأة ولدها إسقاطًا، وهي مُسقِط: ألقتْه لغير تمام ... وأسقطت الناقةُ وغيرها: إذا ألقت ولدها". وفيه (¬2): "أَزلقَتِ الفرسُ والناقةُ: أسقطتْ، وهي مُزْلِق: ألقتْه لغير تمام". وفيه (¬3): "غَضَنتِ الناقةُ بولدها وغضَّنَتْ: ألقتْه لغير تمام، قبل أن ينبت الشعر عليه ويستبينَ خلقُه". وقولهم: "وإن كان تامَّ الخلق" لا ينافي الموت كما لا يخفى. فأما إذا كان حيًّا فإنما يقولون: ولدتْ، وضعتْ. وفي "جزء القراءة" للبخاري (¬4): "قال أبو عبيد: يقال: أخدجت الناقةُ: إذا أسقطتْ، والسقط ميت، لا ينتفع به". فحاصل الحديث: أنَّ الصلاة التي لا تقرأ فيها الفاتحة مثل السقط المُلقَى ميتًا, ولا يرتاب منصفٌ أنَّ حياة الصلاة هي صحتها. فأما على ما قاله الأزهري من أنَّ الخداج "إلقاؤها إياه دمًا" فدلالته على البطلان أصرح وأوضح. فأما قوله: "غير تمام" فهو مجملٌ؛ لأنه يقال لمن صلَّى من الظهر ¬

_ (¬1) المصدر نفسه (9/ 188). (¬2) المصدر نفسه (12/ 10). (¬3) المصدر نفسه (17/ 190). (¬4) (ص 362). وانظر "غريب الحديث" لأبي عبيد (1/ 66).

ثلاث ركعاتٍ ثم قطعَها: لم يتمَّ صلاته، ومنه حديث "الصحيحين" (¬1): "فما أدركتم فصلُّوا، وما فاتكم فأتمُّوا". ويقال لمن صلَّى وترك بعض السنن: لم يُتِمَّ صلاتَه. وعلى هذا فلا ينافي ما اقتضاه قوله: "فهي خداج" من معنى البطلان؛ بل يجب حمله على المعنى الموافق لذلك. وفي "جزء القراءة" (¬2) للبخاري: عن عائشة قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من صلَّى صلاةً لم يقرأ فيها بأمَّ القرآن فهي خداج، فهي خداج". وفيه (¬3): عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كل صلاة لم يقرأ فيها بأم الكتاب فهي مُخدِجة". ليس في روايتهما "غير تمام". وكذا في بعض روايات حديث أبي هريرة ليس فيها "غير تمام". فيحتمل - والله أعلم - أنَّ يكون أبو هريرة زادها مرَّةً تفسيرًا، وقد عُلِمَ مذهبه في وجوب الفاتحة، والله أعلم. وحديثه الآخر في قول الله تعالى: "قَسَمتُ الصلاةَ بيني وبين عبدي" صريح في الركنية؛ لأنه جعل الفاتحة هي الصلاة، وهو يقتضي أنَّ الفاتحة أعظم ما في الصلاة، ولهذا أكّد به أبو هريرة الحديث الأول، والله أعلم. ولعلَّ قائلًا يقول: لكن لفظ "صلاة" في كلام الشارع يُحمَل على الصحيحة. فأقول: أرأيتَ لو قال: "هذه صلاة باطلة" أتحتجُّ بذلك على صحتها؟ ¬

_ (¬1) البخاري (636، 908) ومسلم (602) من حديث أبي هريرة. (¬2) (ص 173). (¬3) (ص 67، 68).

فإن قال: لا، بل أقول: إنَّ قوله: "باطلة" دليل على أنه استعمل لفظ "صلاة" مجازًا في الصورة الخارجة، بقرينة قوله: "باطلة". قلت: فكذلك تقول في الحديث، بقرينة قوله: "فهي خداج"، وقد مرَّ معناه، وأنه في قوَّة قوله: "فهي باطلة"، والله أعلم. [ص 24] ثم رأيت الطحاوي (¬1) احتجَّ على أنَّ قوله: "خداج" لا يدلُّ على البطلان؛ بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الصلاة مثنى مثنى؛ تَشَهَّدُ في كل ركعتين، وتَخشَّعُ، وتَضرَّعُ، وتَمَسْكَنُ، وتُقْنِعُ بيديك، يقول: ترفعُهما إلى ربك، مستقبلًا ببطونهما وجهك، وتقول: يا ربِّ يا ربِّ، ومن لم يفعل ذلك فهو كذا وكذا". وفي رواية: "فهو خداج" (¬2). وهذا حديث مضطرب اضطرابًا شديدًا، قد بين الطحاوي بعض ذلك في "مشكل الآثار" (ج 2 ص 23) (¬3). ومع ذلك ففي سنده عبد الله بن نافع بن العمياء؛ قال ابن المديني: مجهول، وقال البخاري: لم يصحَّ حديثه. يعني هذا الحديث. ولو فرضنا أنَّ الحديث صحَّ، وأنَّ الأمة أجمعت على صحَّة صلاة من ترك جميع ما ذكر فيه؛ فذلك من قبيل صرف اللفظ عن ظاهره بدليل، ولا ¬

_ (¬1) في "مشكل الآثار" (3/ 124) ط. مؤسسة الرسالة. (¬2) أخرجه أحمد (17525) والترمذي (385) من حديث الفضل بن عباس. وأخرجه أحمد (17523) وأبو داود (1296) وابن ماجه (1325) من حديث المطلب بن ربيعة. وفي إسنادهما عبد الله بن نافع بن العمياء، وهو مجهول. وانظر كلام الإِمام البخاري عليه عند الترمذي. (¬3) (3/ 126 وما بعدها) ط. مؤسسة الرسالة.

يسوغ بذلك صرف ذلك اللفظ إذا وقع في كلام آخر عن ظاهره بغير دليل كما قدمناه. وذكر الطحاوي (¬1) حديث صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في مرض موته، وسنذكره إن شاء الله في حججهم في المسألة الرابعة. ثم قال الشارح: (ويدلُّ أيضًا على أنَّ الفاتحة ليست بركن ...)، وذكر حديث أبي بكرة أنه انتهى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو راكع؛ فركع قبل أن يصل إلى الصف؛ فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "زادك الله حرصًا ولا تعد" (¬2). ثم قال الشارح: (وفيه دلالة على أنَّ من أدرك الركوع فقد أدرك الركعة ... وبإدراك الركعة من إدراك الركوع ثبت أنَّ الفاتحة ليست بركن، ولو كانت ركنًا لفاتت الركعة بفوتها. وأيضًا ثبت أنَّ قراءة الإِمام قراءة له؛ بعين هذا الدليل؛ لأنَّ القراءة فرض بالاتفاق، عند البعض الفاتحة، وعند البعض مطلقًا). أقول: فإذا كانت القراءة فرضًا بالاتفاق فكيف يدلُّ هذا الحديث على أنَّ الفاتحة ليست بركن، ولا يدلُّ على أنَّ القراءة ليست بركن، والمسبوق قد ترك القراءة كما ترك الفاتحة. فالصواب أن يقتصر في الاستدلال بهذا الحديث على ما ذكره ثانيًا بقوله: "وأيضًا ثبت ... " إلخ. ¬

_ (¬1) في "مشكل الآثار" (1099). (¬2) أخرجه البخاري (783).

فإن قيل: لعلَّه ذكر الاستدلال الأول على سبيل الإلزام؛ أي: أنَّ المسبوق صحَّت ركعته ولم يقرأ الفاتحة، فيلزمكم معشرَ الشافعية أن تقولوا: إن الفاتحة ليست بركن؛ بدليل صحة ركعة المسبوق بدونها. وليس لكم أن تقولوا: يحمل الإمامُ الفاتحةَ عن المسبوق؛ لإنكم لا تقولون بأنَّ قراءة الإِمام قراءة للمأموم. قلت: لو كان مراده هذا لما أردفه بالاستدلال الآخر؛ بل كان حق العبارة أن يقول: يلزمكم معشر الشافعية أحد أمرين: إما أنَّ الفاتحة ليست بركن، وإما أنَّ قراءة الإِمام قراءة للمأموم. إذا تقرَّر هذا فمن قال من الشافعية: إنَّ من أدرك الركوع أدرك الركعة يختار الشق الثاني في هذه الصورة فقط، فيقول: قراءة الإِمام قراءة للمأموم الذي لم يدركه إلاّ في الركوع. فإن طُولِبَ بالفرق بين المسبوق وغيره فهذا من موضوع مسألة قراءة المأموم، وستأتي إن شاء الله تعالى. [ص 26] (¬1) وذكر الشارح في باب ما جاء في القراءة خلف الإِمام حديث ابن أُكَيمة، ودلالته على النهي عن القراءة خلف الإِمام. ثم قال: (فثبت بحديث أبي هريرة النهي عن قراءة الفاتحة خلف الإِمام، وهو دليل على نسخ ركنيتها، وعلى هذا إجماع. قال ابن قدامة في "المغني" (¬2): وأيضًا فإنه إجماع، قال أحمد: ما سمعنا أحدًا من أهل الإِسلام يقول: إنَّ الإِمام إذا جهر بالقراءة لا تجزئ ¬

_ (¬1) ملاحظة: ورقة (25) فارغة لم يكتب فيها الشيخ شيئًا. وفي رأس الورقة (26) عنوان هو: (ذكر الصلاة خلف الإِمام). (¬2) (2/ 262) ط. هجر.

صلاة من خلفه إذا لم يقرأ. وقال: هذا النبي - صلى الله عليه وسلم - , وأصحابه، والتابعون، وهذا مالك في أهل الحجاز، وهذا الثوري في أهل العراق، وهذا الأوزاعي في أهل الشام، وهذا الليث في أهل مصر؛ ما قالوا لرجل صلّى وقرأ إمامه ولم يقرأ هو: صلاته باطلة. انتهى). أقول: سيأتي الكلام على حديث ابن أُكيمة في المسألة الرابعة إن شاء الله تعالى، وهناك يتضح لك أنه إن صحَّ فليس فيه النهي عن قراءة الفاتحة، وأنه لو دلَّ على ذلك لكان إما منسوخًا وإما مطَّرحًا؛ لمعارضته ما هو أرجح منه. وننبِّه ها هنا أنه لو صحَّ ودلَّ على نهي المأموم عن قراءة الفاتحة، ولم يكن منسوخًا ولا مطَّرحًا لما لزم من ذلك نسخ ركنية الفاتحة مطلقًا؛ بل تبقى على ركنيتها, ولكن يكفي المأمومَ فاتحةُ إمامه؛ كما يقول الحنفية في مطلق القراءة. وأما الإجماع المزعوم فسيأتي نقضه في المسألة الرابعة إن شاء الله تعالى، ولو ثبت لما لزم منه نسخ الركنية؛ بل غايته الدلالة على أنَّ فاتحة الإِمام تكفي المأمومَ في الجهرية؛ كما يقوله الحنفية في القراءة أيضًا. ثم قال الشارح في ذلك الباب: (وإذا ثبت أنَّ صلاة من لم يقرأ خلف إمامه في الجهرية لم تبطل، فعُلِم به أنَّ الفاتحة ليست بركن؛ لأنها لو كانت ركنًا لبطل صلاة من لم يقرأ في الجهرية أيضًا؛ لأنَّ الجهرية والسريَّة سواء في حق الركن. وإذا لم تبق الفاتحة على ركنيتها فلا تجوز قراءتها خلف الإِمام مطلقًا؛ لأن قراءتها خلف الإِمام كانت مبنية على الركنية؛ كما هو مصرَّحٌ في حديث عبادة).

أقول: فيلزمك على هذا أنَّ مطلق القراءة ليست بركن؛ لأنَّ المأموم إذا لم يقرأ لم تبطل صلاته الخ. فإن قال: قراءة الإِمام عندنا قراءة للمأموم. قلنا: وهكذا يقول من يزعم أنَّ المأموم لا يقرأ في الجهرية، يقول: قراءة الإِمام في الجهرية قراءة للمأموم. وقولك: "لأنَّ الجهرية والسريَّة سواء في حقَّ الركن" دعوى لا يسلِّمونها لك. بل يقولون: دلَّ الدليل على أنَّ الفاتحة ركن، ودلَّ الدليل على أنه يكفي المأمومَ فاتحةُ إمامه إذا جهر لمصلحة الاستماع، فإذا أسرَّ الإِمام زالت هذه المصلحة؛ فرجع إلى الأصل. ولا نطيل النزاع معه, فإننا سنثبت إن شاء الله تعالى أنَّ قراءة الفاتحة لا بد منها للمأموم وإن جهر إمامه. ***

المسألة الثانية هل تجب الفاتحة في كل ركعة؟

[ص 28] المسألة الثانية هل تجب الفاتحة في كل ركعة؟ في حديث المسيء صلاته في "الصحيحين" (¬1) وغيرهما: "إذا قمت إلى الصلاة فكبَّر، ثم اقرأ ما تيسَّر معك من القرآن ... "؛ فوصف له ركعة، ثم قال: "ثم اصنع ذلك في صلاتك كلها". وفي رواية لأحمد وابن حبان - كما في الفتح (¬2) -: "ثم افعل ذلك في كل ركعة". وقد تقدَّم في الكلام على هذا الحديث بيان زيادة الفاتحة في بعض الروايات الصحيحة, وأوضحنا أنه إما أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر الفاتحة نصًّا؛ بدليل تلك الزيادة، وإما أن يكون لم يذكرها، وإنما ذكر الحمد والثناء والتمجيد وقراءة ما تيسَّر. ولكن الصحابي علم أنَّ ذلك نُسِخ أخيرًا بالفاتحة. وعلى كلا الأمرين يثبت الأمر بالفاتحة في كل ركعة؛ أما على الاحتمال الأول فظاهر، وأما على الثاني فلأنَّ الفاتحة جُعلت بدلاً عن الحمد والثناء والتمجيد وقراءة ما تيسَّر. والمبدل منه ثابت في كل ركعة؛ فكذا البدل، ويؤكِّده ما تواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من مواظبته على قراءة الفاتحة في كل ركعة، والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) (2/ 279). وانظر "المسند" (18995) و"صحيح ابن حبان" (1787).

المسألة الثالثة هل تجب الزيادة على الفاتحة؟

[ص 29] المسألة الثالثة هل تجب الزيادة على الفاتحة؟ بسم الله الرحمن الرحيم قال (¬1) في شرح الترمذي: (باب ما جاء أنه لا صلاة إلاَّ بفاتحة الكتاب)، ثم ذكر حديث: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب"، وزيادة: "فصاعدًا"، وأنها صحيحة؛ لأنَّ مسلمًا ذكرها في "صحيحه" (¬2)، وسكت عليها أبو داود (¬3). ثم قال: (ولم أقف على علَّة فيه؛ فهذا الحديث يدلُّ على أنَّ فاتحة الكتاب فصاعدًا ركن الصلاة، لا تجوز الصلاة بدونها، وما نُقل عن الإِمام البخاري (¬4) رحمه الله بأنه ورد لدفع توهُّم قصر الحكم على الفاتحة ففيه أنه ليس في الحديث حكم إلاّ أنَّ الفاتحة ركن. فيكون معنى الحديث على هذا: أنَّ الركنية ليست منحصرةً في الفاتحة؛ بل تتجاوز عنها إلى زائد عليها؛ فتكون الفاتحة مع زائد ركنًا لها. ولو قيل: إنَّ معناه أنَّ القراءة ليست مقصورة على الفاتحة؛ بل لا بد من ¬

_ (¬1) كتب بعده "مولانا المفتي" ثم ضرب عليها. (¬2) رقم (394/ 37). (¬3) رقم (822). (¬4) هذا ليس من كلام البخاري، بل هو عبارة الحافظ في "الفتح" (2/ 243). وسيأتي التنبيه عليه من المؤلف.

الفاتحة، ولو زاد عليها يجوز. قلنا: ليس الحكم ههنا بقراءة الفاتحة في الصلاة مطلقًا؛ بل الحكم أنَّ القراءة ركن الصلاة، لا تجوز الصلاة بدونها). أقول: زيادة "فصاعدًا" قال فيها إمام الفن محمَّد بن إسماعيل البخاري (¬1) رفع الله درجته: "وقال معمر عن الزهري: "لا صلاة لمن لم يقرأ بأم الكتاب فصاعدًا"، وعامة الثقات لم يتابع معمرًا في قوله: "فصاعدًا"، مع أنه قد أثبت فاتحة الكتاب، وقوله: "فصاعدًا" غير معروف ما أردته [ما أريد به] حرفًا أو أكثر من ذلك؛ إلاَّ أن يكون كقوله: "لا تقطع اليد إلاَّ في ربع دينار فصاعدًا" (¬2)، فقد يُقطع اليد في دينار وفي أكثر من دينار. قال البخاري: "ويقال: إنَّ عبد الرحمن بن إسحاق تابع معمرًا، وإنَّ عبد الرحمن ربما روى عن الزهري، ثم أدخل بينه وبين الزهري غيره، ولا نعلم أنَّ هذا من صحيح حديثه أم لا". (جزء القراءة ص 1). وحاصله أنه أورد على هذه الزيادة أمورًا: الأول: أنَّ معمرًا تفرَّد بها, ولم يذكرها الأكثر، ومنهم من هو أجلُّ منه وأفقه، ومنهم من هو مثله. وأجاب عن متابعة عبد الرحمن بن إسحاق بما يعلم منه أنه يدلِّس؛ فلا يؤمن أن يكون بينه وبين الزهري ضعيف، لا يصلح للمتابعة. ¬

_ (¬1) في "جزء القراءة خلف الإِمام" (ص 46 - 51) كما سيأتي. ورواية معمر أخرجها مسلم في الموضع المذكور. (¬2) أخرجه بهذه الزيادة مسلم (1684) من حديث عائشة.

وقد ذكر البخاري عبد الرحمن في موضع آخر من هذا الجزء (¬1)، وأورد له عدَّة مخالفات, يخالف فيها الثقات. ويجاب عن هذا الأمر بما اشتهر من قبول زيادة الثقة، ويدفع هذا بأنَّ قبولها مطلقًا غير متفق عليه؛ ففي "فتح المغيث" (ص 88) (¬2): "وقيَّده ابن خزيمة باستواء الطرفين في الحفظ والإتقان، فلو كان الساكت عددًا أو واحدًا أحفظ منه، أو لم يكن هو حافظًا ولو كان صدوقًا فلا، وممن صرَّح بذلك ابن عبد البر؛ فقال في "التمهيد" (¬3): "إنما تُقبل إذا كان راويها أحفظ وأتقنَ ممن قصَّر أو مثله في الحفظ ... ". ومن قال بقبولها ولو كان المقصِّر أحفظ أو أكثر لا ينكر أن سكوت الأكثر أو الأحفظ عنها يوهِّنها، وهذا مما لا يخفى على ذي معرفةٍ. وعليه؛ فإذا انضمَّ إلى ذلك موهِّن آخر لم ينكر على المجتهد في هذا الفن الماهر فيه أن يردَّها بمجموع [ص 30] الأمرين، وإن كان كل منهما لا يكفي على انفراده. وقد ذكر البخاري رحمه الله موهَّنًا آخر لهذه الزيادة. وهو الأمر الثاني: أنَّ معناها مجمل، لا يُدرى أحرفٌ واحدٌ أم أكثر؛ يعني: والشارع شأنه البيان لا الإجمال. ولها موهِّنٌ ثالثٌ: أنَّ الحديث من رواية الزهري عن محمود بن الربيع ¬

_ (¬1) (ص 285 وما بعدها). (¬2) (1/ 246, 247) ط. الهند. (¬3) (3/ 306).

عن عبادة، وقد ثبت هذا الحديث نفسه بهذا الإسناد نفسه (¬1) في قصَّة، ولفظه: صلَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصبح؛ فثقلت عليه القراءة، فلما انصرف قال: "أراكم تقرءون وراء إمامكم؟ " قال: قلنا: إي والله يا رسول الله، قال: "أما لا تفعلوا إلاَّ بأم القرآن؛ فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها". وقد جزم بعض الحفَّاظ (¬2) بأنه حديث واحدٌ جرَّده الراوي تارةً عن قصته، وذكره أخرى بقصته. ولا يخفى على من مارس صناعة الحديث، وعرف تصرُّف الرواة أنَّ هذا هو الظاهر. فقول الشارح فيما يأتي: "إنه لا دليل عليه" ليس مما يلتفت إليه. فإذا عرف هذا عرف أن زيادة "فصاعدًا" لا موقعَ لها في الحديث، بل هي مناقضة له، والله أعلم. ثم إنَّ الإِمام البخاري رحمه الله تعالى لم يبتَّ الحكم في ردِّ هذه الزيادة؛ بل ذكر الأمر الثالث؛ وهو أنَّ هذه الزيادة إن صحَّت فلا تقتضي أنه لا صلاة لمن لم يزد على الفاتحة. كما أنَّ هذه اللفظة قد ثبتت في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُقطع اليدُ إلاَّ في ربع دينار فصاعدًا"، ولم يفهم منه أحد أنها لا تقطع اليد فيما لم يزد على ربع دينار؛ بل فهموا منه أنها لا تقطع إلاَّ في ربع دينار أو فيما زاد على ربع دينارٍ. وأما ما نقله المفتي عن البخاري فتلك عبارة "فتح الباري"، وكأنها ¬

_ (¬1) بل من طريق مكحول عن محمود بن الربيع عن عبادة, كما رواه أبو داود (823) والترمذي (311). (¬2) منهم الترمذي، قال عقب رواية مكحول عن محمود بن الربيع عن عبادة (311): "وروى هذا الحديث الزهري عن محمود بن الربيع عن عبادة ... ". وانظر "فتح الباري" (2/ 242، 243).

تفسير لتنظير البخاري الزيادة في حديث الفاتحة بها في حديث القطع. وهذا لفظ "الفتح" (¬1): "زاد معمر ... واستدل به على وجوب قدر زائد على الفاتحة، وتعقَّب بأنَّه ورد لدفع توهم قصر الحكم على الفاتحة. قال البخاري في "جزء القراءة" (¬2): هو نظير قوله: "تقطع اليد في ربع دينار فصاعدًا". واعتراض المفتي على تلك العبارة بأنها تقتضي أنَّ الركنية ليست قاصرة على الفاتحة يجيء مثله في حديث القطع، فيقال: إنَّ تلك الزيادة إذا قيل إنها لدفع توهُّم قصر الحكم على ربع دينار، اقتضى ذلك أنَّ نصاب السرقة ليس قاصرًا على ربع دينار. ولعلَّ المفتي يُقْدِم على الاعتراض على حديث القطع أيضًا، والله المستعان. وتحقيق الحق: أنه ليس المراد بالحكم في قولهم (دفع توهُّم قصر الحكم) هو النصاب والركنية؛ بل المراد ما يُقطع فيه، وما تصح به الصلاة. وهذا وإن لم يكن هو الحكم المنصوص إلاَّ أنَّ المنصوص يتضمَّنه. وفائدة هذه الزيادة في حديث القطع ظاهرة؛ لأنها لو لم تزد لكان ظاهر اللفظ أنَّ من سرق أكثر من ربع دينار لا يُقطع. وأما في حديث الفاتحة فقد يقال هكذا، وهو أنه لو لم يُؤتَ بها لأمكن أن يتوهَّم متوهِّمٌ أنَّ المراد من لم يقرأ بفاتحة الكتاب فقط؛ فيفهم منه أن من ¬

_ (¬1) (2/ 243). (¬2) (ص 48).

لم يقتصر على فاتحة الكتاب فلا صلاة له. ولكن في هذا ضعف. والأولى أن يقال: الفائدة الإشارة إلى أنَّ الزيادة على الفاتحة مرغَّب فيها؛ كما تقول لعُمَّالك: "لا أجرة لمن لم يعمل إلى العصر فصاعدًا". تنبِّههم بقولك (فصاعدًا) على أنَّ الزيادة في العمل بعد العصر مرغوبٌ لك، وإن لم يكن شرطًا لاستحقاق الأجرة. ولو فرضنا صحة ما ذكره المفتي فذلك لا يفيده؛ لأننا نقول: إنَّ الخمس من الإبل نصابٌ، والست نصابٌ، وهكذا السبع والثمان والتسع؛ والواجب في كل ذلك شاةٌ فقط. من كان له خمسٌ وجبت عليه الشاة، ومن كان عنده تسع وجبت عليه الشاة، وهكذا ما بينهما، ومن كانت عنده تسع فالشاة عنها جميعًا، لا عن خمس منها فقط. فأنت ترى أنَّ كون التسع نصابًا تجب فيه الشاة لا يستلزم أن تكون الخمس ليست [ص 31] بنصاب تجب فيه الشاة. فهكذا نقول: إنَّ ربع دينار نصاب يجب في سرقته القطع، وإنَّ ثلث دينار - مثلًا - نصاب، يجب بسرقته القطع. وهكذا نقول: إنَّ قراءة الفاتحة ركن تتم به الصلاة، وإنَّ قراءة الفاتحة وسورة البقرة - مثلًا - ركن تتم به الصلاة. والسرُّ في هذا أننا نقول: القراءة مثل القيام؛ فكما أنه إذا قام مقدار دقيقة كان قيامه ركنًا، وإذا قام مقدار ساعةٍ كان قيامه ركنًا؛ فكذا القراءة. وكأنه - صلى الله عليه وسلم - إن كان تكلَّم بهذه الكلمة - زادها دفعًا لما يُتوهَّم من تعيين الفاتحة أنها هي الركن، حتى لو زاد عليها شيئًا من القرآن لا يكون حكمه حكم الركن.

وثمرة كون القيام كله ركنًا وإن طال، وأنَّ ما قُرئ من القرآن بعد الفاتحة حكمه حكم الركن - على ما تقدَّم - هي زيادة الثواب؛ فإنَّ ثواب الفرض أعظم من ثواب النفل، والله أعلم. واعلم أنَّ ما فهمه الشارح وبعض من تقدَّمه من أنَّ زيادة "فصاعدًا" في حديث الفاتحة يقتضي وجوب الزيادة على الفاتحة = فَهْمٌ تأباه اللغة. قال إمامها أبو عمرو سيبويه في "كتابه" (¬1): "هذا باب ما ينتصب على إضمار الفعل المتروك إظهاره في غير الأمر والنهي؛ وذلك قولك: أخذته بدرهمٍ فصاعدًا، أو أخذته بدرهمٍ فزائدًا، حذفوا الفعل لكثرة استعمالهم إياه، ولأنهم أمنوا أن يكون على الباء. لأنك لو قلت: "أخذته بدرهم فصاعدٍ" كان قبيحًا؛ لأنه صفة، ولا يكون في موضع الاسم؛ كأنه قال: أخذته بدرهمٍ، فزاد الثمن صاعدًا، أو فذهب الثمن صاعدًا. ولا يجوز أن تقول: "وصاعدٍ"؛ لأنك لا تريد أن تخبر أنَّ الدرهم مع صاعدٍ ثمنٌ لشيء؛ كقولك: بدرهمٍ وزيادة. ولكنك أخبرت بأدنى الثمن؛ فجعلته أولاً، ثم قرَّرت شيئًا بعد شيءٍ لأثمان شتى ... ". أقول: إيضاح عبارته: أنَّ قوله: "أخذته بدرهمٍ فصاعدًا" يقال على ما ذكر الرضي (¬2) في "ذي أجزاء أخذ بعضها بدرهمٍ، والبواقي بأكثر". فكأنَّ تقديره: أخذت هذا الزيت رطلًا بدرهمٍ فصاعدًا؛ تريد أنَّ بعض الأرطال بحساب الرطل بدرهمٍ فقط، وبعضها بحساب الرطل بدرهمٍ وزيادة. ¬

_ (¬1) (1/ 146، 147) طبعة بولاق. وسيبويه أبو بشر عمرو بن عثمان، لا أبو عمرو. (¬2) "شرح الرضي على الكافية" (1/ 683) ط. جامعة الإِمام.

أقول: ويحتمل أن يقال المثال المذكور في شيءٍ واحدٍ، ولكن عند الشك أو التشكيك؛ كأنه يقول: أخذته بدرهمٍ فقط، أو بدرهمٍ وزيادة. فإذا قلت: بِعْهُ [ص 32] بدرهمٍ فصاعدًا، وهو شيءٌ واحدٌ، كان للتخيير؛ كأنك قلت: بعْهُ بدرهمٍ فقط، أو بدرهمٍ وزيادة. هذا أصل المعنى، وإن كان بين العبارتين فرق من وجهين: الأول: أنَّ قولك: "بِعْهُ بدرهمٍ فصاعدًا" لا يُشعِر باستواء الأمرين عندك، بل يرجع إلى القرائن، والقرينة في هذا المثال تقتضي رغبتك في الزيادة. وفي قولك لوكيلك: "اشتره بدرهمٍ فصاعدًا" تُشعِر برغبتك في عدم الزيادة. وقولك: "بِعْهُ بدرهمٍ فقط" أو "بدرهمٍ وزيادة"، "واشتره بدرهمٍ فقط" أو "بدرهمٍ وزيادة" يشعر باستواء الأمرين. الوجه الثاني: أنَّ قولهم: "فصاعدًا" يقتضي زيادة مترقِّية من قليل إلى كثير. وقولنا: "أو بدرهمٍ وزيادة" لا يشعر لفظ "زيادة" بالترقِّي، وإن كان صالحًا له. وفي "لسان العرب" (¬1): "وقولهم: صنع أو بلغ كذا وكذا فصاعدًا؛ أي: فما فوق ذلك، وفي الحديث: "لا صلاة ... " أي: فما زاد عليها؛ كقولهم: اشتريته فصاعدًا، قال سيبويه: ... ". ¬

_ (¬1) (4/ 241) ط. بولاق.

وفي "القاموس" (¬1): "وبلغ كذا فصاعدًا؛ أي: فما فوق ذلك". وقد رُوي حديث القطع بلفظ: "فما فوق" (¬2) بدل "فصاعدًا"، وقد قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة: 26]. وليس المعنى بعوضة مع ما فوقها. وهكذا ما في "صحيح مسلم" (¬3) عن عائشة رضي الله عنها ترفعه: "ما من مسلمٍ يُشاك شوكةً فما فوقها إلاَّ كُتِبتْ له بها درجة، ومُحِيتْ عنه بها خطيئة". المعنى: يصيبه شوكة أو ما هو فوقها, وليس المعنى: تصيبه شوكة مع زيادة فوقها، أعني أنَّ الأجر المذكور متحقَّقٌ بإصابة الشوكة فقط، وليس المعنى: أنه لا يتحقَّق إلاّ إذا انضمَّ إلى الشوكة زيادة. واعلم أنَّ قولهم: "فما فوقه" يجيء على وجهين: الأول: أن يكون المراد ما هو أعظم مما قبل الفاء، بدون أن يتضمَّن ما قبل الفاء؛ كما في الآية والحديث. والثاني: أن يكون المراد به ما هو أزيد مما قبل الفاء؛ أي: بحيث يتضمَّن ما قبل الفاء وزيادة؛ كما في حديث القطع؛ لأنَّ المراد بربع دينار فيه ما يساوي ربع دينار اتفاقًا. فكل مالٍ يكون فوق ما يساوي [ص 33] ربع دينار فهو عبارة عما يساوي ربع دينار مع زيادة. فأما قولهم: "فصاعدًا" فإنما تصلح في الوجه الثاني؛ كما يعرف من ¬

_ (¬1) (1/ 307). (¬2) عند مسلم (1684/ 3). (¬3) رقم (2572).

موارد استعمالها. فإن زعم زاعمٌ أنها تستعمل على الوجه الأول أيضًا قلنا له: هب أنّ ذلك كذلك؛ إلاَّ أنها في حديث الفاتحة على الوجه الثاني؛ بدليل الأحاديث الكثيرة في تعين الفاتحة، والإجماعِ على ترك القول بأنَّ الواجب إما الفاتحة وإما سورة أكبر منها أو بعض سورة يكون أكبر منها، والله أعلم. ثم ذكر الشارح حديث أبي داود (¬1) عن قتادة عن أبي نضرة عن أبي سعيد: "أُمِرْنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسَّر"، وذكر ما يطعن به على هذا الحديث من أنَّ قتادة مدلِّس، وقد عنعن، وأجاب عنه بأنَّ أبا مسلمة قد رواه عن أبي نضرة. وذكر ما يدفع به هذا الجواب؛ من أنَّ أبا مسلمة روى الحديث موقوفًا (¬2)، وأجاب عن هذا الدفع بما معناه: أنَّ رواية قتادة بيَّنت كون الحديث مرفوعًا، ورواية أبي مسلمة بيَّنت أنَّ أبا نضرة حدَّث بهذا الحديث؛ فكل من الروايتين تَجبُر ما في الأخرى من الخلل. وهذا جوابٌ عجيبٌ، وردُّه واضحٌ؛ وهو أنه إذا ثبتت رواية أبي مسلمة عن أبي نضرة فإنما يثبت بها أنَّ أبا نضرة روى هذا الحديث موقوفًا، ورواية قتادة لا يثبت بها شيءٌ؛ لأننا لا نأمن أن يكون قتادة سمع الحديث من رجل ضعيف، وهذا الضعيف سمع هذا الحديث من أبي نضرة موقوفًا، كما سمعه أبو مسلمة؛ ولكنه زاد الرفع من عنده كذبًا أو غلطًا. ¬

_ (¬1) رقم (818). قال الحافظ في "الفتح" (2/ 243): سنده قوي. (¬2) انظر "العلل" للدارقطني (11/ 325).

وقد أجاب الشارح عن تدليس قتادة بأنَّ النووي (¬1) ذكر أنَّ ما كان في "الصحيحين" وشِبْههما من عنعنة المدلِّسين محمول على السماع. ويُرَدُّ بأنَّ مراد النووي بقوله: "وشبههما" الكتب التي اقتصر جامعوها على إيراد الصحيح فيها, وليس "سنن أبي داود" من ذلك. وهذا أمر معروفٌ بين أهل الفن، مبيَّنٌ في كتبهم. على أنَّ ابن دقيق العيد ناقش في حمل ما في "الصحيحين" من ذلك على السماع (¬2)، وكذلك الذهبي أشار إلى التوقُّف في ذلك؛ في ترجمة أبي الزبير من "الميزان" (¬3). وأوضح من هذا أنَّ إمام الفن محمَّد بن إسماعيل البخاري قد طعن في هذا الحديث بقوله: "ولم يذكر قتادة سماعًا من أبي نضرة في هذا". "جزء القراءة" (ص 11) (¬4). ثم ذكر الشارح حديث أبي داود (¬5) وغيره؛ عن أبي هريرة: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره فنادى: "أن لا صلاة إلاَّ بفاتحة الكتاب فما زاد". ¬

_ (¬1) في "التقريب والتيسير". انظره مع شرحه "تدريب الراوي" (1/ 230). (¬2) انظر "النكت على كتاب ابن الصلاح" لابن حجر (2/ 635، 636). (¬3) (4/ 39) قال: "وفي صحيح مسلم عدة أحاديث مما لم يوضح فيها أبو الزبير السماع عن جابر، وهي من غير طريق الليث عنه، ففي القلب منها شيء". (¬4) (ص 241) ط. الهند 1430. (¬5) رقم (820). وأخرجه أيضًا أحمد (9529) والدارقطني (1/ 321) والحاكم في "المستدرك" (1/ 239). وتساهل الحاكم فصححه ووثَّق جعفر بن ميمون.

والجواب عنه: بأنَّ جعفرًا ضعَّفه المتقدمون من جهة حفظه (¬1)، وقال العقيلي في حديثه هذا: لا يتابع عليه (¬2). على أنَّ قوله: "فما زاد" في معنى قوله: "فصاعدًا"، وقد تقدَّم معناها، وأنها لا تدلُّ على وجوب الزيادة. ويشهد لذلك أنَّ مذهب أبي هريرة الذي كان يفتي به أنه لا يجب [ص 34] إلاَّ الفاتحة. ثم ذكر الشارح حديث ابن ماجه (¬3) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه يرفعه: "لا صلاة لمن لم يقرأ في كل ركعة بالحمد لله وسورة في فريضة أو غيرها". والجواب عنه: أنه من رواية أبي سفيان السعدي؛ مجمع على ضعفه، وعبارة الإِمام أحمد: ليس بشيء، ولا يكتب حديثه (¬4). ووجوب سورة مع الفاتحة لم يُنقل عن أحد. وقوله: "في كل ركعة" تردُّه الأحاديث الصحيحة في اقتصار النبي - صلى الله عليه وسلم - على الفاتحة في الركعتين الأخريين. فإن قيل: هَبْ أن كلَّ حديث من هذه الأحاديث لا يتمُّ الاستدلال به على انفراده؛ أفلا يتمُّ الاستدلال بمجموعها؟ ¬

_ (¬1) انظر "تهذيب التهذيب" (2/ 108، 109). (¬2) "الضعفاء الكبير" (1/ 190). (¬3) رقم (839). (¬4) انظر "تهذيب التهذيب" (5/ 12).

قلت: كلا؛ أما حديث ابن ماجه فلا يصلح متابعًا ولا شاهدًا. وأما زيادة "فصاعدًا" ورواية "فما زاد" فلا دلالة فيها على وجوب الزيادة حتى يستشهد بها لهذه المسألة. بل إذا تأملت ما قدَّمنا عرفت أنها تدلُّ على عدم الوجوب. فلم يبق إلاَّ حديث قتادة وحده، وهو لا يصلح حجَّةً، على أنه لو صحَّ لأمكن تأويله؛ بأنَّ المراد بقوله: "أمرنا" القدر المشترك بين الأمر الموجب، والأمر المرغَّب؛ بدليل ما ثبت من أدلة قصر الوجوب على الفاتحة. وهذا التأويل أولى عند أهل العلم من دعوى النسخ التي صار إليها الشارح، والله أعلم. ثم جاء الشارح بالفِتَكْرِيْن (¬1)؛ فقال: حديث عبادة متروك العمل باتفاق. يريد أنه قد ثبت فيه زيادة "فصاعدًا"، وهي تقتضي وجوب الزيادة على الفاتحة، ووجوب الزيادة متروك باتفاق؛ فلزم أن يكون الحديث كله متروكًا باتفاق، وهذا كما ترى. والطريق المستقيم المعروف بين أهل العلم أن يكون الاتفاق على ترك العمل بهذه الزيادة دليلًا على سقوطها فقط، كيف وقد انضمَّ إلى ذلك ما تقدَّم من توهينها. بل لو اتفق الرواة جميعًا على إثبات هذه الزيادة لما لزم من ترك العمل بها وحدها ترك العمل بالحديث كله، ولا مِن وهن الاحتجاج بها وهنُ ¬

_ (¬1) أي الداهية أو الأمر العجب العظيم. وتُضبط هذه الكلمة بأوجه، انظر "القاموس" (2/ 107).

الاحتجاج بالحديث كله. [ص 35] ثم ذكر الشارح قولهم: (إنَّ اتفاق الأمة على ترك حديث دليل نسخه أو خطأ رواته). أقول: إنما يصلح هذا لدفع وجوب الزيادة على الفاتحة؛ لأنَّ الأمة اتفقت - فيما زعم الشارح - على عدم القول بها. فأما الفاتحة فجمهور الأمة قائلون بفرضيتها، وقال الحنفية بوجوبها؛ مع أنَّ دعوى الشارح اتفاق الأمة على عدم القول بما تضمَّنته تلك الأحاديث من الزيادة عجيب، فإنَّ مذهب أصحابه الحنفية أنفسهم أنَّ الزيادة على الفاتحة واجبة. فإن قال: ظاهر الحديث أنها فرض؛ قلت: الحديث عندكم خبر واحد لا يثبت به إلاَّ الوجوب، وإن كان نصًّا في الفرضية. وفي "الفتح" (¬1): "وصحَّ إيجاب ذلك عن بعض الصحابة - كما تقدَّم - وهو عثمان بن أبي العاص، وقال به بعض الحنفية، وابن كنانة من المالكية، وحكاه القاضي الفرَّاء الحنبلي في الشرح الصغير رواية عن أحمد". ثم إنَّ الشارح اختار أنَّ الزيادة نسخت أولاً، واحتجَّ بحديث "الصحيحين" (¬2)، عن أبي قتادة، وفيه: "أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الظهر في الأوليين بأم الكتاب وسورتين، وفي الركعتين الأخريين بأم الكتاب" الحديث. وعليه تعقبات: الأول: أنَّ الزيادة لم تثبت كما تقدَّم، وتوهين الرواية التي لم تثبت ثبوتًا ¬

_ (¬1) (2/ 252). (¬2) البخاري (776) ومسلم (451).

واضحًا أو تأويلها أولى من دعوى النسخ. الثاني: أنها لو ثبتت فليس في الأحاديث التي ساقها الشارح لإثبات الزيادة تصريح بأنها في كل ركعة؛ بل ظاهرها أنها في جملة الصلاة، وفي مذهب الحنفية أنفسهم ما يوافق هذا. الثالث: أنَّ تلك الأحاديث قولية، وحديث أبي قتادة فعلي. ثم ذكر دليلاً آخر؛ وهو حديث عبادة (¬1): "صلَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصبح؛ فثقلت عليه القراءة، فلما انصرف قال: أراكم تقرءون وراء إمامكم؟ قال: قلنا: يا رسول الله إي والله، قال: أما لا تفعلوا إلاَّ بأم القرآن؛ فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها". وحديث مسلم (¬2) وغيره؛ عن عمران: "أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلَّى الظهر؛ فجعل رجلٌ يقرأ خلفه: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1]؛ فلما انصرف قال: "أيكم قرأ، أو أيكم القارئ"، قال رجلٌ: أنا، قال: "قد ظننت أنَّ بعضكم خالجنيها". [ص 37] (¬3) أقول: أما حديث عبادة فلفظه في بعض الروايات (¬4): "لا ¬

_ (¬1) سبق تخريجه (ص 42). (¬2) رقم (398). وأخرجه أيضًا أحمد (19815) وأبو داود (828) والنسائي (2/ 140) وغيرهم. (¬3) ملاحظة: ورقة (36) ضرب عليها الشيخ بعد أن نقَّح ما سوَّده فيها في الصفحة التالية. (¬4) عند الدارقطني (1/ 320) والبيهقي (2/ 165)، قال الدارقطني: هذا إسناد حسن، ورجاله ثقات كلهم.

يقرأنَّ أحدُكم إذا جهرتُ بالقراءة إلاَّ بأمِّ القرآن". وبقية الروايات بيَّنت أنَّ تلك الصلاة كانت جهرية، وأنَّ القراءة ثقلت على النبي - صلى الله عليه وسلم -. فالحديث حجَّة أنَّه - صلى الله عليه وسلم - نهى المقتدين به أن يقرأوا إذا جهر إلاَّ بأم القرآن. ويظهر من ذلك أنَّ الزيادة على الفاتحة ليست بمرتبة الفاتحة، وهذا عندنا مبيَّنٌ؛ لما قدمناه أنَّ وجوب زيادةٍ على الفاتحة لم يثبت وجوبه أصلاً، وشاهدٌ لما قدمنا في حديث المسيء صلاته؛ من احتمال أنه كان الواجب أولاً الحمد والثناء والتمجيد، وقراءة شيءٍ من القرآن، ثم نسخ ذلك بالفاتحة؛ فكانت هي الواجبة وحدها. وأما الشارح فعنده أنَّ هذا ناسخ الأحاديث الآمرة بالزيادة على الفاتحة. وأنت خبيرٌ أنَّ دعوى النسخ مفتقر (¬1) إلى إثبات تأخُّر هذا الحديث عن تلك، وليس بيد الشارح دليل؛ إلاَّ أنه يقول: دلَّ هذا الحديث أنهم كانوا يقرءون غير الفاتحة، ولا يُظَنُّ بهم أن يقرءوا إلاَّ بإذن شرعي؛ فيظهر أنَّ الإذن هو تلك الأحاديث. ولقائل أن يقول: لا يتعيَّن هذا، لاحتمال أنهم كانوا يقرءون؛ لِما علموا من أنَّ الصلاة موضع القراءة وذكر الله تعالى في الجملة، أو قياسًا على الإِمام، أو غير ذلك. ويدلُّ على هذا سؤاله - صلى الله عليه وسلم - إياهم بقوله: "أراكم تقرءون وراء إمامكم"، قالوا: إي والله يا رسول الله، ولو كان قد أمرهم بالقراءة قبل ذلك صريحًا لما اقتضى الحال الاستفهام؛ بل كان حق الكلام أن يقول: كنت أمرتكم بقراءة ¬

_ (¬1) كذا في الأصل بالتذكير، وقد ضرب المؤلف على هاء التأنيث في آخر الكلمة.

الفاتحة وما تيسَّر إذا كنتم تصلُّون معي؛ فلا تفعلوا إلاَّ بأم القرآن؛ كما قال: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور؛ فزوروها" الحديث (¬1). فالتعارض بين هذا الحديث وبين أحاديث الزيادة من باب العموم والخصوص، مع الجهل بالتاريخ. ومذهب الجمهور حمل العام على الخاص؛ تخصيصًا لا نسخًا. ومذهب الإِمام أبي حنيفة وأكثر أصحابه رحمهم الله تعالى التوقُّف أو الترجيح. وعلى قول الجمهور فإنَّ الذي يصحُّ من أحاديث الزيادة إنما يفيد الندب، وهذا الحديث مخصِّصٌ لها، مخرج عنها المقتدي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يجهر به - صلى الله عليه وسلم -، هذا ما يدلُّ عليه هذا الحديث. فأما دلالته على أنَّ غير النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله في ذلك فلا يصحُّ بالقياس؛ لأنَّ العلَّة هي ثقل القراءة، وهذا أمرٌ روحاني كان يدركه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا ندرك نحن. [ص 38] (¬2) وأما على القول بالتوقُّف فيرجع إلى الأصل؛ وهو عدم الوجوب، وأما على القول بالترجيح فالأحاديث المبينة لعدم ندب الزيادة أرجح وأثبت، والله أعلم. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1977) من حديث بريدة. (¬2) ملاحظة: ضرب الشيخ على أكثر ما في الورقة (38) ولم يبق فيها غير هذين السطرين.

[ص 39] وأما حديث عمران فليس فيه نهيٌ، وإنما فيه أنه - صلى الله عليه وسلم - قرأ بسبَّح اسم ربِّك الأعلى فأحسَّ بأنه يُخالَج فيها؛ فعرف أنَّ بعض المأمومين قرأها أيضًا، فسألهم لتظهر لهم هذه المعجزة. وهذه المخالجة أمر روحاني كان يحسُّ به النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ ففي حديث عبادة نهاهم عن قراءة غير الفاتحة، لا للمخالجة فقط، بل لها ولإخلالها باستماع القراءة لغير موجب؛ لأنَّ الصلاة جهرية كما علمت. وفي حديث عمران لم ينههم؛ لأنَّ المخالجة وحدها ليست علَّة تامة، ولأنها إنما تحصل إذا قرأ المأموم عين السورة التي يقرؤها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا لا يتفق دائمًا. وقد ذكر البخاري في "جزء القراءة" (ص 9) (¬1) هذا الحديث من رواية شعبة عن قتادة، ثم قال: "قال شعبة: فقلت لقتادة: كأنه كرهه؛ فقال: لو كرهه لنهانا عنه". ومع هذا ففي بعض روايات حديث عمران ما يدلُّ أنَّ ذلك القارئ رفع صوته، وسيأتي بيان ذلك، إن شاء الله تعالى. وعليه فيصح قول البيهقي: "وكأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إن كره من القارئ خَلْفَه شيئًا كره الجهر بالقراءة" (سنن ج 2 ص 162). ثم قال الشارح: (وعُلم من هذا الحديث - يعني حديث عبادة - أنَّ آية: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] نزلت بعد هذا؛ ¬

_ (¬1) (ص 214) طبعة الهند.

لأنَّ فيها نهيًا عن القراءة مطلقًا إذا قُريءَ القرآن، وبعيدٌ عن الصحابة القراءة في الصلاة حال قراءته - صلى الله عليه وسلم - , وكذا إجازته - صلى الله عليه وسلم - بقراءة أم القرآن مطلقًا بعد نزول الآية ...). أقول: الآية مكية اتفاقًا، وحديث عبادة ونحوه وقع بالمدينة اتفاقًا، وسأعقد للآية فصلاً مستقلًّا إن شاء الله تعالى. وإنما أذكر ها هنا ما يردُّ على استدلال الشارح على تأخر نزول الآية. فأقول: قد كان الصحابة رضي الله عنهم يقرؤون خلف الإِمام بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم -، وسنثبت ذلك فيما يأتي إن شاء الله تعالى. والظاهر البيِّن أنهم كانوا يقرؤون خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أن توفَّاه الله - عزَّ وجلَّ -، ولا شكَّ أنَّ ذلك بعد نزول الآية؛ فكيف يستبعد هذا الأمر الذي قام الدليل على وقوعه؟ ثم من الجائز أن يكونوا فهموا أنَّ الآية خاصة بمن ليس في صلاة؛ بدليل قوله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء: 78]؛ حيث سمَّى الصلاة قرآنًا. أو فهموا أنَّ المراد الإنصات عن الكلام الأجنبي لا عن القراءة نفسها؛ ظنًّا أنَّ المقصود من الإنصات فهم القرآن وتدبُّره. فإذا كان السامع نفسه يقرأ القرآن فقد حصل له تدبُّر ما يقرأه بنفسه مع زيادة التلاوة. أو فهموا أنَّ المراد بالإنصات ترك رفع الصوت؛ لقوله بعدها: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ} الآية [الأعراف: 205]، كما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى، والاحتمالات كثيرة.

وأما استبعاد أنَّ يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقراءة الفاتحة بعد نزول الآية فخيال عجيب، أَوَلا يكون - صلى الله عليه وسلم - علمَ أنَّ هذه الآية مُخَصَّصة بقوله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} وغيرها. [ص 40] مع قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر: 87]، والمراد بالسبع المثاني والقرآن العظيم: الفاتحة؛ كما في "الصحيح" (¬1). وقوله تعالى في الحديث القدسي المشهور: "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي ... " الحديث (¬2). فسَّر الصلاة فيه بالفاتحة. أو علمَ أنَّ المراد بالإنصات ترك رفع الصوت. فأما الفاتحة فالمأموم مأمور بقراءتها سرًّا؛ لقوله تعالى عقب آية الإنصات: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ} الآية؛ كما يأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى. وفوق هذا كلِّه لا يمتنع أنَّ الله عزَّ وجلَّ أعلم رسوله بما يفيد تخصيص الآية، ولو لم يدلَّ على ذلك قرآن. والآية مخصصة اتفاقًا فدلالتها على بقية الأفراد ضعيفة؛ حتى قال بعضهم: إنَّ دلالة العام المخصوص على بقية أفراده لا يحتجُّ بها أصلاً، وقال الحنفية: إنَّها دلالة ضعيفة؛ بحيث يرجَّح خبر الواحد عليها. ¬

_ (¬1) البخاري (4703) من حديث أبي سعيد بن المعلى، و (4704) من حديث أبي هريرة. (¬2) أخرجه مسلم (395) من حديث أبي هريرة.

وبالجملة فقضيَّة استدلال الشارح أنه إذا تعارض دليلان عام وخاص، ولم يعلم التاريخ يرجَّح العام مطلقًا. وهذا عكس قول أكثر أهل العلم، وخلاف قول الإِمام أبي حنيفة وأصحابه، فالله المستعان. ***

المسألة الرابعة قراءة المأموم الفاتحة

[ص 41] بسم الله الرحمن الرحيم المسألة الرابعة قراءة المأموم الفاتحة يستدلُّ من أوجبها بقول الله عزَّ وجلَّ: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20]، وقوله عزَّ وجلَّ: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ}، وبحديث المسيء صلاته، فإنَّ في رواية أبي هريرة: "ثم اقرأ بما تيسَّر معك من القرآن"، وفي بعض روايات حديث رفاعة: "ثم اقرأ بأم القرآن" (¬1). فإنَّ الحنفية احتجُّوا بما ذُكر على فرضية القراءة في الصلاة، وقد قدَّمنا أنَّ أحاديث فرضية الفاتحة إما متواترة وإما مشهورة؛ يلزمهم تقييد القرآن بها, ولو لم تكن متواترة ولا مشهورة لكانت كافية في تقييد القرآن بها عند الشافعية وغيرهم. وأما حديث المسيء صلاته فإذا ثبت فيه ذكر الفاتحة فذاك، وإلاَّ فقد قدَّمنا أنَّ ما فيه من قراءة ما تيسَّر نُسِخ بقراءة الفاتحة. ولما كانت قراءة ما تيسَّر في كلِّ ركعة فكذلك الفاتحة؛ لأنها بدلٌ من ذلك. والنبي - صلى الله عليه وسلم - علَّم الرجل أركان الصلاة، ولم يبيِّن له أنه إذا كان مأمومًا لا يقرأ. وفيه في بعض الروايات: "إنها لا تتم صلاة رجلٍ حتى ... "، وعلى هذه الرواية يكون اللفظ عامًّا يتناول صلاة المأموم. ¬

_ (¬1) سبق تخريج الحديثين.

ومما يستدلُّون به أحاديث فرضية الفاتحة، وقد تقدَّم بعضها، وهي عامة تتناول صلاة المأموم. ومما يستدلُّون به ما رواه البخاري في "جزء القراءة" والإمام أحمد وابن حبان في "صحيحه" (¬1) وغيرهم بسند صحيح، عن أبي قلابة عن محمَّد بن أبي عائشة عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: صلَّى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما قضى صلاته قال: "أتقرؤون والإمام يقرأ؟ " قالوا: إنا لنفعل، قال: "فلا تفعلوا؛ إلاَّ أن يقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب في نفسه". الحديث على شرط مسلم، وفي "سنن البيهقي" (¬2) تصريح أبي قلابة بالسماع؛ فزالت تهمة تدليسه. ومن ذلك: ما أخرجه ابن حبان (¬3) وغيره بسند صحيح إلى أبي قلابة عن أنس بن مالك: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قضى صلاته أقبل عليهم بوجهه؛ فقال: أتقرؤون في صلاتكم والإمام يقرأ؟ فسكتوا؛ فقال لهم ثلاث مرَّات؛ فقال قائل أو قائلون: إنا لنفعل، قال: فلا تفعلوا [ص 42]، ليقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب في نفسه. قال ابن حبان في "صحيحه" (¬4): "سمعه - يعني أبا قلابة - من أنس، ¬

_ (¬1) "جزء القراءة" (ص 191 - 193) و"المسند" (20765) و"صحيح ابن حبان" (عقب الحديث 1852). (¬2) (2/ 166). وليس فيه التصريح بالسماع، بل الرواية بالعنعنة. (¬3) في "صحيحه" (1844، 1852). وأخرجه أيضًا الدارقطني (1/ 340) والبيهقي (2/ 166). (¬4) عقب الحديث (1852).

وسمعه من ابن أبي عائشة؛ فالطريقان محفوظان". قلت: وجَزْم ابن حبان بأنَّ أبا قلابة سمعه من أنس ربما يرفع تهمة التدليس، وأما البيهقي (¬1) فزعم أنَّ المحفوظ رواية أبي قلابة عن محمَّد بن أبي عائشة. والراجح كلام ابن حبان، ولا يجوز الحكم على الثقة بالغلط إلاَّ بحجة بيَّنة. ومن ذلك: قال البخاري في "جزء القراءة" (¬2): "حدثنا شجاع بن الوليد قال: حدثنا النضر قال: حدثنا عكرمة قال: حدثني عمرو بن سعد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدَّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تقرؤون خلفي؟ قالوا: نعم، إنا لنهذُّ هذًّا، قال: فلا تفعلوا إلاَّ بأم القرآن". النضر هو ابن محمَّد بن موسى الجُرَشي: ثقة. وعكرمة هو ابن عمَّار: ثقة إذا حدَّث عن غير يحيى بن أبي كثير، وإنما يخشى تدليسه، وقد صرَّح هنا بالسماع. وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه فيه كلام، والراجح توثيقه، وإن صحَّ ما قالوه: إنَّ حديثه عن أبيه عن جدِّه غالبه من صحيفة جدِّه عبد الله بن عمرو، فإنَّ صحيفة عبد الله بن عمرو كتبها بإذن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم بقيت محفوظة عند ذرِّيته؛ فهي حجَّة بلا شبهة. وقد عدَّ ابن حجر (¬3) عَمْرًا وأباه من المدلِّسين؛ لأنهما كانا يرويان من الصحيفة ولا يبيِّنان، ومثل هذا التدليس لا يضرُّ. فالحديث حسنٌ ولا يعلَّل هذا الحديث بالذي بعده؛ إذ لا يجوز تغليط الثقة إلاَّ بحجة بيِّنة. ¬

_ (¬1) في "السنن الكبرى" (2/ 166). (¬2) (ص 174 - 176). (¬3) في "تعريف أهل التقديس" (ص 123، 120).

ومن ذلك: قال البخاري في "جزء القراءة" (¬1) أيضًا: حدثنا عتبة بن سعيد عن إسماعيل عن الأوزاعي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: "تقرؤون القرآن إذا كنتم معي في الصلاة؟ " قالوا: نعم يا رسول الله نهذُّ هذًّا، قال: "فلا تفعلوا إلاَّ بأم القرآن". إسماعيل هو ابن عيَّاش؛ وثَّقه الأئمة فيما رواه عن ثقات الشاميين، وحديثه هذا عن الأوزاعي، وهو إمام أهل الشام؛ فالحديث حسن. ومنها: ما في "الجوهر النقي" (¬2) قال: "وقال عبد الحق: رواه الأوزاعي عن مكحول [عن رجاء بن حيوة] عن عبد الله بن عمرو قال: صلينا مع النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فلما انصرف قال: "هل تقرؤون إذا كنتم معي في الصلاة؟ "، قلنا: نعم، قال: "فلا تفعلوا إلاَّ بأم القرآن". وفي "التمهيد": خُولِفَ فيه ابن إسحاق؛ فرواه الأوزاعي عن مكحول عن رجاء بن حَيوَة عن عبد الله بن عمرو؛ فذكره. ومنها: قال الإِمام أحمد (¬3): ثنا يزيد بن هارون أنا سليمان - يعني - التيمي قال: حُدَّثتُ عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "تقرؤون خلفي؟ " قالوا: نعم، قال: "فلا تفعلوا إلاَّ بأم الكتاب". ¬

_ (¬1) (ص 189 - 190). (¬2) (2/ 164). وانظر "الأحكام الوسطى" لعبد الحق (1/ 377)، ومنه ما بين المعكوفتين. و"التمهيد" (11/ 46). والحديث أخرجه الطبراني في "مسند الشاميين" (2099، 3559). وفي إسناده مسلمة بن علي، وهو متروك. (¬3) "المسند" (22625).

وشيخ التيمي مبهم، والاعتماد على ما تقدَّم. والله أعلم (¬1). ومن ذلك: قال البخاري في "جزء القراءة" (¬2): حدثنا يحيى بن صالح قال حدثنا فليح عن هلال عن عطاء بن يسار عن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه قال: دعاني النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فقال: "إنما الصلاة لقراءة القرآن، ولذكر الله، ولحاجة المرء إلى ربَّه؛ فإذا كنت فيها فلْيَكُن ذلك شأنك". فليح هو ابن سليمان، اعتمد عليه الشيخان في "صحيحيهما"، وضعَّفه جماعة. والحديث في "صحيح مسلم" (¬3) من طريق يحيى بن أبي كثير عن هلال مطوَّلاً. وفيه بيان السبب، وهو: أنَّ معاوية بن الحكم صلَّى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فعطس رجلٌ؛ فقال معاوية بن الحكم: يرحمه الله؛ فزجره الصحابة - رضي الله عنهم -[ص 43]، فسكت؛ فلمَّا سلَّم النبي - صلى الله عليه وسلم - دعاه؛ فقال: "إنَّ هذه الصلاة لا يصلُح فيها شيءٌ من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن"، أو كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ففي الحديث أمره بالقراءة في الصلاة، مع أنه كان في تلك الصلاة مأمومًا. ¬

_ (¬1) ملاحظة: من قوله: "ومنها ما في ... " إلى هنا ملحق في هامش (ص/ 44)، وأشار إلى ذلك اللحق هنا بقوله: (حاشية ص 44)، وأحال عليها هناك بقوله: (ينقل إلى ص 42). (¬2) (ص 194، 195). (¬3) رقم (537).

فهذه الأحاديث تنصُّ على أمر المأموم بالقراءة، وهي مؤكِّدة لعموم أحاديث إيجاب الفاتحة وغيرها مما تقدَّم. وهذه الأحاديث تعمُّ الصلاة السريَّة والجهريَّة. ولهم أدلَّةٌ تنصُّ على الجهرية؛ فمنها قول الله تبارك وتعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف: 204، 205]. وسيأتي إن شاء الله تعالى تفسير الآيات مفصَّلاً، وفيه - نقلاً - عن ابن جرير (¬1): "يقول تعالى ذكره: {وَاذْكُرْ} أيها المستمع المنصت للقرآن إذا قُرِئ في صلاة أو خطبة {رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ ... وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} يقول: ودعاءٌ باللسان لله في خفاء لا جهار، يقول: ليكن ذكر الله عند استماعك القرآن؛ في دعاء - إن دعوت - غير جهار؛ ولكن في خفاء من القول". وفي "روح المعاني" (¬2): "ويُشعر كلام ابن زيد أنَّ المراد بالجهر مقابل الذكر في النفس، والآية عنده خطاب للمأموم المأمور بالإنصات؛ أي: اذكر ربَّك أيها المنصت في نفسك، ولا تجهر بالذكر". أقول: وعلى هذا يكون المراد بالإنصات ترك الجهر. ¬

_ (¬1) "تفسيره" (10/ 667، 668). (¬2) (9/ 154).

وسيأتي عن الواحدي (¬1) قوله: "والعرب تسمَّي تارك الجهر منصتًا، وإن كان يقرأ في نفسه؛ إذا لم يُسمع أحدًا". وفي "الصحيحين" (¬2) عن أبي هريرة قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كبَّر في الصلاة سكت هُنيَّةً قبل أن يقرأ؛ فقلت: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي، أرأيتَ سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال: "أقول: اللهم باعدْ بيني وبين خطاياي" الحديث، وهذا لفظ مسلم. ففيه إطلاق السكوت على الحال التي يتكلَّم فيها سرًّا، وسيأتي إيضاح أنَّ الاستماع والإنصات إنما يكون لما يجهر به؛ فإذا كان المراد بقوله: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ} أي في الصلاة - كما عليه أكثر المفسَّرين - فالمراد به الصلاة التي يجهر الإِمام فيها بالقراءة قطعًا، وسيأتي إيضاح هذا كله إن شاء الله تعالى. والمقصود هنا أنَّه مع أمر المأموم أن يستمع وينصت لجهر إمامه بالقراءة أمره بأن يذكر الله تعالى في نفسه؛ تضرُّعًا وخيفة ودون الجهر، ويجب حمل هذا الذكر على قراءة الفاتحة؛ لأنَّ غيرها من الأذكار سواء أكان قرآنًا أو غيره لا ينبغي للمأموم [ص 44] حين يسمع جهر إمامه بالقراءة إجماعًا. فإن ثبت أنَّ الواجب أولاً في القيام كان الجهر والثناء والتمجيد وقراءة ما تيسَّر غير مقيَّد بالفاتحة، وأنَّ الفاتحة إنما وجبت بعد ذلك على احتمال ¬

_ (¬1) (ص 86). وكلامه في "البسيط" (9/ 568). (¬2) البخاري (744) ومسلم (598).

تقدَّم في الكلام على حديث المسيء صلاته، وأنَّ الآية نزلت قبل إيجاب الفاتحة بمدَّة = فإنا نقول: الذكر المأمور به في الآية هو ذلك الواجب، ولما نسخ أحلَّت الفاتحة محلَّه. فلما كان مأمورًا به المأموم عند جهر إمامه بالقراءة، فكذلك يكون مأمورًا ببدله وهو الفاتحة. والله أعلم. ومن الأدلة التي تنصُّ على الجهرية: قال الإِمام أحمد (¬1): ثنا يعقوب ثنا أبي عن ابن إسحاق حدثني مكحول عن محمود بن الربيع الأنصاري عن عبادة بن الصامت قال: "صلَّى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصبح، فثقلت عليه فيها القراءة؛ فلما انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من صلاته أقبل علينا بوجهه فقال: "إني لأراكم تقرؤون خلف إمامكم إذا جهر"، قال: قلنا: أجلْ والله إذن يا رسول الله، إنه لهذًّا؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تفعلوا إلاَّ بأمِّ القرآن؛ فإنه لا صلاة إلاَّ بها" (مسند ج 5 ص 322). وأخرجه الدارقطني (¬2) من طرق عن ابن إسحاق. وابن إسحاق ثقة، إنما يخشى تدليسه، وقد صرَّح بالسماع. ومكحول إمام؛ ولكن قال البخاري: إنه لم يذكر سماعًا، وهذا من البخاري - بناءً على رأيه - أنه يشترط للاتصال العلم باللقاء. وقد ردَّ مسلمٌ في مقدِّمة "صحيحه" (¬3) هذا القول، وحكى الإجماع على أنه يكفي إمكان اللقاء إذا لم يكن الراوي مدلسًا. ¬

_ (¬1) "المسند" (22745). (¬2) (1/ 318 - 319) بأربعة طرق عن ابن إسحاق، قال عقب أولاها: هذا إسناد حسن. (¬3) (1/ 29 وما بعدها).

وإمكان لقاء مكحول لمحمود واضح؛ لأنَّ مكحولًا سكن الشام، ومحمود كان بإيلياء. وفي "تهذيب التهذيب" (¬1) عن مكحول: "عتقت بمصر فلم أدعْ فيها علمًا إلا احتويت عليه فيما أدري، ثم أتيت العراق والمدينة والشام؛ فذكر كذلك". وعنه قال: "طفت الأرض كلها في طلب العلم". وعن الزهري قال: "العلماء أربعة - فذكرهم؛ فقال: - ومكحول بالشام". وقد طُعِن في هذا الحديث بمطاعن واهية أشفُّها (¬2) أنَّ ابن حبَّان (¬3) قال: "إنَّ مكحولًا ربما دلَّس"، وتبعه الذهبي (¬4). فقال الحافظ ابن حجر في "طبقات المدلِّسين" (¬5): "مكحول الشامي الفقيه المشهور، تابعيٌ؛ يقال إنه لم يسمع من الصحابة إلاَّ عن نفر قليل، ووصفه بذلك ابن حبَّان، وأطلق الذهبي أنه كان يدلَّس، ولم أره للمتقدِّمين إلاَّ في قول ابن حبَّان". أقول: إنما أراد ابن حبَّان أنَّ مكحولًا روى عمن لم يلقه؛ فإنَّ علماء الفنِّ ذكروا ذلك في ترجمة مكحولٍ مفصَّلاً، واقتصر ابن حبان على قوله: "وربما دلَّس". وعند ابن حبان والذهبي أن الرواية عمَّن لم يلقه تسمَّى تدليسًا. ¬

_ (¬1) (10/ 291). (¬2) ولعل المعنى: أحسنها وأقواها أو أوضحها، من الشفافية. (¬3) "الثقات" (5/ 447). (¬4) في "ميزان الاعتدال" (4/ 177). (¬5) "تعريف أهل التقديس" (ص 156).

وقد بيَّن الأئمة أسماء الذين روى عنهم مكحول ولم يسمع منهم، ولم يذكروا محمودًا؛ وهذا يدلُّك أنَّ مكحولًا إنما كان يروي عمن لم يلقه حيث يعلم الناس أنه لم يلقه، وليس هذا بالتدليس المتعارف (¬1)؛ إذ ليس فيه إيهام. والحديث صحَّحه ابن حبان والحاكم (¬2) وغيرهما، وتصحيح ابن حبان له مما يدلُّك على تأويل قوله في مكحول: "ربما دلَّس" بنحو ما قلنا، أو على أنه اطلع على سماع مكحول من محمود لهذا الحديث، والله أعلم. [ص 45] ومنها: ما رواه الدارقطني (¬3) وغيره بسند صحيح عن زيد بن واقد عن حرام بن حكيم ومكحول عن نافع بن محمود بن ربيعة (¬4) قال نافع: "أبطأ عبادة عن صلاة الصبح؛ فأقام أبو نعيم المؤذَّنُ الصلاة، وكان أبو نعيم أول من أذَّن في بيت المقدس، فصلى بالناس أبو نعيم، وأقبل عبادة وأنا معه، حتى صففنا خلف أبي نعيم، وأبو نعيم يجهر بالقراءة؛ فجعل عبادة يقرأ بأمِّ القرآن، فلما انصرف قلت لعبادة: قد صنعت شيئًا، فلا أدري أسنة هي أم سهو كانت منك؟ قال: وما ذاك؟ قال: سمعتك تقرأ بأم القرآن وأبو نعيم يجهر. قال: أجل، صلَّى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعض الصلوات التي يجهر فيها بالقراءة؛ فالتبست عليه القراءة؛ فلما انصرف أقبل علينا بوجهه؛ فقال: "هل تقرؤون إذا جهرت بالقراءة؟ " فقال بعضنا: إنا لنصنع ذلك، قال: "فلا تفعلوا، ¬

_ (¬1) بل هو الإرسال الخفي في اصطلاح المحدثين. (¬2) انظر "صحيح ابن حبان" (1785، 1792، 1848) و"المستدرك" (1/ 238). (¬3) (1/ 319، 320). (¬4) في "سنن الدارقطني": "الربيع"، وكلاهما صواب كما سيأتي التنبيه عليه. وانظر "التقريب".

وأنا أقول ما لي أنازع القرآن؛ فلا تقرؤوا بشيءٍ من القرآن إذا جهرت إلاَّ بأمِّ القرآن". قال الدارقطني: هذا إسناد حسنٌ ورجاله ثقات كلهم، ثم رواه من طرقٍ أخرى ضعيفة. وقد تكلَّموا في هذا السند بأنَّ نافع بن محمود بن الربيع - ويقال: ابن ربيعة - مجهول الحال؛ لم يوثقه إلاَّ ابن حبان والدارقطني. وابن حبان يوثِّق كل من روى عن ثقةٍ فأكثر، وروى عنه ثقةٌ فأكثر، ولم يكن حديثه منكرًا؛ كما بيَّن ذلك في كتاب "الثقات" (¬1). والدارقطني نُقِلَ عنه في "فتح المغيث" (¬2) أنه قال: "من روى عنه ثقتان فقد ارتفعت جهالته، وثبتت عدالته". والجواب أنَّ الحنفية يوافقون الدارقطني في توثيق المستور؛ فالحديث إذن حجَّةٌ عليهم، وأما نحن فلم نحتجَّ به وحده؛ بل به مع ما انضمَّ إليه من الحجج المتقدِّمة، والله أعلم. وقال ابن حبان في "الثقات" (¬3): "نافع بن محمود بن ربيعة، من أهل إيلياء، يروي عن عبادة بن الصامت، روى عنه حرام بن حكيم ومكحول، مَتْنُ خَبَرِه في القراءة خلف الإِمام يخالف متنَ خبرِ محمود بن الربيع عن ¬

_ (¬1) (1/ 12، 13). والردّ عليه في مقدمة "لسان الميزان" (1/ 208 - 210). (¬2) (2/ 51) طبعة الهند. وفي "سنن الدارقطني" (3/ 174): "وارتفاع اسم الجهالة عنه أن يروي عنه رجلان فصاعدًا، فإذا كان هذه صفته ارتفع عنه اسم الجهالة". (¬3) (5/ 470).

عبادة، كأنهما حديثان أحدهما أتمُّ من الآخر، وعند مكحول الخبران جميعًا عن محمود بن الربيع ونافع بن محمود بن ربيعة، وعند الزهري الخبر عن محمود بن الربيع مختصرٌ غير مستقصى". ومن الغريب ما قاله البخاري في "جزء القراءة" (¬1): "والذي زاد مكحول وحرام بن معاوية ورجاء بن حيوة عن محمود بن الربيع عن عبادة فهو تبعٌ لما روى الزهري؛ لأنَّ الزهري قال: حدثنا محمود، وهؤلاء لم يذكروا سماعًا". وهذا من البخاري بناءً على رأيه في اشتراط العلم باللقاء؛ ولكن لم نقف على رواية حرام بن معاوية في هذا الحديث، وكأنه أراد حرام بن حكيم؛ فإنه يقال فيه حرام بن معاوية. فيدلُّ هذا على أنهما عند البخاري رجلٌ واحدٌ، وإن فصل لهما ترجمتين في "التاريخ" (¬2). وبهذا [ص 46] يندفع قول الخطيب - كما في "تهذيب التهذيب" (¬3) -: "وهم البخاري في فصله بين حرام بن حكيم وبين حرام بن معاوية؛ لأنه رجلٌ واحدٌ، اختلف على معاوية بن صالح في اسم أبيه". بقي أنَّ حرام بن حكيم لم يروِ عن محمود بن ربيعة، وإنما روى عن نافع بن محمود بن ربيعة؛ فهل يرى البخاري أنَّ نافع بن محمود بن ربيعة هو محمود بن الربيع؛ أخطأ بعض الرواة في اسمه؟ وقد يشهد لهذا أنَّ ¬

_ (¬1) (ص 307). (¬2) "التاريخ الكبير" (3/ 101، 102). (¬3) (2/ 222). وقول الخطيب في "الموضح" (1/ 108). وانظر تعليق المعلمي على "التاريخ الكبير" (3/ 102، 103).

البخاري لم يذكر نافع بن محمود في "تاريخه". فإن صحَّ هذا فالحديث صحيح والله أعلم. وقد راجعت "تاريخ البخاري" فوجدته ذكر في ترجمة حرام بن حكيم أنه روى عن محمود بن ربيعة (¬1). ووقع في "جزء القراءة" (¬2): "حدثنا محمود حدثنا البخاري حدثنا صدقة بن خالد حدثنا زيد بن واقد عن حرام بن حكيم ومكحول عن ربيعة الأنصاري ... ". كذا قال (¬3)، وقد سقط من النسخة رجلٌ أو رجلان، بين البخاري وصدقة (¬4)؛ فإنَّ صدقة مات قبل أن يولد البخاري بأربع عشرة سنة. ولم أجد في "تاريخ البخاري" ترجمة لربيعة الأنصاري (¬5)، ولا لمحمود بن ربيعة، ولا لنافع بن محمود؛ إلاَّ أنه في ترجمة حرام بن حكيم ذكر أنه روى عن محمود بن ربيعة، فالله أعلم. وقد روى الدارقطني (¬6) الحديث من طريق الوليد بن مسلم حدثني غير ¬

_ (¬1) (3/ 101). (¬2) (ص 185 - 187). (¬3) وفي بعض النسخ: "أبي ربيعة" مكان "ربيعة". (¬4) الساقط هو "هشام بن عمار" كما في النسخة الصحيحة من الكتاب ومطبوعة الهند. (¬5) قال المؤلف في مسوّدات هذا الكتاب: "وقوله [في "جزء القراءة"]: (عن ربيعة الأنصاري) الصواب: (عن نافع بن محمود بن ربيعة) كما في سنن الدارقطني وغيرها، وهذا من تحريف النساخ". (¬6) (1/ 319).

واحد منهم سعيد بن عبد العزيز عن مكحول عن محمود عن أبي نعيم أنه سمع عبادة بن الصامت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "هل تقرؤون في الصلاة معي؟ قلنا: نعم، قال: فلا تفعلوا إلاَّ بفاتحة الكتاب". ثم قال الدارقطني: "وقال ابن صاعد: قوله "عن أبي نعيم" إنما كان أبو نعيم المؤذن، وليس هو كما قال الوليد: عن أبي نعيم عن عبادة". أقول: محمود بن الربيع كنيته أبو نعيم، فالله أعلم. ****

حجج القائلين بأن المأموم لا يقرأ فيما يجهر فيه إمامه

حجج القائلين بأنَّ المأموم لا يقرأ فيما يجهر فيه إمامه قال الله تبارك وتعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204]. قالوا: اتفق السلف على أنَّ هذه الآية نزلت في القراءة في الصلاة. ولما كان الاستماع والإنصات إنما يكون لما يسمع، علمنا أنها خاصة بما جهر فيه الإِمام. وقد أخرج مسلم (¬1) حديث قتادة عن يونس بن جبير عن حطان بن عبد الله الرقاشي عن أبي موسى مرفوعًا: "إذا صليتم فأقيموا صفوفكم، ثم ليؤمَّكم أحدكم؛ فإذا كبر فكبروا" الحديث، عن جماعة. ثم رواه (¬2) من طريق جرير عن سليمان التيمي عن قتادة، ثم قال: "وفي حديث جرير عن سليمان عن قتادة من الزيادة: "وإذا قرأ فأنصتوا" ... ". وفي بعض النسخ (¬3) زيادة أدرجها أبو إسحاق إبراهيم بن سفيان راوي "الصحيح" عن مسلم؛ لفظها: "قال أبو إسحاق: قال أبو بكر ابن أخت أبي النضر في هذا الحديث، فقال مسلم: تريد أحفظَ من سليمان؟ فقال له أبو بكر: فحديث أبي هريرة؟ فقال: هو صحيح؛ يعني: "وإذا قرأ فأنصتوا". فقال: هو عندي صحيح. فقال: لِمَ لمْ تضعه ههنا؟ قال: ليس كل شيء عندي صحيح وضعته ههنا؛ إنما وضعتُ ههنا ما أجمعوا عليه". ¬

_ (¬1) رقم (404/ 62). (¬2) رقم (404/ 63). (¬3) انظر طبعة محمَّد فؤاد عبد الباقي (1/ 304).

قالوا: وقد تُوبع سليمان؛ فرواه الدارقطني (¬1) من طريق سالم بن نوح ثنا عمر بن عامر وسعيد بن أبي عروبة عن قتادة فذكره، ومتنه: "إنما جُعل الإِمام ليؤتمَّ به؛ فإذا كبَّر فكبِّروا، وإذا قرأ فأنصتوا". وأما حديث أبي هريرة فرواه أبو داود والنسائي وغيرهما. فروى أبو داود (¬2) الحديث من طريق مصعب بن محمَّد عن أبي صالح بدون هذه الزيادة، ثم قال (¬3): "حدثنا محمَّد بن آدم المصيصي ثنا أبو خالد عن ابن عجلان عن زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنما جُعل الإِمام ليُؤتمَّ به" بهذا الخبر، زاد: "وإذا قرأ فأنصتوا". قال أبو داود: وهذه الزيادة "وإذا قرأ فأنصتوا" ليست بمحفوظة، الوهم من أبي خالد". قالوا: قد تُوبِع أبو خالد؛ فرواه النسائي (¬4) عن محمَّد بن عبد الله المخرَّمي عن محمَّد بن سعد - هو الأنصاري الأشهلي -[ص 47] عن ابن عجلان به، والأشهلي ثقة. ¬

_ (¬1) (1/ 330). قال الدارقطني: سالم بن نوح ليس بالقوي. (¬2) رقم (603). وأخرجه أيضًا أحمد (8502) بهذا الإسناد. ووقع في الأصل: "محمد بن مصعب" خطأ. (¬3) رقم (604). وأخرجه أيضًا أحمد (9438) والنسائي (2/ 141، 142) وابن ماجه (846) والدارقطني (1/ 327) وغيرهم من طريق أبي خالد به. (¬4) (2/ 142). وأخرجه أيضًا بهذا الطريق الدارقطني (1/ 328) والخطيب في "تاريخ بغداد" (5/ 320).

وذكروا متابعات أخرى ساقطة لا نعرَّج عليها (¬1). قالوا: وقد روى مالك (¬2) عن ابن شهاب عن ابن أُكيمة الليثي عن أبي هريرة: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انصرف من صلاةٍ جَهَر فيها بالقراءة؛ فقال: "هل قرأ معي أحدٌ منكم آنفًا؟ " فقال رجل: نعم يا رسول الله، قال: "إني أقول ما لي أُنازَع القرآن". قال: فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما جهر فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقراءة من الصلوات؛ حين سمعوا ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ورواه أبو داود (¬3) عن جماعة منهم ابن السرح، قالوا: ثنا سفيان عن الزهري قال: سمعت ابن أُكيمة يحدِّث سعيد بن المسيِّب قال: سمعت أبا هريرة يقول: "صلَّى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاةً نظنُّ أنها الصبح - بمعناه إلى قوله -: ما لي أنازع القرآن". قال أبو داود: قال مسدَّد في حديثه: قال معمر: "فانتهى الناس ... "، وقال ابن السرح في حديثه: قال معمر عن الزهري قال أبو هريرة: "فانتهى الناس ... ". ¬

_ (¬1) منها متابعة محمَّد بن ميسَّر الصاغاني، أخرجها أحمد (8889) والدارقطني (1/ 330) والبيهقي في "القراءة خلف الإمام" (312). ومتابعة إسماعيل بن أبان الغنوي، أخرجها الدارقطني (1/ 329) والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 156). وكلاهما ضعيف. (¬2) في "الموطأ" (1/ 86). ومن طريقه أبو داود (826) والترمذي (312) والنسائي (2/ 140, 141). (¬3) رقم (827).

قالوا: وقد قال يحيى بن معين - وهو هو -: كفاك قول الزهري: سمعت ابن أُكيمة يحدِّث سعيد بن المسيَّب. وقال الدوري عن يحيى: عمارة بن أكيمة ثقة، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، مقبول، وقال يعقوب بن سفيان: هو من مشاهير التابعين بالمدينة (¬1). وقد عمل الراوي عنه - وهو الإِمام الزهري - بحديثه؛ فإنَّ مذهب الزهري أن لا يقرأ المأموم فيما جهر به إمامه؛ سواءٌ أسمع القراءة أم لم يسمع. وهذا يدلُّ أنَّ ابن أكيمة عنده ثقة. قالوا: وقد أخرج الإِمام أحمد وابن ماجه (¬2) وغيرهما بأسانيد صحيحة من طريق أبي إسحاق السَّبيعي عن الأرقم بن شُرحبيل عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: "لمَّا مرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرضَه الذي مات فيه"، فذكر الحديث إلى أن قال: "فخرج أبو بكر فصلَّى بالناس، ووجد النبي - صلى الله عليه وسلم - من نفسه خِفَّةً؛ فخرج يُهادَى بين رجلين، ورِجْلاه تَخُطَّان في الأرض؛ فلمَّا رآه الناس سبَّحوا أبا بكر؛ فذهب يتأخَّر، فأومأ إليه أيْ مكانَك؛ فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى جلس، قال: وقام أبو بكر عن يمينه، وكان أبو بكر يأتمُّ بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، والناسُ يأتمُّون بأبي بكر، قال ابن عباس: وأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - من القراءة من حيث بلغ أبو بكر ... الحديث. قالوا: فهذا ظاهر أنَّ الصلاة كانت جهرية، وأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بني على قراءة أبي بكر، ولا بد أن يكون أبو بكر قد قرأ الفاتحة أو بعضها. ففيه دلالة ¬

_ (¬1) انظر "تهذيب التهذيب" (7/ 411). (¬2) "المسند" (3355) وابن ماجه (1235). وأخرجه أيضًا الطحاوي في "معاني الآثار" (1/ 405) والبيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 81).

فصل

واضحةٌ أنَّ قراءة الإِمام في الجهرية كافية لمن يستخلفه؛ فأن تكفي قراءتُه المأمومين من باب أولى. قالوا: فهذه الأدلة تخصَّص أدلَّتكم العامة، وتعارض الخاصة، وعند المعارضة يترجَّح ما عليه جمهور الأمة. وقد قال الإِمام أحمد (¬1): ما سمعنا أحدًا من أهل الإِسلام يقول: إنَّ الإِمام إذا جهر بالقراءة لا تجزئ صلاة من خلفه. وقال: هذا النبي، وأصحابه، والتابعون، وهذا مالك في أهل الحجاز، وهذا الثوري في أهل العراق، وهذا الأوزاعي في أهل الشام، وهذا الليث في أهل مصر ما قالوا لرجلٍ صلَّى وقرأ إمامه ولم يقرأ هو: صلاته باطلة. [ص 48] ولنشرع في الجواب، وتقدَّم الكلام على آية الإنصات، ونسأل الله تعالى التوفيق (¬2). [ص 49] فصل قال الله عزَّ وجلَّ: {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ ¬

_ (¬1) انظر "المغني" لابن قدامة (2/ 262). (¬2) لم يكتب الشيخ في هذه الصفحة غير هذا السطر.

يَسْجُدُونَ} [الأعراف: 203 - 206]. قال الشارح: (قال ابن قدامة في "المغني" (¬1): قال أحمد: فالناس على أنَّ هذا في الصلاة. وعن سعيد بن المسيب والحسن وإبراهيم ومحمد بن كعب والترمذي: أنها نزلت في شأن الصلاة. وقال زيد بن أسلم وأبو العالية: كانوا يقرؤون خلف الإِمام فنزلت ... وقال أحمد في رواية أبي داود: أجمع الناس على أنَّ هذه الآية نزلت في الصلاة). أقول: روى ابن جرير في "تفسيره" (¬2) عن ابن عباس أنه كان يقول في هذه: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} هذا في المكتوبة، وأما ما كان من قصص أو قراءة بعد ذلك فإنما هي نافلة. إنَّ نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ في صلاة مكتوبة، وقرأ أصحابه وراءه فخلطوا عليه. قال: فنزل القرآن: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}. فهذا في المكتوبة. وفي سنده ابن لهيعة معنعنًا. وأخرج (¬3) من طريق أشعث - هو ابن سوَّار - عن الزهري قال: نزلت هذه الآية في فتًى من الأنصار، كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلما قرأ شيئًا قرأه، فنزلت: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا}. أشعث بن سوَّار ضعيف. ¬

_ (¬1) (2/ 261). (¬2) (10/ 664). (¬3) (10/ 659).

ولكن في "سنن البيهقي" (¬1) بسند جيِّد عن مجاهد قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الصلاة؛ فسمع قراءة فتى من الأنصار؛ فنزلت: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا}. وفي "أسباب النزول" (¬2) للسيوطي: "وقال سعيد بن منصور في "سننه": ثنا أبو معشر عن محمَّد بن كعب قال: كانوا يتلقَّفون من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ إذا قرأ شيئًا قرؤوا معه حتى نزلت هذه الآية التي في الأعراف: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا}. أقول: أبو معشر ضعيف؛ إلاَّ أنه فيما يرويه عن محمَّد بن كعب من التفسير أحسن حالاً منه في غير ذلك. وقال السيوطي (¬3) عقب هذا الحديث: "قلت: ظاهر هذا أنَّ الآية مدنية". أقول: والمعروف بين علماء القرآن أنّها مكية. وقد ذكر في النوع الأول من "الإتقان" (¬4) نصوصَهم على أنَّ سورة الأعراف مكية، واستثنى بعضهم منها آياتٍ ليس هذه منها. [ص 50] وقد قال ابن جرير (¬5): حدثنا أبو كريب قال ثنا أبو بكر بن عيَّاش ¬

_ (¬1) (2/ 155). (¬2) "لباب النقول" (ص 105، 106). وانظر "سنن سعيد بن منصور" (978 - تفسير). (¬3) في المصدر السابق. (¬4) (1/ 49، 86) ط. مجمع الملك فهد. (¬5) في "تفسيره" (10/ 658).

عن عاصم عن المسيّب بن رافع قال: كان عبد الله يقول: كنا يُسلِّم بعضُنا على بعض في الصلاة، سلامٌ على فلان، وسلامٌ على فلان، قال: فجاء القرآن: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ}. أقول: أبو بكر بن عيَّاش ثقة يغلط إذا حدَّث من حفظه؛ ولكن هذا من روايته عن عاصم بن بهدلة، شيخه في القراءة، وهذا مما يتعلَّق بها؛ فالظاهر أنَّه أتقنه، إلاَّ أنه منقطعٌ، المسيّب بن رافع لم يسمع من ابن مسعود، قاله أبو حاتم وغيره (¬1). ولكن ثبوت هذا الأثر عن المسيّب عمن أخبره عن عبد الله كافٍ في معارضة الآثار المتقدِّمة. وقد أخرج أحمد وأبو داود والنسائي وصحَّحه وابن حبان (¬2) وغيرهم من طريق عاصم بن بهدلة عن أبي وائل عن ابن مسعود قال: كنَّا نُسلِّم في الصلاة، ونأمر بحاجتنا؛ فقدِمتُ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلَّي، فسلَّمت عليه فلم يردَّ عليَّ السلام، فأخذَني ما قَدُمَ وما حَدُثَ، فلما قضى صلاته قال: "إنَّ الله يُحدِث مِن أمره ما شاء، وإنَّ الله قد أحدث أن لا تَكَلَّموا في الصلاة". وفي روايةٍ (¬3): "كنا نتكلَّم في الصلاة، ويُسلَّم بعضنا على بعض، ويُومئ أحدنا بالحاجة" الحديث. ¬

_ (¬1) انظر "تهذيب التهذيب" (10/ 153). (¬2) "المسند" (3575) وأبو داود (924) والنسائي (3/ 19) وابن حبان (2243، 2244). وأخرجه أيضًا الطحاوي في "معاني الآثار" (1/ 455) والبيهقي (2/ 248، 356) وغيرهما. (¬3) عند أحمد (4145) والبيهقي (2/ 248).

وأصل الحديث في "الصحيحين" (¬1)، وسيأتي إن شاء الله تعالى. وفيه دلالة على صحة حديث المسيّب بن رافع، والله أعلم. وقال البخاري في "جزء القراءة" (¬2): حدثنا محمَّد بن مقاتل قال حدثنا النضر قال أنبأنا يونس عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لقوم كانوا يقرؤون القرآن فيجهرون: "خلَّطتم عليَّ القرآن". وكنا نسلِّم في الصلاة؛ فقيل لنا: "إنَّ في الصلاة لشُغلًا". وروى ابن جرير (¬3) أيضًا بسند صحيح إلى عبد الله بن عامر قال: ثني زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي هريرة عن هذه الآية: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا}، قال: نزلت في رفع الأصوات وهم خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة. أقول: عبد الله بن عامر أظنه الأسلمي، ضعيف. وأخرج ابن جرير (¬4) وغيره عن أبي هريرة قال: كانوا يتكلَّمون في الصلاة؛ فلما نزلت هذه الآية: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ}، والآية الأخرى ¬

_ (¬1) البخاري (1199، 1216، 3875) ومسلم (538). (¬2) (ص 400 - 401). وأخرجه أيضًا أحمد (4309) والبزار (488 - زوائد) وأبو يعلى (5397) والدارقطني (1/ 341) وغيرهم. (¬3) "تفسيره" (10/ 660). وأخرجه أيضًا ابن أبي حاتم في "تفسيره" (5/ 1645) والدارقطني (1/ 326). (¬4) (10/ 659). وأخرجه أيضًا ابن المنذر في "الأوسط" (3/ 105) والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 155).

أُمِروا بالإنصات. وإبراهيم الهَجَري ضعيف. وأخرج ابن أبي حاتم (¬1) عن عبد الله بن مغفَّل نحوه. ذكره السيوطي في "أسباب النزول" (¬2). وأخرج ابن جرير (¬3) بسند صحيح عن قتادة: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} قال: كان الرجل يأتي وهم في الصلاة، فيسألهم: كم صلَّيتم؟ كم بقي؟ فأنزل الله: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا}. وأخرج (¬4) بسند رجاله ثقات عن قتادة أيضًا: قوله: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} قال: كانوا يتكلَّمون في صلاتهم بحوائجهم أولَ ما فُرضت عليهم؛ فأنزل الله ما تسمعون: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا}. وأخرج البيهقي في "السنن" (¬5) عن عون بن موسى قال: سمعت معاوية بن قرَّة قال: أنزل الله هذه الآية: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا}، قال: كان الناس يتكلمون في الصلاة. ¬

_ (¬1) في "تفسيره" (5/ 1646). (¬2) "لباب النقول" (ص 105). (¬3) (10/ 662). (¬4) (10/ 661). (¬5) (2/ 155).

قال البيهقي: ورواه سعيد بن منصور عن عون، وزاد فيه: "فأنزلها القصَّاص في القصص". أقول: وعون بن موسى ذكره ابن حبان في "الثقات" (¬1). [ص 51] ومجموع هذه الآثار أثبت من مجموع ما تقدَّم. بقي أن يقال: دلَّت هذه الآثار على أنَّ هذه الآية نزلت عند تحريم الكلام في الصلاة. وقد ثبت في "الصحيحين" (¬2) عن زيد بن أرقم قال: كنا نتكلَّم في الصلاة؛ يكلَّم أحدُنا صاحبَه وهو إلى جنبه في الصلاة؛ حتى نزلت: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] فأُمرنا بالسكوت، ونُهينا عن الكلام. هذا لفظ مسلم. لا مانع أن تنزل آيتان من سورتين في وقت واحد متفقتان في الدلالة على حكم، ولكن آية الإنصات مكية باتفاق، وآية القنوت مدنية باتفاق؛ فكيف تنزل آية الإنصات بالمنع من الكلام، ويبقى حلالًا بعد ذلك حتى تنزل آية القنوت؟ والجواب: أنَّ جماعة من أهل العلم تأولوا حديث زيد بن أرقم كما في "فتح الباري" (¬3)، ورجَّحوا أن تحريم الكلام كان بمكة قبل الهجرة بثلاث سنين قبل نزول آية القنوت بزمان؛ لأنها مدنية. ¬

_ (¬1) (7/ 280). (¬2) البخاري (1200، 4534) ومسلم (539). (¬3) (3/ 74).

وحجَّتهم حديث ابن مسعود في "الصحيحين" (¬1) وغيرهما قال: كنَّا نسلِّم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فيردُّ علينا؛ فلمَّا رجعنا من عند النجاشي سلَّمنا عليه فلم يردَّ علينا؛ فقلنا: يا رسول الله كنا نسلِّم عليك في الصلاة فتردَّ علينا؛ فقال: "إنَّ في الصلاة شغلاً". وقد تقدَّم في رواية النسائي (¬2) وغيره: "فلما قضى صلاته قال: إنَّ الله يُحدِث من أمره ما شاء، وإنَّ الله قد أحدث ألاَّ تكلَّموا في الصلاة". فعلى هذا لا إشكال. ولكن جمع ابنُ حجر بين الحديثين بأنَّ ابن مسعود توجَّه إلى الحبشة مرتين؛ رجع من الأولى قبل الهجرة، ثم توجَّه إلى الحبشة أيضًا، ثم رجع منها بعد الهجرة قبل بدر، فالرجوع الذي ذكره في حديثه هو هذا الثاني. وحديث زيد بن أرقم على ظاهره؛ فعلى هذا يبقى الإشكال بحاله. والجواب ما في "حواشي الشيخ زاده على البيضاوي" (¬3)، قال: "قال الإِمام الواحدي في "الوسيط" (¬4): ولا تدلُّ الآية على ترك القراءة خلف الإِمام؛ لأنَّ هذا الإنصات المأمور به نهي عن الكلام في الصلاة، لا عن القراءة أو عن ترك الجهر بالقراءة خلف الإِمام. كما روي عن ابن عباس (¬5) أنه قال: قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة المكتوبة، وقرأ أصحابه وراءه رافعي ¬

_ (¬1) البخاري (1199، 1216) ومسلم (538). (¬2) سبق تخريجه. (¬3) (2/ 393). (¬4) (2/ 440). وانظر "البسيط" (9/ 568). (¬5) أخرجه الطبري في "تفسيره" (10/ 664). وقد سبق ذكره.

أصواتهم؛ فنزلت هذه الآية. وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه. والعرب تسمَّي تارك الجهر "منصتًا"، وإن كان يقرأ في نفسه إذا لم يُسمِع أحدًا". (ملحق الجلد الأول ص 293). وعليه فآية الإنصات إنما منعت من رفع الصوت؛ سواء أكان بقراءة، أم بذكر، أم بدعاء، أم بكلام الناس بعضهم بعضًا. وآية القنوت منعت من كلام الناس بعضهم بعضًا مطلقًا ولم تتعرض للقراءة والذكر والدعاء. فالمراد بالإنصات في الآية الإسرار؛ بدليل قوله بعدُ: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ} الآية. قال ابن جرير (¬1): "يقول تعالى ذكره: واذكرْ أيها المستمع المنصت للقرآن - إذا قرئ في صلاة أو خطبة - ربَّك في نفسك ... {وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} يقول: ودعاء باللسان لله في خفاء لا جهار، يقول: ليكنْ ذكر الله عند استماعك القرآن في دعاء إن دعوت غير جهار؛ ولكن في خفاء من القول". وفي "روح المعاني" (¬2): "ويُشعر كلام ابن زيد أنَّ المراد بالجهر مقابل الذكر في النفس، والآية عنده خطاب للمأموم المأمور بالإنصات؛ أي: اذكر ربك أيها المنصت في نفسك، ولا تجهر بالذكر". أقول: وفي "الصحيحين" (¬3) عن أبي هريرة قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) (10/ 667, 668). (¬2) (9/ 154). (¬3) البخاري (744) ومسلم (598).

إذا كبَّر في الصلاة سكت هُنَيَّةً قبل أن يقرأ؛ فقلت: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي، أرأيتَ سكوتك بين التكبير والقراءة؛ ما تقول؟ قال: "أقول: اللهم باعِدْ بيني وبين خطاياي"؛ فذكر الحديث، وهذا لفظ مسلم. فأطلق على تلك الحال سكوتًا؛ مع العلم بأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يتكلَّم فيها ولكن سرًّا. [ص 52]، وإنما قال في الآية: {وَأَنْصِتُوا} ليدلَّ - والله أعلم - على أنه ينبغي المبالغة في الإسرار. وقال: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ} فأفرد بعد أن كان الكلام على الجمع ليدلَّ - والله أعلم - على أنه ينبغي المبالغة بالإسرار حتى يُسمِع الإنسان نفسه فحسب. ولو قال: "واذكروا ربكم في أنفسكم" لتوهَّم أنه لا بأس بأن يرفع صوته قليلاً بحيث يُسمِع أصحابَه. وإنما جاز لهم بعد هذا أن يكلِّم أحدهم صاحبه إلى جنبه لأنَّ المقصود من كلام بعضهم بعضًا لا يحصل إلاَّ بهذا؛ بخلاف القراءة والذكر والدعاء. ومما يشهد لهذا المعنى أثر ابن عباس المتقدِّم (¬1): أنه كان يقول في هذه {وَاذْكُرْ رَبَّكَ} ... إلخ. وهذا هو السرُّ في ذكره الآية الثانية. فقوله فيه: "وقرأ أصحابه وراءه فخلَّطوا عليه" أراد قرؤوا رافعين أصواتهم؛ فتدبَّر! ومثله قول محمَّد بن كعب (¬2): "كانوا يتلقَّفون من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ إذا ¬

_ (¬1) في "تفسير الطبري" (10/ 664). وقد سبق ذكره. (¬2) أخرجه سعيد بن منصور في "سننه" (978 - تفسير). وسبق ذكره.

قرأ شيئًا قرؤوا معه". وعليه يحمل ما قاله ابن قدامة في "المغني" (¬1)؛ حيث قال: "وقال زيد بن أسلم وأبو العالية: كانوا يقرؤون خلف الإِمام فنزلت". هذا إن صحَّ عنهما. وكذا ما تقدَّم عن ابن مسعود (¬2): "كنَّا يسلِّم بعضُنا على بعض في الصلاة" إلخ. فأما ما تقدَّم عن أبي هريرة (¬3) قال: "نزلت في رفع الأصوات، وهم خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة"؛ فظاهر. وأما ما مرَّ عنه من قوله (¬4): كانوا يتكلَّمون في الصلاة؛ فلما نزلت هذه الآية: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ}، والآية الأخرى أُمِروا بالإنصات؛ فمراده بالإنصات هو ما حملناه عليه في الآية. ويدلُّ على هذا قوله: "والآية الأخرى"، وقد علمت أنَّ الآية الأخرى قرينة ظاهرة على ذلك. ونحوه قول ابن مغفَّل (¬5). فأما قول قتادة (¬6): "كان الرجل يأتي وهم في الصلاة، فيسألهم: كم ¬

_ (¬1) (2/ 261). (¬2) سبق تخريجه. (¬3) في "تفسير الطبري" (10/ 660) و"سنن الدارقطني" (1/ 326). (¬4) أي قول أبي هريرة في "تفسير الطبري" (10/ 659) والبيهقي (2/ 155). (¬5) في "تفسير ابن أبي حاتم" (5/ 1646). (¬6) في "تفسير الطبري" (10/ 662).

صليتم؟ كم بقي" إلخ. وقوله (¬1): "كانوا يتكلَّمون في صلاتهم بحوائجهم أولَ ما فُرِضت عليهم". وقول معاوية بن قرَّة (¬2): "كان الناس يتكلَّمون في الصلاة" = فالمراد بذلك كلِّه السؤال والكلام جهرًا، وهو الذي منعتهم منه هذه الآية، وبقي الكلام مسارَّةً مباحًا لهم حتى نزلت آية القنوت. ولذلك قال زيد (¬3): "فيكلِّم أحدُنا صاحبَه وهو إلى جنبه في الصلاة"؛ وهذا ظاهر في المسارَّة. فأما ما مرَّ عن مجاهد (¬4): كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الصلاة، فسمع قراءة فتى من الأنصار؛ فنزلت: وذكر الآية = فإن صحَّ فيحتمل أن يكون النبي صلَّى الله عليه [ص 53] وآله وسلَّم لما سمع ذلك الفتى يرفع صوته تلا الآية بعد السلام؛ تنبيهًا لذلك الفتى بأنَّ الآية منعت المأموم عن رفع الصوت؛ فسمعه بعض صغار الصحابة، فظنَّ أنَّ الآية إنما نزلت حينئذٍ. ولهذا نظائر في أسباب النزول. ومن يجيز تعدد نزول الآية الواحدة يجيء احتماله هنا، والله أعلم. وهكذا ما تقدَّم عن الزهري (¬5)؛ إن صحَّ. وقال البخاري في "جزء القراءة" (¬6): "وقال مجاهد: إذا لم يقرأ خلف ¬

_ (¬1) في المصدر السابق (10/ 661). (¬2) في "السنن الكبرى" (2/ 155). (¬3) عند البخاري (1200) ومسلم (539). (¬4) في "السنن الكبرى" (2/ 155). (¬5) في "تفسير الطبري" (10/ 659، 662). (¬6) (ص 119).

الإِمام أعاد الصلاة". وأخرج ابن جرير (¬1) عن يُسَير بن جابر قال: صلَّى ابن مسعود فسمع ناسًا يقرؤون مع الإِمام؛ فلما انصرف قال: أما آن لكم أن تفقهوا؟ أما آن لكم أن تعقلوا؟ {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} كما أمركم الله. يحتمل أنه إنما أنكر عليهم رفع أصواتهم حتى سمعهم، والرفع مخالف للآية كما علمت. وأخرج (¬2) أيضًا من طرقٍ عن مجاهد وغيره في هذه الآية قالوا: في الصلاة. وهذا مجملٌ، ليس فيه مخالفة لما اخترناه، والله أعلم. على أنَّ مذهب مجاهد أنَّ من لم يقرأ خلف الإِمام يعيد الصلاة؛ ذكره البخاري في "جزء القراءة" (¬3)؛ كما مرَّ. وأخرج (¬4) عن الزهري أنَّ المأمومين يقرؤون فيما أسرَّ به الإِمام، ولا يقرؤون فيما جهر به سرًّا ولا علانيةً, وتلا الآية. وهذا مذهب الزهري، معروفٌ عنه، وقد وهم في حمل الآية عليه، والله المستعان. ¬

_ (¬1) "تفسيره" (10/ 659). (¬2) (10/ 660، 661). (¬3) (ص 119). (¬4) أي ابن جرير في "تفسيره" (10/ 664).

ويحتجُّ من يرى أنَّ الإنصات في الآية السكوت للاستماع بأنه الحقيقة، وبحديث: "إنما جُعِلَ الإِمام ليؤتمَّ به"، وفيه: "وإذا قرأ فأنصتوا". يقول: لا يحتمل تأويل قوله: "فأنصِتوا" بأنَّ المراد فأَسِرُّوا؛ لأنَّ حكم المأموم الإسرار مطلقًا؛ فكيف يقيَّده بقوله: "وإذا قرأ"؟ وإذا ثبت أنَّ المراد في الحديث حقيقة الإنصات دلَّ هذا على أنَّ الإنصات في الآية على حقيقته؛ لأنَّ الظاهر أنه - صلى الله عليه وسلم - إنما قال ذلك إشارة إلى الآية. والجواب عن الأول: أننا قد قدَّمنا بيان القرائن والأدلة الصارفة عن الحقيقة. وعن الثاني: بأنَّ الحديث مختلف في صحَّته؛ كما يأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى. وعلى القول بصحَّته فإن قلنا: إنه إشارة إلى الآية فذلك قرينة على أنَّ المراد بالإنصات: الإسرار، وإنما قال - صلى الله عليه وسلم -: "وإذا قرأ" [ص 54] لأنه موضع الحاجة؛ لأنه لما قال لهم: "إنما جُعل الإِمام ليؤتمَّ به؛ فإذا كبَّر فكبِّروا" احتمل أن يفهموا من ذلك: "وإذا جهر بالقراءة فاجهروا"؛ فاحتيج إلى إزالة هذا الوهم. فإن قيل: فإنَّ الإِمام يجهر بالتكبيرات، فإذا أمكن أن يتوهَّموا الجهر بالقراءة أمكن أن يتوهَّموا الجهر بالتكبيرات. قلت: لكن احتمال الوهم في التكبيرات دون احتماله في القراءة؛ لأنه لا يخفى أن جهْرَ الإِمام بالتكبيرات إنما هو للإعلام بالانتقالات؛ ولهذا يجهر الإِمام بها دائمًا، والمأموم لا يحتاج إلى أن يُعلِم غيره.

فأما القراءة فليس المقصود بالجهر بها الإعلام، واحتمال أن يكون المقصود بالجهر بها إسماعَ المقتدين يدفعه أنَّ المنفرد يجهر أيضًا، وأنهم قد علموا أنَّ المؤتمَّ يقرأ أيضًا. ولا يدفع هذا الوهم أن الآية قد سبق نزولها بالأمر بالإنصات؛ لاحتمال أن يتوهَّموا أنَّ قوله: "إنما جعل الإِمام ليؤتمَّ به" تخصيص للآية بالنسبة إلى القراءة. مع أنَّ مثل هذا وارد على المخالف؛ إذ يقال له: إذا كان الإنصات في الآية ينافي القراءة سرًّا فلماذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وإذا قرأ فأنصتوا"؟ وهلاَّ اكتفى بالآية؟ وجوابه: بأنه زاده تنبيهًا على الدليل، وتأكيدًا له. وهكذا نقول مع زيادة دفع الإيهام. وكأني بك لا يطمئنُّ قلبك إلى هذا التأويل؛ ولكنك إذا تأملت ما تقدَّم، وعلمت أنَّ الآية مكية اتفاقًا، وأنَّ تحريم الكلام في الصلاة إنما كان بالمدينة علمت الاحتياج إلى التأويل. وقد فُتِحَ عليَّ بمعنًى آخر لعلَّه أقرب من الأول؛ وهو أن يقال: الإنصات على ظاهره، والآية إنما منعت من الكلام حال قراءة الإِمام جهرًا، وبقي الكلام مباحًا في غير ذلك من الحالات، كحال قراءته سرًّا، وحال الركوع والسجود وغير ذلك؛ حتى حرم ذلك بالمدينة. وعلى هذا فيقال: الأمر بالإنصات يعمُّ الإنصات عن كلام الناس، وعن القراءة، وعن الذكر. ولكن دلَّ قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ} إلخ على اختصاص النهي بكلام الناس، وأما ذكر الله تعالى بقرآن أو غيره فلم ينه عنه، ولكن أمر

بالإسرار به. فإن قلت: هذا أقرب لإبقائه اللفظ على حقيقته؛ ولكن بقي فيه شيءٌ من حيث المعنى، وهو أنَّ الاستماع والإنصات إنما فائدته تفهُّم ما يقرأه الإِمام وتدبُّره، وهذه الفائدة تزول بالاشتغال بالذكر ولو سرًّا. قلت: أما زوالها ففيه نظر؛ فقد يقرأ الإنسان سرًّا وهو مع ذلك يفهم قراءة غيره في الجملة. نعم إذا لم يشتغل بالقراءة كان فهمه لكلام غيره أتمَّ. ولكن قد يقال: دلَّ قوله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ} أنَّ تفهُّم قراءة الإِمام إنما أمر به من يريد الاشتغال عنه بكلام الناس. فأما من يريد الاشتغال عنه بقراءة أو ذكر فلا؛ لأنه قد حصل له ما هو أتمُّ من الاستماع. ويؤكِّد هذا أن تفهُّم قراءة الإِمام لم يقل أحدٌ بوجوبه، حتى لو اشتغل المأموم بالتفكر في شيء من أمر معاشه لم يقل أحدٌ بأنه آثم. ومع هذا فنحن نَقْصُر الذكر المأمور به على الذكر الواجب، وهو قراءة الفاتحة، وأنت خبير أن تحصيل الواجب أولى من تحصيل المستحب. هذا مع أن أدلة وجوب الفاتحة تساعد على التخصيص الذي ذكرنا، بل تعيِّنه. وسيأتي تقرير هذا إن شاء الله تعالى. هذا تحقيق الكلام في معنى الآية؛ مع التقيُّد بما نُقل عن السلف. فأما إذا صرفنا النظر عما نقل عنهم فسقوط الاحتجاج بها أوضح، ودونك البيان: قال في "الكشَّاف" (¬1): "وقيل معناه: وإذا تلا عليكم الرسول القرآن عند ¬

_ (¬1) (2/ 111) ط. دار المعرفة.

نزوله فاستمعوا له". وكذا قال أبو السعود، ثم قال: "والآية إما من تمام القول المأمور به أو استئناف من جهته تعالى؛ فقوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ} على الأول عطف على {قُلْ} ". (ج 1 ص 546) (¬1). [ص 55] وحاصل ذلك أنَّ الآية من جملة ما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقوله للكفار الذين يطلبون، الذين تقدَّم أنه إذا لم يأتهم النبي بآية قالوا: {لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا}. فالخطاب بقوله: {فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} للكفَّار. وقد أوضح ذلك في "روح المعاني" (¬2) قال: "وقال بعضهم: إنَّ الخطاب فيها للكفَّار؛ وذلك أنَّ كون القرآن بصائر وهدى ورحمة لا يظهر إلاَّ بشرط مخصوص وهو أن النبي عليه الصلاة والسلام إذا قرأ عليهم القرآن عند نزوله استمعوا له وأنصتوا؛ ليقفوا على معانيه ومزاياه، فيعترفوا بإعجازه، ويستغنوا بذلك عن طلب سائر المعجزات. وأيَّد هذا بقوله سبحانه وتعالى في آخر الآية: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}؛ بناء على أن ذلك للترجي، وهو إنما يناسب حال الكفار، لا حال المؤمنين؛ الذين حصل لهم الرحمة جزمًا في قوله تعالى: {وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}. وأجيب بأنَّ هذه الرحمة المرجُوَّة غير تلك الرحمة، ولئن سُلِّم كونها إياها فالإطماع من الكريم واجب، فلم يبق فرق". ¬

_ (¬1) "إرشاد العقل السليم" (3/ 310) ط. دار الفكر. (¬2) (9/ 153).

وقال بعد ذلك بأسطر (¬1): "والجملة على ما يدل عليه كلامهم يحتمل أن تكون من القول المأمور به، ويحتمل أن تكون استئنافًا من جهته تعالى". أقول: أما "لعلَّ" فقد قال تعالى: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44] فقيل: إنها للترجية؛ أي: اذهبا على رجائكما. وقيل: للتعليل. فهكذا يقال في قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}؛ أي راجين أن تُرحَموا، أو لكي تُرحَموا. فإن قيل: وهل تُرْجَى الرحمة للكفار بمجرَّد استماعهم وإنصاتهم؟ قلت: يُرجى من استماعهم وإنصاتهم أن يؤمنوا؛ فإذا آمنوا رُحِموا. وفي الآية إشارة إلى قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26]. ونظيرها في إحالتهم على القرآن إذا طلبوا آية معجزةً قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 50، 51]. وفي هذه الآية ذكر الرحمة، وقال أكثر المفسِّرين إنَّ المعنيَّ بقوله {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}: لقومٍ مُوطِّنين أنفسَهم على الإيمان إذا تبيَّن لهم الحق؛ بخلاف المعاندين. ¬

_ (¬1) (9/ 154).

أقول: والظاهر أنَّ يقال في آية الأعراف مثل ذلك. ومن نظائر الآية قوله سبحانه: {وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى} [طه: 133]. [ص 56] وقوله تبارك اسمه: {... فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) ... لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 5 - 10]. أقول: وتفسير الآية على هذا القول هكذا: {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ} أي المشركين؛ وهذا متفق عليه، {بِآيَةٍ} بمعجزةٍ؛ كما رُوِيَ عن ابن عباس والجبَّائي وأبي مسلم؛ على ما في "روح المعاني" (¬1)، ويشهد له الآيات المتقدِّمة. وقوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الأنعام: 37]. وقوله سبحانه: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد: 7]. وقوله عزَّ وجلَّ: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} [الرعد: 27]. وقوله تبارك وتعالى: {وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ ¬

_ (¬1) (9/ 149).

إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} [يونس: 20]. {قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا} اصطفيتها واخترتها واقترحتها على ربِّك. أخرج ابن جرير (¬1) عن ابن عباس: قوله: {لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا} يقول: لولا تقبلتها من الله. وعن قتادة: لولا تلقَّيتها من ربِّك. وقال آخرون: لولا اخترعتها؛ وأيَّدوه بقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي} [الأعراف: 203]، وهو مناسبٌ للأول؛ أي: ليس لي أن أقترح على ربَّي، وإنما عليَّ أن أتَّبع ما يوحيه إليَّ (¬2). ثم علم أنهم سيقولون: فهلَّا أنزلها ربُّك بدون طلبك؟ كما تقدَّم نحو ذلك في الآيات التي تلوناها. فأجيبوا عن ذلك بقوله تعالى: {هَذَا} أي القرآن، {بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي: كفى به آيةً لمن كان موطِّنًا نفسه على أن يتَّبع الحق إذا ظهر له. ثم علِمَ الله تعالى أنهم سيقولون: فما بالنا لم يحصل لنا ذلك؟ ولا نسلِّم أننا معاندون؛ فقال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أي: أنَّ السبب في كون ذلك لم يحصل لكم هو عنادكم؛ والدليل [ص 57] على عنادكم قولكم: {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26]. فاستمعوا له وأنصتوا، فلا تَلْغَوا, ولا تأمروا باللغو؛ فإن فعلتم ¬

_ (¬1) في "تفسيره" (10/ 656). (¬2) في الأصل: "إليه".

ذلك رُجِيَ أن يحصل لكم البصائر والهدى والرحمة. واقتصر على الرحمة لدلالتها على الباقي، مع أنها المقصود الأعظم للإنسان. ولا مانع من تسليم ما تقدَّم عن "روح المعاني"؛ من أنَّ الإطماع من الكريم واجبٌ؛ فإنَّ الإطماع في الآية مشروط بالاستماع والإنصات. ولنا أنَّ نقول: لو استمعوا وأنصتوا لهداهم الله تعالى للإيمان؛ فتحصل لهم الرحمة قطعًا. قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 68، 69]. والكافر إذا استمع للقرآن وأنصت إليه، راغبًا في العلم به أهو حق أم لا، مصمَّمًا على أنه إذا عرف أنه الحق اتبعه، موطَّنًا نفسه على ذلك، منشرحًا صدره مطمئنًا قلبه، لا يجد في نفسه عداوةً لما يتبيَّن له أنه الحق = فهو مجاهدٌ في الله بلا ريب. وبهذا تنحلُّ المعضلة المشهورة في الكافر إذا اجتهد في طلب الحق، وبذل وُسعَه في ذلك، راغبًا في معرفته، مُحِبًّا له، عازمًا على اتباعه إذا ظهر له، ولكنه لم يظهر له حقَّيَّة الإِسلام = أيكون ناجيًا لأنَّ الله تعالى يقول: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} أم لا؟ حُكي الإجماع على أنه لا ينجو، وخالف فيه بعض أهل العلم. وآية المجاهدة تدلُّ أنَّ مثل هذا لا يوجد؛ لأنه إذا كان بهذه الصفة هداه الله تعالى للإسلام، ولله الحمد. ويحتمل أن يكون قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} قيدًا لما قبله، أي

استمعوا للقرآن وأنصتوا له، راجين أن يهديكم الله تعالى للحق فيرحمكم، أي أنه لا يكفيكم الاستماع والإنصات بدون توطين النفوس على الرضا بالحق إذا تبيَّن، والله أعلم. ولما علم الله تعالى أن نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - قد يفهم مما تقدَّم، ومِن أمْرِ الله تعالى له في آيات كثيرة بالتبليغ أنَّ عليه أن يجهر بالقراءة دائمًا، ويؤكّد هذا عنده - صلى الله عليه وسلم - شدَّةُ حرصه على إيمان قومه = لما علم الله تعالى ذلك [ص 58] نبَّه رسوله على أنه لا يلزمه ذلك؛ فقال سبحانه: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ}، وقوله سبحانه: {وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ}؛ أي: ولا يحمِلْك حرصُك على إيمان قومك واشتغالك بدعوتهم على أن تغفل عن مناجاة ربك وذكره، وتلاوة كتابه، وإن لم يكن هناك من يسمع. ولا يحزنْك إعراضُ الكفار وإصرارهم على كفرهم واستكبارهم عن عبادة ربهم؛ فإنهم لا يضرُّون الله تعالى شيئًا. وقد وكَّل بعبادته من لا يعلم عددَهم غيرُه من جنوده: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف: 206]. ولا يخفى أنه على هذا التفسير لا يكون في آية الإنصات ما يتعلَّق بقراءة المأموم في الصلاة، والله أعلم. قال الشارح: (ويشهد لهذا المعنى - يعني أنَّ الآية نزلت في الصلاة أو لعمومها شاملة للصلاة - ما رواه أحمد ومسلم (¬1) عن أبي موسى قال: علَّمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا قمتم إلى الصلاة فلْيؤمَّكم أحدُكم، وإذا قرأ الإمام ¬

_ (¬1) "المسند" (19723) و"صحيح مسلم" (404).

فأنصتوا". وما رواه الخمسة (¬1) سوى الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما جُعِلَ الإمام ليؤتم به؛ فإذا كبَّر فكبِّروا، وإذا قرأ فأنصتوا"). أقول: إذا حُمِلت الآية على المعنى الثاني فلا حاجة للجواب عن هذا؛ لأنها في وادٍ والحديث في وادٍ، والاتفاق في بعض اللفظ لا يستلزم الاتفاق في المعنى. وإذا حملت على المعنى الأول تمسُّكًا بأقوال السلف، واعتصامًا بآثارهم فقد مرَّ الجواب. ولنبحث عن صحَّة هذا الحديث، ونسأل الله تعالى الإعانة والتوفيق. أما حديث أبي موسى فمداره على قتادة، ورواه عنه أبو عوانة وهشام ومعمر وهمَّام والحجَّاج بن الحجَّاج وغيرهم بدون تلك الزيادة، ورواه عنه سليمان التيمي بها (¬2). فمال مسلمٌ (¬3) إلى إثباتها؛ فإنه ذكرها وقال لمن كلَّمه فيها: "تريد أحفظ من سليمان! ". وفي "الجوهر النقي" (¬4) عن "علل الخلاَّل": أنَّ الإِمام أحمد قال: "من قال أخطأ التيمي فقد بَهَتَ التيمي". ¬

_ (¬1) "المسند" (9438) وأبو داود (604) والنسائي (2/ 141، 142) وابن ماجه (846). (¬2) انظر "علل الدارقطني" (7/ 252 - 254). (¬3) عقب الحديث رقم (404). (¬4) (2/ 155).

وقال أبو داود في "السنن" (¬1): وقوله: "فأنصتوا" ليس بمحفوظ؛ لم يجيء بها إلاَّ سليمان التيمي في هذا الحديث. وقال الدارقطني (¬2): هذه اللفظة [ص 59] لم يتابَع سليمان التيمي فيها عن قتادة، وخالفه الحفَّاظ فلم يذكروها. قال: وإجماعهم على مخالفته يدلُّ على وهمه. وقال الحافظ أبو علي النيسابوري (¬3): خالف جرير عن التيمي أصحابَ قتادة كلَّهم في هذا الحديث، والمحفوظ عن قتادة رواية هشام الدستوائي وهمَّام ... ورواه سالم بن نوح عن ابن أبي عروبة، وعمر بن عامر عن قتادة؛ فأخطأ فيه. ذكر هذا كلَّه البيهقي في "سننه" (¬4)، ثم ذكر رواية سالم بن نوح من طريق الدارقطني، وذكر قول الدارقطني: سالم بن نوح ليس بالقوي. اعترضه صاحب "الجوهر النقي" (¬5) فقال: "سالم هذا وإن قال الدارقطني: ليس بالقوي، فقد أخرج له مسلمٌ وابن خزيمة وابن حبان ... ". أقول: لم ينفرد الدارقطني بتوهين سالم؛ فقد قال الدوري عن ابن معين: ليس بشيءٍ، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتجُّ به، وقال النسائي: ¬

_ (¬1) عقب الحديث رقم (973). (¬2) انظر "العلل" (7/ 252 - 254) و"سنن الدارقطني" (1/ 331). (¬3) كما نقل عنه البيهقي في "السنن" (2/ 156). (¬4) في الموضع المذكور. (¬5) (2/ 155).

ليس بالقوي، وقال ابن عدي: عنده غرائب وأفراد، وأحاديثه محتملة متقاربة (¬1). ومع هذا فسالمٌ يرويه عن ابن أبي عروبة وعمر بن عامر، فأما ابن أبي عروبة فإنه ثقة، ولكنه اختلط بأخرة، ولا يُدرى متى سمع منه سالم، إن كان سمع. ثم هو - أعني ابن أبي عروبة - مدلس، فلا يُؤمَن أن يكون سمع الحديث من قتادة بدون هذه الزيادة كما أخرجه مسلمٌ، ثم سمع التيمي يذكر الحديث بتلك الزيادة؛ فسمعه منه بها ودلَّسه. وعمر بن عامر مختلفٌ فيه؛ ضعَّفه النسائي وغيره، وقوَّاه آخرون (¬2). فانحصر الأمر في زيادة التيمي، وهي زيادة ثقة على جماعة، والمشهور قبولها. وخالف في ذلك قومٌ؛ منهم ابن خزيمة. وقال السخاوي في "فتح المغيث" (¬3) في فصل تعارض الوصل والإرسال: "فالحق حسب الاستقراء من صنيع متقدَّمي الفن - كابن مهديًّ والقطَّان وأحمد والبخاري - عدمُ اطراد حكم كلِّي؛ بل ذلك دائرٌ مع الترجيح. فتارة يترجَّح الوصل، وتارة الإرسال، وتارة يترجَّح عدد الذوات على الصفات، وتارةً العكس. ومن تتبَّع أحكامهم الجزئية تبيَّن له ذلك ... مع أنَّ الشافعي يقول: العدد الكثير أولى بالحفظ من الواحد ... هذا حاصل ما أفاده شيخنا مع زيادة. ¬

_ (¬1) يراجع "تهذيب التهذيب" (3/ 443). (¬2) انظر المصدر السابق (7/ 467). (¬3) (1/ 203, 204) ط. الهند.

وسبقَه لكون ذلك مقتضى كلام الأئمة: العلائيُّ، ومِن قبله ابن دقيق العيد وغيرهما". أقول: ومثل ذلك يقال في الزيادة والنقصان؛ فإنَّ الوصل زيادة، والإرسال نقصان. [ص 60] وهذا هو الذي يظهر من صنيع المتقدِّمين؛ أنَّ العبرة عندهم بالترجيح؛ فتارةً تترجَّح الزيادة، وإن كان الذين لم يذكروها أكثر، وتارةً بالعكس. وذلك منوطٌ بنظر المجتهد الماهر في الفنِّ؛ فقد يقوم لديه من القرائن ما يجهله من ليس في درجته؛ بل ربَّما صعب على المجتهد التعبير عن تلك القرائن؛ كما ذكروه في المعلَّل. إذا تقرَّر هذا فقد اختلف الحفَّاظ في هذه الزيادة؛ زيادة: "وإذا قرأ فأنصتوا". فالذي أختاره التوقُّف عن قبولها وردَّها، والله الموفق. ثم رأيت في "جزء القراءة" (¬1) للبخاري، في الكلام على هذه الزيادة: "ولم يذكر سليمان في هذه الزيادة سماعًا من قتادة، ولا قتادة من يونس بن جبير". يعني: وسليمان وقتادة يدلِّسان. أقول: ولكن سليمان صرَّح بالتحديث في رواية ابنه المعتمر عنه، عند أبي داود (¬2). فأما قتادة فلم أقف على تصريحه بالتحديث؛ فإن كان صرَّح في بعض الروايات الخالية عن هذه الزيادة لم يكف ذلك؛ لأنه يحتمل أن يسمع ¬

_ (¬1) (ص 413). (¬2) رقم (973).

الراوي الحديث من الشيخ ثم يسمعه من آخر عنه. فلعلَّ قتادة سمع الحديث من أبي غلاب بدون الزيادة، وسمعه من آخر عنه بالزيادة؛ فرواه مرَّةً بهذه الزيادة عن أبي غلاب؛ يريد: حدثني رجل عن أبي غلاب؛ كما عُرِفَ في التدليس. فإن قيل: فإنَّ ذِكْر مسلم له في "صحيحه" (¬1)، وقد قالوا: إنَّ ما كان في "الصحيحين" من عنعة المدلَّسين محمول على السماع (¬2). قلت: قد ناقش في ذلك ابن دقيق العيد وغيره، ومن قال بذلك يخصُّه بغير المتابعات والشواهد. وبعدُ، فلا حاجة لتفصيل ذلك، بعد أن طعن إمام الفن البخاري في هذه الزيادة بتهمة التدليس، والله أعلم. وقد وقعت هذه الزيادة بعينها في حديث أبي هريرة كما ذكره الشارح؛ فرواه أبو داود (¬3) من طريق أبي خالد الأحمر عن ابن عجلان عن زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة. قال أبو داود: "زاد "وإذا قرأ فأنصتوا"، قال أبو داود: وهذه الزيادة "إذا قرأ فأنصتوا" ليست بمحفوظة، الوهم عندنا من أبي خالد". أقول: أبو خالد قال فيه ابن معين: صدوق، وليس بحجَّة. وقال ابن عدي: له أحاديث صالحة، وإنما أُتيَ من سوء حفظه؛ فيغلط ويخطئ، وهو ¬

_ (¬1) رقم (404). وخبر "إنّ" مفهوم مما يأتي. (¬2) "تدريب الراوي" (1/ 230). (¬3) رقم (604).

في الأصل كما قال ابن معين: صدوق وليس بحجَّة. وقال أبو بكر البزَّار في كتاب "السنن": ليس ممن يلزم بزيادته حجة؛ لاتفاق أهل العلم بالنقل أنه لم يكن حافظًا، وأنه قد روى أحاديث عن الأعمش وغيره لم يتابع عليها (¬1). ولكن قد تابع أبا خالد محمدُ بن سعد الأنصاري الأشهلي عند النسائي (¬2)، والأشهلي ثقة. وتابعه أيضًا إسماعيل بن أبان - هو الغنوي - عند البيهقي (¬3). ولكن إسماعيل متفق على تركه؛ رماه ابن معين وابن حبان بوضع الحديث، وقال أحمد: روى أحاديث موضوعة، وقال أبو داود: كان كذَّابًا (¬4). وتابعه أبو سعد محمَّد بن ميسَّر الصاغاني عند الدارقطني (¬5)، وقال: ضعيف. فالعمدة على متابعة الأنصاري. وقد روى البيهقي (¬6) عن الحاكم عن الدوري قال: سمعت يحيى بن معين يقول في حديث ابن عجلان "إذا قرأ فأنصتوا": ليس بشيءٍ. وعن أحمد بن محمَّد بن الحارث عن أبي الشيخ عن ابن أبي حاتم ¬

_ (¬1) "تهذيب التهذيب" (4/ 181، 182). (¬2) (2/ 142). (¬3) في "السنن الكبرى" (2/ 156). (¬4) "تهذيب التهذيب" (1/ 271). (¬5) في "السنن" (1/ 330). (¬6) في "السنن الكبرى" (2/ 156، 157).

قال: سمعت أبي، وذكر هذا الحديث؛ فقال أبي: ليست هذه الكلمة محفوظة؛ هي من تخاليط ابن عجلان (¬1). قلت: ابن عجلان ثقةٌ عندهم؛ ولكن حكى عنه القطَّان حكايةً (¬2) تدلُّ على سوء حفظه في الجملة، وعلى تدليس. وفي "الميزان" (¬3): قال الحاكم: أخرج له مسلمٌ في كتابه ثلاثة عشر حديثًا كلها شواهد، وقد تكلَّم المتأخرون من أئمتنا في سوء حفظه. وقال الذهبي (¬4): وقد روى عن أنس؛ فما أدري هل شافه أنسًا، أو دلَّس عنه. [ص 61] وذكره الحافظ ابن حجر في "طبقات المدلِّسين" (¬5) في الطبقة الثالثة في من أكثر من التدليس؛ فلم يحتجَّ الأئمة من أحاديثهم إلاَّ بما صرَّحوا فيه بالسماع. وقال: وصفه ابنُ حبان بالتدليس. وذكر البيهقي (¬6) أنَّ خارجة بن مصعب ويحيى بن العلاء الرازي تابعا ابن عجلان، وهذا لا يفيد؛ فإنهما هالكان. ولعلَّ ابن عجلان دلَّس الحديث عن أحدهما أو غيرهما. ¬

_ (¬1) المصدر السابق. (¬2) انظر "تهذيب التهذيب" (9/ 342). (¬3) (3/ 644). (¬4) في "الميزان" (3/ 647). وقال في "السير" (6/ 318): "قيل إنه روى عن أنس بن مالك، وذلك ممكن إن صح". (¬5) (ص 149 - 150). (¬6) في "السنن الكبرى" (2/ 157).

فالراجح ردّ هذه الزيادة. فأما مسلمٌ - رحمه الله - فإنه وقع في بعض نُسَخ "صحيحه" زيادة زادها الراوي عنه أبو إسحاق إبراهيم بن سفيان، بعد ذكر حديث التيمي (¬1). وحاصلها: أنَّ أبا بكر بن [أخت] أبي النضر تكلَّم في زيادة التيمي؛ فقال له مسلم: تريد أحفظ من سليمان؟ فسأله عن حديث أبي هريرة - يعني بزيادة ابن عجلان - فقال: هو عندي صحيح، فقال: لِمَ لَمْ تضعه ههنا؟ يعني في "الصحيح"؛ فقال: ليس كل شيءٍ عندي صحيح وضعتُه ههنا، إنما وضعت ما أجمعوا عليه. أقول: فهذه مذاكرة، والعالم لا يحتاط في المذاكرة احتياطه في التصنيف ونحوه، ومع ذلك فقوله: "إنما وضعت ههنا ما أجمعوا عليه" مشكلٌ. وقد ذكر النووي في مقدمة "شرح مسلم" (¬2) أنَّ ابن الصلاح أجاب عنه بجوابين، ثم قال ابن الصلاح: "ومع هذا فقد اشتمل كتابه على أحاديث اختلفوا في إسنادها ومتنها لصحتها عنده، وفي ذلك ذهولٌ منه عن هذا الشرط أو سبب آخر، وقد استُدرِكت وعُلِّلت". أقول: وعبارة مسلم المذكورة تدلُّ أنَّ هذه الزيادة عنده أنزلُ درجةً من كل ما ذكره في "الصحيح"؛ حتى على سبيل المتابعة والشواهد، وهذا كما ترى. ¬

_ (¬1) رقم (404/ 63). (¬2) (1/ 16). وانظر "صيانة صحيح مسلم" (ص 13).

وعلى كل حال فالراجح ردُّ هذه الزيادة، والله أعلم. ثم اعلم أنَّ حديث أبي هريرة في "الصحيح" (¬1) من طرقٍ بدون هذه الزيادة، وفي "الصحيح" أيضًا من حديث عائشة (¬2) وأنس (¬3) وجابر (¬4) نحو حديثه بدون هذه الزيادة، وفي حديث هؤلاء ما حاصله أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - اشتكى؛ فصلَّى جالسًا فصلُّوا خلفه، فأشار إليهم أن يقعدوا، فلمَّا سلَّم قال: فذكروا الحديث. وبيَّن أنس سبب الشكوى، وهو أنه - صلى الله عليه وسلم - سقط عن فرس؛ فجُحِشَ شِقُّه الأيمن. قال في "الفتح" (¬5): وأفاد ابن حبان أنَّ هذه القصة كانت في ذي الحجة سنة خمس من الهجرة. وإذا صحَّ هذا فأبو هريرة لم يشهد القصة؛ لأنه إنما أسلم سنة سبع، وإنما سمعها من غيره من الصحابة المتقدمين؛ كما يقع مثل ذلك كثيرًا. ولم يصرَّح أبو هريرة بالسماع من النبي - صلى الله عليه وسلم -. إذا تقرَّر هذا فلو صحَّت تلك الزيادة وصحَّت دلالتها على نهي المأموم عن القراءة مطلقًا، أو في الجهرية فقط، لأمكن أن يقال: هي منسوخة ¬

_ (¬1) البخاري (722، 734) ومسلم (414). (¬2) البخاري (688، 1113، 1236) ومسلم (412). (¬3) البخاري (689، 732 ومواضع أخرى) ومسلم (411). (¬4) مسلم (413). (¬5) (2/ 178). وانظر "صحيح ابن حبان" (5/ 492).

بأحاديث إيجاب الفاتحة [ص 62]؛ فإنَّ منها ما يُعلم أنه متأخر عن هذا التأريخ؛ كما تقدَّم في المسألة الأولى. وأما حديث أبي موسى فهو متأخر عن هذا التاريخ حتمًا؛ لأنه إنما قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - أيام خيبر، وقد صرَّح في حديثه بقوله (¬1): "إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبنا؛ فبيَّن لنا سنَّتنا، وعلَّمنا صلاتنا؛ فقال ... " الحديث. فإن صحَّت تلك الزيادة فيه فالإنصات عند أهل اللغة قد يطلق على ترك الجهر؛ كما تقدَّم عن الواحدي مع شواهده. نعم، الظاهر أنَّه بهذا الإطلاق مجاز ولكن قد قدمنا بيان القرينة الدالة عليه في الآية، فلنا: أن نقول بأنه في الحديث- إن صحَّ - مجاز، جمعًا بينه وبين أدلَّة وجوب الفاتحة. ومثل هذا الجمع أولى من النسخ. ولنا أن نسلِّم أنه على حقيقته؛ وهي السكوت لأجل الاستماع، ثم نقول: السكوت الذي تضمنه الإنصاف عبارة عن ترك الكلام. فقوله: "أنصتوا" في قوة قولنا: "اتركوا الكلام لكي تسمعوا". والكلام في هذا عام، قراءة الفاتحة فردٌ من أفراده، وحديث مكحول عن محمود ونافع عن عبادة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خاص، وقد عضدَه عمومات كثيرة وما قدمناه عن الصحابة رضي الله عنهم؛ فوجب العمل به. على أنه لو لم يصحَّ حديث مكحول لوجب أيضًا تخصيص الكلام الذي نُهِي عنه في قوله: {وَأَنْصِتُوا} بتلك العمومات الكثيرة؛ لأنَّ تخصيص عموم دليل أولى من تخصيص عموم دليلين، وتخصيص عموم ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (404).

دليلين أولى من تخصيص عموم ثلاثة أدلة، وهكذا. ولأنَّ الأمر بالفاتحة مشدَّدٌ فيه بأنه لا صلاة إلاَّ بها، ونحو ذلك، والأمر بالإنصات غير مشدَّدٍ فيه للاتفاق أنه لو لم ينصت لم تبطل صلاته. لا يقال: إنَّ لعموم الكلام المنهي عنه بالإنصات مرجحًا أيضًا؛ وهو أنه لم يخصَّص قبل هذا. فإننا نقول: بل قد خُصَّص بحديث "الصحيحين" (¬1): "من نابَه شيءٌ في صلاته فليسبِّح"، وأحاديث الفتح على الإمام. مع أنَّنا نختار ما اختاره البخاري وجماعة من الشافعية أنَّ المأموم إذا لم يقرأ الفاتحة لا يدرك الركعة وإن أدرك الإِمام راكعًا (¬2). وعلى هذا فتكون أحاديث إيجاب الفاتحة غير مخصَّصة إلاَّ بما هو في قوة الاستثناء المتصل كما قدَّمنا ذلك، وذلك لا يضر. وهذا الكلام بعينه يجيء في تخصيص آية الإنصات؛ على تسليم أنَّ الانصات فيها على حقيقته، وأنها في أمر المأمومين بالإنصات للإمام، والله أعلم. [ص 63] وأما حديث ابن شهاب عن ابن أكيمة الليثي عن أبي هريرة: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - انصرف من صلاةٍ جهر فيها بالقرآن؛ فقال: هل قرأ معي أحدٌ منكم آنفًا؟ فقال رجل: نعم، أنا يا رسول الله؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إني ¬

_ (¬1) البخاري (684، 1234) ومسلم (421) من حديث سهل بن سعد الساعدي. (¬2) للمؤلف في هذا الموضوع رسالة ضمن هذه المجموعة.

أقول ما لي أُنازَع القرآن" (¬1). وبُيِّن في روايةٍ (¬2): أنَّ تلك الصلاة كانت الصبح. وفي بعض الروايات (¬3) زيادة: "فانتهى الناس عن القراءة فيما جهر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". وقد أخرج [ص 64] أبو داود (¬4) هذا الحديث عن القعنبي عن مالك عن ابن شهاب قال في آخره: "فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما جهر فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقراءة من الصلوات؛ حين سمعوا ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". ثم أخرجه (¬5) عن مسدَّد، وأحمد بن محمَّد المروزي، ومحمد بن أحمد بن أبي خلف، وعبد الله بن محمد الزهري، وابن السرح عن سفيان عن الزهري؛ فذكره بدون هذه الزيادة. ثم قال: قال مسدَّد في حديثه: قال معمر: "فانتهى الناس ... "، وقال ابن السرح في حديثه: قال معمر عن الزهري قال أبو هريرة: "فانتهى الناس". وقال عبد الله بن محمد الزهري من بينهم: قال سفيان: "وتكلَّم الزهري بكلمة لم أسمعها"؛ فقال معمر: "إنه قال: فانتهى الناس". ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) هي رواية أبي داود (827). (¬3) في "الموطأ" (1/ 86) وغيره. (¬4) رقم (826). (¬5) أي أبو داود (827).

قال أبو داود: ورواه عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري، وانتهى حديثه إلى قوله: "ما لي أُنازع القرآن". ورواه الأوزاعي عن الزهري قال فيه: قال الزهري: "فاتعظ المسلمون بذلك؛ فلم يكونوا يقرؤون معه فيما يجهر به - صلى الله عليه وسلم - ". قال أبو داود: سمعت محمد بن يحيى بن فارس قال: قوله: "فانتهى الناس" من كلام الزهري. وأخرجه البخاري في "جزء القراءة" (¬1) عن عبد الله بن محمد عن الليث عن يونس عن ابن شهاب، وفيه: "قال: فانتهى الناس ... ". قال البخاري (¬2): وقوله: "فانتهى الناس" من كلام الزهري، وقد بيَّنه لي الحسن بن صبَّاح قال: حدثنا مبشِّر عن الأوزاعي قال الزهري: فاتعظ المسلمون ... وقال مالك: قال ربيعة للزهري: "إذا حدثتَ فبيِّنْ كلامك من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - ". ثم رواه (¬3) عن [أبي] الوليد عن الليث عن الزهري؛ فذكره بدون تلك الزيادة. أقول: يبقى النظر في ما قاله ابن السرح، والظاهر أنه سمع سفيان يقول ما ذكره عبد الله بن محمد الزهري. ففهم من ذلك أنَّ تلك الزيادة من تمام الحديث، وخشي إن قال كما قال مسدَّد، أن يكون ظاهر ذلك أنَّ هذه الزيادة ¬

_ (¬1) (ص 227). (¬2) (ص 230). (¬3) (ص 231).

من قول معمر؛ فعبَّر عبارة صريحة بما فهمه، بناءً على جواز الرواية بالمعنى. وفي صحَّة هذا الحديث كلام؛ قال البيهقي (¬1): "راويه ابن أُكيمة الليثي، وهو رجلٌ مجهولٌ لم يحدِّث إلاَّ بهذا الحديث وحده، ولم يحدِّث عنه غير الزهري، ولم يكن عند الزهري من معرفته أكثر من أنْ رآه يحدِّث سعيد بن المسيِّب". ثم أسند (¬2) عن الحميدي شيخ البخاري [ص 65] قال: "هذا حديث رواه رجل مجهول، ولم يرو عنه غيره قطُّ". اعترضه صاحب "الجوهر" (¬3)؛ فقال: "أخرج حديثه ابن حبان في "صحيحه" (¬4)، وحسَّنه الترمذي (¬5)، وقال: اسمه عُمارة، ويقال: عمرو. وأخرجه أيضًا أبو داود (¬6)، ولم يتعرَّض له بشيءٍ، وذلك دليل على حسنه عنده؛ كما عُرِف. وفي "الكمال" لعبد الغني: روى عن ابن أُكيمة مالك ومحمد بن عمرو، وقال ابن سعد (¬7): توفي سنة إحدى ومئة، وهو ابن تسع وسبعين. ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (2/ 159). (¬2) المصدر نفسه. (¬3) "الجوهر النقي" (2/ 158). (¬4) رقم (1849). (¬5) عقب الحديث رقم (312). (¬6) رقم (826). (¬7) "الطبقات" (5/ 249).

وقال ابن أبي حاتم (¬1): سألت أبي عنه؛ فقال: صحيح الحديث، حديثه مقبول. وقال ابن حبان في "صحيحه" (¬2) اسمه عَمْرو، هو وأخوه عُمر ثقتان. وقال ابن معين (¬3): روى عنه محمد بن عمرو وغيره، وحسبك برواية ابنِ شهاب عنه. وفي "التمهيد" (¬4): كان يحدَّث في مجلس سعيد بن المسيِّب؛ وهو يصغي إلى حديثه، وبحديثه قال ابن شهاب (¬5)، وذلك دليل على جلالته عندهم وثقته" (¬6). قلت: وتتمة عبارة ابن سعد (¬7): روى عنه الزهري حديثًا واحدًا؛ ومنهم من لا يحتج بحديثه، ويقول: هو [شيخ] مجهول. وفي "التهذيب" (¬8): وقال أبو بكر البزَّار: ابن أكيمة ليس مشهورًا بالنقل، ولم يحدِّث عنه إلاَّ الزهري. ¬

_ (¬1) "الجرح والتعديل" (6/ 362). (¬2) (5/ 159). (¬3) انظر "التمهيد" (11/ 22، 90). (¬4) (11/ 22، 23). (¬5) في الأصل تبعًا للجوهر النقي: "وتحديثه قال هو ابن شهاب" والتصويب من "التمهيد". (¬6) إلى هنا انتهى النقل من "الجوهر النقي". (¬7) في "الطبقات" (5/ 249). (¬8) "تهذيب التهذيب" (7/ 411).

وقد حقَّق في "تهذيب التهذيب" (¬1) أنَّ الذي روى عنه الزهري اسمه عمارة بن أكيمة، ولم يرو عنه غير الزهري، وأما الذي روى عنه مالك ومحمد بن عمرو؛ فذاك حفيده عَمْرو بن مسلم بن عمارة. أقول: والحق أنه وإن لم يرو عنه إلاَّ ابن شهاب؛ فإنَّ ذلك مع شهرة الرجل كافٍ في معرفته، رافع لجهالة عينه، وتبقى جهالة حاله. وقد قال ابن معين: كفاك بقول الزهري: سمعت ابنَ أُكيمة يحدِّث سعيدَ بن المسيِّب. وقال الدوري عن يحيى: ثقة، وقال أبو حاتم: صالح الحديث مقبول؛ كذا في "تهذيب التهذيب" (¬2). وقال صاحب "الجوهر" (¬3): "صحيح" بدل: "صالح". وذكره ابن حبان في "الثقات" (¬4)، وأخرج له في "صحيحه" (¬5)، وإن خبط في اسمه ونسبه، وزعم أنَّ حفيده أخوه. وحسَّن الترمذيُّ حديثَه. ومنشأ ما قاله هؤلاء أمران: الأول: أنَّ الزهري سمعه يحدِّث سعيد بن المسيِّب؛ فاستدلَّ ابن معين ¬

_ (¬1) في الموضع السابق. (¬2) (7/ 410، 411). (¬3) (2/ 158). وفي "الجرح والتعديل" (6/ 362) كما في "الجوهر النقي". (¬4) (5/ 242). (¬5) (5/ 159). قال: "اسم ابن أُكيمة: عمرو بن مسلم بن عمّار بن أُكيمة، وهما أخوان: عمرو بن مسلم وعمر بن مسلم". وهذا خطأ لم يوافقه عليه أحد.

بهذا على أنه كان مقبولاً عند ابن المسيِّب. فأما رواية الدوري فيردُّ عليها أنَّ ابن معين كان يظنُّ أنَّ هذا الرجل - أعني ابن أُكيمة - هو وحفيده واحد؛ ولذلك قال: "روى عنه محمد بن عمرو وغيره". ويحتمل أنه إنما عرف الثقة في الذي روى عنه محمد بن عمرو، وظنَّه شيخ الزهري. وهذا الاحتمال مانع من العمل بتوثيقه. الثاني: أنهم لم يستنكروا حديثه، وهذا الأمر هو حاصل عبارة أبي حاتم، وعمدة ابن حبَّان؛ فإنه يوثِّق المجهول الذي يروي عن ثقة، ويروي عنه ثقة؛ إذا كان حديثه غير منكر، ويُخرِّج له في "صحيحه". وأما الترمذي فإنه متساهلٌ في التحسين؛ حتى قال الذهبي في تصحيحه وتحسينه ما قال. [ص 66] فأما الأمر الأول فالمنصف يعلم أنَّ مثله لا يكفي في التوثيق؛ فقد يكون ابن المسيِّب يجهل حال هذا الرجل، ورأى أنَّ حديثه يمكن أن يكون صحيحًا بالتأويل الذي سنذكره إن شاء الله تعالى، ومنعه تواضعه وكرم أخلاقه أن يستقبل ابن أكيمة بما يكره مع احتمال صحَّة حديثه. وقد وقع لغير ابن أكيمة كما وقع له فلم يُعدَّ ذلك توثيقًا؛ فقد روى الزهري عن أبي الأحوص مولى بني ليث عن أبي أيوب وأبي ذر وغيرهما. وقال الزهري في بعض الروايات الصحيحة عنه: سمعت أبا الأحوص مولى بني ليث في مجلس ابن المسيَّب، ومع ذلك قال الدوري عن ابن معين: ليس بشيء. فقال ابن عبد البر (¬1): قد تناقض ابن معين، وذكر قوله في ابن أكيمة؛ ¬

_ (¬1) كما في "تهذيب التهذيب" (12/ 5).

قال: فيلزمه مثل هذا في أبي الأحوص. أقول: ليس هذا اللزوم بأولى من عكسه؛ بل العكس أولى، وهو أنه يلزمه أن يقول في ابن أكيمة مثل قوله في أبي الأحوص، والله أعلم. وأما الأمر الثاني فالاستناد إليه في التوثيق ضعيف جدًا؛ فإنَّ الضعيف والكذَّاب قد يروي حديثًا ليس بمنكر. فإذا لم يروِ الرجل إلاَّ حديثًا واحدًا، وكان غير منكر؛ فأنَّى يُعلَمُ بذلك أنه ثقة؟ على أنَّ الأفهام تختلف في الحكم بالنُّكْرة، وقد لا يستنكر العالم الحديث؛ لأنه ينزِّله على معنى معروف، فيصحِّحه بناءً على ذلك؛ فيجيء من يتمسَّك بالحديث وينزِّله على معنى آخر. [ص 67] وإن حكمنا بتوثيق ابن أكيمة فقد علمتَ أنَّ زيادة "فانتهى الناس" إلخ مدرج من قول الزهري؛ فلا يبقى إلاَّ سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه: "هل قرأ معي أحدٌ منكم آنفًا؟ "، وقول أحدهم: نعم، أنا يا رسول الله، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وأنا أقول ما لي أنازع القرآن". فقوله - صلى الله عليه وسلم -:"هل قرأ ... " إلخ، صريح في أنهم لم يكونوا قبل ذلك مأمورين بالقراءة التي سألهم عنها؛ إذ لو كانوا مأمورين لما كان للسؤال وجهٌ؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - يعلم أنهم لا يذرون ما هو واجبٌ عليهم. ويؤيِّد هذا قوله: "أحدٌ"، فإنه ظاهرٌ أنهم لم يكونوا مأمورين؛ بل ظاهر أنهم كانوا منهيين عن القراءة التي سألهم عنها. ولهذا علم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم لا يقرؤون تلك القراءة، وإنما ظنَّ أنَّ بعضهم لم يبلغه النهي أو نسي. ويؤكِّد ذلك أنه لم يجبه إلاَّ رجلٌ واحدٌ، قال: نعم، أنا يا رسول الله.

ويزيده وضوحًا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وأنا أقول ما لي أنازع القرآن"؛ فإنَّ هذا تعجُّبٌ؛ كما قاله أهل المعاني وغيرهم في قوله تعالى: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ} [النمل: 20]. ولا يخفى أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعلم أنَّ القراءة معه تقتضي المنازعة، فلو كان يعلم أنهم مأمورون بالقراءة لعلم أنهم قرأوا، وأن المنازعة حصلت بسبب قراءتهم؛ فكيف يتعجَّب. فقد بان أنَّ القراءة التي حصلت بها المنازعة وسألهم عنها قراءة لم يكونوا مأمورين بها قبل ذلك. وقد زعم الشارح أنَّ الاستفهام الأول للإنكار، وقد يقول هو أو غيره في الثاني - أعني قوله: {مَا لِيَ} - إنه للإنكار أيضًا. وهذا مدفوع؛ أما في الأول فلأنه إخراج للاستفهام عن حقيقته بدون حجة، ولأنه لو كان إنكاريًّا لما أجابه أحدهم بقوله: نعم، أنا يا رسول الله؛ لأنَّ الاستفهام الإنكاري لا يستدعي الجواب. وأما الثاني فلأنَّ قوله: "وأنا أقول" يدفع احتمال الإنكار؛ لأنَّ ظاهره: وأنا أقول حال المنازعة في نفسي، وذلك ظاهرٌ في التعجُّب. وهبْ أنَّ الاستفهامين للإنكار فلا بد من القول بأنهم لم يكونوا مأمورين بتلك القراءة؛ لأنَّ الاستفهام الإنكاري على ضربين. الأول: الإبطالي، وهو يقتضي أنَّ ما بعد أداة الاستفهام غير واقع، وأنَّ مدَّعيه كاذبٌ.

والضرب الثاني: التوبيخي؛ وهو يقتضي أنَّ ما بعد أداة الاستفهام واقعٌ، وأنَّ فاعله ملومٌ [ص 68]، قاله ابن هشام في "المغني" (¬1) وغيره. وهو معلومٌ من تتبُّع موارد إلاستفهام الإنكاري في الكتاب والسنة وكلام العرب. والضرب الأول لا معنى لادعائه هنا؛ فلم يبقَ إلاَّ الضرب الثاني، ولا ريب أنهم لو كانوا مأمورين بتلك القراءة التي أوجبت المنازعة لما استحقُّوا أن يوبّخوا عليها. بل إذا طرأ النسخ حينئذٍ يقول لهم - صلى الله عليه وسلم -: "كنت أمرتكم فلا تفعلوا" أو نحو ذلك؛ كقوله: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها" (¬2). فتبيَّن أنه على تقدير الاستفهام إنكاريًّا يلزم من ذلك أنهم لم يكونوا مأمورين بتلك القراءة. إذا تقرَّر هذا فهناك احتمالان: أحدهما: أن يكون المراد بالقراءة في قوله: "هل قرأ" ما يصدق بالفاتحة، ويكونوا لم يؤمروا بقراءة الفاتحة معه إذا جهر أصلاً، أو يكونوا قد أُمِروا أولاً، ثم نُهوا عنها قبل هذه الواقعة. الثاني: أن يكون المراد بالقراءة غير الفاتحة. قد يرجَّح الاحتمال الأول بأنَّ ظاهر السؤال الإطلاق، ويرد بأنَّ الصرف عن مثل هذا الظاهر متعيِّنٌ إذا كانت هناك قرينةٌ. فإن قيل: وما القرينة؟ ¬

_ (¬1) (1/ 11, 12). (¬2) أخرجه مسلم (1977) من حديث بريدة.

قلت: ما قدَّمناه من الأدلة على وجوب الفاتحة على المأموم وإن جهر إمامُه. فإذا كان الصحابة عالمين بأنَّ الفاتحة واجبة عليهم، وأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم أنهم لا يَدَعونها، ثم سمعوه يسألهم ذلك السؤال ويتعجَّب ذلك التعجُّب؛ فإنهم يفهمون أنه لا يريد الفاتحة، وإنما يريد قراءة لم يكونوا مأمورين بها. فإن قيل: قد يجوز أن يكون قد سبق قبل هذه الواقعة نصٌّ يخصِّص الأدلة العامة وينسخ الخاصة. قلت: مجرَّد احتمال؛ مع أنَّ من النصوص الخاصة قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ} كما تقدَّم، والقرآن لا يُنسخ بخبر الواحد الصريح؛ فضلاً عن مجرَّد الاحتمال. لعلك لا تسلم دلالة الآية فلا حرج، ولكن عموم الأدلة العامة لا تستطيع إنكاره، وتخصيص تلك الأدلة المتضافرة بمجرَّد هذا الاحتمال لا يسوغ. فإن قلت: لكن هذا الاحتمال يؤيده إطلاق اللفظ. قلت: إنما يلزمنا التشدُّد في المحافظة على ظاهر اللفظ إذا كان من القواعد التشريعية العامة؛ كقوله: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب"، وقوله: "كل صلاة لا يُقرأ فيها بأمِّ القرآن فهي خداج"، ونحو ذلك. فأما ما كان محاورة مع المخاطبين مثل هذا السؤال فلا. وكلام النبي - صلى الله عليه وسلم - كله حقٌ؛ ولكن النصوص التشريعية العامة يُحتاط لها ما لا يُحتاط للمحاورات الخاصة. [ص 69] فإنه - صلى الله عليه وسلم - يعتمد في هذه على القرائن التي يعلمها المخاطب، وإن لم يكن في ظاهر اللفظ دلالةٌ عليها.

فإن قيل: الظنُّ بالراوي أنه لو كانت هناك قرينة لبيَّنها. قلت: والظنُّ به أنه لو لم تكن قرينة لما خالف ظاهر اللفظ. وقد ثبت في "صحيح مسلم" (¬1) وغيره عن أبي هريرة أنه كان يفتي بوجوب القراءة على المأموم وإن جهر الإِمام، ومع ذلك فلعلَّه اتكل على الأدلة المتضافرة في وجوب الفاتحة فرأى أنها تغني عن القرينة. فإن قيل: الأصل عدم القرينة. قلت: والأصل عدم التخصيص والنسخ. هذا، وقد عُلم من القصة أنه لم يقرأ تلك القراءة في تلك الواقعة إلاَّ رجلٌ واحد؛ فما ظنك بالصحابة رضي الله عنهم بعد هذه الواقعة؛ أظنك تجزم بأنه لا يعود لتلك القراءة أحدٌ منهم، فاسمع الآن: ثبت عن جماعةٍ من الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يقرؤون ويفتون بالقراءة بعد الإِمام في الجهرية بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2). منهم: أبو هريرة راوي القصة، وأمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وراوي حديث: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" عبادة بن الصامت؛ شهد العقبتين وبدرًا والمشاهد، وهو أحد النقباء. وعن جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم- القراءة خلف الإِمام مطلقًا. منهم: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وأمّ المؤمنين عائشة، وسيِّد ¬

_ (¬1) رقم (395) و (396). (¬2) سيأتي ذكر مصادر هذه الآثار مجتمعةً بعد صفحتين.

المسلمين أُبي بن كعب، وصاحب السرِّ حذيفة بن اليمان، وأبو سعيد الخدري، وأنس بن مالك، وهشام بن عامر. وعن جماعةٍ منهم القراءة خلف الإِمام في الظهر والعصر، ولم ينفوا ما سوى ذلك. منهم: عبد الله بن مغفَّل، وعبد لله بن الزبير، وعبد الله بن عَمْرو بن العاص. واختلفت الرواية عن الحبر عبد الله بن مسعود، والبحر عبد الله بن عباس، والقانت عبد الله بن عمر بن الخطاب، وجابر بن عبد الله، وأبي الدرداء. وجاء عن زيد بن ثابت وحده أنه قال: "لا قراءة مع الإِمام في شيءٍ" ولم يُنقل عنه خلاف ذلك، وقد يحتمل أنه أراد قراءة ما عدا الفاتحة. وقال القاسم بن محمد: كان ابن عمر لا يقرأ خلف الإِمام؛ جهر أو لم يجهر. وكان رجال أئمة يقرؤون وراء الإمام. قلت: وقد روي عن ابن عمر القراءة؛ فهي ممن اختلفت عنه الرواية، وقد يحتمل أنه أراد: لا يقرأ زيادة على الفاتحة. وكذا يحتمل ما نقل عن ابن مسعود وابن عباس وأبي الدرداء. فأما ما صحَّ عن جابر من قوله: "من صلَّى ركعةً لم يقرأ فيها بأم القرآن فلم يصلَّ، إلاَّ وراء الإِمام"؛ فقد يجوز أن يكون أراد بالاستثناء المسبوق فقط. وهذا الحمل خلاف الظاهر؛ ولكن يجوز ارتكابه جمعًا بين ما ثبت عنهم وعن غيرهم، وتوفيقًا بين قولهم وبين ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.

وقال البخاري (¬1): "وقال ابن خُثيم: قلت لسعيد بن جبير: أَقْرأُ خلف الإِمام؟ [ص 70]، قال: نعم، وإن كنت تسمع قراءته؛ فإنهم قد أحدثوا ما لم يكونوا يصنعونه، إنَّ السلف كان إذا أمَّ أحدهم الناس كبَّر ثم أنصت حتى يظنَّ أنَّ من خلفه قرأ بفاتحة الكتاب، ثم قرأ وأنصتوا". انظر أسانيد هذه الآثار في "جزء القراءة" للبخاري (¬2) و"سنن الدارقطني" (¬3) و"السنن الكبرى" للبيهقي (¬4). فقل لي الآن: أتراهم كانوا قد لهوا عن قراءة الفاتحة خلف الإِمام إذا جهر قبل واقعة حديث ابن أُكَيمة؛ فامتثلوا حتى لم يقرأ في تلك الصلاة إلاَّ رجل واحدٌ، ثم أكَّد النهي في ذلك الحديث، ثم خالفوه كما رأيت؟ فإن جوَّزتَ ذلك عليهم فبأيٍّ عقلٍ تمنع أن يسكت أحدهم عن بيان القرينة الصارفة، اتكالًا على ما تكاثر وتضافر من الأدلة على ما يخالف ذلك الظاهر الضعيف، وعلى ما عُرِفَ من مذهبه ومذهب غيره؟ ولعلَّه ذكر القرينة ولكن أهملها ابن أُكيمة ذلك الرجل الذي لم يحدِّث إلاَّ بهذا الحديث الواحد، ولم يُعرف من عدالته أكثر من كونه حدَّث في مجلس سعيد بن المسيِّب، وهذا إن دلَّ على عدالته بعد اللتيا والتي لا يدلُّ على ضبطه. ¬

_ (¬1) في "جزء القراءة" (ص 428). (¬2) (ص 115 وما بعدها، وص 147 وما بعدها). (¬3) (1/ 317 وما بعدها). وانظر "مسائل الكوسج" (9/ 4637) و"مسائل حرب" (ص 131). (¬4) (2/ 167 وما بعدها). وانظر أيضًا "المصنّف" لابن أبي شيبة (1/ 373 وما بعدها) "والقراءة خلف الإِمام" للبيهقي (ص 90 وما بعدها).

أبمثل هذا تُنْطَح جبال الأدلة، وتُرْجَم أركانُ الملَّة؟ هيهات، هيهات! ونقل الحازمي في "الاعتبار" (¬1) عن الحميدي كلامًا ذكر فيه أنَّ حديث ابن أكيمة عن أبي هريرة - يعني على فرض صحَّته - منسوخ بحديث عبادة؛ لأنَّ فتوى أبي هريرة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - بوجوب القراءة خلف الإِمام ولو جهر دليلٌ على تقدُّم حديثه على حديث عبادة. أقول: ويؤيده عمل عبادة، وفتواه طبق حديثه، وكذا جمهور الصحابة رضي الله عنهم كما تقدَّم. وقد زعم الشارح أنه يبعد أن يكون حديث عبادة متأخرًا؛ لأنَّ فيه أنهم كانوا يقرؤون الفاتحة وغيرها هذًّا؛ فكيف يُظنُّ بهم أن يفعلوا ذلك بعد حديث ابن أكيمة. والجواب: بأنَّهم قد بَقُوا يقرؤون الفاتحة ويأمرون بها ولو في الجهرية بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومنهم أبو هريرة نفسه. فإذا وقع ذلك منهم بالفعل، وأنت تجوِّز أن يكون حديث ابن أكيمة متأخرًا مطلقًا لم يُنسخ؛ فكيف تستبعد أن يقع من بعضهم مثل ذلك؟ ومع هذا فالأولى ما قدَّمناه، ويظهر منه أنَّ حديث عبادة متقدِّم؛ فلما سمعوه انتهوا عن قراءة غير الفاتحة وحافظوا على الفاتحة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عبادة: "لا تفعلوا - أي لا تقرؤوا فيما جهرت به - إلاَّ بفاتحة الكتاب؛ فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها"، ثم في واقعة حديث ابن أكيمة قرأوا كلهم الفاتحة، وزاد أحدهم فقرأ غيرها مع النبي - صلى الله عليه وسلم - السورةَ التي قرأها بعدها؛ ¬

_ (¬1) (ص 73 - 75).

[ص 71] كأنَّ هذا الرجل لم يبلغه حديث عبادة أو غفل عنه؛ فأحسَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه ينازع في السورة؛ فدلَّه ذلك على أنَّ رجلاً ممن بعده يقرأ معه السورة. كما وقع نظير ذلك في حديث عمران بن حصين في "صحيح مسلم" (¬1): صلَّى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الظهر أو العصر؛ فقال: "أيكم قرأ خلفي بسبِّح اسم ربِّك الأعلى؟ "؛ فقال رجلٌ: أنا، ولم أُرِدْ بها إلاَّ الخير، قال: "قد علمتُ أنَّ بعضكم خالجنيها". ولكنه - صلى الله عليه وسلم - في واقعة حديث ابن أكيمة استبعد أن يقرأ معه أحدٌ السورة وهو يجهر بها بعد أن نهاهم عن ذلك في واقعة حديث عبادة؛ فلهذا تعجَّب من المنازعة. وإنما نصَّ في حديث عمران على عين السورة؛ لأنَّ الصلاة كانت سريَّة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ بسبِّح اسم ربِّك الأعلى سرًّا، ولم يسمعوه، فلو اكتفى بقوله: "أيكم قرأ معي؟ " لم يعلموا المقصود؛ لأنَّ كلاً منهم قرأ بالفاتحة وغيرها؛ فاحتاج أن ينصَّ لهم على نفس السورة التي قرأها، واستدلَّ بالمخالجة على أنَّ بعضهم قرأها معه. وأما في واقعة ابن أكيمة فكانت الصلاة جهرية؛ قد علموا السورة التي قرأ بها نبي الله - صلى الله عليه وسلم - بعد الفاتحة، فاكتفى بقوله: "هل قرأ معي أحدٌ منكم آنفًا"؟ فعلموا أنه لا يسألهم عن الفاتحة لما تقدَّم، وأنه إنما يسألهم عن قراءة السورة التي قرأ بها؛ فأجابه الذي قرأ: نعم، أنا يا رسول الله. وإنما قلت: إن ذلك القارئ قرأ السورة التي قرأها النبي - صلى الله عليه وسلم - عينها؛ لأمرين: ¬

_ (¬1) رقم (398).

الأول: حديث عمران؛ فإنه يدلُّ أنَّ المنازعة لم تكن تحصل إلاَّ إذا قرأ المأموم السورة التي قرأها النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الفاتحة. إذ لو كانت تحصل بمطلق القراءة بعد الفاتحة، لما استدلَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمخالجة إلاَّ على أنَّ بعض من خلفه قرأ سورة ما بعد الفاتحة؛ فلما نصَّ على السورة علمنا أنَّ المنازعة إنما كانت تحصل إذا قرأ المأموم السورة التي قرأ بها النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "خالجنيها" ظاهرٌ في ذلك. الثاني: قوله في حديث ابن أُكيمة: "قرأ معي"، فإنك إذا قلتَ: قرأت سورة كذا، وقرأ معي فلانٌ كان الظاهر أنه قرأ معك تلك السورة التي قرأتهَا. وبما قدَّمناه تتفق الأدلة، ونَسْلَم من سوء الظن بالصحابة، ومن دعوى النسخ [ص 72] ونحوه؛ فإنَّ أحاديث الزيادة على الفاتحة لم تصحَّ كما تقدَّم، وإنما عُلمت الزيادة من فعله - صلى الله عليه وسلم -؛ إذ كان يقرأ الفاتحة، ويزيد عليها إمامًا أو منفردًا. فكأنَّ أصحابه رضي الله عنهم قاسوا المأموم على الإِمام والمنفرد؛ فكانوا يقرؤون زيادة على الفاتحة خلفه - صلى الله عليه وسلم -، فأقرَّهم على ذلك في السريَّة؛ كما في حديث عمران. فقد روى البخاري في "جزء القراءة" (¬1) حديث عمران، من طريق شعبة عن قتادة، وزاد: "قال شعبة: فقلت لقتادة: كأنه كرهه، فقال: لو كرهه لنهانا عنه". وسيأتي ما يؤيده إن شاء الله تعالى. وبيَّن لهم بطلان ذلك القياس فيما جهر به، وذلك في حديث عبادة. ¬

_ (¬1) (ص 214).

ووجه ذلك - والله أعلم - أنه قياسٌ مع الفارق؛ فإنَّ قراءة المأموم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يجهر به تُخِلُّ باستماع قراءته - صلى الله عليه وسلم -، وتوجب منازعته في قراءته؛ بخلاف قراءة الإِمام والمنفرد؛ فافترقا. فأما في السريّة فإنه لا إخلال بالاستماع، ولا تحصل المنازعة إلاَّ نادرًا بدون تعمُّدٍ من المأموم لقراءة السورة التي يقرأ بها النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه لا يسمع قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى يمكن منه تعمُّد قراءة تلك السورة، فإن اتفق ذلك فبلا عمدٍ. ولهذا - والله أعلم - عبَّر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمخالجة، وفي حديث عبادة بالمنازعة، والمخالجة أخفُّ من المنازعة. وإنما أخبرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث عمران ليعلموا تلك المعجزة. فعُلِمَ أنَّ قراءة الصحابة رضي الله عنهم زيادةً على الفاتحة في الجهرية خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في واقعة حديث عبادة إنما كان اجتهادًا منهم أخطأوا فيه. فنهيه - صلى الله عليه وسلم - ليس بنسخ ولا تخصيص، وإنما هو بيان لخطأ القياس، وليس فيما ذكر سوء ظنٍّ بالصحابة؛ لأنهم كانوا يفعلون ذلك اجتهادًا، والمجتهد إذا أخطأ كان معذورًا مأجورًا. ثم لما نهاهم انتهوا عن قراءة غير الفاتحة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما جهر به؛ حتى كانت واقعة ابن أكيمة؛ ففعل ذلك رجل منهم كأنه لم يبلغه حديث عبادة؛ فاجتهد كما اجتهدوا أولًا؛ فبيَّن له النبي - صلى الله عليه وسلم - الحكم. وقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عبادة: "إني أراكم تقرؤون" إن كانت الرواية بفتح همزة "أراكم" فمعناه: أعلمكم. أو بضمها؛ فمعناه: أظنكم. وكلاهما محتملٌ من حيث المعنى.

أما كونه - صلى الله عليه وسلم - علم أنهم يقرؤون؛ فلأنه يعلم أنهم يعلمون أنَّ الفاتحة فرضٌ عليهم [ص 73]، وأنهم لا يذرونها. ودلَّته المنازعة على أنهم قرأوا معه غيرها، ولم يستبعد ذلك؛ لأنهم لم يكونوا قد نهوا عن ذلك. وعلم أنهم قاسوا المأموم في الجهرية على الإِمام والمنفرد والمأموم في السرية. وما جاء في بعض الروايات من زيادة: "وأنا أقول ما لي أنازع القرآن" في حديث عبادة محمول - إن صحَّ - على أنه - صلى الله عليه وسلم - استبعد أولاً أن يقرأوا معه غير الفاتحة، ولم يأمرهم بذلك، ثم تبيَّن له أنهم قاسوا كما ذكرنا. وأما كونه ظنَّ أنهم قرأوا معه ظنًّا فقط، فكأنَّ ثِقلَ القراءة لم يكن دليلًا كافيًا للعلم بقراءتهم معه غير الفاتحة؛ كأنه كان قد يحصل بسبب ذلك، وقد يحصل لسبب آخر. وعلى هذا فلا تكون الفاتحة داخلة في قوله: "إني أراكم تقرأون"، وإنما قال - صلى الله عليه وسلم -: "فلا تفعلوا إلاَّ بأمَّ القرآن؛ فإنه لا صلاة إلاَّ بها" فاستثناها احتياطًا لئلا يتوهموا دخولها في النهي، وقال: "فإنه لا صلاة إلا بها" تنبيهًا على الفرق بينها وبين غيرها. فأما حديث ابن أكيمة فليس فيه نهيٌ صريح يُتوهَّم دخول الفاتحة فيه حتى يُحتاج إلى الاستثناء. وقد علموا بحديث عبادة أنه لا يصحُّ قياسها على غيرها، وظهر من سكوتهم عن الجواب - إلاَّ ذلك الرجل الواحد - أنهم فهموا أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما سألهم عن قراءة غير الفاتحة معه؛ فعلم - صلى الله عليه وسلم - أنهم إذا فهموا نهيًا يعلمون

أنه متوجِّهٌ إلى ذلك فقط، والله أعلم. وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أنَّ حديث عبادة وحديث ابن أكيمة عن أبي هريرة كلاهما حكاية عن قصة واحدة؛ لأنَّ في كل منهما أنَّ الصلاة كانت صلاة الصبح، وأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - سألهم عن القراءة معه، وأنَّ بعضهم أجاب بنعم، وأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "وأنا أقول ما لي أنازع القرآن". وزاد عبادة قوله - صلى الله عليه وسلم - "فلا تفعلوا إلاَّ بأمِّ القرآن؛ فإنه لا صلاة إلاَّ بها". وكأنَّ أبا هريرة كان بعيدًا فلم يسمع هذه الكلمة إلاَّ أنه قد علم بها؛ فساق الحديث سياقًا يفهم منه النهي عن غيرها دونها، بمعونة الأدلة الأخرى، وبما عُرِفَ من مذهبه. وهذا محتمل، ولكن يبعده اختلاف السؤال والجواب. فالذي يظهر أنهما واقعتان، وقد علمت أنَّ حديث ابن أكيمة موافقٌ لحديث عبادة وغيره من الأدلة الثابتة بلا نسخ ولا تخصيص ولا خروج عن الظاهر بغير حجة، والحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات. [ص 74] وأما حديث أبي إسحاق السبيعي (¬1) عن الأرقم بن شرحبيل عن ابن عباس في صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في مرض موته = فالسبيعي على جلالته مشهورٌ بالتدليس؛ وصفه بذلك شعبة وابن المديني وأبو جعفر الطبري وحسين الكرابيسي وابن حبان وغيرهم. قال ابن المديني في "العلل" (¬2): قال شعبة: سمعت أبا إسحاق يحدِّث عن الحارث بن الأزمع بحديث؛ ¬

_ (¬1) سبق تخريجه (ص 77)، ومن هنا يبدأ الكلام عليه عند المؤلف. (¬2) انظر "تهذيب التهذيب" (8/ 66).

فقلت له: سمعت منه؟ فقال: حدثني به مجالد عن الشعبي عنه. ومما يبيِّن ضعف هذا الحديث ما في الصحيحين (¬1) وغيرهما عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: دخلت على عائشة، فقلت: ألا تحدِّثيني عن مرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالت: بلى، ثَقُلَ النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فذكرت الحديثَ إلى أن قالت: ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - وجد من نفسه خفَّةً، فخرج بين رجلين أحدهما العبَّاس لصلاة الظهر، وأبو بكر يصلِّى بالناس. فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر، فأومأ إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - أن لا يتأخر. قال: أَجْلِساني إلى جنبه؛ فأجلَساه إلى جنب أبي بكر، الحديث. قال عبيد الله: فدخلتُ على عبد الله بن عباس، فقلت له: ألا أَعرِض عليك ما حدثتني عائشة عن مرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: هات؛ فعرضتُ عليه حديثها؛ فما أنكر منه شيئًا؛ غير أنه قال: أسمَّتْ لك الرجل الذي كان مع العبَّاس؟ قلت: لا، قال: هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وصلاة الظهر سريَّةٌ فأنى يعلم كيف قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ وفي "مسند أحمد" (ج 1 ص 234) (¬2): ثنا وكيع ثنا سفيان عن سلمة عن الحسن - يعني العُرَني - قال: قال ابن عباس: "ما ندري أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الظهر والعصر؛ ولكنا نقرأ". وأخرج نحوه من طرق أخرى (¬3). ¬

_ (¬1) البخاري (687) ومسلم (418). (¬2) رقم (2085). (¬3) برقم (2246، 2332).

وقد يحتمل أن تكون الواقعة المذكورة في حديث أبي إسحاق السبيعي غير الواقعة الثابتة في "الصحيحين"؛ ولكن حديثه لم يصحَّ حتى تتكلَّف له الاحتمالات. ومع هذا فليس في الحديث نفي الفاتحة، فقد يجوز أن تكون الصلاة جهرية، ويكون النبي - صلى الله عليه وسلم - لما دخل في الصلاة قرأ الفاتحة في نفسه ولم يجهر بها؛ لأنَّ الإِمام قبله قد جهر بها، ثم أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - في قراءة السورة من حيث وقف أبو بكر. ولم يذكر ابن عباس قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - الفاتحة؛ [ص 75] لأنه لم يسمعه يقرأها. ولا يستبعد هذا؛ فقد صحَّ عن ابن عباس أنه سئل: هل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الظهر والعصر؟ قال: لا، فقيل: فلعلَّه كان يقرأ في نفسه؟ فقال: خمشا؛ إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان عبدًا مأمورًا، بلَّغ ما أُمِر به، الحديث. "مسند أحمد" (ج 1 ص 249) (¬1). بقي ما نُقِلَ عن الإِمام أحمد رحمه الله؛ فأما قوله: "ما سمعنا أحدًا من أهل الإِسلام يقول: إنَّ الإِمام إذا جهر بالقراءة لا تجزئ صلاة من خلفه"؛ يعني: إذا لم يقرأ. ثم قال: "هذا النبي وأصحابه والتابعون". فيقال له: يغفر الله لك أبا عبد الله؛ أما النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد تقدَّمت نصوصه العامة والخاصة القاضية بأنَّ هذا الرجل لا صلاة له، ولا تجزئه صلاته، وأن صلاته كالخِدْج الذي تُلقِيه الناقة ميتًا مستقذرًا لا حياة له، ولا ينتفع به في شيء، إلى غير ذلك. ¬

_ (¬1) رقم (2238).

وأما أصحابه والتابعون فقد رووا أحاديثه وأفتوا بها، ولا داعي لاتهامهم بأنهم حملوها على غير ما تقتضيه. فإن صحَّ عن بعضهم ما يخالفها فقد صحَّ عن جمهورهم ما يوافقها. وإذا كانت الأدلة تقتضي بطلان صلاة من لم يقرأ الفاتحة وإن جهر إمامه، وقد رواها الصحابة رضي الله عنهم، واحتجُّوا بها على وجوب الفاتحة في هذه الصورة وغيرها، وأمروا بقراءة الفاتحة في هذه الصورة وغيرها = فقد ظهر من ذلك أنهم كانوا يرون بطلان من لم يقرأ بها، وإن جهر إمامه، وهذا كافٍ في إثبات ذلك؛ فمن ادعى خلافه فعليه البيان. وفي حديث عبادة (¬1) أنه قرأ الفاتحة خلف الإِمام في الجهرية، ثم احتجَّ بأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بقراءتها خلف الإِمام في الجهرية، وقال: لا صلاة إلاَّ بها. وحكى البخاري في "جزء القراءة" (¬2) عن علي ابن المديني أنه لم يُجِز إدراك الركعة بإدراك الركوع مع الإمام من الصحابة إلا من كان لا يرى القراءة خلف الإمام. فيؤخذ من هذا أنَّ الذين كانوا يرون قراءة الفاتحة خلف الإِمام كانوا يرون أنها لا تجزئ الصلاة بدونها، وقد تقدَّم ذكر بعضهم. وقال البخاري في "جزء القراءة" (¬3): "وقال الحسن وسعيد بن جبير وميمون بن مهران وما لا أُحصي من التابعين وأهل العلم: إنه يقرأ خلف ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) (ص 269، 270). (¬3) (ص 117، 119).

الإِمام وإن جهر. وكانت عائشة رضي الله عنها تأمر بالقراءة خلف الإِمام ... وقال مجاهد: إذا لم يقرأ خلف الإِمام أعاد الصلاة. وكذلك قال عبد الله بن الزبير". وذكر ممن كان يرى القراءة خلف الإِمام وإن جهر من التابعين: القاسم بن محمد وأبا سلمة بن عبد الرحمن وحميد بن هلال وعطاء بن أبي رباح. وقد مرَّ قول البخاري: "ومن لا أحصي من التابعين وأهل العلم". وظاهر أنَّ من قال: يقرأ، يعترف بأنه داخل في النصوص العامة؛ وهي مقتضية للفرضية الموجبة أنَّ الصلاة لا تصحُّ إلاَّ بها. وإن صحَّ عن بعضهم الأمر بالقراءة مع التصريح بأنه لو لم يقرأ أجزأته صلاته = لم يكن ذلك مسوِّغًا للجزم بأنَّ القائلين بالقراءة كلهم يقولون بذلك؛ [ص 76] لأنَّ ذلك خلاف الظاهر. فأما مالك والأوزاعي وسفيان والليث فقد كان مع كل واحد منهم عدة من المجتهدين في بلده؛ فضلاً عن غيرها من أقطار المسلمين المتباعدة. فهل نقل عن كل عالم كان في ذلك العصر مثل ما نقل عن هؤلاء مما يخالف الأدلة العامة والخاصة التي تقدَّمت؟ وقد زاد ابن قدامة فادَّعى أنَّ ذلك إجماع. وقد قال الإِمام أحمد نفسه: "ما يدَّعي فيه الرجلُ الإجماعَ فهو كذب، من ادَّعى الإجماع فهو كاذبٌ؛ لعلَّ الناس اختلفوا، ما يُدريه، ولم ينتهِ إليه؟ فلْيقل: لا نعلم الناس اختلفوا، هذه دعوى بشر المريسي والأصمّ، ولكنه

يقول: لا نعلم الناسَ اختلفوا، ولم يبلغني ذلك". "إعلام الموقعين" (ج 1 ص 33) (¬1). وللشافعي رحمه الله تعالى كلام في معنى هذا، وفي إبطال ما يسمَّى الإجماع السكوتي، انظر "الأم" (ج 1 ص 134 - 135) (¬2). وقد تتبعت ما جاء من الكتاب والسنة وآثار الصحابة رضي الله عنهم في الإجماع، ثم تأملت ما نقل عن الإمامين الشافعي وأحمد؛ فتحرَّر لي من ذلك كله: أنَّ الإجماع إنما يتحقَّق في الفرائض القطعية كفرضية الصلوات الخمس ونحوها. وأما ما عدا ذلك فإنما يحصل العالم منه على عدم العلم بمخالف. وهذا في نصوص الصحابة ثم في نصوص الإمامين حجة اضطرارية؛ أي: أنه يكون حجة إذا لم يوجد من كتاب الله تعالى ولا سنة رسوله حجة. فإن ثبت من كتاب الله تعالى أو سنة رسوله حجة مخالفة له لم يلتفت إليه، ولكنه إذا وجدت من الكتاب والسنة نصوص كثيرة ظاهرة في معنى، متظافرة عليه، ثم لم نعلم أحدًا من السلف صرفها عن ذلك الظاهر = كان ذلك عاضدًا لتلك الظواهر؛ ربما يبلغه درجة القطع، حتى يكفر من يخالف ذلك، والله أعلم. **** ¬

_ (¬1) (1/ 30) ط. محمد محيي الدين عبد الحميد. (¬2) ضمن "اختلاف الحديث" (10/ 109 - 113) ط. دار الوفاء.

ما يحتج به من يقول بأن المأموم لا يقرأ مطلقا

ما يحتجُّ به من يقول بأنَّ المأموم لا يقرأ مطلقًا احتجُّوا بآية الإنصات، وبزيادة "وإذا قرأ فأنصتوا" [في حديث أبي موسى وحديث أبي هريرة]؛ بناءً على أنَّ الإنصات هو السكوت مطلقًا. وبحديث ابن أُكيمة؛ بناءً على أنَّ ما يشعر به من النهي يعمُّ الجهرية والسرية؛ لأنَّ النهي متوجِّهٌ إلى ما سألهم عنه. وإنما قال في السؤال: "هل قرأ معي أحدٌ منكم آنفًا؟ ". فقوله "آنفًا" أي: وأنا إمام وهو مأموم؛ فيؤخذ من هذا نهي المأموم أن يقرأ مع إمامه. قالوا: ويؤيد هذا قوله: "وأنا أقول ما لي أنازع القرآن؟ "؛ فإنَّ هذا في قوة تعليل النهي بالمنازعة، والمنازعة تحصل بالقراءة خلفه في السرية؛ بدليل حديث عمران. قالوا: وزيادة "فانتهى الناس ... إلخ" من كلام الزهري؛ كما قلتم. واحتجُّوا بحديث أبي إسحاق السبيعي عن الأرقم بن شرحبيل؛ وعسى أن يقولوا: فإن تلك الصلاة [ص 77] هي الظهر؛ كما في "الصحيحين". ولعلَّ أبا بكر كان يعلم أنَّ السنة أن يبني الإِمام الثاني على قراءة الأول؛ فرفع صوته بالآية ليسمعه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيبني على قراءته. ولعلَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع صوته بالآية التي بعدها؛ ليعلم الناس السنة في ذلك، فسمعها ابن عباس أو بلغه ذلك. واحتجُّوا بالإجماع الذي ادعاه ابن قدامة. قالوا: لأنه يدلُّ على نسخ فرضية الفاتحة؛ لأنَّ في حديث عبادة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهم بقراءة الفاتحة خلفه إذا جهر؛ معلِّلًا ذلك بأنه لا صلاة إلاَّ بها. وقد دلَّ الإجماع على نسخ هذا الحكم؛ فدلَّ ذلك على زوال علَّته.

هذا توضيح استدلال الشارح بهذا الإجماع. واحتجُّوا بسقوط الفاتحة عن المسبوق، قالوا: فسقوطها عنه يدلُّ على أنها ليست فرضًا عليه أصلاً؛ إذ لو كانت فرضًا عليه لما تحمَّلها عنه كما لا يتحمَّل عنه غيرها. واحتجُّوا بما رواه الإِمام أبو حنيفة (¬1) - رحمه الله تعالى - عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شدَّاد بن الهاد عن جابر بن عبد الله: أنَّ النبي صلَّى اله عليه وآله وسلَّم صلَّى ورجلٌ خلفه يقرأ؛ فجعل رجلٌ من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ينهاه عن القراءة في الصلاة، فلمَّا انصرف أقبل عليه الرجل؛ قال: أتنهاني عن القراءة خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟! فتنازعا، حتى ذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "من صلَّى خلف إمام فإنَّ قراءة الإِمام له قراءة". وفي رواية عن أبي حنيفة (¬2) رحمه الله: أنَّ رجلاً قرأ خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الظهر أو العصر؛ فأومأ إليه رجلٌ فنهاه؛ فلما انصرف قال: أتنهاني؟ الحديث. قالوا: وقد تابع أبا حنيفة على وصله سفيان وشريك. نقل ابن الهمام (¬3) عن "مسند أحمد بن منيع": أخبرنا إسحاق الأزرق حدثنا سفيان وشريك عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شدَّاد عن ¬

_ (¬1) أخرجه من طريقه الدارقطني (1/ 324، 325) والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 159). وسيأتي الكلام على هذا الحديث عند المؤلف. (¬2) أخرجها الدارقطني (1/ 325). (¬3) في "فتح القدير" (1/ 338). وسيأتي كلام المؤلف عليه، وأن كونه موصولاً بهذا الإسناد خطأ.

جابر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من كان له إمام فقراءة الإِمام له قراءة". ثم قال: وحدثنا جرير عن موسى عن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فذكره ولم يذكر جابرًا. قالوا: وقد روى الإِمام أحمد في "مسنده" (¬1) عن أسود بن عامر، وروى عبد بن حميد في "مسنده" (¬2) عن أبي نعيم، وروى ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3) عن مالك بن إسماعيل = ثلاثتهم عن الحسن بن صالح [ص 78] عن أبي الزبير عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة". قالوا: وقد صحَّ من رواية مالك (¬4) عن وهب بن كيسان عن جابر أنه قال: "من صلَّى ركعة لم يقرأ فيها بأمِّ القرآن فلم يصلِّ؛ إلاَّ وراء الإِمام". قالوا: وقد رويَ هذا عن جابر مرفوعًا (¬5). قال البيهقي (¬6): وقد رفعه ¬

_ (¬1) رقم (14643). (¬2) رقم (1050). (¬3) (1/ 377). والحسن بن صالح لم يسمعه من أبي الزبير، بينهما فيه جابر الجعفي، وهو ضعيف. انظر طرق الحديث والكلام عليها في تعليق "المسند" (14643). (¬4) في "الموطأ" (1/ 84). (¬5) أخرجه الطحاوي (1/ 228) والدارقطني (1/ 327) والبيهقي في "القراءة خلف الإمام" (349) من طريق يحيى بن سلام عن مالك. قال الدارقطني: يحيى بن سلام ضعيف، والصواب موقوف. (¬6) في "السنن الكبرى" (2/ 160).

يحيى بن سلام وغيره من الضعفاء عن مالك. قال صاحب "الجوهر النقي" (¬1): "ذكر البيهقي في "الخلافيات" أنه روي عن إسماعيل بن موسى السدِّي أيضًا عن مالك مرفوعًا، وإسماعيل صدوق، وقال النسائي: ليس به بأس، وقال ابن عدي: احتمله الناس ورووا عنه، وإنما أنكروا عليه الغلو في التشيُّع". وقال ابن أبي شيبة في "المصنف" (¬2): ثنا وكيع عن الضحاك بن عثمان عن عبيد الله بن مِقْسم عن جابر قال: "لا يقرأ خلف الإمام". قال في "الجوهر النقي" (¬3): وهذا أيضًا سند صحيح متصل على شرط مسلم. قالوا: وهذا من قوله يشهد بصحة ما تقدَّم عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. الجواب: أما آية الإنصات وزيادة "وإذا قرأ فأنصتوا"، فقد تقدَّم الكلام عليها. وقولهم إنَّ الإنصات عند أهل اللغة: السكوت مطلقًا غير صحيح، وإنما الإنصات: السكوت للاستماع. هذا هو المعروف في اللغة، ولهذا يقال: أنصَتَ له، وأنصَت إليه؛ كما يقال: استمع له واستمع إليه، ولا يقال: سكتَ له، ولا سكتَ إليه. ¬

_ (¬1) (2/ 160). (¬2) (1/ 376). (¬3) (2/ 161).

[ص 79] ويقرب من قولهم: أصغى إليه؛ لأنهم قد قالوا: أنصت للَّهو: إذا مال. ومن تتبَّع موارد هذه اللفظة، وكان له دُربة بالعربية وذوق فيها، لم يشكَّ أنَّ الإنصات هو السكوت لأجل الاستماع. وأئمة اللغة منهم من أوضح ذلك، ومنهم من أطلق في بعض كلامه تفسير الإنصات بالسكوت، وبيَّن في موضع آخر من كلامه أنَّه السكوت للاستماع. وأهل اللغة كثيرًا ما يفعلون ذلك؛ يطلقون ما هو مقيد اعتمادًا على أنهم قد قيَّدوا في موضع آخر، أو اكتفاءً بأنَّ التقييد مشهور عند من يعرف اللغة، أو إشارةً إلى أنَّ الكلمة قد تُستعمل في ذلك المعنى بدون القيد مجازًا. ونحن لا ننكر أنَّ الإنصات قد يستعمل في مطلق السكوت مجازًا، ولكن الأصل الحقيقة. وقال البخاري في "جزء القراءة" (¬1): "وقال أبو مريم: سمعت ابن مسعود رضي الله عنه يقرأ خلف الإمام. وقال أبو وائل عن ابن مسعود: "أنصِتْ للإمام". قال ابن المبارك: دلَّ أنَّ هذا في الجهر". فأنت ترى ابن المبارك فهم من الإنصات أنه إنما يكون إذا جهر الإمام. وكلام السلف في ذلك كثير. وقد جاء الإنصات في موضعين من القرآن؛ الأول: الآية المتقدِّمة. الثاني: قوله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف: 29]. ¬

_ (¬1) (ص 116).

وواضح أنَّ معناه في آية الأحقاف متضمِّنٌ للاستماع، وأما في الآية المتقدِّمة فقد قدَّمنا أننا إذا تقيَّدنا بتفسير السلف كان معنى قوله {وَأَنْصِتُوا}: ودَعُوا الجهر بالكلام لكي تستمعوا. وإن نظرنا إلى ظاهر القرآن رجَّحنا ما قاله بعض الخلف؛ فيكون المعنى عليه: واسكُتوا مستمعين. فإن قيل: فلماذا قال: {وَأَنْصِتُوا} بعد أن قال: {فَاسْتَمِعُوا}؟ قلت: لأنَّ الاستماع لا يلزم منه إخفاء المستمع كلامه أو سكوته، وإن لزم من الكلام وقوع الخلل في الاستماع. وأنت ترى الناس عند حضورهم الخطب والقصص يتكلَّمون وهم يستمعون. وإذا حملنا الآية على المعنى الثاني فيكون لذكرِ {وَأَنْصِتُوا} بعد {فَاسْتَمِعُوا} نكتةٌ أخرى؛ وهي الإشارة إلى قولهم الذي حكاه الله تعالى عنهم بقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26]. فقوله: {فَاسْتَمِعُوا} في مقابل قولهم: {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ}. وقوله: {وَأَنْصِتُوا} في مقابل قولهم: {وَالْغَوْا فِيهِ}. ولما كان معنى كلامهم: {وَالْغَوْا فِيهِ} لئلا تسمعوه ولا يسمعه غيركم = وجب أن يكون معنى: {وَأَنْصِتُوا}: واسكتوا لتسمعوه أنتم وغيركم. [ص 81] (¬1) ولو فُرِض أن معنى الإنصات هو السكوت مطلقًا، وأنَّ تلك ¬

_ (¬1) ضرب المؤلف رحمه الله على صفحة (80) كلها.

الزيادة صحيحة، فيجب تخصيصها بحديث مكحول عن محمود ونافع عن عبادة، مع ما اعتضد به من النصوص العامة. وكذا آية الإنصات لو فرض أنَّ معناها أمر المأموم بالسكوت حين يقرأ إمامه، فإنَّ عمومها مخصَّصٌ اتفاقًا كما تقدَّم. فتُخصُّ منها قراءته سرًّا بدليل حديث عمران وشواهده. مع القياس أنَّ فائدة السكوت إنما هي الاستماع، ولا معنى لسكوت المأموم في السريَّة. وتُخصُّ منها الفاتحة مطلقًا لحديث مكحول، مع ما اعتضد به من النصوص العامة في إيجاب الفاتحة، وعموم قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39]، وقوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ} [البقرة: 286]، وغيرها من الآيات، التي تقتضي أنه لا يحسب للمأموم ما يصنعه إمامه، والله أعلم. وأما حديث ابن أكيمة فقد مرَّ الكلام عليه، وقولهم إنه يعمُّ الجهرية والسريَّة خطأ؛ كما يأتي في المسألة الخامسة إن شاء الله تعالى. [ص 82] ومرَّ الكلام أيضًا على حديث السبيعي، وعلى الإجماع الذي ادَّعاه ابن قدامة. وأما استدلالهم بسقوط الفاتحة عن المسبوق، فالذي أختاره لنفسي ما اختاره جماعةٌ من أصحابنا الشافعية، واختاره الإِمام البخاري، ونقله هو وشيخه علي ابن المديني عن بعض الصحابة. بل قال (¬1): إنَّ كل من قال من الصحابة بأنَّ المأموم يقرأ الفاتحة قائل بأنه لا يدرك الركعة بدون قراءة ¬

_ (¬1) "جزء القراءة" (ص 269، 270).

الفاتحة، وقد تقدم أن القول بأن المأموم يقرأ الفاتحة هو قول جمهور الصحابة. ولم تقم حجة على إدراك الركعة بإدراك الركوع، فإنَّ أقوى ما بأيديهم حديث الحسن عن أبي بكرة في ركوعه دون الصف. وهذا لفظه عند البخاري في "صحيحه" (¬1): عن أبي بكرة أنه انتهى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو راكعٌ؛ فركع قبل أن يصل إلى الصف؛ فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فقال: "زادك الله حرصًا، ولا تَعُدْ". ورواه أبو داود (¬2) وغيره بمعناه، ووقع للحافظ ابن حجر سهو في "نصب الراية" (¬3)، تبع فيه الزيلعي؛ فلا يُغترُّ به. وليس في الحديث دلالة على إدراك الركعة؛ لأنه قد يكون الصحابي حَرَصَ على إدراك فضيلة الركوع مع النبي - صلى الله عليه وسلم -. فإنَّ من أدرك الإِمام في السجود مثلًا فسجد معه، كان له أجر ذلك وإن لم تحسب له الركعة، فكذا ¬

_ (¬1) رقم (783). (¬2) رقم (683، 684). وأخرجه أيضًا أحمد (20405) والنسائي (2/ 118) والطحاوي في "معاني الآثار" (1/ 395) والبيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 106) وغيرهم. (¬3) يقصد "الدراية" (1/ 171) فقد طبع في الهند بهذا العنوان. وانظر "نصب الراية" للزيلعي (2/ 39). والسهو الذي أشار إليه المؤلف هو أن الزيلعي نقل هذا الحديث بسياق غريب طويل، وعزاه إلى البخاري في "الصحيح"، ولا وجود له فيه بهذا السياق. وتبعه الحافظ في "الدراية" في هذا الوهم، وهو مختصر "نصب الراية" مع زيادات.

إدراك الركوع تحصل به الفضيلة قطعًا. والحرص على إدراك الفضيلة لا يُنكر؛ بل لعله هذا هو الذي يقتضيه حسن الظن بالصحابي مع قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "زادك الله حرصًا"؛ فإنه لو حرص على إدراك الركع لأجل إدراك الركعة لكان في ذلك تهمة أنه إنما فعل ذلك لئلا تذهب أعماله بعد الركوع غير محسوبة له، ويلزمه بعد السلام ركعة تامة. نعم ذكر الحافظ في "الفتح" (¬1) أنَّ في رواية الطبراني من طريق يونس بن عبيد عن الحسن عن أبي بكرة: "فقال: أيكم صاحب هذا النفس؟ قال: خشيتُ أن تفوتني الركعة معك"؛ فيجب النظر في إسناده. على أنَّ الحسن - على جلالته وإمامته - كان يدلِّس تدليسًا صعبًا. قال البزَّار (¬2): كان يتأول فيقول: "حدَّثنا وخَطَبنا"؛ يعني: قومه الذين حُدِّثوا وخُطِبوا بالبصرة. وقال ابن حجر: في "طبقات المدلِّسين" (¬3): "كان مكثرًا من الحديث، وكان يرسل كثيرًا عن كل أحد، وصفه بتدليس الإسناد النسائي وغيره". وفي "تهذيب التهذيب" (¬4) في ترجمة الحسن: "وقال ابن حبان: ... وكان يدلِّس". ¬

_ (¬1) (2/ 268). (¬2) انظر "تهذيب التهذيب" (2/ 269). (¬3) (ص 102). (¬4) (2/ 270).

وفيه (¬1): قال: "قال ابن عون: قلت له: عَمَّن تُحَدِّث هذه الأحاديث؟ قال: عنك، وعن ذا، وعن ذا". وفي ترجمته في "تهذيب التهذيب" (¬2) أيضًا: "ووقع في "سنن النسائي" من طريق أيوب عن الحسن عن أبي هريرة في المختلعات، قال الحسن: لم أسمع عن أبي هريرة غير هذا الحديث. أخرجه عن إسحاق بن راهويه عن المغيرة بن سلمة عن وهيب عن أيوب، وهذا إسناد لا مطعن في أحد من رواته". أقول: وقد روى عن أبي هريرة عدة أحاديث بالعنعنة، وهذا هو التدليس. وقال في "الفتح" (¬3) في الكلام على هذا الحديث: "وقد أعلَّه بعضهم بأنَّ الحسن عنعنه، وقيل: إنه لم يسمع من أبي بكرة، وإنما يروي عن الأحنف عنه. وردَّ هذا الإعلال برواية سعيد بن أبي عروبة عن الأعلم قال: حدثني الحسن أنَّ أبا بكرة حدَّثه، أخرجه أبو داود والنسائي". قلت: الذي في "سنن أبي داود" (¬4): "أنَّ أبا بكرة حدَّث" بدون هاء، وهذه صيغة تدليس، ومع هذا فسعيد بن أبي عروبة مدلس أيضًا. ¬

_ (¬1) الموضع السابق. (¬2) (2/ 269، 270). وفي "سنن النسائي" (6/ 168، 169): "لم أسمعه من غير أبي هريرة. قال أبو عبد الرحمن: لم يسمع من أبي هريرة شيئًا". (¬3) (2/ 268). (¬4) رقم (683).

وفي "مسند أحمد" (¬1) أحاديث من طريق المبارك بن فضالة عن الحسن؛ مصرَّحٌ فيها بسماعه من أبي بكرة. والمبارك بن فضالة مختلف فيه، وأنكروا عليه رواياته عن الحسن ثنا عمران بن حصين، وثنا معقل. قلت: فهذا من ذاك. وذكر جماعة أنَّ المبارك كان يدلِّس. وقال أبو داود: كان شديد التدليس. وفي "المسند" (¬2): ثنا سفيان عن أبي موسى - ويقال له إسرائيل - قال: سمعت الحسن قال: سمعت أبا بكرة. وقال سفيان مرَّة: عن أبي بكرة؛ فذكر حديثًا. قلت: فكأنَّ سفيان شكَّ، والله أعلم. فإن قيل: فإنَّ البخاري قد أخرج هذا الحديث في "صحيحه" (¬3)، ومذهبه اشتراط ثبوت اللقاء؛ فلا يقبل إعلال الحديث بعدم اللقاء ولا بالتدليس؛ كما عرف. قلت: أما ثبوت اللقاء فلعلَّه اعتمد ما تقدَّم. وأما التدليس فقد تقدَّم الكلام في هذا. وعلى تسليمه فالبخاري لم يخرِّج تلك الزيادة التي نقلها ابن حجر عن الطبراني، ومن الجائز أن يكون الحسن سمع الحديث من أبي بكرة، بدون ¬

_ (¬1) بأرقام (20391، 20429، 20448، 20516). (¬2) رقم (20392). (¬3) رقم (783).

تلك الزيادة، وسمعها من غيره عنه بتلك الزيادة؛ [ص 83] كما تقدَّم عن البخاري في حديث قتادة عن أبي غلاب (¬1). فإن قيل: هب الحسن دلَّسه فقد علم أنَّ الواسطة هو الأحنف، والأحنف ثقة. قلت: لم يعلم في هذا الحديث بعينه أن الواسطة هو الأحنف، وإن كان الحسن قد حدَّث بأحاديث أخر عن الأحنف عن أبي بكرة. إذ لا يلزم من ذلك أنه لم يسمع غير الأحنف يحدِّث عن أبي بكرة. وقد قال أبو زرعة وأبو حاتم في قول الحسن "خطبنا ابن عباس بالبصرة": إنما أراد خطبَ أهل البصرة (¬2). وقال ابن المديني: رُوِي عن علي بن زيد بن جدعان عن الحسن: أنَّ سراقة حدثهم، وهذا إسناد ينبو عنه القلب؛ أن يكون الحسن سمع من سراقة؛ إلاَّ أن يكون معنى "حدَّثهم": حدَّث الناسَ، فهذا أشبه. وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول وذكر حديثًا حدَّثه مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا ربيعة بن كلثوم قال: سمعت الحسن يقول: حدثنا أبو هريرة. قال أبي: لم يعمل ربيعة شيئًا، لم يسمع الحسن من أبي هريرة شيئًا". أقول: وربيعة ثقة؛ فالظاهر إن كان هذا الحديث غير حديث المختلعات الذي عند النسائي (¬3) أنَّ الحسن قال: حدثنا أبو هريرة؛ يريد حدَّث الناسَ أو ¬

_ (¬1) انظر "جزء القراءة" (ص 413). (¬2) انظر "تهذيب التهذيب" (2/ 267). وفيه الأقوال الآتية. (¬3) (6/ 168).

نحو ذلك، كعادته. فإن قلت: فإنَّ الحافظ ابن حجر ذكر الحسن وابن أبي عروبة في الطبقة الثانية من طبقات المدلَّسين، وقد ترجم هذه الطبقة بقوله (¬1): "من احتمل الأئمة تدليسه وأخرجوا له في الصحيح، لإمامته وقلة تدليسه في جنب ما روى؛ كالثوري، أو كان لا يدلِّس إلاَّ عن ثقة؛ كابن عيينة". وعلى هذا فتُحتَمل عنعنة الحسن، وتُصحَّح، ويحتجُّ بها، ولا يلتفت إلى أنه كان يدلِّس، وكذا ابن أبي عروبة. قلت: هذا مشكلٌ جدًّا، لا يتمشَّى على [ص 84] القواعد. وقد نصَّ الشافعي في "الرسالة" على أنَّ التدليس يثبت بمرَّة، وعبارته (¬2): "ومن عرفناه دلَّس مرَّة فقد أبان لنا عورته في روايته، وليست تلك العورة بكذب فنردَّ بها حديثه، ولا النصيحة في الصدق؛ فنقبل منه ما قبلنا من أهل النصيحة في الصدق، فقلنا: لا نقبل من مدلِّسٍ حديثًا، حتى يقول فيه: حدثني أو سمعت". وجلالة الرجل وإمامته إذا عُرِف بالتدليس لا تنافي أن يدلِّس رجلاً يُحْسِن الظنَّ به، وغيرُه يعرف أنه مجروح، وتُقوِّي التهمة بالتدليس؛ لأنَّ مما يبعث عليه أن يكون الشيخ غير مرضي عند الناس. ولو كانت جلالة الرجل وإمامته توجب اغتفار تدليسه لأوجبت اغتفار إرساله، وليس هذا مذهب أهل الحديث. ¬

_ (¬1) (ص 62). (¬2) "الرسالة" (ص 379).

وقد عدَّ ابن حجر سليمان التيمي في الطبقة الثانية (¬1)؛ مع أنَّ البخاري طعن في زيادته في حديث قتادة عن أبي غلاب؛ بقوله: "ولم يذكر سليمان في هذه الزيادة سماعًا من قتادة، ولا قتادة من يونس بن جبير". ذكره في "جزء القراءة" (¬2). وقال البزَّار (¬3) في سعيد بن أبي عروبة: "يحدَّث عن جماعة لم يسمع منهم؛ فإذا قال: "سمعت وحدثنا" كان مأمونًا على ما قال". مفهومه أنه ليس مأمونًا فيما عنعنه. وقال فيه ابن عدي (¬4): "كان ثبتًا عن كل من روى عنه؛ إلاَّ من دلَّس عنهم". فجعله غير ثبت إذا دلَّس. وقد تأوَّل السخاويُّ في "فتح المغيث" كلامَ شيخه ابن حجر؛ فإنه ذكر عباراتهم في اغتفار عنعنة المدلِّس إذا وقعت في "الصحيحين"، ثم قال (¬5): "وأحسن من هذا كله قول القطب الحلبي في "القدح المعلَّى": أكثر العلماء أنَّ المعنعنات التي في "الصحيحين" منزَّلة منزلة السماع؛ يعني: إما لمجيئها من وجهٍ آخر بالتصريح، أو لكون المعنعن لا يدلِّس إلاَّ عن ثقةٍ أو عن بعض ¬

_ (¬1) (ص 117). (¬2) (ص 413). (¬3) انظر "تهذيب التهذيب" (4/ 64). (¬4) المصدر نفسه (4/ 66). (¬5) (1/ 218, 219) ط. الهند.

شيوخه، أو لوقوعها من جهة بعض الحفَّاظ النقَّاد المحققين سماع المعنعن". ثم قال بعد ذلك: "وما أشار إليه شيخنا من إطلاق تخريج أصحاب الصحيح لطائفةٍ منهم حيث جعل منهم قِسمًا احتمل الأئمةُ تدليسَه، وخرَّجوا له في الصحيح لإمامته وقلة تدليسه كالثوري، يتنزَّل على هذا؛ لا سيَّما وقد جعل من هذا القسم: من كان لا يدلِّس إلاَّ عن ثقة كابن عيينة. وكلام الحاكم يساعده؛ فإنه قال: ومنهم جماعة من المحدثين المتقدِّمين والمتأخرين، مخرَّج حديثهم في الصحيح؛ لأنَّ المتبحِّر في هذا العلم يميِّز بين ما سمعوه وبين ما دلَّسوه". فكلام السخاوي ينبِّهك على أنَّ اغتفار عنعنة تلك الطبقة مخصوص بأحاديثهم التي في "الصحيحين". وكلام الحلبي والحاكم ظاهر في أنَّ الاغتفار إنما هو للظنِّ بأنَّ صاحب الصحيح اطَّلع على روايةٍ مصرَّحِ فيها بالسماع. أو يكون المعنعن لا يدلِّس إلاَّ عن ثقة؛ يعني: ثقة متفق عليه كما صرَّحوا به، وقد ذكر ابن حبَّان أنَّ هذا خاص بابن عيينة. أو على أنه كان لا يدلِّس إلاَّ عن بعض شيوخه، أي ولم يكن يدلِّس عن شيخه هذا. أو لوقوعها من جهة بعض الحفاظ النقاد؛ أي الذين صرَّحوا بأنهم لا يروون عن ذلك المدلِّس إلاَّ ما اطلعوا على أنه سمعه. أقول: ومع هذا فقد ناقش ابن دقيق العيد وغيره في المسألة من أصلها كما ذكره السخاوي. وقد نُقِل عنه أنه قال (¬1): "هذه إحالة على جهالة، ¬

_ (¬1) نقله الحافظ عن ابن دقيق العيد في "النكت على ابن الصلاح" (2/ 635).

وإثبات أمر بمجرَّد الاحتمال". أقول: وقد يجوز في بعض المواضع أنَّ صاحب الصحيح لم يطلع على أنَّ الشيخ كان يدلِّس. والحاصل: قد يقال (¬1) اختصاص اغتفار عنعنة الحسن وابن أبي عروبة وأهل تلك الطبقة بما وقع في "الصحيحين"؛ فلا يدخل في ذلك ما وقع من عنعنتهم في غيرهما؛ كالسنن والمسانيد ومعاجم الطبراني، والله أعلم. ولعلنا لو اطلعنا على إسناد الطبراني لهذا الحديث بتلك الزيادة لاستغنينا عن هذا التطويل (¬2). ثم رأيت في "جزء القراء" (¬3) للبخاري: حدثنا محمد بن مرداس أبو عبد الله الأنصاري قال: حدثنا عبد الله بن عيسى أبو خلف الخزاز عن يونس عن الحسن عن أبي بكرة: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - صلَّى صلاة الصبح، فسمع نَفَسًا شديدًا أو بُهْرًا من خلفه، فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلاة قال لأبي بكرة: أنت صاحب هذا النَّفَس؟ قال: نعم، جعلني الله فداءك، خشيتُ أن تفوتني ركعةٌ معك، فاسرعتُ المشي؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "زادك الله حرصًا ولا تَعُدْ، صلِّ ما أدركتَ واقضِ ما سبق". وأظنُّ الطبراني إنما رواه من هذه الطريق (¬4). ¬

_ (¬1) تحتمل: يتبين. (¬2) لم يصل إلينا مسند أبي بكرة من "المعجم الكبير". (¬3) (ص 340). (¬4) هو كذلك، فقد عزاه إليه الهيثمي في "مجمع الزوائد" (2/ 76) وقال: (فيه =

ومحمد بن مرداس مجهول؛ قاله أبو حاتم، ولا يدفع ذلك ذِكْرُ ابن حبان إياه في "الثقات" كما عرف (¬1). وعبد الله بن عيسى (¬2)؛ قال أبو زرعة: منكر الحديث، وقال النسائي: ليس بثقة، وقال ابن القطان: لا أعلم له موثقًا. ثم إن الحسن كان يروي بالمعاني؛ كما قاله هشيم عن ابن عون؛ فلا يبعد أن لا يكون تثبت عنده تلك الزيادة بذلك اللفظ، ولكنه فهم من القصة ذلك المعنى؛ كما فهمه منها كثيرون؛ فلما روى بالمعنى جاءت تلك العبارة، والله أعلم. وفي "المسند" (¬3): عن عبد العزيز بن أبي بكرة أن أبا بكرة جاء والنبي - صلى الله عليه وسلم - راكعٌ، فسمع النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم صوتَ نعلِ أبي بكرة، وهو يُحْضِر يريد أن يدرك الركعة؛ فلما انصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من الساعي، قال أبو بكرة: أنا، قال: "زادك الله حرصًا ولا تَعُدْ". وفي سنده بشار الخيّاط (¬4) ضعَّفه ابن معين، على أنَّ ظاهره الإرسال، والله أعلم. هذا، ومن قال بأنَّ الركعة تدرك بإدراك الركوع، ويتحمَّل الإِمام الفاتحة ¬

_ = عبد الله بن عيسى الخزاز وهو ضعيف". وهو كما نرى في هذا الإسناد. (¬1) انظر "تهذيب التهذيب" (9/ 434) و"الثقات" (9/ 107). (¬2) "تهذيب التهذيب" (5/ 353). (¬3) رقم (20435). (¬4) هكذا في الطبعة القديمة من "المسند" و" تبصير المتنبه"، وفي الطبعة الجديدة من "المسند" و"تعجيل المنفعة": "الحنَّاط". ولم نجد أحدًا نصَّ على ضبطه.

عنه، لا يلزمه أنَّ الإِمام يتحمَّل عن الموافق؛ للفرق الواضح. فإن له أن يقول: إنَّ الشارع لما أمر المسبوق أن يدخل في الصلاة فورًا، سواءٌ أكان الإِمام راكعًا أم ساجدًا أم جالسًا أم غير ذلك، فقد ألزم هذا المسبوق إذا أدرك الإِمام راكعًا أن يركع معه، ثم نظر فإذا هو قد أدرك معظم الركعة، وأدرك الأركان التي تتميَّز بها الصلاة تميُّزًا واضحًا؛ وهي الركوع والسجود، وعلم الشارع أنَّ تكليفه المسبوق بالموافقة، وتكليفه بقضاء تلك الركعة يشقُّ عليه، وهذه المشقة وإن كانت خفيفة إلاَّ أنه يحتمل تكرُّرها مرارًا كل يوم، فناسبَ أن يسقط عنه فاتحة تلك الركعة، وإن كانت ركنًا؛ كما أسقط القراءة عن الأبكم والأمي وإن كان منفردًا، وكما أسقط القيام عن المأمومين إذا كان الإِمام لا يستطيع القيام، وكما أسقط القيام والركوع والسجود عن العاجز. ولم يَلزم المسبوقَ بدلُ الفاتحة؛ لأنه لا يمكن له بدلٌ إذا كان عليه الموافقة في الركوع فورًا؛ فكان مشغولًا بعد ذلك بأعمال أخرى. فإن قيل: فإنَّ من أدرك الإِمام في الاعتدال لا تحسب له ركعة مع أنَّ المشقة عليه قريب من المشقة على من أدركه في الركوع. قلت: ولكنها أخفُّ بالنسبة، ومع ذلك فليس العلة هي المشقة وحدها؛ بل المشقة مع إدراك معظم الركعة، وإدراك الأركان التي تتميَّز بها الصلاة تميُّزًا واضحًا. وأما الموافق فلا مشقة عليه؛ فكيف يقاس على المسبوق؟ [ص 85] وأما حديث موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شدَّاد فقد أطلق الحفَّاظ المتقدِّمون أنه لم يجئ موصولاً بذكر جابر إلاَّ من رواية الإِمام أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - والحسن بن عمارة، ولم يناقش في ذلك أحد من الحفاظ الحنفية وغيرهم.

وقد رُوي الحديث من طريق سفيان وشريك في عدَّة كتب (¬1) بدون ذكر جابر. وقد كان "مسند أحمد بن منيع" مشهورًا متداولًا بينهم؛ فيبعد غاية البعد أن يكون فيه الحديث موصولاً عن سفيان وشريك، ولا ينبِّه عليه أحد من المتقدمين. فهذا يبيِّن أنَّ ما نقله ابن الهمام (¬2) عن "مسند أحمد بن منيع" خطأ في تلك النسخة، ولا يُعلم بخط من هي، وكيف حالها؟ والظاهر أنه وقع فيها سقط أو تحريف؛ فإنَّ إسحاق الأزرق - الذي وقع في النسخة الروايةُ عنه عن سفيان وشريك - يروي هذا الحديث بعينه عن الإِمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى. قال الدارقطني (¬3): "حدثنا علي بن عبد الله بن مبشر ثنا محمد بن حرب الواسطي ثنا إسحاق الأزرق عن أبي حنيفة عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شدَّاد عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من كان له إمام فقراءة الإِمام له قراءة". والإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى عَدْل رضًا مأمون، وأكبر من ذلك، ولكن أئمة الحديث من أصلهم إذا تعارض الوصل والإرسال الاجتهادُ ¬

_ (¬1) انظر "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 376) و"معاني الآثار" للطحاوي (1/ 217) و"السنن الكبرى" للبيهقي (2/ 160). (¬2) في "فتح القدير" (1/ 338). وقد سبق نقل الحديث ضمن حجج القائلين بأن المأموم لا يقرأ مطلقًا. (¬3) في "السنن" (1/ 323).

بالترجيح؛ كما تقدَّم عن "فتح المغيث" (¬1). ومن المرجحات عندهم الكثرة. وقد رواه الدارقطني (¬2) من طريق ابن أخي ابن وهب ثنا عمي ثنا الليث بن سعد عن يعقوب عن النعمان عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شدَّاد عن أبي الوليد عن جابر؛ فذكره، في قصة ستأتي. ثم قال الدارقطني: "أبو الوليد هذا مجهول". والظاهر أنَّ "عن" في قوله "عن أبي الوليد" زائدة، والصواب عن عبد الله بن شدَّاد أبي الوليد؛ فإنَّ عبد الله بن شدَّاد كنيته أبو الوليد. أو أنَّ قوله "عن أبي الوليد" بدلٌ من قوله "عن عبد الله بن شدَّاد". ثم رأيت الطحاوي أخرج الحديث في "معاني الآثار" (¬3) عن أبي بكرة قال: ثنا أبو أحمد قال: ثنا إسرائيل عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شدَّاد عن رجل من أهل البصرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحوه. وجابر بن عبد الله بن حرام الأنصاري لم يكن من أهل البصرة. ثم وجدت في "الإصابة" (¬4) ترجمةً لفظها: "جابر بن عبد الله الراسبي، قال صالح جزرة: نزل البصرة. وقال أبو عمر (¬5): روى عنه أبو شدَّاد. وروى ¬

_ (¬1) (1/ 203). (¬2) (1/ 325). (¬3) (1/ 217). (¬4) (2/ 124) ط. التركي. (¬5) في "الاستيعاب" (1/ 221).

ابن منده من طريق عمر بن برقان (¬1) عن أبي شدّاد عن جابر بن عبد الله الراسبي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثًا قال: "من عفا عن قاتله دخل الجنة" (¬2). قال: هذا حديث غريب، إن كان محفوظًا. قال أبو نعيم: قوله "الراسبي" وهمٌ، وإنما هو الأنصاري". فأخشى أن يكون جابر بن عبد الله الذي وقع في سند الحديث من رواية الإِمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى هو هذا البصري. وبهذا التقدير يتم قوله في رواية إسرائيل: "عن رجل من أهل البصرة". ويجوز أن تكون كنية هذا الرجل أبا الوليد؛ فتكون رواية الدارقطني على ظاهرها، وإن كان زيادة "عن جابر" يعكِّر على ذلك. وأخشى أن لفظ "أبي شدَّاد" الواقع في السند المذكور في ترجمة هذا الرجل صوابه "ابن شدَّاد". وفي "لسان الميزان" (¬3): "أبو شدَّاد عن مجاهد ... وأخرج أبو يعلى (¬4) من طريق عمر بن نبهان عن أبي شدَّاد عن جابر حديثًا؛ فما أدري هو هذا أم لا؟ ولم أقف على ترجمته عند الحاكم أبي أحمد". قلت: وعمر بن نبهان يروي عن الحسن البصري ونحوه؛ فلا يبعد أن يروي عن عبد الله بن شدَّاد. ¬

_ (¬1) وفي بعض النسخ "نبهان". (¬2) أخرجه أبو يعلى في "مسنده" (1794) وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (1543). (¬3) (9/ 92). (¬4) هو الحديث المذكور، وسبق تخريجه.

وعبد الله بن شدَّاد غير معروف بالرواية عن جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام، [ص 86] وحديث جابر في "مسند أحمد" في أربعٍ وخمسين ورقة (¬1) ليس فيه شيء من رواية ابن شدَّاد عنه. وجابر بن عبد الله الراسبي البصري لم تثبت له صحبة، وهو رجلٌ مجهول. ويحتمل أن يكون جابر الواقع في رواية الإِمام أبي حنيفة هو الأنصاري على ما هو المتبادر، ويكون ابن شدَّاد لم يسمع هذا الحديث منه؛ بل سمعه عن رجل من أهل البصرة يقال له أبو الوليد عن جابر. ولعلَّ ابن أبي عائشة إنما اختار الإرسال غالبًا لأحد هذين الاحتمالين، أو لأنه كان يشكُّ. وقد روى ابن المبارك الحديث عن أبي حنيفة مرسلًا (¬2) كالجماعة؛ فهو المتيقِّن، ولا يصح الحكم بوصله لاضطراب ابن أبي عائشة فيه كما رأيت. فأما زيادة "في الظهر أو العصر" فما إخالها إلاَّ مدرجة، فقد أخرج الدارقطني (¬3) من طريق ابن أخي ابن وهب بسنده المتقدِّم، عن عبد الله بن شدَّاد بن الهاد عن جابر بن عبد الله أنَّ رجلاً قرأ خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، فلما انصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قرأ منكم بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}؟ " فسكت القوم، فسألهم ثلاث مرات، كلَّ ذلك يسكتون، ثم ¬

_ (¬1) (3/ 292 - 400) من الطبعة الميمنية سنة 1313. (¬2) كما في "السنن الكبرى" للبيهقي (2/ 160). (¬3) (1/ 325).

قال رجل: أنا، قال: "قد علمت أنَّ بعضكم خالجنيها". وقال (¬1) عبد الله بن شدَّاد عن أبي الوليد عن جابر بن عبد الله: أنَّ رجلاً قرأ خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - في الظهر والعصر، فأومأ إليه رجل فنهاه، فلما انصرف قال: أتنهاني أن أقرأ خلف النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فتذاكرا ذلك حتى سمع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من صلَّى خلف الإِمام فإنَّ قراءته له قراءة". فالحديث الأول هو حديث عمران بن الحصين عينه، ولفظه عند مسلم (¬2) في روايةٍ: عن عمران بن حصين قال: صلَّى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الظهر أو العصر؛ فقال: "أيكم قرأ خلفي بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}؟ "، فقال رجل: أنا، ولم أُرِدْ بها إلاَّ الخير، قال: "قد علمتُ أنَّ بعضكم خالجنيها". وسقط ذكر الظهر أو العصر من حديث ابن شدَّاد الأول، وأدرج في الثاني. فكأنَّ الأصل - والله أعلم - أنَّ لفظ: "في الظهر والعصر" مدرج في الثاني، وأصل موضعه في الأول. ومما يدلُّ على هذا أنَّ محمد بن الحسن أخرج الحديث الثاني في "كتاب الآثار" (¬3)، وليس فيه لفظ: "في الظهر أو العصر". وكذلك رواه الحاكم والبيهقي (¬4) من طريق مكي بن إبراهيم عن أبي ¬

_ (¬1) في "سنن الدارقطني" عقب الحديث السابق. (¬2) رقم (398). (¬3) رقم (86) ط. دار النوادر. (¬4) لم يخرجه الحاكم في "المستدرك"، وهو في "السنن الكبرى" (2/ 159) من طريقه.

حنيفة، وليس فيه ذكر الظهر أو العصر. وهكذا روي من طرق أخرى بدونها. وأما رواية الأسود بن عامر ومن معه عن الحسن بن صالح عن أبي الزبير (¬1)؛ فقد رواه يحيى بن أبي بكير وإسحاق بن منصور وغيرهما عن الحسن بن صالح عن جابر الجعفي وليث بن أبي سليم عن أبي الزبير (¬2)، وهذا هو الراجح. قال العراقي في خَفِيَّ الإرسال (¬3): فعدم السماع واللقاءِ ... يبدو به الإرسال ذو الخفاء كذا زيادة اسم راوٍ في السند ... إن كان حذفه بعَنْ فيه ورد ويؤكِّده أنَّ الحسن بن صالح لم يثبت له لقاء أبي الزبير، وإن كان أدركه. وأما قول مسلم [ص 87] رحمه الله: إنه يكفي في الحكم بالاتصال المعاصرة لغير المدلس؛ فذاك خاص بما إذا لم يرد الحديث من جهة أخرى بذكر واسطة كما هنا. ولعلَّ الحسن بن صالح علم أنَّ الأسود ومن وافقه يعلمون أنه لم يلق أبا الزبير؛ فلذلك أرسل الحديث عن أبي الزبير. ¬

_ (¬1) سبق تخريجها من "مسند أحمد" (14643) و"مسند عبد بن حميد" (1050) و"مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 377). (¬2) أخرجه كذلك الطحاوي (1/ 217) والدارقطني (1/ 331) والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 160) وفي "القراءة خلف الإِمام" (343، 345). (¬3) في "ألفيته" بشرحها "فتح المغيث" (4/ 69).

وجابر الجُعفي متروك، خصوصًا إذا قال "عن"؛ فإنه يدلَّس عن الوضَّاعين. وفي "تهذيب التهذيب" (¬1) عن مسعر قال: كنت عند جابر فجاءه رسول أبي حنيفة: ما تقول في كذا وكذا؟ قال: سمعت القاسم بن محمد وفلانًا وفلانًا، حتى عدَّ سبعةً؛ فلما مضى الرسول قال جابر: إن كانوا قالوا. وقال أبو يحيى الحِمَّاني عن أبي حنيفة: ما لقيتُ فيمن لقيت أكذب من جابر الجعفي، ما أتيته بشيء من رأي إلاَّ جاءني فيه بأثر (¬2). وأما ليث بن أبي سليم فصدوق، كثير الغلط، واختلط بأخرة. ولو ثبت الحديث عن أبي الزبير فأبو الزبير مشهور بالتدليس، وقد عنعن. وأجاب الشارح عن هذا بأنَّ أبا الزبير مكثر عن جابر؛ فتُحمل عنعنته عنه على السماع؛ كما قال الذهبي في "الميزان" (¬3) في ترجمة الأعمش، ولفظه: "قلت: هو مدلِّس، وربما دلَّس عن ضعيف، ولا يدري به؛ فمتى قال: "ثنا فلان" فلا كلام، ومتى قال: "عن" تطرَّق إليه احتمال التدليس؛ إلاَّ في شيوخ له أكثر عنهم؛ كإبراهيم وأبي وائل وأبي صالح السمَّان؛ فإنَّ روايته عن هذا الصنف محمولة على الاتصال". قلت: فيما قاله الذهبي نظر، ومع ذلك فلا يصحُّ قياس أبي الزبير على ¬

_ (¬1) (2/ 51). (¬2) "تهذيب التهذيب" (2/ 48). (¬3) (2/ 224).

ذلك؛ لأنه قد ثبت عنه التدليس عن جابر. قال ابن أبي مريم عن الليث بن سعد: قدمت مكة، فجئت أبا الزبير، فدفع إليَّ كتابين، فانقلبت بهما، ثم قلت في نفسي: لو عاودته فسألته هل سمع هذا كله من جابر؟ فقال: منه ما سمعت، ومنه ما حُدِّثت عنه، فقلت له: أعلِمْ لي على ما سمعت، فأعلَمَ لي على هذا الذي عندي (¬1). وأما ما رواه مالك (¬2) عن وهب بن كيسان عن جابر فهو صحيح من قوله، وما ذكره صاحب "الجوهر" (¬3) عن البيهقي في "الخلافيات" لا يصحُّ. فقد أخرج الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (¬4) من طريق يحيى بن سلام عن مالك، فرفعه. ثم قال: "حدثنا يونس قال أنا ابن وهب أنَّ مالكًا حدَّثه عن وهب بن كيسان عن جابر مثله، ولم يذكر النبي - صلى الله عليه وسلم -. حدثنا فهد قال: ثنا إسماعيل بن موسى ابن ابنة السدِّي قال: ثنا مالك، فذكر مثله بإسناده. قال: فقلت لمالك: أَرَفَعَه؟ فقال: خذوا برجله". ولو فُرِض أنَّ إسماعيل رفعه عن مالك، فإسماعيل وإن كان صدوقًا فليس مثله بالذي يقبل فيما يزيده على أصحاب مالك الحفّاظ، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر "تهذيب التهذيب" (9/ 442). (¬2) في "الموطأ" (1/ 84). (¬3) "الجوهر النقي" (2/ 160). (¬4) (1/ 218). قال ابن عبد البر في "التمهيد" (11/ 48): انفرد يحيى بن سلام برفعه عن مالك، ولم يتابع على ذلك، والصحيح فيه أنه من قول جابر.

[ص 88] وأما الأثر الآخر عن جابر (¬1)، ففي سنده الضحاك بن عثمان؛ وثَّقه الأكثر. وقال أبو زرعة: ليس بقوي، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتجُّ به، وهو صدوق. وقال ابن عبد البر: كان كثير الخطأ، ليس بحجَّة (¬2). وقد أخرج ابن ماجه والبيهقي (¬3) بسند صحيح عن يزيد الفقير - وهو ثقة، احتجَّ به الشيخان وغيرهما - عن جابر بن عبد الله قال: "كنا نقرأ في الظهر والعصر خلف الإِمام في الركعتين الأُولَيين بفاتحة الكتاب وسورة، وفي الأخريين بفاتحة الكتاب". وأخرجه البيهقي في موضع آخر (¬4) بسند صحيح أيضًا، ولفظه: "سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: يقرأ في الركعتين - يعني الأُولَيين - بفاتحة الكتاب وسورة، وفي الأخريين بفاتحة الكتاب، قال: وكنا نتحدَّث أنه لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب فما فوق ذاك، أو قال: ما أكثر من ذاك". قال صاحب "الجوهر النقي" (¬5): "مضطرب المتن". أقول: ليس هذا باضطراب؛ بل سمع يزيد من جابر هذا اللفظ مرة، واللفظ الآخر مرة أخرى، وليس بين اللفظين تناقض حتى يقال: مضطرب. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (1/ 376)، ولفظه: "لا يقرأ خلف الإمام". (¬2) انظر "تهذيب التهذيب" (4/ 447). (¬3) ابن ماجه (843) و"السنن الكبرى" (2/ 170). (¬4) (2/ 63). (¬5) (2/ 161).

وقد جمع البيهقي (¬1) بين ما رُوِيَ عن جابر بأنه كان يرى القراءة خلف الإِمام فيما لا يجهر فيه، ولا يراها فيما يجهر فيه. أقول: وهذا محتمل، ويحتمل أن يكون هذا فيما دون الفاتحة؛ بدليل قوله: "وكنا نتحدَّث أنه لا صلاة إلاَّ بفاتحة الكتاب". فأما قوله في رواية وهب بن كيسان: "من صلَّى ركعةً لم يقرأ فيها بأم القرآن إلاَّ وراء الإِمام فيمكن أن يحمل قوله: "إلاَّ وراء الإِمام" على المسبوق، والله أعلم. وقد عُلِم بما مرَّ عن جابر ما يدلُّ على بطلان زيادة: "في الظهر أو العصر" في حديث ابن شدّاد؛ إن صحَّ كونه من رواية جابر المشهور. إذ كيف يكون هذا الحديث بتلك الزيادة عن جابر، ثم يقول: "كنا نقرأ في الظهر والعصر خلف الإِمام" إلى آخره، ولا يبيِّن ما يخالفه؟ وبما ذُكِر يترجَّح - على فرض صحة تلك القصة - أنها كانت في صلاة جهرية، وعلم جابر بالقرائن أنَّ قوله: "من كان له إمام فقراءة الإِمام له قراءة" خاص بالجهرية. ثم يحمل - كما قاله البخاري وغيره - على ما عدا الفاتحة؛ للأدلة المتكاثرة على وجوب الفاتحة على المأموم، ومنها حديث مكحول عن محمود عن عبادة، وهو نصٌّ يُخصَّص به عموم هذا مع ما يعضد حديث عبادة من النصوص العامة والخاصة التي تقدَّم بعضها، والله أعلم. ¬

_ (¬1) في "السنن الكبرى" (2/ 160).

هذا على فرض صحَّة الحديث، وقد علمت ما فيه. وفي "التعليق المغني على سنن الدارقطني" (¬1)، نقلاً عن "معرفة السنن" للبيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: سمعت سلمة بن محمد الفقيه [ص 89] يقول: سألت أبا موسى الرازي الحافظ عن حديث: "من كان له إمام فقراءة الإِمام له قراءة"؛ فقال: لم يصحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه شيءٌ؛ إنما اعتمد مشايخنا فيه على الروايات عن علي وابن مسعود وغيرهما من الصحابة. قال أبو عبد الله الحافظ: أعجبني هذا لما سمعته؛ فإنَّ أبا موسى أحفظ من رأينا من أصحاب الرأي على أديم الأرض. أقول: والثابت عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه الأمر بالقراءة خلف الإِمام (¬2). وأما ابن مسعود فقال البخاري في "جزء القراءة" (¬3): "وقال لنا إسماعيل بن أبان: حدثنا شريك عن أشعث بن أبي الشعثاء عن أبي مريم: سمعت ابن مسعود رضي الله عنه يقرأ خلف الإمام". وأخرجه البيهقي (¬4) من طريق علي بن حُجر ثنا شريك عن أشعث بن سليم عن عبد الله بن زياد الأسدي قال: صلَّيت إلى جنب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه خلف الإِمام؛ فسمعته يقرأ في الظهر والعصر. ¬

_ (¬1) (1/ 326). وانظر "معرفة السنن والآثار" (3/ 79، 80). (¬2) انظر "السنن الكبرى" (2/ 168) و"القراءة خلف الإِمام" للبيهقي (ص 92 - 93). (¬3) (ص 163، 164). (¬4) (2/ 169).

وفي "الجوهر النقي" (¬1): "وقال ابن أبي شيبة ثنا أبو الأحوص عن منصور عن أبي وائل قال: جاء رجلٌ إلى عبد الله فقال: أَقْرَأُ خلف الإِمام؟ فقال: إنَّ في الصلاة شغلاً، وسيكفيك قراءة الإِمام". وقدح صاحب "الجوهر" (¬2) في الأثر الأول بأنَّ في سنده شريكًا، وذكر كلام البيهقي فيه. أقول: شريك إمام. قال ابن معين: هو أحبُّ إليَّ من أبي الأحوص. وقال أيضًا: ولم يكن شريك عند يحيى - يعني القطان - بشيء، وهو ثقة ثقة. وقال ابن أبي حاتم: سالت أبي عن شريك وأبي الأحوص أيهما أحبُّ إليك؟ قال: شريك، وقد كان له أغاليط (¬3). وأبو الأحوص هو الواقع في سند الأثر الثاني. وقد أخطأ فيه، وخالفه الطَّوْدان سفيانُ وشعبةُ؛ رواه البيهقي (¬4) من طريقهما عن منصور عن أبي وائل أنَّ رجلاً سأل ابن مسعود عن القراءة خلف الإِمام؛ فقال: أنصت للقرآن؛ فإنَّ في الصلاة شغلاً، وسيكفيك ذاك الإمام. قال البخاري في "جزء القراءة" (¬5): "وقال أبو وائل، عن ابن مسعود: أَنصِتْ للإمام. وقال ابن المبارك: دلَّ أنَّ هذا في الجهر، وإنما يُقرأ خلف ¬

_ (¬1) (2/ 170). وانظر "المصنف" (1/ 376). (¬2) (2/ 170). (¬3) انظر "تهذيب التهذيب" (4/ 334، 335). (¬4) (2/ 160). (¬5) (ص 116, 117).

الإِمام فيما سكت الإمام". أقول: ومع ذلك فليس نصًّا في ترك الفاتحة؛ فقد يجوز أن يكون أراد الإنصات عما عداها للعلم بوجوبها. وقال صاحب "الجوهر النقي" (¬1): قال البزَّار: ثنا محمد بن بشَّار وعمرو بن علي قالا: ثنا أبو أحمد أنا يونس بن أبي إسحاق عن أبيه عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: كانوا يقرؤون خلف النبي - عليه السلام -؛ فقال: "خلَّطتم عليَّ القرآن". أقول: قد تقدَّم في الكلام على آية الإنصات نقلُ هذا الحديث عن "جزء القراءة" (¬2) للبخاري، رواه عن محمد بن مقاتل قال: حدثنا النضر قال أنبأنا يونس بسنده هذا، ولفظه: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -[ص 90] لقوم كانوا يقرؤون القرآن، فيجهرون به: "خلَّطتم عليَّ القرآن". وكنا نسلِّم في الصلاة، فقيل لنا: "إنَّ في الصلاة لشغلاً". ... ¬

_ (¬1) (2/ 162). (¬2) (ص 400، 401).

المسألة الخامسة هل يزيد المأموم في الأوليين من الظهر والعصر على الفاتحة

[ص 91] المسألة الخامسة هل يزيد المأموم في الأُولَيين من الظهر والعصر على الفاتحة قد يستدلُّ على المنع بالأحاديث المتقدِّمة (¬1) في أوائل المسألة الرابعة. ولفظ الحديث الأول منها: صلَّى النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فلما قضى صلاته قال: "أتقرؤون والإمام يقرأ؟ " قالوا: إنا لنفعل، قال: "فلا تفعلوا إلاَّ أن يقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب في نفسه". وقال في الثاني نحوه. وفي الثالث: "تقرؤون خلفي؟ " قالوا: نعم، إنا لنهُذُّ هذًّا، قال: "فلا تفعلوا إلاَّ بأمِّ القرآن". وفي الرابع: "تقرؤون القرآن إذا كنتم معي في الصلاة؟ " قالوا: نعم يا رسول الله، إنا لنهذُّ هذًّا، قال: "فلا تفعلوا إلاَّ بأم القرآن". وفي الخامس: "هل تقرؤون إذا كنتم معي في الصلاة؟ " قلنا: نعم، قال: "فلا تفعلوا إلاَّ بأم القرآن". وفي السادس: "تقرؤون خلفي؟ " قالوا: نعم، قال: "فلا تفعلوا إلاَّ بأم الكتاب". ويجاب عن هذا بأنَّ في حديث عبادة: "إني لأراكم تقرؤون خلف إمامكم إذا جهر". وفي الرواية الأخرى: "هل تقرؤون إذا جهرت بالقراءة؟ " ¬

_ (¬1) سبق ذكر هذه الأحاديث وتخريجها.

فقال بعضنا: إنا لنصنع ذلك، قال: "فلا تفعلوا، وأنا أقول: ما لي أُنازَع القرآنَ، فلا تقرؤوا بشيءٍ من القرآن إذا جهرتُ؛ إلاَّ بأمِّ القرآن". فقيَّد النهي بما إذا جهر؛ فتُحْمَل عليه تلك الأحاديث المطلقة. فإن قيل: حديث عبادة وإن كان مقيَّدًا بما إذا جهر فهو من حيث المعنى يدلُّ أنَّ مثل ذلك ما إذا أسرَّ؛ لأنه علَّل بالمنازعة، واستثنى الفاتحة؛ معلِّلًا بأنها فرضٌ؛ كأنه يقول: تُغتفر المنازعة بالفاتحة لأنها فرض. وقد ثبت بحديث عمران أنَّ المنازعة تكون في السرِّية أيضًا، والزيادة في السرِّية ليست فرضًا على المأموم اتفاقًا؛ فيفهم من هذا المنعُ منها. قلت: لا نسلِّم أنَّ المنازعة تكون في السرية، وإنما تلك المخالجة، وهي أخفُّ من المنازعة. وحديث عمران دليل لنا. سلَّمنا أنهما واحد، ولكن لا نسلِّم أنَّ المنازعة كانت تحصل بمطلق القراءة خلفه - صلى الله عليه وسلم -، وإنما كانت تحصل بقراءة نفس السورة التي يقرأها بعد الفاتحة. وحديث عمران واضحٌ في ذلك؛ لأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - استدلَّ بالمخالجة على أنَّ بعض المقتدين به قرأ بسورة سبِّح اسم ربِّك الأعلى. ولو كانت المخالجة تحصل بالقراءة مطلقًا لما دلته المخالجة إلاَّ على قراءة بعضهم فقط. ويوضِّح هذا قوله: "خالجنيها"؛ فإنه ظاهر في أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأها، وذلك الرجل يقرؤها معه؛ فتخالجاها. [ص 92] وهكذا قوله في حديث ابن أُكيمة: "هل قرأ معي أحدٌ منكم آنفًا".

فقوله: "معي" يدلُّ أنَّ المراد: قرأ معي نفس السورة التي قرأتها. ألا ترى أنك لو قلت: قرأت سورة الكهف، وقرأ معي فلان؛ فَهِم السامع أنَّ فلانًا قرأ معك سورة الكهف عينها. وإنما لم يُسمَّ في حديث ابن أُكيمة السورة كما سمَّاها في حديث عمران لأنَّ قصة حديث ابن أكيمة في صلاة الصبح وهي جهرية؛ فقد سمعوا قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلموا السورة التي قرأها. فاكتفى بقوله: "هل قرأ معي أحد منكم"؛ فعُلِمَ أنه أراد نفس السورة التي قرأها هو - صلى الله عليه وسلم -، فأجابه الذي قرأها معه بقوله: نعم، أنا يا رسول الله. وأما في حديث عمران فكانت الصلاة سريَّة؛ فلو اقتصر على قوله: "من قرأ معي" لما علموا أيَّ سورة قرأ، وكلّ واحد منهم قد قرأ بسورة؛ فلهذا سمَّاها لهم، فتدبَّر. فإن قلت: فمقتضى هذا الكلام أن يُمنع المأموم في السريَّة من قراءة غير الفاتحة مطلقًا؛ لأنه لا يدري لعله يقرأ السورة التي يقرأها النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولا يُمنَع في الجهرية إلاَّ من قراءة السورة التي يقرؤها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وله أن يقرأ غيرها. قلت: إنما يأتي هذا إذا قلنا إنَّ المنازعة هي العلَّة، ولسنا نقول ذلك، وإنما العلَّة عندنا هي الإخلال باستماع القراءة لغير موجب. وإنما ذكر - صلى الله عليه وسلم - المنازعة إعلامًا لهم بالدليل الذي استدلَّ به على أنَّ بعضهم قرأ معه. وفي ذلك معجزة يفيدهم الاطلاعُ عليها، فإنَّ المنازعة لا تحصل لغيره

- صلى الله عليه وسلم -، وهي أمرٌ روحاني مختصٌّ به، بأبي هو وأمي. وذلك نظير إخباره إياهم بالمخالجة في حديث عمران. ولو كانت العلَّة هي المنازعة للزم أن لا يمنع المقتدي بغير النبي - صلى الله عليه وسلم - من القراءة مطلقًا؛ لأنَّ المنازعة لا تحصل لغيره - صلى الله عليه وسلم -، والحكم يدور مع علَّته، والله أعلم. ومن أدلتنا الحديث الصحيح (¬1) عن جابر: "قال: كنا نقرأ في الظهر والعصر خلف الإِمام في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة، وفي الأخريين بفاتحة الكتاب". وقد تقدَّم وصحَّ عن أمير المؤمنين عليٍّ أنه كان يأمر بذلك. وصحَّ عن مجاهد قال: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقرأ خلف الإِمام في صلاة الظهر من سورة مريم (¬2). وروى البيهقي (¬3) من طريق العوام بن حمزة (¬4) عن ثابت عن أنس قال (¬5): كان يأمرنا بالقراءة خلف الإِمام. [ص 93] قال: وكنت أقوم إلى جنب أنس؛ فيقرأ بفاتحة الكتاب وسورةٍ من المفصَّل، ويُسْمِعنا قراءته لنأخذ عنه. ¬

_ (¬1) سبق ذكره والكلام عليه. (¬2) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 169). (¬3) (2/ 170). (¬4) عند البيهقي في هذا الإسناد: "العوام بن حوشب". ثم ذكر إسنادًا آخر وفيه: "العوام وهو ابن حمزة"، وقال: هذا أصح. (¬5) أي ثابت: كان أنس يأمرنا ... ، وكذا "قال" الآتي.

اعترضه التركماني (¬1) بأنَّ العوَّام بن حمزة قال فيه ابن الجوزي في كتاب "الضعفاء": قال يحيى: ليس حديثه بشيء، وقال أحمد: له أحاديث مناكير. قلت: في "فتح المغيث" (¬2): عن ابن القطان أنَّ ابن معين إذا قال في الراوي: "ليس بشيء" إنما يريد أنه لم يرو حديثًا كثيرًا. وفي "تهذيب التهذيب" (¬3) عن يحيى القطان: ما أَقْربَه من مسعود بن علي، ومسعود لم يكن به بأس. وعن أحمد: له ثلاثة أحاديث مناكير. وعن ابن معين: ليَّن. وقال إسحاق بن راهويه: بصري ثقة. وعن أبي زرعة: شيخ، قيل: فكيف ترى استقامة حديثه؟ قال: لا أعلم إلاَّ خيرًا. وقال الآجريُّ عن أبي داود: ما نعرف له حديثًا منكرًا، وقال مرَّةً: ثقة. وقال النسائي: لا بأس به. أقول: وقول أحمد "له ثلاثة أحاديث مناكير" كأنَّ الحمل فيها على من فوقه؛ بدليل قول أبي داود. فحديث الرجل لا ينزل عن درجة الحسن، والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) (2/ 172). (¬2) (2/ 123). (¬3) (8/ 163).

المسألة السادسة إذا كان المأموم أصم أو بعيدا عن الإمام لا يسمع قراءته؛ فهل يقرأ غير الفاتحة والإمام يجهر؟

[ص 94] المسألة السادسة إذا كان المأموم أصمَّ أو بعيدًا عن الإِمام لا يسمع قراءته؛ فهل يقرأ غير الفاتحة والإمام يجهر؟ ظواهر الأحاديث المتقدمة المنع من ذلك؛ هذا من حيث ألفاظها. وأما من حيث المعنى فالظاهر عدم المنع؛ لأنَّ علة المنع هي - كما تقدَّم - كون القراءة تُخِلُّ باستماع قراءة الإِمام، وهذه العلة منتفية ههنا. ومن قال: العلة المنازعةُ فعدم المنع أظهر، لما قدَّمنا أنَّ المنازعة لا تحصل لغير النبي - صلى الله عليه وسلم -. وترجيح دلالة المعنى هنا من باب تخصيص الحكم لخصوص علته. والعلماء رحمهم الله تعالى يترددون في ذلك. وفي "سنن البيهقي" (¬1) بسند صحيح عن أبي شيبة المَهرْي قال: سأل رجلٌ معاذ بن جبل عن القراءة خلف الإِمام، قال: إذا قرأ فاقرأ بفاتحة الكتاب وقل هو الله أحد، وإذا لم تسمع فاقرأ في نفسك، ولا تؤذي مَن عن يمينك ولا مَن عن شمالك. والذي أختاره لنفسي عدم القراءة بغير الفاتحة؛ لظواهر الأحاديث، ولأنه قد يُخِلُّ باستماع غيره من المقتدين الذين يسمعون، وهذا ظاهر في الأصم، وممكن في البعيد. ¬

_ (¬1) (2/ 169).

ولأنه يُرجى أنه إذا أنصت تمام الإنصات سمع. ولسدِّ الذريعة. والله تبارك وتعالى أعلم.

- 1 - (¬1) [ص 9] ولو كان الذي قرأ رفع صوته حتى سمعه النبي - صلى الله عليه وسلم - لما كان للاستفهام والتعجب وجه، والله أعلم. ثم قال الشارح: (وكذا القول بأنَّ حديث أبي هريرة مختصر من حديث عبادة، والواقعة واحدة = لا يصحُّ؛ لأنه قول بلا دليل). أقول: القائل ذلك رأى اتفاق الحديثين في أمور: منها: أنَّ الصلاة كانت الصبح. ومنها: في حديث عبادة ثقل القراءة والتباسها، وفي حديث ابن أكيمة المنازعة، والمعنى واحد؛ لأن المنازعة تُوجب الثقل والالتباس. مع أنَّ في رواية من روايات حديث عبادة: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وأنا أقول: ما لي أنازع القرآن، فلا يقرأنَّ أحد منكم شيئًا من القرآن إذا جهرتُ؛ إلاَّ بأم القرآن". أخرجه الدارقطني، وقال: هذا إسناد حسن، ورجاله ثقات كلهم. وهذا اللفظ - أعني قوله: "وأنا أقول: ما لي أنازع القرآن" - هو عين اللفظ الواقع في حديث ابن أكيمة. ومنها: الاستفهام عن القراءة. ومنها: الجواب بالإثبات. ¬

_ (¬1) من هنا إلى (ص 210) أوراق متفرقة كتبها المؤلف في الرد على شارح الترمذي ووضعها في أثناء الكتاب في مواضع، فأفردناها وألحقناها بآخره، ورقمنا كل مجموعة برقم مستقل، أما الأحاديث والآثار فقد سبق تخريجها، فلا نعيدها.

ومنها: في حديث عبادة: "فلا تفعلوا"، وحديث ابن أكيمة يُشعِر بذلك كما تقدَّم. وزاد عبادة استثناء الفاتحة، وليس ذلك في حديث ابن أكيمة، ولكن ذلك ينجبر بما عُرِف من مذهب أبي هريرة. على أنَّ حديث ابن أكيمة لم تدخل فيه الفاتحة أصلاً، كما يأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى. فرأى ذلك القائل أنَّ هذا الاتفاق يحصل به غلبة الظن بأنَّ الحديثين واقعة واحدة، هذا دليله. ومع ذلك ففي النفس شيءٌ من ذلك؛ لأنَّ في حديث عبادة في رواية: "إني أراكم تقرؤون وراء إمامكم، قلنا: أجل والله يا رسول الله، إنا لنفعل هذًّا". وفي حديث ابن أكيمة: "هل قرأ معي أحد منكم آنفًا؟ فقال رجل: نعم، أنا يا رسول الله". فالاستفهام مختلف، والجواب مختلف، وسيتضح ذلك قريبًا إن شاء الله تعالى. ثم قال الشارح: (وحملُ حديث أبي هريرة على ما عدا الفاتحة تعسُّفٌ، بل علَّة الشارع فيه العموم؛ لأنَّ الشارع منع عن القراءة مطلقًا، وبيَّن علة النهي المنازعة، وقراءة الفاتحة وغيرها مشتركة في المنازعة سواء فيها، بدون فرق؛ فهذه العلة تجري في قراءة الفاتحة كما تجري في قراءة غيرها سواء بسواء). أقول: الحديث من رواية أبي هريرة، ومذهبه الذي كان يفتي به كما في "صحيح مسلم" وغيره وجوب القراءة على المأموم سواء أسرَّ الإِمام أم جهر، ومذهب الإِمام أبي حنيفة رحمه الله أنَّ فتوى الراوي على خلاف

روايته قادح في ما رواه. والشارح عافاه الله حنفي، وقد احتجَّ بمثل هذا كما يأتي. والشافعي والمحدثون وإن قالوا: العبرة بما روى دون ما رأى؛ فإنهم لا ينكرون أنَّ فتوى الراوي بخلاف ما روى تُورِث شبهة ما فيما روى، فإذا انضمَّ إلى ذلك وهنٌ في السند أو نحوه قويت الشبهة؛ فقد تبلغ إلى حدِّ يتعيَّن بسببه ردُّ الرواية أو تأويلها. وقد انضمَّ إلى فتوى أبي هريرة لِينُ ابن أكيمة. فقد قال الحميدي وغيره: مجهول، لم يروِ عنه إلاَّ ابن شهاب هذا الحديث وحده. والذين قوَّوه إنما استندوا إلى أنَّ الزهري سمعه يحدِّث سعيد بن المسيِّب؛ فاستدلُّوا بذلك [ص10] على أنه كان مقبولًا عند سعيد. وهذا الاستدلال لا يكفي مثله في تثبيت حديث يلزم منه نسخ الأحاديث الصحيحة. وانضمَّ إلى ذلك أيضًا اتفاقُ هذا الحديث مع حديث عبادة في أكثر الأمور. فلو لم يكن إلاَّ هذا لكان كافيًا في وجوب حمل القراءة في حديث ابن أكيمة على غير الفاتحة، أو على الأقل في منع أن يقال لهذا الحمل تعسُّف، فكيف وعندنا برهان واضح على هذا الحمل، فدونكه: قد ثبت بالأوجه الثلاثة التي قدمناها في الكلام على قول الشارح أن الاستفهام للإنكار، والتمسنا منك التحفظ بها، وقلنا: إنه سيكون لها نبأ. إنَّ الاستفهام والجواب والتعجُّب في هذا الحديث يدلُّ على أنهم لم يكونوا قبله مأمورين بالقراءة التي سألهم عنها، بل إما أن يكونوا لم يؤمروا

بها قط، وإما أن يكونوا أُمروا بها أولًا ثم نُهوا عنها قبل هذا الحديث؛ فارجع إلى تلك الأوجه، وتدبَّرها جيدًا. ثم إنك تعلم أنَّ أحاديث وجوب الفاتحة عامة تتناول المأموم وإن جهر الإِمام، وقد ثبت ذلك نصًّا بحديث عبادة وشواهده. فحديث ابن أكيمة لا يخلو أن يكون قبلها أو بعدها. فإن كان قبلها فهو منسوخ بها أو محمول عليها، وانقطع النزاع. وإن كان بعدها - كما اختاره الشارح - فالأوجه الثلاثة المتقدمة توجب أحد أمرين: إما أن يكون المراد بالقراءة التي سألهم عنها يصدق بالفاتحة، ويكون قد سبقه ناسخٌ لوجوبها؛ حتى صحَّ ذلك الاستفهام والجواب والتعجُّب. وإما أن يكون المراد قراءة غير الفاتحة؛ وكأنَّ ذلك الرجل لم يبلغه حديث عبادة في النهي عن قراءة غير أم القرآن وراء الإِمام إذا جهر، وتكون القرينة علمهم أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم أن الفاتحة واجبة عليهم، وأنهم لا يدعونها كلُّهم، فيعلمون أنه لا يقول لهم: هل قرأ معي أحدٌ منكم آنفًا؛ ويريد ما يصدق بالفاتحة، وأنه لا يتعجَّب من المنازعة التي تحصل بقراءتهم الفاتحة إن كانت تحصل بها. فهذه قرينة واضحة؛ تدلُّهم أنه - صلى الله عليه وسلم - إنما أراد قراءة غير الفاتحة؛ فتدبَّر هذا الكلام جيدًا. وإذ قد انحصر الواقع في هذين الاحتمالين فما بقي علينا إلاَّ أن ننظر أيهما أرجح، سائلين الله تعالى التوفيق. قد يرجح الأول بأنَّ فيه إبقاء لفظ "قرأ" على إطلاقه.

ويرجح الثاني بأنَّ الآثار عن الصحابة تدلُّ أنه لما وقع هذا السؤال لم يفهموا منه الإطلاق، وإنما ذلك لقيام القرينة. وبيان ذلك: أنَّ مذهب أبي هريرة نفسه - كما تقدَّم - وجوب القراءة خلف الإِمام ولو جهر. ووافقه على ذلك جمهور الصحابة؛ منهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، [ص 11] وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وراوي حديث: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" عبادة بن الصامت، شهد العقبتين وبدرًا، وهو أحد النقباء. وجاء عن جماعة من الصحابة القراءة خلف الإِمام مطلقًا، منهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وأم المؤمنين عائشة، وسيِّد المسلمين أبي بن كعب، وصاحب السرِّ حذيفة بن اليمان، وأبو سعيد الخدري، وأنس بن مالك، وهشام بن عامر. وجاء عن بعضهم القراءة خلف الإِمام في الظهر والعصر، ولم ينفوا ما سوى ذلك؛ منهم: عبد الله بن مغفَّل، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمرو بن العاص. واختلفت الرواية عن الحبر عبد الله بن مسعود، والبحر عبد الله بن عباس، والناسك عبد الله بن عمر، وجابر، وأبي الدرداء. وجاء عن زيد بن ثابت أنه قال: "لا قراءة مع الإِمام في شيء" ولم يُنقل عنه خلاف ذلك. وقال القاسم بن محمد: كان ابن عمر لا يقرأ خلف الإِمام جهر أو لم يجهر، وكان رجال أئمة يقرؤون وراء الإمام.

قلت: وقد روي عن ابن عمر خلاف هذا. وقال البخاري: وقال ابن خُثيم: قلت لسعيد بن جبير: أقرأُ خلف الإِمام؟ قال: نعم وإن كنت تسمع قراءته؛ فإنهم قد أحدثوا ما لم يكونوا يصنعونه، إنَّ السلف كان إذا أمَّ أحدهم الناس كبَّر ثم أنصت، حتى يظنَّ أنَّ من خلفه قرأ بفاتحة الكتاب، ثم قرأ وأنصتوا. انظر أسانيد هذه الآثار في "جزء القراءة" للبخاري، و"السنن الكبرى" للبيهقي. وفي حديث ابن أكيمة ما يُعلم منه أنه لم يقرأ في تلك الواقعة تلك القراءة التي سأل عنها إلاَّ رجلٌ واحدٌ من الصحابة؛ فما ظنك بهم بعد ذلك وقد سمعوا هذا الحديث؟ لا أراك ترتاب أن الظن بهم أن لا يعود أحد منهم لتلك القراءة التي سأل عنها النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد جاء في آخر حديث ابن أكيمة في بعض الروايات زيادة: "فانتهى الناس عن القراءة فيما جهر فيه الإِمام، وقرؤوا في أنفسهم سرًّا فيما لا يجهر فيه الإمام". وقد حقَّق الأئمة محمد بن يحيى والبخاري وغيرهما أنَّ هذا من كلام الزهري. وأنا أقول: هَبْهُ من كلام أبي هريرة فإنه يؤكِّد ذلك الظن. فكيف تجمع بين هذا وبين ما سمعته عن راوي هذا الحديث نفسِه وعن جمهور الصحابة؟ فهل هناك جامع غير أن يقال: إنَّ السؤال عن القراءة في حديث ابن أكيمة متوجِّهٌ إلى قراءة غير الفاتحة؟ وكانت عند الصحابة رضي الله عنهم عندما خاطبهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في قرينة مبيِّنة لذلك. وأظهر القرائن هو ما تقدَّم،

وزيادة "فانتهى الناس ... " إلخ لو ثبتت تبع لذلك، والمعنى: فانتهى الناس عن القراءة بغير الفاتحة. وإذا ثبتت القرينة الصارفة عن الإطلاق سقط ما يرجح به الاحتمال الأول من إبقاء اللفظ على إطلاقه. [ص 16] فأما قول الشارح: (إنَّ علَّة النهي هي المنازعة؛ وهي تحصل بالفاتحة كما تحصل بغيرها) ففيه نظر. فالجواب: أنَّ المنازعة قد حصلت في حديث عمران، وإن سمَّاها "المخالجة"، وفي حديث عبادة لثقل القراءة والتباسها؛ وذلك نتيجة المنازعة. مع أنه قد جاء في روايةٍ في حديث عبادة: " ... فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وأنا أقول ما لي أنازع القرآن، فلا يقرأنَّ أحد منكم شيئًا من القرآن إذا جهرتُ إلاَّ بأم القرآن". أخرجه الدارقطني، وقال: هذا إسناد حسن، ورجاله ثقات كلهم. والشارح يوافقنا أنهم في واقعتي عمران وعبادة كانوا يقرؤون الفاتحة؛ فهل كانت تحصل المنازعة بقراءتهم لها أم لا؟ أما حديث عمران فلا دليل فيه على ذلك، وإنما فيه حصول المخالجة بقراءة: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، ولا يلزم من حصول المنازعة بقراءة غير الفاتحة حصولها بقراءة الفاتحة؛ لأنَّ المنازعة أمرٌ روحاني لا يُدرك بالقياس. وأما حديث عبادة فقد يقال: إنَّ قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إني أراكم تقرؤون" مطلقٌ يتناول الفاتحة، ولذلك استثناها لما قال: "فلا تفعلوا إلاَّ بأم القرآن". وقد قال الراوي: إنَّ القراءة التبست على النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ وذلك دليل المنازعة، وقد

أوضحت ذلك رواية الدارقطني السابقة. فلما كانت المنازعة حصلت بسبب القراءة التي سألهم عنها بقوله: "إني أراكم تقرؤون"، وهذه القراءة شاملة للفاتحة كما مرَّ، فقد يؤخذ منه أنَّ المنازعة كانت تحصل بسبب قراءة الفاتحة، وإنما استثناها من النهي لأنها كانت واجبة، وأداء الواجب مقدَّمٌ على ترك المنازعة. وقد نصَّ - صلى الله عليه وسلم - على هذه العلَّة بقوله: "فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها". هذا أقصى ما يحتجُّ به لحصول المنازعة بقراءة الفاتحة، وفيه بعد ذلك نظر يظهر بالتأمل. ولكننا نقول: هَب المنازعة كانت تحصل بقراءة الفاتحة؛ فإننا قد أثبتنا فيما تقدَّم أن السؤال في حديث ابن أكيمة إنما وقع عن قراءة غير الفاتحة. فإن ثبت أنه نهى فالنهي متوجِّهٌ إلى ذلك. وإذا نهى عن قراءة غير الفاتحة معلِّلاً بالمنازعة لم يكن لهم ولا لنا أن نقيس الفاتحة على غيرها بجامع المنازعة؛ لتقدُّم حديث عبادة بالنصِّ على أنَّ المنازعة إنما تمنع القراءة بغير الفاتحة. فأما الفاتحة فلا؛ لأنه لا قراءة لمن لم يقرأ بها؛ فأداؤها لا بد منه. وإن لزم منه المنازعة. فهذا نصٌّ مبطلٌ للقياس، مبيِّنٌ للفرق الواضح. بل لو لم يتقدَّم حديث عبادة لكفى في منع القياس ما علموه من فرضية الفاتحة دون غيرها، فهذا كافٍ لمنع القياس؛ لأنَّ منعه لهم من القراءة المندوبة لمفسدة المنازعة لا يلزم منه منعُه لهم من القراءة الواجبة؛ للفرق المعلوم بين الفرض والنفل، وهذا واضحٌ جدًّا، والله أعلم.

- 2 - [ص 7] وأما حديث: "من كان له إمام فقراءة الإِمام له قراءة" فالحفَّاظ مجمعون على ضعفه، وسيأتي توجيه ذلك إن شاء الله تعالى بما لا يمسُّ عظمة الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى. وقد تأوَّله البخاري رحمه الله تعالى على فرض صحَّته: بأنه عام مخصوص بحديث عبادة، فتخرج منه الفاتحة. أقول: وتخرج أيضًا الزيادة على الفاتحة في السرية بحديث عمران بن حصين الذي تقدَّم. وقد روى الإِمام أبو حنيفة عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شدَّاد بن الهاد عن جابر بن عبد الله: أن رجلاً قرأ خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}؛ فلما انصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ منكم بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}؛ فسكت القوم، فسألهم ثلاث مرات، كل ذلك يسكتون، ثم قال رجل: أنا، قال: قد علمتُ أنَّ بعضكم خالجنيها. وقال عبد الله بن شدَّاد عن أبي الوليد عن جابر بن عبد الله: أنَّ رجلاً قرأ خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - في الظهر والعصر فأومأ إليه رجلٌ فنهاه؛ فلما انصرف قال: أتنهاني أن أقرأ خلف النبي - صلى الله عليه وسلم -، فتذاكرا ذلك حتى سمع النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من صلَّى خلف الإمام فإن قراءته له قراءة. هكذا في "سنن الدارقطني": حدثنا أبو بكر النيسابوري عن أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ثنا عمِّي ثنا الليث بن سعد عن يعقوب عن النعمان، فذكره.

ثم قال الدارقطني: أبو الوليد هذا مجهول. أقول: كنية عبد الله بن شدَّاد أبو الوليد، فالله أعلم. وقد أخرج الطحاوي الحديث الثاني في "شرح معاني الآثار"، ولفظه: حدثنا أحمد بن عبد الرحمن قال ثنا عمي عبد الله بن وهب قال أخبرني الليث عن يعقوب عن النعمان عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شدَّاد عن جابر بن عبد الله أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة". أخرجه من طريق الثوري، ولم يذكر جابر. وأخرجه من طريق إسرائيل عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شدَّاد عن رجل من أهل البصرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحوه. فالحديث الأول في قراءة سبح اسم ربك الأعلى هو حديث عمران بن الحصين بعينه. ولفظه عند مسلم: عن عمران بن حصين قال: صلَّى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الظهر أو العصر؛ فقال: أيكم قرأ خلفي بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}؟ فقال رجل: أنا، ولم أُرِدْ بها إلاَّ الخير، قال: قد علمتُ أنَّ بعضكم خالجنيها. وقد روى محمد بن الحسن في "كتاب الآثار" الحديث الثاني عن أبي حنيفة رحمه الله، وليس فيه ذكر الظهر والعصر. وكذا رواه البيهقي وغيره من طريق مكي بن إبراهيم عن أبي حنيفة. والذي يغلب على الذهن أنَّ قوله "في الظهر والعصر" إنما هي في

الحديث الأول، كما ثبتت في حديث عمران؛ فحذْفها من الحديث الأول وإدراجها في الثاني سهو لعلَّه [ص 8] من ابن أخي ابن وهب، أو من أبي بكر النيسابوري، أو غيرهما، والله أعلم. فالحديث الأول يدلُّ على مثل ما دلَّ عليه حديث عمران من جواز قراءة المأموم غير الفاتحة في السرية. وأما الحديث الثاني فإن كان الأمر ما ظنناه من أنَّ ذكر "الظهر أو العصر" فيه مدرج، فقد تقدَّم الكلام عليه أنه عام وحديث عمران مع حديث جابر الأول خاص. وإلاَّ فالجمع بين الحديثين بأنَّ المأموم إذا لم يقرأ غير الفاتحة في السرية كَفتْه قراءة الإِمام في حصول الثواب، وإن قرأ فلا حرج. ولهذا لم ينهَ النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجل عن القراءة، ولا ذكر له أنها تُخِلُّ بالصلاة، واقتصر على قوله: "قراءة الإِمام له قراءة"، وهذا لا يُشعِر بالنهي عن القراءة، وإنما يشعر بأنه إذا لم يقرأ كَفتْه قراءة الإِمام؛ أي: فيما سوى الفاتحة كما علمْت. والله أعلم. ثم حكى الشارح عن ابن قدامة في "الشرح الكبير" قوله: (وممن كان لا يرى القراءة خلف الإِمام: علي وابن عباس وابن مسعود وأبو سعيد وزيد بن ثابت وعقبة بن عامر وجابر وابن عمر وحذيفة بن اليمان. وبه يقول الثوري وابن عيينة وأصحاب الرأي ومالك والزهري والأسود وإبراهيم وسعيد بن جبير). قلت: أكثر هؤلاء اختلفت الرواية عنهم؛ فروي عن بعضهم إيجاب الفاتحة على المأموم ولو في الجهرية. وعن بعضهم إيجابها في السرية فقط. وروي إيجابها ولو في الجهرية عن جماعة من الصحابة غير من ذكر.

قال البخاري في "جزء القراءة": (وقال عمر بن الخطاب: اقرأْ خلف الإِمام، قلت: وإن قرأتَ، قال: نعم وإن قرأتُ. وكذلك قال أبي بن كعب وحذيفة بن اليمان وعبادة رضي الله عنهم. ويُذكر عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن عمرو وأبي سعيد الخدري وعدَّة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال القاسم بن محمد: كان رجال أئمة يقرؤون خلف الإمام. وقال أبو مريم: سمعت ابن مسعود رضي الله عنه يقرأ خلف الإمام. وقال أبو وائل عن ابن مسعود: أنصِتْ للإمام. وقال ابن المبارك: دلَّ أنَّ هذا في الجهر، وإنما يقرأ خلف الإمام فيما سكت الإمام. وقال الحسن وسعيد بن جبير وميمون بن مهران وما لا أحصي من التابعين وأهل العلم: إنه يقرأ خلف الإمام وإن جهر. وكانت عائشة رضي الله عنها تأمر بالقراءة خلف الإمام ... وقال مجاهد: إذا لم يقرأ خلف الإمام أعاد الصلاة. وكذلك قال عبد الله بن الزبير ... وقال ابن خُثَيم: قلت لسعيد بن جبير: أَقرأُ خلف الإِمام؟ قال: نعم وإن كنت تسمع قراءته؛ فإنهم قد أحدثوا ما لم يكونوا يصنعونه، إنَّ السلف كان إذا أمَّ أحدهم الناس كبَّر، ثم أنصتَ حتى يظنَّ أنَّ من خلفه قرأ بفاتحة الكتاب، ثم قرأ وأنصتوا.

وقال أبو هريرة رضي الله عنه: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يقرأ سكت سكتةً. وكان أبو سلمة بن عبد الرحمن وميمون بن مهران وغيرهم وسعيد بن جبير يرون القراءة عند سكوت الإمام إلى نون {نَعْبُدُ} ... وقال الحسن وسعيد بن جبير [ص 6] وحميد بن هلال: اقرأْ بالحمد يوم الجمعة. وكان سعيد بن المسيب، وعروة، والشعبي، وعبيد الله بن عبد الله، ونافع بن جبير، وأبو المليح، والقاسم بن محمد، وأبو مجلز، ومكحول، ومالك، وابن عون، وسعيد بن أبي عروبة = يرون القراءة. وكان أنس وعبد الله بن يزيد الأنصاري يسبحان خلف الإِمام). ثم أسند عن جابر: اقرأْ في الظهر والعصر خلف الإمام، وعن ابن عمر وقد سئل عن القراءة خلف الإِمام؛ فقال: ما كانوا يرون بأسًا أن يقرأ بفاتحة الكتاب في نفسه. ثم أسند بعد ذلك كثيرًا من هذه الآثار, وأسند عن أمير المؤمنين علي: أنه كان يأمر ويحب أن يقرأ خلف الإِمام في الظهر والعصر بفاتحة الكتاب وسورة سورة، وفي الأخريين بفاتحة الكتاب. وأسند عن عبد الله بن مغفَّل أنه كان يفعل ذلك. ثم قال الشارح: (وقال ابن قدامة في "المغني": وأيضًا فإنه إجماع؛ قال أحمد: ما سمعنا أحدًا من أهل الإسلام يقول: إنَّ الإمام إذا جهر بالقراءة لا

تُجزئ صلاةُ من خلفه إذا لم يقرأ. وقال: هذا النبي وأصحابه والتابعون، وهذا مالك في أهل الحجاز، وهذا الثوري في أهل العراق، وهذا الأوزاعي في أهل الشام، وهذا الليث في أهل مصر = ما قالوا لرجل صلَّى وقرأ إمامه ولم يقرأ هو: صلاته باطلة). أقول: يريد: وقرأ إمامه جهرًا، كما لا يخفى. وبعد أن تواترت السنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الدالة على أنه لا تُجزئ صلاة من لم يقرأ بالفاتحة، ولم يثبت ما يُخرِج المأموم من هذا العموم؛ بل ثبت ما ينصُّ على أنه داخلٌ فيه، وثبت عن جماعة من الصحابة النصُّ على ذلك، وثبت مثل ذلك عن جماعة من أئمة التابعين، فلا معنى لكونهم لم ينصُّوا على أنَّ صلاة المأموم إذا لم يقرأها في الجهرية باطلة؛ لأنَّ ذلك من السنة المتوترة التي احتجُّوا بها. فمن زعم أنهم كلهم كانوا يقولون بوجوبها، ويقولون مع ذلك إذا تركها المأموم في الجهرية لا يعيد الصلاة = فعليه البيان، وإلاَّ فالظاهر بيد خصمه. نعم، لم يكونوا يشدِّدون على من رأوه لا يقرأ؛ لعلمهم أنَّ المسألة من مسائل الاجتهاد. وقد تقدَّم قول البخاري: "وقال مجاهد: إذا لم يقرأ خلف الإمام أعاد الصلاة"، وقال في موضع آخر: "وقال ابن عُليَّة عن ليث عن مجاهد: إذا نسي فاتحة الكتاب: لا تعدّ تلك الركعة". أقول: وأما مذهب أبي هريرة فمشهور. ثم إنَّ من أصل الإمام أحمد الثابت عنه: أنَّ الإجماع لا يمكن العلم به، وإنما للعالم أن يقول: لا أعلم مخالفًا، ومن أصله: أن هذا لا يكون حجة يُردُّ بها كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، والله تعالى أعلم.

[ص 5] ثم قال ابن قدامة: "ولأنها قراءة لا تجب على المسبوق؛ فلم تجب على غيره، كالسورة". أقول: إنما يصحُّ القياس لو ثبت أنَّ السقوط عن المسبوق لا علة له إلاَّ عدم الوجوب، وليس هذا بمسلَّم؛ بل العلَّة في سقوط الفاتحة عن المسبوق عند من يقول به هي التخفيف عنه، لئلاَّ تلزمه المشقة، مع أنه قد أدرك معظم الأركان. وعلى كل حال فهذا القياس معارض للنص؛ فهو فاسد الاعتبار. مع أنَّ البخاري رحمه الله تعالى اختار أنَّ من أدرك الإِمام راكعًا فركع معه لم تُحسَب له ركعة، ونقله عن جماعةٍ من الصحابة، وسيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى. قال الشارح: (ولأنَّ الفاتحة وسائر القرآن سواء في سائر الأحكام، فكذلك في الصلاة). أقول: يُطلَب جواب هذا القياس من الذي قال: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر: 87]، والمراد بالسبع المثاني والقرآن العظيم: الفاتحة كما في الصحيح. والقائل: "قسمتُ الصلاة بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل"، ثم فسَّر الصلاة بالفاتحة. ومن القائل: "لا تُجزِي صلاةٌ لا يُقرأ فيها بأم القرآن". ثم قال الشارح: (وقال الإِمام أحمد رحمه الله وغيره: إنه يُستحب أن يقرأ في سكتات الإِمام وفيما لا يجهر فيه، وإنما ذهبوا إلى أن يقرأ فيما يجهر في سكتات الإمام، لئلا تلزم القراءة حين قراءة الإِمام. وفي السر لم يطَّلِع المأموم على سكتات الإمام فيجب عليه أن لا يقرأ في السرِّ مطلقًا؛ لأنه

يمكن أن تقع قراءته في وقت قراءة الإِمام، وقد نُهِي عنه). قلت: قد بيَّنا فيما تقدَّم أنه لم يثبت دليل على منع المأموم من القراءة إلاَّ حديث عبادة: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تقرؤوا بشيءٍ من القرآن إذا جهرتُ، إلاَّ بأم القرآن؛ فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها". وأما ذهاب من ذهب إلى أنه يقرؤها في سكتات الإمام فذلك استحباب لاستماع قراءة الإِمام مع التدبُّر التام - واستماع القرآن مع التدبُّر أمرٌ مستحبٌّ إجماعًا ولو في غير الصلاة - ولظنهم أنَّ في الآية أو بعض الأحاديث التي تقدّمت دلالة على إيجاب الإنصات. وقد بيَّنا أنه إن كان في الآية دلالة على وجوب الإنصات، فالمراد به أن يستمع جهرَ الإِمام ولا يجهر، وقد عقَّبها ببيان ذلك، فأمرَ المأمورَ بالإنصات أن يذكر الله تعالى في نفسه دون الجهر. وكذلك تلك الزيادة: "وإذا قرأ فأنصتوا" إن صحَّت. ونحن نستحبُّ ذلك، ولكن إذا قصَّر الإمام في السكوت لم نترك الفريضة لأجل المستحب. ***

- 3 - [الأوراق بين: 86 - 87] [ص 1] بسم الله الرحمن الرحيم قد قدّمنا الكلام على ما أدرجه الشارح في الكلام على المسألة الأولى، من الكلام على المسألة الرابعة. وقد تكلَّم عليها ثانيًا في بابها الذي ترجم له الترمذي بقوله: (باب ما جاء في القراءة خلف الإمام) والباب الذي يليه، فسأقتصُّ أثره في هذين البابين، وأسأل الله تعالى التوفيق. قال عافاه الله: (قوله: "لا تفعلوا إلاَّ بأمِّ القرآن" فيه دلالةٌ على أنهم كانوا يقرؤون خلف الإِمام غير أم القرآن ... ، فنسخ من هذا اليوم قراءة غير أم القرآن خلف الإِمام؛ أعني: فرضية غير أم القرآن الذي كان قراءته فرضًا قبل هذا). أقول: قد تقدَّم أنَّ قراءة شيءٍ من القرآن مع الفاتحة لم يكن فرضًا قط. وتقدَّم أنَّ حديث عبادة إنما نُهي فيه (¬1) عن قراءة غير أم القرآن إذا جهر النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي "سنن الدارقطني": أخبرنا ابن صاعد ثنا عبيد الله بن سعد ثنا عمي ثنا أبي عن ابن إسحاق حدثني مكحول بهذا، وقال فيه: "إني لأراكم تقرؤون خلف إمامكم إذا جهر؟ " قلنا: أجل والله يا رسول الله، هذًّا، قال: "فلا تفعلوا إلاَّ بأمِّ القرآن؛ فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها". ¬

_ (¬1) في الأصل: "فيها".

وكذا في روايات أخرى التقييد بالجهر. وسنعقد لهذا الحديث فصلاً مستقلًّا، إن شاء الله تعالى. وزَعْم الشارح أنَّ هذا الحديث ناسخٌ، فيه كلامٌ سيأتي قريبًا، إن شاء الله تعالى. قال الشارح: (قوله: "فإنه لا صلاة ... " إلخ؛ فيه دلالة على أنَّ قراءة أم القرآن خلف الإمام إنما هو لكونها فرضًا ... ثم نُسِخت فرضيتها أيضًا في الصلاة فيما بعد؛ كما رواه ... عن أبي هريرة: "أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انصرف من صلاةٍ جهرَ فيها بالقراءة؛ فقال: هل قرأ معي أحدٌ منكم آنفًا؟ قال رجلٌ: نعم يا رسول الله، قال: إني أقول ما لي أُنازَع القرآن". هذا لفظ النسائي). أقول: هذا حديث ابن أُكيمة، وقد تقدَّم الكلام عليه، وسأتتبَّعُ هنا كلام الشارح. قال: (الاستفهام فيه للإنكار). أقول: هذا إخراجٌ له عن حقيقته بلا دليل، وقد أجابه الرجل بقوله: نعم، أنا يا رسول الله. والاستفهام الإنكاري لا يستدعي الجواب. والمتقدِّمون إنما فهموا النهي من الحديث من وجوهٍ أخر. أحدها: أنَّ الاستفهام يدلُّ أنهم لم يكونوا مأمورين بالقراءة قبل ذلك؛ إذ لو كانوا مأمورين بها لكان - صلى الله عليه وسلم - عالمًا بأنهم يقرؤون، فكيف يستفهمهم؟ وهذا الوجه يردُّ دعوى الشارح أنَّ هذا الاستفهام إنكاري؛ إذ كيف ينكر عليهم أمرًا عملوه طاعةً لله ورسوله، فلو أراد النسخ لقال: "كنتُ أمرتكم بالقراءة فلا تفعلوا" أو نحو ذلك.

الوجه الثاني: قوله: "هل قرأ معي أحدٌ منكم"، ولو كانوا مأمورين قبل ذلك بالقراءة لَعَلِم - صلى الله عليه وسلم - أنهم قرأوا كلهم؛ فكيف يقول: "هل قرأ معي أحدٌ منكم؟ ". الوجه الثالث: قوله: "وأنا أقول ما لي أنازع القرآن"؛ وهذا تعجُّبٌ؛ كما قاله أهل المعاني وغيرهم في قوله تعالى: {فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ} [النمل:20]. وهذا يدلُّ أنهم لم يكونوا مأمورين من قبل؛ إذ لو كان - صلى الله عليه وسلم - يعلم أنهم كانوا مأمورين بالقراءة لعلم أنهم [ص 2] يقرؤون، ولو علم أنهم يقرؤون مع علمه أنّ القراءة توجب المنازعة لما كان هناك وجه للتعجُّب. فهذه الوجوه تدلُّ على أنهم لم يكونوا مأمورين بالقراءة قبل. فإما أن لا يكونوا أُمِروا قطُّ، وإما أن يكونوا أُمِروا أولًا ثم نُسِخ ذلك قبل هذه الواقعة. وعلى الثاني فيكون هذا الحديث دليلًا على سَبْقِ ناسخٍ، لا ناسخًا بنفسه كما زعمه الشارح. على أنه لو كان الاستفهام إنكاريًّا كما قاله الشارح لكان هذا المعنى بحاله؛ لأنَّ الاستفهام الإنكاري يُطلق في معنيين: الأول: الإنكار الإبطالي؛ وهو يقتضي أنَّ ما بعد أداة الاستفهام واقع، وأنّ مدَّعيه كاذب. الثاني: الإنكار التوبيخي؛ وهو يقتضي أنّ ما بعد أداة الاستفهام واقع، وأن فاعله ملوم؛ قاله ابن هشام في "المغني" وغيره.

فلو كان الاستفهام في الحديث إنكاريًّا كما قاله الشارح لكان فيه توبيخ وملامة للقاريء. وكيف يجوز أن يوبِّخهم ويلومهم على القراءة التي أُعْلِموا قبل ذلك بوجوبها عليهم، ولم يُنهَوا عنها إلى وقت الاستفهام؟ فيجب إذنْ ما قدَّمناه؛ أنه إما أن لا يكونوا أُمِروا بالقراءة قطُّ، وإما أن يكونوا أُمِروا أولاً ثم نُسخ ذلك قبل هذه الواقعة، والله أعلم. الوجه الرابع: ما فيه من أنَّ قراءتهم معه - صلى الله عليه وسلم - موجبة لأن ينازع القرآن، وإعلامه لهم بهذا ربّما يشعِر بالنهي. وفي هذا الأخير نظر، وإلاَّ لكان قوله في حديث عمران: "قد علمتُ أنَّ بعضكم خالجنيها" مُشعِرًا بالنهي أيضًا، والشارح لا يقول بذلك. وقد مرَّ قول قتادة: "لو كرهها لنهى عنها". وعندي أنَّ بينهما فرقًا سيأتي في المسألة الخامسة إن شاء الله تعالى. ثم قال الشارح: (وفيه النهي عن القراءة مطلقًا). أقول: سيأتي الكلام على هذا قريبًا إن شاء الله تعالى. قال: (وحديث أبي هريرة هذا لا بدَّ أن يكون بعد حديث عبادة؛ لأنه لو كان حديث أبي هريرة قبل حديث عبادة يلزم أنَّ الصحابة يقرؤون خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد نهيه عنها مطلقًا، وهو بعيد). أقول: ومتى ثبت أنَّ النهي في حديث ابن أُكيمة عن القراءة مطلقًا؟ قال: (والقول بأنَّ المنازعة إنما تكون مع جهر المؤتمّ لا مع إسراره [لا يصحُّ]؛ لما روى مسلمٌ عن عمران بن حصين ... ، والقراءة في الظهر تكون سرًّا باتفاق الأمة).

أقول: لا حاجة إلى هذا الاستدلال؛ فإنَّ القائلين بأنَّ المؤتمَّ يقرأ يقولون: يقرأ سرًّا مطلقًا. والقائل بأنَّ المنازعة إنما تكون إذا جهر المأموم يقول: قد يخالف المأموم السنة فيرفع صوته. وقد مرَّ في الكلام على آية الإنصات ما رُوِي عن مجاهد: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الصلاة فسمع قراءة فتى من الأنصار ... ". وما رُوي عن ابن مسعود: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لقوم كانوا يقرؤون القرآن فيجهرون: "خلَّطتم عليَّ القرآن". وفي "سنن البيهقي": عن أبي هريرة أنَّ ابن حذافة صلَّى فجهر بالقراءة؛ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا ابن حذافة! لا تُسمِعْني وأَسْمِع الله عزَّ وجلَّ". وفي بعض روايات حديث عمران في "صحيح مسلم" ما يُشعِر بأنَّ الرجل رفع صوته بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، قال عمران: إنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلّى الظهر، فجعل رجلٌ يقرأ بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} الحديث. ورأى القائل بأنَّ المنازعة لا تكون إلاَّ إذا جهر المأموم أنَّ المنازعة هي ما جرت به العادة، أنَّ الرجل إذا قرأ وكان رجلٌ آخر يقرأ بحيث يسمعه تختلط عليه القراءة. وفي هذا نظر. والذي يظهر أنَّ المخالجة والمنازعة والالتباس المذكورات في حديث عمران وابن أكيمة وعبادة أمرٌ روحاني كان يعرض للنبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قرأ سورة غير الفاتحة، وقرأها معه أحدٌ ممن يصلَّي خلفه. وسيأتي إيضاح هذا قريبًا، إن شاء الله تعالى.

والدليل على أنَّ ذلك الأمر الروحاني كان يحصل ولو لم يرفع المأموم صوته قولُه - صلى الله عليه وسلم - في حديث عبادة: "هل تقرؤون إذا جهرتُ بالقراءة؟ " وفي حديث ابن أُكيمة: "هل قرأ معي أحدٌ منكم آنفًا؟ " ثم قوله: "وأنا أقول ما لي أُنازَع القرآن" [ص 3] يريد - والله أعلم -: فأَنْصِتوا عما سوى الفاتحة، وقوله: "وإذا قرأ" أي: جهرًا؛ بحيث تسمعون صوته؛ بقرينة قوله: "فأنصتوا"، فإنَّ الإنصات عند أهل اللغة هو السكوت للاستماع، كما يأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى. وبهذا تتفق الأدلة، ولله الحمد. ما يحتجُّ به من قال: إنَّ المأموم لا يقرأ أصلاً احتجُّوا بآية الإنصات، وبزيادة: "وإذا قرأ فأنصتوا" في حديث أبي موسى وحديث أبي هريرة. [ص 2] ثم قال الشارح: (وكذا القول بأنَّ حديث أبي هريرة مختصر من حديث عبادة، والواقعة واحدة = لا يصحُّ؛ لأنه قول بلا دليل). أقول: دليله اتفاق الحديثين في أمور: الأول: في أنَّ الصلاة كانت الصبح. الثاني: في حديث عبادة: أنَّ القراءة ثقلت أو التبست على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي حديث أبي هريرة قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وأنا أقول ما لي أنازع القرآن". والمعنى واحد؛ في أنَّها ثقلت أو التبست عليه، وأنه نوزع فيها.

الثالث والرابع: في حديث عبادة: "إني أراكم تقرءون وراء إمامكم؟ قال: قلنا: أجل والله يا رسول الله، إنا لنفعل هذًّا". وفي روايةٍ: "فلما انصرف أقبل علينا بوجهه؛ فقال: هل تقرءون إذا جهرت بالقراءة؛ فقال بعضنا: إنا نصنع ذلك". وفي روايةٍ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "هل تقرءون في الصلاة معي؟، قلنا: نعم". وفي روايةٍ: "فلما انصرف قال: منكم من أحدٍ يقرأ شيئًا من القرآن إذا جهرت بالقراءة؟ قلنا: نعم". وفي حديث أبي هريرة: "هل قرأ معي أحدٌ منكم آنفًا؟، قال رجلٌ: نعم، أنا يا رسول الله". وفي روايةٍ: "هل قرأ منكم أحدٌ؟؛ فقالوا: نعم يا رسول الله". فها أنت ترى أنَّ المعنى واحدٌ. هو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سألهم فأجابوا أو بعضهم بنعم. الخامس: في حديث عبادة: "فثقلت عليه القراءة". وفي روايةٍ: "فالتبست عليه القراءة". وفي حديث عبادة: "وأنا أقول ما لي أنازع القرآن". والمعنى واحدٌ؛ لأنه إذا نُوزعَ القرآن ثقلت عليه القراءة والتبست. السادس: في حديث عبادة: "فلا تفعلوا"، وفي حديث أبي هريرة: "وأنا أقول ما لي أنازع القرآن؟ "؛ والمعنى متقاربٌ؛ لما قدَّمنا أنَّ هذا التعجُّب

مشعرٌ بالنهي. ولم يختلف الحديثان إلاَّ في أمرٍ واحدٍ؛ وهو أنَّ في حديث عبادة استثناء الفاتحة، ولم يذكر هذا في حديث أبي هريرة. ولكن حديث أبي هريرة بيَّن أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما سألهم: هل قرأ أحد منهم معه السورة بعد الفاتحة؟ وهذا مما فتح الله به عليَّ، ولله الحمد. وهو واضحٌ جدًّا، وذلك أنَّ قراءة الفاتحة كانت مفروضة على المأمومين قبل ذلك، والشارح معترفٌ بهذا. فمن المحال أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم أنَّ الفاتحة مفروضة عليهم، ومع ذلك يسألهم: هل قرأ أحدٌ منكم معي آنفًا. يريد هل قرأ الفاتحة أو غيرها. فتعيَّن أنَّ المراد: هل قرأ أحدٌ منكم معي ما قرأته بعد الفاتحة؛ لأنهم لم يكونوا مأمورين بقراءة غير الفاتحة، كما بيَّناه من قبل. فكان محتملاً فقط أنَّ بعضهم قرأ؛ فلهذا سألهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك السؤال، فعلم الصحابة رضي الله عنهم أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن ليسألهم هل قرؤوا قراءةً مطلقًا، كيف وهو - صلى الله عليه وسلم - يعلم أنَّ الفاتحة فرضٌ عليهم، لا بد أن يقرؤوها. فعلموا أنه إنما يريد: هل قرأ أحدٌ منكم معي ما قرأته بعد الفاتحة؛ فقال رجلٌ: نعم أنا يا رسول الله؛ فقال: وأنا أقول: ما لي أنازع القرآن؛ فأشعرَ هذا بالنهي عن أن يتحرَّى إنسانٌ فيقرأ مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يقرأه بعد الفاتحة.

فإنَّ قوله "معي" يشعر بأنَّ المراد: قرأ عين ما قرأته، ويؤيِّد ذلك ما تقدَّم في الكلام على حديث عمران. وإنما صرَّح في حديث عمران بقوله: "هل قرأ أحدٌ منكم بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} " لأنه - صلى الله عليه وسلم - قرأها سرًّا، لأن الصلاة كانت ظهرًا، فلو قال: هل [قرأ] أحدٌ منكم معي؟ لما عُلِم المقصود. وأما في حديث أبي هريرة فإنَّ قراءته - صلى الله عليه وسلم - كانت جهرًا، فاكتفى بقوله: هل قرأ أحدٌ منكم معي؛ لأنهم يعلمون ما قرأ، بأبي هو وأمي. ينجبر ذلك بما عُرِف من مذهبه، وفي "صحيح مسلم": " ... فقيل لأبي هريرة: إنا نكون وراء الإِمام؟ قال: اقرأ بها في نفسك ... ". وفي روايةٍ للحميدي على شرط مسلمٍ: " ... قلت يا أبا هريرة: إني أسمع قراءة الإِمام، فقال: يا فارسي، أو يا ابن الفارسي، اقرأ بها في نفسك". ومذهبه في ذلك مشهور. ومذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنَّ فتوى الراوي بخلاف ما روى يمنع الاستدلال بما روى. وأما الشافعي وأئمة الحديث فالعبرة عندهم بما روى، ولكنهم لا ينكرون أنَّ مخالفته لمرويِّه تُورِث فيه شبهةً. [الأوراق بين: 90 - 91] فإذا انضمَّ إلى رأيه دليل آخر لم يمتنعوا من ردِّ روايته حينئذٍ أو تأويلها. والقرائن التي قدَّمناها يحصل بها أو بدونها غلبة الظن باتحاد القصة، ومثل ذلك كافٍ في الدلالة عند أهل العلم.

وغاية الأمر أنَّ عبادة زاد زيادة سكت عنها أبو هريرة، ولكنه كان يفتي بمقتضاها. هذا مع أنَّ ابن أكيمة ليس بالمشهور. وقد قال فيه ابن سعد: "روى عنه الزهري حديثًا واحدًا، ومنهم من لا يحتجُّ بحديثه، ويقول هو مجهول". وقال أبو بكر البزَّار: "ابن أُكيمة ليس مشهورًا بالنقل، ولم يحدِّث عنه إلاَّ الزهري، وقال الحميدي: هو رجلٌ مجهول". وقدَّمنا أنَّ من قوَّاه استند إلى مستند ضعيف؛ وهو أنه حدَّث سعيد بن المسيِّب والزهري يسمع. فمثل هذا إذا روى حديثًا عن صحابي، وكان ذلك الحديث مخالفًا لمذهب ذلك الصحابي، وكان لمذهب ذلك الصحابي دليل ثابت لم يشكَّ متدبِّر في وجوب ردِّ تلك الرواية أو تأويلها، والتأويل هنا قريب. وكأنَّ أبا هريرة كان بعيدًا في تلك القصة؛ فسمع بعض كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، وخفي عليه آخره، فأخبره غيره من الصحابة بحاصله. ولذلك - والله أعلم - ترك رواية القصة فلم يروِها عنه أصحابه المشهورون، وعددهم لا يحصى، وروايتهم عنه مملوءة بها كتب الحديث. وحدَّث بها مرَّةً واحدةً سمعها منه هذا الرجل إن كان سمعها، وعسى أن يكون أبو هريرة لما ذكرها ذكر معها ما يدلُّ على استثناء الفاتحة، فلم يحفظه ابن أكيمة، والله أعلم.

فإن قيل: هب أنَّ القصة واحدة فإنَّ في حديث عبادة زيادة معارضة لما يفهم من حديث أبي هريرة من الإطلاق. قلت: غايته أنه يجب الترجيح بينهما، ولا ريب أنَّ حديث عبادة أرجح؛ لأنَّ سنده أثبت، ولأنَّ راويه - وهو عبادة - كان يعمل ويفتي على وفقه، وأبو هريرة كان يعمل ويفتي على خلاف إطلاق حديثه. وحديث عبادة موافق لقوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ} [الأعراف: 205]، على ما تقدَّم في الكلام على آية الإنصات. وموافق لحديث عمران بن الحصين. وموافق لعموم دلائل وجوب الفاتحة، وغير ذلك. وله شواهد من حديث أنس، وعبد الله بن عمرو، وغيرهما، سنذكرها فيما بعد إن شاء الله تعالى. فإن لم تقنعك الدلائل المتقدِّمة على اتحاد القصة أو ردِّ رواية ابن أكيمة فلا علينا أن نجاريك في ذلك؛ فنقول: هب أنَّ حديث ابن أكيمة ثابت، وأنهما واقعتان. فلا يخلو أن يكون حديث عبادة متقدِّمًا أو متأخرًا. فإن كان متقدِّمًا فهو مخصِّص لحديث أبي هريرة؛ على قول الشافعية والجمهور إن العام المتأخر لا ينسخ الخاص المتقدِّم؛ بل يُعمل بهما معًا، فيُحمَل الخاص على خصوصه، والعام على ما بقي. وإن كان حديث عبادة متأخرًا فهو ناسخٌ لحديث أبي هريرة عند

الحنفية، وناسخٌ أو مخصِّصٌ عند غيرهم. فإن قلت: أنا أختار أنه متقدِّمٌ، وأقول بمذهب الحنفية؛ أنَّ العام المتأخر ينسخ الخاص [ص 20] المتقدَّم. قلنا: فما دليلك على تقدُّم حديث عبادة؟ قال الشارح: (لأنه لو كان أبو هريرة قبل حديث عبادة يلزم أنَّ الصحابة يقرؤون خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد نهيه عنها، وهو بعيد). قلنا: فقد بقي أبو هريرة نفسه يفتي بالقراءة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، هذا وهو راوي الحديث. وهكذا عبادة؛ بقي بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ وراء الإمام في ما يجهر فيه الإِمام، ويفتي بذلك. فما بالك بغيرهما؟ ولعلهم لم يفهموا مما رواه أبو هريرة نهيًا؛ لأنه ليس بصريح. ولعلَّ من قرأ منهم في حديث عبادة لم يكن سمع الحديث الذي رواه أبو هريرة، وقد بقي بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - طائفة من جلَّة الصحابة - منهم أمير المؤمنين عمر، وسيِّد المسلمين أبي بن كعب، وغيرهما - يقرؤون خلف أئمتهم ويفتون بذلك. وقد تقدَّم كلام البخاري رحمه الله تعالى، وسيأتي زيادة عليه إن شاء الله تعالى. وفي كتاب "الاعتبار" للحازمي فصل نقله عن الحميدي، أوضح فيه أنَّ حديث عبادة هو الناسخ لحديث أبي هريرة؛ فانظره فيه إن شئت. وأنت إذا تدبَّرت ما ذكرناه وآثرت الحق فلا أقلَّ من أن تتوقَّف عن الحكم لأحد الحديثين بالتقدُّم. وعلى هذا فمذهب الشافعي وجمهور العلماء رحمهم الله تعالى حمل

العام على الخاص؛ فيعمل بالخاص في خصوصه، وبالعام فيما سواه، ومذهب الحنفية التوقُّف، والعمل بالراجح. وقد قدَّمنا أنَّ حديث عبادة هو الراجح. هذا كلَّه مجاراة، والصواب ما قدَّمناه: أنَّ الحديثين عن قصة واحدة، والله أعلم. ثم قال الشارح: (وحملُ حديث أبي هريرة على ما عدا الفاتحة تعسُّف؛ بل علة الشارع فيه العموم؛ لأنَّ الشارع منع عن القراءة مطلقًا، وبيَّن علَّة النهي المنازعة. وقراءة الفاتحة وغيرها مشتركة في المنازعة؛ سواء فيها بدون فرق، فهذه العلَّة تجري في قراءة الفاتحة كما تجري في قراءة غيرها، سواء بسواء). أقول: إنما التعسُّف ما كان بغير حجَّة، وقد قدَّمنا الحجة في ذلك، ولو لم يكن على الحمل المذكور دليل إلاَّ ما عُرِف من فتوى أبي هريرة لكان كافيًا لمنع الشارح عن أن يقول: تعسف؛ لأنَّ مذهب إمامه أنَّ فتوى الراوي بخلاف مرويِّه تمنع الاحتجاج بمرويِّه. والشارح نفسه قد احتجَّ بمثل هذا؛ كما سيأتي نقله إن شاء الله تعالى. وأما قوله: (إنَّ الشارع بيَّن أنَّ العلَّة المنازعة، وهي موجودة في قراءة الفاتحة)؛ فهذه دعوى لا دليل عليها؛ لأنّ المنازعة على ما يقتضيه صنيع الشارح فيما مرَّ، وهو الذي يظهر لي أمرٌ روحاني كان يعرض للنبي - صلى الله عليه وسلم - عندما يقرأ المأمومون معه. ولسنا ندري هل كان يعرض له إذا قرأ المأمومون الفاتحة، أم كان لا يعرض له إلاَّ إذا قرأوا غيرها، أم كان لا يعرض له إلاَّ إذا قرأ أحد المأمومين

عين السورة التي يقرأها النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الفاتحة؛ كما يؤخذ من حديث عمران، على القول بأنَّ الذي قرأ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} قرأها سرًّا. فمن أين له الجزم بأنَّ المنازعة تقع بقراءة الفاتحة كما تقع بغيرها؟ [ص 19] فإن قال: أخذته من إطلاق الحديث، فإنه سألهم: هل قرأ معي أحد منكم آنفًا؟ فقال رجل: نعم يا رسول الله، قال: إني أقول ما لي أنازع القرآن. فالجواب: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ليسألهم هذا السؤال (¬1). ... ¬

_ (¬1) بعده بياض كبير في بقية الصفحة.

- 4 - [ص 12] مع أنَّ قوله - صلى الله عليه وسلم -: "هل قرأ معي أحدٌ منكم آنفًا" مخاطبة لهم في قضية عرضت، وليس من الكلام الذي يُقصد به تأسيس أصل شرعي، كقوله: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب"، وقوله: "كل صلاة لا يُقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج"، ونحو ذلك. وكلام النبي - صلى الله عليه وسلم - كله حقٌّ، ولكن الكلام الذي تؤسَّس به قاعدة شرعية يحتاط له مالا يحتاط لما كان من المخاطبات العارضة. فإنه قد يعتمد في هذه على قرائن يعلمها المخاطب، وإن لم يدلَّ عليها اللفظ. وقد علمت أنَّ ترك لفظ "قرأ" على إطلاقه يستدعي افتراض ناسخ ينسخ تلك القواعد الشرعية الكلية. ومثل هذا الافتراض لا يثبت بمجرد ذلك الظاهر الضعيف؛ فقد بان الصبح لذي عينين. فإن لم يُقنِعك ما ذكرنا فأقل ما يجب عليك أن تعلم أنك إذا لم تستبعد أن يكون حديث ابن أُكيمة ناسخًا لوجوب الفاتحة، وناهيًا عنها وراء الإِمام، مع أنَّ جمهور الصحابة - ومنهم أبو هريرة راويه - لم يزالوا بعده يقرؤون الفاتحة وراء الإمام ويفتون بذلك = فليس لك أن تستبعد أن يبقى بعضهم بعده يقرؤون غير الفاتحة بعد الإمام، وإذا لم يكن لك أن تستبعد هذا لم يبق بيدك دليل على تأخر حديث ابن أكيمة عن حديث عبادة؛ لأنك إنما احتججت على تأخره بقولك: (لأنه لو كان حديث أبي هريرة قبل حديث عبادة يلزم أن الصحابة يقرؤون خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد نهيه عنها مطلقًا، وهو بعيد).

وإذا سقط دليلك على تأخره فقد احتجَّ الحميدي على تقدُّمه - كما نقله الحازمي في الاعتبار - بأنَّ مذهب راويه أبي هريرة يدلُّ على تقدُّمه، ويقوِّيه ما عرفت من موافقة جمهور الصحابة له. لعلك تقول: هذا هو الدليل الأول الذي لم أقنع به. فنقول: لا حرج، هَبْ أنه لم يقم دليل على تقدّمه ولا تأخره؛ فإنه يُرجع حينئذٍ إلى الترجيح. ولا شك أنَّ حديث عبادة وشواهده أرجح مع ما يعضده من النصوص العامة الثابتة في الصحيحين أو أحدهما. فأما قول الشارح: (إنَّ علة النهي المنازعة، وهي تحصل بالفاتحة كما تحصل بغيرها)؛ فإن كان مقصوده تأكيد ما قاله من أنَّ لفظ "قرأ" مطلق، فالذي قدمناه من أنَّ المراد به قراءة غير الفاتحة أقوى وأوضح. مع أنَّ المنازعة كانت موجودة في حديث عبادة، وقد صرَّح فيه باستثناء الفاتحة. وإن كان مقصوده أنه إن سلَّم أن لفظ "قرأ" عني به قراءة غير الفاتحة؛ فتلحق الفاتحة بالنهي قياسًا؛ لأنَّ علة النهي المنازعة، وهي موجودة في قراءة الفاتحة. فالجواب: لا نسلَّم أن المنازعة هي علة النهي. لِم لا تكون العلة هي الإخلال بالاستماع لغير موجب، وإنما ذكر المنازعة في الحديث لأنه استدلّ بها على أنَّ بعض من خلفه قرأ بغير الفاتحة. أو يكون كل من المنازعة والإخلال المذكور جزء علَّة، والعلَّة مجموعهما. ولو سلَّمنا أنَّ المنازعة هي العلَّة فنقول: قد أثبتنا أنَّ القراءة المنصوصة

هي قراءة غير الفاتحة، وقراءة غير الفاتحة غير واجبة؛ فينبغي أن يُلحظ هذا الوصف؛ فيقال: المنازعة لغير موجب. ولو سلَّمنا إلغاء هذا الوصف، وثبوت أنَّ العلَّة هي المنازعة مطلقًا فلا نسلِّم أنها كانت تحصل منازعة بسبب قراءة الفاتحة. ولا يلزم من حصول المنازعة بغير الفاتحة حصولها بالفاتحة؛ لأنَّ المنازعة أمرٌ روحاني لا يدرك بالقياس. ولو سلَّمنا حصول المنازعة بالفاتحة فغايته أن ينتظم القياس، ولكنه يكون فاسد الاعتبار؛ لمعارضته النص في حديث عبادة على وجوب الفاتحة، ولو أدَّت إلى المنازعة، والقياس لا ينسخ النص. ولو فرضنا أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى المقتدين به عن قراءة الفاتحة معللًا ذلك بالمنازعة فلا يلزم من ذلك عدم وجوب الفاتحة على المأموم مطلقًا؛ لاحتمال أنها سقطت عنهم دفعًا للمنازعة، كما يسقط القيام عن العاجز. وعلى هذا فلا يدلُّ ذلك إلا على سقوط الفاتحة عن المقتدي برسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنَّ المنازعة مخصوصة به - صلى الله عليه وسلم -، فأما غيره فإنه لا يحسُّ بمنازعة، كما هو مشاهد. والحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، والله أعلم. ثم قال الشارح: (وكذا القول بنسخ حديث أبي هريرة لا يصحُّ؛ لما بيَّنا أنَّ حديث أبي هريرة بعد حديث عبادة). أقول: قد تقدَّم أنَّ ما استُدِلَّ به على تأخر حديث أبي هريرة يدلُّ على وجوب حمله على ما دون الفاتحة؛ بل دلالته على هذا أوضح.

فإن أصرَّ على الاستدلال بذلك الدليل لزمه حملُ الحديث على ما دون الفاتحة، وإن ترك الاستدلال لزمه نسخ حديث أبي هريرة أو تأويله أو سقوطه لرجحان معارضه، (أشقرُ إن تقدّم تُنحَرْ، وإن تأخر تُعقَرْ). ثم قال: (وأما ما قيل إنَّ أبا هريرة أفتى بقراءة الفاتحة خلف الإِمام ففيه أن لا حجة في قول أحد بمقابلة الحديث المرفوع، ولا يكون عمل الراوي خلاف روايته دليلًا على ضعفه ...). أقول: لم يعارض ذلك القائل الحديث بقول الصحابي، وإنما استدلَّ بمذهب أبي هريرة على ضعف الحديث أو تأويله أو نسخه. ومثل هذا الاستدلال صحيح عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى. وأما الشافعي والمحدِّثون فالعبرة عندهم بما روى دون ما رأى، ولكنهم لا ينكرون أنَّ فتوى الراوي بخلاف روايته يورث الرواية وهنًا ما؛ فإذا انضمَّ إليه موهنٌ آخر قوي الوهَن، إلى أن تسقط الرواية أو تؤوَّل، وقد تقدَّم هذا المعنى. ثم قال: (فثبت بحديث أبي هريرة النهي عن قراءة الفاتحة خلف الإمام، وهو دليل على نسخ ركنيتها). أقول: قد علمت جوابه، وقد أسلفنا في أواخر الكلام على المسألة الأولى أنه لو فُرِض ثبوت نهي المأموم عن قراءة الفاتحة لما دلَّ ذلك على نسخ ركنيتها مطلقًا؛ كمطلق القراءة عند الحنفية. [ص 31] ثم قال: (وعلى هذا إجماع، قال ابن قدامة في المغني: وأيضًا فإنه إجماع، قال أحمد: ما سمعنا أحدًا من أهل الإسلام ...).

أقول: قد تقدَّم نقل هذا الكلام وجوابه. ثم قال: (وإذا ثبت أنَّ صلاة من لم يقرأ خلف إمامه في الجهرية لم تبطل فعلم به أنَّ الفاتحة ليست بركن). وقد مرَّ جوابه في الكلام على المسألة الأولى. ثم ذكر زيادة: "وإذا قرأ فأنصتوا". وقد مرَّ بيانُ ضعفها من الطريقين، وأنها لو صحَّت في حديث أبي هريرة تكون منسوخة بحديث عبادة وغيره، وأما في حديث أبي موسى فعلى أصول الحنفية تسقط لمعارضتها لعموم الأحاديث الصحيحة في إيجاب الفاتحة، والتاريخ مجهول. وأما على أصول الشافعية وغيرهم فيكون الأمر بالإنصات محمولًا على الإنصات عن غير الفاتحة، وإنما يكون الإنصات إذا سمع قراءة الإمام كما قدمناه. والشافعية يقولون بهذا: إنَّ المأموم إذا كان يسمع صوت الإمام في الجهرية يقرأ الفاتحة فقط، ثم ينصت لقراءة الإمام. وبذلك يحصل الجمع بين هذه الزيادة إن صحَّت وبين سائر الأدلة، والله أعلم. ثم أعاد الاستدلال بآية الانصات، وحديث المسيء صلاته، وحديث أبي هريرة: "لا صلاة إلاَّ بقراءة" على نسخ ركنية الفاتحة. وقد مرَّ الكلام على ذلك كله. ثم ذكر حديث: "من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة".

- 5 - فاستمع الآن ما يلقى إليك: قد ثبت بالثلاثة الوجوه الأولى أن هذا الحديث يدل أنَّهم لم يكونوا قبله مأمورين بالقراءة؛ بل إما أن لا يكونوا أُمِروا بها قط، وإما أن يكونوا أُمروا بها أولًا، ثم نُهوا عنها قبل هذا الحديث. إذا تقرَّر هذا فقد علمت أنَّ أحاديث وجوب الفاتحة عامة تتناول المأموم وإن جهر الإِمام. وقد نصَّ على وجوبها على المأموم وإن جهر الإمام في حديث عبادة. فحديث ابن أُكيمة لا يخلو أن يكون قبلها أو بعدها؛ فإن كان قبلها فهو منسوخٌ بها قطعًا، وإن كان بعدها فلا. فالثلاثة الوجوه المتقدمة توجب أحد أمرين: إما أن يكون المراد بالقراءة التي سألهم عنها ما يصدق على الفاتحة، ويكون قد سبقه ناسخٌ لوجوب الفاتحة. وإما أن يُحمل قوله: "هل قرأ معي أحد منكم" على قراءة غير الفاتحة، وتكون القرينة علمهم بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم أنَّ الفاتحة كانت واجبةً عليهم، وأنهم لا يدعونها. فهذا يمنع أن يستفهمهم هل قرأ أحد منهم ويريد الفاتحة أو ما يصدق بها، ويمنع أن يتعجَّب من المنازعة التي تحصل بقراءتهم الفاتحة. وإذن يعلمون أنه - صلى الله عليه وسلم - إنما عنى غير الفاتحة؛ فتدبَّر هذا الكلام جيدًا.

وإذ قد تعيَّن أحد هذين الاحتمالين فلْننظر أيهما أرجح، سائلين الله تعالى التوفيق. قد يقال: مما يرجِّح الأول أنَّ فيه إبقاء لفظ "قرأ" على إطلاقه. وفيه نظر من وجهين: الأول: أنَّ من كلامه - صلى الله عليه وسلم - ما يُساق مساق التشريع العام؛ كقوله: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب". وقوله: "كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج"، ونحو ذلك. ومنه ما يكون محاورة لبعض أصحابه؛ كهذا الحديث. فما كان من قبيل الأول فهو الذي ينبغي أن يحافظ على إطلاقه وعمومه وغير ذلك. وما كان من الثاني فالمدار فيه على العلم بالقرائن التي كانت عند المخاطب. الوجه الثاني: أنَّ إبقاءه على إطلاقه يتوقَّف على افتراض تقدُّم ناسخ ينسخ تلك النصوص. ولا شك أنَّ صرفه عن إطلاقه أهون من ذلك الافتراض. ومما يرجَّح الثاني أنَّ أبا هريرة راوي الحديث ممن يفتي بوجوب الفاتحة خلف الإِمام وإن جهر. وهذا يدلُّ أنه كان عنده حين سماعه قرينة صارفة عن الإطلاق. ووافقه جماعة من الصحابة؛ منهم أمير المؤمنين عمر، وأمير المؤمنين

علي في إحدى الروايتين عنه، وأم المؤمنين عائشة، وسيِّد المسلمين أبي بن كعب، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، والإمام الجليل عبد الله بن مسعود في إحدى الروايتين، وحبر الأمة عبد الله بن عباس، وأنس بن مالك، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن مغفَّل.

الرسالة السادسة والعشرون مسألة في إعادة الإمام الصلاة دون من صلى وراءه في الجماعة

الرسالة السادسة والعشرون مسألة في إعادة الإمام الصلاةَ دون من صلَّى وراءه في الجماعة

[كتب أحد العلماء إلى الشيخ المعلمي ما يلي:] عمدتي المحقق الشيخ عبد الرحمن المعلمي حفظه الله وطوَّل عمره، آمين. "لو بان حدث الإِمام بعد الصلاة وقد صلّى بجماعةٍ لزمتْه الإعادةُ دونهم". فلم أقف على دليل هذا القول أبدًا - وقد طالعتُ وراجعت في محله - سوى تعليلات، كقولهم: نظرًا لاعتقاد المأموم تصح صلاته دون صلاة إمامه، مع أن الإِمام غير مستقل بصلاته، بل هو حامل لصلاته وصلاةِ مَن خلفه. وكان القياس صحة صلاة مَن خلفه بصحة صلاته وبطلانها ببطلانها. وأيضًا أن قولهم "لا عبرة في الخطأ البيّن خطؤه" يقتضي لزوم إعادة صلاة من خلف الإِمام، حيث إنه تبيَّن لهم الخطأ البيِّن خطؤه. والله يا سيدي! ما عرفتُ توجيه هذه المسألة ولا وقفتُ لها بدليل من كتاب وسنة، اللهم إلاَّ أن يكون إجماعًا. وأما القياس فغير قائلٍ لصحتها، بل يقتضي بطلانها على ما ظهر للحقير فحقِّقوا لنا، لا زلتم أهلًا لذلك. وأما قولي "من كتاب وسنة" فعلى ما أوردت العلماء في كتبهم من النصوص، لا نفس الكتاب والسنة. [فأجاب الشيخ بما يلي:] الحمد لله. لا يخفى عليكم أن الأصل في جميع الأعمال عدم الوجوب، فلا يجب علينا شيء إلا بدليل. وقد أُوجبت علينا الصلاة، وعلَّمنا النبي صلَّى الله عليه

وآله وسلم كيفيتها، فكان الأصل أنها تصح على كل حالة، ولكن جاء الدليل باشتراط الطهارة من المحدثين والنجس ثوبًا وبدنًا ومكانًا، واشتراط ستر العورة واستقبال القبلة ونحوها، فعُلِم أنها لا تصحُّ صلاة بدون ذلك، وأنها لا تنعقد معها، وإذا عرضت في أثنائها أبطلتها، على ما فيها من تفصيل. وكان الأصل عدم شرع جماعة، فشُرِعت. وكان الأصل أن لا يتحمل الإمام عن المأموم شيئًا، وأن فائدة الصلاة إنما هي مجرد الربط، فورد أنه من أدرك الإِمام راكعًا فركع معه أدرك الركعة، فعلمنا أنه تحمَّل عنه الفاتحة، وورد إلزام المأموم بقراءة الفاتحة فعلمنا أنه لا يحمل عنه إلاّ في حق المسبوق. ثم الأصل أنها إذا انعقدت الصلاة لا يُبطلها إلا اختلال شرط في حقّ المصلي، فورد غيرها، كالكلام والأكل والعمل، وفيها تفصيل. وقام الدليل على أن التلبس بالعبادة الفاسدة باطل، فعلمنا أن ربط الصلاة بمن نعلم بطلانَ صلاته باطل، ولما لزم منه التلاعب لم تنعقد الصلاة، وأُلحِق به الكافر مطلقًا والمرأة وذو النجاسة الظاهرة لتقصير المقتدي، وحيث انتفى التلاعب والتقصير في حق المقتدي بالمحدث وذي النجاسة الخفية بقي على الأصل في عدم البطلان، فمن ادعى البطلان فعليه الدليل، إلاَّ أنه أُلحق بالبطلان الاقتداءُ بالكافر المخفي لكفره لغِلَظِ شأن الكفر، مع كونه لا يُتصور منه إمامةٌ أصلاً، بخلاف المحدِث فإنها تصح منه في حالة تيمُّمه، ولو نازعنا في بطلانها لمجرد التقصير لكان للنزاع حظٌّ من النظر، وبالأولى في حق الكافر المخفي لكفره. أما الإجماع فلا إجماع، فالمسألة خلافية. وأما الدليل فمثلنا يكتفي بكلام أهل الحواشي، وأهل الحواشي يكتفون

بكلام شرح "المنهاج" ونحوه، والشرَّاح يكتفون بكلام الشيخين، والشيخان يكتفيان بكلام الأصحاب، والأصحاب بكلام الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه، والعهدة عليه. ولكننا نقول: قال الله سبحانه وتعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]، فلا يلزم من بطلان صلاة الإِمام بطلان صلاة المأموم إلاَّ حيث وقع من المأموم تقصير، كأن كان إمامُه امرأةً أو كافرًا معلنًا أو ذا نجاسة ظاهرة. نعم قال الإِمام النووي في "منهاجه" (¬1): قلت الأصح المنصوص وقول الجمهور أن مُخفيَ الكفر هنا كمُعلِنه. قال الشيخ عميرة (¬2): "علل الشافعي رضي الله عنه مسألة الكافر بأنه لا يجوز أن يكون إمامًا، بخلاف الجنب كما في حالة تيممه". ويُستدلُّ أيضًا بما رواه أبو داود (¬3) عن أبي بكرة أن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم دخل في صلاة الفجر، فأومأ بيده أن مكانَكم، ثم جاء ورأسُه يَقطُر، فصلَّى بهم. ورواه أيضًا من طريق أخرى (¬4) قال في أوله: "فكبَّر"، وقال في آخره: "فلما قضى الصلاة قال: إنما أنا بشر، إني كنت جنبًا". ورواه من طريق أخرى (¬5) مرسلاً، قال فيها: "فكبَّر ثم أومأ بيده ... إلخ". ثم حكى ¬

_ (¬1) (1/ 234). (¬2) "حاشيته على شرح المحلّي" (1/ 232). (¬3) رقم (233). (¬4) رقم (234). (¬5) عقب الحديث (234).

عن مالك روايتين مُثبِتتين للتكبير (¬1). فربما يقوم بهذه الطرق دليل، وإن كانت الطرق الصحيحة تُثبت أنه انصرف قبلَ أن يكبر. ووجه الاستدلال أنه يؤخذ من تلك الطرق أنه صلَّى الله عليه وآله وسلم لم يأمرهم باستئناف النية والتحريم، بدليل أنه إنما أومأ عليهم إيماءً، وإذا صحَّ جزءٌ من الصلاة خلف الجنب صحت كلها، ولا مانع، وبالأولى الحدث الأصغر والنجاسة ونحوها. ومما يدلُّ له أيضًا قصة سيدنا عمر رضي الله عنه حين طُعِن فاستخلف وأمضى المسلمون صلاتهم، وفيهم أكابر الصحابة رضوان الله عليهم، ولم يبالوا بكون إمامهم قد بطلت صلاته. وأما قولكم: "لا عبرة بالخطأ البيِّن خطؤه", فإنما هو: "لا عبرة بالظن البيِّن خطؤه". وهذا معتبر في العقود، كما عبَّروا عنه بقولهم: العبرة في العقود لما في نفس الأمر لا بما في ظن المكلّف. ومثاله: لو باع مال مورثه ظانًّا حياته، فبان أنه كان قد مات، فيصح. وأما في العبادات فقالوا: العبرة بما في نفس الأمر وبما في ظن المكلف معًا. فلو صلَّى خلف إنسان يظنُّه محدِثًا، فبان أنه كان متوضئًا، فصلاة المؤتمّ باطلة. وأما ما في نفس الأمر فيعتبر في العبادات إلاَّ حيثُ انتفى التقصير عن البحث، كما يظهر من كلامهم هنا. لكنهم في مسألة الكافر المخفي لكفره اعتبروه مع عدم التقصير. والله أعلم. نعم قولكم: "إن الإمام حامل لصلاته وصلاة مَن خلفه" ما معناه: فإن ¬

_ (¬1) عقب الحديث (234).

المأمومين مكلفون بأداء جميع الأركان، كالنية والتحرم وقراءة الفاتحة، إلاَّ أن الإِمام يتحمل الفاتحة عن المسبوق. وكذلك إذا بان حدثُ الإِمام لم تجزِئ المسبوقَ تلك الركعةُ، لأن الإِمام حينئذٍ لم يكن أهلًا للتحمل. ولا يُنكَر أن بين الإِمام والمأموم رابطة قوية، بحيث يؤدي تمام صلاة الإِمام إلى تمام صلاة المأموم ونقصها إلى نقصها، وكذا العكس، بدليل ما رواه النسائي (¬1) أن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم صلَّى صلاة الصبح، فقرأ الروم، فالتبس عليه، فلما صلّى قال: "ما بال أقوام يصلُّون معنا لا يُحسِنون الطهور، وإنما يُلبِّس علينا القرآنَ أولئك". وفي هذا الحديث بحث اجتنيناه من كلام مولانا الإمام (¬2) أيَّده الله. أما أنه يؤدي بطلانها إلى بطلانها فلا يطلق ذلك، لما مرَّ. والله أعلم. ¬

_ (¬1) (2/ 156) من حديث شبيب أبي روح عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهو حديث حسن. (¬2) هو الإدريسي.

الرسالة السابعة والعشرون صيام ستة أيام من شوال

الرسالة السابعة والعشرون صيام ستة أيام من شوال

[ص 1] بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين هذا يُوافي نِعَمَه ويكافئ مزيدَه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه. أما بعد، فإنني سُئلتُ عن صيام ستة أيام من شوال، وذُكِر لي عن رجلٍ من ذوي الفضل والصلاح أنه يقول: إن صيامها بدعة، وإن حديثها موضوع، لأنه تفرد به سعد بن سعيد الأنصاري، وقد طعن فيه أئمة الحديث. فأقول: أما قوله: "إن صيامها بدعة" فيُبطله ما ستعلمه من صحةِ الحديث وعملِ بعض الصحابة والتابعين به، وإطباقِ المذاهب على استحباب صيامها. وأما قوله: "إن الحديث موضوع" فعجيب، فإن أئمة الحديث منهم من صرَّح بصحته، ومنهم مَن عمل به وأفتى واقتضى ذلك تصحيحَه له، ومنهم من رواه ووثَّق رواته، ومنهم من بلغه ذلك ولم يأتِ عنه إنكارٌ له، اللهم إلاَّ عبارة لمالك رحمه الله يُعلَم بتدبُّرها أنها لا تُخالف ذلك. ولم أر في كتب فقه الحديث نقلاً عن أحدٍ من أهل العلم أنه أنكر صحةَ الحديث فضلاً عن القول بأنه ضعيف، إلاَّ أن يتردّد فيه بعضهم بالنظر إلى طُرقه. نعم قال التقي السبكي: "قد طعن في هذا الحديث مَن لا فهمَ له، مغترًّا بقول الترمذي: إنه حسن". ذكره في "سبل السلام" (¬1)، ثم قال: فوجهُ الاغترار أن الترمذي لم ¬

_ (¬1) (2/ 167) ط. دار الفكر.

يصفه بالصحة بل بالحسن، وكأنه في نسخةٍ، والذي رأيناه في "سنن الترمذي": " ... حديث أبي أيوب حديث حسن صحيح" (¬1). أقول: وهكذا هو في النسخ المطبوعة على اختلاف طبعها: "حسن صحيح". والظاهر اتفاق النسخ على ذلك. وكأنَّ المغترَّ إنما بني اغتراره على ما قيل: إن كلمة "حسن صحيح" دون كلمة "صحيح" فقط، والصواب أنها مثلها بل أعلى منها. وتقرير ذلك له موضع آخر. فأما القول بأنه موضوع فلا يُتصوَّر أن يصدر عن عارفٍ بالحديث، وأعجب من ذلك توجيه وضعه بأنه تفرد به سعد بن سعيد. وستعلم حالَ سعد وتعلم طرقَ الحديث. فأقول: قد رُوي هذا الحديث عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقفتُ على رواية عشرةٍ منهم، وهم: أبو أيوب الأنصاري، وثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبو هريرة حافظ الأمة، وجابر بن عبد الله، والبراء بن عازب، وابن عمر، وابن عباس، وغنَّام والد عبد الرحمن بن غنّام، ورجل لم يُسمَّ، وأم المؤمنين عائشة. وأرتِّب الكلام على فصول: ¬

_ (¬1) "سبل السلام" (ج 1 ص 236). [المؤلف].

الفصل الأول في حديث أبي أيوب

الفصل الأول في حديث أبي أيوب قال الإِمام مسلم بن الحجاج في "صحيحه" (¬1): حدثنا يحيى بن أيوب وقتيبة بن سعيد وعلي بن حُجر جميعًا عن إسماعيل، قال ابن أيوب: حدثنا إسماعيل بن جعفر أخبرني سعد بن سعيد بن قيس عن عمر بن ثابت بن الحارث الخزرجي عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أنه حدَّثه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من صام رمضان ثم أَتبعَه ستًّا من شوال كان كصيام الدهر". وحدثنا ابن نمير حدثنا أبي حدثنا سعد بن سعيد أخو يحيى بن سعيد أخبرنا عمر بن ثابت أخبرنا أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول بمثله. وحدثناه أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الله بن المبارك عن سعد بن سعيد قال: سمعت عمر بن ثابت قال: سمعتُ أبا أيوب رضي الله عنه يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمثله (¬2). أقول: أما عمر بن ثابت فتابعي، ولد في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو ثقة باتفاقهم. والحديث متواتر إلى سعد، قال السبكي: "وقد اعتنى شيخنا أبو محمد الدمياطي بجمع طُرقه، فأسنده عن بضعة وعشرين رجلاً رووه عن ¬

_ (¬1) رقم (1164). (¬2) "صحيح مسلم" طبعُ العامرة بإسلامبول تحت نظر نظارة المعارف (ج 3 ص 169). [المؤلف].

سعد بن سعيد، وأكثرهم حفَّاظ ثقات، منهم السفيانان" (¬1). [ص 2] وأما سعد بن سعيد فتابعي، احتج به أئمة عصره الذين عرفوه وصحبوه، منهم الإِمام الجليل عبد الله بن المبارك، روى عنه هذا الحديث كما تقدم، وذهب إليه وأفتى به كما يأتي عن الترمذي. ومنهم الإِمام الكبير أبو الجرح والتعديل المعروف بالتشدد في نقد الرجال إلى حدّ التعنت شعبة بن الحجاج، روى عنه مع ما عُرِف عنه أنه لا يروي إلاَّ عن ثقة، أي فإذا روى عن ضعيف بيَّن حاله. وبهذا يندفع تشكيك السخاوي (¬2). وقد سمع من سعد جماعةٌ من الأئمة، وأخذوا عنه هذا الحديث وغيره وحدَّثوا بذلك، ولم يطعن فيه أحدٌ منهم. وأما الذين لم يدركوه فقد وثَّقه منهم جماعة (¬3): منهم الإِمام أحمد بن عبد الله بن صالح العجلي، ذكره عباس الدوري فقال: كنا نعدُّه مثل أحمد ويحيى بن معين (¬4). ومنهم محمد بن عبد الله بن عمار الذي كان الإِمام علي بن المديني يقدِّمه، وقال بعض الحفاظ: هو مثل علي ابن المديني (¬5). ومنهم محمد بن سعد صاحب "الطبقات"، وهو من الأئمة الثقات. وينبغي أن يُعدَّ منهم من صحَّح حديثه كمسلم والترمذي. ¬

_ (¬1) "سبل السلام" (ج 1 ص 236). [لمؤلف]. وهو في طبعة دار الفكر (2/ 167). (¬2) في "فتح المغيث" (ص 134) [المؤلف]. انظر طبعة الجامعة السلفية (2/ 42). (¬3) راجع "تهذيب التهذيب" (3/ 470، 471). (¬4) "تذكرة الحفاظ" (ج 2 ص 127). [المؤلف]. انظر الطبعة التي بتحقيق المؤلف (2/ 561). (¬5) راجع "تهذيب التهذيب" (ج 9 ص 265). [المؤلف]. والنص في (9/ 266).

وليَّنه منهم جماعة. قال أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي في كتاب "الجرح والتعديل" (¬1): "نا صالح بن أحمد قال قال أبي: سعد بن سعيد أخو يحيى بن سعيد ضعيف (¬2). ذكره أبي عن إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين أنه قال: سعد بن سعيد صالح (¬3). سمعتُ أبي يقول: سعد بن سعيد الأنصاري مؤدّي. قال أبو محمد: يعني أنه كان لا يحفظ، يؤدّي ما سمع" (¬4). وذكر في "التهذيب" (¬5) قول أحمد "ضعيف" ثم قال: "وكذا قال ابن معين في رواية, وقال في رواية أخرى: صالح. وقال النسائي: ليس بالقوي ... وقال ابن أبي حاتم: سمعتُ أبي يقول: سعد بن سعيد الأنصاري يؤدي، يعني أنه كان لا يحفظ ويؤدي ما سمع. وقال ابن عدي: له أحاديث صالحة تقرب من الاستقامة، ولا أرى بحديثه بأسًا بمقدار ما يرويه. وذكره ابن حبان في "الثقات" وقال: كان يخطئ". زاد ابن حجر: "وزاد - يعني ابن حبان - لم يفحش خطاؤه، فلذلك ¬

_ (¬1) (4/ 84). (¬2) في النسخة هنا زيادة "نا عبد الرحمن قال". وهي من زيادة الراوي عن المؤلف. عبد الرحمن هو المؤلف. [المعلمي]. (¬3) وضع المؤلف هنا وفي موضع الحاشية السابقة نفس الرقم للإشارة إلى أن التعليق في الموضعين واحد. (¬4) نسخة في دائرة المعارف مأخوذة بالتصوير الشمسي في عن نسخة بإسلامبول. [المؤلف]. (¬5) (3/ 470). وانظر "الثقات" (4/ 298 و6/ 379).

سلكناه مسلكَ العدول .... وقال ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل": ذكر أبي عن إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين أنه قال: سعد بن سعيد الأنصاري مؤدي. قال أبو الحسن ابن القطان الفاسي: اختُلِف في ضبط هذه اللفظة، فمنهم من يُخفِّفها أي هالك، ومنهم من يشدَّدها أي حسن الأداء. وقال الترمذي: تكلموا فيه من قبل حفظه" (¬1). أقول: أما قول أحمد "ضعيف" فيحتمل أراد الضعف النسبي، أي بالنسبة إلى أخيه يحيى، فإن يحيى أوثق وأثبت. وقد قال السخاوي: "ومما يُنبَّه عليه أنه ينبغي أن تُتأمَّل أقوال المزكّين ومخارجها، فقد يقولون: فلان ثقة أو ضعيف، ولا يريدون أنه ممن يُحتجُّ بحديثه ولا ممن يُردُّ، وإنما ذلك بالنسبة لمن قُرِن معه". ثم ذكر شاهدًا لذلك (¬2). وعلى هذا يُحمل قول ابن معين مرةً "ضعيف" بدليل قوله مرةً "صالح"، والحمل هنا أظهر، فقد قال السخاوي بعد ما تقدم (¬3): "وعلىِ هذا يُحمَل أكثرُ ما ورد من اختلاف كلام أئمة الجرح والتعديل ممن وثَّق رجلاً في وقتٍ وجرحه في آخر". وأما قول أبي حاتم "مؤدي" فقد فسَّرها ابنُه كما سمعتَ بما يفيد التوثيق مع تليين يسير لا يضرُّ. وتفسيرُ ابنه لها بذلك صريح في أنه سمعها من أبيه بهمزة مفتوحة ودالٍ مشدَّدة. وبذلك يُرَدُّ على ما قاله الذهبي في "الميزان"، ¬

_ (¬1) "تهذيب التهذيب" (ج 3 ص 470 - 471). [المؤلف]. (¬2) "فتح المغيث" (ص 163). [المؤلف]. انظر طبعة الجامعة السلفية (2/ 127، 128). (¬3) المصدر السابق.

قال: "قال أبو حاتم: سعد بن سعيد مود، قال شيخنا ابن دقيق العيد: اختُلِف في ضبط مود، فمنهم من خفَّفها أي هالك، ومنهم من شدَّدها أي حسن الأداء" (¬1). [ص 3] وقد علمتَ أن أبا حاتم إنما قالها مشدَّدة، بدليل تفسير ابنه الذي سمعها منه وحكاها عنه. فأما ما زاده ابن حجر على أصل "التهذيب" بقوله: "وقال ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل": ذكر أبي عن إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين أنه قال: سعد بن سعيد الأنصاري مؤدي" = فليس هذا في "الجرح والتعديل"، ولا نقله عنه أحدٌ ممن تقدم ابنَ حجر، مع نقْلهم عنه غير هذه العبارة كما تقدم. فقد راجعوا هذه الترجمة فيه، فكيف يُهملون (¬2) عبارة مهمة كهذه لو كانت فيه؟ وإنما نقلوا هم "مؤدي" أو "يؤدي" على أنها من قول أبي حاتم، كما تقدم عن "الميزان" وأصل "التهذيب". فكأنه كان في نسخة ابن حجر من "الجرح والتعديل" سقطٌ، كأنه كان فيها: "ذكره أبي عن إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين أنه قال: سعد بن سعيد (سقط) الأنصاري مؤدي". فسقط بعد "سعيد" العبارة الآتية: "صالح. سمعتُ أبي يقول: سعد بن سعيد". والعبارة مظِنَّة السقط بانتقال النظر من "سعد بن سعيد" إلى مثلها. ويؤيد ذلك أن كلمة "صالح" هي من رواية أبي حاتم عن إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين، فلو كان عند إسحاق عن ابن معين كلمة أخرى مخالفة لها لكان الظاهر أن يقرنهما فيقول: قال يحيى مرةً "صالح" ومرةً "مؤدي"، أو على الأقل يقرنهما أبو حاتم. فإن قلت: لو كان في نسخة ابن حجر العسقلاني سقطٌ كما ذكرتَ ¬

_ (¬1) "الميزان" طبع مصر (ج 1 ص 372). [المؤلف]. انظر طبعة البجاوي (2/ 120). (¬2) في الأصل "يعملون" سهوًا.

لاعترض على العبارة التي في أصل "التهذيب"، بأن يقول: لم أرها في كتاب ابن أبي حاتم. قلت: اكتفى بالإشارة إلى ذلك لاحتمال السقط (¬1)، واحتمال أن تكون العبارة التي في أصل "التهذيب" منقولةً عن كتاب آخر غير "الجرح والتعديل". فتدبَّرْ. على أننا لو فرضنا أن العبارة التي ذكرها ابن حجر هي ثابتة في "الجرح والتعديل" وسقطت من نسختنا، فإننا نقول: اختيار أبي حاتم تلك الكلمة الغريبة "مود" إنما يكون حينئذٍ اتباعًا لابن معين. وقد عرفت أن أبا حاتم قالها بالهمزة المفتوحة وتشديد الدال، فيظهر بذلك أنه سمعها من إسحاق بن منصور كذلك، وأن إسحاق سمعها من ابن معين كذلك. وهذا هو المتعيِّن على فرض صحتها عن ابن معين، فإنه قد قال مرةً "صالح"، وبين هذه الكلمة وبين "مُوْدي" - بسكون الواو أي هالكٌ بمرَّةٍ - بونٌ بعيد، ولم يُنقَل عن أحدٍ أنه قال في سعد مثلَ ذلك ولا قريبًا منه. فتدَّبْر، وقد مرَّت عبارة "الجرح والتعديل". وأما الترمذي فإنما قال (¬2): "وقد تكلَّم بعضُ أهل الحديث في سعد بن سعيد من قِبَلِ حفظه" كما يأتي. وبين العبارتين فرقٌ، مع أنه صحَّح الحديث وثبَّته، فدلَّ ذلك أنه لا يرى في كلام من تكلَّم ما يقدح في ثقة الرجل. هذا، وفي "سبل السلام" عن ابن دِحْية: "وقال أبو حاتم: لا يجوز ¬

_ (¬1) الكلام الذي بعده في ركن صفحة أخرى. (¬2) عقب الحديث رقم (759).

الاشتغال بحديث سعد بن سعيد" (¬1). أقول: ابن دِحْية اسمه عمر بن الحسن، له ترجمة في "الميزان" و"لسانه" (¬2). قال الذهبي: "متَّهم في نقله. وجرحَه الحافظ الضياء. وقال ابن واصل: كان ابن دحية مع فرط معرفته بالحديث وحفظه الكثير له متَّهمًا بالمجازفة في النقل". ثم ذكر قصةً تدلُّ على ذلك. والكلام فيه كثير (¬3). وأما قول النسائي "ليس بالقوي" فهذه الكلمة أرفع من كلمة "ضعيف" كما لا يخفى، وقد نصُّوا عليه (¬4). وقد يقال: إن كلمة "ضعيف" ونحوها جرح غير مفسَّر، والمرجَّح عندهم أنه لا يُقبَل إذا عارضه توثيق كما هنا. والحقُّ أنه مفسَّر، ومعنى هذه الكلمة ونحوها عند الإطلاق ضعفُ الحفظ والضبط، وقد بيَّن ذلك هنا قولُ أبي حاتم بتفسير ابنه وقول الترمذي وقول ابن حبان وقول ابن عدي. وهؤلاء المليِّنون لسعدٍ كلُّهم لم يصحبوه ولا أدركوه، وإنما وُلدوا بعد وفاتِه بمدة، فغايةُ ما عندهم أنهم تتبعوا رواياته واعتبروها بروايات الثقات الأثبات، فظهر لهم أن في رواياته خطأ، وقد اختلف اجتهادهم كما رأيتَ. وخالفهم معاصروهم من الموثِّقين، وتأيَّد قولُ الموثِّقين بما قدَّمنا عن أئمة عصره الذين صحبوه وعرفوه وأخذوا عنه. ¬

_ (¬1) "سبل السلام" (ج 1 ص 136). [المؤلف]. وطبعة دار الفكر (2/ 167). (¬2) "الميزان" (3/ 186 - 189) و"لسان الميزان" (6/ 80 - 88) ط. أبي غدة. (¬3) راجع "لسان الميزان" (ج 4 ص 292 - 298). [المؤلف]. (¬4) انظر "الجرح والتعديل" (2/ 37) و"الكفاية" (ص 23) و"علوم الحديث" (ص 113) و"الميزان" (1/ 4).

الفصل الثاني في حكم الحديث

الفصل الثاني في حكم الحديث قد صحَّحه مسلم والترمذي وغيرهما، ومقتضى النظر أن يقال: إذا ثبت رجحانُ التوثيق فلا كلامَ في صحته، وإذا بقي التردُّد لموضع التليين فصنيعُ أئمة الحديث يقتضي أنه بعد النظر في جميع ما قيل في سعد ينبغي أن يُنظَر في الحديث، فإذا كان له متابعات وشواهد صحَّ، وإلَّا بانَ [أنه] انفرد به، فإن قامت قرينة على خطائه ضُعِّف الحديث، وإن قامت قرينة على صحته صحّ، وإلّا حُكِم بحسنه، وقد يتوقف فيه بعضهم. فعلى فرض أن سعدًا تفرد بهذا الحديث فلم تقُمْ قرينة على خطائه فيه، وقد أيَّده. أهل العلم بوجوهٍ سوى المتابعات. ساقه الترمذي ثم قال (¬1): "قال أبو عيسى: حديث أبي أيوب حديث حسن صحيح. قد استحبَّ قوم صيامَ ستة أيام من شوال بهذا الحديث. قال ابن المبارك: هو حسن، هو مثل صيام ثلاثة أيام من كل شهر. قال ابن المبارك: ويُروى في بعض الحديث: "ويُلْحق هذا الصيام برمضان". واختار ابن المبارك أن تكون ستة أيام من أول الشهر. وقد رُوي عن ابن المبارك أنه قال: إن صام ستة أيام من شوال متفرقًا فهو جائز. قال: وقد روى عبد العزيز بن محمد عن صفوان بن سُليم وسعد بن سعيد عن عمر بن ثابت عن أبي أيوب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا. وروى شعبة عن ورقاء بن عمر عن سعد بن سعيد هذا. وقد تكلم بعض أهل ¬

_ (¬1) عقب الحديث رقم (759).

الحديث في سعد بن سعيد [من] قِبَلِ حفظه" (¬1). فأيَّد صحةَ الحديث باحتجاج قوم من أهل العلم به، وخاصة ابن المبارك، فإنه - مع علمه وفقهه وتثبُّتِه ونقده وجلالته وإمامته - ممن صحب سعدًا وخَبَرَه، وسمع منه هذا الحديث وغيره كما مرَّ. ثم أيَّده بمتابعة صفوان، وستأتي. [ص 4] وأيَّده برواية شعبة عن ورقاء عن سعد له، مع أن شعبة على جلالته وشدة نقده ومعرفته قد روى عن سعد نفسه، ثم روى هذا الحديث عن رجلٍ عنه. ورواية شعبة هذه في "مسند أحمد"، قال: "ثنا محمد بن جعفر ثنا شعبة قال: سمعتُ ورقاء يحدِّث عن سعد بن سعيد ... " (¬2). وذكر الطحاوي رواية شعبة هذه ثم قال: "فكان هذا الحديث مما لم يكن بالقوي في قلوبنا من سعد بن سعيد مثله في الرواية عند أهل الحديث ومن رغبتهم عنه، حتى وجدناه قد أخذه عنه من قد ذكرنا أخْذَه إياه عنه من أهل الجلالة في الرواية والتثبت" (¬3). ثم قال: "وممن حدَّث به عنه أيضًا: قرة بن عبد الرحمن، وعسى أن يكون سنّه كسنّه ... وممن حدَّث به عنه سفيان بن عيينة". ¬

_ (¬1) "سنن الترمذي" طبع مصر سنة 1292 (ج 1 ص 146). [المؤلف]. وانظر (3/ 132 - 133) بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي. (¬2) "مسند أحمد" (ج 5 ص 419). [المؤلف]. رقم (23556) ط. الرسالة. وبهذا الطريق أخرجه النسائي في "الكبرى" (2877) والطحاوي في "مشكل الآثار" (2340) والطبراني في "الكبير" (3903). (¬3) "مشكل الآثار" (ج 3 ص 117). [المؤلف]. وانظر (6/ 121) ط. الرسالة.

ثم ذكر رواية حفص بن غياث، ثم ذكر المتابعات والشواهد، وستأتي. وقال السبكي: "وقد اعتنى شيخنا أبو محمد الدمياطي بجمع طرقه، فأسنده عن بضعة وعشرين رجلاً رووه عن سعد بن سعيد، وأكثرهم حفَّاظ ثقات، منهم السفيانان" (¬1). أقول: وموضع التأييد في رواية الحفّاظ الأثبات أنهم من أئمة النقد والمعرفة بالرجال والحديث وعلله، وقد كان من عادة كثير منهم الامتناع عن أن يحدِّث بالحديث إذا خاف أن يكون خطأً، يَعرف ذلك مَن مارسَ كتب الرجال. فاتفاقُهم على رواية هذا الحديث عن هذا الرجل وسكوتُهم عن بيان الطعن فيه أو الشك - بل مع تصريح بعضهم بالاحتجاج به - يدلُّ دلالةً واضحةً أنهم لم يشكُّوا في الحديث ولم يستنكروه، فاتفاقُهم على ذلك فيه تأييد واضح. ... ¬

_ (¬1) "سبل السلام" (ج 1 ص 236). [المؤلف]. وطبعة دار الفكر (2/ 167).

الفصل الثالث في المتابعات

الفصل الثالث في المتابعات قد ذكر الترمذي كما تقدم عنه متابعة صفوان بن سليم، وأخرجه أبو داود في "سننه": "حدثنا النُّفيلي نا عبد العزيز بن محمد عن صفوان بن سليم وسعد بن سعيد عن عمر بن ثابت ... " (¬1). وقال السبكي: "وتابعَ سعدًا على روايته أخواه يحيى وعبد ربه وصفوان بن سليم وغيرهم" (¬2). وذكر الطحاوي هؤلاء وزاد: زيد بن أسلم ومحمد بن عمرو بن علقمة. قال: "ووجدنا هذا الحديث أيضًا قد حدَّث به عن عمرو بن ثابت صفوانُ بن سليم وزيد بن أسلم، كما حدثنا يوسف بن يزيد قال: ثنا سعيد بن منصور قال: ثنا عبد العزيز بن محمد قال: أخبرني صفوان بن سليم وزيد بن أسلم عن عمرو بن ثابت ... " (¬3). كذا يقع في كتابه "عمرو" (¬4)، وإنما هو "عمر". وفي "التهذيب" أنه وقع كذلك في بعض الطرق عند النسائي، قال: "ونبَّه على أنه خطأ، قال: ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" طبعة المطبع الفاروقي بدهلي الهند سنة 1272. [المؤلف]. رقم (2433). (¬2) "سبل السلام" (ج 1 ص 236). [المؤلف]. وطبعة دار الفكر (2/ 167). (¬3) "مشكل الآثار" (ج 3 ص 118). [المؤلف]. وطبعة الرسالة (6/ 122). (¬4) في طبعة الرسالة "عمر" على الصواب هنا وفي جميع المواضع الآتية.

والصواب عمر بن ثابت" (¬1). قال (¬2): "وكما حدثنا أحمد بن عبد الله البرقي ثنا الحميدي قال ثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن صفوان بن سليم وسعد بن سعيد عن عمرو بن ثابت ... ". وقال الدارمي: "حدثنا نعيم بن حماد ثنا عبد العزيز بن محمد ثنا صفوان وسعد بن سعيد عن عمرو بن ثابت ... " فذكره (¬3). قال الطحاوي (¬4): "ووجدنا ممن رواه عن عمرو بن ثابت: يحيى بن سعيد الأنصاري، كما حدثنا أحمد بن شعيب - هو الإِمام النسائي - قال: ثنا هشام بن عمار عن صدقة ثنا عُتبة (¬5) حدثني عبد الملك بن أبي بكر حدثني يحيى بن سعيد عن عمرو بن ثابت قال: غزونا يعني مع أبي أيوب الأنصاري، فصام رمضان وصمنا، فلما أفطرنا قام في الناس فقال: إني ¬

_ (¬1) "تهذيب التهذيب" (ج 8 ص 10). [المؤلف]. وانظر "السنن الكبرى" رقم (2875) حيث نبَّه على ذلك النسائي. ونبَّه عليه أيضًا الدارقطني في "العلل" (6/ 109). (¬2) أي الطحاوي في "مشكل الآثار" رقم (2344). وهو في "مسند الحميدي" برقم (381). (¬3) "مسند الدارمي" طبع دمشق (ج 2 ص 21). [المؤلف]. رقم (1761) طبعة عبد الله هاشم اليماني، وفيها "عمر" على الصواب. (¬4) "مشكل الآثار" (6/ 123، 124) والحديث في "السنن الكبرى" للنسائي (2879) بهذا الإسناد. (¬5) في الأصل "عبيد" تحريف. والتصويب من "مشكل الآثار" طبعة الرسالة. وهو عتبة بن أبي حكيم. قال النسائي في "الكبرى" (2879): عتبة بن أبي حكيم هذا ليس بالقوي.

سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من صام رمضان ... ". قال (¬1): "ووجدنا ممن رواه أيضًا عن عمرو هذا عبد الله (كذا) (¬2) بن سعيد الأنصاري، كما حدثنا أحمد بن شعيب قال: ثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال ثنا أبو عبد الرحمن المقرئ قال ثنا شعبة بن الحجاج عن عبد ربه بن سعيد عن عمرو بن ثابت عن أبي أيوب الأنصاري - ولم يرفعه - أنه قال: من صام ... ". وذكر الطحاوي (¬3) قبل ذلك متابعة محمد بن عمرو من طريقين: الأولى ابن خزيمة عن [ص 5] حجاج بن المنهال، والثانية إبراهيم بن مرزوق عن حبَّان بن هلال، كلاهما عن أبي سلمة حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن عمرو بن ثابت قال: ولم يذكر سعدًا. وذكر في موضع آخر (¬4) أن محمد بن عمرو رواه مرةً عن سعد بن سعيد عن عمر بن ثابت. فأما صفوان وزيد بن أسلم فتابعيان ثقتان مأمونان، والثناء عليهما كثير، ¬

_ (¬1) "مشكل الآثار" (6/ 124). والحديث في "السنن الكبرى" للنسائي (2878) بهذا الإسناد. (¬2) من المؤلف، إشارة إلى أنه خطأ في طبعة دائرة المعارف من "مشكل الآثار"، والصواب "عبد ربه" كما سيأتي في الإسناد. وهو على الصواب في طبعة الرسالة. (¬3) "مشكل الآثار" رقم (2338، 2339). اختصر المؤلف الطريقين، وسعد غير مذكور في الطريق الثاني فقط، أما الطريق الأول فحجاج بن المنهال ذكر سعدًا، وهو كذلك من طريقه عند الطبراني في "الكبير" (3904). (¬4) "مشكل الآثار" (6/ 121) إشارةً إلى طريق الحجاج بن المنهال السابق.

وهما أكبر سنًّا وأقدم وفاةً من سعد، ولم يذكروا لهما سماعًا، فلا يقال: لعلهما إنما سمعا هذا الحديث منه. هذا، مع أن صفوان لم يوصف بتدليس البتَّةَ، وزيد كذلك، إلاَّ أن ابن حجر ذكر قصة قال: إنها تُشعر بأنه دلَّس حديثًا (¬1). وليس ذلك بالبيِّن. والرواية إلى الراوي عنهما - وهو عبد العزيز بن محمد الدراوردي - بغاية الصحة. وأما عبد العزيز فقد روى عنه شعبة والثوري وابن مهدي والشافعي. وروى ابن أبي حاتم (¬2) بأسانيده الصحيحة عن مصعب الزبيري قال: مالك بن أنس يوثِّق الدراوردي. وعن يحيى بن معين أنه قال: الدراوردي أثبت من فليح وابن أبي الزناد وأبي أويس. وعنه أيضًا: عبد العزيز الدراوردي صالح ليس به بأس. وعن أحمد بن حنبل أنه سئل عن عبد العزيز الدراوردي فقال: معروف بالطلب، وإذا حدَّث من كتابه فهو صحيح، وإذا حدَّث من كتب الناس وَهِم، كان يقرأ من كتب الناس فيخطئ، وربما قلب [حديث] عبد الله بن عمر العمري يرويه عن عبيد الله بن عمر. قال ابن أبي حاتم: سئل أبي عن عبد العزيز بن محمد ويوسف بن الماجشون فقال: عبد العزيز محدث، ويوسف شيخ. سمعتُ أبا زرعة يقول: عبد العزيز الدراوردي سيئ الحفظ، فربما حدَّث من حفظه الشيء فيخطئ. ¬

_ (¬1) "تعريف أهل التقديس" (ص 81) تحقيق المباركي. (¬2) في "الجرح والتعديل" (5/ 395، 396).

ونحو هذا في "التهذيب" (¬1)، وزاد عن ابن معين: ثقة حجة. وعن النسائي ليس بالقوي، وفي موضع آخر: ليس به بأس، وحديثه عن عبيد الله بن عمر منكر. وعن ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث يغلط. وذكر أن ابن حبان ذكره في "الثقات" (¬2) وقال: كان يخطئ. وقال العجلي: هذا ثقة. وقال الساجي: كان من أهل الصدق والأمانة، إلاَّ أنه كثير الوهم. انتهى. وذكروا أنه كان يلحن. وذكره الحافظ في "مقدمة الفتح" (¬3)، وذكر أن ابن المديني وثقه، وأن أبا حاتم قال: لا يُحتج به. وقال الذهبي في "الميزان" (¬4): قال أحمد بن حنبل: "إذا حدَّث من حفظه يهم ليس بشيء، وإذا حدَّث من كتابه فنعم، وإذا حدَّث جاء ببواطيل". وقال: وأما ابن المديني فقال: ثقة ثبت. هذا، واحتجَّ به مسلم في "صحيحه"، وأخرج له البخاري في "صحيحه" مقرونًا بغيره ومفردًا بصيغة التعليق في المتابعات، واحتج به الباقون. كذا في "مقدمة الفتح". أقول: أما العدالة والصدق والأمانة فثابتة لهذا الرجل اتفاقًا. وأما الحفظ والضبط فما رواه من كتابه فلا شكَّ فيه، وما قرأه من كتاب غيره يُخشَى فيه التصحيف والتحريف، كان يقرأ "عبد الله" "عبيد الله" وشِبْه ذلك. ¬

_ (¬1) "تهذيب التهذيب" (6/ 354، 355). (¬2) (7/ 116). (¬3) "هدى الساري" (ص 420). (¬4) (2/ 633، 634).

وربما حدَّث من حفظه الشيء فيُخطئ، كما قال أبو زرعة. وعلى هذا يُحمل كلام من أطلق، كابن سعد والنسائي وغيرهما. وأما ما في "الميزان" عن أحمد فلا أدري أيصحُّ أم لا، لأن صاحب "التهذيب" لم يذكرها، إنما ذكر ما أسنده ابن أبي حاتم، فالله أعلم. وبالجملة فإطلاق إمام الجرح والتعديل يحيى بن معين أنه ثقة حجة، وإطلاق ابن المديني حافظ عصره أنه ثقة ثبت = يدلُّ على أحد أمرين: إما أن عبد العزيز كان لا يكاد يُحدِّث من حفظه، وإما أنه كان إذا حدَّث من حفظه لا يكثر وهمه، وإنما كان ربما وهم. وعبارة أبي زرعة صريحة في الأول، فإنه قال: "فربما حدَّث من حفظه"، فدلَّ أن ذلك قليل، والغالب أنه لا يحدِّث إلاَّ من كتاب. [ص 6] وإذا ثبت أنه كان لا يحدَّث من حفظه إلا قليلاً فالغالب أنه حدَّث بهذا الحديث من كتاب، فإن كان من كتابه فلا كلام، وإن كان من كتاب غيره فكذلك، لأنه ليس مظنَّة التصحيف والتحريف. ويؤكِّد هذا أن الذين رووه عنه أئمة حفَّاظ متثبتون (¬1): منهم: ابن المبارك (¬2)، على ما يظهر من عبارة الترمذي وقد مرَّت. وابن ¬

_ (¬1) ممن رواه عنه ولم يذكره المؤلف: أحمد بن عبدة عند ابن خزيمة (2114)، وإسحاق بن إبراهيم (ابن راهويه) عند ابن حبان (3634)، وخلاد بن أسلم عند النسائي في "الكبرى" (2876)، ومحمد بن عباد عند الهيثم بن كليب الشاشي في "مسنده" (1143)، ويحيى الحماني وضرار بن صُرَد عند الطبراني في "الكبير" (3911). (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (3/ 97) ومسلم (2/ 822) رقم (1164) من طريق ابن المبارك عن سعد بن سعيد به. وليس عن عبد العزيز.

المبارك ابن المبارك. ومنهم: النفيلي عند أبي داود (¬1) كما مرَّ، واسمه عبد الله بن محمد بن علي بن نفيل، كان يُقرَن بأحمد، وكان أحمد يعظِّمه. وقال أبو داود: ما رأيت أحفظ منه (¬2). ومنهم: الحميدي عند الطحاوي (¬3) كما مرَّ، واسمه عبد الله بن الزبير بن عيسى. قال أحمد: الحميدي عندنا إمام. وقال يعقوب بن سفيان: ما لقيتُ أنصحَ للإسلام وأهله منه (¬4). ومنهم: نعيم بن حماد عند الدارمي (¬5) كما مرَّ. ونعيم إمام في السنة، ثقة له أوهام (¬6)، وهذا من صحيح حديثه. هؤلاء كلهم رووه عن عبد العزيز عن صفوان وسعد. ورواه سعيد بن منصور (¬7) عن عبد العزيز عن صفوان وزيد بن أسلم. وسعيد إمام، كان أحمد يُحسِن الثناء عليه ويُفخّم أمره. وقال أبو حاتم: ثقة، من المتقنين الأثبات (¬8). ¬

_ (¬1) رقم (2433). (¬2) انظر "تهذيب التهذيب" (6/ 17). (¬3) في "مشكل الآثار" (2344). وهو في "مسند الحميدي" (381). (¬4) انظر "تهذيب التهذيب" (5/ 215). (¬5) في "سننه" (1761). (¬6) انظر "تهذيب التهذيب" (10/ 458 وما بعدها). (¬7) كما في "مشكل الآثار" (2343). (¬8) انظر "تهذيب التهذيب" (4/ 89).

وبالجملة فصاحبا الصحيح البخاري ومسلم قد عرفا حال عبد العزيز، وعرفا ما قيل فيه، فاتفقا على الإخراج له في الصحيح. أما مسلم فيحتج به مطلقًا، وأما البخاري فيقرِنه بغيره، ويُفرِده في المتابعات والشواهد، وحديثه هذا متابعة. وأما متابعة يحيى بن سعيد الأنصاري (¬1) لأخيه سعد فقد يقال: لعله إنما سمعه من سعد فدلَّسَه (¬2)، وفيه نظر لوجهين: الأول: أن يحيى لم يشتهر بالتدليس، وإن كان قد نُسِب إليه. الثاني: أن في روايته زيادةً على الرواية المتواترة عن أخيه، كما يُعلم بمقابلتهما. وأما متابعة عبد ربه بن سعيد (¬3) لأخيه فهي بغاية الصحة، لأنها من رواية شعبة عن عبد ربه، وعبد ربه مع ثقته لم يُنسَب إلى تدليس البتَّةَ، وليس فيها إلاّ أنه لم يصرِّح بالرفع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا لا يضرُّ هنا، لأنّ مثل هذا لا يمكن أن يقوله أبو أيوب رضي الله عنه برأيه، فهو مرفوع حكمًا. نعم رواه الطحاوي (¬4) من طريق ابن لهيعة عن عبد ربه عن أخيه سعد بسنده، ورفعه. ¬

_ (¬1) أخرجها الحميدي في "مسنده" (382) والنسائي في "الكبرى" (2879) والطحاوي في "مشكل الآثار" (2346) والطبراني في "الكبير" (3914, 3915). (¬2) مما يدلُّ على أن يحيى سمعه من أخيه سعد: أن الطبراني أخرجه في "الكبير" (3912) و"الأوسط" (4976) من طريق حفص بن غياث عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعد بن سعيد به. (¬3) أخرجها النسائي في "الكبرى" (2878) والطحاوي في "مشكل الآثار" (2347). (¬4) في "مشكل الآثار" (2337).

وابن لهيعة ضعيف لا يعتمد عليه. وأما متابعة محمد بن عمرو (¬1) ففيها نظر، فإن محمدًا قد لُيِّن. والراوي عنه حماد بن سلمة، وقد قيل: إن حفظه ضعُفَ بأَخَرةٍ. ومع ذلك فقد روى محمد الحديث مرةً عن سعد (¬2). والله أعلم. تتمة: يتلخص مما تقدم ثبوت صحة الحديث كما حكم به الإِمام مسلم بن الحجاج والترمذي وغيرهما. ... ¬

_ (¬1) أخرجها الطحاوي في "مشكل الآثار" (2339). (¬2) كما في "المعجم الكبير" للطبراني (3904) و"مشكل الآثار" (2338) و"مسند الهيثم بن كليب الشاشي" (1142، 1145).

الفصل الرابع حديث ثوبان

الفصل الرابع حديث ثوبان قال الدارمي: حدثنا يحيى بن حسّان ثنا يحيى بن حمزة ثنا يحيى بن الحارث الذِّماري عن أبي أسماء الرحبي عن ثوبان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "صيام شهرٍ بعشرة أشهرٍ، وستةُ أيام بعدهن بشهرين، فذلك تمام سنة" يعني شهر رمضان وستة أيام بعده (¬1). ثوبان صحابي جليل. وأبو أسماء الرحبي اسمه عمرو بن مرثد، قال العجلي: شامي تابعي ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات" (¬2). وأخرج له مسلم وابن خزيمة وابن حبان في صحاحهم، ولم يقدح فيه أحد (¬3). ويحيى بن الحارث الذِّماري تابعي أيضًا، روى عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه، وقرأ عليه القرآن. ووثقه ابن معين ودُحيم. وقال أبو داود: كان ثقةً عالمًا بالقراءة. وأخرج له ابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما، ولم يقدح فيه أحد (¬4). ¬

_ (¬1) "مسند الدارمي" (ج 2 ص 21). [الؤلف]. برقم (1762). وأخرجه أيضًا من طريق يحيى بن حمزة: البزار في "مسنده" (4178) والنسائي في "الكبرى" (2873) وابن خزيمة (2115) والطحاوي في "مشكل الآثار" (2348) والبيهقي في "السنن الكبرى" (4/ 293) والخطيب في "تاريخ بغداد" (2/ 362). (¬2) (5/ 179). (¬3) انظر "تهذيب التهذيب" (8/ 99). (¬4) المصدر السابق (11/ 193، 194).

[ص 7] ويحيى بن حمزة وثقه ابن معين ودحيم والعجلي وأبو داود والنسائي ويعقوب بن شيبة، ولم يقدح في روايته أحدٌ، وإنما نُسِب إلى القدر (¬1)، ولا يقدح ذلك في روايته، فقد نُسِب إلى القدر جماعة من أئمة السلف وأركان السنة المجمع عليهم، كقتادة وحسان بن عطية وسعيد بن أبي عروبة وعبد الوارث وغيرهم. وقد تابعه جماعة كما يأتي. ويحيى بن حسّان هو التنِّيسي، من رجال الصحيحين، وثَّقه أحمد والعجلي والنسائي ومطيَّن وابن يونس وغيرهم (¬2). ويروي الإِمام الشافعي عن الثقة عن الليث بن سعد، فقال الربيع بن سليمان صاحب الشافعي: يعني الشافعي بالثقة يحيى بن حسَّان (¬3). المتابعات: تابع يحيى بن حمزة جماعةٌ رووه عن يحيى بن الحارث: منهم: محمد بن شعيب بن شابور، قال الطحاوي: حدثنا أحمد بن شعيب قال: أخبرني محمود بن خالد قال: ثنا محمد بن شعيب بن شابور قال: أنا يحيى بن الحارث حدثنا أبو أسماء الرحبي عن ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "جعل الله الحسنة بعشرٍ، فشهرٌ بعشرة أشهر، وستة أيام بعد الفطر تمام السنة" (¬4). ¬

_ (¬1) انظر "تهذيب التهذيب" (11/ 200، 201). (¬2) المصدر السابق (11/ 197). (¬3) انظر "فتح المغيث" (2/ 37) و"تدريب الراوي" (1/ 312). (¬4) "مشكل الآثار" (ج 3 ص 119). [المؤلف]. انظر طبعة الرسالة برقم (2349). والحديث في "السنن الكبرى" للنسائي (2874).

أحمد بن شعيب هو الإِمام النسائي صاحب "السنن". ومحمود بن خالد ثقةٌ رِضًا متفق على توثيقه (¬1). ومحمد بن شعيب بن شابور روى عنه ابن المبارك ووثَّقه، وكذا وثَّقه غيره، إلاَّ أن ابن معين قال: كان مرجئًا، وليس به في الحديث بأس (¬2). أقول: الإرجاء الذي يُنسَب إلى علماء السلف خفيف لا يقدح في الرواية، كما هو مقرر في موضعه. ومنهم: إسماعيل بن عياش، قال الإِمام أحمد: ثنا الحكم بن نافع ثنا ابن عياش عن يحيى بن الحارث الذماري عن أبي أسماء الرحبي عن ثوبان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من صام رمضان فشهر بعشرة أشهر، وصيام ستة أيام بعد الفطر فذلك تمام صيام السنة" (¬3). الحكم بن نافع هو من رجال الصحيحين متفق على توثيقه، إلاَّ أنه قيل: إنه روى كتاب شعيب بن أبي حمزة بالإجازة، وذلك إن صحَّ لا يضرّ، ولهذا اتفق الأئمة على تصحيح حديثه عن شعيب وغيره (¬4). وإسماعيل بن عياش ثقة جليل يُحتج به إذا حدَّث عن أهل الشام، وذلك أنها بلده، حفظ حديث أهلها وأتقنه، فأما إذا روى عن غيرهم ففيه ¬

_ (¬1) انظر "تهذيب التهذيب" (10/ 61). (¬2) المصدر السابق (9/ 223). (¬3) "مسند أحمد" (ج 5 ص 280). [المؤلف]. رقم (22412). وأخرجه أيضًا الطبراني في "مسند الشاميين" (903) من طريق إسماعيل بن عياش به. (¬4) انظر "تهذيب التهذيب" (2/ 441، 442).

لين؛ لأنه لم يُتقِنه، فكان يهم فيه (¬1). وحديثُه هذا شامي، لأن يحيى بن الحارث شامي. ومنهم: صدقة بن خالد، قال ابن ماجه: ثنا هشام بن عمّار ثنا بقية ثنا صدقة بن خالد ثنا يحيى بن الحارث الذماري قال: سمعت أبا أسماء الرحبي عن ثوبان مولى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من صام ستة أيام بعد الفطر كان تمام السنة، {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] " (¬2). هشام بن عمار من شيوخ البخاري، وثَّقه ابن معين وغيره. وغمزَه أبو داود وغيره بأنه لما كبر كان يُلقَّن فيتلقن (¬3). وبقية هو ابن الوليد، من رجال مسلم، وفيه كلام طويل. والمحققون [على] أنه ثقة في نفسه لكنه يدلِّس عن الضعفاء, فإذا صرَّح بالسماع فهو حجة (¬4). وقد صرَّح هنا بالسماع. أما صدقة بن خالد فمن رجال البخاري، وثَّقه أحمد وابن معين وجماعة، ولم يُقدح فيه بشيء (¬5). [ص 8] ومنهم: الوليد بن مسلم، قال ابن حبّان في "صحيحه": أخبرنا ¬

_ (¬1) المصدر السابق (1/ 321 وما بعدها). (¬2) "سنن ابن ماجه" طبع مصر (ج 1 ص 269). [المؤلف]. رقم (1715). (¬3) انظر "تهذيب التهذيب" (11/ 52 وما بعدها). (¬4) انظر المصدر السابق (1/ 474 وما بعدها). (¬5) المصدر السابق (4/ 414، 415).

الحسين بن إدريس الأنصاري ثنا هشام بن عمَّار حدثنا الوليد بن مسلم ثنا يحيى بن الحارث الذِّماري عن أبي أسماء الرحَبي عن ثوبان عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من صام رمضان وستًّا من شوال فقد صام السنة" (¬1). الحسين بن إدريس له ترجمة في "تذكرة الحفاظ" (¬2)، روى له ابن حبان في "صحيحه" كما رأيت، وذكره في "الثقات" وقال: كان ركنًا من أركان السنة في بلده (¬3). ووثَّقه الدارقطني. وقال ابن ماكولا: كان من الحفَّاظ المكثرين (¬4). وهشام بن عمار تقدم. والوليد بن مسلم إمام يدلِّس (¬5)، وقد صرَّح بالسماع. فهؤلاء خمسة رووه عن يحيى بن الحارث الذماري: يحيى بن حمزة ومحمد بن شعيب بن شابور، وإسماعيل بن عياش، وصدقة بن خالد، والوليد بن مسلم. ولعلَّك لو فتَّشتَ وجدتَ غيرهم (¬6). ¬

_ (¬1) "موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان" (نسخة قلمية بالمكتبة الآصفية، ص 170). [المؤلف]. وهو في المطبوعة برقم (928)، وفي "صحيح ابن حبان" بترتيب ابن بلبان برقم (3635). (¬2) (2/ 238). [المؤلف]. وهو في الطبعة التي بتحقيق المعلمي (2/ 695). (¬3) "الثقات" (نسخة قلمية للمكتبة الآصفية). [المؤلف]. وهو في المطبوعة (8/ 193). (¬4) راجع "لسان الميزان" (ج 2 ص 272). [المؤلف]. وطبعة أبي غدة (3/ 147، 148). (¬5) انظر "تعريف أهل التقديس" (ص 170). (¬6) منهم ثور بن يزيد، أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (1451) من طريقه.

وتابع يحيى بن حسَّان عبدُ الله بن يوسف عند البيهقي (¬1)، رواه بسند صحيح عن عبد الله بن يوسف عن يحيى بن حمزة بسنده. وعبد الله بن يوسف من شيوخ البخاري، متفق على أنه ثقة ثبت (¬2). وممن تابع الدارميَّ - وإن كان غنيًّا عن المتابعة -: سليمان بن شعيب الكيساني، قال الطحاوي: حدثنا سليمان بن شعيب الكيساني قال: ثنا يحيى بن حسَّان ... (¬3). سليمان بن شعيب ذكره ابن السمعاني وقال: مولده بمصر سنة 184، وتوفي في صفر سنة 273، وكان ثقة (¬4). ومنهم: سعد بن عبد الله بن عبد الحكم والحسين بن نصر بن المعارك المصري، أخرجه عنهما إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة في "صحيحه" (¬5) كلاهما عن يحيى بن حسَّان. فأما سعد فقال ابن أبي حاتم: سمعتُ منه بمكة وبمصر، وهو ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي" (ج 4 ص 293). [المؤلف]. وأخرجه البزار في "مسنده" (4178) من طريق يحيى بن حسان وعبد الله بن يوسف كلاهما عن يحيى به. (¬2) هو التنِّيسي، انظر "تهذيب التهذيب" (6/ 86 - 88). (¬3) "مشكل الآثار" (ج 3 ص 119). [المؤلف]. في طبعة الرسالة برقم (2348). (¬4) "الأنساب" (الورقة 493 الوجه الأول). [المؤلف]. هو في طبعة الهند (11/ 195). (¬5) رقم (2115): وفيه "سعيد بن عبد الله" وهو تصحيف. وفيه: " ... بن المبارك"، وهو أيضًا تحريف. وفي الأصل: "نصير" بدل "نصر" تصحيف. وفيما يلي مصادر ترجمتهما.

حكم الحديث

صدوق ... سئل أبي عنه فقال: صدوق (¬1). وأما الحسين فقال ابن أبي حاتم: سمعتُ منه، ومحلُّه الصدق (¬2). وذكره ابن حبان في "الثقات" وقال: حدثنا عنه ابن خزيمة، وزعم أنه كان صدوقًا (¬3). حكم الحديث: حديث ثوبان صححه ابن خزيمة وابن حبان وغيرهما، وصحته واضحة جليَّة، والحمد لله. ... ¬

_ (¬1) كتاب ابن أبي حاتم (نسخة محفوظة بدائرة المعارف، تقدمت الإشارة إليها). [المؤلف]. وهو في المطبوعة (4/ 92). (¬2) كتاب ابن أبي حاتم (نسخة ...). [المؤلف]. وهو في المطبوعة (3/ 66). (¬3) "الثقات" (نسخة قلمية). [المؤلف]. وهو في المطبوعة (8/ 192). وله ترجمة في "تاريخ بغداد" (8/ 143).

الفصل الخامس حديث أبي هريرة

الفصل الخامس حديث أبي هريرة قال البزّار: حدثنا حفص بن عمر الشيباني ثنا أبو عامر ثنا زهير عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من صام رمضان وأتبعَه بستٍّ من شوال فكأنما صام الدهر". هكذا رواه أبو عامر، ورواه عمرو بن أبي سلمة عن زهير عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة، ثناه محمد بن مسكين ثنا عمرو به. قال البزار: ولم أسمعه عن أبي عامر إلا من عمر بن حفص، ورأيته في كتاب أحمد بن ثابت مكتوبًا فقال: لم يقرأه علينا أبو عامر (¬1). أقول: كذا وقع في النسخة أولاً "حفص بن عمر" وثانيًا "عمر بن حفص"، وكأن الثاني هو الصواب (¬2). وفي "التهذيب" (7/ 434): عمر بن حفص بن صبيح، ويقال بزيادة "عمر" بين حفص وصبيح، أبو الحسن الشيباني اليماني البصري ... ذكره ابن حبان في "الثقات" (¬3). مات في حدود سنة خمسين ومائتين، واحتج به ابن خزيمة في "صحيحه". وأبو عامر هو عبد الملك بن عمرو العقدي البصري، ثقة جليل باتفاقهم (¬4). وكتابة أحمد بن ثابت الحديثَ في كتابه على أنه من حديث ¬

_ (¬1) "زوائد مسند البزار" (نسخة قلمية بالمكتبة الآصفية ص 130). [المؤلف]. انظر المطبوعة (1/ 405)، و"كشف الأستار" (1060) و"مسند البزار" (8334). (¬2) هو على الصواب في "كشف الأستار" و"مسند البزار". (¬3) (8/ 447). (¬4) انظر "تهذيب التهذيب" (6/ 409، 410).

أبي عامر متابعة قوية. وقول أحمد بن ثابت "إن أبا عامر لم يقرأه عليهم" كأنه لأنه لم يتيسَّر لهم سؤاله أن يقرأه عليهم، وقد يحتمل أنه توقف عنه، إما لأنه بلغه أن غيره روى عن زهير بخلاف روايته، وإما لأنه لم يجد لزهير متابعًا. وعلى كل حال فقد ثبت أن الحديث من حديث أبي عامر عن زهير. وزهير هو ابن محمد التميمي (¬1)، قال أحمد مرةً: ثقة، ومرةً: لا بأس به، ومرةً: مستقيم الحديث، ومرةً: مقاربه. ثم صحح رواية أبي عامر العقدي وأشباهه عنه، وضعَّف رواية عمرو بن [أبي] سلمة وأهل الشام عنه. قال الأثرم عن أحمد [ص 9] في رواية الشاميين عن زهير: يروون عنه مناكير، ثم قال: أما رواية أصحابنا عنه فمستقيمة، عبد الرحمن بن مهدي وأبي عامر. وأما أحاديث أبي حفص (هو عمرو بن أبي سلمة) ذاك التنيسي عنه فتلك بواطيل - موضوعة أو نحو ذلك -، أما بواطيل فقد قاله. وقال البخاري: قال أحمد: كأن زهيرًا الذي روى عنه أهل الشام زهير آخر. قال البخاري: ما روى عنه أهل الشام فإنه مناكير، وما روى عنه أهل البصرة فإنه صحيح. وعمرو بن أبي سلمة ثقة يخطئ، ولا سيما فيما رواه عن زهير. قال أحمد: روى عن زهير أحاديث بواطيل كأنه سمعها من صدقة بن عبد الله، فغلِط فقلَبَها عن زهير (¬2). فقد بان أن ما رواه أبو عامر عن زهير صحيح، فقد صحَّ الحديث عن العلاء عن أبيه. والعلاء وأبوه تابعيان ثقتان، أما أبوه فلم يقدح فيه أحد، وأما ¬

_ (¬1) "تهذيب التهذيب" (3/ 348 - 350). (¬2) انظر المصدر السابق (8/ 43، 44).

هو فقال أحمد: ثقة لم أسمع أحدًا ذكره بسوءٍ. وليَّنه ابن معين وغيره. وقال الترمذي: هو ثقة عند أهل الحديث (¬1). والحاصل أن حديثه إذا لم تقم قرينة على خطائه إما صحيح وإما حسن. وقد قال المنذري في هذا الحديث: "رواه البزار، وإحدى طرقه عنده صحيحة" (3/ 96) (¬2). كأنه يعني هذه الطريق. وأما الطريق الأخرى فالراوي عن عمرو بن أبي سلمة - وهو محمد بن مسكين - ثقة اتفاقًا (¬3). وعمرو بن أبي سلمة، قد علمت الكلام في روايته عن زهير. على أنه لا مانع أن يكون لزهير طريقان: عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة، وعن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة. وسهيل وأبوه ثقتان، وفي سهيل كلام لا يُسقِطه، وقد احتج به مسلم في "صحيحه"، وعاب النسائي على البخاري عدم الاحتجاج به (¬4). وفي "التلخيص" (¬5): وأخرجه أبو نعيم من طريق المثنى بن الصباح - أحد الضعفاء - عن المحرر بن أبي هريرة عن أبيه. ورواه الطبراني في "الأوسط" من أوجه أخرى ضعيفة (¬6). ¬

_ (¬1) "تهذيب التهذيب" (6/ 301 و8/ 186، 187). (¬2) "الترغيب والترهيب" رقم (1459). ط. مكتبة المعارف. (¬3) انظر "تهذيب التهذيب" (9/ 439، 440). (¬4) راجع "تهذيب التهذيب" (4/ 263، 264). (¬5) "التلخيص الحبير" (2/ 227). (¬6) أخرجه من حديث جابر (3192، 8979) وسيأتي الكلام عليه، ومن حديث ابن عباس وجابر (4642) ومن حديث ابن عمر (8622).

أقول: المثنى بن الصباح كان من العبَّاد، وقد وثَّقه ابن معين مرةً والصحيح أنه ضعيف (¬1)، ولكن لا تخلو روايته عن تقويةٍ لحديث البزار، وكذلك الوجوه الأخرى التي ذكرها الحافظ. فحديث أبي هريرة هذا إن لم يرتقِ إلى درجة الصحيح فلا ينزل عن درجة الحسن. والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) انظر "تهذيب التهذيب" (10/ 35 - 37).

الفصل السادس في حديث جابر

[ص 10] الفصل السادس في حديث جابر أما حديث جابر فقال الإمام أحمد: ثنا عبد الله بن يزيد ثنا سعيد يعني ابن أبي أيوب حدثني عمرو بن جابر الحضرمي قال: سمعتُ جابر بن عبد الله الأنصاري يقول: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من صام رمضان وستًّا من شوال فكأنما صام السنة كلَّها". ثم أعاده في موضع آخر: ثنا أبو عبد الرحمن ثنا سعيد ... ثم أعاده في موضع ثالث: ثنا أبو عبد الرحمن ثنا سعيد بن أبي أيوب ... (¬1). وعبد الله بن يزيد هو أبو عبد الرحمن المقرئ، ثقة باتفاقهم (¬2)، ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (ج 3 ص 308 و324 و344) ... [المؤلف]. بأرقام (14302، 14477، 14710). وفي الموضع الأول ذكر له إسنادًا آخر فقال: "حدثناه الحسن أخبرنا ابن لهيعة حدثنا عمرو بن جابر الحضرمي ... فذكر معناه" برقم (14303). وقد أخرجه عبد بن حميد في "مسنده" (1116) والبيهقي في "السنن الكبرى" (4/ 292) من طريق عبد الله بن يزيد المقرئ بهذا الإسناد. وأخرجه البيهقي (4/ 292) من طريق ابن وهب عن سعيد بن أبي أيوب به. وأخرجه البزار كما في "كشف الأستار" (1062) والطبراني في "الأوسط" (3192، 8979) والبيهقي (4/ 292) من طريق بكر بن مضر عن عمرو بن جابر به. وأخرجه البيهقي (4/ 292) من طريق ابن وهب عن ابن لهيعة عن عمرو بن جابر به. وسيأتي ما في "مشكل الآثار" من هذه الطرق. (¬2) انظر "تهذيب التهذيب" (6/ 83، 84).

وكذلك سعيد بن أبي أيوب (¬1). وقال الطحاوي (¬2): حدثنا الربيع المرادي قال ثنا عبد الله بن وهب قال: أخبرني ابن لهيعة وبكر بن مضر وسعيد بن أبي أيوب عن عمرو بن جابر ... ، فذكره. ثم قال (¬3): حدثنا سليمان بن شعيب قال: ثنا يحيى بن حسان قال: ثنا ابن لهيعة وبكر بن مضر كلاهما عن عمرو بن جابر .... ، فذكره (¬4). الربيع وبكر بن مضر ثقتان باتفاقهم (¬5). وعبد الله بن وهب إمام. وسليمان بن شعيب ويحيى بن حسان تقدَّما. فالحديث ثابت بلا شك عن عمرو بن جابر. وعمرو بن جابر مختلف فيه، ذكروا أنه كان يقول: إن عليًّا رضي الله عنه في السحاب. فجرحَه جماعة مطلقًا، ووثَّقه آخرون في الحديث. ذكره البرقي فيمن ضُعِّف بسبب التشيع وهو ثقة. وذكره يعقوب بن سفيان في جملة الثقات. وصحح الترمذي حديثه. وقال أحمد: بلغني أن عمرو بن جابر كان يكذب، قال: وروى عن جابر أحاديث مناكير. كذا في ¬

_ (¬1) "تهذيب التهذيب" (4/ 7، 8). (¬2) في "مشكل الأثار" (2350). (¬3) برقم (2351). (¬4) "مشكل الآثار" (ج 3 ص 120). [المؤلف]. وهو في طبعة الرسالة (6/ 126). (¬5) انظر "تهذيب التهذيب" (3/ 245، 246 و1/ 487، 488).

"التهذيب" (¬1). أقول: الظاهر أن قول أحمد "وبلغني ... " إنما بلغه ذلك من وجه لا يصح، ولذلك أخرج حديثه في "مسنده" كما رأيت. أو لعله أراد بالكذب ما حُكِي أنه كانت تمرُّ السحابة فيقول: هذا عليٌّ قد مرَّ في هذه السحابة. فقد جاء عن الشعبي وغيره في الحارث الأعور: كان كذابًا. ثم أثنى عليه الشعبي وغيره، ووثقه أحمد بن صالح المصري، فقيل له: فقد قال الشعبي: إنه كان يكذب، قال: لم يكن يكذب في الحديث، إنما كان كذبه في رأيه. يعني إفراطه في التشيع. "التهذيب" (2/ 145 - [147]). ولهذا نظائر. وأما المناكير فلعل النكارة فيها خفيفة، أو لعلها من الراوي عنه. وقد أخرج ابن أبي حاتم (¬2) عن الأثرم صاحب أحمد قال: ذُكِر لأبي عبد الله أحمد بن حنبل عمرو بن جابر الحضرمي، فقال: "يروي أحاديث مناكير ابنُ لهيعة عنه". وابن لهيعة ضعيف عندهم ومدلِّس. قال ابن أبي حاتم: سألتُ أبي عن عمرو بن جابر فقال: عنده نحوه عشرين حديثًا، هو صالح الحديث. وفي ترجمته من "الميزان" (¬3) حديثه عن جابر مرفوعًا: "الفارّ من الطاعون [كالفارّ يوم الزحف، ومن صبرَ فيه كان له كأجرِ شهيد] ". وفي أحاديث الطاعون المتفق على صحتها ما يشهد لهذا المعنى. وعادة صاحب "الميزان" أن يذكر في ترجمة الرجل أنكرَ ما روى. فإذا كان ¬

_ (¬1) (8/ 11). (¬2) في "الجرح والتعديل" (6/ 224). (¬3) (3/ 250). وما بين المعكوفتين منه، وقد ترك المؤلف هنا بياضًا.

هذا أنكر ما روى هذا الرجل فلا وجهَ للطعن فيه بأنه يروي مناكير. وأما قول الأزدي: "كذاب"، فالأزدي نفسه واهٍ لا يُعتمد عليه. وهو محمد بن الحسين الأزدي، له ترجمة في "لسان الميزان" (5/ 139) (¬1)، فراجعها إن شئت. وأما قول عمرو بن جابر في علي رضي الله عنه: "إنه في السحاب" فأمرٌ توهَّمه، ولم يُنقَل عنه غيرُه مما فيه غلوٌّ مفرط أو طعنٌ في الصحابة رضي الله عنهم. ومما يؤيد ما ذكرته في كلام الإِمام أحمد أنه رحمه الله روى حديث عمرو هذا وكرَّره في "المسند" مرارًا كما رأيتَ، ثم احتج به مع غيره فيما حكى أصحابه عنه أنه قال في صيام ستة أيام من شوال: "رُوي هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بثلاثة أوجه". ذكره ابن قدامة في "المغني" (3/ 95) (¬2). ومراده بالثلاثة: حديث أبي أيوب وحديث ثوبان وحديث جابر، فإنها هي التي خرَّجها في "مسنده". وبالجملة فحديثه هذا يصلح شاهدًا على الأقل. ... ¬

_ (¬1) (7/ 90، 91) ط. أبي غدة. (¬2) (4/ 439) ط. التركي.

الفصل السابع في بقية الأحاديث

الفصل السابع في بقية الأحاديث • [ص 11] حديث البراء، لفظه كما في "كنز العمال" (ج 4 ص 320) (¬1): "من صام رمضان وستة أيام من شوَّال كان كصيام السنة كلها، الحسنة بعشر أمثالها". ونسبه إلى ابن النجار و"مشيخة ابن البنّاء"، ونسبه ابن حجر في "التلخيص" (¬2) وغيره إلى الدارقطني. • وحديث ابن عمر، لفظه كما في "الترغيب والترهيب" (¬3) للمنذري: "من صام رمضان وأتبعَه ستًّا من شوال خرج من ذنوبه كليومِ ولدتْه أمُّه". ونسبه إلى "المعجم الأوسط" للطبراني (¬4). • وحديث ابن عباس، لم أقف على لفظه، ونسبوه إلى "المعجم الأوسط" للطبراني (¬5) أيضًا. ¬

_ (¬1) (8/ 570) ط. مؤسسة الرسالة. (¬2) (2/ 327). قال الدارقطني في "العلل" (6/ 108): "رواه إسحاق بن أبي فروة عن يحيى بن سعيد عن عدي بن ثابت عن البراء، ووهم فيه وهمًا قبيحًا، والصواب حديث أبي أيوب". (¬3) رقم (1460). (¬4) برقم (8622). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (3/ 184): فيه مسلمة بن علي الخشني وهو ضعيف. (¬5) برقم (4642) من طريق يحيى بن سعيد المازني عن عمرو بن دينار عن مجاهد عن ابن عباس وجابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من صام رمضان وأتبعه ستًّا من شوال صام السنة كلها". قال الطبراني: لم يروِ هذا الحديث عن عمرو بن دينار إلا يحيى بن سعيد

• وحديث غنّام أشار إليه ابن أبي حاتم في كتابه "الجرح والتعديل"، ولفظه في ترجمة غنّام: "غنّام والد عبد الرحمن بن غنّام، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من صام ستة أيام من شوَّال ... ". روى حاتم بن إسماعيل عن إسماعيل المؤذن عن عبد الرحمن بن غنام عن أبيه" (¬1). ولغنّام ترجمة في "الإصابة" (¬2)، وقال: ذكره ابن أبي حاتم عن أبيه في الصحابة ... ، رواه حاتم بن إسماعيل عن إسماعيل المؤذن مولى عبد الرحمن بن غنام عن عبد الرحمن بن غنام عن أبيه. ثم قال الحافظ: "قلت: ووصله ابن مندة من رواية حاتم، ولفظه: "من صام رمضان وأتبعه ستًّا من شوّال فكأنما صام السنة". وأخرجه أبو نعيم (¬3) بنحوه. ووقع عند البغوي: غنام الأنصاري، سكن المدينة وروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثًا ... ". وذكره في "الإصابة" في موضع آخر (¬4): "وعِنان رجل من الصحابة، له حديث واحد. كذا ذكره علي بن سعيد العسكري، وساق من طريق إسماعيل المؤذن عن عبد الرحمن بن عنان عن أبيه رفعه: "من صام ستًّا بعد يوم الفطر فكأنما صام الدهر" كذا قال، وهو تصحيف، وإنما هو غنَّام بالغين المعجمة ¬

_ = المازني، تفرد به بكار بن الوليد الضبي. وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (3/ 184): فيه يحيى بن سعيد المازني وهو متروك. (¬1) "الجرح والتعديل" مطبوع (ج 3 قسم 2 ص 58). [المؤلف]. (¬2) (8/ 485، 486). (¬3) في "معرفة الصحابة" (5681). (¬4) (8/ 462).

وتشديد النون وآخره ميم، وسيأتي على الصواب في مكانه". وذكره الذهبي في "التجريد" (¬1) وقال: "إسناد حديثه غريب". أقول: أما حاتم بن إسماعيل فثقة مشهور من رجال الصحيحين (¬2). وأما إسماعيل المؤذن فلا أدري من هو. وعبد الرحمن بن غنام لم أجد له ترجمة فيما وقفت عليه من الكتب (¬3). والله أعلم. • وأما عائشة أم المؤمنين فكأن حديثها في "جزء الدمياطي"، فإن السبكي قال: "وقد اعتنى [شيخنا أبو محمد الدمياطي بجمع طرقه، فأسنده عن بضعة وعشرين رجلاً رووه عن سعد بن سعيد، وأكثرهم حفّاظ ثقات ... ورواه أيضًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ثوبان وأبو هريرة وجابر وابن عباس والبراء بن عازب وعائشة] (¬4). ¬

_ (¬1) (2/ 3). (¬2) انظر "تهذيب التهذيب" (2/ 128). (¬3) قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (3/ 184): عبد الرحمن بن غنام لم أعرفه. (¬4) ما بين المعكوفتين بيَّض له المؤلف. وأضفناه نقلًا عن "سبل السلام" (2/ 167). وقال ابن الملقن في "البدر المنير" (5/ 752 طبعة دار الهجرة): "وقد روى هذا الحديث عن سعد بن سعيد تسعة وعشرون رجلاً أكثرهم ثقات حفَّاظ أثبات، وقد ذكرتُ كل ذلك عنهم موضّحًا في "تخريجي لأحاديث المهذّب"، مع الجواب عمن طعن في سعد بن سعيد، وأنه لم ينفرد به وتوبع عليه. وذكرتُ له ثمان شواهد، وأجبتُ عن كلام ابن دحية الحافظ فإنه طعن فيه. فراجعْ ذلك جميعه منه، فإنه من المهمات التي يُرحل إليها".

وفي "فتح الملهم شرح صحيح مسلم" (3/ 187) (¬1): قال الشيخ الجزري: حديث أبي أيوب هذا لا يُشَكّ في صحته .... ورواه أيضًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أبو هريرة وجابر وثوبان والبراء بن عازب وابن عباس وعائشة. ورأيت في "الجامع الصغير" (¬2) حديث: "من صام رمضان وستًّا من شوال والأربعاء والخميس دخل الجنة". مح (¬3) عن رجل. و"مح" علامة لـ "مسند أحمد"، ورأيتُ في "المسند" (¬4) من حديث عريفٍ من عُرفاء قريش عن أبيه: "من صام رمضان وشوالًا والأربعاء والخميس دخل الجنة". وهناك أحاديث أخرى في صوم شوال إجمالاً، وفيما ذُكِر كفاية. والله الموفق. ¬

_ (¬1) (5/ 327) طبعة دار القلم. وقد نقل الكلام المذكور عن "مرقاة المفاتيح" للقاري (2/ 542). والجزري هو شمس الدين محمد بن محمد الشهير بابن الجزري (ت 833) شيخ الإقراء في زمانه. وهو ممن شرح "مصابيح السنة" للبغوي في ثلاثة مجلدات، وسماه "تصحيح المصابيح" (أو) "التوضيح في شرح المصابيح". انظر: "كشف الظنون" (2/ 1699). وبلغني أن منه نسخة في إحدى المكتبات الشخصية بالهند. (¬2) (6/ 161 بشرحه "فيض القدير"). (¬3) كذا في الأصل. وفي "الجامع الصغير": "حم". وهو المعروف، وقد صرَّح السيوطي بذلك في أول "الجامع" (1/ 25). (¬4) رقم (15434). وأخرجه أيضًا عبد الله بن أحمد في "زوائد المسند" (16714) والبيهقي في "شعب الإيمان" (3870). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (3/ 190): "فيه من لم يسمَّ، وبقية رجاله ثقات".

الفصل الثامن في الآثار

[ص 12] الفصل الثامن في الآثار بحسْبِك من آثار الصحابة رضي الله عنهم رواية هذه السنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد تقدم في رواية يحيى بن سعيد الأنصاري أن أبا أيوب رضي الله عنه قام في الناس عقبَ الفطر، فخطَبهم بهذا الحديث يُرغِّبهم في الصوم. وأما التابعون فبحسْبِك من آثارهم رواية السنة كما سمعتَ. وروى الترمذي عن الحسن البصري "كان إذا ذُكِر عنده صيام ستة أيام من شوال فيقول: والله لقد رضي الله بصيام هذا الشهر عن السنة كلها" (1/ 141) (¬1). وهذا الأثر يدلُّ على استفاضة هذه السنة في زمن الحسن، وأنه لا يرى بها بأسًا، وإنما بيَّن أنها ليست بفرض، فإن قوله: "لقد رضي الله ... " معناه: رضي الله بها أداءً للفرض. ولا يصح أن يُحمل كلامه على معنى أن الله رضي بها فلم يشرع غيرها، لأن هناك أيامًا غير رمضان مشروعٌ صومُها قطعًا، كالاثنين والخميس ويوم عرفة وثلاثة أيام من كل شهر وغيرها. فإن قيل: يحتمل أنه أراد إنكار الحديث أن صومها مع رمضان يَعدِل صومَ السنة، فيكون قوله: "لقد رضي الله ... " مراد به أن الله تعالى رضي برمضان وحده، فجعل صيامه يَعدِل صيامَ السنة. قلت: هذا باطل، فأيُّ حجة على أن صيام رمضان وحده يعدِل صيامَ ¬

_ (¬1) (3/ 133) تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي. وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة في "المصنف" (3/ 97).

السنة؟ بل الأدلة القطعية في أن الحسنة بعشْرِ أمثالها تُنافي ذلك، وتشهد لحديث الستّ. وما ورد من أن المضاعفة قد تزيد على العشر إلى سبعمئة أو أكثر فذلك غير موعود به وعدًا باتًّا، بل موكولٌ إلى فضل الله عزَّ وجلَّ، بخلاف العشر فإن الوعد بها مبتوت. على أنه لو كان على ذلك حجة لما كان ذلك صريحًا في منافاة حديث الست، ولا سيما رواية "فكأنما صام الدهر". وقال ابن قدامة في "المغني": "وجملة ذلك أن صوم الستّ مستحب عند كثير من أهل العلم، روي ذلك عن كعب الأحبار والشعبي وميمون بن مهران ... ". (3/ 95) (¬1). ... ¬

_ (¬1) (4/ 438) ط. التركي.

الفصل التاسع في مذاهب الفقهاء

الفصل التاسع في مذاهب الفقهاء أما الشافعي وأحمد وداود الظاهري وأصحابهم - وفيهم مجتهدون كابن جرير وابن خزيمة وابن حبان وابن المنذر وغيرهم - فلا خلاف في استحبابها عندهم. وأما أبو حنيفة فقد ذُكِرت عنه رواية بكراهيتها، والصحيح عند أصحابه استحبابها، وذكر ابن عابدين منهم عدة نصوص من كتبهم على استحبابها ثم قال: "وتمام ذلك في رسالة "تحرير الأقوال في صوم الست من شوال" للعلامة قاسم، وقد ردَّ فيها على ما في "منظومة التباني" وشرحها من عَزْوه الكراهة مطلقًا إلى أبي حنيفة وأنه الأصح، بأنه على غير رواية الأصول، وأنه صحح ما لم يسبقه أحدٌ إلى تصحيحه, وأنه صحَّح الضعيفَ وعَمَدَ إلى تعطيل ما فيه الثواب الجزيل بدعوى كاذبة بلا دليل، ثم ساق كثيرًا من نصوص كتب المذهب" (2/ 136) (¬1). وأما مالك بن أنس فقد قال يحيى بن يحيى الأندلسي (¬2): "سمعتُ مالكًا يقول في صيام ستة أيام بعد الفطر من رمضان: إني لم ير (كذا) (¬3) أحدًا من أهل العلم والفقه يصومها، ولم يبلغني ذلك عن أحدٍ من السلف، ¬

_ (¬1) "حاشية ابن عابدين" (2/ 435) ط. دار الفكر. (¬2) في "الموطأ" بروايته (1/ 311). (¬3) من المؤلف للإشارة إلى ما في النسخة التي رجع إليها. وفي طبعة محمد فؤاد عبد الباقي: "إنه لم ير" على الصواب.

وإن أهل العلم يكرهون ذلك ويخافون بدعته، وأن يُلْحِقَ برمضان ما ليس منه أهلُ الجهالة والجفاء، لو رأوا في ذلك خفَّةً على أهل العلم (¬1) ورأوهم يعملون ذلك". أقول: قوله: "في صيام ستة أيام بعد الفطر من رمضان" ظاهره أن المراد عقب الفطر، بأن يصام ثاني شوال إلى سابعه، ويشهد له قوله بعد ذلك: "وأن يلحق برمضان ما ليس منه أهل الجهالة والجفاء"، فإن توهُّمَ العامة أن حكمها حكم رمضان في الفرضية إنما يقرب إذا صِيْمتْ عقبَ الفطر. وعلى هذا حمل كثير من المالكية كلام مالك، قال القاضي عياض المالكي: "ويحتمل أنه إنما كره وصلَ صومها بيوم الفطر، وأما لو صامها في أثناء الشهر فلا، وهو ظاهر كلامه في قوله: صام ستة أيام بعد يوم الفطر" (3/ 279) (¬2). وسيأتي نحوه عن الباجي وغيره. وقوله إنه لم ير أحدًا من أهل العلم والفقه يصومها، ولا بلغه عن أحد من السلف = نفيٌ غير حاصر، لاحتمال أن جماعة منهم كانوا يصومونها ويُخفون ذلك، كما هو المشروع في صيام التطوع. [ص 13] ثم إن كان الكلام في صومها عقب الفطر، فليس فيه نفْي صومهم إياها في أثناء الشهر. وإن كان على إطلاقه فلعلَّ جماعة كانوا ¬

_ (¬1) في طبعة محمد فؤاد عبد الباقي: "رخصة عند أهل العلم". (¬2) لعل المؤلف أحال هنا إلى طبعةٍ من "شرح الزرقاني على الموطأ". والنصّ في طبعة دار الفكر منه (2/ 203). وأصله في "إكمال المعلم" (4/ 140).

يصومونها ولم يبلغ مالكًا، ولا سيما من غير أهل المدينة. ومن كان لا يصومها: فقد كان جماعة منهم يسردون الصوم، وجماعة يصومون كلَّ اثنين وخميس، وجماعة يصومون ثلاثة أيام من كل شهر، وبعضهم يصومون من ذي الحجة والمحرم وغيرهما ما يزيد على ستة أيام. فأما الذين يسردون فقد دخل صوم الستّ في صيامهم. وأما الذين يصومون كل اثنين وخميس فلعلهم كانوا لا يرون اشتراطَ تتابعها، بل يكفي أن تكون من شوّال، ورأوا أنه يحصل لهم بصيام الاثنين والخميس صيام الستّ وزيادة. وأما الذين يصومون ثلاثة أيام من كل شهر، أو يصومون في ذي الحجة والمحرم وغيرهما ما يزيد على ستة أيام = فلعلهم حملوا الحديثَ على أن أصل المطلوب صيام ستة أيام من بقية السنة، وأنه لا اختصاص للأجر بكونها مُتْبَعةً برمضان من شوال، على ما يأتي تقريره في الفصل العاشر إن شاء الله تعالى. على أن في كلام مالك نفسه الاعتذارَ عنهم بأنهم إنما كانوا يتركون صومها ويكرهونه خوفَ البدعة، بأن يُلحِق بعض أهل الجهالة والجفاء برمضان ما ليس منه، فيظنون أن صومها فرضٌ كرمضان. وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ربما يترك العمل الذي هو في نفسه مستحب إعلامًا للناس أنه ليس بفرضٍ ولا قريبًا منه، بأن يكون استحبابه بغاية التأكيد، وربما يفعل الشيء الذي في نفسه مكروه إعلامًا للناس أنه ليس بحرامٍ ولا شديد الكراهة. واقتدى به أصحابه، فكان أبو بكر وعمر وابن عباس لا

يُضحُّون (¬1)، لأنهم كانوا يرون الأضحية مندوبة، ويخافون أن يعتقد الناس وجوبها أو تأكُّدها، ويواظبون عليها ويشقُّ ذلك عليهم. ويشهد لذلك قوله: "ويخافون بدعته"، إذ لو كانوا يرون أن صيامها ليس بسنةٍ أصلاً لكان صيامها عندهم بدعةً البتّةَ، وحقُّ التعبير عنه أن يقال: "ويرونه بدعة". فلما قال: "ويخافون ... " عُلِم أنهم لا يرون صيامها بدعةً، ولكن يخشَون أن ينجرَّ الأمرُ إلى البدعة، وهي اعتقاد أن حكمها حكم رمضان في الفرضية. فتدبَّرْ. وبعدُ، فتَرْكُ أكثر الناس العملَ بالشيء - ولو لم يظهر لهم عذرٌ - لا يدلّ على أنه ليس بسنة. هذا التكبير عند الخفض والرفع في الصلاة تركه الناس في عهد عثمان، حتى أحياه علي بالكوفة، فقال أبو موسى: "ذكَّرَنا عليٌّ صلاةً كنَّا نصلِّيها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إما نسيناها وإما تركناها عمدًا" (¬2). وقال عمران بن حصين: "ذكَّرَنا هذا الرجل صلاةً كنّا نصلِّيها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كان يكبِّر كلما رفع وكلما وضع" (¬3). (راجع البخاري مع شرحه "فتح الباري" (¬4) كتاب الصلاة، باب إتمام التكبير في الركوع). وأحياه أبو هريرة بمكة، فأنكره عكرمة حتى قال لمولاه ابن عباس: إنه أحمق، فقال ابن ¬

_ (¬1) انظر "مصنّف عبد الرزاق" (4/ 381، 382) و"السنن الكبرى" للبيهقي (9/ 265). (¬2) أخرجه أحمد في "المسند" (19494) والطحاوي في "معاني الآثار" (1/ 221) وغيرهما. (¬3) أخرجه البخاري (784). (¬4) (2/ 269، 270) ط. السلفية.

عباس: "ثَكِلَتْك أمُّك! تلك صلاة أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم - " (¬1). (أيضًا باب التكبير إذا قام من السجود). ومالك رحمه الله له أصلان يبالغ فيهما: الأول: شدة التحرُّز من البدعِ حتى ربما يقع في ترك السنة، ومن الحرامِ حتى ربما يقع في تحريم الحلال، وهذا هو الأصل المعروف بسدّ الذرائع. الثاني: الاحتجاج بعمل أهل المدينة حتى يقع في مخالفة بعض السنن الثابتة، وربما يحتج بعمل أهل المدينة ويكون عمل كثير من أهل المدينة على خلاف ما قال. وقد نازعه في هذين الأصلين من هو أجلُّ أصحابه ومن أشدِّهم - أو هو أشدُّهم - حبًّا له ومعرفةً بقدره، وهو الشافعي. وعلى كل حال فإن أصحاب مالك قد كَفَونا، فقرَّروا استحباب صيام الستّ في الجملة، وذكروا قيودًا أخذوها من كلام مالك، فقالوا: إنما يُكره صومها لمن يجتمع فيه خمسةُ أمور: الأول: أن يكون مقتدى به. الثاني: أن يُظهِر صومها. الثالث: أن يصومها متصلةً برمضان. الرابع: أن يتابعها. الخامس: أن يعتقد سنية اتصالها - أي في حقّه - مع اجتماع الأربعة الأولى. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (788). وانظر "الفتح" (2/ 272).

قالوا: فإذا انتفى واحدٌ فأكثر من هذه الخمسة لم يُكْرَه صومُها، أي بل يُستحبُّ كما يأتي. فأما المحدّثون منهم فمنهم من قال: لعله لم يبلغ مالكًا الحديثُ، قاله الحافظ أبو عمر ابن عبد البر (¬1) وغيره. ومنهم من قال: لعله لم يبلغه من وجهٍ يصحُّ، وقد بلغ غيرَه. ومنهم مَن قال: لعله إنما بلغه عن سعد بن سعيد، فلم يعتمد عليه، وإن كان لم يتكلم هو في سعد بن سعيد ولا أحدٌ من أهل عصره كما مرَّ. وذكر المازري المالكي في "شرح صحيح مسلم" (¬2) [ص 14] كلامَ مالك، ثم قال: "قال شيوخنا: ولعل مالكًا إنما كره صومها لهذا، وأما صومها على ما أراده الشرع فجائز. وقال آخرون: لعله لم يبلغه الحديث أو لم يثبت عنده، وإنما وجد العمل بخلافه". نقله عنه الأُبيِّ (¬3). وقال الباجي في "شرح الموطأ": "وإنما كره ذلك مالك لما خاف من إلحاق عوامّ الناس ذلك برمضان، وأن لا يميِّزوا بينها وبينه حتى يعتقدوا جميع ذلك فرضًا". ثم ذكر رواية سعد بن سعيد ثم قال: "وسعد بن سعيد هذا ممن لا يحتمل الانفراد بمثل هذا، فلما ورد الحديث على مثل هذا، ووجد مالك علماء المدينة منكرين العمل بهذا احتاط. فتركه لئلا يكون ¬

_ (¬1) انظر "الاستذكار" (3/ 380) ط. دار الكتب العلمية. و"إكمال المعلم" (4/ 139، 140)، و"شرح الزرقاني على الموطأ" (2/ 203). (¬2) لم أجد كلامه في "المعلم بفوائد مسلم" المطبوع. ولكن القاضي عياض نقله في "إكمال المعلم" (4/ 139، 140). (¬3) "شرح مسلم" للأبيّ المالكي (ج 3 ص 279). [المؤلف].

سببًا لما قاله. قال مطرف: إنما كره مالك صيامها لئلا يُلحِق أهل الجهل ذلك برمضان، وأما من رغب في ذلك لما جاء فيه فلم يَنْهَه، والله أعلم وأحكم. وقد قال الشيخ أبو إسحاق: أفضل صيام التطوع ثلاثة أيام من كل شهر، وصيام ستة أيام متوالية بعد الفطر، ذلك كصيام الدهر" (¬1). ... ¬

_ (¬1) "المنتقى شرح الموطأ" للباجي المالكي (ج 2 ص 76). [المؤلف]. وانظر "المفهم" للقرطبي (3/ 237، 238).

الفصل العاشر في معنى الحديث

الفصل العاشر في معنى الحديث قوله: "فكأنما صام السنة" قد فُسِّر في حديث ثوبان، وحاصله أن الله عزَّ وجلَّ قال: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [سورة الأنعام: 160]، فعُلِم منه أن من صام شهر رمضان عشرةَ أمثالِه فكأنه صام عشرةَ أشهر بغير تضعيف، فيبقى من السنة شهران، فإذا صام ستة أيام من شوال كانت بعشرة أمثالها، وذلك ستون يومًا، فذلك تمام السنة .. وأما قوله: "فكأنما صام الدهر" فالمراد بالدهر هنا عمره من حين تكليفه إلى وفاته، وذلك يحصل له بأن يصوم في كل سنةٍ من عمره رمضانَ وستة أيام. بقي أن يقال: فلو صام ستة أيام من غير شوال من الشهور أو فرَّقها، لحصل له أيضًا ستون بمقتضى الآية، فلماذا قُيِّدت في الحديث بقوله: "وأتبعَه بستٍّ من شوال"؟ وقد أُجيب عن هذا بما حاصله: أن الحسنات وإن كانت سواءً في أن كلاًّ منها بعشر أمثالها، فإنها تتفاوت في القدر، فاليوم من رمضان وإن كان كاليوم من جمادى في تعشير الجزاء، لكن اليوم من رمضان حسنة عظيمة، فهو بعشرة أمثاله كلها عظيمة، واليوم من جمادى حسنة دون تلك، فعشرةُ أمثالها كلها دون تلك. فمعنى الحديث أن الله عزَّ وجلَّ تفضَّل على عباده فجعل صوم ستًّ من

شوال بحسب ما ورد في السُّنة يُساوي ستًّا من رمضان في الفضل لا في الفرض، أي أن الثواب كالثواب في القدر. وعلى هذا فصيام ستة أيامٍ غيرِها لا يحصل بها المقصود، بل لو صام ستين غيرَ مشتملةٍ على المنصوصة لم يحصل له مثلُ ثواب من صام الستَّ المنصوصة. وبناءً على هذا المعنى استُشْكِل الحديث، قال الطحاوي: "فقال قائل: وكيف يجوز لكم أن تقبلوا مثلَ هذا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما فيه أن صوم غير رمضان يَعدِلُ صومَ رمضان ... " (3/ 120) (¬1). ثم أجاب عن ذلك بما حاصله: أن فضل الله عزَّ وجلَّ واسعٌ، لا حَجْرَ عليه. أقول: وقد يقال في حكمة ذلك: إن الصيام زكاة البدن، وقد تكون الزكاة العُشر كما في زكاة الزروع والثمار، فكأنه في علم الله عزَّ وجلَّ أن الحكمة تقتضي أن يُفْرَض على المكلف صيامُ عُشرِ عمرِه [ص 15] ولما كان المشروع في الصيام التتابع، فلو وجبتْ لوجب وصلُها برمضان، ولكن عارض ذلك من الرحمة والحكمة ما اقتضى التخفيف، فخفَّف سبحانه ستة أيام فلم يفرضها، بل ندبَ الناسَ إلى صيامها. ولكن لما اقتضت الحكمة إيجابَ فِطر العيد أوجبَ فِطْرَه، وندبهَم إلى صيامها عقبَه، واقتضى فضلُه وكرمه أن لا يخفِّف من ثوابها، بل من صامها يكون له مثلُ أجرها لو كانت مفروضةً. ونظير ذلك ما ورد أن فضل الفرض يَعدِل سبعين من فضل النفل، وقد ¬

_ (¬1) (6/ 126) ط. الرسالة. وانظر "المفهم" للقرطبي (3/ 236، 237).

ورد أن صلاةً بسواكٍ تعدِل سبعين صلاةً بغير سواك (¬1). وسِرُّه: أنه كان حقُّ السِّواك الوجوب، كما صحَّ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لولا أن أشُقَّ على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة" (¬2) أي أمرَ إيجاب، فخفَّف الله عزَّ وجلَّ على الأمة، فلم يُوجب السِّواك ولكنه أبقى أجره على حاله لو كان واجبًا. وقريبٌ منه شأن العيد، وقد كتبتُ فيه مقالةً (¬3) حاصلُها: أن العيد يوم زينة كما سُمِّي في كتاب الله عزَّ وجلَّ (¬4)، والزينة يَلْحقُها اللهو، وقد عُرِف من الشريعة أنها رخَّصت في اللهو - كضرب الدفّ والغناء الذي لا رِيبةَ فيه وغير ذلك - في النكاح والختان والقدوم من الغزْو. والسرُّ في ذلك: أن هذه المواضع يحصل لأصحابها فرح طبيعي، فاقتضت الحكمة أن يُرخَّصَ لهم فيما يقتضيه فرحُهم. ولما كان يوم العيد يومَ زينة ولهوٍ اقتضت الحكمة أن يُختار له يوم يحدث فيه بطبيعة الحال فرحٌ عام، وهذا متحقق في عيد الفطر، فإنه يحدث فيه بطبيعة الحال فرحٌ عام، لخروج الناس من حبْس الصوم. ثم نظرتُ في عيد الأضحى، فلم أره يتحقق فيه ذلك إلا للحجّاج، لخروجهم من ضيق الإحرام. ثم ذكرتُ ما صحَّ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب الناس فقال: "إن الله قد فرضَ عليكم الحج فحُجُّوا". قال رجل: أكلَّ عامٍ يا رسولَ الله؟ فسكتَ، ثم عاد فعادَ الرجل، حتى كانت الثالثة قال: "لا، ولو ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (26340) وابن خزيمة (137) والحاكم في "المستدرك" (1/ 145، 146) والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 38) من حديث عائشة. وإسناده ضعيف. (¬2) أخرجه البخاري (887) ومسلم (252) من حديث أبي هريرة. (¬3) بعنوان "فلسفة الأعياد في الإِسلام" ضمن هذه المجموعة. (¬4) في سورة طه: 59 {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ}.

قلتُ نعم لوجبتْ" (¬1). فظهر لي أن الحكمة كانت تقتضي وجوبَ الحج على كل مسلمٍ كلَّ سنة، وأيَّد ذلك إيجاب الاجتماع على أهل المحلة في الجماعة كل يوم خمس مرات، وعلى أهل البلدة في الجمعة، فكان يناسب ذلك إيجابَ اجتماع جميع المسلمين ولو مرةً في السنة وذلك الحج، ولكن عارضَ ذلك ما فيه من المشقَّة وضياع كثير من المصالح، فخفَّف الله عزَّ وجلَّ عنهم وجعل الفرض على كلٍّ منهم مرةً في العمر، لأنه يحصل بذلك اجتماعُ جمعٍ كبير مشتمل على جماعةٍ من كلَّ جهة. واقتضى فضلُه وكرمه أن لا يمنع غيرَ الحجاج مما كانوا يستحقون الترخيصَ فيه - لو وجبَ عليهم الحجُّ فحجُّوا - من الزينة واللهو. ويظهر من قضية السواك والحج أنه لِتعارُضِ الحكمة في اقتضاء الوجوب وعدمه جعل الله تبارك وتعالى الخِيرَةَ لرسولِه: إن شاء اختار الوجوب فيكون ذلك واجبًا بإيجاب الله تعالى، وإن شاء خفَّف. فاختار - صلى الله عليه وسلم - التخفيف، ولذلك علَّق - صلى الله عليه وسلم - الوجوبَ فيهما على مجرد أمره وقوله، فتدبَّرْ. وتمام هذا في مقالة العيد. وقد يظهر من هذا أن أجر حجّ التطوع مثل أجر حج الفريضة، ولا حَجْرَ على فضل الله عزَّ وجلَّ. ويدلُّ عليه إطلاق الأحاديث في فضل الحج، بخلاف الصلاة والصيام، فإن فيها أحاديث في فضل الفرض وأحاديث في فضل النفل، والله أعلم. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1337) من حديث أبي هريرة.

الرسالة الثامنة والعشرون جواب الاستفتاء عن حقيقة الربا

الرسالة الثامنة والعشرون جواب الاستفتاء عن حقيقة الربا

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى. قبل سنين نشر بعض الفضلاء في حيدراباد الدكن - إحدى مدن الهند - رسالة بعنوان "الاستفتاء في حقيقة الربا" أجلبَ فيها بخيله ورَجِلِه لتحليل ربا القرض. وأُرسِلتْ من طرف الصدارة العالية (مشيخة الإِسلام) في حيدراباد إلى علماء الآفاق ليُبدوا رأيهم فيها، وأنا مطلع على المقصود من تأليفها ونشرها، ولا حاجة الآن إلى ذِكر ذلك. وراجعتُ حينئذٍ مؤلفَها في بعض المباحث، وأردت أن أجمع جوابًا عنها. ثم وردتْ بعض الأجوبة من علماء الآفاق، وأجود ما اطلعت عليها جواب العلامة الجليل مولانا أشرف علي التهانوي (¬1)، فاستغنيتُ بذلك. ثم تنبَّهت بعد ذلك لدقائق في أحكام الربا وحِكَمه، حتى وقفتُ أخيرًا على كلام للشاطبي في "موافقاته"، فاتَّجهتْ همتي إلى تقييد ما ظهر لي. وأسأل الله تبارك وتعالى التوفيق والهداية إلى سواء السبيل بمنّه وكرمه. **** ¬

_ (¬1) بعنوان "كشف الدجى عن وجه الربا"، وقد حرَّره الشيخ ظفر أحمد التهانوي تحت إشرافه، وفرغ منه في 24 من ذي الحجة سنة 1347. وهو ضمن مجموعة فتاواه "إمداد الفتاوى" (3/ 179 - 301) ط. كراتشي.

[ص 7] [] (¬1) يكون له حكمة واحدة [] في إدراك الحكم، فقد يدرك أحدهم حكمة، وتخفى على غيره [وقد يدرك] الرجلان الحكمة، ولكن أحدهما أتم إدراكًا لها من الآخر، وذلك لكثرة ما يتفرغ [للبحث عنها]. ومثال ذلك أن من مفاسد الزنا الجهل بالأنساب، فالمفاسـ[ـد] بالأنساب كثيرة، والناس متفاوتون في إدراكها، وعسى أن يكون منها ما [ما يظهر للناس، و] للزنا مفاسد أخرى قد تخفى على بعض الناس أو جميعهم، فالعدوى بـ[الأمراض الخبيثة لم تكن معلومة في الماضي،] وإنما علمت أخيرًا. ومن الأحكام ما لا يدرك الناس له حكمة أصلاً. وللبحث عن الحكم بواعث: الأول: وهو أعظمها، بحث العلماء لأجل قياس ما لا نصَّ فيه على ما فيه نص، فإذا [وجد الحكمة] في شيء، ثم وجد تلك الحكمة بتمامها في شيء آخر غيرِ منصوصٍ حَكَم بتحريمه، وهكـ[ـذا]. الثاني: البحث ليتأكد الإيمان، وهذا محمود إذا كان الباحث راسخًا في الـ[ـعلم، فإنه إن] ظهرت له الحكمة زادته طمأنينة، وإن لم تظهر له أحال ¬

_ (¬1) الورقتان الأوليان من الأصل ذهبت أطرافهما، فسقطت كثير من الكلمات والجمل، وقد وضعنا المعكوفتين للإشارة إلى هذه المواضع واقترحنا أحيانًا بعض الكلمات التي تُكمل النقص.

ذلك على قصور فهـ[ـمه، وأحال الحكمة] إلى علم الشارع سبحانه وتعالى، وأنه من المعلوم المحقق أنه عزَّ [وجلَّ] الحكم ما لا تصل إليه أفهام الناس. الثالث: البحث ليزداد علمه، وهذا كالثاني، أو هو هو. الرابع: البحث لترغيب الناس في الطاعات، وتحذيرهم من المعاصي [فإذا علموا] مصالح المأمور به، ومفاسد المنهي عنه، كان ذلك أدعى لانقياد [هم، فإن معرفة] الباعث من الحكماء الربانيين الذين يدركون حكمة الله تعالى في [الأمر والنهي] ينبغي أن يكون الإظهار. فإنه إذا قال الواعظ: إن حكمة تحريم [الزنا الوقاية] من العدوى بالأمراض الخبيثة، أوشك أن يقول [] وقد شهد لها الطبيب []. [ص 8] [] إجلاله، فيعذبهم [] الجهل بالأنساب [] على أن لا يحملن [] أولاد [] بعلة التناسل يؤدي إلى ضعف []. ومن مفاسده [] إما أن لا يتزوج [البتةَ] وإما أن يترك زوجته، ويذهب للزنا، وبذلك يفسد ما بين الزوجين [] محل الوفاق، ويوشك أن يدع الرجل امرأته وأطفاله وأباه وأمه، [ويوشك أن

يدفع] ماله لإحدى البغايا، وعسى أن تقلده امرأته وبنوه وجيرانه. ويسترسل [بحيث] يحيط بجميع صور الزنا. ويختم بنحو ما بدأ به، فيذكر أنها قد بقيت حِكَم [، وأن هناك] حِكَمًا لا يعلمها، وأنّ المقصد الأعظم هو ابتلاء الله عَزَّ وَجَلَّ لعباده ليظهر ما ينطوي [عليه القلب] من الإجلال والمحبة له، والخوف منه، أو عدم ذلك. [وينبغي أن تعرف] الحكمة للرد على الطاعنين في الإِسلام، كالطاعنين بتحريم لحم الخنزير، وإباحة الطلاق [والزواج] من أربع أزواج، وشرع الرق، ونحو ذلك. [] شرط أن يقرر المجيب أولاً أنه قد ثبت عندنا بالقواطع وجود الخالق عزَّ وجلَّ بصفاته [] ونبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، أن كل ما جاء به عن ربه فهو حقٌّ قطعًا، وأنه جاء بهذا الحكم [] عن الله قطعًا، والله تعالى أحكم الحاكمين، المحيط بكل شيء علمًا. فحرمة لحم الخنزير ثابت عن الله تعالى [، وحكمةُ] ذلك ابتلاء عبيده، فإذا لم يعرف البشر حكمة أخرى، فأين يكون علمهم من علم الخالق عزَّ وجلَّ. [] للطاعن أن يناظر علماء الإِسلام في هذه المقدمات. [] التي بعدها إلى آخرها، فإنهم مستعدون لإثباتها بالقواطع، فإذا أثبتوها [] أصله. [] لا يعلم مضرة في أكل لحم الخنزير، وإن لم تُقنِعه براهينهم على تلك المقدمات [] أن يظهر أن في أكله مضرة أو

مضار. [] يذكر ما استطاع ذكره من المفاسد في أكل لحم الخنزير. [] مضرة أو أكثر، فقد لا تقنع الطاعن، فيبقى مصرًّا على زعمه أنه قد طعن في الإِسلام. [] طلع على الطعن، والجواب من عوام المسلمين وغيرهم، قد لا يقنعه الجواب، فيقع [] طعن متوجه، وأنه يدل على بطلان الإِسلام. فليتنبه لهذا. [ص 5] الثمن (¬1) مكافئًا للمبيع، وخيرًا له منه، وإن المشتري كا []. وعلى هذا فإذا تحقق الرضا حكم بأن العوضين متكا [فئان]. الثانية: أن ننظر إلى ما يقتضيه الحال و [] بيد الرجل سلعة باعها بدون قيمة المثل لجهله بها مثلًا [] حكم بأن العوضين غير متكافئين. الثالثة: أن ننظر إلى ما هو أدق من هذا، فنقول: إذا كان لرجل أرض فزرعها [] ثمرتها، فقد يقال: ينبغي أن يحسب قيمة البِذْر وأجرة العمل، ويحطّ من ذلك ما استفاده منها في أثناء ¬

_ (¬1) يبدو أن هنا خرمًا بقدر ورقة أو ورقتين.

السنة، فما [بقي] فهو قيمة الثمرة، فليس له أن يبيعها بأكثر من ذلك، فإن اشتراها تاجر منه، وجلبها إلى بلد آخر، وأراد أن يبيعها، فإن كان اشتراها بالقيمة، فله أن يضم إليها مقدار أجرته في الابتياع والحمل والنقل [] أكثر من ذلك. وإن كان اشتراها بأنقص من القيمة [] صاحب الزرع تبرع منه له، فلا يلزمه أن لا يحسبه. ويمكن أن يقال: من تبرع [] فعليه أن يتبرع به. وإن كان اشتراها بأكثر من القيمة فتلك زيادة ظلم بها [] غير من ظلمه. فقد يظهر للناظر أن الطريق الثالث هي العدل المحض، وأن الثانية بعيدة عن العدل، وإن []. ولكن الثالثة يكثر فيها الخفاء وعدم الانضباط، وإناطة الحكم بها تؤدي إلى ضيق المعاملة [] إلى رغبة النا [س عن الزراعة] والصناعة والتجارة، ويؤدي ذلك إلى تأخر الحضارة، بل ربما أدَّى إلى خراب الدنيا. وهكذا الثانية، وإمكان الظهور والانضباط عليها يكون في شيء دون آخر. فلهذا كان الحكمة حق الحكمة أن يناط الحكم بالتراضي، على أن في نوط الحكم به مصالح أخرى، منها: [] وتربية العقول. ولكن دلالة الرضا على المكافأة تختلف باختلاف العقول والأفهام،

وذلك اختلاف لا ينفـ[ـي] فنِيطَ الحكم بالبلوغ والعقل. ومن العلماء من يضمُّ إلى ذلك أن لا يكون [المشتري] مضطرًّا إلى العوض كمن اشتد به الجوع، فاشترى رغيفًا بدينار، والحال أن [] في تلك البقعة دانق مثلًا. ومنهم من يستثني الغبن الفاحش فيرد به، ومنهم [] المسترسل، وهو من يحسن الظن بصاحبه، فيرى أنه لن يحاول أن يغبنه، وقـ[ـد قيل:] "غَبْنُ المسترسل ربًا". [ص 6] [] عشرة دراهم من مال المشتري []. وباعتبار الثانية [] هم من مال بالباطل. وباعتبار الطريقة الأولى لم يأكل [] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ [بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً] عَنْ تَرَاضٍ}. فأفهمت الآية أن []. الإجارة: يأتي فيها نحو ما تقدم في البيع. ولننظر الآن في الربا، ونُقدِّم أشهر ما يطلق عليه ربا، وهو الزيادة المشروطة في القرض، [] عشرة دراهم بشرط أن يقضي أحد عشر.

فهذا الدرهم ظلم وباطل، ولا مُلْجِئ ههنا إلى اعتبار [] إنما اعتبر في البيع للخفاء، وعدم الانضباط في الطريقين الأخريين، وما ينشأ عنهما من المفسدة [] غير موجود في القرض. [] يحاول بها إثبات أن الربا ليس بظلم. [] رضا، ويقول بعضهم: أرأيت لو وهب الرجل ماله لآخر، فأخذه، أيكون الأخذ ظلمًا؟ [والجـ]ـواب: أن الرضا هنا ليس كالرضا في الهبة، [ألا] ترى أن الرجل لا يأخذ بالربا إلا مضطرًّا، ولو وجد من يعطيه بغير ربًا لما أخذ من المُرِبي، ولو خيَّر [المـ]ـقرض بين أن يعطي ربًا أو لا يعطي، لاختار عدم الإعطاء. فإن قيل: ولكن الرضا هنا كالرضا في البيع سواء، فإن البائع في المثال المتقدم لو خيَّر المشتري بين أن يعطي عشرة أو عشرين، لاختار العشرة، ولو خيّره المشتري بين أخذ عشرين أو ثلاثين، لاختار الثلاثين. والجواب: أننا قد قررنا الفرق آنفًا، وهو أنه كان مقتضى العدل في البيع اعتبار الطريقة الثالثة، فإن لم تكن فالثانية، ولكن لخفائهما وعدمِ انضباطهما وما ينبني عليهما من المفاسد نِيطَ الحكم بالرضا. وهذا المعنى منتفٍ في القرض. فإن قيل: فإنه يوجد في القرض ما يُشبِه هذا المعنى، وهو أن المنع من الربا يؤدي إلى امتناع الناس عن الإقراض. قلنا: فقد مضت قرون زاهرة على المسلمين لم يمتنعوا فيها عن القرض بدون رِبا.

ولماذا يُؤثِر الرجل الممنوع من الربا كنزَ دراهمِه على دفعها لأخيه، ينتفع بها ويردها في وقتها، مع وثوق لدافع بالقضاء، كأن استوثق برهنٍ أو ضامنٍ، أو وثقَ بوفاء أخيه. مع ما يحصل في ذلك للمقرض من الأجر والشكر وغير ذلك من المنافع، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. على أن خشية امتناع الناس عن القرض لا يوازي خشية تقاعدهم عن الزراعة والصناعة والتجارة، وما يلزم من خفاء المناط، وعدم انضباطه في البيع من كثرة التشاجر والتنازع، وتحيُّر الحكام، وغير ذلك. [ص 9] الشبهة الثانية: أن هناك فائدتين [تحصلان للمستقرض من القرض] أو نحو ذلك [] بذلك القرض []. الجواب عن الفائدة الأولى: أن ما حصل للمقرض من [النفع] المال الذي استقرضه. [وحينئذ] فالقضاء] ولو فرض أنه صبر على الجوع والعري حتى وجد مالاً، [فإن]. وجواب آخر: وهو أن دفع حاجة المضطر مما يوجبه الإِسلام، وسائر الشرائع تقتضيه [] إذا كان دفع حاجته لا يوجب نقصانًا ما على الدافع، وههنا كذلك، فإن الدافع إن كان يريد خَزْنَ ماله لو لم يقرض فهو عند المستقرض كأنه في خزانة، بل إن القرض أنفع للمستقرض كما سيأتي، وإن كان يريد أن يتجر فيه، فلا يدري أيربح فيه في مثل مدة القرض،

أم يخسر؟ بل لعله يتلف المال في يده وضمانه. وإن كان يريد أن يصرفه في حوائجه فواضح أن إقراضه أنفع له؛ لأنه يبقى محفوظًا. والجواب عن الفائدة الثانية: أنها خاصة بما إذا استقرض ليتجر. ثم نقول: من المحتمل أن يربح أو أن يخسر، فإن رَبِح فهذا الربح في مقابل تعبه، وفي مقابل مخاطرته بأخذ ذلك المال، والتصرف فيه في ضمانه مع احتمال أن يتلف عليه، فيضيع تعبه، ويخيب أمله، ويضطر مع ذلك إلى أن يبيع حلي زوجته أو عقاره أو بيته ليوفي دينه. وإن خسر فالأمر أوضح. الشبهة الثالثة: أن هناك مضرّتين يتحملهما المقرض بسبب القرض: الأولى: مخاطرته بإخراج ماله عن يده، وربما يتلف المال عند المستقرض، ويفلس ويموت، فيضيع المال. الثانية: أن المقرض لو لم يُقرِض ذلك المال فربما اتَّجر فيه لنفسه وربح. الجواب عن الأولى: أنه يمكن التخلص منها بأخذ رهنٍ، أو ضمانة، فإن أخذ ذلك زالت المخاطرة، وإن لم يأخذه وكان يمكنه ذلك فهو المقصِّر. وإن لم يكن يمكنه فإن كان يعلم أن للمستقرض أموالًا يمكن الأداء منها فلا مخاطرة، وإلا فهذه المخاطرة في مقابل مخاطرة المستقرض التي تقدمت. وإذا وازنّا بينهما نجد مخاطرة المستقرض أشدَّ، لأنه مخاطر بضرورياته، كالعقار والبيت ونحوه، ومخاطرة المقرض قاصرة على المال

الذي أقرضه، والغالب أنه يكون فاضلًا عن ضرورياته. والجواب عن الثانية: أنه لا يخلو أن يكون المقرض يريد أن يتجر بذلك المال لو لم يقرضه، أو يريد أن يخزنه، فإن كان يريد أن يخزنه فلم يفته بالقرض ربحٌ أصلاً. وإن كان يريد أن يتجر فيه فإنه يكون بالاتجار مخاطرًا بين أن يربح، وبين أن يضيع تعبه، ويخيب أمله، ويخسر من رأس المال، أو يتلف المال أصلاً. [المقرض] من التعب، ومن المخاطرة، مع فوائد أخرى حصلت له كما سيأتي. فليكن هذا []. [ص 10] [] [من المستقرض وغيره]. 4 - ما ينشأ عن ذلك من الجاه والقبول. 5 - ما يترتب عن ذلك من منافع لا تحصى. 6 - ربما يحتاج في مستقبله إلى الاستقراض []. 7 - المال معرض للتلف، فإن بقي عنده وتلف لم يضمنه له أحد [المستقرض كان مضمونًا في ذمته]. 8 - [] تحت يد المقرض لوقع فيه يصرفه [] كان محفوظًا عن ذلك.

9 - كثيرًا ما يحتاج صاحب المال [] [من سرقة أو نهب] أو غير ذلك، وإذا أودعه كان أمانة عند الوديع لا يضمنه إذا تلف [] كان مضمونًا على المستقرض. 10 - إذا كان المال طعامًا فإنه يكثر أن يكون عتيقًا لو بقي بعينه لفسد أو تلف، وإذا أقرضه فإن لم يرد له المستقرض أجود منه فلا بد أن يرد مثله حين أخذه. وهناك أمور أخرى تدرك بالتأمل، وفيما ذكر كفاية. والله أعلم. ****

مفاسد الربا

مفاسد الربا تمهيد المقصود من شرع الأحكام تطبيق العدل، ولكن الجزئيات لا تحصى ولا تتناهى، والحكمة المقتضية للحكم تختلف في الجزئيات، فتخفى في بعضها، وتظهر في أخر، [وتشتدُّ في بعضها، وتخِفُّ في أخر،] ولا ينضبط مقدارها. مثال ذلك: الزنا، فإنه جرم يوجب العقوبة، ولكنه يكون تارة جرمًا شديدًا جدًّا، وتارة يكون أخفَّ. فرجل شائب ضعيف الشهوة غني عَمَدَ إلى امرأة قبيحة لا يحبها، فسعى بعدها حتى زنى بها. وآخر شابٌّ قوي الشهوة فقير، لا يجد من يُزوِّجه، عشق امرأة جميلة، فكان يتجنب لقاءها، فاتفق أن صادفها في مكان خالٍ، فلم يصبر أن وقع عليها. فبين الجرمين بون بعيد، وبينهما درجات لا تحصى، وهكذا يزداد الاختلاف إذا نظرنا إلى ما ينشأ عن الزنا من إفساد المرأة، وإسقاط شرفها، وإلحاق العار بأهلها، وتضييع الولد، وما يخشى من انتشار الزنا في الناس، وغير ذلك. فلو كُلِّف عاقل سَنَّ عقوبةٍ للزنا كان أمامه أربع طرق: الأولى: أن يفصِّل القانون تفصيلاً بعدد ما يمكن من اختلاف الجزئيات.

الثانية: أن يكِلَ الأمر إلى الحكام، ليقرر كل حاكم في الجزئية التي تعرض عليه ما يراه مناسبًا لها. الثالثة: أن يقرِّر عقوبة تنطبق على أخفِّ الجزئيات جرمًا، أو أشدِّها، أو أوسطها، يطلقها في جميع الجزئيات. الرابعة: أن يقرِّر عقوبة تنطبق على الغالب من الجزئيات []. [ص 11] فأما الأولى: فليست بممكنة: أولًا: لكثرة الاختلاف بحيث يصعب [حصره]. ثانيًا: لأن من الأحوال التي يختلف مقدار الجرم باختلافها [] ومقدار ما ينشأ عن الزنا من المضار [والمفاسد] الأنبياء في الناس حتى يكونوا هم الحكام، ويوحي إليهم في كل [جزئية]. وإما أن يوحي إلى رسوله كتابًا يحصي فيه وقائع الزنا إلى يوم القيامة باسم [الرجل] بحيث لا تشتبه واقعة بأخرى. فأما الأول: فكان ممكنًا، ولكنه ينافي ما [] والاختبار، وغير ذلك، ولا سيما إذا علمنا أنه يقتضي أن يكون الناس كلهم أنبياء، لأنه [] لأجل عقوبة الزنا، لزم اختياره لجميع الأحكام حتى التي يكون فيها كل إنسان حاكم نفسه [].

وأما الثاني: فلأنه منافي للحكمة من وجوه، أقربها إلى الفهم اقتضاؤه أن يكون في عقوبة الزنا وحدها قرآن يبلغ آلافًا وملايينَ وأكثر من ذلك من المجلدات، فكيف يسهل نقله وحفظه وكشفه؟ وهكذا في كل حكم من الأحكام غير عقوبة الزنا. وأما الطريقة الثانية ففيها: أولاً: أنها لا تُغنِي، لخفاء بعض الصفات التي توجب اختلاف الجرم، كما تقدم. وثانيًا: أنه فتحٌ لباب الظلم، وتلاعب الحكام، فهذا يداهن، وهذا يرتشي، وهذا تؤثر عليه الشفاعات، وهذا يخاف، وهذا يتهم، مع ما يلزمه من كثرة العمل الذي يكلف به الحاكم، فيستدعي ذلك كثرة الحكام، ولا سيما إذا علمنا أنه لو اختير ذلك في عقوبة الزنا انبغى أن يختار في غيرها من الأحكام، ومع ذلك فيصعب الفصل في القضايا ويتأخر، ويتعسَّر ويتعذَّر، وفي ذلك عين الفساد العام. وأما الثالثة: فتعيين أخفِّ العقوبات لا يؤدي إلى المقصود من الزجر والتأديب، وتعيين أشدّها قد يصادف أن يكون استحقاقه نادرًا، فيكون الغالب وقوع العقوبات على من لا يستحقُّها، وتعيين أوسطها قد يكون غلطًا، إذا فرض أن الغالب هو استحقاق الأشدِّ، أو استحقاق الأخفِّ. وأما الرابعة: فهي العدل الممكن، ولكن يبقى معرفة الغالب، فإن العاقل قد يتردد فيه، وقد يغلط، وقد يخالفه غيره. ويبقى أيضًا تعيين العقوبة، ويبقى أيضًا أن تطبيق العقوبة على من كان من غير الغالب فيه إضرار به بغير استحقاق.

واقعة

ولكنه إذا كان الشارع هو الله عزَّ وجلَّ تزول هذه النقائص كما ستراه. [ص 12] [] للرجل والمرأة، ومنع المرأة من الخروج، وذلك [كما قال تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ] فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي [الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ] أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ [تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا] إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 15 - 16]. واقعة [] السيد الإمام محمد بن علي بن إدريس رحمه الله أن يتلو كل يوم جزءًا من القرآن بتدبُّرٍ وتفكر، وكان [] يشكل، فكان فيما تلاه يومًا هذه الآيات، ثم دعاني، فذكر لي تردده في معنى [قوله تعالى:] {وَاللَّذَانِ} وأنه تأمل فيها، ثم راجع التفاسير ولم يطمئن قلبه إلى قول مما قالوه، لأن منهم من قال: المراد بهما الرجل والمرأة، قال: وهذا فيه بُعد, لأن المرأة قد سبق حكمها في قوله: {وَاللَّاتِي} وفيه مع ذلك التغليب، وهو خلاف الأصل. ومنهم من قال: المراد بهما الفاعل والمفعول في اللواطة. قال: وهذا أبعد؛ لأن اللواطة جرمٌ عظيمٌ، ولم يرد بعد ذلك من الشرع ما يقوى أن يكون ناسخًا لذلك. وفيه مع ذلك أن تكون الآيات لم تتعرض لحكم الرجل الزاني.

فبحثتُ معه رحمه الله بحثًا سأورده بنحو معناه، ولعل فيما أحكيه ههنا زيادة أو نقصًا. قلت: أفلا يحتمل أن تكون هذه الآية في حكم الرجال الزناة خاصة، كما أن الأولى في حكم النساء خاصة؟ فقال السيد: لو أريد هذا لقيل: "والذين يأتونها .. "، فما وجه العدول عن ذلك إلى التثنية؟ فقلت: قد يقال: إنها باعتبار أن الرجال الزناة على نوعين: محصن وغير محصن، فثنِّي باعتبار النوعين. فقال: وما الدليل على جواز مثل هذا؟ فذكرتُ قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ}، وقول الشاعر (¬1): عَيُّوا بأمرِهِمُ كما ... عَيَّتْ بِبَيضَتِها الحمامهْ جَعلتْ لها عودَين من ... نَشَمٍ وآخرَ من ثُمامهْ فقد فُسَّر الشعر بأن المعنى: أن فيهم حليمًا وسفيهًا، فسفيههم يُفسِد على حليمهم، كالحمامة إذا نسجت بيتها من عيدانٍ فيها القوي كالنشم، والضعيف كالثمامة. قالوا: والتقدير: جعلت لها عودين: عودًا من نشم، وآخر من ثمامة. ومن المعلوم أن التثنية في المثل والممثَّل به إنما هي باعتبار النوعين، ¬

_ (¬1) هو عبيد بن الأبرص، والبيتان في "ديوانه" (ص 138) و"الحيوان" (3/ 189) و"عيون الأخبار" (2/ 85) و"لسان العرب" (حيا، عيا) وغيرها.

فلم يرد أن فيهم رجلاً واحدًا حليمًا، ورجلًا واحدًا سفيهًا، ولا أن الحمامة جعلت عودًا واحدًا من نشم، وآخر واحدًا من ثمامة. فقال: هذا قريب، ولكن هل قال به أحد من المفسرين في هذه الآية؟ قلت: لا أدري. فراجعنا التفاسير فإذا في بعضها: عن مجاهد قال: هما الرجلان الزانيان (¬1). فقال السيد رحمه الله: قد راجعت أنا هذا التفسير اليوم، ومررت على [هذا] القول، ولكني لم ألتفت إليه، ولم يَعْلَقْ بذهني. [أقول:] ثم وقفتُ بعد ذلك على ما يؤيد ما ظهر لي، كقول الجبَّائي وغيره في قوله تعالى {فَلَمَّا أَثْقَلَتْ [دَعَوَا اللَّهَ}]. [ص 13] ولكنه ترجح عندي في الآية ما قدمته، وهو [] للرجل والمرأة، وأما إمساك المرأة في البيت، فليس [] أن تجمع على المرأة عقوبتان. فتدبر. ثم نزلت قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ}]، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر [بالبكر جَلْدُ مائةٍ وتغريبُ عام]، والثيب بالثيب جَلْدُ مائة والرجم" رواه مسلم (¬2). ¬

_ (¬1) انظر "تفسير الطبري" (6/ 499، 500) وابن المنذر (1472) وابن أبي حاتم (3/ 895). (¬2) رقم (1690) عن عبادة بن الصامت.

جعل حد البكر خفيفًا؛ لأن الغالب أن يكون شابًّا شديد الشهوة، وحد [الثيب شديدًا]؛ لأن الغالب أن يكون متزوجًا أو شيخًا، ولم يعلّق الحكم بكونه ذا زوجة لحِكَمٍ: منها: [أن لا] يودي حبُّ الزنا بالرجل إلى أن يفارق زوجته ليزني، وتخفّ عقوبته، وفي ذلك ما فيه من الفساد. فإن قيل: إن الرجم أشدُّ العقوبات، وليس بأوسطها. قلت: قد يقال: هو وسط في مقابل هذا الجرم الشنيع، كما قال بعض القدماء في بعض العقوبات: إن القتل لا يكفي عقوبةً لهذا الجرم، ولكن هو أقصى ما يمكن! وفوق ذلك فإن الرب عَزَّ وَجَلَّ يتمِّم العدل بقضائه وقدره، فيستر هذا، ويفضح هذا، ويزيد هذا تتمةَ ما يستحقُّه من العقوبة، ويعوِّض هذا فيما إذا كان الذي ناله من العقوبة أشدَّ مما يستوجبه جرمه، وهكذا .. وههنا حقائق ودقائق، ليس هذا موضع بسط ما ندركه فيها. بقي أنه قد صح أن الله تعالى أنزل آية في الرجم، ثم نُسِخت تلاوتها (¬1)، وهي: {الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة ...}. فهل كان نزولها عند نزول آية الجلد، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "خذوا عني ... "، ويكون الشيخ والشيخة كناية عن الثيبين؟ أو كانت نزلتْ قبل نزول آية الرجم، وبعد نزول آية الإيذاء، فبينتْ سبيلًا ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1691) عن عمر بن الخطاب.

أسباب التملك

للشيخ والشيخة، وترك التخفيف على الشبّان إلى أن نزلت آية الجلد، فنسخت آية الشيخ والشيخة وآية الإيذاء معًا بفرض الجلد على البكر، والرجم على الثيب؟ أو كان نزولها قبل آية الإيذاء أو معها، فكان الرجم على الشيخ والشيخة، والإيذاء خاصًّا بالشبان؟ الأشبه بسنة الله تعالى في تدريج الأحكام أن تكون نزلت بينهما، فشُرع أولاً الإيذاء فقط، لقرب العهد بالجاهلية، ثم شُرع رجم الشيخ والشيخة، وأُبقي حكم الشبان على الإيذاء، ثم تُرك اعتبار الشيخوخة والشباب، وأُبدل باعتبار الإحصان وعدمه، لأن المتزوج من الشبان في معنى الشيخ، وشُدِّد في الحد، والله أعلم. وهذه المسألة تحتاج إلى بسطٍ أزيدَ من هذا، وفيما ذُكر كفاية، والمقصود أن الحكمة تقتضي أن يكون بناء الحكم على الغالب فقط. أسباب التملك [] أسباب التملك، فالغالب أن الابن يكون أحقَّ بمال أبيه [] يكون مستحقًّا في نفس الأمر لما وهب له، ولكن قد يتفق أن يكون [] أسباب حتى جمع أموالًا كثيرة، ويكون له ابن سفيه عاقٌّ [] ونحو ذلك مما يضر الناس، ثم يموت الأب، فيرثه [] يهب ماله لشخص سفيه [] يرى أن استحقاق الابن أو الموهوب له لذلك المال فيه ما فيه، ومع ذلك فلو كان الربا مباحًا [] الرجل يعطي المقلِّين من أهل

الجدّ والعمل ماله بالربا، فيسعى كل منهم ويتعنَّى، وينتفع الناس بسعيه. فقد يربح ما يفي بالربا, ولا يزيد له إلاَّ شيء تافه، أو لا يزيد له شيء أصلاً، أو يربح ما ليس يفي بالربا، أو لا يربح شيئًا، فيضيع تعبه، ويَخِيب أمله، ويَغْرَم الربا من ماله، وربما ينقص عليه من رأس المال، أو يتلف عليه رأس المال كله، فيغرم رأسَ المال والربا، يبيع حلي أهله أو عقاره أو بيته، فإن لم يكن عنده شيء أُهِين وسُجن. ثم إن أُطلِق بقي كل يوم مروعًا، كلما كدَّ واجتهد فحصل له دريهمات قام الطلب يتقاضاه، ويُهِينه ويتوعده. وهكذا يبقى المال الذي وصل إلى ذلك السفيه، وفيه ما فيه، يبقى سالمًا له، وهو يربح فيه كل شهر أموالًا يمتصُّها من دماء أهل الكد والعمل، ويترفَّه بها، ويُسرِف فيها بدون أن يكون منه حركة تنفع الناس، بل حركاته تضرهم، وتُفسِد أخلاقهم، وتُخرب بيوتهم. والغالب أن الذين يتكسبون بالمراباة هم هؤلاء الذين يريدون أن يعيشوا في راحة ورفاهية، يمتصُّون دماء العمال بدون تعب ولا عناء، وتبقى رؤوس أموالهم محفوظة، بل يربحون فيها أرباحًا أوثق من أرباح التجارة. ثم يوشك أن تعم البلوى، فكل من وقع بيده مال، قال: ما لي وللمخاطرة برأس المال مع التعب والعناء بزراعة أو صناعة أو تجارة؟ هذا باب الربا يبقى فيه رأس المال محفوظًا غالبًا، ويحصل فيه ربح محقق، ولا تعب ولا عناء. فيطبقون على ذلك، فلا يلبث أن تنحصر الأموال في أيدي السفهاء الذين لا شغل لهم إلاَّ اللهو واللعب، ويصير أهل الجدّ والعمل عبيدًا لهم.

فمنعُ الربا يضطرُّ كلَّ فرد من الأفراد إلى أن يكون عضوًا عاملًا نشيطًا، ينفع الناس وينتفع، ويفتح باب الغنى لأهل الكد والعناء، ويستخرج الأموال من أيدي من لا يستحقها. يقول الشرع لمن حصل في يده مال: كن رجلاً، فاعملْ وجِدَّ واجتهدْ، واطلب الربح، فإن أبيتَ فاكنِزْه وكلْ منه، وأدِّ كل سنة ضريبةً عليه (الزكاة) حتى يفنى. [وإن] أردتَ مع ذلك صنعَ الخير في الجملة، فأقرِض الناس قرضًا حسنًا. [ص 15/ 1] إن قال قائل: قد بان الفرق بين البيع والربا، واتضح وجه إحلال البيع وتحريم الربا، لكن في الجملة، فأما التفصيل فبقي شيء، وهو أن الفقهاء يحللون بيع السلعة نَساءً بأكثر من ثمنها [ويحللون] السلم فيها إلى أجل يدفع أقلَّ من ثمنها عند العقد، وعند الأجل. فيجوِّزون بيع عشرة آصُعٍ طعامًا بخمسة عشر درهمًا نَساءً، وإن كان قيمتها نقدًا عشرة [ويجوزون] أن يسلم الرجل عشرة دراهم في خمسة عشر صاعًا إلى الحصاد مثلاً، مع أن السعر حين العقد عشرة آصع [بعشرة] دراهم،، وقد يكون عند الحصاد اثنا عشر صاعًا بعشرة دراهم. فما الفرق بين هاتين المسألتين، وبين إقراض عشرة آصع بشرط رد خمسة عشر، وإقراض عشرة دراهم بشرط رد خمسة عشر درهمًا. فعن ذلك أجوبة: الأول: أن الناس كما يحتاجون إلى شرع البيع نقدًا وشرع القرض، فكذلك إلى شرع البيع نَساءً وإلى السلم؛ لأن الإنسان كثيرًا ما يحتاج إلى

الطعام، وليس عنده ثمنه، ولا يجد من يُقرِضه، فيحتاج إلى اشترائه بنسيئة، وقد يحتاج إلى طعام مخصوص فلا يجده في السوق، فيحتاج أن يُسلِم فيه، ليذهب المُسلَم إليه، فيفتش عنه طمعًا في الربح، وقد يخشى أن يسبقه الناس إلى الطعام عند حصاده، ولا سيما التجار، فيبادر بالإِسلام فيه، ليأمن أن يسبقه غيره، ويحتاج صاحب الأرض إلى دراهم فلا يجد من يُقرِضه، فيطلب من يُسلِم إليه في طعام إلى الحصاد. فلو حُرِّم أن يباع الطعام وغيره من السلع نَسيئةً إلاَّ بمثل ثمنه نقدًا، لامتنع الباعة من ذلك؛ لأن أحدهم يقول للطالب: هذه الآصُع العشرة التي تطلبها بعشرة دراهم نَساءً، يرغب فيها غيرك بعشرة دراهم نقدًا، فأي الأمرين أنفع إليَّ: أبيعها نقدًا بعشرة دراهم، ثم أشتري بالدراهم سلعة أخرى طعامًا أو غيره، ثم أبيع بربح، وهكذا .. فقد لا يجيء الحصاد إلا وقد ربحت في العشرة عشرة ربحًا حلالاً، أم أبيعك إياها بعشرة دراهم إلى الحصاد؟ ويقول صاحب الدراهم لصاحب الأرض: أيهما خير لي، أشتري بالعشرة الدراهم عشرة آصُعٍ نقدًا ثم أبيعها، ثم أشتري وأبيع، فقد لا يجيء الحصاد إلا وقد ربحت في العشرة عشرة ربحًا حلالاً، وحينئذٍ أشتري منك أو من غيرك بعشرة دراهم خمسة عشر صاعًا، أو أقل من ذلك وأكثر من عشرة، أم أُسلِمها إليك في عشرة آصُعٍ إلى الحصاد؟ أقول: فلو مُنِع من الزيادة أدى ذلك إلى انقطاع بيع النَساء والسلم، وفي ذلك من الضيق ما فيه، ولعلَّ الناس يضطرون حينئذٍ إلى ارتكاب ما حرمه الشرع، وارتكابُ حرامٍ واحدٍ يُجرَّئ على ارتكاب غيره، وفي ذلك من الفساد ما فيه.

فأما القرض فإن المنع فيه من الزيادة لا يؤدي إلى انقطاعه؛ لأن الناس حريصون على كنز ما تغلب الحاجة إلى إقراضه، وهو النقد والطعام. والقرض مع التوثق أنفع لهم من الكنز، هذا مع ما يتبع [القرض] من الفوائد التي تقدم ذكرها. الجواب الثاني: أن الربح الذي يُرجى للمقرض لو لم يقرض، وللبائع بنسيئةٍ لو باع بنقد، وللمُسلِم لو لم يُسلِم، إنما يُرجى لهم إذا اتَّجروا وباعوا واشتروا، فإذا أقرض ذاك، وباع [هذا] بنسيئة، وأسلم هذا، فمن يعلم أنهم لو لم يفعلوا ذلك [] يتَّجرون ويبيعون ويشترون، أم يكنزون. [ص 15/ 2] ذلك غيب لا يعلمه إلا الله عزَّ وجلَّ، وأقرب ما يتصور أن يُناط به الحكم نيتهم، ولكن النية أمر خفي أيضًا؛ لأنه لا يُعلم إلا من جهتهم، ولا ينبغي تصديقهم؛ لأنهم يتّهمون، فقد يكون نية أحدهم الكنز، ولكن إذا علم أنه لا يحكم له بالزيادة إلا [ن] يريد أن يتجر ويبيع ويشتري، حملَه حبُّ الربح على دعوى ذلك. فاقتـ[ـضى ذلك أن] يناط الحكم بضابط ظاهر يطلع عليه العاقدان والشهود والحكام وغيرهم، فكان أقرب ما يفي بهـ[ـذا] اعتبار العوض، فإذا كان العوض من جنس المدفوع أو ما يقرب منه كان شرط الزيادة ربا؛ لأن تحري المعطي أن يكون العوض كذلك قرينة على أنه ينوي كنز هذا الجنس. وإن كان العوض مباينًا للمدفوع كان الربح حلالًا؛ لانتفاء الضابط القائم مقام نية الكنز.

هذا إذا سارت المعاملة سيرًا طبيعيًّا، فأما إذا كانت لو جرت على طبيعتها لكانت من الأول، ولكن احتال العاقدان أو أحدهما حتى صوراها بصورة الثاني - كما يأتي في العِينة - فإنه يجب أن تردَّ إلى سواء الطريق، فيحكم فيها بحكم الأول. وهكذا ينبغي في عكس ذلك إذا كانت هناك تهمة، كأن يَعْمِد وصيٌّ إلى سلعة من مال يتيمه فيبيعها، ثم يقرض ولده ثمنها إلى أجل، فينبغي أن يغرم ما نقص من ثمن السلعة لو باعها إلى مثل أجل القرض. فأما حيث لا تهمةَ فلا، كأن يلتمس زيد من عمرو قرضًا، فيقول له: ارجع إليّ بعد ساعة، ثم يبيع سلعة من رجل ثالث بدراهم نقدًا، ويُسلِم الدراهم إلى زيد قرضًا حسنًا. فإن سمِّيتْ هذه حيلةً فهي حيلة يقصد بها فعل الخير والمعروف، فلا ينبغي إبطالها. فإن قلت: فإذا أقرض تاجرٌ رجلاً دراهم، وشرط عليه زيادة، والمقرض يدعي أنه كان يريد أن يتجر بدراهمه، واعترف المستقرض بذلك. قلت: لا التفاتَ إلى اعتراف المستقرض؛ لأنه نفسه متهمٌ بأنه يُمهَّد باعترافه هذا لأن يقترض من صاحبه ثانيًا وثالثًا وهكذا، ويخاف إن لم يعترف له تلك المرة أن لا يقرضه مرة أخرى، وقد حرم الشارع الأخذ بالربا، كما حرم الإعطاء به، مع أن النية غيب لا يدركها المستقرض تحقيقًا، وإنما يمكن الاستدلال عليها بقرائن، وقد تكون تلك القرائن مصطنعة، والقرينة الواضحة نادرة.

وفوق ذلك فالشارع قد عدل كما اقتضته الحكمة عن النية، وناط الحكم بصفة العوض كما علمت، فصار هو المعتبر كما تقرر في الأصول. فالقصر في السفر الطويل حكمته المشقة، ولكن لعدم انضباطها نِيط الحكم بالسفر الطويل، فاستمر الحكم حتى في حق من سافر سفرَ رفاهيةٍ لا مشقةَ فيه. وبهذا عُلم الجواب عما قد يتوهم أن المقرض بشرط زيادة إذا كان يعلم من نفسه أنه كان يريد أن يتجر بالدراهم، فربما يحل له أخذ الزيادة فيما بينه وبين الله، وإن لم يحل له في الحكم الظاهر. فإن قيل: إذا صار المدار على صفة العوض، فلماذا تُبطِلون الحيل، كالعِينة وغيرها؟ فالجواب: أننا لم نُبطِلها لدلالتها على نية الكنز، وإنما أبطلناها لأنها فرار من حكم الشرع، واحتيال عليه، وعدول بالمعاملة عن مجراها الطبيعي بتكلف صورة مصطنعة، كل ذلك لهوى النفس، ولو أبيحت لتحرَّاها كل من يريد الربا، فيبقى الحكم الشرعي معطَّلًا عن غايته، معزولًا عن فائدته. فأما النية وحدها فلم نعتدَّ بها، فإننا نقول فيمن كان عنده سلعة يريد أن يبيعها بعشرة نقدًا، ويكتنز العشرة: إنه لو وجد راغبًا في تلك السلعة بخمسة عشر نساءً، فباعها منه، لم يكن ذلك ربًا ولا حرامًا. ونقول فيمن كانت عنده عشرة دراهم يريد اكتنازها، ثم جاءه راغب في السلم، فأسلمها إليه في [] عن السعر الموجود حال العقد وعند الأجل، لم يكن ذلك ربًا ولا حرامًا.

[ص 15/ 3] وهذا كما تقرر في الشريعة أن قصر الصلاة لا يحل لمجرد المشقة بدون سفر. فتدبر! فإن قيل: المقصود هو العدل، وهذا الحكم لا يفي به، فإن من كانت نيته التجارة، ولكنه آثر القرض لحاجة المستقرض حالاً هو في نفس الأمر مستحقّ للتعويض عما فاته من الربح، ومن كانت نيته الكنز ولكنه باع نساءً، أو أسلم طمعًا في الربح من هذه الجهة، لم يكن مستحقًّا للتعويض. قلت: أما المقرِض؛ فإن لم يشترط زيادة فلا إشكال، فإنه قد رضي عوضًا عن ربحه الذي كان يرجوه بما حصل له من فوائد القرض التي تقدمت، ومنها الأجر، وصنع المعروف إلى المستقرض. وإن اشترط الزيادة فإن كان قد علم بالحكم فحرمانه من الزيادة عقوبة له على مخالفة الشريعة، مع أنها لم تَحْتِمْ عليه أن يقرض، وإن كان لم يعلم فسيأتي جوابه. وأما البائع نسيئةً، والمعطي سلمًا؛ فإن ما يناله من ربح يكون عوضًا عما يفوته من الربح في القرض، كما أن المقرض بزيادة جاهلاً بالحكم يحرم من الزيادة حكمًا، ويكون ذلك في مقابل ما يربحه إذا باع نَساءً أو أسلم، ولم يكن يريد التجارة. فإن قلت: قد يكون الإنسان يُقرِض وهو يريد التجارة، ولا يُنسِئ ولا يُسلِم، وقد يكون يُنسِئ ويُسلِم مع أنه كان ينوي الكنز، ولا يُقرِض أبدًا، وقد يُقرِض مشرقيًّا، ويُنسِئ مغربيًّا، فكيف هذا؟ قلت: قد قرَّرنا سابقًا أن القوانين لا بد أن تُناط بأمر ظاهر منضبط، ثم لا يضرها تخلُّفُ الحكمة في بعض الصور النادرة.

وهذا أمر معقول معمول به عند العقلاء، فالحكومات تعلن في أوقات الخوف منع الخروج ليلاً، ويعترف العقلاء بأن ذلك وفق المصلحة، ولا يمنعهم من ذلك احتمال أن يكون رجل قد ترك أطفاله جياعًا، وذهب يلتمس لهم طعامًا، فلم يظفر بالطعام حتى جنَّ عليه الليل وهو في بيت بعض معارفه، فيمنعه حكم الحكومة من الرجوع إلى بيته، وفي ذلك هلاك أطفاله. وقد يعم المنع الرجال والنساء، وتكون امرأة موضع قد خرجت فجنَّ عليها الليل في بيت بعض معارفها، فيمنعها الحكم من الرجوع إلى بيتها، فيموت طفلها جوعًا. وتعلن الحكومات في أوقات الخوف: أن من رآه الشرطة في الطرق ليلاً ينذرونه، فإن ارتابوا به ضربوه بالرصاص، فقد يصادف أن يكون رجل ضعيف مسالم، لكنه أصمُّ، ولم يعلم بالإعلان، فخرج يلتمس قوتًا لنفسه أو لأطفاله، فصاح عليه الشرطة، فلم يسمع لصممه. وأمثال هذا كثير. بل في القوانين الفطرية ما هو بهذا المعنى، فالمطر ضروري لحياة العالم، وقد يهدم بيت العجوز، ويفسد بضاعة التاجر، ويقتل طفل المسافر، وأشباه ذلك. لكننا قد قدَّمنا أن القوانين الشرعية يَجْبُر واضعها سبحانه وتعالى ما قد ينشأ عنها من خلل، فيقضي ويقدر ما يتم به العدل، وهو سبحانه المحيط بكل شيء علمًا وقدرةً، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس82 - 83].

الدين الممطول به والمال المغصوب

[ص 15/ 4] الدين الممطول به والمال المغصوب قد يقال: الحجج المتقدمة إنما تُبطِل الربا إذا كان في مقابل أجل قد رضي به الطالب، فأما الدين الممطول به والمال المغصوب فلا يظهر فيه ذلك، فإن التاجر إذا أقرض رجلاً دراهم أو طعامًا على شرط أن لا يؤخِّره عن شهر مثلاً، فأخَّره سنةً مثلاً، ففي ذلك ضرر شديد يلحقُ التاجرَ بدون رضاه ولا رضا الشرع، أفليس من العدل أن يفرض على الماطل ربح المال مدةَ المَطْل عقوبةً له، وجبرًا لما فات التاجرَ من الربح لو كان عنده؟ ومثل هذا يقال فيمن باع أو أسلم إلى أجل، فمطلَه صاحبه بعد الأجل، وهكذا يقال في الغاصب، وقد قال الشافعي (¬1): إن على من غصب دابةً أو دارًا فعليه أجرتها مدة الغصب، وإن لم يستعملها. الجواب: أما المعسر في الدين فقد فرض الله تعالى إنظاره لعذره، فلا إشكال. وأما الموسر فإنما لم تضمنه الشريعة ربحًا؛ لأن الربح لا ينضبط، فلو فرضنا أن الدين دفع إلى صاحبه، فمن يعلم أكان يتَّجر فيه أم لا؟ وإن اتَّجر أفيربح أم يخسر أم يتلَفُ المال؟ وإن ربح فما مقدار الربح؟ وما مقدار التعب؟ وقد حصل له فوائد من بقاء الدين في ذمة المدين تُعلم مما قدمناه في فوائد المقرض. فلما كان هذا لا ينضبط عدلت الشريعة عنه إلى شرع عقوبة الماطل بالحبس والتعزير، وترك الاستقصاء إلى عالم السر وأخفى، فهو سبحانه ¬

_ (¬1) انظر "الأم" (4/ 523).

يعوِّض الممطولَ عما علم أنه فاته، ويعاقب الماطلَ عما علم أنه فوَّته. والطاغوت الذي يقضي بالربح إنما يضبطه بما جرى به العرف في الربا، والربا في الشريعة باطلٌ، فلا يصح أن يُضْبط به. وفي القوانين الطاغوتية كثير من الأحكام التي يَعْدِلون فيها عن تعويض من حصل عليه النقص إلى عقوبة الظالم، فلا وجه لأن يستبعدوا على رب العالمين أن يقضي بشيء من هذا الضرب، فيما نعلم أنه لا يمكن وضع قانون مطابق للعدل يمكن أن يعرفه الناس، ويستطيعون تطبيقه. [ص 15/ 5] ومع هذا فقد أمر الله تعالى بالتعاون على البر والتقوى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن ذلك نَصْب الحكام، وإقامة الأحكام، فإن كان في بلد المتداينين حكومة تقيم الحق، فالممطول متمكن من الشكوى إلى الحاكم وقتَ حلول الدين، فإن أخَّر مع قدرته فهو المقصِّر. ولو شُرِع تضمينُ الماطل بربح مالًا يوشك أن يتراخى الممطول عن المطالبة أو عن الجدِّ فيها، ليأخذ الربا، فصار كأنه أقرض بشرط الربا، ويوشك أن يقول الرجل لمن يُداينُه: اكتب الدين إلى أجل ثلاثة أيام فقط، ومع ذلك لك أن تؤخره شهرين أو ثلاثة مثلًا، ولكن بربا، فإن أعطيتني الربا فذاك، وإلا ادعيتُ عليك عند الحاكم: أنك مَطلتَني، فيحكم عليك بالربا. وأما القرض فالأمر فيه أظهر، فإن أكثر العلماء يقولون: إنه لا يؤجل، فعلى هذا ربما أقرض الرجل صاحبه، وصاحبه يؤمِّل أن لا يطالبه إلا بعد شهرين مثلًا، فتربص المقرض حتى أنفق المستقرض المال ثم طلبه، فلا يتمكن المستقرض من قضائه حينئذٍ، فيقول: قد مطلني، فأنا أطلب منه الربا.

وأما إذا لم يكن في البلد حكومةٌ قائمة بالحق، فأهلها كلهم مقصِّرون، ومن دخل عليه ضرر بسبب تقصيره ينبغي أن لا يُجعل له مخرجٌ منه، بل يُشدَّد عليه حملاً له على الرجوع عن التقصير والقيام بالواجب. والله أعلم. وعلى هذا القياس يكون الكلام في الغصب، إلا أن هناك مسائل يختلف فيها العلماء، منها: أن يتَّجر الغاصب بالمغصوب فيربح، فمذهب بعض العلماء - كالإمام أحمد - أن الربح لصاحب المال لا للغاصب، ومذهب بعضهم - كالإمام أبي حنيفة - أنه للغاصب، ولكن لا يحل له، بل يجب عليه التصدق به. وهناك أقوال أُخر، لسنا بصدد استيفائها، ولا الترجيح بينها، وإنما يلزمنا ههنا الفرق بين الغصب والدين، فنقول: الفرق عندهم أن الغاصب في هذه المسألة اعتبر بعين المال المغصوبة، وربح فيها، وأما المدين فالدين في ذمته، وليس هو عينًا معينة، ومع ذلك فيقولون جميعًا: إذا لم يتجر في العين المغصوبة لا يلزم ربح، وإنما يقول بعضهم - كالشافعي - بوجوب الأجرة على غاصب الدار والدابة ونحوها، وإن لم يستعملها؛ لأن النقص الذي دخل على المالك بالغصب يمكن ضبطه بأجرة المثل، فليس كالربح الذي لا ينضبط كما مر. والله أعلم. ****

الربا مع الحربي

الربا مع الحربي أجاز أبو حنيفة رحمه الله أن يُربي المسلم المستأمن في دار الحرب مع من فيها من حربي، أو مسلمٍ أسلم فيها ولم يهاجر، وعلَّله أصحابه بأن مال أهل دار الحرب مباح، وإنما يحرم على المستأمن أن يغدر بهم، وأخذ أموالهم برضاهم ليس بغدر. وخالفه الجمهور حتى صاحبه أبو يوسف، ومن حجتهم أن تحريم الربا مطلق في الأدلة الشرعية، وقد دلت الأدلة أن فيه حقًّا لله تعالى، ولذلك لا يُحِلُّه رضا مُعطيه في دار الإِسلام اتفاقًا. وقد سمَّى الله الربا ظلمًا، وظلم الحربي لا يجوز ولو برضاه، كما لو رضي حربي بأن يقتله المستأمن. وقد احتُجَّ لأبي حنيفة رحمه الله بما رُوي أن العباس عم النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يُربِي مع المشركين قبل فتح مكة (¬1)، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم بذلك ولم ينهه. وفي هذه الحجة نظر؛ لأن ما حُكِي أن إسلام العباس رضي الله عنه قديم (¬2) لم يثبت، ولوجوهٍ أُخر لا حاجة بنا الآن إلى بسطها. والله أعلم. **** ¬

_ (¬1) يدل عليه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أول ربا أضعُ ربانا رِبا العباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كلُّه". أخرجه مسلم (1218) من حديث جابر بن عبد الله. (¬2) ذكره الحافظ في "الإصابة" (5/ 578) بصيغة التمريض.

المضاربة

[ص 15/ 6] المضاربة سَنَّت الشريعة طريقًا لذوي الأموال من العجزة والكُسالى يمكنهم أن يربحوا فيها، ولكن بدون ضرر على غيرهم، وهي المضاربة، وهي أن يدفع الرجل إلى آخر دراهم يتَّجر فيها، على أنه إن ربح كان الربح بينهما، ولكنه إن لم يربح شيئًا لم يلزمه شيء، بل إن تَلِفَ بعض رأس المال أو كله لم يلزم العاملَ شيء، بل يكفيه ضياع تعبه، وخيبة أمله. وهذه الطريق فتحت بابًا لخروج الدراهم من يد الغني لتلعب دورها في المعاملات، فينتفع بها الناس كما تقدم. ولا يخشى أن تؤدي إلى الكسل والانهماك في التنعُّم؛ لأن فيها خطر ضياع رأس المال، فصاحب المال لا يختارها إلا وهو عاجزٌ على الحقيقة غالبًا، وليس فيها ظلمٌ ولا هضمٌ. وفوائد المقرض التي تقدمت لا تحصل للمعطي مالَه مضاربةً، وكذلك المضارُّ التي تكون في الربا لا تكون في المضاربة، فيكون في المضاربة رجاء الربح من المالك والعامل، والمخاطرة من كل منهما، المالك يخاطر بماله، والعامل يخاطر بعمله. وهذا هو العدل القويم، والقسطاس المستقيم، والحمد لله رب العالمين. ****

وجوه الربا

وجوه الربا لا فرق بين أن يُقرِض بشرط الزيادة دفعةً واحدةً، أو يُقرِض بشرط زيادة مقررة في كل شهر مثلاً، أو يقرض بلا شرط زيادة، ثم يطالب بالقضاء، فيستمهل المستقرض فيمهله بشرط زيادة، أو يكون له عند رجل دين من غير القرض، كثمن وأجرة ونحو ذلك، فإذا حلَّ الأجل أمهله إلى أجل آخر بشرط زيادة. هذا كله داخل في آية الربا كما سيأتي تحقيقه، والمعنى فيه واحد. وهناك صور أخرى تحتاج إلى إيضاح: منها: العِينة، وهي أن يحتاج الرجل إلى القرض فلا يجد من يُقرِضه قرضًا حسنًا، فيتواطأ مع إنسان على أن يشتري المحتاج من صاحب المال سلعة بمائة درهم إلى أجل، ثم يبيعها المحتاج لصاحب المال بتسعين نقدًا مثلًا. وتأويل ذلك أنه أخذ تسعين درهمًا على أن يرد مائة، وهذا هو عين الربا. وقد اشتهر عن الشافعية تصحيح هذه المعاملة، فأما الإِمام الشافعي رحمه الله تعالى فإنما يوجد في نصوصه تصحيح البيعين حيث لم يعلم نية السوء، ذكر في باب بيع الآجال من "الأم" (¬1) أثر عائشة: "أن امرأة سألتها عن بيعٍ باعته من زيد بن أرقم بكذا وكذا إلى العطاء، ثم اشترته منه بأقل من ¬

_ (¬1) (4/ 160).

ذلك نقدًا، فقالت عائشة: بئسَ ما اشتريتِ، وبئسَ ما ابتعتِ، أخبري زيد بن أرقم [ص 16] أن الله عزَّ وجلَّ قد أبطل جهاده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أن يتوب". ثم ساق الكلام عليه، وفيه أن القياس يوافق فعلَ زيد، ثم قال: "فإن قال قائل: فمن أين القياس مع قول زيد؟ قلت: أرأيتَ البيعة الأولى أليس قد ثبت بها عليه الثمن تامًّا؟ فإن قال: بلى. قيل: أفرأيت البيعة الثانية أهي الأولى؟ فإن قال: لا. قيل: أفحرامٌ عليه أن يبيع ماله بنقدٍ، وإن كان اشتراه إلى أجل؟ فإن قال: لا، إذا باعه من غيره. قيل: فمن حرَّمه منه؟ فإن قال: كأنها رجعت إليه السلعة، أو اشترى شيئًا دينًا بأقلَّ منه نقدًا. قيل: إذا قلتَ: "كأنَّ" لما ليس هو بكائن لم ينبغِ لأحد أن يقبله منك، أرأيت لو كانت المسألة بحالها، فكان باعها بمئة دينارٍ دينًا واشتراها بمئة أو بمئتين نقدًا؟ فإن قال: جائز. قيل: فلا بد أن تكون أخطأت "كأن" ثَمَّ أو ههنا؛ لأنه لا يجوز له أن يشتري مئة دينار دينًا بمئتي دينار نقدًا.

فإن قلت: إنما اشتريت منه السلعة. قيل: فهكذا كان ينبغي أن تقول أولًا، ولا تقول: "كأن" لما ليس هو بكائن. أرأيت البيعة الآخرة بالنقد لو انتقضت أليس تُردُّ السلعة، ويكون الدين ثابتًا كما هو، فتعلم أن هذه بيعة غير تلك البيعة؟ فإن قلت: إنما اتهمته. قلنا: هو أقل تهمة على ماله منك، فلا تركن عليه إن كان خطأً، ثم تحرِّم عليه ما أحلَّ الله له؛ لأن الله عزَّ وجلَّ أحلَّ البيع وحرَّم الربا، وهذا بيع وليس بربا". "الأم" (ج 3 ص 68 - 69) (¬1). أقول: السياق صريح في أن كلام الشافعي رحمه الله خاص بما إذا لم تقع بينهما مواطأة، ولا قامت دلالة ظاهرة على قصد إلاحتيال، وصورة ذلك مثلًا أن يَعْمِد رجل فيشتري ثوبًا بعشرة دراهم إلى أجل، ثم يتفرقان، ثم يعود المشتري إلى البائع، فيعرض عليه الثوب بتسعة دراهم نقدًا، فيشتريه منه. فالشافعي رحمه الله تعالى يقول: لا وجه لاتهام المشتري الأول بأنه إنما اشترى توصلاً إلى الأخذ بالربا، وهناك ما يُبعِد اتهامه، وهو أن المعروف من حال الإنسان أنه لا يرضى بضياع ماله، وإذا اتهمنا هذا الرجل بالنية المذكورة كنا قد اتهمناه بأنه أراد من أول الأمر ضياع درهم من ماله، فالأولى أن يحمل على أنه اشترى الثوب رغبةً فيه، ثم عرضتْ له حاجة، أو اطلع على غبن، فعاد فباعه. ¬

_ (¬1) (4/ 160 - 161) ط. دار الوفاء.

وقوله: "فلا تركن عليه" صوابه: "فلا تَزْكَنْ عليه"، من الزكن، وهو الظن، أي: لا تتهمه إن كان زكنك خطأً لا دليل لك عليه. ويعلم مما تقدم أنه لو علم تواطؤهما على التوصل إلى الربا، أو اعترفا بأن نيتهما ذلك، صحَّ الحكم بحرمته. وكذلك إذا كانت النية التوصل، ولم يظهر لنا ذلك، فإن الحرمة ثابتة على الناوي. ويبقى النظر في صورة البيع الأولى وصورته الثانية، الحكم ببطلانهما أو أحدهما، ففي "فتح الباري": "والتحقيق أنه لا يلزم من الإثم في العقد بطلانه في ظاهر الحكم، فالشافعية يُجوِّزون العقود على ظاهرها، ويقولون مع ذلك: إن من عمل الحيل بالمكر والخديعة يأثم في الباطن" (ج 12 ص 274) (¬1). ذكر ذلك بعد أن نقل عن "إعلام الموقعين" (¬2) كلامًا فيه تنزيه الشافعي عما ينسبه إليه أصحابه، وفيها: "وكذا في مسألة العينة، إنما جوز أن يبيع [ص 17] السلعة ممن يشتريها، جريًا منه على أن ظاهر عقود المسلمين سلامتها من المكر والخديعة، ولم يجوِّز قطُّ أن المتعاقدين يتواطآن على ألف بألف ومئتين، ثم يحضران سلعة تحلل الربا، ولا سيما إن لم يقصد البائع بيعها، ولا المشتري شراءها". وقال في "الفتح" أيضًا: "نص الشافعي على كراهة تعاطي الحيل في ¬

_ (¬1) (12/ 337) ط. السلفية. (¬2) (3/ 293).

تفويت الحقوق، وقال بعض أصحابه: هي كراهة تنزيه، وقال كثير من محققيهم كالغزالي: هي كراهة تحريم، ويأثم بقصده، ويدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وإنما لكل امرئ ما نوى"، فمن نوى بعقد البيع الربا وقع في الربا، ولا يخلِّصه من الإثم صورة البيع، ومن نوى بعقد النكاح التحليل كان محلّلاً، ودخل في الوعيد على ذلك باللعن، ولا يخلِّصه من ذلك صورة النكاح، وكل شيء قُصِد به تحريمُ ما أحلَّ الله أو تحليلُ ما حرَّم الله كان إثمًا، ولا فرق في حصول الإثم في التحيُّل على الفعل الحرام بين الفعل الموضوع له والفعل الموضوع لغيره إذا جعل ذريعة له". "فتح الباري" (ج 12 ص 267) (¬1). أقول: إذا ثبتت الحرمة أوشك أن يثبت البطلان، وقد قال الشافعية بحرمة الصلاة في وقت الكراهة وبطلانها، واستثنوا ما له سبب متقدم، أو مقارن كتحية المسجد، ثم قالوا: لكن لو دخل المسجد لأجل الصلاة في وقت الكراهة حرمت عليه الصلاة، ولم تصح؛ لأنه معاند للشرع، وهكذا قالوا في من قرأ في الصلاة آية السجدة ليسجد أنه إذا سجد بطلت صلاته. فعلى هذا يلزمهم إبطال العِينة إذا كان المقصود من صورة البيع فيها هو أخذ ألفٍ بألفٍ ومئتين. ودلائل البطلان كثيرة، ولكن المقصود ههنا إثبات الحرمة، والشافعية يوافقون عليها كما مر. ومن تدبر المعنى علم أنها أشدُّ من حرمة الربا الصريح، قال البخاري ¬

_ (¬1) (12/ 328) ط. السلفية.

في كتاب الحيل من صحيحه (¬1): "باب ما يُنهى عنه من الخداع في البيوع (¬2)، وقال أيوب: يخادعون الله كأنما يخادعون آدميًّا، لو أَتَوا الأمرَ عيانًا كان أهون عليَّ". قال في "الفتح": "قال الكرماني: قوله: "عيانًا" أي لو أعلنوا بأخذ الزائد على الثمن معاينة بلا تدليس لكان أسهل؛ لأنه ما جعل الدين آلة للخداع. انتهى. ومن ثَمَّ كان سالكُ المكر والخديعة حتى يفعل المعصية أبغضَ عند الناس ممن يتظاهر بها، وفي قلوبهم أوضعَ، وهم عنه أشدُّ نفرةً". "فتح الباري" (ج 12 ص 273) (¬3). أقول: والباعث على هذه المعاملة قد يكون كفرًا، وقد يكون محاربةً لله عزَّ وجلَّ فوق محاربته بأصل الربا، وقد يكون جهلًا، ولا يَغُرنَّك ما جازف به بعضهم فقال: "إن هذه المعاملة محمودة؛ لأنها فرار من الربا الذي حرَّمه الله إلى البيع الذي أحلَّه"، فإنها مغالطةٌ محضةٌ؛ لأن صورة البيع التي يأتي بها المتعاينان غير مقصودة لهما قصدًا صحيحًا، وإنما هو قصد محرم، وهو المخادعة لله عزَّ وجلَّ، والاحتيال عليه، والعناد لشرعه. هذا، وقد حرَّم الله تعالى أكل أموال الناس بالباطل إلا أن تكون تجارةً عن تراضٍ، وليس هذه بتجارةٍ، فإن الآخذ لم يشترِ السلعة ليبيعها بربحٍ كما هو دأب التاجر، وقد تقدم بيان المعنى الذي أُحِلَّ لأجله التغابن في التجارة، وليس موجودًا ههنا. ¬

_ (¬1) (12/ 336) مع الفتح. (¬2) في الأصل: "العيوب"، والتصويب من البخاري. (¬3) (12/ 336) ط. السلفية.

للعينة صور، وقد عدّ الحنفية منها أن تطلب من رجل أن يُقرِضك، فيقول لك: بل أبيعك هذه السلعة بنسيئة، وخذها أنت وبعها في السوق بنقد، فيأخذها ويبيعها في السوق. ونقلوا عن أبي يوسف أنه قال: "لا يُكره هذا البيع؛ لأنه فعله كثير من الصحابة، وحمدوا على ذلك، ولم يعدُّوه من الربا، حتى لو باع كاغذةً بألف يجوز، ولا يكره" (¬1). [ص 18] أقول: لا بد من تفصيل؛ فإذا كان ثمن السلعة التي أعطاه عشرة دراهم نقدًا، واثني عشر درهمًا نسيئةً، فإن أعطاه إياها بعشرةٍ نسيئةً فهذا هو الذي يمكن أن يكون محمودًا؛ لأنه كأنه أقرضه. وإن أعطاه إياها باثني عشر ففيه نظر، وقد يقال: إذا كان محققًا أنه لو لم يعطه تلك السلعة باثني عشر درهمًا إلى أجل لطلبها منه آخر بذلك الثمن إلى مثل ذلك الأجل، فلا يظهر إثم المعطي، ولكن يبقى النظر في الآخذ، فقد يقال: إنه إنما اشتراها بنية أن يأخذ عشرة نقدًا، وتكون في ذمته اثنا عشر، فإن أثِمَ الآخذ رجع الإثم على المعطي أيضًا إذا علم بنية الآخذ، وأما إذا أعطاه إياها بثلاثة عشر مثلاً فالحرمة ظاهرة. هذا، وما حكاه أبو يوسف عن الصحابة لم يُنقَل متصلًا، إلا ما رُوي عن زيد بن أرقم على ما فيه، والقصة نفسها تدل أنه لم يقصد العِينة، وقد ذكرها الباجي في "شرح الموطأ" (¬2)، وفيها: "قالت: فإني بعتُه عبدًا إلى العطاء ¬

_ (¬1) انظر "حاشية ابن عابدين" (5/ 325، 326). (¬2) "المنتقى" (4/ 166).

بثمان مئة درهم، فاحتاج فاشتريته قبل محل الأجل بست مئة درهم". هذا مع أن هذه المرأة هي أم ولد زيد، كما في القصة، ولم يُذكَر أنه كان قد أعتقها، وإذا لم يكن قد أعتقها فهي باقية حينئذٍ في ملكه، والعلماء مصرِّحون على أنه لا ربا بين السيد وبين مملوكه. وذكر البيهقي وغيره أثرًا عن ابن عمر (¬1)، وفي سنده مقال، وفيه مع ذلك ما يصرح بأن البيع لم يكن بنية العينة. وقد قال محمد بن الحسن: "هذا البيع في قلبي كأمثال الجبال ذميم، اخترعه أَكَلَةُ الربا ... " انظر "الدر المختار" (¬2) أواخر الكفالة. [ملحق ص 18] بقي أن بعض المحتالين على الربا يشتري مقدارًا وافرًا من بضاعة رائجة، وإذا طُلب منه بيعه نقدًا بقيمة مثله نقدًا أو إلى أجل قريب بقيمة مثله إلى ذلك الأجل، امتنع، وإنما يرصُده للمحتاجين إلى القرض، يجيء أحدهم فيسأله القرض، فيقول: ليس عندي دراهم - وكثيرًا ما يكون كاذبًا - ولكن أبيعك هذه السلعة بعشرةٍ نسيئةً إلى شهرين مثلاً، فيقول الطالب: وماذا أصنع بها ولا حاجة لي فيها؟ فيقول: تخرج بها فتبيعها بدراهم نقدًا، فتنتفع بها، فيقول الطالب: قيمة مثلها نقدًا في السوق ثمانية، فكيف أشتريها منك بعشرة، وأحملها وأتعب فيها حتى أجد من يشتريها مني بثمانية؟ فيقول: ليس عندي إلا ذلك، فإن أحببتَ فخذْ، وإلا فاذهبْ. وإذا اشتهر بهذا فربما يجيئه طالب القرض، فيشتري منه على ذلك ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (5/ 317). (¬2) "الدر المختار" مع حاشية ابن عابدين (5/ 326).

الوجه، ولا يذكر قرضًا. ولما كنتُ قاضيًا بجيزانَ سمعت برجلٍ حضرمي هذه حِرفتُه، فرأيت أن أعزِّره وأمنعه من هذه المعاملة، وأردَّه في ما بقي له من الديون إلى رأس ماله، ثم عرضتُ ذلك على شيخنا الإِمام محمد بن علي بن إدريس رحمه الله، فأقرَّني على ذلك. ثم سُئلت مرارًا عن بيع النَّساء بزيادة في الثمن فأجبت أن التاجر الذي يبيع بنقد إذا طُلِبت منه سلعة بنسيئة فلا أراه حرامًا، ومثله غير التاجر إذا كانت عنده سلعة فطُلِبت منه بنسيئة فباعها بثمن لو طلبت منه بنقد لباعها بأقلَّ منه، وأما من إذا طلبت منه السلعة بنقد أو بنسيئة إلى أجل قريب بقيمة مثلها لم يبع، وإنما يرصدها للنسيئة؛ لتحصل له زيادة لها قدر، فلا أراه إلا حرامًا، ولا سيما إذا علم أو ظن أن المشتري إنما يريد القرض، ولما لم يجد من يُقرِضه قرضًا حسنًا، واستشنع الربا الظاهر أو لم يجد من يعطيه بربا، اضطر أن يشتري سلعة بعشرة إلى شهرين مثلاً، ويتعب بحملها، وطلب من يشتريها منه بثمانية نقدًا ليأخذ الثمانية فيسدّ بها حاجته. هذا والغالب أن الذين يأخذون من مثل ذلك الحضرمي هم الفقراء والذين عرفوا بالمطل، فإنهم يمطلونه؛ لأنهم يرون أنه ظالم لهم ولغيرهم، ولكنه لا يبالي؛ لأنه قد اعتاد الإلحاح في التقاضي، والتشديد فيه، وقد مرَّ الفرق بين العينة وبين بيع النَّساء الذي لا حيلة فيه. والله أعلم. الصورة الثانية: الانتفاع بالرهن: اتفق العلماء على تحريمه؛ لأنه ربا، وإنما أجاز بعضهم في رهن الدابة أن ينفق عليها المرتهن ويركبها أو يحلبها بقدر ما أنفق عليها متحرِّيًا العدل

في ذلك، وكذلك الأمة ينفق عليها، ويسترضعها بقدر نفقتها. وقد احتال الناس على هذا النوع من الربا بصورة بيع كثرت أسماؤه لخبث مسماه، فيقال: بيع العهدة، وبيع الوفاء، وبيع الأمانة، وبيع الإطاعة، وبيع الطاعة، والبيع الجائز، وبيع المعاملة، والبيع المعاد، والرهن المعاد، وغير ذلك. وحاصله أن يحتاج رجل إلى القرض، فيلتمس من يُقرِضه على أن يرهنه أرضه رهنًا شرعيًّا، فلا يجد مسلمًا يقبل ذلك، فيقول له إنسان: أنا أعطيك واسترهِنْ أرضك على شرط أن تكون منافعها لي ما دام الدين عندك، فقيل لهم: هذا ربا، فأوحى إليهم الشيطان أن يجعلوا صورة العقد بيعًا. ثم تارةً يقع العقد مع الشرط، كقوله: بعتك هذه الأرض بألف، على أنه ليس لك أن تخرجها من ملكك، وأنه متى جئتُ أنا أو ورثتي أو ورثتهم أو من يرثهم وهكذا بمثل الثمن رجعت الأرض إلى ملكنا. ويستغنى عن تفصيل الشروط بقولهم: بيع وفاء، أو بيع عهدة، أو غير ذلك من الأسماء الخاصة بهذه المعاملة الخبيثة. وتارةً يتقدم الشرط على العقد، كأن يقول مريد الأخذ: اشهدوا أن البيع الذي سيقع بيننا بيع عهدة مثلًا. وتارةً يتأخر، وربما جعلوا الشرط بلفظ النذر، كأن يقول مريد الأخذ: لله عليّ إذا اشتريتُ هذه الأرض من فلان أن أُقِيلَه إذا طلب الإقالة هو أو ورثته وإن سفلوا، وقد تقع صورة النذر بعد العقد.

[ص 19] وهذه الحيلة إنما حدثت في القرون المتأخرة، وأنكرها العلماء، وقد اطلعتُ على كلام المتأخرين من الفقهاء فيها. فأما الشافعية فقالوا: إذا وقعت المواطأة والشرط، ثم وقع العقد بصفة البيع، ولا ذكر للشرط في عقده، فالشرط السابق لغوٌ، والبيع صحيح نافذ. وإن كان الشرط بعد انعقاد العقد ولزومه فالبيع صحيح نافذ، والشرط وعدٌ، للمشتري أن يفي به وأن لا يفي. ولو كان الشرط بصيغة نذر من المشتري لزمه الوفاء به، وإن وقع الشرط في صلب العقد بطل البيع، ومن الشرط أن يقال: بيع عهدة، أو بيع وفاء، أو نحوه. ولكن بعض فقهاء حضرموت أفتوا بصحة البيع والشرط. قال في "القلائد" (¬1): "بيع العهدة المعروف بجهة حضرموت وغيرها، وهو أن يتفق المتبايعان أن البائع متى أراد رجوع المبيع إليه أتى بمثل الثمن المعقود به، وفَسَخ البيع، أو يُفسَخ عليه، رضي المشتري أم لا. وكذا إن اتفقا أنه إن أراد فكَّ البعض فله ذلك، كما صرَّح به بعض الفقهاء، وهو فاسد إن وقع الشرط في نفس العقد أو بعده في زمن الخيار، وسيأتي في الخيار أن مذهب أحمد وغيره جواز شرطه لأحد العاقدين مطلقًا، وأنه يتأبد له وهو مقتضٍ لصحة ما فعلاه هنا، ولزومِه عندهم، فإن وقع قبل العقد بالمواطأة ثم عقدا مُضمِرَين ذلك فهو وعد لايلزم على مذهب الشافعي رحمه الله تعالى، ولكن رأى جماعة من أهل العلم تنفيذه بناء على وجوب الوفاء بالوعد، كما هو مذهب مالك رحمه الله تعالى وغيره، وأقاموا ذلك مقام الحقوق اللازمة ¬

_ (¬1) "قلائد الخرائد" لباقشير الحضرمي (1/ 317).

حتى ينوب الحاكم في الفسخ أو قبوله حيث غاب المشتري أو امتنع". ثم قال بعد ذلك بكلام: "وذهب قوم إلى صحة بيع وشرط، وهو مذهب أحمد إذا كان شرطًا واحدًا، ويلزم". أقول: الحاصل أنه أسند جواز البيع مع الشرط المذكور في صلب العقد إلى أمرين: الأول: قوله: "إن مذهب أحمد وغيره جواز شرطه لأحد العاقدين مطلقًا، وأنه يتأبد له". وقال في الخيار: "وجوزه أحمد وإسحاق مطلقًا، ويتأبد". الثاني: قوله: "وذهب جماعة إلى صحة بيع وشرط، وهو مذهب أحمد إذا كان شرطًا واحدًا". وأسند وجوب الشرط ولزومه إذا كان قبل العقد إلى مذهب مالك في وجوب الوفاء بالوعد. فأما الأول: فكأنه مستند إلى ما في "فتح الباري" (¬1): "فإن شرطا أو أحدهما الخيار مطلقًا، فقال الأوزاعي وابن أبي ليلى: هو شرط باطل، والبيع جائز. وقال الثوري والشافعي وأصحاب الرأي: يبطل البيع أيضًا. وقال أحمد وإسحاق: للذي شرط الخيار أبدًا". فأما الإِمام أحمد: فإن صح هذا عنه فكأنه رواية ضعيفة عند أصحابه، فإن في "زاد المستقنع" من كتبهم في خيار الشرط: "أن يشترطاه في العقد مدة معلومة، ولو طويلة". ¬

_ (¬1) (4/ 328).

قال في شرحه "الروض المربع": "ولا يصح اشتراطه بعد لزوم العقد، ولا إلى أجل مجهول، ولا في عقد حيلة ليربح في قرض فيحرم، ولا يصح البيع" (ص 190) (¬1). [ص 20] أقول: والمدة الطويلة إذا مات الشارط قبلها انقطع خياره عندهم، ففي "زاد المستقنع": "ومن مات منهما بطل خياره". قال الشارح: "فلا يورث إن لم يكن طالب به قبل موته" (ص 191) (¬2). أقول: ومطالبته به قبل موته تكون فسخًا، فينفسخ العقد من حينئذٍ، ولو طالب به عقب العقد بساعة انفسخ العقد من حينئذٍ، ولو لم يدفع الثمن، وهذا مخالف لمقصود بيع العهدة. وفوق هذا فالمقصود ببيع العهدة هو الحيلة، فيكون البيع والشرط باطلًا عند الحنابلة مطلقًا كما علمت. والفرق بين شرط الخيار لغير حيلة وشرطه لحيلةٍ: أن الأول يكون مقصود البائع عند البيع إخراج المبيع من ملكه بتاتًا، ولكنه يخاف أن يبدو له فيندم بعد ذلك، فلأجل هذا شرط الخيار. والثاني لا يقصد البائع إخراج المبيع عن ملكه، وإنما حاجته إلى الدراهم ألجأته إلى أن يضع أرضه تحت يد معامله إلى أن يتيسر له قضاء تلك الدراهم، ولهذا يرضى صاحب الأرض بدراهم أقلَّ من ثمن المثل، وتجدهم في حضرموت يصرحون بأنه رهن، فيقول البائع: رهنت أرضي عند ¬

_ (¬1) (4/ 421) بحاشية ابن قاسم. (¬2) (4/ 432، 433).

فلان، ويقول المشتري: هذه الأرض مرهونة عندي، وتجد ذلك في وصاياهم وغيرها، وإنما يطلقون عليه بيعًا حال العقد، كما يعلمهم كتَّاب العقود الذين عرفوا طرفًا من الفقه، أو تعلموا كيف يكتبون وثيقة في هذا الباب. وعلى هذا فإذا كان في مذهب أحمد رواية بصحة الخيار المطلق، فلا تفيد أهل العهدة؛ لأن مقصودهم الحيلة على الربا، ولغير ذلك. والله أعلم. وفي "الشرح" في أحكام الشروط: "وكذا شرط رهن فاسد، كخمر، ومجهولٍ، وخيارٍ أو أجل مجهولين، ونحو ذلك، فيصح البيع، ويفسد الشرط" (ص 188) (¬1). والمراد أنه يصح ما لم يكن العقد حيلة، كما تقدم. والله أعلم. وأما قول إسحاق فلم أقف على تفصيل مذهبه، وعسى أن يكون كمذهب أحمد، وما لم يعلم قوله مفصّلًا مفسّرًا لا يمكن تقليده. وأما الثاني: وهو قوله: "وذهب قوم إلى صحة بيع وشرط، وهو مذهب أحمد إذا كان الشرط واحدًا"، فليس على إطلاقه، ففي مذهب أحمد تفصيل؛ فمن الشروط في مذهبه ما يصح مطلقًا، وهو ما وافق مقتضى العقد، كاشتراط حلول الثمن، أو كان من مصلحة العقد، كاشتراط تأجيل الثمن، أو فيه منفعة معلومة للبائع، كركوبه الدابة إلى موضعٍ معين، أو للمشتري كأن يشتري حطبًا، ويشترط على البائع أن يحمله إلى موضع معلوم. ¬

_ (¬1) "الروض المربع" (4/ 404) بحاشية ابن قاسم.

فهذا النوع الثالث - أعني الذي فيه منفعة معلومة للبائع أو للمشتري - يصح عندهم إذا كان شرطًا واحدًا، ويبطل البيع إذا كان شرطين. وفسروا الشرطين باشتراط منفعتين، قال في "الروض المربع": "كحمل حطبٍ وتكسيره، وخياطة ثوب وتفصيله" (¬1). ومن الشروط في مذهبه ما هو فاسد، وهو ما ينافي مقتضى العقد، فتارة يبطل الشرط ويصح العقد، كاشراط المشتري أنه إذا لم ينفق المبيع رده، أو أن لا يبيع المبيع ولا يهبه ولا يعتقه، وتارةً يبطل العقد أيضًا، كاشتراط عقد آخر، كأن يقول: بعتك بشرط أن تقرضني، وتارة لا ينعقد البيع من أصله، كقول الراهن: إن جئتك بحقك، وإلا فالرهن لك، وكذا كل بيعٍ عُلِّق على شرط مستقبل، [ص 21] وتمام التفصيل في كتبهم. والحاصل: أن الشرط الذي يجوز عندهم إذا كان واحدًا، ويبطل البيع إذا كان شرطين = هو ما كان في مصلحة البيع، وفيه منفعة معلومة لأحد العاقدين. ومثَّلوه بأن يشتري حطبًا، ويشترط على البائع حمله إلى موضعٍ معلومٍ أو تكسيره، أو يشتري ثوبًا، ويشترط على البائع تفصيله أو خياطته، فيصح. ولو اشترط مشتري الحطب حمله وتكسيره، أو اشترط مشتري الثوب تفصيله وخياطته، كان قد جمع شرطين، فيبطل البيع. والشرط الذي تضمنه بيع العهدة ليس من مقتضى البيع، ولا من مصلحته، بل هو من المنافي، وفي المنافي عندهم تارةً يلغو الشرط ويصح البيع، ومن أمثلته عندهم الخيار المجهول كما تقدم، ومثله فيما يظهر الخيار إلى مدة معينة مع شرط أن المشتري إذا مات يقوم ورثته مقامه. ¬

_ (¬1) (4/ 399).

ووجه ذلك أن الخيار من أصله منافٍ للبيع، وإنما أجيز لدليل خاص، وذلك الدليل الخاص لا يتناول أن يكون الخيار لورثته من بعده، فهذا يقتضي بطلان الشرط وصحة البيع، ولكن الشرط الذي تضمنه بيع العهدة ليس خيارًا، وإنما المقصود به الحيلة على الربا، وهو باطل عندهم كما تقدم. وتحقيقه أن خيار الشرط موضوع لمن يكون قصده حال البيع أن يخرج السلعة من ملكه بتاتًا، ولكنه يخاف أن يبدو له فيندم، وبيع العهدة ليس من هذا قطعًا، وإنما المقصود منه أن تكون السلعة رهنًا بيد من يُسمى مشتريًا، ليفكَّه من يُسمى بائعًا هو أو ورثته متى أرادوا. هذه حقيقته، ولهذا يطلقون عليه لفظ "الرهن"، فيقول الرجل: أريد أن أرهن أرضي، ويقول الآخر: يريد فلان أن يرهن عندي (¬1) أرضه، ويقولان بعد العقد: رهنت أرضي عند فلان، وهذه الأرض عندي رهن، كما تقدم. وعلى كل حال فقد تبين بطلان بيع العهدة في مذهب أحمد وحرمته، وأنه ربا، والله أعلم. وأما السند الثالث: وهو الإلزام بالمواطأة قبل العقد، بناءً على وجوب الوفاء بالوعد في مذهب مالك، وفسره في "القلائد" (¬2) بعد ذلك بقوله: "مذهبنا أيضًا أن الوفاء بالوعد مكرمة متأكدة، وأن الإخلاف به مع القدرة وعدم الضرر مكروه جدًّا، وعند قوم يجب الوفاء، وقالت المالكية: يجب إن ارتبط بسبب، كقوله: أعطِني كذا، أو احلِفْ لا تسبَّني وأنا أعطيك كذا. وبيع ¬

_ (¬1) في الأصل: "عني". (¬2) (1/ 320).

العهدة عندنا من هذا ... واختار جمع كثير من أصحابنا المتأخرين والذين قبلهم ما ذكرناه من المواطأة قبل، وإلزام الوعد بمقتضى مذهب من أوجبه للضرورة في الحاجة إلى الثمن، مع قلة الراغب في المبيع إلا بغبن كثير، فقصدوا التخلص منه بشرط أن له أن يفكَّه عند قدرته، ومشوا على ذلك حتى ألزمت به الحكام، ورتبوا عليه الأحكام". أقول: مالك وأصحابه رحمهم الله بريئون من هذه المعاملة، ومن المواعيد عندهم ما يأمرون بالوفاء بها، ولكن يقولون: ليس للحكام الإلزام بها قضاءً، ومنها ما إذا كان تمهيدًا لعقد ينزل عندهم منزلة الشرط في ذلك العقد، فيبطل العقد ويحرم. ومنها: غير ذلك. بل النذر عندهم لا يلزم به إلا ما لا يصح وقوعه إلا قربة. وفي "الشرح الكبير" مع المتن: " (وإنما يلزم به) أي النذر (ما ندب) ". قال الدسوقي في حواشيه: "يعني مما لا يصح أن يقع إلا قربةً، وأما ما يصح وقوعه تارة قربةً، وتارة غيرها فلا يلزم بالنذر، وإن كان مندوبًا، كالنكاح والهبة [هـ بن] ". (ج 2 ص 144). وأما ما ذكره صاحب "القلائد" عنهم فمحله فيما ارتبط بسبب فيه كلفة على الموعود؛ لأنه صار في معنى الإجارة أو الجعالة. وقوله: "أعطني كذا، وأنا أُعطيك كذا" في معنى البيع، فإن وقع الوعد في بيع الوفاء قبل العقد فهي مواطأة مفسدة، كما سيأتي عن المالكية، وإن وقع في صلب العقد فأولى، وإن وقع بعد لزوم العقد فقد صرحوا بأنه وعد لا يلزم الوفاء به، كما سيأتي.

[ص 22] ومالك رحمه الله تعالى يحتاط في محاربة الربا أشد الاحتياط، حتى حرَّم الإقراض طمعًا في الزيادة، إذا عُرف من عادة المستقرض الزيادة في القضاء، وحرَّم قبول الزيادة إذا كانت عن وعد أو عادة. فكان على أنصار بيع العهدة أن يراجعوا كتب المالكية، أو يستفتوا أحد علمائهم، ولا يُقدِموا على التحليل والتحريم بناءً على نقول مجملة. والله المستعان. هذا وقد نصَّ المالكية على حرمة بيع العهدة، أو بيع الوفاء، ووجوب إبطاله وحرمة انتفاع المشتري بالمبيع إذا كان الشرط في صلب العقد، أو تواطآ عليه قبل العقد، وأنه إذا لم يكن هناك شرط ولا مواطأة أصلًا فالبيع صحيح، ولو تبرع المشتري بعد لزوم البيع بنحو قوله: "متى رددتَ إليّ الثمن دفعتُ لك المبيع" كان وعدًا يستحبُّ الوفاء به، ولا يلزم. وهذه عبارة الدسوقي في حواشي "الشرح الكبير" للمالكية: "وبيع الثُّنيا هو المعروف بمصر ببيع المعاد، بأن يشترط البائع على المشتري أنه متى أتى له بالثمن رد المبيع، فإن وقع ذلك الشرط حين العقد، أو تواطآ عليه قبله كان البيع فاسدًا ولو أسقط الشرط، لتردد الثمن بين السلفية والثمنية ... وأما إذا تبرع المشتري للبائع بذلك بعد البيع بأن قال له بعد التزام البيع: متى رددتَ إليّ الثمن دفعتُ لك المبيع، كان البيع صحيحًا، ولا يلزم المشتريَ الوفاءُ بذلك الوعد، بل يستحبُّ فقط". (ج 3 ص 62). وفي المتن والشرح: " (ورُدَّ) المبيع بيعًا فاسدًا لربه إن لم يفت وجوبًا، ويحرم انتفاع المشتري به ما دام قائمًا". وحكى المحشي عن الشيخ أحمد الزرقاني أن المشتري بهذا البيع يرد

الغلة مع المبيع، ولا حق له فيها. وحكى عن (ح) ورجحه أن المشتري إذا قبض المبيع برضا البائع يفوز بغلته ما دام عنده، بناءً على أن حكم البيع الفاسد في المذهب هكذا، فهو حرام يجب نقضه، ويحرم على المشتري الانتفاع به، ولكن مع ذلك كله يفوز بغلته؛ لأنه في ضمانه، والخراج بالضمان. قال: "وإن لم يقبضه (المشتري) بل بقي عند البائع، فالغلة له لا للمشتري، ولو كان المشتري أبقاه عند البائع بأجرة، كما يقع بمصر؛ لأنه فاسد، ولم يقبضه". أقول: حكم البيع الفاسد عندهم هكذا، أنه يحرم ويجب رده، ويحرم على المشتري الانتفاع به، ومع ذلك فغلَّته للمشتري إذا قبضه برضا البائع؛ لأن الخراج بالضمان، وإنما الشأن في هذا البيع: أبيعٌ فاسد هو، فيكون حكمه كما قال (ح)، أم غير ذلك؟ والذي يظهر أن الزرقاني جعله رهنًا، والحق معه، لأنَّ الشرط المذكور سلخ هذا العقد عن حقيقة البيع، وجعله من حقيقة الرهن بشرط انتفاع المرتهن به. [ملحق ص 22] والبيع الذي سماه سلف المالكية بيع الثُّنيا، وذكروا أنه فاسد، إنما هو نحو أن يشرط بائع الجارية مثلًا على المشتري أنك إن بعتها فهي لي بالثمن الذي تبيعها به، كما في "الموطأ" (¬1). وقد حكى الباجي في "المنتقى" عن سحنون أنه علَّل عدم جوازه "بأنه ¬

_ (¬1) (2/ 616).

سلفٌ يجرُّ منفعة، وذلك أنه يسلفه الثمن؛ لينتفع هو باستغلال المبيع". "المنتقى على الموطأ" (ج 4 ص 210) (¬1). أقول: وقضية تعليل سحنون أن لا تكون الغلة للمشتري؛ لأنها منفعة جرَّها القرض، والمالكية يشددون في ذلك جدًّا، كما تراه في باب القرض من "الشرح الكبير" وغيره من كتبهم. هذا مع أن الصورة المتقدمة لم يتمحض العقد فيها لأن يكون في المعنى سلفًا ورهنًا؛ لأنه لم يشترط ردّه عليه مطلقًا، ولا اشترط أن يتأبد حق الاسترداد حتى بعد موتهما، ولا اشترط أن يرده له بمثل الثمن الذي دفعه، بل اشترط أن المشتري إذا أراد بيعه فالبائع أحق به بالثمن الذي يريد المشتري أن يبيع به. فإذا كان هذا عند سحنون سلفًا جرّ منفعةً، فما بالك ببيع الوفاء؟ وفيه اشتراط الرد مطلقًا مؤبدًا بمثل الثمن المدفوع، فقد انسلخ هذا العقد عن حقيقة البيع في المعنى إلى حقيقة السلف والرهن على شرط أن ينتفع المرتهن بالمرهون. وبالجملة فمن تدبَّر مذهب مالك رحمه الله ورأى إمعانه في سدِّ الذرائع، ولا سيما ذرائع الربا، والتفاته إلى المعاني، واهتمامه بإبطال الحيل، وذهابه إلى وجوب معاقبة الخارج عن طريق الشرع بنقيض قصده، لا يسعُه إلا الجزم بما قاله الزرقاني. فمن مذهب مالك رحمه الله أن المطلقة في مرض الموت ترث، ولو لم ¬

_ (¬1) (6/ 129) ط. دار الكتب العلمية.

يمت الزوج حتى انقضت عدتها، وتزوجت بعدة أزواج، وقال: إن الرجل إذا تزوج امرأة في عدتها فرق بينهما، ثم لا يحلُّ به نكاحها أبدًا عقوبةً له على استعجاله. أقول: وإذ قد عُلِم أن المقصود في بيع الوفاء إنما هو أن يقضي البائع حاجته بالثمن، وأن ينتفع المشتري بالمبيع حتى يرجع له الثمن، وتلك حقيقة الربا، كما أفاده ما مرَّ عن سحنون، فلا خفاء أنه إذا قضى للمشتري بالغلة حصل مقصود المرابين، وأدى ذلك إلى انهماكهم في هذه المعاملة الخبيثة، ولا سيما في هذه الأزمان التي لم يعد يكفي لزجر الناس أن يقال لهم: هذا العقد حرام، وعدم إبطاله حرام، وانتفاع المشتري بالمبيع حرام، فإنهم يقولون: حرام في حرام في حرام، ولكن الحكام لا يتمكنون من منعنا من مقصودنا، بل يحكمون لنا بالغلات، فأهلًا وسهلًا بالحرام إذا كان يقضي به الحكام. هذا، وفي مذهب مالك كثير من جواز عقوبة الحاكم للمعتدين، حتى جوز إتلاف المال المغشوش، ونحو ذلك. بقي أن يقال: فما يصنع الزرقاني بقاعدة الخراج بالضمان؟ أقول: أما إن كان يرى أن هذا العقد يكون سلفاً ورهنًا - كما يأتي عن الحنفية، وهو المعنى المعقول المعروف بين الناس كما سيأتي - فلا إشكال؛ لأن الرهن غير مضمون. وإن كان يرى أن المبيع يكون في ضمان المشتري، فلعله يقول: إن قاعدة الخراج بالضمان قد عارضتها قاعدة سدّ الذرائع، وقاعدة العقوبة بنقيض القصد.

فإن قيل: ولماذا تختص العقوبة بالمشتري مع أنهما جميعًا شريكان في الإثم؟ قلت: يمكن أن يقال: إن الغالب على البائع أن يكون محتاجًا. على أنه إذا جعل رهنًا - كما هو معنى هذه المعاملة في الحقيقة - فليس هناك عقوبة، بل هناك صورة عقوبة عليهما معًا، فعقوبة المشتري حرمانه من الغلة، وعقوبة البائع حرمانه من أن يكون المبيع في ضمان المشتري. ونكون بهذا الحكم قد رجعناهما إلى ما شرعه الله لهما مما أرادا أن يفرا منه. والله المستعان. وفي حاشية الدسوقي في النذر بعد قول المتن والشرح: "" (إنما يلزم به) أي النذر (ما ندب) " ما لفظه: "يعني مما لا يصح أن يقع إلا قربةً، وأما ما يصح وقوعه تارةً قربة، وتارةً غيرها، فلا يلزم بالنذر، وإن كان مندوبًا، كالنكاح والهبة" (ج 2 ص 144). هذا، وما تقدم عنهم من أن التبرع بالوعد بعد العقد لا يضر، ويستحب الوفاء به، شرطه عندهم أن يكون تبرعًا محضًا. قال الباجي: "مسألة: وأما إن تطوع المبتاع بعد كمال العقد، وملكه للمبيع، فقال أصبغ: إذا سلما من مداهنة أو مواعدة فذلك جائز". "المنتقى" (ج 4 ص 211) (¬1). فأما إذا كان للمشتري عادة أن من باع له مثل هذا البيع يعده بالإقالة، فإن مالكًا نصَّ في ما يشبه هذا بأن العادة بمنزلة الشرط في صلب العقد. انظر ¬

_ (¬1) (6/ 131) ط. دار الكتب العلمية.

"المنتقى" (ج 5 ص 96 - 97). وقاعدة "الخراج بالضمان" أصلها حديث صحَّحه جماعة، وضعَّفه البخاري وأبو داود؛ لأن في سنده مسلم بن خالد الزنجي، وهو ضعيف، ومع ذلك ففيه أن مورده في الرد بالعيب أن رجلاً اشترى غلامًا، ثم بعد مدة اطلع فيه على عيب، فقضى النبي - صلى الله عليه وسلم - بردّه، فقال المقضيُّ عليه: قد استعمله. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الخراج بالضمان" (¬1). وقد تقرر في الأصول أن المحلى بـ "ال" لا يعم إلا إذا لم يتحقق عهد، والعهد ههنا متحقق، وعليه فالمراد: الخراج الذي تطالب به بالضمان الذي كان على المشتري. نعم يقاس على هذا ما في معناه. والمشتري بالبيع الفاسد ليس في معناه؛ لأن الأول نشأ ضمانه عن وضع يده بحق مأذون فيه شرعًا، وليس الأمر في البيع الفاسد كذلك؛ لأن العقد فيه حرام، وتأخير بعضه حرام، وانتفاع المشتري فيه حرام. والله أعلم. وأما غير مالك ممن قال بوجوب الوفاء بالوعد، فلا يجوز التمسك بقولهم حتى يعلم تفصيل مذهبهم، وسيأتي شيء من ذلك عن بعض متأخري الحنفية. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (3510) والترمذي (1286) وابن ماجه (2243) من حديث عائشة رضي الله عنها. قال أبو داود: هذا إسناد ليس بذاك، ونقل الترمذي عن البخاري تضعيفه. وصححه ابن حبان (1125، 1126 - موارد) والحاكم في "المستدرك" (2/ 15)، ووافقه الذهبي.

وأما قول صاحب القلائد: "للضرورة في الحاجة إلى الثمن .. "، فسيأتي البحث فيه إن شاء الله تعالى. [ص 23] رأي الحنفية في كتب الحنفية خبط شديد في هذه المعاملة، ويسمونها بيع الوفاء، فأكثرهم على أنه قرض ورهن، فالذي سُمّي ثمنًا قرض، والذي سُمّي مبيعًا رهن، وليس لمن يسمى مشتريًا شيء من المنافع والفوائد، وإنما هو رهن بكل معنى الرهن. قال صاحب "جواهر الفتاوى" منهم: "وهو الصحيح". وفي " [حاشية] الدر المختار" (¬1): "قال السيد الإمام: قلت للإمام الحسن الماتريدي: قد فشا هذا البيع بين الناس، وفيه مفسدة عظيمة، وفتواك أنه رهن، وأنا أيضًا على ذلك، فالصواب أن نجمع الأئمة ونتفق على هذا وتُظهِره بين الناس، فقال: المعتبر اليوم فتوانا، وقد ظهر ذلك بين الناس، فمن خالفنا فليُبرِز نفسه، وليُقِمْ دليله" اهـ. قلت (¬2): وبه صُدِّر في "جامع الفصولين"، فقال رامزًا لفتاوى النسفي: البيع الذي تعارفه أهل زماننا احتيالًا للربا، وسموه بيع الوفاء، هو رهن في الحقيقة ... لا فرق عندنا بينه وبين الرهن في حكم من الأحكام" (ج 4 ص 274) (¬3). ¬

_ (¬1) "حاشية ابن عابدين" (5/ 276). (¬2) القائل هو ابن عابدين. (¬3) "حاشية ابن عابدين" (5/ 276) ط. دار الفكر.

وقال جماعة منهم: هو بيع فاسد، وللبيع الفاسد عندهم أحكام؛ منها: أنه حرام، فيجب على كل منهما فسخه، فإن لم يبادرا إلى ذلك أجبرهما القاضي، ومع ذلك يقولون: إذا قبض المشتري المبيع برضا البائع ملكه ملكًا خبيثًا حرامًا، فلا يحل له أكله ولا لبسه، ولا وطؤها إذا كانت أمة، وله أن يبيعه، أو يهبه، أو يعتقه، أو يَقِفَه، وغير ذلك من التصرفات، فإن تلف المبيع أو تعذر رده (وتفصيل ذلك في كتبهم) ضمنه المشتري للبائع بقيمته يوم قبضه، وإذا لم يتلف ولم يتعذر رده وجب رده للبائع مع زوائده المنفصلة كالولد، ومثله الثمرة ونحوها. فإن أتلف المشتري المبيع ضمنه، وردَّ الزوائد المنفصلة، وإن أتلفها ضمنها. وبقية التفصيل في كتبهم. وفي كتبهم أقوال أخر، في بعضها: أنه بيع باتٌّ، ولا رجوع للمشتري، وفي بعضها: أنه يصح، ويملك المشتري الانتفاع بالمبيع، ولا يملك التصرف في رقبته، بل متى طلب المشتري الفسخ فسخ، ثم قيل: إنه ينقطع ذلك بالموت، وقيل: لا ينقطع. ولكن هذه الأقوال صُرِّح في بعضها بأنها خاصة بما إذا كان عقد البيع سالمًا عن الشرط، وإنما تواطآ على ذلك، أو وقع الوعد بعد العقد. وبالجملة فالخبط شديد، وتحرير المسألة على أصول مذهبهم: أن الشرط إذا وقع في صلب العقد، ومنه أن يقال: بيع وفاء أو عهدة، وقد علما معناه، ففيه احتمالان: الأول: أن ينظر إلى المعنى، فيجعل رهنًا، وهذا هو الذي عليه أكثرهم، وبه يصدرون في كتبهم، قال في "البزازية": "ذكر صاحب المنظومة في

فتاواه أنه رهن في الحقيقة، لا يملكه المشتري، ولا ينتفع به إلا بإذن البائع، ويضمن ما أكل من نزله، وأتلف من شجره، ويسقط الدين بهلاكه، ولا يضمن ما زاد كالأمانة، ويسترد عند قضاء الدين؛ لأن الاعتبار بأغراض المتعاقدين، فإن البائع يقول: رهنتُ ملكي، والمشتري يقول: ارتهنتُ ملكه ... ". هامش "الهندية" (ج 4 ص 443) (¬1). الاحتمال الثاني: أن ينظر إلى لفظ "ب ي ع" فيقال: هو بيع بشرط، ومن المقرر في مذهبهم أن البيع إذا وقع بشرط لا يقتضيه العقد ولا يلائمه، ولم يجْرِ العرف العام به، ولا ورد الشرع بجوازه، فالبيع فاسد. ومثَّلوا له بشرط المشتري للثوب أن يفصله البائع أو يخيطه، وشرط بائع العبد أن يبقى على خدمته شهرًا، أو أن لا يخرجه المشتري عن ملكه، ونحو ذلك. أقول: والاحتمال الأول هو الظاهر، فإن سلفهم قالوا: إذا وقع البيع بشرط، وظاهر ذلك أن يكون البيع موجودًا حقيقةً، لفظًا ومعنًى، وإنما وقع شرط لا يلائمه، ولكنه لا يُبطِل حقيقته، ويُدخِله في حقيقة أخرى، وأمثلتهم تبين ذلك. وبيع الوفاء ليس من هذا، فإنه وإن وجد فيه البيع لفظًا، فليس بموجود حقيقةً ولا معنًى؛ لأن الشرط الذي فيه قد أخرج البيع عن حقيقته، وألحقه بحقيقة الرهن مع شرط انتفاع المرتهن به. [ص 24] وأما إذا كانا تواطآ على هذا [المعنى] ثم تبايعا ولم يذكرا في العقد شرطًا، فملخص مذ [هبهم] في المواطأة المتقدمة للعقد أنه إذا اتفق ¬

_ (¬1) (4/ 405) طبعة دار الفكر.

المتعاقدان أنهما بنيا العقد على ما تواطآ عليه كان ذلك في حكم وقوع الشرط في صلب العقد، وإن اتفقا على أنهما أعرضا عما كانا قد تواطآ عليه قبل أن يعقدا، وعقدا بعد الإعراض فلا أثر للمواطأة، وإن قالا: لم تحضرنا نيةٌ حالَ العقد، لا على بنائه على المواطأة، ولا على عدم ذلك، ففيه خلاف. فنُقِل عن الإِمام: أنه لا أثر للمواطأة. وقال صاحباه: بل لها أثرها حتى يتحقق الإعراض عنها، وكذا إذا اختلفا، فقال أحدهما: أعرضنا عن المواطأة، ولا بينة، أو قال: لم تحضرني نية. وخالفه الآخر فيهما. فعلى المنقول عن الإِمام أن القول قول مدعي الإعراض أو الذهول. وقال صاحباه: قد ثبتت المواطاة، فلا يزول حكمها إلا ببيان واضح، والمرجح عند الحنفية هنا هو قول الصاحبين. وإذا لم تكن هناك مواطأة ولا شرط في صلب العقد، ولكن كانت نيتهما حالَ العقد أنه على ذلك الشرط، أفتى بعض الحنفية بأنه لا التفات إلى النية إذ لا مواطأة ولا شرط، وخالفه آخرون. وإذا لم يكن شيء مما ذكر، ولكن وقع الشرط بعد العقد، ففي هذه أيضًا خلاف، فعن الإِمام: أنه يلتحق بالعقد، كأنه وقع في صلبه، وعن الصاحبين: لا يلتحق. وقول الصاحبين هو الأصح عندهم. أقول: والمعقول أن شرط العهدة والوفاء حيث حكم بأنه مؤثر في العقد، كان حكمه كما لو وقع في صلب العقد، وقد تقدم حكمه. وإن حكم بأنه غير مؤثر في العقد، فالشرط لاغٍ لا حكم له البتةَ. ولكن قال بعضهم: إن ذكر البيع بلا شرط ثم ذكر الشرط على وجه المواعدة جاز البيع، ولزم الوفاء، وقد يلزم الوعد فيجعل هنا لازمًا لحاجة الناس إليه.

أقول: أما الحاجة فسيأتي البحث عنها، وأما لزوم الوعد فيحتاج إلى معرفة ضابط الوعد الذي يلزم عندهم، حتى ينظر: أيدخل هذا فيه أم لا؟ قال في " [حاشية] الدر المختار": "قال في "البزازية" في أول كتاب الكفالة: إذا كفل معلّقًا، بأن قال: إن لم يؤدِّ فلان فأنا أدفعه إليك ونحوه، يكون كفالة لما علم أن المواعيد باكتساء صور التعليق تكون لازمة، فإن قوله: "أنا أحج" لا يلزم به شيء، ولو علَّق وقال: إن دخلت الدار فأنا أحج، يلزم الحج" (ج 4 ص 275) (¬1). أقول: ظاهر استدلاله بمسألة الحج أن قوله: "المواعيد باكتساء صور التعليق تكون لازمة" ليست قاعدة مقررة في المذهب، وإنما أراد أن يستنبطها من هذه المسألة. إذا اتضح هذا ففي "البزازية" من كتبهم في باب النذر: "إن عُوفيتُ صمتُ كذا، لم يجب ما لم يقل: لله عليّ. وفي الاستحسان يجب، وإن لم يكن تعليقًا لا يجب قياسًا واستحسانًا، كما إذا قال: أنا أحج فلا شيء، ولو قال: إن فعلت كذا فأنا أحج، ففعل يجب عليه الحج. وإن سلم ولدي أصوم ما عشت، فهذا وعد". هامش "الهندية" (ج 4 ص 314) (¬2). ونقله في "الدر المختار" في باب النذر أيضًا (ج 3 ص 76) (¬3). [ص 25] وتحقيق المقام عندهم لا يكون إلا بالنذر والدالّ عليه، كما نقله ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (5/ 277) ط. دار الفكر. (¬2) (4/ 272) ط. دار الفكر. (¬3) حاشية ابن عابدين (3/ 740) ط. دار الفكر.

في "الدر" (¬1) عن "شرح الدرر" أن المدار عندهم على دلالة الصيغة على النذر، فإذا لم تكن دالة عليه فلا لزوم، وإن دلت عليه دلالة ظاهرة لزم، وإن احتملت فالقياس لا يلزم، وفي الاستحسان يلزم. فقوله: "إن عوفيتُ صمتُ" يحتمل أن يكون إخبارًا منه بأن سيصوم إذا عوفي، فيكون وعدًا لا يجب الوفاء به. ويحتمل أن يكون إنشاء على سبيل النذر، فيجب الوفاء به، فقالوا: القياس لا يلزمه، كأنه لأن الأصل براءة الذمة، وألزموه استحسانًا لقوة الاحتمال. وقوله: "إن سلم ولدي أصوم ما عشتُ، فهذا وعد" لأنه رفع الفعل، وهو قوله: "أصوم" فكان ظاهرًا في الإخبار، فهو وعد لا يلزم، ومثله لو لم يكن تعليق، كأن قال: سأصوم يومًا. فأما قوله: "كما إذا قال: أنا أحج، فلا شيء، ولو قال: إن فعلت كذا فأنا أحج، ففعل يجب عليه الحج". فواضح أن قوله ابتداء: أنا أحج، إخبارٌ محضٌ، فهو وعدٌ لا محالةَ، وقوله: إن فعلت كذا فأنا أحج، ظاهرٌ في النذر. فليس المدار على صورة التعليق، وإنما المدار على ظهور الصيغة في النذر فيلزم، أو احتمالها له احتمالًا مساويًا، فلا يلزم قياسًا، ويلزم استحسانًا. إذا تقرر هذا فاعلم أن الصيغة التي يطلقها المشتري بعد العقد لا تلزم على مذهبهم أصلَا؛ لأنها إن كانت ظاهرةً في الوعد فقد علمت أن ذلك لا يلزم في مذهبهم، وإن وجدت صورة التعليق، وإن كانت محتملة أو ظاهرة ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (3/ 740).

في النذر أو نذرًا صريحًا، فلا تلزم على مذهبهم أيضًا؛ لأن من أصلهم أنه لا يجب بالنذر إلا ما كان عبادة مقصودةً من جنسه فرض بأصل الشرع. وفي "الدر" عن "البدائع": "ومن شروطه أن يكون قربةً مقصودةً، فلا يصح النذر بعيادة المريض، وتشييع الجنازة، والوضوء، والاغتسال، ودخول المسجد، ومس المصحف، والأذان، وبناء الرباطات والمساجد". "الدر المختار" (ج 3 ص 73) (¬1). وفي "تنوير الأبصار" (¬2): "ولم يلزم ما ليس من جنسه فرض، كعيادة مريض، وتشييع جنازة، ودخول مسجد". إذا علمت هذا فكلا الشرطين منتفٍ في رد المبيع بيعًا صحيحًا [باتًّا] على المشتري؛ إذ ليس قربةً مقصودةً، والدين جنسه قرض. وفوق هذا فهو ذريعة إلى الربا كما لا يخفى، فقد يطمع الرجل في أن يرتهن أموال الناس وينتفع بها، فيجري عادته على أن كل من أجري معه صورة بيع بلا مواطأة ولا شرط، والثمن أقل من ثمن المثل، ينذر له بأن يقبله إذا طلب صاحب المال على أن يجري مع هذا الرجل صورة بيع بلا مواطأة ولا شرطٍ ثقةً بأنه سينذر له، علمًا بأنه لا يسعه إلا النذر؛ لأنه إن لم ينذر تسامع الناس بذلك فامتنعوا من معاملته، فتفوته منافع كثيرة. فعلى هذا يكون هذا النذر وصلةً إلى الربا، ويصير الشرط واقعًا في العرف والعادة، فهو في معنى الواقع في صلب العقد. ¬

_ (¬1) "حاشية ابن عابدين" (3/ 735). (¬2) (3/ 736) مع "الدر المختار" وحاشيته.

وأما مسألة الكفالة: إن صحت فوجهها أن العبارة المذكورة صارت بسبب التعليق محتملةً احتمالًا قويًّا للالتزام، والالتزام الذي يكون معناه كفالة يلزم كلزوم الكفالة، وأما التزام الإقالة فإنما يكون من جهة النذر، وقد علمتَ ما فيه. والله أعلم. [ص 26] وقد توسع بعض الحنفية فأطلق أن الواقع بعد العقد يكون حكمه حكم الوعد، وإن كان خارجًا مخرج الشرط. وفي كلام بعضهم ما قد يفهم منه أن المواطأة قبل العقد تعطي هذا الحكم، وقد يؤخذ من إطلاق بعضهم أنه يحكم بمثل ذلك ولو كان الشرط في صلب العقد. وعلى كل حال فقد صرح بعضهم أن تجويز بيع الوفاء ممن جوزه في أي صورة كانت إنما هو استحسان من المتأخرين. قال في "البزازية" في أثناء [البحث] في هذا البيع: "ولهذا لم يصح بيع الوفاء في المنقول، وصح في العقار باستحسان بعض المتأخرين". "هامش الهندية" (ج 4 ص 447) (¬1). أقول: واستحسان بعض المتأخرين إنما هو مبني على زعم أن الحاجة داعية إليه، وأوضح ذلك في "البزازية" نقلاً عن الفخر الزاهد قال: "وجعلناه كذلك لحاجة الناس إليه فرارًا من الربا، فبلْخ اعتادوا الدين والإجارة، وهي لا تصح في الكَرْم، وبخارى الإجارة الطويلة، ولا يمكن تلك في الأشجار، فاضطروا إلى بيعها وفاءً، وما ضاق على الناس اتسع حكمه". "هامش ¬

_ (¬1) (4/ 490) ط. بولاق.

فصل

الهندية" (ج 4 ص 446) (¬1). أقول: فقد آل خلاف هؤلاء المتأخرين من الحنفية إلى ما آل إليه خلاف المتأخرين من الحضارمة الشافعية، وهو دعوى احتياج الناس واضطرارهم إلى هذه المعاملة الربوية، فلنبحث عن هذه الضرورة، وعن حكمها. فصل أما الضرورة التي تحلُّ معها المحرَّمات، فليس منها عين ولا أثر، وإنما هوَّل بها هؤلاء القوم تهويلاً، فإن الرجل الذي يرضى أن يأخذ العقار بهذه المعاملة بألف مثلاً، فيكون على خطر أن يستردَّها بائعها بعد قليل، معٍ تعريضه نفسه للإثم، لا يُعقل أن يمتنع من شرائها بأكثر من ألفٍ شراءً باتًّا يعلم معه أن الأرض تصير ملكه وملك ورثته قطعًا، وأنه مع ذلك لم يرتكب حرامًا ولا شبهةً. وما هوَّل به صاحب "القلائد" من أن المالك لا يجد راغبًا في الأرض إلا بغبنٍ كثيرٍ، فيه أمور: الأول: أن الضرورة المعتبرة شرعًا - كالضرورة إلى القوت - مفقودةٌ في البلاد التي يتعاملون فيها بهذه المعاملة أو نادرةٌ، والنادر لا يكون مسوغًا لحكم عام. الأمر الثاني: أن هذا الذي ادَّعاه من قلة الرغبة غير معروف في العادة، فإن عادة الناس في كل أرض هي الحرص على شراء العقار بثمن المثل وأزيد. ¬

_ (¬1) (4/ 408).

نعم إن ثمن المثل يزيد وينقص، فقوله: "بغبن كثير" إن أراد بالنسبة إلى ثمن المثل في الزمان والمكان فمردود، فإن وقع فنادرًا، والنادر لا يكون مسوِّغًا لحكم عامّ، وإن أراد بالنسبة إلى ما يطلب البائع من الثمن، فلا التفات إلى ذلك. الأمر الثالث: أنه على فرض أن ما قلنا: إنه نادر هو واقع بكثرة، فمن أين لكم أن من اضطر إلى القوت ولم يقرضه أحد، وعنده قطعة أرض ثمنها ألف، فعرضَها فلم يرغب فيها أحد إلا بخمسمائة، أنه يكون مضطرًّا تحلُّ له المحرمات، ولا يبيع أرضه بخمسمائة؟ وأين في الشريعة هذا؟ الأمر الرابع: أنه لو فرضنا أن هناك حجةً شرعية على هذا، لما كان ذلك مسوِّغًا لأن تجعلوا هذا حكمًا عامًّا للمضطر إلى القوت وغيره، ولمن لا يجد راغبًا إلا بغبن فاحش، ومن يجد راغبًا بثمن المثل وأكثر منه، بل يُناط الحكم بتحقق هذا المعنى، أعني الاضطرار مع عدم وجود راغب [ص 27] إلا بغبن فاحش، فيرخص لمن كان كذلك فقط. الأمر الخامس: أن الرخصة - على فرض جواز القول بها - إنما تتصور في حق المالك، فما بالكم رخَّصتم للمشترين، ونفَّذ حُكَّامكم لهم هذه المعاملة؟ فإن قالوا: لو لم تُنفَّذ لهم الحكام ذلك امتنعوا عن المعاملة به، فيتضرر المضطرون. قلت: فقد كان عليكم أن تعلنوا بحرمة ذلك، وإثم الآخذ به، وإنكم مع ذلك لا تُبطِلون المعاملة إذا تحقق اضطرار البائع.

فإن قالوا: إذا أعلنَّا بحرمته خشينا أن يمتنع الناس عنه، فيتضرر المضطرون. قلت: يمكنكم دفعه بكثرة الترغيب في إقراض المضطر مع التوثق منه برهن، فإن الناس إذا كان عندهم من الإيمان ما يَكُفُّهم عن الحرام الذي لا يعارضهم فيه الحكام، فمثل هذا الإيمان يكفي للرغبة في إقراض المضطر مع التوثق منه برهن إذا بالغ المشهورون بالعلم والصلاح في الترغيب فيه. وقد قال صاحب "القلائد" (¬1) ما لفظه: "فلو شرط (يعني المشتري بالعهدة) أنه لا يفكُّ إلا بعد سنتين، أو أقل أو أكثر ... وقد عمل به بعض وكلاء شيخنا إمام الوجود عبد الله بن عبد الرحمن بافَضْل في شراء عُهدةٍ له، وهو عالم بذلك، فقرره، وأنا ممن شهد ذلك". هكذا هكذا وإلا فلا لا (¬2) إذا كان ربُّ الدارِ بالدفِّ ضاربًا ... فحُقَّ لأهل الدارِ كلِّهم الرقصُ (¬3) وأما ما قاله الفخر الزاهد الحنفي: "إن أهل بلخ اعتادوا الدَّين والإجارة، وهي لا تصح في الكَرْم، وأهل بخارى اعتادوا الإجارة الطويلة، ولا تصحُّ في الأشجار، فاضطروا إلى بيعها وفاء". ففيه أن هذا لا يكفي لتحقيق الضرورة، فإن من اعتاد أن يعامل معاملة، ¬

_ (¬1) "قلائد الخرائد" (1/ 317 - 318). (¬2) شطر بيت للمتنبي في "ديوانه" (3/ 254)، وصدره: ذِي المعالي فلْيَعْلُوَنْ مَن تَعالىَ (¬3) البيت لسبط ابن التعاويذي في "ديوانه" (ص 247).

ثم لم تمكنه تلك المعاملة في بعض الأشياء لا يُعدُّ مضطرًّا. ولو فُرِض تحقق الضرورة، فكان ينبغي تجويز الإجارة التي اضطروا إليها، وفوق ذلك فهذه الضرورة ليست بعامة، فما بالكم عمَّمتم جواز بيع الوفاء في جميع الأشخاص وجميع البلدان. وبعد، فلو جاز الربا لمثل هذه المعاذير، لزم مثله في سائر أحكام الشريعة. فقال قائل: لا بدَّ من تجويز الربا في القرض والدين؛ لاحتياج الناس إلى الاستقراض والمهلة في الدين، ولا يجدون من يُقرِضهم أو يُمهِلهم بدون فائدة. وقال قائل: لا بدَّ للحكومات الإِسلامية من تجويز البِغاء الرسمي؛ لأن الناس لا ينتهون عن الزنا، فإذا لم يكن هناك بغاء رسمي اضطروا إلى إفساد البيوت، والزنا بالمبتليات بالأمراض الخبيثة، وكذا الحمل من الزنا، وضياع الأطفال، أو قتلهم، ومفاسدُ ذلك أعظم جدًّا من مفاسد البغاء الرسمي. وقال ثالث: بجواز ترك الصيام؛ لأنه يؤدي إلى خلل في الأعمال التجارية والصناعية والحكومية، والخلل في هذه الأعمال في هذا العصر مفسدة عظيمة. وقال آخر: وعلى هذا القياس يجوز ترك الجُمَع والجماعات، وتأخير الصلوات عن أوقاتها. وقال آخر: فالحج أولى من ذلك. وعلى هذا المنوال ...

الحاجة

الحاجة يقولون: إننا وإن عبَّرنا بالضرورة، فلسنا نريد الضرورة المتعارفة، وإنما أردنا الحاجة. وقد عُهِد من الشريعة استثناءُ صورٍ من التحريم مع وجود علة التحريم فيها، ولكن لأن الحاجة تدعو إليها، وقد مثَّل العلماء لذلك بالقرض في الأموال الربوية، فإنه في المعنى بيع الربوي بمثله نسيئةً، وكذلك السلم مع أنه بيع مجهول، وكذلك الحوالة مع أنها بيع دينٍ بدين، في أمور أخرى كالعرايا وغيرها، ولم يُشترط في شيء من ذلك تحقق ضرورة ولا حاجة، بل أطلق صحتها ولو كانت لغير حاجة، وعروض الحاجة إلى بيع العهدة لا تقلُّ عن الحاجة لبعض هذه المعاملات، إن لم تزد على بعضها. [ص 28] الجواب نقول نحن: أيَّ حاجة تريدون؟ يقولون هم: حاجة صاحب الأرض إلى النقد لقُوته وقوتِ أهله، أو ليتزوَّج، أو يزوِّج أحد بنيه، أو ليسافر سفرًا احتاج إليه، أو ليعمر بيته إذا انهدم، أو لغير ذلك. نحن: وهل كان هذا الاحتياج يَعرِض لمُلَّاك العقارات في العهد النبوي وما بعده إلى أن اخترع هذا البيع؟ هم: نعم! نحن: فما بال الشريعة لم تعلن بجواز بيع الوفاء لمُلَّاك العقارات؛ لسدّ هذه الحاجة، وهكذا الصحابة والتابعون والأئمة المجتهدون ومن بعدهم،

حتى نشأ القول به أخيرًا؟ هم: كان مستغنًى عنه بإمكان الاستقراض، وبعد تلك القرون قَلّت رغبة الناس عن (¬1) الإقراض. نحن: وإمكان البيع الشرعي! هم: إمكان البيع الباتّ لمن يؤثره على الاستقراض، والاستقراض لمن لا يريد البيع الباتّ، إذا كان يرى البيع ضارًّا به. نحن: وهل كان المستقرض يستقرض ويؤدي؟ هم: نعم. نحن: فكيف كان يصنع إذا لم يمكنه الأداء إلا ببيع أرضه؟ هم: (يتحيرون). نحن: أليس كان يضطر إلى بيعها، وإذا لم يبعها باعها القاضي جبرًا، كما قررته الشريعة، وأثبته العلماء في كتبهم في بيع الرهن، وبيع أموال المفلس، وعقدوا لكل من ذلك بابًا؟ هم: بلى، ولكن كان يقلُّ وقوع مثل هذا؛ لرغبة الناس في الإنظار. نحن: إنما كانوا يرغبون في الإنظار الذي أمرهم الله تعالى به، لقوله سبحانه: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280]. ومالك العقار ليس بمُعْسِر، وقد باع النبي - صلى الله عليه وسلم - أموال معاذ، ومعاذ معاذ. هم: لم يكن يقع ذلك كثيرًا، وكان الراهن أو المفلس إذا ضايقه غرماؤه ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، والصواب: "في".

ليبيع أرضه وجد في المسلمين من يُقرِضه ما يؤدي به دينه، ويُنظِره. نحن: ولم يزل الناس إلى الآن يُقرِضون ويُنظِرون، وإنما قلَّ ذلك لأمور: أولها: قلة الأمانة في المستقرض، فغالب الناس الآن إذا ظفر أحدهم بمن يُقرِضه عدَّ ذلك القرض غنيمة، فبدلَ أن يهتمَّ بقضائه يهتمُّ بمماطلته، وقد كان يقع مثل هذا قديمًا، ولذلك قيل في المثل القديم: "الأخذ سُرَّيْطَى والقضاء ضُرَّيْطَى" (¬1). ولكن وقوعه الآن - ولا سيما في المسلمين - أكثر، بل لا تكاد تجد ذلك إلا في المسلمين. الثاني: أن الشريعة سدَّتْ أبوابَ الربا؛ لتيسير القرض، فكثير من الناس يكون لديه مال زائد عن حاجته في الحال، ولا يريد أن يتجر فيه، فإذا سُدَّت عليه أبوابُ الربا، لم يبق أمامه إلا أن يَكْنِزه أو يُقرِضه، والإقراض خير له وأنفع، كما قدَّمنا في فوائد المقرض. فلما فتح قِصارُ النظر من الفقهاء أبواب الربا بالحيل والمعاذير، ومن جملة ذلك هذا البيع الذي نحن بصدده، عزَّتْ رغبةُ الناس في الإقراض، فكان - سابقًا - مَن بيده مالٌ لا يريد أن يتجر فيه محصورًا بين أن يكنزه أو يُقرِضه قرضًا شرعيًّا، وقد قدمنا الفوائد التي تحمله على ترجيح الإقراض. ¬

_ (¬1) انظر "لسان العرب" و"تاج العروس" (سرط)، وفي ضبطه أوجه. والمعنى: يأخذ الدَّين ويبتلعه، فإذا طولب للقضاء أو تقاضاه صاحبه أضرطَ به، أي عمل بفيه مثل الضراط.

فلما فُتِح لهم باب الربا وجدوا طريقًا ثالثًا هو أنفع لهم في دنياهم من الإقراض الشرعي. [ص 29] الثالث: أن المسلمين فتحت لهم أبواب كثيرة للإنفاق، وأكثرها مما شرعه المنسوبون إلى العلم والصلاح، وأفهموا العامة بأنه من الدين والإيمان، ولم يزالوا يُربُّون ذلك في أذهان العامة حتى رسخ في أذهانهم أنه أهم من أركان الإِسلام، وذلك كالموالد والحضرات وزيارات الأولياء وأحوالهم، وعمارة قبورهم، والنذور لها، والولائم التي يقيمها أهل الميت ثالثَ موتِه، ولتمام الأربعين، وبعضهم يكررها كل عام، والإنفاق على من ينتسب إلى الصلاح والتصوف، وإن كان قويًّا قادرًا على الاكتساب، ومُسرِفًا مبذِّرًا، يجمع حوله جماعةً من البطَّالين، ويعيشون معه عِيْشَةَ المترفهين، ونفقتهم على العمَّال الضعفاء. ولو أنك أحصيتَ نفقةَ المسلم المتوسط في الهند لعشر سنوات مثلًا، لوجدتَ نصفَها أو أكثرَ صُرِفَتْ في هذه المصارف. ويضاف إلى هذا تبذير المسلمين في غير هذه الأمور، كولائم النكاح، والتوسع في المأكل والملبس فوق الحاجة، وغير ذلك. فأصبح الطبقة الوسطى من المسلمين إذا استقرض أحدهم لا يكاد يستطيع الوفاء؛ لأن ما اكتسبه يَصرِفه في هذه (الفرائض المحتمة)، والأغنياء يعرفون ذلك، فيمتنعون من إقراض هؤلاء. الرابع: أن أولئك العلماء الذين أجازوا بيع العهدة هم أنفسهم يبخلون بأموالهم أن يُقرِضوها بغير نفع مادي، فإذا رآهم العامة قالوا: نحن أولى بذلك منهم.

وقد سمعتَ ما ذكره صاحب "القلائد" عن شيخه إمام الوجود، قد بَخِلَ إمام الوجود أن يُقرِض ذلك المحتاج قرضًا حسنًا، ويستوثق منه برهن أرضه رهنًا شرعيًّا، بل أخذها بالعهدة؛ ليفوز إمام الوجود بغلَّتها، ولم يكتفِ بذلك حتى شرط على الراهن أن لا يَفُكَّ الأرض حتى يحوزَ إمام الوجود غلَّتَها، لا أدري سنةً أو أكثر! فقل لي بربك، إذا كان هذا حال إمام الوجود، فكيف يرغب العامة الذين علموا هذا منه أن يعملوا خيرًا من عمله؟ فأما السبب الأول: فهو تقصيرٌ من المستقرضين يستطيعون تركه، وإذا اعتاد الرجل صفة قبيحة مذمومة شرعًا وعقلاً، فأثمرت له ضررًا ما، فليس من المشروع ولا المعقول أن تُبدَّل الشريعة وتُغيَّر لدفع الضرر عن هذا الرجل، فيحمله ذلك على الاستمرار على تلك العادة، ويحمل غيره على اعتيادها أيضًا. بل المشروع والمعقول أن العلماء إذا لم يبالغوا في التشديد عليه، فلا أقلَّ من أن يُقِرُّوا الشريعة على ما وردت، ويقولوا لهذا الرجل: أنت جلبتَ الضرر على نفسك بما اعتدته من تلك العادة الخبيثة. ومن المُشاهَد المعروف في كل بلاد: أن الرجل إذا عُرِف بالأمانة، وأداء ديون الناس، والحرص على ذلك، لم يكد يستقرض قرضًا حسنًا إلا ناله، وفي المثل العامي: "من أخذ وأدَّى شارك الناسَ في أموالهم". وأما الأسباب الأخرى: فهي كلها تقصير من العلماء وغيرهم، يستطيع العلماء السعي في إزالتها، فليس من المشروع ولا المعقول أن يُقِرُّوها على ما هي عليه، ويَدَعُوها تنمو وتفحش، ثم يَعْمِدوا إلى الشريعة فيبدَّلوها

ويغيِّروها؛ ليدفعوا ما ينشأ عنها من الضرر. [ص 30] على أن تجويز بيع الوفاء هو نفسه من جملة التقصير كما مر، فهو إن دفعَ الضررَ من وجهٍ، شدَّده من وجهٍ آخر. وأما المعاملات التي ذكروا أن علة التحريم موجودة فيها، وإنما أحلَّها الشارع للحاجة، فقد أجاب عنها صاحب "إعلام الموقعين"، وعروض الحاجة فيها ليس ناشئًا عن تقصير. وفوق هذا، فالمفاسد التي تترتب على تلك المعاملات خفيفة بالنسبة إلى المفسدة التي تترتب على منعها لو منعت، وليس الأمر ههنا كذلك، فإن المفاسد التي تترتب على بيع الوفاء شديدة، وقد تقدم بعضها، وأشدُّها أنه ربا في القرض. وقد شدَّد الشارع فيه أعظم التشديد، قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} إلى قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 275 - 279]. وفي الحديث: "الربا ثلاثة وسبعون بابًا، أيسرُها مثلُ أن ينكح الرجلُ أمَّه". صححه الحاكم وغيره (¬1)، وفي معناه أحاديث. ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم في "المستدرك" (2/ 37) والبيهقي في "الشعب" (5519) من =

ففي ما مرَّ: تخبُّط الشيطان، والخلود في النار، والمَحْق، والكفر، والإثم، وعدم الإيمان، ومحاربة الله ورسوله، ومثل أن ينكح الرجل أمه، وأشدّ من ذلك. والمفسدة التي تقابل هذا كلَّه إنما هي أن يحتاج صاحب الأرض إلى بيعها بتاتًا! على أن الشرع لم يَعُدَّ هذه مفسدةً، فلم تصرح الشريعة بكراهية ذلك، وبينت أن من اضطر إلى القوت وقدرَ أن يُحصِّله ببيع أرضه، أو يأكل الميتة، وجب عليه بيع أرضه، ولا تحل له الميتة. ومن كان له أرض يحصل بقيمتها ما يكفي لوجوب الحج، ولم يجد نفقة الحج إلا ببيعها، وجب عليه بيعُها. ومن حلَّ له دين، وكان للمدين أرض، وجب بيع الأرض، ولا يجب على الدائن الإنظار، وأمثال ذلك. وفي تجويز هذا البيع مفاسد أخرى، منها: أن صاحب الأرض قد يحتاج إلى نفقة غير ضرورية، وإنما هي تبذير وإسراف، فتطيب نفسه أن يبيعها هذا البيع طمعًا في أن يستطيع فكَّها عن قرب، ثم لعله تحصل له أموال فيُؤثِر إنفاقَها في الفضول، ويَدَعُ الأرض قائلاً: أنا أستطيع فكَّها متى أردتُ، وقد يبقى هكذا إلى أن يموت، فيصير البيع باتًّا على رأي، أو يبقى حق الفكِّ لورثته، ولعلهم يكونون أعجزَ منه. وإذا لم يجوّز هذا البيع، فإن هذا الرجل يضنُّ بأرضه أن يبيعها بيعًا باتًّا، ¬

_ = حديث ابن مسعود. وصححه الحاكم، وقال البيهقي: إسناده صحيح والمتن منكر بهذا الإسناد، ولا أعلمه إلاَّ وهمًا، وكأنه دخل لبعض رواة الإسناد في إسناده.

فصل

ويؤثر على ذلك أن يَكُفَّ عن فضول الإنفاق، وهذا خير له من الجهتين. ومنها: أنها لا تثبت الشفعة في هذا البيع على رأي، فيكون فيه حيلة لإبطال أحكام الله تعالى. وبالجملة فالحق على أهل العلم أن يحافظوا على الشريعة، ويردُّوا الناس إليها، أن يتركوا الناس يخرجون منها، ويساعدوهم على ذلك، بل ويحملوهم عليه، ثم إذا نشأ عن ذلك ضررٌ جعلوا التبعةَ على الشريعة، والغرامةَ عليها، فعادوا يُمزَّقونها، فيمزِّق الله تعالى دينَهم ودنياهم. نُرقِّع دنيانا بتمزيقِ ديننا ... فلا دينُنا يبقَى ولا ما نُرقِّعُ (¬1) [ص 31] فصل وهناك حيل أخرى على ربا القرض، والحق إبطالها كلها، فإذا أراد المسلمون أن يرجع لهم عزُّ دينهم ودنياهم فليأخذوا أنفسهم بجادَّة الشريعة، دون بُنيَّات الطريق. وفي الحديث: "إذا تبايعتم بالعِينة، وأخذتم أذنابَ البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلَّط الله عليكم ذلاًّ لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم". رواه أبو داود والإمام أحمد وغيرهما (¬2). ¬

_ (¬1) البيت لإبراهيم بن أدهم في "عيون الأخبار" (2/ 330) و"العقد الفريد" (3/ 176)، ولبعض المجَّان في "الحيوان" (6/ 506)، وبلا نِسبة في "البيان والتبيين" (1/ 260) و"العقد الفريد" (6/ 268). (¬2) أخرجه أبو داود (3462) والبيهقي في "السنن الكبرى" (4/ 316) من طريق عطاء =

ربا البيع

ربا البيع تواترت الأحاديث بالنهي عن بيع الذهب بالذهب، إلا مثلًا بمثل، سواءً بسواء، يدًا بيد، وهكذا الفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، وأن من زاد أو ازداد فقد أربى. وصح من عدة أحاديث جواز بيع الذهب بالفضة متفاضلًا نقدًا. وقال الدارقطني: ثنا محمَّد بن أحمد بن الحسن نا عبد الله بن أحمد نا هدبة بن خالد نا همام بن يحيى عن قتادة عن أبي قلابة عن أبي أسماء الرحبي عن أبي الأشعث الصنعاني. (قال قتادة:) وحدثنا صالح أبو الخليل عن مسلم (بن يسار) المكي عن أبي الأشعث أنه شهد خطبةَ عبادة بن الصامت قال: سمعته يقول: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُباع الذهب بالذهب، إلا وزنًا بوزن، والورق بالورق إلا وزنًا بوزنٍ، تِبْره وعينه، وذكر الشعير بالشعير، والبر بالبر، والتمر بالتمر، والملح بالملح، ولا بأس بالشعير بالبر يدًا بيد، والشعير أكثرهما يدًا بيد، فمن زاد أو ازداد فقد أربى". قال عبد الله: فحدثتُ بهذا الحديث أبي فاستحسنه. "سنن الدارقطني" (ص 296) (¬1). ¬

_ = الخراساني عن نافع عن ابن عمر مرفوعًا. وعطاء يَهِم كثيرًا ويرسل ويدلس. وأخرجه أبو يعلى (5659) والطبراني في "الكبير" (13585) والبيهقي في "الشعب" (10871) من طريقين عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر. وعطاء لم يسمع من ابن عمر. وأخرجه أحمد في مسنده (5007، 5562) من طريق أبي جناب عن شهر بن حوشب عن ابن عمر. وإسناده ضعيف لضعف أبي جناب وشهر بن حوشب. (¬1) (3/ 18).

أقول: محمَّد بن أحمد بن الحسن هو الدينوري، وعبد الله بن أحمد هو ابن الإِمام أحمد بن حنبل، وبقية السند على شرط الشيخين، وقتادة يدلِّس؛ إلا أنه صرَّح بالسماع من أبي الخليل. وقد أخرج أبو داود هذا الحديث من طريق همام عن قتادة عن أبي الخليل به. ولفظ أبي داود: "الذهب بالذهب: تِبْرها وعينها، والفضة بالفضة: تِبْرها وعينها، والبر بالبر مُدْيٌ بمُدْيٍ، والتمر بالتمر مُدْيٌ بمدْيٍ، والملح بالملح مُدْيٌ بمُدْي، من زاد أو ازداد فقد أربى، ولا بأس ببيع الذهب بالفضة والفضةُ أكثرُهما يدًا بيد، وأما نسيئةً فلا، ولا بأس ببيع البر بالشعير والشعير أكثرهما يدًا بيد، وأما نسيئة فلا". قال أبو داود: روى هذا الحديث سعيد بن أبي عروبة وهشام الدستوائي عن قتادة عن مسلم بن يسار بإسناده. "سنن أبي داود" (ج 2 ص 120) (¬1). وأخرجه النسائي (¬2) من هذه الطريق بنحوه إلى قوله: "فقد أربى"، ولم يذكر ما بعده. وأخرجه (¬3) من طريق ابن أبي عروبة عن قتادة عن مسلم بن يسار [عن أبي الأشعث الصنعاني] (¬4) عن عُبادة أنه قام خطيبًا فقال: "أيها الناس، إنكم قد أحدثتم بيوعًا لا أدري ما هي، ألا إن الذهب بالذهب ... ولا بأسَ - يعني - ¬

_ (¬1) رقم (3349). (¬2) (7/ 277). (¬3) سنن النسائي (7/ 276). (¬4) سقط من الأصل، والاستدراك من النسائي.

ببيع الفضة بالذهب يدًا بيد والفضة أكثرهما، ولا تَصلُح النسيئةُ، ألا إن البر بالبر، والشعير بالشعير مُدْيًا بمُدْيٍ، ولا بأس ببيع الشعير بالحنطة يدًا بيد، والشعير أكثرهما، ولا يصلح نسيئةً، ألا وإن التمر بالتمر مُدْيًا بمُدْيٍ، حتى ذكر الملح مدًّا بمد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى". وأخرجه أيضًا هو والإمام أحمد بسند على شرط الشيخين عن سلمة بن علقمة عن ابن سيرين قال: حدثني مسلم بن يسار وعبد الله بن عبيد قالا: جمع المنزل بين عبادة بن الصامت ومعاوية، حدثهم عبادة قال: نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الذهب بالذهب، والورق بالورق، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر - قال أحدهما: والملح بالملح، ولم يقله الآخر - إلا مثلًا بمثل، يدًا بيد، وأمرنا أن نبيع الذهب بالورق، والورق بالذهب، والبر بالشعير، والشعير بالبر، يدًا بيد، كيف شئنا. قال أحدهما: من زاد أو ازداد فقد أربى". "سنن النسائي" (ج 2 ص 221 - 222) (¬1)، "المسند" (ج 5 ص 320) (¬2). أقول: عبد الله بن عتيك، ويقال: ابن عبيد، وابن عتيق، ويدعى ابن هرمز، ذكره في "تهذيب التهذيب" (¬3)، فقال: "روى عن معاوية وعبادة بن الصامت، وعنه محمد بن سيرين، ذكره ابن حبان في الثقات" (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: سنن النسائي (7/ 274). (¬2) انظر: المسند (22729). (¬3) (5/ 312). (¬4) "الثقات" (5/ 36).

وأخرج الإِمام الشافعي عن عبد الوهاب الثقفي عن أيوب عن مسلم بن يسار ورجل آخر، ولفظه: "لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورِقَ بالورِقِ، ولا البر بالبر، ولا الشعير بالشعير، ولا الملح بالملح، إلا سواء بسواء، [ص 32] عينًا بعين، يدًا بيد، ولكن بيعوا الذهب بالورق، والورق بالذهب، والبر بالشعير، والشعير بالبر، والتمر بالملح، والملح بالتمر، يدًا بيد، كيف شئتم، ونقص أحدهما الملح أو التمر". "الأم" (ج 3 ص 12) (¬1)، و"مسند الشافعي" بهامش "الأم" (ج 6 ص 155) (¬2)، وزاد فيه: "قال أبو العباس الأصم: في كتابي: أيوب عن ابن سيرين، ثم ضرب عليه، يُنظر في كتاب الشيخ، يعني الربيع". أقول: وأخرجه البيهقي في "السنن" من طريق أبي العباس الأصم عن الربيع عن الشافعي، وفيه: "عن أيوب بن أبي تميمة عن محمد بن سيرين عن مسلم بن يسار ورجل"، وزاد بعد "ولا الشعير بالشعير": "ولا التمر بالتمر"، وزاد في آخره: "وزاد أحدهما: من زاد أو ازداد فقد أربى". "سنن البيهقي" (ج 5 ص 276). والحديث في "سنن الشافعي" رواية الطحاوي عن المزني (ص 43 - 44) (¬3) كما ذكره البيهقي. أقول: سياق رواية سلمة بن علقمة عن محمد بن سيرين يدل على حفظه، فإنه سمى الرجل الآخر: عبد الله بن عتيك، وذكر القصة، وهو قوله: ¬

_ (¬1) (4/ 31، 32) ط. دار الوفاء. (¬2) (ص 147) ط. دار الكتب العلمية. (¬3) رقم (221) ط. دار القبلة.

جمعَ المنزلُ ... إلخ، وضبط ما نقصه أحدهما، وهو: "والملح بالملح". وسياق رواية الثقفي عن أيوب عن ابن سيرين يدل على عدم الإتقان، فإنه لم يُسمِّ الرجلَ ولا ذكر القصةَ ولا ضبطَ الناقصَ، بل قال: "ونقص أحدهما التمرَ أو الملح". وهذا يوقع الشك في زيادته التي زادها، وهي قوله: "والتمر بالملح، والملح بالتمر، يدًا بيد، كيف شئتم". وعبد الوهاب ثقة جليل، ولكن ذكروا أن في حفظه شيئًا. وأما مسلم بن يسار فذكروا أنه لم يسمع من عبادة، ولكنه سمع من أبي الأشعث، وقد جاء في "صحيح مسلم" (¬1) وغيره عن أيوب عن أبي قِلابةَ قال: كنتُ بالشام في حلقةٍ فيها مسلم بن يسار، فجاء أبو الأشعث، قال: قالوا: أبو الأشعث أبو الأشعث، فجلس، فقلت له: حدِّثْ أخانا (يعني مسلم بن يسار) حديثَ عبادة بن الصامت، قال: نعم. غزونا غزاةً ... فبلغ عبادةَ بن الصامت فقال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، إلا سواءً بسواء، عينًا بعين، فمن زاد أو ازداد فقد أربى". فقد تبين أن عبادة سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإن قصَّر به ابن أبي عروبة على ما وقع في "سنن النسائي"، وأن أبا الأشعث سمعه من عبادة، وذلك متفق عليه، وأن أبا قلابة سمعه من أبي الأشعث، ودلت رواية الدارقطني أنه سمعه أيضًا من أبي أسماء الرحبي عن أبي الأشعث، فكأن أبا قلابة سمعه من أبي الأشعث مجملاً، وسمعه من أبي أسماء عن أبي الأشعث مفسرًا، ومسلم بن ¬

_ (¬1) رقم (1587).

يسار سمعه من أبي الأشعث، وقتادة سمعه من صالح أبي الخليل عن أبي الأشعث عن مسلم، وقتادة قد سمعه من مسلم ومن أبي الأشعث، ولكنه يدلِّس، فكأنه في رواية ابن أبي عروبة وهشام دلَّس، فرواه عن مسلم، وأسقط رجلين. وقد اعتضدت هذه الرواية الصحيحة المفسرة برواية عبد الله بن عتيك. فأما ما أخرجه البيهقي من طريق إبراهيم بن أبي الليث عن الأشجعي عن سفيان عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي الأشعث، وفيه: "فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوها يدًا بيد كيف شئتم لا بأس به، الذهب بالفضة يدًا بيد كيف شئتم، والبر بالشعير يدًا بيد كيف شئتم، والملح بالتمر (وفي نسخة بالبر) يدًا بيد كيف شئتم". وقال البيهقي: "وهذه رواية صحيحة مفسرة" "سنن البيهقي" (ج 5 ص 282) = فهي صحيحة من الأشجعي إلى من فوق فقط، فإن إبراهيم بن أبي الليث متروك، يُرمَى بالكذب. انظر ترجمته في "لسان الميزان" (¬1). وأخرج البيهقي (¬2) من طريق عبد الله (بن محمَّد بن سعيد) بن أبي مريم عن الفريابي عن سفيان بنحوه. وعبد الله هذا واهٍ، قال ابن عدي: حدث عن الفريابي بالبواطيل، ثم قال: إما أن يكون مغفلًا أو متعمدًا، فإني رأيت له مناكير. (لسان الميزان) (¬3). ¬

_ (¬1) (1/ 337). (¬2) في "السنن الكبرى" (5/ 277). (¬3) (4/ 562). وانظر "الكامل" (4/ 255).

والحديث في "صحيح مسلم" (¬1) من رواية جماعة عن وكيع عن سفيان بسنده، ولفظه: "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلًا بمثل، سواءً بسواء، يدًا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصنافُ فبِيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد" (ج 5 ص 44). وأخرجه الإِمام أحمد عن وكيع، وفيه: "فإذا اختلف فيه الأوصاف" بدل "فإذا اختلفت هذه الأصناف" "المسند" (ج 5 ص 320) (¬2). [ص 33] وأخرجه مسلم (¬3) وغيره من طريق أيوب عن أبي قلابة سمع أبا الأشعث سمع عُبادةَ: "سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، إلا سواءً بسواء، عينًا بعين، فمن زاد أو ازداد فقد أربى". (ج 5 ص 43). والأوصاف في رواية أحمد عن وكيع معناها الأصناف، كما في رواية غيره عن وكيع، وهكذا الألوان في حديث أبي هريرة عند مسلم (¬4) وغيره: "التمر بالتمر، والحنطة بالحنطة، والشعير بالشعير، والملح بالملح، مثلاً بمثل، يدًا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى إلا ما اختلفت ألوانه". ومما يدل على ذلك - مع الإجماع - حديث "الصحيحين" (¬5) وغيرهما ¬

_ (¬1) رقم (1587/ 81). (¬2) كذا في الطبعة القديمة، وفي المحققة رقم (22727): "فإذا اختلفت فيه الأصناف". (¬3) رقم (1587/ 80). (¬4) رقم (1588). (¬5) أخرجه البخاري (2201، 2202) ومسلم (1593) عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري.

في النهي عن بيع الجَمْعِ بالجنيب متفاضلاً، مع أنهما لونان من التمر، وأوصافهما مختلفة، وأدلة أخرى. إذا تقرر هذا فقد قال بعض المتأخرين: إن ظاهر حديث عبادة عند مسلم الذي ساق فيه الستَّة مساقًا واحدًا، ثم قال: "فإذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد" ظاهره أنه لا يحلُّ نسيئةً حتى الملح بالفضة، إلا إن ثبت الإجماع على خلافه. أقول: ما أجملتْه هذه الروايةُ قد فسَّرته الروايات المفصّلة، فجعلت الذهب والفضة بابًا، والبر والشعير بابًا آخر. فعُلِم منها جوازُ بيع الذهب بالفضة متفاضلًا نقدًا، ومنعُه نسيئةً، والبر بالشعير كذلك، وسكتت عن بيع البر بالذهب مَثَلًا، فكان على الجواز إلا أن يقوم دليل على منعه. ثم إن رواية الشافعي جعلت التمر والملح بابًا ثالثًا، ووافقتْها على ذلك روايتان لا تصلحان للمتابعة، والروايات الأخرى توافق رواية الشافعي في ظهور أن التمر والملح ليسا من باب البر والشعير، ولكن لا يظهر منها أنهما باب واحد، أو كل منهما باب على حدة. ولم أظفر بما يبين الحكم في ذلك من السنة، إلا أن إطلاق الأحاديث أنه ربا مع حديث "الصحيحين" (¬1) وغيرهما: "لا ربا [إلا] في النسيئة" قد يهدينا إلى الحق. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2178، 2179) ومسلم (1596) عن أسامة بن زيد.

فصل

[ص 35] فصل قد قدمنا الفرق بين القرض بربا وبين بيع السلعة بثمن إلى أجل أزيد من ثمنها نقدًا، والسلم في سلعة إلى أجل بأقل من ثمنها نقدًا. وحاصله موضحًا: أنه إنما يُعقل أن يكون لمن دفع ماله حالاًّ ليعوض عنه مؤجلًا استحقاقٌ للربح، إذا علم أنه فاته بسبب الإعطاء إلى أجلٍ ربحٌ آخر، وإنما يتصور هذا إذا كان لو لم يعط ذلك المال إلى أجل لتصرَّفَ فيه بالبيع والشراء الذي هو مظنة الربح. وهذا أمر غيبيٌّ، وأقرب ما يتعرف به هو النظر إلى نية المعطي على فرض أنه لو لم يطلب منه المال إلى أجل؛ أكان ينوي أن يحتفظ به، أم كان ينوي أن يتصرف فيه بالبيع والشراء. ولكن النية أمر خفي بالنظر إلى الآخذ والشهود والحكَّام، وقد تخفى على المعطي نفسه، وعلى فرض ادعائه نية التصرف لا ينبغي تصديقنا له، وإلا لأوشك أن يدَّعي كلُّ معطٍ مثل ذلك. فاقتضت الحكمة أن يُناط الحكم بالنظر إلى النسبة بين العوضين، فمن أقرض دراهم فقد أراد أن تعود دراهمه أو مثلها له. ففي ذلك دلالة أنه يريد الاحتفاظ بالدراهم، فلو لم يُقرِضها لكنَزَها، فظهر بذلك أنه لم يفته بسبب الإعطاء ربح، فلا حقَّ له في الجبران. ومن باع ثوبًا بدراهم، ففي ذلك دلالة أنه لم يكن يريد الاحتفاظ بالثوب. فمن المظنون أنه لو لم يبعه بنسيئةٍ لباعه بنقدٍ، ثم يمكن أن يشتري بالنقد سلعةً أخرى ويبيعها، وهكذا، وذلك مظنة الربح، فاستحقَّ الجبران.

ومثله من أسلم دراهمَ في ثوب؛ ففي ذلك دلالة أنه لم يكن يريد الاحتفاظ بالدراهم، فمن المحتمل أنه لو لم يُسلِمها لاشترى بها سلعةً نقدًا، ثم باعها، وهكذا، وذلك مظنة الربح، فاستحق الجبران. والربح الفائت لا ينضبط، فلا ينضبط جبرانه، ولكنه هنا ضبط بما تراضيا عليه. وهذا بحمد الله مستقيم واضح، ولكن احتجنا الآن إلى النظر في النسبة بين العوضين، فإن النسبة بين الدراهم والدراهم المماثلة، وبين الدراهم والثوب المباينة، وبينهما نِسَبٌ مختلفة، فما الذي يلحق منها بذاك، وما الذي يلحق بهذا؟ قد يقال: لعل الفاصل هو معنى القرض، فكل ما كان من البيوع في معنى القرض بربا، فحكمه حكمه. وهذا حق فيما أرى، ولكن قد يقع الاشتباه فيه أيضًا، فإسلامُ دينارٍ في خاتم ذهب قد يتراءى أنه ليس في معنى القرض، بل هو في معنى إسلام دينار في ثوب. فإن قلت: بل في معنى القرض باشتراط منفعة، كما لو ذهب رجل بدينار يبحث عن صائغ؛ ليدفعه إليه ليكسره ويصوغه خاتمًا، ويدفع إليه أجرته، فلقيه رجل فأخبره، فقال: أنا محتاج إلى دينار، فأقرِضْني دينارك أَصرِفه في حاجتي، وعندما يحصل بيدي دينار أذهب به، فأبحثُ عن صائغ، وأعطيه فيكسره، ويصوغه خاتمًا على الصفة التي تريد، وأدفع أنا أجرته، وآتيك بالخاتم، والأجل شهران.

فلمخالِفك أن يقول: قد يجيء مثل هذا في السلم في الثوب، يذهب رجل بدينارٍ يلتمس ثوبًا، فيلقاه آخر، فيستقرض منه الدينارَ على أنه عندما يحصل بعده دينارٌ، يذهب فيشتري به ثوبًا على الصفة، فإن لم يحصل إلاَّ بأزيد من دينار دفع المستقرض الزيادةَ من عنده، ثم يأتي بالثوب إلى المقرض، والأجل شهران. فإن قلت: بينهما فرقٌ من جهتين: الأول: أن خاتم الذهب يمكن أن يكون عين الدينار القضاء، ولا بد أن تكون الأجرة زائدة على مقدار الدينار، وأما الثوب [ص 36] فلا يمكن أن يكون من عين الدينار، ويمكن أن يُشترى بأقل من دينار. الثاني: أن خاتم الذهب يمكن تحصيله بغير توسط بيع، بأن يصنعه ويدفع الأجرة، والثوب لا يحصل إلا بتوسط بيع. فلمخالفك أن يقول: دعْ خاتمَ الذهب، وافرض المبيع حليةَ فضة، فقد دلت الأحاديث على أن الذهب بالفضة نسيئةً من الربا، وحلية الفضة لا تكون من عين الدينار، وقد تحصل بأقل من دينار، فأي فرقٍ بينها وبين الثوب؟ فإن قلت: الفرق بينهما قرب النسبة بين الذهب والفضة. قلت: فقد رجع الأمر إلى النسبة، وهي محتاجة إلى التحقيق كما قدمنا. يمكن أن يقال: إذا كان العوضان بحيث يغني أحدهما غناء الآخر في الجملة، ولو بتوسُّطِ صنعةٍ، فهما في حكم المتماثلين، فكلٌّ من الدينار وسبيكة الذهب وحليته يغني غناء الآخر بتوسط صنعة، وكلٌّ منها مع واحد

من الدراهم وسبيكة الفضة وحليتها يُغني غناء الآخر في الجملة، ولو بتوسط صنعة. فالدنانير وحلية الذهب يغني كلٌّ منهما غناء الآخر في الجملة بتوسط صنعة، بأن تُصاغ الدنانير حليةً، أو تُضرب الحليةُ دنانيرَ، وسبيكة الذهب وحلية الفضة يغني كل منهما غناء الآخر، بأن تُصاغ السبيكة حلية، أو تُضرب دنانير، وتضرب حلية الفضة دراهم، وقِسْ على ذلك. والذي يظهر من مذاهب العلماء أنهم لم ينظروا إلى الحلية، ولكن منهم من نظر إلى الثمنية، فجعلها العلة في تحريم بيع الذهب بالفضة نساءً. فإما أن يكون بنى على ما كان في صدر الإِسلام من تبايع الأعراض بالذهب والفضة، وإن كانا غير مضروبين. وإما أن يكون بنى على أن السبيكة والحلية يمكن تحويلهما إلى النقد بالصنعة، ولا سيما والمشروع في الإِسلام أن تكون دار الضرب مفتوحةً للناس كلهم، من أراد أن يضرب ذهبه أو فضته نقدًا دفعها إلى دار الضرب، وأعطاهم أجرة تعبهم، فضربوا له. وهكذا كان في القرون الأولى. وإنما تحجرت الحكومات دور الضرب ظلمًا؛ لتشتري وزن الدينارين من الذهب الخالص بدينار مغشوش، ثم تغش الذهب، وتضربه ثلاثة دنانير، أو نحو ذلك، ومثله في الفضة. ونشأ من ذلك من الظلم والفساد ما لا يعلمه إلا الله تعالى، وقد وقعت أزمات مالية شديدة في بعض، كألمانيا، وإيطاليا، وفرنسا، هذا أساسها، وربما اشتدت الأزمة منها حتى تهدِّد العالم أجمع. هل نظر القائل: إن العلة في بيع الذهب بالفضة هي الثمنية - وهو مالك

والشافعي رحمهما الله تعالى - إلى المعنى الذي قررناه أولاً، أعني أن كلاًّ منهما يغني غناء الآخر في الجملة، فصار بيع أحدهما بالآخر نساءً في معنى الذهب بالذهب نساءً، والفضة بالفضة نساءً، وذلك في معنى القرض، فتحقق فيه الربا؟ أما الشافعي فلم ينظر إلى هذا حتمًا، فإنه أجاز بيع الشيء بآخر من جنسه نساءً في غير الذهب والفضة والمطعومات، وذلك كالحديد بالحديد، والنحاس بالنحاس، وغير ذلك، فإذا لم يعتد بالمماثلة، فكيف يعتد بالمقارنة؟ أعني أن يغني أحدهم غناء الآخر. وجعل العلة في الأربعة الباقية هي الطعم، ووسَّعه حتى منع بيع البر بالسقمونيا. ولا يخفى أن النسبة بينهما التباين، فإن البرّ قوتٌ، والسقمونيا مُسهِّل. [ص 37] وأما مالك فقد ظن بعض المحققين من أصحابه أنه نظر إلى المعنى الذي قررناه؛ لأنه يحرِّم البيع نساءً في ما إذا اتفق العوضان في الجنس، ولو في الثياب والآنية وغيرها. وأكد ذلك أنه يشترط مع الاتفاق في الجنس الاتفاق في المنفعة المقصودة، فأجاز بيع البعير النجيب بالبعير من حاشية الإبل، وهذا يدل أنه نظر إلى المعنى الذي قدمناه. وجعل العلة في الأربعة الباقية هي القوت مع الادّخار، وفسر بعض أصحابه ذلك بأن البر والتمر لما اتفقا في المنفعة المقصودة، وهي القوت مع الادخار، صارا كالجنس الواحد، فأما البر والشعير فإنه جعلهما جنسًا واحدًا حتى لا يجوز تبايعهما نقدًا إلا مثلًا بمثل.

ومع هذا ففي كونه نظَرَ إلى المعنى الذي قدمناه نظرٌ لوجهين: الأول: أنه يمنع بيع (¬1) البر بالملح نساءً، وهكذا البر بشيءٍ آخر مما يكون فيه إصلاحٌ للطعام، كالأُدم والأَبزار، كالفلفل والكمُّون، مع أن الملح لا يغني غناء البر، والفلفل لا يغني غناء البر. الثاني: أنه يجيز بيع الشيء بما يغني غناءه نساءً في غير الذهب والفضة والأقوات المدَّخَرة ومُصلِحاتها. وقد استشكل المحقق الشاطبي المالكي ذلك، فقال بعد أن ذكر ربا القرآن: "وإذا كان كذلك، وكان المنع فيه إنما هو من أجل كونه زيادةً على غير عوض، ألحقت السنةُ به كلَّ ما فيه زيادة بذلك المعنى". ثم ذكر حديث عبادة، ثم قال: "ثم زاد على ذلك بيع النَّساء إذا اختلفت الأصناف، وعدَّه من الربا ... وذلك لأن بيع هذا الجنس بمثله في الجنس من باب بدل الشيء بنفسه لتقارب المنافع فيما يراد منها، فالزيادة على ذلك من باب إعطاء عوض على غير شيء، وهو ممنوع ... ويبقى النظر لِمَ جاز مثل هذا في غير النقدين والمطعومات ولم يجز فيهما؟ محل نظر يخفى وجهه على المجتهدين، وهذا من أخفى الأمور التي لم يتضح معناها إلى اليوم ... ". "الموافقات" (ج 4 ص 22 - 23). وقوله: "بيع هذا الجنس بمثله في الجنس" يريد به نحو بيع الفضة بالذهب، والبر بالتمر، كما يرشد إليه السياق، فأما إذا اتحد الجنس، فإن أبا حنيفة رحمه الله يحرم النَّساء في ذلك مطلقًا، وهكذا مالك، إلا أنه يشترط ¬

_ (¬1) في الأصل: "بين" سهوًا.

مع الاتفاق في الجنس الاتفاقَ في المنافع المقصودة. أقول: قد ظهر لي أن مالكًا رحمه الله تعالى إنما منعه عن طرد الحكم في كل شيئين تقاربت النسبة بينهما، بحيث يغني كل منهما غناء الآخر في الجملة، أنه رأى أن معنى الربا ليس بالقوي، فإن من باع ذهبًا بفضة إلى أجل، قد تبين أنه لم يكن يريد الاحتفاظ بالذهب عينه، غاية الأمر أنه كان ينوي الاحتفاظ بأحدهما، لا بعينه. وإذا كان الأمر كذلك فقد قام احتمال أنه لو لم يعطِ الذهب بفضة إلى أجل يمكن أن يعطيه بفضةٍ نقدًا، ثم يعطي الفضة بذهبٍ نقدًا، وهكذا، وذلك مظنة الربح. ثم يحتمل أحد أمور ثلاثة: الأول: أن يكون رأى التعليلَ بالربا مع ضعفه يقوى في الذهب والفضة وفي الأقوات بعضها ببعض؛ لغلبة التعامل بالقرض في هذه الأشياء، وقوة احتمال أن التبايع بها نَساءً إنما جُعِل حيلةً على الربا، بخلاف ما يقارب من الثياب والأدوية والآنية، فلم تجر العادة بتقارُضِها، ولا بالربا فيها، فلهذا لم يطرد الحكم. [ص 38] الثاني: أن يكون رأى أن الربا لا يصلح للعلية أصلاً، وإنما العلة الاحتكار على ما يأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى، ورأى أن الاحتكار إنما يشتد ضرره في النقدين والأقوات ومُصلحاتِها. الثالث: أن يكون رأى أن العلة هو مجموع الأمرين، لأن معنى الربا وحده ليس بالقوي كما تقدم، ومعنى الاحتكار لا يخلو عن ضعف كما

ستعلمه في تفصيله إن شاء الله تعالى. وعلى كل من الثلاثة فإنما اشترط الادّخار؛ لأن ما لا يُدَّخر لا تَقوى التهمةُ بإرادة الاحتفاظ به ولا باحتكاره. والبر والملح وإن لم يتقاربا بحيث يغني كل منهما غناء الآخر في الجملة، لكنهما مما جرت العادة بالتقارض فيه كثيرًا، فقوي معنى الحيلة على الربا، وأما بالنظر إلى الاحتكار، فلا يشترط فيه التقارب كما سيأتي. وبعد، فالراجح أنه رأى العلة في النهي عن بيع الفضة بالذهب نساءً هو الربا فقط؛ لأمور: الأول: أنه روى حديث عمر بلفظ: "الذهب بالورق ربًا إلا هاءَ وهاءَ، والبر بالبر ربًا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربًا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربًا إلا هاء وهاء". رواه مالك (¬1) عن ابن شهاب عن مالك بن أوس، فذكر قصة، ثم ذكر قول عمر: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكره. وفي "فتح الباري": "قال ابن عبد البر: لم يختلف على مالك فيه، وحمله عنه الحفاظ، حتى رواه يحيى بن أبي كثير عن الأوزاعي عن مالك، وتابعه (يعني تابع مالكًا في روايته عن الزهري هكذا) معمر والليث وغيرهما، وكذلك رواه الحفاظ عن ابن عيينة (عن الزهري)، وشذ أبو نعيم عنه (أي عن ابن عيينة) فقال: "الذهب بالذهب"، وكذلك رواه ابن إسحاق عن الزهري". "الفتح" (ج 4 ص 259) (¬2). ¬

_ (¬1) في "الموطأ" (2/ 636، 637). (¬2) (4/ 378) ط. السلفية. وانظر "التمهيد" (6/ 282 - 284).

أقول: وابن إسحاق ليس بحجة فيما خالف فيه، على أن القصة تشهد أن الرواية كما ذكره مالك ومن معه. وحاصلها: أن عمر إنما ذكر هذا الحديث إنكارًا على من أراد صرفَ ذهبٍ بورق، والورق مؤجل، فقال: "واللهِ لا تفارقه حتى تأخذ منه" فذكر الحديث. فلو كان لفظ الحديث: "الذهب بالذهب ربًا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ... " لما كان فيه شاهد ظاهر للإنكار. والحديث في "الصحيحين" (¬1)، ولم أجد حديثًا صحيحًا مصرحًا بأن البر بالشعير أو التمرِ إلى أجل ربًا. الثاني: أن معنى الربا ظاهرٌ جدًّا في الدنانير بالدراهم نساءً، وما نسبة الدراهم إلى الدينار إلا كنسبة القطع الصغار المضروبة من الذهب إلى القطعة الكبيرة، كما لو ضُربت قِطَعٌ صغار من الذهب كل منها ثمن دينار، فالثمان منها دينار، فكما يكون اشتراء عشر منها بدينار - والقطع مؤجلة - ربًا ظاهرًا، فهكذا لو كان صرف الدينار ثماني رُبيّات، فاشترى عشر رُبيّات بدينار، والربّيات مؤجلة، وما لم يكن مضروبًا تبع للمضروب؛ لأنه يمكن ضربه، كما تقدم. فأما الأقوات بعضها ببعض، فهي على الاحتمالات الثلاثة. والله أعلم. [ص 39] ولنعقد لأحكام هذه الستة بابين: ¬

_ (¬1) البخاري (2174) ومسلم (1586).

الباب الأول في تبايعها مع النسيئة

الباب الأول في تبايعها مع النسيئة وفيه فصلان: الفصل الأول: فيما اتحد فيه جنس العوضين وفيه فرعان: الفرع الأول: فيما تظهر فيه زيادة ما في العوض المؤجل لا يقابلها شيءٌ في المعجل، وله صور: 1 - زيادة المؤجل في القدر مع تساويهما في الصفات، كدرهم بدرهمين، وكل منهما مثله. 2 - زيادته في الوصف، كصاع تمر بصاع تمرٍ أجود منه. والربا في هاتين الصورتين متحقق، والمعنى معنى القرض بشرط الزيادة أو الجودة. 3 - أن يكون في كل من العوضين زيادة من جهة، وزيادة المؤجل أرغب، كثلاثة آصُعٍ من تمر رديءٍ نقدًا بصاعَيْ تمرٍ جيد إلى أجل، وقيمة الصاع الرديء درهم، والجيد درهمان. والربا في هذه متحقق؛ لتحقق الزيادة في المنسأ. 4 - أن يستويا في القدر، ويكون المعجل أجود، ولكن المؤجل عزيز الوجود، كصاع تمر جيد نقدًا بصاع تمر رديء إلا أنه عزيز الوجود.

فالظاهر هنا أن لصاحب الجيد غرضًا في ذلك الرديء، لو وجده لاشترى الصاع منه بصاعٍ جيد نقدًا أو بأكثر لرغبته فيه. فعزة الوجود زيادة في المؤجل، فيكون ربًا. 5 - الدينار وسبيكة الذهب وحليته، كل منها بالآخر، وهكذا كل منها بمثله بوصف آخر، كدينار عتيق بدينار جديد، وسبيكة مربعة بسبيكة مستطيلة، وخاتم ذهب بخاتم ذهب أضيق منه، مع اتحاد القدر وزنًا، والاتفاق في الجودة أو الرداءة. هذا كله ربًا؛ لأن صاحب المعجل رغب أن يكون ذهبه على صورة المؤجل، ولو أراد أن يصوره بتلك الصورة لاحتاج إلى البحث عن صائغ أو ضارب، ودفع ذهبه إليه ليصوره بالصورة التي يريدها، ويدفع أجرته، فآثر أن يبيعه بذهب على الصورة التي يريد؛ ليربح السلامة من التعب والأجرة. فبهذا الاعتبار كانت الصفة المرغوبة له في الذهب المؤجل زيادة فيه، وقد يتضح هذا: كسبيكة نقدًا بدينار أو حلية إلى أجل. وقد يحتاج إلى تأمل، كدينار أو حلية نقدًا بسبيكة إلى أجل. وقد أوضحنا. ومثل ذلك الدراهم وسبيكة الفضة وحليتها، وهكذا كل من البر والشعير مع دقيقه، ونحو خبزه؛ لأن الحب والدقيق ونحو الخبز على وزان الدينار والسبيكة والحلية, وإن لم يمكن في العادة ردُّ الدقيق ونحو الخبز حبًّا. وهكذا التمر المنزوع النوى مع التمر الذي لم يُنْزَع نواه، فكأن بائع ما لم يُنزع نواه بما نُزع نواه يريد نزعَ نوى تمره، وفي ذلك مشقة، فباعه؛ ليحصل له منزوع النوى، ويربح السلامة من المشقة، وكان بائع ما نُزِع نواه

بغيره يريد ردَّ نوي تمرِه إليه، وفي ذلك مشقة، فباعه؛ ليحصل له ما لم يُنزع نواه، ويربح السلامة من المشقة. وقس على ذلك. [ص 40] الفرع الثاني: ما لم تظهر فيه زيادة ما في المؤجل، وله صور: 1 - أن يستويا من كل وجه، كبيع درهم بدرهم مثله، ودينار بدينار مثله، وصاع بر بصاع بر مثله. فلا يظهر في هذه ربًا، بل المعنى معنى القرض الصحيح، فتحريم مثل ذلك إذا وقع بلفظ البيع يحتاج إلى علة أخرى غير الربا. 2 - أن يكون في المعجل زيادة لا يقابلها شيء في المؤجل، ويمكن تصحيح المعاملة بصيغة أخرى، كدرهمين نقدًا بدرهم مثل أحدهما نسيئةً. فلا يظهر في هذه ربًا، بل المعنى معنى الهبة الصحيحة والقرض الصحيح، كأن صاحب الدرهمين وهب لصاحبه درهمًا، وأقرضه درهمًا، فتحريم مثل ذلك إذا وقع بلفظ البيع يحتاج إلى علة أخرى غير الربا. ومثل هذا بيع دينار جديد نظيف نقدًا بدينار متَّسخٍ إلى أجل، وليس لصاحب الجديد غرضٌ في المتسخ، كأن ذهب إنسان بدينار جديد ليصرفه أو يكسره، فرآه آخر، فقال له: دع هذا الدينار الجديد النظيف لي، وأنا أعطيك دينارًا متسخًا غدًا، أو بعد غدٍ، فتبايعا. فقد كان يمكنُ صاحبَ الجديد أن يقول لصاحبه: خذ هذا الدينار قرضًا إلى غدٍ، أو بعد غدٍ، وإذا قضيتَني دينارًا متسخًا فأنا أقبله منك. 3 - كالثانية إلا إنه لا يمكن تصحيح المعاملة بصيغة أخرى، كأن يكون لك خاتم فضة، ولصاحب لك خاتم فضة دونه، فجاءك يومًا وليس

معه خاتمه، ثم ألحَّ عليك أن تبيعه خاتمك بخاتمه، على أن تدفع إليه خاتمك، ثم يجيئك بخاتمه بعد أسبوع مثلًا. 4 - أن يكون في كل من العوضين زيادةٌ تكافئ ما في الأخرى في القيمة، كصاعين من تمر رديء نقدًا بصاع من تمر جيد إلى شهر، وقيمة الرديء نقدًا في السوق صاع بدرهم، وقيمة الجيد في السوق إلى شهر صاع بدرهمين. فهاتان الصورتان لا يظهر فيهما الربا، فلا بد للتحريم من علة أخرى. ويظهر لي أن العلة في الأُولَيين هي تشبيه المعاملة المشروعة بالمعاملة الممنوعة. ففي الأولى: عدل العاقدان عن صيغة القرض المرغَّبِ فيه شرعًا، المحمودِ عقلاً وعرفًا، إلى صيغة البيع الذي عُرِف ذمه في الشريعة، أعني الذهب بالذهب نسيئةً ونحوه. وفي الثانية: عدلا عن الهبة والقرض المشروعين المحمودين المرغَّب فيهما، إلى صيغة بيع الذهب بالذهب نسيئةً ونحوه. ويظهر له أن العلة في الأُخريَين هي الاحتكار، على ما يأتي إيضاحه في تعليل منع بيع واحد من الستة بأكثر منه من جنسه نقدًا. والله أعلم. ****

الفصل الثاني: في بيع واحد من الستة بآخر منها نسيئة

[ص 41] الفصل الثاني: في بيع واحد من الستة بآخر منها نسيئةً قد علمت مما تقدم أن الربا الحقيقي هو ربا القرض، وأن الربا في باب البيع إنما ورد لأنه في معنى القرض بربًا، كما تقدم في الأمثلة، كبيع صاع تمر نقدًا بصاعَي تمرٍ إلى أجل، وغير ذلك من الصور. والمعروف في القرض إنما هو إعطاء الشيء ليردَّ له ما هو من جنسه، إما مثل ما دفعه تمامًا، وهو القرض الشرعي، وإما مع زيادة في القضاء، وهو الربا. فأما مبادلة الشيء بما يخالفه، كالثوب بالدينار، فليس هذا من موضوع القرض، بل هو بيع. ولكننا قد قدمنا أن الذهب بالفضة نسيئةً يقوى فيه معنى الربا جدًّا، وفسرنا ذلك بما يكفي. فأما الأربعة الأخرى بعضها ببعض، فقد قدمنا احتمال أن تكون العلة هي الربا، واحتمال أن تكون هي الاحتكار، وأن تكون مجموع الأمرين، وبينّا قوة احتمال الربا فيها؛ لكثرة تقارض الناس إياها. وأما الاحتكار فستعلم بيانه قريبًا إن شاء الله تعالى. ****

الباب الثاني في تبايعها نقدا

الباب الثاني في تبايعها نقدًا الذي حرَّمه الشارع من ذلك هو الذهب بالذهب مع رجحان أحدهما وزنًا، وهكذا الفضة بالفضة. وكذلك حرَّم البر بالبر مع زيادة أحدهما في الكيل، وهكذا الشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح. وصح من عدة طرق عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال بعد بيان هذا الحكم: "فمن زاد أو استزاد - وفي رواية: أو ازداد - فقد أربى" (¬1). وفي رواية: "فهو ربا" (¬2). زاد في رواية: "الآخذ والمعطي فيه سواء" (¬3). وأخبر بشراء التمر بالتمر متفاضلًا فقال: "أُوَّه عينُ الربا" (¬4). وفي رواية: "أُوَّهْ أُوَّهْ، عينُ الربا، عينُ الربا" (¬5). وفي رواية: "هذا الربا، فردوه" (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجها مسلم (1584/ 82، 1587, 1588، 1596). (¬2) أخرجها مسلم (1588/ 84). (¬3) أخرجها مسلم (1584/ 82). (¬4) أخرجها مسلم (1594/ 96). وفي ضبط "أوه" وجوه. (¬5) أخرجها البخاري (2312). (¬6) أخرجها مسلم (1594/ 97).

وأرشد إلى المَخلَص من ذلك بقوله: "بِعِ الجَمْع بالدراهم، ثم اشتر بالدراهم جنيبًا" (¬1). والجَمْع تمرٌ رديءٌ، والجنيب تمرٌ جيدٌ، كانوا يبتاعون الصاع من الثاني بالصاعين من الأول، ونحوه. ولا يرضى صاحب الجنيب أن يبيع صاعًا بصاع. وجاء في حديث عبادة: "فإذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد" (¬2). وفُسِّر في الروايات المفصّلة ببيع الذهب بالفضة والفضةُ أكثرهما، وبيعِ البر بالشعير والشعيرُ أكثرهما، وقد تقدم ذكر الروايات. والمقصود ههنا إنما هو النظر في العلة. أما الفقهاء فإنهم يذكرون الحكم في باب الربا، اتبعوا السنة في إطلاق هذه الكلمة، ولكن ثبت في "الصحيحين" (¬3) وغيرهما عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا ربا إلا في النسيئة". [ص 42] وجمع أهل العلم بين هذا الحديث وبين الأحاديث المتقدمة بطرق: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2201، 2202) ومسلم (1593) عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري. (¬2) أخرجه مسلم (1587/ 81). (¬3) البخاري (2179) ومسلم (1596) من حديث أسامة بن زيد.

أصحها: أن الربا في هذا الحديث أريد به الربا الحقيقي، فهو لا يكون إلا في النسيئة، وأما إطلاق الربا فيما مُنِع من النقد فهو مجاز. فإما أن يكون أصل الربا في اللغة: الزيادة مطلقًا، ونقله الشارع إلى الزيادة المخصوصة في النسيئة، ثم أطلق الربا في الزيادة في النقد على أصل اللغة، وإما غير ذلك. والذي تبين لي أن الربا في عرف اللغة خاص بالنسيئة، وقد دلّ القرآن وحديثُ: "لا ربا إلا في النسيئة" على أنه في الشرع كذلك، كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى. وإطلاق الربا في البيع المحرم نقدًا إنما هو من باب التشبيه، والجامع بينهما أن كلاًّ منهما زيادة محرمة. فإن قيل: لكن قوله: "عين الربا، عين الربا" (¬1) ينافي المجاز، كما يقوله النحاة في التوكيد. قلت: أما التكرار فهو من باب التوكيد اللفظي، وقد صرَّح النحاة بأنه يجيء لغير نفي التجوز، كأن يخشى المتكلم أن لا يكون بعض المخاطبين سمع الأول كما ينبغي، فيكرر ليتحقق السماع، كما تقول: رأيت أسدًا يرمي، رأيت أسدًا يرمي. وأما قوله: "عين الربا" إذا قيل: إنه بمنزلة "الربا عينه"، وقد قال النحاة: إن التوكيد بالنفس والعين لدفع احتمال التجوُّز، فمحلُّ ذلك حيث لم تقم قرينة على المجاز، فأما إذا قامت كأن يقال: أبو يوسف أبو حنيفة عينُه، فإنما يكون للمبالغة، والحديث من هذا. والله أعلم. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه.

ومما يوضح هذا أن القرآن أومأ إلى أن المعنى في تحريم الربا أنه ظلم كما تقدم، وبيع دينار من ذهب جيدٍ صرفُه عشرون درهمًا بدينارين من ذهب رديء صرفُ الواحدِ منهما عشرة دراهم، لا يظهر فيه ظلم، وهو حرام نقدًا. وبيع الدينار الجيد بأحد الدينارين الرديئين أقرب إلى أن يكون ظلمًا، وهو حلالٌ نقدًا. فلو كان المعنى في التحريم هو الربا، لكان الظاهر أن يكون الحكم بعكس ما تقدم، فيحل بيع دينار جيد صرفه عشرون درهمًا بدينارين رديئين، صرفُ كلٍّ منهما عشرة دراهم، ويحرم بيع الدينار الجيد بأحدهما وحده. هذا، والذي ظهر لي أن العلة فيما حُرِّم متفاضلًا نقدًا: هي تشبيه المعاملة المشروعة بالممنوعة، أو الاحتكار. فالأولى خاصة بما يمكن تصحيح المعاملة بصيغة أخرى، وذلك كبيع درهمين بدرهم مثل أحدهما. فالمقصود المعقول من هذا هو أن يهب صاحب الدرهمين لصاحبه درهمًا، فكان يمكنه أن يهب له درهمًا، فلما عَدلا عن هذه الصورة المحمودة المرغَّب فيها إلى صورة بيع الفضة بالفضة متفاضلاً، استحقَّا التأديبَ بتحريمِ ما اعتمده وإبطالِه. وأما الاحتكار فهو العلة فيما عدا ذلك. ****

فصل في الاحتكار وإيضاح علاقته بهذا الحكم

[ص 43] فصل في الاحتكار وإيضاح علاقته بهذا الحكم قال الله عزَّ وجلَّ: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7]. وحبس الذهب والفضة، واحتكار الأقوات، وتبايع كل من الستة بجنسه، كالذهب بالذهب، والبر بالبر، يؤدي إلى أن يكون دُولةً بين الأغنياء والمحتكرين، فضيَّق الله تعالى عليهم؛ لئلّا يكون دُولةً بينهم، وستعلم وجه التضييق إن شاء الله. الذهب والفضة وقد تقدم في الكلام على زكاة الذهب والفضة بيان بعض المفاسد التي تترتب على حبسهما وكنزهما، أو نقول: احتكارهما، وقد قال الله عزَّ وجلَّ: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34]] (¬1). وقد تواتر عن أبي ذر الغفاري أحد أجلَّة الصحابة رضي الله عنهم أنه كان يرى أن هذه الآية على ظاهرها، وأن حكمها باقٍ إلى يوم القيامة (¬2)، وخالفه جمهور هذه الأمة. فأما على قوله: فحَظْرُ الشريعة لحبسهما وتشديدها فيه واضح. ¬

_ (¬1) بيض المؤلف للآية، ولم يكتبها. (¬2) انظر "صحيح البخاري" (1406، 1407، 4660) وصحيح مسلم (992). وراجع "فتح الباري" (3/ 273).

وأما على قول الجمهور، فإن كراهية الشريعة لحبسهما يظهر من أحكام أخرى. منها: فرض الزكاة عليهما، ولو كانا حُلِيًّا، على خلافٍ في الحُلِيّ، والراجح الوجوب. ومنها: تحريم الذهب على الرجال البتةَ، وتحريم الفضة عليهم إلا نحو الخاتم. ومنها: تحريم الأكل والشرب في أوانيهما، وألحق به العلماء بحقٍّ سائرَ الاستعمالات، وكذا اتخاذ الأواني منهما وإن لم تستعمل. ومنها: ما نحن بصدده؛ من تحريم بيع الفضة بالفضة والذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل. ولتوضيح فائدة هذا فنقول: الحكومات في عصرنا تكتنز الذهب، وتحتاج إلى ضرب الدراهم، فتضطر إلى شراء سبائك الفضة، فلو كانت مسلمة لمنعها الإِسلام من شراء الفضة بدراهم إلا سواء بسواء في الوزن، ولمَا رضيت بذلك؛ لأن فيه خسارةً عليها، فتضطر إلى شراء سبائك الفضة بالدنانير، فيحصل المقصود. والأغنياء كثيرًا ما يكنزون الدنانير، ثم يحتاجون إلى حلي فضة، فتارةً يريدون شراء سبائك فضة، ليعطوها الصاغةَ فيصوغوها، ولا تطيب أنفسهم أن يشتروا السبائك بوزنها دراهم، فيضطرون إلى شرائها بدنانير، فيحصل المقصود. وتارةً يريدون شراء المصوغ المصنوع من الفضة، والغالب أنه لا يتأتى

شراؤه بوزنه دراهم، إما لأن قيمة ذلك المصوغ أقل من قيمة وزنه دراهم، وإما عكسه. فعلى الأول لا يرضى المشتري، وعلى الثاني لا يرضى البائع، فيضطرون إلى الشراء بالدنانير، فيحصل المقصود. وقِسْ على هذا سبائك الذهب وحُلِيَّه في اضطرار المشتري إلى إخراج الدراهم. وبهذا الحكم أيضًا يقل رغبةُ الصاغة في الصياغة، ولا سيما في الفضة التي هي أكثر وجودًا وأرخص، والصاغة أشدُّ بها تلاعبًا، فالصائغ يقول: أي فائدة لي أن أشتري سبائك الفضة بوزنها دراهم، ثم أصوغها وأتعب فيها، ثم أبيعها بوزنها دراهم، والذهب عزيز الوجود، لا أدري أأظفرُ براغبٍ في الشراء يكون عنده دنانير، أم لا؟ وأي فائدة لي في أن أكسر الدراهم، ثم أصوغها حُلِيًّا، ثم أبيعه بوزنه دراهم. وبهذا يقل استعمال الحلي؛ لأن كثرة استعماله أغلب ما تجيء من عرض الصاغة الحُلِيَّ والأواني ونحوها، فيراها المُثْرون ونساؤهم فيرغبون فيها. وقلما تجد الرجل يشتري السبائك، ويسلمها إلى الصائغ يصوغها له ويعطيه أجرته، أو يعطي الصائغ دراهم أو دنانير ليكسرها ويصوغها، ويأخذ أجرته. مع أن هذا الحكم يُضيِّق عليهم في هذا أيضًا، وقد جاء النهي عن كسر الدراهم والدنانير (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (15457) وأبو داود (3449) وابن ماجه (2263) من حديث =

بقية الأصناف

وبما قررناه يظهر لك خطأ من جوَّز شراء حلي الفضة بدراهم أو سبيكةٍ أكثر من وزنه، قائلاً: إن الزيادة في مقابل الصنعة. ولم يتنبه لما في المنع من ذلك كما هو ظاهر الشريعة من الحكمة البالغة. والله أعلم. وأما علاقة الاحتكار بالنسيئة: فإنه لو أُبيح في النسيئة ما لم يُبَحْ نقدًا، لتعمَّد الناس إنساءَ أحدِ العوضين مدةً قليلةً، وما يصح نقدًا مع زيادة وصفية في أحد العوضين، كحلية ذهب بسبيكة ذهب كوزنها، يحتال له بتأجيل الحلية مدةً طويلةً، ليكون الأجل مقابلَ الصنعة، فهذا مع تحقق الربا فيه تحقق فيه الاحتكار أيضًا. [ص 44] بقية الأصناف احتكار الأقوات معروف، وقد وردت أحاديث في تحريمه، منها ما رواه مسلم في صحيحه وغيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا يحتكِرُ إلاَّ خاطئ" (ج 5 ص 56) (¬1). وهذه الأربعة الأصناف يكثر احتكارها، ويكون فيها الجيد والرديء. فقد يكون رجلان محتكرانِ للحنطة مثلاً، وحنطة أحدهما جيدة، وحنطة الآخر رديئة، فيحتاج صاحب الجيدة إلى رديئة لقوت أهله وخَدمه، أو يحتاج صاحب الرديئة إلى جيدة لنفسه، فلو مكّنا من أن يبيعا بالتفاضل لتبايعا الصاع بالصاع مثلاً، وكلاهما مطمئن أن هذا التبايُعَ لا يفضّ ¬

_ = علقمة بن عبد الله عن أبيه قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تُكْسَر سكَّةُ المسلمين الجائزةُ بينهم إلاَّ من بأس". وإسناده ضعيف لضعف محمَّد بن فضاء أحد رجال الإسناد، وأبوه مجهول. (¬1) رقم (1605).

الاحتكار, لأنهما جميعًا محتكرانِ، فإذا قيل لهما: لا يحلُّ بيع البر بالبر إلاَّ مثلًا بمثل، قال صاحب الجيد: وكيف أشتري صاعًا قيمتُه درهمٌ بصاعٍ قيمته درهمانِ؟ فيقال له: أخرِجْ بُرَّك إلى السوق، فبِعْه بدراهم، ثم اشترِ بها كما تُريد. ويقول صاحب الرديئة: إن صاحبي لا يرضى أن يبيعني صاعًا قيمته درهمانِ بصاعٍ قيمتُه درهم. فيقال له: فأخرِجْ بُرَّك إلى السوق فبِعْه، ثم اشترِ كما تريد. فإذا خرج البر إلى السوق انفصم قيدُ الاحتكار. قلت: إنما يقوى مظنة الاحتكار للذهب إذا بيع بذهب أو فضة، وإنما يقوى مظنته للقوت إذا بيع بقوت، أو ما هو كالقوت. فأما إذا بِيع القوتُ بالذهب أو الفضة، فإن مظنة الاحتكار تضعُفُ جدًّا. والغالب فيمن يشتري القوت بذهب أو فضة إلى أجل أن يكون ليس بيده ذهب ولا فضة، بدليل رضاه بزيادة الثمن. والغالب على من استسلم ذهبًا أو فضة في قوتٍ إلى أجل أن لا يكون عنده قوت في الحال. قلت: إذا فرضنا أن البلدة تقتات البر، فشراؤه بالشعير نقدًا بنقد ينقض الاحتكار حتمًا. وأما إذا كان البر مؤجلًا فلم ينتقض الاحتكار. وإذا فرضنا أنها تقتات الشعير، فشراؤه بالبر نقدًا بنقد ينقض الاحتكار، وأما إذا كان البر مؤجلًا فلا فإن قيل: فعلى هذا ينبغي إذا كانت البلدة تقتات البر أن يحلَّ بُرٌّ معجَّلاً بشعيرٍ مؤجَّلاً، وإذا كانت تقتات الشعير أن يحِلَّ شعيرٌ معجلًا ببرٍّ مؤجلًا.

قلت: إنما أُحِلَّ ذلك - والله أعلم - لأنه قلَّما يكون التاجر محتكرًا للبرّ والشعير معًا، بل إما أن يحتكر البرّ، وإما أن يحتكر الشعير. وعلى هذا فإذا تبايعا نقدًا، فقد انفضَّ احتكارُهما معًا؛ لأن محتكر البر يحتكره على الناس جميعًا حتى على محتكر الشعير، ومحتكر الشعير يحتكره على الناس جميعًا حتى على محتكر البر. فإن قيل: ولماذا ضيق في النسيئة؟ قلت: لأن البيع بالنسيئة لا ينقض احتكارهما معًا، وإنما ينقض احتكار صاحب العوض المعجل، ويبقى احتكار الآخر على حاله. ****

فصل

[ص 45] بسم الله الرحمن الرحيم فصل اعلم أن الرجل قد يكون محتكرًا لواحدٍ من الستة فقط، وقد يكون محتكرًا للذهب والفضة معًا، وقد يكون محتكرًا للأربعة الباقية، أو ثلاثة منها، أو اثنين، ويبعد أن يجمع بين احتكار الذهب أو الفضة أو كليهما، وبين احتكار الأربعة الأخرى أو بعضِها. فإذا كان أحد العوضين ذهبًا أو فضة، والآخر واحدًا من الأربعة، فليس في هذا ما يدل على الاحتكار أصلاً، فإن اتفق الاحتكار فقد انتقض بهذا العقد، والمقصود من التضييق هو نقض الاحتكار، وقد انتقض. وأما بيع الذهب بالفضة، وواحدٍ من الأربعة الباقية بآخرَ منها، فإن كان يدًا بيدٍ فالظاهر عدم الاحتكار؛ لأننا إذا فرضنا أن أحدهما محتكر للذهب، والآخر محتكر للفضة، فقد انتقض احتكارهما. وإن فرضنا أن كلاًّ منهما محتكر للذهب والفضة معًا، فمحتكر الذهب والفضة معًا يبعد أن يبيع ذهبًا بفضة أو فضةً بذهب، إلا إذا حصل له ربح وافر، هذا شأن المحتكر، والربح الوافر لا يحصل عادةً في التبايع يدًا بيد. وقِسْ عليه أحد الأربعة الباقية بآخرَ منها يدًا بيد. وإن كان نسيئةً فاحتمال الاحتكار أقوى؛ لأن النسيئة يَصحبُها عادةً الربحُ الوافر، فمحتكر الذهب والفضة يرضى أن يدفع دينارًا صَرْفُه في السوق خمسة عشر درهمًا بعشرين درهمًا إلى أجل، أو يدفع عشرة دراهم بدينارٍ إلى أجل، وقد يرضى أن يأخذ دينارًا نقدًا ليدفع عشرين درهمًا بعد مدةٍ، أو

يأخذ عشرة دراهم ليدفع دينارًا بعد مدة؛ لأنه يعدُّ الأجلَ ربحًا؛ لرجائه أنه إذا أخذ الدينار ليدفع عشرين درهمًا بعد ستة أشهر، يجد من يأخذ منه الدينار بعشرين درهمًا إلى أربعة أشهر، وإذا أخذ عشرة دراهم بدينار إلى ستة أشهر يجد من يأخذها منه بدينار إلى أربعة أشهر. وقِسْ على ذلك أحد الأربعة بآخر منها. فإن اتفق أن يكون متبايعا الذهب بالفضة وأحدُهما مؤجل، غير محتكرينِ للذهب والفضة، ولا قصد أحدهما ربحًا من جهة الزيادة، ولا من جهة الأجل، فهذه جزئيات خاصة، لا تمنع عموم الحكم كما قررناه في أول الرسالة، ومثَّلناه بحدِّ الزنا. [ص 46] وأما بيع أحد الستة بجنسه فاحتمال الاحتكار أقوى، فالمتبايعان ذهبًا بذهبٍ قد ظهر حرصُ كلٍّ منهما على جنس الذهب، إذ لم يدفع ذهبه إلا بذهبٍ مثله. لكنه إذا كان يدًا بيد، فإن كانا متماثلين من كل وجه، كدينار بدينار مثله، فهذا ليس من مقاصد العقلاء، وإنما أباحه الشارع؛ لأنه لا ضرر فيه، ولو منعه لم يلزم من ذلك تضييق عليهما، ولا على أحدهما. فإن قيل: قد يتفق القصد والتضييق، كأن يقول رجل: امرأتي طالق إن لم أُخرِج هذا الدينار من ملكي اليوم، فله غرض في إخراجه من ملكه،، فإذا أُبيح له أن يبدله بدينار آخر حصل غرضُه، ولو مُنِع منه لاضطر أن يصرفه، أو يشتري به عرضًا، أو يهبه مثلاً، فإذا كان محتكرًا كان في المنع تضييقٌ عليه. قلت: هذه الصورة ومثلُها من النادر الذي لا ينتقض به الحكم العام، كما قررناه في أول الرسالة.

وإن لم يكونا متماثلين من كل وجه، فإما أن يستويا قدرًا: وزنًا في الذهب والفضة، وكيلًا في الباقي، وإما أن يختلفا. فإذا استويا قدرًا، فالغالب أن يكون أحدهما أفضل وصفًا: جودةً أو صنعةً، فَرِضا صاحبِ الأفضل بالخسران يدل أنه ليس بمحتكر، إذ من شأن المحتكر الحرصُ على الربحِ وتجنُّبِ الخسارة. فإن كان في كلٍّ منهما فضلٌ ليس في الآخر، كدينار بخاتم ذهب، في الدينار فضيلة الضرب، وفي الخاتم فضيلة الصنعة، فإن لم تتعادل الفضيلتان، كأن كان قيمة الخاتم لو بيع بدراهم عشرين درهمًا، وصَرْفُ الدينار سبعة عشر درهمًا، أو عكس ذلك، فكالذي قبله. أما تعادلُهما فنادر، ولا يكاد ينضبط، فلهذا - والله أعلم - أُلحِق بما قبله. وأما إذا كان أحد العوضين مؤجلاً، فإن كان ذلك العقد لو وقع يدًا بيد لما صح، فبالأولى أن لا يصح إذا كان نسيئةً، ولو أجيز بعض ذلك نسيئةً لاحتال كلُّ متعاقدينِ يريدانِ أن يتعاقدا بما لا يحل نقدًا، فأخَّرا أحدَ العوضين يومًا أو يومين، حيلةً لتصحيحِ العقد. وإن كان ذلك العقد لو وقع يدًا بيدٍ لجاز، فقد قدَّمنا أن الجواز هناك إنما هو لرضا أحدهما بالخسارة، وذلك دليل أنه ليس بمحتكر، فإذا كان نَساءً فيمكن أن يكون محتكرًا، ولكنه جبر النقصان بالأجل، كخاتم ذهبٍ وزنُه دينار، وقيمته في السوق عشرون درهمًا، بِيعَ بدينارٍ مثلِه في الوزن، ولكن صرْف الدينار في السوق خمسة عشر درهمًا، وأجَّلا الدينار إلى شهرين مثلاً، فكأن صاحب الدينار جبر الخسارةَ بالأجل.

وقلَّما يتفق أن يكون الأفضل هو المؤجل، فإن اتفق فنادر، يتبع الغالب. وبالجملة، فالمقصود من هذا الحكم إنما هو التضييق على حابس الذهب والفضة، ومحتكري الأقوات، فضُيِّق عليهم أن لا يتبايعوا الشيء بجنسه إلا مثلًا بمثل، يدًا بيد، ولا الشيء منها بما يقاربه إلا يدًا بيد. فالتبايع بالنسيئة يقل احتياج الناس إليه، بدليل أن وقوعه أقل من وقوع التبايع يدًا بيد، فاقتضى التضييقُ منعَه البتَّةَ؛ لأن الحاجة إليه قليلة. وأما التبايع يدًا بيد، فاكتفى باشتراط المثلية في القدر إذا اتحد الجنس، وفي ذلك تضييقٌ لا يبلغ أن يضيّق على من اشتدت حاجته، ولم يشترط المثلية فيما اختلف جنسه؛ لشدة الضيق في ذلك أشدّ مما تقتضيه الحكمة. والله أعلم. [ص 48] واعلم أن تشبيه المعاملة المشروعة بالمعاملة الممنوعة كما يدخل في النسيئة تدخل في النقد أيضًا، فمن باع درهمين بدرهم مثل أحدهما، أو دينارين بدينار كذلك، أو صاعَيْ برٍّ بصاعِ برًّ كذلك، لم يحلَّ، إذ كان المشروع أن يهب صاحب الزائد للآخر درهمًا أو دينارًا أو صاعًا، وتصح الهبة. فأما إذا [كان] (¬1) الدرهم أجود من أحدهما، فأراد صاحب الزائد أن يهبَ للآخر درهمًا، ويبيعه الآخر بدرهمين، فلا يحل؛ لأن الهبة ههنا حيلةٌ لاستحلال البيع المحرم، وقِسْ على ذلك. والله أعلم. ¬

_ (¬1) ليست في الأصل.

فصل

فصل واعلم أن الربا والاحتكار أخوان، يتعاونان على الظلم والعدوان، فكلاهما يريد أن يربح ربحًا وافرًا بدون كثرة تعب في تقليب التجارة، وجلب البضائع من البلدان البعيدة، وغير ذلك مما ينفع الناس. فالمُرْبِي يريد أن يعطي ماله للمحتاجين دَينًا، ثم يستريح هو، ويترك الكدَّ والتعبَ والعناءَ عليهم، ويأخذ هو ثمرةَ كدِّهم وتعبِهم، فإن لم يُثمِر كدُّهم وتعبُهم أخذ صُلْبَ أموالهم، فإن لم يكن لهم شيء ضايقهم حتى يتمنوا الموت. والمحتكر يريد أن يستولي على النقد والقوت، ثم يستريح وينام، ويدع الناس في الضرّ والشدّة، حتى يُربِحوه الربحَ الذي يريد. والمُربِي يَعمِدُ إلى حبس الذهب والفضة، ولا يَصرِفُهما إلا في الربا، ويحتكر القوت مثلاً، ويتربص به حتى يُبذَل له فيه القدر الذي يريده من الربا. وحابس الذهب والفضة يخاف أن يتَّجر تجارةً شرعية، فيتعب ويتعنَّى، وربما خسر، ويخاف أن يُضارب مضاربةً شرعية، فربما خسر، ويكره أن يُبقِيهما في يده أبدًا؛ لئلا يُفنِيهما بالإنفاق في حاجته، وفي الزكاة إن كان مسلمًا، فيعمِدُ إلى الربا؛ لأنه ربح وافرٌ مضمونٌ بدون تعبٍ ولا عناء. ومحتكر البرِّ مثلًا ربما لم يرتفع السعر إلى القدر الذي كان يتوقعه، وسوَّسَ البرُّ الذي بيده، فيكره أن يُبقِيه فيتلَف، أو يبيعه بسعر وقته فيخيب أملُه، أو يبيعه بدراهم نسيئةً، فيحتاج إلى تعبٍ بأن يطالب أولاً بالدراهم، ثم

يأخذها ويشتري البر حينئذٍ، ويحتكره مرة أخرى، ولعل المشتري يَمْطُله بالدراهم وقتَ رخصِ البر، فأوثقُ الطرق عنده هو أن يعطيه بالربا، فيُقرِضه إلى وقت الحصاد بشرطِ زيادة، ليأخذه حينئذٍ، فيحتكره مرةً أخرى، وإن مَطَلَه المشتري وقتَ الحصاد فرح بذلك، لأن [في ذلك] مصلحةً [له]. فلا يُنكَر أن تُطلِق الشريعةُ على ما حُرِّم من البيوع لأجل الاحتكار أنه ربًا، وهكذا إطلاقُها الربا فيما حُرِّم لتشبيه المعاملة بالربا. والله أعلم. ****

خاتمة

[ص 49] خاتمة حيث قلنا: إن العلة هي الاحتكار، فمرادنا أنه هو المعنى الذي شُرِعَ هذا الحكم للتضييق على أهله. وأما العلة الفقهية: فهي ضابطة، وهي كون العوضين مما يضرُّ احتكاره بالناس ضررًا شديدًا متقاربين في المنفعة المقصودة مع النسيئة، أو متفقين في الجنس مع الفضل في القدر. فأنت ترى أن هذه العلة تعمُّ كل ما حُرِّم في مبايعات هذه الستة. وأما الربا فهو خاص بالنسيئة، كما نصَّ عليه الشارع، ودخوله فيما إذا بيع أحدهما بجنسه نسيئةً مع فضلٍ في المؤجَّل بالقدر أو الوصف واضح. وأما فيما عدا ذلك ففيه نظر، إلا أنه قوي في الذهب والفضة كما تقدم. وأما تشبيه المعاملة المشروعة بالمعاملة الممنوعة فهو خاص بما حُرِّم من المبايعات في هذه الستة، وهو في المعنى معاملة أخرى جائزة. وهذه لا يُحتاج إليها مع الاحتكار إلا من جهة تقليل الصور النادرة التي تتخلف فيها الحكمة المقصودة، ومن جهة الفرق بين القرض والهبة وبين البيع في بعض الصور. وبمقتضى ما وصفناه - من أن العلة منعُ كلٍّ من الستة بجنسه متفاضلًا نقدًا، ومنع الذهب بالفضة نسيئةً، وأحد الأربعة الباقية بآخر منها نسيئة هي الاحتكار - قال مالك رحمه الله. فلم يَعْدُ الحكمُ في منعِ التفاضل نقدًا، ومنعِ النسيئة مع اختلاف الجنس، إلا إلى الأقوات ومُصلِحاتها.

كأنه رأى أن الاحتكار إنما يشتدُّ ضررُه فيها على ما هو معروف في مذهبه في تحريم الاحتكار، ولما كان مذهبه ظاهرَ المناسبة، ولا يصادم نصّا ظاهرًا، رأيتُ الاقتصار عليه. وبمقتضى ما ذكرناه من أن العلة في بيع كل من الستة بجنسه نسيئةً هي الربا، قال أبو حنيفة ومالك رحمهما الله، فعدَّيا الحكمَ إلى جميع الأشياء، فمنعا بيعَ الثوب بجنسه، وغير ذلك، إلا أن مالكًا رحمه الله تعالى يقول: إذا اختلفت المنفعة المقصودة جاز وإن اتحد الجنس، كالبعير النجيب بالبعير من حاشية الإبل. وحجته أن اختلاف المنفعة المقصودة يصيِّر الجنسَ جنسين. وقيَّد ذلك بعض أصحابه بما إذا كان الأفضل هو المعجّل، وخالفه غيره. وأرى أن مذهب أبي حنيفة رحمه الله أضبط وأولى. ومن قال بقول مالك فينبغي له أن يُقيِّد بالقيد المذكور؛ لظهور الربا في بيع البعير من حاشية الإبل مُسلَمًا في الحال ببعيرٍ نجيبٍ إلى أجل. والمسألة تستدعي بسطًا لا أرى هذا محلَّه. والله أعلم. ولما كان مذهب أبي حنيفة في هذا ثم مذهب مالك هو الراجح رأيتُ الاقتصار عليه، وليكن هذا آخرَ القسم الأول. ***

القسم الثاني في البحث مع صاحب الاستفتاء

القسم الثاني في البحث مع صاحب الاستفتاء خلاصة الاستفتاء لخَّص صاحب الاستفتاء رسالته في أربعة مقاصد: الأول: أن الربا المنهي عنه في القرآن مجمل عند الحنفية وغيرهم، حتى يصحّ أن يقال: اتفقت عليه الأمة. الثاني: أن السنة فسَّرته بحديث عبادة وغيره: "الحنطة بالحنطة ... " (¬1)، وبالآثار في ربا الجاهلية، وهو الزيادة عند حلول أجل الدين في مقابل مدِّ الأجل. والقرض ليس بدين، لأنه لا يكون إلى أجل عند الفقهاء، فعلى هذا لا يكون الربا إلا في البيع. الثالث: أن النفع المشروط في القرض ليس بربا منصوص. الرابع: أن النفع المشروط في البيع لا يصح قياسه على الربا المنصوص ولو صحَّ فالأحكام القياسية قابلة للتغيُّر بتغير الزمان، فلا محيصَ من تحليله في هذا الزمان، كما قالوا بجواز الاستئجار على تعليم القرآن والأذان والإمامة وغيرها، مع أن حرمة الاستئجار في بعض ذلك ثابت بالنص. **** ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1588) من حديث أبي هريرة، ونحوه (1587) من حديث عبادة.

الكلام على المقصد الأول

[ق 6] الكلام على المقصد الأول للمستفتي ثلاثُ حِجاجٍ على أن لفظ "الربا" في القرآن مجمل: الأولى: الإجماع، ونَقَل عدة عبارات من كتب الحنفية وغيرهم. الثانية: أن الكتاب والسنة والإجماع وردت بجواز بعض الزيادات، كالربح في البيع، والزيادة تفضُّلًا عند القضاء. الثالثة: ما رُوي عن عمر أنه قال: "كان من آخر ما أنزل الله تعالى على رسوله آية الربا، فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يفسِّرها لنا، فدعُوا الربا والريبة" (¬1). والجواب عن الأولى بمنع الإجماع، كيف وقد نقل صاحب الاستفتاء نفسه عن "مقدِّمات ابن رشد المالكي" (بحوالة ج 3 ص 41) ما لفظه: "وقد اختُلف في لفظ الربا الوارد في القرآن، هل هو من الألفاظ العامة يُفهم المراد بها وتُحمل على عمومها حتى يأتي ما يخصُّها، أو من الألفاظ المجملة؟ ... ". ونقل أيضًا عن كتاب "أحكام القرآن" (¬2) لابن العربي المالكي: "اختلفوا هل هي عامة في تحريم كل ربا، أو مجملة لا بيانَ لها إلا من غيرها؟ والصحيح أنها عامَّة ... ". ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (246، 350) وابن ماجه (2276) وغيرهما. وسيأتي الكلام عليه عند المؤلف. (¬2) (1/ 241).

ونقل أيضًا عن الطحاوي ما يُعلَم منه أنها عنده ليست بمجملة، وسيأتي ذلك إن شاء الله. وقال [إلكيا الهراسي] (¬1) الشافعي في كتابه "أحكام القرآن": [ونُقل عن الشافعي أن لفظ الربا لمَّا كان غير معلوم، أورث احتمالًا في البيع، والصحيح أن الربا غير مجمل، ولا البيع كما ذكرناه]. وهَبْ أنه لم يُنقل عن أحدِ القولُ بأنها غير مجملة، فهذا لا يمنع أن يذهب ذاهب إلى عدم إجمالها ما دام لم يخَرِقْ إجماعَهم في حكم ينبني عليها. وإنما يكون ذلك من باب إحداث دليل أو تأويل، وقد نصَّ علماء الأصول أنه لا يكون خرقًا للإجماع. فإن قيل: فإنه ينبني على كونها غيرَ مجملة تحريمُ الزيادة المشترطة في القرض، وهي المسألة المستفتى عنها. قلتُ: هم مجمعون على تحريم ذلك، ونصوص العلماء على الإجماع في ذلك لا تُحصى. وممن صرَّح به: الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (¬2)، والباجي المالكي في "شرح الموطأ" (¬3)، وشرَّاح "المنهاج" (¬4) في فقه الشافعية، وغيرهم من الحنفية والحنابلة، وغيرهم (¬5). ¬

_ (¬1) بيَّض في الأصل لاسم المؤلِّف ولكلامه المقتبس من كتابه، فأثبتناه من "أحكام القرآن" (1/ 233) لإلْكيا الهراسي. (¬2) (4/ 313). (¬3) "المنتقى" (/). (¬4) انظر "نهاية المحتاج" (3/ 424). (¬5) انظر "عمدة القاري" للعيني (12/ 45، 135)، و"المغني" لابن قدامة (6/ 436)، و"المحلَّى" لابن حزم (8/ 77، 467 - 468).

وهبْ أنه يمتنع مخالفة الذاهبين إلى الإجمال، أفليس يمتنع مخالفة الإجماع على تحريم الزيادة المشروطة في القرض؟ وقد علمتَ أن الإجماع على الإجمال موهوم، والإجماعَ على التحريم معلومٌ، ومخالفةَ القول بالإجمال من باب إحداث دليل أو تأويل، ومخالفةَ القول بالتحريم خرقٌ لإجماعٍ في حكم شرعي عملي بإحداث حكم آخر. [ق 7] والجواب عن الحجة الثانية أن القائل بالإجماع يقول: إن لفظ "الربا" نُقِل إلى معنى شرعي. ومَن يقول ببقائه على أصل اللغة يقول: هو عام مخصوص، فكل زيادة صحَّ دليلٌ بجوازها خُصَّت من عموم الربا. وقد تقرر في الأصول أن التخصيص أولى من النقل، والعمومات المخصوصة كثيرة في الشريعة حتى قيل: ما من عام إلا وقد خُصَّ، فلو كان كل عام قد خُصَّ يُحمل على الإجمال والنقل، لوجب أن يقال ذلك في جميع الألفاظ العامة المخصوصة، وهذا باطل حتمًا. والجواب عن الحجة الثالثة أن هذا الأثر أخرجه ابن ماجه (¬1) وغيره من طريق سعيد بن أبي عَروبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن عمر. وسعيد وقتادة مدلِّسان، وابن المسيب عن عمر منقطع. ولو صحَّ لم يكن نصًّا في الإجمال، بل يُحمل على أن هناك أمورًا ليست من أفراد الربا لفظًا، ولكنها تُشبِهه من حيث المعنى، وقد تقدم في القسم الأول ما يتضح به ذلك. وكثيرًا ما يرِد في القرآن نصوص على أمور معروفة، فيُلْحِق بها النبي - صلى الله عليه وسلم - ما ليس منها نصًّا، ولكنه في معناها. نَصَّ القرآن على حُرمة الأمِّ ¬

_ (¬1) رقم (2276) وقد سبق تخريجه.

والأخت من الرضاعة، فألحق النبي - صلى الله عليه وسلم - غيرهما بقوله: "يَحرُم من الرضاعة ما يَحْرُم من النسب" (¬1). ونصَّ القرآن على حُرمة الجمع بين الأختين، فألحق النبي - صلى الله عليه وسلم - الجمعَ بين المرأة وعمَّتها أو خالتها (¬2)، وأمثال ذلك كثير. فرأى عمر أن هناك أشياءَ فيها شَبَهٌ من الربا في المعنى، توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يبيِّن أنها تُلحق بالربا أو لا تُلحق. وقوله في آخر الأثر: "فدَعُوا الربا والريبة" صريح في هذا، فتدبَّر. وهبْ أنه أراد الإجمال، فهو قول صحابي، وهبْ أن قول الصحابي حجة، فقد جاء عن عمر وجماعة من الصحابة تحريم الزيادة في القرض كما سيأتي. ولا يُعلم لهم مخالف من الصحابة، بل ولا من غيرهم. فأيُّ القولين أحق بأن يكون حجَّةً؟ والله المستعان. [ق 8] وقد سلك الجصَّاص في كتاب "أحكام القرآن" في الاحتجاج للإجمال مسلكًا أدقَّ مما تقدَّم، فقال: "والربا الذي كانت العرب تعرفه وتفعله إنما كان قرض الدراهم والدنانير إلى أجلٍ بزيادة على مقدار ما استقرض على ما يتراضون به. ولم يكونوا يعرفون البيع بالنقد إذا كان متفاضلًا من جنس واحد. هذا كان المتعارف المشهور بينهم، ولذلك قال الله تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} [الروم: 39]، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2645) ومسلم (1447) من حديث ابن عباس. (¬2) أخرجه البخاري (5109) ومسلم (1408) من حديث أبي هريرة. وفي الباب أحاديث أخرى.

فأخبر أن تلك الزيادة المشروطة إنما كانت ربا في المال العين، لأنه لا عوضَ لها من جهة المقرض. وقال تعالى: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130]، فأبطل الله تعالى الربا الذي كانوا يتعاملون به، وأبطل ضروبًا من البياعات سمَّاها ربًا، فانتظم قوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] تحريمَ جميعها لشمول الاسم عليها من طريق الشرع". (ج 1 ص 465). وحاصله: أن العرب لم تكن تعرف للربا معنى إلا القرض إلى أجل بشرط زيادة. وقد بيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - في بياعات أخرى أنها ربا، فعُلِم أن الربا في عُرف الشرع أعم منه في عُرف أهل اللغة، فثبت النقل والإجمال. والجواب: أن هذا الاستدلال لا يتم إلا بمقدمتين: الأولى: أن لفظ الربا لغةً أو عُرفًا سابقًا نزولَ القرآن لا يعم البياعات التي نصَّت السنة أنها ربا. الثاني (¬1): أن تكون السنة نصَّت على ما يعلم منه أن تلك البياعات يتناولها لفظ الربا في القرآن بعموم لفظه. فأما المقدمة الأولى، فقد ادَّعى الجصَّاص - كما تقدم ونقله صاحب الاستفتاء - أن الربا الذي كان متعارفًا بين العرب "إنما كان قرض الدراهم والدنانير إلى أجلٍ بزيادة على مقدار ما استقرض". وقال الفخر الرازي في "تفسيره" (¬2) كما نقله صاحب الاستفتاء أيضًا: ¬

_ (¬1) كذا في الأصل بالتذكير. (¬2) (7/ 62) ط. دار الفكر.

"أما ربا النسيئة فهو الأمر الذي كان مشهورًا متعارفًا في الجاهلية. وذلك أنهم كانوا يدفعون المال على أن يأخذوا كلَّ شهر قدرًا معيَّنًا، ويكون رأس المال باقيًا، ثم إذا حلَّ الدين طالبوا المديون برأس المال، فان تعذَّر عليه الأداء زادوا في الحق والأجل. فهذا هو الربا الذي [كانوا] يتعاملون به". وقال ابن العربي في "أحكام القرآن" (¬1) كما نقله صاحب الاستفتاء أيضًا: [ق 9] "وكان الربا عندهم معروفًا، يبايع الرجلُ الرجلَ إلى أجل، فإذا حلَّ الأجل قال: أتقضي أم تُربي؟ يعني أم تزيدني على ما لي عليك، وأصبِرُ أجلًا آخر". وقال الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (¬2) كما نقله صاحب الاستفتاء أيضًا: "إن ذلك الربا - يعني في حديث "الربا في النسيئة" - إنما عنى به ربا القرآن الذي كان أصله في النسيئة، وذلك أن الرجل كان يكون له على صاحبه الدينُ فيقول له: أجِّلْني منه إلى كذا وكذا (على كذا وكذا) (¬3) درهمًا أزيدها في دينك". وقد رد المستفتي كلَّ ما قيل في ربا الجاهلية فقال: "لم يتبيَّن إلى الآن بسند مرفوع ربا الجاهلية في أي شيء كان؟ فهو مجهول". أقول: سواءٌ علينا أَعَرفنا ربا الجاهلية أم لم نعرفه، ينبغي لنا تحقيق الربا في اللغة، فإنه على فرض معرفة ربا الجاهلية لا يخرج عن كونه هو الربا ¬

_ (¬1) (1/ 241). (¬2) (4/ 65). (¬3) ما بين القوسين من المؤلف، وعند الطحاوي: "بكذا وكذا".

الربا في اللغة

اللغوي بجميع أنواعه أو ببعض أنواعه. فإن كان بجميع أنواعه فلا كلام، وإن كان ببعض أنواعه - ولفظ الربا في القرآن يعمُّها وغيرَها - فلا وجه لتخصيصه بالنوع الذي كان المشركون يستعملونه، لما تقرَّر في الأصول أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ونظير هذا لفظ "الخنزير" حُرِّم لحمه في القرآن، فلو وُجد بأمريكا ضربٌ من الخنازير مخالف في الصورة لِما كان موجودًا منها في أرض العرب لكان مما يشمله عموم القرآن اتفاقًا. وهكذا ما ورد من الأحكام الشرعية في "الإبل" يعمُّ إبلَ إفريقية التي يكون للبعير منها سنامان وإن لم يكن ذلك في أرض العرب. وأمثلة هذا أكثر من أن تحصى. الربا في اللغة أكثر أهل اللغة ومَن حكى عنها (¬1) من المفسرين والفقهاء وغيرهم يقولون: الربا: الزيادة. وقيَّده الراغب فقال (¬2): "الزيادة على رأس المال، لكن خُصَّ في الشريعة بالزيادة على وجهٍ دون وجه". وزاد الثعلبي قيدًا فقال - كما نقله النووي في "تهذيب الأسماء واللغات" (¬3) -: "الربا زيادة على أصل المال من غير بيع". والظاهر أن هذا تفسير لغوي، ولكن النووي نقل عن الواحدي قال (¬4): "الربا في اللغة الزيادة ... قال: والربا في الشرع اسم للزيادة على أصل المال من غير بيع". ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولعل الصواب "عنهم". (¬2) "مفردات ألفاظ القرآن" (ص 340). (¬3) (2/ 1/ 117). (¬4) المصدر نفسه (2/ 1/ 118)

وفي "اللسان" (¬1): "رَبا الشيءُ يَرْبو رُبُوًّا ورِباءً: زاد ونما. وأربيتُه: نمَّيته. وفي التنزيل العزيز: {وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276]، ومنه أُخِذ الربا الحرام. قال الله تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} [الروم: 39]. قال أبو إسحاق (¬2): يعني به دفع الإنسان الشيء ليُعَوَّض به ما هو أكثر منه، وذلك في أكثر التفسير ليس بحرام، ولكن لا ثواب لمن زاد على ما أخذ. قال: والربا رِبَوان: فالحرام كلُّ قرضٍ يؤخذ به أكثرُ منه أو تُجَرُّ به منفعة، فحرام. والذي ليس بحرام أن يهبه الإنسان يستدعي به ما هو أكثر، أو يُهدِي الهديَّة ليُهدَى له ما هو أكثر منها. قال الفرَّاء (¬3): ... فمن قرأ: {لِتَرْبُوْ} فالفعل للقوم الذين خوطبوا ... ومن قرأها: {ليَرْبُوَ} فمعناه: ليربو ما أعطيتم من شيء لتأخذوا أكثر منه، فذلك رُبُوّه". أقول: والعرب لا يزالون إلى الآن يُطلقون الربا على الزيادة المشروطة في القرض. ولو سألت أحدهم عن الربا لفسَّره لك بذلك، ولو سألته عن هذه المعاملة ما اسمها؟ لقال لك: هذا الربا. غير أن أهل مصر ونحوها لما حاولوا استحلال الربا سمَّوه بغير اسمه فقالوا: "الفائض"، وربما يسمِّيه بعضهم "فائدة"، ومع ذلك لو سألت عامَّتهم عن الربا لفسَّروه لك هذا التفسير المعروف عند غيرهم من العرب. فإن قلت: العوام من العرب قد تغيَّرت لغتهم. ¬

_ (¬1) (19/ 17) ط. بولاق. (¬2) هو الزجاج، وكلامه في "معاني القرآن" له (4/ 187). (¬3) انظر "معاني القرآن" له (2/ 325).

قلت: إنما تغيَّرت بتحريف بعض الكلمات أو دخول كلمات أعجمية. فأما الكلمات العربية التي لا يزالون يتكلمون بها فلا تكاد كلمة منها قد عمَّ استعمالها في غير وضعها الأصلي. وعلى طريق الاستصحاب المقلوب المعروف في الأصول نقول: الظاهر أن المعنى التي يستعمل فيه العرب الآن كلمةَ الربا هو المعنى التي كان أجدادهم يستعملونها فيه قبل الإِسلام. [ق 10] ومما يؤيد ذلك أن ألفاظ المعاملات الأخرى كالبيع والإجارة والهبة وغيرها لا يزال العرب يستعملونها في معانيها العربية الصحيحة. ثم تدبرنا القرآن فوجدنا فيه الدلالة على أن الربا المذكور فيه هو زيادة يستزيدها الإنسان من صاحبه على رأس المال الذي دفعه إليه من غير بيع ولا أخذ عوضٍ يدًا بيدٍ. فإن قلنا: إن الربا في اللغة موافق لذلك على ما يظهر من بعض الأقوال السابقة فلا كلام، وإن قلنا: إن الربا في اللغة أعم من ذلك كأن يكون هو الزيادة مطلقًا فالدلائل القرآنية تكون مخصصة لعموم لفظ الربا، ولا يلزم من ذلك نقلٌ ولا إجمال، وإلا لزم أن يكون كل عام مخصوصٍ منقولًا [أو] مجملاً، وقد تقدم بطلانه. ولو ثبت النقل لم يلزمه الإجمال، بل يقال: الربا في القرآن مبين فيه، وهو زيادة يستزيدها الإنسان ... إلخ. بيان ذلك: قال الله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ

(274) الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 274 - 280]. فقوله: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} ظاهر في أن الربا معاملة غير البيع. وقوله: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} ظاهر في أن الربا زيادة صورية في المال، كما أن الصدقة نقص صوري في المال. وقوله: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} ظاهر في أن تلك الزيادة تتأخر عن عقد المعاملة، ويبقى المُرْبي يطالب بها مُعامِلَه. وقوله: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} صريح في أن تلك الزيادة هي زيادة على رأس المال يستزيدها المُرْبي من معامِله، وأن من شأن تلك المعاملة أن يتأخر رأس المال عند المطلوب، ويبقى المعطي يطالب به وبالزيادة. [ق 11] وإذ قد تقرَّر أن في القرآن الدلالة على أن الربا هو زيادة يستزيدها الإنسان من صاحبه على رأس المال الذي دفعه إليه من غير بيع ولا عوضٍ

يدًا بيد، فلننظر فيما دلت السنة على أنه ربا. فأشهر ذلك حديث "الصحيحين" (¬1) عن عمر مرفوعًا: "الورِقُ بالذهب ربا إلا هاءَ وهاءَ، والبر بالبر ربا إلا هاءَ وهاءَ، والشعير بالشعير ربا إلا هاءَ وهاءَ، والتمر بالتمر ربا إلا هاءَوهاءَ". ("صحيح مسلم" ج 5 ص 43). وحديثهما (¬2) عن عُبادة: "سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح إلا سواء بسواء، عينًا بعين، فمن زاد أو ازداد فقد أربى". ("صحيح مسلم" ج 5 ص 43). ونحوه حديث أبي سعيد الخدري (¬3)، وفي آخره: "مثلًا بمثلٍ، يدًا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذُ والمعطي فيه سواء". ("صحيح مسلم" ج 5 ص 44). ونحوه حديث أبي هريرة (¬4)، وفيه: "مثلًا بمثل يدًا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى" (أيضًا). وحديث البراء بن عازب وزيد بن أرقم (¬5) في بيع الورق بالذهب نسيئةً، وفيه مرفوعًا: "ما كان يدًا بيد فلا بأس، وما كان نسيئة فهو ربًا" ¬

_ (¬1) البخاري (2134) ومسلم (1586). (¬2) أخرجه مسلم (1587)، ولم أجده عند البخاري. (¬3) أخرجه البخاري (1176) ومسلم (1584). (¬4) أخرجه مسلم (1588). (¬5) أخرجه البخاري (3939، 3940) ومسلم (1589).

("صحيح مسلم" [ج 5 ص] 45). وحديث أبي سعيد (¬1): "جاء بلال بتمر بَرْنيّ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أين هذا؟ " فقال بلال: تمر كان عندنا رديء فبعت منه صاعين بصاع لمطعم النبي - صلى الله عليه وسلم -. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك: "أُوَّهْ، عينُ الربا ... " ("صحيح مسلم" ج 5 ص 48). فالجصاص يقول (¬2): دلت هذه الأحاديث أن الربا يكون في البيع، ولم تكن العرب تعرف ذلك. وفيها أن بيع واحدٍ من الستة بجنسه متفاضلًا نقدًا ربا، ولم تكن العرب تعرف ذلك. فدلّ هذا أن لفظ الربا قد نقل عن معناه اللغوي إلى معنى شرعي، فيكون في القرآن مجملًا تبيِّنه السنة. والجواب أنه كما أن هذا ليس من الربا اللغوي فليس من الربا في القرآن، لِما قدَّمنا أن سياق القرآن يدل أن الربا الذي ذكره غير البيع، وأنه إنما يكون في النسيئة وإذا كان الأمر هكذا فلا يمكن أن تكون هذه الأحاديث بيانًا للربا الذي في القرآن، بل الصواب ما نحا إليه الطحاوي وغيره، وحاصله - مع إيضاح وتكميل - أن ما حرَّمه النبي - صلى الله عليه وسلم - من البيوع وسماه ربا، منه ما هو في معنى الربا كبيع الشيء بأزيدَ منه من جنسه نسيئةً، إذ لا فرق بينه وبين الربا المذكور في القرآن إلا لفظ البيع؛ ومجرد اختلاف اللفقظ يغيِّر الحكم، وإلا لفسدت السماوات والأرض. وكذا بيع الذهب بالفضة [نسيئة] على ما ظهر لي. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2312) ومسلم (1594). (¬2) في "أحكام القرآن" (1/ 464، 465) بمعناه. وقد سبق النص فيما مضى.

ومنها ما أراد بتسميته ربا أنه كالربا على ما تقدم إيضاحه في القسم الأول. ****

الزيادة المشروطة في القرض ربا منصوص في الكتاب والسنة

[ق 12] الزيادة المشروطة في القرض ربا منصوص في الكتاب والسنة قد علمتَ دلالة القرآن على تفسير الربا الذي فيه، وأنه على طِبق اللغة، حتى على القول بأن الربا لغةً هو مطلق الزيادة؛ إذ غاية ما هناك أن القرآن حفَّه بقرائن تخص الربا المحرم من مطلق "الربا" بمعنى مطلق الزيادة، وذلك لا يخرجه عن الحقيقة اللغوية. وعلى كل حال فقد تبيَّن بالقرآن نفسه معنى الربا فيه، وذلك المعنى يصدق بالزيادة المشروطة في القرض كما لا يخفى. وعلى هذا فهي ربًا بنص القرآن. وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم: 37 - 39]. اختلف الناس في تفسير الربا في هذه الآية، فجاء عن ابن عباس وجماعة من التابعين وغيرهم تفسيره بالهدية طمعًا في عوضٍ أكثرَ منها (¬1)، وعن جماعة تفسيره بإعطاء الرجل قريبَه لغير وجه الله (¬2)، وعن الحسن ¬

_ (¬1) انظر "تفسير الطبري" (18/ 503 - 505). (¬2) المصدر نفسه (18/ 506).

والسدي - واختاره الجبائي كما في "روح المعاني" (¬1) - أنه الزيادة المعروفة في المعاملة التي حرَّمها الشارع. ومن حجة القولين الأولين أن السياق في الإنفاق، فكأنه قسَّم الإنفاق بغير عوض إلى قسمين: قسمٍ يُراد به وجه الله، وقسمٍ بخلافه. وسمَّى الثاني (ربا) تشنيعًا له، وسمَّى الأول (زكاة) ترغيبًا فيه. وحجة أخرى، وهو أنه قال: {فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ}. ولو كان المراد الربا الحرام لكان المناسب فيما يظهر أن يصرِّح بما فيه زجر ووعيد. ومن حجة القول الثالث: أن المتبادر من الربا هو الربا الحرام، سواءٌ أقلنا إنه حقيقة لغوية أم لا. ويكفي في تبادره أن هذا اللفظ إنما ذكر في القرآن في الربا الحرام، فالأولى إلحاقه في هذا الموضع بسائر المواضع. وجوابهم عن الحجة الأولى بأن آيات البقرة في الربا الحرام قطعًا، والسياق سياق الإنفاق. وقد تقدمت الآيات وقد تقدم وجه ذلك، وذكرنا نحوه عن الراغب. ومثل ذلك قوله عزَّ وجلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ} [آل عمران: 130 - 134]. ¬

_ (¬1) (21/ 45). وانظر "تفسير القرطبي" (14/ 37).

وعن الثانية بأن الآية من سورة الروم وهي مكية، وتحريم الربا والتشديد فيه إنما كان بالمدينة، فسبيل الربا سبيل الخمر في وقوع تحريمه على التدريج، فاقتُصِر أولاً على قوله: {فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ}، ثم نزلت عقب غزوة أحد قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً}، ثم كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبين بعض ما يتعلق بالربا على حسب ما يقتضيه الحال. ثم نزلت آيات البقرة. وفي "البخاري" (¬1) وغيره عن ابن عباس أنها آخر آية أُنزلت. وروي كما في "الفتح" (¬2) أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يَعِشْ بعدها إلا إحدى وعشرين، وقيل: تسع ليال، وقيل: سبعًا. وفي "البخاري" (¬3) وغيره من حديث عائشة: "لمَّا نزلت الآيات من آخر سورة البقرة في الربا فقرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الناس، ثم حرَّم التجارة في الخمر". وثَمَّ ما يدل على أن تحريم التجارة في الخمر قد كان قبل ذلك، فكأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أعاده عند نزول آية الربا تنبيهًا على المشابهة بينهما. والله أعلم. على أنه إن كان الربا في اللغة يشمل الزيادة [ق 13] الملتمسة بالهدية، فالأولى أن يقال: إن الربا في آية الروم يعمُّ النوعين. وارجعْ إلى ما تقدَّم في عبارة "اللسان". ¬

_ (¬1) رقم (4544). (¬2) (8/ 205). (¬3) رقم (4540).

أما ظهور الآية في الزيادة المشروطة في القرض فهذا بيانه: قوله تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا} ظاهر في أن رأس المال فيه الربا من حين إيتائه، أي إعطائه، فلا يكون الربا هنا هو أن يكون للرجل على آخر دينٌ من وجه حق إلى أجل، فإذا حال الأجل مدَّ له فيه على أن يزيده على رأس المال. فإنه على هذا لم يكن رأسُ المال ربًا حين إعطائه، فتدبر. وقوله تعالى: {لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ} ظاهر في أن المال المعطى نفسه يبقى في مال الآخذ، وهذا لا يصدق على إهداء ثوب على طمع أن يكافأ عليه بأكثر من ثمنه. فأما دينار بدينارين إلى أجل، فالدينار المأخوذ كأنه باقٍ في مال الآخر يربو فيه حتى يصير دينارين. وقال الله عزَّ وجلَّ: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 160 - 161]. وفي التوراة الموجودة بأيدي اليهود والنصارى الآن: "لا تُقرِضْ أخاك بربا ربا فضة أو ربا طعام أو ربا شيء ما مما يُقرَض بربا. للأجنبي تُقرِض [بربا] (¬1)، ولكن لأخيك لا تُقرِض بربا" (سفر التثنية، الإصحاح 23، الفقرة 19 (¬2) - 20). وفيها مواضع أخرى مصرحة بأن الربا في القرض، وأن اليهود عصوا وأخذوه من إخوتهم وغيرهم. انظر "دائرة المعارف" للبستاني (¬3) تحت ¬

_ (¬1) زيادة من "العهد القديم". (¬2) في الأصل: "16 - " سبق قلم. (¬3) (8/ 513).

كلمة "ربا". وهذا وإن لم يكن حجة لعدم الوثوق بالتوراة التي بأيديهم، ففيه تقوية لِمَا تقدَّم. نبَّهني عليه الفاضل نور محمد أبو الفداء الفاروقي رحمه الله. وأما السنة، فأولاً: الأحاديث المطلقة في ذم الربا. وثانيًا: الأحاديث التي فيها "الذهب بالذهب" "الدينار بالدينا" ونحوها بدون ذكر بيع. ومنها حديث أبي هريرة (¬1) مرفوعًا: "الذهب بالذهب وزنًا بوزن مثلًا بمثل، والفضة بالفضة وزنًا بوزن مثلًا بمثل، فمن زاد أو استزاد فقد أربى" (صحيح مسلم ج 5 ص 45). وحديثه (¬2) مرفوعًا: "الدينار بالدينار لا فضل بينهما، والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما". وشرَّاح الحديث يحملون ذلك على البيع، ولا أرى له وجهًا صحيحًا، ولا سيما في الحديث الثاني، فإن قرض الدينار ليُقضى بدينار لا فضل بينهما أمر معروف مألوف، بخلاف بيع دينار بدينار لا فضل بينهما، فتدبَّر. ثم رأيت الباجي قد نبَّه في "شرح الموطأ" على ما ظهر لي، قال: "وقوله: الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم، يقتضي ثلاثة أشياء: المبايعة والمبادلة والقضاء ... فأما القضاء فقد يكون قضاءً عن سلف وقضاءً عن غير سلف ... " (المنتقى ج 4 ص 260). ويمكن أن يُعترض على هذا بأن المستقرض إذا زاد عند الأداء عن طيب نفس لم يكن ذلك ربًا، بل هو مستحب لحديث: "خياركم أحسنكم ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) أخرجه مسلم (1588/ 85).

قضاءً" (¬1) وغيره. والجواب: أن قوله "فمن زاد" عام، والمستقرض الزائد عند الأداء عن طيب نفس خاص، فيُحمل العام على الخاص، ويبقى العام حجةً في الباقي. وسيأتي الفرق بين هذه الزيادة حيث جازت وبين الزيادة في بيع الفضة بالفضة يدًا بيد حيث مُنِعت، وإن طابت النفس، فانتظر (¬2). [ملحق 1] ومن السنة أيضًا أحاديثُ النهي عن بيع الذهب بالذهب إلاَّ مثلًا بمثلٍ يدًا بيدٍ، وأنه من زاد أو ازداد فقد أربى، وهكذا الفضة والبُرّ والشعير والتمر والزبيب والملح. وهذا الدليل خاص بقرضها أو قرض ما في معناها بشرطِ زيادة، فإن قلنا بقول الحنفية: إن البيع لغةً وشرعًا هو تمليك المالِ بمالٍ بإيجابٍ وقبول عن تراضٍ منهما - كما حدَّه الجصَّاص في "أحكام القرآن" (¬3) - كانت دلالة هذه الأحاديث على أن القرض بشرطِ زيادةٍ ربًا بعموم اللفظ، وإذا قلنا: إن البيع لغةً وشرعًا أخصُّ مما قالوه، وإنه لا يتناول القرضَ ولو بشرطِ زيادة = كانت دلالة الأحاديث على ما ذكر من جهة المعنى، أعني أنها قياس من أعلى الأقيسة على ما يأتي تحريره إن شاء الله. ووجه الدلالة أن القرض المطلق أي بلا شرط زيادةٍ إنما سلَخَه الشارع عن البيع؛ لأنه كما نقله صاحب الاستفتاء عن "إعلام الموقعين" (¬4): "من ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2393) ومسلم (1601) من حديث أبي هريرة. (¬2) كتب المؤلف بعدها: (ملحق طويل ص 333). وهو الكلام الآتي من مكان آخر. (¬3) (1/ 469). (¬4) (3/ 111).

جنس التبرع بالمنافع كالعارية ... لا من باب المعاوضات، فإن باب المعاوضات أن يُعطِي كلٌّ منهما أصلَ المال على وجهٍ لا يعود إليه، وباب القرض من جنس العارية والمِنْحة وإفقارِ الظَّهر، مما يُعطَى فيه أصل المال لينتفع بما يستخلف منه، ثم يعيده إليه بعينه إن أمكن، وإلّا فنظيره". ونقل المستفتي عباراتٍ عن كتب الحنفية في التفرقة بين البيع والقرض، حاصلُها: أن البيع مبادلةُ مالٍ بمالٍ بالتراضي ليس فيها معنى التبرع، وقال بعضهم: لا على وجه التبرع. والبيع مبادلة شيء مرغوب فيه بشيء مرغوبٍ فيه. وأما القرض فإعارةٌ، حتى يصح بلفظ "أعرتُكَ"، وتبرُّعٌ حكمًا، وإن كان مبادلةً صورةً، وهو اصطناع معروفٍ وصلة. ثم منهم من قال: هو تبرعٌ ابتداءً مبادلةٌ انتهاءً. ومنهم من قال: تبرعٌ ابتداءً وانتهاءً؛ لأن بدله كأنه عين المقبوض، ولولا ذلك لكان ربًا. وزاد صاحب الاستفتاء قوله: "والحق أن المبادلة في البيع ركنٌ، وفي القرضِ ليس بركنٍ، نعم يستلزمه، وفرقٌ ما بين الالتزام واللزوم؛ لأن مقصود المشتري هو المبيع، ومقصود البائع هو الثمن، وغرضُ كلًّ منهما إخراجُ ما في ملكه وتحصيلُ عوضه، والأحكام تترتب على الالتزام لا على اللزوم". أقول: إذا أُعطي الرجل باسم القرض خمسة آصُعٍ تمرًا رديئًا، وشرط أن يردَّ له خمسة آصُعٍ تمرًا جيدًا مثلاً، كانت هذه مبادلة مالٍ بمالٍ بالتراضي لا على وجه التبرع، لأن حقيقة التبرع هو إعطاء الشيء مجَّانًا بلا عوضٍ. [ص 2] فإن قلت: إن الهبة تبرع، ومع ذلك فقد قال الحنفية بأن الهبة المطلقة يكون لصاحبها الرجوعُ فيها إلاَّ في صور، منها: أن يعطيه الموهوب

له عِوضَها. قلت: قد صرَّحوا بأنه ليس بعوض حقيقةً، وإنما هو هبة مبتدأة، ويدلك على أن الهبة مع ذلك لم تصِرْ معاوضة سقوط حق الرجوع بنحو تصرف الموهوب له في الهبة. وفي "تنوير الأبصار مع شرحه الدر المختار" (¬1) في ذكر عوض الهبة المطلقة: " (ويُشترط فيه شرائط الهبة) كقبضٍ وإفراز وعدم شيوع ولو العوض مجانسًا أو يسيرًا". قال في حاشية "قرة عيون الأخيار" (¬2): "وذلك لأن العوض ليس ببدلٍ حقيقةً، إذ لو كان كذلك لما جاز بالأقل للربا، يحقِّق ذلك أن الموهوب له مالك للهبة، والإنسان لا يُعطي بدلَ ملكه لغيره، وإنما عوضه ليسقط حقُّه في الرجوع. وأيضًا فإنه لما كان العوض تمليكًا جديدًا، وفيه معنى الهبة المبتدأ، ولذا شرط فيه شرائطها، فيجوز بأقل من الموهوب ولو من جنسه، لا فرقَ بين الأموال الربوية وغيرها، ولو كان عوضًا من كلَّ وجه لامتنع في الأموال الربوية إلاَّ مثلًا بمثلٍ يدًا بيدٍ عند اتحاد الجنس" (قرة عيون الأخيار ج 2 ص 438). فإن قلت: فقد قالوا في الهبة بشرط العوض: إنها تبرعٌ ابتداءً. قلت: خالف في ذلك زفر منهم والشافعية وغيرهم، فقالوا: إنها بيعٌ مطلقًا. واعترف قاضيخان في "فتاويه" (¬3) بأن القياس أنها بيع، والقول بأنها ¬

_ (¬1) (8/ 472، 473) بحاشية "قرة عيون الأخيار". (¬2) (8/ 473) ط. دار الفكر ببيروت. (¬3) (3/ 279).

تبرعٌ ابتداءً استحسان فقط. أقول: والاستحسان مختلفٌ في حجيته، وقد فُسِّر في الأصول عدةَ تفاسير يقوى على بعضها ويضعف أو يبطُل على بعضها. وكأنه ههنا هو ما يقع في نفس العالم من استشعارِ فرقٍ بين قولِ القائل: بعتُك هذا الثوبَ بعشرة دراهم، وقولِه: وهبتُك هذا الثوبَ على أن تعطيني عشرةَ دراهم. وفيه أن هذا الاستشعار إنما هو من تخييلات الألفاظ، وأما المعنى فهو على البيع كما اعترضوا به، وفوق ذلك فالاستحسان مخالف للقياس، وما عُدِلَ به عن سَننِ القياس لا يُقاس عليه كما تقرر في الأصول، فلا يصح قياسُ القرض على الهبة. على أن هناك فرقًا، وهو أن لفظ الهبة صريحٌ في التبرع، وليس لفظ القرض كذلك، وإنما نزل القرض المطلق منزلةَ التبرع لأنه في المعنى كالعارية، فأما القرض بشرطِ زيادةٍ فقد تضافر فيه اللفظ والمعنى على عدم التبرع. ومع هذا فالذي ظهر لي من كتب الحنفية أنه لو قال: وهبتُ لك هذا الدرهم على أن تعطيني هذا الخاتم الفضّي - ووزنه أكثر من درهم أو أقل - لم يصحَّ ذلك؛ لأن هذه المعاملة وإن كانت عندهم تبرعًا ابتداءً فهي بيع انتهاءً. وأما ما في "القرة" (¬1) عند الكلام على العوض المشروط: "في الشُّرنبلالية عن البرجندي أنه يصح العوض وهو أقلُّ منها وهو من جنسها، ولا ربا فيه". ¬

_ (¬1) (8/ 487).

فأرى أن قوله: "ولا ربا فيه" جملة حالية، والمعنى: وهو من جنسها بشرط أن يكون الجنس لا ربا فيه. أو ربما يكون هذا النقل في غير محلِّه، وتكون هذه المسألة في العوض الذي لم يُشرط على ما تقدم. ومما يدل على بطلان الهبة بشرط عوضٍ أقلَّ وأكثرَ من جنسِها والجنس ربوي: إرشاده [ص 3]- صلى الله عليه وسلم - من أراد أن يُعطي آصُعًا من تمرٍ رديء بصاعٍ من تمرٍ جيد، إلى أن يبيع تمرَه بالدراهم ثم يشتري بالدراهم تمرًا جيدًا. والحديث في "الصحيحين" وغيرهما (¬1). ولو كانت الهبة بشرط العوض مُسقِطة للربا لأرشده إليها؛ لأنها أيسرُ من أن يذهبَ فيلتمس من يشتري منه تمرَه بدراهم، ثم يذهب بدراهمه فيشتري بها تمرًا جيدًا. هذا، وفي المثال السابق مبادلة مرغوب بمرغوب؛ لأن الطالب راغبٌ في التمر الحاضر لحاجته، والمعطي راغب في التمر المؤجّل لجودته. وكذلك ما ذكروه من خصائص القرض لا يُوجَد شيء منها في المثال السابق، فليس بإعارة؛ لأن الإعارة كما في كتب الحنفية (¬2) "تمليك المنافع مجَّانا"، قالوا: "وشرطها قابلية المستعار للانتفاع، وخلوُّها عن شرط العوض لأنها تصير إجارة". والإجارة من المعاوضات اتفاقًا، وصرَّح الحنفية بأنها بيعٌ للمنفعة، وأن الأجرة ثمنٌ للمنفعة، وأجازها بعضهم بلفظ البيع ومنعه آخرون [ص 4] بحجة أنه لا يصح بيع المجهول. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2201، 2202) ومسلم (1593) عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة. (¬2) انظر "الدر المختار" (8/ 382، 383) بحاشيته "قرة عيون الأخيار".

ويُرَدُّ بأن عدم الصحة في بيع الأعيان لا يستلزم عدمَها في بيع المنافع، وليس في المثال المذكور تبرعٌ حكمًا، وإنما التبرع الحكمي إذا كان القرض في معنى الإعارة، بأن لم يشترط المقرِض إلاَّ ردَّ مثلِ ما أعطى؛ لأنه حينئذٍ أباح للمستقرض أن ينتفع بالمال كما يُبيح المعير، ولم يشترط عليه إلاَّ ردَّ مثل ما أعطاه، كما لا يشترط المعير إلاَّ ردَّ ما أعطى. غايته أنه لما تعذَّر أن ينتفع بالقرض مع بقاء العين اعتبر في الردّ مثلها، فأما في المثال المذكور فقد اشترط ردّ غير المثل، فبطلَ الشبَهُ بالعارية، ولا ضرورة إلى ذلك كالضرورة التي تدعو إلى جواز ردّ المثل، فقد بطل الشبهُ بالعارية وانتفى التبرع الحكمي، ورجت المعاملة إلى المعاوضة والبيع. وليس في المثال المذكور اصطناعُ معروفٍ ولا صلة، لأن المعروف والصلة ما كان تفضلاً بدون طلب عوضٍ من المعطي، وليس فيه تبرع أصلاً لا ابتداءً ولا انتهاءً، أما في الابتداء فلأنه ابتدأه بشرط أن يردّ أفضل مما أخذ، فأمِنَ التبرع، وقد أجبنا عن شبهة الهبة، وأما في الانتهاء فلأنه لا يمكن في المثال أن يقال: البدلُ كأنه عين المقبوض. وقول المستفتي: "والحق أن المبادلة ... إلخ" مسلَّم في العوض الشرعي، وهو ما لم يشترط فيه الزيادة. والوجه في ذلك أن الشارع لما اعتبر المدفوعَ قضاءً كأنه عين القرض انصرفت المعاملة إلى المنفعة وإباحة المنفعة به، إذ لم يشترط المُقرِض في مقابلها شيئًا، وردُّ المثل ليس عوضًا عن المنفعة، وإنما هو بمنزلة ردّ المأخوذ على وزان العارية.

وقوله: "لأن مقصود المشتري هو البيع، ومقصود البائع الثمن" صحيح، وهذا المعنى موجود في المثال المذكور، أعني إقراضَ آصُعٍ من تمرٍ رديء بشرطِ ردِّ قدرها من تمرٍ جيد، فالآخذ مقصوده التمر الحاضر لسدِّ حاجته، والمعطي مقصوده التمر المؤجَّل لجودته. وقوله: "وغرض كلًّ منهما إخراج ما في ملكِه وتحصيل عوضه"، فيه أن المقصود الحقيقي في البيع هو تحصيل العوض، وأما إخراج ما في الملك فهو تبع له. فمن اشترى ثوبًا بدينار فمقصوده تحصيل الثوب، وإنما أعطى الدينارَ لأنه لا يحصل له الثوبُ إلاَّ به. ومقصود البائع تحصيل الدينار، وإنما أعطى الثوبَ لأنه لا يحصل له الدينار إلَّا به، وهذا واضح. وهذا المعنى موجود في المثال السابق. وقوله: "والأحكام تُبنَى على الالتزام لا على اللزوم" بعد تسليمه موجود في المثال السابق؛ لأن المعطي التزمَ إعطاءَ التمر الرديء بشرط أن يردّ له بقدره جيدًا، والآخذ قد التزم أن يردَّ تمرًا جيدًا مؤجَّلاً، ليأخذ بقدرِه تمرًا رديئًا حاضرًا. وقد كنت راجعتُ صاحبَ الاستفتاء، فذكرتُ له ما يأتي أو نحوه أن القرض الشرعي إنما لم يكن بيعًا لأن المقرِض لا يشترط إلاَّ ردَّ المثل، فاعتبره الشارع عاريةً، واعتبر بدلَه كأنه عين المقبوض. فأما إذا اشترط أجودَ أو أزيدَ فقد بطلَ هذا المعنى، وصارت المعاملة بيعًا. ولا أذكر أنه أجابني، ولكنه قال في الاستفتاء: "وقد سلَّم بعض الأعيان [لعلّ غيري أيضًا راجعه] لما شافهتُهم في هذه المسألة أن القرض المطلق

ليس ببيعٍ، لكن إذا زيد فيه شرطُ النفع يصير بيعًا؛ لأنه حينئذٍ يفوت فيه كونه تبرعًا وصدقةً، فإذًا يكون بيعًا، وإذا صار بيعًا يجري فيه جميع أحكام بيع الأموال الربوية، فيكون الفضل". [ص 5] ثم قال: "وفيه أولاً أنّا لا نسلِّم أن يصدق عليه أنه معاوضة ابتداءً وانتهاءً؛ لأنه لا عوضَ له في الحال، كما مرَّ عن ملك العلماء". أقول: هذا باطلٌ قطعًا، وإلّا كان كل بيع إلى أجلٍ كذلك، وحينئذٍ يلزمك أن تجوِّز ربا النسيئة في بيع درهم بدرهمين إلى أجل. وقد أطلق الحنفية أن الإجارة تصحّ بلفظ الإعارة، وتكون إجارةً بما لهَا وعليها. قال: "وقد أخرج ملكُ العلماء الهبةَ بالعوض عن البيع بدليل أنها ليست بمعاوضة في الابتداء ... ". أقول: قد قدمنا إبطالَ هذا. قال: "بدليل أن الملك فيها يقف على القبض ... ". أقول: هذا الدليل دعوى مجردة، وزفر منكم والشافعية وغيرهم لا يقولون به. ومن قال: إنها تكون هبةً ابتداءً فأراه إنما قصد الاحتياط، كما يدلّ عليه ما صرَّحوا ببنائه على هذا القول، من اشتراط التقابض في العوضين، وعدم ثبوت الملك قبل القبض ونحو ذلك. وصاحب الاستفتاء يحاول من تشبيه القرض بشرط الزيادة بالهبة أن يحلِّل ما حرَّم الله تعالى من الربا. فأما ما قاله صاحب "قرة عيون الأخيار" (¬1) في أثناء الكلام على الهبة ¬

_ (¬1) (8/ 487).

بشرط العوض: "إن في الشُّرنبلالية عن البرجندي أنه يصح العوض، وهو أقلُّ منها وهو من جنسها، ولا ربا فيه"، فلعل قوله: "ولا ربا فيه" جملة حالية، والمعنى: وهو من جنسها الذي لا ربا فيه، أي بخلاف ما إذا كان من جنسها وهو ربوي، فلا يصحّ؛ لأنها بيعٌ في الجملة ويمكن أن يكون محلُّ هذه المسألة في الهبة المطلقة، فإنهم ذكروا أن عوضها يصح وإن كان أقل، فقال بعد قول المتن: "ويشترط فيه شرائط الهبة ... ": "ولو العوض مجانسًا أو يسيرًا". قال صاحب "قرة عيون الأخبار" (¬1) هناك: "أي من جنس الهبة ويسيرًا". قال: "وثانيًا: أن ملك العلماء قد ذكر: أما ركن البيع فهو مبادلة شيء مرغوب بشيء مرغوب، وفي القرض الطلبُ والرغبةُ في الطرفين مفقودٌ البتَّةَ، فلا يمكن أن يوجد البيع عند فواتِ ركنه. على أن في القرض يُعطِي المقرِض ولا يريد أن لا يعود إليه ما أعطى، بخلاف البيع؛ لأن كلًّا منهما يريد وينوي أن لا يعود إليه ما خرج عن يده". أقول: قد مرَّ بيان الرغبة من الجانبين في المثال السابق، على أن القرض الشرعي فيه رغبة من الجانبين، فإن المقرِض يُقرِض التماسَ الأجر والمعروف، ولو رُدَّ عليه نفس ما أعطاه لفاته بعضُ ذلك كما يأتي قريبًا، فأما رغبة المستقرض فواضحة، ولولا رغبته ما استقرض. وقوله: "على أن في القرض ... إلخ"، قد مَرَّ قريبًا أن المقرِض قرضًا شرعيًّا يريد وينوي أن لا يعود إليه ما خرج عن يده؛ لأن في ذلك فوات ما ¬

_ (¬1) (8/ 473).

قصده من المعروف والصلة وانتفاع المستقرض، وما يتبع ذلك من الأجر والثواب. فأما إذا اشترط الزيادة فالأمر أوضح، فالذي يعطي تمرًا رديئًا ليردَّ إليه بقدره جيدًا لا يخفى أنه لا يريد أن يعود إليه رديئه ويفوتَه الجيّد. ثم قال: "وثالثًا: أن القرض وإن اشترط فيه الزيادة فلا يصير بيعًا أيضًا لأمورٍ: الأول أن هذا الشرط خلاف مقتضى العقد، لأن مبنى القرض على التبرع، وإذا اشترط فيه الزيادة فات عنه كونه تبرعًا، ومن الأصول أن الشرط إذا كان خلافَ مقتضى العقد يُفسِده، ولكن القرض من العقود التي لا تفسد بالشروط الفاسدة، بل الشرط يصير مُلغًى والعقد صحيحًا، فإذا بقي القرض على صحته لم يصِرْ بيعًا ... ". ثم نقل من كتب الحنفية ما يُصرِّح بذلك. فأقول: فإذا كان القرض إذا اشتُرِطتْ فيه الزيادة فاتَ كونه تبرعًا كما اعترفتَ به هنا، فما بالك أتعبتَ نفسَك وأتعبتَ أهلَ العلم وشَغلتَ الحَفَظةَ بما تقدمَ من إنكار ذلك والشغب فيه؟ بقي أنه لا يصير بيعًا ومعاوضةً بمجرد الشرط، بل يُلغَى الشرطُ، فيبقى القرض قرضًا شرعيًّا، وتبرعًا لا بيعًا، فهذه مسألة أخرى، فإنما ادَّعينا أن القرض مع شرطِ ردّ الأجود أو الأزيد بيع، وعَنَينا بذلك كما هو واضح ما دامَ الشرط قائمًا، وهو الأمر الذي تحاوله في رسالتك هذه، فإنك تحاول تصحيح الشرط ولزوم المشروط كما لا يخفى. فهذا الأمر الذي تُحاوِله بيعٌ لا محالةَ، لفواتِ كونِه تبرعًا، كما اعترفتَ به آنفًا، فتجري عليه أحكام البيوع حتمًا. فإذا أعطاه خمسة آصُعٍ بشرط أن يردَّ ستةً كان فيه الربا من ثلاثة أوجه: ربا القرض وربا الفضل وربا النسيئة، ويكون داخلاً في الأحاديث المتواترة في بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبرّ بالبرّ والشعير بالشعير والتمر بالتمر والزبيب بالزبيب، ويدخل

تحت قولِ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فمن زاد أو استزاد فقد أربَى" (¬1) حتمًا. أما المسألة الأخرى - أعني أن مثل هذا الشرط لا يُفسِد المعاملةَ، ولكنه يُلْغَى الشرط - فقد اختلف فيها العلماء، فالشافعية وغيرهم يقولون: تبطُل هذه المعاملة أصلاً، والحنفية يقولون: بل يُلغى الشرط فيبقى العقد صحيحًا، ولكلٍّ وِجهةٌ هو مُولِّيها. ثم قال: "والأمر الثاني: أن الفقهاء يُصرِّحون أن النفع المشروط في القرض شبيه بالربا، فلو يستحيل القرض بشرط النفع إلى البيع لصار هذا النفع ربًا حقيقةً، لا شبيهًا به". أقول: إنما نقلتَ هذا القول عن ملك العلماء وعن ابن رشد، وقد دفعنا ذلك فيما تقدم، وبيَّنّا أنه ربًا حقيقةً. وقد نقلتَ أنت في استفتائك عمن هو أعلم من هذين بكتاب الله وسنة رسوله وفقهِ الأئمة وأسرارِ الشريعة ما يخالف ذلك، نقلتَ عن الجصَّاص الحنفي وغيره من الحنفية وغيرهم أنه ربًا حقيقي، بل ونقلتَ عن ابن القيم والشاه ولي الله أنه هو الربا الحقيقي. ثم اعترفتَ آنفًا بقولك: "وإذا اشترط فيه الزيادة فات عنه كونُه تبرعًا". وبيَّنّا أنه إذا فات عنه كونُه تبرعًا صارَ معاوضةً بالضرورة. والمعاوضةُ المحتملة هنا إما البيع وإما الإجارة وإما الهبة بشرط العوض، وقد حقّقنا أن الهبة بشرط العوض بيع، والإجارة لا وجهَ لها؛ لأنها إنما تكون على المنافع مع بقاء العين، والشارع إنما نزَّلَ القرضَ منزلةَ إباحةِ المنافع، ولم يلتفت إلى تلف العين، تسهيلاً للتبرع والمعروف والصلة، وليس مع الشرط تبرعٌ ولا معروفٌ ¬

_ (¬1) سبق تخريجه.

ولا صلة. وإذا زال سبب التنزيل والتسهيل رجعت المعاملةُ إلى أصلها، فلا يصحُّ اعتبارُ المعاملة المذكورة إجارةً، إذ من شرط الإجارة بقاء العين، فلم يبقَ إلاَّ البيعُ. ثم قال: "والأمر الثالث: لو صار القرض بشرط النفع بيعًا لكان بيعَ الصرف، وبيعُ الصرف إذا لم يكن فيه تقابض البدلين في المجلس أو يكون فيه شرط الزيادة يَفسُد، ويتعيَّن النقد في الصرف - وإذا فسدَ بيعُ الصرف فلا تكون هذه (¬1) الدراهم والدنانير ملكًا للمستقرض، فلا يكون الربح والمنفعة الحاصلة منه طيبًا، مع أن الفقهاء صرَّحوا بأنه طيب". ثم نقل الطيب عن بعض فتاوى الحنفية. أقول: قد بينّا أنه إذا أُلغي الشرط كما يقول الحنفية لا يكون بيعًا، فالحنفية يقولون: إن الشرط يُفسِد البيع ولا يُفسِد القرض، ولكنه يُلغي الشرط، فالشرط في الصرف ورد على بيعٍ [فأفسده، والشرطُ] في القرض ورد على قرضٍ فلم يُفسِده، ولكنه يلغُو الشرط، وإنما يتم [........] (¬2) فحينئذٍ يقال: لو كان بيعًا لكان إذا ورد [......] وذلك لأن العوض ليس ببدلٍ حقيقةً، إذ لو كان كذلك لما جاز بالأقل. يحقِّق ذلك أن الموهوب له مالك للهبة، والإنسان لا يُعطي بدلَ ملكِه لغيره، وإنما عوَّضه ليسقط حقُّه في الرجوع ... ". وفي موضع آخر من "الدر" (¬3): "ومراده العوض الغير المشروط، وأما ¬

_ (¬1) في الأصل: "فلا يكون هذا". (¬2) يوجد خرم في الأصل في مكان النقط. (¬3) "الدر المختار" مع تكملة حاشية ابن عابدين (8/ 477).

المشروط فمبادلة كما سيجيء". وقد قال - صلى الله عليه وسلم - مرشدًا لمن يريد شراء التمر الجيد بالرديء متفاضلاً: "بعِ الجمعَ بالدراهم، ثم ابتَعْ بالدراهم جنيبًا" (¬1). فلو كانت الهبة بشرط العوض تُسقِط الربا لأرشده إليها، لأنها أسهلُ من أن يذهب فيبيع ثمره، ثم يرجع فيشتري بالدراهم تمرًا جيدًا. ووراءَ هذا فقد أثبتنا أن الهبة بشرط العوض بيعٌ البتَّة، والله أعلم. [ص 7] ونحن لم نقل: إن القرض الشرعي بيع، وإنما قلنا: إن القرض بشرطِ الزيادة بيع، فتدبَّرْ. قال: "والأمر الرابع: أن القرض إذا اشترط فيه النفع يكون مكروهًا عند الفقهاء، قال محمد رحمة الله عليه في كتاب الصرف: إن أبا حنيفة رضي الله عنه كان يكره كلَّ قرضٍ جرَّ منفعةً. قال الكرخي: هذا إذا كانت المنفعة مشروطةً في العقد، بأن أقرضَ غلَّةً ليردَّ عليه صحاحًا، أو ما أشبه ذلك، فإن لم تكن المنفعة مشروطة في العقد، فأعطاه المستقرض أجودَ مما عليه، فلا بأسَ. (عالمكيري) (¬2). وأخرج الزيلعي (¬3) عن عطاء: كانوا يكرهون كلَّ قرضٍ جرَّ منفعةً. فلو ينقلب القرض من شرط النفع إلى البيع لكان نفعه حرامًا لكونه ربًا، لا مكروهًا؛ لأن المكروه غير الحرام، ودليلهما (¬4) متغايران. قال العيني (¬5): ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) "الفتاوى الهندية" (3/ 202). (¬3) "نصب الراية" (4/ 60). (¬4) كذا في الأصل نقلاً عن "الاستفتاء". (¬5) "عمدة القاري" (11/ 200) نقلاً عن الماوردي من كلامه.

أجمع المسلمون على تحريم الربا وأنه من الكبائر ... ". أقول: تاب الله عليك أيها الصديق! لقد وقعتَ في تمويهٍ يُشبه ما قال ديك الجن (¬1): ونلْ من عظيم الوزرِ كلَّ عظيمةٍ ... إذا ذكرتْ خافَ الحفيظانِ نارَها إنك لتعلم أن عامة المسلمين الآن وطلبة العلم وأكثر العلماء ولا سيما من غير الحنفية يفهمون إذا قيل: هذا مكروه وليس بحرام، أن المعنى: يُلام فاعلُه ولا يُفسَّق، ولا إثمَ عليه، ولا يعلمون ما تعلمه أنت أن السلف يُطلقون المكروه على الحرام بناءً على أصل اللغة، كما قال الله عزَّ وجلَّ بعد أن نهى عن أن يُجعَل معه إله آخر، وأن يعبدوا غيرَه، ونَهْر الوالدين، والتبذير، وقتل الأولاد، والزنا، وقتل النفس التي حرَّم الله، وأكل مال اليتيم، وقَفْوِ ما ليس له به علم، والمشي في الأرض مرحًا، قال سبحانه بعد ذكر ذلك: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [اقرأ سورة الإسراء:22 - 38]. وذكر أصحابكم في كتب الأصول عن محمد بن الحسن أنه قال: "كل مكروه حرام" (¬2)، وأنه ذكر في "المبسوط" أن أبا يوسف قال لأبي حنيفة: إذا قلتَ في شيء: أكرهُه، فما رأيك فيه؟ قال: التحريم. نعم، للحنفية اصطلاح لا يكاد يعرفه غيرهم، وهو أن الحرام ما ثبت تحريمه بدليل قطعي، ¬

_ (¬1) "ديوانه" (ص 108). (¬2) انظر "تيسير التحرير" (2/ 134).

والمكروه ما ثبت تحريمه بدليل ظني (¬1)، وقد يُستعمل فيما لا يأثم فاعلُه ولكنه غير محمود، وإذا بينوا قالوا: كراهة تحريم أو كراهة تنزيه. وقد أشرتَ إلى هذا بقولك: "ودليلهما متغايران"، ولكن هذه الإشارة لا تكفي لدفع الإيهام، بل الذي يظهر من صوغ العبارة تعمُّد هذا الإيهام، والله المستعان. والمقصود مع صرف النظر عن هذا الإيهام أن صاحب الاستفتاء يرى أن ما نقله عن الإِمام وصاحبه يُشعِر بأن القرض الذي يجرُّ منفعةً ليس قطعيَّ التحريم عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، ولو كان عندهما ربًا لنصَّا على أنه قطعيُّ التحريم. فنقول بعد العلم بأن هذا لا يَنفي أصلَ التحريم بل يُثبِته: الجواب من وجوه: [.......] كثيرًا ما يطلقون الكراهية في التحريم القطعي، وفي كتب الحنفية أمثلة من ذلك [.....] كتبهم بأن اشتراط الزيادة في القرض حرام، واصطلاحهم أنهم [ص 8] يَعنُون قطعيَّ التحريم، حتى صرَّح محدِّث الحنفية البدر العيني في "شرح البخاري" (¬2) بقوله: "أجمع المسلمون نقلاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن اشتراط الزيادة في السلف ربًا". وقد نقله صاحب الاستفتاء في صفحة 17، واعترضه، وسنبيِّن بطلانَ اعتراضه. وصرَّح كبْشُ الحنفية الجصَّاص في "أحكام القرآن" (¬3) أن الربا في ¬

_ (¬1) في الأصل: "قطعي"، وهو سبق قلم. (¬2) "عمدة القاري" (12/ 45، 135). (¬3) (1/ 465، 467).

قوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} يتناول اشتراط الزيادة في السلف. وقد نقله صاحب الاستفتاء أيضًا. وصرَّح حكيم الحنفية الشاه ولي الله الدهلوي (¬1) بأن ذلك هو الربا الحقيقي، وما عداه فهو ربا غير حقيقي. ونقله صاحب الاستفتاء أيضًا. وكلام هؤلاء ظاهر في أن الكراهية في كلام محمد أراد بها التحريم القطعي. الوجه الثاني: أنه من المحتمل أن يكون الذي لم يثبت عندهما أنه حرام قطعي، وإنما ثبت أنه حرام ظني، هو اشتراط المنفعة، والمتبادر إلى الذهن من لفظ المنفعة هو ما ليس بزيادة في العين ولا في الصفة، وإنما هو نحو أن يشترط عليه أن يحمل معه متاعًا إلى بيته. وإذا سلَّمنا أن المنفعة أعمُّ من ذلك فلعلهما إنما عبَّرا بالكراهية التي هي لغةً أعمُّ من التحريم القطعي والظني، قابلة لعموم كلمة المنفعة. الوجه الثالث: لو سلَّمنا أن أبا حنيفة ومحمدًا رحمهما الله إنما ثبت عندهما حرمة اشتراط الزيادة في القرض بدليل ظني، فهذا لا يدل على أنه ليس عليه دليلٌ قطعي اطلع عليه غيرهما. وكأنهما لم يستيقنا الإجماعَ على تحريمه، وتحقَّق بعدهما الإجماع، كما نقله جماعةٌ لا يُحْصَون من علماء المذاهب، كما تقدم بعض ذلك، ونصُّ العيني قريب. وسيأتي بحث الإجماع إن شاء الله تعالى. الوجه الرابع: أنه على فرض أنه لم يثبت عندهما دليلٌ قطعي على ¬

_ (¬1) "حجة الله البالغة" (2/ 106).

التحريم، فذلك لا ينافي أنه عندهما ربًا، فإنه ليس لهما ولا لغيرهما اصطلاح أنه لا يُطلَق الربا إلاَّ فيما ثبت بدليل قطعي أنه ربا. ثم قال: "قال ابن الهمام (¬1): وأحسنُ ما هنا عن الصحابة والسلف ما رواه ابن أبي شيبة في "مصنِّفه" (¬2): حدثنا [أبو] (¬3) خالد الأحمر عن حجاج عن عطاء قال: كانوا يكرهون كلَّ قرضٍ جرَّ منفعةً. أي الصحابة يكرهون النفع المستحصَل من القرض، فهذا دليل على أن الصحابة أيضًا يفرّقون بين النفع المستحصل من القرض وبين الربا، حيث يجعلون الأول مكروهًا والثاني حرامًا". أقول: قد قدمنا أن الكراهة في اللغة أعمُّ من اصطلاحكم، وقد أطلقها القرآن كما سمعتَ في مقابل الشرك وغيره من الكبائر، وعطاء لم يحكِ عن الصحابة أنهم قالوا: نكره، وإنما قال: "كانوا يكرهون" واصطلاحكم الذي لم يلتزمْه أئمتُكم إنما نشأ بعد عطاءٍ بزمانٍ. ويأتي ههنا ما قدمناه في الوجه الثاني قريبًا، ويشهد لذلك ما تقدم عن عمر، وفيه: "فدَعُوا الربَا والريبةَ". على أنه قد جاء عن الصحابة أن ذلك ربًا وأنه خبيث، كما نقلتَه أنتَ. وسيأتي إن شاء الله تعالى. [ص 9] ثم قال: "ومن ادعى أن القرض مطلقًا بيعٌ أو بشرط النفع، فلا بدَّ عليه من البيان، ودعوى البداهة في موضع الخلاف غير مسموع". ¬

_ (¬1) "فتح القدير" (7/ 251). (¬2) رقم (21077). (¬3) ما بين المعكوفتين من المؤلف، وهو كذلك في "المصنّف". وسقط من "فتح القدير".

أقول: أما على ما قاله الجصَّاص في "أحكام القرآن" (¬1): إن البيع "تمليكُ المال بمالٍ بإيجابٍ وقبولٍ عن تراضٍ منهما" فلا يخفى دخول القرض مطلقًا، ولكن العلماء أخرجوا القرض بأن الشارع لم ينظر إلى تَلَف العين، بل نزَّل ما يردُّه المستقرض منزلة العين المأخوذة، فكأنها قائمة لم تتلَفْ، وإنما انتفع المستقرض بها ثم ردَّها كالعارية سواء. وقد أكثر صاحب الاستفتاء من النقل عنهم، ولخَّصنا ذلك فيما تقدم، وبينَّا أن إعراضَ الشارع عما هو واقع من تلَف العين المعطاةِ وكونَ المردود غيرَها بدلاً عنها = إنما كان تسهيلاً للمعروف والصلة وفعل الخير. فإذا انتفى المعروف والصلة وفعل الخير، وحلَّ محلَّها ما يناقضُها، وهو اغتنام المقرِض ضرورةَ المستقرض، فيذبحه كما تقول العامة، وقد أشار القرآن إلى ذلك، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}. فسَّرها ابن جرير بقوله (¬2): "ولا يقتلْ بعضكم بعضًا وأنتم أهل ملَّةٍ واحدة ودعوةٍ واحدةٍ ودينٍ واحد، فجعل جلَّ ثناؤه أهلَ الإِسلام كلَّهم بعضهم من بعض، وجعل القاتل منهم قتيلاً في قتله إياه منهم بمنزلة من قتلَ نفسَه". ثم روى معنى ذلك عن السُّدّي وعطاء. أقول: فإذا انتفى السبب الذي لأجله نزَّل الشارعُ الواقعَ بمنزلة غيرِ الواقع، وحلَّ محلَّه ما يناقضُه، فكيف يبقى أثره؟ وإذا لم يبقَ أثرُه لم يكن لنا ¬

_ (¬1) (1/ 469). (¬2) تفسيره (6/ 637). ط. دار هجر.

بُدٌّ من النظر إلى الواقع. وبعبارةٍ أوضحَ إن الشارع في القرض الشرعي نزَّل الواقع منزلةَ غير الواقع لسببٍ، فكيف يصحُّ أن يُقاس عليه ما انتفى فيه ذلك السبب ووُجِد ما يُناقضُه؟ وقد زاد الحنفية على تعريف الجصَّاص ونقَصوا، ولخَّصنا ذلك فيما تقدم، وبينّا أن القرض بشرط الزيادة خارجٌ عن تعريفاتهم للقرض، داخلٌ في تعريفاتهم للبيع. وأما على المختار عندنا من أن القرض ولو بشرطِ زيادةٍ لا يَشملُه لفظ البيع لغةً ولا شرعًا، فقد قدَّمنا أنه على هذا القول يكون القرض بشرطِ زيادة في معنى البيع بلا فرقٍ، فيستحقُّ جميعَ أحكامه، فيدخل في عموم الأحاديث في النهي عن بيع الذهب بالذهب وما معه من جهة المعنى، ويكون هذا أعلى القياسات، ومحلُّ إيضاح ذلك بحثُ القياس إن شاء الله تعالى. ثم قال: "وقد ظنَّ بعضهم أن بيع خمس رَبَابيّ (¬1) بستّ رَبَابِيِّ يكون ربًا بالاتفاق، لكن إذا أقرض خمسَ رَبَابيّ بشرط أن يردَّ عليه ستَّ رَبابيّ كيف لا يكون هذا ربًا، مع أنه لا فرقَ بينهما إلا في اللفظ. ويُزَال بأنه لا مجالَ للقياس فيما وردَ به النصُّ, لأن الشارع عليه السلام جعلَ الأول بيعًا وربًا لا الثاني. قال ابن قيم الجوزية (¬2): "وكذلك صورة القرض وبيع الدرهم. [بالدرهم إلى أجل، صورتهما واحدة، وهذا قربة صحيحة، وهذا] معصية ¬

_ (¬1) جمع رُبِّيّة عملة بلاد الهند. (¬2) "إعلام الموقعين" (3/ 122).

باطلة بالقصد". أقول: ظاهر قوله: "لا مجالَ ... لا الثاني" أن النصَّ وردَ بأن القرض بشرط الزيادة ليس بربًا، وهذه دعوى باطلة، أما على تعريف الحنفية للبيع والقرض فقد علمتَ أن القرض بشرط الزيادة بيعٌ، فدخل في النصوص الواردة في ربا النسيئة كما سلف. وأما على ما نختاره فإنه يدخل في تلك النصوص من جهة المعنى كما قدَّمنا، وليس هناك نصٌّ يخالف هذا، بل قد سبق من النصوص ما يوافقه ويزيد عليه. ولكنه عاد فكتب بالهامش ما لفظه: "مثاله كمن باع خمسَ ربابي بخمس ربابي نسيئةً، لا يجوز، بخلاف من أقرضَ خمسَ ربابي ليعيدها بعد أيام، فالأول فيه بيع وفيه ربا، وهو حرام ومعصية، والثاني ليس ببيع، وليس فيه ربا، بل هو قربة وصدقة". فحاصلُ كلامه أن الشرع وردَ بالفرق بين بيع الدراهم بمثلها نسيئةً فحرَّمه، وبين إقراضها ليردّ مثلها فأحلَّه، فكما لم يحرم القرض في هذا مع أنه لو كان بيعًا لحرم، فكذلك فيما إذا أقرض بشرط الزيادة. ويُجاب عن هذا بأن القرض بشرط الزيادة إما بيعٌ حقيقةً على تعريف الحنفية للبيع، وإما في معناه على ما اخترناه، بخلاف القرض الشرعي فليس بيعًا ولا في معنى البيع على ما قدَّمناه. نعم، يؤخذ من مثاله دليلٌ آخر هذه صورته: "بيع الدراهم بمثلها إلى أجلٍ وإقراضُها ليُردَّ مثلُها هما سواء، فإن كان الأول بيعًا فالثاني بيع أو في معنى البيع، وإن كان الثاني قرضًا فالأول قرض أو في معنى القرض، ومع

ذلك فرَّق الشارع بينهما مراعاةً للَّفظ، فدلَّ ذلك على أن للَّفظ أثرًا في الفرق، وإذا ثبت أن للَّفظ أثرًا في الفرق بطلَ قولكم: إنه لا فرقَ بين بيع الدراهم بأكثر منها إلى أجلٍ، وبين إقراضها ليردّ أكثر منها، بل يكون الثاني بيعًا أو في معنى البيع، فيجب أن يكون حكمه حكم البيع". والجواب أن بين بيع الدراهم بمثلها إلى أجلٍ وبين إقراضِها ليردّ مثلها فروقًا: الأول: أن الشارع استحبَّ القرض وندبَ إليه، ورغَّب فيه، ووعدَ بالثواب عليه، ولم يأتِ مثلُ ذلك في البيع. وهذه المعاملة يصحُّ اعتبارها قرضًا ويصحُّ اعتبارها بيعًا، فإذا عدلَ المتعاقدان عن الصيغة المستحبة المرغَّب فيها إلى الصيغة التي ليست كذلك، استحقَّا أن يُشدَّد عليهما. الفرق الثاني: أنه قد تقدم أن الشارع سلخَ القرضَ عن البيع بتنزيله منزلةَ العارية، وكأن المردود هو عين المأخوذ، وإنما فعل ذلك تسهيلاً للمعروف والصلة، [.........] فقد خالفَا ذلك التنزيل، فلا يستحقانِ التسهيل. [ص 11] الفرق الثالث: أن البيع موضوع للمغابنة، فصيغتُه تُشعِر بذلك. والقرض موضوع للمعروف والصلة، وصيغتُه تُشعِر بذلك. والشارع إنما نزَّل القرضَ منزلةَ العارية تسهيلاً للمعروف والصلة، فإذا عَدلَ المتعاقدان إلى الصيغة التي تُشعِر بخلافِ ذلك لم يستحقَّا هذا التسهيلَ. الفرق الرابع: أن هذه المعاملة قد لا تكون معروفًا وصلةً في الواقع، كأن يريد المعطي سفرًا أو يخاف سرقةً أو غصبًا، أو أن لا يصبر عن إنفاق الدراهم إذا بقيت تحتَ يده، ويخاف إذا أودعَها أن يتلَف فلا يكون على

المودع ضمان، أو يخاف الزكاةَ، والوديعةُ لا تُسقِط الزكاة بخلاف الإقراض. هذه بعض تلك [الفروق]. والشارع إنما سلخَ القرضَ عن البيع بالتنزيل المعلوم تسهيلاً للمعروف والإحسان, والقصدُ أمرٌ خفيٌّ وغير منضبط، أما خفاؤه فواضح، وأما عدم انضباطه فعند اجتماع القصدينِ - وهو قصدُ المعروف وقصد غيره من الفوائد - فإنه لا ينضبط الغالب منهما حتى يُناطَ به الحكمُ. وقد تقرر في الأصول أن السبب الحقيقي إذا كان خفيًّا أو غير منضبطٍ يُعدَلُ عنه إلى ضابطٍ يشتمل عليه غالبًا. فالشارع جعلَ الضابطَ هنا هو الصيغة، فإن اختار المتعاقدانِ صيغةَ القرض كان ذلك ضابطَ إرادة المعروف والإحسان، لأنه الظاهر، والصيغة تُشعِر به. وإن عدلَا إلى صيغة البيع كان ذلك ضابطَ إرادةِ فائدةٍ غير المعروف والإحسان، لأن الصيغة تُشعِر بذلك. ولعلَّ هذا هو الذي عبَّر عنه ابن القيم بالقصد، فإن عبارته التي نقلها عنه صاحب الاستفتاء هي في مبحث طويل نفيس، حقَّق فيها وجوبَ مراعاة القصود في العقود إذا ظهرت وانضبطتْ، وأن لا يُوقَفَ مع الألفاظ والصيغ، ومما قال في هذا البحث (¬1): "وهكذا [الحيل الربوية، فإن الربا لم يكن] حرامًا لصورته ولفظه، وإنما كان حرامًا لحقيقته التي امتاز بها عن حقيقة البيع، [فتلك الحقيقة] حيث وُجِدتْ وُجد التحريم، في أيّ صورة رُكِّبت، وبأيّ لفظٍ عُبِّر عنها، فليس [الشأن في الأسماء وصور العقود، وإنما الشأن في] حقائقها ومقاصدها وما عُقِدتْ له". [ص 12] وكرَّرَ هذا المعنى مرارًا. ¬

_ (¬1) "إعلام الموقعين" (3/ 126).

ولنقتصر على هذه الفروق. بقي علينا أن نبيِّن أنه لا يوجد منها فرق واحد ولا ما يُشبهه ما بين بيع الدراهم بأزيدَ منها إلى أجلٍ وبين إقراضها بشرطِ ردِّ أزيدَ منها. أما الفرق الأول: فإن الشارع إنما استحبّ القرض ورغَّب فيه لما فيه من "الإحسان والمعروف، وهذه المعاملة نقيض الإحسان والمعروف، فالمتعاقدانِ إنما عبَّرا عن المعاملة التي يبغضها الله تعالى بلفظٍ وُضِع لما يحبه، ولا يخفى أن ذلك مما يوجب التشديد لا التسهيل. وأما الثاني فالبيع هنا حرام بغير تنزيل، فإذا عدلَا عن صيغته إلى صيغة القرض لم يكونا مخالفين لتنزيلٍ بُنيت عليه حرمةُ البيع حتى يستحقّا التحليل. وأما الثالث فلفظ القرض وإن أشعرَ بالمعروف والصلة، فالشرط ينفي ذلك ويحقّق أن المقصود المغابنة. وأما الرابع فالقصد هنا ليس خفيًّا أو غير منضبط؛ لأن الشرط يوضح أن مقصود المعطي ذبحُ المعطَى. وقد نقل صاحب الاستفتاء من كتاب "المعرفة" للبيهقي كلامًا للشافعي يدلُّ على أن القرض بشرط الزيادة عنده بيع باطل، وهذا لفظه: "قال الشافعي: وكان من ربا الجاهلية أن يكون للرجل على الرجلِ الدينُ، فيحلّ الدين، فيقول له صاحب الدين: أتَقضِي أم تُربي؟ فإن أخَّره زاد عليه وأخَّره ... قال الشافعي: فلما رُدَّ الناسُ إلى رؤوس أموالهم كان ذلك فسخًا للبيع الذي وقع على الربا" (¬1). ¬

_ (¬1) "معرفة السنن والآثار" (8/ 29).

فسمَّى الشافعي اتفاقَهما على الإمهال بشرط الزيادة في الدين بيعًا، والإمهال عنده قرضٌ أو كالقرض، لجمعه بينهما في عدم لزوم الأجل، فإنه يرى أنه لو أقرضه إلى أجلٍ لا يلزم المقرِضَ الوفاءُ بالأجل، بل له المطالبة قبله، وكذلك لو حلَّ الدينُ فجدَّد الدائن أجلاً آخر لا يلزمه الوفاء به. قال في كتاب "اختلاف العراقيين": "قال الشافعي رحمه الله تعالى: وإذا كان للرجل على الرجل مالٌ حالٌّ من سلفٍ أو من بيع أو أيّ وجهٍ كان، فأَنظَره صاحب المال بالمال إلى مدةٍ من المدد، كان له أن يرجع في النظرة متى شاء ... ". "الأم" (ج 7 ص 92) (¬1). وقد توهَّم صاحب الاستفتاء أن قول الشافعي: "كان ذلك فسخًا للبيع" يريد به العقد الأول، في نحو أن يبيع الرجل ثوبًا بعشرة دراهم إلى أجل، ثم عند حلول الأجل يتفقان على الإمهال والزيادة في الدين. فتوهَّم أن مراد الشافعي بقوله: "كان ذلك فسخًا للبيع" هو بيع الثوب، وراح يُدندِن على هذا، وهذه عبارته: "والحجة القوية على أن المراد في كلام الذين ذكروا في تفسير ربا الجاهلية لفظ الدين مطلقًا هو الثمن المؤجل: هي أن شُرَّاح قولهم قد فسَّروه به. قال البيهقي: قال الشافعي: وكان من ربا الجاهلية .... ، ظهر من كلام الشافعي أمرانِ: الأول أن ربا الجاهلية كان في البيع. والثاني أن المراد برأس المال الذي ورد في القرآن هو المال الذي جُعِل في ابتداء البيع، وكذلك المراد من حقًّ إلى أجلٍ هو الثمن المؤجل". أقول: أما الأمر الأول فكأن صاحب الاستفتاء لم يتدبر، فإن الشافعي ¬

_ (¬1) (8/ 230) ط. دار الوفاء.

إنما قال: "كان من ربا الجاهلية", ولم يقل: " [كان ربا الجاهلية] ". فأفهمَ كلامُه أن هذا نوعٌ من رباهم، وهناك نوعٌ آخر أو أنواع. وأما الثاني فأنت خبيرٌ أن ردّ الناس إلى الثمن الذي جُعل في ابتداء البيع ليس فيه فسخٌ لبيع الثوب، ولا وقع بيع الثوب على ربا، بل كان ذلك فسخًا للبيع الذي وقع على الربا، فتدبَّرْ وتعجَّبْ، والله المستعان. ****

شبهة ودفعها

[ق 14] شبهة ودفعها أخرج ابن جرير (¬1) وغيره من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد قال في الربا الذي نهى الله عنه: كانوا في الجاهلية يكون للرجل على الرجل الدَّينُ، فيقول: لك كذا وكذا وتؤخِّر عني، فيؤخر عنه". قال يحيى القطان: لم يسمع ابن أبي نجيح التفسير من مجاهد، وذكره النسائي فيمن كان يدلِّس (¬2). وأخرج (¬3) من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة: "أن ربا أهل الجاهلية: يبيع الرجل البيعَ إلى أجل مسمًّى، فإذا حلَّ الأجل ولم يكن عند صاحبه قضاء زاد وأخَّر عنه". سعيد بن أبي عروبة مدلِّس. ونقل صاحب الاستفتاء عن "الدر المنثور" (¬4) أن فيه عن سعيد بن جبير ما في معنى هذا. ولا أدري ما صحته؟ ¬

_ (¬1) "تفسيره" (5/ 38). وأخرجه أيضًا ابن أبي حاتم في "تفسيره" (2/ 548) والبيهقي في "السنن الكبرى" (5/ 275). (¬2) انظر "تهذيب التهذيب" (6/ 54، 55). (¬3) "تفسير الطبري" (5/ 38). (¬4) (3/ 367). وأخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (2/ 544 وما بعدها).

الجواب

وفي "الموطأ" (¬1) عن زيد بن أسلم أنه قال: "كان الربا في الجاهلية أن يكون للرجل على الرجل الحقُّ إلى أجل، فإذا حلَّ الأجل قال: أتقضي أم تُربي؟ فإن قضى أخذ، وإلَّا زاده في حقِّه وأخرَّ عنه في الأجل" (هامش "المنتقى" ج 5 ص 65). هذا المقطوع صحيح لا مطعن فيه. فيقال: هذه المقاطيع حصرتْ ربا الجاهلية في هذا، وذلك يدل على أمرين: الأول: أن الربا المنصوص في القرآن خاص بذلك عند هؤلاء التابعين. الثاني: أن الزيادة المشروطة في القرض ليست بربا عندهم، لأن أهل الجاهلية كانوا فيما يظهر يُقرِضون ويشترطون الزيادة، إذ لا مانع لهم من ذلك. والحاجة تدعو إليه كما تدعو إلى الزيادة على الدين. الجواب من المحتمل أن يكون هؤلاء التابعون لم يريدوا الحصر، وإنما أرادوا بيان الربا الذي يبلغ أضعافًا مضاعفة. وعلى فرض أنهم كانوا يرون الحصر، فالأمر الأول مبني على الثاني، فإذا لم يثبت أن هؤلاء التابعين علموا بأن أهل الجاهلية كانوا يقرضون بشرط الزيادة، جاز أن يكونوا ظنوا أن أهل الجاهلية لم يكونوا يفعلون ذلك. وإذا لم يفعلوا ذلك فالربا الذي كانوا يفعلونه إنما كان سببًا لنزول الآيات. والآيات عامة، والعبرة بعموم اللفظ لا ¬

_ (¬1) (2/ 672).

بخصوص السبب. فأما آية الروم فإن مجاهدًا وقتادة وسعيد بن جبير يفسرونها بالهدية التماسَ الزيادة، كما في "تفسير ابن جرير" (¬1). ولعل زيد بن أسلم يقول ذلك. وأما الثاني فإنما يلزم أن لا تكون الزيادة المشروطة في القرض عند أولئك التابعين ربا لو ثبت عنهم أنهم أرادوا الحصر وأنهم علموا بأن أهل الجاهلية كانوا يقرضون بشرط الزيادة، ولا سبيل إلى ثبوت ذلك. وقد نقل صاحب "الاستفتاء" في (ص 41) عن الشافعي قوله (¬2): "كان من ربا الجاهلية أن يكون للرجل على الرجل الدينُ فيحلّ الدين فيقول له صاحب الدين: أتقضي أم تُربي؟ ... " فقوله: "وكان من ربا الجاهلية" صريح في أنه لا يرى الحصر. هذا، ولا مانع من كون أهل الجاهلية كانوا يتكرَّمون عن اشتراط الزيادة في القرض. والسبب في ذلك [ق 15] أن القرض عندهم معروف ومكرمة وإحسان، فكأنهم كانوا يرون من العار أن يشترطوا الزيادة. ومما يشهد لهذا ما قاله أهل اللغة وغيرهم في تفسير العِيْنة، وهو أن يحتاج إنسان إلى دراهم مثلًا ولا يجد من يُقرِضه قرضًا حسنًا، فيتواطأ مع رجل فيشتري منه سلعةً بمئة إلى أجل مثلًا ثم يردُّه له بتسعين نقدًا. فظاهر تفسير أهل اللغة لها بذلك يدل أن أهل الجاهلية كانوا يتعاملون بها. فلو لم ¬

_ (¬1) (18/ 503 - 505). (¬2) نقله البيهقي في "معرفة السنن والآثار" (8/ 29).

يكونوا يأنفون من شرط الزيادة في القرض ما احتاجوا إلى هذه الحيلة. وقد ورد ذكر العينة في حديثٍ عن ابن عمر مرفوعًا، ولفظه: "إذا تبايعتم بالعِينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد = سلَّط الله عليكم ذلًّا لا يَنزِعه حتى ترجعوا إلى دينكم" قال في "بلوغ المرام" (¬1): رواه أبو داود (¬2) من رواية نافع عنه، وفي إسناده مقال. ولأحمد (¬3) نحوه من رواية عطاء، ورجاله ثقات. وصححه ابن القطان. وفيه دليل على أن العِينة كانت معروفة حينئذٍ، وأنه لم يكن الصحابة يتعاملون بها حينئذٍ، فيُعلَم من هذا أن أهل الجاهلية كانوا يتعاملون بها. نعم أخرج ابن جرير (¬4) في تفسير قوله تعالى: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} من طريق أسباط عن السدّي قال: "نزلت هذه الآية في العباس بن عبد المطلب ورجل من بني المغيرة كانا شريكين في الجاهلية سلفًا في الربا إلى أناسٍ من ثقيف ... ". وأخرج (¬5) عنه أيضًا في قوله تعالى: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} قال: ¬

_ (¬1) (3/ 41 مع "سبل السلام"). (¬2) رقم (3462). وفي إسناده إسحاق أبو عبد الرحمن، قال أبو حاتم: شيخ ليس بالمشهور لا يُشتغل به. وقال أبو أحمد الحاكم: مجهول. وقال ابن حبان: كان يخطئ. وفي إسناده أيضًا عطاء الخراساني، يهم كثيرًا ويرسل ويدلس. (¬3) في "المسند" (4825). وعطاء هو ابن أبي رباح، لم يسمع من ابن عمر. وفي إسناده أيضًا أبو بكر بن عياش، لما كبر ساء حفظه. (¬4) في "تفسيره" (5/ 49). (¬5) المصدر نفسه (5/ 54).

الذي أسلفتم، وسقطَ الربا. والسَلف هو القرض كما لا يخفى، فهذا يدلُّ أن أهل الجاهلية قد كانوا يُقرِضون بالربا، ومثل ذلك يؤخذ من تفسير الحسن والسدي للربا في آية الروم بأنه الربا المحرم كما تقدم، وهي ظاهرة في القرض بشرط الزيادة، كما أوضحناه فيما مرَّ. فكأن غالب أهل الجاهلية كانوا يتكرمون عن اشتراط الزيادة في القرض، وكان بعضهم يفعله صراحًا أو يحتال عليه بالعينة. ولم يطلع مجاهد وقتادة وزيد بن أسلم وسعيد بن جبير - إن كانوا أرادوا الحصر - على أنه قد كان من أهل الجاهلية من يفعل ذلك، فلهذا اقتصروا على الزيادة على الدين، وفسَّروا الربا في آية الروم بالهدية التماسَ الزيادة. واطلع الحسن والسدّي على ما لم يطلع عليه أولئك. ومن حفظ حجةٌ على من لم يحفظ، والله أعلم. على أنه من المحتمل أن يكون زيد بن أسلم لاحظ في تفسير ربا الجاهلية قول الله عزَّ وجلَّ: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً}، فبيَّن كيف كانوا يصنعون حتى يصير الربا أضعافًا مضاعفة (¬1)، فتدبَّرْ. **** ¬

_ (¬1) انظر "تفسير الطبري" (6/ 50، 51).

شبهة أخرى ورفعها

شبهة أخرى ورفعها ذكر صاحب الاستفتاء الأحاديث التي فيها: "فمن زاد أو ازداد فقد أربى"، وفي بعضها: "الآخذ والمعطي فيه سواء" (¬1). وذكر أثرًا عن أبي بكر أنه باع من أبي رافع ورِقًا بدراهم، فوُزِنتْ فرجحت الدراهم، فقال أبو رافع: هو لك، أنا أُحِلُّه لك، فقال أبو بكر: إن أحللتَه فإن الله لم يُحِلَّه لي (¬2). ثم ذكر حديث استسلاف النبي - صلى الله عليه وسلم - بَكْرًا وقضائه رباعيًّا، وقوله: "خياركم أحسنكم قضاءً" (¬3). وأحاديث أخرى في الزيادة في القضاء، وأثرًا عن ابن عمر أخرجه مالك في "الموطأ" (¬4). ثم قال صاحب الاستفتاء ما حاصله: فقد ثبت أن الزيادة في الربا - يعني في نحو بيع الورق بورق - حرام، وإن لم تُشْرَط وطابت بها النفس، فلو كان الزيادة في القرض ربًا لحرمت أيضًا وإن لم تشرط وطابت بها النفس. فلما دلَّت الأحاديث على جوازها إذا لم تشرط وطابت بها النفس علمنا أنها ليست بربًا وإن شُرِطت. ¬

_ (¬1) سبق تخريجها. (¬2) أخرجه عبد الرزاق في "مصنّفه" (14569) وعبد بن حميد في "مسنده" (6). وعزاه الهيثمي في "مجمع الزوائد" (4/ 115) إلى أبي يعلى والبزار. وفي إسناده محمَّد بن السائب الكلبي. (¬3) تقدم. (¬4) (2/ 681). وفيه: "استسلف عبد الله بن عمر من رجلٍ دراهم، ثم قضاه دراهم خيرًا منها، فقال الرجل: يا أبا عبد الرحمن! هذه خير من دراهمي التي أسلفتك فقال عبد الله بن عمر: قد علمتُ، ولكن نفسي بذلك طيبة".

والجواب

والجواب أن هذا قياس في مقابل النصّ، فهو فاسد الاعتبار. على أن بين الموضعين فرقًا سنوضِّحه في فصل القياس إن شاء الله تعالى. على أننا نشير إليه هنا فنقول: قد أومأ القرآن إلى أن العلة في حرمة الربا الذي نصّ عليه هو ظلم المربي لغريمه، قال عزَّ وجلَّ: {لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ}. فإذا لم يكن هناك شرط، وأبى المستقرض إلا أن يزيد فزاد، فليس بمظلوم. وأما بيع الورق بالورق نقدًا فالزيادة فيه ليست بظلم، ولهذا حلَّت الزيادة من جهة الجودة والصنعة، فجاز أن يُباع صاع تمرٍ قيمتُه درهم بصاع تمر قيمته عشر دراهم، وأن يباع بالدينار خاتمٌ وزنُه دينار وفيه صنعة تُقوَّم بدنانير. وإنما مُنِعت الزيادة في القدر لعلة أخرى، كما تقدم في القسم الأول، وتلك العلة لا توجد في الزيادة في قضاء القرض، والأحكام تدور مع عللها. هذا، وقد قال صاحب الاستفتاء في حاشية (ص 23) رقم (2): "لا شك أن الربا كان شائعًا في العرب، لكن الكلام في تعيينه، ولم يظهر عن الآثار المنقولة عن التابعين أنه كان البيع أو الدين". ثم قال في الحاشية رقم (4) من الصفحة نفسها: "لا إنكار أن ربا الجاهلية كان في الديون، كما يدل عليه بعض روايات التابعين، لكن المراد من الديون في كلامهم ديون البيع إذا ابتاعوا نسيئةً، فما ثبت في وقتهم من الثمن المؤجل هو الدَّين ... ". أقول: سيأتي البحث في ما ادعاه من اختصاص الدين بدين البيع، والمقصود هنا أنه قد سلَّم أنّ الزيادة على دين البيع ربًا من ربا الجاهلية. وقد

قال في (صفحة 18): "ذهب الجمهور إلى جواز ما كان بدون شرط في العقد لما دلَّت عليه الأحاديث الصحيحة والحسان المحتج بها بإعطاء الزيادة في ديون البيع والقرض". ثم ذكر حديث الصحيحين (¬1) وغيرهما في قضاء النبي - صلى الله عليه وسلم - جابرًا ما تأخر في ذمته من قيمة الجمل، وزيادته قيراطًا، وفي رواية: "فأرجح في الميزان". فنقول: قد سلّمتَ أن الزيادة في دين البيع ربًا من ربا الجاهلية، ثم أثبتَّ بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - زاد في دين البيع، وليس بيدك جواب إلاَّ أن الزيادة كانت بغير شرط، وكانت بطيب نفس، فإذْ لم يلزم من جواز ذلك هنا أن لا يكون ربًا إذا شُرِطت، لم يلزم من جوازها بطيب نفس وبغير شرط في القرض أن لا يكون فيه ربًا إذا شُرِطتْ (¬2). فإن قال: إنما تكون الزيادة في قضاء دين البيع ربًا إذا كانت في مقابل أجلٍ جديد كما وردت به الآثار, والأحاديث في الزيادة في القضاء عند حلول الأجل الأول. فعلى هذا فأنا ألتزم أن الزيادة عقب الأجل الجديد ربًا مطلقًا. فالجواب أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "خيركم أحسنكم قضاءً" مطلق لم يقيده بالأجل الأول، ولا نعلم أحدًا من أهل العلم فرَّق هذه التفرقة. ولا يظهر وجهٌ للفرق، بل الظاهر أنها إذا حَسُنَت الزيادة عقب الأجل الأول فلَأن تحسُنَ عقب الثاني أولى، لأنها إنما حسنت لأجل الشكر كما يُومئ إليه ¬

_ (¬1) البخاري (2309، 2097) ومسلم (715/ 111) من حديث جابر. (¬2) كتب المؤلف بعدها: "ملحق"، ووجدتُه في آخر الدفتر (ص 42).

حديث عبد الله بن أبي ربيعة عند البيهقي (¬1) وغيره مرفوعًا، وفيه: "إنما جزاء السلف الحمد والوفاء". ويصرِّح به أثر ابن عمر عند مالك (¬2) وغيره، وفيه: "إن أعطاك أفضلَ مما أسلفتَه طيبةً به نفسُه فذلك شكرٌ شكَرَه لك". ولا ريب أن شكر الأجل الثاني آكدُ من شكر الأجل الأول، ولا سيما في دين البيع، إذ لعل البائع قد زاد في الثمن لأجل النسيئة. وقد يتخيل التفريق بما يؤدّي سرْدُه وردُّه إلى تعمق وتدقيق لا أرى تحته طائلًا، ولعلنا نتعرض له في بحث القياس إن شاء الله تعالى. نعم، قد يقال: إن صاحب الاستفتاء وإن اعتراف في عبارته التي تقدمت بأن ربا الجاهلية معروف، فقد أنكره في موضع آخر، وأشار إلى ردّ أثر زيد بن أسلم (¬3) ومن معه بأنها ليست مرفوعة، يعني أنها مقاطيع فلا تكون حجة. ويؤخذ من كلامه دفعٌ آخر، وهو اختيار أن الربا مجمل، وإذا كان مجملًا لم يلزم أن يكون ربا الجاهلية داخلًا فيه. وتفصيل الجواب يطول، فلنقتصر على أن نقول: فليسقط أثر زيد بن أسلم وما في معناه، ولا يضرنا ذلك شيئًا، بل نربح سقوطَ الشبهة الأولى من أصلها. والله أعلم. **** ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (5/ 355). وأخرجه أيضًا أحمد في "مسنده" (16410) والنسائي (7/ 314) وابن ماجه (2424)، وإسناده صحيح. (¬2) "الموطأ" (2/ 682). (¬3) الذي في "الموطأ" (2/ 672). وقد سبق ذكره.

معارضة وجوابها

[ق 16] معارضة وجوابها قال صاحب الاستفتاء: "ما ظُنَّ أن نفع القرض ربًا حقيقة، وداخل في نص القرآن، وهو أمر بديهي لا يحتاج إلى البيان = مدفوع بأنه لو كان أمرًا بديهيًّا لا يمكن أن يخفى على الأئمة والفقهاء دخولُ هذا النفع في نص القرآن، ولم يحتاجوا إلى الاستدلال عليه بالحديث الضعيف تارةً، وبالقياس على ربا البيع تارةً، وبالقياس على ربا الجاهلية مرةً، وبالآثار حينًا. وكذلك ما يختارون في حدّه ومسائلِه يعارض هذه الدعوى، فهذا كله دليل على أنه ليس بمندرج في نص القرآن عندهم. ويؤيده أيضًا عدمُ ورود النقل عن واحدٍ من الأئمة بأن هذا النفع هو ربًا منصوص". أقول: أما كون الزيادة المشروطة في القرض ربًا حقيقةً وداخلًا في نصّ القرآن فقد سبق بيانه. وأما كون ذلك أمرًا بديهيًّا فلعمري إنه عند عوام المسلمين وطلبة العلم وأكثر أهل العلم لكذلك، ومن تشكك منهم قبل صاحب الاستفتاء وأضرابه من أهل العصر فلم يتشكك في أنه ربًا حقيقة داخل في نص القرآن معنًى، وإنما تشكك في دخوله في نصّ القرآن لفظًا. وإنما حمله على هذا التشكيك ما قاله زيد بن أسلم ورُوي عن غيره في ربا الجاهلية، وقد تقدم توجيهه. فزعم الكاساني (¬1) أنه مقيسٌ على ربا البيع، كأنه لم يقرأ القرآن فيعلم أن الربا الذي فيه غير البيع. وزعم ابن رشد (¬2) أنه مقيسٌ على ربا الدين الذي فسَّره زيد بن أسلم وغيره، ولو أمعن النظر لتبيَّن ¬

_ (¬1) في "بدائع الصنائع" (7/ 395). (¬2) في "المقدمات الممهدات" (3/ 149).

له أنه لا حاجة إلى القياس مع عموم القرآن للنوعين، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، مع اختصاص آية الروم بالنفع المشروط في القرض، على ما تقدم بيانه. فأما احتجاج كثير منهم بحديث "كل قرضٍ جرَّ نفعًا فهو ربًا" (¬1) مع ضعفه فلعله يراه صحيحًا أو مقطوعًا بصحته، لتلقَّي الأمة له بالقبول بالنظر إلى المنفعة المشروطة، ومخالفةُ جماعة منهم لعمومه في غير المشروطة لا تقدح في ذلك، فإن أكثر العمومات القرآنية والسنّية مخصوصة، ولم يمنع ذلك صحتها وحجيتها. وقد سلك بعض متأخري الحنفية مسلكًا رديئًا في التفصِّي من الأدلة التي تخالفهم من الكتاب والسنة، وذلك أن أحدهم يذكر الدليل ثم يبيِّن صورةً قد خُصَّت من عمومه ويقول: هذا متروك الظاهر إجماعًا، ويرى أنه بذلك قد اسقط الاستدلال بذلك الدليل البتة. وكثيرًا ما يسلكه صاحب الاستفتاء وأستاذه في "شرح سنن الترمذي"، ولعله يُنشَر فيقف العلماء على ما فيه من العجائب، والله المستعان. [ق 17] وبالجملة فليس احتجاجهم بهذا الحديث بدون احتجاجهم على نسخ آية الوصية بحديث "لا وصية لوارث" (¬2) مع ضعفه, وتركوا الاحتجاج ¬

_ (¬1) أخرجه الحارث بن أبي أسامة في "مسنده" كما في "بغية الباحث" (436) من حديث علي مرفوعًا، وفي إسناده سوّار بن مصعب متروك الحديث. ورُوي موقوفًا عن فضالة بن عبيد في "السنن الكبرى" للبيهقي (5/ 350). (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (22294) وأبو داود (2870، 3565) والترمذي (2120) وابن ماجه (2713) من حديث أبي أمامة الباهلي. قال الترمذي: "وفي =

بآية المواريث مع وضوح دلالتها على نسخ آية الوصية بقوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ}، فأشعرَ بأن هذه وصية من الله تحلُّ محلَّ ما كنتم أُمِرتم به من الوصية. ثم قال: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 11]، فبيَّن أن ما كانوا أُمِروا به من الوصية لا يتم به العدل لجهلهم، فأقام مقامَ ذلك وصيةً منه بعلمه وحكمته، وقال بعد ذلك: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ} [النساء: 12]، فشرط في وصيتهم أن لا يضارّ وصية منه، وقد بيَّن وصيته قبل ذلك بالمواريث. وفي الآيات دلائل أخرى على هذا المعنى. فغفل أكثرهم عنها، واقتصروا في الاحتجاج على نسخ الآية بحديث "لا وصية لوارث"، مؤيدين له بالإجماع، مع أن في الإجماع هنا نظرًا، فإن الهدوية من أئمة أهل البيت الزيدية باليمن يجيزون الوصية للوارث. بخلاف القرض المشروط فيه الزيادة، فلا مخالف في حرمته أصلًا، والعوام يعلمون حرمته، بخلاف منع الوصية لوارث فلا يعلمونها. وحديث الوصية لوارث مخصوص بما إذا لم يُجِزْ بقيةُ الورثة. وأما احتجاجهم بالآثار فإنما هو من باب الاحتجاج بالإجماع، كأنهم يقولون: قد قال هؤلاء كذا ولا مخالفَ لهم. وقوله: "ويؤيده أيضًا عدم ورود النقل عن واحدٍ من الأئمة بأن هذا النفع هو ربًا منصوص". ¬

_ = الباب عن عمرو بن خارجة وأنس، وهو حديث حسن صحيح".

أقول: قد ثبت عن جماعة من الصحابة والتابعين وتابعيهم وبعض الأئمة الأربعة وغيرهم أنه ربًا، ولم يُنقَل خلافُ ذلك عن أحد. ونُقِل عن جماعة من الصحابة والتابعين وتابعيهم وبقية الأئمة الأربعة وغيرهم أنه حرام، ولم ينقل عن أحد منهم أنه قال: ليس بربًا. وصحَّ عن جماعة من كبار العلماء بعدهم أنه ربًا منصوص، وزعم بعضهم أنه مقيسٌ، فلما تدبَّرنا الكتاب والسنة علمنا أنه منصوص، وليس في ذلك ردٌّ على من أطلق أنه ربًا أو أنه حرام، لأنهم لم يقولوا: منصوص، ولا قالوا: غير منصوص. وإنما فيه ردٌّ على من زعم أنه مقيس، ولا ضيرَ في ذلك. على أنه الأمة لو اجتمعت على أنه حرام ولكن لم يجدوا له دليلًا من الكتاب والسنة، فقام عالم متأخر فاهتدى إلى دليل بيِّن من الكتاب والسنة = لما كان ذلك مِن خرق الإجماع؛ لِما نُصَّ عليه في الأصول أنه لا مانع من إحداثِ دليل أو تعليل. وإنما الخرق المحظور هو مخالفة الأمةِ أجمعَ في حكم من الأحكام، [ق 18] كما اتفقت الأمة علماؤها وعامتها على أن الزيادة المشروطة في القرض حرام، وقال جماعة من الصحابة وغيرهم - والعامة معهم إلى اليوم -: هو ربا، وقال جماعة - والعامةُ معهم إلى اليوم -: هو من الربا المنصوص في كتاب الله عزَّ وجلَّ؛ فقام صاحب الاستفتاء يقول: كلّا، بل هو مكروه ويجوز للحاجة إليه = فهذا هو خرق الإجماع، بل إنكارُ ما عُلِم من الدين بالضرورة، والله المستعان.

أدلة تقتضي التحريم وليس فيها لفظ الربا

أدلة تقتضي التحريم وليس فيها لفظ الربا قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [النساء: 29 - 30]. أخرج ابن جرير (¬1) بسند حسن عن ابن عباس في الرجل يشتري من الرجل الثوبَ فيقول: إن رضيتُه أخذتُه وإن رددتُه رددتُ معه درهمًا، قال: هو الذي قال الله: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}. أقول: هذا من قول ابن عباس ظاهر في أن المراد بالباطل ما كان بغير عوضٍ ولا طيبِ نفس. وأخرج (¬2) عن السدّي قال: نهى عن أكلهم أموالهم بينهم بالباطل وبالربا وبالقمار والبخس والظلم، إلاَّ أن تكون تجارة ليربح في الدرهم ألفًا إن استطاع. وهذا لا يخالف الأول، وإنما ذكر الربا والقمار لأن من شأنهما ذلك، أي أخْذ مال الغير بغير عوض ولا طيب نفس. وعلى هذا القول فالاستثناء متصل كما هو الأصل، فإن التاجر يَغْبِن الناس فيربح منهم زيادة عن ثمن المثل، وتلك الزيادة في الحقيقة ليس لها ¬

_ (¬1) "تفسيره" (6/ 627). (¬2) (6/ 626).

عوض ولا طيب، لأن المغبون لو علم بثمن المثل لما زاد عليه، وإنما أحلَّها الله عَزَّ وَجَلَّ لمصلحة غالبة، كما سبق في القسم الأول. [ق 19] فأما ما أعطى بطيب نفس - كالصدقة والهبة والهدية والضيافة وغير ذلك - فإن له عوضًا من أجر أو حمد أو مكافأة أو نحو ذلك، وهكذا الزكوات والنفقات والديات الواجبة لها عوض كما مرَّ في القسم الأول. وفسَّر جماعة "الباطل" بالحرام، فاحتاجوا إلى أن يقولوا: إن الاستثناء منقطع. ولا يخفى بُعْدُه. وفي قوله: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} كالإشارة إلى أن أخذ المال بغير حق - ولا سيما إذا كان باضطراره إلى إعطائه - كقتلِه، والناس يقولون: "ذبحَ فلانٌ فلانًا" إذ اغتنم حاجتَه فأقرضه عشرين صاعًا بشرط أن يردَّ ثلاثين مثلًا. ومن السنة الحديث المشهور بل المتواتر الذي خطب به النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنًى في حجة الوداع، وفيه (¬1): "فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا" الحديث. وفي بعض طرقه (¬2): "ألا لا يحلُّ مال امرئ مسلم إلاَّ بطِيْبٍ من نفسه". وقد عدَّ الفقهاء هذا من القواعد القطعية، حتى ردّ بعضهم أحاديثَ صحاحًا ظنَّ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (67 ومواضع أخرى) ومسلم (1679) من حديث أبي بكرة. وفي الباب عن جماعة من الصحابة. (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (20695) والدارقطني (3/ 26) من حديث عمّ أبي حرة الرقاشي. وفي الباب عن عمرو بن يثربي عند أحمد (15488) والبيهقي (6/ 97)، وعن ابن عباس عند البيهقي (6/ 97)، وعن عمرو بن الأحوص عند الترمذي (3087).

الإجماع

مخالفتها لهذه القاعدة، منها حديث غرز الخشبة (¬1)، وحديث الأكل من الحوائط (¬2)، وأحاديث وجوب الضيافة (¬3) وغيرها. إذا تقرر هذا فالزيادة المشروطة في القرض يأخذها المُقرِض باطلاً كما تقدم في القسم الأول، ولا يعطيها المستقرض بطيب من نفسه كما هو معلوم، فهي حرام بنصّ القرآن والسنة المقطوع بها. وحديث "الصحيحين" (¬4) وغيرهما عن عائشة وغيرها أنه - صلى الله عليه وسلم - خطب الناس على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أما بعد، فما بالُ رجالٍ يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله تعالى. ما كان من شرطٍ ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل وإن كان مئة شرطٍ. قضاء الله أحقّ، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق". الإجماع نقل صاحب الاستفتاء عن "شرح البخاري" (¬5) للبدر العيني الحنفي ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2463) ومسلم (1609) من حديث أبى هريرة مرفوعًا: "لا يمنع أحدكم جارَه أن يَغرِز خشبةً في جداره". (¬2) أخرجه الترمذي (1287) من حديث ابن عمر مرفوعًا: "من دخل حائطًا فليأكل ولا يتخذْ خُبْنَةً". وقال: حديث ابن عمر حديث غريب لا نعرفه من هذا الوجه إلا من حديث يحيى بن سليم. وفي الباب عن عبد الله بن عمرو، وعبَّاد بن شرحبيل، ورافع بن عمرو، وعمير مولى آبي اللحم، وأبي هريرة. (¬3) ورد فيه عدة أحاديث، انظر "السنن الكبرى" للبيهقي (9/ 197). (¬4) البخاري (2560) ومسلم (1504/ 8). (¬5) "عمدة القاري" (12/ 45، 135). وسبق ذكره.

بعض الآثار عن الصحابة والتابعين

عبارةً، وفيها: "قد أجمع المسلمون نقلاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن اشتراط الزيادة في السلف ربًا". ثم اعترضه بأن العيني اعترف في "شرح الهداية" (¬1) - وهو متأخر عن "شرح البخاري" - بأنه لم يثبت في هذا الباب النهيُ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. أقول: لا منافاة بين كلامه في الموضعين، وإنما أراد أنه لم يثبت حديثُ: "كل قرض جرَّ منفعةً فهو ربا"، وعدم ثبوته بل وعدم ثبوت النقل من وجهٍ تقوم به الحجة على حدته لا يُنافي ثبوت الإجماع. وهذا كما قالوا في المتواتر: إنه لا يُشترط في المخبرين به العدالة ولا الإِسلام، وقد نقل الإجماع جماعة لا يُحْصَون من جميع المذاهب الإِسلامية، فنقله الجصاص (¬2) وأثبت أن لفظ الربا في القرآن ينتظم الربا بالزيادة المشروطة في القرض وبغيرها، كما تقدم عنه. ونقله أيضًا الباجي في "شرح الموطأ" (¬3)، ونقله الشافعية والحنابلة في كتبهم، واتفقت المذاهب الأربعة والزيدية والإمامية والخوارج وسائر المسلمين عليه، ولا يُعلَم أحد ممن يتسمى بالإِسلام خالفَ فيه. [ق 20] بعض الآثار عن الصحابة والتابعين أخرج البخاري في "صحيحه" (¬4) في مناقب عبد الله بن سلام أنه قال لأبي بردة بن أبي موسى: إنك بأرضٍ الربا فيها فاشٍ، إذا كان لك على رجل ¬

_ (¬1) "البناية" (7/ 631 - 632) ط. دار الفكر. (¬2) في "أحكام القرآن" (1/ 467). (¬3) "المنتقى" (5/ 65، 97). (¬4) رقم (3814). والقَتُّ: علف الدوابّ.

حقٌّ، فأهدى إليك حِمْلَ تِبْنٍ أو حملَ شعيرٍ أو حملَ قَتٍّ، فلا تأخذه فإنه ربًا". رواه من طريق شعبة عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه، وقبل هذا اللفظ قصة. وأخرج البخاري (¬1) في كتاب الاعتصام القصةَ عن أبي كريب عن أبي أسامة عن بريد بن عبد الله بن أبي بردة عن جده، فذكر القصة ولم يذكر قوله في الربا. قال ابن حجر في "الفتح": "زاد في مناقب عبد الله بن سلام ذكر الربا .... ووقعت هذه الزيادة في رواية أبي أسامة أيضًا، كما أخرجه الإسماعيلي من وجه آخر عن أبي كريب شيخ البخاري فيه، لكن باختصار فكأن البخاري حذفها". "الفتح" (ج 13 ص 242) (¬2). ورواه البيهقي من طريق أحمد بن عبد الحميد الحارثي عن أبي أسامة، وفيه: "إنك في أرضٍ الربا فيها فاشٍ، وإن من أبواب الربا أن أحدكم يُقرِض القرضَ إلى أجل، فإذا بلغ أتاه به وبسَلَّةٍ فيها هدية، فاتّقِ تلك السَّلّة وما فيها". "سنن البيهقي" (ج 5 ص 349). أقول: سعيد بن أبي بردة ثقة اتفاقًا، لم يتكلم فيه أحد، وقد قال الإِمام أحمد: بخٍ ثبت في الحديث (¬3). وأما بُريد فإنه وإن وثَّقه جماعة فقد تكلم فيه آخرون. قال الإِمام أحمد: ¬

_ (¬1) رقم (7342). (¬2) (13/ 311) ط. السلفية. (¬3) انظر "تهذيب التهذيب" (4/ 8).

يروي مناكير، وطلحة بن يحيى أحبُّ إليَّ منه. وقال أبو حاتم: ليس بالمتين. وقال النسائي في "الضعفاء": ليس بذاك القوي. وقال ابن حبان: يخطئ. وقال ابن عدي: "سمعتُ ابن حماد يقول: بريد بن عبد الله ليس بذاك القوي. أظنه ذكره (عن) البخاري" (¬1). أقول: وكأن البخاري رحمه الله إنما حذف ذكر الربا من أثر بُريد لمخالفته في سياقه من هو أثبتُ منه وهو سعيد، وليس هذا ببعيد من معرفة البخاري وبُعْدِ نظره. وقد ذكر صاحب الاستفتاء هذا الأثر وخلَّط في بعض الأسماء، ثم أجاب عنه بوجوه: الأول: أنه موقوف ليس في حكم المرفوع. الثاني: أنه متروك العمل باتفاق الأمة. الثالث: أنه يعارضه الأحاديث الصحيحة. الرابع: أن في شرح "كشف الأسرار" (¬2) للبزدوي في تفسير بيان القاطع التي تلحق (كذا) المجمل: "احتراز عما ليس بقاطعٍ ثبوتًا أو دلالةً، حتى لا تصير (كذا) المجمل مفسرًا بخبر الواحد ... ". يعني: فلا يصلح هذا الأثر لبيان الربا المذكور في القرآن. ¬

_ (¬1) المصدر نفسه (1/ 431، 432). وزيادة "عن" من المؤلف، وهي كذلك في "الكامل" لابن عدي (2/ 62). (¬2) (1/ 50).

فأما الأول فمسلَّم، ولكنه قول صحابي قد وافقه غيرُه من الصحابة، ولا يُعلَم لهم مخالف. ومثل ذلك تقوم به الحجة، وهو عند قوم إجماع. وأما الثاني فمقصوده أن الأمة اتفقت على جواز قبول الهدية بعد القضاء. وعن هذا جوابان: الأول: أن هذا خاص برواية بُريد، وهي مرجوحة كما علمت. وأما رواية سعيد فهي ظاهرة في الهدية قبل القضاء، وهي حرام باتفاق الأمة، وإنما أجازها بعض العلماء إذا تبيَّن أنها بريئة عن الربا، كما إذا كانت بين رجلين صداقة، وجرت عادة أحدهما بالإهداء إلى الآخر، ثم اتفق أنه استقرض منه قرضًا، ثم قبل القضاء أهدى إليه كما كان يُهدي إليه سابقًا. والأثر ظاهر فيما عدا هذه الصورة بدليل قوله: "إنك بأرضٍ الربا فيه فاشٍ". الجواب الثاني: أن من أحلَّ الهدية عند القضاء أو بعده إنما ذهب [ق 21] إلى أن التهمة منتفية، وعلى هذا فإذا جرت عادة المستقرض بالإهداء إلى من يُقرضه كانت التهمة باقيةً، ولا سيما إذا كان متَّهمًا، وكأنه إنما يُهدِي إليه تمهيدًا لأن يستقرض منه مرةً أخرى. وقد قال مالك (¬1) رحمه الله: "لا بأس بأن يَقْبِضَ من أسلف شيئًا من الذهب أو الورِق أو الطعام أو الحيوان ممن أسلفَه ذلك أفضلَ مما أسلفه، إذا لم يكن ذلك على شرطٍ منهما أو وَأْيٍ (¬2) أو عادةٍ، فإن كان ذلك على شرط أو وأي أو عادة فذلك مكروه، ولا خير فيه ... فإن كان ذلك على طيب ¬

_ (¬1) في "الموطأ" (2/ 681). (¬2) الوأي: المواعدة.

نفس من المستسلف ولم يكن ذلك على شرط ولا وأيٍ ولا عادةٍ كان ذلك حلالًا لا بأس به". قال الباجي في "شرحه": "فأما الشرط فلا خلاف في منعه، وأما العادة فقد منع من ذلك مالك أيضًا. وأما أبو حنيفة والشافعي فيكرهانه، ولا يريانه حرامًا. والدليل على صحة ما ذهب إليه مالك ... ". "المنتقى" (ج 5 ص 97). وفي "مصنَّف ابن أبي شيبة" (¬1) عن ابن المسيب والحسن أنهما كانا لا يريان بأسًا بقضاء الدراهم البيض من الدراهم السود ما لم يكن شرطًا. وعن إبراهيم أنه لم يكن يرى بذلك بأسًا ما لم يكن شرطًا أو نيةً. وعن الشعبي: قيل له: الرجل يستقرض، فإذا خرج عطاؤه أعطى خيرًا منها، قال: لا بأس ما لم يشترط أو يُعطيه التماسَ ذلك. وعن الحكم وحماد قالا: إن لم يكن نوى فلا بأس. وعن الشعبي: قيل له: يُقرِض (¬2) الرجل القرض وينوي أن يُقضى أجودَ منه، قال: ذلك أخبث. أقول: فإذا جرت العادة بالزيادة أو الهدية، أوشك أن تصحبها النية. وهذا مَحملُ رواية بُريد لو صحت، بدليل قوله: "إنك في أرضٍ الربا فيها فاش"، وإذا فشا الربا في البلد أوشك أن تجري فيها العادة بذلك والنية، وإذا ثبتت العادة جاءت مفاسد الربا التي تقدمت في القسم الأول. وأما الثالث فيعني صاحب الاستفتاء بالأحاديث الصحيحة الأحاديثَ الواردة في حسن القضاء. والجواب أنها إنما تعارض رواية بريد، وأما رواية ¬

_ (¬1) (7/ 26، 177، 178). (¬2) في الأصل: "يقضي". والتصويب من "المصنف".

سعيد فسالمةٌ. على أننا نقول: يمكن الجمع بين الأحاديث وبين رواية بريد بما تقدم عن السلف، أنه إنما تحلُّ الزيادة والهدية إذا لم تجرِ بها عادة، ولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - ملتزمًا للزيادة، وفي حديث قضاء البعير ما يصرِّح بذلك، فإنه أمرهم بأن يقضوا الرجل بَكْرَه، فطلبوا فلم يجدوا إلا رباعيًّا، فذكروا للنبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك، أمرهم بإعطائه. فظهر من ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يأمرهم بالزيادة أولاً، وإنما أمرهم بقضائه، فلو وجدوا بَكْرَه لقضوه إياه، ولو علموا من عادة النبي - صلى الله عليه وسلم - قضاءَ الأفضل لما راجعوه. وأما الوجه الرابع ففيه أمران: الأول: أنه مبني على أن ربا القرآن مجمل، وقد تقدم ردُّه. الثاني: أن المفسَّر عند الحنفية هو ما أوضح المراد به بحيث لا يبقى احتمال تأويل ولا تخصيص، فقول شارح "الكشف" أن المجمل لا يصير مفسرًا بخبر الواحد، إنما عنَى: لا يصير مفسرًا بهذا المعنى، كما يُعلم من مراجعته ومراجعة غيره من أصول الحنفية، وهم متفقون على أن خبر الواحد كافٍ لبيان المجمل بحيث تقوم به الحجة، وإن لم يصِرْ مفسرًا بالمعنى المذكور، بل قالوا كما في "تحرير ابن الهمام": "إذا بُيِّن المجمل القطعي الثبوت بخبر واحدٍ نُسِب إليه، فيصير ثابتًا به، فيكون قطعيًّا". ثم قال: "ومنعه صاحب التحقيق وهو حقٌّ". انظر "التحرير والتقرير" (ج 3 ص 40). وبهذا المعنى أجاب بعضهم عما أُورِد عليهم في قولهم: إن القعدة الأخيرة فرض في الصلاة، مع أنهم لم يحتجوا عليها إلا بخبر واحد، وخبر الواحد لا يفيد الفرضية على أصلهم. ولقولهم بقطعية المعنى الذي بيَّنه خبر الواحد المبيِّن لمجمل قطعي وجهٌ يؤخذ مما قررتُه في رسالة "العمل

بالضعيف"، فلا أطيل به ها هنا. والمقصود أن صاحب الاستفتاء أوهَمَ أو توهَّم أن قول شارح "الكشف" يدل أن خبر الواحد لا يصلح بيانًا للمجمل القطعي. وهذا خطأ قطعًا. ومن عرف اصطلاحهم وتدبَّر كتبهم علم أنه إنما يريد أن خبر الواحد لا يصير به المعنى بحيث لا يحتمل تأويلًا ولا تخصيصًا، وهذا هو معنى المفسّر عندهم، فأما صيرورته مبينًا بحيث تقوم الحجة بذلك المعنى فأمرٌ ثابت عندهم اتفاقًا. والله أعلم. [ق 22] وروى البيهقي وغيره من طريق كلثوم بن الأقمر عن زر بن حُبيش قال: قلت لأبيّ بن كعب: يا أبا المنذر! إني أريد الجهاد فآتي العراقَ فأُقرِض، قال: "إنك بأرضٍ الربا فيها كثير فاش. فإذا أقرضتَ رجلاً فأهدى إليك هدية، فخذْ قرضَك واردُدْ إليه هديته". "سنن البيهقي (ج 5 ص 349). وهو في "مصنف ابن أبي شيبة" (¬1) بلفظ: "إذا أقرضتَ قرضًا فجاء (¬2) صاحب القرض يحمله ومعه هدية، فخُذْ منه قرضك (¬3) ورُدَّ عليه هديتَه". قال صاحب الاستفتاء: كلثوم بن الأقمر مجهول. قلت: ذكره ابن حبان في "الثقات" (¬4) وقال: روى عن جماعة من الصحابة، روى عنه أهل الكوفة، وهو أخو علي بن الأقمر". ¬

_ (¬1) (6/ 176). (¬2) في الأصل: "جاء"، والتصويب من "المصنف". (¬3) في الأصل: "قرضه". والتصويب من "المصنف". (¬4) (5/ 336).

وما تضمنه هذا الأمر من ردّ الهدية التي يُهديها المستقرض عند القضاء قد عرفت وجهه مما تقدم، وهو أنه علل ذلك بقوله: "إنك بأرضٍ الربا فيها كثير فاشٍ" أي: فالعادة والنية والتهمة أوجبت ذلك. وبهذا خرج عما دلَّت عليه الأحاديث في حسن القضاء كما سبق، والله أعلم. وقال صاحب الاستفتاء في موضع آخر: أثر عبد الله بن سلام مضطرب ومعلول. كذا قال، وهذه قاعدة أخرى له ولأستاذه في "شرح الترمذي"، يعمد إلى الأحاديث التي تخالفه وتكون بغاية الصحة، فيذكر اختلافًا لفظيًّا أو قريبًا منه أو معنويًّا والترجيح ممكن، فيزعم ذلك اضطرابًا قادحًا. وليس هذا سبيل أهل العلم، وكأنه أراد بالاضطراب هنا ما قدَّمناه من مخالفة رواية بُريد لرواية سعيد، وبالعلة مخالفة رواية بُريد لأحاديث حسن القضاء. وقد مرَّ الجواب عنها، والله أعلم. وأخرج البيهقي من طريق ابن سيرين أن أبي بن كعب أهدى إلى عمر بن الخطاب من ثمرة أرضه فردَّها، فقال أُبي: لِمَ رددتَ عليَّ هديتي وقد علمتَ أني من أطيب أهل المدينة ثمرةً؟ خذ عني ما تردّ عليّ هديتي. وكان عمر رضي الله عنه أسلفَه عشرةَ آلاف درهم. قال البيهقي: هذا منقطع. "سنن البيهقي" (ج 5 ص 349). وانقطاعه أن ابن سيرين لم يدرك عمر. وقد أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنَّفه" (¬1) من طريق أخرى عن ابن سيرين، وزاد فيه زيادة حسنة، ولكنه ¬

_ (¬1) (6/ 177).

انقلب متنه، ولفظه: أن أبيًّا كان له على عمر دينٌ، فأهدى إليه هديةً فردَّها، فقال عمر: إنما الربا على من أراد أن يُربي وينسأ. أقول: وهو مع انقطاعه شاهد قوي لما مضى. وأخرج أيضًا من طريق يحيى بن أبي كثير عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال في رجل كان له على رجلٍ عشرون درهمًا، فجعل يُهدي إليه، وجعل كلَّما أهدى إليه هدية باعها، حتى بلغ ثمنُها ثلاثةَ عشر درهمًا، فقال ابن عباس: لا تأخذ منه إلاَّ سبعةَ دراهم. "سنن البيهقي" (ج 5 ص 349 - 350). [ق 23] ردَّه صاحب الاستفتاء بأن أبا صالح لم يسمع من ابن عباس. أقول: لم يتبيَّن لي مَن أبو صالح هذا، فإن هناك جماعة ممن يُكنى أبا صالح ويروي عن ابن عباس، ولا أدري من أين جزمَ صاحب الاستفتاء بأنه أبو صالح باذام مولى أم هانئ؟ فإنه هو الذي قال ابن حبان (¬1): إنه لم يسمع من ابن عباس. وأخرج البيهقي بسندٍ على شرطِ مسلم عن سالم بن أبي الجعد - وهو من رجال "الصحيحين" - قال: كان لنا جارٌ سمَّاك عليه لرجلٍ خمسون درهمًا، فكان يُهدِي إليه السمك، فأتى ابن عباس فسأله عن ذلك، فقال: قاصّه بما أهدى إليك. (ج 5 ص 350). وقال ابن أبي شيبة (¬2): ثنا إسماعيل بن إبراهيم [عن أيوب] عن عكرمة ¬

_ (¬1) في "المجروحين" (1/ 185). (¬2) "المصنف" (6/ 174). وما بين المعكوفتين منه. وقد أشار المؤلف إلى السقوط في النسخة التي نقل منها.

قال ابن عباس: "إذا أُقرِضْتَ قرضًا فلا تُهدِينَّ هديةَ كُراعٍ ولا هدية دابة". كذا في النسخة، وقد سقط بين إسماعيل وعكرمة رجلٌ. وقال أيضًا (¬1): ثنا خالد بن حيان عن جعفر بن برقان عن حبيب بن أبي مرزوق قال: سئل ابن عباس عن رجل استقرض طعامًا عتيقًا، فقضى مكانه حديثًا، قال: "إن لم يكن بينهما شرطٌ فلا بأسَ به". حبيب لم يدرك ابن عباس. وأخرج البيهقي وغيره بسند صحيح عن ابن سيرين عن عبد الله - يعني ابن مسعود - أنه سئل عن رجل استقرض من رجل دراهم، ثم إن المستقرض أفْقَر المقرِضَ ظهرَ دابته، فقال عبد الله: "ما أصاب من ظهر دابته فهو ربا". "سنن البيهقي" (ج 5 ص 350). وأعاده بنحوه (ص 351) ثم قال: ابن سيرين عن عبد الله منقطع. وقال ابن أبي شيبة (¬2): ثنا إسماعيل بن علية عن التيمي عن أبي عثمان أن ابن مسعود كان يكره إذا أقرض دراهم أن يأخذ خيرًا منها. أقول: هذا سند صحيح على شرط الشيخين. وأخرج ابن أبي شيبة (¬3) من طريق زيد بن أبي أنيسة أن عليًّا سئل عن الرجل يُقرِض القرض ويُهدى إليه، قال: ذلك الربا العجلان. ¬

_ (¬1) "المصنف" (7/ 274). (¬2) المصدر نفسه (7/ 176). (¬3) "المصنف" (6/ 177).

زيد لم يدرك عليًّا عليه السلام. وقال أيضًا (¬1): ثنا إسماعيل بن إبراهيم - وهو ابن عُلية - عن يحيى بن يزيد الهُنَائي سألتُ أنس بن مالك عن الرجل يُهدِي له غريمُه، فقال: إن كان يُهدِي له قبلَ ذلك [فلا بأس]، وإن لم يكن يُهدي له قبلَ ذلك فلا يصلح. وأخرجه البيهقي مطولًا مرفوعًا، ثم قال: ورواه شعبة ومحمد بن دينار فوقفاه. "السنن" (ج 5 ص 350). وفي "الموطأ" (¬2): مالك عن نافع أنه سمع عبد الله بن عمر يقول: مَن أسلف سلفًا فلا يشترطْ إلاَّ قضاءَه. وقد أخرجه محمَّد بن الحسن في "موطئه" (¬3) ثم قال: وبهذا نأخذ، لا ينبغي له أن يشترط أفضل منه، ولا يشترط عليه أحسن منه، فإن الشرط في هذا لا ينبغي. وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا. أقول: وهذا موقوف في أعلى درجات الصحة. وفيه (¬4): مالك أنه بلغه أن عبد الله بن مسعود كان يقول: "من أسلف سلفًا فلا يشترِط أفضلَ منه، وإن كانت قبضة من علَفٍ فهو ربا". وفيه (¬5): مالك أنه بلغه أن رجلاً أتى عبد الله بن عمر فقال: يا أبا ¬

_ (¬1) المصدر نفسه (6/ 175). وما بين المعكوفتين منه. (¬2) (2/ 682). (¬3) رقم (828). (¬4) "الموطأ" (2/ 682). (¬5) المصدر نفسه (2/ 681، 682).

عبد الرحمن! إني أسلفتُ رجلاً سلفًا واشترطتُ عليه أفضلَ مما أسلفتُه، فقال عبد الله بن عمر: "فذلك الربا ... السلف على ثلاثة وجوه: سلفٌ تُسْلِفه تريد به وجهَ الله فلك وجهُ الله، وسلفٌ تُسِلفه تريد به وجهَ صاحبك فلك وجهُ صاحبك، وسلفٌ تُسلِفه لتأخذ خبيثًا بطيب فذلك الربا". وأخرج البيهقي عن فضالة بن عبيد أنه قال: "كلُّ قرض جرَّ منفعةً فهو وجه [من] وجوه الربا". "السنن" (ج 5 ص 350). قال ابن حجر في "بلوغ المرام" (¬1): سنده ضعيف. وروى الحارث بن أبي أسامة (¬2) عن علي عليه السلام قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كل قرض جرَّ منفعةً فهو ربًا". قال في "بلوغ المرام" (¬3): إسناده ساقط. [ق 24] وقال ابن أبي شيبة (¬4): ثنا حفص عن أشعث عن الحكم عن إبراهيم قال: "كل قرضٍ جرَّ منفعة فهو ربًا". وقد أخرجه محمد بن الحسن في "الآثار" (¬5) عن أبي حنيفة عن حماد عن إبراهيم بلفظ: "كل قرض جرَّ منفعةً فلا خير فيه". قال محمد: وهو قول أبي حنيفة. ¬

_ (¬1) (3/ 53 مع "سبل السلام"). (¬2) كما في "بغية الباحث" (436). (¬3) (3/ 53 مع "السبل"). (¬4) "المصنف" (6/ 180). (¬5) برقم (760) ط. دار النوادر.

وقال ابن أبي شيبة (¬1): ثنا وكيع ثنا سفيان عن مغيرة عن إبراهيم أنه كره كل قرض جرَّ منفعةً. وأخرج محمد في "الآثار" (¬2) عن أبي حنيفة عن حماد عن إبراهيم في الرجل يُقرِض الرجلَ الدراهمَ على أن يوفيه خيرًا منها، قال: فإني أكرهه. قال محمَّد: وبه نأخذ، وهو قول أبي حنيفة. وعن أبي حنيفة (¬3) عن حماد عن إبراهيم في رجلٍ أقرض رجلاً ورقًا فجاءه بأفضلَ منها، قال: الورِق بالورِق، أكره له الفضل حتى يأتي بمثلها. قال محمَّد: ولسنا نأخذ بهذا، لا بأس ما لم يكن بشرط اشترط عليه، فإذا كان اشترط عليه فلا خير فيه، وهو قول أبي حنيفة. وقال ابن أبي شيبة (¬4): ثنا جرير عن منصور عن إبراهيم عن علقمة قال: إذا كان للرجل على الرجل الدينُ فأهدى له ليؤخر عنه، فليحسُبْه من دَينه. ثنا جرير (¬5) عن منصور ومغيرة عن إبراهيم قال: إذا كان ذلك قد جرى بينهما قبل الدين يدعوه ويدعوه الآخر ويكافئه، فلا بأسَ بذلك، ولا يحسُبه من دينه. ¬

_ (¬1) "المصنف" (6/ 181). (¬2) (759) بلفظ: "يوفيه بالرَّي، قال: أكرهه". (¬3) (758). (¬4) "المصنّف" (6/ 176). (¬5) المصدر نفسه (6/ 176).

وقال أيضًا (¬1): ثنا [ابن] إدريس عن هشام عن الحسن ومحمد أنهما كانا يكرهان كل قرض جرَّ منفعةً. وقال أيضًا (¬2): ثنا يحيى بن عبد الملك بن أبي غَنية عن أبيه عن الحكم قال: كان يُكْرَه أن يأكل الرجل من بيت الرجل وله عليه دين، إلاَّ أن يحسُبه من دَينه. ثنا وكيع (¬3) عن شعبة عن أبي إسحاق عن ابن عمر قال: يُقاصُّه. وأخرج (¬4) عن الشعبي أنه قال: إن كان لك على الرجل الدينُ فلا تُضيِّفْه. وعن الحسن (¬5) أنه سئل عن السَّفْتَجة فقال: إنما يُفعَل ذلك من أجل اللصوص، لا خير في قرضٍ جرَّ منفعةً. [ق 25] فهذه نصوص الصحابة والتابعين ما بين صحيحٍ وما يقرب منه كلها متفقة على المنع من الزيادة المشروطة وتحريمها، وبعضها مصرحة بأن ذلك هو الربا، وبعضها تُلحِق بذلك الهدية التي يُهديها المستقرض قبل الأداء طمعًا في أن يُمهِله المقرِض (¬6)، فلا يعجل عليه في المطالبة. ¬

_ (¬1) "المصنف" (6/ 180). وما بين المعكوفتين منه. (¬2) المصدر نفسه (6/ 178). (¬3) المصدر نفسه (6/ 177). (¬4) المصدر نفسه (6/ 178). (¬5) المصدر نفسه (6/ 280). (¬6) في الأصل: "المستقرض" سهوًا.

وبعضها ألحق بذلك الهدية عند الوفاء إذا كان بأرضٍ [يكون] الربا فيها فاشيًا، وبينّا أن الوجه في ذلك هو اتهام المستقرض بأنه إنما أهدى تلك المرة ترغيبًا للمقرِض في أن يُقرِضه مرةً أخرى، وهذه التهمة إنما تقوى عند فُشوِّ الربا. وبعضها بيَّن أن في معنى الزيادة كل منفعة لها قدْرٌ، كركوب الدابة ونحوه. وبعضها أطلق أن كل قرض جرَّ منفعةً فهو ربا. وهو محمول على ما عدا ما صحت به السنة من الأمر بحسن القضاء، فإمَّا أن يقال: هو عام مخصوص، وإما أن يقال: إنه لا يتناول حسنَ القضاء، لأن قوله "جرَّ" يُشعِر بأنه اجتلبها قسْرًا، فإنَّ الجرّ يَقْسِر المجرور على المجيء، والقرض إنما يَقْسِر المنفعة على المجيء إذا كانت مشروطة أو في قوة المشروطة. فأما الشكر الذي يتبرع به المستقرض فلم يَقْسِره القرض، لأن المقرض لم يطلبه. وكون القرض باعثًا عليه في الجملة لا يكفي لأن يقال: إنه جرَّه مع مراعاة حقيقة المعنى، لأن القرض لم يستقلَّ بالبعث، بل لم يلحظ فيه ذلك. وإنما الباعث الحقيقي هو إرادة المستقرض الشكرَ وهو غير مُلْجَأٍ إليه ولا مُطالَب به. وصاحب الاستفتاء يحاول دفع هذه الآثار لمجرد ما في بعضها من مخالفةٍ ما لأحاديث حسن القضاء، وهذا الدفع خارج عن سبيل العلم والعلماء. قال: "على أن الفقهاء لم يتمسَّكوا بهذا الحديث والأثر من لدن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى زماننا هذا، ولم يُفتوا بحرمة أمثال هذه المنافع مطلقًا، بل اتفقوا على أنه لا يكون ربًا إلا أن تكون مشروطةً في العقد، وهذا خلاف ما دلت عليه هذه الآثار والأحاديث الواردة في هذا الباب على ما فيه، لأنها

تدلُّ على حرمة كل منفعةٍ سواء شُرِطت أو لم تُشترط، مع أنها بدون الشرط جائزة بالاتفاق". أقول: فسبيل العلم والعلماء هو العمل بالأحاديث والآثار فيما اتفقت عليه، وإخراجُ ما قام الدليل على إخراجه، وهو حسن القضاء. هذا على فرض أن الأحاديث والآثار كلها عامة، وليس الأمر كذلك كما سلف. فأما أن تُردَّ الأحاديث والآثار مع قيام الإجماع على موافقتها في بعض الصور، وعدمِ وجود ما يخالفها في ذلك = فليس هذا من العلم في شيء. ويلزمه أن كلَّ دليل عام أو مطلق قد قام دليلٌ على تخصيصه أو تقييده (¬1) يسقط الاستدلال به جملةً، فلا يحتج به فيما عدا الخاص والمقيد وإن وافقه الإجماع! وهذا ضلال في ضلال. [ق 26] ومما يُضحك ويُبكي أن صاحب الاستفتاء لم يدفع ما حكى أكثره من الأحاديث والآثار والإجماع بشيء، فلم يستطع أن يحكي حديثًا - ولو موضوعًا - ولا أثرًا عن صحابي أو تابعي أو فقيه يدلُّ على أن الزيادة المشروطة وما في معناها ليست بربًا، وإنما بيده أحاديثُ حسن القضاء وقياسٌ ساقط، وقد رأيتُ أن أعجِّل الجواب عن ذلك ههنا. **** ¬

_ (¬1) في الأصل: "إطلاقه" سبق قلم.

أحاديث حسن القضاء

أحاديث حُسن القضاء ذكر صاحب الاستفتاء حديث "الصحيحين" (¬1) وغيرهما عن جابر، فذكر منه لفظ مسلم: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبلالٍ: "أعْطِه أُوقية من ذهبٍ وزِدْه" فأعطاني أوقيةً من ذهبٍ وزادني قيراطًا". ولفظ البخاري: "فوزن لي بلالٌ فأرجَحَ في الميزان". والجواب عنه أن في هذا الحديث عينه عند مسلم: "قلت: فإن لرجلٍ عليَّ أوقيةَ ذهبٍ فهو لك بها، قال: قد أخذتُه به، فتبلَّغْ عليه إلى المدينة. قال: فلما قدمتُ المدينة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... " إلخ. "صحيح مسلم" (ج 5 ص 52). وفيه عند البخاري قبل اللفظ الذي ذكره: "فاشتراه مني بأوقيةٍ ... فأمر بلالًا أن يزِنَ لي أوقيةً، فوزن لي بلالٌ فأرجح في الميزان". "صحيح البخاري" (ج 3 ص 62). والمقصود أن جابرًا باع جملَه من النبي - صلى الله عليه وسلم - بأوقية وهما في السفر، فلما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة قضاه وزاده. فالزيادة هنا تفضُّلٌ محض، ولا تحتمل أن تكون زيادة مشروطة في القرض. وذكر حديث أبي رافع (¬2): "استسلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بَكْرًا، فجاءته إبلٌ من الصدقة، قال أبو رافع: فأمرني أن أقضي الرجلَ بَكْرَه، فقلت: لا أجد إلا ¬

_ (¬1) البخاري (2097) ومسلم (ج 3/ 1222). (¬2) أخرجه مسلم (1600). وسيذكر المؤلف لفظه.

جملًا خيارًا رباعيًّا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أعْطِه إياه، فإن خير الناس أحسنهم قضاءً". أقول: لفظ مسلم: "عن أبي رافع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استسلف من رجلٍ بَكْرًا، فقدمتْ عليه إبلٌ من إبل الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجلَ بَكْرَه، فرجع إليه أبو رافع فقال: لم أجد فيها إلا خيرًا رَباعيًّا، فقال: "أعطِه إياه، إن خيار الناس أحسنهم قضاءً". "صحيح مسلم" (ج 5 ص 54). فقوله: "فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بَكْرَه" ظاهر في أنه - صلى الله عليه وسلم - أمره أولاً أن يقضي الرجلَ بَكْرًا مثلَ بكْرِه، وهذا صريح في أن الزيادة لم تكن مشروطة، إذ لو كانت مشروطة لما أخلفَ النبي - صلى الله عليه وسلم - شرطه. وقوله: "أعطِه إياه" تفضُّلٌ محض. وقوله: "خيار الناس أحسنهم قضاء" لا يتناول ما إذا كانت الزيادة مشروطة, لأنها متى كانت مشروطة - والفرض أن الشرط لازم كما يحاوله صاحب الاستفتاء - كانت لازمة، ومن أدى ما يلزمه لا يناسب أن يقال: إنه من خيار الناس [ق 27] وإنه من أحسنهم قضاءً، لأن الشرير والمسيء إذا أُلزِما بشيء أدَّياه، ألا ترى أن من غُبِن في ثوب فاشتراه بضِعْفِ قيمته ثم أدّى الثمن الذي اشترى به = لا يناسب أن يقال: إنه من خيار الناس ولا من أحسنهم قضاءً. فثبت أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "خيار الناس أحسنهم قضاء" خاصٌّ بالزيادة التي هي تفضُّل محض، كما وقع في القصة أنه استسلف من رجلٍ بكرًا على أن يقضيه مثله كما هو شأن السلف، فقضاه خيرًا من بَكْرِه تفضلًا.

وذكر حديث "الصحيحين" (¬1) عن أبي هريرة أن رجلاً تقاضى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ... فقال: "دَعُوه فإن لصاحب الحق مقالاً، واشتَرُوا له بعيرًا، فأعطُوه إياه"، قالوا: لا نجد إلاَّ أفضل من سنِّه، قال: "اشتروه فاعطُوه إياه، فإن خيركم أحسنكم قضاءً". أقول: في رواية عند البخاري: "كان لرجلٍ على النبي - صلى الله عليه وسلم - سنٌّ من الإبل، فجاءه يتقاضاه، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "أعطُوه" فطلبوا سنَّه فلم يجدوا له إلاَّ سنًّا فوقها، فقال: "أعطُوه ... " "صحيح البخاري" (ج 3 ص 117) (¬2). فقوله - صلى الله عليه وسلم - أولاً: "أعطُوه" ظاهر في أن المراد: أعطُوه مثلَ سنِّه، كما هو شأن السلف عند الإطلاق. وهذا ظاهر في أن الزيادة لم تكن مشروطة، فهي تفضُّلٌ محض. وقوله: "خيركم أحسنكم قضاء" قد تقدم الكلام عليه. وفي رواية لمسلم (¬3): "جاء رجل يتقاضى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بعيرًا، فقال: "أعطُوه سنًّا فوقَ سنِّه ... " وهي مختصرة. وذكر حديث البزار (¬4) عن أبي هريرة: "أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ يتقاضاه قد ¬

_ (¬1) البخاري (2390) ومسلم (1601). (¬2) رقم (2305). (¬3) رقم (1601/ 122). (¬4) كما في "كشف الأستار" (1306). قال البزار: لا نعلم رواه عن حبيب هكذا إلا حمزة، ولا عنه إلا ابن المبارك. وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (4/ 141): "فيه أبو صالح الفراء، ولم أعرفه. وبقية رجاله رجال الصحيح.

استسلفَ منه شطْرَ وَسْقٍ، فأعطاه وسَقًا، فقال: نصفُ وَسْقٍ لك، ونصف وسَقٍ من عندي. ثم جاء صاحب الوسق يتقاضاه، فأعطاه وسقين، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وسْقٌ [لك] ووسْقٌ من عندي". أقول: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "نصف وسقٍ لك ونصف وسقٍ من عندي" ظاهر في أن هذه الزيادة تفضُّلٌ محض، ولو كانت مشروطة شرطًا لازمًا كما يحاوله صاحب الاستفتاء لكان الوسق كلُّه حقًّا للمُسْلِف بمقتضى الشرط، فلا يكون له النصف فقط ويكون النصف الآخر من عنده - صلى الله عليه وسلم -. وذكر حديث البزار (¬1) أيضًا عن ابن عباس: "استسلف النبي - صلى الله عليه وسلم - من رجلٍ من الأنصار أربعين صاعًا ... فأعطاه أربعين فضلاً وأربعين سَلَفه، فأعطاه ثمانين". أقول: قوله: "فأعطاه أربعين فضلاً" ظاهر في أنه تفضُّلٌ محض، ولم تكن مشروطة. وذكر حديث البيهقي عن أبي هريرة قال: "أتى رجلٌ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يسأله، فاستسلف له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شطْرَ وسْقٍ، فأعطاه إياه، فجاء الرجل يتقاضاه، فأعطاه وسقًا وقال: "نِصفٌ لك قضاءٌ، ونصفٌ لك نائلٌ من عندي" "سنن البيهقي" (ج 5 ص 351). [ق 28] أقول: قوله - صلى الله عليه وسلم - "نائلٌ من عندي" نصٌّ على أنه تفضُّلٌ محض. ¬

_ (¬1) كما في "كشف الأستار" (1307). قال البزار: لا نعلمه بإسناد متصل إلا بهذا، ولم نسمعه إلا من أحمد [بن خزيمة] وكان ثقة. وقال الهيثمي (4/ 141): رجاله رجال الصحيح خلا شيخ البزار، وهو ثقة.

تمسَّك صاحب الاستفتاء بهذه الأحاديث من وجهين: الأول: أنه قال في حاشية (ص 20): "ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الزيادة في القرض، وليس فيه أنه كان مع شرطٍ أو بدون شرط، فمن ادعى الحرمة بالشرط لا بدّ عليه من بيان، لأن الأحاديث في هذا الباب مطلقة، ولا يجوز تقييدها بدون مخصص". الثاني: قال: "وأما كونه ربًا عند الشرط فهو لا يصح أيضًا، لما رُوي (¬1) من أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه راطلَ أبا رافع فرجحت الدراهم، فقال أبو رافع: هو لك، أنا أُحِلُّه لك، فقال أبو بكر: إن أحللتَه فإن الله لم يُحِلَّه لي، سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الزائد والمزاد في النار" أو هكذا. لأن فيه دلالةً على أن الزيادة بغير شرطٍ أيضًا حرام، أعني أن الزيادة التي هي الربا شرعًا حرام، شُرِطت أو لم تُشترط، فلو كانت الزيادة في القرض ربًا لكانت حرامًا بدون شرطٍ أيضًا، مع أن الزيادة في القرض بدون الشرط مباحٌ باتفاق الأمة، فثبت أنها ليست بربًا". أقول: أما الوجه الأول فقد علمتَ جوابه بإيضاح أن الأحاديث إنما وردت بالزيادة على وجه التفضُّلِ والنائل المحض. ولو كانت مطلقة لكان على صاحب الاستفتاء أن يحكم بردِّها بناءً على قاعدته أنها متروكة العمل باتفاق الأمة، وأما أهل العلم والإيمان فيقولون: لو كانت عامة أو مطلقة وجب تخصيصها أو تقييدها بنصوص الكتاب والسنة وآثار الصحابة والإجماع، وقد كفانا الله تعالى هذا بوضوح أنها واردة في التفضل المحض ¬

_ (¬1) سبق تخريجه.

كما علمتَ. وأما الوجه الثاني فهو قياس ساقط، والحكم مسلَّم، وهو حرمة الزيادة في الفضة بالفضة يدًا بيدٍ، وإن لم يثبت أثر أبي بكر رضي الله عنه. وقد قدَّمنا أن الفضة بالفضة يدًا بيدٍ ليس بربًا حقيقي بدلالة القرآن، وبدلالة حديث "الصحيحين" (¬1): "لا ربا إلاَّ في النسيئة" وغير ذلك، وإنما العلة فيه الاحتكار في بعضٍ، وتشبيه المعاملة المشروعة بالمعاملة الممنوعة في بعضٍ، كما تقدم إيضاحه في القسم الأول. والاحتكار والتشبيه لا ينتفي بالرضا وطيب النفس، كما انتفى الربا في حسن القضاء؛ لأن المعنى في تحريم الربا هو الظلم كما أومأ إليه القرآن، وليس في حسن القضاء ظلم، فإن المستقرض إنما يزيد بطيبٍ من نفسه شكرًا لإحسان المقرض أو تفضُّلًا مؤتنفًا، وليس في ذلك ظلم ولا فيه شيء من مفاسد الربا. ثم لو فرضنا استقامة القياس فهو ساقط الاعتبار، لمخالفته النصوصَ التي بيناها فيما تقدم، والإجماعَ الذي اعترف به صاحب الاستفتاء نفسه. [ق 29] والمقصود أن صاحب الاستفتاء مع ذكره لأكثر الآثار عن الصحابة والتابعين، واعترافه باتفاق الفقهاء "من لدن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا" = لم يستطع أن يعارضها بأثر عن صحابي أو تابعي أو فقيه. والله المستعان. ¬

_ (¬1) البخاري (2178، 2179) ومسلم (1596) عن أسامة بن زيد. وقد سبق.

القياس

القياس قد أغنانا الله تبارك وتعالى عن القياس في هذه المسألة - أعني مسألة حرمة الزيادة المشروطة في القرض - بالنصوص الواضحة من الكتاب والسنة وآثار الصحابة والتابعين وإجماع الأمة، مع أننا قد بينا في القسم الأول مطابقة ذلك للعقل الصحيح والمصالح الحقيقية. ولكن صاحب الاستفتاء تعرَّض للقياس الذي استند إليه بعض الفقهاء ممن لم يكلِّف نفسَه تدبُّرَ الكتاب والسنة، ثم ردَّه صاحب الاستفتاء زاعمًا أنه بذلك قد أثبت أنه لا يوجد دليلٌ صحيح على حرمة الزيادة المشروطة في القرض وأنها ربًا. فرأيتُ أن أتعرض لذلك عملًا بالمثل المشهور في اليمن: "اتبع الكذابَ إلى باب بيته". ذكر عن الكاساني (¬1) أن الزيادة في القرض تكون ربًا قياسًا على بيع الشيء بجنسه متفاضلًا. وعن ابن رشد (¬2) أنها ربًا قياسًا على ربا الجاهلية، وهو أن يكون للرجل على آخر دينٌ إلى أجل، فإذا حلَّ الأجل قال: إمّا أن تقضي وإمّا أن تُربي، فيمدُّه في الأجل ويزيد على الدين. ودفع صاحب الاستفتاء القياس الأول بأن بينهما فرقًا، وهو أن البيع ¬

_ (¬1) "بدائع الصنائع" (7/ 395). (¬2) "المقدمات الممهدات" (3/ 149).

مبادلة، وليس القرض مبادلة على ما تقدم. [ق 30] ودفع الثاني بأن بينهما فرقًا، "لأن الزيادة في الجاهلية كانت بعد حلول الأجل لا في ابتداء العقد، والكلام في الزيادة التي تكون من أول العقد، وليس هذا من ذاك". أقول: أما ما أبداه من الفرق في القياس الأول فهو حقٌّ، ولكنه عليه لا له، وبيان ذلك أنه إذا حرمت الزيادة وكانت ربًا في المبادلة - مع أن من شأنها في الجملة جواز المغابنة - فلأن يكون كذلك في القرض من باب أولى، لأن الشارع نزَّله منزلة العارية، فكما أن المستعير ينتفع بالعين المستعارة ويردُّها نفسَها، فكذلك نزل القرض، كأن المستقرِض ينتفع بعين الدينار المستَقْرَض ثم يردُّه نفسه، فمنعُ الزيادة في ردّ العين أولى من منعها في ردّ الغير، إذ من شأن الشيء أن يزيد على غيره وينقص عنه، وليس من شأنه أن يزيد على نفسه. وجواب آخر، وهو أن القرض إنما يخرج من المبادلة ما لم يشترط زيادةً قدْرًا أو وصفًا، لأن المقرض إذا اشترط ذلك فقد ثبَّت أن الذي يطلبه مغايرٌ للذي يدفعه، وهذا مخالفٌ للتنزيل الشرعي الذي مبناه تنزيل العين المقْرَضة منزلة العين المعارة التي تبقى بعينها، حتى يردَّها الآخذ بعد انتفاعه بها. ويبقى النظر في هذه المخالفة هل تعتبر لازمة للعقد فيخرج بها عن القرض وتبطل المعاملة، أو تعتبر خارجةً عن العقد فتبطل هي دونه؟ ذهب الحنفية إلى الثاني، وغيرهم إلى الأول. ولا خفاء في أن الشرط إذا أُلغي بقي العقد سالمًا من المبادلة، وإنما الكلام فيما إذا لم يُلْغَ الشرط، ولا ريب أن

العقد حينئذٍ مبادلة حتمًا، وقد قدَّمنا إيضاح ذلك، وهو بحمد الله واضح. فنقول لصاحب الاستفتاء: إن أردتَ بقولك: "إن القرض ليس فيه مبادلة أصلاً عند الشارع" القرضَ الشرعي فمسلَّم، ولهذا جاز إقراض الذهب والفضة مع منع بيع الذهب بالذهب نسيئةً، والفضة بالفضة نسيئةً ونحو ذلك. وإن أردتَ القرض مع شرط الزيادة في القدر والوصف، فإن كان مع الحكم بإلغاء الشرط وإبطاله فمسلَّم أيضًا، وإن كان مع اعتباره كما تحاوله فباطلٌ قطعًا. [ق 31] وأما ما أبداه من الفرق في القياس الثاني فليس بصحيح، لأن اتفاقهما عند حلول الأجل على أجل جديد بشرط الزيادة عقدٌ آخر، وعليه فهذه الزيادة في ابتداء عقد أيضًا، وهذا العقد الثاني قرض في المعنى بل هو هو. وقد صرَّح بعض الفقهاء بذلك، قال الدسوقي المالكي في "حاشيته على الشرح الكبير" (¬1) عند قوله: "وحرم في القرض جرُّ منفعةٍ" ما لفظه: "ومن ذلك فرع مالك، وهو أن يقول شخص لربّ الدين: أخِّر المدينَ وأنا أعطيك ما تحتاجه، لأن التأخير سلف". بل أقول: إن هذا الفرق على صاحب الاستفتاء لا له، وبيان ذلك: أن المدين إذا لم يؤدِّ الدينَ عند حلول الأجل كان ماطلاً، وهو بذلك يُلحِق بالدائن ضررًا لم يرضَ به الدائن ولم يوقع نفسه فيه، فإذا حرمت الزيادة وكانت ربًا في هذا فأولى أن تكون كذلك في القرض المبتدأ، لأن المستقرض لم يقع منه حينئذٍ مَطْلٌ، والدائن يلحق بنفسه ضرر التأجيل باختياره. والمفاسد التي ¬

_ (¬1) (3/ 225).

قدَّمناها في القسم الأول تتحقق في اشتراط الزيادة في القرض المبتدأ أشدَّ من تحقُّقها في اشتراطها عند تأجيل الدين أجلًا جديدًا. فاشتراط الرجل الزيادة في القرض المبتدأ يدلُّ دلالة قوية على أنه كسلان، يريد أن يربح من كدِّ العمال وعنائهم بدون أن يتعب، بخلاف اشتراطها بعد حلول الدين لأجل جديد، فقد يكون الدائن رجلاً نشيطًا عاملاً يألَفُ الكدَّ والتعب والسعي في طلب الربح مما ينفع الناس، ولكنه آثر المدين أولاً، فأقرضَه أو أنسأه، فلما حلَّ الأجلُ وجد المدين مصممًا على تأخير الدين، فلو دفعه إليه حينئذٍ لتَعِبَ فيه ونَصِبَ وربحَ، فلما لم يمكنْه ذلك اضطُرَّ إلى اشتراط الزيادة. وقد بقي كلامٌ يمكن أن يقال في الإيراد والردّ، وذلك يستدعي تطويلًا وتدقيقًا لا حاجة بنا إليه والحمد لله. [ق 32] ثم قال: "ولو سُلِّم صحة القياس ففيه أن الأحكام القياسية تقبل التغير بتغيُّر الأزمان، كما هو ثابت في موضعه، ومن كان له وقوف على حال هذا الزمان وخبرة بأهله فلا محيصَ له بدون أن يفتي بجوازه، كما في الاستئجار على تعليم القرآن والأذان والإمامة وغيرها، مع أن حرمة الاستئجار في البعض منصوص، ولكن بحسب حاجة الناس أفتى الفقهاء الكرام بجوازه. فعلى هذا النفعُ المشروط في القرض أولى بأن يُفتَى بجوازه، لأنه ليس منصوصًا عليه بالحرمة، [إذ] الناس ناس والزمان زمان (¬1). ¬

_ (¬1) شطر بيت ضمن كلام مسلمة بن محمد بن هشام في "الأغاني" (4/ 321)، وضمن رسالة البديع الهمذاني في "يتيمة الدهر" (4/ 270) و"التذكرة الحمدونية" (6/ 433).

والاستدلال عليه بالتعامل والتوارث عن السلف، ففيه أن التعامل مبنيٌّ على القياس، لا على غيره من الأدلة، ومن ادعى فعليه البيان، والله أعلم بالصواب". الجواب: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف: 5]. قد علمتَ مما تقدم أن الزيادة المشروطة في القرض ربًا بنصّ القرآن والسنة، وقولِ جماعةٍ من الصحابة والتابعين لم يُنقل عن أحدٍ منهم خلافُه، واتفاقِ الأمة. فقوله: "والاستدلال عليه بالتعامل ... " يريد بالإجماع، وإن تحاشَى هذه الكلمة ترويجًا لغرضه، وقوله: "مبني على القياس لا على غيره" قد علمتَ كذبه. فأما حديث تغيُّر الأحكام فدونك تحقيقه. قال الله تبارك وتعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. وفي [الصحيحين] (¬1) عن عائشة [قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه] فهو ردٌّ". [وفي روايةٍ لمسلم: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ"]. وفي "صحيح مسلم" (¬2) وغيره من طرق كثيرة عن الإِمام جعفر بن محمَّد الصادق عن أبيه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه [قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خطب احمرَّت عيناه ... ويقول: "أما بعدُ، فإن خير ¬

_ (¬1) البخاري (2697) ومسلم (1718). وترك المؤلف البياض لما بين المعكوفتين. (¬2) رقم (867). وأخرجه أيضًا النسائي (3/ 188، 189) وابن ماجه (45) والدارمي (212).

الحديث كتاب الله، وخير الهدي هديُ محمَّد، وشرّ الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة"]. وله شواهد ثابتة من حديث ابن مسعود (¬1) والعرباض بن سارية (¬2) وكلام عمر (¬3) ومعاذ (¬4) وغيرهم، قد ذكرناها في رسالة [] (¬5). وتواترت البراهين والأدلة وأجمعت الأمة على أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - خاتم الأنبياء، وكتابه آخر الكتب، وشريعته آخر الشرائع، وأنه لم يبقَ لأحدٍ سبيلٌ إلى أن يقول في الدين إلا من طريق الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وأن من قال في دين الله تعالى بغير ذلك [ق 33] فهو مفترٍ على الله تعالى كاذبٌ كافر. قال الله تبارك وتعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل: 116 - 117]. وقال سبحانه: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [خاتمة سورة العنكبوت]. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (7277) موقوفًا. (¬2) أخرجه أحمد (17142، 17144، 17145) وأبو داود (4607) والترمذي (2676) وابن ماجه (42، 43، 44) من طرق. وصححه الترمذي وغيره. (¬3) أخرجه ابن وضاح في "البدع والنهي عنها" (56) واللالكائي في "السنة" (100). (¬4) أخرجه أبو داود (4611) والدارمي (205) وابن وضاح في "البدع" (63) والطبراني في "الكبير" (20/ 114) وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (1871). (¬5) لعلها رسالة "العبادة" (ص 219 - 220)، وسيأتي ذكرها في الصفحة التالية.

وقال تبارك وتعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121]. وقد ذكرتُ الآيات والأحاديث وأقوال العلماء في هذا المعنى في رسالة "العبادة". وتغيُّر الأحكام جرى على ألسنة بعض العلماء يريدون به شيئًا محدودًا، فأراد دعاةُ الضلالة في عصرنا أن يوسِّعوا دائرتَه بحيث يزلزلون به قواعد الشريعة من أساسها. إن مَن يقول بتغير بعض الأحكام يوجِّه ذلك بأن الحكم إذا ثبت ترتُّبه على علة معروفة، فقد تكون العلة موجودة في أمر من الأمور في العهد النبوي، فيُثبِت الشارع له ذلك الحكم، ثم قد يتفق زوال تلك العلة عن ذلك الأمر بعد العهد النبوي، فينبغي حينئذٍ أن ينتفي عنه ذلك الحكم. وقد يكون الأمر سالمًا من تلك العلة في العهد النبوي، فيُثبِت له الشارع حكمًا آخر، ثم قد تحدثُ له العلة بعد العهد النبوي فينبغي حينئذٍ أن يثبت له الحكم المناسب لها. ومما قد يُمثَّل به لذلك حدُّ الخمر، المقصود منه الزجر، ولم يزد في العهد النبوي على أربعين جلدة لعدم المقتضى للزيادة، فلما تهاون الناس بعده بالأربعين اتفق الصحابة على زيادة أربعين أخرى ليحصل المقصود، وهو الزجر. وبيع أمهات الأولاد، لم يُمنع في العهد النبوي لغلبة الحاجة إلى المال،

فلما غلب الاستغناء بعده ذهب أكثر الصحابة إلى منعه. والطلقات المجموعة كانت تُعدّ في العهد النبوي طلقةً، لأنها لم تكن تقع إلاَّ نادرًا، فلم يكن هناك مقتضٍ للزجر عن الجمع والردعْ عنه، فلما كثر جمعُ الطلقات في عهد عمر احتيج إلى زجرهم وردْعهم، فقال عمر (¬1): إن الناس قد استعجلوا في أمرٍ كانت لهم فيه أناةٌ، فلو أمضيناه عليهم! فأمضاه ووافقه الصحابة أو أكثرهم. وقالت عائشة (¬2): [لو أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - رأى ما أحدث النساءُ لمنعهنَّ المسجدَ كما مُنِعتْ نساءُ بني إسرائيل]. وقال بعض العلماء (¬3) في بعض أنواع المؤلفة قلوبهم: إنما كانوا يُعطَون لضعف المسلمين، وقد قوي المسلمون فلا يُعطَون. [ق 34] وفي هذه الأمثلة خلاف، وفي كونها من تغيير الأحكام بحثٌ ليس هذا موضعه. والأصل الذي ينبغي اعتماده أنه إذا ثبت بحجة شرعية أن هذا الحكم إنما بُني على هذه العلة فقط، وثبت أنها كانت موجودة في هذا الأمر في العهد النبوي، وأنها انتفتْ عنه بعد ذلك = كان هناك مجالٌ للنظر: أيبقى ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1472) من حديث ابن عباس. (¬2) أخرجه البخاري (869) ومسلم (445) واللفظ له. وما بين المعكوفتين بيَّض له المؤلف. (¬3) انظر "تفسير ابن أبي حاتم" (6/ 1822، 1823) و"مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 223).

الحكم على ما هو عليه كما بقي الرملُ في الطواف، أم ينبغي تغييره؟ وإذا ثبت بحجة شرعية أن هذه العلة مقتضية لهذا الحكم، وأنها كانت منتفيةً عن هذا الأمر في العهد النبوي، وأنها حدثت له بعد ذلك، وأنه لم يقم به ما يعارضها = ساغَ تغيُّر الحكم. فكلُّ ما ثبت عن الصحابة فإننا نعتقد أنهم قد راعَوا فيه هذا المعنى، فإن ثبت إجماعُهم على شيء فإننا نعتقد أن هذا المعنى كان ثابتًا في نفس الأمر، وإن اختلفوا فإننا نعتقد أن من قال بالتغيُّر كان يرى هذا المعنى ثابتًا، وقد يكون مخطئًا. وأما ما جاء عمن بعدهم فإن كان مجتهدًا فالظنُّ به أنه كان يرى هذا المعنى ثابتًا، ولعله أخطأ في ذلك، وإن كان غير مجتهد فأمره إلى الله، ولا يجوز تقليده. وليس من هذا اختيارُ الفقيه المقلّد قولًا يخالف مذهب إمامه، ولكنه ثابت عن إمام آخر، وإنما هذا بناء منهم على أن المقلّد مخيَّر، يجوز له الخروج عن مذهب إمامه في بعض الفروع، ولا سيما إذا رأى الحاجة داعيةً إليه. فهذه الاختيارات لا يصح إيرادها في أمثلة تغيُّر الأحكام الشرعية، ومن هذا ما ذكره صاحب الاستفتاء من تجويز متأخري الحنفية الاستئجارَ على تعليم القرآن والأذان والإمامة وغيرها، فإنهم إنما اختاروا في ذلك مذهب الشافعي وغيره أنه يجوز ذلك مطلقًا، فلما رأوا الحاجةَ داعيةً إلى ذلك رأوا المصلحة تقليدَ من قال بذلك. ولمتأخري الشافعية اختيارات من هذا القبيل لا حاجة إلى ذكرها. ****

أحوال هذا العصر

[ق 35] أحوال هذا العصر الأحوال المتعلقة بالربا ثلاث درجات: الأولى: ما لا تتيسَّر معرفته إلاَّ للماهرين في علم الاقتصاد. الثانية: ما يشاركهم في معرفته أصحاب المعاملات التجارية الواسعة. الثالثة: ما يتيسَّر معرفتُه لغير الفريقين أيضًا ممن لم يتعلم علم الاقتصاد ولا له معاملة تجارية واسعة. والأخ الفاضل صاحب الاستفتاء من الفريق الثالث كما أعرفه، فلم يتعلم علم الاقتصاد، ولا اعتنى به، ولا هو تاجر، فالأحوال التي يعرفها لا تزيد عما أعرفه أنا وأمثالي. فإن كان يريد أن تلك الأحوال هي وحدها كافية لتغيير الحكم، فقد أخطأ خطأً بيِّنًا كما ستراه. وإن كان يريد أن الأحوال التي تقتضي تغييرَ الحكم هي التي يعرفها الفريقان الأولان، فهو مقلد في هذا لدعاة التجديد بل دعاة التقليد الأعمى لأوربا، وهؤلاء الدعاة كما يدعون إلى تغيير حكم الربا يدعون إلى تغيير أكثر الأحكام الشرعية. ****

الأحوال التي نعرفها

الأحوال التي نعرفها حاجة الطبقة الوسطى إلى القرض، وأعني بالطبقة الوسطى كل من له مورِدٌ لا يفضُلُ عن كفايته. قد يكون للرجل مرتَّبٌ شهري يقوم بكفايته، ولكنه أراد التزوج أو السفر أو نحو ذلك مما لا غنى به عنه، فاحتاج إلى استقراض ما يكفيه لذلك، على أن يقضيه بعد ذلك مما يقتصده من مرتَّبه. وقد يكون للرجل حرفة، ولكنه ليس عنده رأس مالٍ، فاحتاج إلى استقراض ما يجعله رأسَ مالٍ ليحترف ويكتسب ويقضي. أو له حرفة تُدِرُّ عليه ما يكفيه، ولكنه أراد التزوج أو نحوه، فاحتاج إلى اقتراض ما يكفي لذلك على أن يقضيه بعد ذلك مما يقتصده من كسبه. فهؤلاء يحتاجون إلى أخذ القرض، ولا يجدون من يُقرِضهم إلاَّ بربًا، أفلا يجوز لهم الأخذ بالربا؟ الجواب أنني قد سَبَرْتُ كثيرًا من أحوالِ هؤلاء، فوجدتُ أكثرهم يبذِّرون في ما يَرِد لهم من المال، ثم يستقرضون ويبذِّرون فيما يأخذونه قرضًا، ثم يماطلون في القضاء. فالمصلحة في حق هؤلاء أن لا يرخَّصَ لهم في القرض أصلاً، لا بربًا ولا بدون ربًا، ليضطرَّهم ذلك إلى إصلاح أنفسهم. [ق 36] والترخيص في القرض بربًا هو الذي أفسدَ هؤلاء، فإن المسلم التقي يمتنع عن إقراضهم لما يعلمه من تبذيرهم، ولاستحيائه عن التوثق برهنٍ أو ضامنٍ، ولخوفه أن يحتاج في التقاضي إلى المخاصمة والمحاكمة.

نتائج هذا العلاج

وأما المُربِي فإن طمعه في الربا قد سلبه هذه الصفات، فهو يحب أن يكون المسلمون كلهم مبذِّرين، ليحتاجوا إلى الأخذ منه بالربا، ولا يستحيي عن التوثُّق، ولا يبالي بالمخاصمة والمحاكمة، لأنه قد اعتادها واستفاد في مقابلها الربا. فالترخيص في الربا هو الداء العضال. وقد رأيتُ حال المسلمين في الهند أكثرهم مبذِّرون، وأغنياؤهم يمتنعون عن الإقراض للأسباب السابقة، ويهودُ الهند (طائفة من الوثنيين يقال لواحدهم مارْوارِيْ) يُقرِضون بالربا ويتوثقون، فأصبحت أراضي المسلمين وبيوتهم وحُلِيُّهم تنتقل إلى المارواريين بسرعة مخيفةٍ. فقِصار النظر من المسلمين يرون الضرورة داعيةً إلى الترخيص لأغنياء المسلمين في الإقراض بالربا، حتى إذا انتقلت الأملاك من يد مسلمٍ فإلي يد مسلمٍ آخر. ولعل هذا مما حملَ صاحبَ الاستفتاء على ما قاله. [ق 37] نتائج هذا العلاج: 1 - تبديل الشريعة. 2 - التعرض لغضب الله ومحاربته. 3 - أن يسلَّط على المسلمين ذُلًّا لا ينزعه عنهم حتى يرجعوا إلى دينهم، كما جاء في الحديث (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (4825، 5007، 5562) وأبو داود (3462) والبيهقي في "السنن الكبرى" (5/ 316) وغيرهم من حديث ابن عمر، وفي أسانيده ضعف.

4 - إقرار الطبقة المتوسطة على تبذيرهم في المحرمات والملاهي والمعيشة والرسوم (¬1) الفارغة. 5 - إقرارهم على الكسل والتواني عن طلب الحلال. 6 - إقرارهم على عدم الأمانة وإخلاف الوعد والمماطلة بالديون. 7 - إقرار أغنيائهم على عدم المعونة لمحتاجيهم بالقرض الحسن. 8 - لا يزال كثير من المسلمين يتورعون عن الاستقراض بالربا، وهذا العلاج يُبيحه لهم، فيحملهم على الإمعان فيه. 9 - لا يزال كثير من أغنياء المسلمين يتورعون عن الإقراض بالربا، ويقع منهم غيرَ قليل الإقراضُ بدون ربا. وهذا العلاج يبيح لهم الربا، فيوشك أن لا يُقرِضوا إلا به. 10 - كما أن الكفار هزموا المسلمين في ميدان التجارة لرضا الكافر بالربح اليسير، في حين أن المسلم لا يُرضيه إلا الربح الكثير، فسيهزمونهم في ميدان الربا، وبذلك يرتفع ما في هذا العلاج من تلك الفائدة المتخيلة. 11 - لا يزال كثير من الطبقة الوسطى يتورعون عن معاملة الكفار خوفًا من أن تنتقل بيوتهم وعقاراتهم إلى الكفار، ولهذا ينكَفُّ كثير منهم عن التبذير، فإذا أُبيح للمسلمين المراباة ارتفع هذا القدر، وأوشك أن يصبح خمسة وتسعون في المئة من المسلمين عالةً لا يملكون شيئًا. 12 - إذا أُحِلَّ الربا، وكانت نتيجته ما توقَّعه واضعُ ذلك العلاج أن تنتقل ¬

_ (¬1) أي العادات والتقاليد.

النظر الشرعي

أموال المسلمين إلى المسلمين، فيوشك أن يصبح خمسة وتسعون (¬1) في المئة فقراءَ لا يملكون شيئًا، وخمسةٌ في المئة أغنياءَ، وهؤلاء الخمسة إن سَلِموا من المرض الحقيقي - وهو التبذير والكسل - لم يَسلَم منه ورثتُهم، بل يوشك أن يقتصر ورثتُهم على المراباة، ويَدَعُوا الزراعة والصناعة والتجارة، ويوشك أن يشتطُّوا في الربا فلا يُقرِضوا إلاَّ بربًا باهظ، ووراء ذلك الهلاك المبير. [ق 38] النظر الشرعي: المرض الحقيقي هو التبذير والكسل، والتبذير أخبثهما، ونتيجتهما الفقر، ثم ينشأ عن الفقر أمراض أخرى: كعدم الأمانة، وإخلاف الوعد، والمماطلة بالديون. ثم ينشأ عن هذه الأمراض مرض آخر، وهو امتناع الأغنياء عن إقراضِ المحتاجين قرضًا شرعيًّا أو مضاربتِهم مضاربةً شرعية. ثم ينشأ عن ذلك فقر جماعة المسلمين وتقاطعهم ثم هلاكهم. والذي يرخِّص في الربا إنما نظر إلى أمر واحدٍ، وهو فقر جماعة المسلمين، وعلاجه هذا لا يُغني في ذلك أيضًا، وفوقَ هذا ففقر جماعة المسلمين إنما نشأ عن التبذير والكسل وتوابعهما، فالتَّبِعةُ عليهم. ولا يُعقَل أن يكون التقصير منهم والغرامة على الشريعة، مع أن تحريم الربا من شأنه إلى حدٍّ ما أن يخفِّف وطأةَ المرض كما تقدم. تحليل المرض: أنا الآن مقيم بحيدراباد دكن الرياسةِ (¬2) الإِسلامية العظمى في الهند، ¬

_ (¬1) في الأصل: "وتسعين" سهوًا. (¬2) الرياسة في الأردية بمعنى الدولة والإمارة.

فأبدأ بتحليل مرض المسلمين فيها. أما التبذير فنصفه في الرسوم، وثُلثه في الملاهي، وسدسه في المعيشة. أما الرسوم فإنه إذا وُلِد الولد فهناك دعوة العقيقة، ثم على رأس السنة دعوة (سَالْ كَرَهْ) (¬1)، وهكذا على رأس كل سنة، ثم دعوة كبيرة بعنوان (بسم الله)، أي أن الولد شرع في قراءة القرآن، وكثيرًا ما تكون قراءة الولد بسم الله في تلك الدعوة هي أول قراءته وآخرها! وكثيرًا ما يكون أهلُه غير عازمين على إقرائه القرآن، ولكن دعوة بسم الله لازمة. ثم إذا قرأ فأول ما يقرأ جزء عمَّ، ثم يُشرع في إقرائه من أول القرآن، وهناك دعوة أخرى. ثم إذا ختم القرآن دعوة. وأولَ ما يستطيع الصوم يُصوِّمونه يومًا ويجعلونه دعوة كبيرة، ولعل ذلك اليوم يكون أولَ صيامه وآخره! ثم إذا بلغت البنتُ دعوةٌ، ثم عند الزواج دعوات، ثم ثالثَ موتِه دعوةٌ، ثم على تمام العشر دعوة، ثم على تمام الأربعين دعوة، ثم على وفاء السَنة من موته دعوة، ثم تتكرر كلَّ سنة. دع الدعوات التي يقيمها عند إرادة سفر قريبه أو صديقه، أو عند عودِه من السفر، أو عند فوزه في الامتحان، أو حصوله على خدمة في الحكومة، أو ترقيته في الخدمة، أو شفائه من مرض أو غير ذلك. وهناك دعوات المولد، والمعراج، ونصف شعبان، وآخر أربعاء من صفر، ودعوات في رمضان، وأيام وفيات الخلفاء والأئمة والأولياء وهي كثيرة، والأسفار التي ينشئونها لزيارة الأولياء، إلى غير ذلك. والغريب أن هذه الدعوات والاحتفالات أكثرها عندهم هي أركان ¬

_ (¬1) أي عيد ميلاد الطفل.

المعيشة

الدين، فتجد الرجل تاركًا للصلاة والزكاة والصيام والحج مرتكبًا للمحرمات، ولكنه يحافظ على هذه الدعوات! [ق 39] الملاهي: السينما والفونوغراف (الحاكي) وقليل غيرهما. أما السينما، فههنا مواضع كثيرة لها، وقد يمضي للرجل أسبوع كامل أو أكثر وهو كلَّ ليلة في سينما، وقد يجمع في يوم واحد بين روايتين، وفيها مع الخسارة المالية مفاسد أخرى: كإفساد الأخلاق، وتعليم السرقة، والإضرار بالصحة، وتضييع الأوقات، فقد تستغرق الرواية الواحدة ثلاث ساعات، وقد تبقى إلى ساعة أو ساعتين بعد نصف الليل، فيصبح الرجل كسلان لا ينشط للعمل النافع. وفوق ذلك كله فبعض الروايات يُشرع فيها قبل العصر وعند الغروب وبعضها يُشرع فيه قبل المغرب ويمتدُّ إلى العشاء، وبعضها يُشرع فيه قبل العشاء ويمتدُّ إلى ثلث الليل، فربما فوَّتَ الناظرون الصلاةَ رأسًا، وربَّما فوَّتوا الجماعةَ، ولكن هذا يهون إذا علمنا أن غالب المسلمين هنا لا يصلُّون أصلاً! وأما الفونوغراف فالرجل يحتاج إلى شرائه، ثم تستمر الحاجة إلى شراء الإبَر والأسطوانات، وإلى إصلاحه إذا تغيَّر. وأما ما عدا هذين فهو قليل ههنا، وإنما يُبتلىَ به الأغنياء في الغالب. المعيشة: أما الإسراف في المعيشة فهو هنا خفيف في الطبقة الوسطى، وعامة إسرافهم هو في الدعوات والرسوم والملاهي، فإن وقع من بعضهم فهو في لباس النساء، وكثير منهم يعتاد المسكرات الرخيصة، ولكن الإسراف

العلاج

مستحوِذٌ على الأمراء، ولا سيما في عمارة البيوت والسيارات والأثاث ولباس النساء. ومنهم من يتعاطى المسكرات، ويميل مع الرقاصات، ويُكثِر السفر إلى أوربا، فينفق في سفره وإقامته هناك نفقاتٍ باهظة. وتجد فيهم من يتراوح دخْلُه الشهري بين مئة جنيه إلى ألف جنيه، وهو مع ذلك يُدان بالربا والعياذ بالله. [ق 40] العلاج أما الرسوم فعلاجها بيد العلماء والمرشدين (مشايخ الطرق)، فلو أن صاحب الاستفتاء دعاهم إلى النظر فيها واجتهد في ذلك لكان خيرًا له وللمسلمين. فعلى العلماء والمرشدين أن ينظروا في تلك الرسوم، فسيجدون بعضها لا حاجة إليه أصلاً، وبعضها لا بأس به لولا ضرره الشديد، وبعضها له فائدة ولكن ضرره أكبر من نفعه، وبعضها ضروري - كوليمة العرس - ولكن بلا إسراف، فالذي يستقرض ليوسِّع الوليمة مسرف، والذي يصرف مالاً كبيرًا في الوليمة وهو غني - والمصالح الإِسلامية العامة محتاجة إلى المال - مسرف. فيقرر العلماء والمرشدون وقفَ النوع الأول أصلاً، وكذلك الثاني بالنظر إلى الأحوال الحاضرة، ويقررون تخفيفَ الإنفاق في الثالث جدًّا، بحيث يقتصر على دعوة أفراد معدودين وعلى سَقْيهم الشاهي وحده. وتخفيف الرابع بحيث لا يحتاج الداعي إلى القرض، ولا تتجاوز نفقة الوليمة دَخْلَ شهرٍ من دخْله، ولا تُجاوز مئةَ رُبِّية مثلًا. فأما الأمراء والأغنياء الكبار فلْيُترك الاختيار لهم، ويُكتفَى بوعظهم ونُصْحهم ليخفِّفوا الوليمة ما أمكن.

وإذا قرر العلماء والمرشدون هذا أو نحوه عاهدوا الله تعالى على تنفيذه، فيلتزمونه هم في ذات أنفسهم، ويُلزِمون به من يسمع قولهم، ولا يجيبون دعوةَ من خالف ذلك، ويُلزِمون من يسمع لهم أن يحذو حذوهم في ذلك، ويعلنون للناس أن من خالف ما قرروه فهو بالنظر إلى أحوال العصر عاصٍ آثمٌ مخالف لله ورسوله وأوليائه، وأن رضا الله ورسوله وأوليائه في الاقتصاد في هذا العصر. ويمكنهم إذا نصحوا لله ولدينه وللمسلمين أن يقوموا بأكثر من هذا. [ق 41] وأما الملاهي فأمُّها ههنا السينما، فعلى العلماء والمرشدين أن يدعوا أعيان الأمة، ويقرروا مطالبةَ الحكومة: بمنع الأطفال الذين دون البلوغ من دخول السينما البتَّةَ، كما قررتْه دولةُ هولندا في جاوه فيما بلغني. وبتحديد أوقات السينما، فلا تُفتح نهارًا، ولا تُفتح إلا بعد المغرب، وتقتصر على دَورٍ واحد. وبأن تقيم مراقبةً أخلاقية صارمة تحظُر عرضَ كل فلم مُضرٍّ بالأخلاق، وتُشرِف على دَخْل السينما فتحدِّد قيمة البطاقات بقدرٍ يتناسب مع غرامتها. وغير ذلك. ثم يبالغون في الوعظ والنصح، وبيان مضارّ السينما ومفاسد إنفاق المال لمشاهدتها، وغير ذلك. وفي وُسْعِهم إذا وفَّقهم الله تعالى أن يعملوا أكثر من هذا.

الرسالة التاسعة والعشرون كشف الخفاء عن حكم بيع الوفاء

الرسالة التاسعة والعشرون كشف الخفاء عن حكم بيع الوفاء

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي بسط الأرض للأنام، وقدَّر فيها أقواتَها على ما اقتضته حكمتُه من النظام، وتولَّى قِسمتَها وقسمةَ ما فيها بينهم بشريعته، فقال سبحانه: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [الرحمن: 7 - 9]. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. أما بعد، فقد سألني بعض الإخوان عن حكم البيع الذي يقال له بيع الوفاء وبيع العهدة إلى غير ذلك من الأسماء، وهو شائع في بلاد حضرموت وكثير من البلدان. فراجعتُ بعض ما تيسَّر لي من كتب علماء حضرموت، فرأيت في "بغية المسترشدين" عن فتاوى الحفيد عبد الله بن الحسين بافقيه: "بيع العهدة [المعروف صحيح جائز، وتثبت به الحجة شرعًا وعرفًا على قول القائلين به، وقد جرى عليه العمل في غالب جهات المسلمين من زمن قديم، وحكمت بمقتضاه الحكام، وأقره مَن يقول به من علماء الإِسلام، مع أنه ليس من مذهب الشافعي، وإنما اختاره مَن اختاره ولفّقه من مذاهب للضرورة الماسة إليه، ومع ذلك فالاختلاف في صحته من أصله في التفريع عليه لا يخفى على من له إلمام بالفقه] (¬1) " (ص 133). فأحببتُ أن أعرف حقيقة التلفيق المذكور، فوجدتُ في "ترشيح ¬

_ (¬1) وضع المؤلف هنا نقطًا، وقد أكملت العبارة من المصدر المذكور.

المستفيدين": "تنبيه: اعلم ... على الراجح" (ص 230). ثم ذكر اختلاف الحنفية، وسيأتي. وفي "القلائد" لباقشير: "مسألة: بيع العهدة ... ممن شهد بذلك". ثم قال: "مسألة: ومن أثبت ... الشافعي ... "، ثم قال: "تنبيه ... المنصوص". ثم أفاض في توابعه من الأحكام بانيًا على مذهب الشافعي رحمه الله تعالى، وعلى أن هذه المعاملة إقالة ولكنها لازمة. فتلخَّص لي مما تقدم أمور: الأول: أن هذه المعاملة إذا كانت على ما ذكروه - مِن تقدُّم المواطأة، ووقوع العقد باتًّا - حكمها في مذهب الشافعي ما قدَّمتُ من نفاذ العقد وبتاته، ويكون رضا المشتري قبل العقد بما تواطأ عليه وعدًا منه يُستحب له الوفاء به ولا يجب. الأمر الثاني: أن العمدة في إلزام المشتري بالوفاء هو تقليد الإِمام مالك. الثالث: أنه يمكن الاعتماد في ذلك على مذهب أحمد في جواز البيع بشرط. الرابع: إمكان الاعتماد على مذهبه في جواز تأبيد الخيار. الخامس: إمكان الاعتماد على مذهب أبي حنيفة. السادس: العذر عن الخروج عن المذهب بالضرورة. السابع: اعتماد المتأخرين على عمل من قبلهم من العلماء وكفى.

فأحِبُّ أن انظر في هذه الأمور واحدًا واحدًا. فأما الأمر الأول فحقٌّ لا غبار عليه، إلاَّ أنه يستحب عدم التواطؤ خروجًا من خلاف من يجعل المشروط بالمواطأة كالمشروط بالعقد، فيبطل به العقد ويحرم. وسيأتي إيضاحه إن شاء الله. وأما الأمر الثاني فقد راجعتُ ما تيسَّر لي من كتب المالكية، فوجدتُ في "الموطأ" (¬1) عن عبيد الله بن [عبد الله بن] عتبة بن مسعود أن عبد الله بن مسعود ابتاع جاريةً [من امرأته زينب الثقفية، واشترطت عليه أنك إن بعتَها فهي لي بالثمن الذي تبيعها به. فسأل عبد الله بن مسعود عن ذلك عمرَ بن الخطاب، فقال عمر بن الخطاب: لا تقربْها وفيها شرط] لأحد. وعن ابن عمر أنه كان يقول: " [لا يطأ الرجل وليدةً إلا وليدةً إن شاء باعها، وإن شاء وهبها، وإن شاء أمسكها، وإن شاء صنع بها] ما شاء". قال الباجي في "المنتقى" (¬2): "ظاهر قوله ["وشرطتْ عليه أنك إن بعتها فهي لي بالثمن" يقتضي أن ذلك كان في نفس العقد على وجه الشرط، ولم يكن على وجه التطوع منه بعد كمال العقد، وهذا يسميه العلماء الثنيا، ويسمون البيع المنعقد بهذا الشرط بيع الثُّنيا، وهو بيع فاسد] مع النقد". وقال بعد ذلك (¬3): "وقول عمر "لا تقربها [وفيها شرط لأحد"، قال أبو مصعب في "المبسوط": معنى ذلك لا تَبْتَعْها وفيها شرط لأحد، ومعنى ¬

_ (¬1) (2/ 616). ومنه زيادة ما بين المعكوفتين. (¬2) (6/ 129) ط. دار الكتب العلمية. ومنه زيادة ما بين المعكوفتين. (¬3) (6/ 131).

ذلك: لا تشترها بهذا الشرط، وهذا يقتضي منعه من هذا الابتياع لفساده] ". وفي "حواشي الدسوقي على الشرح الكبير": "وبيع الثُّنيا [هو المعروف بمصر ببيع المعاد، بأن يشترط البائع على المشتري أنه متى أتى له بالثمن ردّ المبيع، فإن وقع ذلك الشرط حين العقد أو تواطآ عليه قبله كان البيع فاسدًا ولو أسقط الشرط، لِتردد الثمنِ بين السلفية والثمنية، وأما إذا تبرع المشتري للبائع بذلك بعد البيع بأن قال له بعد التزام البيع: متى رددتَ إليَّ الثمن دفعتُ لك المبيع، كان البيع صحيحًا، ولا يلزم المشتريَ الوفاء بذلك الوعد، بل يستحبُّ] (¬1) فقط" (ج 3 ص 62). ¬

_ (¬1) ما بين المعكوفتين من المصدر، وقد ترك المؤلف هنا بياضًا.

الرسالة الثلاثون النظر في ورقة إقرار

الرسالة الثلاثون النظر في ورقة إقرار

الحمد لله. الذي يظهر من هذه الورقة عند التأمل أنها إقرار بالاشتراك، وأما ما وقع فيها من بعض الألفاظ التي يفهم منها مناقضة الإقرار فليست بصريحةٍ في ذلك. بل إذا نُظِر إلى ما قبلها وما بعدها وإلى تسامح العوامّ في ألفاظهم، وإلى كيفية الاشتراك بين المقر وإخوته على ما تدل عليه هذه الورقة = لم تكن تلك الألفاظ ظاهرةً فيما يناقض الإقرار، بل هي محمولة على ما يوافقه، وعلى ذلك تتفق جميع ألفاظ المقرّ في هذه الورقة، ولا يكون فيها شيء مُلغًى. فقوله: "يقبضون ما هو لي في أرض الهند وغيره" ليس فيه بيان ما هو له، فيُحمل ذلك على نصيبه من جميع الأموال التي اعترف بعد أنها مشتركة. وقوله: "وخطوط قوابل البيوت في صندوقي" ليس فيه ما يدل على أن البيوت ملكه خاصة. وقوله "صندوقي" وإن كان ظاهرًا يفيد أن الصندوق له ملكًا، فالاعتراف بالاشتراك يدل أنه إنما أضافه إليه لاختصاصه به، كما يقول الولد في بيت أبيه، والخادم في بيت سيده، والموظف في دور الحكومة: "كرسيَّي" للكرسي المخصص لجلوسه، وإن لم يكن ملكه، نعم إن هذا مجاز، ولكن الحمل على المجاز الذي تعينه القرائن أولى من حمل الكلام على التناقض وإلغاء بعضِه. وهكذا قوله بعد ذلك "فهو في داري". وقد قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ ... وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب: 53]. فأضاف البيوت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد قال تعالى قبل ذلك في خطاب

أمهات المؤمنين: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب: 34]. فأما قول "المنهاج" (¬1): "فلو قال: داري أو ثوبي أو دَيني الذي على زيد لعمرو، فهو لغو"، فوجهه فيما يظهر أن قوله "لعمرو" لا يتعين للإقرار، بل يحتمل الهبة، أو أنه أراد أنه صديقي فمالي كأنه ماله، أو نحو ذلك. وليس تأويل قوله "داري" بأولى من تأويل قوله "لعمرو"، فلهذا حكم بأن العبارة المذكورة لغو، فأما إذا قال مثلاً: "ثوبي هذا عارية، استعرتُه من مالكه زيد" أو نحو ذلك، فإلغاء الإقرار بعيد عن القواعد. وفي "التحفة" (¬2): "أو الدين الذي لي على زيد لعمرو = لم يصح إلاَّ إن قال: واسمي في الكتاب عارية". ومما يؤيد ذلك القاعدةُ المعروفة أنه لا يجوز إلغاء كلام المكلف ما أمكن. وفي "التحفة" عقب عبارة "المنهاج" السابقة ما لفظه: "لأن الإضافة إليه تقتضي الملك له، فتنافي إقراره به لغيره، فحمل على الوعد بالهبة". فيؤخذ من هذا أنه إذا تعذر أو بعُدَ تأويل لفظ الإقرار مع قرب تأويل الإضافة المتقدمة وجب الحكم بصحة الإقرار. ومن تأمل الورقة المتكلم عليها وجد دلالتها على الإقرار واضحة جدًّا. ثم على فرض أن دلالة الإضافة على الملك أقوى أو أنها تلغي الإقرار مطلقًا، فيختص هذا بالصندوق والدار والكساء المضافات في هذه الورقة، ¬

_ (¬1) (2/ 181 - 182) ط. دار البشائر. (¬2) (5/ 371 - مع حواشي الشرواني والعبادي).

ويبقى الإقرار فيما عدا ذلك صريحًا. ومن ذلك قوله: "وخطوط قوابل البيوت في صندوقي وأشياء من ذهب وفضة وسلاح وو عن الدار ... وما هو باسمي من خطوط أملاك ومشاري ورهائن عقارات ... سنغافوره". وفي "التحفة" (¬1): "ولو قال: الدين الذي كتبته أو باسمي على زيد لعمرو، صحَّ، إذ لا منافاة". وقول كاتب الورقة: "وكسائي الذي على بدني ومطروح" يجيء فيه ما مرَّ في "صندوقي وداري". وقوله بعد ذلك كله: "فهو تركة بين إخوتي وبين ورثتي بالسوية فقط، ما شيء لي زائد عليهم" ظاهر فيما قدمته، فلا وجه لإلغائه. وقوله: "تركة بين إخوتي وبين ورثتي" يريد أن أصله تركة تركها مورثُه ومورثُ إخوته، وبقيت مشتركة بينهم يعملون ضربًا على الاشتراك، كما يدلُّ عليه السياق، وينفي أن يكون المراد تركة لي، أي أتركها أنا، كيف وهو يقول بعد ذلك: "ما شيء لي زائد عليهم"؟ ثم قال: "وما كان معهم من أملاك وغير، وجميع ما يسمى مال، وما يطلق عليه اسم المال = فهو بيني وبينهم بالسوية" صريح جدًّا في أنهم على الاشتراك، وهو وإن كان ظاهره دعوى إلاَّ أنه يقرِّر الإقرار السابق ويوضحه. ويؤكد ذلك قوله بعد هذا: "والذي مع والدتهم من أسيار ذهب وفضة ... فهو لها ... ويكون بطيب نفس من الإخوان محمَّد وسعيد". فلو كان إنما أراد بهذه الورقة التبرع على أخويه، فأيّ وجه لأن يشترط طيب ¬

_ (¬1) (5/ 371).

أنفسهم فيما أقرّ به لزوجته أو وهبه لها أو أوصى لها به. فأما قوله: "وأيضًا ما كان متروكه معي في حضرموت جاء في مال بالإرث من والدتي فاطمة ... فهو بيني وبين إخواني تركة". فهو اعتراف صريح. وفي "التحفة" (¬1): "وقول "الأنوار" لا أثر للإرادة هنا يشكل بقوله أيضًا في الدار التي ورثتُها من أبي لفلان: إنه إقرار إن أراده، إذ لا فرق بين اشتريت مثلًا وورثتها. ويوجه ذلك بأن إرادته الإقرارَ بذلك تبيِّن أن مراده الشراء والإرث في الظاهر". قال السيد عمر في حواشيه على "التحفة" (¬2): "قوله الشراء والإرث في الظاهر إلخ، إنما يحتاج إليه عند فرض أنه حال الإقرار بالإرث والشراء، بحيث لم يمض زمنٌ يمكن فيه النقل، وإلا فالشراء والإرث الماضيان لا ينافيان الإقرار حالاً". والإرث المذكور في عبارة المقرّ ماضٍ كما هو واضح، وقول المقر في آخر العبارة الماضية: "بيني وبين إخواني تركة" يُوضح ما قدمته أن مراده بتركة في قوله السابق "تركة بين إخواني وبين ورثتي" التركة الأصلية، أي الذي تركه مورثه ومورث إخوته، وبقي بينهم مشتركًا يعملون فيه بالسوية، وكل ما استحدثوه ضموه إلى ذلك. فإن قيل: وكيف يكون ما ورثه من أمه من جملة التركة التي يشاركه فيها إخوته من أبيه؟ ¬

_ (¬1) (5/ 370 - 371). (¬2) المصدر السابق.

قلت: يحتمل أنه ملكهم مما ورثه من أمه مقدار حصصهم من التركة المشتركة، فانضم ما ورثه من أمه إلى التركة الأصلية المشتركة، فصار معدودًا منها. وهذا ظاهر، فيجب تصحيح العبارة على احتمال هذا الوجه. والله أعلم.

الرسالة الحادية والثلاثون قضية في سكوت المدعي عليه عن الإقرار والإنكار

الرسالة الحادية والثلاثون قضية في سكوت المدعي عليه عن الإقرار والإنكار

الحمد لله. مسألة: رجلان ادُّعي عليهما قتلُ آخر عمدًا وعدوانًا دعوى صحيحة، فأجابا أنهما هجما عليه لقصد ضربه لا قتله، وأخذا يضربانه، فاستلَّ سكينًا من حزام أحدهما، فأمسكا يده، وتجاذبا السكين، فوقعتْ به طعنة في جانب ظهره الأيسر. وكلٌّ منهما قال: لا أدري ممن الطعنة، ثم قال أحدهما: أنا القاتل، ثم روجع الآخر على أن يقر أو ينكر، فأصرَّ على قوله: لا أدري ممن. قد تتبعت مظانَّ المسألة مما وجدته من كتب المذهب، فلم أظفر بها صريحةً، إلاَّ أنهم قسموا حالة المدعى عليه بعد الدعوى إلى قسمين: إقرار وإنكار. أما الإقرار فله باب مخصوص، وأما الإنكار فهو نقض إلزام الدعوى. وألحقوا به وبالنكول إصرار المدَّعى عليه على السكوت عن جواب الدعوى. والظاهر من عباراتهم أنه ليس مرادهم السكوت المطلق، وهو مقابل النطق، بل السكوت عن جواب الدعوى المفهوم من إطلاقه، أي الجواب بشرط صحته، حتى يدخل ما لو نطق بما لا يصح جوابًا، كقوله: يثبت ما يقول ونحوه، فلا يكتفى به، بل يلزمه أن يبيِّن إما بالإقرار بما ألزمته به الدعوى، وإما بالإنكار لذلك، أو التفصيل، وهو راجع إليهما. فإن بيَّن فالأمر واضح، وإلّا نُزِّل منزلةَ المنكر الناكل، وشرط كون الدعوى ملزمةً من فروعه أن ينسب القتل مثلًا إلى المدعى عليه نفسه، أو إلى مَن يلزمه بقتله شيء، وليس اللزوم. فلو قال: قتله أخوه، ولم يزد على ذلك ما يلزم، لم يسمع. قال في "عماد الرضا" (¬1): "حُكي أن رجلين تقدما إلى قاضٍ، فقال ¬

_ (¬1) النقل من كلام المناوي في شرحه على "عماد الرضا" (1/ 350).

أحدهما: إن أخا هذا قتل أخي، فقال القاضي: ما تقول؟ فقال: إن أخا هذا قتله غيري. وهو جواب صحيح عن فساد الدعوى، وكان من صحتها أن أخاه قتلَ أخيِ وأنا وارثُه وهذا من عاقلته، لتتوجَّه له المطالبة". ومن المعلوم أن القصد من طلب الجواب من المدَّعى عليه الإقرار بما أُلزِم به أو إنكاره أو التفصيل، وهو راجع إليهما كما مرَّ. فلفظ "لا أدري" جوابًا عن الدعوى عليه أنه قتل مثلًا لا يكفي, لأنه لم يقرّ بما ألزمته الدعوى وهو القتل، ولا أنكر. وقد شرطوا في اليمين مطابقتها للإجابة، وقالوا في اليمين: لا بدَّ أن يحلف بها في كلَّ يمين على فعله إثباتًا أو نفيًا، وكذا على إثبات فعلِ غيره وأما نفي فعل غيره فعلى نفي العلم. فلو اعتبرنا "لا أدري أني قتلتُه أو لا" جوابًا لزم أن نقول: يحلف طبقَه، وحلفه كذلك لا يُعتبر لأنه على نفي العلم في فعل نفسه، وإذا بطل اللازم بطل الملزوم, لأن الإجابة بغير الإقرار إن لم تكن بيَّنة فهي تقتضي اليمين. وأما كون لفظة "لا أدري" في فعل نفسه يُعتبر إقرارًا فغير ظاهر, لأن مبنى الإقرار على اليقين، ولا نظير لها في باب الإقرار تقاس عليه، لكنها قد تؤدّي إلى ما هو في حكم الإقرار، بأن يصرّ المدعى عليه، فيحكم القاضي بأنه كالمنكر الناكل، ويحلف المدعي اليمين المردودة. وهل يسمع من قائلها الإنكار بعدُ أو لا؟ (¬1). ¬

_ (¬1) هنا انتهى الموجود من المسألة.

الرسالة الثانية والثلاثون الفسخ بالإعسار

الرسالة الثانية والثلاثون الفسخ بالإعسار

الحمد لله. الفسخ بالإعسار ثابت في المذهب، وإذا بحثنا عن علته ظهر لنا أن النكاح عقدٌ بمقابلٍ كالبيع، فهو إباحة الانتفاع بالبضع إلى مقابل الصداق والإنفاق. ولا يَرِد علينا أنه تجب النفقة في غير حال الانتفاع، كما إذا كان عنينًا أو غائبًا. فإننا نقول: إن المنفعة تلِفَتْ تحت يدِه، فهي من ضمانه. لا يقال: إنها تحتَ يدِ مالكها. فإننا نقول: إنها وإن كانت تحت يده صورةً فهو باذلٌ لها وممنوعٌ من التصرف فيها، فهي من ضمان الزوج قطعًا، بخلاف ما إذا أبى صاحبها من التمكين. والمذهب أن المشتري إذا أعسر بالثمن، أو كان ماله غائبًا بمسافة قصرٍ، فللبائع الفسخ، لخبر "الصحيحين" (¬1): "إذا أفلسَ الرجلُ ووجدَ البائعُ سِلْعته بعينها، فهو أحقُّ بها من الغُرماء". وقِيسَ عليه سائر المعاوضات كالإجارة، وعلى الفلس الإعسارُ. فكذا يكون النكاح، بل هو أولى، لتجدُّد الضرر كلَّ يوم واعتضادِه بالضرر الآخر. وإذا بحثنا عن علة الفسخ بالإعسار ظهر لنا أنها تعذُّر تسليم العوض، والعلة موجودة فيما إذا غاب غيبةً منقطعةً، أو امتنع ولم يُقدَر على ضبطه. فإن قيل: ثَمَّ فارقٌ، وهو أنه يمكن في منقطع الغيبة أن يرجع، وفي الممتنع أن يمتثل. قلنا: وكذا المعسر يمكن أن يتصدق عليه، بل هو أولى, لأن إمكان ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2402) ومسلم (1559) من حديث أبي هريرة، واللفظ لمسلم.

يساره أقرب من إمكان رجوع منقطع الغيبة وامتثال الممتنع، مع أنهم قد صرَّحوا في البيع بالفسخ إذا كان مالُه بمسافة قصرٍ. وأنت خبيرٌ أن النكاح أولى، لتجدُّد الضرر واعتضادِه بالضرر الأكبر، ولكن لفسخ النكاح من الأهمية ما ليس لفسخ البيع، فلا يجوز ما دام الضرر خفيفًا، كما في غيبة المال بمسافة القصر. ولا يمنع الفسخَ غِنَى الزوجةِ أو وجودُ مَن يُنفق عليها، كما لا يمنع ذلك في البائع والمؤجر.

الرسالة الثالثة والثلاثون مسألتان في الضمان والالتزام

الرسالة الثالثة والثلاثون مسألتان في الضمان والالتزام

شهد الشريف أحمد زين حوذ أن أحضر حسين امعيسى فلم يُقبل، لكونه كان وكيلًا في الدعوى، مع أن حرفته التوكل. وفي فتاوى السيد محمَّد بن عبد الرحمن بن سليمان ما لفظه: وفي "فرائد الفوائد" لسيدي عبد الرحمن بن سليمان رحمهما الله تعالى: أفتى الفقيه أحمد السانه أن من حرفته التوكل في منازعة الخصوم إنما يقدح ذلك في شهادته، ولا تُقبل شهادة من وكلاء القاضي. انتهى، والله سبحانه وتعالى أعلم. نعم، ثم ظهر لنا من حكم القاضي عافاه الله أنه بناه على أن العقد كفالة ببدن، والصارف للفهم أولًا عن ذلك أن حسين امعيسى معترف لدينا بأنه ملتزم بالمال، ووردت شهادة بأن أبا سودان كان يعزم إليه قبل الحضور عند القاضي ويطلب منه المال فيلتزم له بذلك، وصادقها حسين امعيسى. وفهمنا من كلام القاضي عبد الله عافاه الله أنه بنى ذلك على أن لفظ الالتزام كفالة، وأنه مخصوص بكفالة البدن. فلما خاطبناه أجاب بأنه حصل الإبراء، وتجوَّز به عن تسليم المكفول به إلى الحبس. وليس الأمر كما ظنَّ، بل يكفي في الضمان لفظٌ يُشعِر بالالتزام، كان بالمال ضمين أو زعيم أو كفيل. وعبارة "الروض" مع شرحه (¬1): " (الركن الخامس) للضمان الشامل للكفالة ([صيغة] الالتزام) لتدل على الرضى، والمراد بها ما يُشعِر بالالتزام، فيشمل اللفظَ والكتابة وإشارةَ الأخرس، (كضمنتُ مالَك على فلان أو تكفَّلتُ ببدنه أو أنا بإحضار بدنه أو بالمال) أو ¬

_ (¬1) (2/ 244).

بإحضاره كما عبَّر به الأصل (أو بإحضار الشخص كفيل أو زعيم أو ضامن أو حميل أو قبيل) أو صبير أو ضمين أو كافل، وكلها صرائح". وفي "الشرح" (¬1) أولَ الباب: ويُسمَّى الملتزم لذلك ضامنًا وضمينًا وحميلاً وزعيمًا وكافلًا وكفيلاً وصبيرًا وقبيلاً. قال الماوردي: غير أن العرف جارٍ بأن الضمين يُستعمل في الأموال، والحميل في الديات، والزعيم في الأموال العظام، والكفيل في النفس، والصبير في الجميع. وكالضمين فيما قاله الضامن، وكالكفيل الكافل، وكالصبير القبيل. قال ابن حبان في "صحيحه" (¬2): والزعيم لغة أهل المدينة، والحميل لغة أهل مصر، والكفيل لغة أهل العراق. اهـ. وأما ما ذكره الماوردي أن العرف استعمال الكفيل على الملتزم بالنفس فالعرف الآن في اليمن استعماله في الدية أيضًا. ولو فرضنا أن العقد كفالة بالبدن، فتجديده للالتزام بالمال بعد ذلك - كما شهدت به الشهادة واعترف به حسين امعيسى - يُعدُّ ضمانًا مستقلًّا. ولا ضيرَ في أن يكون الشخص كفيلاً بالبدن بصيغةٍ وضمينًا بالمال بأخرى. وأما قولهم - واللفظ لشيخ الإِسلام في "منهجه" (¬3) -: (ولا يُطالَب كفيلٌ بمال، ولو شرط أنه يغرمه لم يصح)، فذلك في ما إذا كان عقدًا واحدًا، بأن كفلَ ببدنه فقط، أو كفل بشرط أنه يغرم، أما إذا كان بالتزامٍ آخر فلا ريبَ ¬

_ (¬1) (2/ 235). (¬2) (10/ 480). (¬3) "فتح الوهاب شرح منهج الطلاب" (3/ 385 - 386 مع حاشية الجمل).

أنه يلزم. فالحاصل: قد ثبت لدينا التزامُ حسين امعيسى بالذي وضحه ضمانه، ولم يثبت الإبراء، فيلزمه الوفاء بضمانه، وبذلك حكمتُ بعد العرض على سيّدنا ومولانا إمام الحق أيَّده الله تعالى. وحرِّر في ربيع الثاني سنة 1337.

[قضية أخرى في الضمان]

[قضية أخرى في الضمان] حضر لدينا عبد الرحمن باسودان وادَّعى على الحاضر معه حسين عيسى العيسى بأنه ضمن له على السيد علي المداح ... ريال، وقد تسلَّم منها ... ريال وبقي ... ريال، يطلب ضبطه بتسليمها. أجاب المدعى عليه بأن هذه الدعوى قد أُقيمت لدى القاضي عبد الله العمودي وحكم فيها، وأبرز الحكمَ، ولفظه: بالمجلس الشرعي حضر السيد علي بن محمَّد الصعدي الحوثي الأصل، وحضر بحضوره الغرماء له: الشيخ أحمد عيسى هرملي، وحمد علي حسين، وعبد الرحمن باسودان، وسالم باعيسى. وصار الخطاب لهم في شأن كفالة حسين امعيسى على السيد علي لهم، إما بإطلاق السيد علي على كفالة السيد علي من حسين امعيسى، أو بقائه في الحبس وخروج حسين امعيسى عن الكفالة. فاختاروا بقاء السيد علي في الحبس. فأرجعنا السيد علي في الحبس، وبرئ حسين امعيسى من كفالته على السيد علي لرِضا الغرماء ببقائه في الحبس، فيتفرغ عن حسين امعيسى كلٌّ من حمدي علي حسين وغيره من الغرماء, لأن المكفول به قد سلمه الغرماء له من محل اللزوم ... إلخ. فوجدنا القاضي أولاً خيَّر الغرماء بين التزام الغريم أو التزام الضمين، ولا ريب أن هذا منه إفهام لهم بأنه لا يمكِّنهم الشرعُ من مطالبتهما معًا، ثم لما اختاروا بقاء الغريم في الحبس حكم للضمين بالبراءة من الضمان، وبنى ذلك على اختيارهم بقاءَ الغريم في الحبس. فظاهر ما ذكر أن القاضي توهَّم أنه ليس للمضمون له مطالبة الغريم والزعيم معًا، بل إذا اختار مطالبة الغريم برئ الضمين, لأنه كالنفي لضمانه، لظنَّه أن فائدة الضمان هي سقوط الطلب

عن الغريم. وهذا باطل، بل لصاحب الحق مطالبة لهما اجتماعًا وانفرادًا وتوزيعًا، كما حرَّر ذلك في "مختصر أبي شجاع" فما فوقه. ولذلك راجعنا القاضي، فأجاب علينا أنه وقع الإبراء من الغرماء والمدعي معهم، وأن هذه المسألة نظيرة العفو عن القصاص الممثَّل بها للقاعدة المشهورة: "ما لا يقبل التبعيض فاختيار بعضه كاختيار كلّه ... " إلخ. ففهمنا من فحوى هذا أن الإبراء صدر من بعض الغرماء دون هذا المطلب، وإنما حكم عليه تبعًا لهم، وذلك واضح البطلان. فراجعناه مرةً أخرى، وسألناه هل نطق هذا المطالب حينئذٍ بالإبراء، فإن نطق فبأيّ صيغ الإبراء؟ عملًا منا بما قاله في "شرح الروض" (¬1) بعد قول المتن: "وإن قال وهو في محل ولايته: حكمتُ بطلاق نساء القرية، قُبل بلا حجة": لقدرته على الإنشاء حينئذٍ، بخلاف ما لو قاله على سبيل الإخبار، فلا يقبل قوله. كذا صرَّح به البغوي، وهو مقتضى كلام الأصل. وينبغي أن يكون محله ما لو أسنده إلى ما قبل ولايته، قاله الأذرعي. وما قالوه من قبولِ قوله ظاهر في القاضي المجتهد مطلقًا أو في مذهب إمامه، أما غيرهما ففي قبول قوله وقفةٌ. وقد استخرت الله وأفتيتُ في من سُئل من قضاة العصر عن مستند قضائه: أنه يلزمه بيانه, لأنه قد يظن ما ليس بمستندٍ مستندًا كما هو كثير أو غالب. وفي حاشيته على قول الأذرعي: قال الخادم: هذا إذا لم يسأل، فإن سأله ¬

_ (¬1) (4/ 292).

المحكوم عليه عن السبب فجزم صاحب "الحاوي" وتبعه الروياني بأنه يلزمه بيانه. إلى أن قال: وخرج من هذا تخصيص قول الأصحاب إن الحاكم لا يسأل أيَّ سؤال اعتراض، أما سؤال في مطلب الدفع عن نفسه فيتعين على الحاكم الإبداء بسجن المحكوم عليه تخلُّصًا. هذا في القاضي أثناء ولايته، فأما بعد عزله فأولى وأحرى. فأجاب علينا بأن المطالب عند حضوره لديه تكلم كما تكلم الغرماء، ولزمه ما لزمهم، ولم يعين الصيغة، فارتبنا في شهادته هذه، حيث إن كلامه في ورقة الحكم صريح في أنه جعل اختيارهم حبس الغريم إبراءً للزعيم. وبعد أن راجعناه أفهم تنظيره بمسألة القصاص من القاعدة المذكورة آنفًا أنه لم تقع البراءة إلاَّ من بعض الغرماء، فألزمَ الحكمَ الجميعَ. وجوابه الأخير علينا يوافق ذلك، حيث قال: إن هذا المطالب تكلَّم كما تكلَّم الغرماء ولزمه ما لزمهم. والقاضي - عافاه الله - غير بعيد عن الوهم، مع أنه الآن متهم, لأنه قد يدفع بهذه الشهادة عن نفسه عارَ الغلط الواضح، وقد قال في "الروضة" (¬1) في باب ما يُردّ به الشهادة: "السبب الخامس: أن يدفع بالشهادة عن نفسه عار الكذب، فإذا شهد فاسق وردَّ القاضي شهادته ثم تاب بشرط التوبة، فشهادته المستأنفة مقبولة بعد ذلك. ولو أعاد تلك الشهادة التي رُدّت لم تُقبل". ¬

_ (¬1) روضة الطالبين (8/ 216) ط. دار عالم الكتب.

وأما كونه قاضيًا معزولًا يشهد بقضية وقعت لديه فليس هذا قادحًا في الشهادة، إلا إذا شهد بأنه حكم، أما إذا شهد بنحو إقرار وقع في مجلسه فإنها تُقبل. قال في "الروضة" (¬1): إذا قال القاضي بعد الانعزال: كنتُ حكمتُ لفلانٍ بكذا، لم يُقَبل إلا ببينة. وهل تُقبل شهادته بذلك مع آخر؟ وجهان: قال الإصطخري: نعم. والصحيح باتفاق الأصحاب المنعُ, لأنه شهد على فعلِ نفسه". إلى أن قال: "ولو شهد المعزول أنه ملك فلان، وأن فلانًا أقرَّه في مجلس حكمي بهذا، قُبِلَت". ولما لم يفسّر لنا هذا الإبراء الذي يذكره ولم يبيّن لنا صيغته، واشتدّت الريبة وتضافرت أسباب التُّهم، بحثنا عن حكم ذلك ونحوه، فعثرنا في "عماد الرضا" لشيخ الإِسلام زكريا رحمه الله على ما لفظه (¬2): "فائدة، هل يجوز للشاهد أن يشهد باستحقاق زيد على عمرو درهمًا إذا عَرَف سببه، كأنْ أقرَّ له به، فشهد أن له عليه درهمًا؟ قال ابن الرفعة: قال ابن أبي الدم: فيه وجهان، أشهرهما: لا تُسمع شهادته وإن وافقه في مذهبه؛ لأن الشاهد قد يظن ما ليس بسبب سببًا، ولأنه ليس له أن يرتِّب الأحكام على أسبابها، بل وظيفته نقْلُ ما سمعه من إقرار أو عقد أو غيره، أو ما شاهده من الأفعال. ثم الحاكم ينظر فيه، فإن رآه سببًا رتَّب عليه مقتضاه. وهذا ظاهر نصّ "الأم" و"المختصر". وقال صاحب "الشامل" وغيره: بعد اطلاعه على النصّ تُسمَع شهادتُه، وهو مقتضى كلام "الروضة" كأصلها". ¬

_ (¬1) (8/ 111). (¬2) (1/ 214 - 215) مع شرح المناوي.

قال المناوي في شرحه بعد الوجه الأول: وبذلك أفتى ابن الصلاح، واعتمده ابن الرفعة فقال: الذي أراه أنها لا تُسمَع، وعليه بيان السبب كيفما كان، سدًّا لباب الاحتمال ونفيًا للريب، كما في النفي المحصور المضاف إلى زمن مخصوص محصور، بعد أن فصَّل عن قضية كلام الماوردي تفصيلًا حسنًا، وهو أنه إن كان السبب مجمعًا عليه جاز له أن يشهد بالاستحقاق، وإلّا فلا. وقال الشارح بعد الوجه الثاني: قال الأذرعي في "التوسط": وهو أي سماعها ظاهر المذهب المنصوص، لكن المختار ما ذكره أبو عمرو من المنع، ولا شك أنه الأحوط وإن كان ظاهر المذهب خلافه. ثم نقل عن صاحب "الغنية" وتلميذه الزركشي أن الأول هو القياس والراجح دليلًا والمختار، والأول هو المذهب المنقول. وإذ قد صحَّ أن الأول هو منصوص "الأم" و"المختصر" فهو الأولى بأن يكون المذهب، وقد يُفصَّل بأن يقال: إن حدثتْ في القضية تُهَمٌ قوية فالأول، وإلّا فالثاني. وقضيتنا الحادثة قد سبق بيان التهم التي فيها، فتعيَّن الإبراء. والقاضي - عافاه الله - ممن يدّعي الاجتهاد ويَهِم كثيرًا، وهذه الشهادة والحكم ببقاء الضمان وعدم صحة ... نعم لو فرضنا صدور الإبراء فهو بصريح ورقة الحكم، وإنما صدر بعد التخيير الذي يُفهِم الغرماء أنه ليس لهم مطالبة كلٍّ من الغريم والزعيم، بل يختارون أحدهما ويُبرِئون الآخر، وإلا لم يتوصَّلوا إلى الضبط بمالهم، فحينئذٍ يكون إبراؤهم مبنيًّا على ظنّهم أنه ليس لهم مطالبة الغريم إلاَّ بعد إبراء الزعيم.

وقد تعالى الخلاف الجاري في مسألة ما إذا أبرأ المطالبُ الغريمَ ظانًّا أن حقه قد انتقل إلى ذمة الزعيم يجرى في هذه، والذي رجحه ابن قاسم أن الإبراء لا يصح، فكذا في هذه. فإن قيل: الفرق ظاهر، فإن الإبراء في تلك عن حق مظنونٍ سقوطُه بالضمان هناك، ولا كذلك هنا، فإن المطالب لا يجهل أن ذمة الضامن متعلقة بدينه. قلنا: بل هو مظنون سقوطه باختيار بقاء الغريم، ولكن لا ينافي هذا إلا إذا كان الإبراء بعد اختيار بقاء الغريم في السجن.

الرسالة الرابعة والثلاثون مسألة الوقف في مرض الموت

الرسالة الرابعة والثلاثون مسألة الوقف في مرض الموت

[في "تحفة المحتاج" (¬1): (فرع) يقع لكثيرين أنهم يقفون أموالهم في صحتهم على ذكور أولادهم قاصدين بذلك] حرمان (¬2) إناثهم، وقد تكرر من غير واحدٍ الإفتاء ببطلان الوقف حينئذٍ، وفيه نظر ظاهر، بل الوجه الصحة ... إلخ. وفي الحاشية (¬3): "قوله (في صحتهم) أي أما في حال المرض فلا يصح إلا بإجازة الإناث, لأن التبرع في مرض الموت على بعض الورثة يتوقف على رضا الباقين. قوله: (وقد تكرر من غير واحد) عبارة "النهاية": والأوجه الصحة، وإن نُقِل عن بعضهم القولُ ببطلانه". وفي القليوبي (¬4) عند قول المتن (ولوارث): "تنبيه، شملت الوصية للوارث ما لو كانت بعين ولو مثلية، ولو قدر حصته، لكن مع تمييز حصة كلًّ منهم، وكالوصية في اعتبار الإجازة إبراؤه والهبة له والوقف عليه. نعم لو وقف عليه ما يخرج من الثلث على قدر نصيبه لم يحتج إلى إجازة، وليس له إبطاله، كما لو كان له دار قدر ثلث ماله، فوقف ثلثيها على ابنه وثلثها على ابنته، ولا وارث غيرهما ... " إلخ. وفي حاشية الشيخ عميرة (¬5): " (فرع) لو وقف ما يخرج من ثلثه على ورثته بقدر أنصبائهم في مرض الموت صحَّ، من غير احتياج إلى الإجازة. ¬

_ (¬1) (6/ 247). (¬2) لم نجد ما قبله في المسودات. وما بين المعكوفتين من المصدر المذكور. (¬3) "حاشية الشرواني" في الموضع السابق. (¬4) "شرح المحلي على منهاج الطالبين مع حاشيتي القليوبي وعميرة" (3/ 159 - 160). (¬5) المصدر السابق (3/ 159).

ذكره الزركشي ... " إلخ. وفي حاشية عميرة (¬1) في الوقف عند قول المتن: (شرطنا القبول أم لا): " (فرع) وقف على ابنه دارًا هي قدر ثلث ماله، وكان ذلك في مرض موته، فهو وصية، ولا ترتد بردِّ الولد، ويحتاج إلى إجازة. كذا في الزركشي نقلاً عن الشيخين". وفي حاشية الشرقاوي على "شرح التحرير" (¬2) عند قول المتن في الوصايا: (ولوارث إن أجاز باقي الورثة المطلقين التصرف، حتى لو أوصى لكلًّ من بنيه بعين بقدر نصيبه صحت). وفي الشرح: بشرط الإجازة لاختلاف الأغراض في الأعيان ومنافعها. قال الشرقاوي: قوله "إن أجاز" كالوصية للوارث إبراؤه من الدين وهبته والوقف عليه. نعم لو وقف عليهم ما يخرج من الثلث على قدر نصيبهم نفذ من غير إجازة، فليس لهم نقضه، ولا بدّ لصحة الإجازة من معرفة قدر المجاز فيه أو عينه. أفاده محمَّد رملي. وفي "التحرير" (¬3) في باب الوقف: التبرع وصية وهبة وعتق وإباحة ووقف ... إلخ. فكل هذه النقول قاضية بما أجيب به، ولم تكن إطالة النقل عبثًا، إلاَّ لما رأيته في "حاشية القليوبي (¬4) على المحلي" في باب الوقف عند قول المتن: ¬

_ (¬1) المصدر السابق (3/ 102). (¬2) (2/ 77). (¬3) (2/ 173). (¬4) (3/ 101).

(وأن الوقف على معين يشترط قبوله، ولو ردّ بطل حقه) ما نصُّه: قوله "يشترط فيه قبوله" هو المعتمد، ومنه ولد الواقف، كوقفتُ على ولدي فلان. نعم، لو وقف في مرض موته على ورثته الحائزين ثلث ماله بعدد حصصهم، أو على أحد ورثته عينًا قدر ثلث ماله نفذَ قهرًا عليهم، ولا يرتدُّ بردّهم فيهما، فإن زاد على الثلث توقف على إجازتهم كالوصية. فأما الصورة الأولى فهي موافقة للنقول السابقة، وأما الثانية فمشكل، وقد نقلها عنه الشرقاوي في "حواشي التحرير" (¬1)، فقال عند قول المتن في الحَجْر (وحجر مرض في الثلثين مع غير الورثة إذا تصرّف فيهما بلا عوض، وفي كل المال مع الورثة): قوله "وفي كل المال" أي كلّ جزء منه ولو دون الثلث مع الوارث، وهذا في غير الوقف، أما هو كأن وقفَ شيئًا يخرج من الثلث على بعض الورثة، فلا يحتاج إلى إجازة بقيتهم، بخلاف الوصية. والفرق أن الملك في الأول لله تعالى، وفي الثانية للموصى له. وكالوصية الإبراء، فيتوقف على إجازة بقية الورثة. أفاده القليوبي. وذكر البرماوي على الغزّي أن الوقف كغيره، فراجع ذلك. أقول: ما ذكره القليوبي رحمه الله ونقله الشرقاوي مشكل، على أنه ليس في حاشيته على المحلي إلاَّ ما نقلتُه، اللهم إلاَّ أن يكون في موضع آخر. وسواء كان المفرق هو الناقل أو المنقول عنه فالفرق غير معتبر, لأننا نقول أولاً: إن في ملك الموقوف خلافًا، الثالث في المذهب أنه للموقف عليه، وهو مذهب الإِمام أحمد كما صرحوا به. سلَّمنا أن الملك لله تعالى كما هو ¬

_ (¬1) (2/ 185).

الأظهر، فذلك الملك ليس إلا في الرقبة، وأما المنافع فهي للموقوف عليه قطعًا، والمنافع هي المقصودة، فإنما تُقصَد العين لأجل منافعها. على أن في "التحفة" (¬1) عقب قول المتن (ولوارث) في الوصايا: أنه لو علَّق عتق عبده بخدمة بعض أولاده فإنه يحتاج للإجازة, لأن المنفعة المصروفة للمخدوم من جملة التركة. فعبارة القليوبي تفيد أن الوقف مطلقًا بنصّه من الثلث, لأنه تبرع لغير الوارث وإن كان عليه نظر إلى أن الأظهر أن الملك في الرقبة لله تعالى، لكن ضعف ذلك ظاهر، إذ شرط العين الموقوفة دوام الانتفاع ولو بالنسبة، ولا تقصد العين إلا للمنفعة، فأيّ فائدة في رقبتها مسلوبة المنفعة؟ ثم رأيت في حاشية الشيخ عميرة (¬2) عند ذكر الوصية بالمنافع أبدًا على قول المتن (وأنه يبقى ملك الرقبة للوارث) ما لفظه: قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: ما زلتُ أستشكل ملك الرقبة دون المنفعة، وأقول: ما الذي يستفيده ويحصل له من ملكها؟ حتى رأيتُ قائلًا في النوم يقول: لو ظهر في الأرض معدن ملكه مالك الرقبة دون المنفعة. وفي "المنهاج" (¬3) في الوصية بالمنافع: وإن أبّد فالأصح أنه يصحّ بيعه للموصى له دون غيره، وأنه تعتبر قيمة العبد كلها من الثلث إن أوصى بمنفعته أبدًا. ¬

_ (¬1) "تحفة المحتاج" (7/ 15). (¬2) (3/ 172). (¬3) مع شرحه "تحفة المحتاج" (7/ 66 - 68).

وفي "التحفة" (¬1) وغيرها التعليل بأن الموصي حالَ بين الوارث وبين المنفعة، ويتعذر تقويم المنفعة للجهالة. قال في "التحفة": "فيتعيَّن تقويم الرقبة مع منفعتها، فإن احتملها الثلث لزمت الوصية في الجميع، وإلا ففيما يحتمله، فلو ساوى العبد بمنافعه مئةً وبدونها عشرةً، اعتبرت المئة كلها من الثلث، فإن وفى بها فواضح، وإلّا كأن لم يفِ إلا بنصفها صار نصف المنفعة للوارث، والذي يتجه في كيفية استيفائها أنهما يتهايآنها" (¬2). فالمنفعة هي المقصودة، وأما العين فليست إلاَّ آلةً لها ووسيلةً إليها، فهاهم أقاموا المنفعة مقامها مع الرقبة، حتى قوَّموها بقيمة الرقبة والمنفعة، ولم ينظروا إلى الرقبة إذ لا فائدة فيها. فلتُعتبر في الوقف المنفعة لا الرقبة. وإذا رأيت مسألة "التحفة" في تعليق عتق العبد بخدمة بعض الأولاد، وأن ذلك يحتاج إلى الإجازة = علمتَ أن هذا أولى وأحرى. والمقصود من الوقف ليس هو حبس الرقبة عن أن يتصرف فيها، وإنما المقصود هو الصدقة الجارية كما توضِّحه نصوصهم، وبه فسَّروا الحديث، ولا يخفى أن الصدقة الجارية إنما تحصل بالمنفعة، وحبس العين وسيلة لها. ولو سلَّمنا صحة الفرق فكيف نصنع بما تقتضيه النقول السابقة، ولا سيَّما ما ذكره الشيخ عميرة عن الزركشي عن الشيخين بقوله "فرع". وقد أطنبنا في الكلام لاقتضاء المقام، فإن مثل ذلك الإِمام يتمسك بعبارته الخاص والعام، وهذا معروض على نظر سادتنا العلماء الأعلام، وعليهم الاهتمام وتوضيح المقام، والسلام. ¬

_ (¬1) مع شرحه "تحفة المحتاج" (7/ 68). (¬2) التهايؤ: قسمة المنافع على التعاقب بصفة وقتية.

الرسالة الخامسة والثلاثون الفوضى الدينية وتعدد الزوجات

الرسالة الخامسة والثلاثون الفوضى الدينية وتعدُّد الزوجات

كثر هذه الأيام تحكُّكُ المتفرنجين بالمسائل الدينية وتوثُّبُهم عليها، والذي يسوء الحق إنما هو أن يتصدى الإنسان للتحكُّم في فنًّ هو فيه أمّي أو تلميذ صغير. إن العاقل الذي لا حظَّ له من الطب إلا مطالعة بعض الكتب، لَيحجزه عقلُه عن التطبب، وهكذا عامةُ الفنون يمتنع العاقل أن يتحكم في فنًّ منها ليس فنَّه. ولكن الدين شذَّ عن هذه الكلية، فلا تكاد تجد أحدًا يعترف أو يعرف أنه ليس ممن يحقُّ لهم الكلامُ فيه. يقولون: إنها حرية الفكر! حبَّذا حرية الفكر، ولكن أَمِن حرية الفكر أن يصمد الإنسان لقضيةٍ لم يُتقِن أصولهَا، ولا أسبابها وعللها، ولا غوامضها ودقائقَها، فيعبّر فيها على ما خيلت؟ إن حقًّا على العاقل إذا أحبَّ أن يكون حرَّ الفكر أن يختار له موضوعًا ينفذ فكرُه إلى أعماقه، ويتغلغل في دقائقه. افرِضْ أنك طبيب، وأنا اعترضك بدويٌّ يناقشك في أصول الطب، أو أنك عارف بعلم الفلك الحديث، وعرضَ لك عاميٌّ ينازعك فيه، وكلاهما - البدوي والعامي - لا يُصغِي إليك حتى توضح له الحجج، أو لا يستطيع في حاله الراهنة أن يفهمها, لأنه لم يتعلم مقدمات ذلك الفن، ولكنه مع ذلك يجزم بما ظهر له، ويرميك بالجهل والغفلة، فهل تعدُّه حرَّ الفكر؟ لقد بلغ بالناس حبُّ الاشتهار بحرية الفكر إلى أن أغفلوا النظر في صواب الفكر وخطائه، وأصبحت حرية الفكر مرادفةً للخروج عما كان عليه الآباء والأجداد. ولقد يعلم أحدهم أن ما كان عليه آباؤه وأجداده هو الصواب، ولكن شغفه بأن يقال حرَّ الفكر يضطرُّه إلى مخالفته. فهل يستحق مثل هذا أن يقال له حرَّ الفكر؟

وكثير منهم يدع تقليد أسلافه ويقلِّد بعض الملحدين، فهل خرج هذا من الرقِّ إلى الحرّية؟ كلَّا، بل خرج من رقًّ إلى رقًّ. حرُّ الفكر هو الذي يُطلِق فكره حيث يستطيع الانطلاق ويكفُّه حيث يحبّ الانكفاف. حرُّ الفكر هو الذي يحرِصُ على الحق أينما كان، فإذا ظهر أن الحق هو ما كان عليه أسلافه لزِمَه، ولم يُبالِ بأن يقال: جامد مقلِّد. حرُّ الفكر هو الذي يحرِص على الثبات على المبدأ الذي كان عليه أسلافه، حتى تقهره الحجة الواضحة. أمامنا من تلك المسائل مسألة تعدد الزوجات، مسألة معلومة من دين الإِسلام بالضرورة، بل ومن الفطرة ومن المصلحة، ثم لا يزال بين حينٍ وآخر يخوض فيها عاشق من عشاق الشهرة بحرية الفكر، وهو عبد من عبيد الإفرنجيّات، اللاتي تُؤثِر إحداهن أن يبقى بَعلُها مضطرًّا إلى مخادنة العواهر، حتى يضطر إلى السماح لها بمخادنة الفجار، وترى أنه لو أبيح له تعدد الزوجات قد يستغني عن الزنا، فلا يبقى مانعٌ يمنعه من مراقبتها ومنعها عن الفجور بمقتضى الغيرة الطبيعية. كما أن رجال الإفرنج بعد أن ألِفوا الزنا يُعادون تعددَ الزوجات، لعلمهم أن القانون إذا أباح التعدُّدَ قلَّ أنصار الزنا وكثُر خصومُه، وضعفت الشبهات التي بُني عليها إباحتُه وإباحةُ مقدماته من الرقص والخلوة والاختلاط المريب. ولقد يكتب الكاتب خلاف تعدد الزوجات، لعداوته للدين أو لعداوته للأمة، فهو لا يحب لها شرفَ الأخلاق، أو ليرخّص بذلك المتبرِّجات من النساء ليكون له نصيبٌ من قلوبهن ثم مِن ...

تعدد الزوجات في الدين

وأخفُّهم ذنبًا مَن يكون قليل المعرفة بالدين، قاصر النظر في مصالح العباد، ضعيف الباه، فينظر هذا إلى ما في تعدد الزوجات من النقائص، ولا يلتفت إلى ما في منعه من المفاسد. تعدد الزوجات في الدين: جواز التعدد معلوم من دين الإِسلام بالضرورة، ولكن أثار بعض المتأخرين شبهة، وهي أن الله عزَّ وجلَّ قال: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء: 3]، وقال في موضع آخر: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء: 129]. فالآية الأولى ألزمت المسلم إذا خاف عدمَ العدل أن يقتصر على واحدةٍ. وعُلِم بالآية الثانية أن كلَّ مسلم مصدِّقٍ بخبر الله عزَّ وجلَّ يعلم أنه لا يستطيع العدل، فأنَّى يتصور أن لا يخاف عدم العدل؟ والجواب عن ذلك أنه لو فرِض صحةُ دلالة الآيتين على المنع لم يجز العمل بهذه الدلالة، لِما تواتر قطعًا أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يجمعون مثنى وثلاث ورباع بعد نزول الآية، مع علمه - صلى الله عليه وسلم - وإقراره، ثم لم يزل العمل على ذلك إلى الآن، وأطبقت عليه الأمة، ولم يخالف في ذلك أحدٌ البتةَ. وهذا المعنى حجة قطعية لا يخدِش فيه ظاهرُ القرآن. مع أن الصواب أن ظاهر القرآن لا يدل على المنع، بل يدلُّ على الجواز، ودونك البيان: قال الله عزَّ وجلَّ: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِن

النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء: 3]. في "الصحيحين" (¬1) وغيرهما عن أم المؤمنين عائشة ما حاصله: أن المراد باليتامى في الآية اليتامى من النساء، تكون اليتيمة في حجْرِ الرجل ولها مال، فيتزوجها لأجل مالها، وليس لها من قلبه شيء، فلا يُقسِط لها، فنُهوا عن ذلك، وتقدير الآية هكذا: "وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى من النساء اللاتي في حجوركم إذا نكحتموهن، فلا تنكحوهن، وانكحوا ما طاب لكم من النساء ... ". والمراد بالطيب أن تكون المرأة محبوبة له لنفسها لا لمالها، فإنه إذا تزوج مَن يحبّها كان أحرى أن يُقسِط لها. وقوله: (تعدلوا) فعل، والفعل في قوة النكرة كما نصُّوا عليه، فقولك: "لم يعدلْ زيد" في قوة قولك: "لم يقع من زيدٍ عدلٌ"، والنكرة في سياق النفي تعمُّ كما نصُّوا عليه. إذا قلتَ: "ما جاءني اليومَ رجلٌ" كان في قوة قولك: "ما جاءني اليومَ زيد ولا عمرو ولا خالد ولا بكرٌ ... " حتى يستوعب جميع أفراد الرجال. فقوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا} في قوة قولك: "فإن خفتم أن لا يقع منكم ما يصحّ أن يقال له عدلٌ". ولو كان بيد الرجل تمرتان لا فضلَ لإحداهما على الأخرى، فقال لزوجتيه: لتأخذْ كلٌّ منكما واحدةً = لكان هذا عدلاً، فخوف الرجل أن لا يقع منه بين زوجتيه أو زوجاته شيءٌ يُسمَّى عدلاً مما لا يكاد يتحقق. ومما يؤيد أن المراد هذا المعنى ما تقرر في المعاني أن وضع "إن" ¬

_ (¬1) البخاري (4573، 4574) ومسلم (3018).

الشرطية لفرض الممتنع وما قرب منه. ويؤيده أيضًا أنه لو كان المراد: "وإن خفتم أن لا يقع منكم العدل الكامل" لما بقي لقوله: {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} معنًى, لأن العدل الكامل ممتنع كما دلَّ عليه قوله: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا ....} الآية، فإن المراد بالعدل فيها العدل الكامل، وهاك تقرير ذلك: قال تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا .... (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 128، 129]. قوله: {تَعدِلُوا} فعل في سياق النفي، فهو من هذه الجهة يصدُق بالخفيف والشديد، ولكن هنا أدلة أن المراد: عدلاً كاملًا. الدليل الأول: الحسّ والمشاهدة، فإننا نعلم أن الرجل يستطيع أن يعدِل أنواعًا من العدل بين ألف زوجة، فضلاً عن ثنتين أو ثلاث أو أربع، وذلك كأن يقسم بينهن تمرًا أو نحوه مرةً واحدةً أو مرتين أو مرارًا. وقد تقرر في الأصول أن النصّ الشرعي إذا كان بظاهره مخالفًا للواقع وجبَ تقدير ما يجعله مطابقًا له. الدليل الثاني: الأوامر [القاضية] (¬1) بالعدل بين الزوجات، ومنها قوله في هذه الآية نفسها: {فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} ¬

_ (¬1) هنا كلمة مطموسة ولعلها ما أثبتناه.

ولو كان العدل بينهن ممتنعًا قليلُه وكثيره لما كان لتلك الأوامر فائدة. الدليل الثالث: قوله: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} فإن قوله: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ} يدل أن النشوز والإعراض محتملٌ فقط, لأنه فُرِض الخوف منه فرضًا. و"امرأة" في الآية عام, لأنها نكرة في سياق الشرط، يتناول من كان لها ضرة ومَن لا ضرة لها. وتعقيب هذه الآية بقوله: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا} الآية يدل على تناول "امرأة" لمن كان لها ضرة أو ضرائر، ويدل على ذلك سبب النزول، فقد جاء أنه قصة أم المؤمنين سودة (¬1). ولو كان العدل ممتنعًا البتة لكان النشوز والإعراض متحققًا، وقد عُلِم من أول الآية أنه محتمل فقط. فإن قيل: فقد اعترفت أن العدل الكامل ممتنع، وحينئذٍ فلا بد أن يقع نشوزٌ ما أو إعراضٌ ما، فكيف يكون هذا محتملًا فقط؟ قلت: قد يكون النشوز والإعراض خفيًّا بحيث لا يظهر للمرأة، وعليه فيمكن أن لا تخاف نشوزًا ولا إعراضًا. الدليل الرابع: قوله في الآية السابقة: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا} , والعدل فيها عام كما تقدم، وقد فُرِض امتناع الخوف من عدمه فرضَ المحتمل البعيد، وذلك ينفي أن يكون متحققًا حتمًا. فهذه أربعة أدلة تُقابل الأربع الزوجات، وثَمَّ أدلة أخرى لا حاجة إلى ذكرها. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (2135) والحاكم في "المستدرك" (2/ 186) والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 74، 75) من حديث عائشة.

تعدد الزوجات والفطرة

فإن لم تطمئن نفسك إلى عموم العدل في الآية الأولى، وزعمتَ أن المراد العدل المعروف لا العدل الكامل ولا نوع من العدل، فلنا أن نسلِّم لك ذلك ثم نقول: قوله: {فَانْكِحُوا} صيغة أمر، وليس للوجوب قطعًا، فيُحمَل على الاستحباب؛ لأنه أقرب المحتملات إلى الحقيقة المتعذرة، وهي الوجوب. وإذا ثبت هذا ثبت مثلُه في قوله: {فَوَاحِدَةً} , أي فانكحوا واحدةً. فتوضيح الآية هكذا: المستحب لكم أن تنكحوا اليتامى اللاتي في حجوركم إلاَّ أن تخافوا أن لا تُقسِطوا إليهن، فالمستحب لكم أن تنكحوا غيرهن من النساء مثنى وثلاث ورباع، إلاَّ أن تخافوا أن لا تعدلوا بين الزوجات العدلَ المعروف، فالمستحبّ لكم أن تنكحوا واحدةً فقط. فغاية ما في الآية أنه عند الخوف لا يستحب نكاحُ أكثر من واحدة، وعدم الاستحباب لا يستلزم عدم الإباحة. فأما غير الإِسلام من الأديان فحسبُك أن إبراهيم خليل الله عليه الصلاة والسلام كان له عدة زوجات، كما تعترف به التوراة. والله أعلم. تعدد الزوجات والفطرة: 1 - المقصود الأصلي من الزواج هو التناسل، والمرأة لا تستطيع أن تَحْبَل إلا مرة واحدة في السنة تقريبًا، والرجل يستطيع أن يُحبِل في ليلة واحدة عدة نساء. وقد نُقل عن عمر بن عبيد الله بن معمر أنه جامع في ليلةٍ سبعَ عشرة مرةً، وحُكي أن إفرنجيًّا وحبشيًّا تباريا، فلم يستطيع الإفرنجي إلاَّ ثلاث مرات بعد الجهد، وأتمَّ الحبشي ثلاثين مرة. 2 - مصلحة الطفل تقتضي أن لا ترضعه إلاَّ أمُّه، وإذا جومعت أو حملت

قبلَ الرضاع أضرَّ ذلك بالطفل، ولا سيما إذا حملت. وأما الرجل فلا شأن له بذلك، أي أن جِماعه لامرأة في حالِ أن امرأة أخرى تُرضِع ولده لا يضرُّ بالطفل. روى أبو داود (¬1) بسند صحيح عن الربيع بن أبي مسلمة عن مولاته عن أسماء بنت يزيد قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا تقتلوا أولادكم سرًّا، فإن الغَيْلَ يُدرِك الفارسَ فيُدَعْثِره". وهذا الحديث إذا صحَّ فلا بدَّ أن يكون متأخرًا عن قوله - صلى الله عليه وسلم - في الغِيْلة: "لو كان ذلك ضارًّا ضرَّ فارسَ والرومَ"، وقوله: "لقد هممتُ أن أنهى عن الغِيْلة، فنظرتُ في الروم وفارس، فإذا هم يُغِيلون أولادهم، فلا يضرُّ أولادهم ذلك شيئًا" رواهما مسلم (¬2). والدليل على تأخر حديث النهي أن قوله في الحديث الثالث: "لقد هممتُ أن أنهى" صريح في أنه لم يتقدم منه نهيٌ، والحديث الأول نهيٌ صريح. ودليل آخر، وهو أن الحديثين الأخيرين كانا عن اجتهادٍ وظنًّ كما هو واضح، وحديث النهي جزمٌ بالضرر ولو بعد حينٍ، وظاهرٌ أن مثله لا يقوله - صلى الله عليه وسلم - إلا عن وحي. فإذا التزم الرجل والمرأة ترك الغيلة كان حاصل ذلك أن الرجل يجامع مرةً للغرض الأصلي وهو النسل، ثم يبقى نحو ثلاث سنين معطلًا إذا لم ¬

_ (¬1) رقم (3881). (¬2) رقم (1443،1442).

تعدد الزوجات والمصالح

يكن له زوجة أخرى. 3 - كثيرًا ما تَعرِض للنساء الأمراضُ التي تمنع الحمل أو تُورِث الإسقاط، وقلّما يعرِض للرجل العقمُ. والمرأة بعد الخمسين من عمرها تيأس من الحمل، بخلاف الرجل فإنه تبقى له قوة التوليد إلى آخر عمره. وعلى هذا فإما أن يبقى الرجل مع هذه المدة معطَّلًا عن التوليد بتعطُّلها، وإما أن يطلِّقها عندما يشعر بذلك منها، وإما أن يتزوج غيرها، فأيُّ هذه أولى؟ 4 - ومن مقاصد النكاح التعفُّف، والمرأة تحيض وتمرض وتحبل وتلد وترضع، ويرغب عنها الزوج، فماذا يصلح .... ـلم في هذه الأحوال: أيطلِّقها ليتزوج غيرها، أم يزني، أم يتزوج عليها؟ أيُّ هذه [أولى]؟ أما المرأة إذا عرض لزوجها ما جعله قاصرًا عن إعفافها فلا مخَلَصَ لها إلاَّ بسؤال الطلاق، إذ لا مخلصَ غيره إلاَّ الزنا أو ما قد يتخيله بعض السفهاء من إباحة أن تجمع بين زوجين، فتختلط الأنساب، وتذهب الشفقة والرحمة، ويضيع الأطفال، إلى غير ذلك من المفاسد العظيمة. تعدد الزوجات والمصالح: 1 - من مقاصد النكاح الارتباط بين العائلتين، وقد يحتاج الرجل إلى الارتباط بعائلتين فأكثر، ولا يتم له ذلك إلاَّ بأن يتزوج امرأةً من هذه العائلة وامرأةً من الأخرى. 2 - ومن مقاصد النكاح قيام الرجل بنفقة المرأة، ولا تطيب نفسُ الإنسان غالبًا بأن يقوم بنفقة امرأةٍ لا علاقة له بها. 3 - ومن مقاصده قيام الرجل بحماية المرأة، وقلما يهتم الرجل بحماية غير زوجته أو ذات رحمه.

مفاسد تعدد الزوجات

4 - ومنها قيام المرأة بتدبير منزل الرجل، وإذا كان الرجل غنيًّا كثير المال لم تكفِ المرأة الواحدة لتدبير منزله، فيضطر على اتخاذ الخدم، والخدم لا يهتمون بمصالحه كما تهتم زوجته. مفاسد تعدد الزوجات: أعظم مفاسده أنه معيبٌ عند الإفرنج، وقد كاد ينعقد الإجماع أن من تظاهر من المسلمين بموافقة الإفرنج في قضيةٍ منحه المتعلمون ذلك الوسام المحبوب وسامَ حرية الفكر، وهو في الحقيقة إما منافق ساقط الهمة ضعيف الإرادة خسيس النفس، وإما رِقُّ الفكر في أسفل درجات الرق. لأنه إذا كان يعلم الحقيقة، ولكنه تظاهر بمخالفتها ليقال حرّ الفكر، ورجَّح هذا الغرض الأدنى على الحق الديني الفطري المصلحي، الذي يحقّ أن يفتخر أسلافه وقومه بموافقته = فهو من الضرب الأول. وإن كان يجهل الحق، واغترَّ بعظمة الإفرنج الصورية، وتوهَّم أن ما عابوه يكون معيبًا في نفس الأمر = فهو من الضرب الثاني. 1 - تضرُّر المرأة بمشاركة غيرها لها في نفس زوجها وماله. 2 - ما يُخشى من تعادي المرأتين الذي ربما جرَّ إلى تعادي عائلتيهما. 3 - إذا ولد للرجل أولاد من هذه وأولاد من هذه اختصموا بعد موته، ومزَّقوا تركته، [بخلاف ما إذا كانوا] (¬1) كلهم أبناء امرأة واحدة، ربما اتفقوا وأبقَوا التركة محفوظة مشتركة. ¬

_ (¬1) مطموس في الأصل.

4 - إذا كان للرجل عدة زوجات احتاج إلى نفقة كثيرة، وهذا مخلٌّ بالاقتصاد. 5 - ربما تتبَّع الغني النساء الحسان فيُحرَم منهن من يهواهن ويهوينه، وإذا مُنع من التعدد لم يتمكن من ذلك إلاَّ في امرأة واحدة. 6 - إذا كان للرجل زوجة واحدة حَرَصَتْ على حفظ ماله، لعلمها أنه آئلٌ إلى أولادها، وإذا كان له زوجتان أو أكثر أخذت كلُّ واحدة تُبذِّر في المال، لعلمها أنه آئلٌ إلى أولاد عدوّتها. 7 - إذا كان للرجل زوجتان فأكثر احتاج إلى معاشرتهن كلهن، فيضرُّ ذلك بصحته. 8 - إذا كان للرجل زوجة واحدة تأكَّدت المودَّة بينهما، لعلْمِ كلًّ منهما أنه لصاحبه وصاحبه له، وأما إذا كان له زوجتان فأكثر فإن المودة تضعف. هذه هي المفاسد التي أتصورها. وأنت إذا قابلتَ بينها وبين فوائد التعدد وجدتَ هذه لا تخدِش في الثلاثة الأوجه الأولى من الأوجه الفطرية، وربما تعارض الرابع، وقد سبق جواب ذلك. ولكنها تُعارض الأوجه المصلحية، والترجيح يختلف باختلاف الأشخاص، فكم من شخص غني مُغرم بالنساء إذا كان عنده زوجة واحدة لا يستغني بها، فإذا مُنِع من التزوج عليها فإما أن يطلِّقها ويتزوج غيرها، وإما أن يقع في الزنا، فإن طلَّقها وتزوَّج غيرها وقعت مفاسد أشدُّ من المفسدة الأولى والثانية والرابعة، وحصلت المفاسد الثالثة والخامسة.

فأما السادسة والثامنة فإنهما حاصلتان قبل الطلاق, لأن المرأة تكون دائمًا على خطر أن يطلِّقها وينكح غيرها. وقد لاحظت بعض القوانين هذا المعنى وحده فحظرت الطلاق، فترتَّب على ذلك مفاسد أعظم، منها: وقوع الرجل في الزنا واستحكام العداوة بينه وبين المرأة, لأنها (غلّ قمل)، فيظلمها ويضطهدها إلى أن يحتاج إلى الوقوع في الزنا أيضًا. ولذلك أصبحت النساء يطالبن بشرْع الطلاق، بل ربما سعت المرأة في قتل زوجها أو سعى في قتلها، ليتمكن كلٌّ منهما من الزواج، وكلٌّ منهما قبل الموت على خطر أن يموت فيذهب الآخر فيتزوج، ولعل بُغْضها يمنع الرجل أن يتزوج بعد موت زوجته. فنشأت عن ذلك مفاسد شديدة. ولتخفيف تلك المفاسد شرع وثنيُّوا الهند أن الزوج إذا مات فعند ما تُحرق جثته يُؤتى بامرأته، فتُحرق معه حتى تموت. وأما إن عدل الزوج عن الطلاق ووقع في الزنا فإنها تحصل مفاسد أشد من المفاسد الثمان: أما الأولى فإن المرأة تشعر بأن عددًا غير محصور من البغايا يشاركنها في نفس زوجها وماله بغير حق شرعي. وأما الثانية فإن الرجل يصير عدوًّا لزوجته، فيجزُّ ذلك إلى تعادي عائلتيهما. وأما الثالثة فإن الرجل يمزِّق تركته قبل موته في الفجور. وأما الرابعة فإن ما يحتاجه الرجل لاسترضاء البغايا أكثر مما يحتاجه لنفقة زوجة شرعية.

وأما الخامسة فإن الغني الزاني يتتبع [النساء الجميلات] (¬1) فيُفسِدهن وإن كن مزوَّجات. وأما السادسة فإن المرأة تعلم أن زوجها يبذِّر ماله في [الفجور] (¬2)، فتشرع هي تبذِّر أيضًا, لأنها ترى الحفظ متعذرًا. وأما السابعة فالضرر الذي يلحق صحةَ الرجل إذا اعتاد الفجور أشد مما يلحقه في تعدد الزوجات. وأما الثامنة فأنَّى تبقى مودةٌ من المرأة لزوجها الذي يدعها ويذهب إلى الفجور. ووراء ذلك مفاسد أخبث وأخبث من فساد الأخلاق وخراب الدين وغير ذلك. ¬

_ (¬1) مطموس في الأصل. (¬2) الكلمة مطموسة.

الرسالة السادسة والثلاثون مسألة في رجل حنفي تزوج صغيرة بولاية أمها

الرسالة السادسة والثلاثون مسألة في رجل حنفي تزوَّج صغيرة بولاية أمها

الحمد لله. مولانا السيد محمَّد مخدوم الحسيني مفتي المدرسة النظامية، وفَّقه الله وإياي لما فيه رضاه. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وصل السؤال الذي ذكرتم فيه: "ما قولكم في رجلٍ حنفي تزوج صغيرةً بو لاية أمها ... إلخ". فأقول: معلوم لديكم أن من مذهب الشافعي رحمه الله تعالى أن الزواج لا يصح إلاَّ بولي صحيح الولاية، وأن الأم لا تلي عقدَ ابنتها، وأن الحرة الصغيرة لا يزوِّجها إلا أبوها أو أبوه عند فقده. وهذا مشهور من مذهبه مستغنٍ عن النقل، ولكن لا بأس بنقل بعض كلامه. جاء في كتاب "اختلاف العراقيين" للشافعي ما لفظه: "قال الشافعي رحمه الله: ولا يجوز نكاح الصغار من الرجال ولا من النساء إلاَّ أن يزوَّجهن الآباء، والأجداد إذا لم يكن لهنّ آباء فإنهم آباء. وإذا زوَّجهن أحدٌ سواهم فالنكاح مفسوخ. ولا يتوارثان فيه وإن كبرا. فإن دخل عليها فأصابها فلها المهر، ويُفرَّق بينهما. ولو طلَّقها قبلَ أن يُفسَخ النكاح لم يقع طلاقه ولا ظهاره ولا إيلاؤه، لأنها لم تكن زوجةً قطُّ" ("الأم" ج 7 ص 147) (¬1). وقولكم: "فبلغتْ وولدتْ ولدًا" قد عُلِم جوابُه، وهو أنها لم تكن زوجةً قطُّ، فلا أثر لبلوغها ولا لتمكينها ولا لولادتها. ¬

_ (¬1) (8/ 364) ط. دار الوفاء.

وقولكم: "فالآن تريد أمها وخالتها أن تفسخا نكاحها من زوجها" فجوابه أنكم قد عرفتم من كلام الشافعي أن هذا النكاح مفسوخ من أصله، أي باطل, لأنها لم تكن زوجة، ولو صحَّ النكاح لما كان للأم والخالة في مذهب الشافعي فسخُه، بل إن كان حقٌّ فهو للبنت نفسها أو لمن كانت له ولاية صحيحة عليها، فيما إذا كان المتزوج غير كُفءٍ بشرطه. وأما قولكم: "والزوج الحنفي يقول: إن النكاح صحَّ ولزم في مذهب الأحناف"، فجوابه أنه إن كان قد قضى قاضٍ معتبر بصحة هذا النكاح فقد صح ولزم، لما تقرر في الأصول أن الاجتهاد لا يُنقَض بالاجتهاد، وأن حكم الحاكم يقطع الخلاف، واستثنوا صورًا ليس هذا منها فيما ظهر. وإن لم يكن قضاء فلا يخلو العالم الشافعي أن يكون قاضيًا أو مفتيًا، فأما القاضي فإنه يقضي بمذهبه، ولا يلتفت إلى مذهب الخصوم كما لا يخفى عليكم. وأما المفتي الشافعي إذا سُئل عن هذه المسألة فجوابه أنه إذا كان المتزوج والأم والبنت كلهم حنفيون، وكان عمل الزوج والأم بمقتضى مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى = فقد صح النكاح لأجل التقليد. ثم إذا أريد إبطالُ النكاح بعد ذلك تقليدًا للشافعي، فإن كان قد قضى قاضٍ بصحة النكاح فلا يجوز الإبطال، وإلا فإن كان المزيد لذلك الأم وحدها فلا أثر لها، وإن اتفق المتزوج والبنت معًا على تقليد الشافعي لإبطال النكاح ففي المسألة خلاف، والراجح عند المتأخرين جواز مثل ذلك بشرط عدم التقليد. قال في "التحفة": "ولا ينافي ذلك قول ابن الحاجب كالآمدي: "من عمل في مسألة بقول إمام لا يجوز له العمل فيها بقول غيره اتفاقًا"، لتعين حمله على ما إذا بقى من آثار العمل الأول ما يلزم عليه مع

الثاني تركّبُ حقيقةٍ لا يقول بها كلُّ من الإمامين ... ثم رأيت السبكي في الصلاة من "فتاويه" ذكر نحو ذلك مع زيادة بسط فيه، وتبعه عليه جمعٌ فقالوا: إنما يمتنع تقليد الغير بعد العمل في تلك الحادثة نفسها لا مثلها، أي خلافًا للجلال المحلي، كأن أفتى ببينونة زوجته في نحو تعليق، فنكح أختها، ثم أفتى بأن لا بينونة، فأراد أن يرجع للأولى ويُعرِض عن الثانية من غير إبانتها". ("التحفة" بهامش حواشي الشرواني ج 1 ص 48 - 49). ومراده بقوله: "من غير إبانتها" أي من غير قطع زوجيتها، يريد أنه رجع للأولى وأعرض عن الثانية، مع عزمه أن يرجع لها عندما يريد، فإنه في هذه الصورة قد اعتقد أن كلتا الأختين زوجة له في وقتٍ واحد. وهذا مبيَّن في "النهاية" وحواشيها و"فتاوى الرملي" و"حواشي التحفة"، فلا نطيل بالنقل. والحاصل أن المتزوج والبنت في مسألتنا إذا اتفقا على تقليد الشافعي لإبطال النكاح صحَّ، إذ لا تلفيق ههنا. فإما إذا انفرد أحدهما بإرادة التقليد ليبطل النكاح، فإن كانت الزوجة هي المريدة فليس لها ذلك، قياسًا على قولهم: "لو زوجه الحاكم مجهولة النسب ثم استلحقها أبوه ... وإن لم تكن بينة, وصدقته الزوجة فقط = لم ينفسخ النكاح لحقّ الزوج ... ". ("النهاية" ج 5 ص 207). ويجري هذا التفصيل كله فيما إذا كان الزوج أو الأم أو أحدهما شافعيين والبنت حنفية تبعًا لأبيها، واتفق الزوج والأم عند العقد على تقليد أبي حنيفة رحمه الله تعالى. وكذا إذا كانت البنت شافعية تبعًا لأبيها، ولكن أفتى مفتٍ معتبر بجواز تزويجها تقليدًا لأبي حنيفة رحمه الله لمصلحة محققة لها، وتصير البنت حينئذٍ حنفيةً في هذه المسألة، فيطلب الحكم من

مذهب أبي حنيفة رحمه الله. وهذا مأخوذ من فتوى جماعة من متأخري الشافعية بجواز إنكاح غير الأب والجد الصغيرةَ، وخالفهم آخرون فقالوا: لا يجوز التقليد في ذلك، وإذا جوزنا التقليد فلا بدّ من مراعاة مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى. ومن ذلك أن لا يكون المتزوج غير كفءٍ، وإلا لم يصحّ (¬1). ¬

_ (¬1) إلى هنا انتهى الأصل.

الرسالة السابعة والثلاثون مسألة في صبيين مسلمين أخذهما رئيس الكنيسة فنشآ على دينه وبلغا عليه وتزوجا ثم أسلما

الرسالة السابعة والثلاثون مسألة في صبيين مسلمين أخذهما رئيس الكنيسة فنشآ على دينه وبلغا عليه وتزوجا ثم أسلما

مسألة

الحمد لله. مسألة (¬1) صبي وصبية من أولاد المسلمين الصومال، أخذهما رئيس الكنيسة بِعَدَن وربَّاهما، فنشآ على دينه وبلغا عليه، فعقد لهما عقد النكاح كما يعقده بين أهل ملته، واستمرا كذلك حتى وُلِد لهما أولاد. ثم إن المرأة أسلمت فتبعها الرجل قبل انقضاء العدة، فما حكم ذلك؟ الجواب إن لهذين الصبيين خمس حالات: الأولى: حالة صغرهما قبل دخولهما الكنيسة. الثانية: حالة دخولهما والتلبس بالنصرانية. الثالثة: حالة بلوغهما على ذلك. الرابعة: حالة عقد الزواج بينهما. الخامسة: حالة عودهما إلى الإِسلام. فأما حالة صغرهما فإن حكمهما يُعلم من قول "المنهاج" مع شرحه (¬2): " (فإذا كان أحد أبويه مسلمًا وقت العلوق فهو) أي الصبي أي الصغير الشامل للأنثى والخنثى (مسلم) بإجماع، وتغليبًا للإسلام، ولا يضر ما يطرأ بعد ¬

_ (¬1) كتب الشيخ جواب هذه المسألة مرتين، والأولى كأنها مسوّدة، فقد شطب على كثير منها، وهي ناقصة، والثانية كاملة تحتوي على تفصيل أكثر، مع ذكر النصوص من كتب الفقه، وهي هذه. (¬2) "مغني المحتاج" (2/ 423).

العلوق منهما - أي من الأبوين - من ردّة". وهذان الصبيان لم يزل آباؤهما مسلمين حال العلوق وبعده, فهما أولى بما ذُكر في الصورة الأولى فضلاً عن الثانية، فحكمهما أنهما مسلمان إجماعًا. وأما حالة دخولهما الكنيسة وتلبسهما بالنصرانية فإن حكمهما يعلم من قول "المنهاج" وشرحه (¬1): " (ولا تصحُّ ردّةُ صبي) ولو مميزًا (و) لا ردّة (مجنون) لعدم تكليفهما، فلا اعتداد بقولهما واعتقادهما". ومنه علم أن تلبس الصبيين بالنصرانية حالَ صغرهما لغو، لا ينافي دوام الحكم بإسلامهما. وأما حالة بلوغهما ودوامهما على التلبس بالنصرانية فإن حكمهما يعلم من قول "المنهاج" وشرحه (¬2): " (فإن بلغ) الصغير المسلم بالتبعية لأحد أبويه (ووصف كفرًا) بأن أعرب به عن نفسه كما في "المحرر" (فمرتد) لأنه مسلم ظاهرًا وباطنًا". ومنه يُعلَم أن دوام هذين الصبيين على النصرانية بعد بلوغهما ردّة، فهما في تلك الحالة مرتدَّان. والردة على ثلاث صور: أحدها: قطع البالغ العاقل للإسلام بعد أن تلبس به مباشرة في حال كماله. ¬

_ (¬1) "مغني المحتاج" (4/ 137). (¬2) المصدر نفسه (2/ 423).

الثانية: قطع البالغ العاقل إسلامه اللازم له بالتبعية، كمسألتنا. الثالثة: ذكرها شيخ الإِسلام بقوله (¬1): " (أو) أصوله (مرتدون فمرتد) تبعًا، لا مسلم ولا كافر أصلي، فلا يسترقّ ولا يُقتل حتى يبلغ ويستتاب، فإن لم يتب قُتل". ولم يفرق أصحابنا بين هذه الأقسام في شيء من الأحكام، وقد صرَّحوا في الصورة الثالثة بما ترى، فلم يجعلوه كافرًا أصليًّا، مع أنه خُلِق من الكفر ووُلِد فيه ونشأ عليه، فأولى منه الصورة الثانية التي عليها واقعة الحال. ولا فرق بين أن يكون الصبي في دار الإِسلام وأن يكون في غيرها كما هو ظاهر. وقد يصر على ذلك. غاية الأمر أن الذي في دار الإِسلام تحت سطوتنا، بحيث يمكننا تنفيذ الأحكام عليه، والذي في غيرها لا يمكننا ذلك، وهذا لا يُسقط الأحكام، بل إن تمكنَّا في الدنيا أجريناها، وإن لم نتمكن فيوم الفصل أمامنا. والحاصل أن حكم هذين الصوماليين في الحالة الثالثة أنهما مرتدان، تجري عليهما أحكام الردة المعروفة. وأما الحالة الرابعة - وهي حالة عقد النكاح بينهما - فإن حكمها يُعلم من قول "المنهاج" وشروحه (¬2): "ولا تحل مرتدة لأحدٍ، لا من المسلمين لأنها كافرة لا تقر، ولا من الكفار لبقاء عُلقة الإِسلام فيها، ولا لمرتد مثلها، لأنهما لا دوام لهما". ¬

_ (¬1) "فتح الوهاب شرح منهج الطلاب" لزكريا الأنصاري (5/ 126 مع حاشية الجمل). (¬2) انظر "تحفة المحتاج" (7/ 327)، و"مغني المحتاج" (3/ 190).

وقال محمَّد رملي (¬1) عند ذكر ولاية الكافر: "وأما المرتد فلا يلي بحالٍ، ولا يزوَّج أمته، ولا يتزوج". وبه يعلم أن عقد النكاح المعقود بين الصوماليين في حالة الردة باطل، ولا أثر لكونهما حالَ العقد كانا مرتدين معًا كما مر. وقد ذكر في "المنهج" (¬2) الزوجين المسلمين ارتدَّا معًا .... وإنما كان هذا العقد باطلاً للمانع القائم بين الزوجين، حتى لو كان العاقد إمام المسلمين أو قاضيهم. وليس بطلانه لوقوعه على يد رئيس الكنيسة، فإن عقود رئيس الكنيسة بين أهل ملته الأصليين صحيحة، كعقود سائر أهل الديانات الأخرى، كما أجمع عليه المسلمون أو كادوا. وقد ذكر في "المنهج" وشرحه (¬3): " ... أسلم على كتابية تَحِلُّ دام نكاحه، أو غيرها وتخلفت أو أسلمت وتخلف، فإن كان ذلك قبل الدخول وما في معناه فكردَّةٍ. ثم قال: " (أو أسلما معًا) قبل الدخول أو بعده (دام) نكاحهما لخبر صحيح فيه، ولتساويهما في الإِسلام المناسب للتقرير، بخلاف ما لو ارتدَّا معًا كما مر (والمعية) في الإِسلام (بآخر لفظ) لأن به يحصل الإِسلام لا بأوله ولا بأثنائه، وسواء فيما ذكر أكان الإِسلام [استقلالًا أم تبعيَّةً]. وقوله: "وسواء فيما ذكر ... إلخ" يوهم ما ذكرناه أنه لا فرق بين أقسام ¬

_ (¬1) "نهاية المحتاج" (6/ 240). (¬2) (4/ 199 مع الشرح والحاشية). (¬3) (4/ 199 - 200).

الردة. وأما الحالة الخامسة - وهي حالة توبتهما فعلينا أن نُعلِمهما بأن عقد النكاح الذي عُقد بينهما في حالة الردة لم يكن صحيحًا، ونجهد أن نعقد بينهما عقدًا صحيحًا, لأنه أولى من التفرقة، ولا سيما لمكان الأولاد، مع وجوب التأليف، ولا سيما حيث لم يزالا في دارٍ غير دار الإِسلام. ويجوز العقد بينهما بلا عدّة. وإن قيل بأن الوطء في حال الردة وطء شبهة, لأنه هو صاحب العدة، ولا مانع. هذا ما تيسَّر كتابته مع القصور وعدم الكتب في الحال، وبالله التوفيق، وصلى الله على سيدنا محمَّد وآله وصحبه وسلم.

الرسالة الثامنة والثلاثون بحث في قصة بني هشام بن المغيرة واستئذانهم النبي- صلى الله عليه وسلم - أن يزوجوا عليا رضي الله عنه

الرسالة الثامنة والثلاثون بحث في قصة بني هشام بن المغيرة واستئذانهم النبي- صلى الله عليه وسلم - أن يزوِّجوا عليًّا رضي الله عنه

بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. اللهم صلِّ على محمَّد وعلى آل محمَّد كما صليتَ على آل إبراهيم، وبارك على محمَّد وعلى آل محمَّد كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. أما بعد، فهذا بحث فيما جاء من قصة بني هشام بن المغيرة واستئذانهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يزوِّجوا عليًّا عليه السلام. فاعلم أن الحديث ثبت في "الصحيحين" (¬1) من رواية علي بن الحسين بن علي عليهم السلام عن المسور بن مخرمة، ومن رواية ابن أبي مليكة عن المسور أيضًا. وأخرج الإِمام أحمد في "المسند" (4/ 323) (¬2) والحاكم في "المستدرك" (3/ 154) طرفًا من الحديث من طريق عبيد الله بن أبي رافع كاتب علي عليه السلام عن المسور. وقال الحاكم: صحيح، وأقره الذهبي. وفي "المسند" (4/ 332) (¬3) و"المستدرك" (3/ 154) طرفٌ منه أيضًا من طريق جعفر بن محمَّد عن ابن أبي رافع عن المسور. ¬

_ (¬1) البخاري (3729) ومسلم (2449/ 96). (¬2) رقم (18907). (¬3) رقم (18930).

وأخرجه الإِمام أحمد في "المسند" (4/ 5) (¬1): حدثنا إسماعيل بن إبراهيم قال أنا أيوب عن عبد الله بن أبي مليكة عن عبد الله بن الزبير أن عليًّا ذكر ابنة أبي جهل، فبلغ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إنها فاطمة بَضْعة مني، يُؤذيني ما آذاها ويُنصِبني ما أنصبَها". وأخرج الترمذي (¬2) الحديث من حديث المسور، ثم أخرجه من حديث ابن الزبير، رواه عن أحمد بن منيع عن إسماعيل بن عُلية - وهو شيخ الإِمام أحمد - فذكره، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، هكذا قال أيوب: "عن ابن أبي مليكة عن ابن الزبير"، وقال غير واحد: "عن ابن أبي مليكة عن المسور بن مخرمة". ويحتمل أن يكون ابن أبي مليكة روى عنهما جميعًا. وذكر الحافظ في "الفتح" (¬3) أنه رواه عن ابن أبي مليكة عن المسور: عمرو بن دينار والليث بن سعد وغيرهما، ورواه أيوب عن ابن أبي مليكة عن ابن الزبير. وقال الحافظ في النكاح (¬4): "والذي يظهر ترجيح رواية الليث ... ". وقال في المناقب (¬5): "رجح الدارقطني وغيره طريق المسور ... نعم يحتمل أن يكون ابن الزبير سمع هذه القطعة فقط، أو سمعها من المسور فأرسلها". ¬

_ (¬1) في الأصل: (5/ 232). والتصويب بالرجوع إلى "المسند". وهو فيه برقم (16123). (¬2) رقم (3869). (¬3) (7/ 105). (¬4) "الفتح" (9/ 327). (¬5) (7/ 105).

أقول: الجاري على الأصول وفي النظر صحة الطريقين، فإن ابن أبي مليكة ثقة جليل، لم يُغمَزْ بما يدل على وهن ما في حفظه وضبطه. وأيوب جبل من الجبال. سأله شعبة عن حديث فقال: أشكُّ فيه، فقال له: شكُّك أحبُّ إليَّ من يقين غيرك (¬1). وإسماعيل بن عُلية كذلك، قال أحمد: إليه المنتهى في التثبت بالبصرة. وقال زياد بن أيوب: كان يقال: ابن عُلية يعدُّ الحروف. وقال أبو داود: ما أحدٌ من المحدثين إلاَّ قد أخطأ إلا إسماعيل بن عُلية وبشر بن المفضل (¬2). ويؤيد صحةَ الطريقين أن حديث ابن الزبير مختصر، ولفظه غير لفظ حديث مخرمة. وأخرج الحاكم في "المستدرك" (3/ 159) القصة بسند صحيح "عن إسماعيل بن أبي خالد عن أبي حنظلة رجلٍ من أهل مكة أن عليًّا ... ". قال الذهبي: مرسل. وأخرجه أيضًا (3/ 158) بسند صحيح "عن الشعبي عن سُويد بن غَفلة قال: خطب عليٌّ ... ". قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. وقال الذهبي: مرسل قوي. وسويد أسلم في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وجاء عنه أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه صلَّى وراءه مرارًا. ولكن قال المزي وغيره: لم يصحّ ذلك (¬3). ¬

_ (¬1) انظر "تهذيب التهذيب" (1/ 398). (¬2) المصدر السابق (1/ 276). (¬3) انظر "تهذيب التهذيب" (4/ 278).

وفي "روح المعاني" (5/ 308) (¬1) أن الزبير بن بكار أخرج في "الموفقيات" عن ابن عباس قال: قال لي عمر رضي الله عنه، فذكر إشارة عمر إلى القصة وموافقة ابن عباس عليها. وأخرج الطبراني في "المعجم الصغير" (ص 166) (¬2) من طريق عبيد الله بن تمام عن خالد الحذّاء عن عكرمة عن ابن عباس، فذكر القصة. وعبيد الله بن تمام ضعيف. وفي ترجمته من "لسان الميزان" (¬3) الإشارة إلى هذه الرواية. وههنا مباحث (¬4): الأول: أنهم ذكروا أن المسور وُلِد بعد الهجرة بسنتين، وقُدِم به المدينة في ذي الحجة سنة ثمانٍ وهو غلام أيْفعُ ابن ست سنين، حكاه في "الإصابة" (¬5) عن يحيى بن بكير، وفي "التهذيب" (¬6) عن عمرو بن علي ¬

_ (¬1) (16/ 270) ط. المنيرية. وانظر "الدر المنثور" (10/ 248). (¬2) (2/ 16) ط. المكتبة السلفية بالمدينة المنورة. (¬3) (5/ 320). (¬4) كتب المؤلف في آخر الصفحة: "الأول: الطعن في المسور وابن الزبير، الثاني: صغر سنهما، الثالث: التفرد، الرابع: استبعاد ذلك، لما عُرِف من فضل علي وإجلاله للنبي (ص) وإكرامه لفاطمة، وبغضه لأبي جهل وحزبه". والموجود منها المبحث الثاني فقط، ويُنظر للبقية "فتح الباري" (7/ 85، 105، 9/ 327 - 329). (¬5) (10/ 177). وانظر "معجم الصحابة" للبغوي (5/ 354) و"المعجم الكبير" للطبراني (20/ 6). (¬6) "تهذيب التهذيب" (10/ 151).

وهو الفلاس. وقال ابن حجر في "تهذيب التهذيب" (¬1): " ... المؤرخين لم يختلفوا أن مولده كان بعد الهجرة، وقصة خطبة علي كانت بعد مولد المسور بنحوٍ من ست سنين أو سبع سنين". ومن كان في هذا السن فالغالب أنه لا يضبط. والجواب أولاً: أن ما ادَّعَوا إطباقَّ المؤرخين عليه لم نجد نقلَه بطريق صحيح متصل بالمسور نفسه، أو بمن يعرف شأنه من معاصريه. ويحيى بن بكير وعمرو بن علي بين مولدهما وبين وفاة المسور نحو مئة سنة، ولم يبيِّنا مستندهما. وقد عُرِف تسامحُ المؤرخين وتهاونُ السلف في ضبط الولادة، وحسبك أن المؤرخين لم يضبطوا مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا تاريخ وفاته على التحقيق، بل قال أكثرهم 12 ربيع الأول، وتبيَّن أنه خطأ. هذا، وقد ثبت في "الصحيحين" (¬2) و"مسند أحمد" (¬3) عنه في هذه القصة نفسها عن المسور قال: "فسمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب الناس في ذلك على منبره هذا، وأنا يومئذٍ محتلم". رواه الإِمام أحمد في "المسند" (4/ 326) (¬4) عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن الوليد بن كثير عن محمَّد بن عمرو بن حلحلة عن ابن شهاب عن علي بن الحسين عن المسور. ومن طريق الإِمام أحمد ¬

_ (¬1) (10/ 151). (¬2) البخاري (3110) ومسلم (2449/ 95). (¬3) رقم (18913). (¬4) رقم (18913).

أخرجه مسلم في "صحيحه" (¬1)، وكذلك أخرجه البخاري في "صحيحه" (¬2) عن سعيد بن محمَّد الجرمي عن يعقوب. ووقع عند بعض رواة البخاري "وأنا يومئذٍ المحتلم" (¬3). أخرج البخاري (¬4) الحديث - وفيه الكلمة المذكورة - في أبواب فرض الخمس عقب كتاب الجهاد: باب ما ذكر من دِرْع النبي - صلى الله عليه وسلم -. ونقل الحافظ في "الفتح" (¬5) عن ابن سيد الناس أنه خطأ، لِما حكاه المؤرخون في عمر المِسور، وأن الصواب "كالمحتلم"، وأنه كذلك وقع في "مستخرج" الإسماعيلي من طريق يحيى بن معين عن يعقوب. أقول: حكايه المؤرخين قد تقدم حالُها. ورواية الإِمام أحمد بالمتابعة وتخريج صاحبي "الصحيح" أرجح، وعلى فرض أن الصواب "كالمحتلم" فهذا لا يقال لابن سبع أو نحوها، بل يكون فوق العشر. فالرد على المؤرخين بحاله. ولعل المسور وُلِد قبل الهجرة بسنتين"، فأخطأ سلف المؤرخين فقال: "بعد الهجرة بسنتين"، وتبعه غيره. وتخريج الإِمام أحمد الحديث في "مسنده" والشيخين في "صحيحيهما" بدون إنكار لهذه الكلمة "وأنا محتلم" يدلُّ دلالةً ظاهرةً على أن ما حكاه المؤرخون لا يُعرف له أساس ثابت. ويؤيَّد ذلك إضراب البخاري في ¬

_ (¬1) رقم (2449/ 95). (¬2) رقم (3110). (¬3) انظر "الفتح" (9/ 327). (¬4) رقم (3110). (¬5) (9/ 327).

"تواريخه" عن حكاية كلامهم في ذلك. وفيما ذكرناه ما يُغني عن بيان أن ابن السبع أو الثمان قد يضبط كما هو معروف في الصحابة وغيرهم. وأما قول ابن حجر (¬1) إن القصة كانت بعد مولد المسور بست سنين أو سبع سنين، فبيانه أن القصة كانت بعد فتح مكة يقينًا؛ لأن آل أبي جهل إنما أسلموا يوم الفتح، فهي بين مرجع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة وبين وفاته، وكان مرجعه إلى المدينة في أواخر سنة ثمان. والذي يتجه أن تكون القصة تأخرت، فإنه يبعد أن يكون عقبَ إسلام القوم، وعليه فإنها تكون قُربَ وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -. والمسور - لو صحَّ كلام المؤرخين - ابن ثمان سنين أو فوقها، إذا جوَّزنا أن يكون وُلِد بعد سنة الهجرة بسنة وشيء، فقالوا "بسنتين" بجبر الكسر كما هو معروف من عادتهم. وفي "الفتح" (¬2) في كتاب النكاح في باب ذبّ الرجل عن ابنته ما يلاقي هذا. والله الموفق. ¬

_ (¬1) في "تهذيب التهذيب" (10/ 151). (¬2) (9/ 327).

مجموع رسائل أصول الفقه

آثَار الشّيخ العَلّامَة عبَد الرّحمن بن يحيى المعَلِّمِيّ (19) مجموع رسائل أصول الفقه تأليف الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني 1312 هـ - 1386 هـ تحقيق محمد عزير شمس وفق المنهج المعتمد من الشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد (رحمه الله تعالى) تمويل مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

بسم الله الرحمن الرحيم

راجع هذا الجزء مُحَمَّد أجمَل الإصلَاحِي عبد الرحمن بن حسن بن قائد

مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية SULAIMAN BIN ABDUL AZIZ AL RAJHI CHARITABLE FOUNDATION حقوق الطبع والنشر محفوظة لمؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية الطبعة الأولى 1434 هـ دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع مكة المكرمة - هاتف 5473166 - 5353590 - فاكس 5457606

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد، فهذه مجموعة من رسائل العلامة المعلمي التي تكلم فيها على بعض مسائل الأصول وحرَّرها، وهي وإن كانت قليلة في العدد فإنها تحتوي على مباحث مهمة اختلفت فيها آراء الأصوليين وكثر الجدل حولها. وقد اتبع المؤلف رحمه الله فيها أسلوبه المعروف في سائر كتبه، وهو عرض المسائل بأدلتها ومناقشتها مناقشة علمية هادئة، ونقد الأحاديث والآثار الواردة في الباب، والتعقيب على أوهام المؤلفين دون الغضّ من شأنهم، وإتحاف القراء بفوائد واستنباطات جديدة من بنات فكره لم يُسبق إليها. ونرى في أثنائها استطرادات في تفسير بعض الآيات، والكلام على الأحاديث والرجال، والشرح اللغوي لبعض الكلمات، وتحرير موضوعات في البلاغة، وحلّ مشكلات في العقائد والأصول، وبيان مناهج النقّاد في الجرح والتعديل. ومن أهم مباحثها الرد على شُبه منكري حجية السنة النبوية وشُبه المانعين من قبول أخبار الآحاد، فقد فصَّل الكلام عليها بما يكفي ويشفي، كما أورد اعتراضات بعض الأصوليين وناقشهم بالحجج والبراهين. وتوسَّع في بيان حقيقة الكذب وأحكامه في كتابه "إرشاد العَامِه" بما لا نجده في موضع آخر. وقد كان المؤلف رحمه الله بدأ بتأليف رسالة في أصول الفقه بأسلوب سهل مبسَّط، ولكنه للأسف لم يكملها. كما تكلم على نشأة التعصب المذهبي عند أتباع الأئمة وكيفية معالجته.

(1) رسالة في فرضية اتباع السنة والكلام على تقسيم الأخبار وحجية أخبار الآحاد

وإليكم التعريف بأصول هذه الرسائل ومحتوياتها: (1) رسالة في فرضية اتباع السنة والكلام على تقسيم الأخبار وحجية أخبار الآحاد: توجد النسخة الخطية منها في مكتبة الحرم المكي برقم [4665] (ص 21 - 67) ضمن دفتر بقطع طويل، وفيها شطب في مواضع كثيرة منها وإلحاقات وزيادات في الهوامش. وفي كل صفحة منها أكثر من ثلاثين سطرًا. ولم يعنون لها المؤلف بعنوان خاص، ولم يقدم لها بمقدمة، بل بدأ يكتب بعد البسملة تحت عنوان "فرض اتباع السنة"، ثم تطرق إلى الكلام على تقسيم الأخبار وحجية أخبار الآحاد ودفع شبه المنكرين لها بتفصيل. استهل المؤلف هذه الرسالة بذكر إجماع المسلمين على فرض اتباع ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه من الأمور المعلومة بالضرورة من دين الإِسلام، وأن التفريق بين الكتاب والسنة تفريق بين الله ورسله. ثم استعرض شبه منكري حجية السنة، وهي كما يلي: الأولى: أن القرآن تبيان لكل شيء وفيه تفصيل كل شيء كما قال الله تعالى، فلا يحتاج إلى شيء آخر. الثانية: أن القرآن يكرر القصة الواحدة في مواضع، وينص على فروع من الأحكام التي قد يبدو للناظر أنها ليست بعظيمة الأهمية كالأمر بكتابة الدين، فكيف يتصور أنه لا يذكر الأمور العظيمة؟ الثالثة: أن السنة إذا كانت مفروضًا اتباعها كالقرآن، فلماذا لم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بكتابتها؟ بل نُقل عنه النهي عن ذلك. ولماذا لم يعتنِ الخلفاء بجمعها؟

بل جاء عنهم ما يخالف ذلك. الرابعة: لما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل وفاته أن يكتب كتابًا قال عمر رضي الله عنه: "عندنا كتاب الله حسبُنا"، وأقرَّه النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد ردَّ على هذه الشُّبه بتفصيل، وبيَّن أن الحجة قائمة على فرضية اتباع السنة، وأن فيها ما ليس في القرآن، وأن الذي يرتاب في ذلك فحقُّه أن تقام عليه الحجج على أصل الإِسلام، ولا يُتشاغل معه بالنظر في الجزئيات. ولم يجعل الله حجج الحق بغاية الظهور, لأنها لو كانت كذلك لكانت معرفتها سهلة، ولكان الخلق كالمجبورين على قبولها. وقد جعل الله شبهاتٍ مع هذه الحجج لابتلاء العباد بها، وله فيها حِكَم عديدة كما يظهر من التأمل فيها. أما النهي عن الكتابة فقد ورد بذلك حديث واحد، وأعلَّه البخاري وغيره، وجاءت في الإذن أحاديث. وأكثر الصحابة لم يكونوا يرون بها بأسًا. وما روي عنهم خلاف ذلك فله محمل حسن. وذكر المؤلف أسباب عدم أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بكتابة السنة، وأنه كان في ترك الكتابة آنذاك مصلحة عظيمة وهي حثُّ المسلم على الطلب والسماع والحفظ. وفيها حِكَم أخرى يطول بيانها. أما قول عمر رضي الله عنه فقد تواتر عنه امتثاله للسنة وتديُّنه بها في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعدها، فلا بدَّ من حمل كلمته تلك على ما لا يخالف ذلك. ثم ييَّن المؤلف المقصود منها ومن غيرها من الروايات التي تُروى عن عمر في هذا الباب.

ثم انتقل المؤلف إلى الكلام على تقسيم الأخبار عند الأصوليين إلى ثلاثة أقسام: مقطوع بكذبه، ومقطوع بصدقه، وما ليس مقطوعًا بكذبه أو بصدقه. فالمقطوع بكذبه ما قام البرهان القاطع على خلافه وعقَّب المؤلف على ذلك بأنك لن تجد إن شاء الله برهانًا قاطعًا يقينيًّا مخالفًا لحديثٍ إلاَّ وجدتَ ما يدلُّك على أحد الوجهين: إما أن يكون في إسناده خلل، وإما أن يكون وقع تغيير في متنه بزيادة أو نقص، أو تقديم أو تأخير، أو تبديل لفظٍ بآخر، أو نحو ذلك مما يغير المعنى. ونقل كلام الأصوليين أن من المقطوع بكذبه: المنقول آحادًا، والعادة قاضية بأنه لو صح لنُقِل بالتواتر، لتوفُّر الدواعي على نقله. وعقب عليه المؤلف بأنه ينبغي التثبت في هذا، فقد تقع القضية ولا يحضرها إلا الواحد أو الاثنان، وقد يحضر جماعة ولا يتنبه لها منهم إلاَّ الواحد أو الاثنان. وقد يشاهدونها ولا يرون لها أهمية فلا ينقلونها، وقد يرون لها أهمية ولكن لا يرون لنقلها أهمية. وقد ذكر المؤلف أمثلة عديدة لها، وتوصَّل إلى أنه ينبغي التثبت في ردّ الأحاديث بما ذُكر، فلا يُقدم على ذلك مع قيام الاحتمال. أما المقطوع بصدقه فذكر الأصوليون منها أمورًا: الأول: خبر الربّ عزَّ وجلَّ، وخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -. الثاني: أن يخبر إنسان بمرأى ومسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا ينكره عليه. الثالث: المتواتر. الرابع: قد يفيد الآحاد العلم بمعونة القرائن.

الخامس: ما أُجمِع على صحته أو تُلُقَّي بالقبول أو أُجمِع على الحكم الذي يدلُّ عليه. السادس: أن يخبر إنسان بخبرٍ بحضرة قومٍ لو صدَّقوه حصل العلم بصحة الخبر، ولكنهم سكتوا، ولا حاملَ لهم على السكوت عن تكذيبه لو كان كاذبًا. السابع: بقاء الخبر مع توفُّر الدواعي على إبطاله. ذكر المؤلف هذه الأنواع، ثم عقَّب على كلام الأصوليين فيها بما يوضّحه أو يقيّده أو ينقده. وقد فصَّل في موضوع الإجماع تفصيلاً حسنًا، وتكلم على حججه وأنواعه. وذكر عن الأمر السابع أن قاعدته واهية، لأن توفّر الدواعي على الإبطال وإن اقتضى أن تعِزّ رواية الخبر فلا يقتضي أن كلَّ خبر يُروى صحيحٌ، فضلاً عن أن يكون مقطوعًا به. ثم عقد فصلاً في الكلام على قول جماعة من العلماء: إن أحاديث الصحيحين تفيد العلم لأنّها تُلقِّيت بالقبول، عدا أحاديث انتقدها عليهما بعض الحفَّاظ. وقد تحرر للمؤلف أن أحاديث "صحيح البخاري" على أربعة أضرب، وأن الضرب الأول منها هو الذي احتاط له البخاري، فهو الذي يصح أن يقال: إن أئمة الحديث الذين اطلعوا على الكتاب أجمعوا على صحته إلا ما انتقده بعضهم. وأما الباقي فغاية ما هناك أنهم أجمعوا على أنه صالح لموضعه الذي ذكر فيه، أعني المتابعات والشواهد وفضائل الأعمال والعواضد ونحوها. ويقاس عليه "صحيح مسلم".

وفي فصلٍ آخر تكلم على ما نُقل عن بعض الأئمة أن خبر الثقة يفيد العلم مطلقًا، فذكر أنهم أرادوا بذلك الردّ على الجهمية وبعض الغلاة في الرأي الذين كانوا يطعنون في الأحاديث الواردة في الصفات بأنها أخبار آحاد لا تفيد إلاَّ الظن، ويردُّون الأحاديث بدعوى أنها مخالفةٌ لظاهر القرآن أو القياس. فقال الإِمام أحمد وغيره: إن خبر الثقة يفيد العلم، قصدوا بذلك أن الأخذ به واجب لحجج تفيد العلم اليقيني، ومنها إجماع سلف الأمة على الأخذ بخبر الثقة. ثم جعل المؤلف عنوان "أخبار الآحاد"، وذكر أنها القسم الثالث من الأخبار عند الأصوليين، وهو ما لا يُقطع بكذبه ولا بصدقه. وقبل الكلام عليها عقد فصلاً لبيان سبب ضلال أمم الشرك السابقة، فقد كانوا يعلمون وجود الله وعظمته وجلاله، ثم أخذوا يثبتون له ما يرونه كمالاً، فلم يرجعوا إلى هدي الأنبياء والتمسك بسننهم وآثارهم، بل اغتروا بعقولهم واستغنوا بأفكارهم، فضلُّوا وهلكوا. وهذا ما حدث في هذه الأمة، فقد ضلّت الخوارج وغيرها بسبب جهلهم بالهدي النبوي واستغنائهم عن الاهتداء بالعارفين به من الصحابة. ثم بدأ الكلام على وجوب العمل بخبر الواحد، وأنه قد وقع الإجماع على ذلك، وما نقله بعض الأصوليين عن الظاهرية من أنه لا يجب العمل به مطلقًا = خلاف المعروف عن أئمة الظاهرية كداود وابن حزم. نعم حكي عن المعتزلة كالأصمّ وتلميذه إبراهيم بن إسماعيل بن علية أنه لا يُقبل خبر الواحد في السنن والديانات، ويُقبل في سائر الأحكام. وحكي عن هشام والنَّظَّام أنه لا يُقبل إلا بعد قرينة تنضمُّ إليه، وهو علم الضرورة.

ثم ذكر جميع الشبه العقلية والنقلية للمانعين من قبول خبر الواحد والعمل به، وأطال في الرد عليها، ونقل كلام الأصوليين في هذا الموضوع، وعقَّب عليه بما يوضّحه ويُبيِّنه. وقد تكلم بتفصيل على آية {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] التي استدل بها المانعون، وفسَّرها ونظر في معناها من أربع جهات: العربية، وسياق الآيات، ومراعاة نظيرها من الآيات في القرآن، وتفسير السلف. وفنَّد مزاعم المانعين في التعلُّق بهذه الآية. كما تكلم على آية {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36] وبيَّن معنى "يُغني" بتتبع الشواهد في القرآن وكلام العرب (¬1)، ثم شرح معنى "الحق" الذي إذا كرهه الإنسان حاول أن يدفعه بالظنّ، وفصَّل في ذلك تفصيلًا لا يكاد يوجد في موضع آخر، ورجَّح أن المراد بالظنّ الشبهات، وبالحق البراهين القطعية، وعلى ذلك يدلُّ السياق. وفي فصل آخر ردّ على بعض المفسرين الذين جعلوا "لا يُغني" في الآية بمعنى: لا يقوم مقامه، ولا يسدُّ مسدَّه، و"من" بمعنى بدل، واعترض عليهم بوجوه. وفي الفصل الأخير من هذه الرسالة ذكر بعض الشبه النقلية من الأحاديث والآثار التي تدلُّ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر وغيرهما لم يقبلوا خبر الواحد حتى جاء آخر فأخبر بمثله. تكلم المؤلف عليها واحدًا واحدًا، وبيَّن معناها ووجهها، ونقل كلام الشافعي من "الرسالة" وكلام الآخرين. ¬

_ (¬1) للمؤلف رسالة في معنى "أغنى عنه" في "مجموع رسائل التفسير"، وأشار إليها في "الأنوار الكاشفة" (ص 193).

(2) رسالة في الكلام على أحكام خبر الواحد وشرائطه

وبهذا تنتهي الرسالة. ولا يمكن أن ألخَّص هنا كلَّ ما قاله، وإنما المقصود استعراض المباحث الرئيسة وترتيبها وبيان أجزاء الكتاب، وعلى القراء أن يراجعوا كلام المؤلف في موضعه ويستمتعوا ببيانه واستنباطاته ودقائقه. (2) رسالة في الكلام على أحكام خبر الواحد وشرائطه: توجد هذه الرسالة في مكتبة الحرم المكي برقم [4665] (ص 1 - 20) وهي ضمن دفتر طويل مرقّم الصفحات، في كل صفحة منها أكثر من ثلاثين سطرًا. وقد أصاب هذا الدفتر بللٌ في أطراف الصفحات وخاصةً في أعلاها، أثَّر في الكتابة، فلا تُقرأ بعض الكلمات إلاَّ بصعوبة. وفي هوامشها زيادات وإلحاقات لم تسعها الصفحة، فكتبها الشيخ في هوامش الصفحات التالية. وفي كثير من صفحاتها شطب وضربٌ على بعض الفقرات والأسطر. وكان سبب تأليفها أن الشيخ أراد تحقيق بعض المسائل المتعلقة بأحكام الجرح والتعديل لما وجد عند المتأخرين كلامًا مخالفًا للصواب وغير وافٍ بالتحقيق، ثم رأى أن يضمّ إليه شيئًا من الكلام على أحكام خبر الواحد وشرائطه، فجمع هذه الرسالة، ورتَّبها على ثلاثة أبواب كما قال في المقدمة. والموجود منها بين أيدينا بابان فقط. ولم نجد الباب الثالث ضمن هذا الدفتر ولا في المسوّدات الأخرى. عقد المؤلف الباب الأول للكلام على بعض ما يتعلق بخبر الواحد، وقسَّمه إلى أربعة فصول: الأول: في وجوب العمل بخبر الواحد، نبَّه فيه المؤلف - كما قال - على ما لم يقف عليه في كتب أهل العلم أو رآه غير مستوفىً. وذكر ثلاثة أنواع من الحجج على ذلك من آيات القرآن الكريم، وتكلم عليها بما يشفي.

ثم ذكر شبه المخالفين، وهي: أن العقل لا يجوِّز أن يتعبد الله عباده بخبر الواحد، وأنه لا يفيد إلاَّ الظن والظن لا يغني من الحق شيئًا، وأن عامة الأخبار المروية بطرق الآحاد غير مستجمعة لشروط القبول. وقد فنَّد المؤلف جميع هذه الشبه، وردَّ على كتّاب الإفرنج وأتباعهم، وبعض الفرق الغالية كالخوارج والروافض، وأفراد من المعتزلة والجهمية وبعض الغلاة من أهل الرأي الذين خالفوا أهل الحديث في نقدهم للأحاديث والآثار، وبيَّن منهج المحدثين في التمييز بين الصحيح والضعيف، والشروط المتفق عليها لقبول خبر الواحد، وأكَّد في آخره على ضرورة الابتعاد عن الهوى في الحكم على الحديث، والالتزام بتطبيق الأصول والقواعد عند نقده. والفصل الثاني فيما يفيده خبر الواحد، ذكر فيه أن خبر الواحد المستجمع للشروط وإن كان وجوب العمل به ثابتًا قطعًا، فدلالة اجتماع الشرائط على نسبته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ظنية. ونظير ذلك أذان المؤذن وفتوى العالم وشهادة العدلين، فوجوب العمل بها ثابت قطعًا، وإن كان يمكن في كل واحدٍ من هؤلاء أن يخطئ ويغلط. ثم تكلم على ما نُقِل عن بعض الأئمة من أنه يفيد العلم، وذكر تشنيع بعض الناس عليهم بسبب هذا القول، ثم ردّ عليهم وبيَّن المقصود من كلام الأئمة وأنهم أرادوا واحدًا من المعاني الآتية: الأول: أنه يفيد العلم للزوم الحكم الذي تضمَّنه لمن ثبت عنده. الثاني: أنه يفيد العلم بمعنى أن احتمال خلافه احتمالٌ غيرُ ناشئٍ عن دليل. الثالث: أنه يفيد العلم اليقيني في بعض الصور، كالمتلقَّى بالقبول والمحتفَّة به قرائن.

وعقد الفصل الثالث لبيان المعنى الذي لأجله وجب العمل بخبر الواحد، فذكر أن مدار وجوب العمل به على إفادته الظنّ، وهنا احتمالان: الأول أن تكون إفادة الظن هي العلة، والثاني أن تكون هي الحكمة، والعلة ضابطها، وهو نفس إخبار الثقة. والذي رجَّحه المؤلف هو الثاني مع زيادة وصف في الضابط كأن يقال: خبر الثقة خبرًا لم يتبين خطؤه، وهذا معنى قول أهل الحديث: "من غير شذوذ ولا علة قادحة". والفصل الرابع للمقابلة بين الرواية والشهادة، وقد فصَّل الكلام فيه عن وجوه الخلاف بينهما، وذكر استشكال بعضهم التخفيفَ في الرواية بالاكتفاء بخبر واحدٍ، على خلاف الشهادة لإثبات الزنا التي تتطلب أربعة شهود، وفي الدماء ونحوها رجلين، وفي الأموال رجلين أو رجلاً وامرأتين، مع أن القياس عكسه، فإن الشهادة إنما تثبت بها قضية واحدة، وأما الرواية فإنها تكون دينًا يُعمَل به إلى يوم القيامة في قضايا لا تحصى. وردَّ على هذا الإشكال من ثلاثة أوجه، فذكر أن الحاجة داعية إلى معرفة الحكم الشرعي للعمل به، وهذا يقتضي التوسعة فيما يُعرف به، وعارض ذلك خشية غلط الراوي، والموازنة بين هذين مما يصعب على الناظر، فلا يسعه إلا أن يكل الأمر إلى عالم الغيب والشهادة. ثم إن الظن الحاصل بخبر الثقة الواحد الذي يقبله أهل الحديث لا ينقص عن الظن الحاصل بشهادة العدلين التي يقضي بها الحكَّام، بل لعله أقوى منه لوجوه. وأخيرًا فإن الله قد تكفَّل بحفظ الدين، وبيَّنه بلسان النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتلك السنة. فمن المحال أن يُلصَق بالشريعة ما ليس منها على وجهٍ لا يمكن لأهل العلم نفيُه عنها, لأن ذلك منافٍ للحفظ الذي تكفَّل الله به.

أما الباب الثاني فقد عقده المؤلف لبيان شرائط حجية خبر الواحد، وذكر أنها على ثلاثة أنواع، والموجود منها الكلام على النوع الأول فقط، وهو ما يُشترط في المخبر حال الإخبار، تكلم فيه أولاً على العدالة وضوابطها، وتطرق إلى البحث عما إذا روى العدل عن رجل ولم يجرحه، هل يعتبر ذلك تعديلًا له؟ ثم تكلم على الشرط الثاني وهو الضبط، وعرَّف الضبط بأنه اجتماع الثبات والتثبت، فكون الإنسان ضابطًا لميزان نفسه عند التلقي وعند الأداء هو الثبات، ثم إنه قد يكون مع ثباته في نفسه يتفقَّد نفسه عند الأداء، فيعرف حقيقة الحال فيحدَّث بحسبها، فهذا هو المتثبت. وبهذا يخرج خبر المغفَّل والمتساهل. وفي الفصل الأخير ذكر أن غالب ما في كتب الجرح والتعديل من الكلام مبني على اعتبار أحاديث الراوي، ويدلُّ عليه كلام الأئمة، وتحرَّر للمؤلف باستقراء كثير من كلامهم أن لهم مذاهب: الأول: مذهب ابن حبان، فعنده أن المسلمين محمولون على العدالة، فكل راوٍ لم يُجرَح فالظاهر أنه عدل. وبيَّن ضعف مذهبه، وردَّ عليه، وقال في آخره: والذي تبيَّن لي أن ابن حبان لم يلتزم الاعتبار، بل أخذ "التاريخ الكبير" للبخاري، ونقل غالبه إلى "الثقات". وكثير ممن أخذه عنه لم يعرفه ابن حبان، ولا عرف ما روى، بل وكثير منهم لم يعرف عمن رووا ولا من روى عنهم. هذه فائدة جليلة توصَّل إليها المؤلف بعد دراسة الكتابين والمقارنة بينهما، وانظر تتمة الكلام هناك.

(3) إرشاد العامه إلى معرفة الكذب وأحكامه

الثاني: مذهب العجلي، وقد توصَّل المؤلف بعد تتبع جماعة من الرواة الذين وثَّقهم إلى أنه انفرد بتوثيق كثير من التابعين الذين لم يذكر لكل منهم إلاَّ راوٍ واحد ثقة، ثم عدَّد المؤلف بعض أسمائهم وقال: وافقه ابن حبان في هؤلاء أو أكثرهم على قاعدته. وبه ينتهي الموجود من هذه الرسالة، ولم نجد تتمته ضمن مسوّدات المؤلف، كما لم نجد الكلام على النوعين الثاني والثالث حسبما أشار إليه في أول الباب الثاني. (3) إرشاد العَامِه إلى معرفة الكذب وأحكامه: وصل إلينا من هذا الكتاب قطع متفرقة: أولاها في مكتبة الحرم المكي برقم [4697] (ص 1 - 24)، تحتوي على الخطبة وبعض الفصول الأولى من الكتاب. وقطعة ثانية ضمن مسوَّدات المؤلف التي عثرنا عليها أخيرًا ولم تفهرس حتى الآن، وهي الصفحات (33 - 44) من الكتاب. بدأ المؤلف فيها الكلام على موضوع الكذب من جديد، ومهَّد له بتمهيد، ثم ذكر أربعة مطالب، ولم يُتمَّ الكلام فيها على المطلب الرابع، وفي آخرها نقص، والكلام غير متصل مع الصفحات الأخيرة منها، وقد أشرنا إليها في مكانها. ثم قطعة ثالثة ناقصة من أولها (ص 92 - 101) فيها استطراد في ردّ شبهة المشركين في قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98]، وفي آخره ذكر تأخير البيان عن وقت الحاجة، ثم الضرب الثاني من المجمل وهو التورية. وقد كتب المفهرس

على هذه القطعة "ورقات تابعة للعبادة"، والواقع أنها ليست من كتاب "العبادة"، فإن المؤلف نفسه يشير في آخرها إلى أن تمام الكلام في "كتاب العبادة". ومما يدلُّ على أنها من "إرشاد العامه" أن الكلام الموجود في الصفحة الأخيرة منها تكرر هنا وفي أول القطعة الرابعة من الكتاب كما سيأتي وصفها. وقد وضع المؤلف في آخر هذه القطعة قبل الكلام المكرر خطًّا فاصلاً، وكتب في الهامش: "آخر الاستطراد". وهذا يفيد أن ما قبله من الكلام استطراد، ثم رجع إلى الكلام على الكذب وأنواعه وما يدخل فيه وما لا يدخل فيه. ثم قطعة رابعة توجد في المكتبة مع القطعة الأولى، وهي مرقمة الصفحات (ص 47 - 86)، وقد ضاعت الصفحات (70 - 73) فلا توجد في الأصل. وهذه القطعة تحتوي على بقية الفصول والمطالب من الكتاب إلى نهاية المطلب الحادي عشر. ثم وجدنا الصفحة (89) ضمن مسوَّدات المؤلف أخيرًا، فوضعناها بعد (ص 86) من الأصل. وهناك قطعة خامسة من الكلام على حقيقة الكذب ضمن مجموع برقم [4658] (الورقة 4 - 10)، وفيها أيضًا بيان معنى الظاهر وحقيقة الظهور وكيفية القرينة، وقد تكلم على هذه الموضوعات باختصار، وهي تناسب موضوعات الكتاب، فألحقناها به، وفي بعض الصفحات من هذه القطعة شطب كثير. وأخيرًا وجدنا ورقتين بخط المؤلف، تحدث فيهما عن بعض الموضوعات التي تناولها في القطعة الأولى، فألحقناها بآخر الكتاب.

وقد ذكر المؤلف في المقدمة سبب التأليف، فإنه لما نظر فيما وقع من الاختلاف في العقائد والأحكام، ورأى كثرة التأويل للنصوص الشرعية، تبيَّن له في كثير من ذلك أنه تكذيب لله ورسله، ثم رأى في كلام بعض الغلاة التصريح بنسبة الكذب إلى الله والرسل، والتلبيس على أكثر المسلمين بذلك، فجرَّه البحث إلى تحقيق معنى الكذب وبيان أحكامه، فألَّف هذه الرسالة. بدأها بذكر معنى "الخَبَر" لغةً واصطلاحًا، والفرق بينه وبين "الخُبْر". وأن الخَبر ما يحتمل الصدق والكذب لذاته. ثم حقَّق معنى "الصدق والكذب" وبيَّن الخلاف فيه بين جمهور أهل السنة والمعتزلة، ثم ذكر أن أهل البيان عند كلامهم في تعريف الصدق والكذب لم يتعرضوا للفرق بين الخبر الذي لا يحتمل إلا معنًى واحدًا، والخبر المحتمل لمعنيين فأكثر. ووجه ذلك أن المحتمل للمعنيين إن كان احتماله لهما على السواء بدون رجحان فذلك راجع إلى معنى واحد، وإن كان ظاهرًا راجحًا في أحد المعنيين فالمعنى الذي يجب أن يُحكم به هو الظاهر الراجح. ثم قد يُضمِر المخبر في نفسه المعنى الراجح وقد يُضمِر المرجوح، ولذا فلا بد للحكم عليه بالصدق أو الكذب من معرفة "إرادة المخبر وإضماره". وقد فصَّل المؤلف الكلام في هذا الموضوع، وأورد نصوص علماء الأصول والبلاغة وناقشهم. ثم تكلم على "القرينة" وذكر إجماع أهل العلم على أنه لا بدّ للمجاز من قرينة، وإذا لم تكن هناك قرينة فالكلام على حقيقته، وإن كان معناه الحقيقي مخالفًا للواقع فأهل السنة والجمهور يسمونه كذبًا، وغيرهم يشترط في تسميته كذبًا أن لا يكون المتكلم يعتقد أنه مطابق للواقع.

إلى هنا كان الكلام في المطلب الأول. والمطلب الثاني في محطّ المطابقة، ذكر فيه أن مدار الصدق والكذب إنما هو على الواقع في نفس الأمر من جهة، وعلى مدلول الخبر نفسه من جهة أخرى، فإن تطابقا فصدقٌ، وإلَّا فكذب. والمطلب الثالث في المجاز، ذكر فيه تعريفه أولاً، ثم الإجماع على أنه لا بدّ للمجاز من قرينة معتبرة، إلاَّ أن كثيرًا من الأصوليين يجعلون القرينة شرطًا لصحة الاستعمال بقصد الإفهام، وصحة الحمل في فهم الكلام. ثم تكلم عن موقف الظاهرية من المجاز، وأنهم يمنعون وقوعه في كلام الله ورسوله، وبيَّن وجهة نظرهم أن كل ذلك من الحقيقة. أما عند علماء البيان فإن الكلمة المستعملة في غير ما وُضِعت له تكون على أقسام، وهي: المجاز، والكناية، والارتجال، والغلط، واللغو. ذكر المؤلف أمثلتها وقال: إن هذا الأخير يصدق عليه تعريف الكذب. ثم تطرَّق إلى ذكر "الفرق بين الاستعارة والكذب" عند البلاغيين، ونقل أقوالهم، وحرَّر الكلام في هذا الموضوع. ثم انتقل إلى بيان "الفرق بين المجاز والكذب" واستعرض أقوال علماء البيان بهذا الشأن، وذكر الخلاف بينهم. إلى هنا انتهت القطعة الأولى من الكتاب. أما القطعة الثانية فتبدأ بذكر تمهيد في فضل الكلام والبيان، ثم تتطرق إلى المطالب الآتية: المطلب الأول: في تعريف الصدق والكذب. المطلب الثاني: فيمن يلحقه معرَّة الكذب. المطلب الثالث: في إرادة المتكلم.

المطلب الرابع: في القرينة. وفي آخره الكلام على نسبة الهداية والإضلال إلى الله تعالى، وبيان حقيقتهما في ضوء القرآن، ومن المستحق لأن يهديه الله وأن يكون القرآن له هدًى، ومن المستحق لأن يُضِلّه وأن يكون القرآن له عمًى. وهذه المطالب الأربعة كأنها تلخيص وتحرير لما كتبه في القطعة الأولى بأسلوب جديد. أما القطعة الثالثة فأولها ناقص، وفيها استطراد لبيان معنى عبادة الشيطان ورد شبهة المشركين في قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98]. وفي آخرها ذكر أن تأخير البيان إلى وقت الحاجة لا يُعدُّ كذبًا، وهو الضرب الأول من المجمل. والضرب الثاني منه التورية، وهو أيضًا ليس كذبًا، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد غزوةً ورَّى بغيرها. والكلام متصل بذكر معنى التورية وأمثلتها في القطعة الرابعة من الكتاب. ثم بقية المطالب إلى المطلب الحادي عشر، وقد شطب أحيانًا على الأرقام أو غيَّرها بأرقام أخرى، مما يدلُّ على أن المؤلف كان يزيد وينقص في ترتيب الموضوعات الرئيسة للكتاب واختيار عناوينها، والموجود منها في هذه القطعة ما يلي: 8 - ما يأتي الخلل في فهمه من تقصير المخاطب. 9 - المعاريض وكلمات إبراهيم عليه السلام. 10 - ما رُخِّص فيه مما يقول الناس: إنه كذب. 11 - ما ورد من التشديد في الكذب. (وقد وجدنا تتمته ضمن مسوَّدات المؤلف).

(4) رسالة في أصول الفقه

وقد فصَّل المؤلف في الكلام على هذه المطالب بما لا مزيد عليه، وذكر من الأمثلة والشواهد ما يقرِّرها ويوضِّحها، ومع ذلك قال في آخر بعض الفصول: "قد طال الكلام في هذا المطلب، ولم أبلغ منه كلَّ ما أريد، وأرجو أن أكون قد قاربتُ"! وقد ألحقنا بالكتاب قطعتين وجدناهما ضمن مسوَّدات المؤلف. الأولى بدأها بالكلام على "حقيقة الكذب"، ثم تطرَّق إلى تعريف "الظاهر" و"القرينة" و"المراد بالظهور" و"كيفية الاقتران". وقد سبق الكلام على هذه الموضوعات بتفصيل في أول الكتاب، وتكلم عليها المؤلف من جديد في هذه القطعة. والثانية في كلام علماء البيان عن الاستعارة والمجاز، وأنه لا بدَّ لهما من علاقة وقرينة، والفرق بين الاستعارة والدعوى الباطلة، وبين الاستعارة والكذب. وقد سبق نقل أقوال البلاغيين والتعقيب عليها في القسم الأول من الكتاب، وعاد إليه المؤلف من جديد وكتب ورقتين في هذا الموضوع، تركهما ضمن كتاب "فيض الفتاح على حواشي شرح تلخيص المفتاح" (للشربيني)، وقد عثرتُ عليهما عندما كنت أراجع النصوص المنقولة منه. هذا استعراض سريع لمباحث الكتاب، وفي أثنائها تحقيقات وأبحاث أخرى نثرها المؤلف، لا يجنيها إلاَّ من قرأ الكتاب بعناية واهتمام. (4) رسالة في أصول الفقه: يوجد أصلها في مكتبة الحرم المكي برقم [4678] بخط المؤلف في ستّ صفحات بقطع طويل، وعلى بعضها شطب كثير وزيادات وإلحاقات

في الهوامش. ألَّفها لمن كان يرغب من طلبة العلم في دراسته عليه، وسهَّل فيها المطالب، وأعرض عن كثير من الاصطلاحات والتدقيقات، واقتصر من المباحث الكلامية على ما لا بدَّ منه، وسلك فيها مسلك التحقيق. وقد ذكر في مقدمتها أن الكتب المؤلفة في هذا العلم على ضربين: الأول كتب الغزالي ومن بعده. والثاني بعض المختصرات لمن قبله كـ "اللمع" للشيرازي و"الورقات" للجويني. أما الأول فقد مُزِج بمباحث كثيرة من علم الكلام والمنطق، وأما الثاني فإنه بغاية الاختصار، ولا يخلو مع ذلك عن تعقيد. ونظرًا لحاجة طلاب العلم ألَّف هذه الرسالة بأسلوب سهل مبسط ليفهمها الجميع، إلاَّ أنه لم يتمكن من إكمالها، فالموجود منها يحتوي على مقدمة وفصلين فقط، وتشتمل المقدمة على خمسة مباحث: الأول: أن العلم في أصل الوضع العربي هو المعرفة القطعية. وذكر في أثنائه أنه ينقسم قسمين: الأول ما لا يقبل تشكيكًا البتة. والثاني ما يقبل التشكيك في الجملة. وأشار أيضًا إلى أن العلم قد يطلق على ما يعمُّ الظن، فيشتبه الظن بالعلم، وأن حكم الذهن الجازمَ يسمَّى "اعتقادًا"، وقد يكون عن علم وقد يكون عن ظنًّ غالب. وكثيرًا ما يطلق الظنّ على الخرص والتخمين، وهو ما يُبنى فيه الحكم على أمارة ضعيفة. وكثيرًا ما يطلق العلم ويُراد به الظن. الثاني: في شرح كلمة "الأصول" في اللغة. الثالث: في شرح كلمة "الفقه" في اللغة والاصطلاح.

(5) رسالة في التعصب المذهبي

الرابع: في معنى "أصول الفقه". الخامس: في تعريف "علم أصول الفقه". أما الفصل الأول فقد بيَّن فيه أن أصول الفقه لا بدَّ أن تكون قطعية، وذكر اعتراض بعض العلماء على ذلك وجوابه، ثم ما يرِد على ذلك ومناقشته. والفصل الثاني في الأحكام، ذكر فيه معنى الحكم أولاً، ثم قسَّمه قسمين: الأول: الحكم التكليفي، وهو خمسة (الوجوب، والندب، والإباحة، والكراهية، والتحريم). والثاني: الحكم الوضعي. والموجود من هذه الرسالة ينتهي بالكلام على المسائل المتعلقة بالحكم التكليفي. ولم نجد في مسوّدات المؤلف بقية المباحث، فلا ندري هل كتبها ولم تصل إلينا، أو لم ينشط لكتابتها بسبب انشغاله بأعمال أخرى. ولو كملت لكانت رسالة محرَّرة في الأصول تناسب المبتدئين والمتوسطين. ومن تواضع المؤلف أنه ينصح طلبة العلم في مقدمتها أن لا يعدُّوه عالمًا، بل يعتبروه واحدًا من جملتهم، يذاكرهم على حسب وسعه. ولا يعتمدوا على قوله ما لم يجدوه موافقًا لقولِ أحدٍ من أئمة العلم ومطابقًا للدليل وقويًّا في النظر. وهذا منه غاية التواضع والإنصاف، وعدم التبجُّح برأيه والاعتداد بنفسه. فرحمه الله رحمة واسعة. (5) رسالة في التعصب المذهبي: توجد أربع صفحات في مكتبة الحرم المكي برقم [4786] ضمن دفتر يحتوي على أشياء مختلفة، وهي في الكلام على نشأة التعصب المذهبي عند أتباع الأئمة وكيفية معالجته. بدأها بذكر أن الدين شرع الله تعالى،

نماذج من النُّسخ الخطية

فرض اتباع السنة

خبر الواحد

خبر الواحد

إرشاد العامه

إرشاد العامه

رسالة في أصول الفقه

رسالة في أصول الفقه

رسالة في أصول الفقه

التعصب المذهبي

التعصب المذهبي

النص المحقق

آثَار الشّيخ العَلّامَة عبَد الرّحمن بن يحيى المعَلِّمِيّ (19) مجموع رسائل أصول الفقه تأليف الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني 1312 هـ - 1386هـ تحقيق محمد عزير شمس وفق المنهج المعتمد من الشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد (رحمه الله تعالى) تمويل مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

الرسالة الأولى رسالة في فرضية اتباع السنة والكلام على تقسيم الأخبار وحجية أخبار الآحاد

الرسالة الأولى رسالة في فرضية اتباع السنة والكلام على تقسيم الأخبار وحجية أخبار الآحاد

فرض اتباع السنة

[ص 21] بسم الله الرحمن الرحيم فرض اتِّباع السُّنَّة اعلم أنه لم يكن بين المسلمين اختلاف في فرض اتباع ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل ذلك من الأمور المعلومة بالضرورة من دين الإِسلام. ولكن جاء في أخبار الفتن أنه سيكون قوم يقولون: "إن كان أولنا ضُلَّالاً، ما بالُ خمس صلوات في اليوم والليلة؟ إنما هما صلاتان: الفجر (¬1) والعصر". "المستدرك" (4/ 419) (¬2). كأنهم يريدون قول الله عزَّ وجلَّ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 39]. وجاء عن المقدام بن معد يكربَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "يوشِكُ أن يقعد الرجل منكم على أريكته، يُحدَّث بحديثي فيقول: بيني وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه حلالاً استحللناه، وما وجدنا فيه حرامًا حرَّمناه. وإنَّ ما حرَّم رسول الله كما حرَّم الله". أخرجه الحاكم في "المستدرك" (1/ 109) وغيره (¬3). ¬

_ (¬1) في الأصل: "الظهر" سبق قلم. (¬2) موقوفًا على حذيفة بن اليمان. وأخرجه أيضًا أبو عبيد في "الإيمان" (ص 81) وابن أبي شيبة في "الإيمان" (ص 20) وعبد الله بن أحمد في "السنة" (1/ 323) والآجري في "الشريعة" (298، 299). (¬3) وأخرجه أيضًا أحمد في "مسنده" (17194) والترمذي (2664) وابن ماجه (12) والدارقطني (4/ 286، 287) وغيرهم. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.

وجاء نحوه من حديث أبي رافع، وجابر، والعرباض بن سارية، وابن عباس، ذكرها الخطيب في "الكفاية" (¬1). ونشأ في الهند أخيرًا فرقة ينحُون هذا المنحى، يسمُّون أنفسهم "أهل القرآن" (¬2). والقرآن نفسه ينادي بإيجاب طاعة النبي - صلى الله عليه وسلم -، واتباعه، والتسليم لحكمه، ويقول: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]، {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران: 31] {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} (¬3) [النساء: 105] , {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]. ¬

_ (¬1) (ص 9 - 11). وحديث أبي رافع أخرجه الشافعي في "الرسالة" (1106) والحميدي في "مسنده" (551) وأحمد (23876) وأبو داود (4605) والحاكم في "المستدرك" (1/ 108) وغيرهم، وإسناده صحيح. وحديث جابر أخرجه أبو يعلى في "مسنده" (1813) وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (2340) والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1/ 90)، وإسناده ضعيف. وحديث العرباض بن سارية أخرجه أبو داود (3050) والطبراني في "الكبير" (18/ 258) و"الأوسط" (7226) والبيهقي في "السنن الكبرى" (9/ 204)، وإسناده ضعيف. أما حديث ابن عباس فلم أجده إلاّ مرويًّا في "الكفاية". وإسناده ضعيف. (¬2) ينظر لتاريخهم ومناقشة آرائهم "القرآنيون" لخادم حسين. (¬3) كتب الشيخ "فاحكم بينهم بما أراك الله" سهوًا. وفي سورة المائدة: 48. {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ}.

وبأنه سبحانه آتى محمدًا - صلى الله عليه وسلم - الكتاب والحكمة، وأنه أنزل عليه الكتاب ليبينه للناس. وقال سبحانه: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 17 - 19]. ويقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [الأحزاب: 21]. وقال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء: 150، 151]. والتفريق بين الكتاب والسنة تفريق بين الله ورسله، ومن ردَّ السنة التي جاء بها الرسول يوشك أن يردَّ الكتاب؛ لأنه إنما جاء به الرسول أيضًا. ولكن شياطين الجن والإنس من سنتهم أن يستدرجوا ضعفاء العقول شيئًا فشيئًا. بل لن يردَّها أحدٌ إلا وقد ردَّ الآيات الموجبة لطاعة الرسول واتباعه، وردُّ بعض القرآن كردِّه كله. هذا، والقول بردَّ السنة البتة كفر صريح منافٍ لشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. وليس موضوع هذه الرسالة الرد على من كان هذا حالَه، ولكني أنبه على أمور تصلح أن يتشبَّث بها من يميل إلى تلك الضلالة، أو يشكَّك بها العامة. وأسأل الله تعالى التوفيق.

[ص 22] الشبهة الأولى: قال الله عزَّ وجلَّ: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89]. وقال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [خاتمة يوسف]. وقال تعالى: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 154]. وقال عَزَّ وَجَلَّ في شأن موسى: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [الأعراف: 145]. وقد قال سبحانه: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48]. وإذا كانت التوراة فيها تفصيل كل شيء، مع أنها إنما أُنزِلت لدعوة أمة صغيرة، وإلى أجل محدود؛ فكيف لا يكون القرآن كذلك، وهو مهيمن على التوراة، ومنزَّل لدعوة الأمم كلها، ومُعَدٌّ لهدايتها إلى يوم القيامة؟ [ص 23] الشبهة الثانية: أنه قد يستبعد أن يقصَّ الله عَزَّ وَجَلَّ في كتابه من أخبار الأمم السالفة، ويكرر القصة الواحدة منها في عدة سور، وينصّ على فروع من الأحكام التي يبدو للناظر أنها ليست بعظيمة الأهمية، كالأمر بكتابة الدين، ومع ذلك لا يذكر فيه الأمور العظيمة، كعدة ركعات الصلاة وأركانها، وصفة الحج، وغير ذلك.

والجواب: أن الحجة قائمة على فرضية اتباع السنة، وأن فيها ما ليس في القرآن، وإذا ثبت وقوع ما يستبعد الإنسان وقوعه لم يبق موضع للاستبعاد، وإنما هو بعد ذلك أحد رجلين: إما مرتابٌ يعدّ جهلَه بالحكمة دليلاً على عدمها، ثم يطعن في الدين من أصله. وإما مؤمن يعلم أنه لا نسبة لعقله وفهمه وعلمه ومعرفته إلى علم رب العالمين وحكمة أحكم الحاكمين، فإما أن لا يُتعِب نفسه في البحث عن الحكمة؛ لعلمه بأنه لا بدّ من حكمة بالغة، ولا يضره جهلها، والأولى به أن يصرف أوقاته فيما كلِّف به من الطاعات. وإما أن يتضرع إلى الله عزَّ وجلَّ أن يُفهِّمه، ويتدبر ويتفكر لعله يعرفها، فإن عرفها حمِدَ الله عَزَّ وَجَلَّ على ذلك، وإلا لم يَرتَبْ ولم يتزلزل يقينه بأنه لا بد من حكمة بالغة. فأما المؤمن أو من يدعي الإيمان فهذا يكفيه، ولستُ بصدد التفحص عن الحكم، وأما المرتاب فحقه أن تقام عليه الحجج على أصل الإِسلام، ولا يُتشاغل معه بالنظر في الجزئيات؛ لوجوه: الأول: أنها كثيرة، فإذا أثبتَّ له الحكمة في شيء أورد عليك غيره، وهكذا. الثاني: أن أحدنا لا يحيط بحِكَم الله عزَّ وجلَّ، فلا بد أن يقف عند بعضها. الثالث: أن من قبِلَ حجج الإِسلام واطمأن بها حصل له الجواب عن تلك الأمور كما قدمنا، ومن لم يقبلها ولم يطمئن بها فلا يرجى أن ينتفع بما

دونها من إثبات الحكمة في بعض الجزئيات. {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الرعد: 33]. واعلم أن هذا الاشتباه ناشئ عن الجهل بحكمة الله عَزَّ وَجَلَّ في الخلق والتكليف، وقد بحثتُ عنها في موضع آخر، وأكتفي هنا بالإشارة إليه، فأقول مستعينًا بالله عزَّ وجلَّ: إن كمال جوده سبحانه اقتضى أن يجود بالكمال إلى الحد الممكن، فخلق الجن والإنس صالحين لاكتساب الكمال. وأقرب كمالٍ يُعدُّ كمالاً للمخلوق هو ما كان باكتسابه باختياره، مع عناء ومشقة. فجعل الله سبحانه خلقه وأمره على الحال الموافقة لذلك. ثم أمرهم سبحانه بكل ما هو كمال لهم، ونهاهم عن كل ما ينافي الكمال. وامتثال أمره ونهيه هو طاعته، وطاعته هي عبادته، فعبادته هي الكمال الذي خلقوا له. قال الله تبارك وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. ولم يجعل الله سبحانه حجج الحق بغاية الظهور؛ لأنها لو كانت كذلك لكانت معرفتها سهلة، ولكان الخلق كالمجبورين على قبولها، ألا ترى أن ألدَّ الخصوم إذا اتفق أن تقام عليه حجة بغاية الظهور لم يسعه إلا التسليم. ومثل هذا التسليم لا يُعدُّ فضيلة. وكذلك معرفة ما لا صعوبة في معرفته البتة. والمطلوب من الخلق أن يعرفوا الحق معرفةً تكون كمالاً لهم. فمن الحجج ما هو في نفسه على الحال الموصوفة من عدم سهولة معرفته، وعدم كونه بغاية الظهور. ومنها ما ليس في نفسه كذلك، ولكن الله تبارك وتعالى قدر معه شبهات

يصير معها على تلك الحال، [ص 24] فإن الشبهة تُرِيب في ما هو في نفسه بغاية الظهور القطعي. واعتبرْ ذلك بأن تأخذ تفاحة وتنظر إليها وتمسَّها وتشمَّها وتذوقَها، ثم تفكّر هل عندك أدنى أدنى شبهة في كونها تفاحة على الحقيقة، ثم فكِّرْ هل هذا العلم القاطع خاص بك أم بكل من يعرف التفاح ويختبر التفاحة كاختبارك أو دونه؟ ثم ادعُ بدويًّا وناوِلْه التفاحة، وقيل له: تأملْ فيها، ثم تقول: مسَّها، ثم تقول: شمَّها، ثم تقول: ذُقْها، ثم سله: هل يرتاب في أنها تفاحة؟ فيوشك أن تراه قد عرض له بعض الارتياب. فدَعْه مدة ثم قل له: إن في محل كذا رجلاً ساحرًا ربما أخذ الحصاة، ثم يناولها الحاضرين فيرون أنها خاتم من ذهب، وربما أخذ البعرة أو ما هو أخبث منها، ثم يناولها الحاضرين فيرونها قطعة سكَّر أو شيئًا من الفاكهة. ثم اذهبْ بذلك البدوي إلى رجل تُوهِمه أنه ذلك الساحر، وقد تواطأتَ معه أن يناولكم تفاحًا! فماذا ترى حال البدوي إذا ناوله ذلك الرجل تفاحة؟ ألا تراه يُحجِم عن تناولها، وإن تناولها وجدته متقذرًا لها، فإذا أُمر بشمَّها لم يكد يدنيها من أنفه، وإن أُمر بذوقها أنكر ذلك ولم يطقه! ولهذا كان علماء السلف يتباعدون عن سماع الشبهات، وينهون الناس عن مجالسة أهلها، أو سماع كلامهم. وإنما ذلك لأنهم عرفوا أنهم وعامة المسلمين قد حصل لهم اليقين الكامل بصحة الدين وأصوله، ولا يرجى من سماع الشبهات فائدة ما، بل يُخشى منها أن تُزلزِل ذلك اليقين.

والمقصود أن الله تبارك وتعالى جعل الشبهات لِتَعرِض لمن شاء من عباده، فمنهم من تَعرِض له فيُعرِض عنها ثقةً بما عنده من الحجة، فيكون هذا كمالاً له. ومنهم من تعرض له قبل معرفة الحجة، فيبذل وسعه في النظر حتى يرزقه الله معرفة الحجة، ويكون ذلك كمالاً له. ومنهم من تعرض له وقد عرف الحجة، ويحس من نفسه قوة على حل الشبهة، فيسعى في ذلك نصيحة لخلق الله عزَّ وجلَّ، فيكون ذلك كمالاً له. ومنهم من يكون له هوى في خلاف الحجة، فإذا بغتَتْه الحجة كرهها، فعرضت له الشبهة فاستراح إليها، فبقي على الحال التي تليق به، إذ لولا الشبهة لربما قهرته الحجة فيقبلها مكرهًا, وليس ذلك بكمال. ومنهم من لا يكون له رغبة في الكمال، ولكنه يأنف من الاعتراف بالجهل، فحاول النظر فعرضت له شبهة، فقنعَ بها، ولم يُتعِب نفسه في طلب الحق. ومنهم من يكون قد عرف الحق ولكنه لا يريد الخضوع له، ويأنف من أن يقال: إنه يردُّ الحق مع علمه به، فتعرِض له الشبهة فيتمسك بها ويدعي أنها الحق. إلى غير ذلك من حِكَم الله عزَّ وجلَّ، وقد يجمعها أو غالبها اسم "الابتلاء". وقال الله تبارك وتعالى: {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}

[الملك: 2]. وقال عزَّ وجلَّ: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً} [الحج: 53]، وقال سبحانه: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35]. وراجع آيات الفتنة والابتلاء في القرآن، فإنها كثيرة. وقال الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة: 26]. فهذا حال هذه الشبهة ونظائرها. [ص 25] الشبهة الثالثة: أن يقال: إذا كانت السنة مفروضًا اتباعُها كالقرآن فلماذا لم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بكتابتها؟ بل نقل عنه النهي عن ذلك. ولماذا لم يعتنِ الخلفاء بجمعها؟ بل جاء عنهم ما يخالف ذلك. أقول: أما نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن الكتابة فإنما ورد بذلك حديث واحد أخرجه مسلم (¬1)، وأعله البخاري وغيره فقالوا: الصحيح أنه من قول أبي سعيد الخدري (¬2). وقد جاءت في الإذن أحاديث، وأكثر الصحابة لم يكونوا يرون بها بأسًا. ¬

_ (¬1) برقم (3004) من حديث أبي سعيد الخدري. (¬2) انظر "فتح الباري" (1/ 208) و"تقييد العلم" للخطيب (ص 32).

فأما ما روي عن عمر (¬1): فاستشار الصحابة فأشاروا عليه بكتابة السنن، فطفق يستخير الله تعالى شهرًا، ثم عزم أن لا يفعل، وقال: "إني ذكرت قومًا كانوا قبلكم كتبوا كتبًا فأكبُّوا عليها، وتركوا كتاب الله، وإني والله لا أَلبِس كتابَ الله بشيء أبدًا". ففي هذا الأمر اتفاقهم على أنها حجة، ثم اتفقوا على الكتابة، إلا أن عمر خشي مفسدة أن تؤدي كتابتها إلى إعراض الناس عن القرآن. وليس في هذا ما يخدش في معرفته بأنها حجة، ولا سيما مع ما تواتر عنه من التدين بها والحكم بها. والذي أرى أن الله عَزَّ وَجَلَّ إنما خار له عدم الكتابة, لأنه إن كتب كان الغالب أن لا يستوعب؛ لكثرة السنة، ولغيبة كثير ممن سمع كثيرًا منها، ولنسيان كثير منهم لبعض ما سمعه أو شاهده، فلعل أحدهم إنما كان يذكر عند حدوث واقعة تشبه الواقعة في عهده - صلى الله عليه وسلم -، ونحو ذلك. ولعله أن يظهر لهم من بعض الأقوال أو الأفعال أنه لا حكم فيه، فلا يكتبونه، وقد أعدَّه الله عَزَّ وَجَلَّ لمن يفهمه ممن بعدهم إذا دعت الحاجة إليه، كما يشير إليه حديث: "فربَّ مبلَّغٍ أوعى من سامع" (¬2). فالحاصل أن عمر لو كتب لم يستوعب، ولكان ذلك ذريعة إلى رد كثير ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق في "المصنّف" (11/ 257 - 258) ومن طريقه الخطيب في "تقييد العلم" (49) وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (343). ورواه الخطيب من غير وجه. (¬2) أخرجه البخاري (1741) ومسلم (1679) من حديث أبي بكرة ضمن خطبته - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر.

من السنن, بأن يقول من يأتي بعدُ: لا أقبل من السنة إلا ما في كتاب عمر، ولو كانت هذه السنة صحيحة لما ترك عمر كتابتها، وأشباه ذلك. فأما عدم أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بكتابتها فلأمور: منها: خشية التباسها بالقرآن. ومنها: أنه لا يتيسر الاستيعاب, لأن جميع حركاته - صلى الله عليه وسلم - وسكناته من السنة. ولو كُتِب مع [عدم] الاستيعاب كان ذلك ذريعة إلى ردِّ ما لم يكتب، كما مرّ. ومنها: كراهية أن يتقاعد الناس عن طلب السنة وتلقِّيها من أهلها، فيكتفي كل واحد بكتاب ينسخ له فيضعه في بيته، وهو جاهل لأكثر ما فيه. وفي ترك الكتابة مصلحة عظيمة، بأن يحتاج المسلم إلى الطلب والسماع والحفظ، وبذلك لا ينال العلم إلا مَن هو مِن أهله. ولهذا لما أطبق الناس على الكتابة اشترط العلماء للرواية أن يكون الرجل قد سمع، واشترط بعضهم الحفظ، ومن لم يشترطه فقد نوَّه بفضل الحفظ وعلو درجته. ووراء هذا كله ما تقدم من حكمة الخلق والتكليف، فتدبر. وحِكَم أخرى يطول بيانها، وقد شرحتُ بعضها في موضع آخر. الشبهة الرابعة: ما جاء عن ابن عباس: "لما اشتدَّ بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وجعه قال: ائتوني بكتابٍ أكتبْ لكم كتابًا لا تضلّوا بعده. قال عمر: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - غلبه الوجع، وعندنا كتاب الله حسْبُنا، فاختلفوا وكثر اللغطُ، قال: قوموا عني ... " (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (114) ومسلم (1637).

يقال: فهذا عمر يقول: "عندنا كتاب الله حسبنا"، ثم يقرُّه النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ إذ لم ينقل أنه - صلى الله عليه وسلم - أنكر عليه هذه الكلمة. أقول: يقع لي أن عمر كان يستحضر حينئذٍ قول الله عزَّ وجلَّ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]، فرأى أن الدين قد كمل، فلم يبق موضع للزيادة فيه. غاية الأمر أن يريد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يذكَّرهم ببعض ما قد علموه، أو يؤكَّد عليهم أمره، أو نحو ذلك. فكأنه يقول: إن كان بقي شيء من أمر الدين لم يعلَّمناه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا بد أن يكون في القرآن؛ بدليل أن الدين قد كمل، فلماذا نَشُقُّ على النبي - صلى الله عليه وسلم - في شدة وجعه؟ وهذا رأي رآه، وقد كان مأذونًا لهم إذا أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمر أن يراجعوا، فإذا أعاد عليهم الأمر كان لهم أن يراجعوه الثانية، فإذا أمرهم الثالثةَ تعين الامتثال، كما صرح به جابر في حديثه. "مسند أحمد" () (¬1). والمراجعة ثابتة في أحاديث كثيرة: منها مما وقع لعمر نفسه: مراجعته النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة على عبد الله بن أُبي (¬2). ¬

_ (¬1) ترك المؤلف بياضًا بين القوسين، وتصريح جابر بجواز مراجعة النبي - صلى الله عليه وسلم - مرتين ورد ضمن إحدى روايات قصة أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - له ببيع جمله في "المسند" (3/ 358 - 359) من الطبعة القديمة، وبرقم (14864) ط. مؤسسة الرسالة. وأصله في "صحيح مسلم" (3/ 1222 برقم 715). (¬2) أخرجه البخاري (1269، 4670، 4672، 5796) ومسلم (2400، 2774) من حديث ابن عمر.

ومراجعته له لما أمر أبا هريرة أن يبشر الناس (¬1). [ص 26] وغير ذلك. ومع هذا فقد كان عمر يعتقد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يموت من وجعِه ذلك، كما صرح بذلك بعد موته - صلى الله عليه وسلم -. وبالجملة، فقد تواتر عن عمر امتثالُه سنةَ النبي - صلى الله عليه وسلم - وتديُّنه بها في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعدها، فلا بد من حمل كلمته تلك على ما لا يخالف ذلك. يُعيِّن ذلك أن فرض اتباع السنة متواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فلو فهموا من كلمة عمر ما يخالف ذلك لاشتد نكيرهم عليه، ولو كان لهذا الحديث أهمية عظيمة كما يتوهمه كثير من الناس لكثر ناقلوه من الصحابة الذين حضروا القصة، ولم ينفرد بنقله أصغرهم سنًّا يومئذ، وهو ابن عباس. وليس مقصودي من هذا توهين رواية ابن عباس كما مال إليه بعض المتأخرين، وإنما مقصودي أن غيره من أكابر الصحابة لم يروا لذلك أهمية فسكتوا عنه. وقد كان ابن عباس يُجِلُّ عمر ويُبجِّلُه في حياته وبعد مماته، وشهادته له بعد أن أصيب مشهورة (¬2)، وكذلك قوله بعد موت عمر بمدة: "حدثني أناس مرضيُّون وأرضاهم عندي عمر" (¬3) إلى غير ذلك. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَضِلُّوا بعده"، أراد - والله أعلم - إذا عملتم بما فيه؛ إذ ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (31) من حديث أبي هريرة ضمن قصته. (¬2) فقد قال لعمر: "أبشِرْ بالجنة، صاحبتَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فأطلتَ صحبتَه، ووليتَ أمر المؤمنين فقويتَ وأديتَ الأمانة". أخرجه أحمد في "المسند" (322) وابن سعد في "الطبقات" (3/ 353)، وإسناده صحيح. (¬3) أخرجه البخاري (581).

قد علم - صلى الله عليه وسلم - وأخبر بأن أناسًا وفرقًا من أمته سيضلون. والأخبار بذلك كثيرة متواترة في المعنى. وإذ كان الأمر كذلك فهذا المعنى - أعني عدم الضلال بشرط العمل بما فيه - ثابت للقرآن بلا ريب. وبقيتْ أشياء تتعلق بالحديث ليس هذا موضعها. وقد قدَّر الله سبحانه وتعالى أن تكون تلك القضية من جملة الشبه التي يُضِلّ بها سبحانه من يشاء من عباده، كما تقدم. ومما يذكر هنا ما جاء عن عمر أنه بعث قومًا إلى الكوفة فأوصاهم، قال (¬1): [إنكم تأتون الكوفة، فتأتون قومًا لهم أزيزٌ بالقرآن، فيقولون: قدم أصحاب محمَّد، قدم أصحاب محمَّد، فيأتونكم فيسألونكم عن الحديث، فأقِلُّوا الروايةَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا شريككم فيه]. وليس في هذا إلا الإقلال من الرواية عندما يخاف أن يُعرض الناس عن القرآن، ويشتغلوا بها. وهذا حق؛ لأن تعلُّم كتاب الله تعالى أهم وأقدم، وليس في ذلك منعٌ من ذكرِ الحديث عندما يحتاج إليه، أو تحديثِ من قد حفظ كتاب الله وتعلَّمه. فأما ما جاء عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أن عمر قال لابن مسعود، ولأبي الدرداء، ولأبي ذر: "ما هذا الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟، وأحسبه حبسهم بالمدينة حتى أصيب" ("المستدرك" 1/ 110) = فإنما أنكر عليهم الإكثار، فإن الإكثار مظنة الزلل، ومظنة أن يَشْغَل عن تعلم القرآن، كما مرّ. ¬

_ (¬1) ترك المؤلف بعده فراغًا، والنصّ من "سنن الدارمي" (286).

وقوله: "وأحسبه حبسهم بالمدينة" حُسبانٌ فقط، قد يصح وقد لا يصح، ثم المراد بالحبس بالمدينة إبقاؤهم فيها ومنعهم من الخروج منها، لا السجن كما قد يُتوهَّم. مع أن في منعهم من الخروج من المدينة نظرًا، فقد بعث عمر ابن مسعود إلى الكوفة، وأقام بها مدة. وليراجع التاريخ وتراجم هؤلاء. وقد كان عمر نفسه يحدِّث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحديثه في كتب الحديث كثير. ****

تقسيم الأخبار

[ص 27] تقسيم الأخبار قسم بعض الأصوليين (¬1) الأخبار إلى مقطوع بكذبه، ومقطوع بصدقه، وغيرهما. فذكروا من المقطوع بكذبه ما قام البرهان القاطع على خلافه. أقول: الشأن كل الشأن في البرهان القاطع، فإذا صح فالحديث المخالف له لا يخلو عن وجهين: الأول: أن يكون في إسناده خلل. الثاني: أن يكون وقع تغيير في متنه بزيادة أو نقص، أو تقديم أو تأخير، أو تبديل لفظ بآخر، أو نحو ذلك مما يغير المعنى. ولن تجد إن شاء الله تعالى برهانًا قاطعًا يقينيًّا (¬2) مخالفًا لحديث إلا وجدت - إن كنت من أهل الحديث والفهم - ما يدلك على أحد الوجهين المذكورين. قال بعضهم: ومن المقطوع بكذبه ما نُقِّب عنه فلم يوجد عند أهله. وردَّه بعضهم. وأقول: له وجه إذا كان يتضمن حكمًا شرعيًّا لم يثبت بغيره، فإن الله تبارك وتعالى متكفل بحفظ الشريعة؛ لأن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - خاتم الأنبياء، ¬

_ (¬1) انظر: "المستصفى" (1/ 140 وما بعدها) و"إرشاد الفحول" (ص 40، 41) ط. المنيرية 1347 هـ. (¬2) في الأصل: "يقينًا".

وشريعته خاتمة الشرائع، فلا يجوز أن يذهب حكم من أحكامها بحيث لا يبقى في ما حفظ منها حجة عليه. والحق أنه إذا وجد خبر منسوب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يخلو عن واحد من أربعة أوجه: الأول: أن يكون هو - أو حجةٌ توافق معناه - موجودًا في المحفوظ من الشريعة بنقل تقوم به الحجة. الثاني: أن يكون كان شيء فنُسِخ. الثالث: أن يكون وقع في متنه تغيير، كما تقدم. الرابع: أن يكون كذبًا، عمدًا أو خطأً. فإذا قامت الحجة على نفي الثلاثة الأولى تعين الكذب. والله أعلم. قالوا: ومنه المنقول آحادًا، والعادة قاضية بأنه لو صح لنُقِل بالتواتر، لتوفر الدواعي على نقله. وأقول: ينبغي التثبت في هذا، فقد تقع القضية ولا يحضرها إلا الواحد أو الاثنان، وقد يحضر جماعة ولا ينتبه لها منهم إلا الواحد أو الاثنان، وقد يشاهدونها ولا يرون لها أهمية فلا ينقلونها. ومثال هذا: اليوم الذي توفي فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فالخلاف فيه بين المتأخرين كثير، ولا يكاد يصح فيه شيء. وقد يشاهدونها ويرون لها أهمية، ولكن لا يرون لنقلها أهمية، إما لاعتقادهم [أنها] قد نُقِلت نقلاً كافيًا في بيانها، وليس هناك من ينكرها، كما في انشقاق القمر؛ لأنهم يرونه - مع الشهرة بينهم - مذكورًا في القرآن، ولم يبق من العرب من يرتاب في القرآن. وإما لاعتقادهم أنها أمر معلوم

مكشوف لا يحتاج إلى أن يُذكر، ومن هذا - والله أعلم - معنى "الإله" و"العبادة"، فقد كان واضحًا عند المشركين فضلًا عن المسلمين، ثم صار بعد القرون الأولى مشتبهًا، كما أوضحته في رسالة "العبادة". وقد يخلو عن هذه كلها، ولكن يتواطؤون على الكتمان. نعم، هذه الأمور كلها لا تحتمل فيما مثَّلوا به، وهي دعوى بعض الشيعة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع أصحابه وبيَّن لهم بيانًا قاطعًا أن عليًّا رضي الله عنه ولي عهده، وولي أمرهم من بعده. ولكن قد يحتمل بعضها في غير هذا المثال. وقد أشار الحازمي في "الاعتبار" (¬1) إلى ذلك في بحث الجهر بالبسملة، وإن كان فيه نظر. وقد ثبت أن الأئمة في عهد عثمان تجوَّزوا في الجهر بتكبيرات الصلاة، ومضى على ذلك زمان حتى جهله كثير من الناس، فصلى عكرمة خلف أبي هريرة، فجهر أبو هريرة بالتكبيرات، فذهب عكرمة إلى مولاه ابن عباس فقال: صليت خلف شيخ أحمق، فكبر ... ، فقال ابن عباس: ثكلتك أمك، تلك سنة أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وصلى علي رضي الله عنه بالكوفة، فجهر بالتكبيرات، فقال عمران بن حصين: قد ذكَّرني هذا صلاةَ محمَّد - صلى الله عليه وسلم - (¬3). ¬

_ (¬1) (ص 58). (¬2) أخرجه البخاري (788). (¬3) أخرجه البخاري (784، 786) ومسلم (393) من حديث مطرف بن عبد الله. وفي الرواية الأولى للبخاري أنه صلاها بالبصرة. وفي "المسند" (19840، 19860) بالكوفة.

وقال أبو موسى: ذكَّرنا عليٌّ صلاةً كنا نصليها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إما نسيناها وإما تركناها عمدًا (¬1). وجاء عن عمران ما حاصلُه أن عثمان رضي الله عنه لما كبر وضعف صوته لم يكونوا يسمعون تكبيره، فاتخذ أمراؤه أو بعضُهم ذلك سنة بجهلهم (¬2). والمقصود هنا أنه ينبغي التثبت في رد الأحاديث بما ذُكِر، فلا يُقدَم على ذلك مع قيام الاحتمال. والله الموفق. [ص 28] وأما المقطوع بصدقه فذكروا منه أمورًا: الأول: خبر الرب عزَّ وجلَّ، وخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -. وذلك واضح، ولكن خبر النبي - صلى الله عليه وسلم - قد يكون عن ظنِّه نصًّا، كقوله: أظن كذا، ولعل كذا. أو بدلالة القرائن. وقد وقع هذا في الأمور الدنيوية، فأما الدينية، فمن قال من أهل العلم: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قد يقول في الدين باجتهاده، فإنه يقول بوقوع هذا. أقول: وسواء كان خبره عن أنه يظن في أمر ديني أو دنيوي، فهو مقطوع بصدقه فيما أخبر عنه، وهو الظن. أعني أنه أخبر أنه يظن، فالمقطوع به هو كونه يظن، فأما الأمر الذي ظنه فقد لا يكون واقعًا، وليس ذلك من الكذب، وإنما فيه خطأ الظن. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "المسند" (19494) والطحاوي في "معاني الآثار" (1/ 221). وصحَّح الحافظ إسناده في "الفتح" (2/ 270). (¬2) أخرجه أحمد (19881) وابن خزيمة (581). وهو حديث صحيح.

وقد أخبر الله عَزَّ وَجَلَّ عن آدم أنه ظنّ صِدقَ إبليس لما قاسمه بالله، وكذلك ظن يعقوب صدق بنيه في قولهم: {وَنَحْفَظُ أَخَانَا} [يوسف: 65]، وكذَّبهم في خبرهم عما جرى لهم من أخذِ أخيهم بتهمة السرقة، فقال: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا} [يوسف: 83]، وظن موسى أن أخاه قصَّر، فأخذ برأسه يجرُّه إليه، في نظائر لذلك. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - ربما سها في الصلاة وهو يظن أنه لم يَسْهُ، فصلى مرة خمسًا (¬1)، ومعنى ذلك أنه عند قيامه للخامسة كان يظن أنها الرابعة. وسلَّم مرة من ركعتين في رباعية الحضر، ومعنى ذلك أنه ظن أن قد أتمَّ أربعًا، فأما قوله لما سُئل أقُصِرَت الصلاة أم سهوتَ يا رسول الله؟: "كل ذلك لم يكن" (¬2)؛ فهو يتضمن خبرين: أحدهما عن أمر ديني، وهو صدقٌ قطعًا، وهو كون الصلاة لم تُقصَر. والثاني عن أمر دنيوي، وهو كونه لم ينْسَ. ومراده بالنظر إلى هذا أنه يظن أنه لم ينس، بمعونة القرينة، وهي أن هناك جمعًا كثيرًا يغلب عليهم التيقظ لأعمال الصلاة، فإن كان قد نسي فإنهم يعلمون أنه إنما نفى النسيان بالنظر إلى ظنه، فيرجع ذلك إلى الخبر بأنه يظن أنه لم ينس. ومن ذلك: خبر تأبير النخل، وهو في "صحيح مسلم" من حديث طلحة (¬3)، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1226) ومسلم (572) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. (¬2) أخرجه مسلم (573) من حديث أبي هريرة بهذا اللفظ. وعند البخاري (842 ومواضع أخرى): "لم أنسَ ولم تُقْصَر". (¬3) رقم (2361).

ومن حديث رافع بن خديج (¬1)، ومن رواية حماد بن سلمة بوجهين (¬2): حماد عن هشام عن أبيه عن عائشة، وحماد عن ثابت عن أنس. ورواية طلحة صريحة في أنه شهد القصة، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يجزم، وإنما قال: "ما أظنُّ يُغنِي ذلك شيئًا"، ثم قال لهم بعدُ: "إنما ظننتُ ظنًّا، فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدَّثتكم عن الله شيئًا فخذوا به، فإني لن أكذب على الله". وفي رواية رافع: قال: "لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرًا"، ثم قال أخيرًا: "إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر". قال الراوي: أو نحو هذا. فما وقع في رواية حماد من الوجهين الأخيرين: "لو لم تفعلوا لصلح" من التقصير في الرواية بالمعنى؛ ولهذا قدَّم مسلم رحمه الله رواية طلحة، لأنه شهد القصة وتحرّى في بيانها، ثم عقَّبها برواية رافع لأنها قريبة منها، ثم ذكر رواية حماد من الوجهين على أنها شاهد لأصل القصة. فثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - إنما أخبرهم عن ظنه أن التلقيح لا فائدة له، وإنما وقع له - صلى الله عليه وسلم - هذا الظن لأنه لم يكن قد عرف حال النخل، وقد عرف بمكة والطائف وغيرهما أن عامة الشجر تثمر ويصلح ثمرها بلا تلقيح، فظن أن النخل كذلك، حملاً للفرد المجهول الحال على ما عرف من حال الغالب. ومن هذا: ما رُوي من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لقد هممتُ أن أنهى عن الغِيْلة، ثم ¬

_ (¬1) رقم (2362). (¬2) رقم (2363).

نظرتُ في فارس والروم فإذا هم يُغِيلون أولادهم، فلا يضر ذلك أولادَهم شيئًا" (¬1). فقد كان مشهورًا بين العرب أن الغَيْل يضر بالطفل، فوقع في ظنه - صلى الله عليه وسلم - صحة ذلك وأنه مبني على تجربة صحيحة، فأراد أن ينهى عنه لما فيه من الإضرار، ثم سأل عن حال فارس والروم فأُخبِر أنهم لا يتوقَّون كما يتوقَّى العرب، ثم رأى أنه لا يظهر بأولادهم ضرر، فظن - صلى الله عليه وسلم - أن الغيل لا يضر، فقال ما تقدم. [ص 29] وجاء عنه - صلى الله عليه وسلم - حديث آخر: "لا تقتلوا أولادكم [سرًّا]، فإن الغَيْل يدرك الفارسَ فيُدَعْثِره عن فرسه" (¬2). فإذا صح هذا فلا بد أن يكون متأخرًا؛ لوجوه: الأول: أن هذا نهي صريح، وقوله في الأول: "لقد هممتُ أن أنهى عن الغيلة" ظاهر في أنه لم يقع منه قبل ذلك نهيٌ، فعُلِم بذلك أن الخبر الصريح بالنهي لم يكن قبل ذلك. الثاني: أن الخبر الأول مبني على الظن في الجانبين، كما تقدم، والخبر الثاني بتٌّ وقطع، فهو مبني على علم. الثالث: أن قوله: "يُدرك الفارسَ فيُدعْثِره" شيء لا يُعرف بالقرائن ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1442) من حديث جُدامة بنت وهب. (¬2) أخرجه أحمد (27562) وأبو داود (3881) وابن ماجه (2012) من حديث أسماء بنت يزيد بن السكن. وصححه ابن حبان (5984)، وفي إسناده المهاجر بن أبي مسلم، لم يوثقه غير ابن حبان، وبقية رجاله ثقات.

الظاهرة المتيسرة، فالظاهر - إن لم نقل: المتيقن - أنه علمه - صلى الله عليه وسلم - بالوحي. الرابع: أن في هذا كالإشارة إلى ردِّ ما في الأول من حال فارس والروم، فكأنه يقول: إن ضرر الغيل خفي، فلا يدفعه أن الظاهر من حال فارس والروم أنه لا يضر. هذا، وقد عكس الطحاوي (¬1) رحمه الله ما تقدم، فذكر أنه ينبغي أن يكون حديث "لا تقتلوا أولادكم ... " كان أولاً، بناه النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما تعتقده العرب، ثم تبين له بطلان ذلك الاعتقاد فقال: "لقد كنتُ هممتُ ... ". وهذا كما ترى إن كنت ترى! واعلم أن الأدلة على أن ظن الأنبياء في الأمور الدنيوية غير معصوم كثيرة، وفيما ذُكِر كفاية. ولو كان ظنهم معصومًا لما بقي لهم ظنٌّ، بل يكون علمًا. فأما في الأمور الدينية، فإن كان خبرًا عن حكم شرعي، فهم معصومون قطعًا. فإذا جوّزنا أنهم قد يجتهدون فيها، ويخبرون عن اجتهادهم، فإنه إن جاز الخطأ في هذا فإن الله عَزَّ وَجَلَّ لا يُقِرُّه، بل ينبَّههم فورًا على الخطأ، فإذا اجتهدوا وأخبروا ثم لم يقع تنبيه من الله عَزَّ وَجَلَّ ثبت قطعًا صحة اجتهادهم وصدق ما قالوه يقينًا، والله الموفق. الثاني: قال بعضهم: ومن المقطوع بصدقه أن يخبر إنسان بمرأى ومسمعٍ من النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا ينكره عليه. ¬

_ (¬1) في "معاني الآثار" (3/ 47، 48) و"مشكل الآثار" (9/ 284).

أقول: أما أن يخبر رجل بحضرته - صلى الله عليه وسلم - بأمر ديني، بحيث يظهر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما سكت تصديقًا له؛ فهذا حق. وذلك كما روي أن جماعة اختلفوا في القراءة، فذهبوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأخبروه، وكان عنده علي رضي الله عنه، فقال لهم علي: يقول لكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1) .... وأما غير ذلك، ففيه نظر. ولا سيَّما إذا احتمل كونه - صلى الله عليه وسلم - لا يعلم الواقعة، أو يظنها كما ذكر المخبر. وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يشك في ابن صياد أنه الدجال؛ لعلامات كانت فيه، فقوي ظنُّ عمر بذلك، فحلف بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ابن صياد هو الدجال، ولم ينكر عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2)، ثم جاءت أحاديث تدلُّ أنه تبيَّن للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك أن الدجال غير ابن صياد (¬3). الثالث: وذكروا من المقطوع بصدقه: المتواتر. قالوا: وهو خبر جماعة يستحيل في العادة تواطؤهم على الكذب عن أمر محسوس. وذلك حق لا ريب فيه، ولكن أشار بعضهم إلى أن هذا - أعني المتواتر - والخبر الذي يفيد العلم بمعونة القرائن شيء واحد. ¬

_ (¬1) بعده بياض في الأصل. والحديث أخرجه ابن حبان في "صحيحه" (747) والحاكم في "المستدرك" (2/ 223، 224) من طريق زر عن ابن مسعود مطولاً. وفيه: "فقال علي: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمركم أن يقرأ كل رجل منكم كما عُلِّم، فإنما أهلك من قبلكم الاختلاف". (¬2) أخرجه البخاري (7355) ومسلم (2929) من حديث جابر بن عبد الله. (¬3) انظر "الفتح" (13/ 326 - 329).

وشبهتُه إلى أن كثرة العدد لو كانت هي المؤثرة لتعين العدد المؤثر، والأمر بخلاف ذلك، فإنه قد يحصل العلم بخبر الواحد أو الاثنين أو الثلاثة، ولا يحصل بخبر مئة ألف أو أزيد. كما لو أخبر مليون جندي من الألمان بعد هزيمتهم بأن زعيمهم هتلر مات. [ص30] فالمدار إذًا إنما هو على ما يحتفُّ بالخبر من القرائن. وأقول: الخبر تكون معه قرائن تساعده، وقرائن تخالفه، فعدد التواتر هو الذي يحصل بخبرهم العلم مع فَقْدِ القرائن الموافقة والمخالفة أو تكافُئِها، وإنما يعسُر تعيينه لأنه لا يخلو الخبر عن قرائن من الجانبين، ويعسر العلم بتكافئها. هذا، والمدار على حصول العلم، فسِيَّانِ: كان حصوله بكثرة العدد مع عدم القرائن المخالفة أو مع تكافُؤِ القرائن [من] الجانبين، أو كان حصوله بمعونة القرائن. ولا حرج في تسمية ما حصل به العلم متواترًا، وإن شككنا في حصوله بالوجه الأول أو الثاني. وقد شكَّك بعضهم في حصول العلم بالمتواتر، قال: لأن كثرة العدد قد لا تفيد إذا اقترن بالخبر قرائن تخالفه، فيمكن أن يكون مع الخبر قرائن تخالفه ولكنها خفية، فعلى هذا يتوهم سامعه حصول العلم به. ويتحقق ذلك بأن تفرض أن ألف رجل تواطؤوا سرًّا على خبر، ثم بالغوا في إخفاء ما يُوقِع التهمة بتواطُئِهم، وتفرقوا. فإنه إذا فُرِض أن أحدهم أخبر، ثم جاء الثاني وكأنه لا يعرف الأول ولا يعلم بخبره فأخبره بمثله، وهكذا، فقد يتوهم بعض السامعين حصول العلم، وقد تلوحُ لبعضهم قرينة على احتمال التواطؤ، فلا يكاد يحصل له الظن فضلاً عن العلم.

والجواب: أن النفس إذا خُلِّيتْ وفطرتها لا يخفى عليها موضع احتمال التواطؤ، ولو على بعدٍ، فلا تجزم حتى يجتمع لها من القرائن ما يبين أن احتمال التواطؤ مستحيل. بلى، لا ننكر أن من الناس من يدعي التواتر في خبر وليس كذلك، وإنما يكذب على نفسه في دعوى حصول العلم، أو يغالطها في ذلك، والله المستعان. واعلم أن تواتر الخبر قد يكون مع اتفاق العدد على جميع العوارض، كأن يخبر كل منهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب الناس يوم النحر سنة عشر بمنى في وقت كذا، فقال كيت وكيت. وقد يذكر بعضهم سماع الحديث في زمان ومكان، ويذكر غيره سماعه في زمان أو مكان آخر. وهذا كله تواتر؛ إذ المدار على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك. اللهم إلا أن يكون للزمان أو للمكان اختصاص، كأن يقول بعضهم: "وقف بمكان كذا من عرفة فقال: هذا الموقف"، ويقول غيره: "وقف بمكان كذا - ويذكر مكانًا آخر - وقال: هذا الموقف"، أو نحو ذلك. واعلم أن اختلاف الألفاظ والمعنى واحد لا يقدح في التواتر، وكأنهم قالوا: ذكر كلامًا هذا معناه. وهناك ما يسمى "التواتر المعنوي"، وذلك كأن يروي أحدهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من زنى بعد ما أحصن فعليه الرجم" (¬1)، ويروي آخر أن ماعزًا ¬

_ (¬1) لم أجد الحديث بهذا اللفظ، وقد أخرج البخاري (6878) ومسلم (1676) من حديث ابن مسعود بلفظ: "لا يحل دم امرئ يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا =

زنى بعد ما أحصن فرجمه النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1)، وروى ثالث أن امرأة غامدية زنت بعد ما أحصنت فرجمها النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2)، وآخر أن امرأة رجلٍ من أسلم اتُّهِمت بالزنا بعد ما أحصنت فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اغْدُ يا أُنيسُ إلى امرأة هذا، فإن اعترفَتْ فارجُمْها" (¬3). وهكذا بحيث يحصل بمجموع هذه الأخبار القطع بما اجتمعت عليه، وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقضي برجم من زنى بعد إحصان. هذا، ولا يخفى أن العلم بصدق خبر العدد فيما كان عن محسوس يُعلَم منه أنهم إذا أخبروا أن فلانًا أخبر؛ إنما يتحصل العلم بأن فلانًا أخبر، فأما صدق خبر فلان - إذا لم يكن معصومًا - فلا يحصل العلم بصدقه. لكن [إذا] أخبر عدد التواتر أن عددًا آخر مستجمعًا للشروط أخبروا حصل العلمُ بخبر الفريقين. وهكذا، فإذا تعددت الطبقات كأن يخبر عدد عن عدد عن عدد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلا بد أن تتحقَّق الشرائط في كل الطبقات الثلاث، ولا يشترط أن يخبر كل واحد من العدد عن كل واحد من العدد الذي قبله. بل يحصل العلم بأن يخبر كل واحد عن واحد، وآخر عن آخر، وثالث عن ثالث، وهكذا. [ص 31] بل هذا أقوى؛ فإن اجتماع عدد على الإخبار في وقت واحد ¬

_ = بإحدى ثلاث: الثيب الزاني ... ". وأخرج أحمد (452) والنسائي (7/ 103) من حديث عثمان بن عفان بنحوه فيه: " ... رجل زنى بعد إحصانه فعليه الرجم ... ". (¬1) أخرجه مسلم (1694) من حديث أبي سعيد الخدري. وفي الباب أحاديث أخرى. (¬2) أخرجه مسلم (1695) من حديث بريدة. (¬3) أخرجه البخاري (6827، 6828) ومسلم (1697، 1698) من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد.

مما يوهم المواطأة. فتدبر. الرابع: قالوا: قد يفيد الآحاد العلم بمعونة القرائن. ومثَّلوه بما فيه نظر. ولكن القول صحيح؛ فإن من القرائن ما يفيد العلم مجردًا عن الخبر، فكيف لا يكون منها ما يفيده مع الخبر؟ كما إذا وضعتَ شيئًا ثقيلًا في صندوق، ثم غبت، ثم رجعت فرفعت الصندوق فإذا هو خفيف، بحيث تعلم قطعًا أنه لا يمكن أن يكون ذلك الشيء فيه. وهكذا إذا وضعتَ حمامة في قفص محكم مقفل، ووضعته بحيث تعلم أنه لم تصل إليه يد إنسان، ثم تفقدته فإذا فيه بيضة! وقس على ذلك. ويدخل في القرائن عدالة المخبر، وكونه معروفًا بالصدق، وكونه ليس له هوى في ذلك الخبر، وكونه مشهودًا له بالإتقان، وذكره للخبر قصة، وكون القصة تتعلق به، إلى غير ذلك مما بسطه أهل العلم في وجوه الترجيح. والعدالة تتفاوت، فأعلاها عدالة من عدَّله الله تعالى، ثم رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وشهد له بالجنة. وكذلك الصدق، فأعلاه صدق من أخبر الله تبارك وتعالى بأنه صدوق. وكذلك عدم الهوى، فمن أعلاه أن يكون للمخبر هوى في نقيض ذلك الخبر، كأن يكون في الخبر غضاضةٌ عليه. وكذلك الإتقان، فأعلاه في الثقة أن يصفه جهابذة الحفاظ بأنه لم

يخطئ في حديث قطُّ، أو لم يخطئ إلا في حديث واحد، كما قالوه في إسماعيل بن إبراهيم المشهور بابن عُلَية. وبالجملة، فمن أمعن النظر في كلام المحدثين في دقائق الرواية وأحوال الرجال عرف أنه قد يحصل للجِهْبِذ المتبحّر منهم العلمُ في بعض الأحاديث التي تُروى من طرق صحيحة عن صحابيين أو ثلاثة. ومما يتأيد به الحديث أن يكون له شواهد توافقه، ولو في جنس المعنى، وأن يكون موافقًا لظاهر القرآن، أو مخالفًا له وظهر الحديث في زمن الصحابة وعمل به بعضهم؛ فإنه لو لم يكن ثابتًا عندهم ما تركوا له ظاهر القرآن، ولكانوا أنكروه. ومما يتأيد به أيضًا أن تطمئنَّ إلى لفظه نفسُ الممارس للحديث؛ فإنه لطول ممارسته للكلام النبوي صار عنده تمييزٌ ما بين ما هو منه وما ليس منه. ونحو ذلك أن تطمئن إليه نفس المتبحّر في معرفة الشمائل النبوية والحِكَم الشرعية. وهذا، وقد ضعفت في الأزمنة الأخيرة العنايةُ بالرواية، ولكن بقي بأيدينا حكم الجهابذة المتبحّرين، إذا وجدنا أحدهم صحَّح حديثًا أو احتج به، ويتأكد ذلك بموافقة آخر منهم عليه. فإذا وجدنا في حديث أن مالكًا والثوري وأحمد والشافعي احتجوا به، وأن البخاري ومسلمًا صححاه؛ كان متمكنًا في القوة، فإذا ثبت أن بعض الصحابة عمل به، وعمل به جماعة من التابعين ازداد قوة.

وقد ذهب جماعة من المتأخرين إلى أن أحاديث الصحيحين تفيد العلم. ووجهوا ذلك بأنها تُلقَّيت بالقبول، والتلقي بالقبول عندهم يفيد العلم، وسيأتي ما فيه. لكن رأيت عن العلامة محمَّد أنور الديوبندي أنه وافقهم في إفادة العلم، ووجَّهه بمعنى ما تقدم (¬1). ويتأكد ذلك بأن كثيرًا من الأئمة المعاصرين [ص 32] للشيخين والمتأخرين عنهم، اطلعوا على الصحيحين، وشهدوا لما فيهما بالصحة، وسيأتي إن شاء الله تعالى البحث في ذلك. الخامس: قالوا: ومما يفيد العلم ما أُجمِع على صحته، أو تُلقَّي بالقبول، بأن كان أهل العلم بين محتجًّ به ومتأولٍ له، أو أُجمِع على الحكم الذي يدل عليه. وردَّ بعضهم ذلك بأنه مبني على الإجماع، والكلام في الإجماع معروف، فإن من سلَّم حجية الإجماع يقول: إن العلم به قطعًا محال؛ لأنه يتوقف على النقل المفيد للعلم عن كل فرد من أهل عصر الإجماع، بحيث يُعلم قطعًا أنه لم يبق أحد منهم إلا ونقل عنه كذلك. وأما الإجماع السكوتي فمختلف فيه، وممن ردَّه الإمامان الشافعي وأحمد، كما أنكرا العلم بالإجماع في غير أركان الدين، كفرضية الصلاة والصيام والحج ونحو ذلك مما إن خالف فيه مخالف كفر، فالعلم بالإجماع فيها إنما هو لهذا، أعني: لأن من خالف كفر، فخرج عن الاعتداد بقوله. ¬

_ (¬1) انظر "فيض الباري" (1/ 45، 46) من المقدمة.

ومع هذا، فتأويل العالم لحديثٍ لا يستلزم قوله بصحته؛ فإن كثيرًا من أهل العلم يتأولون الحديث وهم متوقفون في صحته، كأن أحدهم يقول: إن صحَّ فهذا تأويله، وربما يضعِّف أحدهم الخبر ثم يتأوله. وهكذا الإجماع على حكم لا يستلزم صحة ما يُروى فيه. ألا ترى أنه لا يمتنع أن يَعمِد كذّاب إلى حكم مجمع عليه فيضع على وفقه حديثًا؟ أقول: قد سلَّم الإمامان الشافعي وأحمد أن العارف بأقوالِ مَن سلف من أهل العلم إذا عرف قول جماعة منهم ولم يعلم لهم مخالفًا بعد البحث = يكون هذا حجة في الجملة. فأقلُّ أحوال هذا أن يكون من أعظم ما يساعد على قطعية الخبر. وتأويل العالم للخبر مع عدم تصريحه بضعفه يدل على أنه لم يعرف فيه مطعنًا، وذلك مما يقوَّيه. وأما قولكم: إن الإجماع على حكم لا يستلزم صحة ما يُروى فيه، فهذا فيما إذا ظهر للإجماع مستندٌ غير ذلك الخبر، فأما إذا لم يظهر غيره - وهو في نفسه منقول نقلاً صحيحًا - فالظاهر أنه هو مستندهم، وبذلك يكون الظاهر أنهم اتفقوا على صحته. وقد أيَّد هذا بعض الأجلّة بأن تجويز بطلان ذلك الخبر لاحتمال أن يكون المستند غيره = اتهامٌ للأمة بأنها أهملت الحجة الصحيحة فلم تُنبِّه عليها، أو لم تُعْنَ بها، أو لم تنقلْها، واعتنت بنقلِ ما ليس بصحيح في ذلك المعنى بعينه. وهذا بغاية البعد. فإن قيل: استغنتْ عن نقل الحجة الصحيحة بالإجماع.

قيل: فما بالها نقلت غير الصحيحة في ذاك المعنى نفسه؟ وأنا أقول: أما الحكم بالضعف على الخبر المنقول نقلاً تقوم به الحجة، فلا وجه له. غاية الأمر أن يجوز أن يكون مستند الإجماع غيره، وهذا لا يضر ذلك الخبر بل يفيده قوة؛ لأنه على أحد الاحتمالين مجمع على صحته، وعلى الاحتمال الآخر صحيح في نفسه، وله شاهد مجمع عليه. وبعد، فإذا سلِّم الإجماع على الحكم لم تبق فائدةٌ لإنكار كون الخبر مجمعًا على صحته؛ لأن الحكم هو المقصود. [ص 33] وههنا مسائل: الأولى: إذا صح من جهة الرواية خبر، ونُقل تصحيحه عن جماعة، ولم يُعلم لهم مخالف، ونُقل القول بالحكم الذي دل عليه عن جماعة، ولم يُعلم لهم مخالف ممن مضى، فهل يكفر منكره؟ أقول: فيه نظر، وله موضع آخر. الثانية: هل يُعامَل معاملة القطعي في النسخ؟ أقول: أكثر أهل المذاهب يرون نقل الحكم عن جماعة ممن مضى، ولا يُعلم لهم مخالف = إجماعًا يدل على ناسخ، فيجزمون بالنسخ، حتى لو كان الحكم الآخر منصوصًا في كتاب الله عزَّ وجلَّ، ففي هذه الصورة أولى. الثالثة: هل يثبت به الفرض وغير ذلك، عند من يفرق بين القطعي والظني في الأحكام؟ أقول: المفرِّقون يعدّون هذا الإجماع قطعيًّا، وعلى ذلك فيثبت به الفرض وغيره عندهم، ففي هذه الصورة أولى.

الرابعة: إذا وجد دليل يناقض ذلك الخبر وذلك الإجماع، هل يجوز لأحد أن يذهب إلى ذلك الدليل؟ أقول: أما إذا كان الدليل المناقض محتملاً أن يكون منسوخًا بذلك الخبر، فلا يجوز. بل المتعين القول بذلك، إذ القول بعكسه في غاية البعد؛ إذ يلزم منه اتفاق الأمة على التمسك بالمنسوخ وإهمال الناسخ. فإن قيل: اتفاق الأمة لم يسلم؛ لأن الفرض أن الحكم إنما نقل عن جماعة. قلت: الظاهر أنه لو كان هناك مخالف لأظهر قوله وإنكاره لهذا المنكر، وهو التمسك بالمنسوخ واطّراح الناسخ، وإلا كانت الأمة مجمعة على الضلال، بعضها بالتمسك بالمنسوخ واطراح الناسخ، وباقيها بالسكوت على هذا المنكر، والساكت على المنكر مع علمه به وإمكان أن ينكر شريك فيه، فكأنها أجمعت على ضلالة واحدة. فإن قيل: لعل بعض من لم ينقل قوله لم يطلع على تمسك الجماعة بالمنسوخ، ولعل بعضهم اطلع ومنعه مانع من الإنكار، ولعل بعضهم اطلع وأنكر ولم يُنقل إنكاره، ولعل بعضهم اطلع وأنكر ونُقِل إنكاره ولكن لم يبلغنا، بأن يكون في بعض الكتب التي لم نقف عليها. قلت: هذا كله بعيد إذا بحث واسعُ الاطلاع منا فلم يجد، ويتأكد ذلك إذا كان قد نص إمام مطلع ممن قبلنا على الإجماع. وبعد، فهَبْ أن ما ذكرناه لا يكفي للدلالة على كون الخبر الموافق للإجماع ناسخًا للدليل الآخر، فهل هناك إلا مخرج واحد وهو الأخذ

بالراجح؟ فالخبر الموافق للإجماع أرجح، فوجب الأخذ به على كل حال. الخامسة: إذا وجد دليل يناقض الخبر والإجماع ولم يحتمل أن يكون منسوخًا به، كما إذا كان الخبر الموافق للإجماع مؤرخًا بزمان، والدليل المناقض مؤرخ بما بعد ذلك الزمان. فهل يجوز الذهاب إلى ذلك الدليل؟ أقول مستعينًا بالله عزَّ وجلَّ: إن ثبت أنه قد ذهب إلى وفق الدليل المناقض مجتهد من أهل القرون الثلاثة الأولى فذهاب من بعدها إليه موكول إلى اجتهاده، وذلك أن ذهاب ذلك المجتهد من أهل القرون الأولى إلى ذلك خادش في الإجماع، أما في إجماع أهل عصره فواضح، لأنه منهم وهو مخالف، فكيف يقال: أجمعوا؟ وأما من قبله فالظاهر أنه لم يذهب إلى ما ذهب إليه إلا وقد عرف أنه لم يتقدمه إجماع تمتنع مخالفته، وأما من بعده فالذي تبين لي رجحانه أنه لا يُعتدُّ بالإجماع بعد سبق الخلاف المستقر. وإن لم يثبت، فلا يجوز لمن بعدها الذهاب إليه؛ لأن ظاهر اتفاق الثلاثة القرون على خلاف ذلك الدليل يُوهنه جدًّا، ويتأكد ذلك بأمور: [ص 34] منها: أن الهمم قصرت، والمعرفة ضعفت، والدعاوى كثرت، والأهواء انتشرت، والتقوى خفَّت. فأصبح كثير من الناس يدَّعون العلم وهم قاصرون، فإن وجد راسخ لم يكد يَسلَم من هوى أو ضعف ورعٍ. فإن وُجد مخلصٌ ورعٌ فهو نفسه يتردد فيما عسى أن يظهر له من دليل يدل على قولٍ المنقولُ عن أهل القرون الأولى خلافه، ولم يظفر بنقل عن واحد منهم يستند إليه، وذلك أن هذا المعنى يشككه في دليله، فيقول: لعلي غلطت في ظن صحة هذا الخبر وفي ظن أن هذه العبارة تدل على كذا؛ فإنه

ليس له من معرفة الحديث ورواته ما كان لأئمة السلف، وليس له من الذوق العربي ما كان لهم. فإن فرضنا أنه قَوِيَ في نفسه ما ظهر له، فإن غيره من أهل العلم لا يوافقونه على ذلك، ويرون في فتح هذا الباب مفسدةً عظمى؛ فإن المنتحلين للعلم بلا رسوخ ولا ورعٍ كثيرٌ، فيأخذ كل منهم يتخوض في الدين، ولا يتمكن أهل العلم من إفحامهم بالمناظرة؛ لأن المناظرة إنما تفيد مع الإنصاف، ولا يرجى ذلك من المتخوضين. نعم، قد كان في عهد السلف جماعة من علماء السوء، ولكن كانوا مقهورين، وكان العامة يعرفون علماء الحق؛ لقرب العهد بالسراج المنير - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فكان إذا قام رجل يدعي العلم والمعرفة فزع العامة إلى من عرفوه من علماء الحق فيكفيه أن يقول للعامة: ذاك رجل مبتدع، أو لا يوثق بعلمه، أو نحو ذلك. وأما في الأزمنة المتأخرة فإن الحال تغيَّر، بل انعكس، فصار الملوك والأمراء والعامة يرون العالم هو من يوسِّع عليهم، ويوافق أهواءهم. فلهذا عظَّم العلماء شأن الإجماع، حتى [إذا] نبغ نابغ من أولئك المتخوضين كفى أن يقال له وللناس: هذا خرق للإجماع. ولهذا - والله أعلم - قال جماعة: إن باب الاجتهاد قد انسدَّ، وقال ابن الصلاح (¬1): إن التصحيح والتحسين للأحاديث قد انتهى. ¬

_ (¬1) في "علوم الحديث" (ص 13). وردَّ عليه آخرون، انظر "فتح المغيث" (1/ 50، 51) و"تدريب الراوي" (1/ 143 وما بعدها).

أما أنا فلا أوافق على سدِّ باب الاجتهاد وتصحيح الأحاديث، ولكن أرى أنه لا ينبغي مخالفة حكم قد قال به أهل القرون الثلاثة، ولم يُعلَم منهم مخالف، ويبقى مجال الاجتهاد في أمرين: الأول: الأحكام التي اختلف فيها علماء السلف، فيجتهد العالم في الترجيح بينها. الثاني: في الأشياء التي لم يُنقل عن أهل القرون الثلاثة فيها شيء واضح. أما الأول فإن العالم نفسه يطمئن إلى ما ظهر له؛ لأن له سلفًا، فيقول: هَبْني لم أبلغ درجة الاجتهاد فهذا قول مجتهد معروف، فكأنني قلدته، وقد جوَّز الناس تقليد المجتهد وإن لم يظهر للمقلد رجحان دليله، فأما أنا فقد ظهر لي رجحان دليله. وكذلك يطمئن غير هذا العالم إلى قوله، إذا علموا أنه قول مجتهد معروف. ولا يخشى من هذا ما يخشى من إطلاق الاجتهاد من التلاعب بالدين، اللهم إلا أن يدَّعي هذه المرتبة من ليس من أهلها، أو يكون ضعيف الدين، [ص 35] لكن مثل هذا لا يصعب على أهل العلم والدين كشفُ حاله إن شاء الله تعالى. وعلى كل حال، فالشر هنا أخف، والمفسدة التي في سدّ الباب مطلقًا أشدّ، مع أن أكثر أهل العلم من المتأخرين قد فتحوا هذا الباب بجواز التقليد، وهذا خير منه؛ إذ ليس فيه - إذا أُعطِي حقَّه - تتبعٌ للرخص، وإنما فيه تتبعٌ للراجح من الأدلة، فإذا اتفق في مسألة أن يكون رخصة كان في أخرى شدة.

وفيه مصلحة من أعظم المصالح، وهو إحياء علوم الكتاب والسنة، وإشعار الناس بأنهم إنما يتبعون الكتاب والسنة. وأي فرق أعظم من الفرق بين من يقوم يصلي فيعمل بقول فلان وقول فلان، ومن يقوم يصلي فيعمل بتلك الآية وذلك الحديث؟ فهذا الثاني شاعرٌ تمامَ الشعور بأنه يعبد الله عَزَّ وَجَلَّ بامتثال أمره في كل حركة وسكون، والأول بعيد عن ذلك. وأما الاجتهاد فيما لم يُنقل فيه شيء صريح عن علماء القرون الثلاثة، فلا يمكن سدُّه إلا بأن يوكل إلى المقلدين يجتهدون فيه بالقياس على أقوال شيوخهم وشيوخ شيوخهم، ولعله يكون قياسًا على قياس على قياس! أفليس الأولى من ذلك استنباط حكمه من نصوص الشريعة نفسها؟ هذا، وقد أغفل كثير من فقهاء الشافعية وغيرهم درجة "المرجِّح"، أعني الذي يبلغ من العلم مبلغًا يتمكن به من النظر في أدلة المختلفين، وتعرُّف الراجح منها. وقد رأيت عن الشافعي رحمه الله تعالى ما يثبت هذه الدرجة. ففي ترجمة إسحاق بن الفرات من "تهذيب التهذيب" (1/ 247): "وقال ابن قديد: حدثني ابن عبد الحكم (¬1) قال: قال لي الشافعي: أشرت على بعض الولاة أن يولي إسحاق بن الفرات القضاء، وقلت: إنه يتخير، وهو عالم باختلاف من مضى". ¬

_ (¬1) في "الولاة والقضاة" للكندي (ص 78) و"إكمال تهذيب الكمال" (2/ 108): "ابن قديد عن يحيى بن عثمان عن ابن عبد الحكم ... ". وهو الصواب.

فصل

فقوله: "يتخير" يعني أنه يرجح بين أقوال المختلفين، ويختار ما رجح دليله. فصل قد بسط أهل العلم حجج الإجماع (¬1)، وينبغي لطالب الحق أن يتدبرها، ثم ينظر إليها مجتمعة، فكم من قضية استُدِلّ عليها بأدلة قد يكون كل واحد منها إنما يفيد ظنًّا ضعيفًا، فإذا عمد العالم إلى دليل منها فخدشَ فيه وطرحه، ثم في الثاني فكذلك، وهكذا؛ أمكنه ذلك فيها كلها. لكن لو نظر إليها مجتمعة لرأى قوة لم يحسبها. ونظير ذلك: المتواتر إذا كان عن خبر كفار أو فساق مثلاً، فعمدتَ إلى كل فرد منهم فطعنتَ فيه؛ أمكنك ذلك، مع أن المجموع يفيد العلم القطعي. وينبغي له أن ينظر إلى أمور أخرى: الأول: قضاء العادة. فإن المجتهدين كانوا كثيرًا، وطلب العلم ونشره كان محروصًا عليه، وفي المثل المشهور "خالِفْ تُذكر"؛ فالناس حريصون على نقل الأقوال الغريبة، ولا سيَّما إذا كانت مستندة إلى حجة قوية. الثاني: أن هذه الكتب المتداولة بين الناس في هذا العصر هي بالنظر إلى الأدلة جامعة لغالبها. الثالث: أن الله تبارك وتعالى متكفل بحفظ دينه وشريعته، كما يأتي تقريره إن شاء الله تعالى، ولا يتم حفظ الحجة منها إلا بحفظها حفظًا تقوم به الحجة. ¬

_ (¬1) انظر "إرشاد الفحول" (ص 65 وما بعدها).

فإذا نُقل عن جماعة من أهل القرون الأولى قول ولم يُنقل خلافه عن أحد منهم، ثم وجدت أنت دليلًا يدل على خلافه، فهذا الدليل لن يكون إلا ظنيًّا في نفسه، والدليل الظني في نفسه تُوهنه الأمارات والقرائن الدالة على خلافه. فإذا وجد طالب الحق دليلًا من تلك الدلائل, ثم نظر في أدلة الإجماع، ما أراه إلا سيرتاب في صحة ذلك الدليل. فإذا كان الأمر كذلك دل هذا على بطلان ذلك الدليل في نفسه؛ لأنه لو كان من الحق [ص 36] لحفظه الله تبارك وتعالى حفظًا تقوم به الحجة، وتطمئن إليه النفس. وعلى كل حال، فليس مقصودي هنا البتّ في هذه القضية، وإنما نبهت على ما قد يخفى. وعلى العالم أن ينظر لنفسه، ويحتاط لدينه، متضرعًا إلى مقلب القلوب سبحانه أن يثبِّت قلبه على دينه، ويهديه لما اختُلِف فيه من الحق بإذنه، والله المستعان، لا رب غيره. السادس مما ذكروا أنه يفيد العلم من الأخبار: أن يخبر إنسان بخبر بحضرة قومٍ لو صدَّقوه حصل العلم بصحة الخبر، ولكنهم سكتوا، ولا حاملَ لهم على السكوت عن تكذيبه لو كان كاذبًا. أقول: الشأن في قولهم "ولا حاملَ لهم"؛ فإذا فُرِض انتفاء كل حامل من الحوامل الممكنة قطعًا فذاك، ولكن هذا مما لا يكاد يتفق؛ فإن الحوامل كثيرة، منها: أن لا يكونوا علموا - أو جماعة منهم - صدقه ولا كذبه. ومنها: أن يكون لهم - أو لمن عرف كذبه منهم - هوًى في إيهام صدقه. ومنها: أن يخافوا - أو العارفون بكذبه منهم - من شره. ومنها: أن يتهاونوا به؛ لأنهم يرون أن كذبه واضح.

إلى غير ذلك. فلا بد أن يحصل القطع بأنه لو كان كاذبًا - عمدًا أو خطأً - لرد عليه بعضهم. السابع: نقلوا عن الزيدية أن مما يفيد القطع: بقاء الخبر مع توفر الدواعي على إبطاله. ويمثّلون بقوله - صلى الله عليه وسلم - لعلي: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلاَّ أنه لا نبيَّ بعدي". أقول: أما الحديث ففي الصحيحين (¬1) وغيرهما من حديث سعد بن أبي وقاص. وفي رواية لهما واللفظ للبخاري: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى تبوك واستخلف عليًّا، فقال: أتُخلفني في الصبيان والنساء؟ قال: "ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي". وقد رواه عدد عن سعد، منهم: أبناؤه إبراهيم (¬2) وعامر (¬3) ومصعب (¬4). ورواه عنهم جماعة، وسمعه سعيد بن المسيب من عامر بن سعد، قال ابن المسيب (¬5): "فأحببتُ أن أشافِهَ بها سعدًا، فلقيتُ سعدًا فحدَّثتُه بما حدثني عامر، فقال: أنا سمعته، فقلت: آنت سمعته؟ فوضع أصبعيه على أذنيه فقال: نعم، وإلا فاستكَّتا". ¬

_ (¬1) البخاري (3706، 4416) ومسلم (2404). (¬2) من طريقه أخرجه البخاري (3706) ومسلم (2404/ 32) وغيرهما. (¬3) من طريقه أخرجه مسلم (2404/ 30). (¬4) من طريقه أخرجه البخاري (4416) ومسلم (2404/ 31) وغيرهما. (¬5) كما رواه النسائي في "خصائص علي" (50).

وذكر ابن حجر في "الفتح" (¬1) أنه جاء من غير حديث سعد بن أبي وقاص: عن عمر، وعلي نفسه، وأبي هريرة، وابن عباس، وجابر بن عبد الله، والبراء، وزيد بن أرقم، وأبي سعيد، وأنس، وجابر بن سمرة، وحُبشي بن جُنادة، ومعاوية، وأسماء بنت عميس، وغيرهم. أقول: لو قيل إنه من حديث سعد وحده يفيد العلم لم يبعد، فكيف مع ما انضمَّ إليه؟ وأما أن يكون كل حديث روي في فضائل علي مقطوعًا به فلا يقوله عاقل: أولاً: لأن القاعدة واهية، كما يأتي. وثانيًا: لأنه إن كان الحديث في فضيلة ليس فيها تعرضٌ للخلافة؛ فلم تتوفر الدواعي على نقله (¬2) مطلقًا. نعم، كان بعض ولاة بني أمية يكرهون أن تُروى فضائله، ولكن أهل العلم لم يكونوا يبالون بهم، بل كانوا يروونها، وربما جَبَهوهم بها، على أن زمانهم لم يطل، وفوق ذلك فقد كان جماعة كثيرون من أهل العلم شديدو المحبة لعلي رضي الله عنه، ومنهم من يبالغ في ذلك، وكان أهل الكوفة كلهم شيعة له، ومنهم من يفرط في ذلك. وإن كان في الخلافة فأئمة الزيدية أنفسهم يعترفون أن النص المدَّعى ¬

_ (¬1) (7/ 74) وقال: وقد استوعب طرقه ابن عساكر في ترجمة علي. (¬2) كذا في الأصل، ولعل الصواب: "على إبطاله".

فصل

لعلي رضي الله عنه غير صريح. هذا وهم من أهل البيت، فلو كان هناك نص صريح لحفظه عامة أهل البيت، وأخبروا به أبناءهم والثقات من شيعتهم. وأما القاعدة فواهية؛ لأن توفر الدواعي على الإبطال وإن اقتضى أن تَعِزَّ رواية الخبر، فلا يقتضي أن كل خبر يُروى صحيح، فضلاً عن أن يكون مقطوعًا به. وها نحن نجد الدول تحرِصُ على إخفاء الأخبار التي تخشى أن تبلغ أعداءها، أو أن تُوقِع الاضطراب في رعاياها، ومع ذلك نجد الرعايا يتناجَون بكثير من الأخبار التي من شأنها ما ذُكِر، ولا أصل لها، وقد تَشِيع كثير من هذه التي لا أصلَ لها حتى يسمع به جميع الرعايا. [ص 37] فصل قال جماعة من المتأخرين (¬1): إن أحاديث الصحيحين تفيد العلم لأنها تُلقِّيت بالقبول، عدا أحاديث انتقدها عليهما بعض الحفاظ الذين جاءوا بعدهما. أقول: في "مقدمة الفتح" (ص 491) (¬2): "قال أبو جعفر العقيلي: لما صنّف البخاري كتابه الصحيح عرضه على ابن المديني وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وغيرهم، فاستحسنوه وشهدوا له بالصحة إلا أربعة أحاديث. قال العقيلي: والقول فيها قول البخاري. وهي صحيحة". ¬

_ (¬1) انظر "علوم الحديث" لابن الصلاح (ص 25) و"فتح المغيث" (1/ 58 - 61) و"تدريب الراوي" (1/ 131 وما بعدها). (¬2) (489) ط. السلفية.

وفي مقدمة "شرح مسلم" (¬1) للنووي: "بلغنا عن مكي بن عبدان - أحد حفاظ نيسابور - أنه قال: سمعت مسلم بن الحجاج ... ، قال: وسمعت مسلمًا يقول: عرضت كتابي هذا على أبي زرعة الرازي، فكل ما أشار أن له علةً تركته، وكل ما قال: إنه صحيح وليس له علة خرَّجتُه". وقد يقال: إذا استُثنِيَت الأحاديث التي انتُقِدت عليهما، فإنهما - أو أحدهما - قد أخرجا لجماعة ممن طُعِن فيهم والطعن في بعضهم مؤثر، فينبغي أن تُستثنى الأحاديث التي ينفرد بها هؤلاء، ولا سيما إذا كان الطعن من بعض أئمة عصرهما أو ممن بعدهما. ويوضح ذلك: أن الأحاديث التي انتقدها الدارقطني عامتها إنما انتقدها بعللٍ أبداها، وهو نفسه يضعِّف جماعة ممن أخرج لهم في الصحيحين، فالظاهر أنه اكتفى بالقدح في الراوي عن انتقاد الأحاديث التي انفرد بها في الصحيحين. والذي يتحرر لي في "صحيح البخاري" أن أحاديثه على أضرب: الضرب الأول: ما يحتج به على قول يجزم به في العقائد أو الأحكام على أنه أصل في ذلك. فهذا يحتاط له البخاري جدًّا، وكذلك ينبغي أن يكون احتاط له الأئمة الذين أقروه على تصحيحه. الضرب الثاني: ما يورده على أنه شاهد أو متابع للضرب الأول. فهذا مما يتسامح فيه، فقوته إنما هي فيما وافق فيه الأصل، فإن كان فيه زيادة عما عقد عليه البخاري الباب فهي نازلة عن الضرب الأول. ¬

_ (¬1) (1/ 15).

تنبيهات

الضرب الثالث: ما هو في الترغيب أو الترهيب أو فضائل الأعمال، ونحوها. فهذا أيضًا مما يتسامح فيه، فإذا أورده البخاري لهذا القصد وكان فيه ما يستدل به على عقيدة أو حكم فليس في قوة الضرب الأول. الضرب الرابع: المعلقات. فإن كان قد أسند المعلق في موضع آخر من "الصحيح" فحكمه حكم الضرب الذي أسند فيه. وإن لم يسنده البتة فالذي يتحرر لي أنه يصلح أن يكون عاضدًا، أو في ترغيب أو ترهيب، أو فضيلة عمل، أو نحو ذلك. فأما أن يُحتجَّ به وحده فلا، حتى يعرف سنده. والحاصل أن الضرب الأول هو الذي احتاط له البخاري رحمه الله، ويظهر أن الذين أقروه على صحة الكتاب احتاطوا أيضًا، فهو الذي يصح أن يقال: إن أئمة الحديث الذين اطلعوا على الكتاب أجمعوا على صحته، إلا ما انتقده بعضهم. وأما الباقي فغاية ما هناك أنهم أجمعوا على أنه صالح لموضعه الذي ذكر فيه. أعني المتابعات والشواهد وفضائل الأعمال والعواضد، ونحوها. [ص 38] ويقاس عليه "صحيح مسلم" فيما يتبيَّن منه. تنبيهات الأول: قد يورد البخاري رحمه الله الحديث على أنه أصل في بابه، ويكون عنده موافقًا لظاهر القرآن، أو في حكم لا يُعلَم فيه مخالفٌ، أو موافقًا للنظر الجلي، أو نحو ذلك؛ فقد لا يشدد البخاري في هذا كما يشدد في الحديث الذي هو وحده الحجة، فينبغي التنبّه لذلك. الثاني: قد يصحح الأئمة الحديث بالنظر إلى المعنى الذي فهموه، ثم يحمله بعض الناس على معنى لو فهموه من الحديث لم يصححوه, لأنه

فصل

يكون عندهم منكرًا. فينبغي التيقظ لهذا. الثالث: إذا صححوا الحديث في باب، وكان فيه زيادة، فتصحيحهم قد لا يتجه إلى تلك الزيادة؛ لاحتمال أن تكون منكرة، ولا سيَّما إذا لم يذكروا تلك الزيادة فيما التزموا فيه الصحة. الرابع: قد يتبين في هذا العصر في حديث مما في أحد الصحيحين علة تدل القرائن أن صاحب "الصحيح" لم يطلع عليها. فينبغي التأمل في هذا. [ص 39] فصل وأعمُّ من هذا كله ما نُقل عن الإِمام أحمد، وداود إمام أهل الظاهر، والحسين الكرابيسي، والحارث المحاسبي: أن خبر الثقة يفيد العلم مطلقًا. ونصره ابن حزم، وحكاه ابن خويز منداد عن مالك، واختاره وجنح إليه بعض من جاء بعد هؤلاء (¬1). وردّ الأكثرون هذا القول، وشنّع بعضهم على من قاله. وقال الغزالي (¬2) ما معناه: لعلهم أرادوا أنه يجب العمل به قطعًا، أو أطلقوا العلم وأرادوا الظن. أقول: كل من مارس الحديث يعلم أن العالم قد يرى أن هذا الراوي ثقة، ثم يتبين له أو لغيره جرحه، وقد يحكم بصحة الحديث، ثم يتبين له أو لغيره أن له علة قادحة، وقد يخبر كل من الثقتين بخبر يناقض خبر صاحبه، ¬

_ (¬1) انظر "إرشاد الفحول" (ص 43) و"الإحكام" لابن حزم (1/ 119). (¬2) "المستصفى" (1/ 145).

والثقة غير معصوم عن الخطأ إجماعًا، والنقل عن الإِمام أحمد نفسِه كثير لبيان أغلاط المحدثين الثقات. وظنُّ الغزالي قوي؛ فإن العلم كثيرًا ما يطلق في اللغة على ما يعمُّ اليقين القاطع، والظنَّ الغالب الناشئ عن دليل من شأنه إفادة الظن الجازم، ولذلك قال تعالى: {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} [التكاثر: 5]. وسيأتي لهذا مزيدٌ إن شاء الله تعالى. والإمام أحمد وداود والكرابيسي والمحاسبي بغداديون، وكان في عصرهم ببغداد طائفتان كانوا معهما في نزاع مستمر: الأولى: الجهمية ونحوهم. وكانت تطعن في الأحاديث الواردة في صفات الله عزَّ وجلَّ، وأحوال يوم القيامة، ونحوها، قائلةً: هذه أخبار آحادٍ غاية ما تفيده الظن، وإن الظن لا يغني من الحق شيئًا، والعقائد إنما تستمدُّ من البراهين القطعية. الثانية: بعض الغلاة في الرأي، كبشر المريسي. وكانوا يردون الأحاديث، تارةً بدعوى أنها مخالفة لظاهر القرآن، وتارة بأنها مخالفة للقياس. فإذا قيل لهم: دلالة تلك الظواهر ظنية، والأحاديث تفيد الظن، فالصواب إنما هو العمل بهما بحمل العام على الخاص، والمطلق على المقيد، ونحو ذلك. قالوا: من الظواهر عندنا ما يفيد العلم، والقياس عندنا قد يفيد العلم.

قيل لهم: كيف ذلك مع احتمال أن هذا الظاهر غير مراد، وأن هذا القياس خطأ؟ قالوا: ذاك احتمال غير ناشئ عن دليل صحيح، فهو كالعدم، وقد قرر متأخرو الحنفية هذا، وقالوا: إن العلم علمان: علم يقين، وعلم طمأنينة، ثم أطلقوا في كل منهما القطع. والحاصل أنهم أطلقوا العلم والقطع على الظن الحاصل ببعض الدلالات، وإطلاق العلم على ذلك قريب لما مرَّ ويأتي، وأما القطع فاصطلاح لهم. فيمكن أن يكون الإِمام أحمد وداود والكرابيسي والمحاسبي أرادوا الرد على الطائفتين، فقالوا: إن خبر الثقة يفيد العلم. وأرادوا أن الأخذ به واجب؛ لحجج تفيد العلم اليقيني. وقالوا للجهمية: من تلك الحجج إجماع سلف الأمة، وكان معروفًا عنهم الأخذ بخبر الثقة، حتى في صفات الله عزَّ وجلَّ، وأحوال المحشر. أقول: والسر في ذلك أنهم يطلقون من الصفات ما ثبت إطلاقه عن الله عَزَّ وَجَلَّ ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يكيّفون ذلك ولا يبتغون تأويله، فصار الإطلاق قريبًا من الأحكام الفرعية، كالأذان والتشهد وأذكار الصلاة ونحوها. وما يقع في النفوس من ذلك لا يزيد عما يقع فيها من سماع آيات الصفات وتلاوتها. وإذا رجع المنصف إلى عقله ودينه علمَ أنه لا ضرر من ذلك البتة. ولتوضيح هذا موضع آخر. على أن ما يسميه الجهمية "براهين قطعية" ليست إلا شبهات مُضِلّة،

تُمرِض الصحيح وتزيد المريض مرضًا، فهي في الحقيقة أضعف من أن تفيد ظنًّا سليمًا، فكيف تفيد اليقين؟ [ص 40] وقالوا لأهل الرأي: إذا وجب الأخذ بخبر الثقة قطعًا، فما بقي إلا أننا إذا نظرنا في خبر بعينه بقي عندنا احتمال أن يكون وقع في روايته شيء من الخلل لو بان لنا لسقط ذلك الخبر، ولكن هذا احتمال ناشئ من غير دليل، كما قلتم في ظواهر القرآن سواء، فأما القياس فهو أهون من ذلك. أقول: ولعله يأتي استيفاء هذه الحجة وما لها وما عليها إن شاء الله تعالى، والمقصود هنا غير ذلك كما لا يخفى. ***

أخبار الآحاد

أخبار الآحاد تقدَّم تقسيمُ الأخبار إلى مقطوع بكذبه، ومقطوع بصدقه، وما لا ولا. وتقدم تفصيل القسمين الأولين، وبقي الثالث، وهو المشهور بأخبار الآحاد. وقد قسمها أهل الحديث إلى: صحيح وحسن وضعيف، وحدودها معروفة في كتبهم، وإنما أنبه هنا على ما أراه مهمًّا. وسأسرد ذلك في فصول. فصل كان الثنوية من المجوس يعلمون وجود الله عَزَّ وَجَلَّ وعظمته وجلاله، ثم أخذوا يثبتون له ما يرونه كمالاً، وينفون عنه ما يرونه نقصًا، إلى أن قالوا: هو سبحانه خير محض. فوسوس لهم الشيطان قائلاً: فمن أين جاءت هذه الشرور المشاهدة في العالم؟ فكانوا قد سمعوا عن الأنبياء إثبات وجود الشيطان وسعيه في إضلال العباد، فقالوا: من الشيطان. فقال لهم: والشيطان من أوجده؟ فلم يرجعوا إلى الأنبياء وسننهم، بل اغتروا بعقولهم، فتفكروا قائلين: إن قلنا: أوجده الله عزَّ وجلَّ، لزِمَنا أن يكون الله سبحانه خلق جرثومة الشر، وكيف يكون سبحانه مع ذلك خيرًا محضًا؟ وإن قلنا: أوجده غيره، أثبتنا ربًّا غير الله عزَّ وجلَّ، وذلك أشد. وإن قلنا: وُجِد بغير موجدٍ أوجده، فذاك محال. فتخرَّصوا فقالوا: أوجده الله بغير قصد، وذلك أنه سبحانه فكَّر فكرةً رديئة فكان منها الشيطان. فقال لهم: إذا جاز أن يفكر فكرة رديئة لم يكن خيرًا محضًا.

فوقعوا في المهواة. قالوا: الشيطان قديم. ولم يقنع منهم الشيطان بذلك، بل قال لهم: فقد كان ينبغي أن يُهلِكه الله عَزَّ وَجَلَّ ويقطع دابر الشر. فوقعوا في المهواة الأخرى. قالوا: للشيطان قدرة ذاتية عظيمة، والله عزَّ وجلَّ جادٌّ مجدٌّ في إهلاكه، والحرب بينهما مستمرة. ثم خادعوا أنفسهم فقالوا: في آخر الأمر يتمُّ انتصار الله عَزَّ وَجَلَّ على الشيطان، ويلقيه وحزبه في جهنم، ويتخلص العالم من الشر. كان قدماء المصريين موحدين، ثم طال بهم العهد، فاستغنوا عن هدي الأنبياء، وأخذوا يعظمون الله عَزَّ وَجَلَّ بما تقتضيه عقولهم. فقالوا: إن الرب عَزَّ وَجَلَّ بغاية العظمة والكبرياء، والبشر في غاية من الجهل والفساد والحقارة، ومن شأن ملوك الدنيا أن يأنفوا من مقابلة سقط الناس، ويُعدُّ تعرُّض سقط الناس لمقابلة الملك ومباشرة تعظيمه تحقيرًا له. كما لو اجتمع نفرٌ من كنَّاسي المراحيض وقالوا: نحب مقابلة الملك، لِنُحيَّيه ونُهنَّئه مثلاً؛ لاستحقوا العقوبة. فنسبة البشر إلى الرب عَزَّ وَجَلَّ أبعد بما لا نهاية له من نسبة سقط الناس إلى ملوكهم. فقيل لهم: لكن البشر محتاجون إلى عبادة ربهم وسؤال حوائجهم. وكان قد بلغهم عن الأنبياء إثبات الملائكة. فقالوا: كما أن سقط الناس يجعلون تعظيمهم وسؤال حوائجهم إلى أناس أعلى منهم قليلاً، ثم تكون لهم درجات، إلى أن ينتهي الأمر إلى الوزراء. فمَن دون الوزراء يعظَّم الوزراء ويسألهم، وهم بدورهم يعظَّمون الملك ويسألونه. فكذلك ينبغي للبشر أن يوجَّهوا عبادتهم إلى الملائكة؛

لأنهم فوقهم ودون الرب عزَّ وجلَّ، ثم الملائكة يعبدون الله عَزَّ وَجَلَّ؛ لأنهم مقربون عنده. فجَرَوا على ذلك مدة، ثم نشأ فيهم فرعون، فقال: درجة الملائكة عالية، وبينهم وبين البشر بون بعيد، فعبادة عامة البشر للملائكة فيها توهين للملائكة. فقال قومه: وكيف نصنع؟ قال: إن بين عامة الناس وبين الملائكة واسطة، وهي ملوكهم، فإن المَلِك ما نال المُلكَ إلا بعناية من الملائكة تدل أنه محبوب عندهم مرضي لديهم مقرب إليهم، وعلى كل حال فدرجته فوق درجة العامة. فعلى العامة أن يعبدوا السلطان، [ص 41] والسلطان يعبد الملائكة، والملائكة يعبدون الرب عزَّ وجلَّ. وقد أوضحتُ هذا بأدلته من القرآن والتاريخ في رسالة "العبادة". ومن ذلك قول الله تبارك وتعالى: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الأعراف: 127]. أي: أن موسى لم يقنع بأن يذر عبادتك ويساويك فيعبد آلهتك الملائكة، بل ترقَّى عن ذلك فترك عبادة آلهتك الملائكة، وادَّعى مساواتهم في أنه يعبد الرب مباشرة. وقد قصَّ الله عَزَّ وَجَلَّ عن فرعون قوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38] فتدبر. وتمام هذا والجواب عما يورد عليه في رسالة "العبادة". هذا، ولعامة أمم الشرك أشياء من هذا القبيل. أعني أنهم يكونون على هدى، ثم يقصَّرون في الاهتداء بهدي الأنبياء والتمسك بآثارهم، ويستغنون بعقولهم وأفكارهم؛ فيهلكون.

وفي "الصحيحين" (¬1) وغيرهما أنه بينا النبي - صلى الله عليه وسلم - يقسم مالاً إذ قام رجل ... بين عينيه أثر السجود، فقال: يا رسول الله، اتقِ الله. وفي روايةٍ: اعدِلْ يا رسول الله. وهناك روايات أخرى قريبة من ذلك. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ويلك! أوَ لستُ أحقَّ أهل الأرض أن يتقي الله؟ ". وفي رواية: "ويحك! ومن يَعدِل إذا لم أعدل؟ ". وهناك روايات أخرى قريبة من ذلك. فاستأذن عمر وخالد بن الوليد في قتله، فلم يأذن لهما - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: "إن له أصحابًا يَحْقِر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يَمرُقون من الدين كما يمرق السهمُ من الرميَّة" الحديث. فهذا الرجل أسلم وقرأ القرآن، وأكثر من الصلاة، فتوهَّم أنه قد عرف كل شيء ولم تبق له حاجة في دينه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل يمكن عنده أن يقع الجور من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيكون له أن ينكر على النبي - صلى الله عليه وسلم -. فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ذاك الرجل أصل الخوارج، وصدق - صلى الله عليه وسلم -؛ فإن هذه النزغة هي التي استولت على الخوارج، فإنهم قرأوا القرآن، وأكثروا من الصلاة والصيام، فتوهموا (¬2) أنهم قد عرفوا كل شيء، وأنه لا حاجة بهم إلى عرض ما يفهمونه من القرآن على هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وذلك أنه وقع في أنفسهم أن القرآن كلام الله عزَّ وجلَّ، وهو بلسان عربي مبين، وهم عربٌ خلَّص، فاستهواهم هذا حتى وقعوا فيما وقعوا فيه. فمن ذلك: أنهم لما رأوا أمير المؤمنين عليًّا رضي الله عنه رضي بأن ¬

_ (¬1) البخاري (3610، 6163، 6933) ومسلم (1064) من حديث أبي سعيد الخدري. (¬2) في الأصل: "فتوهم".

يعرض ما نشب بينه وبين أهل الشام من الخلاف على رجلين يعرضان ذلك على كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ وسنة رسوله، ويبينان ذلك، وقيل للتفويض إلى الرجلين "تحكيم"، وقيل لهما "حكمان" = ذكر الخوارج أن الله عَزَّ وَجَلَّ قد قال في كتابه {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام: 57, يوسف: 40، 67]. وقال سبحانه: {أَلَا لَهُ الْحُكْمُ} [الأنعام: 62]. وقال تعالى: {لَهُ الْحُكْمُ} [القصص: 70, 88]، وقال تعالى: {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر: 12]. فتوهموا أن ذلك الحكم الذي رضي علي رضي الله عنه بجعله للرجلين هو من قبيل الحكم الذي أخبر الله عَزَّ وَجَلَّ في كتابه أنه له وحده. [ص 42] ولو كانوا مؤمنين بقدر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وما جعل له من المنزلة، وما جعل لسنته من المنزلة في دينه= لرجعوا إلى من يعلم ذلك، وهو علي رضي الله عنه ومن بقي من الصحابة. ولو رجعوا إليهم لأرشدوهم إلى تدبر سياق الآيات المذكورة، وذكَّروهم بغيرها، كقوله عزَّ وجلَّ: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95]، وقوله: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35]، وقوله: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58]. ولبينوا لهم أن لفظ "الحكم" يجيء لمعانٍ، أذكر منها ثلاثة: الأول: القضاء المحكم بالوجود أو العدم. أعني الإرادة التي يستحيل أن يتخلف عنها المراد. وهذا هو المعنيُّ في الآيتين الأوليين بدلالة سياقهما: قال الله عزَّ وجلَّ: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي

مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام: 57]. يعني - والله أعلم - أنني وإن أردت ما تستعجلون به فليس إرادتي بالإرادة التي يستحيل أن يتخلف عنها المراد، وإنما ذاك لله عزَّ وجلَّ. وقال سبحانه في شأن يعقوب: {وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [يوسف: 67]. المعنى - والله أعلم - أنني وإن أردت بما أرشدتكم إليه دفعَ الضرر عنكم، فليس إرادتي بالإرادة التي يستحيل أن يتخلف عنها المراد، وإنما ذلك لله عزَّ وجلَّ. الثاني: الحكم الشرعي، بمعنى جعل الشيء حرامًا أو حلالاً، أو نحو ذلك. وهذا أيضًا خاص بالله عزَّ وجلَّ. فأما ما حكي عن المعتزلة من قولهم: "إن للعقل حكمًا"، ففي العبارة تسامح يمكن أن يكون من الناقلين بقصد زيادة التشنيع. وإنما الذي يقوله المعتزلة: أنه يمكن للعقل أن يدرك من غير طريق الشرع بأن حكم الله في هذا الشيء أنه حرام مثلًا. وذلك أنهم يقولون: ما دامت أحكام الله عَزَّ وَجَلَّ لا بد أن تطابق الحكمة فلا بد أن تلازمها، فكلما وجدت الحكمة وجد الحكم الذي تقتضيه. فإذا أدرك العقل الحكمة في شيء وأنها تقتضي التحريم، أدرك أن حكم الله تعالى في ذلك الشيء هو التحريم، وذلك كقتل النفس. فهم موافقون على أن الحكم بهذا المعنى لله وحده، وإنما الخلاف في أمور: الأول: في أحكام الله عزَّ وجلَّ، أهي بمقتضى الحكمة؟

الثاني: في الحكمة، أتستلزم الحكم ولا بد؟ الثالث: في العقل، أيستقل بإدراك أن الحكمة في هذا الشيء تقتضي هذا الحكم حتمًا؟ وللكلام معهم موضع آخر. الثالث: الفصل المحكم فيما يشتبه أو يختلف فيه ببيان أن الحق كذا. وهذا جعله الله عَزَّ وَجَلَّ للناس، كما تقدم بعض الآيات في ذلك، وهو الذي رضي به أمير المؤمنين علي عليه السلام. وزعم بعض من فهم هذه الحجة ممن ينتحل نحلة الخوارج من المتأخرين أن ما رضي به علي من تحكيم الحكمين ليس من الضرب الثالث، بل هو من الثاني، وذلك أن حكم الله عَزَّ وَجَلَّ في أهل الشام منصوص في كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ بقوله: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9]، فتركُ عليًّ لتنفيذ هذا الحكم وعدولُه إلى جعل الحكم للرجال معناه أنه جعل للرجال أن يحكموا بغير حكم الله. وحل هذه الشبهة أن أهل الشام لم يكونوا يعترفون بأنهم بغاة، وقد تركوا القتال، ورفعوا المصاحف، ودعَوا إلى تحكيم القرآن، ووعدوا بالرضا بما يتبين أنه حكم الله. [ص 43] وهذا داخل في الفيئة إلى أمر الله. فكأنهم [قالوا:] إننا نفيء إلى أمر الله، ولكن لا نعرفه بعينه، ونحسبه معنا، ونحن تاركون القتالَ وطالبون البيان. ولا شك أن حكم الله عَزَّ وَجَلَّ بقتالهم إنما هو ما داموا ممتنعين لا يُرجى رجوعهم إلا بالقتال.

ألا ترى أنه أمر بالإصلاح أولاً وآخرًا، فقال {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)} [الحجرات: 9، 10] والبغي لا بد أن يكون متحققًا من أول الأمر, فإنه لا يمكن أن تقتتل طائفتان إلا وإحداهما باغية. فعلم أنه إنما أمر بالقتال إذا أصرَّت الباغية على بغيها وأبت الصلح، فإذا وقع منها ذلك ثم بعد شيء من القتال رجعت إلى طلب الصلح زالت علة الأمر بقتالنا إياها في الحال. ويوضح هذا قوله في الآية: {فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ}. وقريب من القصة أن يرفع رجل رجلاً إلى قاض ويُثبت عليه أنه قذفه، ويكون بين القاضي والقاذف عداوة, فيريد القاضي أن يحدَّه حد القذف، فيقول القاذف للقاضي: أنت عدوي، ولا آمن أن تكون جُرْتَ علي، فارفعني إلى قاضٍ أخر. فإذا توقف القاضي عن حده ورفعه إلى قاضٍ آخر، عالمًا أنه إن قضى بالحق فإنما يقضي بحده؛ لم يكن في هذا رائحة مما تقدم في الشبهة. فكذلك كانت القصة، بل القصة أولى من هذا؛ لأن القتال ليس حكمًا حتمًا كالحد، وإنما هو وسيلة للإرجاع إلى ترك البغي. ومن ذلك أن الخوارج [لمَّا] سمعوا قول الله عزَّ وجلَّ: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121]، وقوله

تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس: 60]، ونحوها = توهموا أن كل طاعة للشيطان فهي عبادة له وشرك بالله عزَّ وجلَّ، فقالوا: من ارتكب كبيرة فقد أطاع الشيطان، ومن أطاعه فقد عبده وأشرك بالله، فكل مرتكب كبيرة مشرك. وأحسبهم إنما اقتصروا على الكبائر لأنهم رأوا أن الصغائر لا يخلو منها أحد، أو لقول الله عزَّ وجلَّ: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31]. ولو رجعوا إلى من يعلم هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - ويستضيء به في فهم القرآن، لقال لهم: أين يُذهَب بكم؟ إنكم تعلمون من العربية والقرآن أنه ليس كل طاعة عبادة؛ فقد أمر الله عَزَّ وَجَلَّ بطاعة رسوله وأولي الأمر والوالدين، وعلم أن الناس يطيع بعضهم بعضًا في أشياء كثيرة تقع منكم ومن غيركم، وليس ذلك بعبادة ولا شرك. وتعلمون ثانيًا: أن طاعة الشيطان في الصغائر ليست شركًا، وإذا تدبرتم سياق الآية التي تمسكتم بها عرفتم الحقيقة. قال تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ... وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}. [الأنعام: 118 - 121]. والمعنى الذي يدل عليه السياق هو ما يوضحه ما ورد في أسباب

النزول (¬1) أن المشركين قالوا للمسلمين: أما ما ذبحتم بأيديكم فتأكلون، وأما ما ذبح الله بيده - يعنون: الميتة - فتحرّمون! يعنون: إن كانت الميتة حرامًا وهي من ذبح الله فما ذبح الإنسان بيده أولى بالتحريم، وإن كان ما ذبح الإنسان بيده حلالًا فما ذبح الله - أي الميتة - أولى بالحل. وكان محتملاً أن تؤثر هذه الشبهة في قلب بعض حديثي العهد بالإِسلام، فيستحل الميتة أو يمتنع من أكلها ومن أكل المذكَّاة أيضًا، فيكون بذلك مطيعًا للشيطان في شرع الدين. أعني أنه يتدين بما وسوس به الشيطان. فحِلُّ الميتة من وسوسة الشيطان، فمن استحلها فقد أطاعه متدينًا بطاعته. [ص 44] وتحريم المذكّاة من وسوسة الشيطان، فمن امتنع عنها تدينًا فقد أطاعة متدينًا بطاعته. إذن، فطاعة الشيطان المذكورة في هذه الآية طاعة خاصة، وهي طاعته في شرع الدين، بأن يتخذ ما يوسوس به دينًا. وهذا موافق للعربية؛ فإن العبادة في اللغة هي ما يفعله الإنسان من خضوع ونحوه طلبًا لنفع غيبي. والطاعة المذكورة تنطبق على هذا، بخلاف طاعة الشيطان في ارتكاب المعصية، مع العلم والاعتراف بأنها معصية، وتألُّم القلب منها، واستحيائه من ربه عزَّ وجلَّ، وخوفه من عقابه؛ فإن من كان هذا حاله فلم يتدين بتلك الطاعة ولم يطلب بها نفعًا غيبيًّا. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (2819) وابن ماجه (3173) والطبراني في "الكبير" (12295) والحاكم في "المستدرك" (4/ 233) والبيهقي في "السنن الكبرى" (9/ 240) من حديث ابن عباس. وإسناده صحيح.

فأما الآيات الأخرى كقوله تعالى: {لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس: 60] فلا إشكال فيها, لأن العبادة معروفة، كما تقدم، وليس طاعته في المعصية منها، وإن كانت منهيًّا عنها بغير هذه الآية. كما أن قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36] الشرك فيها معروف، وليس منه الصغائر اتفاقًا، وإن كانت منهيًّا عنها بغير هذه الآية. ومما يوضح ما تقدم أن الله عَزَّ وَجَلَّ جعل طاعة الأحبار والرهبان في شرع الدين عبادةً لهم. قال تعالى في أهل الكتاب: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا} [التوبة: 31]. وقد ذكر عدي بن حاتم للنبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم لم يكونوا يعبدون الأحبار والرهبان، فبيَّن له النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم كانوا يُحِلُّون لهم ما قد عرفوا أنه حرام فيستحلونه، ويحرَّمون عليهم ما قد عرفوا أنه حلال فيحرمونه، ثم قال: "فتلك عبادتهم" (¬1). وجعل الله تعالى طاعة الرؤساء في شرع الدين عبادة لهم، وطاعة الهوى عبادة له. وقد أوضحت جميع ذلك في رسالة "العبادة". ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (3095) والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 116) وغيرهما، قال الترمذي: "حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب, وغطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث". وللحديث شواهد وطُرق يحسَّن بها، انظر "السلسلة الصحيحة" (3293).

فصل

هذا، والخوارج عرب فصحاء، بِلُغتهم نزل القرآن، وإنما أُتُوا من جهلهم بالهدي النبوي، واستغنائهم عن الاهتداء بالعارفين به من الصحابة. فما بالك بزماننا هذا وأنت تجد فيه أفرادًا من الأعاجم لا يستطيع أحدهم تركيب جملة صحيحة بالعربية، وليس عنده من معرفة السنة وتفاسير السلف قليل ولا كثير، ثم تجده يخوض في آيات الله عَزَّ وَجَلَّ خوض المُدِلِّ بنفسه، فينظر في الآية، ثم يتتبع معاني ما فيها من الكلمات في كتب اللغة، ثم يلفق من ذلك معنى كما يوافق هواه، فيزعم أنه مراد الله عزَّ وجلَّ، ثم يبني على ذلك دينًا جديدًا وشريعة مخترعة، ويضلَّل سلف الأمة ويكذّب السنة، إلى غير ذلك؟! فإلى الله المشتكى. وإنما سقت هذا الفصل تمهيدًا للذي بعده. [ص 45] فصل في "جمع الجوامع" (¬1): "يجب العمل به - أي بخبر الواحد - في الفتوى والشهادة إجماعًا، وكذا سائر الأمور الدينية ... ، وقالت الظاهرية: لا يجب مطلقًا". أقول: المعروف عن إمام الظاهرية داود أن خبر الثقة يفيد العلم، كما تقدم، واختار ذلك فحلهم ابن حزم، وكان منهم جماعة محدثون يحتجون بأخبار الآحاد. وإنما يُحكى هذا القول عن الظاهرية عن محمَّد بن داود والقاساني (¬2)، ولا أدري ما صحة النقل، فقد يحتمل أن يقول من يرى أنه ¬

_ (¬1) (2/ 158) بشرح المحلي وحاشية العطار. (¬2) انظر "إرشاد الفحول" (ص 43).

يفيد العلم: "لا يجب العمل بما لا يفيد إلا الظن من الآحاد"، فيتوهم سامعه أنه يريد رد أخبار الآحاد مطلقًا، وهو إنما يردُّ أخبار غير الثقات, لأن أخبار الثقات عنده تفيد العلم. فتأمل. هذا، ومحمد بن داود لم يُذكر عنه معرفة بالسنة، فإنه كان مشغولاً بالعشق، وذكر عن نفسه أنه ابتُلِي بالعشق مذ كان في الكُتّاب، ثم لازمه حتى مات عشقًا؛ لأنه كان يستحل النظر ويتعفف (¬1)، كما قال عنترة (¬2): أغشىَ الوغَى وأعِفُّ عند المغنمِ فقد لزمه العشق المُضْنِي من المهد إلى اللحد، وكان غاية في الأدب والظرف. وأما القاساني (¬3) فهو من أصحاب داود، ولا شهرة له، وإنما ذكروا أنه خالف داود في مسائل نقضها عليه ابن المغلِّس. وحكي عن عبد الرحمن بن كيسان الأصم - من قدماء المعتزلة -، وعن تلميذه إبراهيم بن إسماعيل بن علية: أنه لا يقبل خبر الواحد في السنن والديانات، ويقبل في سائر الأحكام (¬4). ¬

_ (¬1) انظر "تاريخ بغداد" (5/ 259، 262). (¬2) شطر بيت من معلقته، وصدره: يُخبِرْك من شهد الوقيعةَ أنني (¬3) هو أبو بكر محمد بن إسحاق القاساني، ترجمته في "طبقات الفقهاء" للشيرازي (ص 176). (¬4) انظر "إرشاد الفحول" (ص 43).

والأصم لم يُذكَر عنه أنه سمع حديثًا أو رواه, فقد كان بعيدًا عن الهدي النبوي، وإنما عمدته على عقله وفكره (¬1)، وقد علمت في الفصل السابق حال من كان هكذا. وأما إبراهيم فقد كان أبوه من جِلَّة المحدثين، ولكنه هو رغب عن السماع، وتبع الأصم. وله ترجمة في "الميزان" و"لسانه" (¬2). وحكي عن هشام والنظَّام: أنه لا يقبل إلا بعد قرينة تنضم إليه، وهو علم الضرورة، بأن يخلق الله في قلبه ضرورة الصدق. قيل: وإليه ذهب أبو الحسين بن اللبان الفرضي (¬3). أقول: إن أراد قائل هذا بـ "علم الضرورة" علم اليقين الذي لا يقبل التشكيك فهو كما ترى، فإن ما يفيد من أخبار الآحاد العلم بمعونة القرائن ونحوها مما تقدم سببه معروف، فأما أن يقع اليقين بلا سبب فمحال في العادة. وإن أراد أن يطمئن القلب بصدقه فهذا قريب، فإن أئمة الحديث لا يكادون يصححون حديثًا إلا وهو كذلك. ولا تتخلف طمأنينة القلب عن خبر الواحد الثقة إلا لعلةٍ إذا بحث عنها العارف عرفها، وبذلك يعرف أن الخبر معلول. هذا، وهشام والنّظام من بابة الأصم، وأسوأ ذكرًا منه. وثَمَّ أقوال جزئية ستأتي إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) انظر ترجمته في "لسان الميزان" (5/ 121). (¬2) "الميزان" (1/ 20) و"اللسان" (1/ 243). (¬3) انظر "إرشاد الفحول" (ص 43).

شبههم وحلها

[ص 46] شبههم وحلُّها شبهة: ذكروا عن هؤلاء أنهم استدلوا على منع القبول بأمرين: الأول: أن الحكم الشرعي يترتب عليه أمور عظيمة، كإزهاق النفوس، وإحلال الفروج، وغير ذلك. وخبر الواحد يجوز أن يكون كذبًا، فإثبات الحكم الشرعي به يؤدي إلى إزهاق نفوس لا تحصى، وإحلال فروج لا تحصى، بخبر قد يكون كذبًا. والجواب: أنكم تعلمون أن هذه النشأة الدنيا يشتبك فيها الخير بالشر، ألا ترون أن الخلق والتكليف وإرسال الرسل وإنزال الكتب جرَّ إلى كثير من الشر؟ وتعلمون أن المدار إنما هو على الموازنة، فإذا كان شيء يترتب عليه خير وشر بُنِيت الحكمة على الراجح. فإذا كان الخير أكثر وأعظم اقتضت الحكمة وقوعه. ووجوب العمل بأخبار الثقات يترتب عليه من الخير والمصالح ما لا يحصيه إلا الله عزَّ وجلَّ، من تيسُّرِ نقل الشريعة، والعلم والعمل بها، وما يترتب على ذلك من الثواب وقيام الحجة وتوسيع دائرة الابتلاء وغير ذلك. وكل ذلك داخل في حكمة الخلق والتكليف، وهذا كله متحقق لا ريب فيه. وأما المفسدة التي حصرتم نظركم فيها فمع قلتها وصغرها في جانب ما ذكر من الخير هي محتملة فقط؛ لأن الغالب على أخبار الثقات الصحة، ولا سيّما إذا اعتبر فيها ما يعتبره أهل الحديث من شرائط القبول، ويعتبره الفقهاء في الاجتهاد والترجيح.

وحسبك أنك لا تكاد [تجد] حديثًا صحيحًا قامت الحجة على كذبه، فإن كان فقليل جدًّا، وقد يكون ذاك القليل هو جميع ما اتفق فيه الكذب عمدًا أو خطأ. وهذا كافٍ في حلَّ هذه الشبهة لمن يريد الحق. وفوق ذلك، فقد تكفَّل الله عَزَّ وَجَلَّ بحفظ شريعته، فإن اتفق أن فاجرًا تظاهر بالثقة فاغتر به بعض الناس، فكذب في حديثٍ؛ فإما أن يفضحه الله عزَّ وجلَّ، وإما أن يرشد الناظر إلى ما يرد خبره، فإن تركه ففي بعض الأحوال والوقائع لحكمة يعلمها سبحانه، ثم يبين حاله في غير ذلك. فإن قيل: قد يأخذ به آخذٌ، فيخطئ فيتبعه طائفة إلى يوم القيامة. قلت: يبينه الله تعالى لغيره، ويكون على من تمكَّن من النظر من أتباعه أن ينظر، أو يسمع كلام من خالف متبوعه، أو يسأل، فيبين الله تعالى له. فإن أصرَّ الأتباع على رأي متبوعهم ولم يلتفتوا إلى غيره، فذاك ضلالٌ ارتضوه لأنفسهم، والدين بريء منه. ومثل هذا يقع كثيرًا في النظر العقلي، وفي فهم القرآن، كما لا يخفى. وذلك غير خارج عن الحكمة، قال الله عزَّ وجلَّ: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة: 26]. ومنكرو أخبار الآحاد يعترفون بالدلائل الظنية من القرآن، ومنهم من يعترف بالرأي والقياس، ويحتمل فيها مثل ما قالوا؛ بأن يذهب ذاهب إلى فهمٍ ظهَر له من القرآن، أو رأيٍ خطرَ له، ثم تتبعه طائفة أو طوائف.

شبهة أخرى

[ص 47] شبهة أخرى: قد يقال: إن خبر الثقة يمكن أن يكون باطلاً؛ إما لتعمده الكذب، وإما لغلطه. والغالب أن في الأخبار التي ظاهرها استجماع شرائط القبول - عند من يراه - عدة أخبار من هذا القبيل، أي باطلة. فلو جاز أن يتعبد الله عزَّ وجلَّ عباده بالعمل بالأخبار وفيها الباطل، للزم من ذلك أن يكون تعبدَهم بالباطل، وهو محال. والجواب كما تقدم عن الشبهة الأولى، وقد تعبَّد الله الخلقَ بما فهموه من القرآن وقد يخطئون، وتعبَّد العامةَ بما يفتيهم العلماء وقد يفتونهم بالباطل، وتعبَّد الناسَ أن يبنوا في أمر صلاتهم وصيامهم على سماع الأذان، وقد يخطئ المؤذن، وتعبَّد القضاةَ بالحكم بما شهد به الشهود بشرطه، وقد يكذب الشهود أو يغلطون، وتعبَّد المرأةَ بأن تُمكِّن من عهدته زوجَها أو سيدها، وقد يحتمل أن يكون محرمًا لها في نفس الأمر أو يكون قد طلقها أو أعتقها ولا تعلم، وتعبَّد المسلمَ بأن يقتل من يراه في صف الكفار وعهده منهم أو لم يعرفه، وقد يكون مؤمنًا. وأمثال هذا كثيرة. وفي الجواب عن الشبهة الأولى ما يفسر جميع ذلك، ولله الحمد. شبهة ثالثة: قد يقال: قد ثبت امتناع تكليف الغافل، وإنما ذلك لأنه لا بد لاستحقاق العبد العقابَ من قيام الحجة عليه. وخبر الواحد لا يتم به قيام الحجة؛ لأن للعبد أن يقول: يا رب، لم يبلغني هذا من وجه قاطع، وإنما بلغني من وجه

يجوز فيه الكذب والخطأ. والجواب: لله الحجة البالغة، فسنثبت - إن شاء الله تعالى - أن وجوب العمل بخبر الثقة بشرطه ثابت بالدلائل القطعية، إذا ثبت ذلك فقد صار عمل المكلف بما يبلغه من ذلك واجبًا عليه قطعًا، ولا ينفعه كونه يجوز في نقل ذلك الخبر الكذب والخطأ؛ فإن الله تعالى يقول له: قد علمتَ قطعًا أنه يجب عليك العمل بمثله، وكفى. ومع ذلك، فيقال لمن حاول الاعتذار بما ذكر: أرأيت لو أخبرك من تثق به بأن في هذا الجُحر حية، أتُدخِل يدك فيه وأنت تحب الحياة؟ أرأيت لو أخبرك من تثق به بأن في القارورة التي لا يُدرى ما فيها سمٌّ قاتل، أكنت شاربه وأنت تريد الحياة؟ أرأيت لو جاءك رجل تثق به، فقال لك: أنا رسول الأمير إليك، يأمرك أن تحضر في وقت كذا، فإن حضرت أنعم عليك، وإن لم تحضر عاقبك، أتتكاسل عن الحضور وأنت تعلم قدرة الأمير على نفعك وضرك؟ أرأيت؟ أرأيت؟ ثم يقال له: فلو كنتَ تؤمن بالله وترجو رحمته وتخاف عقابه لعملت بخبر الثقة عن رسوله. فإن كنت مؤمنًا ولكن غلب عليك الهوى فخالفتَ، فأنت تعلم أنك معرَّضٌ نفسَك للعقاب، وأنك إذا عُوقبتَ فعلى نفسك اللوم!

شبه ذكرها الآمدي

[ص 48] شبه ذكرها الآمدي (¬1): 1 - لو جاز قبول خبر الواحد عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بدون قرينة تبلغه القطع لجاز قبول دعوى مدعي النبوة بغير معجزة. وأجاب بأن مدعي النبوة بغير معجزة لا يغلب أن يكون صادقًا، بل الغالب أن يكون كاذبًا. وبأننا إنما نوجب العمل بخبر الواحد لقيام الحجة القطعية على وجوب العمل به، ولا حجة على وجوب تصديق مدعي النبوة بدون معجزة. ثم ذكر اعتراضًا على هذا، وهو أنه لو فُرض أن نبيًّا معلوم النبوة قال للناس: إذا ادعى إنسان النبوة وظننتم صدقه فاتبعوه = لكان هذا حجة قطعية على وجوب اتباع من يدعي النبوة ويُظن صدقُه، ومع ذلك لا يجوز الاتباع. وأجاب بمنع عدم الجواز. يعني: يجب الاتباع حينئذٍ حتمًا، وهو ظاهر. ثم ذكر أن الفرق بين الأمرين أن المفسدة اللازمة على دعوى النبوة أعظم. أقول: هذا الفرق يبين أنه يمتنع أن يقول نبي معلوم النبوة: كل من ادعى النبوة وظننتم صدقه فاتبعوه. لا أنه على فرض وقوع ذلك لا يجب الاتباع. ثم أقول: أما بعد خاتم النبيين صلَّى الله عليه وآله وسلم عليهم أجمعين فقد عُلِم سدُّ الباب قطعًا، فمدَّعيها ممن لم يُعلم أنه كان نبيًّا من قبلُ كاذب قطعًا. ¬

_ (¬1) "الإحكام" (2/ 70 وما بعدها).

ونحن إنما نقبل خبر من عرفناه ثقة بشرط أن لا يتبين كذبه أو غلطه، كما يأتي إن شاء الله. بل بادعاء من ذكر يتبين أنه كافر أو مجنون، فتزول ثقته إن كان قبل ذلك ثقة. وأما إذ كان باب النبوة مفتوحًا فإنه كان إذا ادعى رجل أنه يوحى إليه فقط، أعني: أنه لم يُخبر عن حكم لا يُعلم إلا مِن قِبَله = كان على الناس إذا عرفوا منه قبل ذلك الصدق والأمانة والخير والصلاح، واستمر يتزايد في ذلك؛ أن يظنوا صدقه. ولا حرج في ذلك؛ إذ لا ينبني عليه حكم إلا زيادة الاحترام له، ولا ضير فيه. وإن ادعى الرسالة وأخبر بأمور من الدين على أنه بُعِث بها= فعلى الذين بلغهم خبره ودعواه أنه مبعوث إليهم أن يبحثوا عن حاله، ويسائلوه، مع العزم على اتباعه إن كان صادقًا. فإذا فعلوا ذلك فلا بد أن يهديهم الله عزَّ وجلَّ للحق؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]. وتفصيل ذلك: أنه إن كان في نفس الأمر كاذبًا فلا بد أن يبين الله عزَّ وجلَّ كذبه، وذلك بأن يخبر بما عُلِم قطعًا أنه محال، أو يخبر عن أشياء أنها كانت ويتبين قطعًا أنها لم تكن، أو نحو ذلك. وإن كان صادقًا فلا بد أن يبين الله عَزَّ وَجَلَّ لهم صدقه. نعم، من جملة الجهاد في الله عَزَّ وَجَلَّ أن يتبعوا ذاك الرجل إذا كان ما يدعو إليه خيرًا مما هم عليه في فِطَر الناس وعقولهم وفيما عُلِم من الشرائع الأولى.

قال الله تبارك وتعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 14]. فهؤلاء كانوا قد أسلموا طائعين، وبذلك تبين أنه ليس عندهم عناد ولا استكبار، وهذا هو الذي يمنع من الإيمان بعد الاطلاع على المعجزة القاطعة، فبان أن عدم دخول الإيمان في قلوبهم إنما هو [لأنه] لم يتفق لهم بعدُ ما يقطع الريبة، كالمعجزة القاطعة. ومع ذلك لم يذمهم الله عزَّ وجلَّ على الإِسلام قبل التيقن، بل وعدهم بأن يدخل الإيمان في قلوبهم، كما تقتضيه كلمة "لمّا"، ووعدهم أنهم إذا أطاعوا أثابهم، وأوعد - في غير هذه الآية - غيرهم ممن لم يؤمن بعد بلوغ الدعوة بالعذاب. فثبت بذلك أن تصديق مدَّعي الرسالة واتباعَه لا يتوقف وجوبه على المعجزة القاطعة، بل قد يجب بدونها إذا كان معروفًا من المدعي الصدقُ والأمانة والخير والصلاح، ودعا إلى ما يتبين للعقول أنه حق، أو يترجح أنه حق، ولم يظهر من أقواله وأفعاله وأحواله ما ينافي النبوة. وأما قول الآمدي (¬1): "إنه لا حجة على وجوب تصديق مدعي النبوة بغير معجزة" = فليس بمستقيم. بل الحجة قائمة، وهي ما يعلمه الناس بفطرهم وعقولهم، وبما بلغهم من الشرائع المتقدمة، أن على الإنسان اتباع ما يترجح أنه حق واجتناب ما يترجح أنه معصية. ¬

_ (¬1) "الإحكام" (2/ 73).

وسيأتي إن شاء الله تعالى تقرير ذلك، ويأتي إن شاء الله الجواب عما جاءت به الشريعة من إبطال بعض ما يقال: إنه يفيد الظن، كخبر بعض الكفار وبعض الفساق وبعض الصبيان، ونحو ذلك. [ص 49] 2 - لو جاز في الفروع لجاز في الأصول. وأجاب (¬1) بأن المطلوب في الأصول القطع، وخبر الواحد لا يفيده. يعني: أن الخبر المعين لا يفيد ثبوت مدلوله قطعًا. وأما الفروع فيكفي فيها الظن. يعني: كالدلالات الظنية من القرآن، وكفتوى المجتهد، وغير ذلك. وأقول: إن أريد بالأصول العقائد فإننا نلتزم جوازَ - بل وجوبَ - قبول الأحاديث الصحيحة فيها. فإن العقائد على أضرب: الضرب الأول: ما لا يكون الإنسان مؤمنًا إلا باعتقاده. فما كان في هذا من الأحاديث الصحيحة فهو بالانضمام إلى غيره من الأدلة مفيد للقطع، وإن فُرِض أنه بلغ إنسانًا لم يبلغه غيره من الأدلة في معناه، فإنه يلزمه قبوله، ويحصل له به الظن، وهو خيرٌ من الجهل، وقد يكفيه ذلك إذا كان معذورًا، كحديث العهد بالإِسلام، على ما تقدم في الجواب عن الشبهة السابقة. الضرب الثاني: ما لا يتوقف عليه الإيمان، ولكن الشارع حثَّ على اعتقاده. وفائدة الحديث في هذا أظهر. ¬

_ (¬1) أي الآمدي في "الإحكام" (2/ 74).

الثالث: ما لم ينصّ على الحثّ على اعتقاده. والأمر فيه واضح. فإن قلت: إنما تمشَّى لك هذا لأنك بنيتَ على أن الحديث الصحيح إذا ورد بعقيدة فإنما يرِدُ بما هو حق في نفس الأمر، وليس هذا بلازم؛ لجواز أن يرِدَ بما هو باطل، ضرورةَ جوازِ الخطأ والغلط على الرواة، بل والكذب أيضًا. فالجواب: أن ما ذكرته يجري في هذا أيضًا، وذلك أنه إن ورد حديث بعقيدة باطلة - على أنها من الضرب الأول - فهذا لا يكون صحيحَا؛ لأنه على فرض أن رواته ثقات يكون شاذًّا منكرًا، لوجهين: الأول: أن الضرب الأول لِعِظَم شأنه اعتنى به الشارع، وأشاعه وأذاعه، واعتنى به أصحابه ثم أتباعهم، وهلمَّ جرًّا، فلو كان هذا منه لنُقِل إلينا بالتواتر. الوجه الثاني: أن الله عَزَّ وَجَلَّ جعل محمدًا - صلى الله عليه وسلم - خاتم الأنبياء، وشريعته خاتمة الشرائع، ولذلك تكفّل بحفظها إلى يوم القيامة، ولا يتم الحفظ إلا بأن يكون على وجه تقوم به الحجة، ويحصل به المطلوب. والمطلوب في الضرب الأول هو استيقانه، وذلك لا يحصل بمجرد خبر الواحد. فإذا لم نجد في الشريعة إلا خبرًا واحدًا، ومدلوله أصل اعتقادي، على أنه من الضرب الأول، علمنا بطلانه. لا يقال: فلعله يقع إلى حديث العهد بالإِسلام.

فإننا نقول: إنه إذا وقع إليه لا يعلم وثاقة رجاله، وعلى فرض أنه علم فإنه إن كان ذا عقل يتوقف عنه حتى يعرف حاله؛ لاحتمال أنه لا يوجد في الشريعة في معناه غيره، فيكون باطلاً للوجهين السابقين. وإن ورد بعقيدة باطلة لا على أنها من الضرب الأول، فإن دل العقل الصريح أو النقل الذي هو أعلى من ذلك الخبر على بطلانها فذلك الخبر ليس بصحيح، وإلا - إن جاز هذا - فإن من بلغه وعرف صحته الظاهرة يظن مدلوله بطبيعة حاله، فإذا ألزمناه أن يظن فإنما ألزمنا بأمر لا محيصَ له منه، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها. لكنني أقول: إن هذا إن اتفق لشخص أو جماعة لا يستمر، ضرورةَ أن الله تبارك وتعالى تكفَّل بحفظ شريعته. وكما أن مِن الحفظ أن لا يذهب منها شيء حتى لا يوجد فيها البتة، فكذلك منه أن لا يلتبس بها شيء حتى لا يوجد البتة دليل على أنه ليس منها. قيل لابن المبارك: هذه الأحاديث المصنوعة؟ فقال: تعيش لها الجهابذة، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] (¬1). والذكر يعمُّ السنةَ، إن لم يكن بلفظه فبمعناه, لأن المقصود بقاء الحجة والهداية في الأرض، كما مر. هذا، وقد تواتر عن الصحابة رضي الله عنهم، ثم عن التابعين وأتباعهم أنهم كانوا يروون الأحاديث في العقائد، ويسمعونها، وينقلونها، وينكرون على من أنكرها لمجرد هوًى أو تخرُّصٍ أو جهلٍ، والله المستعان. ¬

_ (¬1) انظر "الكفاية" (ص 77).

[ص 50] وإن أريد بالأصول: أصول الفقه، فإننا نلتزم وجوب قبول الأحاديث الصحيحة فيها أيضًا. ثم إن كان الأصل من الأصول العظمى التي تكثر فروعها في الشريعة جدًّا، فالكلام في هذه كالكلام في الضرب الأول من العقائد، فإذا انفرد حديث بأصلٍ - على أنه من ذلك - فهذا لا يكون صحيحَا؛ لما تقدم. وإن كان في الأصول التي تقلُّ فروعها فنقول: إن قامت الحجة فيها على أنها لا تثبت إلا بحجة قاطعة فكالأصول العظمى، وإلا فكالفروع، فتقبل فيها الدلائل الظنية، ومنها الحديث الصحيح. والله أعلم. 3 - لو جاز لجاز في نقل القرآن. وأجاب (¬1) بأن القرآن معجزة الرسول، فالمطلوب منه إقامة الحجة القاطعة على رسالته. أقول: بل نلتزم وجوب قبول الحديث الصحيح في هذا أيضًا. وقد كان في أول الإِسلام يثبت القرآن بخبر الواحد، فقد كان الرجل يسلم ويتعلم سورًا من القرآن، ثم يذهب إلى قبيلته فيدعوهم، ويعلِّم من يُسلِم منهم (¬2) تلك السور، ويتلونها، ويصلّون بها، ويعملون بها. ولو ذهب الآن رجل مسلم إلى جزيرة منقطعة فدعا أهلها إلى الإِسلام، فأسلموا، وعلَّمهم سورًا من القرآن، فتلَوها، وصلَّوا بها، وعملوا بها = لكانوا محسنين. فإن فُرِض أنه أدخل في القرآن ما ليس منه، وكانوا قد اختبروه ¬

_ (¬1) أي الآمدي في "الإحكام" (2/ 74). (¬2) في الأصل: "منه".

فظنوه ثقةً، فلا إثم عليهم، إلا أن تقوم عليهم الحجة، أو يتحقق تقصيرهم. وأما قول أهل العلم: لا يثبت القرآن بخبر الواحدة فالمعنى في ذلك أن الصحابة رضي الله عنهم جمعوا القرآن، واتفقوا على أنه لم يبق منه آية محكمة إلا وهي فيما جمعوه، ثم تواتر ذلك المجموع إلينا، فثبت بذلك أن ما لم يكن في ذلك المجموع فليس من القرآن المحكم. بل إما أن لا يكون كان منه البتة، وإما إن يكون كان منه فنُسِخ. فما ثبت بالأحاديث الصحيحة على أنه من القرآن، ولم يكن فيما جمعه الصحابة رضي الله عنهم، فالظاهر أنه كان منه فنسخ. ويجب قبول تلك الأحاديث على هذا المعنى. ثم إن وجدنا في الكتاب أو السنة ما هو صريح في خلاف معنى ذلك الكلام الذي نقول بأنه كان من القرآن فنُسِخ، تبين لنا أنه نُسِخ معناه كما نُسِخت تلاوته. وإن وجدنا فيهما ما يوافق معناه تبين لنا أن الحكم باقٍ. وإن لم نجد لا ذا ولا ذاك، وقلنا بأن نسخ التلاوة مع بقاء الحكم ممكن شرعًا= كان حجة، كما لو نُقِل على أنه من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد احتج أهل العلم بأشياء من ذلك كما هو معروف. والحاصل أن عدم ثبوت أنه قرآن محكم إنما هو لقيام الحجة على أنه ليس منه، ولو اتفق مثل هذا في الأحكام الفرعية بأن يصح حديث في شيء بأنه من أركان الصلاة، وتكون عندنا حجة أقوى منه على أنه ليس منها؛ فإننا نقضي بأنه ليس منها.

ولا يلزم من سقوط حجية الدليل إذا عارضه ما هو أقوى منه أن تسقط حجيته البتة. وهذا بغاية الوضوح، ولله الحمد. 4 - قد يتعارض خبران، فيلزم من القول بوجوب الأخذ به أن يجب الأخذ بالمتضادَّينِ. وهو محال. وأجاب (¬1) بأنه إن أمكن الترجيح فالحجة في الراجح ويسقط المرجوح، وإلا فإن قلنا بالتخيير فهو من قبيل الواجب المخير مع امتناع الجمع، وإلا فغايته امتناع التعبد بمثل هذا لتعذر العمل، ولا يلزم من ذلك امتناعه عند الإمكان. أقول: قد يقع التعارض بين آيتين، وبين دليلين عقليين، فهل يقول مُورِد هذه الشبهة إنه لا يجوز الاحتجاج بالقرآن ولا بالمعقول أيضًا؟ فإن قال: أما الآيتان فناسخة ومنسوخة، وأما الدليلان [ص 51] العقليان ففي أحدهما خلل. قلت: فكذلك نقول في الحديثين إذا تعارضا: إنهما إما ناسخ ومنسوخ، وإما في أحدهما خلل. والكلام فيما ينبغي اعتماده في أشباه ذلك مبسوط في موضعه. 5 - الأصل براءة الذمة عن الحقوق والعبادات وتحمُّل المشاقّ، وهو مقطوع به، فلا يجوز مخالفته بخبر الواحد مع كونه مظنونًا. وأجاب (¬2) بأنه لم يبق القطع بعد الوجود والتكليف في نفس الأمر، ¬

_ (¬1) الآمدي في "الإحكام" (2/ 74). (¬2) المصدر السابق (2/ 99).

قال: ثم هو منتقض بالفتوى والشهادة. أقول: قولكم "مقطوع به"، أتريدون مقطوع بأنه قد كان، أم بأنه مستمر؟ لا سبيل إلى الثاني، كما لا يخفى، وأما الأول فلا يلزم من كون زيد كان حيًّا العامَ الماضي قطعًا أن يكون حيًّا اليوم. إذن، فحياته اليوم محتملة فقط، وأما الحكم باستصحاب الأصل فإنما هو لمعانٍ: منها: أنه قد يساعده الظاهر، كما لو كان حيًّا صحيحًا بالأمس، فإن الظاهر أنه حيٌّ اليومَ؛ لأنّ موت الفجأة قليل. ومنها: أن يكون الأصل عدمًا، وإقامة الحجة على بقاء العدم مما يصعب، وذلك كما لو عهدناها زوجته فإنه من الصعب إقامة الحجة على أنه لم يطلق. إلى غير ذلك. وكذلك هنا، فإن الأشياء لا تحصى، والأفعال لا نهاية لها، فلم يعتن الشارع بتعداد المباحات لأنها لا تحصى، ولا بتعداد ما ليس بعبادة من الأفعال لأنها لا نهاية لها. بل اعتنى بالدلالة على المحرمات والمكروهات من الأشياء والأفعال، وعلى الواجبات والمندوبات من الأفعال، فكان إثبات النص في كل شيء أن الشارع لم يحرمه ولم يكرهه، وفي كل فعل أنه لم يحرمه ولم يكرهه، ولم يوجبه ولم يندبه= متعذرًا. فإذا لم نجد في الشرع دليلًا على تحريم شيء أو فعل ولا كراهته، كان الظاهر أنه مما ترك، وإنما ترك الشارع المباحات. وكذلك إذا لم نجد دليلًا على وجوب الفعل ولا ندبه، كان الظاهر أنه مما ترك، وإنما ترك الشارع ما ليس بعبادة.

وهذا الظاهر لا يبقى بعد قيام الدليل الظني المعتبر. 6 - قبوله تقليدٌ، فلا يجوز للمجتهد. وأجاب (¬1) بما حاصله أننا إنما منعنا تقليد مجتهد لآخر لاستوائهما، ولا مساواة هنا فإن الراوي استبدَّ بمعرفة الحديث. أقول: هذا يحتاج إلى إيضاح، وهو أن زيدًا المجتهد إن أراد أن يقلد بكرًا المجتهد، فإن كان معه في المجلس - مثلًا - فلا معنى للتقليد، بل عليه أن يبحث معه، فإن نبَّهه على دليل لم يكن عرفه، أو كان غافلًا عنه، أخذ بذلك الدليل اجتهادًا لا تقليدًا. وإن لم يذكر له دليلاً، أو ذكر دليلًا لا يراه زيد كافيًا، فلا وجه للتقليد؛ لأنه إذا لم يذكر دليلًا بعد السؤال فالظاهر أنه لا دليل له. وإن ذكر دليلًا لا يراه زيدٌ كافيًا فكيف يقلد من يعلم أنه إنما استند إلى ما لا يكفي؟ وإن كان بكرٌ بعيدًا عن زيد بحيث لا يتيسر له البحث معه، أو كان قد هلك، فبعد أن بحث زيدٌ ونظر، ولم يجد دليلًا صحيحًا موافقًا لقول بكرٍ، فقد حصل له ظن أنه لم يكن لبكرٍ دليل صحيح على ما ذهب إليه، فكيف يقلده مع هذا؟! ثم أقول: نعم، إذا تحير زيدٌ بعد البحث والتفتيش، فلم يجد دليلًا على ما يوافق بكرًا ولا على ما يخالفه، فقد قيل بأنه إذا غلب على ظنه أن بكرًا وقف على دليلٍ لم يقف عليه هو = أن يقلده. وهذا قوي. ¬

_ (¬1) أي الآمدي في "الإحكام" (2/ 99، 100).

الشبهة النقلية

[ص 52] أقول: فأما قبول الخبر من الراوي فليس من التقليد الاصطلاحي في شيء، فإنه قبول قول من تقلّده بلا حجة. والتابعي - مثلًا - إنما قَبلَ رواية الصحابي بحجة، وهي إخباره - مع ثقته - بأنه سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقس على ذلك. ولو كان هذا تقليدًا لكان حكم القاضي بشهادة الشهود تقليدًا لهم، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقضي بشهادة الشهود، وأخبر بأنه إنما يقضي على حسب ما يسمع، أي أنه لا يتوقف قضاؤه على علمه بما في نفس الأمر. فدل ذلك أنه يقضي بشهادة من ظاهرهم العدالة، ولا يتوقف قضاؤه على أن يعلم أن ما شهدوا به حق في نفس الأمر. فلو كان هذا تقليدًا لكان النبي - صلى الله عليه وسلم - مقلدًا. وليس الرواية إلا ضربًا من الشهادة، فإن الراوي يشهد على من فوقه أنه قال كيت وكيت مثلًا. وقد قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - خبر تميم الداري، وحكاه عنه (¬1). فإن قيل: نعم، ليس هو من التقليد الاصطلاحي، ولكن يصح أن يسمى تقليدًا. قلت: لا حرج، ولكن ليس داخلاً في قولهم: المجتهد لا يقلد مجتهدًا، ولا هو في معنى ذلك، وإنما هو قريب من قبول القاضي شهادة العدل. [ص 53] الشبهة النقليَّة: خبر الواحد لا يفيد العلم، وقد قال الله تبارك وتعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]، وقال سبحانه: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ¬

_ (¬1) كما في "صحيح مسلم" (2942).

الأولى: العربية.

ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] وإنما يفيد الظن، وقد قال الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36] في آيات أخرى. أقول: أما الآية الأولى فينبغي النظر في معناها، وذلك من أربع جهات: الأولى: العربية. فأقول: ذكر أهل اللغة أن القفا اسم لمؤخر العنق، وأخذ منه الفعل، قالوا: قفا زيدٌ بكرًا، إذا ضرب قفاه، كما قالوا: دَمَغه وأَمَّه، أي: أصاب دماغَه وأُمَّ رأسه. وأمثال ذلك. قالوا: وقفاه: تبعه. أقول: ووجهه أن التابع ينحو قفا المتبوع، وقضية هذا أن يكون أصل ذلك في الاتباع عن قرب، بحيث يرى التابع قفا المتبوع. وقالوا: وقفاه: رماه بسوء، كالقذف بالزنا ونحوه. أقول: زعم أبو عبيد أنه مأخوذ من القفو بمعنى الاتباع، ففي "لسان العرب" (¬1): "قفا فلان فلانًا، قال أبو عبيد: معناه: أتبعه كلامًا قبيحًا". أقول: والوجه أنه (¬2) من قفاه بمعنى: ضرب قفاه؛ لوضوح المناسبة، فإن في كل من ضرب القفا والرمي بالقبيح إيذاءً وإهانة وإلحاقَ عارٍ بالمضروب أو المرميّ. وقد قالوا في الرمي بالسوء: رماه وقذفه وطعن فيه ¬

_ (¬1) (20/ 55) مادة "قفو". (¬2) في الأصل: "أن".

وجرحه، إلى غير ذلك. قالوا: "وقفا أثره: إذا تبعه". أقول: وذلك أن من يريد أن يدرك رجلاً ولا يدري أين يذهب، ينظر أثر رجله في الأرض، فإذا وجده اقتصَّه وسار عليه. ثم تُجُوِّز به عن الاقتداء بالأثر المعنوي (¬1)، فيقال: فلان يقفو أثر فلان، إذا كان يقتدي به في سيرته وأفعاله وأخلاقه. ويقال: قفا الأثر وقافه: إذا تتبعه يتأمل فيه، ليعرف من صاحبه، كما ينظر في أثر السارق والخارب ونحوهما ليعرف من هو. هذا خلاصة ما يتعلق بهذه الكلمة من اللغة مما يحتاج إليه هنا. فالذي يحتمل في قوله تعالى: {تقفُ} مما ذُكِر ثلاثة معان: الأول: الرَّمي بالسوء. الثاني: اتباع آثار من مضى. أي: الاقتداء بأقوالهم وأفعالهم في الدين. الثالث: اقتفاء آثار الناس. أي: أحوالهم في مجالسهم ومداخلهم ومخارجهم ومسالكهم؛ للاطلاع على أسرارهم. فأما المعنى الأول فيقويه شيوعه في اللغة، كما يعلم من كتبها، حتى جعله ابن جرير أصلاً. قال (¬2): "وأصل القفو: العَضْه والبَهْت، ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفو أُمّنا، ولا ننتفي من أبينا" (¬3). ¬

_ (¬1) في الأصل: "بالآثار المعنوي". (¬2) في "تفسيره" (14/ 595). (¬3) أخرجه أحمد في "مسنده" (21839, 21845) وابن ماجه (2612) وغيرهما من حديث الأشعث بن قيس، وإسناده حسن.

وسبقه إلى نحوه أبو عبيد، ففي "لسان العرب" (¬1) عنه: "الأصل في القفو والتقافي: البهتان يرمي به الرجل صاحبه". وفي "النهاية" (¬2) لابن الأثير: "حديث القاسم بن مُخَيمِرة: لا حدّ إلا في القفو البين. أي: القذف الظاهر. وحديث حسان بن عطية: من قفا رجلاً بما ليس فيه وَقَفَه الله في رَدْغَة الخَبال". وأنشدوا للكميت (¬3): ولا أرمي البريءَ بغير ذنبٍ ... ولا أقفو الحواصنَ إن رُمِينا والرامي بالسوء قد يُسنده إلى سمعه أو بصره أو قلبه. يقول: سمعت فلانًا يقول كذا، ويذكر كلامًا قبيحًا، أو سمعت الناس يرمونه بكذا، أو رأيته يفعل كذا، أو أنا أعلم أو أظن أنه كذا. فتعليل النهي بقوله تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36] مناسب لهذا المعنى، ولكن يخدش فيه أنه لو كان المرادَ لكان الظاهر أن يقال: "ولا تقفُ أحدًا بما ليس لك به علم". فإن قيل: إن "أحدًا" مفعول، وهو عام، وحذفه حسن، بل هو الأولى في مثل هذا. قلت: نعم، ولكن بقيت الباء، إذ كان الظاهر أن يقال: ولا تقف بما ليس ¬

_ (¬1) (20/ 55). (¬2) (4/ 95). قوله: "القاسم بن مخيمرة" كذا فيه نقلاً عن نسخة من "المجموع المغيث" لأبي موسى المديني. والصواب: "القاسم بن محمد" كما في "غريب الحديث" لأبي عبيد (4/ 407) والنسخة المطبوعة من "المجموع المغيث" (2/ 740). (¬3) البيت من نونيته المشهورة في ذيل "الديوان" (ص 466).

لك به علم. وأما المعنى الثاني: فيقويه سلامته من الخدش المذكور، فإنه إذا كان المراد كانت كلمة "ما" مرادًا بها الآثار. فكأنه قيل: ولا تتبع الآثار التي ليس لك بها علم، أي: بأنها حق. لكن يُعكِّر عليه أنه لا يظهر معه تعليل النهي بقوله: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ ...}. وأما المعنى الثالث: فهو سالم من ذاك الخدش وهذا التعكير. فإن كلمة "ما" يكون المراد بها: الآثار التي لا يعلم القافي غرضَ صاحبها منها وسرَّه فيها، فيقفوها يتسمع ويسترق البصر ويتظنّى، وذلك كأن ترى زيدًا ذاهبًا فتنظر أين ذهب، فتراه سلك دربًا، ثم دخل دارًا، ثم جلس فيها إلى إنسانٍ، فمخرجه ومسلكه ومدخله ومجلسه من جملة آثاره، فإذا لم تعلم غرضَه منها وسرَّه فيها، فتتبَّعتَها تبحث وتتسمع وتسترق البصر [ص 54] وتتظنّى = فقد قفوت آثاره التي ليس لك بها علم. وذاك هو التجسس. ويقويه أنه قد قرئ في الشّواذّ: (ولا تَقُفْ) بضم القاف وسكون الفاء، من القوف. وأنشد في "لسان العرب" (¬1): أعوذ بالله الجليل الأعظمِ ... من قَوفيَ الشيءَ الذي لم أعلمِ ولكن الذوق لا يطمئن إلى أن يكون المراد بقوله: {مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}: مداخل الناس، ومخارجهم، ومسالكهم، ومجالسهم. ¬

_ (¬1) (11/ 202) مادة "قوف". وانظر "تهذيب اللغة" (9/ 326).

الجهة الثانية: سياق الآيات.

الجهة الثانية: سياق الآيات. قال الله عزَّ وجلَّ: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ ... (31) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ ... (33) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ ... وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ... (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ... (35) وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ... (36) وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ...} [الإسراء: 31 - 37]. فالسياق في النهي عن مظالم تقع بين الناس، كما ترى، وذلك يقتضي أن يكون قفو ما ليس به علم من هذا القبيل. وهذا إنما يصلح له المعنى الأول والثالث. الجهة الثالثة: مراعاة نظير الآيات في القرآن. قال الله عزَّ وجلَّ: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ ... وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ ... وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ ... (151) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ ... وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ... وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} [الأنعام: 151 - 152] والذي يقابل قوله تعالى في "الإسراء": {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} هو قوله في "الأنعام": {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا}. فينبغي تقاربهما في المعنى إن لم يمكن اتفاقهما. وهذا إنما يصلح في المعنى الأول للقفو، فإنه رمي الناس بالسوء بغير علم، وهو قول بغير عدل. ثم نقول: قوله تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} عام في كل قول في معاملات الناس؛ لأن قوله {وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} لا يوجب تخصيصه

الجهة الرابعة: تفسير السلف.

بالحكم والشهادة ونحوهما؛ لأن في الكلام حذفًا حسَّنه ظهور المقصود. وذلك أنه من المعلوم أن الجور في القول محظور مطلقًا، فذِكْر ما يقتضي تخصيص ذلك بالحكم والشهادة لا يمكن أن يكون للدلالة على الإذن فيما عداهما، وإنما هو تنبيه على عظم الشأن فيهما. وكأن التقدير: وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان في حكم أو شهادة [بحيث] يكون أحد الخصمين ذا قربى. وعليه، فالآيتان متفقتان؛ لأن من جملة قفو الإنسان أن تحكم عليه أو تشهد؛ لأن من لازمِ ذلك غالبًا أن تنسبه إلى الظلم أو الخيانة أو الكذب أو المخاصمة بالباطل، وكل ذلك من القبائح. وإن أبيتَ إلا اختصاص آية "الأنعام" بالحكم والشهادة ونحوهما، فلا حرج، وتكون آية الإسراء أعمَّ منها، وكلتاهما فيما يتعلق بالمظالم التي تقع بين الناس. وهذا كافٍ في ترجيح المعنى الأول. الجهة الرابعة: تفسير السلف. أخرج ابن جرير (¬1) عن ابن عباس أنه فسر {وَلَا تَقْفُ} بقوله: "لا تقل". وعنه أنه فسره بقوله: "لا ترْمِ أحدًا بما ليس لك به علم". وعن مجاهد أنه فسره بقوله: "لا ترم". وعن قتادة قال: "لا تقل: رأيتُ ولم تر، وسمعتُ ولم تسمع، وعلمتُ ¬

_ (¬1) في "تفسيره" (14/ 593 وما بعدها).

ولم تعلم". وعن ابن الحنفية قال: "هي شهادة الزور". أقول: أما تفسير ابن عباس ومجاهد فصريح في المعنى الأول، وأما قول قتادة فظاهر فيه؛ لأنه لا يوافق المعنى الثاني والثالث، فحمله على الأول مع ظهور احتماله له أولى من حمله على معنى آخر. وقد قدمنا أن الرامي لغيره بالسوء قد يسنده إلى سمعه، أو إلى بصره، أو إلى قلبه. وأما قول ابن الحنفية فكأنه أخذه من آيات "الأنعام"، وهذا يدلك على اعتناء السلف بالنظر في النظائر من القرآن، وحَمْل ما قد يخفى منها على ما يظهر في نظيره، ويدل على أهمية ذلك. ثم أقول: يمكن أنه إنما نص على شهادة الزور لعظم شأنها, لا لأنه يراها كل المعنى. ومثل هذا معروف عن السلف من تفسير الآية ببعض معناها. يريدون أن هذا مما تدلّ عليه. وأولى من هذا أن يقال: إنه أراد بالشهادة مطلق الإخبار بما يسوء الناس. كأن تقول: رأيت زيدًا يشرب المسكر، أو سمعته [55] يقول كذا، أو نحو ذلك؛ فإن هذا في معنى الشهادة في نسبة ذلك إلى زيدٍ، وإن لم يكن عند حاكم. وبهذا تتفق أقوال السلف. فقد اتفقت الجهات الثلاث الأخيرة على تعيين المعنى الأول، ولم يبق دون الجزم به إلا تلك الخدشة. وهي أنه لو كان المراد لكان الظاهر أن يقال: "ولا تقفُ أحدًا بما ليس لك به علم".

فصل

فأقول مستعينًا بالله عزَّ وجلَّ: قد أشار إلى الجواب عن هذا حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، فإنه قال: "لا ترْمِ أحداً ... ". فبيَّن أن التقدير: "لا تقفُ أحدًا". ولكن "أحدًا" حُذِف، وحَذْف المفعول إذا كان عامًّا شائع ذائع في القرآن وغيره. وأشار بقوله مرةً: "لا تقل" إلى أن {تَقْفُ} ضُمَّن معنى "تقل"، وإذا ضُمِّن الفعل معنى فعل آخر كانت التعدية وعدمها متابعة لذلك الفعل الآخر. وقد ذكر ابن هشام قاعدة التضمين في أواخر "المغني" (¬1)، وذكر من أمثلتها قول الله تبارك وتعالى: {وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} [البقرة: 235]، وزعم أن {تَعْزِمُوا} ضُمِّن معنى تنووا، وإلا لعُدِّي بـ "على". أقول: والأولى أن يُضمَّن معنى تعقدوا. وبذلك يُستغنى عما قيل: إن التقدير "ولا تعزموا على عقدِ عقدة النكاح" فحذف الجار والمضاف. وذكروا أن التضمين يقدر بأن يصاغ من الفعل المطوي حالاً، وعليه فالتقدير هنا: "ولا تقفُ قائلًا ما ليس لك به علم". وقد قال الله عَزَّ وَجَلَّ في قصة الإفك: {وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} [النور: 15]. فصل إذا لم تطمئن نفسك بأن معنى الآية إنما هو النهي عن عَضْه الناس وبَهْتهم، وترجح عندك معنى آخر يصلح لأن يستدل به المنكرون، فدونك أجوبة عن ذلك: ¬

_ (¬1) (ص 762 - 764).

الأول: أن كلمة {عِلْمٌ} في الآية الأولى، و {تَعْلَمُونَ} في الثانية، يحتمل أن يكون مرادًا به ما يعم اليقين والظن الغالب، نحو دليل من شأنه ذلك، والقرينة على ذلك معرفة المخاطبين أن عامة مصالح الدنيا - ومنها ما يتعلق بالدين - إنما تقوم على اعتماد الظن الغالب، وأن الله عَزَّ وَجَلَّ لم يبعث رسوله ليُحرِج العباد ويُضيِّق عليهم، بل قد عرفوا قبل نزول الآية التوسعة في ذلك، وفي أمور الدين أيضًا، كإيجاب اتباع الدلائل الظنية من الكتاب ومن كلام الرسول. كيف ولولا ذلك لكانت الآيتان مانعتين عن العمل بهما أنفسهما؛ لأن دلالتهما ظنية. وقد قال تعالى في سياق الآية الثانية: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28]. وقال تعالى: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [يونس: 68]. وقال تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 80]. وهذه كلها أقوال لم يقم عليها دليل من شأنه أن يفيد الظن الغالب. الثاني: كلمة "ما" في قوله تعالى: {مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} عامة،

فتخصَّص بأدلة العمل بأخبار الثقات، ولا سيما عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. كيف وقد خصصت بغير ذلك من النصوص إجماعًا، وذلك بجواز أو إيجاب العمل بالظن الغالب في أشياء، كالدلائل الظنية من الكتاب والسنة المعلومة، والقضاء بالشهادة, وعمل العامي بفتوى المجتهد، والاعتماد في الصلاة والصوم على الأذان، واشتراء الأشياء ممن هي في يده مع احتمال أنه سرقها أو غصبها مثلاً، واشتراء اللُّحمان مع احتمال أنها ميتة أو لحم ما لا يحل، وقتل من نراه مع العدو في صفهم إذا لم نعرف أنه مسلم، والرأي في الحرب مع ما فيه من المخاطرة بالمسلمين، وغير ذلك. وشكك بعضهم في هذا بأن للخصم أن يقول: إنما أقبل من هذا ما ثبت وجوب العمل به بدليل قاطع، كالدلائل الظنية من القرآن، ولا أجيز تخصيص الدلائل الظنية من القرآن إلا بدليل قاطع، أو بما قام على وجوب العمل به دليل قاطع. أقول: لا حاجة للمناقشة مع هذا، بل يكفينا هنا ما يأتي. الثالث: أن العمل بخبر الثقة - ولا سيّما الأحاديث الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثابت بحجج تفيد العلم، كما يأتي إن شاء الله تعالى. وعليه فالعمل به اتباعٌ للعلم. أولا ترى أن القاضي إذا قضى في الأموال مثلاً بشهادة عدلين، فقد قضى بما أنزل الله عَزَّ وَجَلَّ قطعًا، وإن كان صدق الشاهدين مظنونًا فقط. فهكذا مَن عمل بخبر الثقة فيما قامت الحجة القطعية على وجوب العمل بخبر الثقة من (¬1) جنسه، والله أعلم. ¬

_ (¬1) في الأصل: "في".

فصل

[ص 57] فصل وأما قول الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} فإنها في موضعين من القرآن. الأولى: في سورة يونس: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) ... قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [31 - 36]. الثانية: في سورة النجم: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) .... إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [19 - 30]. وينبغي النظر في معناها. فأول النظر في معنى قول العرب: "أغنى".

وجدناهم يقولون: "غني زيدٌ"، بمعنى صار ذا غنى، أي: حصل له من المال ما يُعدُّ في العرف غِنًى. ويقولون: "غني بكذا عن كذا"، مثل: "غني الطفل بالطعام عن اللبن"، أي: اجتزأ به واكتفى. ثم يقولون: 1 - أغنى الله زيدًا، أي: جعله ذا غنى، أي: آتاه من المال ما يُعدُّ في العرف غنى. 2 - أغنى الله الطفل بالطعام عن اللبن. هذا بمنزلة: أشبع الله الطفل بالطعام - في الإسناد. 3 - أغنى الطفلَ الطعامُ عن اللبن. وهذا بمنزلة: أشبع الطفلَ الطعامُ - في الإسناد. [ص 58] ووجدناهم قالوا: "أغْنِ شرَّك عني". وأرى أصله من باب: "أغنى الله الطفل بالطعام عن اللبن". وأصله هكذا: (أغْنِ) ني (عن) دفْعِ (ي) شرَّك بدفعِك (شرَّك). فحذفوا مفعول "أغنِ"، والمضاف المجرور بـ "عن" ومفعوله، وضمَّنوا "أغنِ" معنى ادفَعْ، فاستغْنَوا بذلك عن "بدفعك". هذا، وأكثر ما يحتاج الإنسان إلى أن يُغنيه عنه غيره: دفع المضار، إذ جلب المصالح دفعٌ لما يقابلها من المضار، فلهذا أكثر هذا التركيب في الكلام، فتجده في القرآن في أكثر من ثلاثين موضعًا، تارة من باب "أغنى الله الطفل بالطعام"، وتارة من باب: "أغنى الطفلَ الطعامُ".

فمن الأول قول الله عزَّ وجلَّ: {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} [هود: 101]. وقوله سبحانه: {وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [يوسف: 67]. وقوله تبارك وتعالى: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 19]. وقوله تعالى: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [إبراهيم: 21]. وقوله تعالى: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ} [غافر: 47]. وقوله عزَّ وجلَّ: {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [الجاثية: 18 - 19]. وقوله تعالى: {يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} [الدخان: 41]. وقوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ

فروع

شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التحريم: 10]. ومن الثاني قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران: 116]. [ص 59] وقوله عَزَّ وَجَلَّ في خطاب أهل النار: {انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ} [المرسلات: 30 - 31]. وقوله تعالى: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} [الغاشية: 6 - 7]. فروع الأول: قد علمت أن العرب نطقت بهذا الاستعمال، وجعلت لـ "أغنى عن" مفعولاً، قالوا: "أغْنِ عني شرَّك". وقال الشاعر: ................... ...................... الحِماما (¬1) وفي "الصحيح" (¬2) قصة عثمان في الصحيفة التي عُرِضت عليه، فقال: "أغْنِها عنّا". وقد صرح بالمفعول في بعض هذه الآيات، وأصرحها آية الجاثية: ¬

_ (¬1) تمام البيت: لعمرك والمنايا غالباتٌ ... وما تُغني التميماتُ الحِمامَا وهو لصخر الغي الهذلي في "شرح أشعار الهذليين" (1/ 287)، ولأبي مثلم الهذلي في "لسان العرب" (غنا). (¬2) البخاري (3111).

{فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ} [غافر: 47]، وهو في كثير من الآيات لفظ "شيء" إما منصوبًا، وإما مجرورًا بـ "من" المؤكدة للعموم. هذا هو الذي ينبغي اعتماده. وبعضهم يحمل لفظ "شيء" في كثير من الآيات على أنه مفعول مطلق، ويفسر بـ "شيئًا من الإغناء"، وهو تكلف لا ضرورة إليه. وهو في كثير من الآيات اسم استفهام مقدم، كقوله عزَّ وجلَّ: {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} [الليل: 11]، وقوله حكايةً عن الكافر حين يرى العذاب: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ} [الحاقة: 28]، وقوله سبحانه: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد: 1 - 2]. فـ "ما" في هذه الآيات استفهامية بمعنى "أي شيء"، والاستفهام إنكاري فيه معنى النفي. ولا حاجة إلى جعل كلمة "ما" في الآيات نافية, لأن الفعل يخلو عن المفهوم، فإما أن يُدَّعى قصْرُه أو يُقدَّر، وكلاهما خلاف الأصل. وكذلك في قوله تعالى: {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} [القمر: 5]، والمعنى: أي شيء من الكفر، كما يأتي في التي بعدها. وقوله سبحانه: {وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101]. والمعنى: أي شيء من الرجس وهو الكفر؛ فإن قبلها: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100) قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي} الآية.

فأما قوله تعالى: {وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ} [المرسلات: 31]، وقوله: {وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} [الغاشية: 7] فسيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى. الثاني: كلمة "عن" ومجرورها ثابتة في أكثر الآيات، وتُرِكت في بعضها، والذي يترجح تقديرها؛ لتجري الآيات على وتيرة واحدة. ففي قوله تعالى: {فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} أي عنهم، أي الكفار المتقدم ذكرهم قبلُ، أو {عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} كما في الآية الأخرى، أو "عن المكذبين المتبعين أهواءهم"؛ لأن قبلها {وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ}. وإذا قلنا بتقديره في {وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ} فتقديره: "عن المستظل به". وفي {وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} يقدر: "عن آكله". الثالث: اضطربت الأقاويل في كلمة "من" التي تجيء في هذا التركيب في نحو قوله تعالى: {لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [الجاثية: 19]. والذي يترجح حملها على ما بينته آية "المؤمن": {فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ}. فيقال في {لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا}: إن تقدير المعنى: "لن يغنوا عنك شيئًا من أمر الله"، وفي آيتي "يوسف": "شيئًا من قضاء الله"، وفي آية "التحريم": "شيئًا من عذاب الله" وكذلك في آية "آل عمران". وعلى هذا فالظاهر أن يقدر في آيتي "المرسلات" و"الغاشية": "شيئًا" أي: ولا يُغني عن المستظلِّ به شيئًا من اللهب، ولا يُغني عن آكله شيئًا من

جوع. وأما التقدير النحوي فعلى نحو ذلك، إلا أنه قد عُرِف أن النعت إذا تقدم على المنعوت أُعرِب حالاً. والله أعلم. [ص 60] إذا تقرر هذا فقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36] معناها: إن الظن لا يدفع عن صاحبه شيئًا من الحق. والحق الذي من شأنه أن يتوجه إلى الإنسان فيحاول إذا كرهه أن يدفعه بالظن = لا يخرج عن أربعة أشياء: الأول: اليقين. الثاني: البراهين اليقينية. الثالث: ما ثبت بالبراهين اليقينية. الرابع: العقاب المتوجه إلى العصاة. أما اليقين فإنه قد يحصل للإنسان بشيء، ثم تَعرِض له شبهة لا يتيسر له حلها، فتورثه ضربًا من الوسواس، فإن أعرض عن ذلك وصرف ذهنه عنه سَلِم له يقينه. ومن هذا - والله أعلم - ما ورد في الأحاديث في شأن الخواطر التي تَعرِض للمؤمن مخالفةً لإيمانه. ففي "الصحيحين" (¬1) وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى ¬

_ (¬1) البخاري (3276) ومسلم (134/ 214).

يقول: من خلق ربَّك؟ فإذا بلغه فليستعِذْ بالله ولْينتهِ". وفي "الصحيحين" (¬1) عنه أيضًا، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: هذا خلق الله الخلق، فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئاً فليقل: آمنت بالله ورسله". وفي "صحيح مسلم" (¬2) عنه أن جماعة من الصحابة قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به. قال: "أوقد وجدتموه؟ "، قالوا: نعم، قال: "ذاك صريح الإيمان". فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإعراض عن الشبهة، وصرف الذهن عنها؛ ولهذا كان أئمة السلف يجتنبون مجالسة أهل الأهواء، وينهون عن مجالستهم وعن سماع كلامهم. فإن لم يُعرِض عنه فقد يتأتى له حلُّها، فيسلَم له يقينه، وقد لا يتأتى فتقوى في نفسه، لوجهين: الأول: أن النفس تدعي أنها أهل للفهم والمعرفة، فإذا لم يتأتَّ لها حلُّ الشبهة توهمت أن ذلك لقوتها، وأنها لعلها حقٌّ لا شبهةٌ، ولعل الحجج التي تخالفها شبهات! الثاني: أن الذهن يشتغل بالنظر فيها، فيغفُل عن الحجج المخالفة لها. هذا، والحكمة التي اقتضت الخلقَ والتكليفَ اقتضت أن لا تكون ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (134/ 212)، ولم أجده عند البخاري بهذا اللفظ. وأصله فيه (7296) من حديث أنس. وانظر "الفتح" (6/ 341). (¬2) رقم (132).

حجج الحق في أقصى غاية الوضوح؛ لأنه يفوت بذلك الابتلاء والاختبار، وبفواته يفوت مقصود الخلق والتكليف، كما أوضحته في موضع آخر. مع أن الناس قد شككوا في الحسيات، وفي العقليات الأولية، كما حكي عن السوفسطائية. ثم يصير هذا الرجل: إن رجع إلى الحجج وتدبرها رجع له يقينه، فإن رجع إلى الشبهة وتابعها فقد يرجع له ارتيابه، وهكذا، فيكون - كما في الحديث (¬1) - مِثلَ المنافق كالشاة [العائرة] بين الغنمين، تارةً إلى هذه وتارةً إلى هذه. وقد تكون الشبهة واهية ولكن يقوَّيها الهوى، فيمنع صاحبها عن فحصها، كما يمنعه عن تدبر ما يقابلها. وأكثر ما يتفق هذا إذا كان عند الإنسان يقين، وله هوى في رأي لا يستحضر أنه مخالف لذلك اليقين، فيقوم من ينازعه في ذلك الهوى، ويحتج عليه بذلك اليقين. فمن هذا أن مشركي قريش كانوا يعلمون بفطرهم، وبما وصل إليهم من شرع إبراهيم عليه السلام، وما بلغهم عن غيره من الأنبياء المتقدمين: أن الإنسان مخيَّر في أفعاله، إن شاء فعل وإن شاء ترك، وأن الناس كثيرًا ما يعصون أمر الله عَزَّ وَجَلَّ ويرتكبون مناهيه، وأنه يبعث إليهم الأنبياء فيدعونهم، فإن عصَوهم وأصرُّوا عُذِّبوا. [ص 61] هذا كان متيقنًا عندهم، لا يخالجهم فيه شك، وكانوا يعلمون أن أصحاب الفيل عَصَوا الله عَزَّ وَجَلَّ بقصدهم هدم بيته، فعذبهم، وكانوا ¬

_ (¬1) الذي أخرجه مسلم (2784) من حديث عبد الله بن عمر.

يرون الحج واجبًا، واحترام البيت واجبًا، ويرون في بعض الأشياء أنها حرام، ثم يعلمون أن منهم من يترك الواجب، ومنهم من يرتكب الحرام، ويرون أنه عاصٍ، ويوبِّخونه على ذلك. ولما بُعِث النبي - صلى الله عليه وسلم -، ودعاهم إلى نبذ ما كانوا عليه من الشرك والمحدثات = أنكروا عليه وعلى أصحابه، وآذَوهم، وزعموا أنهم مسيئون وكاذبون وضالُّون، إلى غير ذلك مما هو معروف. وكان عندهم يقين بوجود الله عَزَّ وَجَلَّ وربوبيته، وأنه الخالق الرازق المدبر، إلى غير ذلك مما قررهم به الله عَزَّ وَجَلَّ في كتابه. وكان لهم مع هذا اليقين الثاني أشياء من الشرك، ومن تحريم ما لم يحرمه الله عزَّ وجلَّ، وغير ذلك، ولا يستحضرون أن هذا منافٍ لليقين الثاني. فلما بعث الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - فقرَّرهم باليقين الثاني، وبيَّن لهم أن ما هم عليه من الشرك والتحريم منافٍ له = فزعوا إلى شبهة تخالف اليقين الأول، ولكن استروحوا إليها؛ لظنهم أنها تدفع المنافاة بين يقينهم الثاني وبين شركهم وتحريمهم. وذلك ما قصَّه الله عَزَّ وَجَلَّ بقوله: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 148 - 149]. وقال سبحانه: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ

شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [النحل: 35 - 36]. وقال تعالى: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} الآيات [الزخرف: 20]. وحاصل شبهتهم: أن الله على كل شيء قدير، وهو المدبِّر الأمرِ في السماوات والأرض، فلو كان يكره الشرك والتحريم من دونه لمنعنا وآباءنا من ذلك بقدرته، فلما لم يفعل علمنا أنه لا يكره ذلك، وإذا كان لا يكرهه فمن المحال أن ينهى عنه، فالقول بأنه يكرهه وينهى عنه ويعذب عليه باطلٌ. فأنت ترى شبهتهم هذه منقوضة بما تقدم من يقينهم الأول، وهو اعتقاد لا يفارقهم حتى في هذه الشبهة نفسها؛ فإن الأشياء التي حرَّموها يزعمون أنها حرام على كل حال، وأن من استحلها فقد عصى، مع أنهم يعلمون أن من الناس من يستحلها. وكذلك زعموا في شبهتهم هذه أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - مُبطِلٌ وأنه مُسِيء في ذلك، مع أنهم لا يقبلون ممن استحل تلك المحرمات أن يقول لهم: لو شاء الله لم أستحلها, ولا يقبلون من محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه أن يقولوا لهم: لو شاء الله لما سفَّهنا أحلامكم وطعنّا في دينكم، وفعلنا وفعلنا! [ص 62] وأشدُّ قِحَةً وعنادًا منهم: اليهود، يعلمون ويعلم الناس أنه لا

مستند لهم إلا زعمهم أنهم أهل الكتاب الذي أنزله الله عَزَّ وَجَلَّ على موسى، ثم لم يمنعهم ذلك إذا أرادوا أن يبالغوا في تكذيب محمَّد - صلى الله عليه وسلم - أن قالوا: ما أنزل الله على بشر من شيء. قال الله عزَّ وجلَّ: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: 91]. والمقصود أن ما تُحدِثه الشبهة من الوسواس في الصدر قد يقوى حتى يدافع اليقين. وأما الثاني، أعني البراهين اليقينية، فمحاولة دفعها بالظن أوضح؛ لأنه لا يلزم من ذلك اجتماع الظن واليقين لرجل واحد، بل قد يكون سبقت إلى نفسه شبهة وافقت هوى فأورثه ذلك ظنًّا، ثم لما دُعي إلى خلاف ذلك، وعُرِضت عليه البراهين اليقينية، أعرض عنها ولم يتدبَّرها، وحاول دفعها عن نفسه بما عنده من الظن. وقد يكون موقنًا بما قامت عليه البراهين ولكنه جاحد معاند، كما قال موسى لفرعون - فيما قصه الله تعالى -: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء: 102] وقال الله عَزَّ وَجَلَّ في الآيات التي أراها الله تعالى فرعون وقومه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14]. فمن كان هذه حاله فإنه يلفَّق شبهاتٍ من شأنها أن توقع ترددًا ما، أو من شأنها - لو لم يكن في مقابلها برهان - أن تكون غايتها أن تقتضي ظنًّا، ثم يحاول أن يدفع بها البراهين.

وإذا حملت الآية على هذا تعين حمل الظن في الآية على الشبهات المذكورة. وقال تعالى: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [غافر: 5]. وأما الثالث، وهو ما ثبت بالبراهين القطعية، فمحاولة الإنسان دفعه بالظن يكون على أوجه: منها: نحو ما تقدم في الأول، وفي الثاني؛ لأن من يحاول دفع اليقين أو البراهين اليقينية فقد حاول دفع ما يترتب عليها. وذلك كبطلان الشرك، فإن من استيقن بطلانه، ثم عرضت له شبهة فحصل له بها ارتياب، فحاول أن يدفع به اليقين، فقد حاول بذلك دفع ما يترتب على ذلك اليقين من بطلان الشرك. وكذلك من كانت عنده شبهة فحاول أن يدفع بها البراهين المثبتة لبطلان الشرك، فقد حاول دفع ما ثبت بتلك البراهين من بطلان الشرك. ومنها: أن يكون الرجل على أمرٍ وعنده شبهة فيه، فيبلغه أن داعيًا دعا إلى خلافه، وأنه يزعم أن عنده براهين قطعية، فيعرض الرجل عن ذلك قائلاً: أظنه كاذبًا، وأظن ما أنا عليه حق، فإن كان في نفس الأمر صادقًا فأنا معذور لظني هذا، فلا يلزمني ما يدعو إليه. وتضعف شبهة هذا إذا قامت قرينة على صدق الداعي، وقد يكون من هذا قول الله عزَّ وجلَّ: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [الشورى: 16]. وأما الرابع، وهو العذاب، فيعرف حاله مما تقدم في الرابع (¬1). ¬

_ (¬1) كذا في الأصل.

وقال تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [الأعراف: 169]. [ص 63] فظنُّهم أنه سيغفر لهم لا يدفع عنهم ما حق على العصاة من العذاب. وقال تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ ... (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} [الكهف: 34 - 36]. فظنُّه أنها لن تبيد، وأن الساعة لا تقوم، وأنها إن قامت وجد خيرًا منها = لا يدفع عنه شيئًا مما حق على أمثاله من العذاب. وكذلك ظنُّ المشركين أن آلهتهم ستشفع لهم، وغير ذلك. والذي يترجح أن المراد بالظن الشبهات، وبالحق البراهين القطعية. قال الله عزَّ وجلَّ: {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [الكهف: 56]. وعلى ذلك يدل السياق؛ فإن الله سبحانه قرر في آية "يونس" (¬1) البراهين المبطلة للشرك، وقد انضمَّ أيضًا خبر الرسول المؤيد بالمعجزات، وخبر القرآن المعجز، ثم قال: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ ¬

_ (¬1) في الأصل: "يوسف" سهوًا.

شَيْئًا} [يونس: 36]. فكأنه يقول: هذه براهين قطعية، وهم يعرضون عنها، ويتبعون شبهات غايتها أن تورث ظنًّا ما، أي في بعض الأحوال، كما تقدم توضيحه. و {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}، أي: وإن تلك الشبهات لا تدفع عنهم شيئًا من البراهين القطعية، أي: من قيام الحجة بها، ووجوب اتباعها عليهم، وما يترتب على ذلك في الدنيا والآخرة. وكذلك في آيات "النجم". وإنما قال في آية "يونس": {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ} لأن منهم من كان يعلم بطلان الشبهات، وإنما أصرَّ على الكفر اتباعًا للهوى فقط، ولذلك قال في آية "النجم" الأولى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ}، وذلك على التوزيع، والله أعلم. أي: أكثرهم يتبعون الظن والهوى، وأقلهم يتبعون الهوى فحسب. فأما الآية الثانية فقوله: {إِنْ يَتَّبِعُونَ}. أي: أكثرهم، والله أعلم. وعلى هذا، فالآية عامة محكمة لا يخص منها شيء البتة، والمسلمون جميعًا قائلون بموجبها، فإنهم إنما يحتجون بالدلائل الظنية - ومنها خبر الواحد - ما لم تعارضها براهين قطعية. فإن قيل: قد يكون هناك برهان قطعي لم يعرفه العالم، فيعمل بالدليل الظني. قلت: هذا غير داخل في الآية, لأن تقديرها كنظائرها كما علمت: "إن الظن (¬1) لا يدفع عن صاحبه من الحق شيئًا". ودفع الشيء إنما يكون بعد ¬

_ (¬1) الأصل: "الحق" سبق قلم.

توجهه، والعالم إذا لم يعرف الدليل القطعي ولم يسمع به لا يصدُق عليه أن الدليل اتجه إليه فدفعه بالظن. فتدبر. والله الموفق. قد يقال: فإن البراءة الأصلية يقينية، فهي من الحق، فعلى هذا لا يرفعها الظن، فلا تُرفع بخبر الواحد. قلت: قولك "يقينية" إن أردت به أن استمرارها متيقن فباطل، وإن أردت أنه متيقنٌ أنها قد كانت قبلُ، فمسلَّم. ولكن المدار على ما هو يقين في الحالة الراهنة، وليست كذلك، بل قد يُتيقن ارتفاعها، كما إذا بُيِّن رفعُها بيقين. وقد يُظنّ، كما إذا كان الدليل الرافع عنها ظنًّا، فيصير بقاؤها وهمًا فقط، والوهم أضعف من الظن. ولا يلزم من كون الظن لا يرفع اليقين الذي هو أقوى منه أن لا يرفع الوهم الذي هو دونه. بل الحق أنه كما أن الظن لا يرفع اليقين، فكذلك الوهم لا يرفع الظن. فإن قلت: لكن البراءة الأصلية حجة إجماعًا، فهي مستندة إلى يقين، وخبر الواحد اختلف فيه. قلت: أما أولاً فسنوضح أن خبر الواحد مستند إلى اليقين أيضًا. وأما ثانيًا فالبراءة الأصلية إنما أُجمِع على صحة الاستناد إليها عند عدم الدليل. فإن قلت: لكن لا نسلِّم أن خبر الواحد دليل. قلت: أما أولاً فسنثبت ذلك بحججه إن شاء الله تعالى.

فصل

وأما ثانيًا فالإجماع الذي ذكرته في البراءة الأصلية إنما هو حيث لم يصح الخبر بما يرفعها ولم يكن هناك دليل آخر، فأما إذا صح الخبر فالنبي - صلى الله عليه وسلم - ثم أصحابه وسلف الأمة متفقون على أنه يرفعها. وهَبْ أن دعوانا هذه لا تقوم عليها الحجة، فالذي لا تنكره أنت ولا تستطيع إنكاره أن جمهور أهل العلم على أن الخبر يرفعها. وهذا كافٍ في دفع ما ادعيته من الإجماع. فإن قلت: من رأيي أنا استصحاب الإجماع. قلت: هو رأي ضعيف، ويكفينا هنا أن نقول: استصحاب الإجماع غير الإجماع، والإجماع المحقق قد يفيد اليقين، وأما استصحابه فيما تحقق فيه الخلاف فغايته أن يكون ظنًّا، فإذا عارضه ظنٌّ أقوى منه صار وهمًا، والوهم لا يدفع الظن. فأما معارضة خبر الواحد لظاهر القرآن ونحوه من الدلائل المستندة إلى اليقين، فسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى. فصل [ص 64] ذهب كثير إلى أن {يُغْنِى} في الآية هي نحوها في قولك: "إن الطعام لا يُغني عن الشراب". أي لا يقوم مقامه، ولا يسدُّ مسدَّه، وجعلوا "من" بمعنى بدل، كهي في قوله تعالى: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ} [التوبة: 38]، وجعلوا {شَيْئًا} مفعولًا مطلقًا، على أن المعنى: "شيئًا من الإغناء".

وهذا معترَضٌ بوجوه: الأول: أنه إخراجٌ لكلمة {يُغْنِي} عن المعنى الذي اطرد في القرآن في نحو هذا التركيب استعمالها فيه. فإن كان أصله مجازًا فقد صار بالاطراد في تلك المواضع - مع كثرتها - في قوة الحقيقة، إن لم نقل: حقيقة. وفي إخراجه عن ذلك إخراجٌ للآية عن نظائرها الكثيرة في القرآن، وقد تقدم طائفة منها. ومنها قوله تعالى: {لَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ} [المرسلات: 31]، {وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} [الغاشية: 7]، {فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [إبراهيم: 121] {فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ} [غافر: 147]. والاسم الذي يلي "من" في هذه الآيات مدفوع، أي: متجه إليه ما في معنى "يغني" من الدفع، ولو جعلت "من" فيها للبدل لانعكس المعنى. إذ يصير المعنى: أن اللهب يغني، وكذلك الجوع، والعذاب، والنار. وذلك باطل قطعًا، فالواجب حمل هذه الآية على نظائرها الكثيرة، وإن أمكن حملها على خلافها. الثاني: أن "من" البدلية قليلة، وإنما تحسُنُ حيث كان المعنى على الاستبدال والمعاوضة، كما في {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ} [التوبة: 38]، فقد قال تعالى: {اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ} [البقرة: 86] , وقال سبحانه: {الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ} [النساء: 74].

الثالث: أن حمْلَ "شيئًا" على المفعولية المطلقة، أي: "شيئًا من الإغناء" = بعيدٌ. ومع ذلك، فقد يقال: أقصى ما هناك أن يصير المعنى: إن الظن لا يغني عن الحق، فيكون المراد بالحق هو اليقين. وحاصله أن الظن لا يقوم مقام اليقين ولا يسدُّ مسدَّه، فوِزانُه قولنا: إن الشرطة لا يُغنُون عن الجند شيئًا من الإغناء. فحاصله: أن هناك مقاصد لا يغني فيها إلا الجند، كمهاجمة الأعداء الأقوياء، وصدّ هجماتهم، ونحو ذلك. وأن الشرطة لا يغنون في ذلك عن الجند شيئًا من الإغناء، وهذا لا يدفع أن يكون الشرطة محتاجًا إليهم ومنتفَعًا بهم، وتقوم بهم كثير من المصالح. أقول: في هذا نظر، إذ قد يقال: عدم المنافاة إنما استُفيد من خارج، فأما ظاهر العبارة فالعموم، وذلك في قولك: "إن الظن لا يغني عن اليقين شيئًا من الإغناء" = واضح؛ فإنه ما من شيء يُتصور أن يُنتفَع فيه بالظن إلا وينفع فيه اليقين، فلو كان الانتفاع بالظن ثابتًا لكان قد أغنى عن اليقين في تلك الجزئية. فإن قيل: فنقول بأن هذا العموم مخصوص، أما أولاً فأمور الدنيا غالبها قائم على الظن، والظن في كثير من الأشياء يغني عن اليقين. ألا ترى أنه كثيرًا ما ينتفع المريض بالدواء وإن لم يكن يتيقن أن الدواء ينفعه؟ وأن التجار كثيرًا ما يربحون وإن لم يكونوا متيقنين أنهم سيربحون؟ إلى غير ذلك. وأما أمور الدين فتُخصَّص بالأدلة الموجبة العملَ بالظن في مواضعه. قلت: نعم، هذا جواب، ولكنني أرى لزوم هذا مما يوهن هذا المعنى،

فصل

ويرجح المعنى الأول. وذلك أن قوله تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36] مرسلةٌ إرسالَ المثل، وموضوعة وضع القاعدة، وما كان هكذا فحقه أن يكون سالمًا من التخصيص. والمعنى الذي قدمناه سالم من التخصيص كما تقدم، فهو أرجح من هذا. وقد أجيب عن الآية بناءً على هذا المعنى الأخير أو نحوِه، بأجوبة قد أغنانا الله عنها بما تقدم، على أن بعضها قريب مما مرَّ في الأجوبة عن الآية الأولى. والله الموفق. [ص 65] فصل ومما يذكر ها هنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعمل بخبر ذي اليدين حتى سأل الناس فصدقوه (¬1). وأن أبا بكر رضي الله عنه سأل الناس في شأن ميراث الجدة، فأخبره المغيرة بن شعبة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال أبو بكر: هل معك غيرك؟ فقام محمَّد بن مسلمة فأخبر بمثله (¬2). وأن عمر جاءه أبو موسى الأشعري فاستأذن ثلاثًا، ثم رجع، فسأله عمر بعد ذلك، فذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بمثل ذلك، فقال عمر: لتأتيَّن [على هذا ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) أخرجه مالك في "الموطأ" (2/ 513) وأبو داود (2894) والترمذي (2101) من رواية قبيصة بن ذؤيب عن أبي بكر، وإسناده منقطع. وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم.

ببيِّنةٍ] (¬1) أو لأفعلنّ وأفعلنّ. فذهب أبو موسى إلى مجلس الأنصار، فجاء معه بعضهم، فحدث بذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وأنه ردَّ خبر فاطمة بنت قيس في جواز خروج المبتوتة من بيت زوجها في العدة، وقال: لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري حفظت أم نسيت (¬3). وأن ابن عباس لم يقبل خبر أبي هريرة، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الوضوء مما مست النار، ولو من ثَورِ أَقِطٍ"، وقال له: "يا أبا هريرة، أتوضَّأ من الدهن؟ أتوضأ من الحميم؟ " (¬4). أقول: أما خبر ذي اليدين فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرى أنه صلى أربعًا، فلما أخبره ذو اليدين بخلاف ذلك توقف؛ لأنه ليس احتمال كونه - صلى الله عليه وسلم - سها بأولى من أن يكون ذو اليدين غفل، وكان سكوت غيره من أكابر الصحابة وانفراده من بينهم مما يقوي احتمال أنه غفل. وأما قصة أبي بكر ففيه أنه قضى بخبر الاثنين، وتبعه الناس إلى يوم القيامة. وخبر الاثنين من جملة أخبار الآحاد اتفاقًا، فهذا من جملة الحجج على حجيته. ثم نقول: إن أبا بكر لم يردَّ خبر المغيرة، ولا ترك العمل به، وإنما سأل: ¬

_ (¬1) ترك المؤلف هنا بياضًا. (¬2) أخرجه البخاري (6245) ومسلم (2153، 2154). (¬3) أخرجه مسلم (1480/ 46). (¬4) أخرجه الترمذي (79) وابن ماجه (485).

هل معك غيرك؟ وهذا محمول على التثبت والاحتياط، كما يأتي. والمجتهد لا يكتفي بالآية من كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ حتى ينظر غيرها من الأدلة؛ لاحتمال أن يكون في غيرها ما يقيِّدها أو يخصِّصها، أو غير ذلك. ومعلوم أنه إذا لم يجد شيئًا من ذلك بعد البحث عمل بها, ولا بد. وقد تواتر عن الصحابة رضي الله عنهم العمل بخبر الواحد وحده إذا لم يجدوا ما يعارضه. فبان بذلك أن قول أبي بكر: هل معك غيرك؟ إنما محمله ما ذكرنا. وأما قصة عمر مع أبي موسى ففيها أن عمر قنعَ بمتابعة أبي سعيد لأبي موسى، وهما اثنان. ثم قد أجاب عنها الشافعي رحمه الله، قال في "الرسالة" (¬1): "فإن قال قائل: ... قيل له: لا يطلب عمر ... إلا على أحد ثلاث معانٍ: إما أن يحتاط فيكون، وإن كانت الحجة تثبت بخبر الواحد فخبر اثنين أكثر، وهو لا يزيدها إلا ثبوتًا. وقد رأيت ممن أثبت خبر الواحد من يطلب معه خبرًا ثانيًا، ويكون في يده السنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من خمسة وجوه، فيحدَّث بسادس فيكتبه؛ لأن الأخبار كلما تواترت وتظاهرت كانت أثبت للحجة، وأطيب لنفس السامع. وقد رأيت من الحكام من يثبت عنده الشاهدان العدلان والثلاثة، فيقول للمشهود له: زدني شهودًا، وإنما يريد أن يكون أطيب لنفسه، ولو لم يزده المشهود له على شاهدين لحكم له بهما .... ¬

_ (¬1) (ص 432 وما بعدها).

قد روى مالك (¬1) عن ربيعة عن غير واحد من علمائهم حديث أبي موسى، وأن عمر قال لأبي موسى: أما إني لم أتهمك، ولكن خشيت أن يتقول الناس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... ". أقول: وفي "الفتح" (¬2) عن رواية أخرى: "فقال عمر لأبي موسى: والله إن كنت لأمينًا على حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن أحببت أن أستثبت". وفيه (¬3) عن رواية أخرى: أن أُبي بن كعب أنكر على عمر مقالته لأبي موسى، وقال: يا ابن الخطاب، فلا تكوننَّ عذابًا على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: سبحان الله! إنما سمعت شيئًا فأحببت أن أتثبَّت. وفيه (¬4): "قال ابن بطال: ... وقد قبل عمر خبر العدل الواحد بمفرده في توريث المرأة من دية زوجها، وأخذ الجزية من المجوس، إلى غير ذلك، لكنه كان يستثبت إذا وقع له ما يقتضي ذلك. وقال ابن عبد البر (¬5): [66] يحتمل أن يكون حضر عند عمر من قرُبَ عهده بالإِسلام، فخشي أن أحدهم يختلق الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند الرغبة والرهبة ... فأراد أن يعلمهم أن من فعل شيئًا من ذلك ينكر عليه حتى يأتي بالمخرج". ¬

_ (¬1) في "الموطأ" (2/ 964). (¬2) (11/ 30). (¬3) (11/ 28، 29). وفيه: "فلا تكون"، "وأن أثبت". والتصويب من "صحيح مسلم" (2154). (¬4) (11/ 30). (¬5) كما في "الفتح" (11/ 30). وانظر "التمهيد" (3/ 200).

وفي "الصحيح" أن عمر لما أخبره أبو سعيد قال: "خفي علي هذا من أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، ألهاني الصفق بالأسواق ... ". أخرجه البخاري في "الاعتصام" (¬1). والحاصل أن الاستئذان مما تعم به البلوى، وقد صحب عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولازمه أكثر من صحبة أبي موسى، فلما أخبره بهذا كان مظنة أن يقع له تردد؛ لأن الظاهر أنه لو كان هذا الحكم ثابتًا لما خفي عنه. ولهذا قال أخيرًا: "شغلني الصفق بالأسواق". وكان أبو موسى دافعًا عن نفسه، فإن عمر أنكر عليه رجوعه وعدم انتظاره، فاحتج بالحديث، فأراد عمر ما تقدم عن ابن عبد البر. وقد جاء في حديث ابن عمر أن سعدًا حدثه بحديث المسح على الخفين، فسأل أباه عنه، فقال: إذا حدثك سعد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا تسل عنه غيره (¬2). وقال الشافعي: "وفي كتاب الله تعالى دليل على ما وصفت ... ". "الرسالة" (ص 60) (¬3). وأما توقف عمر عن خبر فاطمة بنت قيس، فإنه قال: "لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري حفظت أم نسيت"، فبين أنه إنما توقف ¬

_ (¬1) رقم (7353). (¬2) أخرجه البخاري (202). (¬3) (ص 435) تحقيق أحمد شاكر.

لمخالفة خبرها عنده للكتاب والسنة، فأما الكتاب فإنه قول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ} [أول سورة الطلاق]. وهذا يعم المبتوتة، وإن نُوزع في العموم. وأما السنة فلا ندري أي سنة كانت عند عمر، فقد يكون كانت عنده سنة يراها نصًّا في وجوب السكنى للمبتوتة، وقوَّاها عموم الكتاب عنده. وإذا كان كذلك، رد خبرها لمعارضته لما هو عنده أقوى منه. وقد استدل بعض الحنفية بالقصة على أن مذهب عمر أن خبر الواحد لا يخصص القرآن. وإنما يقوى هذا لو لم يقل عمر: "وسنة نبينا". [ص 67] وأما قصة ابن عباس فلم يردَّ الحديث بمجرد الرأي، كما يتوهم. وقد قال محمَّد بن عمرو بن عطاء: كنت مع ابن عباس في بيت ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد، فجعل يعجب ممن يزعم أن الوضوء مما مست النار، ويضرب فيه الأمثال، ويقول: إنا نستحم بالماء المسخن، ونتوضأ به، وندهن بالدهن المطبوخ، وذكر أشياء مما يصيب الناس مما قد مست النار، ثم قال: لقد رأيتني في هذا البيت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد توضأ، ثم لبس ثيابه، فجاءه المؤذن، فخرج إلى الصلاة، حتى إذا كان في الحجرة خارجًا من البيت لقيتْه هديةُ عضوٍ من شاة، فأكل منها لقمة أو لقمتين، ثم صلَّى وما مسَّ ماء". هكذا ساقه البيهقي في "السنن" (1/ 153). وأصله في "صحيح

مسلم" (¬1). وقد روت خالته ميمونة نحو ذلك (¬2). فلا يخلو حاله عن أحد وجهين: الأول: أن يكون قد علم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أولاً بالوضوء مما مست النار، ثم نسخ ذلك، فهو إنما ينكر على من بقي يأخذ بالمنسوخ، ويضرب له الأمثال ليثبت له أنه لو بقي الحكم الأول لزم التضييق على الناس في أمور كثيرة. الوجه الثاني: أن لا يكون سمع الحديث إلا من أبي هريرة، فخاف أن لا يكون أبو هريرة أتقن لفظه، فأراد بضرب الأمثال تنبيهه. والظاهر هو الأول؛ فإن خبر الوضوء مما مست النار كان مشهورًا بينهم، رواه عدد من الصحابة غير أبي هريرة. وقد روي عن أبي هريرة قال: "أكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثورَ أقطٍ فتوضأ، وأكل كتفًا ولم يتوضأ". أخرجه البيهقي (1/ 156). فالظاهر أن أبا هريرة كان يرى أن لحم الغنم مخصوص من العموم، أو يرى أن النسخ كان خاصًّا بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. والمقصود هنا أن ابن عباس إنما عمدته ما رآه من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، والظاهر أنه عارف بأن خبر أبي هريرة صحيح، ولكنه يراه منسوخًا، وقال مقالته تقويةً للنسخ. وفي القصة أن أبا هريرة أجابه بقوله: "يا ابن أخي، إذا حدثتك عن النبي ¬

_ (¬1) رقم (359). (¬2) أخرجه مسلم (356).

- صلى الله عليه وسلم - فلا تضرب له الأمثال". والقصة في "سنن الترمذي" (¬1). وهذا يدل أن أبا هريرة كان يرى الوضوء مما مست النار، ولا يراه من الادِّهان بالدهن المطبوخ، ولا يرى بأسًا بالوضوء بالماء الحار. وكلام ابن عباس يحتمل أنه إنما بناه على ما يفهم من لفظ الحديث، على ما ذكره أبو هريرة: "الوضوء مما مست النار"، فإنه إذا قلنا بعموم المقتضي يعم الادِّهان بالدهن المطبوخ، واستعمال الماء الحميم. فأما إذا كان المراد بالوضوء مما مست النار: ما غيَّرت النار كما ثبت في بعض الروايات، فلا يدخل ما لم تغيِّره تغييرًا ظاهرًا، كالماء. وإذا كان المراد بالوضوء من ذلك الوضوء منه إذا طعمه الإنسان - كما هو المعروف عنهم - فلا يدخل الادهان والاغتسال، وإلحاقه بالقياس غير ظاهر؛ إذ غير مستنكر أن يورث أكل الشيء حالاً في البدن لا يورثها الادهان به ونحوه، كما في الخمر والسم وغير ذلك. هذا، وقد زعم بعض أهل الرأي أن ابن عباس ردَّ خبر أبي هريرة بمجرد القياس، وجعل ذلك أصلاً في أن الصحابي الذي لم يشتهر بالفقه إذا أخبر بخبر مخالف للقياس كان القياس أرجح منه (¬2). كذا قال، ولعله يأتي الكلام في هذا إن شاء الله تعالى. والمقصود هنا التنبيه على أن هذه القصة ليست كما زعم، والله المستعان. ¬

_ (¬1) رقم (79). (¬2) انظر "أصول البزدوي" (159) و"أصول السرخسي" (1/ 340) وغيرهما. وردَّ عليه من الحنفية: عبد العزيز البخاري وغيره، انظر "كشف الأسرار" (2/ 558) و"غاية التحقيق" (ص 164 - 165) و"دراسات اللبيب" (ص 207 - 212).

هذا، وقد صح عن ابن عباس من عدة وجوه قبوله خبر الواحد، واحتجاجه به، وذلك مما يفيد بمجموعه اليقين، والله الموفق.

الرسالة الثانية رسالة في الكلام على أحكام خبر الواحد وشرائطه

الرسالة الثانية رسالة في الكلام على أحكام خبر الواحد وشرائطه

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حمدًا يوافي نِعمَه، ويكافئ مزيده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ على محمَّد وعلى آل محمَّد كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمَّد وعلى آل محمَّد كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وسلِّمْ تسليمًا كثيرًا. أما بعد، وجدتُ كلام المتقدمين في أحكام الجرح والتعديل قليلاً ومنتشرًا، وكلام من بعدهم مختلفًا غير وافٍ بالتحقيق. ورأيت لبعض المتأخرين كلامًا حاد فيه عن الصواب، ويُسِّر لي في تحقيق بعض المسائل ما لم أعثر عليه في كتب القوم - والله المستعان -؛ فأردت أن أقيِّدَ ذلك، ثم رأيت أن أضمَّ إلى ذلك شيئًا من الكلام على أحكام خبر الواحد وشرائطه، فجمعتُ هذه الرسالة، ورتبتُها على ثلاثة أبواب، ومِن الله تعالى أسأل الإعانة والتوفيق.

الباب الأول في بعض ما يتعلق بخبر الواحد

الباب الأول في بعض ما يتعلق بخبر الواحد وفيه فصول: الفصل الأول في وجوب العمل بخبر الواحد هذا أمر مشروح في كتب أهل العلم، وإنما أنبه فيه على ما لم أقف عليه في كتبهم ابتداء، أو رأيتُه غير مستوفىً. فأقول: أمر الله تبارك وتعالى بطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، والتحذير من معصيته في عدة آيات من كتابه: منها قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]. ولا مخالفَ في ذلك من الأمة، والعرب لا تفرِّق في إطلاق الطاعة والمعصية بين أن يَثبُتَ الأمر عند المأمور يقينًا وأن يثبت ظنًّا، بل كما يقولون لمن واجهه أبوه بالأمر فامتثل: إنه أطاع أباه، وإن لم يمتثل: إنه قد عصى أباه؛ فكذلك يقولون لمن بلغه من وجهٍ يُوثَق به أن أباه أمره، كمن أخبره رجل ثقة عن أبيه، أو ثقة عن ثقة عن أبيه. وهذا أمر لا يجهله من يعرف لسان العرب، بل والأمر كذلك في سائر الألسنة. فإذا ثبت هذا ثبت وجوبُ العملِ بخبر الواحد المفيد للظن، وأن من بلغه من وجهٍ يفيد الظن، إن امتثل فقد أطاع، وإلا فقد عصى.

حجة أخرى: قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105]. وواضح أن قوله: {بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} معناه: بما عرَّفكه وفهَّمكه من الكتاب (¬1). وقد قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 79]. ونعت الله سبحانه التوراة بقوله: {تَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 154, الأعراف: 145]، ثم أنزل القرآن مهيمنًا على ما قبله. وقال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء: 59]. وقال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] [ص 2] وكل من له حظٌّ من العلم، يعلم أنه لا يمكن العالمَ أن يعرف من القرآن وحده، أو منه ومن السنن المتواترة جميع الأحكام التي يحتاج إليها الناس فيما يشجر بينهم، ويختلفون فيه، ويريدون العمل به. وعُلِم كذلك أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - خاتم الأنبياء، وشريعتهُ خالدةٌ إلى يوم القيامة، وأن الله تعالى لا يُخلِي الأرضَ عن الحجة (¬2). وقد قال تعالى: ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير القرطبي" (5/ 321). (¬2) يريد علماء أهل السنة من قولهم: إن الله لا يُخلي الأرض عن الحجة، أو عن القائم =

{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، والذكر يشمل أحكام النبي - صلى الله عليه وسلم -، إن لم يكن بلفظه فبمعناه, لأن المقصود من حفظ القرآن هو أن تبقى الحجة قائمة إلى يوم القيامة، وأحكامه - صلى الله عليه وسلم - مما يُحتاج إليه في قيام الحجة في فروع الشريعة. وقد قيل لابن المبارك: هذه الأحاديث المصنوعة؟ فقال: تعيش لها الجهابذة، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] (¬1). فاحتج بالآية على أنه لا يمكن أن يُلْصقَ بالشريعة ما ليس منها، بحيث لا يتيسر لعالم بيانُ أنه ليس منها. فكذلك يُحتجُّ بها على أنه لا يمكن أن يسقط من الشريعة شيء، بحيث لا يبقى لعالمٍ طريقٌ إلى إثبات أنه منها (¬2). فنحن نسأل المخالف أو المرتاب: هل كانت جميع الأحكام التي حكم بها النبي - صلى الله عليه وسلم - مما ليس بظاهر لنا من القرآن خاصةً بأصحابه، أم عامةً لهم ولمن بعدهم؟ فإن قال: خاصة، فقد كابر وجحد ما هو معلوم من الإِسلام بالضرورة. وإن قال: ما ثبت ثبوتًا قطعيًّا فهو لازم لمن بعد الصحابة، وما لم يثبت ¬

_ = لله بالحجة: أهلَ الحق القائمين بكتاب الله، ولا يخلو منهم زمان كما ورد في أحاديث الطائفة المنصورة والفرقة الناجية، وتجديد أمر الدين على رأس كل مئة عام، خلافًا لما يدعيه أهل البدع من الرافضة وغيرهم. "فتح الباري" (6/ 494) , "مجموع فتاوى شيخ الإِسلام" (25/ 130)، "إعلام الموقعين" (2/ 276). (¬1) "الكفاية" (ص 77)، "فتح المغيث" (1/ 260). (¬2) انظر في هذا الوجه من الاستدلال: "الإحكام" (3/ 746)، "الموافقات" (2/ 59).

كذلك فليس بلازم، سألناه عمَّا لم يثبت قطعًا: أمقطوعٌ عنده بكذبٍ كلُّ ما رُوِي من ذلك؟ فإن قال: نعم، كابر. وإن قال: لا، بل منه ما هو صحيح في نفس الأمر. قلنا: فما كان منه صحيحًا في نفس الأمر، هل كان من الشريعة في حق الصحابة الذين ثبت عندهم قطعًا لسماعهم من النبي - صلى الله عليه وسلم - مواجهةً، وفي حق من تواتر عنده من التابعين، أو قَطَعَ بصحته لقرائنَ اقترنت بالخبر عنده؟ فإن قال: لا، كابر. وإن قال: نعم. قلنا: فهذه الأمور التي كانت من الشريعة لو لم تبقَ الآن من الشريعة لكانت الشريعة الآن ناقصة، ولكانت الحجة مفقودة في كثير من الأحكام التي يحتاج إليها الناس، وذلك خلاف وعد الله تبارك وتعالى، وخلاف حكمته في ختم النبوة، وغير ذلك. فإن قال: فما تقولون أنتم في الأحاديث الضعيفة؟ قلنا: ما كان ضعيفًا اتفاقًا وانفرد بأمر ليس عليه دليلٌ آخر تقوم به الحجة فذاك الضعيف باطلٌ قطعًا، وأحسن أحواله أن يكون: كان شيءٌ فَنُسِخَ؛ لأن ما تكفَّلَ به الرب عَزَّ وَجَلَّ من حفظ الشريعة إنما يحصل المقصود منه بحفظ أحكامها حفظًا تقوم به الحجة، والضعيف لا تقوم به الحجة. وقد أوضحتُ هذا في رسالة "الكلام في العمل بالضعيف" (¬1)، فليُطلَب تمامُه من هناك. ¬

_ (¬1) ضمن "مجموع الرسائل الحديثية" (ص 151 - 213).

حجة ثالثة: قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67] (¬1). وقد تواتر تواترًا معنويًّا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكتفي في كثير من الأحكام بإخبار الواحد أو الاثنين، فلو كان خبر الواحد لا تقوم به الحجة لما حصل به مقصود التبليغ، إذ المقصود تبليغ يتيسَّرُ علم الناس به، ويُبلِّغه الحاضرُ الغائبَ، ثم يتناقله الناس إلى يوم القيامة؛ لما تقدم (¬2). ولو كان كذلك (¬3) لما اكتفى - صلى الله عليه وسلم - بذلك، ولا أقرَّه ربه عَزَّ وَجَلَّ عليه. فإن قيل: فإن الذي سمع ذلك إن كان واحدًا أو اثنين قد يموت قبل أن يُخبر غيره، وقد ينسى، وقد يرتدُّ أو يَفسُق، فكيف يكتفي النبي - صلى الله عليه وسلم - بإخباره؟ [ص 3] فالجواب: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يعلم أن ربه عَزَّ وَجَلَّ حافظ له، وحافظ لدينه، وأنه إن علم عَزَّ وَجَلَّ من ذلك الرجل الذي بلَّغه شيئًا مما مرَّ لنبَّه سبحانه نبيَّه، وهداه إلى تبليغ غيره ممن يعلم أنه سيبلِّغ مَن بعده على وجهٍ تقوم به الحجة. ¬

_ (¬1) في المخطوط: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} وترك بعده بياض. (¬2) انظر في هذا الوجه من الاستدلال: "قواطع الأدلة" (1/ 322)، "رفع الحاجب" (2/ 338). (¬3) أي: ولو كان خبر الواحد لا تقوم به الحجة.

شبهة المخالف

هذا، وفي كتب أهل العلم حجج كثيرة في هذه المسألة، وإنما نبَّهتُ على ما لا أعلمه في كتبهم مشروحًا، كما سلف، والله الموفق (¬1). فإن فُرِض أنه ليس في الحجج على وجوب العمل بخبر الواحد ما يفيد القطعَ بمفردها، فلا ريب أنها باجتماعها تفيد القطع، كما حققه الشاطبي في "الموافقات" (¬2). شبهة المخالف: ذكروا أن بعض من خالف في هذا زعم أن العقل لا يُجوِّز أن يتعبد الله عَزَّ وَجَلَّ عباده بخبر الواحد. وظهور بطلان هذا أغناني عن البحث عن توجيه هذا القول، إلا أنه يخطر لي أن وجهه: أن الخبر قد يكون باطلاً، بأن يكون الراوي غلِطَ، أو يكون بخلاف ما ظهر لنا من ثقته فكذبَ، وإذا احتمل البطلان كان التعبد به في صورة بطلانه تعبدًا بالباطل، وذلك محال على الله عزَّ وجلَّ. والجواب عن هذه الشبهة وغيرها: أنها في معارضة ما ثبت قطعًا، فلا يُعتدُّ بها، وإن كانت قد تُشكِّك الناظر حتى يكاد يرتاب في أن تلك الحجج تفيد القطع، فإن هذا شأن الشُّبه، كما رأينا السوفسطائية يثيرون شبهًا على ¬

_ (¬1) انظر في أدلة حجية خبر الواحد: "الرسالة" (383)، "الإحكام" لابن حزم (1/ 112)، "البرهان" (1/ 388)، "أصول السرخسي" (1/ 490)، "المحصول" لابن العربي (543)؛ "التحبير شرح التحرير" (4/ 1801). (¬2) (1/ 29 , 30) ط. مشهور.

المحسوسات والمعقولات الأولية وغيرها مما هو من أجلى القطعيات، فإذا سمع الناظر تلك الشبهات تزلزلَ اعتقادُه قطعيةَ تلك القطعيات أو كاد يتزلزل. ولهذا كان حكماء الأئمة من سلف الأمة يتجنبون سماع الشبهات، وينهون الناس عن مخالطة أهلها وسماع كلامهم. وحلُّ هذه الشبهة أن من أصل المخالف وغيره من مثبتي الحكمة: أنه لا يُعتدُّ بالشر القليل الناشئ عما ينشأ عنه الخير الكثير، ولا تُترك المصلحة الكبرى لانطوائها على مفسدة صغرى. فالتعبد بخبر الواحد - بشرطه - فيه خير كثير ومصالح عظمى، فلا ينظر إلى احتمال أن يكون في بعض الجزئيات باطلاً. وأمثلة ذلك في خلق الله عزَّ وجلَّ معروفة مشهورة. وقد قال تعالى: {لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54]. وكذلك له أمثلة فيما اتفق عليه من أمره سبحانه، وهو الشريعة، كالتعبد بما يظهر للعالم من دلالة القرآن، وتعبُّدِ القاضي بأن يحكم بالاعتراف وشهادةِ عدلين، والتعبد بركوب البحر وغيره وإن احتمل أن يؤدي إلى الهلاك، وتعبُّدِ المرأة بتمكينها مَن عهدته زوجَها أو سيدَها، وإن احتمل أنه قد طلق أو أعتق، إلى غير ذلك. ولو اشتُرِط في ذلك وأمثاله حصولُ القطع بالعلم اليقيني لفسدت الأرض، إلا أن يجعل الله عَزَّ وَجَلَّ جميع بني آدم أنبياء يوحى إليهم في كل شيء، وذلك خلاف الحكمة في خلقهم، كما هو مقرر في موضعه. على أننا لا نسلِّم أن العمل بخبر الواحد - الجامعِ للشروط ظاهرًا، الباطلِ باطنًا - ليس فيه مصلحة، بل فيه المصلحة العظمى، وهي طاعة الله

شبهة أخرى

ورسوله، وذلك هو العبادة التي خلق الله الخلق لأجلها، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. فلا يضرُّها احتمالُ أن يكون الخبر في نفس الأمر باطلاً. أوَلا ترى أن المرأة إذا مكَّنتْ من عهدته زوجَها أو سيدَها امتثالاً لأمر الله عزَّ وجلَّ، ثبت لها الأجر والثواب، حتى في صورة أن يكون ذلك البعل أو السيد لا يحلُّ لها في الباطن، كأن يكون قد طلق أو أعتق ولم تعلَمْ هي، وكأن يكون في نفس الأمر أخاها أو أباها أو ابنها وهي لا تعلم. على أننا نقول: إن الله تبارك وتعالى رقيبٌ على كل حركة تقع في العالم، فيعدِل بقضائه وقدره ما عساه أن يقع من الخلل بسبب قواعد شريعته، وعلمه سبحانه محيط، وحكمته بالغة، وعلمنا وحكمتنا ناقصان محدودان، فإذا قامت الحجة الشرعية على شيء ولم نفهم وجه الحكمة فيه، أو رأينا أنه خلاف الحكمة فذلك ثمرة قصور علمنا، والله أعلم. [ص 4] شبهة أخرى: زعموا أن بعض الظاهرية زعم أن العمل بخبر الواحد وإن لم يمنعه العقل، فقد منع منه الشرع؛ لأنه إنما يفيد الظن (¬1)، وقد قال الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36] وما في معناها من الآيات. وأجيب عنه بأجوبة: منها: أن الظن في الآيتين هو الخرص، كما قال تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا ¬

_ (¬1) انظر لنفي نسبة هذا القول إلى الظاهرية ما سبق في (ص 64 - 65).

الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الأنعام: 116]. وعلى ذلك يدُّل السياق في الآيتين، فإنهما في صدد إقامة الحجة على المشركين في قولهم: إن الملائكة بنات الله، وإنهن يشفعن عنده ويستحقِقْنَ العبادة. فإن هذا من الخرص الذي ينبني على خاطر تخيلي. كمن يرى إنسانًا لم يره قبل ذلك، فيقع في نفسه أنه يريد به شرًّا، فإذا تدبَّر في سبب هذا الظن وجد أن قد كان ناله شرٌّ قبل مدة من إنسان يُشبِهه هذا في الصورة بعضَ الشبه، وإذا رجع إلى عقله علم أن مثل ذلك الشبه الصوري لا يلزم منه ما ظنه، وقد قال الله عزَّ وجلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12]. ومنها: أن الظن هنا المراد به الظن المعارض لما هو أرجح منه، فإنَّ ظن المشركين الذي نعاه الله تعالى عليهم في الآيتين معارض للقواطع. ومنها: أن المراد به الظن فيما لا يكفي فيه إلا القطع، كما في ظن المشركين المنْعِيِّ عليهم في الآيتين، فإنه في العقائد. وقد يُنظر في هذه الأجوبة بأنها تقتضي تخصيصَ الظن ببعض صوره لخصوص السبب، والمقرر في الأصول أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ويجاب عن هذا بأن هذا من التخصيص بالسياق لا بالسبب، وعلى كلًّ فدلالة العام ظنية، ولا سيما في مثل هذا. فيقال للمخالف: دلالة الآيتين على خصوص خبر الواحد ظنية، فالآيتان بعمومهما تقتضيان بطلانَ هذه الدلالة.

شبهة ثالثة

فإن قال. أما الدلالة الظنية من القرآن فقد قام الدليل على خروجها من ذلك العموم. قلنا: وكذلك خبر الواحد قد ذكر أهل العلم عدة حجج على وجوب العمل به، وذكرنا بعض الحجج كما مر. ومن الأجوبة: أن العمل بخبر الواحد ليس عملًا به من حيث هو خبر واحد، ولا من حيث إنه يفيد الظن، بل من حيث إن الشارع أمر بالعمل به، وذاك الأمر ثابت قطعًا بما ذكره أهل العلم من الحجج، وما قدّمتُه منها، فالعمل به اتباع للحق المقطوع به لا للظن. وكذلك نقول في جميع الأدلة التي تفيد الظن وقام الدليل القاطع على وجوب العمل بها. أوَلا ترى أنه إذا اعترف رجل بالغ عاقل مختار عند القاضى، ولم يكن هناك ما يدل على بطلان اعترافه ولا صحته، فقضى عليه بمجرد اعترافه؛ فقد قضى بما أنزل الله قطعًا؛ لأن وجوب الحكم بالاعتراف مقطوع به، وإن كان الاعتراف لا يفيد إلا الظن. وهكذا إذا قضى بشهادة شاهدين بشرطهما. وعن ذلك صاروا إلى أن أصول الفقه قطعية، والأمر كذلك، إلا أن من الأصول ما يكون فرعًا لأصلٍ أعلى منه، فيكفي القطع للأصل الأعلى. شبهة ثالثة: عرف جماعة من العقلاء أن الطعن في وجوب العمل بخبر الواحد المستجمع للشروط مكابرة لا تُجدِي، فعدلوا إلى دعوى أن عامة الأخبار المروية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بطرق الآحاد غير مستجمعةٍ للشروط.

فمن هؤلاء: كتّاب الإفرنج في العصور المتأخرة وأذنابهم. وشبهتهم: أن المسلمين فشتْ فيهم من القرن الأول الأهواءُ السياسية، والحزبية، والمذهبية، والقومية، والوطنية، وغيرها. واستخدم كلٌّ منهم الأحاديث في ما يوافق هواه ويخالف خصمه، [ص 5] وكان فيهم من يضع الأحاديث احتسابًا، ومن يضعها لنصرة الحق في زعمه، ومن يضعها لترغيب العامة، دَعْ وضع الزنادقة المتظاهرين بالإِسلام والزهد والتقوى، الساعين سرًّا في هدم الإِسلام وتشويهه. والجواب عن هذه الشبهة: أنها بمنزلة من يقول: إن الناس قد أكثروا من صنع ما يُشبِه المسك والعنبر، وتفننوا في ذلك كثيرًا، فلم يبقَ وثوقٌ بوجود مسك وعنبر حقيقي، وكذلك السمن والعسل، وكذلك الذهب والجواهر الثمينة. ولو خالط أهل الخبرة، وأطال مِن صحبتهم، لعلم أن عندهم من العلم والمعرفة والخبرة الفنية ما يميِّزون به بين الحقيقي من تلك الأشياء وبين غيره. ومن أدوى الأدواء في كتّاب الإفرنج أنهم يقيسون أئمة المسلمين على أنفسهم، فكما يعلمون من أنفسهم أنهم لا يُحجِمون عن الكذب والافتراء إذا كان وسيلةً إلى تحصيل أغراضهم؛ يظنون أن أئمة المسلمين كذلك. ولم يعلموا أن في المسلمين الآن رجالاً - رغمًا عن بُعدِهم من العهد النبوي، وتقصيرهم في الواجبات، وركوبهم لكثير من المحرمات - لأن يُلقَى أحدهم هو وولده وأهله وقبيلته في النار أحبُّ إليه من أن يكذِب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ومن ذاق طعم الإيمان, ومارس كتب الحديث والرجال، علم يقينًا أن في رجال الحديث عددًا لا يُحصى كانوا أحرصَ على الصدق منهم على الحياة،

وكانوا في البعد عن الكذب بحيث نرى أنه يستحيل عليهم أن يتعمَّدوه. ومع ذلك، فإن أئمة الحديث كانوا لا يكادونَ يقنَعون بالعدالة الظاهرة حتى يسألوا عنه، ويتتبعوا سيرته. قال الحسن بن صالح (¬1): [كنا إذا أردنا أن نكتب عن الرجل سألنا عنه حتى يقال لنا: أتريدون أن تزوِّجوه؟]. وإذا علموا حسن سيرته لم يكتفوا بذلك حتى يختبروا حديثه، فيسألونه عن الحديث مرة بعد أخرى. قال شعبة (¬2): [سمعت من طلحة بن مصرّف حديثًا واحدًا، وكنتُ كلما مررتُ به سألته عنه. فقيل له: لِمَ يا أبا بسطام؟ قال: أردتُ أن أنظر إلى حفظه، فإن غيَّر فيه شيئًا تركتُه]. ثم لا يكتفون بذلك حتى يعتبروا حديثه، فلا يعتمدونه حتى يجدوا أن غيره من الثقات قد روى عن شيخه مثل ما روى، أو أن غير شيخه قد روى عن شيخ شيخه كما روى. ثم لا يَقْنَعون بذلك في حديث أو حديثين، بل لا يُقنِعهم منه إلا أن يكون ذلك في أحاديث كثيرة، بحيث يستقر في أنفسهم أن الصدق والضبط ملكة له. على أن غالب الأحاديث الصحيحة طرقها متعددة. ومنهم: بعض الفرق الغالية، كالخوارج والروافض، فإن هؤلاء يزعمون أن مخالفيهم كفَّار؛ فلا تقبل روايتهم. والجواب عن هذا معروف. ¬

_ (¬1) بعده بياض في الأصل، والنصّ في "الكفاية" (ص 93). (¬2) بعده بياض في الأصل. والنصّ في "الكفاية" (ص 113).

ومنهم: أفراد من المعتزلة والجهمية، رأوا في الأحاديث ما يرد عليهم كثيرًا من آرائهم؛ ولم يقنعوا بما وافقهم عليه أهل الحديث من أن الحديث إذا خالف صريح العقل لا يقبل؛ لعلمهم بأن آراءهم التي تخالف السنن ليست مبنية على عقل صريح، بل ولا قريبٍ من الصراحة، وإنما هي شبهات مشكِّكة. فاحتاجوا إلى الطعن في الأحاديث، فعَمَدوا إلى الطعن في بعض الصحابة، ثم في أئمة الحديث، حتى حاول بعضهم الطعنَ في شعبة بأنه كثير الغلط، وفي حماد بن سلمة بأنه كان له ربيبٌ زنديق يدُسُّ في كتبه. وعَمَدوا إلى بعض الأحاديث التي ظاهرها الاِشكال والتعارض، فجمعوها يشنِّعون بها على أهل الحديث. وقد أجاب أهل الحديث عنها بأن منها ما لا يصح عندهم، فلا يحتاجون إلى الجواب عنه. [ص 6] ومنها ما ليس بمشكل وإن استشكله أهل الأهواء، وأمثلته في كتاب الله تعالى موجودة، وباقيها يوجد في كتاب الله عزَّ وجلَّ نظيره في أنه يظهر أنه مشكل أو معارض لغيره مما يثبت، فيفسَّر بنحو ما تُفسَّر نظائره من القرآن، ولا يدل ذلك على عدم صحته. وأسرف بعض الجهمية فوضع أحاديث باطلة، ورواها عن أهل الحديث لما أعجزه أن يجد في صحاح الأحاديث وفي مرويات الأثبات ما يُعلم بطلانه قطعًا. ومن وضع أهل الأهواء حديث: "إن الله تعالى خلق الفرس ثم أجراه حتى عرِقَ، فخلق سبحانه نفسه من ذلك العرق" (¬1). ¬

_ (¬1) وضعه محمَّد بن شجاع الثلجي، كما في "الكامل" لابن عدي (6/ 291) و"الأسماء والصفات" للبيهقي (ص 373) و"الموضوعات" لابن الجوزي (1/ 105) و"ميزان الاعتدال" (3/ 579). قال الحافظ في "اللسان" (3/ 96): حديث إجراء الخيل =

ومنهم: بعض الغلاة في الرأي، حاولوا أن يثبتوا أن في الأحاديث التي يصححها أهل الحديث ما هو معارض للقرآن، أو معارض للقواعد الشرعية. ولم يصنعوا شيئًا. وبالجملة، فهذه الأقوال الأخيرة ليست طعنًا في حجية خبر الواحد من حيث هو، وإنما هي محاولة توهينه في الجملة، ليسهُلَ على أولئك المحاولين ردُّ ما يخالف أهواءهم. وحقيقة الحال أنهم يحاولون أن يزيدوا في شروط قبول خبر الواحد. وذلك أن من الشروط المتفق عليها: أن لا يخالف صريح المعقول. وأهل الأهواء يحاولون زيادة: أن لا يخالف ما زعم أئمتهم - كجهم، والجبائي، وابن سينا، وأضرابهم - أنه معقول. حتى يحاول الأشاعرة أن لا يخالف قول الأشعري، ولا قول الباقلاني، إلى غير ذلك. وجرى مثل ذلك للمقلدين في الفروع. ومن الشروط المتفق عليها في الجملة: أن لا يخالف نصًّا قطعيًّا من كتاب الله عزَّ وجلَّ. وبعض الفقهاء حاولوا توسيع دائرة القطعية في دلالة الكتاب، وللكلام معهم موضع آخر. فأما النزاع في الجزئيات، كطعن بعض الجهمية في حماد بن سلمة؛ فليس هذا موضع الكلام فيه، ولكن ها هنا تنبيه كلي، وهو أن من هذا الضرب أن تكون أشعريًّا مثلاً، فتنظر في مسألة قد خُولِف فيها الأشاعرة، وأنت ¬

_ = موضوع، وضعه بعض الزنادقة ليشنع به على أصحاب الحديث في روايتهم المستحيل، فحمله بعض مَن لا عقل له، ورواه، وهو مما يُقطع ببطلانه عقلاً وشرعًا.

تذهب إليها، وتجد مخالفيهم قد احتجوا بحديث، وأجاب بعض الأشاعرة بالطعن في بعض رواته، كحماد بن سلمة. فحقُّك إن أردتَ الله والدار الآخرة أن تقوم للحق على نفسك، فتتدبر حجة الأشاعرة، فإذا وجدتها ليست بالقاطعة فرضتَ مسألة أخرى قد ذهب إليها الأشاعرة وخالفهم غيرهم، وليست حجة الأشاعرة بالقاطعة، ولكنهم احتجوا بحديث، فنظرتَ في رواية ذلك الحديث، فإذا هو من رواية ذلك الرجل أو مثله. ثم وازِنْ بين حالَيْك: حالك وأنت تنظر في حال ذلك الرجل بسبب روايته الحديث المخالف للأشاعرة، وحالك وأنت تنظر في حاله أو في حال نظيره بسبب روايته للحديث الموافق للأشاعرة. فإذا وجدت نفسك تميل إلى توهينه في الأولى وتثبيته في الثانية، فاعلم أن لهوى نفسِك تأثيرًا شديدًا عليك، فاعرِفْه وجاهِدْ نفسك، فإن لم تستطع فعلى الأقل ينبغي أن تكُفَّ نفسك عن الكلام في مثل ذلك، وتَعذِرَ مخالفك عالمًا أنه أحد رجلين: إما رجل بريء من الهوى، يتبيَّنُ الحقَّ من حيث يصدُّك هواك عن تبيُّنِه. وإما رجل له هوى مخالفٌ لهواك، فحاله مثل حالك، فكما تجنَحُ إلى عذرِ نفسك ورجاءِ أن يُغفَر لك، وتقبيح شناعة من شنَّع عليك؛ فكذلك ينبغي أن ترى لمخالفك، فترجو له العذر والمغفرة، ولا ترضى بتشنيع عليه. وفي الحديث: " [لا يؤمن أحدكم] حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه" (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (13) ومسلم (45) من حديث أنس بن مالك. وما بين المعكوفتين منهما.

وإن من أبين الظلم وأشنعِه أن ترجو لنفسك العذر والمغفرة, وتأبى ذلك لمن حاله مثل حالك في الجملة. ومثل هذا الظلم واقع كثيرًا، وإظهار شناعته يحتمل كلامًا أكثر من هذا, ولكن لذلك موضع آخر. وقد وجدتُ من نفسي ومن غيري دليلَ وجود الهوى المشار إليه. وحسبك أن تكون شافعيًّا مثلاً، فتجد الشافعيةَ قد احتجوا بحديث، ومخالفيهم كالحنفية قد احتجوا بآخر، وأنت تريد النظر في الحديثين، هل تجد نفسَك تتمنَّى أن تجد حديثَ أصحابك قويًّا وحديثَ مخالفيهم ضعيفًا؟ فإذا وجدتَها كذلك فهذا هو الهوى. وقد ترى أنه لا يضرك وجوده، وقد أوافقك على هذا، لكنك إذا نظرت أثر ذلك الهوى في نظرك، فحملك على الطعن في حديث الحنفية بوجهٍ يوجد مثلُه أو أشدُّ منه في حديث أصحابك، وأنت تعمى أو تتعامى عنه في حديث أصحابك، أو تدفعه أو تتأوله بدافعٍ أو تأويلٍ قد يوجد مثله أو أقوى منه لحديث الحنفية، ولكنك تعمى عنه أو تتعامى أو لا تراه شيئًا. هذا وقد انفتح لك الباب، فإن كنت تحبُّ الحق فأَنْعِم النظر واعملْ بما ينبغي. وكذلك إذا كنت عثمانيًّا تميل إلى تفضيل عثمان رضي الله عنه، ثم وجدتَ حديثين، أحدهما فيه فضيلة لعثمان، والآخر فيه غضاضة عليه, فإنك قد تكتفي في الأول بأن أئمة الحديث صححوه, ثم لا تكتفي في الثاني بمثل ذلك، بل يبقى في نفسك منه حزازةٌ، فإذا نظرتَ في حال رواته وجدته ينفرد به رجل قد عُرِف بشيء من التشيع، فتقدح فيه بذلك، ولعلك تكتفي بذلك. ولعلك لو نظرت في رواة الأول لوجدته ينفرد به رجل كان فيه ميلٌ ما عن أهل البيت.

بل قد يغلو بك الهوى فتتلمس الاعتذار عن راوي الفضيلة، والطعن على راوي الغضاضة. بل وقد لا يكون راوي الغضاضة موصوفًا بالتشيع، فتحاول أنت أن تدلَّ على اتصافه بذلك بوجهٍ يمكن إثبات مثله أو أقوى منه في الدلالة على ميل راوي الفضيلة عن أهل البيت. بل وقد تميل إلى الطعن في راوي الغضاضة لمجرد تفرده بذلك الحديث، وقد تحاول إبداء دلالةٍ على بُعْد أن يكون الحديث صحيحًا وينفرد به ذلك الرجل، ولا تلتفت إلى مثل ذلكَ أو أقوى منه في راوي الفضيلة. وبالجملة فهذا باب واسع جدًّا، قد انفتح لمن يريد أن يناقش نفسَه الحسابَ، ويحرِص على نجاتها من العذاب، والتوفيق بيد الله سبحانه. ***

الفصل الثاني فيما يفيده خبر الواحد

الفصل الثاني فيما يفيده خبر الواحد الجمهور على أن خبر الواحد المستجمع للشروط، وإن كان وجوب العمل به ثابتًا قطعًا، فدلالة اجتماع الشرائط على نسبته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ظنية قطعًا. ونظير ذلك أذان المؤذن الثقة، وفتوى العالم الثقة، وشهادة العدلين؛ وجوب العمل بها ثابت قطعًا، وإن كان يمكن في هذا المؤذن أن يؤذن قبل دخول الوقت لغلطٍ أو غيره، وفي هذا العالم أن يفتي بغير الحق لغلطٍ أو غيره، وفي هذين الشاهدين أن يكونا شهدا بغير الحق كذلك. ونُقِل عن بعض أهل العلم - كالإمام أحمد بن حنبل، والحسين الكرابيسي، والحارث المحاسبي - أنه يفيد العلم (¬1). وقد شنَّع بعض الناس على هذا القول، [ص 7] ولعل القائلين بأنه يفيد العلم لم يريدوا ما ظنَّه المشنَّع، وهناك معانٍ يمكن أنهم أرادوا واحدًا منها: الأول: أنه يفيد العلم بلزوم الحكم الذي تضمَّنه لمن ثبت عنده. وحاصل هذا أنك قد علمت أن الأدلة على وجوب العمل بخبر الواحد - بشرطه - قطعية، أي تفيد العلم، فعلى هذا أيُّ مجتهدٍ بلغه خبر واحد بشرطه فقد لزمه العمل به قطعًا. فذاك الخبر بمعونة الأدلة العامة يفيد العلم بأنه يلزم ذاك المجتهدَ الحكمُ بما تضمَّنه. ¬

_ (¬1) انظر "إرشاد الفحول" (ص 43).

ونظيره: شهادة شاهدين مستجمعة للشرائط، بأن زيدًا هو قتل عمرًا المكافئ له عمدًا وعدوانًا. فإنه إذا طلب الورثة كلُّهم القصاص كانت تلك الشهادة بمعونة الحجة القاطعة على وجوب العمل بمثلها تفيد العلم بوجوب الحكم بقتل زيد، فتدبَّر. الثاني: أنه يفيد العلم بالمعنى الذي يقوله متأخرو الحنفية، تبعًا لمشايخ العراق من متقدميهم، في نحو دلالة العموم الذي لم يخص من الكتاب أنها قطعية تفيد العلم. ويُفسِّرون ذلك بأن احتمال خلافها احتمال غير ناشئ عن دليل. يريدون أن المجتهد إذا وقف على آية تفيد حكمًا عامًّا، وبحثَ فلم يجد ما يدل على أن ذاك عام مراد به الخصوص، أو عام مخصوص = لم يبقَ بينه وبين اليقين الباتِّ إلا احتمالُ أن يكون هناك دليل لم يقف عليه، أو لم يتنبه له. فلم يعتدُّوا بهذا الاحتمال، وقالوا: إن دلالة العموم حينئذٍ قطعية تفيد العلم. فالحاصل أنهم أرادوا قطعًا وعلمًا غير المشهورينِ، ثم قالوا: لا يجوز تخصيصُ عامٍّ في القرآن بخبرِ واحدٍ؛ لأن خبر الواحد إنما يفيد الظن. فكأن القائلين بأنه يفيد العلم أرادوا دفْعَ كلام أولئك، فقالوا: بل إن خبر الواحد - بشرطه - يفيد العلم، أي علمًا كالعلم الذي يفيده العموم. وذلك أن وجوب العمل بخبر الواحد قطعي، وإنما لا يفيد هو اليقينَ لاحتمال أن بعض الرواة أخطأ أو غلط، وهذا احتمال غير ناشئ عن دليل، فكما لم يعتدُّوا بالاحتمال الناشئ عن غير دليل في دلالة العام، فكذلك في ثبوت خبر الواحد بشرطه. وتخصيص العمومات أكثر من غلط الثقات،

والمخالفون في حجية العام أكثر وأشهر من المخالفين في وجوب العمل بخبر الواحد. الثالث: أنه يفيد العلم اليقيني في بعض الصور، كالمتلقَّى بالقبول، والمحتفَّةِ به قرائن. والله أعلم. ***

الفصل الثالث المعنى الذي لأجله وجب العمل بخبر الواحد

[ص 8] الفصل الثالث المعنى الذي لأجله وجب العمل بخبر الواحد لا نزاعَ أن مدار وجوب العمل بخبر الواحد على إفادته الظن. وقد دلَّ عليه قول الله عزَّ وجلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6]. فعلّل وجوب التبيُّن في خبر الفاسق بأن العمل به بلا تبيُّن أخذٌ بجهالة، والجهالة عدم العلم، وهي ها هنا عدمُ العلم الذي هو الظن؛ لأن الآية قد دلّت على أنه لا يجب التبيُّن في خبر العدل، فدلَّ ذلك أن الأخذ به ليس أخذًا بجهالة، وقد عُلِم أنه يفيد الظن. ولكن هنا احتمالان: الأول: أن تكون إفادة الظن هي العلة. الثاني: أن تكون هي الحكمة، والعلة ضابطها، وهو نفس إخبار الثقة. وذكر بعض أهل العلم أن الأول قد يُنقَض بخبر بعض الصبيان المميّزين، وبعض الكفّار، وبعضر الفسّاق. فقد يكون الصبي المميّز أديبًا ذكيًّا نشأ على الصدق والأمانة والتدين، يُعرف منه شدةُ الحرص على الصدق والتباعد عن الكذب. وكذلك بعض الفسّاق بنحو شرب الخمر، قد يكون معروفًا بالصدق، شديدَ الحرصِ عليه والتباعدِ عن الكذب في أمور الناس، فضلاً عن الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم -. وكذلك بعض الكفار قد يكون معروفًا بتحرَّي الصدق وتجنُّب الكذب.

وأجاب: بأن ردَّ خبر الصبي والفاسق والكافر مطلقًا من تخصيص العلة، وهو غير قادح عند جماعة من علماء الأصول، كما هو رأي الحنفية. قال عبد الرحمن: الحق أن العلة لا بدَّ من سلامتها من النقض، لكن قد ينتفي الحكم مع وجودها, لفقد شرطٍ أو لوجود مانعٍ منعَ من تأثيرها. فإذا عُرِف في الصورة التي ينتفي فيها الحكم مع وجود العلة أنه انتفى فيها شرطٌ أو وُجِد مانع = لم يكن ذلك نقضًا. وذلك كالزوجية علة للإرث، ولا ينقضها أن أحد الزوجين إذا قتل الآخر لم يرِثْه, لأن ذاك لمانع، وهو القتل. فأما أن تنتفي مع وجودها بشروطها وعدمِ مانعٍ، فلا يجوز. فإن اعتُرِض على علة بمثل هذا فهو قادح فيها البتةَ. فإن كانت منصوصةً فلا تخلو عن وجوه: أحدها: أن يكون هناك وصف لا بد أن يُضمَّ إليها، وهو غير موجود في صورة النقض. الثاني: أن يكون لها شرط كذلك، أي غير موجود في صورة النقض. الثالث: أن يكون في صورة النقض مانع. وقبل أن يتبين واحد من هذه الثلاثة لا يمكن الجزمُ بأنها علة تامة. وعلى هذا، فقد يجاب عن المذكور بجواب أصح مما ذكر: فيقال: أما الصبي فلا نسلِّم أن خبره يفيد الظن في الأمور المهمة، وذلك أن المانع من الكذب إمّا خشية الله والخوف من عذاب الآخرة، وإمّا الخوف من الضعة عند الناس، والصبي خالٍ من الأول، لعلمِه أن القلم مرفوع عنه. وعن الثاني لأنه لم يبلغ المبلغ الذي يكون للشرف عند صاحبه

قيمةٌ، بل يرى أنه إن تبيَّن كذبُه فالناس يعذرونه بالصغر. وأما الفاسق فقد تبين بظهور فسقه ضعفُ خشيته من الله، وخوفِه من عذاب الآخرة، وضعفُ خوفه من الضعة عند الناس. ومع ذلك، فالفسق مانع من قبول خبره، زجرًا له وتنفيرًا له ولغيره عن الفسق؛ لأن الإنسان إذا رأى أن الفسق يحطُّه عن درجة من يُقبَل خبره كان ذلك مما يردعه ويزجره. وأما الكافر فلا يصدُّه عن الكذب على المسلمين خشيةٌ من الله ولا من عذاب الآخرة. وخشية الضعة عندهم إذا ظهر كذبه يعارضها رجاؤه الرفعةَ عند إخوانه من الكفار؛ لأنه هو وهم أعداء للإسلام وأهله، ومع ذلك فهذه العداوة مانع من قبول خبره، والمانع الذي ذكرناه في الفاسق قائم هنا أيضًا. [ص 9] وقد يُخدَش في بعض هذا الجواب بما قد يمكن دفعه، وقد يُعترض بغير ما ذكر، وبسط ذلك يطول. وعلى كل حال، فلا يخلو الاحتمال الأول من خدشةٍ، فلننظر في الاحتمال الثاني. فأقول: قد يشهد له ما عُرف من تفاوت درجات الظن، ومن ضبط الشارع له في الشهادة ضوابط مختلفة، تارة بأربعة رجال بشرطهم، وتارة برجلين كذلك، وتارة برجل وامرأتين، إلى غير ذلك. وقد يُعترض عليه باتفاق أهل العلم في الجملة على رد بعض أخبار الثقات، والحكمِ عليها بأنها خطأ، وتوقفهم فيها، مع اختلافهم في ما علل بالمظنة، وهي ضابط الحكمة: هل يثبت الحكم مع ثبوته حتى في الصور التي يتبين فيها عدم الحكمة، كلحوق نسب ولد المرأة بزوجها الذي لم يجتمع بها قطعًا؟

والجواب: أنه إن صح أن من المجتهدين من كان يجزم بهذه القاعدة بإطلاق، وهي أن العبرة بوجود الضابط، وإن علم انتفاء الحكمة قطعًا = فلعله غفل عن أصله هنا، أو رأى أن العلة هنا هي مجرد إفادة الظن، أو رأى زيادة وصف في الضابط، كأن يقال: خبر الثقة خبرًا لم يتبين خطؤه. وهذا معنى قول أهل الحديث: "من غير شذوذ ولا علة قادحة". فالشذوذ والعلة القادحة بمعنى قولي: "لم يتبين خطؤه". فالذي يتحرر رجحان الاحتمال الثاني، لكن بهذا القيد، والله الموفق. ***

الفصل الرابع المقابلة بين الرواية والشهادة

الفصل الرابع المقابلة بين الرواية والشهادة قد تقرر في الشهادة أنه لا يثبت الزنا إلا بأربعة شهود بشرطهم، وفي الدماء ونحوها برجلين بشرطهما، وفي الأموال برجلين أو رجل وامرأتين بشرطهم، واكتفى جماعة فيها برجل ويمين المدعي، واختلفوا في نحو الولادة، فاشترط بعضهم أربع نسوة بشرطهن، واكتفى بعضهم بامرأة واحدة بشرطها. واستشكل بعضهم التخفيف في الرواية بالاكتفاء بخبر واحدٍ بشرطه: رجلٍ أو امرأةٍ، مع أن القياس عكسه؛ فإن الشهادة إنما تثبت بها قضية واحدةٌ، وأما الراوية فإنها تكون دينًا يُعمل به إلى يوم القيامة، في قضايا لا تحصى. ونقل عن بعض المتكلمين أنه يشترط في الرواية اثنان كما في الشهادة. والجواب من أوجه: الأول: أن الزنا - مثلاً - يتعارض فيه أمران: الأول: اقتضاء الحكمة للزجر عنه. الثاني: كراهية أن يُحدَّ من ليس بزانٍ. فالأول يقتضي أن لا يُشترط في ثبوته القطعُ أو ما يقرب منه؛ لأنه إذا اشتُرِط ذلك لم يكد يقع حدٌّ في الأرض، ولم يحصل مقصود الزجر. والثاني يقتضي الاحتياط في ثبوته، حتى لا يُحدَّ من ليس بزانٍ. وعلى هذا فقِسْ.

وإذا نظرتَ وجدت أن هذين الأمرين المتعارضين ليسا على درجة واحدة في جميع الأمور. فأما في الزنا فالثاني أرجح من الأول؛ لأن المفسدة العظمى في الزنا إنما هي في المجاهرة به، فأما وقوعه في الجملة فهو وإن كان فسادًا إلا أنه لا ينافي حكمة الخلق، بل يوافقها. ولما كان في ثبوته عند الحاكم وإقامةِ الحد إعلانٌ له صار ذلك في حكم المجاهرة، فاقتضت الحكمة المنعَ من ذلك ما لم تحصل المجاهرة بغيره. فاشتُرِط أربعة رجال بشرطهم؛ لأن الغالب أن الزانيين بموضع يحتمل أن يكون فيه أو يطرقه أربعة بتلك الشروط = قد جاهرا أو كادا. وأما القتل - مثلاً - فالأول أرجح؛ إذ لو اشتُرِط في شهوده أن يكونوا أربعة مثلاً لعزَّ إثباتُ القتل، وإذا عزَّ إثباته والقصاص به استرسل الناس في القتل، وجرَّ القتل إلى القتل، وهكذا، وذلك أشدُّ من الاسترسال في الزنا، مع أن القتل أشدُّ من الزنا. فلو فرضنا بلدين متساويين في السكّان وأخلاقهم وطباعهم، في أحدهما حاكم يُثبِت القتل بشاهدين ويُقيم به القصاص، وفي الآخر حاكم لا يُثبته إلاَّ بأربعة شهود، وأنه في سنة من السنين قُتل في البلد الأول عشرة، وثبَّت القاضي القصاصَ في سبع، وقع العفو في قضيتين، وأقيد خمسة. [ص 10] فكان مجموع من قُتِل في ذلك البلد خمسة عشر. ثم حدَسْنا كيف الحال في البلد الثاني = لظننا (¬1) أنه وقع فيه من القتل عدوانًا أكثر من هذا، حتى لو قال قائل: لعله قُتِل فيه عدونًا أربعون أو خمسون لما أبعد. وأما الأموال فالتظالم فيها أكثر من القتل، وقد يطول عليها العهد ويموت ¬

_ (¬1) جواب "فلو فرضنا ... ".

بعض الشهود، مع أنه ليس هناك فرق كبير بين رجلين ورجل وامرأتين. وإنما لم تُقبل شهادة النساء في الزنا والقتل ونحوه لقلة تثبتهن، وسرعة تأثرهن، وغير ذلك مما عبِّر عنه في الحديث بنقص عقولهن. فأما الاكتفاء بشاهد ويمين المدعي فمختلف فيه، إلا أن ما عورض به الدليل على ذلك يختص بما إذا كان أحد الخصمين مدّعيًا والآخر منكرًا، فأما إذا تداعيا شيئًا ليس في يد أحدهما، فأقام أحدهما شاهدًا وأراد أن يحلف معه فالحكم بذلك قوي جدًّا. فأما الرواية فالحاجة داعية إلى معرفة الحكم الشرعي للعمل به، وهذا يقتضي التوسعة في ما يُعرَف به. وعارض ذلك خشيةُ غلطِ الراوي، أو أن يكون في نفس الأمر بخلاف ما ظهر من عدالته، فيُخشى من التوسعة أن يدخل في الدين ما ليس منه، ويُخشى من التشديد أن يتعذر على كثير من الناس ثبوت الحكم الشرعي، فيلزمه الحكم بخلافه أو التوقف. والموازنة بين هذين مما يصعب على الناظر، فلا يسعُه إلا أن يَكِلَ الأمر إلى عالم الغيب والشهادة الحكيم الخبير. [ص 11] الوجه الثاني: أن العارف إذا نظر وتدبر تبين له أن الظن الحاصل بخبر الثقة الواحد الذي يقبله أئمة الحديث لا ينقص عن الظن الحاصل بشهادة العدلين التي تقضي بها الحكّام، بل لعله أقوى منه، وذلك لأمور: الأول: أن الدواعي إلى الكذب أو التساهل في الحديث أقلُّ وجودًا وأضعف تأثيرًا في النفوس، ولا سيما نفوس من جمع شرائط القبول، بخلاف الدواعي إلى الكذب أو التساهل في الشهادة، فإنها كثيرة الوجود

قوية التأثير حتى في نفوس مَن ظاهرُهم العدالة، وذلك كالعداوة والبغضاء المحتمل وجودها بين الشهود والمشهود عليه، وإن لم تظهر، وكالميل والعصبية منهم للمشهود له، وكالرشوة التي يحتمل أنهم أخذوها منه. الأمر الثاني: أن شرائط قبول الرواية للحديث أشد وأحوط من شرائط قبول الشهادة، كما يُعلم بمراجعة الموضعين. ونخص بالذكر منها التعديل، فإن معدِّل الشاهد يكتفي بأنه قد جاوره أو عامله أو رافقه في السفر فلم ير منه ما يُسقط عدالتَه، وأما معدِّل الراوي فإنه لا يكتفي بذلك حتى ينظر في كثير من أحاديث الراوي، وينظر عمن روى، وكيف روى، إلى غير ذلك مما يعلم من محله. الأمر الثالث: أن الرواة غالبًا من أهل العلم والدين الذين اعتنوا بطلب العلم، وكثرت مجالستهم لأهله، وأما الشهود فيكثر أن يكونوا من عامة الناس. الأمر الرابع: أن معدِّلي الرواة أئمة مشهورون بالعلم والدين والتحقيق والزهد والتقوى، ومعدِّلو الشهود ليسوا في الغالب كذلك. الأمر الخامس: أن المنفِّرات عن الكذب والتساهل في الرواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر وأشدُّ من المنفِّرات عن الكذب والتساهل في الشهادة: أولاً: أن الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - كفر، كما ذهب إليه جماعة من أهل العلم، وأوضحتُه في موضع آخر (¬1)، وليس الكذب في الشهادة كذلك. ثانيًا: لأن الراوي يعلم عظم المفسدة إن كذب أو تساهل، وهي أن يُتديَّن بما رواه ويُعمل به ويُحكم به في قضايا لا تحصى، والشاهد يعلم خفة المفسدة إن كذب أو تساهل في شهادته، وإنما هي - مثلاً - أن يحكم لهذا ¬

_ (¬1) في "كتاب العبادة".

الرجل بهذه الدار التي لعلها ليست له، وكلما عظمت المفسدة في الأمر كان الامتناع عن ارتكابه أشد. ثالثًا: أن الإنسان يكره أشدَّ الكراهية أن يظهر أنه كذب أو تساهل، والمحدث أبلغُ في ذلك من الشاهد؛ لأن الغالب في راوي الحديث أن تكون الرواية هي مهمّته التي يصرف أكثر عمره فيها، وفضيلته التي تُبنى عليها مكانته بين الناس، وهو يعلم أن الكذب أو التساهل يُبطل عليه تلك الفضيلة، ويُضيع عليه ذلك التعب كله، ويُسقطه من عيون الناس، ويجعله لُعْنةً فيما بينهم. ولهذا جاء عن ابن المبارك أنه سئل عن بعض من روى، فقال: لم يكن الحديث بِيْشَقَه (¬1). يعني لم يكن صناعته التي يعتدُّ بها، وإنما اتفق أن روى حديثًا أو حديثين مثلاً. وأما الشهود فالغالب أن لا تكون الشهادة صناعتهم، فكراهيتهم لظهور أنهم كذبوا أو تساهلوا أضعفُ. وكان هذا [12] من جملة الأسباب التي حملت القضاة في العصور السابقة على أن يتخذوا شهودًا معينين تكون حرفتهم الشهادة. رابعًا: أن الطرق التي يوقف بها على كذب الراوي أو تساهله كثيرة، لا يمكنه أن يحيط بها حتى يأمن من ظهور كذب أو تساهلٍ وقع منه، بخلاف الشهود. ¬

_ (¬1) انظر "معرفة علوم الحديث" للحاكم (ص 149). و"بيشق" بمعنى الصنعة تعريب الكلمة الفهلوية "بيشك"، وهي بالفارسية الحديثة: "بيشه".

خامسًا: أن المقت الذي يتوقعه الراوي إذا ظهر كذبه أو تساهله أشدُّ من المقت الذي يتوقعه الشاهد؛ لأن قولهم: "كذب على النبي - صلى الله عليه وسلم -" أفحشُ وأغلظ من قولهم: "شهد زورًا". ولأن كذب الشاهد إن ظهر قد لا يطلع عليه إلا القاضي وبعض من حضر، وكذب الراوي إذا ظهر يتناقله أهل العلم، ويكتبون به إلى البلدان، ويخلِّدونه في الكتب. الوجه الثالث: أن الله تبارك وتعالى تكفَّل بحفظ الدين. قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]. والذكر يتناول السنة، إن لم يكن بلفظه فبمعناه؛ لأن المقصود من حفظ القرآن هو أن تبقى الحجة قائمة، بحيث ينالها من طلبها إلى يوم القيامة؛ لأن الله تعالى إنما خلق الخلق ليعبدوه، ولذلك بعث الأنبياء، وأنزل الكتب، وجعل محمدًا - صلى الله عليه وسلم - خاتم الأنبياء، فلا بد أن تُحفظ شريعته إلى يوم القيامة. وقد قيل لابن المبارك (¬1): هذه الأحاديث المصنوعة؟ فقال: تعيش لها الجهابذة، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}. وقال الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 17 - 19]. فالبيان الذي تكفَّل الله تعالى به يعمُّ البيانَ للنبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يُفهِمه ما يَغمُض من معاني القرآن بإلهام أو وحي، والبيانَ للناس بلسانه - صلى الله عليه وسلم -، وتلك السنة. ¬

_ (¬1) تقدم.

قال ابن جرير: "ثم إنَّ علينا بيان ما فيه من حلاله وحرامه وأحكامه لك مفصلةً ... عن ابن عباس: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} يقول: حلاله وحرامه، فذلك بيانه، ... عن ابن عباس: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} قال: تبيانه بلسانك". "تفسيره" (29/ 103) (¬1). وإذ كان كذلك، فمن المحال أن يُلصَق بالشريعة ما ليس منها على وجهٍ لا يمكن أهلَ العلم نفيُه عنها؛ لأن ذلك منافٍ للحفظ الذي تكفّل الله عزَّ وجلَّ به. غاية الأمر أنه قد يشتبه الأمر على بعض أهل العلم، ويبينه الله تعالى لغيره. فإذا استمر الحال على توثيق رجل ولم يطعن فيه أحد بحجة، فقد يقال: إنه من المحال أن يكون ذلك الرجل ممن قد يكذب في الحديث. إذ لو كان كذلك لفضحَه الله تعالى؛ لِما يلزم من سَترِه من التصاقِ مرويِّه بالشريعة، وهو خلاف ما تكفَّل الله عَزَّ وَجَلَّ به من حفظِهَا. نعم، يبقى احتمال الغلط في بعض ما روى، ولكنه لا بد أن ينبه الله عزَّ وجلَّ عليه بعض أهل العلم. فإن استمر الحال على إثبات حديث ولم يتبين فيه خطأ فقد يقال: إنه صار مقطوعًا بصحته. وهذا بخلاف الشهادة؛ فإنها قد تكون باطلة في نفس الأمر ولا يفضحها الله عزَّ وجلَّ؛ لأنها في واقعة واحدة لا تقتضي الحكمة أن لا يقع الحكم بها، كما في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنكم تختصمون إليَّ [ولعلَّ بعضكم ألحنُ بحجته من بعض، فمن قضيتُ له بحقّ أخيه شيئًا بقوله فإنما أقطعُ له ¬

_ (¬1) (23/ 504) ط. هجر.

قطعةً من النار، فلا يأخذْها"] (¬1) فأما ما ورد من تسديد الله عَزَّ وَجَلَّ للقاضي العدل (¬2) فهو حق، ولكنه إنما يقتضي أن لا يقع منه ما يأثم به، وغايته أن لا يقع منه غلطٌ في الحكم، والقاضي إذا تداعى عنده رجلان ولم تكن للمدعي بيِّنة، فقضى القاضي بيمين المدعى عليه، فحلف، فهذا حكمه حق قطعًا، سواء أكانت يمين المدعى عليه بارَّة أو فاجرة. فهكذا إذا شهد عنده رجلان وعُدِّلا، فقضى بشهادتهما، فحكمه حق قطعًا، سواء أكان الشاهدان صادقين في نفس الأمر أم لا. والله الموفق. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2680) ومسلم (1713) من حديث أم سلمة. وترك المؤلف بياضًا بين المعكوفتين. (¬2) انظر: "نصب الراية" (4/ 68)، و"البدر المنير" (9/ 528).

الباب الثاني في شرائط حجية خبر الواحد

[ص 13] الباب الثاني في شرائط حجية خبر الواحد هي على ثلاثة أنواع: النوع الأول: ما يشترط في المخبر حال الإخبار. قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6]. دلت الآية بمنطوقها على وجوب التبيُّن في خبر الفاسق، فعُلِم من ذلك أنه لا يكفي للحجة، وبمفهومها على أن خبر من ليس بفاسق على خلاف ذلك، فعُلِم منه أنه يكفي للحجة. وظاهر الآية أن المدار على الفسق في نفس الأمر، وعليه فلا يتبين لنا ألحكم إلا فيمن أخبر وهو متلبس بمفسِّقٍ نعلمه، فأما غيره فلا نعلم حاله؛ لأننا إن كنا قد صحبناه طول عمره ولم نر منه إلا الخير والصلاح فإننا لا ندري لعله - إذا لم يكن معصومًا - يرتكب في السرِّ ما يفسُق به، بل لعله فاسق بنفس ذلك الخبر على احتمال كذبه وتساهله. ومن علمناه قد ارتكب عدة مفسِّقاتٍ ولكنه حالَ الإخبار غيرُ متلبس بشيء منها, لعله قد تاب منها. والحاصل أنه لو كان المراد الفسق في نفس الأمر على التحقيق لكان الحكم منوطًا في هذا الثاني بما لا يمكننا علمه، وهذا منافٍ للحكمة، غير معهود في الشريعة، بل المعهود في الشريعة في الأخبار - كخبر المؤذن وغيره، وفي الشهادات، وفي سائر الأحكام - أن المدار على الظاهر، فوجب

حمل الآية على أن المراد الفسقُ في نفس الأمر بحسب ما يظهر لنا. وقد دلَّت الآية بفحواها على ذلك, لأن المعقول منها أن المدار على كون الخبر موثوقًا به يغلب صدقه. ونحن نعلم أن من عُلم فسقه ولم تظهر توبته لا يحصل الوثوق بخبره، ولا يغلب صدقه، وأن من صحبناه وخَبَرْناه فلم نطلع منه إلا على الصدق وأعمال الخير والصلاح فإنه يحصل الوثوق بخبره، ويكون الغالب على الظن صدقُه. وكذلك من لم نَخْبُره نحن، ولكن أخبرنا من خَبَرْناه أنه قد خَبَرَه فلم يرَ منه إلا الخير، وهكذا وإن تعددت الوسائط على هذا الشرط. ويبقى النظر فيمن لا خَبَرْناه ولا أُخبِرْنا عنه، فاعلم أن لمن بلغه خبرُ مثلِ هذا حالين: الأولى: أن يمكنه البحثُ والسؤال عن حال ذلك المخبر، فيلزمه ذلك، ويتوقف في الحكم حتي يبحث؛ لأنه إذا وجب التبيُّن في خبر من عُلِم فسقه فهذا أولى. ولا يعمل بخبره لأنه مشكوك، ولا يحصل الوثوق بخبره. الحال الثانية: أن لا يمكن البحث ولا السؤال. [ص 14] فقد يقال: إن مفهوم الآية أنه يُشترط للقبول أن يكون المخبر غير فاسق في نفس الأمر. وقدّمنا أن المراد أن يكون كذلك فيما ظهر لنا بالخبرة أو إخبار الثقة، وهذا مفقود هنا. ويؤكِّده أن المدار كما مرَّ على الوثوق، وهذا لا يحصل به وثوق. وقد يُدفَع هذا بأن حصْر الدلالة على عدم الفسق في نفس الأمر في الخبرة أو إخبار الثقة غير مسلَّم لماذا لا يُكتفَى بالأصل والظاهر؟

أما الأصل فإن أطفال المسلمين يولدون غير متلبسين بمفسِّق، فيبقى الحكم على ذلك ما لم يثبت خلافه. وأما الظاهر فلأن غالب المسلمين في العصور الأولى عدول. وما ذكرتم من عدم الوثوق فيه نظر من وجهين: الأول: أن لنا أن نقول: قد دلت الآية على قبول خبرِ من كان في الحكم غير فاسق. ونختار أن العلة هي إخبار من ذكر، لا الظن. غاية الأمر أنه قد يُشترط مع إخبار من ذكر أن لا يتبين خطؤه، فإذا حصل هذا فقد لزم الحكم وإن لم يتحقق الظن. وذلك كما قالوا: إن القصر في السفر أصل الحكمة فيه المشقة، ولكنه ضُبِط بالسفر، ثم صار المدار على السفر وإن لم تتحقق المشقة. الوجه الثاني: أننا نشاهد في زماننا هذا أن من لم نعرف حاله يخبر بخبر، فيحصل لنا وثوق بالخبر في الجملة إذا لم تكن هناك قرائنُ تدفعه. فلَأن يحصلَ مثل هذا الوثوق - وأقوى منه - في المخبر من أهل القرون الأولى أولى. نعم، قد يتزلزل الوثوق بقرائن، كأن يقال: إن هذا المخبر انفرد بهذا الخبر عن الزهري مثلاً، وقد كان الزهري حريصًا على نشر الحديث، وله تلامذة كثيرون معتنون بالرواية, فمن البعيد أن يكون الخبر صحيحًا عن الزهري ولا يُروى إلا من طريق هذا المجهول. ولكن هذا لا يضرنا؛ لأننا إنما ندعي حصول الوثوق عند التجرد عن القرائن، فأما مع القرائن المنافية فقد يتزلزل خبر من اتفق الناس على توثيقه.

وقد يجاب عن هذا فيقال: أما الأصل المذكور فقد عارضه أصل آخر، وهو أن البالغ تلزمه أفعال يفسُق بتركها، كالصلاة والصوم، والأصل عدم فعله لها. ويقدح في ذاك الأصل أنه طرأ على المحل ما هو مظنة قوية لتغيُّر الحال، وهو الهوى والشهوة والكسل، وفي الحديث: "حُفَّت الجنةُ بالمكاره، وحُفَّت النار بالشهوات" (¬1). وأما الظاهر المذكور فلا يتبين فيمن بعد الصحابة غلبةُ العدالة في المسلمين، وهذا حذيفة يقول: " ... " (¬2). وأما قولكم: "قد دلت الآية" إلى قولكم: "فقد لزم الحكم وإن لم يتحقق الظن" = فمسلَّم إذا سُلِّم لكم أن العلة هي ما ذكرتم، ولكنه لا يفيدكم مع ما ذكرنا. وأما قولكم: "إننا نشاهد في زماننا هذا ... " فغير مسلَّم، وإنما يحصل لنا وثوق ما إذا احتفَّتْ بالخبر قرائنُ تقوِّيه، كأن يكون المخبر حسن الهيأة، والأمر الذي أخبر به مظنة الوقوع، وكانت القضية بحيث يغلب أن يطلع عليها جماعة تسهل مراجعتهم، أو كانت خبرًا عن أمر يتيسر للسامعين الاطلاعُ عليه بعد الخبر؛ فإنه قد يبعد أن يكذب الرجل مع علمه أو خشيته أن ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2822) من حديث أنس بن مالك. (¬2) ترك المؤلف هنا بياضًا، وهو يشير إلى حديث رفع الأمانة الذي أخرجه البخاري (6497) ومسلم (143). وفيه من قول حذيفة: "ولقد أتى عليَّ زمانٌ وما أُبالي أيكم بايعتُ، لئن كان مسلمًا ردَّه عليَّ الإِسلام، وإن كان نصرانيًّا ردَّه عليَّ ساعيه. فأما اليوم فما كنتُ أبايعُ إلا فلانًا وفلانًا".

فصل

يظهر كذبه بعد قليل، إلى غير ذلك من القرائن. فإذا فرضنا تجردَ الخبر عن القرائن التي تعضُده أو تُبعِده، أو وُجِدتْ معه قرائن متعارضة، فغاية ما يحصل به احتمالٌ لا وثوق معه، ولذلك لا يَبني العقلاءُ على مثله مصالحَ دنياهم، ومثلُه أو أقوى منه قد يحصل بخبر الفاسق؛ ولهذا أمرت الآية بالتبيُّن فيه، ولم تأمر بعدم الالتفات إليه البتة، فافهم. [ص 15] فصل حُكي عن قوم الموافقةُ على اشتراط التعديل، لكن قالوا: إذا روى العدل عن رجل ولم يجرحه فقد عدَّله. قال الخطيب في "الكفاية" (ص 89): "احتج من زعم أن رواية العدل عن غيره تعديل له، بأن العدل لو كان يعلم فيه جرحًا لذكره، وهذا باطل؛ لأنه يجوز أن يكون العدل لا يعرف عدالته، ... كيف وقد وُجِد جماعة من الثقات رووا عن قوم أحاديث أمسكوا في بعضها عن ذكر أحوالهم مع علمهم بأنها غير مرضية، وفي بعضها شهدوا عليهم بالكذب ... ". ثم أسند إلى الشعبي قال: "حدثني الحارث وكان كذابًا"، وآثارًا أخرى نحوه، ثم قال (¬1): "فإن قالوا: هؤلاء قد بينوا حال من رووا عنه بجرحهم له، فلذلك لم تثبت عدالته، وفي هذا دليل على أن من روى عن شيخ ولم يذكر من حاله أمرًا يجرحه به فقد عدَّله = قلنا: هذا خطأ؛ لما قدّمنا ذكره من تجويز كون الراوي غير عارف بعدالة من روى عنه، ولأنه لو عرف جرحًا منه ¬

_ (¬1) (ص 91).

لم يلزمه ذكره، وإنما يلزم الاجتهاد في معرفة حاله العامل بخبره، ولأن ما قالوه بمثابة من قال: لو علم الراوي عدالة من روى عنه لزكّاه". ثم أسند إلى أبي غسّان أنه قال: نا جرير عن أبي فهر قال: صليت خلف الزهري شهرًا، وكان يقرأ في صلاة الفجر: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، فقلت لجرير: من أبو فهر هذا؟ فقال: لص ... ". ثم أسند إلى شعبة قال: "سفيان ثقة يروي عن الكذابين". وعن عمرو بن علي: "قال لي يحيى: لا تكتبْ عن معتمر إلا عمن تعرف؛ فإنه يحدِّث عن كلٍّ". ثم قال: "فإن قالوا: إذا روى الثقة عمن ليس بثقة ولم يذكر حاله كان غاشًّا في الدين، قلنا: نهاية أمره أن يكون حاله كذلك مع معرفته بأنه غير ثقة، وقد لا يعرفه بجرح ولا تعديل، فبطل ما ذكروه". قال عبد الرحمن: أما من بيَّن جرحَ من روى عنه أو أنه لا يعرفه، فلا كلام فيه، وكذلك من لم يبيِّن مرةً وقد بيَّن في أخرى؛ إذ الظنُّ به أنه اتكل على بيانه السابق، ولم ير حاجة لإعادة البيان عند كل رواية, وقد يكون هذا حال شعبة في روايته عن جماعة قد قدح فيهم، مع ما اشتهر عنه أنه لا يروي إلا عن ثقة. يعني - والله أعلم - فإذا روى عن غير ثقة فإنه يبين ذلك. وكذلك من روى عن رجل قد اشتهر بين الناس أنه مجروح، وإن لم يُنقل عنه أنه جرحه؛ إذ لعله اكتفى باشتهار حاله. فأما من روى - ولم يبيِّن - عن رجل لم يجرحه هو ولم يشتهر بالجرح فالكلام فيه.

احتج القائل إن ذلك تعديل بأنه لو كان مجروحًا لبيَّن الراوي ذلك، وإلا كان غاشًّا في الدين. وأجاب الخطيب بثلاثة أجوبة: الأول: أنه قد يكون الراوي جاهلاً بحال الشيخ، لا يعرِف منه عدالةً ولا جرحًا. الثاني: أنه لو علم منه جرحًا لم يلزمه بيانه، وإلا للزمه إذا روى عن عدل أن يبين عدالته. الثالث: أن جماعة من أهل العلم قد رووا عمن علموا جرحه ولم يجرحوه. وقد يُدفَع الجواب الأول بأنه لو كان لا يعرف حاله لبيَّن ذلك، نصيحةً لله ولدينه ولعباده، وفي الحديث: "الدين النصيحة" (¬1). وبهذا عُلِم ما في الجواب الثاني. أما قوله: "لو لزمه ذلك لزمه إذا روى عن عدل أن يبيِّن" فمدفوع بأن ظاهر الراوية مع السكوت يُفهِم العدالة، فجاز الاكتفاء بذلك. وأما الجواب الثالث فغاية ما يثبت به فعل بعض من العلماء، فحال ذلك كحال التدليس، [ص 16] وعامةُ الناس على أن رواية الثقة عمن عاصره - وشرطَ البخاريُّ وشيخه ابن المديني مع المعاصرة اللقاء - محمولةٌ على السماع وإن لم يصرِّح به، إلا أن يُعرف بالتدليس. وذلك كأن يقول البخاري: حدثنا الحميدي عن سفيان. فهذه الصيغة عندهم مثل قوله: حدثنا الحميدي ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (55) من حديث تميم الداري.

قال حدثنا سفيان. قالوا: لأن الحميدي قد لقي سفيان، ولم يُتَّهم الحميدي بالتدليس، وهو ثقة، والظاهر من حال الثقة التنزهُ عن التدليس. ثم قالوا: التدليس لا يُسقِط الثقة، فإذا صرح المدلس الثقة بالسماع فهو حجة. وحاصل كلامهم أن التدليس - من جهة أنه مخالفٌ للأمانة والنصيحة مخالفةً مّا - لا يجوزأن يُتهم به من لم يثبت عنه من الثقات، ومن جهة أن تلك المخالفة خفيفة لا يُسقِط العدالة. فكذلك نقول: إن الرواية عن غير ثبتٍ حالها كحال التدليس، فهي مخالِفة للأمانة والنصيحة مخالَفةً مّا، فلا يُتهم بها من لم تثبت عنه، ولا تسقط العدالة. وقد عقد الخطيب نفسه أبوابًا للتحذير من الرواية عن غير الأثبات. راجع "الكفاية" (ص 31، وص 32 - 34، وص 132، وص 135، و156). [ص 17] هذا، واعلم أن المعروف عن غالب أهل العلم من التابعين وأتباعهم تجنُّب الرواية عمن لا يُعتدُّ بروايته، لكونه كذابًا أو مشهورًا بالفسق أو شديد الغفلة، فإن اضطُرَّ أحدهم إلى الرواية عمن هذا شأنه بيَّن حاله، إلا أن يكون المروي عنه مشهورًا بذلك، فقد يستغني الراوي عنه بالشهرة عن البيان. فالثقة المعروف بالعلم من التابعين أو أتباعهم إذا لم يوصف بالتساهل في الرواية عمن لا يُعتدُّ به، وكذلك الثقة المشهور ممن بعدهم إذا عُرِف بتجنبه الروايةَ عمن لا يُعتدُّ به = إذا روى أحد هذين عن شيخ ولم يبيِّن حاله،

ولم يشتهر ذاك الشيخ بالكذب أو الفسق أو شدة الغفلة؛ فهو عند الراوي عنه إما عدل وإما مجهول الحال. ثم قد تقوم قرينةٌ تُبعد الثاني: منها: أن تتعدد رواية الثقة عن ذاك الشيخ، فيظهر من ذلك أنه طال أو تعدد اجتماعه به. ومنها: أن يذكر الثقة أنه كان جاره أو نحو ذلك. ومنها: أن يروي عن ذلك الشيخ ثقتان؛ إذ قد يبعد أن لا يعرفا ولا واحدٌ منهما حالَه. وهذا، والذي عليه جهابذة الحديث في الغالب هو أن ينظروا فيما روى هذا الشيخ، ويعتبروا روايته بما روى الثقات المشهورون، وبما عُرِف من الشريعة، فإن كان إنما روى حديثًا أو حديثين نظروا، فإن كان قد روى ذلك الحديث أو الحديثين غيرُه من الثقات قبلوه، وربما أخرجوا له في الصحيح على سبيل المتابعة والاستشهاد. وإن لم يروِ غيرُه من الثقات مثلَ ما روى، ولكن ليس هناك قرينة تُوهِن مرويَّه توقَّفوا فيه، وربما أخرجوا له فيما ليس فيه حكم. وإن كانت هناك قرينة تُوهِن مرويَّه غمزوه بأنه روى ما لا يتابع عليه. فإن روى ما يخالف رواية الثقات أو يخالف ما عُرِف من الشريعة ضعفوه. فأما من كثرت روايته ولم يتكلم فيه أهل العلم من أهل عصره وما قرب منه فإن في ذلك دلالةً على أنه عدل؛ لأن الظاهر أن أهل العلم من أهل بلده وما قرب منه قد عرفوا أنه يروي، وذلك يدعوهم إلى تعرُّفِ حاله، فيبعُد

لذلك أن يستمروا على الجهل بحاله، فالظاهر أنهم عرفوا حاله بالعدالة؛ إذ لو عرفوه بالجرح لما سكتوا عنه. ولكن الجهابذة لا يكتفون بهذا لوجهين: الأول: أنه قد يكون عدلاً غير ضابط. الثاني: أن دلالة ما تقدم على عدالته ليست بقاطعة. فلهذا يعتمد الجهابذة في ما رواه على نحو ما تقدم، فإن وجدوا غالب حديثه موافقًا لما رواه الرواة حكموا بأنه ثقة، وإلا ضعَّفوه. وللتوثيق والتضعيف مراتب بحسب مبلغ أحاديث الشيخ، وما وافق فيه الثقات وما انفرد به أو خالف. وسيأتي إن شاء الله تعالى، تمام الكلام في العدالة. ***

فصل

[ص 18] فصل الشرط الثاني: الضبط من الواضح أن الكذب قد يكون عمدًا ويكون خطأ، وأنه قد يكون كليًّا ويكون جزئيًّا. وأريد بالكلي: أن يكون الخبر كله كذبًا سندًا ومتنًا، وبالجزئي: أن يكون فيه ما هو حق وما هو باطل، فقد يكون السند حقًّا والخبر باطلاً، إما البتَّةَ وإما بذلك السند. وذلك كمن يسمع حديثًا بسندٍ، فيغلَط، فيتوهم أن الذي سمعه بذلك السند كلام آخر، فيروي ذلك الكلام بذلك السند. وقد يكون ذلك الكلام صحيحًا في نفسه، لكن بسند آخر، وقد يكون باطلاً. وقد يكون الكذب الجزئي بإسقاط رجل من السند، أو زيادته، أو إبدال اسم بآخر، أو نحو ذلك، وكذلك يكون في المتن بتغييرٍ فيه يُغيِّر المعنى بزيادة أو نقص، أو تقديم وتأخير، أو إبدال كلمةٍ بأخرى، ونحو ذلك. ومن المعروف المشاهد أيضًا أن صلاح الإنسان في نفسه إنما يحصل به الوثوق أنه لا يتعمد الكذب. ويبقى احتمال الكذب خطأ، فهذا لا يندفع إلا بأمر زائد على صلاح الراوي في نفسه، وهو الضبط. وهو عبارة عن حالٍ تحصلُ للإنسان باجتماع أمرين: ثبات، وتثبُّت. وتوضيحه: أن الرجل إذا سمع كلامًا من رجل، فقد يسمعه كما ينبغي، ويحفظه كما ينبغي، ويفهمه كما ينبغي، ويكون عارفًا أن المتكلم هو فلان بن فلان كما ينبغي. وإنْ كتبه كتبه كما ينبغي، وحفظ كتابه كما ينبغي. وقد لا يكون بعض هذا كما ينبغي؛ فمن الناس من لا يسمع كما ينبغي،

ولكنه يتوهم أنه سمع كما ينبغي، وكذلك في الحفظ وغيره، فهذا غير ضابطٍ إذا كانت هذه عادته وكثرت منه. ومنهم من هو ضابط لميزان نفسه, يعرف غالبًا متى سمع كما ينبغي، ومتى لم يسمع كما ينبغي، وهكذا في الباقي. ثم إذا أراد أن يحدِّث بذلك الخبر، فقد يكون غيرَ ذاكرٍ للقصة كما ينبغي، ولكنه يتوهم أنه ذاكر لها كما ينبغي، وقد يكون ضابطًا لميزان نفسه، يعرف حال ذكره للقصة كما ينبغي أم لا؟ فكون الإنسان ضابطًا لميزان نفسه عند التلقي وعند الأداء هو الثبات. ثم قد يكون للإنسان ثباتٌ في نفسه ولكنه لا يتفقَّدها عند الأداء، فيخبر بما لم يضبطه، ولو تفقَّد نفسَه لعلم أنه لم يضبطه، فهذا غير متثبِّت، إذ لا فائدة في ثباتٍ في النفس لا يستعمله صاحبه. وقد يكون مع ثباته في نفسه يتفقد نفسه عند الأداء، فيعرف حقيقة الحال، فيحدث بحسبها، فهذا هو المتثبت. فاجتماع الثبات والتثبت هو الضبط. هذا، ومن أهل العلم من أدرج الضبط في العدالة، فجعل العدالة هي الصلاح في الدين والضبط، والخطبُ سهل. ومما يدل على اشتراط الضبط - مع الاتفاق عليه - الآية السابقة، فقد بينت أن وجوب التبيُّن في نبأ الفاسق إنما هو لأنه لا يُوثَق بخبره، وإذا لم يُوثَق به فالعمل به عمل بجهالة. وخبر المغفَّل والمتساهل كذلك. ويدل عليه قوله تعالى في الشهود: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282].

فصل

فصل قد يقال: أما ثبات النفس فهو الغالب في الناس، وأما التثبت فهو من تمام العدالة، وقد تقدم الكلام في ثبوت العدالة، فعلى هذا يقال: إذا ثبتت العدالة ثبت الضبط ما لم يثبت خلافه [ص 19] أقول: أما الثبات عند التلقي فقد يُسلَّم أنه الغالب، وأما عند الأداء ففيه نظر، ولا سيما بعد طول الزمان وبُعد العهد بالقصة، حتى لقد يكون بين سماع الرجل الحديثَ وأدائه سبعون سنة وأكثر. وأما التثبت فمسلَّم أنه من تمام العدالة، ولكن إذا قلنا: إن العدالة تثبتُ بكون الرجل من أهل القرون الأولى فإنما يثبت منها عدم تعمد الفسق فقط، والتثبت أمر زائد على ذلك. وكذلك إذا قلنا: إنها تثبت بكثرة رواية الثقة عن الرجل، أو برواية الثقتين، أو إكثارهما عن الرجل، أو اشتهار الرجل بالتحديث ولم يتكلم فيه أهل عصره؛ لأننا إذا تتبعنا أحوال السلف وجدناهم كثيرًا ما يروون عن الرجل وتشتهر روايته ولا يتكلم فيه أهل عصره، ثم نجد أحاديثه تدل على أنه لم يكن ضابطًا. وبالجملة فغالب ما في كتب الجرح والتعديل من الكلام مبني على اعتبار حديث الراوي، فإن غالب ذلك من كلام الإِمام أحمد وابن معين وأقرانهما وتلامذتهم، وهؤلاء كثيرًا ما يحكمون على من لم يدركوه، وبعض من لم يدركوا من أدركه. وكثير من كلامهم صريح في أنهم إنما بَنوه على اعتبار أحاديث الراوي.

[ص 20] والذي تحرَّر لي باستقراء كثير من كلامهم أن لهم مذاهب: الأول: مذهب ابن حبان، وقد ذكره في "الثقات" (¬1)، قال: [العدل من لم يُعرَف منه الجرح ضد التعديل، فمن لم يُعلم بجرحٍ فهو عدل إذا لم يبيّن ضدّه، إذ لم يُكلَّف الناس من الناس معرفة ما غاب عنهم، وإنما كُلِّفوا الحكمَ بالظاهر من الأشياء غيرِ المغيب عنهم]. فعنده أن المسلمين محمولون على العدالة، فكل راوٍ لم يُجرح فالظاهر أنه عدل، ولم يبق على المحدث إلا أن ينظر في حديث ذلك الراوي، فإن وجد فيه ما يدل على كذبه أو غلطه أو ضعفه فقد يتبين له بذلك جرحه فيجرحه، وإلا وثَّقه. وهذا مذهب ضعيف، أما العدالة فقد مرَّ الكلام فيها، وبقي مع ذلك الضبط، وقد مرَّ الكلام فيه. وأما الاعتبار فإذا لم يقف المحدث للراوي إلا على حديث واحد مثلاً، فأقصى ما هناك أن يكون ذلك الحديث قد ثبت من رواية غيره، وأقصى ما في هذا هو الدلالة على أن ذلك الراوي صدق في ذلك الحديث وضبطه. وذلك لا يدل على أن الصدق والضبط شيمة له وعادة حتى يستحق التوثيق. ثم ما يُدرِيك؟ لعل له حديثًا آخر لم تقف عليه أنت، ولو وقفت عليه لضعَّفته، ولعل من بعدك يرى توثيقك له فيحتج بذلك الحديث الذي لم تقف عليه! ¬

_ (¬1) (1/ 13). وما بين المعكوفتين منه، وترك المؤلف هنا بياضًا.

فأما إذا كان الحديث الواحد الذي وقفت عليه لم يثبت من جهة أخرى فالتوثيق أبعد وأبعد؛ إذ ليس في رواية ذلك الراوي ذلك الحديثَ دلالةٌ ما على صدقه وضبطه. ثم ما يُدرِيك؟ لعلك فهمت من ذلك الحديث معنى لم تنكره، ولعل من بعدك يفهم منه ما ينكر، ثم يحتج به على ذلك، عملاً بتوثيقك ذلك الراوي. وهكذا الكلام فيما إذا وقف المحدث للراوي على حديثين فقط، ويبقى النظر فيما زاد. وسيأتي. ولِما ذكرنا ونحوِه تجد ابن حبان ربما يذكر الرجل في "الثقات"، ثم يذكره في "الضعفاء"، وربما يجعل الواحد اثنين، فيذكره في "الثقات" برواية، ويذكره في "الضعفاء" بأخرى. والذي تبيَّن لي أن ابن حبان لم يلتزم الاعتبار، بل أخذ "التاريخ الكبير" للبخاري، ونقل غالبه إلى "الثقات". وكثير ممن أخذه عن "تاريخ البخاري" وذكره في "الثقات" لم يعرفه ابن حبان، ولا عرف ما روى، بل وكثير منهم لم يعرف عمن رووا ولا من روى عنهم. وعادته فيمن ذكره البخاري ولم يذكر عمن روى ولا من روى عنه أن يقول: "روى المراسيل، روى عنه أهل بلده". كما أن عادة ابن أبي حاتم في بعض هؤلاء أن يدع بياضًا. فإنما يقوى توثيق ابن حبان في حق المشاهير الذين يغلب على الظن أنه اطلع على الكثير من حديثهم.

المذهب الثاني: مذهب أحمد بن عبد الله بن صالح العجلي. ولم أره منقولا عنه، وإنما تتبعت جماعة من الرواة الذين وثَّقهم، فوجدته انفرد بتوثيق كثير من التابعين الذين لم يذكر لكلًّ منهم إلا راوٍ واحد ثقة. ومنهم: أربدة، وأسماء بن الحكم الفزاري، وأقرع مؤذن عمر، والبراء بن ناجية، والحارث بن لقيط، وحبيب بن أبي سُبَيعة، وحسان بن الضمري، والربيع بن البراء بن عازب، وربيعة بن ناجذ، ورجاء بن أبي رجاء الباهلي، وغيرهم. ووافقه ابن حبان في هؤلاء أو أكثرهم، على قاعدته.

الرسالة الثالثة إرشاد العامه إلى معرفة الكذب وأحكامه

الرسالة الثالثة إرشاد العَامِه إلى معرفة الكذب وأحكامه

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ على محمَّد وعلى آل محمَّد، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمَّد وعلى آل محمَّد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. أما بعد، فإنني لما نظرت في ما وقع من الاختلاف في العقائد والأحكام، ورأيت كثرة التأويل للنصوص الشرعية، تبين لي في كثير من ذلك أنه تكذيبٌ لله عَزَّ وَجَلَّ ورسله، ثم رأيت في كلام بعض الغلاة ما هو صريح في نسبة الكذب إلى الله تعالى ورسله، وفي كلام من دونهم ما يقرب من ذلك، ووقع التلبيس على أكثر المسلمين لالتباسٍ في حقيقة الكذب، فجرَّني البحث إلى تحقيق معنى الكذب، فرأيت أن أفرد ذلك في رسالتي هذه، وأسأل الله تعالى التوفيق.

الخبر

الخبر الخَبَر بفتحتين: الاسم من الإخبار، والإخبار: إفعالٌ، من الخُبْر بضم فسكون. وقد اتفقوا على أن الخُبْر - بضم فسكون - العلم ببواطن الأمور، وعلى أن الأصل في همزة "أفعلَ" أن تكون للتعدية، فقضية هذا أن يكون معنى قولهم: "أخبرت فلانًا" جعلته ذا خبرٍ، أي ذا علمٍ بباطن. فالظاهر أن هذا هو الأصل، ولكن خُصَّ بما يكون بالقول. وعلى هذا فالخَبَر - بفتحتين - كان ينبغي أن يخص بالقول الذي يحصل به جعْلُ المخاطب ذا خُبْرٍ - بضم فسكون -, فيختص بما يطابق الواقع، لكنهم توسعوا فيه، فأطلقوه على ما يخالف الواقع أيضًا. وقال أهل العلم: الخبر ما يحتمل الصدق والكذب لذاته. وقال الراغب في "المفردات" (¬1): الخُبْر - بضم فسكون - العلم بالأشياء المعلومة من جهة الخبر. كذا قال! وهو عكس التحقيق، ومما يدفعه تسمية الله عَزَّ وَجَلَّ نفسه خبيرًا، فتدبر. ¬

_ (¬1) (ص 273).

الصدق والكذب

الصدق والكذب حكوا (¬1) عن أهل السنة والجمهور: أن الصدق مطابقة الخبر للواقع في نفس الأمر، والكذب عدم مطابقته له في نفس الأمر. وحكوا عن النظَّام: أن الصدق هو مطابقة الخبر للواقع في اعتقاد المخبِر، والكذب عدم مطابقته له في اعتقاده. وعن الجاحظ: أن الصدق مطابقة الخبر للواقع في نفس الأمر وفي اعتقاد المخبِر، والكذب عدم مطابقته له فيهما، وما دون ذلك لا يسمى صدقًا ولا كذبًا. وذهب الراغب (¬2) إلى نحو هذا، إلا أنه قال: إن ما دون ذلك صدقٌ من جهةٍ، كذبٌ من جهةٍ. وزعم بعض المتأخرين أن الصدق والكذب إذا نسبا إلى الخبر فكما قاله الجمهور، وإن نسبا إلى المخبر فكما قاله النظَّام. والصواب مع الجمهور، لكن غلب في العرف أن لا يقال للكذب خطأً "كذب"، بل يقال: خطأ وغلط، إلا حيث يقصد نسبة المخبر إلى التقصير، أو يقصد التنفير عن اتباعه. وعلى هذا يُحمل ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قوله: "كذب ¬

_ (¬1) يراجع في هذا الموضوع: "شرح جمع الجوامع" للمحلي (2/ 111 وما بعدها) و"إرشاد الفحول" (ص 39, 40) و"شروح التلخيص" (1/ 173 وما بعدها). (¬2) "المفردات" (ص 478، 479).

الخبر المحتمل لمعنيين أو أكثر

أبو السنابل" (¬1)، وبقية الأمثلة التي ذكرها ابن عبد البر (¬2) وغيره. الخبر المحتمل لمعنيين أو أكثر لم يتعرض أهل البيان عند كلامهم في تعريف الصدق والكذب لفرقٍ بين الخبر الذي لا يحتمل إلا معنى واحدًا، والخبر المحتمل لمعنيين فأكثر. ووجه ذلك أن المحتمل لمعنيين مثلاً، إن كان احتماله لهما على السواء بدون رجحان، فذلك راجع إلى معنى واحد. ألا ترى أنه لو كان لك أخوان غائبان، فجاءك رجل فقال: "مات أحد أخويك" كان هذا معنى واحدًا؟ فهكذا إذا قال - حيث لا قرينة ترجِّح أحدهما -: "مات أخوك". فهكذا الخبر المحتمل لمعنيين بدون رجحان. وإن كان ظاهرًا راجحًا في أحد المعنيين، والآخر مرجوحٌ، فقد اتفقوا على أن المعنى الذي يجب أن يبنى عليه ويُحكم به هو الظاهر الراجح. فإذا قيل لك: "مات أخوك"، ولا قرينة، فالمعنى الذي يقضى به لهذا الخبر هو أن أخاك الحقيقي قد مات موتًا حقيقيًّا, ولا يلتفت إلى احتمال غير ذلك. فالصدق والكذب في هذا الخبر مدارهما على ذاك المعنى الظاهر الراجح. ثم رأيت في "البيان والتبيين" للجاحظ (1/ 183 (¬3) طبعة القاهرة سنة ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "المسند" (4273) من حديث ابن مسعود، وأعلَّه في كتاب "العلل" (4795) بالإرسال. (¬2) "جامع بيان العلم وفضله" (2/ 1102 - 1105). وانظر: "التمهيد" (9/ 289، 290). (¬3) (1/ 337، 338) تحقيق عبد السلام هارون. والنص طويل، ولذا لم يثبته الشيخ ولم نثبته، فليراجع هناك.

إرادة المخبر وإضماره

1332) ما لفظه: "وسئل (ابن شُبرمة) عن رجل ... كلامًا يطول"، فجَزْم النظَّام بأن ذلك كذبٌ - أي حيث لا قرينة - موافقٌ لما تقدم، وأما الجاحظ فإنه جزم بأن أدنى منازلِه أن لا يسمى صدقًا، وتوقف عن الجزم بأنه يسمى كذبًا. وكأن علماء البيان لم يلتفتوا إلى هذا التوقف؛ لأن الجاحظ موافقٌ على أن الخبر إذا خالف الواقع ولم يعتقد المخبر مطابقته فهو كذب، وموافقٌ على أن المعنى الذي يُقضى به للخبر هو الظاهر الراجح، فلزمه الجزم بأن ذلك كذبٌ، فلا عبرة بتوقفه. وقد يقال: لعله إنما توقف لأن هناك قرينة قد يعرفها بعض السامعين دون بعض، فلا يطلق على الخبر: كذب؛ لأن منهم من يعرف القرينة فلا يفهم خلاف الواقع، ولا يطلق عليه: صدق؛ لأن منهم من لا يعرف القرينة فيفهم خلاف الواقع. فإن كان إنما لحظ هذا فلا نزاع في ذلك؛ فإن الخبر صدقٌ بالنظر إلى من يعرف القرينة، وكذبٌ بالنظر إلى من لا يعرفها، فليس بصدقٍ مطلقًا, ولا كذبٍ مطلقًا، والجمهور لا ينازعون في هذا. إرادة المخبر وإضماره إذا كان للخبر معنى ظاهر راجح، ويحتمل احتمالًا مرجوحًا معنًى آخر، وقد أراد المخبر عند بناء الخبر أن يكون كذلك = فلا ريب أنه أراد أن يكون المعنى الذي حقه أن يفهم من الخبر هو الظاهر الراجح، ثم قد يضمر في نفسه المعنى الراجح، وقد يضمر المرجوح. ومعنى الإضمار: أن يخيّل لنفسه عند تلفظه بالخبر أنه يقصد به هذا

المعنى أو ذاك، فإن أضمر الراجح فلا خفاء أنه إن كان هو الواقع فالخبر صدق، وإلا فكذبٌ. وإن أضمر المرجوح، فقد يكون خلاف الواقع، وقد يكون هو الواقع، فانظر فيما إذا كان خلاف الواقع، هل يصير الخبر كذبًا، وهل يَلزمُ المخبرَ قبحُ الكذب وذمُّه وإثمه؟ وذلك كأن تعلم أن والد زيد مات في ليلة ولم ينم فيها، فتُبكَّر إلى زيد قاصدًا أن تخبره خبرًا يكون ظاهره الراجح هو الواقع أي الموت، ويحتمل خلاف الواقع وهو النوم، فتقول له: مات أبوك البارحة، وتضمر في نفسك عند قولك: "مات" معنى "نام", وليس هناك قرينة. أقول: لا يخفى على من يتدبر أن هذا الإضمار لا يصير به الخبر كذبًا, ولا يلزم المخبرَ اسمُ الكذب ولا قبحه ولا ذمه ولا إثمه. نعم، قد يُكره له ذاك التخيل، كما يكره للرجل تخيلُ أنه يلابس معصية، هذا أشد ما قد يقال فيه. ونظيره أن تَعمِد إلى عصير تفاح - مثلاً - تعلم أنه حلال، فتصبَّه في كأسٍ تُشبه في الجملة الكأسات التي يشرب الفجار فيها الخمر، وتخيِّل لنفسك أنه خمر، وتشربه مع ذاك العلم وذاك التخيل. أو تَعمِد إلى امرأتك فتكسوها ثوبًا يشبه في الجملة ثوبًا رأيته على أجنبية، ثم تواقعها عالمًا بأنها امرأتك، متخيلاً أنها تلك الأجنبية. فهل يلزمك بهذا اسم شرب الخمر والزنا وإثمهما؟ فانظر الآن في عكس هذا، وهو أن يكون المعنى الظاهر الراجح من الخبر هو المخالف للواقع، والمعنى المرجوح مطابق للواقع، وأضمره المخبر، وذلك كأن يكون الواقع أن والد زيدٍ لم يمت وإنما نام، فقصدتَ زيدًا عازمًا على أن تخبره خبرًا يكون الظاهر الراجح منه هو الموت الذي تعلم أنه

خلاف الواقع، ويكون محتملاً احتمالاً مرجوحًا لمعنى مطابق للواقع، وهو النوم، فقلتَ له: "مات أبوك البارحة"، وأضمرت في نفسك معنى "نام"، ولا قرينة. فهل تخرج بهذا عن اسم الكذب وقبحه وذمه وإثمه؟ ونظير هذا أن تعمد إلى خمر تعلم أنها خمر محرمة، فتصبَّها في قعبٍ وتشربها، مخيِّلاً لنفسك أنها حليب. أو تعمد إلى امرأة جارك وأنت بها عارف، فتلقي عليها ثوبًا من ثياب امرأتك، وتواقعها مخيلاً لنفسك أنها امرأتك. فهل يخرجك هذا عن اسم شرب الخمر والزنا وإثمهما؟ وبهذا يتضح أننا إن سمينا تخيل المتكلم للمعنى المرجوح إرادةً، فليست هي إرادة المتكلم التي ينبغي أن يُناط بها الحكم، وإنما إرادته التي ينبغي أن يناط بها الحكم هي إرادته عند بناء الخبر أن يكون ظاهرًا راجحًا في معنى، فإن كان يعتقد أن ذاك المعنى حق وصدق فلم يرد إلا الصدق، وإن كان لا يعتقد ذلك فقد أراد الكذب ولا بدَّ. وقد حصل بيدنا مثالٌ للدعوى الباطلة، لكن إنما يظهر البطلان حيث يظهر عدم التأويل، وإنما يتم ذلك في مثالٍ غير صالح للتأويل، وذلك كأن تشير لصاحبك إلى حصاةٍ وتقول: "أرى أسدًا"، فهذه دعوى باطلةٌ وكذب. أما البطلان؛ فلأن الحصاة لا تكون أسدًا حقيقة، كما هو واضح، ولا مجازًا؛ لفقد العلاقة المعتبرة التي يترتب عليها التأويل. وأما الكذب؛ فلأن الخبر مخالف للواقع, لأن المجاز لا يصح، فيبقى اللفظ على حقيقته، أي أن الحصاة أسد حقيقي، وظهور بطلان هذا لا يوجب العدول عنه، إذ ليس هنا معدلٌ صحيح، فلا معنى للعدول عن باطلٍ

إلى باطل. نعم، قد يقال: الأشبه أن المتكلم لم يرد أن الحصاة أسد حقيقة، وإنما أراد أنها أسد مجازًا، جهلاً منه بوجه المجاز، وظنًّا لصحته في مثل ذلك، فإن احتمال الجهل المركب في هذا أقرب من احتمال دعوى أنها أسد حقيقة. وعلى هذا فالكذب بحاله، فإن حاصل الخبر: "أرى أسدًا مجازيًّا" وهذا أيضًا باطل، ومخالف للواقع. وبالجملة، فهذا الاستعمال لا هو حقيقة ولا مجاز، فهو كما قال السعد في "المطول" (¬1): من قبيل ما لا يعتدُّ به، ولا يعدُّ في الحقيقة ولا في المجاز، بل ينسب قائله إلى ما يكره، كما صرح به في "المفتاح". وقريب منه قول عبد الحكيم (¬2): كلامٌ لغوٌ لا يصدر عن عاقل، فضلاً عن أن يكون صادقا أو كاذبًا. أقول: فكأن السكاكي لاحظ ذلك فسمى نحو قولك - مشيرًا إلى حصاة -: "أرى أسدًا" دعوى باطلة، ولم يسمها كذبًا. وقريب منه تفسير الشارح العلامة (¬3) للدعوى الباطلة بأنها ما يكون على خلاف الواقع. ¬

_ (¬1) انظر "فيض الفتاح" (ج 2/ 160). [المؤلف]. (¬2) "فيض الفتاح" (ج 2/ 172). [المؤلف]. (¬3) المصدر السابق (4/ 152). والشارح العلاَّمة هو القطب الشيرازي (ت 710).

وأما تفسير السيد (¬1) لها بالجهل المركب، فقد مر وجهه. وأما ما سمّاه السكاكي كذبًا، فيحتاج بيانه إلى تمهيد. فأقول: إذا قلت: "رأيتُ أسدًا"، وأضمرتَ في نفسك أن تريد بقولك: "أسدًا" رجلاً شجاعًا, ولم تنصب قرينة، فالخبر إنما يعطي أسدًا حقيقيًّا، وهذا مخالف لما أضمرته على كل حال. ثم قد يكون الخبر مخالفًا للواقع في نفس الأمر وفي اعتقادك، كأن يكون الواقع أنك رأيت رجلاً شجاعًا، واعتقدت ذلك وتعمدت ترك القرينة، وقد يكون مخالفًا للواقع في نفس الأمر فقط، كأن تكون رأيت لصًّا رجلاً شجاعًا مختبئًا في غار بعيد، فعرفت ذلك وأردت الإخبار به، وظننت أن هناك قرينة والواقع أنه لا قرينة، أو تكون حسبته أسدًا حقيقيًّا, ولكن أحببت أن تخبر بأنه رجل شجاع، وغفلت عن نصب القرينة. وقد يكون موافقًا للواقع في نفس الأمر فقط، كأن تكون رأيت أسدًا حقيقيًّا في غار، فعرفت ذلك، ولكن أردت الإخبار بأنه رجل شجاع، وغفلت عن نصب القرينة، أو حسبته رجلاً شجاعًا وأردت الإخبار بذلك، وغفلت عن نصب قرينة، أو حسبته رجلاً شجاعًا, ولكن أردت إيهامَ أنه أسد حقيقي، فتأولت في نفسك، وتركت نصب القرينة عمدًا. وأغلب هذه الصور وقوعًا وأقربها إلى الاشتباه بالاستعارة هي الأولى، وهي كذبٌ عمدٌ. ¬

_ (¬1) انظر "فيض الفتاح" (4/ 152).

فبنى السكاكي عليها فعبَّر بالكذب، وكذلك بني عليها السيد الجرجاني، ففسَّر الكذب بالكذب العمد. أما الشارح العلامة فكأنه لاحظ تلك الصور كلها، ورأى أن المشترك بينها جميعًا هو مخالفة الخبر لما في الضمير، أي للمعنى الذي يضمره المتكلم في نفسه، ففسر الكذب بذلك. ثم جاء صاحب "تلخيص المفتاح"، فعدل عن عبارة "المفتاح"، إلى قوله (¬1): [والاستعارة تفارق الكذب بالبناء على التأويل ونصبِ القرينة على إرادة خلاف الظاهر]. والظاهر أنه بني على تسمية الدعوى الباطلة كذبًا، وقد تقدم وجه ذلك، ثم ضم هذا الكذب إلى الذي سماه السكاكي كذبًا، فكأنه قال: والاستعارة تفارق الكذب الذي سماه السكاكي دعوى باطلة، والكذب الذي سماه كذبًا، بالتأويل والقرينة. وعبارته تحتمل معنيين: الأول: أن يكون أراد أنها تفارق الكذب الذي هو الدعوى الباطلة بالتأويل، وتفارق الكذب الآخر بالقرينة. المعنى الثاني: أن يكون بني على أن التأويل والقرينة متلازمان، إذا وُجِد أحدهما وجد الآخر، فالاستعارة تفارق كلاًّ من الكذب بقسميه بكلٍّ من التأويل والقرينة. ¬

_ (¬1) (ص 306 بشرح البرقوقي)، وانظر "شروح التلخيص" (4/ 68).

وبيان استلزام التأويل للقرينة ما نبه عليه شارحه السعد التفتازاني في الكلام على التأويل في المجاز العقلي، فإنه قال (¬1): "ومعنى التأويل: طلب ما يؤول إليه من الحقيقة، أو الموضع الذي يؤول إليه من العقل، وحاصله أن تنصب قرينة". قال الدسوقي في حواشيه (¬2): "المراد ملاحظة الحقيقة أو الموضع ملاحظة يعتدُّ بها، وهي إنما تكون مع القرينة ... ". فالحاصل أن التأويل الذي يعتد به هو ما كان مع القرينة، فلا اعتداد بالتأويل الذهني الذي لا قرينة معه. وأما استلزام القرينة للتأويل، فلأن القرينة هي الدليل الذي يمنع من إرادة المتكلم للظاهر، ويدل على إرادته غيره، وهذا إنما يتحقق في نحو قولك - مشيرًا إلى رجلٍ -: "أرى أسدًا"؛ لأمرين: الأول: أن المخاطب يرى أنك عاقل لا تكابر ولا تعبث، فيبعد أن تريد أن الرجل أسد حقيقة. الثاني: أن هناك مسوغًا واضحًا للتأويل، بأن تكون أردت أن الرجل شجاع، فشبهته بالأسد، وادعيت وتأولت على ما هو معروف. فأما إذا أشرت إلى حصاةٍ قائلاً: "أرى أسدًا" فالأمر الثانى منتفٍ، وبانتفائه يضعف الأمر الأول. فالمشاهدة والإشارة قرينة في المثال الأول؛ لأنها مانعة من إرادة ¬

_ (¬1) انظر "شروح التلخيص" (1/ 234). (¬2) المصدر السابق.

الظاهر، دالة على إرادة غيره إرادةً سائغة، وليست في المثال الثاني كذلك. فإن قيل: فإذا كان صاحب "التلخيص" بني على تلازم التأويل والقرينة كما زعمتَ، فهلاّ اكتفى بأحدهما؟ قلت: كأنه أراد أن ينبِّه على أن كلاًّ منهما مقصودٌ لذاته، فالتأويل هو الذي يدفع الدعوى الباطلة، والقرينة كالشرط له، والقرينة هي التي تدفع الكذب، والتأويل كالشرط لها. وذكر ابن السبكي في "جمع الجوامع" (¬1) ما نُسب إلى بعض الظاهرية من نفي وقوع المجاز في الكتاب والسنة، فقال المحلي في شرحه (¬2): "قالوا: لأنه كذب بحسب الظاهر، كما في قولك للبليد: هذا حمار، وكلام الله ورسوله منزه عن الكذب. وأجيب بأنه لا كذب مع اعتبار العلاقة". اعترضه بعضهم (¬3) بأن الذي يدفع الكذب هو القرينة، فكان ينبغي أن يقول: لا كذب مع وجود القرينة. ويجاب عن هذا بأجوبة: الأول: أن القرينة عند الأصوليين شرط، فالمراد اعتبار العلاقة على الوجه المعتدّ به، وإنما يكون ذلك بوجود الشرط، وهو القرينة. الثاني: أن يقال: مراده باعتبار العلاقة اعتبارها من كلٍّ من المتكلم والمخاطب، فاعتبار المتكلم لها ملاحظته لها بالتشبيه والدعوى والتأويل، ¬

_ (¬1) (1/ 308) بشرح المحلي. (¬2) المصدر السابق. (¬3) هو البناني صاحب الحاشية على شرح المحلي في الموضع المذكور.

القرينة

على ما هو معروف في علم البيان. وملاحظة المخاطب لها تصوره لها على حسب ذلك، ومعلوم أن المخاطب إنما يلاحظها إذا كان هناك ما يدل عليها، وهذا الدليل هو القرينة. الثالث - وهو التحقيق -: أن الكذب الذي زعمه الظاهري إنما هو الكذب بحسب الظاهر، ومقصوده به ما يتراءى في نحو المثال الذي ذكره، وهو قولك للبليد: "هذا حمار". والذي يتراءى هنا ليس هو الكذب الحقيقي، فإن العلاقة موجودة مشهورة، والقرينة واضحة، وهي المشاهدة والإشارة، فالسامع يعلم أن المتكلم لم يدَّعِ أن ذاك الإنسان حمار حقيقة، وإنما أراد وصفه بشدة البلادة، ولكنه مع ذلك يتراءى له أن لفظ الخبر مخالف للواقع؛ لأن الإنسان لا يكون حمارًا، وهذا الترائي لم يأت من غفلة عن القرينة، بل هي بغاية الوضوح، والسامع عارف لها، ولم يأت من عدم العلاقة، فإن العلاقة موجودة معروفة، وإنما يأتي من عدم ملاحظة العلاقة على ما ينبغي، بالتشبيه والدعوى والتأويل، على ما هو مشروح في كتب البيان. فأراد المحلَّي أن المتكلم إذا اعتبر العلاقة على ذاك الوجه لم يكن الخبر كذبًا حقيقيًّا, ولا ظاهرًا، والسامع إذا لاحظ ذلك على ما ينبغي زال ما كان يتراءى له، فإن لم يلاحظ فمن تقصيره أُتي. القرينة أجمع أهل العلم على أنه لا بد للمجاز من قرينة, سواءً من قال منهم: هي ركن، ومن قال: هي شرط.

وأجمعوا أنه إذا لم يكن هناك قرينة فالكلام على حقيقته، وإن كان معناه الحقيقي مخالفًا للواقع فأهل السنة والجمهور يسمونه كذبًا، وغيرهم يشترط في تسميته كذبًا أن لا يكون المتكلم يعتقد أنه مطابق للواقع. والقرينة الصحيحة هي الدليل الصحيح الذي يكون المتكلم عالمًا به وبدلالته على خلاف الظاهر، وبأن من شأنه أن لا يخفى على السامع. ***

المطلب الثاني في محط المطابقة

المطلب الثاني (¬1) في محطِّ المطابقة المتكلم قد يعتقد الواقعة على ما هي عليه، وقد يعتقدها على خلاف ما هي عليه، ثم قد يريد أن يخبر بها على ما اعتقده، وقد يريد أن يخبر بها على خلافه، وقد يريد أن يكون الخبر صالحًا ولو على بعدٍ لما يعتقده، مفهمًا ظاهرًا لخلاف ما يعتقده. ومدار الصدق والكذب إنما هو على الواقع في نفس الأمر من جهة، وعلى مدلول الخبر نفسه من الجهة الأخرى، فإن تطابقا فصدقٌ، وإلا فكذبٌ. ومدلول الخبر هو ما حقُّه أن يفهم منه مع ملاحظة القرائن، فإذا سمعنا خبرًا، فنظرنا فيه، ولاحظنا القرائن فوجدناه مفهمًا لمعنى، فزعم زاعم أنه بذاك المعنى غير مطابق للواقع = كان بزعمه هذا زاعمًا أن الخبر كذب، وأن المخبر به كاذبٌ. ولا يدفع هذا أن يقول: لعل المتكلم أراد بهذا الخبر غير ظاهره، ونقول له: إن كان المتكلم لم يجهل ولم يخطئ، فقد أراد - ولا بدَّ - أن يكون خبره هذا مفهمًا لما هو مفهم له، فإن كان مع ذلك تأول في نفسه معنى آخر فلا شأن لنا به؛ لأن الكلام إنما وضع للإفهام، وحق المتكلم أن يكون كلامه مع ما ينصبه من القرائن صورة مطابقة للمعنى الذي في نفسه. ولا ريب أن الخبر إنما يطابق حق المطابقة ما أراد المتكلم أن يكون ¬

_ (¬1) كتب قبله: "بسم الله الرحمن الرحيم".

مفهمًا له، فهذا هو المعنى النفسي الذي حق أن يعتد به، وعليه ينبغي أن يحمل ما يقع في كلام أهل العلم "المراد كذا"، "لعل المراد كذا"، ونحو ذلك، ومن قال غير هذا فقد غلط. ***

المطلب الثالث في المجاز

المطلب الثالث في المجاز ليس المراد هنا الإفاضة في أحكام المجاز، وإنما نُلِمُّ منه بما يتعلق بموضوعنا على الاختصار. اتفق القائلون بالمجاز على أن المجاز المفرد هو: "الكلمة المستعملة في غير ما وُضِعت له في اصطلاحٍ به التخاطب على وجهٍ يصح، وذلك بأن يكون بين المعنى الموضوع له والمعنى المستعمل فيه علاقة معتبرة" (¬1). هذا أصح تعريف استقر عليه الأمر. وبقية التعريفات تحوم حول هذا المعنى. ثم اتفقوا على أنه لا بد للمجاز من قرينة معتبرة، إلا أن كثيرًا من الأصوليين يجعلون القرينة شرطًا لصحة الاستعمال بقصد الإفهام، وصحة الحمل في فهم الكلام. فعندهم أن من رأى إنسانًا مشؤومًا فقال: "رأيت غرابًا" مريدًا بالغراب ذاك الإنسان = كان هذا مجازًا، لكنه يجب على المتكلم إذا أراد الإفهام أن ينصب قرينة. وكذلك لا يسوغ لمن يسمع آخر يقول: "رأيت غرابًا" أن يحمله على معنى "رأيت إنسانًا مشؤومًا" إلا إذا كانت هناك قرينة معتبرة. وعُلم من هذا - مع ما تقدم - أن من لم ير غرابًا, ولكن رأى إنسانًا ¬

_ (¬1) انظر "فيض الفتاح" (4/ 132) و"شروح التلخيص" (4/ 22 - 26).

مشؤومًا، فقال مخبرًا لغيره: "رأيت غرابًا"، وأراد إنسانًا مشؤومًا, ولكن لم ينصب قرينة = يكون كاذبًا، ويكون الكلام كذبًا؛ لأن المعنى المفهوم منه غير مطابق للواقع. وهؤلاء قد لا يذكرون القرينة عند تعريف المجاز؛ لأنها عندهم ليست ركنًا له، ولكن يعلم من مواضع أخرى من كلامهم أنه لا بد منها، على حسب ما ذكرنا. ونقلوا عن الظاهرية منع وقوع المجاز في كلام الله عَزَّ وَجَلَّ وكلام رسوله. قال المحلي في "شرح جمع الجوامع" (¬1): "قالوا: لأنه كذبٌ بحسب الظاهر، كما في قولك للبليد: هذا حمار، وكلام الله ورسوله منزه عن الكذب". ثم قال: "وأجيب: بأنه لا كذب مع اعتبار العلاقة". اعترضه بعضهم (¬2)، فقال: "إذا تأملت قول المجيب: مع اعتبار العلاقة، وقول المستدل: بحسب الظاهر = وجدت الجواب غير ملاقٍ للدليل، والمناسب سوق الدليل مجردًا عن قوله: بحسب الظاهر". أقول: سوق الدليل مجردًا عنها لا وجه له؛ لأنها من كلام المستدل، فأنى يجوز للحاكي إسقاطها؟ ثم قال المعترض (¬3): "ثم الكذب لازم لإرادة المعنى الحقيقي، ¬

_ (¬1) (1/ 308) مع حاشية البناني. (¬2) هو البناني في حاشيته. (¬3) أي البناني في الموضع المذكور.

فارتفاعه إنما هو بإرادة المعنى المجازي، والدال عليه هو القرينة، فانتفاء الكذب لأجل وجود القرينة". أقول: الظاهرية يعرفون ويعترفون أن في الكتاب والسنة ما لا يحصى من الكلمات المستعملة في معانٍ لولا القرينة لكانت ظاهرة في غيرها, ولكنهم يزعمون أن ذلك كله من الحقيقة، ويقولون: غاية الأمر أن العرب وضعت الكلمة لهذا المعنى بحيث يفهم منها مطلقًا، ووضعتها لهذا المعنى الثاني بحيث يفهم منها مع القرينة، ككلمة "أسد" للسبع المعروف وللرجل الشجاع، وهي على كلا الحالين حقيقة، إذ لم تستعمل إلا فيما وضعت له. فمحطُّ إنكارهم إنما هو أن تأتي في الكتاب والسنة كلمة مستعملة في معنى لم توضع له في أصل اللغة. وقولهم: "لأنه كذب بحسب الظاهر" يعنون به أن العربي المخاطب بلغة العرب إنما يحمل الكلمة على ما وضعت له في أصل اللغة، فإذا سمع كلمة "أسد" عرف أنها موضوعة للسبع المعروف وللرجل الشجاع، فإذا رآها مجردة عن القرينة عرف أن المراد بها السبع المعروف، وإذا رآها مع القرينة عرف أن المراد بها الرجل الشجاع، فهي عنده بمنزلة حروف (ج ح خ) في الكتابة، الشكل موضوع لكل من الثلاثة، فإذا أهمل عرف أنه الحاء المهملة، وإذا نقط من تحته عرف أنه الجيم، وإذا نقط من فوقه عرف أنه الخاء المعجمة، ومع ذلك فالشكل مشترك بين الحروف الثلاثة، أصلٌ في كل منها. فعلى هذا فإذا أشرت لعربي إلى رجلٍ، فقلت: "هذا أسد" عرف فورًا أنك تريد أنه شجاع، لكن إذا أشرت إلى رجلٍ، فقلت: هذا حمار، فإنه

يتراءى له أن هذا كذب بمنزلة أن تشير له إلى كتابٍ، وتقول: هذا فرس. ثم إذا علم أنك إنما أردت البلادة فهمها, ولكنه كما يفهم المراد من الكلمة الأعجمية. فيقول الظاهرية: إنه ليس في قولك للرجل: "هذا أسد" كذبٌ في الظاهر، فإن الكلمة موضوعة للرجل الشجاع بشرط القرينة، وقد وُجِدت، بخلاف قولك: "هذا حمار" فإنه كذبٌ في الظاهر, لأن الكلمة لم توضع في أصل اللغة لذلك. ونظير قولك: "هذا أسد" أن تشير لكاتبٍ إلى حرف "ح" قائلاً: هذا جيم. ونظير قولك: "هذا حمار" أن تشير له إلى رقم (3) قائلاً: هذا جيم. فإنه يتراءى له أن هذا كذبٌ، حتى يتنبه للمناسبة بأن حرف (ج) يُعدُّ في حساب الجُمَّل بثلاثة. فتدبر ما قدمناه وتحقَّقْه، وبذلك يظهر لك أن جواب المحلي - تبعًا لمن تقدمه - هو المناسب لقول الظاهرية. وقد ذكر هذا الجواب عينه البهاء السبكي في "عروس الأفراح" (¬1). وحاصله: أنه قد عُرِف عن العرب أنها إذا وجدت علاقة معتبرة بين المعنيين، يطلقون لفظ أحدهما على الآخر، وينصبون قرينة، وإن لم يسمعوا من تقدمهم استعمل تلك الكلمة في ذاك المعنى. وبهذا عُلِم أن الكلمات كما هي موضوعة لمعانيها الخاصة، فهي ¬

_ (¬1) انظره ضمن "شروح التلخيص" (4/ 68 - 69).

موضوعة أيضًا لتستعمل مع القرينة في كل ما بينها وبينه علاقة معتبرة. وإذا ثبت وجود الوضع صارت كلمة "حمار" على فرض أنها لم تُسمع عن المتقدمين مستعملة في البليد، بمنزلة كلمة "أسد"؛ لثبوت أن تلك موضوعة، كما أن هذه موضوعة، وإذا ثبت الوضع بحجته لم يلتفت إلى عدم السماع، كما في صيغ اسم الفاعل والمفعول وغيرها. أما البيانيون وغيرهم فعندهم أن نصب القرينة ركنٌ للمجاز، لا شرطٌ فقط، وزادوا في التعريف قولهم (¬1): "مع قرينة عدم إرادة المعنى الموضوع له". ثم ذكروا أن الكلمة المستعملة فيما لم توضع له في اصطلاحٍ به التخاطب تكون على أقسام: الأول: المجاز، وهو ما لُوحِظت فيه علاقة معتبرة، ونُصبت معه قرينة معتبرة دالة على عدم إرادة المعنى الموضوع له. الثاني: الكناية، وهي كالمجاز، إلا أن القرينة فيها لا تدل على عدم إرادة المعنى الموضوع له، بل تدل على إرادة غيره. الثالث: الارتجال، وهو أن تطلق الكلمة على وجه استئناف وضع جديد، كمن يشير إلى طفل ولد له، فيقول: هذا طلحة، ويريد تسميته بذلك. الرابع: الغلط، كأن تشير إلى كتاب، تريد أن تقول: "هذا كتاب" فيجري على لسانك: "هذا فرس". ¬

_ (¬1) انظر "فيض الفتاح" (4/ 132) و"شروح التلخيص" (4/ 25).

الخامس: اللغو، كأن تشير لبصيرٍ إلى كتاب، قائلاً: "هذا فرس"، قاصدًا هذا القول، مع عدم ملاحظتك لعلاقة معتبرة، ومع علمك بالقرينة الدالة للمخاطب على أن المشار إليه ليس بفرس. أقول: وهذا الخامس يصدق عليه تعريف الكذب. فإن قيل: فلماذا لم يذكروا في الأقسام ما إذا استعملت الكلمة في غير ما وضعت له لعلاقة معتبرة، ولكن لم تُنصب قرينة معتبرة، كما إذا كنت لم تر غرابًا، وإنما رأيت رجلاً مشؤومًا، فقلت لمن لا يعرف الواقع: "رأيت غرابًا", ولم تنصب قرينة. قلت: هذه الصورة غير واردة عليهم؛ لأنهم يحكمون فيها بأن الكلمة إنما استعملت فيما وضعت له، ولذلك إذا تبين لهم الواقع جزموا بأن هذا الخبر كذب. فقد ذكروا في الكلام على الإسناد العقلي أن من أقسام الحقيقة قولك: "جاء زيد" وأنت تعلم أنه لم يجئ. وقال السعد في "المطول" (¬1) بعد هذا المثال: "فهذا أيضًا إسنادٌ إلى ما هو له عنده في الظاهر؛ لأن الكاذب لا ينصب قرينة على خلاف إرادته". ثم ذكر بعد ذلك ما يؤخذ منه أنه لو كانت مع هذا قرينة، فإن كانت هناك علاقة فمجازٌ، وإلا فمن القسم الخامس الذي سميناه لغوًا. فعُلِم من هذا أنه عند عدم القرينة يكون كذبًا، سواءً لوحظت علاقة، أم لا. ¬

_ (¬1) انظر "فيض الفتاح" (2/ 159).

وذكروا في الفرق بين الاستعارة والكذب ما يفيد هذا أيضًا، ووقع لبعضهم تخليط هناك، فلا بأس بتحرير المقام. ذكر السكاكي في "المفتاح" (¬1) أن الاستعارة - وهي مجاز كما لا يخفى - تفارق الدعوى الباطلة ببناء الدعوى في الاستعارة على التأويل، أي بملاحظة العلاقة المعتبرة، وتفارق الكذب بنصب القرينة المانعة عن إرادة الظاهر، يعني: والدعوى الباطلة لا تأويل معها، والكاذب لا ينصب قرينة. وهذا صريح - كما لا يخفى - في أنها إذا فقدت القرينة، والكلام بظاهره غير مطابق للواقع، فهو كذبٌ، سواءٌ أوُجِد تأويل أم لا. وقد فُسِّرت عبارة "المفتاح" على ثلاثة أوجه: الأول: نقل عن شارحه العلامة القطب الشيرازي (¬2)، ذكروا أنه فسر "الباطل" بما يكون على خلاف الواقع، والكذب بما يكون على خلاف ما في الضمير. الثاني: تفسير شارحه السيد الشريف الجرجاني (¬3)، ذكر أن السكاكي أراد بالدعوى الباطلة الجهل المركب، وصاحبه مصرٌّ على دعواه، متبرئٌ عن التأويل، فضلاً عن نصب القرينة، وأراد بالكذب: الكذب العمد، وصاحبه لا ينصب القرينة، بل يروج ظاهره، لكن لا مانع من قصد التأويل في ذهنه، فلذا ¬

_ (¬1) (ص 373). (¬2) انظر "فيض الفتاح" (4/ 152). (¬3) المصدر السابق.

خص التأويل بمفارقة الباطل، و [خص] (¬1) نصب القرينة بمفارقة الكذب. هكذا نقله عبد الحكيم في "حواشي المطول" (¬2). الثالث: تفسير عبد الحكيم، قال (¬3): "الأظهر عندي أن الاستعارة من حيث المعنى تشابه الدعوى الباطلة، ومن حيث اللفظ تشابه الكلام الكاذب، فتبيين الفرق بأن مبنى معناها على التأويل، بخلاف الدعوى الباطلة، وأن مبنى لفظها على نصب القرينة، بخلاف الكذب". واعترض السعد في "المطول" كلام العلامة، قال (¬4): "وأنت تعلم أن تفسيره الكذب خلاف ما عليه الجمهور واختاره السكاكي". واعترض عبد الحكيم كلام السيد الشريف فقال (¬5): "فيه أنه مع كونه خلاف ظاهر العبارة، إذ لا قرينة على تخصيص الدعوى الباطلة بالجهل المركب، والكذب بالكذب العمد، أنه لا وجه لتخصيص مفارقة الاستعارة بهذين، فإنها تفارق الدعوى الباطلة مطلقًا - سواءٌ كان مع اعتقاد المطابقة أو لا - بالتأويل، وعن الكذب مطلقًا - سواءٌ كان عمدًا أو خطأً - بنصب القرينة". أقول: هناك صور: ¬

_ (¬1) المعكوفتان من المؤلف. (¬2) "فيض الفتاح" (4/ 152). (¬3) انظر المصدر السابق. (¬4) المصدر السابق. (¬5) المصدر السابق.

الأولى: أن ترى إنسانًا من بعيد، فتظنه غرابًا، فتقول: "رأيت غرابًا"، مريدًا بذلك وفق ما ظننته. الثانية: أن تعلم أنه إنسان، ومع ذلك تقول لمن تراه لا يعرف الواقع: "رأيت غرابًا"، وتتأول في نفسك الغراب بإنسانٍ مشؤومٍ، ولا قرينة. الثالثة: أن تعلم أنه إنسانٌ، ومع ذلك تقول لمن تراه لا يعرف الواقع: "رأيت غرابًا"، ولا تتأول في نفسك. فكل من هذه الصور يصدق عليه أنه دعوى باطلة، وأنه كذب. أما الأولى والثالثة؛ فظاهر، وأما الثانية؛ فبحسب الظاهر المحكوم به، إذ لا عبرة بالتأويل النفسي مع عدم القرينة. لكن الصورة الأولى أولى بأن تسمى دعوى باطلة؛ لأنها كما شاركت الأُخريين في ظهور الدعوى بحسب ظاهر اللفظ، امتازت عنهما بتحقق الدعوى في الاعتقاد. والأولى أبعد عن الكذب؛ لأن صاحبها مخطئ، وقد تقدم أن الغالب في العرف أن لا يقال فيمن كذب خطأً: "كذب"، وإنما يقال: "أخطأ"، ومن الناس من لا يسمي ذلك كذبًا البتة. والاعتقاد أمرٌ معنوي، وكذلك التأويل في النفس. وظاهر الكلام يتعلق باللفظ، وكذلك القرينة. والاستعارة تشتبه من حيث المعنى باعتقاد الباطل؛ لأنها مبنية على دعوى دخول المشبه في جنس المشبه به، وتخيل ذلك في النفس، فهي من هذه الجهة مشابهة للصورة الأولى، ولكنها تفارقها ببناء الدعوى في الاستعارة على التأويل.

والاستعارة تشتبه بالكذب الذي لا خطأ فيه؛ لأن القائل: "رأيت أسدًا يرمي" يعلم أن الرجل ليس بأسد، فهي من هذه الجهة مشابهة للصورتين الأخريين، لكنها تفارقهما بالقرينة. فقد بان بهذا وجه صنيع السكاكي، وبأن به توجيه التفاسير الثلاثة، بل واتفاقها في المآل، فإن العلّامة حمل الدعوى الباطلة على الاعتقاد المخالف للواقع، وهذه هي الصورة الأولى، وحمل الكذب على خلاف ما في الضمير، وذلك في الصورتين الأخريين، فإن ظاهر الكلام فيهما كما هو مخالفٌ للواقع، فهو مخالفٌ لما في الضمير؛ لعلم المتكلم بخلاف ما أفهمه كلامه. وإنما خصَّ السكاكي ثم العلّامة الكذب بذلك لأنه كذبٌ اتفاقًا، لغةً وعرفًا. والسيد فسّر الدعوى الباطلة بالجهل المركب، وهي الصورة الأولى، والكذب بالعمد، وذاك في الصورتين الأخريين، فاتفقا. وعبد الحكيم ذكر أن الاستعارة من حيث المعنى تشابه الدعوى الباطلة، وقد علمت أن ذلك إنما يتحقق في الصورة الأولى؛ لتحقق الدعوى في الاعتقاد، وهو أمر معنوي. وذكر أنها من حيث اللفظ تشابه الكلام الكاذب، والأَولى بملاحظة ذلك الصورتان الأخريان؛ لأنهما كذبٌ اتفاقًا، لغةً وعرفًا، وكذب الكلام فيهما آكد لمخالفته لما في الواقع ولما عند المتكلم، ومدار الكذب فيهما على اللفظ فقط لمطابقة علم المتكلم للواقع. والمقصود أن هؤلاء اتفقوا على أن الصورة الثانية كذبٌ، وأن إضمار التأويل لا يدفع الكذب.

أما صاحب "التلخيص" فقال (¬1): "الاستعارة تفارق الكذب بالبناء على التأويل ونصب القرينة على إرادة خلاف الظاهر". قال السعد في "المطول" (¬2): "يعني أن في الاستعارة دعوى ... مبنية على تأويل ... ولا تأويل في الكذب. وأيضًا لا بد في الاستعارة من قرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي الموضوع له، دالةٍ على أن المراد خلاف الظاهر، بخلاف الكذب، فإنه لا تُنصب فيه قرينة على إرادة خلاف الظاهر، بل يُبذل المجهود في ترويج ظاهره". وهذا الكلام إذا تُدبِّر وقورِن بكلام هذين الرجلين في مواضع أخرى - كما سبق لهما في الكلام على الإسناد العقلي - تبين أنه غير مخالف لما تقدم، فإن الدعوى الباطلة التي تشابه الدعوى التي في الاستعارة هي ما في الصورة الأولى، كما تقدم. فغاية الأمر أن صاحب "التلخيص" أدرج الصورة الأولى في الكذب، ثم بين أن الفرق بوجهين: الأول: التأويل، وهذا يختصُّ بالصورة الأولى. الثاني: بالقرينة، وهي تعمُّ الصور الثلاث. فكأنه يقول: إن الفرق بين الاستعارة وبين الكذب خطأً - وذلك في الصورة الأولى - بالتأويل والقرينة. فالتأويل يدفع خطأ الاعتقاد، والقرينة تدفع الأمرين، أي: الخطأ في الاعتقاد ومخالفة الكلام للواقع. ¬

_ (¬1) (ص 306 بشرح البرقوقي). وانظر "شروح التلخيص" (4/ 68). (¬2) (ص 584)، وهو في "فيض الفتاح" (4/ 152).

الفرق بين المجاز والكذب

والفرق بينها وبين الكذب عمدًا - وذلك في الصورتين الأخريين - بالقرينة. الفرق بين المجاز والكذب أجمعوا على أنه لا بد للمجاز من علاقة وقرينة، وإنما اختلفوا في القرينة: أركن هي أم شرط؟ ولا ريب أن الخبر إذا كان فيه مجازٌ صحيح العلاقة، ظاهر القرينة = يكون المعنى الظاهر الراجح منه هو المعنى المجازي، فإذا كان المعنى المجازي هو الواقع؛ فالخبر صدق حتمًا. والنظر هنا في أمور: الأول: إذا تجوَّز المخبر في نفسه ولم ينصب قرينة، فلا ريب أن ذلك لا يكون مجازًا؛ لفقد القرينة التي هي ركن أو شرط، وهل يكون حينئذٍ كذبًا؟ لا ريب أنه عند فقد القرينة يكون المعنى الظاهر الراجح غير المعنى المجازي، وأنه إذا كان ذاك الظاهر الواضح غير مطابق للواقع كان الخبر كذبًا، وقد ذكر علماء البيان في بحث الاستعارة أنها مجاز علاقته المشابهة، وأنها مبنية على دعوى دخول المشبه في جنس المشبه به، وأن هذه الدعوى مبنية على تأويلٍ، وهو جعل أفراد المشبه به نوعين، على ما هو مشروح في كتب البيان. وبعد أن ذكر السكاكي في "المفتاح" ذلك، ذكر (¬1) أن الاستعارة تفارق ¬

_ (¬1) راجع للنقول الآتية: "فيض الفتاح" (ج 4/ ص 151 وما بعدها).

تفارق الدعوى الباطلة؛ لبناء الدعوى فيها - أي في الاستعارة - على التأويل، وتفارق الكذب بنصب القرينة المانعة عن إرادة الظاهر. وشارحه العلامة القطب الشيرازي فسر الباطل بما يكون على خلاف الواقع، وفسر الكذب بما يكون على خلاف ما في الضمير. وذكر السيد الجرجاني في "شرح المفتاح" أن المراد بالدعوى الباطلة الجهل المركب، قال: "وصاحبه مصرٌّ على دعوى، متبرئ عن التأويل، فضلاً عن نصب القرينة، وأن المراد بالكذب الكذب العمد، وصاحبه لا ينصب القرينة، بل يروج ظاهره، لكن لا مانع من قصد التأويل في ذهنه". نقل هذا عبد الحكيم في حواشي "المطول"، ثم قال: "لا وجه لتخصيص مفارقة الاستعارة بهذين؛ فإنها تفارق الدعوى الباطلة مطلقًا .. بالتأويل، وعن الكذب مطلقًا، سواء كان عمدًا أو خطأ، بنصب القرينة". وقال عبد الحكيم قبل ذلك: "الأظهر عندي أن الاستعارة من حيث المعنى تشابه الدعوى الباطلة، ومن حيث اللفظ تشابه الكلام الكاذب، فتبين الفرق بأن مبنى معناها على التأويل، بخلاف الدعوى الباطلة، وأن مبنى لفظها على نصب القرينة، بخلاف الكذب". وذكر بعد ذلك قولهم: "رأيت اليوم حاتمًا"، وما ذكره بعضهم من أن الاستعارة فيه مبنية على دعوى جعل المرئي عين حاتم الطائي، وقوله: "فإن المقصود من قولك: رأيت اليوم حاتمًا، أنه عين ذلك الشخص، لا أنه فرد من الجواد". وتعقبه عبد الحكيم قائلاً: "إن كان لا عن قصدٍ فهو غلط، وإن كان

قصدًا فإن كان بإطلاقه عليه ابتداءً فهو وضع جديد، وإن كان بمجرد ادعاء من غير تأويل فهو دعوى باطلة، وكذب محض، فلا بد من التأويل". أقول: تفسير هذا أنك إذا رأيت رجلاً اسمه زيدٌ مثلاً، فأخبرت عن ذلك قائلاً: "رأيت اليوم حاتمًا"، فلك أربع أحوال: الأولى: أن تكون أردت أن تقول: "رأيت اليوم زيدًا"، فسبق لسانك بغير قصد إلى قولك: "حاتمًا"، فهذا هو الغلط. الثانية: أن تكون وضعت لزيدٍ هذا الاسم "حاتم"، كما تضع هذا الاسم لولدك مثلاً، فهذا وضع جديد. الثالثة: أن تكون ادعيت أن زيدًا هو حاتم الطائي عينه، بدون تأويل، فهذه دعوى باطلة، وكذبٌ محضٌ. الرابعة: أن تكون شبهت زيدًا بحاتم الطائي، وتأولت في لفظ "حاتم"، فجعلته كأنه موضوع للجواد، سواء كان ذلك الرجل المعهود من طيء أو غيره. فهذه - إذا صحبتها القرينة - هي الاستعارة.

[ص 33] (¬1) إذا فكرنا في حال الإنسان وجميع ما يحتاج إلى العلم به لتحصيل نفعٍ أو دفعِ ضرٍّ في دينه ودنياه، وجدناه في معظم ذلك مفتقرًا إلى الكلام. وقد امتنَّ الله عزَّ وجلَّ على عباده بالسمع والأبصار والأفئدة في عدة آيات، منها: قوله سبحانه: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78]. وأكثر ما ينتفع بالسمع في سمع الكلام؛ وينتفع بالبصر في أشياء منها رؤية المتكلم، ورؤية إشارته، وقراءة الكتب؛ وبالأفئدة في أشياء: منها معرفة معاني الكلام حتى يعبر عما في نفسه عبارة صحيحة، ويفهم كلام غيره فهمًا صحيحًا. وامتنَّ الله عزَّ وجلَّ بتعليم الكتابة، وإنما منفعتها أن تنوب عن النطق والحفظ، فيكتب الإنسان الكلامَ المعبِّر عما في نفسه، أو الكلامَ الذي سمعه من غيره، أو الذي رآه في كتاب غيره، ويقرأ كتابَه غيرُه فيفهم المراد. قال تعالى في أول سورة أنزلها على خاتم أنبيائه صلَّى الله عليه وآله وسلم {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [أول سورة العلق]. وقال سبحانه: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2)} [أول سورة القلم]. وكذلك امتنَّ الله عزَّ وجلَّ بتعليم الكتاب المبين، قال سبحانه أولَ سورة الرحمن: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ ¬

_ (¬1) من هنا تبدأ القطعة الثانية من الكتاب، وفي آخرها نقص.

المطلب الأول في تعريف الصدق والكذب

الْبَيَانَ} [الرحمن: 1 - 4]. قال بعض المفسرين من السلف: البيان الكلام. وظاهرٌ أن المراد الكلام المبين، فليس كل كلام بيانًا. ولا يخفى أن إفادة المعلومات بالكلام واستفادتها منه إنما تحصل إذا كان الكلام المنطوق به أو المكتوب مبيِّنًا للمعنى المراد إفهامُه، وكان ذاك المعنى واقعًا ينفع علمهُ الذي (¬1) يسمع [ص 34] أو يقرأ، عارفًا بالكلام المبين. والكلام المُفهِم معنًى غيرَ واقعٍ لا يدخل في "البيان" الذي امتنَّ الله تعالى به, لأن الامتنان به إنما هو من جهة أنه يُتوصَّل به إلى تحصيل العلوم النافعة، والمُبِين لما ليس بواقع إنما يحصل به جهلٌ لا علمٌ، ومن شأنه أن يضرَّ وتترتَّبَ عليه المفاسد. وههنا مطالب: المطلب الأول في تعريف الصدق والكذب جمهور أهل العلم على أن الخبر إن طابقَ الواقع فصِدْق، وإلاَّ فكذب، وهذا قول أهل السنة كما في "المصباح" (¬2). وأدلَّته كثيرة، لكن غلب في العرف أن لا يقال لمن كذبَ خطأً: "كذبَ فلان"، بل يقال: "أخطأ فلان" أو "غَلِط فلان"، إلاَّ أن تُقصَد نسبتُه [ص 35] إلى التقصير زجرًا له عن مثل ذلك، أو يُقصَد تأكيد الحكم ببطلان الخبر، أو يُقصَد إظهار التشنيع على المخبر كفًّا للناس عن اتباعه. وعلى هذه الثلاثة تدور الأمثلة التي ذكرها ابن عبد البر في كتاب "العلم" من إطلاق الكذب على الخطأ. ¬

_ (¬1) لعل "العلم" فاعل، و"الذي" مفعول به, و"عارفًا" حال من الذي. (¬2) "المصباح المنير" (كذب).

المطلب الثاني فيمن يلحقه معرة الكذب

المطلب الثاني فيمن يلحقه معرَّة الكذب العيب والإثم لا يَلحقانِ كلَّ من أخبر بخبرٍ مخالفٍ للواقع، بل يُعذَر المخطئ إذا لم يقصِّر، ويَلحقان المجازفَ. وقد يَلحقُ المخبرَ عارُ الكذب وإثمه مع أن الخبر في نفسه صدقٌ، وذلك إذا جزم بالخبر وهو يراه كذبًا أي غير واقع، أو لا يدري أنه واقع، فيلحقه العيبُ والإثم، كما يلحق من أتى امرأةً يراها أجنبيةً فبانَ أنها امرأتُه، أو كانت له أمةً لا يقربها، فصادف أمةً لا يدري أنها أمتُه فوقع عليها. المطلب الثالث في إرادة المتكلم لا يخفى أن المقصود من الكلام الإفهام، وأن إرادة المتكلم أمر خفيٌّ في نفسه، وإنما يُستدلُّ عليها بنفس الكلام أو بما يقترن به من القرائن الظاهرة، وإنما يوضع الكلام ليصير معربًا [عمَّا] في النفس. فإذا كان الخبر في نفسه أو بمعونة القرائن ظاهرًا بيِّنًا في معنى، وليس هناك قرينةٌ تَصرِف عنه = وجب القضاء بأن ذلك المعنى هو الذي أراده المتكلم. ولهذا قضى أهلُ العلم على الخبر نفسِه فقالوا: إن طابقَ الواقع فصِدْق، وإلاّ فكذب. ثم بينوا أن القرائن معتدٌّ بها في فهم الكلام. فتحرَّر من ذلك أن كل خبر تبيَّن من تدبُّرِه وتأمُّلِ القرائن التي معه إن كانت: أنه ظاهر في معنًى، فذاك المعنى إن كان واقعًا فالخبر صدقٌ، وإلاّ فكذبٌ. وفي "الزواجر" لابن حجر الهيتمي (ص 26): "نقل إمام الحرمين عن الأصوليين أن من نطق بكلمة الردة وزعم أنه [أضمر توريةً] (¬1) كفرَ ظاهرًا وباطنًا، وأقرَّهم على ذلك". ¬

_ (¬1) خرم في الأصل مكان الكلمتين.

[ص 37] هذا، وقد نقل أهل العلم عن الظاهرية منع وقوع المجاز في كلام الله عزَّ وجلَّ وكلام رسوله. قال المحلي في "شرح جمع الجوامع": "قالوا: لأنه كذب بحسب الظاهر، كما في قوله للبليد: هذا حمار. وكلام الله ورسوله منزَّه عن الكذب" ثم قال: "وأجيب بأنه لا كذبَ مع اعتبار العلاقة". والظاهر أن الظاهرية إنما كلامهم في المجاز الصحيح، وهو ما جمع العلاقة والقرينة كما هو شرطه، فزعموا أنه وإن لم يكن كذبًا في التحقيق فلا يكون المتكلم به كاذبًا, ولا يلزمه قبحٌ ولا إثمٌ، لكن صورته في بادئ النظر صورة الكذب، فإن الإنسان لا يكون حمارًا. يدلُّك على هذا أن الظاهرية إنما منعوا وقوعه في كلام الله تعالى وكلام رسوله، ولم يقولوا أنه كذبٌ مطلقًا يوجب القبح والإثم، وقالوا: "كذبٌ بحسب الظاهر" ولم يقولوا: كذب مطلقًا، وعَنَوا بقولهم "بحسب الظاهر" ما يتراءى منه في بادئ النظر. ويوضِّح ما قلناه تمثيلُهم بقولهم: "كما في قولك للبليد: هذا حمار"، فذكروا مثالاً صريحًا في وجود العلاقة ووجود القرينة كما لا يخفى. فالجواب بأنه "لا كذبَ مع اعتبار العلاقة" كأنه مبني على توهُّم أن الظاهرية غفلوا عن شأن العلاقة وتكلموا في المجاز الموجود معه القرينة، فزعموا أن قولك في البليد: "هذا حمار" كقولك في الكتاب: "هذا فرسٌ". وهذا غلطٌ عليهم لما قدمناه. وأبعدُ منه ما اعتُرِض به على المحلَّي، [ص 38] قال البنَّاني في "حواشيه": قال العلامة: إذا تأملتَ قولَ المجيب مع اعتبار العلاقة، وقولَ المستدلّ بحسب الظاهر = وجدتَ الجواب غيرَ ملاقٍ للدليل، والمناسب

سوق الدليل مجرَّدًا عن قوله بحسب الظاهر. ثم قال: ثم الكذب لازم لإرادة المعنى الحقيقي، فارتفاعه إنما هو بإرادة المعنى المجازي، والدال عليه هو القرينة، فانتفاء الكذب لأجل وجود القرينة. أقول: أولُ كلامه مستقيم، فأما قوله: "والمناسب ... " فعجيب، فإن الشارح حكى استدلال المستدل ليجيب عنه، واستدلال المستدل مبيَّن لدعواه، فأنَّى يكون للشارح أن يتصرف في استدلال المستدل فيغيِّره ويُعمِّي مقصودَه، ثم يجيب بحسب ذلك؟ وأما آخر كلام المعترض فقد عُلِم ما فيه مما تقدم. هذا، والجواب الصحيح عن قول الظاهرية هو أن يقال: ما ذكرتموه من أن المجاز كذب بحسب الظاهر تريدون به أن صورته في بادئ النظر صورة الكذب = ليس مما يقتضي قبحًا في الكلام ولا عيبًا للمتكلم ما دام المقصود واضحًا، بل إنه إذا وقع المجاز موقعَه كان ذاك التصوير أو التخييل من أوكد الوجوه في بلاغة الكلام وقوة تأثيره في المخاطب، وهذه مصلحة عظيمة لا يحسن إهمالها توقِّيًا مما يتراءى في بادئ النظر من المشابهة للكذب. كيف وهذا الترائي لا يشتبه على عاقل؟ نعم، المقال الذي مثّلتم به - وهو قولك للبليد: "هذا حمار" - فيه شناعة وبشاعة يَجِلُّ عن مثلها الكتابُ والسنة، وليست هي أن الصورة صورة الكذب، بل هي أن فيه تحقيرًا وإهانةً للبليد لا يستحقها, لأن البلادة أمرٌ جِبلَّي لا كسبي، ألا ترى أنه لو قيل: "مثلُه كمثل الحمار" أو "كأنه حمار" لكانت الشناعة والبشاعة بحالها, لكن لما وقع هذا التشبيه [ص 39] موقعَه في قوله تعالى: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5]، وقوله سبحانه:

{كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ} [المدثر: 50]، وقوله عزَّ وجلَّ: {كَمَثَلِ الْكَلْبِ} [الأعراف: 176] = اندفعت تلك الشناعة عن الكلام والمتكلم، وانحطَّتْ على المشبَّه لاستحقاقه لها. واعلم أننا إذا فرضنا في كلام أنه يُفهِم خلافَ الواقع، وأنه لم تكن معه قرينة تصرف عن ذلك، ولم يكن هناك وجهٌ لاحتمال أن يكون المتكلم عجزَ أو جهلَ أو أخطأ، فإنه يلزم من ذلك أن يكون المتكلم أراد أن يكون كلامه ذاك مُفهِمًا خلافَ الواقع، وهذه إرادة تبعها العمل بمقتضاها، وهو الإتيان بذاك الكلام، وأقام المتكلم عليها الدليل، وهو ذاك الكلام. فهبْ أنه تأوَّل في نفسه لذاك الكلام معنًى واقعًا، فهل حقُّه أن يؤاخَذ بإرادته التي عمل بمقتضاها وأقام عليها الدليلَ، أم بتأويله في نفسه؟ وتأويله في نفسه غيبٌ عن المخاطب، ومع ذلك فقد أقام المتكلم الدليل على خلافه، ولو ساغ للمتكلم أن يعتدَّ على المخاطب بمثل هذا لساغ من باب أولى أن يعتدَّ عليه بأمرٍ في نفسه لم يتكلَّم به. وهذا هو التكليف بعلم الغيب والتكليف بما لا يُطاق، فإذا كان غيرَ جائز فأولى منه ما أقام المتكلم الدليلَ على خلافه. وما مثل ذاك التأويل إلاَّ مثل من يَعمِد إلى خمرٍ يعلم أنها خمر محرمة، فيخيِّل لنفسه أنها شراب تفاح أو نحوه من الأشربة المباحة، ثم يشربها مع ذلك العلم وذاك التخيل. ويَعمِد إلى امرأة أجنبية يعلم أنها أجنبية لا تحلُّ له، فيخيِّل لنفسه أنها امرأته، فيواقعها مع ذاك العلم وذاك التخيل، فهل ينفعه ذاك التخيل عند الله تعالى وعند عباده، فلا يُحكَم عليه بأنه شاربُ خمرٍ زانٍ؟ فإن قيل: فلماذا تأول إبراهيم عليه السلام في كلماته، فأراد بقوله "هي

أختي" الأخوة في الدين؟ ولماذا قال جمعٌ من أهل العلم في الكذب المرخَّص فيه: إن شرطه أن يتأول المتكلم في نفسه معنًى صحيحًا؟ قلت: أما كلمات إبراهيم عليه السلام فسيأتي النظر فيها ونوضِّح أن حاله كانت قرينة تدافع ظاهر الخبر، فيبقى معها مجملاً، وتلك الحال هي أنه كان يرى أنه إن [ص 40] لم يُوهِمْهم أن المرأة أخته بطشوا به، وذاك الإيهام لدفع مفسدة، ولا تترتب عليه مفسدة، فهذه الحال مظنة الترخّص في الكلام. فلو لاحظَ المخاطبون هذا لصار الخبر عندهم في معنى المجمل فلا يكون كذبًا، وإذا لم يلاحظوا كانوا هم المقصرون. وهذا إنما يفيد المباعدة عن الكذب الصريح إذا تأوَّل في نفسه تأويلاً قريبًا، وذلك لوجهين: الأول: أنه إن لم يتأوله تأويلاً قريبًا لم تُخرِجْه القرينة - وإن كانت صريحة - عن أن يكون كاذبًا، كما في قولك مشيرًا إلى كتاب: "هذا فرس"، ومثله ما لو أشرت إلى رجل فقلت: "هذا حمار", ولم تتأول حتى لو كان الرجل بليدًا في نفس الأمر، فإن هذا لا ينفعك لأنك لم تبْنِ عليه. الوجه الثاني: أن التزام التأويل القريب في النفس يستلزم أن يجيء الكلام قريبَ الاحتمال للمعنى الصحيح، فإذا تنبَّه المخاطب لحال المتكلم - وقد قدّمناها - قوِي عنده احتمالُ التأويل، وإن كانت تلك الحال كأنها قرينة ضعيفة. وإذا لم يتأول المتكلم في نفسه تأويلاً صحيحًا قريبًا، فقد يجيء الكلام بعيدًا عن احتمال التأويل، فلا يباعده عن الكذب الصريح حتى القرينة الواضحة، فضلاً عن تلك الحال الذي ذكرناها.

المطلب الرابع في القرينة

ومع هذا كله فسيأتي أن إبراهيم ومحمدًا عليهما الصلاة والسلام قضيا على تلك الكلمات بأنها كذباتٌ وخطايا، وأن إبراهيم عليه السلام يرى يوم القيامة أن صدورها منه يُقصِّر به عن رتبة الشفاعة، ويقضي عليه بأن يستحيي من الله عزَّ وجلَّ لأجلها. فأما ما قاله بعض أهل العلم من الكذب المرخّص فيه، فسيأتي الكلام فيه، والسرّ في قولهم باشتراط التأويل في النفس يُعلَم مما قلناه في حقّ إبراهيم عليه السلام. [ص 41] المطلب الرابع في القرينة أجمع أهل العلم على أنه لا بدَّ للمجاز من قرينة, فمنهم من قال: إنها ركن كالبيانيين، ومنهم من قال: شرط، ونُسِب هذا إلى الأصوليين. وأجمعوا أنه إذا لم تكن هناك قرينة فالكلام على حقيقته، فإن كان معناه الحقيقي مخالفًا للواقع فهو كذب. ومن الناس مَن يشترط في تسميته كذبًا أن لا يكون المتكلم مخطئًا يعتقد أنه واقع. واعلم أنه إذا دلّ الخبر بظاهره على معنى، وكان هناك دليلٌ يخالف ذاك الظاهر، فذاك على أوجه: الأول: أن (¬1) .. ¬

_ (¬1) يوجد بعده بياض في الصفحة. والكلام غير متصل بما بعدها.

الدنيا, وليس في تلك الجهة غِربانٌ البتةَ، وأهل تلك الجهة سود، ولعل المخاطب أن يعرف ذلك ولو بعد سنين، أو يعرفه مَن بعده ولو بمئات السنين. فمن يبلغه هذا الخبر فحينئذٍ يتبيَّن أنني إنما قصدتُ بالغراب رجلاً أسود، فعلى هذا المخاطب إن راعى هذا الاحتمال [ألاَّ] يقطع بظاهر الخبر. وبعدُ، فلو احتمل هذا لاحتمل مثله في نصوص الأحكام من الحلال والحرام وغيرها، إذ لا فرقَ بين أن يعتدّ في القرينة بعقلٍ غير حاصل للمخاطب، وبين أن يعتد بقرينة أخرى غير حاصلة له. ومعلوم بالضرورة أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لم يكونوا يتوقفون عن العمل بما ينزله الله تعالى عليهم مما له معنى ظاهر بيِّن، لاحتمال أن يكون هناك [تأويل] وإن لم يظهر لهم، وأن الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا يتوقفون عن اعتقاد ظاهر الكتاب والسنة إذا لم يظهر لهم بعد التدبر قرينة صارفة عن ذلك، ولا كانوا يسألون النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم هل المراد بهذا الكلام هذا الظاهر؟ بل لو كلِّفوا بذلك لاحتمل مثل ذلك في الكلام الثاني، وهكذا ويتسلسل، ولو كان يلزم الناسَ شيء من ذلك لكان من أحق ما ينبِّههم عليه الله ورسوله، إذ كيف يُقِرُّهم عليه طولَ أعمارهم وهو غلط يؤدي إلى اعتقاد الباطل؟ وفوق هذا فكثيرًا ما يكون في سياق الكلام وسباقه ما يصير به نصًّا في المعنى لا يحتمل التجوُّز أصلاً، وقد يحتمل النص الواحد التجوّزَ ولكنه إذا ورد ذلك المعنى في مواضع كثيرة وكلها تفيد ذلك الظاهر متفقة عليه = استفيد من مجموعها القطعُ بذاك الظاهر. فإن قيل: فإن الله تبارك كما وصف نفسه بأنه يهدي، فقد وصف نفسه بأنه يُضلّ، وكما وصف كتابه بأنه هُدًى، فقد وصفه بأنه يُضلّ به.

قلت: أخبر الله تعالى بأنه يُضِلُّ من يشاء، ثم أخبر بأنه يُضلّ مَن هو مسرف كذاب، ويضل الكافرين، ويضل الظالمين، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التوبة: 115]، يعني - والله أعلم - فإذا لم يتقوا تعرضوا لإضلال الله عَزَّ وَجَلَّ. وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة: 26]. وقال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 124 - 125]. وقال تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 44]. فالإضلال بالقرآن ليس منه أن ينزل عزَّ وجلَّ آية لها ظاهر لا يفهم المخاطبون منها غيره، ويكون ذلك المعنى في نفسر الأمر باطلاً، فإن هذا - مع ما فيه من التلبيس والكذب الذي يتعالى الله عَزَّ وَجَلَّ عنه - من شأنه أن

يضل المؤمنين قبلَ غيرهم, لأنهم هم الذين يسارعون إلى تصديق القرآن والعمل به. وإنما الإضلال بالقرآن على وجهين: الأول: أن يكون فيه ما يستنكره مَن في قلبه ريب، أو يخالف هواه لتقليدٍ أو إعجابٍ برأي أو غير ذلك. الثاني: أن يُنزِل الله تعالى آية إذا سمعها المؤمن وتدبَّرها، ونظر في سياقها وفي الآيات الأخرى، عرف المراد بها فاهتدى بها، وإذا سمعها الكافر أو الضال رأى أنها تحتمل ما يُوافق هواه، فتمسَّك بها اتباعًا لهواه لا إيمانًا بكتاب الله. فتدبَّر الآيات المتقدمة، وانظر ما فتح الله عليَّ، تجدْه هو الحق بحمد الله عزَّ وجلَّ، فإياك أن تكون من القسم الأخير، فتضلَّ بقوله عزَّ وجلَّ: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا}، فتكونَ من ذلك الكثير. ثم ارْجعِ النظرَ، فانظر مَن هو المستحق لأن يهديه الله تعالى وأن يكون القرآن له هدًى، ومَن هو المستحق أن يضلَّه وأن يكون القرآن له عَمًى؟ وقد قال تعالى: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [أول سورة البقرة]، فهل الأحق بالهدى والاهتداء بالقرآن مَن يؤمن بالله وكتابه ورسوله، ويجعله إمامًا لا يطلب منه بدلاً، ولا يرضى بغيره حَكمًا, ولا يطلب على صدقِ خبر الله عزَّ وجلَّ دليلاً, ولا يتوقف عن الأخذ به لاحتمال أن يكون تلبيسًا, ولا يردُّه لمخالفته قولَ أفلاطون وأرسطو، والفارابي

وابن سينا، وفلان وفلان، وفلان وفلان، أم مَن هو على خلاف ذلك؟ والله يهدي مَن يشاء إلى صراط مستقيم. ***

[ص 92] (¬1) أحبارهم ورهبانهم أربابًا. هذا، وقد أخطأ في معنى عبادة الشيطان فرقتان: الأولى: الخوارج؛ زعموا أن الآيات المتقدمة أو بعضها تدل على أن طاعة الشيطان شرك بالله، وحملوا ذلك على الإطلاق، فقالوا: إن كل من ارتكب كبيرة فقد أطاع الشيطان، فهو مشرك. وقد كان يلزمهم أن يطردوا ذلك في جميع المعاصي حتى الصغائر. وقد علمت الحق، وهو أن الشرك هو طاعة الشيطان في شرع الدين، بأن يوسوس للإنسان أن هذا حلال وهذا حرام، وهذا مقرب إلى الله، وأشباه ذلك، فيطيعه الإنسان، ويتخذ ذلك دينًا بغير سلطان من الله عزَّ وجلَّ. فأما من يطيعه في شرب الخمر مثلاً، إيثارًا لشهوته، عارفًا معترفًا بأن ذلك الفعل معصية لله عزَّ وجلَّ، ضارٌّ في الدين، سببٌ للخسران المبين، راجيًا أن يوفّقه الله للتوبة = فهذا ليس من الشرك في شيء؛ فإنه لم يطلب بترك الطاعة وارتكاب ذاك الفعل نفعًا غيبيًّا، بل هو عارف معترف بأن ذلك مقتضٍ للضرر الغيبي. الفرقة الثانية: جماعة من المفسرين وغيرهم؛ لم يحققوا معنى "العبادة"، ولا تدبروا الآيات حق تدبرها، فقالوا: إن هذه الآيات مما جاء على طريق التشديد، وإلا فطاعة الشيطان لا تكون عبادة له، ولا شركًا بالله ¬

_ (¬1) من هنا تبدأ القطعة الثالثة، وفيها استطراد في ردّ شبهة المشركين في قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ}. وفي آخره ذكر تأخير البيان عن وقت الحاجة، ثم الضرب الثاني من المجمل (التورية).

عزَّ وجلَّ، إلا أن يطيعه في السجود لصنم مثلاً، فيكون ذلك شركًا، ومع ذلك [ص 93] فليس عبادة للشيطان. وقد علمت الحق، ولله الحمد. وقال الله عزَّ وجلَّ {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50]. أي - والله أعلم -: أنه لا أحد أضلُّ ممن اتبع هواه في أمر الدين، فتديَّن بالباطل لأنه يهواه، ورفض الدين الحق لأنه لا يهواه. وقال سبحانه: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية: 23]. وقال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} [الفرقان: 43]. فمن سوَّلتْ له نفسه شيئًا فهوِيَه، فاتخذه دينًا، فقد أطاع هواه تلك الطاعة التي هي عبادة، كما تقدم. واعلم أن المشركين كانوا يعلمون معنى "العبادة" والتأليه، كيف والشرع إنما خاطبهم بلغتهم، ولكن قد يغفلون عن بعض الفروع حتى ينبههم الشرع. ويتضح ذلك بما يأتي: 1 - كانوا يتخذون الأصنام تماثيل للإناث الغيبيات، التي يزعمون أنها الملائكة، ثم يكرمون تلك الأصنام، ويتبركون بها، ويتمسحون بها، ويعكفون عندها، ونحو ذلك، ويسمون ذلك عبادةً وتأليهًا للأصنام ولتلك الإناث اللواتي جعلت الأصنام تماثيل لهن.

2 - [ص 94] كانوا يدعون تلك الإناث، يسألون منها أن تنفعهم، ويقولون: إنهم إنما يطلبون منها أن تشفع لهم عند الله عَزَّ وَجَلَّ الذي بيده ملكوت كل شيء، ويسمون مع ذلك دعاءهم ذاك عبادةً وتأليهًا لتلك الإناث، أو قل: للملائكة؛ فإنهم كانوا يزعمون أن تلك الإناث هي الملائكة. 3 - كانوا يطيعون أسلافهم ورؤساءهم في شرع الدين، كاتخاذ الأصنام، والتحليل والتحريم، وغير ذلك، ولا يسمون تلك الطاعة عبادة وتأليهًا لمن أطاعوه، فنبههم القرآن والسنة على أنها عبادة وتأليه لمن أطاعوه، وبين لهم أنهم يطيعون بتلك الطاعة الشياطين التي توسوس لهم بأن تلك الأمور من الدين، وأهواءهم التي تزين لهم اتخاذ تلك الأمور دينًا، وأن ذلك عبادة وتأليه للشياطين والأهواء. 4 - كانوا يحترمون الكعبة أبلغ من احترام الأصنام، ويرون ذلك عبادة لله، لا عبادة وتأليهًا للكعبة، وكانوا يرون النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين يحترمون الكعبة، يطوفون بها، ويقبِّلون الحجر الأسود، ونحو ذلك، ولم يتشبث بذلك أحد من المشركين بأن يقول مثلاً: إن محمدًا يعبد الكعبة، ويتخذها إلهًا، فكيف يزعم أنه لا إله إلا الله، وأنه لا ينبغي أن يعبد سواه؟ ما ذلك إلا لأنه كان من الواضح المكشوف عندهم أن تلك الأعمال عبادة لله عزَّ وجلَّ، لا للكعبة. 5 - كانوا يعلمون أن المسلمين مما يخاطب أحدهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو بحيث يسمع كلامه عادةً، قائلاً: يا رسول الله، ادع الله لنا. ونحو ذلك. ولم يتشبث أحدٌ منهم بهذا، كأن يقول: [ص 95] إن محمدًا يقر أصحابه أن يدعوه ليشفع لهم إلى الله عزَّ وجلَّ، فكيف ينكر علينا أن ندعو الملائكة؛ ليشفعوا

لنا إلى الله عزَّ وجلَّ؟ وما ذاك إلا لوضوح الفرق عندهم، وعلمهم بأن سؤالهم من الملائكة دعاءٌ وعبادةٌ للملائكة، وأن ما يقع من المسلمين ليس من الدعاء الذي هو عبادة لغير الله تعالى. 6 - كانوا يعلمون طاعة المسلمين للنبي - صلى الله عليه وسلم - في الأحكام الدينية، ويعلمون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو الناس إلى طاعته فيها. ولم يتشبث أحد منهم بذلك، كأن يقول: إن محمدًا يزعم أننا نعبد ونؤلِّه رؤساءنا والشياطين والأهواء بطاعتنا لهم في أمور الدين، فكيف يدعو الناس إلى طاعته في الدين، ويقر من اتبعه عليها، ثم يزعم أنه لا إله إلا الله، ولا تنبغي العبادة لغيره تعالى؟ ما ذلك إلا لعلمهم بوضوح الفرق بين الطاعتين، وأن ما وقع منهم مما ذكر حريٌّ أن يكون عبادة وتأليهًا لمن أطاعوه تلك الطاعة، واتخاذًا له ربًّا وندًّا، وأن ما يدعو إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقرّ عليه من طاعته في الدين ليس عبادة له ولا تأليهًا. هذا كله يوضح أنهم كانوا يعرفون أن العبادة هي الخضوع، طلبًا للنفع الغيبي. فما كان كذلك، فإن كان الله تعالى أنزل به سلطانًا، وأقام عليه برهانًا، فهو عبادة لله سبحانه، ولو كان يتراءى من ظاهره أن فيه خضوعًا لغيره تعالى. وإن لم يُنزل به الله سلطانًا، فهو عبادة وتأليه لغيره. فقد عرفوا أن الثلاثة الأمور الأولى عبادة؛ لأنها خضوعٌ يُطلَب به نفع غيبي. أما الأول والثالث؛ فظاهر.

وأما الثاني؛ فلأن الملائكة أنفسهم غيب؛ لأنهم لا يعلمون بطريق عادية أنهم منهم بحيث يسمعون خطابهم، أو بحيث يبلغهم بطريقٍ عاديةٍ كما يعلم الإنسان أن صاحبه حي بهذه الحياة الدنيا قريب منه، [ص 96] بحيث يسمع كلامه في العادة، فيخاطبه بكلام يسمعه، أو بعيد عنه فيرسل إليه رسولاً، أو يكتب إليه كتابًا، أو يرفع صوته بمحضر الناس لعل بعضهم يبلغه. وأما الأمر الرابع؛ فقد عرفوا أنه عبادة، كما مرّ. وأما الأمر الخامس؛ فقد عرفوا أنه ليس بعبادة؛ لأن المسلمين إنما كانوا يسألون من النبي - صلى الله عليه وسلم - الدعاء وهو حي هذه الحياة الدنيا، وبطريق عادية على نحو ما مرَّ قريبًا، حتى كانوا إذا كانوا بعيدًا منه - صلى الله عليه وسلم - ولم يمكنهم الإرسال والكتابة، وأحبوا أن يعلم بأمرهم، قالوا: "اللهم بلِّغ عنا رسولك"، كما قال عاصم بن ثابت (¬1)، أو كما قال الخزاعي (¬2): اللهم إني ناشدٌ محمدًا ... حِلْفَ أبينا وأبيه الأتلدا وكما قال خبيب بن عدي لما أراد المشركون قتله: "اللهم إني لا أجد من يُبلِّغ رسولَك مني السلام، فبلِّغْه" (¬3). وفي رواية (¬4): "اللهم إنا قد بلَّغنا رسالة رسولك، فبلِّغه الغداةَ ما يُصنع ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3989، 4086) من حديث أبي هريرة ضمن قصة قتله. (¬2) هو عمرو بن سالم الخزاعي، والرجز في "سيرة ابن هشام" (2/ 394). (¬3) انظر "فتح الباري" (7/ 383). (¬4) انظر "سيرة ابن هشام" (2/ 173) و"حلية الأولياء" (1/ 113).

بنا". انظر "فتح الباري" (¬1) عند شرح باب غزوة الرجيع، قوله: "ثم قال: اللهم أَحْصِهم عددًا ... ". وانظر "سيرة ابن هشام" (¬2)، ذكر يوم الرجيع. أما ما يروى أن خُبيبًا نادى: "يا محمَّد"، فإنما أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (¬3) من طريق الهيثم بن عدي، وهو كذَّاب، كذبه ابن معين والبخاري وغيرهما، وفي السند علل أخرى. ودعاء الإنسان الحي هذه الحياة، أعني أن يدعو الله تعالى لإنسان = ليس هو نفسه نفعًا غيبيًّا؛ لأن قدرته على ذلك واختياره فيه معروف في العادة، كسائر كلامه، والسائل إنما سأل الدعاء، لا ما يرجو أن يترتب عليه من النفع الغيبي. فإذا كان السؤال بطريق عادية، كما كان يقع من الصحابة، فليس من العبادة في شيء، [ص 97] وإنما هو سؤال نفعٍ عادي. بخلاف دعاء المشركين الملائكة ليشفعوا لهم؛ فإن الملائكة غيبٌ، وطريق السؤال مبني على الغيب، فتكون الشفاعة المطلوبة نفعًا غيبيًّا. وأما السادس؛ فقد علموا أنه عبادة. لكن كانوا - أعني المشركين - قد عرفوا أن الثلاثة الأولى عبادة لم ينزل الله تعالى بها سلطانًا، إنما هي مبنية على الخرص والهوى والتقليد لمن لم ينزل الله سلطانًا باتباعه. وأن الرابع أنزل الله تعالى به سلطانًا مبينًا، يتناقلونه خلفًا عن سلف، عن ¬

_ (¬1) (7/ 383). (¬2) (2/ 173). (¬3) (1/ 245, 246).

خليل الله ورسوله إبراهيم الذي أنزل الله سلطانًا بتصديقه، والأمر باتباعه. وأن الخامس ليس بعبادة، كما مرّ. وأن السادس عبادة، لكن لما كان محمَّد - صلى الله عليه وسلم - يقول: إنه رسول الله، وأن الله أنزل سلطانًا بتصديقه والأمر باتباعه، والمسلمون يقولون ذلك، علم المشركون أنهم إن اعترضوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين أجابوهم بهذا، فلذلك تركوا ذاك الاعتراض، واقتصروا على التكذيب. الوجه الثاني لدفع شبهة المشركين في قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنبياء: 98]: أن المشركين كانوا يعبدون إناثًا غيبيات يزعمون أنهن بنات الله، وأنهن يحببن أن يُعبَدن، وأنهن يشفعن عند الله عَزَّ وَجَلَّ لعبّادهن، ويسمونهن تسمية الأنثى: اللات، العزى، مناة، ويقولون: إنهن هن الملائكة. ولا ريب أن الملائكة ليسوا بهذه الصفة، فصح بهذا الوجه أيضًا أنهم لم يكونوا يعبدون الملائكة. فأما عبادتهم لتلك الإناث، فتارة يجعلها القرآن [ص 98] عبادة لما لا وجود له، وتارة يجعلها عبادة للشياطين. قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [العنكبوت: 42]. وقال سبحانه: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ

وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى} [النجم: 19 - 27]. فالمراد هنا باللات والعزى ومناة: تلك الإناث الخياليات التي يزعمون أنها بنات الله، وأنها الملائكة، فوبَّخهم الله عَزَّ وَجَلَّ على نسبة الولد إليه، مع اختيارهم له تعالى الإناث. ثم بين أنه لا وجود لتلك الإناث، وإنما يوجد منها الأسماء، كما قال في آية العنكبوت: {مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ}. ثم بيَّن أنه على فرض وجود إناث هن الملائكة، فالملائكة لا يستحقون العبادة؛ لأنهم لا يملكون نفعًا ولا ضرًّا، حتى الشفاعة فإنهم إنما يشفعون بعد إذنه ورضاه، وقال في آية أخرى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]، وفي ذلك آيات كثيرة. ثم بين أن زعمهم أن الملائكة إناث، وتسميتهم إياهم تسمية الإناث، من جهلهم وضلالهم. فبهذا يتبيَّن استقامة الكلام، وانتظامه، وائتلافه. لكن كان المشركون قد جعلوا لتلك الإناث الخياليات [ص 99] تماثيل، وسموها بأسمائها، كما هي عادة المشركين إلى الآن في الهند والصين

وغيرها، وكما جاء في "الصحيح" (¬1) في شأن ودّ وسُواع ويغوث ويعوق ونسر: أنها أسماء رجالٍ صالحين كانوا في قوم نوح فهلكوا، فاتخذ لهم مَن بعدهم تماثيل، وسمَّوها بأسمائهم وعبدوها، وكما هي العادة العامة في الصور والتماثيل، فيقال في صورة الفرس: "هذا فرس"، ويقال في صورة الرجل المعروف أو تمثاله: "هذا فلان" باسم ذلك الرجل، فاشتهرت تلك الأسماء: اللات والعزى ومناة في تلك التماثيل، وتُنوسِيَ أمر الجاهلية، فظن كثير من المفسرين أنها المرادة في آيات النجم، فوقعوا في خبط شديد. وقد أوضحت هذا المقام في "كتاب العبادة" ولله الحمد، وذكرت أدلته من السنة والتاريخ وغيرهما. وقال تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا} [النساء: 116 - 117]. وقد مر أن عبادة الشيطان هي طاعته في شرعِ الدين، ولعبادته وجه آخر، وهو: أن من شأنه أن يتعرض لعبادة البشر، لتكون في الصورة له. ولذلك جاء في الحديث: "إن الشمس تطلع بين قرني شيطان، وحينئذٍ يسجد لها الكفار" (¬2). فالشمس لا تزال طالعة، تطلع على قطعة من الأرض، ثم على التي غربيها، وهكذا. فإذا طلعت على قطر [ص 100] انتصب الشيطان بين أهل ذلك القطر وبينها؛ لأن من أهل ذاك القطر من يسجدون لها عند طلوعها، ¬

_ (¬1) البخاري (4920). (¬2) أخرجه مسلم (832) من حديث عمرو بن عبسة.

فيخيل الشيطان أنهم إنما سجدوا له، مع أنهم عابدون له من جهة الطاعة، كما مر. ولكنه لا يقف عند ذلك، بل يتعرض لعبادة الله عزَّ وجلَّ، فإذا رأى من يصلي لله عَزَّ وَجَلَّ حاول أن يقف أمامه، ولذلك أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - باتخاذ السترة، مع الاستعاذة. وتحقيق هذا يطول، وقد أوضحته في "كتاب العبادة". فلما رأى الشياطين أن المشركين يعبدون إناثًا غيبيات، وسموها: اللات والعزى ومناة، ونصبوا لها التماثيل = قال الشياطين: ليس هناك إناث غيبيات عن الناس يحببن أن يُعبدن إلا من الشياطين، فعمدوا إلى شيطانةٍ سموها "العزى"، ووكلوها بتمثال "العزى"، وهكذا ... ويوضح ذلك ما روي في الحديث في قصة هدم "العزى"، وفيه (¬1): "فأتاها خالد، وكانت ثلاث سَمُرات، فقطع السمرات، وهدم البيت الذي كان عليها، ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فقال: ارجع، فإنك لم تصنع شيئًا فرجع خالد، فلما أبصرته السدنة مضوا وهم يقولون: يا عزَّى! يا عزَّى! فأتاها فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها، تحثو التراب على رأسها، فجعل يضربها بالسيف حتى قتلها، ثم رجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فقال عليه الصلاة والسلام: تلك العزى". راجع "الدر المنثور" (¬2)، وغيره. ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي في "السنن الكبرى" (11547) والبيهقي في "دلائل النبوة" (5/ 77) من حديث أبي الطفيل. (¬2) (14/ 30, 31).

[ص 101] وفي رواية (¬1): "فقطعها، فخرجت منها شيطانة ناشرة شعرها ... ". ففي هذا أن السدنة كانوا يقولون بعد الهدم وقطع الشجر: "يا عزّى! يا عزّى" فالعزّى عندهم غير ما هُدِم وقُطِع. وفيه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في تلك الشيطانة: "تلك العزى". وهو واضح فيما تقدم. هذا، وتمام الكلام في "كتاب العبادة"، وإنما المقصود أن المشركين تمسكوا بتلك الشبهة في قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ ...} مع ضعفها (¬2). فلو لم يكن معروفًا عندهم، مشهورًا بينهم أن تأخير البيان إلى وقت الحاجة لا يعد كذبًا ولا تلبيسًا ولا تناقضًا؛ لشنَّعوا في النصوص التي جاءت من هذا القبيل. ومع هذا فقد ذهب كثير من أهل العلم إلى منع تأخير البيان عن وقت الخطاب، وأجابوا عن تلك النصوص بما هو معروف. ومن الضرب الثاني من المجمل: ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد غزوةً ورَّى بغيرها (¬3). ¬

_ (¬1) "طبقات ابن سعد" (2/ 146). (¬2) هنا وضع المؤلف خطًّا فاصلاً، وكتب في آخره في الهامش: "آخر الاستطراد". (¬3) أخرجه البخاري (2947) ومسلم (2769/ 54) من حديث كعب بن مالك.

ومثلوا لتلك التورية بأن يسأل عن جهة أخرى غير التي يريدها، كيف طرقها ومياهها، وغير ذلك من أحوالها. وذلك أنه كان إذا أراد غزوة أمر الناس أن يتجهزوا ويستعدوا، فيخشى أن يكون هناك من يتجسس للقوم الذي يريد غزوَهم، فيذهب فينذرهم، فيستعدوا ويتحرزوا، فيسأل - صلى الله عليه وسلم - عن جهةٍ أخرى عسى أن يسمع المتجسسون سؤاله. ***

[ص 47] (¬1) فقد كانوا يتشبثون بأوهن الشبهات، فلولا أنه كان معروفًا عندهم، مشهورًا بينهم أن تأخير البيان إلى وقت الحاجة لا يُعدُّ كذبًا ولا تلبيسًا ولا تناقضًا؛ لشنَّعوا في النصوص التي جاءت على ذلك الوجه. ومع هذا فقد ذهب كثير من أهل العلم إلى منع تأخير البيان عن وقت الخطاب، وأجابوا عن تلك النصوص بما هو معروف. ومن الضرب الثاني من المجمل: ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد غزوة ورَّى بغيرها (¬2). ومثَّل أهل العلم لتلك التورية بأن يسأل عن جهة أخرى غير التي يريدها، أي بأن يسأل عن طرقها ومياهها، وغير ذلك من أحوالها. وذلك أنه كان إذا أراد غزوة أمر أصحابه بأن يستعدوا ويتجهزوا، فيخشى أن يكون هناك من يتجسس للقوم الذين يريد غزوهم، فيذهب فينذرهم فيستعدوا ويتحرزوا، فيسأل - صلى الله عليه وسلم - عن جهة أخرى عسى أن يسمع المتجسسون سؤاله، [ص 48] فيستنبطوا منه احتمال أنه إنما يريد غزو تلك الجهة التي سأل عنها. ففي هذا أولاً: أن سؤاله عن الجهة ليس بخبر. وثانيًا: الخبر الذي يدل عليه محتمل، فقد يسأل عن تلك الجهة خوفًا من أهلها أن يسمعوا بخروجه من المدينة إلى الجهة التي قصدها، فيخالفوه إلى المدينة، فيسأل عن جهتهم؛ ليعلم أيخشى منهم ذلك أم لا. ¬

_ (¬1) من هنا تبدأ القطعة الرابعة من الكتاب. والكلام الذي قبلها في القطعة الثانية، وتكرَّر جزء منه لأن المؤلف كتبه مرةً ثانية. (¬2) سبق تخريجه قريبًا.

وقد يسأل عنها ليغزوها يومًا من الدهر، لا ليغزوها بذاك الاستعداد الحاضر. وقد يسأل عنها ليعرفها, لعل معرفتها تفيد يومًا من الدهر، مع صرف أوهام المتجسسين عن الجهة التي يريد غزوها، وظاهر الحال مع ذلك تدافع أنه إنما سأل عن تلك الجهة ليغزوها من فوره، وذلك أن من شأن الإِمام المحارب أن يحرص على كتمان مقصوده. فمن تدبر هذا تبين له أن ذاك السؤال لا يظهر منه للمتدبر ما هو خلاف الواقع، بل يبقى عنده محتملاً. ****

ما يأتي الخلل في فهمه من تقصير المخاطب

(¬1) ما يأتي الخلل في فهمه من تقصير المخاطب قد يكون الكلام بحيث يتراءى منه ظهوره في معنى، فإن قصَّر المخاطب فهم ذلك المعنى، وإن تدبَّر بان له أن الظاهر الحقيقي خلاف ما ظهر أولاً، أو يتدافع الاحتمالان، فيبقى الكلام مجملاً. فمن أمثلة ذلك التي فتح الله - وله الحمد - عليّ بكشف جلية الحال فيها بما لم أره في كلام أحدٍ من أهل العلم: [ص 49] ما في "الصحيح" (¬2) عن سهل بن سعد: "نزلت {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} [البقرة: 187]، ولم ينزل: {مِنَ الْفَجْرِ}، فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود، ولا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله بعدُ: {مِنَ الْفَجْرِ}، فعلموا أنه إنما يعني الليل والنهار". أقول: يُعلم من مجموع الأخبار في هذا الأمر أنه كان من المقرر عند المسلمين قبل نزول هذه الآية حكمان: أحدهما: أن الصائم يحرم عليه الأكل والشرب والجماع في النهار، وهو ما بين طلوع الفجر الصادق وغروب الشمس. هذا هو المعروف في الشرع، وهو الراجح في اللغة. ¬

_ (¬1) كتب المؤلف هنا "المطلب السادس"، ثم شطب عليه وكتب "الثامن"، ثم شطب عليه أيضًا. (¬2) البخاري (1917، 4511).

وخالف في هذا قوم فقالوا: إنما هو من الإسفار إلى غروب الشمس. فعند هؤلاء لا يحرم على الصائم الأكل وغيره بطلوع الفجر، وإنما يحرم بالإسفار، مع موافقتهم على أن وقت صلاة الصبح يدخل بطلوع الفجر. الحكم الثاني: أنه يحرم على الصائم ذلك كلُّه ليلةَ الصيام بعد النوم فيها، فمن نام بعد المغرب ثم استيقظ وهو يريد أن يصبح صائمًا لم يحل له الأكل ولا الشرب ولا الجماع بقيةَ ليلته، ثم يحرم عليه ذلك أيضًا في تمام اليوم بمقتضى الحكم الأول. ومن لم ينم لم يحرم عليه شيء في ليلته، وإنما يحرم عليه في نهاره بمقتضى الحكم الأول. فكان الأمر كذلك حتى ظهرت في الناس شدة الحكم الثاني ومشقته عليهم، فكان من ذلك أن بعضهم كان يعود إلى بيته في أثناء الليل، فيريد امرأته، فتأبى عليه زاعمة أنها قد نامت في ليلتها تلك، وهي ليلة صيام، تريد أنه بنومها يحرم عليها ما يريده [ص 50] منها، وأنه ليس له أن يوقعها في ما يحرم عليها، وإن كان هو لم ينم، فلم يلتفت بعضهم إلى قول أزواجهم ووقعوا عليهن. وكان بعضهم تغلبه عيناه بعد المغرب قبل أن يأكل، فيمتنع من الأكل بقية ليلته، ويصبح صائمًا، فيشق ذلك عليه، مع أن أكثرهم كانوا أهل عمل، يعملون بأيدهم في حوائطهم وغيرها، فغُشي على بعضهم نصفَ النهار، فأنزل الله عزَّ وجلَّ: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ

الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} [البقرة: 187]. فمن عرف الحكمين السابقين، وعرف أن الليل ما بين غروب الشمس إلى طلوع الفجر، ثم رأى في أثناء الآية {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} = علم أن الكلام مختص بالحكم الثاني، وهو حكم الوقاع ليلة الصيام، وحرمته على من قد نام فيها، وأن هذا ترخيص في ذلك. وإذا فكّر علم أن الأكل والشرب في معنى الوقاع، من جهة منافاته للصوم، ومن جهة شدة تحريمه عليهم في ليلة الصيام على من قد نام فيها. فإذا بلغ قوله: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} استقر عنده ذلك. أي: أن الله عَزَّ وَجَلَّ نسخ الحكم الثاني، فرخص في الوقاع والأكل والشرب في ليلة الصيام، وهي ما بين غروب الشمس إلى طلوع الفجر، لمن قد نام فيها. فإذا سمع قوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ}، فإنه إن رأى أن تبيُّن الخيطين من الغزل لا يكون إلا بعد خروج الليل بمدة = علم أنه إن حملت الآية على ذلك كان مخالفًا لما دل عليه ما تقدم أن النسخ مختص بالحكم الثاني، [ص 51] مع ما دل عليه أولها وسياقها وسبب النزول، كما مر، فيحمله ذلك على تطلُّب معنى آخر، فيجده على طرف الثُّمام، فإن الكلام دائرٌ على وقت الفجر الذي يختلط فيه بياض النهار بسواد الليل، ويبدو ذلك جليًّا على ما يقرب من صورة الخيطين في الأفق الشرقي، وقد عبروا عنه في أشعارهم بالخيط.

قال أبو دُواد الإيادي (¬1) - وهو جاهلي -: فلما تبدَّتْ لنا سُدْفةٌ ... ولاح من الصبح خيطٌ أنارا فيتضح له أن هذا هو المعنى الصحيح، وإن احتمل عنده أن يتبين الخيطان من الغَزْل أول دخول النهار، فقد يتوقف، لكن يبعد عنده ذلك [من] وجوه: الأول: أن الليالي المقمرة يتبين فيها الخيطان من الغزل في أثناء الليل. الثاني: أن هذا يكون مخالفًا لما تقرر سابقًا في الشرع في ما يعرف به خروج الليل ودخول النهار، وليس هناك ما يدعو إلى هذا؛ لأن ما تقرر سابقًا هو الأيسر والأظهر. الثالث: أن من سنة الشرع أن ينوط الأحكام بعلامات جلية، كما في أوقات الصلوات، وليس تبيُّن الخيطين من الغزل مما يشبه ذلك. فيحمله ذلك على تطلُّب معنى آخر، فيجده من كَثَبٍ كما مر. والظاهر أن جمهور الصحابة لم يَخْفَ عليهم الصواب، وإنما وقع في الخطأ أفراد، لعلهم كما قال عياض (¬2) وتبعه النووي (¬3): ممن قرب عهده بالإِسلام، وكأنهم أخذوا آخر الآية من قوله: {وَكُلُوا}، ولم يتأملوا أولها. ¬

_ (¬1) "ديوانه" (ص 352) و"لسان العرب" (خيط). (¬2) "إكمال المعلم" (4/ 25). (¬3) "شرح صحيح مسلم" (7/ 201).

[ص 52] فقوله تعالى بعد ذلك: {مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} ليس هو بيانًا لمجمل، كما توهمه بعضهم، فإن البيان كان حاصلاً قبله، ولكنه زيادة بيان وإيضاح. وفي هذا دليل على عناية الله عَزَّ وَجَلَّ بعباده؛ إذ يبين لهم ما اشتبه على بعضهم، وإن كان بينًا بنفسه لمن تدبر، وفي ذلك ما يوضح قبح دعوى ابن سينا ومن وافقه، كما يأتي. هذا، وإن كان الحكم كان سابقًا - كما يقوله بعض أهل العلم - أنه إنما كان يحرم الأكل وغيره بالإسفار، فلم يترتب على خطأ الذين أخطأوا مفسدةٌ؛ لأن تبيُّن الخيطين من الغزل في غير الليالي المقمرة لا يتأخر عن الإسفار. وقد زعم بعضهم (¬1) أن الحكم كان هكذا، فنسخ بقوله: {مِنَ الْفَجْرِ}. وهذا باطل، كما أوضحه ابن حجر في "الفتح" (¬2) وغيره. نعم، لو قيل: كان الحكم سابقًا إلى الإسفار، ثم نسخ بقوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ...}؛ لكان أقرب. والله الموفق. المثال الثاني: ما روي أن نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - اجتمعن عنده يومًا، فقلن له: أيتنا أسرعُ لحوقًا بك؟ فقال: "أطولكن يدًا" (¬3). فكن بعد ذلك إذا اجتمعن ¬

_ (¬1) مثل الطحاوي في "معاني الآثار" (2/ 53 - 54). (¬2) (4/ 135). (¬3) أخرجه البخاري (1420) ومسلم (2452) من حديث عائشة.

يتطاولن في الجدار، ثم كانت أولهن لحوقًا به - صلى الله عليه وسلم - زينب بنت جحش، وكانت من أقصرهن، ولكنها كانت أكثرهن صدقة، فعلمن أنه - صلى الله عليه وسلم - إنما عنى بطول اليد كثرة الصدقة. أقول: من تدبر أصل القصة بان له أن قوله: "أطولكن يدًا" ليس بظاهر في طول اليد الحقيقي، [ص 53] بل هو ظاهر في كثرة الصدقة، فمن لم يدقق تدافع عنده الاحتمالان، فيبقى الكلام مجملاً. وبيان ذلك بأوجه: الأول: أن التصريح بأن فلانة ستموت قبل صواحبها مخالفٌ للحكمة الشرعية، ما لم تتعلق به مصلحة، ولا تظهر هنا مصلحة. وقوله: "أطولكن يدًا" لو أراد به الحقيقة، لكان تصريحًا؛ لأنهن يتطاولن فيعرفن التي هي أطولهن يدًا. الثاني: أنهن كن معتدلات الخلق، فأطولهن يدًا لا بد أن تكون أطولهن مطلقًا، فلو أراد الطول الحقيقي لقال: "أطولكن"، واكتفى به. فما فائدة زيادة "يدًا"؟! الثالث: أنه لو أراد الطول الحقيقي لكان تصريحًا، كما مر، فلماذا عدل عن أن يسميها باسمها إلى قوله: "أطولكن يدًا"، وحملُهن على التطاول لا تظهر فيه مصلحة؟ الرابع: أن سرعة اللحاق به كانت عندهن فضيلة مرغوبة لهن، فالظاهر أن ترتب على عمل صالح، وليس الطول الحقيقي كذلك.

وفي "صحيح مسلم" (¬1) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر ابنته فاطمة بموته، فبكت، فأخبرها أنها أسرع أهله لحوقًا به، فضحكت. فإخباره لها كان لمصلحة، وهي بشارتها بما تحبه؛ ليخفف ذلك من شدة حزنها، ويعينها على الصبر، وترتب ذلك على عمل صالح، وهو حسن الصبر، ففي بعض الروايات (¬2) أنه قال لها: "فاتقي الله واصبري". فمن تدبر ما تقدم حمله ذلك على تطلُّب معنى آخر، فيجده قريبًا، فإن الكناية بطول اليد عن كثرة الإنفاق قريبة جدًّا، والمناسب هنا هو الإنفاق في الخير، وهذا المعنى ينفي التصريح المخالف للحكمة، ولا يؤديه أن يقال: "أطولكن"، [ص 54] فلم يكن بدٌّ من زيادة "يدًا"، وليس فيه حملٌ لهن - لو تدبرن فعرفنه - على التطاول في الجدار، أو غيره مما لا مصلحة فيه. وكثرة الصدقة عمل صالح تناسب أن ترتب عليها تلك الفضيلة المرغوبة. ويُشبه - والله أعلم - أن لا يكون خفي عليهن هذا كله، ولكن تدافع عندهن الاحتمالان، فتطاولن بناء على أحدهما، وإن كان غير متعين عندهن، فلما ماتت زينب تعين أحد الاحتمالين قطعًا. فإن قيل: ولماذا لم يصرح لهن النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يقول: "أكثركن صدقة" أو نحو ذلك؟ قلت: قد يكون خشي عليهن أن يعتقدن أنها غير معينة، وإنما المدار على كثرة الصدقة، فيحملهن ذلك على التباري في كثرة الصدقة، فيضر ذلك ¬

_ (¬1) رقم (2450) من حديث عائشة. (¬2) رقم (2450/ 98).

بهن، لشدة رغبتهن في سرعة اللحاق به - صلى الله عليه وسلم -، ومع أنه ما فيهن إلا من كانت كثيرة الصدقة. فإن قيل: فعلى هذا يكون - صلى الله عليه وسلم - أحب أن لا يفهمهن أن طول اليد معناه كثرة الصدقة. قلت: لا بأس بهذا، فيكون أحب أن يبقى الكلام عندهن محتملاً للمعنيين. فإن قيل: فيكون مجملاً تأخر بيانه إلى أن ماتت زينب بعد موته بمدة. قلت: ليس هو بمجمل في الحقيقة، ورغبته - صلى الله عليه وسلم - في أن يبقى الكلام عندهن محتملاً للمعنيين لا تضر، مع سلامة الكلام في نفسه من الإجمال، على أنه لو كان مجملاً محتملاً فليس في أمر الدين، فلا يضر تأخر بيانه. المثال الثالث: ما يروى من مزاحه - صلى الله عليه وسلم -. كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[ص 55] ربما لاطف بعض أصحابه بمزاحٍ تدعو إليه مصلحة، ولا يخرج عن الحق. وقد قال له بعض أصحابه: إنك تداعبنا؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: "إني لا أقول إلا حقًّا" (¬1). إنما قال هذا لأن أكثر الناس لا يحسنون المزاح بالحق، أو لا يكتفون به. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (8481) والبخاري في "الأدب المفرد" (265) من حديث أبي هريرة. وإسناده صحيح.

رُوي عن أنس: أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فاستحمله، فقال: "إنا حاملوك على ولد ناقة". قال: يا رسول الله، ما أصنع بولد ناقة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وهل تلد الإبلَ إلا النوقُ؟ ". انظر "مسند أحمد" (3/ 267) (¬1). "استحمله": أي سأله بعيرًا يركبه، ويحمل عليه متاعه وزاده في السفر. و"ولد الناقة": أصله في اللغة ما ولدته الناقة، صغيرًا كان أو كبيرًا، لكن من الحيوان ما لا يعرف للصغير من أولادها اسم خاص، فيقال مثلاً: "ولد زرافة" يراد الصغير, كما يقال: "ابن زرافة". فأما "الإبل" فللكبير منها اسم خاص، كبعير وجمل وناقة، وللصغير اسم خاص كفَصِيل. فقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ولد ناقة" قد يتبادر منه الصغير, كما في "ولد زرافة"، والوجه أن يكون محتملاً؛ لأنه إن قيل: لو أراد الكبير لقال: "على بعير" أو "على جمل"، قيل: ولو أراد الصغير لقال: "على فصيل". وإذا كان الأمر كذلك، فقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنا حاملوك" ظاهره بيِّن في أنه إنما أراد الكبير؛ لأن الصغير لا يحمل عليه، والرجل إنما سأل الحملان لحاجته إليه في الحال، والصغير لا يغني عنه شيئًا في حاجته، لكن لما كان لا يكاد الناس يقولون: "ولد ناقة"، ويقولون: "ولد زرافة" ونحوه في الصغير = استعجل الرجل، ففهم الصغير. وأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أولاً ملاطفة الرجل؛ ليخفَّ عنه ما أصابه من غمّ الانقطاع، ولينبهه إذا أخطأ، فيكون في ذلك تعليم له، ليحتاط بعد ذلك فلا يستعجل في البناء على ما يتراءى له من الكلام حتى يتدبره. ¬

_ (¬1) رقم (13817). وأخرجه أيضًا البخاري في "الأدب المفرد" (268) وأبو داود (4998) والترمذي (1991) وغيرهم، وإسناده صحيح.

[ص 56] ومما قد يدخل في هذا القبيل: ما روي في إرشاد من أحدث وهو في صلاة الجماعة أن يأخذ بأنفه ويخرج من المسجد (¬1). قالوا (¬2): والحكمة في ذلك إيهام أنه رُعِف. وأقول: الأخذ بالأنف هنا عملٌ ليس بكلام، ولكنه يدل على خبر، كأنه يقول: إني رُعِفت. وقد يقال: إن هذا داخلٌ في معنى الكذب. وأقول: أما من علم بما روي في الإرشاد إلى ذلك، فإنه إذا رأى إنسانًا فعله لم يفهم منه معنى "إني رُعِفت"، بل يحتمل عنده أنه رعف، ويحتمل أنه أحدث وإنما أخذ بأنفه اتباعًا للمروي في ذلك، وبهذا يخرج ذاك الفعل عن معنى الكذب البتة، وأما من جهل ما روي في ذلك، فقد ينسب التقصير إليه بجهله. ومن عادة الناس أنهم يعيبون من أحدث في صلاته، ويضحكون منه، فقد يُخشى على من أحدث في صلاته أن يستمر فيها ظاهرًا خوفًا من عيب الناس وضحكهم، ففي الأخذ بالأنف ما يدفع المفسدتين، فإن الناس لا يعيبون من أصابه الرعاف في الصلاة، فإذا علم الإنسان أن أخذه بأنفه يدفع عنه عيب الناس وضحكهم لم يشق عليه قطع الصلاة والخروج. ¬

_ (¬1) أخرج أبو داود (1114) وابن ماجه (1222) وابن خزيمة (1018) وابن حبان (2238) وغيرهم عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أحدث أحدكم وهو في الصلاة فليأخذ على أنفه, ثم لينصرفْ". وإسناده صحيح. (¬2) انظر "معالم السنن" (2/ 22).

ففي ذاك الفعل دفع مفسدتين، ولا مفسدة فيه، فإنه إذا لوحظ مع ذلك ما روي في أمر من أحدث بأن يأخذ بأنفه، انتفى الكذب البتة، كما مر، والله أعلم (¬1). **** ¬

_ (¬1) وللمؤلف كلام على هذه المسألة ضمن "فوائد المجاميع" (ص 138 - 141) في شرح حديث "الحياء لا يأتي إلا بخير".

في المعاريض وكلمات إبراهيم

[ص 57] (¬1) في المعاريض وكلمات إبراهيم يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن في المعاريض لمندوحةً عن الكذب" (¬2). وعن عمر: "أما في المعاريض ما يغني المسلم عن الكذب؟ " (¬3). وعن ابن عباس: "ما أحبُّ بمعاريض الكلام حُمْر النعم" (¬4). قال بعض أهل العلم: وهو كلام يشبه بعضه بعضًا في المعاني، كالرجل تسأله: هل رأيت فلانًا؟ فيكره أن يكذب وقد رآه، فيقول: إن فلانًا لَيُرَى. أقول: كثيرًا ما يحتاج الإنسان إلى الجواب ويكره التصريح، كالمثال المذكور، فإن المسؤول لما سئل احتاج إلى الجواب، وهو لا يريد الإخبار بالصدق، كأن يقول: نعم، ولا بالكذب فيقول: لا. فسلك طريقًا ثالثًا فقال: "إنه لَيُرى"، وعدوله إلى هذا يدل السائل على كراهيته التصريح، ولكنه كره أن يعرض عنه، أو يقول: لا أخبرك، أو لا تسألني؛ لما في ذلك من الإيحاش وخشونة الخلق، وقد يؤدي ذلك إلى ما لا يحمد. ¬

_ (¬1) كتب المؤلف قبله: "المطلب السابع" ثم شطب عليه، وكتب "التاسع" ثم شطب عليه أيضًا. (¬2) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 199) من حديث عمران بن حصين مرفوعًا، وقال: تفرد برفعه داود بن الزبرقان، وروي من وجه آخر ضعيف عن علي مرفوعًا. (¬3) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (884) والطبري في "تهذيب الآثار - مسند علي" (242). (¬4) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (8/ 535) والطبري في "تهذيب الآثار" (245) بنحوه.

وقوله: "إنه ليرى" ليس بظاهر في أنه رآه، ولا أنه لم يره، لكن كأنه أقرب إلى الأول، وهو الواقع. فما كان من الكلام هكذا فليس من الكذب في شيء، كما لا يخفى. فأما إذا كان المسؤول لم ير فلانًا، فلما سئل أجاب بما ذكر، فإنه إن صح أن ذلك أقرب إلى الإثبات كان فيه رائحة الكذب. فالحاصل أن الخبر إذا كان أقرب إلى الدلالة على الواقع، أو تعادل الاحتمالان، فهو غير مذموم، بل هو محمودٌ بلا ريب، للتخلص به عن الإيحاش وخشونة الخلق، كما مرَّ. وعلى ذلك ينبغي حمل ما تقدم من الآثار. [ص 58] وعدَّ جماعة من أهل العلم كلمات إبراهيم [عليه] السلام الثلاث من المعاريض (¬1)، وهي: أنه لما سئل عن امرأته قال: "هي أختي". ولما عرض عليه قومه الخروج معهم إلى زينتهم نظر نظرة في النجوم، فقال: إني سقيم. ولما سألوه في شأن تحطيم أصنامهم: أنت فعلتَ هذا؟ قال: بل فعله كبيرهم هذا، فاسألوهم إن كانوا ينطقون. وفي عدِّها من المعاريض نظرٌ من وجهين: الأول: أن تلك الكلمات ظاهرة في خلاف الواقع، وإن كان الظهور ليس بالواضح. ¬

_ (¬1) انظر "أحكام القرآن" لابن العربي (3/ 1253) و"تفسير القرطبي" (14/ 221) ط. التركي، و"فتح الباري" (6/ 391).

وفي "الصحيحين" (¬1) من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات ... "، فذكر تلك الكلمات. وفي "مسند أحمد" (¬2) من حديث ابن عباس مرفوعًا نحوه. وفي "الصحيحين" (¬3) من حديث أنس مرفوعًا في ذكر فزع الناس إلى الأنبياء يوم القيامة يسألونهم الشفاعة، فيأتون آدم، ثم نوحًا، ثم إبراهيم، ثم موسى، فيعتذر كل من هؤلاء بتقصير كان منه في الدنيا، فيذكر آدم أكله من الشجرة، وموسى قتله النفس، وفيه في عذر إبراهيم: "فيقول: لست هناكم، ويذكر خطيئته"، زاد مسلم: "التي أصاب، فيستحيي ربه منها". وفي رواية للبخاري (¬4) في كتاب التوحيد: "فيقول: لست هناكم، ويذكر خطاياه التي أصابها". وفي أخرى (¬5): "ويذكر ثلاث كذبات كذبهن". وفي "الصحيحين" (¬6) من حديث أبي هريرة مرفوعًا نحوه، وفيه في قول إبراهيم في عذره: "إن ربي قد غضب اليوم ... وإني قد كنت كذبت ثلاث كذبات". لفظ البخاري في تفسير سورة الإسراء، ولفظ مسلم: "إن ¬

_ (¬1) البخاري (3357، 3358) ومسلم (2371). (¬2) رقم (2546، 2692)، وإسناده ضعيف لضعف علي بن زيد بن جدعان. (¬3) البخاري (6565) ومسلم (193). (¬4) رقم (7410). (¬5) عند البخاري (7440). (¬6) البخاري (4712) ومسلم (194).

ربي قد غضب اليوم ... وذكر كذباته". وقد جاء الحديث من رواية جماعة آخرين من الصحابة. فإطلاق الخليلين إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام على تلك الكلمات "كذبات" يدفع أن تكون من المعاريض [ص 60] التي لا رائحة للكذب فيها. ويؤكده أن نبينا كان شديد التوقير لأبيه إبراهيم عليهما الصلاة والسلام. صح عنه أنه قال: "نحن أولى بالشك من إبراهيم" (¬1). وقال له رجل: يا خير البرية! فقال: "ذاك إبراهيم" (¬2). فكيف يُظَنُّ به أن يقول: "لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات" وهو يعلم أنها ليست من الكذب في شيء؟ مع أنه تحرى في هذا الحديث الثناء على إبراهيم، فبيَّن أنه لم يقع منه كذب إلا تلك الثلاث، ثم قال: "ثنتين منهن في ذات الله عزَّ وجلَّ، قوله: إني سقيم، وقوله: بل فعله كبيرهم هذا. وقال: بينا هو ذات يوم وسارة (يعني امرأته) إذ أتى على جبار من الجبابرة .... ". فإن قيل: قد يكون الكلام من تأكيد المدح بما يشبه الذم، كقول النابغة (¬3): ولا عيبَ فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلولٌ من قِراع الكتائبِ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4537) ومسلم (151) من حديث أبي هريرة. (¬2) أخرجه مسلم (2369) من حديث أنس بن مالك. (¬3) "ديوانه" (ص 44) ط. دار المعارف.

قلت: إنما يحسن مثل هذا حيث يكون المستثنى واضح الخروج من المستثنى منه، وليس الأمر ههنا كذلك. وقد سماها في الحديث الآخر "خطايا"، ونظمها في سلك أكل آدم من الشجرة، وقتل موسى للنفس، وحكم إبراهيم بأنها تقصر به عن مقام الشفاعة، وتقتضي استحياءه من ربه لأجلها. وبالجملة، فالجواب عن تلك الكلمات بأنها ليست بكذب كما ترى (¬1). وثَمَّ جوابٌ آخر، وهو أن الظاهر أن تلك الكلمات وقعت من إبراهيم عليه السلام قبل نبوته، كما أن قتل موسى [ص 61] النفس كذلك، وقد قصَّ الله تعالى عنه أنه ذُكِّر بتلك الفعلة، فقال: {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 20 - 21]. وقريب من ذلك حال آدم، فإن أكله من الشجرة كان في الجنة قبل النبوة المعتادة. وقد قال الله تعالى في القصة التي ذكر فيها قول إبراهيم: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} وهي إحدى الكلمات: {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ ¬

_ (¬1) ذكر المؤلف هنا كلامًا وأحاطه بدائرة، ونصه: (فإن قيل: فما حكمها في شرعنا؟ قلت: أما من جهة الاسم فالظاهر دخولها في الكذب، وأما من جهة الإثم فلا إثم في مثلها إذا وقع ممن ليس بنبي، بل يمكن أن يقال بالاستحباب. فأما الأنبياء فالذي يظهر من الأدلة أنه ينبغي تنزههم عنها؛ لما يأتي في المطلب العاشر، إن شاء الله تعالى).

الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} [الأنبياء: 59 - 63]. والكلمة الثانية وهي قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89] كانت قبل ذلك، فأما الثالثة وهي قوله: "هي أختي"، فالظاهر - والله أعلم - أنها بعد ذلك، لكن في سياق القصة ما قد يُشعِر بانها كانت قبل النبوة. فإطلاقهم عليه "فتى" ظاهر في أنه يومئذٍ لم يبلغ أربعين سنة، فإن الفتى هو الشاب الحدَث، كما في "المصباح" (¬1). وقد صرح كثير من أهل العلم أن الأنبياء إنما نُبِّئوا بعد بلوغ كل منهم أربعين سنة، كما وقع لنبينا عليه الصلاة والسلام. وجزم به القاضي أبو بكر ابن العربي وآخرون، وتأولوا ما في قصتي يحيى وعيسى. وقال قوم: إن ذلك هو الغالب. فإن قيل: فإن اثنتين من تلك الكلمات وقعتا في صدد دعوته قومه إلى التوحيد، والثالثة يظهر أنها بعد ذلك، فكيف يدعو قبل النبوة؟ قلت: قد كان هداه الله تعالى [ص 62] من صباه بتوجيه نظره إلى الآيات الكونية. قال الله عزَّ وجلَّ: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ¬

_ (¬1) "المصباح المنير" (فتي).

وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ}. ثم ذكر القمر والشمس {فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ} [الأنعام: 75 - 80]. فكان يُحاجُّ قومه بما هداه الله إليه بنظره. فإن قيل: لو كانت تلك الثلاث قبل النبوة لَذكر معها قوله: "هذا ربي"، فإن هذا أشد. قلت: قد ذكر في بعض الروايات (¬1)، لكن قيل: إنه خطأ من الراوي (¬2). وعلى هذا فقد يقال: إنما لم تذكر تلك الكلمة؛ لأنها كانت في الطفولة، كما قاله بعض أهل العلم (¬3)، وتلك الثلاث كانت بعد البلوغ. وفي هذا نظر؛ فإن قول النبي (- صلى الله عليه وسلم -): "لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات" يعم الطفولة. وقد يقال: إنما لم يذكرها لأن إبراهيم لم يرد بها الإخبار، وإنما أراد الاستفهام الإنكاري. وهذا القول حكاه ابن جرير (¬4) عن بعض أهل النظر، وردَّه، وروى عن ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (194/ 328). (¬2) انظر "فتح الباري" (6/ 391). (¬3) انظر "تفسير القرطبي" (14/ 223، 8/ 438) ط. التركي. (¬4) "تفسيره" (9/ 359).

ابن عباس (¬1) ما ينص على أن الكلام على الإخبار، وأن إبراهيم فعل ما يوافق ذلك. ولم يذكر ابن جرير عن أحدٍ من السلف خلافه. ومع هذا، فمن مال إلى هذا التأويل من أهل النظر وجهوه بأن إبراهيم أراد في نفسه الاستفهام، وأراد في الظاهر إيهام قومه أنه موافق لهم، ليكون ذلك أقرب إلى جرِّهم إلى الحق. وعلى هذا، فهذه الكلمة بل الكلمات أشدُّ من تلك الثلاث، والحديث السابق يأبى ذلك، كما مر. فإن قيل: أفليس الأنبياء معصومين من الكفر مطلقًا؟ قلت: ليس هذا بكفر في حكم الشرع؛ فإن إبراهيم عليه السلام قال ذلك قبل أن يفرض عليه، فضلاً عن أن تقوم عليه [حجة] بنظرٍ ولا غيره، وهو حريصٌ على معرفة الحق، باذلٌ وُسْعه في تحصيلها، صادق العزم على اتباع الحق على كل حال، ليس في نفسه شائبة هوى في غير الحق. فإن كان ذلك في الطفولة، فالأمر واضح. فإن قيل: فعلى هذا أيضًا يبقى الإشكال بحاله، أو أشد؛ فإن قوله: "هذا ربي" يكون خبرًا مخالفًا للواقع ظاهرًا وباطنًا، وتلك الثلاث إن كان الخبر فيها بخلاف الواقع فظاهرًا فقط. قلت: تلك الثلاث كانت عمدًا، أي أن إبراهيم كان يعلم أن الظاهر غير واقع، وأما قوله: "هذا ربي" فخطأٌ محضٌ غير مُؤاخَذٍ به. والمتبادر من قولهم: "لم يكذب فلان" نَفْي أن يكون وقع منه إخبارٌ بخلاف الواقع يلام عليه. ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري (9/ 356) وابن أبي حاتم في تفسيره (4/ 1328، 1329).

وفي "صحيح مسلم" (¬1) في أحاديث البكاء على الميت: "فقالت عائشة: يغفر الله لأبي عبد الرحمن، أما إنه لم يكذب، ولكنه نسي أو أخطأ". وفي رواية (¬2): "قالت: إنكم لتحدثون عن غير كاذبين ولا مكذَّبين، ولكن السمع يخطئ". وقولهم: "كذب فلان"، المتبادر منه أنه تعمد، أو أخطأ خطأً حقُّه أن يلام عليه. ومن ذلك حديث: "كذب أبو السنابل" (¬3)، وقول عبادة: "كذب أبو محمَّد" (¬4)، وقول ابن عباس: "كذب نوف" (¬5)، وما أشبه ذلك. والكذب لغة: هو مخالفة الخبر - أي ظاهره الذي لم تُنصَبْ قرينة على خلافه - للواقع مطلقًا. لكن لشدة قبح الكذب، وأن العمد أغلب من الخطأ، كان قولنا: "كذب فلان" مشعرًا بذمه، فاقتضى ذلك أن لا يؤتى بذلك حيث ينبغي التحرز عن الإشعار بالذم. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. هذا, ولم يرد إبراهيم عليه السلام بقوله: "هذا ربي" رب العالمين، وإنما بنى على ما كان يقوله قومه في الكواكب، وهو أن أرواح الملائكة ¬

_ (¬1) رقم (932/ 27). (¬2) رقم (929/ 22). (¬3) سبق تخريجه. (¬4) أخرجه مالك في "الموطأ" (1/ 123) ومن طريقه أبو داود (1420) والنسائي (1/ 230). (¬5) أخرجه البخاري (122، 3401) ومسلم (2380).

متعلقة بها، مدبرة بواسطتها ما أقدرها الله عليه، أو شافعة إليه، ولما رأو أن الكواكب لا تكون ظاهرة أبدًا اتخذوا الأصنام تذكاراتٍ لها, ولأرواحها، فكانوا يعظِّمون الأصنام والكواكب تقربًا لتلك الأرواح، ويقولون: [ص 63] إن الله تعالى رب الأرباب، وإله الآلهة. وقد أوضحت هذا بدلائله من الكتاب والسنة وأقوال السلف، والآثار التاريخية، والمقالات، وغير ذلك في كتاب "العبادة". ولله الحمد. وعلى كل حال، فتلك الكلمات إن ترجح أنها داخلة فيما يُسمَّى كذبًا فهي من أخفِّ ذلك وأهونِه. ولنبين ذلك في إحداها: دخل إبراهيم ومعه امرأته سارة بلدًا كان ملكه جبارًا، إذا سمع بامرأة جميلة أخذها، فإن كان لها زوج بطش به، فلما سمع الجبار بسارة أرسل إلى إبراهيم فسأله عنها، فخاف أن يقول: امرأتي، فيبطش به، وأن يقول: أجنبية عني، فيقال: فما شأنك معها؟ فقال: "هي أختي"، وأراد الأخوة الدينية، فإطلاق "أخ"، و"أخت" في الأخوة الدينية شائع ذائع، فاحتمال الخبر للمعنى الواقع قريب كما ترى. ومع ذلك، فهناك قرينة من شأنها إذا تنبه لها المخاطب أن توهن الظاهر، وهي أن تلك الحال يحتاج من وقع في مثلها إلى التورية وإيهام خلاف الواقع؛ ليدفع عن نفسه الظلم، ويدفع عن مخاطبيه الوقوع في الظلم، ولا تترتب على ذاك الإيهام مفسدة. فقد يقال: إن هذه الحال قرينة إذا نظر إليها على هذا الوجه، ولوحظ أن

الخبر محتمل احتمالاً قريبًا لغير ظاهره = صار الخبر مجملاً محتملاً لكل من المعنيين على السواء، فعلى هذا لا يكون كذبًا. لكن قد يرد على هذا أن تلك الحال إذا لوحظت إنما تقتضي أن من وقع فيها قد يترخص في الكذب، فالاعتداد بها لا يبرئ الخبر عن اسم الكذب. ألا ترى أنه لو علم الجبار بالواقع لكان له أن يقول لإبراهيم: لم كذبت؟ (¬1). ¬

_ (¬1) أشار المؤلف بعدها إلى أن تتمة الكلام في (ص 19). والتتمة في "القائد" ضمن "التنكيل" (2/ 398)، والبحث كله هناك بنحو ما هنا.

المطلب العاشر ما رخص فيه مما يقول الناس: إنه كذب

المطلب العاشر (¬1) ما رُخِّص فيه مما يقول الناس: إنه كذب في "الصحيحين" (¬2) من طريق ابن شهاب الزهري أن حميد بن عبد الرحمن أخبره أن أمه أم كلثوم بنت عقبة أخبرته أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ليس الكذّاب الذي يُصلح بين الناس، فيَنْمِي خيرًا أو يقول خيرًا". زاد بعضهم (¬3): "قال ابن شهاب: ولم أسمع يُرخَّص في شيء مما يقول الناس إنه كذب إلا في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها". ولم يسمِّ ابن شهاب من سمع منه الترخيص في هذه الثلاث. وأدرج بعضهم هذه الزيادة في الحديث، فجعلها من كلام أم كلثوم، ولفظه: "وقالت: ولم أسمعه يُرخِّص ... ". هكذا في "صحيح مسلم" (¬4)، وفي "مسند أحمد" (6/ 403) (¬5): "وقالت: لم أسمعه ... ". وأشار مسلم والنسائي إلى أن الصواب أنها من قول الزهري، كما في ¬

_ (¬1) كتب المؤلف أولاً "الثامن"، ثم شطب عليه وكتب "العاشر". (¬2) البخاري (2692) ومسلم (2605). (¬3) في رواية مسلم. (¬4) في الرواية الثانية له. (¬5) رقم (27272).

"فتح الباري" (¬1)، وفيه: "وجزم موسي بن هارون وغيره بإدراجها". أي أدرجها بعضهم في الحديث، وإنما هي من قول الزهري. وكان الزهري فقيهًا، يروي الحديث، ثم يذكر كلامًا من عنده في تفسير الحديث، أو فيما يستنبط منه، أو نحو ذلك، فربما توهم بعض السامعين أن ذلك من تمام الحديث. وفي "فتح المغيث" (ص 103) (¬2): "وقد قال أحمد: كان وكيع يقول في الحديث: "يعني". وربما طرح "يعني" وذكر التفسير في الحديث، وكذا كان الزهري يفسِّر الأحاديث كثيرًا، وربما أسقط أداة التفسير، فكان بعض أقرانه دائمًا يقول له: افصِلْ كلامك من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - ". [ص 64] وقد أخرج أبو داود (¬3) من طريق أبي الأسود النضر بن عبد الجبار عن نافع بن يزيد عن ابن الهاد أن عبد الوهاب بن أبي بكر حدثه عن ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن عن أمه أم كلثوم بنت عقبة قالت: ما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرخِّص في شيء من الكذب إلا في ثلاث، كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا أعدُّه كاذبًا: الرجل يُصلِح بين الناس، يقول القول لا يريد به إلا الإصلاح، والرجل يقول في الحرب، والرجل يحدّث امرأته، والمرأة تحدّث زوجها". ¬

_ (¬1) (5/ 300). (¬2) (1/ 287، 288) ط. الهند. (¬3) رقم (4921). وقد وهم عبد الوهاب في رفعه، قال الدارقطني في "العلل" (9/ 359 طبعة الدباسي): هذا منكر، ولم يأتِ بالحديث المحفوظ الذي عند الناس. وانظر "الفتح" (5/ 300).

ورجاله موثقون، إلا أن النضر بن عبد الجبار اختلط عليه حديثه عن نافع بن يزيد، فكان لا يميز بين ما هو سماعٌ له منه، وما هو إجازةٌ. وأخرج الطبراني في "المعجم الصغير" (ص 37) (¬1) نحوه من طريق وهب الله بن راشد، ثنا حيوة بن شريح، ثنا يزيد بن عبد الله بن الهاد، ثنا عبد الوهاب بن أبي بكر، عن ابن شهاب، عن حميد. وقال: لم يروِه عن حيوة بن شريح إلا وهب الله بن راشد. ووهب الله صدوق يخطئ كثيرًا. فإما أن يكون أحد الرواة وقع له الحديث، وفيه تلك الزيادة مدرجة، فروى بالمعنى وقدّم وأخّر. وإما أن يكون ابن شهاب سمع من حميد نفسه الأصل الذي في الصحيحين، وسمع من رجل عن حميد عن أمه الترخيص في الثلاث، فكان ربما اقتصر على ما سمعه من حميد، وربما أتبعه بما سمعه من رجل عن حميد على أنه من كلامه - أي الزهري -, أو على أنه أرسله عن أم كلثوم. وربما روى ما سمعه من رجل عن حميد فدلّسه، فإن ابن شهاب مدلس، وفي هذه الرواية: ابن شهاب عن حميد. فإن صح هذا الاحتمال الثاني تعين أن يكون ابن شهاب سمع تلك الزيادة من رجل عن حميد، والرجل مجهول، وابن شهاب يروي عن كل أحد. ¬

_ (¬1) (1/ 70) ط. المكتبة السلفية.

وإن صح الاحتمال الأول، فقد يكون ابن شهاب إنما بلغه تلك الزيادة من طريق شهر بن حوشب. وفي "مسند أحمد" (6/ 404) (¬1): "ثنا حجاج، قال: ثنا ابن جريج، عن ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن أمه أم كلثوم بنت عقبة أنها [ص 65] قالت: رخّص النبي - صلى الله عليه وسلم - من الكذب في ثلاث: في الحرب، وفي الإصلاح بين الناس، وقول الرجل لامرأته". وفي هذا - مع عنعنة ابن شهاب - عنعنة ابن جريج، وهو مدلس أيضًا. فأما حديث شهر بن حوشب، فأخرج الترمذي في كتاب البر والصلة من "جامعه" (¬2) من طريق عبد الله بن عثمان بن خُثيم، عن شهر بن حوشب، عن أسماء بنت يزيد قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يصلُح الكذب إلا في ثلاث: يحدث الرجل امرأته ليرضيها، والكذب في الحرب، والكذب ليصلح بين الناس". ثم قال الترمذي: وهذا حديث حسن، لا نعرفه من حديث أسماء إلا من حديث ابن خثيم، وروى داود بن أبي هند هذا [ص 66] الحديث عن شهر بن حوشب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً، لم يذكر فيه: عن أسماء. أقول: وابن خثيم وثّقه جماعة، لكن وصفه جماعة بالغلط، حتى قال ابن المديني: إنه منكر الحديث. وداود بن أبي هند أثبت منه، فالراجح أن ¬

_ (¬1) رقم (27278). (¬2) رقم (939). وأخرجه أيضًا أحمد (27597، 27608) والطبراني في "الكبير" (24/ 166).

الحديث مرسل، وشهر تكلم فيه شعبة وغيره، ووثَّقه غير واحد، والله أعلم. وترجم البخاري في كتاب الجهاد: "باب الكذب في الحرب" (¬1). وأورد فيه قصة قتل كعب بن الأشرف (¬2)، وفيها أن محمَّد بن مسلمة رضي الله عنه انتدب لقتله، فذهب وخادع كعبًا، قال له: "إن هذا - يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - قد عنَّانا وسألَنا الصدقة". وذكر البخاري القصة في الباب الثاني (¬3)، وفيها في محاورة محمَّد بن مسلمة للنبي - صلى الله عليه وسلم - عند الانتداب لقتل كعب: "فأْذن لي فأقول، فقال: قد فعلت". ففي هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أذن لمحمد بن مسلمة أن يقول، يعني أن يقول ما يحتاج إليه في التوصل إلى قتل ابن الأشرف. وفي "مسند أحمد" (3/ 138) (¬4): "ثنا عبد الرزاق، ثنا معمر، قال: سمعت ثابتًا يحدث عن أنس قال: لما افتتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر قال الحجاج بن عِلاط: يا رسول الله! إن لي بمكة مالاً، وإن لي بها أهلاً، وإني أريد أن آتيهم، فأنا في حلٍّ إن نلتُ منك أو قلت شيئًا؟ فأذن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول ما شاء، فأتى امرأته حين قدم، فقال: اجمعي ما كان عندك، فإني أريد أن أشتري من غنائم محمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) وأصحابه، فإنهم قد استبيحوا، أو أصيبت [ص 67] أموالهم، قال: ففشا ذلك ... فجمعت امرأته ما كان عندها ¬

_ (¬1) (6/ 158) مع "الفتح". (¬2) رقم (3031). (¬3) رقم (3032). (¬4) رقم (12409).

من حليٍّ ومتاع، فجمعتْه ثم دفعته إليه، ثم استمرَّ (¬1) به .. ". وذكر ابن إسحاق (¬2) القصة بغير إسناد، وذكر فيها عن الحجاج ما هو كذب ظاهر، فإن فيها عن الحجاج أنه لقي جماعة من قريش، فقالوا له: "بلغنا أن القاطع (يريدون النبي - صلى الله عليه وسلم -) قد سار إلى خيبر ... " وأنه أجابهم بقوله: "قد بلغني"، ثم قال: "قلت: هُزِم هزيمةً لم تسمعوا بمثلها قط، وقتل أصحابه قتلاً لم تسمعوا بمثله قط، وأُسِر محمَّد أسرًا، وقالوا: لا نقتله حتى نبعث به إلى أهل مكة ... ". فهذا لا يصلح للحجة، وإنما الاعتماد على حديث أنس، فإن سنده صحيح. أقول: أما حديث "ليس الكذاب ... " فهذا التركيب يأتي في الكلام على وجهين: الأول: أن يقصد به بيان أن حصول مدلول خبر "ليس" منافٍ لحصول مدلول اسمها على الكمال. كحديث: "ليس المؤمن بالطعّان، ولا اللعّان، ولا الفاحش البذيء" (¬3) ¬

_ (¬1) كذا في الطبعة القديمة من "المسند" و"غاية المقصد" (2729) و"إتحاف الخيرة" (4597). وفي طبعة الرسالة: "انْشَمَر" أي تهيَّأ، وهو كذلك في "مصنّف عبد الرزاق" (9771) و"المعجم الكبير" للطبراني (3196) و"دلائل النبوة" (4/ 268). (¬2) كما في "سيرة ابن هشام" (2/ 345 وما بعدها). (¬3) أخرجه أحمد في "المسند" (3839) والبخاري في "الأدب المفرد" (332) والترمذي (1977) وغيرهم، قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وقد روي عن عبد الله من غير هذا الوجه. وصححه الحاكم في "المستدرك" (1/ 12) على شرط الشيخين.

فالمعنى أن كل واحدة من هذه الخصال تنافي كمال الإيمان, فكثرة الطعن في أعراض الناس تنافي كمال إيمان الطعان. وقِسْ على ذلك. وكحديث: "ليس المسكين الذي يطوف على الناس، تردُّه اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنًى يُغنيه، ولا يُفطَن له فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس" (¬1). فطواف الفقير على الناس من شأنه أن يحصل به ما يُعيشه، وذلك منافٍ لكمال المسكنة. وكحديث: "ليس المؤمن بالذي يشبع وجاره جائع إلى جنبه" (¬2). الوجه الثاني: أن يقصد به أن حصول مدلول خبر "ليس" لا يحصل به مدلول اسمها على الكمال. كحديث: "ليس الغنى عن كثرة العَرَض، ولكن الغنى غنى النفس" (¬3). فالمعنى [ص 68] أن كثرة العرض لا يحصل بها الغنى الكامل. وكحديث: "ليس الشديد بالصُّرَعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب" (¬4). فأما حديث: "ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قُطعَت رحِمُه وصَلَها" (¬5)، فيحتمل الوجهين، فإن أريد بالمكافئ من يكافئ على ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1476، 4539) ومسلم (1039) من حديث أبي هريرة. (¬2) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (112) وأبو يعلى (2699) والحاكم في "المستدرك" (4/ 167) من حديث ابن عباس. (¬3) أخرجه البخاري (6446) ومسلم (1051) من حديث أبي هريرة. (¬4) أخرجه البخاري (6114) ومسلم (2609) من حديث أبي هريرة. (¬5) أخرجه البخاري (5991) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.

الوصل ويكافئ على القطع؛ فهو من الوجه الأول، وإن أريد به المكافئ على الصلة بحيث يشمل المتواصلين اللذين لم يقطع أحد منهما صاحبه قطُّ، فهو من الوجه الثاني. فالصلة الكاملة أن تصل قريبك وإن قطعك، فإن اتفق أنه لم يقطعك قط كفاك في كمال الصلة أن تكون عازمًا على أنك لا تقطعه ولو قطعك. والقطيعة الكاملة أن تقطعه وإن وصلك، فإن اتفق أنه لم يصلك قطُّ كفى في كمال القطيعة أن تكون عازمًا على أن لا تصله وإن وصلك. والمكافأة ليست بصلة كاملة، ولا قطيعة كاملة. إذا تقرر هذا، فحديث: "ليس الكذاب بالذي يُصلِح ... " إن حُمل على الوجه الأول، فالمعنى: أن جريان عادة الرجل بالسعي للإصلاح بين الناس، فيقول الخير، ويَنْمي الخير، ينافي أن يكون كذابًا، فإن الكذاب هو من كثر كذبه وفحش، فصار سجية له. وفي حديث "الصحيحين" (¬1): "وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذّابًا". ومن كان كذلك إنما يتحرى ما يراه محصِّلاً لأغراضه في الدنيا، فإذا علم برجلين أو فريقين متخاصمين أتى هذا فجاراه على هواه، فيقول في خصمه الشر، وينمي عنه الشر، ليحصل غرضه منه، وإذا جاء الآخر جاراه على هواه أيضًا، فقال في خصمه الشر ونَمى الشر، فيزيد ذات بينهما فسادًا. فحاله حال المنافق، وفي حديث "الصحيحين" (¬2) [ص 69]: "علامة المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتُمِن خان". ¬

_ (¬1) البخاري (6094) ومسلم (2607) عن ابن مسعود، واللفظ لمسلم. (¬2) البخاري (33، 6095) ومسلم (59) من حديث أبي هريرة.

وفوق هذا، فإنما يعتاد السعي بالإصلاح من يرجو أن يتيسر له ذلك، وإنما يتيسر لمن عُرف بالصدق، واشتهر به؛ لأنه هو الحريّ بأن يقبل كل من الخصمين قوله، ويعتمد على خبره، ومن عُرف بالكذب وشُهِر به بعيد عن ذلك. فإن قيل: فما فائدة الحديث على هذا الوجه؟ قلت: من فائدته إرشاد المتخاصمين إلى أن يقبل كلٌّ منهما كلام المصلح الذي عُرف باعتياد الإصلاح، وقول الخير، ونمي الخير، ويعتمد على خبره؛ لأن تلك الحال شاهدة له أنه ليس بكذاب. وعلى هذا الوجه لا يكون في الحديث ما يدل على الرخصة. وكما أن حديث: "ليس المؤمن بالطعان ... "، وحديث: "ليس المؤمن بالذي يشبع، وجاره جائع إلى جنبه" = لا يقتضيان نفي الإيمان البتة، ولا إثباته في الجملة، فكذلك هذا الحديث لا يقتضي نفي الكذب البتة عمن اعتاد الإصلاح وقول الخير ونمي الخير، ولا إثبات الكذب في الجملة. وكما أن ذينك الحديثين لا يقتضيان أنه على فرض ثبوت الإيمان في الجملة لا حكم له، والأدلة الأخرى تقتضي أن له حكمًا، وأنه نافعٌ في الدنيا والآخرة = فكذلك هذا الحديث لا يقتضي أنه على فرض ثبوت الكذب في الجملة ممن اعتاد الإصلاح لا حكم له، فيطلب حكمه من الأدلة الأخرى، والأدلة العامة في تحريم الكذب تتناوله. وإن حُمل على الوجه الثاني، فالمعنى أن اعتياد الرجل الإصلاحَ فيقول

الخير وينمي الخير، لا يكفي وحده لأن يكون كذابًا. ثم يكون فيه احتمالان: الأول: أن يكون المعنى: أن هذا ليس بالكذاب الراسخ في الكذب، وإن كان فيما يقوله وينميه من الخير ما هو كذب. فعلى هذا لا يكون في الحديث دلالة (¬1). **** [ص 74] وأما قول الزهري: "ولم أسمع يرخَّص في شيء مما يقول الناس: إنه كذب، إلا في ثلاث .. " فلا يُدرى ممن سمع الترخيص، ولعله إنما بلغه مرسلُ شهرٍ (¬2). وعدول الزهري عن أن يقول: "في شيء من الكذب" إلى قوله: "في شيء مما يقول الناس إنه كذب" ظاهرٌ في أن المرخَّص فيه عنده ليس هو الكذب حقيقة، وإنما هو ما قد يقرب منه من المعاريض. وحديث أبي داود قد مرَّ ما فيه، ومرَّ ترجيح الأئمة أن ذاك الكلام لم يسنده الزهري، فإما أن يكون الإسناد في تلك الرواية خطأ، وإما أن يكون الزهري لم يسمع ذلك من حميد، وإنما سمعه من رجل عن حميد، فدلَّسه، والثابت سماع الزهري له من حميد هو ما في الصحيحين. وأما حديث الترمذي؛ فقد ترجَّح أن شهرًا أرسله، وشهر مختلف فيه، فلا تقوم الحجة بهذا الحديث. ¬

_ (¬1) هنا نهاية الورقة (69) في الأصل، والأوراق (70، 71، 72، 73) غير موجودة. (¬2) شهر بن حوشب.

وأما إذن النبي - صلى الله عليه وسلم - لمحمد بن مسلمة وللحجاج بن علاط أن يقولا، يعني ما يحتاجان إليه في التوصل إلى المقصود، وهو قتل محمدٍ كعبَ بن الأشرف، واستنقاذ الحجاج ماله من المشركين. فالذي كان محمَّد بن مسلمة يحتاج إليه هو أن يوهم أنه يميل إلى النفاق، والذي كان الحجاج يحتاج إليه هو إيهام أنه على شركه، وأن المسلمين انهزموا عن خيبر، وغنم اليهود أموالهم. وفي استئذان الحجاج من النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله: "فأنا في حلٍّ إن نِلتُ منك؟ "، وقيل الرجل من صاحبه أن يعيبه وينتقصه. فهل أذن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقولا كل ما يحتاجان إليه، ولو كلمة الكفر، كأن يصرح أحدهما بتكذيب النبي - صلى الله عليه وسلم - وسبِّه وسبِّ من أرسله؟ فإن قيل: أما التصريح بالكفر، فلا يجوز إلا لمن أُكرِه عليه. قلت: فكما خرج هذا لعموم الأدلة المانعة من قول الكفر، فكذلك يخرج الكذب لعموم الأدلة المحرمة للكذب. وعلى هذا، فإنما أذن النبي - صلى الله عليه وسلم - والله أعلم - في ما جرت به عادة عقلاء الرجال في مثل تلك الأحوال، من الإيهام، كقول محمَّد بن مسلمة: "إن هذا - يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - قد عنَّانا، وسألنَا الصدقة" صِدْق؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قد عنّاهم في سبيل الله، وسألهم الصدقة يأخذها من أغنيائهم، فيردها على فقرائهم. غاية الأمر أن تلك الكلمة "قد عنّانا وسألنا الصدقة" تُشعر بأن قائلها قالها على سبيل الشكوى.

نعم، في بقية كلام محمَّد بن مسلمة في رواية البخاري في المغازي (¬1): "وإني قد أتيتك أستسلفك ... وقد أردنا أن تُسلِفنا وسقًا أو وسقين ... " ثم ذكر طلب كعبٍ الرهن، وجواب محمَّد وأصحابه، وفيه: "ولكنا نَرْهنك اللَّأمة". أقول: كان مجيء محمَّد بن مسلمة ومن معه إلى ابن الأشرف مرتين، جاءوه أولاً وليس معهم سلاح؛ ليطمئن إليهم، وسألوه أن يُسلِفهم طعامًا، كأنهم قد علموا أنه سيطلب منهم الرهن، فيقررون معه أن يرهنوه سلاحًا، فإذا وافقهم على ذلك رجعوا، ثم عادوا إليه ومعهم السلاح؛ ليظن أنهم جاءوا به ليرهنوه، فلا يحذر منهم، فكان الأمر كما ظنوا، استسلفوه فطلب منهم الرهن، فقاولوه إلى أن قالوا: نرهنك اللأمة، أي السلاح، فقبل، فذهبوا وعادوا بسلاحهم، فدعَوه فخرج إليهم فقتلوه. فقول محمَّد: "أتيتك أستسلفك" صدق؛ لأنه جاء أولاً ليستسلفه، أي: يطلب منه أن يُسلِفه، وإن كان مقصوده بطلب السلف ما قدمنا. أما قوله: "وقد أردنا أن تسلفنا"، فإرادة الإنسان لفعل غيره قد تكون بمعنى الطلب، تقول: أردت من زيد أن يقوم، أي: طلبت منه أن يقوم. وقد تكون بمعنى المحبة. فإن كانت هناك بمعنى الطلب فهو صحيح؛ لأنهم طلبوا أن يسلفهم، [ص 76] وإن كانت بمعنى المحبة فلا مانع من أن يكونوا يحبّون أن يُسلفهم، وإن لم يجيئوه لذلك. ¬

_ (¬1) رقم (4037).

وأما قوله: "نَرهَنُك اللأمة" فلا يخفى أن معناه: إن أعطيتنا التمر رهنَّاك، وقد علموا أن إعطاء التمر لن يكون. وأما قصة الحجاج بن عِلاط الثابتة بالمسند، فقوله: "فإني أريد أن أشتري من غنائم محمَّد وأصحابه" لا مانع من صحته على ظاهره، وأنه كان يريد أن يشتري من الغنائم التي غنمها المسلمون من خيبر. وقوله: "غنائم محمَّد وأصحابه" إنما يفهم منه أنهم غنموها, لا أن غيرهم غنمها منهم. تقول: هذه غنيمتي، فلا يفهم من هذا - حيث لا قرينة - إلا أنك غَنِمتَها، ولا يكاد يصح أن تقول ذلك وأنت تريد أنها التي غنمها غيرك منك. ويوضحه: أنك إن قلت: "غنيمتي" بمعنى التي غنمها غيري مني، فالإضافة هنا لا تكون بمعنى "من"؛ لأن ذاك خاصٌّ بإضافة الشيء إلى جنسه، كقولك: "خاتمُ حديدٍ"، فإنما تكون الإضافة إذًا بمعنى "اللام"، كأنك قلت: "غنيمة لي"، وهذا لا يصح إلا على التجوز البعيد، بمعنى أنها قبل أن تغنم كانت مملوكة لي. فإذ قد ثبت أن قوله: "غنائم محمَّد وأصحابه" إنما يُفهِم الأموال التي غنمها محمَّد وأصحابه، فنقول: إنه قد كان اشتهر في تلك المدة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج بأصحابه يقاتل أهل خيبر، فهذه قرينة أن المراد بقوله: "غنائم محمَّد وأصحابه" هي الأموال التي غنموها من خيبر. وكان أهل خيبر في حصونهم، فلن تُغنم أموالهم حتى يستباحوا. فقوله: "أريد أن أشتري من غنائم محمَّد وأصحابه" يدل على أن أهل خيبر قد استبيحوا، وأصيبت [ص 77] أموالهم.

فقوله بعد ذلك: "فإنهم قد استبيحوا وأصيبت أموالهم" إن نُظِر إليها مع الغفلة عما قبلها، سوى أن فيما قبلها ذكر محمَّد وأصحابه = فلا ريب أن الظاهر الواضح منها هو أن محمدًا وأصحابه استُبيحوا وغُنِمت أموالهم، وقد كان اشتهر كما تقدم ما يدل أن الذين استباحوا وغنموا هم يهود خيبر. وأما إن نُظِر إليها بعد فَهْم ما قبلها على الوجه، فإن السامع يتردد للتعارض، فإن قوله: "أريد أن أشتري من غنائم محمَّد وأصحابه" ظاهرٌ بيِّن في أن محمدًا وأصحابه استباحوا أهل خيبر، وغنموا أموالهم، وقوله: "فإنهم قد استُبيحوا ... " ظاهرٌ في عكس ذلك. وكما يحتمل أن يكون أراد بقوله: "غنائم محمَّد وأصحابه" أي الأموال التي كانت لمحمد وأصحابه قبل أن تُغنَم، فكذلك يحتمل أن يكون أراد بقوله: "فإنهم" أهل خيبر؛ لأنهم وإن لم يجرِ لهم ذكرٌ تصريحًا، فقد دل الكلام بمعونة القرينة على ذلك. لكن المشركين لما كانوا يتمنَّون الشرَّ لمحمدٍ وأصحابه، ويحملهم تمنِّيه على تخيله = غفل أول من سمع كلام الحجاج منهم عن معنى الجملة الأولى، فلم يستقر في ذهنه منه إلا ذكر محمدٍ وأصحابه، ففهم أنهم هم الذين استبيحوا وغُنِمت أموالهم، ثم ذهب يخبر بحسب ما فهم. فإن قيل: فإنه يبعد في العادة أن يقتصر المشركون على ما تخبر به امرأة الحجاج، أو من سمع الخبر معها، بل الغالب أن جماعة منهم إذا سمعوا الخبر يذهبون إلى الحجاج يستثبتونه. وفي القصة في "مسند أحمد" (¬1) أن ¬

_ (¬1) رقم (12409).

العباس رضي الله عنه لما بلغه الخبر أرسل غلامًا له إلى الحجاج يسأله, ثم ذهب الحجاج إلى العباس وأخبره بالواقع، وسأله أن يكتم ذلك ثلاثة أيام، فلا بد أن يكون جماعة من المشركين قد ذهبوا إلى الحجاج فسألوه. قلت: فقد [ص 78] يكون تحرَّى التورية أيضًا، فإن الكلام واسع، و"إن في المعاريض لمندوحةً عن الكذب"، فإن كان ولا بدَّ، فالكلمات الصحيحة الموهمة كما مر في كلمات محمَّد بن مسلمة. على أنه قد يقال: إنه بعد أن شاع عنه ما تقدم، وظهر أنه يريد أخذ ماله ويذهب به، لو سألوه فغالطهم يخشى أن يتهموه فيحبسوه، فيوشك أن يتبين لهم أنه قد أسلم، وأنه إنما قصد مخادعتهم؛ فيناله منهم شر، فرأى أنه مضطر إلى دفع ذلك، فجاز له الكذب للضرورة، كما يأتي. هذا، وسواء قلنا بجواز الكذب الصريح في الحرب، أو بجواز ما ظاهره كذبٌ، وتأول القائل في نفسه معنًى صحيحًا، أو بجواز الكلمات الموهمة = فإن ذلك يختص بأن لا تترتب على ذلك مفسدة، ومما تترتب عليه مفسدة أن يكون الكلام على وجه تأمين المسلم للكافر الحربي، كقوله له: "لا تخف"، فإن الكافر إذا سمع ذلك فأمن لم يحل للمسلمين الاعتداء عليه حتى يُبلِغوه مأمنه وينذروه؛ لأنهم إذا اعتدَوا عليه وقالوا: ليس ذاك بأمان، شاع عن المسلمين أنهم يغدرون بمن أمَّنوه، ثم لا يكاد كافر يثق بأمان مسلم، وفي ذلك مفسدة عظيمة. وهكذا ما كان على وجه المعاهدة، ولو من بعض أفراد المسلمين.

وفي "صحيح مسلم" (¬1) عن حذيفة: "قال: ما منعني أن أشهد بدرًا إلا أني خرجت أنا وأبي حُسَيلٌ، قال: فأخذَنا كفار قريش، قالوا: إنكم تريدون محمدًا. فقلنا: ما نريده، ما نريد إلا المدينة، فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفنَّ إلى المدينة، ولا نقاتل معه، فأتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرناه الخبر، فقال: انصرفا، نَفِيْ لهم بعهدهم، ونستعين الله عَزَّ وَجَلَّ عليهم". [ص 79] الظاهر من سياق الكلام أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حينئذٍ ببدر، فظن المشركون أن حذيفة وأباه يريدانِ أن يأتياه ببدرٍ ليقاتلا معه. ولا أدري هل كانا قاصدين لذلك، عازمين عليه، حتى في وقت قولهما: "ما نريده"، فيكون ظاهر هذا كذبًا، أم كان أصل قصدهما المدينة، وإنما بدا لهما بعد ذلك أن يمرّا على النبي - صلى الله عليه وسلم - ببدر؟ هذا، وكان المسلمون ببدر محتاجين إلى من يكون معهم؛ لقلة عددهم. فقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "انصرفا، نَفِي لهم بعهدهم ... " واضح الدلالة على وجوب الوفاء، وهو مذهب مالك، ويؤكده مع الأدلة العامة في إيجاب الوفاء بالعهد: أنه لو رخص في عدم الوفاء لشاع ذلك عن المسلمين، وقد يتضرر به جماعة ممن يأتي بعد ذلك يريد المسلمين، فيحبسه الكفار ولا يثقون بعهده. فأما معاهدة الإِمام، فالأمر فيها أشد، ووجوب الوفاء فيها آكد. وأما المهاجرات في مدة هدنة الحديبية، فإنما أمر الله عَزَّ وَجَلَّ أن لا ¬

_ (¬1) رقم (1787).

يرجعن إلى الكفار؛ لأنهن لم يدخلن في المعاهدة، فإن لفظها فيما اشترطه المشركون قولهم للمسلمين: "من جاء منكم لم نردَّه عليكم، ومن جاءكم منا رددتموه علينا" (¬1). وكلمة "مَنْ" قد تأتي للذكور فقط، كقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ} [النساء: 25]. وقد تأتي للإناث، كقوله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب: 30 - 31]. وتأتي للجنسين معًا مبينًا ذلك، كقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} [النساء: 124]. [ص 80] وقوله سبحانه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} [النحل: 97]. وقوله عزَّ وجلَّ: {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} [غافر: 40]. واختلف أهل العلم فيما إذا جاءت مطلقة، والضمائر بعدها مذكَّرة: فقال جماعة: تختص بالرجال ظاهرًا, ولا يدخل فيها الإناث إلا بدليل، وذلك كالاستواء في التكليف في أحكام الشرع، فإنه يدل على العموم. كيف لا، وكثير من الأحكام جاءت في حق رجلٍ بعينه، فعممت؛ للاستواء في التكليف. وقال آخرون: يدخل فيها الإناث ظاهرًا ولا يخرجن إلا بدليل. ¬

_ (¬1) انظر "سيرة ابن هشام" (2/ 317) و"البداية والنهاية" (6/ 217).

فإذا بنينا على الأول؛ فمعاهدة النبي - صلى الله عليه وسلم - للمشركين باللفظ المتقدم لم تدخل فيها النساء، ويؤكد ذلك ما يأتي. وإن بنينا على الثاني؛ فهناك قرينتان تدلان على خروجهن: الأولى: أن الذي كان يهم قريشًا إنما هو أمر الرجال؛ لأن لحوق الرجال بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ينقص عدد المشركين، ويُكثِر عدد المسلمين، فيكون ذلك من أسباب استعلاء المسلمين على المشركين في القوة بكثرة العدد. وقد شاهدوا رغبة كثير منهم في الإِسلام، فخافوا أنه في مدة الهدنة يلحق كثيرون منهم بالمسلمين، فلا تنقضي الهدنة أو تُنْقَض إلا والمسلمون كثير، والمشركون قليل. فأما النساء فلا شأن لهن في القتال، والغالب فيمن يظن بها اللحاق بالمسلمين بعد الهدنة هي من كان زوجها قد أسلم قبل ذلك، وهؤلاء قد كان المشركون أنفسهم قبل الهدنة يخلُّون سبيلهن إذا أرادت إحداهن [ص 81] أن تلحق بزوجها, ولم يكن هناك دخل كبير للغَيرة, لأن من كانت تسلم من نساء المشركين وتهاجر إلى المسلمين كان المسلمون يكرمونها ويغارون عليها أشدَّ من غَيرة أقاربها المشركين ديانةً وعصبيةً، وتجد في المسلمين جماعة من عصبتها. وقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما تزوج أم حبيبة بنت أبي سفيان بلغ أبا سفيان، فقال: هو الفحل لا يُقدَع أنفه (¬1). القرينة الثانية: أن من شأن المعاهدات المكتوبة أن يُحتاط فيها, ولا ¬

_ (¬1) كما في "طبقات ابن سعد" (8/ 99).

يُكتفى بالاحتمال أو الظهور الضعيف، فلو قصدوا دخول الإناث في الشرط لكان الظاهر أن يصرحوا بذلك، كما صرح القرآن في الآيات المتقدمة بقوله: {مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى}. فإن قيل: فلماذا طالب المشركون بعد ذلك بردّ النساء، فأنزل الله تعالى: {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10]؟ قلت: لما لم تكن المعاهدة صريحة في خروجهن طمعوا في زعم دخولهن، وأكمل الله عَزَّ وَجَلَّ للمسلمين ما فيه المبالغة في الوفاء، فأمرهم أن لا يمسكوا بعِصَمِ الكوافر، ولم يطالبوا قريشًا برد من عسى أن ترتدّ من المسلمات فتلحق بالمشركين، وبذلك فرغت للمشركين عدة من المشركات اللاتي كن في عِصَم المسلمين. ثم أمر الله تعالى المسلمين أن يعوِّضوا الكفار عن أزواجهم اللاتي يهاجرن بأن يدفعوا لأزواجهن من المشركين ما كانوا أنفقوا في زواجهن، فرضي المشركون وطابت نفوسهم. وفي تلك المدة سافر أبو سفيان بن حرب إلى الشام، فدعا به هرقل، وسأله عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن جملة ما قال له هرقل (¬1): "فهل يغدر؟ قال أبو سفيان: قلت: لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها". ثم قال أبو سفيان بعد إسلامه وإخباره بالقصة: "ولم يُمكنِّي كلمة أُدخِل فيها شيئًا غير هذه الكلمة". وقال أبو سفيان: "لولا الحياء من أن يَأثِروا عليّ كذبًا لكذبت". وكان يومئذٍ من أشد المشركين عداوةً للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فلو علم أن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (7) من حديث ابن عباس عن أبي سفيان ضمن القصة.

النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرد عليهم من جاءه من النساء [ص 82] في الهدنة، وأن ذلك قد يُعدُّ غدرًا = لذكر ذلك لهرقل. فإن قيل: فقد تكون قصته مع هرقل قبل أن تهاجر بعض النساء، فيمنعها النبي - صلى الله عليه وسلم -. قلت: فكان ينبغي عند حصول المنع أن يُكثِر المشركون من التشنيع بأنه غدر، وكان الغدر عندهم من أشنع الأمور، وقد سمعوا هرقل في محاورته لأبي سفيان يقول له: "وسألتك هل يغدر، فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر". ولا ريب أن النساء لو كن داخلاتٍ في المعاهدة، لكان الامتناع من إرجاعهن غدرًا. ولا يدفع ذلك ما زعمه بعضهم من أن القرآن خصص المعاهدة بعد عمومها، أو نسخها فيما يتعلق بالنساء، فإن المشركين لم يكونوا معترفين بالقرآن، ولا ملتزمين لأحكامه، ولو قيل لهم ذلك لقالوا: إن محمدًا يغدر، وينسب الغدر إلى الله عزَّ وجلَّ، ثم يقولون: لا نثق بعهد محمَّد بعدها، فإنه يعاهد ثم يغدر، ويقول: إن الله خص ذلك أو نسخه. فالصواب ما قدمنا أن النساء لم يدخلن في المعاهدة رأسًا. فإن فرضنا أنهن دخلن، فلا بد أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - فاوض المشركين بعد ذلك في إخراج النساء، على الشرائط التي ذكرها الله عَزَّ وَجَلَّ في سورة "الممتحنة"، فرضي المشركون بذلك، فكان ذلك نسخًا برضا الجانبين. ولا ريب أنه لا يسمى غدرًا, ولا رائحة للغدر فيه، وقد جاءت آثار تشير إلى هذا. راجع "تفسير ابن جرير" (28/ 41 - 47) (¬1). ¬

_ (¬1) (22/ 578 وما بعدها) ط. التركي.

ولا يخفى أن الإخلال بالعهد تترتب عليه مفاسد عظيمة جدًّا؛ فإنه يُسقِط الثقة بعهود [ص 83] المسلمين وعقودهم وذِمَمهم، ولا يخفى ما يترتب على ذلك من المفاسد التي لا تحصى. فأما ما ذكره ابن حجر بقوله (¬1): "واتفقوا على جواز الكذب عند الاضطرار، كما لو قصد ظالم قتل رجل وهو مختفٍ عنده، فله أن ينفي كونه عنده، ويحلف على ذلك، ولا يأثم. والله أعلم". فالضرورة على درجات: منها: أن يخاف الإنسان على نفسه الهلاك إن لم يكذب، فهذا لا شك أنه يجوز له الكذب الذي لا يضر غيره بغير حق، كالمكره يجوز له الكفر. ومنها: أن يخشى على نفسه ضررًا، والذي يظهر أنه إن كان ذاك الضرر شديدًا، بحيث لو هُدِّد به الإنسان إن لم يفعل كذا لكان إكراهًا، فمثله يجوز له الكذب الذي لا يضر غيره بغير حق. وأما إن كان الضرر دون ذلك، ففيه نظر. ومنها: أن لا يخاف الإنسان على نفسه، ولكنه يخاف على غيره، كالمثال الذي ذكره ابن حجر، إذا كان صاحب البيت يرى أنه لا يناله سوء إذا عثر الظالم على الرجل المطلوب مختفيًا عنده، وإنما يخاف على المختفي. والظاهر أنه إن خاف على ذلك الرجل الهلاك أو الضرر الشديد، جاز له الكذب الذي لا يضر غيره بغير حق، وإلا ففيه نظر. ¬

_ (¬1) في "الفتح" (5/ 300).

وفي "سنن أبي داود" (¬1) وغيرها من طريق إبراهيم بن عبد الأعلى عن جدته عن أبيها سويد بن حنظلة قال: خرجنا نريد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومعنا وائل بن حجر، فأخذه عدو له، فتحرَّج القوم أن يحلفوا، وحلفتُ أنه أخي، فخلَّى سبيله، فأتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخبرته أن القوم تحرّجوا أن يحلفوا، وحلفت أنه أخي، قال: صدقتَ، المسلم أخو المسلم". إبراهيم بن عبد الأعلى: ثقة، وجدته لا أعرفها. ومعنى القصة: أنهم كانوا مسافرين ومعهم وائل، [ص 84] فمروا بقومٍ أعداءٍ لقبيلة وائل، فعرفوا القوم أو بعضهم، وأنهم ليسوا من قبيلة وائل، وبقي وائل وهم لا يعرفونه، فقال رفقته - والله أعلم -: هو رجل منا. فاستحلفوهم على ذلك، فتحرَّجوا، وحلف سويد أنه أخوه. والذي يظهر - والله أعلم - في مثل هذه الواقعة جواز الكذب. وقد مر الكلام على قول إبراهيم في امرأته: "هي أختي". وجاء أن ابنين لرِبْعي بن حِراش أحد فضلاء التابعين خرجا فيمن خرج على الحجاج، فانهزموا، فعادا، فاختفيا في بيت أبيهما، وكان الحجاج يطلب الخارجين عليه فيقتلهم، فسأل عن ابني رِبْعي، فقيل له: سل أباهما فإنه يزعم أنه لم يكذب قط، فدعا به فسأله, فقال ربعي: هما في البيت، والله المستعان، فحسن موقع ذلك عند الحجاج، فعفا عنهما (¬2). ¬

_ (¬1) رقم (3256). وأخرجه أيضًا أحمد في "مسنده" (16726) وابن ماجه (2119) والحاكم في "المستدرك" (4/ 299, 300). (¬2) انظر "معرفة الثقات" للعجلي (1/ 350) و"تاريخ بغداد" (8/ 433) و"وفيات الأعيان" (2/ 300) و"سير أعلام النبلاء" (4/ 360).

فلا أدري أتحرَّجَ ربعي من الكذب، أم خاف أن يكون قد بلغ الحجاجَ الأمرُ، أو أن يبعث من يفتِّش البيت، فيكون الشر أشد؟ وفي "المعجم الصغير" للطبراني (ص 47) (¬1): عن عبد القاهر بن السري، قال: اختفى رجل عند أبي السوَّار العدوي زمن الحجاج بن يوسف، فقيل للحجاج: إنه عند أبي السوار، فبعث إليه الحجاج فأحضره، فقال له: الرجل الذي عندك. فقال: ليس عندي. فقال: وإلا أم السوار طالق - يعني امرأة أبي السوار - فقال: ما خرجتُ من عندها وأنا أنوي طلاقها. فقال: وإلا أنت بريء من الإِسلام. قال: فإلى أين أذهب؟ فخلَّى سبيله". فكأن أبا السوَّار قال: "ليس عندي" يريد ها هنا، ثم كفَّ عن الطلاق خوفًا من أن يتبين الحال، فيُلزِمه الحجاج الطلاقَ، ولا يقبل عذره. هذا، وكلُّ ما ورد فيه الترخيص في الكذب، فإن أمثلته المنقولة كلها تبين أن ذلك فيما إذا لم تترتب على الكذب مفسدة، سوى خشية أن يُنسب القائل فيما بعد إلى الكذب. ويبقى الكلام فيما إذا كان من شأن الكذب وما يقرب منه من الإيهام أن تترتب عليه مفسدة، فقد يقال: إنه حينئذٍ لا يرخص فيه البتة، لا في حرب ولا غيره. وقد يقال: إن كانت تلك المفسدة أخفَّ من المفسدة التي يتعيَّن الكذب لدفعها، جاز. والذي يظهر أن المفسدة التي تترتب على الكذب إن كانت إنما هي ¬

_ (¬1) (1/ 85).

[ص 85] ضرر على الإنسان نفسه في دنياه جاز له أن يكذب ويتحملها، وإلا فلا. وتفصيل هذا يطول، غير أني أقول: لا يصح إطلاق القول الثاني، فإن قولهم: "إذا تعارضت مفسدتان تعيَّن دفع الكبرى" ليس على إطلاقه، وإن كثرت شواهده. فلو اتفق لك في قضية تعلم منها أنك إن كذبت قُتل رجل واحد ظلمًا، وإن لم تكذب قُتل رجلان آخران ظلمًا، فمفسدة قتل رجلين أشد من مفسدة قتل رجلٍ، ولكن لا قائلَ - فيما أعلم - بجواز الكذب. وقد يقرب هذا إلى الفهم بأنك لو كذبت فقُتل زيد بسبب كذبتك، فقد أثمتَ بتسبُّبِك في قتله، وإن لم تكذب فقُتل بكر وخالد ظلمًا, ولم تكن قادرًا على تخليصهما إلا بأن تعرِّض زيدًا للقتل، فلا إثم عليك؛ لأنك لم تتسبب في قتلهما، وعدم تسببك في خلاصهما إنما كان لعجزك, لأنك عاجز شرعًا عن الكذب الذي تعرِّض به زيدًا للقتل ظلمًا. هذا، وقد طال الكلام في هذا المطلب، ولم أبلغ منه كل ما أريد، وأرجو أن أكون قد قاربت، والله الموفق. ***

المطلب الحادي عشر فيما ورد من التشديد في الكذب

المطلب الحادي عشر (¬1) فيما ورد من التشديد في الكذب الكذب على وجهين: أحدهما: الكذب على الله عزَّ وجلَّ، بأن تصفه بما لا علم لك به, أو بما تعلم أنه لا يتصف به، أو تنسب إليه حكمًا لا سلطان عندك بأنه حكم به، أو تعلم أنه لم يحكم به، ونحو ذلك. والآيات في شدة هذا كثيرة، منها: 1 - {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام: 21]. 2 - {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [الأنعام: 93]. 3 - {وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 144]. 4، 5 - {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} [الأعراف: 37, يونس: 17]. ¬

_ (¬1) كتب المؤلف أولاً "التاسع"، ثم شطب عليه وكتب "الحادي عشر".

6 - {هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الكهف: 15]. 7 - {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ...} [هود: 18]. 8 - {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ} [الصف: 7]. 9 - {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [العنكبوت: 68]. 10 - {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [الزمر: 32]. [ص 89] (¬1) الوجه الثاني: الكذب على غير الله، قال الله عزَّ وجلَّ: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ ... إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} [النحل: 101 - 105]. يتمسك بهذه الآية الأخيرة مَن يقول إن الكذب كفر وإن كان على غير الله. وأجيب عن [هذا بوجوه: منها:] (¬2) أن المراد هنا الكذب على الله بقرينة ما تقدم. ومنها: أن الحصر إضافي بقرينة ما تقدم، فإن المشركين قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنما أنت مفترٍ"، فأجابهم الله عزَّ وجلَّ بما ذكر، كأنه قال: "إنما يفتري ¬

_ (¬1) وجدنا هذه الصفحة ضمن مسوَّدات المؤلف أخيرًا. (¬2) هنا خرم. ولعله قريب مما أثبت.

الكذبَ هم لا النبي". فالنفي المستفاد من الحصر خاص بالنبي، ويبقى غير النبي ممن يؤمن بآيات الله مسكوتًا عنه. ومنها: أن الحصر على إطلاقه، ولكن ليس النفي على سبيل العموم المحقق، بل المعنى أن افتراء الكذب ليس من شأن مَن يؤمن بآيات الله ولا يناسبه، ولا هو مظنته، وهذا كما لو قال لك قائل وقد وقف عليكما سائل، فأردت أن تعطيه: ما أراه فقيرًا، فقلت: إنما يسأل الفقير. ويظهر أن هذا الأخير أقرب الأجوبة، وهو وإن كان خلاف الظاهر فالأدلة الشرعية الأخرى تبيِّنه. وفي "الصحيحين" (¬1) من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان". زاد مسلم بعد قوله: "ثلاث": "وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم". وفي "الصحيحين" (¬2) من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أربع مَن كنَّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق". ***** ¬

_ (¬1) البخاري (33) ومسلم (59). (¬2) البخاري (34) ومسلم (58).

حقيقة الكذب

حقيقة الكذب (¬1) قد تكلّم أهل المعاني وغيرهم في حقيقة الكذب لغةً فلا أطيل بذلك، وإنّما أذكر معناه حكمًا، وهو الذي يتعلق به القبح والإثم. فأقول: يختلف معناه باختلاف النسبة إلى الخبر أو المخبر، فالخبر الكاذب هو ما كان ظاهره مخالفًا للواقع، وسيأتي تحقيق المراد بالظاهر فلا تعجلْ. والمخبر الكاذب هو من أخبر بخبر يرى أن ظاهره مخالف للواقع. ولا يدفع عنه معرةَ الكذب خطاؤه في ظن ظاهر ذلك الخبر مخالفًا للواقع بأن يكون في نفس الأمر مطابقًا للواقع. وعلى هذا فقد يكون الخبر كاذبًا والمخبر صادقٌ وعكسه. هذا فيمن يجوز عليه الخطأ. فأمّا الله عَزَّ وَجَلَّ فخبره كله صدق، فمن حمل خبرًا من أخبار الله عزَّ وجلَّ على معنى لو كان هو المراد لكان الخبر كاذبًا، فقد نسب الكذب إلى الله عزَّ وجلَّ، ويلزمه حكم ذلك إذا علم أو قامت عليه الحجة بهذا، أي: بأنَّ حَمْل ذلك الخبر على ذلك المعنى يلزمه ما ذكر، وإلاّ فهو معذور كما قُرّر في موضعه، وأوضحته في "رسالة العبادة"، ولعلّه يأتي ما يتعلق به إن شاء الله تعالى. وأمّا الأنبياء فإنّ أخبارهم تختلف، فما كان منها تبليغًا عن الله عزَّ وجلَّ وبيانًا لدينه فلا يجوز الخطأ فيه، ومن العلماء من جوّز أن يبدر الخطأ من ¬

_ (¬1) من هنا قطعة كتب فيها المؤلف عن حقيقة الكذب وغيرها من الموضوعات باختصار.

النبي فينبهه الله عَزَّ وَجَلَّ عليه فورًا فيبين ذلك للناس. وفي "الصحيحين" (¬1) وغيرهما حديث ذي اليدين، وفيه قوله للنبي - صلى الله عليه وسلم - لمّا سلّم من ركعتين في الظهر أو العصر: "أنسيتَ أم قُصِرت الصلاة؟ فقال: "لم أنسَ ولم تُقصَر"، قال: بلى، قد نسيت. وفيه سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - لبقية من كان معه، وتصديقهم الرجل، وقيام النبي - صلى الله عليه وسلم - لإتمام صلاته. وأحاديث سهوه - صلى الله عليه وسلم - كثيرة مروية عن جماعة من الصحابة، منهم: أبو هريرة (¬2)، وعمران بن حصين (¬3)، وعبد الله بن مسعود (¬4)، وغيرهم. وفي حديث ابن مسعود في "صحيح مسلم": "قالوا يا رسول الله، هل زِيدَ في الصلاة؟ قال: لا! قالوا: فإنّك قد صليت خمسًا! فانفتل ثم سجد سجدتين ثم سلّم ثم قال: إنّما أنا بشرٌ مثلكم أنسى كما تنسون" (ج 2/ ص 85) (¬5). قال الحافظ في "الفتح" (¬6) في شرح حديث ذي اليدين: "وهو حجة لمن قال: إنّ السهو جائز على الأنبياء فيما طريقه التشريع، وإن كان عياض نقل الإجماع على عدم جواز دخول السهو في الأقوال التبليغية وخصّ الخلاف بالأفعال، لكنّهم تعقبوه. نعم اتفق من جوّز ذلك على أنّه لا يُقَرُّ عليه، بل يقع له بيان ذلك". "الفتح" (ج 3 ص 65). ¬

_ (¬1) البخاري (1229) ومسلم (573) من حديث أبي هريرة. (¬2) هو الحديث السابق. (¬3) أخرجه مسلم (574). (¬4) أخرجه البخاري (1226) ومسلم (572). (¬5) رقم (572/ 92). (¬6) (3/ 101) ط. السلفية الأولى.

[ص 5] أقول: وثَمّ أحاديث أُخرى يؤخذ منها جواز ما ذكر، وفي قصص الأنبياء الثابتة في الكتاب والسنة ما يفيده، ولاستيفاء ذلك موضع آخر. وأمّا الأمور الدنيوية فجواز الخطأ فيها أشهر، فمن ذلك أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ورد المدينة رآهم يؤبِّرون النخل، فظن أن لا حاجة لذلك؛ لأنّه كان قد رأى كثيرًا من الأشجار فرآها تؤتي ثمرها بدون تأبير، فقال لبعضهم: "ما أظن يغني ذلك شيئًا" فتركوا ذلك. فخرج شِيصًا، فمرّ بهم فقال: "ما لنخلكم؟ " قالوا: قلت كذا وكذا، قال: "أنتم أعلم بأمر دنياكم". وفي رواية: "إنما ظننتُ ظنًّا، فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئًا فخذوا به، فإني لن أكذب على الله عزَّ وجلَّ". وفي رواية: "إنّما أنا بشرٌ، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنّما أنا بشر". والحديث في "صحيح مسلم" (¬1) وغيره من حديث أم المؤمنين عائشة وطلحة بن عبيد الله وثابت بن قيس ورافع بن خَدِيج رضي الله عنهم. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإني لن أكذب على الله عَزَّ وَجَلَّ" يريد الكذب خطأ، فأما الكذب عمدًا فقد علم براءته منه مطلقًا، ومفهوم تلك العبارة جواز الكذب خطأً في الأمور الدنيوية كما هو واضح. وعُلم من هذه القصة أنّه لا يلزم تنبيه الله عَزَّ وَجَلَّ على الخطأ في الأمور الدنيوية فورًا بخلاف الأمور الدينية كما مرّ. وعُلِم منها أيضًا أنّ المراد بالأمور الدنيوية ما كان دنيويًّا بالذات وإن تفرّع عليه أمرٌ له مساس بالدين، فترك التأبير يلزمه نقص الثمر، وفيه شبه ¬

_ (¬1) بأرقام (2361، 2362، 2363).

بإضاعة المال، والدين يكره ذلك. وقد يُقال: القوم هم المقصِّرون؛ لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينههم عن التأبير، ولم يخبرهم بأن تركه لا يضر، وإنّما أخبرهم بأنّه يظن، ومعلوم عندهم أنّه - صلى الله عليه وسلم - عاش بمكة، ولا نخل بها، وأنّه لو بني على أمرٍ ديني لجزم، ولمَا اكتفى بالإخبار بالظن، فيثبت من ذلك أنّه إنّما استند إلى أمرٍ عادي، فكان عليهم أن يقولوا له: إنّه معروف عندنا بالتجربة أنّ النّخلة إذا لم تؤبَّر يخرج ثمرها شِيصًا، قد جرَّبنا هذا مرارًا لا تحصى، ثم ينظرون ما يقول لهم. وفي "صحيح مسلم" (¬1) عن جُدامة (¬2) بنت وهب قالت: حضرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أناس، وهو يقول: "لقد هممتُ أن أنهى عن الغيلة، فنظرت في الروم وفارس، فإذا هم يغيلون أولادهم فلا يضرُّ أولادَهم ذلك شيئًا .. ". الحديث. وفيه (¬3) عن سعد بن أبي وقاص أنّ رجلاً جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنّي أَعزِل عن امرأتي. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لِمَ تفعل ذلك؟ فقال الرجل: أُشفِق على ولدها. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو كان ذلك ضارًّا ضرَّ فارس والروم". وفي "مسند أحمد" و"سنن أبي داود" (¬4) عن أسماء بنت يزيد قالت: ¬

_ (¬1) رقم (1442). (¬2) قال مسلم في "صحيحه" (2/ 1066): "أما خلف فقال: عن جذامة الأسدية، والصحيح ما قاله يحيى بالدال". (¬3) رقم (1443) عن أسامة بن زيد أنه أخبر سعد بن أبي وقاص. (¬4) أحمد (27562) وأبو داود (3881). وإسناده ضعيف.

سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا تقتلوا أولادكم سرًّا، فإنّ الغيل يدرك الفارس فيُدَعْثِره عن فرسه". [ص 7] زعم الطحاوي (¬1) أنّ الحديث الأخير منسوخ، وأنّ النّبي - صلى الله عليه وسلم - قاله لما كان يظن أنّ الغيل يضرّ، ثمّ لما تبيّن له أنّه لا يضرّ ذكر الحديث الأول والثاني. هذا حاصل كلامه، والظاهر خلاف ما قال لوجوه: الأول: أنّ أقواله - صلى الله عليه وسلم - التي يبنيها على الظن يصرّح أو ينبه أنّه إنّما بناها على الظن، كما تقدّم في تأبير النخلا، وأمّا في حديث ذي اليدين فاكتفى بقرينة الحال؛ لأنّ الحاضرين إن كانوا علموا أنه نسي علموا أنّه إذ قال: لم أنس، إنّما يعني في ظنه واعتقاده، وحديث أسماء جزم. الوجه الثاني: أنّ قوله في حديث أسماء: "فإنّ الغيل يدرك الفارس فيدعثره" ظاهر في أنّه علم ذلك بالوحي، إذ لا يتأتّى علم مثل ذلك بالقياس. الثالث: أنّ قوله في الحديث الأول: "لقد هممت" ظاهر في أنه لم يكن قد نهى، فالصواب أنّه - صلى الله عليه وسلم - أراد أن ينهى عن الغيل لما اشتهر بين العرب من أنّه يضرّ، ثم علم أن فارس والروم يغيلون، ولم ير ضررًا ظاهرًا يعتريهم؛ فظن أنّ الغيل لا يضر، فذكر الحديث الأول، وجاءه السائل عن العزل فنبهه على النظر في فارس والروم أيضًا، ثم أطلعه الله عَزَّ وَجَلَّ على أنّ للغيل ضررًا وإن كان يخفى، فصرّح بذلك في حديث أسماء. ولحديث أسماء شواهد، منها: أنّ النّبي - صلى الله عليه وسلم - لمّا تزوج أمّ سلمة كانت ¬

_ (¬1) في "معاني الآثار" (3/ 47).

ترضع، فلم يقربْها حتى دفعت ابنتها إلى مرضعة أخرى (¬1)! واسترضع - صلى الله عليه وسلم - لابنه إبراهيم (¬2)، وجاء عن الصحابة ما يوافق هذا، فجاء عن أمير المؤمنين علي عليه السلام أنّ رجلاً أخبره أنه حلف لزوجته أن لا يقربها حتى تفطم ولدها. فقال له: إنّ هذا ليس بإيلاء، إنّما أردت الإصلاح، أو كما قال (¬3). ويؤخذ من هذه الأحاديث ما أخذ من حديث التأبير أنّ الخطأ في الأمور الدنيوية لا يلزم التنبيه عليه فورًا، وأنّ الحكم يتناول كل ما كان دنيويًّا بالذات، وإن نشأ عنه ما له مساس بالدين، فإنّ إلحاق الضرر بالولد لا يجوز في الدين. [ص 6] وإيضاح هذا البحث أنّ من الأحكام الشرعية ما يكون مبنيًّا على معنى يوجد بوجوده، ويعدم بعدمه، ويوكل الحكم بوجود المعنى أو عدمه إلى اجتهاد المكلف، فقد ينظر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى صورة من الصور بصفته مكلفًا من المكلفين فيظهر له أن ذلك المعنى موجود فيها والواقع خلافه، أو أنّه مفقود والواقع خلافه، مع إعلامه بأنّ المدار على وجود المعنى، فإضاعة المال والإضرار بالأطفال منهي عنهما في الشرع، ولا يجوز أن يقع الخطأ من النبي - صلى الله عليه وسلم - فيخبر بأنهما جائزان، ولكن النظر في كون هذا الفعل إضاعة للمال أو يلزمه ذلك، أو ضررًا بالطفل أو يلزمه ذلك = موكول إلى المكلف، فنظر - صلى الله عليه وسلم - بصفته مكلفًا، فظن أنّ ترك التأبير ليس فيه إضاعة للمال ولا تلزمه ¬

_ (¬1) انظر "السنن الكبرى" للنسائي (8926). (¬2) كما في "صحيح مسلم" (2316). (¬3) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (11632) وسعيد بن منصور في "سننه" (1874) والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 382).

الظاهر

إضاعة، وأن الغيل ليس فيه إضرار بالطفل، ولا يلزمه إضرار. ومن أمثلة ذلك أنّ الحكم لأحدٍ بما لا يستحقه حرام شرعًا, ولكن العلم بأنه يستحق أو لا يستحق موكول إلى اجتهاد الحاكم. وفي "الصحيحين" (¬1) عن أم سلمة أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنّما أنا بشر، وإنكم تختصمون إليّ، ولعلّ بعضكم أن يكون ألحنَ بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع منه, فمن قضيتُ له بشيء من حق أخيه فلا يأخذنّه، فإنّما أقطع له قطعة من النار". وتناول السم حرام، ولكن [العلم] بأنّ هذا الطعام مسموم أو ليس بمسموم موكول إلى اجتهاد المكلف، فظن النّبي - صلى الله عليه وسلم - أنّ الطعام الذي قدم له بخيبر [غير] مسموم فتناول منه، وأقرّ بعض أصحابه على الأكل منه، فلمّا علم أنّه مسموم كفّ وأمرهم بالكف، فمات بعضهم من ذلك، ولم يزل السم يُعادُّ النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى كان سبب موته (¬2)، بأبي هو وأمي! [ص 8] الظاهر يقول الأصوليون في تعريف الظاهر: "ما دلّ دلالة ظنية" (¬3)، ويمثلون له بالكلمة يكون ظاهرها هو معناها الحقيقي لغة أو عرفًا أو شرعًا، ومن ذلك الكلمة العامة في معناها الشمولي. ثم عرَّفوا التأويل بأنه "حمل الظاهر على المحتمل المرجوح"، يعنون ¬

_ (¬1) البخاري (7169) ومسلم (1713). (¬2) انظر "صحيح البخاري" (4428). (¬3) "شرح جمع الجوامع" للمحلي (2/ 52).

القرينة

اللفظ الذي له معنى ظاهر على معنى آخر يحتمله احتمالاً ضعيفًا. قالوا (¬1): "فإن حُمِل لدليلٍ فصحيح، أو لما يُظنُّ دليلاً ففاسد، أو لا لشيء فلعب". وكلامهم صحيح في نفسه، ولكن فيه إيهامٌ تركَ للمبطلين مجالًا رحبًا؛ فلذلك آثرت مخالفتهم في التعبير، فأقول: ينبغي أن يكون البحث عن الكلام لا عن الكلمة، وعليه فالظاهر هو المعنى الذي يدل عليه الكلام مع ملاحظة القرائن الصحيحة دلالة راجحة. ومدار التحقيق على بيان القرائن الصحيحة. القرينة هي كل شيء يقترن بالكلام ويكون له تأثير في المعنى، وذلك على ثلاثة أضرب: الضرب الأول: أن يكون الكلام لولا ذلك الأمر ظاهرًا في معنى مخصوص، ولكن صار بذلك الأمر مجملاً. الضرب الثاني: أن يكون الكلام لولا ذلك الأمر مجملًا, ولكن صار بذلك الأمر ظاهرًا في معنى مخصوص. الضرب الثالث: أن يكون الكلام لولا ذلك الأمر ظاهرًا في معنى مخصوص به، ولكنّه صار بذلك الأمر ظاهرًا في معنى مخصوص آخر. ¬

_ (¬1) المصدر نفسه (2/ 53).

المراد بالظهور

[ص 9] المراد بالظهور المراد بالظهور هو الظهور للمخاطب الذي أريد إفهامه، ومن هنا يُعلم أن القرينة الصحيحة هي التي يعلم المتكلم أو يظن إن كان ممن يجوز عليه الظن أن المخاطب يدركها، بحيث لو غفل عنها عُدّ مقصرًا. قال لك عاميّ أميّ: إنّي اشتريت أربع عشرة ربطةَ مناديل، في كل ربطة اثنا عشر منديلاً، ودفعت الثمن اثني عشر جنيهًا، ورجع إلى البائع ثلاثين قرشًا، وأريد أبيع المناديل فرادى، فأخبِرْني كم يخص كلّ منديل من أصل الثمن؟ وتعرف أنّ الجنيه صرفه سبعة وتسعون قرشًا، فحسَبْتَ فوجدت ثمن كل منديل ستة قروش وثلاثة أرباع قرشٍ، فقلت لسائلك الأمي: يخص كل منديلٍ ستة وثمن! ونويتَ ستةً وثُمُنَ الستة وهو ثلاثة أرباع، فهل لك أن تزعم أنك بهذه التورية مع قيام الدلالة العقلية القاطعة المدركة بطريق الحساب لم تكذب على ذلك المسكين، وقد صدَّقك، ولم تغشَّه إذ ائتمنك، وأنّك غير مؤاخذ بما يناله من خيبة الأمل ونقصان رأس المال وضياع التعب، وما ينجرّ إلى ذلك من افتقاره واحتياجه وجوع أهله وعُرْيهم وغير ذلك، وأنّ لك الحق فوق ذلك أن تلوم [ص 10] ذلك المسكين وتوبِّخه على فهمه وما نشأ عنه، وتعاقبه إن كان أجيرك مثلاً؟ هذا في القرينة العقلية، ومثله يقال في اللفظية، كأن قلت في الجواب: "ستة وثُمنها" ولكن أخفيتَ الهاء عمدًا، فلم يسمع إلا "ستة وثُمن". وقس على ذلك الحالية والعادية.

كيف الاقتران

وقد يشكل عليك تطبيق هذا في النصوص الشرعية، وسيأتي حلّ الإشكال إن شاء الله تعالى. كيف الاقتران المتبادر من قولنا: "قرينة" أن تكون مقترنة بالكلام، ومعنى الاقتران الاجتماع، وذلك على ثلاثة أوجه: الأول: أن تكون موجودة قبل الكلام ومعه وبعده، وهذا يتحقق في العقلية والعادية، وقد يتحقق في الحالية، وكذا في اللفظية بالنظر إلى العلم بها؛ فإنّه إذا قدم المتكلم كلامًا يدل على أنّ زيدًا (¬1) حي اليوم، ثم قال: إنّ زيدًا مات البارحة، والمخاطب قد سمع الكلام الأول، كان علمه بالكلام الأول قرينة يُصرف بها الكلام الثاني عن ظاهره، والعدم بها موجود قبل الكلام الثاني ومعه وبعده. والثاني: أن تكون معه وبعده. والثالث: أن تكون بعده متصلة به. ... ¬

_ (¬1) في الأصل: "زيد" مرفوعًا.

وصرَّح (¬1) البيانيون بأنه لا بدّ للمجاز - سواء أكان استعارةً أم غيرها - من علاقة ومن قرينة، وذكروا في بحث الاستعارة أنها مجازٌ علاقته التشبيه، وأنها مبنية على دعوى دخول المشبَّه في جنس المشبَّه به. وبعد أن بيَّن السكّاكي في "المفتاح" (¬2) هذا، ذكر أن الاستعارة تفارق الدعوى الباطلة ببناء الدعوى فيها - أي الاستعارة - على التأويل، وتفارق الكذب بنصب القرينة المانعة عن إرادة الظاهر. والذي يظهر لي أنه لما ذكر أن الاستعارة مبنية على الدعوى، أراد أن يبيِّن أن تلك الدعوى ليست بباطلة، إذ ليس المدَّعى دخول المشبَّه في جنس المشبَّه به حقيقةً فتكون دعوى باطلة، وإنما ذلك على جهة التأويل. فهذا معنى قوله: "إن الاستعارة تفارق الدعوى الباطلة ببناء الدعوى فيها على التأويل". ثم كأنه استشعر أن التأويل عمل ذهني لا يظهر في الكلام، فلا يخرج به الكلام عن البطلان الظاهر وهو الكذب. ولعل هذا الذي قررته هو مراد عبد الحكيم بقوله في "حواشي المطول" (¬3): "الأظهر عندي أن الاستعارة من حيث المعنى تشابه الدعوى الباطلة، ومن حيث اللفظ تشابه الكلام الكاذب، فتبيَّن الفرق بأن مبنى معناها على التأويل بخلاف الدعوى الباطلة، وأن مبنى لفظها على نصب القرينة بخلاف الكذب. وفي "شرح المفتاح الشريفي" (يعني شرح السيد الشريف الجرجاني ¬

_ (¬1) وجدنا ورقتين بخط المؤلف فيهما خرم في مواضع وتآكل في الأطراف، تحدث فيهما عن بعض الموضوعات التي تناولها في القطعة الأولى. فألحقناهما في آخر الكتاب. (¬2) (ص 373). (¬3) انظر "فيض الفتَّاح على حواشي شرح تلخيص المفتاح" (4/ 152).

للمفتاح) أنه أراد بالدعوى الباطلة الـ[ـجهل المركب، وصاحبه مصرٌّ على دعواه متبرئ عن التأويل فضلاً عن نصب القرينة] " عبد الحكيم .... مع كونه خلاف ظاهر العبارة ... لا وجه لتخصيص مفارقة الاستعارة لهذين بأنها تفارق الدعوى الباطلة مطلقًا ... بالتأويل، وعن الكذب مطلقًا ... بنصب [القرينة]. وفي "المطوّل": " [والشارح] العلامة (يعني السعدُ شارحَ المفتاح) فسَّر الباطل بما يكون على خلاف الواقع، والكذب بما يكون على خلاف ما في الضمير. وأنت تعلم أن تفسيره الكذب خلاف ما عليه الجمهور واختاره السكاكي". أقول: إذا رأيت [جرمًا منيرًا على جبل كأنه متصل بالجبل في رأي العين فقلت: "رأيتُ نجمًا يُصطلى به"، فقولك "يُصطلى به"] (¬1) قرينة أخرجت الكلامَ عن دلالته على أنك رأيت نجمًا حقيقيًّا. فالذي يستفاد من هذا أنك أردت أن تُفهِم مخاطبك أنك رأيت نارًا تُشبه النجم، ومع ذلك فقد يكون الذي رأيته هو في نفس الأمر نجمًا حقيقيًّا, ولكنك حسبته نارًا، أو علمت أنه نجمٌ حقيقةً، ولكنك أردتَ أن تُفهم مخاطبك أنه نار. فلعل العلامة أراد بقوله: "ما في الضمير" أي ما يريد المتكلم إفهامه. وعلى هذا فلكلامه وجه. فإن قيل: لكن مخالفة الخبر لما يريد المتكلم إفهامَه ليست هي الكذب عند الجمهور، ومنهم السكاكي. ¬

_ (¬1) ما بين المعكوفتين قد أتى التآكل في طرف الورقة على أكثره, وقد أكملناه من كلام ضرب عليه المؤلف.

قلت: هذا لا يمنع أن يظن العلامة أن السكاكي أراد بالكذب في ذاك الموضع هذا المعنى، لكن قد يقال: فكذلك التأويل لا يطّرد فيه إخراجه الدعوى عن البطلان في نفس الأمر. ففي المثال المتقدم قد يكون المرئي نجمًا في نفس الأمر، واعتقدتَ أنه نار فقلتَ: "رأيتُ نجمًا" مدّعيًا دخول تلك النار في جنس النجم. وهذه الدعوى - لولا التأويل - صحيحة في نفس الأمر، باطلة في اعتقادك، فالتأويل إنما أخرجها عن البطلان في اعتقادك. وقد يكون المرئي نجمًا وعرفت أنه نجم، ولكنك بنيتَ على زعم أنه نار، فقلتَ: رأيت نجمًا، على دعوى دخول المرئي في جنس النجم، فهذه الدعوى صحيحة في نفس الأمر، صحيحة في اعتقادك، وإنما أخرجها التأويل من الصحة إلى البطلان. فقد كان على العلامة أن يلاحظ ما تقدم أن تفسير الدعوى الباطلة بما يكون على خلاف ما في الضمير ويريد به زعم المتكلم أنه قد أراد إفهامه. وقد يقال: لا مانع أن يلاحظ ما تقدم في شيء ويغفل عنه في غيره. وقد عدل صاحب "التلخيص" عن صنيع السكاكي فقال (¬1): "والاستعارة تفارق الكذب بوجهين: بالبناء على التأويل ونصب القرينة على إرادة خلاف الظاهر". كأنه فهم أن مراد السكاكي بالدعوى الباطلة الدعوة الكاذبة، وأن مراده بالكذب مطلق الكذب. وعلى هذا جرى السعد في "شرحه"، زعم أن الباطل والكذب متحدان بالذات. ¬

_ (¬1) (ص 306). وانظر "فيض الفتاح" (4/ 151 - 152).

فإن قيل: فإذا كان لا بدَّ من القرينة، فكان ينبغي الاكتفاء بها، والإعراض عن التأويل. فالجواب: أن التأويل لا بد منه في الإخراج عن الكذب. وقد زعم السيِّد في "شرح المفتاح" (¬1) أن الاستعارة تدخل في الاسم العلم على وجه المبالغة، بجعل المشبَّه عينَ المشبَّه به، قال: "فإن المقصود من قولك: "رأيت اليوم حاتمًا" أنه عين ذلك الشخص (أي حاتم الطائي المشهور)، لا أنه فرد من الجُوَّاد". اعترضه عبد الحكيم فقال: "جَعْلُه عينه ... إن كان لا عن قصدٍ فهو غلط، وإن كان قصدًا فإن كان بإطلاقه عليه ابتداءً فهو وضع جديد، وإن كان بمجرد ادعاءٍ من غير تأويل فهو دعوى باطلة وكذب محض، فلا بدّ من التأويل". قال الشربيني: "قول المحشي: "فهو دعوى باطلة"، إذ كونُ ذاتٍ ذاتًا أخرى ظاهر البطلان، ولا معنى للمبالغة بذلك ... ". هذا، مع أن القرينة هنا موجودة، وهي أن حاتمًا المشهور بالجود قد هلك منذ زمان. وهكذا قال بعضهم فيمن يشير لبصيرٍ إلى كتابٍ قائلاً: هذا فرس، إنه إن لم يكن غلطًا أو على قصْدِ وضع جديد فهو كذب. هذا مع وجود القرينة وهي المشاهدة. وإنما ذلك لأنه ليس هنا علاقة يُبنى عليها تأويل سائغ. فإن قيل: فعلى هذا إنما ينتفي الكذب باجتماع الأمرين: التأويل السائغ والقرينة، وعبارة صاحب "التلخيص" تُشعِر بأن كلَّ واحد منهما كافٍ في دفع الكذب، وعبارة السعد في شرحه توافق ذلك. ¬

_ (¬1) انظر "فيض الفتاح" (4/ 153).

ويَرِد على ما في "التلخيص" أمران: الأول: أن كلاًّ من التأويل والقرينة لا يطَّرد فيه الإخراج عن الكذب كما تقدم بيانه. وقد يجاب بأن الكلام إنما هو في دفع أن تكون الاستعارة كذبًا من جهة التعبير عن الشيء باسم غيره، فبنى على الغالب من أن يكون اعتقاد المخبر مطابقًا في نفس الأمر، وأنه إنما يريد إفهامه ولكن أتى بالاستعارة. مثاله: أن تفرض أنه رأى نارًا على جبلٍ، فعرف أنها نار، وأراد إفهام ذلك فقال: "رأيت نجمًا يُصطَلى به". فقد يتوهم في هذا أنه كذب, لأن الواقع أنه رأى نارًا، وفي الخبر أنه رأى نجمًا، فمقصود صاحب التلخيص دفعُ هذا الوهم فقط. الأمر الثاني: أن الكذب هو عدم مطابقة الخبر للواقع، والتأويل عمل ذهني لا أثر له في الخبر، فكيف يُعدُّ مخرجًا له من الكذب؟ ويتبين فيما إذا لم يُؤتَ بالقرينة بل قال في المثال المذكور "رأيت نجمًا"، فمدلول الخبر أنه رأى نجمًا على الحقيقة، والواقع أنه رأى نارًا. وقد فسَّر السيد الشريف الجرجاني قول صاحب "المفتاح": "وتفارق الكذب بنصب القرينة" بقوله (¬1): "أراد بالكذب الكذب العمد، وصاحبه لا ينصب القرينة، بل يروج [ظاهره] ". ¬

_ (¬1) "فيض الفتاح" (4/ 152).

الرسالة الرابعة رسالة في أصول الفقه

الرسالة الرابعة رسالة في أصول الفقه

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي هدانا لدينه الذي ارتضاه، وعلّمنا من أصول الفقه ما أوضح لنا سبيلَ هداه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه. أما بعد، فإني ممن عُدَّ لقلة العلماء عالمًا، فصار ينتابني بعض طلبة العلم، فلا يَسَعُني إلا أن أُسعِفهم بمرادهم، لا على أنني عالم معلِّمٌ، بل على أنَّي طالبُ علمٍ من جملتهم، أذاكرهم على حسب وُسْعي. ومن جملة ما التمس مني القراءة في علم أصول الفقه، فوجدتُ الكتب التي بين أيدي الناس في هذا العلم على ضربين: الضرب الأول: كتب الغزالي ومن بعده. الضرب الثاني: بعض مختصرات لمن قبله، كاللمع للشيخ أبي إسحاق، والورقات للجويني. فأما الضرب الأول فإنه قد مُزِجَ بمباحثَ كثيرةٍ من علم الكلام والأصول المنطقية. وأنا وإن كان لا يتعسَّر عليَّ فهمُ كثيرٍ من هذين الفنين راغبٌ بنفسي عنهما، متحرِّجٌ من الخوض فيهما. وأما الضرب الثاني فإنه بغاية الاختصار، ولا يخلو مع ذلك عن تعقيد. فرأيتُ أن أجمع رسالة، أعدُّها لمن يرغب من طلبة العلم في مطالعة هذا العلم معي، أُسهِّل فيها أمهاتِ المطالب بقدر ما أستطيع، معرضًا عن كثير من الاصطلاحات والتدقيقات، مقتصرًا من المباحث الكلامية على ما

لا بدَّ منه، سالكًا - على قلَّة بضاعتي - مسلكَ التحقيق. وأنا أنصح طلبة العلم دائمًا أن لا يعدُّوني عالمًا، وأن لا يعتمدوا على قولي، إلا أنني أقول لهم: من اختبرني منكم زمانًا، ثم رأى من قولي ما هو موافق لإمام من أئمة العلم، وفهم الدليلَ، وقوِيَ في نظره = فلا حرجَ عليه إن شاء الله تعالى من اعتماده، وأسأل الله تعالى لي ولهم التوفيق. ***

المقدمة

المقدمة وفيها فصول: الفصل الأول في معنى قولهم: "أصول الفقه" فيه خمس (¬1) مباحث: الأول العلم في أصل الوضع العربي هو المعرفة القطعية مثال ذلك: أن تُسأل في أواخر النهار: هل غَرَبتِ الشمسُ؟ فتكون قد رأيتها بعينك تغربُ، أو تراها لم تغربْ، أو ترى شعاعَها الذي لا مِريةَ فيه، فأنت هنا عالم بغروبها أو بعدم غروبها. ووراء ذلك حالان: الأولى: أن لا تكون رأيتَها تغرب، ولا أنت بحيث تراها, ولكن ترى من حال الجوّ ظلمةً وإنارةً ما يُرجِّح في ظنِّك غروبَها أو عدمَ غروبها، أو يخبرك ثقةٌ بأنها غربت أو أنها لم تغرب، أو تكون عندك ساعةٌ فتستدلُّ بها على الغروب أو عدمه. فالحكم الذي في نفسك في هذه الحال يُسمى "ظنًّا"، ومقابله يُسمى "وهمًا". الثانية: أن لا يحصل لك ما يوجب علمًا ولا ظنًّا، وتكون مترددًا، وهذا يسمى "شكًّا" و"جهلاً". ¬

_ (¬1) كذا في الأصل بدون هاء.

* فوائد

* فوائد: الأولى: قد يطلق العلم على ما يعمُّ الظنَّ. الثانية: ينقسم العلم إلى قسمين: الأول: ما لا يقبل تشكيكًا البتةَ، مثل العلم بأنَّ الاثني عشر إذا قُسِّمتْ بين اثنين على السواء بدون تكسير كان لكل منهما ستة، أو بين ثلاثةٍ كان لكل منهم أربعة، أو بين أربعةٍ كان لكل منهم ثلاثة، أو بين ستةٍ كان لكل منهم اثنان، أو بين خمسة أو سبعة أو تسعة لم تنقسم. الثاني: ما يقبل التشكيك في الجملة، كمن يرى الشمسَ رائعةَ النهار، فيقال له: لعلك مسحور، فأنت تتوهم أنك ترى الشمس توهُّمًا، أو لعلك مُصابٌ في عقلك، فإنَّ المصاب في عقله يتراءى له ما لا حقيقة له، ولا يشعر بأنه مصاب. وأمثال هذه التشكيكات لا تقدح في القطع. قال الله تبارك وتعالى: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجر: 14، 15]، أخبر سبحانه وتعالى بأنَّ هذا التشكُّك عِنادٌ منهم وحمقٌ وجهلٌ. الفائدة الثالثة: كثيرًا ما يشتبه الظن بالعلم، كأن تُحضِر بدويًّا لم يسمع بالحاكي "الفونغراف"، ولا المذياع "الراديو"، وتُقعِده عند باب حجرة فيها مذياع فيسمعه، فإنه يقطع بأنَّ في الحجرة إنسانًا يتكلَّم. ومن تفكَّر في هذا وأمثاله خاف أن يكون كثير من الأمور التي يقطع بها

ويرى أنه عالمٌ بها، إنما هي ظنونٌ قد تتخلف. وطريق الخلاص من هذا مشروحةٌ في موضع آخر. [ص 2] الفائدة الرابعة: حكم الذهن الجازم يسمَّى "اعتقادًا" وقد يكون عن علمٍ، وقد يكون عن ظنًّ غالبٍ. والفصل بينهما أنَّ الحكم إن كان خطأً فهو عن ظنًّ، وهذا هو الذي يُسمَّى بالجهل المركب؛ لأنَّ صاحبه يجهل، ويجهل أنه يجهل، أي لا يعلم حقيقة الحال، ويرى أنه عالمٌ. وأما الجهل البسيط فهو أن يجهل حقيقة الحال، ويعلم أنه جاهل بها. وإن كان الحكم صوابًا، فللمعتقد حالان: الأول: أن يكون بني اعتقاده على دليل يفيد العلم؛ سواءٌ أكان دليلاً معيَّنًا، أم مجموعَ أمورٍ إنما يفيد كلٌّ منها بانفراده ظنًّا ما, ولكنها بمجموعها تفيد القطع، وسواءٌ استطاع المعتقد أن يُعبِّر عن ذلك الدليل أم لم يستطع، وهذا كله علم. الحال الثانية: أن يكون بني اعتقاده على دليل يجوز أن يتخلَّف، ولكنه لم يشعر بجواز تخلُّفه؛ كالبدوي الذي تقدم آنفًا، إذا وَقَفْتَه قريبًا من حجرة يسمع فيها غناءً، فإنه يقطع أنَّ فيها إنسانًا يُغنِّي. ودليله قد يتخلَّف كما مر، فهذا اعتقادٌ ليس بعلم، وإن صادف الواقع. الفائدة الخامسة: كثيرًا ما يطلق الظنّ على الخرْص والتخمين، وهو ما يُبنَى فيه الحكم على أمارة ضعيفة محتملةٍ للتخلُّف احتمالاً ظاهرًا. والعاقل لا يبني على مثله إلاَّ حيث لا خطر، ولكن كثيرًا ما يتقوَّى مثل

المبحث الثاني

هذا الأمر بجهل الخطر، ثم بهوًى أو عصبية، فيمنع صاحبه بحرصه عليه عن أن يسمح لنفسه بالتشكك فيه، فيُبنَى عليه أمرٌ عظيم الخطر، فيسمَّى "اعتقادًا". الفائدة السادسة: كثيرًا ما يطلق العلم ويراد به الفن، يقال: هذا الكتاب في علم المعاني، أي: في فن المعاني. **** المبحث الثاني الأصول جمع أصل، وأصل الشيء ما يقوم أي ينبني عليه؛ كأصل الشجرة، وهو جُرثومتها النابتة في الأرض، وأصل الجدار، وهو أساسه. قال الراغب (¬1): "أصل الشيء: قاعدته التي لو توهمت مرتفعةً لارتفع بارتفاعه سائره لذلك، قال تعالى: {أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم: 24] ". **** المبحث الثالث الفقه في اللغة: العلم وحسن الفهم. قال الراغب (¬2): "هو التوصل إلى علم غائب بعلمٍ شاهد، وهو أخصُّ من العلم، قال: {لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء: 78] ". ¬

_ (¬1) "مفردات القرآن" (ص 79). (¬2) المصدر نفسه (ص 642).

المبحث الرابع

والفقه في العرف: العلم بالأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية. قالوا: والمراد بالعلم هنا ما يشمل الظن؛ لأنَّ غالب أدلَّة الأحكام الشرعية ظني. تنبيه: عُلِم مما ذُكِر أنَّ الفقيه هو المجتهد، فالمقلّد ليس بفقيه، ولكن الفقه كثيرًا ما يطلق على كلام المجتهد، وما بُنِي عليه. فإذا عرف المقلِّد ذلك قيل له: "فقيه"؛ بمعنى أنه عارف بما حصل عن فقه المجتهد. فائدة: الدليل فعيل بمعنى فاعل، مِن "دلَّ على كذا" أي: أوصل إلى معرفته. ومنها: دللتُ فلانًا على الطريق، والدخان يدلُّ على النار، وعرضُ القفا يدلُّ على البلادة. وقد تكون الدلالة قاطعة، وقد تكون ظنية، وتخصيص بعضهم الدليلَ بما يُعطِي القطعَ اصطلاح. **** المبحث الرابع قولهم: "أصول الفقه"، معناه: الأشياء التي ينبني عليها الفقه. والفقه ينبني على أمور: أولها: أصول الدين. ثانيها: علم اللسان. ثالثها: الكتاب والسنة وما دلاَّ عليه من الأدلة الإجمالية، وما اشتمل عليه ذلك من الأدلة التفصيلية.

المبحث الخامس

رابعها: قواعد كلية يتوقَّف عليها فهم الأحكام من الأدلة التفصيلية. وهذه هي (¬1) أصول الفقه اصطلاحًا، وذلك كقولنا: "ظاهر القرآن حجة"، و"الأمر يقتضي الوجوب"، و"النهي يقتضي التحريم"، و"الخاصّ يخصُّ العام"، و"العامُّ حجة فيما بقي"، وأشباه ذلك. **** المبحث الخامس (¬2) قد عُرِف مما تقدَّم معنى قولهم: "علم أصول الفقه"، فلا نُطيل ببيانه. ... ¬

_ (¬1) في الأصل: "هو". (¬2) في الأصل: "الرابع".

الفصل الثاني في أن أصول الفقه لا بد أن تكون قطعية

الفصل الثاني في أنَّ أصول الفقه لا بدَّ أن تكون قطعيةً (¬1) شاع بين أهل العلم أنَّ أصول الفقه لا يكفي فيها غلبةُ الظن، بل لا يصحُّ البناء عليها حتى تكون قطعية. ونازع فيه بعض أهل العلم؛ بأنَّ كثيرًا من القواعد التي تُذكَر في أصول الفقه ظنّي. [ص 3] كيف وغالبها مختلف فيه بين أهل العلم، ونجد العالم منهم إنما يحتج لقوله بحجة ظنية، وكثيرًا ما يعبِّرون بما يفيد أنه ليس عندهم إلاَّ الظن، كقولهم: الأصح، الظاهر، الراجح، وغير ذلك. وقد أُجيب بأنَّ من القواعد ما هو قطعي بمجموع أدلّةٍ كلٌّ منها بانفراده ¬

_ (¬1) كتب المؤلف صفحة حول هذا الموضوع ضمن المجموع رقم [4658]، وهو ما يلي: اعلم أنَّ مسألتنا هذه أصل من أصول الفقه، وقد نصّ العلماء أنَّ أصول الفقه لا تثبت إلا بالقطع. ونظر فيه بعض المتأخرين قال: في الأصول مسائل لا يتحقق فيها القطع. وجوابه: أنّ أصول الفقه ما هو مستند إلى أصلٍ فوقه قطعي، فيكون الثاني قطعيًّا بهذا المعنى، وهكذا المسائل الفرعية الظنية المستندة إلى الأصول القطعية تكون قطعية بهذا المعنى، فلو شافه ملك زيدًا وعمرًا قائلاً: من جاء منكما إلى رجل فبلّغه عني أمرًا، فإن ظنَّ صدقَه فواجب عليه العمل بذلك الأمر، وإن ظنَّ كذبه فواجب عليه أن لا يعمل به، ثم جاءهما رجلٌ فبلّغهما أمرًا عن الملك فظنَّه زيد صادقًا وظنَّه عمرو كاذبًا، فإن العمل واجب على زيد وإن كان ثبوت ذلك الأمر بخصوصه عن الملك ظنيًّا، وحرام على عمرو وإن كان عدم صحة ذلك الأمر بخصوصه عن الملك ظنيًّا.

ظني؛ فيعترض بعضُ الناس كلَّ دليلٍ منها بانفراده، فيتوهم أن تلك القاعدة ظنية. وهذا جواب قد يصحُّ في بعض القواعد لا جميعها، فإنَّ كثيرًا منها لا ترتفع دلالةُ أدلتِه بمجموعها عن الظن. وقد يجاب بأن تلك القواعد وإن لم تكن قطعية في صحتها، فهي قطعية في وجوب الأخذ بها. فقولنا: "الأمر يقتضي الوجوب" إذا لم يتيسَّر للمجتهد القطعُ بصحتها، فإنه قد يتتبع عدةَ أوامرَ خاليةٍ عن القرينة المقتضية للوجوب والصارفة عنه، فيستظهر اقتضاءها الوجوبَ، وأنَّ اقتضاء الوجوب مقتضَى الأمر، فيلزمه قطعًا الأخذُ بذلك، لاندراجه تحت أصل قطعي، وهو وجوب حمل الكلام على ظاهره ما لم يَصرِفْ عنه صارف. ولا شك أن المراد بالظاهر هنا ما يشمل الظاهر للمجتهد: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7]. وقد يُقدَح في هذا الجواب بوجهين: الأول: أن ظاهر عبارات مشترطي قطعية الأصول، وصريحَ كلام بعضهم أنَّ مرادهم قطعية الصحة، لا قطعية وجوب الأخذ. الوجه الثاني: أن قطعية وجوب الأخذ عامة في جزئيات الشريعة، فلا وجه لتخصيص الأصول منها. وبيانه أنه ليس للمجتهد أن يقول في الدين إلا بما رآه دليلاً شرعيًّا، والأخذ بما رآه دليلاً شرعيًّا واجب قطعًا. فيقول في كل جزئية: أرى هذا دليلاً شرعيًّا، والأخذ بما أراه دليلاً شرعيًّا واجبٌ عليّ قطعًا.

نعم، قد يستفاد من هذا جواب آخر، وهو أنَّ القواعد التي تُذكر في أصول الفقه على ضربين: الأول: الأصول الحقَّة. الثاني: ضوابط تحيط بجزئياتٍ تندرج تحت أصل من الضرب الأول؛ فكما أنَّ المجتهد إذا سمع قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ [الْكِتَابَ] ...} [النور: 33]. فرأى أنَّ ظاهر الكلام وجوب المكاتبة بشرطها, لزمه القول بها قطعًا؛ للقطع بوجوب حمل الكلام على ظاهره ما لم يصرف عنه صارف. فقد وجب الأخذ هنا قبل استحضار قولنا: "الأمر يقتضي الوجوب"، غاية الأمر أنه قد يتبع عدة أوامر إلى آخر ما تقدم، فيضع هذا الضابط: "الأمر يقتضي الوجوب". وعلى هذا فتسمية هذه الضوابط أصولاً لا يخلو من تسمُّح. [ص 4] ويجاب بأنَّ كثيرًا من القواعد إنما هي ضوابط لجزئيات كثيرة تندرج كلها في أصول قطعية. فمن هذا قولهم: "الأمر يقتضي الوجوب"، و"النهي يقتضي التحريم"؛ فإنَّ الجزئيات التي تدخل تحت كل منهما تدخل تحت أصل "الكلام محمول على ظاهره ما لم يَصرِفْ عنه صارف". ولا ريب أنَّ الظاهر هنا يشمل الظاهر عند المجتهد - وقد خالفه غيره -, ويشمل الظاهر عنده ظنًّا، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا}. فإذا نظر المجتهد في نص فيه أمرٌ، فوجد الظاهر اقتضاء الوجوب، علم أنَّ تلك الجزئية داخلة في أصل "الكلام محمول على ظاهره ... إلخ"، فلزمه

القول فيها بالوجوب. ثم ينظر في أوامر أخرى فكذلك، فينظر في سبب ظهور اقتضاء الوجوب في تلك النصوص، فيجده الأمر، فينتظم له ضابطُ: "الأمر يقتضي الوجوب". فإن تيسر القطع في هذا فذاك، وإلاَّ كفى فيه الظن. وقِسْ على هذا قولهم: "النهي يقتضي التحريم". وربما يندرج تحت الأصل القطعي قاعدة، وتندرج تحت هذه القاعدة قاعدة أخرى، وقد تتعدَّدُ الوسائط. ***

الفصل الثاني في الأحكام

[ص 5] الفصل الثاني (¬1) في الأحكام الحكم في الأصل: القضاء، والمراد به هنا: قضاء الله تعالى على عباده إيجابًا أو تحريمًا أو غيرهما مما يأتي. * والأحكام على ضربين: الضرب الأول: التكليفي: وهو خمسة: الأول: الوجوب، وهو الأمر المحتَّم، على معنى أنه إن لم يفعل كان عاصيًا. الثاني: الندب، وهو المرغَّب فيه, على أنه إن فعل فقد أحسن، وإلاَّ فليس بعاصٍ. الثالث: الإباحة، وهو الإذن على وجهٍ يُعلَم به استواءُ الفعل والترك. الرابع: الكراهية، وهي التنفير عن الفعل، على أنَّه إن فعل فقد أساء، ولم يبلغ أن يكون عاصيًا. الخامس: التحريم، وهو حظر الفعل، على أنَّه إن فعل فهو عاصٍ. وهنا مسائل: الأولى: لا خلاف أن الوجوب له درجات، يتفاوت بها ما للعامل من الأجر، وما على التارك من الوزر. فوجوب ردِّ السلام ليس كوجوب الصلوات الخمس. ¬

_ (¬1) كذا في الأصل.

والفرض والوجوب يتواردان على معنى واحد، إلاَّ أنَّ الفرض يُشعِر بتأكد الوجوب. وقد اصطلح الحنفية على تخصيص الفرض لما ثبت بدليل قاطع، والواجب لما ثبت بدليل ظني. كذا نُقل عنهم، ولهم تفصيل، قيل: والخلاف لفظي. أقول: لكنه يتعلق به خلاف معنوي، سنُلِمُّ به في محله إن شاء الله تعالى. المسألة الثانية: الوجوب منه عيني؛ وهو ما لا يسقط الحرج عن المكلَّف بفعل غيره له. وإما كفائي؛ وهو ما يطلب حصوله، فإذا قام به بعض المكلَّفين لم يأثم الباقون بتركه. المسألة الثالثة: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وذلك كغسل شيء من حدود الوجه مع الوجه، والسفر لأداء الحج، وتحصيل ما يستر العورة وسترها للصلاة، ونحو ذلك. فإنَّ الرجل إذا كان هو وولده خارجَ حجرةٍ مقفلةٍ فيها مصحف، وهو يعلم ذلك كله، وقال لولده: ناوِلْني المصحف؛ عُلِم من هذا الأمر أمرُه بالحركة إلى الحجرة وفتحها ونحو ذلك مما لا بدَّ منه للتوصُّل إلى مناولة المصحف. فأما ما لا يتم الوجوب إلاَّ به فلا يجب؛ فالتوبة من الذنب واجبة، ولا يتم وجوبها إلاَّ بإتيان الذنب، وليس بواجب. وقضاء الدين واجب، ولا يتمُّ وجوبه إلاَّ بأخذ الدين، وليس بواجب. وهكذا تحصيل النصاب للزكاة، وغيره.

المسألة الرابعة: الواجب المخيَّر، يكفي المكلَّفَ أن يأتي بواحدٍ مما خُيِّر فيه، وهذا مقطوعٌ به متّفق عليه. واختلف في الثواب والعقاب إذا فعل اثنين منها فأكثر معًا، أو تركها كلها. ومما يدل على الحق فيها: أنه لو أتلف زيد سلعةً لعمرو تساوي عشرة دراهم مثلاً، وكان عمرو محتاجًا إلى سكنى دارٍ لزيد، وأجرتها في الشهر نحو ثلاثة عشر درهمًا، وكان الصرف: الدينار (¬1) باثني عشر درهمًا = جاز أن يقول الحاكم لزيد: أَسكِنْ عمرًا دارَك شهرًا، أو ادفَعْ إليه دينارًا أو عشرة دراهم. فلا ريب أنَّ الواجب في نفس الأمر هو عشرة دراهم أو ما يعدِلُها، والتخيير بين ذلك وبين ما زاد عليه هو على طريق الفضل، فإذا لم يفعل شيئًا مما ذُكِر لم يكن عليه إثم إلا بمقدار عشرة دراهم، كما لا يخفى. المسألة الخامسة: الندب تختلف درجاته في التأكيد وعدمه، وهو والمسنون والمستحبُّ والمرغَّب فيه بمعنى. واصطلح الحنفية على تخصيص كل منها بدرجة، ولا يتعلَّق بذلك خلافٌ معنوي فيما أعلم. المسألة السادسة: المكروه تختلف درجاته، وكثيرًا ما يطلق على الحرام، ويميِّزون بينهما بقولهم: "مكروه تنزيهًا" و"مكروه تحريمًا". وفي المنقول عن السلف ما يقتضي أنهم إنما يطلقون المكروه بمعنى الحرام حيث لم يكن التحريم منصوصًا؛ يتباعدون عن مقتضى قوله تعالى: ¬

_ (¬1) كذا في الأصل.

{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} الآية [النحل:116]. المسألة السابعة: الحرمة تختلف درجاتها، ويقسم في الجملة إلى قسمين: لَمَم أو صغائر، وكبائر. وجاء في بعض الذنوب أنها من أكبر الكبائر. المسألة الثامنة: في التحريم المخيَّر، هناك ثلاث صور: الأولى: ما يحدث بتعاطي أحد الشيئين مفسدةٌ في تعاطي الآخر، كالمرأة وابنتها في النكاح؛ فإنه إذا نكح البنتَ حرمتْ عليه الأم، وإذا نكح الأم ودخل بها حرمتْ عليه البنتُ. الصورة الثانية: ما تكون المفسدة في الجمع، كالأختين في النكاح. ومعلوم في هاتين الصورتين أنه قبلَ تعاطِي أحدِ الأمرين يكون تعاطِيْ كلٍّ منهما حلالاً.

الرسالة الخامسة رسالة في التعصب المذهبي

الرسالة الخامسة رسالة في التعصب المذهبي

[ص 1] بسم الله الرحمن الرحيم من المعلوم بالضرورة من دين الإِسلام أن الدين شَرْعُ الله تعالى، فإنما يؤخذ من كتابه وسنة رسوله، مباشرةً إذا تيسَّر ذلك، وإلاَّ فبواسطة مُخبِر موثوق به عنهما. وقد علم الله تبارك وتعالى أن العالِم قد تعزُب عنه بعض دِلالات الكتاب أو السنة، وقد لا تبلغه السنة، مع أسبابٍ أخرى يقع بها العالِم في الخطأ، فتجاوز سبحانه عن العالِم وأثابه على اجتهاده المأمور به، وفَرَض على المخطئ أن يرجع إلى الحق إذا تبيَّن أو بُيِّن له. فكان العلماء من سلف الأمة يجتهدون ويقضون ويفتون بما رأوا أنه الحق، مع علم كلّ منهم وغيره أنه معرَّض للخطأ، إذ قد يغفل عن بعض دلالات القرآن، وقد تخفى عنه السنة، وقد يخطئ في التصحيح والتضعيف والترجيح، وقد وقد ... ومن ادعى لواحد من الأئمة انتفاء الخطأ والغلط والزلل عنه، فقد ادَّعى له العصمة، وكفى بذلك خروجًا على الإِسلام! ومن كان له ممارسة للسنة وطالع كتب الشافعي رحمه الله عَلِم يقينًا أن كثيرًا من الأحاديث الثابتة لم تبلغه البتة، أو بلغته من وجه لا يثبت، وهي ثابتة عند غيره من أوجه أُخَر. وإن كان قد بلغه وثبت عنده من الأحاديث ما لم يبلغ أستاذَه مالكًا أو لم يعرف ثبوته، كما بلغ كلاًّ منهما وثبت عنده أشياء لم تبلغ أبا حنيفة وما لم يعرف ثبوته. وكانوا هم يعرفون هذا يقينًا ولذلك كان كل منهم إذا تبيَّن له خطأ قولٍ من أقواله رجع عنه، ثم لم يعمل ولم يقضِ

ولم يُفتِ إلا بما تبيَّن له بعدُ أنه الحق. وكان العاميُّ يأخذ بفتوى عالم (¬1)، ثم إذا قيل له: إنه أخطأ، رجع فأخذ بما يترجح عنده أو احتاط لدينه. وامتاز جماعة من العلماء بالتوسّع في العلم والتجرُّد لنشره مع الفضل والصلاح إلى أسباب أُخَر اقتضت أن يكثر أصحابهم ويُعنَوا بأقوالهم ويُمعنوا في ذلك. فهؤلاء أصحاب المذاهب. لم يكن أولئك الأئمة يشعرون بأنها ستنشأ لهم مذاهب على هذا النحو المشاهَد أو قريب منه، وأقوالُهم وأحوالهم تبيِّن ذلك. ومن ألَّف منهم الكتب إنما ألَّفها تبليغًا لما فيها من السنة وتنبيهًا على ما تنبَّه له من الدّلالات وتعليمًا لوجوه النظر والاستنباط. وكانوا هم أنفسهم يمتنعون عن الجواب في كثير من المسائل، ويتوقفون عن الجزم في حكمها إذا ذكروها في كتبهم، ويقولون القول ثم يظهر لهم خطاؤه فيرجعون عنه، [ص 2] وينهون أصحابهم عن تقليدهم وتقليد غيرهم، ويأمرونهم بالنظر لأنفسهم واتباع الدليل كما ذكره المزني في أول "مختصره" عن الشافعي (¬2)، وذلك فرضُ الله تبارك وتعالى على هؤلاء وهؤلاء. وكانوا يقرُّون العامة على ما جروا عليه إلى زمانهم؛ يستفتي العاميُّ فيما ينوبه مَن يلقاه من العلماء بدون تقيُّدٍ بمعيَّن. وجرى على ذلك أصحابُهم ¬

_ (¬1) من قوله: "إذا تبيَّن له" إلى هنا ضرب عليه المؤلف أولاً ثم كتب فوقه: "صح" عدة مرات لطول الكلام. (¬2) قال: "اختصرت هذا الكتاب من علم محمَّد بن إدريس الشافعي رحمه الله ومن معنى قوله لأقرِّبه على من أراده مع إعْلامِيه نهيَه عن تقليده وتقليد غيره، لينظر فيه لدينه ويحتاط فيه لنفسه. وبالله التوفيق".

وأصحابُ أصحابهم، ثم أخذت الهممُ تضعف والعلماء يقلُّون وأسباب الهوى تشرى، فنشأ التقيُّد بالمذاهب، ثم استحكم وصار المتفقِّهة يتنافسون؛ كلٌّ يحاول الزيادة في أتباع مذهبه, وأوقع ذلك في إحَن ومِحَن وفتن معروفة. وأخذ متفقّهة كل مذهب يحاولون أن يجعلوه كافيًا بأن يُوجدوا فيه أحكامًا للفروع الكثيرة التي لم يذكرها الإِمام، فأخذوا في الاجتهاد جاعلين أقوال الإِمام أصولاً يُلحقون بها ما لم يذكره بالمقايسة والتشبيه والرأي المحض مع التفنُّن في فَرْض صور نادرة بل مستحيلةٍ. ثم تتَّخذ الطبقة الثانية أقوال مَن قبلها أصولاً يُلحقون بها ما لم يُذكر من الفروع، وهلمَّ جرًّا. حتى في عصرنا هذا - رغمًا عن تضخُّم المذهب - فما أكثر الوقائع التي تقع فلا يجدها المتفقِّه في كتب مذهبه، فيشمِّر للاجتهاد متَّخذًا أقوال من قبله - ولو عن قربٍ - أصولاً [ص 3] يستنبط منها ويقيس ويشبِّه ويتكلَّف. ومن شأن تلك الاجتهادات أن تؤدِّي كثيرًا إلى ما يخالف نصوص الشرع ومقاصده، وإلى ما يخالف كلام الأئمة وقدماء أصحابهم، وهذا هو الواقع. فأما كثرة الاختلاف في كل مذهب وتعارض التصحيح والترجيح فحدِّثْ عنه ولا حرج، وإن حاول المتأخرون التخفيف من ذلك! ومع هذا كله، فلم تُطبِق الأمة على هجر الكتاب والسنة، بل بقي النظر في التفسير وجمع السنة وترتيبها والكلام في الروايات وجمع الأدلة واستنباطها من الكتاب والسنة مستمرًّا وإن تفاوتت المقاصد؛ فمِنْ عالم مستقلٍّ وإن انتسب إلى مذهب فنسبة اسمية فقط، وثانٍ منتسب ملتزم، غير أنه إذا بان له في مسألة رجحانُ خلاف مذهبه دليلاً أخذ بالدليل، وثالث متقيد بمذهب لا يستطيع التخلُّص من شيء منه. والملتزمون كثيرون, ولا يكاد يخلو واحد منهم عن الرغبة في الانتصار

للمذهب، ولكنهم متفاوتون في هذه الرغبة وفي مراتبها، وبحسب التفاوت في ذلك يكون التفاوت في إنصاف الأدلة والحَيْف عليها. [ص 4] وأما المتقيِّد فقد أعلن عن نفسه بأنه "محامي" (¬1). وقد كان عمل المحامي الألدِّ قاصرًا على ما ذكره إياس بن معاوية، عن صالح السدوسي أنه يقول لموكله: "اجحدْ ما عليك، وادَّعِ ما ليس لك، واستشهد الغُيَّب" (¬2). فزاد بعد ذلك باستشهاد شهود الزور ومحاولة جرح شهود المخالف العدول؛ وقع هذا وأكثر منه من هؤلاء المحامين عن المذاهب. نعم، إنهم متفاوتون ولكن أحسَبُهم (¬3) إلى أصحاب مذهبه أَلَدُّهم وأَلَجُّهم؛ يُطرونه بقوة العارضة، والصلابة في المذهب، وشدّة الوطأة على المخالفين، مع أنهم يرمون من خالفهم - وإن كان مستقلاًّ أو ملتزمًا غير متقيِّد - بالتعصب واتباع الهوى والتعامي عن الحق وأشباه ذلك. ومَن وطَّن نفسه على الإنصاف وتحرِّي الحقَّ على كل حال، عَلِمَ - وإن كان متقيِّدًا - بأن الملتزمين والمتقيدين من علماء مذهبه كغيرهم في أنه يقع منهم في كثير من المواطن ميلٌ عن الإنصاف وحيف على الأدلة؛ يوقعهم في ذلك حرصُهم على الانتصار للمذهب. وإذ كان كل مذهب من المذاهب غيرَ معصوم، فلا بُدَّ أن يكون وقع في كل منها فروع مخالفة للحق، يقع محاولُ الانتصار لها في الميل والحيف ولا بد (¬4). ¬

_ (¬1) كذا في الأصل بإثبات الياء، وهو جائز في الوقف. (¬2) انظر "أخبار القضاة" (1/ 350) و"تاريخ بغداد" (6/ 12). (¬3) كذا في الأصل، وله وجه. ويمكن أن يُقرأ "أحسنهم" بالنون. (¬4) هنا ينتهي ما وجد من كلام الشيخ بخطه.

مجموع رسائل النحو واللغة

آثَار الشيخ العَلامَة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي (20) مجموع رسائل النحو واللغة تَألِيف الشيخ العَلامَة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني 1312 هـ - 1386 مـ تحقيق أسامة بن مسلم الحازمي وَفق المنهج المعتمد من الشيخ العَلامَة بكر بن عبد الله أبو زيد (رَحِمَهُ الله تعالى) تمويل مُؤَسَّسَةِ سليمان بن عبد العزيز الراجِحِيِّ االخيرية دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

بسم الله الرحمن الرحيم

راجع هذا الجزء محمد أجمل الإصلاحي محمد عزير شمس

مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية SULAIMAN BIN ABDUL AZIZ AL RAJHI CHARITABLE FOUNDATION حقوق الطبع والنشر محفوظة لمؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية الطبعة الأولى 1434 هـ دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع مكة المكرمة - هاتف 5473166 - 5353590 فاكس 5457606 الصف والإخراج دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

مقدمة التحقيق

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله المتفرّد بالكمال، ذي الجلال والإكرام، القائل في محكم الفرقان: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269]، والصلاة والسلام على سيد الأنام القائل - فيما رواه الشيخان -: "من يرد الله به خيرًا يفقِّهْهُ في الدين" صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين. أما بعد: فمما لا ريبَ فيه أن الله تبارك وتعالى قسم العلوم على الخلق كما قسم أرزاقهم، وجعل حظوظهم منهما متفاوتة، ودرجاتهم متباينة، فمنهم الغني في علمه وماله، ومنهم الفقير فيهما، ومنهم الغني في أحدهما الفقير في الآخر، وهذه سنّتُه الكونية الشرعية مذ خلق الإنسان إلى أن تنقضي الدنيا وتزول، يفتح على مَن يشاء من المتأخرين ويخصه من لدنه علمًا، كما فتح على بعض المتقدمين وخصَّهم بما شاء من العلم والفضل، والإنصاف أنَّ تقدّم الزمان وتأخره ليس برهانًا على الأفضلية حاشا القرون الثلاثة المفضلة، قال الجاحظ: "وكلامٌ كثير قد جرى على ألسنة الناس وله مضرة شديدة، وثمرة مُرَّة، فمِن أضرِّ ذلك قولهم: "لم يدع الأوَّل للآخر شيئًا" قال: فلو أنَّ علماء كل عصر مُذْ جرت هذه الكلمة في أسماعهم تركوا الاستنباط لِمَا لم يَنْتهِ إليهم عمَّن قبلهم، لرأيتَ العلم مختلاًّ. واعلم أنَّ العلم إنَّما هو معدن، فكما أنَّه لا يمنعك أنْ ترى ألوف وِقْرٍ قد أخرجت من معدن تبْرٍ أن

تطلب فيه، وأنْ تأخذ ما تجدُ ولو كقدْرِ تُومة (¬1)، كذلك ينبغي أن يكون رأيك في طلب العلم" (¬2). ومما يَحسُن إيراده ههنا الرسالة التي كتبها ابن فارس الإِمام اللغوي - صاحب المجمل والمقاييس - لأبي عمرو محمَّد بن سعيد الكاتب حينما أنكر على أبي الحسن العجلي تأليفه كتابًا في الحماسة يضاهي به حماسة أبي تمام فقال له - كما في "يتيمة الدهر" للثعالبي (2/ 214) -: " ... فماذا الإنكارُ؟! ولمهْ هذا الاعتراضُ؟! ومَنْ ذا حَظَر على المتأخَّر مضادَّة المتقدّم؟ ولِمهْ تأخذ بقول مَنْ قال: "ما ترك الأول للآخر شيئًا" وتدعُ قول الآخر: "كم ترك الأول للآخر"، وهل الدنيا إلا أزمان، ولكلِّ زمانٍ منها رجال؟ وهل العلوم بعد الأصول المحفوظة إلا خطرات الأوهام ونتائج العقول؟ ومَنْ قَصر الآداب على زمانٍ معلوم، ووَقَفها على وقتٍ محدود؟ ولمهْ لا ينظر الآخِر مثلما نظر الأول حتى يؤلِّف مثل تأليفه، ويجمع مثل جمعه، ويرى في كلِّ مَثَلٍ رَأْيه؟ وما تقول لفقهاء زماننا إذا نزلت بهم من نوادر الأحكام نازلةٌ لم تَخطر على بال مَن كان قبلهم؟ أَوَ ما علمتَ أنَّ لكل قلب خاطرًا, ولكلّ خاطرٍ نتيجة؟ ولِمَهْ جاز أنْ يقال بعد أبي تمام مثل شعره ولم يَجُزْ أنْ يؤلَّف مثل تأليفه؟! ولِمَهْ حجَّرتَ ¬

_ (¬1) التومة: اللؤلؤة، جمعها تُوْمٌ، وتُومٌ. كما في القاموس. (¬2) نقل كلام الجاحظ الإِمام عبد القاهر الجرجاني في "دلائل الإعجاز" (ص 292)، وانظر ما قاله ابن قتيبة في "الشعر والشعراء" (1/ 63).

واسعًا وحظرتَ مباحًا وحرَّمتَ حلالاً، وسددتَ طريقًا مسلوكًا؟ ... (¬1). وهذا المجموع اللغوي أثر من آثار العلاَّمة الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلِّمي - رحمه الله رحمة واسعة - مِن أكابر العلماء في القرن الرابع عشر، قد بلغ من العلم أطْورَيْه (¬2)، وإنَّه لذو بَزْلاء (¬3)، وإنَّه لنِقابٌ (¬4)، وإنَّه لشرَّاب بأَنْقُع (¬5)، وإنَّه ليصدق عليه قول أكثم بن صيفي: "الأمور تَشَابَهُ مُقْبلةً، ولا يعرفها إلا ذو الرأي، فإذا أدبرت عرفها الجاهل كما يعرفها العاقل". والشيخ المعلِّمي قد اهتم بفن العربية في بواكير طلبه العلم وأحبها حبًّا خالط لحمه ودمه؛ إذ كان يؤلف وينسخ في النحو وهو دون العشرين كما في رسالة الحقائق الآتية حيث انتهى منها عام (1332 هـ)، واللطيفة البكرية قد انتهى منها ناسخها عام (1337 هـ)، ونسخ شرح التحفة الوردية لابن الوردي - وهي منظومة في النحو معروفة شرحها ابن الوردي نفسه - نسخها عام (1334 هـ)؛ إذْ قال في خاتمتها (¬6): "تمت كتابته في النصف الثاني من السدس الأول من النصف الثاني من الثلث الثاني من الخمس الخامس من النصف الأول من الربع الأول من الثلث الأول من عام يا سلام بحسن ¬

_ (¬1) انظر بقية الرسالة في "اليتيمة" (2/ 214). (¬2) بكسر الراء وفتحها: أي أقصاه. (¬3) البزلاء: الرأي الجيد الصواب المحكم. (¬4) النقاب - بالتخفيف -: الرجل الفطن الذكي الفهم. (¬5) يضرب لمن جرَّب الأمور. (¬6) كما في الكشكول الآتي وصفه, وهي موجودة فيه (ص 58 - 110).

الختام (1334 هـ)، ثم ذكر أنه كاتبها لنفسه وأنه راجي رحمة ربه إذا حلَّ رمسه ... وذكر دعاءً طويلاً فيه ابتهال. ونسخ الزنجانية في الصرف هو وأخوه محمَّد في سنة (1330 هـ) (¬1). فالعربية من أول العلوم التي تلقَّاها بعد كتاب الله، فتدرج فيها حتى بلغ قاموس هذا الفن وقعره وأضحى من كبار علماء العربية في القرن الماضي، وإن كان جلُّ الناس عرف الشيخ محدِّثًا عالمًا بفن العلل والرجال إلا أن عِلْم الشيخ في العربية يضاهي علمه بالحديث ورجاله، قال العلاَّمة العمودي - عندما ترجم له في بعض مجاميعه المخطوطة -: "لازَمَ المدارس العلمية والرشدية، وحاز العلم، وعلوم العربية، وتوحَّد في علم الإنشاء واللغة" (¬2). ولئن كان المعلمي - رحمه الله - من متأخري علماء العربية فلم يكبّلْه زمانه، ولم يقفْ ذهنه عند بعض القضايا النحوية والمسائل اللغوية التي استقرت رَدَحًا من الدهر في كتب الفنّ، بل غدا يناقش مسائل كان يستشكلها فيُبْدي رأيه فيها بمقتضى الصناعة النحوية واللغوية، وتارة يذهب إلى قولٍ لم يُسبَق إليه، وهذا تجده واضحًا في رسالة الطرائف، وفي تصريف (ذو)، وفي الرسالة السابعة وهو إشكال صرفي، وفي الخاطرة التي في قول الشاعر: "ولكنني من حبها لعميد"، وفي مسألة المعارف، فهو - رحمه الله - قد أخذ بقول القائل: "كم ترك الأول للآخر". ¬

_ (¬1) انظر: الكشكول (ص 189 - 203). (¬2) نقله د/ عبد الله أبو داهش كما في مجلة عالم الكتب ع (2) سنة (1411 هـ) شوال (ص 185).

نماذج من كلامه في المسائل اللغوية

وسوف أتعرض هنا لبعض جهود الشيخ المعلِّمي رحمه الله في علوم العربية، وذلك بثلاثة أمور: الأول: مؤلفاته. الثاني: تحقيقاته لكتب العربية. الثالث: نماذج من كلامه في المسائل اللغوية مع ذكر بعض ترجيحاته. أولاً: مؤلفاته: 1 - اللطيفة البكرية والنتيجة الفكرية في المهمات النحوية. 2 - طرائف في العربية. 3 - الحقائق النحوية. 4 - مختصر شرح ابن جماعة على القواعد الصغرى لابن هشام. 5 - نظم قواعد الإعراب الصغرى. 6 - تلخيص الثمرات الجنية في الأسئلة النحوية للشيخ محمَّد جمال بن محمَّد الأمير المالكي (غير كامل). 7 - تعليقات على متن الأجرومية (غير كامل). 8 - اختصار كتاب درة الغواص للحريري. 9 - مختصر متن الكافي في العروض والقوافي. 10 - مقالات متنوعة في النحو واللغة وبعض الإعرابات والمسائل المشكلة، وأنظام لغوية.

ثانيا: تحقيقاته لكتب اللغة العربية

ثانيًا: تحقيقاته لكتب اللغة العربية: عمل المعلِّمي على تصحيح الكتب عندما كان ضمْنَ الفريق العامل في مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية بحيدرآباد الدكن - في الهند - قرابة خمسة وعشرين عامًا عاكفًا على التصحيح والتحقيق والتنقيح، فكان في بعضها مشاركًا لبعض العلماء في تصحيح كتاب ما، وكان في بعضها منفردًا، ولنقتصر هنا على ذكر الكتب اللغوية: 1 - الأمالي الشجرية، لأبي السعادات ابن الشجري. طُبع بالهند في دائرة المعارف سنة (1349 هـ) ويقع في جزئين بتصحيح وتعليق الشيخ عبد الرحمن بن يحيى اليماني، والسيد زين العابدين الموسوي. 2 - كتاب المعاني الكبير، لابن قتيبة الدينوري. وقد صحح الكتاب أولاً العلاَّمة المستشرق سالم كرنكو، وبعث بالنسخة إلى دائرة المعارف بعد أن شرح لهم ما قاساه من سقم الأصل وأنه مع ما عاناه وبذله من المجهود العظيم في تصحيح النسخة لا يثق بأنه لم يبق في النسخة شيء من الغلط، فأحيلت النسخة إلى المعلَّمي فتصفح الكتاب واستدرك بعض ما بقي، وطبع الكتاب في دائرة المعارف سنة (1368 هـ) في ثلاثة أجزاء، وقدَّم له المعلِّمي بمقدمة بلغت ثلاثًا وثلاثين صفحة (¬1) تحدَّث فيها عن مكانة الشعر القديم، وتدوينه، وتعريف أبيات المعاني، والمؤلفين في هذا الفن، ثم التعريف بابن قتيبة، ومكانته في معرفة الشعر ¬

_ (¬1) انظرها في "مقدمات الشيخ" (ص 203 - 242) ضمن هذه الموسوعة.

وكيف يختار الشعر، وكم أقسامه، ثم مكانته - أي ابن قتيبة - في علوم الأدب وغيرها، ثم ذكر من غضَّ من ابن قتيبة ودافَعَ عنه، ثم ذكر حياته وكيف كانت تتصف، ثم تراثه العلمي ومؤلفاته وأحال فيها على بعض الكتب، ثم تحدث عن كتاب المعاني الكبير ووصفه وأثبت أن لابن قتيبة كتابًا واحدًا في أبيات المعاني وهو هذا الكتاب، ثم ذكر عدة مزايا لكتاب المعاني الكبير، ثم شرح حال النسخة الخطية لهذا الكتاب، وعمل الدائرة، وتحدَّث عن التعليقات الموجودة في المطبوع، ثم أبدى شكره للمستشرق سالم كرنكو، وناشد ورجا أهل العلم والفضل فيما إذا عثر أحدهم على بقية هذا الكتاب المفقود أن يبادر بإخبار الدائرة، وأنهم إذا وقفوا على أخطاء في المطبوع أن يتكرموا بإطلاعهم ليتدارك ذلك في الطبعة الثانية، ثم أثنى على جهود دائرة المعارف العثمانية ودعا لهم. ومن قرأ هذه المقدمة عرف علو كعب المعلِّمي في فهم اللغة، وصنعة الشِعر وأحوال العرب. 3 - كتاب الأمالي، لأبي عبد الله محمَّد بن العباس اليزيدي: طُبع الكتاب بدائرة المعارف سنة (1369 هـ) بتصحيح الحبيب عبد الله بن أحمد بن العلوي الحسيني الحضرمي وساعده الشيخ عبد الرحمن المعلِّمي - كما قال الحبيب العلوي -: "فشرعنا في طبعه بمساعدة العلامة المحقق الشيخ عبد الرحمن بن يحيى اليماني مصحح دائرة المعارف"، ويقع الكتاب في مجلد لطيف. 4 - إعراب ثلاثين سورة من القرآن الكريم، للإمام أبي عبد الله الحسين بن أحمد المعروف بابن خالويه، طُبع بدائرة المعارف العثمانية،

ثالثا: نماذج من كلامه في المسائل اللغوية, مع ذكر بعض ترجيحاته

وجاء في خاتمة الطبع: ملاحظات شعبة التصحيح لدائرة المعارف: "لا ريب أن الدكتور سالم الكرنكوي قد بذل جهده في استنساخ هذا الكتاب ومقابلته على النسختين المذكورتين والضبط والتصحيح على الألفاظ واللغات، فرتَّبه وعلق عليه الهوامش بأجمل أسلوب وإن حصلت له صعوبة شديدة في القراءة والمقابلة والمراجعة، لكنَّه استوفى العمل. ثم استقصى النظر في هذا الكتاب حضرة الفاضل الأديب الشيخ عبد الرحمن بن يحيى اليماني، أحد رفقاء الجمعية، ونبَّه في الحواشي على بعض الخطأ من جهة النسخ بعلامة (ع. ي) فشكر الله سعيهما" اهـ. 5 - كتاب الاقتراح في علم أصول النحو، للإمام السيوطي، أفاد المحققان الدكتور أحمد سليم الحمصي، والدكتور محمَّد أحمد قاسم أن الكتاب طبع طبعته الثانية عام (1359 هـ) بتصحيح كلٍّ من عبد الرحمن بن يحيى اليماني والشيخ الفاضل سعيد بن عبد الله العمودي، والشيخ الفاضل أحمد بن محمَّد اليمني (¬1). اهـ. ثالثًا: نماذج من كلامه في المسائل اللغوية, مع ذكر بعض ترجيحاته: كان المعلِّمي رحمه الله تعالى يميز تعليقاته من تعليقات غيره بحرف (ع) عندما يختتمها أو بحرف (ي) أو يجمع بينهما، وكان يرمز بحرف (ح) كثيرًا، وقد اخترنا نماذج من هذه التعليقات ممَّا يوضح دقة الشيخ في اللغة ¬

_ (¬1) انظر مقدمة التحقيق (ص 14) من ط جروس برس تصوير مكتبة الفيصلية، وقد التبس على المحققين مكان طبع الكتاب طبعته الأولى وطبعته الثانية.

وبعض ترجيحاته، وذلك من حواشيه على كتاب "المعاني الكبير" لابن قتيبة (¬1): - جاء في (ص 4) هامش رقم (2) عند بيت المرَّار العدوي يصف فرسًا، وذكر كلمة (جبب) فعلَّق المستشرق كرنكو: أن بهامش الأصل تصويبًا من قبل رجل اسمه (محمود) جعل كلمة (الجبب) بالتحريك ثم خطأه كرنكو وخطأ ابن قتيبة أيضًا. فقال المعلِّمي معقبًا: "أقول: في اللسان وغيره كأدب الكاتب للمؤلف (ص 103) في تفسير الجُبة - بضم الجيم - أن جبة الفرس هي: موصل الوظيف في الذراع، وقيل غير ذلك مما يقاربه، ونقلوا عن الليث: "الجبة: بياض يطأ فيه الدابة بحافره" فعلى قول الجمهور: الجبة ذاك الموضع وعليه فلا يصح أن يمدح الفرس بأنه ذو جُبب - بضم الجيم - لأن كل فرس كذلك فلا مدح فيه، وأمَّا على قول الليث فالجبة بياض ذاك الموضع، فيصح أن يمدح الفرس بذلك، وأمَّا الجَبَبُ بفتح الجيم فهو اسمٌ للبياض في ذاك الموضع من القوائم اتفاقًا فكلام (محمود) هنا جيّد" اهـ. - وفي (ص 9) هامش (3) عند قول لبيد: (على الإطراب) قال كرنكو: كذا ورد في الأصل - أي بالإهمال - ورواية ديوانه (على الأظراب) وكذا في كتب اللغة في مادة (ظ ر ب) اهـ. قال المعلِّمي: "اختلف اللغويون في تفسير الأظراب في هذا البيت وأقرب الأقوال أنه جمع ظرب وهو الأكمة، ويحتمل أن يكون رواه بعضُهم ¬

_ (¬1) وسنذكر باقي هذه الفوائد في ملحق في آخر هذا المجموع اللغوي.

بكسر الهمزة على أنه مصدر لأظرب أي: أتى الظرب لكن لم يذكروا أنَّ الظرب تجمع على إظراب ولا أنه يقال: أظرب بمعنى أتى الظرب وهذا ممَّا يقوي ما وقع في الأصل وتفسير المؤلف ظاهره يوافق ما في الأصل ويمكن خلافه والله أعلم" اهـ. - وفي (ص 18) حاشية رقم (5) عند قول ابن قتيبة: "يقال رهيقى: إذا كان يتقدم الخيل". قال المعلِّمي: "كذا ولم أجده في المعاجم، إنما فيها قولهم في الصفة: "رَهِق" بفتح فكسر، وقولهم: "يعدو الرَّهَقَى" بفتحات، وقولهم: "ناقة رهوق" بفتح فضم" اهـ. - وجاء في (ص 19) هامش رقم (1) عند قول ابن قتيبة: وقال آخر: غشمشم يغشى الشجرْ ... ببطنه يعدو الذكرْ قال المعلِّمي: "في باب الغين من جمهرة الأمثال للعسكري، ومن مجمع الأمثال للميداني: "غشمشم يغشى الشجر" على أنه مَثَل، وقال الميداني: "الغشمشم: الجمل"، وذكرا في باب الباء: (ببطنه يعدو الذكر)، ولم أر مَنْ جمع بينهما على أنه شعر" اهـ. - وفي (ص 40) هامش (4) قال كرنكو: في النقل: "عرهوج" آخره: جيم، وعلَّق عليه: "لم أجد هذه الكلمة في معاجم اللغة" اهـ. قال المعلِّمي: "وإنما هو: "عرهوم" بالميم، والقصيدة ميمية، وعرهوم موجود في المعاجم" اهـ.

- وفي (ص 54) هامش (6) عند قول ابن قتيبة: "يقال: شائع وشاع مثل هائر وهار". قال المعلَّمي: "هذا يوهم أن قولهم: "شاع" بضم العين "وهار" بضم الراء مقلوبان من "شائع" و"هائر" وهو خطأٌ حتمًا إنَّما القلب تحويل الحرف إلى غير محلّه ثم يكون لكل حرف حكم موقعه الجديد، وفي بيت الأجدع: "فهن شواعي" والتحقيق في "شاع" بضم العين "وهار" بضم الراء أنهما صفتان على وزن "فرح" بفتح فكسر، فقلب حرف العلة ألفًا لتحرّكه وانفتاح ما قبله. وراجع اللسان (هـ ور) و (ر وح) و (ص ون)، وقد زعم بعضهم: أن الأصل "شائع"، و"هائر" كما قيل في "حاجة" أن أصلها "حائجة" وهذا النظير مختلف فيه، ومَن أثبته يعدّه شاذًا، والأصل عدم الحذف، والله أعلم" اهـ. وهذه دراية بالصرف عالية، فلله درّه! - وفي (ص 113) هامش (4) عند قول ابن قتيبة: وقال الراجز ... إلخ. قال المعلِّمي: "هكذا شكل في النقل وهو المعروف لكن يكون من الرَّمل، والمؤلف يقول: "قال الراجز" فإما أن يكون سقط شيء أو يكون بتنوين (حشرة) من باب: رجل حسنٌ الوجه بتنوين (حسن) ورفع الوجه، أو نصبه، أو يكون بكسر الشين وهي لغة لهذيل كما يؤخذ من اللسان" اهـ. - وفي (ص 121) حاشية (1): قال المعلِّمي: "في النقل هنا وفي الموضع الآتي بعدُ "نبأة" بسكون الباء بعدها همزة مفتوحة ويأتي فيما بعد تفسيره بقوله "مشرفة" وفي اللسان وغيره: "النبأة: النشز" لكن الشعر فيما يظهر من الرجز هو لأبي النجم، وأبو النجم معروف بالرجز فيظهر أن الكلمة

(نباة) بفتح الباء بعدها ألف، وأصله "نبأة" بسكون الباء تليها همزة إلا أنه خفف كما تخفف "مرأة وكمأة" وإن قال سيبويه: "هو قليل"" اهـ. - وفي (ص 217) هامش (1) عند قول الشاعر: فذاحت بالوتائر ثم بدَّتْ ... يديها عند جانبه تهيلُ قال في (جانبه): "في النقل: "جانية" وبهامشه: "ورواية الديوان - عند جانبها - ولعله الصواب" أقول: وعلى رواية: " جانبها" يكون الضمير للجثة والجيفة المفهوم من قوله: "حمار ... قتيل" والذي في اللسان (ذاح): "جانبه" وهو الموافق لصورة الكلمة في الأصل ويوضحه قول المؤلف في التفسير: "عند جانب القبر" والقبر مفهوم من قول الشاعر: (قتيل) وإنما لم يقل المؤلف: "عند جانب الحمار أو القتيل" لمكان قول الشاعر: "تهيل" فتدبّر. اهـ. - وفي (ص 236) هامش (2) عند قول الشاعر: * كعين الكلب في هبًّى قباع * قال المعلِّمي: "في النقل "هبى" بفتحة واحدة على الباء المشددة وكتب في الهامش: "في لسان العرب (2/ 278) قال ابن سيده: كذا وقع في نوادر ثعلب قال والصحيح: (هبًّى) بالتنوين قباع - من الهبوة - وفي اللسان (20/ 226) قال ابن قتيبة في تفسيره ... " فذكر عبارة اللسان وهي ملخصة من عبارة المؤلف، وعبارة المؤلف صريحة أنَّ "هبى" عنده بالتنوين لأنه عنده من (هـ ب و) جمع هابٍ مثل (غزى) جمع غازٍ فالألف لام الكلمة انقلبت عن حرف العلة، وإنَّما يمتنع التنوين إذا كان من (هـ ب ب) فتكون الألف زائدة للتأنيث" اهـ.

وأما ترجيحاته فننقل بعضًا منها خشية الإطالة، فمن ذلك: قوله في مسألة الاحتجاج بالأحاديث النبوية في المسائل النحوية حيث يقول في الأنوار الكاشفة (ص 249) في معرض ردّه على أبي ريَّة قال: "ثم ذكر - أي أبو ريَّة - ص (254) كلام النحاة في الاستدلال بالأحاديث، وهذا لا يهمنا، مع أنَّ الحقّ أنَّ ابن مالك توسع، وأنه كما مرَّ ص (60) يمكن بالنظر في روايات الأحاديث وأحوال رواتها أن يعرف في طائفة منها أنها بلفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - أو بلفظ الصحابي أو بلفظ التابعي - وهو ممن يحتجّ به في العربية - لكن تحقيق ذلك يصعب على غير أهله، فلذلك أعرض قدماء النحاة عن الاحتجاج بالحديث ووجدوا في المتيسر لهم من القرآن وكلام العرب ما يكفي" اهـ. - وفي كتاب المعاني الكبير (1/ 25) عند قول المرَّار العدوي: يَصْرعُ العَيْرينِ في نَقْعَيهما ... أحوذيٌّ حين يَهْوِي مُسْتمرْ قال: "في بعض نسخ المفضليات (نقعهما) وليس بجيد إذ المعنى أنه يصرع أحدهما ثم يلحق الآخر فيصرعه فالجيّد أن يكون ما بينهما متباعدًا ليكون ذلك أدل على قوة الفرس، وإذا كان ما بينهما متباعدًا كان لكل منهما نقع على حدة" اهـ. - وفي (1/ 74) في قول الفرزدق: ووفراء لم تخرز يسير وكيعة

قال: "في النقل واللسان (وك ع): "تحرز"، وفي التاج (وف ر) (¬1): "تخرز" وهو الصواب. - وفي (1/ 274) عند قول ابن هرمة: زجرت لها طيرًا فيزجر صاحبي ... وأقول هذا زائد لم يحمد قال: "كذا ويأتي مثله في النصف الثاني إلا أنه زاد في الأصل فشكل "يحمد" - بضمٍّ ففتح ثم فتح بتشديد - كأنه محاولة لإقامة الوزن، والصواب - إن شاء الله تعالى -: "رائد لم يحمد" الرائد الذي يبعثه القوم يرتاد لهم موضعًا للنجعة و"يحمد" بضم فسكون فكسر، وقد فسَّره المؤلف هنا بقوله: "لم يأت موضعًا محمودًا"، وفسَّره في النصف الثاني بقوله: "لم يأت ما يحمد عليه"، وفي اللسان (ح م د): "أحمد الأرض: صادفها حميدة ... وأحمد الرجل فعل ما يحمد عليه" فصواب إنشاد البيت هكذا: وجرت لها طير فيزجر صاحبي ... وأقول هذا رائد لم يحمد" اهـ ... ¬

_ (¬1) هكذا في المطبوع ولم أجده في مادة (وف ر) وإنَّما وجدته في (وك ع).

* محتوى المجموع

* محتوى المجموع يحوي هذا المجموع اثنتي عشرة رسالة موزَّعةً على ثلاثة أقسام، نذكرها بالإجمال ثم نفصِّلها (¬1): القسم الأول: الرسائل النحوية والصرفية، وفيه: 1 - اللطيفة البكرية والنتيجة الفكرية في المهمات النحوية. 2 - حقائق في النحو مستقربة. 3 - مختصر شرح ابن جماعة على القواعد الصغرى لابن هشام الأنصاري. 4 - نظم قواعد الإعراب الصغرى. 5 - طرائف في العربية. 6 - الكلام على تصريف (ذو). 7 - إشكال صرفي وجوابه. 8 - ضَبْطُ فِعْلين في مَتْن الأزهار، وانتقاض واعتراض. - فائدتان (خاطرةٌ - ومسألةٌ في المعارف). القسم الثاني: الرسائل اللغوية والأدبية، وفيه: 9 - اختصار كتاب "درة الغواص في أوهام الخواص" للحريري. 10 - فوائد لغوية منتقاة من كتاب "الكنز المدفون والفلك المشحون". ¬

_ (¬1) هذه الرسائل تنشر لأول مرة، ولم يسبق أنْ طُبِعَ منها شيءٌ سِوى رسالتيْ: اللطيفة البكرية، والمناظرة الأدبية.

القسم الأول: (الرسائل النحوية والصرفية)

11 - مناظرة أدبية بين المعلِّمي وبين الشاعر الأديب محمَّد بن علي السنوسي. - شرح بيت ومعناه. - أنظام لغوية. القسم الثالث: الرسائل العروضية, وفيه: 12 - مختصر متن الكافي في العروض والقوافي. - نظم بحور العروض. تنبيه: كانت هناك بعض الرسائل النحوية للمعلمي لم تكتمل كشرحه على متن الآجرومية، وتلخيصه للثمرات الجنية في الأسئلة النحوية للمالكي، ولعله أكملها لكن الموجود ضمن رسائله المخطوطة ناقص (¬1). ولنبدأ بالتعريف بها رسالةً رسالةً على حسب ترتيبها في الأقسام الثلاثة من هذا المجموع. القسم الأول: (الرسائل النحوية والصرفية): الرسالة الأولى: اللطيفة البكرية (¬2): - العنوان: " اللطيفة البكرية والنتيجة الفكرية في المهمات النحوية"، هكذا أسماها الشيخ المعلِّمي رحمه الله تعالى، كما وجد على صفحة العنوان. ¬

_ (¬1) والنقص في هذين الكتابين كثير، فهما غير صالحين للنشر. (¬2) تمَّ نشرها للمرة الأولى بتحقيقي ووضع شرح يسير عليها عن دار عالم الفوائد عام (1421 هـ)، وقد حذفت ههنا كثيرًا من التعليقات.

- سبب التأليف

- سبب التأليف: بين الشيخ رحمه الله أن الباعث على تأليف هذه الرسالة هو سؤال ورد عليه من بعض الناس، يطلب منه التحدث عن الاسم المبني، والاسم الممنوع من الصرف. قال الشيخ رحمه الله: "جعلتُها جوابًا لمن سألني التكلّم على المبني والممنوع فرأيت إطلاق عنان اليراع في سائر الأبواب، إيماءً وتلويحًا أتم للفائدة". اهـ. وهذه العبارة موجودة على حاشية قد ضرب المؤلف عليها بالقلم. - زمن التأليف: يبدو أن الشيخ رحمه الله قد ألَّف هذه الرسالة وعُمُره بضعٌ وعشرون سنة، ذلك لأن ناسخ الرسالة قد انتهى منها سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة وألف من الهجرة، والشيخ قد ولد سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة وألف، والعنوان قد يرمز إلى هذا، حيث إن معنى "البِكر" - بكسر الباء - هو أول كل شيء، وكل فعلةٍ لم يتقدمها مثلها. قاله صاحب القاموس. فالرسالة - والله أعلم - من بواكر مؤلفات الشيخ رحمه الله. - مصادر المؤلف: وجد على الورقة الأولى مِنَ الرسالة إعلانٌ للشيخ رحمه الله، يذكر فيه المصادر التي جمع منها هذه اللطيفة، وننقله كما هو. قال رحمه الله: "إعلان: كل ما حررته فمستفادٌ من "الهمع" للسيوطي، و"شرح الكافية" للرضي، وحاشيتي الصبان، والخضري على شرحي الألفية،

- وصف المخطوط

ورسالة للسيد أحمد دحلان في المبنيات، أفاض الله على الجميع غيوث كرمه، وغمرهم بِحُلَلِ نعمه، فمن توهم خللاً فليتثبت، ويطالع الكتب المذكورة وغيرها، فإن وجد التصريح بما قلنا، أو الإيماء إليه، وإلا فلينظر مُنْصِفًا لا مُتَعسِّفًا، فلعله يجد - إن شاء الله تعالى - لذلك وجهًا، وإلا نقل ما يخالفه، والإجماع أو الأصحية على بطلانه، عالمًا أن الفكر قد يسهو، واليراع قد يطغو، وصلى الله على رسوله محمَّد، وإخوانه من النبيين والملائكة المخصوصين بالعصمة عن كل عيب ووصمة، وعلى آله وذوي قرابته وأنصاره وصحابته، والحمد لله رب العالمين" اهـ. وقوله هنا: "ويطالع الكتب المذكورة وغيرها ... " إلخ، يفهم منه أن المصادر الأساسية لهذه الرسالة هي ما ذكره في الإعلان السابق، وأن الشيخ قد أخذ من مصادر أخرى لم يصرح بها. فمن أمثلة ذلك: أنه لما عدد المنصوبات على منوال ما ذكره السيوطي في "الهمع" لم يُعرِّف المفعول لأجله، والمفعول المطلق بتعريف السيوطي، بل ذكر حد ابن آجروم في مقدمته المشهورة، وسمى المفعول المطلق مصدرًا. ومن ذلك أيضًا: أن الشيخ رحمه الله عقد خاتمة في آخر الكتاب، أورد فيها مسائل من كتاب "مغني اللبيب" لابن هشام، أو "قواعد الإعراب" لابن هشام أيضًا. والله أعلم. - وصف المخطوط: كان اعتمادي في تحقيق هذه الرسالة على مخطوط محفوظ ضمن

الرسالة الثانية: حقائق في النحو مستقربة

مؤلفات الشيخ ورسائله المودعة بمكتبة الحرم المكي الشريف، تحت الرقم العام (4703)، وتقع في ثمان ورقات، كل صفحة منها تحتوي على واحدٍ وعشرين سطرًا، وبعض الصفحات دون ذلك، وكان تاريخ نسخها عام (1337 هـ)، والناسخ لها هو: أحمد بن يحيى بن إسماعيل بن يحيى بن عبد الكريم الضمدي، بعناية جامعها الشيخ عبد الرحمن المعلِّمي، رحمه الله رحمة واسعة. والمخطوط مكتوب بخط الضمدي، والذي يظهر - والله أعلم - أن الرسالة نسخت أولاً بخط الناسخ المذكور، ثم حررها الشيخ بقلمه مرة أخرى، وأضاف عليها، وأنقص منها، فعادت مسوّدة كما بدأت. **** الرسالة الثانية: حقائق في النحو مستقربة: إن معرفة اصطلاحات وحدود كل فنّ مطلب ضروري لكل دارس، إذْ بها يستطيع المرء أن يضبط الفن الذي يحاول دراسته ومعرفته، قال أبو العباس ابن تيمية عند كلامه على مسألة الحد (¬1): " ... وهذا الحد هم متفقون على أنه من الحدود اللفظية، مع أن هذا هو الذي يحتاج إليه في إقراء العلوم المصنّفة بل في قراءة جميع الكتب، بل في جميع أنواع المخاطبات، فإن مَن قرأ كتب النحو والطب أو غيرهما لا بدَّ أن يعرف مراد أصحابها بتلك الأسماء، وتعرف مرادهم بالكلام المؤلَّف، وكذلك من قرأ كتب الفقه ¬

_ (¬1) انظر: الرد على المنطقيين (ص 49 - 51) تحقيق عبد الصمد شرف الدين ط الهند 1368 هـ.

والكلام والفلسفة وغير ذلك، وهذه الحدود معرفتها من الدين في كل لفظ هو في كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قد تكون معرفتها فرض عين، وقد تكون فرض كفاية؛ ولهذا ذمَّ الله تعالى مَنْ لم يعرف هذه الحدود بقوله تعالى: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [التوبة: 97] والذي أنزله على رسوله فيه ما قد يكون الاسم غريبًا بالنسبة على المستمع كلفظ "ضيزى" و"قسورة" و"عسعس" وأمثال ذلك. وقد يكون مشهورًا لكن لا يعلم حدّه، بل يعلم معناه على سبيل الإجمال كاسم الصلاة والزكاة والصيام والحج، فإن هذه - وإن كان جمهور المخاطبين يعلمون معناها على سبيل الإجمال، فلا يعلمون مسماها على سبيل التحديد الجامع المانع إلا من جهة الرسول - صلى الله عليه وسلم - , وهي التي يقال لها الأسماء الشرعية ... (ثم ذكر أمثلة على ذلك ثم قال): "وبالجملة فالحاجة إلى معرفة الحدود ماسة لكل أُمّة، وفي كل لغة، فإن معرفتها من ضرورة التخاطب الذي هو النطق الذي لا بدَّ منه لبني آدم ... " انتهى بتصرف. ولهذا اجتهد العلماء قديمًا وحديثًا في وضع تعريفات لمصطلحات كل فنّ. وفي مجال النحو العربي تعددت المؤلفات التي تُعنى بالحدود والتعريفات (¬1). وممَّن أسهم في التأليف في هذا النوع الشيخ المعلِّمي رحمه الله، فله ¬

_ (¬1) للاستزادة ومعرفة هذه المؤلفات راجع مقدمة د/ سليمان العايد لتحقيق كتاب الحدود للفاكهي (ص 123 - 129).

- العنوان

هذه الرسالة التي أسماها: "حقائق في النحو مستقربة"، وهي على طريقة السؤال والجواب - وهذه الطريقة تعليميَّةٌ نافعة - (¬1) وقد استصفى المعلِّمي مسائلها من كتب الفنّ المعتبرة فجاءت محكمة النظام، بديعة الأسلوب، قوية السبك. - العنوان: كما تقدم أن المعلِّمي سمَّى رسالته (حقائق في النحو مستقربة)، وقد وضع العنوان هكذا: "هذه حقائق في النحو مستقربة يحسن حفظها"، وكتب هذه العبارة مرتين على وجه الصفحة الأولى من الرسالة أحدهما بخط واضح مشكول، وفيه شيء من الزخرفة التقليدية، والآخر كُتب بخط رديء وغير واضح أيضًا. والحقائق جمع حقيقة، والحقيقة في اللغة: ما أقر في الاستعمال على أصل وضعه (¬2). منهج المؤلف في الحقائق: أورد المؤلف ثلاثًا وستين ومائة حقيقة مسوقةً بطريق السؤال والجواب، واضعًا السؤال بين قوسين، متبعًا في ترتيب المسائل والحدود طريقة غالب متأخري النحاة، ويكاد الناظر يجزم بأنه أَتبع منهج ابن الحاجب في كافيته ¬

_ (¬1) وقد استخدمت منذ القِدم كما جاء في حديث جبريل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سؤاله عن الإِسلام والإيمان والإحسان وأشراط الساعة. (¬2) لسان العرب (10/ 52). وانظر في تعريف الحقيقة بتوسع: تعريفات الجرجاني (ص 40)، والكليات للكفوي (2/ 187).

مصادر المؤلف

المشهورة - ولا غرو فإنَّ متن الكافية وشروحه كان المتداول والمعول عليه في قطر اليمن عامة في فترة حياة المعلِّمي وما قبلها - والدليل على أنه نهج نَهْجَ الكافية كثرة اعتماده عليها في الحدود والتعاريف (¬1). وممَّا تميّز به أنه متحرر لا يتقيد بمذهب أو قول، فتراه على سبيل المثال في المنصوبات يقول: "والأصح أنها سبعة عشر" وفي الفعل الماضي يرى أنه يضم للمجانسة إذا اتصل به واو الجماعة وغير ذلك من المسائل. مصادر المؤلف: لم يحدد المؤلف مصادره ولم يشر إليها، فاجتهدتُ في التعرف عليها، وتوصلت إلى مظانَّها بعد جهد، ومن المسائل ما لم أقف عليها في مصدر إلا ما ذكره ههنا كتعريفه للظرف بنوعيه المكاني والزماني غير المبهم، والأكوان المقدرة الثمانية في متعلق الجار والمجرور والظرف. ونَقْلُ المؤلف من المصادر كان تارة بالنص الحرفي، وتارة بتصرف يسير. وقد رتبت المصادر بحسب كثرة اقتباس المؤلف منها: أ - كافية ابن الحاجب (¬2): 1 - تعريف الكلمة (ص 59). 2 - المعرفة والنكرة (ص 165، 166). 3 - المعارف (ص 165) إلا أنه أسقط النداء منها تبعًا لبعض النحاة. 4 - تعريف الضمير (ص 143) وتقسيمه إلى متصل ومنفصل. ¬

_ (¬1) كما تجده في المصادر التي اعتمد عليها المؤلف في هذه الرسالة. (¬2) العزو على ط مكتبة دار الوفاء الأولى (1407 هـ) تحقيق طارق نجم.

5 - الموصول (ص 152). 6 - المعرب والمبني (ص 60). 7 - الظواهر من المعربات (ص 61). 8 - علل الاسم الممنوع من الصرف مأخوذة من الكافية (ص 62)، وهي عبارة عن بيتين من الشعر نظم فيها العلل التسع. 9 - تعريف المرفوع (ص 68). 10 - تعريف المبتدأ (ص 74). 11 - مواضع وجوب تقديم المبتدأ على الخبر (ص 77). 12 - تعريف الخبر (ص 74) بزيادة قيد الفائدة. 13 - مواضع وجوب تقديم الخبر على المبتدأ (ص 78). 14 - ذكر للفاعل تعريفين الأول: مأخوذ من الكافية بحذف كلمة (قدم عليه) كما في (ص 68). 15 - مواضع وجوب تقديم الفاعل من الكافية (ص 68) وزاد عليها موضعًا كما نبهت عليه في التعليق. 16 - تعريف نائب الفاعل (ص 72). 17 - خبر (إنَّ) واسم (ما) و (لا) المشبهتين بـ (ليس) (ص 81 و83). 18 - التوابع من الكافية (ص 128). 19 - المفعول به (ص 87). 20 - مواضع وجوب تقديم المفعول (ص 69)، ثلاثة منها فقط.

21 - المفعول فيه (ص 100). 22 - المفعول معه (ص 102). 23 - المفعول لأجله (ص 101). 24 - التعريف الأول للمفعول المطلق (ص 84). 25 - الحال (ص 103). 26 - التمييز (ص 107). 27 - المنادى (ص 89). 28 - عطف النسق (ص 132). 29 - التأكيد (ص 135). 30 - البدل وأقسامه (ص 137). 31 - تعريف المجرور (ص 121). 32 - الفعل المضارع (ص 190). 33 - نوعا المثنى (ص 60) و (142). 34 - الفعل الماضي (ص 189). 35 - الأمر (ص 201). 36 - حكم مبني الشبه وألقابه (ص 142). 37 - تعريف أسماء الأفعال والأصوات والمركبات (ص 156) و (157) و (158).

ب - شروح الفاكهي على القطر والملحة والمتمِّمة: 1 - تعريف الاسم والفعل والحرف من شرحه على المتممة (ص 4). 2 - تعريف الإضافة من شرحه على الملحة (ص 19). 3 - جمع التكسير من شرحه على الملحة (ص 17). 4 - تعريف الفاعل من شرحه على الملحة (ص 23). 5 - التعريف الثاني للمفعول المطلق من شرحه على الملحة (ص 27). 6 - المنادى من شرح الفاكهي على الملحة (ص 41). 7 - تعريف المشبه بالمضاف من شرحه على الملحة (ص 42). 8 - الاستثناء والمستثنى من شرحه على الملحة (ص 33). 9 - الإغراء من شرحه على الملحة (ص 37)، وأمثلته من نظم الملحة للحريري. 10 - التعجب من شرحه على الملحة (ص 36). 11 - عطف البيان من شرحه على الملحة (ص 48). 12 - النعت من شرحه على الملحة (ص 49). 13 - العلة في شبه المضارع بالاسم من شرحه على القطر (1/ 72). ج - فرائد النحو الوسيمة شرح الدرة اليتيمة للشيخ علي بن حسين المالكي المكي. 1 - تعريف الاسم والفعل والحرف (ص 4). 2 - تقسيم المجرور (ص 89).

3 - معنى اعتوار المعاني خاصةً مأخوذة بأمثلتها من الشرح (ص 20). د - أوضح المسالك وشرحه التصريح: 1 - ما يجب استتار الضمير فيه من التصريح (1/ 100). 2 - جمع التكسير من التصريح (2/ 299). 3 - التعريف الثاني للفاعل من الأوضح. وانظر: التصريح (1/ 267). 4 - تعريف المشبه بالمضاف من التصريح (2/ 167). هـ - شرح الشذور وقطر الندى لمصنفهما ابن هشام: 1 - تعريف المفرد من القطر (ص 8). 2 - المفعول به من شرح الشذور (ص 278) (¬1). 3 - التأكيد من شرح الشذور (ص 550). 4 - النعت من شرح قطر الندى (ص 283). و- همع الهوامع للسيوطي: 1 - ما يجب استتار الضمير فيه من الهمع (1/ 214). 2 - مواضع وجوب تقديم المفعول به بعضها من الهمع (3/ 10). 3 - العلة في شبه المضارع بالاسم. الهمع (1/ 53 - 54). ز - شرح الرضي على الكافية (¬2): 1 - مواضع وجوب حذف فعل المصدر (1/ 354 - 355). ¬

_ (¬1) ط الدقر. (¬2) ط جامعة الإِمام محمَّد بن سعود.

الملاحظات

2 - تعليل بناء المنادى المفرد العلم والنكرة المقصودة (1/ 412). 3 - العلة في شبه المضارع بالاسم (4/ 817). 4 - نوعا المبني (1/ 39)، (3/ 109). ح - القواعد الصغرى لابن هشام بشرح الأزهري (¬1): 1 - معنى التعلق، ومواطن وجوب حذف متعلق الجار والمجرور والظرف من شرح الأزهري (ص 57). ط - شرح الجامي على الكافية المسمى بالفوائد الضيائية: 1 - تعريف الوضع (لوحة: 2). ي - التعريفات للجرجاني: 1 - تعريف الوضع (ص 111). 2 - المفرد (ص 98). الملاحظات: بدت لي بعض الملاحظات أحببت أن أذكرها باختصار مع العلم أنها لا تمس الرسالة بأدنى شيء من النقص أو العيب، فهي كشجة عبد الحميد (¬2): ¬

_ (¬1) ط البابي الحلبي بهامش تمرين الطلاب. (¬2) قال الثعالبي في ثمار القلوب (ص 95): "تضرب مثلاً للعورة تصيب الإنسان الجميل فلا تشينه بل تزيده حُسنًا، فكان عبد الحميد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب من أجمل أهل دهره فأصابته شجة في وجهه فلم تشنه بل استحسنها الناس، وكان النساء يخططن في وجههن شجة عبد الحميد" اهـ.

فأول الملاحظات: عدم ذكره لبعض أبواب النحو كباب الاشتغال، والتنازع، والاختصاص، والترخيم، والاستعانة، والندبة، ولم يذكر حدّ التنوين وأنواعه، ولا حدّ الحكاية، ولا المنسوب، ولعل تركه لها من أجل طلب الإيجاز والاختصار ثم الاقتصار على المشهور المتداول. ثانيًا: اكتفاؤه بالمثال أحيانًا عن الحدّ كما صنع في (المعرف بأل) حيث قال: "مثل الرجل - الكتاب". ثالثًا: نفيه لحقيقة شيء ثابت في المصادر التي استقى منها، فمن هذا ما ذكره في أقسام مبني الشبه حيث قال: "ولا حقيقة للكنايات" والأمر خلاف هذا كما تجده في محله من هذه الرسالة. رابعًا: تركه لشيء قد ذكر في محله، أو في موطن آخر، فمثال الأول: ما جاء في المنصوبات إذْ عدَّ العاشر والحادي عشر الإغراء والتحذير فعرَّف الأول ومثَّل له، وترك الثاني. ولعله اكتفى بتعريف الضد وهو نوع من أنواع الحدود كما يقال: الشر خلاف الخير. ومثال الثاني: أنه لم يذكر في المرفوعات خبر (لا) التي لنفي الجنس، بينما ذكر في المنصوبات اسم (لا) التي لنفي الجنس وابن الحاجب وجماعة من النحاة قد عدّوا خبر (لا) التي لنفي الجنس من المرفوعات. وكذلك ذكر ألقاب المبني (ضم، وفتح، وكسر، ووقف)، ولم يذكر ألقاب المعرب وهي (الرفع، والنصب، والجر، والجزم) وأمَّا ما ذكره بقوله: (ثم إلام ينقسم الاسم بعد هذا) إلى مرفوع ومنصوب ومجرور، فهذا تقسيم للاسم باعتبار حالاته الإعرابية.

وصف المخطوط

خامسًا: ذِكْره الشيءَ مرتين كما فعل في (المبني) فإنه في الموضع الأول كان حدًّا له، والموضع الثاني كان تقسيمًا له، وكما في تعريف الحرف فإنه عرَّفه أولاً عند تقسيم الكلمة ثم أعاد التعريف في حرف الجر. وصف المخطوط: الرسالة تقع في مجموع محفوظ بمكتبة الحرم المكي، وهو عبارة عن دفتر كبير كتب على غلافه الأول: "كشكول مهم ومفيد ومنوَّع، الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلِّمي (ت 1386 هـ) (138) ورقة مقاس 24.5 × 19 سم القرن الرابع عشر الهجري بيد المؤلف، فهرسة د/ ياسين ناصر الخطيب (وعليه توقيعه) " اهـ. ورقم هذا المجموع العام (4104) يبدأ بمذاكرة في مادة من مواد الشرع بين القاضي عبد الله العمودي، والشيخ المعلِّمي، والإدريسي، وينتهي عند صفحة (276) بقوله: "فائدة في غير المنصرف"، والمجموع أكثره يشتمل على رسائل لغوية وفوائد نحوية وقصائد شعرية وتلخيص لبعض الكتب. ونصيب رسالة الحقائق من هذا المجموع يقع من صفحة (120) وينتهي إلى صفحة (129)، وهي بخط واضح وبها بعض التخريجات، وقد كتبت بخط النسخ العادي بقلم مؤلفها رحمه الله، وانتهى منها يوم الأربعاء 25 من شهر شوال عام (1332 هـ) (¬1). **** ¬

_ (¬1) وهذا يدل على بكور اشتغال المؤلف بالعربية, فتأليفه لهذه الرسالة يقع ما بين الثامنة عشرة من عمره والتاسعة عشرة - كما تقدم التنبيهُ عليه -.

الرسالة الثالثة: مختصر شرح ابن جماعة على القواعد الصغرى لابن هشام

الرسالة الثالثة: مختصر شرح ابن جماعة على القواعد الصغرى لابن هشام: لابن هشام الأنصاري الإِمام المعروف صاحب الأوضح والقطر والشذور كتاب لطيف يقال له: "الإعراب عن قواعد الإعراب" كان لبنةً أُولى لكتاب عظيم فريد في بابه ألا وهو "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب"، فقد قال في مقدمة المغني: " ... وممَّا حثني على وضعه أنني لما أنشأت في معناه المقدمة الصغرى المسماة بـ "الإعراب عن قواعد الإعراب" حسن وقعها عند أُولي الألباب، وسار نَفْعها في جماعة الطلاب ... إلخ". ثم إنه رحمه الله اختصر الإعراب عن قواعد الإعراب بكتاب أطلق عليه فيما بعد "القواعد الصغرى" ولشدة تشابههما وشهرة الأصل دون المختصر التبس أمرهما على بعض الناس فزعم أنهما كتاب واحد (¬1)، وفرَّق بعضهم وهو الصواب (¬2)، لوجود اختلاف يسير بينهما، فالكتاب الأول فيه أربعة أبواب (الجملة وأحكامها - الجار والمجرور - في تفسير كلمات يحتاج إليها المعرب - في الإشارات إلى عبارات محررة مستوفاة) بينما المختصر فيه ثلاثة أبواب (في الجملة - في الظرف والجار والمجرور - فيما يقال عند ذكر أدوات يكثر دورها في الكلام). وفي باب الأدوات جعلها ابن هشام في الأصل عشرين كلمة ورتبها بطريقة مجيء كل حرف على نوع من الأنواع، بينما في المختصر جعلها ¬

_ (¬1) كما رآه فخر الدين قباوة في مقدمة تحقيقه لشرح الكافيجي (ص 8). (¬2) انظر كتاب "ابن هشام آثاره ومذهبه النحوي" للدكتور علي فودة نيل (ص 38).

خمسًا وعشرين وسردها سردًا دون ذكر الأوجه والأنواع إلا في بعض الكلمات فدلَّ على أنَّ بينهما فرقًا، وأمَّا قول ابن هشام السابق: " ... لمَّا أنشأت في معناه المقدمة الصغرى المسماة بـ "الإعراب عن قواعد الإعراب ... إلخ" فهي صغرى نسبة لكتاب المغني، وكذا عندما يطلق عليها بعض النحاة القواعد الصغرى يريد هذا المعنى والله أعلم. وقد نصَّ أيضًا ابن هشام في مقدمة القواعد الصغرى أو ما تسمى بالنكت، على أنه اختصرها من قواعد الإعراب فهو يقول: "هذه نكتٌ يسيرة اختصرتها من "قواعد الإعراب" تسهيلاً على الطلاب وتقريبًا على أولي الألباب ... إلخ" (¬1). ورسالتنا هذه هي عبارة عن اختصار لواحد من شروح ابن جماعة على هذه القواعد الصغرى، ولمَّا يُطْبَعْ بعدُ (¬2). تنبيهٌ: بعد انتهائي من تحقيق الرسالة اطلعت على نشرة لشرح نكت ابن هشام تحقيق ودراسة السيد أحمد محمَّد عبد الراضي وهي من منشورات مكتبة الثقافة الدينية بالقاهرة سنة 1430 هـ - 2009 م وقد أطلق عليها: ¬

_ (¬1) انظر مقالات هامة لابن هشام، تحقيق نسيب نشاوي (ص 139)، وقد أطلق عليها "نكتة الإعراب". (¬2) وابن جماعة شَرَح القواعد الكبرى بأكثر من شرحٍ منها: "أوثق الأسباب"، وشَرَح القواعد الصغرى بأكثر من شرحٍ أيضًا منها: "أقرب المقاصد" ومنها: "حدائق الأعراب". انظر كتاب ابن هشام الأنصاري لفودة (ص 38)، وهدية العارفين (2/ 182).

عنوان الرسالة

(شرح نكت ابن هشام المصري من قواعد الإعراب) تأليف ابن جماعة، وعند المقابلة بين الرسالتين وجدت اختلافًا كبيرًا بينهما، ثم إنَّ أخانا الشيخ محمَّد أجمل الإصلاحي أفاد أن الكتاب طبع بتحقيق هشام محمَّد عواد الشويكي في مجلة الجامعة الإِسلامية بغزة عام 2007 م لكنّه في الأخير تردد بين كون النسخة التي اعتمد عليها الشويكي مختصرة من شَرحٍ، أو أنَّ ابن جماعة شَرحَ الكتاب مرتين، وعند رجوعي لنشرة الشويكي تمَّ مقابلتها مع رسالتنا هذه فظهر أن نشرة عبد الراضي السابقة الذكر هي عين نشرة الشويكي، وأن الأمر ليس فيه جديد، وليست نسخة الشويكي التي اعتمد عليها مختصرةً من شرح، بل هو شرحٌ مختلفٌ جدًا عن تلك النشرتين، وابن جماعة - كما هو معلوم - له أكثر من شرح على القواعد الكبرى والصغرى، والشرح الذي اختصره المعلمي يبقى إلى ساعتي هذه أنه لم ينشر - والله أعلم -. والشارح هو محمَّد بن أبي بكر بن عبد العزيز بن محمَّد بن إبراهيم بن جماعة الكناني، ولد سنة تسع وأربعين وسبعمائة بينبع، أخذ عن جده ابن جماعة صاحب تذكرة السامع، وعن البلقيني، وناظر الجيش، كان متعدد المعارف والعلوم وله التصانيف الكثيرة، مات سنة تسعة عشرة وثمانمائة (¬1). عنوان الرسالة: لم يضع لها عنوانًا محددًا، وإنما وجد على الصفحة الأولى هذه ¬

_ (¬1) راجع ترجمته في الضوء اللامع (7/ 171).

وصف المخطوط

العبارة: "القواعد الصغرى لمحمد بن هشام مع بعض تقريرات من شرحها لابن جماعة - كما نبهت عليها -". ويقصد بالتنبيه أنه وضع حرف (م) للمتن، وحرف (ش) للشرح، وهذه العبارة صريحة في نسبة الكتاب للمعلمي، ووجود ضرب في بعض المواطن من الرسالة يؤكد النسبة. وقد عَنْونْتُ لها بـ (مختصر شرح ابن جماعة على القواعد الصغرى لابن هشام). وصف المخطوط: الرسالة تقع في الكشكول الذي تقدم وصفه، وتبدأ من صفحة (29) إلى صفحة (35) وهي بخط المؤلف النسخي المعتاد وليس بها تاريخ نسخ، لكن يحتمل أنها في الثلاثينات من القرن الرابع عشر لاهتمام المؤلف بفن النحو في تلك الحقبة عندما كان باليمن في أول شبابه، وقد صححت النصَّ وعلقت عليه إنْ لزم الأمر فيه، ونبهت على بعض الأغلاط الواقعة بما تجده في الهوامش معتمدًا على مغني اللبيب وشروح قواعد الإعراب. **** الرسالة الرابعة: نظم قواعد الإعراب الصغرى: هذه المنظومة عبارة عن نظم متن القواعد الصغرى لابن هشام مع شيءٍ من شرح ابن جماعة عليها الذي تقدم الحديث عنه آنفًا، وهي من بحر الرجز، وتقع في مئتي بيتٍ.

مميزات المنظومة

ونسبتها للمعلمي ثابتةٌ من وجوه: 1 - قوله في أول بيت منها: * يستمنح الرحمنَ خيرًا عبده * فهي إشارة إلى اسمه الأول (عبد الرحمن). 2 - أنَّها بخط المعلمي، فإن قيل: إنه يمكن أن يكون نسخها فقط، فجوابه: أنَّهُ وُجد ضرب على بعض الكلمات والأبيات كما في قوله: فيه مسائل فما لفظٌ أفاد ... فهو كلام وهو جملةٌ أفاد كان الشطر الثاني: "فجملةٌ وهو كلام قد أفاد". وقوله: كل كلام جملةٌ لا عكس ... وهو الصحيح ليس فيه لبس كان الشطر الثاني: "وهو الصحيح افهم عداك النحس". وهذا الضرب والطمس كثير، ستجد في هوامش التحقيق ما يبين ذلك، ويؤكد أن النظم للمعلمي. 3 - في آخر النظم كان قد عدَّ الأبيات (198) ثم أعاد النظر وصوَّبه إلى (200) وختمه بذكر اسمه وتوقيعه، وهذا يجزم بأن النظم له. مميزات المنظومة: 1 - سلاسة النظم وسهولته مع حسن الترتيب. 2 - الالتزام بما في الأصل مع الزيادات التي أوردها من شرح ابن جماعة، وكانت منتقاة لا حشو فيها.

وصف المخطوط

3 - رقَّم الناظم بعض المسائل الموجودة بالأصل مع زيادات توضيحية أثبتها في الهامش باسم المؤلف. 4 - لعلها أول منظومة للقواعد الصغرى، إذ إنِّ غالبهم نظم "الإعراب عن قواعد الإعراب" (¬1). وصف المخطوط: النظم كتب بخط المعلِّمي المعتاد، وقد عَنْون له في أعلى الصفحة الأولى بـ "نظم قواعد الإعراب الصغرى"، ووضع بين الأبيات فواصل تشبه الأقواس، وبعض الكلمات قد ضبط ضَبْط قلمٍ، وعليه ضرب في بعض المواضع، وتخريجات يسيرة، وهو يقع في الكشكول الذي سبق وصفه، ويبدأ من (ص 179) إلى (ص 182)، والأبيات مدمجة كأنها منثورة، بعضُها داخل في بعض. **** الرسالة الخامسة: طرائف في العربية: بحث المعلمي فيها خَمْسَ مسائل تتعلق باللغة العربية نحوها وصرفها وهي كما يلي: 1 - الإشارة وعلاقتها بنشأة اللغة. 2 - تصريف لفظة (تنّور). ¬

_ (¬1) وقد قدَّم الناظم في هذه المنظومة حرف (لمَّا) على (لو) خلافًا للأصل، وكذا ترجيحه معنى السين في أنه أضيق في مدة الاستقبال من (سوف)، وقد ترك الناظم المقالة الثانية لابن مالك في (ريث).

المسألة الأولى

3 - تصريف كلمة (تفّاح). 4 - ضمير الشأن والقِصّة. 5 - بَحْثٌ في الفعل (كاد). المسألة الأولى: تحدث الشيخ رحمه الله عن بداية اللغة ونشأتها، وذلك بقولٍ اشتهر قديمًا وحديثًا لدى العلماء، ألا وهو حكاية الأصوات المسموعة، وذكر على هذا أمثلةً، ثم جعل له حظًّا من الوجاهة سواءٌ قيل: إنَّ اللغة من وضع البشر أو إنها من تعليم الله سبحانه لآدم عليه السلام. وثَمَّت قول آخر وهو المناسبة بين الألفاظ والمعاني باختلاف صفات الحروف وترتيبها وحركاتها، وجعله أيضًا وجيهًا، ثم إنَّ كلا القولين لا يفسِّر إلاَّ جزءًا ضئيلاً من اللغة. والقول الثالث الذي خطر للمؤلف - ولم ير أحدًا تعرَّض له - هو الإشارة، ومقصوده بالإشارة الإشارة باللسان والشفتين مع إصدارِ صوت مناسب لها، وضرب لهذا الوجه أمثلةً عديدة، فمِنْ ذلك اسم الإشارة (ذا) للمذكر و (ذي) للمؤنث، وقد بيَّنتُ أنَّ السهيلي وابن القيم قد تعرَّضا لهذا قبل المؤلف. ومن الأمثلة أيضًا ضمير المتكلّم (أنا)، ويُلْحق به بقيَّة الضمائر (¬1). وكذلك من الأمثلة لفظ (الماء) و (مَصَّ). ¬

_ (¬1) لم يتعرض لها المؤلف بتوجيه.

المسألة الثانية

وأيضًا كلمة (بَلَع) و (لفظَ) و (نَفَث) و (ذَوْق). و (نَبذَ) و (قرب) و (بلغ) و (مضَغَ)، وهذه الكلمات من (بَلَع) وحتى (مضَغَ) قسَّمها المؤلف إلى إشارةٍ حسية، وأخرى معنويّة. ثم إنَّ الطريقة التي أتى بها (وهي الإشارة) مستفادة ممَّا ذكره ابن جني وغيره من حكاية الأصوات المسموعة ومِن ملاحظة صفات الحروف وترتيبها، كما بيَّنه بقوله رحمه الله: "فإذا ضممتَ هذه الطريقة مع التوسع في الإشارة المعنوية، وإلى ما ذكروه من حكاية الأصوات، وإلى ما ذكره ابن جنّي وغيره من صفات الحروف شدة ورخاوة وغير ذلك كثُر عدد الكلمات التي يمكن تطبيقها". المسألة الثانية: تعرَّض فيها المؤلف رحمه الله إلى تصريف لفظة (تنّور) وهو الموقد الذي يُخْبَز فيه، وقد عَقَد المؤلف الصلةَ بين هذه اللفظة ومادّة (ن ور) التي اشْتُق منها كلمتا (النار - والنور) بأثرٍ رُوي عن علي رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى: {وَفَارَ التَّنُّورُ} [هود: 40، المؤمنون: 27]، وهذه العلاقة في الاشتقاق يقررها المؤلف ليتوصل إلى الوجه الذي اختاره، وإن اعترضها بعضُ الأئمة ونفى أن يكون للنار والنور علاقةٌ بالتنور. ثم لمَّا كان ظاهرًا أن تُجْعَل التاءُ زائدةً - إذا قلنا: إنَّ التنور من مادة (ن ور) - فإنَّه يُشكل عليه أنَّ وزن (تَفُّعْل) بالتضعيف مفقود في كلام العرب فلِهذا قال الجمهور: إنَّ الزيادة وقعت في الواو وليست في التاء، فيكون وزن (تنّور) حينئذٍ عندهم (فَعُّول) أو (فَنْعُول) وهاتان صيغتان موجودتان في

كلام العرب، وعليه فالكلمة من مادة (تنر)، هذا تقرير الجمهور (¬1)، ويعكّر عليه أمور منها: عدم المناسبة في الاشتقاق، وأيضًا مادة (تنر) أَصْلٌ لا يُعرف له نظير، ومنها أنَّه لا يجتمع نون وراء في كلمة عربية، والاعتراضان الأوّلان لهما حظٌّ من النظر، وأمَّا الأخير فليس على إطلاقه. وذهب جمعٌ من الأئمة إلى أن كلمة (تنّور) أعجميّة هربًا من تلك الإشكالات، قال السمين الحلبي في الدرّ (4/ 98): "وقيل: هو أعجميٌّ، وعلى هذا فلا اشتقاق له". وردَّ هذا القول غير واحد من العلماء، وقالوا: لا تخلو الكلمة من أمرين: أحدهما: أن تكون عربيةً خالصة. ثانيهما: أن تكون اشتركت فيها جميع اللغات، وعمَّ بها كل لسان. وهذه الإشكالات التي مضت أدَّت إلى أن يخطر ببال المؤلف رحمه الله وَجْهٌ في تصريف (تنور) يراه أسلمَ من جميع ما تقدَّم، وذلك أن اللفظة عنده مشتقة من مادة (ن ور) - كما قال ثعلب - ولكنَّ وزنها في الأصل كان على (فَعُّول)، ثم جرى لها قلب - بتقديم العين على الفاء فصار (وَنُّور) بوزن ¬

_ (¬1) وأمَّا الإِمام ثعلب فذهب إلى أنه مشتق من مادة (ن ور) ووزنه حينئذ (تَفْعول)، ورد عليه ابن جني في الخصائص (3/ 285)، واعتذر لثعلب أبو حيان في البحر المحيط (5/ 199)، وأمَّا الأستاذ أحمد شاكر فقد جوَّد رأي ثعلب كما في تحقيقه للمعرَّب (ص 84).

المسألة الثالثة

(عَفُّول) ثم أبدلت الواو الأولى تاءً فأصبح (تنُّور) واستدل لهذا القول بأمثلة عديدة من كلام العرب حصل فيها قلب وإبدال، ثم أبدى إشكالاً في هذا القول وأجاب عنه بوجهين. ولا شكَّ أنَّ هذا الوجه سالمٌ من الاعتراضات السابقة، وموافق للاشتقاق. وبعد بحثٍ وُفِّقْتُ - ولله الحمدُ والمنَّةُ - لنقْلٍ وجدتُه في الفائق للزمخشري (1/ 156)، والمجموع المغيث لأبي موسى المديني (1/ 244) عن الإِمام أبي الفتح محمَّد بن جعفر الهَمَذَاني (¬1) (ت 371 هـ - أو 376 هـ) اختار في تصريف (تنّور) ما اختاره الشيخ المعلِّمي رحمه الله، وبهذا يكون مسبوقًا إليه، ولئن دلَّ هذا على شيءٍ إنَّما يدلُّ على رسوخ قدم المؤلف، وتمكّنه من علم العربية، فهو لم يطَّلع على قول الهمداني، ومع ذلك وافقه، وزاد عليه في التقرير ودفع الإشكالات. المسألة الثالثة: تكلم فيها المؤلف على كلمة (تُفَّاح) - وهو الثمرُ المعروف - وبيَّن رحمه الله أنَّ مادة (ت ف ح) لا يُعْرَف لها اشتقاقات غير لفظةِ (تُفَّاح)، وقد أشار إلى هذا ابن فارس في المقاييس (1/ 350)، واقتصر أكثر أئمة اللغة على هذا، وأمَّا كلمتا (تَفْحة) و (التفَّاحتان) فتفرَّد فيهما إمامان، فالأولى معناها الرائحة الطيّبة وأثبتها أبو الخطاب الأخفش الكبير وحده وهو معروف بالتفرّد، ومَن جاء بعده من أصحاب المعاجم فهو ناقل عنه، وقد ¬

_ (¬1) راجع ترجمته في معجم الأدباء لياقوت (18/ 101).

المسألة الرابعة

تأوّلها المؤلف بقوله: "فإنْ صحَّ - أي لفظ تَفْحة - فمأخوذ من التفَّاح نفسه". وأمَّا الثانية - وهي التفاحتان - فقد انفرد بها أبو الحسن الهُنائي المشهور بـ (كُراع النّمل) (ت 310 هـ) فقد جاء في كتابه "المنجد" (ص 152): "وتُفَّاحتا الفرس: رؤوس الفخذين إلى أمِّ الوَركيْن" (¬1)، ولم أجد هذا المعنى لغيره، وتناقلها عنه غير واحد كصاحب المحكم، والمجد وأشاروا إلى تفرّده بقولهم: "عن كراع" (¬2). والحاصل أنَّ مادة (ت ف ح) ليس لها مشتقات سوى كلمة (تفّاح) لذا رأى المؤلف أنَّ هذه الكلمة غير مأخوذة من تلك المادة النادرة، بل قد تكون من مادة معروفة لها اشتقاقات عديدة وهي مادة (ف وح)، واحتجَّ لهذا بالمناسبة بين (التفّاح) والفعل (فاح) في كون ذلك الثمر تصدر منه رائحة فوَّاحة، وهي مناسبةٌ ظاهرة. ثم قوَّى هذا بالصناعة الصرفية، وبذكر نظائر لتلك الكلمة. وقد أكثرتُ المراجعةَ والبحث في بطون المصادر اللغوية وغيرها، فلم أظفر بقولٍ لأحدهم يذهب فيه مَذْهب المعلّمي رحمه الله لكلمة (تفَّاح)، والله تعالى أعلم. المسألة الرابعة: تعرَّض فيها المؤلف رحمه الله لِضمير الشأن والقصة - كما يسميه ¬

_ (¬1) في الأساس (1/ 94) جعل قول كراع مجازًا فانظره. (¬2) وله في المعاجم تفردات كثيرة.

المسألة الخامسة

البصريون -, وأهلُ الكوفة يسمونه ضمير المجهول (¬1). وممَّا تميّز واختصَّ به كونه يعود على متأخّرٍ لفظًا ورتبةً، فبيَّن فهمه بما نشأ عليه، ثم وقف على بعض كلام النحاة واستأنس به حين وجده قريبًا من فهمه. وتعرَّض أيضًا لمسألة تأنيث ضمير القصة وتذكيره وهي مسألة خلافية بيَّنتُ المذاهبَ فيها - كما تجده في الهوامش -. وعلى هذا يكون المؤلف رحمه الله قد خالف الجمهور، ووافق بعض مَن سبقه من الأئمة والله أعلم. المسألة الخامسة: تكلّم فيها المؤلف رحمه الله تعالى على قضيَّةٍ شائكة قد وقع الخلاف المستطير فيها قديمًا وحديثًا. فمن الأصول المعتَرفِ بها وضعًا أنَّ النَّفْي إذا ورد على لفظةٍ انتفت، وإذا لم يرد عليها كانت في حكم الإثبات، غير أنَّ (كاد) أتت في بعض الأساليب بما يخالف تلك القاعدة ممَّا جعل الأئمة يضطربون فيها، ويذهبون بها إلى مذاهب شتى قد تصل إلى خمسة أو ستة أقوال. استفتح المؤلف رحمه الله المسألة بتقسيم (كاد) في الاستعمال إلى ثلاثة أوجه: ¬

_ (¬1) وانظر كلام ابن الحاجب في الإيضاح (1/ 471) عن سبب التسمية، وعن اختصاص ضمير الشأن بأشياء من دون الضمائر الأخرى. انظر: الأشباه والنظائر للسيوطي (2/ 404).

الأول: أن لا يكون قبلها ولا بعدها نَفْي، فَحَكَى الاتفاق على أنَّ معناها حينئذٍ (قارب) أو يزاد عليه (ولم يفعلْ) وهذا تصريح بمفهوم المخالفة. الوجه الثاني الذي ذكره المؤلف لـ (كاد): أن يقع النفي بعد الفعل، ومراده بالفِعْل (كاد) ونظيرها (قارب). الوجه الثالث لـ (كاد): أن يتقدّم النفي على الفعل (ومراده بالفعل - أيضًا - كاد ونظيره قارب)، فأمَّا (قارب) فإنَّه إذا تقدَّم النفي عليه نحو: ما قارب التلميذُ أن ينجحَ أفهم النفي وهو عدم النجاح جَرْيًا على القياس. وأمَّا أخوه (كاد) فعلى خلاف هذا، فإنَّك إذا قلت: ما كاد التلميذُ ينجحُ، صار المعنى ثبوت نجاحه، وهذا مخالف لقياس لغتهم. وقد وقفت على نصًّ قديم لأبي عبيدة معمر بن المثنّى (ت 210 هـ) يشير إلى أنَّ استعمال (كاد) منفيةً قد يكون أحيانًا من باب التقديم والتأخير والقلب وهذا أحد استعمالاتها عنده، حيث قال في كتاب "المجاز" (2/ 67): {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} لبابِ كاد مواضع: موضع للمقاربة وموضع للتقديم والتأخير، وموضعٌ لا يدنو لذلك وهو لم يدنُ لأنْ يراها ولم يرها فخرج مخرج: لم يرها ولم يكد، وقال في موضع المقاربة: ما كدتُ أعْرف إلاَّ بعد إنكار، وقال في الدنو: كاد العروسُ أن يكون أميرًا، وكاد النعام يطير" (¬1) اهـ. هذا وإنّي رأيت الشيخ محمَّد الطاهر ابن عاشور قد توافق مع المعلِّمي ¬

_ (¬1) قارن بين هذا وبين ما نقلته عن ابن يعيش والكفوي حتى يتضح لك معنى التقديم والتأخير.

في هذه المسألة، فقال في تفسير التحرير والتنوير (1/ 559) - بعد أن تكلَّم على كاد والاختلاف فيها -: "وزعم بعضهم أنَّ قولهم: ما كاد يفعلُ، وهم يريدون أنَّه كاد ما يفعل أنَّ ذلك من قبيل القلب الشائع، وعندي أنَّ الحقَّ هو المذهب الثاني وهو أنَّ نفيها في معنى الإثبات، وذلك لأنَّهم لمَّا وجدوها في حالة الإثبات مفيدةً معنى النفي جعلوا نَفْيها بالعكس كما فعلوا في (لو) و (لولا) ويشهد لذلك مواضع استعمال نفيها فإنك تجد جميعها بمعنى مقاربة النفي لا نفي المقاربة، ولعل ذلك من قبيل القلب المطَّرد، فيكون قولهم: "ما كاد يَفْعل، ولم يكد يفعل" بمعنى: كاد ما يفعل، ولا يبعُد أن يكون هذا الاستعمال من بقايا لغة قديمة من العربية تجعل حرفَ النفي الذي حقُّه التأخير مقدَّمًا, ولعلَّ هذا الذي أشار إليه المعري بقوله: "جرت في لساني جرهمٍ وثمود"، ويشهد لكون ذلك هو المراد تغيير ذي الرمة بيته (¬1)، وهو من أهل اللسان وأصحاب الذوق، فإنَّه وإنْ كان من عصر المولدين إلا أنَّه لانقطاعه إلى سكنى باديته كان في مرتبة شعراء العرب حتى عُدَّ فيمن يُحتجُّ بشعره وما كان مثله ليُغيّر شعره بعد التفكر لو كان لصحته وجه، فما اعتذر به عنه ابن مالك في شرح التسهيل ضعيف (¬2)، وأمَّا دعوى المجاز فيه فيضعفها اطراد هذا الاستعمال حتى في آية: {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} فإنَّ الواقفَ في الظلام إذا مدَّ يده يراها بعناء، وقال تأبط شرًا: [فأُبْتُ إلى فَهْمٍ وما كدتُ آيبًا] وقال تعالى: {وَلَا يَكَادُ يُبِينُ} " اهـ. ¬

_ (¬1) روى القصة المرزباني بإسناده في الموشح (ص 235). (¬2) شرح التسهيل (1/ 399).

وصف المخطوط

وصف المخطوط: يقع المخطوط في (13) ورقة تقريبًا، مقاس (23 × 16 سم) كُتب بخطّ المعلِّمي نفسه، وهو خط واضح ولكن يكثر فيه الضرب حتى يصل إلى صفحة أو صفحتين أحيانًا، ويكثر فيه أيضًا التخريجات، وكان يكرّر كتابة بعض المسائل، ويُضيف إليها في مواضع أخرى. وهو محفوظ بمكتبة الحرم المكي الشريف برقم (4709) وعنون لها المعلّمي نفسه بـ (طرائف في العربية). **** الرسالة السادسة: الكلام على تصريف (ذو): تعرَّض المؤلف في هذه المقالة لبحث لفظة (ذو) بمعنى صاحب، والتي تُعدّ من الأسماء الخمسة على رأي الفراء والزجاج، ومن الستةِ على رأي الجمهور، وجلا الأمرَ في تصريفها، حيث إنه نقل كلام الأئمة من أصحاب المعاجم وأهل اللغة، وعقّب عليهم بزيادة توضيح يزيل الإشكال عنها؛ لأنَّ الأصل في الأسماء مجيئُها على ثلاثة أحرف و (ذو) ظاهرها حرفان، وبالرجوع إلى حقيقة تصريفها نجد أنه وقع في لامها حَذْفٌ بالاعتباط، وكان الأصل أن تبدل لامُها ألفًا لكونها متحركةً مفتوحًا ما قبلها، والدليل على هذا رجوعُها - أعني الألف - في المثنى كما جاء في قوله تعالى: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} [الرحمن: 48]، والتثنية والجمع يَردَّان الأشياء إلى أصولها - كما هو مقرر في محله -. قال السهيلي في نتائج الفكر: "وأمَّا (ذو مالٍ) فكان الأظهر فيه أن يكون حرفُ العلّة حرفَ إعراب، وأن يكون الاسم على حرفين - كما هو في بعض

الرسالة السابعة: إشكال صرفي وجوابه

الأسماء المبهمة كذلك - يدلّك على ذلك قولهم في الجمع: (ذوو مالٍ، وذوات مال) إلا إنه قد جاء في القرآن: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} و {ذَوَاتَيْ أُكُلٍ} وهذا ينبئ أن الاسم ثلاثي، ولامه ياء، انقلبت ألفًا في تثنية المؤنث خاصةً" (¬1). ثم استرسل السهيلي في بيان تصريف (ذو - وذات) بكلام فيه نكتٌ ألمح إليها المعلِّمي دون أن يقف على كلام السهيلي. ولْتعلم أنَّ سبب الإشكال الذي من أجله بيَّن المعلِّمي وغيره تصريف (ذو وذات) هو أنَّ لام الكلمة حُذِفَ في المفرد المذكر، والمفرد المؤنث، وفي جمعي المذكر والمؤنث، ورجعتْ - أعني اللام - في المثنى كما في {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} علي غير الأصل، وكان الأصل أن يقال: (ذاتا) وقد ورد بقلّةٍ، فلا يظننَّ ظانٌّ أن نحو: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} و {ذَوَاتَيْ أُكُلٍ} صيغة جمع لـ (ذات) كَلَّا، بل هي تثنيةٌ بردِّ اللام على غير الأصل، والله أعلم. **** الرسالة السابعة: إشكال صرفي وجوابه: استشكل المؤلف لِمَ لمْ يعامل جمع (خطيئة) وبابه معاملة جمع (رسالة، وصحيفة، وعجوز) مع أنَّ وزن المفرد فيهما واحد وهو (فعيلة) ويجمعان - أيضًا - على (فعائل) في أحد تصاريف (خطايا) وبابه (¬2). ¬

_ (¬1) راجع نتائج الفكر (ص80). (¬2) انظر التصريح للأزهري فقد بيَّن الأعمال الخمسة التصريفية في كلمة (خطايا) كما في (2/ 371).

وهذا الاستشكال له وجهٌ وجيه، وهو نوع من أنواع التماس العلل في مسائل الصرف، فقديمًا وقع الخلاف بين البصريين والكوفيين في تصريف ووزن كلمة (خطايا) وبابه، وقد بسط الخلاف ابن الأنباري في كتابه الإنصاف (¬1). ومن خلال البحث في كتب الصرف والنحو وجدت الأئمة يعللون قلب الهمزة الثانية ياءً لاجتماع همزتين في كلمة واحدة، ثم بعد هذا يبدلون مكان الياء ألفًا كما في (مدارا) ثم إلى آخر ما يكون من تصريف الكلمة، قال أبو عثمان المازني - كما في المنصف (2/ 54) -: "اعلم أنك إذا جمعت "خطيئة ورزيئة" على فعائل قلتَ: "خطايا ورزايا"، وما أشبه هذا ممَّا لامه همزةٌ في الأصل لأنك همزت ياء "خطيئة ورزيئة" في الجمع كما همزت ياء "قبيلة وسفينة" حيث قلت: "قبائل وسفائن"، وموضع اللام من خطيئة مهموز فاجتمع همزتان فقلبت الثانية ياءً لاجتماع الهمزتين فصارت "خطائيُ" ثم أبدلت مكان الياء ألفًا كما فعلت ذلك في "مدارا ومعايا" وما أشبه ذلك فصارت "خطاءا" وتقديرها "خطاعا" والهمزة قريبة المخرج من الألف فكأنك جمعت ثلاث ألفات، فلما كان كذلك أبدلوا من الهمزة ياءً فصارت "خطايا" فلا تستنكر هذا التفسير وتطويله، فإنَّ هذا الباب يدور على هذا فاعلم ذاك" اهـ. فكأنَّ المعلِّمي - رحمه الله - يرى أن هذا التعليل غير كافٍ لرفع الإشكال، وبدا له أنَّ الجواب عن ذلك هو رفع اللبس، بأن لا يكون جمع (خطايا) ونحوه - إذا عومل معاملة رسائل - مشبهًا المصدر، وشرح كيف ¬

_ (¬1) انظر (2/ 805).

وصف الأصل

يكون الالتباس - بما ستراه قريبًا في كلامه -. وبيَّن المؤلف - كالمورد على نفسه إشكالاً - لِمَ لم يُهْمَزْ نحو (دعاوى وفتاوى) كما هُمِزَ عجائز وبغايا في أحد تصاريفه؟ أجاب: بأنَّ مفرد دعاوى وفتاوى ليست الواو فيهما كالتي في عجوز وبَغُوي، والقاعدة التي توجب قلب الواو همزة شرطها أن تكون الواو زائدة وحرف مدّ، فلذلك لم تعامل معاملة رسالة أو خطيئة فهي خارجة عن القاعدة ووزنها يكون (فعالى أو فعالي) فبالفتح جعلها المؤلف ملحقة ببغايا، وبالكسر ملحقة بعجائز، وبهذا ينحل الإشكال، ويزول الإبهام. وصف الأصل: استفتح المؤلف المقالة بذكر الكلمات المُشْكلة، وجعلها على ستة أعمدة، ثم ذكر البسملة، ودعاء: "اللهم وفق للصواب"، ثم أوضح الإشكال وأجاب عنه بما ظهر له. والمخطوط كتب بخط المؤلف، وفي آخره ذكر اسمه - وهذا دليل على نسبة المقالة إليه - وهو غير مؤرخ، وغير مُعَنْون، ويقع في الصفحة الخامسة من الكشكول الذي سبق وصفه. **** الرسالة الثامنة: ضَبْطُ فِعْلين فِي مَتْنِ الأزهار، واعتراض وانتقاض: وُجِّه سؤالٌ للمؤلف عن عبارةٍ وردت في متن الأزهار اشتملت على فعلين، وهما (يرق - يعتق) كيف يُضبطان وما الدليل على ذلك. ومتن الأزهار كتاب من كتب الفقه الهادوي ألَّفه الإِمام أحمد بن يحيى

وصف المخطوط

الملقب بالمهدي (ت 840) وسمَّاه: الأزهار في فقه الأئمة الأطهار، وعليه شروح كثيرة. وقد بحث المؤلف المسألة مستعينًا ببعض المعاجم كالمصباح والأساس للزمخشري وغيرها من الكتب، وترجح له أنهما بفتح الفاء وكسر العين، فاعترض عليه معترض رمز لاسمه بحرف (ع) ولعله العلاَّمة القاضي عبد الله العمودي، فأجاب المؤلف عن الاعتراض الأول، ثم عاد المعترض مرة أخرى يعترض على الجواب فنقض المؤلف اعتراضه. وصف المخطوط: المخطوط يقع في خمس أوراق متفرّقة ضمن مجموع فيه خطابات وفوائد متنوعة وهو برقم (4707)، وهذه الأوراق - فيما يبدو - بقلم ناسخ لم يُذْكَر اسمه، وذلك أن المؤلف صرَّح داخل الرسالة بقوله: "ليس بخطي ولا أمليته كذلك"، ثم حررها المؤلف وذلك لوجود تعديل وضرب على بعض الكلمات ووجود تخريجات يسيرة، وأمَّا الاعتراضات فهي بخط مغاير، وبأسفل الصفحة. وقد استعمل في الرسالة في بعض الكلمات (أم) الحميرية كما في قوله (أمعرب). العمل في الرسالة: نسخت المخطوط ثم قابلته بالأصل ورتَّبتُ الأجوبة والاعتراضات بما ظهر لي، وقد كرر المؤلف بعض الكلام فرأيت إثباته للفائدة، والرسالة ليست معنونة.

* فائدتان

* فائدتان: - خاطرة في قول الشاعر: (ولكنني من حبِّها لعميدُ): هذه المقالة عبارة عن خاطرة خطرت في ذهن المؤلف حال الدرس، عندما مرَّ به قول الشاعر: * ولكنني من حبَّها لعميدُ * حيث إنَّ هذا الشطر شاهد للكوفيين في جواز دخول اللام على خبر (لكنَّ) - بالتشديد -, وردَّه البصريون بزيادة اللام. بينما يرى المؤلف أنَّ الأمر مختلف عن قول الفريقين وأن حقيقة الكلام ترشد إلى أنَّ قوله: ولكننّي من حبّها ... إلخ، أصله: (لكنْ - بالتخفيف - إنّني من حبَّها لعميد) ثم أوضح كيف آلت (لكن إنني) إلى (لكننّي). وهذا الخاطر من المؤلف كان قد انقدح في ذهنه بادئ الأمر، ثم رأى الزمخشري قد قال ببعض ما ذهب إليه، وقد وجدتُ آخرين من النحاة قد قالوا بمثل هذا القول - كما تجده في الحاشية. وعلى هذا القول الذي ذهب إليه المعلِّمي وغيره، تكون لام الابتداء داخلةً على خبر (إنَّ)، وليس داخلة على خبر (لكنَّ)؛ فعليه لا شذوذ ولا تاويلَ في البيت، والله أعلم. - المعارف التي بعد اسم الإشارة: هذه المسألة من آراء المؤلف التي لم يُسْبَقْ إليها، وهي مجيء الاسم المعرفة بعد اسم الإشارة ماذا يكون حكمه؟

وصف المخطوط

اختلف النحاة قديمًا في موقع الاسم المعرفة بعد اسم الإشارة، فمنهم من جعله نعتًا ومنهم من جعله بدلاً، ومنهم مَن جعله عطف بيان ومنهم مَنْ فصَّل فقال: إن كان الاسم الواقع بعد اسم الإشارة مشتقًّا فهو نعت، وإن كان غير مشتق فهو عطف بيان، وهو اختيار جماعة من النحاة منهم الزجاج وابن جني وابن السِّيْد البَطَليوسيّ والسُّهَيلي وابن مالك (¬1). وأما الشيخ المعلَّمي رحمه الله فرأى رأيًا غير رأي هؤلاء؛ إذ إنه اعتبر مراتب الاسم المعرفة، وما ذهب إليه مبنيٌّ على القول بأن المعارف متفاوتة وهو قول الجمهور خلافًا لابن حزم الظاهري. وصف المخطوط: هذه الفائدة توجد في (ص 17) في الكشكول الذي تقدم وصفه وهي بخط المؤلف المعتاد، وعليها ضرب في بعض الكلمات وإصلاح وتصويب. **** القسم الثاني: (الرسائل اللغوية والأدبية): الرسالة التاسعة: اختصار كتاب "درة الغواص في أوهام الخواص" للحريري. ألَّف أبو محمَّد القاسم بن علي الحريري [446 هـ - 516 هـ] كتابًا في ¬

_ (¬1) انظر: ارتشاف الضرب (4/ 1934)، وإصلاح الخلل الواقع في الجمل لابن السيد (ص 71).

التصحيح اللغوي أسماه (دُرَّة الغواص في أوهام الخواص)، وتناوله علماء اللغة بالتحشية، والشرح، والنقد، والنظم والاستدراك، والتلخيص والاختصار، فمِنَ الحواشي الموضوعة عليه حاشية ابن برّي اللغوي (ت 582 هـ)، وحاشية ابن ظَفَرٍ الصقلّي (ت 565 هـ)، وحاشية ابن الخشَّاب (ت 567 هـ)، وأمَّا الشروح فمنها شرح أبي بكر الأنصاري، وشرح الخفاجي المصري (ت 1069 هـ)، وشرح الشيخ زين المرصفي الصيّاد (ت 1300 هـ) المسمَّى: عنوان المسرَّة لشرح محاسن الدرَّة، وكتاب كشف الطَرّة عن الدّرة لمحمد أفندي الآلوسي (ت 1270 هـ) وغيرها. ومن الأنظام: نظم ابن الوراق الفائزي، ونظم أبي الفتوح عبد القادر بن إبراهيم، وأمَّا الاختصارات فمن ذلك مختصر الدرة للشيخ عبد الرحيم بن الرضي الموصلي (ت 671 هـ)، وتهذيب الخواص من درّة الغواص لابن منظور صاحب لسان العرب (ت 711 هـ)، وغير ذلك من الأعمال التي قامت حول الدرة (¬1). ورسالتنا هذه تُعدُّ واحدةً من تلك السلسلة العلمية المباركة، فالمعلّمي رحمه الله لخَّصَ درة الغواص تلخيصًا بديعًا يدل دلالة واضحة على معرفته بفنِّ الاختصار معرفةً فائقة، فهو لم يحذف الزوائد فحسب، بل ربما أضاف أشياء كالمستدرك بها على الأصل. ¬

_ (¬1) ما ذكرته هنا على وجه الإيجاز ولم أستقصِ، وانظر كشف الظنون (1/ 741)، وإيضاح المكنون (3/ 459)، ومقدمة تحقيق تهذيب الخواص (ص 15).

طريقة التلخيص والاختصار

طريقة التلخيص والاختصار: كان اختصار المؤلف اختصارًا بديعًا - كما سبق - وربما يكون إشارةً ولمحًا قد لا يفهمه القارئ حتى يرجع إلى الأصل (¬1)، ومن أساليبه في الاختصار: - أنه يترك التعليلات والأسباب التي يذكرها الحريري في تصويب الكلمة، وكثيرًا ما يستطرد - أعني الحريري - بذكر فوائد لغوية أو نحوية أو صرفية، أو يستشهد بشواهد شعرية، أو يورد قِصَّة من قصص العرب أو مثلاً من أمثالها أو غير ذلك فيختصر المعلّمي هذا كلّه بالاقتصار على تصويب الكلمة، وربما أشار إلى السبب كما في لفظ (مائدة). وكثيرًا ما كان المعلِّمي يصوغ العبارة بنفسه دون الالتزام بعبارة الأصل كما في قوله: (لا أكلّمه قط) من الدرة (¬2) حيث أبدلها في المختصر بقوله: إلا أعلمه قط) (¬3)، وكذلك ما جاء في قوله: (اصفرَّ وجهُه من المرض) (¬4) أبدلها بكلمة الخوف (¬5)، وكذلك عبارة: (اجتمع فلان مع فلان) حيث قال الحريري: "والصواب: اجتمع فلان وفلان ... " وذكر السبب وأطال (¬6)، بينما ¬

_ (¬1) انظر مثلاً (ص 8): لثفل ما يعصر: تجير، الوعل: تيتل. (¬2) (ص 16)، ط محمَّد أبو الفضل إبراهيم. (¬3) انظر (ص 2). (¬4) الدرة (ص 33). (¬5) انظر (ص 4). (¬6) انظر: الدرة (ص 34).

اكتفى المعلِّمي بقوله: الاتيان بالواو بدل (مع) (¬1)، وغير هذا مما تراه في الرسالة. - ومن أساليبه في الاختصار أيضًا: حذف بعض الكلمات، وهذا الحذف تارةً يكون لأجل التكرار، فإذا ذكر الحريري - مثلاً - كلمات حكمُها في التصويب واحد اكتفى المعلِّمي ببعضها كما جاء في كلمة: الحواميم والطواسين (¬2)، اقتصر المعلِّمي على الحواميم، وحذف الأخرى (¬3). وكذلك فَعَل في (مدوَّد ومسوّس، ومكرّج، ومقارَب، وموسوس) (¬4) اقتصر على ثلاثة منها: (مدوّد ومسوس وموسوس) (¬5)، وكذا فعل في (سارر، وقاصص، وحاجج، وشاقق) (¬6) فإنه حذف الأولى والأخيرة (¬7). وربَّما حذف المعلِّمي بعض الكلمات برمَّتها عمدًا كما وقع في الألفاظ التالية: 1 - (أوقية) (¬8). ¬

_ (¬1) انظر (ص 4). (¬2) انظر الدرة (ص 20). (¬3) انظر (ص 3). (¬4) الدرة (ص 54). (¬5) انظر (ص 6). (¬6) الدرة (ص 113). (¬7) انظر (ص 10). (¬8) الدرة (ص 76).

2 - (عيرته بالكذب) (¬1). 3 - (جرى الوادي فطم) (¬2). 4 - (النسبة إلى رَامَهُرْمُز) (¬3). 5 - الفرق بين مخوف ومخيف (¬4). 6 - القَيْنة بمعنى المغنية خاصة (¬5). 7 - البهيم نعت يختص بالأسود (¬6). 8 - معنى الفعل (هوى) (¬7). وغير ذلك من الأمثلة، ولعل اختلاف نسخ الدرة، كان السبب في سقوط بعض الكلمات، فممَّا وقفتُ عليه كلمة (مؤونة) فهي مثبتة في طبعة عبد الحفيظ فرغلي (دار الجيل) (ص 708)، وساقطة من طبعة محمَّد أبو الفضل (دار نهضة مصر). وقد أثبتها المعلِّمي في المختصر، وكذلك قاعدة: (وكل مقصور فحكمه إذا اتّصل به ... إلخ) مثبتة في طبعة الفرغلي (ص 711) ساقطة من ¬

_ (¬1) الدرة (ص 168). (¬2) الدرة (ص 172). (¬3) الدرة (ص 208). (¬4) الدرة (ص 264). (¬5) الدرة (ص 267). (¬6) الدرة (ص 269). (¬7) الدرة (ص 270).

- التعقبات والزيادات

طبعة محمَّد أبو الفضل، وقد أوردها المعلِّمي أيضًا، وكذلك من اختلاف النسخ الاختلاف في ترتيب بعض المواد تقديمًا وتأخيرًا (¬1). - التعقّبات والزيادات: لم يكتف المؤلف رحمه الله باختصار المواد التي بالأصل بل إنَّه ربّما استدرك، وتعقّب وأضاف، وغيَّر اللفظ بلفظٍ آخر أحسن منه - كما صنع في قول الحريري: "لعله ندم، ولعله قدم" (¬2)، أبدلها المعلِّمي بقوله: "لعله فعل أو لم يفعل" وهذه أعمُّ من عبارة الحريري، وكذلك ما جاء في الدرة: "ويقولون في الأمر للغائب والتوقيع إليه: يعتمدْ ذلك - بحذف لام الأمر ... إلخ" (¬3)، أبدلها بقوله: "في أمر الغائب: يَفْعلْ فلانٌ كذا" (¬4)، هذا وإنَّ اختصار المعلمي للدرّة لا يؤخذ منه أنَّه تابعٌ للحريري في كل مسألةٍ ذكرها، إذْ إنَّ كثيرًا من تلك المسائل مختلفٌ فيها، وربما يكون الصواب مع غير الحريري، فالمعلمي أراد تهذيب الكتاب لنفسه وربما لغيره ليستفيد الجميع، فهو كابن منظور عندما اختصر الدرة في كتابه تهذيب الخواص حيث إنه استدرك قليلاً وترك الباقي، ولا يعني أنه موافق للأصل، فلسان العرب ملآن بما يخالف الدرة. ¬

_ (¬1) انظر (ص 684 - 686 - 687) من طبعة الفرغلي، و (ص 264 - 265) من طبعة محمَّد أبو الفضل. (¬2) الدرة (ص 37). (¬3) انظر (ص 155) من الدرة. (¬4) انظر (ص 16)، وستجد بقية النماذج فيما نبهت عليه في الهوامش.

وصف المخطوط

وصف المخطوط: كتب المؤلف بعد البسملة الكلمات عموديًّا، والتزم ترتيب الدرة إلا ما ندر، وحالة المخطوط ليست جيدة بسبب وجود تآكل في الأطراف، وهو بخط المؤلف وموجود ضمن رسائل متفرقة ومقالات مختلفة برقم (4708). **** الرسالة العاشرة: فوائد لغوية منتقاة من كتاب: "الكنز المدفون والفُلْك المشحون": استخلص المؤلف غالب الفوائد اللغوية التي تتعلق بفقه اللغة كالمترادفات والأضداد والمثلثات، وما فيه لغتان، وما يهمز وما لا يهمز، وما فيه لغة فأكثر، والفرق بين المكسور والمفتوح أو المضموم والمفتوح وغير ذلك من كتابٍ جَمَع مختلف المعارف، وهو من كتب الأدب والمسامرات والمحاضرات يقال له: "الكنز المدفون والفُلْك المشحون" (¬1) وقد طبع قديمًا في بولاق سنة (1288 هـ) (¬2) منسوبًا لجلال الدين السيوطي، والصحيح أنه ليس للسيوطي بل هو ليونس المالكي شرف الدين المتوفي سنة (750 هـ) وهو أحد تلاميذ الذهبي، وذلك لأدلة عديدة أَقْتصِرُ هنا على بعضها: ¬

_ (¬1) والمؤلف لم ينصَّ على اعتماده واستفادته من هذا الكتاب، لكنني بعد بحث كثير تبيَّن لي أنَّه المصدر الوحيد لهذه الرسالة. (¬2) وهي الطبعة التي اعتمدت عليها هنا في الإحالات، وبها بعض الأخطاء المطبعية والتصحيفات ممَّا جعل المؤلف يتابع الأصل في بعضها.

1 - صرَّح باسمه عندما ذكر قصيدةً يمدح بها النبي عليه الصلاة والسلام كما في (ص 115) حيث قال: "الحمد لله، من كلام كاتبه جامع هذا الكتاب: ي ون س ال م ال ك ي" واستخدم هنا الحروف المقطعة كما هو ظاهر. 2 - تصريحه باسم الحافظ الذهبي معبرًا عنه بقوله: "شيخنا" كما في (ص 123) و (132). 3 - في (ص 172) أخبر أنَّه حدَّثه شيخه بالحرم المكي سنة (764 هـ). فالحاصل أنَّ المعلِّمي اختصر هذه الفوائد اللغوية من هذا الكتاب ولم يلتزم ترتيبه، وزاد عليه كما تجده في تفسير أسماء الخمر حيث إنَّه استدرك بعض التعليلات، وإن كان ترك بياضًا في بعضها وقد أكملتُها، وكذا نَظَمَ أسماء الجناس وأنواعه (¬1)، وسأذكر الكلمات هنا باختصار عازيًا لها برقم الصفحة ملتزمًا ترتيب الأصل المأخوذ منه: 1 - الفرق بين اللدغ واللسع ... (ص 37). 2 - أولاد البهائم (ص 40). 3 - لغات الأصبع (ص 42). 4 - لغات الأنملة (ص 42). 5 - الدائرة المحيطة بالقمر والمحيطة بالشمس (ص 42). 6 - كلمات التأوه (ص 42). ¬

_ (¬1) يقال هنا ما قيل قبلُ في اختصار "درة الغواص"، فالمعلمي في انتقائه لهذه الفوائد ليس مقلدًا في كل ما ذكره، فالعهدة تلحق صاحب الأصل لا المخْتَصِر.

7 - لغات الشهد والرغوة ... إلخ (ص 42). 8 - المثلثات ولغات الخاتم، وتنور، والحي واللي، والفرق بين الأعيان والأضياف وغيرها (ص 42). 9 - لغات الأرز (ص 42). 10 - لغات التراب (ص 44). 11 - الفرق بين بيض النمل وغيره (ص 67). 12 - السمك لا رئة له ... إلخ (ص 68). 13 - تعريف بعض المصطلحات كالتقوى والتوكل ... إلخ (ص 69). 14 - الفرق بين الفِرية والمِرية (ص 70). 15 - الحبة بالكسر والفتح (ص 70). 16 - كلام النيسابوري في الفرق بين السخي والكريم، والبخيل واللئيم (ص 74). 17 - أسماء الذئب (ص 82). 18 - الفرق بين قسط وأقسط (ص 83). 19 - أصوات البهائم (ص 89). 20 - حِكْمةٌ (ص 91). 21 - المقلة: شحمة العين ... إلخ (ص 95). 22 - أسماء المطر (ص 131). 23 - تعريف المراء (ص 132).

24 - الفرق بين جلس الإنسان وقعد الرجل ... إلخ (ص 132). 25 - الفأر كله مهموز ... إلخ (ص 141). 26 - الفرق بين الظل والفيء (ص 141). 27 - الفرق بين السدى والندى (ص 147). 28 - تعريف الشك واليقين (ص 149). 29 - الفرق بين الأُف والتُّف (ص 152). 30 - أسماء الذهب (ص 153). 31 - أسماء الهلال والقمر (ص 159). 32 - المثلثات والمثنيات (ص 161). 33 - تعريف السمر (ص 163). 34 - الأضداد (ص 163). 35 - الفرق بين الفصم والقضم ... (ص 164). 36 - تعريف الشك ... (ص 164). 37 - الظآبان (ص 164). 38 - الفنيكان (ص 165). 39 - أسماء الأسد (ص 171). 40 - أسماء القمر (ص 177). 41 - أسماء الخمر (ص180). 42 - أنواع الجناس غير منظومة (ص 182).

وصف المخطوط

وصف المخطوط: الأصل كُتب بخط المؤلف، وقد بدأه بالبسملة ثم بقوله: فائدة، وهو في الكشكول الذي تقدم وصفه ويقع من (ص 19) إلى (ص 27). **** الرسالة الحادية عشرة: مناظرة أدبية بين المعلِّمي والسنوسي: في يوم من أيام عيد الفطر سنة (1337 هـ) جرت مذاكرة أدبية وشعرية بين المؤلف وبين الشاعر علي بن محمَّد بن يوسف السنوسي المتوفى سنة (1363 هـ) في مجلس مؤسس دولة الإدارسة - وقتئذٍ - في صبيا وعسير وهو محمَّد بن علي الإدريسي المتوفى سنة (1341 هـ) إذْ كانت له عادة مع الشعراء والأدباء والخطباء حيث يهنئونه بالعيد، فكان السنوسي قد ألقى قصيدةً من بحر المديد تكررت تفعيلاتها أربع مرات، فاعترض المؤلف بأن المديد لا يستعمل إلا مجزوءًا، وأنَّ التربيع هو من صنيع المتأخرين، وأتى بالشواهد في هذا، ثم إنَّ المؤلف بعد هذا تصدَّى لنقد قصيدة السنوسي نقدًا فيه شيء من الشدة حيث عاب عليه تكرار والتزام لفظ (علي) و (ابن علي) في آخر كل بيت، ثم أطال في مسألة الفعل (عدا) من حيث معناه وتعدّيه بحرف الجرّ، وصارت بينه وبين السنوسي مكاتبات في هذه المسألة وطال النقاش بينهما وأدخلوا طرفًا ثالثًا وهو العلاَّمة السيد صالح بن محسن الصيلمي، فكأنه رأى أن الحقَّ مع المعلِّمي، واعتذر له السنوسي في آخر المطاف بقصيدة بعثها إليه وطلب منه إصلاح خللها، فأجابه المعلِّمي بعشرة أبيات. وهذا دليل على سعة صدورهما وسرعة قبولهما الحق، ورجوعهما إلى

وصف الأصل

الصواب إذا تبيَّن مع وجود موجب التنافس بينهما وطلب الحظوة لدى أمير المؤمنين الإدريسي - كما كان يُسمى في ذاك الوقت -. وصف الأصل: اعتمدت في إخراج هذه المذاكرة على ما نشره د/ عبد الله أبو داهش في مجلة عالم الكتب في العدد الثاني من المجلد الثاني عشر سنة (1411 هـ) من (ص 183) إلى (ص 203)، وكان - كما ذكر في وصف المخطوط - اعتمد على نسخة خطية واحدة موجودة في قسم المخطوطات بمكتبة الحرم المكي، وهي بدون رقم، وبقلم المؤلف، وليس عليها تاريخ، وتقع في عشر صفحات إلى آخر ما قال (¬1). وقد وقفت على نسخة خطية أخرى ناقصة تقع في المجموع رقم (4708) وهي بخط المؤلف، والنقصُ فيها كثير وبينها وبين المنشورة فروق يسيرة في تقديم بعض كلمات وتأخيرها، وزيادة بعض الأبيات والكلمات كما تجده في الهوامش. العنوان: ليس هناك عنوان للرسالة، واجتهدت بتسميتها (مناظرة أدبية بين المعلّمي والشاعر الأديب محمَّد بن علي السنوسي)، ونشرها أبو داهش باسم (المعلِّمي والسنوسي في مجلس الإدريسي صُوَرٌ من المجالس الأدبية في تهامة). **** ¬

_ (¬1) لم أقف على هذه النسخة الخطية.

* شرح بيت ومعناه

* شرح بيت ومعناه: أحدُ الأدباء في زمن وبلد المؤلف - واسمه ثابت بن سعيد -, نظم بيتًا فيه تاريخ العام الذي قيل فيه هذا البيت بحساب الجُمَّل الواقع في قوله من الشطر الثاني: * أزال عنك الهم والغم * فالألف = 1، والزاء = 7، والألف = 1، واللام = 30، والعين = 70، والنون = 50، والكاف = 20، والألف = 1، واللام = 30، والهاء = 5، والميم = 40، والواو = 6، والألف = 1، واللام = 30، والغين = 1000، والميم = 40. والجميع يساوي 1332، وهو تاريخ تلك السنة، وأنت تلاحظ أن الحرف المضعَّف يُحسب مرة واحدة كما في ميم (الهم والغم) وهذا من قواعد ذلك الفن، ويسمَّى هذا الحساب أيضًا بالتأريخ الشعري (¬1)، فبيَّن هنا المؤلف المحاسن اللفظية التي اتفقت لهذا الشاعر دون تكلّف ولا تعسف، وهي من جنس علم البديع. ويضاف على ما ذكره المؤلف أنَّ الشاعر التزم بشروط التأريخ الشعري فقد أورد لفظة (التأريخ) وقدَّمها على حساب الجمل، وزاد الأمر توضيحًا مجيئُه بكلمة (العام) وكذلك ممَّا التزم بشروطه أنّه نظمه في بيت واحد، وهذا هو الأغلب في التأريخ الشعري، ويستحسن أن يكون في عجز البيت ¬

_ (¬1) انظر: علم البديع لبكري شيخ أمين (ص 183).

وصف المخطوط

لا في صدره، وهذا ما فعله الشاعر هنا. وصف المخطوط: هذا التقرير يوجد ضمن الكشكول الذي تقدم وصفه، ويقع في (ص 153)، وهو بخط المؤلف، وأنهاه بقوله: "تمت" ولم يضع له عنوانًا. **** * أنظام لغوية: نظم المؤلف أنظامًا مختلفة في مسائل عدة وهنا لدينا ثلاثة أنظام: الأول: في الأسماء المؤنّثة السماعية، وقد أورد فيها الكلمات الواجبة التأنيث، والكلمات الجائزة في أربعة عشر بيتًا من الرجز، وقد رقَّم الكلمات بأرقام جعلها فوق كل كلمة فبلغت في القسم الأول ستين كلمة، وفي الثاني بلغت ست عشرة كلمة، والأبيات موجودة بالكشكول الذي سبق وصفه، وتقع في صفحة (222) منه، وفيها ضرب وتصويب على بعض الكلمات. الثاني: نظم جموع كلمة (عبد): العبد: الإنسان حرًا كان أو رقيقًا، وكذلك المملوك، وقد ذكر له المجد في القاموس خمسة عشر جمعًا، وزاد عليه شارحه بما أوصلها إلى خمسة وعشرين، ونظمها هنا المؤلف بنظمين بلغت جموع (عبد) فيهما عشرين، والأمر في هذه الجموع كما قال العلاَّمة محمَّد الفاسي فيما نقله عنه تلميذه الزبيدي في التاج (8/ 330): "وللنظر مَجَالٌ في بعض الألفاظ: هل هي جموع لعبد أو جموع لبعض جموعه كأعابد ومعابد" اهـ.

فهذه الألفاظ فيها ما هو عزيز وقليل جدًّا كعبيد، وفيها ما هو اسم جمع كمعبدة، ومن أراد التوسع فعليه بالتاج للزبيدي (8/ 327) وقد أفاد أنَّ ابن مالك جمع بعض هذه الألفاظ في قوله: عباد عبيد جمع عبد وأعبُدٌ ... أعابد مَعْبوداء مَعْبدة عُبُدْ كذلك عُبْدان وعِبْدانٌ اثْبِتَنْ ... كذاكَ العِبِدَّى وامددِ انْ شئتَ أنْ تمَدْ واستدرك عليه الجلال السيوطي في أول شرحه لعقود الجمان فقال: وقد زيد أعباد عُبُودٌ عِبِدَّةٌ ... وخَفِّفْ بفتحٍ والعِبِدّان إنْ تشدْ وأعبدة عبدون ثُمَّت بعدها ... عبيدون معبودى بقصر فَخُذْ تَسُدْ وزاد الشيخ سيِّدي المهدي الفاسي شارح الدلائل قوله: وما نَدُسًا وازى كذاك معابد ... بذين تفي عشرين واثنين إنْ تَعُدْ قال شيخ الزبيدي محمَّد الفاسي: "وأجْمَعُ ما رَأَيتُ في ذلك لبعض الفضلاء في أبيات: جموع عَبْدٍ عُبُود أعبُد عُبُد ... أَعابِدٌ عَبُدٌ عَبْدون عُبْدان عُبْدٌ عِبدَّى ومعبودا ومدّهما ... عِبِدَّة عُبَّدٌ عُبَّاد عِبْدان عَبِيدٌ اعْبِدة عَبَّاد مَعْبدة ... معابد وعبيدون العِبِدَّان وأبيات المؤلف موجودة بالكشكول الذي تقدم وصفه، وتقع في (40) منه، وهي بخطه وقد ختمها باسمه مع توقيعه، ممَّا يؤكد أنها له إذْ هي عادته في نسبة الشيء إليه، وقد وضع فوق كل كلمة رقمًا.

الثالث: جموع (شيخ): ذكر المجد الفيروزآبادي في قاموسه المحيط كلمة (شيخ) وأورد في جمعها إحدى عشرة لفظةً، جمعها الشيخ المعلِّمي رحمه الله في أربعة أبيات من وزن الرجز. وفي هذه الجموع خلاف ستأتي الإشارة إليه باختصار، واعلم أنَّ أول مَن نظم جموع (شيخ) هو الإِمام ابن مالك صاحب الألفية، المتوفي سنة (672 هـ) في كتابه نظم الفوائد (¬1) حيث قال (ص 65): فَصْل في جمع شيخ: شَيخٌ شُيُوخٌ ومَشْيُوخاءُ مَشْيَخةٌ ... شِيَخةٌ شِيْخَةٌ شِيخان أَشْيَاخُ اهـ. فهذه سبعة جموع. وممن نظم جمع (شيخ) أيضًا العلامة أحمد السجاعي المتوفى سنة (1197 هـ) صاحب الحواشي ومنها حاشيته على شرح القطر لابن هشام الأنصاري حيث قال فيها (ص 2): "وللشيخ جموع ذكرها في المختار، وقد نظمتها فقلتُ: مشايخُ مَشْيُوخاء مَشْيَخةٌ كذا ... شُيُوخٌ وأَشْياخٌ وشِيخانُ فاعلما ومَعْ شِيخةٍ جَمْعٌ لشيخٍ وصُغِّرا ... بضمٍّ وكسرٍ في شييخ لتفهما" اهـ فهذه أيضًا سبعة جموع كما في مختار الصحاح (ص 352). ¬

_ (¬1) نشر الكتاب في مجلة جامعة أم القرى السنة الأولى العدد الثاني عام 1409 هـ, بتحقيق د/ سليمان العايد.

واتفق هنا السجاعي وصاحب المختار مع ابن مالك في المجموع ما عدا لفظة (مشايخ) فإن ابن مالك لم يذكرها, ولفظة (شِيخة) بوزن صِبْية فإنَّ ابن مالك ذكرها, ولم يذكراها. واعلم أنَّ بعض هذه الجموع قياسي كشُيوخ - بضمِّ الشين - وأشياخ كبيت وأبيات، وبعضها الآخر ليس قياسًا، بل ربَّما أنكره بعض الأئمة كما جاء في مشايخ فإنه قيل فيه: إنه جمع الجمع، وابن دريد والقزاز أنكراه، وكذا مشيوخاء فإنه من الأوزان النادرة القليلة فهو بوزن (مفعولاء) ولم يأتِ منه إلا معلوجاء، ومعبوداء، ومعيوراء، ومسلوماء، ومشيوخاء، ومتيوساء (¬1). هذا وقد استدرك الزبيدي في التاج (2/ 265)، وفي كتابه التكملة (2/ 113) على صاحب القاموس جمعًا غير ما ذكره وهو (أشاييخ) وقال إنه جمع أشياخ، وأشياخ جمع شيخ وهذا مثل أناييب وأنياب وناب. فتصير الجموع حينئذٍ اثني عشر جمعًا، وأفاد الزبيدي أيضًا أنَّ لفظة (مَشْيخة) تضبط بكسر الميم وفتحها مع سكون الشين وفتح الياء وهذا مذكور في نظم الشيخ المعلِّمي لكنَّ الغريب أنه زاد على هذا أنَّ الياء قد تُضم، وهذا نقله عن اللحياني في نوادره، إذْ قال الزبيدي: "والمشيخة في جموعه ضبطه اللحياني في نوادره بالوجهين: فتح الميم وكسرها وسكون الشين وفتح التحتية وضمّها". اهـ (¬2). ¬

_ (¬1) انظر كتاب ليس في كلام العرب لابن خالويه ص (330)، والتاج للزبيدي (2/ 75، 265). (¬2) انظر التكملة للزبيدي (2/ 113) والتاج له (2/ 265).

القسم الثالث: (الرسائل العروضية)

وعلى هذا يصلح أن يكمل به الجمع الثالث عشر، ولعل اختلاف العلماء في عدِّ جموع شيخ يرجع إلى أنَّ بعض المجموع يندرج تحت بعض فمثلاً: (شُيُوخ) بضمتين على القياس قيل فيه: (شِيوخ) بكسر الشين لمناسبة الياء كما حصل في بيوت وبابه وهي لغة لبعض العرب وقرئ بها في القرآن فمنهم مَنْ جعلها لفظةً واحدة، وكذلك (مشيخاء) قال الزبيدي في التاج (2/ 265): بحذف الواو منها ولم يذكره ابن منظور. اهـ ولعل عدم ذكره لها أنَّ العرب حذفت منها الواو تخفيفًا فإنَّ أصلها: (مشيوخاء) على وزن مفعولاء وهو جمع من جموع (شيخ) كما تراه في النظم، ويؤيّد هذا أنَّ الصغاني في التكملة والذيل والصلة على الصحاح (2/ 155) جَعَلهما جمعًا واحدًا فقال: "والمشْيُخَاء: المشيوخاء". اهـ. وكذلك يمكن أن يقال في: (مَشْيخة) بفتح الميم وسكون الشين، و (مِشْيخة) - بكسر الميم وسكون الشين - أنهما لغتان في هذا الوزن، وليسا جمعين مختلفين لكلمة (شيخ). والله تعالى أعلم وأحكم. والأبيات موجودة بالكشكول الذي تقدم وصفه، وتقع في (ص 38) منه، وقد كتبها المؤلف بخطه وشكل الكلمات ثم ختمها باسمه وتوقيعه. **** القسم الثالث: (الرسائل العروضية): الرسالة الثانية عشرة: مختصر متن الكافي في العروض والقوافي: ألَّف أحمد بن عباد بن شعيب القنائي ثم القاهري المعروف بالخواص المتوفى سنة (858 هـ) كتابًا في العروض أسماه بالكافي في علمي العروض

الأصل المخطوط

والقوافي، وهو متن متين شرحه العلاَّمة محمَّد الدمنهوري المصري الشافعي المتوفى سنة (1288 هـ) بشرحين: كبير وسماه الإرشاد الشافي، وصغير وسماه المختصر الشافي. وقد لخَّص المؤلف من الشرح الصغير مع متن الكافي هذه الرسالة المفيدة، وأضاف إليها إضافات مثل أبيات الصفي الحلّي في بحور الشعر، وكنظم حروف القافية، وكبيتي الحلي في حركات القافية، وكبيتيْ أقسام القافية الخمسة. وربما تصرّف في المتن وصوّب بما ينبه عليه المحشي أحيانًا كعنوان الباب الثاني حيث في الأصل: "الباب الثاني في أسماء البحور وأعاريضها وأضربها"، وغَيَّرها إلى "الباب الثاني في البحور وموازنها وعروضها"، وكما في تعريف الردف قال هو: حرف لين قبل الروي، وفي الأصل: "هو حرف مدٍّ قبل الروي" وغيَّرها بناءً على تنبيه الدمنهوري، وغير ذلك ممَّا تجده في الهامش. الأصل المخطوط: المخطوط كُتب بخط المؤلف وهو خط نسخي جميل، استخدم فيه المدادين الأحمر والأسود، كتب على أول صفحة العنوان: (متن الكافي في العروض والقوافي للعلامة أبي العباس أحمد بن شعيب القنائي الشافعي مشوبًا ببعض تقريراتٍ مِنْ شرحه المختصر الشافي لشيخ المشايخ السيد محمَّد الدمنهوري رحمهما الله تعالى، وأسقطت منه غالب الشواهد ليكون أحث على حفظه وأبحث على دقائقه والله الموفق).

* نظم بحور العروض

وقد كتب هذه العبارة بشكل هرمي مقلوب يشبه رقم (7) ثم كَتَبَ تحتها هذين البيتين وصدَّرها بقوله "كاتبُهُ: ولكن لي نفسٌ عصام أبية ... عن الذل تأبى أن تضام وتظلما فإنْ تظلموني كنت لا شك ظالمًا ... وإن تكرموني كنت لا شك أكرما" والمخطوط ليس عليه تاريخ نسخ، ويقع في الكشكول الذي تقدم وصفه من (ص 9) إلى (ص 16). وقد عَنْونتُ له بـ (مختصر متن الكافي في العروض والقوافي). * نظم بحور العروض: نظم المؤلف رحمه الله بحور العروض - وهي ستة عشر بحرًا - في خمسة أبيات، وقد وضع بعد كل بيت دائرة من دوائر العروض الخمسة، وهذه الأبيات ضرب من ضروب تسهيل المسائل العلمية وضبطها، وقد نظم هذه البحور كثير من العلماء منهم الحِلّي كما في ديوانه (ص 621)، وهذه الأبيات ثابتةٌ للناظم فهي مكتوبة بخطه، وعليها ضرب في بعض الكلمات وإبدالها بأخرى، وتقع في ذلك الكشكول (ص 154) منه. **** هذا وفي الختام أسأل الله أن يتقبل مني جهدي وطاقتي، وأن يغفر لي إفراطي وتفريطي، وأن يكون هذا العمل مقبولا لدى كل منصف متواضع صاحب عين راضية، يقبل الحق وينصح الخلق، لا يطلب الزلاَّت ولا يلتمس العثرات، يقيس الأمور بميزان العدل، فهو أقرب للتقوى،

وأسأله - جل وعلا - أنْ يرفع قَدرْ كلِّ مَنْ أبدى لي ملاحظةً أو تصويبًا أو قدَّم لي عونًا أو رأيًا وأرجو من العليم الخبير أن يجعل لي أجرين إن أصبت، وأجرًا واحدًا إنْ أخطأت، والخطأ نعت الإنسان، وصلى الله وسلم وبارك على أشرف أنبيائه ورسوله سيدنا محمَّد وعلى آله وصحبه وأزواجه إلى يوم يبعثون. وكتب أبو صفوان أسامة بن مُسلَّم الحازمي في مكة المكرمة صانها الله من كل سوء 22/ 5/ 1432 هـ

نماذج من النُّسخ الخطية

صفحة العنوان من "اللطيفة البكرية"

الصفحة السادسة من "اللطيفة البكرية"

صفحة العنوان من "حقائق في النحو مستقربة"

الورقة الأولى من "حقائق في النحو مستقربة"

نظم قواعد الإعراب الصغرى

نموذج من "مختصر شرح ابن جماعة على القواعد الصغرى"

فوائد في اللغة

مختصر متن الكافي في العروض والقوافي

نموذج من مختصر متن الكافي

نموذج من مختصر متن الكافي

النص المحقق

آثَار الشيخ العَلامَة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي (20) مجموع رسائل النحو واللغة تَألِيف الشيخ العَلامَة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني 1312 هـ - 1386 هـ تحقيق أسامة بن مسلم الحازمي وَفق المنهج المعتمد من الشيخ العَلامَة بكر بن عبد الله أبو زيد (رَحِمَهُ الله تعالى) تمويل مُؤَسَّسَةِ سليمان بن عبد العزيز الراجِحِيِّ الخيرية دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

القسم الأول الرسائل النحوية والصرفية

الرسالة الأولى اللطيفة البكرية والنتيجة الفكرية في المهمات النحوية

الرسالة الأولى اللطيفة البكرية والنتيجة الفكرية في المهمات النحوية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، وأشهد ألا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، اللهم صل على محمَّد، وعلى آله وصحبه وسلم. فهذه نبذةٌ يسيرةٌ في النحو، عظيمة الفائدة، جمعَتُ بها لنفسي شوارده، وقيَّدَتْ أوابده، فجاءت - لولا قصور جامعها - بديعةً في بابها، نافعةً لطلابها، نسأل الله أن يجعل جميع أعمالنا في طاعته. آمين. ***

مقدمة

مقدمة [تعريف النحو] (¬1) النحو: علمٌ بأصولٍ مستنبطة من كلام العرب، يعرف بها أحكام الكلمات العربية حال تركيبها إعرابًا وبناءً (¬2). [تعريف الإعراب] والإعراب: هو تغيير أواخر الكلم لفظًا أو تقديرًا؛ لاختلاف العوامل (¬3). والكلمة التي فيها ذلك معربة. [تعريف البناء] والبناء: هو لزوم أواخر الكلم حالةً واحدةً لفظًا، أو (¬4) تقديرًا، على اختلاف العوامل. والكلمة التي فيها ذلك مبنية. ¬

_ (¬1) العناوين التي بين المعكوفين من وضعي، وليست من وضع المؤلف رحمه الله. (¬2) هذا التعريف الذي ذكره الشيخ هو تعريف المتأخرين للنحو، حيث جعلوه مقابلاً لعلم الصرف، والمتقدمون يجعلون العلمين علمًا واحدًا. انظر شرح الأشموني بحاشية الصبان (1/ 15 - 16)، وحاشية الخضري (1/ 12). (¬3) اختار الشيخ رحمه الله في تعريف الإعراب أن يكون معنويًّا، وهو ظاهر مذهب سيبويه، وذهب ابن مالك رحمه الله وغيره إلى أن الإعراب لفظي. انظر: شرح الأشموني (1/ 47 - 48)، وهمع الهوامع للسيوطي (1/ 40 - 41). (¬4) في أصل المخطوط بالواو، وصححت من مصادر المؤلف.

[فائدة النحو]

[فائدة النحو] ولا تحسب النّحو يعصم اللسان فقط، بل وقد يتوقف عليه فهم المعاني، ولا يُؤمَن غلطُ جاهله فهمًا وإفهامًا، ألا ترى قولهم: "ما أحسن زيد" بنصبهما، وبنصب الأول وضم الثاني، وبضم الأول وجر الثاني، لا يكاد غيرُ النحوي يفرق بين معانيها، مع أنها شتى. [الكلام وأقسامه: حرف, وفعل، واسم] وكلُّ قولٍ مفيدٍ كلامٌ، وكل مفيدٍ مركبٌ لفظًا أو تقديرًا، وكل مركبٍ له أجزاء، وأجزاء الكلام هي الكلم، وكل كلمة دالّةٌ على معنى، إما في غيرها وهو الحرف، وعلامته: أن لا يقبل شيئًا من علامات الاسم والفعل الآتي ذكرها، وحكمه: البناء، وهو أصليٌّ فيه، لا يتغير. [الفعل الماضي وعلامته وحكمه] وإما في نفسها، فإن اقترنت بزمن وضعًا فالفِعْلُ، فإن كان الزَّمن ماضيًا، فهي الفعل الماضي، وعلامته: قبول "قد"، وتاء التأنيث الساكنة وحكمه: البناء دائمًا على الفتح لفظًا أو تقديرًا، والتقدير يكون للتعذّر في المعتلِّ، وللمناسبة مع واو الجماعة، ولكراهة توالي أربع حركات فيما هو كالكلمة الواحدة في المتصل بضمير رفع متحرك. [الفعل المضارع وعلامته وحكمه] وإن كان الزمن محتملاً للحال والاستقبال فالفعل المضارع، وعلامته قبول "قد"، والسين، و"سوف", وأصل حكمه البناء (¬1)، ويجيء على ¬

_ (¬1) مذهب البصريين أن الإعراب أصلٌ في الأسماء، فرعٌ في الأفعال، وأن البناء عكسه، =

الأصل إذا اتصلت به نون الإناث، فيُبنى على السكون، وإذا اتصلت به إحدى نونيْ التوكيد، فعلى الفتح. ويُعْرَبُ ما عدا ذلك؛ لشبهه الاسم في أن كلاًّ تتوارد عليه معانٍ تركيبية، لولا الإعراب لالتبست، فينصب بالنواصب، ويجزم بالجوازم ويرفع ما تجرد عنها (¬1)، وينتقل الإعراب في الأمثلة الخمسة، فترفع بثبوت النون، وتنصب وتجزم بحذفها (¬2)، وتقدر الحركات في المعتل بالألف، والرفع فقط في أخويه، وتجزم الثلاثة بحذف حرف العلة، وما عدا ذلك يظهر إعرابه (¬3). ¬

_ = وهو الراجح عند جَمْعٍ. انظر: الأشموني (1/ 57 - 58)، والهمع (1/ 44)، والتصريح على التوضيح (1/ 54)، وشرح ابن عقيل (1/ 36). (¬1) أي: ما تجرد عن النواصب والجوازم، ومذهب الفراء وأكثر الكوفيين أن الفعل المضارع عامل الرفع فيه عاملٌ معنوي، وهو تجرده من الناصب والجازم، وهو اختيار ابن الحاجب، وصححه ابن هشام في شرح القطر. انظر: شرح العوامل للأزهري (ص 340). (¬2) الأمثلة الخمسة هي التي يطلق عليها أيضًا الأفعال الخمسة، وحَدُّها: كل فعل مضارع اتصل به واو الجماعة، أو ألف الاثنين، أو ياء المخاطبة. (¬3) وهو المضارع الذي لم يتصل بآخره شيءٌ، وليس مختومًا بحرف علة، نحو قوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا ...} الآية وقوله تعالى: {حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا ...} الآية، وقوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}.

[فعل الأمر وعلامته وحكمه]

[فعل الأمر وعلامته وحكمه] وإن كان الزمن مختصًّا بالاستقبال وضعًا فالأمرُ (¬1)، وعلامته: أن تدل على الطلب، وتقبل ياء المخاطبة (¬2)، وحكمه: البناء على ما يجزم به مضارعه. [الاسم وعلامته وأقسامه] وإن لم يقترنْ بزمن فالاسم، وعلامته: قبول الجر وحروفه، والتنوين (¬3)، والإسناد إليه (¬4)، وأصله الإعراب والصرف، وقد يجيء على خلاف ذلك؛ لأنه إما متمكن أمكن في الاسمية، وهو المعرب المنصرف، وسيأتي، وإما متمكن لا أمكن، وهو ما أشبه الفعل (¬5) فمنع عن الصرف، ¬

_ (¬1) قال في الهمع (1/ 16): والأمر مستقبلٌ أبدًا؛ لأنه مطلوبٌ به حصول ما لم يحصل، أو دوام ما حصل، نحو {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ}، قال ابن هشام: "إلا أن يراد به الخبر، نحو "ارم ولا حرج". فإنه بمعنى: رميت والحالة هذه، وإلا كان أمرًا له بتجديد الرمي، وليس كذلك". ا. هـ. (¬2) قوله: "أن تدل" بالتاء أي: الصيغة، ولا بد من حصول هاتين العلامتين، نحو قوله تعالى: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي ..} الآية، وقوله تعالى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ ..}. (¬3) هو نون ساكنة تتبع آخر الاسم في اللفظ، وتفارقه في الخط، استغناءً عنها بتكرار الشكلة عند الضبط بالقلم، نحو: زيدٍ، ورجلٍ، وصهٍ، ومسلماتٍ، فهذه أسماء لوجود التنوين في آخرها، وأنواعه عشرة، ذكرها السيوطي في الهمع وغيره من أصحاب شروح الألفية. (¬4) قال ابن هشام في التوضيح - يُعرِّف بالإسناد إليه -: هو أن تنسب إليه - أي الاسم - ما يحصل به الفائدة" اهـ. (¬5) طالع ما ذكره الرضي في شرحه على الكافية (1/ 36).

[المبنيات]

وسيأتي، وإما ليس له حظٌّ في التمكن بأن أشبه الحرف، فَبُنِيَ، ونبدأ به فنقول: [المبنيات] أوجه شبه الاسم للحرف ثمانية: الأول: الشبه الوضعي، بأن كان وضع الاسم على حرفٍ، أو حرفين فإن أصل الوضع على ذلك للحرف، فإن جاء الاسم كذلك فقد أشبهه، فيبنى (¬1)، ومنه الضمائر، وحمل ما زاد على الحرفين منها على غيره طردًا للباب، ويأتي هذا السبب في بعض الظروف، وأسماء الشرط والاستفهام، والإشارة، والموصولات. الثاني: الشبه المعنوي، بأن يتضمن الاسم معنًى حقه أن يؤدى بالحرف، سواءً وضع له حرفٌ، كالشرط حرفه "إنْ"، والاستفهام حرفه الهمزة، أو لا كالإشارة كان حقها أن يوضع لها حرف، كنحوها من المعاني، ويأتي هذا السبب في الضمائر أيضًا؛ لأن التكلم والخطاب والغيبة من معاني الحروف، ومنه "أمسِ" لتضمن "أل" و"أحد عشر" لتضمن حرف العطف (¬2)، وحمل ¬

_ (¬1) قال الخضري في حاشيته (1/ 33): "أصل وضع الحرف كونه على حرفٍ أو حرفيْ هجاء، فما زاد فعلى خلاف الأصل، وأصل وضع الاسم ثلاثة فأكثر، فما نقص فقد شابه الحرف في وضعه, واستحق حكمه, وهو البناء". (¬2) الأعداد من "أحد عشر" إلى "تسعة عشر" مبنية على فتح الجزأين ما عدا "اثنا عشر، اثنتا عشرة" فإنهما معربان، وسبب بناء العدد الأول منهما هو كونه محتاجًا إلى الثاني، وهذا الشبه الافتقاري، وبني الثاني منهما لتضمن حرف العطف. انظر: شرح الكافية للرضي (2/ 87).

على الثاني منها اسم "لا" التبريئية (¬1)، ومنه المنادى المرفوع؛ لوقوعه موقع كاف الخطاب. الثالث: الشبه الاستعمالي، بأن يكون الاسم نائبًا عن الفعل غير متأثرٍ بالعوامل، وذلك أسماء الأفعال، مع أن اسم فعل الأمر متضمنٌ للام الأمر، ويحمل غيره عليه، طردًا للباب. الرابع: الشبه الافتقاري، بأن يكون [الاسم] (¬2) لازم الافتقار إلى ما يتم معناه، كالموصولات إلى الصلات، وكلٌّ من الغايات المقطوعات (¬3)، و "إذا" و"إذ" إلى مضافٍ إليه، والمضمراتِ إلى ما يفسرها، والأول من المركب المزجي إلى الثاني. الخامس: الشبه الإهمالي، ومنه الأسماء قبل التركيب، وأسماء حروف الهجاء المسرودة، وأسماء العدد (¬4). ¬

_ (¬1) اختلف في موجب بناء اسم "لا"، فقيل: تضمنه معنى "من" الاستغراقية، وصححه ابن عصفور والرضي والخضري وغيرهم. وقيل: تركيبه معها تركيب "خمسة عشر"، وصححه ابن الضائع، ونُقِلَ عن سيبويه وجماعة. وقيل: لتضمنه معنى اللام الاستغراقية. انظر: شرح الكافية للرضي (1/ 256)، والمساعد على تسهيل الفوائد لابن عقيل (1/ 340)، والهمع (2/ 199)، وحاشية الخضري (1/ 35). (¬2) في أصل المخطوط: "بأن يكون الفعل .. " إلخ، وهو خطأٌ ظاهر، وتصحيحه من مصادر المؤلف المتقدمة. (¬3) المقصود بالغايات المقطوعات: الظروف المقطوعة عن الإضافة. (¬4) نقله السيوطي عن بعضهم (1/ 52)، وذلك نحو: "ألف، باء تاء، ثاء، جيم ... " إلخ، وأما أسماء العدد، فنحو: "واحد، اثنين، ثلاثة ... " إلخ، وزاد الخضري (1/ 35) أسماء الأصوات، إذ لا تعمل ولا يعمل فيها غيرها أصلاً، وقال: إنه ظاهرٌ فيه.

[أنواع البناء]

السادس: الشبه الصوري، مثل "حاشا" الاسمية للحرفية (¬1)، و"كلا" بمعنى حقًّا لحرف الردع، ويلحق به "فعالِ" عند الحجازيين ومن وافقهم، لِوِزَان بعض أسماء الأفعال، كـ "نزال"، وقد يسمى الشبه الوزني، لكنه اعتضد بغيره من صفات اسم الفعل من العدل والتعريف والتأنيث، فالسبب مجموع ذلك. السابع: الشبه الجمودي، وهو عدم تصرف الاسم. الثامن: الشبه الاستغنائي، بأن يستغني الاسم عن الإعراب بكثرة صيغه، ويأتيان في الضمائر. فكل ما فيه أحد هذه الأسباب، ولم يعارض بـ "أل"، أو الإضافة، ولم يطرأ عليه التثنية، أو الجمع، أو التصغير، أو نحوها فإنه مبني. [أنواع البناء] ثم أنواع البناء أربعة: سكون: وهو الأصل، فلا يعدل إلى الحركة إلا بسببٍ، كالتقاء الساكنين (¬2)، وكون الكلمة على حرفٍ واحدٍ (¬3)، وعرضتها للبدء بها كباء الجر، أو لها أصلٌ في الإعراب كالغايات (¬4)، أو مشابهة ¬

_ (¬1) ترد "حاشا" اسميةً بمعنى التنزيه، وحرف جر خلافًا للفراء وجماعة، فلما أشبهت "حاشا" الاسمية في اللفظ والصورة "حاشا" الحرفية بنيت. انظر: الهمع (3/ 282). (¬2) مثال التقاء الساكنين "أين" فأصلها ساكنة النون "أَينْ"، فالتقى ساكنان: الياء والنون، فحركت النون بالفتحة؛ للتخلص منه. (¬3) وذلك كبعض المضمرات، نحو تاء الفاعل من "ضربتُ". (¬4) الغايات هي الظروف، وذلك نحو "قبل، وبعد، وأول" في حالة حذف ما تضاف إليه، =

[أسباب الفتح]

للمعرب كالماضي للمضارع في الوقوع صلةً، وصفةً وحالاً، وللدلالة على استقلال الكلمة وأصالة المتحرك، كما في "هو وهي"؛ إذ لو سُكِّن الواو والياء لتوهم أنهما للإشباع. [أسباب الفتح] فأسباب الفتح طلب الخفة، كـ "أينَ"، ومجاورة الألف كـ "أيان"، والفرق بين أداتين كـ (لام) المستغاث به ولام القسم، للفرق بينهما وبين (لام) الملك، والاتباع كـ (كيف) إذِ الساكن حاجزٌ غير حصين. [أسباب الكسر] وأسباب الكسر: مجانسة العمل كـ "باءِ الجر، ولامه"، أما واو القسم وتاؤه، وكاف الجر، ففتحت للخفة، ولأن الواو لا يلزم الجر، والحمل على المقابل كلامِ الجحود على لام الملك، وللإشعار بالتأنيث كتاء المخاطبة، ولكونه الأصل في التخلص عن الساكنين، كـ "أمس"؛ لأن السكون مختصٌّ بالفعل، والكسر بالاسم، وإنما يتخلص عن الشيء بمقابله، ولعدم التباسها بحركة الإعراب إذ لا يكون هناك (¬1) إلا مع التنوين والجر والإضافة. [أسباب الضم] أسباب الضم: الاتباع كـ "مُنْذُ"، والتعويض إذا حُرِمَتْه الكلمة معربةً كالغايات، وحمل عليها المنادى، و"حيثُ"؛ لأن كلاًّ صار غاية في النطق، ¬

_ = ونية معناه. (¬1) هكذا العبارة في الأصل، وجاء عند الخضري ودحلان قولهم: "إذ لا يكون الكسر إعرابًا إلا مع التنوين و ... " إلخ.

(باب الممنوع)

ولمقابلة الواو في نظير الكلمة، كما ضمت "نحنُ" لمقابلة الواو في "همو". ويكون البناء أصلاً في الحرف والفعل، لا يُسْئل عن سببه، ولكون السكون أصلاً في البناء لا يُسْئل عن سببه، [كذلك] (¬1)، وإنما يسئل عن سبب البناء في الاسم والمضارع، أو عن سبب الحركة حيث كانت، وعن سبب كونها فتحةً أو كسرةً أو ضمةً، فنحو "لعلَّ" حركت لالتقاء الساكنين بالفتحة للخفة، والغايات بنيت لشبهها الحرف؛ لافتقارها إلى مضافٍ إليه، وقيل: حركت لأن لها أصلاً في الإعراب، وكانت الحركة ضمةً تعويضًا عما فاتها في الإعراب، والفعل الماضي حرك لإشباهه المعرب، وكانت الحركة فتحًا [لتعينه] (¬2) في حركته، إذ الكسر لا يأتي في الفعل، والضم أصلاً للإعراب، مع إيهام أنه لجماعة. (باب الممنوع) النوع الثاني من الاسم: هو ما كان متمكنًا في الاسمية غير أمكن، بأن أشبه الفعل، فمُنِعَ من الصرف، وتحقيق شَبَهِهِ أن في الفعل علتين فرعيتين، وهما: اشتقاقه من المصدر، وهي اللفظية، واحتياجه إلى الاسم، وهي المعنوية (¬3). ¬

_ (¬1) زيادة لا بد منها حتى يستقيم النص. (¬2) في أصل المخطوط لم تكتب الكلمة بخطٍ واضح، وهي قريبة مما أثبتناه. (¬3) ذكر هذا الأشموني في شرحه الألفية (3/ 229) وقال في معنى احتياج الفعل إلى الاسم: "إن الفعل يحتاج إلى فاعل، والفاعل لا يكون إلا اسمًا". اهـ. وانظر: الهمع (1/ 78).

والمشتق فرع المشتق منه، والمحتاج فرع المحتاج إليه، فإذا حوى الاسم علتين كذلك، فقد أشبه الفعل، فمنع مما يمنع [منه] (¬1) الفعل من الخفض والتنوين. والعلل المعنوية أربع: لزوم التأنيث فرعٌ عن عدم لزومه. الثانية: الجمع فرع عن المفرد. الثالثة: العَلَميَّة فرع عن التنكير. الرابعة: الوصف فرعٌ عن الموصوف، وشرطه الأصالة (¬2). والعلل اللفظية سبعٌ: التأنيث، وهو ثلاثة أقسام: بالألف مقصورةً أو ممدودة، وبالتاء، ومعنوي، وشرط الأخير الزيادة على الثلاثة، أو تحرك وسطها، والتأنيث فرعٌ عن التذكير. الثانية: عدم النظير في الآحاد فرعٌ عما له نظير (¬3). ¬

_ (¬1) في الأصل المخطوط: "من" بدون الضمير. (¬2) ذكر الصبان في حاشيته (3/ 231) أن ابن مالك في العمدة وشرحها شرط أصالة الوصفية. (¬3) المقصود بهذا صيغة منتهى الجموع، "مفاعل كمساجد، ومفاعيل كمصابيح"، فهذان الجمعان لا يوجد لهما نظير في المفرد، والآحاد يأتي على زنته, بينما كلمة "كلاب" جمع كلب، لها نظير في الآحاد، نحو "كتاب". وانظر: شرح الكافية للرضي (1/ 40)، والهمع (1/ 79).

[اجتماع العلتين في منع الاسم من الصرف]

الثالثة: زيادة الألف والنون فرعٌ عن [غير] (¬1) المزيد فيه. الرابعة: وزن الفعل فرعٌ عن وزن الاسم، وشرطه: اختصاصه أو غلبته بالفعل (¬2). الخامسة: العدل فرع عن المعدول عنه، وهو إما تحقيقي، كـ "ثُناء ومَثْنى" وأخواته، أو تقديري كـ "عُمَر". السادسة: التركيب المزجي فرعٌ عن الإفراد (¬3). السابعة: العجمية عن العربية، وشرطها أن ينتقل الاسم إلى العلمية من أول وهلة، وزيادتها على الثلاثة أحرف. [اجتماع العلتين في منع الاسم من الصرف] فالأولى من المعنوية، وهي لزوم التأنيث خاصة مع القسم الأول من الأولى من اللفظية، وهو التأنيث بالألف مقصورةً أو ممدودةً، نحو: "حبلى، وحمراء، وسلمى، وذكرى، وسكارى، وأولياء". والثانية من المعنوية، وهي الجمع خاصة بالثانية من اللفظية، وهي عدم النظير، وذلك في صيغة "مفاعل، ومفاعيل" لا غير. وأما الثالثة والرابعة من المعنوية، وهي العلمية والوصف، فيجيء كل منهما مع الثالثة من اللفظية وهي زيادة الألف والنون في نحو "عثمان، وسكران، مؤنَّثُه كسكرى". ¬

_ (¬1) الكلمة غير واضحة في المخطوط، وما وضعناه هو الموافق. (¬2) راجع الهمع للسيوطي (1/ 97). (¬3) الإفراد والمفرد في باب الإضافة وباب العلم ضد الجملة التي يشترط فيها التركيب.

[خصائص الاسم]

ومع الرابعة من اللفظية، وهي وزن الفعل، نحو "أحمد، وأحمر" وشرط الوصف في هذين أن لا يكون مؤنثه بالتاء (¬1). ومع الخامسة، وهي العدل، نحو "عُمَر، وحذامِ، وثُلاث، ومَثْلَث"، وتأتي العلمية خاصة مع القسمين الأخيرين من الأولى، وهما التأنيث بالتاء، والمعنوي مثل "فاطمة، ومكة، وزينب، ودمشق". ومع السادسة، وهي التركيب المزجي، مثل "معدي كرب، وبعلبك". ومع السابعة، وهي العجمية، مثل "إبراهيم، وقالون" (¬2). [خصائص الاسم] ثم اعلم أن "ال"، والإضافة، والتثنية، والجمع، والتصغير خواص الاسم، فإذا طرأت عليه مكَّنَتْه من الاسمية، فيرجع إلى الأصل، وهو الإعراب والصرف، فنحو "الأمس وأمسنا" معربٌ، ونحو "الأحمد وأحمدنا" منصرفٌ. ¬

_ (¬1) ما جاء على وزن فعلان وصفًا مؤنثه بالتاء "ندمان" - من المنادمة - وندمانة، و "سيفان" وسيفانة، بمعنى الطويل، وألفاظ أخرى نظمها ابن مالك وغيره. انظرها في الأشموني (3/ 232). وأما ما جاء على وزن "أفعل" مؤنثه بالتاء فنحو: أرمل وأرملة. (¬2) قد انتهى المؤلف رحمه الله من إيراد علل منع الاسم من الصرف، وهي تسع على رأي الجمهور، وصاغها الشيخ صياغةً نادرةً لم تتفق لمثله، وتقسيم العلل إلى معنوية ولفظية أورده الرضي في شرح الكافية (1/ 37)، والسيوطي في الهمع (1/ 78) وما بعدها، وابن جني في الخصائص (1/ 109)، وجعل اللفظي سببًا واحدًا، والباقي كلَّه معنويًا، والأشموني (3/ 229).

(إعراب الأسماء المنصرفة)

(إعراب الأسماء المنصرفة) النوع الثالث من أنواع الاسم: أن يجيء على الأصل متمكنًا أمكن، لم يشبه الحرف فيبنى، ولا الفعل فيمنع (¬1). وأنواع الإعراب فيه ثلاثة: الرفع والنصب والخفض بالحركات، ظاهرةً أو مقدرةً، في ثلاثة أبواب: في الاسم المفرد، وجمع التكسير، والجمع بألف وتاء زائدتين، وكلها تُرْفَع بالضمة، وتُنْصَب بالفتحة، وتُخْفَض بالكسرة، إلا الممنوع يجر بالفتحة، والجمع بالألف والتاء ينصب بالكسرة. [ما تُقدَّر عليه الحركة] وتُقَدَّر الحركات في المقصور من ذلك للتعذر، والمضاف إلى ياء المتكلم للمناسبة، ويقدر غير النصب في المنقوص للثقل، ويلفظ بها في سوى ذلك. وتنوب عنها (¬2) الحروف في ثلاثة أبواب: [المثنى وجمع المذكر السالم والأسماء الخمسة] المثنى وما ألحق به، والجمع المذكر السالم، والأسماء الخمسة، فتنوب عن الفتحة الألف في الثالث، والياء في الأول والثاني، وتنوب عن الضمة الألف في الأول، والواو في الثاني والثالث، وتنوب عن الكسرة الياء في الثلاثة. ¬

_ (¬1) أي: من الصرف. (¬2) أي: عن الحركات.

[الفاعل ونائبه]

ولكلًّ من أوجه الإعراب الثلاثة أبواب، فنبدأ بالمرفوعات؛ لأنها العمدة، وهي ستة وما يتبعها: [الفاعل ونائبه] الأول: الفاعل: وهو ما أسند إليه فعلٌ أو شبهه، وقُدِّم عليه على جهة قيامه به. [مواضع وجوب تقديم الفاعل على المفعول] ويجب تقديمه على المفعول حيث أَلْبَسَ (¬1)، أو كان ضميرًا متصلاً، أو وقع مفعوله بعد "إلا" أو معناها، أو اتصل مفعوله وهو غير متصل (¬2). الثاني: نائب الفاعل: وهو الاسم المرفوع الذي لم يذكر معه فاعله. وشرطه تغيير الصيغة من المعلوم إلى المجهول، وإذا وُجِدَ المفعولُ تعين للنيابة وإلا فالظرف، أو المصدر المفيد غير التوكيد، أو الجار والمجرور. ¬

_ (¬1) ويكون اللبس بين الفاعل والمفعول إذا انتفى الإعراب اللفظي، وانتفت القرينة الدالة على تمييز أحدهما، وذلك نحو "ضرب موسى عيسى، وضرب الذي قام الذي جلس". (¬2) هذا الموضع ليس من مواضع وجوب تقديم الفاعل، بل هو من مواضع وجوب تقديم المفعول به على الفاعل، ولعلَّ ذكره من المؤلف سَبْقُ قلم، قال ابن الحاجب في ذكر المواضع التي يجب فيها تقديم المفعول: "وإذا اتصل به ضمير مفعول أو وقع بعد "إلا" أو معناها، أو اتصل مفعوله وهو غير متصلٍ وجب تأخيره". اهـ.

[المبتدأ]

[المبتدأ] الثالث: المبتدأ، هو الاسم المجرد عن العوامل اللفظية مسندًا إليه، وكذا الصفة الواقعة بعد النفي، والاستفهام، ولك في "أقائمٌ الزيدان" الأمران. [الخبر ومواضع وجوب تقديم المبتدأ] الرابع: خَبرُه: وهو الاسم المجرد المسند المغاير للصفة المذكورة. وأصل المبتدأ التقديم، ويجب حيث اشتمل على ذي صدرٍ، أو كانا معرفتين، أو متساويتين، أو كان الخبر فعلاً له. [مواضع وجوب تقديم الخبر] ويمتنع حيث تضمن الخبر المفرد ذا صَدْرٍ، أو كان مصحِّحًا للابتداء بالنكرة، أو كان في متعلقه ضمير للمبتدأ (¬1)، أو كان المبتدأ "أنَّ" وصلتها. [تعدد الخبر ومجيء المبتدأ نكرةً والخبر جملة] وقد يتعدد الخبر، وقد يكون المبتدأ نكرةً إذا تخصص بوجهٍ ما، وقد يكون الخبر جملةً، فلا بد لها من ضميرٍ عائدٍ إلى المبتدأ مذكورًا أم مقدرًا، ما لم تكن نفس المبتدأ في المعنى، كخبر ضمير الشأن، ويغني عنه الإشارة (¬2)، وتكرار المبتدأ بلفظه أو معناه، والعموم الذي يشمل المبتدأ، ¬

_ (¬1) متعلقه: بكسر اللام، المقصود به جزء الخبر، كقوله تعالى: {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} فأقفالها: مبتدأٌ مؤخر. (¬2) أي: ويغني عن ذكر العائد - وهو ضمير المبتدإ - أشياء، منها الإشارة، كقوله تعالى: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ}.

[وجوب حذف المبتدأ]

وعطف جملةٍ فيها ضميرٌ لمبتدأ بفاء السببية، وشرط يشتمل على ضمير مدلولٍ على جوابه بالخبر. [وجوب حذف المبتدأ] ويجب حذف مبتدأ خبره نعتٌ مقطوعٌ لمدحٍ أو ذمٍّ، أو ترحمٍ، أو مصدر بدل من اللفظ بفعله، نحو: "سمعٌ وطاعة"، أو مخصوص "نِعْمَ"، أو صريح قسم، نحو "في ذمتي لأفعلنَّ" أي: يميني، ونحو "من أنت زيدٌ" أي: مذكورك زيدٌ، وقولهم: "ولا سواء" أي: هذان. [وجوب حذف الخبر] ويجب حذف خبرٍ وقع مبتدأ بعد "لولا" أو "لوما" للامتناع، إذا لم يكن خاصًّا، ومع قسم صريح، نحو "لعمرك"، و"واو" مع، نحو "كل رجلٍ وضيعتُه"، أي: مقترنان. [اسم الأفعال الناقصة] الخامس: اسم الأفعال الناقصة، وهي: كان وأخوتها، والملحق بها، وهو المسند إليه بعد دخولها, ولا تدخل على لازمٍ صدرًا وحذفًا، كالمخبر عنه بنعت مقطوعٍ أو ابتدائية، كما بعد "لولا" الامتناعية، و"إذا" الفجائية، أو عدم تصرف، أو خبره جملة طلبية، ولها شروط. [مسائل تتعلق باسم كان وخبرها] ولا يجوز حذف اسمها ولا خبرها، ويجوز توسط الخبر حيث يجوز تقديم الخبر على المبتدأ، ويجوز تقديمه إلا على "دام"، و"ليس"، والمنفي بـ "ما"، وقد يجب توسطه أو تقديمه، وقد يمنع لما مر في المبتدأ أو خبره.

[خبر إن وأخواتها]

[خبر إنَّ وأخواتها] السادس: خبر إنَّ وأخواتها، والملحق بها، وهو المسند بعد دخولها، ولا يتقدم خبرها، وقد يتوسط ظرفًا أو عديله، وقد يجب توسطه لعارضٍ مما مرَّ. والتوابع أربعة، ستأتي آخر هذه النبذة، إن شاء الله تعالى. ****

(المنصوبات عشرة)

(المنصوبات عشرة) الأول: المفعول به: وهو الاسم المنصوب الواقع عليه فعلٌ، أو شبهه، ويحذف حيث لم يكن نائبًا أو متعجبًا منه، أو جوابًا أو محصورًا، أو محذوفًا عامله حتمًا، ويجوز حذف عامله قياسًا مع قرينةٍ، ومنه المنادى، والإغراء، والتحذير، وذو الاختصاص، وكلها منصوبٌ بفعل لازم الحذف، ومن المنادى المندوبُ والمستغاثُ به. والثاني والثالث: خبر "كان"، واسم "إن" وأخواتها، فخبرُ "كان" هو المسند بعدها، واسم "إن" المسند إليه بعدها. الرابع: المصدر: وهو الاسم المنصوب الذي يقع ثالثًا في تصريف الفعل. وناصبه مثلُه أو صفةٌ أو فعلٌ، ويحذف عامله لقرينة، ويجب حيث كان بدلاً عن فعله، ومنه "لبيك" وأخواته، وقد ينوب عنه صفةٌ، كقولهم: "عائذًا بك"، و"هنيئًا". الخامس: المفعول له: وهو الاسم المنصوب الذي يذكر بيانًا لسبب وقوع الفعل. [شرط المفعول له] وشرطه: المصدرية، ومشاركته لفعله وقتًا وفاعلاً، فحيث انتفى أحدهما جُرَّ باللام، ويجوز تقديمه. المفعول فيه: هو اسم الزمان أو المكان المنصوب بتقدير "في".

[ما يصلح أن يكون ظرف مكان]

[ما يصلح أن يكون ظرف مكان] ولا يصلح للظرفية من المكان إلا ما دل على مقدار، وما لا يعرف حقيقته إلا بما يضاف إليه، وما جرى مجراه باطرادٍ، [نحو] (¬1): "هم قريبًا منك"، و"شرقي البلاد"، وما دل على محل الحدث المشتق هو من اسمه مثل: "مقعد" أو "مرقد". وقد يجيء خبرًا لمبتدأ، أو لـ "كان"، و"إنَّ" وغيرها, ولا بد له وللجارِّ والمجرور من متعلَّق، وهو فعل أو شبهه، ظاهرًا أو مقدرًا، بـ "كان" أو "استقر"، وقيل: "كائنٌ" أو "مستقر"، ومتعلقهما هو العامل فيهما. السابع: المفعول معه: وهو الاسم المنصوب بعد "واو" المعية. ولا يُقدَّم على عامله أو مصاحبه، ولا يفصل عن الواو بظرف، ويجب العطف بعد مفرد، والنصب بعد ضميرٍ متصلٍ لم يؤكد. الثامن: المستثنى: وهو المُخْرَجُ بـ "إلاّ" أو أحد أخواتها تحقيقًا، أو تقديرًا من مذكور أو متروكٍ بشرط الإفادة. إن كان تامًّا موجبًا لزم نصب الاسم بعد "إلا"، أو تامًّا فقط فالمختار الإبدال متصلاً، والنصب منقطعًا ويجوز العكس، أو لا, ولا فبحسب ¬

_ (¬1) في المخطوط: "ونحو" وهو خطأٌ، وذلك لأن ما يصلح أن يكون ظرف مكان أربعة أمور هي المذكورة أعلاه، ومنها: وما جرى مجراه باطرادٍ, نحو "هم قريبًا منك"، و "شرقي البلاد"، فإذا وجدت الواو في "نحو" أوهم أنها خمسة أمور، وذلك غير صحيح، وتصحيح العبارة من التسهيل لابن مالك (1/ 522)، بشرح ابن عقيل، والهمع (3/ 152).

العوامل (¬1)، وتعطى "غير" وأخواتها حكم اسم "إلا"، ويجر الاسم بعدها على الإضافة إليه. التاسع: الحال: وهي فضلةٌ دالةٌ على هيئة صاحبها، ونصبها كالمفعول به، وتسمى اللازم معناها لصاحبها الثابتة، وغير اللازمة المنتقلة، ولا تكون إلا مشتقة، أو مؤولة بها، ومن أقسامها بحسب قصدها لذاتها المقصودة وهي الغالب، والموطئة، وهي الجامدة الموصوفة، نحو {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا}، ثم مؤسسة وهي الغالب، ومؤكدة نحو {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}، ثم بحسب الزمان إلى مقارنة وهي الغالب، ومقدرة في المستقبل، ومحكية عن الماضي، ثم الحقيقية وهي الغالب، والسببية نحو "راكبًا أبوه". وشرط الحال تنكيرها, ولو تأويلاً، ويُعَرَّف صاحبُها، ويجوز تنكيره بتقديمه، نحو قوله: لميَّةَ موحشًا طللٌ (¬2) العاشر: التمييز: وهو نكرة منصوبة بمعنى "مِنْ" رافعٌ إبهام جملة، أو مفردٍ عددًا، أو مفهم مقدارًا، أو مماثلة، أو مغايرة، أو تعجبًا بالنص على ¬

_ (¬1) قوله: "أولا، ولا ... " أي: ليس بتام، وليس بموجب، فعندئذٍ هو بحسب العوامل، ويسمى المفرغ. (¬2) هذا صدر بيت عجزه: يلوح كأنه خلل. وقد نسبه سيبويه لكثيرة عزة كما في الكتاب (2/ 23) وفيه اختلاف في بعض رواياته. انظر أمالي ابن الشجري (3/ 9) والخصائص لابن جني (2/ 492) وخزانة الأدب (3/ 211)، وبعضهم نسبه لذي الرمة وليس في ديوانه.

جنس المراد بعد تمامٍ بإضافةٍ أو تنوينٍ أو نون (¬1). وناصبه مميزه تشبيهًا بـ "أفْعل مِنْ" أو باسم الفاعل، وتمييز الجملة ناصبه ما فيها من فعلٍ أو شبهه. **** ¬

_ (¬1) في المخطوط كتبت "لا نون"، وهو خطأٌ ظاهر، يتبين عند شرح التعريف، وهذا الحدُّ قاله ابن مالك في التسهيل، ونقله السيوطي في الهمع، ومنهما صوّبتُ قوله "لا نون".

(المجرورات)

(المجرورات) الأول: كلُّ اسم صريحٍ أو مؤولٍ دخل عليه حرف جر من الحروف المشهورة. الثاني: المضاف إليه، والإضافة: نسبة تقيدية بين اسمين، توجب لثانيهما الجر، وتجوز لأدنى ملابسة، وتجيء بمعنى "اللام"، وبمعنى "مِنْ" وبمعنى "في"، وما كانت إضافة عاملٍ إلى معموله فلفظية، وغيرها معنوية. فصل " نعم" و"بئس" وأخواتهما أفعالٌ تستدعي فاعلاً، ومخصوصًا يكون مبتدأً خبره ما قبله. [صيغتا التعجب] ومن الجامد أفعال التعجب، و"ما" مِنْ "مَا أَحْسَنَه" مبتدأٌ، وهي نكرة تامةٌ، وقيل: موصولة، أو موصوفة، أو استفهامية، والمتعجب منه مفعول به، و"أَفْعِلْ به" محل المجرور الرفع بالفاعلية، ولا يكون المتعجَّب منه إلا مختصًّا, ولا يفصل إلا بظرف وعديله، متعلق بالفعل. [اسم الفعل] ويرفع الفاعلَ اسمُ الفعل، ولا يحذف، ولا يتأخر عن معموله، ولا يبرز ضميره. [اسم التفضيل] واسم التفضيل يرفع الفاعل غير ظاهر إلا في مسألة الكحل.

[المصدر وعمله]

[المصدر وعمله] ويعمل كفعله المصدرُ، مفردًا مكبرًا غير محدود ولا مضمر، ولا مقدم عليه معموله، ولا مفصول عنه، ولا مؤخَّر، ولا بـ "أل". [اسم الفاعل] واسم الفاعل بـ "أل" مطلقًا، وعاريًا عنها بشرط كونه لغير الماضي معتمدًا على نفي أو استفهام، أو موصوفٍ أو موصولٍ أو ذي خبرٍ أو حالٍ مكبرًّا. [أمثلة المبالغة واسم المفعول والصفة المشبهة] ومثله أمثلة المبالغة، واسم المفعول، وكذا الصفة المشبهة غير مضمرة لا في أجنبي، وسابقٍ، ومفصول مرادٌ بها الحال، ومرفوعها فاعل أو بدل من ضميرها، ومنصوبها مشبه بالمفعول أو تمييز. [التنازع في العمل] وإذا تنازع عاملان فأكثر معمولاً قدر معمولاً للأول لسبقه، وقيل: الآخِر لمباشرته، وأيًّا جعلته العامل فَقدِّر في الآخر ضميرًا. [الاشتغال] وإذا اشتغل العامل المؤخر على معموله بضمير، فقد قبل المعمول عاملاً يفسره ما بعده.

(التوابع)

(التوابع) الأول: النعت: هو تابع مكمل لمتبوعه؛ لدلالته على معنى فيه، فيلزم أن يوافق في أربعة من العشرة، أو في متعلق به، فيلزم أن يوافق في اثنين من الخمسة، وشرطه أن لا يكون أعرف من متبوعه، ولا يُنْعَت الضميرُ، ولا يُنْعَت به، وكل متوغلٍ في البناء كـ "أسماء الشرط، والمصدر للطلب"، ويُنْعت العَلَمُ، ولا يُنْعَتُ به، وكذا أسماء الأجناس. الثاني: عطف البيان: وهو البخاري مجرى النعت توضيحًا وتخصيصًا، لكنه واجب الجمود، ولو تأويلاً، ويوافق في أربعة من العشرة، ولا يكون هو ولا متبوعه مضمرًا، وإذا لم يكن مفردًا من الإضافة تابعًا لمنادى، أو مجرورًا متبوعه بما لا تصلح إضافته إليه، صح أن يكون بدلاً، ولا عكس. الثالث: التوكيد: هو تابعٌ يقصد به كون المتبوع على ظاهره. وهو إما معنوي، يدفع توهُّمَ المجاز بالنفس والعين، وللشمول بـ "كلا وكلتا"، وأجمع وأخواته، وإما لفظي بإعادة اللفظ أو مرادفه، ولو ثلاثًا. الرابع: البدل: هو التابع المقصود بحكم بلا واسطة. وهو بدل الشيء من الشيء، وبدل البعض، وبدل الاشتمال، وشرطهما صحة الاستغناء بالمبدل منه، وعود ضمير منهما عليه، وبدل الإضراب: وهو ما لا تناسب بينه وبين الأول، وبدل الغلط: وهو ما ذكر فيه الأول بلا قصد. الخامس: عطف النسق: هو ما كان بعد أحد حروف العطف المشهورة. وإذا اجتمعت التوابع رتبت كما ذكرناها.

(خاتمة في الجمل)

(خاتمة في الجمل) الظرفُ والجارُّ والمجرور، والجمل إذا تَلَتْ الموصولاتِ فهي صِلاتٌ، أو المعارفَ المحضةَ فهي أحوالٌ، أو النكراتِ المحضةَ فصفاتٌ، وغير المحضة منهما محتملة لهما، أو المخبر عنها فأخبارٌ. [الجمل التي لها محل من الإعراب] والجمل التي لها محلٌّ سبعٌ: وهي الواقعة خبرًا، وحالاً، ومفعولاً، ومضافًا إليها، وجوابًا لشرط جازم، وتابعًا لمفرد، أو لجملة لها محل. [الجمل التي ليس لها محل من الإعراب] والتي ليس لها محل سبعٌ أيضًا: المستأنفة، والصلة، والمعترضة والتفسيرية، وجواب القسم، وجواب الشرط غير الجازم، والتابعة لجملة لا محل لها. مثال ما لها محل: غايتنا ونهايتنا الحمد لله على التمام. ومثال ما لا محل له: اللهم اكتب لنا ولأحبابنا حسن الختام (¬1). ¬

_ (¬1) قوله: "مثال ما لها محل ... " إلخ، الشاهد فيها "الحمد لله" جملةٌ اسميةٌ وقعت خبرًا للمبتدأ "غايتنا" وقوله: "ومثال ما لا محل لها: اللهم .. " إلخ، الشاهد فيها "اللهم"، فأصلها "يا الله"، وأصل المنادى مفعول به لفعل تقديره: "أدعو"، فهو جملة من هذه الجهة، وقعت استئنافية, والاستئنافية من الجمل التي لا محل لها من الإعراب. والمقصود بهاتين العبارتين التمثيل للنوعين، واستخدام لونِ من ألوان البديع يسمى "براعة الختام"، وسمَّاهُ التيفاشي "حسن المقطع"، وسماه ابن أبي الإصبع "حسن =

وعلى سيدنا محمَّد وآله وصحبه أفضل الصلاة والسلام. وكان الفراغ من رَقْم هذه النسخة يوم الجمعة الموافق ثمان ربيع آخر سنة سبع وثلاثين وثلاث مئة وألف هجرية، هجرةُ من له العزُّ والشرف. بقلم أفقر عباد الله، وأحوجهم إلى ما لديه، والمتوكل في جميع أموره عليه: أحمد بن يحيى بن إسماعيل بن يحيى بن عبد الكريم، الضمديِّ بلدًا، والزيديِّ مذهبًا، والعدليّ اعتقادًا (¬1)، غفر الله له ولوالديه ولجميع المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. بعناية الأخ العلامة الأديب عبد الرحمن بن يحيى المعلمي، غفر الله له، وللمسلمين. آمين. ... ¬

_ = الخاتمة"، وهو أن تذكر لفظًا يؤذن بانتهاء الكلام عنده. وحصل هنا في قوله: "غايتنا ونهايتنا ... حسن الختام". انظر: تلخيص المفتاح للقزويني (391)، وشرح الكافية البديعية لصفي الدين الحلي (333). (¬1) قوله: "العدلي" يريد به "العدل" الذي هو أحد أصول المعتزلة الخمسة.

الرسالة الثانية حقائق في النحو مستقربة يحسن حفظها

الرسالة الثانية حقائق في النحو مُسْتَقرَبةٌ يحسنُ حفظها

بسم الله الرحمن الرحيم هذه حقائق في النحو مستقربة يحسنُ حفظها وبالله تعالى نستعين: • ما الكلمةُ؟ - لفظٌ وُضعَ لمعنى مفرد. • ما اللفظُ؟ الصوتُ الخارج من الفم المتقطع أحرفًا. • ما الوضعُ؟ - تخصيصُ شيءٍ لآخر. • ما المعنى؟ - ما له لفظ يدلُّ عليه. • ما المفردُ؟ - ما لا يدل جزءُ لفظه على جزء معناه. • كم أقسام الكلمة؟ - ثلاثة: اسمٌ وفِعْلٌ وحرف. • ما الاسمُ؟ - كلمةٌ دلَّتْ على معنًى (¬1) في نفسها (¬2) غير مقترنة بأحد الأزمنة ¬

_ (¬1) جنسُ الحدِّ يدخل فيه الثلاثة. [المؤلف]. (¬2) يخرج الحرف. [المؤلف].

الثلاثة (¬1) وضعًا (¬2). • ما الفِعْلُ؟ - كلمةٌ دلّت على معنًى (¬3) في نفسها (¬4) مقترنةً بأحد الأزمنة الثلاثة (¬5) وضعًا (¬6). • ما الحرفُ؟ - كلمة دلت على معنًى (¬7) في غيرها (¬8). • إلى كم ينقسم الاسم أولاً؟ - إلى قسمين: معرفة ونكرة. • ما المعرفةُ؟ - ما وضع لشيءٍ بعينه. ¬

_ (¬1) يخرج الفعل. [المؤلف]. (¬2) يخرج نعم وبئس ونحوهما، وتدخل أسماء الأفعال ونحوها. [المؤلف]. (¬3) جنس الحد. [المؤلف]. (¬4) يخرج الحرف. [المؤلف]. (¬5) يخرج الاسم. [المؤلف]. (¬6) يخرج أسماء الأفعال وتدخل نعم وبئس وأفعال التعجب والأفعال الجامدة. [المؤلف]. (¬7) جنس الحدّ. [المؤلف]. (¬8) خرج الاسم والفعل. [المؤلف].

• ما النكرةُ؟ - ما وضع لشيء لا بعينه. • كم المعارفُ؟ وما هي؟ - ستٌ: المضمراتُ، أسماءُ الإشاراتِ والموصولات، أسماءُ الأعلام، المعرف بأل، المضاف إلى أحدها. • ما الضمير؟ - ما دلَّ على متكلِّم أو مخاطب أو غائبٍ تقدَّمَ ذكره لفظًا أو معنًى أو حكمًا (¬1). • إلى كم ينقسم الضمير؟ - إلى متّصلٍ ومُنفصلٍ. • ما المتَّصلُ؟ - ما لا يستقلُّ بنفسه. • ما المنفصلُ؟ - ما استقلَّ بنفس. • إلى كم ينقسم المتصل؟ - إلى قسمين: مستترٍ وبارز. • ما المستترُ؟ - ما لا يظهر لفظٌ له في الخارج. ¬

_ (¬1) انظر في مسألة تقدم ذكر المرجع لفظًا أو معنًى أو حكمًا شرح الأشموني بحاشية الصبان (1/ 108).

• ما البارزُ؟ - ما ظهر له لفظٌ في الخارج. • إلى كم ينقسم المستترُ؟ - إلى قسمين: واجب الاستتار وجائزه. • ما واجبُ الاستتارِ؟ - ما لا يقومُ الظاهر مقامه. • ما جائزه؟ - ما يقوم الظاهر مقامه. • فيم يجبُ استتارُ الضمير؟ - في ثمانيةٍ: في الفعل المضارع المبدوء بالهمزة (¬1) أو بالنون (¬2)، أو بالتاء (¬3) وفي الأمر (¬4)، وفي أفعال الاستثناء (¬5)، وأفعال التعجب (¬6)، وفي المصدر الواقع بدلاً من فعله (¬7)، وفي اسم الفعل غير الماضي (¬8). ¬

_ (¬1) أقومُ. [المؤلف]. (¬2) نقوم. [المؤلف]. (¬3) تقوم. [المؤلف]. (¬4) اضربْ. [المؤلف]. (¬5) ما خلا زيدًا. [المؤلف]. (¬6) ما أحسن زيدًا. [المؤلف]. (¬7) ضربًا زيدًا. [المؤلف]. (¬8) صَهٍ. [المؤلف].

• ما الإشارة؟ - ما وُضِعَ للمشار إليه بقيدٍ مثل: هذا وهذه. • ما الموصولُ؟ - ما لا يتمُّ جزءٌ من الكلام معه إلا بصلةٍ وعائدٍ نحو: هذا الذي قام أبوه، والذي أكرمك، والذي قام. • ما العَلَمُ؟ - ما وُضعَ لمسماه بغير قيدٍ (¬1) مثل: زيد وعمرو. • ما المعرَّفُ بأل؟ - مثل الرجل، الكتاب. • ما الإضافةُ؟ - ضمُّ اسمٍ إلى اسم لقَصْدِ تعريفه (¬2) أو تخصيصهِ (¬3)، أو رَفْعِ القبح (¬4). ¬

_ (¬1) خرج به بقيّةُ المعارف لأنَّها إنّما تعين مسماها بواسطة قرينة خارجة عن ذات الاسم. انظر شرح الأشموني (1/ 127). (¬2) غلام زيدٍ. [المؤلف]. (¬3) غلام امرأةٍ. [المؤلف]. (¬4) حسن الوجهِ. [المؤلف]. قلتُ: بقي عليه من فوائد الإضافة قصد التخفيف نحو: ضاربُ زيدٍ، بحذف تنوين ضارب.

• إلى كم تنقسم الإضافة؟ - إلى قسمين: لفظية غير محضة، ومعنوية محضة. • ما الأولى؟ - أن يكون المضافُ صفةً مضافةً إلى معمولها، وهي لا تفيد تعريفًا ولا تخصيصًا بل مجرَّد تحقيق (¬1) اللفظ كإضافة الصفة إلى معمولها. • ما الثانيةُ؟ - أن يكون المضاف غير صفةٍ مضافةٍ إلى معمولها. • لِمَ تأتي هذه؟ - لثلاثةٍ: تكون بمعنى مِنْ، فهي إضافة شيءٍ إلى جنسه مثل: خاتمُ حديدٍ، وبمعنى في، فهي إضافة الشيء إلى ظرفه مثل: "مكر الليل"، وبمعنى اللام فيما عدا جنس المضاف مثل: دارُ أبي قحافة. • إلى كمْ ينقسم الاسم ثانيًا؟ - إلى مُعْربٍ ومَبْنيٍّ. • ما المعربُ؟ - هو المركَّب الذي لم يشبه مبنيَّ الأصل. • ما حُكْمُه؟ - أن يختلف آخره لاختلاف العوامل. ¬

_ (¬1) هكذا بالأصل وصوابها: تخفيف اللفظ.

• ما المبنيُّ؟ - ما ناسبَ مبنيَّ الأصل. • إلى كم تنقسم المعرباتُ؟ - إلى قسمين: الاسمِ الظاهر، والفعل المضارع. • كم الظواهرُ؟ - عشرة: الأول: الاسم الفريدُ المنصرف. • ما هو؟ - ما استوعبَ الحركاتِ الثلاثَ مع التنوين. • ما حُكْمُهُ؟ - بالضمة رفعًا، والفتحةِ نصبًا، والكسرةِ جرًّا. • ما الثاني؟ - الأسماء الستة: أخوك وأبوك وحموكِ وهنوكَ وفوكَ وذو مالٍ. • ما حكمها؟ - أن ترفعَ بالواو نيابةً عن الضَّمة، وتُنصبَ بالألفِ نيابةً عن الفتحة، وتُجرَّ بالياء نيابةً عن الكسرة. • ما الثالثُ؟ - الاسم المنقوص. • ما هو؟ - كلُّ اسمٍ مُعْرب آخره ياءٌ خفيفةٌ لازمةٌ قبلها كسرة.

• ما حكمُهُ؟ - أن يُعْربَ تقديرًا (¬1). • ما الرابعُ؟ الاسمُ المقصورُ. • ما هو؟ - كلُّ اسمٍ مُعْربٍ آخره ألفٌ لازمةٌ قبلها فتحةٌ. • ما حكمُهُ؟ - أن يُعْرب تقديرًا (¬2). • ما الخامسُ؟ - الاسم المثنى. • ما هو؟ - ما دلَّ على اثنين بزيادةٍ في آخره (¬3) صالحٌ للتجريد وعطفِ مثله عليه. • ما حكمُه؟ - أن يُرفَعَ بالألفِ نيابةً عن الضمَّة، وينصبَ ويجرَّ بالياء نيابةً عن الفتحةِ والكسرة. ¬

_ (¬1) في غير النصب فإنَّ الحركة تكون ظاهرة، وأمَّا الرفع والجرُّ فتقدَّر الحركة على الياء ويمنع ظهورها الثقل. راجع الهمع (1/ 182). (¬2) يمنع ظهور الحركة في الحالات الثلاث التعذُّر. (¬3) وهي الألف والنون رفعًا، والياء والنون نصبًا وجرًا.

• ما السادسُ؟ - جمعُ المذكَّر السالم. • ما هو؟ - ما دلَّ على أكثر من اثنين بزيادةٍ في آخره (¬1) مع سلامة بناء مفرده. • ما حكمُهُ؟ - أنْ يُرفعَ بالواو نيابةً عن الضمَّة، وينصبَ ويجرَّ بالياء نيابةً عن الفتحةِ والكسرة. • ما السابعُ؟ - جمع المؤنَّث السالم. • ما هو؟ - ما لَحِقَ آخره ألفٌ وتاءٌ مزيدتين (¬2). • ما حُكْمُه؟ - أن يُرفع بالضمة ويجرَّ بالكسرة على أصله، ويُنصب بالكسرة نيابةً عن الفتحة. • ما الثامنُ؟ - جَمْعُ التكسير. ¬

_ (¬1) وهي الواو والنون رفعًا، والياء والنون نصبًا وجرًا. (¬2) هكذا وجدتها، والوجه (مزيدتان) بالرفع لأنها صفة.

• ما هو؟ - ما تغيَّر بناء مفرده بزيادةٍ أو نَقْصٍ أو تبديل شكلٍ بغير إعلال (¬1). • ما حكمُه؟ - حُكمُ الاسم المفرد المنصرف. • ما التاسعُ؟ - المضاف إلى ياء النَّفس مثل: غلامِي، وكتابي. • ما حكمُه؟ - أن يعرب تقديرًا (¬2). • ما العاشرُ؟ - الاسمُ غير المنصرف؛ لأنَّ الاسم ينقسم إلى: منصرفٍ وغير منصرف. • فما المنصرفُ؟ - ما تقدَّم (¬3). ¬

_ (¬1) التغييرُ بزيادةٍ نحوِ: صِنْو وصنوان، وبنقصٍ نحو: تُخْمةٍ وتُخَمٍ، وبتبديل شكل من غير إعلال نحو: أَسَدٍ وأُسْدٍ، ويكون أيضًا بزيادة وتبديل شكل نحو: رَجُل ورجال، وبنقصٍ وتبديل شكل نحو: قضيب وقُضُب، ويكون بهنَّ جميعًا نحو: غُلام وغِلمان. (¬2) يمنع من ظهور الحركات الثلاث اشتغال المحل بحركة المناسبة إنْ لم يكن مثنًّى ولا مجموعًا جمع سلامة ولا منقوصًا ولا مقصورًا، وذهب ابن مالك إلى أن الحركة في حالتيْ الرفع والنصب تقدَّر، وفي حالة الجر تظهر. راجع شرح الشذور (ص 26). (¬3) يعني به الاسمَ الفريد المنصرف، وجمع التكسير الذي حكمه حكم الاسم المفرد المنصرف.

• وما غير المنصرفِ؟ - ما ناب فيه حركةٌ عن حركةٍ، وفيه علَّتان من عِلَلٍ تِسْعٍ أو واحدةٌ منها تقوم مقامهما. • فما العللُ؟ عَدْلٌ ووصفٌ وتأنيثٌ ومعرفة ... وعُجْمةٌ ثم جَمْعٌ ثم تركيبُ والنّونُ زائدةٌ من قبلها ألفٌ ... ووزنُ فِعْلٍ وهذا القولُ تقريبُ (¬1) • ثُمَّ إلامَ ينقسم الاسم بعد هذا؟ - إلى مرفوعٍ، ومنصوبٍ، ومجرور. • فما المرفوعُ؟ - ما اشتمل على عَلَم (¬2) الفاعليّة. • فكم المرفوعاتُ؟ - ثمانيةٌ. ¬

_ (¬1) هذان البيتان ذكرهما ابن الأنباري في كتابه أسرار العربية ص: (307) بوضع لفظة (جمع) مكان (عدل)، وذكرهما أيضًا ابن الحاجب في كافيته كما في (1/ 96) بشرح الرضي، وكذا الأشموني في شرحه الألفية (3/ 230)، وكذا البيجوري في كتابه فتح ربّ البرية (ص 19) وذكر بيتًا قبلهما وهو: موانع الصرف تسع كلما اجتمعت ... ثنتان منها فما للصرف تصويبُ وجميع هؤلاء لم ينسبوا الأبيات لأحد. (¬2) قال الرضي في شرح الكافية (1/ 61): أي علامتها.

• ما الأوّلُ؟ - المبتدأ (¬1) • ما هو؟ - الاسمُ المجرَّدُ عن العوامل اللفظية مسندًا إليه الخبرُ، والصفةُ الواقعةُ بعد حرفِ النَّفي وألف الاستفهام رافعُه لظاهرٍ مكتفيًا به (¬2). • فيمَ يجبُ تقديم المبتدأ؟ - في أربعةٍ: إذا كان مشتملاً على مَا له صَدْرُ الكلام مثل: مَن أبوكَ؟ أو كان الخبرُ فعلًا له مثل: زيدٌ قامَ. أو كانا معرفتين أو متساوييْن مثل: أفْضَلُ منك أفضل منّي. • ما الثاني؟ - الخبرُ. ¬

_ (¬1) قدَّم المبتدأ لأنه أصل المرفوعات وهذا مذهب سيبويه، وذهب الخليل إلى أنَّ الفاعل هو أصل المرفوعات فعلى هذا قدَّمه بعض النحاة كابن آجروم والمصنف في كتابه اللطيفة البكرية (ص 56) واختيار الرضي أن كلاً منهما أصل. انظر الهمع (2/ 3). (¬2) مثال الصفة الواقعة بعد حرف النفي وألف الاستفهام رافعه لظاهر مكتفيًا به: ما قائمٌ الزيدان، ونحو: أقائم الزيدان؟ ولا يفهم من قوله: ألف الاستفهام الاقتصار عليها، بل يسوغ استخدام: (هل وكيف ومَنْ وما). انظر الأشموني (1/ 190).

• ما هو؟ - هو الجزءُ الذي تحصلُ به الفائدةُ مع مبتدأ غير الوصف المذكور (¬1). • فيمَ يجبُ تقديمُه؟ - في أربعةٍ: إذا تضمَّن ما له صدرُ الكلام مثل: أينَ زيدٌ؟، أو كان مصححًا للابتداء بالنكرة مثل في الدار رَجُلٌ، أو لمتعلقه ضميرٌ في المبتدأ مثل: على التمرة مِثْلُها زُبْدًا، أو كان خبرًا عن (أنَّ) مثل: عندي أنَّك مُنْطلقٌ. • ما الثالثُ؟ - الفاعل. • ما هو؟ - ما أسند الفعل أو شبهه إليه على جهة قيامه به, وإنْ شئتَ قُلتَ هو: اسمٌ أو ما في تأويله مقدَّمًا عليه أصليّ المحل والصيغة (¬2). • فيمَ يجبُ تقديمُه؟ - في أربعةِ مواضع: إذا كان ضميرًا متصلاً مثل: ضربت زيدًا، أو كان محصورًا (¬3) بـ إلاّ مثل: ما ضرب زيدٌ إلا عمرًا، أو كان المصدر ¬

_ (¬1) أي: المذكور في تعريف المبتدأ. (¬2) التعريف الثاني لابن هشام في الأوضح، وقد شرحه الأزهري في التصريح، وانظر تفسير الحد الأول في شرح الحدود النحوية للفاكهي (ص 146). (¬3) أي: المفعول به.

مضافًا إليه مثل: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ} (¬1)، أو خيفَ اللَّبس مثل: كلَّم مُوسى يَعْلى. • فإلى كم ينقسم؟ - إلى ثلاثةٍ: فاعل في اللفظ والمعنى حقيقةً مثل: قام زيدٌ، وفاعل مجازًا مثل: مات زيدٌ وفاعلٌ في المعنى دون اللفظ مثل: عجبتُ من أكل زيدٍ الخبزَ. • ما الرابعُ؟ - النائبُ عن الفاعلِ. • ما هو؟ - كلُّ مفعولٍ حُذف فاعله وأقيمَ هو مُقامه. • ما حكمُه؟ - تغيير صيغة الفِعْل مثل: ضُرِبَ زيدٌ. ¬

_ (¬1) الآية من سورة البقرة رقم (251)، وسورة الحج رقم (40) قرأها نافع (دفاع) بالألف - كما استشهد بها المؤلف هنا، وقرأها الباقون (دفع). انظر حجة القراءات لابن زنجلة (ص 140) و (ص 479). واعلم أنَّ هذا الموضع الثالث من مواضع تقديم الفاعل - وهو كون المصدر مضافًا إليه - لم أجده منصوصًا عليه في عامة كتب النحو إلا كتاب المقرب لابن عصفور فقد نصَّ عليه، وذكره أيضًا في شرحه على جمل الزجاجي، ونقل كلام ابن عصفور السيوطي في الأشباه والنظائر (2/ 161)، انظر المقرب (ص 56)، وشرح الجمل لابن عصفور (1/ 164)، وهذا يدل على سعة اطلاع المؤلف - رحمه الله -.

• ما الخامسُ؟ - خبرُ إنَّ وأخواتها. • ما هو؟ - المسندُ إليه بعد دخولها. • ما السادسُ؟ - اسم كان وأخواتها. • ما هو؟ - المسندُ إليه بعد دخولها. • ما السابعُ؟ - اسمُ "ما ولا" المشبهتين بـ "ليس". • ما هو؟ - المسندُ إليه بعد دخولهما. • ما الثامنُ؟ - توابع المرفوعات. • ما هي؟ - كلُّ ثانٍ بإعراب سابقه من جهةٍ واحدةٍ. • كم المنصوباتُ؟ - خمسة عشر، والأصحُّ أنَّها سبعةَ عشر (¬1)، فمنها المفاعيل الخمسة. ¬

_ (¬1) ذهب ابن آجروم في مقدمته إلى أنها خمسة عشر - وإنْ كان قد عدَّ منها أربعة عشر وترك واحدًا، وكذا ابن هشام ذهب في الشذور إلى أنها خمسة عشر، وأمَّا خالد الأزهري فجعلها ستة عشر، وصحح المؤلف هنا كونها سبعة عشر حيث زاد التحذير =

• ما الأول؟ - المفعول به. • ما هو؟ - ما وقع عليه فعل الفاعل مثل: ضربتُ زيدًا. • ما معنى وقوعِه؟ - تعلّقه بشيءٍ من غير واسطةٍ بحيث لا يعقل إلا بعد تعلّق ذلك الشيء (¬1). • فيمَ يجبُ تقديمُه؟ - في ستةِ مواضع: إذا كان ضميرًا متصلاً والفاعل اسم ظاهر، أو كان (¬2) محصورًا بـ إلا، أو اتّصل بالفاعل ضمير المفعول، أو كان المصدر مضافًا إليه، أو كان له صدر الكلام أو كان في حيّز أمَّا التفصيلية. ¬

_ = والإغراء والتعجب وخبر ما ولا المشبهتين بـ ليس واسم لا التي لنفي الجنس، وجعل الظرفين شيئًا واحدًا وهما المفعول فيه، وعدَّ التوابع الأربعة أيضًا شيئًا واحدًا. (¬1) قوله: تعلقه بشيءٍ من غير واسطة يخرج المجرورات نحو: مررت بزيدٍ، فهي وإن كانت في المعنى مفعولاً به إلا أنها تعلّقت بواسطة حرف الجر، وقوله: بحيث لا يعقل ... إلخ دخل نحو: أوجدتُ ضربًا، وما ضربت زيدًا، وخرج نحو: تضارب زيدٌ وعمرو ممَّا دلَّ على مفاعلة. انظر شرح الكافية للرضي (1/ 391)، والهمع (3/ 7)، وشرح الحدود النحوية للفاكهي ص: (150). (¬2) الفاعلُ.

• ما الثاني؟ - المفعولُ فيه. • ما هو؟ - ما فُعِلَ فيه فِعْلٌ مذكورٌ من زمانٍ أو مكان. • ما ظرفُ الزمان؟ - ما دار بدوران الأفلاك كالسنين والساعات والأوقات. • ما ظرفُ المكانِ؟ - هو مُبْهَمٌ وغير مبهم. • فما غيرُ المبهمِ؟ - ما حوته الحيطان. • فما المبهمُ؟ - ما لم تَحْوه كالجهاتِ الست. • فما شرطُ نصبه؟ - تقديرُ في. • فما الثالث؟ - المفعول معه. • ما هو؟ - المذكورُ بعد الواو لمصاحبةِ معمول فِعْلٍ لفظًا أو تقديرًا.

• ما الرابعُ؟ - المفعول مِن أجله. • ما هو؟ - ما فُعِل لأجله فِعْلٌ مذكورٌ. • ما الخامسُ؟ (¬1) - المفعول المطلق وهو المصدر. • ما هو؟ - ما فَعَله فاعل فِعْلٍ مذكور، وإنْ شئتَ قلتَ: هو اسم الحدث الجاري على الفعل وليس عَلمًا. • فيمَ يجب حذف الفعل الناصب لاسم المصدر؟ - في أربعةٍ: إذا أضيف كلٌّ منهما إلى فاعله مثل: ضَرْبَ زيدٍ عمرًا، أو إلى مفعوله مثل: {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد: 4]، أو بُيِّنَ فاعلُه (¬2) مثل: {فَضْلًا مِنَ اللَّهِ} [الحجرات: 8]، أو مفعولُه باللام مثل: سقيًا لزيدٍ. • ما السادسُ؟ - التمييز. ¬

_ (¬1) في الأصل المخطوط: (ما الرابع) ولعله سبق قلم. (¬2) بحروف جَرّ - كما في شرح الرضي (1/ 355).

• ما هو؟ - ما يرفعُ الإبهامَ المستقرَّ عن ذاتٍ مذكورةٍ أو مقدَّرة. • ما الثامنُ؟ - المنادى المضاف. • ما هو؟ - المنادى المطلوب إقباله بحرفٍ نائبٍ مَنَابَ (أدعو) لفظًا أو تقديرًا، وهو مرفوع إلا إذا أضيف أو شبهه أو كان نكرةً غير مقصودة. • كم أقسام المنادى؟ - خمسةٌ: المفرد العَلَم، والنكرة المقصودة وهما يبنيان على ما يرفعان به، والنكرة غير المقصودة، والمضاف، والمشبَّه بالمضاف تبنى (¬1) على النصب لفظًا مع التنوين في النكرة. • ما المنادى المشبّه بالمضاف؟ - هو ما اتَّصل به شيءٌ من تمام معناه لا على جهةِ الإضافة. • ما الذي يتَّصلُ به؟ - إمَّا فاعلاً مثل: يا حسنًا وَجْهُهُ، أو مفعولاً نحو: يا طالعًا جبلاً، أو مجرورًا بحرفٍ نحو: يا رفيقًا بالعباد، ويا خيرًا من زيدٍ. ¬

_ (¬1) كذا وجدتها، والصواب، تُعرب؛ لأني لم أجد أحدًا من النحاة حكى البناء في تلك الثلاثة إلا الفراء فإنَّه قال في المنادى المضاف: "إنْ فتحتَه ليست فتحة نصب" وهو مذهب متروك، على أنَّ النصبَ مِن ألقاب الإعراب بخلاف الفتح، ولعله سبق قلم من المؤلف - رحمه الله -.

- فإنْ قال قائلٌ: المنادى إذا كان معرفةً قبل النِّداء نحو: يا سعد، أو نكرةً مقصودة مثل: يا أيُّها العميد (¬1) لِمَ بُني؟ - قيل: لوقوعه موقع كاف الخطاب نحو: أدعوكَ (¬2). • فإنْ قال: فَلِمَ ضُمَّ؟ - قيل: لأنَّه لو كُسِرَ لالْتبس بالمضاف إلى (يا) النفس، ولو فُتِحَ لالْتبس بالمفعول الممتنع المحذوف فِعْلُه نحو: أحمد (¬3). • ما التاسعُ؟ - المستثنى. • ما هو الاستثناء؟ - إخراج ما لولا إخراجُه لدخل فيما قبله، وهو أي: المستثنى في بعض أحواله المذكورُ بعد إلا أو إحدى أخواتها مخالفٌ لما قبلها نفيًا وإثباتًا. • ما العاشرُ؟ - هو والحادي عشر: الإغراءُ والتحذيرُ. ¬

_ (¬1) قال ابن يعيش: قولهم "يا أيُّها الرجلُ" فأي منادى مبهم مبني على الضم لكونه مقصودًا مشارًا إليه بمنزلة: يا رجل ... إلخ. راجع شرح المفصَّل (1/ 130). (¬2) وقيل: إنَّ العلة شبهه بضمير الخطاب كـ (أنتَ، وإياك) حيث حلَّ محلهما فالأصل في: يا زيدُ يا أنتَ أو يا إياكَ. انظر الإنصاف لابن الأنباري (1/ 326)، والهمع (3/ 38). (¬3) وذكر ابن الأنباري في الإنصاف (1/ 326) وجهًا آخر في علَّة بنائه على الضم وهو الفرق بينه وبين المضاف.

• ما هما؟ - تنبيهُ المخاطَب على أمرٍ محمودٍ ليلزمَه (¬1). مثل: خِلًّا بَرًّا (¬2)، ودونك زيدًا، وعليك عمرًا. • ما الثاني عشر؟ - التعجُّبُ. • ما هو؟ - انفعالٌ يحدث في النفس عند الشعور بأمرٍ خَفِيَ سَبَبُهُ، وخَرجَ عن نظائره (¬3)، مثاله: ما أحسنَ زيدًا، ما أحدَّ سَيْفَهُ. • ما الثالثُ عشر؟ - اسمُ إنَّ وأخواتها. • ما هو؟ - هو المسندُ إليه بعد دخولهما. ¬

_ (¬1) هذا تعريف الإغراء، وترك المؤلف تعريف التحذير، والتمثيل له، فأما تعريفه فهو: تنبيه المخاطب على أمرٍ مكروهٍ ليجتنبه، ومثاله: إيَّاك والأسدَ، ورأسَكَ والسيف. (¬2) هذا مثال الحريري في الملحة، والخِلُّ: بكسر الخاء: الصديق، والبَرُّ - بفتح الباء - المحسن، والمعنى: الزم خِلاًّ محسنًا. (¬3) انظر شرح الفاكهي على القطر (2/ 210)، وحاشية يس على التصريح (2/ 86). وفي عدِّهِ التعجب من المنصوبات نظر، إذْ ليس هو قسمًا برأسه، فالاسم المنصوب الواقع بعد فعل التعجب يُعرب مفعولاً به والنحاة يعقدون بابًا للتعجب من أجل صيغتيْ (ما أفْعَله - وأفْعِلْ به).

• ما الرابع عشر؟ - خبر كانَ وأخواتها. • ما هو؟ - المسندُ بعد دخولها. • ما الخامس عشر؟ - خبر ما ولا المشبهتين بـ ليس. • ما هو؟ - المسند بعد دخولهما. • ما السادس عشر؟ - اسم لا التي لنفي الجنس. • ما هو؟ - المسند إليه بعد دخولها. • ما السابع عشر؟ - توابعُ المنصوب. ما هي؟ - كلُّ ثانٍ بإعرابِ سابقه من جهةٍ واحدة. • إلى كمْ تنقسم؟ - إلى أربعةِ أقسامٍ: العطف وهو قسمان عطف النسق وهو: تابعٌ

يتوسط بينه وبين متبوعه أحد حروف العطف العشرة (¬1). - وعطف البيان: وهو تابعٌ جامدٌ (¬2) مُوضَحٌ، أو مُخَصِّصٌ لمتبوع (¬3). - والتأكيدُ: وهو تابعٌ يقرر أمر المتبوع في النِّسْبةِ أو الشمول. وهو قسمان: لفظيٌّ ومعنويٌّ، فاللفظيُّ تكريرُ لفظٍ، والمعنوي بألفاظٍ مخصوصةٍ (¬4) كجاء زيدٌ نَفْسُه ونحوه. - والبدلُ: وهو تابعٌ مقصودٌ بما نُسِبَ إلى المتبوع دونه. وأقسامه أربعةٌ: بدل كلًّ من كلّ وهو ما كان مدلوله مدلولَ الأول، وبعضٍ من كلٍّ وهو ما كان مدلوله جزءًا من الأول، واشتمالٍ وهو ما كان بينهما ملابسةٌ غيرَ الجزئية والكلية، وغلطٍ: وهو أن يُقصَدَ إليه بعد أن غَلِطَ بغيره بلا ملابسةٍ. - والنعت: وهو الصفة التابع المشتق أو المؤول به المباين للفظ متبوعه. وهو قسمان: حقيقيٌّ، وسَببيٌّ. فالحقيقي: ما كان معناه إلى ما قبله، والسببيُّ: ما كان معناه إلى ما ¬

_ (¬1) وهي: (الواو، والفاء، وثُمَّ وأو، وأم، وإمَّا ولا، وبل، ولكنْ وحتّى) ومذهب الجمهور أنَّها عشرة، وذهب جماعة من المحققين أنها تسعة بإسقاط (إمّا) منهم يونس وأبو علي، وابن كيسان، وابن مالك، وخالد الأزهري. وفي حرفيْ (أم ولكن) خلاف. راجع شرح التسهيل لابن مالك (3/ 343). والهمع (5/ 223). (¬2) خرجت الصفة. [المؤلف]. (¬3) خرج البدل والتأكيد. [المؤلف]. (¬4) وهي: نفسه، وعينه، وكلاهما، وكله، وأجمع، وأكتع، وأبتع، وأبصع.

بعده. فالحقيقيُّ يطابقُ المنعوتَ في أربعةٍ من عشرة: واحد من الإفراد والتثنية والجمع وواحد من الرفع والنصب والجر، وواحد من التذكير والتأنيث، وواحد من التعريف والتنكير - وكذلك عطف البيان يوافق متبوعه في أربعةٍ من عشرة (¬1) - وأمَّا السببيُّ فيطابقُ المنعوتَ في اثنين من خمسةٍ: واحد من أوجه الإعراب الثلاثة، وواحد من التعريف والتنكير. ... ¬

_ (¬1) لعله أخّر الكلام على مسألة موافقة عطف البيان لمتبوعه من أجل جمع النظير إلى نظيره.

المجرورات • ما المجرورُ؟ - ما اشتمل على عَلَم المضاف إليه (¬1) • كم المجروراتُ؟ - ثلاثةٌ. • ما هي؟ - مجرورٌ بالإضافة - وقد تقدمت حقيقتُه -, ومجرور بالتبعيَّةِ - تقدَّمت حقيقته - ومجرور بحرف الجر. • وما حرفُ الجرِّ؟ - كلمةٌ دلَّتْ على معنىً في غيرها (¬2) • هلْ يحتاج حرف الجرّ مِنْ متعلَّق أم لا؟ - نعم (¬3). ¬

_ (¬1) قال الرضي في شرح الكافية (2/ 873): "وعَلَم المضاف إليه - كما مضى - ثلاثة: الكسر والفتح والياء". (¬2) هذا تعريف الحرف مطلقًا فيدخل فيه حرف الجر وغيره من حروف المعاني وقد سبق أول الكتاب. (¬3) استثنى النحاة ستة حروفٍ من أحرف الجر لا تحتاج إلى متعلَّق وهي: حرف الجر الزائد - لعلَّ في لغة عقيل - لولا - ربَّ - كاف التشبيه عند الأخفش وابن عصفور - حرف الاستثناء "خلا وعدا وحاشا". انظر التفصيل في المغني لابن هشام (2/ 83).

• فما التَّعلُّق؟ - عَمَل المتعلَّقِ به في محلِّ المتعلِّق رفعًا أو نصبًا. • فيمَ يجبُ حذف متعلَّق الجار والمجرور؟ - في أربعةِ مواضع. • ما هي؟ - إذا كان خبرًا لمخبر مثل: الحمد لله، أو صفةً لموصوف مثل: رأيتُ طائرًا على غُصْنٍ، أو حالاً لذي حالٍ مثل: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} [القصص: 79]، أو صلةً لموصول مثل: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [البقرة: 284]. • فهل له مِثْل؟ - نعم، الظرفُ لا بدَّ له من متعلَّق، ويحذف مُتعلَّقه وجوبًا في هذه الأربعة. الفِعْلُ المعرب من الفعل المضارع • ما الفِعْل المضارعُ؟ - ما أشبه الاسم بأحد حروف (أَنيتُ) لوقوعه مشتركًا بين الحال والاستقبال. • ما وَجْهُ الشبه؟ - شيئان: لفظيٌّ ومعنويٌّ، فاللفظيُّ: بالحركات والسكنات وعدد الحروف، والمعنويُّ: بالإبهام والاختصاص واعتوار المعاني.

• ما معنى الشبهِ المعنوي في الإبهام والاختصاص واعتوار المعاني؟ - أمَّا في الإبهام فلأنَّه يحتمل الحال والاستقبال كاسمِ الفاعل، وأمَّا الاختصاص فتخصيص المضارع للاستقبال بالسين أو سوف، واسم الفاعل بالآن أو غدًا، وأمَّا اعتوار المعاني ففي الاسمِ مثل: (ما أحسن زيد)، فإنّها تعتور عليها معانٍ مختلفة لا يميز بعضها عن بعض إلا الإعراب (¬1) وفي الفعل مثل: (لا تأكلِ السمكَ وتشرب اللبن)، فإنها تعتور على (يشرب) معانٍ مختلفة لا يميز بعضها عن بعض إلا الإعراب (¬2)؛ فظهر وجْهُ الشبه. ¬

_ (¬1) فلك في قوله: ما أحسن زيد. ثلاثة أوجه: أ) بناء (أحسن) على الفتح، ونصب (زيد) فتقول: ما أحسنَ زيدًا وهذا أسلوب تعجب. ب) بناء (أحسن) على الفتح أيضًا، ورفع (زيد) فتقول: ما أحسنَ زيدٌ. وهذا أسلوب نفي. ج) رَفْع (أحسن)، وجرّ (زيد)، فتقول: ما أحسنُ زيدٍ؟ وهذا أسلوب استفهام أي: ما أحسن أجزائه. (¬2) فالفعل (تشرب) فيه ثلاثة أوجه: أ) الرفع والمعنى النهي عن أكل السمك، وإباحة شرب اللبن. ب) النصب والمعنى النهي عن الجمع بين أكل السمك وشرب اللبن. ج) الجزم والمعنى النهي عن الأمرين مطلقًا. فالواو في المسألة الأولى استئنافية, وفي الثانية للمعية، وفي الثالثة للعطف.

• ما حكمُ المضارع؟ - أنَّه مُعربٌ ما لم تتصلْ به أحدُ نونيْ التوكيد فيُبنى على الفتح، أو نونُ النسوة فيُسكَّنُ، وهو مرفوع ما لم يدخل عليه ناصبٌ أو جازمٌ أو أحدُ النونات المبنيَّات (¬1). • ما المبنيُّ؟ - هو مبنيُّ أصلٍ، ومبنيُّ شبه (¬2). • فما مبنيُّ الأصل؟ - ثلاثةٌ: الفعل الماضي، والأمر، والحرف. • ما الماضي؟ - ما دلَّ على زَمَنٍ قبل زَمَنِكَ الذي أنتَ فيه وضْعًا. • ما حُكْمُه؟ - أنَّه مبنيٌّ على الفتح ما لم يتصل به الضميرُ المرفوع فيبنى على السكون، أو واو الجماعة فيضَمُّ للمجانسةِ، والفتحةُ مقدَّرة (¬3). ¬

_ (¬1) لو استغنى عن قوله: "أو أحد النونات المبنيات" بما قدّمه في قوله: ما لم تتصل به أحد نونيْ ... إلخ لأغناه لأنه شبه تكرار. (¬2) سبق أنْ ذكر المؤلف حقيقة المبني بقوله: ما ناسبَ مبنيَّ الأصل، فهذا حدُّه، وما ذكره هنا تقسيم له. (¬3) اختار المؤلف - رحمه الله - هنا في مسألة اتصال الماضي بواو الجماعة أنَّه يضمّ للمجانسة والمناسبة والفتحة مقدرة, وقد ذهب إليه أيضًا في اللطيفة البكرية ص: (28)، وهذا المذهب مذهب المتقدمين من النحاة ورجحه من المتأخرين الخضري في حاشيته (1/ 37)، وانظر شرح الأشموني (1/ 58).

• فما الأمرُ؟ - صيغةٌ يُطْلبُ بها الفِعْلُ من الفاعل المخاطب بحذف حرف المضارعة مع قبولها ياء المخاطبة. • ما حُكْمُهُ؟ - أن يُبْنى على السكونِ. • ما الحرفُ؟ - تقدّمت حقيقتُه. • فما مبنيُّ الشبه؟ - ما ناسَبَ مَبْنيَّ الأصل. • ما حُكْمُه؟ - أنْ لا يختلفَ آخره لاختلافِ العوامل كمبنيِّ الأصل. • ما أَلْقابُه؟ - أربعة: ضمٌّ وفتحٌ وكَسْرٌ ووَقْفٌ. • كم هو؟ - ثمانيةٌ: المضمرات، وأسماء الإشارات، والموصولات، وأسماء الأفعال، والأصوات، والمركَّبات، والكنايات، وبعض الظروف (¬1). ¬

_ (¬1) مثل: "إذْ، إذا، الآن، حيثُ، أمسِ".

• ما حقائقها؟ - تقدّمت حقيقة الضمير، والإشارة، والموصول، والظرف، ولا حقيقة للكنايات (¬1)، وأسماءُ الأفعال: هي ما كان من الأسماء بمعنى فعل الأمر، أو الماضي مثل: رويدًا، وهيهاتَ. - والأصواتُ: هي كلُّ لفظٍ حُكيَ به صَوتٌ أو صُوِّتَ به للبهائم كغاقِ، ونَخّ (¬2). - والمركَّباتُ: هي كلُّ اسمٍ من كلمتين ليس بينهما نسبة مثل: بعلبكّ، وخمسة عشر. أبياتٌ: إنَّ الحروفَ والظروفَ والجُمَلْ ... إذا تلتْ موصُولَها فهي الوُصَلْ وهي حالٌ بعد تعريفٍ حصَلْ ... وبعد ذي التنكير نعتٌ لم تَزَلْ وخَبَرٌ لمُخْبَرٍ عنه اتَّصلْ ... فقيل إنَّ النَّحوَ في هذا كَمَلْ (¬3) ¬

_ (¬1) بل لها حقيقة فقد عرّفها ابن الحاجب في شرح كافيته بقوله: المرادُ بالكنايات: ألفاظٌ مبهمة يُعبَّر بها عما وقع في كلام متكلم مفسرًا إمّا لإبهامه على المخاطب، أو لنسيانه. وقال الرضي في شرح الكافية: الكناية في اللغة والاصطلاح: أنْ يعبر عن شيءٍ معين لفظًا كان أو معنى بلفظ غير صريح في الدلالة عليه إمَّا للإبهام على السامعين، أو لشناعة المعبر عنه، أو للاختصار أو لنوعٍ من الفصاحة أو لغير ذلك من الأغراض. أهـ بتصرفٍ يسير، وانظر التمثيل عليها في شرح الكافية للرضي (3/ 373). (¬2) قوله: كغاق هذا للمحكي به صوت الغراب، ونخّ لما يصوّت به للبهائم ومعناه - كما قال الرضي في شرح الكافية (3/ 344) -: ونخ بفتح النون وتشديد الخاء المفتوحة أو المكسورة، وقد تخفف مُسكَّنة: صوت إناخة البعير. اهـ. (¬3) هذه الأبيات، والبيت الذي يليها في نظم الأكوان لم أجدها فيما بحثت فيه من كتب =

- والأكوان المقدَّرة في متعلَّق الجارّ والمجرور، والظرف المحذوف هي ثمانيةٌ (¬1): كان الوجودُ حدوثًا والدوام مَعَ اسْـ ... ـتقْرارهم مُسْتَمرًّا ثابتًا جَعَلوا - (كونٌ، وجودٌ، حدوثٌ، دوامٌ، استقرارٌ، استمرارٌ، ثبوتٌ، جعولٌ). وحيث يكون المتعلَّق مذكورًا فالجار والمجرور أو الظَرف لَغوٌ لخلوِّ الضمير عنه (¬2). وصلى الله على سيدنا محمَّد وآله وصحبه وسلَّم، والحمد لله ربِّ العالمين. كمُلتْ في يوم الربوع (¬3) 25 شهر شوال من سنة 32 (¬4). ¬

_ = النحو، ولعلها من نظم المؤلف، وقوله: إنَّ الحروف ... إلخ مراده حروف الجر مع مجروراتها، وفي قوله: (كمل) براعة مختم وهي إشارة إلى انتهاء الرسالة، ومحل هذه الأبيات في فصل المجرورات في الكلام على متعلق الجار والمجرور والظرف وقد تقدم. (¬1) قال المرادي في شرح الألفية (1/ 480): "التنبيه على أنَّ لفظ كائن أو استقرَّ لا يتعين بل مستقر وثابت وحاصل ونحوهما ككائن وكان وثبت وحصل ونحوها كاستقر، وضابط ذلك الكون المطلق". وقال ابن السراج في أصول النحو (1/ 63): "والمحذوف معنى الاستقرار والحلول وما أشبههما". (¬2) انظر حاشية الدسوقي على مغني اللبيب (2/ 97). (¬3) قال الزبيدي في التاج (5/ 346) وفي التكملة والذيل والصلة (4/ 331): "والربوع كصبور لغةٌ في الأربعاء مولّدةٌ". (¬4) يعني سنة (1332 هـ). أي وعمره نحو العشرين عامًا.

الرسالة الثالثة مختصر شرح ابن جماعة على القواعد الصغرى لابن هشام

الرسالة الثالثة مختصر شرح ابن جماعة على القواعد الصغرى لابن هشام

القواعد الصغرى لمحمد بن هشام مع بعض تقريرات من شرحها لابن جماعة - كما نبهت عليها -

القواعد الصغرى لمحمد بن هشام مع بعض تقريراتٍ من شرحها لابن جماعة - كما نَبَّهتُ عليها - (¬1) بسم الله الرحمن الرحيم (م) وبعد هذه [نكتة] (¬2) يسيرة اختصرتُها من قواعد الإعراب تسهيلًا على الطلاب وتقريبًا على أولي الألباب، وهذه تنحصر في ثلاثة أبواب: الباب الأول: في الجمل، وفيه أربع من المسائل: الأولى: أنَّ اللفظ المفيد يُسمَّى كلامًا وجملة. (ش) نكتة: لا يشترط في الكلام صُدورُه من ناطق واحدٍ ولا قَصْد المتكلم لكلامه، ولا إفادة المخاطب شيئًا يجهله على الصحيح في الثلاث. كذا في الارتشاف (¬3)، ويظهر أَثَر الخلاف في الفروع (¬4) انتهى. (م) وأنَّ الجملة اسميّة إنْ بُدِئَت باسم نحو: زيدٌ قائمٌ، وفعلية إنْ بُدِئَت بفِعْل نحو: قام زيدٌ. (ش) الاسم يدلُّ على الثبوت، والفعل على التجدد، فالاسميَّةُ إنَّما تدل ¬

_ (¬1) وكان تنبيهه بوضع حرف (الميم) فوق المتن إشارة إليه، ووضع حرف (الشين) فوق الشرح والتقرير إشارة إليه أيضًا. (¬2) زيادة من رسالة "نكتة في الإعراب" - ضمن مقالات هامة لابن هشام. (¬3) لم أجد كلام أبي حيان في "الارتشاف"، ووجدته في "شرحه للتسهيل" (1/ 34) وما بعدها، وكذلك في "الهمع" (1/ 30). (¬4) يريد "الفروع الفقهية"، وقد مثَّل لها الأسنوي في كتابه "التمهيد في تخريج الفروع على الأصول" (ص 35).

على الثبوت إذا كان عَجُزُها اسمًا كصَدْرها. اهـ. (م) وصغرى إنْ بُنيت على غيرها كـ (قام أبوه) مِنْ قولك: زيدٌ قام أبوه. وكُبْرى إنْ كان ضِمْنَها جُمْلةٌ كمجموع: زيدٌ قام أبوه. (م) الجمل التي لها محلٌّ من الإعراب سَبْعٌ: إحداها: الواقعة خبرًا ومَوضعُها رَفْعٌ في بابيْ المبتدأ و (إنَّ) نحو: زيدٌ قام أبوه، وإنَّ زيدًا قام أبوه، ونَصْبٌ في بابيْ كان وكاد، نحو: كان زيدٌ أبوه قائمٌ، وكاد زيدٌ يَفْعَلُ. (ش) واختلف في نحو: زيدٌ اضربْه، وعمروٌ هل جاءك؟ فقيل: محل الجملةِ رَفْعٌ على الخبريَّة وهو الصحيح، وقيل: نَصبٌ بناءً على أنَّ الجملة الإنشائية لا تكون خبرًا وهو باطلٌ (¬1).اهـ. (م) الثانية والثالثة: الواقعة حالاً والواقعة مفعولًا ومحلُّهما النَّصْبُ نحو: جاء زيدٌ يضحك، وقال زيدٌ: عمروٌ منطلقٌ. (ش) الواقعة من محل المفعول قد تكون في محل رَفْعٍ بالنيابة ومن الناس من جعل الجملة تقع فاعلًا، ومن الجمل المحكيَّة بالقول ما قد يخفى كقوله تعالى: {فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ} الأصل: إنكم (¬2) لذائقون عذابي. ¬

_ (¬1) انظر "المغني" لابن هشام (ص 536) ط الأفغاني. (¬2) قال ابن هشام في "المغني" (ص 540): والأصل إنكم لذائقون عذابي ثم عدل إلى التكلم؛ لأنهم تكلَّموا بذلك عن أنفسهم.

والقول قد يجيء بمعنى الظن فينصب مفعولين، وقد تقع بعد القول جملةٌ غير محكيَّة نحو: أوّل قولي: إنّي أحمد اللهَ - بكسر إنَّ - فالجملة خبرٌ لا مفعولٌ خلافًا لأبي علي (¬1). (م) والرابعة المضاف إليها ومحَلُّها الجرُّ نحو: "يوم هم بارزون". (ش) لا يضاف إلى الجمل إلاَّ ثمانية: أسماء الزمان ظروفًا أو لا. و (حيثُ) ظرفًا أَمْ لا خلافًا لمن زعمه (¬2). و (آية) بمعنى: علامة على قول سيبويه، وزعم أبو الفتح (¬3) أنها إنّما تضاف إلى المفرد. و (ذي) في قول بعضهم: "اذْهَبْ بِذي تَسْلم"، والباءُ: فيه ظرفيَّةٌ، وذي: صفةٌ لزمنٍ محذوف، وذي بمعنى صاحب صفةٌ لمحذوفٍ تقديره: وقت ¬

_ (¬1) الحسن بن أحمد بن عبد الغفار أبو علي الفارسي الإِمام العلامة المعروف أخذ النحو عن الزجاج، وبرع فيه وانتهت إليه رئاسته، وصحب عضد الدولة فعظَّمه وأحسن إليه له مؤلفات عديدة منها: "التذكرة"، و"الحجة"، و"الإغفال"، و"الإيضاح"، و"التكملة" وغير ذلك توفي سنة (377 هـ). راجع "البلغة" للفيروز آبادي. (¬2) أي: زعم عدم إضافتها إلى الجمل وهو - أي الزاعم - المهدوي شارح "مقصورة ابن دريد" كما أفاده ابن هشام في "المغني" (ص 548). (¬3) عثمان بن جني أبو الفتح الموصلي تلميذ أبي علي الفارسي الإِمام المعروف ذو التصانيف المشهورة لازم أبا علي أربعين سنة توفي سنة (392 هـ). راجع "البلغة" (ص 141).

وقيل: بل بمعنى (الذي) فلا محلَّ للجملة إذْ هي صلةٌ. الخامس: (لَدُنْ) زمانيةً أو مكانية. السادس: (ريث)، وهي مصدر رَاثَ أي: أبطأ. ولابن مالكٍ مقالتان فيها وفي (لدن): الأولى: أنهما عوملا معاملة أسماء الزمان في الإضافة كما عُوملت المصادر معاملتها في التوقيت (¬1). والثانية: زعم في كافيته وشرحها أنَّ الفعل بعدهما على إضمار (أنْ) (¬2). (م) والخامسة: الواقعة جوابًا لشرطٍ جازم إذا كانت مقرونة بالفاء أو بـ إذا الفجائية نحو: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ} [الأعراف: 186]، {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} [الروم: 36]. (ش) عِلّةُ انجزام الجملة في الموضعين محلًّا أنَّها لم تصدَّر بصدْرٍ يقبل الجزم لفظًا، والفاءُ المقدَّرة كالمذكورة. اهـ. (م) السادسة والسابعة: التابعة لمفرد أو جملةٍ لها محلٌّ نحو: {مِنْ قَبْلِ ¬

_ (¬1) ما في "التسهيل وشرحه" (3/ 260) أنَّ هذه المعاملة خاصة في (ريث) وكذا تجده في "المغني" لابن هشام (ص 550). (¬2) انظر الكافية وشرحها لابن مالك (2/ 946 - 948). تنبيه: وبقي عليه مما يضاف إلى الجمل - وقد سبق أنها ثمانية -: السابع والثامن: (قول - وقائل). راجع مغني ابن هشام (ص 551).

أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ} [إبراهيم: 31]، فجملة المنفي صفة ليوم. الثانية: نحو: زيدٌ قام أبوه وقعد أخوه. (ش) التابعة للمفرد ثلاثة أنواع: المنعوت بها، والمعطوفة بالحرف، والمبدلة. والتابعة لجملةٍ تكون هذه في التوابع عدا النعت (¬1)، وتكون في التعجُّب على رأي السكاكي (¬2). وشرط البدل كون الأولى غيرَ وافية، والثانية أوفى أو كالوافية أو كالأوفى. (م) المسألة الثالثة: الجمل التي لا محلَّ لها سَبْعٌ: إحداها: الابتدائية وتسمّى المستأنفة نحو: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} [يوسف: 2]. (ش) مِنَ الجمل ما جرى خلافٌ في أنَّه مستأنفٌ أم لا. ¬

_ (¬1) جعلها ابن هشام في بابيْ النسق والبدل خاصَّة، وأمَّا التوكيد فاعترض به الدماميني على ابن هشام وأجاب عنه الشمني بما تراه في حاشية الأمير على المغني (2/ 70). (¬2) لم أجد قول السكاكي في المفتاح، ولم يشر إليه أحدٌ عند هذه المسألة مِنْ أرباب الحواشي على مغني اللبيب وغيرها من كتب النحو. والسكاكي هو يوسف بن أبي بكر الخوارزمي إمام في النحو والتصريف والمعاني والبيان والاستدلال والعروض والشعر. مات بخوارزم سنة (626 هـ). انظر "بغية الوعاة" (2/ 364).

مِنْ ذلك (أقومُ) مِن قولك: إنْ قام زيدٌ أقومُ. فالمبرّدُ يرى أنَّه على إضمار الفاء، وسيبويه: أنّه مؤخّر عن تقديم، فإذا عُطفَ عليه فِعْلٌ جَوَّزَ الأول (¬1) رَفْعه عطفًا على اللفظ، وجزمه على المحلّ، والثاني (¬2) الرفعَ فقط (¬3). (م) الثانيةُ: الواقعة صلةً نحو: الذي قام أبوه. (ش) آباء العبّاس وبكر وعلي والفتح وآخرون أنَّ (كان) الناقصة لا مصدر لها (¬4). اهـ. (م) الثالثة: المعترضة نحو: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البقرة: 24] (ش) يجوز الاعتراض بأكثر من جملةٍ خلافًا لأبي علي (¬5). وكثيرًا ما تشتبه المعترضة بالحاليّة لكنّها تتميز عنها؛ فالمعترضة تكون غير خبريّة، ويجوز تصديرها بدليل استقبال ويجوز اقترانها بالفاء، ويجوز اقترانها بالواو ¬

_ (¬1) أي: المبرّد. (¬2) أي: سيبويه. (¬3) انظر بسط المسألة في مغني ابن هشام بحاشية الدسوقي (2/ 44). (¬4) يريد أبا العباس المبرد، وأبا بكر السراج، وأبا علي الفارسي، وأبا الفتح ابن جني، والمسألة المشار إليها تتضح بما في "المغني" من قول ابن هشام: "وأمَّا قول أبي البقاء في: {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة: 10] إنَّ (ما) مصدريّة وصلتها (يكذبون) وحكمه مع ذلك بأن يكذبون في موضع نصب خبرًا لـ (كان) فظاهره متناقض، ولعل مراده أن المصدر إنما ينسبك من (ما) و (يكذبون) لا منها ومِنْ (كان) بناءً على قول أبي العباس وأبي بكر وأبي علي وأبي الفتح: إنَّ كان الناقصة لا مصدر لها. اهـ. (¬5) راجع "المغني" (ص 515)، و"شرح قواعد الإعراب" للكافيجي (ص 169).

مع تصديرها بالمضارع المثبت (¬1). (م) الرابعة: التفسيرية نحو: {وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ} [البقرة: 214]. (ش) فجملة: {مَسَّتْهُمُ} ... الخ مفسِّرة لـ (مَثَل). وحقيقتُها هي: فَضْلةٌ كاشفةٌ لحقيقة ما تليه، وذهب الشلوبين (¬2) إلى أنَّ المفسرة لها محلٌّ بحسب ما تفسِّره (¬3).اهـ. (م) الخامسة: جواب القسم نحو قوله تعالى: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ} [ص: 82]. (ش) ووقع لمكي (¬4) وأبي البقاء (¬5) وَهَمٌ فيها فأعرباها بما يقتضي أنَّ ¬

_ (¬1) في الأصل: (بالمضارع والمثبت) والتصويب من "المغني"، (ص 521). (¬2) عمر بن محمَّد الإشبيلي الأزدي أبو علي المعروف بالشلوبين ومعناه بلغة أهل الأندلس: (الأشقر الأبيض) كان إمام عصره في العربية بلا مدافع، وآخر أئمة هذا الشأن بالمشرق والمغرب، وكان ذا معرفة بنقد الشعر وغيره. مات سنة (645 هـ). انظر "البغية" (2/ 224). (¬3) راجع "المغني" (ص 526)، وشرح قواعد الإعراب للقوجي (ص 50). (¬4) مكي بن أبي طالب القيسي، النحوي المقرئ الإِمام المشهور صاحب التصانيف التي منها مشكل إعراب القرآن، توفي سنة (437 هـ). انظر "البلغة" (ص 225). (¬5) عبد الله بن الحسين أبو البقاء العكبري البغدادي الحنبلي صاحب الإعراب تفقّه بالقاضي أبي يعلى الفراء ولازمه، وقرأ العربية على ابن الخشاب، له مؤلفات كثيرة منها: "إعراب القرآن" و"إعراب الحديث"، و"شرح الفصيح" وغيرها، توفي سنة =

لها محلًّا (¬1). تنبيهٌ: مَنَع ثعلب (¬2) من وقوع القسم خَبَرًا، ومراده أنَّ جملة القسم وجوابها لا يكونان خبرًا (¬3). (م) السادسة: جواب الشرط غير الجازم نحو: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} [الأعراف: 176]. (ش) مثل (لو - لولا - ولمَّا - وكيف)، وكذا جواب الجازم إذا لم يقترن بالفاء لا محلَّ له. اهـ. (م) السابعة: التابعة لِمَا لا محلَّ له، نحو: قام زيدٌ و (¬4) قعد عمروٌ. (م) المسألة الرابعة: الجملة الخبرية بعد النكرات المحضة صفاتٌ صناعيةٌ نحو: {حَتَّى ¬

_ = (616 هـ). انظر "البغية" للسيوطي (2/ 38). (¬1) قوله: (فيها) أي: في جملة جواب القسم، وكذلك الضمير في (أعرباها) أمَّا مكي فوقع وهمه في قوله تعالى: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ} [الأنعام: 12]، وأمَّا أبو البقاء ففي قوله تعالى: {لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ} [آل عمران: 81]، وانظر التفصيل فيها في كتاب "المغني" لابن هشام (ص 532). (¬2) أحمد بن يحيى بن بدر الشيباني أبو العباس ثعلب إمام الكوفيين، له معرفة بالقراءات، وكان حجة ثقة، وله مؤلفات من أشهرها الفصيح، توفي سنة (291 هـ). انظر "البلغة" (ص 65). (¬3) راجع "المغني" (ص 529)، و"شرح قواعد الإعراب" للأزهري (ص 49). (¬4) حاشية: "حرف عطفٍ لا حال".

تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ} [الإسراء: 93]. وبعد المعارف المحضة أحوال نحو: {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6]، ومنها محتملٌ لهما نحو: مررتُ برجلٍ صالح يصلَّي. {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَار} [يس: 37] ***

الباب الثاني في الظرف والجار والمجرور

الباب الثاني في الظرف والجار والمجرور وفيه أربع مسائل: أحدها: لا بدَّ من تعليقها بفِعْلٍ أو بما في معناه. (ش) سكت عن قسم ثالث وهو التَّعلُّق بما أُوّل بمُشْبِه الفعل ذكره في المغني (¬1)، ومثَّل له بقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84]. وذهب ابنا طاهر (¬2) وخروف (¬3) والكوفيون إلى أنَّه لا تقدير في نحو: زيد عندك أو في الدار، فقالا: الناصبُ المبتدأ، وزعما أنَّه يرفع الخبر إذا كان عينه، وينصبه إذا كان غيره وأنَّ هذا مذهب سيبويه، وقال الكوفيون: النائب أمْرٌ معنوي وهو كونهما مخالفين للمبتدأ، ولا يُعَوَّل على هذين المذهبين (¬4). ¬

_ (¬1) انظر "مغني اللبيب" (ص 567). (¬2) محمَّد بن أحمد بن طاهر الأنصاري الإشبيلي أبو بكر نحوي مشهور حافظ بارع اشتهر بتدريس الكتاب، وله على الكتاب طرر مدونة اعتمدها تلميذه ابن خروف في شرحه. توفي (580 هـ). انظر "البغية" (1/ 28). (¬3) علي بن محمَّد بن علي بن نظام الدين أبو الحسن ابن خروف الأندلسي كان إمامًا في العربية محققًا مدققًا ماهرًا مشاركًا في الأصول أخذ النحو عن ابن طاهر صنَّف شرح سيبويه، وشرح الجمل ووقع في جبٍّ ليلًا فمات سنة (609 هـ). انظر "البغية" (2/ 203). (¬4) راجع "المغني" (ص 566)، و"حاشية الدسوقي" عليه (2/ 87).

نكتة

(م) وقد اجتمعا في قوله تعالى: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7]. (ش) قال في الكشاف: "فإنْ قلتَ: أيُّ فَرْق بين {عَلَيْهِمْ} الأولى والثانية؟ قلتُ: الأولى محلّها النصب على المفعولية، والثانية محلها الرفع على الفاعلية (¬1). وقال ذلك؛ لأنَّ النائب عن الفاعل من قبيل الفاعل عنده (¬2). نكتةٌ: هل يتعلَّقان بالفعل الناقص عند مَنْ زَعَم أنَّه لا يدلُّ على الحدث؟ مَنَع من ذلك [قومٌ] وهم المبرّد والفارسي وابن جنّي والجرجاني (¬3) وابن بَرهان (¬4) ثم الشلوبين، والصحيح أنها كلها دالَّةٌ عليه إلا (ليس). ¬

_ (¬1) راجع "الكشاف" للزمخشري (1/ 27). (¬2) أي: عند الزمخشري. (¬3) عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني النحوي الإِمام المشهور أبو بكر، أخذ النحو عن ابن أخت الفارسي، ولم يأخذ عن غيره لأنه لم يخرج عن بلده، وكان من كبار أئمة العربية والبيان شافعيًا، له مؤلفات منها: "المغني في شرح الإيضاح"، "المقتصد"، "الجمل"، "العوامل المائة" وغيرها. مات سنة (471 هـ) وقيل: (474 هـ). راجع "البغية" (2/ 106). (¬4) عبد الواحد بن علي بن عمر بن برهان الأسدي النحوي، صاحب العربية واللغة والتواريخ وأيام العرب، قرأ على عبد السلام البصري وكان أول أمره منجّمًا فصار نحويًّا، وكان زاهدًا. مات سنة (456 هـ). راجع "البغية" (2/ 120).

وهل يتعلقان بفعل المدح والذمّ؟ زعم الفارسي أنّهما يتعلقان بـ (نِعْمَ)، وأباه ابنُ مالك (¬1). وهل يتعلقان بأحرف المعاني المشهورة؟ (¬2) مُنع، وقيل: نَعَم، وفصَّل أبوا الفتح وعليٍّ (¬3) قالا: إنْ كان نائبًا عن فِعلٍ حُذِفَ جاز نيابةً لا أصالةً، وإلا فلا (¬4). (م) ويستثنى من حروف الجرّ أربعةٌ لا تتعلق بشيء وهو: الزائد نحو: {كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا}. ولعلَّ نحو قوله: لعل أبي المغوار منك قريبُ (¬5) ولولا كقولك (¬6): لولاك في ذا العام لم أحججِ (¬7) ¬

_ (¬1) انظر "المغني" (ص 571)، و"شرح التسهيل" لابن مالك (1/ 218). (¬2) في الأصل المخطوط: "وهل يتعلقان بفعل بأحرف ... إلخ" والتصويب من المغني. (¬3) أي: ابن جني والفارسي. (¬4) انظر "شرح الكافيجي لقواعد الإعراب" (ص 222). (¬5) هذا العجز لكعب بن سعد الغنوي من قصيدة مشهورة في "الأصمعيات" (ص 96) وصدره: (فقلت ادع أخرى وارفع الصوت جهرةً). وانظر "أمالي ابن الشجري" (1/ 361). (¬6) هكذا في المخطوط والمناسب: "كقوله". (¬7) هذا الشطر نسب لعمر بن أبي ربيعة، وللعرجي وليس في ديوانه، ولأعرابي مجهول =

وكاف التشبيه نحو: زيدٌ كعمرٍو. (ش) قال في المغني (¬1): "اللام المقوّية لها منزلةٌ بين المنزلتين، والجرُّ بـ (لولا) قول سيبويه، وتوجيه عدم تعلقها هي و (لعل) لأنَّها بمنزلة الزائدتين لارتفاع ما بعدهما على الابتداء عند الإسقاط". هـ. (م) المسألة الثانية: حُكْمُهما بعد المعرفة والنكرة حُكْمُ الجمل - فيما تقدّم - فيتعيَّن كونهما صفتين صناعيتيْن نحو: رأيتُ طائرًا على غُصْنٍ أو فوق غُصْن، وكونهما حاليْن وذلك في نحو: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} [القصص: 79]. وقولك: رأيتُ الهلالَ بين السحاب. ويحتملان الوجهان (¬2) وذلك في نحو: هذا ثمرٌ يانعٌ على أغصانه أو فوق أغصانه. المسألة الثالثة: متى وقع أحدهما صفةً أو صلةً أو خبرًا أو حالاً تعلَّق بمحذوف وجوبًا تقديره: كائنٌ أو استقرّ. ¬

_ = وصدره: (أومتْ بعينيها من الهودجِ). راجع "خزانة الأدب" للبغدادي (5/ 333)، و"أمالي ابن الشجري" (1/ 278) و"الإنصاف" (2/ 693). (¬1) راجع "مغني اللبيب" (ص 576). (¬2) كذا في الأصل المخطوط وهو جائز على لغة من ألزم المثنى الألف، وإن كان الأكثر نصبه بالياء فيقال: ويحتملان الوجهين.

تنبيه

(ش) قال ابن يعيش (¬1): صرَّح ابن جنّي (¬2) بجواز إظهار متعلّق الظرف الواقع خبرًا، قال في المغني (¬3): "وعندي أنَّه إذا حُذف فنقل ضميره إلى الظرف لم يجز إظهاره لأنّه صار أصلًا". اهـ. (م) إلاَّ الصلة فيجب تقديره (استقرّ). (ش) يبقى أربعةٌ من الثمانية التي يتعلقان فيها بمحذوف: أوّلها: أنْ يرفعا الاسمَ الظاهر. ثانيها: أنْ يستعمل المتعلق محذوفًا نحو: (حينئذٍ، والآن). لِمنْ ذكر أمرًا تقادم عَهْدُه أي: كان ذلك حينئذٍ، واسمعِ الآن. ثالثُها: أن يكون المتعلّق محذوفًا على شريطة التفسير، نحو: (يوم الجمعة صُمْتُ فيه). رابعها: القَسَمُ بغير الباء، والقسم كالصلة في وجوب كونه: استقرَّ. تنبيهٌ: قال ابن يعيش: "إنما لم يجز في الصفةِ أنْ يقال في نحو: (جاء الذي في ¬

_ (¬1) أبو البقاء يعيش بن علي بن يعيش موفق الدين الحلبي الإِمام المعروف شارح المفصل، ولد سنة (553 هـ)، وقرأ النحو بحلب وسمع الحديث على التكريتي، ورحل إلى بغداد، وكان من كبار أئمة العربية ماهرًا في النحو والتصريف، مات سنة (643 هـ). انظر "البغية" (2/ 351). (¬2) في الأصل المخطوط: "ابن مالك" وهو خطأ ظاهر فابن يعيش متقدم على ابن مالك، وصوابه "ابن جني" كما في شرح المفصَّل (1/ 91). (¬3) راجع "مغني اللبيب" (ص 582).

الدار) بتقدير: مستقر على أنَّه خبر لمحذوفٍ على حدِّ قراءة بعضهم: {تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} (¬1) [الأنعام: 154]، بقِلَّة ذلك واطّراد هذا (¬2). وكذا يجب في الصفة في نحو: (رَجُلٌ في الدار فَلَهُ درهمٌ). لأنَّ الفاء تجوز في نحو: رَجُلٌ يأتيني فله درهم، ويمتنع رَجُلٌ صالح فله درهم. واعلم أنَّه اخْتُلف في الصفة والحال والخبر. والأكثرون على تقدير الفعل لأنَّه الأصل في العمل، فطائفةٌ قدروا الوصف تمسكًا بأنَّ الأصل في الثلاثة الإفراد، وبأنَّ الفعل منها لا بدَّ من تقديره بالوصف، وطائفةٌ أجازوا الأمريْن على السواء. وطائفة رجَّحت الوصف (¬3). وما تُمسِّك به كذلك من الفعل أو الاسم قيل: علَّتُه أنَّه ليس بشيء؛ لأنَّ ¬

_ (¬1) برفع نون (أحسن) وهي قراءة شاذة نسبت ليحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق والحسن والأعمش، وانظر توجيهها والكلام عليها في كتاب إعراب القراءات الشواذ للعكبري (1/ 523). (¬2) راجع "المغني" (ص 583). (¬3) في الأصل المخطوط بعد كلمة الوصف: "وطائفة" والكلام لا يستقيم بها. وهذه العبارة الأخيرة: "وطائفة رجحت الوصف" لعلها تكرار. راجع المسألة والأقوال فيها في مغني اللبيب (ص 583)، و"شرح الكافيجي لقواعد الإعراب" (ص 246)، و"شرح القوجوي لقواعد الإعراب" (ص 75)، و"العقد الوسيم في أحكام الجار والمجرور والظرف" للأخفش اليمني (ص 65).

ذلك يختلف بحسب المقام. قلتُ (¬1): وفي هذا نَظَرٌ وَجْههُ أنَّهم تمسكوا بما هو مِنْ مبحوثاتهم وسكتوا عن غيره؛ إذْ لا تعلُّق لهم به فافْهَمْ. اهـ. (م) المسألة الرابعة: إذا وقع أحدهما صفة أو صلة أو خبرًا أو حالاً أو معتمدًا على النفي أو الاستفهام جَاز رَفْعُه للفاعل نحو قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ} [البقرة: 19]. (ش) اعلم أنَّ النُّحاة اختلفوا في هذا المرفوع على ثلاثة مذاهب (¬2): أحدها: أنَّ الأرجح كونه مبتدأً مُخْبرًا عنه بأحدهما. الثاني: عكسُه اختاره ابن مالك؛ لأنَّ الأصل عدمُ التقديم والتأخير. الثالث: وجوب كونه فاعلًا، وهل عاملُه أحدهما للنيابة عن استخدام الفعل أمْ هو العامل؟ فيه مذهبان قال في المغني: "والمختار الثاني لدليلين: أحدهما: امتناع تقديم الحال في نحو: زيدٌ في الدار جالسًا, ولو كان ¬

_ (¬1) لا أدري إنْ كان القائل ابن جماعة أم المعلمي؛ إذْ إنّ الكلام السابق كله مستفاد من المغني حيث لخّصه ابن جماعة وهذا التعقيب فيه ردٌّ على ابن هشام القائل باعتبار المعنى أو المقام في التقدير، وهو من جنس فن البلاغة ولا دخل له في الصناعة النحوية التي تمسك بها النحاة. (¬2) راجع المغني (ص 578).

العاملُ الفعلَ لم يمتنع" (¬1). فإذا لم يعتمد (¬2) فالأخفش والكوفيون يجيزون الوجهين (¬3). ... ¬

_ (¬1) لم يذكر الدليل الثاني وهو في المغني حيث قال ابن هشام: "ولقوله: فإنَّ فؤادي عندك الدهرَ أجمعُ فأكَّد الضمير المستتر في الظرف، والضمير لا يستتر إلا في عامله". راجع "المغني" (ص 579). (¬2) أي: الظرف والجار والمجرور على الاستفهام. (¬3) والجمهور يوجبون الابتداء. راجع "المغني" (ص 579).

الباب الثالث فيما يقال عند ذكر أدوات يكثر دورها في الكلام

(م) الباب الثالث فيما يقال عند ذِكْر أدواتٍ يكثر دورها في الكلام وهي خمس وعشرون: فيقال في الواو: حرف عَطْف لمطلق الجمع. وفي الفاء: حرف عَطْفٍ للترتيب والتعقيب. (ش) اعلم أنَّ الفاء المفردة مهملةٌ خلافًا (¬1) لبعض الكوفيين في قولهم: إنها ناصبة في نحو: ما تَأْتينا فَتُحدِّثَنَا، وللمبرّد في قوله: إنّها خافضةٌ في نحو: فَمِثْلِكِ حُبْلى ............ (¬2) وقال الفراء: لا تفيد الترتيب مع قوله: إنَّ الواو تفيده - وهو عجيبٌ - وقال الجرمي (¬3): لا تفيده في البقاع والأمطار (¬4). ¬

_ (¬1) انظر المذاهب والأقوال في حرف (الفاء) في "المغني" (ص 213)، و"الجنى الداني" للمرادي (ص 61). (¬2) هذا جزء من صدر بيت لامرئ القيس من معلقته المشهورة وتمامه: فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع ... فألهيتها عن ذي تمائم محول راجع "شرح القصائد السبع الطوال" للأنباري (ص 39). (¬3) صالح بن إسحاق أبو عمر الجرمي مولاهم، وقيل مولى لبجيلة، إمام في النحو، ناظر الفراء ببغداد أخذ عن الأخفش وغيره، عالم دين ورع له مصنفات منها كتاب الفرخ مات سنة (225 هـ). انظر "البلغة" (ص 113). (¬4) في الأصل المخطوط: "الأقطار"، وتصويبها من مغني اللبيب (ص 214) حيث مثّل =

تنبيه

(م) وفي (ثُم): حرف عَطْفٍ للترتيب والمهلة. (ش) زعم الكوفيون أنَّ التشريك قد يتخلف (¬1) وذلك بعد وقوعها زائدة، وزعم فريقٌ أنَّ الترتيبَ لا يكون مقتضاها، وزعم الفراءُ أن المهلةَ قد تتخلف (¬2)، اهـ. (م) وفي (قد): حرف تحقيق وتوقُّعٍ وتقليل. (ش) قد: حرفيَّةٌ واسميّةٌ. والاسميّةُ إمّا اسمُ فِعْل مرادفٌ لِحَسْب، وهي مبنيَّةٌ وقد تُعْرب. * تنبيهٌ: لا تجيء (قَدْ) لمعانيها الثلاثة جُملةً، وإنّما مراده أنَّها تجيء تارةً لهذا، وتارةً لهذا، وكذلك غيرها ممَّا سيُذكر. اهـ. (م) وفي السين وسوف حَرفُ استقبال (¬3)، وهو خيرٌ مِنْ قول كثيرٍ: "حرف تنفيس". (ش) وليس السين مُنْقطعًا عن سوف (¬4)، ولا مُدَّة الاستقبال أضيقَ ¬

_ = عليها بقوله: "مطرنا مكان كذا فمكان كذا" ثم شرحه. وانظر أيضًا "حاشية الدسوقي" (1/ 173). (¬1) في المخطوط: "يختلف" والتصويب من "المغني" (ص 158). (¬2) راجع "المغني" (ص 158)، و"الجنى الداني" (ص 427). (¬3) هي عبارة الزمخشري في المفصل وغيره من النحاة. راجع شرح المفصل لابن يعيش (8/ 148). (¬4) هكذا بالأصل (ومنقطع) وُجدت بالرفع، وفي "المغني" (ص 184): "وليس مقتطعًا من سوف ... ".

خلافًا للكوفيين في الأول، والبصريين في الثاني. قال في المغني (¬1) "واختياره الأول أصحُّ، والثاني باطلٌ لقوة دليلهم". هـ. (م) وفي (لم) حرف جَزْمٍ لنفي المضارع وقلبه ماضيًا. (ش) وقد يرتفع قيل: ضرورةً، وقال ابن مالك: لغةٌ، وزَعَم اللحياني (¬2): أنَّ بعض العرب ينصب بها (¬3). هـ. (م) ويزاد في (لمَّا) فيقال: مُتَّصلًا نَفْيُهُ متوقَّعًا ثبوتُه. (ش) (لمَّا) تفارق (لم)، فـ لمَّا لا تقترن بأداة الشرط ومنفيها مستمر النفي إلى الحال، ومعناها لا يكون إلاَّ قريبًا من الحال، منفيُّها متوقّع الثبوت منفيُّها جائز الحذف. اهـ. (م) وفي (لن) حرف نصب. (ش) ليس أصله [وأصل] (¬4) (لم) لا فأبدلت الألف نونًا وميمًا خلافًا للفراء (¬5). ¬

_ (¬1) لم أجد هذه العبارة في "المغني" فلينظر فيه. (¬2) علي بن مبارك وقيل ابن حازم اللحياني، أخذ عن الكسائي وأبي زيد وأبي عمرو الشيباني والأصمعي وغيرهم له النوادر المشهورة. انظر "البغية" (2/ 185). (¬3) راجع "الجنى الداني" (ص 266)، و"المغني" (ص 365). (¬4) زيادة أضفتها من "المغني" ليستقيم الكلام. (¬5) راجع "المغني" (ص 373).

(م) وفي (إذن) حرف جواب وجزاء. (ش) هي عند الجمهور حرف وقيل: اسم (¬1)، والأصل في إذن (إذا كان كذا كان كذا) ثُمَّ حذفت الجملة وعوض التنوين عنها، وعلى القول بالحرفيّة الصَّحيحُ (¬2) بَساطَتها لا تركُّبها مِن (إذْ) و (أنْ)، وعلى البساطة الصحيح أنَّها الناصبة لا (أنْ) مضمرة بعدها. وهي تنصب المضارع بشرط تصديرها، واستقباله، واتصالهما وانفصالهما بالقسم أو بـ (لا) النافية. وأجاز ابنُ عصفور (¬3) الفصل بالظرف، وابنُ بابشاذ (¬4) بالنداء والدعاء (¬5)، ¬

_ (¬1) في الأصل المخطوط. "هي عند الجمهور اسمٌ وقيل حرف" والصواب عكس هذا كما في المغني (ص 30)، والجنى الداني (ص 363). (¬2) في المخطوط (والصحيح) بالواو، وكذا التي بعدها (والصحيح أنها ... إلخ). والتصويب من "المغني" (ص 30). (¬3) علي بن مؤمن أبو الحسن ابن عصفور الإشبيلي حامل لواء العربية في زمانه بالأندلس له مؤلفات عديدة منها: الممتع في التصريف، والمقرب، وثلاثة شروح على الجمل. مات سنة (663 هـ). انظر "البغية" (2/ 210). (¬4) طاهر بن أحمد بن بابشاذ أبو الحسن المصري العراقي الأصل، كان محرر الكتب الصادرة عن ديوان الإنشاء بمصر، وله في النحو مصنفات حسنة منها: ثلاثة شروح على الجمل، ومقدمة سماها (المحتسب). مات سنة (469 هـ). راجع "البلغة" (ص 116). (¬5) في المخطوط: "ويا الدعاء"، والتصويب من المغني (ص 32). و"الجنى الداني" (ص 362)، إذْ فيهما أنَّ ابن بابشاذ أجاز الفصل بالنداء والدعاء نحو: إذْن - يغفر الله لك - يُدخلَك الجنة، وأمَّا (يا) الدعاء فلم أجده ألبتة.

وهشَامٌ (¬1): الفَصْلَ بمعمول الفِعْل (¬2)، والأرجح حينئذٍ عند الكسائي (¬3) النصب وعند هشام الرفع. هـ (م) وفي (إذا): ظرفٌ لزمانٍ مستقبل خافضٌ لشرطه منصوبٌ بجوابه (¬4). وفي (لو): حرفٌ يقتضي امتناعَ ما يَليه، واسْتلزامه لتاليه، وهو خيرٌ مِنْ: "حرف امتناع لامتناع". وفي (لمّا) في نحو: لما جاءني زيدٌ أكرمته، حرف وُجودٍ لوجود. (ش) زَعَمَ الفارسي وأبناء مالك والسرَّاج وجنّي وتبعهم جماعةٌ: أنَّها ظرف، قال ابن مالك: بمعنى (إذْ)، وقالوا: بمعنى (حين)، وقول ابن مالك حَسَنٌ؛ لأنَّها مختصةٌ بالماضي، وبالإضافة إلى الجملة، وردَّ ابن خروف على مدَّعي الاسميّة بنحو: "لمَّا أكرمتني أمسِ أكرمتك اليوم" لأنَّها إذا قُدِّرت ظرفًا كان عَاملُها الجوابَ والواقع في اليوم لا يكون في أمس (¬5). هـ. ¬

_ (¬1) هشام بن معاوية الضرير أبو عبد الله النحوي الكوفي، أحد أعيان أصحاب الكسائي صنّف "مختصر النحو"، و"الحدود"، و"القياس"، توفي سنة (209 هـ). راجع "البغية" (2/ 328). (¬2) وكذا الكسائي يجيزه، وانظر الأقوال في "المغني" (ص 32). (¬3) علي بن حمزة أبو الحسن الأسدي مولاهم الكوفي المعروف بالكسائي، الإِمام المعلم المقرئ، أخذ القراءة عن حمزة الزيات، وقرأ النحو على معاذ ثم على الخليل، توفي بطوس سنة (189 هـ). راجع البلغة (ص 152). (¬4) في المخطوط: "منصوب لجوابه" والتصويب من قواعد الإعراب لابن هشام (ص 8). (¬5) راجع "المغني" (ص 369).

(م) وفي نحو لولا زيدٌ لأكرمتك، (لولا) حرف امتناع لوجود. (ش) المرفوع بعد (لولا) لا فاعلٌ بفعل محذوف، ولا بـ (لولا) لنيابتها عنه، ولا بالأصالة خلافًا لزاعمي ذلك بل رَفْعُه بالابتداء (¬1) هـ. (م) وفي (نَعَم): حرف وعيد (¬2) وتصديق ووعد وإعلام. (م) وفي (بلى): حَرفٌ لإيجاب النفي. (ش) (بلى) أصليُّ النفي، وقيل: الأصل (بَلْ) والألف زائدةٌ، وبعض هؤلاء: إنّها للتأنيث (¬3). (م) وفي (إذْ) ظرفٌ لما مضى من الزمان. (ش) زَعَمَ الجمهور أنَّ (إذْ) لا تقع إلا ظرفًا أو مضافًا لا مفعولًا ولا مبدلًا من مفعول، قال في المغني (¬4): "من الغريب أنَّ الزمخشري (¬5) قال في قراءة بعضهم: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا} [آل عمران: 164]، أنَّه يجوز أن يكون التقدير: (مَنُّهُ) وأن يكون (إذْ) في محل رفع ¬

_ (¬1) انظر "المغني" (ص 359). (¬2) لم أجد معنى (الوعيد) ذكر في لفظة (نعم) إلا عند ابن هشام في هذه القواعد الصغرى، وأمَّا المغني له فلم أجده، وكذا الجنى الداني، وكذا شروح القواعد المختلفة، ولم يذكره أحدٌ من النحاة. (¬3) انظر "المغني" (ص 153)، و"الجنى الداني" (ص 420). (¬4) راجع "المغني" (ص 112). (¬5) محمود بن عمر أبو القاسم الزمخشري جار الله إمام اللغة والنحو والبيان، صاحب التصانيف المشهورة كـ "الكشاف" و"أساس البلاغة" و"الفائق" وغيرها، توفي سنة (538 هـ). انظر "البلغة" (ص 220).

كـ (إذا) من قولك: أَخْطَبُ مَا يكونُ الأميرُ إذا كان قائمًا" (¬1). اهـ. (ت) (¬2) ثُمَّ أطال الشارح في الانتصار للزمخشري على المصنّف وأنَّ سيبويه نصَّ في كتابه أنَّ (إذا وإذْ) ليسا من الظروف اللازمة (¬3). هـ. (م) وفي (كلَّا): حرفُ رَدْعٍ وزَجْر ومعنى: (حقًّا). (ش) الخليل وسيبويه والمبرّد والزجّاج وأكثر البصريين: رَدْعٌ وزَجْر لا غير، وخالفهم الكسائي قال: تجيء بمعنى (حقًّا)، وأبو حاتم (¬4) بمعنى (ألا) الاستفتاحية وهو أولى (¬5). ¬

_ (¬1) راجع "الكشاف" (1/ 426)، و"الدّر المصون" للحلبي (1/ 250). (¬2) هذا الرمز والحرف وجدته قبل قوله: (ثم أطال .. إلخ) ولعله إشارة ولمح للمختصر، إذْ إنَّ هذا الكلام للمعلمي حيث أفاد أن الشارح - وهو ابن جماعة - أطال في الردّ على ابن هشام وانتصر في المسألة للزمخشري. (¬3) بل المنصوص في الكتاب أنهما من الظروف المبهمة غير المتمكنة وهذا معنى اللزوم فيهما وهو الذي يقال في مثلهما: الظرف غير المتصرف أي لا يقع فاعلاً ولا مفعولًا ولا مبتدأ، وهو قول الجمهور خلافًا لبعضهم. راجع "الكتاب" لسيبويه (3/ 285)، و"الجنى الداني" (ص 187)، و"الهمع" (3/ 172). (¬4) سهل بن محمَّد بن عثمان أبو حاتم السجستاني إمام في النحو واللغة وعلوم القرآن والشعر، ومصنفاته جليلة فاخرة، وكان إمام جامع البصرة مات سنة (255 هـ) وقيل غير ذلك. راجع "البلغة" (ص 109). (¬5) قال ابن هشام في المغني - بعد ذكر قول الكسائي وأبي حاتم والنضر بن شميل -: "وقول أبي حاتم عندي أولى من قولهما ... إلخ" انظر "المغني" (ص 250).

فصل

والفرّاء (¬1) والنضر بن شُميل (¬2): حرف جواب بمنزلة (إي) و (نعم) (¬3) هـ (م) فَصْلٌ وتكون (لا) نافيةً نحو: لا إله إلا الله. (ش) هي في هذه الحال على خمسة أقسام: * التبرئة وتخالف (إنَّ) من سبعة أوجه (¬4). * والنافية للوحدة وتفارق (ليس) من ثلاثة أوجه (¬5). * وعاطفة ولها شروط: - أنْ يتقدمها إثبات أو أَمْرٌ - قاله سيبويه - أو نداء، وزعم ابن سعدان (¬6): أنَّ هذا ليس من كلامهم. ¬

_ (¬1) يحيى بن زياد أبو زكريا الديلمي المعروف بالفراء الإِمام المشهور، أخذ عنه الكسائي وهو من جلة أصحابه، مات سنة (207 هـ). راجع البلغة (ص 238). (¬2) النضر بن شميل بن خرشة التميمي البصري أبو الحسن، أحد أصحاب الخليل، إمام في اللغة والأنساب، صاحب غريب ونحو وفقه وعروض وشعر، ثقة، مات سنة (204 هـ). انظر "البلغة" (ص 233). (¬3) راجع معاني (كلا) في "رسالة (كلا) في الكلام والقرآن" لابن رستم الطبري. وكذا: "مقالة كلا" لابن فارس، و"المغني" (ص 249)، و"الجنى الداني" (ص 577). (¬4) انظرها في "المغني" (ص 313). (¬5) انظرها في "المغني" (ص 315). (¬6) في الأصل المخطوط: (ابن سعد) وصوابه ما ذكر كما في "المغني" (ص 318) و"الجنى الداني" (ص 294). وابن سعدان: هو محمَّد بن سعدان الضرير الكوفي النحوي المقرئ أبو جعفر، قال =

- وأنْ لا تقترن بعاطف - وأنْ يتعاند متعاطفاها. * الرابع (¬1): أن يكون جوابًا مناقضًا لـ (نعم). * الخامس: أنْ تكون غير ذلك، فإنْ كان غير ذلك جملةً اسميّة صدْرُها معرفةٌ أو نكرةٌ ولم تعمل، أو فِعْلًا ماضيًا لفظًا أو تقديرًا وَجَبَ تكرارُها (¬2). هـ. (م) وناهيةً نحو: لا تَقُمْ. وزائدةً للتوكيد نحو: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} [الحديد: 29]. وتكون (إنْ) شرطيةً نحو: إنْ تَقُمْ أقُمْ. ونافيةً نحو: {إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا} [يونس: 68]. (ش) إذا دخلت على الجملة الاسميّة لم تعمل عند سيبويه، والفرّاء، وأجاز المبرّد والكسائي إِعْمالهَا عمل (ليس) وسُمِعَ من أهل العالية (¬3). ¬

_ = ياقوت: ولد سنة (161 هـ) روى عن أبي معاوية الضرير، وعنه عبد الله بن الإِمام أحمد بن حنبل، وكان ثقةً, مات سنة (231 هـ). انظر "البغية" (1/ 111). (¬1) أي من معاني (لا) النافية، ولم يضع المؤلف رقمًا للأول والثاني والثالث. (¬2) راجع في أقسام (لا) النافية والكلام عليها "المغني" (ص 313). (¬3) أهل العالية هم سكان ما فوق نجد إلى أرض تهامة إلى ما وراء مكة. كما في القاموس (ص 1314). قال ابن هشام في المغني: "وسمع من أهل العالية: إنْ أحدٌ خيرًا من أحدٍ إلا بالعافية وإنْ ذلك نافِعَكَ ولا ضارَّك". هـ.

(م) وزائدةً نحو: ما إنْ زيدٌ قائمٌ. (ش) تُزادُ (إنْ) بعد (ما) النافية والموصولة والمصدريَّة و (ألا) (¬1)، قال ابن الحاجب (¬2): "وتزاد بعد (لمّا) الإيجابيّة وزَعَمَ قُطرب (¬3) أنَّها تكون بمعنى (قد) (¬4) هـ. (م) ومُخَفَّفَةً من الثقيلة نحو: {وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ} [هود: 111] (¬5). ونحو: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} في قراءة مَنْ خَفَّفَ الميمَ (¬6). (م) وترد (أنْ) لنَصْبِ المضارع نحو: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 82]. ¬

_ (¬1) الاستفتاحيّة. (¬2) عثمان بن عمر بن الحاجب الدوني الإِمام المشهور نحويٌ فقيه على مذهب مالك، ولد سنة (570 هـ) له مؤلفات معروفة كـ "الكافية" و"الشافية" و"الأمالي" وغيرها. تو في سنة (646 هـ). انظر "البلغة" (ص 143). (¬3) محمَّد بن المستنير الملقب بقطرب، أخذ النحو عن سيبويه وهو الذي لقَّبه لبكوره في الطلب، وكان عالمًا ثقةً روى عنه الجلّة، توفي سنة (260 هـ). راجع "البلغة" (ص 214). (¬4) انظر "المغني" (ص 39)، وفي الجنى الداني (ص 214) جعله من قول الكسائي. (¬5) قرأ هذه الآية بتخفيف (إن) و (لما) كلُّ مِن نافع وابن كثير وشعبة في (إنْ) دون (لما)، وأبي عمرو في (لما) دون (إن). راجع "شرح الهداية" للمهدوي (2/ 353). (¬6) قرأ بتخفيف الميم في (لما) كلٌّ مِن نافع وابن كثير وأبي عمرو والكسائي. راجع "شرح الهداية" (2/ 552).

تنبيه

(ش) (أنْ) اسميّةٌ (¬1): وهي ضمير المتكلِّم (أنْ) بمعنى: أنا فَعلتُ، وفي (أنْتَ) على قول الجمهور أنَّ الضميرَ هو (أنْ) والتاء حرف خطاب. وحرفيةٌ، واختلف في المحل من نحو: "عسى زيدٌ أنْ يقومَ" [فقيل] (¬2): نَصْبٌ على الخبريّة، ونُقل عن المبرّد: على المفعولية، وقيل: على إسقاط الجار، ونَقَل ابن مالك عن سيبويه: أنَّه تضمَّن الفعل معنى (قارب)، وقيل: في موضع رفع على البدليّة، وسدَّت مسدَّ الخبر (¬3). وهي (¬4) في الابتداء بموضع رفع، وتجيء بعد لفظٍ دالٍّ على معنى غير اليقين فتكون في موضع رفع في نحو: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ} [الحديد: 16]. واخْتُلفَ في (أنْ) الموصولة بالماضي والأمر؟ زَعَم ابنُ طاهر أنَّها غير الموصولة بالمضارع واسْتَدَلَّ وأُجيب (¬5). * تنبيهٌ: ذكر بَعضُ الكوفيين وأبو عبيدة (¬6): أنَّ بعضهم يجزم بـ (أنْ)، ونقله ¬

_ (¬1) يريد أنها ترد اسمًا. انظر "المغني" ص (41). (¬2) زيادة اقتضاها السياق. (¬3) انظر مغني اللبيب (ص 43). (¬4) أي (أنْ) الحرفية المصدرية الناصبة تقع في موضعين هذا أحدهما، والثاني قوله: وتجيء بعد لفظ ... إلخ. (¬5) استدل بدليلين وأجاب عنهما ابن هشام في "المغني" (ص 43). (¬6) معمر بن المثنى أبو عبيدة التميمي البصري النحوي اللغوي، قال الجاحظ: لم يكن =

اللحيانيُّ عن بني صُبَاح من بني ضبَّة. وقد يقع الفعل بعدها مرفوعًا كقراءة ابن محيصن (¬1): {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233]، وزعم الكوفيون أنَّ هذه هي المخفَّفة من الثقيلة، وقال البصريون: بل هي الناصبة حُملت على أختها (ما) المصدريَّة (¬2). (م) ومُخَفَّفَةً من الثقيلة نحو: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ} [المزمل: 20]. ومُفَسِّرةً وهي: الواقعة بعد جملة فيها معنى القول دون حروفه. وزائدةً للتوكيد نحو: {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ} [يوسف: 96]. (ش) لزيادتها أربعة مواضع: الأكثر بعد (لمَّا) التوقيتيّة، وبين (لو) وفِعْلِ القسم مذكورًا أو متروكًا، ونادرٌ بين الكاف ومخفوضها، وبعد (إذا). وزَعَم الأخفش (¬3) أنها تُزاد في ¬

_ = في الأرض خارجي ولا جماعيٌّ أعلم بجميع العلوم من أبي عبيدة. توفي سنة (208 هـ). انظر "البلغة" (ص 224). (¬1) لم أجد أحدًا نسب قراءة ضم الميم من (يتم) إلى ابن محيصن بل نسبوا له قراءة (تتم) بتاءين ومعه الحسن وأبو رجاء، وأمَّا القراءة المستشهد بها فقد نسبها أبو حيان في "البحر" (2/ 213) إلى مجاهد، وزاد السمين الحلبي في "الدر" (1/ 569) نسبتها إلى ابن عباس - رضي الله عنهما -. (¬2) راجع "المغني" (ص 46). (¬3) سعيد بن مسعدة المجاشعي الأخفش، سكن البصرة، وقرأ النحو على سيبويه وكان أسنَّ منه، ولم يأخذ عن الخليل، ومن تصانيفه: الأوسط، توفي سنة (215 هـ). راجع البلغة للفيروز آبادي (ص 104).

لطيفة

غير ذلك، وأنَّها تنصب المضارع - كما تجرُّ (مِنْ) و (الباء) الزائدتان (¬1). هـ. (م) وترد (مَنْ) شرطيةً نحو: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ}. واستفهاميّةً: {مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس: 52]. وموصولةً نحو: {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ} [الأنبياء: 82]. ونكرةً موصوفةً نحو: مَررْتُ بمن مُعْجَبٍ لك. (ش) لطيفةٌ: يحتمل الأربعةَ قولُك: مَنْ أكرمني أُكْرمه. هـ (م) وتَردُ (أيّ) شرطيَّةً نحو: {أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110]. واستفهامية: {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا} [التوبة: 124]. (ش) وتَرد موصولةً أي مَبْنيّةً عند سيبويه، وخالفه الكوفيون وجماعةٌ من البصريين؛ لأنهم يرونها معربةً دائمًا. قال الزجاج (¬2): ما تبيّن لي أنَّ سيبويه غلط إلا في مسألتين إحداهما هذه، فإنّه يُسلم أنّها تعرب إذا أفردت. قال الجرمي: "خرجت من البصرة ¬

_ (¬1) تكملة العبارة كما في "المغني" (ص 51): "كما تجر (من) و (الباء) الزائدتان الاسمَ .. إلخ". (¬2) إبراهيم بن السري بن سهل أبو إسحاق أخذ عن ثعلب والمبرد، له معاني القرآن وغير ذلك. توفي سنة (311 هـ). انظر "البلغة" (ص 45).

إلى مكة فلم أسمع أحدًا يقول: لأضربنَّ أيُّهم قائمٌ - بالضمّ - (¬1). هـ. (م) وصفةً نحو: مَررْتُ برَجُلٍ أيِّ رَجُلٍ. وَوُصْلَةً إلى نداء ما فيه (أن) نحو: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ} [الانفطار: 6]. (ش) زعم الأخفش: أنَّ (أي) هذه هي الموصولة حذف صَدْرُ صلتها، وهو العائد، والمعنى: يا مَنْ هو الرَجُلُ، ورُدَّ (¬2). هـ (م) وترد (ما) اسمًا موصولًا نحو: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ} [النحل: 96]. وشرطًا نحو: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} [البقرة: 197]. (ش) هي نوعان: غير زمانية، وزمانية، فغير الزمانية ما ذُكر، والزمانية نحو: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} [التوبة: 7]، أثبته الفارسي، وأَبَوا البقاءِ وشَامة (¬3)، وابنا مالك وبرّي (¬4). هـ (م) واستفهاميّةً نحو: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه: 17]. ¬

_ (¬1) راجع المسألة في "المغني" (ص 107). (¬2) قال ابن هشام في "المغني" (ص 109): "ورُدَّ بأنّه ليس لنا عائدٌ يجب حذفه ولا موصول التزم كون صلته جملة اسميّة .. ". (¬3) عبد الرحمن بن إسماعيل الدمشقي المشهور بأبي شامة، ولد سنة (599 هـ). وقرأ القراءات على السخاوي، له مؤلفات عديدة منها: "نظم المفصل" للزمخشري. توفي سنة (665 هـ). راجع "البغية" (2/ 77). (¬4) عبد الله بن بري المقدسي المصري النحوي اللغوي كان قيمًا بالنحو واللغة والشواهد. توفي سنة (582 هـ). راجع "البغية" (2/ 34).

وتَعجُّبًا نحو: ما أَحْسَنَ زيدًا. ونكرةً موصوفةً نحو: مررتُ بما مُعْجَبٍ لك. ومعرفةً تامّةً نحو: {فَنِعِمَّا هِيَ} [البقرة: 271]، أي: فنِعْمَ الشيءُ. (ش) نَقَله ابنُ خروَف عن سيبويه، وهي إمَّا عامَّةٌ مقدّرة بالشيء، وهي التي لم يتقدمها اسمٌ نكرة هي وعاملها صفة له في المعنى. وخاصةٌ: وهي التي يتقدّمها ذلك، ويُقدَّر من لفظِ ذلك الاسم نحو: دققته دَقًّا نِعمَّا. هـ. (م) وحَرْفًا فتكون نافيةً نحو: {مَا هَذَا بَشَرًا} [يوسف: 31]. (ش) مَدْلولُها تارةً يكون جملة فعليّة فلا تعمل فيه اتِّفاقًا وتارةً يكون جملةً اسميّة فتعمل بشرائط معروفة عند الحجازيين، والتهاميين والنجديين (¬1)، وندر تركيبها مع النكرة تشبيهًا لها بـ (لا)، وإذا نَفَتِ المضارعَ تَخَلَّصَ عند الجمهور للحال، وردَّ عليهم ابن مالك بنحو: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ} [يونس: 15]، وأجيب: بأنَّ شرط تخلّصه للحال انتفاء قرينة (¬2) هـ. (م) ومَصْدريَّةً نحو: {وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} [آل عمران: 118]. (ش) هذه غير زمانيةٍ، وزمانية (¬3) أي: نائبةٌ عن ظرف زمان في الدلالة ¬

_ (¬1) راجع "الجنى الداني" (ص 223)، و"همع الهوامع" (2/ 110). (¬2) في "المغني": "انتفاء قرينة خلافِه"، وانظر المسألة فيه (ص 399). (¬3) أي: نوعها الآخر أن تكون زمانية.

لا بذاتها، فلو دلَّتْ بذاتها كانت اسمًا لا حرفًا - كما صار إليه ابن السكيت (¬1) ومتابعوه - (¬2). وقلنا: زمانية ولم نَقُل: ظرفيّة ليدخل نحو: {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ} [البقرة: 20]. ولا تشارك (ما) في الدلالة (¬3) على الزمان (أنْ) خلافًا لابن جني ومعه الزمخشري. هـ (م) وكافَّةً نحو: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النساء: 171]. (ش) وتُسمَّى المتلوة بفعل المهيئة، وزعم ابن درستويه (¬4) وبعض الكوفيين أنَّ (ما) مع هذه الحروف اسمٌ مُبْهم بمنزلة ضمير الشأن في التفخيم والإبهام، وأنَّ الجملة بعده مُفسِّرة له ومخبر بها عنه. هـ. (م) وزائدةً للتوكيد نحو: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ} [آل عمران: 159]. (ش) {وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ} [يوسف: 80] (ما) إمَّا زائدةٌ ¬

_ (¬1) يعقوب بن إسحاق بن السكيت كان عالمًا بنحو الكوفيين، وعلم القرآن واللغة والشعر، راوية ثقة، له تصانيف كثيرة، توفي سنة (244 هـ). راجع "البغية"، (2/ 349). (¬2) راجع "المغني" (ص 400). (¬3) في "المغني": "في النيابة عن الزمان ... " انظر "المغني" (ص 401). (¬4) عبد الله بن جعفر بن درستويه الفارسي النحوي، أخذ عن المبرد، وكان شديد الانتصار للبصريين، وله مؤلفات منها: "الإرشاد، و"شرح فصيح ثعلب" و"شرح المفضليات" توفي سنة (347 هـ). راجع "البلغة" (ص 121).

فـ (مِنْ) مُتعلِّقةٌ بـ (فرطتم) وإمّا مصدريَّةٌ، فقيل: موضعها مع صلتها رفع بالابتداء، وخبر (مِنْ قبل)، ورُدَّ بأنَّ الغاياتِ لا تقع أخبارًا ولا صلاتٍ ولا صفاتٍ ولا أحوالًا نصَّ على ذلك سيبويه (¬1) وجماعةٌ من المحققين. هـ (م) "فهذا مع التوفيق كافٍ مُحصّلا" (¬2)، والحمد لله رَبِّ العالمين، وصلّى الله وسلّم على سيّدنا محمَّد نبيّه الأميّ وآله وصحابته. تمَّت ... ¬

_ (¬1) انظر "كتاب سيبويه" (3/ 285)، و"المغني" (ص 418). (¬2) هذا مقتبس من متن الشاطبية في علم القراءات، وهو عجز بيتٍ، وصدره: * فأضعفهنّ القافُ كلٌّ يَعُدُّها *

الرسالة الرابعة نظم قواعد الإعراب الصغرى

الرسالة الرابعة نظم قواعد الإعراب الصغرى

بسم الله الرحمن الرحيم 1 - يَسْتَمنحُ الرحمنَ خيرًا عَبْدُهُ (¬1) ... عونًا وتوفيقًا يدوم سَعْدُهُ 2 - مُسْتفْتِحًا مولاهُ أَبْواب النِّعَمْ ... كما يرجِّى مِنْه ترتيجَ النِّقَمْ (¬2) 2 - الحمدُ للَّهِ وصلّى اللَّهُ ... مُسَلِّمًا على مَنِ اصطفاهُ 4 - محُمدٍ والآلِ والأصحابِ ... وهذه قَواعِدُ الإعْرابِ 5 - لابنِ هشامٍ وَهِيَ الصُّغْرى كما ... تَراه قَدْ رُمْتُ لها أنْ أنْظِما 6 - وزِدتُها لطائفَ من شَرْحها ... لابن جَماعةٍ لأَجْلِ نُجْحِها 7 - وليس لي في نَظْمها من فَضْلِ ... لأنَّ حكم النَّظْم حُكْمُ النقْلِ 8 - وأستعينُ اللَّهَ ربَّ العالمينْ ... على بَيانِ نَظْمها للقارئينْ الباب الأول 9 - أَبْوابُها ثَلاثةٌ فالأوّلُ ... تَأْتيكَ فيه بالبيانِ الجُمَلُ ¬

_ (¬1) الضمير - كما هو ظاهر - عائدٌ على لفظ الجلالة (الرحمن) وهي إشارة لطيفةٌ من الناظم إلى ذكر اسمه (عبد الرحمن). (¬2) الترتيج مصدر للفعل (رَتَج) قال ابن فارس في المقاييس (2/ 485): "رَتَج الراء والتاء والجيم: أصل واحد وهو: يدلُّ على إغلاق وضيق ... إلخ". والنقم - كعنب - جمع نقمة - كنعمة - ومعناها: المكافأة بالعقوبة - كما في القاموس -.

المسألة الأولى 10 - فيه مسائلٌ (¬1) فَما لَفْظٌ أفادْ ... فَهْوَ كَلامٌ وهو جُمْلةٌ (¬2) أفادْ 11 - إِنْ صُدِّرَتْ بالاسمِ فالإسْميَّه ... تكونُ أو بالفِعْلِ فالْفِعْليَّه 12 - كُلُّ كَلامٍ جُمْلةٌ لا عَكْسُ ... وهو الصَّحيحُ ليسَ فيه لَبْسُ (¬3) 13 - إنْ بُنِيَتْ على سِواها الصُّغْرى ... وما تكونُ ضِمْنَها فالكُبْرى 14 - فَعَامِرٌ قام أبوه كُبْرى ... وقام منها وأبوه صُغْرى 15 - والجُمَلُ التي لها مَحَلُّ ... سَبْعٌ أَتَت وعَقْدَها نَحُلُّ 16 - أَوَّلُها ما خَبَرًا قد وَقَعتْ ... مَوْضِعُها رَفْعٌ وكان نَصبَتْ (¬4) 17 - كعَامِرٌ أو أنّه ذا عَمُّهُ ... أو كانَ أو كادَ يُصَلِّي أُمَّهُ (¬5) 18 - وزَيْدٌ اضْربْهُ وعَمْروٌ هَلْ أَتى ... فَصِحَّةُ الرَّفْعِ هُنا قَدْ أُثْبِتَا (¬6) 19 - والحالُ والمفعولُ (¬7) جُملةً نُصِبْ ... كـ قال زيدٌ أو خذوا قلبي يَجِبْ ¬

_ (¬1) "أَرْبع" [المؤلف]: (¬2) كان بالأصل المخطوط: "فجملةٌ وهو كلام قد أفاد" فضرب عليها الناظم وجعل مكانها ما ذكر. (¬3) كان بالأصل: "وهو الصحيح افهم عداك النحسُ" فضرب عليه. (¬4) كتب الناظم: "وكان فتحت" وجعل فوقها: "نصبت" كأنه يؤثرها على الأولى. (¬5) فعل أمر من (أمَّ) الشيء: قصده وهو من باب (قتل) كما في المصباح. (¬6) يشير إلى مسألة خلافية: وهي وقوع الخبر جملة إنشائية. راجعها في المغني (ص 536)، وشرح القواعد للكافيجي (ص 84). (¬7) وضع الناظم أمام كلمتي (الحال - والمفعول) رقمي (2 - 3) ومراده الترقيم للجمل التي لها محل.

20 - فإنْ تَنُبْ عَنْ فاعلٍ فالرَّفْعُ ... مَحَلُّها كقِيلَ زيدٌ يدعو 21 - والقوُل قَدْ يأْتِي بِمعْنى الظَّنِّ ... في نَحْوِ هل تقولُ زيدًا يُغْني 22 - إنّيَ أَدْعو بَعْد بَدْءِ قولي ... ليسَتْ بمفعولٍ حُكِيْ بالقَولِ (¬1) 23 - وما إليها قد (¬2) أَضفَتَ الجرُّ (¬3) ... محَلُّها كيوم قام عَمْروُ 24 - وخُذْ ثمانًا قَدْ تُضَافُ للجُمَلْ ... حَيثُ لدُنْ أسما الزَّمانِ فَقُبِلْ 25 - وذي مِن اذْهَبَنْ بذي تَسلّمُ (¬4) ... فـ ذي كصاحبٍ أُضِيفَتْ فافْهموا 26 - وقيل بل ذي كالذي فهي صِلَهْ ... فلا محَلَّ بل تكونُ مُهْمَلهْ (¬5) 27 - وريْثَ وابنُ مالكٍ فيها وفي ... لدُنْ له مقالتان فَاقْتَفِ 28 - إِحْداهُما الفِعْلُ على إضْمار أنْ ... بَعْدهُما وذَاك زَعْمٌ فافْتَطِنْ (¬6) 29 - وآيةٌ مُرادِفُ العَلَامَهْ ... في قَولِ سيبُويهْ ذُرَى الفَخَامه (¬7) ¬

_ (¬1) راجع المسألة في المغني (ص 541). (¬2) وضع الناظم فوق كلمةِ (قد) رقم (4) إشارة إلى التعداد للجمل. (¬3) بالرفع - كما ضبطها الناظم - على أنه مبتدأ، وخبره كلمة (محلها) فتأمل. (¬4) وضع الناظم شدة فوق اللام ليتزن البيت، وأصل المثال بالتخفيف (تَسْلَمُ). (¬5) راجع المسألة في المغني (ص 549). (¬6) انظر قول ابن مالك في شرحه الكافية (2/ 948)، والمغني (ص 551). ولم يذكر الناظم المقالة الثانية - وهي خاصة بـ (ريث) - أنها عوملت معاملة أسماء الزمان في الإضافة إلى الجملة - كما عوملت المصادر معاملة أسماء الزمان في التوقيت. كذا في المغني. (¬7) انظر قول سيبويه في الكتاب (3/ 117)، والتسهيل بشرح المصنف (3/ 253).

30 - سابعُها قَولٌ وخُذْ ثامِنَها ... قائلَ فاحْفَظْها وكُنْ مُتْقِنَها (¬1) 31 - ثُمَّ جوابُ الشرط جازمًا (¬2) إذا ... تُقْرنْ بفاءٍ أو فُجاءةٍ إذا 32 - خامسةٌ كمَنْ يَقُمْ فَهُوْ رُفعْ ... وإنْ تَقُلْ إذا عليٌّ مُسْتَمِعْ (¬3) 33 - وإنّما كان محَلًّا جَزْمُها ... إذْ لم يكنْ يقبل لفظًا صدْرُها 34 - إذْ لم تكنْ بِقابِلٍ مُصَدَّرَهْ ... والفاءُ كالمذكُورةِ المُقَدَّرهْ 35 - سَادِسَةٌ لمُفْردٍ مَا تَابِعَهْ ... أو جملةٍ لها مَحَلٌّ سَابِعَهْ (¬4) 36 - كاليومَ يومٌ زَانَنَا وذَا الفتى ... أَبَى أبوه وأخوه قد أتى 37 - وتابعُ المُفْردِ مَنْعُوتٌ بها ... مَعْطُوفةٌ مُبْدَلَةٌ فَانْتَبِها 38 - تابعةُ الجُمْلَةِ في التَّوابِعِ ... تكونُ لا النَّعْتُ فَحَقِّقْ واتْبعِ ¬

_ (¬1) كتب الناظم أولاً: كذاك بينا وتليها بينما ... فهي ثمانٍ قد أتتك فاعلما ثم ضرب عليه ووضعِ رقمًا بتخريجٍ أسفل الصفحة أبدل به البيتَ المثبت. ومسألة إضافة (قول وقائل) انظر فيها المغني (ص 551). (¬2) وضع الناظم رقم (5) فوق كلمة (جازمًا) إشارة إلى التعداد السابق. و (إذا) الأولى غير (إذا) الثانية في المعنى فلا إيطاء. (¬3) هكذا وجدت البيت، وقوله: خامسة أي الجملة الخامسة من الجمل التي لها محل من الإعراب. (¬4) قوله: تابعة - بكسر الباء - على أنه اسم فاعل و (ما) موصولة، و (لمفرد): جار ومجرور متعلق باسم الفاعل، و (جملة) بالجر معطوف على (لمفرد)، وتقدير البيت: التي هي تابعة لمفرد سادسة، والتابعة لجملة لها محل سابعة.

39 - وصاحِبُ المِفْتَاحِ في التَّعَجُّبِ ... أَدْخَلَها فَلِلْعُلومِ انْتَدِبِ 40 - وشَرْطُ إِبْدالٍ وَفَاءُ الثَّانيه ... أَوْ هِيَ كالأَوْفَى ومِثْلُ الوافِيَهْ 41 - ثالثةُ المسَائِلِ ابْحَثْ عن جُمَلْ ... سَبْعٍ من الإعراب لا لها مَحَلْ (¬1) 42 - أَوَّلُها مُسْتَأْنَفٌ (¬2) بها كجا ... زَيدٌ وإنَّ خالدًا لذو حِجَا 43 - وإنْ يَسِرْ زيدٌ أَسيرُ هل أسيرْ ... مُسْتَأنفٌ أو لا خلافٌ مُسْتَنيرْ (¬3) 44 - فسيبويه أَنَّه مؤخَّرُ ... أمَّا المبرّد ففاءً يُضْمِرُ 45 - وَيظْهرُ الخُلْفُ إذا تُتْبِعُهُ ... هَلْ تَجْزِمُ التَّابعَ أو تَرْفَعُهُ 46 - ثانيةٌ (¬4) ما صِلةً قَدْ وقَعَتْ ... نَحْو التي (¬5) قام أبوها صُرِعَتْ 47 - آباءُ عَبَّاس وبَكْرٍ وعَلي ... والفَتْحِ (¬6) لا مَصْدَرْ لـ كان يَنْجلي 48 - ناقِصةً (¬7) ثَالِثةٌ مُعْتَرِضَهْ ... كخالدٌ - وهو همامٌ - اعرضهْ (¬8) ¬

_ (¬1) لو قال: "ما لها محل" لكان أوضح. (¬2) وضع الناظم رقم (1) فوق هذه الكلمة بيان منه لتعداد الجمل التي لا محل لها من الإعراب. (¬3) راجع المغني (ص 505). (¬4) وضع الناظم ههنا رقم (2) إشارة للتعداد المذكور. (¬5) في الأصل المخطوط: "الذي" ولعله سبق قلم. (¬6) هم على ترتيب الناظم: أبو العباس المبرد، وأبو بكر ابن السراج، وأبو علي الفارسي، وأبو الفتح ابن جني. وقد ترجمت لهم في مكان غير هذا. (¬7) بالنصب على أنه حال من (لكان)، أو مفعول لفعل محذوف تقديره: أعني أو أخصّ وهي على كلٍّ متعلقة بالبيت السابق. (¬8) هكذا وجدتها بالأصل، ولعلها فعل رباعي بقطع الهمزة.

49 - أبو عليٍّ (¬1) اعْتَرضْ بِوَاحِدَه ... لا غَيرُ خالفوه فاجْنِ الفَائِدهْ 50 - عَنْ هذه حَاليَّةً قدْ مَازوا ... فَقَرْنُ ذي بالفاءِ قَدْ أَجازوا (¬2) 51 - وجَائِزٌ تَصْديرُها بما يَدُلْ ... [أَنَّهْ] (¬3) على استقبالٍ افْهَمْ يا رَجُلْ 52 - وغَيرُ خَبَريَّةٍ تَأْتي بها ... وقَرْنُها بالواو مَعْ تَصْديرها 53 - أيْ بِمُضَارعٍ يكونُ مُثْبَتَا ... ولا كذا حَاليّةٌ فأثْبِتَا (¬4) 54 - وما بِها فَسَّرْتَ وهي الرابِعَهْ ... كاذْكُرْ كَلامي أنا أَفْدي رَابِعَهْ 55 - هِيْ فَضْلةٌ كاشِفَةٌ لِمَا تَلِيْ ... حَقِيقةً له فَحقِّقْ وابْتَلي 56 - قال الشَّلوبينُ بَلى لها مَحَلْ ... بِحَسْبِ ماتُفَسِّرْ إِنْ له مَحَلْ 57 - خَامِسةٌ (¬5) جوابُ قسم ترى ... كـ وَالْعَليْ لأَضْرَبنَّ جَعْفَرا 58 - وثَعْلَبٌ زَيدٌ لأَضْرِبَنْ مَنَعْ ... لأَنَّه تناقضٌ فيه وَقَعْ 59 - لأنَّ مُخْبَرًا بها لها مَحَلْ ... وليس للجواب للقَسَمْ (¬6) مَحَلْ ¬

_ (¬1) أي: الفارسي. (¬2) قوله: "عن هذه" أي المعترضة، ومازوا: أي ميّزوا وفرَّقوا، وكان مكان هذا البيت: وميِّزَنّهاعن الحال فإنْ ... هذي بفًا لجائزٌ أنْ تقترنْ فضرب عليه الناظم. (¬3) في الأصل: "أي" ولا يتزن بها البيت. (¬4) راجع الفرق بين الجملة الاعتراضية والجملة الحالية في المغني (ص 516). (¬5) وضع الناظم هنا رقم (5) إشارة للتعداد المذكور سابقًا. (¬6) هكذا وجدتها بالأصل، وراجع قول ثعلب في المغني (ص 529).

60 - سادسةٌ جواب (¬1) شَرْطٍ ما جَزَمْ ... كـ لو أَردتُ لكتبْتُ بالقَلَمْ 61 - كذا جَوابُ جَازمٍ لم يَقْترنْ ... بالفا ولولا كيفَ لَمَّا فافْقَهَنْ 62 - وَقُمْتُ ثُمَّ جاء زيدٌ (¬2) سابِعَهْ ... إذْ لا محَلَّ لِلَّتي هِيْ تابِعَهْ 63 - مسألةٌ (¬3) رابعةٌ للجُمَلِ ... الخَبَريَّةِ لها بِفَصْلِ 64 - فَبْعدَ محضِ النكراتِ قُلْ صفَاتْ ... لصَنْعةٍ كـ مَنْ فتًى يَهْوى الفَتاتْ 65 - وإنْ تَلتْ معارفًا محَضِيَّهْ ... فَهِيَ أحوالٌ تُرى مَرْضِيَّهْ 66 - أو بَعْدَ غير المحْضِ كان منهما ... فاحْمِلْ على ما شئتَ مِنْ حُكْمِهما 67 - والثانِ (¬4) مَثَلُ الحمار يَحْمِلُ ... كـ جاء عبد صالحٌ يهرول 68 - بابٌ به الظَّرفُ وما قَدْ عَادلَه (¬5) ... يأتي وأربعًا تَرى مَسَائِلَهْ 69 - أَحَدُها التعليق بالفِعْل ومَا ... مَعْناهُ فيه الْزَمْ لكلٍّ منهما 70 - أو ما بمُشْبهٍ لِفْعلٍ أُوِّلا ... ذَكَر في المغني وثَمَّ مَثَّلا (¬6) ¬

_ (¬1) كتب فوق هذه الكلمة رقم (6) إشارة للتعداد السابق، و (ما) في قوله: "ما جزم" نافية. (¬2) كتب فوق هذه الكلمة رقم (7) إشارة إلى الجملة السابعة والأخيرة من الجمل التي لا محل لها من الإعراب، وهي الجملة التابعة لما لا محل له من الإعراب. (¬3) وضع الناظم هنا رقم (4) إشارة منه إلى المسألة الرابعة وقد عُقِد لها فصلٌ وهي الجمل الخبرية بعد النكرات والمعارف. (¬4) أي: ما احتمل الصفة والحال، وذلك مجيء الجملة بعد المعرفة غير المحضة نحو: الحمار يحمل، ومجيئُها بعد النكرة غير المحضة نحو: جاء عبد صالح يهرول. (¬5) وهو الجار والمجرور. (¬6) راجع المغني (ص 567).

71 - وهو الذي من قَبْلُ في السما إلهْ ... سبحانه جَلَّ وفي الأرض إلهْ 72 - وذَهَب ابْنَا طَاهرٍ خَروفِ ... لعدم التقديرِ مِثْلَ الكوفي 73 - في نحوِ زيدٌ عندي أو في الدارِ ... والمبتدا النَّاصِبُ خُذْ إخباري 74 - قالا وإنَّ المبتدا للخبرِ ... يَرْفَعُ إنْ عَينًا له فاخْتَبِرِ 75 - وأَنَّه إن كانَ غيرًا يَنْصِبُ ... وأنَّ ذا لسيبويهِ مَذْهَبُ 76 - وحَرَّرَ الكوفيُّ قولاً ثاني ... في نائبٍ وأُبْطِلَ القولانِ (¬1) 77 - وليس إلا ليس في النواقصِ ... لِحَدَثٍ ليست تدلُّ فَاخْصُصِ 78 - هذا الصَّحيحُ والخلاف ضُعِّفَا (¬2) ... فاحْفَظْ وكن ممَّنْ تَناهى واقْتَفى 79 - ونِعْمَ قال الفارسيْ فيها نَعَمْ ... يُعلَّقانِ وابنُ مَالكِ العَدَمْ (¬3) 80 - بِحَرفِ مَعْنًى قال في النِّيابةِ ... أبو عليٍّ وأبو الفتح الفَتِي (¬4) 81 - والبعْضُ أطْلَقوا بأنْ يُعَلَّقَا ... والبعضُ قالوا لا يجوز مُطْلقا 82 - وكاف تَشْبِيهٍ ولولا ولَعَلْ ... وزائدٌ عن التَّعَلُّقِ انْفَصَلْ 83 - فأشبه الزائدَ لولا ولعَلْ ... واحذفهما لِشَبَهٍ قَدْرَ العِلَل (¬5) ¬

_ (¬1) راجع المغني (ص 566). (¬2) راجع المغني (ص 570). (¬3) أي: مذهب الفارسي جواز تعلّق الجار والمجرور والظرف بالفعل الجامد (نِعْمَ)، وأمَّا ابن مالك فمنَعه وأباه. راجع المغني (ص 571). (¬4) راجع المغني (ص 572). (¬5) هكذا بالأصل ولم أدر ما وجهُها؟

84 - فإنَّ ما بَعْدهما يَرْتَفِعُ ... بالابتدا غَيْرُهُما يَمْتَنِعُ 85 - ثُمَّ هُما بَعْد المعارفِ العُلَى ... والنَّكراتِ يُشْبِهَانِ الجُمَلا 86 - وعُلِّقَ الواقعُ حالًا أو خَبَرْ ... أو صِفَةً أو صِلَةً بِإسْتَقَرْ 87 - أو كَائنٍ كذا إنِ اسمًا ظاهرًا ... قد رَفَعَا ذا خَامِسٌ قد ظَهَرا 88 - كذا إذا (¬1) نَسْتَعْملُ التَّعَلُّقَا ... حَذْفًا كحِينَئذْ لأمرٍ سَبَقَا 89 - والآن أيْ كانَ [كذاك] (¬2) حِينَئِذْ ... وإِسْمَعِ الْآنَ فَحقِّقْها وخُذْ 90 - سابِعُها (¬3) أن يُحْذَفَ المُتْعَلَّقُ ... بِشَرط تفسيرٍ كما قَدْ حَقَّقُوا 91 - يَومُ الخَميسِ صُمْتُ فيه ذا النُّهى ... وقَسَمٌ بِغَيرِ با ثامنُها (¬4) 92 - لكنَّه في ثامنٍ ورابعِ ... ليس سِوَى استقرَّ قدَّروا فَعِ 93 - وقدَّروا ما قَدَّروهُ إِلَّا ... أَنَّ ابنَ جنّي قال فيهِ قولا 94 - وذاك أنَّ الظرفَ إنْ كان خَبَرْ ... يجوز إظهارٌ وفي المغني (¬5) نَظَرْ ¬

_ (¬1) وضع الناظم هنا رقم (6) إشارة إلى تعداد الأشياء الثمانية التي يجب فيها تعلق الجار والمجرور والظرف بمحذوف، وقد ذكر خمسة منها وسيكملها، وقوله في البيت: "كحينئذ" بسكون الذال لأجل الوزن. (¬2) في الأصل: "ذاك" ولا يتزن إلا إذا أضفنا الكاف. (¬3) وضع الناظم هنا رقم (7)، وقوله في البيت: "المتعلق" الأنسب "المعَلَّقُ" بحذف التاء حتى يتزن البيت. (¬4) وضع الناظم هنا رقم (8)، وقوله: "ذا النهى" منادى حذفت أداته والتقدير: "يا ذا النهى"، وراجع المواضع الثمانية بالتفصيل في المغني (ص 581). (¬5) راجع المغني (ص 582).

95 - قال (¬1) وعندي أَنَّه إذا حُذِفْ ... ثُمَّ ضميرُه لما فيهِ ظَرُفْ 96 - عَاد فليسَ أَنْ يَبِينَ جَائزا ... لأنَّه قَدْ صار أَصْلاً جائزا 97 - ولا يُقَدَّرْ (¬2) في الصِّفَاتِ مُسْتَقِرْ ... ثُمَّ لمبتدا يُقَدَّرُ الخَبَرْ 98 - في نَحوِ جَاءني الذي في الدار أَوْ ... عندك لِاطِّرادِ هذا قَدْ رَأَوْا 99 - ورَجُلٌ في الدارِ أو عندي فَلَهْ ... أَوجِبْ كما يجوز يأتيني فَلَهْ 100 - ولْيمتَنعْ عَبْدٌ مُكمَّلٌ فَلهْ ... دَراهِمٌ ونادرٌ مَنْ نَقَلَهْ (¬3) 101 - واختلفوا في الصفةِ الحالِ الخَبرْ ... والأكْثرون قدَّروا الفِعْلَ ذُكِرْ (¬4) 102 - لأنَّه في العَمل الأَصْلُ ومَنْ ... خَالفَ قال الاصل الافرادُ اعْلَمَنْ 103 - وفِعْلُها لا بُدَّ من تقديرهِ ... بالوصفِ فافْهَمْ مُقْتَضَى تحْبِيرهِ 104 - وآخرون جَوَّزوا ورَجَّحَا ... بَعْضُهُمُ والبعْضُ لا مُرَجِّحَا 105 - ومَا يكونُ مِنْهما مُعْتَمِدَا ... أَعْني على استفهامٍ او نَفْيٍ بَدا 106 - أو صفةً أو صِلَةً حالَ خَبَرْ ... فَرَفْعُهُ الفاعِلَ جَازيا أَبَرْ 107 - قال وفي المرفوع ذا أَقْوالُ ... ثَلاثةٌ فالبعْضُ مِنْهم قَالوا ¬

_ (¬1) أي: ابن يعيش في ردّه على ابن جني، كما في شرح المفصل (1/ 90)، وقد يوهم النظم أن الكلام لابن هشام، وليس بصحيح. راجع المغني (ص 582) وحاشية الدسوقي عليه (2/ 97). (¬2) بسكون الراء. (¬3) راجع المغني (ص 583). (¬4) انظر المسألة في المغني (ص 584).

108 - مُبْتَدأٌ أو فَاعِلٌ ورجَّحُوا ... والثانِ لابن مالكٍ مُرَجَّحُ 109 - والبعْضُ أوجَبْ أنْ يكونَ فَاعلا ... واخْتَلفوا مِنْ بَعْد ذاكَ هؤلا 110 - قالوا هَلِ العاملُ بالنِّيَابَةِ ... يَعْملُ عن فِعْلٍ أَوِ الأصالةِ 111 - واخْتِيرَ ثَانٍ (¬1) فإذا لم يَعْتَمِدْ (¬2) ... فَجوَّزَ الأخفشُ والكوفيْ انْتُقِدْ 112 - وثَالِثُ الأبواب (¬3) فيما يُذْكَرُ ... في أدواتٍ دَوْرُهَا قد يَكثُرُ 113 - فالواوُ (¬4) حَرْفٌ مُطْلَقُ الجمْعِ تُفِيدْ ... والفاءُ تَعْقِيبًا (¬5) وتَرْتيبًا تُفِيدْ 114 - وثُمَّ (¬6) للتَّرتيبِ ثُمَّ المُهْلَهْ ... والخُلْفُ في هذيْنِ عُدَّ غَفْلَهْ (¬7) 115 - وقَدْ (¬8) نُريدُ الحرف للتَّوقُّعِ ... كذا لِتَحْقيقٍ وتقليلٍ فَعِ 116 - مرادهم تجيْ لهذا تَارهْ ... وذاكَ أُخْرى فافْهَمِ الإشَارَهْ (¬9) ¬

_ (¬1) كما في المغني وذكر دليلين على الاختيار. انظر (ص 579). (¬2) قال ابن هشام: "وإن لم يعتمد الظرف أو المجرور نحو "في الدار أو عندك زيدٌ" فالجمهور يوجبون الابتداء، والأخفش والكوفيون يجيزون الوجهين" ا. هـ من المغني (ص 579). (¬3) وضع الناظم هنا رقم (3) إشارة إلى الباب الثالث من كتاب القواعد. (¬4) جعل هنا رقم (1) بداية لتعداد حروف المعاني، وسيستمر هذا في النظم كله. (¬5) وضع رقم (2). (¬6) وضع الناظم هنا رقم (3). (¬7) راجع الخلاف في المغني (ص 159)، والجنى الداني للمرادي (ص 426). (¬8) وضع هنا رقم (4)، وقوله (نريد) هكذا بالنون ويحتمل أن يكون (بالتاء). (¬9) يشير إلى ما في مختصر شرح ابن جماعة على القواعد الصغرى حيث قال: تنبيه: لا تجيء (قد) لمعانيها الثلاثة جملةً وإنما مراده أنها تجيء تارة لهذا وتارة لهذا وكذلك غيرها مما سيذكر. هـ

117 - والسِّينُ (¬1) مَعْ سَوفَ لِلاسْتقْبالِ ... حَرْفَانِ سِيَّانِ على مَقالِ 118 - لكنَّه رُجِّحَ كونُ المُدَّةِ ... أَضْيَقَ من سَوفَ مع السين اثْبتِ (¬2) 119 - لم حَرْفُ جَزْمٍ ثم زِدْ بِهِ نَفِي ... مُضَارعٍ وقَلْبُهُ ماضٍ قُفِي 120 - وَزِيدَ في لمَّا (¬3) اتِّصَالُ نَفْيهِ ... كذا تَوقُّعُ الثبوتِ انْتَبِهِ 121 - وَحَرْفُ نَصْبٍ لنْ (¬4) وقيل في إِذَنْ ... حَرفُ جَوابٍ وجَزاءٍ فافْقَهَنْ 122 - ثُمَّ هِيَ اسْمٌ ويُقَالُ حَرْفُ ... وهي إذا أعني التي هي ظَرْفُ 123 - أصْلٌ إذا كان كذا كان كذا ... فَعُوِّضَ التنوينُ عن حَذْفٍ خُذَا 124 - وانْصِبْ بها بشرط الاسْتقبالِ ... تَصْديرِها وشَرطِ الاتِّصالِ 125 - أو فُصِلَتْ بقَسَمٍ أو لا التي ... تَنْفِي فلا يُمْنَعُ فافْهَمْ لَمْحتي 126 - وأَلْحَق ابنُ بَابَشَاذَ يا الدُّعُا (¬5) ... أو النِّداءَ وابنُ عُصْفورِ ادَّعى ¬

_ (¬1) وضع رقم (5) فوق السين، ورقم (6) فوق (سوف) إشارة للتعداد المذكور. (¬2) هذا الترجيح مخالف لما في المغني، ومخالف لما في مختصر شرح ابن جماعة الذي هو أصل هذه المنظومة، قال ابن هشام في الحديث عن (السين): "وليس مقتطعًا من (سوف) خلافًا للكوفيين، ولا مدة الاستقبال معه أضيق منها مع سوف خلافًا للبصريين". هـ. (¬3) جعل هنا رقم (8) بينما لم يرقم أداة (لم) بسبعة. (¬4) وضع هنا رقم (9) وعلى (إذن) رقم (10). (¬5) الذي في المغني وغيره من كتب النحو أن ابن باب شاذ أجاز الفصل بالنداء، والدعاء نحو: إذن - يغفر الله لك - يُدخلَكَ الجنة، وأمَّا (يا) الدعاء فلم أجده، كما نبهت عليه في مختصر شرح ابن جماعة على القواعد من هذه المجموعة.

127 - الفَصْلَ بالظَّرفِ مِثَالُه إذَنْ ... - هنا - أُقيمَ في جوابٍ فافْهَمَنْ 128 - والفَصْلُ بالمعْمولِ للفِعْلِ هِشَامْ ... والأرجْحُ الرَّفْعُ لديهِ يا غُلامْ 129 - أمَّا الكِسَائيُّ فَثَمَّ رَجَّحَا ... النَّصْبَ والشَّرحُ (¬1) بهذا صَرَّحا 130 - وفي إذا (¬2) ظَرْفٌ لما يُسْتَقْبَلُ ... مِنَ الزَّمانِ واسْمُ شَرْطٍ فاعْقِلُوا 131 - خَافِضُ شَرْطٍ بالجَوابِ مُنْتَصِبْ ... لَمَّا (¬3) وجودٌ لوجودٍ فانْتَدِبْ 132 - لو (¬4) يَقْتضي امتناعَ مَا يَليهِ ... قُلْ فيه واسْتِلْزامَه تَالِيهِ 133 - لولا (¬5) امتناعٌ لوجودٍ بَعْدها ... مُرْتَفِعٌ بالابتداءِ انْتَبِها 134 - وفي نَعمْ (¬6) حَرْفُ وَعِيدٍ ثُمَّ تَصْـ ... ـدِيقٍ وَوَعْدٍ ثُمَّ إعلامٍ تَنُصْ 135 - وفي بلى (¬7) إِيجابُ ما قَدِ انْتَفى ... وقيل بَلْ أَصْلٌ فَزَادُوا الأَلِفا ¬

_ (¬1) يعني: شرح ابن جماعة على القواعد الصغرى. وانظر أيضًا المغني (ص 32). (¬2) وضع الناظم رقم (11) فوقها. (¬3) وضع هنا رقم (12)، وقد قدَّم (لما) على (لو) الآتية خلافًا لما في أصله - وهو شرح ابن جماعة -. (¬4) وضع هنا رقم (13). (¬5) وضع هنا رقم (14). (¬6) وضع هنا رقم (15)، واعلم أني لم أجد مَن ذكر معنى (الوعيد) في (نعم) إلا ابن هشام في هذه القواعد الصغرى، أمَّا قواعد الإعراب له فلم يذكر هذا المعنى فيها، ولا في شيء من شروحها، ولا المغني، ولا الجنى الداني فلينظر. (¬7) وضع هنا رقم (16).

136 - إذْ (¬1) ظَرفُ مَا مِنَ الزَّمانِ قدْ مَضَى ... وقيل أَقْوالٌ بها لا تُرْتَضَى (¬2) 137 - وحَقَّقَ الجمهورَ ليست تَقَعُ ... إِلَّا لظَرفٍ أو مضافٍ تُوضع 138 - وقيل بل تجَيءُ مَفْعولاً كذا ... مُبْدلةً منه وهي مَعْ إذا 139 - ليسَتْ من الظُّروفِ أعني الَّلازِمَهْ ... عن سيبويهِ فالتزمْ لوازِمَهْ 140 - كَلَّا (¬3) لرَدْعٍ وبمعنى حَقَّا ... ذا للكِسَائيْ وهو (¬4) قولٌ يُلْقَى 141 - أبٌ لحاتِمٍ (¬5) تجي مَعْنى أَلا ... أيْ ذاتُ الاسْتفتاحِ فافْهم مُجْمَلا (¬6) 142 - وقيل بَلْ حَرفُ جوابٍ كـ نَعَمْ ... وأَيْ بذا الفرَّاءُ والنَّضْرُ (¬7) حَكَمْ ¬

_ (¬1) جعل الناظم هنا رقم (18) والترتيب يقتضي أن يكون العدد (17) واستمر هذا إلى آخر النظم. (¬2) راجع المغني (ص 111)، والجنى الداني (ص 185)، وشرح قواعد الإعراب للقوجوي (ص 89). (¬3) جعل فوقها رقم (19). (¬4) بالأصل: "وهي"، وقوله: "يُلقى" أي: أنَّ قول الكسائي مردود؛ لأنَّ ابن هشام رجَّح قول أبي حاتم في المغني (ص 250) والله أعلم. (¬5) سهل بن محمَّد أبو حاتم السجستاني، إمام النحو واللغة وعلوم القرآن، توفي سنة (255 هـ) راجع البلغة (ص 109). (¬6) قوله: "تجي" غير مهموز و (ألا) بالتخفيف، وقد كتب أولاً: أبٌ لحاتمٍ للاستفتاحِ ... كـ (ألا) قولٌ قويْ يا صاحِ فضرب عليه. (¬7) في الأصل المخطوط: "النظر" بالظاء، وصوابه: النضر - بالضاد - وهو ابن شميل بن خرشة المازني البصري، أحد أصحاب الخليل، إمام في اللغة والأنساب، صاحب غريب ونحو وفقه، صدوق ثقة، مات سنة (204 هـ). راجع البلغة (ص 232).

143 - فَصْلٌ ولا (¬1) نافيةٌ كـ لا فَرَى ... إلاَّ على خَمْسةِ أَقْسامٍ تُرَى 144 - تَبْرِئَةٌ نَافِيةٌ للوِحْدَهْ ... عَاطِفَةٌ لها شُروطٌ عِدَّه 145 - فَسَبْقُ إثْباتٍ وأمْرٍ أو نِدَا ... والمُتَعَاطِفَانِ إنْ تَعانَدا 146 - ولا بِعَاطفٍ تكونُ قُرِنَتْ (¬2) ... تَبْرِئَةٌ في سَبْعةٍ قَدْ خَالفتْ 147 - إنَّ وليس خَالفتْ ما الوِحْدَه ... نَفَتْ ثَلاثَةَ وُجوهٍ عُمدَهْ 148 - رَابِعُ أَقْسامٍ تجِيْ حَرْفَ جَوَابْ ... مُنَاقِضٌ نَعَمْ. هُدِيتَ للصوابْ 149 - خَامِسُها للنَّفْيِ غَيرَ ما مَضَى ... كـ لا عَليٌّ حاضِرٌ ولا الرِّضَى 150 - فإنْ تَلَتْهَا جُمْلةٌ إسْميَّهْ ... وصَدْرُها معرفةٌ محمِيَّهْ 151 - أو نكرةٌ لم تَعْمَلنْ فيها أَوِ ... ماضٍ بلفْظٍ أو بتقديرٍ قَوي 152 - وَجَبَ تكْرارٌ كما مثَّلْنا ... لا فيه محزونٌ ولا مُعَنَّى (¬3) 153 - ولا أقامَ خالدٌ ولا مَضَى ... وإنَّه كلا تَقُمْ (¬4) في ذا الفَضَا ¬

_ (¬1) جعل رقم (20) وقوله: "كـ لا فَرَى" هكذا - بالفاء المفتوحة مقصورًا - قال في تاج العروس (10/ 279): "وفري الرجل - كرضي - فَرًى - بالفتح مقصورٌ - تحيَّر ودهش، نقله الجوهري، وقال الأصمعي: فَرِيَ يفرى: إذا نظر فلم يدر ما يصنع، نقله الأزهري ... ". (¬2) هنا انتهت شروط (لا) العاطفة، وقوله: "تبرئة ... إلخ" أي أنَّ التبريئية خالفت (إنَّ) في سبعة أمور، وخالفت (ليس) في ثلاثة أشياء. انظر في المغني (ص 313). (¬3) قال في المصباح (2/ 86): "وعناني كذا يعنيني: عرض لي وشغلني فأنا مَعْنيٌّ به" اهـ، وفي القاموس (ص 1316): "وتعنَّى: نصب وأعناه وعنَّاه" اهـ. (¬4) قوله: "كلا تقم ... إلخ" إشارة منه إلى معنى النهي في (لا) وهي جازمة. وفي الشطر الثاني: وإنه بها كلا تقم ... إلخ. هكذا بالأصل ولا يتزن بوجود (بها).

154 - وزِدْ لتوكيدٍ ليلاً يَعْلَمُ ... أهلُ الكتابِ أصلها لِيعْلَمُوا 155 - وإنْ (¬1) لشَرطٍ إنْ تَسِرْ جا عُثْمانْ ... نافِيةٌ إنْ عندكم مِنْ سلطانْ 156 - إنْ أحدٌ خيرًا لأهل العاليةْ (¬2) ... كـ ليس ثُمَّ قد تُزاد عَادِيَهْ 157 - نحو يُرجِّي المرْءُ ما إنْ لا يرى ... ما إنْ أتيناك وهذا كَثُرا 158 - رَجِّ الفتى للخيرِ ما إنْ تَنْصُرَهْ ... يعلو أَلَا إنْ طاب لي فاذْكُرهْ (¬3) 159 - وبَعْدَ لمَّا وهي الايجابيَّةُ ... قد زادَها ابنُ الحاجِبِ المُثَبِّتُ 160 - وقال قطربٌ تَجيءُ كـ قَدِ ... وَهوَ زَعْمٌ مِنْهُ فلتَنْتَقِدِ 161 - وخَفِّفَنْها أي من الثَّقِيلَهْ ... مِثَالُ إنْ كلٌّ لذو حَليلَهْ 162 - فإنْ على إِسْميَّةٍ قَدْ دخلت ... أعْمَلَها قومٌ كما بهِ ثَبَتْ (¬4) 163 - وأَنْ (¬5) فتَنْصِبُ المَضارعَ الجلي ... كـ "والذي أطْمَعُ أنْ يغْفِرَ لي" ¬

_ (¬1) وضع هنا رقم (21)، وقوله: "جا" بلا همز جواب الشرط، وقوله: "نافية" أي تجيء لمعنى النفي. (¬2) أهل العالية: هم مَن فوق نجد إلى أرض تهامة إلى ما رواء مكة. كذا في القاموس، ويريد أنَّ حرف (إنْ) يعمل عمل (ليس) عند أهل العالية. راجع المغني (ص 36). (¬3) هذه مواضع زيادة (إنْ) فتزاد بعد (ما) الموصولة نحو قوله: "يرجي المرء ... إلخ" وبعد (ما) النافية نحو قوله: "ما إنْ أتيناك .... إلخ"، وتزاد بعد (ما) المصدرية نحو قوله: "رجّ الفتى ... إلخ"، وبعد (ألا) الاستفتاحية نحو قوله: "ألا إن طاب ... إلخ"، وتزاد بعد (لما) الإيجابية، كما سيأتي في البيت الآتي عن ابن الحاجب. وانظر المغني (ص 38). (¬4) راجع المغني (ص 36) والجنى الداني (ص 208). (¬5) جعل هنا رقم (22).

164 - وهي حرفٌ مَصْدَرِيٌّ تَنْسَبِكْ ... معْ صِلَةٍ بمصْدَرٍ لا تَرْتَبِكْ 165 - عسى عليٌّ أنْ يقومَ اختلفوا ... فقيل نَصْبٌ ثم لم يَأْتَلِفُوا 166 - فقال بَعضٌ إنَّه على الخَبَرْ ... وقيل مَفْعولٌ مُبَرِّدٌ (¬1) ذَكَرْ 167 - وقيل بالإسقاط للجارِ أَوِ ... تضمَّن الفِعْلُ لِقَاربَ رُوِي 168 - عن سيبويه ذا ابنُ مالكٍ نَقَلْ ... وقيل بل مَوضعُه رَفْعٌ بدلْ (¬2) 169 - والفِعْلُ بعد أنْ فَقَدْ يرتفعُ ... وجَزَمَ البعْضُ بها فارْتَفِعُوا (¬3) 170 - ما فيهِ معنى القولِ لا الحروفُ إنْ ... تَلِيهِ أَنْ فَسِّرْ بها كما زُكنْ 171 - وزِدْ لِتَوكيدٍ فَلمَّا أنْ أَتى ... واللهِ أنْ لَوِ الْتقينا يا فَتى 172 - ونادرٌ زَيدٌ كأَنْ بَدْرٍ بَدا (¬4) ... ومَنْ لشرطٍ (¬5) مَنْ يَخُنْ تُقْطَعْ يدا ¬

_ (¬1) محمد بن يزيد بن عبد الأكبر الأزدي البصري أبو العباس المبّرد، إمام العربية ببغداد في زمانه، أخذ عن المازني وغيره، له من التصانيف: الكامل، والمقتضب، توفي سنة (285 هـ). راجع البغية (1/ 269). (¬2) راجع الخلاف في المسألة: المغني (ص 43). (¬3) يريد أنَّ الفعل المضارع قد يرتفع بعد (أنْ) الناصبة لأنها أهملت وألحقت بأختها (ما) المصدرية كما قاله البصريون ورجحه ابن هشام، وقوله: "وجزم ... إلخ" يريد أنَّ بعض الكوفيين وأبا عبيدة ذكروا أنَّ بعض قبائل العرب تجزم بـ (أنْ) الفعل المضارع، وقوله: "فارتفعوا" أمْرٌ للقراء بأن يرتفعوا فيتركوا رفع المضارع وجزمه بعد (أنْ). (¬4) هذه ثلاثة مواضع في زيادة (أنْ) بعد (لمَّا)، وبين (لو) وفعل القسم، ووقوعها بين الكاف ومخفوضها وهذا نادر، والموضعُ الرابع بعد (إذا)، ولم يذكره هنا في النظم. انظر المغني (ص 50). (¬5) وضع هنا رقم (23)، وقوله: "تقطع يدا"، بالبناء للمجهول و (يدا) كفتى لغة في (اليد) بمعنى الكف كما في القاموس، فلعل المعنى والله أعلم: تقطع يَدُه.

173 - واستَفْهِمَنْ بها كمَنْ هذا الرجُلْ ... مَنْ ذَا سِوى زيدٍ يَشُدُّ أو يَحُلْ 174 - مَوْصُولةٌ كمِنْهُمُ مَنْ يَضْرِبُ ... موصوفةٌ كجاءني مَنْ مُعجِبُ 175 - ونحو مَن أُكْرِمُهُ أكْرَمَني (¬1) ... يحتملُ الجميعَ فاحْفَظْ واعتني 176 - أيٌّ لِشرطٍ نحو أيًّا ما تُرِدْ (¬2) ... تُدْرِكْ ولِاستفهامٍ أيُّكُمْ يَرِدْ 177 - وسيبويهِ قد تجي مَبْنيَّهْ ... مَوْصولةً صُنْ أيُّهنَّ الحيَّهْ 178 - وخالفوه (¬3) ثُمَّ قد تجي صِفَهْ ... مِثْلُ فتًى أَيُّ فتًى ذي مَعْرِفَهْ 179 - وَصِلَةً إلى نِدا ما فَيهِ ألْ ... يا أيُّها الإنسانُ طوَّلْتَ الأَمَلْ 180 - ومَا (¬4) لشرطٍ نحو مَا تُنْفِقْ تجِدْ ... موصولةٍ كـ مَا أضْعْناهُ وُجِدْ 181 - وقَدْ تجيءُ للزَّمانِ ما يَدومْ ... فَدُمْ ولَازمِ القيامَ ما يَقُومْ 182 - لِا بنيْ بَرِي ومَالكٍ أَبي البَقَا ... وشَامَةٍ الفارسيِّ المُنْتَقَى (¬5) 183 - كذاكَ الاسْتِفْهامُ والتَّعجُّبُ ... نكرةٌ موصوفةٌ مَا مُعْجِبُ ¬

_ (¬1) في المغني (ص 433): تقول: "مَن يكرمني أكرمه" ثم ذكر الأوجه الأربعة فانظرها فيه. (¬2) وضع هنا رقم (24). (¬3) أي: خالف الكوفيون وجماعة من البصريين سيبويه في مجيء (أي) موصولة. راجع المغني (ص 107). (¬4) جعل هنا رقم (25). (¬5) قوله: "لا بني" بالتثنية، و"بري" هنا بالتخفيف لأجل الوزن، وهؤلاء الأعلام هم على التوالي: عبد الله بن برّي المصري كان قيمًا بالنحو واللغة والشواهد، توفي سنة (582 هـ)، وابن مالك الإِمام جمال الدين المعروف صاحب الألفية، وأبو البقاء هو =

184 - ما ذاك ما أحْسَنَهُ وامْرُرْ بما ... مُسْتَحْسَنٍ مُقَرْطَقٍ حُلْوِ الِّلمَا (¬1) 185 - مَعْرفةٌ تمَّتْ نِعمَّا هِيْ نَقَلْ ... عَنْ سيبويهِ ابنُ خروفٍ الأَجَلْ 186 - وهي عامَةٌ فنعم الشيءُ هي ... لم تَتْلُ اسمَ نكرةٍ تكون هي 187 - مَعْ عاملٍ لها لهُ في المعنى ... وَصْفٌ وإلَّا خاصةٌ فقُلْنا 188 - دَقَقْتُه دقًّا نِعمّا وتجي ... جَزْمًا وتَنْفي نحو ما هذا شَجِي 189 - تعْملُ لكنْ بشروطٍ في الحِجَازْ ... نَجدٍ تهامةٍ وغَيرٌ ما أجازْ (¬2) 190 - تنفي المضارعَ لحالٍ تَخْلُصُ ... إنْ لم تكن قَرينةٌ تُنَصِّصُ 191 - ومَصدريَّةٌ كـ وَدُّوا ما عَنِتْ ... منها زمانٌ "كلَّما أضاءتْ" 192 - قال ابن جنّي والزمخشريُّ أن ... شَارَكَها ما في دَلالةِ الزَّمَنْ ¬

_ = عبد الله بن الحسين العكبري صاحب الإعراب توفي سنة (616 هـ)، وأبو شامة عبد الرحمن بن إسماعيل الدمشقي الشافعي صاحب القراءات واللغة والتاريخ توفي سنة (665 هـ)، والفارسي هو الإِمام أبو علي الحسن بن أحمد المشهور واحد زمانه في العربية توفي سنة (337 هـ). راجع في تراجم هؤلاء بتوسع كتاب البغية. وانظر مذهبهم في هذه المسألة: المغني (ص 398). (¬1) قوله: "ما ذاك؟ " مثال الاستفهام بـ (ما)، وقوله: "ما أحسنه! " مثال تَعجُّب، "وامرر بما مستحسن ... إلخ" مثال النكرة الموصوفة، وقوله: "مقرطق" - بالجرّ - قال في القاموس: "القرطق - كجندب - لُبس م مُعرَّب: كرتَهْ، وقرطقته فتقرطق: ألبسته إياه فلبسه" ا. هـ، وقوله: "حُلْو اللما": اللّما مُثَلثة اللام سُمْرةٌ في الشفة، أو شربة سواد فيها. كذا في القاموس. (¬2) راجع المغني (ص 399).

193 - زَعْمٌ (¬1) وكافَةٌ فما قد تَرِدُ ... كـ إنَّما اللهُ إلهٌ واحِدُ 194 - وزِدْ لتوكيدٍ تجَيءُ فَبِمَا ... عَفْوٍ ورَحمْةٍ مِنَ اللهِ كـ ما 195 - مِنْ قَبْلُ مَا فرَّطُتمُ في يوسُفَا ... فالْزَمْ بتوكيدٍ هنا أَنْ يُوصَفَا 196 - وقيل مَصْدَرَّيةٌ فَحصِّلَهْ ... وجَعَلوا موضعَها معَ الصِّلَهْ 197 - بالابتدا رَفْعًا ومنْ قَبْلُ الخَبرْ ... ورُدَّ فالغاياتُ لا تأتي خَبَرْ 198 - وليس أَحْوالًا تَرَى الغاياتِ ... ولا صفاتٍ بَلْ ولا صِلَاتِ 199 - عن سيبويهِ وجماعةٍ رُوي (¬2) ... هذا وتَمَّتْ ثُمَّ حَمْدي للقوي 200 - مُحَمْدِلاً مُصَلِّيًا مُسَلِّما ... وأَحْسَنَ اللهُ لنا المُحتَّما (¬3) 200 (¬4) عبد الرحمن المعلمي ¬

_ (¬1) هكذا بالرفع، ويظهر أنه متعلق بالبيت السابق على أنه خبر لمبتدإٍ محذوف والتقدير: "وهو زعمٌ" أي: قول ابن جني والزمخشري في كون (ما) تشارك في النيابة عن الزمان (أنْ) المصدرية. راجع المغني (ص 401). (¬2) من قوله: "كما مِن قبل ما فرطتم ... " إلى هنا تطرق فيها لإعراب (ما) في قوله تعالى: {مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ} وتجد المسألة مبسوطة في المغني (ص 418). (¬3) قوله: "محمدلاً"، أي: قائلاً الحمد لله، وقوله: "المحتّما" من الحتم وهو القضاء وإيجابه كما في القاموس، ولعله يريد هنا الأجل. (¬4) هذا الرقم وضَعَه الناظم إشارةً منه إلى عدد أبيات النظم، وقد كتب أولاً (198) ثم ضرب عليه.

الرسالة الخامسة طرائف في العربية

الرسالة الخامسة طرائف في العربية

الحمد لله الذي لا إِله إلا هو، وصلواته وسلامه على خاتم أنبيائه محمدٍ وآله وصحبه. وبعد: فما من مُعْتَنٍ بفنٍّ من الفنون إلا وتلوح له فيه نِكاتٌ (¬1) لا يجد من تَقَدَّمَهُ نَصَّ عليها، فمِنْ محسنٍ ظَنَّه بنفسه يَتَبجَّح لما لاح له ويتعصَّب، ومن مُسِيءٍ يكون حَالُه كحال ذاك الأعمى الذي أَبْرَمَتْهُ (¬2) امرأتُه بإطراء نفسها بالجمال، فقال لها: لو كنتِ كما تقولين لسَبَقَني البُصراءُ إليك (¬3) [هذه نكات طريفة في العربية لم أجد من نص عليها، ولم أرض لنفسي أن أقبلها متبجِّحًا، ولا أن أَردَّها حاذٍ حذْوَ ذاك الأعمى الذي تزوج امرأة فكانت مما تطري نفسها بالجمال فلمَّا عيل صبره قال لها: لو كنت كما تقولين لما تركك المبصرون لهذا الأعمى! لكنِّي أعرضها على أهل العلم، فإما أن يتقبلوها فأطمئن إليها، وإما أن ينبهوني على وجه الخطأ إن كان] (¬4). ... ¬

_ (¬1) بالكسر، جمع نكتة بالضم. (¬2) أي: أضجرته، وجعلته يسأم. (¬3) انظر: نكت الهميان (ص 67)، والغيث المسجم (2/ 329)، كلاهما للصفدي. (¬4) هذا تخريج وضعه المؤلف بعد المقدمة السابقة، ويلاحظ فيه أنه أعاد قصة الأعمى، والأفضل أن توضع فاء قبل قوله "هذه نكات ... ".

[نشأة اللغة]

[نشأة اللغة] (¬1) اشتهر قديمًا وحديثًا القول بأن منشأ اللغة كان حكاية الأصوات المسموعة (¬2)، وذكروا من ذلك: "دقَّ، وقطَّ، وأنَّ، وحنَّ، وصرَّ"، ولهذا حظ من الوجاهة. أما إذا قلنا: إن اللغة من وضع البشر، فظاهر (¬3). وأمَّا على القول بأنها من تعليم الله - عزَّ وجلَّ - لآدم (¬4)، فالحكمة اقتضت تلك المناسبة. ¬

_ (¬1) هذا العنوان من وضعي، بخلاف العناوين الآتية، فإنها من وضع المؤلف. (¬2) أول من قال: إن أصل وضع اللغة كلها من الأصوات المسموعة كدوي الريح، وحنين الرعد، وخرير الماء ... هو عباد بن سليمان الصيمري، ت (250 هـ)، واستحسن هذا الرأي ابن جني في الخصائص، والجمهور على أن المناسبة بين اللفظ والمعنى موجودة في الكلمة غالبًا، وليست شرطًا في وضعها العربي. وانظر تفصيل هذه المسألة في فيض نشر الانشراح للطيب الفاسي (1/ 251 - 269)، والمزهر (1/ 47)، وإرشاد الفحول (1/ 99)، والخصائص (1/ 46). (¬3) ذهب أبو هاشم الجبائي المعتزلي إلى أن الواضع للغة هو البشر، وتبعه على هذا المعتزلة. راجع إرشاد الفحول (1/ 98)، ومجموع الفتاوى لابن تيمية (12/ 447)، وفيض نشر الانشراح (1/ 250). (¬4) وهو قول أبي بكر عبد العزيز، والشيخ أبي محمد المقدسي، وأبي الحسن الأشعري، وابن فورك، وجماعة كبيرة من أهل العلم. والمسألة فيها خلاف عريض، يصل إلى ستة أقوال. انظر: إرشاد الفحول (1/ 98)، ومجموع فتاوى ابن تيمية (12/ 446)، وتاج العروس (1/ 5).

والمهم أن حكاية الأصوات لا تفسر لنا إلا جزءًا ضئيلًا جدًّا من اللغة. وذكر أئمة العربية (¬1) وجهًا آخر وهو المناسبة بين الألفاظ والمعاني من جهة اختلاف صفات الحروف وترتيبها وحركاتها، ذكر ابن جنى في الخصائص طائفةً من ذلك (¬2). وهذا أيضًا وجيه، ولكنه لا يفي إلا بجزء ضئيل أيضًا، وقد خطر لي وجه ثالث - لم أر من تعرض له - وهو الإشارة. لا ريب أننا إذا تصورنا أناسًا لا يعرفون لغةً علمنا أنهم يحاولون التفاهم بالإشارة مع التصويت، كما نشاهده من البكم. وكما تكون الإشارة باليد فكذلك تكون بالرأس (¬3)، وقد تكون باللسان، وحريٌّ بأولئك الأناس إذا خطر لهم أنه يمكنهم توزيع الأصوات على الأشياء، حتى يكون لكل شيءٍ ¬

_ (¬1) كسيبويه، والخليل، كما في الكتاب (4/ 14)، وابن قتيبة في أدب الكاتب (ص 200)، في باب الأسماء المتقاربة في اللفظ والمعنى، وابن جني في الخصائص (2/ 152)، وابن القيم في عدة مواضع من كتابه بدائع الفوائد (1/ 89) (2/ 384)، وجلاء الأفهام (ص 67). (¬2) على سبيل المثال: "الخضم لأكل الرطب، والقضم للصلب اليابس، والنضح للماء ونحوه، والنصخ أقوى من النضح، ومن ذلك القد طولاً، والقط عرضًا، ومن ذلك قرت، وقرد، وقرط .. إلى غير ذلك من الأمثلة التي أوردها ابن جني في الخصائص (2/ 157)، وانظر أيضًا: أدب الكاتب لابن قتيبة (ص 200). (¬3) راجع: لسان العرب (4/ 436)، والقاموس (ص 421)، وفي كتاب العلم من صحيح البخاري، باب من أجاب الفتيا بإشارة اليد والرأس. وذكر حديث عائشة: " ... فأشارت برأسها، أي: نعم ... الحديث".

صوت خاص أن يحاولوا ربط الطريقة التي عرفوها وهي الإشارة بالتصويت، وإنما يكون هذا بتحري الإشارة باللسان والشفتين ويتفقدون الصوت الذي يوافق تلك الإشارة. فمن ذلك اسم الإشارة "ذا" (¬1) إذا حاول الإنسان أن يشير بلسانه وجد أنه لا يسهل عليه التصويت إلا إذا عض على لسانه ثم صوَّت رافعًا أسنانه عن لسانه، فحينئذ يخرج إما صوت الذال، وإما صوت الظاء، وإما صوت الثاء، فاختاروا الذال؛ لأن الصوت بها أرفع، وحركوها لامتناع الابتداء بالساكن، ثم وجدوا إلى أنهم يحتاجون إلى الفرق بين الذَّكَر والأنثى، ففزعوا إلى الإشارة المعنوية، والذَّكَر عندهم عالٍ والأنثى بخلافه فقالوا في الذكر: ذا، وفي الأنثى: ذي (¬2). ومن ذلك ضمير المتكلم حاولوا الإشارة باللسان إلى النفس، وإنما يحصل ذلك بعطف اللسان إلى باطن الفم، والصوت الذي يسهل خروجه حينئذ هو النون ورأوا أن يقدموا قبله صوتًا ينبه السامع إلى الإشارة، وأسهل ¬

_ (¬1) اعلم أن السهيلي قد سَبق المؤلف إلى طرق هذا الباب، فقد قرر ما ضمنه المعلمي هنا، وزاد عليه بذكر مسائل تتعلق باسم الإشارة، ثم جاء بعده ابن القيم، واستفاد من هذا المبحث، وأورده في كتابه بدائع الفوائد (1/ 149)، وانظر: نتائج الفكر للسهيلي (ص 177). (¬2) هذا الرأي الذي أبداه المؤلف رحمه الله في اسم الإشارة له حظٌّ قويٌّ من النظر، ولكن يبقى أن يقال: إن العرب أشارت للمذكر بـ "ذاءِ" ممدودًا بهمزة مكسورة، و"ذائِهِ" بهمزة بعدها هاءٌ مكسورة - كما في ارتشارف الضرب (2/ 974) -, وقالوا أيضًا في الأنثى: "تا، وذاتُ" بالضم. فبِمَ يجاب عن هذا؟!

الأصوات الهمزةُ المفتوحةُ، وفتحوا النون أيضًا ليرتفع الصوت بالنون شيئَا فقالوا: "أنَ" (¬1)، ويمكن التطرق إلى بقية الضمائر. "أنتَ - أنتِ - أنتُم" وليس من الصعب توجيه ذلك (¬2). ومن ذلك اسم "الماء" فإنَّ الماء يُشْرب بالامتصاص، وأقرب إشارة إلى المصِّ بأعضاء الفم أن تجتذب شفتيك إلى داخل الفم، وإذا فعلت ثم حاولت فتح الفم قليلاً لإخراج صوتٍ كان أقرب الأصوات "ما" (¬3)، وقد ¬

_ (¬1) للعرب في "أنا" لغاتٌ، أجودها: أن تحذف الألف عند الوصل، وتثبت عند الوقف، والثانية: أن تثبت الألفِ وقفًا ووصلاً. والثالثة: بوزن "مَنْ". والرابعة: بمد الألف الأولى "آنَ". والخامسة: بقلب الهمزة هاءً "هَنَا". وزاد بعضهم "أنهْ" بهاء السكت. انظر: اللسان (13/ 37)، وشرح التسهيل لابن مالك (1/ 140). (¬2) يقال - على ما قرره المؤلف -: إن أصل الضمير في القول الراجح الهمزة والنون، ثم لما أرادوا خطاب المذكر حاولوا الإشارة إليه باللسان، فوجدوا أيسر الحروف لأداء هذا المعنى هو التاء، ثم ناسب أن يفتحوها لأن المخاطب مذكر، وهو عالٍ، فجعلوا الأعلى للأعلى، ولأن فتح التاء يجعل اللسان يتقدم نحو خارج الفم مما يؤدي إلى تقوية الإشارة إلى المخاطب باللسان. وكذا يقال في ضمير المخاطبة "أنتِ" سوى أنهم جعلوا الأسفل - وهو الكسر - للأسفل - وهو المؤنث -. وأما "أنتم" فالكلام فيه كالكلام في مفرده، إلا أنهم لما أرادوا الإشارة باللسان إلى جمع المخاطبين أتوا بحرف "الميم" الذي يدل على الجمع، ومخرجها يقتضي هذا - كما قرره ابن القيم في جلاء الأفهام (ص 67) - ويمكن أيضًا أن يقال في ضمير الرفع المتكلم المتصل الذي في نحو "ضربتُ" إنهم خصوه بالضم؛ لكون اللسان يرجع إلى الباطن مما يشعر أن المتحدث يشير إلى ذاته وشخصه بلسانه من داخل. (¬3) لذلك كان بعض العرب يقصر لفظ "الماء"، فيقول: "اسقني ما"، كما جاء في لسان العرب (13/ 543). =

تكون كلمة "مص" مأخوذةً من هذه الميم مع حكاية صوت الامتصاص، فإنه يقرب من حرف الصاد (¬1). ومن ذلك كلمة "بلع" فإن هذا الترتيب عنَّ (¬2) له الإشارة، أي البلع، ألا ترى أن الباء شفوية، واللام متوسطة، والعين حلقية، وهكذا [] (¬3) المبدوء بالشفة فوسط الفم فالحلق. وعكسها (¬4) كلمة "لفظ" و"نفث" ابتدأت كل منهما بحرف متوسط فحرف شفوي فحرفٍ يبرز معه اللسان، ولا يخفى إذا تأملت وجدت النون ¬

_ = وههنا لطيفة تناسب المقام، وهي: أن العرب تُشبّه صوت الظبي بلفظ الماء، قال أبو علي القالي في المقصور والممدود (ص 315): "والماء: حكاية صوت الظبي، قال ذو الرمة: لا يرفع الطرفَ إلا ما تخوَّنه ... داعٍ يناديه باسم الماء مبغومُ ومثله قوله أيضًا: ونادى بها ماءٍ إذا ثار ثورة ... أُصَيْبحُ قوَّامٌ يقومُ فَيَخْرِقُ وقال لي أبو المياس: الماء المشروب مفخم، والماء حكاية صوت الظبي ممال". اه. (¬1) قد كانت العرب تدركِ هذا الأمر، فتجدهم يعبرون مثلاً بالشِّيب عن صوت الإبل في شربها الماء، قال الزبيدي في التاج (1/ 329): " (و) الشيب أيضًا (حكاية أصوات مشافر الإبل) عند الشرب. قال ذو الرمة، ووصف إبلاً تشرب في حوض متثلم، وأصوات مشافرها شِيبْ شِيبْ: تداعين باسم الشيب في متثلم ... جوانبه من بصرةٍ وسِلامِ". اهـ. (¬2) أي: حصل وعرض له. (¬3) الكلمة غير واضحة، ولعلها: "البلوغ". (¬4) أي: عكس كلمة "بلع" في الترتيب والإشارة.

والثاء [] (¬1) معنى النفث، واللام والظاء أنسب بمعنى اللفظ، وقريب منهما كلمة "نبذ"؛ ذلك أن الإشارة معنوية. ومن الحسية (¬2) كلمة "ذوق"، فإن عادة من يتذوق شيئًا أن يضع قليلاً منه على لسانه، ثم يديره في فيه، ويغلب أن يصل به إلى الحلق. ومن المعنوية كلمة "قرب" تبدأ من أقصى الحلق ثم تتوسط ثم تصل إلى أقرب ما يلي [] (¬3) وهو الشفة. أما "بلغ" فالإشارة فيه معنوية، ومنه "مضغ". هذا ما حضرني (¬4)، فإذا ضممت هذه الطريقة مع التوسع في الإشارة ¬

_ (¬1) كلمتان غير واضحتين، ولعلهما: "أنسب ببيان". (¬2) أي: ومن الإشارة التي تدرك بالحسّ. (¬3) هنا كلمة لم تتضح لي. (¬4) إن الأمثلة التي ذكرها في قوله: "ومن ذلك كلمة بلع ... إلخ"، وما قرره من مناسبة دلالات الكلمات لمدلولاتها، يشبه ما بينه ابن جني في الخصائص شبهًا قريبًا، إلا أن ابن جني لم يتعرض للإشارة المعنوية أو الحسية باللسان، وهاك كلامه حيث قال في (2/ 162): " ... نعم، ومن وراء هذا ما اللطف فيه أظهر، والحكمة أعلى وأصنع، وذلك أنهم قد يضيفون إلى اختيار الحروف وتشبيه أصواتها بالأحداث المعبر عنها بها ترتيبها، وتقديم ما يضاهي أول الحدث، وتأخير ما يضاهي آخره، وتوسيط ما يضاهي أوسطه، سوقًا للحروف على سمت المعنى المقصود، والغرض المطلوب، وذلك قولهم: بحث، فالباء لغلظها تشبه بصوتها خفقة الكف على الأرض، والحاء لصحلها تشبه مخالب الأسد، وبراثن الذئب، ونحوهما إذا غارت في الأرض، والثاء للنفث، والبث للترابَ ... ومن ذلك قولهم: شد الحبل ونحوه، فالشين بما فيها من =

المعنوية وإلى ما ذكروه من حكاية الأصوات، وإلى ما ذكره ابن جني (¬1)، وغيره (¬2) من صفات الحروف شدة ورخاوة وغير ذلك كثر عدد الكلمات التي يمكن تطبيقها. ومن الواضح أنه يكفي الواضعَ لتعيين اللفظ أدنى مناسبة تحضره. ففي باب التذكير والتأنيث ناسب أن يُذكِّروا عضْوَ التذكير من الرَّجُل، وبالنظر إليه مع البيضتين يتخيل رجل له امرأتان؛ فأنثوا اسمهما ثم اعتبروا ذلك كالأصل وهي تذكير ما كان فردًا من الأعضاء وتأنيث ما كان زوجًا، هذا الغالب وربما خالفوا لمناسبةٍ أخرى (¬3). ومن الصعب أن نعرف من المناسبات التي حضرتهم إلا القليل، وهذه أسماء الناس مختلفة جدًّا، وكثيرًا ما يخفى على الإنسان نَفْسِه لماذا اختار له ¬

_ = التفشي تشبه بالصوت أول انجذاب الحبل قبل استحكام العقد، ثم يليه إحكام الشد والجذب، وتأريب العقد، فيعبر عنه بالدال التي هي أقوى من الشين، لا سيما وهي مدغمه، فهو أقوى لصنعتها، وأدل على المعنى الذي أريد بها .. " إلخ. اهـ باختصار. (¬1) في الخصائص (2/ 157). (¬2) كابن القيم في كتابه جلاء الأفهام (ص 67)، والسيوطي في الاقتراح (ص 27) نقلاً عن ابن جني، ومحمد صديق حسن خان في العلم الخفاق (ص 162)، وغيرهم. (¬3) من المزدوج المذكر: "الحاجب، والصدغ، والخد، والمرفق، والزند، والكوع وغيرها"، ومن الأعضاء المؤنثة وهي غير مزدوجة: "الكبد، والكرش"، ومن الأعضاء التي يجوز فيها التذكير والتأنيث: "الإبط، والعنق، واللسان، والقفا". انظر: شرح الأشموني مع حاشية الصبان (4/ 95)، والتصريح للأزهري (2/ 287)، وحاشية الخضري (2/ 223).

أبواه الاسم الذي سمياه به؟ (¬1). ... ¬

_ (¬1) راجع: الخصائص لابن جني (1/ 48، 184، 237). وجاء في كتاب الأضداد للأنباري (ص 7) ما ملخصه: "وقال - أي ابن الأعرابي -: الأسماء كلها لعلةٍ، خصت العرب ما خصت منها، من العلل ما نعلمه، ومنها ما نجهله. وقال أبو بكر - أي الأنباري -: يذهب ابن الأعرابي إلى أن مكة سميت مكة لجذب الناس إليها، والبصرة سميت البصرة للحجارة البيض الرخوة بها، ... والإنسان سمي إنسانًا لنسيانه ... ثم قال: فإن قال لنا قائل: لأي علة سمي الرجل رجلاً، والمرأة امرأةً، والموصِل الموصل، ودعد دعدًا؟! قلنا: لعللٍ علمتها العرب وجهلناها، أو بعضها، فلم تَزُل عن العرب حكمة العلم بما لحقنا من غموض العلة، وصعوبة الاستخراج علينا" اهـ المقصود منه.

تنور

تَنُّور علاقة التنور بالنار لا تخفى، وقد روي بسند ضعيف عن علي - رضي الله عنه - أنه فسر التنور في قصة نوحٍ - عليه السلام -: بتنوير الصبح (¬1). وهذا على ضَعْفِه يجعل للتنور علاقة بالنور (¬2). والنار والنور من مادة واحدة هي مادة "ن ور" والتاء من حروف الزيادة، والزيادة بالتضعيف فاشية في العربية، لكن صيغة "تَفُّعْل" مفقودة في اللغة. لهذا صار الجمهور إلى أن التاء أصلية وأن الواو زائدة، وأنه من مادة ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في تفسيره (12/ 24)، وابن أبي حاتم في تفسيره (6/ 2028) بسندهما من حديث محمد بن فضيل بن غزوان عن عبد الرحمن بن إسحاق عن زياد مولى أبي جحيفة عن أبي جحيفة عن علي رضي الله عنه في قوله: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ ...} قال: "تنوير الصبح". وهذا الأثر في سنده عبد الرحمن بن إسحاق الكوفي، ضعفه أحمد وابن معين ويعقوب بن سفيان وأبو حاتم وجمع من الأئمة، كما في التهذيب لابن حجر (2/ 486)، وفيه أيضًا زياد بن زيد الأعسم، قال عنه أبو حاتم: هو مجهول. كما في الجرح والتعديل (3/ 532). (¬2) هذا القول وما سبق من قوله: "علاقة التنور بالنار لا تخفى ... " اعترض عليه بعضُهم، ففي تاج العروس (3/ 70) قال: "قال شيخنا - يعني الفاسي -: وأما ما ذكروه من كون التنور من نار أو نور، وأن التاء زائدة، فهو باطل، وقد أوضح بيان غلطه ابن عصفور في كتابه الممتع، وغيره، وجزم بغلطه الجماهير" اهـ. وانظر أيضًا: كلام ابن سيده في اللسان (4/ 95)، ولكن هذا الاعتراض لا يرد على ما اختاره المؤلف في تصريف "التنور"، فتأمل.

"ت ن ر" ووزنه "فَعُّول" (¬1)، أو "فَنْعُول" (¬2). وأُورِدَ عليهم أمور: الأول: إهمال المناسَبة الصريحة (¬3). الثاني: أن مادة "ت ن ر" ليس لها شاهد آخر (¬4). الثالث: أنه قلما يقع في العربية نون يعقبها راء، بل قد لا يتحقق شيء من ذلك إذا كان النونُ عينَ الكلمة, والراءُ لامَها (¬5). ¬

_ (¬1) قاله الأزهري في التهذيب (14/ 270)، وأبو علي الفارسي، كما نقله عنه غير واحد، منهم السمين الحلبي فِي الدر (4/ 98)، وانظر كذلك الخصائص (3/ 285). (¬2) هذا الوزن أجازه ابن جني في الخصائص (3/ 285). (¬3) أي: المناسبة بين "التنور" والأصل المشتق منه، وهو"تنر" عند الجمهور؛ لأن المناسبة في المعنى شرط من شروط الاشتقاق، كما في العَلَم الخفاق (ص 77). (¬4) قال الأزهري في التهذيب (14/ 270) في معرض كلامه على لفظة "التنور": " ... والدليل على ذلِك أن أصل بنائه تَنَرَ، ولا يعرف في كلام العرب؛ لأنه مهملٌ ... ". وقال ابن جني في الخصائص (3/ 285): "وإنما تنور من لفظ "ت ن ر" وهو أصلٌ لم يستعمل إلا في هذا الحرف، وبالزيادة كما ترى ... " (¬5) هذه القاعدة قد أخذ بها جماعة من أئمة اللغة والاشتقاق، وجعلها بعضهم علامة يستدل بها على عجمة اللفظة، كما في مقدمة المعرب للجواليقي (ص 11)، وكذا قاله الخفاجي في شفاء الغليل، وقد قال سيبويه - فيما نقله عنه الجواليقي (ص 172) -: "ليس في كلام العرب نون ساكنة بعدها راء, مثل "قَنْر"، ولا "زَنْر"". اهـ. وكذا ابن دريد كما في الجمهرة (2/ 327)، وأيضًا ابن فارس في المقاييس، انظر (3/ 28)، (5/ 414)، والسيوطي في الاقتراح، انظر الفيض (1/ 390). =

وقد نقلوا (¬1) عن الإمام أحمد بن يحيى المدعو بـ "ثعلب" أنه قال: وزنه "تَفْعول" من مادة "ن ور". وأنكروا عليه (¬2)؛ لأنه لو كان كذلك لكان "تَنْوُور"، وما قد يُتخيَّل من إبدال الواو نونًا لا يعرف في العربية إلا شاذًّا في النسب قالوا: "صنعاني ¬

_ = وأما صاحب القاموس؛ فإنه اضطرب، تارةً ينفي مطلقًا، كما في (2/ 301)، وتارةً يجعله قليلاً، كما في (2/ 168). ومن خلال التأمل في نصوص العلماء يظهر أن هذه القاعدة أكثرية، لا لازمة؛ لأني قد وقفت على بضع عشرة كلمة اجتمع فيها الراء والنون، وفي بعضها تقع النون عين الكلمة، والراء لامها، وهذه الكلمات ربما وقع فيها اختلاف أو انفرد بنقلها بعض الأئمة، أو حصل فيها تصحيف، وهذا في بعضها، لا جميعها، وثمت أمرٌ آخر، وهو أن بعض الأئمة الذين قرروا تلك القاعدة لم يلتزموا بها، بل أوردوا كلمات تخالف القاعدة، كما جرى لابن فارس في المقاييس، في مادة "قنر"، وانظر أيضًا (3/ 38) منه. وسأذكر الكلمات - دون معانيها - حتى لا أطيل، والمعاني تلتمس من مظانها، وهي كما يلي: "خنر، زنر، سنر، شنر، قنر، نرب، نرد، نرز، نرس، نرش، هنر، ونر". هذا ما وقفت عليه، وربما كانت هنالك كلمات تضاف إليها. والله أعلم. (¬1) ممن نقله عنه ابن جني في الخصائص (3/ 285)، وأبو حيان في البحر (5/ 199)، وانظر لسان العرب (4/ 95). (¬2) ممن أنكره عليه ابن جني، حتى عده من سقطات العلماء، كما في الخصائص (3/ 285)، وكذا ابنَ سيده في المحكم كما نقله ابن منظور في اللسان (4/ 95)، وأنكره الفاسي شيخ الزبيدي كما في التاج (3/ 70)، وأيضًا ابن عصفور في مقدمة كتاب الممتع.

- وبهراني، والأصل صنعاوي - وبهراوي" (¬1). ولِمَا تقدَّم ذهب جماعة إلى أن الكلمة أعجمية استعملتها العرب، وليست من أصل لغتها (¬2). وهذا لا يدفع قضيةَ المناسبة الصارفة (¬3). وقد خطر لي وجه أسلمُ من جميع ما تقدم، وهو أن يقال: أصل وزنه "فَعُّول" من مادة "ن ور"، لكن وقع في حروفه قلب - أي: تقديم وتأخير - فجُعِلت العينُ موضعَ الفاء؛ فصار "وَنُّور" بوزن "عَفُّول" ثم أبدل من الواو تاءً (¬4). ¬

_ (¬1) صنعاء: بلد معروف. وبهراء: قبيلة من قضاعة. وهل أبدلت الهمزة نونًا، أو واوًا، ثم قلبت الواو نونًا؟ فيه خلاف بينهم. انظر بسطه في شرح الشافية للرضي (2/ 58)، (3/ 218)، وشرح الملوكي لابن يعيش (ص285). (¬2) ذهب إلى هذا المذهب الليث، والأزهري كما في التهذيب (14/ 296)، وابن دريد في الجمهرة (3/ 502)، وابن قتيبة في أدب الكاتب (ص 496)، والجواليقي في المعرب (ص 84)، والخفاجي في شفاء الغليل (ص 103)، وكذا نقل عن أبي حاتم كما في الفائق (1/ 155)، والمصباح (ص 77). (¬3) انظر كلام ابن جني في الخصائص (3/ 285، 286). (¬4) هذا الوجه الذي رآه المؤلف قد سبقه إليه أبو الفتح محمد بن جعفر الهمذاني المعروف بابن المراغي، المتوفى سنة (371 هـ أو 376 هـ)، فقد نقل عنه الزمخشري في الفائق (1/ 156)، وكذا أبو موسى المديني في المجموع المغيث (1/ 244) أنه قال: كان الأصل فيه نوُّور، فاجتمع واوان وضمة وتشديد، فاستثقل ذلك، فقلبوا عين الفعل إلى فائه، فصار ونُّور، فأبدلوا من الواو تاءً، كقولهم: تَوْلَج في وَوْلج". زاد المديني: - ولعله من كلامه -: "أي: هو من النار والنور".

أما القلب بالتقديم والتأخير فكثير في كلامهم مثل: "جَبَذَ" أصله "جَذَبَ" (¬1)، ومثل: "صَواقع" أصله "صَواعق"، و"جَاهٌ" أصله "وَجْهٌ" (¬2)، و"أيِسَ" أصل "يَئِسَ" (¬3). والداعي للقلب هنا (¬4) الثقل باجتماع ثلاث واوات. وأما إبدال الواو المفتوحة أول الكلمة تاءً، فقد سمع في "تقوى"، و "تَتْرى"، و"تولج" (¬5)، وغيرهما (¬6). بَقِيَ أن يقال: إذا قُدّمت عينُ "نوُّور" صار "ونْوور" لا "ونُّور". ¬

_ (¬1) هذا على ما رآه أبو عبيد، والجوهري في الصحاح، وابن فارس في المقاييس (1/ 501) وغيرهم، وأنكر القلب ابن جني في الخصائص (2/ 69، 439)، وتابعه ابن سيده في المحكم (7/ 256)، ونقل كلامه، وكذا المجد، وانظر تاج العروس (2/ 555). (¬2) هو قول الفراء، وأبي علي الفارسي، وابن جني كما في الخصائص (2/ 76)، وكذا ابن فارس في المقاييس (6/ 89)، وجماعة من أئمة اللغة، وخالف في هذا اللحياني كما في المحكم (4/ 286). (¬3) انظر: لسان العرب (6/ 19)، والتاج (4/ 103). (¬4) أي: في "نوُّور". (¬5) أما "تقوى" فأصلها "وَقْوَى"، و"تَتْرى" أصلها "وَتْرى" من المواترة، وأما "تَوْلج" وهو كناس الوحش، فأصله "وَوْلج" من الولوج، وهذا الإبدال قليلٌ وسماعيٌّ، وهو كما قال ابن سيده: "وليس هذا البدل قياسًا، إنما هو في أشياء معلومة ... " اهـ. وانظر: شرح الشافية للرضي (3/ 80، 81، 219، 220). (¬6) هكذا بالأصل؛ لأن لفظة "تترى" كانت غير مضافة، ثم ذكرها في الهامش.

قلت: قد قالوا: "اكْرهَفَّ" (¬1)، وأصله "اكْفَهرَّ"، وقالوا: أسير مُكَلَّبٌ، وأصله: "مُكَبَّلٌ"، وقالوا: "طِبِّيخ" (¬2)، وأصله: "بطيخ"، و"تكسَّع" أصله "تسكَّع" (¬3). وفي ذلك وجهان: أحدهما: أن يكونوا بدأوا فقلبوا أصل المادة ثم بنوا الصيغة منها، ففي "تكسع" بدأوا بمادة "س ك ع" فقلبوا فصارت "ك س ع" ثم بنوا منها على ظاهرها صيغة "تفعَّل". فهكذا في كلمتنا بدأوا بمادة "ن ور" فصيروها "ون ر" ثم بنوا منها على ظاهرها صيغة "فعُّول" ... إلخ. الثاني: أنهم نزلوا المضعَّف بمنزلة حرفٍ واحد، وكان التضعيفُ صفةً له، كالحركة مثلاً، وعادتهم في القلب أن يعطوا كلًّا من الحرفين صفة الآخر. أَو قُلْ: يعطون كلا منهما الصفة الصالحة له في موضعه الجديد. أَو قُلْ: ينقلون الحرف وتبقى صفته، ومنها التضعيف في محلها، فإذا حلَّ الحرف الآخر محله أعطي تلك الصفة محافظة على الصيغة. ¬

_ (¬1) اكرهفَّ السحابُ: إذا غلظ وركب بعضه بعضًا، واكرهفَّ: الذكر انتشر ونعظ، واكرهفَّ: الشعر ارتفع. انظر: اللسان (9/ 298)، والتكملة للصاغاني (4/ 556). (¬2) قال ابن سيده في المحكم (5/ 79): "والطبيخ لغة في البطيخ مقلوبة". اهـ. (¬3) انظر تاج العروس (5/ 495).

فكما نرى في "أيِس" مقلوب "يئس" أن الهمزة فُتِحت وكانت في الأصل مكسورة، وأن الياء بعكسها، فكذا في نحو "مكلَّب" مقلوب "مكبَّل " صارتِ اللامُ مضعَّفةً مفتوحةً وكانت في الأصل عُرضةً للإعراب، وصارت الباء بعكس ذلك. فهكذا في "تنّور" كان أصله "نوُّور" فوُضِعَت الواوُ موضع النون، وصارت النون بموضع الواو، وأعطيت كل منهما صفةَ صاحبتها. ***

تفاح

تُفَّاح مادة "ت ف ح" غَير معروفة في غير هذا الاسم (¬1)، فأما حكاية بعضهم (¬2): "تَفْحَةٌ" أي: رائحةٌ، فإن صحّ (¬3) فمأخوذٌ من التفاح نفسه (¬4). وعلى هذا فقد يُدَّعى أن أصل "تُفَّاح": "فُوَّاح" من مادة "ف وح"؛ لأن رائحته تفوح، وهي مادة معروفة في اللغة، فقُلب، فصار "وُفَّاح" (¬5)، ثم أُبدلت التاء واوًا، وإبدال التاء المضمومة في أول الكلمة واوًا أكثر من المفتوحة (¬6)، قالوا: "تُراث" وأصله "وُراث"، وقالوا: "تُجاه" وأصله "وُجاه" (¬7). ¬

_ (¬1) لذلك قال ابن فارس في المقاييس (1/ 350): "التاء والفاء والحاء كلمة واحدة، وهي التفاح". اهـ. وإذا قال ابن فارس: "كلمة واحدة"، فمعناه أنه لا أصل له يشتق منه، ولا يقاس عليه، ولهذا اقتصر على قوله: "وهي التفاح". (¬2) هو عبد الحميد أبو الخطاب الأخفش الكبير، كما صرح بهذا ابن سيده في المخصص (11/ 138)، وأما في المحكم فإنه ذكر المعنى، ولم يصرح. (¬3) لأنه قد تفرد أبو الخطاب بهذا القول من بين الأئمة، فإني لم أجده لغيره، وأبو الخطاب مشهور بالتفرد. قال القفطي في الإنباه (2/ 157): "وله ألفاظٌ لغوية انفرد بنقلها عن العرب". اهـ. وذكر السيوطي في المزهر (1/ 131) أمثلة على تفرده. (¬4) هذا عكس ما قاله أبو الخطاب، فقد جاء في المحكم (3/ 205): "والتفاح: معروف، واحدته تفاحة، ذكر عن أبي الخطاب أنها مشتقة من التفحة ... ". اهـ. وانظر أيضًا: المخصص (11/ 138). (¬5) أي: بتقديم العين على الفاء، فوزنه حينئذٍ "عُفّال". (¬6) يبدو لي - والله أعلم - أن صواب العبارة أن يقال: "ثم أبدلت الواو تاءً، وإبدال الواو المضمومة في أول الكلمة تاءً أكثر من المفتوحة ... ". (¬7) انظر: شرح الملوكي لابن يعيش (ص 295).

ضمير الشأن والقصة

ضمير الشأن والقصة (¬1) يقول النحاة: "إن الضمير في: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] هو ضمير الشأن (¬2). وإنه إذا كان بلفظ المؤنث كما في "هي العرب تقول ما شاءت" يسمى ضمير القصة. وكنت أولاً أفهم وأقرر أنه يرجع إلى مقدرٍ معروف بالقرينة، وأُمثِّلُ ذلك بأن تَسْمعَ ضوضاءَ وجلبةً، ثم يجيء إنسان مِنْ ثَمَّ فتسأله: ما الشأن؟ فيقول: هو الملكُ قَدِم. أو تقول: ما القصة؟ ¬

_ (¬1) هذه تسمية أهل البصرة، ويطلقون عليه أيضًا: ضمير الحديث، وضمير الأمر، والكوفيون يسمونه ضِمير المجهول؛ لأنه لا يدرى عندهم على ماذا يعود؟. قال ابن مالك في تعريف ضمير الشأن: "قد يقصد المتكلم تعظيم مضمون كلامه قبل النطق به، فيقدم ضميرًا كضمير غائب، يُسمَّى: ضمير الشأن، ويعمل فيه الابتداء، أو أحد نواسخه، وهي كان وإنَّ وظن، أو إحدى أخواتهن، ويجعل الجملة بعده متممة لمقتضى العامل ... ". اهـ المقصود منه. انظر: شرح الكافية لابن مالك (1/ 234)، وشرح التسهيل للدماميني (2/ 120). (¬2) هذا قول جماعة من البصريين، والكسائي من الكوفيين. وقال الفراء: "هو" ضمير اسم الله تعالى، وليس للشأن، وأنه عائدٌ على ما يفهم من السياق. وأجاز جمع من العلماء الوجهين، منهم ابن الأنباري في كتاب البيان (2/ 545)، والعكبري في التبيان (2/ 309)، والسمين الحلبي في الدر (6/ 588)، وراجع إعراب القرآن للنحاس (5/ 308)، وشرح المفصل لابن يعيش (3/ 114).

فيقول: هي السوق زُيِّنَتْ (¬1). ولو قلتَ في الأول: ما القصةُ؟ فقال: هي الملكُ قدم. وقلت في الثاني: مَا الشأن؟ فقال: هو السوق زُيِّنَتْ. لكان صوابًا. لكن إذا فرضنا أنك لم تسأله بمقالك ولكنه عدك سائلاً بحالك - ولو ادَّعاءً - بأن يرى أن هناك ما يوجب عليك السؤال لولا غفلتك أو تهاونك، فالمتبادر أنه مُخيَّر يُقدِّر أنك سألتَ عن الشأن أو عن القصة، فإن قدَّرَ الشأن ذكَّر الضمير في الموضعين، وإنْ قدَّر القصة أنَّث في الموضعين، لكنهم أوجبوا (¬2) التذكير في المثال الأول نحو: "الملك قَدِم"، والتأنيث في الثاني ¬

_ (¬1) تنبيه: اعلم أن الذي فهمه وقرره المؤلف هنا، وضرب له ذلك المثال، قد سبقه إليه الرضي في شرح الكافية، حيث قال في (2/ 27): "وهذا الضمير كأنه راجعٌ في الحقيقة إلى المسئول عنه بسؤال مقدر، تقول - مثلاً -: هو الأمير مقبل. كأنه سمع ضوضاء وجلبة، فاستبهم الأمر، فيسأل: ما الشأن والقصة؟!. فقلت: هو الأمير مقبل. أي: الشأن هذا، فلما كان المعود إليه - الذي تضمنه السؤال - غير ظاهر قبل، اكتفي في التفسير بخبر هذا الضمير الذي يتعقبه بلا فصل؛ لأنه مُعيِّنٌ للمسئول عنه، ومبيِّن له، فبان لك بهذا أن الجملة بعد الضمير لم يُؤت بها لمجرد التفسير، بل هي كسائر أخبار المبتدآتِ، لكن سميت تفسيرًا لما بيَّنته". اهـ المقصود منه. ولعل المؤلف قد استفاد من كلام الرضي هذا. والله أعلم. (¬2) أي: الكوفيون، كما نقله عنهم أبو حيان في الارتشاف (2/ 948)، وأما أهل البصرة فيجوز عندهم الوجهان، لكن يستحسن التأنيث مع المؤنث، والتذكير مع المذكر، وفصَّل ابن مالك في التسهيل وشرحه. فانظره (1/ 164)، وراجع الهمع (1/ 233).

نحو: "السوق زُيِّنَتْ" مراعاةً صوريّة لحال المسند إليه تحسينًا للصورة؛ لما يتراءى في قولك: "هَي الملكُ قَدِم" و"السوق زُيِّنَتْ" من الإخبار عن المذكر بالمؤنث، وعكسه (¬1). ويشبه هذا ما قالوه في الجر بالجوار في نحو قول امرئ القيس: كأن أبانًا ... (¬2) جر "مزمل" رعايةً للجوار؛ لأنه إذا رفع "مزمل" كان في الصورة كالمستنكر، إذِ الغالب أَن يكون النعتُ عَقِبَ المنعوتِ فيُتَوهَّم أنَّ "مزمل" نعتٌ لبجاد (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: المساعد على تسهيل الفوائد لابن عقيل (1/ 116)، والهمع (1/ 234). (¬2) هذا البيت من معلقته المشهورة، وتمامه - كما في شرح القصائد السبع لأبي بكر الأنباري (ص 106) -: كأن ثبيرًا في عرانين وَبْله ... كبير أناسٍ في بجادٍ مُزَمَّلِ وروى المبرد في الكامل (3/ 66)، تبعًا للأصمعي: كأن أبانًا في أفانين وَدْقه .... إلخ وثبير وأبان: جبلان، والعرانين: الأوائل، والأفانين: الأنواع، والودق والوبل: للمطر، والبجاد: كساء مخطط من الوبر والصوف، والمزمَّل: باسم المفعول: الملفَّف. (¬3) اختلف النحاة في جر "مزمل" على ثلاثة مذاهب: أ - أنه مجرور على جوار كلمة "بجاد"، وعليه أكثر شراح المعلقة، وقاله جماعة كبيرة من النحاة. ب - أنه مجرور لمجاورته كلمة "أناس"، وهو مذهب الرضي في شرحه للكافية، ولم يقبله البغدادي في الخزانة. ج - أنه ليس مجرورًا على الجوار، بل هو صفة ونعت حقيقي لـ "بجاد"، والتقدير: =

غير أنه في ضمير الشأن والقصة لا محذور في المراعاة؛ إذ ليس فيها ارتكاب محظور بخلاف البيت فإن في تلك المراعاة محظورًا وهو جر ما حقه الرفع (¬1). هذا ما كنت أفهمه وأقرره، ثم رأيتهم عدُّوا هذا الضمير من الضمائر التي تعود على متأخِّرٍ لفظًا ورتبةً (¬2)، فرأيت هذا مخالفًا لما كان عندي، ثم رأيت في تفسير سورة الإخلاص من روح المعاني (¬3) عن العلامة أحمد بن محمد الغُنَيْمي المتوفى سنة (1044) (¬4) ما يلاقي ما كان عندي وفيه: "وقولهم في عد الضمائر التي ترجع إلى متأخر لفظًا ورتبة: (منها ضمير الشأن فإنه راجع إلى الجَملة بعده) مسامحةٌ ارتكبوها ... " (¬5). ¬

_ = مُزمَّلٍ فيه. فحذف الجار فارتفع الضمير، فاستتر في اسم المفعول، وهو قول أبي علي الفارسي، وتلميذه ابن جني، كما في الخصائص (1/ 192)، (3/ 221). وراجع الخزانة (5/ 98)، وتذكرة النحاة لأبي حيان (ص 308، 346). (¬1) لأن "مزمل" نعت لكلمة "كبير" في المعنى خلافًا لأبي علي، وابن جني. (¬2) راجع الأشباه والنظائر للسيوطي (2/ 85، 404)، ومغني اللبيب (2/ 137)، والكليات للكفوي (3/ 130). (¬3) هو لشهاب الدين محمود بن عبد الله الآلوسي، ت (1270 هـ). (¬4) هو أحمد بن محمد بن علي الغنيمي، الأنصاري الخزرجي المصري الحنفي، الملقب بشهاب الديِن، عالم بالنحو، من مؤلفاته: ابتهاج الصدور في بيان كيفية الإضافة والتثنية والجمع للمنقوص والممدود والمقصور، ورسالة في جواز الفصل بين المضاف والمضاف إليه، وغيرها. انظر: هدية العارفين (1/ 158)، ومعجم المؤلفين (2/ 132). (¬5) راجع روح المعاني (30/ 270).

وذكر ابن الحاجب أن ضمير الشأن عائدٌ على متقدم حكمًا (¬1)، وفسر ذلك كما نقله عنه الرضي (¬2) بقوله: "أنك قصدت الإبهام للتفخيم فتعقَّلْتَ المفسِّر في ذهنك ولم تصرح به للإبهام على المخاطب، وأعدتَ الضمير إلى ذلك المتعقَّل، فكأنه راجع إلى المذكور قبله" (¬3). وحاصل هذا - فيما يظهر - أنك تصورت في نفسك "العرب تقول ما شاءتْ" وأنها قصة فقلتَ مُخْبِرًا عنها: "هي العرب تقول ما شاءت" فكأنكَ قلتَ: "القصةُ التي في ذِهني: العرب تقول ما شاءت" (¬4). وأنا ثابت على وجاهة ما ظهر لي. والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) نص عليه في الكافية وشرحها له (2/ 677)، وفي أماليه (3/ 42). (¬2) هو محمد بن الحسنِ الاستراباذي، رضي الدين، نحوي صرفي متكلم شيعي، له شرح الكافية، والشافية لابن الحاجب، توفي نحو سنة (686 هـ). انظر: بغية الوعاة (1/ 567)، ومقدمة الخزانة للبغدادي (1/ 28). (¬3) راجع: شرح الكافية للرضي (2/ 6). (¬4) قال الكفوي في الكليات (3/ 133): "وإذا وقع قبل الجملة ضمير غائب إن كان مذكرًا يسمى ضمير الشأن، نحو: هو زيدٌ منطلقٌ. وإن كان مؤنثًا يسمى ضمير القصة، ويعود إلى ما في الذهن من شأن أو قصة، أي: الشأن، أو القصة مضمون الجملة التي بعده". اهـ.

كاد

كاد هناك ثلاثة أوجه: الأول: أن لا يتقدمَها نَفْيٌ ولا يتلوها اتفقوا على أن معناها حينئذ "قارب" (¬1)، وزاد بعضهم (¬2): "ولم يفعل" وهو تصريح بالمفهوم؛ فإن قولك: "كاد التلميذ ينجح" كقولك: "قارب التلميذ أن ينجح" يُفْهِم كلٌّ منهما نَفْيَ النجاح ووجهه أنه لو نجح لما اقتصر المخبر على الإخبار بالمقاربة، وهذا الإفهام متفق عليه، وقد جاءت "كاد" هكذا - بدون تقدم نفي - في بضعة عشر موضعًا من القرآن (¬3)، وكلها مفهمة للنفي اتفاقًا (¬4). ¬

_ (¬1) انظر تهذيب اللغة للأزهري (10/ 327)، والصحاح (2/ 532)، والقاموس (ص 316). قلت: وأما الزجاجي، ففسرها بـ "همّ ولم يفعل" في كتابه حروف المعاني والصفات (ص 70)، وكذا ابن سيده، كما في اللسان (3/ 382)، وعن بعضهم: أنَّ "كاد"، تأتي بمعنى أراد. (¬2) كالأخفش، والجوهري، والزجاجي كما تقدم، وابن الأنباري، وغيرهم من الأئمة. (¬3) هي ثمان عشرة آية، سأقتصر على ذكر اسم السورة ورقم الآية فيها: البقرة: (20)، الأعراف: (150)، التوبة: (117)، الإسراء: (73، 74، 76)، مريم: (90)، طه: (15)، الحج: (72)، النور: (35، 43)، الفرقان: (42)، القصص: (10)، الصافات: (56)، الشورى: (5)، الملك: (8)، القلم: (51)، الجن: (19). (¬4) إطلاق الاتفاق في الجميع فيه نظر؛ لأن العلماء اختلفوا في معنى قوله تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} نفيًا وإثباتًا، كما في إعراب القرآن لأبي جعفر النحاس (3/ 35)، وتفسير القرطبي (11/ 182)، وكذلك قوله تعالى: {يَكَادُونَ =

الوجه الثاني: أن يقع النفي بعد الفِعل وهذا قد يقع في "قارب"، مثل: "قارب التلميذُ أن لا ينجح" وهذا يُفْهم إثبات النجاح وهو جارٍ على القياس. ألا ترى أنه بمعنىَ قولك: "قارب التلميذُ أن يخيب"؛ فكما أفهم قولُك: "قارب أن ينجح" نَفْيَ النجاح فكذلك أفهم "قارب أن يخيب" نفي الخيبة، وذلك إثباتٌ للنجاح. وبعبارةٍ أخرى أن "قارب" في هذا الوجه كهي في الوجه الأول تُفْهم انتفاء المفعول فإذا كان في المفعول أداةُ نَفْي كان المفهوم نَفْيَ النفي وذلك إثبات. هذا كله في "قارب"، فأما "كاد" فلم أجدها على هذا الوجه (¬1). ولا أدري لماذا اجتنبوه (¬2)؟! ¬

_ = يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا ...}، قد اختلف في وقوع السطوة. انظر البحر المحيط لأبي حيان (6/ 388). (¬1) أي: في تأخر أداة النفي عنها، فيقال مثلاً: كاد التلميذ لا ينجح. (¬2) الضمير يرجع للعرب، أو النحاة، ولكني وقفت على كلام للأئمة يفهم منه جواز هذا التركيب، وأنه غير مجتنب، فقد قال ابن عطية في المحرر (4/ 188): "ووجه ذلك أن "كاد" إذا صحبها حرف النفي وجب الفعل الذي بعدها، وإذا لم يصحبها انتفى الفعل، وهذا لازمٌ متى كان حرف النفي بعد "كاد" داخلاً على الفعل الذي بعدها، تقول: كاد زيدٌ يقوم، فالقيام منفيٌّ، فإذا قلت: كاد زيدٌ أن لا يقوم، فالقيام واجبٌ واقعٌ، وتقول: كاد النعام يطير، فهذا يقتضي نفي الطيران عنه، فإذا قلت: كاد النعام أن لا يطير، وجب الطيران له ... ". اهـ. وقال ابن يعيش في شرح المفصل (7/ 125): "فإذا دخل النفي على كاد قبلها كان =

الوجه الثالث: أن يتقدم النفي على الفعل فأما "قارب" فإنك إذا قلت: "ما قارب التلميذ أن ينجح" أفهم أنه لم ينجح. وهذا واضح معقول، فإن نفي المقاربة يستلزم نفي الوقوع بلا ريب؛ إذ يمتنع الوقوع بدون مقاربةٍ. لكنَّ الحال في "كاد" على خلاف هذا قال الله عزَّ وجلَّ: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71]، وقال سبحانه: {يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ} [إبراهيم: 17]، وقال عزَّ وجلَّ: {لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء: 78]، ومع قوله في آية أخرى: {لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [الفتح: 15]. ومن تدبر كلام العرب وجد كلامهم على نحو هذا - أعني أن نحو: "ما كاد التلميذ ينجح" مفهم لإثبات النجاح. ومن أنصف وكان كثير الممارسة لكلامهم عرف أن هذا هو المتبادر، لكنه مُشكِلٌ كما ترى ما الذي جعل "ما كاد ينجحُ" مفهمًا للإثبات، مع أن "ما قارب أن ينجح" مفهمًا (¬1) إفهامًا يدعمه العقل للنفي المؤكد؟ ¬

_ = أو بعدها لم يكن إلا لنفي الخبر، كأنك قلت: إذا أخرج يده يكاد لا يراها ... ". اهـ. وقال الكفوي في الكليات (4/ 87): "ولا فرق بين أن يكون حرف النفي متقدمًا عليه أو متأخرًا عنه، نحو: {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ}، معناه: كادوا لا يفعلون". اهـ. وانظر البحر المحيط لأبي حيان (6/ 462). (¬1) هكذا بالأصل، والوجهُ أنه بالرفع خبرًا لـ "أن"، وقد يخرّج على لغة مَن نصب الجزئين.

اعترف بعض علماء العربية بما تقدم (¬1)، واعتذر بأن العرف جرى بهذا (¬2)، أي: بأن نحو "ما كاد ينجح" يقال: إذا كان قد نجح بعد صعوبة وبطءٍ (¬3). قال المعري (¬4): (¬5) ¬

_ (¬1) هو قوله: "ومن تدبر كلام العرب ... " إلى قوله: "المتبادر". وهذا الاعتراف جاء معناه عن الفراء، والأخفش كما في التهذيب للأزهري (10/ 328)، وانظر تاج العروس (2/ 488). (¬2) انظر: دلائل الإعجاز لعبد القاهر (ص 275)، وشرح كافية ابن الحاجب للمصنف (3/ 922). (¬3) هذا المعنى أخذ به أبو الفتح ابن جني، كما في المساعد (1/ 303)، وكذا ابن مالك في التسهيل حيث قال (1/ 396): "وتنفى كاد إعلامًا بوقوع الفعل عسيرًا ... "، وانظر الإتقان (2/ 216)، والزاهر للأنباري (2/ 84). (¬4) أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخي، أبو العلاء المعري، عالم باللغة، حاذقٌ بالنحو، جيد الشعر، شهرته تغني عن صفته، ولد بمعرة النعمان سنة (363 هـ)، له مصنفات كثيرة، منها: كتاب الأيك والغصون، والصاهل والشاحج، وشروح على بعض الدواويين، توفي سنة (449 هـ). انظر: إنباه الرواة (1/ 81)، وبغية الوعاة (1/ 315). (¬5) هنا بياض بقدر سطرين، تركهما الشيخ لبيتي أبي العلاء المعري اللذين ألغز بهما، وهما - كما في شرح الكافية لابن مالك (1/ 466)، والأشباه والنظائر (2/ 651) -: أنحويَّ هذا العصر ما هي لفظةٌ ... جرت في لساني جُرهمٍ وثمودِ إذا استعملت في صورة الجحد أثبتت ... وإن أثبتت قامت مقام جحودِ

فأجابه الشهاب (¬1): (¬2) وأبى أكثرهم هذا، وأصروا على أن "ما كاد ينجح" مثل "ما قارب ينجح" يفهم نفي النجاح نفيًا مؤكدًا (¬3). وأجابوا عن قوله تعالى: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71]: أنهما كلامان، لكنَّ حالَ القوم في وقتين مختلفين، ففي الوقت الأول لم يقاربوا الفعل فضلاً عن أن يفعلوا. ¬

_ (¬1) أحمد بن محمد بن علي الأنصاري السعدي الشافعي المصري، يعرف بأبي الطيب شهاب الدين، عالم أديب شاعر، ولد بالقاهرة سنة (790 هـ)، من مؤلفاته: التذكرة، وكتاب النيل، وديوان شعر، توفي سنة (875 هـ). انظر نظم العقيان للسيوطي (ص 63). (¬2) في الأصل بياض بقدر سطرين أيضًا، تُركا لبيتي الشهاب اللذين أجاب بهما عن لغز المعري، وهما - كما في حاشية الصبان على الأشموني (1/ 268) -: لقد كاد هذا اللغز يُصْدئ فكرتي ... وما كدت منه أشتفي بورودِ فهذا جوابٌ يرتضيهِ أولو النهى ... وممتنعٌ عن فهم كل بليدِ قال المناوي في فيض القدير (4/ 541): "وهذا الجواب لغزٌ أيضًا، فأوضحه بعضهم بقوله: أشار الحجازي الإِمام الذي حوى ... علومًا زكت من طارفٍ وتليدِ إلى "كاد" إفصاحًا لذي الفضل والنهى ... وأبهم إبعادًا لكل بليد (¬3) هذا رأي الجمهور، واختاره جماعة من المحققين، منهم: الزمخشري في المفصل، وابن كمال باشا في رسالته "كاد"، وابن مالك في التسهيل والكافية، وابن الحاجب في كتبه، كشرح المفصل والكافية، والرضي، وابن القيم في كتاب اجتماع الجيوش الإِسلامية، والسيوطي في كتبه، وغيرهم من الأئمة.

ثم في الوقت الثاني قاربوا وفعلوا (¬1). وفي هذا من التكلف ما فيه (¬2)، والذي ألجأهم إليه ما تقدم من الإشكال (¬3). وقد وقع لي منذ زمانٍ ما يزيل الإشكال ويقرب إفهام الإثبات. وقبل أن أشرحه أقدم كلامًا آخر: تقول العرب: "لزيدٌ قائمٌ" وهذه اللام تسمى لام الابتداء (¬4)، وهي تفيد التوكيد (¬5). ولا تقول العرب: "زيدٌ لقائمٌ"، وإذا دخلت "إنَّ" لم يقولوا ألبتة: "إن لزيدٌ قائمٌ" ولكنهم يقولوا (¬6): "إن زيدًا لقائمٌ"، فقال علماء العربية: إنَّ هذه اللام هي لام الابتداء نفسها، ولكنها أخرت عن موضعها كراهية الجمع بين حرفي توكيد (¬7). ¬

_ (¬1) ذكر هذا التأويل ابن مالك في شرحي التسهيل والكافية، وابن هشام في المغني (2/ 344)، والسيوطي في الهمع (2/ 147)، وفي الإتقان (2/ 216)، وانظر الدر المصون (1/ 240). (¬2) قد استبعده أيضًا محمد الطاهر بن عاشور في التحرير والتنوير (1/ 557)، فانظره. (¬3) هو قوله: "ما الذي جعل "ما كاد ينجح" مفهمًا ... " إلخ. (¬4) واللام المزحلقة، والمزحلفة، بالقاف والفاء، كما في التصريح للأزهري (1/ 221). (¬5) وتخليص المضارع للحال، واعترضه ابن مالك، كما في شرح التسهيل (1/ 22)، وانظر مغني اللبيب (1/ 343)، وكتاب اللامات للزجاجي (ص 69). (¬6) هكذا في الأصل، وهي لغة. (¬7) راجع الجنى الداني (ص 128)، والمغني (1/ 343)، والهمع (2/ 171)، واللامات للزجاجي (ص 64).

وقالت العرب: "مهما يكن من شيء فزيدٌ قائمٌ" ولا تقول: "مهما يكن من شيءٍ زيدٌ فقائمٌ". وقالوا: "أما زيدٌ فقائمٌ". فقال النحاة (¬1): إن هذه الفاء هي التي كانت قبل "زيد" وأن ذاك محلها إلا أنها هنا أخرت عن موضعها للعلة التي ذكروها (¬2). وجاءت "هل" الاستفهامية بعد واو العطف وفائه وثم (¬3)، ولم تجئ بعدها (¬4)، وخالفتها همزة الاستفهام فجاءت قبل أحرف العطف ولم تجئ بعدها (¬5). ¬

_ (¬1) هم الجمهور، وعن بعضهم إذا قلت: "أما زيدٌ فمنطلقٌ"، فأصله: إنْ أردت معرفة حال زيدٍ فزيدٌ منطلقٌ. انظر شرح الألفية للمرادي (3/ 1306). (¬2) هي إصلاح اللفظ، والفرار من وجود صورة عاطفٍ بلا معطوفٍ عليه، وقال ابن يعيش في شرح المفصل (9/ 11): "ووجه ثانٍ، وهو أن الفاء وإن كانت هنا متبعة غير عاطفة، فإن أصلها العطف ... ومن عادة هذه الفاء متبعة كانت أو عاطفة أن لا تقع مبتدأة في أول الكلام، وأنه لا بد أن يقع قبلها اسمٌ أو فعلٌ ... " إلخ. راجع: الجنى الداني (ص 523)، والتصريح (2/ 262). (¬3) بعد واو العطف، كقولك: وهل زيدٌ قائمٌ؟ وبعد فائه، كقوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} وبعد ثم، كقول الكميت: * ليت شعري هل ثم هل آتينهم * (¬4) أي: ولم تجئ حروف العطف بعد "هل" الاستفهامية. (¬5) بل خالفت الهمزة جَميع أدوات الاستفهام، قال تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا =

فقال النحاة: إن محل الهمزة بعد هذه الأحرف ولكنها قُدِّمت لأصالتها في الصدارة (¬1). فعلى هذا ظهر لي أن أداة النفي التي تتقدم "كاد" كان موضعها بعد "كاد"، ولكنها قُدِّمت للعلة التي منعتهم من أن يأتوا بعد "كاد" بأداة نفي كما تقدم (¬2). وهذا الامتناع يدل على ما أزعمه من التقديم وعلى هذا فقولنا: "ما كاد ينجح" أصله - لو عبَّرنا بـ "قارب" - "قارب أن لا ينجح"، وقد تقدم أن "قارب أن لا ينجح" يفهم الإثبات بالاتفاق (¬3)، فكذلك "ما كاد ينجح"؛ لأن الأصل "كاد لا ينجح" (¬4). ثم قرأت في مفردات الراغب (¬5): "كاد لمقاربة الفعل، يقال: كاد يفعل ¬

_ = لَكُمْ ...}، وقال: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا ...} الآية، وقال عزَّ وجلَّ: {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ}. (¬1) هذا قول سيبويه والجمهور، وخالف الزمخشري والبيضاوي، فذهبا إلى تقدير جملة بعد الهمزة لائقة بالمحل، وقيل: إن الزمخشري رجع عن هذا، كما قال ابن مالك في شواهد التوضيح (ص 64 - 65). وانظر الجنى الداني (ص 31)، والهمع (4/ 360). (¬2) قد وافق المؤلفَ على هذا الرأي الأستاذُ محمد الطاهر بن عاشور في تفسيره التحرير والتنوير (1/ 559)، وقرر هناك ما ذهب إليه المعلمي. راجع المقدمة. (¬3) انظر (ص 183)، وليس فيه ذكر الاتفاق فيما يخص الوجه الثاني من استعمالات "كاد". (¬4) لعلَّ الأحسن أن يقال: لأن الأصل: "كاد ما ينجح". (¬5) أبو القاسم الحسين بن محمد بن المفضل الراغب الأصفهاني، صاحب التصانيف =

إذا لم يكن قد فعل وإذا كان معه حرف نفي يكون لما [قد] (¬1) وقع، ويكون قريبًا من أن لا يكون ...... ولا فرق بين أن يكون حرف النفي متقدمًا عليه أو متأخرًا عنه". هذا كلامه (¬2). وقوله: "يكون لما قد وقع ويكون قريبًا من أن لا يكون" وجه واحد، أي: أنه لِمَا وقع مع قربه مِن أن لا يكون، وحاصله: أنه وقع بعد جهدٍ وبطءٍ. فأما قوله: "ولا فرق ... " ففيه أنه لم يُسمع تأخُّر حرف النفي عنه (¬3)، فما بقي إلا أنه عند تقدم حرف النفي يفيد ما يفيده لو تأخر حرف النفي. فقولنا: "ما كاد ينجح" يفيد ما يفيد "كاد لا ينجح" لو سمع هذا. وهذا حقٌّ، لكن لم يبيِّن العلة، وقد فتح الله تعالى بها. بقي أن يقال: فهل امتنعوا من أن يُدخلوا حرف النفي مقدَّمًا أصالة على "كاد" كما يدخلونه على "قارب" في نحو "ما قارب أن ينجح"؟ قلت: قد يقال: نعم بدليل أننا لا نعرف موضعًا جاء فيه "ما كاد يفعل" ¬

_ = المشهورة، ككتاب الذريعة، ومحاضرات الأدباء، والمفردات، وغيرها، كان عالمًا باللغة والأدب والتفسير، توفي سنة (502 هـ)، وقيل: إنه توفي في أوائل القرن الخامس. انظر: بغية الوعاة (2/ 297)، ومفتاح السعادة (1/ 209). (¬1) زيادة من المفردات. (¬2) انظر: المفردات في غريب القرآن (ص 443). (¬3) راجع: (ص 184).

مفهمًا ما يفهمه "ما قارب أن يفعل" والعلة في ذاك ظاهرة وهي أنهم لما اعتزموا أن يقدموا على "كاد" حرف النفي - الذي حقه أن يكون متأخرًا عنها - امتنعوا خشية الإلباس من إدخال حرف النفي عليها مقدمًا أصالة. لكن يظهر لي أنهمَ لم يمتنعوا من ذلك ألبتة، بل قد يأتون به إذا كانت هناك قرينة على المقصود. والحجة على هذا مفصلًا (¬1). وقد يقال: لما وضعوا "كاد" للدلالة على قرب خبرها من اسمها، واشترطوا أن يكون خبرها فعلاً؛ ليكون - لدلالته على الحالية - أدل على القرب المعنوي أكدوا (¬2) ذلك بالتزام القرب اللفظي، وهو: أن لا يُقَدَّم على الفعل حرف، وقد يشهد لهذا إبعادهم "أَنْ" المصدرية فلا يقولون: "كاد أن يقعد" إلا نادرًا (¬3)، ولا يلزمهم من الإتيان بـ "أن" نادرًا أن يؤتى بـ "لا" نادرًا لأن الترك هنا دليلٌ على التقديم فوجبت المحافظة عليه (¬4). ¬

_ (¬1) كذا في الأصل! تُرك بياضٌ بعد هذا الكلام. (¬2) هذا جواب: لمّا. (¬3) هو استعمال صحيحٌ فصيحٌ، جاء في كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، وليس خاصًّا بضرورة الشعر، كما ذهب إليه المرزوقي في شرح الحماسة (1/ 54)، وقد سرد الشواهد على هذا ابن مالك في كتاب شواهد التوضيح (ص 159). (¬4) من قوله: "وقد يقال: ... " إلى هنا، كتب في الجانب الأيمن من الصفحة نفسها، ولم يوضع لها تخريجٌ أو إشارةٌ تعين مكانها، فرأيت - بعد التأمل - أن من المناسب إيرادها ههنا، والله أعلى وأعلم، وصلى الله على نبيه وآله وسلم. فائدة: وُجد في بعض تعاليق المؤلف رحمه الله فائدة عن "ما كاد" نصها: =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الصواب في "ما كاد" و"ولم يكد" أن النفي يجيء مسلطًا على "كاد"، كما هو الظاهر، فيلزمه عدم الوقوع. وقد تجيء "كاد" مسلطة على النفي تقديرًا، كقوله تعالى: {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ}، والتقدير: وكادوا لا يفعلون. فيلزمه الوقوع. وحمله كذلك على هذا التقدير أنك لا تجد في كلامهم: "كاد لا يفعل" و"لا يكاد لا يفعل". وأما العلة في عدم ورود هذا، والتزام تقدم أدلة النفي فيحتاج إلى نظر.

الرسالة السادسة الكلام على تصريف "ذو"

الرسالة السادسة الكلام على تصريف "ذو"

"ذو" عينه واو ولامه ياء، أما الأول فلأن مؤنَّثهُ "ذات" وأصلها ذوات بدليل أنَّ مثناها "ذواتا" حُذفت عين المفردة لكثرة الاستعمال. هـ كليَّات (¬1) أبي البقاء الحسيني (¬2) - رحمه الله - بتصرف. "ذو" لامُه ياءٌ محذوفة، ووزنه في الأصل ذَوَيٌ وِزَانُ سَبَب، ويكون بمعنى صاحب فيُعرب بالواو والألف والياء، ولا يستعمل إلا مضافًا إلى اسم جنس، فيقال: زيد ذو علم، وذو مال، والزيدان ذوا علمٍ، والرجال ذوو مال، وهند ذات مالٍ والهندان ذواتا مالٍ، والنساء ذوات مالٍ، هـ "مصباح" بتصرف (¬3). قوله تعالى: {ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ} [سبأ: 16] تثنية ذوات مفرد على الأصل. هـ، قوله تعالى: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} [الرحمن: 48] تثنية ذوات على الأصل ولامها ياء. هـ جلالين (¬4). "ذو" أصله ذوى مثل: عصى. هـ "مختار الصحاح" (¬5). ¬

_ (¬1) الكليات (2/ 356). (¬2) هو أيوب بن موسى الحسيني الكفوي الحنفي، ولد في كفا بالقرم، وتوفي وهو قاضٍ بالقدس سنة (1094 هـ). انظر: معجم المؤلفينَ لكحالة (3/ 31)، وهدية العارفين (5/ 229). (¬3) انظر: المصباح المنير للفيومي (1/ 211). (¬4) انظر: تفسير الجلالين (3/ 278)، (4/ 150). (¬5) راجع المختار (ص 118).

"ذو" أصله عند سيبويه (¬1) ذَوَىٌ كجبلٍ، وعند الخليل (¬2) "ذوّ" بشد الواو. هـ "حاشية الخضري على ابن عقيل على ألفية ابن مالك" (¬3). تنبيهٌ: مذهب سيبويه أن "ذو" بمعنى صاحب وزنها فَعَلٌ بالتحريك، ولامها ياء فهي ذوي لانقلاب لامها ألفًا في نحو: ذواتا، وقيل في تثنيتها أيضًا ذاتا بلا ردِّ اللام، والأكثر ذواتا - كما في التسهيل (¬4) - وأما الثاني فلأن يائيَّ اللام أكثر من واويِّه فأصله ذَوَى حذفت لامه اعتباطًا ونُقِلت حركات الإعراب إلى الواو، وحُرّكت الذالُ بحركة الواو اتباعًا لها، ثم في حال الرَّفع حذفت ضمة الواو للثقل فبقي "ذو"، وفي حال النصب قلبت الواو ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها فبقِيَ "ذا"، وفي حال الجرّ حذفت كسرة الواو للنقل فوقعت الواو متطرفة إثر كسرة فقلبت ياءً فقيل: "ذي". فإن قلتَ: لا وجه للنقل والاتباع في حال النصب لفتح الواو والذال فتحًا أصليًا؟ ¬

_ (¬1) أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر، الإِمام المشهور، أخذ النحو عن الخليل ويونس، وأخذ اللغات عن أبي الخطاب الأخفش، توفي سنة (180 هـ)، وقيل غير ذلك. انظر: أخبار النحويين البصريين للسيرافي (ص 63)، وطبقات الزبيدي (ص 66). (¬2) أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد البصري الفراهيدي، اللغوي النحوي العروضي الزاهد الإِمام المعروف، درس على أبي عمرو بن العلاء، وأخذ عنه سيبويه والنضر وجماعة، توفي رحمه الله سنة (160 هـ)، وقيل غير ذلك. انظر: نزهة الألبا لابن الأنباري (ص 49). (¬3) انظر حاشية الخضري (1/ 45). (¬4) راجع شرح التسهيل لابن مالك (1/ 104).

قلتُ: يقدر ذهاب فتحهما الأصلي وفتح الواو بفتحة الإعراب التي كانت على اللام المحذوفة وفتح الذال بفتحة الاتباع؛ لتكون حالة النصب كحالتيْ الرفع والجر. هـ "صبّان على الأشموني على الألفية" (¬1). "ذو" أصل ذو ذوى مثل: عصى، وردّ لام ذات في التثنية لا لام ذو فقالوا: ذواتا، قال: وقد جاء أيضًا ذاتا، قال: وهو قليل وجمع بحذف اللام فقيل: ذوات، ولو رُدَّت لقيل: ذويات. هـ. "رضي على الكافية والشافية" بتصرف (¬2). "ذو" أصلها ذوى فحذف لامها في مفردها المذكر فقيل: ذو، وفي مفردها المؤنث فقيل: ذات وفي جمع المذكر فقيل: ذوون، وفي جمع المؤنث فقيل: ذوات، ولو رُدَّت لقيل في الأول: ذوى مثل: عصى، وفي الثاني ذواة مثل: نواةٍ، وفي الثالث: ذويون مثل: حكمون، وفي الرابع: ذويات مثل: حصيات، وأما التثنية في ذات فقالوا: ذواتا، قال: على الأصل فوزنه ذواتا زيدٍ وهي الأكثر، وبها ورد القرآن قال تعالى: {ذَوَاتَيْ أُكُلٍ}، {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ}، وقد جاء "ذاتا" على القياس وهو قليل، وللتثنية والجمع شروط: أحدها: الإفراد فلا يجوز تثنية المثنى والجمع السالم والمكسر المتناهي، ولا جمع ذلك اتفاقًا ولا غيره من جموع التكسير، ولا اسم ¬

_ (¬1) راجع حاشية الصبان على الأشموني (1/ 71)، وقد تصرف الشيخ في النقل عنهما. (¬2) انظر شرح الكافية (2/ 175)، وشرح الشافية (2/ 62).

الجنس إلا إنْ تُجوِّز به. هـ. "همع الهوامع للسيوطي" بتصرف (¬1). أقول (¬2): أصل "ذو" ذَوَيٌ على وزان فَعَلٍ ولو جاء على الأصل لقيل فيه: ذوى نحو هوى لانقلاب الياء ألفًا، فيكون مؤنثه "ذوات" وزن حدقةٍ، فوزانه بعد الحذف "فَعَ" ووزان ذات "فَعَت"، فلو جعلنا مثناها ذاتا كان بوزان "فَعْتا" ولكن قيل في مثناه: ذواتا على الأصل، فوزانها "فَعَلَتا" نحو حَدَقَتا. أقول: قد ظهر لي مما مر أن أصل "ذو" ذوى على وزان فعل، وكان القياس أن تبدل لامه ألفًا لكونها ياءً متحركة مفتوحًا ما قبلها فيكون "ذَوَى" على وزن هَوَى، لكنهم حذفوا لامه اعتباطًا كما حذفت من "أب، وأخ، وحم، وهنٍ، وفم"، منقلب الميم واوًا، ثم نقلوا حركة الإعراب إلى العين - وهي الواو - لصيرورتها آخر الكلمة كما في "يدٍ، ودمٍ" ثم تحرك الذال بمثل حركتها اتباعًا، وتحذف حركة الواو رفعًا وتبدل ألفًا فتحًا (¬3)، وياءً جرًا، ووزنها - حينئذ - "فع" مثل "أبٍ، وأخٍ، ويدٍ، ودمٍ"، ثم عند تأنيثه كان لهم وجهان الأصل والفرع، إما أن يتبعوا الفرع - كما فعلوا - فقالوا: "ذاتٌ" فوزانها فَعْتٌ مثل "بِنْتٍ، وأُخْتٍ"، وإما أن يتبعوا الأصل فيقولوا: "ذواة" على وزن نواةٍ، ودواةٍ ثم إذا أرادوا التثنية فكذلك إما أن يتبعوا الفرع فيقولوا: "ذاتا ¬

_ (¬1) انظر همع الهوامع (1/ 139 - 150). (¬2) القائل هو الشيخ المعلمي. (¬3) أي: نصبًا.

مالٍ" فوزانه "فَعْتا" وقد ورد بقلةٍ (¬1)، وإما أن يتبعوا الأصل فيقولوا: "ذواتا أكل"، و {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ}. فوزانه: نواتا تمرٍ، دواتا زيدٍ، ثم لما أرادوا الجمع احتاجوا لزيادة ألف الجمع - كما في نحو -: حدقةٍ قالوا: حدقات، فالتقت الألف الأصلية المبدلة عن الياء مع ألف الجمع ساكنتين فحذفت الأولى فقيل: "ذوات" فوزانه "فَعَات" مثل "بَنَات". والله - سبحانه وتعالى - أعلم. جَمَعهُ الحقير عبد الرحمن بن يحيى المعلمي ... ¬

_ (¬1) قال رجل من بني سعد: * يا دار سلمى بين ذاتي العوج * انظر: همع الهوامع (1/ 150).

الرسالة السابعة إشكال صرفي وجوابه

الرسالة السابعة إشكال صرفي وجوابه

بسم الله الرحمن الرحيم اللهمَّ وفِّق للصواب خطيء ... خطيئة ... خطايِئُ ... خطائِئُ ... خطاءٍ/ ي ... خطايا فعل ... فعيلة ... فعايل ... فعائل صحف ... صحيفة ... صحايف ... صحائف شوي (¬1) ... شواءية (¬2) ... شوايِئُ ... شوائِئُ ... شواءٍ/ ي ... شوايا بلي ... بليّة ... بلايِئُ ... بلائِئُ ... بلاءٍ/ ي ... بلايا برء ... بريئة ... برايِئُ ... برائِيُ ... براءٍ/ ي ... برايا بغي ... بغوي ... بغايِئُ ... بغائِئُ ... بغاءٍ/ ي ... بغايا حوي ... حويّة (¬3) ... حوايِئُ ... حوائِئُ ... حواءٍ/ ي ... حوايا ¬

_ (¬1) كتب المؤلف هذه الأفعال (شوى وبلى وبغى وحوى) بالياء وهي في المعاجم بالألف المقصورة، ولعله يريد أن يشير إلى أنَّ الألف منقلبة عن الياء التي هي لام الفعل. (¬2) هكذا وجدتها ولا أدري ما وجْهُها؟ ولعلها: شويّة أو شاوية كما في شرح المفصل لابن يعيش (10/ 113). أو تكون (شويئة). (¬3) قال أبو حيان في الارتشاف (1/ 260) لما ذكر (حوايا) قال: "جمع حَويّة أو حاوية أو حاوياء". اهـ.

إنَّ نحو هذه الأمثلة (¬1) لم يستعمل على القاعدة في رسائل، وصحائف، وعجائز (¬2)؛ لأَنَّه هنا لو استعمل كذلك لزم أن يكون منقوصًا. أمَّا اليائيُّ فظاهر (¬3)، وأمَّا الهمزيُّ (¬4) فلأنَّ القاعدة الأخرى في الهمزة أنَّها إذا كانت طرفًا بعد أخرى مكسورةٍ تُبدل ياءً كالجائي (¬5)، فلو فُعِلَ هنا كذلك صار منقوصًا، والمنقوص إذا نُكّر نُوِّن فقيل: هنا خطاءٍ، وبلاءٍ فالْتبس بالمصدر؛ فهربًا من ذلك أُبْدِلَ ما بعد ألف الجمع ياءً مفتوحةً وما بعده ألفًا. أمَّا الواو إذا كانت بعد الألف في نحو: دعاوَى، وفتاوَى فهي ليست في مفردها كالتي في بَغُوي وعَجُوز (¬6)؛ فلذلك لا تقلب همزةً، بل تارةً تلحق ¬

_ (¬1) ويعني بها المؤلف: (خطايا - شوايا - بلايا - برايا - بغايا - حوايا). (¬2) قاعدة رسائل وأخواتها ما نصَّ عليه ابن مالك في الألفية بقوله في الإبدال: والمدُّ زيد ثالثًا في الواحد ... همزًا يُرى في مثل كالقلائدِ وقال السيوطي في الهمع (6/ 258): "وتبدل الهمزة أيضًا من تالي ألف شبه مفاعل، إذا كان مدًّا مزيدًا كالقلائد والصحائف والعجائز، بخلاف ما إذا كان أصليًّا كمعايش ومفاوز" اهـ. (¬3) اليائي نحو: (شوى - بلى - بغى - حوى) فإنَّ ألفها منقلبة عن ياء. (¬4) الهمزيُّ نحو: (خطئ، برء). (¬5) انظر شرح الشافية للرضي (3/ 55، 59). (¬6) أي أنَّ مفرد (دعاوىِ وفتاوى) دَعْوى وفَتْوى، والواو فيهما ليست كالتي في (بَغُوْي، وعَجُوز) لأنَّها في الأخيرتين زائدة وحرف مدّ فتنطبق عليها قاعدة فعائل في قلبها همزةً، بينما هي في (دعْوَى وفتْوَى) أصلية ليست مدةً، لكنَّ جمعهما يعاملان معاملة جمع (بغوي وعجوز) بحسب ما رآه المؤلف هنا، فيقال: دعاوَى وفتاوَى بوزن (بغايا)، ودعاوِي وفتاوِي بوزن (عجائز)، والفتح والكسر في جمع مثل (فتوى =

بعجوز فيقال: دعاوِي وفتاوِي، وتارة ببغُوي فيقال: دعاوَى وفتاوَى. والله - سبحانه وتعالى - أعلم. هذا ما ظهر لي ههنا بعد طول استشكال، وما أظنُّه إلا الحق. والله أعلم. عبد الرحمن بن يحيى المعلمي ... ¬

_ = ودعوى وعلقى) وبابها جائز كما تجده في المساعد لابن عقيل (3/ 453).

الرسالة الثامنة ضبط فعلين في متن الأزهار واعتراض وانتقاض

الرسالة الثامنة ضَبْطُ فِعْلين فِي مَتْنِ الأزهار واعتراض وانتقاض

بسم الله الرحمن الرحيم عبارة متن الأزهار في الفطرة: "وتسقطُ عن المُكَاتَبِ، قيل: متى يرقُّ أو يعتقُ" (¬1). سُئِلَ الحقيرُ: كيف تَضبِطُ يرقُّ أو يعتقُّ؟ فأجاب: أن (يرق) بفتح أوله وكسر ثانيه ويعتق بفتح أوله وكسر ثانيه مَبْنيٌّ كل منهما للمعلوم مضارعا من (رَقَّ، وعَتَقَ) إذا صار رقيقًا أو عتيقًا. وطلب منّي الدليل، فعند المراجعة نقلتُ عبارة المصباح، وهي هذه في (ر ق ق): "والرق بالكسر العبودية، وهو مصدر رَقَّ الشخصُ يَرِقُّ من باب ضَرَبَ فهو رقيقٌ، ويتعدى بالحركة وبالهمزة، فيقال: رققته أَرُقُّه من باب قَتَل وأَرْققته فهو مرقوق ومُرَقٌّ، وأَمَةٌ مرقُوقةٌ ومُرَقَّة. قاله ابن السِّكيت" (¬2). وعبارتهُ في (ع ت ق): "عَتَقَ العبدُ عَتْقًا من باب ضَرَبَ، وعَتَاقًا وعَتَاقةً - بفتح الأوائل - والعِتقُ بالكسر اسمٌ منه، فهو عاتقٌ ويتعدَّى بالهمزة فيقال: أَعتقته فهو مُعتَقٌ على قياس الباب ..... " (¬3). فإن قلتَ: نراهُ ذَكَر الوجهين! ¬

_ (¬1) انظر: السيل الجرار (2/ 81). (¬2) انظر: المصباح (ص 235). (¬3) انظر: المصباح (ص 392).

قلتُ: نعم، ولكن صَدَّر بما قلنا. فإن قلت: صدَّر به لكونه ثلاثيًّا، والآخرُ مزيدًا فيه. قلت: مُسَلَّمًا، ولكن يتعيَّن هنا الأوّل؛ لأنّ المكاتب هو الذي يصير ذا رقٍّ، قال في الأزهار: "ويَردُّه في الرقِّ اختياره .... إلخ". وكذلك العتق هو الذي يصيرُ ذا عتقٍ بالوفاء. وأمَّا في نحو الأسير إذا أرقَّه الإمامُ، أو العبدُ إذا أعتقه سَيِّدهُ طَرْحةً فيجوز الوجهان؛ لأنَّك تقول: أرقَقته فرقَّ أي: صار ذا رِقٍّ، وأعتقته فعتق أي: صار ذا عتقٍ. وتقول: أُرِقَّ الأسيرُ أي: أرقَّه الإمامُ أو أُعْتِقَ العَبدُ أي أعتقه سيِّده. والله أعلم. [اعتراض] (¬1) قوله: "إذا صار" غير مُسَلَّمٍ أنّ رقَّ وعتق بمعنى صار. وقوله: "من باب قتل" أيُّ شيءٍ من باب قَتَلَ؟! فلا تليقُ التعمِيةُ في موطن التعليم. ¬

_ (¬1) هذا الإعراض وجدته في نفس الورقة التي أجاب فيها المعلمي عن السؤال السابق، ولم يذكر فيها اسم المعترض غير أني وجدت حرف (ع) مكتوبًا في وسط الاعتراض ولعله - والله أعلم - رمز للقاضي عبد الله بن علي العمودي فقد كان كثيرًا ما يعترض على المعلمي ويناقشه في المسائل، ومما يقوي هذا أن الخط هو عينه خط العمودي فلينظر في هذا - والله أعلم -.

ثم قوله: "مسلمًا" لحنٌ فاحش. وقوله: "مزيدًا فيه" لم يتضح عطفه على (ثلاثيًّا) فالأَصْوبُ رَفعُه. وقوله: "يَصِيرُ ذا رقٍّ" ويُصيَّرُ أيضًا. وقوله في الأزهار (¬1): "ويرده في الرق اختياره" نقول: واضطراره، بدليل قوله بعده: "وعجزه" أي: ويردُّه في الرقَّ عجزه. قوله: "يصير ذا عتقٍ بالوفاء" أفهمتْ عبارته أنه بالإعتاق لا يقال: (عَتَقَ يَعتِقُ) على أنَّه يُقال: عَتَقَ مطلقًا سواءً كان بالوفاء أو بالإعتاق. والمختارُ (¬2) كاسمِه لم يُهملْ (رَقَّ يَرِقُّ) بمعنى مُلِكَ إلا لكونها شاذّة، وقد ذكرها بمعنى ضدِّ ثَخُنَ وغَلُظَ، والفيوميُّ يجمع بين المشهور وغيره كالقاموس واللسان، والتصدير لا يدلُّ على الأعلى، فكثيرًا ما يُصَدَّر الأدنى والله - تبارك وتعالى - أعلم (¬3). **** ¬

_ (¬1) السيل الجرار (3/ 391 - 392). (¬2) يريد كتاب مختار الصحاح للرازي. (¬3) انتهى الاعتراض.

الحمد لله وحده (¬1) قوله: "إذا صار غَيرُ مُسَلَّمٍ أنَّ رقَّ وعتق بمعنى صار" فبمعنى ماذا؟! فإنَّه لازمٌ (¬2) ويتعدَّى بما ذكره في المصباح. وأمَّا قوله: "أيُّ شيءٍ من باب قتل ... إلخ". فهذه عبارة المصباح، وليست من مسألتنا (¬3) حتى نتكلم عليها، نعم مقصوده أن (رقَّ) قد يتعدى بنفسه كما قال بالحركة ويكون من باب (قَتَلَ) (¬4)، فتقول: رَقَقْتُه، أَرُقُّهُ. وأما قوله (¬5): "مسلمًا لحنٌ فاحشٌ" فإنه ليس بخطِّ الحقير ولا أَمليتُه كذلك، على أني لو قلتُ ذلك لكان له وجهٌ، وهذه العبارة " (¬6) فإنْ قُلتَ: صدَّر به لكونه ثلاثيا والآخر مزيدا فيه، قُلْتَ: مسلمًا) فتُضبَط (قلت) الثانية بفتح التاء (¬7)، و (مسلَّما) نعتٌ لمصدر محذوف تقديره: (قولًا مسلمًا) (¬8)، ¬

_ (¬1) هذا جواب المعلمي على الاعتراض، وفي نفس الورقة أيضا اعتراض عليه أثبتُّه في الحاشية، وسينقض المعلمي الاعتراض بجواب آخر سيأتي إن شاء الله. (¬2) كتب فوقها: (العارف ما يُعرَّف). [المعترض]. (¬3) بلى؛ لأنكم استطردتموها وهي ميزان الباب فعلى المصباح. [المعترض]. (¬4) فقط أم ومن باب ضرب غلط. [المعترض]. (¬5) أي شيء في اصطلاحكم؟ [المعترض]. (¬6) ما هذا في وضعكم. [المعترض]. (¬7) غلط لا يليق بالمذاكرة. [المعترض]. (¬8) لا يعزب عنكم ما فيه من التعسُّف والأخذ على غير الجادّة. [المعترض].

على أنه لا حاجة لمثل هذه. وقوله: "لم يتَّضح عطفه على (ثلاثيًّا) ". كيف لا؟! والعبارةُ: (لكونه ثلاثيًّا والآخر مزيدًا فيه)، وهو من العطف (¬1) على مَعْموليْ عامل، وهو جائزٌ إجماعًا - كما في المغني - (¬2) على أنه ليس المعنى هنا على الاستئناف؛ لأن الجملة الثانية داخلةٌ في التعليل، فَنَظَرُكُم في قولكم: والأصوب رفعه. وقوله في المكاتب: "ويُصَيَّر أيضًا" اعترافٌ بأنه يصير (¬3)؛ لأنَّ قوله: "أيضا" تدلُّ على ذلك (¬4). أما قوله: "ويصيَّر" فالنظر ما المتعيّن (¬5) أو الأولى؟ موكولٌ إلى إنصاف المجيب - عافاه الله -، ونقل عبارة الأزهار لم يظهر لنا وجه إيرادها (¬6). قَولُه: "يصير ذا عتقٍ بالوفاءِ أَفْهمتْ عبارتُه أنَّه بالإِعْتاقِ لا يقال: عَتقَ يَعْتِقُ، على أنَّه يقال: عَتَق مطلقًا ... إلخ". كَلامُنا في الأَوْلوية، والمفهومُ غير مسلَّم (¬7)، ولو سُلِّم ففي المنطوق ¬

_ (¬1) لو سوغنا العطف لكان المعنى: وصُدّر الآخر لكونه مزيدًا فيه، وهو خَلْفٌ. [المعترض]. (¬2) انظر: المغني بحاشية الدسوقي (2/ 131). (¬3) إنّما قلتُ: ويُصَيّر، فلا اعتراف. [المعترض]. (¬4) مع أنه واضحٌ لا ننكره. [المعترض]. (¬5) لم يفهم هذا! [المعترض]. (¬6) بلى؛ لأنكم أوردتم: "يردّه في الرق اختياره" فقلنا: واضطراره مأخوذ من قوله: "عجزه". [المعترض]. (¬7) المذاكرة مبنيةٌ على الإنصاف فسلِّموا، وإلا تمثلنا بقوله: =

بعده ما يصرِّح بعكسه، والعبرة بالمنطوق عند التعارض. وقوله: "والمختار كاسمه لم يُهملْ (رَقَّ، يَرِقُّ) بمعنى مَلَكَ إلا لكونها شاذَّة" ليت شعري! هل كلُّ ما أهمله المختار (¬1) شاذٌّ؟! والمجيبُ لا يرى ذلك قطعًا، على أنَّ (رقَّ) نَقيضُ (عتق) فهو محمولٌ عليه (¬2). على أنه لو قيل: إنَّه لم يَردْ أصْلًا لجازَ هنا للمُشَاكَلةِ كما في حديث أمِّ زرع: "زوجي كَليلِ تهامةَ لا حَرَّ ولا قَرَّ" (¬3). هـ. صرَّحوا (¬4) أنَّه بفتح القاف لمشاكلة الحرِّ إلى غير ذلك. وقوله: "والفيّوميّ (¬5) ... إلخ" لنا أن نَحْجُرَ على المجيب - حفظه الله - ¬

_ قد قلتُ إذ مدحوا الحياة وأسرفوا .... إلخ. [المعترض]. = قلت: تكملة الشطر في النهاية لابن الأثير (1/ 183) وهي: ........................... في الموت ألف فضيلة لا تعرف منها أمان عذابه بلقائه ... وفراق كل معاشر لا يُنْصِف (¬1) هو ههنا لم يهمل فقد ذكر (رقَّ يرقّ) لغير ملك والعبودية، فلو كان مشهورًا مختارًا - كما لزم ذكر المختار - لجاء به، فعُلم أنه من غيره. [المعترض]. (¬2) الحملُ في اللغة ممنوع إلا لجاهلي أو مخضرم. [المعترض]. (¬3) لو استشهدتم بالمشهور كان أولى، كقولهم: "لا دريتَ ولا تليتَ". [المعترض]. (¬4) من هم المصرّحون؟ [المعترض] (¬5) العلَّامة أحمد بن محمد بن علي المقرئ الفيومي ت (770).

بأن نقول له: لا تَتكلَّمْ بكلمةٍ إلاّ أنْ يكونَ في المختار (¬1)؛ لأنّ غَيرَه غَيرُ مَوثوق (¬2) في الفصاحة. وقوله: "والتصدير لا يدلّ على الأعلى، وكثيرًا ما يُصدَّر الأدنى". قلنا: لكنَّ الغالب في مثل هذا البدء بالأَفْصَحِ فالأَفْصَحِ، على أنا قد سلّمنا أنَّه لا دليل لنا في ذلك. وحرَّرنا (¬3) هذا حرصًا على الفائدة مَعَ تَيقُّنِ الصَّفَاءِ، وحُبِّ الحقِّ من الجميع والله الموفِّق. **** ¬

_ (¬1) ليس كذلك فإنما المختار ضَحْضاحٌ وقطرة من مطره، كيف لا؟! وقد أهمل القاموس أربعين ألف مادة فصاعدا أو فسافلا شَمِلها اللسانُ. واللسان قطعا بعضُ لغة أمعرب. وهي بحر لا ساحل لها واللغة طريق معرفتها التواتر والآحاد لا العقل مستقلا ولا القياس - والله أعلم - (¬2) بلى وزيادة العدل مقبولة. [المعترض]. (¬3) لكن هذا الكاتب لا يكاد يبين. [المعترض].

الحمد لله وحده (¬1) قوله: "قوله: إذا صار غير مسلَّم أنَّ (رقَّ وعتق) بمعنى صار" فبمعنى ماذا؟! فإنه لازم ويتعدى بما ذكره المصباح. وأمّا قوله: "أيُّ شيءٍ من باب قتل ... إلخ" فهذه عبارة المصباح، وليستْ في مسألتنا حتى نَتكلَّمَ عليها، ومَقْصودُه أنَّ (رقّ) قد يتعدى بنفسه كما قال: بالحركة، ويكون من باب قتل، فتقول: رققته أرُقُّه. وأمَّا قوله: "قوله: مسلّما لحن فاحش" فإنَّه ليس بخطِّ الحقير ولا أمليتُه كذلك على أنني لو قلتُ ذلك لكان له وَجْهٌ، وهذه العبارةُ: (فإنْ قلتَ: صدَّر به لكونه ثلاثيًا والآخر مزيدًا فيه. قلتَ: مسلّمًا). فتضبط (قلت) الثانية بفتح التاء، ومسلّمًا نعتٌ لمصدر محذوف تقديره: قولًا سليمًا علىَ أنه لا حاجة لمثل هذا. وقوله: "لم يتَّضحْ عَطْفُه على (ثلاثيًّا) كيف لا؟! والعبارة: (لكونه ثلاثيًّا والآخر مزيدًا فيه) وهو في العطف على معمولي عامل، وهو جائز إجْماعًا - كما في المغني - على أنه ليس المعنى هنا على الاستئناف لأنَّ الجملة الثانية داخلةٌ في التعليل، فنظركم في قوله: والأصوبُ رفعُه. وقوله في المكاتب: "ويُصَيَّر أيضًا" اعتراف بأنَّه يصير لأنَّ قوله "أيضًا" تدل على ذلك. أمَّا قوله: "يُصيَّر" فالنظر في المتعين أو الأولى موكولٌ إلى إنصافه، ونقلُ عبارة الأزهار لم يظهر لنا وجه إيرادها؛ لأنه بالاختيار قد يقال: هو ¬

_ (¬1) هذا جواب الاعتراض الأول قد كرره المؤلف وأثبته لاشتماله على زيادة.

الذي أرق نفسه بمعنى ردَّها في الرق لا لذلك مع الاضطرار. قوله: "يصير ذا عتقٍ بالوفاء، أفهمت عبارته أنه بالإعتاق لا يقال: (عَتَقَ يَعتِقُ) على أنه قال: عتق مطلقا ... إلخ" كلامنا في الأولوية والمفهوم غير مسلم. ولو سُلِّم ففي المنطوق بعده ما يصرح بعكسه، والعبرة بالمنطوق عند التعارض. وقوله: "والمختار كاسمه لم يهملْ (رقّ يرقُّ) بمعنى ملك إلا لكونها شاذة" ليت شعري! هل كلُّ ما أهمله المختار شاذٌّ؟! والمجيب - حفظه الله - لا يرى ذلك قطعًا، على أنَّه لو قيل: إنَّه لم يرد رأسًا لجاز هنا للمشاكلة كما في حديث أمّ زرع: "زوجي كَليلِ تهامةَ لا حَرّ ولا قَرّ" (¬1) صرحوا أنه بفتح القاف لمشاكلة (حرّ) إلى غير ذلك. وقوله: "والفيّومي .... إلخ" لنا أن نُضيِّق على المجيب - حفظه الله - بأن نقول له: لا تتكلّم بكلمةٍ إلا أن تكون في المختار؛ لأنّ غيره غيرُ موثوق في الفصاحة. وقوله: "والتصدير لا يدلُّ على الأعلى وكثيرًا ما يُصدَّر الأدنى" قلنا: لكنّ الغالب في مثل هذا البدء بالأفصح فالأفصح، على أنّا قد سلمنا أنه لا دليل لنا في ذلك. وحرّرنا هذا حرصًا على الفائدة مع تيقّن الصَّفاء وحبِّ الحقِّ من الجميع - والله الموفّق -. ¬

_ (¬1) الحديث أخرجه الشيخان، البخاري في كتاب النكاح باب حسن المعاشرة مع الأهل حديث رقم (5189)، ومسلم في فضائل الصحابة حديث رقم (2448).

الحمدُ لوليِّه والصلاة على نبيِّه وآله ووصيِّه (¬1) عبارة الرضيّ في شرح الشافية (¬2): "ولزموا الضمَّ في المضاعف المتعدِّي إلا أحرفًا جاءت على (يَفْعِلُ) ... إلى أنْ قال: "وما كان لازمًا فإنَّه يأتي على (يَفْعِلُ) بالكسر نحو: عَفَّ يَعِفُّ، وكلَّ يَكِلُّ إلا ما شذَّ من عَضَضْتَ تَعَضُّ ... إلخ". إذا عرفت ذلك فقولُ المصباح: "الرِّقُّ بالكسر العُبوديّةُ، وهو مصدر رَقَّ الشخصُ يَرِقُّ من باب ضَرَبَ فهو رقيقٌ، ويتعدَّى بالحركة وبالهمزة فيقال: رَقَقْته أرُقُّه من باب قَتَلَ .... إلخ" ممَّا لا يحتاجُ إلى إيضاحٍ؛ لأنَّ (رقَّ) الأولى لازمٌ، وقد عرفتَ أنَّ القياسَ فيه الكَسْرُ فلا حاجةَ إلى النَّصِّ عليه إلا أنه أراد تضمين الإفادة. وقوله بعد ذلك: "ويتعَدَّى بالحَركةِ" فيه زيادةُ إيضاحٍ أنّ (رقّ) الأولى من اللازم. وقوله: "رقَقْته أرُقُّه" هذا مُتَعدٍّ وقد عرفتَ أنَّ قياسَه ضمُّ عين مُضَارعه، فقولُه: "مِنْ باب قتلَ" زيادةُ كَشْفٍ وإيضاح. فإنْ قيلَ: كيف تقول: ضَمُّ عَين مُضَارعه مع أنَّ الواقع في (رقَّ) الشخصُ (يَرُقُّه) ضمُّ الفاء؟! ¬

_ (¬1) هذا جواب المعلمي - رحمه الله - على الاعتراض الثاني الموجود بالهوامش المتقدمة مختومًا بـ[المعترض]. وقوله: "ووصيه" كذا هي في الأصل، ولم يثبت أن للنبي - صلى الله عليه وسلم - وصيًّا. وهذه الرسالة كتبها المؤلف في أوائل عمره. ولم نجد له نحوها في غير هذا الموضوع. (¬2) انظر (1/ 134).

قلتُ: أصله (يَرْقُقُ) فالضَمَّةُ على القاف الأولى - وهي عَيْنُ الكلمة - فنُقِلتْ الضَّمّةُ إلى ما قبلها أي: إلى الرَّاءِ التي هي فَاءُ الكلمة، وأُدْغمتِ القافُ في القافِ على القَاعدة. وقوله - على توجيه (مسلّمًا) -: "لا يَعْزُب عنكم ما فيه من التعسُّفِ" صحيحٌ إلا أنّنا (¬1) ارتكبناه ليُعْلم ما في قوله: "فيه لحنٌ فاحشٌ". وقوله - في عبارتنا: (صدّر به لكونه ثلاثيًّا والآخر مزيدًا فيه) وقولُنا إنَّه من العَطْفِ على مَعْمُوليْ عَاملٍ: "لو سوَّغْنا أَمْعَطفَ (¬2) لكان المعنى: وصُدّر الآخر لكونه مزيدًا فيه، وهو خَلْفٌ" سَهْوٌ، فإنَّ العاملَ المعطوف على عَامليْه هو (كون)، والمعنى: (صَدَّرَ به لكونه ثلاثيًا وكون الآخرِ مزيدًا فيه)؛ لأنَّ العلَّةَ لا تتمُّ إلا بمجموع الأمرين؛ لأنَّه في غير هذا قد يكون الأول ثلاثيًّا، والثاني ثلاثيًّا فهو مستويان. وقال على قولنا: (وقوله في المكاتب: "ويُصَيَّر أيضًا اعترافٌ بأنَّه يَصِيرُ؛ لأنَّ قوله (أيضًا) تدلُّ على ذلك ...) إلخ، قال: "إنَّما قلتُ: ويُصَيَّرُ، فلا اعتراف". أقول: الكاتبُ ضبط (ويَصير) بفتح أوله فظنَّ المُجيبُ - عافاه الله - أنَّ دعوانا الاعتراف مبنيّةٌ على ذلك وليس الأمر كذلك، فإنّا عارفون أنَّها بِضمِّ الأوَّل وفتح الثاني وتَشْديدِ الثَّالث مفتوحًا، وإنما محلُّ الإقرار كونه عَطَفَهَا على قولنا: (يَصير) في قولنا: "لأنَّ المكاتب هو الذي يَصِير ذا رقٍّ" فقال: ¬

_ (¬1) كُتب فوقها: [مع أنَّ أصلنا موجودٌ: مُسَلَّمٌ]. (¬2) أمعطفَ أصلها: العطف، و (أم) الحميرية بمنزلة أداة التعريف (أل).

"ويُصَيَّر أيضًا"، فكأنّه قال: يَصِير ويُصَيَّر، ولا سيَّما مع قوله: "أيضًا" على أنّ في شرح القاموس: "وقد رقّ فلانٌ أي: صار عَبْدًا. هـ" (¬1). وهذا دليل صريحٌ. وقال - على قولنا: (أمّا قوله: ويُصيَّر فالنظر ما المتعيّنُ أو الأولى موكولٌ إلى إنصاف المجيب - عافاه الله -) قال: "لم يُفْهم هذا"! فأقول: أردتُ أيُّ المتعيِّنُ أو الأولى من قولك في المكاتب: (يَصير أو يُصَيَّر)؟. وكَتَبَ على قولنا: (ونَقْل عبارة الأزهار لم يَظْهرْ لنا وَجْهُ إيرادِها) ما لفظُه: "بلى؛ لأنكم أوردتم: يردُّه في الرقّ اختياره" فقلنا: "واضْطرارُه مأخوذٌ من قوله: عَجْزٌ. هـ" كأنَّه - حفظه الله - فَهِمَ مِنْ إيرادي عبارة الأزهار أنّي حاولتُ بها الاستدلالَ على تعيُّن (رقَّ) أو أَولويَّتَهُ لقوله: "اختياره"، والحقيرُ (¬2) لم أنقل عبارة الأزهار دليلًا بلْ مُرَادي أنَّه لم يَنْسب الردَّ في الرق إلى السيِّد أو نحوه حتى يكونَ الأولى أن يقال: "أرقَّ"، بل ليس في الحقيقة فاعلًا، وإنَّما هو سببٌ له وهذا أيضًا موجودٌ في الاضطرار كما هو في الاختيار، فهُوَ لي لا عليَّ، وَوَجْهُ الاستدلال يظهر من هذا المثال: (قولنا أَدْخَل زيدٌ عمرًا، وأخرجَ زيدٌ عمرًا)، إذا أردتَ حذفَ الفاعل كان قولُك: (أُدْخِلَ وأُخْرِجَ) أولى من قولك: (دَخَل وخَرَجَ) بل قد يتعيَّن في بعض المقاصد. ¬

_ (¬1) انظر تاج العروس مادة (ر ق ق). (¬2) يريد المؤلف نفسه.

وإذا قلتَ: (أَدْخَل زيدًا الجُبْنُ، وأَخْرَجه الخوفُ) فإنّك إذا أردتَ حذفَ الفاعل كان قولك: (دَخَل وخَرَجَ) أولى من قولك: (أُدْخِلَ وأُخْرِجَ)، فإذا أردتَ بيانَ السبب فَقُل: (دَخَلَ جُبْنًا وخَرَج خوفًا)، ولا يأتي مثل هذا في الأول، وههنا كأنّا قلنا: أرقَّه الاختيار، أرقَّه الاضطرار، فإذا حذفتَ الاختيار والاضطرار كان قولُنا: (رقَّ) أولى من قولنا: (أُرِقَّ) كما مرَّ، وإذا أردْنا ذِكْرَ السَّببِ قُلْنا: (رقَّ لاختياره، رقَّ لاضطراره)، ولا يحسن أن نقولَ: (أُرِقَّ لاختياره، أُرِقَّ لاضطراره) إلاَّ بتعسُّفٍ؛ لأنَّ المعنى حينئذٍ بحسب الظاهر أَرقَّه اختياره لاختياره ... إلخ. أمَّا في نحو: (أَرقَّ الإمامُ الأسيرَ، وأعتقه سيِّدُه) فإنّه يقال: (أُرِقَّ، وأعْتِقَ). وأوْرَدَ على قولي: (لأنَّ المُكَاتِب هو الذي يصير ذا عتقٍ بالوفاء) أنَّ مفهومه أنَّه بالإعتاق لا يقال: عَتَق يَعْتِقُ. فأجبتُ بأنَّ هذا المفهومَ غيرُ مسلَّم، وعلى فرض تسليمه فقد صرّحتُ عَقِبَه بخلافه، والعبرة بالمنطوق عند التعارض فأجابَ - على قولي: غير مسلّم - بطلب الإنصاف. فأقول: عبارتي في مقابل قوله في المكاتب: أُعتق (والبحث في المكاتب). فقلتُ: المكاتبُ هو الذي يصير ذا عتقٍ أي: هو بنفسه لا بإعتاقٍ من سيَّده، وقد قالوا في الأصول: إنَّ شرطَ المفهوم أنْ لا يكون اللفظُ المفهومُ مِنْه خرجَ مخرجَ الغالب أو لموافقة الواقع، أو في جواب سؤالٍ ... إلخ

فراجعْه إنْ أردتَ (¬1). فقولنا: المكاتب كذا في جواب سؤالٍ عن المكاتب أو الواقع كذلك لا يُفهم منه غير المكاتبَ بخلافه. وأمّا إهمال المختار (رقّ) بمعنى: صار ذا رقٍّ، مع ذكره لها بمعنى غير ذلك، ودعوى سَيِّدي المُجيب: أنّ ذلك يفيد أنّها شاذّةٌّ، فيا مرحبًا بالوفاق ما أمكن، لكن قولكم: "كما التزم ذكر المختار" لعلكم فهمتم الْتزامَه ذكر المختار من اسم المختار، ولا يخفى ما في هذا. وأما عبارتُه في الخُطْبة فهي: "واقتصرتُ على ما لا بُدَّ لكل عالمٍ فقيه أو مُحدِّث، أو أديب من معرفته وحفظه لكثرة استعماله وجريانه على الأَلْسُنِ ممَّا هو الأهمّ فالأهمّ .... إلخ". وليس فيه ما يدلُّ على أنه يذكر كلَّ مختار مع عدم ادّعائكم ذلك مع قولكم: "زيادة الثقة مقبولة". نعم إهماله (رقَّ) من الرِّقِّ مع ذكره (رقَّ) بمعنى غيرها قرينةٌ على أنّ (أُرِقَّ) أكْثرُ استعمالًا، على أن الفَصْل أن ننقل عبارة الإِمام الزمخشري في كتابه أساس البلاغة، وهو حكمٌ عدلٌ، قال في (رقَّ): "وعبدٌ رقيقٌ من عبيدٍ أرقاء، وأمة رقيقةٌ من إماءٍ رقائق، وقد رقَّ رِقًّا، وقد ضُرِبَ الرِّقُّ عليه، وعبدُ الشهوة أذلُّ من عَبْدِ الرّقّ، والعبدُ المعتَق بعضُه يسعى ما رقَّ منه، وأعتق أحدَ العبدين وأرقَّ الآخَرَ (¬2) ". ¬

_ (¬1) راجع شرح مختصر الروضة للطوفي (2/ 775) ط الرسالة. (¬2) هنا علامةٌ وجدت في هذا الموضع وعليها حاشية هذا نصها: (نعم وهذه العبارة واضحة في ما جنحنا إليه بشرط الإنصاف [هنا كلمة غير واضحة].

والحاصلُ أن (رقَّ وعَتَقَ) في حقِّ المكاتب أولى من (أَرقَّ وأَعْتق) لعِدَّةِ مُرجِّحاتٍ: منها: ما يُفهم من غضون كلامنا. ومنها: أنهما أخفُّ وكلام العرب مبنيٌّ على الخِفَّةِ؛ فيُقدَّم فيه الأخفُّ على غيره. ومنها: أنهما أخصرُ لفظًا (¬1)، والمصنِّفون يراعون الاختصار، ولو بحرفٍ كما يعرفه مَن استقرأ كتبهم. ومنها: أنَّه ليس المقصود هنا إلا مجرَّدَ صيرورته عبدًا أو حرًّا لا كونه صُيِّرَ إذ لا يتعلّق بذلك غرضٌ. ومنها: مُراعاةُ اللفظ المأخوذ منه، فإنَّ العتقَ مِنْ: عتَقَ الفرخُ إذا طار واستقلَّ. والرِّقُّ من (رقَّ) ضد جفا وقسا، وفي شرح القاموس: "وقال أبو العباس سُمّي العبيد رقيقًا؛ لأنهم يَرِقُّون لِمَالِكهم ويَذِلّون ويخضعون" هـ. ومنها: اختيار دورانها على لسان حملة الشرع، واستعمالها أكْثرُ من الأخرى، ومنهم من هو إمامٌ في اللغة كالإمام النووي - صاحب تهذيب الأسماء واللغات - فقد كرّر لفظ (رقَّ وعتق) في منهاجه وغيره مرارًا، بل لفظ (عتق) في الأحاديث لا يكاد يُحصَر، وقد عُلِمَ أن (رقَّ) أختُها. والله المرجو في التسديد والتوفيق والهداية إلى أقوم طريق، وله الحمد - سبحانه - وصلَّى الله على سيدنا محمَّد وصحبه وسلم. **** ¬

_ (¬1) كتُب فوقها: [باعتبار الماضي والمضارع].

* وكتب على قولي: (على أنَّ رقَّ نقيضُ عتق فهو محمولٌ عليه على قاعدة الحمل على النقيض كالحمل على النظير) ما لفظه: "الحملُ في اللغة ممنوع إلا لجاهلي"، وعلى قولي: (كالحمل على النظير): "فيه نظرٌ إلاّ لمن يحتجُّ بكلامهم". أقول: مسلَّمٌ، والحقير: لم أُرد أن أحملَ شيئًا لم يرد على شيءٍ واردٍ، بل حَمْلُ واردٍ على واردٍ، وغرضي أنْ استأنس لتساويهما في الفصاحة. وكتب على قولي: (على أنَّه لو قيل: إنَّه لم يرد أي: رقَّ أصلًا لجاز هنا للمشاكلة أي: يعتقُ كما في حديث أمّ زرعٍ: "زوجي كليل تهامة لا حَرَّ ولا قرَّ" صرحوا أنه بفتح القاف لمشاكلة حرَّ .... إلخ): "من هم المصرِّحون؟ ". فأقول: هاكَ عبارةَ القاموس مع شرحه: " (القُرُّ بالضمِّ البردُ) عامةً (أو يُخَصُّ) القُرُّ (بالشتاء) والبرد في الشتاء والصيف، الأخير (¬1) نقله صاحب المعالم، وهو في المحكم قال شيخنا: وحكى ابن قتيبة فيه التثليث، والفتح حكاه اللحياني في نوادره، ومع الحرِّ أوجبوه لأجل المشاكلة. قلتُ: يعني به ما وقع في حديث أمِّ زرعٍ: "لا حَرَّ ولا قَرَّ" ... إلخ" هـ. أقولُ (¬2): ظاهر عبارة شيخه وُجوبُ الفتح مع الحرِّ مطلقًا، فتخْصِيصُهُ له بالحديث خِلافُ ظاهره. ... ¬

_ (¬1) في تاج العروس (3/ 486): والقول الأخير ... إلخ. (¬2) القائل هو المعلمي.

فائدتان 1 - خاطرة في قول الشاعر: * ولكنني من حبها لعميد * 2 - المعارف التي بعد اسم الإشارة

[خاطرة في قول الشاعر:] يلومونني في حب ليلى عواذلي ... ولكنني من حبها لعميد (¬1) خطر في ذهني عند الدرس تخريج لقوله: "لكنني" بقولي: يمكن أن يكون أصله "لكنْ" مُخَفَّفَةُ النون، وبعدها "إنني" فنُقلت حركة الهمزة إلى نون "لكن" فصار "لكنِنَّي" بلام فألف فكاف فنون مكسورة - وهي نون لكن - فنونٍ مشدَّدةٍ مفتوحة - وهي نونُ إنَّ - ونونٍ مكسورةٍ - هي نونُ الوقاية - فياءٍ - هو ضمير المتكلم - فاستثقل اجتماع أربع نونات فحذفت الأولى تخفيفًا، فصار كهيئتِه. وقد ورد حذف نونِ "لكن" في غير هذا فلا تستبعدْ، قال النجاشي (¬2): ¬

_ (¬1) قال العيني في المقاصد النحوية (2/ 247): "ذكر المتأخرون من النحاة أن قائل هذا لا يعرف، ولا يحفظ له تتمة، وهو شطر من الطويل". والمقصود بهذا عجز البيت؛ لأن صدره لم يذكره أحدٌ حسبما وقفت عليه سوى ابن الناظم في شرح الألفية (ص 172)، وابن عقيل في شرحه كذلك على أن صدره فيه شذوذ، وقد روى العجز الفراء في معانيه (1/ 465) بلفظ "ولكنني من حبها لكميد"، وعنه الجوهري في الصحاح (6/ 2197)، والكميد: وصفٌ من الكمد، وهو الحزن، والعميد: الذي هدَّه العشق. انظر: الإنصاف (1/ 209)، وإعراب القرآن للنحاس (2/ 256)، وشرحي الكافية والتسهيل لابن مالك، والارتشاف (5/ 2397)، والخزانة (10/ 361)، وشرح أبيات المغني (4/ 356) للبغدادي، والدرر اللوامع (2/ 185). (¬2) قيس بن عمرو بن مالك من بني الحارث بن كعب، يكنى أبا الحارث، كان في عسكر علي رضي الله عنه بصفين، ووفد على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان =

فلست بآتيه ولا أستطيعه ... ولاكِ اسقني إن كان ماؤك ذا فَضْلِ (¬1) ثم رأيت ما يوافقه عن الزمخشري - رحمه الله - إلا قولي: وقد ورد ... الخ فلم يتعرض له (¬2). فلله الحمد. ... ¬

_ = رقيق الدين، يقال: إنه مات بلحج في اليمن. انظر: الشعر والشعراء لابن قتيبة (1/ 329)، والإصابة (6/ 387)، وخزانة الأدب (10/ 420). (¬1) هذا البيت من شواهد سيبويه في الكتاب (1/ 27)، وقد ذكره ابن قتيبة مع أبيات له في المعاني الكبير (1/ 207)، وانظر الكلام عليه في الخزانة (10/ 418)، وشرح أبيات المغني (5/ 194) كلاهما للبغدادي. (¬2) رأي الزمخشري مذكور في المفصل، كما في (8/ 62) من شرح ابن يعيش. قلت: وقد سبق الزمخشري إلى هذا الرأي الزجاجي ت (337 هـ) في كتاب اللامات (ص 177)، وقرر هناك عين ما قرره المعلمي هنا محتجًّا ببيت النجاشي كذلك، وذهب إلى هذا الرأي أيضًا ابن هشام في المغني (1/ 349 - 422)، وكذا ابن يعيش في شرح المفصل، وابن مالك في شرح التسهيل (2/ 29)، وفي المسألة أقوالٌ أخرى، تنظر في هذه المراجع المذكورة وغيرها من المظان.

[المعارف التي بعد اسم الإشارة] اختلف في المعارف التي تجيء بعد اسم الإشارة نحو: هذا زيدٌ أو الرَّجلُ أو عبدي أو الذي قام حاذقٌ. هل هو نعتٌ أو هو بدلٌ أو عطفُ بيانٍ؟ (¬1) والذي أراه أنَّه إنْ كان اسمُ الإشارة أعرفَ ممَّا بعده (¬2) فالأَولى أن يكون ما بعده نعتًا له، أو مساويًا له (¬3) فالتخييرُ، أو كان ما بعد اسمِ الإشارة أعرفَ منه (¬4) فالأولى أن يكون عطفَ بيانٍ أو بدلًا. ... ¬

_ (¬1) انظر الخلاف في شرح المفصل لابن يعيش (2/ 8) و (3/ 56) وشرح التسهيل لابن مالك (3/ 320) وما بعدها، وارتشاف الضرب لأبي حيان (4/ 1934، 1944) والمغني لابن هشام (2/ 742) ط الأفغاني، وشرح الجمل لابن عصفور (1/ 297) ودراسات لأسلوب القرآن لمحمد عبد الخالق عضيمة (3 من القسم الثالث/ 499). (¬2) هذا على القول بأن المعارف تتفاوت في المراتب، وهو قول الجمهور خلافًا لأبي محمَّد بن حزم الظاهري الذي قال إنها متساوية ووقع الخلاف أيضًا في أيِّها أعرف من الآخر؟ وتجده مبسوطًا في الارتشاف لأبي حيان (2/ 907)، وشرح الأشموني (1/ 107) وهمع الهوامع للسيوطي (/ 191). وقد نظمها ابن مالك في الكافية (1/ 222) مختارًا ترتيبها على النحو الآتي: فمضمرٌ أعرفُها ثم العلمْ ... واسم إشارة وموصولٌ متمْ وذو أداة أو منادىً عُيِّنا ... أو ذو إضافةٍ بها تبيَّنا (¬3) أي: كان اسمُ الإشارة مساويًا لما بعده فالتخيير في جَعْله نعتًا أو بدلًا أو عطف بيان. (¬4) أي: من اسم الإشارة.

القسم الثاني الرسائل اللغوية والأدبية

الرسالة التاسعة اختصار كتاب "درة الغواص في أوهام الخواص" لأبي محمد القاسم بن علي الحريري ت (516 هـ)

الرسالة التاسعة اختصار كتاب "دُرَّة الغوّاص في أوهام الخواص" لأبي محمَّد القاسم بن علي الحريريّ ت (516 هـ)

• سائر بمعنى الجميع. - والصواب: بمعنى باقي (¬1). • يجعلون متتابع ومتواتر بمعنًى. - والصواب: الأول بلا فَصْلٍ، والثاني بفصل (¬2). • أَزِفَ بمعنى حضر. - والصواب: بمعنى دنا وقرُب (¬3). • زيدٌ أفضل إخوته (¬4). - والصواب: أفضل بني أبيه. • تغشرم (¬5). - والصواب: تغشمر. ¬

_ (¬1) ورد (سائر) بمعنى الجميع في كتب اللغة وأجازه أبو علي الفارسي وغيره. انظر شرح الخفاجي (ص 48). (¬2) ورد في استعمال العرب وَضعُ كلٍّ منهما موضع الآخر، كما في شرح الخفاجي (ص 62). (¬3) انظر كلام ابن برّي على هذا المعنى، فإنَّه معترض عليه. الحواشي (ص 735). (¬4) جوَّز ابن خالويه هذا الاستعمال، كما تجده في حواشي ابن برّي وابن ظفر (ص 735). (¬5) قال الخفاجي في شرحه (ص 75): "وما ذكره من التخطئة خالفه فيه بعضهم".

• اللُّتيَّا (¬1). - والصواب: اللَّتيَّا. • يستأهل (¬2). - والصواب: هو أهل. • سهرنا البارحةَ إذا أصبحوا. - والصواب: من الصبح إلى الزوال الليلةُ وإلى آخر النهار البارحة (¬3). • استعمال قط في الآتي كـ "لا أعمله قط". - والصواب: في الماضي كـ "ما فعلته قط". • مَسَحَ، دعاءٌ للمريض (¬4). - والصواب: مَصَحَ. ¬

_ (¬1) ذكر الزبيدي في التاج (10/ 322): أنَّ لغة الضم حكاها ابن سِيده وابن السكيت من أهل البصرة، ونقل عن شيخه الفاسي جوازها. انتهى. (¬2) قال الإِمام الأزهري في تهذيب اللغة (6/ 418): "وخطَّأ بعض الناس قول القائل: فلانٌ يستأهل الكرم ... ثم قال: وأمَّا أنا فلا أنكره ولا أخطّئ مَن قاله لأني سمعته ... ثم ذكر الأدلة على هذا. وانظر حواشي ابن برّي (ص 736). (¬3) راجع كلام ابن برّي وابن ظفر على هذه المسألة (ص 737). (¬4) جوَّز الصاغاني الوجهين، بل إنَّ ابن برّي رجح عكس ما قاله الحريري. انظر حواشيه (ص 738)، وانظر شرح الخفاجي (ص 102).

• الحواميم (¬1). - والصواب: آل حم. • أُدْخِلَ باللصِّ السجنُ. - والصواب: أدخلَ اللصُّ أو أُدخل باللصِّ [السِّجْنَ]. • لِمَا يُتَّخذ لتقديم الطعام: مائدة. - والصواب: خِوانٌ إلى أن يحضر عليه الطعام فمائدة (¬2). • دواتيّ إضافةً إلى الدواة. - والصواب: دواويٌ (¬3) • بعثت بغلامٍ وأرسلتُ هديةً. - والصواب: بالعكس. • المشْوَرةُ (¬4). - والصواب: المشُورةُ. ¬

_ (¬1) هذا واردٌ وجائزٌ كما تجده في حواشي ابن برّي (ص 739). وانظر شرح الخفاجي (ص 108). (¬2) راجع شرح الخفاجي (ص 120). (¬3) هكذا وجدتها، وفي الدرّة: دوويٌّ - بلا مدّ -. (¬4) قال الخفاجي في شرحه (ص 131): "ما ذكره ليس بصواب ... وقد حكى أهل اللغة فيهما الإسكان أيضًا تنبيهًا على أصله وإنْ شذّ وبهما نطقت العرب، وقد قرئ به ووردت المشْورة على أصلها في حديث البخاري ... ". وانظر تاج العروس مادة (شور).

• إيَّاك كذا. - والصواب: إيَّاك وكذا. • إلى عند. - والصواب: لا يدخل على (عند) من حروف الجرِّ غير مِنْ. • تمغَّر (¬1). - والصواب: تمعَّر. • اصفرَّ واحمرَّ من الخوف والخجل. - والصواب: اصفرَّ في اللون الخالص الثابت المستمرّ، واحمارَّ غير الثابت (¬2). • اجتمع فلانٌ مع فلانٍ. - والصواب: الاتيان بالواو بدل مع. • لقيتهما اثنيهما. - والصواب: وحَدهما. • لعلَّه فَعَل أو لم يَفْعلْ. - والصواب: لعلَّه يفعل أو لا يَفْعل. ¬

_ (¬1) أثبت الخفاجي في شرحه لغة الإعجام وذكر أنها وردت في الحديث وكلام العرب. (¬2) قال ابن برّي في حواشيه (ص 746): "هذا القول غير معروف عند أحد من البصريين" اهـ.

• في التعجّب من الألوان والأعراض ما أبيضَ زيدًا، وما أعورَه. - والصواب: ما أشدَّ بياضه وعَوَره. • يؤنثون بطن. والصواب: تذكيره (¬1). • لإحازة الأجر. - والصواب: لحِيازة. • الخبيث الدُّخلة ذاعر. - والصواب: داعر، أمَّا ذاعر فهو المفزع. • للقبيح ذميم. - والصواب: دميم أمَّا ذميم فهو مذموم. • الزمرد والجُرَد والنواجد والجَرَد، سدوم. - والصواب: بالذال المعجمة. • شوَّشتُ الأمرَ. - والصواب: هوَّشته. • بلَّغك الله المأثور يَعْنون: ما تؤثره. - والصواب: المؤْثَر. ¬

_ (¬1) قال الخفاجي: "ما ذكره ليس بمتفقٍ عليه فقد حكى الأصمعي وأبو عبيدة أنَّه يجوز تأنيثه وتذكيره كما في الصحاح" اهـ.

• قلْبٌ متعوب، وعملٌ مفسود ونحوها. - والصواب: مُتْعَبٌ، ومُفْسَدٌ. • انضاف وانفسد وانوجد. - والصواب: أُضيف، وفسد، ووجد. • بِرَّ، وشُمَّ (¬1). - والصواب: بَرَّ، وشَمَّ. • أَشرُّ وأَخْيرُ من فلانٍ (¬2). - والصواب: شَرٌّ، وخَيرٌ منه. • جمع رِيحٍ الأرياح (¬3). - والصواب: الأرواح. ¬

_ (¬1) قلت: ورد (برَّ) بوزن ضرب كما في القاموس، وجاء (شم) بوزن قتل على أن اللغة التي حكاها الحريري في (برّ) و (شم) أفصح وأعلى. وانظر شرح الخفاجي (ص 186). (¬2) أفاد الخفاجي وغيره أنَّ (أَشرّ) ورد في الكلام الفصيح كثيرًا، وقرئ به في قوله تعالى: {مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ}، وقال رؤبة: * بلال خير الناس وابن الأخير * وانظر الصحاح (2/ 295). (¬3) في حواشي ابن برّي: "لم يحك الأرياح أحدٌ من أهل اللغة غير اللحياني وقد استعمل هذه اللفظة عمارة بن عقيل في شعره"، وقال الفاسي في شرح كفاية المتحفظ (ص 443): "وربّما قالوا أرياح للفرق بين جمع رُوح كما أوضحته في شرح نظم الفصيح وحاشية الدرة وغيرهما خلافًا لمن أنكره كالحريري" اهـ. وانظر تاج العرس (10/ 148).

• مُدوَّد ومُسوَّس ومُوَسْوَس. - والصواب: كسرُ ما قبل الآخِر. • الغير والكافّة. - والصواب: عدم إدخال أل. • يستعملون كُبرى وصُغْرى نكرتين. - والصواب: معرفتين. • لمن أخذ يمينًا أو شمالًا: تيامَنَ أو تشاءم. - والصواب: تيمَّن، وتشأم (¬1). • مَشُوم. - والصواب: مَشْئوم. • سَرْدابٌ له دَرَجٌ - والصواب: سِرْدابٌ له دركٌ؛ لأنَّ الدرج إلى العلو، والدرك إلى تحت. • كم عبيدك (¬2). - والصواب: كم عبدًا لك (¬3). ¬

_ (¬1) قلت: في الدرة: (يامَنَ، وشائَمَ)، وأمَّا تيمَّن فقد ذكرها الحريري بمعنى آخر وهو: أن يتوسَّد الرجل يمينه - كما في الدرة (ص 60)، وتهذيب الخواص لابن منظور (ص 180)، ووقع في طبعة الجيل (ص 213) مثل ما هو هنا. (¬2) في الدرة (ص 64): "كم عبيدًا لك". (¬3) ما منعه الحريري هنا من مجيء تمييز (كم) جمعًا أجازه الكوفيون ومنعه البصريون كما في شرح الكافية لابن مالك (4/ 1711).

• في جمع أرض أراضي. - والصواب: أَرَضون. • حَدُثَ أمرٌ. - والصواب: حَدَثَ. • عشرون نفرًا (¬1). - والصواب: من ثلاثةٍ إلى نهاية عشرة ونحوه الرهط، إلاَّ أنَّ الرهط • يرجعون لأبٍ بخلافِ النَّفَر. • * حوائج جمع حاجة (¬2). - والصواب: حاجات وحاج. • لِمَا يكثُر ثَمنُه مُثْمِنٌ. - والصواب: ثمين؛ لأنَّ المثمنَ كالمورق، وهو ما صار له ثمنٌ وورقٌ ولو قليلًا. • هذا (¬3) قرابتي. - والصواب: ذو قرابتي (¬4). ¬

_ (¬1) في هذا خلاف انظره في شرح الخفاجي (ص 234). (¬2) قال الخفاجي (ص 239): "رُدَّ ما ذكره، وصحَّةُ ما ادَّعى الوهم فيه أشهر من "قفا نبك"، وحاجة عند الخليل - كما في العين أصلها حائجة فلهذا جُمعتْ على حوائج، وكذا قاله ابن دريد وأبو عمرو بن العلاء" وانظر بقية كلامه، وراجع تهذيب الخواص لابن منظور، وتاج العروس (2/ 25). (¬3) في الدرّة: هو. (¬4) قال الخفاجي في شرحه (ص 249): "ما أنكره صحيح فصيح وشائعٌ نظمًا ونثرًا =

• في جمع رَحًا وقَفًا: أرحية، وأقفية. - والصواب: أرحاء، وأقفاء (¬1). • مُصَان. - والصواب: مَصُون. • المالُ بين زيدٍ وبين عمروٍ (¬2). - والصواب: بين زيدٍ وعمروٍ. • بين البينيْن. - والصواب: بينَ بينَ. • بينا كذا إذْ وقع كذا. - والصواب: إسقاطُ لفظةِ إذْ (¬3). ¬

_ = ووقع في كلام أفصح من نطق بالضاد في حديث صحيح قال فيه: "هل بقي أحدٌ من قرابتها". وانظر بقية المسألة فيه، وفي كتاب تلميذه البغدادي شرح أبيات المغني (2/ 174)، وكذا تاج العروس (1/ 422). (¬1) قال ابن برّي في حواشيه (ص 761): "هذا الذي أنكره قد ورد السماع به" اهـ. وانظر شرح الخفاجي (ص 252). (¬2) قال ابن برّي في حواشيه (ص 762): "إعادة بين ههنا جائزة على جهة التأكيد" اهـ. (¬3) قال ابن ظفر: "علم الأستاذ أبي محمد - يعني الحريري - بهذا تأخَّر عن إنشائه المقامات، وكل ما في المقامات إلا قليلًا على الوجه الذي أنكره منه ... وذكر أمثلة". وقال الرضي في شرحه على الكافية (القسم الثاني، المجلد الأولى ص 438): "وقد تقع إذْ وإذا في جواب بينا وبينما، وكلتاهما إذْن للمفاجاة، والأغلب مجيء "إذْ" في جواب بينما، و"إذا" في جواب بينا" ثم ذكر شاهدًا على ذلك.

• ثَفَل التوث بالريق. - والصواب: التفل، التوت. • لِثُفْلِ ما يُعْصَر: تجير، الوَعلُ: تيتل. - والصواب: تجير، وثيتل. • أزمعتُ على كذا. - والصواب: أزمعت كذا، أمَّا عزمتُ فتدخل (على) عليها. • أحدرتُ السفينة إحدارًا. - والصواب: حَدَرْتُ حَدْرًا. • جمع فمٍ أفمام (¬1). - والصواب: أفواه. • عُقيربة (¬2). - والصواب: عُقيرب. • رَجُلٌ دنيائي. - والصواب: دُنييّ ودنيويٌّ ودنياويٌّ. ¬

_ (¬1) جوَّز الفيروز آبادي جمع فمٍ على أفمام، وذكر شارحه الزبيدي الخلاف في المسألة فانظرها فيه (9/ 404)، وراجع شرح الخفاجي (ص 285). (¬2) ورد (عقربة) بالتاء، وعليه يجوز تصغيره على عقيربة. انظر القاموس مادة (عقرب) وشرحه (1/ 395 - 396).

• دُنْيًا بالتنوين. - والصواب: عدمُ التنوين (¬1). • مَا آليتُ جُهدًا. - والصواب: ما ألوتُ. • الضَّبعة العرجاءُ. - والصواب: الضبُعُ العرجاء، أمَّا الذكر فهو الضِّبْعان. • أول يومٍ من الشهر مُستهَل. - والصواب: أن لا يقال مستهل إلا لأوّل ليلةٍ. • عشرين ليلة خَلت وخلون. - والصواب: من أول الشهر إلى نصفه خَلَت ثم إلى آخره بَقِيتْ. • خَرْمَشَ الكتاب (¬2). - والصواب: خَرْبَش. • مِنْ أَمْسِ. - والصواب: مُنْذ أَمْسِ، ومُذْ أمس. • تتابع النوائبُ بالموحدة. - والصواب: التتابع في الخير، والتتايع في الشر. ¬

_ (¬1) أفاد الخفاجي في شرحه (ص 291): أنه جاء عن العرب تنوين دنيا. (¬2) في القاموس وشرحه التاج (4/ 305): " (خرمش): أهمله الجوهري، وقال الليث: خرمش الكتاب والعمل (أفسده) وشوَّشه، وكذلك الخربشة، والباء والميم يتعاقبان، وقال ابن دريد: خرمش الكتاب كلامٌ عربيٌ معروف، وإن كان مبتذلًا" اهـ.

• وحقِّ الملح: إشارةً إلى ما يؤتدم به. - والصواب: الإشارة إلى الملح هو الرضاع في كلام العرب. • هو ذا يصنعُ (¬1). - والصواب: ها هو ذا. • متعوس. - والصواب: تاعس (¬2). • ما شَعُرتُ بكذا. - والصواب: ما شَعَرتُ (¬3). • فاكهاني وباقلاني وسمسماني. - والصواب: حذف الألف والنون إلا باقلا فيصحُّ باقلائي وباقلاوي. • للذهب: خَلاصٌ. - والصواب: خِلاصٌ. ¬

_ (¬1) قال الخفاجي في شرحه (ص 339): "هو مما تبع فيه ابن الأنباري في كتابه الزاهر، وهو سَفْسَاف القول وضرب من الهذيان والفضول ... " ثم ذكر الشواهد على صحة ذلك. (¬2) ردّه الخفاجي في شرحه (ص 341). (¬3) قال الخفاجي: "هذا أيضًا من تحجير الواسع، فإنَّ ما منعه قد صرّح به أهل اللغة ... " وذكر الشواهد.

• حاجَجَ وقاصَصَ. - والصواب: حاجَّ، وقاصَّ. • وارْدُدَا، ونحوه بإبراز التضعيف. - والصواب: ورُدَّا. • الرَّحْل إشارةً إلى الأثاث. - والصواب: ليس الرَّحْلُ إلا سرجَ البعير أو المنزل. • لمُكثر السؤال: سائل وسائلة. - والصواب: سئَّال، وسئَّالة. • يُوشَك. - والصواب: يُوشِكُ. • لنوع من الخضروات: ثَلْجم، وشَلْجَم. - والصواب: سَلْجم. • جلستُ في فَيْء الشجرة. - والصواب: في ظِلها؛ لأنَّ الفيءَ ما يفيءُ عند الزوال من جانب إلى جانبٍ والظِّلُّ الستر. • الثلاثة الأثواب بالإضافة وتعريفهما معًا (¬1). - والصواب: تعريفُ الأخير فقط. ¬

_ (¬1) قال السيوطي في الهمع (5/ 314): "وجوَّز الكوفية دخولها في جزئيهما أي المضاف والمركب فيقال: الثلاثة الأثواب، والخمسة عشر رجلاً، والبصريون قالوا: الإضافة لا تجامع (أل) " اهـ.

• ثيابٌ مَلِكيَّة. - والصواب: مَلَكِيَّة - طلبًا للخفّةِ -. • انساغ الشرابُ. - والصواب: ساغَ. • الندّ: مُثلَّث؛ لاتخاذه من ثلاثة أنواع. - والصواب: مَثْلوث، كما يقال: حَبْلٌ مَثْلوثٌ (¬1). • قَمِيءَ، وَدَفِىءَ (¬2). - والصواب: قَمُؤَ، ودَفُؤَ. • تبريَّت بمعنى: برِئتُ. - والصواب: تبرأت؛ لأنَّ تَبرّيت بمعنى تعرّضتُ. • التباطي، والتوضي التبرّي، التهزّيء. - والصواب: التباطؤ، والتوضؤ، التبرؤ، والتهزؤ؛ لأنَّ ما كان على وزن تَفَعَّلَ، وتفَاعَلَ - ممَّا آخرُه مهموزٌ - كان مصدرُه على التفعُّلِ والتفاعُلِ مضمومَ العين ظاهرَ الهمزة. هـ. • للأنثى من ولد الضأن: رِخْلة. - والصواب: رِخْلٌ معًا. ¬

_ (¬1) في شرح الخفاجي (ص 373) أنه قال: "الذي صرّح به أئمة اللغة مخالفٌ لما ادَّعاه ... " وذكر الشواهد. (¬2) حكى المجد والفيومي فيها لغةً كتعب فيقال: (دَفِيءَ).

• رؤيا بالعين. - والصواب: رؤية، فأمَّا رؤيا فهي في النوم فقط. • أبصرت هذا الأمرَ قبل حدوثه. - والصواب بَصُرت به. • قال كيتَ وكيتَ. - والصواب فَعَل كيتَ وكيتَ، وقال ذيتَ وذيتَ (¬1). • ذَخرَ يَذْخُر. - والصواب: يَذْخَر؛ لأنَّ عينَ الفِعْل من حروف الحلق. • في تصغير مختار: مُخيتير. - والصواب: مُخَيِّر. • دَسْتور. - والصواب: دُسْتور؛ إذ لم يجئْ في كلام العرب فَعْلول بفتح الفاء. • لُعوق سُفوف مُصوص. - والصواب: فتح الأول. • تِلْميذ، طِنجْير بِرطيل، جِرْجير. - والصواب: فتحُ أوّلها (¬2). ¬

_ (¬1) قال ابن برّي في حواشيه (ص 782): "هذا الذي ذكره من الفرق بين كيت وكيت وذيت وذيت هو مذهب ثعلب ومَن تابعه، وأمَّا الخليل وسيبويه وأبو زيد فلا يفرقون بينهما ... ". (¬2) الذي في الدرة عكس ما ههنا فانظره (ص 136).

• كلا الرجلين فَعَلا، كلا (¬1) المرأتين فعلتا. - والصواب: توحيدُ الفعل. • أنتَ تُكْرَمُ عليّ. - والصواب: تَكرُم. • الشَّغَبُ، [و] للداء في البطنِ: مَغَصٌ (¬2). - والصواب: إسكانُ الغين فيهما، فأمَّا المغَصُ فهو خيار الإبل. • سَدادٌ من عَوَزٍ. - والصواب: سِداد من عوزٍ، فأمَّا بالفتح فهو القصد في الدين والسبيل (¬3). • اقطعْهُ من حيث رَقَّ. - والصواب: كلامُ العرب: من حيث ركَّ. • للتَّعِب: عيَّان. - والصواب: عَيِيٌّ (¬4). ¬

_ (¬1) في الدرة: كلتا، وهو الصواب. (¬2) قال الخفاجي في شرحه (ص 401): "ليس الأمر كما ذكره فإنَّ فتح الغين وتسكينها جائز سماعًا وقياسًا ... ". (¬3) قال الزبيدي في التاج (2/ 373): "فيكسر وقد يفتح وبهما قال ابن السكيت والفارابي وتبعه الجوهري، والكسر أفصح وعليه اقتصر الأكثرون منهم ابن قتيبة وثعلب والأزهري" اهـ. وانظر شرح الخفاجي (ص 407). (¬4) في الدرّة: مُعْيٍ، وفيها: (عييٌ) لكن خصَّ الأول بالحركة، والثاني بالقول والرأي كما نقله عن أهل اللغة. انظر (ص 144).

• أكلوني البراغيثُ ونحوها. - والصواب: ليست لغةً فصحى، الصوابُ: توحيد الفعل. • حَمَى بمعنى: الحرّ. - والصواب: حَمْيٌ، وحَمْوٌ. • إلَّاك وإلّاه ونحوها. - والصواب: فَصْلُ الضمير. • هَبْ أنَّه، وأنّي. - والصواب: هَبْهُ، وهَبْني. • امرأةٌ شكورةٌ لجوجةٌ صبورة خؤونة. - والصواب: حذف الهاء؛ لأنَّها لا تدخل على فَعول إلا إذا كان بمعنى مفعول كـ (ركوبةٍ). • أخطأ بمعنى: أتى الذنب متعمدًا (¬1). - والصواب: خَطِيءَ يخَطْأ خُطًا (¬2) خاطيءٌ فهو خطيئةٌ. • لمن بدأ في إثارةِ شرٍّ: نَشَّبَ. - والصواب: نَشَّمَ (¬3). ¬

_ (¬1) في كتاب الأفعال للسرقسطي (1/ 468): "خَطِيءَ خِطأً: تعمَّد الذنب وخَطِيء السهم الهدف: لم يصبه، وأخطأ: أصاب الذنب على غير عَمْدٍ، هذا الأعمُّ، وفي لغةٍ بمعنًى واحد غير العمد" اهـ. (¬2) في الدرة (ص 152): خِطْءٌ - بكسر الخاء وسكون الطاء - وكذا هي في المعاجم. (¬3) في شرح الخفاجي (ص 430): "ليس ما ادَّعاهُ صحيح، وفي القاموس نشب في الشيء: نشم، وفي البخاري: "لم ينشب أنْ مات" اهـ.

• في أمْرِ الغائب: يَفْعَلْ فلانٌ كذا. - والصواب: ليفْعلْ بإثبات اللام. • لمركزِ الضرائب (¬1): المأْصَر. - والصواب: المأْصِرُ (¬2). • الصادر والوارد. - والصواب: تقِديم الوارد؛ لأنه لا يقعُ الصدور إلا بعد الورود. • ابْنت (¬3). - والصواب: ابْنة أو بنت. • ودَّعت القافلة. - والصواب: لفظة التوديع للذاهب والقفول للآيب؛ فيتنافيان والصواب أن يقال: تلقيت القافلة وودَّعتُ الرَّكب ونحوه. • ربَّ مالٍ كثيرٍ أنفقتُه. - والصواب: ربَّ: للتقليل (¬4)، والمال موصوف بالكثرة. ¬

_ (¬1) في المخطوط مرسومةٌ: الغائب. (¬2) في الصحاح (2/ 579): "أصره يأصره أصْرًا: حَبَسه، والموضع مَأْصِرٌ ومَأْصَرٌ" اهـ. وفي القاموس: "والمأصر كمجلس ومرقد: المحبس" اهـ. فأنت ترى أنهما ذكرا الوجهين. (¬3) في الدرة: بكسر الباء مع همزة الوصل. (¬4) قال ابن هشام في المغني (1/ 180) عن (رُبَّ): "وليس معناها التقليل دائمًا خلافًا للأكثرين، ولا التكثير دائمًا خلافًا لابن درستويه وجماعة، بل ترد للتكثير كثيرًا، وللتقليل قليلًا" اهـ.

قلتُ (¬1): إن التقليل هنا ليس للمال، بل للإنفاق؛ فعلى هذا لا فسادَ فيه. • أنْصَفُ بمعنى: أنَّه يفضله في النصفة أي: الإنصاف. - والصواب: أحسن أو أكثر إنصافًا لأنَّ (أنْصَف) لا يصح إلا من نَصَفَ بمعنى خَدَم (¬2). • لمِنْ أصابته الجنابة: جُنِبَ. - والصواب: أُجْنِبَ. • 8 نسوة، 18 جارية 800 درهم بلفظ ثمانٍ. - والصواب: ثماني نسوةٍ ... إلخ. • ابتعتُ عبدًا، وجارية أخرى. - والصواب: عبدًا، وعبدًا آخر، أو جاريةً وجاريةً أخرى أو عبدًا وجارية. • سبع نساء طِوَل. - والصواب طُوَل - بضمِّ الطاء - جمع طولى، فأمَّا طِوَلٌ - بالكسر - فهو الحَبْلُ. • يا أَبتي، يا أُمَّتى. - والصواب: يا أبي، يا أبتِ ... إلخ. ¬

_ (¬1) القائل هو المعلمي رحمه الله. (¬2) قال الخفاجي في شرحه (ص 440): "إنكاره لأنْصَفَ ليس من الإنصاف".

• ابدأْ به أولًا. - والصواب: أوَّلُ لعلّةِ (قبلُ وبعدُ) على أنَّ أول غير منصرف. • السنةُ الأولة. - والصواب: الأولى. • سُوسَن. - والصواب: فتح السينين معًا (¬1)؛ لإلحاقه بفَوعَلٍ، وفوعلٌ لم يأتِ إلا بفتح الفاء إلا جُوذر في لغةٍ. • طُرَّ شاربُه. - والصواب: طَرَّ. • سَقَط في يده. - والصواب: سُقِطَ. • رَكَضتِ الفرسُ تركُض. - والصواب: رُكِضَت تُرْكَضُ. • حَلَبَت ناقتُه. - والصواب: حُلِبَت. ¬

_ (¬1) قال الزبيدي في التاج (9/ 234): "قال شيخنا: وحكى ابن المصري فيه الضم وجرى عليه الخفاجي في شفاء الغليل، وحكاه أبو حيَّان - رحمه الله تعالى - وقال: لم يأت على (فُوعل) بالضم غيره وغير صُوبج لا ثالث لهما" قلتُ: وفُوفل ثالثهما، وهو معرب وقد جرى في كلام العرب ... " ثم ذكر شاهدًا للأعشى. وانظر شفاء الغليل (ص 123).

• حَكَّني جسدي (¬1). - والصواب: أحكَّني جسدي. • اشتكتْ عينُه. - والصواب: اشتكى عينَه. • سار رِكَاب السلطان. - والصواب: الرِّكاب مختصٌّ بالإبل. • الشَّطرنجُ بفتح الشين (¬2). - والصواب: قيَاس العرب أنهم إذا عرّبوا عجميًا أعطوه حكمَ مُماثِله، وشطرنج على وزن (فَعْلل)، ولم يأتِ ذلك في كلامهم إلا مكسورَ الفاء؛ فيجعل العجمي كذلك؛ لِيُلْحق بوزن جِرْدَحل وهو الضخم من الإبل. • سأل عنك الخيرَ. - والصواب: سُئِلَ عنك. • للمتشبع بغير ما عنده: مُطرمذ وطرمذار. - والصواب: طِرْماذ. ¬

_ (¬1) ذكر القاموس الثلاثي والرباعي فقال: "وحكَّني وأحكني واستحكني" اهـ. (¬2) قال ابن برّي في حواشيه (ص 798): "إنَّ أئمة اللغة لم يذكروا هذه اللفظة إلا بفتح الشين، وقد ذكرها ابن السكيت في كتابه إصلاح المنطق بفتح الشين" اهـ. وفي القاموس وشرحه التاج (2/ 64): " (الشطرنج) كسر الشين فيه أجود (ولا يفتح) ليكون من باب جردحل هكذا صرَّح الواحدي" اهـ.

• هاتا يا زيدان. - والصواب: هاتيا يا زيدان. • رأيته وذويه. - والصواب: ذو بمعنى صاحب لم ينطقوا بها إلا مضافة إلى اسم جنس. • الحوامل تطلقن، والحوادث تطرقن. - والصواب: يطلقن، ويطرقن بالياء. • شَلت (¬1) الشيءُ وأشلتَ به. - والصواب: شُلت به، أو أشلته. • شالَ الطيرُ ذَنبَه. - والصواب: أَشَالَ الطائر ذُنَاباه. • شُلَّت يداه. - والصواب: شَلَّت بفتح الشين. • حَرِى، الجَبَلُ. - والصواب: حِراءُ. • ها. - والصواب: هآء المدَّة (¬2) بدلًا من كافِ الخطاب؛ ولذلك إذا جاء الكاف سقطت الهمزةُ. ¬

_ (¬1) في الدرة: "شِلْت - بكسر الشين -". وهو الصواب. انظر: الدرة (ص 188). (¬2) لعلها بالمدة.

• حُسِدَ حاسدُك. - والصواب: حَسَدَ، أي زاد فضلك فيزيد حسدُه. • أعطاه الِبَشارةَ. - والصواب: ضمُّ الباء؛ لأنها بكسر الباء ما بُشِّر به، وبالفتح الجمال. • تفرَّقت الآراءُ وافترق الجمعُ. - والصواب: (تفرَّق) في الأجسام، (وافترق) في غيرها. • تِذْكار. - والصواب: تَذكار، وجميع المصادر الواردة على هذه الصيغة بفتح التاء إلاَّ (تِبيان، وتِلْقاء، وتِنْضال). • لا يفرقون بين: اجلسْ، واقعدْ (¬1). - والصواب: اجلس يا راقد، واقعد يا قائم. • نعم مَنْ مدحتَ وبئس مَنْ ذَممت (¬2). - والصواب: نعم الرجلُ مَن مدحتَ، وبئس الرجلُ مَن ذممتَ. • ضد الذكر: النَّسَيَان. - والصواب: كسرُ النون (¬3)، فأمَّا فتحُها فإنَّه تثنيةُ (نَسا) وهو العرق المعروف. ¬

_ (¬1) بعضهم فرّق بين قعد وجلس، وبعضهم جعلهما مترادفين. وانظر الخلاف في التاج (2/ 469)، والمصباح (ص 164). (¬2) الكوفيون وكثيرٌ من البصريين منع إسناد (نعم وبئس) للموصول. وجوَّزه المبرّد في (الذي) وجوَّزه آخرون في (مَنْ وما). راجع الهمع (5/ 36). (¬3) قلت: وتسكين السين.

• بين ظهرانِيهم. - والصواب: فتحُ النّون. • الشآم. - والصواب: شَأْم المنسوب إليه شأميٌّ أو شآمٍ، شآمِيْ (¬1)، شآميٌّ يمني، يمانٍ، يمانيْ، يمانيّ. • جاءوا واحدًا واحدًا، اثنين اثنين ... إلخ. - والصواب: أُحادَ ومثنى ... إلخ. • هرَّف الثمر: تعجَّلَ. في كلِّ شيءٍ يخفُّ فيه فاعله: قد بكر إليه ولو في غير البكرة. - والصواب: بَكَّرَ، عجَّل، وقد يجيء بكر. • راح بمعنى: سارعَ. - والصواب: صحيحٌ (¬2). • لفظة التوجّع: أَخْ (¬3). - والصواب: أح، حَسِّ، الحسُّ والبسُّ الرفق والصعوبة؛ لأنَّ الحسَّ الاستقصاء، والبسَّ الرفق في الحلَب. ¬

_ (¬1) في الدرة (ص 199) ذكر ثلاثة أوجه في النسبة لشام. (¬2) أي: إنَّ (راح) استعملت بمعنى (سارع) وهذا صحيح في كلام العرب، والحريري لم يذكرها على أنها من أوهام الخواص بل أوردها استطرادًا وكذلك هنا. (¬3) ذكر القاموس (أخ) بالخاء المعجمة، وفي التاج (2/ 250) عن ابن دريد أنها محدثة.

• أُوه (¬1). - والصواب: أَوْهُ، والكسرُ أفصح، آهِ، أوَّهْ، أواه، أوَّهَ تأوَّه آهةً وأهة. • لقيتُه لقاةً واحدةً. - والصواب: لقيتُه لَقْيةً، لقآءةً، لقيانةً، لُقىً، لِقاءً، ولُقِيًّا، ولُقْيانًا. • فلانٌ يُكدّف أي: يستقلّ ما أُعطيَ. - والصواب: يُجدِّفُ. • للمقتبِس من الصُّحف: صُحُفي قياسًا على أنصاريٍّ. - والصواب: صَحَفي كـ (حَنَفي)، وأمَّا أنصاري فشاذ. • لما يُغْسل به الرأسُ: غَسْلة. - والصواب: غِسْلة. • دابَّةٌ لا تُردفُ أي: لا تقبل المرادفة. - والصواب: لا تُرادِفُ. • مَطْرد، مبرد، ومَبضع، مَنْجل، مَقْرعة، مَقْنعة، مَنْطقة، مَطرقة. - والصواب: كلُّ مِفْعل، ومفْعلة آلةً فهو بكسر الميم. • مَرْوَحةٌ. - والصواب: مِرْوَحةٌ، فأمَّا بالفتح فهو الموضع الكثير الريح. وشذَّ مَنْقَبة البيطار، ومُدْهنٌ، مُسْعطٌ، مُنْخُلٌ، مُنْصُلٌ، مُكْحُلٌ، مُدُقٌّ - مضمومة الأوّل -، وفي (مُدُقّ) كسر الميم لغة. ¬

_ (¬1) في الدرّة: بفتح الهمزة.

• اعملْ بحسْبِ كذا. - والصواب: فتحُ السين وهو الشيء المحسوب المماثلُ معنى المثل والقَدْر. • كثُرتْ عَيلةُ فلانٍ أي: عياله (¬1). - والصواب: العيلةُ: الفقْرُ. • رُفْهةٌ. - والصواب: رفاهةٌ، رفاهيةٌ، رُفَهْنِيَةٌ. • رضيعُ الإنسانِ: ارتضَعَ بِلَبنهِ. - والصواب: بِلبَانِه. • لدغته العقربُ. - والصواب: ما يضرب بمؤخره كالزنبور (¬2) قيل: لَسَعَ، وما يضرب بفيه (¬3) كالحيَّة: لدغ وما يقبض بأسنانه كالكلب والسباع: نَهَشَ. • الحمد لله الذي كانَ كذا. - والصواب: الإتيان بالعائد. ¬

_ (¬1) أفاد الخفاجي في شرحه (ص 568) أنه ورد العيلة بمعنى العيال فانظره، وقال نصر الهوريني في حاشيته على القاموس: "قال في شرح الشفاء: والصحيح ورود العيلة بمعنى العيال" اهـ. (¬2) في المخطوط: والزنبور. (¬3) في المخطوط: بمؤخره، وصوّبته من الأصل.

• الملحُّ في المسألة: شحات (¬1). - والصواب: شحَّاذ. • للخارج من الكرش: فرث. - والصواب: هو فرث ما دام في الكرش، فإذا لُفِظَ منها فهو السرجين، مَثَل: فلان يحفظ الفرث، ويفسد الحرث. • جُبَّةٌ خَلَقة. - والصواب: لا تزاد الهاء؛ لأنَّ العربَ ساوت في (خَلَقٍ) بين مذكره ومؤنثه؛ فقالوا: مِلْحفةٌ خَلَقٌ، وملحفتان خَلَقانِ. • ثلاثةُ شهور سبعة بحور. - والصواب: على أَفْعُل جمع قلّة. • للعليل: مَعْلولٌ. - والصواب: أعلَّه فهو مُعَلٌّ، أمَّا المعلول فهو مفعولٌ من العَلَلِ. • ما فيه مَنْفوعٌ ولا مَنْفعةٌ. - والصواب: منفوعٌ اسم مفعول، ولا يكون مصدرًا؛ لأنَّه لم يجئ مصدر بوزن مفعول إلا أسماء قليلة، وهي: الميسور والمعسور، وقولهم: ما له معقولٌ ولا مجلودٌ، وحَلَفَ محلوفًا، قيل: وبأيّكم المفتون. ¬

_ (¬1) ضبط الحريريُّ في الدرة هذه الكلمة بقوله: "بالثاء المعجمة بثلاث من فوق" وهذا في جميع طبعات الدرة، ووقع في شرح الخفاجي عند سياقه لعبارة الحريري ما نصّه: "شحات - بالتاء المعجمة باثنتين ... " وكذا وجدتها في المخطوط، لكن الصواب أنها بالثاء.

• سِلٌّ اسمُ داءٍ. - والصواب: سُلال؛ لأنَّ معظم أسماء الأدواء جاء على وزن (فُعال). • حلا الشيء في صدري وبعيني. - والصواب: حلا في فمي الطعم، وحَلِيَ في عيني مِن الحَليْ الملبوس. • في جمع مِرآة: مَرايا. - والصواب: مَرَاءٍ، أمَّا (مرايا) فهو جمع ناقةٍ مَرِيٍّ (¬1). • لِفَمِ المزادة: عَزلة. - والصواب: عَزلاء جَمْعُها عزالى، وقد يجيء العزايل على تقديم القلب. • جاءوا بأجْمَعِهم. - والصواب: أَجْمعُهم (¬2)؛ لأَنَّه جمع الجمع. • لمنقطع الحجَّة: مُقْطَع. - والصواب: مُقْطِعٌ، ونظيره قولهم: جاءوا كالجرادِ المشْعَلِ، والصواب: المشْعِلُ. ¬

_ (¬1) جوَّز بعضهم جمعها على مرايا. كما في شرح الخفاجي (ص 595). (¬2) في الدرّة: بأجْمعهم.

• كلَّمته فاختلَطَ أي: اختلَّ رأْيُه وغَضِبَ. - والصواب: الغَضَبُ (¬1)، ومنه المثل: أوّلُ العيِّ الاحتلاطُ. • في الكناية عن العرب والعَجَم: الأسودُ والأبيضُ. - والصواب: الأسودُ، والأحمرُ. • للمُعْرِس: بنى بأهْلِه (¬2). - والصواب: بني على أهْلِه. • جَلَسَ على بابه. - والصواب: جَلَسَ ببابه (¬3)، وإقامة بعض حروف الجرِّ مقام بعضٍ إنما يجوز عند أمن اللبس. • يميلون (حتى) قياسًا على (متى). - والصواب: لا وَجْهَ للقياس؛ لأن (متى) اسم و (حتى) حرف، والحروف لا تُمال إلا (يا) و (بلى) و (لا) في قولهم: افعل إمَّا لا؛ لأن الأولى نابت عن فعل والثانية قامت بنفسها فقربت ممَّا يُمال، والثالثة فهي ثلاثة أحرف (إنْ ما لا) صارت كحبارى فأميلت. ¬

_ (¬1) هكذا في المخطوط، ووجه الكلام أن يقال: احتلط والاحتلاط: الغضب. انظر: الدرة (ص 228). (¬2) قال ابن برّي في حواشيه (ص 817): "بنى بأهله غير منكر"، وانظر شرح الخفاجي (ص 607). (¬3) قال الخفاجي (ص 607): "هذا أيضًا ليس بشيء".

• هِذِه. - والصواب: عدم الإمالة. * قَتَله شرَّ قَتْلةٍ. - والصواب: قِتْلة؛ لأنَّه للنوع. • يُعربون أسماءَ الأعداد المرسلة فيقولون: هذا واحدٌ اثنان. - والصواب: أنْ تُبنى على السكون إلا أن تُوصَف أو يُعطف بعضها على بعض فتُعرب، وكذلك أسماء حروف الهجاء إذا تُلِيت مُقطَّعةً، ولم يُخْبر عنها، وتُعرب إذا تعاطفت. • ما أحسنَ لُبْس الفرسِ، إشارةً إلى تجفافه. - والصواب: لِبْس. • مائة ونَيْف. - والصواب: ونيِّف، ومقداره ما بين العقدين والأكثر أنه من الواحد إلى الثلاثة. • لمن يصغر عن شيءٍ: يصبو عنه. - والصواب: يَصْبى؛ لأنَّه من صَبِيَ يصبى صِبًا وصَباءً، لا مِنْ صبا يصبو صُبوًّا وصَبْوةً. • لا ألهو عن شغلي. - والصواب: ألهى؛ لأنه من لهَيَ يَلْهى لا من لها يلهو. • فعلته مجراك. - والصواب: مِن جرَّاك أي: من جريرتك وجمَّائك (¬1). ¬

_ (¬1) هكذا وجدتها ولعلها: جنايتك كما في الدرّة.

• الصيف ضيّعتَ اللبن. - ضيَّعتِ - ولو مذكرًا -؛ لأنَّه مَثَل والأمثال تحكى على أصلها. • طرده السلطانُ. - والصواب: أطرده؛ لأن معنى طرده: أبعده بيده، أو بآلةٍ في كفّه، وهنا المعنى: أمر بطرده. • لما ينبت من الزرع بالمطر: بخس - والصواب: لغةُ العرب: طعامٌ عذْي، كما يقال: أرضٌ عذاة، وعذية. • هاوَن، وراوق. - والصواب: هاوون ... إلخ لينتظم في سلك فاروق، ما عون ونحوها • شفَّعت الرسولين بثالث. - والصواب: شفعت الرسولَ بآخر، وعزَّرْتُ الرسولين بثالث، وقفّيتُ بالرسل. • سامرَّآ - والصواب: سرَّ مَن رأى. • لما يجمُد من فرط البرد: قريص. - والصواب: قريس.

• قَتَله الحبُّ. - والصواب: اقتتله الحبُّ - كما قال ذو الرمة (¬1): * إذا ما امرؤٌ حاولن أنْ يقتتلنه * • ما يُعَرِّضُك لهذا. - والصواب: يَعْرُضُك أي: ما ينصب عُرضَك له، وعُرْض الشيء: جانبُه، وعُرْض الحائط جانبه. • ما كانَ في حسابي. - والصواب: حُسباني (¬2) أي: ظني، وجاء الحُسْبان بمعنى العذاب في قوله تعالى: {وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا}، وأصله السهام الصغار الواحدة حُسبانة. • هَمْ فعلت، يعني: يزيدون (هَمْ) عند افتتاح الكلام. - والصواب: المِسموع في بعض لغة العرب عن بعض أهل اليمن زيادة (أَمْ). • المقراض، والمقص والنعل المجموع الفردتين. - والصواب: التثنيةُ، وليس الزوجُ - كما توهَّم - مجموع الاثنين بل هو الفَرْدُ المُزَاوِجُ لصاحبه، والاثنان زوجان. ¬

_ (¬1) في ديوانه (1/ 144) وعجزه: * بلا إحنةٍ بين النفوس ولا ذحْلِ * (¬2) في الدرة (ص 248): المصدر من حسب حِسْبان - بكسر الحاء -، واسم المصدر بالضم.

• يُصغّرون (شيء) و (عين) شُوي وعُوَينة ... إلخ. - والصواب (¬1): شُيَيّ، عيينة ... إلخ. • أشرف على الإياس من طلبه. - والصواب: اليأس، فأماَّ أيس فإنه مقلوبٌ من يئس، والمقلوب لا يتصرف على لفظِه. • للقناةِ الجوفاء التي يُرمى عنها بالبندق: زَرْ بَطانة. - والصواب: سَبَطانة؛ لاشتقاق الاسم من السبوطة وهي الطول والامتداد. • ثَدْي الرجل. - والصواب: الثديُ مختصٌّ بالمرأة، أمَّا الرجل فله الثُنْدُؤة، وثندوة والجمع ثناديَ (¬2). • جمع الثدي على: ثدايا. - والصواب: ثُدِيٌّ أصله: ثدوي قلبت الواو ياءً وأدغمت الياء في الياء وكسرت الدال للمجانسة. • الإبن، الإبنة، الإثنين. - والصواب: الِابْن ... إلخ، ومثله الاقتدار والانطلاق، والاحمرار، ¬

_ (¬1) في الدرّة (ص 658): "والأفصح". (¬2) ذهب بعض أهل اللغة إلى عموم إطلاق الثَّدْي على الرجل والمرأة، وفي صحيح مسلم: "أن رجلًا من الصحابة وَضَع ذباب السيف بين ثَدْيَيْه ... "، وقد قال الجوهري في صحاحه (6/ 2291): "الثدي يذكر ويؤنث وهو للمرأة والرجل أيضًا" اهـ.

والاستخراج والاقعنساس، والاخشيشان، والاجلوَّاذ والاحميرار، والاقشعرار. • نَجَز منّي وانقضى. - والصواب: نَجِزَ أمَّا نَجَزَ - بالفتح - فهي بمعنى حَضَر. • يجمعون جُوالق على جُوالقات. - والصواب: جَواليق، جَوالق؛ لأن القياس المطرد أن لا تجمع أسماء الجنس المذكر بألفٍ وتاءٍ، وشذَّت أسماء جُمعت بهما تعويضًا لأكثرها عن تكسيره وهي (حمام - سرادق - إيوان - هاون - خيال - جواب - سجل - مكتوب - مقام - مصام - إوان (حديدة تكون مع الرائض) بُوَان (عمود في الخباء) - شعبان - رمضان - شوَّال - محرم)، أمَّا سراويل وطريقٌ فهي مؤنثةٌ في بعض اللغات. - والمسموع في جمع جوالق جواليق، وأُجيز جَوالق - بالفتح - كما في غُرانق (وهو الشاب الحسن الثياب) وحُلاحل وعُراعر وهو رئيس القوم. - أمَّا المصغَّر كـ (بويبات) فهو كالموصوف، وصفات المذكر الذي لا يعقل تجمع بالألف والتاء ومن حكم المذكر هذا المجموع بالألف والتاء أن يذكر في باب العدد بلا هاءٍ، نحو: ثلاث حمامات، وسجلات؛ لأنَّ الاعتبار في باب العدد باللفظ دون المعنى، وأجاز بعضهم أن تلحق الهاء اعتبارًا بمعنى بل ولفظ واحده (¬1) فيقال: ¬

_ (¬1) هكذا في المخطوط، وفي الدرة (ص 259): "اعتبارًا بمعنى واحده لا بلفظ جمعه".

ثلاث سجلات، وحَمَّامات، كما يقال في مؤنث اللفظ: ثلاثة طلحات، وحمزات، أمَّا (بطة وحمامة) فعند الأكثر أنَّ الاعتبار فيها باللفظ فيقال: ثلاث بطات ذكور وقال بعضُهم: يراعى المفسر الأسبق؛ فيقال: ثلاث بطاتٍ ذكور، وثلاثة ذكور من البط. - أقول (¬1): ما أحسنَ ما لو استغنى بزيادة الهاء عن التفسير بذكور لو وَرَدَ وسُمِعَ. • لا فرق بين نعم وبلى. - والصواب: نعم جواب الاستخبار المجرَّد من النفي فترد ما بعد حرف الاستفهام (¬2) فهي بمنزلة (بل) بل قيل: إنَّ أصلها (بل) وإنَّما زيدت الألف ليحسنَ السكوت عليها. • لا فرق: فلانٌ يأتينا صباحَ مساءٍ، صباحَ مساءَ. - والصواب: الأوّلُ بمعنى: يأتينا في صباح المساء والثاني: يأتينا صباحًا ومساءً. • لا فرق بين التمنّي والترجّي. - والصواب: الأول للممكنِ والمستحيل، والثاني للممكن فقط. ¬

_ (¬1) القائل هو المعلمي رحمه الله. (¬2) هنا سقط؛ لأن قوله: "فهي بمنزلة ... إلخ" شروع في الكلام على (بلى) بعدما انتهى من الكلام على (نعم)، وتتميم الكلام كما في الدرة (ص 260): "وأما (بلى) فتستعمل في جواب الاستخبار عن النفي ومعناها إثبات المنفي، وردّ الكلام من الجحد إلى التحقيق فهي بمنزلة (بل) ... إلخ".

• لا فرق بين العَرِّ والعُرِّ. - والصواب: الأول للجَرب، والثاني: قروحٌ تخرج في مشافر الإبل وقوائمها. • لا فرق بين بكم ثوبُك مصبوغًا؟ وبكم ثوبُك مصبوغٌ؟ - والصواب: الأول هو حال كونه مصبوغًا، وتقدير الثاني: كم أجرة صبْغهِ؟ • لا فرق بين: لا رجل (¬1) في الدار. - والصواب: لا رجلَ في الدار قطعًا، ولا رجلٌ بل رجلان أو أكثر، و (لا) الأولى هي التبرئة، والثانية هي التي تعمل عمل ليس. • لا فرق بين خَلَفَ الله عليه، وأخلفَ الله عليه. - والصواب: الأول كان الله خليفةً لك عنه ممَّا لا يستعاض، والثاني فيما يستعاض. • لا فرق بين (أو) و (أمْ) في الاستفهام. - والصواب: أو عن أحد شيئين، وأم مع الهمزة تعادل (أي) (¬2). • لا أدري أأذن أو/ أم أقام. - والصواب: أم للشكِّ، وأمّا (أو) فالأمران محققان؛ لأنك جعلته بمنزلة من لم يؤذن ولم يقم لإسراعه، و (أو) ههنا للتقريب. ¬

_ (¬1) بضمتين على اللام و (لا) العاملة عمل ليس، أو بفتحة على اللام و (لا) النافية للجنس. (¬2) يوجد خرم بالأصل، وأكملناه من الدرة (ص 265).

• لا يفرقون بين الحث والحضّ. - والصواب: الحث في السَّير والسَّوقِ وغيرِهما، والحضُّ فيما عداهما. • بات فلانٌ بمعنى نام. - والصواب: بات بمعنى: أظلّه المبيتُ نام أم لم ينم. • الراحلة: الناقة النجيبة خاصةً. - والصواب: الراحلة: الجملُ والناقة النجيب، والهاء للمبالغة - كما في داهية - وراحلة بمعنى مرحولة. • السوقة: اسمٌ لأهل السوق خاصةً. - والصواب: اسم للرعية؛ لأنّ الملك يسوقهم إلى مراده. • يكتبون بسم الله بحذف الألف حيث كانت. - والصواب: إنمَا تحذف في أوائل السور والكتب؛ لكثرة الاستعمال مع اسمِ الله. • يكتبون الرحمان بحذف الألف مطلقًا. - والصواب: الرحمن - رحمان؛ الحرث، حارث، والأسماء الواردة على وزن (فَاعِل) تثبتُ فيها الألف صفات، وتحذف أسماءً محضةً. • هذاك، وهتاك قياس على (هذا). - والصواب: ها ذَاك، هاتاك؛ لأنَّ الها في هذا صارت معه كالشيء الواحد فحذفت الألف، فإذا دخل كاف الخطاب استغنى عن الها؛ فوجَبَ فَصْل الهاء، وإثبات ألفها.

• ثلث مطلقًا. - إذا أضيف أوَ وُصف فكذلك فإذا أفرد أثبتت الألف خشية اللبس. • كلّما مطلقًا. - والصواب: توصل بمعنى: كل وقتٍ، وتفصل بمعنى: كل الذي، وكذلك (إنّ - وأين - وإنّما) وأمّا (حيثما، وطالما، وقلّما) فتوصل فقط؛ لأنّ (ما) في الأولى لا تقع موقع الاسم وفي الأخيرتين لا تقع إلا صلةً. - وجاز الأمران في (نعما وبئسما) إلا أنَّ الاختيار في (نعمّا) الوصل لما لا يخفى (¬1) وفيما إذا كانت (ما) استفهامية حذفت ألفها ووصلت أو بمعنى (الذي) وصلت وأثبتت الألف و (عمَّا) موصولة حيث كتبت وتحذف ألفها حيث كانت استفهامية بعد حروف الجرّ كلها إلا إذا تلتها (ذا) (¬2) فتصير معها كالشيء الواحد، فتثبت الألف. - كيما موصولةً وكي لا مفصولة؛ لأنّ الأولى لم تغيّر المعنى بخلاف الثانية. - وأمّا (مَنْ) فلا توصل إلا مع عن ومِنْ للإدغام كما في: إمّا، وعمّ، وعمّا. • أن لا يكتبونها ألاّ مطلقًا. - والصواب: إن وقعت (أنْ) بعد أفعال الرجاء والخوف، والإرادة ¬

_ (¬1) قال الحريري في الدرة (ص 276): "لالتقاء الحرفين المتماثلين فيها" اهـ. (¬2) هذه زيادة من المؤلف.

فلا تكتب، أو بعد العلم واليقين أثبتت؛ لأنّ أصلها (أنّ) أو بعد أفعال الظنِّ والمخيلة جازا للاحتماليْن، وإنّما أدغمت في الأول لاختصاصها في الأصل ووقوعها عاملةً فيه؛ فاستوجبَ إدغامُ النون بذلك كما تدغم النون في (إنْ) الشرطية مع (لا). • هلاّ وبلاّ. _ والصواب: هلاّ، وبل لا؛ لأنّ الأولى غيَّرت معنى (هل) عن الاستفهام إلى التحضيض فركبت معها بخلاف الثانية. • ذو الواوين يُكتب منه - نحو: داود بواوٍ، وذوو، بواوين - خشيةَ اللبس - ومَدْعوون، ومَغزوون، بواوين. - أمّا (سؤول - وبؤوس - ورؤوس - وشُؤون - ومؤونة مؤودة فالأحسن بواوين وقد تكتب بواوٍ. - أمّا الأفعال فكتب شاءوا، جاءوا بواوٍ واحدةٍ وجاز الأمران في يلوون، ويستوون ونحوها. - فإن اجتمعت واوان الأولى مفتوحة كاحتووا والتووا واستووا واكتووا والْتووا (¬1)، ولَوّوا وأوَوا فبواويين؛ لأنّ بينهما ألفًا محذوفة؛ لأنَّ الأصل قبل ضمير الجمع اكتوى لتدلَّ الواو الثانية على الألف المحذوفة. وفُوعِلَ من نحو: عُوود وشُوور، بالواوين ¬

_ (¬1) هكذا كررت في المخطوط، ولعلها (اقتووا) لتشابه الرسم، واللفظتان ليستا في الدرة.

ليشعر أن الأولى أصلية والثانية المنقلبة عن الألف في فاعَل؛ ولذلك يجب إبرازُها في اللفظ، بأن تلبث على الأولى لبثةً ما ثم ينطق بالثانية، وإلا لالتبسَت بفُعِّل. • ومن أوهامهم في الهجاء أنّهم يخبطون خبط العشواء فيما يكتب من الأسماء المقصورة بالألف، وفيما يكتب بالياء، والحكم فيه أن تعتبر الألف التي في الاسم المقصور الثلاثي فإن كانت منقلبة عن واو فألفًا أو عن ياءٍ فألفًا يائيًا، وإن زاد المقصور على الثلاثي فباليائي على كلِّ حال إلا إذا كان قبل آخره ياء فلا يجمع بين ياءين نحو: عليا ودنيا، ومحيا، ورؤيا، وشذَّ يحيى - اسمًا - ليفرق بينه وبين "يحيا" فعلًا. - وإنّما كتبت ياءً مطلقًا في الزائد على الثلاثي؛ لأنّه يثنى بالياء مطلقًا إلا قولهم في المتوعّد: جاء ينفض مذرويه - تثنية مذرى - وهو طرف الألية لأنّه إذا لم يُلفظ بمفرده ميّز عن نوعه. - والأفعال كالأسماء، ومعتبره أنّه إذا كان الفعل مقصورًا رددته إلى نفسك تصيب إلا في نحو: (يعيا واستحيا) ممّا كان قبل آخره ياء في المزيد فيه وإحداها بالألف، وكل مقصور اتصل به مَكنيٌّ كبشراها وبشراكم، وبشراهن ونحوها. - أمّا (كِلا) فبالألف إلا إذا أضيف إلى مضمرٍ في حالتي النصب والجر فبالياء، وكلتي - بالياء إلا مضافًا إلى مضمر في حالة الرفع. - وفرق بين (كلا وكلتا) لأنّ الأولى ثلاثية والثانية رباعية، وابن قتيبة سوّى بينهما.

- وممّا يجب الوصل فيه ثلثمائة وستمائة تعويضًا بالوصل للأوّل عن الألف، والثاني عن الإدغام إذْ أصل (ست) سِدْس قلبت السين تاءً فصار (سدْت) أدغمت الدالُ في التاء فقيل: (ست). • ومن أوهامهم ذكرهم في الكتب لفظة (السلام) منكّرة في أول الكتاب وفي آخره. - والأولى أن تُنكّر أوّله، وتعرّف آخره؛ لأنّ اسم النكرة إذا أُعيدَ وَجَبَ تعريفُه. والله - تعالى - أعلمُ وأحكمُ (¬1). ... ¬

_ (¬1) يقال: ويح لمن وقع في مهلكة لا يستحقها، وويلٌ لمن يستحقها. هذه الجملة وجدتها بعد خاتمة المختصر، وهي ليست من درة الغواص، ولعل المؤلف وضعها من عنده تقييدًا لفائدةٍ مرّت به، ومن الواضح أن المخطوط قد كمل بقوله: والله أعلم وأحكم.

الرسالة العاشرة فوائد لغوية منتقاة من كتاب "الكنز المدفون"

الرسالة العاشرة فوائد لغوية منتقاة من كتاب "الكنز المدفون"

بسم الله الرحمن الرحيم • فائدة: يقال لِوَلَد الفرس: مُهْر، ولولد الحمار: جَحْش، ولولد الناقة: حُوار، ولولد البقرة: عِجْل، ولولد المعز: جَدْيٌ، وأنثاه: سَخْلٌ (¬1)، وأنثاه: عَنَاقٌ، ولولد الضأن: حَمَلٌ، وأنثاه: رِخْلٌ، ولولد الظبي: خَشْف، ولولد الأرنب: الخِرْنِقُ، ولولد الثعلب: التَّتفل (¬2)، ولولد الخنزير: الخِنَّوصُ، ولولد القرد: القِشَّةُ (¬3)، ولولد الضَّبُع: الفُرْعُل (¬4)، ولولد الأسد: شِبْلٌ وحَفْصٌ، ولولد الفار: الدرصُ (¬5)، ولولد الضَّبِّ: الحِسْلُ، وولد الذئب من ضَبُعٍ: سِمْعٌ، ولولد النّعام: رَأْلٌ، ولولد الحُبَارى: النَّهارُ (¬6). ¬

_ (¬1) قوله: "وأنثاه سخل" هكذا وجدت فوق كلمة: "ولولد المعز ... إلخ"، والذي في المخصص عن أبي عبيد أنه يطلق على الذكر والأنثى من ولد المعزى والضأن، وفي التاج للزبيدي أنَّ السخلة تختص بأولاد الضأن كما جزم به عياض في المشارق والرافعي في شرح المسند، وقيل: تختص بأولاد المعز وبه جزم ابن الأثير في النهاية. والسخلة مفرد، جمعه: سَخْل وسخال. راجع المخصص (7/ 185)، والتاج (7/ 373)، وحياة الحيوان الكبرى للدميري (1/ 494). (¬2) يقال للثعلب ولجروه وفيه سبعُ لغات. انظرها في القاموس (ص 970). (¬3) تطلق على القردة أو ولدها، وفي الأصل المخطوط كتبت "لقشه". (¬4) في الأصل المخطوط: "الفرغل" بإعجام الغين، والصواب بإهمالها. (¬5) بكسر الدال وفتحها، ويقال لولد القنفذ والأرنب واليربوع والفأره والهرّة ونحوها كما في القاموس. (¬6) قال الجوهري في الصحاح (2/ 840): "والنهار: فرخ الحبارى، ذكره الأصمعي في =

• في الأصبع عَشْرُ لغاتٍ، بزيادة أصبوع، وفي الأنملة تسع (¬1). • دائرة القمر المحيطة به: الهالةُ، ودائرة الشمس: الطُّفَاوة (¬2). • الشَّنَبُ: برودةٌ وعذوبةٌ في الأسنان (¬3). • النادي: مجلس القوم نهارًا، والسامر: مجلسهم ليلاً (¬4). • الأطيط: صوتُ اليقظان (¬5)، والغطيط: صوتُ النائم. • الرَّمْس: تراب القبر (¬6). ¬

_ = كتاب الفرق". قلت: وفي القاموس وشرحه التاج (3/ 591): "والنهار فرخ القطا، والغطاط أو ذكر اليوم أو ولد الكروان أو ذكر الحبارى ... إلخ". وراجع هذا الفصل في ذكر أولاد الحيوانات: كتاب نظام الغريب للربعي (ص 180)، وفقه اللغة للثعالبي (1/ 141). (¬1) قال المجد في القاموس: "الإصبع مثلثة الهمزة، ومع كل حركةٍ تُثلَّث الباء - تسعُ لغاتٍ - والعاشر أصبوع - بالضم - كلُّ ذلك عن كراع" اهـ. وقال أيضًا في الأنملة: "بتثليث الميم والهمزة: تسع لغات" اهـ. (¬2) انظر نظام الغريب (ص 188). (¬3) في القاموس:"الشنب - محركةً -: ماءٌ، ورقَّةٌ، وبرد، وعذوبة في الأسنان أو نقط بيض فيها، أو حِدَّة الأنياب كالغَرْب تراها كالمنشار" اهـ. (¬4) راجع القاموس ولسان العرب مادتي (ندى) و (سمر). (¬5) لم أجد من أصحاب المعاجم مَنْ قيد (الأطيط) بصوت اليقظان، بل المذكور هو الصوت مطلقًا كما عن كراع في المنتخب (1/ 293) أو صوت الرحل ونحوه، أو صوت أجواف الإبل من الكظة إذا شربت، أو صوت الجوع. كما تجد كل هذا في التاج (5/ 102). (¬6) ويقال للقبر نفسه كما في القاموس.

• المصْحف: مثلّث الميم (¬1). • الباقعة: الطير الحَذِر؛ لأنه لا يشرب إلا من البقاع، وهي المواضع التي يستنقع فيها الماء، ولا يرد المشارع والمياه لئلا يُصَاد. • المُوبَذُ: قاضي المجوس. • وكلمات التأوّه خمس لغات (¬2): 1 - أوْهِ كجَيرِ. 2 - وآهِ بكسر الهاء. 3 - 4 - وأوَّهْ بإسكان الهاء كلاهما بفتح الهمزة وتشديد الواو. والأولى: بتشديد الواو مكسورة. 5 - وأُوَهْ بضمِّ الهمزة وفتح الواو وإسكان الهاء. • مطرت: للرحمة، وأمطرت: للعذاب (¬3). • الباشق ويقال له: باسِق. • النُّقَاخُ: الماء البارد العذب. • اللَّوذَعيُّ: الذكيُّ القلب. ¬

_ (¬1) راجع إكمال الإعلام لابن مالك (1/ 15). (¬2) بل أوصلها الزبيدي شارِح القاموس إلى اثنتين وعشرين لغة. راجع التاج (9/ 376). (¬3) نقله ابن قتيبة عن أبي عبيدة، وأفاد أن غيره يجيز اللفظين ولا يفرق. راجع أدب الكاتب (ص 350).

• الِّلثام: على الفم، والِّلفام: على طرف الأنف. • الخشاشُ، والشرب، والبغاث، والبشارة، والجروُ، وعنْد، وغشاوةٌ: كلُّها مُثَلثةُ الأول، ومثلها الدّلالةُ (¬1). • الهزَمةُ - بفتح الزّاي وكسرها (¬2). • المُشْط - بضمِّ الشين وإسكانها (¬3). • الصّياح - بضمِّ الصاد وكسرها. • الشّهد - بضمِّ الشين وفتحها. • الرغوة - مثلثة الراء (¬4). • الشام - بالهمز والتسهيل. • المهْنة - بفتح الميم وكسرها (¬5). ¬

_ (¬1) راجع إكمال الإعلام لابن مالك الفصل الأول (فيما ثلث أوله) (1/ 6). (¬2) الذي وجدته أنَّ الهزمة - بكسر الزاي - تقال في شدة الغليان نحو: قدر هزمة: أي شديدة الغليان، وأمَّا بفتحها فواحدة الهزَم وهي المسانُّ من المعزى كما نقله ابن منظور عن الشيباني في لسان العرب (12/ 611). (¬3) وفيها لغات أخر ذكرها المجد في القاموس بقوله: "المشط مثلثة وككتف وعُنق وعُتُلٍّ ومنبر" اهـ. (¬4) راجع الإكمال لابن مالك (1/ 256). (¬5) قال في القاموس (ص 1236): "المهنة بالكسر والفتح والتحريك وككلمة: الحذق بالخدمة والعمل".

• الجذْر - بفتح الجيم وكسرها. • طنْفسة - بفتح الطاء وكسرها (¬1). • نمرقة - بضمِّ النون والرَّاء وكسرهما (¬2). • الشجاع - بضمِّ الشين وكسرها (¬3). • اليقق - بفتح الياء وكسرها (¬4). • فُواق - بفتح الفاء وضمّها. • ذروة - بضمّ الذال وكسرها. • الجؤذر - بضمِّ الذال وفتحها (¬5). ¬

_ (¬1) قال في التاج (4/ 181): " (والطنفسة مثلثة الطاء والفاء) وبضمهما عن كراع (و) يروى (بكسر الطاء وفتح الفاء وبالعكس: واحدة الطنافس) وهي النمرقة فوق الرَّحْل" اهـ. (¬2) وفي القاموس: "النمرق والنمرقة، مثلثةً: الوسادة الصغيرة، أو الميثرة أو الطنفسة فوق الرحل". (¬3) وفتحها فهي على هذا مثلثة الشين وفيها لغة كأمير، راجع الغرر المثلثة للمجد (ص 297)، والقاموس مادة (شجع). (¬4) لم أجد أحدًا ذكر الفتح والكسر في ياء (اليقق) والذي عثرت عليه عند كراع في المنتخب (2/ 510) فيما جاء على فَعَلٍ وفَعِلٍ فتح القاف وكسرها حيث قال: "ويقال أبيض يَقَقٌ وَيقِق ولهَق ولهق: وهو الشديد البياض" اهـ. (¬5) وزاد القاموس: الجيذر، والجوذر - بالواو - كفُوفَل وكوكب والجوذر بفتح الجيم وكسر الذال: ولد البقرة الوحشية.

• بَدْرٌ تمام - بفتح التاء وكسرها. • جنح الليل - بضمِّ الجيم وكسرها. • ينبعتُ وينبعثُ بمعنًى. • الصَّرام والحَصاد والجِدَاد بمعنًى، وهي بفتح أولها وكسرها. • الخاتم - بفتح التاء وكسرها، ويقال فيه: خاتام وخيتام (¬1). • الفسطاط - بضمِّ الفاء وكسرها. • البلّور - بكسر الباء وفتح اللام مشددةً كسنَّور، وفتح الباء وضمِّ اللام مشددةً كتنُّور (¬2). • في المذي ثلاث لغاتٍ: إسكان الذال وتخفيف الياء، وكسر الذال وتشديد الياء أو تخفيفها. • الودْي - بإسكان الذال المهملة، وحكى الجوهريُّ: كسرها وتشديد الياء (¬3)، وحكى صاحب المطالع: الذال المعجمة (¬4). ¬

_ (¬1) وفيها لغات أخر تصل إلى ثمان كما نظمها العراقي، وقد أوردها جميعًا شارح القاموس الزبيدي في التاج (8/ 266). (¬2) وفيه لغة كسِبَطْرٍ. راجع القاموس. (¬3) حكاه الجوهري عن الأموي، كما في الصحاح (6/ 2521). (¬4) بل ذكره بالذال المعجمة قبله صاحب الأصل القاضي عياض في مشارق الأنوار (2/ 283)، والمطالع كتاب اختصر من المشارق وسماه مؤلفه إبراهيم بن يوسف ابن قرقول (ت 569 هـ) بـ (مطالع الأنوار على صحاح الآثار). وانظر تاج العروس (10/ 388) فقد ذكر لغة الإعجام عن ابن الإعرابي وهو متقدم على الجميع.

• المسجد - بكسر الجيم وفتحها. • الحيُّ والليُّ قيل: الكلام الظاهر والخفي، وقيل: الحق والباطل (¬1). • أبناء علات: أبٌ وأمهاتٌ، أبناء أخياف: أمٌّ وآباءٌ، أولاد أعيان: أبٌ وأمٌّ (¬2). • الماتِحُ: في أعلى البِئْر، والمائِح: في أسفلها. • السَّانح: ما ولاك ميامنه، والبارح: مياسره. • الرضخُ: العطاء اليسير، والنَّضْحُ: أوفى منه. • الأرز: فيه ستُّ لغات، الأفصح: ضمُّ الهمزة أو فتحها وتشديد الزاي، وفتح الهمزة والراء وتخفيف الزاي، وضمّ الهمزة وإسكان الراء، وَرُز بضمّ الراء وتشديد الزاي، ورُنْز (¬3). ¬

_ (¬1) وقيل - كما في القاموس -: لا يعرف الحوية من فتل الحبل. اهـ. وفي حاشية نصر الهوريني على القاموس (4/ 324): "قوله الحق من الباطل: ... وفسر ابن دريد في الجمهرة - على ما نقله السيوطي على يائيّة ابن الفارض -: الحي من الكلام: بالذي يفهم، واللي: بالذي لا يفهم" اهـ. قلت: ولم أجد هذا النص في الجمهرة المطبوع، والذي فيه (1/ 102): "يقال: فلانٌ لا يعرف الحوَّ من اللوّ: أي لا يعرف ما حوى مما لوى" اهـ. (¬2) راجع المصباح المنير للفيومي مادة (علّ) فقد نظم هذه الفروق في بيتين. (¬3) في الأصل المخطوط بالتاء وصوابه بالنون، وانظر تاج العروس (4/ 4) فقد زاد في لغاته.

• التُّراب: معروف وهو اسمُ جنس لا يثنى ولا يجمع (¬1). وقال المبرّد: جَمْعٌ واحده: ترابة (¬2)، وذكر النحَّاس (¬3) له خمسة عشر اسمًا: 1 - تراب 8 - كِثْكِث. 2 - تَوْرَب 9 - دِقْعم. 3 - تُوراب (¬4). 10 - دَقْعاء. 4 - تَيْرب. 11 - رغام، ومنه: أرغم الله أنف فلان. 5 - أَثْلب 12 - ثرى. 6 - إِثْلب 13 - ظليم. 7 - كَثْكَث 14 - قتام. ¬

_ (¬1) وهو الذي عليه الفراء والمحققون كما في تهذيب الأسماء واللغات للنووي (3/ 40). (¬2) وفي تاج العروس (1/ 157) أن بعض الأئمة نقلوا عن أبي علي الفارسي أنَّ التراب جمع ترب. اهـ. (¬3) أبو جعفر النحاس الإِمام المعروف (ت 338 هـ) وقد ذكر هذه الجموع في كتابه صناعة الكُتَّاب (ص 115)، ونقلها عنه النووي في التهذيب (3/ 40)، وجمعها الجلال في أربعة أبيات كما في شرح كفاية المتحفظ للفاسي (ص 420). وفي هذه المصادر يتفق ذِكْرُ اثنتي عشرة كلمة، وثلاثٌ خالف فيها المعلمي وصاحبُ الكنز ما ذكره ابن النحاس وهي (الثرى - ظليم - قتام)، فعند النحاس: (البرا - مقصور مفتوح الباء كالعصا - والكلخم بكسر الكاف والخاء المعجمة وإسكان اللام بينهما - والكملخ - بكسر الكاف واللام وإسكان الميم بينهما والخاء أيضًا معجمة) اهـ. وفي المنتخب لكراع (1/ 420) أنَّ الأخيرتين بالحاء المهملة وكذا في القاموس. (¬4) ضبطها الشيخ بضم التاء، وفي المصادر بفتحها، وقد أجاد النووي في تهذيبه (3/ 40) في ضبط هذه اللغات ضبطًا لفظيًّا فارجع إليه.

15 - عِثْيَرٌ (¬1). صعيد - مور - نقع - رمس. تمت. • البيضُ كلُّه بالضَّادِ إلا بيظَ النَّمل فهو بالظاء وحده. • السَّمكُ لا رِئَةَ لهُ، والفرسُ لا طحال له، والجمل لا مرارة له، والنَّعامةُ لا مخَّ لها، والآدميُّ لا كرِشَ له. • التقوى: اجتنابُ الكفر بالإيمان. • التوكُّلُ: الثقة بالله فيما ضَمِنَ. • الخوفُ: روع ينال الإنسان لمكروهٍ يناله. • الرّجاءُ: تَطلُّع محبوبٍ يَحْصُلُ، أو مكروهٍ يزول. • الزُّهدُ: غروب النفس عن الدنيا. • الفقر: تجرّدُ القلب عن العلائق، واستقلالُه به تعالى. • المحبَّةُ بين المخلوقين: حالةٌ لطيفةٌ بقلب المحب تحمله على إيثار محبوبه طوعًا. • الإرادةُ: نهوض القلب بالطلب. • الشوق: اتِّساعٌ يوجد في القلب يعطش إلى المحبوب، ويوجب عدمَ القرار. ¬

_ (¬1) وضع الشيخ هنا رقم (15) إشارة إلى أنه تمَّ العدد، ثم وضع كلمة (زيادة) إشارة إلى زيادة (صعيد) وما بعدها، وكلمة (تمت) توضيح منه إلى انتهاء أسماء التراب.

• الصَّبْرُ: إمساك القلب عن الاعتراض. • الجودُ: سهولةُ البذْلِ وسقوط شُحِّ النفس. • الشكرُ: الثَّناءُ على المحسن بذكر إحسانه. • الفِرْيةُ، والمِرْيةُ: الكَذِبُ، والشَّكُّ. • الهمَّةُ: السلوك إلى المراد بكلِّ الطاقة. • كل مطعومٍ يُقَال لحَبَّتِهِ: حَبَّةٌ بفتح الحاء، وغيرُهُ بكسر الحاء (¬1). • قال النيسابوري (¬2): الذي يجمعُ ويمنعُ ولا يشفعُ ولا ينفعُ هو: اللئيم، والذي يجمعُ ويمنعُ ويشفعُ ولا ينفعُ هو البخيل، والذي يجمعُ ولا يمنعُ ويشفعُ وينفعُ هو: السخيُّ، والذي يفْعَلُ الفِعْل لينفعَ غيرَه بلا نَفْعٍ يعود عليه هو: الكريم. • أسماء الذئْبِ (¬3): سِرحان - الطِّمْل - الطملان (¬4) - الَّلغْوَسُ - العملَّس - ذؤالة - الذئْب - الأوس - السِّيد - الأطلس - العَسَلَّق - ¬

_ (¬1) انظر الخلاف في تاج العروس (1/ 198). (¬2) لم أعرف مَن هو. (¬3) راجع في هذا المخصص لابن سيده (8/ 65)، نظام الغريب (ص 178)، شرح كفاية المتحفظ للفاسي (ص 339)، ومبادئ اللغة للإسكافي (ص 148)، فقد زادوا على ما هنا. (¬4) الذي في القاموس وغيره: الطملال باللام.

العَسْعَس- النَّهْشل - الأصمع (¬1) - الأمقط (¬2) - الأَطْحل - الخِمْعُ - الأطلح - العوف - الوَعْوَعُ (¬3) - الشيذمان - التوسّل (¬4) - العَسْعاس - اللعين. • أقسط عدلاً، وقسط جَورًا. • الطلل: ما شخص من آثار الديار. • الطلاق: هو رفع حلّ الوطء الثابت بالنكاح بلفظ الطلاق. • الهجود: النوم نهارًا، والهجوع: ليلاً، وقيل: بمعنًى (¬5). • الأدب: هو الوقوف مع المستحسنات. • فائدة في الأصوات (¬6): ثُغاء الشاة - ونُباب الجدي - وصهيل الخيل - وحَمْحَمةُ الفرس - ونهيق الحمار - وشَحيج البغل - ورُغاء الجمل - وجَرْجرة البعير - وهدير الناقة - وخُوار العجل - وزئير الأسد - وعُواء الذئْب - ونُباح الكلب - وضَبْحُ ¬

_ (¬1) هكذا بالأصل ولعلها: الأخمع - بالخاء المعجمة -. (¬2) هكذا بالأصل ولم أجدها. ولعلها: الأمعط. انظر المخصص (8/ 68). (¬3) في القاموس وغيره: الوعوع تقال لابن آوى - والثعلب - والخطيب البليغ والمفازة والضعيف والديدبان وهو حمار الوحش، والوعواع: صوت الذئاب والكلاب وغيرها. (¬4) هكذا بالأصل ولم أجده. (¬5) راجع التاج مادتي (هجد - هجع). (¬6) انظر المنتخب لكراع (1/ 293)، وكتاب نظام الغريب (ص 113)، وفقه اللغة للثعالبي (1/ 352) وما بعدها.

الثعلب - وقَبْعُ الخنزير - ونهيم (¬1) الفيل - وكشكشة الأفعى: وهو صوت جلدها - وفَحيحُ الحيَّة - ونقيق الضِّفدع - وحفيف [الجُعْل] (¬2) - وضغاء الهرّة - وبُغام الظبي - وصئيُّ الفهد (¬3) - وصَرْصرة البازي - ونعيب الغراب ونعيقُه - وصقيعُ الديك - وزمير الظليم (¬4) - ونميم الفأرة (¬5) - ووَعْوَعة ابن آوى - وهدير الحمام - وزقزقة العصفور - وصفير القنبر - ونقيق الدجاج - وخرير النسر - وخريم (¬6) الماء - وهبوب الرِّيح - وزخر البحور - وصليل الحجر - وقَعْقَعَةُ السِّلاح - وجَعْجَعَةُ الرَّحى - وبث التيس (¬7) - ورزمة: صوت الرَّعْد - ودَويُّ الهواءِ. ¬

_ (¬1) هكذا بالأصل، وصوابه: النئيم - بالهمزة لا بالهاء - كما في فقه اللغة (1/ 356)، وإن كان غير الثعالبي ذكر أن النئيم للأسد والسباع والظبي، كما في القاموس. (¬2) هنا كلمة لم تتضح لي لأجل تمزق الورق، وفي الكنز المدفون (ص 89): وحفيف الجعل. (¬3) في فقه اللغة (1/ 356) أنَّ الصئي صوت للفيل اهـ. وفي المخصص لابن سيده (8/ 72) في باب الفهود: أنَّ النحيم صوت الفهد ونحوه من السباع. اهـ. وفي تاج العروس (10/ 205): أنَّ الصئي مثلثة الصاد وهو صوت الفرخ ونحوه كالخنزير والفأر واليربوع والسنور والكلب. اهـ. فلينظر فيه. (¬4) في القاموس وشرحه التاج (3/ 241) أفاد أنَّ الزمار ككتاب: صوت النعام، وأمَّا الظليم فلا يقال فيه إلا عارَّ يعارُّ. (¬5) في المخصص (8/ 98): عن ابن دريد: الكعيص صوت الفأرة. اهـ. (¬6) هكذا بالأصل ولم أجده في المعاجم كالمخصص وغيره، ولعله محرف من (خرير) بالراء. (¬7) هكذا بالأصل، ولم أهتد للمعنى، ولعلها تصحفت من (نبّ أو نبيب).

• الهُمَزَةُ: الطعَّان في الناس. • اللمزة: المغتاب. • حِكْمَةٌ: وكم حمارٍ على جوادٍ ... وكم جوادٍ على حمارِ أو تُقَدَّم وتُؤَخَّر. • المقلة: شَحْمةُ العين الجامعة للسواد والبياض، والحدقةُ: هي السواد الأعظم، والناظر: هو السواد الأصغر، والإنسان: داخل الناظر، وذُنابةُ العين: مؤخَّرها، وَاللحاظ: طرف العين ممَّا يلي الصدغ، والموق: طرفها مما يلي الأنف، والحِمْلَاقُ: باطن جفن العين، وشُفْر العين: طرف الجفن الذي ينبت فيه الشعر، والحِجَاجُ: العظم المشرف على العين. • بنا - يبني - بناءً: في العمران، وبنا يبنو بناءً: في الشرف (¬1). • مَطَايبُ اللحم، وأَطَايبُ الفاكهة. • الحَقْوُ هو: الخَصْر، ويطلق مجازًا على الإزار لعلاقة المجاورة. • الحَبَبُ: شيءٌ يشبه الدخان على وجه الخمر. ¬

_ (¬1) لم أجده بالواو إلا عند ابن سيده في المحكم (12/ 177) ونقله الزبيدي عنه في التاج (10/ 46)، مع أَنَّه قال عند عبارة القاموس: "وتكون البناية في الشرف". قال الزبيدي: "والفعل كالفعل ... " يريد: بناه يبنيه بالياء.

• أسماء المطر (¬1): الوبل - الغيث - الديمة - الوكْفُ - الهطْل - الصيّب - الصوب - الرّباب - المزن (¬2) - القَطْر - الماء - الثَّلَّة (¬3) - الودق - الحيا - العَهْد جمعه: عِهادٌ. • المراءُ: كلُّ اعتراضٍ على كلام الغير بإظهار خَلَلٍ فيه في اللفظ أو المعنى أو قَصْدِ المتكلم. • فائدةٌ (¬4): يقال: قَعَد الرَّجُلُ - جلس الإنسان - ربض الفرس والحمارُ وكل ذي حَافِرٍ أو ظلْف، ويجوز في السباع - برك البعير - جَثَم الطائرُ. • خَرِئَ الإنسانُ ونجا يَنْجو - ذرق الطائرُ - راث الحمار والفرسُ وكلُّ ذي حَافِرٍ، وبَعَر كلُّ ذي خُفٍّ وظِلْفٍ - وصام النَّعامُ - ووَنَمَ الذبابُ (¬5). • ويقال: اغْتَلمَ الرجل وشَبِقَ - واستودق الفرسُ وكلُّ ذي حافرٍ - وهَاجَ البقر - وقَطِمَ البعيرُ وهَبَّ - وضَبِعَت النَّاقةُ - وجعلت (¬6) اللَّبوةُ - وصَرَفت ¬

_ (¬1) انظر المنتخب لكراع (2/ 442)، والمخصص (9/ 120)، وكتاب نظام الغريب (ص 190)، وفقه اللغة للثعالبي (2/ 473)، وشرح كفاية المتحفظ للفاسي (ص 460). (¬2) يطلق على السحاب الذي به ماءٌ كما في المعاجم. (¬3) لم أجدها في المعاجم والقواميس وكتب المثلثات. (¬4) راجع فقه اللغة للثعالبي (1/ 325). (¬5) انظر المنتخب لكراع (1/ 62). (¬6) في القاموس والمنتخب (1/ 136): أجعلت - بالألف رباعيًّا -.

الكلبةُ - وحَنَت النَّعْجَةُ - واشتَحْرمتِ الشاةُ - ونبَّ التَّيسُ (¬1). • ويقال: نكح الإنسان وجامع وباضع ولامس ووَطِئَ - طرق الفَحْلُ - عاظل الكلب - نزا السبعُ ينزو - قَمَط وسَفِدَ الطائرُ (¬2). • الفَأْرُ كلُّه مهموزٌ إلا فأرة المِسْك. • الظل بالغداةِ، والفيءُ بالعشيِّ. قال الشاعر: فلا الظلُّ من بَرْد الضُّحى تَسْتطيعه ولا الفَيءُ من برْد العشيِّ تذوقُ (¬3) وقال أبو عبيدةُ (¬4): ما كانت الشمس عليه فزالت فهو فيءٌ وظلٌّ، وما لم تكن عليه فهو ظلٌّ فقط (¬5). ¬

_ (¬1) انظر المنتخب (1/ 136). (¬2) راجع فقه اللغة (1/ 284). (¬3) البيت لحميد بن ثور الهلالي كما في ديوانه (ص 40) ط الميمني وفيه: فلا الظل منها بالضحى تستطيعه ... ولا الفيء منها بالعشي تذوق (¬4) الإمام معمر بن المثنى البصري أخذ عنه أبو عبيد وأبو حاتم والمازني وغيرهم، وكان عالمًا بالأنساب والأخبار وأيام العرب، توفي سنة (209 هـ)، وقيل غيرها. راجع البغية (2/ 294). (¬5) راجع الفرق بين الظل والفيء: أدب الكاتب لابن قتيبة (ص 26)، وتاج العروس (1/ 98)، (7/ 425).

• قال أبو محلّم (¬1): النَّدى: ما كان من الأرض، والسَّدَى: ما كان من السماء (¬2). • فائدة: الرَّتَقُ: العدم، والفتق: الوجود. • العواصف: الريحُ المهلكة في البرّ، والقواصف في البحر. • السَّبَدُ: شعر المعز، واللّبْد: شعر الإبل. • الأُفُّ: وَسَخُ الأُذْن، والتُّفّ: وسخ الظُّفر. • فائدة: سبب الغضب: هجوم ما تكرهُهُ النفس ممّن لها عليه نوع قُدْرةٍ. وسبب الحسد: هجوم ذلك ممن ليس لها عليه قُدرةٌ، والغضب يتحرَّك من داخل الجسد إلى خارجه، والحُزْنُ عَكْسُه؛ ولذلك يقتل الحزنُ لا الغضبُ. • أسماء الذَّهب (¬3): نَضْرٌ - نضير - نُضَارٌ - زِبْرِجٌ - زخرف - عَسْجد - عِقْيان. ¬

_ (¬1) راوٍ من الرواة القدماء ينقل عنه كثيرًا أبو علي القالي في أماليه. انظر خزانة الأدب للبغدادي (1/ 376) (6/ 355). (¬2) وقاله ابن حبيب أيضًا كما نقله عنه القالي في المقصور والممدود (ص 102)، وذكر عن أبي عبيدة أنَّ السدى لا يكون إلا في أول الليل، والندى لا يكون إلا في آخره، وعن الأصمعي أنهما سواء وجوَّده القالي كما في المقصور والممدود. (¬3) راجع نظام الغريب (ص 74).

• أسماء الهلال (¬1): الثلاثةُ الأُوَل: هلالٌ. الثانية: قَمر. الثالثة: بهر. والرابعة: زهر. والخامسة: بيض. السادسة: دُرع. السابعة: ظُلم. الثامنة: حنادس. والتاسعةُ: دآدئ، وليلتين محامرٌ، وليلةٌ: سِرار. وقيل: ثلاثٌ: غُرَرٌ أو شهب، وثلاثٌ: زُهر أو نُفل، وثلاثٌ: تسع، وثلاثٌ: بُهر، وثلاثٌ: بيضٌ، وثلاثٌ: دُرَع، وثلاثٌ: دُهْم وفحم، وثلاثٌ: حنادس، وثلاثٌ دآدىء، وثلاثٌ: مَحَاقٌ. وقيل: ليلة ثمان وعشرين: دعجاء (¬2)، وليلة التاسع والعشرين: دهماء، وليلة الثلاثين: ليلاء. • مُثَلَّثٌ: اللَّمَّة بالفتح: الشدّة، وبالكسر: الشعر المتجاوز شحمة الأذن، وبالضمِّ: الصاحب. ¬

_ (¬1) انظر المخصص (9/ 26)، ومبادئ اللغة للإسكافي (ص 7). (¬2) في الأصل المخطوط: (دعماء)، والصواب ما أثبت.

الرقاق بالفتح: الرِّمال المتصلة، وبالكسر: القافلة في السير (¬1)، وبالضمِّ: الخبز المرقق. اللَّهوةُ بالفتح: جلدة معلقة بالحنك، وبالكسر: العطيّة، وبالضمِّ: الحفنة (¬2). الكرى - بالفتح -: النوم، وبالكسر: الأجرة، وبالضمِّ: جمع كُرة. الثَّلَّةُ - بالفتح -: قطيع الغنم، والكسر: المطرُ (¬3)، والضمِّ: الجماعة من النَّاس. القَلْب - بالفتح -: معروف، وبالكسر: العصفور (¬4)، وبالضمِّ: السِّوار. الخَلَّةُ - بالفتح - الحاجة، وبالكسر: الخِلال (¬5)، وبالضمِّ: الخصال. ¬

_ (¬1) قالوا في معناها: جمع رقيق، ضد غليظ، وجمع رَقَّةٍ: وهي كل أرض ينبسط عليها ماء المدَّ فيطيبها للنبات، كذا في إكمال الإعلام بتثليث الكلام لابن مالك (1/ 258). (¬2) لم أجد أحدًا من أصحاب المثلثات - كالبطليوسي وابن مالك والفيروز آبادي - ذكر تثليث اللهوة، وإنما نصّوا على أنَّ اللهوة بالفتح والضم تقال للعطية والحفنة من المال، وأمَّا الجلدة المعلقة بالحنك فهي اللهاة. راجع التاج (10/ 335). (¬3) في المعاجم: الثلة بالكسر الهلكة، وعند البطليوسي: الثلة بالكسر: الهلكة عن المطرَّز، ونقله عنه المجد في الغرر المثلثة (ص 381)، ولعل كلمة (المطرز) تصحَّفت إلى (المطر). وانظر كتاب المثلث للبطليوسي (1/ 385). (¬4) لم أجد معنى العصفور بالكسر، وإنما ذكر البطليوسي في المكسور: قلب النخلة وأفاد أنه يثلث، وانظر أيضًا القاموس مادة (قلب). (¬5) جمع خِلَّة بالكسر - وهي بقية الطعام بالأسنان كما في القاموس.

الحَقُّ - بالفتح - ضدُّ الباطل، وبالكسر: من الإبل ما عمره أربع سنين، وبالضمِّ: ما يعمل من الخشب. الحَبُّ - بالفتح - جمع حَبَّةٍ، وبالكسر المعشوق، وبالضمِّ: العشق. العقار - بالفتح -: المُلْك الثابت، وبالكسر: جمع عقير وهو الجريح (¬1)، وبالضمِّ: الخَمْرة. العَرْس بيت الأسد، فالزوجة، فالوليمة (¬2). اللُّجَّةُ- بالفتح - لَجَبٌ وصياح، والكسر: من اللَّجاجة، والضمِّ: وسط البحر. الوُقْر: الصَّمَمُ، فالحِمْل الثقيل، فالوقار. الخَطُّ: الكتابةُ، فالطريق، فالنصيب (¬3). ¬

_ (¬1) عند ابن مالك في الإكمال (2/ 440): والعِقار والمعاقرة: مصدرا عاقر الشيء: لازمه. اهـ. (¬2) عدل المصنف هنا عن قوله: (بالفتح ... والكسر ... والضم) فاستخدم الفاء العاطفة نائبةً عن قوله: العرس بالفتح: بيت الأسد، وبالكسر ... إلخ، وكذا ما يأتي بعدها من ألفاظ. (¬3) الخط بالفتح ذكروا له معانيَ منها: الكتابة، كما هنا، وبالكسر قال ابن مالك: المكان المخطوط عليه، وقال المجد في الغرر: وبالكسر الأرض تنزل قبل أن ينزلها أحدٌّ كالخِطة، وبالضمَّ قال المجد: الفَلاةُ، ومشارع القوم وموضعهم فيه، وقَال ابن مالك: والخُط جمع أخط وهو: الدقيق المحاسن. اهـ. وأمَّا الطريق فلم أجده بالكسر بل ذكروه مفتوحًا، وأمَّا النصيب فلم أجده ألبتة. انظر الإكمال لابن مالك (1/ 190)، والغرر للمجد (ص 420).

الخَلْف: قومٌ باقون بعد ماضين، فالقرين من الناس (¬1)، فعدمُ الإيفاء. الخَرْصُ: الحَرْزُ، فالمحال (¬2)، فالحَلْقةُ. الحَبْنُ: شجرةُ الدِّفَلى، فالقِرْدُ، فجمع حبناء وهي: عظيمة البطن. الذَّبْحُ (¬3): قَطْعُ الوريدين، فالمذبوح، فنباتٌ مسمومٌ. الرَّبْعُ: الدارُ، فالماءُ القليل، فما يُكال به (¬4). الرَّسْل: الخفيف من الإبل، فاليسيرُ من لبنها، فَجمْعُ رسول. النَّعمة: هيئة النعيم فالمرة من الإحسان فالمسرَّةُ (¬5). • المُثَنَّاةُ: وهَل - بالفتح - أي: غلط، وبالكسر: جزع. ¬

_ (¬1) لم أجد الخِلف - بالكسر - يراد به القرين من الناس ولعلها مصحفة عن (القرن من الناس) ولكنَّ هذا المعنى ذكر في الخلف - بفتح الخاء، وأمَّا المكسور فله معانٍ انظرها في الإكمال (1/ 195). (¬2) هكذا بالأصل المخطوط، ولم أجد هذا المعنى في المكسور، وإنما ذكروا فيه: الجمل الشديد الضليع، والرمح اللطيف، والدب، والزبيل. راجع القاموس مادة (خرص). (¬3) لم يورد أحدٌ من أصحاب المثلثات هذه الكلمة في كتبهم؛ لأنها ليست على شرطهم، فالكلمة فيها الفتح والكسر مع سكون الباء، ولا ضم فيها، وأمَّا النبات المسموم فبوزن غراب وصُرَد (ذُباح، وذُبَح)، كما تجده في التاج (2/ 138). (¬4) ذكر ابن مالك وغيره في الربع بالكسر أنه ورود الماء بعد ظمأ يومين، وأخذ الحمَّى بعد تخلية يومين، والربع بالضم: جزءٌ من أربعة. (¬5) قدَّم الكسر على الفتح على خلاف الأصل.

الجَهْد - بالفتح -: المبالغة والغاية، وبالضمِّ: الوسع والطاقة. البكر - بالفتح -: الفتيُّ من الإبل، والكسر: الجارية لم تُفْتضَّ. الحبْر - بالفتح -: العالم، وبالكسر: المِدَادُ. الصَّدق - بالفتح -: الصلب، وبالكسر: خلاف الكذب. السَّرْب - بالفتح -: الطريق، وبالكسر: النفس. الجزع - بالفتح -: الخرز اليماني، وبالكسر: جانب الوادي. الشَّف - بالفتح-: الستْرُ الرقيق، وبالكسر: الفضل (¬1). العلاقة - بالفتح -: الحبُّ، وبالكسر: عِلاقة السوط ونحوها. الحمالة: ما أخذ من غرم دِيَةٍ، وبالكسر: سير السيف الذي يُحمل به ويُتقَلّد. الأمارة - بالفتح -: العلامة، وبالكسر: الوِلاية. الثفال - بالفتح -: البعير البطيء السير، وبالكسر: كساءٌ ثخين يوضع تحت العجين. العوج - بالفتح - فما يُرى كالعصا، وبالكسر: فيما لا يُرى كالدِّين (¬2). الجنازة - بالفتح -: النعش، وبالكسر: الميت (¬3). ¬

_ (¬1) حكى القاموس في المعنيين الفتح والكسر. (¬2) فيما يرى بتحريك العين والواو، وفيما لا يرى كعنب. كما في القاموس، وفيه نزاع. (¬3) فيه خلاف، بعضهم جوَّز الوجهين في الميت، وبعضهم ذكر ما نَقَله المصنف هنا، وبعضهم عكس، وبعضهم قال بالكسر: السرير مع الميت. راجع القاموس مادة (جنز).

الثمر - بالضمِّ -: المال، وبالفتح: جمع ثمرةٍ. الهناء - بالفتح -: الفرح، وبالكسر: القطران. نفذ - بالفتح -: خَرَق، وبالكسر: فرغ (¬1). السمر - بفتح الميم -: الحديث ليلاً، وبإسكانها: ضوء القمر (¬2). فوائد جليلة من كلام الصاغاني (¬3) وغيره في الأضداد (¬4): (ضدٌّ) أسرَّ - خفيتُ - البين - عفا - عسعس الظلامُ - غَبَرَ - القُرْءُ - المُقْوي - وراء - الظنُّ - الأدمة - الجون - الصريم أي: الليل والنهار - الطرب - شَعَب الأمر: أصلح وأفسد. ¬

_ (¬1) ظاهر العبارة أن (نفذ) بالفتح والإعجام بمعنى خرق، وأنَّ (نفذ) بالكسر والإعجام بمعنى فرغ، وهذا لا وجود له في المعاجم لأنَّ (نفذ) بالإعجام نصّوا على أنها من باب (قعد)، و (نفد) بالإهمال نصَّوا على أنَّها من باب (تعب) كما جاء في التنزيل: {مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ}، وعليه فتصحيح العبارة يكون هكذا: [نفذ بالفتح والإعجام: خرق، وبالكسر والإهمال: فرغ] فتأمل. (¬2) في القاموس وشرحه للزبيدي أنَّ السمر بالتحريك تقال للحديث ليلاً، وضوء القمر. (¬3) الإِمام رضي الدين الحسن بن محمد الصاغاني، ولد سنة (577 هـ)، كان إليه المنتهى في اللغة، له من التصانيف: مجمع البحرين في اللغة، والتكملة على الصحاح، والعباب وغيرها كثير، توفي (650). راجع البغية (1/ 519). (¬4) تراجع هذه الألفاظ في مظانها من: كتاب الأضداد للصاغاني ط القاهرة، والأضداد لأبي حاتم، والأضداد للأنباري، وثلاثة نصوص في الأضداد تحقيق محمد حسن آل ياسين.

الناهل: المرتوي والظمآن - شِمْتُ السيف - فَرَّعَ: الصعود والهبوط - الذَّفَرُ: الطيب والنتن - الشفق (¬1) - المفازة - البلاء - البيع - الشراء - أثغم - الساجد - المسجور: المملوء والفارغ - السُّدْفةُ: الظلمة والضوء - السديم: كثير الذكر وقليله - الأنْصَى: خفيف الناصية ومعدومها - الثاقب: القريب والبعيد - الشبوب (¬2): الثور الشاب والمسنّ - أسآه (¬3) - الشجاع - أشرب الرجل: رَويت إبلُه وعَطِشت - الشرف - سَراةُ المال: خيرُه ورديئه - سرد (¬4): أعيا ونشط - الشَّعْبُ: الجمع والتفريق - الشَّفُّ: الفضل والنقصان - الأخلاق: الشِّيَمُ الكريمة والسيِّئة (¬5) - النشور (¬6) من الدواب: السمين والمهزول - شوهاء: قبيحة وحسنة وواسعة الفَم وضيَّقته - تصدَّق - اصحامّت البقلة: اشتدَّت خضرتها واصفرَّت. ¬

_ (¬1) هكذا بالأصل ولعله تصحيف؛ لأني لم أجده في كتب الفن وإنما وجدت (الشنق) وهو الأرش في الجراح والشجاج، وما يكون لغوًا مما يزيد على الفريضة والدية. راجع الأضداد للصاغاني (ص 100)، والأضداد للأنباري (ص 305). (¬2) في كتب الأضداد يُذكر بـ (المشب)، وفي القاموس ذُكر بـ (الشبوب). (¬3) هكذا بالأصل ولم تتبين لي، ولعلها تكون (أشْبَاه): إذا ألقاه فيما يكره وآذاه، وإذا أكرمه وأعطاه، أو تكون (أسام) بمعنى سام. انظر الصاغاني (ص 98)، والأضداد لأبي حاتم (ص 246). (¬4) لم أجدها، ولعل صوابه (شزن) كما عند الصاغاني (ص 99). (¬5) لم أعثر عليها في كتب الأضداد. (¬6) هكذا بالأصل ولم تتبين لي، ولعل الصواب (الشنون) فهي عند الصاغاني: "المهزول من الدواب والسمين" انظر (ص 234).

• الفَصْم، والقَصْم، والقَضْمُ: الصدع أو الشقُّ بلا إبانة، والكسر مع الإبانة، والأكل بأطراف الأسنان. • فائدة: الشكُّ في اصطلاح الفقهاء: اعتقاد متساوي الطرفين، والظنُّ والوهم بترجيحٍ، فالظنُّ هو الراجحُ، والوهم هو المرجوح. • الظَّأْبانِ السِّلْفان: المتزوجان بأختين. • عرفة: اسم الزمان، وعرفات: اسم المكان. • الضَّمْعَجُ: البعير. • النَّفر: مِن ثلاثة إلى عشرة. • الضّر إذا ذُكر مع النفْع فُتحَ، وإذا أُفْرد ضُمَّ. • والفرقة ثلاثة، والطائفة: أربعة، والعصابة: ما بين العشرة إلى الأربعين. • ويح: كلمة رَحْمة، ويل: كلمة عذاب. • الفنيكان: هما جانبا العنفقة. • البراجم: مقاطع ظهور الأنامل، الرواجب: ما تحت الأظافر. • من أسماء الأسد (¬1): السبع - الدَّلهمس - هرثمة - الشجعم - الشدقم - الصَّمُّ - الهوَّاس - الخابس - الهصور - الضيغم - حيدرة - الغَظَنْفر (¬2) - قسورة - الليث - ¬

_ (¬1) راجع نظام الغريب (ص 175)، والمخصص (8/ 59)، ومبادئ اللغة (ص 148)، وشرح كفاية المتحفظ للفاسي (ص 334). وقد زادوا على ما ذكر هنا. (¬2) كذا في أصل المعلمي، وهو خطأ صوابه بالضاد (الغضنفر).

الكلب - الوثاب - الضرغام - الوردل (¬1) - السميدع - الهزبر - الحفص - العنبس - الريبال - الهرماس - الفُرافِصَة - أسامة - ساعدة. أسماء القمر (¬2): الباهر - البدر - الطَّوس - الحلم (¬3) - الغاسق - الوَبَّاص - المنسق - السماء (¬4) - الواضح - الأبرص - الباحُور - الساهور - الزمهرير - السرر - والهلال - والفختُ: ضوء القم ر- والأخذ: منزلته، والوكْسُ: منزلته التي يخسف بها - والهالة: دائرته. • قال أبو العباس ابن المعتز: للخمْرِ أسماء كثيرة، والعرب إذا أحبَّت أو هابت شيئًا أكثرت سُماه، والحاضر من أسمائها (¬5): الشمول يعني: أنها تجمع شمل الشَّرْب. العقار: من المعاقرة عليها، وهو إدمانُها. ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) راجع المخصص (9/ 26)، ونظام الغريب (ص 128). (¬3) في القاموس وغيره (الجَلَم) بالجيم المعجمة، وفي التاج (8/ 258) في مادة (حلم) قال: "ونقل شيخنا عن عبد الحكيم في حاشية البيضاوي ما نصُّه: "الحلم بالفتح العقل"، وفيه نظر" اهـ. (¬4) لم أجده ولعله السنّمار كما في القاموس فتصحفت، وفي التاج (10/ 184): "وسما الهلال: طلع". (¬5) انظر المنتخب (1/ 385)، والمخصص (11/ 72)، ونظام الغريب (ص 59)، وغيرها من المصادر التي ذكرت أسماء الخمر بتفسيراتها.

الخندريس: من خِدْر العروس يعني: أنها محجوبة في الدنّ كما تُحجب العروس في الخدر. القرقف: النقيّة البياض الصافية. الراح: مُشتقٌّ من الراحة من الهموم. القهوة: (لأنها تقهي عن الطعام فلا يُشتهى) (¬1). المُدام: لأنَّها تُشْبعُ فيستغنى بها عن الأكل. المزَّةُ: هي التي فيها مرارة. السُّكر: لإسكارها. الطِّلاء: (يراد به تحسين اسمها لا أنها الطلاء بعينه). السُّلَاف: أوَّلُ ما يسيل من المعصار من غير دوس. العاتق: لطول بقائها في الدَّنّ، والعاتق هي: البكر التي طال بقاؤها بكرًا. الإسفنط: وهي عطرة الرائحة. المُعرَّقُ: من العراقة إن كان كَرْمُ العنب محمود الأغصان (¬2). الكميت: حمراء اللون. الزنجبيل: هي التي لها حِدَّةٌ في اللسان. ¬

_ (¬1) ما بين القوسين بياض والإضافة من المصادر، وكل ما سيأتي ممَّا هو بين قوسين فعلى هذا الأمر. (¬2) في المنتخب (1/ 386): المعرّق: الممزوج من كل شراب.

التأْمور: وهو دم يكون وسط القلب. الدرياق: لنفعها في العِلَل الجسيمة. الماذيّة: الماذيُّ العسل الأبيض الحسن الطعم المائع. الشراب: معروفٌ. السِّباءُ: المجلوبة من مدينة إلى أخرى. الخَمْطة: منسوبة إلى موضع اسمه الخمط (¬1). المشعشع: المضيئة (¬2). المُسْطَارُ: الحديث من الخمر (¬3). المُصفَّقُ: الممزوجة. القُمُّحَانُ: وهو ما يعلوها من البياض كالقُمْحَة. المُعتَّقةُ: التي عتقت في الدّنِّ مدة طويلة. الشموس: هي التى تتزر وتندرج عند المزج (¬4). ¬

_ (¬1) في القاموس: الخمطة: ريح نور العنب وشبهه، والخمر التي أخذت ريحًا، أو الحامضة مع ريح. اهـ (¬2) وفي المنتخب (1/ 385): والمشعشعة: الممزوجة. (¬3) وفي القاموس: المسطار: الخمرة الصارعة لشاربها أو الحامضة أو الحديثة. (¬4) في المخصص: سميت شموسًا لشماسها عند المزاج لأنها تنافر الماء إذا شجت به وتميز وترمي بالحباب رمي السهم.

الجريال: وهو اسمٌ لما يسيل من راووق الصبّاغ من العُصْفُر فشبهت به (¬1). الخرطوم: لأنها توضع عليه. المقطَّب: هو الممزوج. السُّحاميّة: هي السوداء. الغَرْب: (الفيضة من الخمر) (¬2). العانيّة: منسوبةٌ إلى مواضع عصرها. الحانيّة: منسوبة إلى حانات بيعها. الرحيق: الطيبة الرائحة. الحُمَيَّا: التي يحمى الجسد عند شربها لسورتها. القنديد: مُشْبِهَةٌ القَنْد (¬3) في حلاوتها. الخليلةُ: معلوم. الرسَاطُون: موضعٌ عُصرتْ فيه. العارض: () (¬4). ¬

_ (¬1) في المخصص (11/ 78) عن ابن الكسيت: وسميت جريالاً لحمرتها، والجريال: صبغ أحمر وربما جعل للخمر، وربما جعل صبغًا ... إلخ. (¬2) كما في القاموس. (¬3) وهو عسل قصب السكر إذا جُمّد - كما في القاموس -. (¬4) بياض، ولم أعرف تفسيرها.

اللَّذَّةُ: معلومٌ. الكأس: باسم محلها الذي تشرب فيه (¬1). المروَّق: (مشتق من الراووق وهي المصفاة والباطية، وناجود الشراب الذي يروّق به، والكأس بعينها، وروَّق السكران: إذا بال على نفسه) (¬2). الماقع: الذي يمتقع اللَّون بعد شربها أي: يصفرُّ. الحبابيَّة: معلوم. المَطْيبة: معلومٌ. المطية: لدوسها بالأقدام. المُحَبَّبَةُ: معلوم. أم ليلى: الصفراء تشبيهًا بامرأةٍ كانت تلبس الأصفر فقط. السلسبيل هو والسلسل والسلسال: من التسلسل في الكأس. المهيج: التي تهيّج النشوة في الحال. المرتاح: التي ترتاح لها النفوس. أم زئبق: شبهت بالزيبق لبريقها. الزيتيَّة: تُشْبِهُ لونَ الزيت. ¬

_ (¬1) هذا تفسير للمعلمي. (¬2) راجع القاموس مادة (راق).

الذهبيّة: معلوم. الصهباء: حمراء اللون. العروس: لأنها تجلي على السُّمْعِ كالعروس. الآسِرةُ: معلوم. الخَلَّةُ: لمخاللتها البدن. المثلبة: (لعلها جالبةُ المثالب). الناقس: (حامض) (¬1). النُّميلة والدّبَّابة: بمعنًى. الضريعُ: نعتٌ لها. المِرْواحة: وهي التفّاحة التي تُشَمُّ من بعيد. الثائر: مثيرةُ الكمائن. الشريق: (لعلها من الامتلاء يقال: شرق الموضع بأهله: امتلأ فضاق أو من اللون يقال شرق الشيء: إذا اشتدت حمرته بدمٍ أو بحسن لون أحمر، أو من الاختلاط، يقال شرق الشيء: اختلط) (¬2). الخَيفة: هو اسمٌ لغاب الأسد، سميت به لما يتولَّد للإنسان بعد شربها. المفتاح: مفتاح السرور. ¬

_ (¬1) في الأصل بالفاء، وتصويبها من المخصص (11/ 79). (¬2) راجع التكملة للزبيدي (5/ 276).

النَّبيلةُ: لنبالتها. الساهريَّة: هو اسمٌ لعطر تتخذه النساء لرؤوسهن. المُزيَّنة: مُزيَّنةُ الحسن والقبيح لشربها. المصرَّعة، المنوّمة، العصير: معلومةٌ. الفيهجُ: (الخمر الصافي، وقيل هو من صفاتها) (¬1). الإثم: معلوم. الحمق: معلوم. الصريفيّة: هي الصَّرْف التي لم تمزج. الصرخديَّةُ: (بلد بالشام تنسب إليه) (¬2). المقديّة: منسوبة إلى محل. الزرجون: (معرَّب زركون أي: لون الذهب) (¬3). الكلفاء: (لِلَوْنها وهي: التي تشتد حمرتها حتى تضرب إلى السواد) (¬4). البابلية: (بلد بالعراق تنسب إليه). ¬

_ (¬1) التاج (2/ 89). (¬2) انظر القاموس مادة (صرخد). (¬3) راجع التاج (2/ 52). (¬4) انظر التاج (6/ 238).

القُطْرُبُّليّة: (موضعان أحدهما بالعراق تنسب إليه الخمر) (¬1). المَبْولة المُغذيَة، الرابية: معلومة. فؤاد الدَّنِّ. أم الدِّنَان. المُبْرحة: معلومة. الأيم: () (¬2). اللطف. البكر. العجوز. المسلّية. المُنْسية. السارية. المشرحة. الطاردة. النمَّامة: معلومة. النّور: لأنَّ الله - سبحانه وتعالى - "أجرى نهرها في الجنّة مع اللبن ¬

_ (¬1) راجع القاموس (ص 1048) ط الرسالة. (¬2) هكذا كتبت بالأصل ولم أجدها.

والعسل والماء، فسطع نورها على نور غيرها؛ فقالت الملائكة: "يا ربنا ما هذا النور الذي نرى؟ قال: هذا الشراب" (¬1). • بيتان: حَمْراءُ مِثْل دَمِ الغَزال وتَارةً ... بَعْدَ المِزاج تَخالُها زِرْنابا (¬2) مِنْ كفِّ غانيةٍ كأنَّ بَنانَها ... من فضةٍ قَدْ قُمِّعَتْ عُنَّابا (¬3) • الجمان: صغار اللؤلؤ. • فائدة: الجناس تسعة أنواع جمعتُها فقلتُ (¬4): إنَّ الجناس تسعةٌ خُذْ نظمها ... ولا تقصِّرْ أنْ تحوزَ عِلْمَهَا مُماثلٌ مغايرٌ مُصَحَّفُ ... مُرَجَّعٌ مُحرَّفٌ مُصَرَّفُ ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) الزرنب: طيبٌ أو شجر طيَّبُ الرائحة، والزعفران. اهـ من القاموس. وفي رواية: (زريابا) وهو الذهب أو ماؤه، وهي الصواب. (¬3) البيتان لعكاشة بن عبد الصمد العمي كما في الأغاني ويوجد به البيت الأول (3/ 185) ط إحسان عباس، وأمالي القالي (1/ 234) ويوجد به البيت الثاني وفيه: من كف جارية ............. من فضة قد طرّفت ...... إلخ وانظر سمط اللآلي وتخريج العلامة الميمني عليه (1/ 526). (¬4) يريد المعلمي نفسه أي: هو الناظم لها. وانظر هذه الأنواع مع غيرها في كتاب جنان الجناس للصفدي من (ص 20)، وعقود الجمان بشرحيْ المصنف والمرشدي (2/ 159).

والعكسُ والتركيبُ والتطبيقُ ... فاحْفظْ كلامي يَأْتِكَ التوفيقُ • يقال: تحسَّس في الخير، وتجسس في الشرّ (¬1). ... ¬

_ (¬1) راجع تاج العروس (4/ 119، 128).

الرسالة الحادية عشرة مناظرة أدبية بين المعلمي والشاعر الأديب علي بن محمد السنوسي ت (1363 هـ)

الرسالة الحادية عشرة مناظرة أدبية بين المعلمي والشاعر الأديب علي بن محمد السنوسي ت (1363 هـ)

بِسمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله، وأشهد ألا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، اللهم فصلَّ على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم وبعد .. فإنّه كان حضورُ الحقير حضرةَ مولانا أمير المؤمنين - أيّده الله تعالى - عَقِب عيد الفطر سنة 1337 هـ (¬1) مع جماعة فيهم سيدي الفاضل السيد علي بن محمَّد السنوسي (¬2) فأنشد السيِّدُ عليٌّ قصيدةَ (¬3) تهنئةٍ بالعيد وزنها (فاعلاتن فاعلن فعلن) أربع مرّات، وأصل هذا الوزن من الضرب (¬4) ¬

_ (¬1) في النسخة الأخرى تقديم وتأخير جاء كالآتي: فإنه لما عقب عيد الفطر سنة 1337 هـ، كان حضور الحقير مقام مولانا ... إلخ. ومراده بالحقير: نفسه، ومراده بأمير المؤمنين محمد بن علي الإدريسي ت (1341 هـ) مؤسس دولة الأدارسة في صبيا وعسير. (¬2) هو علي بن محمد بن يوسف بن أبي بكر السنوسي ولد بمكة سنة (1315 هـ) ونشأ بها، وصل إلى جيزان عام 1328 هـ، ومكث عند الإدريسي وكان واحدًا من رجال دولته، وشاعرًا من شعرائه، توفي عام (1363 هـ) ترجم له ولده محمد في مجلة المنهل (ذو الحجة 1388 هـ) بمقال عنوانه: والدي السيد علي السنوسي، وانظر كتاب شعراء الجنوب للعقيلي والسنوسي، والأعلام للزركلي (6/ 304) وقد أخطأ في اسمه إذْ جعله (محمد بن علي السنوسي). (¬3) في النسخة الأخرى: قصيدةً له تهنئةً ... إلخ. (¬4) الضرب: الجزء الأخير من الشطر الثاني.

الخامس من المديد (¬1)، والمديدُ لا يستعمل إلا مجزوءًا (¬2)، وهذا الضرب كعروضه محذوفٌ مخبون (¬3)، وبيته: للفتى عَقْلٌ يعيشُ به ... حيثُ تهدي سَاقَه قَدمُهْ (¬4) وكذا سُمِع عن العرب. فأمَّا تربيعُه كقصيدة السيّد علي فلا أعرفه إلا من استعمال بعض المتأخرين: كالتكريتي (¬5)، والبرعي (¬6) فيُلْحق ¬

_ (¬1) المديد: هو البحر الثاني من بعد الطويل، واختلف في سبب تسميته بالمديد فقيل: لأن أسبابه امتدت في أجزائه السباعية فصار أحدهما في أول الجزء، والآخر في آخره فلما امتدت الأسباب في أجزائه سمي مديدًا، وقيل: لامتداد الوتد المجموع في وسط أجزائه السباعية، وأضرب المديد ستة. راجع حاشية الدمنهوري على متن الكافي (ص 65) والكافي للشاوي (ص 65). (¬2) قال أبو العباس القنائي ت (858 هـ) في كتابه الكافي (ص 66): "مجزوٌّ وجوبًا" قال الدمنهوري في حاشيته: "أي بالنظر للاستعمال كما علمت فلا يجوز للمولدين استعماله تامًّا، وإنْ ورد عن العرب تمامه فهو نادر لا يقاس عليه". اهـ ومعنى المجزوء: ما حذف جزء من صدره وجزء من عجزه. (¬3) العروض: الجزء الأخير من الشطر الثاني، والحذفُ: حَذْفُ السبب الأخير، والخبنُ: حذف الثاني الساكن. (¬4) قائله طرفة بن العبد من قصيدةٍ في ديوانه والبيت ممَّا استشهد به الإمام ثعلب في أماليه ورواه: حيث يهدي - بياء تحتية -، وهو من شواهد الرضي وقد شرحه البغدادي في الخزانة فانظره في (7/ 19). (¬5) هو عبد السلام بن يحيى بن القاسم بن المفرج التكريتي تفقّه على والده وحفظ القرآن، وقرأ الأدب وبرع فيه، وله النظم والنثر والخطب والمكاتبات والمصنفات الأدبية، ولد سنة (570 هـ) وتوفي سنة (675). انظر: فوات الوفيات لابن شاكر (2/ 325). (¬6) هو عبد الرحيم بن أحمد بن علي البرعي الهاجري اليمني، الشاعر الصوفي الشهير، =

بالموشحات (¬1)، وهو ممّا يُلْتزم فيه أن تكون الثلاثة الأرباع الأولى على قافية واحدة، وكثيرًا ما يلتزم فيها التجنيس (¬2)، كقول التكريتي: بَدَرتْ من بَدْر جاريهْ ... ودموع العين جاريَهْ ثم قالت وهي جاريه أرْفقي يا هندُ بالرّجلِ ثم تُلْتزم قافية الرُّبع الرابع إلى آخر القصيدة. ولا يَبعد أن يُقاس على ما سُمِعَ من المسمطات (¬3) في غير بحره. كقول الشاعر: ¬

_ = كان نحويًا فقيهًا مفتيًا، له ممادح في النبي - صلى الله عليه وسلم -، مات سنة (803 هـ). راجع ذيل البدر الطالع لزبارة (ص 120)، ومعجم المؤلفين (5/ 202). (¬1) التوشيح أو الموشحات: اسمٌ لنوع من الشعر استحدثه الأندلسيون، وهو فن عجيب له أسماط وأغصان وأعاريض مختلفة وأكثر ما ينتهي عندهم إلى سبعة أبيات. راجع تاج العروس (2/ 246)، وتاريخ الأدب العربي للرافعي (3/ 160). (¬2) التجنيس: هو أن يجانس اللفظُ اللفظَ في الكلام، والمعنى مختلف. قاله الثعالبي في فقه اللغة (2/ 667). (¬3) الشعر المسمَّط هو ما عرّفه ابن رشيق في العمدة (1/ 285) بقوله: "أن يبتدئ الشاعر ببيتٍ مصرّع ثم يأتي بأربعة أقسمةٍ على غير قافيته, ثم يعيد قسمًا واحدًا من جنس ما ابتدأ به هكذا إلى آخر القصيدة". اهـ. وقال المجد في القاموس: "المسمَّط كمعظم من الشعر أبيات تجمعها قافية واحدة مخالفة لقوافي الأبيات". اهـ.

وشَيْبةٍ كالقَسِمِ ... غيَّر سُودَ اللِّمَمِ داويتُها بالكَتَمِ زُورًا وبُهتانا (¬1) وقولِ امرئ القيس: خيالٌ هاجَ لي شجنا ... فبتُّ مكابدًا حَزَنا عميدَ القَلْبِ مُرتَهَنا بذكر اللَّهوِ والطربِ (¬2) وقوله: ألا يا عينُ فابكي ... على فقدي لملكي وإتلافي لمالي بلا حرفٍ وجُهدِ تخطيتُ بلادًا ... وضيّعتُ قلابا وقد كنتُ قديمًا أخا عزًّ ومَجْدِ ¬

_ (¬1) أورد الأبيات الجوهري في الصحاح (3/ 134) ولم ينسبها لأحد، وقال ابن بري كما نقله عنه ابن منظور: إنها لبعض المحدثين. انظر لسان العرب (7/ 323). (¬2) أنشد هذه الأبيات ابن برّي ولم ينسبها لأحد كما في اللسان (7/ 323)، وذكر بعدها ستة أبيات، وانظر أيضًا العمدة لابن رشيق (1/ 286). وأمَّا نسبتها لامرئ القيس كما ذُكر - بحسب ما هو مطبوع - فليس الأمر كذلك.

وقوله مسمَّطًا مُخمَّسًا: ومُسْتَلْئِمٍ كشَّفْتُ بالرمح ذَيلَه ... أقمتُ بعَضْبٍ ذي سفاسق مَيْلَه فجعْتُ به من ملتقى الحيِّ خَيْلَه ... تركتُ عتاقَ الطير تحَجُلُ حولَه كأنَّ على سِرْباله نَضْحَ جريالِ (¬1) وقوله الآخر: إنَّ المرءَ في أكثر الأحوال مرتاعْ ليتَ المرء لم يدخل الدنيا فما ارتاعْ إنَّ العيشَ عيشُ الصِّبا إذْ ليس عَقْلُ يَنْهى المرءَ عمَّا إليه المرءُ نزَّاعْ نَعم قد سُمع المديدُ تامًّا شذوذًا، قال الدماميني (¬2) في شرح الخزرجية (¬3): أنشد ابن زيدان: ¬

_ (¬1) نسب هذه الأبيات لامرئ القيس الجوهري في صحاحه (3/ 1134) والأزهري في تهذيبه نقلاً عن الليث كما في (12/ 348)، وقد أنكر الصاغاني كونها لامرئ القيس في كتابه التكملة (4/ 138). وانظر تاج العروس (5/ 161). (¬2) محمد بن أبي بكر بن عمر بدر الدين الدماميني المالكي ولد سنة (763 هـ) بالإسكندرية أديب عالم بالعربية وفنونها فقيه، لازم ابن خلدون، وتصدر لإقراء العربية بالأزهر، توفي بالهند سنة (827 هـ) له مصنفات كثيرة منها: شرحه على التسهيل لابن مالك، وشرحه على مغني اللبيب، وشرحه على صحيح البخاري وغيرها. انظر الضوء اللامع للسخاوي (7/ 184). (¬3) راجع العيون الغامزة على خبايا الرامزة للدماميني (ص 150)، وكلامه ينتهي عند قوله: (كل عزٍّ في الهوى أنت منه في غرر).

ليس من يشكو إلى أهله طول الكرى ... مثل من يشكو إلى أهله طول السهر سحَّ لما نَفد الصبر منه أدمعًا ... كجُمانٍ خانه سِلْكُ عِقْدٍ فانتشرْ لا تَلُمْهُ إنْ شكى ما يلاقي أو بكى ... وامتحِنْ باطنَه بالذي مِنْهُ ظَهَرْ وقبلها: إنَّه لو ذاق للحبِّ طعمًا ما هَجَرْ ... كل عِزٍّ في الهوى أنت منه في غَررْ وقول السلكة ترثي ولدها - والظاهر أنها من مشطوره (¬1) -: طاف يبغي نجوةً ... من هلاكٍ فَهَلكْ ليتَ شعري ضلةً ... أيُّ شيءٍ قتلك أمريضٌ لم تُعَدْ ... أمْ عدوٌ خَتَلكْ أمْ تولَّى بك ما ... غَال في الدهر السُّلَكْ والمنايا رَصَدٌ ... للفتى حيث سَلَكْ أيُّ شيءٍ حسنٍ ... لفتىً لم يكُ لَكْ كلُّ شيءٍ قاتلٌ ... حينَ تلْقى أجَلكْ ¬

_ (¬1) قال التبريزي في شرح الحماسة (2/ 191) بعد ذكر الأبيات: "من مشطور المديد، والقافية متراكب قال أبو العلاء: هذا الوزن لم يذكره الخليل ولا سعيد بن مسعدة، وذكره الزجاج، وجعله سابعًا للرمل، وقد يحتمل أن يكون مشطورًا للمديد". اهـ. والأبيات اختلف في قائلها فنسبت للسلكة، ولأمِّ تأبط شرًا، ولامرأةٍ من العرب، وقيل لأخت تأبطَ شرًا، وقيل: هذا شعر قديم لا يعرف قائله. راجع شرح حماسة أبي تمام للأعلم الشنتمري (1/ 536).

طال ما قد نلتَ في ... غير كدًّ أمَلَكْ إنَّ أمْرًا فادحًا ... عن جوابي شَغَلكْ سأُعزِّي النفس إذْ ... لم تُجِبْ مَن سَأَلكْ ليتَ نفسي قُدِّمتْ ... للمنايا بَدَلكْ ولْنرْجع إلى المقصود فنقول: وجعل السيّدُ عليٌّ قافيةَ الشطر الرابع لفظةً ملتزمة إلى آخر القصيدة: "يا ابنَ علي"، وربّما قال: "ابن عليّ"، وربَّما أبدل: "ابن" ملتزمًا لفظ: "علي" وليس ذلك من ضيق العطن، ولكنّه يَحسِبُ أنَّ ذلك حَسَن. ثمَّ تعرَّض فيها للشكوى حيث يذكر أنَّ كثيرًا من أهل البلد أضرَّ بهم الجوعُ، وهذا عَجَبٌ منه! فإنَّ فَضْلَ مولانا قد غَمَر الداني والقاصي، وأرضى المطيع والعاصي وكانت الشكوى في بضعة أبيات فتخطاها لمَّا تنبَّه لخطاها، فلمَّا وصل إلى الدعاء كان منه - وأستغفر الله من حكايته - لفظ: "لا عداك السوءُ". فقلتُ حينئذٍ: (لا) زائدةٌ. فالْتَفَتَ إليَّ مغاضبًا! وقال: بل نافيةٌ. فقلتُ: زائدة. فقال مولانا: إنَّها لدعوةٌ قبيحةٌ، ولكنَّ النية صالحة أو كما قال. فقال المنشِدُ: "لا عَدتكَ"، معناها: لا أصابتْك.

وأنشد بيت البردة: عدتكَ حاليَ .... (¬1) فقلتُ: معناه: أخطأتْكَ، وبعُدتْ عنك. فقال: كلّا. فإشفاقًا للمِراء بذلك المقام قلتُ: هذا المعروف المتبادر إلى الذهن. فقال مولانا - أيَّده الله -: بل هو الحقُّ، وادّعاءُ غيره غلط، ووضَّح - أيَّده الله - معنى البيت بلفظه، ثم أتمَّ المنشِدُ قصيدتَه. وكنتُ قد قدّمتُ تهنئتي لمولانا - أيَّده الله - قبل ذلك، وكان ذلك المجلس أهلًا لأنْ تنشد فيه قصيدة. فقلتُ في نَفْسي - أوَّلاً -: قد كفينا (¬2). فلمّا رأيتُ قصيدته وأثرها حاولتُ ارتجال أبيات مناسبة، فلم يَتَيسَّر إلا ثلاثة أبيات - ستأتي - فاستأذنتُ مولانا بقولي: ثلاثة أبيات حضرتْ. فقال: فرَّطْتَ كما أفرطَ السيد علي؛ لأنَّ قصيدته زهاء الستين بيتًا، والبيتُ عبارة عن أربعة أشطر. فقلتُ في نفسي: حسبك من القلادة ما أحاط بالعنق، وربَّ ليلةٍ خير من ¬

_ (¬1) المراد بالبردة قصيدة البوصيري الميمية المعروفة، وهذا البيتُ منها وتمامه: عدتك حاليَ لا سرّي بمستتر ... عن الوشاةِ ولا دائي بمُنْحَسِمِ (¬2) جعلها د/ أبو داهش أسلوب استفهام هكذا: أَوَلا قد كُفينا؟ والذي يظهر أنها خبرية و (أوّلًا) بمعنى الأوليّة منصوب، والدليل على هذا ما جاء في السياق نفسه: فقلت في نفسي: حسبك من القلادة ... إلخ.

ألف شهر. ثم أنشدتُها، فحسب السيد علي أنّي أردتُ مباهاتَه والتشنيعَ عليه فخرجَ يراجعني في دعوته يُصوِّبُها. فقلتُ له: آنفُ لِمثْلكَ أنْ تحاول تصويب مثل هذا، وإنَّما الإنسان محل النسيان، كان حَقُّكَ أن تقول: طغى الفكر والقلمُ، وتَعَضَّ على مسامحتك لنفسكَ بنانَ الندم. فأصرَّ على مُدَّعاه تارةً يقول: من العَدْوِ، وتارةً: من العدْي، وتارة: من العَدْوى. فكتبت له اليوم الثاني كتابًا مضمونه: "عبارة مختار الصحاح: عداه يعدوه عَدْوًا: جاوزه". وأمَّا العَدْوُ بمعنى الجَرْي فهو لازمٌ، وليس هذا مَوْضعَهُ. فإذا قلتَ: عداك السوء فالمعنى: جاوزك السوء أي: لا أصابك - كما قالوا -: عداك الذمُّ أي: جاوزك: أي لا ذمَّ عليك، وقالوا: عدا فلانٌ طوره أي: جاوزه. وإذا قلتَ: لا عداك السوء فالمعنى: لا جاوزك، وهو أبلغُ من قولك: أصابك كما لا يخفى (¬1). وأمَّا العدوى فالفعل منها: أعْدى يُعْدي - كما في كتب اللغة - وليس هذا موضعها مع أنَّها من المجاوزة أيضًا أي أنَّ الداءَ جاوز صاحبه إلى غيره فافهمْ". ¬

_ (¬1) في المطبوعة كما يخفى.

فأجابَ بما لفظه: "عداه يعدوه عَدْوًا أى: جَرْيًا وهو شدَّةُ السعي بقوةِ الإنسانية، وأمَّا لا عداه السوء أى: لا أصابه من باب العدي لا من باب العدو، تقول: أعدى فلانٌ فلانًا أى: ... كذا يعديه وأيضًا عداه السوء بمعنى: أصابه ومفهومٌ أنَّ العدوى من باب أفنى يقال: أفنى الناسَ الجوعُ أى: أصابهم وأهلكهم، ومنه أفناهم الوباءُ أو الموتُ أى: أصابهم وأمحقهم، فلتحرر غير ما بدا لك حتى ترشدني إلى الصواب". فأجبتُ عليه بما مضمونه: "أمَّا عدا بمعنى جرى فهو لازم بنصوص كتب اللغة، ولا يختصُّ بالإنسان؛ فيقال: بقوة الإنسانية، وأمَّا العَدْى - بوزن الرَّمْي - فلم يُسمع، وليس منه - كما توهَّمت -: أعدى يُعدى، بل هى مِن العدو، وأصلها: أعْدَوَ يُعْدِوُ قُلبت فى الأول ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها، وقلبت الواو فى الثانى ياءً لتطرُّفِها وانكسار ما قبلها. وأمَّا عداه السوءُ بمعنى أصابه فغير مسموع، وقولك: العدوى من باب أفنى إنْ أردتَ أنْ يقال: أعدى يُعدى - كما يقال -: أفنى يُفْنى، فأيُّ غرضٍ فيه؟ مع أن فَنِيَ يائيٌّ، وعدا واويٌّ، لا كما توهَّمتَ. وإن أردتَ أنَّ المعنى واحدٌ فممنوع، ومَنْعُه واضحٌ، ولا غرضَ فى تفسير أفنى، وزيادة الهمزة فى (مَحَق) سَهْوٌ (¬1). وقولك: "فلتحرر غير ما بدا لك" سَهْوٌ أيضًا؛ فإنَّ ما بدا لك بمعنى ما ظهر لك، أو بمعنى ما نشأ لك من الرأى، أو بمعنى ما أردتَ، ولو حررتُ ¬

_ (¬1) قال السرقسطي فى كتاب الأفعال (4/ 140): "ومحقت الشيءَ، وأمحقه: أذهبتُه، وأبى الأصمعيُّ إلا محقه". اهـ. وقال الفيروزآبادى فى القاموس: كأمحقه فى لغيّةٍ قال الزبيدى: رديئة.

غير ذلك لكنتُ كاذبًا مخادعًا، بل معناها: فلتحرر غير ما بدا لك تحريرُه، أى: غير ما أردتَ تحريره، وهذه العبارةُ كما تراها، والأولى أن نحملها على زيادة "غير" كما حملنا: لا عداك على زيادة "لا". وقولك: "أفنى الناسَ الجوعُ" كان الأولى أن تجعل بدله: أفنى الناسَ الجهلُ، وكفرانُ النعم؛ فإنَّ الناس لم يشموا رائحة الجوع، فضلًا عن أنْ يفنيَهم، فإنهم بنعمة الله تعالى فى ظلَّ كرمِ عبده مولانا أمير المؤمنين الذى غمر القريب والبعيد. فأجابَ بجواب آخر أشدّ تخبُّطًا؛ فحبًّا للحقَّ راجعته كرَّةً أخرى، فذهب إلى بعض الفضلاء مُسْتنصرًا، وكان الأولى أن يذهب مُسْتبصرًا، فلعله صادفَ ما قال المتنبي: إنَّما تنجَح المقالةُ فى المرْ ... ء إذا صَادفتْ هوىً فى الفؤادِ (¬1) فأوحى إليه جوابًا هذا رَسْمُه: "قال الشاعر: وقلْ لمن يدَّعي فى العلم توسعةً ... علمت شيئًا وغابت عنك أشياءُ (¬2) ¬

_ (¬1) انظر ديوان المتنبي بالشرح المنسوب للعكبري (2/ 31). (¬2) البيت لأبي نواس من قصيدة مطلعها: دع عنك لومي فإنَّ اللوم إغراء ... وداوني بالتي كانت هى الداء ورواية البيت فى الديوان (ص 7): فقل لمن يدّعى فى العلم فلسفة ... حفظت شيئًا وغابت عنك أشياءُ

عجبتُ من قائلٍ يدَّعي الكمال فى علمه! "لا عداك السوء بمعنى: لا أصابك، فلم تنطق به العربُ" وكيف لا؟ وقد تكلَّم الإمام أمير المؤمنين علي بن أبى طالب -كرم الله وجهه - فى خطبةٍ خطبها وهي هذه: "عبادَ الله أين الذين عُمَّروا فنَعِمُوا، وعُلَّموا ففَهِمُوا، وأُنْظِروا فَلَهُوا، وسَلِمُوا فَنسُوا، أُمْهِلوا طويلًا، ومُنِحُوا جميلًا؛ فعداهم الموتُ غِرًّا، واستاق عائلهم مرًا؛ فكانت عبرةً لمن خَلَف، وعِظَةً لمن سَلَف ... إلخ" (¬1). قال الشريف الرضي (¬2): قوله فعداهم الموتُ أى: هَجَم عليهم وأفناهم، وبابُه: (جفا يجفو)، وقوله: غِرًّا أي: على حين غفلة. وقال الإمام علي بن أبى طالب - كرم الله وجهه - فى محلًّ آخر يمدح الأنصار والمهاجرين: "ولا تعدوا على عزيمةِ جِدَّهم بلادة الغفلات، ولا تنتضل فى هِمَمهم خَدائع الشهوات فاتخذوا ذا العرش ذخيرةً ليومِ فاقَتِهم، ويمَّموه عند انقطاعهم ... إلخ" (¬3). قال الشريف الرضي: قوله: "ولا تعدو على عزيمةِ جِدَّهم بلادةُ الغفلات: أى: لا تصيبها، ولا تصحبها لعلوَّ شأنهم، وكثرة هِمَمهم العالية .. مع كلامٍ ذكره فى نهج البلاغة. ¬

_ (¬1) نهج البلاغة بشرح محمد عبده (1/ 145). (¬2) أبو الحسن محمد بن الطاهر الحسيني الموسوي البغدادى الشاعر، صاحب الديوان، له نظم فى الذروة حتى قيل: إنه أشعر الطالبيين، مات سنة (406 هـ) وقيل غير ذلك. راجع سير أعلام النبلاء (17/ 285)، ووفيات الأعيان (4/ 414). (¬3) نهج البلاغة (1/ 171)، وما ساقه من كلام الرضي لا وجود له فى النهج.

وقال الإِمام أيضًا في محل آخر للزبير حين نقض بيعته وخرج عليه بالعراق وجمع لقتاله: "تعرفني في الحجاز، وتنكرني في العراق، فما عدا ممَّا بدا" (¬1). قال الشريف الرضي: إنَّه أول ما سمعت منه هذه الكلمة، أعني: فما عدا ممَّا بدا ... " كلامُه. وقوله: إنْ أخطأ الإمامُ فالحقير أقربُ إلى الخطأ فأنتم راجعوه، وبيّنوا له الصواب على غايةٍ من التعصّب بالدين، وعدم الرجوع إلى الحقِّ وإن ثبت دليلُه فهو مندرجٌ تحت قول العارفين: "قرأت العلم لغير الله فأبى العلم إلا لله" (¬2). وقوله في إنشاده الذي قصد به الإعجاز والمبادرة لمن ليس في شيءٍ من شأنه: دعني من الغِيدِ ما للصّيد والغيدِ ... وقُمْ نهنّي إمام الحقِّ بالعيدِ ليس على غاية من المدح بل فرَّط فيه، وقصَّر من حيث إنَّه ما مِن أحدٍ من الناس إلا ويُهَنَّأُ بالعيد حتّى العبد المملوك، ولا فَضْلَ يُرى للممدوح بذلك، بل المدحُ العالي أن يُهَنَّأَ العيدُ بإمام الحقِّ - الذي هو زينةُ الوجود ¬

_ (¬1) نهج البلاغة (1/ 76)، وكلام الرضي في (ص 77) من الجزء نفسه. (¬2) ذكره ابن جماعة في تذكرة السامع والمتكلم عن بعض السلف بلفظ: "طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله" انظر (ص 86) وسينبه المعلمي على لفظه.

وحُلَّة الشهود (¬1)، ولا خفاءَ أنَّ العيدَ زينةُ يوم واحدٍ في السنة - هذا هو الحقُّ الذي لا محيص عنه، والله يقول الحقَّ، وهو يهدي السبيل، نعوذ بالله من الرياء والسمعة، وحُبِّ الجاه، وطلب الرفعة عند المخلوق دون الخالق، اللهمَّ أرنا الحقَّ حقًّا فارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً فارزقنا اجتنابه، وأنت على كلِّ شيءٍ قدير، وصلَّى الله على سيدنا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلم". فأجبتُ عليه بما مضمونه: "الحمد لله الواحد الأحد، وأصلّي وأسلم على رسوله محد أمَّا بعد ... فإنَّ الحقير لا يدَّعي التوسعة في العلم، ولا يدَّعي علم جميع الأشياء، فإنَّما ذلك اللهُ سبحانه وتعالى، ولكنْ رُبَّ مخلوقٍ لا يعلم شيئًا ولا أشياء، وإني لجاهلٌ ولكنْ جهلًا بسيطًا، ورُبَّ جاهلٍ جهلًا مركبًا يسمع الحقَّ من فَمِ مَن لا يشكُّ أنَّه إمام نقَّاد من أهل النظر والاجتهاد فيصرُّ على العناد، فتلك مِنْ مِثْلي ومِثْلِكَ هي الجهلُ الأكبر، والذنب الذي لا يُغفر، والأولى أن يُنْشد (¬2) ههنا قول القائل - وهو حسَّان -: وإنَّما الشَّعْرُ عِرْض المرء يعرضه ... على الأنام فإنْ كَيْسًا وإنْ حَمَقا وإنَّ أبلغَ بيتٍ أنتَ قائلُه ... بيتٌ يقال إذا أنشدته صَدَقَا (¬3) ¬

_ (¬1) كلام المعترض هذا فيه غلو مذموم. (¬2) في المطبوعة: (ينقد) والذي يظهر ما أثبتُه. (¬3) البيتان في الديوان، ط دار المعارف تحقيق محمَّد حنفي حسنين، برواية الأثرم وابن حبيب وهما كالتالي: =

وقول الراجز - وهو الحطيئة: الشعر صَعْبٌ وطويلٌ سلَّمُهْ ... إذا ارتقى فيه الذي لا يَعْلمهْ زلَّتْ به إلى الحضيض قَدَمُه ... يُريد أنْ يُعْربَه فيعجمهْ (¬1) أما خُطبُ مولانا أمير المؤمنين عليّ - عليه السلام - فقوله: "فعداهم الموتُ غرا" وأصلُه: عدا عليهم أي: وثب عليهم، والأصل تعديتها بـ على - كما في كتب اللغة - وإذا صحَّت نسبتها إلى أمير المؤمنين فلها سرٌّ جدير أنْ لا يبلغَه فَهْمُ المستشهِد، وهو أنَّه ضمَّنَ (عدا) معنى أفنى فعدَّاها بنفسها - كما تُعدَّى أفنى وإليه أشار الرّضيُّ بقوله: "هجم عليهم وأفناهم" فقوله: "هجم عليهم ... " تفسيرٌ لأصل المعنى الذي عبَّر عنه في القاموس بـ (وثَب) (¬2)، وقوله: "أفناهم" إشارة إلى اللفظ الذي ضُمِّنَتْ معناه بدليل تعدية الفعل بنفسه، والتضمين من أسرار العربية (¬3). وإليك عبارةَ ابن هشام في مغني اللبيب: "القاعدة الثالثة: قد يُشْرِبُون لفظًا معنى لفظٍ فيعطونه حكمه ويُسمَّى ذلك تضمينًا، وفائدة ذلك: أنْ تؤدّي ¬

_ = إنَّما الشعر لُبُّ المرء يعرضه ... على المجالس إنْ كيسًا وإن حمقا وإن أشعر بيتٍ أنت قائله ... بيت يقال إذا أنشدته صدقا راجع الديوان (ص 277). (¬1) الأبيات تنسب للحطيئة، انظر العمدة لابن رشيق (1/ 185). (¬2) راجع القاموس المحيط مادة (عدا). (¬3) انظر الأشباه والنظائر في النحو للسيوطي (1/ 219).

كلمةٌ مؤدَّى كلمتين، قال الزمخشري: ألا ترى كيف رجع معنى: {وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ ...} [الكهف:28] إلى قولك: ولا تقتحم عيناك مجاوزتيْن (¬1) إلى غيرهم، {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ ...} [النساء: 2] أي: ولا تضموها إليها آكلين" (¬2). انتهى. يقول كاتبُه (¬3): لو قال في: "ولا تعدو عيناك عنهم ... " ضُمِّنَ (تعدو) معنى (تنبو) لكان أوضحَ من (تقتحمُ)، و (ينصرفُ) المذكورُ في الجلالين (¬4)، قال ذو الرمة (¬5): نبت عيناك عن طَلَلٍ بحُزوى ... عَفَتْه الرّيحُ وامتنح القطارا (¬6) قال ابن هشام: "ومِن مُثُلِ ذلك أيضًا قوله تعالى: {الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] ضمن الرفث معنى الإفضاء فعُدّي بـ (إلى) مثل: {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} [النساء: 21]، وإنَّما أصلُ الرفث أن يتعدَّى بالباء، يقال: ¬

_ (¬1) في المطبوعة: مجاوزين، والتصويب من المغني. (¬2) انظر مغني اللبيب، ط الأفغاني (2/ 897). (¬3) أي: المعلميُّ نفسه. (¬4) راجع تفسير الجلالين فقد فسَّر الفعل (تعدو) بـ (تنصرف) كما في: (2/ 5). (¬5) غيلان بن عقبة، ويكنى أبا الحارث أحد عشاق العرب المعروفين ويلقب بذي الرمة: وهو الحبل البالي. انظر الشعر والشعراء لابن قتيبة (1/ 524)، والخزانة للبغدادي (1/ 106). (¬6) البيت مطلع قصيدة موجودة بالديوان (2/ 1371) بشرح الإمام أبي نصر الباهلي، تحقيق عبد القدوس أبو صالح.

أرفثَ فلانٌ بامرأته. وقوله تعالى: {وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ} [آل عمران: 115] (¬1)، أي: فلن يُحْرَمُوه، أي: فلن يحرموا ثوابه؛ ولهذا عُدّي إلى اثنين لا إلى واحدٍ، وقوله تعالى: {وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} [البقرة: 235]، أي: لا تَنْووا؛ ولهذا عُدّي بنَفْسه لا بـ (على) وقوله تعالى: {لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى} [الصافات: 8]، أي: لا يُصغون، وقولهم: سَمِعَ الله لمن حمده أي: استجاب؛ فعدَّي (يسمع) في الأول بـ (إلى) وفي الثاني باللام، وإنّما أصله أن يتعدَّى بنَفْسه مثل: {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ} [ق: 42]، وقوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [البقرة: 226]، أي: يمتنعون من وطءِ نسائهم بالحلف؛ فلهذا عُدّي بـ (مِنْ)، ولمَّا خَفِي التضمين على بعضهم في الآية، ورأى أنه لا يقال: حَلَف من كذا، بل حَلَف عليه قال: " (مِنْ) متعلقةٌ بمعنى (للذين) - كما تقول: لي منك مبرَّة، قال: وأمَّا قول الفقهاء: آلى من امرأته فغلَطٌ أوقعهم فيه عَدمُ فَهْم المتعلق في الآية. ¬

_ (¬1) علّق د/ أبو داهش على هذه الآية - كما في حاشيتيْ (100) و (101) بقوله: في الأصل: "تفعلوا" والصواب ما أثبت، في الأصل: "تكفروه" والصواب ما أثبت أهـ. والصواب أن كلا الوجهين صواب وذلك أنهما قراءتان سبعيتان فقرأ بالياء التحتية حمزة والكسائي وحفص، وقرأ بالتاء الفوقية نافع وابن كثير وابن عامر وشعبة. انظر حجة القراءات لابن زنجلة (ص 170)، وشرح الهداية للمهدوي (1/ 230).

قال أبو كبير الهذلي (¬1): حَمَلتْ به في ليلةٍ مزءودةٍ ... كَرْهًا وعقد نطاقها لم يُحْلَل وقال قبله: ممَّا حملْنَ به وهُنَّ عواقدٌ ... حُبُك النطاق فشبَّ غير مُهبَّلِ (¬2) مزءودةٍ أي: مذعورةٍ ويروى بالجرِّ صفة لليلة مثل: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} [الفجرة 4]، وبالنصب حالاً من المرأةِ، وليس بقويًّ مع أنَّه الحقيقةُ؛ لأن ذكر الليلة حينئذٍ لا كبير فائدة فيه، والشاهد فيهما أنَّه ضمَّن (حَمَل) معنى (عَلِق)، ولولا ذلك لعدّي بنفسه مثل: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا} [الأحقاف: 15]. وقال الفرزدق (¬3): كيف تراني قالبًا مِجَنّي ... قد قَتَل الله زيادًا عنّي (¬4) ¬

_ (¬1) عامر بن الحليس الهذلي أحد بني سهل بن هذيل شاعر فحل، وصحابي على ما ذكره ابن حجر في الإصابة في القسم الأول من الكنى (11/ 316). وانظر خزانة الأدب للبغدادي (8/ 209). (¬2) البيتان موجودان بديوان الهذليين شرح السكري في قسم التعقيب للمحقق عبد الستار فراج (3/ 1072)، وفي خزانة البغدادي (8/ 194)، وانظر شرح الحماسة للمرزوقي (1/ 85). (¬3) همام بن غالب بن صعصعة المجاشعي التميمي الشاعر المشهور كان المفضل الضبي يفضله على جرير، وقال يونس: لولا الفرزدق لذهب ثلث لغة العرب. مات سنة (110 هـ). راجع معجم الأدباء لياقوت (6/ 2785). (¬4) أورده أبو عبيدة في النقائض (2/ 58)، وقد شرحه وتكلم عليه البغدادي في شرح أبيات مغني اللبيب (8/ 86).

أي: صَرَفَه عنّي بالقتل، وهو كثير. قال أبو الفتح في كتاب التمام: "أحسب لو جُمِعَ ما جاء منه لجاء منه كتاب يكون مِئينَ أوراقًا ... " (¬1) اهـ. وقد استوفيت القاعدة إيثارًا للفائدة، والتضمين سماعيٌّ على الصحيح فلا يقاس عليه (¬2). ولا يكفي في السماع كلمةٌ واحدةٌ مُتَكلَّمٌ في نسبتها (¬3)، ولو فرضنا ¬

_ (¬1) كلام أبي الفتح عثمان ابن جني ت (392 هـ) قد كرره في أكثر من موطن في كتبه ففي الخصائص تعرّض لهذا كما في (2/ 309)، وفي المحتسب (1/ 52)، وكذا في إعراب الحماسة كما أفاده البغدادي. (¬2) قال ابن هشام في تذكرته: "والحقُّ أنَّ التضمين لا ينقاس". نقله السيوطي في الأشباه (1/ 225)، وقال الأزهري في التوضيح (1/ 346): "واختلف في التضمين أهو قياسيٌّ أم سماعي، والأكثرون على أنه قياسي، وضابطه أن يكون الأول والثاني يجتمعان في معنىً عام. قاله المرادي في تلخيصه". اهـ. واختار يس في حاشيته على التوضيح (2/ 4) كونه سماعيًا. (¬3) يشير المعلمي إلى مسألة صحة نسبة كتاب نهج البلاغة لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وقد سبق أنْ قال: "وإذا صحت نسبتها إلى أمير المؤمنين" وقد بيَّن العلماء قديمًا أنَّ الكلام الموجود في نهج البلاغة موضوع على علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال الذهبي في سير أعلام النبلاء (17/ 588) في ترجمة المرتضى - أخي الرضي -:"قلت: هو جامع كتاب نهج البلاغة المنسوبة ألفاظه إلى الإمام علي - رضي الله عنه - ولا أسانيد لذلك، وبعضها باطلٌ وفيه حق، ولكن فيه موضوعات حاشا الإمام من النطق بها، ولكن أين المنصف؟ وقيل: بل جمع أخيه الرضي" اهـ.

صحة: "عداهم الموت" على التخريج المذكور، وصحة أنْ يقاس عليه لا عداك السوء، فأنت أيُّها السيد لم تستعملها على ذلك الوجه، وإنَّما هذيتَ بها جزافًا، وكلامُك يحضره مولانا - أيَّده الله - وأوراقك إليَّ شاهدة أنك لم تسمع بالتضمين فضلًا عن أنْ تعرفه، فضلًا عن أنْ تستعمله، فكيف وأنتَ لم تسمع بهذه اللفظة حتى أحيت إليك يومنا هذا، وقد روي عن أمير المؤمنين نفسه - عليه السلام - أنَّه كان يومًا يمشي مع جنازةٍ، فقال له رجلٌ: مَن المتوفَّي بصيغة اسم الفاعل؟ قال: اللهُ - عزَّ وجلَّ -. فقال الرجل: إنَّما أردتُ من الميتُ؟ فقال له أمير المؤمنين: قل مَن المتوفَّى، أي بصيغة اسم المفعول (¬1). وكيف هذا؟! وأميرُ المؤمنين - عليه السلام - يقرأ: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ} - بصيغة المضارع المبني للفاعل (¬2) -، ولكنَّه قرأ كذلك لسرٍّ يَعْلَمُ أنَّ ذلك السائل أبلدُ من أنْ يلاحظه في خطابه، وهو أنَّ الميت تَوَفَّى أي: استكمل ¬

_ (¬1) ذكر هذه القصة الزمخشري في الكشاف (1/ 278) وجعل الرجل أبا الأسود الدؤلي، وانظر الدر المصون للسمين الحلبي (1/ 234). (¬2) قراءة الجمهور: "يُتَوفَّون" - مبنيًا لما لم يسمَّ فاعله - وقرأ علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: "يتوفون" - مبنيًّا للفاعل - وهي التي أشار إليها المعلمي. وقد روى قراءة علي بن أبي طالب أبو عبد الرحمن السلمي كما في المحتسب لابن جني (1/ 125)، ورواها أيضًا المفضل عن عاصم، وقد أنكر مجاهد القراءة بها وردَّ عليه ابن جنّي بأنه مستقيم جائز، وقال العكبري في إعراب القراءات الشواذ (1/ 253): قوله: "يتوفون منكم" يقرأ بفتح الياء، والتقدير: يتوفون آجالهم أي: يستوفونها. اهـ. انظر الكشاف (1/ 278)، والبحر المحيط (2/ 222).

عمره، وعمله ورزقه. ولو فرضْنَا أنك استعملتها بنيّةِ التضمين، وصحَّ لك قياسها وصحَّتْ: "فعداهم الموتُ" عن أمير المؤمنين، فإنَّ معنى "فعداهم الموت": وثبَ عليهم وأفناهم، وكذا عداك السوء، فما يحملك على أن تخاطب إمام الزمان بنحو: لا وثب عليك السوء ولا أفناك، مع أنَّ: "لا عداك السوء" يعرف الصغير والكبير أنَّها دعاء على المخاطَب لا له، والتمحُّل لكونها دعاءً له كادِّعاءِ عيش الحوت في الخبوت، أو صيد الأسود بحبال العنكبوت. ولو سُلِّمَ فكيف يدعو بها عاقلٌ يعلم أنَّ من أشدِّ العيوب إهمالَ الواو في المجيب: لا رحمك الله، إلا حيث قصد المواربة (¬1) كقول الحافظ ابن حجر: الدوادارُ (¬2) قال لي ... سوف أقضي مآربَكْ أفْرِغِ الكيسَ قلتُ لا ... حَفِظَ اللهُ جانِبَكْ (¬3) ¬

_ (¬1) انظر مبحث الفصل والوصل من علم المعاني في دلائل الإعجاز لعبد القاهر (ص 222)، والطراز للعلوي (3/ 304)، وبغية الإيضاح للصعيدي (2/ 62، 84). والمواربة: المداهاة والمخاتلة - كما في القاموس. (¬2) الدوادارُ: كاتب الملك، حامل الدواة معرَّب مركَّب من (دواة ودار: مالك وصاحب) بمعنى المنشئ الكاتب ثم أطلقت على كل ما ينضمُّ لأمور الكتابة بما في ذلك نقل البريد وعرض القصص، وأخذ الخط السلطاني على عامة المناشير. راجع معجم المعربات الفارسية للسباعي (ص 81). (¬3) هذان البيتان نسبهما السيوطي في شرحه عقود الجمان (1/ 213) للحافظ ابن =

وأمَّا قول مولانا أمير المؤمنين - عليه السلام -: "ولا تعدو على عزيمة جدهم بلادة الغفلات" فإيرادها من الغفلة؛ إذْ صرح فيها بـ (على) فليس فيها شبهة. وأمَّا قوله: "فما عدا ممَّا بدا" فلـ (عدا) معانٍ كثيرة - كما في كتب اللغة (¬1) - تارةً بمعنى (جدَّ في سعيه)، وتارة بمعنى ظلم، وتارة يقال: عدا اللصُّ على المال أي: سَرَقه، وتارة بمعنى (صرف)، وتارةً بمعنى (وثَبَ)، وتارة بمعنى (جاوز)، وتارة فعل استثناء، وتارة حرف جرٍّ فأيُّها أُريدَ في هذه العبارة (¬2)؟ فإنْ زعمتَ أنَّها بمعنى (أصاب) فاجْعلْها مكانها لتعرف بيانها، والظاهر أنَّ (ما) استفهامية، و (عدا) بمعنى (صرف) وهي تتعدى إلى واحدٍ بنفسها، وثانٍ بـ (عن) وكلاهما محذوف للعلم به، والمعنى: ما صرفك عن طاعتي؟ و (مِنْ) تبعيضيّة و (ما) موصولة، و (بدا) بمعنى (نشأ) مِن الرأي، أو بمعنى (ظهر) فحينئذٍ يكون المعنى: ما صرفك عن طاعتي ممَّا نشأ لك من الرأي، ¬

_ = حجر، وذكر ما ذكره المعلمي ههنا، وكذا المرشدي في شرحه للعقود (1/ 212)، وروي البيت الثاني فيهما: أبذل المال قلت لا ... حفظ الله جانبك (¬1) راجع هذه المعاني في تاج العروس (10/ 235)، والمجمل لابن فارس (3/ 652)، والكليات (3/ 284). (¬2) قد ذكر الأزهري في تهذيب اللغة (3/ 117) قول علي بن أبي طالب ونقل تفسيره عن أئمة اللغة كثعلب وغيره، وذكر عن الأصمعي أنه جعله من قول العامة وفسره بالاستفهام: أما عدا مَنْ بدأ؟ ومعناه: ألم يتعدَّ الحق مَنْ بدأ بالظلم؟ وانظر شفاء الغليل للخفاجي فقد ذكر العبارة وشرحها. (ص 277).

أو ممَّا ظهر منّي أيْ: أيُّ شيءٍ مما نشأ لك من الرأي، أو ممَّا ظهر منَّي صَرفَك عن طاعتي. وهي على كل تقدير بمعزل عن الاستدلال بها. وأمَّا قولي: "راجعوا الإِمام" فإنَّي لمَّا أردتُ أنْ أمحضَك النصيحة، وأردَّك إلى الاستعمالات الصحيحة تقاعسْتَ عن ذلك وطفقت تخبط خَبْط عشواء، وتعربد عربدة النشوى، وقد قيل في المثل: "آخر الداء الكيُّ" (¬1). وأمَّا التعصُّب بالدين فقال في القاموس: "وتعصَّب شدَّ العصابةَ، وأتى بالعصبية، وتقنَّع بالشيء ورضي به" (¬2)، فأيُّ ملامةٍ عليَّ بأنْ كونَ متعصبًا بالدين أي: معتمًّا وكوني متعصَّبًا به أي: متعزِّزًا، وكوني متعصِّبًا به أي: مُتقنِّعًا راضيًا به: (وتلك شَكاةٌ ظاهرٌ عنك عارها) (¬3) وإنَّما اللومُ على مَنْ يتعصَّب على الدين، أو يتعصَّب فيه مع أنَّ الأولى في قضيتنا أن يُعبَّر بالحقَّ بدل الدين. وأمَّا قولك: "وعدم الرجوع إلى الحقِّ ... إلخ" فأينَ الحقُّ الذي أرجع إليه؟ ¬

_ (¬1) هكذا في المطبوعة، وفي الأصل (الدا) بالقصر، وكنت صوَّبتها إلى (الدواء) ثم رأيت في الصحاح (6/ 2477) قول الجوهري: ويقال: آخر الدواء الكيُّ، ولا تقل: آخر الداء الكيُّ. اهـ. فدلَّ على أن قولهم: آخر الداء مستعمل لكنه ضعيف وصوابه ما ذكره الجوهري بدليل أنه روي بلفظ: آخر الطب الكيُّ. وانظر لسان العرب (15/ 235)، والتاج (10/ 319). (¬2) راجع القاموس مادة (عصب). (¬3) هذا عجز بيت لأبي ذؤيب الهذلي من قصيدة يرثي بها نشيبة بن محرِّث وصدره: (وعيَّرها الواشون أني أحبها). انظر شرح ديوان الهذليين للسكري (1/ 69).

وأين الدليل الذي ثبت حتى أعوِّل عليه؟ بل (¬1) قد ثبت على جهل المعاند. وأمَّا قول العارفين: "قرأتُ العلم ... " إلخ، فإنَّما لفظه: "طلبنا العلم لغير الله فأبى العلم أن يكون إلا لله"، وهذا الشاهد لم يظهر لي وجه الاستشهاد به حتى أتكلَّم عليه. وأمَّا قولك: "إني قصدتُ بإنشادي الإعجاز والمبارزة" فما قصدتُ به إلا تطهير المسامع عما قرعها، وتنشيط الرؤوس عمَّا صدَّعها، ومَحْوًا لما قد يتشاءم به. وأمَّا كون أبياتي ليست على غايةٍ من المدح فهذا كلامُ حاسدٍ لا يبالي بما يقول. وهذه أبياتي: دَعْني من الغِيدِ ما للصِّيد والغيد ... وقُم نُهنَّي إمامَ الحقَّ بالعيدِ مَولايَ يَهْنؤك العيد السعيدُ فَدُمْ ... في خير عَيشٍ بتوفيقٍ وتسديدِ ودام سَعْدُكَ طولَ الدَّهرِ يَرْفُل في ... نَصْرٍ وفَتْحٍ وتمكينٍ وتأْييدِ وقولك: "من حيث إنَّه ما مِن أحدٍ إلا ويُهنّى بالعيد حتى العبد المملوك، ولا فَضْلَ يُرى للممدوح بذلك"؛ فإنَّما التهنئة بالعيد تهنئةٌ بالعافية والسرور والحبور وامتداد العمر في طاعة الله فيه، والتهنئة بذلك أمرٌ لا ينكره ذو بصيرة، وكما أنَّ الدعاء بالعافية وسؤال العافية يستوي فيه الملوكُ ¬

_ (¬1) أشار د/ عبدالله أبو داهش إلى أنَّ أصلها في المخطوط: (بلا) وصوَّبها إلى (بل) ولعلها (بلى) لأنَّ الشيخ المعلمي كثيرًا ما يرسم الألف المقصورة برسم الألف الممدودة كما هو سائر في خطوط بلاده.

والمملوك؛ فكذا التهنئة بها، على أنَّها ليست تهنئةً بلفظٍ عادي، وإنما هي بأبياتٍ لطيفة يعرفها مَن له ملكةٌ، ولا يعرف السبيلَ إلا مَن سلكه، ولا يعرف السالك السبيلَ إلا إذا كان على بصيرةٍ، وأمَّا مَنْ سلكه مُتَخبطًا، ولم يمشِ فيه على المنوال فهو سواء وسائرُ الجهَّال. وقولك: "بل المدحُ العالي أن يُهَنَّأَ العيدُ بإمام الحقّ" فمَن هو العيدُ حتَّى تهنئَه؟! وإذْ لسْتَ ممن يفهم التصريح فَضْلًا عن التلميح فنقول: إنَّ العيد ليس بذي عَقْلٍ ووجدان وعيون وآذان حتى تهنئه، فلو أنَّ العيد يتصوّر إنسانًا لهنَّأناه، كما أنَّ اعتراضَك لو يتجسّد لكان أبلغَ دواءٍ للمحرورين (¬1)، وأخشى أن يطلع عليه غير صفراوي فتصيبه البردة (¬2). على أنَّ أبياتي مرتجلةٌ بنتُ لحظةٍ، ولولا أنَّ ذلك المقام يشغل الفكر بهيبته لما اقتصرت على الثلاثة الأبيات وأنت تعرف ذلك قد لجلجك في الإنشاد، فكيف بي في الإنشاء؟! وأين مِنْ أبياتي قصيدتك بنت شهر، بوزنٍ قليل الاستعمال ملتزمًا في القوافي قولك: "يا ابن علي" مع التعرض بكفران النعمة من دعوى أنَّ الناس أفناهم الجوع، وقد أغناهم الله تعالى بفضل عبده مولانا - أيَّده الله - وبتيسيره سُبل الكسب، وأين ذلك من قول بعضهم في تهنئةِ عيد: ¬

_ (¬1) الحرير والمحرور: مَن تداخلته حرارة الغيظِ أو غيره. انظر القاموس. (¬2) قال المجد الفيروز آبادي: البَرْدة ويحرك: التُّخَمَة.

يا إمامَ الهدى وغوثَ اليتامى ... والمساكينِ رحمةَ الرحمنِ زارك العيدُ وهو يحمل أعلا ... مَ التهاني لكم بِنَيلِ الأماني فهنيئًا لك السرورُ بشوّا ... لٍ ونيل الأجور في رمضانِ وما عسى أن يبلغه من يريد إساءة الإمام بعد مقابلته في تهنئةِ عيدٍ بمحضرٍ من الناس بنحو قوله: "أفنى الناسَ الجوعُ" وقوله: "لا عداك السوء"، فعدا أميرَ المؤمنين ومحبِّيه كلُّ سوء ولا عداك، ومَن أعديته من نباهتك سُوءًا فابنِ على زَعْمِكَ. ولستُ أزعم أنّي متحرّز عن كلِّ خطأ، لكنّني لو نُبِّهْتُ على الخطأ لما تمحَّلْتُ لتصويبه، بل بادرتُ بسؤال العفو والإقرار بالقصور؛ لأنَّ الإنسان رهين النسيان ولا سيَّما إذا كان في درجتنا قصورًا وتقصيرًا. وقد يقال: كفارة الذنب الإقرار والندم والاستغفار. ومُغَلِّظُهُ الإنكار مع المحاجَّة والاعتذار، وذلك هو عينُ الإصرار، ومُسْقِطُ الأعذار من الاعتبار. وأمَّا قولك: "في الرياء، والسمعةِ، وحبِّ الجاه وطلبِ الرِّفْعة" فالله تعالى أعلمُ بها على أنَّها أدواء القلب، وربَّما أصلحها صلاح النّية، كالذي يُصلّي ويحسِّنُ صلاته ليتعلم الناس كيفية الصلاة، ويطلب الجاه ليستعين به على طاعةٍ. وقولك: "عند المخلوق دون الخالق" فالمخلوقون ليسوا سواءً، فإنَّ منهم من يكون حبُّه حبًّا لله، وبُغْضُه بغضًا لله، والتقرُّبُ إليه تقرُّبًا إلى الله، وأظنُّكَ لا تنكر أنَّ منهم مولانا أيَّده الله تعالى.

ولعلّي قد أسرفْتُ في القِصَاص، ولا أقول: البادئ أظَلْمُ، ولا الكلامُ أنثى، والجوابُ ذكر، ولكنَّي أسألك العفوَ، وأقسم لك بالله الذي لا إله إلا هو ما لي من قَصْدٍ إلا بيان الحق، وأَنْصحُك لله، ولجدِّك رسولِ الله أنْ تَثبَّتَ في الكلام، وتعلمَ أنك تخاطب إمامًا نقَّادًا مجتهدًا يجب على مخاطبه بما يزعم المخاطب أنه قد نقّحه التحرُّزُ، وإلا فكما قيل: (ترك الذنب أولى من طلب المغفرة)، وإذا أردتَ التحرُّزَ فخُذْ ما تعرفه يقينًا، ودَعْ ما تشكُّ فيه - وإنْ ترجَّح في ظنك شيءٌ - فإنَّما يوقع الإنسانَ في الغلط مسامحةُ النفس والعملُ بمجرَّد الظنَّ. كلّا: مِثْلُ الشمس وإلا فدعْ هذا. وإنَّما الفضل بالتقوى، وفَّقَنا اللهُ لأنْ نتمسَّك منها بالسبب الأقوى، وغَفَر لنا ولكم، وعفا عنّا وعنكم، وصلى الله على رسوله محمد وآله وصحبه وسلم. فأعاد عليَّ جوابَ معتذرٍ، وأفاد أنَّه أرى السيّدَ العلَّامةَ صالح بن محسن الصيلمي جوابي، فقضى بما لا يخفى على مِثْلِه. ثم كتب إليَّ السيدُ عليٌّ قصيدةً يعتذر [فيه] لم أرَ منها ما يليق ذكره فمن ظنَّ أنَّ هذا منَّي تعصُّب فها هي مُلْصقة بهذا (¬1). ¬

_ (¬1) لم أقف على قصيدة السنوسي هذه التي يعتذر فيها للمعلمي وقد ذكر د/ أبو داهش أنَّها مرفقة بهذه المحاورة وأنّ مطلعها: يا سادتي يا بني إدريس لم يَزَلِ ... قلْبي عليكم مقيمًا أينما يَحُلِ

وطلب منّي إصلاح خللها، فرأيتُ الأمرَ بذلك يطول فأجبت عليه ارتجالًا بعشرةِ أبيات يراها المطَّلِعُ تحت قصيدته، وأوَّلُها: يا فاضلٌ (¬1) دَلْوُهُ بالمكرماتِ مَلي ... وقَدْره كاسْمِه بين الأنام علي (¬2) ... ¬

_ (¬1) في المطبوع: (يا فاضلًا) - بالنصب - وذكر الناشر أنَّ بالأصل المخطوط: (يا فاضل)، وما بالأصل هو الصواب لأنه منادى نوعه نكرة مقصودة فيبنى على الضم، ونوِّن ضرورةً، وأمَّا (يا فاضلًا) بالنصب فجائز عربية للنكرة غير المقصودة لكنه غير مناسب هنا لأنه يريد السنوسي. (¬2) وبعده: ومَنْ علينا له الحقُّ الأكيدُ بما ... حواه من قربه من خاتم الرُّسُلِ ما كان ما كان عن حبٍّ لمحمدةٍ ... ولم أردْ سمعة بالبحث والجدلِ لكنَّما الحقُّ أحرى أنْ نُعَظِّمَهُ ... من الخداع بقولٍ غير معتدلِ ولا أحبُّ لكم إلا الصواب كما ... أحبُّه وهو من خير المقاصد لي فظنَّ خيرًا كظني فيك محتملًا ... ما كان أثناء نصر الحقِّ من خطلِ فإنَّما غضبي للحقِّ حيث أرى ... إعراضكم عنه تعليلًا بلا عِللِ وقد علمتم صوابي في محاورتي ... والحمد لله ربَّ السهل والجبلِ ثم السلام على المولى الإمام أبي ... عليٍّ المرتقي أوجَ العُلا ابن علي ثم السلام عليكم ما بدا قمرٌ ... او ما بدا فضل ندبٍ غيرمنتحلِ اهـ * وفي المطبوع اختلاف يسير في بعض الكلمات، وقد ذكر مطلع القصيدة وأردفه في الحاشية بثمانية أبيات فيصبح الجميع تسعة، وهو غير متفق مع قول المعلمي: "بعشرة أبيات"، وقد وجدت البيت العاشر - وهو الأخير منها - مع القصيدة كاملة في النسخة المخطوطة الأخرى.

شرح بيت ومعناه

الحمد لله. لبعض متأدبي الوقت، وهو ثابت بن سعيد معوَّض - من سكان ناحية عتمة (¬1): تاريخُ هذا العامِ يا عَمْ ... أزال عنكَ الهمَّ والغَمْ 1332 أقول: قد اتفق له في هذا البيت مع التاريخ محاسن، ومنها جناس شِبْه المشتق بين العَمِّ والعام (¬2). وجناس التصحيف بين العَمِّ والغَمِّ (¬3)، وجناس المضارع بين الهَمِّ ¬

_ (¬1) قال الزبيدي في تاج العروس (8/ 388): "وعُتْمة - بالضم - حصنٌ منيع بجبال اليمن". اهـ. (¬2) الجناس لون من ألوان علم البديع وهو من المحسنات اللفظية وينقسم إلى أقسام عدة، وجناس شبه المشتق هو أن يكون في كل من الكلمتين جميع ما يكون في الآخر من الحروف أو أكثرها ولكن لا يرجعان إلى أصلٍ واحد، كما في كلمتيْ (العم، والعام) فالأولى مشتقة من (عَمَمَ)، والثانية من مادة (عوم). انظر تلخيص المفتاح بحاشية التفتازاني (ص 355)، وشرح الكافية البديعية لصفي الدين الحلّي (ص 61)، وشرح عقود الجمان للسيوطي (2/ 172). (¬3) جناس التصحيف هو ضرب من الجناس الناقص، ويسميه بعضهم جناس الخط وهو الإتيان بكلمتين متشابهتين خطًّا لا لفظًا أو كما قال السيوطي: أنْ تختلف الحروف في النقط، ومثاله من القرآن قوله تعالى: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104]. انظر الطراز للعلوي (2/ 365)، وجنان الجناس للصفدي (ص 30)، وشرح عقود الجمان (2/ 171)، وشرح الكافية البديعية للحلّي (ص 65).

والغَمِّ (¬1)، مع حُسْنِ السَّبْك والتلطُّفِ في الخطاب والدعاء، مع أنَّ الغالب على هذه التآريخ ركاكةُ اللفظ والمعنى؛ لأنَّها قلّما تتيسر بغير تكلّف (¬2). والفاعل في: (أزال عنك) محذوف وهو معلوم مقامًا؛ لأنَّه لا مُزيل لذلك إلا الله تعالى. تمت. ... ¬

_ (¬1) جناس المضارع هو أيضًا من الجناس الناقص ويسميه بعضهم الجناس المطمع والمطرف واللاحق وهذه كلها بحسب الحرف الواقع في الكلمة فإن كان الحرفان متقاربين في المخرج سُمِّي مضارعًا وقد يكون في أول الكلمة كما في (الهم والغم) وفي وسطها كما في قوله تعالى: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} [الأنعام: 26]، وفي آخرها كما في: الخيل معقود في نواصيها الخير. انظر التلخيص بحاشية التفتازاني (ص 353)، وعقود الجمان (2/ 172)، وجنان الجناس للصفدي (ص 28). (¬2) انظر تاريخ آداب العرب للرافعي (3/ 396) باب التاريخ الشعري وكتاب البلاغة العربية في ثوبها الجديد (علم البديع) لبكري شيخ أمين (ص 182).

أنظام لغوية

أنظام لغوية 1 - نظم الأسماء المؤنَّثة السماعيّة 2 - نظم جموع كلمة (عَبْد) 2 - نظم جموع (شيخ)

1 - نظم الأسماء المؤنثة السماعية

1 - نظم الأسماء المؤنَّثة السماعيّة أسماءُ تأْنيثٍ بِلا عَلَامهْ ... خُذْها بِضَرْبيْها (¬1) على استقامهْ ما يَلْزمُ التأْنيثَ فيه الأُذنُ ... والعينُ والنفسُ وكَتْفٌ سِنُّ والدَّارُ والدَّلْوُ وإِسْتٌ عَضُدُ ... وَوَرِكٌ ثُمَّ الذِّراعُ واليدُ جَهَنَّمُ السعيرُ نارٌ عَقْرَبُ ... لظَى الجحيمُ سَقَرٌ والثَّعْلَبُ ريحٌ عَصًا فردوسُنا الغُول الفَخِذْ ... والفَأْسُ والأرضُ معَ المِلْحِ فَخُذْ عَروضُ شِعْرٍ فُلْكُ بَحْرٍ بِيرُ ... والنَّهرُ والينبوعُ عودٌ عِيرُ والذَّهَبُ البَنَانُ رِجْلٌ قَدَمُ ... والحَرْبُ والنَّعْلُ وكَأسٌ تُعْلَمُ والفَرسُ الموسى اليمينُ الأَفْعى ... شمالٌ انثى ثُمَّ عُدَّ الضِّلْعَا والعنكبوتُ والسراويلُ الكَبِدْ ... والعَقِبُ الكَرْش مع الشمسِ اعْتَمِدْ والكَفُّ والسَّاقُ وقوسٌ أرنبُ ... والمنجنيقُ الخَمْرُ فيما يُحسَبُ (¬2) ... ¬

_ (¬1) أي: ما يلزم فيه التأنيث، وما يجوز فيه الوجهان، هذا وقد وضع المؤلف فوق كل كلمة رقمًا لإحصاء الألفاظ الواجبة التأنيث وغيرها، فبلغ عدد الألفاظ الواجبة التأنيث ستين كلمة، وغير الواجبة ست عشرة كلمة. (¬2) كتب المؤلف بعد هذا البيت: (والضبع) ووضع فوقها رقم واحد وستين ولم ينظمها في بيت، وكأنه ألحقها بالألفاظ السابقة إذْ إنَّ هذه الكلمة مما يلزم فيها التأنيث على قولٍ.

وضَرْبُها الثاني الذي نُخَيِّرُ ... تُؤَنِّثُ الضميرَ أو تُذَكِّرُ السِّلْمُ والمِسْكُ وَقِدْرٌ خَانُ (¬1) ... لِيْتٌ (¬2) طريقٌ عُنُقٌ لسانُ سِكِّينُنَا السُّلطانُ والسُّرى الرحِمْ ... سِلاحُنَا وفي القوى (¬3) بِذا حُكِمْ كذاك أسْماءُ السَّبِيلِ (¬4) والضُّحَى ... فاشكر لمن نظمها وصَرَّحا (¬5) ... ¬

_ (¬1) لعلها (حال) فقد ذكروا أنَّه يجوز تذكيره وتأنيثه منهم ابن الحاجب في منظومته، انظر (ص 112). (¬2) الليت - بالكسر -: صفحة العنق. (¬3) لعلها (القفا) كما ذكره غير واحدٍ من الأئمة منهم ابن الحاجب في منظومته إذْ جعله من القسم الثاني الذي يجوز فيه التذكير والتأنيث كما في ص (122). (¬4) كالزُّقاق، والطريق، والصراط، والسبيل. انظر "المزهر" للسيوطي (2/ 225). (¬5) ترقيم الكلمات وقف عند لفظة (سلاحنا) وأكملت الباقي.

2 - نظم جموع كلمة (عبد)

2 - نظم جموع كلمة (عَبْد) عِبادٌ عَبيدٌ أَعْبُدٌ وأَعابدٌ ... عِبِدَّى عِبِدَّانٌ عِبِدَّاءُ عُبْدانُ (¬1) وأَعْبِدَةٌ تَأْتي ومَعْبَدةٌ كذا ... عِبِدَّةُ أو خَفِّفْ بفتحٍ (¬2) وعِبْدانُ عبيدون معبودا بقصْرٍ ومَدَّةٍ ... عبودٌ وعَبدُونٌ وأعبادُه خانوا كذا عُبُدٌ بالضمتين فهاكموا (¬3) ... جموعًا لعَبْدٍ فاحفظوها لتَزْدَانوا عبد الرحمن المعلمي أَوْلَهُ: قل أَعْبدٌ أَعابدٌ عَبِيدُ ... مع عُبُدٍ مَعْبَدةٌ عُبُودُ عِبَادُنا أَعْبَادُنا وعَبَدَهْ ... عِبدَّةٌ عاشرُها وأَعْبِدهْ كذا عِبِدَّانُ وعُبْدانُ وُجِدْ ... عِبْدانُ مَعْبُودا وأقصِرْ إنْ تُرِدْ يَتْلوهُ عَبْدون عَبِيدون كذا ... بالمدِّ والقصرِ عِبِدَّا فَخُذا ... ¬

_ (¬1) وضع المؤلف فوق كل جمع رقمًا فبلغ المجموع في النظم الأول عشرين جمعًا، وكذلك في النظم الثاني. (¬2) عَبَدَة. المعلمي. (¬3) كان في الأصل: "كذا عُبُدٌ يتلو بكسر عِبِدَّة" فضرب عليها الناظم وكتب تحتها: "بالضمتين فهاكموا".

3 - جموع "شيخ"

3 - جموع "شيخ" الحقير في جموع شيخ: جموعُ شَيخٍ عَدُّها إحدى عشر ... كما حكى القاموسُ (¬1) وهو المعتبرْ شِيَخةٌ (¬2) وشِيْخةٌ (¬3) شُيُوخُ (¬4) ... يَتْلُوه شِيْخَانٌ (¬5) تلا شِيُوخُ (¬6) مشايخُ (¬7) ومَشْيَخاءُ (¬8) مَشْيَخة (¬9) ... كذاك مَشْيوخاءُ (¬10) ثم مِشْيَخَهْ (¬11) بالشِّينِ فالميمِ وأَشْياخٌ (¬12) أتى ... بالهَمْزِ فافْهَمْها وخُذْها يا فتى ... ¬

_ (¬1) القاموس المحيط للفيروز آبادي مادة (شاخ): (1/ 272). (¬2) بكسر ففتح على وزن (عِنَبة). (¬3) بوزن (صِبْية) ذكره ابن سيده وكراع كما في التاج (2/ 265). (¬4) بضمِّ الشين على القياس. (¬5) بوزن (غِلْمان). (¬6) بكسر الشين لمناسبة التحتية كما في بيوت وبابه. (¬7) قال الزبيدي في التاج (2/ 265): وأنكره ابن دريد، وقال القزاز في الجامع: لا أصل له في كلام العرب. وقال الزمخشري: المشايخ ليست جمعًا لشيخ وتصلح أن تكون جمع الجمع. اهـ. (¬8) ولم يذكره ابن منظور. (¬9) بفتح الميم والياء بوزن (متربة). (¬10) بوزن مفعولاء وهو وزن نادر. (¬11) بكسر الميم وسكون الشين وفتح الياء. (¬12) بوزن أبيات ومفرده شيخ بوزن بيت.

القسم الثالث الرسائل العروضية

الرسالة الثانية عشرة مختصر متن الكافي في العروض والقوافي

الرسالة الثانية عشرة مُخْتصر متن الكافي في العروض والقوافي

متن الكافي في العروض والقوافي

متن الكافي في العروض والقوافي للعلامة أحمد بن شعيب القنائي الشافعي مشوبًا ببعض تقريراتٍ من شرحه المختصر الشافي لشيخ المشايخ السيد محمد الدمنهوري - رحمهما الله تعالى - آمين. وأسقطتُ منه غالب الشواهد ليكون أحثَّ على حفظه، وأبحثَ عن دقائقه، والله الموفق. ***

نبذة في علم العروض

بسم الله الرحمن الرحيم نبذة في علم العروض اعلم أن أحرف التقطيع التي تتألف الأجزاء منها عشرة: (لمعتْ سُيُوفُنا). وأقسام الكلام بحسب الحركات سببان: خفيف وثقيل، ووتدان: مجموع، ومفروق، وفاصلة كبرى وصغرى يجمعها: (لم أرَ على ظهْر جبلٍ سمكةً) ومنها تتألف التفاعيل وهي ثمانية لفظًا، عشرةٌ حكمًا خماسيان وثمانية سباعية الأصول منها: فعولن مفاعلين مفاعلتن فاعِ لاتن ذو الوتد المفروق في المضارع، والفروع (¬1) فاعلن مستفعلن، فاعلاتن، متفاعلن، مفعولات، مستفعِ لُنْ ذو الوتد المفروق في الخفيف والمجتث. ومستفعلن له وجهان: تارةً يكون مركبًا من سببين خفيفين بينهما وتدٌ مفروق كما في بحريْ الخفيف والمجتث وتارةً من سببين خفيفين يليهما وتدٌ مجموع كما في غيرهما. وفاعلاتن له حالتان: ففي المضارع يكون مركبًا من وتد مفروق يليه سببان خفيفان، وفي غيره يكون مركبًا من سببين خفيفين بينهما وتد مجموع، فحال اللفظ واحد والحكم مختلف لتفارقهما من جهة أنَّ مستفعلن مجموع ¬

_ (¬1) في الأصل المخطوط: والفروق - بالقاف - وهو سَبْقُ قَلَم والتصويب من متن الكافي انظر (ص 38) من "الإرشاد الشافي".

الوتد يجوز طيُّهُ بخلاف مفروقه وفاعلاتن مجموع الوتد يجوز خَبْنُه بخلاف مفروقه، وكلٌّ من الأصول يتفرع عنه بعض الفروع، وكيفية التفريع فيها أنْ تقدّم السبب أو السببين على الوتد ثم تبدل ما ينشأ بمستعمل لكونه مهملًا والقاعدة عندهم أنَّ الأصول ينشأ عنها فروع بعدد الأسباب التي فيها نحو: مفاعيلن إذا تقدم سبباه صار (عيلن مفا) فلإهْمالِه يُبْدل بمستعمل وهو مستفعلن أو أخوهما فصار (لن مفاعي) فهو مهمل يبدل بمستعملٍ وهو فاعلاتن، ومفاعلتن الأصل له فرعان وهما: متفاعلن وفاعلاتن. ***

الباب الأول في بيان ألقاب الزحاف والعلل وتعاريفها

الباب الأول في بيانِ ألْقاب الزِّحاف والعِلَل وتعاريفها الزِّحاف: تغيير مختصٌّ بثواني الأسباب مطلقًا بلا لزوم، ولا يدخل الأول والثالث والسادس من الجزء. فالمفرد ثمانية: الخبن: وهو حذف ثاني الجزء ساكنًا. والإضمار: إسكانه متحركًا. والوقْص: حذفه متحركًا. والطيُّ: حذف رابعه ساكنًا. والقبض: حذف خامسه ساكنًا. والعصْب: إسكانه بعد تحَرُّكه. والعَقْل: حذفه متحركًا وهذان لا يكونان إلا في مفاعلتن فيبدل في الأول مفاعيلن، وفي الثاني مفاعلن. والكفُّ: حذفُ سابعه ساكنًا. وأمَّا المزْدَوجُ فأربعةٌ: الطيُّ مع الخَبْن خَبْلٌ، ومع الإضمار خَزْلٌ، ويُحصَر في إسكان (تا) وحذف (ألف) متفاعلن فيبدل إلى مُفْتَعِلن، والكفُّ مع الخبن شكْلٌ وانحصر في حذف الألف الأولى والنون من (فاعلاتن) مجموع الوتد، والسين والنون من (مستفع لن) مفروق الوتد فينقلان إلى فاعلن ومفاعل ومع العصب نقصٌ، ويدخل مفاعلتن فقط فينقل إلى مفاعيل.

وأمَّا العِلَلُ فهي: ما إذا عرض لزم، ولا تكون في الحشو بل في الضرب والعروض، ما عدا الخَرْم، فزيادةُ سَبَبٍ خَفيفٍ على ما آخره وتد مجموع: ترفيلٌ، ولا يقع إلا في مجزوء المتدارك والكامل فيصير فاعلن في الأول (فاعلاتن)، ومتفاعلنٌ في الثاني (متفاعلاتن). وحرفٌ ساكنٌ على ما آخره وتد مجموع تذييلٌ وهو خاصٌّ بمجزوء الكامل والبسيط والمتدارك فيصير متفاعلن في الأول (متفاعلان)، ومستفعلن في الثاني (مستفعلان)، وفاعلن في الثالث (فاعلان). وعلى [ما] آخره سبب خفيف: تَسبيغٌ وهو خاصٌّ بمجزوء الرمل فيصير فاعلاتن فيه (فاعلاتان)، وخُصّتْ علل الزيادة بالمجزوء عوضًا عن النقْصِ. وأمَّا علل النقصان فذهاب سبب خفيفٍ حَذْفٌ، وهو مع العَصْب قَطْفٌ وهو خاصٌّ بالوافر فيصير مفاعلتن فيه (مفاعل) ويُنْقل إلى (فعولن) وحذف ساكن الوتد المجموع وإسكان ما قبله قطْعٌ ويختصُّ بالبسيط والكامل والرَّجز، فيصير فاعلن في الأول ومتفاعلن في الثاني ومستفعلن في الثالث (فاعلْ) و (متفاعلْ) و (مستفعلْ) بإسكان اللام في الثلاثة. وهو مع الحذف بَتْرٌ ويدخل - كما قال الخليل (¬1) - المتقارب والمديد ¬

_ (¬1) الخليل بن أحمد بن عمرو البصري أبو عبد الرحمن الفراهيدي النحوي العروضي اللغوي الزاهد إمام هذه الصنعة، معروف مشهور، أول من اخترع العروض والقوافي، مات سنة (170 هـ) أو (175 هـ).

فيصير فعولن في الأول (فَعْ) وفاعلاتن في الثاني (فاعلْ). وحَذْفُ ساكنِ السبب وإسكان متحرِّكه قَصْرٌ (¬1)، وحَذْفُ وَتَدٍ مجموعٍ حَذَذٌ، ولا يدخل إلا الكامل فيحذف (علن) من متفاعلن وينقل الباقي إلى (فَعِلن)، ومفروقٍ صَلْمٌ ولا يدخل إلا السريع الذي أجزاؤه مستفعلن مستفعلن مفعولات فتحذف (لات) وينقل الباقي إلى (فَعْلن). وإسكان السابع المتحرك وقْفٌ وحذفه كسْفٌ، وليس لنا سابع متحركٌ إلا (تاء) مفعولات. ... ¬

_ انظر البلغة للفيروز آبادي (ص 99). (¬1) قال في "المختصر الشافي" (ص 9): "ويدخل الرمل والمتقارب والمديد والخفيف كحذف نون فاعلاتن وإسكان تائه وحذف نون فعولن وإسكان لامه".

الباب الثاني في البحور وموازنها وعروضها

الباب الثاني في البحور وموازنها وعروضها (¬1) هذه أبيات فيها للصفي الحِليِّ (¬2): الطويل: طويلٌ له دون البحور فضائلُ ... فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلُ (¬3) عروضه واحدة مقبوضة، أضربها ثلاثة: الأول: صحيح، والثاني: مِثْلُها، والثالث: محذوف. ¬

_ (¬1) في "متن الكافي": (الباب الثاني في أسماء البحور وأعاريضها وأضربها) وليس في الحاشيتين ما ذكره المعلمي فتكون الترجمة على هذا من عنده ولا تباين بينهما. (¬2) عبد العزيز بن سرايا السنبسي الطائي الحِلَّي صفي الدين، ولد سنة (677 هـ)، وتعانى الأدب فمهر في فنون الشعر كلها، وتعلم المعاني والبيان وصنَّف فيهما، كان يتهم بالرفض وفي شعره ما يشعر به - كما قاله الحافظ ابن حجر -، له ديوان شعر يشتمل على فنون كثيرة، وبديعيته مشهورة وكذا شرحها، مات سنة (752 هـ) وقيل سنة (750 هـ). راجع: "الدرر الكامنة" لابن حجر (2/ 479). (¬3) هذا البيت وما يليه من أبيات في نظم البحور موجودة بديوان "الحِلي" (ص 621) وهي من زيادات المعلمي هنا على الأصل إذْ لا وجود لها في "الكافي" ولا "حاشيتيْ الدمنهوري".

المديد: لمديدِ الشعر عندي صفاتُ ... فاعلاتن فاعلن فاعلاتُ (¬1) مجزوءٌ وجوبًا، أعاريضه ثلاثة وأضربه ستة: الأولى: صحيحة وضربها مثلها. الثانية: محذوفة وأضربها ثلاثة: الأول: مقصور، الثاني: مثلها، الثالث: أبتر. الثالثة: محذوفة مخبونة لها ضربان: الأول: مثلها، والثاني: أبتر. البسيط: إنَّ البسيط لديه يُبْسَط الأمَلُ ... مستفعلن فاعلن مستفعلن فَعِلو أعاريضهُ ثلاثة وأضربه ستةٌ: الأولى: مخبونة ولها ضربان: الأول: مثلها، والثاني: مقطوع. الثانية: مجزوءة صحيحة وأضربها ثلاثة: الأول: مجزوء مُذالٌ، الثاني: مثلها، الثالث: مجزوء مقطوع. الثالثة: مجزوءة مقطوعة وضربها مثلها. ¬

_ (¬1) توجد كلمة (فاعلن) بخط دقيق فوق (فاعلات).

الوافر: بحورُ الشِّعْر وافرها جميلُ ... مفاعلتن مفاعلتن فعولُ (¬1) له عروضان وثلاثة أضرب: الأولى: مقطوفة وضربها مثلها. الثانية: مجزوءة صحيحة، ولها ضربان: الأول: مثلها، الثاني: مجزوءٌ معصوب. الخامس (¬2): الكامل: كمُلَ الجَمال من البحور الكاملُ ... متفاعلن متفاعلن متفاعلو أعاريضه ثلاثة وأضربه تسعة: الأولى: تامة وأضربها ثلاثة: الأول: مثلها. الثاني: مقطوع. الثالث: أَحَذُّ. الثانية: حَذَّاءُ ولها ضربان: الأول: مثلها. ¬

_ (¬1) فوق البيت حاشية يقول فيها الشيخ: "أصل أجزائه مفاعلتن ستّ مرات". (¬2) لم يرقم الشيخ أسماء البحور إلا هذا.

الثاني: أحذُّ مضمر. الثالثة (¬1): مجزوءة صحيحة وأضربها أربعة: الأول: مجزوءٌ مُرَفَّلٌ. الثاني: مجزوءٌ مُذَال. الثالث: مثلها. الرابع: مقطوع. الهزج: على الأهزاجِ تسهيلُ ... مفاعلين مفاعيلو (¬2) عروضه واحدة صحيحة، ولها ضربان: الأول: مثلها. الثاني: محذوف. الرَّجز: في أَبْحُرِ الأرجَاز بَحْرٌ يَسْهلُ ... مستفعلن مستفعلن مستفعلو أعاريضه أربعة، وأضربه خمسة: ¬

_ (¬1) في المخطوط: الثانية. (¬2) قال المعلمي في حاشية: "أجزاؤه مفاعلين ستّ مرات ولكنه مجزوء وجوبًا، وشذَّ مجيئه تامًّا.

الأولى: تامّة ولها ضربان: الأول: مثلها. الثاني: مقطوع. الثانية: مجزوءةٌ صحيحة، وضربها مثلها. الثالثة: مشطورة وهي الضرب؛ لأنَّ الضرب ما ذهب نصف تفاعيله، نحو: * ما هاج أحزانًا وشَجْوًا قد شَجَا (¬1) * فاختير ذلك؛ لأنَّ العروض والضرب امتزجا فصار الجزءُ الثالث عروضًا وضربًا لئلا يخلو البيت عن أحدهما، وكذا يقال في المنهوك يعني الذي ذهب ثُلثَا بيته. الرابعة: منهوكة وهي الضرب وبيتها: * يا ليتني فيها جَذَعْ (¬2) * ¬

_ (¬1) هذا الشطر للعجاج من مطلع قصيدة في ديوانه (ص 271) بعده: * من طللٍ كالأتحميَّ أنهجا * (¬2) الشطر لدريد بن الصمة وبعده: * أخب فيها وأضع * ويروى أيضًا عن ورقة بن نوفل كما في قصة الوحي المشهورة التي أخرجها البخاري ومسلم في صحيحيهما. راجع: "خزانة الأدب للبغدادي" (11/ 120)، و"حاشية الدمنهوري الكبرى" (ص 86).

الرَّمَلُ: رَمَلُ الأبحر ترويه الثقاتُ ... فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتو له عروضان وستة أضرب: الأولى: محذوفة وأضربها ثلاثة: الأول: تام. الثاني: مقصور. الثالث: مثلها. الثانية: مجزوءة صحيحة وأضرابها ثلاثة: الأول: مجزوءٌ مُسَبَّغٌ. الثاني: مثلها. الثالث: مجزوءٌ محذوف. السَّريعُ: بَحْرٌ سريعٌ مَا لهُ ساحلُ ... مستفعلن مستفعلن فاعلو (¬1) أعاريضه أربعة وأضْرُبه ستة: الأولى: مطويَّة مكسوفة، وأضربها ثلاثة: ¬

_ (¬1) قال المعلمي في حاشية على كلمة (فاعل): "أصله مفعولاتُ وهذه العروض والضرب مطويان مكسوفان.". قلت: في ديوان الحلي: (فاعلُ) وجعلها المعلمي كما رأيت (فاعلو) بالإشباع وكلاهما صواب.

الأول: مطوي موقوف. الثاني: مثلها. الثالث: أصلم. الثانية: مخبولة مكسوفة، وضربها مثلها يصير (مفعولات) به (مَعُلا). الثالثة: موقوفة مشطورة وضربها مثلها. الرابعة: مكسوفة مَشطورة. المنسرح: مُنْسرحٌ فيه يُضْرب المَثَلُ ... مستفعلن مفعولاتٌ مستفعلو وأعاريضه ثلاثة كأضربه: الأولى: صحيحة وضربها مطويٌّ. الثانية: موقوفة منهوكة، وضربها مثلها وبيته: * صَبْرًا بني عبد الدَّار (¬1) * ¬

_ (¬1) لهند بنت عتبة - رضي الله عنها - قالتها في غزوة أحد كما في سيرة ابن هشام (3/ 68) برواية: * ويهًا بني عبد الدار* وبعده: ويها حماة الأدبار ... ضربًا بكلِّ بتّار وانظر: "حاشية الدمنهوري الكبرى" (ص 96).

الثالثة: مكسوفة منهوكة وضربها مثلها، وبيتُه: * ويل امِّ سعدٍ سَعْدا (¬1) * الخفيف: يا خفيفًا خفَّتْ به الحركاتُ ... فاعلاتن مستفع لن فاعلاتُ أعاريضه ثلاثة، وأضربه خمسة: الأولى: صحيحة، لها ضربان: الأول: مثلها، ويلحقه التشعيث - جوازًا - وهو: تغيير (فاعلاتن) إلى زِنَةِ (مفعولن). الثاني: محذوف. الثانيةُ: محذوفة وضربها مثلها. الثالثة: مجزوءة صحيحة، ولها ضربان: الأول: مثلها. الثاني: مجزوء مخبون مقصور. المضارع: تُعَدُّ المضارعاتُ ... مفاعيلن فاع لاتُ (¬2) ¬

_ (¬1) من كلام أم سعد بن معاذ رضي الله عنه. راجع: "العقد الفريد" (6/ 300)، و"حاشية الدمنهوري الكبرى" (ص 96). و"الكافي" للتبريزي (ص 104). (¬2) كتب فوق هذه الكلمة حاشية: "مجزوءٌ وجوبًا لأنَّ أجزاءه مفاعيلن فاعلاتن مفاعيلن".

عروضه واحدةٌ صحيحة، وضربها مثلها بيتُه: دعاني إلى سُعَادا ... دواعي هوى سُعَادا (¬1) المقتضب: اقتضب كما سألوا ... مفعولاتُ مفتعلو (¬2) عروضه واحدة مطويّة، وضربها مثلها، وبيته: أقبلتْ فَلاحَ لها ... عارضانِ كالسَّبَجِ (¬3) ¬

_ (¬1) البيت في العقد الفريد لابن عبد ربّه (6/ 301)، والكافي للخطيب التبريزي (ص 117). بدون نسبة، والبيت في هذه المصادر بجرّ (سعاد). (¬2) في ديوان الحِلّي: (فاعلات مفتعل) وقد كتبها المعلمي أول الأمر كذلك ثم ضرب عليها وكتب (مفعولات)، وكلاهما صواب. وفوق كلمة (مفتعل) كتب: "مجزوءٌ وجوبًا إذْ أجزاءه مفعولات مستفعلن مستفعلن". (¬3) البيت في "العقد الفريد" (6/ 302) برواية: أعِرضت فلاح لها ... عارضان كالبرد وكذا في "العيون الغامزة" (ص 210)، و"الكافي" للتبريزي (ص 120) بلا نسبة، وقد ذكر الدمنهوري في "الحاشية الكبرى" (ص 103) نقلًا عن السجاعي: أن هذا البيت ذكره القشيري في "الرسالة" مع أبيات أخر لرجلٍ أنشدها أمام النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأفاد عن شيخ الإِسلام الأنصاري أنه حديث موضوع. والسبجُ في البيت: الخرز الأسود البرَّاق. وللاستزادة في معرفة هذا الأثر انظر موضوعات ابن الجوزي (3/ 115، 116)، والآلئ المصنوعة (2/ 207)، والاستقامة (1/ 296)، والرسالة للقشيري (ص 507) ط. دار المعارف.

المجتث: إنْ جُثَّتِ الحركاتُ ... مستفع لن فاعلاتو (¬1) عروضه واحدة صحيحة، وضربها مثلها، ويلحقه التشعيث جوازًا: لِمْ لا يعي ما أقولُ ... ذا السَّيِّدُ المأمولُ (¬2) المتَقَاربُ: عن المتقارب قال الخليلُ ... فَعولنْ فعولنْ فعولنْ فعولو له عروضان وستة أضرب: الأولى: صحيحة، وأضربها أربعة: الأول: مثلها. الثاني: مقصور. الثالث: محذوف. الرابع: أبتر. الثانية: مجزوءة محذوفة، ولها ضربان: الأول: مثلها. والثاني: مجزوء أبتر، وبيته: تَعفَّفْ ولا تبئس ... فما يُقضَ يأتيكا (¬3) ¬

_ (¬1) قال المعلمي في حاشيةٍ: "ثم فاعلاتن مجزوء وجوبًا". (¬2) البيت بلا نسبة في "الكافي" للتبريزي (ص 124)، و"الغامزة" (ص 214). (¬3) البيت بلا نسبة في "لسان العرب" (4/ 38)، و"الكافي" للتبريزي (ص 133).

المتدارك أو المخترع أو الخبب وطرد الخيل والمحدث: حَركاتُ المحْدَثِ تَنْتَقِلُ ... فَعِلن فَعِلن فَعِلن فَعِلو له عروضان وأربعةُ أضرب: الأولى: تامة وضربها مثلها. الثانية: مجزوءة صحيحة، وأضربها ثلاثة: الأول: مجزوء مخبون مُرَفَّل. الثاني: مجزوء مُذَالٌ. الثالث: مثلها، والخبن فيه حَسَنٌ، وبيته: كُرةٌ طُرِحَتْ بصوالجةٍ ... فتلقَّفها رَجُلٌ رَجُلُ (¬1) والقطع في حَشْوهِ جائزٌ، وبيتُه: ما لي مال إلا درهمْ ... أو برذوني ذاك الأدهَمْ (¬2) وقد اجتمعا، وبيته: زُمَّتْ إبل للبين ضُحىً ... في غور تهامة قد سلكوا (¬3) ... ¬

_ (¬1) البيت غير منسوب في "متن الكافي" للقنائي، وانظر حاشية الدمنهوري الكبرى" (ص 112). (¬2) البيت بلا نسبة في "متن الكافي"، و"حاشيتي الدمنهوري". (¬3) لم أقف على قائله، والبيت في متن الكافي، وانظر كلام الدمنهوري عليه في "حاشيته الكبرى" (ص 113).

خاتمة في ألقاب الأبيات ونحوها

خاتمة في ألقاب الأبيات ونحوها التام: ما استوفى أجزاء دائرته من عروضٍ وضرب بلا نَقْصٍ، كأوّل الكامل والرَّجز. والوافي في عُرفهم: ما استوفاها منهما بنَقْصٍ كالطويل. والمجْزوء: ما ذهب جُزْءا عروضه وضَرْبه. والمشْطورُ: ما ذهب نصفه. والمنْهُوكُ: ما ذهب ثلثاه. والمُصْمتُ: ما خالفت عروضُه ضَرْبَه في الرَّوِيِّ. والمصرَّع: ما غُيَّرتْ عروضه للإلحاق بِضَربه بزيادةٍ أو نَقْصٍ. والمُقفَّى: كل عروض وضَرْب تساويا بلا تغيير. والعروضُ - مؤنَّثَةٌ -: وهو آخرُ المِصْراع الأول، وغايتُها في البحر أربعٌ كالرَّجز، ومجموعها أربعٌ وثلاثون. والضَّرْب - مُذَكَّرٌ -: وهو آخر المصراع الثاني، وغايتُه في البحر تسعةٌ كالكامل، ومجموعُه ثلاثةٌ وستون. الابتداءُ: كلُّ جزء أوّل بيتٍ أُعِلَّ بعِلَّةٍ مُمتَنِعَةٍ في حَشْوِه كالخرم وهو (¬1): ¬

_ (¬1) أي: الخرم، وهذه من حاشية الدمنهوري، انظر (ص 126).

حذف أول الوتد المجموع، ويجوز دخوله (¬1) في الطويل والمتقارب والوافر والهزج والمضارع. والاعتماد: كل جزءٍ حَشْويٍّ زُوحف بزحافٍ غير مُخْتصٍّ به كالخبن. والفَصْل: كل عروضٍ مخالفةٍ للحَشْوِ صحةً واعتلالًا كـ (مفاعلن) عروض الطويل، و (فعلن) عروض البسيط فإنَّ القبْضَ يلزم الأولى، والخبن يلزم الثانية، ولا يلزمان الحشو، وكـ (مستفعلن) عروض المنسرح للزومها الصحة والاعتلال وهي عدم الخبل، ولا تلزم الحشْو (¬2). والغايةُ في الضَرْب كالفَصْل في العروض. والموفورُ: كل جُزْءٍ حَشْويٍ سَلِمَ من الخرْمِ مع جوازه فيه. والسَّالمٌ: كل جُزْءٍ حَشْويٍّ سلم من الزَّحاف مع جوازه فيه. والصَّحيحُ: كل جُزْءٍ لعرَوضٍ وضَرْبٍ سَلِمَ مما لا يقع حَشْوًا كالقصْر والتذييل. والمُعَرَّى: كلُّ ضَرْب سَلِمَ من علل الزيادة مع جوازها فيه كالتذييل. ... ¬

_ (¬1) في المخطوط (دخول) والتصويب من الحاشية. (¬2) من قوله: كـ (مفاعلن) إلى هنا مأخوذ من حاشية الدمنهوري.

العلم الثاني وهو علم القوافي

العلم الثاني وهو علم القوافي وفيه خَمسةُ أقسام: الأولى: القافية: وهي: من آخر البيت إلى أوَّلِ مُتَحرِّكٍ قبل ساكنٍ بينهما، يعني: أنَّ القافية عبارة عن الساكنين اللذين في آخر البيت مع ما بينهما من الحروف المتحرّكة، ومع المتحرك الذي قبل الساكن الأول (¬1). وقد تكون (¬2) بعضَ كلمةٍ، وكلمةً وبعضَ أخرى، وكلمتين. الثاني: حروفها وهي ستةٌ: فرويُّها مَعْ وَصْلِها وخُروجِها ... والرِّدْفُ والتأْسِيسُ ثُمَّ دَخيلُها (¬3) وأعظمُها (¬4) الرَّويُّ وهو: حرف بُنيتْ عليه القصيدة، ونُسِبَتْ إليه. وثانيها: الوصْلُ: وهو حرفُ لِينٍ ناشئٍ عن إشباع حركة الرّوي أو هاء تليه. ثالثها: الخروجُ: وهو حرف ناشئٌ عن حركة هاء الوصل. ¬

_ (¬1) من قوله: يعني ... إلى هنا من حاشية الدمنهوري (ص 129). (¬2) أي: القافية. (¬3) هذا البيت لم أجده في أصل الكافي ولا في حاشيتيْ الدمنهوري ولا في غيرها من كتب العروض، ولا يبعد أن يكون من نظم المعلمي رحمه الله. (¬4) في متن الكافي: (أوَّلُها).

رابعها: الرِّدفُ: وهو حرفُ لينٍ (¬1) قبل الرَّوي. خامسها: التأسيسُ: وهو ألف بينهُ وبين الرَّويِّ حرفٌ يكون من كلمةِ الرَّوي وغيرها. سادسها: الدخيل: وهو حرفٌ مُتَحرِّكٌ بعد التأسيس. الثالث من الأقسام حركاتها ستٌّ: إن القوافي عندنا حركاتُها ... ستٌّ على نَسَقٍ بهنَّ يرادُ رسٌّ وإشباعٌ وحَذْو ثُمَّ تَوْ ... جيهٌ ومَجْرىً بعده ونفادُ (¬2) رسٌّ: حركة ما قبل التأسيس. إشباع: حركة الدخيل. حذو: حركة ما قبل الرّدف. توجيه: حركة ما قبل الرَّوي المقيّد. مجرى: حركة الرّوي المطلق. نفاد: حركةُ هاء الوصل. ¬

_ (¬1) في متن الكافي (مدٍّ) بدل (لين) وغيَّرها المعلمي بناءً على ما نبَّه عليه الدمنهوري حيث قال في حاشيته (ص 149) "الأولى أن يقول: وهو حرف لين أعمّ من أن يكون حرف مدٍّ أولا كما تقدّم". (¬2) هذان البيتان لا يوجدان بالأصل المختصر منه وهو "متن الكافي" ولا في "حاشيتيه" للدمنهوري، وهما لصفي الدين الحلّي كما في ديوانه (ص 620)، وفيه (يلاذ) مكان (يراد)، و (ونفاذ) بالذال المعجمة، وهذه الأخيرة فيها الوجهان كما ذكره الدمنهوري في "حاشيته الكبرى" (ص 155).

تنبيه

الرابع من الأقسام أنواعها تسعٌ: ستة مطلقةٌ مُجرَّدةٌ مَوْصولةٌ باللِّينِ أو بالهاء، ومَرْدوفةٌ موصولةٌ باللِّين أو بالهاء، ومُؤَسَّسةٌ موصولة باللِّين أو بالهاءِ، وثلاثةٌ مقيَّدة: مجرَّدةٌ ومردوفة ومؤسسة. وتنقسم القافية إلى خمسة أقسام ذُكرتْ في قوله (¬1): حَصْرُ القوافي في حدودٍ خمسةٍ ... فاحفظ على الترتيبِ ما أنا واصفُ مُتكاوِسٌ مُتراكبٌ مُتَدارِكٌ ... مُتَواترٌ مِنْ بَعْدهِ المترادفُ متكاوسٌ: أربع حركات بين الساكنين. متراكبٌ: ثلاث. متدارك: حركتان. متواترٌ: حركةٌ. المترادف: مجتمعُ الساكنين. تنبيهٌ: الوتدُ المجموع إذا كان آخر جُزْءٍ جاز طيُّهُ كجزء مجزوء البسيط، وجزءِ الرَّجز، وخَزْلُهُ أي: طيُّهُ مع إضْمارِه كالكامل أي: جزءه، أو خَبْنُهُ كجُزْءِ الرَّمَل، وجُزْءِ كامل الخفيفِ المحْذُوفيْ الضربِ. ¬

_ (¬1) لم أجد البيتين ولا قائلهما في متن الكافي، ولا في حاشيتيْه ولعلها من نظم المعلمي رحمه الله تعالى.

والمتدارَك (¬1) جاز اجتماع المتدارك والمتراكب، أو خَبْلُه كجزء مجزوِّ البسيط، وجزء الرَّجز مطلقًا. جاز اجتماع المتكاوس مع الأوَّليْن، نعني بالاجتماع أي: في القصيدة الواحدة، وإنَّما جاز ذلك؛ لأنَّ هذه الزَّحاف غيرُ لازمة. الخامس من الأقسام عيوبُها وهي: الإيطاء: وهو إعادةُ كلمة الرَّوي لفظًا ومعنىً ما لم تَفْصِلْ بينهما سبعةُ أبيات فأكثر، أو يختلفا بتعريفٍ وتنكير. والتَّضْمينُ: وهو تعليق البيتِ بما بعده. والإقْواءُ: وهو اختلاف المجْرى بكسْرٍ وضمّ. والإصرافُ: وهو اختلاف المجرى بفتحٍ وغيره. والإكفاءُ: اختلاف الرَّوي بحروفٍ متقاربة المخارج. والإجازةُ: وهي اختلافه بحروفٍ متباعدة المخارج. والسِّنادُ: وهو اختلاف ما يُراعى قبل الروي من الحروف والحركات وهو خمسة: سناد الرِّدف: وهو ردف أحد البيتين دون الآخر كما في: ¬

_ (¬1) في متن الكافي: (والخبب) وهو من أسماء المتدارك، لكن المعلمي آثر بما في الحاشية بتفسيره بـ (المتدارك). انظر حاشية الدمنهوري الكبرى (ص 165).

"ولا توصِهِ"، "ولا تَعْصِه" (¬1) وسنادُ التأسيس: (اسْلمي) و (العالمِ) (¬2). وسناد الإشباع: وهو اختلاف حركة الدخيل كما في: (غَائِرِ) و (التغاور) (¬3) وسناد الحذو: وهو اختلاف حركة ما قبل الرّدف كما في: (عين) ¬

_ (¬1) هاتان الكلمتان من بيتين اختلف في نسبتهما فقيل لحسان بن ثابت - وليسا في ديوانه -، وقيل للزبير بن عبد المطلب، وقيل: لعبد الله بن معاوية بن جعفر، وقيل لصالح بن عبد القدوس، وفي بعض المصادر بلا نسبة. راجع: "العمدة" لابن رشيق (1/ 251)، و"طبقات فحول الشعراء" للجمحي (1/ 246)، و"حاشية الدمنهوري الكبرى" (ص 175). (¬2) هاتان الكلمتان من أبيات للعجاج إحداها في قوله مطلع القصيدة: يا دار سَلْمى يا اسلمي ثم اسلمي ... بسمسم أوعن يمين سمسمِ والثانية من قوله في القصيدة نفسها: مبارك للأنبياء خأتمِ ... فخندفٌ هامة هذا العألم انظر ديوانه (ص 234) و (240) ط صادر. (¬3) الكلمتان من بيتين مختلفين للنابغة الذبياني يمدح فيها بني عذرة أمَّا الأولى ففي قوله: همُ طردوا عنها بليًّا فأصبحت ... بليٌّ بوادٍ مِنْ تهامة غائرِ والثانية في قوله: وهم منعوها من قضاعة كلها ... ومن مضر الحمراء عند التغاور انظر "مختار الشعر الجاهلي" (1/ 188)، و"حاشية الدمنهوري الكبرى" (ص 176).

- بكسر العين المهملة - و (غين) (¬1) بفتح المعجمة. وسناد التوجيه: وهو اختلاف حركة ما قبل الرَّوي المقيَّد كما في قوله: وقائم الأعماق خاوي المخْتَرقْ ... ألَّفَ شتَّى ليس بالراعي الحَمِقْ شذَّابةً عنها شَذَى الرُّبعِ السُّحُقْ (¬2) وهو بأنواعهِ (¬3) والأوَّلان (¬4) جائزةٌ للمولَّدين، بل قال الأخفش (¬5): "إنَّه ليس بعيب" يعني: السِّنادَ، وأمَّا الباقي فلا يجوزُ للمولَّدين (¬6). ¬

_ (¬1) الكلمتان من بيتين لرجلٍ من بني تغلب وهما: لقد ألج الخباء على جوارٍ ... كأنَّ عيونهن عيون عين كأني بين خافيتي عقاب ... نريد حمامةً في يوم غين والغين لغة في الغيم. انظر الأبيات في "تهذيب إصلاح المنطق" للتبريزي (1/ 81)، و"الصحاح" للجوهري (6/ 2175). (¬2) هذه الأشطار لرؤبة بن العجَّاج في ديوانه (ص 104). (¬3) أي: السناد وأنواعه الخمسة. (¬4) أي: الإيطاء والتضمين. (¬5) سعيد بن مسعدة المجاشعي البلخي ويقال له الأخفش الأوسط سكن البصرة، قرأ النحو على سيبويه وكان أسنَّ منه، ولم يأخذ عن الخليل، وكان معتزليًّا، وله رواية، وكان أبرع أصحاب سيبويه، له كتاب: الأوسط، ومعاني القرآن وغير ذلك، توفي سنة (215 هـ). انظر: البلغة للفيروز آبادي (ص 104). (¬6) راجع "حاشية الدمنهوري الكبرى" (ص 166) و (178).

واللهَ نَسْألُ حُسْنَ الخِتَامِ، وعلى نبيِّه وآله وصَحْبِه أفْضَلُ الصَّلاة والسلام، والحمد للهِ ربِّ العالمين ذي الجَلال والإِكْرام. تمَّتْ ***

نظم بحور العروض

نظم بحور العروض

طوِّلْ كلامَكَ في البحور ومُدَّها ... وابْسُطْ تَفُزْ فيما ترومُ بِبَسْطةِ وفِّرْ بَيانَكَ فيه وائتِ (¬1) بكاملٍ ... يا كاملًا قَدْ نال أَوْفَرَ حِصَّةِ ¬

_ (¬1) في الأصل: "واعنَ بكاملٍ ... " فضرب عليها وكتب فوقها .. "وائت ... ".

وإذا ترى أرْجَازَها فارْمُلْ ولا ... تَهْزَجْ وصرِّحْ بالبيانِ وثَبِّتِ بِسَريعِ مُنْسَرحٍ خَفيفٍ ضَارِعَنْ ... أشْعَارَها فإذا اقْتَضَبْتَ اجْتُثَّتِ

قَارِبْ ودَارِكْ بالصَّلاةِ (¬1) مُسلِّمًا ... أبدًا على طه النَّبيِّ المُخْبِتِ ¬

_ (¬1) في الأصل المخطوط: "ما استطعت مسلّمًا" فضرب عليها وجعل مكانها: "بالصلاة مسلمًا".

ملحق (فوائد وتدقيقات لغوية من تعليقات الشيخ المعلمي على "المعاني الكبير" وغيره)

ملحق فوائد وتدقيقات لغوية من تعليقات الشيخ المعلمي على "المعاني الكبير" وغيره

كتاب "المعاني الكبير" لابن قتيبة

بسم الله الرحمن الرحيم كان المعلِّمي رحمه الله تعالى يميز تعليقاته من تعليقات غيره بحرف (ع) عندما يختتمها أو بحرف (ي) أو يجمع بينهما، وكان يرمز بحرف (ح) كثيرًا، وقد اخترنا من هذه التعليقات ما له فائدة وصلة بالموضوع (¬1)، وتركنا الباقي للقارئ. كتاب "المعاني الكبير" لابن قتيبة: * في (ص 68) هامش (6): قال كرنكو: "رَفَه (بفتح أوله وثانيه) الوَبْل عنهَ. أي: زال عنه، دَجَن أي: غشيه غيم" اهـ. قال المعلمي: "وفي اللآليء (رُفِّه) بضم فتشديد مع كسر، والأشبه أن يكون بفتح فتشديد معَ فتح، والترفيه عن الشيء: التنفيس عنه كما في المعاجم" اهـ. * وفي (ص 107) هامش (4): قال: "أوال: جزيرة في بحر البحرين ضبطها ياقوت بالضم، والبكريُّ بالفتح، وكذا وجدته في النقائض وغيره من المواد" اهـ. * وجاء في (ص 112) هامش (2): قال المعلمي: "في النقل: ظؤر بضم ففتح بلا تشديد ولا يستقيم به الوزن، وفي الأمالي بالتشديد ولم أجده في المعاجم، وفي العيون: (أظؤر) ولا غبار عليه" اهـ. ¬

_ (¬1) ربما تصرَّفنا في الكلام تصرفًا يسيرًا إذا كان فيه طول واختصرنا منه ما يفيد.

* وفي (ص 188) هامش (8) عند قول ابن قتيبة: "كحمامة يهدد في صوته ... إلخ". قال المعلمي: "في النقل (تهدهد) ويرده السياق، والحمامة يطلق على الذكر والأنثى" اهـ. * وفي (ص 201) هامش (5) قال كرنكو: "كتب في الأصل فوق القاف (معًا) " اهـ. قال المعلمي: "يعني أنه يصح النصب والجر وكذا حال نظائره الآتية لكن الرواية الجرُّ، بدليل قوله فيما يأتي: (وذيل)، (ومعتمد) " اهـ. * وفي (ص 205) هامش (3) عند قول الشاعر: وقلنا له هل ذاك فاستغن بالقرى قال المعلمي: "إنْ لم يقع هنا تصحيف فكأنَّ التقدير: "هل ذاك مغنيك" فحذف (مغنيك) لدلالة (فاستغن) " اهـ. * وفي (ص 209) هامش (2) عند قول الشاعر: كلانا مضيع لا حراثة ... إلخ قال المعلمي: "في الخزانة عن هذا الكتاب: (لا خزانة)، وأظنه تصحيفًا". * وفي (ص 223) هامش (2) قال كرنكو: "وفي شرح البطليوسي قال: سمعت أبا عمرو الشيباني يسأل يونس بن حبيب فقال: هكذا". قال كرنكو: "لعل هذا خطأ من البطليوسي لأن أبا عمرو كوفي، وابن حبيب بصري" اهـ. فتعقبه المعلمي بَذكر حادثة فيها معاصرة لا تمنع اللقاء بين كوفي

وبصري، فقال: "قد سمع أبو عمرو الشيباني من أبي عمرو بن العلاء البصري - كما في التهذيب -" اهـ. * وفي (ص 270) هامش (6) عند قول الشاعر: بالنفس بين اللُجَم العواطس قال كرنكو: "شكل في الأصل بضمتين في المواضع كلها، والذي في معاجم اللغة: بفتح الجيم" اهـ. قال المعلمي: "أقول ملخص ما في المعاجم أنَّ اللجم: بفتح اللام والجيم ما يتطير به وكصُرد وقُفْل: دويبة وذكر صاحب القاموس الثلاثة، وقال شارحه عَقِب كلٍّ منها: "جمع لجمة" وراجع اللسان" اهـ. * وفي (ص 271) هامش (3) قال كرنكو عند كلمة (لجم) أيضًا: "شكل في الأصل بضم بتشديد، والمشهور في الواحد اللجم بضم ففتح بلا تشديد، وفي الجمع بضم اللام والجيم" اهـ. قال المعلمي: "أقول راجع ما تقدم قبل، وراجع اللسان، والذي يظهر أن مَن قال في هذا (لجم) بضمتين إنما أراد (لُجْم) بضم فسكون فثقَّل، فأمّا (لجم) بضم اللام والجيم أصالة فهو جمع لجام" اهـ. * وفي (ص 296) هامش (1): قال كرنكو: "بالأصل: (حَجِل) بتقديم الحاء وكذا في التفسير" اهـ. قال المعلمي: "أقول: ويأتي في التفسير أنه جمع (جحل)، وفي معاجم اللغة ضبط الجحل بفتح فسكون وأنّ جمعه (جحول) فلعل الكلمة في

البيت بضم الجيم والحاء تخفيف جحول كما خفف بعضهم (النجوم والحلوق والخطوب) راجع الأشباه والنظائر النحوية الطبعة الثانية (1/ 170) " اهـ. * وفي (ص 303) حاشية رقم (1) بلغت نصف صفحة حقق فيها عن بيتين نُسِبَا للعرندس، والأخطل وأجاد في التعليق فراجعه. * وفي (ص 305) هامش (2) عند قول الشاعر: تسمع للجن فيه زيز يزما قال: "ذكر أصحاب المعاجم (زي زي) بكسر الزاي وسكون الياء، وذكروا عن ابن الأعرابي: (زيزيم) كما في بيت رؤبة بكسر أوله وفتح ثالثه، ولم يذكروا: (زيزيزم) نصًّا إلا أنَّ في خطبة الصناعتين (ص 3): " ... كما فعل ابن جحدر في قوله: حلفت بما أرقلت حوله ... همرجلة خلقها شيظم وما شبرقت من تنوفية ... بها من وحي الجن زيزيزم وأنشده ابن الأعرابي ... " وراجع نقد الشعر ص: (65 - 66) " اهـ. * وفي (ص 311) هامش (4): عند قول الشاعر: من آجن الماء محفوفًا به الشَّرَعُ قال كرنكو: "بالأصل: محنوفًا به السَّرع" والإصلاح من اللسان (10/ 44) لعل المراد: (مخنوقًا) والله أعلم" اهـ. قال المعلمي: "أقول الذي في اللسان صحيح يريد الشاعر أنَّ القطا

يردن الماء، وقد نصبت حوله الشرع وهي الأشراك فكان الوجه أن يقول: "محفوفًا بالشرع" كما يقال: "الجنة محفوفة بالمكاره" ولكنه قلب" اهـ. * وفي (ص 324) هامش (2) عند قول الشاعر: مدبوغة لم تمرَّح قال كرنكو: "أول البيت: "غدت في رعيل ذي أداوي منوطة ** بلباتها"، وأنشده القالي (2/ 269) لرجل من غني، وروي "مربوعة لم تمرّخ" بالخاء، ولكن رواه صاحب لسان العرب (2/ 428) مع بيت آخر على روي الخاء بلا شك، فلا أدري أسرق الطرماح هذا البيت أم يكون من مصنوعات الأصمعي" اهـ. قال المعلمي متعقبًا عليه بكلام يدل على رسوخ في التحقيق وسعة اطلاع على المصادر بقوله: "أقول الذي في الأمالي بيتان هذا أحدهما والقافية خاء معجمة قطعًا، والذي في اللسان (3/ 429) البيت وحده والقافية حاء مهملة حتمًا؛ لأنه في مادة (م ر ح) شاهدًا على التمريح، لكن في المزهر (2/ 149) فيما استدركه الزبيدي على كتاب العين "مرحت الجلدَ: دهنته، قال الطرماح ... " وذكر البيت قال الزبيدي: "وإنما هو مرخت الجلد بالخاء المعجمة، والبيت من قصيدة قافيتها على الخاء المعجمة وبعده ... " فذكر البيت الثاني بنحو ما في الأمالي، وظاهر القصة في الأمالي أن الأصمعي سمع البيتين من قائلهما الغنوي فيكون هذا الغنوي هو السارق لأنه متأخر عن الطِّرِمّاح، فالبيت بقافية الحَاء المهملة للطرماح وبالخاء المعجمة لذاك الغنوي، والأصمعي ثقة لا يتَّهم في مثل هذا، وقد يكون

البيت للغنوي، ولكن بعض الرواة أدرجه في قصيدة الطرماح لشبهه بها، وغيَّر قافيته والله أعلم" اهـ. * وفي (ص 328) هامش (3) عند قول لبيد: كحزيق الحبشيين الزُّجُل قال كرنكو: "لم أجد البيت في ديوانه، والعجز في اللسان (13/ 322) وروى الزجل بضم ففتح وفسَّره بأنه جمع زجلة بمعنى القطعة، والصواب أنه جمع زَجِل، أي: الذي يرفع صوته" اهـ. قال المعلمي: "أقول: لم أجد في المعاجم هذا الجمع ولا هو بقياس، والبيت بكماله في اللسان (ح ز ق) لكنَّ صدره: (ورقاق عصب ظلمانه) " اهـ. * وفي (ص 349) هامش (1) عند قول أبي النجم: ونَسْيَ ما يذكر ... إلخ قال المعلمي: "شكل في النقل بكسر السين وهو الأصل لكن لا يستقيم الوزن إلا بالتسكين، ومثله جائز في لغة كثير من بني تميم، وأبو النجم تميمي، وقد روي عنه نحو هذا التخفيف. راجع كتاب سيبويه (2/ 257)، وأدب الكاتب للمؤلف (ص 412) " اهـ. * وفي (ص 349) هامش (3) عند قول الشاعر: ... يفري الجلد من أنسائه قال المعلمي: "شكل في النقل على أنه فِعْل ومفعول، والظاهر أنه فِعْل ونائب فاعله - كما جرى عليه في التفسير" اهـ.

* وفي (ص 356) هامش (4) عند قول ابن قتيبة: "وقال لقريش: فقابئة ما نحن غدوا وأنتم ... بني غالب إن لم تفيئوا وقوبها" قال المعلمي - يحرر مسألة في النسب ويعترض على ابن منظور في فهمه للبيت - قال: "يريد - أي الشاعر - غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة، وفي الجمهرتين: "بني عبد شمس أن تفيئوا"، وبنو عبد شمس من قريش، ووقع في اللسان: "بني مالك" فالمراد به مالك بن النضر بن كنانة، ولكنَّ صاحبَ اللسان فَهِمَ غيرَ ذلك فقال: "يعاتبهم على تحولهم بنسبهم إلى اليمن" فَهِم أن المراد قضاعة وهو خطأ: أولاً: لأنَّ سياق القصيدة يوضح أنه يخاطب قريشًا. الثاني: أن نسَّابي مضر يقولون في قضاعة: إنَّه ابن معدّ بن عدنان، وإنَّما تزوج أمّه مالك بن مرة بن زيد بن مالك بن حِمْيَر فنسب إليه، ونسَّابوا اليمن يقولون: إنَّه ابن مالك المذكور حقيقةً، فكيف يقول الكميت لقضاعة في صدر تثبيت أنهم من عدنان: (بني مالكٍ؟) " اهـ. * وفي (ص 367) هامش (2) عند قول الكميت: ومرصوفة لم تونِ في الطبخ طاهيًا قال المعلمي: "في النقل: (تؤن) وهكذا في اللسان، وهو في اللسان صحيح لأن الكلمة عنده من ترتيب (أن ي) ولذلك أورد البيت فيها (18/ 51) قال: "آناه يؤنيه ايناءً أي: ... قال الكميت ... " فأمَّا المؤلف فهي عنده من تركيب (ون ي) - كما يأتي - فأصلُ كتابتها (تون) بلا همزٍ مثل توصي" اهـ.

* وفي (ص 367) هامش (4) على نفس هذا البيت عند قول ابن قتيبة: لم تون: لم تحبس: "شكل في النقل على أنه مبني للمفعول - فتأمل، وفي التاج (غ ر ر): "هذا على القلب أي: لم يؤنها الطاهي". أقول: ولا أرى حاجة إلى القلب لأنه إذا أخرها وحبسها فقد أخرته وحبسته، فأمَّا على رأي المؤلف أن (توني) من الونى فالأمر أوضح؛ لأن الونى هو التعب والفتور، وهو إنَّما يلحق الطاهي. اهـ. * وفي (ص 382) هامش (5) عند قول ابن قتيبة: فهم ينهون غيرهم عن مثل ما نزل بهم اهـ. قال المعلمي: "كذا وينهون في البيت ليست من النهي بمعنى المنع والزجر، بل هي بمعنى الشبع والاكتفاء - كما مرَّ - ومثله في اللسان، فالوجه أن المعنى يصدرون أو يستغنون أو يعجزون عن أكل وعن شرب" اهـ. * وفي (ص 399) هامش (1) عند قول الشاعر: يهل ويسعى بالمصابيح حولها قال كرنكو: "في النقل تبعًا للسان (نهل ونسعى) وبهامشه "الأصل - يهل ويسعى ولعله هو الصواب" اهـ. قال المعلمي: "أقول ظاهر التفسير يوافق اللسان لكن إذا قرئ: (يهل ويسعى) بالبناء للمفعول استقام ويشهد له قوله في البيت الثاني (يمد) " اهـ. * وفي هامش (3) من الصفحة نفسها قال كرنكو: "في النقل (تهل) وبهامشه: "الأصل يهل" بالبناء للمفعول" اهـ.

قال المعلمي: "والأولى في تصحيحه أن يكون - يهل - بالبناء للمفعول - كما مرَّ -" اهـ. * وفي (ص 409) هامش (3) عند قول الشاعر: يسط البيوت لكي يكون مظنة قال المعلمي: "في اللسان والتاج: لكي تكون (؟) ردية" ولعل الصواب في هذه الرواية: (دريَّة) أو (دريئة) أي: سترة لبقية البيوت في الضيافة لأن بيته بالموضع الذي جرت العادة أن ينزله الضيفان فَيُقْرِيهم فَيدْفَعُ عن بقية البيوت الغرم واللوم" اهـ وهذا تذوُّقٌ أدبيٌّ جميل. * وفي (ص 417) في قول سلامة بن جندل: كنا نحل إذا هبَّت شآمية قال في كلمة (شآمية): "شكل في النقل والديوان بالرفع، وفي المفضليات واللسان (ج د ب) بالنصب وهو الوجه" اهـ. * وفي (ص 424) هامش (6): عند قول الشاعر: قرانا التقيا بعد ما هبت الصبا قال عند (التقيا): "شكلت هذه الكلمة في النقل بفتح فكسر فتشديد، وذكرها صاحب التاج ولم يضبطها، وأحسبها بضمٍّ ففتح فتشديد تصغير (تقوى) " اهـ.

وفي (ص 429) هامش (5) عند كلام ابن قتيبة على بيت للشماخ قال فيه: "كأنه لا مهم على السرف والتبذير ... إلخ". قال المعلمي: "الصواب أنها لم تلمه على إمساك ولا تبذير وإنما لامته على إتعابه نفسه في القيام بإصلاح إبله فاحتجَّ عليها بأن قومها كذلك يصنعون، تأمل سياق القصة وراجع شرح الديوان" اهـ. * وفي (ص 432) هامش (6) عن كلمة (مأموسة) قال كرنكو: "كذا ورد في الأصل، والمعروف في معاجم اللغة بغير همز، وزعموا أنه معرّب، ويروى أيضًا (مأنوسة) بالهمز والنون لعله هو الأصل" اهـ. قال المعلمي: "أقول في اللسان (أن س): (مأنوسة) وفيه (م م س): (ماموسة) وهو في خصائص ابن جني (1/ 422): (مأنوسة) وفي الشعر والشعراء وجمهرة الأشعار والمخصص (11/ 38) (ماموسة) بغير همز لكن في التاج (م م س) عن الصاغاني: "إن كانت غير مهموزة فموضع ذكرها هنا، وإن كانت مهموزة فتركيبه (أم س) " وهذا مجرد احتمال" اهـ. * وفي (ص 440) عند قول ابن قتيبة: "والرباب: العهد وواحده: ربّة". قال كرنكو: "هذا وهمٌ من ابن قتيبة ليس واحد الرباب: ربة، وقد ورد الربابة بمعنى العهد في شعر علقمة، ويقال إنَّه جَمَعَ ربًّا على رباب، ولعل الأصوب الأول" اهـ. قال المعلمي متعقبًا: "أقول الذي يظهر من المعاجم أن الرباب بمعنى العهد: اسم مفرد، وعن أبي علي الفارسي أن جمعه (أربّة)، واستشهاد المؤلف بالبيت الآتي: "كانت أربتهم ... " قد يشعر بأنه وقع في عبارته هنا

تحريف وأنه إنما قال: "والرباب العهد واحد أربة" أو "وهو واحد أربَّة" اهـ. * وفي (ص 441) هامش (2) عند قول الأصمعي: "وما تصنع ثقيف بالخمر وعندهم العنب ولكنه عجب". قال كرنكو: "قد ذكر ابن الكلبي في كتاب المثالب - وعندي نسخة غير كاملة منه - غير واحد من تجار الخمر بالطائف وأن بعضهم كان شريكًا لأبي سفيان في هذه التجارة" اهـ. قال المعلمي: "هذا لا يدفع كلام الأصمعي، فالوجه أن يقال: أراد الشاعر المبالغة في إطراء تلك الخمر فجعلها تجلب إلى الموضع الذي هو من معادن الخمر وهو الطائف ويغالي بها، وإنما يكون ذلك لأنهم لا يجدون فيما عندهم ما يقاربها في الجودة" اهـ. * وفي (ص 446) هامش (8) تحرير جيد وقوي يدل على معرفته بأوهام المعاجم المتأخرة، ففي كلمة وعس من قول الشاعر: ترجع في عود وعس مُرِن يقول المعلمي: "اضطربوا في كلمة (وعس) في هذا البيت، فحاصل كلام المؤلف أنها بمعنى المواعسة أضيف إليه الفاعل، فالقدح يواعس العرف أي: يواليه، وفي الاقتضاب: "يروى الأصمعي - عن عس عود - قال الأصمعي كأنه كان يشرب في قارورة فصيَّرها كأنها عود ... ويروي غيره - عن عود وعس - وقال: أراد قدح زجاج، والزجاج يعمل من الرمل، والوعس: الرمل اللين الموطأ".

وفي اللسان والقاموس قول ثالث - أحسبه من حَدَس ابن سيده في المحكم حدسه من البيت بعد تغيير فيه - ففي اللسان آخر المادة: "والوعس شجر تعمل منه العيدان التي يضرب بها، قال ابن مقبل: رهاوية منزع دفّها ... ترجع في عود وعس مرن وزاد صاحب القاموس فصدَّر المادة بقوله: "الوعس كالوعد شجر تعمل منه البرابط والأعواد"، فَهِموا أنَّ البيت في وصف مغنيّة، وهذا من عيوب هذه المعاجم المتأخرة تورد المحدوسات في معرض المحققات ولم يذكر ابن دريد في الجمهرة ولا الزمخشري في الأساس أنَّ الوعس شجر، والله أعلم" اهـ. * وفي (ص 449) هامش (1) عند قول الشاعر: يا ليت شعري وأنا ذو عجة قال المعلمي: "في النقل: (وأنا) وهو الأصل لكن لا يستقيم الوزن إلا بإبدال الهمزة ألفًا أو حذف الواو، ورواية اللسان: "وأنا ذو غنى"، ثم رأيتُ فيه (ان ن) في الكلام على (أنا) "وقضاعة تمدُّ الأولى: آن قلتُه، قال عدي: يا ليت شعري آن ذو عجة" اهـ * وفي (ص 450) في قول لبيد: تضمَّن بيضًا كالإوز ظروفها قال: "في النقل: (طروفها) بضم الطاء المهملة والفاء، والظاهر بالظاء المعجمة ويجوز ضم الفاء على معنى: "هي ظروفها" وفتحها على البدل أو البيان" اهـ.

* وفي (ص 450) هامش (3) عندما ذكر كرنكو أن ابن قتيبة تبع أبا العباس ابن المبرد في تغيير قافية بيت وأخذه من كتاب الكامل، اعترض عليه المعلمي بقوله: "ولد ابن قتيبة بعد مولد المبرد بسنتين أو ثلاث ومات قبله ببضع عشرة سنة" اهـ. * وفي (ص 461) هامش (4) في تخريج أبيات حرملة بن حكيم الأربعة. قال المعلمي - بعد تعليق كرنكو -: "والأربعة كلها في قطعة في المفضليات 71 ب 1 - 3 و6، وفي المؤتلف للآمدي (ص 157) باختلاف يأتي بعضه، ونسبها المفضل لعبد المسيح بن عسلة، والآخرون لحرملة وهو قول محمد بن حبيب، وأبي محمد الأعرابي كما في الخزانة، وسبب الاشتباه أن كلا الرجلين يقال له: (ابن عسلة)، ولهم ثالث اسمه المسيب وهم إخوة، وعسلة أمُّهم على ما ظنه الآمدي، وجزم به المرزباني في المعجم (ص385) " اهـ. * وفي (ص 462) في قول أبي زبيد: ثم لما رآه رانت به الخمر ... وأن لا يريبه باتقاء قال في لفظة (يريبه): "في النقل: "ترينه" وعلى حاشيته: "بالأصل زانت ... يزينه" وكذا وقع (ترينه) في اللسان والتاج (ر ي ن) وكل ذلك تحريف، والصواب ما في الأغاني (11/ 24): "يريبه" ويعيّنه تدبر المعنى إذا المعنى: "أن المضيف لما رأى الضيف قد غلبت عليه الخمر وأنه لا يريبه باتقاء أقدم عليه فقتله" اهـ.

* وفي (ص 463) هامش (1) عند قول الشاعر: "يالقوم ... إلخ". قال كرنكو: "بالأصل: (بالقوم) " اهـ. قال المعلمي: "وشكل في النقل بكسرة واحدة تحت الميم وكذا في التفسير، وفي شواهد المغني (ص 219): "يالقوم" فإن صح فهو بالتنوين، وفي الخزانة (2/ 153) وشواهد العيني (2/ 157): "يالقومي" وهو واضح" اهـ. * وفي (ص 470) هامش (3) عند قول كعب بن زهير: بجس الندامى تترك اللب زانيا قال المعلمي: "لا يخفى على الناقد نزول هذه القافية عن درجة كعب، فالصواب - إن شاء الله تعالى -: تترك (اللَّب - بفتح اللام أي: اللبيب) رانيا، وفي اللسان (ر ن ا): "الرنو: إدامة النظر مع سكون الطرف ... يقال: ظل رانيًا ... ، والرنو: اللهو مع شغل القلب والبصر وغلبة الهوى" اهـ. * وفي (ص 474) هامش (1) عند قول الشاعر: ووطيد مستعل سيبُه قال المعلمي: "كذا في النقل بهذا الضبط، وفي اللآليء: "ملك سَيْبه مستعمل"، ويفسر المؤلف - أي ابن قتيبة - الوطيد: بالملك، ولم أظفر به لغيره، والذي يقتضيه السياق مع تفسير المؤلف والبكري أن معنى هذا الشطر: وملك متتبع عطاؤه" اهـ.

* وفي (ص 478) هامش (2) عند قول المخبل: وأشهد من قيس حلولا كثيرة قال كرنكو بعد تخريج البيت: "وقال ابن بري: صواب إنشاده (وأشهدَ) بنصب الدال، قال كرنكو: ولكن ورد بالرفع في الشواهد كلها، وكذا أنشده ابن دريد في الجمهرة في عدة مواضع" اهـ. قال المعلمي: "أقول: احتج ابن بري - كما في اللسان (س ب ب) - بأن قبل البيت: ألم تعلمي يا أم عمرة أنني ... تخاطأني ريب الزمان لأكبرا فقوله: (وأشهد) معطوف على (لأكبرا) والنُّسَّاخُ والقُرَّاءُ كثيرًا ما يشكلون الكلمات بما يتبادر إلى الذهن" اهـ. * وفي (ص 487) هامش (8) عند قول الشاعر: إذا طرحت لا تطبي الكلب ريحها قال كرنكو: "بالأصل لا يطبي" اهـ. قال المعلمي: "أقول: ومثله في الخزانة (4/ 147) والذي في اللسان لا تطبي)، وفي البيان والتبيين (3/ 64): (لم تطب) وبالتاء هو الأصل؛ لأن الريح مؤنثة لكن بالياء صحيح أيضًا لأن التأنيث غير حقيقي، والريح هنا بمعنى العَرْف، وقد فصل بينها وبين الفعل فاصل" اهـ. * وفي (ص 491) عند قول الشاعر: وإني إذا ما كان الأمر معلا

قال المعلمي: "ينبغي على هذه الرواية إسقاط الهمزة وفتح اللام من (الأمر) ليستقيم الوزن، والذي في اللسان: "إذا ما الأمر كان" اهـ. * وفي (ص 499) هامش (1) على كلمة النهل قال كرنكو: "شكل في النقل بضمتين وكتب على الهامش: "بالأصل - النهل - بفتح النون والهاء كذا في اللسان" اهـ. قال المعلمي: "أقول: نصَّ أئمة اللغة على أن ناهلًا يجمع على نَهَل بفتح النون والهاء" اهـ. * وفي (ص 499) هامش (ب) عند قول ابن قتيبة: الغني ههنا تتميم في قول الشاعر: ما للفقير والغنيّ طاقهْ ... من صدقات قومه بناقهْ عرَّف التتميم وكشف عن مغزاه في البيت فقال: "التتميم عند علماء البيان: زيادة على أصل الكلام يتم بها حُسن المعنى، فأصل المعنى هنا يتم بأن يقال: "ما للفقير طاقة .... " فزيادة: (والغني) تزيد المعنى حُسْنًا لما فيها من التصريح بعموم الحرمان، وذلك أن حق الصدقة أن تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم، فأراد هذا الراجز الشكوى من ظُلْم العُمَّال أنهم لا يعطون الفقير من صدقات قومه ثم تيمم بذكر الغني دفعًا لما قد يتوهم أن ظُلْم العُمَّال إنما هو بإعطاء من لا يستحق فصرّح بأن ظلمهم هو بأن يأخذوها لأنفسهم فتأمل" اهـ. * وفي (ص 503) عند قول عميرة: فما بهم أن لا يكونوا طروقة ... هجانًا ولكن عفَّرتها فحولها

قال عند كلمة "طروقة": "مثله في المفضليات، والذي في الشعر والعشراء: "أن لا تكون طروقة" وهو الصواب كما يعلم من التفسير، والمراد بالطروقة: الزوجة أو الزوجات - كما يقال للناقة: طروقة الفحل" اهـ. وعند كلمة "هجانا" من البيت قال: "في الشعر والشعراء "كراما" وعليه فالبيت شاهد لمجيء "طروقة" للجمع كما يقال: ناقة حلوبة، وإبل حلوبة". * وفي (ص 508) هامش (6) قال كرنكو في كلمة (شُمُس): "بالأصل (شُمْس) بسكون الميم وهذا خطأ؛ لأنه جمع شموس" اهـ. قال المعلمي: "أقول: ليس بخطأ كما يُعْلَمُ من مراجعة المعاجم وكُتُبِ التصريف، ولكن الضمَّ أتمُّ للوزن" اهـ. * وفي (ص 509) هامش (3) عند قول الشاعر: بمنع الشكر أتأمها القبيل قال ابن قتيبة: "والأتوم: المفضاة" اهـ. قال المعلمي: "أتأمها من (ت أم)، والأتوم من (أت م) لكن لعل اتأم مقلوب عن (آتم) " اهـ. * وفي (ص 513) هامش (2) عند قول ابن قتيبة: "وشربهم إذ ذاك الفضيخ". قال المعلمي: "في النقل (الفضيح) بالحاء المهملة، والصواب بالخاء المعجمة، وهو: شراب يتخذ من البسر، ووقع في اللسان والتاج في مادتي (ف ض ح) و (ف ض خ) تصحيف وكذا في النهاية (ف ض خ)، وحاصل

ذلك أن ابن عمر سُئل عن الفضيخ وهو الشراب، فقال: "ليس بالفضيخ ولكنه الفضوح" فالفضيخ بالخاء المعجمة حتمًا والفضوح بالحاء المهملة جزمًا". فانظر إلى هذا التحرير المتين. * وفي (ص 523) هامش (3) عند قول ابن قتيبة: "وقال الراعي يهجو الحلال" قال كرنكو: "الحلال جدة دارم بن صعصعة وهي الحلال بنت ظالم التغلبية. انظر النقائض (ص 880)، وعاصم هو عاصم بن عبيد بن ثعلبة. انظر فهارس النقائض، ولم يكن عند ابن قتيبة علم بالنسب إذ جعل الحلال رجلاً" اهـ. قال المعلمي: "أقول: بل الحلال هو الحلال ابن عاصم بن قيس النميري. راجع ما تقدم (ص 415) " اهـ. * وفي (ص 545) هامش (9) عند قول الأعشى: بأسحم داجٍ عوض ما نتفرق قال: "في النقل: (ما يتفرق) وفيه في التفسير: (لا يتفرق) والمعروف: (لا نتفرق)، وفي الخزانة (3/ 218): "وجملة لا نتفرق جواب القسم، وجاء به على حكاية لفظ المتحالفين الذي نطقا به عند التحالف، ولو جاء به على لفظ الإخبار عنهما لقال: لا يفترقان"، وفي مغني ابن هشام في بحث (ما): "وإذا نفت المضارع تخلَّص عند الجمهور للحال". قال المعلمي: "وعلى هذا فلا تصح هنا لأن المعنى نفي التفرق في المستقبل" اهـ.

* وفي (ص 552) هامش (4) عند قول الشاعر: ولم يوائم لهم في رتبها ثبجا قال كرنكو: "رواية اللسان: "في ذبها"، ورواية التاج: "في دينها" اهـ. قال المعلمي: "أقول: بل الذي في التاج: "في ذبها" أيضًا، وسيفسر المؤلف الكلمة بقوله: "الإصلاح" ولم أجد الرتب ولا الذب بمعنى الإصلاح، ومما جاء بمعنى الإصلاح (الرأب - والربّ) " اهـ. * وفي (ص 568) عند قول المحاربية: وعلق المنطق منها بذلق ... كلب لها قد عودت مس الخنق قال: "شكل في النقل (علق) بضم العين وتشديد اللام و (بذلق) بفتح اللام (كلب) بالرفع و (عودت) بالبناء للمفعول، والأقرب (علق) بفتح فكسر (بذلق) بكسر اللام (كلب) بالجرّ (عودت) بالبناء للفاعل، والمعنى: أن منطقها سقط فعلق بكلب اسمه: ذلق قد عودته أن تخنقه" اهـ. * وفي (ص 576) عند قول أبي النجم: عيرًا يكد ظهره بالأفوق قال: "شكل في النقل بضم كاف "يكد" وفتح راء "ظهره" أي: أن العير هو يكد ظهره، والصواب - إن شاء الله تعالى - (يكد) بالبناء للمفعول و (ظهره) بالرفع نائب فاعل" اهـ.

* وفي (ص 576) هامش (2) عند قول الشاعر: عيرًا يكد ظهره بالأفوق قال: "ظاهر التفسير أن هذا جمع (فواق) ولم يذكره أهل المعاجم" اهـ. * وفي (ص 579) هامش (2) عند قول الشاعر: إذا أنفض الذهلي ما في وعائه قال المعلمي: "في النقل (انفد) وعلى هامشه: "في الأصل - انفض" قال: وهو صحيح أيضًا قال ابن دريد في الجمهرة (3/ 98): "أنفض القوم زادهم إنفاضًا فهم منفضون: إذا أفنوه". فإنْ قيل: الأكثر يجعلونه لازمًا (انفض القوم: إذا فني زادهم)؟ قلتُ: وعلى هذا يكون الشاعر ضمَّن (انفض) معنى (أفنى أو أنفدَ) اهـ. * وفي (ص 613) هامش (1) عند قول الشاعر: سِخالًا يعاجى بالتراب صغارها قال: "في النقل: "سجالًا، ولم أجد له وجهًا، فأما السخال فأولاد الشاء استعير هنا لأولاد الجراد أو القردان" اهـ. * وفي (ص 613) هامش (4) عند قول الشاعر: ملعونة تسلخ لونًا لونين ... كأنها ملتفة في بردينْ قال المعلمي: "في النقل: "لونًا عن لونين" وكان كتب أولًا: "عن لون" وكتب على الهامش: "بالأصل - عن لونين" ثم صحح على ما في الهامش،

وأقول: هو مخل بالوزن، ولا يمتنع أن يصح "تسلخ لونًا لونين" على تضمين "تسلخ" معنى "تجعل" أو نحوه، وفي المخصص (8/ 172) في صفة الجراد: "ثم تسلخ فتصير فيها جدة سوداء وجدة صفراء ... " وراجعه" اهـ. * وفي (ص 623) هامش (7) عند قول الشاعر: وما ضَرَب بيضاء يسقي ذنوبها قال كرنكو: "رواية الديوان (دبوبها) وفسَّره بنور" اهـ. قال المعلمي: "أقول: في اللسان (د ب ب): "دبوبها" وذكر أنه موضع وذكره ياقوت في معجم البلدان، وقال: إنه موضع في جبال هذيل واستشهد بهذا البيت، قال: ويُرْوى "دبورها" جمع دبر وهو النحل رواهما السكري، أمَّا دبوب بمعنى النور فلم أجده وذكروا أنَّ "الذنوب" موضع هكذا جاء معرفًا في شعر عبيد وبشر الأسديين" اهـ. * وفي (ص 640) عند قول الكميت: وعطفت الضباب أكف قوم ... على فتح الضفادع مرئمينا قال: "شكل في النقل بتخفيف طاء (عطفت) ورفع (الضباب) ونصب (أكف) والصواب: بتشديد الطاء للوزن ونصب الضباب، ورفع (أكف)؛ إذ المعنى: أن أكف قوم جعلت الضباب تعطف على الضفادع وترأمها" اهـ. * وفي (ص 657) هامش (3) عند قول الشاعر: في كل عضو جرذان أو خزز قال المعلمي: "شكل في النقل بكسر الجيم وسكون الراء وتنوين النون

ولا يستقيم الوزن إلا بضم الجيم وفتح الراء وكسر النون بلا تنوين تثنية جرذ" اهـ. * وفي (ص 668) هامش (3) عند قول ابن قتيبة: "وضب السحاء". قال: "بالأصل "السحاء" بفتح السين، والمعروف في كتب اللغة بكسرها" اهـ. * وفي (ص 678) عند قول جرير: يقول المجتلون عروس تيم ... شَوى أم الحبين ورأس فيل قال: "نقل في اللسان (ح ب ن) مثله عن ابن بري لكن رواه قبل ذلك "سوى أم الحبين" وقال: "أراد: سواء فقصر ضرورةً"، وشكل في اللسان بتنوين (سوى) ورفع (أم)، وأرى الصواب بالتخفيف والإضافة، والمعنى: سواءها - أي وسطها - سواء أم حبين، أي: أنها ضخمة البطن وكذلك أم حبين، فأمَّا الشوى فاليدان والرجلان" اهـ. * وفي (ص 679) هامش (4) لما تحدَّث عن كلمة (وهبين) وأفاد أنه حبل من حبال الدهناء وضبط (الحبل) بقوله: بفتح الحاء المهملة وسكون الموحدة ... قال: "وقد كثر في المعاجم وغيرها تصحيف حبل وحبال، بجبل وجبال فليتنبه لذلك" اهـ. * وفي (ص 682) هامش (3) عند قول ابن قتيبة: وقال جرير: وقد يقرض العث ملس الأدم قال كرنكو: "هذا الرجز ليس في ديوانه".

قال المعلمي: "أقول هو من المتقارب" اهـ. * وفي (ص 685) هامش (6) عند قول الشاعر: لا تأمرني ببنات أسفع قال: "شكل في النقل بفتح الراء، والوجه كسرها ليوافق الرواية المشهورة: لا تأمريني، ونقل عن البكري: "أن هذا رجل أمرته امرأته أن يبيع إبله ويشتري غنمًا". * وفي (ص 688) هامش (1) و (2) في قول الشاعر: وسوداء من شاء الموالي سمينةٌ ... يبكَّى عليها أسود الرأس ذيُبها قال عند كلمة: (يبكَّى): "في النقل "يمكو" ولا وجه له" اهـ. وقال عند كلمة (أسود .. إلخ): "قال في النقل: "دبيبها" وهو تحريف، وقوله: "أسود الرأس ذيبها" مبتدأ وخبر" اهـ. * وفي (ص 690) هامش (6) عند قول الشاعر: يدعونني بالماء ماء أسودا قال: "في النقل "أسود" وعلى هامشه: "بالأصل أسودا" أقول: "وهو صحيح على الحكاية" اهـ. * وفي (ص 695) هامش (9) عند قول الشاعر: فلو أنَّ شيئًا فائت الموت أحرزت ... عماية إذْ راح الأرحُّ الموقَّفُ قال: "في النقل (أدراج) وشكل الكلمتين بعده بالجرّ، وإذا كانت قافية

البيت الثاني مرفوعة فالظاهر أنَّ هذا مثله ويستقيم ذلك بما صحّحتُه" اهـ. * وفي (ص 698) هامش (2) في أبيات ابن مقبل التي منها: رخص ظلوفيَّةٌ إلا المنا ضَرَعُ قال: "كذا ولعله: "علوفته إلا المُنى ضرعُ" أي: طعامه أن يضرع إلى أمه فترضعه إلا أن يتمنى تمنيًا إشارة إلى تشمم الطلا للمرعى كأنه يأكل منه" اهـ. وفي قوله: كما حفا الوقف للموشية الصنع قال: "أخشى أن يكون الصواب "حنى" كأنه شبه انعطاف المهاة بحني الصانع للسوار" اهـ. * وفي قول ابن قتيبة: والصنع: الرفيق من الرجال اهـ. قال كرنكو: "في النقل الرقيق (بقافين) من الرحال" بإهمال الحاء، وعلى الهامش: "كذا بالأصل وأظن أن المؤلف أخطأ خطأً فاحشًا فإن الصنع الحاذق من الرجال، والوقف: السوار" اهـ. قال المعلمي: "وقد علمت الصواب، وفي اللسان (رفاق): "والرفيق ضد الأخرق"، وفي تهذيب الألفاظ (ص 166) وامرأة صناع ورجال صنع ونسوة صنع الأيدي وهو الرفيق بالعمل". قال المعلمي: "وما وقع في اللسان والتاج في تفسير الصناع: رقيقة اليدين، تصحيف، والصواب: رفيقة اليدين" اهـ.

* وفي (ص 702) هامش (3) تحرير لغوي نفيس، ففي قول حميد يصف ظَبْيةً: تجود بمدريين قد غاض منهما قال: "في النقل "بمذريين" بإعجام الذال، وكذا في التفسير ويأتي لذي الرمة: "ينحى لها حدّ مذرى"، وكذا يأتي: "بأطراف مذريين لم يتفللا"، وهناك أيضًا للطرماح: "يتقي الشمس بمذريه" وأصلح في النقل في هذه المواضع الثلاثة بإهمال الدال، والمدرى والمدراة - بكسر الميم وسكون الدال المهملة وفتح الراء فيهما - القرن وقد يستعار لغيره، فأمَّا بفتح فسكون فكسر فياء مشددة فلم أجد في المعاجم مادتي (درا) و (ذرا) ما يحل الإشكال حتى رأيت في اللسان (م د ر): "والمدرية (بفتح الدال) رماح كانت تركب فيها القرون المحددة مكان الأسنة، قال لبيد: فلحقن واعتكرت لها مدرية ... إلخ" فتبعه صاحب التاج (م د ر) ثم قال: "قال الصاغاني: والصواب مدْرية - بسكون الدال - أي محددة وموضع ذكره في المعتل" فاستفدنا أنه يقال للقرن ونحوه: "مُدْرى" بصيغة المفعول وبإهمال الدال، لكن وقوع الكلمة في الأصل بنقط الذال في هذه المواضع كلها مشكك، والله أعلم" اهـ. فانظر إلى هذا الجَلَد في البحث والتُّؤَدةِ في التحقق من المسألة. * وفي (ص 704) هامش (1) عند قول الشاعر: فقلت عليَّ الله لا تذعرانها

قال في لفظ الجلالة: "شكل في النقل بكسر الهاء، فإن صح فهو مما شذَّ من إبقاء عمل الجار بعد حذفه" اهـ. * وفي (ص 719) هامش (5) عند قول كرنكو: والهاجن ههنا الخالص اللون مثل الهجين اهـ. قال: "أقول: لم أجد الهاجن بمعنى الخالص اللون" اهـ. * وفي (ص 744) هامش (1) عند قول الكميت: يبحث التُّرب عن كوارع في المشـ ... ـرب لا تُجشم السقاةَ الصفيرا قال: "في النقل: "تجشم (بفتح فسكون) السقاةُ (بالرفع) وهو مخل بالمعنى إذا المعنى أنها لا تكلف السقاة أن يصفروا لها" اهـ. * وفي (ص 774) هامش (2) عند قول ابن قتيبة: "والملاحين: المخاصمين" اهـ. قال المعلمي: "في النقل (الخياطين) وعلى هامشه: "لم أقف على هذا المعنى للملاح" قال رحمه الله: أقول: وأنا فقد تعبت في البحث، وآخر ما تحصل لي هو الذي أثبته اهـ. فانظر إلى قوله: "وأنا فقد تعبت في البحث" يدل على طول أَناةٍ في العلم مع صدق التحرّي، ولعله في بحثه لتلك اللفظة قد أخذ منه وقتًا غير يسير واستنفد جهده وطاقته - رحمه الله - من أجل البحث عن الحقيقة. * وفي (ص 796) هامش (2) عند قول ابن قتيبة: "يقول هو الذي حذَّلها وأبكاها ... ".

قال المعلمي: "لم أجد حذَّل بمعنى أحذل في معاجم اللغة". * وفي (ص 819) هامش (2) عند قول ابن قتيبة: وقال حكيم بن معيَّة: إني إذا ما طارت الزنابر ... ولقحت أيديها عواسر قال المعلمي: "حكيم بن معية راجز إسلامي كان في زمن جرير كما في الأغاني (7/ 44) والخزانة (2/ 311) ولم أجد رجزه هذا ولا أثق بضبطه ولا يبعد أن يكون: "إني إذا ما طارت الذبائر" أي: الصكوك المذبورة أي: المكتوبة يقدمها الخصوم عند المخاصمة ويرفعون أيديهم بها "ولُقِّحت (بضم وتشديد بكسر) أيديها" أي: بالصكوك" اهـ. * وفي (ص 843) هامش (9) عند شرح ابن قتيبة لبيتي النابغة: فإن كنت لا ذا الضغن عنّي منكلا ... ولا حلفي على البراءة نافع حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وهل يأثمن ذو أمّةٍ وهو طائع قال المعلمي: "قول النابغة: "حلفت ... " البيت متقدم على قوله: "فإن كنت ... " وبعد هذا: "ولا أنا مأمون ... " البيت، وبعده: "فإنك كالليل ... " وهذا جواب قوله: "فإن كنت" وقوله: "فلم أترك لنفسك ريبة" يحتمل وجهين: الأول: لم أترك لنفسك ريبة في اليمين فإنني أبلغت فيها وصرحت. الثاني: أنه خبر عما يجب لا عما وقع كأنه قال: حلفت وأنا ذو دين فينبغي أن لا تبقى في نفسك ريبة" اهـ.

* وفي (ص 844) هامش (1) عند قول ابن قتيبة في الأبيات السابقة: قال بعضهم (لا) في قوله: "ولا حلفي" حشوٌ. اهـ. قال المعلمي: "ليس هذا بشيء". * وفي (865) عند قول صخر بن الجعد: أليس حبولًا أنها لا تهيدني ... وأني كجناب بها لا أهيدها قال عند كلمة (كجناب): "شكل في النقل بفتح الجيم هنا، وفي التفسير وعلى هامشه: "بالأصل: كحنات" والذي يظهر من المعاجم أنه بضم الجيم" اهـ. * وفي (ص 865) هامش (11) عند كلمة (جناب) قال: "شكل في النقل بفتح الجيم هنا، وفي التفسير وعلى هامشه: "بالأصل: كحنات". والذي يظهر من المعاجم أنه بضمِّ الجيم. * وفي (ص 890) هامش (9) عند قول أوس بن حجر: بأرعن مثل الطود غير أشابة ... تُناجِزُ أولاه ولم يتصرّم قال: "في اللآليء: "تناجز" بفتح التاء والجيم والزاي: فعل ماضٍ وتفسير المؤلف يقتضي أنه بفتح التاء والجيم وضمّ الزاي، أي: تتناجز، فأمَّا على ما ضبط هنا (يعني بضم التاء وكسر الجيم وضم الزاي) فالمناجزة: القتال الحاسم فيكون معنى البيت: أنَّ أولى الجيش تقاتل وتفتح قبل أن تصل بقيته، ولا يخفى أن هذا أبلغ" اهـ.

* وفي (ص 909) هامش (5) عند كلمة (يجين) من قول الشاعر: حواسر لا يجين على الخدام قال: "في النقل (يجئن) بضم فكسر فهمزة ساكنة، وعلى هامشه: "بالأصل يجبين" بضم أوّله. أقول: سيفسر المؤلف الكلمة بقوله: "يرخين" فالكلمة من مادة (ج أى) مثل "رأى" و"نأى" ففعل الإناث من الثلاثي منها "يجأين" مثل "ينأين" فإن خفف صار "يجين" بفتح أوله وثانيه مثل: "يرين"، ومن باب الإفعال "يُجْئين" مثل: "ينئين" فإن خفف صار "يُجين" بضم أوله مثل "يُرين"، فأمَّا "يجئن" فلا وجه له وإن وقع كذلك في اللسان (ج أى) فإنه من تصرّف النساخ لجهلهم بالتصريف. والله أعلم" اهـ. وهذا فهم دقيق منه لفن الصرف، ومعرفة بما يقع في المعاجم من تصحيف أو أغلاط. * وفي (ص 929) هامش (7) عند قول أبي النجم: وذو دخيس أيد الصواهل ... من طبق طمّ ومن رعابل قال: "كذا في النقل هنا وفي التفسير، وكان كتب أولًا: "رعائل" بالهمز ثم أصلح بالباء، ولم أر في المعاجم "رعائل" وهو أوفى بالمعنى لأن الرعلة: القطعة من الخيل، والرعيل القطعة من الخيل متقدمة. والله أعلم" اهـ. * وفي (ص 965) هامش (6) عند كلمة (هيخت) أفاد أنه في النقل شكل الفعل بفتح الهاء والياء المشددة، وكتب عليه "صح" والفعل في لسان العرب أيضًا مشكول كذلك قال: لكن السياق هناك يقتضي أنه بضم الهاء

وكسر الياء المشددة مبنيًّا للمفعول لأن ابن منظور قال: "هيخ الطباخ الهريسة: أكثر ودكها" ثم ذكر البيت الوارد فيه الفعل وقال - أي ابن منظور -: "وهيخت أنيخت وهو أن يقال لها عند الإناخة: هيخ هيخ أخ أخ ... إلخ". قال المعلمي: "فالإناخة وقول: "هيخ هيخ" ودعاء الفحل للضراب كلها من فعل الإنسان فهو المنيخ والقائل والداعي، والفحل مُنَاخٌ مَقُولٌ له مَدْعوٌ فتدبّر، ووقع في اللسان في هذا الموضع "أحلامها" وذكر البيت في (خ ل م) وفيه (أخلامها) وفيه "وهُيِّجَت" بالبناء للمفعول وبالجيم، والتصحيف والتحريف في طبعة اللسان كثير فلا يركن إلى نقطه وشكله" اهـ. وهذا يبين أن المعلمي رحمه الله له تتبُّعٌ على طبعة لسان العرب ولا يبعد أن تكون نسخته الخاصة بها تصويبات وتصحيحات واستدراكات. * وفي (ص 1016) هامش (4) عن قول الشاعر: تُبادرنا إساءتُه فجئنا ... من الأفواج نبتدر المئينا قال عن الفعل (تبادرنا): "كذا وأحسب الصواب "تَبادَرْنا" بفتح التاء والدال وسكون الراء (إساءتَه) بالنصب، ويأتي ما فيه" اهـ. وفي قول ابن قتيبة عند شرح البيت: "من قولك: أسوت الجرح". قال المعلمي: "كذا ولم أجد في المعاجم "الإساءة" من (أس و) وإنما هي من (س وأ) بمعنى الإفساد فإن صح ضبط "تبادرنا اساءته" على ما في النقل فالمعنى أنَّ إفساد ذاك الفجع يسابقنا فسبقناه، أي: تداركنا الأمر قبل فساده، وإنْ كان على ما ظهر لي فكأنه على حذف مضاف يكون مفعولًا

لأجله والتقدير "خشية إساءته" وراجع ما ذكره المؤلف (ص 78) من النصف الأول" اهـ. * وفي (ص 1042) هامش (2) في قول الشماخ: وذاق فأعطته من اللين جانبا ... كفى، ولها أن يغرق السهم حاجز قال عند كلمة (ولها): "شكل في النقل بفتحتين فوق الهاء على أنه مصدر قوله: "ولهت" وقد مشى هذا الوهم على أحمد بن الأمين الشنقيطي شارح ديوان الشماخ، وإنما الواو واو الحال، واللام حرف جر، و"ها" ضمير القوس، يريد: إنها وإنْ أعطته من اللين جانبًا فإن لها جانبًا آخر حاجزًا عن أن يغرق، فتدبّر" اهـ. * وفي (ص 1088) عند قول الشاعر: له جذمة من ذي الفقار اغتصابها قال عند (اغتصابها): "أخشى أن يكون الصواب "اعتصى بها"، وفي اللسان (ع ص ي): "فلان يعتصي بالسيف أي: يجعله عصًا"، يعني: يكون له كالعصا لغيره" اهـ. * وفي (ص 1102) هامش (7) عند قول الشاعر: وجلد أبي عجل وثيق القبائل قال عن (وثيق): "شكل في النقل بكسر القاف وبفتحها، والظاهر على تفسير المؤلف الكسر على أنه نعت لقوله: "أبي" فإنه نكرة إذْ لم يقصد بقوله: "أبي عجل" أن تكون كنية، وإنما هي بمنزلة "أبٌ لعجل" ولذلك

فسَّره المؤلف بقوله: "ثور" ولو عدّها كنية لقال: "الثور" فأمَّا الفتح فإنما يأتي على أن يكون قوله: "وثيق" نعتًا لقوله "جلد" - كما يأتي التنبيه عليه في الحاشية" اهـ. * وفي (ص 1136) هامش (2) عند قول الشاعر: على وقر أندابه لم تغفّر قال كرنكو: "بالأصل: "تعقر" بضم التاء وفتح عين مهملة عليها علامة الإهمال بعدها قاف، وكذا في التفسير" اهـ. قال المعلمي: "أقول: ولم أجد "تغفر الجرح ... " في المعاجم، وإنّما في أفعال ابن القطاع: "غفر (كفرح) الجرح ... " ونقله في التاج والله أعلم". * وفي (ص 1170) هامش (2) عند قول ابن قتيبة: "الحوالس جمع حلس وهو قدح له أربعة أنصباء". قال المعلمي: "كذا ولم يذكر هذا الجمع في المعاجم ولا هو بقياس" اهـ. * وفي (ص 1224) هامش (6) خَطَّأ كرنكو ابنَ قتيبة بقوله: "هذا خطأ من ابن قتيبة فإنهم قالوا: أفعلوا في الأزمنة إلا في الربيع، فإن العرب تقول دخلوا في الربيع، وأربعوا: إذا أخذوا ربعًا" اهـ. فَدافَعَ المعلميُّ بقوله: "أقول: في كتاب الأفعال لابن القطاع (2/ 5) عن ابن القوطية: "وأربعنا صرنا في الربيع"، وفي المخصص (15/ 17): "وأربع القوم: دخلوا في الربيع، ونحوه في مختار الصحاح والقاموس واللسان وغيرها" اهـ.

كتاب "أمالي اليزيدي"

كتاب "أمالي اليزيدي": * في (ص 22) هامش (5) عند قوله: "ويُروى القريتين بالنصب والرفع ... إلخ". قال المعلمي: "كذا في الأصل والصواب "القرنتين" - المتقدم آنفًا - وإنما أعاده لبيان أنه روي بفتح القاف وضمها، والأوائل يعبرون عن الفتح بالنصب، وعن الضم بالرفع على خلاف اصطلاح المتأخرين" اهـ. * وفي (ص 36) هامش (2) عند قول اليزيدي شارحًا قول الشاعر: "حالك غير أسود" قال: "يقول: الدم أحمر إلى السواد، وليس بأسود محض، ويروى حالك اللون أسود" اهـ. قال المعلمي: "هذا التركيب مثل قولك: "هذا الشيء شديد الحمرة ليس بأحمر، وشديد الصفرة ليس بأصفر وهلمَّ جرًا، وتناقضه ظاهر إذْ معنى الحلكة في اللغة: أشد ما يكون من السواد، كما أن الفقوع أشد ما يكون من الصفرة، فالحالك الشديد السواد - فالحالك والقاني والناصع والناضر والفاقع ينعتون بها للتأكيد - فيقولون: أسود حالك وأحمر قانيء، وأصفر فاقع، وأخضر ناضر، كما قالوا: أمس الدابر: أي الذاهب الماضي لا يرجع أبدًا، قال في التاج (د ب ر) وهذا من التطوع المشام للتوكيد لأن اليوم إذا قيل فيه أمس فمعلوم أنه دَبَر لكنه أكّد بقوله: الدابر" وهذه الرواية لم يذكرها أبو تمام في حماسته ولا شارحها التبريزي ولا الأصمعيات، ولما ذكرها اليزيدي اضطر إلى تأويلها بما لا وجود له في معاجم اللغة فإنهم لم يفسروا الحالك بأنه الدم أحمر إلى السواد، وإنما فسروه بأنه الشديد السواد كما تقدَّم" اهـ.

كتاب "إعراب ثلاثين سورة من القرآن الكريم" لابن خالويه

* وفي (ص 61) هامش (6) في قول الشاعر: وعلمتْ ذاك مع الجراء قال متعقبًا الميمني: "والجراء: من قولهم جارية بينة الجَراء - بفتح الجيم - من الجراءة وهي الشجاعة" قال: وما في تعليق السمط من أن الجراء جمع جرو سبقُ قلم" اهـ. * وفي (ص 76) هامش (3) عند قول اليزيدي: "وسمعتُ أبا جعفر يقول: يقال: بتكت يده وبتلتها، ونضكتها وتررتها وجذمتها وصرمتها: كلُّ ذلك إذا قطعتها". قال عند كلمة (ونضكتها): "كذا في الأصل ولم أجد هذه المادة في اللسان والتاج، ولعلها تصحفت عن متكتها، ففي القاموس وشرحه (م ت ك): والمتك بالفتح القطع كالبتك" اهـ. ... كتاب "إعراب ثلاثين سورة من القرآن الكريم" لابن خالويه * في (ص 8) هامش (2) عند قول الشاعر: رُجْمَ به الشيطان في هوائه قال: "تسكن الجيم هنا ليستقيم الوزن، ومثل هذا كثير في الشعر كقوله: "لو عُصْر منه البان والمسك انعصر" اهـ. * وفي (ص 71) هامش (5) عند نقل ابن خالويه قراءة قتادة لقوله تعالى: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} بفتح الطاء.

كتاب التنكيل

قال المعلمي: "غريبةٌ هذه القراءة، فقد جاء في التاج ما لفظه: "وفي التهذيب سيطر جاء على فيعل فهو مسيطر، ولم يستعمل مجهولاً فعله، وننتهي في كلام العرب إلى ما انتهوا إليه" اهـ. * وفي (ص 169) هامش (2) عند قول ابن خالويه: "قال أهل الكوفة: الشيء لا يضاف إلى نفسه". قال المعلمي: "المنقول في كتب النحو عن الكوفيين الجواز بشرط اختلاف اللفظ فقط، والمنع وتأويل ما ورد مذهب البصريين". * وفي (ص 231) هامش (3) عندما ذكر ابن خالويه لغات (كفو) ولم يستقصها. قال المعلمي: "وخلاصة ما في كتب اللغة أنه يقال: كفء بسكون الفاء مع تثليث الكاف، وكفؤ بضمتين، وعلى هذه اللغة قد تُخفَّف الهمزة إلى الواو فيصير (كفو)، وكفاء - بالكسر والمدّ -، وكفيء كأمير" اهـ. ... كتاب التنكيل: وفي التنكيل (1/ 406) عندما اعترض الكوثري على الإمام الشافعي في تفسيره "الفهر" الوارد في قول عمر رضي الله عنه: "كأنهم اليهود قد خرجوا من فهرهم" فسَّره الشافعي بالبيت المبني بالحجارة الكبار، ويعترض الكوثري قائلاً: "موضع عبادتهم أو اجتماعهم ودرسهم مطلقًا سواء كان في بنيان أو صحراء".

قال المعلمي: "وقوله - أي الكوثري -: "مطلقًا ... " لم أجدها في كتب اللغة والغريب، وراجع مفردات الراغب ليتبيَّنَ لك كثرة الكلمات التي يطلق تفسيرها في كتب اللغة وحقُّها التقييد" اهـ. * وفي السياق نفسه (ص 407) لمَّا أوضح المعلمي تفسير الفهر، وأنَّ الشافعي قال تفسيره باجتهاده وهو مقبول من مثله قال: "وهذا لا يدل على عدم فصاحته، فإنه ليس من شرط الفصيح أن يعرف معاني جميع الألفاظ العربية، فقد كانت تخفى علي بعض الصحابة معاني بعض الكلمات من القرآن فيجتهدون، ويقول كلُّ منهم ما ظنه فيختلفون، ويخطئ بعضهم، وليس ذلك من عدم الفصاحة في شيء، ويتأكَّد هذا إذا كانت الكلمة أصلها من غير لغة العرب كهذه فإنها نبطيّة أو عبرانية، ولا لوم على العربي الفصيح أن يخطئ في معرفة كلمة غير عربية، وقد قال بعض الفصحاء: "لم تدر ما نسج اليرندج بالضحى" فزعم أن اليرندج: ثوب ينسج. وقال آخر: "ولم تذق من البقول الفتسقا" فزعم أن الفستق بقل، ولذلك نظائر معروفة" اهـ. * وفي مسألة قول الشافعي: "ماء مالح" واعتراض الكوثري عليه يتعرض لها المعلمي بالبحث، وينقل كلام الأئمة ثم يقول: "والحاصل أن قولهم: "ماء مالح" ثابت عن العرب الفصحاء نصًّا وثابت قياسًا، لكن أكثر ما يقولون: (ملح) ولما غلب على ألسنة الناس في عصر الشافعي: مالح، أتى بها الشافعي في كتبه؛ لأنه كان يتحرَّى التقريب إلى أفهام الناس ... إلخ. * وعند قول الكوثري معترضًا على الشافعي: "ثوب نسوي" قال الكوثري: "لفظةٌ عامية".

قال المعلمي: "هذا أيضًا لم يذكر ما يثبته عن الشافعي، ثم إنْ كان نسبةً إلى النساء فهو الصواب - كما قال سيبويه وغيره - وإنْ كان نسبة إلى (نسا) وهي البلدة المعروفة فهو القياس، وقول ياقوت: "والنسبة الصحيحة إليها نسائي، وقيل: نسوي - أيضًا - وكان من الواجب كسر النون" فيه ما فيه" اهـ. * وعند تحدثه عن المجاز ذكر قاعدة نفيسة في هذا حيث يقول رحمه الله كما في التنكيل (2/ 54): "ومجيء الكلمة في موضع أو ألف موضع أو أكثر مجازًا بقرينته لا يسوغ حملها على المجاز حيث لا قرينة، وهذه كلمة "أسد" أكثر جدًّا استعمالها في الرجل الشجاع مع القرينة حتى لقد يكون ذلك أكثر من استعمالها في معناها الحقيقي، ومع ذلك لا يقول عاقل إنه يسوغ حملها على المجاز حيث لا قرينة، وهذا أصلٌ قطعي ينبغي استحضاره، فقد كثر تغافل المتأولين عنه تلبيسًا على الناس ... إلخ". ***

المصادر والمراجع

المصادر والمراجع 1 - الإتقان للسيوطي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم. 2 - أدب الكاتب لابن قتيبة، ط الرسالة، تحقيق الدالي. 3 - ارتشاف الضرب لأبي حيان، دار الخانجي. 4 - الأساس للزمخشري، صورة دار صادر. 5 - الأشباه والنظائر للسيوطي، ط المجمع العلمي السوري. 6 - الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، دار الكتب العلمية، صورة عن السلطانية. 7 - إصلاح الخلل الواقع في الجمل لابن السيد. 8 - الأصمعيات، ط المعارف بتحقيق عبد السلام هارون وأحمد شاكر. 9 - أصول النحو لابن السراج، الرسالة ط الثالثة. 10 - الأضداد للأنباري، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم. 11 - الأضداد للصاغاني، ط القاهرة. 12 - إعراب القراءات الشواذ للعكبري، ط عالم الكتب. 13 - إعراب القرآن للنحاس، ط عالم الكتب. 14 - الأعلام للزركلي، ط دار العلم للملايين. 15 - الأغاني لأبي الفرج، ط صادر، تحقيق إحسان عباس. 16 - الاقتراح للسيوطي، تحقيق الفجال. 17 - إكمال الإعلام لابن مالك، ط جامعة أم القرى. 18 - أمالي ابن الحاجب، ط عالم الكتب.

19 - أمالي الشجري، ط الخانجي، تحقيق الطنامي. 20 - أمالي القالي، صورة دار الكتب العلمية عن المصرية. 21 - الإنصاف لابن الأنباري، تحقيق محمد محيى الدين عبد الحميد. 22 - الإيضاح في شرح المفصل لابن الحاجب، ط المصرية. 23 - البحر المحيط لابن حيان، صورة عن طبعة مصر. 24 - بدائع الفوائد لابن القيم، ط دار عالم الفوائد. 25 - البدر الطالع للشوكاني ومعه الذيل لزبارة، ط السعادة. 26 - بغية الإيضاح للصعيدي، دار الكتب العلمية. 27 - بغية الوعاة للسيوطي، تحقيق محمد أبو الفضل، ط الثانية، دار الفكر. 28 - البيان في إعراب القرآن للأنباري، ط مصر. 29 - تاج العروس للزبيدي، دار الفكر، صورة عن الطبعة الخيرية. 30 - تاريخ الأدب العربي للرافعي، دار الكتاب العربي، بيروت. 31 - تذكرة السامع والمتكلم لابن جماعة، تحقيق الندوي. 32 - تذكرة النحاة لأبي حيان، ط الرسالة. 33 - التصريح على التوضيح للأزهري، صورة عن البابي الحلبي. 34 - التعريفات للجرجاني. 35 - تفسير ابن أبي حاتم، دار الكتب العلمية. 36 - تفسير ابن عطية، دار الكتب العلمية. 37 - تفسير التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور، ط دار سحنون. 38 - تفسير الجلالين، ط مصر.

39 - تفسير الطبري، لابن جرير، صورة عن بولاق، دار الكتب العلمية. 40 - تفسير القرطبي، ط الهيئة المصرية للكتاب. 41 - التكملة للزبيدي، ط مصر. 42 - التكملة والذيل والصلة للصاغاني، ط مصر. 43 - تلخيص المفتاح للقزويني ط الأخيرة البابي الحلبي. 44 - التمهيد في تخريج الفروع على الأصول، ط الرسالة. 45 - تهذيب إصلاح المنطق للتبريزي، دار التراث. 46 - تهذيب الأسماء واللغات للنووي، صورة دار الكتب العلمية. 47 - تهذيب الخواص لابن منظور، تحقيق الحسيني. 48 - تهذيب اللغة للأزهري، ط مصر، تحقيق عبد السلام هارون وآخرون. 49 - ثلاثة نصوص في الأضداد، تحقيق محمد حسن آل ياسين. 50 - ثمار القلوب للثعالبي، ط المعارف بمصر. 51 - الجرح والتعديل لابن أبي حاتم، صورة عن طبعة حيدرآباد، تحقيق المعلمي. 52 - جلاء الأفهام لابن القيم، ط دار عالم الفوائد. 53 - جمهرة اللغة لابن دريد، تحقيق البعلبكي، ط دار العلم للملايين. 54 - جنان الجناس للصفدي، ط. بيروت. 55 - الجنى الداني في أحرف المعاني للمرادي، تحقيق قباوة ومحمد نديم. 56 - حاشية الخضري على ابن عقيل، ط مصر. 57 - حاشية الدسوقي على المغني صورة عن الطبعة المصرية.

58 - حاشية السجاعي على شرح قطر الندى، ط البابي الحلبي. 59 - حجة القراءات لابن زنجلة، ط الثالثة، تحقيق الأفغاني الرسالة. 60 - حياة الحيوان الكبرى للدميري، ط مصر، البابي الحلبي. 61 - خزانة الأدب للبغدادي، ط الخانجي، تحقيق عبد السلام هارون. 62 - الخصائص لابن جني، تحقيق النجار، دار الكتب العلمية. 63 - الدر المصون في علوم الكتاب المكنون للسمين الحلبي، دار الكتب العلمية. 64 - دراسات لأسلوب القرآن لعضيمة، دار الحديث بالقاهرة. 65 - درة الغواص للحريري، ط دار الجيل تحقيق الفرغلي، وط مصر، تحقيق أبو الفضل إبراهيم. 66 - الدرر اللوامع للسيوطي، ط دار الرسالة. 67 - دلائل الإعجاز للجرجاني، تحقيق محمود شاكر، ط الخانجي. 68 - دلائل الإعجاز، الجرجاني. 69 - ديوان الحلي، دار صادر. 70 - ديوان العجاج، ط دار صادر. 71 - ديوان الهذليين بشرح السكري، دار التراث، تحقيق عبد الستار فراج. 72 - ديوان حسان بن ثابت، ط دار المعارف تحقيق محمد حنفي. 73 - ديوان حميد بن ثور الهلالي، ط الميمني. 74 - ديوان ذي الرمة تحقيق إحسان عبد القدوس، الرسالة. 75 - ديوان رؤبة بن العجاج، تصوير، بيروت.

76 - الرد على المنطقيين لابن تيمية، تحقيق عبد الصمد شرف الدين، ط الهند 1368. 77 - روح المعاني للآلوسي، إحياء التراث، صورة عن الطبعة المصرية. 78 - الزاهر للأنباري، ط الرسالة. 79 - سمط اللآلي، تحقيق الميمني، صورة دار الكتب العلمية عن المصرية. 80 - سير أعلام النبلاء للذهبي، ط الرسالة. 81 - سيرة ابن هشام، دار القبلة. 82 - السيل الجرار للشوكاني، دار الكتب العلمية. 83 - شرح ابن الناظم على الألفية، دار الجيل. 84 - شرح أبيات المغني للبغدادي، ط دار المأمون. 85 - شرح الأشموني بحاشية الصبان، صورة عن البابي الحلبي. 86 - شرح الألفية للمرادي، ط دار الفكر العربي. 87 - شرح التسهيل لابن مالك، دار هجر. 88 - شرح التسهيل للدماميني. 89 - شرح الجمل لابن عصفور، ط مصر. 90 - شرح الحماسة للتبريزي، صورة عن بولاق. 91 - شرح الحماسة للمرزوقي، صورة دار الجيل، تحقيق أحمد أمين عبد السلام. 92 - شرح الرضي على الكافية ط جامعة الإمام محمد بن سعود. 93 - شرح الشافية للرضي، دار الكتب العلمية، صورة عن طبعة مصر.

94 - شرح الشذور لابن هشام ط الدقر، وط البابي الحلبي بحاشية الأمير. 95 - شرح العوامل للأزهري، تحقيق البدراوي، ط الأولى دار المعارف. 96 - شرح القصائد السبع الطوال للأنباري، تحقيق عبد السلام هارون. 97 - شرح القطر للفاكهي، ط الثانية البابي الحلبي. 98 - شرح القواعد للكافيجي، تحقيق قباوة، دار الفكر المعاصر. 99 - شرح القوجوي على قواعد الإعراب، ط الرسالة. 100 - شرح الكافية البديعية للحلّي، دار صادر، ط الثانية تحقيق نشاوي. 101 - شرح الكافية لابن مالك، تحقيق الهريدي، ط الأولى، دار التراث. 102 - شرح المفصل لابن يعيش، عالم الكتب. 103 - شرح الملوكي لابن يعيش، ط مصر. 104 - شرح الهداية للمهدوي، تحقيق حازم حيدر، ط الأولى، مكتبة الرشد. 105 - شرح حماسة أبي تمام للأعلم الشنتمري، ط عالم الكتب. 106 - شرح ديوان المتنبي المنسوب للعكبري، تصوير دار الكتب العلمية. 107 - شرح قطر الندى لابن هشام، العصرية، ط محمد محيي الدين عبد الحميد. 108 - شرح قواعد الإعراب للأزهري، ط الأخيرة البابي الحلبي بهامش تمرين الطلاب. 109 - شرح كفاية المتحفظ للفاسي، دار العلوم. 110 - شرح مختصر الروضة للطوفي، ط الرسالة. 111 - الشعر والشعراء لابن قتيبة، تحقيق أحمد شاكر. 112 - شفاء الغليل للخفاجي، دار الكتب العلمية.

113 - شواهد التوضيح لابن مالك، دار الكتب العلمية. 114 - صحاح الجوهري، تحقيق أحمد عبد الغفور، ط دار العلم للملايين. 115 - صحيح البخاري، ط بيت الأفكار الدولية. 116 - صناعة الكتاب للنحاس، ط. بيروت. 117 - الضوء اللامع للسخاوي، دار الفكر. 118 - طبقات فحول الشعراء لابن سلام، تحقيق محمود شاكر. 119 - الطراز للعلوي، دار الكتب العلمية. 120 - العقد الفريد، تحقيق محمد سعيد العريان. 121 - العقد الوسيم في أحكام الجار والمجرور والظرف، للأخفش اليمني، تحقيق د/ رياض الخوام. 122 - عقود الجمان مع شرحيْه، ط البابي الحلبي. 123 - علم البديع لبكري شيخ أمين، دار العلم للملايين. 124 - العلم الخفاق لمحمد صديق حسن خان، ط دار البشائر. 125 - العمدة لابن رشيق القيرواني، ط دار الخانجي. 126 - العيون الغامزة للدماميني، ط مصر. 127 - الغرر المثلثة للمجد الفيروزآبادي، تحقيق العايد. 128 - الغيث المسجم للصفدي، دار الكتب العلمية. 129 - الفائق للزمخشري، دار الفكر. 130 - فتح رب البرية للبيجوري، ط البابي الحلبي. 131 - فقه اللغة للثعالبي، دار الخانجي.

132 - فوات الوفيات لابن شاكر الكتبي، دار صادر، تحقيق إحسان عباس. 133 - فيض القدير للمناوي، صورة عن الطبعة المصرية. 134 - فيض نشر الانشراح للطيب الفاسي، ط مجلة الحكمة. 135 - القاموس المحيط للفيروزآبادي، ط الرسالة، وط البابي الحلبي. 136 - القواعد الصغرى لابن هشام بشرح الأزهري، ط البابي الحلبي. 137 - الكافي في العروض والقوافي وبحاشيته للدمنهوري، ط مصر. 138 - الكافي للتبريزي، ط بيروت. 139 - كافية ابن الحاجب ط مكتبة دار الوفاء 1407، تحقيق طارق نجم. 140 - الكامل للمبرد، ط الرسالة، تحقيق الدالي. 141 - كتاب ابن هشام آثاره ومذهبه النحوي للدكتور علي فودة نيل. 142 - كتاب الأفعال للسرقسطي، صورة عن الطبعة الهندية، عالم الكتب. 143 - كتاب الحدود للفاكهي، تحقيق د/ سليمان العايد، ط جامعة الإمام. 144 - الكتاب لسيبويه، دار الجيل، تحقيق عبد السلام هارون. 145 - الكشاف للزمخشري، دار الكتب العلمية. 146 - كشف الظنون للبغدادي، دار الكتب العلمية مع ذيوله. 147 - الكليات للكفوي. 148 - الكنز المدفون والفلك المشحون، ط بولاق سنة (1288 هـ). 149 - اللامات للزجاجي، دار صادر. 150 - لسان العرب، لابن منظور، ط دار صادر. 151 - ليس في كلام العرب لابن خالويه، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار. 152 - مبادئ اللغة للإسكافي، دار الكتب العلمية. 153 - المثلث للبطيوسي، بيروت.

154 - المجاز لأبي عبيدة محمد بن المثنى، تحقيق فؤاد سزكين، دار الخانجي. 155 - المجمل لابن فارس، ط الرسالة. 156 - المجموع المغيث للمديني، ط جامعة أم القرى. 157 - مجموع فتاوى ابن تيمية، ط ابن قاسم. 158 - المحتسب لابن جني، ط المصرية. 159 - المحكم لابن سيده، ط مصر. 160 - مختار الشعر الجاهلي للشنتمري، تحقيق السقا، ط مصر. 161 - مختار الصحاح للرازي، ط المصرية. 162 - المخصص لابن سيده، دار إحياء التراث، صورة عن ط مصر. 163 - المزهر في علوم العربية للسيوطي، دار الجيل. 164 - المساعد على تسهيل الفوائد لابن عقيل، تحقيق بركات، دار الفكر. 165 - مشارق الأنوار للقاضي عياض، دار التراث. 166 - المعاني الكبير لابن قتيبة، صورة عن حيدرآباد، تحقيق المعلمي. 167 - معجم الأدباء لياقوت الحموي، ط إحسان عباس، دار الغرباء، وط دار المأمون. 168 - معجم المؤلفين لعمر رضا كحالة، دار إحياء التراث العربي. 169 - المعرَّب للجواليقي، تحقيق أحمد شاكر. 170 - مغني اللبيب لابن هشام، تحقيق مازن المبارك، دار الفكر. 171 - مغني اللبيب، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد. 172 - مفتاح السعادة لطاش كبرى زاده، ط المصرية. 173 - المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني، ط دار القلم. 174 - المقاصد النحوية للعيني، مطبوع بهامش الخزانة، دار صادر.

175 - مقالات هامة لابن هشام، تحقيق نسيب نشاوي. 176 - مقاييس اللغة لابن فارس، ط المصرية، تحقيق عبد السلام هارون. 177 - المقرب لابن عصفور، دار الفكر. 178 - المقصور والمدود لأبي علي القالي، دار الخانجي. 179 - المنتخب لكراع، ط جامعة أم القرى. 180 - الموشح للمرْزباني، تحقيق عبد الستار فراج. 181 - نتائج الفكر للسهيلي، تحقيق البنا، دار الكتب العلمية. 182 - نزهة الألباء، تحقيق أبو الفضل، ط دار الفكر العربي. 183 - نظام الغريب للربعي، صورة دار الكتب العلمية. 184 - نظم الفوائد لابن مالك، تحقيق د/ سليمان العايد. 185 - النقائض لأبي عبيدة، دار الكتب العلمية. 186 - نكت الهميان للصفدي، بيروت. 187 - النهاية لابن الأثير، صورة دار الكتب العلمية، تحقيق الطناجي. 188 - نهج البلاغة بشرح محمَّد عبده، ط مصر. 189 - همع الهوامع للسيوطي ط عبد السلام هارون وعبد العال سالم مكرم. الرسالة. 190 - وفيات الأعيان لابن خلكان، ط المصرية، تصوير بيروت. 191 - يتيمة الدهر، للثعالبي، تحقيق محمَّد محيي الدين عبد الحميد، دار الكتب العلمية. ***

معجم الشواهد الشعرية

آثَار الشّيخ العَلّامَة عبَد الرّحمن بن يحيى المعَلِّمي (21) معجم الشواهد الشعرية تَألِيف الشيخ العَلّامَة عبدالرحمن بن يحيى المعلمي اليماني 1312 هـ - 1386 هـ تحقيق محمد عزير شمس وفق المنهج المعتمد من الشيخ العلامة بكر بن عبدالله أبو زيد (رحمه الله تعالى) تمويل مؤسسة سليمان بن عبدالعزيز الراجحي الخيرية دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

بسم الله الرحمن الرحيم

راجع هذا الجزء محمد أجمل الإصلاحي

مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية SULAIMAN BIN ABDUL AZIZ AL RAJHI CHARITABLE FOUNDATION حقوق الطبع والنشر محفوظة لمؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرة الطبعة الأولى 1434 هـ دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع مكة المكرمة - هاتف 5473166 - 5353590 فاكس 5457606 الصف والإخراج دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

مقدمة التحقيق

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد، فهذا معجم للشواهد الشعرية صنعه العلّامة المعلمي قديمًا في الهند، وجدناه ضمن الدفاتر والأوراق غير المفهرسة في مكتبة الحرم المكي الشريف، وقد عمد المؤلف فيه إلى استخراج الشواهد من مجموعة من الكتب، ورتبها ترتيبًا دقيقًا على القوافي والبحور، واتخذ لذلك منهجًا سار عليه من أوله إلى آخره. وقد كان الغرض من تأليف مثل هذه الكتب تيسير الاستفادة من كتب شروح الشواهد التي كانت غير مفهرسة ولا مرتبة، فكان يصعب على الباحثين الاهتداء إلى شاهد معيّن وما يتعلق به فيها، ولذا اتجهت هممهم إلى فهرسة هذه المصادر وغيرها والاعتناء بالشواهد الشعرية فيها خاصةً، وكان لهم فيها اتجاهان: الأول: فهرسة الشعر وغيره في مصدر معين، إما في كتاب مفرد أو ملحقًا بالكتاب المحقق. ومن أهم الفهارس المفردة ما يلي مرتَّبًا حسب ظهوره: 1) فهارس الأغاني (للشعراء والقوافي والأعلام والأمكنة وغيرها)، صنعها المستشرق جويدي، ط. ليدن 1895 - 1900 م، نقلها إلى العربية محمَّد مسعود، ط. القاهرة 1323/ 1905 م. 2) فهارس كتاب النقائض، صنعها المستشرق بيفان، ط. ليدن 1912 م. 3) فريدة العصر في جداول "يتيمة الدهر"، صنعها أبو موسى أحمد الحق

القرشي الأموي العثماني، ونُشرت في كلكتا بالهند سنة 1915 م. 4) مفتاح الخزانة (يشتمل على 12 فهرسًا لخزانة الأدب)، صنعه أحمد تيمور باشا، لم يُنشر. منه نسخة بخط المؤلف في 247 ورقة في دار الكتب المصرية [18 نحو تيمور]. 5) إقليد الخزانة (فهرس الكتب الواردة في خزانة الأدب)، لعبد العزيز الميمني، ط. لاهور 1927 م. 6) فهارس العقد الفريد، صنعها الأستاذ محمَّد شفيع، ط. كلكتا 1935 - 1937 م، في مجلدين. 7) فهارس سمط اللآلي (للشعراء والشعر والتراجم والأمثال)، لعبد العزيز الميمني، ط. القاهرة 1937 م. 8) فهارس "لسان العرب" (أسماء الشعراء والقوافي وأنصاف الأبيات)، صنعها الأستاذ عبد القيوم، وطبعت في لاهور سنة 1938 م في مجلدين، وسنة 2007 م في أربعة مجلدات. 9) فهارس المخصّص، صنعها عبد السلام محمَّد هارون، ط. الكويت 1969 م، ط 2. بيروت 1991 م. 10) فهرس شواهد سيبويه، صنعة أحمد راتب النفاخ، ط. بيروت 1389/ 1970 م. 11) فهارس كتاب سيبويه، صنعة محمَّد عبد الخالق عضيمة، ط. القاهرة 1395/ 1975 م. 12) فهارس تهذيب اللغة، تأليف عبد السلام محمَّد هارون، ط. القاهرة 1976 م.

13) فهارس كتاب الأصول لابن السراج، صنعة محمود محمَّد الطناحي، ط. القاهرة 1406/ 1986 م. 14) فهارس لسان العرب، صنعة خليل أحمد عمايرة، ط. بيروت 1407/ 1987 م، في 7 مجلدات. 15) فهارس شرح المفصل لابن يعيش، صنعة عاصم بهجة البيطار، ط. دمشق 1411/ 1990 م. 16) مجمع أشعار "معجم البلدان"، تأليف عمر الأسعد، ط. بيروت 1411/ 1991 م. 17) فهارس "معاني القرآن" للفراء، إعداد فائزة عمر المؤيد، ط. الخبر 1414/ 1993 م. 18) الفهارس المفصلة لخصائص ابن جني، صنعة عبد الفتاح السيد سليم، ط. معهد المخطوطات العربية، القاهرة 1418/ 1997 م. 19) الفهارس المفصلة للأشباه والنظائر في النحو للسيوطي، صنعة عبد الإله نبهان، ط. معهد المخطوطات العربية، القاهرة 1419/ 1998 م. أما الفهارس الملحقة بالكتب المحققة فهي كثيرة، وجلُّ ما نُشِر من كتب الأدب واللغة والنحو وغيرها بتحقيق كبار المحققين يحتوي على فهارس متنوعة، فلا داعي لذكرها، فإنها معروفة لدى الباحثين. الثاني: فهرسة الشواهد الشعرية المتناثرة في مجموعة من المصادر، وجمعها وترتيبها بطريقة معينة في كتاب، ليستفيد منه الباحثون، ويتيسر لهم الوصول إلى بغيتهم في أسرع وقت. وكان العلامة المعلمي رائدًا لهذا الاتجاه، فقد صنع

* تأريخ تأليفه

الفهرس الذي بين أيدينا قبل سبعين عامًا تقريبًا، ولكنه بقي غير منشور مثل غيره من كتبه ورسائله المخطوطة التي ننشرها في هذه الموسوعة، فلم يعرفه الباحثون، ولم يتمكنوا من الاستفادة منه. وصدرت في هذه الفترة عدة فهارس للشواهد صنعها كلٌّ من الأساتذة: فيشر (A.Fischer) وبرونلش (E.Braunlich) في ألمانيا، وعبد السلام محمَّد هارون في مصر، وحنّا جميل حداد في الأردن، وإميل بديع يعقوب في لبنان. وسيأتي الحديث عنها والمقارنة بينها وبين هذا الفهرس قريبًا إن شاء الله. وفيما يلي تعريف بهذا المعجم، ومنهج المؤلف فيه، والمقارنة بينه وبين غيره من الفهارس، وعملي في التحقيق، عسى أن يكون مفيدًا للقراء والباحثين عند الرجوع إليه. * تأريخ تأليفه: بقي الشيخ في الهند من سنة 1345/ 1926 إلى 1371/ 1952 م، واشتغل بتحقيق الكتب وتصحيحها ومقابلتها على المخطوطات في دائرة المعارف العثمانية بحيدراباد، وكان من أوائل الكتب التي شارك في تحقيقها: "تنقيح المناظر لذوي الأبصار والبصائر" لكمال الدين الفارسي (ت 720) الذي طبع في مجلدين سنة 1928، 1929 م. واشتغل بعد ذلك بتحقيق كتب الحديث والرجال والتاريخ، كما شارك في تحقيق بعض كتب الأدب واللغة، مثل "الأمالي الشجرية" لابن الشجري (ت 542) الذي طبع سنة 1349/ 1930 م، و"أمالي اليزيدي" (ت 310) الذي طبع سنة 1367/ 1948 م. ولما قدَّم الأستاذ سالم الكرنكوي كتاب "المعاني الكبير" لابن قتيبة (ت 276) إلى دائرة المعارف للنشر أُوكِل أمر مراجعته والنظر فيه إلى الشيخ المعلمي، فعكَف على الكتاب مدةً، وزيَّنه بتعليقاته،

* منهج المؤلف فيه

وقدَّم له بمقدمة علمية، وقام بفهرسة الشعر والشعراء في آخره، وقد طبع الكتاب سنة 1368 - 1369/ 1949 - 1950 م في مجلدين. ولا يخفى أن مراجعة كتاب مثل "المعاني الكبير" (الذي يحتوي على الشعر الغريب وشرحه) والتعليق عليه يتطلَّب اطلاعًا واسعًا على مظانّ هذا الشعر في كتب اللغة والأدب وشروح الشواهد، ولا يمكن الرجوع إليها والاستفادة منها إلاَّ بصنع فهرس الشعر المتناثر فيها. وقد كان المعلمي رحمه الله أعدَّ لذلك عدَّته من قبل، فصنع لنفسه هذا المعجم، واستفاد منه كثيرًا في مراجعة "أمالي اليزيدي" و"المعاني الكبير" كما يظهر من تعليقاته وإحالاته إلى "خزانة الأدب" وكتاب العيني وغيرهما. وأرجِّح أنه عمل هذا الفهرس خلال السنوات 1357 - 1364/ 1938 - 1945 م في فترات مختلفة، وتوقف عن فهرس شواهد "لسان العرب" لما علم بظهور فهارس اللسان للأستاذ عبد القيوم في لاهور سنة 1938 م. ونظير هذا الفهرس فهرس آخر عمله الشيخ لمواد سبعة كتب من المؤتلف والمختلف قبل الإقدام على تحقيق كتاب "الإكمال" لابن ماكولا (ت 487) الذي طبع المجلد الأول منه سنة 1962 م، ويوجد هذا الفهرس في مكتبة الحرم المكي برقم [4917] (81 ورقة). * منهج المؤلف فيه: أراد المؤلف في هذا المعجم أن يفهرس الشعر الموجود في أهم كتب النحو واللغة وشروح الشواهد، فاختار أولًا ستة كتب، وهي: "خزانة الأدب" لعبد القادر البغدادي (ت 1093)، و"المقاصد النحوية في شرح شواهد شروح الألفية" للعيني (ت 855)، و"شرح شواهد المغني" للسيوطي (ت 911)، و"أمالي ابن الشجري" (ت 542)، و"الأشباه والنظائر" للسيوطي، و"كتاب سيبويه" (ت 180).

ثم أضاف إليها: "الدرر اللوامع على همع الهوامع" لأحمد بن الأمين الشنقيطي (ت 1331)، و"مغني اللبيب" لابن هشام (ت 761)، و"معجم البلدان" لياقوت الحموي (ت 626)، و"لسان العرب" لابن منظور (ت 711). وكان قصده أن يصنع فهرسًا موحَّدًا لجميع ما ورد فيها من الشعر، إلاَّ أنه لم يستخرج من "الأشباه والنظائر" شيئًا، ولعله لم يفرغ له، ولم يُتِم فهرسة "معجم البلدان" و"لسان العرب"، فقد توقف في "معجم البلدان" عند رسم (بُسيان) وفي "لسان العرب" عند مادة (فيأ). ولعل السبب في انصرافه عن فهرسة "اللسان" ظهور فهرسٍ للشعر والشعراء فيه من صنع الأستاذ عبد القيوم بجامعة بنجاب بلاهور سنة 1938 م. وقد صنع الشيخ هذا الفهرس على مرحلتين، قام في المرحلة الأولى بجرد كلّ مصدر واستخراج ما فيه من القوافي مع ذكر البحر والقائل والمصدر. وفي المرحلة الثانية قام بدمْج جميع القوافي ووضعها في مكانها المناسب، مع ذكر الإحالات إلى جميع المصادر. وقد وصل إلينا دفتران برقم [4916 و4918] في مكتبة الحرم المكي، نعرف بهما منهجه في المرحلة الأولى. فالأوراق (1 - 6) من الدفتر الثاني تبيِّن طريقة الشيخ في فهرسة "خزانة الأدب"، فقد ذكر أولًا في رأس كل صفحة حروفَ القافية (ت ث ج) (¬1) إلى (ن هـ ي)، ثم في يمين الصفحة يذكر مثلًا (جَ) ثم يترك فراغ أسطر، ثم يذكر (جِ) (جُ) (جْ)، ويذكر أمام كل منها صفحات "الخزانة" بمجلداته الأربعة مع الإشارة إلى المجلد برقم أكبر، فهو بهذه الطريقة قسَّم جميع القوافي الواردة في "الخزانة" مع تقييد الصفحات، ولما أراد نقلها إلى المعجم في المرحلة الثانية سَهُل عليه مراجعة كل قافية ووضعها في مكانها. وقد علَّم الشيخ على أرقام الصفحات في هذا الدفتر بعلامة تُشبه القوس، ¬

_ (¬1) الصفحات الأولى التي كانت تحتوي على قافيتي (أب) ضائعة.

ولعلها إشارةٌ إلى أنها نُقلت إلى مكانها من المعجم. ويفيدنا الدفتر رقم [4916] كيفية استخراج الشيخ أبيات بقية المصادر، ويقع هذا الدفتر في 163 صفحة، وقد خصص كل صفحة لقافية معينة، وقسَّمها قسمين بوضع خط عمودي في وسطها، يكتب في الجهة اليسرى قوافي "لسان العرب" مع ذكر البحر والقائل والمادة، وفي الجهة اليمنى قوافي كلٍّ من "كتاب سيبويه" و"أمالي ابن الشجري" و"الدرر اللوامع" و"معجم البلدان" لياقوت كذلك بالرموز، ولم أجد فيها الإحالات إلى كتاب العيني، ولعلها كانت في دفتر ثالث. ولم يستخدم الشيخ البطاقات، بل اعتمد في التقييد على الدفتر، لئلا يضيع شيء من الشعر بضياع البطاقات. وفي المرحلة الثانية عند دَمْج جميع ما استخرج من القوافي اتخذ دفترًا صغيرًا مسطَّرًا، وجعل في كل صفحة منه عشرة جداول أو أعمدة بوضع خطوط فاصلة بينها، وكتب في أول صفحة منه في أعلاها: . . . (¬1) | قافية | بحر | شاعر | الخزانة | العيني | شواهد المغني | أمالي ابن الشجري | الأشباه والنظائر | كتاب سيبويه. وقد ذكر كل معلومة وإحالة إلى المصدر بالجزء والصفحة بكل دقة، مع أنه لم يشر إلى عناوين هذه الجداول إلاَّ في الصفحة الأولى من الدفتر، ولم يكررها في كلّ صفحة. ونادرًا ما يخطئ في ذلك، وقد نبَّهت عليه بالرجوع إلى المصادر. رتّب المؤلف هذا المعجم على القوافي بعدد الحروف من الألف إلى الياء، وقسَّم كل قافية إلى المقيدة بالسكون ثم المفتوحة ثم المكسورة ثم المضمومة، ¬

_ (¬1) لم يكتب هنا شيئًا، وقد خصّص هذا العمود لذكر حرف الروي.

وألحق بكلّ قسمٍ منها ما وُصِل بالهاء، ففي حرف اللام مثلًا: (لْ، لا، لَه، لَها، لِ، لِه، لِها، لُ، لُه، لُها). كما قَسَّم قوافي كل حرف على البحور من الطويل إلى المتقارب (¬1) ويبيّن إذا كان مجزوءًا أو مشطورًا أو منهوكًا، أو دخله أيّ نوع من الزحاف، فيذكر في بحر الكامل مثلًا: كامل، كامل أحذ مضمر، كامل مجزوء ... ، ثمَّ يجعل القوافي من بحر معيَّن في مجموعات حسب نظام القافية: المتواتر، المتدارك، المتكاوس أو المتراكب، المؤسَّسة، المردوفة بألف، المردوفة بواو أو ياء، مثل: (البقْل، يفعل، سُبُل، يحاول، خيال وأمثال، يطول وجميل). وعند ذكر قافية البيت كثيرًا ما يكتب كلمة أو كلمتين أو أكثر قبلها للتمييز بين القوافي المتشابهة أو لتذكُّر الأبيات المعروفة. ويذكر عدة قوافي من قصيدةٍ واحدة للشاعر في موضع واحد، ويجمع بين مصادرها عند الإحالة دون التمييز بينها، وعند الإشارة إلى أبيات المعلقات والقصائد المشهورة يقتصر على ذكر قوافٍ قليلة منها، ويضع بعدها نقطًا (....) للدلالة على كثرة الاستشهاد بأبياتها، ثم يُحصي مواضع ورود جميع هذه الأبيات في المصادر إجمالًا. وإذا وجد قوافي من قصيدة واحدة في بقية المصادر، أدخلها في المكان المناسب بخط صغير، ووضع خطًّا فاصلًا ممتدًّا من يمين الصفحة إلى يسارها للتمييز بين القوافي ومصادرها، ولئلا تختلط الإحالات إليها والمعلومات المتعلقة بها من ذكر البحر والقائل. وأحيانًا يذكر بعض القوافي في الهوامش إلى ¬

_ (¬1) لا يوجد شيء من البحر المتدارك لعدم وجوده في الشعر القديم، ولذا لم يذكره الخليل، واستدركه الزجاج كما صرَّح بذلك القاضي أبو بكر ابن العربي في "أحكام القرآن" (4/ 1610). ووهم من قال: استدركه الأخفش، فقد طبع كتابه وليس فيه ذكر المتدارك.

اليمين، وإذا ضاق المكان كتبها في أسفل الصفحة أو أعلاها. وقد نقلتُ هذه القوافي إلى مكانها المناسب اتباعًا لمنهج المؤلف. وإذا كان هناك عدة قوافٍ من قصيدة لشاعر، وضع قبل بعض القوافي علامة × للدلالة على أنها من شواهد "كتاب سيبويه" دون غيرها، ولا يضع العلامة عندما تكون القافية أو جميع القوافي من شواهد سيبويه، فلا داعي هناك للتمييز. وقد يشير إلى نقل قافية من مكان إلى مكان آخر بوضع قوسٍ في أولها، ثم إيصالها بخطّ إلى المكان المطلوب. ولم يقتصر الشيخ على ذكر الشواهد النحوية فقط، بل قام بفهرسة جميع الأبيات الواردة في المصادر المختارة، ولكنه لم يذكر إلا قافية البيت الأول والأخير من المقطوعة أو القصيدة غالبًا، وقد يذكر غيرهما أيضًا. وأحيانًا يشير إلى مصدرٍ فيه بعض الأبيات من القصيدة، ولا يُثبت قوافيها استغناءً عنها بذكر أبيات منها في كتب شروح الشواهد، وغالبًا ما يفعل ذلك بأبيات "معجم البلدان" و"لسان العرب". ويبدو أنه بدأ بذكر أبيات "الخزانة" أولاً بالاعتماد على الفهرس الأولي الذي أشرتُ إليه، ثم استعرض كتاب العيني و"شواهد المغني" مع "المغني" (للأبيات التي لا توجد في شرح شواهده) و"أمالي ابن الشجري" و"كتاب سيبويه"، وأضاف في أثناء القوافي المذكورة ما وجد من قوافٍ جديدة، ثم أضاف إليها قوافي أبيات "الدرر اللوامع" و"معجم البلدان" و"اللسان" نقلاً من الدفتر الذي استخرج فيه أبياتها. وقد أشار إلى مواد "اللسان" في الجدول الذي خصَّصه للأشباه والنظائر (الذي لم يستخرج شواهده)، كما أحال إلى "الدرر اللوامع" و"معجم البلدان" في الجدول الذي خصَّصه للعيني، فقد وَسِع للإحالات إلى هذه

المصادر الثلاثة. وإذا كثرت الإحالات إلى مصدر معين، وضاق المكان المخصص للإشارة إليها جميعًا، ذكر بعضها في أسفل الصفحة في التعليق، وقال: "وانظر ... ". أما الجدول الخاص بذكر الشاعر فقد ذكر فيه اسمه، وإذا كان هناك اختلاف في نسبة البيت إلى أكثر من شاعر صرَّح بذلك. وأحيانًا يضع اسم الشاعر بين القوسين ()، ويذكر المصدر بجواره أو في التعليق، إشارةً إلى أن بقية المصادر لم تذكر اسم القائل. وفي مواضع كثيرة وضع رقم (50) بين القوسين مكان اسم الشاعر، للدلالة على أنها من الأبيات الخمسين (في "كتاب سيبويه") التي لم يُعرف لها قائل، كما نُقل عن الجرمي: نظرتُ في كتاب سيبويه، فإذا فيه ألف وخمسون بيتًا، فأما الألف فقد عرفتُ أسماء قائليها فأثبتُّها، وأما الخمسون فلم أعرف أسماء قائليها. وقد روي هذا الكلام لأبي عثمان المازني أيضًا (¬1). والواقع أن جملة غير المنسوب في كتاب سيبويه تبلغ 342 موضعًا، منها 43 موضعًا سُمِّيت فيها قبيلة الشاعر ولم ينصّ على اسمه، ونسب الأعلم الشنتمري في شرحه لشواهد الكتاب المسمى "تحصيل عين الذهب ... " 57 موضعًا. فما يبقى بعد ذلك غير منسوب 242 موضعًا، نسب منها الأستاذ رمضان عبد التواب (¬2) 167 موضعًا، وسبقه إلى نسبة كثير منها ابن السيرافي في "شرح أبيات سيبويه"، إذ توصَّلَ إلى معرفة الشاعر في 129 موضعًا، وصحح النسبة عند ¬

_ (¬1) انظر "خزانة الأدب" (1/ 8) و"المقاصد النحوية" للعيني (2/ 162) و"طبقات النحويين واللغويين" للزبيدي (ص 75). (¬2) في بحثه "أسطورة الأبيات الخمسين في كتاب سيبويه" المنشور في مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق، المجلد 49: 2 (1974 م) ص 61 وما بعدها.

* سبب اختياره مجموعة من الكتب للفهرسة

سيبويه في 31 موضعًا. ونسب الأستاذ محمَّد علي سلطاني (محقّق كتاب ابن السيرافي) حوالي 45 موضعًا منها (¬1). وخلاصة القول أن غير المنسوب في كتاب سيبويه حتى الآن أكثر من خمسين موضعًا، فلا صحة لما نُسِب للجرمي والمازني بهذا الصدد. والشيخ المعلمي رحمه الله على ما كان سائدًا عند شرّاح الشواهد، وتابعهم عليه، وهو معذور في ذلك إن شاء الله. أما الآن فيجب التثبُّت في كل ما يقال إنه من الأبيات الخمسين، ويُحقّق نسبته إلى قائله. * سبب اختياره مجموعة من الكتب للفهرسة: كان سبب اختياره للكتب السابقة أنها تحتوي على جميع الشواهد النحوية، وما يتعلق بها من شرح وذكر المناسبة والقصائد والمقطوعات التي منها هذه الشواهد، وإعرابها وبيان وجه الاستشهاد بها، وتحقيق نسبتها إلى قائليها وذكر الخلاف فيها. فهذه الكتب تعتبر موسوعة للشعر العربي القديم ومدخلاً إلى دراسته. و"كتاب سيبويه" هو الأصل للشواهد النحوية، وفيه أكثر من ألف شاهد شعري، ولم يعتن العلماء بكتاب آخر في النحو مثل اعتنائهم به. ثم كانت عنايتهم بكتاب "الجمل" للزجاجي (ت 340) و"الإيضاح" لأبي علي الفارسي (ت 377)، و"المفصل" للزمخشري (ت 538). ويوجد في "الجمل" 161 شاهدًا، وفي "الإيضاح" 340 شاهدًا، وفي "المفصل" 453 شاهدًا شعريًّا. وقد ألَّف العلماء كتبًا كثيرة في شرح هذه الكتب الأربعة وشرح شواهدها خاصة، لا أريد الخوض في تفصيلها, لأنه يخرج بنا عن المقصود. ¬

_ (¬1) انظر مقاله في مجلة المجمع, المجلد 49: 4 ص 882.

وفي القرن السابع ألَّف ابن الحاجب (ت 646) "الكافية"، ونظم ابن مالك (ت 672) "الألفية"، فانصرف الناس إليهما في بلاد الشرق والغرب. وشرح العيني شواهد أربعة شروح من شروح الألفية، لابن الناظم (ت 686) وابن أم قاسم (ت 749) وابن هشام (ت 761) وابن عقيل (ت 769)، ونسب كلّ بيت إلى من ذكره في كتابه برمزٍ اختاره لكل واحد منهم، وهو: ظ= ابن الناظم، ق= ابن أم قاسم، هـ = ابن هشام، ع = ابن عقيل. وعدد الشواهد في كتاب العيني 1294 شاهدًا. وشرح عبد القادر البغدادي شواهد "شرح الرضي على الكافية" في كتابه "خزانة الأدب ولبّ لباب لسان العرب"، وفيه 957 شاهدًا. وهو أوسع كتب شروح الشواهد وأهمها، وأكثرها استيعابًا للمباحث المتعلقة بالشعر والشعراء، ومسائل النحو واللغة، وتراجم الشعراء والأدباء، وأخبار العرب وأنسابها، وغيرها من المعارف العامة، لا يستغني عنه باحث في علوم اللغة العربية وآدابها. وكتابا العيني والبغدادي يستوعبان جميع شواهد "الجمل" و"الإيضاح" و"المفصل"، ولم يَفُتْهما من شواهد سيبويه إلا القليل. ثم لما ألّف ابن هشام "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" تلقّاه العلماء بالقبول وشرحوه، وشرح شواهدَه كلٌّ من السيوطي وعبد القادر البغدادي. وعدد شواهد المغني 1203 (مع التكرار) و946 شاهدًا بدون تكرار، شرح منها السيوطي 879 شاهدًا، وأسقط البقية لأن صاحبها ممن لا يحتج به لتأخر عصره كالمتنبي مثلًا، أو لداعية الاختصار. وكثير من شواهد المغني لم يحظ بالشرح والتحليل عند السيوطي، بل كان سردًا لا يتبعه بشرح أو تعليق. أما البغدادي في "شرح أبيات مغني اللبيب" فلا يكاد يُغفِل بيتًا مما ورد في "المغني"، سواء كان مما يحتج به أو مما أورده ابن هشام للاستئناس.

وآخر كتاب نحوي اهتمَّ العلماء بشرح شواهده هو "همع الهوامع شرح جمع الجوامع" للسيوطي، الذي يحتوي على 1821 شاهدًا (¬1). وقد شرح هذه الشواهد العلامة أحمد بن الأمين الشنقيطي (ت 1331) في كتابه "الدرر اللوامع على همع الهوامع". واطلعتُ أخيرًا على كتاب "جامع الشواهد" لمحمد باقر الشريف (من القرن الثالث عشر) الذي طبع لأول مرة في إيران سنة 1275. ذكر المؤلف في مقدمته أنه ألّف أولًا كتابه "الشواهد الكبرى" الذي كان يحتوي على شواهد ستين كتابًا في علوم النحو والصرف والبلاغة، مع شرحها وذكر تمام قصائدها وأسماء شعرائها وبيان الشاهد فيها. ثم اختار منه شواهد خمسة عشر كتابًا من الكتب الدراسية المتداولة، وهي: "شرح الأمثلة"، و"شرح التصريف" و"الشافية"، و"شرح النظام"، وشرحا "العوامل"، و"شرح القطر"، و"شرح الأنموذج"، و"الهداية"، و"الكافية"، و"شرح الجامي"، والسيوطي (لعل المقصود به شرحه على الألفية المسمى "البهجة المرضية")، و"المغني"، و"المختصر" و"المطول" شرحا التفتازاني على "التلخيص". وقد رتب المؤلف هذه الشواهد على أوائل الأبيات دون قوافيها، وأشار في أنصاف الأبيات وأعجازها إلى مراجعتها بعد البيت الفلاني أو في البيت الفلاني، وشرحَ معنى البيت بالفارسية وكذا وجه الاستشهاد به, لأن الغرض من تأليفه إمداد الطلّاب الفرس بشرح الأبيات التي تمرُّ بهم في المقررات الدراسية المتداولة. يظهر لنا باستعراض الكتب السابقة أن ("الخزانة" والعيني والسيوطي و"الدرر اللوامع") قد استوعبت جميع الشواهد النحوية تقريبًا، ولذا وقع اختيار المعلمي ¬

_ (¬1) ذكر الشنقيطي في خاتمة "الدرر اللوامع" أن الكتاب يحتوي على ألف وخمسمئة شاهد ونيف غير المكررات. وهو عدد غير دقيق.

* المقارنة بينه وبين غيره من فهارس الشواهد

عليها، وأضاف إليها "كتاب سيبويه" و"أمالي ابن الشجري", لأن "الكتاب" هو الأصل، وينفرد بشواهد عديدة، وفي "الأمالي" أبيات مشكلة للمتنبي وغيره شرحها المؤلف وتكلم عليها، وأفاض في ذكر المسائل المتعلقة بها، وجمع أقوال كثير من النحاة واللغويين والأدباء، وقد أملاها في 84 مجلسًا (¬1). وراجع المؤلف "المغني" واستخرج منه الأبيات التي لم يشرحها السيوطي، كما بدأ بفهرسة أشعار "معجم البلدان" و"لسان العرب" ولكنه لم يتمها. ولو تمَّ لكان مغنيًا عن غيره من الفهارس. وهو في الوضع الراهن يرشد الباحثين إلى مظان الشعر والكلام عليه في كتب شروح الشواهد والمصادر الأخرى المهمة. * المقارنة بينه وبين غيره من فهارس الشواهد: صدرت عدة فهارس للشواهد بعد ما صنع المعلمي هذا المعجم، وفيما يلي تعريف موجز بها وبمناهجها، وكلام إجمالي على قيمتها وأهميتها، ومقارنة بينها للتوصل إلى معرفة وجوه الخلل والقصور في بعضها، من حيث استيعابها للشواهد وترتيبها ونسبتها إلى أصحابها وعزوها إلى المصادر. 1) وأول هذه الفهارس ظهورًا فهرس الشواهد (Schawahid Indices) الذي طُبع في ألمانيا سنة 1945 م، وصنعه المستشرقان فيشر وبرونلش. كان قصدهما جمع الشواهد المتفرقة في كتب شروح الشواهد وبعض كتب اللغة والنحو، ومنهجهما فيه أن يذكرا القافية أولًا، ثم البحر (بحرفٍ من الحروف الإفرنجية)، ثم ¬

_ (¬1) تضم طبعة حيدراباد 78 مجلسًا فقط، ونشر حاتم صالح الضامن "ما لم ينشر من الأمالي الشجرية" في مجلة المورد مج 3 ع 1 - 2 (1974)، ثم في بيروت سنة 1405/ 1985 م، وحقق محمود محمَّد الطناحي الكتاب بتمامه من جديد، ونشره في القاهرة سنة 1413/ 1992 م في ثلاثة مجلدات مع الفهارس اللازمة.

الشاعر مع الإشارة إلى اختلاف النسبة، ثم المصادر. وقد قسَّما القوافي على الحروف، وكل حرفٍ على القوافي المضمومة فالمكسورة فالمفتوحة فالساكنة، ولكنهما لم يراعيا ترتيب القوافي على البحور، بل رتّباها على أوائل كلمات القوافي. وهذه بعض النماذج منه بعد تعريبها: - أدبا، بسيط، سهم بن حنظلة الغنوي: الخزانة 4/ 123 (15 بيتًا)، لين 570، هوويل ج 2 - 3/ 230 - (لقد) أصابا، وافر، جرير [ديوانه 1/ 30، 16]: سيبويه 2/ 326، 327، الشنتمري 2/ 298، 299، المفصل للزمخشري رقم 608، شرح ابن يعيش 1/ 29، 76، 485، 595، 609، 1280، العيني 1/ 91 (9 أبيات)، شرح شواهد المغني 258، الخزانة 1/ 34 (6 أبيات)، 164، 4/ 554، جامع الشواهد 25 (24)، 46 (45)، شرح شواهد الكشاف 36، الشنقيطي 2/ 103، 214، 236، الجرجاوي 2، قطّة 3، الآقشهري 46، هوويل ج 2 - 3/ 701، 4/ 851 لم يقتصر المؤلفان على كتب شواهد النحو المعروفة، بل رجعا أيضًا إلى "شرح شواهد الكشاف" (لمحب الدين أفندي)، و"الاقتضاب" (لابن السيد البطليوسي)، و"معاهد التنصيص" (للعباسي) و"شرح المضنون به على غير أهله" (لابن عبد الكافي). كما اعتمدا أيضًا على بعض كتب الشواهد المتأخرة، مثل "جامع الشواهد" (لمحمد باقر الشريف)، و"شرح أبيات الكافية والجامي" (للآقشهري)، و"شرح شواهد ابن عقيل" (للجرجاوي)، وشرح شواهده (لقطة العدوي)، و"شرح شواهد شذور الذهب" (للفيومي) وغيرها. بل قد توسعا

في ذلك، فاستخرجا الأبيات الموجودة في معجم لين الذي سماه "مدّ القاموس" (An Arabic - English Lexicon)، وكتاب هوويل في قواعد اللغة العربية (A Grammar of the Classical Arabic Language). وهما من الكتب المتداولة عند المستشرقين، والأول يحتوي على كثير من شواهد "لسان العرب" و"تاج العروس"، والثاني يحتوي على كثير من شواهد كتب النحو. وكان الأولى الاعتماد على "اللسان" وغيره من المعاجم العربية وبعض كتب النحو القديمة، بدلًا من كتابي لين وهوويل، ولكن المؤلفين اعتمدا عليهما، جريًا على عادة المستشرقين في الإحالة إلى دراساتهم وطبعاتهم للكتب، وإن كانت نادرة الوجود ورديئة أو ناقصةً، فهما على سبيل المثال اعتمدا طبعة باريس من كتاب سيبويه دون طبعة بولاق التي هي أصحّ منها وأدقّ، ولكن اضطرَّا إليها للإحالة إلى الشنتمري، فكتابه في شرح شواهد سيبويه لا يوجد إلا بهامش طبعة بولاق! وقد كان ينبغي الاقتصار على كتب الشواهد الأصيلة دون الكتب التي أُلِّفت في القرنين الثالث عشر والرابع عشر، فليس فيها أيّ إضافة إلى الكتب السابقة. ولكنهما أكثرا من الاعتماد على هذه الكتب المتأخرة لأنها من كتب شروح الشواهد! ومهما يكن من أمر فقد قام المستشرقان بصنع هذا الفهرس، وعلَّقا عليه تعليقاتٍ مفيدة (ص 295 - 313)، وحقّقا نسبة الأبيات واختلاف رواياتها، وأحالا إلى الدواوين والمجاميع الأدبية. ومما يميِّز هذا الفهرس أنه أشار إلى عدد الأبيات الموجودة في كل مصدر، وأحال إلى عدة طبعات إذا كان للمصدر طبعات متعددة، ونبَّه على أوهام وأخطاء. وقد عمل المؤلفان فهرسًا للشعراء الذين ورد ذكرهم في فهرس القوافي (ص 321 - 349)، وهو فهرس مفيد لمن يريد معرفة شعر شاعر معين.

وقد صدر هذا الفهرس سنة 1945 م، ومع ذلك لم يعرفه العرب وعلماء المشرق، ولم يجد التقدير اللائق به عند المتخصصين في الغرب، كما قال سزكين في تاريخ التراث العربي (2: 1/ 11). وأعيد طبعه في ألمانيا سنة 1982 م (¬1). 2) ثم ألّف الأستاذ عبد السلام محمَّد هارون "معجم شواهد العربية" الذي طبع في القاهرة 1393/ 1973 م في جزئين (¬2). ومنهجه فيه يُشبه منهج المعلمي في معجمه من حيث ترتيب القوافي، إلاَّ أنه جعل المعجم في قسمين: الأشعار والأرجاز، ورتّب أسماء الشعراء على الحروف في كل نوع من أنواع القافية. ومما يلاحظ عليه أنه فاته أبيات كثيرة حتى من كتاب سيبويه، ولم ينسب كثيرًا من الأبيات المنسوبة عند ابن السيرافي، ولم يستقص ذكر جميع المواضع في المصادر التي فهرسها. وعنده أخطاء كثيرة في الإحالات لا تكاد تخلو منها صفحة، وربما تتعدد الأخطاء في صفحة واحدة. وقد زاد حجم الفهرس عنده فبلغ أكثر من ستمئة صفحة بسبب تخريجه لكل بيت بيت من القصائد المشهورة (مثل المعلقات وغيرها). أما المعلمي فقد اقتصر على ذكر أبيات قليلة منها ووضع بعدها نقطًا للدلالة على كثرة الاستشهاد بأبياتها، وذكر مواضع ورود جميع الأبيات في المصادر إجمالًا. فالمقصود من التخريج: الإشارة إلى القصيدة أو المقطوعة التي منها البيت أو الأبيات ليُعرف موقعه أو موقعها منها، لا الإشارة في كل بيت بيت إلى أماكن وروده في المصادر، فهذا لا داعي له، ولا فائدة منه إلاّ ¬

_ (¬1) أشكر صديقي الأخ نبيل نصّار لسعيه في الحصول على جزء من الكتاب بالألمانية ونماذج من الفهرس. وهذا الوصف مأخوذ مما وصلني بواسطته، فجزاه الله خيرًا. (¬2) صدرت له طبعة ثانية في القاهرة، زاد فيها بعض المصادر التي قام بفهرستها فبلغت 41 مصدرًا.

تكثير المصادر، فإن الأبيات المشهورة مثل أبيات المعلقات والحماسة وديوان المتنبي وغيرها توجد في أغلب كتب اللغة والأدب، ومعاجم البلدان، وكتب التاريخ والأنساب وغيرها. ولذا فمنهج الأستاذ عبد السلام هارون في معجمه، والأستاذ رمضان عبد التواب في تحقيقاته بعيد عن المنهج العلمي السليم الذي مشى عليه كبار المحققين أمثال الميمني وغيره. وقد اختار الأستاذ هارون للفهرسة ثلاثين كتابًا من كتب النحو والصرف وفقه اللغة والبلاغة والعروض، وسمَّى كتابه "معجم شواهد العربية". فهو أوسع من معجم المعلمي الذي اقتصر على فهرسة تسعة كتب فقط من كتب النحو وشواهده واللغة والبلدان، ولكن (أي المعلمي) فهرسَ جميع الأبيات المذكورة في "الخزانة" والعيني وشواهد المغني، على عكس عبد السلام هارون الذي اقتصر على فهرسة الشواهد النحوية منها فقط، فزادت الأبيات عند المعلمي زيادة بيِّنة، واحتوت على مئات الأبيات التي وردت فيها عرضًا، ولا يستغني عنها الباحثون في دراساتهم. ثم إن اختيار المعلمي للمصادر المهمة كان بناءً على قيمتها العلمية وأصالتها وثقة العلماء واعتمادهم عليها في دراسة الشعر والنحو، وهكذا ينبغي لكل من يقوم بفهرسة الشعر والشواهد أن يقتصر على أمهات الكتب في النحو واللغة، والتي عليها الاعتماد في الاستشهاد، دون التوسع في ذكر الكتب والحواشي التي لم يكثر تداولُها والاعتماد عليها في الدراسة إلاَّ عند المتأخرين، فهذه ينبغي صرف النظر عنها، فإن وجود الشواهد فيها لا يزيد في أهميتها وقيمتها، وجُلُّها أو كلّها موجود في الكتب السابقة. فاستخراج الشواهد من "شذور الذهب" و"التصريح" لخالد الأزهري، و"شرح الأشموني" و"حاشية الصبان"، و"حاشية

يس العليمي" ... وغيرها من الكتب المتأخرة - كما فعل الأستاذ هارون (¬1) وغيره - مما لا يجدي نفعًا. وكذلك الكتب التي حقِّقت وطبعت في العصر الحديث، ولم يكثر تداولها بين العلماء قديمًا والاهتمام بها من قبل الشرَّاح والمؤلفين، كان الاستغناء عنها أحسن، مثل: "المقتضب"، و"الخصائص"، و"المنصف"، و"المحتسب"، و"الإنصاف" و"المقرب" ... وغيرها، فالشواهد الموجودة فيها موجودة في عامة كتب شروح الشواهد، ولا يشذُّ عنها إلا أبيات قليلة. وعلى كلٍّ فقد بذل الأستاذ عبد السلام هارون جهدًا مشكورًا في فهرسة الشواهد، واستفاد منه الباحثون خلال أربعين عامًا. وعامة المحققين لكتب النحو يعتمدون عليه اعتمادًا كليًّا، دون التنبُّه إلى الأخطاء في الإحالات. 3) كانت الفهارس السابقة فهارس علمية يستفيد منها العلماء والباحثون الذين يعرفون العروض والقوافي، ويسهل عليهم مراجعتها والاستفادة منها. وعلى هذا المنهج أعلام المحققين في فهرسة الشعر في أواخر الكتب التي قاموا بتحقيقها. ثم جاء بعضهم فقاموا بفهرسة الشواهد بذكرها بتمامها دون الاقتصار على قوافيها، ودون ترتيبها على البحور. فصنع الأستاذ حنّا جميل حداد "معجم شواهد النحو الشعرية" وطبع بدار العلوم في الرياض سنة 1404/ 1984 م. جمع فيه 3800 شاهد نحوي من كتب النحو بدءًا من "كتاب سيبويه" إلى "شرح الأشموني" المتوفي سنة 929، وقسمها ثلاثة أقسام: شواهد الشعر وشواهد الرجز وأنصاف الأبيات، ورقمها ترقيمًا مسلسلًا، وسردَ جميع الشواهد أولًا (ص 25 - 253) ثم ¬

_ (¬1) مع أنه قال في مقدمته إنه اختار من المصادر "ما هو أعلى قدرًا، وما هو أجمع من غيره وأشمل، وما هو أصل في الفن وأجزل في الفائدة".

تخريج الشواهد (ص 257 - 782)، ثم عمل فهرس موضوعات الشواهد، وفهرس الشعراء والرجاز، وفهرس المصادر والمراجع. وقد اهتم المؤلف بتحقيق نسبة الأبيات إلى الشعراء، فأحال إلى الدواوين والمجاميع الشعرية وكتب الأدب واللغة والبلدان وغيرها، وبيَّن إذا كان الشاهد منسوبًا في المصدر أو غير منسوب. ولم يهتم باختلاف رواية الشاهد في المصادر المختلفة. ورتَّب الشواهد على القوافي المضمومة فالمفتوحة فالمكسورة فالساكنة، ثم رتَّب كلَّ نوع منها بالنظر إلى الكلمات الأخيرة من القافية، على أوائل حروف هذه الكلمات. ومما يؤخذ على هذا المعجم شيوع الأخطاء في ضبط الشعر وشَكْله، بسبب التزامه الشكل الكامل. وهو مقصور على شواهد النحو كما ذكر المؤلف، فليس فيه أبيات غيرها، بخلاف معجمَي المعلمي وعبد السلام هارون، ففيهما أبيات كثيرة غير الشواهد النحوية، ولكنه مع قلة الشعر الموجود فيه سهل التناول والاستفادة لمن لا يعرف العروض وبحور الشعر، ومفيد لتحقيق نسبة الشواهد إلى الشعراء ومعرفة الاختلاف فيها مع الإحالة إلى مصادر الأدب واللغة. 4) وصدر معجم آخر بعنوان "المعجم المفصل في شواهد النحو الشعرية" إعداد الأستاذ إميل بديع يعقوب، من دار الكتب العلمية بيروت سنة 1413/ 1992 م. وهو أيضًا يُورد الشاهد بتمامه مثل المعجم السابق، والفرق بينهما من وجوه: 1 - في هذا المعجم رُتِّبت الشواهد على القوافي الساكنة أولًا، ثم المفتوحة ثم المضمومة ثم المكسورة، والعبرة هنا أيضًا للكلمات الأخيرة من القوافي،

* وصف الأصل

ولكن ترتيبها على عكس ترتيب المعجم الأول، فهذا المعجم رتّبها نظرًا لآخرها دون أولها. 2 - ذكر الشاهد مع التخريج في موضع واحد، وهو أسهل في المراجعة. 3 - تميّز ببيان البحر لكل شاهد. 4 - ذكر وجه الاستشهاد عقب كلّ بيت. وقد استُدرك فيه بعض الشواهد التي فاتت المعجم السابق، وهي قليلة بالنسبة لعامة الشواهد. أما الكلام عليها وتحقيق نسبتها والإحالة إلى مصادرها فهي بطريقة واحدة في المعجمين تقريبًا، مع تغيير بعض المصادر واختلاف طبعاتها. وكلُّ من يرجع إلى المعجمين ويقارن بينهما يجد شواهد ذلك ماثلةً بين عينيه. ويجوز له أن يقول: إن صاحب هذا المعجم أغار على المعجم الأول، وزاد عليه بعض الأبيات ولاحظ بعض الأمور التي ذُكرت، وأخرجه إخراجًا ثانيًا، ونسبه إلى نفسه! والله أعلم بالسرائر. * وصف الأصل: وصلت إلينا نسخة الأصل لهذا المعجم في مكتبة الحرم المكي برقم [4915]، وهي بخط المعلمي في دفتر صغير مسطّر، من الدفاتر التي تُصنع بالهند بحجم 20 × 16 سم، في 168 صفحة، يقع المعجم منها في 160 صفحة كما رقمها الشيخ، وبعدها صفحات كتب فيها بعض الأبيات والإحالات، وبعضها بيضاء. ولم يجعل الشيخ لهذا المعجم عنوانًا ولا مقدمةً، وإنما اقتصر على ذكر الكتب التي قام بفهرسة شواهدها في أول الدفتر، وقسَّم كل صفحة إلى عشرة جداول أو أعمدة ميَّز بينها بخطوط فاصلة: الأول للإشارة إلى حروف

* عملي في التحقيق

القوافي (أإ أُ بَ بِ بُ بَه ...)، والثاني للقافية أو قطعة من آخر البيت، والثالث للبحر، والرابع لذكر اسم الشاعر، والخامس إلى العاشر لذكر المصادر الأساسية وما أضاف إليها أحيانًا من مصادر أخرى. وقد أصابها الاهتراء أو البلل في بعض الصفحات، والورقة الأولى منها مخروم ثلثها من أسفل، والصفحة الأولى شطب عليها المؤلف، لأنه نقل الأبيات المذكورة فيها إلى مكان آخر. ومع أن عدد الأسطر في كل صفحة من الدفتر المسطّر 18 سطرًا، إلا أن الشيخ يكتب أحيانًا بخطه الدقيق 35 سطرًا أو أكثر، ويُميِّز بين قافيتين وإحالاتهما بخطٍّ يمدُّه بينهما من اليمين إلى اليسار. ويضطر في كثير من الأحيان إلى زيادة أبياتٍ وقوافٍ في هوامش الصفحة أو في أعلاها أو أسفلها. وقد وصل إلينا هذا المعجم تامًّا من أوله إلى آخره، مرتَّبًا ترتيبًا دقيقًا على القوافي كما سبق، مستوعبًا للشعر الموجود في المصادر الأساسية (التي وقع الاختيار عليها) تقريبًا. ومع ذلك بقي مجهولًا لدى الباحثين، لم يُعثر عليه إلاَّ أخيرًا ضمن الأوراق والدفاتر التي لم تفهرس في المكتبة. فالحمد الله الذي بنعمته تتم الصالحات. * عملي في التحقيق: قمتُ بالنسخ من الأصل مع مراجعة المصادر التي أشار إليها الشيخ، لأن خطّه دقيق لا تظهر الكلمات في القوافي في مواضع كثيرة منه. وجعلتُ الكتاب في أربعة جداول بدلًا من عشرة لسهولة الطباعة والإخراج، وذلك بجعل الجداول الستة للمصادر جدولًا واحدًا، صرَّحتُ فيه باسم كل مصدر بالرمز الذي اختاره المؤلف في أول الكتاب، واستغنيتُ عن الجدول الأول (الذي وضعه المؤلف

لحروف القوافي) بوضع بداية كل حرف في وسط السطر، ووضعتُ القوافي (التي كُتبت في أعلى الصفحة أو أسفلها لضيق المكان) في أماكنها المناسبة حسب منهج المؤلف. ونقلتُ بعض الأبيات التي ذُكِرت خطأً في قوافٍ غير مناسبة إلى قوافيها الصحيحة، مع التنبيه عليها. بعد الانتهاء من النسخ قمت بمراجعة المصادر، وصححت الإحالات إلى الجزء والصفحة إذا وقع فيها خطأ، مع التنبيه عليه أحيانًا في الهامش، وزدتُ بين معكوفتين تلك الأبيات والإحالات التي فاتَ المؤلفَ ذكرُها في المصادر التي قام بفهرستها. وإذا لم يكن القائل مذكورًا بعثت عنه في المصادر وأثبتُّه بين معكوفتين. وكذلك إذا حصل سهوٌ في ذكر البحر نبَّهت على ذلك. وقد جعل المؤلف أكثر الرجز من السريع المشطور إذا كان على وزن: مستفعلن مستفعلن مفعولن. والخلاف فيه قديم، يراجع لتفصيل الكلام حوله كتب العروض المطوّلة. وبعد الانتهاء من تحقيقه كتبت هذه المقدمة التي تعرِّف بهذا المعجم ومنهج المؤلف فيه، وتُبيِّن سَبْقه إلى التأليف في هذا الباب، وتُبرِز جانبًا مجهولًا من جوانب حياته العلمية. وفي الختام أدعو الله أن يجزي المؤلف أحسن الجزاء على ما قام به من خدمة للعلم وأهله، وينفع الباحثين والطلاب بهذا المعجم، وييسّر لهم الاستفادة منه، ومراجعة أمهات كتب الأدب واللغة بواسطته، إنه سميع مجيب. كتبه محمَّد عزير شمس

الرموز والمختصرات

الرموز والمختصرات الخزانة = خزانة الأدب، لعبد القادر البغدادي، ط. بولاق 1299. سيبويه = كتاب سيبويه، ط. بولاق 1316. ش = تحصيل عين الذهب، للأعلم الشنتمري، طبع بهامش كتاب سيبويه. ابن الشجري = الأمالي الشجرية، لابن الشجري، ط. حيدراباد 1349. شواهد المغني = شرح شواهد المغني، للسيوطي، ط. القاهرة 1322. العيني = المقاصد النحوية في شرح شواهد شروح الألفية، للعيني. طبع بهامش الخزانة. ق = معجم البلدان، لياقوت، ط. ليبزيج 1866 - 1870 م. ل = لسان العرب، لابن منظور، ط. بولاق 1300 - 1307. م = حاشية الأمير على مغني اللبيب لابن هشام، ط. دار إحياء الكتب العربية، القاهرة بدون تاريخ. مع = الدرر اللوامع على همع الهوامع، لأحمد بن الأمين الشنقيطي، ط. القاهرة 1328.

نماذج من النُّسخة الخطية

المعجم

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: لم ندخل معجم الشواهد الشعرية في هذه المرحلة، وسندخله في مرحلة لاحقة إن شاء الله

الخطب والوصايا

آثار الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي (22) الخطب والوصايا تأليف الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني 1312 هـ - 1386 هـ تحقيق محمد أجمل الإصلاحي وفق المنهج المعتمد من الشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد (رحمه الله تعالى) تمويل مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

بسم الله الرحمن الرحيم

راجع هذا الجزء عبد الله بن عبد العزيز الهدلق

مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية SULAIMAN BIN ABDUL AZIZ AL RAJHI CHARITABLE FOUNDATION حقوق الطبع والنشر محفوظة لمؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية الطبعة الأولى 1434 هـ دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع مكة المكرمة - هاتف 5473166 - 5353590 فاكس 5457606 الصف والإخراج دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

مقدمة التحقيق

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة التحقيق الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الكريم وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد، فهذا السفر الذي بين أيديكم يشتمل على مجموعة من خطب العلامة الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي - رحمه الله - ووصاياه. أما الخطب فإنها جميعًا من خطب الجمعة والعيدين التي ألقاها الشيخ في بعض مساجد جيزان، في إمارة السيد محمَّد بن علي الإدريسي. وكان الشيخ يومئذ في عنفوان شبابه، فإنه لما وصل إلى حضرة الإدريسي في شهر صفر سنة 1336 كان عمره نحو 23 سنة، ولكنه قد بلغ من تعمقه في الفقه وتمكنه في غيره من العلوم المتداولة في عهده مبلغًا جعل السيد الإدريسي يوليه رئاسة القضاة، ويلقِّبه بشيخ الإِسلام. وهاكم تعريفًا موجزًا بهذه الخطب: (1) الزمان والمكان والعدد: مكث الشيخ المعلمي في حضرة الإدريسي إلى وفاة السيد في شهر شعبان سنة 1341، وبعد وفاته سافر إلى الهند، فكانت مدة اتصاله بالسيد نحو خمس سنوات، وفي خلالها ألقيت هذه الخطب، ولكن أفي أولها، أم في وسطها، أم في آخرها؟

وينشأ عن ذلك سؤال آخر، هو أن هذه الخطب التي وجدت في مكتبة الحرم المكي الشريف في أوراق متفرقة، مختلفة في الطول والعرض واللون والشكل، مشطورة أو منهوكة، متمزقة أو مهترئة أحيانا من أوساطها أو أطرافها = هل هي كل خطب الشيخ، أو طارت ببعضها هُوج الرياح العواصف؟ قد توجه الشيخ بعد وفاة الإدريسي إلى الهند مصطحبًا كتبه ومؤلفاته ودفاتره، ومكث هناك خمسًا وعشرين سنة يصحح ويؤلف، ثم رجع إلى الحجاز يحمل رصيدًا جديدًا من كتب ومؤلفات ودفاتر ومذكرات بالإضافة إلى الأوراق القديمة، واحتفظ بها معه في مكتبة الحرم المكي الشريف إلى أن توفي في المكتبة سنة 1386، فهذه خمس وأربعون سنة، والآن قد مضى على وفاته 47 سنة أخرى = فمن المحال، بعد هذه المدة المديدة من الحل والترحال، أن تبقى تلك الأوراق المنثورة التي لم تضمها دفتان مجتمعة ومصونة من الضياع والتمزق والتأكل وغيرها من ضروب الاختلال. يؤكد ذلك أن بعض الخطب لم يوجد إلا نصفها أو جزء منها، فلا يبعد أن تكون خطب كاملة قد ضاعت. أما الخطب التي وصلت إلينا فلا تزيد على 56 خطبة غير الخطب الثواني، ومعنى ذلك أنها لا تكفي لأكثر من سنة وشهرين. وهذا يساعدنا على الإجابة عن السؤال الأول، وهو: هل يمكن تحديد زمن هذه الخطب من السنوات الخمس التي قضاها الشيخ في إمارة الإدريسي؟ يبدو لي - والله أعلم - أن زمنها يمتد من شهر جمادى الآخرة سنة 1340 إلى شهر شعبان من سنة 1341. وقد استنبطت ذلك من الأمور الآتية:

(2) البناء والشكل

الأول: أن ثلاث خطب منها انفردت بالتنبيه على شهرها وجمعتها، فكتب في رأس إحداها (52): "الخطبة الأولى لرجب"، وفي أخرى (51): "الخطبة الرابعة لجمادى الثانية"، وفي ثالثة (50): "الخطبة الثالثة لجمادى [الثانية] ". هذا التنبيه يدل على أن هذه الخطب الثلاث أقدم الخطب التي بين أيدينا، فإن من عادة الإنسان أنه إذا أخذ في عملٍ جدير بالعناية والاحتفال في نظره حرَصَ في أول أمره على تقييد وقته ويومه وتاريخه، ثم يتكاسل فيما بعد ويتساهل. وقد يكون الشيخ بدأ يخطب من أول جمعة من شهر جمادى الآخرة، وفقدت الخطبتان الأولى والثانية، أو قصد بالخطبة الثالثة الجمعة الثالثة، فكانت هي بداية خطبه. وستأتي قرينة أخرى على كونها أقدم خطب الشيخ. الثاني: أن الخطبة الثامنة عشرة التي هي خطبة عيد الأضحى تفيد أن العيد في تلك السنة قد وافق يوم الجمعة، فإذا رجعنا إلى التقويم علمنا أن السنة التي وافق فيها يوم النحر يوم الجمعة من بين السنوات الخمس (1336 - 1341) هي سنة 1340 لا غير. الثالث: لا توجد في المجموعة من خطب العيد إلا خطبة واحدة، وكذلك من خطب عيد الأضحى، فلم يدرك الشيخ إلا عيدًا واحدًا. الرابع: أدرك الشيخ شهر شعبان مرتين، فإن سبع خطب في هذه المجموعة تتحدث عن فضل شهر شعبان. (2) البناء والشكل: 1) معظم الخطب قصار، فإن ثلاثة أرباعها لا تتجاوز ثلاث صفحات،

بل كثير من هذه جاءت في صفحتين فقط. وأطولهن خطبة العيد (23) التي استغرقت ثماني صفحات، وتبقى عشر خطب، نصفهن في أربع صفحات والنصف الآخر في خمس إلى ستِّ صفحات. وقد ذكَّرنا حديثُ الطول والقصر هذا برسالة (¬1) للشيخ كتبها إلى "العلامة الهمام علم الإِسلام السيد صالح بن محسن الصيلمي"، وذكر فيها أولاً أن "الأولى في خطبة الجمعة قصرها ما أمكن اتباعًا للسنة ورفقًا بالمؤمنين، فإن فيهم من يشقُّ عليه القعود في مقام واحد مع ازدحام الناس ... ". ثم أشار إلى السيد الإدريسي قائلاً: "كيف؟ ومولانا أيده الله تعالى وأولاد عمه وأعوانه كلهم تنالهم المشقة لإضرار الحر مع الازدحام بهم". ثم أوصاه بأن تكون الخطبة قصيرة، و"لتبلغ الأولى قدر سورة الفجر، والأخرى أقصر". وبعد ذلك أورد - على سبيل المثال - عن الجاحظ (¬2) خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أيها الناس إن لكم معالم ... الجنة أو النار". هذه الرسالة غير مؤرخة، فلا ندري أهي متزامنة مع خطب الشيخ أم لا. وكان للشيخ أن يمثل لمقدار الخطبة بسورة ق، فقد ورد في حديث أخت عمرة بنت عبد الرحمن في صحيح مسلم (872) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ بسورة ق والقرآن المجيد في كل جمعة؛ ولكن لعله مثَّل بسورة الفجر نظرًا ¬

_ (¬1) هي ضمن مجموعة الرسائل المتبادلة. (¬2) انظر البيان والتبين (1/ 302).

إلى اشتداد الحر ومراعاةً لجانب السيد وأبناء عمه وأعوانه الذين كانوا يتأذون بالحر مع الزحام، بل يبدو لي أن هذه الرسالة قد كتبت بإيعاز من السيد، والله أعلم. وأيًّا كان الأمر، فإننا إذا وزنّا خطب الشيخ بميزانه هذا، لم نجد منها ما يقارب سورة الفجر إلا ثلاث خطب (15، 28، 55)، بل الخطبة (40) ختمها الشيخ بتلاوة سورة الفجر كاملة، وهي ثلث الخطبة أو أكثر. 2) نسج الشيخ خطبه على منوال خطب ابن نباتة، بل نجد خطبة كاملة (38) أخذها الشيخ من خطب ابن نباتة، وتناولها بشيء من التصرف في ألفاظها وجملها، ثم أضاف إليها قبل ختمها بآية من القرآن الكريم حديثًا في فضل ليلة النصف من شعبان. فهذه الخطبة التي ألقيت في شهر شعبان، وأظن أنها من أوائل خطبه، قد اتخذها الشيخ فيما بعد مثالا يحتذيه في خطبه مع بعض الإضافات. وهي أن ابن نباتة لا يورد في خطبه نص الحديث بل يدخله ضمن كلامه، أما الشيخ فقد جعل للحديث في خطبته موضعًا معيَّنًا، وكتب بخط بارز كلمة "حديث"، ثم التزم إيراد حديث أو أكثر بنصه. والأمور التي تابع الشيخ فيها ابن نباتة: موضوعات الخطبة، وكثرة الجمل الإنشائية، وعدم التمثل فيها بالشعر إلا في خطبة واحدة سيأتي ذكرها، والتمهيد لتلاوة الآية في الخاتمة بمثل هذه العبارة: "هذا، وإن أبدع الكلام نظما ... كلام من وسع كل شيء رحمةً وعلمًا، والله تعالى يقول". هذه العبارة لابن نباتة، وقد كررها الشيخ في الخطبة (53) ثم تفنن كابن نباتة في صياغتها بطرق متنوعة. 3) رتب الشيخ خطبه عمومًا على الوجه الآتي.

1 - المقدمة وهي تشتمل على حمد الله عزَّ وجلَّ، والشهادتين، والصلاة والسلام على نبينا محمَّد - صلى الله عليه وسلم -. 2 - الموعظة، وستأتي الإشارة إلى موضوعاتها. 3 - الحديث، ويكتب قبل إيراده بخط جلي: كلمة "حديث". وكثيرًا ما يقتصر على حديث واحد، وقد يزيد. 4 - الآيات، ويمهد لها بعبارة تابع فيها ابن نباتة، كما سبق. 5 - الخاتمة، وهي جملة أو جملتان من الدعاء ولا يلتزم كتابتها. الجدير بالذكر أن خمس خطب (36, 37، 50، 51, 52) لم ترتب هذا الترتيب, لأنها أقدم الخطب كما سيأتي، فالظاهر أن الخطبة (38) وهي خطبة ابن نباتة التي أخذها الشيخ بشيء من التصرف هي التي كانت نموذجًا لخطبه في المستقبل. هذا ترتيب الخطب الأُوَل. أما الخطب الثواني، فيستهلها بحمد الله والشهادتين، ثم يلقي موعظة قصيرة، يقفوها الصلاة والسلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - وإخوانه المرسلين، ثم الدعاء للخلفاء الراشدين: كلٍّ على حدة، مع ذكر ألقابه. وعند ذكر علي بن أبي طالب يضم إليه ذكر فاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم. ويتبعهم الدعاء للستة المتممين للعشرة، وأهل بيعة الرضوان والشجرة، وعمي النبي - صلى الله عليه وسلم -: الحمزة والعباس، وأمهات المؤمنين وترجمان القرآن عبد الله بن العباس، ثم التابعين وتابعيهم بإحسان.

(3) المحتوى

بعد ذلك يدعو لعز الإِسلام والمسلمين، ويطيل في الدعاء للنصر والتأييد لإمام المسلمين وأتباعه وأوليائه، والدعاء على خصومه ومخالفيه وأعدائه، ثم يدعو لعامة المسلمين. هذا إذا أطنب وفصَّل، وإذا اقتضى المقام أن يوجز ترضَّى - بعد الصلاة والسلام على محمَّد - صلى الله عليه وسلم - عن "أهل بيته الأطهار، وخلفائه الأبرار، وصحابته الأخيار" دون ذكر الأسماء والألقاب. (3) المحتوى: 1) الخطب التي ألقيت في العيدين والشهور والأيام الفاضلة أو بعض المناسبات كان الحديث فيها منصبًّا على تلك المواسم والمواقيت. فالخطب التي ألقاها في شعبان ذكر فيها فضل ليلة النصف من شعبان وأورد الأحاديث الواردة فيه، ودعا الناس إلى استقبال شهر رمضان والاستعداد له. وفي خطب رمضان بيَّن لهم فضائله، وأنه شهر التوبة والإقلاع، وأنه أنزل فيه القرآن، وأن فيه ليلة القدر؛ وحثهم على اغتنام ساعاته. وفي آخر خطب رمضان نبَّههم على إخراج زكاة الفطر قبل خروجهم إلى صلاة العيد. ثم في خطبة العيد ذكر أحكام زكاة الفطر وفضلها، وأن لا يقصروا عن طاعة الله سبحانه بعد انقضاء رمضان، وأن يعلموا أنهم قد خرجوا من شهر الصيام إلى أشهر الحج الحرم. وكذلك في خطب ذي الحجة ذكر فضل الأيام العشرة من الشهر، ثم في خطبة عيد الأضحى فصّل القول في أحكام الأضحية، وأورد خطبة النبي

- صلى الله عليه وسلم - يوم النحر. وأشار إلى فضل اجتماع العيد والجمعة في يوم واحد. وفي خطب رجب أشار إلى أن هذا الشهر شهر الله الحرام، وشهر العبادة والفضيلة، وأنه تضاعف فيه الأعمال. ويتصل بخطب المواقيت والمناسبات هذه خطبة خطب بها أيام الجدب، فحث الناس على التوبة والإقلاع عن الذنوب، والإكثار من الصدقات، وتطهير الصدور من الحسد والشحناء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وذكَّرهم بأن المعاصي تزيل النعم وتستنزل النقم، وأن النقمة إذا نزلت قلما ترفعها إلا التوبة عن أسبابها، وتلا عليهم قول الله تعالى في سورة نوح: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) ...} الآيات، وأورد الحديث القدسي المشهور: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي" الحديث. ويتصل بها أيضا خطبة فريدة كتبها الشيخ لما جاءه نبأ وفاة أخيه "الفاضل العالم العامل عز الإِسلام: محمَّد بن يحيى بن علي المعلمي" فذكر عظم مصابه، ووصف شدة حزنه وتفجعه عليه. أما سائر الخطب فهي تدور حول الوصية بالتقوى، والتحذير من حب الدنيا الخداعة، والغفلة عن الآخرة، والتهاون بالمحرمات، والاغترار بطول الأمل، وهجوم الموت في أي لحظة؛ والترغيب في ذكر الله وتلاوة القرآن، والحث على أداء الفرائض والسنن، واجتناب المحرمات، والابتعاد عن المكروهات، والدعوة إلى التفكير في خلق الإنسان ولطف الله به ورحمته، وحساب النفس قبل هول الحساب، والاعتبار بمن مضى من الملوك

والمترفين وبمن اختطفهم هاذم اللذات من أحبائه وأقربائه، والتسويف بالتوبة، والإصرار على المعاصي؛ والتخويف بما أمام الإنسان من أهوال القبر، وتصوير عاقبة الصالحين ومآل الفاسقين، وما إلى ذلك. هذه موضوعات الخطب الأوَل، وهي التي تناولها الشيخ في الموعظة القصيرة التي تتضمنها الخطب الثواني أيضا. وعلى أن فواتح الخطب كلها تشتمل على صفات الله سبحانه، فصَّل الشيخ في بعضها أصول الإيمان والأسماء والصفات. 2) قد التزم الشيخ - كما سبق - أن يورد في كل خطبة بعد الموعظة حديثا أو أكثر، ولكن لم يلتزم أن يكون الحديث صحيحًا، بل تساهل مثل غيره من العلماء والخطباء في ذكر أحاديث ضعيفة، بعضها شديد الضعف، وبعضها موضوع. وكذلك ردَّد في بعض الخطب مقولات مبنية على أحاديث ضعيفة أو موضوعة، نحو وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه "سبب الوجود" (41)، وأنه "فاتحة خلقهم، فهو أول أولهم، وأوسط أوسطهم، وآخر الآخرين" (36)، وأن "أهل بيته أمان أهل الأرض، كما أن النجوم أمان أهل السماء" (5)، ووصف علي بن أبي طالب رضي الله عنه بأنه "باب مدينة العلم" (58, 59، 60). ومن الأحاديث الضعيفة: ما أخرجه ابن ماجه (1388) في فضل ليلة النصف من شعبان من حديث علي بن أبي طالب بلفظ: "إذا كانت ليلة النصف من شعبان، فقوموا إليها، وصوموا يومها". وفي سنده أبو بكر بن أبي سبرة، وقد رمي بالوضع. أورده الشيخ في الخطبة (36) كذا مختصرًا،

ثم أورده كاملا في الخطبتين (38، 44). ومنها: حديث "ألا، إن مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها هلك" (58، 62). ومن الأحاديث الموضوعة: ما أورده في فضل شهر رجب في الخطبة (16): "فضل رجب على سائر الشهور كفضل القرآن على سائر الكلام". قال الحافظ ابن حجر: موضوع، كما في الفوائد المجموعة للشوكاني بتحقيق المعلمي (381). ومنها الحديث المشهور على ألسنة الخطباء: "أصحابي كالنجوم، فبأيهم اقتديتم اهتديتم" (58، 62). ومن أغربها: الحديث الطويل الذي أورده في الخطبة (52) - وهي من أقدم خطبه كما سبق - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من بيت إلا ملك الموت يقف على بابه كل يوم ... " الحديث. هذا الحديث هو الحديث الأربعون من المجموعة المسماة بالأربعين الودعانية، وهي بأسرها موضوعة باطلة. نقل الحافظ ابن حجر عن الحافظ المزي أنها "فضيحة مفتعلة وكذبة مؤتفكة". وقد وضعها زيد بن رفاعة ملفقًا بين بعض كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وكلام المشايخ والحكماء، وسرقها منه ابن ودعان، فركَّب لها أسانيد من أناس عامتهم مجهولون، ومن يُشَكُّ في وجوده! وذكر الشوكاني أن هذه المجموعة هي التي يقال لها في ديار اليمن "السَّيلقية". انظر: لسان الميزان (7/ 383 - 384) والفوائد المجموعة للشوكاني بتحقيق المعلمي (366).

وكانت لهذه المجموعة المختلقة شأن عظيم عند أئمة الزيدية وعلمائهم، فعني غير واحد منهم بشرحها، فذكر الشوكاني في ترجمة "الإمام المؤيد" يحيى بن حمزة (ت 705) أنه شرحها في مجلدين بعنوان "الأنوار المضية شرح الأحاديث النبوية على السيلقية". قال: "والسيلقية هي المعروفة عند المحدثين بالودعانية". انظر: البدر الطالع (2/ 331 - 332). ومن شروحها: "حديقة الحكمة النبوية في شرح الأربعين السيلقية" لعبد الله بن حمزة الملقب بالإمام المنصور (ت 614)، واختصره أحمد بن علي مرغم في كتابه "التحفة السنية المنتزع من الحديقة النبوية"، وقد طبع هذا المختصر، كما في مصادر الفكر الإِسلامي في اليمن للحبشي (1/ 602). وفي إحدى الخطب (56) جاء في وصف الله سبحانه وتعالى أنه "لا في السماء محلُّه، ولا على العرش منزلُه". وهذا مخالف للعقيدة الصحيحة التي قررها الشيخ فيما بعد، ونافح عنها، ورد على منكرها. وقد بيَّنها في وصيته لتلميذه محمد بن أحمد المعلمي أيضًا، وهي ضمن هذا المجموع. وأحب أن أنبه هنا على أن قيمة هذه الخطب ليست في الأحاديث الواردة فيها، بل في أسلوبها وصياغتها، ثم في كونها تمثِّل مرحلة خاصة من مقتبل حياته، وهي مدة قصيرة من خمس سنوات قضاهن في إمارة السيد الإدريسي. وهو وإن كان قد تفوق في هذه المرحلة المبكرة على أقرانه في العلوم المتداولة في عهده وبيئته، وأصبح رئيس القضاة وشيخ الإِسلام، ولكن مذهبه في العقيدة والتصوف لم يكن مختلفا اختلافًا كبيرًا عن مذهب السيد الإدريسي وغيره من معاصريه من فقهاء الشافعية. أما المنزلة العليا التي بلغها الشيخ فيما بعد في علم الحديث والرجال، فكانت تنتظره فى

(4) اللغة والأسلوب

دولة حيدراباد الدكن. فأصبح عالمًا محققًا مستقلًّا بآرائه ومذاهبه غير مقلِّد لأحد، مع احترامه البالغ لجميع أئمة الإسلام وعلماء الأمة. 3) لم ينشد الشيخ شعرًا في شيء من خطبه إلا خطبة واحدة كتبها إثر وفاة أخيه وهو بعيد عنه، فقد أنشد فيها أحد عشر بيتًا: بيتين لأبي الفرج الساوي في غرور الدنيا، وبيتين للعباس بن الأحنف، وأربعة أبيات لسلمة بن يزيد الجعفي في رثاء أخيه، وبيتًا لكعب بن زهير، وآخر لحريث بن زيد الخيل. هذه الأبيات العشرة تمثل بها الشيخ، والبيت الحادي عشر أنشده لنفسه فقال: أحقًّا عبادَ الله أن لستُ رائيًا ... شقيقيَ بعد اليوم إلا توهُّما (4) اللغة والأسلوب 1) جميع هذه الخطب مسجوعة. وسجعها ممتع جميل لا يبدو عليه أثر التكلف إلا ما ندر. وقد تفنن الشيخ في السجع، فيبني الخطبة أحيانًا على حرف واحد يختم الفقرات به، ولكن السجعات في داخل كل فقرة تأتي على حروف مختلفة. ومن أمثلة ذلك قوله في الخطبة التي بناها على حرف الراء: "ولم يزل يتودد إليكم بالنعم، ويخوفكم بقوارع النقم، وأنتم راكضون في المعاصي ركضَ الجواد في المضمار! تمنِّيكم الدنيا زورًا، ويعدكم الشيطان غرورًا، كأنكم واثقون بامتداد الأعمار! هذا هاذم اللذات بين نظركم يغدو ويروح، وله كل حين زورة تفرِّق بين جسد وروح، وما يدريك - ابن آدم - أيَّ ساعة يُنشِب فيك الأظفار!

فالتوبةَ التوبةَ قبل هجومه، والإنابةَ الإنابةَ قبل قدومه، فإذا نزل انسدَّت أبواب الأعذار". وقد بني خمس خطب (36, 37, 50, 51, 52) على آيات من القرآن الكريم، فالخطبة (50) مثلا اشتملت من مقدمتها إلى آخر موعظتها على تسع فقرات، وكل فقرة تشتمل على أربع فواصل إلى إحدى عشرة فاصلة بنيت على مثال فاصلة الآية التي ختمت بها الفقرة. فالفقرة الثانية مثلا فواصلها: قدرتِه، بعزته، حكمتِه، حجتِه. وخاتمتها قول الله تعالى في سورة الإنسان: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ}. والفقرة التاسعة فواصلها: الذراع، بالاقتلاع، إيداع، القناع، الارتفاع، الانتفاع، انقطاع، الأطماع. وخاتمتها قوله تعالى في سورة الرعد: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26)}. وقد سبق أن الخطب الثلاث (50، 51, 52) مؤرخة بالجمعتين الأخيرتين من جمادى الآخرة والجمعة الأولى من رجب. أما الخطبتان (36، 37) فذكر في أولاهما بعض أحاديث فضل ليلة النصف من شعبان، أما الأخرى فلم نجد فيها ما يدل على الشهر الذي ألقيت فيه، ولكنها مكتوبة على الوجه الثاني من الورقة التي كتبت فيها الأولى، فلعلها ألقيت في شهر رجب، فهاتان الخطبتان أيضًا في ظني كالخطب الثلاث السابقة أقدم هذه المجموعة، فلعل الشيخ لما نُصب خطيبًا، وكان إذ ذاك شابًّا ابن زهاء سبع وِعشرين سنة، أراد إثبات مقدرته الأدبية واللغوية،

فاحتشد لتحبير خطبه الأولى على هذا النمط. ومن مظاهر عنايته واحتفاله أنه في الخطبة الثالثة لجمادى الآخرة، وهي أقدم الخطب، ترك فراغًا بعد كل فاصلة. وأحيانًا ينوِّع الفواصل بين فقرات الخطبة، وكذلك في داخل كل فقرة. فيأتي في فقرتين متواليتين بفاصلتين على حرف واحد، ثم خمس فواصل على حرف آخر، وفي الفقرة التي بعدها خمس فواصل كلها على حرف واحد. انظر مثلا الخطبة رقم (8). وأحيانًا يبني فواصل الخطبة كلها على حرف واحد، كالخطبة (9) فإنها بنيت على حرف الدال، ومع ذلك ليست مملة، لأن الفواصل لا تأتي متقاربة، وقد يباعد بين فاصلتين بسجعات عديدة قصيرة. كقوله فيها: "واعلموا أن الأعمال هي الجنة، فأكثروا أو أقلوا أو اتركوا، قبل انقطاع العمر وهجوم الصائد. قبل مفاجأة الموت القاطع، والسم الناقع، والبلاء الصادع، للأقارب والأباعد. قبل حلول التراب، وحلول الثواب والعقاب، وسؤال منكر ونكير، فتنبه يا راقد! قبل البعث والنشور، ودعوى الويل والثبور، وبلوغ المواعد. قبل نصب الميزان، وزفير النيران، ومناقشة الحساب بين يدي أبصرِ ناقد". 2) تمتاز هذه الخطب بحسن الديباجة، وجودة السبك، ونصاعة البيان.

وأسلوبه يجمع بين السهولة والجزالة. وقد أكثر فيها من استعمال التراكيب الإنشائية، من الأمر والنهي والاستفهام والتعجب والنداء. 3) تجنب الشيخ استعمال المفردات الغريبة والتراكيب المعقدة، غير أنه لما كان معظم مخاطبيه من عامة الناس تسرَّب إلى كلامه ألفاظ وتراكيب دارجة، ومنها: - مُستَرّ (3) بمعنى مسرور. - بَشاش (7) بمعنى البشاشة. - تجارأ (35) من الجراءة. - حبَّط (39). - قُذورات (50، 51). - لجَّيتم (56) بالإدغام. - مواددة (49) بفك الإدغام. ومن الاستعمالات العامية: قوله في الخطبة (47): "قريب ثلاثة ريال ... خمسة ريال ... عشرة ريال". ومنها: صرف كلمة "سكران" في قوله: "تقلبه الدنيا جنبًا على جنب سكرانًا". ومن التراكيب القليلة الورود: "كأنه يظنُّ إمهالَه ربُّه من الإهمال" (28)، أضاف المصدر إلى مفعوله، ورفع فاعله بعده. وقد استعمل الشيخ صيغتين أستغرب غلطه فيهما. إحداهما: "لَقِيُوا"

(5) النسخة الخطية

(34) مكان "لَقُوا". والأخرى: "أخابَ" في قوله: "فما أخابَ من عصاه وأشقاه! " (22)، أراد اسم التفضيل من خاب يخيب، فقال: "أخابَ" مكان "أخيَب"، وهذه أغرب. (5) النسخة الخطية النسخة المصورة لهذه الخطب محفوظة في مكتبة الحرم المكي الشريف برقم 4702، وفيها 68 لوحة، واللوحة الواحدة تشتمل على صفحة أو صفحتين مكتوبتين أو إحداهما بيضاء، أو ثلاث صفحات. والصفحة تعني صفحة كاملة موفورة، أو نصف صفحة في الطول، أو نصفها في العرض، أو ربعها، أو قطعة منها سليمة أو غير سليمة من عوادي الزمن. والخطب أكثرها مسودة، وتوجد لبعضها مبيضة أيضًا، نحو الخطبة العاشرة، إذ وردت مسودتها في اللوحة (15) وتكملتها في (14/ أ) ومبيضتها في (16/ ب). وهي كلها بخط الشيخ سواء أمسودة كانت أم مبيضة. وقد اطلعت على الأصل المخطوط في مكتبة الحرم المكي، فرأيت أوراقًا منثورة مختلفة الألوان، متفاوتة الأحجام، وضعوها بين ورقتين سميكتين، فإنه لا يمكن تجليدها على هذا الوجه، ثم حفظوها في ظرف. وكتبوا في الورقة الأولى (ل 1): "مجموعة خطب للشيخ المعلمي"، وتحته: "حوالي 50 خطبة". وفي صفحة أخرى في (ل 2/ ب) كتب بخط مجوّد في دائرة: "الخطب الجمعية". لم تكن هذه الأوراق مصورة من قبل، فصورت ضمن المسودات والأوراق التي طلب تصويرها لأجل هذا المشروع.

(6) منهج التحقيق

وقد وُجدت مع خطب الشيخ أوراق أخرى، لا علاقة لها بالخطب، ثم صورت معها، وستلحق حسب موضوعاتها بمجموعات أخرى، إلا رسالة بعنوان "الجهاد سنام الإسلام" ألحقناها بالخطب. (6) منهج التحقيق نسختُ الخطب جميعًا من القرص حسب ترتيبها في التصوير، فبلغ مجموعها 69 خطبة، ومنها 12 خطبة من الخطب الثواني. وكانت الخطب الأوائل والثواني مختلطة فيما بينها، فرأيت أن أفصل بينها، فقدمت الأوائل على الثواني. ثم لاحظت أيضًا تشابُهَ عدد من الخطب الثواني، بل توافقها إلا قليلا، فاخترت منها ستَّ خطب فقط. سبق أن الأوراق في الأصل كانت منثورة فنصف الخطبة مثلا في ورقة، ونصفها في ورقة أخرى، ولا رابط بينهما، فصُوِّرت الأولى في لوحة، والأخرى بعد لوحات، أو قبل لوحات؛ أو جمعت لوحةٌ خطبةً وتكملة خطبة أخرى، فجمعتُ شملَ المتفرقات، وفرّقتُ شملَ المجتمعات، وما أردت إلا الإصلاح. عندما نسخت الخطب من القرص وجدت صعوبة في قراءة بعض الكلمات والجمل لأن مواضعها كانت متمزقة أو مهترئة، أو لأن انثناء الورقة أو لصق الورقة بعد تمزقها قد أخفاها. فسافرت إلى مكة المكرمة للاطلاع على الأصل ومراجعة المواضع التي اختفى فيها بعض الكلمات والجمل خاصةً، وقد نجحت بفضل الله وتوفيقه في قراءة معظمها.

ملحقات المجموع

أما مواضع الخرم، فإن أمكن تقدير الكلمات الضائعة أو تخمينها بالنظر في السياق وضعت قراءتي بين حاصرتين، وإلا وضعت حاصرتين أيضًا للدلالة على الخرم. في ترقيم اللوحة، إذا اشتملت على صفحة واحدة فقط، أو على صفحتين ولكن إحداهما بيضاء، لم أصرح بالألف والباء. وإذا رأيت معهما الجيم أيضا فاعلم أن اللوحة اشتملت على ثلاث صفحات مكتوبات. لم أتكلف ترتيب الخطب على أشهر السنة، وإن كان بالإمكان استخلاص الخطب المتعلقة بشهر رمضان وأشهر الحج، لأن الخطب الأخرى لم يكن سبيل إلى ترتيبها، بل ترتيب الخطب السابقة فيما بينها أيضا لم يكن أمرا يسيرا. بعد قراءة النص علقت عليه عند الاقتضاء، وعنيت بالتوثيق والتخريج باختصار، ولم أر حاجة لشرح المفردات، فهي مألوفة لقارئ هذه الخطب. **** ملحقات المجموع 1) الجهاد سنام الدين وجدنا في آخر مجموعة الخطب (ل 67 - 68) رسالة بعنوان "الجهاد سنام الإِسلام" وقع الشيخ في آخرها باسمه الكامل "عبد الرحمن بن يحيى بن علي المعلمي". وهي رسالة حماسية أشبه بالخطبة، فألحقناها بالخطب، كما كانت ملحقة بها في المصورة.

2) الوصايا

وهي تشتمل على مقدمة وخاتمة وبينهما ثلاثة مباحث: الأول: في الجهاد بالنفس، والثاني: في الجهاد بالمال، والثالث: "في النصائح والتحريض والتشجيع وفضائل ثوابه، والنهي عن التثبيط وذكر رذائل عقابه". وختم هذا المبحث الأخير بقوله: "إخواني إلام تكاسلون؟ إلام تثبطون؟ حتام قاعدون؟ حتام تأخرون؟ علام أنتم ناضبو الغيرة والحمية؟ كأنكم راغبون عن الإمامة والحرية، إن هذه لإحدى الكبر". وفي خاتمة الرسالة ذكر الذين يزعمون أن هذا الجهاد ليس لوجه الله تعالى، فقال: "فهب هذا الجهاد ليس لوجه الله تعالى، أليس دفاعًا عن أوطاننا وأهلينا ونسائنا وأولادنا ... ؟ فأين عقولهم يا ترى؟ أيظنون أن عدونا - والعياذ بالله - إذا تمكن من دخول بقية بلادنا يبقينا كما عليه اليوم ما في يده؟ ". والرسالة كلها حث وتحريض، وتخويف وتحذير، ولوم وتبكيت؛ فقد صدرت عن قلب متألم لحال المسلمين الغافلين عن مكايد العدوّ، والقاعدين عن الجهاد والمثبطين عنه، مع انتسابهم إلى العلم والفقه. 2) الوصايا أما الوصايا التي ألحقناها بهذه المجموعة فهي أربع. اثنتان منها كتبهما الشيخ لما كان في جيزان في إمارة الإدريسي، والثالثة كتبها في حيدراباد بالهند، والرابعة في مكة المكرمة. أما الوصيتان اللتان كتبهما في جيزان فهما من مجموع بخط الشيخ برقم 4708، والأولى منهما في اللوحة (60) والثانية في (61/ ب). والظاهر أن الثانية ليست إلا مسودة ناقصة لم يخرج فيها الشيخ عن بيان اعتقاده،

والأولى هي الأصل. وذكر الشيخ في هذه بعد المقدمة وطنه، وحدده تحديدًا دقيقًا، وكذلك حدد مقام والده وأخيه. ثم أوصى السيد الإدريسي في الأشياء التي عنده كيف يوصلها إلى والده أو أخيه. وقد بينها في ورقة منفصلة لم نجدها مع الوصية. ومما يلفت النظر في هذه الوصية أمران: الأمر الأول: عن كتبه، فقد أوصى ببقائها في بيت والده، ووقفها على أولاده الذكور، وأن يكون ناظرها هو الأعلم الأورع منهم، وأن لا يمنع غيرهم من المطالعة، ولكن لا يسلم كتاب لأحد إلا بورقة، وأن يتعاهدها في الشهر مرتين. والأمر الثاني: عن كتاباته، إذ سأل والده وأخاه جمعَ شعرِه ومذكراته ونشرها إن تيسر. وكذلك سأل السيد الإدريسي أن يأمر بجمع مدائحه فيه وطبعه. وقد ادخر الله سبحانه سعادة تنفيذ وصية الشيخ للقائمين على هذا المشروع المبارك إن شاء الله، فوفقهم لنشر جميع ما تيسر لهم الحصول عليه من كتب الشيخ ورسائله ومذكراته في صورة موسوعة كاملة وعلى أحسن وجه من الطباعة والإخراج، فجزاهم الله أحسن الجزاء. أما الوصية الهندية ففيها بعد المقدمة ثلاثة أمور مهمة: الأول: وصيته لكل مسلم بتحقيق التوحيد واجتناب البدع كلها، واتباع ما تبين له أنه الحق سواء أكان مذهب إمامه أم مذهب غيره. والثاني: وصيته عن ولده - إذا توفي الشيخ قبل بلوغه - أن يجتهد الشيخ إبراهيم رشيد في تربيته تربية صالحة، وإلزامه إذا وصل حد القراءة بحفظ القرآن وتلقينه التوحيد الحق.

3) نصيحة لطالب الحق

والثالث: وصيته في كتب كانت عنده لورثة السيد الإدريسي لترسل إليهم، ومنها نسخة خطية لتدريب الراوي. وقد ولد ابنه المذكور في الهند في 6 ربيع الآخر 1351، فتاريخ هذه الوصية فيما بين 1351 - 1356. ولم أقف على أصل هذه الوصية، وإنما اعتمدت في نشرها على مقدمة المحقق لكتاب "عمارة القبور" للمعلّمي (طبعة المكتبة المكية) وقد أورد الوصية ضمن ترجمة المؤلف (ص 32 - 33). أما الوصية الأخيرة فهي وصية الشيخ لتلميذه محمَّد بن أحمد المعلمي، الذي لزمه في مكة المكرمة عامين كاملين وقرأ عليه وخدمه، كما ذكر الشيخ، فلما أراد الرجوع إلى وطنه سأل الشيخ أن يكتب له وصية نافعة. وهي وصية جامعة مفصَلة، رتبها على ثمانية مطالب، ستة منها في أركان الإيمان والإِسلام وأعمال التطوع. والمطلب السابع في مخاطبة الناس، والثامن في مصالح الدنيا ومعاملة الناس. وفي آخر الوصية كتب الشيخ اسمه وتاريخها، وهو 7 محرم الحرام سنة 1374، يعني قبل وفاته باثنتي عشرة سنة. لم نقف على أصل هذه الوصية وإنما اعتمدنا في نشرها على مطبوعتها التي صدرت عن دار ابن حزم في بيروت سنة 1430 بعناية الشيخ عبد الرحمن عبد القادر المعلمي. 3) نصيحة لطالب الحق آخر ملحقات هذا المجموع: "نصيحة لطالب الحق". وهي في الأصل جزء من مقدمة الشيخ لبعض مسوداته في أحكام أخبار الآحاد. وله رسالة

في هذا الموضوع ضمن مجموعة رسائله في الأصول، والظاهر أن الشيخ لما بيضها كتب لها مقدمة جديدة. أما هذه فقد عثر عليها الشيخ محمد عزير شمس في كراسة صغيرة غير مرقمة، فنسخها منها. ولَما كانت نصيحة عامة لطالب الحق بأن يهتم قبل النظر في أي مسألة بمحاسبة نفسه وبذل وسعه في التجرد عن الهوى سائلًا الله سبحانه أن يعينه ويوفقه لإصابة الحق= رأينا أن تكون مسك الختام لهذه الوصايا، بل لهذا المجموع كله. وفي آخر هذه الكلمة أشكر للأخ الفاضل الشيخ نبيل السندي الذي أعانني على تخريج بعض الأحاديث، وراجع التجارب النهائية مراجعة دقيقة، فجزاه الله خير الجزاء. والحمد لله أولا وآخرا. محمد أجمل أيوب الإصلاحي الرياض 9 شعبان 1433

نماذج من النُّسخ الخطية

نموذج من الخطب

نموذج من الخطب

نموذج من الخطب

نموذج من الخطب

نموذج من الخطب

نموذج من الخطب

نموذج من الخطب

نموذج من الخطب

نموذج من الخطب

النص المحقق

آثَار الشّيخ العَلّامَة عبد الرّحمن بن يحيى المعَلِّمِيّ (22) الخطب والوصايا تَألِيف الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني 1312 هـ - 1386 هـ تحقيق مُحَمَّد أجمَل الإصلَاحي وفق المنهج المعتمد من الشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد (رحمه الله تعالى) تمويل مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

1

(1) [ل 2] الحمد الله الحمد لله الذي بسَطَ للعالمين فِراشَ نِعَمه، وضرَبَ عليهم رِواقَ فضلِه وكرمِه؛ فهم يتقلَّبون على مِهادِ نَعمائه، ويتفيَّؤون ظلالَ جوده وآلائه. شرَعَ لهم الدينَ ونهَجَه، وأبلَغَ إليهم براهينَه وحُجَجَه. وبيَّن لهم الطريقين، وأعلَمَهم مصيرَ الفريقَين، لِيَعلَم مَن يُؤْثر الحياةَ الدُّنيا، ممَّن يطيعه بحبِّ الأخرى؛ ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى. أحمدُه جلَّ ذكرُه وأشكرُه، وأتوب إليه تبارك اسمُه وأستغفرُه. وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، أرسلَه على حين فترةٍ من الرسل، وانتشارٍ من الأهواء والنِّحَل؛ والجاهليةُ في عنفوانها وطفوحِ طوفانها، والعصبيةُ في رَيعانها واضطرام نِيرانها، والعربُ عاكفةٌ على أوثانها، مطلِقةٌ لعِنانها بيد شيطانها، والأممُ مُجْمِعةٌ على الضلالة، متنافسةٌ في الجهالة. فلم يزل - صلى الله عليه وسلم - يدعو إلى الله سِرًّا وجهارًا، ويبلِّغ الرسالةَ ليلاً ونهارًا، مجاهدًا في الله حقَّ جهاده، مؤدِّيًا رسالتَه إلى عباده. فقامت أقاربُه تُحارِبُه، وبنو عمِّه تُغالِبُه، وبالعداوة تُناصِبُه، حتى تقشَّعتْ من الجهل سحائبُه، وانجلتْ من الكفر غياهبُه، ودرستْ من الغيِّ مذاهبُه، وتفرَّقتْ عصائبُه، وتمزَّقتْ مواكبُه، وخمدتْ نوائبُه. وقامت دعوة الحقِّ، وسطعت أنوارُها في الغرب والشَّرق، وسرَتْ

آثارُها (¬1) في قلوب الخلق، حتى عزَّ من الدين جانبُه، وظهرت مناقبُه، وتألَّبتْ مقانبُه، واتسع لاحِبُه، وأمِن صاحبُه، واهتدى طالبُه، واتَّضح مندوبُه وواجبُه، وتلألأتْ كواكبُه، وبدَتْ من النَّصر عجائبُه، واستبانتْ غرائبُه ورغائبُه. اللهمَّ فصلِّ وسلِّمْ على هذا النبي الكريم، ذي الخُلُق العظيم: سيِّدِنا محمدٍ أفضلَ الصلاة والتسليم، وعلى آله وأصحابه ذوي الفضل العميم. أما بعد، فأوصيكم - عبادَ الله - ونفسي بتقوى الله، فاعلموا أنكم إنما خُلقِتم للعمل، لا لجمع المال والخَوَل، فيا سعادةَ مَن راقبَ هجومَ الأجل، وكان من دنياه على وَجَل! ويا شقاوةَ مَن غَرَّه طولُ الأمل، وامتدادُ المُهَل؛ فوقع في الزلل، والخطأ والخَطَل! ابنَ آدم، إن كنتَ مؤمنًا بالله ورسوله وباليوم الآخر، فكيف يسوء عملُك؟ وإن كنتَ لا تأمن هجومَ الموت في كلِّ لحظة، فكيف يطول أملُك؟ وإن كنت مصدِّقًا بوعد ربِّك فكيف يطول في جمع هذه الدنيا تعبُك؟ وإن كنت عالمًا أنَّك مؤمِّل بالجِدِّ، فكيف يسوغ لعبُك؟ قد كان قبلَك مَن هو أطولُ منك أملًا وأكثرُ مالاً وخَوَلاً، بينا هم في مثلِ ما أنت فيه من الغفلة، والطمعِ في امتدادِ المهلة، وتركِ الاستعداد بزاد الرِّحلة؛ إذا بهاذمِ اللَّذَّات قد اختطَفَهم، ومن بين أحبِّتهم اقتطَفَهم. فأعوَلَ أحبابُهم، ونُزِعَتْ ثيابُهم، وفُتِحتْ أجداثُهم، وسُوِّي عليهم ترابُهم، وتقسَّمَ ¬

_ (¬1) "آثارها" غير واضحة في الصورة.

أموالَهم أصحابُهم. وقد أُودِعوا بطونَ الرُّموس، حيث لا خِلَّ ولا أنيس، وقد خابت آمالُهم، ولم يصحَبْهم إلا أعمالُهم. وأعمالُهم هي قبورهم وعُمَّالهم، وهي في الآخرة مآلهم، إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشرٌّ. فتلك بيوتهم خاوية، وأجسادهم رِمَمًا بالية. هم السابقون، ونحن اللاحقون، وكلُّنا إلى ما صاروا إليه صائرون، حتى يجيءَ يومُ البعث، فيجمع الله الأولين والآخِرين، بعدَ أن نُسِفت الجبالُ وسُيِّرتْ، ومُدَّت الأرضُ وبُدِّلتْ، وانشقَّت السماء وانفطرتْ. فإنما هي زجرة واحدة، فإذا هم بالساهرة، والخلقُ إلى الداعي مهطِعون، وإلى إجابته يُهرَعون حُفاةً عُراةً، كما بدأهم أعادهم. ثم يُنصَبُ الميزانُ، وتَطايَرُ الصحفُ بالأيمان والشمائل، فمِنْ مُلجَمٍ بعَرَقِه، ومن مُصابٍ بغَرَقِه، ومن مغلول يداه إلى عنقه، ومن ماشٍ على وجهه، ومنكَّسٍ على رأسه. ثم يمرُّون على السِّراط مضروبًا على جسر جهنَّم، فمِن ناجٍ، ومن مخدوشٍ، ومن واقعٍ في النار، حتَّى يُجاءَ بالموت على صورة كبش، فيُذبَح بين الجنة والنار، وينادى: يا أهل الجنَّة، خلودٌ فلا موت؛ ويا أهل النار، خلودٌ فلا موت. فطوبى لمن حاسب نفسه، فاتقى ربَّه، وأقلعَ عن ذنبه مبادرًا بالتوبة. الحديث: عن عائشة رضي الله عنها أنَّها ذكرت النارَ، فبكَتْ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما يُبكيكِ؟ " قالت: ذكرتُ النارَ، فبكيتُ، فهل تذكرون أهليكم يوم القيامة؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: "أمَّا في ثلاثة مواطن فلا يذكر أحدٌ أحدًا: عند الميزان حتى يَعلَمَ أيخفُّ ميزانُه أم يثقُل؛ وعند الكتاب حين يقال: هاؤم اقرؤوا كتابيه، حتى يَعلَمَ أين يقع كتابُه، أفي يمينه أم في شماله، أم من وراء

ظهره؛ وعند السِّراط إذا وُضع بين ظهرَي جهنَّم" (¬1). هذا، وإن الله جلَّ ذكرُه يقول: {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)} [الجاثية: 26 - 28]، {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ} [الجاثية: 30 - 31]. وفَّقني الله وإياكم لطاعته، ورَزَقَنا حسنَ عبادته. هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المزمل: 20]. ... ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (24696)، وأبو داود (4755)، والحاكم في "المستدرك" (4/ 578) وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين لولا إرسال فيه بين الحسن وعائشة، على أنه قد صحَّت الروايات أن الحسن كان يدخل وهو صبي منزلَ عائشة رضي الله عنها وأم سلمة".

2

(2) [ل 3/ أ] الحمد لله (¬1) الذي فضَّل شهرَ رمضان على سائر الشهور، وجعَلَه شهرَ التشبُّهِ بملائكته، وربيع طاعته ومغتنم الأجور. وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ سيِّدنا محمدًا عبدُه ونبيُّه، بالهدى ودين الحق أرسَلَه. اللهم فصلِّ وسلِّم على نبيِّك الكريم محمدٍ، وعلى آله وأصحابه والتابعين بإحسان. أما بعد، فيا عبادَ الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله في جميع الأحوال، وقصدِ رضاه بجميع الأقوال والأفعال؛ وإياكم ومعاصيَه فإنَّها سببُ الطَّرد والنَّكال. وهذا رمضانُ شهرُ التوبة والإقلاع، والجِدِّ والإسراع؛ أنزلَ فيه كريمَ ذكره، وخصَّه بليلةِ قدره. فطوبى لامرئٍ أحسنَ الصيام والقيام، وحَمَى جوارحَه عن موارد الآثام، وأمسَكَ عن فضول الكلام، ولم ينطق إلا بذكر الله، وذلك حقيقةُ الصيام، فاغتنَم الخيرات خيرَ اغتنام. وبُؤسَى لامرئٍ ظلَمَ نفسَه بتركِ صيامه وقيامه، أو نام عن الصلوات أكثرَ أيَّامه، أو سوَّد صحيفتَه بأكل حرامه، أو أحبطَ عملَه بكثرة كلامه؛ متَّخذًا له شهرَ راحةٍ في الدنيا، وتنعَّم وتفنَّن بالمآكل والمشارب، ظانًّا أنَّ في إمساكِه عن الطَّعام والشَّراب طولَ نهاره أداءَ الواجب. لا والله، وإنَّما الفائزُ مَن جرَّد نفسَه للطاعة، وخلَعَ ثيابَ الرَّاحة، واشتغَلَ بالخيرات ليلَه ونهارَه؛ فإنَّ هذا الشهر أحد أركان الإِسلام كالصلاة والزكاة والحج. وإنَّ الصلاة يُبطِلها لغوُ الكلام، ¬

_ (¬1) قد صورت هذه الخطبة مكررة في (ل 5/ أ).

وخطابُ الخلق، والعملُ في غير مصالحها. وإنَّ الزكاة لا تجزئ إلا طيِّبةً جيِّدةً، وإنَّ الحجَّ لا رفَثَ ولا جدالَ فيه. فمن عرفَ هذا فأدَّى بحسَبه عملَه فقد فاز، ومَن آثرَ الرفاهيةَ والراحةَ، وأطلَقَ لنفسه ولسانِه العنانَ؛ فقد حبط عملُه. الحديث (¬1): قال - صلى الله عليه وسلم -: "ما مِنْ عَبدٍ يصلِّي الصلواتِ الخمس، ويصومُ رمضانَ، ويُخرِجُ الزكاة، ويجتنب الكبائر؛ إلا فُتِحَتْ له أبوابُ الجنة، وقيل له: ادخُلْ بسلامٍ". ألا، وإنَّ أحقَّ ما استُمِعَتْ كلماتُه، وتُدُبِّرَتْ آياتُه، ونَفَعَتْ بَيِّناته = كلامٌ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والله سبحانه وتعالى يقول: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98]. أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج: 77 - 78]. وفَّقَني الله وإياكم لرضوانه، وجنَّبنا ملابسةَ عصيانِه، وكثَّر لنا الفوز بغفرانه وإحسانه. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم. ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي (2438) من رواية أبي هريرة وأبي سعيد الخدري.

3

(3) [ل 4] الحمد لله الذي بيَّن الحلالَ من الحرام، وأوضح لعباده سبيلَ النُّور من الظلام؛ فأمَرَ وزجر، وبشَّر وحذَّر؛ ومازَ الحقَّ من الباطل، وأقامَ الحجةَ على كلِّ عاقل. وأشهد ألَّا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له. جلَّ عن النقائص والرذائل، وتنزَّهَ عن الآباء والبنين والحلائل. شرَعَ لنا الدينَ، فبيَّن طريقَيه، وأقامَ الأدلَّةَ لِفريقَيه. وأشهد أن سيِّدنا محمدًا عبدُه ورسولُه. أرسله رحمةً للعالمين، وإرشادًا للجاهلين، فأبلغَ الرسالة، وأوضحَ الدِّلالة، وأزالَ الجهالة، وبيَّن الهدى من الضلالة، فنطق بالحجة، ونهَجَ المحجَّة. وشرَعَ الدين وأرشد إليه، وبيَّن الغيَّ وحذَّر منه. فلم يُبقِ عذرًا لمعتذِر، ولا حجَّةً لمحتجِر (¬1). اللهم فصلِّ وسلِّمْ على هذا النبيِّ الكريم الهادي إلى صراطك المستقيم، سيِّدنا محمَّد وعلى آله الذين فصَّلتَ بهم ما أجمَلَ، وبيَّنتَ بهم ما فصَّلَ. وعلى أصحابه الذين (¬2) نجومُ الاهتداء (¬3)، وأعلامُ الاقتداء، والرُّجومُ على ذوي الاعتداء. اخترتهَم لصحبته، ورضيتَهم لنصرته، وخصصتَهم بإعانة الدين وجهاد المفسدين. وعلى أتباعهم من العلماء العاملين والهُداة الكاملين ¬

_ (¬1) هكذا وقع في الأصل، وهو مقتضى السجع، فإن صحَّ فهو من احتجر به: لجأ إليه. ولكن يظهر لي أنه سبق قلم، والصواب: "لمحتجٍّ" من الحجة، كقوله: "لمعتذر" من العذر. (¬2) كذا في الأصل بحذف العائد بعده. (¬3) لم ترسم الهمزة هنا ولا في الكلمات بعدها.

الذين حفظتَ بهم دينَك عن أهواء البدع المضِلَّة، والعوارض الطاغية المُخِلَّة؛ وعلى تابعيهم من جميع المحسنين إلى يوم الدين. أما بعد، عبادَ الله، فأوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، وحفظِ حدودِ الله، ومراعاةِ حقوقِ الله، وتوخِّي رضا الله، وتجنُّبِ معاصي الله. عبادَ الله، إنَّ تقوى الله هي الجُنَّة الواقية، والعُدَّة الوافية، والذخيرة الكافية، والحكمة الشافية، وسبب العفو والعافية. وإنَّ معصيةَ الله هي الداءُ العُضالُ، والمؤدِّيةُ إلى مهالك الأهوال. ألا، وإنَّ حبَّ الدنيا هو الدَّاهية الدَّهْياء، والداء العَياء؛ فإيَّاكم من المعاصي، وعليكم بالتقوى، تنجوا من السعير، وتفوزوا بجنَّة المأوى. ابنَ آدم، إلى متى لا تزال مكبًّا على الذنوب، غارقًا في أمواج العيوب، سابحًا في بحار الغفلة، كأنك قد تيقَّنتَ الخلود، أم تيقَّنتَ أنَّك بعد الموت تعود! ألم تعلم ما في جهنَّمَ ذاتِ الوَقود، من السلاسل والقُيود، وما فيها من الحيَّات والعقارب السُّود، بعد أن تلقَى من عذاب القبر أهوالًا، ومن حال البرزخ أوجالًا، فلعلك عند الحساب لا تطيق مقالًا، ولا تجد في المقام مجالًا، بعد أن تعلمَ ما كنتَ عليه زورًا ومحالًا؛ فمن الذي يقوم عنك جدالًا، أم مَن الذي يقضي عنك ولو عِقالًا؟ هيهات هيهات للنجاة يومئذ إلا بخالصِ الأعمال، وحسنِ الأحوال، وصفاءِ القلوب، وقلةِ الذنوب. ويحك! حتَّامَ تسوِّف بالتوبة، وتعِد نفسَك بالأوبة، وأنت لا تجهل أنَّ الموتَ مُفاجيك، ومسوِّفُك مُداجيك، وأجلُك مناجيك؟

كم مسوِّفٍ قبلك فاجأه الفَواتُ، وسبقته الوفات (¬1) وضاقت عن نجاته الأوقات، وتقاصرت عن آماله الساعات؛ فأصبح رهينَ رمسه، يعَضُّ على يديه ندَمًا على نفسه! وكم مغترٍّ بدنياه، مستَرٍّ (¬2) بمَحْياه، مسوِّفٍ بمتابِه، مبعِّدٍ لمآبِه، غافلٍ في نومه، جاهلٍ في قومه، تقْلِبُه الدنيا جنبًا على جنب سكرانًا (¬3)، ويخادعه الشيطان آنًا فآنًا؛ فما أيقَظَه إلا بغتةُ الأجل، وانقطاعُ الأمل، وانبتاتُ العمل؛ فحلَّ به الندَمُ، بعد زوال القَدَم. فالعاقلُ من حاسَبَ نفسَه، واغتنم خَمْسَه (¬4)، ولاحَظَ رَمْسَه؛ فكان لنفسه صديقًا، لا يسعى إلا في نفعها، ولا يهمُّه غيرُ رفعها، يطرَحُ هواه إلى ما أمر به الله. فمن كان كذلك فاز بالنعيم المقيم، وأمِنَ شرَّ الجحيم. فليس العاقل من سعى [في] (¬5) تكثيرِ ماله، وتهنيءِ عيشه، وتحسين ثيابه، وترغيد (¬6) أكله وشرابه، وتحليةِ شبابه. كلَّا، والله، وإنما العاقلُ من آثرَ ¬

_ (¬1) كذا في الأصل بالتاء المفتوحة مراعاةً للسجع. وانظر (ص 35). (¬2) كذا في الأصل بمعنى "مسرور"، والظاهر أنه عامي. (¬3) كذا في الأصل مصروفًا. (¬4) يشير إلى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اغتنم خمسًا قبل خمسٍ ... " الحديث. وسيأتي في الخطبة العاشرة. (¬5) ساقط سهوًا. (¬6) يعني توفيرهما. ولم أجده في كتب اللغة. وقد ذكره دوزي في تكملته (5/ 166)، وجاء في كلام المتأخرين كقول فتيان الشاغوري (ت 615): وأنت يا مطربُ غَرِّدْ فما ... ترغيدُ عيشي غير تغريد

الباقي على الفاني، والدائمَ على المنقطع، والفاضلَ على المفضول، والخيرَ على الشرِّ، ودارَ المقرِّ على دار الممرِّ، ومكانَ الإقامة على طرق السفر. وأيُّ عاقل يسعى في عمارةِ ما لا يقيم فيه، ويترك ما يقيم فيه؟ وأيُّ مُميِّزٍ يُزخرفُ طريقًا هو مارٌّ فيها وراحلٌ عنها، ويترك دارَ إقامته خرابًا؟ وإنما ذلك من الجنون، وأعقَلُ الناسِ الزاهدون. الحديث: عن ابن عمر رضي الله عنهما: أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنكبي، فقال: "كُنْ في الدنيا كأنَّك غريبٌ أو عابرُ سبيل". وكان ابن عمر يقول: "إذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحتَ فلا تنتظر المساء. وخُذْ من صحتك لسقمك، ومن حياتك لموتك". أخرجه البخاري (¬1). وعنه - صلى الله عليه وسلم -: "لو أنَّ دلوًا من غَسَّاق يُهرَاقُ في الدنيا لأنتَنَ أهلُها، ولو أنَّ شرارةً من جهنَّم بالمشرق لوُجِدَ حرُّها بالمغرب" (¬2). وعنه صلَّى الله وسلَّم عليه أنه قال: "لو علمت البهائمُ من الموتِ ما علمتم ما أكلتم منها لحمًا سمينًا" (¬3). ¬

_ (¬1) برقم (6416). (¬2) أخرج الجزء الأول بهذا اللفظ الإِمام أحمد في المسند (2/ 11230، 11786) والترمذي (2787) والحاكم في المستدرك (8779) من حديث أبي سعيد الخدري. وبلفظ آخر مع الجزء الثاني أخرجه الطبراني في الأوسط (6381) من حديث أنس. قال الهيثمي: وفيه تمام بن نجيح وهو ضعيف، وقد وُثِّق. انظر: مجمع الزوائد (10/ 708). (¬3) أخرجه البيهقي في دلائل النبوة (6/ 34) من حديث أبي سعيد. وانظر: السلسلة الضعيفة (6738).

ألا، وإن أبلغَ واعظٍ، وأعظمَ زاجرٍ، وأعصمَ ناهٍ وآمرٍ = كلامٌ لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفه. والله سبحانه وتعالى يقول: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98]. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {بسم الله الرحمن الرحيم قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 1 - 11]. وفَّقني الله وإياكم للاهتداء بهديه، والاقتداء بنبيِّه، والاعتصام بوحيه؛ وغمَرَنا بعفوه ورضوانه، ورحمته وغفرانه. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه جميعًا، إنَّه هو الغفور الرحيم. ***

4

(4) [ل 6] الحمد لله الذي خلَقَ الجنَّ والإنسَ لِيعبُدوه، وتعرَّف لهم لِيقصِدُوه، وأرسَلَ إليهم رُسُلًا منهم بالبيِّنات ليوحِّدوه. وأوجَبَ عليهم عبادتَه بما شرَعَ لهم من الأعمال الصالحة، وحثَّهم على مكارم الأخلاقِ وحذَّرَهم من مَذامِّها الفاضحة. وأحلَّ لهم الطيباتِ وحرَّم عليهم الخبائثَ، وأعدَّ الجنَّةَ ونعيمَها للمصلحين، والنارَ وجحيمَها لكلِّ عائث. أحمده سبحانه وتعالى وأشكره على جزيل الفضل والإنعام، وأتوبُ إليه وأستغفرُه من جميع الذنوب والآثام. وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ سيِّدَنا محمدًا عبدُه ونبيُّه، بالهدى ودين الحق أرسَلَه. اللهمَّ فصلِّ وسلِّم على رسولك مولانا محمدٍ خيرِ إنسان، وعلى آله الأطهار وصحابته الأخيار والتابعين لهم بإحسان. أما بعد، عبادَ الله، فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله كما أوصاكم، وانتهُوا عما عنه نهاكم. وبادِروا آجالَكم بأعمالِكم، واقطعوا آمالَكم بتوقُّع آجالِكم. واعلموا أنه لا سبيل إلى البقاء، ولا سبيل غير النعيم أو الشقاء. ابنَ آدم، استيقِظْ من غمرة الغفلة، ولا تغُرَّنَّك هذه المهلة، فكأنَّك بهاذمِ اللذَّات قد نزلَ عليك، واختطَفَ نفسَك من بين جنبَيك، فتخلَّف عنك أهلُك وإخوانُك ومالُك، ولازمَتْك يا مسكينُ أعمالُك، فدُفِنْتَ في حُفرتك وحيدًا، ووجدتَ ما قدَّمتَه لربك عتيدًا. فلا تصرِف همَّك إلى ثِقَل التُّراب والأحجار، بل إلى ثِقَلِ الذُّنوب والأوزار. ولا تهمَّنَّك (¬1) مصيرُك جِيفةً ¬

_ (¬1) كذا في الأصل. ولعله نظر في تأنيث الفعل إلى الجيفة والدود.

تنتثر في محاسنك الدُّودُ، بل استعِدَّ لسؤالِ منكرٍ ونكيرٍ وعذابِ اللُّحود. واعلَمْ أنَّ القبرَ إمَّا روضةٌ من رياض الجنة، وإمَّا حفرةٌ من حُفَر النار، فلا يزال في نعيمٍ إنْ كان من الأخيار، أو جحيمٍ إنْ كان من الأشرار؛ حتى تُحشَرَ الناسُ، فتُوضَع الموازينُ، ويُنصَب السِّراطُ، وتَطايَرُ الصحفُ؛ فمِنْ آخذٍ بيمينه، ومن آخذٍ بشماله. ثم إمَّا إلى سِدْر مخضود، وطلح منضود، وظلٍّ ممدود، وماء مسكوب، وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة؛ لأنها دار الخلود. وإمَّا إلى سَموم وحميم، وظلٍّ من يحموم لا باردٍ ولا كريم. الحديث: رُوي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من أحبَّ دنياه أضرَّ بآخرته ومن أحبَّ آخرته أضَرَّ بدنياه، فآثِرُوا ما يبقى على ما يفنَى" (¬1). وعنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "يُحشَر الناسُ يوم القيامة ثلاثةَ أصناف: صِنفًا مُشاةً وصنفًا رُكبانًا، وصنفًا على وجوههم". قيل: يا رسولَ الله، وكيف يمشُون على وجوههم؟ قال: "إنَّ الذي أمشاهم على أقدامهم قادرٌ على أن يُمْشِيَهم على وجوههم. أمَا إنَّهم يتَّقون بوجوههم كلَّ حدَبٍ وشوكٍ" (¬2). هذا، وإنَّ الله سبحانه وتعالى يقول: {بسم الله الرحمن الرحيم إِذَا ¬

_ (¬1) أخرجه الإِمام أحمد في "المسند" (19697)، وابن حبان في "صحيحه" (709) والحاكم في "المستدرك" (7853) وغيرهم من رواية أبي موسى الأشعري بسند فيه انقطاع. وأخرجه ابن أبي عاصم في الزهد من رواية أبي هريرة بسند حسَّنه الألباني في السلسلة الصحيحة (3287). وانظر الضعيفة (5650). (¬2) أخرجه الترمذي (3142) من حديث أبي هريرة، وقال: هذا حديث حسن.

السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [سورة الانفطار]. هذا، وأستغفر الله العظيمَ لي ولكم، فاستغفِروه، إنَّه هو الغفور الرحيم. ***

5

(5) [ل 7/ أ] (¬1) الحمدُ لله المتعزِّزِ بقدرته وجَبَروته، المنفردِ بكبريائه وعَظَموته، المتودِّدِ إلى عباده برأفته ورَحَموته. الملِكِ (¬2) الجبَّارِ المرهوبِ بتجلَّي (¬3) جلالِه، المرغوب بتجلِّي جمالِه، الواحدِ الأحدِ الفردِ في ذاته وصفاته وأفعاله. أحمده ولا يُحمد على كلِّ حالٍ غيرُه، ولا يُخشى إلا سخطُه، ولا يُرجى إلا خيرُه. وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ سيدَنا محمدًا (¬4) عبدُه ونبيُّه الذي بالهدى ودين الحق أرسَلَه. اللهمَّ فصلِّ وسلِّمْ على هذا النبيِّ الذي اخترتَه لحبِّك، وشرَّفتَه بالعُبودَة لك وقُرْبِك؛ و (¬5) محوتَ به غَياياتِ الجاهلية (¬6)، وأنَرْتَ الأكوان بشريعته البيضاءِ النَّقيَّة؛ حبيبِك (¬7) الذي خصصتَه بالمكارم، وأحللتَ له ولأمَّتِه الغنائم: سيدنا محمَّد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم. وعلى آلِه قُرناءِ القرآن (¬8)، وأمانِ أهلِ ¬

_ (¬1) هذه مبيضة الخطبة الواردة في (ل 18/ أ، 19/ أ). وبينهما فروق سأشير إلى أهمها. (¬2) في (18/ أ): "وهو الملك". (¬3) في (ل 18/ أ): "تجلي" هنا وفيما يأتي. (¬4) الكلمة ساقطة من (ل 18/ أ) سهوًا. (¬5) في (ل 18/ أ) "الذي" مكان واو العطف. (¬6) في (ل 18/ أ): "شبهات الجاهلية". (¬7) "حبيبك" زادها في المبيضة. (¬8) يشير إلى ما أخرجه الترمذي (3786) من حديث جابر بن عبد الله. وفيه: "إني قد تركتُ فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا: كتابَ الله، وعِترتي أهل بيتي". قال الترمذي: =

الأرض، كما أنَّ النجوم لأهل السَّماء أمان (¬1)؛ وصحابتهِ الذين رُزِقُوا قُرْبَه، ومُنِحوا حُبَّه، وجاهدوا معه بأموالهم وأنفسهم، فكانوا في الدنيا والآخرة صَحْبَه، {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة: 8]. أما بعد، عبادَ الله، فأوصي نفسي وإياكم بتقوى الله، فتداركوا التوبةَ ما دام في القوس منزَع، وفي الحياة (¬2) مطمع. وخلِّصوا أنفسكم من حبائل الآمال، وافزعوا إلى فضائل الأعمال؛ فإنما الآمال كالسَّراب، كلَّما جهدتَ نفسَك سعيًا لم تُدرِكْ (¬3)، ولا تحَصُلُ على غير الهلاكِ إنْ لم تيأَسْ منه وتَتْرُكْ؛ فحَذارِ حَذارِ من ركوبِ الأخطار، وغضبِ الجبار، وعذاب النار. فطوبى لمن بادر أجلَه، فأصلَحَ (¬4) عمله. وويلٌ لمن غَفَل عن أجله، فصادفه تائهًا في أمَلِه، مسرفًا في عمَلِه. وقد علمتم ما فرض الله عليكم من الواجبات، وما رغَّبكم فيه من المندوبات، وما حذَّركم عنه من المحرَّمات، وما رغَّبكم في تركه من ¬

_ = وفي الباب عن أبي ذر وأبي سعيد وزيد بن أرقم وحذيفة بن أسيد. قال: وهذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. وأنظر "السلسلة الصحيحة" للألباني (1761). (¬1) يشير إلى ما أخرجه ابن الأعرابي في "معجمه" (2079) والروياني في "مسنده" (1164، 1165) عن سلمة بن الأكوع مرفوعًا. وفي إسناده موسى بن عبيدة الربذي، وهو متروك. وانظر "السلسلة الضعيفة" للألباني (4699). (¬2) رسمها في المبيضة: "الحيات". (¬3) في (ل 18/ أ): "لم تدركه"، وكذلك "وتتركه" فيما يأتي. (¬4) في (ل 18/ أ): "فأحسَن".

المكروهات. فأدُّوا الفرائض (¬1) كما بيَّن، واجبُروا نقصها بأداء السُّنَن، واجتنِبُوا سُبُلَ الحرام، ولا تقرَبُوا المكروهاتِ على الدوام. وراقِبُوا الله في جميع أعمالكم، وأخلِصُوا له في سائر (¬2) أقوالكم وأفعالكم. ولا تستعظِموا حسناتكم، ولا تستصغِروا سيِّئاتكم، فإنَّ العظيمَ من الحسنات هو ما قبله الله وإن كان حقيرًا (¬3)، وإنَّ الصغير من السيِّئات ما غفره الله وإن كان كبيرًا (¬4). وقد قال عليه أفضل الصلاة والسلام: "الحلالُ بيِّنٌ، والحرامُ بيِّنٌ، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثيرٌ من الناس. فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى (¬5) يوشك أن يقع فيه، ألا، وإنَّ لكل ملكٍ حمًى، ألا وإنَّ حمى الله في الأرض محارمُه" (¬6). [ل 7/ ب] هذا، وإنَّ أبلغَ الكلام نصيحةً ووعظًا (¬7)، وأحسنَه معانيَ ولفظًا = كلامٌ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. والله سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ ¬

_ (¬1) في المبيضة رسمها بالظاء (¬2) في (ل 18/ أ): "جميع". (¬3) "وإن كان حقيرًا" زادها في المبيضة. (¬4) "وإن كان كبيرًا" زادها في المبيضة. (¬5) رسمها في المبيضة هنا وفي الموضع الآتي: "حما". (¬6) من حديث النعمان بن بشير. أخرجه البخاري (52) ومسلم (1599). (¬7) رسمها في المبيضة: "وعظى".

الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر: 18 - 20]. فطُوبَى لمن عرَفَ الحقَّ، فاتَّبعَه مُقِرًّا، واجتنَبَ هذه الدنيا الدنيَّة وقدَّمَ للأُخرى {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المزمل: 20]. ***

6

(6) [ل 8/ أ] (¬1) أنفَعُ ما قُوبِلتْ به صَدَماتُ المصائب، واستُقبِلتْ به هجَماتُ النَّوائب= حمدُ الله تعالى على كلِّ حال، والرضا بما قضاه ذو الجلال. فأحمده سبحانه وتعالى حمدَ مسلِّمٍ لِما قَضاه، راضٍ بما قدَّره وأمضاه. وأشهد ألَّا إلهَ إلا الله، المحيي المميت الوارث، الباقي المعيد الباعث؛ وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، أكرمُ مَن ذاقَ مرارةَ الفَوت، وأشرفُ مَن تجرَّع سكراتِ الموت، وأعظمُ مَن غيَّبتْه القبورُ، واستُودِعَه الترابُ والصخورُ. اللهمَّ فصلِّ وسلِّم على مولانا محمَّد، وعلى آله الذين اشتدَّت عليهم في الصدر الأول البلايا، وأُذيقَ أكثرهم بالقتل غُصَصَ المنايا، وأصحابه الذين بايعوا الله على الموت في سبيله، ووَفَوا بما عاهدوا الله عليه بين يدي رسوله. أما بعد، فإنَّ هذه الدارَ دارُ فناء، ليس لها بقاء، وإنما هي مهلةٌ للتزوُّد ليوم اللِّقاء، إما لِلسَّعادةِ وإما لِلشَّقاء. هي الدنيا تقول لِطالِبيها ... حَذارِ حَذارِ من بطشي وفتكي فلا يَغرُرْكُمُ منِّي ابتسامٌ ... فقَولي مُضحِكٌ والفعلُ مُبكي (¬2) ¬

_ (¬1) في (8/ ب) قيَّد كلماتٍ كأنها قوافٍ أعدَّها لنظم قصيدة على روي حرف القاف. (¬2) البيتان لأبي الفرج الساوي من كُتَّاب الصاحب من قصيدة له في رثاء فخر الدولة. انظر: "يتيمة الدهر" (3/ 393) والرواية في البيت الأول: "تقول بملء فيها".

وإنَّه قد بلغني ما قضاه الله تعالى من وفاة سيِّدي الأخ الفاضلِ العالمِ العاملِ عِزِّ الإِسلام: محمَّد بن يحيى بن علي المعلِّمي رحمه الله تعالى. وهذا حوض مورود، وسبيل مسلوك، لا مفرَّ منه، ولا محيدَ عنه. كلُّ ابنِ أمٍّ وإن طالت سلامتُه ... يومًا على آلةٍ حدباءَ محمولُ (¬1) ولقد - والله - ذرفت العيونُ، وتسعَّرت الشجونُ، وتصاعدت الزفراتُ، وتوقَّدت الحسراتُ. إذا ما استنجدتُ الصبرَ لم يُجِبْ، وإذا دعوتُ الجَلَد (¬2) لم يُلبِّ. فإذا التفتُّ إلى الدموع وجدتُها مُسْعِدةً بصبِيبها، مُرجَحِنَّةً بشآبيبها. إذا ما دعوتُ الصبرَ بعدكَ والبكا ... أجاب البكا طَوعًا ولم يُجِبِ الصبرُ فإن ينقطعْ منك الرَّجاءُ فإنَّه ... سيبقَى عليك الحزنُ ما بقى الدهرُ (¬3) على أنَّي كلما غفلَتْ عيناي عن السَّكْبِ أهَبْتُ بهما إليه، وكلَّما سكن صدري عن الزفير حرَّضتُه عليه. أقول لنفسي في الخلاء ألومُها ... لكِ الويلُ ما هذا التجلُّدُ والصبرُ ألم تعلمي أنْ لستُ ما عشتُ لاقيًا ... أخي إذ أتى من دون أوصاله القبرُ وكنتُ أرى كالموت من بين ليلةٍ ... فكيف ببينٍ كان ميعادَه الحشرُ ¬

_ (¬1) لكعب بن زهير من قصيدة بانت سعاد. والرواية: "كلُّ ابنِ أنثى". انظر "ديوانه" (19). (¬2) بعده في الأصل: "قال"، ولعله كتبها سهوًا ثم نسي أن يضرب عليها. (¬3) البيتان للعباس بن الأحنف في ديوانه بتحقيق عاتكة الخزرجي (137)، وهما في حماسة أبي تمام (1/ 437) والحماسة البصرية (2/ 758).

وهوَّنَ وجدي أنني سوف أغتدي ... على إثره يومًا وإن نفَّس العمرُ (¬1) فأنا تارةً أسلِّي نفسي، وتارةً أغالط يأسي. وأيَّ شيءٍ تفيد المراجعة، أو تُجدي المغالطة والمخادعة! ولكنِّي أقول: أحقًّا عبادَ الله أن لستُ رائيًا ... شقيقيَ بعدَ اليومِ إلا توهُّما ولكني أجِيلُ ناظري في الناس، فلا أجد إلا موتورًا (¬2) بصاحبه، ومصابًا بهلاكِ أقاربه. ولولا الأُسى ما عشتُ في الناس ساعةً ... ولكن إذا ما شئتُ جاوَبَني مثلي (¬3) ... ¬

_ (¬1) الأبيات لسلمة بن يزيد الجعفي في رثاء أخيه لأمه، انظر: "الحماسة" (1/ 535). و"الحماسة البصرية" (2/ 709). وفي "حماسة البحتري" نشرة كمال مصطفى (ص 431) لليلى بنت سلمة ترثي أخاها. (¬2) في الأصل: "موتور". (¬3) من أبيات لحُريث بن زيد الخيل في "الحماسة" (1/ 407) و"الشعر والشعراء" (1/ 287) و"الأغاني" (17/ 195). ونسبه صاحب "الخزانة" (11/ 364) إلى الشمردل بن شريك، وقال: وقيل غيره. هذا، ولم أجد بقية الخطبة.

7

(7) [ل 9] الحمد لله مستوجبِ الحمد والعبادة، المتابعِ لأهل طاعته إعانتَه وإمدادَه. وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةَ مخلصٍ له بالوحدانية حقَّ الشهادة. وأشهد أنَّ سيِّدنا محمدًا (¬1) عبده ونبيُّه ورسولُه، الذي هدى به عبادَه. اللهمَّ فصلِّ على حبيبك محمدٍ، وعلى آله وصحبه، ومَن اتَّبعَ رشادَه. أما بعد - عبادَ الله - فأوصي نفسي وإياكم بتقوى الله، فإنها جماعُ الخير ومِلاكُ السعادة. وإياكم ومعصيتَه فإنَّها سببُ الحرمان من الحسنى وزيادة. فتفكَّرْ ابنَ آدم في لطفِ الله بك ورحمتِه: كيف أنشأك من التراب والماء إلى النبات، إلى الثمر، إلى الكَيْمُوس، إلى الدم، إلى النطفة، إلى العلقة، إلى المضغة، إلى كمال الصورة، إلى نفخ الروح. يغذوك في بطن أمِّك ولا تشعر، ويسلُك له الهواءَ ولا تعرف، حتى ألقاك طفلًا حيًّا، بعد أن شَقَّ حواسَّك الظاهرة والباطنة، وهيَّأكَ لمعرفة الأمور الكامنة، فألقى عليك في قلوب أبويك الشفقة، فربَّياك خير تربية، فكيف كان غذاؤك (¬2) في بطن أمِّك؟ أم كيف كان تصويرُ عظامك ولحمك؟ أم كيف كانت حياتُك في ثلاثِ ظُلَمِك؟ ثم رَزَقك، وأنت صبيٌّ لا تَعقِل، ثم علَّمكَ ما لم تَعلَم، وأنعَمَ عليك بما ¬

_ (¬1) في الأصل: "محمَّد". (¬2) رسمها في الأصل: "غذاك".

أنعَم. {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل: 18]. حتى إذا استويتَ رَجُلًا، ودخلتَ في زمرة العُقَلا، كلَّفَك بما كلَّف، وعرَّفك بما عرَّف؛ فأعرضتَ عن طاعته عصيانًا، وأقبلتَ على معصيته عدوانًا. فلو نظرتَ فيما يحسُن بك، وقدَّمتَ لنفسك، ورجعتَ إلى ربِّك واستغفرتَ لذنبك، وعجلت بتَوبك قبل أن يبغتَكَ الموتُ، ويبهتَكَ الفوتُ، فتزِلَّ قدمُكَ، ويحلَّ ندمُكَ، فتلقاك بالبَشاش (¬1) أمُّك هاوية، وما أدراك ما هيه، نارٌ حامية، إلاَّ (¬2) أن يتغمَّدك الله برحمته الواقية. عبادَ الله، هذا شهرُ الله الحرام رجب، كنا نسوِّف بالتوبة إليه، فلما نزل سوَّفْنا بها إلى أوسطه، فإلى آخره، فهذا آخره؛ وقد صرنا نسوِّف إلى شعبان، وهذا شعبان قادم. والعمرُ هكذا يومٌ بعد يوم، فليحاسِبْ كلُّ أحدٍ نفسَه، وَلْيغتنمْ خمسَه. قال - صلى الله عليه وسلم -: "اغتَنِمْ خمسًا قبلَ خمسٍ: شبابَك قبل هرمك، وصحتَك قبل سقمك، وغناك قبلَ فقرك، وفراغَك قبل شغلك، وحياتَك قبل موتك" (¬3). هذا، وإن أولى [و] (¬4) أصدقَ لفظٍ سُمِع، وأحقَّ وعظٍ استُمِع = كلامٌ لا ¬

_ (¬1) كذا في الأصل. ومصدر بشَّ في كتب اللغة: "بشاشة" بالهاء. (¬2) رسمها في الأصل: "إلى". وانظر (ص 37)، الحاشية الأولى. (¬3) أخرجه الحاكم في "المستدرك" (6846) من حديث ابن عباس، وقال: صحيح على شرط الشيخين. ووافقه الذهبي. (¬4) الزيادة مني.

يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفه. والله سبحانه يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان: 33]. فويلٌ لمن عرَفَ الحقَّ فاجتنبه مُصِرًّا، وطُوبَى لمن عرفه فاتَّبعه مُقِرًّا، وأعرَضَ عن الدنيا، وقدَّم للأخرى: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المزمل:20]. ***

8

(8) [ل 12] الحمدُ لله الذي أعلىَ كعبَ الإِسلام على هامِ جميعِ الأديان، وجعله تمثالَ المكانة وعلو الشأن، وأيَّده بالدلائل القاطعة والبرهان، وأمَدَّه بالنصر والظفر والفتح والسلطان. ولم يزل في كلِّ زمانٍ يبعث له من يُوثِّق روابطَه، ويُشدِّد ضوابطَه، ويُمكِّنه في البلاد والعباد، ويدرأ عنه شُبَهَ البغي والعِناد. وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ سيِّدنا محمدًا عبدُه ونبيُّه، بالحق أرسَلَه، شهادةً تُنبئ عن حقِّ اليقين، وأُرْفَعُ بها إلى دَرَجِ المتقين، وأنالُ بها الخلودَ مع النبيين والصديقين. اللهمَّ فصَلِّ وسلِّمْ وبارِكْ على هذا النبي الكريم والرسول العظيم سيِّدِنا محمَّد، وعلى آله الأطهار، وصحابته الأخيار وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد، فأوصيكم - عبادَ الله - ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإنها الكنزُ الذي لا ينفَد، والعزُّ الذي لا يُفقَد؛ فاتَّقُوا الله تفوزوا برضوانه، وتستوجبوا فضلَ رحمته وغفرانه، وتُدركوا غنيمة بِرِّه وإحسانِه، ويّعُمَّكم فائضُ فضلِه ورضوانه، وتكونوا من المكتوبِ لهم دخولُ جِنانِه، والمعصومين بمنِّه وأمانِه. ابنَ آدم، حاسِبْ نفسَك قبلَ هولِ الحساب، وعاقِبْها قبلَ حلول العذاب. أنْقِذْ نفسَك من النار، فإنك لَتخوضُ في أوحالها، وتُسرِع إلى أوجالها، ولا تخشى مفاجأةَ أهوالها. ناقِشْ نفسَك بأقوالها وأفعالها، وشَدِّد عليها في علمها وأعمالها.

ابنَ آدم، إنَّ الدنيا قليل، وصاحبُها عليل، ومنصورُها ذليل، لم يُشْفَ منها غليل، ولا تلذَّذَ بها حتى النهاية خليل. ابنَ آدم، إنَّ الدنيا كثيرةُ الغُمَم، كبيرةُ النِّقَمَ، مموَّهةُ النِّعَم، وجودُها إلى العدم. أين الملوكُ من القِدَم؟ أين الرجال الذين ثبت لهم في الدنيا القَدَم؟ أين عادٌ وإرَم؟ أين غيرُهم من الأمم؟ رُدُّوا - والله - إلى التراب، وآلت دُورُهم إلى الخراب. علِقَتْ بهم براثنُ الأحداث، فأصبحوا جُثَثًا في بطونِ الأجداث. كانوا أكثرَ منكم أموالًا وأولادًا، وأعظمَ منكم مهابةً وأجسادًا، وأكرمَ منكم نفوسًا وأجدادًا؛ وأشدَّ منكم تنافسًا في الدنيا وتفاضلًا فيها، وأحبَّ منكم لها وأقرب إليها. عاشوا في التنعُّم والرفاهية، ورُبُّوا في حِجْرِ النِّعم المتناهية، إلى أن دَهَمَتْهم الداهية، فتلك قواهم واهية، ودُورُهم خالية، وعظامُهم بالية. فلو كنتم ذوي عقولٍ لرأيتم ما تقول لكم آثارُهم آمرةً وناهية. فلو كنتم من ذوي النظر والاختبار، لسمعتم عباراتها، وفهمتم إشاراتها بحواسِّ الاعتبار. ولكنكم منهم أعمَى وأصمُّ، وأبعدُ عن المعرفة بالحُكْم والحِكَم. فهل لكم في النجاة من المهلكات؟ هل لكم في الفوز بالنعيم المقيم في رفيع الغُرُفات؟ هل لكم في اتباع الخيرات واجتناب الموبقات؟ فاتقوا الله - عبادَ الله - تفوزوا بالباقيات الصالحات. هذا، وإنَّ الله سبحانه وتعالى قد مَنَّ علينا وعلى كافَّة المسلمين برفعِه أعلامَ هذا الإِمام الأعظم والشريف الأفخم. وتلك من لطائف الله بعباده، ليهديهم إلى سبيل رشاده [].

[11/ ب] وقد جعله الله تعالى شفيقًا بالمسلمين؛ رفيقًا بالضعفاء والمساكين. فهنيئًا لنا بوجوده، وبُشرى لنا بفضله وجوده. وإنَّه لواجبٌ على كلِّ مسلمٍ نصرتُه بما قدَرَ عليه، والدعاءُ له بالتأييد والتوفيق. فنقول: أَيَّده الله ووفَّقه، وأرشَد العالمين لمتابعته. آمين. ألا، وإنَّ أبلغَ كلامٍ تذوبُ له القلوبُ، وتنزجر به الأفئدةُ، وترجُف له البوادرُ = كلامٌ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو كلامُ مَن لا تبلغ العالمون حقيقةً مِن وصفِه. والله سبحانه تعالى يقول - وهو العليم الحكيم -: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98]. أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم {بسم الله الرحمن الرحيم الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأنعام: 1 - 5]. الحديث: قال - صلى الله عليه وسلم - (¬1): "ما أخاف على أمتي إلا ضعف اليقين" (¬2). ¬

_ (¬1) نقل أولًا هنا حديث: "ما اختلفت أمة بعد نبيها إلا ظهر [أهل] باطلها على [أهل] حقها" ثم قال: وعنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما أخاف على أمتي ... " الحديث. ثم ضرب على الحديث الأول، وأبقى مقدمتيهما. وكذا ورد الحديث في هذه الخطبة بعد الآيات خلافًا للخطب الأخرى. (¬2) أخرجه الطبراني في "الأوسط" (8869) من حديث أبي هريرة. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (409): "ورجاله ثقات". وضعَّفه الألباني في "الضعيفة" (1994).

وروى الترمذي (¬1) وصححه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنتُ خلفَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يومًا، فقال: "يا غلامُ، احفَظْ الله يحفَظْكَ، احفَظْ الله تجدْه تجاهَك، وإذا سألتَ فاسأَل الله، وإذا استعنتَ فاستعِنْ بالله". عبادَ الله، هذه الموعظة، فانزجروا، وهذه النصيحة فأتمروا. واذكروا الله كثيرًا لِتُنصَروا، واشكُروا نعَمَه ولا تكفروا. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه جميعًا، إنه هو الغفور الرحيم. ... ¬

_ (¬1) برقم (2516).

9

(9) [ل 13/ ب] الحمدُ لله رافع أعلامِ الحقِّ على رغمِ كلِّ مُعانِد، ومُظهرِ أنصارِ دينِه على أعدائه من كلَّ قائمٍ وقاعِد. وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ سيِّدنا محمدًا (¬1) عُبَيده ونبيُّه الذي بالهدى ودينِ الحق أرسَلَه، شهادةً تُبلِغُ المتحقِّقَ بها أعلى المشاهد. اللهمَّ فصلِّ وسلِّم على نبيِّك الأكرم سيِّدنا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه أئمةِ الهدى في جميع المصادر والموارد. أما بعد، فيا عبادَ الله، أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإنَّ تقواه سببُ الفوز بأشرف المقاعد. وأَقْلِعُوا عن الاشتغال بدار الزُّور والمِحال، فإنَّما الدنيا سرابٌ بائد. ومرِّنوا أنفسكم على الطاعات، ودَعُوا شِدَّةَ الكدِّ في الأطماع، فإنما هي تمويهٌ فاسد. واستعمِلُوا أنفسكم في عبادة الله وطاعاته، ليستعملكم في خيرات مرضاته، فإنَّ الخيرَ إلى الخير قائد. وحافظوا على الفرائض والسُّنن تخلُصوا من العقاب، وتنالوا أكبرَ الفوائد. وإيَّاكم والحرامَ والشُّبهاتِ، فإنَّها سببُ غضبِ الجبَّار، ومن يُغضِبْه فقد وقَع في أخطرِ الشدائد. وإذا فعلتم الخير فتمِّموه وحَسِّنوه، ولا تَدَعُوه ناقصًا، فإنَّ الله لا يقبل الناقصَ إلاَّ مِن جاهِد. وإيَّاكم والتهاونَ بالمحرَّمات، فإن التهاونَ بها شأنُ كلِّ جاحد. وربما أدَّاكم استحقارُها إلى استحلالها، ومن استحلَّ حرامًا صريحًا فهو كافر مارد. ¬

_ (¬1) في الأصل: "محمد".

واجعلوا الموتَ نصبَ أعينكم، فإنَّ ذكره يقوِّم الحائد. وعليكم بتلاوة القرآن والعملِ به، فإنَّه صلاح الأعمال والعقائد. وأديموا ذكرَ الله ولا تفتُروا عنه، فإنَّه الزاد الزائد. واغتنموا الجنةَ، فإنَّها الآنَ مبسوطة بين أيديكم، فخُذُوا أو دَعُوا، فمِنْ راشِد ومِنْ شارد. واعلموا أنَّ الأعمالَ هي الجنة، فأكثِرُوا أو أقِلُّوا أو اتركوا، قبلَ انقطاعِ العمرِ وهجومِ الصائد. قبل مفاجأةِ الموتِ القاطعِ والسُّمِّ الناقعِ والبلاءِ الصادعِ للأقارب والأباعد. قبلَ حلولِ التُّراب، وحلولِ الثواب والعقاب، وسؤالِ منكرٍ ونكير، فتنبَّه يا راقد! قبل البعث والنشور، ودعوى الويل والثُّبور، وبلوغ المواعد. قبلَ نصبِ الميزان، وزفير النِّيران، ومناقشةِ الحساب بين يدي أبصَرِ ناقد. قبلَ نَصْبِ الصراطِ على جسْرِ جهنَم، فمِن ناجٍ، ومن مخدوشٍ، ومِن واقع صريعًا لليدين والفم، فيلبث أضعافَ عمرِه أو يدومَ خالد. فثَمَّ نارٌ شرابُها حميم، وبردُها زمهريرٌ قلما لا يردها إلا العالم العابد. وثَمَّ جِنانٌ حُورُها حِسان، وحُلَلُها حرير، وحجارتُها دُرٌّ ومَرجان، وطعامُها طيِّبٌ وشرابُها سلسبيلٌ بارد. وها قد نزَل بنا ذو القعدة الحرام، وحانَ سيرُ من وَفَّقه الله لحجِّ بيتهِ الحرام، فنُوصي الحُجَّاجَ بالإخلاصِ والتحرُّزِ من الرَّفَث. قال - صلى الله عليه وسلم -: "من حَجَّ فلم يرفُثْ ولم يفسُقْ خرَجَ من ذنوبه كيومِ ولَدتْه أمُّه" (¬1). ونُوصي سائرَ الناس بالدعاء للحُجَّاجِ، وإصلاحِ النفوس، والتوبةِ من الذنوب. والله تعالى يقول: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ¬

_ (¬1) من حديث أبي هريرة. أخرجه البخاري (1521) ومسلم (1350).

الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 13 - 15]. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه جميعًا، فإنه هو الغفور الرحيم. ***

10

(10) [ل 16/ ب] (¬1) الحمدُ لله رفيعِ الدرجات، المستحقِّ لجميعِ المحامدِ والكمالات، بارئ الأرضين والسماوات، خالقِ المبسوطاتِ والمسموكات، جاعلِ الشمس سراجًا والقمر نورًا (¬2)، والهادي بالنجوم النيِّرات، المدبِّرِ لجميع الحيوانات والجمادات والعُلْويَّات والسُّفْليَّات، الرازقِ لجميعِ المخلوقات. أحمدُه سبحانه وتعالى على جميع الحالات، وأشكره على نِعَمه المتواليات. وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له في الكائنات والممكنات (¬3). وأشهد أنَّ سيِّدنا محمدًا عبدُه ونبيُّه الذي بالهدى ودين الحق أرسَلَه، فبلَّغ الرسالات. صلَّى الله وسلَّم عليه أفضلَ الصلوات وأبلغَ التسليمات، وعلى آلِه أهلِ الفضائل والكرامات، وأصحابِه الذين رَغِمَتْ (¬4) بهم عرانينُ أربابِ الضلالات، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى بلوغِ الميقات. أما بعد، فأوصيكم - عبادَ الله (¬5) - ونفسي بتقوى الله، وأحذِّركم ونفسي مواردَ غضب الله (¬6)؛ فاتَّقوا الله (¬7) حقَّ تُقاتِه، وجِدُّوا واجتهِدوا في طلبِ ¬

_ (¬1) هذه الخطبة وردت في (ل 15) وتكملتها في (ل 14/ أ). ومبيضتها في (ل 16/ ب). (¬2) في المبيضة: "نور". (¬3) "والممكنات" لم ترد في المسودة. (¬4) في المسودة: "أرغمت". (¬5) "عباد الله" في المسودة قبل "فأوصيكم". (¬6) "وأحذركم ... " إلى هنا لم يرد في المسودة. (¬7) في المسودة: "فاتقوه".

مرضاتِه، واغتنمِوا هذه الأوقات (¬1). اغتنِموا ساعاتِكم (¬2) قبل الفَوات، وأعمارَكم قبل الوفات (¬3)، وبادِروا بالتوبة قبلَ الممات، قبل هجومِ هاذمِ اللَّذات، ومفرِّق الجماعات، ومبدِّلِ الجمع بالشَّتات، مُلْحِق الأحياء بالأموات، الناقل عن دار العمل إلى دار المُجازات. ناجِزُوا أنفسَكم مناجزةَ ذوي العداوات، فنزِّهوها عن جميع السيئات، وباعِدُوها عن موارد الخطيئات، وتُوبوا إلى الله من جميع الموبِقات؛ فإنَّ التوبة تبدِّل السيئاتِ حسناتٍ. واعلموا أنَّ شهرَكم الكريم (¬4) هذا قد ذهب أكثرُه، ولم تُودِعوه (¬5) من العمل ما يُوجِبُ النجات؛ فإن صمتم لم تصونوا (¬6) جوارحَكم عن المهلكات، ولم تتحرَّزوا عن المحرَّمات (¬7) والشبهات، في المأكولات والمشروبات والملبوسات، والمرئيَّات (¬8) والمسموعات والمنطوقات وجميع المصنوعات. وإن صلَّيتم لم تحافظوا على الشروط والأركان ¬

_ (¬1) في المسودة: "شريف الأوقات". (¬2) في المسودة: "أوقاتكم". (¬3) كذا بالتاء المفتوحة في المسودة والمبيضة مراعاة للسجع، وانظر ما سبق في (ص 11). وكذا كلمتا "المجازات" و"النجات" فيما يأتي. (¬4) "الكريم" لم يرد في المسودة. (¬5) في المسودة: "وما أودعتموه". (¬6) في المبيضة: "لم تصوموا". (¬7) في المسودة: "ولم تتحرزوا عن الحرام". (¬8) رسمها في المسودة والمبيضة كلتيهما: "المرايات".

الواجبات، والسنن المندوبات، والخشوع الذي هو روح الصلات (¬1). وإن قرأتم القرآن لم تتدبروا معاني الآيات، ولم تعملوا بما فيه من الهدى والبينات (¬2). وإن تصَّدقتم لم تُطيِّبوا الصدقات، ولم تخلِّصوها عن النهر والمَنِّ والمراءات (¬3). فأفيقوا - عباد الله - من سكرات الغفلات (¬4)، واعلموا (¬5) أنَّ الجنةَ محفوفةٌ بالمكاره، والنارَ محفوفةٌ بالشهوات. فقلَّما بلغ الجنَّةَ من لم يصبر على مقاساة (¬6) المشقَّات، وقلما بلغ النار من لم يتفيَّأ ظلال اللذات (¬7). يا طالبَ الجنة (¬8)، أين ما قدَّمتَ من الأعمال الصالحات؟ هل حافظت (¬9) على المندوبات؟ هل تمَّمت المفروضات؟ هل احتميتَ (¬10) عن المحرَّمات؟ يا هاربَ النار، أيُّ جُنَّةٍ نصبتَها دونها من الواقيات؟ وأي ¬

_ (¬1) كذا في المبيضة. (¬2) في المسودة: "ولا اتبعتم ما فُصِّل من البينات". (¬3) كذا في المبيضة. (¬4) في المسودة: "فاستيقظوا من سِنة الغفلات". (¬5) في المسودة بعده: "أن الدنيا والآخرة ضرَّتان قلما اتفقتا في المرادات، فإنَّ الجنة محفوفة ... ". (¬6) في الأصل: "مقاسات". (¬7) "فقلَّما بلغ الجنة ... اللذات" لم يرد في المسودة. (¬8) في المسودة: "يا مريد الجنة". (¬9) في المسودة: "لا حافظت"، وكذلك فيما يأتي: "ولا تممت". (¬10) في المسودة: "ولا احترزت".

بابٍ من أبوابها سددتَه بالمجاهدات؟ (¬1) فاستمعوا - وفَّقني الله وإياكم - الموعظةَ، واعملوا بها. فشرُّكم من لم تنفعه الموعظةُ (¬2) وإنْ أجرى (¬3) لها العبرات، وصعَّد (¬4) الزَّفرات. وقد بقيت من شهركم هذا بقيةُ ليالي (¬5) صالحات، فيها ليلةٌ خيرٌ من ألفِ شهرٍ لمن أدركتْه ملازمًا للطاعات، ولعلها شرٌّ من ألفِ شهرٍ على من صادفَتْه منهمكًا في الخطيئات (¬6). فأكرِهوا أنفسَكم على مشاقِّ الخيرات، وافطموها عن مراضع الهلكات (¬7)، لتفوزوا برضوان ربِّ الأرض والسَّماوات. الحديث: في "الصحيحين" (¬8) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إنَّ رجالًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أُرُوا ليلةَ القدر في المنام في السبع الأواخر، ¬

_ (¬1) "يا هارب النار ... بالمجاهدات" مكانها في المسودة: "والنار أقرب إلى من كان على هذه الصفات إلَّا (في الأصل: إلى) أن يتغمده برحمته خالق المخلوقات. ويا خائف النار، كيف لا تترك موجباتها من الموبقات؟ (¬2) في المسودة: "المواعظ". (¬3) في المسودة: "أسال". (¬4) في المسودة: "وصعد لها". (¬5) في المسودة: "شهركم الكريم ليالي". (¬6) "لمن أدركته ... الخطيئات" مكانها في المسودة: "في الطاعات من الأشهر المعدودات. ألا، وإن من مرَّت عليه وهو في طاعة كانت له خيرًا من ألف شهر في الطاعات. ومن مرَّت عليه وهو في معصية كانت شرًّا عليه من ألف شهر في المعاصي والسيئات". (¬7) في المسودة: "وجنبوها موارد الهلكات". (¬8) البخاري (2015) ومسلم (2818).

فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ رؤياكم قد تواطأتْ في السبع الأواخر، فمن كان متحرِّيها فليتحرَّها في السبعِ الأواخر". وأمَّا فضلها، فحسبكم فيه (¬1) أنَّ الله تعالى أنزل فيها سورةً كاملةً. قال سبحانه وتعالى: {بسم الله الرحمن الرحيم إنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}. تغمدني الله وإياكم برحمته وغفرانه، وكتب لنا خلودَ جِنانه، بفضله ورضوانه، وجوده وإحسانه. هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه, إنه هو الغفور الرحيم. ... ¬

_ (¬1) في المسودة: "وحسبكم من فضلها".

11

(11) [ل 14/ ب] الحمدُ لله الذي أوضَحَ سبيلَ الهدى ودلَّ عليه، وبيَّنه وأرشَدَ إليه. وأقامَ الحجةَ على العالمين، وبيَّن المحجَّة للمهتدين والظالمين. وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ سيِّدنا محمدًا عبدُه ونبيُّه، بالهدى ودين الحق أرسَلَه. اللهمَّ فصلِّ وسلِّم على هذا النبيَّ الكريمِ سيِّدِنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أفضلَ صلاة وتسليم. أما بعد - عبادَ الله - أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله عبادَ الله، فيعمَّكم بنعمه الباطنة والظاهرة، ويُذهبَ عنكم الحزنَ في الدنيا والآخرة. وانتهُوا عما نهاكم الله عنه، لِيُفيضَ عليكم فضلَه العميمَ، وينشُرَ عليكم حُلَلَ النعيم. عبادَ الله، إنَّ المعاصي تُزيل النِّعَم، وتَستنزِل النِّقَم، وإنَّ النقمةَ إذا نزلَتْ قلَّما ترفعها إلا التوبةُ عن أسبابِها. فكيف نستعجِلُ رحمةَ الله ولا نتوب، ونُنكِر بُطْئَها ولا نُقلِعُ عن الذنوب؟ {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56]. ولو استقمتم على الطريقة لأسقاكم ماءً غَدَقا، كما جاء في كتابه المبين (¬1). فاتقوا الله - عبادَ الله - فأقلعِوا عن الذنوب، واغسِلوا أوساخَ القلوب، وابكُوا على خطاياكم التي هي سببُ البلاء، وطهِّروا صدورَكم من الحسد والشحناء. وتآمروا بالمعروف، وتناهَوا عن المنكر، وأكثِروا من الصدقات، وأقلِعوا عن الموبقات، وسارِعوا بالخيرات؛ فإنَّ الحسناتِ يُذهبن السيِّئات. ¬

_ (¬1) في سورة الجن (16).

قد كان الناسُ إذا أصابهم (¬1) طرفٌ من القحط أقلَعوا عن كلِّ سيئة، وتابوا من كلِّ خطيئة، وسارَعوا بالأعمال الصالحة، وتبادَروا إلى القُرَب كالصدقات وغيرها عملًا بقول: "تاجِرُوا الله بالصدقات" (¬2)، وتلك هي التجارة الرابحة، فلا تلبث السماءُ أن ينهمرَ مطرُها، والأرض أن يُورِقَ شجرُها، ويَيْنَعَ ثمرُها؛ فافعلوا فعلَهم، فيُستجابَ لكم كما كان يُستجاب لهم. الحديث: في صحيح مسلم (¬3) عن أبي ذرٍّ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يروي عن الله تبارك وتعالى أنه قال: "يا عبادي إنَّي حرَّمتُ الظلمَ على نفسي، وجعلتُه بينكم محرَّمًا، فلا تَظالموا. يا عبادي، كلُّكم ضالٌّ إلا من هديتُه، فاستهدُوني أهدِكم. يا عبادي، كلُّكم جائعٌ إلا من أطعمتُه، فاستطعموني أُطعِمْكم. يا عبادي، كُلُّكم عارٍ إلا من كسوتُه، فاستكسوني أكسُكم. يا عبادي، إنَّكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوبَ جميعًا، فاستغفروني أغفِرْ لكم. يا عبادي، إنكم لن تبلُغوا ضَرِّي فتضُرُّوني، ولن تبلُغوا نفعي فتنفعوني. يا عبادي، لو أنَّ أولَكم وآخرَكم وإنسَكم وجنَّكم كانوا على أتقى قلبِ رجلٍ واحدٍ منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا. يا عبادي، لو أنَّ أولَكم وآخرَكم وإنسَكم وجنَّكم كانوا على أفجرِ قلبِ رجلٍ واحد منكم ما نقصَ ذلك من ملكي شيئًا. يا عبادي، لو أنَّ أولكم وآخركم وإنسكم ¬

_ (¬1) في الأصل: "أصابتهم". (¬2) ينسب إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه، ونصُّه في ربيع الأبرار (2/ 286): "تاجروا الله بالصدقة تربحوا". (¬3) برقم (2577).

وجنَّكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيتُ كلَّ إنسان مسألتَه ما نقَصَ ذلك مما عندي إلا كلما ينقُص المِخيَطُ إذا أُدْخِلَ البحرَ. يا عبادي، إنَّما هي أعمالكم أحصيها عليكم، ثم أوفِّيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومَنَّ إلا نفسَه". وقال الله سبحانه وتعالى فيما حكاه عن خطاب رسوله نوح عليه السلام لقومه: {ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا} [نوح: 9 - 20]. أسأل الله تعالى غفرانَ الخطايا، ودفعَ البلايا، ورفعَ الرَّزايا، وإفاضةَ العطايا. وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفِروه جميعًا، إنَّه هو الغفور الرحيم. ***

12

(12) [ل 16/ أ] الحمد لله رافعِ السَّماءِ في الهواء، وباسطِ الأرضِ على الماء، ذي العزِّ والعَلياء، والقدرةِ التي لا تقوم بها جميعُ الأشياء. أحمده سبحانه وتعالى وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأسأله أن يُعيذني وسائرَ المسلمين من البلاء والوباء والغلاء. وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ونبيُّه الذي بالهدى ودين الحق أرسَلَه. اللهمَّ فصلِّ وسَلِّم على سيِّدنا محمدٍ وعلى آلهِ وصحبِه أهلِ المجد والعلاء. أما بعد - عبادَ الله - فأوصيكم ونفسي بتقوى الله. اعلموا - رحمكم الله - أنما نحن في هذه الدنيا زرعٌ للموت وعرضٌ للفوت، وإنما خلَقَنا الله لِنوحِّدَه، ورزَقَنا لِنعبدَه، وجعَلَ لنا هذه الدنيا دارَ عملٍ واكتسابٍ، والآخرةَ دار عملٍ (¬1) وحسابٍ؛ فإمَّا إلى نعيمٍ وثوابٍ، وإمَّا إلى جحيمٍ وعذابٍ. والله غفورٌ رحيمٌ، وهو شديدُ العقابِ. كيف تُغْوينا أنفسُنا وشياطينُنا بهذه الدنيا، وإنَّها لحقيرة، وإنَّ لذَّتَها لمَنغَّصةٌ يسيرة؟ أنطمع فيها بالبقاء، أم لا نؤمن بالمعاد واللِّقاء، أم نرغب في العذاب والشَّقاء؟ إنَّها بلا شكٍّ زائلة فانية، وإنَّ الآخرة لا ريبَ فيها آتية، وإنَّ النَّارَ لحامية. فأقلِعي أيتها الأنفسُ المغرورةُ، عما أنتِ عنه مزجورة، وارجعي إلى ما أنتِ به مأمورة. ولا تطمعي في امتداد الأجل، فإنَّما ذلك الشيطانُ يُمنِّيك ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولعلها: دار علم.

زُورَه، ويُرَوِّج عليك غرورَه. واسمعي نداءَ الموت وارتقِبي مروره، وارتدِعي عن الدنيا فإنها محذورة، ودعي قولَ الزور والعملَ به، فإنَّ كلَّ ذرَّةٍ عليكِ مسطورة. عبادَ الله، هذه أشهرُ الحجِّ، ومواسمُ العجِّ والثَّجِّ، فتأهَّبوا لحجِّ بيت الله الحرام، وتعظيمِ شعائرِ الإِسلام. قد رُوي عن رسول الله عليه أفضلُ الصلاة والسلام أنَّه قال: "مَن مَلَكَ زادًا (¬1) وراحلةً تُبلِّغُه إلى بيت الله، ولم يَحُجَّ، فلا عليه أن يموتَ يهوديًّا أو نصرانيًّا. وذلك أنَّ الله تبارك وتعالى يقول: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] " (¬2). هذا، وإنَّ أبدعَ الكلامِ نظمًا، وأبلَغَه حِكَمًا وحُكْمًا = كلامُ مَن وسِعَ كلَّ شيءٍ رحمةً وعِلمًا. والله سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر: 18 - 20]. هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفِروه جميعًا، إنَّه هو الغفور الرحيم. ... ¬

_ (¬1) في الأصل: "زاد". (¬2) أخرجه الترمذي (812) من حديث علي بن أبي طالب، وقال: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وفي إسناده مقال، وهلال بن عبد الله مجهول، والحارث يضعف في الحديث".

13

(13) [ل 17/ أ] الحمدُ لله الكريمِ الوهَّاب، الرحيمِ التوَّاب، غافرِ الذَّنب قابلِ التَّوبِ شديدِ العقاب. أحمده سبحانه وأشكره، وأتوبُ إليه وأستغفره، وأسألُه الفوزَ يومَ المآب. وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ونبيُّه الذي بالهدى ودين الحق أرسَلَه، فصلَّى الله وسلَّم على سيِّدنا محمدٍ وآلِه والأصحاب. أما بعد، فأوصيكم - عبادَ الله - ونفسي بتقوى الله، وأحذِّركم ونفسي معصيةَ الله، فإنَّ الطاعةَ سُلَّمُ النجاة، والعصيانَ مَهْواه التَّباب. طالما قَرَعتْنا الزواجرُ فأسمعَتْنا، ورَدَعَتْنا المواعظُ فما نفعَتْنا. ونادَى المنادي، فلم نتزوَّد للذَّهاب. كأنَّنا نحسَب الدُّنيا دائمة، أو نشكُّ في أنَّ القيامةَ قائمة، أو قد ضمن لنا بالمغفرة ربُّ الأرباب. فالزادَ الزادَ قبل نَجْزِ الميعاد، والعملَ العملَ قبلَ بلوغِ الأجل، والمتابَ المتابَ قبلَ خَتْمِ الكتاب. فإنَّ الموتَ كلَّ يومٍ يأخُذُ منكم أسهُمًا ويرشُق سهامًا، وكان على كلِّ واحدٍ منكم لِزامًا، ومن أُخطِئَ اليومَ فهو في غدٍ مُصابٌ. فأين من كان قبلكم من الأمم؟ وأين الرُّعاة والرَّعيَّةُ من العرب والعجم؟ صاروا ترابًا، كما خُلِقوا من التراب. وإنَّ للقبر لَعذابًا وسؤالًا وجوابًا، فَلْينظُر كلٌّ منكم ما يكون الجواب؟ وإنَّ بعدَها لَيومًا تُحشَر فيه العَوالِمُ، ويؤخَذ فيه للمظلوم من الظالم: يومَ الحَشْر والنَّشْر والحساب. ولَيُسألَنَّ كلُّ أحدٍ عن النعيم: هل أدَّى شكرَه؟ ولَيُحاسبَنَّ على النَّقِير والقِطْمير والفَتيل والذَّرَّة، ثم إمَّا إلى النعيم والثواب، وإمَّا إلى الجحيم

والعذاب. هذا رمضانُ قد تقلَّصتْ ظلالُه، وهذا شوَّالٌ أوشكَ أن يبزُغ هلالُه؛ فانظُروا ما تُودِعُون وتُوَدِّعُون به رمضانَ من العمل الصالح والدُّعاء المُجاب. فلعلَّ كثيرًا منَّا لا يبلُغه مِن قابلٍ، أو يبلُغه فيعمل فيه ما هو فيه الآن عامِل؛ فاغتِنمُوا بقيةَ ساعاته، فإنَّها كنوزُ الثَّواب. وما يُدريكم لعلَّ ليلةَ القدرِ في هذه البقية، فإنْ كان ذاك، وإلَّا فالخيرُ خيرٌ حيثما وُجِد، والعملُ الصالحُ أينما كان ليس دونه حِجاب. الحديث: قال عليه أفضل الصلاة والسلام: "يُغفَر لأمَّتي في آخر ليلة من رمضان". قيل: يا رسول الله، أهي ليلةُ القدر؟ قال: "لا، ولكنَّ العاملَ إِنَّما يوفَّى أجرَه إذا قضَى عملَه" (¬1). وروى الشيخان عن ابن عمر أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمَرَ بزكاة الفطر أن تؤدَّى قبلَ خروجِ الناس إلى الصلاة (¬2). يعني: صلاةَ العيد. وهي واجبةٌ على مَن وَجَدها، يُخرِجُها عنه وعمَّن تلزمُه نفقتُه، ذكرًا وأنثى، صغيرًا وكبيرًا (¬3)، حرًّا وعبدًا (¬4)؛ عن كلِّ نفسٍ صاعًا، من غالبِ قُوتِ البلد. فاغتنِمُوا الفضيلة بإخراجها قبل صلاة العيد، فإنَّ تأخيرَها مكروه، للحديث المذكور. ¬

_ (¬1) أخرجه الإِمام أحمد في "المسند" (7917) والبزَّار في "المسند" (البحر الزخار 8571) من حديث أبي هريرة. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (3/ 341): وفيه هشام بن زياد أبو المقدام، وهو ضعيف. (¬2) البخاري (1509)، ومسلم (986). (¬3) في الأصل: "كبير". (¬4) في الأصل: "عبد".

وإنَّ الله سبحانه وتعالى يقول، وهو أصدقُ القائلين: {بسم الله الرحمن الرحيم الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 1 - 5]. هذا، وأستغفر الله (¬1). ... ¬

_ (¬1) كذا في الأصل.

14

(14) [ل 17/ ب] الحمدُ لله الذي تفرَّد بالألوهية والقِدَم، وبَرَأ الموجوداتِ من العدَم، وأفاضَ على العبادِ سوابغَ الكرَم، وبوالغَ النِّعَم، ودَفَع عنهم بوائقَ النِّقَم. أحمدُه وأشكرُه، وأتوبُ إليه وأستغفرُه. وأعتصِمُ به، ونعم المعتصَم. وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ونبيُّه الذي بالهدى ودين الحق أرسَلَه، صلَّى الله على سيَّدنا محمَّد وآله وصحبه وسلَّم. أما بعد - عبادَ الله - فأوصي نفسي وإياكم بتقواه التي هي وصيَّتُه لعباده، ووصيةُ الأنبياء للأمم. عبادَ الله، ما لنا لا نزالُ نخوضُ أوحالَ الذنوب مصرِّين عليها، ونجول في لذَّات الدنيا وهي قد أوضحَتْ لنا ما لديها؟ إنَّما هي دارُ غرورٍ مآلُه النَّدَم. فكلُّنا يعلَم أنَّ الله عليه رقيبٌ، وأنَّ أجلَه قريبٌ، وأنَّه مخاطَبٌ بما اجترَم. قد علمنا - والله - أنَّ الدنيا دارُ عملٍ مآلُها الفَناء، وأنَّ الآخرة دار جزاء، وشأنُها البقاء، وأنه لا عاصم من أمر الله إلا مَنْ رحِم. وقد حقَّر الله الدُّنيا، وهي كما تُشاهِدُها حقيرة. وعظَّمَ لنا أحوالَ القيامة، والعظيمُ لا يُعظِّم إلا الأشياءَ الخطيرة. ورغَّبَنا فيما عنده، فقابَلَ أكثرُنا مناديَه بالصَّمَم. كم بينَ ما وَرَد فيها عن الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم -: "لو كانت الدنيا تَسْوَى عند الله جناحَ بعوضةٍ ما سَقَى منها كافرًا (¬1) شربةَ ماء" (¬2)، وما ورد فيها عن الله تعالى: ¬

_ (¬1) في الأصل: "كافر". (¬2) أخرجه الترمذي (2320) من حديث سهل بن سعد، وقال: "وفي الباب عن أبي =

{وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا} [الإنسان: 20]، وعن رسوله - صلى الله عليه وسلم - قال: "قال الله تعالى: أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رَأَتْ، ولا أذنٌ سمعتْ، ولا خَطَر على قلبِ بَشَرٍ. واقرؤوا إن شئتم: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17] " (¬1). وأين مآبُ الصالحين - وهذه صفته - من مآل الفاسقين؟ وقال الله تعالى فيه: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات: 28 - 34]. وقال فيه رسولُه - صلى الله عليه وسلم -، وقرأ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]: "لو أنَّ قطرةً من الزقُّوم قُطِرَتْ في دار الدنيا لأفسَدَتْ على أهلِ الأرضِ معايشَهم، فكيف بمن يكونُ طعامَه؟ " (¬2). وإذا كان هذا هو الطعام، فكيف بالعذاب؟ وكفى برضوان الله نعيمًا وخيرًا عظيمًا، وكفى بسخطه جحيمًا وعذابًا أليمًا. ألا، وإنَّ رمضان قد انقضى شاهدًا بما أُودِعَه من خيرٍ أو شرٍّ. وإنَّ أشهرَ الحجِّ قد حضرَتْ، فلْينظر الإنسانُ ما هو مُودِعُها من نفعٍ أو ضَرٍّ. فإنَّ ربَّ ¬

_ = هريرة". قال: وهذا حديث صحيح غريب من هذا الوجه. (¬1) من حديث أبي هريرة. أخرجه البخاري (3244) ومسلم (2824). (¬2) من حديث ابن عباس. أخرجه الترمذي (2585) وابن ماجه (4325). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

الأزمنة واحدٌ، وحلالَها وحرامَها واحدٌ، وكتابَها ورقيبَها وعتيدَها واحدٌ، وجنَّتَها واحدةٌ، ونارَها واحدةٌ؛ على أنَّ رمضانَ وإنْ فَضَلَ بزيادة الأجر، فهو كذلك في عِظَم الوزر. وما خرجنا من حَرَمٍ إلاَّ إلى حَرَمٍ: من شهر الصيام إلى أشهُر الحج العِظام، فَلْيُنِبْ كلٌّ منَّا إلى ربِّه، ويستغفِرْ لذنبه. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفِروه جميعًا، إنَّه هو الغفور الرحيم. ***

15

(15) [18/ ج] الحمد لله الذي وفَّقَ من ارتضاه لطاعته، وهدَى من اصطفاه لحُسنِ عبادته. أحمده سبحانه وتعالى وأشكرُه، وأتوبُ إلى الله وأستغفِرُه. وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله. اللهم فصلِّ وسلِّم على هذا النبيِّ الكريم سيِّدنا [محمد] (¬1)، وعلى آله وأصحابه أفضلُ الصلاة والتسليم. أما بعدُ، فأوصيكم - عبادَ الله - ونفسي بتقوى الله، فاتقوا اللهَ عبادَ الله، وواظِبوا على ما إليه دعاكم، واجتنِبُوا ما عنه نهاكم. يا أبناءَ الأموات، وهدفَ الآفات، ومَن مآلُهم إلى العِظام الرُّفات؛ لا يغرنَّكم الشيطانُ والأمَل، ولا يفوتنَّكم صالحُ العَمل؛ فإنَّ الموت مُصبِّحكم أو مُمَسِّيكم، ولا تدرُون متى يُفاجيكم. فاستعِدُّوا للموت قبل أن يقع، ما دام في القوس منزَع، وفي الحياة مطمَع، فإنَّ أمامكم عَقَبةً كؤودًا لا يجوزُها إلا المُخِفُّون. أمامَكم القبورُ وعذابُها، والقيامةُ وحسابُها، والجِنانُ وثوابُها، والنيرانُ وعِقابُها. وهذه الدنيا دارُ فَناء، والآخرة دارُ بَقاء. وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "الدنيا ملعونةٌ، ملعونٌ ما فيها إلا ذكرَ الله وما والاه، وعالمٌ أو متعلِّم" (¬2). ¬

_ (¬1) زيادة مني. (¬2) أخرجه الترمذي (2322) وابن ماجه (4112) من حديث أبي هريرة. قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب".

هذا، وإنَّ أحسنَ الكلامِ كلامُ الله الملكِ العلَّام، وهو سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون: 9 - 11]. وفَّقني الله وإياكم لاتباع ما أمَرَ به، واجتناب مواردِ غضبه. هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه جميعًا، إنَّه هو الغفور الرحيم. ***

16

(16) [ل 20/ أ] الحمدُ لله النَّاصعِ برهانُه، الشديدِ سلطانُه، العامِّ بِرُّه وإحسانُه، الشاملِ لما سواه فضلُه وامتنانُه، الخاصِّ بأهلِ طاعته رضوانُه، المرجوِّ للتوَّابينَ غفرانُه. وأشهدُ ألَّا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، شهادةَ من نطق لسانُه، واعتقد جَنانُه، وعملت أركانُه. وأشهدُ أنَّ سيِّدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه الرفيعُ مكانُه، المنيعُ عزُّه وشأنُه. اللهمَّ فصلِّ وسلِّم وبارِكْ على هذا الرسولِ الكاملِ إيقانُه، البالغِ إلى أعلى الدَّرجات إيمانُه: سيدِنا محمدِ، وعلى آله الذين صحَّ لهم من الله مَنُّه وأمانُه، وعلى أصحابه الذين أوضحوا مناهجَ الشرع، فاتضح بيانُه، وتسدَّدَ بنيانُه؛ وعلى تابعيهم بإحسانٍ إلى أن يُقبَضَ من الدهرِ عِنانُه. أما بعدُ، فيا عبادَ الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتَّقوه حقَّ تُقاتِه، فإنَّها محرَّمةٌ على غير تُقاته (¬1) جِنانُه. واجتنِبُوا معاصيَه، فإنَّها تجبُ لأهلِ معصيته نيرانُه. فاللهَ اللهَ، إياكم وأمنَ مكرِه، فيحقَّ عليكم غضبُه بما كان منكم عصيانُه. واعلموا أنَّ دنياكم هذه خدَّاعة مكَّارة غدَّارة ختَّارة، لا يهنأ خيرُها، ولا ¬

_ (¬1) يعني الأتقياء. في قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28] أجاز أبو علي أن يكون "تُقاة" جمع فاعل وإن كان لم يستعمل منه فاعل، وأن يكون جمع تقيّ. وكلا التجويزين فيه نظر.

يؤمَنُ ضَيرُها. وخيرُكم من رُزِقَ منها كفَافًا، وانقبضَ عن فضولها زهدًا وعَفافًا. وما عسى أن يقال في دارٍ أنفاسُ الإنسان فيها معدودة، وخيراتُها عن أحبابِ الله مصدودة. وإنما هي دار عمل واكتساب، حلالُها حساب، وحرامُها عذاب. وإنما مَثَلُنا ومثَلُ الدنيا كملِكٍ قال لعبيده: دونكم هذا البستانَ، فمن أخَذَ من تلك الشجرة قتلتُه، ومن أخذ من تلك الشجرة كفايتَه أكرمتُه، ومن أخذ فوق حاجته عاقبتُه. على أنَّ كثرةَ الدنيا تشغَل عن الله في الغالب، وكثيرًا ما تُجرِّئُ على المعصية، وتُطمِعُ الشيطانَ في الإنسان. وإنَّ أحدكم لَيرى (¬1) القبورَ، فيفزَعُ من ضِيقها، ويَهُولُه دفنُ أمثاله في التراب وبَلاءُ (¬2) محاسنهم، وأكلُ الدُّود لها؛ ويُفزِعُه (¬3) ما يسمع من عذاب القبر وهولِ المحشر وعذاب جهنَّم. ومع ذلك يعلم أنَّما عاملُه عملُه، ففيه يُقبَر، وإياه يُوَسَّد، وهو محاسِبُه، وهو مَرْكَبُه، وهو صراطُه، وهو ميزانُه، وهو حوضُه، وهو مقعدُه، وهو زادُه، وهو شرابُه: فإنْ خيرًا فخيرٌ، وإنْ شرًّا فشَرٌّ. ثم لا يُحسِنُ عمله، ولا يُقَصِّرُ أملَه، ولا يدَعُ باطَله؛ وإنَّ ذلك لَلضَّلالُ البعيدُ. واعلموا أنَّ شهرَكم هذا شهرٌ حرام، تُضاعَف فيه الأعمالُ، فعليكم بالصلاة فرضًا ونفلًا. وعليكم بالصيام، فإنه جُنَّة من النار. وعليكم بالصدقة، فإنَّها حجابٌ من أسواء الدنيا والآخرة. وإيَّاكم والغيبةَ والنميمةَ، والكذبَ ¬

_ (¬1) رسمها في الأصل: "ليرا". (¬2) رسمها في الأصل: "بلآ" والبلاء بفتح الباء مصدر بلِيَ يبلَى كالبِلَى بكسر الباء. (¬3) رسمها في الأصل: "يفضعه".

والتفحشَ، والحسدَ والحقدَ، والغدرَ والخيانةَ والخدلَ، والعُجبَ والكِبرَ والخيلاءَ والرياءَ، والشتمَ والظلمَ، والحبَّ والبغض في غير الله. وعليكم العفةَ والنزاهةَ والإخلاصَ، والرفقَ والعفوَ والإصلاح؛ فإنَّ هذا رجب، وبعده شعبان، وبعده رمضان: مواسمُ طاعات ومغانمُ خيرات. فطوبى لمن وفَقه اللهُ لرضوانه، وبُؤسَى لمن أُركِسَ في خسرانه! الحديث: قال عليه أفضل الصلاة والسلام: "رجبٌ شهرُ الله، وشعبانُ شهري، ورمضان شهر أمتي" (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "فضلُ رجب على سائر الشهور كفضل القرآن على سائر الكلام" (¬2). ألا، وإنَّ أبلغَ كلام تلين القلوبُ لِقَبْضِه وصَرْفِه، وتتهذَّب النفوسُ ببَسْطِه وكفِّه، وتتعجَّب العقولُ لعظيمِ كمالِه وكريمِ وصفِه: كلامٌ لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفِه. والله سبحانه وتعالى يقول: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98]. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36]. ¬

_ (¬1) أخرجه الأصبهاني في "الترغيب" (1857) عن الحسن مرسلًا. انظر "السلسلة الضعيفة" (4400). (¬2) قال ابن حجر: موضوع. انظر: "الفوائد المجموعة للشوكاني" تحقيق المعلمي (381).

وقال تعالى: {بسم الله الرحمن الرحيم وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}. اللهم ارزُقْنا من رضاك، وجنِّبْنا عواقبَ بلاك، والطُفْ بنا في قَضَاك. أقول قولي (¬1). ... ¬

_ (¬1) لم يزد على هذا. وفي الحاشية اليمنى: "وفي رجب كان الإسراء والمعراج وفرض [الصلوات الخمس] " لم يظهر ما بين المعكوفين لثني الورقة.

17

(17) [ل 20/ ب] الحمدُ لله الذي وفَّق مَن اختاره من عباده لطاعته، وأهَّلَ مَن ارتضاه منهم لعبادته، وهدَى مَن أحبَّه لمحبَّته. أحمدُه حمدَ من اعترفَ بوحدانيته، واستيقَنَ بأنَّه المتقدِّس بعزَّته وعظمته. وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده، لا شريكَ له في ألوهيته، ولا مقاوِمَ له في جبروته وعزَّته. وأشهد أنَّ سيّدنا محمدًا عبدُه ورسولُه، أرسَلَه إلى [كافَّة] (¬1) خلقه بشيرًا ونذيرًا، وجعَلَه شاهدَ حقٍّ وأمينَ صدقٍ وسراجًا منيرًا. اللهمَّ فصلِّ وسلِّم وبارِكْ على سيِّدنا محمدٍ نبيِّك المخصوصِ بالكرامة، المشفَّعِ في الخلق يومَ القيامة؛ وعلى آله الذين فرضتَ على الأمة محبتَهم، وأخذتَ علينا الميثاق بالتزامنا مودَّتَهم؛ وعلى أصحابه مفاتيح خزانته، ومصابيح المقتدين به ومتحمِّلين (¬2) أمانته. أما بعدُ، فيا عبادَ الله، أوصيكم ونفسي الخاطئةَ بتقوى الله، فإنَّ التقوى هي العُدَّةُ النافعة، والآلةُ الرافعة، فاتقوا الله - عبادَ الله- تفوزُوا برضوانه، وتستحقُّوا فضيلةَ عفوه وغفرانه، وتُخَصُّوا برحمته وامتنانه، وتكونوا في المكتوبِ لهم خلودُ جِنانه. فكم فيكم من عيوبٍ واضحة، وذنوبٍ فاضحة، ومساوي قادحة! فلا لأبصاركم تغُضُّون، ولا لأنفسكم تعصُون، ولا للمحرَّماتِ تجتنبون، ولا للفروض تؤدُّون، ولا للسُّنن تتَّبعون، ولا عن الكذب والغيبة والنميمة تحترزون. ¬

_ (¬1) انتشر الحبر فلم يظهر ما بين المعكوفين إلا الهاء. (¬2) كذا، ومقتضى السجع: "ومتحمِّلي أمانتِه".

فكم من كبيرةٍ أنتم مصرُّون (¬1) عليها، وعظيمةٍ أنتم مسارعون إليها! مواظبون (¬2) على القبائح الشنيعة، مثابرون على الفضائح الفظيعة (¬3)، متهاونون بأحكام الشريعة. تنتهكون حرماتِ الله، وتتعدَّون حدودَ الله، وتتجاوزون أوامرَ الله، وتتهاونون بكتاب الله. كأنَّكم بالموت مكذِّبون، أو في البعث متشكِّكون، أو بالدين مستهزئون. فإياكم والمعاصي، فإنها السمُّ الناقع والموت القاطع. فاعلموا - وفَّقكم الله - أنَّ الله لا يغيب عنه عملُكم، ولا يخفى عليه فعلُكم، ولكنه يُمْهِلكم ولا يُهْمِلكم. أم تحسبون أنه تستُره عنكم السقوف، أم تحجبه عنكم الظلمة والحجاب؟ كلَّا، والله إنه لَلعليمُ الخبير، والنَّاقد البصير، والحاكمُ القدير سبحانه وتعالى عما يقول الجاهلون علوًّا كبيرًا. أيها الإنسان، إنَّ أكلَ الحرام يطمِسُ نورَ القلب، ويُغري على الذنب، ويُبدِّل الإيمانَ بالكفران، والطاعة بالطغيان، ويُقرِّبك من الشيطان، ويُبعدُك عن الرحمن. وإنَّ طموحَ العين أُسُّ الفتنة، ومفتاحُ المحنة، ومغلاقُ الجنَّة. وإنَّ الزِّناء (¬4) يُذهِبُ الإيمانَ (¬5)، ويُعمي البصيرة، ويُذهِبُ نورَ الوجه، ويُذهِبُ العقلَ، ويُذهِبُ المعرفةَ، ويُذهِبُ البركةَ من الرِّزق، ويُهوِّن فاعلَه عند الله وخَلْقِه، ويُحبِطُه في رزقه، ويكون سببًا لتشويه خَلْقه وخُلُقه؛ وهو ¬

_ (¬1) فوق الميم نقطتا التاء أيضًا، يعني: "تصرُّون". (¬2) كتبها في الأصل بالضاد. (¬3) هذه أيضًا كتبها بالضاد. (¬4) رسمها في الأصل: "الزنآ". (¬5) رسمها في الأصل: "لإيمان".

موعود بالسوء في خاتمته، وربما نزع الإيمان منه عند موته. وإنَّ تركَ الصلاةِ هربٌ من الإِسلام وتقرُّبٌ من الكفر، وخروجٌ عن الهدى، ودخول في سبيل الردى (¬1). وإن الرِّياءَ والسُّمعةَ والرِّبا (¬2) والشِّيةَ (¬3) والفُحْشَ والتفحُّشَ والسفاهة والبَذاءةَ والحسدَ والبغضاءَ والسَّبَّ والشَّتْمَ = كلَّها أدواءٌ مُضِرَّة وأهواءٌ مُضِلَّة. الحديث: قال - صلى الله عليه وسلم -: "الدنيا ملعونةٌ، ملعونٌ ما فيها، إلا ذكرَ الله وما والاه، وعالمًا أو متعلِّمًا" (¬4). ألا، وإنَّ أبلغَ كلامٍ تلين له الأفئدةُ، وتخشَع له القلوبُ = كلامٌ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. والله سبحانه وتعالى يقول: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {بسم الله الرحمن الرحيم قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 1 - 11]. ¬

_ (¬1) رسمها في الأصل: "الردا". (¬2) رسمها كالرياء دون إعجام وعلامة الهمزة. وقراءة "الربا" قلقة في السياق. (¬3) وضع نقاط الشين فقط. (¬4) سبق تخريجه في الخطبة الخامسة عشرة.

اللهم وفِّقنا لطاعتك، وبَعِّدنا عن معصيتك، وأهِّلْنا لمحبَّتك، واجعَلْنا من أهل الحبِّ والبغض فيك. [] (¬1). أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم. ... ¬

_ (¬1) أكثر من نصف سطر ذهب به تمزق الورقة من أسفلها.

18

(18) [ل 22/ أ] الله أكبر ما حجَّ حاجٌّ واعتَمَر. الله أكبر ما تجرَّد متجرِّدٌ عن المَخِيطِ وشمَّر. الله أكبر ما لبَّى مُلبٍّ ووحَّد واستغفَر. الله أكبرُ ما شاهدَ البيت مشاهدٌ، فهلَّلَ وكبَّر. الله أكبر ما طاف بالبيت طائفٌ وقبَّلَ الحَجَر. الله أكبر ما وقَفَ بعرفةَ واقفٌ، فاغتنم الأجرَ الأكبر. الله أكبر ما باتَ بمزدلفةَ بائتٌ ودعا الله بالمشعَر. الله أكبر ما رمَى الجمرةَ رامٍ، ولِهَدْيه نَحَر. الله أكبر ما حلَقَ حالقٌ أو قَصَّر. الله أكبر ما طافَ بالبيت زائرٌ، وسعى بين الصفا (¬1) والمروة، ففازَ بالفضل الأوفر. الله أكبر ما بات بمنى أيامَ التشريق بائتٌ، ورَمَى الجمارَ، ثم نَفَر. الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر ما صام صائمٌ عشر ذي الحجة، وأفْطَر. الله أكبر ما اغتسَلَ في مثلِ هذا اليوم مغتسِلٌ، وتطهَّر، الله أكبر ما تطيَّبَ فيه متطيِّب، وتعطَّر. الله أكبر ما لبِسَ (¬2) أفخر ثيابه، وبكَّر. الله أكبر ما صلَّى مصلٍّ، وبتلاوته جَهَر. الله أكبر ما رقِيَ خطيبٌ فوق أعوادِ مِنبَر. الله أكبر ما حمد الله وأثنَى عليه وشَكَر. الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحانَ الله بكرةً وأصيلًا. {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111]. ¬

_ (¬1) رسمها في الأصل: "الصفى". (¬2) كذا، ولعله نسي أن يكتب: "لابسٌ".

الحمدُ لله الملكِ المحمود، المقدَّسِ المعبود، الذي لا حقَّ لغيره في العبادة والسجود. الذي شمِلَ العالَمِين إنعامُه، وعمَّ جميعَ المخلوقين إكرامُه، وأُسِّست على قواعدِ الحِكَمِ أحكامه. الرَّحيمِ الغفَّارِ، المرجوِّ ثوابُه. العزيز الجبَّار، المخشيِّ عقابُه. المتكبِّرِ القهَّار، المرهوبِ عذابُه. الذي أحلَّ لنا الطيباتِ، وحرَّمَ علينا الخبائث المكروهات، وحثَّنا على مكارم الأخلاق وكرائمِ الصفات. سبحانَه، حَسَّن خَلْقَنا وأخلاقَنا، ووسَّعَ علينا أرزاقنا، وأفاض علينا نعمَه باطنةً وظاهرةً، وأرشَدَنا إلى ما فيه خيرات الدنيا والآخرة. وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ سيِّدنا محمدًا عبدُه ونبيُّه، بالهدى ودين الحق أرسَلَه. اللهمَّ فصلِّ وسَلِّم على رسولك مولانا محمدٍ، وعلى آله الأطهار، وأصحابه الأبرار، المصطفَين الأخيار، والتَّابعين لهم بإحسان. أمَّا بعدُ - عبادَ الله - فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتَّقوا الله - عبادَ الله - كما أسبَغَ عليكم نِعمَه. واجتنبُوا مواردَ غضبِه، كما دفع عنكم نِقَمَه. وأقلِعُوا عن القبائح، وامتنِعُوا عن معاقرة الفضائح، واستمِعُوا ما تُمْحَضُون من النصائح. واقطَعوا بذكر الموت آمالَكم، وسارِعوا بالتوبة آجالكم. أين مَن كان قبلكم من الملوك وأممها، مِن عربها وعجمها؛ وممَّن تعرفون من الآباء والإخوان، والأصدقاءِ والخُلَّان؟ كان لهم في مثل هذا اليوم شأنٌ وأيُّ شأن! فمِنْ منيبٍ إلى ربه، مخلِصٍ له بقلبه، مستغفِرٍ لذنبه، قد اتَّبعَ سنة نبيِّه، فلبسَ أفخرَ ثيابه، وتعطَّرَ بأحسنِ طيبه، وخرج إلى مصلَّاه

شاكرًا مظهرًا (¬1) محدِّثًا لأنعم مولاه، راغبًا فيما عند الله. ومِن مُزْدَهِ بغروره، مفتخرٍ بزُوره، قد لبِسَ وتعطَّر مباهيًّا لأبناءِ جنسه مطاوعًا لاستخفاف نفسه، يظنُّ هذا اليوم يومَ فخرٍ ورياء، لا يوم شكر ودعاء= كلاهما قد قدِم على ما قدَّم: إمَّا إلى عدْنٍ، وإمَّا إلى جهنَّم. واعلموا أنَّ من أعظمِ نعمِ الله عليكم أنْ أقامَ فيكم إمامَ حقٍّ يُجدِّد دينَه القويم، وينصِبُ قِسطاسَه المستقيم، ويُحيي حدودَه، ويُثبِّتُ شرعَه، على حين اشتعلت الأرضُ فِتنًا، وتلاطَمَ البحر والبرُّ محِنًا. وها أنتم ترون ما نحن فيه من السعة والنعيم والدعة والأمن وإقامة حدود الله ... (¬2)، وما غيرُنا فيه من الفتن والقتل والنهب والخوف، وغربة الدين، ومجانبة الشريعة، وشمول البدع الشنيعة، غير منهيَّة ولا منكَرة. وهذه نعمةٌ لا يقوم لها شكر، فالحمدُ لله حمدًا يوافي نعمه ويكافئ مزيدَه. واعلموا أنَّ يومَكم هذا يومٌ عظيمٌ حرامٌ، من عَشْرٍ عظيمٍ حرامٍ، من شهرٍ عظيمٍ حرامٍ، جمع الله فيه بين عيدَين سعيدَين وموسمين عظيمين (¬3). واليومُ الذي يجتمعان فيه خيرُ الأيَّام، يومُ شكرٍ لِمُفيضِ الإنعام، وصلةٍ للأرحام، وتقرُّبٍ بذِبْحٍ ممَّا أنعمَ الله من بهيمة الأنعام. وإنَّ الله تعالى قد شرَعَ لنا التضحيةَ في هذا اليوم، وهي واجبةٌ على من التَزَمها، بل وعلى غيره بشرطه عند بعض العلماء. ويجزئ من الإبل ما طعَنَ ¬

_ (¬1) يشبه ما أثبتُّ. وانظر قوله في الخطبة (29): "ما حدَّث شاكر بنعمة ربِّه وأظهر". (¬2) كلمتان أو ثلاث لم تتضح لي. (¬3) يعني: عيد الأضحى والجمعة. هذه خطبة العيد، وانظر خطبة الجمعة برقم 26.

في السنة السادسة، ومن البقر والمعز ما طعَنَ في الثالثة، ومن الضَّأن ما طَعَن في الثانية. وتجزئ البدنةُ والبقرة عن سبعة، والشاةُ عن واحد. فإذا ضحَّى واحدٌ من أهل البيت حصل الأجرُ لجميعهم. ولا تجزئ عجفاءُ، ومجنونة، ومقطوعة بعض أذن، وعرجاء، وعوراء، ومريضة، وجَرباء. ووقتها بعد صلاة العيد، ويمتدُّ إلى آخر أيام التشريق. وكلَّما تأخرتْ قلَّ فضلُها. فمن ذَبَح قبلَ الصلاة فلا تجزئ عنه. ومَن نذَرَ معيَّنةً لزمَتْه، ويجب التصدُّق بالمنذورة جميعها. فأما غيرُها فله أن يأكل منها. والأفضل أن يذبحَ المضحِّي بيده، وإلَّا فلْيُوَكَّلْ. وقد روى الإِمام أحمد وأبو داود وابن ماجه والدارمي (¬1) عن جابر قال: ذبح النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يوم الذبح كبشَين أقرنَين أملحَين مَوجُوءَين، فلما وجَّههما قال: "وجَّهتُ وجهي للذي فطر السماوات والأرض، على ملَّةِ إبراهيم حنيفًا وما أنا من المشركين. إنَّ صلاتي ونُسُكي ومحياي ومماتي لله ربِّ العالمين لا شريك له، وبذلك أُمِرتُ وأنا من المَسلمين. اللهم منك ولك، وعن محمَّد وأمته. بسم الله والله أكبر" ثم ذَبَح. [ل 23/ أ] فَلْيدعُ الذَّابح بالدعاء، وَلْيقُلْ بدلَ "عن محمَّد وأمته": عن عبدِك فلان وأهلِ بيته، ويُسمِّي المضحِّي. ¬

_ (¬1) مسند أحمد (15022)، أبو داود (2795) - واللفظ له -, ابن ماجه (3121)، الدارمي (1946)، وابن خزيمة في "صحيحه" (2899).

واعلموا - رحمكم الله - أنَّ هذا اليومَ للصدقةِ فيه أجر عظيم، فأكثِرُوا فيه من الصدقات على الفقراء والمساكين، ولا سيَّما من كان من قَرابتكم، فإنَّ صلةَ الرحم من أهمِّ المشروعات. واذكروا ما رواه الشيخان في صحيحيهما (¬1) عن أبي بكرة قال: خطَبَنا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يومَ النحر، قال: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلقَ الله السماوات والأرض. السنةُ اثنا (¬2) عشر شهرًا، منها أربعةٌ حُرُم، ثلاثٌ (¬3) متوالياتٌ: ذو القعدة والحجة (¬4) والمحرَّم، ورجبُ مُضَر الذي بين جُمادى وشعبان" وقال: "أيُّ شهرٍ هذا؟ " قلنا: الله ورسولُه أعلم. فسكتَ حتَّى ظننَّا أنه سيسمِّيه بغير اسمه. فقال: "أليس ذا الحِجَّة؟ " قلنا: بلى. قال: "أيُّ بلدٍ هذا؟ " قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكَتَ حتَّى ظَننَّا أنَّه سيسمِّيه بغير اسمه. قال: "أليس البلدةَ؟ ". قلنا: بلى. قال: "فأيُّ يومٍ هذا؟ ". قلنا: الله ورسوله أعلَم. فسكت حتَّى ظننَّا أنه سيسمِّيه بغير اسمه. قال: "أليس يوم النحر؟ " قلنا: بلى. قال: "فإنَّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرامٌ، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا. وستلقَون ربَّكم، فيسألُكم عن أعمالكم. ألا، فلا ترجعوا بعدي ضُلَّالًا يضرِبُ بعضُكم رقابَ بعض. ألا، هل بلَّغتُ؟ " قالوا: نعم. قال: "اللهمَّ اشهَدْ، فَلْيُبَلِّغِ الشاهدُ الغائبَ، فرُبَّ مبلَّغٍ أوعَى من سَامعٍ". ¬

_ (¬1) البخاري (4406)، مسلم (1679). (¬2) رسمها في الأصل: "اثني". (¬3) كذا في الأصل. (¬4) كذا في الأصل.

هذا، وإنَّ أبدعَ الكلامِ نظمًا، وأبلغَه حِكمًا وحُكمًا = كلامُ من وسِع كلَّ شيء رحمةً وعلمًا. والله سبحانه وتعالى يقول: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98]. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {بسم الله الرحمن الرحيم إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} [سورة الكوثر]. وفَّقَنا الله لرضوانه، وعَمَّنا بعفوه وغُفرانه، وغَمَرَنا بجُوده وإحسانه وسَدَلَ علينا سِتْرَ حِلمه وحَنانه. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه، إنَّه هو الغفور الرحيم. ***

19

(19) [ل 22/ ب] (¬1) الحمدُ لله الذي عزَّ وجهُه، وجلَّ ثناؤه، وتقدَّستْ ذاتُه، وتباركَتْ أسماؤه، وبهَرَتْ عظمتُه، وجلَّتْ كبرياؤه، وعَلَتْ كلمتُه، وعظُمتْ آلاؤه. أحمدُه تعالى [على أن هدانا لدينه القويم] (¬2) حمدًا يوافي نعمه ويكافئ مزيده. و [أشكره على أن جعلنا من أتباع نبيِّه الكريم] (¬3) شكرًا أستمدُّ به موادَّ نفحاته المديدة. وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ سيِّدنا محمدًا عبدُه ونبيُّه، بالهدى ودين الحق أرسلَه. اللهم فصلِّ وسلِّم على هذا النبي الأمي مولانا محمَّد، وعلى آله الأطهار وأصحابه الأبرار، والتابعين بإحسان. أما بعد، فأوصيكم - عبادَ الله - ونفسي بتقوى الله، فاتَّقُوا الله كما أمَرَ، وانتهُوا عمَّا زَجَر، وحافِظوا على المفروضات، ولا تَسَاهلوا عن المندوبات، وإيَّاكم والمحرَّمات، ولا تُقْدِمُوا على الشبهات (¬4). أيها الإنسان، إلامَ تنام ولا تنتبه؟ وحتَّام لا تدَعُ التخوُّضَ في الحرام والمشتبه؟ أطامعٌ في البقاء، أم طالبٌ مريدٌ للشقاء، أم شاكٌّ مرتابٌ في الحشر واللَّقاء؟ ¬

_ (¬1) وردت في (ل 52/ ب) خطبة لا فرق بينها وبين هذه إلا في ألفاظ يسيرة، فرأينا إثبات هذه مع الإشارة إلى الفروق بينهما. (¬2) لم يرد في (ل 52/ ب). (¬3) لم يرد في (ل 52/ ب). (¬4) في (ل 52/ ب): "واجتنبوا الشبهات".

إن لم تكن طامعًا في البقا (¬1)، فما اجتهادُك في بناء الدنيا وإعراضك (¬2) عن الأخرى؟ وإنْ لم تكن طالبًا مريدًا للشَّقا، فما لك صادًّا عن عمل الأتقيا، مُكِبًّا على زلَلِ الأشقيا؟ وإنْ لم تكن شاكًّا في اللِّقا، فلِمَ لا تستعدُّ له ما دمتَ في الأحيا؟ (¬3). أما، والله لئن كانت الدنيا غرَّك زخرفُها، لقد وعَظَك تقلُّبُها. ولئن استمالَتْك مهلتُها، لقد محضَتْك النصحَ عواقبُها. أنت لا توقن بتأخُّر أجلِك ساعةً، ولا تشُكُّ أنَّك إلى الموت صائر. ولا تدري لعلك السَّاعةَ بين أهلك، والسَّاعة الثانية بين أهل المقابر. فما أجدَرَ مَن هذا حالُه أن يُقلِعَ عن عيوبه، ويتوبَ عن ذنوبه، ويحاسِبَ نفسَه قبل الحساب، ويستعدَّ ليوم المآب، ويجتهد أن يُثبَت اسمُه في ديوان الثواب، ويُمحَى من ديوان العقاب. ولكنَّ القلوبَ تراكمَتْ عليها الأصداءُ، واستولَتْ عليها الأعداءُ، فإنْ وُعِظْتُم لم تَعُوا، وإنْ نُهيتم لم تُقْلِعوا، وإن أُمرِتم لم تصنَعوا (¬4). فانتبِهوا [عبادَ الله] (¬5) قبلَ مفاجأةِ الآجال، وانقطاع الآمال، وطيِّ صُحُفِ الأعمال (¬6). ¬

_ (¬1) حذف الهمز للسجع. (¬2) في (ل 52/ ب): "معرضًا". (¬3) في (ل 52/ ب): "ما دمت حيًّا". (¬4) في (ل 52/ ب): "فإن وعظت لم تسمع، وإن نهيت لم تقلع، وإن أمرت لم تصنع". (¬5) من (ل 52/ ب). (¬6) في (ل 52/ ب): "وختم الأعمال".

واعتبروا بمن مضى قبلكم، أصبحوا وبيوتُهم (¬1) خالية خاوية، وأجسادهم رممٌ تحت التراب بالية. وهم على ما قدَّموا (¬2) لابثون، وبما عمِلوا معامَلون: إنْ خيرًا فخيرٌ، وإنْ شرًّا فشرٌّ (¬3). وفَّقني الله وإياكم لخير الأعمال، وخَتَم لنا بالحسنى، إنَّه جواد كريم. الحديث: عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّه خطَبَ يومًا، فقال في خطبته: "ألا، إنَّ الدنيا عَرَض حاضر، يأكل منه البَرُّ والفاجر، ألا، وإنَّ الآخرةَ أجَلٌ صادق، ويقضي فيها ملِكٌ قادر. ألا، وإنَّ الخيرَ كلَّه بحذافيره في الجنة. ألا، وإنَّ الشرَّ كلَّه بحذافيره في النار. ألا، فاعملوا وأنتم من الله على حذَر. واعلموا أنَّكم معروضون على أعمالكم، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8] " (¬4). هذا، وإن الله (¬5) سبحانه وتعالى يقول: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ ¬

_ (¬1) في (ل 52/ ب): "من الأمم الذين أصبحت بيوتهم ... ". (¬2) في (ل 52/ ب): "فعلوا". (¬3) في (ل 52/ ب) زيادة نحو سطرين، وقد ألحقها مع ما سبق في الحاشية اليمنى ممتدَّةً إلى أسفل الورقة، فضاع ما كان في الحاشية وجزء مما في أسفل الورقة للتمزق والقطع. (¬4) أخرجه الشافعي في "مسنده" (292) عن عمرو مرسلًا. وأخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 216) عن شداد بن أوس بإسناد ضعيف. فيه عبيد بن كثير العامري التمار وهو متروك. انظر "لسان الميزان" (5/ 360). (¬5) في (ل 52/ ب): "وإن أبلغ الكلام كلام الله ... ".

نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 20 - 21]. ***

20

(20) [ل 24/ أ] الحمد لله الملِك الذي بيده أزِمَّةُ الأكوان، وهو القادر القاهر العزيز الديَّان. سبحانه وتعالى، وله الحمد والشكر، ونستزيده (¬1) من فضله والرضوان. وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، اتَّصَفَ بكلِّ كمال وتنزَّه عن كلَّ نقصان. وأشهد أن سيِّدنا محمدًا عبدُه ورسولُه، أرسلَه إلى الإنس والجانَّ. فبلَّغ رسالتَه، وأرشد إلى طاعته، وزجَرَ عن العصيان. اللهمَّ فصلِّ وسلِّم على هذا النبيِّ الكريم، وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان. أما بعد - عبادَ الله - فإنِّي أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله عبادَ الله، فإنَّ التقوى هي كنز المؤمنين. وراقِبوا الله تعالى في جميع أحوالكم، فإنه مُطَّلِع على قلوبكم أجمعين. لا تخفى عليه خافيةٌ في جميع الأكوان، ولا يغيب عنه مثقالُ ذرَّةٍ من طاعةٍ أو عصيان. وقد أوضح لكم سُبُلَ طاعته، وبيَّن لكم مناهجَ عبادتِه، وفصَّل لكم أسبابَ رضوانه. ووعدَ العاصي بعذابه، والمطيع بثوابه وغفرانه. أمركم بالإيمان: أن تؤمنوا به وحده أنَّه إلهكم وإلهُ العالمين، الواحدُ في ذاته وصفاته ومُلكه، المهيمنُ على ما سواه، المنزَّهُ عن النقائص، المتصفُ بالكمالات، عالمُ الغيب، الخالق المحيي المميت الباعث، المعطي المانع المغني الوارث؛ وأن تؤمنوا بملائكته وكتبه ورسله واليومِ الآخر وما انطوى عليه كالبعث والحساب، والجنَّة والنار، والثواب والعقاب، والحوض ¬

_ (¬1) في الأصل: "وتستزيده".

والسِّراط والميزان. ألا، وإنَّ الإيمانَ الخالصَ ما عقَلَ صاحبَه عن المعاصي، ومَنَعه عن المآثم والمظالم، ووقَف به على الطاعات، فعمِلَ ما أمره [به] (¬1) الله ورسولُه من صلاة وصيام وزكاة وحجٍّ، وصدقة وحسن أخلاق وحبٍّ وبغضٍ فيه تعالى، لا لغرض دنيوي. [وإنَّ] (¬2) من كان يؤمن بأنَّ الله تعالى مُطَّلِعٌ عليه، وأنَّه سوف يبعثُه ويحاسِبُه، وينعِّمه أو يعاقِبُه؛ فكيف يقصِّر في ذلك؟ ألَا، وإنَّ أكثرَ الناس اليوم مقصِّرون في جميع طاعاتهم. ألا، وإنَّ من قصَّر في طاعته، فربما لم يقبلها الله، وكان كالذي لم يفعلها أصلًا. [كم] (¬3) ساجدٍ راكعٍ لم يُكتَب له صلاةٌ، وكم ظمآن جائعٍ لم يُكتَب له صيامٌ، وكم طائفٍ واقفٍ لم يُكتَب له حَجٌّ، وكم مُنْفِقٍ مُكثِرٍ لم يُكتَب له زكاة ولا صدقة. ألا، وإنَّ الله طيِّبٌ لا يقبل إلا طيِّبًا، فاجعلوا دينكم لله خالصًا، واعلموا أنَّه رقيبكم في كلِّ طرفةِ عين، فراقِبوه بقلوبكم، ولا تنسَوه، واجعلوا الموتَ نُصْبَ أعينكم، واجعلوا هولَ الموقف والحساب والعقاب والثواب [كلَّ] (¬4) ساعةٍ معروضًا على أفكاركم. ¬

_ (¬1) ذهب به تمزُّق الورقة. (¬2) ظهر حرف النون وطرف الهمزة. (¬3) ذهب به تمزُّق الورقة. (¬4) أخفاه انثناء الورقة.

وإيَّاكم والتسويفَ بالتوبة، وعجِّلوا بها، فإنَّ الأملَ طويل، والعملَ قليل، والعمرَ قصير، والناقدَ بصير، والحسابَ عسير؛ ولا طاقةَ لكم على عذاب السعير، ولا غنى لكم عن النعيم المقيم في جنَّات وحرير. اعتبروا بإخوانكم الذين [مضوا] (¬1) قبلكم، تجدوا كلَّ واحدٍ منهم كان أملُه أطولَ من آمالكم، يقول: سأعمل، سأصنع، سأبني، سأملِك؛ ثم سأتوب، وأصلح، وأطيع [] (¬2) فلم يشعُر إلاَّ وقد بغَتَه أجلُه، فانقطع أملُه وعملُه. فطوبى لمن سبقَ الموتَ بتوبته، وأعجَلَ الفوتَ بأوبته. [فجاءه] (¬3) فاجئُ أجلِه، وهو على خيار عمله. الحديث: رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "صلُّوا خمسَكم، وصُومُوا شهرَكم، وأدُّوا زكاةَ أموالِكم، وأطيعوا ذا أمرِكم" (¬4). ألا، وإنَّ أبدعَ المواعظِ كلامٌ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والله سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّات ¬

_ (¬1) ذهب به التمزُّق، والقراءة تقديرية. (¬2) ذهب به التمزق. (¬3) بقيت الهاء فقط. (¬4) من حديث أبي أمامة. أخرجه الإِمام أحمد في مسنده (22161) والترمذي (616) وقال: هذا حديث حسن صحيح.

عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف: 10 - 13] (¬1). ... ¬

_ (¬1) في أسفل الورقة بعد الآية المذكورة أورد الحديث الآتي دون تحديد موضعه. والظاهر أنه قيَّده لإيراده في بعض خطبه. ونصُّه: "الحديث: روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال ذات يوم لأصحابه: استحيُوا من الله حقَّ الحياء، قالوا: لإنَّا نستحي يا نبيَّ الله، والحمدُ لله. قال: ليس ذلك. ولكنَّ من استحى من الله حقَّ الحياء فليحفظ الرأس وما وعى، وليحفظ البطن وما حوى، وليذكر الموت والبِلى. ومن أراد الآخرةَ ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحى من الله حقَّ الحياء".

21

(21) [ل 24/ ب] الحمد لله الذي لا يحيط به مكانٌ، ولا يحويه زمانٌ، ولا يُدرِك كنهَه إنسانٌ. أزليٌّ أبديٌّ، وكلُّ ما سواه فانٍ. وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ سيِّدنا محمدًا عبدُه ورسولُه شهادةً شاهدةً بالإخلاصِ ونفي الشك، قاضيةً بانتفاء النِّفاق والشرك. اللهم فصلِّ وسَلِّم على سيِّدنا محمدٍ نبيِّك الأعظم الذي أيَّدتَه بواضحِ البرهان، ورسولِك الأكرم الذي عضَّدتَه بشديد السُّلطان، وكما ختمتَ به رُسُلَك، فاختم لنا بالإيمان؛ وعلى آله وأصحابه والتابعين بإحسان. أما بعد، فيا عبادَ الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله. طالما أيقظَتْكم المواعظُ فلم تنتبهوا، ونهَتْكم الزَّواجرُ فلم تنتَهوا، ومُحِضتُم النصائح فلم تَقبلوا، وهُديتم إلى الصِّراط المستقيم فلم تُقْبِلوا. طالما زجَرْتكم الأكوانُ بأحوالها وأقوالها، وتكشَّفتْ لكم الدنيا عن عاقبة زُورها ومِحالها، وأظهرتْ لكم سوءَ حالها وقُبحَ مآلِها؛ وأنتم في غمرات الجهل تلعبون، وفي هلاكِ أنفسكم تدأبون، ولِعذاب السعير تطلُبون، وعن رضا الله تعالى تهربون! تُسْتبعَدون عن النار، فتقرَبون. وتُرَغَّبون في الجنَّة، وعنها تَرغَبون! {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29) قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور: 29، 30]. هذا شهرُ شعبان قد أزِفَ ارتحالُه، وهذا شهرُ رمضان قد قرُبَ نزولُه،

فانظروا ما تودِّعون به شعبانَ، وماذا تستقبِلُون به رمضانَ. {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185]. الحديث: عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قلتُ: يا رسولَ الله أخبِرْني بعملٍ يُدخِلُني الجنة ويُباعِدُني عن النار. قال: "لقد سألتَ عن عظيم، وإنَّه ليسيرٌ على من يسَّره الله تعالى عليه: تعبدُ الله لا تشرِكُ به شيئًا، وتقيمُ الصلاةَ، وتؤتي الزَّكاةَ، وتصومُ رمضانَ، وتحجُّ البيتَ". ثم قال: "ألا أدلُّكَ على أبواب الخير: الصومُ جُنَّة، والصدقةُ تطفئ الخطيئةَ كما يطفئ الماءُ النارَ، وصلاةُ الرجل في جوف الليل". ثم تلا: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 16 - 17]. ثم قال: "ألا أخبرك برأس الأمر، وعموده، وذروة سنامه؟ " قلت: بلى (¬1) يا رسولَ الله. قال: "رأسُ الأمر الإِسلام، وعمودُه الصلاة، وذروةُ سنامِه الجهاد". ثم قال: "ألا أُخبِرُك بمِلاك ذلك كلِّه؟ " قلت: بلى يا رسول الله. فأخذ بلسانه، وقال: "كُفَّ عليك هذا" قلتُ: يا نبيَّ الله، وإنَّا لمؤاخَذُون بما نتكلَّم به؟ قال: "ثكلتْك أمُّك، وهل يَكبُّ الناسَ في النار على وجوههم - أو قال: على مناخِرهم - إلاَّ حصائدُ ألسنتِهم؟ " (¬2). ¬

_ (¬1) رسمها في الأصل: "بلا". (¬2) أخرجه الترمذي (2616) وقال: حسن صحيح.

ألا، وإنَّ أبلغَ موعظةٍ وأعظمَ نصيحةٍ كتابٌ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والله سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 12] (¬1). ... ¬

_ (¬1) كتب بعد ذلك: "وفقني الله وإياكم لطاعته، ويسَّرَنا لمغفرته ورحمته. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم". ثم ضرب عليه. ولم نجد إشارة إلى أن هناك تكملة.

22

(22) [ل 25] (¬1) الحمد لله رب العالمين. الحمدُ لله الذي لا معبودَ بحقٍّ في الوجود إلَّاه، ولا قادرَ على جميع ما يشاء سواه، الجبَّارِ الذي خضَعَ لجبروته الجبابرةُ العُتاة، العظيمِ الذي سجدَتْ لتعظيمه الرؤوسُ والجِباه، الخالقِ الذي أنشأ جميعَ العالم من العدَم وأبداه، الرازق الذي رزَقَ جميعَ خَلْقه من المطيعين والعُصاة. هو الذي في السماوات إله وفي الأرض إله. أحمده سبحانه وتعالى حمدًا (¬2) أبتغي به مغفرتَه ورُحماه، وأستجزلُ به وهبَه وعَطَاه، وأستمطِرُ به وابلَ رأفته ورضاه، وأستدفِعُ به أليمَ عذابه وبَلاه، وأغسِلُ به قلبي حتى يُزيلَ سوادَه وصداه (¬3)، وأثبِّتُ به عقلي على ما يريده الله ويرضاه. وأشهد ألَّا (¬4) إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً يدَّخرها العبدُ ليوم أخراه، ويحقِّقُ بها يقينَه بأنَّه لا إله إلا الله، فاعلم أنه لا إله إلا الله. وأشهد أنَّ محمدًا (¬5) عبدُه ورسولُه، بلَّغَ رسالاتِه، وزَجَر عن معصيته، وأمَرَ بتقواه. صلَّى الله وسلَّم عليه، وعلى آله وصحبه الذين والَوا مَن والاه، وعادَوا مَن عاداه. ¬

_ (¬1) قارن هذه الخطبة بالخطبة (48). (¬2) في الأصل: "حمد". (¬3) يعني: صدأه. (¬4) رسمها في الأصل: "أن الا". (¬5) في الأصل: "محمد".

أما بعد - أيها الناس - فإني آمركم ونفسي بتقوى الله تعالى، فقد أفلَحَ من اتقاه. وأزجُرُكم ونفسي عن عصيانه، فما أخابَ (¬1) من عصاه وأشقاه! واعلموا - وفَّقَني الله وإياكم - أنَّ الله تعالى عالمٌ بما أظهره العبدُ وما أخفاه، وما أكنَّه وما واراه، وأنه هو العالم الذي هو بكلِّ شيء عليم خبير، القادرُ الذي هو على كلِّ شيء قدير، الكافي الذي كفاكم جميع الأسوا (¬2)، الواقي الذي يقيكم كلَّ ضرر وبلوى (¬3). ومع علمكم بذلك، فأنتم عن طاعته حائدون، وعلى عصيانه مواظبون، وعلى إغضاب أحبابِه وحُبَّ أعدائه (¬4) ملازمون، أيستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟ تأمرون بالمعاصي، وتزجُرون عن الطاعة. وتتَّبعون البدعة، وتُخالِفون الجماعة. أما أنذَرَكم الله تعالى عذابَه؟ أما حذَّركم عقابَه؟ أما أسمَعَكم الصوتَ؟ أما كتَبَ عليكم الموتَ؟ أما خوَّفَكم بنار الجحيم؟ أما أفزَعَكم خوفُ العذاب الأليم؟ فما لكم عن المواعظ كأنكم نائمون؟ وما لكم في فيافي الغفلةِ كأنكم هائمون؟ فافزَعُوا إلى الله تعالى بصدق النيَّة، واتركُوا الحميَّةَ حميةَ الجاهلية. أتغضبون لأنفسكم، ولا تغضَبُون لخالق السماء والأرض؟ وتخافون من ¬

_ (¬1) كذا في الأصل بدلًا من "أخيَب" اسم التفضيل من خاب. (¬2) يعني: الأسواء جمع سوء. (¬3) رسمها في الأصل: "بلوا". (¬4) رسمها في الأصل: "أعداه".

بشر، ولا تخافون من عذابِ يوم العرض! [ل 26] فما لجدودكم من الطاعة ناقصة؟ وما لحظوظكم من الإنابة إلى الله ناكصة؟ وما لأذهانكم فيما لا يعنيكم رائضة (¬1)، وأنتم تعلمون أن لا حجةَ لكم بالغة، بل ولا داحضة؟ ما لعقولكم لا تعقِلُكم عن المآثم (¬2)؟ وما لعيونكم لا تكِلُّ من النظر إلى المحارم؟ فأنيبُوا إلى الله إنابةَ المتقين، وتُوبوا إليه توبةَ الصادقين. والوُوا أعناقكم إلى سماع النصائح، واقبِضُوا أعنَّتكم عن الجري في مهامِه القبائح. فلا يستخِفَّنَّكم الشيطان بدهائِه (¬3) ومكرِه، ولا تطاوعوا أنفسكم بالغفلة عن طاعة الله وذِكرِه. فازجُروا أنفسَكم، فإنَّها بالزجر جديرة. ودَعُوا المعاصي، فإنَّ مواردها خطيرة. ألم تعلموا أنَّ موردَ الذنوب وخيم، وأنَّ عذابَ الله تعالى أليم، وأنَّ شرابَ أهل النار حميم، ومأواهم نار الجحيم؟ فأقلِعُوا - رحمكم الله - عن الإصرار على (¬4) العصيانِ لله ربِّ العالمين، {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133]. فواظِبُوا (¬5) على طاعتِه تعالى في هذا الشهر الحرام، ¬

_ (¬1) كذا في الأصل من الرياضة. (¬2) الكلمة غير محررة في الأصل. (¬3) رسمها في الأصل: "بدهاه". (¬4) في الأصل: "عن" سهو. (¬5) في الأصل بعد الآية الكريمة كلمة في طرف الورقة ظهر منها حرف العين والكاف فقط. ثم كتب "فواظبوا"، ثم ضربَ عليه، وقد وصل أثر الضرب إلى العين من =

وفي جميع الشُّهور والأيام، فإنَّ شهركم هذا شهر كريم حرام، يفتتح الله به شهورَ جميع الأعوام. فأخْبِتوا فيه إلى ربِّكم، واستغفروا (¬1) الله لذنوبكم. واستعِيذُوا بعظمة الله وجلالِه، من الشيطان الرجيم ومكرِه ومحِاله. واشغَلُوا حواسَّكم بالله وذِكرِه (¬2) والطاعة، فقد اقتربت السَّاعة. هذا، وإنَّ لله رحمةً واسعةً كثيرةً، ومغفرةً عظيمةً كبيرةً، وإنَّ المؤمن إذا فعَلَ الحسنَةَ كُتبتْ له عشرُ أمثالها، وإذا فعَلَ السِّيئةَ كُتِبْت عليه سيئةٌ واحدةٌ. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا تابَ العبدُ من ذنوبه أنسَى الله حفظتَه، وأنسَى ذلك جوارحَه ومعالمَه، حتى يلقَى الله يومَ القيامة، وليس عليه من الله شاهدٌ بذنب" (¬3). وكان - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنَّ لله مائةَ رحمة، أنزَلَ منها رحمةً واحدةً بين الجنِّ والإنس والبهائم والهوامِّ، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطِف الوحشُ على ولدها. وأخَّر اللهُ تسعةً وتسعين رحمةً يرحَم بها عبادَه يومَ القيامة" (¬4). ¬

_ = "على". ولاستقامة الكلام أبقينا على المضروب عليه. (¬1) في الأصل: "واستغفرا"، سبق قلم. (¬2) في الأصل: "وذكراه"، ولعله سبق قلم. (¬3) أخرجه الأصبهاني في الترغيب والترهيب (778) من حديث أنس، وإسناده ضعيف. انظر: "الضعيفة" (2418). (¬4) من حديث أبي هريرة. أخرجه مسلم (2752).

وكان أبو هريرة رضي الله عنه يقول (¬1): كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يقول الله عزَّ وجلَّ: يا بني آدم كلُّكم مذنِبٌ إلاَّ من عافيتُ، فاستغفروني أغفِرْ لكم. يا ابنَ آدم، لو بلغَتْ ذنُوبك عَنانَ السَّماء، ثم استغفرتَني غفرتُ لك. يا ابنَ آدم، لو أنَّك أتيتني بقُرابِ الأرض خطايا، ثم لقيتَني لا تُشرك بي شيئًا لأتيتُك بقُرابها مغفرةً" (¬2). ... ¬

_ (¬1) لم أجده من حديث أبي هريرة. وقد أخرجه الإِمام أحمد (21367، 21368) عن أبي ذر. وأخرجه الترمذي (3540) عن أنس بنحوه. (¬2) الورقة مقطوعة من أسفلها، فلم يظهر السطر الأخير جيِّدًا.

23

(23) [ل 28/ أ] الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحانَ الله بكرةً وأصيلًا. الله أكبر ما صام لله صائمٌ، وفي مثل هذا اليوم العظيم أفطَر. الله أكبر ما حدَّث شاكرٌ بنعمة ربه، وأظهر. الله أكبر ما لبِسَ في مثل هذا اليوم أفخرَ ثيابه، وتعطَّر. الله أكبر ما وصَلَ مسلمٌ رَحِمَه، وتبرَّر. الله أكبر ما اغتسَلَ مغتِسلٌ وتطهَّر. الله أكبر ما لبِسَ في مثل هذا اليوم أفخرَ ملبوسِه، وتطيَّبَ، وأبكَرَ (¬1). الله أكبر ما خرَجَ مصلٍّ لصلاة العيد إيمانًا واحتسابًا لوجه ربِّه الأكبر، الله أكبر ما هلَّلَ ذاكرٌ وكبَّر. الله أكبر ما رقيَ خطيبٌ فوق أعوادِ منبر. سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله العليِّ العظيم. {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111]. الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرةً وأصيلًا. الحمد لله المتكبر الذي جعل الأهلَّة مواقيتَ للناس والحج هدايةً وتيسيرًا. وجعَلَ الزمانَ سنين، والسنين شهورًا. وفرضَ على عباده فرائضَ، وندَبَ لهم مندوباتٍ وَعَدهم عليها أجرًا كثيرًا. وشكَرَ سعيَ من صام رمضانَ وقامَه إيمانًا واحتسابًا، وكان ربُّك شكورًا. ووعده غفرانَ ما تقدَّم من ذنبه، وكان سبحانه عفوًا غفورًا. سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون ¬

_ (¬1) كذا تكرَّر.

علوًّا كبيرًا. وأشهد ألا إله إلا الله وحده، لا شريكَ له ولا نظيرًا، انفرَدَ بالأمر خلقًا وتقديرًا. وأشهد أنَّ سيدنا محمدًا عبدُه ونبيُّه الذي بالهدى ودين الحق أرسَلَه بشيرًا ونذيرًا. فبلَّغَ الرسالاتِ، وأوضَحَ الدلالاتِ، وبصَّرَ البيِّناتِ تبصيرًا. اللهم فصلِّ وسلِّم على هذا النبيِّ الكريم سيِّدنا محمدٍ، الذي أنقذتَ به الناسَ وقد استغشَوا من الجاهلية دَيْجُورًا، وخاضوا في المحارم طغيانًا وفجورًا. فلمَّا دعاهم أبى أكثرُهم إلاَّ كفورًا، فجاهَدَ فيك حتى ترك الحقَّ واضحًا منيرًا مؤيَّدًا منصورًا. وعلى أهل بيته الذين أذهبتَ عنهم الرجسَ وطهَّرتَهم تطهيرًا، وعلى أصحابه الذين اخترتَهم لنصرِ دينك، فكنتَ لهم نصيرًا، وجعلتَ الملائكة لهم ظهيرًا. أما بعد - عبادَ الله - فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فإنَّها وصية الله لعباده؛ وأحذِّركم ونفسي معصيتَه والتهاونَ بطاعته تحذيرًا. عبادَ الله، كيف يعصي الله من هو نعمةٌ من نِعَمه، أم كيف لا يطيعِ الله من لم يزل، ولا يزال، ولن يزالَ يتقلَّبُ في كرمه، وهو سبحانه يَرُبُّه بالإحسان صغيرًا وكبيرًا. قال الله تعالى في حقِّ آدم عليه السلام إذ مكث أربعين سنةً طينًا: {بسم الله الرحمن الرحيم هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان: 1]. ثم ذكر غيرَه بقوله: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ [ل 28/ ب]

مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان:2 - 3]. فقد أقام الله تعالى الحجة، وبيَّن المحجَّة، فلينظر الإنسانُ لنفسه في قوله تعالى: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان: 4 - 6]. ثم بيَّن تعالى مَن هم الأبرارُ المستحقُّون لذلك بقوله: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ} [7 - 13]. والأرائك هي السرر التي تُعَدُّ للعروس. قال تعالى: {لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا} [13] أي حرًّا ولا قرًّا. {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا}. [14]، أي أنَّ شجَر الجنة دانيةٌ لهم ثمارُها ينالها القائم والقاعد والمضطجع. قال تعالى: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً

وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا} [15 - 22]. وقال تعالى في صفة البعث والنشور: {بسم الله الرحمن الرحيم إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الإنشقاق: 1 - 5]. فهذه بعض صفات مبادئ البعث. ثم خاطب الله تعالى عباده بقوله: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} وهم المؤمنون المطيعون {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} أي يبعث {بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا} [الإنشقاق: 6 - 15]. عبادَ الله، إنما الدنيا دار عمل (¬1) ونصَب، مآلها الفناء. وإن الآخرة دار جزاء، شأنها البقاء. فآثِروا اللذة (¬2) العظيمة الباقية على ما حرَّم عليكم من لذات الدنيا الخسيسة الفانية. واصبروا على مشقة هينة حذر الخلود في [عذاب] (¬3) جهنم، وإن جهنم ساءت مصيرًا. [ل 27/ أ] عبادَ الله، لن ينفع الإنسانَ غيرُ عملِه، ولن يُوقِعَه في الخسران ¬

_ (¬1) تمزقت الورقة ثم ألصقت، فذهبت بعض الكلمات أو حروفها. فلم يظهر من "دار عمل" إلا الدال واللام. (¬2) ظهر "اللـ" فقط. (¬3) ظهر حرف العين فقط.

غيرُ زَلَلِه، ولا يمنعُه من الإحسان غيرُ أملِه. فيا سعادةَ مَن كان عملُه الصالح كثيرًا، وزللُه يسيرًا، وأملُه قصيرًا! ويا شقاوةَ مَن كان عملُه الصالح منزورًا، وزللُه كثيرًا، وأملُه يَعِدُه ويُمنِّيه زُورًا وغرورًا. فاغتنِمُوا صلاحَ العمل قبلَ مفاجأة الأجل (¬1). عبادَ الله، إنَّ أمامكم أوجالًا، وأهوالًا، وعواقِبَ طِوالاً، وحسابًا وسؤالًا، وسلاسلَ وأغلالًا، وولولةً وثبورًا انظروا مَن كان قبلكم من الملوك وأُممها، في عربها وعجمها، في شرق الأرض وغربها، ممن سمعتم أو رأيتم أو جهلتم، كانوا أكثرَ منكم أموالًا وأولادًا، وأشدَّ قوةً وأجنادًا، و [أقوى] (¬2) هممًا وأجسادًا. استأصَلَهم قابضُ الأرواح، ومعطِّلُ الأشباح، ومُسْقِمُ الصحاح، ومُثيرُ النِّياح، فأودَعَهم قبورًا. فتلك ديارُهم خاوية، ومآثرُهم عافية، وعظامُهم بالية. خانتهم آمالُهم، فدهمتْهم آجالُهم، فلقيتْهم أعمالُهم، وما لكم من مآلٍ إلا مآلهم. انظروا فيمن عرفتم تجدوا فيهم كثيرًا قد ملكوا، وقد غادروا لكم الدنيا ¬

_ (¬1) بعده أربعة أسطر أحاطها بالخط دون الضرب عليها، ولم أجد إشارة إلى نقلها إلى خطبة أخرى، نصُّها: "فإن لم تخشَوا عذاب النار، ولم ترغبوا في الجنة، فاخشَوا عذاب الدنيا؛ فإن ربكم كان قديرًا. يا حياءَنا من إلهٍ خلق السماوات وآياتها، والأرض ومحويَّاتها، ولم يزل يتودَّدُ إلينا بثوابت النعم وعارضاتها؛ كيف نبارزُه بالمحاربة والعناد، ونأمن ما أصاب فرعون وثمود وعاد؟ أم كيف نصرِفُ نعمَه في معصيته، وقد علمتم أنَّ كلَّ ذرة من نعمته؟ ماذا عسانا نُجيبُه عند الحساب؟ ماذا عسانا نعتذر عن التفريط في المتاب؟ ماذا عسانا ندفع به غضبَه والنارُ تُبدي تغيُّظًا وزفيرًا؟ ". (¬2) لم تظهر لتمزُّق الورقة، والقراءة تخمينية.

وتركوا، ووقعوا إلى ما عملوا، وانقطعوا عما ملكوا، وأنتم سالكون ما سلكوا. وكانوا أشدَّ منكم تفاخرًا، وأكثر تكاثرًا، وأشد بمثل هذا اليوم فرحًا وسرورًا. عبادَ الله، قد انقرض رمضانُ شاهدًا عدلًا، وحافظًا فصلًا، يشهد للإنسان وعليه، بما استودَعَه لديه. فطوبى لمن غلبت فيه حسناتُه سيئاته، وبُؤسَى لمن غلبتْ سيئاتُه حسناتِه، فكيف بمن لم يكسب من الحسنات نقيرًا! ولا تقولوا: قد انقضى رمضانُ، فتُقصِّروا عن الطاعة وتنهمكوا في العصيان، فإنَّ الله تعالى موجودٌ معبودٌ بكل مكان وزمان. على أنه ما انقضى رمضانُ إلاَّ ودخلت أشهر الحج مواسمُ طاعات ومغانمُ بركات، فمن كان في رمضانَ محسنًا فليزِدْ في إحسانه، ومن كان مقصِّرًا فليُقصِر عن عصيانه. وَلْيندَمْ كلٌّ منكم على ذنوبه، وَلْيكُفَّ عن عيوب الناس وينظُرْ في عيوبه. وَلْيبادِرْ بتَوبة، ويستغفِرْ لِحَوبِة؛ فإنَّ ربَّك كان للأوَّابين غفورًا. [27 ل/ ب] (¬1) وقد أوجَبَ الله تعالى عليكم زكاةَ الفطر، فيجبُ على ¬

_ (¬1) في مطلع الصفحة نحو عشرة أسطر في الدعاء للإمام، أحاطها بالخط دون الضرب عليها. ولم أجد إشارة إلى نقلها إلى خطبة أخرى. ولا يبعد أن يكون ربطها بالأسطر المحاطة السابقة، ولم يظهر الربط للتمزق الواقع بين الصفحتين. ونصُّ الدعاء: "ألا، وإنَّ من أعظم النِّعم عليكم من الله تعالى: أن أقام فيكم إمامَ حقٍّ يدفع عنكم الظَلَمةَ، ويقيم فيكم الشريعةَ المكرَّمةَ. وإنَّ قُطركم هذا هو الآن طائفة الإِسلام، وإنَّ قائمكم هو إمام الأنام؛ فاشكروا نعمة الله، إذ اختار لكم خِيرةَ الأحياء من عباده العلماء، الزاهدين الأولياء، وخير ولد ووارث ختام الأنبياء، على حين أصبح الإِسلام في =

مالكها أن يُخرجَ عنه وعمَّن تلزَمُه نفقتُه من المسلمين: رجال ونسوان وصبيان، أرقَّاء وأحرار؛ وهي صاعٌ من غالبِ قوتِ البلد. والسنَّةُ إخراجُها قبلَ صلاة العيد، فمَن كان قد أخرجها فقد فاز بكمال الأجر، ومَن لم يُخرجها فلْيبادِرْ بها عند قيامه من مصلَّاه، ومن أخَّرها عن يومه فقد وقع في الحرام. وأكثروا من الصدقات سرًّا وجهرًا، فرضًا ونفلًا؛ فإنَّ الصدقة تُطفئ غضبَ الربِّ كما يطفئ الماءُ النار. وفَّقني الله وإيَّاكم للخيرات، وسهَّل علينا لزومَ الطاعاتِ والجُمَعِ والجماعاتِ، وأفاضَ علينا غيوثَ البركات، ووقانا صواعقَ البليَّات، وبدَّل سيئاتِنا حسناتٍ، بعفوه وكرمه، وفضله ونِعَمه. الحديث: قال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا كان ليلةُ القدر نزَلَ جبريلُ عليه السلام في كبْكَبة من الملائكة يصلُّون على كلِّ عبدٍ قائمٍ أو قاعدٍ يذكر الله عزَّ وجلَّ. فإذا كان يومُ عيدهم - يعني يومَ فطرهم - باهى بهم ملائكته، فقال: يا ملائكتي ما جزاءُ أجيرٍ وفَّى عملَه؟ قالوا: ربَّنا جزاؤه أن يُوفَّى أجرَه. فقال: ملائكتي ¬

_ = الأرض غريبًا لما صابَه من الخطوب وما نابَه من كروب. وقد مُهِّدت لكم بدعوته الزاهرة مصالحُ الدنيا والآخرة. فانظروا ما كنتم فيه قبل دعوته من اشتباك الفتن وإماتة الحدود وتضايق المعايش، وما صرتم إليه بعد قيامه من قيام حدود الله ونَصر شريعة الله وما نلتم به من الغنى والجاه. فإذا وزنتم الحالتين فاشكروا الله تعالى على هذه النعمة الشاملة والبركات الحافلة. واعملوا مع إمامكم ما أمركم به الله تعالى من السمع والطاعة والمعاونة والإخلاص وغيره. فإنَّ طاعته من طاعة الله، كما أنَّ مخالفته مخالفةٌ لله. وشرُّكم أكفرُكم للنِّعَم، سواء كانت من الله تعالى أو من أحد عباده. فإنه لا يشكر الله من لا يشكر الناس".

عَبيدي وإمائي قَضَوا فريضتي عليهم، ثم خرجوا يعجُّون إليَّ بالدعاء. وعزَّتي وجلالي وكرمي وعلوِّي وارتفاع مكاني، لأُجيبنَّهم. فيقول: ارجعوا، وقد غفرتُ لكم، وبدَّلتُ سيئاتكم حسناتٍ. قال: فيَرجعون مغفورًا لهم" (¬1). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج يوم العيد في طريق رجع في غيره (¬2). وروى الشيخان (¬3) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: فرَضَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاةَ الفطر صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير، على العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير، من المسلمين، وأمرَ بها أن تُؤدَّى قبلَ خروجِ الناس إلى الصلاة. هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفِروه جميعًا، إنه هو الغفور الرحيم. ... ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (3444) من حديث أنس. وفي سنده: أصرم بن حوشب الهمذاني، قال البخاري ومسلم والنسائي: متروك الحديث. وقال يحيى بن معين: كذاب خبيث. انظر: "لسان الميزان" (1424). (¬2) أخرجه الترمذي (541) وقال: "حديث حسن غريب". ثم ذكر أنه خولف في إسناده وأن الأصح أنه من مسند جابر رضي الله عنه. وحديث جابر مخرَّج في البخاري (986). (¬3) البخاري (1503) ومسلم (984).

24

(24) [ل 29/ ب] (¬1) الحمد لله وحده. الحمدُ لله الذي جلَّتْ قدرتُه، وعلَتْ كلمتُه، وعزَّتْ عظمتُه. وأشهد ألَّا إلهَ إلا الله وحده، لا شريك له. وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، الذي كان في مثل هذا الشهر مولدُه وهجرته. اللهم صلِّ وسلِّم على هذا (¬2) النبي الكريم ذي الخلق العظيم سيِّدنا محمدٍ، وعلى آله وصحبه الذين بهم أُقيمتْ سنَّتُه. أما بعد، فأوصيكم - عبادَ الله - ونفسي بتقوى الله، فإنَّها هي العُدَّةُ الوافية، والجُنَّة الوَاقية، والعمدة الوافية (¬3)، والذخيرة الكافية. ومن اتَّقَى الله تعالى دامَتْ عليه نعمتُه. ونِعَمُ الله كثيرة دائمة، لا يُحصى عددُها، ولا ينقطع مددُها. وإنَّ من أعظمها أن هدانا لدينه القويم، وجعَلَنا من أمَّة رسولِه الكريم - عليه وعلى آله أفضل الصلاة والتسليم - وأقام فينا مَن يجدِّد سنتَه، ويمثِّل للناس سيرتَه، ويُقيم بينهم شريعتَه؛ ويكون عليهم مَجْلَى نعمةٍ وكرامةٍ، ومظهرَ رحمةٍ وسلامةٍ؛ يُرشِد إلى ما فيه الصلاح والفلاح في الحال والمآل، ويهدي إلى أساسِ مصالحِ الأحوال، فعمَرتْ به الديار، وتنزَّلت الأمطار، ورخُصت الأسعار، وعمَّت البركات الغِزار، وأصبح القُطْرُ غُرَّةً في جبين الأقطار. ¬

_ (¬1) في (29/ أ) وريقة كتب فيها حروف الجر ثم حاول نظمها في بيت. (¬2) في الأصل: "هذه" سبق قلم. (¬3) مما زاده فوق السطر، فلعله سها عن تكرار الكلمة.

وإنَّ الطاعات جميعها داخلةٌ تحت الشكر، وقد قابله الله جلَّ جلالُه بالكفر، فحقَّ علينا شكرُ الله تعالى على هذه النِّعم السابغة والكرامةِ البالغة، لِيزيدَنا من فضله الواسع وإحسانه المتتابع. فاشكروه سبحانه وتعالى بالتزام طاعته واستعمال نِعَمِه فيها، فجنِّبوا قلوبكم وجوارحَكم وألسنَتكم عصيانَه، وأَلْزِموها طاعتَه وذكرَه وشكرَه لتنالُوا رضوانَه. الحديث: في الصحيحين (¬1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا يزال من أمتي أمةٌ قائمةٌ بأمر الله، لا يضرُّهم من خَذَلهم ولا من خالفَهم، حتَّى يأتي أمر الله، وهم على ذلك". هذا، وإنَّ أبدعَ الكلامِ نظمًا، وأبلغه حِكَمًا وحُكمًا = كلامُ من وِسعَ كلَّ شيء رحمةً وعلمًا، والله جلَّ ذكرُه يقول: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور: 55 - 56]. ... ¬

_ (¬1) البخاري (3641) ومسلم (1037) من حديث معاوية.

25

(25) [ل 31] الحمدُ لله الغالبةِ قدرتُه، البالغةِ حجتُه، الواضحةِ محجَّتُه. أحمده حمدَ من عمَّتْه نعمتُه. وأستغفره، وأتوب إليه توبةَ من ألجمَتْه خطيئتُه. وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ سيِّدنا محمدًا عبدُه ونبيُّه الذي بالهدى ودين الحق أرسَلَه، فاتَّضحَتْ طريقتُه، وتبيَّنتْ شريعتُه. اللهمَّ فصلِّ وسلِّم على (¬1) هذا النبيِّ الكريم سيِّدنا محمَّد، وعلى آله وأصحابه الذين شرَّفَهم اتباعُه وصحبتُه. أما بعد - عبادَ الله - فأوصيكم ونفسي بتقواه، فإنَّما الرابحُ في الدنيا والآخرة من اتَّقاه. وأحذِّركم ونفسي معصيتَه، فإنَّما الخاسرُ في الدنيا والآخرة مَن عصاه. هذا شعبان (¬2) قد ودَّعناه، وقد علمتم ما أودعناه. فكم من مساوٍ وقبائح، ومخازٍ وفضائح! وهذا رمضان قد حان نزولُه، فبماذا نستقبلُه؟ أترانا نُصِرُّ على مساوينا، ونستمرُّ على مخازينا؟ فإنْ كان ذلك فإنَّها لأجحَفُ خسارة، وأخسَرُ تجارة. الحديث: روى البيهقيُ في "شعب الإيمان" (¬3) عن سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه قال: خطبَنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في آخر يومٍ من شعبان، فقال: "يا أيها النَّاسُ، قد أظلَّكم شهرٌ عظيمٌ، شهرٌ مباركٌ، شهرٌ فيه ليلةٌ خيرٌ من ألفِ شهر، جعل الله صيامَه فريضةً، وقيام ليلِه تطوُّعًا. مَن تقرَّب فيه ¬

_ (¬1) تكررت في الأصل سهوًا. (¬2) في الأصل: "شوال"، وهو سهو. (¬3) برقم (3336).

بخصلةٍ من الخير كان كمن أدَّى فريضةً فيما سواه، ومَن أدَّى فريضةً فيه كان كمن أدَّى سبعين فريضةً فيما سواه. وهو شهرُ الصبر، والصبرُ ثوابُه الجنَّة؛ وشهرُ المواساة، وشهرٌ يُزاد فيه رزقُ المؤمن. مَن فطَّر فيه صائمًا كان له مغفرةً لذنوبه، وعتقَ رقبتِه من النار، وكان له مثلُ أجرِه من غير أن ينتقص مِن أجره شيءٌ". قلنا: يا رسولَ الله، ليس (¬1) كلُّنا نجدُ ما يفطِّر (¬2) به الصائمَ. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يُعطي الله هذا الثوابَ مَن فطَّر صائمًا على مَذْقَةِ لبنٍ، أو تمرةٍ، أو شربةٍ من ماء. ومن أشبَعَ صائمًا سقاه الله من حوضي شربةً لا يظمأ حتَّى يدخلَ الجنة. وهو شهرٌ أولُه رحمةٌ، وأوسطُه مغفرةٌ، وآخره عتقٌ من النار. ومن خفَّفَ عن مملوكه فيه غَفَر اللهُ له، وأعتَقَه من النار". هذا، وإنَّ الله سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم: 8]. ... ¬

_ (¬1) في الأصل: "أليس". والتصحيح من "شعب الإيمان". (¬2) في الأصل: "تفطر"، ولعله سهو.

26

(26) [ل 32/ أ] الحمدُ لله الذي فضَّل يومَ الجمعة ويومَ النحر على سائر أيام العام، وخَصَّ كلاًّ منهما بمزيد الفضل والإكرام، وجعَلَ لليوم الذي يجتمعان فيه أعظمَ مزيَّة على جميع الأيام. وأشهَدُ ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ سيدنا محمدًا عبدُه ورسولُه بالهدى ودين الحق أرسلَه. اللهم فصلِّ وسلِّم على رسولك مولانا محمدٍ وعلى آله وأصحابه الكرام. أما بعدُ - عبادَ الله - فأوصيكم ونفسي بتقوى الله واتباعِ أوامر الله واجتنابِ مناهي الله، وشكرِ نِعَمه، فإنَّ شكر النِّعَم هو سببُ دوامها، وإنَّ كفرها هو سببُ انصرامِها. وتعوَّذُوا به من النِّقَم، فإنَّ التعوُّذ به منها هو سببُ رفعها ودفعها، وإنَّ الغفلة عنها من أسباب وقوعها. واعلموا أنَّكم في يومٍ عظيمةٍ حرمتُه، كبيرةٍ بركتُه، جليلةٍ فضيلتُه، للعبادة فيه وفي الثلاثة بعدَه أجورٌ كبيرة، وللصدقة أضعافٌ كثيرة. فقدِّموا لأنفسكم، واعمُروا قبورَكم، وأخلِصُوا أعمالكم، وراقِبوا رقيبكم؛ فإنَّ الأعمارَ قصيرة، والدُّنيا حقيرة، والآجالَ قريبة، والقبورَ مُوحشة مُظلمة. فمن أحسَنَ عملَه كان قبرُه روضةً من رياض الجنة، ومن أساء عملَه كان حفرةً من حُفَر النار. الحديث: قال - صلى الله عليه وسلم -: "خيرُ يومٍ طلعت عليه الشمس يومُ الجمعة. فيه خُلِق آدم، وفيه أُدْخِلَ الجنةَ، وفيه أُخْرِجَ منها. ولا تقوم الساعةُ إلا في يوم الجمعة" (¬1). ¬

_ (¬1) من حديث أبي هريرة، أخرجه مسلم (854).

ورُوي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه في حجة الوداع قال لأصحابه: "أيُّ يومٍ هذا؟ " فقالوا: يومُ الحجِّ الأكبر. قال: "فإنَّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرامٌ كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا ... " الحديث (¬1). هذا، وإنَّ أبلغ الكلام كلامُ الله تعالى، وهو سبحانه يقول: {إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 6 - 10]. ... ¬

_ (¬1) سبق تخريجه في خطبة عيد الأضحى برقم (18). وهذه خطبة الجمعة التي وافقت يوم النحر.

27

(27) [ل 32/ ب] الحمدُ لله العليِّ شأنُه، العزيزِ سلطانُه، البالغةِ حجتُه، الواضحِ برهانُه، الشاملِ فضلُه، الكاملِ إحسانُه. أحمدُه سبحانه وتعالى حمدًا ينالُني به غفرانُه، وأشكُره شكرًا لا يُقبَض على الدوام عِنانُه. وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ سيدنا محمدًا عبدُه ونبيُّه الذي بالهدى ودين الحق أرسَلَه، فشرَعَ الدينَ، ونهجَ الحقَّ، فاتضَّحَ به بيانُه. اللهم فصلِّ وسلِّم على هذا النبي الأوَّاه، سيَّدنا محمدِ بن عبد الله، وعلى آله الأطهار وصحابته الأخيار المشرَّفين بأنهم أنصارُه وأعوانُه. أما بعدُ، فأوصيكم - عبادَ الله - ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله - عبادَ الله - يحقَّ لكم رضوانُه. وإيَّاكم ومعصيتَه، فإنما هلاكُ الدنيا والآخرة عصيانُه. أيها الناسُ، اعملوا لأنفسكم ما دام في القوس منزَع، وفي الحياة مطمَع، قبل أن ينهدم من العمر بنيانُه. فسابقوا آجالَكم بأعمالكم، ولا يخدعنَّكم تطاولُ آمالكم، فويلٌ لمن غرَّه أملُه، فلزمه خسرانُه. فاز - والله - من ناقش نفسَه حسابَها، فألزَمَها متابَها، ولم يلتفت إلى سرابِ العاجلةِ الواضحِ بطلانُه. فازَ - والله - من راقبَ رقيبَه، وخشيَ حسيبَه، فأخلَصَ عملَه، كما خلَص إيمانُه. فازَ - والله - من أتعبَ نفسَه في صلاحها، وكلَّفَها المشاقَّ لفلاحها، وعلِمَ أنَّ أمامَه يومًا حاكمُه ديَّانُه. يومٌ عصيبٌ، يصيبُ كلَّ أحدٍ من نصَبه

نصيبٌ (¬1)، زُخْرِفَتْ جِنانُه، وتغيَّظت نيرانُه. ألا، وإنَّ هذا شعبانُ قد مضى أجلُه، وهذا رمضانُ قد أوشك محلُّه؛ فطوبى لمن شهد له بالخير شعبانُه ورمضانُه. الحديث: في الصحيحين (¬2) عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تصوموا حتى ترَوُا الهلال، ولا تُفطِرُوا حتى تَرَوه. فإنْ غُمَّ عليكم، فاقدُروا له". وفي رواية (¬3) قال: "الشهر تسع وعشرون ليلةً، فلا تصوموا حتَّى تروه. فإنْ غُمَّ عليكم فأكمِلوا العِدَّة ثلاثين". وإنَّ أحسنَ الكلام نظمًا كلامُ مَن وسعِ كلَّ شيء رحمةً وعلمًا. والله تعالى يقول: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185]. هذا، وأستغفِرُ الله العظيم لي ولكم، فاستغفِرُوه، إنَّه هو الغفورُ الرحيم. ... ¬

_ (¬1) في الأصل: "تصيب". (¬2) البخاري (1906) ومسلم (1080). (¬3) البخاري (1907).

28

(28) [ل 33/ أ] الحمدُ لله المتعزِّزِ بكمالِه، المتقدِّسِ بجلالِه، المتفضِّلِ بجُوده وإفضالِه. وأشهَدُ ألَّا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ سيدنا محمدًا عبده ونبيُّه الذي بالهدى ودين الحق أرسَلَه. صلَّى الله وسلَّم عليه وعلى آله وعلى صحابته المقتدين بفَعالِه. أما بعدُ - عبادَ الله - فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فإنَّ تقوى الله هي نجاةُ العبد ورأسُ مالِه. كم قَرَعَتْنا المواعظُ بأقوالها وأحوالها، فلم نلتفت إليها! وكم دُعينا إلى أسبابِ النجاة، فلم نعرِّجْ عليها! بل كلُّ أحد منَّا منهمكٌ في ضلالِه، مسرِفٌ على نفسه، مسيءٌ في أعمالِه؛ أردَتْه كثرةُ طمعِه وطولُ آمالِه، لا يحترزُ من الفحش في أفعالِه وأقواله. قد مدَّ له الشيطانُ من حِبالِه، وأغراه بحلِّ عِقالِه، ووسَّع له من الجهالة في مِحالِه، كأنَّه يظنُّ إمهالَه (¬1) ربُّه من إهماله، أو لا يصدِّق ببَعثِه، ولا يؤمن بمآلِه! ما لَنا لا نغتِنُم رمضان، ولا نكُفُّ فيه عن العصيان، ويتوجَّه كلٌّ منَّا إلى الله بصدقِ إقبالِه! هذا ربيعُ الفضلِ لِرُوَّاده، والمغنمُ الباردُ لِسُؤَّاله. فيا طُوبَى لمن اغتنَمَه، ويا شقاءَ مَن حُرِمَه! فإنَّه مَفاضُ فضلِ الله، ومَنالُ نواله. قال - صلى الله عليه وسلم -: "من صام رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه. ومن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه. ومن قامَ ليلةَ القدر إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه" (¬2). ¬

_ (¬1) كذا في الأصل. أضاف المصدر إلى مفعوله ورفع الفاعل بعده. (¬2) أخرجه البخاري (38) ومسلم (760) من حديث أبي هريرة.

هذا، وإن الله سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان: 33]. هذا، وأستغفر الله إلخ (¬1). ... ¬

_ (¬1) كذا في الأصل.

29

(29) [ل 33/ ب] الحمدُ لله الذي دَمَغَ ببراهينِ الحقِّ شبهاتِ الأباطيل، ودَحَضَ بحُجَجِ الهُدى تمويهاتِ الأضاليل، وقَمَعَ بسطوة دينه دعاوَى البدعِ والأقاويل، وصَدَعَ بأمر جلاله قلوبَ المعاندين في كلِّ زمنٍ وجِيل؛ أحمدُه حمدَ معترفٍ بعيوبه، مستغفرٍ لذنوبه. وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلهٌ لا تغيِّره الأزمانُ، ولا يحيط به مكانٌ، مفتقرةٌ إليه جميعُ الأكوان؛ وهو الغنيُّ عمَّا سواه من جمادٍ وحَيَوان. وأشهدُ أنَّ سيِّدنا محمدًا عبدُه ونبيُّه، ورسولُه وصفيُّه. اللهم فصلِّ وسلِّم على نبيِّك محمدٍ أفضلِ مخلوق، وأشرفِ عبد، وأعظمِ عابدٍ؛ وعلى آله الذين فَضَلُوا الناسَ أصلاً [] (¬1)، وكانوا أحسنَ الأمَّة قولًا وفعلًا؛ وعلى أصحابه الذين شهدتَ لهم [بالشدَّة على] الكفار، والتراحُم بينهم؛ ورضُوا عنك، ورضيتَ عنهم. و [شهد نبيُّك] بأنهم خير القرون (¬2)، وأنه لو أنفق أحدٌ من غيرهم مثلَ أُحدٍ ذهبًا في سبيل الله لم يبلُغْ مُدَّ أحدِهم ولا نَصيفَه (¬3)؛ وعلى التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعدُ، فيا عبادَ الله أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله. عبادَ الله، ¬

_ (¬1) كلمة طمسها انتشار الحبر. وكذلك الموضعان الآتيان مطموسان. (¬2) كما في حديث ابن مسعود في "صحيح البخاري" (2651) ومسلم (2533). (¬3) كما في حديث أبي سعيد الخدري في "صحيح البخاري" (3673) ومسلم (2541).

طالما سمعتم المواعظَ، فلم تلتفتوا إليها. وطالما مُحِضْتُم النصائَح، فلم تُعوِّلوا عليها. كم قامت عليكم الحججُ بالإشارات والعبارات، وزُجِرتُم عن المعاصي بألسنة الحالات والمقالات! وطالما أُرْشِدتم إلى الحق فصدَفْتُم، وهُدِيتمُ منهجَ الصواب فما عرفتم! وطالما أُمرِتُم ونُهِيتُم فما ائتمرتُم ولا انتهَيتم! وطالما تسَّوفْتم بالتوبة فمطَلتم! وطالما علَّلتم أنفسَكم بالأماني وما وفَيتم! كلَّما صرَخَ فيكم رائدُ المَنون، ودَهَمكم عن أيمانكم وشمائلكم، وفاجأكم في إخوانكم وأولادكم؛ طويتم عنه كشحًا، وأعرضتم عنه صفحًا، كأنَكم عُمْيٌ صُمٌّ لا تعقِلون، أو أُعطِيتُم بالبقاء عهدًا، فأنتم آمنون! وطالما أنذرَتْكم قوارعُ المصائب فتهاوَنتم، وطالما حذَّرتْكم قوامعُ النوائب فتثاقَلتم. كلَّ جمعةٍ تقوم فيكم الخطباءُ بمواعظها، فلا يفيدكم ذلك مفادًا. وكلَّ ساعةٍ تصولُ وتجولُ فيكم شواهدُ الأكوان بمشاهدها، فلا تزيدكم إلا عتوًّا وعِنادًا. كأنما تظنُّون الوعدَ والوعيدَ زُورًا ومحالاً، أو تعتقدون الحلال حرامًا والحرام حلالًا، وتستيقنون الضَّلال رشادًا والرَّشاد ضلالًا، أو تحسبون إمهالَ الله لكم إهمالًا! كلَّا، والله، إنَّ في البرزخ لأهوالاً، وإنَّ في المحشر لأوجالًا، وإنَّ في جهنَّم لسلاسِلَ وأغلالًا. فلا، والله، إنَّ لكم لَعُقولًا ثِقالاً، وقد رزقكم الله من حواسِّكم كمالًا؛ ولكن طاعةَ النفسِ والشيطان واتباعَ الهوى (¬1) كانت داء عُضالًا. ولو كنتم ¬

_ (¬1) رسمها في الأصل: ""الهوا".

من أهل الغيِّ والغرور، لا تُصدِّقون بعذابِ القبور، ولا تؤمنون بالبعث والنشور، فيليق بكم أن تخافوا على دنياكم، وتُشْفِقُوا من زوالِ نِعَم محَيْاكم؛ فقد جرَّبتم أنَّ المعاصي لِلنِّعم مُزيلةٌ، وأنَّ الخطايا للعيشِ الرغيد مُحيلةٌ. كيف وأنتم مؤمنون بالله ورسوله، مصدِّقون بوعده ووعيده، وهو العزيزُ القدير؟ الحديث (¬1): قال - صلى الله عليه وسلم -: "ما آمنَ بالقرآن مَن استحلَّ محارمَه" (¬2). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "ليس لأحدٍ فضلٌ على أحدٍ إلا بدِينٍ أو عملٍ صالحٍ" (¬3). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "ليس منَّا إلا عالمٌ أو متعلمٌ" (¬4). هذا، وإنَّ بين أظهركم أعظمَ زاجرٍ، وأبلغَ واعظٍ وهو كلامُ الله الذي لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفه. وهو سبحانه وتعالى يقول: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98]. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {بسم الله الرحمن الرحيم يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا ¬

_ (¬1) أضاف كلمة "الحديث" فيما بعد فوق السطر، وقد وردت في آخر الخطبة ثلاثة أحاديث، فنقلناها إلى هذا الموضع. (¬2) أخرجه الترمذي (2918) عن صهيب، وقال: ليس إسناده بالقوي. (¬3) أخرجه الإِمام أحمد في "مسنده" (17446) والطبراني في "الكبير" (14231) وفي سنده ابن لهيعة. (¬4) في كنز العمال (28871) أنه أخرجه أبو علي منصور بن عبد الله الخالدي الهروي في فوائده وابن النجار والديلمي عن ابن عمر.

أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 1 - 2]. ***

30

(30) [ل 34] الحمد لله الذي رَفَعَ الحقَّ وأوضح منارَه، ودَحَضَ شأنَ الباطل وخَفَضَ أنصارَه. وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده، لا شريكَ له؛ وأشهد أن سيدنا محمدًا عبدُه ونبيُّه، بالهدى ودين الحق أرسلَه. اللهمَّ فصلِّ وسلِّم على نبيِّك المرسَل، وحبيبكَ الأكمل: سيِّدِنا محمدٍ وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأحبابه. أما بعد - عبادَ الله - فأوصيكم ونفسي بتقوى الله. فاتَّقُوا الله في السرِّ والعلانية، وراقِبُوه مراقبةَ أصحاب القلوبِ الخاشية. وإيَّاكم والأمن من مكره، والقنوطَ من برِّه. واعلموا أنَّ عصيانَه سببُ خلود الجحيم، وأنَّ طاعتَه سببُ النعيم المقيم. فطُوبَى لمن وفَّقَه الله لطاعته فالتزمَها، وعَصَمه عن معصيته فاجتنبَها. وويلٌ لمن أضلَّه على علمه، فارتكب سبيلَ البغي والظلم، فوقع في العذاب الأليم، وحُرِّمت عليه رائحةُ النعيم. ابنَ آدم، حتَّام يمتدُّ أملُك، ويتقاصر عملُك؟ كلَّ يومٍ خطيئةٌ بعد خطيئة، وزلَّةٌ بعد زلَّة، ونسيانٌ بعد نسيان، وغفلةٌ بعد غفلة. وأنت تَعِدُ نفسَك بالتوبة وتُماطِلها، ولا يزال متراكمًا غيُّها وباطلُها. فإلى متى لا تُقلِع عن جهلِك، وقد علمتَ أنَّ الموت أقرَبُ من ظلِّك؟ أطامعٌ في الخلود، أم مكذِّب بالموعود؟ ابنَ آدم، ألم تَقُمْ عليك الحجَّة؟ ابنَ آدمَ، ألم تتبيَّنْ لك المحجَّة؟ ابنَ آدم، إلى متى التغافُل؟ ابنَ آدم، إلى متى التجاهُل؟ تستعمِلُ نعمَ الله في معصيته، وتستعينُ بفضله على معاندته!

إنْ أُمِرتم بطاعةٍ لم تفعلوها، وإن سمحَتْ أنفسُكم بفعلها لم تُكملوها. فإن توضَّأتم لم تُسْبِغوا، وإنْ اغتسلتم لم تَدلُكوا، وإن غسلتم نجاسةً لم تُبالِغوا، وإن صلَّيتم لم تُحسِنوا. وإن صُمتم لم تمُسِكوا عن اللغو واللهو. وإن حججتم لم تكسِبُوا إلا حرامًا. وإن تكلَّمتم ففي غير ذكر الله. وإن قرأتم القرآنَ لم ترتِّلوا. وإن ذكرتم الله تعالى لم تكملوا. فاعلموا أنَّ الله تعالى طيِّبٌ لا يقبل إلا طيِّبًا. فأحسِنُوا صلاتكم، وأتِمُّوا ركوعَكم وسجودكم. وأسْبغُوا طهارتكم، واخزُنوا ألسنتكم، واحمُوا قلوبَكم، وغُضُّوا أبصارَكم، وحَصِّنوا فروجَكم، وانصحُو الله ولرسوله ولإخوانكم، وليكُنْ لله تعالى حبُّكم وبغضُكم. واعلموا أنَّ بين أيديكم قبورًا إمَّا حُفَر تتلظَّى جحيمُها، وإمَّا غُرَفٌ يزهو نعيمُها. وبعد ذلك البعثُ إلى موقفِ الحشر والأهوال، والاصطلاء بشدة الأوجال. وبعد ذلك للأشقياء نارٌ (¬1)، عذابُها شديد، وطعامُها ضريع، وشرابُها صديد؛ فيها حيَّاتٌ وعقاربُ، ومقامعُ من حديد. الحديث: قال - صلى الله عليه وسلم -: "الطُّهورُ شطرُ الإيمان، والحمدُ لله تملأ الميزانَ، وسبحانَ الله والحمدُ لله تملآن - أو تملأ - ما بين السَّماء والأرض، والصلاةُ نورٌ، والصدقةُ برهانٌ، والصبرُ ضياءٌ، والقرآن حجةٌ لك أو عليك. كلُّ الناس يغدو فبائعٌ نفسَه، فمُعْتِقُها أو مُوبِقُها" (¬2). ألا، وإنَّ أبلغ كلامٍ تلينُ القلوبُ بقبضهِ وصرفِه، وتتهذَّب النفوسُ ببسْطِه ¬

_ (¬1) في الأصل: "نارا". (¬2) أخرجه مسلم (223) من حديث أبي مالك الأشعري.

وكفِّه، وتتعجَّب العقولُ لِعجيب كمالِه وشريفِ وصفه = كلامٌ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفِه، والله سبحانه وتعالى يقول: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98]. أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71) [ل 35] وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} [الفرقان: 63 - 77]. اللهمَّ جُودًا وإحسانًا، وعفوًا وغُفرانًا، وفضلًا ورضوانًا، يَشمَلُ أقصانا وأدنانا.

عبادَ الله، طُوبَى لمن سمع الموعظةَ فنفعَتْه، وإلى العمل الصالح رفعَتْه، وعن السِّيئات دفعَتْه، ومن أدواء الدُّنيا نفعَتْه. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفِروه جميعًا، إنه هو الغفور الرحيم. ***

31

(31) [ل 36/ أ] الحمدُ لله الذي أغنانا بالحلالِ عن الحرام، وجعَلَ لنا من المباح ما يكفينا عن موارد الآثام، فأباحَ لنا ما يقوم بحاجتنا وزيادة، ليكون سببَ الاعتصام. وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له في مُلكه وملكوته، ولا شبيهَ له في ذاته وصفاته وجبروته، شهادةً أكون بها من الذين يقال لهم: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ} [الحجر: 46، ق: 34]. وأشهد أنَّ سيِّدَنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه إلى جميع خلقِه، والهادي إلى سبيل رضوانه ومنهاج حقِّه، قام بتبليغِ الرسالة وإقامةِ الحجة أتمَّ القيام، اللهم فصلِّ وسلِّمْ على نبيِّك محمدٍ ذي الخُلُق العظيم، وعلى آله الذين هديتَهم إلى الصراط المستقيم، وعلى أصحابه الذين أبلَغُوا كتابَك وسنَّتَه، والتابعين بإحسان إلى يوم القيام. أما بعد، فيا عبادَ الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله؛ فإنَّما خُلِقَ الكونُ لأجلها، وإنَّها زادُ المعادِ والباقيةُ من الدنيا كلِّها، فعليكم بها، فإنها سببُ الفضل والإنعام. وإيَّاكم والمعاصيَ، فإنَّها لذةُ لحظةٍ يعقُبها ندمٌ دائمٌ، وراحةُ ساعةٍ يُجازَى عليها بتعب وعظائم، وعذابٍ لا تقوى عليه الأجسام. وإيَّاكم والشُّبَهَ، فإنَّ النفوسَ توَّاقةٌ إلى اللذَّات والشَّهَوات، فإن جُوهدتْ عن الصغائر قنِعتْ عن الكبائر الموبقات، وإن سومحتْ عن الشُّبهاتِ وقعتْ في الحرام. فجاهِدوا - عبادَ الله - نفوسَكم حقَّ المجاهدة، وعاهدوها بالتحرُّزِ أشدَّ المعاهدة؛ فإنَّ عُراها سريعة الانفصام. وعليكم بالفرائض، فإنَّها أساسُ الدِّين. وإيَّاكم وتركَ السُّنَن، فإنَّها

شهودُ اليقين. ومن ترخَّص في السُّنن سهَّل له الشيطانُ تركَ الفرائضِ العظام. واعلموا أنَّ كلَّ ما فرَضَ الله تعالى عليكم أو نَدَبه، وكلَّ ما حرَّمه أو كرَّهه، فقد جعل في اتباعِ أمرِه الصَّلاحَ والفلاحَ، وجعل في مخالفته الهلاكَ والطَّلاحَ؛ والإنسانُ مخيَّر بين سبيلِ الفوز وسبيلِ الانتقام. فمن اتبع رضوانَ ربِّه بفعلِ الفروض والمندوبات، وتركِ الحرام والشبهات، فقد استحقَّ مزيدَ الإكرام. ومن أرداه الشيطانُ، فخالفَ أمرَ ربِّه، ولم يستعصِمْ عن أدواء لسانِه وجوارحِه وقلبِه، فقد أوقعَ نفسه في مهالك الظلام. وإنَّ من المهالك السبَّ والشتمَ، والطعنَ واللعنَ، والهمزَ واللمزَ، والغيبةَ والنميمةَ، والعُجبَ والكِبْر والحسدَ، والحبَّ والبغض في غير الله، والطمعَ والجشعَ = فكلُّها وخيمة. واللهوَ واللعبَ، واللغوَ والكذب، وطموحَ النظر والقلب = فكلُّها من خصوم الإِسلام. وإنَّ من أطاع الله تعالى، فأدَّى فرائضَه، واجتنب محارمَه، ولم يقصِّر في فعلِ المندوب واجتناب المكروه = فهو عبدُ الله ووليُّه. ومن اجتهد في الطاعة وحمل نفسَه المشاقَّ، فهو حبيبُه وصفيُّه، وكان من الآمنين يومَ الفزع الأكبر، الموسَّع عليهم يومَ الزِّحام. الحديث: قال - صلى الله عليه وسلم -: "الحلالُ بيِّن، والحرامُ بيِّن، وبينهما مشتبهاتٌ لا يعلمها كثيرٌ من الناس. فمن تركَ الشبهاتِ فقد استبرأ لديِنه وعِرضِه. ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحِمى يُوشِكُ أن يقع فيه. ألا، وإنَّ لكلِّ ملِك حمًى، ألا، وإنَّ حِمى الله محارمُه" (¬1). ¬

_ (¬1) تقدَّم في الخطبة الخامسة.

هذا، وإنَّ أبلغَ واعظٍ بوَصْفِه، وأعظمَ زاجرٍ دافعٍ للنفس والشيطان بإيضاحِه وكشْفِه = كلامٌ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفِه. والله سبحانه وتعالى يقول: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98]. أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم {بسم الله الرحمن الرحيم الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [لقمان: 1 - 5]. وفَّقني الله وإياكم لاتباع رضوانه، وغمرني وإياكم بكامِل عفوِه وغفرانِه، ورزقني وإيَّاكم خيرات برِّه وإحسانه، وأدخلَنا في زمرةِ أحبابه المخصوصين بمنِّه وأمانِه. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفِروه جميعًا، إنَّه هو الغفور الرحيم. ***

32

(32) [ل 36/ ب] الحمدُ لله الصادق وعدُه بنصر مَن نَصَره، المؤيِّدِ دِينَه بتدميرِ مَن بدَّله وغيَّره؛ أحمدُه كما ينبغي أن نحمدَه ونشكُرَه. وأشهدُ ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له، أهلُ الفضل والمغفرة. وأشهد أنَّ سيِّدنا محمدًا عبدُه ورسولُه، أكرمُ مَن وحَّدَه وكبَّره. اللهمَّ فصلِّ وسلِّمْ على نبيِّك محمَّد، وعلى آله وعترته المطهَّرة، وعلى أصحابه الكرام البَرَرَة. أما بعدُ - عبادَ الله - فإنَّ تقوى الله هي العروةُ الوثقى لمن يعتصم، والغنيمةُ الكبرى لمن يغتنِم، وإنَّ معصيته هي الشقاء الأكبر والعذابُ الأخطر. فعليكم بطاعته فإنَّها هي جَنَّةُ النعيم، وإيَّاكم ومعصيتَه فإنَّها هي نارُ الجحيم. وإنَّما الدنيا مزرعةُ الآخرة وطريقٌ إلى القيامة، والآخرةُ هي دار الإقامة: إمَّا في نعيم مقيم، وإمَّا في خسران وندامة. فمن أحبَّ أن ينظر حالتَه بعدَ الموتِ في القبر والبرزخ والمحشر، فلينظر إلى عمله: أقبَلَ أو أدبَرَ. فإن حسُن عملُه فهو إلى الخير والسعادة، والحسنى وزيادة. وإنْ ساءَ فهو إلى الشقاء والهوان، والويل والخسران. ألا، وإنَّ حسنَ العمل هو المواظبةُ (¬1) على الصلوات والجُمَع والجماعات، والمحافظةُ على شروطها وواجباتها ومندوباتها، واجتنابُ مُبطِلاتها ومكروهاتها؛ وإيتاءُ الزكوات بأماناتها، وحفظُ الألسُنِ عن زَلَّاتها؛ والمداومةُ على كتاب الله وذكرِه، واجتنابُ فُحْشِ الكلام وهُجْرِه؛ وحفظُ القلوب عن أدوائها، والجوارحِ عن أسوائها؛ والإخلاصُ لله تعالى في ¬

_ (¬1) رسمها في الأصل بالضاد.

جميعِ الطاعات، والحبُّ والبغضُ فيه، لا لهوى النفس، فالهوى أشدُّ الموبقات. وتفكَّروا في أنعُمِ الله سبحانه التي غمرَكم بها عمومًا وخصوصًا [] (¬1) كلَّها لا تخلو ذرَّةٌ منها من نعمةٍ على ابن آدم. كيف لا، وهو خلَقَه، فأحسن خَلْقَه؟ فَتَح عينَيه، وفَكَّ لَحْيَيْه، وأنطقَ لسانَه، وأسمَعَ آذانَه، وبلَّ بِريقه لَهاه، وأشَمَّ أنفَه، وجعلَ له معدةً تطبخُ طعامَه، وأمعاءً تخلِّصه، وكبدًا تنقِّيه، وعروقًا تغذِّي سائر ذرَّاتِ جسدِه، ومنافذَ تُخِرج عنه فضلاتِه، وقلبًا يعقِلُ به، ويدَين يبطش بهما، ورجلَين يمشي عليهما. وعَلَّمه ما لم يكن يعلَم، وأخدَمَه ما هو أقوى منه وأعظم. وجعل من جنسِه مَن هو أفضلُ الخَلق، وأرشَدَه إلى منهجِ الحقِّ، وبيَّن له الخيرَ من الشرِّ، والنفعَ من الضرِّ، إلى غيرِها من نِعَمٍ لم تقدروا قدرَها ولم توفُّوها، {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل: 18]. وإنَّ من أجَلِّ نِعَمِه أنْ أقام فينا إمامَ حقٍّ يُرشِدُنا إلى الهدى، ويحُوطُنا من العِدَا، ويُجَنِّبُنا سُبُل الرَّدى (¬2)، ويُعلِّمُ الجاهل، ويُكرِمُ العالمَ، ويُنصِفُ المظلومَ من الظالم؛ فنصرَه على من عاداه، وأعلى قدمَه على مفارقِ من ناوَاه. وكذلك وعَدَ الله سبحانه وتعالى من يُؤيِّدُه دينَه ويُظِهرُه. قال تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج: 40]. الحديث: عن عمران بن الحصين رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول ¬

_ (¬1) تمزقت الورقة، فذهبت كلمتان أو ثلاث. (¬2) رسمها في الأصل: "الردا".

الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تزال طائفةٌ من أمتي يقاتلون على الحقِّ ظاهرين على من ناوأهم حتى يقاتلَ آخرُهم المسيحَ الدجَّال" (¬1). هذا، وإنَّ أبلغَ الكلام وقعًا وأعظَمه نفعًا كلامٌ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفِه. والله سبحانه وتعالى يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الأحزاب: 21 - 27]. فطُوبَى لمن عرفَ الحقَّ فاتَّبَعه مُقرًّا، واجتنَبَ هذه الدنيا الدنيَّة وقدَّمَ للأخرى {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} [المزمل: 20]. واستغفِرُوا الله، إنَّ الله غفور رحيم. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (19920)، وأبو داود (2484)، والحاكم (2/ 71 و4/ 450) وصححه على شرط مسلم.

33

(33) [ل 3/ أ] الحمدُ لله المحمودِ ونعمتُه السَّابغة، المعبودِ وحجَّتُه البالغة، المرجوِّ [ورحمتُه السائغة] (¬1) المخشيِّ ونِقَمُه الدَّامغة. أحمده سبحانه وأشكرُه، وأتوب [إلى] (¬2) الله وأستغفِرُه. وأشهد [ألَّا إله إلا الله] وحدَه لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه. اللهم فصلِّ وسلِّم على عبدك ونبيِّك [سيِّدنا محمَّد] وعلى آله وصَحْبِه. أما بعدُ، فأوصيكم - عبادَ الله - ونفسي بتقوى الله، فاتَّقُوه. وأحذِّركم [من] معصيته، فلا تعصُوه. واحرِصُوا على ما يُقرِّبُكم إليه، وينفَعُكم يومَ عرضِكم عليه، و [تكون] (¬3) لكم الحسنى وزيادة لديه. فقد علمتم أنَّ هذه الدار فانية، وأنَّ الآخرة هي الباقية. كيف نُحِبُّ الدنيا وهي دار الغرور والفَنا، ومآلها إلى العَنا؟ وكيف نرغب عن الآخرة، وهي دار البقاء والغنى؟ ابنَ آدم، أطعتَ أمَلك، فضيَّعت عملَك. ليتك قصَّرت من آمالك، وعملتَ لمآلك. انظُرْ إلى الدنيا معتبرًا: هل دامت لدنيءٍ أو شريف، أو طابت لقويٍّ أو ضعيف؟ كلَّا، والله، إنَّ برقَها لَخُلَّبٌ، وإنَّ نعيمَها لَقُلَّبٌ. إنْ كانت لك لحظةً كانت عليك أيَّامًا، وإنَّ وصلَتْك يومًا هجرتْكَ أعوامًا. هذا، والموتُ طالب، والقضاءُ غالب. بينا الإنسانُ مسرورٌ بأحبابه وآله، مغرورٌ بصحةِ بدنه وكثرةِ ماله؛ إذ فجِئَه هاذمُ اللذَّاتِ ومفرِّقُ الجماعات، ¬

_ (¬1) تمزقت الورقة من طرفها، فلم يظهر ما بين المعقوفين، والقراءة تخمينية. (¬2) ساقطة سهوًا. (¬3) قراءة تخمينية.

فانتزعَ روحَه، وأزارَه ضريحَه، فعادَ جيفةً، سُرَّ منه الدُّود، في بطونِ اللُّحود. وقد خلَّفَ مالَه لغيره غيرَ مشكور، وآبَ بتبعاته غير معذور. ولا يزال في قبره بعدَ السؤال إما في نعيم، وإما في خَسار، حتَّى يُحشَر فيُحاسَب، فينعَّم أو يعاقَب؛ إمَّا إلى جنَّةٍ لا يفنى نعيمُها، وإمَّا إلى نارٍ لا يخمدُ جحيمُها. ثم يُذبَح الموت، لِيعلَم الفريقان أنه لا فوتَ. ألا، وإنَّ من الفروض الواجبة على الأمَّة إقامةَ إمام، فإذا قام الإمامُ وجب عليهم نصرُه، والقيامُ معه بالأموال والأنفس. فإن قامت الواجبات المالية بالمقصود، وإلَّا وجَبَ عليهم من صلب أموالهم ما يقوم بذلك، فإنَّ الله تعالى في مواضع (¬1) من كتابه يقدِّم الجهاد بالمال على النفس، إذ ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وفي الحديث: "من لم يغزُ ولم يحدِّثْ نفسَه بالغزو فَلْيَمُتْ إن شاء الله يهوديًّا، وإن شاء نصرانيًّا" (¬2). وفي الحديث: "من جهَّزَ غازيًا في سبيل الله فقد غزا" (¬3). ¬

_ (¬1) غير محررة في الأصل. (¬2) لم أجده بهذا اللفظ. والظاهر أنه ملفق من حديثين: حديث أبي هريرة الذي أخرجه مسلم (1910) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من مات ولم يغزُ ولم يحدِّث به نفسَه مات على شعبة من النفاق". وحديث أبي أمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من لم يحبِسْه حاجة ظاهرة أو مرض حابس أو سلطان جائر، ولم يحجَّ، فليمت إن شاء يهوديًّا وإن شاء نصرانيًّا" أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (8922) قال: وهذا، وإن كان إسناده غير قوي فله شاهد من قول عمر بن الخطاب. (¬3) أخرجه البخاري (2843) ومسلم (1895) من حديث زيد بن خالد الجهني.

هذا، وإن الله سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف: 10 - 13]. ***

34

(34) (¬1) بسم الله الرحمن الرحيم [ل 38/ ب] الحمدُ لله المتقدِّسِ عن الأشباه والأشكال، المتعالي عن الأضداد والأنداد والأمثال، المتنزِّه عن الرذائل والنقائص وسيِّئ الخلال، المتصفِ بأوصاف الجلال والجمال والكمال، المخالِف لجميع الحوادث في الذَّات والصِّفات على كلِّ حال؛ أحمده حمدَ معترفٍ بسوء الفَعال، مستغفِرٍ لذنوبه، مستمنِحٍ لغزير النَّوال. وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده، لا شريك له ولا مثال. وأشهد أنَّ سيِّدنا محمَّد بن عبد الله عبدُه ورسوله المتحلِّي بأعظم الخِلال، أرسله رحمةً للعالمين، فبلَّغ ما أُرسلَ به على أبلغ منوال. اللهمَّ فصلِّ وسلِّمْ وبارِكْ على هذا النبيِّ الأوَّاه، الذي خصصتَه بالمكانةِ وعلوِّ الجاه: سيِّدنا محمدٍ، وعلى آلِه أفضلِ آل، وعلى أصحابه [الذين] (¬2) أقمتَ بهم نصرَه، وشددتَ بهم أزْرَه، وثللتَ بهم عروشَ الضَّلال. أما بعد - أيها الناس - فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله - عبادَ الله - في جميع الأقوال والأفعال. وإيَّاكم ومعصيتَه، فإنَّها سبب الطرد والنَّكال. واعلموا أنما هذه الدنيا سحابةُ صَيف، أو مَرَّةُ طَيف، أو بَشَّةُ ضَيف، أو لَمعةُ سَيف، قريبةُ الزوال. وكيف تنكرون ذلك، وأنتم تشاهدون صدقَه ¬

_ (¬1) قارن بالخطبة (60). (¬2) زيادة من الخطبة (60).

ظاهرًا للعلماء والجهَّال؟ من ذا الذي ترونه فاز بالبقاء، أو أمِنَ تقلُّبَ الدهر به مِن حالٍ إلى حال؟ هذه أخبارُ الأمم قبلكم تقرؤونها وتعرفون ما فعلَتْ بهم نوائبُ الأيام واللَّيال. أفلا تعتبرون بمن كانوا أطولَ منكم أعمارًا، وأكثرَ منكم أنصارًا، وأشدَّ تنافُسًا في الأبناء والأموال. ذهبوا، فلم يبقَ إلا ذكرُهم، وسيُفعَل بكم كما فُعِل بهم، وأنتم مشتغلون بالزُّور والمِحال. أصبحوا في بطون الأجداث رممًا باليةً وترابًا، ولَقِيُوا (¬1) جزاءَ ما قدَّموا ثوابًا أو عقابًا؛ فبعضُهم بالأساور، وبعضُهم بالأغلال. قد انكشفت الأرض عن عظامهم، وداسها الأحياء بأقدامهم، وذهبت بها الرياحُ والمياهُ عن يمين وشمال. وحيثُ لا مناصَ لكم عن المصير إلى ما صاروا إليه، والقدومِ على ما قدِموا عليه، فاعمُروا آخرتكم بصالحِ الأعمال. فاتَّقوا الله في السرِّ والعلانية، وأصلِحوا نيَّاتِكم وأفعالَكم تكونوا من الفرقة الناجية، وقصِّروا يا قِصارَ الأعمار طِوالَ الآمال، وطوِّلوا يا طِوالَ الغفلاتِ قصارَ الأعمال. أيها الإنسان، كم غدرَت بك الدنيا مرةً بعد أخرى، وقلَّما منَّتْكَ بنحوٍ من رغدٍ فسلبَتْه قهرًا (¬2). وكذلك غيرُك، كما تشاهده في الماضي والحال، وستراه في الاستقبال. وأنت مع ذلك مُصِرٌّ على الجِدَّ في الطلب، مرتكبٌ في سبيل الأطماع أشدَّ العَناءِ والتَّعَب، تُعلِّل نفسَك بما تعلم أنه كذبٌ ومحضُ محال. ¬

_ (¬1) كذا هنا وفي الخطبة (60). (¬2) "بنحو من رغد" كذا قرأت، وفي نفسي شكٌّ منها. ومقتضى السياق: "إلا سلبته".

تعرف قِصَرَ العمر وغدرَ الدنيا، ولا تُقلِع عنها. وتعلم أنها دار فناء لا بقاء، ونقمة لا نعمة، ثم لا تَقنَع منها. وتستيقن عداوة هواك وشيطانِك، ثم لا تخالفهم (¬1) في أفعالِكَ والأقوال! فاستعِنْ على نفسِك بذكرِ الموتِ المُبِيد والعذابِ الشَّديد، وتصوَّرْ شدَّةَ المصائب والأهوال. فإنَّ أمامك نارًا ذاتَ دركاتٍ وعقاربَ وحيَّاتٍ وسلاسلَ وأغلال. فانظُرْ لنفسك - رحمك الله - ما يُصْلِحها في دار البقاء، وتخيَّرْ من الأحوال ما تعلمه خيرًا، وما عساك تجد غيرَ الاستقامة والتُّقى لِتَسلَم من عذر الدنيا ومكرها، ومن عذاب الآخرة وشدَّة الأوجال؟ الحديث: قال عليه أفضل الصلاة والسلام: "حبُّ الدنيا رأسُ كلِّ خطيئة" (¬2). وقال عليه أفضل الصلاة والسلام: "لو كانت الدنيا تسوَى عند الله جناحَ بعوضةٍ ما سُقيَ منها كافرٌ شربةَ ماء" (¬3). ألا، وإنَّ أبلَغ موعظةٍ يلين لها الحديدُ، وتُسكب لها العبرات، وتُداوَى بها أدواءُ القلوب القسيَّات = كلامٌ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفِه. والله سبحانه وتعالى يقول: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم} [النحل: 98]. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {بسم الله الرحمن الرحيم وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ¬

_ (¬1) كذا في الأصل. (¬2) أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (10019) عن الحسن مرسلًا. (¬3) سبق تخريجه في الخطبة الرابعة عشرة.

وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}. اللهمَّ وفِّقنا لطاعِتك، واعصِمْنا عن معصيتك، وأفِضْ علينا شآبيبَ رحمتِك، وادفَعْ عنَّا مصائبَ نقمتك. واجعَلْنا من أهل مِنحتك لا محِنتك، واجعَلْ (¬1) من أولئك الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، بفضلك ونعمتك. عبادَ الله، من اتقى الله فقد استمسك بالعروة الوثقى، ومن مالَ إلى الدنيا فقد أوقَعَ نفسَه في شَرَكِ البلوى. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه جميعًا، إنه هو الغفور الرحيم. ... ¬

_ (¬1) كذا في الأصل.

35

(35) [ل 39/ أ] الحمدُ لله أهلِ الحمد والعبادة، المُواتِرِ لأهل طاعته إعانتَه وإمدادَه. وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةَ مخلصٍ له بالوحدانية حقَّ الشَّهادة. وأشهد أنَّ سيِّدَنا محمد بن عبد الله نبيُّه ورسولُه الذي هَدَى به عبادَه. اللهم فصلِّ وسلِّمْ على نبيِّك محمد، وعلى آله وأصحابه ومن اتَّبع رشادَه. أما بعد، فيا عبادَ الله، أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإنَّ تقوى الله هي سببُ الفوز بالنعيم وملاكُ السعادة. وإيَّاكم ومعصيةَ الله، فإنَّها سببُ الطرد والنَّكال عن الحسنى وزيادة. وتفكَّرُوا في لطفِ الله بكم ورحمتِه ورِفْقِه وتحنُّنِه، وكيف يُربِّيكمِ بمصالحكم؛ فإنكم إنْ تفكَّرتم علمتم أنَّ عملكم لا يقومُ بذرَّةٍ من شكره. فإنَّ الإنسان كان نطفةً من ماء مهين، فلم تزل الحكمةُ الربَّانيةُ تُربِّيه وتُرقِّيه من النطفة إلى العَلَقة، ومن العلَقة إلى المُضغة، إلى كمالِ الصورة، إلى نفخِ الروح، إلى أن ألقاه طفلًا حيًّا؛ فكيف كان غذاؤه (¬1) في بطن أمه، ثم كيف كان تصويرُ عظامه ولحمه. ثم بعد ولادته سخَّر له مَن ربَّاه وغذَّاه ورتَّبَ له المصالح. هذا مع ما أنعمَ الله به من أنَّ أكثر المخلوقات ساعيةٌ في مصالح الإنسان، فلو نظر الإنسانُ رأى أنه لو عاش عمرَ الدنيا وأضعافها، لا يفترُ من ¬

_ (¬1) رسمها في الأصل: "غذاه".

عبادة ربِّه وذكرِه، لم يقضِ شيئًا من شكرِه. فكيف يتكاسلُ عما أوجبه عليه، أم كيف يتجارأ (¬1) على ما حرَّمه عليه؟ كلَّا، إنَّ الإنسان لَيطغى. فعليكم - عبادَ الله - بطاعةِ الله ومراقبتِه في جميع أحوالكم، وتحرَّجوا في (¬2) الصغائر، وواظبوا (¬3) على السنن، فربما كان الصغيرُ عندكم كبيرًا عند الله تعالى. واعلموا أنكم في شهر الله تعالى رجب، زعمتم في أوَّله أنكم ستعبدون الله فيه، وتتوبون إليه، فها هو قد مضى، وأنتم على تسويفكم وتعلُّلِكم! وهذا شعبانُ قادمٌ عليكم، ولعلكم ستمضون فيه بما مضيتم في رجب، حتى يفجأكم الأجلُ بغتةً. فالتوبةَ، التوبةَ، قبل فواتِ العمر وهجوم الأجل. الحديث: عن أبي ذرٍّ الغِفاري رضي الله تعالى عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربِّه عزَّ وجلَّ أنه قال: "يا عبادي، إني حرَّمتُ الظلمَ على نفسي، وجعلتُه بينكم محرَّمًا، فلا تَظالموا. يا عبادي، كُلُّكم ضالٌّ إلا مَن هديتُه، فاستهدُوني أهدِكم. يا عبادي، كلُّكم جائعٌ إلا من أطعمتُه، فاستطعِمُوني أُطعِمْكم. يا عبادي كلُّكم عارٍ إلا مَن كسوتُه، فاستكسُوني أكسُكم. يا عبادي إنكم تُخطئون بالليل والنهار. وأنا أغفر الذنوبَ جميعًا، فاستغفِرُوني أغفِر لكم. يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضَرِّي فتضُرُّوني، ولن تبلغوا نَفْعي فتنفَعوني. يا عبادي لو أنَّ أولَكم وآخِركم وإنسكم وجنَّكم كانوا على أتقى قلبِ رجلٍ واحدٍ منكم ما زادَ ذلك في مُلكي شيئًا. يا عبادي، لو أنَّ أولكم ¬

_ (¬1) كذا في الأصل. وانظر تكملة دوزي (2/ 162). (¬2) كذا في الأصل. (¬3) رسمها في الأصل بالضاد.

وآخركم وإنسكم وجنَّكم كانوا على أفجر قلبِ رجلٍ واحدٍ منكم ما نقَصَ ذلك من ملكي شيئًا. يا عبادي، لو أنَّ أولكم وآخركم وإنسكم وجنَّكم قاموا في صفٍّ واحدٍ، فسألوني، فأعطيتُ كلَّ واحدٍ منكم، ما نقَصَ ذلك ممّا عندي إلَّا كما ينقُص المِخيَطُ إذا أُدْخِلَ البحرَ. يا عبادي، إنما هي أعمالُكم أحصيها لكم، ثم أوفِّيكم إياها، فمن وجَدَ خيرًا فليحمد الله، ومن وجَدَ غير ذلك فلا يلومَنَّ إلا نفسَه" (¬1). ألا، وإنَّ أبلغَ ما تنزَجِرُ به القلوب وتلينُ له الأفئدة كلامٌ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفِه. والله سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان: 33]. اللهم اغفِرْ لنا، وارحَمْنا، وعافِنا، واعفُ عنَّا، واهدِنا، وارزُقْنا، واكتُبْنا من عبادك الصالحين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفِروه جميعًا، إنه هو الغفور الرحيم. ... ¬

_ (¬1) تقدم في الخطبة الحادية عشرة.

36

(36) [ل 39/ ب] الحمدُ لله، ملكٌ لا يَرشُدُ مَن لم يستمسِكْ برُشْدِه. متفضِّلٌ جميع الفضل بيده، يسمَحُ به مِن عنده. مجيد، بحيث لا يُدرِك العالمون ولا طرفًا من حقيقة مجده. فياضُ الفضل على أهل الإقرار به وأهلِ جَحده. {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44]. وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلهٌ لا يهلِكُ مَن وحَّدَه. الشقيُّ مَن أشقاه في الأزل، والسعيدُ مَن أسَعَده. فلا يهتدي مَنْ عن سبيل الفوز أبعَدَه وقيَّدَه. ولا يضلُّ مَن إلى مواردِ رضوانِه أوردَه وأرشدَه {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} [النحل: 78]. وأشهد أنَّ سيّدنا محمدًا عبدُه ورسولُه إلى العالمين. رسولٌ شرَّفه الله على جميع أنبيائه الأكرمين، واسطةُ عِقْدهم، خاتمةُ مِسْكهم، على أنه فاتحةُ خلقهم (¬1)؛ فهو أولُ أوَّلِهم، وأوسطُ أوسطِهم، وآخِر الآخرين. فما أعظمَ الرسولَ الذي عظَّمه جميعُ الأعظمين. أنزل الله تعالى عليه: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89]. ¬

_ (¬1) يشير إلى ما روي عن أبي هريرة مرفوعًا: "كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث"، في "الفوائد المجموعة" تحقيق المعلمي (288): "قال الصنعاني: هو موضوع. وكذا قال ابن تيمية". وانظر: "السلسلة الضعيفة" (661).

اللهمَّ فصلِّ وسلِّمْ على سيِّدنا محمدٍ أكملِ الخلق خَلْقًا، وتخلُّقًا بكل خُلُقٍ كريم، سيِّدِ العالمين وأشرفهم الذي سمَّيتَه من أسمائك بالرؤوف الرحيم. وعلى آله الأطهار المقيمين بعدَه على صراطك المستقيم، وعلى صحابته الأبرار، الذين فضَّلتَهم على حَواريِّ المسيح ونُقَباء الكليم. {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التوبة: 20 - 22]. أما بعد، فيا عبادَ الله، أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقواه، والمحافظةِ على عبادته فإنَّها غرضُ المؤمن من دنياه؛ والعملِ للمعاد، فالسعيدُ من تجوَّز في [الدنيا] ولم يؤثرها على أخراه؛ وعمارةِ المساجد بالعبادة فإنَّها رياضُ مَن أسعده الله، وأقفاصٌ على من أشقاه. {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ} [التوبة: 18]. عبادَ الله، عليكم بالصلاة، فإنَّها أمانُ المؤمنين. عليكم بفرائضها فهي الواسطة بين المؤمنين والكافرين. عليكم بإتمام أركانها، وإلَّا فليس لكم إلا العناء، وأنتم من الظالمين. عليكم باتمامِ سُنَنِها، فإنَّها تزكيتها؛ وأكثِرُوا منها فإنَّها تَتمتها {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55]. واحذروا معاصيَ الله تعالى، فإنَّها سببُ فَناء الظالمين. فهي في الدنيا تُعجِّل الهلاكَ، وتُوجِبُ في الآخرة العذابَ المُهين. المعاصي هي النار، وأصحابُها من المهلَكين. فاحذَروها، ولا تُلقوا بأنفسكم إلى التهلكة إن

كنتم من الموقنين. {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56]. أيها الإنسانُ، هذا الموتُ ناشرٌ أعلامَه، هذا الموتُ مصوِّبٌ سهامَه، هذا الموتُ منفِّذٌ أحكامَه، هذا الموتُ مُشْرِعٌ رمحَه ممكِّنٌ حُسامَه. {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 185]. حتَّامَ التسويفُ بالتوبة، والموتُ دون الأمل حاجزٌ قدير؟ فهل أنتَ مكذِّبٌ به، وقد قام عليه كلُّ دليلٍ منير؟ أين مَن تعرفه، ومَن لا تعرفه وتسمع به، مِن صغير وكبير؟ هل هم إلا واقعٌ في شبكته، ومنتظرٌ إلى أجلٍ قصير؟ لِمَ تظنُّ أنَّ عملَك غيرُ لاقيك، وأنَّه ليس إليه المصير. {وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [هود: 111]. الحديث: كان - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أوَّلُ ما يحاسَب عليه العبدُ يومَ القيامة: الصلاةُ المكتوبةُ. فإنْ أتمَّها، وإلَّا فيقال: انظروا هل له من تطوُّع؟ فإن كان له تطوُّع أُكمِلَت الفريضةُ من تطوُّعه. ثم يُفعَل بسائر الأعمال المفروضة مثلُ ذلك" (¬1). وكان - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الله عزَّ وجلَّ يطَّلِعُ على جميع خلقه ليلةَ النِّصف ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (7902، 9494) وأبو داود (864) والترمذي (413) والنسائي (465) وابن ماجه (1425) من حديث أبي هريرة. قال الترمذي: "حديث حسن غريب من هذا الوجه". وله شاهد من حديث تميم الداري عند أحمد (16951) وأبي داود (866) والحاكم (1/ 262).

من شعبان، فيَغفر لجميع خلقه إلَّا لمشركٍ، أو مُشاحنٍ، أو قاطعِ رحمٍ أو سبيلٍ (¬1)، أو عاقٍّ لوالدَيه، أو مدمنٍ خمرًا أو قاتلٍ نفسًا" (¬2). وكان يقول: "إن الله عزَّ وجلَّ يطَّلِع على عباده في ليلة النصف من شعبان، فيغفِرُ الله للمستغفرين، ويرحَمُ المسترحمين، ويؤخِّرُ أهلَ الحقد كماهم" (¬3). وكان يقول: "إذا كانت ليلةُ النصف من شعبان، فقُومُوا ليلَها، وصُومُوا يومَها" (¬4). أقول قولي هذا. ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، والصواب: "مُسْبِلٍ". (¬2) ملفق من حديثين أخرجهما البيهقي في "شعب الإيمان": حديث معاذ (3552) ولفظه: "يطَّلع الله على خلقه في ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن" وإسناده صحيح. وحديث أبي سعيد (3556) وهو حديث طويل، وفيه: " ... بل أتاني جبريل عليه السلام. فقال: هذه الليلة ليلة النصف من شعبان، ولله فيها عتقاء من النار بعدد شعور غنم كلب، لا ينظر الله فيها إلى مشرك، ولا إلى مشاحن، ولا إلى قاطع رحم، ولا إلى مسبل، ولا إلى عاقٍّ لوالديه، ولا إلى مدمن خمر". قال البيهقي: هذا إسناد ضعيف. ورُوي من وجه آخر. (¬3) أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (3554) من حديث عائشة، وقال: "هذا مرسل جيد، ويحتمل أن يكون العلاء بن الحارث أخذه من مكحول". يعني أنه لم يسمع من عائشة. (¬4) أخرجه ابن ماجه (1388) والبيهقي في "شعب الإيمان" (3542) من حديث علي بن أبي طالب، وفي سنده أبو بكر ابن أبي سبرة. قال الحافظ في "التقريب": "رموه بالوضع".

37

(37) [ل 40] الحمدُ لله القادرِ القويِّ ذي القوة والحول، الواجبةِ عبادتُه وإجلالُه بالفَعال والقَول، الملكِ المنفردِ بقدرته في السابق والحال والأَوْلِ، مُنجي المؤمنين وكاسرِ (¬1) المفسدين عند شدَّة الهَول. {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ} [غافر: 3]. وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له، بارئُ السَّبع الطِّباق، ناسجُ الكائنات على أبدعِ مِنوال في اتفاقها والافتراق، هادي من اتبعَ صراطَه المستقيمَ إلى سبيله القويم، معذِّبُ أهل العِناد والشِّقاق. مُيسِّرُ الخيراتِ لأحبابه في دارهم هذه، ومُهِّونٌ عليهم كربَ ضِيق الخِناق {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ} [غافر: 15]. وأشهد أنَّ سيِّدنا محمدًا عبدُه ورسولُه، النذيرُ الذي أرسله بالبشرى، الحبيبُ الذي يسَّره الله ومن اتَّبعه لليُسرى، الذي كان متهاونًا بهذه الجيفة المنتِنة إيثارًا لخيراتِ الأخرى، المخصوصُ من بين المرسلين بالفضيلة والمعراج والإسرا، المنزَّلُ فيه: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 17 - 18]. اللهم فصلِّ وسلِّمْ على سيِّدنا محمد الذي فَضَلْنا به جميعَ الأمم فضلًا من الله وإحسانًا، وملأ الله به قلوبَنا يقينًا وإيمانًا، ورفَعَنا به على من خالَفَنا ¬

_ (¬1) تحت ثالث الكلمة نقطة واحدة، ولم أتبيَّنها لطمس جزء منها.

وعادَانا. وعلى آله الذين بقرباه ارتفعوا، حتى سامَكُوا السِّماكَ علوًّا وارتفاعًا فضيلةً وشأنًا. وعلى أصحابه المنزَّلِ فيهم: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الفتح: 29]. أيها الناسُ، أوصيكم وإيَّاي بتقوى الملكِ الجبَّار الذي هو على كل أفعالكم رقيبٌ، واتباعِ أوامره بلا معاندةٍ، فإنَّ أجلَ الله قريب؛ والكفِّ عن عصيانه قبلَ أن يُدرككم عذابُه المصيب. وعليكم بموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه، ليكون لكم من رحمته نصيب. {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} [غافر: 13]. عبادَ الله، كيف ترون نفوسَكم في معاملةِ ربِّ العالمين؟ هل تَفُون بما افترضَه عليكم، كما تَفُون بحقوقِ المخلوقين؟ أم تستحيون منه استحياءَكم من عباده العاجزين؟ أم تشكرون نعمَه المباشرةَ كما لو كانت بواسطة أحدٍ من عباده المملوكين؟ تالله، إنَّكم لتُعامِلون معاملةَ المستهين، وتتخبَّطون بين أوامره ونواهيه تخبُّطَ الأعشى لسوء اليقين، وتجترِمُون ما تستوجِبُون به عند الله [العذابَ] (¬1) المُهين، وتحترمون مَن أوجبَ معاداتَه من الظالمين، وتحسَبون أنَّه بفضل إيمانكم سيعاملكم كعباده المخلِصين. هيهات! فإنَّ دون الجنة نيرانًا يرِدُها المذنبون. {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا ¬

_ (¬1) ساقط سهوًا.

يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21]. ابنَ آدم، هل تقول: الموتُ لروحك نازع، وإنَّك لكأسه العَلْقميِّ جارع، وإنَّه لعزِّك وعزمِك عمَّا قريبٍ صادع؟ فيا له من صارعٍ لا يصارعه مُصارع، ولا تُقبَل فيه مقالةُ شافع، ولا يسلَم منه أحدٌ من دانٍ وشاسع! ما أظنُّكَ إلَّا مكذِّبًا به، وتظنُّك لنفسك نافِع، أو تظنُّ مالَك لك إلى علِّيين رافِع. كلَّا، والله، إنه عما قريب لِقَدَمِه عليك واضع، ولِوَتينك غيرَ بعيدٍ قاطع. وإنَّ بعدَه عذابَ القبر النازلَ بالمجرم ضليع أو ظالع (¬1)، وإنَّ الإنسان بعد ذلك إلى ربِّه لَراجع. فما أظنُّك إلا مكذِّبًا بذلك ناظرًا في قول الله تعالى: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} [المرسلات: 7]. فاتَّبعْ أمرَ الله تعالى، وَاتْرُكْ ما تهواه أنت لِما ربُّكَ يهوَى؛ وَاتْرُكْ معاندةَ ربِّكَ، فإنَّه منك لَأقوى. فيا سعادةَ من اتَّبعَ رضوانَ ربِّه، وكفَّ عن جميع الأسوا!، ويا شقاوةَ من اتَّبَع في عصيان ربِّه طاعةَ نفسه، وخضَعَ لطلبَاتِ الأهوا! والله تعالى يقول: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 37 - 39]. الحديث: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أتدرون مَن المفلِسُ؟ " قالوا: المفلسُ فينا مَن لا درهم له ولا متاع. قال: "إنَّ المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شَتَم هذا، وقذَفَ هذا، وأكَلَ مالَ هذا، وسفَكَ [دمَ هذا] وضرَبَ [هذا] فيُعطَى ¬

_ (¬1) رسمها في الأصل بالضاد.

[هذا] من حسناته وهذا [من حسناته]، فإنْ [فَنِيتْ حسناتُه قبلَ أن يُقضَى عنه ما عليه] أُخِذَ من [خطاياهم] ثم طُرِحتْ عليه، ثم طُرِحَ في النار" (¬1). اللهم [نسألك توبة كاملة ورحمة شاملة ومغفرة بالفوز (¬2) كافلة، تكون بيننا وبين سخطك حائلة. عبادَ الله قد أسمعنا الإرغاب والإرهاب، وأرَينا جميع الأسباب للثواب والعقاب، فَلْنتَّقِ (¬3) ونستغفرْ مولانا ربّ الأرباب، فاستغفروه، وتوبوا إليه، إنَّه هو الغفور التوَّاب. ... ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2581) من حديث أبي هريرة. (¬2) هكذا قرأت، وهي غير محررة في الأصل. (¬3) في الأصل: "فلنق".

38

(38) [ل 41] (¬1) الحمدُ لله فالقِ النَّوى والحبِّ، ومُخرِجِ الحصيد والأبِّ، وقابلِ التَّوب وغافرِ الذنب، الواحد الصمد الربِّ؛ الذي لا يُدركُه ناظر، ولا يملِكُه خاطر، ولا يفوتُه بادٍ ولا حاضر، ولا له في مُلكه مُعين ولا مؤازر. أحمدُه حمدًا يستفِرغُ وُسْعَ الطاقةِ، وأعوذ به من أهوال يوم الحاقَّة (¬2). وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً (¬3) ذخيرةً ليوم الفقر والفاقة، وعُدَّةً إذا حقَّت الحاقَّة. وأشهد أنَّ محمدا عبدُه المبعوثُ من تهامة، ورسولُه المخصوص بالكرامة (¬4)، الذي جعله الله تعالى حاديَ الأنبياء في الإمامة، وإمامَهم (¬5) المقدَّم في القيامة، صلَّى الله على محمد وآله وأصحابه (¬6). أيها الناس، أقلِعُوا عن الذنب قبل أن تُقلَعوا، وارجعوا عن الحُوب قبل أن تُرجَعوا، وتمتَّعوا بالعمل الصالح قبل أن تُمنَعوا. فقد أتاحَ الله لكم شهورَ ¬

_ (¬1) هذه الخطبة من خطب ابن نباتة (ص 154) بشيء من التصرف وإضافة الحديث وما بعده إليها. وسأشير إلى تصرفات الشيخ في الحواشي. (¬2) "وأعوذ به من أهوال يوم الحاقة" زيادة من الشيخ أدَّت إلى تكرار السجعة. (¬3) "شهادة" زيادة من الشيخ. (¬4) ابن نباتة: "الموسوم بالشامة". (¬5) ابن نباتة: "وهاديهم". (¬6) ابن نباتة: "وآله أهل النجدة والشجاعة، وخصَّهم بغرائب الفضل وطرائف الكرامة".

التجارةِ الرابحةِ فتاجِرُوه، وأنذَرَكم شِدَّةَ بأسِه فحاذِرُوه، وأنيبوا إلى ربِّكم وأسْلِموا وراقبوه. ولا تكونوا كالذين نَسُوا الله فآسَفُوه، فانتقَمَ منهم حينَ خالَفوه (¬1). هذا - عباد الله - شعبانُ ضاربًا بجِرانه، نازلًا بمودَّة ربِّكم (¬2) وإحسانِه، يُصَبُّ (¬3) عليكم من السَّماء بركاتُه، وتزكِّي أعمالَكم أوقاتُه (¬4). أطنَبَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في وصفه، ورغَّبَ في قيام ليلة نصفِه، فتأهَّبُوا - رحمكم الله - لقصدِها، وشَمِّروا لاغتنام وِرْدِها. فكم طليقٍ فيها من وَثاقِ الذُّنوب، وحقيق بنَيل كلِّ مطلوب! يُنزِّل الله تعالى فيها صِكاكَ الأرزاق، ويُعجِّل ببركتها (¬5) فَكاكَ الأعناق. فاهرُبوا إلى الله تعالى فيها من سوء الاجتراح، واطلُبوا منه حوائجَكم تظفَروا بالنجاح. واعلموا أنَّ وراءكم طالبًا لا يَغفُل، وسالبًا لا يُمْهِل، ونارًا تلفَح، ومقامًا يَفضَح، وقضاءً فَصْلًا، وحَكَمًا عَدْلًا، وكتابًا لا يغادر صغيرةً ولا كبيرة إلا أحصاها، وديَّانًا لا يدَعُ ظُلامةً إلا ردَّها واستقصاها. فرحِمَ الله ذا شيبةٍ عرفَ حقَّها فأكرمها، وذا شبيبة استحسن خَلْقَها فرحِمَها، وذا بصيرةٍ خَبَر مادَّة دائه فحَسَمها، وذا سريرةٍ أصلَحَ فسادَها فأحكمَها؛ قبلَ أن يُنِيخَ بكم الموتُ نياقَه، وَيضرِبَ عليكم رِواقَه، ويُمِرَّ لكم مذاقُه، ويُرهِقَكم سياقُه، ويُوردَكم مواردَ ¬

_ (¬1) "وأنيبوا ... خالفوه" زيادة من الشيخ. (¬2) ابن نباتة: "قادمًا بمعروف ربكم". (¬3) ابن نباتة: "تتشعب". (¬4) ابن نباتة: "أوقاته وساعاته". (¬5) ابن نباته: "لبركتها".

قومٍ سَلَفوا، ومن ديارهم وأموالهم اختُطِفُوا؛ في منازل الهَلْكى نازلون، وعلى ما حصَّلوا (¬1) من أعمالهم حاصلون. قد فصَّل وصِالُ الثَّرى أوصالَهم، وغيَّرتْ غِيَرُ البِلَى أحوالَهم، وغدًا يصير المتخلِّفون أمثالهَم، فما لهم لا يعتبرون بهم مآلَهم؟ جعَلَنا الله وإياكم ممن اطَّرَح اللهوَ جانبًا، واتخذ الجِدَّ صاحبًا، وكان لهواه غالبًا، ولمولاه في كلِّ حالٍ (¬2) مراقبًا. الحديث: عن أمير المؤمنين علي عليه السلام قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا كانت ليلةُ النصف من شعبان فقوموا ليلَها، وصوموا يومَها، فإنَّ الله تعالى ينزل فيها لغروب الشمس إلى السَّماء الدنيا، فيقول: ألا مِن مستغفرٍ فأغفِرَ له؟ ألا مسترزقٌ فأرزقَه؟ ألا مبتلًى فأعافيَه؟ ألا كذا، ألا كذا، حتى يطلع الفجر" (¬3). هذا، وإنَّ أبدعَ الكلام نظمًا، و [أبلَغَه حِكَمًا وحُكمًا كلامُ من وِسعَ كلَّ شيء] (¬4) رحمةً وعلمًا. والله جلَّ جلالُه يقول [ل 42]: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ ¬

_ (¬1) ابن نباتة: "قدَّموا". (¬2) "في كل حال" زيادة من الشيخ. (¬3) تقدم في الخطبة (36). (¬4) تمزقت الورقة من أسفلها، فلم تظهر إلا رؤوس الكلمات.

وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} [الدخان: 1 - 7]. هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم. ***

39

(39) [ل 43/ أ] الحمدُ لله الذي وفَّق لطاعته مَن أراده، وهدَى من اصطفاه وأحبَّه رَشادَه، واختَصَّ من ارتضاه لحضور مواسم السَّعادة. أحَمدُه، وفَّقَ لحجِّ بيته الكريم من ارتضى من عباده المؤمنين؛ وأشكره، مَنَّ عليهم بقضاءِ المناسكِ والقَبول وتمامِ الأجر، وذلك جزاءُ المحسنين. وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ سيِّدنا محمدًا عبدُه ونبيُّه، بالهدى ودين الحق أرسلَه. اللهمَّ فصلِّ وسلِّم على رسولك مولانا محمد وعلى آله وصحبه الطاهرين. أما بعد - عبادَ الله - فأوصيكم ونفسي بتقوى [الله، وتجنُّب] معصية الله؛ فاتقوا الله وخافُوه، وأطيعوه ولا تعصُوه؛ فإنه قد حذَّركم نفسَه، فاحذروه. واعلموا أنَّ أناسًا وفَّقهم الله لحج بيته الكريم، وحضورِ ذلك الموسم العظيم فظفروا (¬1) بالفوز الأوفر، والأجر الأكبر. وأُجْزِلَتْ عطاياهم، وغُفِرتْ خطاياهم، ونحن ها هنا واقفون، ثبَّطَتْنا ذنوبُنا، وحبَّطتنا (¬2) عيوبُنا. ولله سبحانه عباداتٌ وأسبابُ سعادات، لا تستدعي مشاقَّ أسفارٍ ولا ركوبَ أخطارٍ. ألا، وهي الصلاةُ فرضًا ونفلًا، والصيامُ، وقراءةُ القرآن، والذكرُ، والصدقاتُ، وصلةُ الرحم، والأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر، ¬

_ (¬1) رسمها بالضاد. (¬2) (حبط) من باب فعَّل من كلام العامة، ولم يرد في المعجمات.

والحبُّ في الله والبغض في الله، والنصيحةُ لله ولرسوله ولإمام المسلمين ولعامَّتهم. فإنَّ من واظب (¬1) على هذه الطاعات فاز بالفضل الوافر، وساوى بها الحجَّ وزاد، وفاز برضوان ربِّ العباد. فاغتنِمُوا الأعمارَ قبلَ الأجل، واقطعوا الأمل، وجِدُّوا في العمل؛ فإنَّ العمرَ فاني، والعملَ باقي، والأجلَ آتي (¬2). الحديث: عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لأصحابه: "ثلاثٌ أُقْسِمُ عليهن، وأحدِّثكم حديثًا فاحفَظُوه. فأمَّا الذي أُقسِمُ عليهن، فإنه ما نقص مالُ عبد من صدقة، ولا ظُلِمَ عبدٌ مظلمةً صَبَر عليها إلا زاده الله بها عزًّا، ولا فَتَح عبدٌ بابَ مسألةٍ إلا فتَحَ الله عليه بابَ فقرٍ. وأما الذي أحدِّثكم فاحفظوه، فقال: إنَّما الدنيا لأربعة نفر: عبدٌ رزقه الله مالًا وعلمًا، فهو يتقي فيه ربَّه، ويصل رحِمَه، ويعمل لله فيه بحقِّه؛ فهذا أفضلُ المنازل، وعبدٌ رزقه الله علمًا ولم يرزقه مالًا، فهو صادقُ النيَّة، يقول: لو أنَّ لي مالًا لعملتُ بعملِ فلان؛ فأجرُهما سواء. وعبدٌ رزقه الله مالًا ولم يرزقه علمًا، فهو يتخبَّط في ماله بغير علم، لا يتَّقي فيه ربَّه، ولا يصِل فيه رحِمَه، ولا يعمل فيه بحقٍّ؛ فهذا أخبثُ المنازل. وعبدٌ لم يرزقه الله مالًا ولا علمًا، فهو يقول: لو أنَّ لي مالًا لعملتُ فيه بعمل فلان، فهو نيَّتُه؛ ووزرُهما سواء" (¬3). ألا، وإنَّ أصدقَ الكلام كلامُ الله، وهو تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا ¬

_ (¬1) هنا رسمها بالظاء على الصواب. (¬2) كذا كتب الأسماء المنقوصة الثلاثة بإثبات الياء. (¬3) أخرجه الترمذي (2325) وقال: حديث حسن صحيح.

تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون: 9 - 11]. ***

40

(40) [ل 44/ أ] الحمدُ لله اللطيفِ بعبادِه، الهادي إلى سبيلِ رشادِه، المُتقدِّسِ عن المِثْل والشَّبَه، المُزيلِ بكتابه المبين غواشيَ الأهواءِ والشُّبَه. أحمدُه وأشكرُه، وأتوبُ إليه وأستغفرُه. وأشهدُ ألَّا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ سيِّدنا محمدًا عبدُه ونبيُّه، بالهدى ودين الحق أرسَلَه، اللهمَّ فصلِّ وسلِّم على رسولك مولانا محمد وعلى آله وصحبه الكَمَلَة. أما بعدُ - عبادَ الله - فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فإنَّها وصيَّتُه لعباده أجمعين. وأحذِّرُكم ونفسي معصيتَه، فإنَّها موردُ غضبِه الذي حذَّر منه الأولين والآخرين. إنما هذه الدنيا دارُ مرور، رغدُها زُور، ونعيمُها غُرور. فالسعيد من لم يجعلها أكبرَ همِّه ولا مبلغَ علمه. والشقيُّ من رضي بها عن الآخرة، وباعَ اللذةَ الفانيةَ الخسيسةَ باللذة الباقية الفاخرة. أيها الإنسانُ ما غرَّك بربِّك، وما ران على قلبِك؟ كلَّ يوم تزداد ذَنُوبًا من ذُنوب، وتملأ عَيْبةً من عيوب؛ كأنَّك في الموت مُرْتاب، أو مضمونٌ لك الثَّوابُ، ودخولُ الجنة بغير حساب؛ أو معدودٌ في سائر الدوابِّ، التي ليس عليها بعد القِصاص عذابٌ ولا عقاب. كلَّا، والله، إنَّ وراءك يومًا ثقيلًا، وعذابًا وبيلًا، وعقبةً كؤودًا، وغضبًا شديدًا، وزَقُّومًا وصديدًا، وحيَّاتٍ وعقاربَ سُودًا، وسلاسلَ وقيودًا؛ معدَّةً لِمن خالفَ أمرَ ربِّه، وأصرَّ على ذنبه. وإنَّ لِمن اتَّقى اللهَ جِنانًا، ونعيمًا ورضوانًا، وحُورًا وولِدانًا، وعُرُبًا حِسانًا. ولهم فيها ما تشتهي الأنفسُ وتَلَذُّ الأعينُ، مما لا عينٌ رأتْ، ولا أذنٌ

سمعتْ، ولا خطَرَ على قلبِ بشَر، فضلًا من الله وإحسانًا، وعفوًا وغفرانًا، وجودًا وامتنانًا. ها أنتم في الأشهُر الحُرُم المعظَّمة، في أشهُرِ الحجِّ المحرَّمة، في عَشْر ذي الحجة المكرَّمة، التي أقسَم الله بها في كتابه، وأعدَّ لصائمها وقائمها جزيلَ ثوابه. فواظِبوا (¬1) فيها على الطاعات، وأكثرِوا من الصدقات، وتوبوا من جميع السِّيئات، لتفوزوا بالخيرات والبركات، في الحياة وبعد الوفاة (¬2). الحديث: رُوي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ما من أيامٍ أحبُّ إلى الله أن يُتعبَّد له فيها من عشر ذي الحجة. يَعدِلُ صيامُ كلِّ يومٍ منها بصيام سَنة، وقيامُ كلِّ ليلة منها بقيامِ ليلةِ القدر" (¬3). هذا، وإنَّ أبدعَ الكلام وأحسنَه، وأجزلَه وأمتنَه، وأبلغَه وأتقنَه = كلامُ من لا يأخذه سهوٌ ولا سِنة. والله سبحانه يقول: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98]. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ¬

_ (¬1) هنا رسم الفعل بالظاء على الصواب. (¬2) هنا كتبها بالتاء المربوطة مع أن قرائن السجع الأخرى بالمفتوحة، خلافًا لما سبق في الخطبتين (3, 10). (¬3) أخرجه الترمذي (758) وقال: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث مسعود بن واصل ... ". وللجزء الأول شاهد من حديث ابن عباس عند البخاري (969).

ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ [ل 43/ أ] لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي} [سورة الفجر]. هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفِروه، إنَّه هو الغفور الرحيم. ***

41

(41) [ل 45/ ب] الحمدُ لله الذي شرَعَ دينَه القويم، وتكفَّل بحفظه وإظهارِه، وأسَّس قواعدَه وشدَّد سواعدَه بتأييد أنصارِه. وحماه عن بوائقِ البِدَع بصرائحِ حُججِه، وكلَأَه من أهوية المتعسِّفين بهدايةِ واضحِ منهجه. ولم يزل يُشيِّد أركانَه ويؤيِّد برهانَه بإقامة الهُداة المثبتين والدعاة الموفَّقين، ليقدَعَ أنوفَ أهلِ البدعِ الشنيعة، ويردعَ أهلَ الزيغِ المعاندين لحقيقة الشريعة. وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له إلهًا واحدًا متقدِّسًا عن الأشباه والأشكال، متعاليًا عن الأنداد والأضداد والأمثال، سبحانه وتعالى عما يقوله الملحدون. ولا إله إلا هو كلما وحَّدَه الموحِّدون. وأشهد أنَّ سيِّدنا محمدًا عبدُه ورسولُه، وصفيُّه وخليلُه، سببُ الوجود (¬1)؛ وواسطةُ عِقد المرسلين، وواسطةُ العالمين إلى الربِّ المعبود، صاحبُ اللِّواءِ المعقود والمقامِ المحمود والحوضِ المورود. اللهم فصلِّ وسلِّمْ على نبيِّك ورسولِك سيِّدنا محمدٍ وعلى آله المطهَّرين من الرذائل، وأصحابه المكرَّمين بفواضل الفضائل، وعلى كل من اهتدى بهديه القويم وصراطه المستقيم إلى يوم الدين. أما بعدُ، فيا إخواني، أوصيكم ونفسي المثقلةَ بتقوى الله، وتحامي الوقوع في حُرَم الله؛ فإنَّ التقوى أساسُ الصلاح، وكنزُ النجاح، وعمدةُ الفوز والفلاح. التقوى ناصرٌ لا يَخذُل، وعزٌّ لا يُذِلُّ، وكنزٌ لا يقِلُّ، ومُعينٌ لا يمَلُّ، ¬

_ (¬1) يشير إلى بعض الروايات التي جاء فيها أنه لولا محمَّد - صلى الله عليه وسلم - ما خلق الله آدم ولا الجنة والنار، ونحوه. وكلها باطلة لا أصل لها.

وعرشٌ لا يُثَلُّ، وعَقْدٌ لا يُحَلُّ، وقائد لا يَزِلُّ، وهادٍ لا يضِلُّ، وسيفٌ لا يُفَلُّ. فعليكم بالتقوى تفوزوا بخير الدارين وأحسن (¬1) الحالين، تنالوا بها في الدنيا عيشًا مرغوبًا، وتفوزوا بالآخرة بالنعيم المقيم في غُرَفِ طُوبَى. من أراد جنَّة المأوى فعليه بالتقوى. أيها الإنسان، ما أطوَلَ أملَك، وما أقصَرَ عملَك! تحصُر همَّتَك في تحصيل الحطام الفاني، وتُعرِض عن الإعداد لهولِ الآتي. وتستهينُ بالعذاب الشَّديد، استهانةَ مكذِّبٍ بالوعد والوعيد. وما ذلك إلا لأنَّك آثرتَ الفاني على الباقي، وبعتَ الآجلَ بالعاجل. لا يسكن قلبُك إلا إلى جلبِ مالٍ أو زيادةِ حطامٍ، ولا تميل نفسُك إلاَّ إلى حِيَلِ الكسْبِ وتكثيرِه من غير أن تنظرَ إلى حلال أو حرام. تحبُّ نقصَ العبادة، كما تحبُّ في دنياك الزيادة. ويروعك من صلاتك تطويلها، كما يروعك من دنياك تحويلُها. ابنَ آدم، حتَّام التسويف؟ وإلامَ التخفيف؟ ألم يُفِدْك التخويف؟ حتَّام ازورارُك عن الحقِّ، وإعراضُك عن الصدق؟ إلى كم تتجنَّبُ الهدى، وتتصوَّب الرَّدى (¬2)، وتميل إلى العِدَى؟ ألا، وإنما نفسُك وهواك وشيطانك هم العِدَى (¬3)، لو تعلَم! ابنَ آدم، ارفُقْ بنفسِك وارْحَمْها، فإنَّك لم تزَلْ للمخاوف تُقْحِمُها، وعن الخيرات تَحْرِمُها. فيا ظالمًا لنفسه، علامَ تَظْلِمُها؟ ويا مُهلِكًا لنفسه ألا ¬

_ (¬1) في الأصل: "حسن". (¬2) كذا في الأصل. (¬3) رسمها في الموضعين: "العدا".

ترحَمُها؟ ألم تعلَمْ أنَّ بين يديك مفاوزَ لا يجوزُها إلا المُغِذُّون، ولا يفوزُ فيها إلا أغنياءُ الدِّين المكثِرون. بينا أنت متخبِّطٌ في غرورك، مختالٌ في سرابيلِ مكرِك وزُورِك، [ل 46/ أ] إذ دهَمك هاذمُ اللَّذَّات، مبدِّدُ الجمعِ بالشَّتات (¬1)، والحياةِ بالوفات (¬2)؛ فاختطفَكَ اختطافَ البازي الكاسِر، وقطَعَ وتينَك أسرعَ مِن قَطْعِ الجازر، فأُودِعتَ في عملِكَ: خيرٍ أو شرٍّ، وأُسْلِمتَ إلى ما قدَّمتَ: فُجورٍ أو بِرٍّ. فإنما قبرُ الإنسانِ عملُه عندَ مَن يفهم، فَلْيَعْمُرْ كلٌّ منكم قبرَه كيف شاءَ فيحمَد أو يندَم. ولا بدَّ من المعاملة في القبر لأهل الطاعة والعصيان، فيُجازَى أهلُ الإساءة بالسوء، وأهلُ الإحسان بالإحسان. حتَّى إذا حضَر ميقاتُ البعث انتشرت الخلائق، وتوضَّحت الحقائق، ونزلت البوائق على كل خاطئ وفاسق؛ فمِن مناقَشٍ بالحساب، ومفضوحٍ على رؤوس الأشهاد. يومٌ تشهد فيه الأعضاءُ على النفس، ويفيض العرقُ على الرأس. يومٌ لا تُداني الأهوالُ هولَه، ولا تُقاربُ الدنيا طُولَه. وبعدَ الحساب، فأمامَ الإنسان السِّراطُ، فمِن ناجٍ، ومن مُزَحزَحٍ، ومن واقعٍ، ومن مخدوشٍ، ومن مُعْرَق، ومن ممزَّق. هذا، وإنَّ عامِلَ الإنسان عملُه، فمن أراد حسنَ المعاملة فَلْيُحسِنْ عاملَه؛ فإنَّ العمرَ قصير، وإلى الله المصير، والحسابُ عسير، والناقدُ بصير. والخلقُ بين بشير وحسير {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى: 7]. ¬

_ (¬1) تمزَّق موضعها ولم يبق منها إلا الأحرف الثلاثة الأولى. (¬2) كذا كتبها بالتاء المفتوحة. انظر ما سبق في الخطبة الثالثة.

هذا، وإنَّ الله تعالى قد درأ عنكم نِقَمَه، وأجزلَ عليكم نِعمَه، فأقام لكم ولعامَّة الأمَّة هذا الإمامَ الموجود، وألزَمَه الحقَّ، فهو معَه لا يفارقُه، والهدى على كلِّ الأحوال مرافقُه. فيا سعادة من يُساعده، ويا شقاوةَ من يُعانده! قام والدِّينُ في غُمَّة، والعظائم مُهِمَّة، والكُرَبُ مُدْلهمَّة، والمصائبُ مُلْتَمَّة. فأغاث الغُمَّة (¬1)، ورفَعَ النِّقْمة، واستنزلَ النِّعمة، وكان بابَ الرحمة. ألا، وإنَّ من نظر بعين بصيرته، وتأمَّلَ حسنَ سيرته وسريرته، وكان ممن نوَّر الله تعالى قلبَه، وزكَّى لُبَّه = عرفَ لهذا الإِمام حقَّه، واستيقن بأنه هو - وإن أبى المعاندُ - والله، الشاهدُ. فعليكم باتِّباعِه وجمع قلوبكم مع ألسنتكم في محبته ومودته. ولا يختلسنَّكم الشيطان، فيختلجَ في عقولكم التهاونُ به، فتُخذَلوا في الباطنة والظاهرة، وتشقَوا في الدنيا والآخرة. ألا، وإنَّ أحسنَ ما اتَّعظَ به من رُزِقَ التوفيقَ، ورَجَع به عن التكذيب إلى التصديق = كلامُ الله سبحانه وتعالى، فإنَّه حقيقة التحقيق. والله سبحانه وتعالى يقول: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98]. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف: 10 - 13]. الحديث: قال شفيعُ الأمَّة نبيُّ الرحمة - صلى الله عليه وسلم -: "لا يؤمِنُ عبدٌ حتى يكون ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولعله أراد: "الأمَّة"، فسبق القلم.

قلبُه ولسانُه سواء (¬1) " (¬2). وقال عليه الصلاة والسلام: "إنَّ أحبَّ عبادِ الله إليه أنصحُهم لعباده" (¬3). اللهم، إنَّا نضرَع إليك بالرجاء، ونفزَع إليك (¬4) بالالتجاء، ونُهرَع إليك بالدعاء؛ فاستجِبْ لنا يا نعم المجيب. عبادَ الله، اسمعُوا وعُوا، واحفَظوا وانتفِعُوا [واتقوا الله وتوبوا] (¬5) إليه تُرفَعُوا. أقول قولي هذا، وأستغفِرُ الله العظيم لي ولكم، فاستغفِروه جميعًا، إنه هو الغفور الرحيم. ... ¬

_ (¬1) رسمها في الأصل: "سوى". (¬2) في "كشف الخفاء" (2/ 373): رواه أحمد عن أنس، وفي الباب عن ابن مسعود رضي الله عنه. وانظر "السلسلة الضعيفة" (5304). (¬3) في "الجامع الصغير" (2171) أن عبد الله بن أحمد أورده في "زوائد الزهد" عن الحسن مرسلًا. وانظر "السلسلة الضعيفة" (7067). (¬4) في الأصل: "إليه" سبق قلم. (¬5) ذهب به التمزق، والقراءة تقديرية.

42

(42) [ل 47] الحمد لله الذي هدانا لدينه القويم، وشرَّفنا باتباع صراطِه المستقيم. أحمدُه سبحانه وتعالى حمدَ مؤمنٍ موقنٍ في إيمانه، مخلصٍ في توحيده وإيقانه. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، تنزَّه عن النقص وانفرَدَ بالكمال، ليس كمثله شيء في الذات والصفات والأفعال. وأشهد أنَّ سيِّدنا محمدًا عبدُه ونبيُّه ورسولُه، أرسله بالهدى ودين الحق، فأبلَغَ ما أرسَلَه به على أبلغِ مِنوالٍ مع الأمانة والصدق. اللهم فصلِّ على هذا النبيِّ الكريم سيِّدنا محمَّد وعلى آله وصحبه وسَلِّم. أما بعد - عبادَ الله - فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله حقَّ تقاتِه، وجِدُّوا واجتهدوا في طلبِ مرضاته. واعلموا - رحمكم الله - أنما هذه الدنيا دارُ كسبٍ وعملٍ، فمن أحسَنَ نجا (¬1)، ومن أساءَ فقد وقع في الزلل. فقصِّروا آمالكم، وكثِّروا أعمالكم، واغتنمُوا أعماركم، وسابِقُوا آجالكم. واجعلوا الموتَ نصب أعينكم، وتوقَّعُوه في جميع أحوالكم. ثم اعملوا له ولِما بعدَه، ولْيبذلْ كلٌّ منكم الاستعدادَ جهدَه؛ فإنَّ كلَّ أحدٍ منكم مستيقنٌ بموته، غيرُ عالمٍ بطول عمره. وكلٌّ مؤمن يعلم ما بعد الموت من الجزاء، لأهل الطاعة ولأهل الاعتداء؛ فكلٌّ على أعماله محاسَب، وكلُّ مسيءٍ معذَّب معاقَب. وقد أوجب الله تعالى عليكم ما أوجَبَ، وحرَّم عليكم ما حرَّم، وندَبَ لكم ¬

_ (¬1) رسمها في الأصل: "نجى".

ما ندَبَ، وكره لكم ما كره، وعرَّفكم الخير من الشرِّ، وميَّزَ لكم النفع من الضرِّ. فمن اتَّبعَ الخيرَ فَلْيَرْجُ رحمةَ ربِّه، ومن لم يجتنب الشرَّ فلَومُه على نفسه. واعلموا أنَّ الله طيِّبٌ لا يقبل إلا طيِّبًا، فأتِمُّوا أعمالكم، وأكمِلوها، وحَسِّنوها، وأخلِصُوا فيها. وإيَّاكم والشبهات والمكروهاتِ، فإنَّها تجرِّئ على المحرَّمات. وإنَّ طاعةَ الله هي الجنة، وإنَّ معصيته هي النار. وإنَّ قبرَ الإنسان ومنزلَه في الآخرة هو عملُه، فإنْ كان عملُه صالحًا فقبرُه ومنزلُه صالح. وإنْ كان عملُه سيئًا فإنَّ قبرَه ومنزلَه سيئ. فَلْيَخَتَرْ لنفسه، ولينظُرْ بعقله، فيمهِّدْ لمصيره. الحديث: عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الطُّهورُ شطرُ الأيمان، والحمدُ لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن - أو تملأ - ما بين السماء والأرض، والصلاةُ نورٌ، والصدقةُ برهانٌ، والصبرُ ضياءٌ، والقرآن حجَّةٌ لك أو عليك. كلُّ الناس يغدو، فبائعٌ نفسَه، فمُعْتِقُها أو مُوبِقُها" (¬1). ألا، وإنَّ أبلغَ المواعظ والهدى كلامٌ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. والله تعالى يقول في كتابه المبين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم: 8]. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه في الخطبة الثلاثين.

43

(43) [ل 49] الحمدُ لله المنجزِ وعدَه بنصر من نصَرَه، المؤيِّدِ دينه بتأييد من عضَّدَه وأظهَرَه، وتدمير من بدَّله وغيَّرَه. وأشهد ألَّا إله إلا الله، الذي أثبَتَ من دينه غُرَرَه، وأزال عنه من الغَيِّ والبغي غِيَرَه. وأشهد أنَّ سيِّدنا محمدًا عبدُه ورسولُه، وحبيبُه وخليلُه؛ الذي أنزل عليه آياتِه وسورَه. وأسَّس به شريعتَه المطهرة، وأيَّده بأصحابه الكرام البرَرة، وأطفأ به جمراتِ الكفَرة الفجرَة. اللهم فصلِّ وسلِّم على هذا النبيِّ سيِّدنا محمَّد الذي شرَّفت خُبْرَه وخَبَره، وقلتَ فيه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [الأحزاب: 36]. أما بعدُ، فأوصيكم - عبادَ الله - ونفسي بتقوى الله، ما بالُنا لا نبرَح في الشهوات راتعين، وإلى المطامع من المطاعم والملابس مُسَارِعين؟ ألم نسمع ترغيبَ الله وترهيبَه؟ ألم تكن الدنيا قليلة، والآخرة قريبة؟ ألم نعرِفْ ما حرَّمَه الله وما أوجَبَه؟ ألم نعلم ما كرهَه وما ندَبه؟ ألم يطرُقْ مسامعَنا وعدُه ووعيده؟ أم لم نؤمِن بما تُبَيِّنُه وتفيدُه؟ كلَّا، والله، إنَّ كلامَ الله لحقٌّ، وإنَّ وعدَه ووعيدَه لَصِدْقٌ، لكنَّ القلوبَ مستلِذَّةٌ سِنةَ الغفلة، مستطيبةٌ لباسَ المهلة. ألا، وإنَّ الإمهال ليس بإهمال، وإنما يُمْلىَ لِلعُصاة لِيزدادوا إثمًا، فيستوجبوا حلولَ الأهوال. ألا، وإنَّ الله سبحانه وتعالى قد أنعم على الأمَّة بمن يُجَدِّدُ له رَشَادَها، ويُبيِّن لها سَدادَها، ويقيم فيها الحدود، ويدافع عنها أهلَ البغي والجحود. ثم أقامَه الله وأيَّده، وأسَّسَ به دينه وشيَّده، ورفع أعلامَه، وأمضَى أحكامه،

وأكرمَ أولياءه، وأهلك أعداءه. وما زال يهدي العباد إلى طاعته، ويُدخلهم في ظلال دعوته. فمِن أوجب الواجب أن نحمدَ الله على هذه النِّعَم، ونشكره على ما دفَعَ من النِّقَم، بعد أن كانت الأرض تشتعل خوفًا وقتلًا، أصبحت تَفيض نِعَمًا وفضلًا. وأشرقت الأرض بنور ربَّها، وبُدِّلت عن جَدْبِها بخِصْبها. فعليكم بشكر الله، فإنه سببُ المزيد؛ وإيَّاكم ومعصيته، فإنَّها موجبةٌ لسلب النَّعم والعقاب الشديد. الحديث: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم، حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال" (¬1). يا أهل هذه الدعوى أنَّكم طائفةُ الإسلام وحزبُ الله في جميع الأنام، فاعلموا ما يُراد بكم، واعملوا ما يليق بكم، وافطنوا لما رُشِّحتم له؛ فلا ترعَوا مع الهَمَل. واتَّقوا الله الذي أهَّلَكم لنصر دينه، فأصلحوا العمل. وإنَّ أبلغ الكلام كلامٌ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والله سبحانه وتعالى يقول [ل 50/ أ]: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ¬

_ (¬1) تقدّم تخريجه في الخطبة (32).

ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الأحزاب:21 - 27]. فطوبى لمن عَرَف الحقَّ، فاتَّبعه مُقِرًّا؛ واجتنب هذه الدنيا الدنيَّة وقدَّم للأخرى. {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المزمل: 20]. ***

44

(44) [ل 50/ ب] الحمد لله الحيِّ القيومِ ذي الجلال والإكرام، ذي العزَّة والجبروت والفضلِ والإنعام، الذي بيَّن الهدى من الضلال، والحلال من الحرام. أحمده سبحانه وتعالى وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأسأله العفوَ عن جميع الآثام. وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده، لا شريكَ له؛ وأشهد أنَّ سيِّدنا محمدًا عبدُه ورسولُه ونبيُّه، بالهدى ودين الحق أرسَله. اللهم فصلِّ وسلِّم على رسولك مولانا محمد أفضلَ الصلاة والسلام، وعلى آله البَررَة الكرام، وأصحابه الأئمة الأعلام، والتابعين لهم بإحسان من الأنام. أما بعد - عبادَ الله - فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله وأنيبُوا، وأَقْلِعوا عن قبائحكم وتُوبوا، واحفظوا ما قلَّدكم الله تعالى من حرمة الإسلام. فغُضُّوا أبصاركم عن المنهيَّات الذميمة، وسُدُّوا آذانكم وكُفُّوا ألسنتكم عن الغيبة والنميمة، وتحرَّزوا عن الحرام والشبهات في الشراب والطعام. وحافِظُوا على الصلوات المفروضات والمندوبات، وأداء الزكوات وكثرة الصدقات، والملازمة للجهاد والحج والصيام. وَلْيتعلَّمْ كلٌّ منكم من دينه ما يعرف به ما يجب عليه، فإنَّ ذلك أهمُّ الواجبات. وَلْيعلِّمْ أولادَه، فإنَّ العلم بذلك من الضروريَّات. وَلْيتجنَّبْ ويُجنِّبْهم مخالطةَ الطَّغام. قد علمتَ يا ابن آدم أنَّك ستموتُ فَتُقْبَرُ، وعلمتَ يا مؤمنُ أنَّك بعد الموت ستُحشَرُ، ثم تُحاسَب وتُجزَى إمَّا بالنعيم الأكبر، وإمَّا بالجحيم الأكبر؛ فما لي أراك مقبلًا على هذه الدار، كأنَّها دارُ مقام! أيها الإنسانُ، ارْعَوِ وأمسِكْ، واحذَرْ من ضَياع يومِك بعد أمسِكَ، وارحَمْ نفسَك فإنَّك لا تُهلِك غيرَ نفسِك، واستيقظْ من منامِك، فلات حينَ منام.

ولا تستهوِكَ الدنيا لِزُورها، وتَستَمِلْكَ بغُرورها؛ فإنَّك إذا فكَّرتَ في تقلُّبها علمتَ أنه لا فرقَ بينها وبين أضغاثِ الأحلام. الحديث: عن أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا كانت ليلةُ النصف من شعبان فقُوموا ليلها، وصوموا يومَها؛ فإنَّ الله تعالى ينزل فيها لغروب الشمس إلى السماء الدنيا، فيقول: ألا مِن مستغِفرٍ، فأغفرَ له؟ ألا مسترزقٌ فأرزقَه؟ ألا مبتلًى فأعافيَه؟ ألا كذا، ألا كذا، حتى يطلع الفجر" (¬1). [و] (¬2) عن عمرو بن ميمون الأوْدي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجلٍ وهو يعظُه: "اغتَنِمْ خمسًا قبلَ خمسٍ: شبابَك قبلَ هرَمك، وصحتَك قبلَ سَقَمِك، وغِناك قبلَ فقرِك، وفراغَك قبلَ شغلِك، وحياتك قبلَ موتِك" (¬3). وعن ابن مسعود عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: "لا تزول قَدَما ابنِ آدم يوم القيامة حتى يُسأل عن خمسٍ: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيما أنفقه، وماذا عمل فيما علِمَ" (¬4). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه في الخطبة (36). (¬2) أضاف المؤلف الحديث السابق في الحاشية مع الإشارة إلى موضعه بعد كلمة "الحديث"، ثم نسي أن يضيف واو العطف هنا. (¬3) تقدم تخريجه في الخطبة (7). (¬4) أخرجه الترمذي (2416) وقال: "هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث الحسين بن قيس، وحسين بن قيس يضعف في الحديث من قبل حفظه. وفي الباب عن أبي برزة وأبي سعيد". ثم أخرجه عن أبي برزة (2417) وقال: هذا حديث حسن صحيح.

هذا، وإنَّ أحسنَ الكلام وضعًا، وأتَمَّه للمعارف جمعًا = كلامُ مَن أحسنَ كلَّ شيء صنعًا، وإنَّ الله سبحانه وتعالى يقول: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 16]. وفَّقني الله وإياكم لسلوكِ سبيله، وهدانا إلى اتباعِ رسولِه، وبلَّغ كلاًّ منَّا مِن رضاه غايةَ مأمولِه. أقول هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم وللمؤمنين، فاستغفرِوه، إنه هو الغفور الرحيم. ***

45

(45) [ل 51] الحمدُ لله الملكِ العزيزِ القهَّار. بارئِ السماوات وكواكِبها، والأرض وبحارها وأشجارِها والأنهار. خالقِ البشر من طين، والجانِّ من مارجٍ من نار. مُولجِ النهار في الليل والليل في النهار. وما من دابَّةٍ في الأرض إلا وعلى الله رزقُها من دوابِّ الجوِّ والبَرِّ والبحار. أحمده سبحانه وتعالى على نِعَمِه الشاملة، وأشكره على ألطافه الكاملة، وأسأله الرحمةَ والمغفرةَ، فإنه هو الرحيم الغفار. وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ سيِّدنا محمدًا عبدُه ونبيُّه، بالهدى ودين الحق أرسلَه. اللهم فصلِّ وسلِّم على رسولك، سيِّدنا محمَّد وآله الأطهار وأصحابه الأبرار. أما بعد، فأوصيكم - عبادَ الله - ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله حقَّ تقاته، واجتهدوا في طلب مرضاته، وحَذارِ من معصيته حَذارِ! كيف تعصُونه، وهو من العدَمِ برَأَكم وصوَّركم، وشقَّ لكم الأفواه والأسماعَ والأبصار؟ وجعل لكم قلوبًا تعقِلكم عن المحرَّمات، وعقولًا، تحدوكم إلى الطاعات، وعرَّفكم سبيلَ الأخيار من سبيل الأشرار. ولم يزل يتودَّد إليكم بالنِّعَم، ويخوِّفكم بقوارع النِّقَم، وأنتم راكضون في المعاصي ركضَ الجوادِ في المضمار! تُمَنِّيكم الدنيا زُورًا، ويعدكم الشيطانُ غرورًا، كأنكم واثقون بامتداد الأعمار! هذا هاذمُ اللذَّات بين أظهركم يغدو ويروح، وله كلَّ حينٍ زَورةٌ

تُفرِّق بين جسد وروح، وما يُدريك - ابنَ آدم - أيَّ ساعةٍ يُنْشِب فيك الأظفار. فالتوبة التوبةَ قبل هجومِه، والإنابةَ الإنابةَ قبل قدومِه، فإذا نزل انسدَّتْ أبوابُ الأعذار. وفَّقَني الله وإياكم للمتاب، وكتَبَ لنا الفوزَ بالثواب، والنجاةَ من العذاب، وجعَلَنا من الذين يدخلون الجنة بغير حساب. الحديث: روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أولُ إصلاحِ هذه الأمة: اليقين والزهد، وأولُ فسادها: البخل والأمل" (¬1). وعنه - صلى الله عليه وسلم - أنه تلا {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} [الأنعام: 125] فقال: "إنَّ النور إذا دخل الصدرَ انفسَحَ". فقيل: يا رسول الله، هل لتلك مِن عَلَم يُعرَف به؟ قال: "نعم، التجافي عن دار الغرور، والإنابةُ إلى دار الخلود، والاستعدادُ للموت قبل نزوله" (¬2). هذا، وإنَّ الله سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (10350) من رواية ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. (¬2) أخرجه الحاكم في "المستدرك" (7863) والبيهقي في "شعب الإيمان" (10068) من حديث ابن مسعود وفي سندهما: عدي بن الفضل. قال الذهبي: "إنه ساقط".

وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون: 9 - 11] (¬1). ... ¬

_ (¬1) في أعلى الصفحة أضاف بالقلم الأزرق آية أخرى ولكن لم يشر إلى مكانها، وهي: {بسم الله الرحمن الرحيم حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} [الدخان].

46

(46) [ل 52/ أ] الحمدُ لله مدبِّرِ الأمور، مدير الدهور بالأيام والشهور، العالم بِما تُخفي الصدور، أحمده حمدًا يُوافي نِعَمه ويكافئ مزيدَه الموفور. وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ونبيُّه الذي بالهدى ودين الحق أرسَلَه. اللهمَّ فصلَّ وسلِّم على سيِّدنا محمدٍ وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم النُّشور. أما بعد، فأوصيكم - عبادَ الله - ونفسي الخاطئةَ بتقوى الله، فاتقوا الله - عبادَ الله - كما حثَّكم [على] (¬1) طاعتِه، وواظِبوا على عبادته، فإنما خلقكم لعبادته، وباعِدُوا أنفسَكم عن كلِّ محظور. عبادَ الله، إنَّ ذنوبَنا كثيرة، وخيراتِنا حقيرة، وأعمارَنا قصيرة، وأمامَنا مخاوفُ خطيرة، لا ينجو منها إلاَّ كلُّ عبدٍ شكور. إلى كم نسوِّفُ بالتوبة، والأملُ يَعُوقنا؛ ونواعِدُ أنفسَنا بإصلاح العمل، والأجلُ يسوقنا؛ ولا توبة بعد حلول القبور؟ كأنِّي بك يا ابنَ آدم قد اختطفكَ ما اختطَفَ مَن قبلك، فأبعد عنك مالك [و] (¬2) أهلك، فصِرتَ قرينَ عملِك بين التراب والصخور. فانظُرْ لنفسك قبلَ أن يُطوى كتابُك، وبادِرْ بالمتاب قبلَ أن لا ينفعَك متابُك، وأخلِصْ في أعمالك، فإنَّ خالصَ العمل مبرور. ¬

_ (¬1) ساقط سهوًا. (¬2) في الأصل كلمة تشبه "حيث"، وكأنه جزء مما كتبه وضرب عليه.

واعلم أنَّك لا تقدِرُ على أن تتَّقي الله حقَّ تقاته، ولا أن تُخلِصَ جميعَ أعمالك لمرضاته، ولكن اجهد نفسَك، فإنَّ الميسورَ لا يسقُط بالمعسور. وانظُرْ لنفسك ما يُنْجيها يومَ النُّشور، يومَ يُنفخ في الصُّور، يومَ تُبعثَر القبور، يومَ يُجازَى كلُّ كفور، ويُنعَّم أهلُ الأجور، ويتجلَّى الرحيمُ الغفور بالانتقام لأهل البغي والفجور، فيحقُّ لأهل الطاعة السُّرور، ويحقُّ الويلُ والثُّبورُ على أهل الجهل والغرور. فيا أيها العاصي أبشِرْ بالعذاب، إنْ لم يتداركْك الله برحمته؛ ويا أيها الطائعُ أبشِرْ بفضل الله وجنَّته، ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور. الحديث: قال عليه أفضل الصلاة والسلام لأصحابه: "أتدرون ما المفلسُ؟ " قال: المفلسُ فينا مَن لا درهم له ولا متاع. فقال: "إنَّ المفلسَ من أمَّتي مَن يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شَتمَ هذا، وقذَفَ هذا، وأكَلَ مالَ هذا، وسفَكَ دَمَ هذا، وضرَبَ هذا. فيُعطَى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإنْ فنِيتْ حسناتُه قبلَ أن يُقْضَى ما عليه أُخِذَ من خطاياهم، فطُرِحَتْ عليه، ثم طُرِحَ في النار" (¬1). ألا، وإنَّ أحقَّ الكلامِ بالاستماع، وأجدرَه بالاتباع = كلامُ الله. وهو سبحانه وتعالى يقول: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه في الخطبة السابعة والثلاثين.

الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 13 - 19]. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفِرُوه، إنَّه هو الغفور الرحيم. ***

47

(47) [ل 53/ أ] (¬1) الحمدُ لله العزيزِ القديرِ المتعال، المتقدِّس عن الأشباه والأشكال، المتنزِّه عن الأنداد والأمثال، المتجلِّي بمظاهر الجلال والجمال والكمال. أحمده سبحانه وتعالى وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره. وأسأله أن ينشُلَنا من أوحال الأوجال، وينزِع عنَّا أغلالَ الجُهَّال، ويُجَنِّبَنا مواردَ الوباء والوبال. وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ونبيُّه، بالهدى ودين الحق أرسَلَه. اللهمَّ فصلِّ وسَلِّم على رسولِك سيِّدنا محمدٍ، وعلى آله خيرِ آلٍ، وعلى أصحابه الذين بذلوا في نصره من أنفسهم والأموال، كلَّ رخيصٍ وغالٍ. أما بعد، فأوصيكم - عبادَ الله - ونفسي بتقوى الله ومراقبته في جميع الأحوال، وأحذِّركم ونفسي من معصيته فإنَّها سببُ الطرد والنكال. فاتقوا الله الذي بَرَأكم وخَلَقكم، وسخَّر لكم ورَزَقكم، ثم أراكم مجاليَ رضاه لِتبتدرُوها، وبيَّنَ لكم مهاويَ سخطه لِتحذَرُوها. فبيَّن لكم المحجَّةَ بيضاءَ نقيَّة، وأقام عليكم الحجَّةَ بالغةً قويَّةً. وها أنتم في هذه الدنيا ممكَّنون من طاعته. وكأنِّي بكم وقد توفَّاكم، فقَدِمْتم على ما قَدَّمْتم، فهنالك تَزِلُّ القدمُ حيث لا ينفع الندَم. فرَحِمَ الله امرأً فكَّر في العواقب فآثرَها، ونظر إلى الدنيا نظرَ باحثٍ عن مآلها فغادَرَها، واغتنَمَ سويعاتِه من الدنيا، فجعلها سعيًا في سبيل الأخرى. ¬

_ (¬1) في (ل 53/ ب) وريقة بعنوان "مبحث ذو بمعنى صاحب".

فإنَّ أشقَى الناس مَن استعمل نِعَمَ الله في عصيانه، وأنفقَ عمرَه في هواه لِهَوانه، وصرَفَ أوقاتَ كَسْبِه في اكتسابِ العذاب، وأعرَضَ عن أسباب الثواب. ألا، وهذه أشهرُ الحجِّ المباركة، وأوانُ الرَّحيلِ إليه، وإنَّ الحجَّ ركنٌ من أركان الإِسلام أوجبه الله تعالى على كلِّ مستطيع. والاستطاعةُ اليوم تحصل بنحو العشرين ريالًا، ما عدا نفقة الأهل. نَولُ السفينة قريبُ ثلاثة ريال (¬1)، وزاده فيها قريبُ ريالين، فهي خمسة ريال ذَهابًا ومثلها إيابًا، وعشرة ريال يصرفها في الحج. ومن كان عاجزًا فعليه الاستنابة. ومن مات ولم يحُجَّ وجبت الاستنابةُ من تركته. فإنْ لم يترك مالًا فيُستحبُّ لوليِّه الحجُّ، أو الإحجاجُ عنه. فمن وجد ذلك (¬2) ثم ثبَّطه الشيطانُ، فهو على شَفا جُرُفٍ هار، فانتبِهُوا يا عبادَ الله، وفَّقَنا الله وإياكم. الحديث: عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مَن أراد الحجَّ فليعجل" (¬3)، وسئل - صلى الله عليه وسلم -: ما يُوجب الحجَّ؟ قال: "الزاد والراحلة" (¬4). والله سبحانه وتعالى ¬

_ (¬1) كذا ورد هنا وفيما بعد على لغة العامة. (¬2) يعني الزاد. (¬3) أخرجه أبو داود (1732) وابن ماجه (2883) من حديث ابن عباس. (¬4) أخرجه الترمذي (813) وابن ماجه (2896) من حديث ابن عمر. قال الترمذي: هذا حديث حسن. وقد ضعَّفه الشافعي في "الأم" (بولاق 2/ 99) فيما حكاه عن أهل العلم بالحديث.

يقول: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 197]. هذا، وأستغفر الله العظيم. ***

48

(48) بسم الله الرحمن الرحيم [ل 54/ أ] (¬1) الحمدُ لله الذي لا معبودَ بحقِّ في الوجود إلَّاه، ولا قادرَ على جميعٍ ما [سواه]، الجبَّارِ الذي خضع لجبروته [الجبابرة العُتاة]، العظيمِ الذي سجدت لتعظيمه الرؤوسُ والجِباهُ، الخالِق الذي أنشأ جميعَ العالمَ من العدم وأبداه، الرازقِ الذي رزقَ جميعَ [خلقِه] من المطيعين والعُصاة، وهو الله الذي هو في السماء إله، وفي الأرض إله. أحمده سبحانه وتعالى حمدًا أبتغي به مغفرتَه ورُحْماه، و [أستجزلُ] به مواهبَه وعَطاه، وأستمطِرُ به وابلَ رأفتِه ورضاه، وأستدفعُ به أليمَ عذابِه وبلواه، وأغسِلُ به قلبي حتى يُزيل سوادَه [وصداه]، وأثبِّتُ به عقلي وقلبي على ما يريده الله ويرضاه. وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً يدَّخرها العبد [لِيوم أخراه]، ويحقِّق بها يقينَه بأنه لا إله إلا الله، فاعلم أنه لا إله إلا الله. وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، بلَّغ رسالاتِه، وزَجَر عن [معصيته] وأمَرَ بتقواه. صلَّى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه الذين والَوا من والاه، وعادَوا من عاداه. ¬

_ (¬1) تمزقت هذه الورقة من أطرافها ثم انشطرت إلى نصفين. النصف الأول في هذه اللوحة، والنصف الثاني في اللوحة التالية. وهذه الخطبة هي الخطبة (22) في (ل 25 - 26) باستثناء الخاتمة وفروق أخرى. فيحتمل أن تكون هذه مبيضة، ولكن رجحت أن الخطيب أعادها في بداية العام الجديد وغيَّر خاتمتها. وقد استدركت المواضع المتمزقة من الخطبة (22).

أما بعد - أيها الناس - فإنِّي آمركم ونفسي بتقوى الله، فقد أفلح من اتَّقاه. وأزجرُكم ونفسي عن عصيانه، فما [أخاب (¬1) من عصاه] وما أشقاه! واعلموا - وفَّقني الله وإياكم - أنَّ الله تعالى عالمٌ بما أظهره العبدُ وما أخفاه، وما أكنَّه وما واراه؛ وأنه هو [العالم الذي] هو بكل شيء عليم خبير، القادرُ الذي هو على كل شيء قدير، الكافي الذي كفاكم جميع الأسوا، الواقي الذي يقيكم [كلَّ ضرر] وبلوى. ومع علمكم بذلك، فأنتم عن طاعته حائدون، وعلى عصيانه مواظبون، وعلى معاداةِ أحبابِه وحُبِّ أعدائه [ملازمون]، فهل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟ تأمرون بالمعاصي وتزجرون عن الطاعة، وتتَّبعون البدعة وتخالفون [الجماعة]. أما أنذَرَكم الله تعالى عذابَه؟ أما حذَّركم عقابَه؟ أما أسمَعَكم الصوت؟ أما كتَبَ عليكم الموت؟ أما خوَّفكم بنار الجحيم؟ أما أفزَعَكم [خوفُ العذاب الأليم]؟ [فما لكم عن] المواعظ نائمين، وفي مهامِه الغفلة [هائمين]؟ فافزعوا إلى الله تعالى بصدق النيَّة، واتركوا [الحميَّة حميةَ الجاهليَّة]، أتغضبون لأنفسكم، ولا تغضبون لخالق السماء والأرض؟ [ل 55/ ب] وتخافون من مصائب الدنيا، ولا تخافون من [أهوال الأخرى]؟ [فما لجدودكم] عن الطاعة ناقصة، ولحظوظكم عن (¬2) الإنابة إلى الله تعالى ناكصة؟ وما لأفكاركم فيما لا علم لكم به خائضة، وفيما لا [يعنيكم رائضة؟ وما] لعقولكم لا تعقِلكم عن المآثم؟ وما لعيونكم لا تكِلُّ من النظر ¬

_ (¬1) كذا سبق في الخطبة (22). (¬2) في الخطبة (22): "من".

إلى المحارم؟ فأنيبوا إلى الله تعالى إنابةَ المتقين، [وأخبِتُوا إليه] إخباتَ الصادقين، والْوُوا أعناقكم إلى سماعِ النصائح، واقبِضُوا أعِنَّتكم عن الجري في مهامه القبائح. [فلا يستخفنَّكم] الشيطانُ بدهائه (¬1) ومكره، ولا تطاوعوا أنفسكم بالغفلة عن طاعةِ الله وذكرِه. فازجروا أنفسكم، فإنها [بالزجر جديرة]. ودَعُوا المعاصي، فإن مواردَها خطيرة. واعلموا أن شهركم هذا محرَّمٌ، شهرٌ حرامٌ، يفتتح الله تعالى به شهورَ جميع الأعوام. [فأخبِتُوا فيه] إلى ربِّكم، واستغفِرُوه لذنوبكم، فإنه غفور رحيم. كان أبو هريرة رضي الله عنه يقول: كان رسول الله صلَّى الله وسلم عليه [يقول]: "يقول الله عزَّ وجلَّ: يا بني آدم، كلُّكم مذنبٌ إلا مَن عافيتُ، فاستغفِروني أغفِرْ لكم. يا ابنَ آدم، لو بلغَتْ ذنوبُك عنانَ السماء [ثمَّ] استغفرتَني غفرتُ لك. يا ابنَ آدم، لو أنَّك أتيتني بقُراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا، لأتيتُك بقُرابها مغفرةً" (¬2). [جعلني الله] (¬3) وإياكم ممن عصمَه الله عن جميع الذنوب والخطايا، وأمَّنَه مخاوفَ الهلَكات والرَّزايا، ووفَّقه لما يحبُّه ويرضاه [فأتَمَر] (¬4) بما ¬

_ (¬1) رسمها في الأصل: "بدهاهُ". (¬2) تقدم تخريجه في الخطبة (22). (¬3) قراءة تقديرية. (¬4) قراءة تقديرية

أمَرَه به، وانتهى عمَّا نهاه. إنَّ أحسنَ الكلام وأبينَ النظام كلامُ الله الملك العلَّام. وقال عزَّ من قائل عليم: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98]. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]. باركَ الله لي ولكم في القرآن العظيم. ***

49

(49) [ل 55/ أ] (¬1) الحمدُ لله الذي أحدثَ العالم من الغيب إلى الوجود، باعثِ الخلق بعد موتهم ودفنهم في اللحود، العظيمِ الجليل الكبير الحيِّ القيُّوم، العزيزِ الذي افترضَ على خلقه ما أمرهم به، العالمِ بما يبدي [] وما يخفى من أُجاجه وعَذْبه، المطَّلِعِ على المُظْهَرِ والمكتوم. العدلِ الذي لا يظلم أحدًا، الدائمِ الباقي الذي لا يفنى، ربُّنا سبحانه وتعالى عن أن يشابهه أو يشاركه أحدٌ من خلقه على الخصوص والعموم. المنزَّهُ عما تتوهمه الأفكار، المتعالي علوًّا كبيرًا عن أن يكيِّفه حسٌّ أو عقلٌ بلا إنكار، خالقُ ما سواه من أرض وسماء، وإنس وجن، وحيوان وجماد وشمس وقمر ونجوم. وأشهد ألَّا إله إلا الله المتكبِّر المتجبِّر، الكريمُ الرازقُ، البارئُ المصوِّرُ، المبدي المعيد، الخالق الباعث، المقتصُّ من الظالم للمظلوم. وأشهد أنَّ سيِّدنا محمدًا عبدُه ورسولُه، أرسلَه بالهدى ودين [الحق] (¬2) ليظهره على الناس، وبعثَه بالإحذار والإنذار، والتخويف والإيناس، فيا له من نبيٍّ عن عصيان ربِّه معصومٍ! بلَّغ رسالاتِ ربِّه كما أمره بذلك، وأوضح لأمَّتِه وَعْرَ المفاوز والمسالك، فبان لهم ما كان غيرَ معلوم. صلَّى الله وسلَّم عليه وعلى آله الملازمين لكتاب الله تعالى كما قال، ¬

_ (¬1) هذه الورقة أيضًا ممزَّقة من وسطها وأطرافها، والنصف الأعلى منها في هذه اللوحة، والنصف الأسفل في اللوحة السابقة (54/ ب) ثم حصل فيها اللصق والثني أيضًا. وقراءة ما بين المعقوفات قد تكون تخمينية. (¬2) ساقط سهوًا.

المتمسِّكين بأحكامه بلا ريب ولا جدال، الذين أذهب الله تعالى عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيرًا، وأوجب على الناس حبَّهم وكرَّر ذلك لهم تكريرا؛ فصارت موادَدَتُهم (¬1) كالفرض المحتوم. وعلى أصحابه الذين اتبعوا كتابَ الله وسنَّتَه، وسلكوا منهاجَه الواضح، وانتهَوا عما نهاهم عنه من جميع الفواضح، وتناهوا (¬2) وتناءَوا عن كلِّ منكر مذموم. فصلِّ وسلِّم اللهمَّ عليه وعليهم صلاةً وسلامًا دائمَين بدوامك، باقيَين ببقائك من يومنا هذا إلى يوم الوقت المعلوم. أما بعدُ - أيها الناس - فإنِّي أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى حقَّ تقاته، وأزجُرُكم عن عصيانِه، ومعاداةِ أحبابه، وموادَدَةِ عصاته، ولا تُطمعُوا أنفسَكم من الدنيا في موجود أو معدوم. وعليكم بخشية الله تعالى وطلبِ رضاه، واتباعِ هديه والرضا بقضاه؛ وإياكم وعصيانَه وعدمَ الرضا بالمقسوم. ابنَ آدم، ما لي أراك تُنصَح فلا تعبأُ بالنصيحة، ولا تربأُ بنفسك عن قبيحة أو فضيحة، ولا تتنحَّى عن إطاعة اللَّعين المرجوم؟ تفعَلُ السيئة، فتحيلُها على ربِّك، [وعن] نفسك تنفيها، وتُنزِّه نفسَك عنها تنزيهًا، وتُعاتِبُ المولى تعالى على خلقِ وإنظارِ اللَّعين المحروم! فهل أجبرَكَ ربُّكَ على فعلِ معاصيه، وأكرهَك على إتيانها، أم هو المباشرُ لها ¬

_ (¬1) كذا بفكِّ الإدغام هنا وفيما بعد. (¬2) بقي منه "هو" دون الألف بعدها.

بأعيانها؟ [] ما تظنه من ذلك البناء المهدوم. فيا ترى ربَّك تعالى إذا أحذَرَ وأنذر، وخوَّفَ وبشَّر، ووعَدَ وأوعَدَ، وقرَّبَ وأبعَدَ، وأنزلَ الكتابَ، وأرسَلَ الرُّسلَ ليُفهِمونا الخطابَ، [لماذا يُعذِّب] (¬1) ويُنعِم؟ لماذا يُهين ويُكرم؟ لماذا اتَّصَفَ بالعدل والغفران، والرحمة والعفو والرضوان؟ لماذا وَعَد بالثواب وأوعَدَ بالعقاب؟ لماذا أمَرَ وزَجَر؟ لماذا نهَى ونَهَر؟ فأين أنتم من قوله تعالى في كتابه المصون: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل: 118]. فإياكم وأن تقولوا ذلك، أو يقدَم بكم الشيطانُ على ما هنالك. وليتأدَّبْ كلٌّ منكم، ويعلَمْ أنَّه مستحقٌّ للعقاب على معاصيه. وليرجُ عفو الله تعالى ورحمته، وليجتنبْ مناهيه. وإياكم والتهاون بالصلاة، فإنها أحد أركان الإِسلام، بل (¬2) هي الإِسلام. قال تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103]. وقال صلَّى الله وسلم عليه وآله: "عرى الإِسلام وقواعد الدين ثلاث، عليهن أُسِّسَ الإِسلام، مَن ترك واحدة منهن، [فهو بها] كافر حلال الدم: شهادة ألَّا إله إلا الله]، والصلاة المكتوبة، وصوم رمضان" (¬3). ¬

_ (¬1) ظهرت الذال والباء. (¬2) تكررت "بل". (¬3) أخرجه أبو يعلى في "مسنده" (2349) عن ابن عباس قال الهيثمي في "المجمع" (140): وإسناده حسن.

وكان صلَّى الله وسلَّم عليه يقول: "بين الرجل وبين الكفر تركُ الصلاة، فمن تركها فقد كفَر" (¬1). وكان صلَّى الله وسلَّم عليه يقول: "خير أعمالكم الصلاة، ولن يحافظَ على الوضوء إلا مؤمن" (¬2). فإيَّاكم والتساهل بها، ولا سيَّما [صلاة الجمعة] التي (¬3) قال تعالى فيها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (¬4) [الجمعة: 9]. وكان عليه الصلاة والسلام يقول: "من ترك ثلاثَ جُمَعٍ تهاونًا طبَعَ الله على قلبه" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرج الجزء الأول مسلم (82) عن جابر بن عبد الله. والجزء الثاني أخرجه الإِمام أحمد (22937) والترمذي (2621) والنسائي (463) وابن ماجه (1079) من حديث بريدة، ولفظه: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر". (¬2) أخرجه ابن ماجه (277) من حديث ثوبان. قال البوصيري في "المصباح" (112): "رجاله ثقات أثبات إلا أنه منقطع بين سالم وثوبان فإنه لم يسمع منه بلا خلاف"، لكن له طريق أخرى متصلة أخرجها أبو داود الطيالسي في "مسنده" [1089] وأبو يعلى والدارمي في "مسنده" [656] وابن حبان في صحيحه [1037] من طريق حسان بن عطية أن أبا كبشة حدثه أنه سمع ثوبان. (¬3) في الأصل: "الذي" سهو. (¬4) في الأصل: "إذا دعي ... البيع والتجارة"، وهو سهو. (¬5) أخرجه أبو داود (1052) والترمذي (500) والنسائي (1369) وابن ماجه (1054) عن أبي الجعد الضمري. وقال الترمذي: "حديث أبي الجعد حديث حسن".

وكان يقول: "الجمعةُ على من آواه الليلُ إلى أهله" (¬1). فهي واجبة على [... مَن] يصل إليه قريبَ الليل. وكان يقول: "يومُ الجمعة سيِّد الأيام وأعظمها عند الله عزَّ وجلَّ، وأعظمُ عنده من يوم الفطر ويوم الأضحى" (¬2). وإيَّاكم والغيبةَ [وإيذاء المسلمين] والتفتيشَ عن عوراتهم. كان - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يرى مؤمنٌ من أخيه عورةً، فيستُرها عليه إلا أدخَلَه الله بها الجنة" (¬3). وكان يقول: " [البلاء موكَّل بالمنطق] (¬4) فلو أنَّ رجلاً عيَّر رجلًا برِضاعِ كلبةٍ لَرَضَعَها" (¬5). وكان يقول: "مَن كشَفَ عورة أخيه المسلم كشَفَ الله عورتَه حتى ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (501) عن أبي هريرة وقال: إسناده ضعيف. (¬2) أخرجه أحمد (15548) وابن ماجه (1084) من حديث أبي لبابة بن عبد المنذر. وانظر "السلسلة الضعيفة" (3726). (¬3) أخرجه عبد بن حميد (885) والطبراني في "الأوسط" (1480) و"الصغير" (1118) عن أبي سعيد الخدري. قال الهيثمي في "المجمع" (10476): وإسنادهما ضعيف. (¬4) ظهرت الألف واللام من "البلاء" فقط. (¬5) أخرجه الخطيب في "تاريخه" (13/ 279) في ترجمة نصر بن باب من حديث ابن مسعود. وذكروه في الموضوعات من أجل نصر بن باب هذا. انظر: "الفوائد المجموعة" للشوكاني بتحقيق المعلمي (682).

يفضحَه بها في بيته" (¬1). وكا [ن يقول]: "لا تؤذوا المسلمين، ولا تتَّبِعُوا عوراتهم، ولاتعيِّروهم؛ فإنَّ من تتبَّع عورةَ أخيه المسلم تتبَّعَ اللهُ عورتَه، ومن تتبَّعَ اللهُ عورتَه [يفضَحْه ولو في جوفِ رَحْله] " (¬2). وكان يقول: "اذكروا محاسنَ موتاكم، وكُفُّوا عن مساويهم. وإنَّهم قد أفضَوا إلى ما قَدَّموا" (¬3). وأحرِّضكم - أيها الناس - على أداء الزكو [ات. قال تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ] الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 180]. وكان صلَّى الله وسلَّم [عليه يقول]: "إن الله تعالى فرضَ على أغنياء المسلمين في أموالهم بقدر الذي يسَعُ فقراءَهم، ولن يُجهَد الفقراءُ إذا جاعوا وعَرُوا إلا بما يصنع أغنياؤهم. ألا، و [إنَّ الله يُحاسِبُهم] حسابًا شديدًا، ويعَذِّبُهم عذابًا أليمًا" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه (2546) من حديث ابن عباس. وحسَّن المنذري إسناده في "الترغيب والترهيب" (3388). (¬2) أخرجه الترمذي (2032) من حديث ابن عمر. وقال: حديث حسن غريب. (¬3) قوله: "وإنهم قد أفضوا إلى ما قدَّموا" من حديث عائشة أخرجه البخاري (1393). وما قبله حديث ابن عمر أخرجه أبو داود (4900) والترمذي (1019) وقال: حديث غريب. سمعت محمدًا يقول: عمران بن أنس المكي منكر الحديث. (¬4) أخرجه الطبراني في "الأوسط" (3579) و"الصغير" (453) عن علي بن أبي طالب =

وكان - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما منَعَ قومٌ الزكاة إلا حُبِسَ عنهم القَطْرُ من السماء. ولولا البهائمُ لم يُمطَروا" (¬1). وكان - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما من عبدٍ يصلي الصلوات الخمس، ويصوم رمضان، ويُخرج الزكاة، ويجتنب الكبائر؛ إلا فُتِحتْ له أبوابُ الجنة. وقيل له: ادخل [بسلام] " (¬2). إن أحسنَ ما وَعَظَ به الواعظون، وأحكمَ ما اهتدى به المهتدون = كلامُ الله تعالى الذي قال فيه: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 77 - 79]. والله تعالى يقول، وبقوله يهتدي المؤمنون، أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (¬3) قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ ¬

_ = رضي الله عنه. وقال: تفرد بن ثابت بن محمد الزاهد. قال الهيثمي في "المجمع" (4324): قلت: ثابت من رجال الصحيح، وبقية رجاله وثقوا وفيهم كلام. (¬1) أخرجه ابن ماجه (4019) عن ابن عمر بإسناد ضعيف. وله إسناد آخر حسن عند الحاكم (4/ 540) والبيهقي في "الشعب" (3042). قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد. (¬2) تقدَّم تخريجه في الخطبة الثانية. (¬3) اكتفى بكتابة حرف الباء ممدودًا.

هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 1 - 11]. بارك الله تعالى في [القرآن العظيم]، وهدانا بحَوله وطَوله إلى الصراط المستقيم، ونسأله فقهًا في الدين، وقوةً في اليقين؛ وأن يُعطينا كُتُبنا باليمين، ويجعلنا من أصحاب [اليمين]. [أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم] فاستغفِرُوه جميعًا، إنَّه هو الغفور الرحيم. ***

50

(50) الخطبة الثالثة لجمادى [الثانية] [ل 58] (¬1) الحمد لله الملك العليَّ الذي بالتواضع له يُرفَع الوضيعُ، القويِّ الذي []، الغنيِّ الذي لم يكلِّف أحدًا من خلقه فوق ما يستطيع، العظيمِ الذي لا يفوز مَن يعصيه، ولا يخيب [من يطيع]، الكريمِ الذي لا يُخيِّبُ رجاءَ قاصدِ {إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ} [التوبة: 120]. وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده، ملكٌ كلُّ [شيء] تحت قدرته. واحدٌ في الذَّات والصِّفات، متفرِّدٌ بعِزَّته. لا تتحَّرك ذرَّةٌ في الكون إلا بعادلِ حُكمه [وبالغِ حكمتِه]. كلُّ مخلوقٍ مطوَّقٌ بأطواق نِعَمِه، مغلولٌ بغُلِّ حُجَّتِه. {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ} [الإنسان: 30 - 31]. وأشهد أنَّ سيِّدنا محمدًا (¬2) عبدُه ورسولُه، هدًى للمتقين، وحجةً على من أشرَك. بشيرًا ونذيزًا أبلغَ ما أُرسِل به، فما عليه يُستدرَك. بشرٌ خَتَم الأنبياءَ بعثُه، وهو بدؤهم خلقًا (¬3)، فما أبرَك! ذي (¬4) العزِّ الأسمَى (¬5)، والفخر ¬

_ (¬1) الورقة ممزقة من طرفها الأيسر إلى قريب من نصفها، وبعضها مثني، والقراءات بين المعقوفات تقديرية. (¬2) في الأصل: "محمد". (¬3) انظر ما سبق في الخطبة (36). (¬4) كذا مجرورًا. (¬5) رسمها في الأصل: "الأسما".

الأنمَى والكنه الذي لا يُدرَك، المخصوص بـ {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} (¬1) [الشرح: 1 - 4] اللهم فصلِّ وسلِّم على هذا النبي سيِّدِنا محمدٍ الهادي لمن اتَّبعه، الشاهدِ على من أُصِمَّ عن إرشاده، ولمن استمعَه. وعلى آله الأخيار الناهجِين منهاجَه الذي شرَعَه، وصحابته الأبرار الواصلين ما وصَلَه والقاطعين ما قطَعَه، المنزَّل فيه وفيهم إسخاطًا للمعاندين: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح:29]. أما بعد، فيا عبادَ الله، أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الملكِ الجبَّار، والتواضع والخشية للمتكبر القهَّار، والتزامِ طاعةِ مَن إليه المصير، فإمَّا إلى الجنة وإمَّا إلى النار؛ والتمسُّكِ بعُرى الشريعة لتدخلوا في جملة الأبرار، والتجنُّب لمهاوي المزالق الشيطانيَّة قبلَ أن يُطبَع على القلوب أنَّكم في الأشرار، والإقلاعِ عن الذنوب، والإقرارِ بالعيوب، فإنَّ أعظمَها لزومُ الإصرار؛ وبالرجوع عن المهالك والتطهُّر في بحار الاستغفار، وبعدمِ القُنوطِ - وإن عظُمت الذنوبُ - عن رحمة الملك الغفَّار، والاستحياءِ من الله، فإنه كما يعلم الجهر فهو أعلم بالإسرار {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} [الرعد: 10]. عبادَ الله، عليكم بطاعته، فإنَّها أمُّ الخيرات؛ والخشيةِ من الله فإن الخشيةَ ¬

_ (¬1) بعد "وزرك" كتب في الأصل: "إلى ذكرك" يعني استكمال الآيات.

أساسُ الطاعات، والتعوُّدِ على الصدق فإنَّه من الواجبات، والتجنُّبِ من الغيبة والنميمة فإنهما من أقبح المحرَّمات، والمبادرة بالتوبة قبل حلول الوفاة (¬1)، والتطهُّرِ من قُذُورات (¬2) القبائح قبل حصول الفوات، واللِّين للمخلوقين فإنَّ الخلق الحسن من أعظم الأعمال الصالحات، والتزوُّدِ من التقوى فإنها أذخَرُ الأقوات، والعمل في كلِّ وقت فإنَّ القلمَ لا يُرفَع في جميع الأوقات. وعليكم بالصلاة فإنها بعد الإيمان أفضلُ العبادات، [ل 59] وإياكم والتكاسُلَ عنها فإنه سالِبُ جميع البركات. وأكثِروا من الحسنات فـ {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]. أيها الإنسان، إنما أنت في دارٍ قريبةِ الانصرام، هي السبيلُ إلى دار الخلود والمقام. دارٌ محسنُها مسيءٌ، ومُسيئُها محسنٌ، وصاحبُها دائمًا في اهتمام. لا يدوم نعيمُها، ولا يلبث مقيمُها، لأنَّها دارُ المشاحَّة والخِصام. السعيدُ من كان عنها طولَ عمره لازمًا للاعتصام، والشقيُّ المحرومُ من كان لِبَنيها من أجلها ذا تعظيم واحترام. فما أوهَى عُراها وأوهَنَها وأقربَها من الانفصام! وما أضعَفَ أعوادَها وأسرَعَ زوالها بالانقصام! لا يرغَد فيها عيش، ولا تلبث فيها راحةُ منامٍ أو لذَّةُ شرابٍ وطعام. فيا شقاوةَ من اعتنقَ الحرامَ، فَعُوجِلَ بالحِمام! ويا بؤسَى لمن حاربَ ربَّه بالأثام، ونسى قولَه: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [إبراهيم: 47]. ¬

_ (¬1) هنا رسمها بالتاء المربوطة مع أن قرائنها بالمفتوحة، خلافًا لما سبق في الخطبتين (3، 10). (¬2) جمع قُذورة، ولعله من كلام العامة. انظر "تكملة دوزي" (8/ 4).

فبادِرْ أيها الضعيفُ بالأعمال الموجِبة للثواب، وتمسَّكْ من طاعةِ ربِّكَ بأوثقِ الأسباب، قبلَ أن يخطفَك رائدُ المنون من بين أهلِك والأحباب، وينشُلَك من بين أبنائك والأصحاب، فتنزلَ في حفرةٍ ليس لها من باب ولا حجاب، وتلقَى عملَك فتعامَلَ به إمَّا إلى الثَّواب وإمَّا إلى العقاب. وبعد أن تُسألَ عن النعيم وعن الطعام والشَّراب، وتحاسبَ على جميع حركاتك وسَكنَاتِك، فأوَّاه، ما أشدَّ هولَ الحسابَ! فتلقَى من معاتبةِ ربِّكَ ما يسهُل معه هولُ العذاب. كيف لا؟ وأنت بين يدي عالم السِّرِّ وأخفى، شديدِ البطش، ربِّ الأرباب، القائل: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} [فاطر: 11]. بينا أنت هكذا منكبًّا على المعاصي، إذ بغَتَك الأجلُ حاسرًا عن الذِّراع، فبادَرَ نفسَك بالاقتلاع، فأسلَمَك أهلُك إلى حفرةٍ دون الباع، فأُودِعْتَ فيها خيرَ إيداع أو شرَّ إيداع. فحتَّامَ لا ينحسر عن بصيرتك القِناعُ؟ وإلامَ لا تبرَحُ في الانحطاط؟ وفي أيِّ وقت يكون الارتفاع؟ وأيُّ فضل للدِّراية والمعرفة إذا لم يكن به الانتفاع؟ وإلى أيِّ مُدَّةٍ يمتدُّ [] غرورك وليس لها انقطاع؟ لا تشبَع من الدنيا ولا تقنَع، ولا تزول عنك الأطماع. ونسيت قولَ [ربِّك]: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ} [الرعد: 26].

الحديث: كان عليه أفضل الصلاة والسلام يقول: "ما رأيت كالنار [نام (¬1) هاربُها، ولا كالجنة نام طالبُها" (¬2). ألا، وإنَّ الآخرة اليومَ محفوفةٌ بالمكاره، وإنَّ الدنيا [محفوفةٌ بالشهوات ...] وقد ذكَّرنا بتقوى الملك (¬3) العظيم، ورغَّبَنا فيما لديه من النعيم، وحذَّرنا ما أعدَّه للعُصاة من العذاب الأليم، وعلَّمَنا ما نَرْحَضُ به الذنوبَ، وهو الاستغفار لهذا (¬4) الربّ الحليم. أقول قولي هذا وأستغفر. ... ¬

_ (¬1) ظهر منها "نا" فقط. (¬2) أخرجه الترمذي (2601) عن أبي هريرة وقال: هذا حديث إنما نعرفه من حديث يحيى بن عبيد الله، ويحيى بن عبيد الله ضعيف عند أكثر أهل الحديث. (¬3) في الأصل: "لملك". (¬4) كتب أولاً: "من هذا" ثم ضرب على "من" وأدخل اللام على "هذا".

51

(51) الخطبة الرابعة لجمادى الثانية [ل 56/ ب] (¬1) الحمدُ لله الملكِ الذي خضَعَ لعظمته الجبابرةُ المتكبِّرون، وأذعَنَ لِطاعته مَن قُضِي لهم أنَّهم المحسنون، وحاد عن منهاجه مَن قُضي عليهم أنهم المعذَّبون. الجوادِ الذي لم يبرَحْ جميعُ خَلقِه في بحارِ نِعَمِه يسبحون. {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ (¬2) الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم: 24]. وأشهَدُ ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له، أفحَمت المخالفين براهينُه الظاهرة، وأعجَزت المعاندين قدرتُه القاهرة، وأسعَدت الموفَّقين رحمتُه الباهرة، وعمَّت العوالِمَ فضائلُ نعمه الفاخرة {وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ} [القصص: 70]. وأشهَدُ أنَّ سيِّدنا محمدًا (¬3) عبدُه ورسولُه [أرسله] (¬4) بكتابه الكريم، وأنزل عليه تفخيمًا لقدره: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]. أبلغَ الرسالةَ كما أمَرَ، وهدى من اتبعه إلى الصراط المستقيم، وأقام الحجَّة على من ¬

_ (¬1) الورقة ممزقة عن يمينها، وقد أصابها بلل. (¬2) في الأصل: "أن يريكم". (¬3) في الأصل: "محمد". (¬4) ساقط من الأصل.

عاندَه، فحقَّتْ عليهم الكلمةُ أنَّهم من أهل الجحيم. وخاطب الناسَ بقوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]. اللهمَّ فصلِّ وسلِّمْ على هذا النَّبيِّ سيِّدنا محمد، الذي طهَّرتَ من قُذُورات (¬1) الدنيا قلبَه، وأَيَّدتَ بالنصر والظفر والتوفيق إلى السبيل حزبَه؛ وعلى آله الذين اختُصُّوا بقُرباه، فنالوا بها أنفعَ قُربَة؛ وعلى صحابته المُرْتَقِينَ لمتابعته أسمى رتبة، المنزَّل فيهم: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة: 8]. أما بعد - يا عبادَ الله (¬2) - فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى فإنَّ التقوى ثمرةُ الإيمان، والتعرضِ لنفحاته فإنه تعالى لم يزل عميمَ الإحسان، والتجنُّبِ لما نهى عنه قبل أن يُطبَع على قلوبكم بخاتم الخِذلان، وأقيموا الصلاةَ بالمحافظة على الشروط والأركان، وتوخِّي كلِّ عملٍ صالح قبلَ زوالِ الإمكان، والهَربِ من كلِّ عمل سيِّئ فإن السيئاتِ هلاكُ الإنسان؛ فإنَّ ربَّك هو الملكُ القديرُ {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} [الشورى: 17]. عبادَ الله، اتَّقُوه واسعَوا في مرضاته، ولا تتخلَّفوا عن أحبابه الجائدةِ عليهم سحائبُ كرَمِه بأمطارِ هباته، واتبعوا الحسنات فكلُّ عبدٍ مؤاخَذ ¬

_ (¬1) كذا، وقد وردت في الخطبة السابقة أيضًا. (¬2) أدخل الفاء على لفظ الجلالة بدلاً من "أوصيكم" سهوًا.

بسيئاته، واغتنِمُوا أعمارَكم فالسعيدُ من صرَفَ [في] طاعة مولاه جميعَ أوقاته، وبادَرَ بالاستعداد لمعاده قبلَ فوَاته، وأخَذَ في التزوُّد ليوم حشرِه قبل وفاته، عالمًا أنَّ الموتَ عمَّا قريبٍ هاذمُ لذَّاتِه، ومبدِّلُ جَمْعِ أحبابه بشَتاته؛ فاغتنَمَ حياتَه باستغراقها في التأهُّب لمماته، واعتبَرَ بشؤونِ الله في خلقه بسواطع آياته، وعَلِمَ أنَّ الحقَّ أحقُّ أن يُتَّبَعَ، فاعتمَدَ عليه في مشتبهاته؛ وأنَّ الباطلَ زائلٌ بطلوعِ شُموسِ الهدى وتجليتِها دوامسَ ظلُماتِه، {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} [الشورى: 24]. أيها الإنسان، إنما أنت بشرٌ ضعيفٌ لا تملك مِن أمرك مِن نَقِير. قد بُلِّغْتَ ما أوجَبَه عليك الملكُ القدير، وجاء به رسولُه الطاهر المطهَّر البشير النذير. فانتبِهْ من منامك في الغفلة عن مخالفة الملك الكبير (¬1)، وتحفَّظْ عن معاندته بالمعاصي: كبيرٍ أو صغيرٍ. ولا تتساهَلْ بشيء منها عظيمٍ أو حقيرٍ. واعلموا أنَّ ما ينالكم من النوائب هو ثمرةُ صنيعكم النكير. {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]. هاتان جماديانِ مفارِقتانِ منزلَكم، وهذا رجب قاصدٌ لِرَبْعكم، شهرٌ فضَّلَ الله الأعمالَ فيه عليها في غيره، فاستيقِظُوا (¬2) من غفلتكم فحسِّنوا عملكم ليكون عند حُلولِ أرماسِكم مؤنسَكم. والله تعالى يقول: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا (¬3) فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ ¬

_ (¬1) كذا وردت هذه الجملة. (¬2) كتبها في الأصل بالضاد. (¬3) في الأصل: "شهر".

وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ [ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ] (¬1) فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36]. وكان - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَنْ أحبَّ دُنياه أضَرَّ بآخرته، ومَنْ أحبَّ آخرته أضَرَّ بدُنياه؛ فآثِرُوا ما يبقَى على ما يفنى" (¬2). وكان ابن عمه رضي الله عنه يقول: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم رجب (¬3). ويشرف (¬4) عباد الله أنه هو رب [الأرباب] وهو شديد العقاب. فهو جزيلُ الثواب، وأليم العذاب؛ فاتقوه يا أولي الألباب. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه جميعًا، إنه هو الغفور التوَّاب. ... ¬

_ (¬1) ساقط من الأصل سهوًا. (¬2) تقدم تخريجه في الخطبة الرابعة. (¬3) لم أجده. (¬4) كذا في الأصل.

52

(52) الخطبة الأولى لرجب [ل 57/ ب] (¬1) الحمدُ لله الملكِ الذي أوجَدَ الكونَ من العَدم لِيُظهِرَ قدرتَه، وجعَلَ الخلقَ على ما هم عليه لِيُظْهرَ احتياجهم إليه وغُنْيَتَه، وأرسلَ الرُّسُلَ وأنزَلَ الكتُبَ لِيُقيمَ عليهم حُجَّتَه، وحَتَم لبعضهم النَّار، ولبعضهم الجنَّة؛ لِيوضِّح فضلَه وعزَّتَه. {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ} [الشورى:28]. وأشهَدُ ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له، المنفردُ بالمُلكِ ولا لأحدٍ معه نصيب. عزيزٌ، القريبُ من معرفته بعيد، والبعيدُ في [تقرُّبه (¬2) قريب]. محيطٌ بجميع العالم، حاضرٌ بعلمه مع كلِّ شيء، لا يغيب. لا يُسأل عما يَفعل في ملكه يُعذِّب أو [يُثيب]. {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} [غافر: 13]. وأشهد أنَّ سيِّدنا محمدًا عبدُه ورسولُه للعالمين رحمة، المفضَّلُ على جميع المرسَلين، فكانت أمَّتُه أفضلَ أمَّة. الكاشفُ عن الخلائق بفصل القضاء أظلَمَ غُمَّة، المخصوصُ بـ {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ [وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ]} [الفتح: 2]، وقال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ [وَالْحِكْمَةَ]} [الجمعة: 2]. ¬

_ (¬1) هذه الصفحة الثانية من الورقة الموصوفة في الخطبة السابقة. (¬2) في الأصل: "تقرربه".

اللهمَّ فصَلِّ وسَلِّم على سيِّدنا محمَّد، الذي شرَّفتَ به الخلقَ وزكَّيتَ أعمالَهم، وبيَّنتَ به الحقَّ وأكملتَ لمتَّبعيه في طاعتك آمالَهم. وعلى آله الأُلى أصلحتَ لأجله أحوالَهم، وأصحابه الذين بذلوا في طاعتك معه نفوسَهم وأموالهَم، وأنزلت فيهم: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} [سورة محمد: 2]. أما بعد، فيا عبادَ الله، أوصيكم ونفسي الخاطئة بطاعةِ ربِّ الأرباب، والمحافظةِ على عبادته لِتدخلوا في جملة الأحباب، والمواظبة (¬1) عليها لِتَحقَّقَ لكم كلمةُ الثواب، والتجنُّبِ لمعصيته فإنه كما هو الغفور الرحيم، فإنه شديد العقاب. قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} [غافر: 40]. ابنَ آدم، إلى متى تُماطِلُ بالتوبة، وتُواعِدُ نفسَك بالتطهُّر من قبائح الأوزار، وتجتهد في الكبائر والصغائر، وتزعم أنك من الأخيار! وتتَّبع شهوتَك وهواك، وتظنُّك ستتنصَّلُ عن قبائحك بكواذب الأعذار. تُؤثِرُ هذه الدارَ على آخرتك، فويلٌ [لاختيارك] لهذا الإيثار. {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} [غافر: 39]. هذا غريم آبائك الأولين، هذا مُبيد إخوانك الأقدمين، هذا هاذمُ لذَّاتِ المتنعِّمين، هذا هادمُ بناءات المتمكِّنين، هذا قاطعُ كلِّ وتين، هذا صادعُ كلِّ ¬

_ (¬1) رسمها في الأصل بالضاد.

خوَّان (¬1) وأمين، هذا مُفْني كلِّ رخيص وثمين، هذا مذلِّلُ المتجبِّرين، هذا مُخْضِعُ المتكبِّرين، هذا مُهلكُ كلِّ مُعزٍّ ومَهين. {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام: 134]. كلَّ يومٍ يصيحُ بك ناعقُه، وتلوحُ لك بوارقُه، وتصيبُ أولياءَك صواعقُه، وتهدِرُ عليك شقاشِقُه، وتتبيَّن عليك حقائقه، وتُرفرِفُ فوقَ رأسِك خوافقُه، وتصيب أعضاءك رواشقُه، ولا نفس إلا تختطفها (¬2) بواشِقُه. وتتهدَّدك بوائقه، وتُزَلزِلُ أرضَك طوارقُه، وتحلِّلُ أرتاقَها فواتقُه، وتتَّضح للمتبيِّن طرائقُه. فلا ملِكَ إلا وهو إلى (¬3) الحقِّ سائقُه، ولا مؤمِّلَ إلا هو عن أمله عائقُه، ولا أملَ إلا وهو بانحطاطه سابقُه، ولا جمعَ إلا وهو فارقُه، ولا حجابَ إلا وهو خارقُه، ولا إنسان إلا وهو بعين الفتك رامقُه، وما من ذي عنق إلا وهو بساعد الإهانة معانقُه. وأنتم [تسمعون] ما قلتُ لكم، ولا تشكُّون فيما عليه نبَّهتُكم. ألا، وإنَّ بعد الموت [] والحسابَ والعقابَ وعذاب النَّار، وغضبَ الجبَّار؛ فاتقوا [الله] لعلكم [ترحمون] (¬4). وهذا رجبٌ قد حَطَّ بكم رِحالَه، وإنَّه لَشهرُ العبادة والفضيلة الكاملة، فوفُّوا فيه الطاعة، ولا تخلو فيه من العبادة ساعة، إن كنتم ممن يؤمن بالساعة، ولا تضيعوا أوقاتكم، فقد خابَ مَن كان عملُه الإضاعة. ¬

_ (¬1) في الأصل: "خون". (¬2) غير محررة في الأصل. (¬3) رسمها في الأصل: "إلا". (¬4) ظهرت منها التاء فقط.

الحديث: قال عليه أفضل الصلاة والسلام: "ما من بيت إلا وملكُ الموت يقفُ على بابه كلَّ يومٍ، فإذا وجَدَ الإنسانَ قد نفِد أكلُه، وانقطع أجلُه، ألقَى عليه غمَّ الموت، فغشيَتْه كُرُباتُه، وغمرَتْه سَكَراتُه؛ فمن أهل بيته الناشرةُ شَعْرَها، والضاربةُ وجهَها، والباكيةُ لِشَجْوِها، والصارخةُ بويلها. [فيقول ملكُ الموت] عليه السلام: ويلكم، مِمَّ الفزعُ؟ وفيمَ الجزَعُ! والله ما أذهبتُ لواحدٍ منكم رزقًا، ولا قرَّبتُ له أجلًا، ولا أتيتُه حتى أُمِرتُ، [ولا قبضتُ روحَه] حتى استأمرتُ (¬1).إنَّ لي فيكم عودةً ثم عودةً، حتى لا أُبقيَ منكم أحدًا". قال: "فوالذي نفسُ محمدٍ بيده، لو يَرون [مكانَه ويسمعون كلامه] لَذَهِلُوا عن ميِّتهم ولَبَكَوا على نفوسهم، فإذا حُمِلَ الميِّتُ على نعشه رفرفَتْ روحُه [فوقَ النعش، وهو يُنادي] بأعلى صوته: يا أهلي ويا ولدي لا تلعبَنَّ بكم الدنيا كما لعبتْ بي، [ولا تغُرَّنَّكم كما غرَّتْني. جمعتُ المال من حِلِّه] ومن غير حِلِّه، ثم خلَّفْتُه لِغيري. فالمَهْنَأةُ له، والتبعةُ عليَّ؛ فاحذَروا مثلَ ما حلَّ بي" (¬2). اللهمَّ، إنَّك أطمعتَنا في رضوانك، وحذَّرتَنا من اليأس من رحمتك وغفرانك، فنسألك أن تُلْبِسَنا حُلَلَ مِنَّتِك وحَنانِكَ، وتكتبَ لنا مجاورتَك في ¬

_ (¬1) رسمها في الأصل: "استومرت". (¬2) حديث موضوع، وهوآخر الأربعين الودعانية وكلها موضوعة، وهي التي يقال لها في ديار اليمن "السَّيْلَقيَّة" وقد عني بشرحها غير واحد من علماء الزيدية. وضعها زيد بن رفاعة وسرقها منه ابن ودعان فركَّب لها أسانيد. انظر ترجمة ابن ودعان في "لسان الميزان" (7/ 381) و "الفوائد المجموعة" للشوكاني بتحقيق المعلمي (366).

فراديس جِنانك. عبادَ الله، إن الله سبحانه يقول - وقوله الحق المبين -: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 16]. عبادَ الله، قد ذكرنا أن كنَّا جاهلين، وعلمنا أن التوبة تغسل قلوبَ المذنبين، فأستغفر الله العظيم لي ولكم. ***

53

(53) [ل 62] الحمد لله المحمودِ بنعمته، المعبودِ بقدرته، المشهودِ بوحدانيته، أحمدُه حمدًا يُوافي نِعَمَه، ويُكافئ مزيدَه، ويُدافع نِقَمَه. وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد، فأوصيكم - عبادَ الله - ونفسي بتقوى الله. عبادَ الله، إنما خلقكم الله لِتعبُدوه، وإنِّما أقام الحجج لِتُوحِّدوه، وإنما أفاضَ عليكم نِقَمَه لِتَحمدوه. فما بالُنا عن ذلك مُعرِضين إعراضَ الغافلين، ولِلدَّار الآخرة ناسِين نسيانَ الجاهلين؟ فحتَّى متى هذا التغافلُ والتجاهلُ؟ وإلى متى هذا التكاسُل والتساهُل؟ كأنَّنا كنَّا غير مكلَّفين، أو من البقاء على يقين، أو في البعث شاكِّين، أو قد تكفَّل لنا بالسلامة ربُّ العالمين. ألا، وإنَّ خير الأمل ما لم يكن سببًا للتقصير في العمل، وإنَّ أنفعَ النِّعَم ما لم يكن داعيًا إلى الوقوع في موجبات النِّقم، وإنَّ المحمودَ من هذه الدار ما لم يُلْهِ عن دار القرار. فانتبهوا - عبادَ الله - من سِنَة الغفلة، ولا تغترُّوا بهذه المهلة. وتزوَّدوا في (¬1) دنياكم لأخراكم، ومن محياكم لمماتكم. وقد عرفتم ما أوجَبَ الله عليكم فحافظِوا عليه، وما رغَّبكم فيه فلا تقصروا عنه، وما حرَّم عليكم فاجتنِبوه، وما رغَّبكم عنه فلا تتساهلوا فيه. وفي الحديث عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الحلال بيِّن، والحرام بيِّن، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثيرٌ من الناس. فمن اتَّقَى الشُّبُهاتِ فقد استبرأ لدينه ¬

_ (¬1) كذا في الأصل.

وعِرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حولَ الحِمَى يُوشِكُ أن يقعَ فيه. ألا، وإنَّ لكلِّ ملِكٍ حِمًى. ألا، وإنَّ حِمَى الله في أرضه محارمُه" (¬1). وعنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لرجل وهو يعظه: "اغتنِم خمسًا قبلَ خمسٍ: شبابَك قبلَ هَرَمِك، وصحتَك قبل سَقَمِك، وغِناك قبلَ فقرِك، وفراغَك قبلَ شغلِك، وحياتَك قبلَ موتِك" (¬2). وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "لا تزول قدَما ابنِ آدم يومَ القيامة حتى يُسألَ عن خمسٍ: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وماذا عمِلَ فيما علِمَه" (¬3). هذا، وإن أبدعَ كلامٍ نظمًا، وأبلغَه حُكْمًا وحِكَمًا = كلام من وسِعَ كلَّ شيءٍ رحمةً وعلمًا. والله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 2 - 4]. ... ¬

_ (¬1) سبق تخريجه في الخطبة الخامسة. (¬2) تقدم تخريجه في الخطبة السابعة. (¬3) تقدم تخريجه في الخطبة (44).

54

(54) [ل 63/ أ] ... (¬1) وهذا شهرُ رمضان واردٌ عليكم، فاستقبِلوه بالطاعة لله تعالى والإحسان فيها. وإنه ضيف نازل، فأكرِموه واحترِموه. وهو عمَّا قريبٍ راحِلٌ، فاغتنِموه، فلعلكم لا تبلغون مثلَه. قال - صلى الله عليه وسلم -: "بُني الإسلامُ على خمسٍ: شهادة ألَّا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا رسولُ الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان" (¬2). ألا، وإنَّ أعظَم ما تنفَع موعظتُه كلامٌ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. والله سبحانه وتعالى يقول: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98]. أعوذ باللهِ من الشيطان الرجيم {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185]. اللهم حُفَّنا بعنايتِك، واكْفِنا بإعانتك، والطُفْ بنا في قضائك، وصُدَّ عنَّا عوارضَ بلائك (¬3)، وثبِّتْنا بالقول الثابت يا ذا الجلال والإكرام. رحم الله من سمِعَ الموعظةَ فانتفَعَ، ونُهيَ عن القبائح فارتدَعَ، وهُدِيَ ¬

_ (¬1) الخطبة مخرومة من أولها. ولعل الورقة التي احتوت عليه ضاعت. (¬2) أخرجه البخاري (8) ومسلم (16) من حديث ابن عمر. (¬3) رسم في الأصل: "قضاك ... بلاك".

إلى المصالح فاتَّبَعَ. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه جميعًا، إنه هو الغفور الرحيم. ***

55

(55) [ل 63/ ب] الحمدُ لله تقدَّسَت سبحاتُه، وتعالَتْ عن شبه الخلق ذاتُه وصفاتُه. أحمده سبحانه وتعالى، وأشكره حمدًا تُستزادُ به نِعَمُه، وتُسْتنزَلُ به بركاتُه. وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له، وكيف تشاركُه مخلوقاتُه. وأشهد أنَّ سيِّدنا محمدًا عبدُه ونبيُّه ورسولُه الذي بلغَتْ به حجَّتُه، وظهَرتْ على يديه آياتُه. اللهمَّ فصلِّ وسلِّمْ على هذا النبي الكريم سيِّدنا محمدٍ وآله وصحبه الذي بلغت بهم رسالاتُه. أمَّا بعد - عبادَ الله - فأوصيكم ونفسي بتقوى الله فاتقوه، وأحذِّركم ونفسي معصيتَه فلا تعصُوه؛ فقد ربِحَ تُقاتُه (¬1)، وخسِرَ عُصاتُه. عبادَ الله، ما لنا نسمع الوعيد ولا نرتدع، ويكرَّرُ علينا ذكرُ الموت وما بعده فلا ننتفع؛ وإنَّ أخسرَ الناس من هذه صفاتُه. ما ذلك إلا لضعفِ اليقين والإيمان، واستحواذِ الهوى والشيطان، ولقد خاطَرَ بنفسه من تغلب إيمانَه شهواتُه. هذا شهرُ رمضان الذي كنا نسوِّف إليه بالتوبة، ونعدُ عقولنا إليه بالأوبة. وإنَّه لحقيق أن تُغتَنَم ساعاتُه، فيا خسارَ من غلبت فيه حسناتِه سيئاتُه! الحديث: قال - صلى الله عليه وسلم -: "من لم يدَعْ قولَ الزُّور والعملَ به، فليس لله حاجةٌ ¬

_ (¬1) يعني من يتقونه. انظر التعليق على الخطبة (16).

في أن يدَعَ طعامه وشرابه" (¬1). ألا، وإنَّ أبلغَ الكلامِ وعظًا و [أحسنَه] معاني (¬2) ولفظًا = كلامُ من وسِعَ كلَّ شيء رحمةً وعلمًا. والله سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} [الأحزاب: 41 - 44]. ... ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1903) من حديث أبي هريرة. (¬2) ظهر منه "ني"، واختفى الباقي لِلَّصق.

56

(56) [ل 65] (¬1) [الحمد لله الذي ...] لعظمته، وأذعنت القلوبُ لألوهيته، و [] الخلائق لسطوته، وضعفت الشِّداد بقوَّتِه، وسلَّمتِ المخلوقات لبديعِ حكمتِه، و [] الفصحاء لحجته. نحَمده على نِعَمه، على أنَّ حمدَه من نعمته. ونشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له [أن] يشابهَه أو يماثلَه، وجلَّ أن يصوِّره فكرٌ أو يُخيِّلَه. لا يدركه فكرٌ يسبَح في بحارِ وَهْمِه، ولا تخطرُ على قلبٍ حقيقةُ كنهه [] قدر فهمه، ولا يبلغ أحدٌ منتهى علمِه، وقلَّما يُتفطَّن لحِكَم حُكْمِه. لا يحيط به مكانٌ، ولا يغيِّره زمانٌ، ولا يدركه إنسانُ. [لا] في السَّماء محلُّه، ولا على العرشِ منزِلُه (¬2)، ولا بمكان مخصوص من هذه الأمكنة محمِلُه (¬3). لكنه حيث كان قبل [أن يخلق المكان] والزمان. فهو الأول الذي ليس قبله شيء إذ هو الذي خلَقَ القبلَ والبعدَ، فأنَّى يحيطان به! [لم يتخذ صاحبةً ولا] ولد، ولا وزيرًا ولا عضد، ولا وكيلا عليه يعتمِد، ولا يحتاج إلى مدَد ولا عَدَد ولا عُدَد. [] نفاذ مراده لعجزٍ، إذ ما أراده لا يُرَدّ. {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (¬4). ¬

_ (¬1) الورقة متمزقة من أعلاها وأسفلها وعن يمينها. (¬2) كذا قال، وهو مخالف للعقيدة الصحيحة التي قرَّرها المؤلف نفسه فيما بعد. (¬3) رسمها في الأصل يشبه: "مجهله"، ولعل الصواب ما أثبت. والمحمل: الهودج. (¬4) في الأصل: قل هو الله أحد إلخ.

ونشهد أنَّ سيِّدنا محمدًا عبدُه ورسولُه إلى الخَلْق، بكتابٍ أنزله بالحقِّ، ووسَمَه بالصدق، وحلَّاه بالرأفة والرفق، فأبلَغَ الحجَّة، وأوضَحَ المحجَّةَ، وشرَعَ الشَّرْعَ، وبيَّن الأصلَ والفرعَ. وسكَتَ عما انفرَدَ الله بعلمه أو خصَّه به، فهدى الله به مَن هَدَى، وأضلَّ به من غوى واعتدى. ولم يكن ليهدي من أضلَّه الله، وسبقت عليه إرادتُه، وخَتَمتْ على قلبه قدرتُه، وكُتِبَ في الأزل شقيًّا، وحُتِم عليه أن يكون غويًّا. ولكن ليهديَ من أراد الله أن يهديه، ويُغوي من أراد اللهُ أن يُغويه، ويبلغَ الحجة، ويشرعَ الشريعة، ويُثابَ على ذلك فضلاً من الله تعالى. ولله في كلِّ شيء حِكمة، تُؤيِّد قضاءه وحُكمَه. اللهم فصلِّ وسلِّم على نبيِّنا محمد، الذي بالهدى ودين الحقِّ أرسلتَه، وبخِلال الكمال خلقتَه، وبمشاهد الملكوت حقَّقتَه، وعلى آله الأخيار، وصحابته الأبرار، والتابعين لهم بإحسان. أما بعد، فيا عبادَ الله، ما لي أراكم في بحار الغفلة سابحين، وفي فيافي الجهالة سائحين؟ كلَّما نعَقَ بكم حادي النفوس ازددتم عتوًّا ونفورًا، ولَجَّيْتم (¬1) في المعاصي عدوانًا وزورًا، متَّكلين على {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا}. صدقتم، هو الغفور الرحيم. أفتدرون أنه هو الذي تولَّى خلقكم، وكفَلَ لكم رزقكم، وأمرَكم بطاعته، وحرَّضَكم على عبادته؟ فسابِقُوا سائقكم إليه، قبل أن يسبق توبتكم. واستعينوا به على عبادته عساه أن يُثبِّتكم. وقصِّروا الأمل، فإنَّ الأملَ عدوُّ العمل؛ وبادروا بالطاعة قبلَ قيامِ الساعة. واتقوا الله في نِعَمه، ¬

_ (¬1) يعني: لججتم.

تستعملونها في معصيته، وتضنُّون بها عن طاعته، وتوالُون بها أعداءه، وتُعادون بها أولياءه. فإنه تعالى يُمهلكم ولا يُهملكم، ويؤخِّركم ولا يُعاجلكم. وأنتم عمَّا هو أقربُ إليكم منكم غافلون، وإلى أجيَف الجِيَف عند الله - وهي الدنيا - مبادِرُون، ولِما خُلِقْتُم له - وهي العبادة - تاركون، ولما علمتم أنَّ فيه هلاككم ملازمون. كأنكم لم تسمعوا للموت داعيًا، ولم تُجيبوا في الأرض ناعيًا، ولم تعلموا الذئبَ لكم راعيًا، ولم يخلق الله منكم واعيًا! ألم تبلغكم الأوامر؟ ألم تنهركم الزواجر؟ ألا تخشون دوران [الدوائر ...] دونكم ما هو إليه صائر. [ل 66] هذا حادي مطايا النفوس يختطفكم واحدًا فواحدًا، ويقتطفكم راقدًا فراقدًا! قد علمتم أين ذهب العوالم؟ أين ذهب الأنبياء؟ أين ذهب الأتقياء؟ أين ذهب الملوك الأكابر؟ أين ذهب الفراعنة الجبابر؟ هل هم إلا في شبكته وقعوا، وإلى أجداثهم دُفِعوا، وبين الحجر والمدر وُضعِوا، بعد أن صَنَعوا ما صَنَعوا. فبالله عليكم، هل نعلم أنَّا صائرون إلى ما إليه صاروا، وسائرون مُجِدُّون إلى ما إليه ساروا، وقادمون إلى ما قَدِموا، ونادمون كما ندموا وواجِدون ما وجدوا، وعادمون ما عَدِموا؟ بينا أنت أيها العاصي متقلِّبٌ في فراش غرورك، غافلٌ عن مسيرك ومصيرك، ساحبٌ في معصية الله تعالى أذيالَ أمورك، زاعمٌ أنَّك غيرُ هالك، مُطوِّلٌ حِبالَ آمالِك، طاوٍ بساطَ أعمالِك، ظانٌّ أنه كما صنع الله تعالى في إمهالك سيصنع في إهمالك؛ معجَبٌ بجمالك ومالِك، منخرطٌ في سلك العصيان أكثرُ أقوالك وأفعالك = إذ نزل بك رائدُ المنون، فاختطفَك من بين

الأهل والبنين، فقطَعَ وتينَك، وأفقدك ثمينَك، وأعدمَكَ مأمونَك وأمينَك. فبادرَ أهلُك إلى نزع خاتمك وثيابك، وتغييبك في ترابك، وإيداعِك إلى حسابك، فإمَّا إلى ثوابك وإمَّا إلى عذابك. وقد بادروا أموالَك فانتهَبوها، وأخذوا ترِكتَك واتَّهَبوها، وقسموها واكتسبوها. فكم من شيءٍ أخذتَه ظلمًا وتركتَه لوارثك حتمًا، فنال فائدته سهمًا، واصطليتَ في حسابه وعقابه همًّا وغمًّا! وربما كان وارثك من أعدائك، ومظلومك من أوليائك (¬1). ثم إنَّك بعد أن يودعوك قبرَك قادمٌ على ما قدَّمْتَ، فيجيئُك الملكانِ في الصورة المنكَرة، فيسألانك عن عملك في الدنيا، والتوحيد، وغيره. فإن كنت قدَّمت صالحًا أو رحمك الله وفَّقك الله للجواب؛ وإلَّا خذَلَك هنالك، فتَلقَى من العذاب ما لا تطيق حملَه الجبالُ الراسيات ولم تزل [تعذَّب] حتى تقوم الساعة. فإنْ لم يرحمك الله أُلقيتَ في النار. وقد أُعْلمتَ ما النار، إنَّها ليست كنار الدنيا. [قال] رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو أنَّ دلوًا من جهنَّم وُضِعَ في وسط الأرض لآذى نَتَنُ ريحِه ما بين المشرق والمغرب. [ولو أنَّ شررةً من شرر] جهنم بالمشرق لَوُجِدَ حرُّها بالمغرب. ولو أنَّ أهل النار أصابوا نارَكم هذه لناموا فيها" (¬2). ¬

_ (¬1) رسمها في الأصل: "أعداك ... أولياك". (¬2) أخرجه الطبراني في "الأوسط" (3681) من حديث أنس. قال الهيثمي في "المجمع" (18574): "وفيه تمام بن نجيح، وهو ضعيف، وقد وُثق. وبقية رجاله أحسن حالاً من تمام".

اللهم [يا مَنْ وسعَت كلَّ] شيءٍ رحمتُه، وحكمتْ على كلِّ شيءٍ قدرتُه، نسألُك أن توفِّقَنا للعمل الصالح والمتجر الرابح، وتَقِيَنا [الفضائح والقبائح و] الجوائح. إنَّ أبدعَ ما ردَّدتْه الألسنة، وأحقَّ كلامٍ بأن لا يبلَى على توالي الأزمنة = كلامُ الحيِّ القيُّوم الذي لا تأخذه سِنة. [أعوذ] بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} [الصافات: 38 - 49]. الحديث: كان - صلى الله عليه وسلم - يقول: " [يقول الله] عزَّ وجلَّ: يا ابنَ آدم ما قمتَ لي بما يجب عليك. تَذَكَّرُ (¬1) الناسَ لي وتنساني، وتدعوهم إليَّ وتفرُّ منِّي. [خيري إليك نازل، وشرُّك إليَّ صاعد. إن أحبَّ ما تكون إليَّ وأقربَ ما تكون منِّي إذا رضيتَ] بما قسمتُ لك. [وأطِعْني] فيما أمرتُك، ولا تُعْلِمْني [بما يُصلِحك. إنَّي عالمٌ بخَلْقي، أنا أُكرِمُ مَن أكرَمَني، وأُهِينُ مَن هان عليه أمري. ولستُ بناظرٍ في حقِّ عبدي حتى ينظر العبد في حقِّي] " (¬2). ¬

_ (¬1) كذا ضبط في الأصل. (¬2) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (4/ 27) عن بكار بن عبد الله بن وهب قال: قرأت في بعض الكتب. فالحديث من الإسرائيليات، ولم أجده مرفوعًا.

الخطب الثواني

57

(57) [ل 3/ ب] (¬1) الحمد لله الذي شرَّفنا بالتمسك بدينه، ووفَّقَنا لالتزام شريعته، وهدانا لاتباع (¬2) رسوله، ويسَّرنا لاعتناق ملَّته، أحمده حمدَ شاكرٍ لنعمائه، مستدفِعٍ لبلائه (¬3)، معترفٍ بالتقصير، مُقِرٍّ بالخطأ الكثير. وأشهد ألَّا إله إلا الله إلهًا واحدا وملكًا متعاليًا، واحدٌ في ذاته وصفاته، مخالفٌ لصفاتِ مخلوقاته. لا يدركه وهم، ولا يبلغه فهم، ولا يعرفه إلا هو، ولا يعلمه إلا هو. وأشهد أنَّ سيِّدنا محمدًا عبده ورسوله، النبي الأمي، والرسول العربي. أرسَلَه عند خمود الدين، [وفساد اليقين] (¬4)، والأرضُ مظلمة، والفتنُ قائمة (¬5)، فجاهَدَ في الله حقَّ جهاده، حتى بلَّغ رسالته إلى عباده، وهداهم إلى سبيل رشاده، وأطفأ جمرةَ المصرِّين على عناده. اللهم فصلِّ وسلِّم على سيِّدنا محمد نبيِّك الأمين الذي قلتَ فيه وقولك الحق اليقين: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الانبياء: 107] وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. ¬

_ (¬1) وردت في (ل 46/ ب) خطبة لا تختلف عن هذه إلا في كلمات يسيرة. فاقتصرنا على إثبات هذه وأشرنا إلى الفروق. (¬2) في (ل 46/ ب): "لسنة". (¬3) في الأصل: "لنعماه ... لبلاه". (¬4) زيادة من (ل 46/ ب). (¬5) "والأرض ... قائمة" لم يرد في (ل 46/ ب).

أما بعد، فيا عبادَ الله، إنَّا زرعُ الموت، وبضاعةُ الفوت، لا يطول بقاؤنا (¬1) وإن طالت آمالنا. ولو طال بقاؤنا لم نفُزْ فيه بطائل، ولا أعددنا غيرَ الباطل. كلَّ يوم تعبَثُ جوارحُنا وقلوبُنا في محارم الله، فقلَّما تمرُّ علينا ساعة إلا ونحن في معصية. ومع ذلك ونحن آمنون من العقاب، متهاونون بالعذاب، زاهدون في الثواب مسوِّفون بالمتاب، كأنَّنا (¬2) شاكُّون في المآب، أو مكذِّبون بيوم الحساب. فالتوبةَ، التوبةَ، قبلَ زلَّة القدم، والندم حيث ينقطع نفعُ الندم. قبل مفاجأةِ الموت، وخشوعِ الصوت، وحلولِ الفوت. قبل أن تنقطعَ الأعمال، وتُطوى الصحائف، ويُفتَح بابُ الجزاء؛ فينعَّم المهتدون، ويعذَّب العصاةُ بما كانوا يفعلون. ألا، وإنَّ الله تعالى قد أمركم بأمر عظيم بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكةِ قُدسِه، وثلَّثَ بكم تشريفًا لكم وتكريمًا، وتعزيزًا لقدر نبيِّه وتعظيمًا؛ فقال - ولم يزل متكلمًا عليمًا -: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]. اللهم فصلِّ وسلِّم على سيِّدنا محمد الذي حففتَه بأعلى مشاهد العزِّ والجلالة، وهديتَنا به من الضلالة، وعلَّمتَنا به من الجهالة؛ وعلى آله الطاهرين، وصحابته الهُداة الكاملين. ¬

_ (¬1) رسمها هنا وفيما بعد: "بقانا". (¬2) في (ل 46/ ب): "فما كأننا إلاَّ".

وارضَ اللهم عن مُؤنِسه في غاره وعريشه، أوَّلِ مؤمنٍ به من رجال أمته، من أكرمتَه بالهداية والتوفيق، خليفةِ نبيِّك على التحقيق: سيِّدِنا أبي بكر الصديق. وارضَ اللهم عمَّن شدَدتَ به أزرَ الدين، وقمعتَ به طوائفَ الملحدين؛ مَن ثللتَ به عروش الكفار، وفتحتَ به الثغورَ والأمصار (¬1)، الفاروق بين الخطأ والصواب: أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب. وارضَ اللهم عن أكرمِ القوم، القائلِ فيه رسولُك: "ما ضرَّ عثمانَ ما فعَلَ بعد اليَوم" (¬2)، شهيد الدار، المتخلِّقِ بالإيمان والإحسان: أمير المؤمنين أبي عمر عثمان بن عفَّان. وارضَ اللهم (¬3) عن صفيِّ النبيِّ وابنِ عمِّه، بابِ مدينة علمِه (¬4)، أسدِ ¬

_ (¬1) "من ثلث ... الأمصار" لم يرد في (ل 46/ ب). (¬2) أخرجه الترمذي (3701) من رواية عبد الرحمن بن سمرة، وقال: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه". (¬3) في الأصل: "الله". (¬4) يشير إلى حديث: "أنا مدينة العلم، وعليٌّ بابُها، فمن أراد العلم فليأت الباب". قال الشوكاني: "ذكره ابن الجوزي في "الموضوعات" [349 - 354] من طُرق عدة، وجزم ببطلان الكل وتابعه الذهبي وغيره. وأخرجه الحاكم في المستدرك [3/ 126] عن ابن عباس مرفوعًا، وقال: صحيح الإسناد. قال الحافظ ابن حجر: والصواب خلافهما معًا، والحديث من قسم الحسن". وصوَّب الشوكاني قول ابن حجر. وعلَّق عليه الشيخ المعلِّمي بقوله: "كنت من قبل أميل إلى اعتقاد قوة هذا الخبر، حتى تدبَّرته ... " إلخ. انظر "الفوائد المجموعة" (440 - 444).

الله الوثَّاب، قطبِ الحرب والمحراب، القانتِ الأوَّاب: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، الملقَّب بحَيدَرة (¬1)، المكنيِّ بأبي تراب. وارضَ اللهم عن سكَنِه الحَورا، سيدة نساء الدنيا والأخرى، بضعة الرسول: فاطمة الزهراء البتول (¬2). وارضَ اللهم عن ولديهَا الإمامين الجليلين سِبْطَيْ خير الأنبياء، ريحانتَيه من الدنيا وحبيبَيه في الأحياء: الإِمام أبي محمد الحسن، والإمام أبي عبد الله الحسين. وارضَ اللهم عن الستَّة المتمِّمين للعشرة، وعن أهل بيعة الرضوان والشجرة. وارضَ اللهم عن بنات نبيِّك المطهَّرات، وأهلِ بيته المكرَّمين (¬3)، وأزواجِه أمَّهات المؤمنين، وكافَّةِ أصحابه المهتدين (¬4)، [ولا سيما أهل بدر وأحد] (¬5) وعن جميع المحسنين من أتباعهم إلى يوم الدين. اللهم، وكما وعدتَنا بحفظ دينك وتأييد أعوانه، وتشييد أركانه، وإظهاره على الدين كلِّه؛ فاحفَظْ اللهم، وانصُرْ، وأيِّد إمامَنا وإمامَ المسلمين الذي ¬

_ (¬1) "الملقب بحيدرة" لم يرد في (ل 46/ ب). (¬2) في (ل 46/ ب) بعد الحوراء: "فاطمة البتول الزهراء". (¬3) في (ل 46/ ب) بدلاً منه: "وأسباطه المفضلين". (¬4) في (ل 46/ ب): "المهديين". (¬5) زيادة من (ل 46/ ب).

أغَثْتَنا به من بوائق البُغاة الكاشحين (¬1)، وأنقذتَنا من بين أظفار الظالمين، الإِمام الأمجد، الشريف الأسعد: أمير المؤمنين محمد بن علي بن محمد بن أحمد. اللهم كما أغثت الإسلام والمسلمين بظهوره فاحفَظْه بالمعقِّبات من بين يديه ومن خلفه. ووفِّق عبادَك لاتِّباعه، وأرشِدْهم للاقتداء به. وزَلْزِلْ أعداءَه أعداءَ الدين من القوم المفسدين. ووفِّقْه لتأسيس قواعد الإسلام، وإرشاد الأنام. وأصلِحْ قلوبَ أتباعه، وحَسِّن نيَّاتِهم، وأصلِحْ بواطنَهم وظواهِرَهم. واغفِرْ له ولهم ولنا ولجميع المؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات. اللهم وارحم عبادَك الضعفاء المساكين، فأسبِلْ عليهم نِعَمك، وادفع عنهم نِقَمك، ووفِّقهم لطاعتك، واسقهم الغيث المغيث الهنيء المريء النافع، وأصلح شؤونهم برحمتك يا رحيم. عبادَ الله، وإنَّ أبلغَ واعظٍ، وأعظمَ زاجرٍ، وأجلَّ ناصحٍ لمن نوَّر الله تعالى فؤاده، وألهمه سداده = كلامُ الله تعالى، وهو سبحانه يقول: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90]. فاذكروا جلَّ شأنه يذكُرْكم، واستغفروه يغفِرْ لكم، واشكروا نعمَه يزِدْكم، ولَذكرُ الله أكبر، والله يعلم ما (¬2) تصنعون. ¬

_ (¬1) "من ... الكاشحين" لم يرد في (ل 46/ ب). (¬2) في (ل 3/ ب): "بما".

58

(58) [ل 5/ ب] (¬1) الحمد لله الذي هدانا لاتباعِ دينه القويم، وجعَلَنا من أمَّةِ حبيبه الكريم، وأرشَدَنا إلى سراطه المستقيم، وأفاضَ علينا باطنًا وظاهرًا غيوثَ نِعَمه، وفضَّلَنا على كثير من خلقِه بفضلِه وكرَمِه. وأشهد ألَّا إلهَ إلاَّ الله وحده، لا شريك له. وأشهد أنَّ سيِّدنا محمدًا عبدُه ونبيُّه، بالهدى ودين الحق أرسله. اللهم فصلِّ على هذا النبي الكريم مولانا محمد رسولك العظيم، وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد، فأوصيكم عبادَ الله ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله تعالى في السرِّ والعلانية، وآثِروا الدارَ النفيسةَ الباقية على الدار الخسيسة الفانية، واعلموا أنَّ الله تعالى أمَرَنا بأمر عظيم، كرَّم به خاتمَ رسالتِه، ونَدَبَنا إليه فضلاً منه لننالَ به عظيمَ رحمته. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]. اللهمَّ فصلِّ وسلِّم على هذا الرسول الكريم، ذي الخلق العظيم: مولانا محمدٍ وعلى جميع إخوانه من النبيين والصدِّيقين والشهداء والصالحين. وارضَ اللهمَّ عن أهل بيته الأطهار، المصطفَين الأخيار، الذين قال فيهم: "ألا، إنَّ مَثَلَ أهل بيتى فيكم مَثَلُ سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلَّف عنها هَلَك" (¬2)؛ ولا سيَّما سادتُنا أهَلُ الكِسا مصابيحُ الهدى. ¬

_ (¬1) في (ل 5/ أ) صورت الخطبة الثانية مكررة. (¬2) حديث ضعيف. انظر تخريجه فى "السلسلة الضعيفة" للألباني (4503).

وارضَ اللهمَّ عن أصحابه الأبرار، من المهاجرين والأنصار، الذين قال فيهم: "أصحابي كالنجوم، فبأيهم اقتديتم اهتديتم" (¬1)؛ ولا سيَّما سادتُنا الخلفاء، الأئمةُ الحنفاء. اللهمَّ وأيِّدْ وانصُرْ مولانا أميرَ المؤمنين إمامَ المسلمين، القائمَ لإعزاز الحق والدِّين، وإحياءِ سنَّةِ سيِّد المرسلين = سيِّدَنا ومولانا الإِمام محمد بن علي بن إدريس. اللهم أيِّدْه بنصرك، واقطَعْ رقابَ معانديه بسيف قهرك، وأصلِحْ به البلاد والعباد، ومَكِّنْه من أهل البغي والفساد. اللهمَّ إننا نستغفرك، إنك كنت غفَّارًا، فأرسِلْ السماءَ علينا مِدْرارًا. اللهمَّ اغفر لنا ولعبادك المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات. وتغمَّدنا وإياهم برحمتك يا أرحمَ الراحمين. {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90]. فاذكُروه يذكُرْكم، واشكروا نعمَه يزِدْكم، ولَذكرُ الله أكبر، والله أعلَمُ (¬2) ما تصنعون. ... ¬

_ (¬1) حديث موضوع. انظر المرجع السابق (58). (¬2) كذا في الأصل.

59

(59) [ل 21] الحمدُ لله الذي رفع دينَه على سائر الأديان، وجعل أمةَ نبيِّه محمدٍ أفضلَ الأمم وأرفعها في المكانة وعلوِّ الشأن. وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأنَّ سيِّدنا محمدًا عبدُه ونبيُّه، بالهدى ودين الحق أرسَلَه. اللهمَّ فصلِّ وسلِّم على سيِّدنا محمدٍ أعلى المخلوقين منزلةً، وأرفعهم مرتبةً؛ وعلى آله المطهَّرين، وأصحابه نجوم الهدى للمهتدين. أما بعد، فيا عبادَ الله أوصيكم ونفسي (¬1) بتقوى الله باتباع ما أمَرَ، واجتناب ما عنه نَهَى وزَجَر. واعلموا - رحمكم الله - أنَّ الدنيا غرَّارة مكَّارة، خدَّاعة فجَّارة (¬2) لا يدوم نعيمها، ولا يلذُّ عيشُها (¬3)، ولا يتم خيرُها، ولا يطول رضاها، ولا يبعُد غدرُها. بينا أنت - ابنَ آدم - في النِّعمة، إذ فاجأتْك النِّقمة، وقلَّما تنالُ فرحًا إلاَّ عَقَبْته غَمَّة. فكلُّ مسرَّة تعقُبها مضرَّة، وكلُّ رفاهية تُسرِعُ إليها النِّقم مرَّةً بعد مرَّة. وإنما هي طريقٌ إلى دار البقاء، وسبيلٌ إلى النَّعيم أو الشَّقاء. وإياكم وطاعةَ الدنيا، فإنها الدَّاء العَياء. وإياكم والمعاصي، فإنَّ المعاصي لباسُ (¬4) الأشقياء. وعليكم بالزهد، فإنَّه شعارُ الأتقياء. واعلموا أنَّ الله سبحانه وتعالى قد أمرَكم بأمرٍ حكاه عنه وعن ملائكته وحرَّضكم على ذلك اتباعًا لسنَّته، وفضلاً عليكم بتكثير أبوابِ طاعته، ¬

_ (¬1) في الأصل: "بنفسي" سبق قلم. (¬2) رسم الفاء مهملة وكأنها ميم. (¬3) انتشر الحبر على الكلمة، فلم يظهر منها إلا العين والياء. (¬4) في الأصل: "لباسي".

وتكريمًا لخاتمِ رسله وسيِّد خليقته. فقال تعالى - ولم يزل متكلِّمًا عليمًا -: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]. اللهم فصلِّ وسلِّم على سيِّدِنا محمدٍ رسولِك الكامل، وحبيبك السامي، ونبيِّك الأمجد؛ وعلى إخوانه من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وارضَ اللهمَّ عن مُؤنسِه في غاره وعريشه، أولِ مؤمنٍ به من رجالِ أمَّته، مَن منحتَه بالهداية والتوفيق، وألقيتَ في قلبه حقيقةَ التَّصديق، خليفةِ نبيِّك على التحقيق: سيِّدِنا أبي بكر الصِّدِّيق. وارضَ اللهم عن ثانيه في الخلافة، الشديد في دينك، والمحافِظ على طاعةِ أحبَّتِك، الآخذِ من طاعتك أوثقَ الأسباب: أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب. وارضَ اللهمَّ عن ثالثهم فيها شهيدِ الدار، زوجِ ابنتَي المختار: أميرِ المؤمنين أبي عمر عثمانَ بن عفان. وارضَ اللهم عن أخي نبيِّك وابن عمِّه، بابِ مدينةِ علمِه (¬1)، زوج كريمته وأبي ذريته، قطبِ الحرب والمحارب: مولانا أبي الحسن علي بن أبي طالب. وارضَ اللهم عن زوجته سيِّدِة النساء، وخامسة مَنْ ضمَّه الكساء: فاطمةَ البتولِ الزَّهراء. وارضَ اللهم عن ولدَيها الإمامَين الجليلين ¬

_ (¬1) يشير إلى حديث: "أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها".وقد تقدم تخريجه في الخطبة (57).

سيِّدَيْ شباب الجنة، وريحانتَي نبيِّ هذه الأمة: مولانا أبي محمد الحسن، ومولانا أبي عبد الله الحسين. وارضَ اللهم عن الستة (¬1) المتمِّمين للعشرة، وأهل بيعة الرضوان والشجرة، وعن عَمَّي نبيِّك: الحمزة والعبَّاس، وأزواجه المطهَّرات من الأدناس، وعن سيِّدنا ترجمانِ القرآن عبد الله بن العباس. وعن جميعِ أتباع النبي وتابعيهم من المحسِنين إلى يوم الدين. اللهمَّ وأدِمْ لهذا الدين عزَّه ومجدَه وعلوَّه وفخره، بنصرِ وتأييدِ سيِّدِنا أمير المؤمنين وإمامِ المسلمين، الشريف الأسعد والإمام الأمجد: مولانا محمد بن علي بن محمد. اللهم ارفَعْ قدَمَه على رقابِ معانديه، واخذُلْ جميعَ عُصاته ومخالفيه، وانصُرْه عليهم، واقطَعْ أعناقَهم بسيف نقمتك، وأصلِحْ قلوب أتباعه، وحسِّن نياتهم وسدِّدْهم، وحَسِّن أعمالهم، ووفِّقهم للصواب، وأجْزِلْ لهم الثَّواب، واغفر له ولهم ولنا، ولجميع المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات. اللهمَّ يا ذا الجلال والإكرام، أحسِنْ نِيَّاتِنا، وأصلِحْ طوِيَّاتِنا، وتقبَّل أعمالَنا، واجعَلْنا من أفاضل عبادك المتَّبعين لرَشادِك، وحَسِّن أخلاقَنا، ووسِّعْ أرْزاقَنا، والطُفْ بنا في فضائك (¬2)، وجَنِّبْنا تُرَّهاتِ بلائك (¬3). واسقِنا ¬

_ (¬1) في الأصل: "الأربعة" وهو سهو. انظر ما تقدم في الخطبة (57). (¬2) كذا في الأصل بالفاء دون القاف، وقابلها بالترَّهات وهي الطرق الصغيرة المتشعبة من الجادَّة. (¬3) رسم في الأصل "فضاك" و"بلاك" بحذف علامة الهمزة.

الغيث المغيثَ النافعَ، وأسبِلْ علينا سِترَك الكنين، وأعِذْنا بحصْنك الحصين، واجعَلْنا من أصحاب اليقين، أتباع نبيِّك الأمين، والحمدُ لله رب العالمين. عبادَ الله, {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90]، فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروا نِعَمه يزِدْكم، ولَذكُر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون. ***

60

(60) (¬1) (ل 37) الحمدُ لله المتقدِّسِ عن الأشباه والأشكال، المتعالي عن الأضداد والأنداد والأمثال، المتنزِّه عن الرذائل والنقائض وسيِّئ الخِلال، المتَّصفِ بأوصاف الجلال والجمال والكمال، المخالفِ لجميع الحوادثِ في الذَّات والصِّفات على كلِّ حال. أحمده حمدَ معترفٍ بسوء الفَعال، مستغفرٍ لِذنوبه، مستمنحٍ لغزير النَّوال. وأشهد ألاَّ إله إلا الله وحده لا شريك له ولا مثال. وأشهد أنَّ سيدنا محمد بن عبد الله عبدُه ورسولُه المتحلَّي بأعظم الخِلال، أرسلَه رحمةً للعالمين، فبلَّغَ ما أُرسِل به على أبلغِ مِنوال. اللهمَّ فصلِّ وسلِّمْ وبارِكْ على هذا النبي الأوَّاه، الذي خصصتَه بالمكانة وعلوِّ الجاه: سيِّدنا محمدٍ، وعلى آلِه أفضلِ آل، وعلى أصحابه الذين أقمتَ بهم نصرَه، وشددتَ بهم أزرَه، وثللتَ بهم عروشَ الضَّلال. أما بعد - أيها الناس - فأوصيكم (¬2) ونفسي بتقوى الله، فاتَّقُوه في جميع الأقوال والأفعال. وإيَّاكم ومعصيتَه، فإنَّها سببُ الطرد والنَّكال. واعلموا أنَّ هذه الدنيا دارُ ممرٍّ سريعةُ الزوال، ظاهرٌ غدرُها ومكرُها وخدعُها وخترُها للعلماء والجهَّال. مَن الذي فازَ بالبقاء، أو أمِنَ تقلُّبَ الدهرِ مِن حالٍ إلى حال؟ أم مَن ¬

_ (¬1) قارنها بالخطبة (34). (¬2) تكرر بعده: "أيها الناس".

الذي نسيَتْه المنونُ، فبقي سالمًا من نوائب الأيام والليال؟ قد كان مَن قبلكم أطولَ منكم أعمارًا، وأكثر منكم أنصارًا، وأشدَّ تنافسًا في الأبناء والأموال. ذهبوا، فلم يبقَ سوى ذكرهم، وسيُفعلَ بكم كما فُعِل بهم، وأنتم لاهون بطلب الزُّور والمِحال. أولئك هم في بطون الأجداث رِمَمًا وترابًا، قد لَقِيُوا (¬1) جزاءَ ما قدَّموه ثوابًا أو عقابًا؛ فبعضُهم بالأساور، وبعضُهم بالأغلال. قد انكشف الترابُ عن عظامهم، وداسَها الأحياءُ بأقدامهم، وذهبتْ بها الرياحُ والمياهُ عن يمين وشمال. فاجعلوا - رحمكم الله - دنياكم لأخراكم، فذلك سبيلُ النجاة لأقصاكم وأدناكم؛ فإنَّ الأبرار لَفي نعيم، وإنَّ الفجَّار لَفي جحيم، بلا ريبٍ ولا إشكال. واعلموا أنَّ الله قد أمرَكم بأمرٍ عظيم حكاه عنه وعن ملائكته، وحرَّضكم عليه لِتفُوزوا بفضله ورحمته، ولا سيَّما إنْ واظبتم (¬2) عليه بلا فتور ولا مَلال. قال تعالى - ولم يزل قائلًا - تنبيهًا على قدر نبيِّه وتكريمًا: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].اللهم صلِّ وسلِّم على نبيِّكَ محمد أفضل العالَمين، وعلى إخوانه من النبيِّين والصدِّيقين والشهداء والصالحين. وارضَ اللهمَّ عن صاحبه في غاره وعريشه، أوَّلِ مؤمنٍ من رجال أمَّته، خليفتِه على التحقيق: سيِّدِنا أبي بكر الصدِّيق. ¬

_ (¬1) كذا في الأصل هنا وفي الخطبة (34). (¬2) رسمها في الأصل بالضاد.

وارضَ اللهمَّ عن نائبِه في الخلافة، ذي الشدَّة في الدين والصلابة، المتمسِّكِ من طاعتِك بأوثقِ الأسباب: أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب. وارضَ اللهمَّ عن ثالثِ القوم، القائل فيه رسولُك: "ما ضرَّ عثمانَ ما فعل بعدَ اليوم" (¬1)، المتخلَّقِ بالإيمان والإحسان: أمير المؤمنين أبي عمر عثمان بن عفان. وارضَ اللهمَّ عن أخي نبيِّك وابن عمِّه، باب مدينة علمه (¬2)، المصيب في قضائه (¬3) وحكمه، جمِّ الفضائل والمناقب، المنزَّهِ عن الرذائل والمثالب: مولانا أميرِ المؤمنين علي بن أبي طالب. وارضَ اللهم عن سَكَنِه الحَوراءِ فاطمةَ البتولِ الزَّهراءِ، وعن ولديهما الإمامَين العظيمَين: الإِمام أبي محمد الحسن، والإمام أبي عبد الله الحسين. وارضَ اللهم عن عَمَّي نبيِّك خيرِ النَّاس: سيِّدنا الحمزة، وسيِّدنا العباس. وارضَ اللهم عن السِّتَّة المتممِّين للعشرة، وعن أهل بيعة الرضوان والشجرة، وعن حَبْرِ الأمَّة وترجمانِ القرآن سيِّدنا عبد الله بن العباس، وعن أزواج نبيِّك وأهل بيته، وعن بقية الصحابة، والتابعين بإحسان إلى يوم الدين. اللهمَّ، وكما وعدتَنا بنصرِ دينك وتأييدِه، وحفظهِ وتشييده؛ فانصُرْ اللهمَّ ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه في الخطبة (57). (¬2) يشير إلى الحديث المشهور، وقد تقدم في الخطبة (57). (¬3) رسمها في الأصل: "قضاه".

وأيَّدْ مولانا أميرَ المؤمنين وسيِّد المسلمين، الشريفَ الأسعد، والإمامَ الأمجد، مولانا أميرَ المؤمنين (¬1) محمد بن علي بن محمد. اللهمَّ انصُرْ أنصارَه، وآخِذْ أعداءه، ومكِّنْه من إصلاحِ عبادك، والهداية إلى سبيل رشادِك، برحمتك يا رحيم. وأعِنْ اللهم أعوانَه، واغفِرْ له ولهم ولنا ولجميع المؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات. أسأل الله لي ولكم التوفيق إلى رضائه، واللُّطفَ في قضائه، والعصمةَ من بلائه (¬2)، وأن يحشرَنا في زمرةِ خير أنبيائه. عبادَ الله {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90]. فاذكروا الله العظيمَ يذكركم. ... ¬

_ (¬1) كذا تكرر. (¬2) رسمها في الأصل: "بلاه" وكذلك "أنبياه" كعادته، ولكن خالفها في رسم "رضآءِه" و"قضآءِه".

61

(61) [ل 48] الحمدُ لله المنعِمِ بالخيرات، المُفيضِ لعظيم البركات. أحمدُه على نِعَمٍ لا تُعَدُّ، وأشكرُه على تفضُّلات لا تُحَدُّ. وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ سيِّدنا محمدًا عبدُه ونبيُّه، بالهدى ودين الحق أرسَلَه؛ فبلَّغ ما أمره به، وأوضَحَ الكتابَ والشرعَ الذي عليه أنزَلَه. اللهمَّ فصلِّ وسلِّم على هذا النبي الكريم: سيِّدنا محمدٍ، وعلى آله أهلِ المنزلة والولاية، وعلى أصحابه أهل الإعانة والعناية. أما بعدُ، فأوصيكم - عبادَ الله - ونفسي بتقوى الله، فاتَّقُوا الله في السرِّ والعلانية، وآثِروا الدارَ الباقية على الدار الفانية. واعلموا أنَّ الأجلَ قريب، والعملَ يسير، والعمرَ قصير، والناقدَ بصير، والعذابَ شديد، والنعيمَ لذيذ. فاجتهِدُوا في طاعة الله، ودَعُوا عصيانَه، ليمنحكم رضوانَه، ويرزقكم غفرانَه، ويُدخلِكم جِنانَه، ويؤمنَكم نيرانَه. واتقوا الله في جميع أحوالكم، وراقِبوه في جميع أعمالكم، وأخلِصوا له في جميع أقوالكم وأفعالكم، وتسابقوا بالطاعات هجوم آجالكم، واقطَعوا بذكر الموت حبالَ آمالكم، واغتنِموا بقية أعماركم؛ فإنَّ الدنيا قليل، ومحبَّها عليل، وصاحبهَا ذليل، لا يُشفَى بها غليل، ولا يُنال بها جليل، ولا يدوم بها خليل. واعلموا أنَّ الله تعالى أمرنا بأمر عظيم حكاه عنه وعن ملائكته، ثم أمَرَنا به تعظيمًا لخاتم رسالته، وتحضيضًا على اتباع سنته، وتكثيرًا لأنواع طاعته، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا

عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].اللهم صلِّ وسلِّمْ على هذا النبيِّ الأمجد: سيِّدنا محمد، وعلى جميع إخوانه من النبيين والصدِّيقين والشهداء والصالحين. وارضَ اللهم عن أهل بيته الأطهار، وخلفائه الأبرار، وصحابته الأخيار. اللهم، وكما وعدتَنا بحفظ دينك وتأييد أعوانه وتشييد أركانه، فاحفَظْ وأمْدِدْ وانصُرْ وأيِّدْ مولانا أميرَ المؤمنين، إمامَ المسلمين، الشريفَ الأمجد، الإمامَ الأسعد: محمدَ بن علي بن محمد. اللهم اجعله لحماية دينك حِصْنًا حصينًا، وكِنًّا كنينًا، ومكانًا مكينًا، وعمادًا متينًا. اللهم انصُرْ جيوشَ المسلمين وعساكرَ الموحِّدين، المجاهدين لإعلاء كلمة الدين. اللهمَّ أفِضْ على المسلمين كرمَك، وأسْبِلْ عليهم نعمَك، وادفَعْ عنهم نِقمَك. اللهم اغفِرْ لنا ولوالدينا ولمشايخنا، واغفِرْ للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات. عباد الله، طُوبَى لمن سمع الموعظة، فانتفَع بها. وويلٌ لمن سمعها فأعرضَ عنها. والله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90]. ***

62

(62) [ل 64] الحمد لله الذي أهَّلَنا لطاعته، وعلَّمَنا كيفيَّةَ عبادته، وعضَدَنا بإعانته، وأوضَحَ لنا سُبُلَ هدايته. جعَلَنا من أمةِ خير نبيًّ أرسَلَه، وهدانا بخيرِ كتابٍ أنزَلَه، وجَعَلَ فينا العلماءَ بشريعته، الموفَّقين لاتِّباعِ كتابه وسنَّته. وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، أقامَ علينا الحُجَّة، وبيَّن لنا المحجَّةَ. تنزَّه عن كلِّ نقصٍ، واتَّصفَ بكلِّ كمال. وأشهد أنَّ سيِّدنا محمدًا عبدُه ونبيُّه، أرسله هاديًا مهديًّا، فبلَّغَ ما أرسَلَه به على أتِّم وجهٍ وأبدعِ مِنوال. أما بعد - عبادَ الله - فأوصي نفسي وإياكم بتقواه، والإعراض عما سواه. فاتقوه في جميع أقوالكم وأفعالكم، وأخلِصُوا له في جميع أذكاركم وأعمالكم، وبادِروا بطاعته هجومَ آجالكم، واقطَعوا بذكر الموت حبائلَ آمالكم. فإنَّ الدنيا قليلٌ بقاؤها، سريعٌ فَناؤها، مريرٌ عَذْبُها، وخيمٌ حبُّها. وقد رغَّبَكم الله عنها فأطيعوه، ورغَّبكم في الآخرة فلا تعصوه. واعلموا أنه تعالى أمَرَنا بأمرٍ حكاه عنه وعن ملائكته، وأرشدَنا إليه تكثيرًا لأنواع طاعته، وتشريفًا لخاتم رسالته. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]. اللهم صلِّ وسلِّم على سيِّدنا محمد نبيِّك الأمي، وعلى جميع إخوته من النبيِّين والصديقين والشهداء والصالحين. وارض اللهم عن أهل بيته الأطهار، المصطفَين الأخيار، الذين قال

فيهم: "أهل بيتي كسفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلَّفَ عنها هلك" (¬1). وارض اللهم عن أصحابه الأبرار من المهاجرين والأنصار، الذين قال فيهم: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" (¬2)، ولا سيَّما سادتنا الخلفاء الأئمة الحنفاء. اللهم واحفَظْ وانصُرْ مولانا أميرَ المؤمنين إمامَ المسلمين القائمَ لإعزاز الحق والدين: مولانا الإمام محمد بن علي بن إدريس. اللهم ارفَعْ به أعلامَ الدين، وأحْيِ به سنَّةَ سيِّدِ المرسلين. وأمِدَّه اللهمَّ بعواصم تأييدِك ونَصْرِك، واقصِمْ ظهورَ أعدائه بقواصم انتقامك وقهرك يا إلهَ العالمين. اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمَها، وخيرَ أعمارنا أواخَرها، وخيرَ أيَّامنا يوم لقائك. واغفر اللهم لنا وللمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات. عبادَ الله {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90]. فاذكروا الله يذكركم، واشكروا نِعَمه يزدْكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون. ... ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه في الخطبة (58). (¬2) تقدم في الخطبة (58).

ملحقات المجموع

ملحقات المجموع الجهاد سنام الدين الوصايا نصيحة لطالب الحق

الجهاد سنام الدين

الجهاد سنام الدين بسم الله الرحمن الرحيم [ل 67] الحمدُ لله القادر القاهر، الحكيم العزيز الناصر، غالبِ من غالبَهَ، ومُهلِكِ من حاربه. أشهد أن لا إله إلا هو وحدَه لا شريكَ له، أذلَّ الجبابرة العُتاةَ، والفراعنةَ البُغاة. أحمَدُه على أن جَعَلنا مِن أُمَّةٍ أركانُ حَقِّها مُشَيَّدة، وأنصارُ هَدْيِها مؤيَّدة، وأصلَّي وأسلِّم على نبيّه محمدٍ الهادي إلى سبيل رشاده، والمبلِّغِ رسالتَه إلى عباده، والمجاهدِ فيه حقَّ جهادِه. وبعد، فإنّ العاجز لمّا شاهد هذا الوقتَ وانتشارَ الجهاد فيه، واستهلالَ دواعيه، مُناسبًا للنصائح المُحرِّضة على القيام به، والباعثةِ على النفور في سبيل الله، وفَقَدْنا مَنْ يقوم بهذا الواجب في هذا القُطْر ممّن بلغ درجاتِ الكمال، ونال من العلم بعضَ مَنَال، فيُبيِّن للناسِ مذاهبَه، ويُوضِّح لهم مندوبَه وواجبه، ووجدتُ شدةَ الاحتياج إليه، وتوقُّفَ التحمُّسِ والتغيُّظِ عليه، وعلمتُ أنّ أداءَ النصائح وإبلاغَ الحُجَج إلى الناس فرضُ كفاية، وكوني ممَّن يُنسَب إلى عائلات الفِقْه يُدخِلني في الواجبِ عليهم ذلك. فأحببتُ (¬1) أن أسطِّر فيه نبذةً أستمطِرُ بها نَفَحاتِ الأماثل، وأُحرِّك بها نَخَواتِ الأفاضل، وإن لم يكن لي في هذه الحَلْبة مجال، ولا في هذا المقام مقال، ولا أُنكِرُ تقصيري في هذه المفاوز إذا لُزِزْتُ في قَرَنٍ مع الرِّجَال. وأستعين الله سبحانه وتعالى، وهو حسبي ونعم الوكيلُ. ¬

_ (¬1) جواب "لمّا" الواردة في الفقرة السابقة.

اعلمْ أنَّ الجهاد ركنٌ من أركان الإسلام، وهو روحُه التي لا يحيا إذا فارقه، وهو أفضلُ الأعمال بعد الإيمان، وَعَدَ الله مَنْ قام به، وتوعَّد مَنْ تأخَّر عنه، وجعله سببًا لإعزازِ دينه وإكمالِه، وإخزاءِ عدوِّه وإذلالِه، وله في ذلك الحكمةُ الباهرةُ، منها: أنْ يَنْصرَ دينَه ويَخْذُل عدوَّه بلا سبب مُهلِكٍ في الِعيان، لا يتمكَّنون مِنْ دفاعه، كالخسفِ والمسخ والصواعقِ؛ وليفتخرَ المسلمون بغلبتهم - مع قلَّتِهم - أعداءَهم مع كثرتهم، ويُثِيب عليه (¬1) المجاهدين، ويُعاقِب القاعدين، ويَبتلي عباده، وهو أعلمُ بهم، إلى غير هذا. وجعل سبحانه وتعالى طبيعةَ البشر الخوفَ من الأشياء العاديةِ الإهلاكِ والخشيةَ والهرب منها، ثمَّ بناءً عليها فلم يُكلِّفهم عدمَ المدافعة والتحرُّز بنحو الاختفاء والتدرُّع ونحوه، بل كلَّفهم ذلك كاتخاذ السِّلاح ونحوه، مِن قتل أعدائهم بالأسلحة، ومهاجمتِهم بقدر الإمكان، للحِكَم السابقة في الجهاد وغيرها، وفضلاً منه وكرمًا. فأهلُ دهرِنا هذا مع تكاسُلِهم ونُضُوبِ حميَّتِهم ويقينهم إن قلتَ: اذهبوا إلى الجهاد، قالوا: إنّ الله قادرٌ على إهلاكِ أعدائنا بلا قتالٍ، ولا يكون إلا ما أراد من نفورنا وقتالنا، وغلَبِنا أو غَلَبِ أعدائنا. فتلك في الحقيقة كلمةُ حقٍّ من حيث معناها، لا من حيثُ ما أُرِيد بها، فإنّهم يُريدون التخلُّصَ بها من اتباع أوامر الله سبحانه ومعاندتَه، وكأنّهم اعترضوا عليه في إيجابه، وادَّعَوا عدمَ الحكمة فيما قضاه، فهلاّ نظروا إلى أوامرِه ونواهيه ووعده ووعيده، وإرسالِ الرُّسل، وتنزيلِ الكتب، والأمرِ ¬

_ (¬1) في الأصل: "إليه"، وهو سهو.

بالجهاد وغيره. وقد كان سيِّدُ البشر - صلى الله عليه وسلم - أعلمَ الخلقِ بربّه، يُقاتل بنفسه، ويلبس السلاحَ مَثْنَى، تقلَّدَ سيفين، واعتقلَ رُمحَينِ، ولبس دِرْعَين وبيضتَينِ. مع أنّ ما يقول أهل زماننا ليس منهم على جهة اليقين؛ لأنّهم إذا حضروا الحربَ لا يكونون هنالك، ولا يَبنُون على ذلك، ونسأل الله سبحانه الهدايةَ. ****

البحث الأول: في الجهاد بالنفس

البحث الأوّل: في الجهاد بالنفس الكتابُ والسنّة مَمْلُوآنِ بالتحريض عليه، والترغيب فيه، وذكرِ ثواب فاعليه، وشروطه مذكورةٌ في كتب الفقه. فمِنه فرضُ كفاية، كغزو الكفّار كلَّ سنةٍ إلى بلادهم بعد رعاية أمر الإِمام، فإن تركه الإمام فَعَله الناسُ. ومنه فرضُ عينٍ، مثل ما إذا دخل الكفّار بلدًا من بلادنا التي دخلت تحت أيدينا فواجبٌ على من فيها فرض عينٍ قتالُهم، حتى العَجَزة فعليهم الدَّفعُ بما أمكن، وعلى من حواليها إلى ثلاثة أيام ما لم تحصل الكفاية بدفعهم، فإذا حصلت الكفايةُ بدون الثلاثة الأيام فهو على الباقين فرضُ كفايةٍ، وكذلك هو على مَنْ فوقَ الثلاثة الأيام. وهو بعد سقوط الفرضيّة سُنّة مؤكدة، بل هو أفضل الطاعات بعد الإيمان، وهو عِزُّ الإسلام وناموسُ المسلمين، وسببُ الترقّي، ولو عددنا فضائلَه لملأنا عِدّة مجلداتٍ، مع أنّ ما أعدّ الله للمجاهدين في الآخرة لا نهايةَ له، ممّا لا عينٌ رأتْ، ولا أذنٌ سمعتْ، ولا خَطَرَ على قلب بشر، وعلى تاركه ما عليه من الإثم، ويُجازى غدًا بما يُجازى به من العذاب. فأين الإيمانُ؟ أين اليقين؟ أين التصديق بكلام الله تعالى؟ إنّا لله وإنّا إليه راجعون، لا حول ولا قوة إلا بالله. ما هذا الجهلُ الناشئ عن سوء اليقين؟ والخوف من القتل، الخوف من الشهادة، الخوف من بيع النفس لله تعالى وهي مِلْكُه، تفضَّل علينا بأن يشتري منّا مِلْكه بنعيم الآخرة الدائم، ثم نحن

البحث الثاني: في الجهاد بالمال

نمتنع عن بيعها له خوفًا من حُسنِ قبوله لها، وهربًا من الجنّة ونعيمها! نعوذ بالله. هذا إن كان لهؤلاء القوم يقينٌ حسب اعتذارهم بأنّه لا يكون شيءٌ إلا بقضاء الله وقدره، وأنّ الآجال لا تتقدَّم ولا تتأخَّر عن مقاديرها، فنعوذ بالله من الخذلان. **** البحث الثاني: في الجهاد بالمال الكتاب والسنة أيضًا مملوآنِ بالتحضيض عليه، فما أعظمَ كرمَ الله تعالى، وأوسعَ رحمتَه، وأعمَّ فضلَه، وأجزلَ نعمتَه! هيَّأ للإنسان سببَ الاكتساب وأعطاه المال وأنعم عليه به، ثم بذلَ له أنه إذا أنفقه في سبيله جازاه عليه أضعافًا مضاعفةً في النعيم الدائم، مع أنه ليس لأحدٍ رزقٌ إلا واستحالَ أن لا يأتيه، فلا يأكل رزقَه غيرُه. ثمّ الناسُ ملازمون للبُخل، ولا يخلو إمّا أن يكون لسوء يقينٍ ونقصِ إيمانٍ، ظنًّا أنّ الذي في أيديهم هو رزقهم، فإذا أخرجوه صار لغيرهم وحُرِمُوا الرزقَ ونعوذ بالله. وإمّا أن يكون محضَ حماقةٍ ورغبةٍ عن الجنّة ونعيمها، بل عن رضا الله وفي سخطه، وذلك هو الخذلان. ****

البحث الثالث: في النصائح والتحريض والتشجيع وفضائل ثوابه، والنهي عن التثبيط وذكر رذائل عقابه

البحث الثالث: في النصائح والتحريض والتشجيع وفضائل ثوابه، والنهي عن التثبيط وذكر رذائل عقابه فإعلام الوجوب واجبٌ على العالِم، بأن يُعلِم المجاهدين بوجوب هذا الشيء أو حرمته، وليس له أن يُعلِمَهم بسنيّة الشيء أو كراهته، فكما أنّ الجهاد واجبٌ عليهم، فيجبُ على العالم إعلامُ الجُهَّال بوجوبه، إلا أنّه لا يكون الإعلامُ فرضَ عينٍ إذا أمكن أن يقوم به أحدُ اثنين فصاعدًا. والنصيحة واجبةٌ، قال عليه الصلاة والسلام: "الدينُ النصيحة" (¬1). وأمّا التثبيط فعلى أوجهٍ: منها: تثبيط المنافقين للمؤمنين، وهو كقولهم للمؤمنين: أين تذهبون؟ إنكم ستَلْقَون رجالاً فَجَعَة (¬2)، وآلاتِ حربٍ مُوجِعَة، وأشياءَ مُزعِجة، وكثرةً مع قلّتكم، وقوةً مع ضعفكم. ولا سيّما إذا كان ذلك غير صحيح. ومنه حرامٌ، كأن يُعْلِمهم أنّ أعداءهم أقوياء، وهو صادقٌ، ولا يريد بذلك ضعفَ الإسلام، وأمّا إذا أراد تحريضَهم على تكثير العَدَد والعُدَد فهو محمودٌ. وأمّا أن تقع الوقعة فيجيء أحدٌ فيسأل، فإذا كان الغَلَبُ للمجاهدين بَشَّر القاعدين، مع تحريضهم على إعانة إخوانهم، وإن كان - والعياذُ بالله - الغَلَبُ لأعدائهم فإن رأى أنّه إن أخبرهم بالحقيقة يتحمَّسون ويبالغون في إعانة ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (55) من حديث تميم الداري. (¬2) في الأصل: "فعجة"، سبق قلم.

إخوانهم، فعليه إخبارهم، فإن تركه أَثِمَ. وإن رأى أنّ ذلك يُثبِّطهم فليقتصر على التحريض والتحضيض، وحاصلُ مراعاةِ المصلحة بالجهاد لا بالقعود. هذا ما يُورِده العاجز، قُلَامةُ أظفار الأدباء، وصَدى أصواتِهم، أوردَه كالتعيير لهم، والتغيير لقلوبهم، والتنبيه لأفكارهم. فيا إخواني! يا عُصبةَ هذا الدّين الحنيف، وأولي نَجْدة هذا الحقّ المنيف! الله الله في دينكم! اللهَ اللهَ في ملّتكم! اللهَ اللهَ في أوطانكم! وا شَوقاه إلى نَخْوة آبائكم وأجدادكم! وا حَرَّ كبداه على حماستهم! التي كانت للإسلام ركنًا مَشِيدًا، ومددًا مَدِيدًا، وقِلاعًا مَنِيعة، وجبالاً رفيعة، أوّاهُ عليهم! إخواني إلامَ تَكاسَلون؟ إلامَ تُثبِّطون؟ حتَّامَ تقاعدون؟ حتّامَ تَأخَّرون؟ علامَ أنتم نَاضِبو الغَيرةِ والحميّةِ كأنكم راغبون عن الإمامة والحريّة؟ إنّ هذه لإحدى الكُبَر، والله تعالى الموفِّق المعينُ. ****

خاتمة

خاتمةٌ نحن معشرَ متفاقهةِ الأمة في هذا اليوم، الذين لو قال قائلٌ بوجوب تنزيه لفظة "الفقه" عنّا ما كان عليه عَتْبٌ ولا لومٌ، نتكلَّف تعاطِيَ بعض الحيل الفقهية، المتوصَّلِ بها إلى سَلْب الأطماع الدنيوية، المتّخذةِ حبائلَ لأخذ أموال الناس بالباطل المبين، وأخْذِ الرُّشا ودَحْضِ الحقّ وإعانة الغيّ والظلم والظَلَمة الجائرين. ترى فريقًا منّا رَمَتْ بهم الجهالةُ في مَهاوِي الضلالة؛ فوقعوا في مَهلكة التثبيط، فيزعمون أنّ هذا الجهاد ليس لوجه الله تعالى، وإنّما هو حَربٌ لطلب التملك والأطماع، فأولى لهؤلاء! أولى لهم! ضَلُّوا وأضلُّوا! ألا ينظرون أنّ البلاد التي يُقاتَل عليها هي التي كانت بالأمس تحت أيدينا، وأكثرُ أهلِها إخوانُنا نسبًا ودينًا، وإنّا إن غفلنا عن حَرْبِ مَن تغلَّب عليها لم يُقصِّروا عن التشبُّثات لدخول ما تحت أيدينا. فهَبْ هذا الجهاد ليس لوجه الله تعالى، أليس دفاعًا عن أوطاننا وأهلينا ونسائنا وأولادنا ومساجدنا ومعابدنا وقبور فضلائنا؟ وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قُتِل دونَ عِقالِ بَعيرٍ فهو شهيد" (¬1). فأين عقولُهم يا تُرى؟ أيظنُّون أنّ عدوَّنا - والعياذ بالله - إذا تمكَّن من دخول بقيّة بلادنا يُبقِينا كما عليه اليوم ما في يده؟ لا والله، بل يَهدِم المساجد، بل يردُّها كنائسَ وبِيَعًا، ويُخرِّب قبور ¬

_ (¬1) لم أجده في مصادرنا بهذا اللفظ، وهو مشهور عند الشيعة، وقد ورد في كتاب "وسائل الشيعة" (15/ 120): "من قُتل دون عقالٍ فهو شهيد". وذكر أن في نسخة: "دون عياله".

أوليائنا ويستحيي نساءنا، ويسترِقُّ أبناءنا. فإنَّما إظهارُه الآنَ عدمَ التعرّض فيما انطَوتْ عليه يدُه الخبيثة حيلةٌ يدفع بها غيرةَ المسلمين، ويتَّقي بها ثورتَهم، ويُلِين لهم الكلامَ، ويُسهِّل لهم الأمر، ويُهوِّن عليهم المصائبَ، مكيدةً يبنيها، دفعها الله عنّا بحَوْله وطَوْله. فعارٌ وألفُ عارٍ، ونارٌ وألفُ نارٍ، وشَنارٌ وألفٌ شَنارٍ: أن يَمكُثَ مسلمٌ تحت حماية كافرٍ، أو يرضَى مسلمٌ لمسلمٍ ذلك، أو يتكاسل عن الدفع قبل الوصول، ولكنّ الجهل غَرورٌ، والجاهل مغرور، وكلُّ أحدٍ غير معذور. وأقبحُ شيءٍ جاهلٌ متعاقلٌ ... وأقبحُ منه عاقلٌ متجاهلُ تمّت. عبد الرحمن بن يحيى بن علي المعلمي

الوصايا

الوصايا

1

(1) [ل 60/ أ] هذا ما يوصي به العبد المسرفُ على نفسه، المضيعُ لخمسه، المنيبُ إلى ربِّه، المستغفرُ لذنبه: عبد الرحمن بن يحيى بن علي المعلِّمي: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيِّدنا محمدًا عبدُه ونبيُّه، بالهدى ودين [الحق] (¬1) أرسَلَه. صلَّى الله وسلَّم عليه، وعلى آله الأطهار، وأصحابه الأخيار، والتابعين لهم بإحسان. وبعد، فأومن بالله كما جاء عن الله وعن رسوله (¬2)، وكما يحبُّ ربُّنا ويرضى، وأؤمن بملائكة الله كما جاء عن الله وعن رسله وكما يحبُّ ربُّنا ويرضى، وأومن بالقضاء والقدر خيره وشرِّه من الله تعالى كما جاء عن الله وعن رسل الله وكما يحبُّ ربُّنا ويرضى. وحسبي الله وكيلاً، وكفى به شهيدًا، إنه كان لطيفًا خبيرًا. اللهم إنَّك تعلم عقيدتي، وتعلم سرِّي وعلانيتي؛ فما وافق رضاك ففضلًا منك تقبَّلْه منِّي، وما أخطأتُ فيه أو اشتبه عليَّ ففضلًا منك تجاوَزْه عنِّي. رحمتَك يا أرحم الراحمين. فعلت سوءًا، وظلمتُ نفسي، فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. سبحانك، وتعاليت عما يقول الظالمون والجاحدون علوًّا كبيرًا. هذا، وإنه قد ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الحثُّ على الوصيَّة، وأنا الآن غريب عن وطني وأهلي بمقام مولانا أمير المؤمنين السيِّد الإمام مُحيي علوم الشريعة ¬

_ (¬1) سقط سهوًا. (¬2) يحتمل قراءة "رسله".

ومجدِّدها، وممُيت رسوم البدع الشنيعة ومبدِّدها: مولانا الإمام محمد بن علي بن إدريس أيَّده الله بإعانته، وحرسه بوقايته، وعضَده بعنايته، وأمدَّه بكفايته. ووطني بلد "طُثَن" (¬1) من مخلاف "رازِح"، من ناحية "عُتْمة"، من قضاء "آنِس" التابع لولاية صنعاء. ووالدي الفقيه العلامة العماد يحيى بن علي المعلِّمي موجود في الناحية، وهو مقيم بعزلة "العَقِد" التابعة لمخلاف "حمير الوسط" من الناحية المذكورة. ولي أخ فاضل مقيم بـ "ذَيحان" مركز قضاء "الحُجَرية" التابع للواء "تَعِز". وكلُّ إنسانٍ الموتُ مصبِّحُه أو ممسِّيه، فإذا قضى الله (¬2) عليَّ الموتَ فقد أوصيتُ مولانا الإمام - أيَّده الله - فيما هو تحت يدي من جود أياديه من كتب ولباس وغيرها، وأسأل منه أن يرسل إلى والدي ليجيء بنفسه أو يجيء أخي أو يجيء رسول معتمد ليقبض ما تركتُه، ويحمله إلى والدي ليوضع كلُّ شيء على ما بينتُه في الورقة التي مع هذا، وتسلَّم لهم الورقة، ويحصر على الرسول ما استلم، ويلتزم بإيصال ذلك؛ ويفعل معه سيِّدُنا من المساعدة ما هو أهله. [ل 60/ ب] أما الكتب كلُّها، فتبقى في بيت والدي لانتفاع أولاده وأسأله ¬

_ (¬1) كذا ورد في الأصل بالثاء، وهي لغة، والمشهور بالفاء، والإبدال بينهما معروف. (¬2) لفظ الجلالة مكرر في الأصل.

بالله تعالى أن يقفها عنِّي على أولاده الذكور ما تناسلوا، ويجعل النظر للأعلم الأورع منهم. ولا يُمنع الآخرون من المطالعة، ولكن على الناظر أن لا يسلِّم لغيره كتابًا إلاَّ وقد أخذ منه ورقة، وشرَطَ أن لا يُخرج الكتب عن القرية التي الناظر فيها، وأن يتعاهدها في الشهر مرتين. وإذا - والعياذ بالله - صادف وفاة الوالد رحمه الله فعلى أخي الشقيق محمد بن يحيى ما سألتُه والدي من الوقف عني. وأما الكسوة فبحسب الميراث. وأسأل والدي وأخي أن يستبرئوا (¬1) لي كريمتيَّ مما قصَّرتُ فيه من حقِّهما ويرضيانهما عنِّي. وإذا صادف ووُجد معي شيء من النقود فيصرف منها ما يُبلغ متروكي إلى الوطن. وإذا فضل عن ذلك شيء، أو رأى الإمام صرف شيءٍ من فضله لذلك، فيحسب الميراث الشرعي. ثم أسأل والدي وأخي الشقيق أن يجمعا ويدوِّنا ما يوجد معي من نظمي أو مذاكرتي. وإذا تيسَّر نشره فذلك خير. وعلى أمير المؤمنين - أيده الله - أن يجمع ما يوجد من مدحي لجنابه العالي ويأمر بنسخه وطبعه ونشره، فذلك تمام حقِّي عليه. ... ¬

_ (¬1) كذا هنا بصيغة الجمع ثم "يرضيانهما" مثنى.

2

(2) بسم الله الرحمن الرحيم [ل 61/ ب] هذا ما يوصي به العبد المذنب العاصي الخاطئ المسرف على نفسه: عبد الرحمن بن يحيى بن علي بن مُحُمَّد (¬1) بن أبي بكر بن مُحَمَّد بن حسن المعلمي العتمي، الذي كان يأمر بالمعروف ويجتنبه، وينهى عن المنكر ويرتكبه، مخلًّا بالفرائض، مقِلًّا من المندوبات، معاودًا لكثير من الكبائر الموبقات، مصِرًّا على كثير من الصغائر المكروهات؛ ليس له عمل يرجو نفعه إلا عفوَ ربه سبحانه وتعالى وكونه = ويقول: أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلهًا واحدًا، وربًّا شاهدًا، ومَلِكًا متعاليًا، منزَّهًا عن كل نقص، جامعًا لكلِّ كمال. أشهد أنه فوق ألسنة الواصفين ومدارك المفكرين، لا يعلم شيئًا من شؤونه على الحقيقة إلا هو. وأشهد أنه أرسل رُسُلًا إلى خلقه لإبلاغ الحجَّة وإيضاح المحجَّة، فبلَّغوا رسالته كما أمر. وكان خاتمهم خيرهم سيِّدنا ومولانا وشفيعنا إلى ربِّنا رسول الله وحبيبه: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم صلَّى الله وسلم عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته الهُداة المهديين. وبعد، فعقيدتي التي ألقى الله تعالى بها وأقف بها بين يديه مصمِّمًا على أنها الحقُّ الحقيق هي أن الله سبحانه وتعالى مستحقٌّ لكلِّ كمال، منزَّه عن كل نقص في التفصيل والإجمال. أومن بكل ما سمَّى به نفسه أو سمَّاه به ¬

_ (¬1) كذا مضبوطًا بضم الحاء، والآتي بفتحها.

نبيُّه، وأقرُّ كلَّ ذلك على ما ورد معتقدًا أنه كذلك بحسب ما أراده. ولا أتصرَّف في شيء من أسمائه المتشابهة لجهلي عن الأسرار، فربما يكون لذلك المقام خواصُّ لا يصح إطلاق ذلك إلا معها. وأعتقد أنَّ كلمته العليا، وأنَّ حجته البالغة، وأنَّ عباده محجوجون له، مستحقُّون الجزاء على ذنوبهم، وأنه سبحانه لا يظلم أحدًا. وأعتقد أن كلَّ مسلم اعتقد في الله سبحانه وتعالى عقيدةً أدَّاه إليها اجتهاده، وظنَّ أنها الحق وقصد بها الحقَّ، ولم تكن كفرًا = فهو من رحمة الله قريب، وإن أخطأ. وأقف عمَّا إذا استلزمت كفْرًا، وأنا إلى السلامة أقرب. وأعتقد أنَّ الملائكة والأنبياء معصومون، ولا أفضِّل؛ وأنَّ أهل البيت والصحابة مُكرَّمون، ولا أقدِّم وأوخِّر. وأصوِّب عليًّا، وأعتقد أنَّ أهل الجمل أرادوا الخير، فأخطأوا. ولم يكن الحرب عن رضًا من عليٍّ ولا أمِّ المؤمنين ومن معها، وإنما أثارها سفهاءُ الجانبين. وأخطِّئ أهل صفِّين، وأعتقد أنهم بغوا وطغوا واعتَدَوا، ولا أدري أخَفِيَ عليهم الحق أم تعمَّدوا منابذته؟ فالله حسيبهم. ***

3

(3) الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله عليه وسلَّم وبارك على خاتم أنبيائه محمد وآله وصحبه. الحمد لله، أقول وأنا عبد الرحمن بن يحيى المعلِّمي العُتْمي اليماني - غفر الله ذنوبه، وستر عيوبَه -: هذه وصيَّتي. وهي أنِّي أشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ وأنَّ محمدًا عبده ورسوله، وأنَّ كلَّ ما جاء به محمد رسول الله - صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آله - مِن عندِ الله تبارك وتعالى حقٌّ. وأوصي المسلمين بأن يحقِّقوا معنى شهادة ألَّا إله إلا الله، ويتحقَّقوا به، وأن يتبعوا كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. وأوصي كلَّ مسلم أن يتدبَّر كتابَ الله تعالى، ويتفحَّصَ الأحاديث ثم يتدبَّرها، ويحتاط لدينه ويتبع الحق، سواء أكان مذهبَ إمامه أم مذهب غيره؛ وأن يعَضَّ بالنواجذ على ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وأئمة التابعين، ويجتنب البدع كلَّها، ولا يتديَّن إلاَّ بما ثبت عنده بكتاب الله تعالى وسنة رسوله أنه من الدين. ثم أوصي إلى الشيخ (إبراهيم رشيد) أن يحتاط لولدي (عبد الله) (¬1) - أصلحه الله - إذا توفَّاني قبل بلوغه، ويجتهد فى تربيته تربية صالحة، ويمنعه من الاختلاط بالأطفال السفهاء، وينفق عليه وعلى أمِّه ما لم تتزوَّج، مما ¬

_ (¬1) ولد في 6 ربيع الآخر سنة 1351.

يجده من متروكي هنا، ومما لعلَّه ... الله تعالى من الدائرة. ثم إذا وصل حدَّ القراءة ألزمَه بحفظ القرآن الكريم، ولقَّنَه التوحيدَ الحقَّ، ثم يُربِّيه تربية دينيَّة علميَّة. ثم أوصيه أن ينظر الكتب العلمية الموجودة .... فمنها كتب لورثة السيد محمد بن علي الإدريسي، هي مشروحة في هذا الدفتر، فتُرسل لهم. وكذلك يُرسل لهم كتاب "تدريب الراوي بشرح تقريب النواوي" خط يد. ***

4 (وصية الشيخ لتلميذه محمد بن أحمد المعلمي)

(4) وصيَّة الشيخ لتلميذه محمد بن أحمد المعلِّمي الحمد الله رب العالمين، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللَّهمَّ صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10]. أما بعد: فقد صَحِبني الولد الفاضل محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد المعلمي - وفقه الله تعالى - عامين كاملين بمكة المكرمة، وحمدت صحبته وأدبه، وحرصه على طلب العلم. وقرأ عليّ كتبًا في العربية: "الآجرُّومية"، فـ "المتممة", فـ "القَطْر"، وطرفًا من "ألفية ابن مالك"، مع إعراب عدة أجزاء من القرآن، وأكثر "زبد ابن رسلان" و"الرَّحَبية" مشروحة. وسمعني أشرح ما يجب في الاعتقاد والعمل، وأخذ بنصيب من معرفة ذلك، مع صلاحه في نفسه، وإقباله على الخير، وعدم ميله إلى اللهو واللعب، وشدة محبته لي وحرصه على راحتي، وإتعابه نفسه في خدمتي، حتى في حال مرضه. أسأل الله أن يجزيه خيرًا وبرًّا وتوفيقًا وصلاحًا، وأن يصلح شؤونه في دينه ودنياه. ثم تضافرت الدواعي لرجوعه إلى الوطن لزيارة والديه وغير ذلك، والتمس

المطلب الأول العقيدة في شأن ذات الله عز وجل وصفاته

منّي أن أكتب له وصية نافعة، فرأيت من الحقِّ عليَّ أن أجيبه إلى ذلك، ومن الله تعالى أسأل التوفيق لي وله، وأرتّبها على مطالب: المطلب الأول العقيدة في شأن ذات الله عزَّ وجلَّ وصفاته بعث الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - إلى الخلق، وكان أول مَن دعاه العرب, وكان العرب في جاهليتهم يعترفون بوجود الله عزَّ وجلَّ وربوبيته، وأنه ربُّ كلِّ شيء، وكانوا يصفونه بما تقتضيه الفطرة، وما بقي لديهم من ملة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام من صفات الكمال، ويفترون عليه أشياء. فجاء القرآن والسنَّة بتقريرهم على الحقّ وردّهم عن الباطل، فكان من الباطل: زعمهم أن الملائكة بنات الله - تعالى الله عن قولهم - وزعمهم: أنه يجوز أن يُعبد مع الله بعض مملوكاته ليكونوا شفعاء لهم إليه، ويقربوهم إليه زُلْفى، وشكُّهم في أنّ الله يبعث الناس بعد موتهم ولا يكون هذا أبدًا؛ ولهذا قال تعالى: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} [يونس: 18]، فقرر القرآن في عدة آيات أن الله تعالى تنزَّه عن أن يكون له ولد، وأنه لا يستحق أن يُعبد إلا هو سبحانه، وأن البعث بعد الموت حق. فالاعتقاد هو ما اقتضته الفطرة القاطعة، وصرَّح به القرآن والسنَّة الصحيحة الصريحة. ولا ريب أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا أكمل الخلق في الإيمان وصحّة الاعتقاد، فمن أراد صحة الاعتقاد فليجعل نفسه كواحد منهم، لا يعتدّ إلا بما كان حاصلًا لهم من العقل الفطري، والفهم لكلام الله

المطلب الثاني بقية أركان الإيمان

عزَّ وجلَّ وكلام رسوله، بِحَسَب (¬1) اللغة العربية، مع صدق الإجلال لله عزَّ وجلَّ، وأن لا يقفو (¬2) ما ليس له [به] (¬3) علم، والتحرز من الهوى واتباعه. فلا يكن همّ الإنسان إلا أن يكون مؤمنًا ملتزمًا للصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم، ومنهم رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه؛ ولا يبالي إذا وافق أنْ يخالف أحدًا من الناس. همُّه أن يوافق الله ورسولَه سواءً أَوافقَ قولَ مَن دونهما أو خالفه. **** المطلب الثاني بقية أركان الإيمان وهي الإيمان بملائكة الله، وأنهم عباد غيبيوّن مطيعون لربهم عزَّ وجلَّ، لا يسبقونه بالقول ولا يفعلون إلا ما يأمرهم، ولا يشفعون عنده إلا لمن ارتضى بعد إذنه سبحانه لهم. ولا يرغبوا (¬4) في أن يشفعوا إلا أن يعلموا إذن الله تعالى ورضاه في أن يشفعوا، ولا يفعلون إلا ما يأمرهم ربهم عزَّ وجلَّ. والإيمان بكتب الله عزَّ وجلَّ التي أنزلها على أنبيائه، والمهيمن عليها القرآن الكريم، وأنه كلام الله عزَّ وجلَّ أنزله على محمد - صلى الله عليه وسلم -. والإيمان برسل الله عزَّ وجلَّ، وهم أناس من البشر اختارهم الله عزَّ ¬

_ (¬1) (ط): "بحب" والظاهر ما أثبت. (¬2) (ط): "يقضوا" والظاهر ما أثبت. (¬3) زيادة متعينة. (¬4) كذا في (ط).

وجلَّ، وأنزل عليهم ملائكته ليبلغوهم كلام ربهم وأمره، حتى يبلغوا عباده. والرسل معصومون في كلِّ ما يبلّغونه عن الله عزَّ وجلَّ، صادقون في ذلك كله، مع طهارتهم في أنفسهم، وصدقهم، ومحبتهم له عزَّ وجلَّ، وطاعتهم له. وخاتمهم محمد - صلى الله عليه وسلم - بلَّغ رسالة ربه، ونصح لخلقه، ولم يمت حتى بيَّن للناس دينهم. ولا يؤمن أحدٌ حتى يحبه - صلى الله عليه وسلم - أشدّ من محبته للأب والابن والنفس وغير ذلك. وقد خصَّه الله عزَّ وجلَّ بالمقام المحمود، والشفاعة العظمى لأهل المحشر؛ ليخلصوا من ضيق المحشر، ويشرع في فصل القضاء. وأسعد الناس بشفاعته - صلى الله عليه وسلم - مَن قال: لا إله إلا الله، خالصًا من قلبه، يصدِّق قلبَه لسانُه، وعملُه لسانَه. وعلامة محبتك له - صلى الله عليه وسلم -: شدّة حرصك على طاعته فيما بلَّغه عن ربه عزَّ وجلَّ. والإيمان بقَدَر الله عزَّ وجلَّ، فقد قدَّر سبحانه كل ما هو كائن، ثم بيَّن لعباده ما يقرِّبهم إليه، وما يبعدهم عنه؛ لما أرشدهم بعقولهم إلى ما ينفعهم في دنياهم، وما يفرحهم فيها، ثم جعل لهم من التمكين والاستطاعة ما جعل. فالإنسان متمكِّن مستطيع أن يؤمن وأن يكفر، وأن يطيع وأن يعصي، وأن يسعى فيما ينفعه، أو فيما يضره، أو يدع السعي. فمن اختار الخير فهو السعيد الموفَّق، ومَن اختار الشرّ فهو الشقي الموبَق. وقد قدَّر الله هذا وهذا، وله الحجّة البالغة على هذا وهذا. ****

المطلب الثالث شهادة أن لا إله إلا الله

المطلب الثالث شهادة أن لا إله إلا الله ومعناها: أنه لا حقيق بأن يُعبد إلا الله عزَّ وجلَّ. والعبادة هي الخضوع والتذلل طلبًا لنفع غيبي. تسمي العرب الطلب إذا كان الطالب أعلى من المطلوب منه: أمرًا، فإن كان مثله سمّته التماسًا، فإن كان أعلى منه سمته: سؤالاً، فإن كان طلب النفع غيبي (¬1) سمته: دعاءً. فالملك إذا طلب من خادمه شيئًا قيل: أمره بكذا وكذا، والتلميذ إذا طلب من زميل له شيئًا قيل: التمس منه كذا، والرَّعوي إذا طلب من الملك شيئًا قيل: سأله (¬2) كذا. تقول: سألتُ الملك أن ينصفني من خصمي، ولا يقال: دعوت الملك أن ينصفني من خصمي. نعم، يقال: دعوت فلانًا، بمعنى: ناديته، وهذا معنى آخر، إنما الخاص بالنفع الغيبي هو الدعاء بمعنى السؤال الذي هو طلب النفع. فالدعاء بمعنى سؤال النفع الغيبي هو روح العبادة، وبقية العبادات متضمنة له؛ لأنها كلها يُطْلَب بها النفع الغيبي. فمن دعا الله عزَّ وجلَّ، أي: سأل منه [أن يرحمه، أو يشفيه، أو يغنيه، أو غير ذلك، فقد عبده. ومَن دعا غير الله عزَّ وجلَّ، أي: سأل منه] (¬3) نفعًا غيبيًّا فقد عبد غير الله عزَّ وجلَّ. فأما الخضوع والتذلل طلبًا للنفع الغيبي، فإن الله إذا أمر بالتذلّل لغيره، ¬

_ (¬1) كذا في (ط). ولعل الصواب: "فإن كان طلبًا لنفعٍ غيبيٍّ". (¬2) (ط): "اسأله" خطأ. (¬3) المعكوفان وما بينهما من (ط).

المطلب الرابع شهادة أن محمدا رسول الله

فامتثلنا ذلك كنّا عابدين لله عزَّ وجلَّ، لا لمن وقع في الخضوع في الصورة له، فمن تذلل لوالديه إلى الحدّ الذي أذن الله به، وقصد بذلك امتثال أمر الله عزَّ وجلَّ فهو عابد لله، لا للوالدين. فوصيتي لمحمد ولكلّ مسلم أن لا يدعو إلا الله، ولا يفعل فعلًا فيه خضوع يطلب به النفع الغيبي إلا إذا علم أن الله عزَّ وجلَّ أمر به، وأذن فيه. فمن تحقق هذا الأمر والتزمه فلم يدعُ إلا الله عزَّ وجلَّ، ولم يقصد بفعل ما فيه خضوع يطلب به النفع الغيبي إلا ما علم أن الله تعالى أمر به أو أذن فيه فقد برئ من الشرك. ومَن لم يتحقق هذا المعنى، وشكّ فيه، فعليه أن يحتاط. ومَن اطلع على هذا أو شكّ فيه، ثم لم يحتط، فحاصل ذلك أنه أقدم على ما يمكن عنده أن يكون كفرًا وشركًا. والمهم أن تلتزم سبيل النجاة، وتدعو إليه، وأن تحسن ظنك بالناس، فما دام محتملًا عندك في شخص أنَّ له عذرًا مقبولًا عند الله عزَّ وجلَّ، فاحمله على السلامة، وكِلْ أمرَه إلى الله عزَّ وجلَّ. **** المطلب الرابع شهادة أن محمدًا رسول الله ومِنْ لازمِ ذلك تصديقُه في كلِّ ما أخبر به عن ربه عزَّ وجلَّ، واستيقان أن ذلك حقّ محض لا ريب فيه. ويتبع ذلك المحبة، والطاعة، والاتباع. ****

المطلب الخامس بقية أركان الإسلام

المطلب الخامس بقية أركان الإسلام وهي أداء الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصيام رمضان. وهذه الأشياء تشتمل على أحكام: منها: ما أجمعت عليها الأمة. ومنها: ما اختلفت فيه. فالمُجْمع عليه لا بدّ من العمل [به] (¬1) على كلّ حال، وأما المختلف فيه فالواجب ردّه إلى الله عزَّ وجلَّ وإلى رسوله، وذلك بالرد إلى الكتاب والسنَّة. فمن عرف من الكتاب أو السنَّة أن قولًا من الأقوال المختلفة (¬2) فيها أرجح من غيره، فقد لزمه الأخذ به. فإن تركه إيثارًا لقول شيخه أو إمامه، صدق عليه أنه اتخذ غير الله ربًّا مع الله، أي: مُطاعًا في شرع الدين. ومَن لم يعرف من كتاب الله عزَّ وجلَّ وسنَّة رسوله أيَّ القولين أو الأقوال أرجح، وكان أهلًا للنظر والبحث والفهم المعتدّ به، وتيسّر له ذلك؛ فلينظر وليبحث. ومن لم يكن كذلك، ووجد عالمًا يثق بعلمه ودينه، وتحرِّيه الحقّ، وغلبت الإصابة في فهمه، وشدّة ورعه، واحتراسه في الهوى؛ بحيث يغلب على ظنك إذا قال هذا العالم في قول = أنه راجح، فاسأل هذا العالم، واعمل ¬

_ (¬1) زيادة لازمة. (¬2) كذا في (ط) ولعلها: "المختلَف".

المطلب السادس في الأعمال التي يتطوع بها

بما يُفْتيك (¬1) به، وإلا فعليك بالاحتياط. اللَّهمَّ إلا أن يشق عليك في شيء من الأشياء أن تحتاط مشقّةً يصعب عليك احتمالها، فأرجو أن يسعك الأخذُ بالرّخصة إن شاء الله تعالى. أما العاميّ الذي لم يعرف في مسألة إلا قولًا واحدًا؛ فإنه يلزمه العمل به، ويسعه ذلك. **** المطلب السادس في الأعمال التي يتطوّع بها قد دخل في هذا الباب خلل كثير، فالواجب الاقتصار على ما يتحقق أنه ثابت شرعًا، من صلاة، أو صيام، أو غيرها. فقد جاء الشرع بالصلوات الخمس وغيرها مما هو ثابت بالسنن الصحيحة، ثم أَذِنَ الشارعُ بالصلاة في غير أوقات النهي على أنها نَفْل مطلق. فعلى المسلم أن يصلي الصلوات الثابتة شرعًا، ويدع الصلاة في أوقات النهي. ثم يعلم فيما عدا ذلك أن الصلاة مشروعة شرعًا مطلقًا، لا مزية لبعضه على بعض، ولا يلتفت إلى مزية لم تثبت شرعًا. وهكذا سائر (¬2) الصيام وسائر العبادات. ¬

_ (¬1) (ط): "ينفعك" والصواب ما أثبت. (¬2) كذا في (ط).

وقد تشاغل الناسُ بأحزاب وأوراد وأذكار زعم بعض الناس أن لها مزية، ولم يثبت ذلك شرعًا، فعلى المسلم أن يعتقد أن تلك المزية لا يعتد بها؛ لأنها غير ثابتة شرعًا. وما لم يثبت شرعًا فليس من الدين في شيء؛ لأن الدين هو ما أنزله الله عزَّ وجلَّ على رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - فبلَّغه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وتكفَّل الله عزَّ وجلَّ بحفظه، فحفظته الأمة حفظًا تقوم به الحجة، فما ليس كذلك، فليس من الدين في شيء. فمن سوَّل له الشيطان أن يتشاغل بشيء من ذلك عن العبادات الشرعية، والأعمال النافعة، فقد خاب؛ فإن الشيطان يسعى بصرف الناس عن تلاوة القرآن والأذكار الثابتة شرعًا، كالصلاة الإبراهيمية على النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، ونحوها، وعن أعمال الخير كالسعي في مصالح الأهل وغيرهم من المسلمين، والعمل فيما ينفع المسلمين، أو فيما ينفع العامل من الحلال. فهو يصرف الجهّال عن ذلك كله بما ليس من الدين في شيء، حتى لا ينتفعوا في دينهم ولا دنياهم، بل يقعون في البدع المهلكة. والحاصل: أن كل عمل يعمله الإنسان راجيًا للثواب أو البركة إن كان ثابتًا شرعًا أنه مشروع يُرجى منه ذلك الثواب فهو حقّ وإلا فهو باطل. وكثيرًا ما يقع الإنسان بعمله تلك الأعمال التي لم تثبت شرعًا في الشرك، كما يعلم مما تقدم. ****

المطلب السابع في مخاطبة الناس

المطلب السابع في مخاطبة الناس يجب على المسلم أن يميِّز بين ما أمر الله به أو أذن فيه، وبين ما نهى عنه أو كرهه، فيلزم الأول على كلِّ حال، ويجتنب الثاني على كل حال، ويحتاط فيما لم يتبيَّن له حُكْمه. وعليك أن توطِّن نفسَك على حبّ الخير للخلق أجمعين، حتى إذا كرهت كافرًا أو مبتدعًا أو فاسقًا فلا تكرهه إلا لأنك تحبّ له أن يدع ما يضره، ويلتزم ما ينفعه. وهذا زمان قد صِرْنا فيه - أو كدنا - إلى ما ورد في الحديث: "شُحّ مُطاع، وهوًى مُتّبع، وإعجاب كلِّ ذي رأيٍ برأيه" (¬1). فأحب لك أن تجتنب المخاصمات التي لا ترجو لها فائدة. وإن مما هو من جهةٍ نعمةٌ عظيمةٌ من الله تبارك وتعالى على هذه الأمة، ومن جهةٍ أخرى حُجةٌ بالغة له سبحانه: أنْ كانت عامة المُحْدَثات التي نقول: إنها بدع ضالة، ومنها ما هو شرك بالله عزَّ وجلَّ = ليس فيها ما يقول أحدٌ: إنه ركن، أو شرط للإيمان، ولا فرض لازم، ولا سنَّة مؤكدة؛ بل غاية ما يزعم بعضهم: أنه مما يُرْجى له ثواب وبركة. وقد قال مَن هو أعلم من هذا بكتاب الله عزَّ وجلَّ وسنَّة رسوله وأقوال سلف الأمة: إن ذلك بدعة مضلة، ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (4341)، والترمذي (3058)، وابن ماجه (4514)، وابن حبان (385) وغيرهم من حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه. قال الترمذي: "حسن غريب"، وصححه الحاكم.

ومنه ما هو شرك. ومع هذا فهناك أعمال كثيرة ثابت (¬1) أنها مشروعة (¬2)، وأن ثوابها أعظم، وبركتها جليلة، ودلَّ الكتاب والسنَّة وأقوال سلف الأمة وأئمتها على ذلك؛ فالمخذول كلّ الخذلان، والمحروم كلّ الحرمان، والخارج عن طريق العلم والإيمان والعقل والفهم = هو مَن يُقْدِم على شيء من تلك المحْدَثات، ويتشاغل بها، في حين أنه يمكنه صرف ذلك الوقت في الأعمال والأقوال الشرعية الثابتة، والثابتِ عظيمُ ثوابها وبركتها. وإذا أجمع الأطباء على شيء أنه دواء نافع، واختلفوا في شيء فقال بعضهم: إنه مهم، وقال بعضهم: ضارٌّ ضررًا شديدًا، وقال بعضهم: لا يتحقَّق ضرره، وقال بعضهم: ربما يكون له نفع ما، ولكنه لا حاجة إليه للاستغناء عنه بالمجمع عليه = فالعاقل يستغني بالمجمع عليه، ويتجنب المختلف فيه. وقد قال الله تبارك وتعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]. وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الحلال بيِّن والحرام بيِّن، وبينهما أمور متشابهات لا يعلمهنَّ كثيرٌ من الناس، فمن اتقى الشُّبهات فقد استبرأ لعقله ودينه، ومَن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحِمَى يوشكُ أن يقع فيه" (¬3). هذا في الحلال والحرام، فأما في الإيمان والشرك فالأمر أعظم، وكلُّ ¬

_ (¬1) (ط): "ناس على" ولا معنى لها. (¬2) (ط): "مشروع". (¬3) سبق تخريجه في الخطبة الخامسة.

عاقل يبلغه كلام أهل العلم، لا بدّ أن يكون محتملًا عنده، وعلى الأقل في كثير من تلك المحْدَثات أنها شرك، كما صرَّح به جَمْع من أكابر العلماء. والمؤمن لا يمكن أن يقدم على ما يحتمل عنده أنه شرك، هذا مع أنه ليس في الإقدام عليه لذة طبيعية، إلا أن يكون اتباع الهوى، فإن الراغب في الثواب والبركة يجد ما هو باعتراف ألدِّ أنصار المحْدَثات أعظم أجرًا وبركة. فلو سألت أحدهم عن الصلاة على النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بالصيغة الإبراهيمية المأثورة، أهي أفضل أم قول القائل: "يا رسول الله"؟ لاعترف لك بأن البَونَ بعيد جدًّا، فإن فضل تلك الصلاة وثوابها وبركتها عظيم جدًّا، وأما قول: "يا رسول الله"، فغايته أن يدَّعي بعضُ أنصار البدع أنه لا بأس به، وقِسْ على هذا سائر المحدثات. فإذا بيَّنتَ هذا المعنى لرجل وأصرَّ على ترك اجتناب المحْدَثات فقد قُمتَ بالحجة، وإذا اجتنبْتَ المحدثات فاعترض عليك معترض فبيَّنْتَ له هذا المعنى، فقد أَبطلْتَ اعتراضَه ولزمه التسليم لك إن كان له عقل. ولا حاجة بك بعد هذا إلى المحاجّة في تلك المحْدَثات أَشِركٌ هي أم لا، ولا إلى سَرْد الحجج وإبطال الشبه؛ بل يكفيك الاستناد إلى ما تقدم. ولا بأس بعد ذلك أن تقول لمن نازعك: ليس عندي من العلم ما أتمكَّن به من المناظرة والمحاجّة، ولكنني أعلم أن الواجب على الناس ترك المحدثات، فإن لم يستغنوا ببطلانها وأن منها ما هو شرك، فإنهم يعرفون من اختلاف العلماء احتمال ذلك، فوجَب عليهم اجتناب ما يخافون أن يكون شركًا، وقد علموا أنه - على فرض صحة ما يزعم أنصار البدع - لا حاجة إليه، فإنّ في العبادات الشرعية العظيمة الأجر والثواب والبركة ما يغني عنه،

المطلب الثامن في مصالح الدنيا ومعاملة الناس

ولا ينبغي لعاقل أن يدَعَ ما عُلم بالإجماع والنصوص القاطعة أنه إيمان، ويتشاغل بما يحتمل على الأقل أن يكون شركًا. **** المطلب الثامن في مصالح الدنيا ومعاملة الناس ما دام الإنسان في الدنيا فإنه لا غنى به عن تحصيل المال وإصلاح المعيشة، والسعيد مَن أمكنه تحصيل ذلك بكدّ يمينه وعرق جبينه، بدون احتياج إلى إحسان أحدٍ ولا إضرارٍ بأحد، وإذا أمكنه هذا فقد قارب أن يسلم من الناس. فأما الدين، فينبغي للإنسان أن يكون مُؤْثِرًا لله عزَّ وجلَّ على كلّ شيء، ويحرص على أن يُفْهِم الناس أنه إنما يريد لهم الخير، وأنه لا يريد علوًّا في الأرض ولا فسادًا، ولا فخرًا ولا شهرة، ولا غير ذلك من الأغراض، وإنما همُّه طاعة الله عزَّ وجلَّ، ثم أن ينصفه الناس فلا يظلموه، ولا يحتقروه. وعليه أن يسعى في مصالح دنياه بالجدّ والصبر والمثابرة في حدود الحلال، وليعلم مع ذلك أن الأمر كله لله عزَّ وجلَّ. فإذا حصل مطلوبه من نيل الخير، وزوال الضرر، علم أن ذلك من فضل الله عزَّ وجلَّ وكرمه، فشكره على ذلك، وحَرَص على الزيادة من طاعته. وإن خاب مسعاه رأى أن ذلك من فضل الله عزَّ وجلَّ وكرمه (¬1)؛ فإنه لا يدري ¬

_ (¬1) (ط): "وكلامه" تحريف.

لعله لو حصل مطلوبه لكان شرًّا له في دينه ودنياه. وأقل ما في الأمر أن تكون تلك الخيبة عقوبة من الله عزَّ وجلَّ له على ذنب متقدم، وهذا أيضًا خير؛ لأنه كفَّارة له وإصلاح لشأنه. والحاصل: أقول: كلُّ شيء يقضيه الله عزَّ وجلَّ ويقدّره للمؤمن، فهو خير له، على أن يوقن بذلك، ويجري على حسب يقينه. فما عليه إلا أن يجتهد في طاعة الله عزَّ وجلَّ، وفي إصلاح دنياه في حدود ما أذن الله به، ثم ليكن بعد ذلك واثقًا أنّ كل ما قضاه الله عزَّ وجلَّ فهو خير. أسأل الله تعالى التوفيق لي ولمحمد ولجميع المسلمين. 7 محرم الحرام سنة 1374 هـ كتبه/ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي

[نصيحة لطالب الحق]

[نصيحة لطالب الحق] بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلله فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد، فهذه مباحث في أحكام أخبار الآحاد، أرجو من فضل الله تعالى ورحمته أن يوفقني فيها لاستقصاء النظر واستخلاص الحق، لتكون عُدَّةً لي ولمن شاء الله تعالى من عباده. هذا مع علمي بقصور علمي وخشيتي أن يُضلَّني الله عزَّ وجلَّ بذنبي، وإنني ما أبرئ نفسي عن الهوى، ولا آمَنُ أن يكون لي هوى أنا غافل عنه أو عارف به غير محترس من الاسترسال معه، أو محترس مقصّر. والله المستعان وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. نصيحة ينبغي لطالب الحق أن يقدِّم قبل النظر في المسألة محاسبةَ نفسه، بأن يتجسس فيها: هل لها ميلٌ إلى وجهٍ معيّن في تلك المسألة، أو إلى أي وجه يكون ذهب إليه فلان أو أصحاب هذا المذهب أو هذه الفرقة. فإن وَثِقَ بأنه لا ميلَ له البتةَ فالظاهر أنه الآن بريء من الهوى، لكن لا يأمن أن يعرض له

الهوى بعد ذلك لعروضِ سبب من أسبابه، وهي كثيرة. ومتى بان له الميل فليبحث عن سببه، فإن وثِق بأنه لبرهان يقيني لا يحتمل النقيض بوجهٍ من الوجوه فليس هذا بهوًى، فإن كان معه هوًى فهو هوًى وافق الحق. وإن كان ليس إلا لدليل غير قاطع فليقلْ لنفسه: دَعِي عنكِ الهوى، فأنا الآن في مقام النظر، ولعلّي أجد دليلًا مخالفًا لذاك أقوى منه. وإن كان لدليلٍ لا يُعتدّ به، أو لأمرٍ آخر ليس بدليلٍ أصلاً، أو لم يتبيَّن له السبب، فذلك هو الهوى الذي من شأنه أن يُعمي ويُصِمّ. وطريق النجاة حينئذٍ أن يبدأ فيجاهد نفسه في اقتلاع ذلك الهوى منها، فإن عجز فليعرف ذلك الهوى، وليخش أن يكون ما يلوح له معه أنه دليل ليس إلا شبهة قوَّاها الهوى، قال الله تبارك وتعالى في الكفار: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأعراف: 30, الزخرف: 37]. وبالجملة فمسالك الهوى دقيقة, والسلامة منه عزيزة, والتمييز معه بين الحجة والشبهة صعب. لكن من صدقت رغبته في إصابة الحق، وبذل وسعه في جهاد نفسه، وتضرَّع إلى الله عزَّ وجلَّ سائلًا منه التوفيق، فإن الله تبارك وتعالى يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [خاتمة العنكبوت]. وعسى أن يكون بذلك قد أخذ بحظ وافر من التقوى المعنية بقول الله عزَّ وجلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال: 29].

مجموع رسائل في التحقيق وتصحيح النصوص

آثَار الشّيْخ العَلّامَة عَبْد الرّحْمن بْن يَحْيَى المُعَلِّمِيّ (23) مجموع رسائل في التحقيق وتصحيح النصوص تَألِيْف الشّيْخ العَلّامَة عَبْدالرّحْمن بْن يَحْيَى المُعَلِّمِيّ اليَمَاِني 1312 هـ - 1386 هـ تَحقِيق مُحَمَّد أجْمَل الإصْلَاحِي وفق المنهج المعتمد من الشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد (رَحِمَهُ الله تعَالى) تَمْويل مُؤسَّسَةِ سليْمان بن عَبْدِ العَزيْز الرّاجِحيِّ الخَيْريَّةِ دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

بسم الله الرحمن الرحيم

راجع هذا الجزء علي بن محمد العمران محمد عزير شمس

مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية SULAIMAN BIN ABDUL AZIZ AL RAJHI CHARITABLE FOUNDATION حقوق الطبع والنشر محفوظة لمؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الطبعة الأولى 1434 هـ دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع مكة المكرمة - هاتف 5473166 - 5353590 فاكس 5457606 الصف والإخراج دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

مقدمة التحقيق

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة التحقيق الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد، فإن هذا المجموع من رسائل الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي رحمه الله يشتمل على ثلاث رسائل في أصول التحقيق، ورسالة فيها تخريج الأحاديث الواردة في كتاب "شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح" لابن مالك، مع تعليقات على طبعة الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي رحمه الله، ورسالة فيها تصحيحات وتعليقات على كتاب "سبل السلام شرح بلوغ المرام" للأمير الصنعاني، ورسالتين في التنبيه على أخطاء وأوهام في المجلد الأول من كتاب "الكامل" للمبرد تحقيق الدكتور زكي مبارك، وعلى الجزء الأول من "معجم الأدباء" لياقوت طبعة الدكتور أحمد فريد الرفاعي. وفي آخر المجموع قائمة أعدَّها الشيخ لبعض نوادر المخطوطات المحفوظة في مكتبة الحرم المكي الشريف. هذه الرسائل كلها بخط الشيخ، وهي جميعًا محفوظة في مكتبة الحرم المكي الشريف. وقد نسخناها من أصولها - وبعضها كان منسوخًا فقابلناه على أصله - ثم قرأناها وعلَّقنا عليها، ثم وضعنا لها فهارس لازمة. وإليكم نبذة عن كل رسالة منها:

ثلاث رسائل في أصول التصحيح العلمي

(1 - 3) ثلاث رسائل في أصول التصحيح العلمي كان الشيخ المعلمي رحمه الله من العلماء المحققين بالمعنى الحقيقي للكلمة، ومن الطراز الأول من المحققين بمعناها الاصطلاحي المحدَث، فهو من طبقة الأستاذ عبد العزيز الميمني والشيخ أحمد شاكر والأستاذ محمود شاكر رحمهم الله. وقد مارس الشيخ هذه الصناعة أكثر من خمس وعشرين سنة في دائرة المعارف العثمانية بحيدراباد، ولم ينقطع عنها بعد عودته إلى الحجاز واستقراره في مكتبة الحرم المكي الشريف. وآخر ما حققه الجزء السادس من كتاب الإكمال لابن ماكولا، والجزء السادس أيضًا من كتاب الأنساب للسمعاني، وذلك قبل وفاته سنة 1386 هـ. فهذه نحو 41 سنة سلخها الشيخ المعلمي في البحث والتحقيق، وأخرج كتبًا جليلة من كتب الحديث والرجال ذوات المجلدات، منها: "التاريخ الكبير" للإمام البخاري، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم، و"الإكمال" لابن ماكولا، و"الأنساب" للسمعاني. وتحقيق هذا الصنف من الكتب أصعب ما يكون، فإنها معقودة على أسماء الرجال وكناهم وألقابهم وأنسابهم، مما لا يدخل فيه القياس، ولا يعين على معرفته السياق. وقد أبان الشيخ في تحقيقه لها عن علم غزير، ونظر ثاقب، وخبرة فائقة، وإتقان بالغ. وكان الشيخ عالمًا متفننًا كالعلماء السابقين ولكن العلم الذي برّز فيه خصوصًا هو علم الحديث والرجال. وفن التحقيق أصلاً من فنون علم الحديث، فالمحدِّثون هم الذين أسسوا قواعده وشيّدوا أركانه. ومارس الشيخ هذا الفن في مؤسسة عريقة قامت لنشر أمهات كتب الإسلام، ولها

طريقة معينة في التصحيح العلمي والتصحيح المطبعي. فجرَّب الشيخ هذا العمل المؤسسي زمنًا طويلاً، وعرف مواطن الإصابة ومداخل الخلل في مراحله المختلفة، وخبَرَ أحوال المصححين من زملائه وغيرهم، ثم وقف على الطرق التي كان يسلكها أصحاب المطابع لنشر الكتب القديمة في مصر وغيرها. فعزم على تأليف رسالة جامعة في أصول هذه الصناعة، وبيان أسلم الطرق الضامنة لصحة المطبوعات وللربح المادي لناشريها أيضًا. ولا ريب أن هذه الصفات العلمية والعملية التي اجتمعت في شخصيته قد جعلته أحقَّ الناس بالتأليف في هذا الموضوع وأقدرَهم عليه. وقد وجدنا في آثار الشيخ ثلاث رسائل إحداها مبيضة، والأخريان مسودتان. وافتتح مسودته الأولى بقوله: "فإني منذ بضع سنين مشتغل بتصحيح الكتب العلمية في مطبعة "دائرة المعارف العثمانية" وتبيَّن لي بعد الممارسة قيمة التصحيح العلمية والعملية، وما ينبغي للمصحح أن يتحقق به أولاً، ثم ما يلزمه أن يعمل به ثانيًا. ورأيت غالب الناس في غفلة عن ذلك أو بعضه. فمن لم يشتغل بقراءة الكتب العلمية ومقابلتها وتصحيحها يبخس التصحيح قيمته، ويظنه أمرًا هينًا لا أهمية له، ولا صعوبة فيه. ولما كان أكثر المتولين أمور المطابع من هذا القبيل عظمت المصيبة بذلك". وقال في مقدمة مسودته الثانية: "فإني عنيت زمانًا بتصحيح الكتب وإعدادها للطبع، ثم بتصحيحها حال الطبع، فتبيَّن لي بطول الممارسة غالب ما يحتاج إليه في هذه الصناعة. وخبرتُ أحوال جماعة من المصححين، وتصفحت مع ذلك كثيرًا من الكتب التي تطبع في مصر وغيرها، وعرفت ما اعتمده مصححوها. ورأيت مع ذلك أن أكثر الناس متهاونون بهذه الصناعة،

يرون أنه يكفي للقيام بها اليسير من العلم، واليسير من العمل! فأحببت أن أجمع رسالة في التصحيح، أشرح فيها ما يتعلق به". واستهل مبيضته قائلاً: "فهذه رسالة فيما على المتصدين لطبع الكتب القديمة مما إذا وفوا به فقد أدَّوا ما عليهم من خدمة العلم والأمانة فيه، وإحياء آثار السلف على الوجه اللائق، وتكون مطبوعاتهم صالحة لأن يثق بها أهل العلم". هذه المقدمات الثلاث التي تكشف عن الأسباب التي دعت الشيخ إلى تأليف رسالة مستقلة في فن التحقيق تقودنا إلى قضية أخرى أيضًا تتعلق بتاريخ التأليف في هذا الموضوع. يستوقفنا أولاً قول الشيخ في مقدمة مسودته الأولى: "فإني منذ بضع سنين مشتغل بتصحيح الكتب العلمية في مطبعة دائرة المعارف العثمانية، وتبين لي بعد الممارسة ... ". كلمة "بضع" تستعمل في اللغة للكناية عن العدد من الثلاثة إلى التسعة، وقد أشار الشيخ إلى ممارسته للتصحيح، وثلاث سنوات أو أربع قليلة لمثل هذه الممارسة، فإذا فرضنا أنه أراد بكلمة "بضع" سبع سنوات، فمعنى ذلك أنه سوّد هذه الرسالة سنة 1352 (1933 م) وإن كان المقصود أقصى ما يراد بها فقد سوَّدها سنة 1354 (1935 م) أو قريبًا منها، فإنه التحق بالدائرة العثمانية في أوائل سنة 1345. وأنت خبير بأن المستشرق الألماني برجشتراسر ألقى محاضراته "أصول نقد النصوص ونشر الكتب" في كلية الآداب بجامعة القاهرة سنة 1931 م، ولكنها نشرت سنة 1969 م. فيكون زمن تسويد الشيخ لرسالته مقاربًا لزمن محاضرات برجشتراسر.

وفي فصل تجده في المسودة الثانية ذكر الشيخ أن تحت يده الآن للتصحيح كتاب "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم. وقد حقق الشيخ كتاب "تقدمة الجرح والتعديل (وأرَّخ مقدمته في 23 شوال سنة 1371) والمجلدين الأول والثاني والقسم الأول من المجلد الرابع، وكلها طبعت في سنتي 1371 - 1372 (1952 - 1953 م)، فلا شك أن تحقيقها قد تم قبل ذلك، وربما في سنتي 1369 - 1370 (1950 - 1951 م). ولما ذكر الشيخ في المبيضة مراحل المقابلة وتصحيح التجارب قال: "والعادة في مطبعتنا" يعني: مطبعة دائرة المعارف العثمانية، وهذا يدل على أنه بيَّض الرسالة وهو في حيدراباد. وقد وصل الشيخ إلى مكة المكرمة سنة 1371 (1952 م). وأنت خبير أيضًا بأن كتاب الأستاذ عبد السلام هارون "تحقيق النصوص ونشرها" صدر سنة 1954 م. وتبيَّن من هذا التفصيل أن رسائل الشيخ هذه من أول ما كُتِب باللغة العربية في فن التحقيق، وأن الشيخ المعلمي رحمه الله أول عالم أفرد كتابًا في أصول هذا الفن. ورسالته المبيضة مع عدم تمامها قد عالجت المسائل التي هي من لبِّ الموضوع وصميمه معالجة علمية دقيقة منظمة. وقد ألحقنا بها المسودتين لاشتمالهما على فصول وفوائد وأمثلة لا تجدها في المبيضة، وإن أدى ذلك إلى بعض التكرار. سمَّى الشيخ مسودته الأولى "أصول التصحيح"، أما المسودة الثانية والمبيضة فلم يضع لهما عنوانًا، فسميتهما "أصول التصحيح العلمي". وقد آثر الشيخ "التصحيح العلمي" على مصطلح "التحقيق"، فقال في المبيضة: "اصطلح المصريون أخيرًا على تسمية التصحيح العلمي "تحقيقًا" تمييزًا له

عن التصحيح الطباعي، والأوضح: التمييز بالصفة، كما ترى". يعني: إذا أردت التمييز بين نوعي التصحيح وصفتَه بالطباعي أو العلمي، وإلا اكتفيت بكلمة التصحيح، والسياق يبيِّن المقصود، فلن يخيَّل إلى أحد إذا رأى على غلاف الكتاب: "صحَّحه فلان" أن المقصود: صحح تجاربه! وإذا رأى المرء ما ابتليت به كلمةُ "التحقيق" في زماننا من الهوان والامتهان تمنَّى لو استمرَّ الباحثون على كلمة "التصحيح" التي لم تكن قاصرة عن أداء المقصود، وظلَّت كلمة التحقيق ومشتقاتها مصونة من أيدي العابثين المبطلين. وأهل الفارسية لا يزالون يسمُّون هذه الصناعة "التصحيح"، بل ترى من كبار محققيهم من يقتصر - مع استفراغ وسعه في تحقيق النص وإتقانه إتقانًا بالغًا - على أن يثبت على غلاف الكتاب: "باهتمام فلان" أي باعتنائه، أو "بكُوشِشِ فلان" أي بسعيه. والعمل هو الذي يشهد بدرجة اعتنائه ومبلغ سعيه. وغفر الله لشيخ العروبة أحمد زكي باشا الذي أثبت على بعض كتبه كلمة "التحقيق"، فتبعه الآخرون. ثم استُهتر بها الناس، وكثير منهم لا يعنيهم مفهومها وحقيقتها بقدر ما يعنيهم لفظها ورنينها، فيثبتها أحدهم على غلاف كتابه مزهوًّا بها، ويمشي في الأرض مرحًا، وإن كان عمله في الكتاب لم يزده إلا فسادا. ولنستعرض الآن محتويات الرسائل الثلاث مع وصف أصولها الخطية.

* الرسالة الأولى (مبيضة)

* الرسالة الأولى (مبيضة) أصل هذه الرسالة محفوظ في مكتبة الحرم المكي برقم 4782، وهو في أربعين ورقة من دفتر مسطّر من صُنع الهند، وكتب الشيخ في وجه واحد من الورقة، فالرسالة إذن في أربعين صفحة، وفي كل صفحة 15 سطرًا. وهي مبيضة واضحة لا نجد فيها التعديلات والإلحاقات إلا قليلًا، خلافًا لكثير من مبيضات الشيخ التي تتحول بعد أوراق إلى مسودات جديدة. لم يضع الشيخ عنوانًا لرسالته كما سبق آنفا، فسمَّوها عند الفهرسة: "رسالة فيما على المتصدِّين لطبع الكتب القديمة" أخذًا مما جاء في فاتحة الرسالة: "فهذه رسالة فيما على المتصدين لطبع الكتب القديمة مما إذا وفوا به فقد أدَّوا ما عليهم من خدمة العلم والأمانة فيه، وإحياء آثار السلف على الوجه اللائق ... ". وسيأتي أن المؤلف رحمه الله سمَّى مسودته الأولى "أصول التصحيح"، ثم في هذه الرسالة أطلق على ما يسمى الآن بالتحقيق: "التصحيح العلمي" فرأينا أنسب عنوان لها "أصول التصحيح العلمي". والرسالة مع الأسف ليست كاملة، وذكر المؤلف رحمه الله في فاتحتها أنها "مرتبة على مقدمة و ... أبواب وخاتمة". فترك بياضًا قبل كلمة "أبواب"، ولا ندري كم بابًا كان في نيته، ولكن مقتضى كلمة "الأبواب" أن لا تكون أقل من ثلاثة، والرسالة في وضعها الراهن تشتمل على مقدمة وبابين فقط. المقدمة طويلة في 16 صفحة من الأصل، فهي أكثر من ثلث الرسالة. وهي مقدمة نفيسة بدأها بالكلام على حال العلم في صدر الإسلام كيف كان يتلقَّى من أفواه العلماء ويحفظ في الصدور، ومنهم من كان يكتب. ثم اتسع

العلم، وأطبق أناس على الكتابة مع الحرص على الحفظ، وكانوا يبالغون في حفظ كتبهم. ثم ذكر وجوه التلقي وأحوال كتب العلماء التي كانوا يعتمدون عليها بخط أيديهم. قال: "فلما كثرت المصنفات، واشتهرت نسخها، وطالت الأسانيد، وضعفت الهمم = توسع الناس في الإجازة إلى أن صارت الرواية صورة لا روح فيها، وانحصر الأمر في كون النسخة موثوقًا بها". ثم أشار إلى درجات الثقة بالنسخة، وأن الفرع كلّما بعد عن أصل المصنف ضعفت الثقة به. ثم تكلم على أسباب اختلاف الفرع عن الأصل، وأفاض القول فيها. وذكر تسعة أسباب، منها: التصحيف، ومنها: اشتباه الحرف بآخر أو كلمة بأخرى في كثير من الأصول لتعليق الخط أو رداءته أو قرمطته، وأورد أمثلة لذلك من كتاب "التاريخ الكبير" للإمام البخاري. ومنها: خطأ الناقل في إقحام الحاشية في المتن، والتحريف السمعي، والتحريف الذهني، وتصرُّف النساخ، وتصرُّف القراء جهلًا أو خيانةً. ثم انتقل من الكتاب المخطوط إلى الكتاب المطبوع، وذكر المراحل التي يمرُّ بها الكتاب عادة في المطابع، وذكر الطريقة المتبعة في دائرة المعارف العثمانية. ووصف حال هذا الكتاب واختلاف درجات صحته بحسب حال الأصل، وحال ناسخ المسودة منه، ثم حال المقابلَين على الأصل وعلى أصل آخر، ثم حال المصحح العلمي من العلم والثقة والأمانة، وما دفع له من المكافأة وما فسح له من الوقت؛ ثم حال مركبي الحروف، ثم مقابلة التجارب على المسودة. فلا عجب أن يجيء المطبوع

بعض الأحيان أردأ وأكثر غلطًا من الأصل الخطي. يقول الشيخ: "وقد جرَّبتُ هذا، نظرتُ في بعض الكتب المطبوعة، فهالني ما فيه من كثرة الأغلاط، ثم ظفرتُ بالأصل الخطي الذي طبع عنه ذلك الكتاب، فإذا هو بريء من كثير مما في المطبوع من الأغلاط، إن لم أقل: من أكثرها". وهذا الوضع هو الذي دعا الشيخ إلى أن يقترح نظامًا لتصحيح الكتب القديمة ونشرها. فقال: "فإذا أراد المتصدي لطبع الكتب القديمة السلامة من مثل هذا، والحصول على الغاية المنشودة من خدمة العلم وحسن السمعة ورواج المطبوعات، فما عليه إلا أن يتبع النظام الآتي إن شاء الله" (ص 17). هنا تنتهي هذه المقدمة النفيسة المستفيضة. ويأتي بعدها بابان: الأول في "الأعمال التي قبل التصحيح العلمي". وذكر تحته ستة أعمال: 1 - انتخاب كتاب للطبع. 2 - انتخاب نسخة للنقل وصفاتها. 3 - انتخاب ناسخ للمسودة وصفاته. 4 - نسخ المسودة (والأمور التي يُلزَم الناسخ بها، وهي 12 أمرًا). 5 - مقابلة المسودة على الأصل (وصفات المقابلَين والأمور التي يجب أن يلتزما بها، وهي 11 أمرًا). 6 - مقابلة المسودة على أصل آخر فأكثر. ولا ننسَ أن الشيخ يتحدث هنا عن عمل مؤسسي لتصحيح الكتب القديمة ونشرها، يشترك فيه ناسخ من المخطوط، ومقابلان للنسخة المنقولة على المخطوط أو عليه وعلى مخطوطات أخرى، والمصحح العلمي، ثم

المصحح الطباعي. ولكن الأمور التي ذكر الشيخ أنه يجب التزامها على الناسخ وكذلك على المقابلين أمور مهمة جدًّا، ويجب أن يؤخذ بها في العمل الفردي أيضًا. ولم أر من ذكر هذه الأمور على هذا الوجه من الدقة والتفصيل. وفي مستهلّ هذا الباب عرض المؤلف رحمه الله فكرة عظيمة الخطر، وهي الرجوع عند انتخاب الكتب للطبع إلى هيئة علمية من كبار العلماء المتفننين، قال: "وحبذا لو أن الأزهر بمصر يقوم بهذه المهمة العظمى، وذلك بالإيعاز بجمع فهرس عام للكتب المهمة التي لم تطبع، وبيان موضعها من مكاتب العالم مع ما تيسر من وصف النسخ؛ ثم يُعرض على هيئة كبار العلماء لترتيبها على مراتب في الأهمية واستحقاق تقديم الطبع، ثم يُنشر الفهرس مرتبًا ذلك الترتيب، ويُتقدّم إلى الراغبين في طبع الكتب أن يجرُوا على حسب ذلك. ثم كلُّ من أراد طبع كتاب كان عليه أن يراجع الهيئة لتُقيِّد اسمه عندها وتُعرِّفه بما يلزم، مثل إبلاغه أن غيره قد التزم طبع الكتاب، أو تنبيهه على اطلاع الهيئة على نسخة أو أكثر زيادة على ما في الفهرس، وغير ذلك. وبهذا يأمن الراغبون في الطبع من الخطأ في الانتخاب، ومن الغلط في ظن أن الكتاب لم يطبع، ويعرفون مواضع النسخ. وفي ذلك مصلحة للعلم وأهله ولأصحاب المطابع. ويمكن توسيع دائرة التعاون إلى حد بعيد" (ص 18 - 19). وقد أنشئ "معهد إحياء المخطوطات العربية" سنة 1946 م بالقاهرة، وكان أحد أقسام اللجنة الثقافية بجامعة الدول العربية. لم يشر الشيخ المعلمي إلى هذا المعهد لأنه لم يشتهر أمره - فيما يبدو - حينما ألَّف هذه

الرسالة. وقد قام المعهد بجزء من اقتراح الشيخ، وهو تصوير المخطوطات العربية وفهرستها وإعدادها للباحثين، وإن كان اقتراحه في هذه البابة أيضًا أشمل من ذلك. وتحقَّق جزء منه أيضًا فيما بعد في صورة "الفهرس الشامل للتراث العربي الإِسلامي المخطوط" الذي أصدرته مؤسسة آل البيت في عمَّان. وكان المعهد حريًّا بأن يكون مرجعًا للناشرين لتقييد أسمائهم عندها حتى لا يتكرر نشر الكتب نفسها في جهات مختلفة. ولكن ترتيب الكتب في كل فن على مراتبها من الأهمية واستحقاق تقديمها في الطبع كان يقتضي إنشاء هيئة لكبار العلماء من كل فن تُعاوِن معهد المخطوطات بهذا الصدد. ولو تحققت هذه الفكرة - كما وصفها الشيخ - لانتظمت أمور النشر، ونجت من الفوضى والتكرار، وأمكن إنقاذ كثير من الجهود والأوقات والأموال من أن تذهب هباء منثورًا؛ وإن كانت المؤسسات العلمية والأعمال الجماعية قلما تفلح في بلادنا العربية، ولا سيما إذا كانت رسمية، فسرعان ما تغتالها السياسة الفتَّانة القتَّالة! أما الباب الثاني فعنوانه: "تصحيح الكتاب". ذكر في أوله أن التصحيح يطلق على عملين: الأول: التصحيح العلمي لكتاب بنفي ما في الأصل أو الأصول من الخطأ وترتيب مسودة صحيحة. والثاني: تصحيح الطبع بنفي ما يقع في تركيب حروف الطبع من الخطأ وتطبيق المطبوع على المسودة الصحيحة. ثم قال: إن هذا الباب معقود للتصحيح العلمي، وفيه مباحث. ومما يبعث على الأسف أنه لم يوجد في الأصل إلا المبحث الأول في الحاجة إلى التصحيح العلمي، ولا ندري ماذا كان يريد أن يتكلم عليه في المباحث الأخرى.

ذكر في هذا المبحث أولًا أربعة آراء أو طرق لطباعة الكتب القديمة وتصحيحها استظهرها من ممارسته ودراسته للكتب المطبوعة، مع ذكر عيوب كل طريقة منها، ثم بيَّن الرأي المختار عنده. الرأي الأول منها: أنه يكفي في إحياء الكتاب إذا وجدت منه نسخة قديمة جيدة أن يطبَّق المطبوع عليها. ولاحظ الشيخ على هذا الرأي أنه لا يمكن تطبيق المطبوع على الأصل المخطوط، وفصَّل أسباب ذلك ومفاسد هذا الرأي تفصيلًا. والرأي الثاني: أن لا يُطبع كتاب إلى أن يحصل على نسختين أو أكثر، فتُجعل واحدة أصلاً، وينبَّه في الحواشي على فروق الأخرى. والثالث كالذي قبله إلا أنه يزيد بمراجعة كثير من المظان مع التنبيه على الاختلافات. وفي الرابع يقول الشيخ: "يظهر من تصفح كثير من المطبوعات أنه اعتمد فيها التصحيح العلمي إلا أن مصححيها أغفلوا التنبيه على ما خالفوا فيه الأصل أو بعض الأصول، واقتصروا على إثبات ما رأوه الصواب". ثم بيَّن خلل هذه الطريقة من ثلاث جهات. بعد هذه الطرق الأربعة وبيان مفاسدها، تكلم الشيخ على الرأي المختار عنده فقال: "تصحيح الكتاب معناه: جعله صحيحًا، ولصحة المطبوع ثلاثة اعتبارات: الأول: مطابقته لما في الأصل القلمي فأكثر. الثاني: مطابقة ما فيه لما عند المؤلف. الثالث: مطابقة ما فيه للواقع في نفس الأمر ... فالتصحيح العلمي حقُّه مراعاة الأوجه الثلاثة" (ص 37).

وقد مثَّل الشيخ باسم "عرابي بن معاوية"، وهو الصحيح، وذكره البخاري بغين معجمة وراء (غرابي). فإذا وقع في نسخة من تاريخ البخاري: "عزابي" بعين مهملة وزاي، فإن أثبت كذلك في المتن كان صحيحًا بالنظر إلى ما في الأصل، لكنه خطأ بالنظر إلى ما عند المؤلف. وإن أثبت "عرابي" كان صحيحًا بالنظر إلى ما في نفس الأمر لكنه مخالف لما في الأصل ولما عند المؤلف. وإن أثبت "غرابي" صح بالنظر لما عند المؤلف، ولكنه مخالف لما في الأصل وخطأ في نفس الأمر. وإذا أثبت أحد الأوجه الثلاثة دون التنبيه على خلافه كان الظاهر أنه كذلك في النسخة وعند المؤلف وفي نفس الأمر، فيكون ذلك خطأ وكذبًا من وجهين حسب قول الشيخ. يقول الشيخ: "فالتصحيح العلمي حقُّه مراعاة الأوجه الثلاثة ... والصواب في هذا المثال أن يثبت في المطبوع بالغين المعجمة والراء، لأن الكتاب كتاب البخاري، والمقصود فيه نقل كلامه بأمانته، وأهل العلم ينقلون عن الكتاب فيقول أحدهم: قال البخاري في التاريخ: " ... " فيسوق العبارة كما يجدها في المطبوع. ثم لْيُنبَّه في الحاشية على الوجهين الأخيرين، كأن يقول: "هكذا يقوله البخاري بدليل " ... "، ووقع في الأصل "عزابي"، وقال فلان " ... " فيذكر ما صححه أهل العلم من أنه "عرابي" بالعين المهملة والراء (38). ثم ذكر الشيخ ماذا ينبغي أن يعمل إذا لم يعرف ما عند المؤلف، أو لم يعرف ما في نفس الأمر، وعند اختلاف الأصول، أو اختلاف كتب المؤلف، وحالات أخرى. ثم عقد فصلًا لشرح الأمور الضامنة للوفاء بما تقدم، فإنه "ليس بالأمر

* الرسالة الثانية

السهل"، وذكر ثلاثة أمور: الأول: أن يكون المصحح متمكنًا من العربية والأدب وعلم رسم الخط، متمكنًا من فن الكتاب، مشاركًا في سائر الفنون، واسع الاطلاع على كتب الفن، عارفًا بمظان ما يتعلق به من الكتب الأخرى. الثاني: أن يكون العمل في المسودة قد جرى على ما ذكره في الباب الأول، مع حضور الأصول أمامه. الثالث: أن يحضر عنده ما أمكن إحضاره من كتب الفن وما يقرب منها. بل ينبغي أن تكون بحضرته مكتبة واسعة في جميع الفنون. وبهذا الفصل تنتهي مبيضة هذه الرسالة، وما زلنا في المبحث الأول من الباب الثاني المعقود على التصحيح العلمي. * الرسالة الثانية هذه الرسالة مسودة، وأصلها في مجموع محفوظ بمكتبة الحرم المكي برقم 4693، وهي في سبع ورقات، ومن (ق 5/ 2) إلى آخرها مكتوبة بالقلم الرصاص، وفيها شطب وتعديلات وإلحاقات كثيرة، و (ق 3/ ب) مضروب عليها كاملًا. وفي الورقة الأولى أيضًا كتب شيئًا في هذا الموضوع بالقلم الرصاص، ولكن بدأت الرسالة أصلًا في الورقة الثانية بالبسملة وبقلم الحبر. وهي تشتمل على خطبة الرسالة وبابين. الأول بعنوان "باب في المقصود من التصحيح" ذكر فيه أولًا أن المقصود منه: "نفي الغلط، وإثبات الصحيح، وإبراز الكتاب على الهيئة الصحيحة". ثم ذكر أن مدار التصحيح على صحة الألفاظ، فأما المعاني فإنما يجب نظر المصحح إليها من جهة

دلالتها على حال الألفاظ. وفي تصحيح الألفاظ ثلاثة اعتبارات، والرأي السديد مراعاة هذه الاعتبارات جميعًا. وذكر طريقة أكثر أهل المطابع في تطبيق المطبوع على نسخة خطية واحدة، فإن تعددت جعلوا إحداها أصلًا، ثم بيَّن فساد هذه الطريقة. ثم يأتي "باب" دون عنوان، ذكر فيه أوجه الوفاق والخلاف بين الاعتبارات الثلاثة وكيف يراعيها المصحح، وكذلك عند الاختلاف بين موضعين من النسخة الواحدة، أو بين نسخة الكتاب ونسخة كتاب آخر للمؤلف أو لغيره. وفي هذا الباب تكلم على الوجوه التي يعرف بها ما في النسخة، وما عند المؤلف، وما في نفس الأمر. ويبدو أنه لاحظ فيما بعد أن الكلام على هذه الوجوه بحاجة إلى تفصيل أكثر، فأفاض القول فيها في عدة فصول. وهذه الفصول كلها تخلو منها المبيضة. وفي هذه المسودة باب آخر "في أنواع الغلط وأسباب وقوعه". وقسمها إلى: 1 - الغلط بزيادة. 2 - الغلط بنقصان. 3 - الغلط بتقديم وتأخير. 4 - الغلط بتغيير. ثم قسم كلًّا منها إلى أقسام أخرى.

* الرسالة الثالثة

وقد ورد بعض أجزاء هذا الباب في مقدمة المبيضة. ثم وجدت في المجموع برقم 4706 فصلًا يشبه الفصل الأخير من المبيضة. ولكن في هذا فوائد جديدة، فألحقته بالمسودة. * الرسالة الثالثة الظاهر أن هذه الرسالة أقدم ما سوَّده المؤلف في هذا الموضوع، وميزتها أن لها عنوانًا، والمؤلف هو الذي سمَّاها به، وهو "أصول التصحيح". أصلها في 28 صفحة من "مذكرة جيب" للمؤلف محفوظة في مكتبة الحرم المكي برقم 4720. ذكر فيها بعد خطبة الكتاب الطرق المعروفة عند أصحاب المطابع، وبيَّن نقائصها. وفي الأخير اقترح طريقة هي أن "ينشئ صاحب المطبعة مكتبة، ويرتِّب فيها مصححين يتقاضون مرتَّبات شهرية، ويتولون التصحيح بأقسامه الثلاثة: المقابلة، والتصحيح الحقيقي، والمطبعي؛ وتكون المقابلة على نسخ قلمية عديدة إن وجدت أو واحدة منها". وهذه الطريقة عند الشيخ "أصوب الطرق وأولاها بالسلامة من النقائص، على شرط أن يكون المصححون ذوي أهلية وخبرة". وقد اتخذ بعض الناشرين في عصرنا هذه الطريقة التي اقترحها الشيخ، فأخرجوا أمهات جليلة في فنون مختلفة لا سيما فن الحديث والرجال. ****

(4) تخريج أحاديث "شواهد التوضيح" لابن مالك مع ملاحظات على طبعة الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي

(4) تخريج أحاديث "شواهد التوضيح" لابن مالك مع ملاحظات على طبعة الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي كتاب "شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح" ألَّفه ابن مالك - كما هو واضح من عنوانه - لتفسير ما أشكل إعرابه من روايات الجامع الصحيح للإمام البخاري رحمه الله. وقد طبع الكتاب أول مرة في الهند سنة 1319 هـ (1901 م) بتصحيح الشيخ محمد محيي الدين الجعفري. وظل العلماء والباحثون يرجعون إليها زهاء خمسين سنة (إلى أن أخرجها الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي في ثوب جديد بالقاهرة سنة 1957 م). ولما كانت النصوص المشكلة التي عُقِد عليها الكتاب غير محالة على مواردها من كتب الصحيح وأبوابها عني الشيخ المعلمي رحمه الله بتخريجها تذكرةً لنفسه فيما يبدو، وكتب في أولها: "التنبيه على الأحاديث التي ذكرها ابن مالك في شواهد التوضيح، وبيان مواضعها من صحيح البخاري". ورتَّب هذا العمل على ثلاثة جداول: الجدول الأول: "شواهد التوضيح المطبوع بالهند"، وتحته جدولان: "صفحة" و"سطر". والجدول الثاني: "حديث". والجدول الثالث: "صحيح البخاري"، وتحته جدولان: "كتاب ونحوه" و"باب". وإذا رأى حاجة إلى التعليق علَّق في الحاشية اليسرى من الصفحة.

وقد استغرق هذا التخريج عشر صفحات. ونبَّه في آخرها على أنه إذا رأى فرقًا بين لفظ الحديث في الموضع الذي أحال عليه ولفظه عند ابن مالك قال في أوله: "انظر". وكثيرًا ما ترد عدة أحاديث في صفحة واحدة، فلا يعيد كتابة رقم الصفحة، بل يشير إلى التكرار بشرطتين (//). ولعل الشيخ قيَّد أولًا نصوصًا ظنًّا منه أنها من صحيح البخاري، ثم لم يجدها فيه وتبيَّن أن ابن مالك أخذها من كتب أخرى استشهادًا بها، فترك بياضًا في جدول "صحيح البخاري"، وخرَّجها في الحواشي اليمنى. ثم بدا له أن يفرد لهذه الأحاديث قسمًا مستقلًّا، فجمعها في (ص 11) تحت أربعة جداول: 1 - ص 2 - سطر 3 - أحاديث 4 - مواضعها من الكتب الأخرى. لكن ليس هذا القسم شاملا لمثل هذه الأحاديث جميعًا، وقد تكرر فيه بعض الأحاديث المذكورة في القسم السابق أيضًا. ثم لما أخرج الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي نشرته من كتاب الشواهد معتمدًا على الطبعة الهندية، مع تخريج الآيات والأحاديث والأشعار، قابل عليها الشيخ المعلمي تخريجه، فأضاف أولًا قبل كل حديث رقم الصفحة والسطر من الطبعة الجديدة هكذا: 1/ 4، ولكن من بداية الحديث (127) اقتصر على ذكر رقم الصفحة دون السطر.

ثم رأى أن عدة أحاديث قد فاته تقييدها وتخريجها، فأضافها من هذه الطبعة. وكذلك بعض الأحاديث كان الشيخ خرَّجه من موضع واحد من الصحيح، فلما رأى في الطبعة الجديدة إحالة أخرى أضافها فوق السطر. وبعض الأحيان ضرب على تخريجه هو وأثبت فوقه بين السطور تخريج الطبعة الجديدة. وكلُّ ذلك بالقلم الأحمر. وفي خلال معارضة نسخته على هذه الطبعة ظهرت للشيخ مآخذ عليها من خطأ أو تصحيف أو تصرُّف للناشر في المتن، وكذلك بعض الأحاديث التي أوردها ابن مالك من غير الصحيح لم تُخرَّج فيها، فعقد قسمًا ثالثًا بعنوان: "تتمات وملاحظات لتعليقات الأستاذ الفاضل محمد عبد الباقي على شواهد التوضيح لابن مالك". ورتَّبها على أربعة جداول: 1 - صفحة 2 - سطر 3 - في المطبوع 4 - ملاحظات وهي 54 ملاحظة. وقد صدرت للكتاب فيما بعد طبعتان محققتان: أولاهما في بغداد بتحقيق الدكتور طه محسن سنة 1405 (1985 م) أي بعد 28 سنة من صدور الطبعة المصرية، والأخرى بتحقيق الأستاذ عبد الله ناصير أخرجتها دار الكمال المتحدة في دمشق سنة 1432 هـ (2011 م). وكلٌّ منهما اعتمد على أربع نسخ خطية غير التي اعتمد عليها صاحبه، فالطبعتان صادرتان في الجملة عن ثماني نسخ خطية. ولا شك أن المتأخرة منهما أتقن، ولكن بعض مآخذ الشيخ المعلمي رحمه الله لا تزال قائمة على هذه

الطبعة الجديدة أيضًا. وإليكم ملاحظتين فقط: الأولى: قال ابن مالك: " ... ويؤيد ذلك قول ابن عباس رضي الله عنهما: اجتمع عند البيت قرشيان وثقفي، أو ثقفيان وقرشي كثيرة شحم بطونهم قليلة فقه قلوبهم". كذا ورد "قول ابن عباس" في الطبعة المصرية (ص 86) الصادرة عن الطبعة الهندية (ص 58)، وفي الطبعتين العراقية (ص 145) والشامية (ص 136). وذلك يدل على اتفاق النسخ، وأنه كذا وقع في أصل المصنف. علَّق الشيخ المعلمي على هذا الموضع بقوله: "المعروف أنه قول ابن مسعود كما في الصحيح" يعني: كما ورد صريحًا في الحديث الذي قبله (4816)، وإن لم يكن فيه الشاهد. وقد رجع المحققون الثلاثة إلى صحيح البخاري لتخريج الحديث، فأحال الأولان على الكتاب والباب، والثالث على رقم الحديث (4817)، وذهب عليهم جميعًا أنه من قول ابن مسعود - كما ذكر الشيخ المعلمي - لا قول ابن عباس. ولعل سبب الوهم أن ابن مالك لم يرجع إلى كتاب التفسير (4817) ليجد التصريح باسم ابن مسعود في الحديث الذي قبله (1416)، بل كان مصدره كتاب التوحيد (7521)، وفي سنده: " ... عن مجاهد، عن أبي معمر، عن عبد الله"، فوهم، وصدَّقه المحققون الثلاثة، ولم يفطنوا لوهمه مع رجوعهم إلى كتاب التفسير. والشيخ المعلمي عالم ومحدِّث، لا "محقق" فقط، فلا يخفى عليه مثل هذا الحديث من أحاديث الصحيحين والسنن. وقد ورد بلفظ الشاهد في صحيح مسلم (7205)، وجامع الترمذي

(3248) بسند فيه تصريح: "عن مجاهد عن أبي معمر عن ابن مسعود". الثانية: قال ابن مالك: "وقول ابن مسعود رضي الله عنه: أقرأنيها النبي - صلى الله عليه وسلم - فاه إلى فيَّ" كذا ورد "قول ابن مسعود" في الطبعات الثلاث: المصرية (191) والعراقية (246) والشامية (260)، وهذا دليل على أنه أيضًا كذا وقع في أصل ابن مالك. وعلَّق عليه الشيخ المعلمي: "الصواب: وقول أبي الدرداء. وقد صرَّح به البخاري في تفسير سورة الليل". وقد جاء الحديث في عدة مواضع في الصحيح، منها موضع الشاهد وهو: كتاب فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، باب مناقب عبد الله بن مسعود (3761). ولعل ابن مالك أوهمه لفظ العنوان، فلم ينعم النظر، وظن أن قائل هذه العبارة ابن مسعود. ولفظ الحديث: "عن علقمة: دخلتُ الشام، فصليت ركعتين، فقلت: اللهم يسِّر لي جليسًا، فرأيت شيخًا مقبلًا [هو أبو الدرداء] فلما دنا قلتُ: أرجو أن يكون استجاب الله. قال: من أين أنت؟ قلت: من أهل الكوفة. قال: أفلم يكن فيكم صاحب النعلين ... ؟ كيف قرأ ابن أم عبد "والليل"؟ فقرأت: "والليل إذا يغشى ... " قال [أبو الدرداء]: أقرأنيها النبي - صلى الله عليه وسلم - فاه إلى فيَّ، فما زال هؤلاء حتى كادوا يردُّونني". السياق واضح في أن أهل الشام اعترضوا على قراءة ذلك الشيخ، فلما علم أن علقمة من أهل الكوفة سأله عن قراءة ابن مسعود لسورة الليل، فقرأ

علقمة بقراءة ابن مسعود (وهي التي قرأ بها الشيخ) فقال الشيخ: أقرأنيها ... فما زال هؤلاء (يعني أهل الشام) حتى كادوا يردُّونني. وقد ورد هذا الحديث في كتاب التفسير (4943، 4944) وكتاب الاستئذان (6278) أيضًا، وفي هذه المواضع جميعًا التصريح باسم أبي الدرداء. وقد وقف الدكتور طه محسن على أحد هذه المواضع، فقال في تخريجه للحديث: "صحيح البخاري 5/ 35. وروي في 5/ 31 منسوبًا إلى أبي الدرداء رضي الله عنه". وهذا يدل على أن الدكتور طه يرى أن الحديث في الموضع الأول (5/ 35) منسوب إلى ابن مسعود، وهو غريب. وكان من المتوقع أن يثير هذا التعليق محقق الطبعة الشامية، فيدفعه إلى التحقق من كلامه ومراجعة الحديث في صحيح البخاري، ولكنه لم يفعل. أكتفي بهاتين الملاحظتين، وفي تنبيهات الشيخ نظرات دقيقة أخرى. أصل هذه الرسالة محفوظ في مكتبة الحرم المكي برقم 4924، وهي في 26 صفحة، والمكتوب منها 15 صفحة، وقد رقَّمها الشيخ بالقلم الأحمر، ولكن نسي ترقيم الصفحة 13، فرقَّم التي بعدها 13، والتي تليها 14. قد سبق أن الشيخ رتَّب الأحاديث في القسمين الأولين ثم الملاحظات في القسم الثالث على جداول. وعند تكرار الصفحة لا يعيد إثبات رقم الصفحة، بل يشير إليه بشرطتين مائلتين. ولكن لما أضاف رقم الصفحة من الطبعة المصرية وجاءت في صفحة واحدة عدة أحاديث وضع قوسًا أحدب طويلًا بإزاء الأحاديث الواردة في الصفحة الواحدة، وكتب رقم الصفحة في وسط القوس.

وعملي في إخراج هذه الرسالة يتلخص فيما يلي: 1 - رقَّمت الأحاديث في القسمين الأولين والملاحظات في القسم الثالث. 2 - عدلت عن ترتيبها على الجداول إلى سردها على الوجه الآتي: رقم الحديث، رقم الصفحة والسطر من الطبعة الهندية، رقم الصفحة والسطر من طبعة الأستاذ محمَّد فؤاد عبد الباقي بين قوسين، النص المنقول من شواهد التوضيح. ثم من أول السطر بعد شرطة أثبتُّ تخريج الحديث، وفي آخره زدت رقم الحديث من صحيح البخاري بين حاصرتين. 3 - خرّجت بعض النصوص التي فاتت الشيخ. 4 - يرمز الشيخ - طلبًا للاختصار - إلى الصلاة والسلام بنصف حرف الصاد (صـ) وإلى الترضي عن الصحابة بحرف الراء ونصف حرف الضاد (رضـ) فكتبتهما كاملتين. 5 - لم أجد الطبعة الهندية، فلم أتمكن من مراجعة النصوص والإحالات المنقولة منها, ولا يفيد الرجوع في ذلك إلى الطبعة المصرية، فإن الأستاذ محمَّد فؤاد عبد الباقي رحمه الله قد تصرَّف في النصوص، ولكن استأنست بالطبعتين المحققتين العراقية والشامية. أما ما نقله الشيخ من الطبعة المصرية وبخاصة في القسم الثالث فعارضته عليها، ونبهت على ما وقع في كلام الشيخ من سهو أو سبق قلم. ****

(5) تصحيحات وتعليقات على "سبل السلام" للأمير الصنعاني

(5) تصحيحات وتعليقات على "سبل السلام" للأمير الصنعاني هذه الرسالة ضمن مجموع محفوظ في مكتبة الحرم المكي برقم 4686، وهي في 14 ورقة، ولم يكتب الشيخ إلا في وجه واحد من الورقة. ولم نجد في الرسالة إشارة إلى الكتاب الذي تتعلق به هذه التصحيحات والتعليقات، وإنما تبيَّن من قراءتها أنها عن كتاب "سبل السلام الموصلة إلى بلوغ المرام" للأمير الصنعاني، وأنها تناولت مقدمة الكتاب والأبواب الثلاثة الأُوَل من كتاب الطهارة فقط، وهي: باب المياه، وباب الآنية، وباب إزالة النجاسة وبيانه. ولم أقف على الطبعة التي طالعها الشيخ، غير أن آخر صفحة علَّق عليها منه هي ص 55. قسم الشيخ ملاحظاته على ثلاثة أقسام بالعناوين الآتية: 1 - أخطاء تصحيحية ونحوها. وهي في الصفحتين (1 - 2). 2 - أوهام للشارح تتعلق بضبط بعض الكلمات أو إعرابها أو تفسيرها أو نحو ذلك. وهي في الصفحات (3 - 6). 3 - تعليقات، وهي في ثماني صفحات، ورقَّمها ترقيما مستقلا (1 - 8). أما القسم الأول، فرتَّبه الشيخ على أربعة جداول: ص، سطر، خطأ، صواب. وإذا تكرر رقم الصفحة وضع شرطتين مائلتين بدلا من إعادة كتابة الرقم، كما فعل في الرسائل الأخرى. والتصحيحات في هذا القسم - وقد بلغت 39 تصحيحا - تشمل الأخطاء الطباعية وغيرها مما قد يكون وقع في النسخ الخطية من الكتاب، وبعضها من الشارح نفسه، مع أن هذا الأخير موضعه في القسم الثاني.

وأذكر هنا ثلاثة نماذج من هذه التصحيحات: الأول: وهو أول ملاحظة فيها على ما جاء في مقدمة الكتاب: "والنبي من النبوة، وهي الرفعة، فعيل بمعنى مُفعِل، أي المنبئ عن الله بما تسكن إليه العقول الزاكية". فعلَّق عليه الشيخ: "يظهر أن هنا سقطًا، فإن الذين جعلوه بمعنى "مُفعِل" جعلوه من (ن ب أ). قال الراغب في مادة نبأ: "والنبي لكونه منبئًا بما تسكن إليه النفوس الزكية ... ". كذا نقل الشيخ من الطبعة التي اعتمد عليها. وكذا في طبعة مكتبة المعارف (ص 1/ 17). وفي طبعة حلاق (1/ 78) وضع "والنبي من النبوة وهي الرفعة" بين حاصرتين، وقال في تعليقه: "في النسخة (أ): "والنبي من الأنبياء. والمثبت من (ب) ". الحقيقة أن ما نسبه إلى النسخة (أ) هو في النسخة (ب)، ثم حرَّفه، والصواب في قراءته: "والنبي من الإنباء". انظر: نسخة صنعاء اللوحة (11/ ب) وبذلك يستقيم كلام الأمير. وفي نسخة جامعة الملك سعود (2/ أ): "والنبي من النبوة، فعيل بمعنى مفعل ... " فالنص المطبوع في طبعة مكتبة المعارف وطبعة حلاق وغيرهما فيه خلل بلا شك. ويمكن إصلاحه بوجوه مختلفة، ولكن ينبغي الرجوع إلى نسخ جيدة من الكتاب. وفي "شرح المغربي" الذي هو أصل "سبل السلام": "والنبي مشتق من الإنباء الذي هو الإخبار ... ويجوز أن يكون النبي مأخوذًا من النبوة بمعنى الرفعة" (ل 4/ أ - ب).

الثاني: ما جاء في تضعيف أبي حاتم لحديث ابن ماجه: "إن الماء لا ينجسه شيء" قال: "وإنما ضُعِّف الحديث لأنه من رواية رشدين بن سعد .. قال أبو يوسف: كان رشدين رجلاً صالحًا في دينه ... " كذا في ط مصطفى البابي الحلبي (1/ 18) ومكتبة المعارف (1/ 38). وفي ط حلاق (1/ 160) وضع "أبو يوسف" بين حاصرتين، وقال في الحاشية: "في النسخة (أ): "أبو يونس". والصواب: "ابن يونس" كما نبَّه الشيخ المعلمي. انظر: تهذيب الكمال (9/ 195) والتقريب (209). وما ذكره حلاق غير صحيح. فقد جاء في متن نسخة صنعاء التي رمزها عنده (ب): "لأنه من رواية رشدين بن سعد وهو متروك". وفي حاشيتها نقل من كتاب "التقريب": "رشدين بن سعد ... فخلط في الحديث" دون إشارة إلى اللحق. وكتب في هذا النقل "ابن يونس" واضحًا. وفي نسخة جامعة الملك سعود أيضًا وردت هذه العبارة في الحاشية، وفيها "ابن يونس". الثالث: ما جاء في تفسير "المزادة" قال: "وهي الراوية"، ولا تكون إلا من جلدين تقام بثالث بينهما لتتسع". كذا جاءت كلمة "تُقام" في طبعات البابي الحلبي (1/ 33) ومكتبة المعارف (1/ 75) وحلاق (1/ 150) وهو تصحيف صوابه: "تُفْأَمُ"، كما صحح الشيخ، من أفأَمَ السرجَ أو الدلوَ ونحوها: وسَّعه وزاد فيه.

والجدير بالذكر أن النسخة اليمنية التي رمز إليها حلاق بحرف (ب) وردت فيها "تُفْأَمُ" مضبوطة بالحركات، وفُسِّرت في الحاشية (ل 19/ ب). وفي نسخة جامعة الملك سعود: "تقأَم" بالقاف مع الهمزة المفتوحة. والتفسير المذكور في حاشية النسخة اليمنية موجود هنا أيضًا. ثم ضبطت في الحاشية بالحروف: "تفأم بالمثناة ففاء فوقية فهمزة" ثم فسرت نقلاً عن القاموس. أما القسم الثاني، فخصصه الشيخ لبيان أوهام للشارح تتعلق بضبط بعض الكلمات أو إعرابها أو تفسيرها أو نحو ذلك. ونبَّه فيه على سبعة مواضع. منها: ضبط الشارح كلمة "سنخة" في حديث أنس: "دعاه يهودي على خبز شعير وإهالة سنخة" بفتح السين المهملة وفتح النون المعجمة (ص 44) وطبعة حلاق (1/ 149). فنبه الشيخ على أن المعروف في كتب اللغة والغريب وغيرها أنها بكسر النون. ومنها قول الشارح عن الأعراب: "وهم سكان البادية سواء كانوا عربًا أم عجمًا" (ص 34) وطبعة حلاق (1/ 123). قال الشيخ: "المعروف أن الأعراب بدو العرب خاصة، إلا أنه يلتحق بهم من كان معهم من مواليهم. راجع: لسان العرب وغيره". ومنها كلام طويل دقيق على كلمة "طهور" في حديث أبي هريرة: "هو الطهور ماؤه". وعلى حرف "ثم" في حديث: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه".

أما قسم التعليقات - وهو القسم الثالث - فعلَّق فيه الشيخ على عشرين موضعًا من 55 صفحة من الأصل. وتتعلق بالعقيدة والفقه والأصول والحديث وغير ذلك. ومعظم التعليقات قصيرة، وقد أطال في جملة منها كالتي تكلم فيها على الفرق بين النبي والرسول، وحديث القلتين، وعلة النهي عن البول في الماء الدائم، والرد على الأمير اتهامَه المصنف - يعني الحافظ ابن حجر - بالمحاماة عن المذهب. وقد سبق أن ملاحظات الشيخ لم تتجاوز الأبواب الثلاثة. لم أقف على الطبعة التي علَّق عليها الشيخ كما سبق، ورجعت إلى نشرة الأستاذ محمَّد صبحي حسن حلاق، فظهر لي أنها ليست معتمدة، وأنه لا بد في بعض المواضع من الرجوع إلى الأصول، أو طبعات أخرى، فراجعت المصادر الآتية: 1 - "البدر التمام شرح بلوغ المرام" للقاضي حسين بن محمَّد المغربي، فإن هذا الشرح هو أصل "سبل السلام" للأمير، ورجعت إلى نسخة الرباط برقم 54201. 2 - نسخة صنعاء من "سبل السلام" ورمزها (ب) في نشرة حلاق. 3 - "فتح العلام لشرح بلوغ المرام" للشيخ نور الحسن القنوجي، وهو مختصر من سبل السلام. 4 - "سبل السلام" طبعة مكتبة المعارف بالرياض، 1427. ****

(6) تنبيهات على الكامل للمبرد

(6) تنبيهات على الكامل للمبرد طبع كتاب الكامل لأبي العباس المبرد عدة طبعات، أهمها وأقدمها طبعة المستشرق الألماني وليم رايت في مدينة ليبزج في السنوات (1864 - 1874 م) عن سبع نسخ خطية، وآخرها وأحسنها طبعة مؤسسة الرسالة التي صدرت سنة 1406 بتحقيق الدكتور محمَّد أحمد الدالي. ومن الطبعات التي صدرت بينهما طبعة مصطفى البابي الحلبي، التي حقق الجزء الأول وطرفًا من الجزء الثاني منها الدكتور زكي مبارك، وأتمَّها الشيخ أحمد شاكر. وقد صدر الجزء الأول سنة 1356، فقرأه الشيخ المعلمي، وقيَّد ملاحظاته في صفحتين، وقال في مقدمتها: " ... ومع ذلك بقي في المجلد المذكور مواضع ظهر لي عند مطالعته أنها على خلاف الصواب. وأرى أني لو تكلفت النظر البالغ مع مراجعة المظان لوجدتُ فيه مواضع أخرى. وهذا بيان ما ظهر لي". وقد بلغ عدد الملاحظات 67 ملاحظة، والأخطاء التي نبَّه عليها الشيخ منها ما هو في ضبط النص وتقطيع الأبيات والسقط والتصحيف والتحريف، وبعضها من أخطاء الطبع. وأصل هذه الملاحظات في أربع ورقات بخط الشيخ عُثِر عليها أخيرًا، وأعطيتْ رقم 4932، وصوِّرت في 25/ 5/ 1433. وهي ستُّ صفحات رُقِّمت - وليس الترقيم من الشيخ - ترقيمًا مضطربًا، فقد رقِّمت الصفحة الأولى والصفحة الثالثة برقم (1) و (2) كما ترقَّم الأوراق، ثم رقِّمت الصفحتان الخامسة والسادسة برقم (3) و (4). والملاحظات على الكامل في هاتين الصفحتين، ولكنها بدأت في (ص 4) وانتهت في (ص 3).

والصفحات الأخرى تشتمل على تنبيهات على المجلد الأول من معجم الأدباء لياقوت - طبعة الرفاعي، وقد صدر أيضًا سنة 1356، فلعل التنبيهات على الكتابين قيِّدت في زمن متقارب. وقد وضعوا للنسخة عنوان "الأخطاء المطبعية الواقعة في معجم الأدباء لياقوت الحموي"، وهو عنوان غير دقيق، وناقص أيضًا لعدم الإشارة فيه إلى التنبيهات على الكامل. وقد رتَّب الشيخ ملاحظاته بعد المقدمة على خمسة جداول هكذا: 1 - صفحة 2 - سطر 3 - في المطبوع 4 - الصواب 5 - الإشارة إلى الدليل وعند تكرار رقم الصفحة أو رقم السطر أو غيره مما سبق في السطر السابق، لا يعيد كتابته، بل يرمز إليه بشرطتين مائلتين، كما سبق. وإذا جاءت حاشية في الكتاب، وهو يرى أنها خطأ ويجب حذفها، ذكر رقم الحاشية أو عبارتها في جدول "في المطبوع"، واكتفى في جدول الصواب بكتابة علامة الحذف (×). وقد يكتب في جدول الصواب علامة الاستفهام، ويعني أنه شاكٌّ فيما ورد في المطبوع، ثم يذكر اقتراحه. والجدول الخامس لتعليل الخطأ، والتدليل على ما يراه صوابًا، وذكر المراجع، وما إلى ذلك. وتنبيهات الشيخ على معجم الأدباء أيضًا مرتبة على هذه الجداول

(7) تنبيهات على معجم الأدباء لياقوت

الخمسة، غير أنه لم يكتب فوق الجدول الخامس "الإشارة إلى الدليل"، كما لم يكتب ذلك في الصفحة الثانية من التنبيهات على الكامل. وهذا يدل على أن التنبيهات على الكامل قُيّدت قبل التنبيهات على معجم الأدباء. لم نطبع هذه التنبيهات في صورة الجداول، بل رتبناها على هذا النموذج: ص 10 س 11: "كصداء". الصواب: "كصدا". إنما يستقيم وزن الشعر بترك الهمزة. وقابلناها على طبعة مؤسسة الرسالة، وعلَّقنا عليها عند الضرورة. **** (7) تنبيهات على معجم الأدباء لياقوت أول ما صدر معجم الأدباء بعناية المستشرق الإِنجليزي مرجليوث على نفقة لجنة جِب التذكارية بلندن، وطبع في سبعة مجلدات بالقاهرة في خلال السنوات (1907 - 1916) وأعيدت طباعتها في (1923 - 1931). وقد وقعت في هذه النشرة أخطاء كثيرة نبَّه عليها الأستاذ عبد العزيز الميمني في سلسلة مقالاته المنشورة بعنوان "طرر على معجم الأدباء" في مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق (1965 - 1967 م) في المجلدات (40 - 42). ثم نشره بالقاهرة الدكتور أحمد فريد الرفاعي مدير إدارة الصحافة والنشر والثقافة المصرية في السنوات (1936 - 1938). وهي في الحقيقة النشرة السابقة نفسها، استأذن الدكتور الرفاعي صاحبها المستشرق والقائمين على

لجنة جِب التذكارية في إعادة نشرها، وأخرجها في حُلَّة جديدة في عشرين مجلدًا، وروجعت من قبل وزارة المعارف، حسب ما كُتب على غلافها، وصرَّح الرفاعي في مقدمتها، فشكر لرجالات الوزارة "تفضلَهم بالمراجعة والتهذيب والإصلاح والتعقيب، والأستاذ الثبت الشيخ عبد الخالق عمر أستاذ اللغة العربية الأول بدار العلوم، ومصححي دار المأمون". والحق أن هذه الطبعة قد امتازت بالحرف الكبير والضبط الكامل وحسن الإخراج، وانتفع بها الناس في البلاد العربية وغيرها، وأعيد طبعها بالتصوير غير مرة، وظلت هي المرجع المتيسر للدارسين أكثر من خمسين عامًا، حتى صدرت نشرة الدكتور إحسان عباس سنة 1993 م، بل بعد صدورها أيضًا. قرأ الشيخ المعلمي رحمه الله الجزء الأول من هذه الطبعة، ودوَّن ملاحظاته حسب الطريقة التي شرحتُها في التعريف بالرسالة السابقة. وهي نحو 120 ملاحظة، وقد نبَّه في بدايتها على أنه قيَّد ما ظهر له أنه خطأ، وأنه لم يستقص. ولا شك أنه لو استقصى لزادت ملاحظاته زيادة كبيرة. وسبب كثرة الأخطاء فيها أنها ضُبطت ضبطًا كاملاً، وذلك يقتضي مراجعة دقيقة مضاعفة لكل كلمة، بل لكل حرف مع حركته. فإذا عُدَّ الضبط الكامل ميزة لكتاب، فإنه يعود وبالًا عليه إذا لم يُعط حقَّه من التصحيح والمراجعة. فانظر في ملاحظات الشيخ تجد نصفها أو أكثر منه متعلقًا بأغلاط الطبع. ومن ثم نجت منها طبعة مرجليوث، وطبعة الدكتور إحسان عباس أيضًا لقلة عنايته بضبط الأعلام على أهميته البالغة.

وقد يظن بعض الناس أن تنبيهات الشيخ المعلمي ربما فقدت الآن قيمتها العلمية بعد صدور النشرة المحققة للكتاب، وأن لها قيمة تاريخية فقط. والواقع أن جملة منها لا تزال صادقة على هذه الطبعة أيضًا. وأذكر منها على سبيل المثال ثلاث ملاحظات: الأولى: ورد في نشرة الدكتور إحسان عباس (1/ 7): "إلى أن هزم اليأسَ الطمع". ضبطت كلمة "اليأس" في طبعة الرفاعي (1/ 48) بالنصب على أنه مفعول به، وكلمة "الطمع" بالرفع على أنه فاعل. والدكتور إحسان عباس اكتفى بضبط "اليأس" بالنصب، والمآل واحد. والسياق يقتضي العكس، فإن المقصود أن المؤلف كان يطمع في الحصول على كتاب جامع لتراجم الأدباء، ليُكفَى مؤونة التأليف في ذلك، وظل يبحث ويفتِّش حتى يئس. فالجملة بمعنى غلبة اليأس على الطمع المذكور. فعلَّق الشيخ على هذا الضبط بقوله: "الصواب: "إلى أن هزم اليأسُ الطمعَ". المعنى على هذا". الثانية: جاء في (1/ 94): "وقال عبد الرحمن النسائي". وكذا وقع في طبعتي مرجليوث والرفاعي، وهو خطأ ظاهر، فإن الصواب: "أبو عبد الرحمن النسائي" كما لاحظ الشيخ. الثالثة: ذكر ياقوت في ترجمة إبراهيم الصولي (1/ 74) أن "الحارث بن بُسْخُنَّر الزريم المغني" كان صديقًا له. كذا وردت كلمة الزريم في الطبعات الثلاث، فكتب الشيخ: "النديم" مع علامة الاستفهام. وقد أصاب المحزّ، فالزريم تحريف ما ذكره الشيخ. ويؤكده ما جاء في قطب السرور للرقيق النديم (ص 574): "وقد وردت عليه رقعة محمَّد بن

(8) من نوادر مخطوطات مكتبة الحرم المكي الشريف

الحارث بن بسخنر النديم". أما أصل هذه التنبيهات وطريقة ترتيبها، وطريقتنا في نشرها، فقد سبق وصفها في الرسالة السابقة. **** (8) من نوادر مخطوطات مكتبة الحرم المكي الشريف في مكتبة الحرم المكي دفتر برقم 4658 قيَّد الشيخ في خمس صفحات منه عناوين مختارة من مخطوطات المكتبة مع أرقامها وبياناتها المهمة وملاحظاته على بعضها. وهي 61 عنوانًا، ستة منها في القراءات، وثلاثة وعشرون في التفسير، واثنان وثلاثون في الحديث. فالمخطوطات التي انتقاها الشيخ محصورة في هذه العلوم الثلاثة، والظاهر أنه لم يتمكن من إتمام هذا العمل. وقد كتب الأستاذ محمَّد عثمان الكنوي على الدفتر: "بعض نوادر المخطوطات استخرجها عبد الرحمن بن يحيى المعلمي رحمه الله في سنة 1385. وهي تشمل نوادر المخطوطات في التجويد والقراءات والتفسير وعلوم القرآن والحديث ومصطلحه". ثم كتب الأستاذ الكنوي تحته اسمه وتحت اسمه توقيعه. أهمية هذه العبارة في دلالتها على تاريخ هذا العمل، وهو 1385، أي قبل وفاة الشيخ بنحو سنة، فهو من آخر أعماله رحمه الله. ومن فوائد هذا الفهرس أن فيه ذكرًا لنسخة من شرح شفاء القاضي عياض لأبي الحسن بن قبرص برقم 270، ونبَّه الشيخ على أن هذا الشرح

ناقص. لم نجد النسخة المذكورة في فهرس المكتبة المطبوع، وبحث عنها الموظفون في المكتبة فلم يعثروا عليها. والشيخ رحمه الله لم يقتصر على البيانات المعروفة للنسخ الخطية بل أضاف إليها فوائد تدل على مقدار أهمية النسخة، فيقول مثلًا عن نسخة تفسير الرازي: "كتبت في القرن الحادي عشر، ولكنها جليلة". وكذلك عن نسخة من تفسير البغوي: "نسخة قديمة جيدة". ونحوه عن نسخة من صحيح البخاري: "نسخة جيدة قديمة". وعن نسخة من ذخائر المواريث للنابلسي: "نسخة غير قديمة، ولكنها نفيسة". ويذكر أحيانًا تقديره لتاريخ كتابة النسخة، فيقول مثلًا عن نسخة من حاشية العصام على تفسير البيضاوي: "لعله من مكتوبات القرن الحادي عشر". ويقول عن نسخة من سنن النسائي: "نسخة جيدة مصححة لعلها من مكتوبات القرن العاشر"، وعن نسخة أخرى منه: "نسخة غير قديمة، ولكنها مصححة". ويشير إلى حواشي النسخ، فقال مثلًا عن نسخة مصابيح السنة للبغوي: "نسخة جيدة أرِّخت سنة 738 وعليها حواش كثيرة". وإذا كانت النسخة ناقصة أو فيها خرم ينبِّه على ذلك، كقوله عن نسخة من "زاد المعاد" لابن القيم: "نسخة ناقصة ملفقة، فالنصف الأول تقريبًا نسخة يمنية أرِّخت 1129، والربع الأخير من نسخة قديمة كتب في خاتمته: آخر المجلد الثالث من هذا الكتاب وبتمامه تمَّ الكتاب ... وأرِّخ سنة 765". ****

وفي ختام هذه المقدمة، أقدِّم خالص الشكر إلى المسؤولين في مكتبة الحرم المكي الشريف - ولا سيما العاملين في قسم المخطوطات فيها - على ترحيبهم بروَّاد المكتبة، ومساعدتهم على الاستفادة من ذخائرها، فجزاهم الله خير الجزاء. وأرجو أن أكون قد وُفِّقت في تقديم رسائل هذا المجموع على وجه يليق بها وييسِّر الاستفادة منها، والله ولي التوفيق، وصلى الله على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين. محمَّد أجمل أيوب الإصلاحي الرياض 12/ 9/ 1433

نماذج من النُّسخ الخطية

أصول التصحيح العلمي (مسوَّدة)

أصول التصحيح العلمي (مسوَّدة)

أصول التصحيح العلمي (مسوَّدة)

ورقة من رسالة في تصحيح النصوص

نموذج من رسالة أصول التصحيح

التنبيه على أحاديث "شواهد التوضيح والتصحيح" لابن مالك

تتمات وملاحظات لتعليقات الأستاذ فؤاد عبد الباقي

تصحيحات على كامل المبرد

تصحيحات على سبل السلام

تصحيحات على معجم الأدباء

النص المحقق

آثَار الشّيْخ العَلّامَة عَبْد الّرحْمن بْن يَحْيَى المُعَلِمِيّ (23) مجموع رسائل في التحقيق وتصحيح النصوص تَألِيْف الشّيْخ العَلّامَة عّبْد الرّحْمن بْن يَحْيَى المُعَلِّمِيّ اليَمَاِني 1312 هـ - 1386 هـ تَحْقِيْق مُحَمَّد أجْمَل الإصْلَاحِي وفق المنهج المعتمد من الشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد (رحمه الله تعالى) تمويل مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

الرسالة الأولى أصول التصحيح العلمي

الرسالة الأولى أصول التصحيح العلمي

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. أما بعد: فهذه رسالة فيما على المتصدِّين لطبع الكتب القديمة مما إذا وفوا به فقد أدَّوا ما عليهم من خدمة العلم والأمانة فيه، وإحياء آثار السلف على الوجه اللائق، وتكون مطبوعاتهم صالحة لأن يثق بها أهل العلم. وهي مُرتَّبة على مقدمة و ... (¬1) أبواب وخاتمة. **** ¬

_ (¬1) ترك المؤلف هنا بياضًا لعدد الأبواب.

المقدمة

المقدمة كان العلم في صدر الإسلام يُتَلقَّى من أفواه العلماء، ويُحفَظ في الصدور. وكان الناس مختلفين في الكتابة، منهم مَن يثق بجودة حفظه فلا يكتب شيئًا، ومنهم مَن يكتب ما يسمع ليتحفظه ثم يمحو الكتاب، ومنهم مَن يكتب ويحفظ كتابه حتى يراجعه عند الحاجة. ثم اتسع العلم، وطالت الأسانيد، وصُنِّفت بعض الكتب، فأطبق الناس على الكتابة. وكان أكثرهم يحرصون على الحفظ، وإنما يكتبون ويحفظون كتبهم ليتحفظوا منها، ثم يراجعونها عند الحاجة. ومنهم مَن لا يحفظ، فإذا احتيج للأخذ عنه روى من كتابه. وكانوا يبالغون في حفظ كتبهم، فلا يمكِّن أحدهم أحدًا من كتابه إلا أن يكون بحضرته، [ص 2] أو يشتد وثوقه برجل فيسمح له. وفي "صحيح البخاري" في كتاب الحج، باب: من أين يخرج من مكة [1576]: "سمعت يحيى بن معين يقول: سمعت يحيى بن سعيد يقول: لو أن مسددًا أتيتُه في بيته فحدثتُه لاستحق ذلك، وما أبالي كُتُبي كانت عندي أو عند مسدد". وكانت كتب العلماء التي يعتمدون عليها بخط أيديهم، وذلك على أوجه: - قد يملي الشيخ، والطالب يكتب ثم يحفظ ذاك الكتاب نفسه، أو ينقله إلى كتاب آخر فيحفظه.

- وقد يثق الطالب بجودة حفظه، فيحضر إملاء الشيخ فيحفظ، ثم يرجع إلى بيته فيكتب ما حفظه. - وقد يسمح له الشيخ بكتابه بحضرته فينقل منه، أو ينقل من نسخة أخرى قد كتبها صاحبها عن الشيخ، ثم يقرأ ما كَتبه على الشيخ؛ فإن كان الشيخ حافظًا اكتفى باستماع ما كتبه الطالب، وأصلح ما يحتاج إلى إصلاحه من حفظه، أو أخذ كتابَ الطالب وأملاه عليه. وإن لم يكن الشيخ يحفظ أخَذَ أصلَه، فقابل له (¬1) ما كتبه الطالب؛ إما بأن يملي الشيخ من أصله والطالبُ ينظر في نقله، وإما بأن يقرأ الطالب من نقله والشيخ ينظر في أصله. - وربما تسامح بعضهم، فحضر إملاءَ الشيخ أو القراءةَ عليه ولم يكتب هو، ولكن كان معه مَن يكتب عند السماع أو كتَبَ قبل ذلك. ثم بعد ذلك يعتمد ذاك الذي لم يكتب على كتاب صاحبه، فينقل عنه. - وربما لم يكن هناك سماع ولا قراءة، وإنما ينقل الطالب من أصل الشيخ، أو من فرع قد قرأه الشيخ أو قرئ عليه، ثم يعرض على الشيخ؛ فإذا كان الشيخ حافظًا لعلمه تصفَّحَ هذا النقلَ، [ص 3] وأصلح ما يحتاج إلى الإصلاح، ثم ناوله الطالبَ وأذن له بروايته عنه. - وربما استغنى الشيخ عن بعض كتبه، فوهبه لبعض أصحابه، وأذن له أن يرويه عنه. - وربما أوصى الشيخ بكتابه لبعض أصحابه، وأذن له أن يرويه عنه. - وأشد تسامحًا من هذا أن ينقل الطالب من كتاب طالب آخر ما رواه ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، والمقصود: "به" أو "عليه".

عن شيخ حي، ثم يجيء إلى الشيخ بكتابه فيقول: هذا من روايتك، فأرويه عنك؟ فيقول: نعم؛ مع أنه لم ير الكتاب، ولم يقرأه، ولا قرئ عليه. وكان مثل هذا نادرًا، وإنما يتفق مثله إذا كان الطالب كبيرًا من أهل العلم والثقة، فإذا وثق بكتاب صاحبه لثقته عنده، ووثق الشيخ بعلمه وإتقانه ومعرفته = أجازه. لكن لما كثرت المصنفات، واشتهرت نسخُها، وطالت الأسانيد وتعددت، وضعفت الهمم = توسع الناس في الإجازة. يجيز الشيخ للطالب الكتابَ وإن لم يكن عنده نسخة منه، ولا قرأه، ولا سمعه، ولا رأى نسخة منه. ثم إذا طال عمر هذا الطالب احتاج الناس إلى الرواية عنه، فبحثوا عن نسخة يوثق بها من ذلك الكتاب، فقرأوا عليه، ورووه عنه. وربما اكتفى بعضهم بالاستجازة منه. فقد يجيز رجلًا، ويجيز هذا الثاني ثالثًا، فيظفر هذا الثالث بنسخة من الكتاب فيمليها على الناس أو يقرؤونها عليه، ويعتمد عليها في القضاء والفتوى والنقل في مصنفاته وغير ذلك؛ مع أن شيخه وشيخ شيخه لم يريا تلك النسخة، بل ولا نسخة [ص 4] من الكتاب. وتوسعوا في ذلك حتى كانوا يجيزون للأطفال وللرجل ولمن يولد له بعد، ويجيز أحدهم لجميع أهل عصره جميع مصنفاته ومروياته! وبالجملة صارت الرواية في الآخر صورة لا روح لها، وانحصر الأمر في أن تكون النسخة موثوقًا بها. والثقة بالنسخة على درجات: - أعلاها: أن تكون بخط المصنف وقرئت عليه، أو قرأها هو على الناس، أو كرر النظر فيها. - ودون ذلك: أن تكون فرعًا عن أصل المصنف، وقابله ثقة مع المصنف.

- ودون هذا: أن تكون فرعًا عن أصل المصنف، وقابله ثقة على أصل المصنف مع ثقة آخر غير المصنف. - ودونه: أن تكون فرعًا قد قابله ثقتان على فرع قابله ثقة مع المصنف. ثم هكذا، كلما بعُدَ الفرعُ عن أصل المصنف ضعفت الثقة به بالنسبة إلى ما قبله. وذلك لما قضت به العادة من أن الفرع وإن قوبل على الأصل لا يخلو عن مخالفة للأصل في مواضع. ولذلك أسباب، منها: التصحيف؛ فإنَّ أكثر الحروف تتحد صورة الحرفين منها، وإنما يميز بينهما النقط. وذلك الجيم والخاء مع الحاء، والدال مع الذال، والراء مع الزاي، والسين مع الشين، والصاد مع الضاد، والطاء مع الظاء، والعين مع الغين، وثلاثة من أحرف "بثينته" مع السين. ومنها ما يتحد الحرفان فأكثر في الصورة، وإنما التمييز بصورة النقط. وذلك الجيم [ص 5] مع الخاء، والفاء مع القاف، وكل من أحرف "بثينته" مع الباقي، وثلاثة منها مع الشين؛ حتى إن هذه الكلمة "بثينته" إذا لم تنقط احتملت أكثر من ثلاثة آلاف وجه. فإن قيل: أكثر تلك الوجوه لا معنى لها في اللغة، والسياق قد يُعيِّن أحد المحتملات التي لها معنى. قلت: كثير من المحتملات لها معنى في هذا المثال وفي غيره، والسياق كثيرًا ما يحتمل وجهين أو أكثر. والناظر إذا كان متحريًا لا يأمن أن يكون في الوجوه المحتملة ما له معنى يناسب السياق، وإن جهله هو لعدم إحاطته باللغة؛ ولا سيما إذا كان السياق إنما يقتضي أن تلك الكلمة اسم شجرة أو علم موضع أو علم إنسان، فإن هذا السياق لا يغني شيئًا، لكثرة أسماء الشجر والأماكن والناس، وكثرة الغريب منها.

قال ابن قتيبة في كتاب "الشعر والشعراء" (ص 9) (¬1): "كلُّ العلم محتاج إلى السماع (يعني التلقي من أفواه العلماء الضابطين)، وأحوجُه إلى ذلك علم الدين، ثم الشعر لما فيه من الألفاظ الغريبة واللغات المختلفة والكلام الوحشي، وأسماء الشجر والنبات والمواضع والمياه؛ فإنك لا تفصل في شعر الهذليين - إذا أنت لم تسمعه - بين "شَابَة" و"سايَة" وهما موضعان، ولا تثق بمعرفتك في حَزْم نُبايِع (¬2)، [ص 6] وعرْوان (¬3) الكَرَاث، وشَسَّي عبقر (¬4)، وأُسْد حَلْيَة، وأُسْد تَرْجٍ، ودُفاقٍ (¬5) وتُضارِع (¬6) [وأشباه هذا]؛ لأنه لا يلحق بالفطنة والذكاء كما يلحق مشتق الغريب ... ". ثم ذكر أمثلة مما يقع فيه الخطأ في بعض الألفاظ. وقال عبد الغني بن سعيد المصري في أول كتابه "المؤتلف والمختلف" (ص 2): "أنبأنا أبو عمران موسى بن عيسى الحنيفي قال: سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن عبد الله النَّجِيرَمي يقول: أولى الأشياء بالضبط أسماء الناس، لأنه شيء لا يدخله القياس، ولا قبله شيء ولا بعده شيء يدل عليه". ¬

_ (¬1) طبعة أحمد شاكر (1/ 82 - 83) وما بين الحاصرتين منها. (¬2) "نُبايع" بضم النون. ضبطه ياقوت وغيره. ووقع في المنقول عنه كأنه "تبايع". [المؤلف]. (¬3) بضم العين. وقيل: بفتحها. [المؤلف]. (¬4) قالوا: عبقر بوزن جعفر. لكن جاء في الشعر بفتح العين وفتح الباء وضم القاف وتشديد الراء. انظر توجيه ذلك في معجم البلدان. [المؤلف]. (¬5) في الأصل: "دقاق" خطأ. [المؤلف]. (¬6) كذا ضبط في الأصل بكسر الراء. والوجه الثاني ضمُّها، نقله ياقوت عن ابن حبيب.

هذا، وكان القدماء كثيرًا ما يتركون نقط ما حقه أن ينقط، كما هو مشاهد في كثير من النسخ القديمة؛ وإنما يدَعُونه إيثارًا لسرعة الكتابة، واتكالًا على أن أهل العلم يأخذون الكتب بالسماع من أفواه العلماء، فيحفظون الأسماء بضبطها. وقد يكون بعض العلماء كان يتعمد ترك النقط إلجاءً لطالبي العلم إلى السماع من أفواه العلماء، كيلا يتكلوا على الصحف. وما كان منقوطًا من النسخ القديمة كثيرًا ما يشتبه فيه النقط، فتشتبه النقطة بالنقطتين، والنقطتان بالثلاث. ويقع كثير من النقط بعيدًا عن الحرف الذي [ص 7] هو له، فيظن أنه لحرف آخر عن يمين ذلك الحرف، أو يساره، أو فوقه في السطر الأعلى، أو تحته في الأسفل. والناقل قد ينقط بعض ما لم يُنْقَط في الأصل برأيه، فيخطئ. وقد يترك نقطَ ما هو منقوط، فيكون ذلك سببًا لخطأ مَن بعده. وقد يجعل نقط حرف لغيره عن يمينه أو يساره أو فوقه أو تحته، بناءً على ما تراءى له من الأصل لبعد النقط عن الحرف الذي هو له. السبب الثاني: أن كثيرًا من الأصول يَشتبه فيها حرف بآخر وكلمة بأخرى، وإن كانت صور الحروف في أصل وضع الخط مختلفة. وذلك لتعليق الخط، أو رداءته، أو قرمطته، فيلتصق منه ما حقُّه الافتراق، ويفترق ما حقُّه الالتصاق؛ أو لأن لكاتب الأصل اصطلاحًا لا يعرفه الناقل، أو غير ذلك. ولبيان هذا أُثبت هنا بعض الكلمات التي وقع فيها التحريف في نسخ "تاريخ البخاري"، ونبهت عليها في التعليق عليه، التقطتها من التعاليق على القسم الأول من المجلد الأول من "التاريخ" المطبوع. أذكر أولًا صورة ما

وقع في النسخ خطأً في سطر، ثم أكتب في السطر الثانى تحت الكلمة ما هو الصواب فيها: هشام ... النمر ... عثمن ... السجود ... الحنفي ... يماني ... طويح ... عقية [ص 8] مسافر ... اليمن ... عمر ... السحور ... الجعفي ... يمامي ... طريح ... عتبة الذهلي ... فقال ... وائل ... يزيد بن نشيط ... عمر ... اليمامي ... علي بن قدامة (¬1) الدَّهَكي ... يقال ... ليلى ... يزيد وابن قسيط ... عم ... اليماني ... علي عن قدامة سمع ... معلى ... ست ... السكري ... يشفى ... العنزي ... محمد ... الهدير ... نمير مع ... يعلى ... ثنتين ... اليشكري ... تسع ... القنوي ... نجيح ... الهرير ... شمير صيح ... السعيدي ... أبو ... الزبير ... ميثم ... محمَّد ... قيس ... سعيد ... جعفر صبيح ... السعدي ... ابن ... الزبيدي ... ضيثم ... عمرو ... عتيق ... سفين ... جعدة جبير ... أبيه ... الحدسين ... أخبرنا ... محمَّد ... العامري ... محمد ... عقبة (¬2) ... وقران سأله حنين ... أمه ... المجذمين ... أبا ... عمر ... المعافري ... محمود ... عتبة ... وقرأ رسالة معاذ ... معتمر ... وثمانين ... عبد الرحمن بسام ... عبد الملك ... العدوية ... ثقة معان ... معشر ... ومأتين ... عبد الرحيم هشام ... عبد الله ... العذرية ... يعد قرير ... قريم ... سالم ... مسلمة ... مسلم ... عقبة ... محمد وزيد ... شيبة قرين ... قرين ... بسام ... سلمة ... سلمة ... عصمة ... محمد بن وزير ... سمينة الحضرة ... التميمي ... دليم ... يعفور ... زيد ... شعبة ... الطفيل ... سويد [ص 9] الحكرة ... التيمي ... دليلة ... يعقوب ... زبر ... سعيد ... الفضيل شعوذ سليمن ... المخزومي ... سليم ... بشر ... إسمعيل ... البصريين ... عبد الرحيم سلمى ... المخرمي ... سليمن ... مبشر ... إسحاق ... المصرين ... عبد الرحمن المِنهَال ... كدير ... القطان ... عكرمة عن سيعد ... أبو بكير ... عنبسة ... عبد الحميد الموال ... كريز ... القصاب ... عكرمة وسعير ... أبو مكين ... عبسة ... عبد الصمد مزيد ... الأنباري ... عبد الله ... خثعم ... القطيعي بديل ... الأبناوي ... عبد الملك ... جعثم ... الغطيفي ¬

_ (¬1) يتكرر مثل هذا كثير [كذا في الأصل] من وقوع "بن" والصواب: "عن"، وكذا عكسه. [المؤلف]. (¬2) سبق في السطر الأول.

السبب الثالث: أن الخمسة الأحرف الأول من "بثينته" صورة كل منها كما تراه نبرة واحدة، فكثيرًا ما تخفى النبرة، وكثيرًا ما تُترك، وكثيرًا ما يُكتفى عنها بمدة بين الحرفين: الذي قبلها والذي بعدها، فيشتبه أسد وأسيد، وبشر وبشير، وجبر وجبير، وحسن وحسين، وسعد وسعيد، وعبد الله وعبيد الله، وغير ذلك. [ص 10] السبب الرابع: أن الناقل قد يرى بحاشية الأصل أو بين السطور عبارة فيظنها لحقًا فيُدرجُهَا في المتن، أو يراها حاشية فيدعها. وقد يخطئ في ظنه: يظنها لحقًا وهي حاشية، أوعكسُه. وقد يصيب في ظنه أنها لحق، ولكن يخطئ في موضعها من المتن، فيضعها في غير موضعها. السبب الخامس: أن النُسَّاخ كثيرًا ما يكررون بعض العبارات، وكثيرًا ما يسقطون. والغالب أن يكون ذلك عن زيغ النظر من كلمة إلى نظيرتها: ينظر الناسخ أو المُمْلي عليه في الأصل فيأخذ عبارة، ثم يصرف نظره عن الأصل فتُكتب تلك العبارة في النقل؛ ثم يكُرُّ ببصره على الأصل، فيقع بصره على كلمة مثل الكلمة التي انتهى إليها في الكتابة، فيظنها إياها، فيأخذ ما بعدها. وأكثر ما يتفق مثل هذا إن كانت كلمة في سطر، وبإزائها في السطر الذي يليه نظيرتها. وقد يحتاط بعض النساخ، فلا يكتفي بكلمة بل ينظر جملة، ولكن كثيرًا ما يتفق في الأصول إعادة الجملة الواحدة مرارًا. تصفَّحْ - إن أحببت - أوراقًا من القسم الأول من المجلد الثالث من كتاب ابن أبي حاتم المطبوع بدائرة المعارف، وتأمل المواضع التي نبه المصحح على سقوطها من أحد الأصلين يتضح لك ما تقدم، وعلى الأخص صفحات 9 و11 و12 و15 و16 و18 و22 و23 و26.

فأما التكرار فلم ينبه عليه المصحح، ولكن يمكنك قياسه على الإسقاط؛ لأن سببهما واحد. [ص 11] السبب السادس: التحريف السمعي. وذلك بما إذا كان الأصل بيد رجل يُملي على الناسخ، والناسخُ يكتب؛ فإن كثيرًا من الحروف تتقارب مخارجها بل تتحد في ألسنة بعض الناس ولا سيما الأعاجم، كالهمزة مع العين ومع القاف، والباء مع الفاء، والتاء مع الدال والطاء، والثاء مع السين والصاد، والجيم مع القاف والكاف، والحاء مع الهاء، وغير ذلك. فقد يُملي المملي "أطعنا"، فيكتبها الناقل "أتانا"، وقس على ذلك. وقد يتحد لفظ كلمة بكلمتين، وإنما التمييز بالفصل والوصل، فيُملي المملي مثلًا "إن جاز"، فيكتبها الناسخ "إنجاز"، أو عكسه. وحروف المد تسقط في الوصل، فيتحد لفظ "سمعا القول"، و"سمع القول"، وكذا "ادعوا القوم" و"ادع القوم"؛ وقس على ذلك. السبب السابع: أن الناسخ أو المملى عليه قد يتصرف برأيه، فيزيد أو ينقص أو يُغيِّر. وقع في "لسان الميزان" (3/ 6) في الكلام على سالم بن هلال: "ذكره ابن حبان في "الثقات" وقال فيه: الناجي يروي عن أبي بكر الصديق رضي الله [ص 12] تعالى عنه، روى عنه يحيى بن سعيد القطان". والذي في "الثقات" (¬1): "سالم بن هلال الناجي، يروي عن أبي الصديق الناجي، روى عنه يحيى بن سعيد القطان". وأبو الصديق الناجي ¬

_ (¬1) طبعة حيدراباد (6/ 409).

تابعي مشهور اسمه بكر بن عمرو. ووقع في "الميزان" (¬1) في ترجمة محمد بن عمر الجعابي: "حدَّث عن أبي حنيفة ومحمد بن الحسن وابن سماعة وأبي يوسف القاضي". وفي "لسان الميزان" (5/ 322): "حدَّث عن أبي حنيفة رضي الله عنه ومحمد بن الحسن بن سماعة وأبي يوسف القاضي". والصواب إنما هو: "حدَّث عن أبي خليفة ومحمد بن الحسن بن سماعة ويوسف القاضي". وفي "تذكرة الحفاظ" (3/ 130): "سمع محمد بن الحسن بن سماعة ويوسف بن يعقوب القاضي و ... وأبا خليفة الجمحي". السبب الثامن: التحريف الذهني. قد تستولي كلمة على فكر الإنسان وتشغله، فإذا حاول أن يملي غيرها أو يكتب سبقت هي إلى لسانه أو قلمه، فينطق بها أو يكتبها، وهو لا يشعر. وقد جرى لي مثل هذا مرارًا. فهذه الأسباب وغيرها تُوقع الناسخ في الغلط. فإن لم يقابل الفرع على الأصل بقيت الأغلاط في الفرع، وإن قوبل فالمقابلة تختلف باختلاف درجة المقابلين في العلم والمعرفة والتثبت والاحتياط. ومع ذلك كله، فالغالب أنها تبقى أغلاط. وإذا أنت تدبرت الأسباب المتقدمة علمت أنها قد تتفق للمقابل، كما تتفق للناسخ. والبرهان على ذلك أننا نجد النسخ القديمة التي قوبلت على ¬

_ (¬1) طبعة الخانجي سنة 1325 (3/ 113).

أصول المصنفين، أو على فروع قوبلت على تلك الأصول، ثم نجد فيها من الأغلاط ما نعلم أنه ليس من المصنف. وإذا أردت عين اليقين فاعمد إلى أصل قديم، واستنسخ منه نسخة، وكلِّف رجلين بمقابلتها على الأصل، ثم قابلها أنت على الأصل مرة أخرى بالتدقيق التام، وانظر النتيجة! هذا، والنُسخ القديمة بعد نسخها ومقابلتها لا بد أن تكون قد تناقلتها الأيدي [ص 13] وتعاورتها أنظار القارئين والمطالعين، وقد يكون بعضهم تصرَّف فيها بما يراه إصلاحًا وتصحيحًا، وقد يخطئ في ذلك، بل وربما يكون قد غيَّر فيها بعض الجهلة أو الخونة، أوَ لا ترى أنه ليس بين الإثبات والنفي إلا حرف النفي وقد يسهل زيادته أو حكُّه ولا يظهر ذلك، بل ربما قلب المعنى زيادةُ ألف أو نبرة أو نقطة. وقد رأيت من تَصرُّف الجهلة ما وقع في النسخة المحفوظة بخزانة كوبريلي في إستانبول تحت رقم [278] في الورقة [528] (¬1) وذلك في ترجمة الإمام أبي حنيفة رحمه الله، وذلك في موضعين، حاول جاهل أن يطمس ما في الأصل، ويكتب محله ما يخالفه؛ فلم يتم له ذلك، بل بقي ما في الأصل لائحًا. ولكن مثل هذا قليل، فقد رأينا عدة من الأصول قد اطلع عليها من ينكر بعض ما فيها، وغاية أمره أن يكتب عليه حاشية يُظهر فيها إنكاره لما في الأصل. وهذا - إذا تدبرت - من آيات الله عزَّ وجلَّ مصداقًا لوعده سبحانه بحفظ الذكر، و"الذكر" يتناول السنة إن لم يكن بلفظه فبمعناه، ويلزم من ذلك حفظهُ كلَّ ما فيه حفظٌ للشريعة كاللغة وغيرها، ولله الحمد. ¬

_ (¬1) من كتاب "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم. وقد ترك المؤلف بياضًا لرقم النسخة والورقة. وانظر المطبوع بتحقيق المؤلف (4/ 1/ 449، 450).

وكأنه لاحتمال تصرُّف بعض الخونة أو الجهلة كان السلف يحتاطون في شأن الكتب. وفي ترجمة الأوزاعي من "تهذيب التهذيب": "وقال الوليد بن مسلم فيما رواه أبو عوانة في صحيحه: احترقت كتبه (يعني الأوزاعي) زمن الرجفة [ص 14] فأتى رجل بنُسَخها (يعني بنسخٍ نُقلت من تلك الكتب) وقال له (يعني للأوزاعي): هو إصلاحك بيدك (يعني أنَّ هذه النُسخ نُقلت من كُتبِك، وقابلتَها أنت، وأصلحتَ فيها ما فيه من مخالفة) فما عرض لشيء منها حتى مات". يعني أن الأوزاعي رحمه الله لم يعتدَّ بتلك النسخ، ولا روى منها شيئًا. وإنما ذلك لأنها قد بَقيت مُدةً تحت يدِ غيره ممن لعله لا يعرفه بالثقة، فلم يأمن أن يكون وقع فيها تغيير وإن لم يظهر. هذا حال النسخ الخطية، ثم يجيء دور الطبع. والعادة أنه ينتسخ من الأصل القلمي نسخة تكون مسودة للطبع، ثم تقابل على أصلها، ثم إن وجد أصل آخر قُوبلَت المسودة عليه، وقد تقابل على أكثر من أصلين، ثم ينظر فيها المصحح، ثم تدفع إلى مُرَكِّبي الحروف فيركِّبون كل يوم ثماني صفحات مثلًا، ويطبعون عليها التجارب (بروف). وتُرسل التجارب إلى رجلين يقابلانها على المسودة ويصلحان فيها، ثم يَكُرَّانها إلى المركِّبين، فيتتبعون ما أصلحه المصحح في التجارب، فيصلحونه في ألواح الحروف. وبعد الإصلاح يطبَعُون على تلك الألواح تجارب أخرى، ويرسلونها إلى المصحح مع التجارب الأولى. فيتتبع المصحح ما أصلحه في التجارب الأولى وينظر أأُصْلِحَ في الثانية؟ فإن وجد من المواضع ما لم يُصلَح أصلحه، وأعاد التجارب الثانية [ص 15] إلى المُرَكِّبين. فإن كان فيها إصلاح

أصلحوه في ألواح الحروف، ثم طبعوا عليها تجارب ثالثة وأرسلوها إلى المصحح. والعادة في مطبعتنا (¬1) أن يُعيد المصححون مقابلة هذه الثالثة على المسودة، فإن بقي ما يحتاج إلى الإصلاح أصلحوه، ثم ردوا التجارب الثالثة إلى المُركِّبين. فإن وجدوا فيها إصلاحًا أصلَحُوه في ألواح الحروف، ثم طبعوا على الألواح تجربة رابعة، ثم بعثوا بها مع التجارب الثالثة إلى المصحح، فينظُر في التجارب الثالثة يتتبع المواضع التي أُصلِحَت فيها وينظرها في الرابعة؛ فإن رأى تلك المواضع قد أصلحت كلها كتب على تلك الكراسة أنه قد تم تصحيحها، فترسل إلى المدير فيحكم بالطبع الأخير. وأنت إذا تدبرت ما تقدم في حال النُسخ الخطية علمت أن ناسخ المسودة من أحد الأصول لا بد أن يخطئ في مواضع كثيرة، ولا سيَّما إذا كان قليل العلم أو كان الأصل المنقول عنه رديء الخط. وتعلم أيضًا أن مقابلة هذه المسودة على أصلها تختلف باختلاف حال المقابلين في العلم والمعرفة والأمانة والتثبت، وأن المقابلة على أصل آخر كذلك، ولا تدري ماذا عسى أن يصنع باختلاف النسخ. ثم يتجه النظر إلى المصحح، فترحمه لما يكون قد اجتمع من أغلاط النُسخ وأغلاط ناسخ المسودة التي لعلها بقيت بعد المقابلة. ثم تشفق على الكتاب أن يكون [ص 16] المصحح ناقص المعرفة، ولا سيما إذا كان مع ذلك عريض الدعوى، أو ضعيف الأمانة، أو لم يدفع له المعاوضة الكافية، أو لم يفسح له الوقت الكافي. ثم تلتفت إلى ما عسى أن يصنعه المُركِّبون وكيف تكون مقابلة التجارب على المسودة. ¬

_ (¬1) يعني: مطبعة دائرة المعارف العثمانية.

والحاصل أنه كما يرجى أن يجيء المطبوع أصح وأولى بالثقة من جميع الأصول الخطية، فإنَّه يخشى أن يكون أردأ أو أكثر أغلاطًا من أصل واحد منها. وقد جرَّبتُ هذا. نظرت في بعض الكتب المطبوعة فهالني ما فيه من كثرة الأغلاط، ثم ظفرت بالأصل الخطي الذي طبع عنه ذاك الكتاب؛ فإذا هو بريء من كثير مما في المطبوع من الأغلاط، إن لم أقُل مِن أكثرها. فإذا أراد المُتصدي لطبع الكُتب القديمة السلامةَ من مثل هذا، والحصولَ على الغاية المنشودة، من خدمة العلم وحسن السُّمعة ورواج المطبوعات = فما عليه إلا أن يتبع النظام الآتي إن شاء الله تعالى. ***

الباب الأول في الأعمال التي قبل التصحيح العلمي

[ص 17] الباب الأول في الأعمال التي قبل التصحيح العلمي * العمل الأول: انتخاب كتاب للطبع أغراض الناس في طبع الكتب القديمة مختلفة: فالتاجر يؤثر الربح، ومن كان من ذرية مؤلف أو قبيلته أو أهل مذهبه همُّه أن يطبع كتب ذاك المؤلف، والمغرم بفن من الفنون يرجِّح كتب فنه، وقد تكون في ملك الرجل نسخة من كتاب فيدعو إلى طبعه لتُشترى منه النسخة بثمن غال؛ ومن كان له غرض من هذه الأغراض يسعى في حمل غيره على مساعدته. فينبغي عند انتخاب الكتب للطبع الرجوع إلى هيئة علمية من كبار العلماء المتفننين. وحبذا لو أن الأزهر بمصر يقوم بهذه المهمة العظمى، وذلك بالإيعاز بجمع فهرس عام للكتب المهمة التي لم تُطبع، وبيان موضعها من مكاتب العالم مع ما تيسر من وصف النسخ؛ ثم يُعرض على هيئة كبار العلماء لترتيبها على مراتب في الأهمية واستحقاق تقديم الطبع، ثم يُنشر الفهرس مرتبًا ذاك الترتيب، ويُتقدَّم إلى الراغبين في طبع الكتب أن يجروا على حسب ذلك. ثم كل مَن أراد طبع كتاب كان عليه أن يراجع الهيئة لتُقيِّد اسمه عندها وتُعرِّفه بما يلزم، مثل إبلاغه أن غيره قد التزم طبع الكتاب، أو تنبيهه على اطلاع الهيئة على نسخة أو أكثر زيادةً على ما في الفهرس، وغير ذلك. وبهذا يأمن الراغبون في الطبع من الخطأ في الانتخاب، ومن الغلط في ظن أن الكتاب لم يطبع، ويعرفون مواضع النسخ. وفي ذلك مصلحة للعلم

* العمل الثاني: انتخاب نسخة للنقل

وأهله ولأصحاب المطابع. ويمكن توسيع دائرة التعاون إلى حد بعيد. هذا، وينبغي أن يراعى في الانتخاب أمور: 1 - أن يكون الكتاب عظيم النفع، كثير الفائدة، يرجى أن يكون لنشره أثر عظيم في إحياء العلم ونشره. ومِن لازم ذلك أن لا يكون قد طُبع ونُشر كتاب يغني عنه. 2 - أن يقدَّم الأهم فالأهم. 3 - أن يكون في متناول ملتزم الطبع من نُسخ الكتاب القلمية نسختان جيدتان على الأقل، اللهم إلَّا الكتب العزيزة التي لا توجد منها إلا نسخة واحدة في العالم. 4 - أن يكون الملتزم مستعدًّا لبذل النفقات التي يقتضيها أداء الواجب في استحضار النسخ، وتصحيحه كما ينبغي، وغير ذلك. فإن من الناس مَن يتصدى لطبع بعض الكتب المهمة، فيشرع في العمل، ثم يقعد به ضيق ذات اليد أو النفس عن توفية ما يجب، فيطبع الكتاب على هيئة يضجُّ منها الكتاب والعلم وأهله. * العمل الثاني: انتخاب نسخة للنقل العادة أن تُنتسخ من بعض الأصول القلمية نسخة تكون مسودة للتصحيح فالطبع. فقد تنتسخ المسودة من نسخة رديئة، فيؤدي ذلك إلى كثرة العمل وصعوبته فيما بعد ذلك من المقابلة على النسخ الأخرى والتصحيح، وقد يؤدي إلى ما هو أشد ضررًا؛ فينبغي أن تكون النسخة التي تنتسخ منها المسودة:

* العمل الثالث: انتخاب ناسخ للمسودة

1 - واضحة الخط. 2 - سليمة من الخروم والبياضات ما أمكن. 3 - جيدة الصحة. وإنما يوثق بهذا بأن يتصفحها عالم عارف بالفن خبير بأعمال الطباعة. * [ص 19] العمل الثالث: انتخاب ناسخ للمسودة ينبغي أن يكون: 1 - واضح الخط. 2 - موثوقًا بأمانته. 3 - مشاركًا في العلم وعلى الأخص في فن الكتاب. 4 - يسهل عليه قراءة الأصل الذي ينقل منه على الصحة. 5 - إذا كان مستأجرًا فينبغي أن يسمح له بالأجرة الكافية والوقت الكافي، فإن قلة الأجرة يحمل على التهاون، وضيق الوقت يحمل على الاستعجال وهو مظنة الإخلال. * العمل الرابع: نسخ المسودة يلزم الناسخَ أمور: 1 - أن يدع في الحواشي وبين السطور بياضًا كافيًا يسع التخاريج والإلحاق وغيرها، وينبغي أن يراجع المصححَ في مقدار ذلك. 2 - أن تكون الكتابة واضحة مفصلة يؤمن فيها الاشتباه. فقد يشتبه حرف بآخر، وعلامة بغيرها، والنقط بالعلامة، والنقطة بالنقطتين؛ ويقع

الاشتباه في موضع بعض الحروف أو النقاط أو العلامات = فعليه أن يتوقى ذلك. 3 - ليكن همه النقل على الوجه. فلا يزيد شيئًا باجتهاده، ولا ينقصه، ولا يغيِّره حتى الشكل والنقط والعلامات مثل كلمة التصويب (صح) والتضبيب وهو علامة الشك (صـ)، وعلامة الإهمال، وعلامة تمام الجملة، وعلامة التقديم والتأخير، وعلامة النفي (لا - إلى)، وعلامات اختلاف النسخ وغير ذلك. 4 - [ص 20] لا يوضح مشتبهًا، بل إن تيسر له أن يصوِّر كما في الأصل فليفعل وإلَّا فليدع بياضًا. 5 - إذا وجد في الأصل كلمة أو عبارة مضروبًا عليها، فليثبتها ولينبِّه في الحاشية على أنها مضروب عليها في الأصل. وكذلك إذا رأى حكًّا أو محوًا وتغييرًا نبَّه عليه في الحاشية. وكذلك إذا ارتاب في كلمة أو جملة يخشى أن تكون بخطٍ غير خط الأصل، فلينبِّه عليها أيضًا. 6 - إذا وجد زيادة بين السطور أو بالهامش فلا يدرجها في الأصل، بل يثبتها في مثل موضعها، وينبه بالحاشية على أنها كذلك في الأصل، اللهم إلا أن يثق بأنها لحق صحيح كأن تكون بخط كاتب الأصل بلا ريب وبعدها "صح أصل" أو نحوها، وعلامة موضع الإلحاق من الأصل واضحة. 7 - ينبغي أن يكون نقله من الأصل مباشرة. فإن إملاء إنسان وكتابة آخر يخشى منه الخطأ السمعي الذي تقدم بيانه في المقدمة في السبب السادس، ويخشى منه غير ذلك كما يأتي في العمل الخامس.

8 - مرَّ في المقدمة في السبب الخامس ما يخشى على الناظر في الأصل - سواءً كان الناسخ أو المملي - من الخطأ، فينبغي أن يكون للناظر علامة يؤمن من تحولها عن موضعها بدون إرادته. وحبذا لو اتخذ مسطرة هكذا ـــــــا يكون طولها بمقدار عرض ورقة الأصل، وتكون معها صفيحة بطولها تُضَمُّ إليها بلولب في الطرف. فتدخل الصفيحة تحت الصفحة التي يراد نقلها، والمسطرة فوقها، فتكون المسطرة أسفل من السطر [ص 21] الذي ينتهي إليه، وطرفها المنتصب عقب الكلمة التي ينتهي إليها فيما يتحفظه الناسخ ليكتبه. وهكذا تحول بعد كل نظرة. 9 - إن اشتبه على الناسخ الموضع الذي انتهى إليه من الأصل فلا ينبغي أن يكتفي بأن يرى في الأصل مثل الكلمة الأخيرة التي هي آخر ما كتبه بل ولا الجملة، فإن مثل ذلك قد يقع في موضعين أو أكثر من الكلام، بل يستظهر بمقابلة سطر أو سطرين أو أكثر. 10 - إذا انتهى وقت الكتابة وأراد أن يطوي الأصل ثم يعود في الوقت الثاني للكتابة، فالأولى أن يدع المسطرة بحالها، ويحفظ الأصل في موضع يأمن فيه من تحوُّل المسطرة عن موضعها، أو يعُدَّ سطور صفحة الأصل، ويُقيِّد في مذكرته السطر الذي انتهى إليه، مع رقم الصفحة وتاريخ اليوم والوقت. فإن لم يكن الأصل مرقم الصفحات وضع ورقة خاصة يكتب فيها ما ذكر من عدد السطر والتاريخ، ووضع الأصل في موضع يأمن فيه من ضياع تلك العلامة أو سقوطها أو تحويلها. 11 - كثيرًا ما تسقط من النسخ أوراق، أو يقع في الأوراق تقديم وتأخير، أو تلتصق ورقة بأخرى؛ فينبغي للناسخ أن لا ينتقل من صفحة إلى

أخرى حتى يثق بأنها هي التي تليها. فإن اتضح له عدم الاتصال بدأ فتصفح أوراق الكتاب، فإن تبيَّن له بيانًا واضحًا أن في الأوراق تقديمًا وتأخيرًا راجَعَ المصحح أو رجلاً آخر من أهل العلم ويعمل بقوله، [ص 22] ويشرح ذلك في هامش النقل. وإن بان له أن بعض الأوراق سقط راجَعَ ملتزم الطبع. فإن أمَره بمواصلة الكتابة عَمِل بذلك وبيَّن في موضع السقط من هامش النقل أن هناك سقطًا لبعض الأوراق. وإن لم يتبين له شيء، وشكَّ في الاتصال وعدمه، راجَعَ المصحح أو رجلاً آخر من أهل العلم. وأولى من هذا كله أن يبدأ المصحح أو رجل من أهل العلم بتصفح النسخة قبل النسخ، فإن وجدها متصلة الأوراق، لا سقط فيها ولا تقديم وتأخير، فذاك؛ وإلّا أرشد الناسخ إلى ما يلزم. ولا يكتفي لمعرفة الاتصال بمطابقة "التَّرْك" (¬1) (وهو الكلمة التي تكتب على طرف آخر الورقة) لأول الورقة التي تليها، فإنه قد يتفق الترك في ورقة مع أول ورقة أخرى غير التي حقها أن تليها. وربما سقط بعض الأوراق أو يقع تقديم وتأخير، فيجيء مالك النسخة التي يريد بيعها، فيكتب على طرف آخر الورقة مثل الكلمة في أول الورقة التي تليها في تلك النسخة إما جهلًا وإما غشًّا. وكذلك لا يكتفي بتسلسل الأرقام فإنه قد يقع الغلط فيها والاشتباه، وقد تكون كتابتها حديثة بعد وقوع السقط أو التقديم والتأخير إما جهلًا وإما غشًّا، بل الدليل القوي اتصال الكلام وتسلسل العبارة، وأقوى من ذلك مراجعة نسخة أخرى. ¬

_ (¬1) يعني التعقيبة. وهو من مصطلحات علماء الهند، ومثله "الركاب". انظر "فرهنكَـ آصفيه" (1/ 610) وقد تمَّ تأليفه سنة 1895 م.

* العمل الخامس: مقابلة المسودة على الأصل

12 - ينبغي للناسخ أن يبين في النقل مبادئ الصفحات. [ص 23] والمستشرقون ومن تبعهم يلتزمون بيان ذلك في المطبوع وإن تعددت النسخ، وهو جيد. * العمل الخامس: مقابلة المسودة على الأصل والمقصود منه تتميم العمل الرابع، ومع ذلك فليس بالأمر الهين، فينبغي: 1 - أن يكون كل من المقابلَين من أهل العلم والأمانة والتيقظ. 2 - أن يكون الذي بيده الأصل عارفًا بالخطوط القديمة واصطلاحاتها ولا سيما خط الأصل. 3 - أن يكونا ممارسين متيقِّظين لأسباب الغلط، وقد مرت في المقدمة ص 4 - (¬1). 4 - لِيرفَع القارئ صوته ويرتل القراءة، ويُحْسِن الآخر الإصغاء، ولا يشتغل واحد منهما بشيء غير المقابلة. 5 - ليكن بيد كل منهما عود أو نحوه، يقتص به المقروء كلمة كلمة. بل الأحوط استعمال كل منهما المسطرة المارَّ وصفُها في العمل الرابع ص 20، فإن وقفا احتاطا لموضع الوقف بنحو ما مرَّ في العمل الرابع ص 21. 6 - لِيستفهِم السامعُ صاحبَه إذا خفي عليه شيء، ويستعيده إذا اشتبه عليه الموضع الذي انتهى إليه؛ ولا ينبغي لهما ولا لأحدهما استثقالُ ذلك. فإن كان أحدهما متكاسلًا أو متشاغلًا فأهمل الاحتياط أو أكثر من الاستفهام ¬

_ (¬1) كذا وضع شرطة بعد رقم الصفحة، ويعني: الصفحة الرابعة فما بعدها. وقد استمر ذكرها إلى آخر المقدمة.

والاستعادة حتى عظمت المشقة على صاحبه وجب وقف العمل. وليحذرا كل الحذر من التساهل، وإن كان الغالب في النقل الصحة، فإن من عقوبة المتساهل [ص 24] أن يوافق تساهله مواضع الغلط. 7 - ليحذر كل منهما من أن ينطق بغير ما في الكتاب، فإن دعته حاجة احتاط كل الاحتياط بحيث يستيقن أنه لا يمكن أن يشتبه الأمر على صاحبه. 8 - ينبغي أن يحتاط الذي بيده النقل في الإصلاح والإلحاق وإخراج الزائد، فيتحرى البيان الواضح في ذلك بحيث يؤمن من الاشتباه فيما بعد. 9 - ليستحضر الذي يكون بيده الأصل ما تقدم في العمل الرابع في فرع 3 و4 و5 و6 ص19 - (¬1). تقدم أن على الناسخ أن لا يزيد ولا ينقص ولا يغير حتى الشكل والعلامات، ولا يحاول إيضاح مشتبه. وكثيرًا ما يخالف الناسخ في ذلك ولا تنكشف مخالفته للمقابلين إذا لم يتيقظا ويدققا، وكذلك بقية ما تقدم. وكما أن زلل الناسخ قد لا تكشفه المقابلة إذا لم يبالغ في الاحتياط فيها، فكذلك زلل المقابلة بالتساهل لا ينكشف للمصحح إلَّا أن يعود فيقابل مرة أخرى؛ فيجب لإتقان العمل أن يحتاط في كل عمل من الأعمال. 10 - إذا رأى الذي بيده النقل اشتباهًا ما في كلمة أو حرف أو نقط أو شكل أو علامة، فعليه أن يوضحه إيضاحًا بيِّنا بحيث يؤمن من اشتباهه بعد ذلك، وكذلك يتحرى الإيضاح البيِّن في كل ما يلحقه أو يصلحه. ¬

_ (¬1) انظر التعليق السابق.

تنبيه

11 - السماح للمقابلين بالتغيير الإصلاحي كنقط ما لم ينقط في الأصل وحقُّه النقط، يخشى منه أن يخطئا فيه؛ ومنعُهما من ذلك يؤدي إلى صعوبة المقابلة أو التقصير فيها. وذلك أن الناسخ قد يكون تصرَّف تصرُّفًا لا يظهر للمقابلين بقراءة أحدهما، كأن زاد أو نقص نقطًا أو شكلًا في موضع صالح لذلك، أو فصَلَ ما هو موصول في الأصل أو عكسه ونحو ذلك. راجع أسباب الغلط في المقدمة. [ص 25] فالأولى: السماح لهما بما يتبين لهما صوابه بعد أن يكونا من العلم والمعرفة والتحري والممارسة بحيث يندر خطاؤهما، وليحتاطا مع ذلك جهدهما؛ ثم يكون الأصل أمام المصحح العلمي وقت التصحيح، وليكثر من مراجعته حتى كأنه يقابل عليه مرة أخرى. تنبيه: قد يُكتفى من المقابلة بأن يقابل رجل واحد مع نفسه. وهذا وإن كان أحوط من بعض الجهات فإنه مظنّة التساهل والتسامح المؤدي إلى إخلال شديد، لأن ما فيه من كثرة التعب يهوِّن على النفس التسامح. نعم، إذا وقعت المقابلة بين رجلين، ثم قابل رجل مع نفسه لمزيد التثبت، فحسنٌ. وإذا ابتدأ رجل فقابل مع نفسه، أو كانت المقابلة بين اثنين ولكن على وجه لا يوثق به، كأن كان أحدهما أو كلاهما ممن لا يوثق بعلمه أو بتحريه واحتياطه = وجب إعادتُها على الوجه الموثوق به. * العمل السادس: مقابلة المسودة على أصل آخر فأكثر المقصود من هذا العمل تقييد اختلافات النسخ في المسودة، لتكون

المسودة جامعة لما في تلك النسخ، ثم يتصرف فيها المصحح بما يقتضيه التصحيح، كما يأتي في بابه إن شاء الله تعالى، فيأتي هنا عامة ما تقدم في العمل السابق. ولا بد أن يكون المقابلان من أهل [ص 26] العلم والمعرفة والممارسة ولا سيما لفن الكتاب، وأن يستحضرا أسباب الغلط التي مرت في المقدمة، ويحرص كل منهما على فهم عبارة الكتاب كما يجب؛ فإن ذلك مَنْبَهَةٌ على الغلط. وبالتنبُّه للغلط يستعان على تبيُّن اختلاف النسخ الاختلافَ الذي لا يظهر بالنطق إمَّا لتماثل الصورتين في النطق مثل "منوال" و"من وال"، و"ادع الله" و"ادعوا الله" وإما لاشتباههما لتقارب مخارج الحروف، وإما لإسراع القارئ في القراءة، أو تسامح الناظر في تحقيق الاستماع وتحقيق النظر. وبالجملة فالمدار على جودة المعرفة، وطول الممارسة، وصدق التثبت، والحرص على الوفاء بالمقصود. فإذا اختل شيء من ذلك في المقابلين أو أحدهما لم يوثق بالمقابلة. وإذا توفرت الشروط، فالأولى السماح لهما باطراح الاختلافات التي يتضح لهما جدًّا أنه لا فائدة في التنبيه عليها، إذ لو كُلِّفا إثباتها زادت المشقة، وأبطأ العمل، وكثر السواد في المسودة؛ فيعسر الطبع عنها، وليحتاطا في ذلك جهدهما. ***

الباب الثاني تصحيح الكتاب

[ص 27] الباب الثاني تصحيح الكتاب يطلق التصحيح على عملين: الأول: تصحيح الكتاب التصحيحَ العلميَّ بنفي ما في الأصل أو الأصول من الخطأ، وترتيب مسودة صحيحة. الثاني: تصحيح الطبع بنفي ما يقع في تركيب حروف الطبع من الخطأ المُخالف لما في المسودة، وتطبيق المطبوع على المسودة المصححة. وقد يخلط هذان العملان بأن لا تكون هناك مسودة مصححة، بل يحاول القائمان بتصحيح الطبع أن يقوما بالتصحيح العلمي حال تصحيح الطبع، وهذا تهويش لا يصلح لوجوه: منها: أن التصحيح العلمي يستدعي التثبت والمراجعة، فمقدار العمل غير معين، فقد لا يمكن المصحح أن يصحح في اليوم إلَّا صفحة واحدة، ومثل هذا لا يتأتى وقت الطبع لأنه لا بد وقت الطبع من تقدير العمل بثماني صفحات في اليوم أو أكثر، لئلّا يبقى عمَّال المطبعة بغير عمل. ومنها: أنه كثيرًا ما يمر المصحح بالخطأ ولا يتنبه له أو لا يهتدي لصوابه، ثم يرد عليه في الكتاب نفسه أو فيما يراجعه بعد ذلك ما يرشده إلى الصواب؛ فالمصحح في المسودة إذا وقع له مثل هذا عاد فأصلح ما تركه. ولا يمكن هذا في التصحيح وقت الطبع، لأن الكراسة التي تقدم فيها الخطأ تكون قد طبعت وفرغ منها.

* المبحث الأول: في الحاجة إليه

ومنها: أنه يكثر لأجل التصحيح التغيير والإصلاح وتعليق الحواشي وهذا إذا تجدد وقت الطبع شقَّ على مُركِّبي الحروف واستدعى وقتًا [ص 28] زائدًا، فلا يمكن مع الوفاء به توفية المقدار المقرر للطبع. وربما يشتغل المصحح بالتصحيح، ويشتغل الطابعون بالطبع؛ فكلما فرغ من كراسة سلَّمها إليهم للطبع. وهذا أقرب من الذي قبله ولكنه ليس بجيد، لأن فيه تضييق الوقت على المصحح؛ إذ يلزمه أن يصحح كل يوم المقدار الذي يكفي للطبع في اليوم الثاني مثلًا. وهذا لا يتأتى له مع الوفاء بحق التصحيح، إذ قد لا يُمكنه أن يتقن في اليوم إلاَّ تصحيح صفحة واحدة. فالصواب أن لا يشرع في طبع الكتاب حتى يتم تصحيحه، أو على الأقل تصحيح قطعة كبيرة منه، يغلب على الظن أن الطابعين لا يفرغون من طبعها حتى يفرغ المصحح من بقية الكتاب أو قطعة أخرى كبيرة منه على الأقل. هذا، وقد اصطلح المصريون أخيرًا على تسمية التصحيح العلمي "تحقيقًا" تمييزًا له عن التصحيح الطباعي، والأوضح: التمييز بالصفة كما ترى. وهذا الباب معقود للتصحيح العلمي كما علمت، وفيه مباحث: * المبحث الأول: في الحاجة إليه ها هنا آراء: الأول: يرى بعض الناس أن الكتب القديمة التي لم تطبع إذا وجدت منها نسخة قديمة جيدة في الجملة كفى في إحياء الكتاب ونشره أن [ص 29] يطبَّق المطبوع على تلك النسخة لأن المهم إنما هو تدارك ذاك الكتاب، فإذا

طبِّق المطبوع على تلك النسخة، ثم طبع منه ألف نسخة، فكأنه قد حصل من أمثال تلك النسخة ألف نسخة، وكل من وقع له نسخة من المطبوع كأنه وقعت له تلك النسخة القلمية نفسها. وقد طبع المستشرقون "أنساب السمعاني" بالزنكوغراف ونشروه، فانتفع الناس به، وراجت نسخه على غلاء ثمنها مع ما فيه من الأغلاط الكثيرة. وفي هذا الصنيع تقليل للعمل وتوفير للنفقات، وذلك مما يرغِّب ملتزمي الطبع في طبع المؤلفات القديمة. وبذلك تخف قيم المطبوعات لقلة الغرامة في طبعها، فيسهل اقتناؤها على الراغبين مع الوفاء بالأمانة كما ينبغي. فان كان هناك في الأصل أغلاط، فكلُّ عالم تقع له نسخة من المطبوع يصحح لنفسه. أقول: أما إذا كان الطبع بالزنكوغراف، كما طبع "أنساب السمعاني"، فإن الأمر كما وصف؛ لكن في هذا الصنيع مفسدة، وهي أن الباعث على طبع الكتب القديمة أحد أمرين: إما طلب الربح وهو الغالب، وإما الرغبة في نشر ذاك الكتاب خدمةً للعلم أو إظهارًا لفضل مؤلفه أو غير ذلك؛ فإذا طبع الكتاب مرةً ضعفت الرغبة في طبعه مرةً أخرى. أما طالبُ الربح فإنه لا يرجو ربحًا في الطبع مرة أخرى، لأنه يرى أن أكثر الراغبين في اقتناء الكتاب قد استغنوا بالطبعة الأولى. وأما الراغبُ في [ص 30] نشر الكتاب فإنه يرى أنه قد انتشر بالطبعة الأولى. فطبعُ الكتاب من شأنه أن يحرم أهلَ العلم بقية نسخه الصحيحة إلى أمد طويل على الأقل، كما هو الشأن في "أنساب السمعاني"؛ فإن نسخه القلمية موجودة في مكاتب العالم ولم تتجه الرغبات إلى طبعه بعد تلك الطبعة إلى الآن، مع

حاجة كثير من أهل العلم إلى ذلك، لما يجدونه في تلك الطبعة من النقص والخلل. نعم، إذا كانت النسخة القلمية المطبوع عنها بغاية الجودة والصحة، فالطبعُ عنها بالزنكوغراف وافٍ بالمقصود، بل هو أولى من الطبع عنها وعن غيرها بالحروف؛ لأن الطبع بالحروف لا يخلو من تصرف النساخ والمصححين والمُركِّبين، فلا يوثق كل الوثوق بمطابقته للأصل القلمي الموثوق به، كما يوثق بمطابقة المطبوع بالزنكوغراف. أما إذا كان الطبع بالحروف على هذا الرأي، ففيه مع المفسدة المذكورة مفسدة أكبر، وهي أنه لا يمكن فيه تطبيق المطبوع على الأصل القلمي لوجوه: منها: أن من الحروف ما تتحد صورها، وإنما يميز بينها النقط، كما مر تفصيله في المقدمة. والأصول القلمية كثيرًا ما يهمل فيها النقط، ولا يمكن تطبيق ذلك في الطبع بالحروف، كما إذا وقعت في الأصل كلمة "مفيد" بلا نقط، واحتملت أن يكون "مفيد" أو "مفند" أو "مفتد" أو "مقتد" أو "مقيد" أو غير ذلك، فكيف تطبع؟ ومنها: أنه قد يقع الاشتباه في [ص 31] النسخة في موضع النقط، فيحتمل أن يكون على هذا الحرف، أو الذي يليه، أو تحت هذا الحرف في السطر الأعلى، أو تحت الذي يوازيه في السطر الأسفل. وهذا لا يتأتى تصويره في الطبع بالحروف. ومنها: أنه قد تشتبه في النسخة صورة النقط، فيحتمل أن تكون نقطة أو

اثنتين، كما قد تشتبه النقطتان بالفتحة أو الكسرة، وتشتبه كل من (ب ت ث ن ي) في الابتداء بالميم، وأحدها يليه ميم في الابتداء بالعين والغين، وأحدها في الأثناء، وكذا العين والغين بالفاء والقاف، وتشتبه الزاي بالنون، والدال والذال بالراء والزاي، وتشتبه الفاء والقاف مفردتين أو في الأخير بالنون، إلى غير ذلك، مما يكثر جدًّا؛ فلا يتأتى التطبيق في الطبع بالحروف. فإن قيل: يترك في المطبوع في مواضع الاشتباه بياض، أو يطبع كما اتفق وينبه في الحاشية على الواقع ويشرح فيه بالعبارة الصورة التي وقعت في الأصل حتى كأنها مشاهدة؛ فيدفعه أنه قد يكثر في النسخة الاشتباه، فتكثر هذه الحواشي، وتزيد نفقات الطبع؛ على أن بعض الكلمات المشتبهة تحتاج في شرح صورتها بالعبارة إلى أسطر، وقد يقع الاشتباه على وجه لا يمكن بيانه بالعبارة. وإن قيل: أما هذه المواضع، فيبحث فيها عن الصواب، وتثبت في المطبوع على الصواب؛ فقد رجعتم إلى التصحيح العلمي. والغالب أن ملتزم الطبع الذي عزم على طبع الكتاب بمجرد التطبيق على الأصل إنما يَكِل العمل إلى من تقلُّ أجرته، والغالب أنه لا يكون أهلاً [ص 32] للتصحيح العلمي فيخبط خبط عشواء. فإن كان أهلًا للتصحيح، فلماذا لا يكلَّف التصحيحَ الكاملَ، فتتم الفائدة، وتحسن سمعة المطبعة، ويوفى بحق العلم؟ ومن المفاسد: أن من عادة المطبوعات التصحيح في الجملة، فالعالم إذا رأى المطبوع ظن أنه مصحح، فاعتمد عليه؛ ولا كذلك في النسخ القلمية. فإن قيل: يكفي في دفع هذا أن ينبه في لوح المطبوع على أنه إنما اقتصر

فيه على التطبيق على النسخة. قلت: كفى بهذا حطًّا لقيمة المطبوع، وتزهيدًا للناس فيه. ولهذا لا تجد مطبوعًا إلاَّ ويدعي طابعه أنه اعتنى بتصحيحه وبالغ، رغمًا عن أن كثيرًا منها مشحون بالأغلاط. وهذه الطبعة الأولى من تفسير ابن جرير بمطبعة الميمنية بمصر مثبَتٌ في طُرة كل من أجزائها الثلاثين بعد ذكر أن الكتاب طبع عن نسختين: "وقد بذلنا الطاقة في تصحيحها ومراجعة ما يحتاج إلى المراجعة من مظانه الموثوق بترجيحها مع عناية جمع من أفاضل علماء مصر بالتصحيح تذكر أسماؤهم في آخر الكتاب". ولم أر في آخر الكتاب اسم أحد من العلماء إلا " .... مصححه محمد الزهري الغمراوي". فكأن هذا الرجل هو القائل: "قد بذلنا ... " وهو نفسه الجمع من علماء مصر! وما زعمه من مراجعة المظان لا يكاد يظهر له أثر في الكتاب على طوله، وكذلك المقابلة على نسختين؛ فإن المطبوع مشحون بالأغلاط، وكثير منها جدًّا يبعد أن يتفق عليه أصلان، وكثير منها جدًّا يمكن تصحيحه بأدنى مراجعة للمظان، والله المستعان. بل إن في المطبوعات الحديثة بمصر ما يقارب هذا. [ص 33] ومن المفاسد: أن يكثر في الأصول القلمية الأغلاط الواضحة. فإن قيل: يطبع كذلك، كان ذلك ممَّا يُرغب الناس عن المطبوع، ويسيء سُمعة المطبعة جدًّا. وإن قيل: أما هذا فيصحَّح، فقد رجعتم إلى التصحيح. ثم إن كان الموكول إليه ذلك أهلًا للتصحيح، فلماذا لا يكلَّف التصحيح الكامل؟ وإن لم يكن أهلًا كان في ذلك مفسدة أعظم، فإن القاصر يحسب كثيرًا من

الصواب خطأ واضحًا، كما يعرفه من ابتلي بالتصحيح من أهل العلم مع هذا الضرب. فالإذن للقاصر بتصحيح ما يراه خطأً واضحًا نتيجته أن يضاف في المطبوع أغلاط كثيرة إلى أكثر أغلاط الأصل القلمي مع إيهام أنها فيه. الرأي الثاني: يظهر مِن تصفح كثير من الكتب المطبوعة أن طابعيها يرون قريبًا من الرأي الأول، إلا أنهم لا يقدمون على طبع كتاب حتى تحصل لهم نسختان فأكثر، فتجعل واحدة أصلًا، وينبه في الحواشي على مخالفات الأخرى. وهذا الرأي في معنى الأول إلا أنه يخف فساده إذا كانت النسختان أو النسخ كلها واضحة الخط جيدة الصحَّة، وجُعلت الأجود أصلًا؛ لكن الجودة الموثوق بها في النسخ القلمية عزيزة. ومع ذلك فعند الاختلاف قد يتفق أن يثبت الخطأ في المتن والصواب في الحاشية، وهو خلاف ما ينبغي. وقد يسأم المصحح من كثرة الاختلاف فيُغفل كثيرًا منه، وملتزم الطبع قد يحض [ص 34] على تقليل الحواشي لتخف النفقات. والغالب أن يوكل إلى المصحح أن يقتصر على إثبات الاختلافات المهمة، فإن لم يكن أهلًا للتصحيح العلمي خبط خبط عشواء؛ فكثيرًا ما يثبت في المطبوع الأغلاط الفاحشة، ويكون الصواب في بعض النسخ القلمية، ولكنه أغفله لتوهمه أنه هو الخطأ. الرأي الثالث: الرأي الثالث كالذي قبله إلَّا أنه يزيد بمراجعة كثير من المظان من الكتب الأخرى، وينبه على الاختلافات. والحال في هذا كالذي قبله. الرأي الرابع: يظهر من تصفح كثير من المطبوعات أنه اعتمد فيها التصحيح العلمي، إلا أن مصححيها أغفلوا التنبيه على ما خالفوا فيه الأصل

أو بعض الأصول، واقتصروا على إثبات ما رأوه الصواب. وفي هذا خلل من جهات: الأولى: أننا نقطع أن مُصححي تلك الكتب لم يكن عندهم دليل على صحة جميع ما أثبتوه في المطبوع، بل لا بد أن يكونوا أثبتوا كثيرًا لأنه كذلك في الأصل أو الأصلين فأكثر، ولم يقم عندهم دليل على خطائه. فعلى هذا لا يتميز للناظر في المطبوع ما كان ثابتًا في الأصول مما كان الثابت فيها خلافه ولكن المصحح قضى عليه بأنه خطأ. وإذا لم يتميز ذا من ذاك ضعفت الثقة بالمطبوع، فإنها إذا اختلفت الكتب القلمية في كلمة مثلًا ولم نظفر بدليل كان الراجح ما في الأكثر. والنسخة القلمية أرجح عند العالم من مطبوع هذا الطبع [ص 35] لأن من شأن النُسَّاخ اتباع الأصول، ومن شأن المصححين التصرف، وإذا لم يشتهر المصحح بسعة العلم والضبط والتثبت لم يوثق برأيه. ويزيد الاعتماد على ما طُبِعَ هذا الطبعَ ضعفًا أن العالم يجد فيه غير قليل من الأغلاط، وبعضها مما يبعد توارد النسخ عليه، بل لقد يظهر في بعضها أنه لم يكن في أصل قلمي قديم؛ وهذا يدل على أن المصحح ليس بالصفة التي تُسوِّغ أن يعتمد عليه. الجهة الثانية: أنه يمتنع عادة أن لا تختلف النسخ، وإذا اختلفت فيمتنع عادة أن يتبين الصواب للمصحح في جميع المواضع بيانًا واضحًا يسوغ له أن يهمل معه التنبيه على الخلاف، بل لا بد أن يتردد في مواضع، ويترجح لديه أحد الوجهين أو الأوجه في بعض المواضع رجحانًا ضعيفًا، وفي هذين يجب التنبيه على الخلاف. فإذا لم يوجد بهامش المطبوع عن أصلين فأكثر شيء من التنبيه على اختلاف النسخ أو وجد قليلاً جدًّا ظهر أن مصححيه

أهملوا هذا الواجب. الجهة الثالثة: أن في طبع الكتاب ونشره إتلافًا لأكثر نسخه القلمية، لأن الناس يستغنون بالمطبوع، فتنزل قيمة النُسخ القلمية جدًا، فيضعف الاعتناء بحفظها، فيسرع إليها التلف، ويتلف معها كثير من الفوائد التي أهملت في المطبوع. فمن الحق على من يتعاطى طبع كتاب أن يحرص على جمع نسخه الجيدة، واستيفاء ما فيها مما يحتمل أن يكون له فائدة، ومن ذلك أكثر الاختلافات بينها. ***

الرأي المختار

[ص 36] الرأي المختار تصحيح الكتاب معناه: جعلُه صحيحًا، ولصحة المطبوع ثلاثة اعتبارات: الأول: مطابقته لما في الأصل القلمي فأكثر. الثاني: مطابقة ما فيه لما عند المؤلف. الثالث: مطابقة ما فيه للواقع في نفس الأمر. مثال ذلك: اسم "عرابي" بن معاوية. صححوا أنه بعين وراء، وأن البخاري ذكره بغين معجمة وراء. فإذا وقع في أصل قلمي من "تاريخ البخاري" مثلاً بعين مهملة وزاي، فإن أثبت في المطبوع كذلك ساغ أن يقال أنه صحيح بالنظر إلى مطابقته للأصل القلمي لكنه خطأ بالنظر إلى ما عند المؤلف، وبالنظر إلى ما في نفس الأمر. وإن أثبت بعين مهملة وراء كان صحيحًا بالنظر إلى ما في نفس الأمر لكنه مخالف لما في الأصل، ولما عند المؤلف. وإن أثبت بغين معجمة وراء، صح أن يقال إنه صحيح بالنظر لما عند المؤلف لكنه مخالف لما في الأصل، وخطأ في نفس الأمر. وإذا ثبت في المطبوع على أحد الأوجه الثلاثة ولم ينبه على خلاف ذلك كان الظاهر أنه كذلك في الأصل القلمي، وكذلك هو عند المؤلف، وكذلك هو في نفس الأمر؛ فيكون ذلك خطأ وكذبًا من وجهين. فالتصحيح العلمي حقُّه مراعاةُ الأوجه الثلاثة، بأن يثبت الاسم في الأصل على أحد الأوجه، وينبَّه في الحاشية على الوجهين الأخيرين.

والصواب في هذا المثال أن يثبت الاسم في المطبوع بالغين المعجمة والراء لأن الكتاب كتاب البخاري، والمقصود فيه [ص 37] نقل كلامه بأمانته، وأهل العلم ينقلون عن الكتاب فيقول أحدهم: قال البخاري في التاريخ: " .... " فيسوق العبارة كما يجدها في المطبوع. ثم لْيُنبَّه في الحاشية على الوجهين الأخيرين، كأن يقول: "هكذا يقوله البخاري بدليل " ... "، ووقع في الأصل "عزابي"، وقال فلان " ... " فيذكر ما صححه أهل العلم من أنه "عرابي" بالعين المهملة والراء. فإذا لم يعرف ما عند المؤلف فالظاهر أنه موافق لما في نفس الأمر، وإذا لم يعرف ما في نفس الأمر فالظاهر أنه موافق لما عند المؤلف، وإذا لم يعرف ذا ولا ذاك بعد البحث فالظاهر أن ما في الأصل القلمي موافق لهما؛ لكن ليس للمصحح أن يستغني بهذا الظاهر عن البحث والتنقيب. فإن اختلفت الأصول رجح بالكثرة والجودة والقياس، وينبه على الوجه الآخر في الحاشية، مع بيان وجه الترجيح إن لم يكن ظاهرًا. وقريب من اختلاف الأصول أن تقع الكلمة في أصل الكتاب على وجه، وفي كتاب آخر فأكثر على خلافه. لكن الأولى في هذا أن يثبت في متن المطبوع ما في أصل الكتاب، وينبه على ما خالفه في الحاشية، اللهم إلَّا أن يترجح عنده رجحانًا بيِّنًا أن ما في الأصل من خطأ النساخ؛ فحينئذ يثبت في متن المطبوع ما تبين له أنه الصواب، وينبه في الحاشية على ما وقع في الأصل مع بيان وجه ضعفه إن لم يكن ظاهرًا. وحيث وقع في الأصل على وجهٍ، وفي كتاب آخر فأكثر على خلافه، وترجح عند المصحح ما في [ص 38] الأصل؛ فإنه يتبع ما في الأصل، ولا

تنبيه

يلزمه التنبيه على ما في الكتب الأخرى، لأنه غير مكلف بتصحيحها؛ اللهم إلَّا أن يكون وجه صحة ما في الأصل خفيًّا، ويخشى أن يتعقبه متعقب بما في الكتب الأخرى، فينبغي في مثل هذا أن ينبه على ما في الكتب الأخرى، مع بيان الدليل على صحة ما في الأصل. فأما اختلاف الأصول، فلا بد من التنبيه عليه على كل حال، اللهم إلَّا أن يكون منها أصل رديء كثير الأغلاط، فيشق التنبيه عليها تفصيلًا؛ فيكفيه التنبيه الإجمالي في مقدمة الطبع بأن يذكر ذاك الأصل الرديء وكثرة أغلاطه وأنه لم يلتزم التنبيه عليها تفصيلًا. وكذلك لا يلزمه التنبيه على الاختلافات الصورية، كالاختلاف في الرسم مثل إبراهيم بألف وبدونها، وإهمال النقط ونحو ذلك. والمردُّ إلى اجتهاده، فما رأى أن للتنبيه عليه فائدة نبَّه عليه، وما لا فلا. تنبيه: إذا حكى المؤلف عن غيره كلامًا فلا بد من رعاية ما عند المحكى عنه وإن خالف ما عند المؤلف، لأن الظاهر أن المؤلف حكى كلام ذاك الرجل بأمانته. فإذا حكى ابن أبي حاتم مثلًا في كتابه عن البخاري كلامًا يتعلق بعرابي بن معاوية، فالظاهر أن اسم عرابي يكون في ذاك الكلام بالغين المعجمة. فإن وقع في أصل كتاب ابن أبي حاتم بالمهملة وجب إثباته في متن المطبوع بالمعجمة، والتنبيه في الحاشية على ما وقع في الأصل [ص 39] وعلى الحامل على مخالفته. لكن إذا احتمل احتمالًا قويًّا أن يكون ابن أبي حاتم جهل ما عند البخاري، أو تصرف في عبارته فغيَّر بعض ما فيها، ففي

فصل

هذا يُثبَت في متن المطبوع كما في الأصل، وينبه في الحاشية على ما عند البخاري. فصل الوفاء بما تقدم ليس بالأمر السهل، فينبغي أن نشرح الأمور الضامنة للوفاء به: 1 - ينبغي أن يكون المصحح متمكنًا من العربية والأدب وعلم رسم الخط، متمكنًا من فن الكتاب، مشاركًا في سائر الفنون، واسع الاطلاع على كتب الفن، عارفًا بمظان ما يتعلق به من الكتب الأخرى، كأن يعرف أن من مظان ضبط الأسماء والأنساب الغريبة: "لسان العرب" و"القاموس" و"شرحه"، وأن من مظان تراجم التابعين: "الإصابة" فإنها تقسم كل باب إلى أربعة أقسام: الأول الصحابة الثابتة صحبتهم، والثلاثة الأخرى غالبها في التابعين. 2 - ينبغي أن يكون العمل في المُسوَّدة قد جرى على ما تقدم في الباب الأول، لتكون اختلافات النسخ ماثلة أمام المصحح؛ ثم لا يغنيه ذلك عن حضور الأصول أمامه ليراجعها عند الحاجة. 3 - ينبغي أن يحضر عنده ما أمكن إحضاره من كتب الفن وما يقرب منها. فإذا كان الكتاب في فن الرجال احتيج إلى حضور كتب الحديث والتفسير المسند كـ "تفسير ابن جرير" والسير والتواريخ - ولا سيما المرتبة على التراجم -[ص 40] و"الأغاني" و"لسان العرب" و"شرح القاموس" ومعاجم الشعراء والأدباء والنحاة والقضاة والأمراء والأشراف والبخلاء

وغيرهم، ومن كتب الأدب ككتب الجاحظ و"كامل" المبرد و"معارف" ابن قتيبة و"عيون الأخبار" له و"أمالي القالي". وبالجملة ينبغي أن تكون بحضرته مكتبة واسعة في جميع الفنون، ويكون عارفًا بمواضع الكتب منها، ويرتبها في القرب منه على حسب ما يعرف من مقدار الحاجة إليها، فيكون أقربها إليه ما تكثر الحاجة إليه، ثم ما يلي ذلك على درجاته.

الرسالة الثانية أصول التصحيح العلمي (مسودة)

الرسالة الثانية أصول التصحيح العلمي (مسوَّدة)

[2/ أ] بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله كما يحب ويرضى. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا معطي لما منع، ولا مانع لما أعطى. وأشهد أن محمدًا عبده المصطفى، ورسوله المجتبى. اللهم صلِّ على محمَّد وعلى آل محمَّد، كما صلَّيتَ على آل إبراهيم. وبارِكْ على محمَّد وعلى آل محمَّد، كما باركتَ على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. أما بعد: فإنني عُنيت زمانًا بتصحيح الكتب وإعدادها للطبع، ثم بتصحيحها حال الطبع، فتبيَّن لي بطول الممارسة غالبُ ما يحتاج إليه في هذه الصناعة. وخبرتُ أحوال جماعة من المصححين، وتصفحتُ مع ذلك كثيرًا من الكتب التي تُطبع في مصر وغيرها، وعرفتُ ما اعتمده مصححوها. ورأيتُ مع ذلك أن أكثر الناس متهاونون (¬1) بهذه الصناعة: يرون أنه يكفي للقيام بها اليسيرُ من العلم، واليسيرُ من العمل! فأحببت أن أجمع رسالة في التصحيح، أشرح فيها ما يتعلق به. ومن الله تعالى أستمدُّ المعونة والتوفيق. ¬

_ (¬1) في الأصل: "منهاوتون".

باب في المقصود من التصحيح

باب في المقصود من التصحيح لا يخفى أن التصحيح - كما يدل عليه لفظه - المقصود منه: نفي الغلط، وإثبات الصحيح، وإبراز الكتاب على الهيئة الصحيحة. وللصحة اعتباران: صحة الألفاظ، وصحة المعاني. ومدار التصحيح على صحة الألفاظ، فأما المعاني فإنما يجب نظر المصحح إليها من جهة دلالتها على حال الألفاظ؛ فإننا قد نجد في الكتب مواضع يختلُّ فيها المعنى اختلالًا، ظاهرًا، نعلم منه أنه وقع اختلال في الألفاظ. كأن يقع هذه العبارة: "فقد روى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: الدين النصيحة"، فنرى أن الصواب: "فقد رُوي عن ... الدين النصيحة"؛ أو نحو ذلك. وكأن يكون المعنى الحاصل من العبارة خلاف ما يدل عليه السياق، إلى غير ذلك. فأما ما عدا ذلك، فالنظر فيه والتعليق عليه ليس من التصحيح، وإنما هو من الشرح. فإن التزم المصحح الشرحَ فذاك، وإلا فإنما ينبغي له التعليق الشرحي في المواضع المهمة. وقد جريتُ في تعليقي على "التاريخ الكبير" للبخاري على ما يُعرف بمطالعته رأيي في هذا. وأما تصحيح الألفاظ، ففيه (¬1) اعتبارات: الأول: أن تكون النسخة المنقولة أو المطبوعة مطابقة للنسخة الأصل المنقول منها، أو المطبوع عنها. الثاني: أن تكون مطابقة لما كان عليه أصل المؤلف. ¬

_ (¬1) "فإن التزم ... ففيه" مضروب عليها بالقلم الرصاص، ولكن لا يستقيم السياق دونها.

الثالث: أن تكون على الهيئة الصحيحة في نفس الأمر. وهذه الاعتبارات كثيرًا ما تتعارض لكثرة ما يقع في النسخ القلمية من الأغلاط، ولما يقع للمؤلف نفسه من الخطأ. وغالب المصححين ينزِّل أحدهم نفسه منزلة النعامة، فتجد في الكتاب الذي يصححه أحدهم كثيرًا من الأغلاط، فإذا قيل له، قال: هكذا كان في الأصل. وتجد فيه مواضع كثيرة قد خالف فيها الأصل، فإذا قيل له، قال: رأيتُها غلطًا، فأصلحتُه. ويقول بعض الناس: المقصود من طبع الكتب العلمية هو تدارك النسخة أو النسخ الباقية من الكتاب قبل أن تتلف، فيكفي في التصحيح تطبيق المطبوع على النسخة القلمية. فإن تعددت النسخ جُعلت واحدةٌ منها أصلاً، ونُبِّه في الحواشي على مخالفات النسخة أو النسخ الأخرى. وكأنَّ أكثر أهل المطابع يذهبون إلى هذا الرأي لموافقته هواهم في تقليل النفقات؛ لأنهم يرون أنه يصلح أن يقوم بهذا العمل رجلان فأكثر، يحسنان القراءة فحسب، ويقومان بتطبيق الأوراق التي يطبع عنها على النسخة الأصل ثم بتطبيق المطبوع عليها في مدة يسيرة، ويقنعان بأجرة زهيدة. وقد يتراءى للناظر أن هذا العمل ليس فيه مفسدة، وإنما فيه إهمال مصلحة التنبيه على خطأ النسخة الأصل، وخطأ المؤلف. ويؤيد هذا الرأي بأنه إذا حصلت نسخة من ذلك المطبوع بيد رجل كان كأنه حصل له تلك

النسخة القلمية، أو النسختان، فأكثر. والحقُّ أنَّ في هذا العمل فسادًا كبيرًا من وجوه: [2/ ب] الوجه الأول: أن غالب النسخ القلمية لا يمكن تطبيق المطبوع عليها تمامًا. أولًا: لأن كثيرًا منها يهمل فيه النقط، فتشتبه الباء والتاء والثاء والنون والياء، وكذا الفاء والقاف، فتقع صورة الحرف في النسخة الأصل مهملة، ولا يمكن أن تطبع كذلك، بل لا بد من النقط. فإن قلتم: أما هذا فيُصحَّح، رجعتم إلى ما فررتم منه. فإذا كان لا بد من التصحيح، فليكن تصحيحًا كاملًا. وإن قلتم: تنقط جزافًا، فهذه هي الخيانة، مع مخالفة ما حاولتموه من التطبيق. فإن قلتم: تنقط جزافًا، وينبه في الحاشية أنها كانت غير منقوطة. قلنا: يكثر هذا جدًّا، وتتضاعف عليكم النفقة. ثانيًا: لأن النسخة القلمية إذا أهمل فيها النقط كانت صورة الجيم والحاء والخاء، وصورة الدال والذال، وصورة الراء والزاي، وصورة السين والشين، وصورة الصاد والضاد، وصورة الطاء والظاء، وصورة العين والغين = واحدة. فإذا وقع في الأصل هذا الاسم "حمرة" فيمكن أن يكون: حمرة، أو حمزة، أو جمرة، إلى غير ذلك.

والعالم لو وقع له الأصل القلمي، ورأى هذا الاسم، وعلم أن من شأن تلك النسخة إهمال النقط = يرى أن الاسم محتمل لجميع الوجوه، فيبحث عن الصحيح. وإذا وقع له في المطبوع "حمرة" توهم أنه الصواب، لأن من عادة المطبوع النقط، ومن عادة الطابعين التصحيح. فإن قلتم: ينبِّه الطابع في مقدمة الكتاب أو خاتمته على أنه لم يتجشم التصحيح، وإنما اكتفى بتطبيق النسخة. قلنا: هذا يضع من قيمة الكتاب، ورغب أهلُ العلم عنه. ثالثًا: لأن كثيرًا من النسخ القلمية تشتبه فيها النقطة بالنقطتين، ولا يمكن إثباته في المطبوع كذلك. وكذلك تشتبه نقط الشين بعلامة إهمال السين. وكذلك تشتبه فيها بعض الحروف ببعض، فتشتبه العين في أول الكلمة بالميم، وتشتبه العين والغين في الوسط بالفاء والقاف، وتشتبه الواو بالراء والزاي والنون إلى غير ذلك. وتشتبه نحو سعد بسعيد، وحمزة بضمرة، وسفين بشقيق، وغير ذلك مما يطول ذكره. ولا يمكن إثبات ذلك في المطبوع كما في النسخة القلمية، ويعود ما قلناه في الوجه الأول. وكثيرًا ما يرى القارئ والناظر في النسخة القلمية أن الكلمة كذا، ثم يعلم من أمر خارج أن الصواب بدلها كلمة أخرى، فإذا راجع تلك النسخة وجد الكلمة فيها صالحة لأن تقرأ على الصواب، بل ربما يرى أن الظاهر من

شكلها هو الموافق للصواب. ولا أحصي كم مرة جرى لنا مثل هذا، حتى إننا نتعجب بعد التبيُّن كيف قرأناها أولًا على خلاف الصواب! الوجه الثاني: أنَّ من الأغلاط التي تقع في النسخ القلمية ما لا يكاد يخفى على أحد. مثال ذلك: أن تقع هذه الكلمة في أول الخطبة "الحمد لله" بنقطة فوق الحاء، أو تحتها، أو فوق الدال، أو تكون بدل الدال راء، أو يسقط منها الميم، أو تزاد ميم أخرى، أو تقدَّم الميم على الحاء. فإن قلتم: يطبعها كما في الأصل، فلا يخفى ما فيه من الشناعة التي تُزهِّد الناسَ في الكتاب. وإن قلتم: أما مثل هذا فينبغي إصلاحه. قيل لكم: فقد تركتم التطبيق. ومع ذلك فإن كان المصحح قليل المعرفة، فلا بد أن يخبط خبط عشواء (¬1)، كما قدَّمنا في الكلام على العمل ¬

_ (¬1) كتب المؤلف بعده كلامًا، ثم ضرب عليه وننقله هنا للفائدة: "فقد رأينا من المشهورين بالعلم من إذا رأى اسم "عيَّاش" في موضع هو فيه صحيح أصلحها: "عباس". وهكذا في كلمة "السيباني" أو "السيناني" يصلحها: "الشيباني". وهكذا في اسم "حمار" أو "حِمّان" أو نحوهما يصلحه: "حمَّاد"؛ وغير ذلك. وإذا كان لك إلمام بكتب الحديث ورجاله علمتَ كثرة هذا الضرب. وقد رأينا منه ما لا يُحصى، حتى إنَّ بعض الأعيان الذي [في الأصل: "الذين"] كان موكولًا إليه أن يتعقبنا في النظر في تجارب الطبع، ليصلح ما لعلَّه خفي علينا أنه غلطٌ، وجد مرةً كلمة "المَرُّوذي" في موضع هي فيه صحيحة، فأصلحها: "المَرْوزي". وكذلك "السَّيباني" أصلحها: "الشَّيباني". وكذلك في نسب =

الثالث (¬1). فيضيف إلى أغلاط النسخة أغلاطًا أخرى. فإن في الأسماء: أحمد وأجمد وأحمر، وأحيَد وأجيَد، وأَبان وأُثان، وأنَس وأتَش، وبدر ونُدَّر، وبِشر وبُسْر ويُسْر ونَسْر ونَشْر، وبشير ويسير ونسير، وتوبة وبُوبة وبُونة وبُوَيه ونُوبة ونُونة. [3/ أ] الوجه الثالث: أن كثيرًا من الأغلاط تحصل بسبب التساهل والتهاون وعدم المبالاة، وهذه صفة لازمة غالبًا لقليل العلم، فلا يفي بالتطبيق فيما هو ممكن فيه. الوجه الرابع: أن غالب الذين يطبعون الكتب يراعون الربح، أو على الأقل عدم الخسارة، أو خفَّتها؛ فإذا طُبع الكتاب مرة امتنع الناس من طبعه مرة أخرى، قبل أن تنفد النسخ الأولى، خوفًا من الخسارة ممن طبعه بلا ¬

_ = "محمد بن شعيب بن شابور" أصلحها: "سابور". وكذلك "مروان الأصفر" أصلحها: "مروان الأصغر". وكذلك كلمة "بأَخَرة" من قولهم: "تغيَّر بأَخَرةٍ" أصلحها: "بآخِره"، في أشياء أخرى. وقد وقعت أشياء من ذلك لمشاهير العصر. ووقع لي نفسي أشياء من ذلك، تنبَّهتُ لها فيما بعد. ولا أشكُّ أنها بقيت أشياء لم أتنبَّه لها بعدُ. ولعلَّي أذكر فيما يأتي أمثلة ذلك عند الإفاضة في أسباب الوقوع في الغلط. وأعظم سبب في ذلك هو الاعتماد على الظن. وإذا كان الاعتماد على الظن كثيرًا ما يوقع أهل المعرفة في الغلط، فما بالك بمن ليس منهم! على أننا وجدنا بالخبرة والممارسة أنَّ قليل العلم أكثر اعتمادًا على ظنِّه من العالم رغمًا عمَّا يقتضيه المعقول من أن الغالب صوابُ ظنِّ العالم وخطأ ظنَّ من ليس بعالم". (¬1) لم يتقدم ذكر "عمل ثالث"، ولعله يقصد ما سبق من قوله عن غالب المصححين في أول الباب.

تصحيح. فقد جنى على ذلك الكتاب وعلى العلم وأهله، إذ لعله لو لم يطبعه لقُيِّض (¬1) له من يطبعه طبعًا مصحَّحًا يصح الاعتماد عليه. هذه أربعة أوجه تُوضِّح فساد الرأي المذكور، وتُبيِّن أن الاقتصار في التصحيح على تطبيق المطبوع على النسخة غير ممكن، وأنه لا يقتصر فساده على أن يبقى في المطبوع ما كان في النسخة القلمية من الأغلاط، بل لا بد أن تضاف إلى ذلك أضعاف مضاعفة. وإذا عرف العالِم في كتاب مطبوع أنه إنما صُحِّح هذا الضربَ من التصحيح لم يمكنه الوثوق بما فيه، لاحتمال تصرُّف المصحح الجاهل، أو غفلته، أو غير ذلك. هذا، مع احتياجه إذا أراد تصحيح بعض الأسماء أو الكلمات إلى مجهود يبذله في مراجعة المظان. فإذا فُرِض أنه طُبع من الكتاب ألف نسخة، فقد تقع خمسون منها إلى علماء محتاطين، فيحتاج كل منهم إلى مجهود مستقل، لعله لا يتيسر له لفقدِه الكتب التي يحتاج إلى مراجعتها. ولو أن أرباب المطبعة قاموا بذلك لأغنى مجهود واحد عن خمسين مجهودًا. فأما بقية النسخ، فإنها تقع إلى من يعتمد عليها، وفي ذلك من الفساد ما فيه. وكثير من الكتب المطبوعة بمصر وغيرها لا يظهر فيها كثرة الخطأ، ويعِزُّ وجود التنبيه في الحواشي، فيظهر من ذلك أن مصححيها يرون أن الواجب إنما هو مراعاة الصحة في نفس الأمر. ¬

_ (¬1) رسمها في الأصل بالظاء.

وقد يؤيَّد هذا الرأي بأنه إن وقع في النسخة الأصل أو في إحدى النسخ خطأ، فالغالبُ أنه من النساخ، لبعدِ أن يكون من المؤلف، وأيُّ ضرورة إلى بيان خطأ النساخ؟ وعلى فرض أنه من المؤلف، فهو خطأ على كل حال، والمقصود إنما هو الصواب. وإذا ظفر المطالع بالصواب، فأيُّ حاجة به إلى أن يعرف أنه وقع للمؤلف هناك خطأ؟ وهذا الرأي دون ما قبله في الفساد، بشرط أن يكون المصححون من أهل العلم والمعرفة والاحتياط والتثبت. على أنه قد يقال: لو كانوا كذلك لكثر تنبيههم في الحواشي على ما وقع في النسخة الأصل أو إحدى النسخ، لأن النسخ القلمية لا تخلو عن إهمال النقط والاشتباه والخطأ والاختلاف، وكثير من ذلك يتردد فيه نظر العالم المتثبت. ومن المحال عادةً أن يحصل القطع بالصواب في جميع الكتاب، كيف، ولا يخلو كتاب من الكتب المذكورة من عدة مواضع طبعت على ما هو غلط في نفس الأمر، وعند المؤلف؟ فالرأي السديد: أن يراعى في التصحيح الوجوه الثلاثة: ما في النسخة، وما عند المؤلف، وما في نفس الأمر، على ما يأتي إيضاحه. ***

باب

[4/ أ] (¬1) باب المراد بالمراعاة: أحد أمرين: - إما الإثبات في أصل المطبوع. - وإما التنبيه في الحاشية. فإذا اتفق ما في النسخ، وما عند المؤلف، وما في نفس الأمر؛ فواضح. وإلا أثبت في أصل المطبوع ما هو الأحق، ونُبِّه على الباقي في الحاشية. اللهم إلا أن يكون ما وقع في النسخة الأصل أو إحدى النسخ من الخطأ الذي لا يخفى على أحد - كما مر في "الحمد لله" - فلا حاجة للتنبيه عليه. هذا، والأولى أن يثبت في أصل المطبوع ما عُرف عن المؤلف، وإن خالف ما في النسخة أو النسخ وما في نفس الأمر؛ فإن الكتاب حكاية لكلام المؤلف، فالواجب أن يحكى كما صدر عنه. فإن قيل: إنه وإن عرف ما عند المؤلف، وكان مخالفًا لما في النسخة الأصل، فمن الجائز في بعض المواضع أن يكون له قول آخر موافق (¬2) لما في النسخة، أو أن يكون سها في ذلك الموضع. قلت: هذا الاحتمال فيه بعد، ويكفي في مراعاته التنبيه في الحاشية على ما وقع في النسخة. ولذلك إذا كان في الكتاب حكاية عن رجل آخر، فالعبرة بما عند ذلك ¬

_ (¬1) الصفحة (3/ ب) مضروب عليها. (¬2) يحتمل "موافقًا".

الرجل، ويكون له حكم المؤلف. فإن اختلف ما عند المؤلف أثبت في أصل المطبوع من قوليه أو أقواله ما يوافق النسخة أو إحدى النسخ, لأن الظاهر أن الأصل موافق لأصل المؤلف، ولم يقم دليل على خطائه. ولهذا إذا كان الأصل الذي يطبع عنه بخط المؤلف، فالواجب مراعاته على كل حال، اللهم إلا في الخطأ الذي لا يخفى على أحد، ويقطع بأنه زلَّة قلم، كما تقدم في "الحمد لله". فإن اختلف نسختان (¬1) - مثلًا - وكل منهما موافق لقول المؤلف، أثبت في أصل المطبوع منهما ما يوافق ما في نفس الأمر. فإن اختلف ما في نفس الأمر، فالمرجَّح. فإن لم يكن ترجيح رُجِّح بكثرة النسخ، فإن استوت فبجودتها، وإن استوت تخيَّر المصحح. فإذا لم يُعلم ما عند المؤلف عُدَّ موافقًا لما في نفس الأمر, لأن الغالب في حقه معرفة الصواب في نفس الأمر؛ حتى إذا كان ما في نفس الأمر مختلفًا فيه، ولا ترجيح، عُدَّ ما عند المؤلف كذلك. فإذا لم يُعلم ما في نفس الأمر عُدَّ موافقًا لما عند المؤلف لما ذُكِر. فإذا لم يعلم ما في نفس الأمر، ولا ما عند المؤلف، أثبت في المطبوع كما في النسخة؛ فإن الظاهر صحته، ولم يقم دليل على خطائه. فإن اختلفت النسخ رُجِّح بالكثرة، فإن استوى العدد فبالجودة، فإن استوت تخيَّر المصحح. فإذا لم يعلم ما في النسخة الأصل لاشتباه أو خرم، أو نحوه، ولم يعلم ¬_______ (¬1) كتب أولًا: "أصلان"، ثم استبدل بها "نسختان"، وفي تأنيث الفعل قبلها.

فصل

ما عند المؤلف، ولا ما في نفس الأمر = تُرك بياض. [5/ ب] فصل (¬1) واعلم أن الاختلاف قد يقع بين موضعين من النسخة، أو بين نسخة ذلك الكتاب ونسخة كتاب آخر للمؤلف، أو لغيره. وهذا على أوجه: الأول: أن يتبين للمصحح أن كلا الوجهين صواب في نفس الأمر وعند المؤلف فيما يظهر، فلا حاجة للتنبيه على الخلاف؛ إلا أن يخشى أن يظن من يطالع الكتاب ويطلع على الخلاف أن أحد الوجهين خطأ، فيحسن أن ينبَّه على الخلاف وعلى أن كلا الوجهين صواب، ويشير إلى الحجة في ذلك. الثاني: أن يتبين له أن ما وقع في ذلك الموضع من النسخة صواب في نفس الأمر وعند المؤلف، وما وقع في الموضع الآخر أو الكتاب الآخر للمؤلف، أو لغيره خطأ = فهذا أيضًا لا حاجة للتنبيه [عليه] إلا أن يخشى أن يتوهم كثير من المطالعين أن ما وقع في ذلك الموضع هو الخطأ. الثالث: أن يكون ما وقع في ذلك الموضع خطأ في نفس الأمر وعند المؤلف، فعليه في هذا إثبات الصواب، والتنبيه على ما وقع في النسخة في ذلك الموضع، ويذكر الحجة على صواب ما أثبته في نفس الأمر وعند المؤلف = فيحتاج هنا إلى ذكر ما وقع في الموضع الآخر أو في الكتاب الآخر، ولا يلزمه استيعاب المظانَّ كلَّها بل يكفيه ما يرى أن الحجة تقوم به. الرابع: أن يشتبه عليه الأمر، فيشكَّ أي الوجهين الصواب، ولا يهتدي ¬

_ (¬1) كتب قبل الكلام الآتي من (4/ أ): "بعد ثلاث صفحات"، فلعله أراد تقديم هذا الفصل عليه.

فصل

إلى بيانه، ففي هذا ينبغي له التنبيه على الخلاف. فأما حيث (¬1) يكون الصواب عند المؤلف مخالفًا للصواب في نفس الأمر، فلا بد من البيان على كل حال. والله الموفق. [رجع إلى 4/ أ] هذا، واعلم أن بين أهل العلم خلافًا في إصلاح الغلط، وقد بسط القول فيه في مصطلح الحديث، وقد ذكرت هنا حاصل ما يترجح في ذلك. وبيانه: أن من مال إلى المنع حجتُه أنه خلاف مقتضى الأمانة، وأن الناظر قد يخطئ، فيظن ما ليس بغلط غلطًا. وقد يترتب على ذلك أن يقع هو في الغلط. وقد يكون ما في الأصل غلطًا, ولكن يخطئ المصلح، فيصلحه بغلط آخر. والجواب عن ذلك: أن الإذن في الإصلاح إنما هو لمن كان أهلًا، ويلزمه مع ذلك أن يبين ما كان في الأصل، إلا فيما كان مقطوعًا به البتة، كما مرَّ في "الحمد لله". وينبغي للمصحح مع ذلك أن يذكر حجته، فلم يبق محذور. ولله الحمد. [4/ ب] فصل أما معرفة ما في النسخة القلمية أو النسخ، فبالمشاهدة. وينبغي أن يكون المصحح ذا خبرة بالنسخ القلمية، وممارسة لقراءتها، وأن يعاود النظر، ويقيس المحتمل بالمتيقن. ويكون كذلك عارفًا باصطلاح الخط، وبما يقع في النسخ القلمية القديمة من مخالفة الاصطلاح المشهور. ¬_______ (¬1) تكررت في الأصل.

وينبغي أن تكون النسخة أو النسخ القلمية حاضرة عند المصحح ليراجعها فيما يشك فيه وقت التصحيح، لاحتمال أن يكون الناسخ أو المقابل لم يحقق النظر. وقد وقع لنا مرارًا أن نعتمد على المقابلة، ثم يقع لنا عند التصحيح في موضع أنه غلط، ونظنه وقع في النسخة القلمية كذلك، فنذهب نفتِّش في المظان فنتعب، ثم يبدو لنا أن نراجع النسخة القلمية، فإذا هو فيها على ما وقع لنا أنه صواب. وأما معرفة ما عند المؤلف، فيعرف بأحد أمور: منها: وجوده في بعض كتبه المرتبة على الحروف. منها: ضبطه إياه بالعبارة. ومنها: وجوده بخطه المجوَّد. ومنها: أن ينقله عنه بعض أهل العلم موضحًا، إلى غير ذلك. وأما معرفة ما في نفس الأمر، فبنقل العلماء المحققين. واعلم أن نص العالم الواحد يدل على ما في نفس الأمر، ولكن لا ينبغي في هذا والذي قبله الاكتفاء بعالم واحد، أو بكتاب واحد، أو بموضع واحد؛ فإن العالم قد يخطئ، وقد يسهو، وقد يتغير اجتهاده، وقد تكون عبارته تحرفت؛ فقد وجدنا من هذا كثيرًا، وقد نبَّهتُ على طائفة من ذلك في التعاليق على "التاريخ الكبير" للبخاري. وسيأتي لهذا مزيد إن شاء الله تعالى.

باب في أنواع الغلط، وأسباب وقوعه

باب في أنواع الغلط، وأسباب وقوعه الغلط: إما بزيادة، أو بنقصان، وإما بتقديم وتأخير، وإما بتغيير. فأما الزيادة: فقد تكون من الناسخ أو المملي إذا كان رجل يُملي وآخر يكتب، إما عمدًا بقصد البيان - في زعمه - كأن يكون في الأصل حديث من طريق جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيزيد بعد جابر: "بن عبد الله". وفي نفس الأمر أنه جابر بن سمرة صحابي آخر، أو جابر بن يزيد الجعفي من أصاغر التابعين. أو بقصد الأدب كأن يزيد بعد جابر: "رضي الله عنه". وكما يحكى عن بعضهم أنه وقع في كتاب عنده كلام عن "البتِّي" والمراد به: عثمان البتِّي أحد الفقهاء، فتصحفت عليه, فصارت "النبي"، فصحَّفها كذلك، وزاد: "- صلى الله عليه وسلم -" (¬1). أو بقصد إصلاح غلط - في زعمه - كأن يقع في الأصل حديث من طريق مالك عن نافع عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيعلم أن نافعًا تابعي، وأن عامة روايته عن ابن عمر، فيظن أنه سقط من الأصل "عن ابن عمر"، فيزيدها ولا يبيِّن؛ أو لغير ذلك. وإما سهوًا، كأن يكون قد عرف في المثال الأخير أن نافعًا يروي عن ابن عمر، فجرى قلمه بقوله: "عن ابن عمر" بدون روية. وإما غلطًا. وأكثر ما يكون برجوعه إلى نظير الكلمة التي كتبها أو شبيهتها، فينشأ من ذلك التكرار، وكثيرًا ما يتنبه الناسخ بعد كتابة كلمة أو ¬________ (¬1) انظر: التنبيه على حدوث التصحيف (92) وشرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف (90). ومدخل إلى تاريخ نشر التراث العربي للطناحي (ص 294).

أكثر لخطائه (¬1)، فيرجع إلى الصواب، وينسى أن يضرب على ما زاده. وقد ينشأ التكرار بتحوُّل العلامة كأن يُملي أو يكتب إلى موضع، ويضع عليه علامة، فتتحول العلامة إلى ما قبل، فيرجع إلى موضعها. ويكثر تحوُّلُها من موضع من سطر إلى ما يحاذي ذلك الموضع من السطر الذي قبله. وقد يكون بإعادة المملي ما قد أملاه سابقًا وكتبه الناسخ، ظنًّا أن الناسخ لم يكتبه في المرة الأولى. وقد يكرر المملي الكلمة أو الجملة توضيحًا للناسخ، فيظن الناسخ أنها مكررة في الأصل. وقد يتكلم المملي عند الإملاء بكلام يخاطب به صاحبه أو نحو ذلك، ويظن أن الكاتب متنبه لذلك، فيتوهم الكاتب أنه من جملة الإملاء. وقد وقع لنا شيء من ذلك، كان بعضنا يملي، فمرَّ باسم رجل للكاتب به علاقة، فذكر المملي اسمه، ثم قال: "صاحبك"، فكتبها الكاتب! بل ربما سها الكاتب، فأدرج كلمة أو جملة تكلَّم بها بعض الحاضرين. وربما سها، فأدرج كلمة أو جملة كانت شاغلة لذهنه. وكثيرًا ما يكون الغلط بإدراج ما في الحاشية في المتن، على توهم أنه لَحَق. أي أنه سقط على الناسخ الأول من الأصل، فأُلحق في الهامش أو بين السطور، والواقع أنه من تحشية بعض الناظرين على أنه نسخة، أو تفسير، أو ¬

_ (¬1) في الأصل: "كخطائه".

غير ذلك. [5/ أ] وأما النقصان، فقد يكون من المملي ومن الناسخ، إمَّا عمدًا لتوهُّم تكرار، كأن يقع في سنده: "عن خالد عن خالد"، فيظن أن الثانية تكرار، فيحذفها. والواقع أنه لا تكرار، وخالد الثاني غير الأول، بل هو شيخه. وإما سهوًا، كأن يكون في الأصل: "أبو هريرة عن الفضل بن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -"، فيريد أن يكتبها، فيجري قلمه بإسقاط "عن الفضل بن عباس" جريًا على الغالب. وإما غلطًا. وعامة ما تقدم في أسباب الغلط بالزيادة يجيء نظيره في الغلط بالنقصان، فتدبر! وأما التقديم والتأخير، فقد يكون من المملي ومن الناسخ، إما عمدًا كأن يقع في الأصل: "حديث الجساسة الذي رواه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن تميم الداري" فيرى أن هذا غلط، فيقلبه. وكأن يقع في الكتاب: "العجاج بن رؤبة"، فيرى أن الصواب "رؤبة بن العجاج". وإما سهوًا، كأن يريد أن يكتب "العجاج بن رؤبة" كما في الأصل، فيجري قلمه: "رؤبة بن العجاج". وإما غلطًا، كأن ينتقل النظر، أو تتحول العلامة إلى موضع متأخر، ثم يتنبَّه لذلك، فلا يضرب عليه، ولكن يكتب ما فات، ويُعلِم عليه علامة التقديم والتأخير. وقد يغفل عن كتابة العلامة، أو لا تكون واضحة. وكأن يكون في متن الأصل سقطٌ قد أُلحق بين السطور أو بالهامش،

فيظنه الناظر من موضع متأخر، فيؤخِّره. وقد يقع التقديم والتأخير بورقة كاملة، بأن تكون انقطعت من الأصل، فجُعلت في غير موضعها؛ إلى غير ذلك. وأما التغيير، فالمراد به إبدال الشيء بغيره. ويشمل التغيير بزيادة بعض الحروف أو نقصانها، وبتقديمها أو تأخيرها، كما يأتي. فمن أسبابه: تماثل حروف الكلمتين، وأنهما إنما تفترقان بالشكل مثل "مُسْلِم" بسكون السين وكسر اللام و"مسلَّم" بفتح السين وتشديد اللام مفتوحة، و"مَعْمَر" بفتح فسكون ففتح و"مُعَمَّر" بضم ففتح فتشديد بفتح. وهذا إنما يترتب عليه الغلط في الصورة عند الشكل، فإذا لم يشكل لم يظهر الغلط، وإنما يظهر باللفظ. ولكن المصحح إذا غلط في شيء من ذلك كثيرًا ما يبني عليه غلطًا آخر له صورة، كأن يقع في كتاب: "عن يحيى بن معين أنه كان يسأل: مجالد ما حاله، فيقول: صالح. فيظن المصحح كلمة "يسأل" بفتح الياء مبنيًّا للفاعل، فيرى أن الصواب: "مجالدًا"، وأن هذا من الغلط الواضح الذي لا حاجة إلى التنبيه عليه، فيثبته في المطبوع كذلك. وربما زاد، فشكل "يَسأل" على ما ظنه، فيقع في غلط معنوي شنيع. ويقع نحو هذا في الأسماء في نحو مَعْمَر ومُعَمَّر، فإنه قد يظن الرجلَ آخرَ، ويحكم على هذا بما حكم به على ذاك. ومنها: تشابه حروف الكلمتين بأن لا يفرَّق بينها إلا النقط، مثل أحمد وأجمد، وهو كثير جدًّا. ويشتد البلاء به لقلَّة النقط في النسخ القلمية، وزيادة

النقط في بعضها, ولوَضْعه بعيدًا عن محلِّه في الخطوط المعلَّقة. ومنها: التقارب في صورة الحرف مثل: أحمد وأحمر. وهذا كثير جدًّا في النسخ القلمية، ولا سيما إذا كان الخط رديئًا، أو معلقًا. فقد رأينا أنه كثيرًا ما يبدل "حفص" بـ "جعفر"، وعكسه، بل و" جعفر" بـ "عمر"، وعكسه. وقد يكون اشتباه الحرف بسبب الاتصال، فإن بعض الحروف المفصولة قد يتصل بما بعدها للتقارب، أو لتعليق الخط، فتقرأ "أنت" "لنت" و "أراه" "الاه" وغير ذلك. وقد يتأكد هذا بحذف بعض الأحرف، فيشتبه "سفيان" إذا كُتب بدون ألف بـ "شقيق". ومنها: تقارب مخارج الحروف. فإن من الناس من لا يفرِّق في نطقه بين الهمزة والعين، ولا بين التاء والطاء، ولا بين الثاء والسين، ولا بين الحاء والهاء، ولا بين الدال والضاد، ولا بين الذال والزاي، ولا بين السين والصاد، إلى غير ذلك. وهذا يقع بأن يملي رجل، ويكتب آخر، ولا يكاد يتبيَّن بالمقابلة. وقريب منه فصلُ ما حقُّه الوصل، وعكسه، مثل "منوال" و "من وال". [5/ ب] ومنها: الزيادة والنقص. وأكثر ما يقع هذا في الحروف التي تكون صورتها نبرة فقط. وكثيرًا ما يقع عبد الله وعبيد الله: أحدهما بدل الآخر. وهكذا حسن وحسين، وسعد وسعيد، وحصن وحصين، وعتبة وعتيبة، ويحيى ونجي، وعبسة وعنبة.

[فصل] [الأمور التي يعرف بها ما عند المؤلف]

[فصل] [الأمور التي يُعرف بها ما عند المؤلف] [6/ أ] لا يخفى أننا إذا أردنا أن نطبع "جامع سفيان الثوري" - مثلًا - فإنما نطبع الكتاب الذي جمعه الثوري، لا أقل ولا أكثر، فينبغي أن تكون كل جملة فيه وكل كلمة وكل حرف كما وضعه الثوري. فلو وقع لنا بخط الثوري نفسه وجب أن نطبعه كما هو، إلا ما كان من اصطلاح الكتابة والتسامح فيها. فإن المتقدمين يكتبون "سفين" هكذا بلا ألف، وكثيرًا ما يهملون النقط، وقد لا تظهر أشكال الحروف الصغيرة، فإذا وقع في الأصل هكذا "سفن" بلا نقط، مع القطع بأنه "سفيان"، فإنه يطبع واضحًا منقوطًا، ولا حاجة للتنبيه على ما وقع في الأصل, لأن ذلك يكثر. نعم، إن اتفق اصطلاح غريب لم يذكره علماء الخط حَسُن التنبيه عليه في بعض المواضع. لكن وجود النسخة التي بخط المؤلف عزيز في الكتب القديمة، فالمدار إذًا على الاجتهاد. فيُعرف ما عنده بأمور: الأول: التواتر بين أهل الفن قديمًا وحديثًا، كالعلم بأن الحكم بن عتيبة هكذا، وأن واصلًا مولي ابن عيينة هكذا. فإذا كان المؤلف من أهل الفن يمتنع أن [يقع] عنده من الاسمين عكسُ ما ذُكِر مثلًا. الثاني: نصُّه الصريح، كما ضبط عبد الغني المصري في "المؤتلف" (¬1): ¬

_ (¬1) طبعة الهند (90، 121).

"عياش بن مؤنس" هكذا. ثم يقع في بعض كتبه الأخرى: "عباس بن يونس". الثالث: أن يُعرف بقضية تبويبه وترتيبه، كما ذكر البخاري في "تاريخه" (¬1) هذا الرجل في باب عياش، ثم قد يوجد في بعض المواضع الأخرى من كتابه هكذا: "عباس". وكما ذكر بكر بن خنيس في باب الخاء من اسم بكر (¬2)، ثم قد يقع في بعض المواضع الأخرى من كتبه: "بكر بن حبيش". ومن هذا القبيل: أن ابن أبي حاتم تصدى في كتابه لتراجم الرجال، ثم ذكر "دَقْرة" (¬3) و"شُمَيسة" (¬4)، فدلَّ ذلك على أنهما عنده رجلان، وإن كان التحقيق أنهما امرأتان. ومن هنا أنكروا على البخاري ذكره "زُجْلة" في "التاريخ" (¬5)، وقالوا: إنه ظنَّها رجلًا، وقد أجبتُ عنه في التعليق على ترجمتها. وقد ذكرها ابن أبي حاتم (¬6)، ولكن كأنه ليعترض على البخاري. الرابع: أن تتفق عليه ثلاث نسخ فأكثر جيدة مختلفة النسب بأن يكون ¬

_ (¬1) (4/ 1/ 47). (¬2) (1/ 2/ 89). (¬3) الجرح والتعديل (3/ 444). (¬4) الجرح والتعديل (4/ 391). (¬5) (2/ 1/452) (¬6) في "الجرح والتعديل" (3/ 624).

فصل

إسنادُ كلًّ منها إلى المؤلف غير إسنادي [الأخريين] (¬1). وقريب من هذا أن تتفق ثلاث نسخ من ثلاثة كتب للمؤلف [في] (¬2) كل واحد [تسميع] (¬3) وأنسابها مختلفة. الخامس: أن يوجد بخطه محققًا، سواء وقف عليه المصحح، أو نقله من يوثق به. السادس: أن يحكيه عنه بعض أهل العلم، وفي هذا بعض الضعف؛ لأنهم قد يتسامحون في هذا، فيحكي أحدهم عن العالم ما وجده في بعض كتبه، بحسب النسخة التي وقعت له. [6/ ب] فصل وإذا اختلفت هذه الخمسة (¬4) فالأول هو المتعيَّن قطعًا. وأما غيره، كأن نصَّ المؤلف على شيء في موضع، ثم اقتضى ترتيبه وتبويبه في موضعٍ خلافَه، فلا بد من الترجيح. والأول أرجح من الثاني في غير موضعه, أعني أنه إذا نصَّ على شيء، ثم بوَّب أو رتَّب على خلافه، ففي الموضع الذي رتَّب أو بوَّب يكون الراجح ما يقتضيه الترتيب والتبويب، وفي بقية المواضع الراجحُ ما نصَّ عليه. ¬

_ (¬1) لم تتضح في الصورة. (¬2) تحتمل "من" و"بين". (¬3) قراءة تخمينية. (¬4) كذا في الأصل, لأن الأمور المذكورة في الفصل السابق كانت أولًا خمسة, ثم زاد فيها.

فصل

وإن اختلف واحد منهما كأن ينصَّ في موضع على شيء، وفي آخر على خلافه، فالترجيح. فإن لم يترجح فلينظر ما عند غيره من أهل العلم، فإن كان الذي عندهم موافقًا لأحد قوليه، فهو الراجح. فإن اختلف ما عندهم كاختلاف قوليه ولم يترجَّح، رُجِّح بكثرة النسخ وجودتها. فإن لم يترجَّح شيء تخيَّر المصحح. ومتى ترجح شيء أثبته في الأصل، ونبَّه على الآخر في الهامش. فإن تعيَّن ولكن خالفته النسخ أو بعضها، فكذلك ينبه على ما في النسخ أو بعضها في الهامش. فصل فإن لم يُعلم ما عند المؤلف بوجه من الوجوه المتقدمة، فلينظر ما عند غيره من أئمة الفن، فإن كان قولًا واحدًا موافقًا للنسخ فهو المتعين؛ أو مخالفًا، وفي نسخ الكتاب أصلان جيدان، اجتهد المصحح بحسب معرفته لمقدار صحة النسختين، ولمقدار اشتهار ما عند أئمة الفن. فإن ترجَّح عنده احتمالُ أن يكون ما عند المؤلف كما في النسختين، أثبتَ ما فيهما في الأصل، ونبه في الهامش على ما عند أئمة الفن. وإن ترجح عنده احتمالُ أن ما وقع في الأصلين من تصرُّف الرواة والنساخ، فالعكس. وإن كان ما عندهم قولًا واحدًا موافقًا لبعض النسخ، مخالفًا لبعضها، فهو المتعين، وينبه بالهامش على ما في النسخة، أو النسخ الأخرى.

فصل

وإن كان لأهل العلم قولان، فأقربهما إلى أن يكون قول المؤلف، كأن يكون كذلك في النسخ، أو في أكثرها أو أجودها. فإن لم يتبين فأرجحهما، فإن لم يترجَّح تخيَّر. فصل معرفة ما عند أهل العلم تكون بواحد فأكثر من الأمور التي تقدَّم أنه يُعرف بها ما عند المؤلف. ومتى عرف بذلك ما عند إمام من أئمة الفن، وبحث المصحح فيما عنده من الكتب، فلم يطلع على خلاف ذلك، فالظاهر أن ذلك قولهم جميعًا، إلا أن يكون شذَّ بعضهم، فحكموا عليه بالخطأ. [7/ أ] ويعرف ما عندهم أيضًا باتفاق ثلاث نسخ جيدة، كلُّ نسخة من كتاب لعالم من علماء الفن، كنسخة جيدة من "تاريخ البخاري"، وأخرى كذلك من "كتاب ابن أبي حاتم"، وثالثة كذلك من "ثقات ابن حبان". فإن لم يكن إلا نسختان من كتابين، أو ثلاث ليست بتلك الجودة، فالترجيح بينها وبين نسخ الكتاب الذي يطبع. فصل يجب على المصحح أن يتثبت في أمور: الأول: أن هذا الاسم الذي يريد تصحيحه هو الذي قام الدليل على أنه عند المؤلف أو عند غيره كذا. فقد رأيتُ مصححًا ذا منزلةٍ رأى في الكتاب "أبو بكر بن أبي خيثمة" فصححه فيما زعم: "أبو بكر بن أبي حثمة". ولم

يدر أنَّ هذا غير ذاك. وكذا رأى "أبو خيرة الضبعي"، فصححه فيما زعم: "أبو جمرة الضبعي"، وهذا غير ذاك؛ في أشياء أخرى. وهذا يكثر جدًّا في الحديث ورجاله، بل رأيت مولانا أبا عبد الله محمد السورتي (¬1) رحمه الله، وكان قد صحح كتاب "الكفاية" فرأى في موضع: "أبو نعيم بن عدي الحافظ" فأصلحه فيما يرى: "أبو أحمد بن عدي الحافظ"، وكتب بالهامش: "الأصل: أبو نعيم، وليس بشيء"؛ مع أن الصواب في ذلك الموضع: "أبو نعيم"، و"أبو نعيم بن عدي الحافظ الجرجاني غير أبي أحمد بن عدي الحافظ الجرجاني، ولكن الثاني اشتهر بشهرة كتابه "الكامل"، فكثر ذكره في كتب الجرح والتعديل، والآخر على جلالته لم يشتهر تلك الشهرة، فلم يستحضره أبو عبد الله، وظنَّ أنه لا وجود له. وقد نبهتُ على ذلك بهامش "الكفاية" (ص 115)، ولكن المركِّبين أخَّروا في الطبع الأخير السطر الذي تتعلق به الحاشية إلى أول الصفحة التي تليها. وقد ذكرت أمثلة أخرى في مقالتي "علم الرجال وأهميته" (¬2). فلا يحل أن يكون المصحح إلا عارفًا بالفن، ذا اطلاع واسع، وتثبُّت بالغ. ¬

_ (¬1) بلديُّ الأستاذ الميمني، وزميله في الدرس، وقرينه في كثرة المحفوظ من الشعر واللغة. برز في علوم العربية والحديث والرجال. توفي سنة 1361. انظر ترجمته في نزهة الخواطر (8/ 428). (¬2) انظر: "مجموع الرسائل الحديثية" (ص 244) من هذه الموسوعة المباركة.

الأمر الثاني: لا يثق بضبط "الخلاصة"، فإنَّ فيه خطأ كثيرًا، وكذلك قد يتفق الخطأ في ضبط "التقريب". وهذا في الضبط بالعبارة، فأما الضبط بالقلم فخطؤه لا يحصى. الأمر الثالث: لا يكتف بكتاب من كتب المشتبه، أو بضبط القاموس أو شرحه، حتى يراجع غيرها. وكلما كثرت المراجعة كان أبلغ، وذلك أن بعضهم قد يخطئ، أو يكون هناك اختلاف، أو يكون الذي ضبطه غير الذي يبحث عنه المصحح، [7/ ب] أو يكون هناك سقط، أو خطأ في عبارة الضبط، فقد رأيت في موضع: "بفتح"، والصو اب: "بضم"؛ وذلك أن الكلمتين تشتبهان في الخطوط غير الواضحة، فصحف الناسخ إحداهما بالأخرى. وكذلك يقع في "زاي" و"راء"، وذلك أن النقط في الأولى قد يُترك، أو يخفى، و"ى" تشتبه بالهمزة. وقس على هذا. ***

فصل

[ل 7] (¬1) فصل لا بد أن يكون المصحح ثقة أمينًا فطنًا صبورًا على العمل، قوي الذاكرة، متمكنًا من العربية، واسع الاطلاع له مشاركة حسنة في الفنون ومعرفة جيدة بفنِّ الكتاب، قد عرف اصطلاح أهله، وصارت له يد في حلِّ عويصه، واستحضار لكثير من مسائله، واطلاع على كثير من الكتب التي تشارك ذلك الكتاب في فنِّه، ودُرْبةٌ في مراجعتها والكشف عما يراد الكشف عنه فيها، وأن يكون مساعدُه قريبًا منه في ذلك. وينبغي أن تكون أصول الكتاب العلمية حاضرة عنده ليراجعها إذا احتاج، فربما تقع الغفلة أو الاشتباه عند النسخ والمقابلة، فيحتاج المصحح إلى مراجعة الأصل. وقد جرى لي ذلك مرارًا، يشكل عليَّ الأمر في بعض المواضع لظني أن الأصل موافق للمسوَّدة، وأتعب في مراجعة المظان، ثم أراجع الأصل فأجده على وجه ينجلي به الأمر، وينحلُّ الإشكال. ويجب أن يستحضر المصحح أولًا الكتب التي يحتاج إليها للمراجعة، وكلَّ ما استطاع أن يجمع منها فهو أولى، ولا يستغني ببعضها عن بعض ولا بكبير عن صغير، بل إذا كان الكتاب منها طُبع طبعتين؛ فينبغي أن يكون عنده منه نسختان: من كلِّ طبعةٍ واحدةٌ. [ل 6] تحت يدي الآن للتصحيح كتاب "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (¬2)، فأجدني محتاجًا إلى كتب الصحابة، وكتب الرجال، وكتب ¬

_ (¬1) من المجموع رقم [4706]. (¬2) في الأصل: "لكتاب ابن أبي حاتم".

المشتبه، وكتب الأنساب، وكتب الألقاب، وكتب الحديث، والسيرة، واللغة، ولا سيما "القاموس" بشرحه فإنهما يتوخَّيان تفسير (¬1) الأسماء الغريبة وذكر نسب المسمى وطرف مما يتعلَّق به. وربما احتجت لمراجعة التفاسير، والتواريخ، وكتب الأدب كـ "الأغاني"، وكامل المبرد، وأمالي القالي، و"خزانة الأدب" للبغدادي. ¬

_ (¬1) في الأصل: "تفسير من".

الرسالة الثالثة أصول التصحيح (مسودة)

الرسالة الثالثة أصول التصحيح (مسوَّدة)

أصول التصحيح

[ص 4] الحمد لله أصول التصحيح الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى. أما بعد: فإنَّي منذ بضع سنين مشتغل بتصحيح الكتب العلمية في مطبعة "دائرة المعارف العثمانية"، وتبيَّن لي بعد الممارسة قيمة التصحيح العلمية والعملية، وما ينبغي للمصحِّح أن يتحقق به أوَّلاً، ثم ما يلزمه أن يعمل به ثانيًا. [ص 5] ورأيت غالب الناس في غفلة عن ذلك أو بعضه. فمَن لم يشتغل بقراءة الكتب العلمية ومقابلتها وتصحيحها يَبْخَسُ التصحيح قيمته، ويظنُّه أمرًا هيِّنًا لا أهمية له، ولا صعوبة فيه. ولمَّا كان أكثر المتولِّين أمور المطابع من هذا القبيل عظمت المصيبة بذلك. ولهم طرق: الطريقة الأولى: مَن يكتفي بالتصحيح المطبعي، أعني: جعل المطبوع موافقًا للنسخة القلمية. فتارة تكون نسخة واحدة. [ص 6] وخطأ هذا بغاية الوضوح عند من كان عنده معرفة علمية واطِّلاعٌ على النُّسخ القلميَّة، فإنها لا تكاد تخلو نسخة قلمية عن خطأ وتصحيف وتحريف، وأقلّ ذلك أن يشتبه على القارئ فيقرأ غلطًا.

وقد رأينا من هذا كثيرًا. نرى بعض النُّساخ يغلط في النسخ كثيرًا، مع أنّ الأصل صحيح ولكنّه أخطأ في القراءة؛ [ص 7] إمّا لكون خطّ الأصل سقيمًا أو مغلقًا أو غير منقوط، وهذا كثير في الكتب العتيقة؛ أو يشتبه بعض حروفه ببعض، وهذا كثير جدًّا. هذا فضلًا عمّا يكون في الأصل نفسه من الخطأ، فإنَّك لا تكاد تجد كتابًا قلميًّا واحدًا مبرَّأً عن الغلط. ويقع في أوربا أن يطبعوا الكتاب بطريق التصوير، كما فعلوا بكتاب "الأنساب" للسمعاني. وفي هذا ترك الأغلاط التي في الأصل على ما هي، وزيادة أنَّه عند العكس (¬1) كثيرًا ما تخفى النقاط وبعض الحروف الصغيرة. وتارة (¬2) تكون عدَّة نسخ قلمية، ويُكلَّف المصحح أن يجعل إحداها أُمًّا ويُثبت مخالفات النسخ الأخرى على الهامش. [ص 8] وفي هذا من النقائص: 1) أنَّه كثيرًا ما تجتمع عدَّة نسخ على الخطأ. 2) بعض النُسخ قد تكون مخالفتها خطأً قطعيًّا، فإثباتها تسويد للورق وتكثير للعمل، يؤدي إلى ارتفاع قيمة الكتاب المالية، فيضر ذلك بمَن يريد اقتناءه، وبالمطبعة أيضًا؛ لأنَّ كثيرًا من الراغبين في اقتناء الكتب يصدّهم غلاؤها عن اشترائها. وربما عارضتها مطبعة أخرى، فطبعت الكتاب بنفقة أقل، فباعتْه بثمن أرخص، فأقبل الناس على هذه، وتركوا تلك. 3) أن هذا العمل يؤدِّي إلى إسقاط لقيمة النسخة المطبوعة وللمطبعة؛ ¬

_ (¬1) يعني: التصوير الشمسي، بالأردية والفارسية. (¬2) كتب المؤلف قبلها: "الطريقة الثانية"، ثم ضرب عليها.

لأنَّ العارف بدل أنْ يفهم مِن إثبات الأغلاط الواضحة أمانةَ المطبعة ومصححها وشدَّة تَحرِّيهم، يفهم أنه ليس فيهم أحد من أهل العلم يعلم أنّ ذلك غلط واضح. [ص 9] 4) أنّ كثيرًا من المطالعين لا يُميِّزون بين الصواب والخطأ، ففي الطبع على الطريقة المذكورة حرمان هؤلاء من بعض الفائدة، وإيقاعُ بعضهم في الغلط، وتكليفهم المشقَّة إذا أرادوا أن يستشهدوا بشيء من الكتاب. وبعض المصححين ينبَّه على الخطأ بأنه خطأ، وهذا وإن اندفع به بعض النقائص المذكورة، فقد زاد نقصًا آخر، وهو: أن التنبيه على الغلط يلزمه أن يُبيِّن المصحح مستنده [ص 10] في التغليط، فيعظم حجم الكتاب، وقد بيَّنا ما فيه. فأما إذا كان المصحح غير ماهر، فالأمر أشد، فإنَّه قد يصحح الغلط ويُخطَّئ الصواب. وهذا ينقص قيمة المطبوع العلمية والمالية, لأنّ الناظر فيه يرى أنَّ الكتاب لم يُصححه عارف ماهر، وأيضًا ففي ذلك إيقاع لغير العارفين في الغلط. [ص 11] ومع ما تقدم، فإننا نقطع أنه لم يُطبع كتاب قط على هذه الطريقة مع استيفاء جميع الاختلافات، فإنَّ مِن نُسخ الكتب التي طُبعت على هذه الطريقة ما لا نقط فيه البتَّة أو نَقطُه قليل. فلو وَفَى المصحح بهذه الطريقة لكانت الحواشي ثابتة مع كل كلمة منقوطة يمكن تصحيفها. ومن هنا نعلم أن المصحح فزع إلى الطريقة الرابعة (¬1)، ولكن لم ¬

_ (¬1) كتب أولًا: "الثالثة"، ثم ضرب عليها وكتب: "الرابعة".

الطريقة الثانية

يعتمدها مطلقًا، بل خلَط وخبَط. وفي هذا مفسدة عظيمة، فإن وليَّ أمرِ المطبعة إنما يأمر المصحِّح بالتزام الطريقة [ص 12] الثانية لأنه لا يرى الاعتماد على معرفته، فيحمله ذلك على إحالة التصحيح إلى غير عارف ثقةً بأنه لا حاجة للمعرفة إذْ كان الطبع مقيدًا بالنسخ، وفي هذا ما فيه. [ص 13] الطريقة الثانية (¬1): وهي الرائجة في بعض المطابع في مصر وغيرها، أن يُقاول صاحب المطبعة بعض أهل العلم والمعرفة على تصحيح الكتاب الذي يريد طبعه، ويدفع إليه النقل الذي يُراد الطبع عليه، وذلك غالبًا بعد مقابلته بالأصل. فيصحح هذا العالم بمعرفته ونظره، وبمراجعة المظانّ من الكتب العلمية، ويكتب تصحيحاته على النقل. ثم يأخذه صاحب المطبعة، ويكتفي به في التصحيح الحقيقي [ص 14]، ويكتفي عند الطبع بمن يصحح تصحيحًا مطبعيًّا، أعني: الذي يطبق المطبوع على ذلك النقل. ففي هذه الطريق (¬2) ثلاثُ أيدٍ تناوب التصحيح: الأولى: التصحيح بالمقابلة على الأصل. الثانية: التصحيح الحقيقي. الثالثة: التصحيح المطبعي. وفيها نقائص: الأولى: أنّ التصحيح بالمقابلة كثيرًا ما يوكل إلى غير أهل. ¬

_ (¬1) كتب أولًا: "الثالثة"، ثم أصلحها. (¬2) كذا في الأصل بدلاً من "الطريقة". و"الطريق" يذكر ويؤنث.

فإنّ التصحيح بالمقابلة ينبغي أن لا يعتمد فيه إلا على عالم ممارس للتصحيح. [ص 15] أمّا كونه عالمًا، فلأمور: الأول: أن النسخ القلمية كثيرًا ما تكون غير منقوطة، ويكون خطبها رديًّا أو مغلقًا، أو يشتبه فيه بعض الحروف ببعض؛ فالمقابل إذا لم يكن عنده أهلية تامة، فإنه يقلد الناسخ ويتبعه. الثاني: أن النُسخ القلمية كثيرًا ما يكون فيها الضَّرب والتضبيب، وغير الماهر قد لا يفهم ذلك. الثالث: أن النُّسخ القلمية كثيرًا ما يكون فيها الإلحاق والحواشي، وغير الماهر ربّما وضع الإلحاق في غير موضعه, [ص 16] وربّما اشتبه عليه الإلحاق بالحواشي، فيجعل الحواشي إلحاقًا، وعكسه، وهذا موجود بكثرة. الرابع: أن الناسخ إذا كان شِبْهَ عارفٍ، فكثيرًا ما يتصرف بمعرفته، فيُحرِّف ويصحف، ويبدِّل ويغيِّر؛ كما وقع في نسخة كتاب (الاعتصام) للشاطبي، ونبَّه عليه مصحّحه السيد محمد رشيد رضا. فإذا كان المقابل غير أهل قلَّد الناسخ. الخامس: أنّ غير المتأهل لا يكون عنده غالبًا ما يحمله على شدَّة التَّحرِّي. [ص 17] السادس: أنَّ النِّساخة كثيرًا ما يكون بالإملاء، يمسك شخصٌ الأصل ويُمْلي على الناسخ، فينسخ هذا بحسب ما يسمع، وكثيرًا ما تتشابه الكلمات لفظًا وتختلف خطًّا، مثل: علا وعلى، وحاذر وحازر عند مَن يَنطِق

بالذَّال زايًا. ونحوه: حامد وهامد، وثائر وسائر، وقال وخال، وقريب وأريب وغريب، [ص 18] وأشباه ذلك كثيرة. والمقابلة تكون بين اثنين أيضًا، فإذا لم يكن المقابل أهلًا، لم يتنبه لتصحيح الأغلاط الناشئة عما ذكر. إلى غير ذلك. وأما كونه ممارسًا للتصحيح، فلأنَّ غير الممارس لا يكون عنده صبر الممارِس وتأنَّيه وتثبّته ومعرفته بمظانّ الغلط. وسيأتي إيضاح هذا - إن شاء الله تعالى - في شروط المصحِّح. النّقيصَة الثانية: أنّ المصحِّح الأوسط, وإن كان بغاية العلم والمعرفة، [ص 19] قد لا يتبيَّن له الغلط، أو يتبيَّن له ويرى أنَّ ما وقع في النقل محتمل من حيث المعنى فيدعه أو ينبِّه عليه في الحاشية، وفي ذلك تكبير حجم الكتاب. وإن أهل العلم لا يعتمدون على التصحيح في الحاشية اعتمادهم على ما هو ثابت في الأصل. وأهمُّ من ذلك أنّ أهل العلم يرون أن الأصل المنقول منه غير صحيح ولا معتمد. والشاهد على هذا كتاب (الاعتصام) للشاطبي، فإن العلَّامة السيد محمد رشيد رضا [ص 20] صحَّحه معتمدًا على نقل كان ينسخ من النسخة التي في المكتبة الخديوية، وكان يجد أغلاطًا في النقل كثيرة، فمنها ما أصلحه، ومنها ما نبَّه عليه، ومنها ما تركه. وكان يظنّ أنّ الخلل في الأصل، ثم تبيَّن له بعدُ أنّ الأصل صحيح في الجملة، وأن معظم الخلل إنما هو في النقل؛ إذْ كان الناسخ يبدَّل ويغيِّر برأيه.

وثانيًا: أنّ هذا المصحح الأوسط لا يكون عنده في الغالب مكتبة جامعة تتوفّر فيها الكتب التي ينبغي للمصحِّح مراجعتها. [ص 21] وثالثًا: أنه يكون غالبًا ممن لم يمارس التصحيح. وسيأتي في شرائط المصحِّح أنّ الممارسة من أهمِّها. ورابعًا: أنه في الغالب لا يكون له معاون مثله أو قريبًا منه في المعرفة. وسيأتي في شرائط المصحِّح أن اجتماع مصححين ذوي أهليّة له أهمية عظيمة. وخامسًا: أنه يكون في الأكثر غير منتصب لتصحيح الكتب ولا متّخذ لذلك حرفة، ولا شك أنّ المتَّخذ لذلك حرفة أحْرَصُ على الإتقان من غيره. [ص 22] وسادسًا: الغالب أنّ ذوي المطابع لا يعطون هذا المصحح الأوسط الأجرة التي ترضيه، بل يساومونه فيأخذ منهم ما سمحوا به. وبقدر ما نقصوه، تضعف همَّته عن احتمال المشقَّات في إتقان العمل، كما في سائر الصنائع. [ص 23] النقيصة الثالثة: أن صاحب المطبعة يكتفي في هذه الطريقة بأنْ يكِلَ التَّصحيح المطبعي إلى مَن ليس عنده أهْليَّة تامّة، ولا ممارسة كافية، لأنَّه يرى أنَّه ليس على هؤلاء إلا التصحيح المطبعي، أعني: تطبيق المطبوع على النقل الذي صحَّحه المصحِّح. ولكن هذا التصحيح معناه المقابلة بأنْ يمسك شخصٌ النَّقل المُصحَّح، وآخر الأوراق المطبوعة، فيقرأ ممسك الأوراق غالبًا؛ وربما يقع في

الطريقة الرابعة

الأوراق المطبوعة [ص 24] أغلاط تشتبه مع الأصل لفظًا، فلا يتنبّه لها ممسك الأصل، وربَّما لا يكون عند هذين من الممارسة للتصحيح ما يحملهما على التثبُّت والتّأنَّي والمقابلة كلمةً كلمةً. وأيضًا فقد يعرض عند الطبع تبدُّل وتغيُّر مثل كلمة "ابن" بين عَلَمَين تكون في النقل في السطر الأول، فتسقط الألف ثم تكون في الطبع أولَ سطر [ص 25] فيدعها هذان بلا ألف أيضًا مع أنّ الصّواب إثبات الألف حينئذٍ. وقد يقع في الكتاب مثلًا: "وكان عبد الله من أهل الغفلة"، فيقع (عبد الله) في النقل المصحَّح في سطر، ويقع في المطبوع (عبد) في سطر وكلمة الجلالة في سطر آخر، ومثل هذا مكروه، ولهذا نظائر. [ص 27] (¬1) الطريقة الرابعة (¬2): أن ينشئ ولي أمر المطبعة على نفقتها محلًّا للتصحيح، ويرتِّب فيه مكتبة، ثم عندما يريد طبع كتاب يُقاول بعض أهل العلم على تصحيحه في مكتبة المطبعة. وهذه كالتي قبلها تقريبًا. [ص 28] الطريقة الخامسة (¬3): أن ينشئ صاحب المطبعة مكتبة ويرتب فيها مصحِّحين يتقاضون مُرَتَّبات شهرية، ويتولّون التصحيح بأقسامه الثلاثة: المقابلة، والتصحيح ¬

_ (¬1) ص 26 فارغة. (¬2) كتب أولًا: "الثالثة"، ثم ضرب عليها وكتب: "الرابعة", مع أن الطريقة السابقة هي "الثانية" بعد إصلاح المؤلف. فهذه الثالثة والتي بعدها هي الرابعة. (¬3) كذا في الأصل. وانظر الحاشية السابقة.

الحقيقي، والمطبعي؛ وتكون المقابلة على نُسخٍ قَلميَّة عديدة إن وُجدت أو واحدة فقط. وهذه أصوب الطُّرُق وأولاها بالسلامة من النقائص، على شرط أنْ يكون المصحَّحون ذوي أهليّة وخبرة.

الرسالة الرابعة تخريج أحاديث كتاب "شواهد التوضيح" لابن مالك مع ملاحظات على طبعة الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي

الرسالة الرابعة تخريج أحاديث كتاب "شواهد التوضيح" لابن مالك مع ملاحظات على طبعة الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي

التنبيه على الأحاديث التي ذكرها ابن مالك في "شواهد التوضيح" وبيان مواضعها من "صحيح البخاري"

بسم الله الرحمن الرحيم [1] التنبيه على الأحاديث التي ذكرها ابن مالك في "شواهد التوضيح" وبيان مواضعها من "صحيح البخاري" 1) ص2 س10 (¬1) (1/ 4) (¬2): قول ورقة بن نوفل: يا ليتني .. إلخ. - أوائل الصحيح، باب بدء الوحي [3] (¬3). 2) ... (¬4) (7/ 2): ألا ليت شعري هل أبيتنَّ ليلةً. -[فضائل المدينة، باب [1889].] 3) ... (7/ 4): قول السائل عن أوقات الصلاة: ها أنا ذا. -[كتاب العلم، باب من سئل علمًا وهو مشتغل في حديثه ... [59].] 4) ص 8 س 10 (14/ 5): أحيٌّ والداك؟ ¬

_ (¬1) من الطبعة الهندية. (¬2) رقم الصفحة والسطر من طبعة الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي، وقد أضافه المؤلف فيما بعد بالقلم الأحمر. (¬3) رقم الحديث زيادة مني. (¬4) هذا الحديث والحديث الآتي قد استدركهما المؤلف من الطبعة المصرية، ولم تكن الطبعة الهندية بين يديه فلم يقيَّد رقم الصفحة والسطر منها.

- الجهاد، باب الجهاد بإذن الأبوين [3004]. 5) ص 8 س 13 (14/ 11): من يقم ليلة القدر. - انظر: الإيمان, باب قيام ليلة القدر من الإيمان [35]. 6) ص 8 س 14 (14/ 12): قول عائشة: متى يقم مقامك رقَّ. - الأنبياء، باب قول الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ} إلخ [3384]. 7) ص 11 س 15 (17/ 19): قول أبي جهل - لعنه الله - لصفوان (¬1): متى يراك. - المغازي، باب ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2) من يقتل ببدر [3950]. 8) ص 11 س 17 (18/ 11): إذا أخذتما مضاجعكما. - فضائل الصحابة, باب مناقب علي رضي الله عنه (¬3) [3705]. 9) ص 12 س 2 (19/ 1): قول عائشة رضي الله عنها: إن أبا بكر ... متى يقوم ... - الجماعة، باب الرجل يأتمُّ بالإمام [713]. 10) ص 13 س 4 (20/ 11): من أكل ... فلا يغشانا. - الصلاة (قبل الجمعة بأبواب)، باب ما جاء في الثوم [854]. 11) ص 13 س 9 (21/ 6): قول عائشة: ... إن يقم مقامك يبكي. ¬

_ (¬1) صوابه: لأبي صفوان [المؤلف]. (¬2) في الأصل هنا وفي المواضع الآتية حرف الصاد فقط. (¬3) في الأصل: "رض".

- الجماعة، باب من أسمع الناس تكبير الإمام [712]. 12) ص 13 س 11 (21/ 8): فليصلي بالناس. - الجماعة، باب حد المريض أن يشهد الجماعة خ 1/ 129 [664]. 13) ص 15 س 6 (24/ 7) (¬1): قول سهل بن سعد: فأعطاه إياه. - الشرب (عقب المزارعة)، باب من رأى صدقة الماء إلخ [2351]. 14) ص 15 س 7 (24/ 9): وقول هرقل: كيف كان قتالكم إلخ. - أول الصحيح، باب بدء الوحي [7]. 15) ص 15 س 8 (24/ 10 - 11): قول المرأة: إني نسجت إلخ وقول القوم. - اللباس، باب البرود والحبر والشملة [5810]. 16) ص 17 س 7 (28/ 2): إن يكنه. - الجنائز، باب إذا أسلم الصبي [1354]. 17) ص 18 س 11 (29/ 13): ما من الناس إلخ. - الجنائز، باب فضل من مات له ولد [1248]. وانظر: الجنائز أيضًا، باب ما قيل في أولاد المسلمين [1381]. ¬

_ (¬1) هذا الحديث وما بعده في ص (24) كتب بإزائها: 24/ 7 - 11، ففضّلناه.

18) ص 19 س 7 (30/ 8): قول الخضر عليه السلام (¬1): يا موسى إني إلخ. - العلم، باب ما يستحب للعالم [122]. وانظر: التفسير، تفسير سورة الكهف [4725]. 19) ص 19 س 11 (30/ 12): فإنَّ الله ملَّككم إياهم إلخ (¬2). 20) ص 20 س 7 (31/ 13): انتدب الله لمن إلخ. - الإيمان, باب الجهاد من الإيمان [36]. 21) ص 20 س 17 (34/ 7): قول عائشة: إنما كان إلخ. - الحج، باب المحصب [1765]. 22) ص 23 س 2 (35/ 15): أليس ذو الحجة. - الحج، باب الخطبة أيام منى [1741]. 23) ص 23 س 3 (36/ 1): قول أبي بكر رضي الله عنه: بأبي شبيه بالنبي. - فضائل الصحابة, باب مناقب الحسن والحسين رضي الله عنهما [3540]. ¬

_ (¬1) في الأصل حرف العين فقط. (¬2) أثبت الشيخ رقم الحاشية في الأصل، ولكن لم يكتب الحاشية. والحديث ليس في الصحيح، ولم أجده بهذا اللفظ إلا في "الإحياء" (2/ 219) وكتب ابن مالك والكتب الصادرة عنها. انظر مثلًا: "شرح التسهيل" (1/ 153) و"أوضح المسالك" (1/ 97).

24) ص 24 س 11 (37/ 17): سئل (¬1): كم اعتمر النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: أربع. - العمرة، باب كم اعتمر النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ [1778]. 25) ص 25 س 6 (39/ 4): أربعين يومًا (¬2). [ص 2] 26) ص 26 س 14 - 15 (41/ 6): قول عبد الله ... لم يحرم. - الحج، أبواب المحصر وجزاء الصيد، باب لا يشير المحرم ... [1824]. 27) ص 26 س 16 (41/ 7): كل أمتي معافى إلا - الأدب، باب ستر المؤمن على نفسه [6069]. 28) ص 28 س 302 (42/ 18): ما للشياطين من سلاح (¬3). 29) ص 28 س 7 - 8 (43/ 5): ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله. - التوحيد، باب قول الله تعالى: {عَالِمِ الْغَيْبِ} إلخ [7379]. 30) ص 29 س 3 - 4 (44/ 10): كقول (¬4) بعض الصحابة رضي الله عنهم: إذا رجل يصلي. ¬

_ (¬1) في الأصل: "ل" فقط. (¬2) هذه الرواية في "مسند أحمد" ج 4 ص 181 [المؤلف]. (¬3) "مسند أحمد" (5/ 163) [المؤلف]. (¬4) في الأصل: "لقول".

- انظر: العمل في الصلاة، باب إذا انفلتت الدابة (¬1) [1211]. 31) ص 29 س 4 - 5 (44/ 12): وكقول عائشة ... وبرمةٌ على النار. - النكاح، باب الحرة تحت العبد [5097]. 32) ص 29 س 5 - 6 (45/ 1): ومثله: فدخل وحبلٌ ممدود. - التهجد، باب ما يكره من التشديد [1150]. لكن لفظه: "ودخل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإذا حبل ممدود". ولمسلم في الصلاة، باب أمر من نعسى في صلاته إلخ: "دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسجد، وحبل ممدود" [784]. 33) ص 30 س 12 (47/ 7): قول أبي برزة رضي الله عنه: غزوت مع النبي - صلى الله عليه وسلم -. - العمل في الصلاة، باب إذا انفلتت الدابة [1211]. 34) ص 32 س 8 - 9 (49/ 10): إن الله حرَّم عليكم. - الاستقراض، باب ما ينهى عن (¬2) إضاعة المال [2408]. 35) ص 32 س 16 (50/ 5) (¬3): قول عبد الله بن بسر: إن كنَّا فرغنا. - كتاب العيدين، باب التبكير للعيد [قبل 968]. 36) ص 32 س 16 (50/ 6): وايم الله لقد كان خليقًا. ¬

_ (¬1) لكن الكلمة هناك من قول الأزرق بن قيس، وهو تابعي [المؤلف]. (¬2) في الأصل: "من". (¬3) في الأصل بإزاء أربعة أحاديث هذا أولها: "50/ 5 - ".

- المغازي، غزوة زيد بن الحارثة [4250]. 37) ص 33 س 1 - 2 (50/ 8): قول معاوية رضي الله عنه: إن كان من أصدق. - الاعتصام، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا تسألوا أهل الكتاب [7361]. 38) ص 33 س 2 - 3 (50/ 10): وقول نافع: كان ابن عمر رضي الله عنه يعطي إلخ. - الزكاة، باب صدقة الفطر على المملوك [1511]. 39) ص 35 س 4 (53/ 4): إنما مثلكم واليهود. - الإجارة، باب الإجارة إلى صلاة العصر [2269]. 40) ص 38 س 14 (57/ 14): قول أبي هريرة رضي الله عنه: فلما قدم. - انظر: الكفالة، باب الكفالة في القرض والديون [2291]. 41) ص 39 س 4 (58/ 4): فقرأ العشر آيات. - انظر: العمل في الصلاة، باب الاستعانة باليد [1198]. 42) ص 40 س 12 (60/ 6): قول أم عطية رضي الله عنها: أمرنا أن إلخ - الصلاة، باب وجوب الصلاة في الثياب [351]. 43) ص 40 س 16 - 17 (60/ 11): قول الراوي: ومسح أذنيه إلخ (¬1). ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (ص 39)، "سنن أبي داود". [المؤلف] الإحالة على "سنن أبي داود" بالقلم الأحمر لأنه استفادها من الطبعة المصرية. والحديث فيها برقم (123).

44) ص 41 س 6 - 7 (61/ 5): إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه (¬1). 45) ص 41 س 11 (62/ 3): من أفرى الفرى. - التعبير، باب من كذب في حلمه [7043]. 46) ص 41 س 14 (62/ 8): قول عمر رضي الله عنه: إذا وسع الله عليكم إلخ. - الصلاة، باب الصلاة في القميص والسراويل [365]. 47) ص 42 س 8 (63/ 10): تصدَّق امرؤ من ديناره إلخ (¬2). 48) ص 42 س10 (63/ 13): اسق يا زبير ثم أرسل إلخ. - الشرب (عقب المزارعة)، باب فضل سقي الماء (¬3) [2359، 2360]. 49) ص 43 س 7 (65/ 7): يا عائشة لولا قومك. - انظر: العلم، باب من ترك بعض الاختيار [126]. 50) ص 44 س 9 (66/ 11): قول عبد الرحمن ... إني ذاكر إلخ. - الصوم، باب الصائم يصبح جنبًا [1926]. 51) ص 45 س 5 (67/ 11): عذبت امرأة في هرة. ¬

_ (¬1) الموطأ في أبواب اللباس، باب ما جاء في إسبال الرجل ثوبه [1631]. (¬2) صحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة [1017]. (¬3) كذا في الأصل، والصواب: باب سكر الأنهار.

- انظر: الشرب (عقب المزارعة)، باب سكر الأنهار (¬1) [2365]. 52) ص 45 س 12 (68/ 6): إنهما ليعذَّبان. - الوضوء، باب من الكبائر أن لا يستتر [218]. 53) ص 46 س 2 (69/ 3): ما أحب أن (¬2) يحوَّل إلخ. - انظر: الاستقراض، باب أداء الديون [2388]. 54) ص 47 س 2 (70/ 60): لو كان لي مثل أحد إلخ. - الاستقراض، باب أداء الديون [2389]. 55) ص 48 س 1 (71/ 13): المرء مجزيٌّ بعمله (¬3). 56) ص 48 س 15 (72/ 14): قول ابن عمر رضي الله عنهما: رأيت إلخ. - انظر: الحج، باب قول الله تعالى: {يَأْتُوك} [1514]. 57) ص 49 س 10 (73/ 16): هن لهن ولمن. - انظر: الحج، باب مهلّ أهل الشام (¬4) [1526]. ¬

_ (¬1) كتب أولًا: "باب فضل سقي الماء" - وهو الصواب - ثم ضرب عليه وكتب ما ترى. (¬2) كذا في الأصل. وفي الصحيح والطبعة المصرية من الشواهد: "أنه". (¬3) لم أجده. وفي عدد من الكتب النحوية: "الناس مجزيُّون بأعمالهم إلخ". بيَّض له السخاوي في المقاصد الحسنة [المؤلف]. ذكره السخاوي في رسم "الجزاء من جنس العمل" وقال: "أخرجه ابن جرير في تفسيره عن ابن عباس موقوفًا". "المقاصد" (208). وانظر: "تفسير ابن جرير - طبعة شاكر" (1/ 156). (¬4) الأولى أن يحال على "باب مهل أهل مكة للحج والعمرة" [1524] لأن لفظه في الباب الآخر: "فهنَّ ... ".

58) ص 50 س 10 (75/ 2): اللهم رب السماوات إلخ (¬1). 59) ص50 س 13 (75/ 6): لا دريت ولا تليت. - الجنائز، باب ما ذكر في عذاب القبر [1374]. 60) ص50 س 13 (75/ 6): أخذه ما قدُمَ وما حدُثَ (¬2). 61) ص50 س 15 (75/ 10): فانطلقنا إلى ثقب. - الجنائز، "باب" عقب باب ما قيل في أولاد المشركين [1386]. 62) ص 52 س 3 (77/ 6): مثل المهجِّر. - الجمعة، باب الاستماع إلى الخطبة [929]. 63) ص 52 س 8 (77/ 13): فجعل كلما جاء. - الجنائز، "باب" عقب باب ما قيل في أولاد المشركين [1386]. 64) ص 52 س 9 (78/ 1): وقول الصاحب: فجعل الرجل إلخ. - التفسير - سورة الشعراء، باب {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [4770]. 65) ص 52 س 10 (78/ 3): وقول أنس: فما جعل يشير إلخ. - الاستسقاء، باب من تمطر في المطر [1033]. ¬

_ (¬1) عمل اليوم والليلة لابن السنَّي (ص 167)، باب ما يقول إذا رأى قرية [المؤلف]. (¬2) انظر: "نهاية ابن الأثير" (ح د ث) و"سنن أبي داود"، الصلاة باب ردِّ السلام في الصلاة [925] عن ابن مسعود بلفظ: "فأخذني ما قدم وما حدث" [المؤلف].

66) ص 52 س 11 (78/ 4): كان أبو بكر لا يكاد يلتفت إلخ. - الصلح (أوَّله). [2690]. 67) ص52 س 13 (78/ 6): فعلِقَت الأعراب إلخ. - الجهاد، باب الشجاعة في الحرب [2821]. والخمس، باب ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعطي المؤلَّفة [3148]. 68) ص 54 س 3 (80/ 10): ومن كانت هجرته إلخ. - (أوَّل الصحيح). 69) ص 54 س 4 (81/ 1): قول أبي ذر: ولا، والله إلخ. - الزكاة، باب ما أُدِّي زكاتُه فليس بكنز [1408]. 70) ص 54 ص 17 (82/ 3): ولكن خوَّة الإسلام. - المساجد، باب الخوخة والممرّ في المسجد [466]. 71) ص 56 س 3 (84/ 3): أسرعوا بالجنازة إلخ. - الجنائز، باب السرعة بالجنازة [1315]. 72) ص 56 س 11 (84/ 11): فإن في إحدى جناحيه. - بدء الخلق (آخره)، باب إذا وقع الذباب [3320]. وكذا في كتاب الطب (آخره) [5782]. 73) ص 58 س 1 (86/ 12): قول ابن عباس (¬1) ... ¬

_ (¬1) المعروف أنه قول ابن مسعود، كما في الصحيح [المؤلف]. يعني كما ورد صريحًا في الحديث الذي قبله [4816]. وانظر: "شرح القسطلاني" (7/ 329). ولم يتنبه =

- انظر: التفسير - حم السجدة، باب في {ذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ} (¬1) [4817]. 74) ص 58 س 10 (87/ 3): أن الحسن أو الحسين إلخ. - كتاب الزكاة، باب أخذ صدقة التمر عند صرام النخل [1485]. 75) ص 59 س 15 (89/ 2): يا أبا ذر. - انظر: الإيمان, باب المعاصي من أمر الجاهلية [30]. 76) ص 59 س 16 (89/ 5): أتاني جبريل فبشَّرني. - التوحيد، باب كلام الرب تعالى مع جبريل [7487]. 77) ص 60 س 1 (89/ 9): ابن عباس أنَّ رجلًا. - الصوم، باب من مات وعليه صوم [1953]. 78) ص 60 س 3 - 4 (89/ 14): لو أنَّ نهرًا. - الصلاة، باب الصلوات الخمس كفارة [528]. 79) ص 60 س 5 (90/ 1): وقول حمران: ثم أدخلَ. - انظر: الوضوء، باب الوضوء ثلاثًا ثلاثًا [159]. [ص 4] 80) ص 60 س 6 (90/ 3): وقول عائشة رضي الله عنها: ثم يصب إلخ. ¬

_ = على ذلك الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي ولا محققا الكتاب بعده. انظر نشرة طه محسن (145) ونشرة عبد الله ناصير (136). (¬1) كذا في الأصل. وفي طبعة الصحيح التي بين يديَّ: "باب {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ} ".

- الغسل، باب الوضوء قبل الغسل [248]. 81) ص 60 س 13 [90/ 9] (¬1): قول أم عطية: [جعلن رأس بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة قرون]. - الجنائز، باب نقض الشعر [2260]. 82) ص 62 س 10 (92/ 13): آلبرَّ تقولون. - الاعتكاف، باب الأخبية في المسجد [2034]. 83) ص 62 س 11 - 12 (92/ 14): البرَّ ترون بهن. - الاعتكاف، باب اعتكاف النساء [2033]. 84) ص 62 س 13 - 14 (93/ 3): قول أبي جحيفة رضي الله عنه: خرج إلخ. - أبواب سترة المصلي، باب الصلاة إلى العنزة [499]. 85) ص 63 ص 6 - 7 (93/ 15): من كان عنده إلخ. - مواقيت الصلاة (الباب الأخير منه) (¬2) [602]. 86) ص 63 س 16 (94/ 7): صلاة الرجل في الجماعة. - الجماعة، باب فضل صلاة الجماعة [647]. 87) ص 64 س 5 - 6 (94/ 15): فغدًا لليهود. ¬

_ (¬1) فات المؤلف أن يقيَّد هنا رقم الصفحة والسطر من الطبعة المصرية، وكذلك قول أم عطية, لأنه أضافه فيما بعد بين السطرين. (¬2) وهو باب السمر مع الضيف.

- الجمعة، باب هل على من لم يشهد [896]. 88) ص 64 س 15 - 16 (95/ 14): قول عائشة رضي الله عنها: شبهتمونا. - أبواب سترة المصلي، باب مَن قال: لا يقطع الصلاة شيء [514]. 89) ص 65 س 9 - 10 (97) (¬1): قول بعض الصحابة: وفرَّقنا إلخ. - انظر: مواقيت الصلاة، باب السمر مع الضيف (¬2) [602]. الأنبياء، باب علامات النبوة في الإسلام [3581]. 90) ص 65 س 14 - 15 (97): قول ابن مسعود: أنت أبا جهل. - المغازي، باب قتل أبي جهل [3963]. 91) ص 65 س 16 - 17 (97): قول أم رومان: بينا أنا. - الأنبياء، باب قول الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ} [3388]. 92) ص 66 س 6 (98/ 9): قول عمر رضي الله عنه: ما كدت أن أصلي العصر. - انظر: المغازي، باب غزوة الخندق [4112]. 93) ص 66 س 7 (98/ 11): وقول أنس: فما عندنا أن نصل. ¬

_ (¬1) وضع قبل هذا الحديث والحديثين بعده قوسًا واحدًا طويلًا واكتفى بذكر رقم الصفحة من الطبعة المصرية. (¬2) أحال أولًا على كتاب الأنبياء فقط، ثم أضاف فوقه الإحالة على مواقيت الصلاة، وكتب إزاءهما: انظر.

- الاستسقاء، باب الاستسقاء على المنبر [1015]. 94) ص 66 س 8 (99/ 1): قول بعض الصحابة: والبرمة بين الأثافي إلخ. - المغازي، باب غزوة الخندق [4101]. 95) ص66 س 9 (99/ 2): قول جبير بن مطعم: كاد قلبي أن يطير. - التفسير، تفسير سورة الطور [4854]. 96) ص 68 س 1 (102/ 6): أوحي إلى أنكم تفتنون إلخ. - الكسوف، باب صلاة النساء مع الرجال [1053]. 97) ص 69 س 1 - 2 (103/ 10): مثل أو قريبًا ... في حديث دخول ابن عمر (¬1). 98) ص 69 س 4 (104/ 3): يا رُبَّ كاسية إلخ. - التهجد، باب تحريض النبي - صلى الله عليه وسلم - على قيام الليل [1126]. 99) ص 71 س 4 (107/ 3): نعم المنيحة اللقحة. - الهبة، باب فضل المنيحة [2629]. 100) ص 71 س 5 (107/ 4): وقول امرأة عبد الله بن عمرو إلخ. - فضائل القرآن، باب في كم يقرأ القرآن [5052]. ¬

_ (¬1) في "صحيح البخاري"، كتاب المساجد، "باب" عقب باب الصلاة بين السواري [506]. وفيه: "قريبًا من ثلاث أذرع"، ليس فيه لفظ "مثل أو". وكذلك في الحج، باب الصلاة في الكعبة [1599]. [المؤلف].

101) ص 71 س 7 - 8 (107/ 5): وقول الملك: ونعم المجيء جاء. - المبعث، باب المعراج [3887]. بدء الخلق، باب ذكر الملائكة (¬1) [3207]. 102) ص 73 س 6 (110/ 11): قول بعض الصحابة رضي الله عنهم. - صفة الصلاة، باب عقد الثياب وشدِّها [814]. 103) ص 73 س 8 (110/ 13): وقول صاحبة المزادتين. - التيمم، باب الصعيد الطيب [344]. 104) ص 74 س 11 (112/ 7): فقلنا لمسروق: سَلْه. - الصوم، باب الصوم كفارة [1895]. 105) ص 74 س 13 (112/ 11): اجتنبوا الموبقات. - الطب، باب الشرك والسحر من الموبقات [5764]. 106) ص 74 س 15 (112/ 13): كنت وأبو بكر وعمر إلخ. - فضائل الصحابة, باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: لو كنت متخذًا خليلًا [3677]. 107) ص 74 س 16 (112/ 16): قول عمر رضي الله عنه: كنت وجارٌ لي إلخ. - المظالم، باب الغرفة [2468]. ¬

_ (¬1) الإحالة على بدء الخلق زادها بالقلم الأحمر فوق السطر، والظاهر أنه استفادها من الطبعة المصرية.

108) ص 74 س 17 (113/ 1): اسكن فما عليك إلخ. - انظر: فضائل الصحابة, باب مناقب عثمان رضي الله عنه [3699]. [ص 5] 109) ص 75 س 1 (113/ 3): قول ابن عباس رضي الله عنهما: كل ما شئت. - اللباس (أوَّله). 110) ص 76 س 17 (116/ 8): ما العمل في أيام إلخ. - انظر: العيدين، باب فضل العمل في أيام التشريق [969]. 111) ص 78 س 5 (118/ 6): فهل أنتم صادقوني. - الطب، باب ما يذكر في سمِّ النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1) [5777]. 112) ص 78 س 15 (119/ 4): غير الدجال أخوفني إلخ (¬2). 113) ص 79 س 2 (119/ 11): قول ابن عمر ... لما فتح. - الحج، باب ذات عرق لأهل العراق [1531]. 114) ص 79 س 13 (120/ 8): قول أبي شريح: سمعت أذناي. - انظر (1) العلم (2) والحج (3) والمغازي، (1) باب ليبلغ العلم إلخ، (2) باب لا يعضد شجر الحرم، (3) عقب باب منزل النبي ¬

_ (¬1) هنا كتب المؤلف الصلاة والسلام كاملًا. (¬2) "صحيح مسلم"، كتاب الفتن، باب ذكر الدجال وصفته [2936]. [المؤلف].

- صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح [104، 1832, 4295] (¬1). 115) ص 81 س 4 - 5 (121/ 18): قول بعض الصحابة رضي الله عنهم: جاء جبريل إلخ. - المغازي، باب شهود الملائكة بدرًا [3992]. 116) ص 82 س 1 (123/ 3): قول عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: ولم يختص إلخ. - أبواب الخمس، باب ومن الدليل على أن الخمس للإمام. [قبل 3140]. 117) ص 83 س 5 (125/ 6): قول عائشة رضي الله عنها: كان يصلي جالسًا. - أبواب تقصير الصلاة، باب إذا صلَّى قاعدًا ثم صح إلخ [1119]. 118) ص 84 س 12 (128/ 3): حتى يكون منهن ثلاثًا وثلاثين. - صفة الصلاة، باب الذكر بعد الصلاة [843]. 119) ص 85 س 5 (128/ 13): ولا تناجشوا ولا يزيدن. - الشروط، باب ما لا يجوز من الشروط في النكاح [2723]. 120) ص 85 س 6 - 7 (129/ 1): نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقيم. - الاستئذان، باب إذا قيل لكم تفسحوا [6270]. 121) ص 85 س 7 - 8 (129/ 3): نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيعتين. ¬

_ (¬1) وانظر: كتاب الأدب، باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره [6019].

- الصلاة، باب ما يستر من العورة [368]. 122) ص 85 س 10 (129/ 5): لا يزني الزاني. - انظر: الحدود (أوَّله) [6772]. المظالم، باب النهي بغير إذن صاحبه (¬1) [2475]. 123) ص 85 س 12 - 13 (129/ 9): مثلكم ومثل اليهود. - الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل [3459]. 124) ص 87 س 5 (131/ 7): أرأيتكم ليلتكم هذه. - العلم، باب السمر في العلم [116]. 125) ص 87 س 5 - 6 (131/ 9): قول عائشة: فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. - انظر: الشهادات، باب تعديل النساء بعضهن بعضًا [2661] (¬2). 126) ص 87 س 7 (131/ 11): قول أنس رضي الله عنه: فلم أزل أحبّ. - الأطعمة، باب من تتبع حوالي القصعة [5379]. باب من ناول أو قدَّم إلى صاحبه [5439]. 127) ص 87 س 8 (131/ 12): قول بعض الصحابة رضي الله عنهم: فمطرنا. - انظر: الاستسقاء، باب من اكتفى بصلاة الجمعة إلخ والذي يليه ¬

_ (¬1) استفاد الإحالة الثانية لهذا الحديث والحديث الآتي برقم [126] من الطبعة المصرية، فزادها بالقلم الأحمر. (¬2) وانظر: القسم الثالث (36).

[1016, 1017]. 128) ص 88 س 3 (133) (¬1): إنك إن تركت ورثتك. - انظر: الجنائز، باب رثاء النبي - صلى الله عليه وسلم - سعد بن خولة [1295]. 129) ص 88 س 4 (133): فإن جاء صاحبها إلخ. - اللقطة، باب هل يأخذ اللقطة ولا يدعها تضيع [2437]. 130) ص 88 س 5 (133): البيَّنة وإلَّا حدٌّ إلخ. - تفسير سورة النور، باب {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} الآية [4747]. 131) ص 89 س 9 (135): كقول عمر بن أبي سلمة: رأيت. - الصلاة، الصلاة في الثوب الواحد ملتحفًا به (¬2) [356]. 132) ص 90 س 9 (136): أما بعد، ما بال رجال. - البيوع، باب إذا اشترط في البيع شروطًا (¬3) لا تحل [2168]. 133) ص 90 س 11 (136): أما موسى كأني. - الحج، باب التلبية إذا انحدر في الوادي [1555]. 134) ص 90 س 12 (137): قول عائشة: وأما الذين. - الحج، باب طواف القارن [1638]. ¬

_ (¬1) من هنا إلى آخر هذا الجزء اكتفى بذكر رقم الصفحة من الطبعة المصرية وانظر ما سبق من التعليق على الحديث (89). (¬2) هذا الحديث وتخريجه أضافه المؤلف بالقلم الأحمر. (¬3) كذا في الأصل. ولفظه في "الصحيح": " ... اشترط شروطًا في البيع".

135) ص 90 س 13 - 14 (137): وقول البراء ... أما رسول الله إلخ. - الجهاد، باب من قال: خذها وأنا ابن فلان [3042]. [ص 6] 136) ص 91 س 8 (138): لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب إلخ. - العلم، باب الإنصات للعلماء [121]. 137) ص 91 س 9 (138): لا يتمنَّ أحدكم الموت إلخ. - انظر: التمني، باب ما يكره من التمني [7235]. 138) ص91 س 11 (138): ليس صلاة أثقل إلخ. - الصلاة، باب فضل صلاة العشاء في الجماعة [657]. 139) ص 91 س 11 - 12: قول عمر رضي الله عنه: ليس هذا أريد. - مواقيت الصلاة، باب الصلاة كفارة [525]. 140) ص 91 س 12: قول ابن عمر رضي الله عنهما: كان المسلمون إلخ. - الأذان، باب بدء الأذان [604]. 141) ص 91 س 14 (139): السائب بن يزيد رضي الله عنه: كان الصاع إلخ. - الاعتصام، باب ما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - وحض إلخ [7330]. 142) ص 94 س 1 (142): يوشك أن يكون خير مال المسلم. - الإيمان, باب من الدين الفرار من الفتن [19]. 143) ص 94 ص 1 - 2 (142): قول أبي بكر ... وما عسيتم أن إلخ. - المغازي، باب غزوة خيبر (قبيل آخره) [4241].

144) ص 94 س 3 (142): كان أبو بكر لا يكاد يلتفت إلخ. - الصلح (أوَّله) [2690]. 145) ص 94 س 4 (142): قول أنس رضي الله عنه: فما جعل يشير. - الاستسقاء، باب من تمطر في المطر (¬1) [1033]. 146) ص 94 س 5 - 6 (143): في حديث جبير بن مطعم: فعلقت الأعراب إلخ. - الجهاد، باب الشجاعة في الحرب [2821]. 147) ص 94 س 7 (143): قول عائشة: لقد رأيتنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2) 148) ص 94 س 8 - 9 (143): قول حذيفة رضي الله عنه: رأيتني أنا ورسول الله (¬3). 149) ص 95 س 1 (144): يوشك الرجل متكئًا (¬4). 150) ص 96 س 16 - 17: وإن بين عينيه مكتوب. - الفتن، باب ذكر الدجال [7131]. ¬

_ (¬1) هذه الإحالة استفادها المؤلف من الطبعة المصرية واستبدلها بإحالته على "الجمعة، باب الاستسقاء في الخطبة يوم الجمعة". (¬2) لم أجده بهذا اللفظ في "صحيح البخاري". وأصل الحديث فيه في مواضع منها في كتاب الرقاق، باب كيف كان عيش النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم. [المؤلف] (¬3) لم أجده في "صحيح البخاري"، وإنما وجدت فيه قول حذيفة: "رأيتني أنا والنبي - صلى الله عليه وسلم - نتماشى إلخ. كتاب الطهارة باب البول عند صاحبه [225]. [المؤلف]. (¬4) سنن ابن ماجه في أوائله، باب تعظيم حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[12]. [المؤلف].

151) ص 97 س 1 (147): لعله أن يخفف عنها (¬1). - الوضوء، باب من الكبائر أن لا يستتر [216]. وفيه: "عنهما" (¬2). 152) ص 97 س 2 (147): فإنَّ أحدكم إذا صلَّى. - الوضوء، باب الوضوء من النوم [212]. 153) ص 97 س 3 (147): قول البراء رضي الله عنه: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -إلخ. - انظر: المغازي، باب قوله تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} [4317]. 154) ص 97 س 4 - 5 (147): قول أم حبيبة رضي الله عنها: إني كنت. - الجنائز، باب إحداد المرأة على غير زوجها [1280]. 155) ص 97 س 10 (148): إن لنفسك حق. - انظر: التهجُّد، "باب" عقب باب ما يكره من ترك قيام الليل [1153]. 156) ص 97 س 11 (148): إنَّ من أشدِّ الناس عذابًا إلخ (¬3). ¬

_ (¬1) لم أجده في "صحيح البخاري"، وإنما وجدت فيه: "لعله أن يخفف عنهما". وهو في مواضع، منها في الطهارة، باب من الكبائر أن لا يستتر من بوله. [المؤلف]. (¬2) الظاهر أن المؤلف بعد ما كتب الحاشية السابقة أضاف هذه الإحالة في المتن أيضًا. (¬3) هذه الرواية في "صحيح مسلم"، كتاب اللباس، باب لا تدخل الملائكة بيتًا [2109] لكن بلفظ "إن من أشد أهل النار" إلخ [المؤلف]. الرواية المذكورة في "سنن النسائي" [5364].

157) ص 97 س 13 (148): لعلَّ نزَعها عرقٌ. - الطلاق، باب إذا عرَّض بنفي الولد (¬1) [5305]. 158) ص 99 س 3 (150): قول عمر رضي الله عنه: فما هو إلا أن سمعت إلخ. - انظر: المغازي، باب مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - ووفاته [4454]. 159) ص 100 س 12 (152): هو لها صدقة إلخ. - الزكاة، باب ما يذكر في الصدقة للنبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2) [1493]. 160) ص100 س 13 (152): ما تركنا صدقة. - فرض الخمس (أوَّله) [3093]. 161) ص 100 س 13 (153): نحن الآخرون. - الأنبياء، (قبيل) باب المناقب [3486]. 162) ص100 س 15 (153): قول أبي هريرة رضي الله عنه: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلخ. - المغازي، باب غزوة خيبر [4238]. 163) ص 100 س 16 (153): "في مكان ثَرْيان". - تفسير سورة الكهف، باب قوله [61]: {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا} [4726]. ¬

_ (¬1) هذا الحديث وتخريجه زاده المؤلف بالقلم الأحمر من الطبعة المصرية. (¬2) بل في الباب الذي بعده، وهو باب الصدقة على موالي أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -.

164) ص 100 س 17 (153): "اللهم سبعًا كسبع يوسف". - الاستسقاء، باب دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -: اجعل (¬1) [1007]. [ص 7] 165) ص 101 س 1 (153): من اصطبح بسبع تمرات. - انظر: الطب، باب الدواء بالعجوة [5768]. 166) ص 101 س 2 (153): ويلمِّه مسعر حرب. - انظر: الشروط، باب الشروط في الجهاد إلخ [2731 - 2732]. 167) ص 101 ص 14 (154): نحن الآخرون (¬2). - الجمعة، أوَّلَه (¬3) [876]. 168) ص 102 س 11 (156): لا يحل لامرأة تؤمن بالله إلخ. - الجنائز، باب إحداد المرأة على غير زوجها [1280]. 169) ص 102 س 12 (156): لا يحل لامرأة تسأل إلخ. - النكاح، باب الشروط التي لا تحلُّ في النكاح [5152]. 170) ص 104 س 11 (158): الصبح أربعًا. - الصلاة، باب إذا أقيمت الصلاة، فلا صلاة [663]. ¬

_ (¬1) كذا في الأصل. وفي "الصحيح": "اجعلها ... ". (¬2) هذا الحديث وتخريجه أضافه فيما بعد بالخط الأحمر. (¬3) كذا في الأصل دون قوسين، خلافًا لما سبق في أمثاله.

171) ص 104 س 11 - 12 (158): قول بعض الصحابة: الصلاة يا رسول الله. - الحج، باب النزول بين عرفة وجمع [1669]. 172) ص 104 س 12 (158): قول عمر رضي الله عنه: إياي ونعم إلخ. - الجهاد، باب إذا أسلم قوم في دار الحرب [3059]. 173) ص 104 س 13 (158): قول الملك في النوم لعبد الله بن عمر إلخ. - انظر: فضائل الأصحاب، باب مناقب عبد الله بن عمر [3738]. 174) ص 104 س 14 - 15 (158): بما أهللت. - الحج، باب من أهلَّ في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - كإهلال إلخ [1558]. 175) ص 104 س 15 (159): ليأتينَّ على الناس زمان. - البيوع، باب قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا} [2083]. 176) ص 104 س 16 - 17 (159): قول سهل بن سعد ... إني لأعرف. - انظر: الجمعة، باب الخطبة على المنبر [917]. 177) ص 105 س10 [159] (¬1): إياي وأن يحذف أحدكم الأرنب (¬2). 178) ص 105 س 12 [160]: قوموا، فلأصلِّ بكم. ¬

_ (¬1) هنا وفي الحديث الذي يليه نسي ذكر الصفحة من الطبعة المصرية. (¬2) كذا وضع الرقم هنا وفي الحاشية اليمنى، ولم يخرَّج. وهو من قول عمر، وبهذا اللفظ أخرجه ابن عساكر بإسناده عنه في "تاريخ دمشق" (44/ 20).

- الصلاة، باب الصلاة على الحصير [380]. 179) ص 107 س 1 (162): لا يبولن أحدكم في الماء الدائم. - الطهارة، باب البول في الماء الدائم [239]. 180) ص 107 س 2 (162): قد كان من قبلكم. - انظر: المبعث، باب ما لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه [3852]. 181) ص 107 س 3 (162): ليرد عليَّ أقوام إلخ. - الفتن (أوَّله) [7050 - 7051]. 182) ص 107 س 4 - 5 (163): والذي نفسي بيده وددت. - التمني (أوَّله) [7227]. 183) ص 107 س 6 - 7 (163): قول ابن مسعود: والذي لا إله غيره. - الحج، باب رمي الجمار من بطن الوادي [1747]. 184) ص 107 س 8 (163): قول أبي بكر رضي الله عنه: يا رسول الله، والله أنا كنتُ إلخ. - فضائل الصحابة, "باب" ضمن باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لو كنت متخذًا خليلًا" [3661]. 185) ص 107 س 9 (163): فهل أنتم تاركو لي صاحبي. - فضائل الصحابة, "باب" ضمن باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لو كنت متخذًا خليلًا" [3661]. 186) ص 107 س 9 - 10 (163): قول أبي بكر: لاها الله إذًا.

- فرض الخمس، باب من لم يخمس الأسلاب [3142]. 187) ص 107 س 11 (163): وقوله: كلَّا، والله لا يعطيه (¬1) إلخ. - انظر: المغازي، باب قول الله تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} [4322]، والأحكام، باب الشهادة تكون عند الحاكم [7170] (¬2). 188) ص 107 س 12 - 13 (164): قول سعيد بن زيد رضي الله عنه: أشهد لسمعتُ. - بدء الخلق (أوائله) (¬3) باب ما جاء في سبع أرضين [3198]. 189) ص 107 س 14 - 15 (164): قول الأشعث بن قيس: لفيَّ والله نزلَتْ. - الرهن، باب إذا اختلف الراهن والمرتهن [2516]. 190) ص 108 س 11 (165): وقيصر ليهلكن. - الجهاد، باب الحرب خدعة [3027]. 191) ص 111 س 13 (169): قول خبَّاب: فلم يترك إلا نمرة إلخ. - المغازي، باب من قتل من المسلمين يوم أحد [4082]. ¬

_ (¬1) كذا في الأصل. وفي طبعات الكتاب: "لا نعطيه". وفي "الصحيح" في الموضعين: "كلَّا، لا يُعطِه". (¬2) في الأصل ذكر الكتابين في خانة الكتاب برقم (1, 2) ثم البابين كذلك في خانة الباب، فإن الأصل - كما سبق في المقدمة - مرتَّب على الجدول. (¬3) كتب أولًا بين القوسين (أوَّل باب صفة) ثم لما نظر في الطبعة المصرية عدَّل ما بين القوسين وأضاف عنوان الباب.

192) ص 111 س 14 (169): مُرَّ بجنازة فأُثني عليها خيرًا (¬1). - الجنائز، باب ثناء الناس على الميت [1368]. [ص 8] 193) ص 112 س 13 - 14 (170): قول عقبة بن عامر رضي الله عنه ... إنَّك تبعثنا. - المظالم، باب قصاص المظلوم [2461]. 194) ص 112 س 15 (171): قول ابن عباس والمسور إلخ. - (أواخر) الصلاة، باب إذا كُلِّم وهو يصلي، فأشار بيده [1233]. وفي المغازي، باب وفد عبد القيس [4370]، وهي في الموضعين نسخة ببعض رموز الصحيح، وللأكثر: "تصلَّينهما" (¬2). 195) ص 112 س 17 (171): قول مسروق لعائشة: لم إلخ. - المغازي، باب حديث الإفك [4146]. 196) ص 114 س 6 - 7 (174): قول أمِّ حارثة ... ترى ما أصنع. - الرقاق، باب صفة الجنة والنار [6550]. 197) ص 114 س 8 (174): فإمَّا لا، فلا تبايعوا. ¬

_ (¬1) في "صحيح البخاري": "على صاحبها"، ولا يخرجه ذلك عن الشاهد. (¬2) في كتاب ابن مالك: "تصلَّيهما"، وهي للأكثر في الموضعين. وفي متن اليونينية في الموضع الأول: "تصلَّينهما" وفي الموضع الثاني: "تصلَّيها".

- البيوع، باب بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها [2193]. 198) ص 116 س 7 - 8 (178): قول جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: الحمد لله إلخ. - التفسير، تفسير الإسراء (¬1) [4709] والأشربة (أوَّله) [5576]. 199) ص 116 س 8 - 9 (178): قول بعض الصحابة رضي الله عنهم: فادعُ الله يحبسها. - الاستسقاء، باب الدعاء إذا كثر المطر [1021]. 200) ص 116 س 9 - 10 (178): قول البراء رضي الله عنه: إذا رفع رأسه إلخ. - صفة الصلاة، باب رفع البصر إلى الإمام [747]. 201) ص 116 س 10 (178): قول ابن عباس رضي الله عنهما: إني خشيت إلخ. - انظر: الجمعة، باب الرخصة إن لم يحضر الجمعة في المطر [901]. 202) ص 116 س 11 - 12 (178): قول سعد: لقد اصطلح أهل هذه إلخ. - انظر: تفسير آل عمران، باب {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [4566]. 203) ص 116 س 17 [179]: قول رجل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلخ. ¬

_ (¬1) أضاف هذه الإحالة فوق السطر من الطبعة المصرية.

- انظر: الجنائز، باب موت الفجاءة البغتة [1388] (¬1). 204) ص 118 س 9 - 10 (181): وفي حديث الغار: فإذا وجدتهما (¬2). 205) ص 118 س 12 (182): قول عائشة رضي الله عنها: كانت إحدانا. - الحيض، باب مباشرة الحائض [302]. 206) ص 118 س 14 (182): قول عمر رضي الله عنه: وما لنا والرمل. - الحج، باب الرمل في الحج [1605]. 207) ص 118 س 16 (182): في حديث أبي عبد الرحمن أن عثمان إلخ. - الوقف، باب إذا وقف أرضًا أو بئرًا [2778]. 208) ص 120 س 14 (184): قول الملكين للنبي - صلى الله عليه وسلم -: الذي رأيته إلخ. - الأدب، باب قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [6096]. 209) ص 122 س 5 (186): قوموا فلأصلِّ لكم. ¬

_ (¬1) سيأتي هذا الحديث مرة أخرى في (ص 136)، وأحال هناك على كتاب الوصايا [2760]. (¬2) حديث الغار في "صحيح البخاري"، ولم أجد فيه هذا اللفظ، ولكن انظر: "كنز العمال" ج 7 ص 322. والحديث في "مسند أحمد" 142 وفيه: "حتى يستيقظا". وفي النسخة المخطوطة بمكتبة الحرم المكي: "حتى يستيقظان". إذن فما في "المسند" المطبوع من تغيير المصححين [المؤلف]. قول المؤلف: (142) يعني من ج 3 من "المسند". ومن الغريب أنه لا إشارة إلى نسخة "يستيقظان" في "المسند" طبعة مؤسسة الرسالة (19/ 438).

- الصلاة، باب الصلاة على الحصير [380]. 210) ص 122 س 6 - 7 (186): وقول عائشة رضي الله عنها: صلَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلخ. - الصلاة، باب إنما جعل الإمام ليؤتمَّ به [378]. 211) ص 123 س 15 - 16 (190): كن نساء المؤمنات يشهدن إلخ. - الصلاة، باب وقت الفجر [578]. 212) ص 123 س 17 (190): قول حارثة بن وهب: صلَّى بنا النبي - صلى الله عليه وسلم -. - الحج، باب الصلاة بمنى [1083]. 213) ص 124 س 1 - 2 (190): قول سالم: كان ابن عمر يقدِّم. - الحج، باب من قدَّم ضعفة أهله [1676]. 214) ص 124 س 2 - 3 (190): قول ابن عباس رضي الله عنهما: أنا ممن قدَّم. - الحج، باب من قدَّم ضعفة أهله [1678]. 215) ص 124 س 4 (190): قول عروة: أما إن جبريل. - انظر: بدء الخلق، باب ذكر الملائكة [3221]. 216) ص 124 س 5 (190): قول ابن مسعود رضي الله عنه (¬1): أقرأنيها. - انظر: الفضائل، باب مناقب عبد الله بن مسعود [3761]. ¬

_ (¬1) صوابه: "قول أبي الدرداء". وقد صرّح به في تفسير سورة الليل [المؤلف]. يعني الحديث [4944].

217) ص 124 س 6 - 7 (191): كل سلامى عليه صدقة. - الصلح، باب فضل الإصلاح بين الناس [2707] (¬1)؛ والجهاد، باب فضل من حمل متاع صاحبه [2891]. 218) ص 124 س 7 - 8 (191): بينما أنا نائم أطوف. - الأنبياء، باب {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ} [3441] (¬2)؛ والفتن، باب ذكر الدجال [7128]. 219) ص 124 س 9 (191) قول [سراقة بن] (¬3) مالك بن جعشم: يا نبي الله إلخ. - المبعث، باب هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم -[3911]. [ص 9] 220) ص 125 س 4 (192): يتعاقبون فيكم إلخ. - مواقيت الصلاة، باب فضل صلاة العصر [555]. 221) ص 125 س 4 (192): وكن نساء المؤمنات (¬4). - مواقيت الصلاة، باب وقت الفجر [578]. 222) ص 125 س 5 (192): قول أنس رضي الله عنه: كنَّ أمهاتي يحثُثْنني إلخ. ¬

_ (¬1) هذه الإحالة أضافها فوق السطر من الطبعة المصرية. (¬2) هذه الإحالة أيضًا أضافها من المصرية. (¬3) ساقط من كتاب ابن مالك، فأضافه المؤلف بين الحاصرتين. (¬4) هذا الحديث أضافه المؤلف من المصرية. وقد سبق برقم 211.

- انظر: النكاح، باب الوليمة حق (¬1) [5166]. 223) ص 127 س 9 (195): قول أنس رضي الله عنه: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي إلخ (¬2). - انظر: الصلاة في الثياب، باب الصلاة في النعال [386]. 224) ص 127 س 10 (195): قول الراوي: كان شريح يأمر إلخ. - المساجد، باب الاغتسال إذا أسلم [قبل 462]. 225) ص 127 س 11 (195): قول الآخر: وصُرِّفت الطرق. - الشفعة (أوَّله) [2257]. 226) ص 127 س 11 - 12 (195): وفي حديث جريج: نبني صومعتك إلخ. - المظالم، باب إذا هدم حائطًا فليبن مثله [2482]. 227) ص 127 س 13 (195): قول أنس رضي الله عنه: مرَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - إلخ. - البيوع، باب ما يتنزَّه من الشبهات [2055]. 228) ص 127 س 14 (196): قول عمر رضي الله عنه: لا ندخل كنائسهم إلخ. ¬

_ (¬1) لفظه هناك: "كنَّ أمهاتي يواظبنني"، لكن في صحيح مسلم، كتاب الأشربة، باب استحباب إدارة الماء إلخ [2029]: كنَّ أمهاتي يحثثنني" [المؤلف]. وقد كتب المؤلف هذه الكلمة في الأصل مهملةً البتة. وانظر ما يأتي في القسم الثالث (43). (¬2) انظر ما يأتي في القسم الثالث (45).

- المساجد، باب الصلاة في البِيعة [قبل 434]. 229) ص 129 س 7 - 8 (198): قول عمر رضي الله عنه: صلَّى رجل في إزار إلخ. - الصلاة في الثياب، باب الصلاة في القميص والسراويل [365]. 230) ص 129 س 10 - 11 (198): قول ابن عباس رضي الله عنهما: مرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلخ. - الوضوء، باب من الكبائر أن لا يستتر من بوله [216]. 231) ص 129 س 13 (198): يكفيك الوجه والكفين. - التيمم، باب التيمم للوجه والكفين [341]. 232) ص 129 س 14 (199): فإذا فيها حبائل اللؤلؤ. - الصلاة (أوَّله) [349]. 233) ص 129 س 14 - 15 (199) قول حفصة رضي الله عنها لأم عطية رضي الله عنها: أسمعتِ إلخ. - الحيض، باب شهود الحائض العيدين [324]. 234) ص 129 س 16 - 17 (199): قول عمر رضي الله عنه: أمرنا (¬1) ببنيان المسجد إلخ. - المساجد، باب بنيان المسجد [قبل 446]. ¬

(¬1) كذا في الأصل تبعًا لما جاء في الطبعة الهندية, والصواب: قول عمر رضي الله عنه آمرًا ببنيان المسجد: ... إلخ. انظر: طبعة دار البشائر (271).

235) ص 130 س 13 [200]: إذا أخذتما مضاجعكما (¬1). - الخمس، باب الدليل على أن الخمس إلخ [3113]. 236) ص 132 س 11 (203): يقول الله: أعددت. - التفسير، تفسير سورة الم السجدة [4779]. 237) ص 132 س 14 (204): رويدك وسوقك بالقوارير. - الأدب، باب ما يجوز من الشعر والرجز [6149]. 238) ص 132 س 15 (204): ولا الذهب بالذهب إلا ها وها. - انظر: البيوع، باب بيع الشعير بالشعير [2174]. 239) ص 132 س 15 - 16 (204): وقول عائشة رضي الله عنها: دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2). - الهبة، باب قبول الهدية [2579]. 240) ص 132 س 17 (204): وقولها (¬3): أقول ماذا. - انظر (¬4): التفسير - سورة النور، باب قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ} ¬

_ (¬1) هذا الحديث وتخريجه زيادة من الطبعة المصرية. (¬2) كذا في كتاب ابن مالك. وهذا قول أم عطية. والشاهد: "لا، إلا شيء بعثت به أم عطية"، وهو قول عائشة في هذا الحديث الذي روَتْه أم عطية. (¬3) الكلمة في الموضع المحال عليه من قول أمَّ رومان والدة عائشة رضي الله عنها. [المؤلف]. (¬4) لا فرق بين لفظ الحديث هنا وبينه في الموضع المحال عليه. فلعل قول المؤلف: "انظر" سبق قلم.

[4757]. 241) ص 133 س 1 (204): [وقول] (¬1) أبي موسى رضي الله عنه: أتينا النبي - صلى الله عليه وسلم -. - المغازي، باب قدوم الأشعريين [4385]. 242) ص 133 س 2 (205): قول عمر رضي الله عنه: إني أرى لو. - التراويح (أوَّله) [2010]. 243) ص 136 س 9 - 10 (208): قول رجل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ أمي افتلتت إلخ. - الوصايا، باب ما يستحب لمن توفي فجاءة [2760] (¬2). 244) ص 136 س 11 - 12 (208): قول عبد الله ... أقم فإني إلخ. - الحج، باب من اشترى الهدي من الطريق [1693]. 245) ص 137 س 6 (209): هل تزوجت بكرًا (¬3) أم ثيبًا؟ - الجهاد، باب استئذان الرجل الإمام [2967]. 246) ص 137 س 7 (209): من قتل في سبيل الله فهو إلخ (¬4). ¬

_ (¬1) ساقط من الأصل سهوًا. (¬2) قد سبق هذا الحديث في ص 116 برقم (203) وأحال هناك على كتاب الجنائز، باب موت الفجأة البغتة [1388]. (¬3) في الأصل: "بكر". (¬4) لم أجد هذين في "صحيح البخاري"، ولكنهما في "صحيح مسلم": الأول في كتاب =

247) ص 137 س 9 (209): إنما يكفي أحدكم أن إلخ (¬1). [ص 10] 248) ص 138 س 5 (210): فقال الذئب إلخ. - الأنبياء: باب ما ذكر عن بني إسرائيل، "باب" عقب "حديث الغار" [3471]. 249) ص 138 س 6 (210): قول عمر رضي الله عنه: واعجبا لك. - النكاح، باب موعظة الرجل ابنته [5191]. 250) ص 138 س 7 (210): قول حذيفة رضي الله عنه: لمن لم يتم إلخ. - صفة الصلاة، باب إذا لم يتم الركوع [791]. 251) ص 141 س 5 (214): ... للرحم: مَه. - تفسير سورة محمد، باب {وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [4830]. 252) ص 141 س 5 (214): قول إبراهيم عليه السلام: مَهيَم. - الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [3358]. 253) ص 141 س 6 (215): ولا أقول: إن أحدًا أفضل. - الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَإِنَّ يُونُسَ} [3415]. ¬

_ = الإمارة, باب في الشهداء [1915]، والثاني في كتاب الصلاة باب الأمر بالسكون في الصلاة إلخ [431]. [المؤلف]. (¬1) انظر الحاشية السابقة.

تنبيه

254) ص 141 س 7 (215): قول أبي سعيد رضي الله عنه: فقسمها بين أربعة. - المغازي، باب بعث علي بن أبي طالب وخالد رضي الله عنهما إلخ [4351]. تنبيه: أشرت بقولي في أوائل بعض التحويلات: "انظر"، إلى أن بين اللفظ هناك وبين اللفظ الذي في كتاب "شواهد التوضيح" اختلافًا يسيرًا لا يُخِلُّ بمقصود ابن مالك. وقد يكون اللفظ الذي ذكر ابن مالك وقع في بعض نسخ الصحيح. والله أعلم. عبد الرحمن بن يحيى المعلمي

[أحاديث من غير صحيح البخاري وبيان مواضعها]

[2] [أحاديث من غير صحيح البخاري وبيان مواضعها] [ص 11] 1) ص 28 س 2 - 3 [42] (¬1): ما للشياطين من سلاح (¬2). 2) ص 33 س 15 - 16 [51]: قول عائشة رضي الله عنها: إن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. - سنن البيهقي ج 1 ص 86 (¬3). 3) ص 33 س 16 - 17 [51]: قول عامر بن ربيعة: إن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. - نسبه ابن مالك إلى "غريب الحديث"، ولم أجده في غيره بهذا اللفظ (¬4). وذكره الزمخشري في "الفائق" (¬5) بلفظ "كان". 4) ص 39 س 8 (58/ 7): خير الخيل إلخ. ¬

_ (¬1) فات المؤلف أن يذكر رقم الصفحة من الطبعة المصرية هنا وفي الحديثين التاليين. (¬2) كذا ورد هنا دون تخريج. وقد خرَّجه في القسم الأول (28) في الحاشية، وسيخرَّجه مرة أخرى في القسم الآتي (4) من "مسند أحمد" (5/ 163). (¬3) أخرجه مسلم في "الصحيح" (268). (¬4) يعني لم يجده في غير كتاب "شواهد التوضيح". والحديث بهذا اللفظ في "غريب الحديث" للخطابي (2/ 362) وأخرجه البزار في "مسنده" (3825) وأبو يعلى (7199). (¬5) (2/ 194). وبهذا اللفظ في "الأوسط" للطبراني (3697).

- ذكره في "الجامع الصغير"، وفيه: "المحجل ثلاث"، ونسبه إلى "مسند أحمد" و"المستدرك" و"الترمذي" و"ابن ماجه". وقد راجعتها كلَّها، فوجدت الحديث فيها, لكن ليس فيه هذا اللفظ. فلعل النسَّاخ غيَّروه، فإن لفظ "المسند" المطبوع (5/ 300): "محجَّل الثلاث"، وفي "المسند" مخطوطة مكتبة الحرم: "المحجَّل ثلاث" (¬1). 5) ص 39 س 15 (59/ 1): فضل الصلاة بالسواك. - مسند أحمد ج 6 ص 272 [26340]. 6) ص 64 س 1 (64/ 7): أقربهما منك بابًا. - مسند أحمد ج 6 ص 175 و193 [25423, 25615]. 7) ص 64 س 2 (64/ 10): فضل الصلاة. - (تقدَّم قريبًا) (¬2). 8) ص 66 س 2 (98/ 1): إياكم وهاتان الكعبتان. - مسند أحمد [1/ 446]، الحديث (4263) طبعة شاكر. 9) ص 66 س 3 (98/ 3): إني وإياك وهذان. - انظر: مسند أحمد [1/ 101]، الحديث (792) والتعليق عليه. 10) ص 67 س 7 [101] (¬3): كاد الحسد يغلب القدر. ¬

_ (¬1) وكذا في "المسند" طبعة مؤسسة الرسالة (37/ 253). (¬2) يعني الحديث السابق برقم (5). (¬3) فات المؤلف تقييد رقم الصفحة من الطبعة المصرية هنا وفي الحديث التالي.

- ذكر السخاوي في "المقاصد الحسنة" (¬1) هذا المتن، ولكن على غير ما استشهد به ابن مالك (¬2). 11) ص 95 س 1 [144]: يوشك الرجل متكئًا إلخ. - سنن ابن ماجه (أوائله)، باب تعظيم حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[12]. 12) ص 113 س 16 (173): لا تدخلوا حتى إلخ (¬3). - انظر: "صحيح مسلم"، كتاب الإيمان, باب بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون [54] (¬4). 13) ص 111 س 6 [169] (¬5): فوالله لترك (¬6) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الصبح، فأناخ (¬7). ¬

_ (¬1) طبعة الخشت [368]. (¬2) ورد بلفظ الشاهد في "بحر الفوائد" للكلاباذي (56) غير أن الفقرة الأولى فيه مؤخرة. وفي معظم المصادر جاء خبر كاد في الفقرتين مسبوقًا بأن. (¬3) عزاه ابن مالك إلى البغوي. انظر: شرح السنة (12/ 258). (¬4) في "صحيح مسلم": "لا تدخلون ... ". ولذلك قال المؤلف: "انظر". وبلفظ ابن مالك في "مسند أحمد" (1430) و"سنن أبي داود" (5193) و"الترمذي" (2510، 2688) و"ابن ماجه" (68، 3692). (¬5) لم يقيَّد رقم الصفحة في الأصل. (¬6) كذا في الأصل والطبعة المصرية، وهو تحريف "نزل". (¬7) لم يخرَّجه المؤلف. وعزاه ابن مالك إلى "جامع المسانيد" لابن الجوزي [8/ 442]. وبلفظ الشاهد أخرجه الإمام أحمد في "المسند" (27136). وفي "سنن أبي داود" (313): "فوالله لم يزل ... ".

14) ص 114 س 1 (173): قول وفد عبد القيس: وأصبحوا. - مسند أحمد ج 3 ص 432 [15559]. 15) ص 116 س 3 (177) (¬1): إما لا، فأعنِّي إلخ. - مسند أحمد ج 3 ص 500 [16076]. ... ¬

_ (¬1) في الأصل: (773)، سهو.

تتمات وملاحظات لتعليقات الأستاذ الفاضل محمد [فؤاد] عبد الباقي على "شواهد التوضيح" لابن مالك

[3] [ص 12] تتمَّات وملاحظات لتعليقات الأستاذ الفاضل محمد [فؤاد] عبد الباقي على "شواهد التوضيح" لابن مالك 1) ص 19 س 4 (¬1): في. - صوابه: "مِن". 2) ص 21 س 4 ت (¬2): 97 (¬3) - باب من أسمع الناس [712]. - الأَولى: 40 (¬4) - باب حدّ المريض إلخ [664] (¬5). 3) ص39 س الأخير 5 ت: لم أقف على هذا الحديث. - هو في "مسند الإمام أحمد" 4/ 181 [17629]. 4) ص 42 س الأخير 3 ت: ... جامع المسانيد. - هو في "مسند أحمد" 5/ 163 [21450]. ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولعل الصواب: 1، والمقصود: "ومن تشبيه ... " مكان "وفي تشبيه ... ". (¬2) يعني: التعليق. (¬3) كذا في الأصل، وهو سهو في النقل. والصواب: 67 كما في الطبعة المصرية. (¬4) كذا في الأصل، والصواب: 39. (¬5) لفظ الحديث في هذا الباب لا شاهد فيمه, فلا تصح الإحالة عليه. والمؤلف نفسه في القسم الأول أحال على [712]، فلعله يقصد السطر الثاني من التعليق.

5) ص 44 س 9 - 10: كقول بعض الصحابة. - انظر ما يأتي عقيب هذا. 6) ص 44 قبل الأخير ت: .... الدابة في الصلاة. - هو هناك من قول الأزرق بن قيس، وهو تابعي (¬1). 7) ص 45 س 1: فإذا حبل ممدود. - الذي في طبعة الهند ص 29 س 6: "وحبل ممدود". وبهذا اللفظ في "صحيح مسلم"، كتاب الصلاة، باب أمر من نعس في صلاته [784] (¬2). 8) ص 45 س 1 - 2 ت: أخرجه البخاري إلخ. - وفيه: "فإذا حبل ممدود". وقد مرَّ ما فيه. 9) ص 49 س 9 ت: أخرجه البخاري ... - فيه في ذاك الموضع بتقديم وتأخير. وهو بلفظ ابن مالك في كتاب الاستقراض، باب ما ينهى عن إضاعة المال [2408]. 10) ص 50 س 6: إن كان. - لفظ ابن مالك - كما في مطبوعة الهند ص32 آخرَها: "لقد كان". وهو بهذا اللفظ في المغازي، غزوة زيد بن حارثة [4250]. 11) ص 50 س3 ت: أخرجه البخاري إلخ. ¬

_ (¬1) انظر ما سبق في القسم الأول (30) الحاشية. (¬2) انظر: القسم الأول (32).

- وفيه: "إن كان". وقد مرَّ ما فيه. 12) ص 51 س 16: ... في "جامع المسانيد". - هو في "سنن البيهقي" 1/ 86 (¬1). ووجدته في مواضع من "المسند" بدون كلمة "إنْ". 13) ص 57 س 14: ثم قدم الذي كان أسلفه، فأتى. - لفظ ابن مالك - كما في مطبوعة الهند 38/ 14 - : "فلما قدم جاءه"، وغيَّره المحقق تبعًا للفظ الحديث حيث أحال عليه في التخريج. 14) ص 58 س 8: بحجل. - صوابه: "محجَّل"، كما يدل عليه ما قبله وما بعده. 15) ص 58 س 3 ت: "جامع المسانيد". - نسبه صاحب "الجامع الصغير" بهذا اللفظ إلى "المسند" وكتب أخرى. ووجدت الحديث فيها كلها, وليس فيه: "المحجَّل ثلاث". ونعم في "المسند" (5/ 300): "محجل الثلاث"، ويظهر أن هذا من تصرُّف مصححه، فإن في "المسند" مخطوطة مكتبة الحرم المكي: "المحجَّل ثلاث" (¬2). وانظر ما يأتي ص 181 (¬3). ¬

_ (¬1) وهو في "صحيح مسلم" (268). انظر القسم الثاني (2). (¬2) وكذا في الطبعة المحققة من "المسند". (¬3) كتب أولاً عبارة أطول تشبه ما سبق في القسم الثاني (4) ثم لخَّصها هكذا، ونسي أن يضرب على العبارة الأولى التي ختمها بقوله: "إذن، فما في "المسند" المطبوع إنما =

16) ص 59 س 1 ت: من "جامع المسانيد". - هو في "مسند أحمد" 6/ 272 [26340]. 17) ص 61 س الأخير: من "مسند أحمد بن حنبل". - هو في "المسند" 3/ 5 [11010] (¬1)، وفي "الموطأ"، اللباس، باب ما جاء في إسبال الرجل ثوبه [1631]. 18) ص 63 س الأول من التعليق: "صحيح مسلم". - هو في "صحيح مسلم"، الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة [2398]. 19) ص 63 س الثالث من التعليق: قبل الأسفل. - هو بتمام لفظه في البخاري، الشرب، باب سكر الأنهار [2359 - 2360]. 20) ص 71 س 5: قلنا (¬2). - الظاهر: "فَلَنا" (¬3). ¬

_ = هو من تغيير المصحح برأيه على عادة أكثرهم: يغيَّرون ولا ينبَّهون على ما في الأصول". (¬1) الأَولى: (3/ 6) برقم (11028)، فإن لفظ الحديث هناك: "أنصاف الساقين"، ولفظ ابن مالك: "أنصاف ساقيه" كما هنا. (¬2) وكذا في طبعة دار البشائر الإسلامية (116). (¬3) كما في الطبعة العراقية (127).

[ص 13] (¬1) 21) ص 75، أول التعليق: من "سنن الترمذي". - أما بهذا اللفظ، ففي عمل اليوم والليلة لابن السني ص 167، باب ما يقول إذا رأى قرية. 22) ص 75، ثالثه: من "مسند أحمد بن حنبل". - وهو عند أبي داود، الصلاة، باب ردَّ السلام في الصلاة، من قول ابن مسعود: "فأخذني ما قَدُم وما حَدُث". 23) ص 82 س 1 ت: أخرجه البخاري ... - لم تذكر هناك رواية الأصيلي، وإنما ذكرت في المساجد، باب الخوخة والممر في المسجد [466]. 24) ص 86 س 12: قول ابن عباس. - صوابه: "قول ابن مسعود" (¬2). 25) ص89 س 6 - 8: "وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق" أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أوَ إن زنى وإن سرق. - في مطبوعة الهند ص 59 آخرَها: "وإن سرق وزنى" في المواضع الثلاثة. وكذلك هو في البخاري، التوحيد، باب كلام الرب تعالى مع جبريل [7487]. ¬

_ (¬1) نسي المؤلف ترقيم هذه الصفحة. (¬2) لم يفطن لذلك محققا الطبعتين: العراقية (145) والشامية (136).

26) ص 89 س 8: أراد رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -. - الصواب: "أراد أبو ذر", لأنه هو المستفهم. وكأنَّ ابن مالك إنما كتب: "أراد: أوَ إن"، فتوهَّم بعض النسَّاخ أن فاعل أراد: هو، ضمير النبي - صلى الله عليه وسلم -، فصرَّح به، فوهم (¬1). 27) ص 94 س 2 (¬2) ت: أخرجه البخاري ... - لا شاهد فيه، وهو بلفظ ابن مالك - وفيه الشاهد - في "مسند أحمد" 6/ 175 و195 (¬3) [25423, 25615). 28) ص 94 س 5 ت: من "جامع المسانيد". - هو في "المسند" 6/ 272 [26340]. 29) ص 98 أول تعليق: من "جامع المسانيد". - مسند أحمد [1/ 446]، الحديث 4263 (¬4). 30) ص 98، ثانيه: من "جامع المسانيد". - انظر: "مسند أحمد"، الحديث 792 مع تعليق محقِّق العصر العلامة أحمد محمد شاكر. 31) ص 101، س 1 ت: "الجامع الصغير". ولفظه مخالف لما هنا. ¬

_ (¬1) لكن كذا ورد في جميع نسخ الكتاب - كما يظهر من صنيع المحققين - فلعله من سهو ابن مالك. (¬2) كذا في الأصل، والصواب: س 3. (¬3) كذا في الأصل، والصواب: 193، كما سبق في القسم الثاني (6). (¬4) يعني من طبعة أحمد شاكر كما سبق في القسم الثاني (8).

32) ص 103 س 5 تعليق: أخرجه البخاري. - بدون لفظ "مثل أو" (¬1). 33) ص 110 س 11: قول الصحابة. - صوابه: "قول بعض الصحابة" كما في مطبوعة الهند 73/ 6. 34) ص 120 س 1 ت: أخرجه البخاري ... - بلفظ "سمعت أذناي وأبصرت عيناي حين تكلم النبي - صلى الله عليه وسلم -". والحديث في مواضع من "الصحيح" لم أجد فيها لفظ ابن مالك. 35) ص 129 س 6: الخمر حين يشرب. - في مطبوعة الهند بعد "الخمر": "حين يشربها". 36) ص 131 س 3 تعليق: بعضهن بعضًا. - ولفظه هناك: "فجلس، ولم يجلس عندي". 37) ص 132 س 8: عيش يبلى من. - صوابه: "عيش مَن يبلى". 38) ص 133 س 4: ولدك. - الذي في مطبوعة الهند: "ورثتك". وأصلحه المحقق من الحديث، والخطب سهل. 39) ص 137 س 9 تعليق: أسد. ¬

_ (¬1) انظر: القسم الأول (97).

- صوابه: "أَسِيد". 40) ص 158 س 1: والستون. - صوابه: "والخمسون". 41) ص 158 س 7 - 15 تعليق: أخرجه البخاري في مواضع ... فمن أين جاءت رواية المؤلف "لن تُرَعْ"؟؟ - في "فتح الباري" في شرح الموضع الأول والثالث أن في رواية القابسي: "لن ترع"، وفي شرح الرابع أنه وقع ذلك لكثير من الرواة، ولكنه لم يذكر تكرارها؛ والخطب سهل. 42) ص 160 س 2: "فلأصلِّ لكم". - أخرجه البخاري في الصلاة، باب الصلاة على الحصير. 43) ص 162 س 12: لَيُمشَط. - في مطبوعة الهند 107/ 3 و108/ 7: "ليمشطنَّ". وظاهر سياق ابن مالك أنه بني على ذلك. فالظاهر أنه وقع له ذلك في رواية لم نظفر بها. [ص 14] (¬1) 44) ص 171 س 3 تعليق: فبالهامش. - وكذلك في أواخر الصلاة، باب إذا كُلِّم وهو يصلَّي إلخ ¬

_ (¬1) رقمها في الأصل: 13, لأنه نسي ترقيم الصفحة السابقة.

[1233] (¬1) 45) ص 173 س 5 تعليق: في "جامع المسانيد" - هو في "مسند أحمد" 3/ 432 [15559]. 46) ص 174 س 3 تعليق: فبالهامش. - هي في المتن في كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار [6550]. 47) ص 177 س 1 تعليق: من "جامع المسانيد". - هو في "مسند أحمد" 3/ 500 [16076]. 48) ص 181، آخر التعليق: (حتى استيقظا) متى استيقظا. - أرى ذلك من تغيير مصحح "المسند" المطبوع، فإنَّ في مخطوطة مكتبة الحرم المكي: "حتى يستيقظان". وراجع: "كنز العمال" 7/ 322، وراجع ما تقدم على ص 58 (¬2). 49) ص 191 س 1: وقول ابن مسعود. - الصواب: "وقول أبي الدرداء". وقد صرَّح به البخاري في تفسير سورة الليل [4944] (¬3). ¬

_ (¬1) ولكن لا شاهد هنا، إذ جاء الفعل بثبوت النون: "تصلينهما". وانظر ما علقت في القسم الأول (193). (¬2) انظر ما سبق في القسم الأول (303)، وهذا القسم (15). (¬3) لم يفطن له محقق طبعة دار البشائر الإسلامية. أما محقق الطبعة العراقية فتوهم أنه قول ابن مسعود في (3661) ونسبه إلى أبي الدرداء في (4944)!

50) ص 191 س 1: وقول سراقة بن جعشم (¬1). - الصواب: "وقول [سراقة بن] مالك بن جعشم. وانظر ما يأتي في التعليق على ص 195. 51) ص 192 س 4: يواظبنني (¬2). - في مطبوعة الهند 125/ 5: "تحثينني". وفي "صحيح مسلم، الأشربة، استحباب إدارة الماء: "يحثثنني"، فهو الصواب. 52) ص 195 س 1: مالك بن جعشم. - صوابه: [سراقة بن] مالك بن جعشم. هكذا هو في الإصابة وغيرها. وراجع ما مرَّ على ص 91 (¬3). 53) ص 195 س 4: ومنها قول أبي مسلمة ... قال: نعم. - الذي (¬4) في مطبوعة الهند 127/ 8 - 9: "ومنها قول أنس رضي الله عنه: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي في نعليه". 54) ص 195 س 7 تعليق: باب الخدم للمسجد. ¬

_ (¬1) "سراقة بن جعشم" تغيير من المصحح، وإنما ورد في نسخ الكتاب - كما أفاد المحققان -: "مالك بن جعشم" هنا وفي (ص 195)، فغيَّره هنا وتركه في الموضع الآتي. (¬2) هذا أيضًا من تغيير المصحح، ولفظ ابن مالك كما جاء في "صحيح مسلم". (¬3) كتب المؤلف بعد ذلك ما أشرت إليه من تغيير المصحح في الموضع الأول، ثم ضرب عليه. (¬4) في الأصل بعدها: "كما"، وقد نسي المؤلف أن يضرب عليها.

- صوابه: الاغتسال إذا أسلم إلخ [قبل 462]. 55) ص 195 س 11 تعليق: من أهلها. - وفي المظالم، باب إذا هدم حائطًا إلخ [2482]. 56) ص 198 س 5 - 6: قول عمر ... وقباء. - ذكره البخاري في أبواب الصلاة في الثياب، باب الصلاة في القميص والسراويل [365]. 57) ص 204 س 5: وقولها. - ليس من قول عائشة، وإنما حكته من قول أمَّها. 58) ص 208 س 3 - 4: ومنه قول رجل ... قال: نعم (¬1). - أخرجه البخاري في كتاب الوصايا، باب ما يستحب لمن توفي فجأة [2760]. 59) ص 209 س 3 تعليق: حديث 165. - في باب في الشهداء [1915]. 60) ص 209 س 4 تعليق: حديث 120. - في باب الأمر بالسكون [431]. [ص 15] (¬2) ¬

_ (¬1) سبق الحديث في (ص 179) وأحال المصحح هناك كالمؤلف على كتاب الجنائز، باب موت الفجأة. وفاته أن يشير لما تكرَّر هنا إلى الموضع الأول. (¬2) في الأصل: 14. انظر ما علقت على رقم الصفحة السابقة في ص 139.

61) ص 210 س 3 تعليق: حديث 1161. - عقب حديث الغار. 62) ص 210 س 5 تعليق: حديث 76. - وفي النكاح، باب موعظة الرجل ابنته [5191].

الرسالة الخامسة تصحيحات وتعليقات على "سبل السلام" للأمير الصنعاني

الرسالة الخامسة تصحيحات وتعليقات على "سبل السلام" للأمير الصنعاني

أخطاء تصحيحية ونحوها

[ص 1] (1) أخطاء تصحيحية ونحوها ص ... سطر ....... خطأ ......................... صواب 9 ... 18 ..... الرفعة, فعيل بمعنى مفعل (¬1) ..... // (¬2) 20 ...... الشرح ....................... الشرع 11 ... 13 ...... أُغص ........................ أَغص 12 ... 12 ...... خلقه ......................... خلفه 13 ... 19 ..... "بقرية سمر قند" (¬3) ......... بقرية خرتنك وهي من قُري سمر قند // ... 13 ...... وسياق ....................... وساقه 14 ... 1 ....... وجاز ......................... وحاز 15 ... 2 ....... من سعيد ..................... من قتيبة بن سعيد ¬

_ (¬1) يظهر أن هنا سقطًا، فإن الذين جعلوه بمعنى مُفعل هم الذين جعلوه من (ن ب أ). قال الراغب في مادة (نبأ): "والنبي لكونه منبئًا بما تسكن إليه النفوس الزكيَّة ... ". [المؤلف]. انظر ما سبق عن هذه الملاحظة في مقدمة التحقيق. (¬2) هكذا رمز الشيخ للإشارة إلى الصفحة السابقة نفسها. (¬3) كذا في نسخة صنعاء (ل 12) وط حلاق (ص 86). ولعله تحريف: "بقرب سمرقند" كما في "فتح العلام" (ص 5) المختصر من "سبل السلام". وفي شرح المغربي الذي هو أصل "سبل السلام" (6/ أ - نسخة الرباط): "وتوفي رحمه الله تعالى بخرتنك ... وهي على فرسخين من سمرقند، وقيل: ثلاثة أيام". وهذا الذي اختصره الأمير بقوله: "بقرب سمرقند".

ص ......... سطر ......... خطأ .................. صواب // .......... 2 .......... وغيرهم (¬1) ............ وغيرهما // .......... 8 .......... نساء (¬2) ............... نسأ (¬3) // .......... 15 ........ أئمة السنة (¬4) ......... الأئمة الستة 16 ........ 1 .......... فإنهما أخرجا ............ فإنهما إذا أخرجا // .......... 3 ......... يخرج من الحديث ......... يخرج الحديث 17 ........ 17 ........ خلاف .................... خلافًا 22 ........ 1 ......... بلغ من قلَّتين ............. بلغ قلًّتين 23 ........ 10 ........ على أحدهما ............ .... 24 ....... 7 .......... إلى أنه .................. إلى أن // ........ 9 ............ قال أبو يوسف (¬5) ...... قال ابن يونس // ........ 9 ............ : وهو ..................... : هو 32 ....... 16 ......... فتادة ...................... قتادة ¬

(¬1) وكذا في ط حلاق (ص 89) مع أن في نسخة صنعاء (ل 12): "وغيرهما" على الصواب. (¬2) وكذا في ط حلاق (ص 89). (¬3) كذا في الأصل بالهمز تبعًا لما جاء في "سبل السلام": "بفتح النون وفتح السين المهملة، وبعدها همزة". وهذا لفظ ابن خلكان (1/ 78)، والصواب أنه مقصور. انظر: "معجم البلدان" (5/ 281)، و"الأنساب" للسمعاني (12/ 75) وسميت به عدة مدن في خراسان وفارس. (¬4) في ط حلاق (ص 89): "أئمة الستة". (¬5) وكذا في ط حلاق (ص 106). وانظر ما سبق عنه في مقدمة التحقيق.

ص ........ سطر ........... خطأ ................ صواب 34 ........ 8 .............. الملآن (¬1) ........... الملأى 29 ........ 12 ............. لا يَجْنُب .............. لا يُجْنِب // .......... 13 ............. ككُرم ................. ككرُم [ص 2] 38 ........ 18 ........... سِرَّ ..................... سِرَّ // .......... 22 ......... الصفحة ................. الصحفة 39 ........ 14 .......... بعد تحريم ............. بعد تحريم 40 ........ 16 .......... هو عليه .............. عليه 41 ........ 3 ........... طهور (¬2) ............ طهوره 42 ........ 1 ........ وأخرج مسلم وروى .. (¬3) .... // ......... 4 .......... تحقيق ............... تَحقق // ......... 11 ........ القاموس والإهاب ..... القاموس والنهاية 44 ....... 3 ........ الخشْني ................. الخشَني 45 ....... 16 ........ ورفقائهم .............. وفقهائهم ¬

_ (¬1) وكذا في ط حلاق (ص 124) ونسخة صنعاء (ل 17). (¬2) وكذا في ط حلاق (ص 138) وقد أثبته في المتن بين حاصرتين، ثم ذكر في الحاشية أن في النسخة (أ): "طهوره". قلت: وهكذا على الصواب في نسخة صنعاء التي رمزها عنده: (ب). وهو لفظ الحديث في "مسند أحمد" (3521) وغيره. (¬3) الأحاديث المسوقة هنا لم يُخرجها مسلم كلها، وإنما ساق حديث ابن عباس من طرق، فلعل الصواب: "وأخرجه مسلم من طرق متعدّد, ورُوي في معناه أحاديث". [المؤلف].

ص ........... سطر ............. خطأ ................. صواب // ............. 18 .............. تقام (¬1) ........... تفأم 46 ........... 11 ............... سَلسَلة ........... سلسلة (¬2) // ............. 12 .............. إيصال (¬3) ......... اتصال 47 ........... 14 .............. في حل ............... في خل 48 ........... 6 ............... الذي في ................ الذي قال في 53 .......... 5 ................ ويَرُش .................. ويُرَش 55 ......... 21 ............... ما ذكره يفيد ........... ما ذكر لا يفيد ... ¬

_ (¬1) وكذا في ط حلاق (ص 150) مع كونه محرًّرًا مضبوطًا في نسخة صنعاء (ل 19). انظر ما سبق في مقدمة التحقيق. (¬2) يعني بكسر السينين، وسيأتي بيانه في ص 154. (¬3) وكذا في ط حلاق (1/ 152) ونسخة صنعاء (ل 20). وفي شرح المغربي (22/ أ) وكتب اللغة: "اتصال". وانظر ما يأتي في القسم الثاني.

أوهام للشارح تتعلق بضبط بعض الكلمات أو إعرابها أو تفسيرها أو نحو ذلك

[ص 3] (2) أوهام للشارح تتعلق بضبط بعض الكلمات أو إعرابها أو تفسيرها أو نحو ذلك * ص 12 سطر 22 - 23 قال: "فالمراد بالسبعة حيث يقول عقيب الحديث: "أخرجه السبعة" هم الذين بيَّنهم بالإبدال من لفظ العدد "أحمد" ... ". يعني أنه في قول المتن: "فالمراد بالسبعة أحمد والبخاري ... " تكون كلمة "أحمد" وما عُطف عليها بدلًا من لفظ "السبعة". وهذا وهمٌ ظاهر، إنما هي خبر لقوله: "فالمراد". * ص 18 سطر 13 - 15 قال: " (هو الطهور) بفتح الطاء هو (¬1) المصدر ... وفي الشرع يُطلق على المُطهِّر ... (ماؤه) هو فاعل المصدر". القول بأن "طهور" قد يجيء مصدرًا إنما حُكي عن سيبويه على أنه مصدر بمعنى "التطهُّر" (¬2). وكلام الشارح مبني على أنه مصدر بمعنى "التطهير"؛ أولًا: لأنه اختاره مع قوله بأن هذا اللفظ "يطلق في الشرع على المطهِّر" ومن الواضح أنه لا يختار في معنى الحديث غير المعنى الشرعي ولكنه رأى أن المؤدَّى واحد، أي أن الشرع بني على استعمال المصدر بمعنى اسم الفاعل كما في قولهم: "رجل عَدْل رضًا" وغير ذلك. ثانيًا: لأنه قال: " (ماؤه) هو فاعل المصدر" وإنما يكون الماء فاعلًا للتطهير، فأما فاعل ¬

_ (¬1) "هو" ساقط من ط حلاق (1/ 95) مع ثبوتها في نسخة صنعاء، والطبعات الأخرى. (¬2) "النهاية" لابن الأثير (3/ 147).

التطهُّر فهو الإنسان كما لا يخفى. ويأتي وصفَ مبالغة بمعنى: بالغ الطهر. وعلى هذا يُحمل قوله تعالى: {مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48]، وقوله: {شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان: 21]. وبذلك صحَّ كونه نعتًا كما هو الظاهر المتبادر. فأما على الوجه الأول فلا يصح النعت به لأنه اسم لا وصف. وعليه يُحمل أيضًا هذا الحديث. وبذلك يصح أن يكون "ماؤه" فاعلًا كما هو الظاهر. وهذا الوجه واضح المناسبة جدًّا في الحديث الآتي. فأما ما قيل من أن الطهارة لا تقبل التفاوت [ص 4] فقد أجيب بأن التفاوت ثابت من جهة أن الماء مع طهارته مطهَّرٌ بخلاف المائعات الأخرى. وقد يقرَّر هذا بأن صلاحيته للتطهير دونها تدل على أن طهارته أقوى، فعُقِل التفاوت. وقد يوجَّه أيضًا بأنه لا ينجَس بمجرد الملاقاة بخلافها، فدل ذلك على أن طهارته أقوى. * ص 26 سطر 16 قال: "والذي تقتضيه قواعد العربية ... لأن "ثم" تفيد ما تفيده الواو العاطفة في أنها للجمع ... فالجميع واهمون ... ". أقول: بل الواهم غيرهم، فإنهم لم يقولوا إنه على رواية الرفع تكون "ثم" عاطفةً لقوله: "يغتسل" على "يبول" في قوله: "لا يبولن". ولو قاله قائل لكان مخطئًا كما لا يخفى. وإنما بنوا على أن "ثم" استئنافية كالواو الاستئنافية، راجع "مغني ابن هشام" وحواشيه (¬1). وقد عُلم أن واو الاستئناف لا تقتضي مشاركة ما بعدها لِما قبلها في الحكم، فكذلك "ثم". وقد نظَّر القرطبي هذا ¬

_ (¬1) انظر: "حاشية الدسوقي على المغني" (1/ 174).

بحديث: "لا يضربَنَّ أحدكم امرأته ضرب الأمة ثم يضاجعُها" (¬1). والذي يظهر لي أن "ثم" في الحديثين عاطفة، لا على الفعل المنهي عنه فإنَّ رفعَ ما بعدها يأبى ذلك، بل على محذوف دلَّ عليه ما قبلها، كأنه استئناف على وجه الإخبار فقال: يبولُ فيه ثم يغتسل، يعني أن من شأنه أن يقع هذا منه. وقد يقال: إنه على تقدير الاستفهام، كأنه قال: أيبول فيه ثم يغتسل فيه؟ * ص 34 سطر 1 قال: "نسبة إلى الأعراب، وهم سكَّان البادية سواءٌ كانوا عَرَبًا أم عجمًا". المعروف أن الأعراب بدْو العرب خاصةً إلا أنه يلتحق بهم من كان معهم من مواليهم. راجع "لسان العرب" وغيره (¬2). [ص 5] * ص 37 سطر 21 - 22 قال: " (ما قُطع من بهيمة) في "القاموس": البهيمة كل ذات أربع قوائم ولو في الماء، و (¬3) كلُّ حيًّ لا يميِّز. والبهيمة: أولاد الضأن والمعز. ولعل المراد هنا الأخير". ثم قال ص 38: "وسبب الحديث قال على أنه أريد بالبهيمة ذات الأربع، وهو المعنى الأول لذِكْره الإبلَ فيه، لا المعنى الأخير الذي ذكره القاموس". ¬

_ (¬1) انظر: "المفهم" (1/ 542). والحديث بهذا اللفظ في "مسند أحمد" (16224). وقد أخرجه البخاري (4942). (¬2) انظر: "لسان العرب" ط بولاق (2/ 75)، و"التاج" (3/ 334). (¬3) كذا في الأصل. وانظر: ط حلاق (1/ 132). وفي "القاموس": "أو". انظر "التاج" (31/ 307).

أقول: الذي في نُسخ القاموس ويدل عليه سياقه وعليه بني شارحه: "والبَهْمة (بموحَّدة مفتوحة فهاء ساكنةٍ فميم): أولاد الضأن". ويوافقه غيره من كتب اللغة. فتحرفت الكلمة في نسخة الشارح فوقع فيها: "والبهيمة"، فبنى الشارح عليها. * ص 44 سطر 21 قال: " (وإهالة سَنَخة فأكل منها) بفتح السين وفتح النون ... ". المعروف في كتب اللغة والغريب وغيرها أنه بكسر النون (¬1). * ص 46 سطر 11 قال: " (سلسلة من فضة) في القاموس: سلسلة بفتح أوله وسكون اللام وفتح السين الثانية منها: إيصال (؟ اتصال) الشيء بالشيء. أو سلسلة بكسر أوله: دائر من حديد ونحوه. والظاهر أن المراد الأول فيقرأ بفتح أوله". أقول: الرواية بكسر السينين كما ضُبط في النُّسَخ المعتمدة من "الصحيح". وأشار إليه في "فتح الباري" قال: "كأنه سدَّ الشقوق بخيوط من فضة فصار (¬2) مثل السلسلة". **** ¬

_ (¬1) انظر: المزهر (1/ 448). (¬2) كذا في الأصل. وفي "الفتح" (10/ 100): "فصارت".

تعليقات

[ص 1] (¬1) (3) تعليقات * ص 3 سطر 16 قال: "والاقتداء ... " (¬2). كان الأولى تقديم هذا على سابقيه لكن الشارح رتَّبها بحسب قوَّتها في البعث على الافتتاح بالثناء، فإن من الآثار ما يُشعر بوجوبه، وحديث: "كل أمر ذي بال ... " يقتضي كراهية تركه. والاقتداء في مثل هذا بالقرآن أدب مستحب. * ص 8 سطر 16 قوله: "أولى بالاعتماد". التحقيق أن كلمة "نعمة" في الآية عامة كما هو ظاهر: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل: 18]. وما ذُكر في هذه الآثار لا ينافي ذلك، وإنما هو تنبيه على جلائلها. * ص 8 سطر 19 قوله: "من حين نفخ الروح فيه". التقييد بهذا إنما هو من جهة إحساسه بالنفع. فأما أسباب النفع فمنها ما يتقدم على ذلك. * ص 9 سطر 21. قوله: "فإذا أُمِر بتبليغها إلى الغير ... " وقوله في القول الآخر: "بشريعة مجدَّدة". في كلا هذين نظر، فإن الأول يقتضي أن أكثر الأنبياء - وهم الذين لم يكونوا رسلًا - لم يكونوا مأمورين بتبليغ أهليهم الأدنين كأزواجهم وأبنائهم ¬

_ (¬1) من هنا استأنف الشيخ ترقيم الصفحات. (¬2) كذا في الأصل، وهو سهو، فالوارد في مقدمة "سبل السلام": "واقتداءً".

ونحوهم، وهذا كما ترى. والثاني يقتضي أن النبي إذا أُمر بالدعوة لقومه ونحوهم، وكان على شريعةِ مَن قبله كإسماعيل وإسحاق، إذ كانا على شريعة إبراهيم = لا يكون رسولًا. وهذا باطل فإن إسماعيل وإسحاق رسولان. فالذي يظهر أن النبي إذا (¬1) لم يؤمر إلا بإرشاد أهله ومن يتيسَّر له، فليس برسول. وإن أُمر بالتجرُّد لدعوة قوم وملاحقتهم ومناظرتهم، فهو رسول. ولهذا - والله أعلم - ثبت في نوح (¬2) أنه أول الرسل, لأن آدم لم يكن معه إلا زوجه وبنوه. وبهذا عُرف أن النبي وإن لم يكن رسولًا بالمعنى المذكور [ص 2] فهو مُرسَل في الجملة لأنه مأمور بتبليغ أهله ومن يتيسَّر له. وقد قال تعالى (22/ 52) (¬3): {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى ...} الآية. * ص 10 سطر 3 قال: "أكثر مما يُحمد غيره من البشر". هذا هو الواقع في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - فأما اسم "محمد" فإنما معناه محمود كثيرًا. * ص 10 قال: "الدين وضع إلهي ... ". الدين في الأصل: الطاعة، واشتهر في الشريعة المتعبَّد بامتثالها. والدين الحق هو الشريعة التي يثبت عن الله عزَّ وجلَّ الأمرُ بالتعبُّد بامتثالها. فبعد بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - انحصر الدين الحق في الإسلام. ¬

_ (¬1) تكررت "إذا" في الأصل. (¬2) في الأصل: "نحو" سبق قلم. (¬3) أي السورة (22) - وهي سورة الحج - الآية (52).

* ص 13 سطر 8 قال: "لم يُدخِل فيه إلا ما يحتج به" (¬1). في هذا مبالغة معروفة، فإن فيه أحاديثَ لم يعمل بها أحمد نفسه، ومنها ما نص هو على ضعفه، ومنها ما يُعلم ضعفه بالدلائل التي يقرُّها أحمد. نعم، ذلك قليل بالنسبة إلى ما فيه من الصحيح والحسن. والله أعلم. * ص 13 سطر 16. قال: "ألَّفه بمكة" (¬2). جاء عن البخاري ما يظهر منه هذا، وجاء عنه ما يخالفه. ووفَّق الحافظ ابن حجر بين ذلك بما تراه في "مقدمة الفتح" قُبيل آخرها (¬3). * ص 17 سطر 12. قال: "شبَّه الدخولَ ... ". المقرر في الاصطلاح أن تراجم الكتب - ومنها: "باب كذا" - أسماء لما يُساق تحت الترجمة من الكلام. وعلى هذا فقوله: "باب المياه" اسم للكلام الذي بينه وبين قوله فيما بعد: "باب الآنية". وعلى هذا، فالأولى أن يقال شُبِّه هذا الكلام بباب الدار مثلًا بجامع أن كلاًّ منهما يوصَل منه إلى المطلوب. فباب الدار يُوصَل بالعبور فيه إلى الحصول في الدار. وهذا الكلام يوصل بتفهُّمه وتدبره إلى معرفة أحكام المياه، ثم استعير اسم المشبَّه به للمشَبَّه. * [ص 3] ص 17 سطر 21. قال: "أروي فيه أو أذكر". المتعارف: "روينا" بفتح أوَّله وثانيه مخفَّفًا، وبضم أوَّله وكسر ثانيه مشدَّدًا. ¬

_ (¬1) يعني الإمام أحمد في مسنده. (¬2) يعني تأليف البخاري كتابه "الجامع الصحيح". (¬3) "هدى الساري" (489).

* ص 22 سطر 19. حديث الأمر بصبِّ ذَنوب من ماء على البول يدلُّ أن صبَّ ذنوب على الأرض التي وقع عليها البول يُطهِّرها. وقد يجاب عنه بالتزام أن يكون مِلءُ الذَّنوب كثيرًا، بناءً على أن حديث القُلَّتين أطلقهما فصدق على الصغيرتين منهما؛ أو بأن الأرض تطهير بالجفاف فصبُّ الماء عليها إنما هو لتذهب الرائحة وتتحَّلل أجزاءُ البول فيغوص بها الماء في الأرض، ثم تَطْهر الأرضُ بالجفاف. لكن هناك أدلة كثيرة على تطهير المتنجِّس بصب الماء القليل عليه كحديث: "طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب ... " ولم يشترط فيه الغسل بماء كثير. وكحديث نضح الماء على بول الصبي، وحديث غسل ما لحق الثوب من دم الحيض، وكالاستنجاء وغير ذلك؛ وهو إجماع. فالقائلون بحديث القلَّتين يجيبون بأن ذلك كلَّه حق، وأن الشارع إنما خفَّف في حكم الماء عند استعماله لتطهير النجاسة دفعًا للمشقَّة، فإنه لو حكم في ذلك بتنجُّس ما دون القلتين بمجرد ملاقاة النجاسة لما أمكن تطهير متنجِّس إلا بغسله في ماء كثير، وفي هذا مشقَّة شديدة جدًّا. فخفَّف الشارع في هذا، وأبقى الحكمَ فيما تقع النجاسة فيه في الماء بدون قصد التطهير، إذ ليس في هذا من المشقَّة ما في ذاك. وفي الحكم بتنجُّسه بوقوع النجاسة حملٌ على تحرِّي الطهارة والنظافة وتجنيب الماء ما يوسِّخه ويقذِّره ويضرُّ شاربه. هذا، ومن القائلين بما ذُكر مَن أطلق ولم يتعرَّض للورود، بل قال: إذا

تنجَّس ثوب فأريد تطهيره فغُمس لتطهيره في ماء قليل لم يتنجَّس الماء. وفرَّق آخرون بالورود كما ذكر الشارح، وقولهم أقرب كما يدل عليه النهي عن غمس المستيقظ يدَه. ويؤيده أن المشقة تندفع بالتخفيف فيما إذا أورد الماء على المتنجِّس، وبأنه غالب عادة الناس. ويساعده ما قاله الشارح من عنده، فأما أن يكون ما ذكره جوابًا تامًّا بدون تخفيف من الشارع فلا, لأنه لولا التخفيف لكان الماء إذا صُبَّ على المتنجِّس تنجَّس بملاقاته، فيكون الماء نفسه نجسًا، فيزداد تنجُّس الثوب، ثم يتنجَّس اللاحق بالسابق أبدًا! ولم يفرق الشارع [ص 4] بين قليل النجاسة وكثيرها. ألا ترى أن مقدار قلَّتين من الماء لو وضع فيه رطلٌ من النجاسة ولم يغيره لم يَنْجَس؟ وأن ما دونهما - ولو بقليل - لو وُضع فيه قيراط من النجاسة صار نجسًا، بحيث لو غُرفت منه غَرفةٌ فأُلقيت في ماء آخر دون قلتين لصار نجسًا، ثم لو غُرف من هذا الماء الثاني غَرفة فأُلقيت في ماء ثالث دون قلتين لصار نجسًا، وهلمَّ جرًّا. ويبقى النظر في حكم الغُسَالة (¬1). * ص 25 سطر 22 قال: "وسبق الاعتذار ... ". حديث القلَّتين صحَّحه الذين ذكروا في المتن وغيرهم. واحتجَّ به الشافعي وأحمد وإسحاق، واعترف بثبوته أحد مناظريه من الحنفية، ويظهر أنه محمد بن الحسن، واعترف بصحته الطحاوي. وبه مع ما تقدم من الفرق في القليل بين أن تَرِد عليه النجاسة أو يَرِد عليها = يُجمع بين الأدلة. ¬

_ (¬1) ترك المؤلف بعده بياضًا لعله للكلام على الغسالة.

وليس في سنده ولا متنه اضطراب قادح. وقد بينت ذلك في رَدِّي على الكوثري (¬1). وزعمُ أنه مجملٌ باطل، فإنه لا يخفى عليه ما هو دون قلتين قطعًا، وما هو أكثر منهما قطعًا. فعُلم أن الأول فما دونه داخل في مفهوم الحديث، وأن الثاني فما فوقه داخل في منطوقه. ويبقى ما بينهما، فالأئمة ألحقوه بما دونهما، إذ الأصل القِلَّة، وأخذًا بالأحوط. وذهب ابن حزم إلى دلالة الحديث على طهارة ما فوق قلتين من أصغر القلال أخذًا بالإطلاق، إلا أنه لم يأخذ بالمفهوم لأنه ليس عنده بحجَّة. وقد ثبتت أحكام مقدَّرة بمعايير وقع الاختلاف فيها كالدرهم والمثقال والصاع؛ ولم يقدح فيها أحد بذلك. وقد تقدَّم بعض ما في هذا الحكم من الحكمة. والله أعلم. * [ص 5] ص 27 سطر 5. قال: "قال في الشرح ... ". لا يخفى أن النهي للتحريم، وأن قوله: "الماء الدائم الذي لا يجري" يعمُّ كلَّ ماءٍ بهذا الوصف. ولا يجوز صرف النص عن دلالته الظاهرة - كالتحريم والعموم هنا - إلا بحجَّة. والعلة المستنبطة إذا لم تُساوق ظاهر النص بل تعود على ذاك الظاهر بالهدم = في قبولها نظر، ولا سيما إذا أمكن التعليل بعلة أخرى تساوق ظاهر النص، أو على الأقل تكون أكثر مساوقةً له. فقد يُعلَّل بالتأدية إلى التنجيس أو إلى التقذير، إذ لو لم يُحرَّم البول في الماء الدائم لبال فيه الإنسان مرارًا، وكثر البائلون فيه، ولا يحسم ذلك إلا تحريم البول فيه مطلقًا. ولا نسلِّم أن ¬

_ (¬1) راجع "التنكيل - الفقهيات" (2/ 6 وما بعدها).

التقذير لا يكفي للتحريم، فإن فيه إيذاءً للآخرين وإضرارًا بهم. ولا مانع من النظر هنا إلى ما يقوله الأطباء أنه قد يكون بالإنسان مرض فإذا بالذي ماء قد يكون ذلك سببًا لإصابة غيره ممن يستعمل ذلك الماء بذاك المرض، ونحو ذلك من كلامهم؛ ننظر إليه هنا محافظةً على النص الشرعي. فأما البحر ونحوه، فإن لم يُعدَّ جاريًا أو في معناه، فخارج بالإجماع والله أعلم. * ص 30 سطر 13 قال: "لأنه لو كان للنجاسة ... ". هذا مصادم لقوله في الحديث: "طهور إناء أحدكم ... "، وقولُهم: "نجاسته لا تزيد على العذرة" تحكُّم. والحكم بالنجاسة وتقدير تطهيرها إلى الشارع. ص 32 سطر 13 قوله: "كل ذلك محاماة على (¬1) المذهب". أما النووي فقد عُرف عنه أنه كثيرًا ما يختار تبعًا للدليل خلافَ المذهب. وأما الحافظ ابن حجر فراجِعْ كلامه في "الفتح" (¬2) يتبيَّن لك أنه لم يحامِ عن المذهب. ولا يخفى أن أثبت الأحاديث في الباب حديث أبي هريرة في "الصحيحين" (¬3) وغيرهما. وقد علمتَ أن أثبتَ الروايات عنه: "سبع مرات ¬

_ (¬1) كذا في الأصل وفي ط حلاق (1/ 120) ونسخة صنعاء، والوجه: "عن المذهب" كما سيأتي في كلام الشيخ. (¬2) (1/ 275 - 278). (¬3) البخاري (677)، مسلم (279).

أولاهن بالتراب". ووافقه حديث أبي رافع عند الدارقطني ولفظه: "فاغسلوه سبع مرَّات أولاهن بالتراب" قال الدارقطني: "هذا صحيح" (¬1). فما وقع في حديث عبد الله بن مغفَّل عند مسلم (¬2) وغيره: "فاغسلوه سبع مرَّات وعفِّروه الثامنة بالتراب" فهذا الحديث إن حمله (¬3) [ص 6] على ظاهره أنه يُغسل سبع مرات ثم يغسل مرة ثامنة بالتراب، لم يكن زيادة الثامنة زيادة محضة؛ يحتمل أن يكون الذي لم يذكرها غفل عن سماعها أو نحو ذلك. بل يكون هذا الحديث مخالفًا لحديثي أبي هريرة وأبي رافع، وحديثُ أبي هريرة أثبت، ووافقه حديث أبي رافع. فإذا أمكن الجمع تعيَّن، والتأويل الذي ذكره النووي (¬4) يحصل به الجمع. ويقرِّب ذاك الجمع كلمةُ "وعفِّروه". فليس فيما قاله النووي حيف على الحديث يسوغ أن يُطلق عليه "محاماة عن المذهب". والقائل: "فيه استكراه" - وهو ابن دقيق العيد - قد عاد فقال: "لكن لو وقع التعفير في أوَّله قبل ورود الغسلات السبع كانت الغسلات (يعني التطهيرات) ثمانيًا (¬5)، ويكون إطلاق الغسلة على التتريب مجازًا". أقول: وليس في الحديث في تطهيرةِ التتريب تسميتُها غسلةً، وإنما أَخَذَ ذلك من قوله: "الثامنة". فقد يقال: إنما مراده: المرة الثامنة من التطهيرات. ¬

_ (¬1) انظر: طبعة عبد الله هاشم يماني (1/ 65). ولم يرد تصحيح الدارقطني في ط مؤسسة الرسالة (1/ 106). (¬2) برقم (280). (¬3) قد يقرأ: "حُمِل". (¬4) في "شرح صحيح مسلم" (3/ 188). (¬5) في "الفتح" (1/ 278): "ثمانية".

وعلى كل حال، فالجمع بين الأدلة مما يُحْوِج إلى خروجٍ ما بأحدها عن ظاهره, لأنه إذا لم يتم الجمع إلا به فبالنظر إلى المجموع يكون هو الظاهر. والله أعلم. * ص 33 سطر 14. قال: "وهذا الأخير ... " فيه أن فاها تنجَّس بالنجاسة وبذلك تنجَّست رطوبته ولعابه، والمتجدِّد من ذلك يتنجَّس بالمتقدم حتى يطهر بالماء، فإن ثبت عن الشرع غير ذلك فما هو؟ * [ص 7] ص 38 سطر 15 قوله: "كما سلف". أي أول باب المياه، ومرَّ ما فيه. * ص 39 سطر 13. قوله: "والحق ما ذهب إليه ... إذ هو الثابت بالنص ... وهذا من شؤم تبدل (¬1) اللفظ النبوي بغيره، فإنه ورد بتحريم الأكل والشرب فقط، فعدلوا عن عبارته إلى الاستعمال [وهجروا العبارة النبوية] (¬2)، وجاؤوا بلفظ عام من تِلقاء أنفسهم ... ". أقول: في كتاب اللباس من "صحيح البخاري" (¬3) من حديث حذيفة مرفوعًا: "الذهب والفضة والحرير والديباج: هي لهم في الدنيا ولكم في الآخرة". وفي "مسند أحمد" (ج 5 ص 400) بسند غاية في الصحة عن حذيفة: ¬

_ (¬1) كذا نقل في الأصل، ولعله سهو. والصواب: "تبديل" كما في ط حلاق (1/ 136) وط مكتبة المعارف (1/ 65)، و"فتح العلَّام" (1/ 14). (¬2) زيادة من "سبل السلام". (¬3) برقم (5831).

"أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهانا عن لبس الديباج والحرير وآنية الذهب والفضة، وقال: هو لهم في الدنيا، وهو لنا في الآخرة". وفي "صحيح البخاري" (¬1) أوائل الجنائز من حديث البراء: "أمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - بسبعٍ ونهانا عن سبع: أمرنا ... ونهانا عن آنية الفضة ... ". وأخرجه (¬2) أيضًا من وجه آخر في النكاح في إجابة الوليمة، وفيه: "ونهانا عن خواتيم الذهب، وعن آنية الفضة". وأخرجه (¬3) أيضًا من وجه آخر في اللباس - باب خواتيم الذهب، وفيه: "نهانا عن خاتم الذهب ... وآنية الفضة". وفي "مسند أحمد" (ج 4 ص 284) فما بعدها عدَّة روايات عن البراء، ففي صفحة 284 فيه: "ونهانا عن آنية الفضة". ونحوه ص 299. وفي موضعين آخرين فيها: "نهانا عن آنية الذهب والفضة". فهذه الأحاديث عامة كما ترى، يدخل فيها جميع الاستعمالات. نعم، جاءت روايات أخرى لهذين الحديثين بذكر الشرب أو الشرب والأكل، ولكن ذلك لا يمنع الاحتجاج بهذه الروايات العامة، ولا سيما إذا [ص 8] أطبقت الأمة - إلا من شذَّ - على الأخذ بها مع مخالفة ذلك للهوى. وسيأتي في أوائل التيمم حديث حذيفة هناك، وفيه مرفوعًا: "جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا"، وفي رواية: "وجعلت تربتُها طهورًا". فذكر الشارح أن هذه الرواية لا تقيَّد الرواية المطلقة، فانظره. فيلزمه هنا أن ذكر الأكل والشرب في بعض طرق الحديثين المذكورين لا يقيد الروايات ¬

_ (¬1) برقم (1239). (¬2) برقم (5175). (¬3) برقم (5863).

المطلقة التي سقناها. وكأن الشارح لم ينشط لتتبُّع الروايات، فلم يستحضر الروايات التي سقناها. والله المستعان. * ص 44 سطر 4 قال: "واسمه: جرهم ... ". في اسم أبي ثعلبة ونسبه اختلاف كثير. راجع ترجمته في "التهذيب" (¬1) و"الإصابة" (¬2). * ص 48 سطر10 قوله: "وأجيب ... ". لا يخفى ما في كلٍّ من هذين الجوابين. وراجع "الفتح" (¬3) في شرح حديث: " ... أن يكون الله ورسوله أحب إليه ممَّا سواهما ... ". * ص 49 قوله: "وإن صحَّ، حُمِلَ على الأكل منها عند الضرورة ... ". كيف هذا مع قوله فيه: "فإنما حرَّمتُها من أجل جَوَالِّ القرية" (¬4). [ص (¬5)] ص 49 سطر 9 قال: "وأجيب بأن الآية خصت عمومَها ¬

_ (¬1) (12/ 49). (¬2) طبعة التركي (12/ 94). (¬3) (10/ 463). (¬4) قوله: "وإن صحَّ حُمِلَ على الأكل ... " من كلام الشارح المغربي (22/ ب) واعتراض الشيخ عليه أورده الأمير نفسه، فقال: "قلت: وأما الاعتذار أنه أبيح ذلك للضرورة، فإنه لا يطابق التعليل بقوله: "إنما حرَّمتُها من أجل جوالَّ القرية ... " إلخ. انظر: ط حلاق (1/ 158). (¬5) وجدت هذه الفقرة في صفحة مفردة في آخر القسم الثاني المتعلق بأوهام الشارح المتعلقة بضبط الكلمات، فرأيت أن الأنسب إثباتها هنا. وموضعها في الترتيب قبل الفقرة السابقة.

الأحاديثُ". فيه أن الأحاديث أرَّخت بيوم خيبر، والآية نزلت قبل ذلك بزمان وعُمل بها. وشرط التخصيص أن لا يتأخر الخاص عن وقت الحاجة إلى العمل بالعام. بل قيل: أن لا يتأخر عن وقت الخطاب به، فإن تأخر لم يكن مخصِّصًا، لكن قد يكون ناسخًا لتلك الحصة من العام. وفي "الفتح" (¬1): "والجواب عن آية الأنعام أنها مكية وخبر التحريم متأخر جدًّا ... ". ¬

_ (¬1) (9/ 656).

الرسالة السادسة تنبيهات على "الكامل" للمبرد نشرة زكي مبارك

الرسالة السادسة تنبيهات على "الكامل" للمبرد نشرة زكي مبارك

[4/ أ] طبع كامل المبرِّد مرارًا بإستانبول ومصر، وشرحه بعضُ علماء مصر، ويُدرَّس في مصر. ثم طُبع أخيرًا بمصر سنة 1356، واعتنى بتصحيح المجلَّد الأوَّل منه الدكتور زكي مبارك، صرَفَ في ذلك كما يقول في مقدمته (ص ح): "إنه قضى في تصحيحه شهورًا طِوالًا". ومع ذلك بقي في المجلَّد المذكور مواضع ظهر لي عند مطالعته أنَّها على خلاف الصواب. وأرى أنَّي لو تكلَّفتُ النظر البالغ مع مراجعة المظانِّ لوجدتُ فيه مواضع أخرى. وهذا بيان ما ظهر لي (¬1): - ص 10 س 11: "كصدَّاء". الصواب: "كصدَّا". إنما يستقيم وزن الشعر بترك الهمزة. - ص// (¬2) س 12: "مَرَعى" الصواب: "مَرْعى". - ص 15 س 7 - 8: "رزقه وخزائن، رحمته". الصواب: "رزقه وخزائن رحمته". - ص 16 س 6: "فَهِيَ". الصواب: "فَهْي". إنما يستقيم الوزن بسكون الهاء. - ص 17 س 3: "قولهم غلق: الرهن". الصواب: "قولهم: غلق الرهن". - ص 18 س 16: "مَوعِدُكم". الصواب: "مُوعِدكم". إنما يستقيم معنى البيت بهذا، كما لا يخفى على المتدبِّر. ¬

_ (¬1) رتَّب الشيخ تنبيهاته في صورة خمسة جداول هكذا: صفحة، سطر، في المطبوع، الصواب، الإشارة إلى الدليل. وقد غيَّرنا ترتيبه لتسهيل الطباعة كما ترى. (¬2) يعني الصفحة 10 نفسها.

- ص 19 س 15: "بأقوا م". الصواب: "بأقْوام". يتمُّ الشطر الأول على القاف، كما لا يخفى. - ص 26 س 10: {أَوْ مَنْ يُنَشَّأُ}. الصواب: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ} هكذا الآية. الهمزة للاستفهام والواو عاطفة. - ص 40 س 1: "يَمْزُجُ" (¬1). الصواب: "يُمْزَجُ". - ص 47 س 1: "نظَّم الجِزْعَ". الصواب: "نَظَّم الجَزْع". الجزع بمعنى الخرز اليماني، الصحيح أنه بفتح الجيم. والكسر غريب، نسبه ابن دريد للعامَّة (¬2). - ص 48 س 6: "واجد". الصواب: "واحد". انظر ص 51 س 1 - 2. - ص 50 س 12: "يعني قطريًّا". الصواب: "يعني قُطْرُبًا". هو محمد بن المستنير الملقَّب قطربًا، فإنَّ البيت ينسب له كما في "الخزانة" [4/ 343] (¬3). ويوضِّحه قول أبي حاتم: "صنعة"، فإنَّ الشعر المصنوع ¬

_ (¬1) يعني في قول طُخَيم بن أبي الطَّخماء الأسدي. ولَمْ أَرِدِ البطحاءَ يَمزُجُ ماءَها ... شرابُ من البَرُّوقتَين عتيقُ وكذا ضُبط في طبعة الدالي (1/ 58). ونحوه قول محمود الورَّاق: مزَجَ الصدودُ وصالَهُنْ ... نَ فكنَّ أمرًا بَينَ بَيْنْ انظر "ديوانه" (119). ولعله من مازَجَه, فمزَجَه. يعني: غلَبه. وروايته في "الحيوان" للجاحظ (5/ 158) ومنه في "المؤتلف والمختلف" للآمدي (223): "أمزُجُ ماءَها بخمرٍ". (¬2) "جمهرة اللغة" (1/ 469). (¬3) كان المؤلف قد ترك بياضًا هنا. وانظر طبعة هارون (10/ 361).

هو ما يقوله مَن ليس بحجَّة، وينسبُه إلى مَن هو حجَّة. وقطَري بن الفجاءة حجَّة بلا خلاف - ص// س 20 حاشية: "قطري بن الفجاءة". الصواب: × (¬1). - ص 55 س 14: "من قُدَّامُ". الصواب: "من قُدَّامِ". انظر ص 57 س 5 - 6. - ص 68 س 13: "بعئ يقد الشال". الصواب: "بعد الشيء يقال". هذا من اختلاط تركيب حروف الطبع، ولكنه ظريف! - ص 72 س 5: "مثلَ" (¬2) الصواب: "مثلُ". - ص 73 س 3: "خبِّر" (¬3). الصواب: "حَبِّرْ". ¬

_ (¬1) يعني حذف الحاشية المذكورة. (¬2) في قول الشاعر: مَن تلقَ منهم تقُلْ لاقيتُ سيَّدَهم ... مثلَ النجوم التي يَسْري بها الساري وقد ورد البيت في مصادر كثيرة، ولم أر من ضبط "مثل" بالرفع. وتوجيه النصب يسير قريب. (¬3) في قوله: بل أيها الراكبُ المُفني شبيبتَه ... يبكي على ذات خلخال وأسوار خَبَّر ثناءَ بني عمرو فإنَّهُمُ ... أولو فضولٍ وأنفالٍ وأخطار في "الحماسة الشجرية" (358): "خَبَّر ثنائي"، وفي "ديوان المعاني" ط شعلان (68): "اختَرْ فِناءً" تبعًا لنشرة كرنكو، وفي الحاشية أن في جميع مخطوطات الكتاب: "اختَرْ ثناء". وما اقترحه المؤلف: "حَبِّر" ورد في بعض نسخ الكامل، وهو مقتضى السياق وبلاغة الكلام.

- ص// س 7: "أدْمار". الصواب: "أذْمار". راجع اللسان وغيره. - ص// س 9: "مثلَ" الصواب: "مثلُ". - ص 83 س 2: "يُقْبِل" الصواب: "يَقْبَل". - ص// س//: "تعزيرًا" الصواب: "تعذيرًا". - ص 95 س 9: "تَشُّمُّه". الصواب: "تَشمُّه" بفتح الشين أو ضمِّها بدون تشديد. - ص// س 18: "القومَ مفلقٌ شديدٌ" (¬1). الصواب: "القومُ مفلقٍ شديدٍ". هكذا يُعلم مما يأتي في تفسير البيت مع تدبُّره. - ص// س//: "أَزومها" الصواب: "أُزومها". // // // (¬2). - ص 96 س 2: "تَلْقَني ... تَلْقَ" (¬3). الصواب: "تُلْفِني ... تُلْفِ" هكذا يأتي في تفسيره ص 98 س 9. وهكذا في "البيان" للجاحظ (1/ 122) (¬4). - ص 96 س 3: "مفلقٌ" الصواب: "مفلقٍ". - ص// س 8: "شديدٌ" الصواب: "شديدٍ". - ص// س 11: "أَزومها". الصواب: "أُزومها". ¬

_ (¬1) في نشرة الدالي (140): "القومَ مفلقٌ شديدٍ" وانظر تعليقه. وانظر رواية ابن هانئ في "تهذيب اللغة" (9/ 92) ومنه في اللسان (قرن). (¬2) يعني الملحوظة السابقة نفسها، وهي قوله: "هكذا يُعلم مما يأتي ... " إلخ. (¬3) وكذا في نشرة الدالي (141، 145). (¬4) وكذا في "تهذيب اللغة" ومنه في "اللسان" (قرن).

- ص 98 س 3: "تَقُلُّع". الصواب: "تَقَلُّع". - ص 107 س 7: "الزهد" (¬1). الصواب: "الدهر". - ص 110 س 2: "كان". الصواب:؟ "كاد". - ص 122 س 5: "طلقِ الطَّعان". الصواب:؟ "طلقِ الطِّعان". -[3/ أ] ص 140 س 1: "الشَّرِيف". الصواب: "الشُّرَيف". معجم البلدان. - ص// س 10: "الفخر". الصواب: "الشعر" (¬2). "الشعر والشعراء" ¬

_ (¬1) في قول الفرزدق: وما فارقتُها شبعًا ولكن ... رأيتُ الزهدَ يأخذ ما يُعار وكذا في طبعة الدالي (158) في الحاشية من زيادات مطبوعة ليبزج. وانظر البيت على ما صححه الشيخ في "ديوان الفرزدق" (1/ 294) و"طبقات فحول الشعراء" (318) و"الوساطة" للجرجاني (377) و"الزاهر" لابن الأنباري (2/ 208) بسنده عن الفرزدق. وقد رجَّح الأستاذ محمود شاكر رواية "الزهد"، وتكلَّف في تفسيرها. (¬2) كذا في الأصل، وهو سهو. المقصود أنَّ "لِفخرٍ" صوابه: "لِشِعرٍ" في قول الشاعر: يُفاخرون بها مُذكان أوَّلُهم ... يا لَلرَّجال لِفخرٍ غير مسؤوم الظاهر أنهما روايتان. والأولى (لفخر) في "الكامل" نشرة الدالي (212) ولم يشر إلى خلاف بين النسخ، و"معجم الشعراء" (453) و"الشعر والشعراء" (236) و"التذكرة الحمدونية" (5/ 120). وذكر ياقوت في "معجم الأدباء" (2276) أنه قرأ بخط أبي علي المحسن: "أنشدني القاضي أبو سعيد السيرافي ... ". والرواية الأخرى في "الأغاني" (11/ 49): يَروُونها أبدًا مذكان أوَّلُهم ... يا لَلرِّجال لِشعرٍ غير مسؤوم وكذا في "الاشتقاق" لابن دريد (339) مع رواية "يفاخرون بها".

ص (¬1) و"الأغاني" (9/ 176) و"الخزانة" (1/ 519). - ص 146 س 12: "الموازيّ". الصواب: "الموازيَ". - ص 169 س 18: "حتى تردى طرفُ الغرفاص". الصواب: "حتى تردى طرفَ العرفاص" (¬2). - ص 170 س 18: "في السفَر". الصواب: "في السفْر". - ص 171 س 13: "يقولون ما اسمك وبا اسمِك". الصواب: يقولون: "ما اسمُك وبا اسبُك" (¬3) "شرح الشافية للرضي" ص 327. - ص 177 س 17: "أبا الموت أُخوف". الصواب: "أبا لموت أخوف". ¬

_ (¬1) لم يذكر الشيخ رقم الصفحة. ولا أدري أكان قرأ رواية "لشعر" في الطبعة التي كانت عنده من "الشعر والشعراء" أم أحال عليه اعتمادًا على "خزانة الأدب". فالرواية في طبعة أحمد شاكر: "لفخر" كما سبق. (¬2) في نشرة الدالي (256) أيضًا ضبط "طرفُ" بالرفع. وفي "المخصص" (6/ 100) بالنصب كما نبَّه الشيخ. وفي "المحكم" (2/ 313) عن المبرِّد أيضًا: "عقَبَ العرفاص". (¬3) كذا في الأصل. والذي في شرح "الشافية": "ما اسبُك أي ما اسمُك" قال الرضي: "حكى أبو علي عن الأصمعي ... ". وهذا خلاف ما نقله ابن جني في "سر الصناعة" (119) قال: أخبرنا أبو علي بإسناده إلى الأصمعي قال: "كان أبو سوَّار الغنوي يقول: "با اسمك". يريد: ما اسمك". وكذا في كتاب "الإبدال" لابن السكيت (70) و"أمالي القالي" (2/ 52) عن الأصمعي عن الغنوي. فما ورد في "الكامل" صحيح، وكسر الميم في "با اسمِك" في طبعة زكي مبارك خطأ مطبعي.

- ص 185 س 10: "تحت تخوم السماء". الصواب: "تحت نجوم السماء". - ص 194 س 12: "ربيع الحُفَّاظ". الصواب: "ربيع الحِفَاظ". - ص 195 س 3: "بن محمد الأشعث". الصواب: "بن محمد بن الأشعث". - ص 197 س 10: "رهطًا" (¬1). الصواب: "رهط". - ص 206 س 15: "وعمرو بن عبيد الله بن معمر". الصواب: "وعمر بن عبيد الله بن معمر". - ص 217 حاشية (2): "أي في جماعات الناس" (¬2). الصواب: × (¬3). بل المراد بالأطباق: الآنية المعروفة، تُجعل عليها الفاكهة ونحوها. - ص 231 حاشية: "الحسن بن الحسن". الصواب: "الحسن بن أبي الحسن". اسم أبيه يسار، كما في "التهذيب" وغيره. - ص 240 س 14, 17 (¬4): "يحيى بن يعمُر". الصواب: يحيى بن يعمَر. "التقريب" وغيره. ومعنى "يعْمَر" في الأصل: يعيش ويحيى. ¬

_ (¬1) وكذا في نشرة الدالي (300)، يعني: خفضتَ كلمة رهط. (¬2) هذا التفسير جاء في هامش بعض نسخ الكامل. وزيد في بعضها: "وقيل: الأطباق السجون" انظر "نشرة الدالي" (330). وبالجماعات فسَّر ابن السَّيد في طرره على الكامل. انظر: القرط (335). (¬3) يعني حذف الحاشية المذكورة. (¬4) الدَّمج منِّي.

- ص 247 س 11: "آياتٌ". الصواب: "آياتٍ". يُعلم من السياق. - ص 248 س 16: "أنها إن". الصواب: "أنها "إن"" كما صُنِع في نظائرها. - ص 267 س 9: "والخيل تردَى بنا معًا". الصواب: "والخيل تردِي بنا معا". المعاجم. - ص 269 س 12: "خالد بن يزيد بن مَزِيْد". الصواب: "خالد بن يزيد بن مَزْيَد". - ص 269 س 15: "المرءُ اللئيمَ اصطناعَه". الصواب:؟ (¬1) إمَّا "المرءُ الكريمُ (¬2) اصطناعَة"، وإمَّا "المرءَ الكريمَ اصطناعُه" (¬3)، كما يُعلم بالتدبُّر. - ص 271 س 3: "خيرَ بقيةٍ". الصواب: "خيرٌ بقيةً". - ص 274 س 14: "ذو حييّ". الصواب: "ذو حَبِيّ". - ص 306 س 3: "يبلو الأخيار" (¬4). الصواب: "يبلو الأخبار". إشارة إلى قوله تعالى: {وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [سورة محمد: 31]. ¬

_ (¬1) كذا كتب علامة الاستفهام ثم ذكر اقتراحه. والصواب: "اللئيمُ اصطناعَه" وفسَّره المبرد بأن المعنى: "لاصطناعه"، فهو مفعول لأجله. وفسَّره الوقشي في طرره بأن المعنى: لَؤُمَ اصطناعُه، فهو مرفوع باللئيم، ويجوز نصبُه على التشبيه بالمفعول. انظر: "القرط" (365) و"الأغاني" (23/ 437). (¬2) كذا "الكريم" هنا وفيما بعد، والظاهر أنه سبق قلم، والمقصود: "اللئيم". (¬3) لا يصح هذا الوجه لأنَّ الفعل (أسلَعَ) لازم. (¬4) كذا في طبعة الدالي (454) وذكر أن في أكثر النسخ: "الأخبار" واستشهاد أبي العباس بقوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7] دون قوله في سورة محمد يُوهم أنه روى "الأخيار".

- ص 308 س 16: "ليبلو الأخبار". الصواب:// //. - ص 320 س 9: "الفَضِيل" (¬1). الصواب:؟ "المليك". هذا هو المعروف. - ص 328 س 16: "أمَّاويّ". الصواب: "أمَاويّ". - ص 329 س 3: "وقد خبا". الصواب: "وقد حبا". لآلئ البكري 639. - ص 334 س 3: "رويشد بن رميض العنبري". الصواب: رُشيد بن رميض العنزي. راجع حواشي السمط ص 729 و753. - ص 335 س 8: "أُتِهيَة". الصواب: "نِهية"، كما في سطر 11. - ص 343 س 3: "يثمة". الصواب: "ينمة"، كما في السطر الذي يليه، وهو المعروف في المعاجم. - ص 348 س 6: "سليه ربِّ يحيى". الصواب: "سليه ربَّ يحيى". - ص 356 س 6: "ثم إنَّي". الصواب: "ثم أنَّي". - ص 358 س 8: "بخُوَّيْصه نفسك". الصواب: "بخُوَيْصَّةِ نفسك". - ص 388 س 2: "بشؤبوبِ بَرَدٍ" (¬2). الصواب: "بشؤبوب بَرِدٍ". ¬

_ (¬1) كذا ورد في نسختين من "الكامل". انظر نشرة الدالي (440). (¬2) وكذا ضبط في نشرة الدالي (557) والصواب ما ذكره الشيخ. و"بَرِد" أي ذو بَرَد. وكأنه مثل، ومنه قول هند بنت عتبة من أبيات: والحربُ تعلوكم بشؤبوبٍ بَرِدْ انظر: "سيرة ابن هشام" (2/ 92).

- ص 398 حاشية: "هذا خطأ من المبرَّد". الصواب: ×. وهو صواب. مراد المبرِّد أنَّ الخطاب كان موجَّهًا إلى القوم، فذُكروا بضمير المخاطبين، ثم وُجِّه الخطاب في القصد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فصارت مرتبة القوم الغَيبة، فذُكروا بضمير الغائبين.

الرسالة السابعة تنبيهات على الجزء الأول من معجم الأدباء طبعة أحمد فريد الرفاعي

الرسالة السابعة تنبيهات على الجزء الأول من معجم الأدباء طبعة أحمد فريد الرفاعي

[1/ أ] معجم الأدباء لياقوت قام بطبعه أولاً المستشرق مرجليوث، ثم طُبع أخيرًا سنة 1355 هـ بمصر، وقام بتصحيحه وتنقيحه الدكتور أحمد فريد رفاعي مدير إدارة الصحافة والنشر والثقافة المصرية، وراجعته وزارة المعارف العمومية، و"تعهدت بمراجعة نماذجه في أثناء طبعه وتصحيح مسوَّادته". وهو في عشرين جزءًا، طالعتُ الجزء الأول منه، وقيَّدت ما ظهر لي أنَّه خطأ، ولم أستقصِ. وهذا بيان ذلك (¬1): - ص 45 س [3] (¬2): "القدرة". الصو اب: "القدوة" (¬3). - ص 48 س 10 - 11: "إلى أن هزم اليأسَ الطمعُ" (¬4). الصواب: "إلى أن هزم اليأسُ الطمعَ". المعنى على هذا. - ص 48 س 15: "والإخباريين". الصواب: "والأخباريين". - ص 51 س 11: "وفاتَه". الصواب: "وفاتُه". - ص 52 س 6: "المتقدين". الصواب: "المتقدمين". - ص 55 س 9: "فادلُجي". الصواب: "فأدلجي". - ص// س 10: "المفنَّد". الصواب: "المفنِّد". ¬

_ (¬1) انظر في ترتيب الملحوظات الآتية ما علقت في أول التنبيهات على الكامل. (¬2) في الأصل بياض هنا. (¬3) كذا في الأصل بالواو بعد الدال. والظاهر أن الخطأ في المطبوع: "ذي القدرةُ القاهرة", والصواب: "ذي القدرةِ القاهرة". هذا هو المقصود، ولكن لا أدري كيف وقع السهو. (¬4) وكذا ضبط "اليأس" بالنصب في طبعة إحسان عباس (1/ 7) أيضًا!

- ص 59 س 13: "المَقَّريّ". الصواب:؟ "المُقرِئ". قضية صنيع أصحاب المشتبه (¬1). - ص 71 س 1: "أو حاتم سهل بن يحيى السجستاني". الصواب: "أبو حاتم سهل بن محمد السجستاني. "التهذيب"، و"بغية الوعاة"، وكتابه "المعمرين" وما لا يحصى. - ص 79 س 7: "أيوب السجستاني". الصواب: "أيوب السِّخْتياني (¬2) ". هو أيوب بن أبي تميمة السختياني، مشهور. - ص// حاشية (5): "نسبة إلى سحبستان، بلد". الصواب: × (¬3). - ص// س 10: "فقوَّمَه". الصواب: "فقوَّمْه". - ص 80 س 8: "معاويةُ المحققُ". الصواب: "معاويةَ المحققَ". المعنى على هذا. - ص 81 س 10: "قبل أن يَتَّمَّما". الصواب:؟ (¬4). - ص 82 س 8: "أمغطًّ ... بالسحب" الصواب: "أمغطًّى ... للحبّ". "البيان" للجاحظ (1/ 135)، "عيون الأخبار" (2/ 161) وغيرهما. والمعنى عليه. - ص 83 س 14: "سَلَمة بن قتيبة". الصواب: "سَلْم بن قتيبة". "التهذيب" و"التقريب". ¬

_ (¬1) يعني: مقتضى صنيع مصنفي كتب المشتبه أن يكون الصواب هنا: المقرئ. (¬2) كذا ضبطه الشيخ في الأصل بكسر السين. (¬3) يعني أن الصواب حذف الحاشية المذكورة. (¬4) الصواب: "يَتَتَمَّمَا" من التَّتَمُّم، كما في نشرة إحسان عباس (1/ 24)

- ص 88 س 3: "جِئُوا في قفاه". الصواب: "جَؤُوا (¬1) في قفاه". "اللسان" وغيره. - ص// حاشية (1): " ... وجئو في قفاه". الصواب: // // (¬2). - ص 89 س 8: "من أقرأ". الصواب: "من أن أقرأ". - ص 100 س 5: "تغلى علينا الأشعار". الصواب: "تغلى علينا الأسعار". - ص 107 س 3: "الجَرِيري". الصواب: "الجُرَيري". "إكمال ابن ماكولا" وغيره. - ص 108 س 9: "وابن روق". الصواب: "وأبي روق". "التهذيب" وغيره. - ص 109 س 3 - 4: " ... بن المثنى وأبو عبد الله محمد". الصواب: × (¬3). هذه العبارة مكررة. - ص// س 11: "أبا عَمْرٍ الزاهد". الصواب: "أبا عُمَرَ الزاهد". "تاريخ بغداد"، و"بغية الوعاة"، و"لسان الميزان"، و"معجم البلدان"، وما لا يحصى. - ص 110 س 1: "من كتاب أبي عَمْروٍ". الصواب: "من كتاب أبي عُمَرَ" // // (¬4). ¬

_ (¬1) رسمها الشيخ بكتابة الهمزة بين الجيم والواو، لا على النبرة. (¬2) يعني: الصواب ما سبق في الملحوظة السابقة. (¬3) يعني: أن الصواب حذف العبارة المذكورة لتكرارها. (¬4) يعني: انظر المراجع المذكورة في التنبيه السابق.

- ص// س 2: "في ترجمة أبي عَمْروٍ". الصواب: "في ترجمة أبي عُمَرَ". // // (¬1). - ص 112 س 11: "أبا نَعيم الفضل بن دكين". الصواب: "أبا نُعَيم الفضل ابن دكين". "التهذيب"، و"التقريب"، وغيرهما. - ص 113 س 4: "محمد بن مُخَلَّد". الصواب: "محمد بن مَخْلَد". "المشتبه" (¬2). - ص 115 س 5: "ولا تزوَّجتُ ولا زوَّجتُ" الصواب: "ولا تروَّحتُ ولا رُوِّحتُ". يريد: لم يستعمل المروحة، كما يظهر للمتدبِّر. - ص // حاشية (2): "لعله يريد غير زوجته الأولى". الصواب: ×. - ص // س 7، 10: "أُضِقْتُ إضاقة شديدة". الصواب: "أَضَقتُ إضاقة شديدة. "اللسان" وغيره. - ص // حاشية (3): "نزل به ضيق". الصواب: "احتجت، افتقرت". // //. - ص 121 س 3 - 4: "أتت امرأة النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي يدها مناجذ". الصواب: "أتت امرأة النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي يدها مناجد". "نهاية ابن الأثير" (ن ج د). قال: "مناجد من ذهب ... ". واحدها: مِنْجَد. - ص // حاشية (2): "مناجذ: جمع لا واحد له من لفظه". الصواب: ×. المناجذ بالمعجمة: فِئران عُمْي، لا واحد له من لفظه، ولا معنى له ها هنا. ¬

_ (¬1) يعني: انظر المراجع المذكورة في التنبيه السابق. (¬2) للذهبي (579).

- ص// س 6 - 7: " ... لو أمرت بهذا البيت، فسفروا، عن النبي". الصواب: "لو أمرت بهذا البيت فسُفِرَ. وعن النبي". "تاريخ بغداد" (6/ 36). وراجع: "النهاية" (س ف ر) و"اللسان". - ص// س 7 - 8: "إذا جعتنَّ خجلتنَّ وإذا شبعتنَّ دقعتنَّ". الصواب:؟ (¬1) "إذا شبعتنَّ خجلتنَّ وإذا جعتنَّ دقعتنَّ". "النهاية" (خ ج ل) و (د ق ع). وكذا "اللسان" وغيره. ولكن في "تاريخ بغداد" كما في المطبوع. - ص 122 س 6: "ولا قول الأخرق". الصواب:؟ "ولا قول الآخر" (¬2). "تاريخ بغداد" (6/ 38). - ص 125 س 12: "ثابت بن بِندار". الصواب: "ثابت بن بُندار". "القاموس" وغيره. - ص 126 س 15 "عن أبي نَعيِمْ". الصواب: "عن أبي نُعَيم". "التقريب" و"المشتبه" وغيرهما. - ص 129 س 3: "مسند جبلة بن هبيرة" (¬3). الصواب:؟ - ص 132 س 4: "الصَّراة". الصواب: "الصَّراة" "معجم البلدان" وغيره. - ص 137 س 1: "من تاريخ الخطيب إبراهيم". الصواب: "من تاريخ الخطيب". كلمة "إبراهيم" طائشة من موضع آخر. ¬

_ (¬1) في نشرة إحسان عباس (1/ 46): "إذا جُعْتُنَّ دَقَعتنَّ، وإذا شبعتُنَّ خجلتنَّ". (¬2) وكذا على الصواب في نشرة إحسان عباس (1/ 46). (¬3) وكذا في نشرة إحسان عباس (1/ 50) وفي "الوافي" (5/ 323) عن ياقوت. ولم يذكر في فهرست النديم. ولعله تحريف "جعدة بن هبيرة".

- ص// س 12: "الخَلَدي". الصواب: "الخُلْدي". "معجم البلدان" (الخلد). - ص 139 س 11: "وهو عرق النَّسا, ولا يقال: عرق النِّسا". الصواب: "وهو النَّسا, ولا يقال: عرق النَّسا". "اللسان" وغيره. - ص 140 س 11 - 12: "وقد أتيتُ ... وافردتُ". الصواب: "وقد أتيتَ ... وأفردتَ". - ص 141 س 9: "المطوَّعة". الصواب: "المطوَّعة". "اللسان" و"التاج" (ط وع). - ص 148 س 9: "فقال". الصواب: "فيقال". - ص 151 س 6: "كتاب الفِرَق". الصواب: "كتاب الفَرْق". - ص// س 12: "العَنْزَيّ". الصواب: "العَنَزِيّ". - ص 152 س 3: // // //. - ص 152 س 9: "في جمال". الصواب:؟ (¬1). - ص// س 10: "العير". الصواب:؟ (¬2). - ص 153 س 2: "أبو الحسن الجبائي". الصواب:؟ (¬3). - ص 154 س 7: "أميرَ". الصواب: "أميرُ". ¬

_ (¬1) الصواب: "في حمار" كما في طبعة إحسان عباس (1/ 65). (¬2) ما في المطبوعة صواب، وقد أشكل لإشكال ما سبق. (¬3) صوابه في نشرة إحسان عباس (1/ 64): "أبو الحسن اللَّحياني".

- ص// س 9: "فتَقْطَعُني". الصواب: "فيُقَطِّعني". - ص 155 س 1: "أبا الكرم الجوزي". الصواب: "أبا الكرم الحوزي". "معجم البلدان" (الحوز) و"المشتبه" وغيره. - ص// س 10: "وحَدَّث". الصواب: "وَجَدْتُ". - ص 156 س 4: "أبا نَعِيْم". الصواب: "أبا نُعَيم". - ص 157 س 3، 5، 6 (¬1): "الجوزي". الصواب: "الحوزي". مَرَّ قريبًا. - ص 161 س 8: "حبان" (¬2). الصواب: "حيان". "لسان الميزان". وهو قضيَّة ما في "المشتبه". - ص// س 13: "في نَهْم". الصواب: "في نِهْم" (¬3). "أنساب ابن السمعاني" و"القاموس" وغيره. - ص 171 س 2: "لو آمنتُ ودَّك". الصواب:؟ (¬4). - ص 173 س 8: "إن تَلَقَّوه". الصواب: "أن يَلْقَوه". ¬

_ (¬1) إدماج الأسطر الثلاثة منَّي. (¬2) كذا أثبت إحسان عباس في المتن (1/ 68)، ونقل في الحاشية عن "معجم الطوسي" (13): "حيان". وفاته أن صاحب "نضد الإيضاح" المطبوع في حاشية كتاب الطوسي نصَّ في الصفحة نفسها على أنه "بالمهملة وتشديد التحتية ثم النون". (¬3) كما ضبط في سياق نسبه في أول الترجمة. وضبطه إحسان عباس بضم النون، والصواب ما ذكره الشيخ. (¬4) الصواب: "لو أمِنتُ ودَّك". انظر: نشرة إحسان عباس (73) و"الأغاني" (10/ 58).

- ص// س//: "بشتخير". الصواب: "بشخير" (¬1). هكذا في "الأغاني" في مواضع كثيرة. - ص// س//: "الزريم" (¬2). الصواب:؟ "النديم". - ص 176 س 3: "أصْبُ". الصواب: "أصُبّ". - ص 178 س 4: "جُرْميّ". الصواب: "جَرْميّ". "الأنساب" و"القاموس" وغيره. [2/ أ] - ص 179 س 3، 5 (¬3): "ابن المُدْبِر". الصواب: "ابن المُدَبَّر". "تبصير المنتبه". وراجع "الأغاني" (15/ 117) مرتين. - ص// س 14: "وقال له كيف تقبَل" (¬4). الصواب: "وقال له تقبَل". هكذا يُعلم من "الأغاني" (9/ 28) وبه يستقيم المعنى. - ص 184 س 9: "ابن المُدْبِر". الصواب: "ابن المُدَبَّر". مرَّ قريبًا. ¬

_ (¬1) في "الأغاني" طبعة دار الكتب (10/ 45) و (12/ 48) والمواضع الأخرى: "بُسْخُنَّر". (¬2) كذا في نشرة إحسان عباس (1/ 74) أيضًا. والصواب ما اقترحه الشيخ، انظر: "قطب السرور" للرقيق النديم (574). (¬3) الإدماج مني هنا وفي الموضع الآتي. (¬4) وكذا في نشرة إحسان عباس (1/ 77) ولم يفطن لما فيه, مع الإحالة على الأغاني".

- ص 193 س 2: "آباءُ الكرامِ" (¬1). الصواب: "آباء اللِّئام" (¬2). "تاريخ ابن خلكان" (1/ 25) وبه يستقيم المعنى. - ص 195 س 1، 5: "ابن المُدْبِر". الصواب: "ابن المُدَبَّر". مرَّ قريبًا. - ص 196 س 5: // // // // - ص 197 س 12: "ابن مُدْبِر". الصواب: // //. - ص 200 س 9: "أدين". الصواب:؟ (¬3). - ص 201 س 1: "معوزا". الصواب: "معورًا". - ص 201 س 2: "مقْتِرا". الصواب: "مقَتِّرا" للوزن. - ص 209 س 6: المُصَيْصة. الصواب: "المَصِيْصَة". أو المَصِّيصة كما في "معجم البلدان". - ص 210 س 2: "مَعْوية بن عمرو". الصواب: "مَعَاوية بن عمرو". "التهذيب" وغيره. ¬

_ (¬1) وكذا في نشرة إحسان عباس (1/ 84) ولم يستفد من المصادر التي أحال عليها، وفيها جميعًا: "آباء اللَّئام". وهي: "وفيات ابن خلكان" بتحقيقه (1/ 89) و"أمالي المرتضى" (1/ 487) و"الطرائف الأدبية" (162). (¬2) مقتضى صنيع الشيخ أن الخطأ في كلمة "الكرام"، لا في ضبط "آباءُ" بالرفع كما في "وفيات ابن خلكان" و"أمالي المرتضى". والصواب: "آباءَ اللَّئام" كما ضبطه الميمني في "الطرائف"، وبه يستقيم المعنى. (¬3) الصواب: "أذين" بالذال المعجمة، كما في نشرة إحسان عباس (1/ 88). وانظر ترجمة ابن أذين في "إنباه الرواة" (4/ 112).

- ص// س 5: "سليمان البتي" (¬1)، الصواب: "سليمان التيمي". "التهذيب" وغيره. - ص 211 س 1: "وقال عبد الرحمن النَّسائى" (¬2).الصواب: "وقال أبو عبد الرحمن النسائي". "التهذيب" وغيره. - ص// س 10 - 11: "الفضل بن عياض". الصواب: "الفُضيل بن عياض". "التهذيب" وغيره. - ص// س 12: "المُصَيصة". الصواب: "المَصِيْصة". مرَّ قريبًا. - ص// س//: "مالي". الصواب: "ما بي". - ص// س 15: "بالمُصَيصة". الصواب: "بالمَصِيْصة". مرَّ قريبًا. - ص 212 س 6: "أبو إسحاقَ بنُ عون". الصواب: "أبو إسحاقَ ابنَ عون". "التهذيب" وغيره. - ص 213 س 9: "الرَّوزباري". الصواب: "الرُّوذَباري" (¬3). "معجم البلدان" وغيره. - ص// س 15: "طَرْسُوس". الصواب: "طَرَسوس". "معجم البلدان". قال: "ولا يجوز سكون الراء إلا في ضرورة الشعر". ¬

_ (¬1) وكذا أثبته إحسان عباس (1/ 94) مع التنبيه في الحاشية على أن في "تاريخ ابن عساكر": "سليمان التيمي". (¬2) وكذا في طبعة إحسان عباس (1/ 94)! (¬3) كذا في الأصل بفتح الذال. والظاهر أن الصواب بسكون الذال.

- ص 214 س 4: "مُخَلَّد بن الحسين". الصواب: "مَخْلَد بن الحسين". "المشتبه" وغيره. - ص 215 س 12: "إبراهيم بن محمد سعدان". الصواب: "إبراهيم بن محمد بن سعدان". هكذا يُعلم من الترجمة. - ص 218 س 13: "حاتمية" (¬1). الصواب: "حاكمية". يُعلم بالتدبُّر. - ص// س 16: "مُنْقِع" (¬2). الصواب: "مُنْقَع". "اللسان" وغيره. - ص 219 س 11: "ليلةٍ". الصواب. "ليلِه". - ص 222 س 3: "صبحتُ" (¬3) الصواب: "صبحتَ". - ص 224 س 15: "القصر". الصواب: "القطر". - ص// س 16: "سُبُل". الصواب: "سَبَل". "اللسان" وغيره. - ص 226 س 8: "حسامٌ". الصواب: "حسامٍ". ¬

_ (¬1) وكذا في طبعة إحسان عباس (1/ 99). وجاءت الكلمة في قول الرقيق القيرواني: وما مثلُ باديسٍ ظهيرُ خلافةٍ ... إذا اختير يومًا للظهيرة موضعُ نصيرٌ لها من دولة حاتميَّة ... إذا ناب خطبٌ أو تفاقمَ مطمعُ وهما من قصيدة قالها الرقيق حين قدم مصرَ بهدية من نصير الدولة باديس بن زيري إلى الحاكم، والمقصود من الدولة دولة الحاكم. وهذا معنى قول الشيخ: "يُعلم بالتدبر". (¬2) وكذا ضُبط بكسر القاف في طبعة إحسان عباس (1/ 99)! (¬3) وكذا في طبعة إحسان عباس (1/ 100)!

- ص 226 س 9: "ابن المُدبِر". الصواب: "ابن المُدَبَّر". مرّ ص 179. [2/ ب] - ص 228 س 5: "وقبله". الصواب: "وقتله". - ص// س 6: "ابن المُدْبِر". الصواب: "ابن المُدَبَّر". مرَّ ص 179. - ص 229 س 4: // // // // - ص 230 س 1: // // // // - ص 231 س 6، 9 (¬1): // // // // - ص 232 س 8: "بن غَبْرة" (¬2). الصواب: "بن غِيَرة". "التاج" (غ ي ر) و"إكمال ابن ماكولا" وغيره. - ص// س 13: "جبَّارًا" (¬3). الصواب:؟ "خيارًا". - ص 235 س 5: "بشلغمان". الصواب: "بشلمغان". "معجم البلدان" وغيره. - ص// حاشية (1): "شلغمان". الصواب: "شلمغان". - ص 236 س 2: "الكمْياء". الصواب: "الكيْمِياء". ¬

_ (¬1) الإدماج منَّي. (¬2) وكذا في طبعة إحسان عباس (1/ 104)! (¬3) وكذا في طبعة إحسان عباس (1/ 105) ولعل الصواب: "أخباريًّا" كما في "الوافي" (6/ 121) عن "معجم الأدباء".

- ص 238 س 10: "مستغر". الصواب:؟ (¬1). - ص 241 س 11: "يرمق" (¬2). الصواب: "يروق". - ص 243 س 11: "يدَّعي أنَّه لَحقُّ". الصواب: "يدَّعي إنَّه لَحقُّ". - ص 253 س 8: "والسعيَ". الصواب: "والسعيِ". - ص 255 س 2: "نفْطْوَيه". الصواب: "نِفْطَويه". - ص 256 س 4: "حَيَّوِيْة". الصواب: "حَيَّوَيْه". - ص// حاشية (1): "لعله البهاري". الصواب: × (¬3). الصواب ما في الأصل: "البربهاري". - ص 265 س 6: "عوَّق السَّلقُ". الصواب: "عوّق السلقَ" (¬4). يظهر من السياق أنَّ "السلق" هنا كلمة عامِّيَّة بمعنى "النعل" أو نحوه. - ص// حاشية (2): "السلق: الذنب". الصواب: ×. - ص 266 س 12: "وقال". الصواب: "فقال". ¬

_ (¬1) ضُبط في المطبوع على أنه اسم فاعل من الاستغراء، والصواب: "مُسْتَغِرًّ" من استغَرَّ: اغتَرَّ. (¬2) سياقه: "يرمق ظاهرُه العيونَ، فيَصرف عنه الظنونَ". وفي طبعة إحسان عباس (1/ 109): "ترمق ... فتنصرف ... ". والصواب ما ذكره الشيخ. (¬3) يعني أن تحذف الحاشية. (¬4) لم يضبط الشيخ الواو المشدَّدة في "عوّق". وفي طبعة إحسان عباس (1/ 118): "عوَّق السلقَ" دون تفسير أو تعليق. وليقارَن النصُّ بما ورد في "تكملة تاريخ الطبري" (290) و"إنباه الرواة" (1/ 212).

- ص 269 س 10: "إبراهيم السري". الصواب: "إبراهيم بن السري". - ص 270 س 6: "ذاك". الصواب: "دَلِّ".

الرسالة الثامنة من نوادر مخطوطات مكتبة الحرم المكي الشريف

الرسالة الثامنة من نوادر مخطوطات مكتبة الحرم المكي الشريف

بسم الله الرحمن الرحيم [قراءات] 20 شرح القصيدة الرَّائية "عَقِيلة أتْرَابِ القصائد" لابن القفال الشاطبي: خط قديم. 24 "الروضة في القراءات الإحدى عشرة" (¬1): تاريخ (1149) (¬2) عن نسخة قُرئت سنة (647)، على ... 31 "كنز المعاني" لشمس الدين الموصلي: ناقص، ومعه قطعة من كتاب آخر كُتِب سنة (857) 42 "مُبرز المعاني، شرح حرز الأماني" للشيخ محمد [بن عمرو بن علي] العمادي (¬3): أوراقه (228) في الصفحة 22 سطرًا منه (¬4). كتب في القرن التاسع فيما يظهر، وعليه تعليقات. 44 "البدور الزاهرة": لعله من مكتوبات القرن العاشر. 51 "شرح الرَّائية" لإبراهيم بن عمر (¬5) الجعبري: كُتب سنة (798) (¬6). ¬

_ (¬1) في الفهرس المختصر لمخطوطات مكتبة الحرم المكي (1/ 112): "في القراءات السبع". والصواب ما ذكره الشيخ، ومؤلفه الحسن بن محمد المالكي (ت 438). و"الروضة في القراءات السبع" كتاب آخر لموسى بن الحسين المعدَّل. (¬2) في الفهرس: 1146. (¬3) في الأصل: "أحمد العماري"، وترك البياض بينهما. (¬4) في الفهرس (1/ 121): 229 ورقة، 27 س. (¬5) في الأصل: "محمد". (¬6) في الفهرس (1/ 103): 898

تفسير 65 "تفسير الرازي": كُتِب في مجلد واحد، يقع في نحو (900) ورقة بخط دقيق، جميل، مذهَّب. 73 نسخة (¬1) كُتبت في القرن الحادي عشر، ولكنها جليلة, وعليها حواشي (¬2). 91 "تفسير ابن كثير". 117 "عيون التفاسير" للسَّيوَاسي. 119 "تفسير البيضاوي": لعله من مكتوبات القرن الحادي عشر، والنسخة مخدومة، عليها حواشي (¬3)، وتعليقات كثيرةٌ. 209 "حاشية العِصَام على تفسير البيضاوي": لعله من مكتوبات القرن الحادي عشر. 135 "حاشية سنان" على "تفسير البيضاوي": تبتدئ بسورة الأعراف وتنتهي بسورة المُلك. 152 "الكشاف": الربع الأول، لعله (¬4) كُتِبَ سنة 701 ببلدة "خوارزم" بخط العلاء الحافظ الجندي. 158 "عناية الرَّاضي" حاشيةٌ على "تفسير الكشَّاف" (¬5) للخفاجي: ¬

_ (¬1) يعني من تفسير الرازي. (¬2) كذا في الأصل بإثبات الياء. ولم تذكر في الفهرس (1/ 79) إلا نسخة واحدة في جزئين، كلٌّ منهما في 460 ورقة برقم (721، 722) تفسير. (¬3) كذا في الأصل. (¬4) غير محررة في الأصل. (¬5) كذا في الأصل. والصواب: "تفسير البيضاوي"، وعنوان حاشية الخفاجي: "عناية =

كُتِبت في القرن الثاني عشر. 167 حاشية على "الكشاف" (¬1) لـ "خطيب زاده": كُتِبَت سنة (961)، لعلها من مكتوبات القرن الحادي عشر (¬2). 166 "تفسير البيضاوي": في مجلد واحد، نُسخَة جميلة. 170 جزءان من تفسير "نظم الدرر" للبقاعي: كُتِب الأول سنة 865، والثاني (¬3) سنة 883 فيما يظهر. 171 "تفسير البيضاوي": في مجلد واحد، وعليه حاشية كاملة والنسخة جميلة، كتبت سنة 1201. 174 حاشية "محمد أمين أمير بادشاه" على "البيضاوي": كُتِبت سنة 1020، (تحتاج إلى تأمل) (¬4). 196 "الكشاف": نسخة جيدة وبآخرها رسالة سُئل فيها الزمخشري عن مسائل تتعلق باللغة والقرآن، وأجاب. 207 "الإسعاف، شرح أبيات القاضي والكشاف" لخضِر بن عطاء الله: في مجلدين، (ولعل في النسخة خرمًا). 209 الثلث الأول من تفسير محمد بن عرفة المالكي: نسخة قديمة. 215 حاشية الشريف على "الكشاف": كُتِبَت سنة 856. ¬

_ = القاضي وكفاية الراضي" (¬1) هي حاشية على حاشية السيد الشريف على تفسير الكشاف. انظر "الفهرس المختصر" (1/ 56) (¬2) كذا في الأصل. (¬3) "والثاني" تكرر في الأصل. (¬4) في "الفهرس" (1/ 51): سنة 1026.

257 النصف الأول من "تفسير البغوي": في مجلدين، نسخة قديمة جيدة. 262 "تأويل الماتريدي": بخط فارسي دقيق. كُتِبَت سنة 1192. 321 "حواشي الشيخ زاده" على "البيضاوي": في ثمانية مجلدات، وفيها نقص. 321 "حاشية الكوكبين النَّيِّرين على الجلالَين" لعطية الأجهوري: في أربعة مجلدات، كُتِبَت سنة 1190 (¬1). 349 "تفسير البيضاوي": نسخة جميلة مذهَّبةٌ، في مجلد، كُتِبَت سنة 1183. حديث 68 "سنن ابن ماجه": نسخة مصححة، كتبت سنة 1129. 81 و215 نسختان من "مسند الإِمام أحمد" جيَّدتان. 90 نسخة من "صحيح البخاري" ليست قديمة ولكنها مصححة. 91 نسخة أخرى كُتبت سنة 1190. 94 "سنن النسائي": نسخة جيدة مصححة. لعلها من مكتوبات القرن العاشر. 117 "مصابيح الجامع" للدماميني: تعليقات على مواضع من "صحيح البخاري". والنسخة كأنها من مكتوبات القرن الحادي عشر، وفي آخرها نقصٌ في بعض الأوراق. 130 "شرح العيني" لصحيح البخاري. ¬

_ (¬1) في "الفهرس" (1/ 74): سنة 1189.

132 "صحيح البخاري": نسخة في ثلاثة مجلدات، الأوَّلان مؤرَّخان سنة 902، والثالث بخط آخر قريب من الأول مؤرَّخ سنة 850. 141 "لوامع التنوير بشرح نظم خصائص البشير النذير": في مجلدين، كُتِبَت سنة 1281 (¬1). النَّظم والشرح لعبد الباقي بن محمد الإسحاقي. 143 "ذخائر المواريث" لعبد الغني النابلسي: نسخة غير قديمة، ولكنها نفيسة. 144 "شرح العمدة" لابن دقيق العيد: نُسخة مؤرَّخة سنة 716. 161 "مشارق الأنوار" للقاضي عياض: نسخة مؤرخة سنة 823. 162 "الترغيب والترهيب" للمنذري: نسخة كتبت في القرن التاسع، أو العاشر، وفيها نقص. 164 "سنن النسائي": نسخة غير قديمة، ولكنها مصححة. 167 "التقريب والتيسير" للنووي: مؤرَّخة 982. 178 "صحيح مسلم": نسخة جيدة في مجلدين، أُرَّخَتْ سنة 824 (¬2). 209 "مصابيح السُّنة" للبغوي: نسخة جيدة أُرِّخت سنة 738، وعليها حواشٍ كثيرة. 215 "جمع الفوائد": نسخة جيدة. ¬

_ (¬1) في "الفهرس" (1/ 222) أنها كتبها شرف الدين البلغاري في ربيع الأول سنة 1068. (¬2) في "الفهرس" (1/ 170): 834.

220 "نهاية" ابن الأثير: نسخة لا بأس بها، كُتِبَت سنة 1132. 220 "فتح الباري": نسخة ينقصها أجزاءٌ مختلفة من الأنبياء، أُرِّخ تمام كتابتها سنة 1118. وتحت رقم 233 مجلد من الفتح أوَّلُه: باب المناقب، وينتهي بانتهاء كتاب المغازي، نسخة قديمة مؤرَّخة سنة 876. 231 "صحيح البخاري": نسخة جيدة قديمة. 232 "مختصر جامع الأصول" للبارزي: نسخة قديمة مؤرَّخة سنة 693 (¬1). 245 "صحيح البخاري": نسخة لا بأس بها، أُرِّخت سنة 1167. 248 منظومة تسمى بـ "كشف الالتباس عن الأحاديث التي تدور بين الناس" لمحمد غرْس الدين: نسخة كتبت سنة 1069. 270 "شرح شفاء القاضي عياض" لأبي الحسن بن قُبرص: ناقص (¬2). 285 "زاد المعاد" لابن القيم: نسخة ناقصة ملفقة. فالنصف الأول تقريبًا نسخة سيئة أُرَّخت 1129، والربع الأخير من نسخة قديمة كتب في خاتمته: "آخر المجلد الثالث من هذا الكتاب وبتمامه تم الكتاب ... "، وأُرِّخ سنة 765. 286 "صحيح البخاري": بخط مغربي، نسخة جيدة مذهَّبة حسنة. ¬

_ (¬1) نسب هذا المختصر في "الفهرس" (1/ 228) إلى أبي جعفر المروزي الإستراباذي وقد أتمه سنة 682 كما في "كشف الظنون". ولم يذكر في "الفهرس" تاريخ النسخ. وانظر ما يأتي تحت "تجريد الأصول". (¬2) لم أجده في كتب الحديث ولا السيرة في فهرس المكتبة.

287 مجلد كبير من "حلية الأولياء": قسَّم إلى مجلدين. لعله من كتابة القرن العاشر. 293 "مرقاة المفاتيح": نسخة كتبت سنة 1178 (¬1). 294 "تجريد الأصول المختصر من جامع الأصول": مؤلفه هبة الله بن عبد الرحيم، كتب في سنة 1184 (¬2). 305 "اللباب في الجمع بين السُّنَّة والكتاب" لعلي بن زكريا المَنْبجي: نسخةٌ قديمة مؤرَّخةٌ سنة 734. ¬

_ (¬1) في الفهرس (1/ 229): 4 محرم سنة 1176. (¬2) هذا كتاب البارزي (ت 738)، وذكر منه في "الفهرس" (1/ 153) نسختان: إحداهما مكتوبة في 4 ربيع الأول سنة 876، والأخرى في 8 رجب سنة 1134.

ثبت المصادر والمراجع

ثبت المصادر والمراجع - الإبدال لابن السكيت، تحقيق حسين محمد شرف، مجمع اللغة العربية، القاهرة، 1398. - إحياء علوم الدين للغزالي، دار المعرفة، بيروت. - الاشتقاق لابن دريد، تحقيق عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة. - الإصابة لابن حجر، نشرة التركي، مركز هجر للبحوث والدراسات، القاهرة، 1429. - أصول نقد النصوص ونشر الكتب، برجشتراسر، إعداد محمد حمدي البكري، دار الكتب المصرية، 1995 م. - الأغاني لأبي الفرج، طبعة دار الكتب المصرية والهيئة المصرية العامة. - الأغاني لأبي الفرج، طبعة دار الثقافة، بيروت، 1401. - أمالي القالي، طبعة دار الكتب المصرية، تصوير دار الكتاب العربي، بيروت. - أمالي المرتضى، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الفكر العربي، القاهرة، 1998 م. - إنباه الرواة للقفطي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الفكر العربي، القاهرة، 1406. - الأنساب للسمعاني، الجزء الثاني عشر، تحقيق أكرم البوشي، القاهرة، 1404. - أوضح المسالك لابن هشام، نشرة محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية، بيروت. - البدر التمام شرح بلوغ المرام للقاضي حسين بن محمد المغربي، نسخة الرباط برقم 54201. تاج العروس للزبيدي، طبعة الكويت.

- تاريخ دمشق لابن عساكر، تحقيق عمر بن غرامة العمروي، دار الفكر، بيروت، 1415 - 1421. - التاريخ الكبير للبخاري، دائرة المعارف العثمانية، حيدراباد. - تحقيق النصوص ونشرها، عبد السلام هارون، الطبعة الخامسة، مكتبة السنة، القاهرة، 1410. - التذكرة الحمدونية، تحقيق إحسان عباس، دار صادر، بيروت، 1996 م. - تفسير ابن جرير، تحقيق محمود شاكر، دار المعارف، القاهرة. - تكملة تاريخ الطبري للهمذاني، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة، 1982 م. - التنبيه على حدوث التصحيف لحمزة الأصفهاني، تحقيق محمد أسعد طلس، مجمع اللغة العربية بدمشق، 1388. - التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل، للمؤلف، مكتبة المعارف، الرياض، 1426. - تهذيب التهذيب لابن حجر، طبعة دائرة المعارف العثمانية، حيدراباد. - تهذيب اللغة، للأزهري، تحقيق عبد السلام هارون وزملائه، الدار المصرية للتأليف والترجمة والنشر، القاهرة. - الثقات لابن حبان، طبعة دائرة المعارف العثمانية، حيدراباد. - جامع الترمذي، تحقيق أحمد شاكر وغيره، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1998 م. - جامع المسانيد لابن الجوزي، تحقيق علي حسين البواب، مكتبة الرشد، الرياض. - الجرح والتعديل لابن أبي حاتم، طبعة دائرة المعارف العثمانية، حيدراباد. - جمهرة اللغة لابن دريد، تحقيق رمزي بعلبكي، دار العلم للملايين، بيروت، 1987 م. - حاشية الدسوقي على المغني، القاهرة، 1301.

- الحماسة الشجرية، تحقيق عبد المعين الملوحي وأسماء الحمصي، وزارة الثقافة، دمشق،1970 م. - خزانة الأدب البغدادي، تحقيق عبد السلام هارون، طبعة الخانجي. - ديوان الفرزدق، دار صادر، بيروت. - ديوان محمود الوراق، تحقيق وليد قصاب، دار صادر، بيروت، 2001 م. - ديوان المعاني، لأبي هلال العسكري، تحقيق النبوي عبد الواحد شعلان، مؤسسة العلياء، القاهرة، 1429. - ديوان المعاني، نشرة كونكو، عالم الكتب، بيروت. - الزاهر لابن الأنباري، تحقيق حاتم صالح الضامن، دار البشائر، دمشق، 1424. - سبل السلام للصنعاني، مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، 1379. - سبل السلام للصنعاني، مكتبة المعارف، الرياض، 1427. - سبل السلام للصنعاني، تحقيق محمد صبحي حسن حلاق، دار ابن الجوزي، الدمام، 1421. - سبل السلام للصنعاني، نسخة صنعاء. - سبل السلام للصنعاني، نسخة جامعة الملك سعود. - سر الصناعة لابن حني، تحقيق حسن هنداوي، دار القلم، دمشق، 1405. - سنن أبي داود، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية، بيروت. - سنن الدارقطني، تحقيق عبد الله هاشم يماني، القاهرة, 1386. - سنن الدارقطني، تحقيق شعيب الأرنوؤوط وأصحابه، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1424. - سنن النسائي، مكتبة المعارف، الرياض، الطبعة الأولى. - سيرة ابن هشام، نشرة مصطفى السقا وزميليه, مؤسسة علوم القرآن، بيروت.

- شرح التسهيل لابن مالك، تحقيق عبد الرحمن السيد ومحمد بدوي المختون، هجر للطباعة والنشر، القاهرة, 1410. - شرح صحيح مسلم للنووي، مكتبة المعارف، الرياض، 1407. - شرح القسطلاني لصحيح البخاري، طبعة بولاق, 1323. - شرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف للعسكري، تحقيق عبد العزيز أحمد مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، 1383. - الشعر والشعراء لابن قتيبة، تحقيق أحمد شاكر، دار المعارف، القاهرة، 1982. - شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح، لابن مالك، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، مكتبة دار العروبة، القاهرة، 1957 م. - شواهد التوضيح لابن مالك، تحقيق طه محسن، بغداد، 1405. - شواهد التوضيح لابن مالك، تحقيق عبد الله الناصير، دار البشائر الإِسلامية، بيروت، ودار الكمال المتحدة بدمشق، 1432. - صحيح البخاري، دار السلام للنشر والتوزيع، الرياض، 1417. - صحيح مسلم، نشرة محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت. - طبقات فحول الشعراء لابن سلام، تحقيق محمود شاكر، مطبعة المدني، القاهرة، 1394. - الطرائف الأدبية، تحقيق عبد العزيز الميمني، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1937 م. - طرر على معجم الأدباء، للميمني، مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق، المجلدات (40 - 42). - غريب الحديث للخطابي، تحقيق عبد الكريم العزباوي، جامعة أم القرى، مكة المكرمة، 1402. - فتح الباري لابن حجر، دار الفكر، بيروت. - فتح العلام شرح بلوغ المرام لنور الحسن القنوجي، مصورة دار صادر بيروت.

- فرهنكَـ آصفيه للسيد أحمد الدهلوي، دهلي، 1998 م. - الفهرس المختصر لمخطوطات مكتبة الحرم المكي، مكتبة الملك فهد الوطنية، الرياض، 1427. - فهرس الطوسي، طبعة كلكتة، 1271. - الفهرست للنديم، تحقيق أيمن فؤاد سيد، مؤسسة الفرقان للتراث الإِسلامي، لندن،1430. - القرط على الكامل لابن سعد الخير، تحقيق ظهور أحمد أظهر، جامعة البنجاب، لاهور، 1401. - قطب السرور في أوصاف الأنبذة والخمور للرقيق القيرواني، تحقيق سارة البربوشي، منشورات الجمل، بيروت، 2010 م. - الكامل للمبرد، تحقيق محمد أحمد الدالي، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1406. - لسان العرب لابن منظور، طبعة بولاق، تصوير دار النوادر الكويتية، 1431. - المحكم لابن سيده، الجزء الثاني، تحقيق عبد الستار فراج، معهد المخطوطات، 1377. - المخصص لابن سيده، طبعة بولاق، تصوير دار الكتاب الإِسلامي، القاهرة. - مدخل إلى تاريخ نشر التراث العربي للطناحي، الخانجي، القاهرة، 1405. - المزهر للسيوطي، تحقيق محمد أحمد جاد المولى وآخرين، دار التراث، القاهرة. - مسند أحمد، تحقيق وشرح أحمد شاكر، دار المعارف، القاهرة. - مسند أحمد، تحقيق شعيب الأرنؤوط وأصحابه، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1420. - مسند البزار، تحقيق محفوظ الرحمن زين الله وآخرين، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة. - مسند أبي يعلى، تحقيق حسين سليم أسد، دار المأمون للتراث، دمشق، 1404.

- المشتبه للذهبي، تحقيق علي محمد البجاوي، عيسى البابي الحلبي، القاهرة، 1962 م. - معجم الأدباء لياقوت، نشرة مرحلبيوث، مطبعة هندية، 1923 - 1925 م. - معجم الأدباء، نشرة أحمد فريد الرفاعي، عيسى البابي الحلبي، القاهرة، 1936 - 1938 م. - معجم الأدباء، تحقيق إحسان عباس، دار الغرب الإِسلامي، بيروت، 1993 م. - المعجم الأوسط للطبراني، تحقيق طارق بن عوض الله، دار الحرمين، القاهرة، 1415. - معجم البلدان لياقوت، دار إحياء التراث العربي، بيروت. - معجم الشعراء للمرزباني، تحقيق عبد الستار فراج، عيسى البابي الحلبي، القاهرة، 1960 م. معجم الطوسي = فهرس الطوسي. - المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، لأبي العباس القرطبي، دار ابن كثير، دمشق، 1417. - المقاصد الحسنة للسخاوي، دار الكتاب العربي، بيروت. - المؤتلف والمختلف للآمدي، تحقيق عبد الستار فراج، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، 1961 م. - الموطأ للإمام مالك، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1406. - ميزان الاعتدال للذهبي، الخانجي، مطبعة السعادة، القاهرة، 1325. - نضد الإيضاح لعلم الهدى بن محمد محسن، في ذيل فهرس الطوسي، كلكتة، 1271. - النهاية في غريب الحديث لابن الأثير، تحقيق الزاوي والطناحي، المكتبة العلمية، بيروت.

- الوافي بالوفيات للصفدي، طبعة المعهد الألماني للأبحاث الشرقية، بيروت، 1429. - الوساطة بين المتنبي وخصومه للقاضي الجرجاني، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم وعلي البجاوي، المكتبة العصرية، بيروت، 1427. - وفيات الأعيان لابن خلكان، تحقيق إحسان عباس، دار الثقافة، بيروت. ***

فوائد المجاميع

آثَار الشّيْخ العَلّامَة عَبْد الّرحْمن بْن يَحْيَى المُعَلِمِيّ (24) فوائد المجاميع تَألِيْف الشّيْخ العَلّامَة عّبْد الرّحْمن بْن يَحْيَى المُعَلِّمِيّ اليَمَاِني 1312 هـ - 1386 هـ تَحْقِيْق علي بن محمد العمران ونبيل بن نصار السندي وفق المنهج المعتمد من الشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد (رحمه الله تعالى) تمويل مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

راجع هذا الجزء محمد أجمل الإصلاحي

مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية SULAIMAN BIN ABDUL AZIZ AL RAJHI CHARITABLE FOUNDATION حقوق الطبع والنشر محفوظة لمؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الطبعة الأولى 1434 هـ دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع مكة المكرمة - هاتف 5473166 - 5353590 فاكس 5457606 الصف والإخراج دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

مقدمة التحقيق

مُقدَّمة الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على محمد بن عبد الله رسوله الأمين, وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد, فهذا سِفْر نفيس منتخب من مجاميع الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي رحمه الله تعالى, يشتمل على فوائد نفيسة, وتقييدات محرّرة, واستدراكات دقيقة, وبحوث مبسوطة حينًا ومختصرة حينًا, وأشعارٍ ورُؤًى قيَّدها الشيخ في أوقات مختلفة, في أثناء تقلّبه في البلدان: اليمن, وعسير, وإندونيسيا, والهند, ومكة على مدى نحو 50 عامًا. استخرجنا هذه الفوائد من دفاتر الشيخ وكنّاشاته التي دوَّن فيها ما عنّ له من فوائد ونكات, أو لخّصَ فيها فوائدَ كتبٍ كان يقرؤها ... على اختلاف فنونها ومؤلفيها ... وواضح لمن نظر في تلك الدفاتر أن الشيخ رحمه الله كان حريصًا على التدوين والتقييد؛ سواء للفوائد التي يعثر عليها, أو للاستنباطات التي يكشفها, أو للتعقبات التي يراها على تلك الكتب. وقد بلغ عدد هذه الدفاتر والكنانيش التي استخرجنا منها هذا المجموع عشرين دفترًا, تتفاوت أحجامها ما بين كبير وصغير, وأرقامها في مكتبة الحرم المكي الشريف كالتالي (4711, 4712, 4715, 4716, 4717, 4718, 4719, 4720, 4721, 4722, 4723, 4724, 4726, 4727, 4729, 4756, 4757). ثم وقفنا على بعض الفوائد من المجموعين (4708 و4786) وألحقناها بقسم المتفرقات.

طريقة العمل في استخراج هذه الفوائد

وكلها بخط الشيخ المعروف, وتتفاوت خطوطها وترتيبها والعناية بها من دفتر إلى آخر, وذلك باختلاف الأحوال التي مر بها الشيخ أثناء تدوينه, ويتبين من النظر فيها وفي طريقة الشيخ في كتابة هذه الفوائد حرصه على الكتابة في كل أحواله, لا يمنعه من ذلك مانع ولا يشغله شاغل, لا يترك فائدة تعن له إلاّ ويبادر إلى كتابتها وتدوينها. طريقة العمل في استخراج هذه الفوائد: 1 - بدأنا العمل بحصر هذه الدفاتر والمجاميع, ثم قمنا بتقسيم المعلومات بداخلها إلى قسمين رئيسين: الأول: ما كان من قبيل النقل المحض أو التلخيص أو الفهرسة للفوائد من الكتب في الفنون المختلفة التي كان الشيخ يقيد منها. فهذا النوع عملنا فهرسًا خاصًّا به يتضمن موضوع الفائدة أو التلخيص أو نحو ذلك. الثاني: ما كان فيه للشيخ تعليق أو استدراك أو تقييد أو جمع لمتفرّق, أو استنباط أو بيت شعر أو رؤيا منامية. فنسخنا كل تلك الفوائد, كل مجموع على حِدة, وقد عمل على نسخ هذه المجاميع مجموعة من الأفاضل منهم الشيخ عبد الرحمن قائد, والشيخ زائد النشيري, والشيخ يحيى كمندر, والدكتور جمال حديجان. 2 - بعد أن اكتمل نسخ وفهرسة جميع الدفاتر على النوعين المذكورين عمدنا إلى تقسيم الفوائد في كل مجموع على الفنون المختلفة من النوع الثاني المشار إليه آنفًا.

3 - ثم عمدنا إلى دمج هذه الفوائد المرتبة على الفنون لتشمل جميع المجاميع، وقد قسمنا الفوائد على الفنون كالتالي: 1. الفوائد التفسيرية. 2. الفوائد العقدية. 3. الفوائد الحديثية. 4. الفوائد الفقهية. 5. الفوائد الأصولية. 6. الفو ائد اللغوية. 7. الفوائد المتفرقة. 4 - رتبنا الفوائد في كل فن ترتيبًا متناسبًا إن كان الأمر يحتمل الترتيب، فمثلًا رتبنا الفوائد التفسيرية على ترتيب سور القرآن العظيم، والفوائد الحديثية رتبناها بحسب تعليقات الشيخ على الكتب، فبدأنا بتعليقاته على صحيح البخاري ثم صحيح مسلم، وهكذا، ثم تعليقاته على الشروح الحديثية, كفتح الباري ونيل الأوطار .. ثم استنباطاته من الأحاديث ... ، أما الفوائد الفقهية فرتبناها على الأبواب الفقهية: الطهارة، الصلاة ... وهكذا. ولم نبالغ في الترتيب إلا بقدر ما تقتضيه طبيعة هذا المجموع. 5 - قابلنا نصوص الكتاب أكثر من مرة بعد نسخها الأوّليّ، وكان بعضها من الصعوبة والعسر بحيث يُقْضَى وقتٌ طويلٌ في تأمل الكلمة أو فكّ العبارة أو البحث عن بقية الكلام، فقد كان الشيخ يكتب بسرعة بالغة، بخط غير منقوط غالبًا، يكثر فيه الضرب والتحويل وتغيير العبارات

إضافة إلى اضطراب أوراق كثير من المجاميع واختلاف ترتيبها وترقيمها على ذلك الاضطراب مما زاد في عسر مهمة ترتيبها. 6 - عملنا على توثيق النصوص ومقابلتها بأصولها المنقولة عنها، وضبط ما يحتاج إلى ضبط، وتخريج الأحاديث، والتعليق على بعض ما يحتاج إلى ذلك باختصار يناسب طبيعة الكتاب، ثم صنعنا فهرسًا موضوعيًّا لكل الفوائد على الفنون. 7 - أشرنا إلى مكان الفائدة في المجاميع المختلفة بذكر رقم المجموع آخر الفائدة أو مجموعة الفوائد إن كانت متتابعة، ولم نشر إلى رقم الصفحة لاختلاف ترقيم الدفتر الواحد وتعدده، فبعضه من الشيخ وبعضه من المفهرس في مكتبة الحرم، وبعضها من المحقق حين نسخها. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. المحققان علي بن محمد العمران ونبيل بن نصار السِّندي

نماذج من النُّسخ الخطية

نموذج من مجموع رقم [4714]

نموذج من مجموع رقم [4717]

نموذج من مجموع رقم [4718]

نموذج من مجموع رقم [4720]

نموذج من مجموع رقم [4723]

نموذج من مجموع رقم [4724]

نموذج من مجموع رقم [4726]

نموذج من مجموع رقم [4727]

نموذج من مجموع رقم [4727]

نموذج من مجموع رقم [4729]

نموذج من مجموع رقم [4708]

نموذج من مجموع رقم [4708]

نموذج من مجموع رقم [4708]

نموذج من مجموع رقم [4786]

النص المحقق

آثَار الشّيخ العَلّامَة عَبد الرحمن بن يحيى المُعلِمي (24) فوائد المجاميع تأليف الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المُعلِمي اليماني 1312 هـ - 1386 هـ تحقيق علي بن محمد العمران ونبيل بن نصار السندي وفق المنهج المعتمد من الشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد (رحمهُ الله تعالى) تمويل مؤسسة سُليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

بسم الله الرحمن الرحيم

الفوائد التفسيرية

الفوائد التفسيرية

سورة الفاتحة [البسملة آية من الفاتحة]

سُورة الفاتحة (¬1) [البسملة آية من الفاتحة] الحمد لله. كون البسملة آيةً من الفاتحة مما لا ينبغي أن يُشكَّ فيه، لِمَا ثبت في "الصحيح" (¬2) عن أبي سعيد [بن] المُعَلّى وعن أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر بأنها السبع المثاني. وما قيل بأن: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} رأس آية، ممتنع في أسلوب القرآن. ومما يدل على أنها آية من كلّ سورة كتابتها في المصحف. وما قيل من أنها كُتبت للفصل، مردودٌ باحتياط الصحابة مع علمهم بأنها إذا كُتبت ظنَّ الناسُ أنها آيةٌ من كل سورة. وتَكْرارها ليس بقرينة؛ فإننا نعلم أن الكتب التي تبدأ بالبسملة، يصدُقُ عليها أن البسملة جزءٌ منها، وفي القرآن: {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل: 29 - 31]، فجُعِلت البسملة من الكتاب. ولعلَّ مقصودَ مَن قال مِن السلف: إنها آية أُنزلت للفصل، وإنها ليست جزءًا من كل سورة = أنها ليست جزءًا من السورة متصلًا بها مرتبطًا، وهذا لا ينفي أن تكون جزءًا مستقلًّا، والله أعلم (¬3). ¬

_ (¬1) رتبت الفوائد على حسب ترتيب السور. (¬2) "صحيح البخاري" (4474) عن أبي سعيد، و (4704) عن أبي هريرة. (¬3) مجموع [4720].

سورة البقرة

سُورَةُ البَقَرة [قوله تعالى]: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)} (¬1). يمكن أن يقال: إنه لما قال: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ} أمكن أن يتوهَّم بعض الناس، ولا سيَّما من لم يعرف السبب، أن السعي ليس فيه ثواب لاقتصار الآية على نفي الجناح فيه، فدفع ذلك بقوله: {وَمَنْ تَطَوَّعَ ...} (¬2). **** قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)}. انظر هل في هذه الآية دليل على عدم جواز لعن المعيَّن؟ لأنه إن كان حيًّا فلعلّه يتوب، وإن كان ميتًا فلعله تاب، وقد استثنى الله تعالى التائب من لعنته ولعنة اللاعنين. والله أعلم. وقال تعالى بعد ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161)}. ¬

_ (¬1) ذكر الشيخ الآيات من الآية (148) هكذا: {ولكل وجهة هو موليها .... أينما تكونوا ... ومن حيث خرجت ... ومن تطوع ...}. (¬2) مجموع [4727].

فقيَّد لعنتَه لهم، ولعن الملائكة، ولعن الناس بما إذا ماتوا وهم كفَّار، كما دل استثناؤه في الأول على تقييد لعن الكاتمين بما إذا ماتوا وهم كاتمون. والله أعلم (¬1). **** قوله تعالى: {يَأيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)}. في الآيات دليل على النهي عن تحريم ما أحلَّ الله تعالى، وعن اجتناب الأكل منه، وعلى انحصار المحرمات، وغير ذلك مما يظهر عند التدبَّر. والله أعلم. وقوله تعالى بعد ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ ¬

_ (¬1) مجموع [4657].

اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174)}. فيها التحذير من الرشوة، وفيها دليل على حُرْمة أخذ شيء مقابل بيان ما أنزل الله، سواء أكان ذلك في حكم أو فتوى أو غيرها. وفيها دليل على أن الله تعالى يُكلَّم المؤمنين المتقين يوم القيامة. هذا، وقد يُدَّعى أن قوله: "الذين" أراد به قومًا معهودين هم اليهود، والسياق يؤيده. كما قد يقال: إن قوله: {وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} بأن يكتموا حكمَ الله ليأخذوا في مقابل كتمانه ثمنًا، فتكون دلالة الآية خاصةً بالتحذيرِ من أخذِ الرشوة من المبطل ليحكم له بالباطل ويكتمَ الحق، وأخذِ الأجرة من السائل ليفتي بما يوافق هواه في الباطل ويكتمَ الحق، فليتدبر. والله أعلم (¬1). **** [قوله تعالى]: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)}. يريد - والله أعلم -: فما أصبرهم على الطريقة التي توجب لهم النار. فإن الإنسان إذا كان على خُطّة يرى أنها تؤدّيه إلى عذاب شديد، فإن نفسه تنازعه إلى تركها وتلحُّ عليه في ذلك، وهواه يمنعه من ذلك ويحملُه على الصبر. ¬

_ (¬1) مجموع [4657].

كما حكى الله تعالى عن قومٍ قولَهم في رسولهم: {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا} [الفرقان: 42] (¬1). **** قوله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ...} [البقرة: 198، 199]. أرى أنَّ المراد: ثمَّ بعد عامكم هذا أفيضوا من حيث أفاض الناس في هذا، والمراد بالناس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومَنْ حجَّ معه (¬2). **** قال الله تبارك وتعالى في سورة البقرة [آية: 213]: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} أي: على الإيمان, فاختلفوا بأن كَفَر بعضُهم. أو على الكفر، ولا حاجة لتقدير شيء. وعلى كلًّ، فالمراد به - والله أعلم - قبل بعثة نوح. {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} أي: لتلك الأمة المختلفة، أو المطبقة على الكفر. {وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ} أي: جنسه، والمراد: الكُتُب، {لِيَحْكُمَ} أي: ليكون حاكمًا به بعد الأنبياء {بَيْنَ النَّاسِ} أي: الذين ¬

_ (¬1) مجموع [4721]. (¬2) مجموع [4724].

سيدخلون في الدين {فِيمَا اخْتَلَفُوا} أي: سيختلفون {فِيهِ} أي: من أمر الدين، بأن يقول بعضهم: هو منه. ويقول غيره: ليس منه. {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ} أي: في الدين المفهوم مما سبق. ولا مانع أن يكون الضمير للكتاب، كأنه سبحانه يقول: فاختلفوا في الكتاب نفسه، وما اختلف فيه ... إلخ. وهذا أولى عندي. {إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ} أي الكتاب {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} أي: حَمَل البغْيُ بعضَهم على تحريفه عن مواضعه، والعدول به عن مقاصده. {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} (¬1). **** قوله عزَّ وجلَّ: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [228]. أقول - والله أعلم - أنّ المراد: أحقّ بردِّهنّ منهنّ، فهذا يشعر بأنّ لهنّ حقًّا في ذلك بحيث يُنْدَب أن لا يراجع الزوج حتى ينظر رغبة الزوجة، ولكن الزوج أحقّ بحيث لو راجع بدون رضاها؛ رجع النكاح. والله أعلم (¬2). **** ¬

_ (¬1) مجموع [4727]. (¬2) مجموع [4715].

[تعليق على آيات الصدقة (263 - 268)]

[تعليق على آيات الصدقة (263 - 268)] [قوله تعالى]: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى}. فيه الإرشاد إلى العفو عن المستعطي إذا ألحَّ في المسألة وآذى المسؤول. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)} (¬1). المقصود من المَثَل - والله أعلم -: أنَّ مال المانِّ والمؤذي ومال المُرابي يَتْلَف بالإنفاق بدون عِوَض. {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)} (¬2). المقصود من المَثَل - والله أعلم -: أنَّ مال المتصدِّق لوجه الله تعالى ولا يُتبِع صدقتَه بمنٍّ ولا أذى = لا يَنفَدُ، بل يُعوِّضه الله عَزَّ وَجَلَّ مضاعفًا، وهذه الآية مصداق الحديث: "ما نقصت صدقةٌ من مال" (¬3). وعلى هذا ¬

_ (¬1) كتب المؤلف إلى قوله تعالى: {وَالْأَذَى} وأكملنا الآية ليعرف مقصود المؤلف. (¬2) كتب المؤلف إلى قوله تعالى: {أَمْوَالَهُمُ} وأكملنا الآية ليعرف المثل المضروب. (¬3) أخرجه مسلم (2588) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

سمّيت الزكاةُ زكاةً. {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ ...}. المقصود بالمَثَل - والله أعلم - بيان حال الذي يتصدّق لوجه الله تعالى فيستحق الثواب، ثم يفسده بالمنِّ والأذى، فالثواب هو الجنَّة، والمنُّ والأذى هو الإعصار. وقد يُستدل بقوله: {وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ} إلى أنَّ عمل الوالد الصالح ينفع ذُرّيته - والله أعلم - تدبَّرْ. {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ ..}. فيه إشارة إلى أنَّ المتصدِّق غير متبرعّ، بل هو طالب عِوَض وأجر، وأنَّ المتصدَّق عليه آخذ بحقٍّ، أي إذا كان مستحقًّا للصدقة. والله أعلم. {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا ...}. كأن في الآية احتباكٌ (¬1)؛ كأنه قال: الشيطان يوسوس لكم بعدم المغفرة من الله تعالى بأن يقنِّطكم، ويعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء؛ والله يعدكم ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، والوجه النصب. والاحتباك هو: أن يُحذف من الأول ما أثبت نظيره في الثاني، ويحذف من الثاني ما أثبت نظيره في الأول.

مغفرة منه وفضلاً، ويأمركم بالعدل والإحسان (¬1). **** قوله عزَّ وجلَّ: {... يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [273]. دلّ سياق الآية على أنّهم لا يسألون البتة، ومفهوم قوله: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} أنّهم يسألون، ولكنّهم لا يُلْحِفون. أجاب الزمخشري بأنّ النّفي هنا متوجّه إلى المقيَّد، كما في قول الشاعر (¬2): * على لاحبٍ لا يُهتدى بمناره * أي: ليس له منار فيهتدى به. وعندي في هذا الجواب والاستشهاد نظر، وهو قول الشاعر: "لا يهتدى بمناره"، وما شابهه في كلام الفصحاء إنّما يجيء إذا كان هناك ملازمة. من اللازم ... وهذا ... (¬3). ¬

_ (¬1) مجموع [4724]. (¬2) سيأتي البيت كاملًا. (¬3) لم يكمل الشيخُ الكلام وترك نصف الصفحة بياضًا، ثم وجدنا في آخر ورقة في المجموع بقية الكلام المتعلق بالمسألة، من قوله: "ذو الرمة ... " ثم الاعتراض والجواب. وهما منقولان من تفسير الآلوسي "روح المعاني": (3/ 47).

ذو الرمّة: لا تُشتكى رقصة (¬1) منها وقد رقصت ... بها المفاوزُ حتى ظهرُها حَدِبُ قول امرئ القيس (¬2): على لاحبٍ لا يُهتدَى بمناره ... إذا سافَهُ العَودُ الدِّيافيُّ جَرْجَرا الآخر في وصف مفازة (¬3): لا تُفرخُ الأرنبَ أهوالُها ... ولا ترى الضبَّ بها يَنْجَحِرْ الأعشى (¬4): لم تَعطَّف على حُوارٍ ولم يَقْـ ... ـطع عُبَيدٌ عروقَها مِن خُمالِ الأعشى (¬5): لا يغمزُ الساقَ من أَيْنٍ ومن وصبٍ ... ولا يَعَضُّ على شُرْسُوفه الصَّفَر واعترض بأنّ هذا إنّما يحسن إذا كان القيد لازمًا للمقيَّد أو كاللازم حتى يلزم من نفيه نفيُه بطريق برهاني، وههنا ليس كذلك؛ إذ الإلحاف ليس لازمًا للسؤال، ولا كلازمه. ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ورواية الديوان (1/ 44) ومصادر أخرى كثيرة: "سقطة". (¬2) "ديوانه" (66 - ت أبو الفضل). (¬3) البيت لعمرو بن أحمر الباهلي. انظر: "ديوانه" (ص 67). (¬4) "ديوانه" (55 - شرح محمد محمد حسين). (¬5) هو أعشى باهلة. انظر: "الأصمعيات" (90).

وأجيب بأنّ هذا مسلَّم إن لم يكن في الكلام ما يقتضيه، وهو كذلك هنا؛ لأنّ التعفّف حتى يُظَنُّوا أغنياء يقتضي عدم السؤال رأسًا. وأيضًا {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُم} مؤيد لذلك. وقيل: المراد أنّهم لا يسألون، فإن سألوا عن ضرورة لم يلحّوا. ومن النّاس من يجعل المنصوب مفعولاً مطلقًا للنفي، أي: يتركون السؤال إلحافًا، أي مُلْحفين في الترك. وهو كما ترى (¬1). **** قوله تعالى: {وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ} [282]. يؤخذ منها وجوب الكتابة بدون أجرةٍ في بعض الأحوال. والله أعلم (¬2). ... ¬

_ (¬1) مجموع [4719]. (¬2) مجموع [4657].

سورة آل عمران

سورة آل عمران [معنى المحكمات والمتشابهات] الحمد لله. يظهر لي أن معنى قوله عزَّ وجلَّ: {آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} [7] أي: يُحكِمُهنَّ بعض الخلق، من قولهم: تعلَّم فلان الطبَّ حتى أَحكمه، أي: أحكم علمه. بخلاف قوله: {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود: 1] فمعناه: أن الله عَزَّ وَجَلَّ أحكمها (¬1). قوله عزَّ وجلَّ: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} أي - والله أعلم -: كل آية فيها متشابهة، أي متشابهة المعاني، كما تقول: فلان متناسب الخِلقة، أي أنّ أعضاءه متناسبة. وقال عزَّ وجلَّ حكايةً عن موسى: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} [البقرة: 70] (¬2). **** قوله عَزَّ وَجَلَّ في سورة آل عمران: {إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} [93]. صحَّ عن ابن عباس أن إسرائيل نذر إن شفاه الله تعالى من عرق النَّسا أن ¬

_ (¬1) مجموع [4727]. (¬2) مجموع [4719]. وللمؤلف بحث مفضَّل في معنى المحكم والمتشابه في "التنكيل - القائد إلى تصحيح العقائد".

[تعليق على موضع من "روح المعاني"]

لا يأكل لحمًا فيه عروق. وهذا النذر مشكل؛ إذ لا يظهر فيه وجه القربة، والله عَزَّ وَجَلَّ يقول في اليهود (المائدة) (¬1): {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ} [الأنعام: 140] (¬2). **** [تعليق على موضع من "روح المعاني"] آلوسي (ج 1/ ص 673) {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [135]. "وقد ذكر أنّ الحال بعد الفعل المنفي - وكذا جميع القيود - قد يكون راجعًا إلى النفي، قيدًا له دون المنفي، مثل: ما جئتك مشتغلاً بأمورك، بمعنى: تركت المجيء مشتغلاً بذلك. وقد يكون [راجعًا إلى ما دخله النفي مثل: ما جئتك راكبًا, ولهذا معنيان: أحدهما - وهو الأكثر -: أن يكون النفي] (¬3) راجعًا إلى القيد فقط، ويثبت أصل الفعل، فيكون المعنى: جئت غير راكب. وثانيهما: أن يقصد نفي الفعل والقيد معًا، بمعنى انتفاء كلٍّ من الأمرين. فالمعنى في المثال: لا مجيءَ ولا ركوب. ¬

_ (¬1) كذا في الأصل والآية في سورة الأنعام. (¬2) مجموع [4726]. (¬3) سقط لانتقال النظر، والإكمال من "روح المعاني": (4/ 62).

وقد يكون النفي متوجهًا للفعل فقط من غير اعتبار لنفي القيد وإثباته. قيل: وهذه الآية لا يصح فيها أن يكون {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} قيدًا للنفي، لعدم الفائدة؛ لأنّ ترك الإصرار موجب للأجر والجزاء، سواء كان مع العلم بالقبح أو مع الجهل، بل مع الجهل أولى. ولا يصحّ". [قال المعلمي]: "فيه نظر؛ لأنّه قد يقال: إذا تركوه عالمين بقبحه كان الظاهر من ذلك أنهم إنما تركوه خوفًا من الله عزَّ وجلَّ، فبذلك يستحقون الثواب. وإذا تركوا شيئًا لا يعلمون بقبحه فالظاهر أنهم إنما تركوه لعارض غير خشية الله، فلا يستحقّون ثوابًا. والله أعلم" (¬1). ... ¬

_ (¬1) مجموع [4719].

سورة النساء

سُورَةُ النسَاءِ [الكلام على آية التيمم] قال الله عزَّ وجلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [43]. الذي يظهر لي في معنى الآية: أن المراد بالصلاة حقيقتها الشرعية، ويؤيده سبب النزول. والمراد بـ {عَابِرِي سَبِيلٍ}: ظاهره، وهو المسافر. والإذن مطلق قُيَّد في آخر الآية بالتيمم، وإنما تُرِك تقييده أولاً لأنه أُريد أن يؤتى بحكم التيمم مضبوطًا في كلامٍ جامع، وهو ما في بقية الآية، فلو قُيّد به أولاً لزم أحد أمرين: إما إهماله في بقية الكلام، وإما التكرار، وكلاهما منافٍ لكمال البلاغة. أما التكرار فواضح، وأما الإهمال فللإخلال بضبط الكلام في التيمم في جملة واحدة كما مرَّ. ثم قال عزَّ وجلَّ: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} فذكر عذرًا، ثم قال: {أَوْ عَلَى سَفَرٍ} فذكر عذرًا آخر، ثم قال: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} فذكر عذرًا ثالثًا، وهو عدم وجود الماء، وإنما قدم

عليه قوله: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} لأنه في معنى العلة لعدم وجود الماء، أي: أنه علة للاحتياج إلى الماء المتوقف عليه اعتبار عدم وجوده. وهذا كقوله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282] أمر الله - عزَّ وجلَّ - باستشهاد المرأتين، وعلَّل ذلك بقوله: {أَنْ تَضِلَّ ...} والعلة الحقيقية هي التذكير لا الضلال، ولكن لما كان الضلال علة للتذكير لأنه عليه يتوقف الاحتياج إليه = قدَّمه قبله وعطف عليه بالفاء. فإذًا كل من الثلاثة عذر مستقلّ: 1 - المرض 2 - السفر 3 - عدم وجود الماء. فإن قيل: فإن عدم وجود الماء شرط لكون السفر عذرًا. أقول: نعم، ولكن لمَّا كان الغالب في السفر عدم وجود الماء، أطلق، وبيَّنت السنة المراد (¬1). **** الحمد لله. قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ ...} [77]. ¬

_ (¬1) مجموع [4717].

الذي يظهر - ولا أراه يجوز غيره - أنَّ المراد مَنْ أسلَم مِمَّن حَوْل المدينة من الأعراب. وقول الله - عزَّ وجلَّ - بعد ذلك في آية (78): {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} صريحٌ في بطلان ما زعمه الكلبيُّ أن الآية السابقة نزلت في بعض أجلَّة الصحابة الذين أثنى الله عليهم في آيات لا تُحصى. وحَمْلُ آية (78) عدى قوم آخرين تفكيكٌ للنظم الشريف بلا داعٍ. فالحق أنَّ الضمائر فيها لِمَن تقدَّم، أي مَن حَول المدينة مِن الأعراب، وسيأتي ما يوجب القطعَ بذلك. والمراد بالحسنة والسيئة ما يوافق هواهم أو يخالفه من الأحكام، أي - والله أعلم - وإن يبلِّغهم الرسول ما يوافق هواهم يقولوا: هذا من عند الله، وإن يبلِّغهم ما يكرهونه كإيجاب القتال يقولوا: هذه مِن عندك، قال تعالى لرسوله: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} أي: وإنما أنا مبلّغ. وقوله تعالى في آية (79): {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} الظاهر أن الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - كقوله عقب ذلك: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا}. نعم، المقصود - والله أعلم - العموم مِن حيث المعنى، أي أنه إذا كان هو - صلى الله عليه وسلم - هكذا فغيره كذلك من باب أولى. والمراد بالحَسَنة والسيئة: النعمة والمصيبة، وجيء بهذه الجملة بعد ما

تقدم دفعًا لِما قد يتوهَّمه مَن لم يتدبَّر مِن عموم قوله: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} لجميع الحوادث المخالفة للهوى بحيث يدخل في ذلك جميع المصائب والمضار. فنبَّه تعالى على أن المراد بالحسنة والسيئة - فيما تقدم - الأحكامُ المبلَّغة، فكلّها من عند الله. فأمّا الحسنة والسيئة بمعنى النِّعم والمصائب فلا يُقال فيها: كلّها من عند الله، بل النِّعَم من عند الله، والمصائب من النفس، أي بسبب أعمالها. وقوله في آية (80): {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} ظاهر في أن الكلام مع منافقي الأعراب. وقوله تعالى في آية (81): {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ ...} واضح جدًّا فيما قلناه مِن أنَّ الكلام مع المنافقين، وكذا قوله تعالى في آية (83): {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ} (¬1). **** قوله - عزَّ وجلَّ - في آخر سورة النساء: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) ¬

_ (¬1) مجموع [4724].

بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159) فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160)}. كان يظهر لي أن قوله: {فَبِظُلْمٍ} تأكيد لما تقدم على جهة الإجمال، جيء به لطول الفصل. ولكن ظهر لي الآن ما يمنع من ذلك، وهو: 1 - أن الأفعال المفصَّلة قبلُ، كلَّها أو جلَّها وقع منهم بعد التحريم. فكيف يُجعل جزاءً لها؟ 2 - أن الأعمال المذكورة فظيعةٌ، لا تناسب أن يُقْتَصر في بيان جزائها على التحريم. فإذًا يترجَّح ما قالوا: إن متعلّق {فَبِمَا نَقْضِهِمْ} محذوف. لكنه يشكل قوله: {فَبِظُلْمٍ} حيث عَبّر بالفاء، وكان الظاهر بناءً على ما ذُكر التعبيرَ بالواو (¬1). ... ¬

_ (¬1) مجموع [4726].

سورة المائدة

سُورَة المَائدة مصحف (106). مائدة [3 - 5]. {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ .... الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ .... (3) يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ .... (4) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}. يظهر أن المراد: ماذا أُحل لهم من اللحوم؟ والمراد بالطيبات المُذَكَّاة. والله أعلم (¬1). **** [ما يستفاد من آية الوضوء] قال الله تبارك وتعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ} [6]. فكأنَّ من معنى الآية: إذا قمتم إلى الصلاة فتوضأوا، وإن كنتم مُحْدِثين ولم تجدوا ماءً فتيمَّموا. فالشرط الآخر له منطوق - وهو ظاهر -، وله مفهوم، وهو: إن لم تكونوا مُحْدِثين ووجدتم الماء فلا تيمَّموا، وإن كنتم مُحْدِثين ووجدتم الماء فلا تيمَّموا، وإن كنتم ... (¬2). ¬

_ (¬1) مجموع [4726]. (¬2) بعده بياض في الأصل.

وجود الحَدَث ... وعدم الماء ... التيمُّم وجود الحَدَث ... ووجود الماء ... الوضوء عدم الحَدَث ... وعدم الماء ... يصلَّي بالوضوء الأول عدم الحَدَث ... ووجود الماء ... (¬1). **** قال تعالى في سورة المائدة: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} [18]. في الآية دليل على أن الأب ينبغي له العفو عن أولاده، وكذا المحبّ مع حبيبه (¬2). **** قوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [32]. ظاهر الآية، بل صريحها: أنّ الفساد في الأرض بدون قتل النفس مسوِّغ للقتل (¬3). **** ¬

_ (¬1) بيَّض الشيخ في الأصل لوضوح حكمه. مجموع [4711]. (¬2) مجموع [4711]. (¬3) مجموع [4719].

[بحث حول "مِن" في قوله تعالى: {لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ} وقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ}] الحمد لله. * قوله - عزَّ وجلَّ -: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)}. (مِنْ) في قوله: {مِنْهُمْ} يجوز أن تكون تبعيضية، إذا جُعِل النفي في قوله: {لَمْ يَنْتَهُوا} من باب سلب العموم، أي: لم يَعُمَّهم الانتهاء، فيصدق بما إذا انتهى بعضهم. وعليه، فلو قيل: ليمسنَّهم، لاقتضى أن العذاب يمسُّهم جميعًا إن لم ينتهوا جميعًا. أي: أن العذاب يعمُّهم إن لم يعمَّهم الانتهاء، وإن انتهى بعضهم. وهذا غير مراد، وإنما المراد أن العذاب يمسّ من لم ينته دون من انتهى. فوجب في أداء المعنى المراد أن يؤتى بما في النظم الكريم. أمَا إذا جُعِل النفي من باب عموم السلب، فلا يصح التبعيض، إذ يكون المعنى حينئدٍ: لئن لم ينته أحد منهم. وإذا لم ينته أحد منهم فكلهم كفار، فلا معنى لأن يُجعل الذين كفروا بعضًا منهم. فيجب على هذا جعل (مِنْ) بيانيَّة.

* قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ ...} [الفتح: 29]. قوله: {وَالَّذِينَ مَعَهُ} المرادُ المعيَّة الكاملة، أي بالأبدان والإيمان وتوابعه، لا بالأبدان فقط، وإلاّ لدخل المشركون، ولا بالتظاهر بالإسلام، وإلا لدخل المنافقون، والسياق يأباه؛ لأنّ المنافقين لم يكونوا أشدَّاء على الكفار رحماء بالمؤمنين، بل وصفهم الله - عزَّ وجلَّ - في مواضع من كتابه بعكس ذلك، ولم يكونوا ممن يُرَوْن ركَّعًا سُجَّدًا، بل وصفهم الله تعالى بأنهم لا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى يراؤون الناس، وأنهم لا يذكرون الله إلا قليلًا. وأوضح من هذا: أنهم لم يكونوا يبتغون فضلًا من الله ورضوانًا، كما هو واضح. وحينئذٍ، فتلخيصُ المعنى: محمد رسول الله، والذين آمنوا معه مؤمنون يعملون الصالحات. فقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ ...} لا يصحّ أن تكون (مِنْ) فيه تبعيضية. فإن قيل: لم لا يُجعل معنى قوله: {وَالَّذِينَ} آمنوا {مَعَهُ}: مؤمنون يعملون الصالحات، أي في الجملة، أي يقع هذا منهم، بدون تعرُّضٍ لدوام

ذلك أو عدمه، فيدخل حينئذٍ مَن آمن وعمل الصالحات ثم ارتدّ على عقبه، ثم يُجعَل معنى قوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ} أي ثبتوا على ذلك، فحينئذٍ يصحّ التبعيض؟ قلت: لا يخفى ما في هذا من التعجرف: 1 - لأنّ الله - عزَّ وجلَّ - وصف الذين معه بأنهم: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ ...}، وأطلق الوصف، وعبَّر بالاسم الدالّ على الثبات والدوام في (أشداء) و (رحماء)، وجاء بقوله: (تراهم) مخاطبًا لكل من يمكن منه الرؤية، فيشمل كل زمان. 2 - قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}. فجاء بلفظ الماضي الذي يدل على وقوع ذلك فقط، فهو مناقض لغرض المعترض من الحمل على الثبات، وفيه حكمة بالغة سيأتي التنبيه عليها إن شاء الله تعالى. بل لو جُعِل الخطاب فيه لخاصّة المؤمنين لم يلزم جواز ذلك، كما لا يلزم من قوله - عزَّ وجلَّ - لرسوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] وأمثالها من الآيات = جوازُ ذلك عليه - صلى الله عليه وسلم -. بل إن خطابه - عزَّ وجلَّ - لرسوله بذلك وأمثاله هو من جملة العصمة. وهذه نكتة لطيفة ليس هذا محل إيضاحها. وأمّا ما جاء في الحديث أن ناسًا يُحال بينهم وبين حوضه - صلى الله عليه وسلم -، فيقول: "أصيحابي أصيحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك" (¬1) = فنقول: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4625)، ومسلم (2304) من حديث أنس بن مالك.

إن المراد بهؤلاء أيضًا جماعة ممن كانوا أسلموا ولم يدخل الإيمان في قلوبهم، وقد وعدهم الله عزَّ وجلَّ في كتابه بأنه سيدخل الإيمان في قلوبهم، كما تقتضيه كلمة {لمّا}، فيتمسك - صلى الله عليه وسلم - بظاهر ذلك، فيقول: "أصيحابي"، فيُخبَر بأنهم أحدثوا بعده أشياء مَنعت دخول الإيمان في قلوبهم. بل، وقد يقال: إن من مات بعد أن أسلم وقبل أن يدخل الإيمان في قلبه = ممّن تناله الرحمة ما لم يُحدِث. ومع هذا كله، فليس في الحديث أن أولئك المردودين يخلَّدون في النار. وممّا يرد الاستدلال بالحديث قوله: "أصيحابي" - بالتصغير -، ممّا يدل أنهم ليسوا من أصحابه المرادين بالآية الكريمة. فإن قيل: فما النكتة في العدول عن أن يقال: (وعدهم الله)، إلى ما في النظم الكريم؟ قلت: قد علم الله عزَّ وجلَّ أنه سيكون في هذه الأمة من يطعن في أصحاب رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فربّما يقول قائل: إن قوله تعالى: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ ...} إلخ يدلُّ على الثبات والدوام - كما تقدم -, ويزعم أن منهم من لم يثبت، فيستدل بذلك على أنه لم يدخل في قوله: {وَالَّذِينَ مَعَهُ}؛ لأن الله وصف الداخلين في ذلك بالثبات، وهذا لم يثبت. = فدحض الله عزَّ وجلَّ هذه الشبهة وأرغم أنف صاحبها بقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}، فلم يشترط في الوعد دوامًا ولا ثباتًا، بل

وهبه (¬1) لكل من وقع منه إيمان وعملٌ للصالحات. وعُلِمَ بذلك - مع ما تقدم - أنّ كل من وقع منه إيمان وعمل صالح فهو ممّن علم الله عزَّ وجلَّ أنه ثابت على ذلك، حتى لو فُرض [أنه] وقع منه شيءٌ من المخالفات، فهو صادر عن تأويل أو سهوٍ أو خطأ، وتَعقُبُه التوبة النصوح. وبالإجمال، قد غفره الله عزَّ وجلَّ، فلا يخلّ بالثبات المفهوم ممّا تقدم. على أنه يمكن أن تكون (مِنْ) تبعيضيّة، ولا يَرِدُ شيء مما تقدم. وذلك بأن يقال: كونها تبعيضية لا يستلزم التبعيض، بل جيء بها لتحقيق انتفاء التبعيض، من باب نفي الشيء بإثباته، وهو باب معروف في العربية، منه ما يسمُّونه: تأكيد المدح بما يشبه الذم، كقوله: ولا عيب فيهم ... البيت (¬2). فإن ظاهره إثبات العيب، ولكنّ هذا الإثبات جُعِلَ وسيلة إلى تحقيق النفي. ومنه قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، على جَعْل الكاف أصليَّة. ظاهره إثبات المِثل، والمقصود تحقيق نفيه، كما هو موضَّح في محلِّه. ¬

_ (¬1) غير محررة فلعلها ما أثبت، وتحتمل: "كفله"، وكان الشيخ كتب أولًا: "جعله"، ثم ضرب عليها. (¬2) هو للنابغة الذبياني في "ديوانه" (44) وتمامه: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهنَّ فلول من قول الكتائب

ومنه التعليق بالمُحال، كقوله تعالى: {وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40]. فظاهره إثبات دخولهم، والمقصود تأكيد نفيه وكقوله: ... (¬1). فيقال هنا: إنّ (مِنْ) إذا جُعِلت للتبعيض كان ظاهرها أن منهم من لم يؤمن ولم يعمل الصالحات، ولكنّ الثابت بالسياق انتفاء ذلك، فعُلم أن المراد بهذا الإثبات تحقيق النفي، وتبكيت مَن يزعم أنّ مِن أولئك مَن لا يدخل الجنة. ومثاله: أن يثبت عند السلطان اشتراك جماعة في الجهاد، فيريد الإنعام عليهم، فيقوم بعض بطانة السوء يطعن في بعضهم ليحرمهم الملك، فيقول الملك: سأُنْعِم على من جاهد منهم - وقد علم أن جميعهم جاهدوا -. وإنما ملخَّص المعنى: أنه لن يحرم منهم أحدًا، اللهم إلا إن كان فيهم من لم يجاهد، وقد عُلِم أنه ليس فيهم من لم يجاهد، فعُلِم أنه لن يحرم منهم أحدًا البتة. ومثل هذا يمكن أن يقال في الآية الأولى (¬2). والله أعلم (¬3). ... ¬

_ (¬1) بياض في الأصل مقدار أربع كلمات. (¬2) أي في آية المائدة السابقة: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)}. (¬3) مجموع [4718].

سورة الأنعام

سُورَة الأنعام قوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [28]. قد يُستبعَد فيمن شاهد أمور الآخرة وقاسى العذاب، أن يكون بحيث لو رُدَّ إلى الدنيا لعاد لِمَا تحقّق عندَه أنه مُوجِب لذلك العذاب الذي شاهده وذاقه. وخطر لي جوابان: الأول: أنه لو أُعيد إلى الدنيا لكان كالمولود ابتداء، لا يذكر شيئًا مما عرفه وشاهده بعد الموت، ولكن الخبث الذي كان بنفسه في الحياة الأولى يبقى راسخًا فيها، فيسوقه ذلك لزامًا إلى مثل ما جرى له في الحياة الأولى. الجواب الثاني: أنه لا ينسى، ولكن ما استقرّ في نفسه من الخبث يجرّه إلى العود إلى الخبائث، ويغالط نفسه ويعلّلها تارة بأنه سيتوب، وتارة بأنه إن مات ثانية على الخبث سأل الإعادة مرّة أخرى، ونحو ذلك من المعاذير. وشاهد هذا ما تراه في المجرمين الذين استحكم الإجرام في أنفسهم، يُؤْخَذ أحدهم فيُسْجَن ويعذَّب حتى يجزم هو قبل غيره بأنه إذا خُلِّص من ذلك العذاب فلن يعود إلى الإجرام البتة. ثم تجده إذا خُلِّص لا يلبث أن يعود (¬1). **** ¬

_ (¬1) مجموع [4730]. وسيأتي مزيد تفصيل في هذه المسألة في الفوائد العقدية (ص 97).

الحمد لله. قال الله تبارك وتعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ...} [68]. وقال في آية أخرى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [النساء: 140]. ففي المقارنة بين هاتين الآيتين دلالة على أن كل ما خوطب به النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد خوطب به أمّته. أي إلاَّ أن يقوم دليل في بعض المخاطبات يدل على الخصوص. والله أعلم. وفيها - أيضًا - دلالة على أن حكاية القرآن للأقوال قد تكون بالمعنى، وإن كان المحكيّ بالعربية (¬1). **** [المراد بالظلم في قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ}] قال الله عزَّ وجلَّ: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً} الآيات إلى أن قال: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ ¬

_ (¬1) مجموع [4730].

بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ ...} [74 - 83]. فبيّنٌ من السياق أن (¬1) المراد بالظلم ههنا الشرك؛ لأن الكلام مراجعة من إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - لقومه المشركين، فقال: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ [عَلَيْكُمْ] (¬2) سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}. والفريقان: أحدهما: نفسه والذي آمن بالله تعالى ولم يشرك به شيئًا، والفريق الآخر: قومه الذين كانوا مشركين. فقوله - عليه الصلاة والسلام -: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} يعني نفسَه ومن كان على طريقته. فإن قال قائل: فإن قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا} يفيد أنهم لم يكونوا مشركين. قلتُ: كلا، وإنما يفيد هنا أنهم اعترفوا بألوهية الله عزَّ وجلَّ كما قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106]. قال البخاري في كتاب التوحيد (¬3): باب قول الله تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ ¬

_ (¬1) تكررت في الأصل. (¬2) سقطت في الأصل. (¬3) (9/ 152 - السلطانية).

أَنْدَادًا} [البقرة: 22]. وقال عكرمة: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ}، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ} و {مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25، الزمر: 38] فذلك إيمانهم وهم يعبدون غيره (¬1). **** وقوله عزَّ وجلَّ: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [75]. قوله: {وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} يُضعف التأويل بأن قوله: "هذا ربّي" من باب الاستفهام الإنكاري أو نحوه. ثم قوله: {هَذَا رَبِّي} أراد - والله أعلم - بالرب هنا المعبود كأنه قال: أمَّا الأحجار هذه فلا تصلح للعبادة، فينبغي أن يُنظر (¬2) فيما هو أرقى منها، فلما رأى الكوكب قال: هذا. فلما أَفَلَ قال: وهذا أيضًا لا يصلح للعبادة لأنه إن عُبِد حين طلوعه فكيف بعد أفوله، ثم هكذا القمر والشمس. ولكن قوله بعد آيات (¬3): {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ} [الأنبياء: 51] يحتمل أن يؤيّد التأويل. والله أعلم (¬4). ... ¬

_ (¬1) مجموع [4711]. (¬2) يصلح أن يكون: "ننظر" (¬3) كذا في الأصل مع أن الآية من سورة الأنبياء. (¬4) مجموع [4716].

سورة الأعراف

سُورَةُ الأَعَراف قوله تعالى في أواخر سورة الأعراف: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ..} الآية [189]. قد يحتمل أن يقال: أراد بالنفس الجنسَ، أي الرجل. وقوله تعالى: {وَجَعَلَ مِنهَا} أي من جنسها. وبقيَّة الضمائر للرجل والمرأة المُطْلَقَين. والله أعلم (¬1). ... سُورَةُ الأَنفَاِل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)}. أما الأولى فظاهر؛ لأن الله تبارك وتعالى إذا أراد عذاب أمَّةٍ أخرج عنها نبيَّها ومن معه ثم عذَّبها. وأما الثانية؛ فقد قيل وقيل. والأقرب - والله أعلم - أنها على سبيل الفرض، أي: وما كان الله معذَّبَهم لو كانوا يستغفرون. تأمل السياق (¬2). ... ¬

_ (¬1) مجموع [4716]. (¬2) مجموع [4716].

سورة التوبة

سُورَةُ التَوبَة قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ ...} [68] يدلُّ على أن الوعد يستعمل في الشرِّ كما يستعمل في الخير، إلا أن يجاب بأنه في الآية من باب التَهَكُّم، كقوله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34] (¬1). ... سُورَةُ هُود قوله تعالى: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [118 - 119]. الاستثناء متصل أم منقطع؟ والظاهر أنه منقطع، أي: لكن مَن رحم ربك هداهم لِمَا اختلف فيه من الحق بإذنه، بدليل الآية الأخرى. ويمكن أن تجعل "إلَّا" عاطفةً بمعنى الواو. والله أعلم. قوله تعالى: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} يمكن أن يقال: ولأجل أن يكونوا على حالٍ قابلٍ للاختلاف خلقهم. ويؤوّل بما أُوّل به حديث: "لو لم تُذنبوا ... " (¬2) إلخ (¬3). ¬

_ (¬1) مجموع [4657]. (¬2) أخرجه مسلم (2749) من حديث أبي هريرة. (¬3) مجموع [4657].

سورة الرعد

سورة الرعد قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ} [33]. الباء في قوله: "بما" تحتمل وجهين: الأول: أن تكون للمصاحَبة. والمُنَبَّأُ به محذوف، على مثال قوله تعالى: {نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأنعام: 143]. والمعنى: أتنبئون الله بهذا النبأ (أي: أنَّ له شركاء) مع علمٍ عندكم لم يعلمه الله تعالى موجودًا في الأرض عندكم ولا عند غيركم؟ أم مع قولٍ ظاهر، وهو ما سمعتموه من آبائكم؟ والثاني: أن تكون الباء لتَعْدية "نَبَّأ". وعليه، فَـ "ما" في قوله: "بما" ليست كناية عن الشركاء؛ لأنه إنما يقال: نَبَّأتُه بكذا وكذا من الأخبار؛ لأن (نبَّأ) بمعنى (أخبر)، فالمنبَّأ به إنما يكون نبأً، أي خبرًا، كقوله تعالى: {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ} [يوسف: 36]، [{أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ} [يوسف: 45]]، (¬1)، {قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ} [التوبة: 94]، {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ} [التحريم: 3]. ولا تُعدَّى الباء إلى الذوات، إلا على ضربٍ من المجاز إذا دلَّت عليه القرينة. كما إذا استأذن رجل على أمير فذهب الحاجب فأخبر الأمير ثم ¬

_ (¬1) الأصل: "فلما نبأهم بتأويله" سبق قلم.

يرجع إلى المستأذِن، فيقول له: قد أنبأتُ الأمير بك، يريد بوقوفك على الباب مستأذنًا. وعلى كلا القولين، فالشيء الذي دلَّت الآية أن الله تعالى لا يعلمه في الأرض ليس هو ذوات الشركاء، بل هو - على الأول -: العلمُ بكونه تعالى له شركاء. أي أنّ هذا العلم معدوم في الأرض. وعلى الثاني: كونه تعالى له شركاء، أي أن هذا الحكم المدَّعى - وهو أنه تعالى له شركاء - معدومٌ في الأرض. فعلى كلا القولين، لا دلالة في الآية أن الشركاء المذكورين (¬1) فيها هم في الأرض. فتدبَّر. أمَّا المختار، فهو القول الأول في هذه الآية؛ لمكان المعادلة بقوله: {أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ}، فلا يستقيم أن يقال: أتُنبئون الله بوجود شركاء أم بظاهر من القول. وأما استقامة: أتنبئون الله بعلمٍ أم بظاهر من القول = فواضح. فالآية من قبيل قوله تعالى: {نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأنعام: 143]، وقوله تعالى: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} [الأنعام: 148]، وقوله تعالى: {ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأحقاف: 4]. ¬

_ (¬1) سقط الراء من الكلمة في الأصل.

وإنما عدل - والله أعلم - إلى الموصول فقال: {بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ}، ولم يقل: "بعلمٍ"، ليكون السؤال نفسُه مُغنِيًا في إبطال أحد الشِّقَّين عن الإتيان بجملةٍ أخرى لإبطاله. كأنه قال: أتنبئون الله بعلم؟ فالعلمُ لا يعلمه الله تعالى موجودًا في الأرض .... وأمّا آية يونس (¬1)، فالوجه الثاني هو الظاهر فيها؛ إذ لا معادلة فيها. فالمعنى: أتنبئون الله بأن لكم شفعاء عنده؟ وهو لا يعلم هذا الحكم موجودًا في السماوات ولا في الأرض. ويحتمل أن يكون هناك حذف، والمعنى: أتنبئون الله بوجود ما لا يعلمه في السماوات ولا في الأرض. أي: لا يعلم لكم شفعاء كائنين في السماوات ولا في الأرض. وهذا أقرب إلى الظاهر هنا. والله أعلم (¬2). ... ¬

_ (¬1) هي قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)}. (¬2) مجموع [4729].

سورة إبراهيم

سورة إبراهيم قول الله تعالى: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ} [31]. وقوله: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30]. وقوله: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ} [النور: 31]. جزم الفعل بشرطٍ مقدّر، والتقدير: إنْ تَقُل لهم ذلك يقيموا الصلاة. وكذا في الآخرَين. واستشكل بأنّه يقتضي الإخبار بترتّب إقامة الصلاة على مجرد القول، وهو خلاف المشاهَد. وكذا في الآخرَين. وأجاب الخُضري في "حواشي ابن عقيل" (¬1) بأنّ القول ليس شرطًا تامًّا للامتثال، بل لا بدّ معه من التوفيق. فلم يصنع شيئًا! والإشكال بحاله؛ لأنّه إذا لم يكن القول شرطًا تامًّا، فلِمَ جُعل وحده شرطًا؟ وعندي أجوبة: أحدها: أنّ المراد بالذين آمنوا والمؤمنين = مَن كَمُل إيمانه، أي: أنّ من كَمُل إيمانه لا يقع منه معصية للرسول، بل بمجرّد ما يقول له الرسول: افعل كذا، يبادر بفعله. فهذا وإن كان أولى من قول الخضري، إلاّ أنّ فيه نظرًا لعموم الآيات جميعَ (¬2) المؤمنين، ولأنّ كمال الإيمان لا يلزم أن يبلغ إلى درجة العصمة ¬

_ (¬1) (3/ 63). (¬2) مفعول للمصدر "عموم".

في غير الأنبياء، ولا سيما عن الصغائر التي منها عدم غضِّ البصر. ثانيها: أنّ الجزاء في الآيات وإن كان ظاهره العموم، فيحتمل أنّ المراد الغالب. وفيه نظر - أيضًا - لأنّ فيه إخراجَ الكلام عن ظاهره، ولأنّه إن صحّ في الآية الأولى، لا أظنه يصح في الآيتين الأخريين. بل لو قيل: إنّ غالب المؤمنين يتساهلون في عدم غض النظر = لمَا كان بعيدًا. وجواب ثالث: وهو أنّ الكلام خرج مخرج تحريض المؤمنين وتحضيضهم على طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -. كما إذا كان عندك رجل له ولدٌ مقصِّر في طاعته، فاحتاج الأب إلى شيء، فتقول له - بمسمعٍ من ولده -: "مُر ولدك يُطعْك"، تريد بذلك تحريض الولد على طاعة أبيه. كأنّك تقول له: إنّ طاعتك لأبيك بمثابة الأمر المقطوع بوقوعه، حتى لا يتوهم خلافه. هذا مع أنّك تعتقد في نفسك أنّ الولد قد يطيع، وقد لا يطيع. وهذا الجواب - فيما يظهر لي - بغاية الحُسن، ولله الحمد (¬1). ... ¬

_ (¬1) مجموع [4719].

سورة الحجر

سورة الحجر [إشكال حول إعراب آية والجواب عنه] {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3)}. جَزْم (يأكلوا) وما بعده على جواب (ذرهم) يقتضي أنه متسبِّب عنه، أي: إنْ تذرهم يأكلوا ... ومفهوم الشرط: إنْ لا تذرهم لا يأكلوا ولا يتمتّعوا ولا يُلههم الأمل. وظاهر هذا مشكل؛ إذ كيف يؤمر أن يذرهم مع تيقُّن أنه لو لم يذرهم لم يأكلوا ولم يتمتّعوا ولم يُلههم الأمل، ومعنى هذه الأفعال استمرارهم على الضلال؟ فحاصل المفهوم: إنْ لا تذرْهم لا يستمرّوا على الضلال. والجواب: أن هذا الإشكال إنما يَرِدُ إذا حملنا الترك المأمور به بـ {ذَرْهُمْ} على الترك من الدعاء، وليس كذلك، وإنما المراد الترك من الإهلاك. فالمعنى: لا تستعجل هلاكهم، فإنك إنْ لا تستعجل هلاكهم يستمرُّوا على لهوهم وغفلتهم. أي: وإن تستعجل هلاكهم فيهلكوا لا يكن ذلك؛ إذ بعد الهلاك لا أكل ولا تمتّع ولا إلهاء أمل. فإن قلت: فالآية مكية، وهي قبل شرع القتال وإمكانه، فكيف يؤمر بترك شيء هو غير متمكن منه؟ قلتُ: ليس المراد استعجال هلاكهم بأن يقاتلهم، وإنما المراد استعجال

هلاكهم بالدعاء عليهم واستحباب أن ينزل عليهم العذاب. ويبيّن هذا المعنى قولُه تعالى بعدُ: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5)}. فالحاصل أن معنى {ذَرْهُم}: لا تستعجل لهم العذاب. والمراد بالعذاب: المستأصلُ كالصيحة ونحوها مما عُذِّبت به الأمم، كما يدل عليه ما تقدّم. فلا يلزم من النهي عن استعجاله النهي عن القتال. وبهذا تعلم أن الآية محكمة لم تُنسخ بآية السيف كما تُوُهِّم (¬1). ... ¬

_ (¬1) مجموع [4711].

سورة النحل

سورة النحل [تعليقات على عدة آيات] * قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [النحل: 12] (¬1). في قراءة من قرأ برفع "النجوم" و"مسخرات" سرٌّ لطيف، وهو أن النجوم ليست كلها مسخرة لنا معشر البشر؛ فإن منها ما لا نراه. والله أعلم. * قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل: 20, 21]. المتبادر أن قوله: أموات خبر ثان للذين يدعون، أي للمدعوين، أو خبر لمحذوف تقديره: "هم" يعود على المدعوين أيضًا. ولكن المعنى في بادئ النظر يأباه. ويمكن تصحيحه يحمل قوله: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ} على الملائكة. ومعنى كونهم أمواتًا غير أحياء كونهم على الصفة المخالفة للحياة الدائمة الخاصة بالله عزَّ وجلَّ. فتأمل. * [قوله تعالى]: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا ¬

_ (¬1) التخريج من الشيخ، وكذا في المواضع الآتية من الفوائد المنقولة من مجموع [4716].

سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [النحل: 58, 59]. هذه الآية صريحة في أنهم كانوا يئدون بناتهم حياء من الناس وخوفًا من العار. وهو المطابق للمنقول عن العرب [في] الجاهلية. فأما قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام: 151]، وقوله: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} [الإسراء: 31] = فلا يلزم منه أن العرب كانوا يفعلون ذلك، وإنما هو نهي مطلق، ولذلك جاء بلفظ الأولاد الشامل للذكور. وهو مظنَّة لأن يفعله بعض الفقراء. وقد ثبت في الصحيح في أكبر الكبائر: "أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك" (¬1). نعم، لا مانع من أن يكون بعض الفقراء من العرب فعل ذلك. * قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ} [النحل: 73]. {شَيئًا} منصوب على المصدرية، أي شيء من الملك. والله أعلم. * قال تعالى: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 74]. هذه الآية دامغة لشبه المعارضين للنصوص بالرأي. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4477)، ومسلم (86) من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -.

ونحوها قوله تعالى: {قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} الآية [البقرة: 275]. وقوله تعالى: {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة: 140]. * قال تعالى: {وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ} [النحل: 86]. الشركاء ها هنا عقلاء وليسوا بالأصنام. * قال تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ}. فقوله تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ} الآية ردٌّ عليهم في قولهم: {إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} وقولهم: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} حيث نسبوا الكذب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. فقال تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} أي: أولئك القائلون: إنما أنت مفتر. فكأنه قال تعالى: إنما يفتري الكذب هم، أي القائلون تلك المقالة، أي: لا أنت يا محمد.

وفيه وضع الموصول وهو قوله: {الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ...} موضع المضمر، وهو (هم)، ونكتة ذلك: التقرير أو التوهّم أو الإيماء إلى وجه بناء الخبر؛ فإن عدم إيمانهم بآيات الله مناسب لنسبة الكذب إليهم، كما أن إيمان الرسول بها مناسب لنزاهته عن الكذب. وفي قوله: {إِنَّمَا يَفْتَرِي ...} قصرُ قلبٍ؛ فإنهم نسبوا الكذب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقلب الله ذلك عليهم بأنْ نفاه عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأثبته لهم. وهو قصر إضافي، أي أن قصر الكذب عليهم إنما هو بالنسبة إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ فليس في الكلام تعرُّض لغير الفريقين - أعني الرسول - صلى الله عليه وسلم - والذين نسبوا إليه الكذب - لا بنفي ولا إثبات. وبهذا تعلم أنه لا دلالة في الآية على أن الكذب لا يصدر إلا عن كافر. والله أعلم. وفي قوله تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ} [النحل: 102] دافع لشبهة من يزعم أن قوله تعالى: {قل يا عباد} يدل على أن الناس عباد للنبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1). * قوله تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} ظهر لي فيه ثلاثة أوجه: الأول: أن المراد الكذب على الله تعالى بقرينة السياق. ¬

_ (¬1) مجموع [4716].

الثاني: أن المراد بالذين لا يؤمنون بآيات الله قوم مخصوصون من المشركين، وهم الذين رموا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بالكذب، كما دل عليه السياق، فقوله تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي ...} إلخ من باب الحصر الإضافي؛ لأنهم رموا النبي - صلى الله عليه وسلم - بالكذب فأجاب الله تعالى عليهم بحصر الكذب فيهم، أي بالنسبة إلى رسوله، وهذا من باب حصر القلب، فهُم رموا النبي - صلى الله عليه وسلم - بالكذب ويزعمون أنهم صادقون، فردَّ الله تعالى عليهم بما يقتضي أن نبيه - صلى الله عليه وسلم - صادق وأنهم هم الكاذبون، وجعل المُظْهَر في مقام المُضْمَر في قوله: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} للتصريح بذمهم، والإشارةِ إلى العلة التي تقتضي افتراءَهم للكذب، فيكون في الكلام إيراد دليل على قلب قولهم. الثالث: أننا نسلِّم بقاء الآية على ظاهر العموم والإطلاق، ولكن هذا لا يقتضي أن كلَّ من افترى الكذب كافر، وإنما يقتضي أن افتراء الكذب هو من الأخلاق التي عُرِفَ بها الكفار، وهذا كما لو قيل لرجل: سمعنا أنك كنت تتخذ خِمارًا، فيجيب بقوله: إنما يتخذ الخمار النساء، أي أن الخِمار من الألبسة التي عرفت بها النساء، فكيف ألبسه وأنا رجل؟! ومُحال أن يقال: إن مَن لبس الخِمار صار امرأة. نعم، هذا القول يدل أن من لبس الخمار صار متشبهًا بالنساء. وكذا يقال في الآية: إن من كذب وهو من المسلمين متشبِّهٌ بالكفار. والبحث مفتقر إلى تحقيق، وإنما علقتُ هذا هنا تقييدًا حتى انظر التفاسير إن شاء الله وأشرح ما يظهر لي. والله الموفق (¬1). ¬

_ (¬1) مجموع [4657]. وهذه الفائدة علقها الشيخ مرتين في دفترين مختلفين فسقناهما معًا للفائدة التي تضمنها كل منهما.

[توجيه عدم ذكر ميراث الجد في القرآن]

* في مصحف الحكومة المصريّة قُبَيل سورة النحل أنها مكيّة إلا الآيات الثلاث الآخرة. وقد يَرِدُ عليه الآية (110) قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬1). **** [توجيه عدم ذكر ميراث الجد في القرآن] الحمد لله. قال الله عزَّ وجلَّ: {وَنَزَّلْنَا (¬2) عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [89] أي من الأحكام، فأين حكم ميراث الجد فيه؟ الجواب: أن حكم الجد في القرآن يحتمل وجوها: 1 - أن يكون قوله عزَّ وجلَّ: {وَلِأَبَوَيْهِ} أراد بالأب فيه كلَّ رجل يتصل به سلسلة النسب فيتناول الجدّ. 2 - أن يكون الجد داخلا في قوله عزَّ وجلَّ ... (¬3). ... ¬

_ (¬1) مجموع [4716]. (¬2) في الأصل: {وأنزل} سبق قلم. (¬3) بعده بياض في الأصل. مجموع [4711].

سورة الحج

سورة الحج [بحث حول اليوم الذي مقداره ألف سنة] قال الله عزَّ وجلَّ في سورة الحج: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47)}. وفي آلم السجدة: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5)}. وفي المعارج: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ أي العذاب {بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) ...} يظهر لي أنه ليس المقصود من هذا اليوم يوم القيامة، وإنما المقصود تصويرُ حِلْم ربنا عزَّ وجلَّ وعدم استعجاله، وأنه ليس كالخلق في الاستعجال واستطالة الزمان، كما يقول الناس في الرجل البعيد الآمال، البطيء الأعمال، القليل الاستعجال: "يومه سنة". وعلى هذا، فلا منافاة بين قوله: {أَلْفَ سَنَةٍ} وقوله: {خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ}؛ لأن المقصود تصوير عدم الاستعجال، لا حقيقة المقدار. ولَمّا كان الاستعجال في سورة المعارج من النبي - صلى الله عليه وسلم - كما يدل عليه

سورة المؤمنون

قوله: {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5)} ومن الكفار أيضًا، بدليل قوله: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7)} = ناسب تأكيد تصوير الحِلْم، فقيل: {خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ}. وفي الموضعين الآخرين، لم يكن الأمر كذلك، فاكتُفي بألف سنة. وعلى كل حال، فخصوص المقدار غير مراد. وقد يلوح للناظر أن المراد بيان مقدار ما تقطعه الملائكة في عروجهم في اليوم من أيامنا. ولكن عند التأمل يتبين ضعف هذا الوجه. والله أعلم. وقد ثبت في "الصحيح" (¬1) وصف يوم القيامة بأنه ألف سنة، وذلك لا ينافي ما قلناه. والله أعلم (¬2). ... سورة المؤمنون المؤمنون: {وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27)}. و {الَّذِينَ ظَلَمُوا}، أي: مِن أهلِك. والله أعلم (¬3). ¬

_ (¬1) الذي في "صحيح مسلم" (987) وغيره من حديث أبي هريرة وَصْف يوم القيامة بكونه "خمسين ألف سنة" في ثلاثة مواضع من الحديث. (¬2) مجموع [4727]. (¬3) مجموع [4727].

سورة النور

سورة النور الحمد لله. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)}. إن قلنا بما عليه الشافعية وغيرهم أن الاستثناء الواقع بعد جُملٍ يعود إلى الجميع ما لم يمنع منه مانع، لزم هنا أن يعود إلى الجَلْد، ولا أعلم منه مانعًا. وإن قلنا برأي الحنفية وغيرهم أنه يعود إلى الأخيرة، فقد يقال: إن الأخيرة هنا هي قوله: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا}. فأما قوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} فإنما هي كالتذييل والتكميل والتعليل للتي قبلها؛ كأنه بيَّن علَّة عدم قبول شهادتهم، وهي (¬1) كونهم فاسقين. أو يقال: هي استثناء من قوله: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} لكن الاستثناء منها دلَّ على الاستثناء من التي قبلها؛ لأن الاستثناء من الاتِّصاف بالعلة يدلُّ على الاستثناء من الحكم المبنيِّ عليها (¬2). **** ¬

_ (¬1) في الأصل: هم، سبق قلم. (¬2) مجموع [4716].

قوله تعالى: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [27]. يظهر لي أنّ بين الاستئناس والسلام مغايرةً ما، وقد يتّحدان. فالاستئناس - وهو الاستئذان - مطلوب، مع قطع النظر عن كونه بالسلام أو بغيره. والسلام مطلوب، مع قطع النظر عن كونه استئذانًا أو غيره. وعلى هذا، فمن استأذن بالسلام، فقد جاء بالأمرين معًا، ومن استأذن بغير السلام لزمه السلام. وحينئذ لا وجه لقول من زعم أنّ السلام قبل الاستئذان؛ لأنّه إذا سلّم فقد استأذن. وكأنّه بناه على أنّ الاستئذان إنّما يكون بنحو: "أيدخل فلان؟ ". وليس بلازم، بل الاستئذان هو طلب الإذن بأي صورة كان، ولا يخفى أنّ هذا يحصل بالسلام مع معونة القرائن. فإن قلت: فَلِم لم يَقتصر في الآية على بيان الاستئذان، ويُوكل ذِكْرَ السلام إلى الأدلة العامة؟ قلتُ: هذا السؤال غير وارد؛ لأن تكرار الأوامر عند وجود مناسبة لا غرابة فيه. ومع ذلك، فكأنَّه إشارة إلى استحباب أن يكون الاستئذان بلفظ السلام؛ لأنّ المخاطب يقول: إذا شُرع لي الاستئذان، وشُرع لي السلام، فالأولى أن أؤديهما معًا. والله أعلم. ومعنى الاستئناس: طلب الإيناس، كالاستفهام: طلب الإفهام،

سورة القصص

والاستخبار: طلب الإخبار، والاستعلام: طلب الإعلام. وفي حديث عمر في قصة إيلاء النبي - صلى الله عليه وسلم - (بخاري (¬1)، في باب موعظة الرجل ابنته لحال زوجها - كتاب النكاح -): "ثم قلت وأنا قائم أستأنس: يا رسول الله! لو رأيتني وكنا معشر قريش نغلب النساء" إلخ. والإيناس المطلوب: إمّا أن يكون من قولك: "آنسني"، أي جعلني آنس، ضد الوحشة. وإمّا من "آنسني"، أي آنَسَ صوتي، أي سمعه (¬2). ... سورة القصص [بعض الأحكام من قصة موسى مع شعيب عليهما السلام] الاستدلال على جواز أخذ الأب شيئًا في مقابل إنكاح ابنته بقوله تعالى حكايةً عن نبيِّه شعيب في خطابه لنبي الله موسى عليه السلام: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ}. ولا دليل في قوله: {فَإِنْ أَتْمَمْتَ (¬3) عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} وقول موسى عليه السلام: {أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ} على جواز العقد في الإجارة على إحدى مدتين؛ لأن العقد إنما هو مشروط على الثمان الحجج، ثم قال: {فَإِنْ ¬

_ (¬1) (2468)، وهو في مسلم (1479). (¬2) مجموع [4719]. (¬3) في الأصل: "أكملتَ" سهو، وكذا في الموضع الثاني.

سورة العنكبوت

أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} أي زيادةَ فضلٍ غيرَ داخلٍ في شرط الإجارة، فقال موسى: {أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ} أي قبلتُ الإجارة كما ذكرتَ على الثماني حجج بشروطه، ثم إن تيسر لي زيادة حجتين فهو خير، وإلا فلا عدوان علي، فلم يَعِدْه بزيادة الحجتين. والله أعلم (¬1). ... سورة العنكبوت {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا} [17]، يريدُ - والله أعلم -: إن معبوداتكم لا يوجد منها إلا تماثيلها هذه التي اتخذتموها، كقوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا} [النجم: 23]، أي لا يوجد منها إلا هذه الأسماء (¬2). **** قال الله عزَّ وجلَّ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11)}. يظهر أن قوله: {جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} معناه: أنه يتّقي أذى الناس كما يتقي عذاب الله، أي أنهما سواء عنده، فهو يتذبذب، فتارة يميل ¬

_ (¬1) مجموع [4657]. (¬2) مجموع [4721].

إلى اتقاء هذا، وتارة إلى اتقاء ذاك. أي تارة يُقدِم على معصية الله خوفَ أذى الناس، وتارة يكفّ عنها خوف عذاب الله. فإذا كان هذا هو المعنى، فسياق الآية يقتضي أن من ظهر للمؤمنين أن هذه حالُه كان عندهم على الاحتمال، لا يدرون أمؤمنٌ ضعيف أم منافق؟ فإن قيل: كيف يَحتمِل أنه مؤمن، والمؤمنُ لا يشك أن عذاب الله أشد من أذى الناس، فكيف يستويان عنده؟ قلت: قد يجاب بأن الاستواء إنما هو بمقتضى ظاهر الحال من اتقائه هذا تارة وذاك أخرى، فأما في نفس الأمر فيحتمل أن يكون موقنًا بأن عذاب الله أشد من أذى الناس، ولكنه ضَعُفَ عن تحمُّل الأذى، ورجا عفوَ الله. وقد قال الله عزَّ وجلَّ: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106]. وعلى هذا، فالآية تدل على أن تلك الحال مذمومة لا تنبغي للإنسان، وإن لم تكق قاطعة الدلالة على عدم إيمانه. ويستثنى من ذلك الإقدامُ على ما لا يترتب على فعله مفسدة من المعاصي عند تحقُّق الإكراه. وذلك كإظهار كلمة الكفر مع اطمئنان القلب بالإيمان. وقد يقال: إنما المعنى أنه يتّقي أذى الناس كما يتقي المؤمن عذاب الله. وأقول: هذا مع مخالفته للظاهر، يردُّه سياقُ الآية ولا حاجة إليه مع ما مرّ (¬1). ¬

_ (¬1) مجموع [4721].

سورة الأحزاب

سورة الأحزاب [بحث في آية التطهير] الحمد لله. قد أطال السيد (¬1) في تخريج حديث التطهير وشرحه، وقطع بأن الآية ليست خاصة بأمهات المؤمنين. وأصاب بذلك؛ فإن اللفظ والمعنى في الآية يدفع ذلك. أما اللفظ فلتذكير الضمائر وقولِه: "أهلَ البيت" على الاختصاص. ولو كانت خاصة لهُنَّ لقال: إنما يريد الله ليذهب عنكنَّ الرجس ويطهركنَّ. وأما معنًى، فلأن أهل البيت له استعمالان، أحدهما: أن يُراد به بيت السُّكْنى كما هو الحقيقة، والآخر: بيت النسب على سبيل المجاز. والأصل أن المراد الحقيقة أي أهل بيت السكنى، فإنه يشاركهن في ذلك غيرهن. وإن قيل: إن المراد المجاز أي أهل بيت النسب، فإنهن لسن منه رأسًا باعتبار بيت النسب القريب كبني هاشم؛ إذ هو المفسَّر به أهل بيت نسبه - صلى الله عليه وسلم - في كثير من المواضع. وأيضًا فإن ذلك الحديث الصحيح ظاهر في عدم اختصاص الآية بهنَّ. وقد تردّد السيد بين أن يجزم بأن الآية خاصة في أهل الكساء، وأن يسلِّم بأنها مشتركة ثم مال إلى الثاني أو كاد. ¬

_ (¬1) هو "السيد حسين العلوي الدمشقي الحنفي" كما جاء مصرَّحًا به في بعض الفوائد الأخرى.

سورة الصافات

قال في (ص 305 ج 2) بعد نقله كلامًا عن السيوطي: "والفرق بين ما ذكره السيوطي والآية بوجهين" فذكر الأول ثم قال: "الثاني: إن دخول الأزواج الطاهرات هنا تبعي" إلخ. وقد مرَّ أن لفظ أهل البيت يطلق حقيقةً في أهل بيت السكنى ومجازًا في أهل بيت النسب. والمراد بأهل بيت السكنى أهله الذين هم في حال الخطاب معدودون من سُكانه فيخرج الأُجراء و [...] (¬1). ... سورة الصافات قول الله تعالى في نوح عليه السلام: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} [الصافات: 77] دليل على بطلان زعم بعض أمم الأرض أنهم من ذرية غيره وأن الطوفان لم يعمّ المعمورة. والله أعلم (¬2). ... سورة ص [بحث في معنى دعوة سليمان] في حديث "الصحيحين" (¬3) في أخذه - صلى الله عليه وسلم - للعفريت الذي أراد أن ¬

_ (¬1) هنا توقف قلم الشيخ. مجموع [4657]. وانظر الرسالة السابعة من رسائل المؤلف في التفسير (ص 226 وما بعدها). (¬2) مجموع [4657]. (¬3) البخاري (3423) من حديث أبي هريرة, ومسلم (542) من حديث أبي الدرداء.

يقطع عليه صلاته فأمكنه الله منه. فأراد (¬1) أن يربطه، قال: "فذكرت دعوة أخي سليمان: رب هب لي ملكًا لا ينبغي لأحد من بعدي" (¬2). قال في "حواشي المشكاة" (¬3) نقلًا عن "اللمعات": "قال: المراد بدعوته: (رب هب لي ملكًا لا ينبغي لأحد من بعدي)، ومن جملته تسخير الريح والجن والشياطين، وهو مخصوص بسليمان عليه السلام، فيلزم عدم إجابة دعائه، فتركه ليبقى دعاؤه محفوظًا في حقه، ونبينا - صلى الله عليه وسلم - كان له القدرة على ذلك على وجه (¬4) الأتم والأكمل، ولكن التصرف في الجن في الظاهر كان مخصوصًا بسليمان، فلم يظهره - صلى الله عليه وسلم - لذلك (¬5)، فافهم. وقيل: يمكن أن يكون عموم دعاء سليمان عليه السلام مخصوصًا بغير سيد الأنبياء - صلى الله عليه وسلم - بدليل إقداره على أخذه ليفعل فيه ما يشاء، ومع ذلك تركه على ظاهره رعاية لجانب سليمان". أقول: أما أنا فأرى هذا خبطًا، وأبدأ بتحقيق معنى دعوة سليمان عليه السلام، فإن أكثر الناس يغلطون فيها فبنسبون إليه الشحَّ والبخلَ على عباد الله بمواهب الله. وهذا جهل منهم، وبيانه يستدعي تقديم ضرب مثل، فأقول: ملك يقسم دنانير، فجاءه رجل فقال له: أعطني نصيبًا من هذه الدنانير ¬

_ (¬1) طمس على أول الكلمة، ولعله ما أثبت. (¬2) إشارة إلى آية (35) من سورة ص {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي}. (¬3) (ص 91). و"حواشي المشكاة" لأحمد علي السهارنفوري (ت 1297) والنقل فيها عن "لمعات التنقيح": (3/ 231) لعبد الحق الدهلوي (ت 1052). (¬4) كذا في الأصل تبعًا "للحواشي" و"اللمعات". (¬5) في "الحواشي" و"اللمعات": "لأجل ذلك".

ثم لا تعط أحدًا مثل ما أعطيتني، وجاءه آخر فقال له: أعطني نصيبًا لا يصلح أن تعطيه أحدًا من بعدي، هل تستوي الكلمتان؟ كلا، فالأول طلب نصيبًا ما، ومع ذلك سأل الملك أن لا يعطي أحدًا بعده مثله. فظاهر أن مراده الفخر بأن الملك أعطاه أكثر من غيره، وهو لا يبالي مع ذلك أن يعطيه كثيرًا أو قليلًا، وإنما همه أن يكون أكثر من غيره. والثاني طلب نصيبًا جزيلًا بحيث لا يصلح لأحد بعده أن يُعطَى مثله، ومراده أن الملك عالم بما يصلح للناس من الأعطية فطلب أن يكون عطاؤه كثيرًا جدًّا بحيث لا يمكن أن يُعطي أحدًا بعده إلا أقل منه. فهَمُّ هذا إنما هو في كثرة العطاء، ومع ذلك لا يريد من الملك أن ينقص أحدًا من الناس عن مستحقه. وبيانه بوجه آخر: أنه لو فرض أن أعطيات الناس كانت من ألف فأقل، فإن الأول إذا أُعطي عشرةً وأُعطي غيرُه من تسعةٍ فأقل لكان قد حصل مطلوبه، وهو أن يكون أكثر من غيره، فيفتخر بذلك. والثاني بخلافه، فإنه يقول: إن الأعطية التي تنبغي للناس من ألف فنازلًا، فأطلب أن يُعطَوا ذلك، ثم أُعطَى أكثر من نصيب الأكثر منهم. والحاصل أن الأول أراد الافتخار، والثاني أراد الاستكثار. فسليمان عليه السلام هو من الباب الثاني، فلم يطلب من الله عزَّ وجلَّ أن لا يعطي المُلْك أحدًا من الناس أو نحو ذلك، بل عَلِمَ أن الله عزَّ وجلَّ عالم بمقادير العطايا التي سيعطيها من المُلك إلى يوم القيامة، وما ينبغي لكل أحد منه كما اقتضت حكمته وإرادته، فسأله أن يعطيه ملكًا عظيمًا كثيرًا بحيث لا ينبغي

مثله لأحدٍ من بعده، يريد بحيث يكون أكثرَ مِن أكثر ما علم الله عزَّ وجلَّ أنه سيعطاه مَلِكٌ إلى يوم القيامة. فلم يسأل من الله عزَّ وجلَّ أن لا يُعطي أحدًا بعده، وإنما سأله أن يعطيهم ما قد سبق في علمه أن يعطيهم مما علم أنه لا مزيد عليه، وسأله لنفسه أن يعطيه أكثر من أكثرهم، فتأمل هذا موفَّقًا. ثم اعلم أن دعوة سليمان بهذا المُلك الذي لا ينبغي لأحد من بعده، إنما هو من حيث الإجمال، أي بحيث إذا قيس مُلكُ أكبر مَلِكٍ ممن يجيء بعده بملكه لكان ملكه أكثر، ولم يُرِد التفصيل، فلو سَخَّر الله الريح لغيره دون غيرها لما لزم من ذلك تبيُّن عدم الاستجابة له، ولا يتحقق ذلك إلَّا لو أعْطَى الله أحدًا مِن الخلق مثل ما أَعْطَى سليمان جميعًا، ولكن لما كان من غرائب مُلك سليمان التسليط على الجن، رأى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن يدع تلك الواقعة التي كان أرادها من حبس ذلك، لا لأنها تستلزم تبيُّن عدم الإجابة، ولا لأنها تستلزم تبيُّن التخصيص، بل لأن التسليط على الجن من غرائب ما أوتيه سليمان، فظهور تسليط غيره عليهم مما يوهم الناس عدمَ استجابة دعوته، فَترَكَه - صلى الله عليه وسلم - خشية الإيهام. أو يقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لمَّا علم أن الله استجاب دعوة سليمان فأعطاه ملكًا كبيرًا لا يمكن أن يعطي أحدًا مثله، رأى أن طريق الأدب مع ربه عزَّ وجلَّ ومع أخيه سليمان أن لا يتصرف فيما هو من غرائب ذلك المُلك؛ لأنه لما كان من غرائب ذلك المُلك كان كأنه من خصوصياته، وخصوصياتُه كالجزء المهم منه، فإذا أمكنت لغيره كان كأنه لم يُستجب له. والله أعلم. ومما يبين هذا أنه قد وقع إمساك بعض الجن لبعض أفراد الأمة، كما في حديث أبي هريرة في إمساكه للجنِّيِّ الذي جاء يحثو من صدقة الفطر

سورة الشورى

التي كانت لديه. وهو في "الصحيح" (¬1) (¬2). ... سورة الشورى قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35)}. أختُلِف في توجيه النصب في قوله: {وَيَعْلَمَ}. والصواب أنّ الواو للمعيَّة، و (يعلم) منصوب بـ (أن) مضمرة بعد الواو. والمراد بالإيباق - والله أعلم - الحبسُ كما فسره به جماعة. وليس المراد - والله أعلم - مطلق الحبس، فإنَّ ذلك قد مرَّ في قوله: {يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ}، بل الحبس في الشدَّة من قولهم: وَبَقَت الإبلُ في الطين، إذا وحلت فنَشِبَت. والمعنى: يحبسهنَّ في الموج المضطرب. وقوله تعالى: {وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ} أي - والله أعلم - يُنْجِيهنَّ من الغرق. وقوله: {وَيَعْلَمَ} يقع ما ذكر من الحبس والعفو مع علم الذين يجادلون في الآيات ما لهم من محيص، أي من الغرق، كما في قوله تعالى: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ}. ¬

_ (¬1) البخاري (2311). (¬2) مجموع [4657].

سورة الواقعة

أو يُقال - ولعلَّه الأَولى -: إن المجادلين في آيات الله جميعًا يعلمون حينئذٍ، أي حين وقوع السُّفن في الطوفان ما لهم من محيصٍ، أي أنهم هالكون ما دامُوا على جدالهم. نَزَّل علمَ مَن في السفن بِمَنْزِلة علم المجادلين جميعًا؛ لأنه ما مِن أحدٍ من المجادلين إلاَّ وقد وقع له مثل هذه الواقعة أو بَلَغَتْه، وهي سبب للعلم بأنهم في جدالهم في آيات الله على غير هدى، لأن أهل السفن وقت الطوفان لا يدعون إلاَّ الله تعالى كما قال تعالى: {ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ}، وفي آية أخرى: {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أي: الدعاء (¬1). **** قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38)}. ممّا يؤيِّد دلالتها على أن الخلافة شورى كونه جاء بذلك بعد الإيمان والصلاة، وقبل الزكاة. تأمَّل (¬2). ... سورة الواقعة * [قوله تعالى]: {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29)}. الطلح معروف، وهو شجر شائك، والمنضود: المصفّف المرتّب. والطلح كغيره من الشجر، إذا كان منضودًا كان فيه جمال لا يخفى، ¬

_ (¬1) مجموع [4724]. (¬2) مجموع [4718].

ولكن سائر الأشياء الأخروية ليست كأشباهها في الدنيا من كل وجه، بل ما كان في الدنيوية من نقص وعيب فهو منتفٍ عن الأخروية، وما كان في الدنيوية من كمال وجمال ونعيم ولذة فهو موجود في الأخروية على وجه أكمل وأتمّ. فالطلح الأخروي لا شوك له، ولا غير ذلك ممّا هو نقص. وللطلح الدنيوي ثمر معروف يأكله الناس إذا كان غضًّا. ولا مانع أن يكون للطلح الأخروي مثل ثمر الطلح الدنيوي في الشكل، مع انتفاء النقص. أعني أن يكون بين الثمرين من التشابه كما بين الشجرين. وسبب النزول يعيّن ما قلناه. فأمّا تفسيره بالموز، فلم يثبت به نقل لازم، ولا وجه له في العربية، ولا في السياق، وسبب النزول يردّه. والله أعلم. * [قوله تعالى]: {فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91)}. أي: فيقال له: سلام لك، أنت من أصحاب اليمين. وهكذا (¬1) كقوله تعالى: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73] (¬2). ... ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولعله سبق قلم والصواب: "وهذا". (¬2) مجموع [4719].

سورة الحديد

سورة الحديد قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ} [25]. استُشكل التعبير بـ (أنزلنا)، فزعم بعض الناس أن المراد بالحديد القرآن, لأن فيه شدة على الكفار والفسَّاق. وزعم أن قوله تعالى في داود: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ: 10] المراد بالحديد فيه الكتاب أيضًا. وربما تَوَلَّدُ شبهته هذه بما ورد في "الصحيح" (¬1) أن القرآن خفِّف على داود حتى كان يأمر بإسراج خيله ويشرع في القراءة فما تُسرج حتى يتمَّ القرآن. أو كما قال. ويذهب بعضهم في الآية الأولى إلى أن الإنزال على حقيقته، والحديد على حقيقته. وقد ذكر أهل الهيئة أن الأرض في بعض أدوار تكوُّنِها نزلت إليها المعادن من حديد وغيره ذائبةً على صفة المطر وتسرَّبت في شقوقها. والحقُّ أن الإنزال في هذه الآية مثله في قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ} [الأعراف: 26]، وقوله تعالى: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ} [الزمر: 6]. فالحديد واللباس والأنعام إنما تكوَّنت بأمر الله عزَّ وجلَّ. وأمر الله عزَّ وجلَّ ينزل من فوق سبع سماوات حقيقةً. ¬

_ (¬1) البخاري (3417) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

ويدفع شبهة من قال إن المراد بالحديد القرآن، أن القرآن قد ذُكر قبل هذه الآية. قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)}. وفي التعبير بالإنزال هنا إشارة إلى أن خلْق الله عزَّ وجلَّ الحديدَ من جنس إنزال القرآن، أي أنه أُريدَ به إقامة الدين، وسياق الآية يوضَّح ذلك، أي أنَّ مَنْ لم تُفِد فيه بَيّناتُ الرسل والكتاب، أفاد فيه الحديد، ولذلك قال عزَّ وجلَّ: {... وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ}. وهذا ظاهر بحمد الله. فأما آية داود فالأمر فيها أظهر، لقوله عزَّ وجلَّ عقبها: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ}. وجاء في الأحاديث ما يؤيِّد ذلك، وهو معروف أيضًا من التاريخ. وقد يقال: إنه متواتر. وأشعار العرب في الجاهلية مستفيضة في نسبة الدروع إلى داود عليه السلام. وما صحَّ من تخفيف القرآن عليه، شيء آخر. والله أعلم (¬1). ... ¬

_ (¬1) مجموع [4711].

سورة الحشر

سورة الحشر الفيء في سورة الحشر ظاهر السياق وعدم الوصل بين الجملتين أنّ قوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} الآية مبيّن لما قبله، فالآيتان كلاهما (¬1) في الفيء. ولكن في حديث البخاري (¬2) عن عمر أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجعل الفيء في المصالح العامة بعد أن يأخذ منه نفقة سنته. فظاهره أنّه كان مختصًّا به. وعلى هذا، فالذي يظهر: العملُ بالحديث وحمل قوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} الآية، أنّها في الغنائم، ويُترك ظاهر السياق؛ لأنّ ظاهر الحديث أظهر في الدلالة. نعم، إن صحّ ما ذكره الشافعي (¬3) - رحمه الله - أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعطي كلاًّ من الأربعة الأصناف خُمسَ الخُمسِ من الفيء (¬4)، كان مبيّنًا للآية ولحديث عمر، وبه تتفق الأدلة. والله أعلم (¬5). **** ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، والوجه: "كلتاهما". (¬2) (3094). (¬3) في "الأم": (5/ 341 - 342). (¬4) أخرجه أبو داود (2983)، والحاكم: (2/ 128)، والبيهقي: (6/ 343) من حديث علي وصححه الحاكم. (¬5) مجموع [4719].

[تفسير قوله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه} [7]]

[تفسير قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [7]] حديث ابن مسعود في لعن الواصلة وغيرها. وفيه أن الإيتاء في قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} عام لا خاص بالفيء، ويُبعده أن الإيتاء حقيقة في الإعطاء، وهو أنسب بالفيء ولا سيما مع دلالة السياق، وقولِه: {فَخُذُوهُ} (¬1)؛ إذ هو حقيقة في الأخذ المحسوس. ويجاب عنه بأن مقابلته بالنهي قرينة صارفةٌ عن الحقيقة مُعيِّنَةٌ أن يكون {آتَاكُمُ} بمعنى: أمركم، وخذوه بمعنى: فامتثلوا، وفيه نظر (¬2). عن عبد الله بن مسعود قال: "لعن الله الواشمات والمستوشمات، والمتنمِّصات، والمتفلِّجات للحُسْن المغيراتِ خلقَ الله". فجاءتْه امرأةٌ فقالت: إنه بلغني أنك لعنتَ كيتَ وكيت، فقال: ما لي لا ألعن مَن لعن رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن هو في كتاب الله؟ فقالت: لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدتُ فيه ما تقول! قال: لئن كنتِ قرأتيه لقد وجدتيه، أَمَا قرأتِ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}؟ قالت: بلى. قال: فإنه قد نهى عنه. متفق عليه. اهـ. "مشكاة" في الترجّل (¬3). ¬

_ (¬1) في الأصل: "فخذوا". (¬2) أشار المؤلف إلى أن بقية الكلام على الحديث ستأتي (ص 82) وهو ما أثبتناه هنا. (¬3) (2/ 505). والحديث أخرجه البخاري (4886).

وهو صريح في أن ابن مسعود يرى أن قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} عام في كلِّ شيء، مع أن السياق يقتضي أنه خاص بالفيء، ولا سيما والإيتاء والأخذ يناسبان ذلك؛ لأنَّ حقيقة الإيتاء: الإعطاء الحسِّي، والأخذِ: الأخذُ الحسِّي. ومما يدل على العموم مقابلة الإيتاء والأخذ بالنهي والانتهاء. فيقال: لو أراد الإيتاء والأخذ الحسِّيَّين لقابلهما بالمنع والامتناع بأن يقول: وما منعكموه فامتنعوا. وقد يقال: إن المراد: وما نهاكم عن أخذه بغير إذن أو عن سؤاله إياه. ولا يصح أن يقال: لعل ابن مسعود لا يرى العموم في الآية وإنما استدلاله بها على سبيل القياس، أي إذا ثبت وجوب طاعته في خصوص الفيء بأخذ ما آتى والانتهاء عما نهى عنه فيقاس على ذلك بقية الأشياء؛ وذلك أن هذا القياس ضعيف، ولا حاجة للتمسك به مع وجود نصوص القرآن الصريحة. والمقصود فهم الآية على حقيقتها، فأما الأمر باتباع الرسول وطاعته والانتهاء عما نهى عنه في كل شيء، فهو أمر ثابت مقرر، قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]، وقال عزَّ وجلَّ: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]، وقال جل ذكره: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] (¬1). ¬

_ (¬1) مجموع [4657]. وانظر الرسالة السابعة من رسائل المؤلف في التفسير.

سورة التغابن

سورة التغابن [وجه تسمية يوم القيامة يوم التغابن] قوله: {يَوْمُ التَّغَابُنِ} [9]. كأنّه - والله أعلم - لأنّ القصاص يوم القيامة يكون بالحسنات، فالذي ظَلم في الدنيا درهمًا يؤخذ منه بدله يوم القيامة جانبٌ من حسناته. لو وَجَدَ سبيلًا إلى شرائه لاشتراه بما طلعت عليه الشمس. فأيُّ غبن أعظم من هذا؟ والله أعلم (¬1). ... سورة الملك * [قوله تعالى]: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا ...} [15]. المَنْكِب: مكان النكوب. وجوانب الأرض كلها مناكب، أي يُنكب إليها، أو ينكب منها. ومَنْكِب الإنسان إمّا مستعار من ذلك؛ شُبّه بموضعٍ عن يمين الطريق أو يسارها، ينكب إليه عنها، أو لأنه ينكب به لشيء عالٍ، كالمقعد (¬2)، ومضرِب السيف. ويجوز أن تكون مناكب الأرض مستعارة منه. والله أعلم. ¬

_ (¬1) مجموع [4719]. (¬2) كذا في الأصل، ولعل المقصود: "المعقِد".

سورة المزمل

* [قوله تعالى]: {الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (¬1)} أي: تَدْعُون بوقوعه، كقوله: {الَّذِي كُنْتُمْ (¬2) بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} [الذاريات: 14]. تَدَّعون: إمّا بمعنى الأول إن ثبت لغةً. وإمّا من الدعوى، أي تدَّعون أنّه لا يقع، أي تزعمون. وضُمِّن معنى (تكذّبون)، فعدّي بالباء كما في السجدة: {ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20)}. والله أعلم (¬3). ... سورة المزمل قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ} (¬4) [20]. في مطابقة هذه القراءة لقراءة {وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ} إشكالٌ. أجيب عنه بأن التفاوت بحسب اختلاف الأوقات. وإشكال آخر، وهو أنه يلزم على قراءة الجرّ مخالفة النبي - صلى الله عليه وسلم - للأمر المتقدم أول السورة. ¬

_ (¬1) هذه قراءة يعقوب، وقرأ الباقون: {تَدَّعُونَ}. وفي الأصل: "ما كنتم" خطأ. (¬2) في الأصل: "ما كنتم" خطأ. (¬3) مجموع [4719]. (¬4) هي قراءة أبي جعفر ونافع وابن عامر وأبو عمرو ويعقوب. "المبسوط" (ص 386).

قال الآلوسي (¬1): "وأجيب بالتزام أن الأمر وارد بالأقل، لكنهم زادوا [حذرًا من الوقوع في المخالفة، وكان يشقّ عليهم، وعلم الله سبحانه أنهم لو لم يأخذوأ بالأشقّ وقعوا في المخالفة فنسخ سبحانه الأمر]، كذا قيل، فتأمّلْ، فالمقام بعدُ محتاج إليه". قلت: وجه التأمّل أن الأقل - على ما في أول السورة - هو أن ينقص قليلًا من النصف، وعلى قراءة الجرّ - آخر السورة - يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد صلَّى أدنى من الثلث، وهذا - فيما يظهر - أقل من نصفٍ ينقص منه قليل. وقد ظهر لي جواب، وهو أن (أدنى) في الآية وصفٌ لم يُرَدْ به التفضيل، وإنما معناه: دانيًا، أي: أنك تقوم وقتًا دانيًا من ثلثي الليل، كأن يكون نصفًا وثلثي سدس - مثلًا -، ودانيًا من نصفه، كأن يكون نصفًا وثلثَ سدس، ودانيًا من ثلثه، كأن يكون نصفًا إلاّ ثلثي سدس. فتأمّل. وهذا - والله أعلم - هو معنى الجواب الذي لم يرتضه الآلوسي؛ لأنه فَهِم منه معنًى آخر، والله أعلم (¬2). ... ¬

_ (¬1) "روح المعاني": (29/ 138) وما بين المعكوفين منه. (¬2) مجموع [4718].

سورة المدثر

سورة المدثر قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)}. التحقيق أنَّ حاصل معنى هذه الجملة: تنزّه عن الرذائل. وتوجيه ذلك: أنه استعيرت الطهارة لاجتناب الرذائل، استعير بجامع اجتناب ما يكره في كلٍّ، ثم اشتقَّ منه "طهِّر" على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية، والقرينةُ السياقُ، وذِكْر الثياب ترشيحٌ. ثمَّ إمَّا أن تكون الثياب على حقيقتها، وكأنه قيل: نزَّهْ ثيابك عن أن يُلابسها شيء من الرذائل، ولا شك أنه يلزم منه الأمر بتنزيه النفس؛ لأن الإنسان إذا فعلَ رذيلةً فقد ألبست الرذيلةُ ثيابَه؛ لأن ثيابَه ملابسةٌ لبدنه، وبدنه ملابس لنفسه، فيكون الأمر بتنزيه الثياب كناية عن الأمر بتنزيه النفس. وإمَّا أن تكون الثياب مجازًا مرسلاً عن النفس بعلاقة الظرفية، فكأنه قال: طهِّر نفسك (¬1). ... ¬

_ (¬1) مجموع [4716].

سورة القيامة

سورة القيامة * قوله تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2)}. يظهر لي أنَّ (لا) نافية، كما هو المتبادر. والمعنى على الاستفهام الإنكاري التعجُّبيّ. كأنه يقول: مِن المنكر العجيب أن لا أقسم بيوم القيامة، ولا بالنفس اللوامة. وإنكارُ عدم القسم كناية عن إنكار عدم إيمان المشركين بيوم القيامة وبالنفس اللوامة. والمراد بالنفس اللوامة: النفوس يوم القيامة، كما جاء في الأثر أن الصالحة تلوم نفسها في عدم الاستكثار، والطالحة تلوم نفسها في الكفر والعصيان. وإنما منع عن القسم بهما عدم تصديق الكفار بهما؛ لأن أقسام القرآن كلها استدلالية، ولا يحسن الاستدلال بما يجحده الخصم. ومثال هذا أن ينازعك إنسان في مسألة يكون في القرآن دليل عليها، ولكن الخصم لا يخضع لدلالة القرآن فتقول: لا أحتجُّ بالقرآن؟ * قوله تعالى: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4)}. كأنّ فيها - والله أعلم - إشارة إلى ما عُرِف الآن من أنّ أسِرَّة البنان - أعني خطوطها - متمايزةٌ، لها في كل شخصٍ هيئة خاصة لا يشبهه فيها أحد من الناس، ولذلك يعتمدون الطبع بها بدلاً عن الإمضاء، ويتوصلون بها إلى معرفة أصحابها من اللصوص والمجرمين الذين لا تُعْلَم أشخاصهم ولكن يوجد أثر أصابعهم في موضع الجريمة.

سورة الليل

أي: فإن الله قادر على أن يسوّي بنان الفاني، أي: يعيدها سويّةً كما كانت، بخطوطها الدقيقة الكثيرة الممتازة عن كل موجودٍ سواها. وهذا أعظم من جمع العظام. فالتسوية في الآية كَهِي في قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} [الأعلى: 2] ونحوها، والله أعلم (¬1). ... سورة الليل انظر ما العامل في (إذا) من نحو قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1)}، ومن قوله: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17)} [التكوير]. فإن قولهم: إن العامل فيها القسم، يشكل عليه أنه يلزم منه كون الظرف قيدًا للقسم. أي: إنما يكون القسم بالليل حال عسعسته (¬2). ... ¬

_ (¬1) مجموع [4718]. (¬2) مجموع [4657].

سورة المسد

سورة المسد قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1)} المشهور أنّ هذا دعاء، والظاهر أنه خبر، وأنّ قوله (تبّ) بمعنى: أهلك؛ لأنّ (تبّ) يجيء لازمًا ومتعديًّا بمعنى هلك، وأهلك. فالمعنى أنه هلك وأهلك غيره، أي زوجه؛ لأنه السبب في إصرارها على الشرك، وعداوتها لله تعالى ولرسوله. والله أعلم (¬1). **** قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)} {سَيَصْلَى} هو، أي: أبو لهب {نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ}. {وَامْرَأَتُهُ} الواو للاستئناف أو الحال. {حَمَّالَةَ} بالضمّ خبر المبتدأ. {الْحَطَبِ} أي: الذي توقد به تلك النار عليه، فـ (ال) في {الْحَطَبِ} عهديةٌ، لتقدُّم ذِكْر الحطب بالكناية, لأنّ النار تحتاج إلى حطب؛ أو بدلٌ عن ضمير النار، أي: حمالة حطبها، أي حطب النار المذكورة. وقد مثَّلوا لتقدُّم الذِكْر بالكناية بآية: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} [آل عمران: 36]؛ لتقدم قولها: {مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} [آل عمران: 35] وهو كناية عن الذَّكَر. ¬

_ (¬1) مجموع [4718].

وعلى قراءة {حَمَّالَةَ} بالفتح، فقوله: {وَامْرَأَتُهُ} معطوف على الضمير في {سَيَصْلَى نَارًا} أي: سيصلاها هو وامرأته {حَمَّالَةَ} أي: حال كونها حمالة {الْحَطَبِ}، أي: الذي تُوقَد به تلك النار عليه وعليها. وعوقبت يحمل وقود النار لعذاب زوجها وإيّاها جزاءَ حملِها في الدنيا وقودَ الفتنة في هواه وهواها، وهو الأخبار على سبيل النميمة. أو لحملها الشوك ووضعه في طريق النبي - صلى الله عليه وسلم - إن صحّ. ولا يتجّه تفسير الحطب في الآية بالشوك، وإن صحَّ أنها كانت تحمله وتضعه: أوّلاً: لأنّ الحطب إنّما هو ما يجمع من العيدان لغرض الإيقاد، وليس منه ما جُمع من الشوك لقصد الإيذاء. وثانيًا: لأنّ فيه تفكيكًا للارتباط الذي بينتُه، وتضييعًا للَّطائف التي شرحتُ بعضها. {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)} حال من الضمير في {حَمَّالَةَ} أي - والله أعلم - أنّها تحمل الحطب الذي يوقد به على زوجها وعليها حال كونها تختنق به؛ لأنه يُعلَّق بحبل إلى رقبتها. والله أعلم (¬1). ... ¬

_ (¬1) مجموع [4719].

[حول إعجاز القرآن]

[حول إعجاز القرآن] الحمد لله. سألني الأخ الفاضل الشيخ سعيد بن عبد الله بامردوف العمودي عما علم من عجز الناس عن الإتيان بمثل القرآن ولو بمقدار أقصر سورة منه؛ كيف نجمع بينه وبين ما علم من حكاية الله عزَّ وجلَّ في القرآن نفسه من كلام العباد، وفيه ما يزيد عن القدر المذكور؟ فأجبت بأجوبة ثم استصوبت منها ما يأتي: أما ما كان من ذلك عن العجم فلا إشكال فيه؛ إذ لا يخفى أن أصلَ كلامهم بالعجمية، والقرآن ترجمه بالعربية ترجمةً معنوية، كما يدل عليه ذِكْر المقالة الواحدة في موضعين أو أكثر بعبارات تتفق في المعنى فقط. والعلمُ بأن مَن نُسب إليه القول من الخلق أعجميّ قرينة على أن المراد أنه قال ما يتحصَّل منه المعنى. ولا ريب أنّ مبلِّغًا لو بلّغك عن رجلٍ أعجمي لا يحسن العربية، فقال: يقول كيتَ وكيتَ، وعبّر المبلِّغ بعبارةٍ عربيةٍ، لم تجهل أنتَ أنَّ مراده يقول ما هذا ترجمته، ولا ريب أيضًا أنه لا يمتنع أن تكون الترجمة مشتملة على لطائف بيانية ليست في الأصل بعد المحافظة على أصل المعنى. وأما ما كان من ذلك عن العرب فهو أيضًا من قبيل الترجمة أو الحكاية بالمعنى. والقرينة على أن المراد ذلك هي أن المخاطَبين الأوَّلين بالقرآن كانوا يعلمون يقينًا أن المنسوب إليه ذلك القول لا يحسن التعبير بمثل هذه العبارة.

ومثال ذلك: أن يكتب إليك رجلٌ بليغٌ كتابًا يبلّغك فيه عن رجلٍ عربيّ عاميّ بأنه يقول لك كيت وكيت، فيذكر كلامًا بليغًا تعلم أن ذلك العامّي لا يُحسن مثله، فإنك تعلم أن مراد الكاتب أنَّ العامِّي قال ما يتحصل منه المعنى، ويكون علمك بحاله قرينة واضحة لا يحقّ لك معها أن تزعم أنّ ظاهرَ نسبة الكاتب قولَ تلك العبارة إلى ذلك العامي = أنَّ العاميّ قالها بحروفها وأنّ الكاتب لم ينصب قرينةً تدل على خلاف ذلك. ولا ريب أن أحدًا لا يخرج على مثل هذا الكاتب ولا يتحجّر عليه ولا يعنِّفه في تعبيره بتلك العبارة البليغة، بل الأمر بالعكس وهو أن الكاتب لو حكى مقالةَ ذلك العاميّ بحروفها لعوتب على ذلك وقيل: هلَّا عبَّر عنها بعبارةٍ بليغةٍ من عنده؟ وكنتُ بعد أن ذكرتُ الضرب الأول توقفتُ في الثاني، فقال الأخ سعيد: فليكن حكاية بالمعنى كالترجمة فيما تقدَّم. قلت: إنَّا مطالبون بالقرينة، فقال: القرينة أن العرب الذين تحدَّاهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالقرآن لم يتشبّثوا بهذا، فلولا أنهم علموا أنه من قبيل الحكاية بالمعنى لاحتجُّوا بذلك بأن يقولوا: إن القرآن نفسه قد تضمَّن كلام بعضنا، وجعل ذلك بعضًا منه أي القرآن، فكيف مع هذا نكون عاجزين عن الإتيان بمثل بعض القرآن؟ قلت: لا أرى هذا يصلح قرينةً؛ لأن من الناس مَن كان يسمع القرآن وفيه الحكاية عن بعض العرب بما لم يعلمه قط فضلًا عن أن يعلم أنه قال ذلك القول بلفظه أو معناه. ثم قلت: بل القرينة هي أن المخاطبين الأولين ... إلى آخر ما تقدم.

وأمَّا عدم تشبُّث المشركين بما ذكر فهو يصلح دليلًا لِمَن بعد ذلك القَرْن مِمَّن ليس عنده من البلاغة ما يميز به مثل ذلك التمييز. ومما هو صريح في أن إخبار القرآن عن الأقوال لا يلتزم فيه لفظ المحكيّ = قولُه تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ (¬1) عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [النساء: 140]، فإنَّ المراد الآية الأخرى، وهي قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا ...} (¬2) [الأنعام: 68]. ¬

_ (¬1) في الأصل: "أنزل" سبق قلم. (¬2) مجموع [4724].

الفوائد العقدية

الفوائد العقديّة

[شرح حديث: "خلق الله آدم على صورته"]

[شرح حديث: "خلق الله آدم على صورته"] حديث "خلق الله آدم على صورته" (¬1) يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: أن الضمير يعود على آدم، أي أن الله تعالى خلقه على صورته التي بقي عليها إلى أن مات، أي من حيث الطول والجسامة ونحوه. فليس كذريته الذين يولد أحدهم صغيرًا ثم ينمو. وأما كونه خُلِقَ أولًا طينًا لازبًا، ثم صلصالاً، فهذا في غير الطول والجسامة. ولك أن تقول: إن المراد الخلق بعد نفخ الروح. فآدم عقب نفخ الروح فيه كان كاملًا، وأولاده عقب نفخ الروح أجنَّة. الوجه الثاني: أن الحديث مختصر من حديث طويل، كما في حديث "إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه؛ فإن الله خلق آدم على صورته" (¬2). وحديث آخر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرَّ برجل يضرب ولده أو غلامه فنهاه، قائلًا: "إن الله خلق آدم على صورته" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6227)، ومسلم (2612) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) هذه رواية مسلم السالفة. (¬3) لم أجده بهذا اللفظ، ولعلّ المؤلف عني حديث أبي هريرة ولفظه: "إذا ضرب أحدكم فليتجنب الوجه، ولا يقل: قبّح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك، فإن الله تعالى خلق آدم على صورته" أخرجه أحمد (7420)، وابن حبان (5710)، وابن خزيمة في "التوحيد" (37).

فالضمير في الأول عائد على الوجه، وكأنَّ في الكلام حذفَ مضاف، أي: إن الله خلق وجه آدم على صورته. وفي الثاني: على الشخص المضروب، أي إن الله خلق آدم مثله. وقد قال قائل: إن كان المراد بذلك أنه ينبغي أن يكرم الوجه والشخص لأجل أن الله خلقه مشابهًا لخلق آدم، فكان الظاهر أن يقول: فإن الله خلق محمدًا لمزيد كرامته. فقلت: الضرب متعلق بالجسم، ولآدم مزية جسمية لا يشاركه فيها أحد، وهو أنَّ الله خلقه بيديه، وفي "الصحيح" أنّ أهل المحشر يعدونها من مزاياه عند طلبهم منه الشفاعة (¬1). فتبين أن ذكره هو الأنسب. الوجه الثالث: أن المراد خَلَقه على صفة تقابل صفة الله عزَّ وجلَّ. أي: فكما أن الله عزَّ وجلَّ عالم وقادر ومريد وسميع وبصير، فالإنسان عالم وقادر ومريد وسميع وبصير، وإن كان البون شاسعًا بين صفات الرب - جل وعلا - وصفات العبد، إلا أن الاشتراك في اللفظ يدل على مناسبة في المعنى (¬2). ويَرِدُ عليه أمور: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3340)، ومسلم (194) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) وهذا الوجه هو الذي كان عليه السلف من القرون الثلاثة، فإنه لم يكن بينهم "نزاع في أن الضمير عائد إلى الله، فإنه مستفيض من طرق متعددة عن عدد من الصحابة، وسياق الأحاديث كلها يدل على ذلك". راجع "بيان تلبيس الجهمية" (6/ 373 وما بعدها) شيخ الإسلام.

[معنى حديث: "من رآني في النوم فقد رآني"]

الأول: أنه لا يظهر عليه وجهٌ لتخصيص آدم بالذّكْر، فكلُّ إنسان كذلك. الثاني: أن المقابلة مع ما ذكر من البون الشاسع لا يظهر لها وجه. الثالث: أنه في حديثي الضرب لا معنى للمقابلة. والظاهر أن الحديث المطلق مقتطع من أحدهما. والله أعلم (¬1). **** [معنى حديث: "من رآني في النوم فقد رآني"] الحمد لله (¬2). ثبت في "الصحيح" (¬3) أن مَن رأى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في النوم فقد رآه، ومع ذلك فالإجماع منعقد أنه لا يُعْمَل بتلك الرؤيا شرعًا، ولا تُعدُّ دليلًا شرعيًّا. وقد كان هذا يُشكل عَليَّ كثيرًا، ولم يقنعني ما رأيت من الأجوبة عنه، والآن فتح الله تعالى بالصواب الواضح، وهو أن من يراه - صلى الله عليه وسلم - فقد رآه، وذلك بالنظر إلى ذات المرئيّ، فأما الأحوال والأقوال فإنها وإن كانت حقًّا بحسب حقيقتها، وأما بحسب صورتها المرئية فلا يلزم ذلك؛ لأنها قد تكون تحتاج إلى تأويل وتعبير، ويكون تأويلها وتعبيرها يخالف صورتها المرئية، فمَنْ رأى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يأمره بشيء فقد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - حقًّا، والكلام الصادر من ¬

_ (¬1) مجموع [4656]. (¬2) أرَّخ المؤلف الفائدة بـ (يوم الخميس 9 جمادى الثانية 44) أي: 1344. (¬3) أخرجه البخاري (6993)، ومسلم (2266) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

المرئي حق بحسب حقيقته، وأما بحسب صورته والتي هي الأمر فلا؛ لأنه قد يكون مؤوَّلاً معبرًا، فقد يكون المراد بالأمر النهي وهكذا، كما يعبر البكاء بالسرور، والضحك بالحزن، فاتضح الحق وزال الإشكال ولله الحمد. وإذا كانت رؤيا الأنبياء عليهم السلام تحتاج إلى تعبير وتأويل يخالف صورتها المرئية كما في رؤيا يوسف عليه السلام وبعض مرائي النبي - صلى الله عليه وسلم -، مع أن رؤيا الأنبياء حق قطعًا = فغيرهم من باب أولى، والله الموفق (¬1). الحمد لله. ومثل هذا سائر الطرق التي يُستدلّ بها على المغيبات كالرمل والتنجيم والجفر والفأل و ... (¬2) وتصرف الأرواح المربَّاة بالرياضة في حال اليقظة، وغير ذلك، فغالبه إشارات ورموز تحتاج إلى تأويل. ومن هذا ما يقع للمحدَّثين من هذه الأمة فغالبه من باب الإشارة والرموزِ والأمورِ الإجمالية؛ ولهذا كان إمام المحدَّثين عمر بن الخطاب قد يخطئ وينسى ويسهو ويتحيَّر في كثير من الأشياء، ولم يكن ظنه حجة، إلى غير ذلك. ومما يدل على ذلك رؤيته - صلى الله عليه وسلم - ليلة الإسراء اللبن والعسل والخمر، فليست بلبن وعسلٍ وخمرٍ حقيقة، وإنما هي إشارة إلى أمور أخرى، فاللبن هو الفطرة كما ورد، وهكذا (¬3). **** ¬

_ (¬1) للمؤلف بحث مطول عن الرؤيا والاحتجاج بها ضمن كتابه "تحقيق الكلام في المسائل الثلاث" (ص 328 وما بعدها). (¬2) كلمة مطموسة تفشى فوقها المداد فلم تظهر. ولعلها: "الطَّرْق أو الطيرة". (¬3) مجموع [4657]. وانظر رسالته في تأييد السوركتي.

[الرد على مَن أنكر الأسباب الظاهرة, وادّعى أن السماع محض خلق الله تعالى من غير أن يكون سببه وصول الهواء المتموِّج إلى الصماخ] قوله (¬1): "محض خلق الله تعالى". أما كون السماع بخلق الله تعالى فلا يشك فيه مسلم، وإنما الشأن في معرفة السبب الظاهر. قوله: "أو أنه يوجد كيفية بعد كيفية ... " إلخ هذا هو الأقرب، وذلك أن كلَّ ما جاور الهواء الأول من الأهوية تكيف بكيفيته ثم يتسلسل هكذا حتى يضعف. وفي ذهني أنه أورد على هذا: أنه يلزم عليه أن يتعدد السماع بتعدد الأهوية فيسمع الإنسان الصوت الواحد مرارًا. والجواب: أن الهواء الأول المتكيف بكيفية الصوت لا يلبث متكيفًا بها إلا ريثما يتكيف بها مجاوره، ثم تزول عنه، وهكذا الأهوية المجاورة له لا تلبث متكيفة بتلك الكيفية إلا ريثما يتكيف بكل منها ما جاوره، وهلم جرًّا، وحينئذ فلا يصل إلى الأذن متكيفًا بالكيفية إلا هواءٌ واحد، فأما ما يأتي بعده فإنه يكون قد انمحى تكيُّفُه قطعًا، فتأمل. فإن قيل: هذا بالنسبة إلى التعاقب، وبقي ما كان بالمعية، وذلك أنكم قلتم بأن المتكيِّف بتلك الكيفية ينتهي إلى أن يكون أهوية كثيرة، فالهواء ¬

_ (¬1) المؤلف ينقل عبارات لأحد المصنفين - لم يسمه ولم أهتد إليه - ويردّ عليه ويناقشه، وانظر نحو ما ينقله المؤلف في "المواقف": (2/ 5 - 17) للإيجي.

الداخل في إحدى الأذنين هو غير الداخل في الأذن الأخرى؛ بدليل أنه قد يدني الشخص أذنه من أذن الآخر ثم يكون صوت فيسمعانه معًا، والهواء الواحد لا يُتصور انقسامه، بل على هذا قد تزدحم في الأذن أهوية كثيرة من هذه الأهوية. فالجواب: أننا نسلم أن الهواء الداخل في إحدى الأذنين غير الداخل في الأخرى، وأنه قد يزدحم في الأذن هواء وأكثر، ولكنا نقول: إنها لما كانت متماثلة لم يقدح ذلك في السماع كما سيأتي. ولا يخفى أن كل نقطة من الصوت تحتاج إلى هواء مستقل، فالهواء الواحد لا يسع إلا بقدر حرف من الحروف الآتية مثلًا، وحينئذ فنحكم أن الناطق إذا نطق بحرف من الحروف الآتية كان المتكيِّف بها ذرة من الهواء، ثم إن تلك الذرة لا تلبث أن يتكيف بها ما جاورها من ذرات الهواء وتذهب الكيفية عنها، ثم إن تلك الذرات لا تلبث أيضًا أن يتكيف بها ما جاورها من الذرات الأخرى، وينمحي عنها وهلمّ جرًّا. ونعني بقولنا: ما جاورها، أي من الجهة البُعْدى عن المصوِّت، لا الجهة الدنيا، والسبب أن التكيف إنما هو بالدفع، ولذلك اختلف السمع بالقرب والبُعْد وشدة الصوت وضعفه، والدفع إنما هو إلى الخارج. بقي أن يقال: إنه إذا كانت إحدى الأذنين أقرب إلى المصوِّت من الأخرى يلزم سماع الصوت مرتين، وذلك أن الهواء يدخل الأذنين متعاقبًا لا دفعة. ويجاب بتسليم ذلك، ولكنه لسرعة اندفاع الهواء وقلة التفاوت لا يشعر

السامعُ بذلك، بل يظنه سماعًا واحدًا. وهذا كما إذا نظرت إلى كوكب من الكواكب مثلًا وأخذت بيدك عودًا وجعلته بين نظرك وبين الكوكب فإنه يمنع النظر، فإذا حَرَّكته بسرعة من اليمين على الشمال خُيِّل إليك أن رؤيتك للكوكب متصلة، وأن ذلك العود لم يقطعها، وما ذلك إلا لسرعة الحركة، فلا يصل المثال المأخوذ بالرؤية الأولى إلى الحس المشترك حتى يتبعه الآخر فيمتزج به، وعلى نحو هذا يقال في السمع، والله أعلم. قوله: "على أن الظاهر تكيف جميع الهواء ... " إلخ. استظهاره في محله على ما بينَّاه آنفًا. قوله: "ويلزم اجتماع مثلين .. " إلخ. أقول: إن أراد بالاجتماع الاجتماع على جهة الامتزاج، فغير مسلَّم؛ لأننا نقول: إن الهواء المتكيف بكيفية الصوت لا يقبل التكيف بكيفية صوت آخر حتى يتلاشى الأول. وإن أراد على جهة الازدحام فنعم، ولكن المسموع حينئذ هو القدر المشترك بين الصوتين، فإن كانا متماثلين كان السماع صحيحًا، كما إذا رمى جماعةٌ ببنادقهم دفعة واحدة، فإنه يسمع صوت بندق أندى من الصوت المعروف للبندق الواحد. وعلى نحو هذا يقول الشاعر (¬1): فقلتُ ادْعي وأدعوَ إنَّ أندى ... لصوتٍ أن ينادِيَ داعيان ¬

_ (¬1) هو دِثار بن شيبان النمري. والبيت من قصيدة له في "الأغاني" (2/ 159)، وهو من شواهد "الكتاب" (3/ 45). ونسب فيه إلى الأعشى ولم يرد في ديوانه.

وإن كانا مختلفين كان السماع مشوشًا، فتأمل. قوله: "على أنه يسمع من بعد ... " إلخ ممنوع بدليل أنه إذا كان إنسان بعيدًا عنك يرمي ببندق إلى هدف، فإنك ترى وقع الرصاصة قبل سماع البندق، وإن كان بجنبك كان سماعك للصوت قبيل رؤيتك وقوع الرصاصة. قوله: "مع أن لعبة الصبيان ... " إلخ إن أراد بصوت الحصى أو الصوت الناشئ من قرع بعضها لبعض بدون مماسة لباطن اللعبة، فهذا ممنوع. وإن أراد به صوت الحَصَى في قرعه لباطن اللعبة أو في قرع بعضه لبعض مع اتصال المقروع بباطن اللعبة، فهذا مُسلَّم، ولكن لا نسلم أن السماع حينئذ من وراء حجاب، بل السماع هنا بواسطة انقراع الحجاب المتصل بالهواء، وذلك أن الإنسان إذا كان في مكان، وكان آخر في مكان مجاور له، فإنه لا يسمع أحدهما كلام الآخر ما لم يكن هناك نافذة بخلاف إذا قرع أحدهما الجدار المشترك بين المكانين ولو قرعًا خفيفًا، فإن الآخر يسمع ذلك القرع، وذلك أن الصوت يسري في الأجسام المتصلة فيتكيف به جزء بعد جزء، كما يتكيف الهواء. وهذا البحث يحتاج إلى تحقيق. بقي أن يقال: إن الإنسان إذا أطبق فمه وأمسكَ بمنخريه وسد أذنيه ثم صوت بأسنانه أو غيرها مما يمكن التصويت به داخل الفم فإنه يسمع. والجواب: أن هذا من سريان الصوت في أجزاء الجسد فيتصل بالمسامع.

قوله: "إنا نعرف جهة الصوت ونحزر بُعدَ مسافته ... " إلخ. الجواب: أن الأذن تميز بين الأهوية التي تقرعها قوة وضعفًا وكيفيّةً، وذلك أن للصوت الذي يكون من مصوت بعيد كيفيةً غير كيفية الذي يكون من قريب، ألا ترى أن بعض الناس يريد أن يغالط السامع القريب منه فيوهمه بأنه يصوِّت مِن بُعْد فيمكنه ذلك بأن يخرج صوته على كيفية غير الطبيعية. وهكذا كل مصوِّت من المصوِّتات لصوته العالي كيفية غير كيفية صوته الأدنى، ومن هنا استطاع السامع أن يعرف جهة الصوت ويحزر بُعد مسافته. أما معرفة جهته، فلأَنَّ الجهة إذا كانت مسامتة للأذن كان سماع الأذن للصوت على طبيعته مِن ذلك البُعد، فتعرف أن هذا الصوت من الجهة المسامتة لها. وإن كان من غير المسامتة، كان سماع الأذن له ضعيفًا نوعًا ما، مع أن كيفيته الدالة على المسافة بحالها، فتعرف الأذن أنه من جهة غير المسامتة، وتقدرها بقدرها. وأما معرفة المسافة، فلِمَا ذكرنا أن للصوت كيفياتٍ متعددةً بتعدد المسافات. وقد يستطيع الإنسان أن يتكلَّف إيقاع بعضها في موقع غيره كما مر، وهذا مثلما أنَّ لصوت كل إنسان من الناس كيفيةً يمتاز عن صوت غيره، والسمع يميز بين ذلك، وقد يتكلف بعض الناس تقليد صوت غيره فيتم له ذلك. قوله: "واستظهر بعضهم ... " إلخ. قد بينَّا أن الصوت يسري في الأجسام كما يسري في الأهوية، ولكن

شرط سريانه في الجسم وقوعه به أو بجسم يلاصقه، وأما الهواء فلا يشترط ذلك بل قد يكتسبه من الجسم كما قلناه سابقًا في الرجلين الكائنين في مكانين متجاورين فإنه إذا تكلم أحدهما لم يسمعه الآخر؛ وذلك لأن كلامه إنما تكيف به الهواء أولًا فلم يمكن أن يكتسبه الجدار منه، بخلاف ما إذا قرع أحدهما الجدار المشترك فإن الآخر يسمعه، وذلك أن الصوت تلقَّاه الجدار أولًا فسرى فيه حتى جاور الهواء الكائن في الجهة الأخرى، فسرى في الهواء لِلُطف الهواء بخلاف الأجسام. نعم، قد يمكن إذا كان الصوت شديدًا جدًّا أن يتلقاه الجسم عن الهواء، وذلك لشدة ضغط الهواء على الجسم حتى صار كأنه جسم آخر يضغط عليه. وحينئذ فالصدى هو عبارة عن هواء يتكيف بكيفية الهواء الذي ذهب حتى جاور الجبل، وذلك أن سلسلة ذرات الهواء إذا اتصلت بالجبل مثلًا دفعها الجبل إلى خلف، وبدفعه لها ينعكس التكيّف فتتكيف بتلك الذرات اللاتي دفعها الجبل الذراتُ التي وراءها، وهكذا حتى ترجع إلى المصوِّت. فإن قيل: فإن الصدى قد يكون أشد من الصوت الأصلي. فالجواب: أن شدة القَرْع قد تورث صوتًا آخر يلتبس بالصدى، وهذا كما يقع في القُبَب المحكمة البناء. قوله: "وهل لكل صوت صدى؟ خلاف". الظاهر ترجيح الإيجاب، والله أعلم بالصواب (¬1). ¬

_ (¬1) أرّخ المؤلف تاريخ كتابتها بـ (7 شعبان سنة 1344 في بانور كارْوا).

[الدليل على عدم نبوة النساء]

وأما سماع الإنسان لكلام نفسه فإنه بواسطتين: الأولى: سريان الصوت في أعضاء رأسه حتى يقرع مسمعيه. والثانية: ما يلج أذنيه من الهواء الذي تكيف بكيفية الصوت من الخارج، ولذلك تجده يسمع كلام نفسه وإن سدَّ أذنيه (¬1). **** [الدليل على عدم نبوّة النساء] قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ} [يوسف: 109]. يُستدل به على عدم النبوة في النساء، كأمّ موسى ومريم. والله أعلم (¬2). **** ممّا يستدلّ به في كيفية البعث ما جاء أنّ هندًا لمّا لاكت قطعةً من كبد حمزة، فبلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "أكلتْ منها شيئًا؟ " قيل: لا، قال: "ما كان الله ليدْخِل شيئًا من حمزة النار" (¬3). **** ¬

_ (¬1) مجموع [4657]. (¬2) مجموع [4657]. (¬3) مجموع [4719]. والحديث أخرجه أحمد (4414) عن ابن مسعود - رضي الله عنه -.

[معنى رفع السنن بسبب ارتكاب البدع]

[معنى رفع السنن بسبب ارتكاب البدع] الحمد لله. جاء في الحديث: "إنّه لا يبتدع الناس بدعة إلا رُفِعَ من السُّنَّة مثلها" (¬1). وفسّروه بأنّ حقيقة البدعة هي ترك السنة، فكل بدعة معناها ترك السنة. فمعنى الحديث: أنّه رُفِع من السُّنَّةِ تلك السُّنَّةُ المقابلة لها، أي للبدعة. وعندي أنّ هذا قصور؛ لأنّه يكون إخبارًا بما هو معلوم لكلِّ أحد؛ إذ لا ينكر أحد أنّ ارتكاب الشيء تركٌ لضدّه. نعم، يحتمل أنّه أخرج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر، وذلك أنّ النّاس وإن كانوا يعلمون أنّ ارتكاب البدعة ترك للسنة، إلا أنهم بارتكابهم البدع نُزِّلوا منزلة من ينكر ذلك. بل إنّ من الناس من ينكر هذا بالفعل، وهم الذين يقولون: إنّ البدعة قد تكون حسنة. وعلى كل حال، فأحسن من هذا المعنى عندي أن يقال: إنّ المراد بالسنة التي تُرْفَع عند ارتكاب البدعة سنةٌ أُخرى غير المقابلة لها. وذلك أنّ الدين قد كمل، وقد بيّن الله عزَّ وجلَّ حكم جميع الحركات والسكنات في جميع الأمكنة والأزمنة. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (16970) وغيره من حديث غُضيف الثمالي. وفي سنده أبو بكر بن أبي مريم فيه ضعف، وجوَّد وإسناده الحافظ في "الفتح": (13/ 253 - 254).

[السر في خلود الكفار في النار]

فالإنسان بارتكابه البدعة يصرف طائفةً من وقته في فعلها، فيضيِّع السنّة التي كانت صاحبة ذلك الوقت. ومثَّلتُه بإناءٍ ملآنَ بالجواهر النفيسة، بحيث لا يمكن الزيادة فيه، فإذا جاء إنسان ليدسّ فيه حصى من زجاج أو نحوه، فإنّه يمكنه دسُّها، ولكنّه يخرج من الجواهر التي في الإناء بقدر المدسوس أو أكثر (¬1). **** [السرّ في خلود الكفّار في النار] الحمد لله. ظهر لي - والحمد لله - أنَّ من مات كافرًا فإنّه يستمر كافرًا أبدًا، بمعنى أنّه يبقى حتى في البرزخ والقيامة والنار جاحدًا لبعض الأشياء الذي يُعدّ جَحْدها كفرًا، ومصمِّمًا على الخلاف والمعصية لو وجد إليها سبيلًا، ولا يتوب أبدًا، وإن قال بلسانه فهو معتقد بقلبه خلاف ذلك. فلذلك - والله أعلم - يخلَّد في النار، وارتفع الإشكال، والحمد لله. ويظهر لك هذا مما حكاه الله عزَّ وجلَّ عن أهل النار من دعائهم، ولا سيّما إذا قرنته بما حكاه عن أهل الجنة. وقوله عزَّ وجلَّ: {وَلَوْ رُدُّوا (¬2) لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 28] ليس ذلك ¬

_ (¬1) مجموع [4719]. (¬2) سقطت "ردوا" من الأصل سهوًا.

[رد على من استدل بحديث عتبان على مشروعية التبرك بالمواضع التي صلى فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -]

- والله أعلم - من باب الإخبار بالغيب فقط، بل المعنى - والله أعلم - أنهم (¬1) في نفوسهم مُزْمِعون على ذلك، أي أنهم عازمون في أنفسهم أن لو رُدّوا إلى الدنيا لاستمروا على كفرهم وعنادهم. والله أعلم (¬2). **** [رد على من استدل بحديث عِتْبان على مشروعية التبرك بالمواضع التي صلَّى فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -] حديث عتبان في سؤاله النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي في موضع من بيته يتخذه مسجدًا، فأجابه إلى ذلك = يحتجُّ به مَن يرى مشروعية التبرُّك بالمواضع التي صلَّى فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي ذلك نظر؛ لأن صلاته - صلى الله عليه وسلم - في بيت عِتْبان كانت عمدًا لذلك الموضع بذلك القصد، ولعله - صلى الله عليه وسلم - دعا الله تبارك وتعالى عند صلاته أن يجعل في ذلك الموضع بركةً وخيرًا، فصارت لذلك الموضع مزيّة، بخلاف المواضع التي كانت صلاته فيها اتفاقًا بلا تحرٍّ ولا قصدِ أن تكون مصلًّى لمن بعده. والله أعلم (¬3). **** ¬

_ (¬1) تكررت في الأصل. (¬2) مجموع [4719]. وقد تقدم للشيخ كلام في المسألة عند شرح قوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ}. انظر (ص 32). (¬3) مجموع [4730].

[حكم الصلاة عند القبور]

[حكم الصلاة عند القبور] الحمدُ لله. لم يكن اليهود والنصارى يصلُّون للقبور عبادةً لها، وإنما كانوا يصلّون عندها تعظيمًا لها، أي تبرُّكًا بها. فمجرَّد الصلاة عندها - بدون نيّة تبرُّك - تشبُّهٌ بهم. وبنيّة تبرُّك مماثَلَةٌ لهم. وبنيّة عبادة زيادةٌ عليهم (¬1). ¬

_ (¬1) مجموع [4722].

الفوائد الحديثية

الفوائد الحديثية

[تعليق على أحاديث من صحيح البخاري]

[تعليق على أحاديث من صحيح البخاري (¬1)] * (1 ص 74) (¬2): إبراهيم عن ابن شهاب عن سالم عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنما بقاؤكم فيما سَلَفَ قبلَكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، أوتي أهلُ التوراة التوراةَ فعملوا حتى إذا انتصف النهار عجزوا، فأُعطُوا قيراطًا قيراطًا. ثم أوتي أهلُ الإنجيل الإنجيلَ فعملوا إلى صلاة العصر ثم عجزوا، فأعطوا قيراطًا قيراطًا. ثم أُوتينا القرآن فعملنا إلى غروب الشمس فأُعطِينا قيراطين قيراطين، فقال أهل الكتابين: أَيْ ربَّنا أعطيتَ هؤلاء قيراطين قيراطين ... ". * ونحوه (ج 4 ص 203) (¬3). * (ج 2 ص 23) (¬4): أيوب عن نافع عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مثلكم ومثل أهل الكتابين كمثل رجل استأجر أُجَرَاء فقال: من يعمل لي من غُدوةٍ إلى نصف النهار على قيراط؟ فعملت اليهود، ثم قال: من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط؟ فعملت النصارى، ثم قال: من يعمل لي من العصر إلى أن تغيب الشمس على قيراطَين؟ فأنتم هم. فغضبت اليهود والنصارى فقالوا: ما لنا أكثرُ عملًا وأقلُّ عطاءً؟ قال: هل نقصتكم من ¬

_ (¬1) كثيرًا ما يكتب الشيخ في مسوداته "بخاري" و"سندي" و"فتح" ونحوها طلبًا للاختصار، وقد عدلنا ما أثبتناه منها. (¬2) برقم (557). (¬3) برقم (7533) من طريق يونس عن ابن شهاب به. (¬4) برقم (2268).

حقِّكم؟ قالوا: لا. قال: فذلك فضلي أوتيه من أشاء". * مالك (¬1) عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه ... * أبو موسى (¬2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَثَلُ المسلمين واليهود والنصارى كلمثل رجلٍ استأجر قومًا يعملون له عملًا يومًا إلى الليل على أجرٍ معلوم، فعملوا له إلى نصف النهار فقالوا: لا حاجة لنا إلى أجركَ الذي شرطت لنا وما عَمِلْنا باطل! فقال لهم: لا تفعلوا، أكمِلُوا بقيةَ عملِكم وخذوا أجركم كاملًا، فأَبَوا وتركوا. واستأجر أَجِيرين بعدهم فقال لهما: أكمِلا بقيةَ يومِكما هذا، ولكما الذي شرطتُ لهم من الأجر، فعملوا حتى إذا كان حينُ صلاة العصر قالا: لك ما عملنا باطلٌ، ولك الأجر الذي جعلتَ لنا فيه، فقال لهما: أكملا بقية عملكما, ما بقي من النهار شيء يسير، فأبيا. واستأجر قومًا أن يعملوا له بقية يومهم، فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس، واستكملوا أجر الفريقين كليهما. فذلك مَثَلهم ومَثَلُ ما قَبِلوا من هذا النور". * (ص 171) (¬3): ليث عن نافع عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّما أجلكم في أجل من خلا [من الأمم] (¬4) ما بين صلاة العصر إلى مغرب الشمس، وإنما مَثَلُكم ... (نحو رواية أيوب) ". ¬

_ (¬1) رقم (2269). (¬2) رقم (2271)، وهو برقم (558) مختصرًا. (¬3) رقم (3459). (¬4) في الأصل: "قبلكم"، والمثبت من صحيح البخاري.

* (ج 4 ص 193) (¬1): شعيب عن الزهري عن سالم عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو رواية إبراهيم (الأولى). فالظاهر - والله أعلم - أنهما مثلان، كل منهما مستقل كما بيّنه نافع في رواية الليث. وكذلك أَفرد الثاني في رواية أيوب، وكذا أفرده عبد الله بن دينار (¬2) عن ابن عمر، وكذا أفرده أبو موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. فحاصل المثل الأول أن نسبة بقاء هذه الأمة إلى عمر الدنيا نسبةُ المدّة التي بين صلاة العصر والغروب إلى جميع النهار. وأما المثل الثاني فله مقصدان: أحدهما: أن أجورَ هذه الأمة مضاعفةٌ بالنسبة إلى أجور اليهود والنصارى. والآخر: أن من أدركته بعثة عيسى من اليهود ولم يؤمن به فقد بطل عمله الأول، ومن وُلد بعد ذلك ولم يتبع عيسى عليه السلام فلم يعمل شيئًا. ومن أدركته بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - من النصارى ولم يتّبعه فقد بطل عمله الأول، ومن ولد بعد ذلك ولم يتّبع محمدًا - صلى الله عليه وسلم - فلم يعمل شيئًا. ولم يُرد - والله أعلم - بنصف النهار والعصر والمغرب تحديد المدة، ¬

_ (¬1) رقم (7467). (¬2) وذلك في رواية مالك عنه التي ذكرها الشيخ، وأما في رواية سفيان بن عيينة عنه برقم (5021) - ولم يذكرها الشيخ -، فقد ذكر المَثَلين على التفصيل بنحو رواية الليث عن نافع.

وإنما أراد أن اليهود عملوا بعضَ النهار، والنصارى بعضَه، وعملنا باقيه. فذَكَر نصف النهار والعصر تمثيلًا لذلك البعض، لا تحديدًا. والله أعلم (¬1). **** حديث "الصحيحين" (¬2): "أسرعُكنَّ لحوقًا بي أطولُكُنَّ يدًا". قال الحافظ في "الفتح" (¬3): "وفيه جواز إطلاق اللفظ المشترك بين الحقيقة والمجاز بغير قرينة - وهو لفظ "أطولكنّ" - إذا لم يكن محذور. قال الزين بن المنيِّر: لمّا كان السؤال عن آجالٍ مقدّرة لا تُعْلَم إلا بالوحي، أجابهنّ بلفظ غير صريح، وأحالهنّ على ما لا يتبين إلا بأَخرة، وساغ ذلك لكونه ليس من الأحكام التكليفية. وفيه أن من حَمَل الكلام على ظاهره وحقيقته لم يُلَم، وإن كان مراد المتكلم مجازه؛ لأنّ نسوة النبي - صلى الله عليه وسلم - "أطولكن يدًا" على الحقيقة فلم ينكرعليهن". (ج 3/ ص 185). أقول: يظهر لي أنّ "أطولكنّ يدًا" حقيقة عرفية في كثرة الصدقة. وههنا قرينتان تدلَّان على إرادة كثرة الصدقة: الأولى: تخصيصه اليد، ولو أراد الطول الحسّي لكان الظاهر أن يقول: "أطولكن"؛ إذ قد عُلم أن طول اليد لا يكون إلا مع طول القامة. ¬

_ (¬1) مجموع [4711]. (¬2) البخاري (1420) ومسلم (2452) من حديث عائشة - رضي الله عنها -. (¬3) (3/ 288) ط. السلفية.

في "الجهاد"، في "من لم يخمس الأسلاب"

الثانية: أنّ سرعة اللحوق به فضيلة. وتعريف النبي - صلى الله عليه وسلم - للفضيلة الجزائية الغالب أن يكون بفضيلة عملية. والطول الحسّي ليس بفضيلة عملية، وإنّما الفضيلة العملية كثرة الصدقة. والله أعلم (¬1). **** في "الجهاد"، في "من لم يخمس الأسلاب" (¬2) عن عبد الرحمن بن عوف: " ... ثم انصرفا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبراه فقال: "أيكما قتله؟ " قال كل واحد منهما: أنا قتلتُه! فقال: "هل مسحتما سيفيكما؟ " قالا: لا، فنظر في السيفين فقال: "كلاكما قتله، سَلَبُه لمعاذ بن عمرو بن الجموح" وكانا معاذ بن عفراء، ومعاذ بن عمرو بن الجموح". اهـ. وهذه الرواية أبعد عن الخطأ لتعيين الذي أُعطي له السَّلَب، وحكايةِ لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "سَلَبُه لمعاذ بن عمرو بن الجموح". والله أعلم. نعم، سيأتي في ذكر أهل بدر عن أنس، وفيه: "ابنا عفراء" (¬3). وقد جاء في ترجمة الرُّبَيِّع بنت معوِّذ ابن عَفْراء (¬4) أنها من المبايعات تحت الشجرة. وهذا قد يدل أنها ولدت قبل الهجرة بمدَّة فيما يظهر. والغالب أن أباها يكون يوم بدرٍ رجلًا، فكيف يستصغره عبد الرحمن بن عوف؟ ¬

_ (¬1) وانظر كلام الشيخ على هذا الحديث في "إرشاد العامه" ضمن مجموع رسائل أصول الفقه (ص 235 وما بعدها). (¬2) رقم (3141). (¬3) رقم (3962، 3963، 4020). (¬4) علّق عليه الشيخ بقوله: "كذا في "التهذيب" أنها بنت معوذ بن عفراء، ولكن في "الإصابة" خلاف ذلك". وسيأتي تحقيق الشيخ في نسبها (ص 234).

"باب تزويج النبي - صلى الله عليه وسلم - خديجة"

وأيضًا ففي حديث عبد الرحمن بن عوف أن كلًّا من الغلامين سأله سرًّا عن الآخر، والغالب أنهما لو كانا أخوين لما أسرَّ أحدهما عن أخيه. **** " باب تزويج النبي - صلى الله عليه وسلم - خديجة" (¬1) عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "استأذنَتْ هالة بنت خُوَيلد - أخت خديجة - على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعرف استئذان خديجة، فارتاع لذلك فقال: اللهم هالة! ". قوله: "ارتاع"، أقول: كأنّه - صلى الله عليه وسلم - لمّا فجئه استئذانٌ كاستئذان خديجة ارتاع بادئ بدءٍ لعِلْمه بأنّ خديجة عليها السلام قد ماتت، فهل أحياها الله تعالى؟! ولكنّه لم يلبث أن عرف الحقيقة. والله أعلم. **** مِن أحاديث رفع اليدين في الدعاء حديث البخاري في غزوة أوطاس (¬2) عن أبي موسى وفيه: " ... فتوضأ ثم رفع يديه فقال: اللهم اغفر لعُبَيد أبي عامر". **** مما يصلح في باب الانتحار: حديث البخاري في المغازي (¬3) في سرية ¬

_ (¬1) رقم (3821) من حديث عائشة - رضي الله عنها -. (¬2) رقم (4323) (¬3) (4340) من حديث علي - رضي الله عنه -.

عبد الله بن حذافة. وفيه: "لو دخلوها ما خرجوا منها إلى يوم القيامة". **** حديث البخاري (تفسير الأحزاب) (¬1) وغيره عن عائشة، قالت: "كنت أغار على اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأقول: هل تهب المرأةُ نفسَها" إلخ. في "حاشية السندي" (¬2): "قال الطِّيبي: أي أعيبُ عليهن؛ لأنّ من غار عاب. ويدلّ عليه (¬3) قولُها: أتهب المرأة ... إلخ. وهو ها هنا تقبيح وتنفير، لئلا تهب النساء أنفسهن له - صلى الله عليه وسلم -، فتكثر النساء عنده. قال القرطبي: وسبب ذلك القول الغَيرة، وإلا فقد علمتْ ... إلخ". أقول: إنّ نصّ الحديث أنها كانت تغار عليهنّ، لا منهنّ. وغَيرة المرأة على المرأة هي: أن تراها واقعة في شيء ينافي العفَّةَ أو ينافي الحياء، فتكره لها ذلك. وغيرتها منها هي: أن تكره مشاركتها لها في زوجها (¬4). ولا شك أن فعل الواهبات أنفسهن لا يخلو من منافاة لكمال الحياء الطبعي - لا الديني -, فما المانع من أن عائشة - رضي الله عنها - كانت تغار ¬

_ (¬1) رقم (4788). وأخرجه مسلم (1464) وغيره. (¬2) (3/ 175) ط. الحلبي. (¬3) الأصل: "عليها" والتصحيح من المصدر. (¬4) لكن يقدح في هذا التفريق حديث عائشة في البخاري (3816)، ومسلم (2435): "ما غِرْت على امرأةٍ للنبي - صلى الله عليه وسلم - ما غِرْت على خديجة ... ".

عليهنّ حقيقةً، أي تكره لهن ذلك؟ ويحملها على تلك الكراهية كمال حيائها الطبعي، ولا سيما وهي يومئذ جارية صغيرة السنّ في عنفوان الحياء الطبعي. وقد حمل الحياء الطبعي أم سلمة - وهي يومئذ امرأة كبيرة - أن استحيت من سؤال المرأة للنبي - صلى الله عليه وسلم - هل تحتلم المرأة؟ حتى غطَّت وجهها وقالت ما قالت (¬1). في "البخاري" (¬2) باب عرض المرأة نفسها: عن ثابت قال: كنت عند أنس وعنده ابنة له، قال أنس: جاءت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تعرض عليه نفسها، قالت: يا رسول الله ألك بي حاجة؟ فقالت بنت أنس: ما أقلَّ حياءَها! واسوءتاه! واسوءتاه! قال: هي خير منك، رغبتْ في النبي - صلى الله عليه وسلم - فعرضت عليه نفسها. ثم قول عائشة في الحديث: "وأقول: هل تهب المرأة" الخ، يحتمل احتمالًا قويًّا أنها إنما كانت تقوله في نفسها، وإنما ذكرتْه هنا إيضاحًا لسبب غيرتها عليهن. وعلى هذا، فلا وجه لما قاله الطِّيبي، لما فيه من الخروج عن الظاهر، ونِسْبة أم المؤمنين أنها كانت تعيب ذلك الفعل، مع اعتقادها طبعًا وديانة أنه غير معيب. أمّا ما قاله القرطبي، فإن أراد بقوله: "وسبب ذلك القول الغَيرة" إلخ، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (130). وفيه أنها إنما استحيت من سؤال المرأة: "هل على المرأة من غسل إذا احتلمت؟ " فغطَّت وجهها وسألت هي: "أو تحتلم المرأة؟ ". (¬2) رقم (5120).

تفسير سورة الجمعة

الغيرةَ عليهن، كما هو صريح الحديث = فصحيح، وإلا ففيه ما تقدم. نعم، لا يُنكر أن عائشة - رضي الله عنها - كانت تغار على النبي - صلى الله عليه وسلم - من الواهبات، بل ومن المنكوحات، بل ومن خديجة - رضي الله عنها - وقد ماتت قبلها. ولكن لا مانع من جمعها بين الغَيرتين: المغيرة على الواهبات، والغيرة منهن. وعليه، فلا مقتضي لإخراج الحديث عن ظاهره. والله أعلم. **** تفسير سورة الجمعة (¬1) * سليمان بن بلال، عن ثور، عن أبي الغيث، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كنّا جلوسًا عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأنزلت عليه سورة الجمعة: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ}، قال: قلت: من هم يا رسول الله؟ فلم يراجعه حتى سأل ثلاثًا، وفينا سلمان الفارسي، وضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده على سلمان، ثم قال: "لو كان الإيمان عند الثُّريَّا لنالَه رجال - أو رجل - من هؤلاء". * ... عبد العزيز، أخبرني ثور، عن أبي الغيث، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لنالَه رجال من هؤلاء". كأنّه - صلى الله عليه وسلم - استغنى بما هو ظاهر من القرآن، فقوله: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ} هم، أي من الأمّيين. وإنّما قال ما قال في سلمان ليستدلّ على أنّ الإسلام ليس خاصًّا بالأميّين، كما قد يُتَوهَّم من الآية. والله أعلم (¬2). ¬

_ (¬1) رقم (4897، 4898). (¬2) وانظر كلام المؤلف على هذه المسألة في ترجمة الشافعي في "التنكيل" (رقم 189).

* باب تزويج الصغار من الكبار (تزويج عائشة).

* باب تزويج الصغار من الكبار (تزويج عائشة) (¬1). " فتح الباري" (11/ 32) (¬2): "وقال ابن بطَّال: يجوز تزويج الصغيرة بالكبير إجماعًا، ولو كانت في المهد، لكن لا يُمكَّن منها حتى تصلح للوطء. فرمز بهذا إلى أن لا فائدة للترجمة؛ لأنّه أمرٌ مجمع عليه. قال: ويؤخذ من الحديث أنّ الأب يزوج البكر الصغيرة بغير استئذانها. قلت: كأنّه أخذ ذلك من عدم ذكره، وليس بواضح الدلالة، بل يحتمل أن يكون ذلك قبل ورود الأمر باستئذان البكر، وهو الظاهر، فإنّ القصة وقعت بمكة قبل الهجرة". * (قال البخاري:) باب إنكاح الرجل ولده الصغار لقوله تعالى: {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} فجعل عدتها ثلاثة أشهر قبل البلوغ (¬3). حدثنا محمد بن يوسف حدثنا سفيان عن هشام عن أبيه عن عائشة: "أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوجها وهي بنت ستِّ سنين، وأدخلت عليه وهي بنتُ تسعٍ ومكثت عنده تسعًا". "فتح الباري" (9/ ص 71) (¬4): " ... وهو استنباط حسن، لكن ليس في الآية تخصيص ذلك بالوالد ولا بالبكر. ويمكن أن يقال: الأصل في ¬

_ (¬1) رقم (5081). ونص الحديث: عن عروة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب عائشة إلى أبي بكر، فقال له أبو بكر: إنما أنا أخوك، فقال: "أنت أخي في دين الله وكتابه، وهي لي حلال". (¬2) (9/ 124) ط. السلفية. (¬3) رقم (5133). (¬4) (9/ 190).

الأبضاع التحريم إلا ما دلّ عليه الدليل، وقد ورد حديث عائشة في تزويج أبي بكر لها وهي دون البلوغ، فبقي ما عداه على الأصل ... قال المهلب: أجمعوا أنّه يجوز للأب تزويج ابنته الصغيرة البكر، ولو كانت لا يوطأ مثلها، إلاّ أنّ الطحاوي حكى عن ابن شبرمة منعه فيمن لا توطأ (¬1). وحكى ابن حزم (¬2) عن ابن شبرمة مطلقًا أنّ الأب لا يزوج بنته البكر الصغيرة حتى تبلغ وتأذن، وزعم أنّ تزويج النبي - صلى الله عليه وسلم - عائشة وهي بنت ست سنين كان من خصائصه". * عن أبي سلمة أن أبا هريرة حدَّثهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تُنكح الأَيِّم حتى تُستأمر ولا تُنكح البكر حتى تُستأذَن" (¬3). "فتح الباري" (9/ ص 72) (¬4): " ... ثمّ إنّ الترجمة معقودة لاشتراط رضا المزوَّجة بكرًا كانت أو ثيبًا، صغيرةً كانت أو كبيرة، وهو الذي يقتضيه ظاهر الحديث، لكن تُستثنى الصغيرة من حيث المعنى لأنها لا عبارة لها". "فتح الباري" (9/ ص 73) (¬5): "قال (لعله ابن شعبان) (¬6): وفي هذا الحديث إشارة إلى أنّ البكر التي أُمِرَ باستئذانها هي البالغ، إذ لا معنى ¬

_ (¬1) الذي في "مختصر اختلاف العلماء" (2/ 257) أن ابن شبرمة منع تزويج الصغار مطلقًا. (¬2) في "المحلى" (9/ 459). (¬3) رقم (5136). (¬4) (9/ 191 - 192). (¬5) (9/ 193). (¬6) من كلام الشيخ جعله ببن هلالين.

لاستئذان من لا تدري ما الإذن، ومن يستوي سكوتها وسخطها" اهـ. يقول كاتبه: أمّا الآية ففي دلالتها على صحة زواج الصغار نظر؛ وذلك أنّ قوله: {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} يصدق على اللائي لم يحضن لِعِلّة، مع أنهنَّ بالغات، وعلى اللائي لم يحضن لصغرهنّ، فليست خاصة بالصغار. فإن قيل: نعم، ولكنها تعمُّهنّ. قلت: العموم هنا مقيّد بكونهن أزواجًا؛ لأنّ المعنى: واللائي لم يحضن من نسائكم المطلقات، فلا تعمّ إلا اللائي لم يحضن وهنّ أزواج. فمعنى الآية: أن كل من لم تَحِضْ من أزواجكم عدتها ثلاثة أشهر. ولا يلزم من هذا أنّ كلّ مَنْ لم تحض يصحّ أن تكون زوجة، كما تقول: كل طويل من بني تميم شريف. فلا يلزم منه أنّ كل طويل من الناس يمكن أن يُجعل من بني تميم. فتأمّله، فإنّه دقيق! ثم لو فرض أنّ الآية تدل بعمومها على صحة زواج الصغار، فللمخالف أن يقول: هي مخصصة بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ولا تنكح البكر حتى تستأذن". إذ معناه: حتى يطلب منها الإذن فتأذن. والصغيرة إنّما يصدق عليها شرعًا أنها أذنت بعد بلوغها، فيلزم منه: لا تنكح الصغيرة حتى تبلغ، فتُستأذن فتأذن. وقد تقدم في الكلام "الفتح" أنّه لا معنى لاستئذان الصغيرة، وأنّه لا عبارة لها. ولكنهم حاولوا بذلك إخراجها من الحديث، وهو مردود لدخولها في عموم البكر. وعدمُ صحة استئذانها وإذنها في حال الصغر لا يكفي في إخراجها؛ لأنّ استئذانها وإذنها ممكن بعد أن تبلغ.

وفي كلام "الفتح" في باب تزويج الصغار من الكبار ما يتضمن الاعتراف بهذا، كما تقدم. فقد ثبت أن لا دلالة في الآية. وبقي زواجه - صلى الله عليه وسلم - عائشةَ. فأمّا ما نُقِل عن ابن شبرمة أنّه من خصائصه - صلى الله عليه وسلم -، فلم يذكروا دليله، فإن كان قاله بلا دليل، فهو مردود عليه لأنّ الخصوصية لا تثبت بمجرد الاحتمال، بل فعله - صلى الله عليه وسلم - حجة ما لم يثبت الاختصاص. وإن كان قاله بدلالة قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ولا تنكح البكر حتى تستأذن" على ما قدّمنا، ففيه نظر؛ لما ذكره الحافظ من أنّ زواج عائشة كان قبل هذا الحديث. فإذا كان الحديث يدلّ على المنع فيحتمل أن يكون المنع إنّما لزم من حينئذ، ولم يكن المنع سابقًا. وحينئذٍ يكون زواج عائشة جاريًا على الحكم السابق، وهو عدم المنع، فلا خصوصية. وقد يؤيد هذا ما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال في بعض بنات عمِّه العباس: "إن أدركَتْ وأنا حيّ تزوَّجتُها" أو كما قال (¬1). نعم، مقصود ابن شبرمة من ردّ الاستدلال بزواج عائشة حاصل على كلّ حال؛ لأنّه إن لم يكن على وجه الخصوصية فهو منسوخ. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (26870) وأبو يعلى (7075) وغيرهما من حديث ابن عباس بلفظ: "لئن بلغتْ بُنيَّة العباس هذه وأنا حيّ، لأتزوجنَّها". قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (4/ 276): "في إسنادهما الحسين بن عبد الله بن عباس، وهو متروك، وقد وثقه ابن معين في رواية".

ولا يقال: كان يجب لو كان منسوخًا أن يفارقها النبي - صلى الله عليه وسلم - عند ورود النسخ، لِما هو ظاهر من أنّ النسخ إنّما يتسلط على ما يتجدّد من الأعمال، لا على ما تقدّم قبله. ثم إنّه لم يرد النسخ حتى بلغت عائشة - رضي الله عنها -. ومع هذا، فيحتمل أن يكون معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تنكح البكر حتى تستأذن" أي لا يبتّ نكاحها، فأمّا أن يقع العقد من الوليِّ ويكون البتُّ موقوفًا على رضاها = فلا، كما يقوله بعض الفقهاء في البكر البالغة، بل وفي الثيب، وعلى قياس ما يقولونه في بيع الفضولي. فإن صحّ هذا الاحتمال فلا مانع من أن يكون عقدُ أبي بكر بعائشة من هذا القبيل، ثم حين بلغت تسع سنين، بلغت وأقرَّت العقد. وعليه فلا مخالفة، ولا نسخ، ولا خصوصية. لكن ظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ولا تنكح البكر" يأبى ما ذُكر. فتأمّل. وعلى كل حال، فليس بيد الجمهور دليل على صحة زواج الصغيرة إلا الإجماع. ولم يثبت في المسألة إجماع إذا عرَّفنا الإجماع بما كان يعرِّفه به الشافعي وأحمد. بل غايته أنّه قول لم يُعرف له مخالف قبل ابن شبرمة. والشافعي وأحمد لا يعتبران مثل هذا إجماعًا تردُّ به دلالة السنة. فمذهب ابن شبرمة قويٌّ، والله أعلم. ****

في البخاري، باب الدعاء للنساء اللاتي يهدين العروس، وللعروس. ثم ذكر الحديث (¬1). قال السِّنْدي (¬2): ليس في الحديث ما يدل على الدعاء لهنّ، وإنّما فيه الدعاء للعروس، وقد تكلّف بعضهم ... إلخ. أقول: أمّا الدعاء الذي في الحديث فهو من النساء للزواج؛ لأنهنَّ قلن: "على الخير والبركة، وعلى خير طائر". فقولهنَّ: "على ... " إلخ، متعلق بمحذوف تقديره: هذا الزواج على الخير ... إلخ. وهذا واضحٌ جدًّا. فالدعاء حينئذٍ (¬3) ينال الأمّ؛ لأنّه إذا كان زواج بنتها على الخير كان ذلك خيرًا لها. ومع هذا، فليس بظاهر المطابقة للترجمة. فالغالب أنّ البخاري أشار إلى شيء جاء في رواية أخرى فيه الدعاء للمُهديات. أو يكون وقع تحريف من النساخ؛ والأصل: "بابُ دعاء النساء اللاتي يهدين العروس للعروس". والله أعلم. **** ¬

_ (¬1) رقم (5156) ونصه: عن عائشة - رضي الله عنها - تزوَّجني النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتتْني أُمِّي فأدخلتْني الدار فإذا نسوةٌ من الأنصار في البيت فقلْنَ: "على الخير والبركة، وعلى خير طائر". (¬2) في "الحاشية" (3/ 253). (¬3) اختصرها الشيخ إلى (ح) وقد وقع له هذا مرارًا.

كتاب النفقات، باب {عَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}، وهل على المرأة من شيء؟ {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ} إلى. قوله: {صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل: 76]. "حاشية السَّنْدي" (¬1): "قال الكرماني: شبّه منزلة المرأة من الوارث بمنزلة الأبكم ... " إلخ. يقول كاتبه: بل مراد البخاري - والله أعلم - الاستدلال بالآية على أنّ المرأة قد يجب عليها نفقة قريبها. وذلك من قوله تعالى: {كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ}، ويفسَّر المولي بالقريب، وهو يعم الرجل والمرأة. وإيضاحه: أنّ في الآية الإخبار أنّ هذا الرجل (كَلٌّ) أي: ثقل، أي تكون نفقته وكسوته وجميع ما يحتاجه (على مولاه) أي: قريبه. وهو صادق بالرجل والمرأة. فتأمّل. ثم أورد تحت الترجمة حديث هند (¬2) وقولها (¬3): فهل عليَّ جُناح أن آخذ من ماله ما يكفيني وبنيَّ؟ قال: "خذي بالمعروف". فأمرها أن تأخذ نفقة بنيها، فدلّ على أنّه يجب عليها القيام بمصلحتهم. ويوضّحه: أنّها لو استأذنته - صلى الله عليه وسلم - أن تأخذ نفقة ضرَّة لها مثلًا، ممّن هو أجنبيّ عنها = لما أذن لها؛ لأنّه ليس عليها مراعاة مصلحة ضرَّتها مثلًا. فدلّ ¬

_ (¬1) (3/ 289). (¬2) رقم (5370). (¬3) في الأصل: "قوله".

الأدب - باب ما يجوز من الغضب

الحديث على أنّ عليها مراعاة مصلحة ولدها. فقد يؤخذ من ذلك أنّ عليها نفقتهم إذا لم يكن هناك من هو أولى منها. والله أعلم (¬1). **** الأدب - باب ما يجوز من الغضب (¬2) عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - قال: احتجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجيرة مخصفة أو حصيرًا، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي فيها فتتبع إليه رجال وجاءوا يصلون بصلاته، ثم جاءوا ليلة فحضروا وأبطأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنهم فلم يخرج إليهم، فرفعوا أصواتهم وحصبوا الباب، فخرج إليهم مغضبًا فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما زال بكم صنيعكم حتى ظننت أنه سيُكتب عليكم، فعليكم بالصلاة في بيوتكم؛ فإن خير صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة". أقول: قد يؤخذ من هذه الرواية ونحوها أن خشيته - صلى الله عليه وسلم - أن يُكتب عليهم ليست لمداومتهم أو لحرصهم كما هو المشهور، وإنما هي لرفعهم أصواتهم وحصبهم الباب، وهذا هو المناسب كما لا يخفى. ولولا أن في بعض الروايات (¬3) زيادة: "ولو كتب عليكم ما قمتم به" ¬

_ (¬1) ما تقدم من التعليقات من (ص 106) إلى هنا من مجموع [4719]. (¬2) رقم (6113). (¬3) برقم (7290).

"كتاب الأدب" - باب "لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين"

لأمكن حمل قوله: "ظننت أنه سيكتب عليكم" [على أنه] يريد به إثم رفعهم أصواتهم وحصبهم الباب. والله أعلم. **** " كتاب الأدب" - بابٌ "لا يُلدغ المؤمن من جحر مرَّتين" [عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا يُلدغ المؤمن من جحر واحد مرَّتين" (¬1)]. زعم السِّنْدي (¬2) أن هذا في أمور الدين لا في أمور الدنيا لحديث: "المؤمن غرٌّ كريم" (¬3). وهذا كلام لا وجه له؛ فإن الغرَّ هو من ليس له تجربة، فكثيرًا ما يغترُّ. وهذا إنما يتحقَّق أول مرَّة. فأما إذا لدغ من جحر مرَّتين فإن العرب لا تسمِّيه غرًّا، ولا تقول: اغترَّ. بل هو أحمق، بل لو قيل: إن قوله: "لا يُلدغ ... " إلخ خاص بأمور الدنيا لكان أقرب؛ لأن أمور الدين يجب أن تُبنى على الحذر فلا يغتر المؤمن فيها أصلًا، كما لو حدّث رجل بحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن الواجب أن لا يَغترَّ به بل يَبحث عن عدالته وضبطه من أول مرَّة. **** ¬

_ (¬1) رقم (6133). (¬2) في "حاشيته" (4/ 70). (¬3) أخرجه أحمد (9118) وأبو داود (4790) والترمذي (1964) وغيرهم من حديث أبي هريرة. قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.

قصة سلمان وأبي الدرداء ("صحيح البخاري" (¬1) - كتاب الأدب - باب صنع الطعام والتكلُّف للضيف). وفيه تخصيص لمفهوم قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى} (¬2). **** "صحيح البخاري" (¬3) في الاستئذان: عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا سلَّم عليكم أهلُ الكتاب فقولوا: وعليكم". في "الهامش" (¬4): بإثبات الواو ويجوز حذفها كما قاله النووي (¬5)، قال: والإثبات أجود، ولا مفسدة فيه أي من جهة التشريك لأن السام الموت، وهو علينا وعليهم. انتهى. أقول: يعكّر عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة حين ردّ على اليهود بقوله "وعليكم": "يُستجاب لي فيهم ولا يستجاب لهم فيَّ" (¬6). وقد بوّب عليه البخاري في كتاب الدعوات: باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: يستجاب لنا في اليهود، ¬

_ (¬1) برقم (6139). (¬2) حيث نهى سلمان الفارسي أبا الدرداء عن الصلاة أول الليل ووسطه، وأمره بالنوم، فأقرَّه النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك النهي. (¬3) رقم (6258). (¬4) "حاشية السِّندي" (4/ 91). (¬5) في "شرح صحيح مسلم" (14/ 145). (¬6) رقم (6401).

باب طول النجوى

ولا يستجاب لهم فينا. فالظاهر أن الواو في قوله: "وعليكم" ليست عاطفة لقولهم: "السام عليك" حتى يكون معناها: السام عليّ وعليكم، فتكون للتشريك. وإنما هي عاطفة لقول محذوف، كأنه قال: قلتم: السام عليك (و) أقول: (عليكم) (¬1). ويؤيّده أنه ليس المراد بقولهم: "السام عليك" وقوله: "وعليكم" الإخبار حتى يقال: لا ضرر في التشريك، وإنما المراد الدعاء، وقد نُهينا عن الدعاء على النفس بالموت. فتأمل، والله أعلم. **** باب طول النجوى (¬2) حدثنا [محمد بن بشار حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن عبد العزيز] عن أنس - رضي الله عنه - قال: "أقيمت الصلاة ورجل يناجي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فما زال يناجيه حتى نام أصحابه ثم قام فصلى". [قال المعلمي]: فيه دليل على أنه لا يضرُّ طول الفصل بين الإقامة والصلاة، ولا تلزم الإعادة. **** ¬

_ (¬1) في الأصل: "وعليكم"، والسياق يقتضي ما أثبت. (¬2) رقم (6292).

باب الختان بعد الكبر

باب الختان بعد الكبر وذكر فيه خصال الفطرة (¬1): [الختان، والاستحداد، ونتف الإبط، وقص الشارب، وتقليم الأظفار]. والظاهر أنها كلها واجبة، والظاهر أنه يتعيّن في الإبط النتف، وفي الشارب القص. فالله أعلم. وقد تقدّم "أَحفُوا الشَّوارب وأَعفُوا اللِّحى" (¬2)، فقد يقال: إن إحفاء الشوارب يحصل بالقص وغيره. لكن يقال: هذا مطلق فليُحمل على المقيّد، وقد جاء عن المغيرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ من شاربه على سواك، كأنه بسكّين أو غيره (¬3)، فإذا صح جاز مثل ذلك. وقد يقال: إنه قيد آخر، وإذا وجد قيدان تعين البقاء على الإطلاق، كما قالوه في تتريب النجاسة الكلبية، ولكن فيه نظر ذكره الحافظ في "التلخيص" (¬4)، وحاصله: أن المطلق يمكن حمله على المقيدين فيتعيّن في التتريب إحدى المقيّدين أي "الأولى" و"الأخرى"، فلا يجوز غير إحداهما. ¬

_ (¬1) وذلك بإيراد حديث أبي هريرة برقم (6297) مرفوعًا بلفظ: "الفطرة خمس ... " إلخ. (¬2) برقم (5892) من حديث ابن عمر بلفظ: "خالفوا المشركين وفِّرُوا اللِّحَى وَأَحْفُوا الشَّوَارِبَ"، وبرقم (5893) بلفظ: "انْهَكوا الشوارب وأعفوا اللحى". (¬3) أخرجه أحمد (18212) وأبو داود (188) وغيرهما. وهو حديث صحيح. وفيه أن الأخذ كان بشَفْرة. (¬4) "التلخيص الحبير" (1/ 36).

باب هل يصلى على غير النبي - صلى الله عليه وسلم -

وكذا يقال هنا يتعيّن في إحفاء الشوارب القصّ أو القطع الذي في حديث المغيرة. وإذا وجب الختان فصل وجوبه بعد الكبر كما دل عليه حديث ابن عباس في الباب. وأما بقية الخصال فقد جاء فيها أن لا تؤخّر أكثر من أربعين يومًا، وهو في "صحيح مسلم" (¬1). وإحفاء الشارب يتعين فيه إلى الحد الذي يتيسر بالمقص أو بالقطع على ما في حديث المغيرة. فإذا ... (¬2). **** باب هل يصلّى على غير النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ابن أبي أوفى قال: كان إذا أتى رجل النبي - صلى الله عليه وسلم - بصدقته قال: "اللهم صلِّ عليه"، فأتاه أبي بصدقته فقال: "اللهم صلِّ على آل أبي أوفى" (¬3). فيه دليل على دخول الشخص في آل المضاف إليه. **** ¬

_ (¬1) (258) من حديث أنسٍ - رضي الله عنه -. (¬2) بياض في الأصل. (¬3) رقم (6359).

باب الدعاء إذا علا عقبة

باب الدعاء إذا علا عقبة * عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر فكنَّا إذا علونا كَبَّرنا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أيها الناس ارْبَعُوا على أنفسكم، فإنكم لا تَدعُون أصمَّ ولا غائبًا ولكن تدعون سميعًا بصيرًا" ثم أتى عليٌّ ... (¬1). باب الدعاء إذا أراد سفرا أو رجع * عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قَفَل من غزو أو حج أو عمرة يكبر على كل شَرَف من الأرض ثلاثَ تكبيرات ثم يقول: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملكُ وله الحمدُ وهو على كل شيء قدير. آئبون تائبون عابدون، لربنا حامدون. صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده" (¬2). يُجمع بينه وبين قوله: "اربَعُوا على أنفسكم" بأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يجهر ليعلّمهم، أو أنه إنما نهاهم عن شدة الجهر، والله أعلم. أو أن الجهر خاص ببعض الأذكار التي كان يجهر بها. **** في حديث آخِرِ أهل الجنة دخولا أنه يقول عند وصوله إلى باب الجنة وطلبه دخولها: "يا ربِّ لا تجعلْني أشقى خلقك" (¬3). ¬

_ (¬1) رقم (6384). (¬2) رقم (6385). (¬3) رقم (6573).

باب لا تحلفوا بآبائكم

فيقال: كيف يقول هذا وهو حينئذ أسعد من أهل النار بكثير؟ والجواب بأن المراد بالخلق بعضهم، أي غير أهل النار، لا يخفى بُعده إلا أن يقال: يتعيّن القول به جمعًا بين الأدلة. وعليه، فلا حجّة فيه لمن يذهب إلى أن الخلق جميعًا ينتهي أمرهم إلى دخول الجنة. **** باب لا تحلفوا بآبائكم ... فكنا عند أبي موسى ... فقال: ... إني [أتيت] (¬1) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نفر من الأشعريين نستحمله فقال: "والله لا أحملكم، وما عندي ما أحملكم" فأُتي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بنهب إبل فسأل عنا فقال: "أين النفر الأشعريون؟ " فأمر لنا بخمسِ ذَودٍ غُرِّ الذُّرَى، فلما انطلقنا قلنا: ما صنعنا؟ حلف أن لا يحملنا وما عنده ما يحملنا، ثم حَمَلنا، تَغَفَّلْنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمينَه، والله لا نفلح أبدًا! فرجعنا إليه فقلنا له: إنا أتيناك لتحملنا فحلفت أن لا تحملنا وما عندك ما تحملنا، فقال: " [إنّي] لستُ أنا حملتكم ولكنَّ الله حملكم، والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحلَّلتُها" (¬2). قوله: "والله لا أحملكم وما عندي ما أحملكم"، الظاهر أن الواو عاطفة ¬

_ (¬1) في الأصل: "كنت عند"، والمثبت من صحيح البخاري. (¬2) رقم (6649).

جملة على جملة. أراد - صلى الله عليه وسلم - أن يبين لهم أنه لم يمنعهم بخلًا، بل ليس عنده ما يحملهم عليه. واللفظ يحتمل أن تكون الواو حالية، أي: لا أحملكم في حال أن ليس عندي ما أحملكم عليه. فعلى الأول يكون حمله - صلى الله عليه وسلم - لهم ثانيًا نقضًا لليمين بخلاف الثاني. ولم يترجَّح عند أبي موسى وأصحابه أحدُ الوجهين، فكان عندهم محتملًا أنه أراد الأول ولكنه نسي فحملهم، وأن يكون أراد الثاني. فرجوعهم هو للاحتمال الأول، وقولهم: "فحلفتَ أن لا تحملنا وما عندك ما تحملنا" بيان؛ لأن لفظه عندهم محتمل للثاني. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لستُ أنا حملتكم، ولكن الله حملكم" إعلام لهم بأن حمله لهم ثانيًا خير، بيَّنه - صلى الله عليه وسلم - ليبني عليه ما بعده، وإرشاد أنه ينبغي أن ينسب الخير إلى الله تعالى، وإن كان العبد هو المباشر له كما ينبغي أن يقال: أنقذني الله على يديك، وأغاثني الله تعالى على يديك، ونحو ذلك كما جاء في: "ما شاء الله ثم شئت"، و"لابلاغ لي إلا بالله ثم بك". ولا وجه لما قد يُتوهَّم أن حَمْله لهم ثانيًا لا يُعدُّ نقضًا لليمين من حيث إنه إنما حلف أن لا يحملهم هو، ثم حملهم الله تعالى لا هو؛ فإنه توهّم باطل كما لا يخفى. ثم بين - صلى الله عليه وسلم - لهم أنه وإن كان حلف أن لا يحملهم فليس حَمْله لهم محرّمًا عليه كما توهّموا؛ لأنه رأى أن حملهم خير من منعهم، كما بينه بقوله: "لستُ أنا حملتكم ولكن الله حملكم" كما مرّ، فرأى أن يحملهم ويكفّر عن

باب إذا حنث ناسيا

يمينه، وعبّر عن هذا بما هو أعمّ منه بيانًا للحكم وتعميمًا للفائدة. بقي مناسبة الحديث للترجمة، والظاهر أنها أخذًا من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا أحلف على يمين ... إلا أتيت الذي هو خير وتحلّلتها"، فإنه إخبار أنه لا يحلف على يمين قط إلا تحلّلها إذا رأى غيرها خيرًا منها، فهو يستلزم أنه لا يحلف يمينًا قط إلا واجبة التحليل. واليمين التي هذا شأنها إنما هي ما كان بالله عزّ وجلَّ، فلزم من ذلك أنه لا يحلف إلا بالله عزَّ وجلَّ، وهو المطلوب. وفي حواشي السِّنْدي (¬1) توجيه للمناسبة غير واضح، ويظهر لي أنه أراد ما ذكرته، والله أعلم. **** باب إذا حنث ناسيًا عروة عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "هزم المشركون يوم أُحُد هزيمةً تُعرف فيهم، فصرخ إبليس: أي عباد الله أخراكم! فرجعتْ أُولاهم فاجتلدت هي وأُخراهم، فنظر حذيفة بن اليمان فإذا هو بأبيه فقال أبي! أبي! قالت: فوالله ما انحجزوا حتى قتلوه، فقال حذيفة: غفر الله لكم"، قال عروة: "فوالله ما زالت في حذيفة منها بقية حتى لقي الله" (¬2). "حاشية السِّنْدي" (¬3): " (منها) أي من قِتْلة أبيه، وقوله: (بقية) أي من ¬

_ (¬1) (4/ 151). (¬2) رقم (6668). (¬3) (4/ 154).

باب إذا أقر بالحد ولم يبين [هل للإمام أن يستر عليه؟]

حزن وتحسّر، أي من قتل أبيه بذلك الوجه". أقول: ليس هذا بشيء، وإنما المراد بقوله: "منها" أي من تلك الفعلة الكريمة، وهي عفوه عنهم وقوله: غفر الله لكم، فقد ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عرض عليه الدية فأبى أن يقبلها، وعفا عنها. وقوله: "بقية" أي بقية خيرٍ وفضلٍ وصلاح رزقه الله تعالى إياه جزاءً له على عفوه. والله أعلم. **** "لعن الله السارق يسرق البيضة، فتُقطع يده، ويسرق الحبل، فتُقطع يده" (¬1) يحتمل أن المراد الجنس، أي جنس البيضة وجنس الحبل. والله أعلم. وقد يقال: إنه على ظاهره، والبيضة قد يبلغ ثَمَنها ثلاثة دراهم في بعض البلدان وبعض الأوقات. وأما الحبل فظاهر. **** باب إذا أقرَّ بالحدِّ ولم يبين [هل للإمام أن يستر عليه؟] عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: كنت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فجاءه رجل فقال: يا رسول الله إني أصبت حدًّا فأقمْه عليّ، ولم يسأله عنه، وحضرت الصلاة فصلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة، قام إليه الرجل فقال: يا رسول الله إني أصبت حدًّا فأقمْ فيَّ كتاب الله، قال: "أليس قد صلَّيتَ ¬

_ (¬1) رقم (6783، 6799).

معنا؟ " قال: نعم، قال: "فإنَّ الله قد غفر لك ذنبك" أو قال: "حدك" (¬1). فيه أن الصلاة تكفّر الذنوب مطلقًا وإن كانت كبائر. فإن قيل: إن هذا جاء تائبًا فلعل المغفرة إنما كانت للتوبة. قلتُ: يدفعه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أليس قد صليت معنا؟ " فلما قال: نعم، قال: "فإن الله ... " الخ، فدل أن المغفرة كانت بسبب الصلاة فقط لترتيبها عليها بالفاء. نعم، يمكن أن يقال: إن الصلاة التي تكفر الكبائر هي التي تكون معه - صلى الله عليه وسلم - بدليل قوله: "أ [ليس قد] صليت معنا؟ " ولكنه قد يُدفع بأنه إنما يتم ذلك لو قال: أليس قد صليت معي، فأما قوله: "أليس قد صليت معنا؟ " فالمراد به - والله أعلم - معنا معشر المسلمين. نعم، المفهوم منه أن الصلاة التي تكفّر الكبائر هي ما كانت جماعة لأنها هي التي تكون مع المسلمين، فلا تدخل الصلاة منفردًا، والله أعلم. فأما حديث: "الصلوات الخمس، [والجمعة إلى الجمعة] كفّارات لما بينهنَّ ما اجتنبت الكبائر" (¬2)، فإنما فيه أن أصل الصلوات الخمس لا يجب أن تكون مكفرة للكبائر، فلا يلزم أنها إذا كانت جماعةً كفَّرْتها، وهو الذي يدل عليه الحديث الأول. بقي أن يقال: لعلّه - صلى الله عليه وسلم - اطلع على أن الذنب صغير، ولا يخفى أنه خلاف الظاهر. ¬

_ (¬1) رقم (6823). (¬2) أخرجه أحمد (8715) بهذا اللفظ، وهو في "صحيح مسلم" (233) بنحوه.

باب كم التعزير والأدب

بل الظاهر أن الذي ارتكبه الرجل حدٌّ, ولا يوجب الحدَّ إلا الكبائر، واحتمال غلطه ضعيف، ولو فرض أن الله عزَّ وجلَّ أطلع رسولَه أن الذي ارتكبه الرجل ليس حدًّا، لبيَّنَ له ذلك، ولا يجوز أن يقرّه على ما يعلم أنه غلط. فأما احتمال أن يكون بيّن له، فلا شبهة في بطلانه. بقي أن يقال: يحتمل أن يكون هذا الرجل هو الذي جاء في الحديث الآخر أنه فعل ما دون المسّ. ويردّه أن ذاك بيّن وهذا لم يبيّن، وإنما قال: "حدًّا"، وقد قال الصحابي في هذا: "ولم يسأله عنه". **** باب كم التعزير والأدب عن أبي بردة (الأنصاري) - رضي الله عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يُجلد فوق عشر جلدات إلا في حدٍّ من حدود الله" (¬1). أقول: وهذا يضعف قول من قال: إن زيادة الصحابة - رضي الله عنهم - حدَّ الشارب إلى ثمانين كان على وجه التعزير. فإن قيل: هذا من جملة حدود الله. قلتُ: هو من حدود الله بالنسبة إلى الأربعين التي حزروا أنها كانت مقررة في عهده - صلى الله عليه وسلم - لا بالنسبة إلى الزائد. فتأمل. ¬

_ (¬1) رقم (6848).

"صحيح البخاري" في كتاب الإكراه

اللهم إلا أن يقال: لعله لم يبلغهم هذا الحديث (¬1). **** " صحيح البخاري" في كتاب الإكراه: " باب إذا أُكره حتى وهب عبدًا أو باعه لم يجز. وقال بعض الناس: فإنْ نذر المشتري فيه نذرًا فهو جائز بزعمه وكذلك إن دَبَّره". في الحاشية (¬2): "حاصل كلام الحنفية أن بيع المكرَه منعقد إلا أنه بيع فاسد لتعلُّق حقِّ العبد به، فيجب توقفه إلى إرضائه، إلا إذا تصرَّف فيه المشتري تصرُّفًا لا يقبل الفسخ، فحينئذ قد تعارض فيه حقّان كلٌّ منهما للعبد: حق المشتري وحق البائع، وحقُّ البائع يمكن استدراكه مع لزوم البيع بإلزام القيمة ... فالنزاع معهم في هذا الأصل ومقدماته أو تسليمه، فالفرق مقارب غير بعيد نظرًا إلى القواعد. والله تعالى أعلم". أقول: بل فيه نظر؛ لأن تصرف المشتري هو مبني على الحق الذي له، والحق الذي له غير معتبر، فكذلك ما بُني عليه. ¬

_ (¬1) قال شيخ الإسلام ابن تيمية لمّا ذكر هذا الحديث: "قد فسره طائفة من أهل العلم بأن المراد بحدود الله ما حُرّم لحقّ الله؛ فإنّ الحدود في لفظ الكتاب والسنة يراد بها الفصل بين الحلال والحرام، مثل: آخر الحلال وأول الحرام. فيقال في الأول: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا}، ويقال في الثاني: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا}. وأما تسمية العقوبة المقدّرة: حدًّا فهو عُرف حادث. ومراد الحديث: أن من ضرب لحقِّ نفسه كضَرْب الرجل امرأته في النشوز لا يزيد على عشر جلدات" "مجموع الفتاوى": (28/ 348). (¬2) "حاشية السِّنْدي" (4/ 201).

كتاب الاعتصام، باب قول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً} عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يُجاء بنوح يوم القيامة فيقال له: هل بلَّغتَ؟ فيقول: نعم يا رب، فتُسأل أمَّتُه: هل بلَّغكم؟ فيقولون: ما جاءنا من نذير، فيقال: مَنْ شهودك؟ فيقول: محمد وأمته، فيجاء بكم فتشهدون" ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} قال: "عدلا" {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (¬1). قيل: ما فائدة شهادتنا، وإنما هي مبنية على إعلام الله تعالى لنا؟ فهلَّا اكتفى الله عزَّ وجلَّ بعلمه؟ وأجيب بأن الفائدة إظهار فضل هذه الأمة. وأقول: يحتمل أن يكون في الحديث دلالة أن الحاكم لا يحكم بعلمه، ولكنه إذا كان قبل المحاكمة، وقد حمّل شهادته شهودًا ثم قامت المحاكمة عنده فجاء المحمَّلون فشهدوا عنده فإنه يقبل تلك الشهادة. وتقام شهادتهم مقام شهادة الأصل، أي أن شهادة محمدٍ وأمته لنوحٍ تقام مقام شهادة الله عزَّ وجلَّ. فهي حجة وحدها. وأما شهادة المحمَّلين عن القاضي من الخلق، فإنما يقوم مقام شهادة مخلوق واحد. نعم، فلو كان ذلك القاضي هو خزيمة فهي وحدها حجّة، وإلا فلا. ¬

_ (¬1) رقم (7349).

وكأنَّ مِن سرِّ هذا الحكم أن مقام القاضي وقت المحاكمة مقام المساواة، أي أنه يكون نظره إلى الخصمين نظرًا واحدًا لا يميل إلى أحدهما ولو بحقٍّ، حتى تقوم الحجة. ومنه أيضًا - والله أعلم - أن الحاكم لو أقام علمه مقام شهادته كان مظنّة التهمة. فأما إقامة علم القاضي مقام شاهدين فلا وجه له. نعم، ما وقع في المحاكمة من اعتراف ونحوه، فعلم القاضي كافٍ فيه. ومن الدليل على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "واغدُ يا أُنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها" (¬1). ولم يأمره أن يُشهد على اعترافها أحدًا مع أنه يمكن أن يقوم ورثتها يدّعون على أنيس أنه رجمها بغير حقٍّ. **** كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} [البقرة: 22]. " ... وقال مجاهد: {مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الحجر: 8]. بالرسالة والعذاب. {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} [الأحزاب: 8]. المبلغين المؤدين من الرسل. {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]. عندنا. {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ} القرآن {وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر: 33]. المؤمن يقول يوم القيامة: هذا الذي أعطيتني عملت بما فيه". ¬

_ (¬1) رقم (2314، 2315) من حديث زيد بن خالد وأبي هريرة.

كتاب التوحيد

يقول كاتبه: كأنه يريد - والله أعلم - أن التقدير (و) الشخص (الذي جاء) أي يجيء يوم القيامة (بالصدق) وهو القرآن، (و) قد (صدق به) في الدنيا. وهذا تفسير واضح والحمد لله. **** كتاب التوحيد عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يرويه عن ربكم قال: "لكُلِّ عملٍ كفارةٌ، والصوم لي وأنا أجزي به ولخُلُوف فم الصائم أطيبُ عند الله من ريح المسك" (¬1). "حاشية السندي" (¬2): "نسبة الأطيبية إلى الله تعالى - مع أنه منزّه عنها - إنما هي على سبيل الغرض (الفرض) (¬3)، ومرّ الحديث في الصوم. اهـ شيخ الإسلام (¬4) ". يريد أن ظاهر قوله: "أطيب عند الله" أن الله عزَّ وجلَّ يستطيبه أكثر مما يستطيب المسك. وأقول: هذا غير متعيّن، بل المتبادر أنه يُجاء به يوم القيامة وريحه أطيب من ريح المسك. **** ¬

_ (¬1) رقم (7538). (¬2) (4/ 307) (¬3) هذا تصحيح من الشيخ للنص المطبوع. (¬4) لعله عنى العيني في "عمدة القاري": (25/ 190) فقد ذكر ذلك.

كتاب التوحيد، باب ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - وروايته عن ربه

كتاب التوحيد، باب ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - وروايته عن ربّه عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربّه قال: "لا ينبغي لعبد أن يقول: إنه خير من يونس بن متَّى" ونسبه إلى أبيه (¬1). يقول كاتبه: هذه الرواية تدفع كثيرا من التأويلات في الحديث؛ لأن فيها أن هذا اللفظ من كلام الله تبارك وتعالى يقول: "لا ينبغي لعبد أن يقول: إنه خير من يونس بن متى". فبطل تأويل الحديث بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله تواضعًا، فضلًا عن كون هذا التأويل باطلًا بوجوه أُخَر: منها: أن الكذب لا يحلّ في التواضع، والنبي - صلى الله عليه وسلم - معصوم عن الكذب. ومنها: أنه - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر بفضائل لنفسه الشريفة، ولم يُعدَّ في ذلك مخِلًّا بالتواضع. ومنها: أن التواضع إنما يكون بالنسبة إلى نفسه لا بالنسبة إلى بقية الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والحديث عام. وبهذه الرواية أيضًا بطل التأويل بكونه عليه الصلاة والسلام قاله قبل أن يُعلمه الله تعالى، فضلًا عن كون هذا التأويل باطلًا بكونه عليه الصلاة والسلام معصومًا عن أن يقفو ما ليس له به علم. وإطلاق الحديث يدفع التقييدات التي تُدّعى، كأن يقال: إن المراد أن يقول مثلًا: أنا خير من يونس بن متى كخيريّة المؤمن على الفاسق، أو نحو ذلك مما يوهم نقصًا في يونس عليه السلام، فضلًا عن كون هذا الوجه غير ¬

_ (¬1) رقم (7539).

معقول، فإن مجرّد إثبات الخيريّة يوهم نقصًا. فإن قيل: إنما فيه أنه لا ينبغي هذا القول لعبدٍ أن يقوله في حق نفسة، وليس فيه أنه [لا ينبغي] (¬1) أن يقول أحد في حقّ غيره، كأن يقول أحدنا: إبراهيم خير .... ويردّه أنه لو جاز مثل هذا لجاز ذاك، ولا فرق. فأما العُجْب فالأنبياء معصومون عنه، وقد جاء عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كثير من التحدّث بنعم الله عليهم، ومع هذا ففي الرواية الأخرى: "لا ينبغي لعبد أن يكون خيرًا من يونس بن متى" (¬2). بل إن هذه الرواية تنفي الأفضلية في نفسها فضلًا [عن] الإخبار بها المنهيّ عنه في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تفضِّلوا بين أنبياء الله" (¬3). والله أعلم. ويمكن الجواب عنها بأنها من تصرّف الرواة، أو محمولة على قيد مخصوص دلّت عليه سائر الأدلة. والمقام حرج والمَخْلص الوقف. والله أعلم (¬4). ... ¬

_ (¬1) زيادة لا بد منها ليستقيم الكلام. (¬2) "صحيح البخاري" (4804) ولفظه: "لا ينبغي لأحدٍ ... " من حديث عبد الله بن مسعود. (¬3) "صحيح البخاري" (3414) و"صحيح مسلم" (2373/ 159) من حديث أبي هريرة. (¬4) من (ص 119) إلى هنا من مجموع [4711].

[تعليق على أحاديث من "صحيح مسلم"]

[تعليق على أحاديث من "صحيح مسلم"] " صحيح مسلم" (¬1): عن قتادة قال: سمعت أبا السَّوَّار يحدِّث أنه سمع عمران بن حصين يحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الحياء لا يأتي إلا بخير". فقال بُشَير بن كعب: إنه مكتوب في الحكمة: أنَّ منه وقارًا ومنه سكينة، فقال عمران: أحدِّثك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتحدِّثني عن صُحُفك؟! وفي رواية (¬2): قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الحياء خيرٌ كلُّهُ"، أو قال: "الحياء كله خير"، فقال بُشَير بن كعب: إنا لنجد في بعض الكتب أو الحكمة أنَّ منه سكينةً ووقارًا لله، ومنه ضعف. قال: فغضب عمران حتى احمرَّتا عيناه، وقال: ألا أُرَاني (¬3) أُحدِّثك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتعارض فيه؟ قال: فأعاد عمران الحديث، قال: فأعاد بُشير، فغضب عمران، قال: فما زِلْنا نقول فيه: إنه منَّا يا أبا نُجيد! إنه لا بأس به. يقول كاتبه - وفقه الله -: الحياء غريزة من الغرائز تحمل صاحبها على عدم إظهار ما يُعاب، لكنه تارة يوجد تامًّا وتارة يوجد ضربٌ منه. فالحياء الكامل (وهو المراد في الحديث) لا يأتي إلا بخير؛ لأن الحياء الكامل أن يستحيي المرء من ربه الذي خلقه ورزقه، ومن الناس أن يروا فيه عيبًا. ¬

_ (¬1) برقم (37/ 60). وهو في البخاري (6117). (¬2) برقم (37/ 61). (¬3) في الأصل: "أرى"، والمثبت من "صحيح مسلم".

فربما لا يكون هناك معارضة كالاستحياء من الزناء. وربما تكون معارضة، فإذا وُجدت المعارضة فغريزة الحياء تحمل صاحبها على التخلِّص من العيب الأكبر، ولو بارتكاب الأصغر. مثلًا: نساء الأنصار اللاتي كنَّ يسألن النبي - صلى الله عليه وسلم -، تَعارضَ عندهنَّ ضربان من الحياء: الأول: الحياء من الله عزَّ وجلَّ ومن نبيِّه والناس أن يكنَّ جاهلاتٍ بأحكام الله؛ الذي هو مظنّة الوقوع في معصيته. والثاني: الحياء من النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن حضره، أن يُظهرن ما يُعدُّ إظهاره عيبًا عند الناس. فحَمَلتهنّ غريزةُ الحياء على التخلص من العيب الأكبر، وهو الجهل ومظِنَّة الوقوع في المعصية، ولو بارتكاب العيب الأصغر. وكذلك ما رُوي عن المأمون - ما معناه - أنه أمر عَمًّا له شيخًا أن يتعلّم. فقال عمُّه: أليس قبيحًا بالشيخ أن يتعلَّم؟ فأجابه المأمون: إذا كان [ليس] (¬1) قبيحًا بالشيخ أن يكون جاهلا، فليس قبيحًا به أن يتعلَّم! أو كما قال (¬2). فها هنا عيبان: أحدهما أكبر، وهو كون الشيخ جاهلًا، والآخر كون الشيخ يطلب العلم. فغريزة الحياء تحمل صاحبها على التخلُّص من أكبر ولو بارتكاب الأصغر. وقد يمكن الجمعُ بين الأمرين، فهو حسن. ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق. (¬2) انظر القصة في "تاريخ دمشق": (60/ 350)، و"أدب الدين والدنيا" للماوردي (ص 30).

ومثاله ما رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مِن أمره مَنْ أحدث وهو في المسجد أن يأخذ بأنفه ويخرج (¬1). فإن ها هنا عيبين أحدهما أكبر، وهو أن يصلي وهو محدث. والآخر أن يعرف الناس أنه لم يقدر يضبط نفسه عن الحدث. فغريزة الحياء تحمل صاحبها على التخلص من الأكبر، ولو بارتكاب الأصغر، ولكنه أرشده - صلى الله عليه وسلم - إلى التخلص منهما معًا بتلك الحيلة. وهذه الحيلة ليس فيها مَضرَّة على أحد، ولكنها من إيهام خلاف الواقع، وهو ضرب من الكذب، وإنما أُبيح للضرورة دفعًا لسفاهة السفهاء. ونظير ما ذكرنا أن الغريزة نفسها تحمل صاحبها على دفع الأكبر ولو بارتكاب الأصغر = غريزة البخل. فإن البخيل إذا علم أن حاكمًا سيحكم عليه بعشرة آلافٍ، وظنَّ أنه إن رشا الحاكم بألفين مثلًا لا يحكم عليه، فإن غريزة البخل نفسها تحمله على بذل الألفين. ومنه أمرُ عليٍّ للمقداد بسؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المذي (¬2). وبما قرّرتُه ظهر لك واضحًا أن ما قاله - صلى الله عليه وسلم - هو الواقع المعقول. وأما ما حكاه بُشير عن كتب الحكمة، فإن المراد به ضرب مما يسمَّى ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (1114)، وابن ماجه (1222)، وابن خزيمة (1019)، وابن حبّان (2238، 2239) وغيرهم من حديث هشام بن عروة, عن أبيه، عن عائشة مرفوعًا. وقد اختلف في وصل هذا الحديث وإرساله، قال أبو داود إثرَه: "رواه حماد بن سلمة، وأبو أسامة عن هشام عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ... لم يذكرا عائشة". وقد رجَّح الترمذي الإرسال في "العلل الكبير" (1/ 306 ط. الأقصى). (¬2) أخرجه البخاري (132، 178، 269) ومسلم (303).

(باب تحريم الكبر)

حياء، وإن كان مخالفًا لما تقتضيه غريزة الحياء، كاستحياء الجاهل عن تعلُّم ما يلزمه. فهذا يسمَّى حياءً لكن صاحبه إذا طاوعه فامتنع عن السؤال فإنه بذلك لم يستَحْيِ من الجهل الذي هو عيب ومظنة الوقوع في عيوب كثيرة. وبذلك يصدق عليه أنه ليس عنده غريزة الحياء الكامل؛ إذ لو كانت عنده لحملتْه على أن يراعيَ الحياء الأكبر، أعني التخلُّص من العيب الأكبر، وإن وقع في الأصغر. والله أعلم. **** (باب تحريم الكبر) عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يدخل النارَ أحد في قلبه مثقال حبَّةِ خردلٍ من إيمان، ولا يدخل الجنةَ أحد في قلبه مثقال حبة خردل من كبرياء" (¬1). ربما يُفهم منه أن المراد بالكبر ها هنا الكبر عن الإيمان. **** حديث مسلم (¬2) عن حكيم بن حزام أنه قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أرأيت أمورًا كنت أتحنَّث بها في الجاهلية، هل لي فيها من شيء؟ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أسلمتَ على ما أسلفتَ من خير". خلاصة ما قامت عليه الأدلة أن أعمال الخير مكتوبة للكافر، ولكنه إن ¬

_ (¬1) رقم (91/ 148). (¬2) رقم (123/ 194).

علم الله عزَّ وجلَّ منه أنه يموت على كفره فإنه يجزيه بها في الدنيا موفَّاةً بلا بخس. فإذا جاء يوم القيامة لم يكن له حسنة. قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 15 - 16]. وقد تقدّم صريحًا (ص 160) (¬1) في حديث مسلم عن أنس. وحينئذ يقال لهم: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف: 20]. وإن علم الله عزَّ وجلَّ أنه يؤمن جزاه بها في الدنيا وفي الآخرة كما في حديث حكيم. فإن قيل: قد تكثر أعمال الخير من الكافر جدًّا ويقلُّ جزاؤه في الدنيا. قلتُ: إن الله عزَّ وجلَّ يحاسب الكافر بجميع النعم التي أنعمها عليه من الخلق والسمع والبصر والقوة وغير ذلك. فإذا نظر إلى هذا علم أن أقل نعمة من هذه النعم تفي بجميع الأعمال. فأما المؤمن فإن الله عزَّ وجلَّ فضلًا منه يُسامحه من هذا الحساب. وربما إذا كثرت أعمال الخير من الكافر يوفقّه الله تعالى للإيمان. ¬

_ (¬1) من كنَّاشة الشيخ، ولفظ الحديث: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة؛ يُعطى بها في الدنيا ويُجزى بها في الآخرة. وأما الكافر فيُطعم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة بُجزى بها". "صحيح مسلم" (2808/ 56).

فإن قيل: فقضية أبي طالب تدل أن الكافر قد يُجزى في الآخرة ببعض أعماله الخيرية. قلتُ: ليس في قصة أبي طالب أنه جُزي بعمله، وإنما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ولولا أنا لكان في [الدَّرْك الأسفل من النار] " (¬1). فيحتمل أن يقال: لم يُخفَّف عنه مما يستحقه، فكل من كان مثله فإنما يستحقُّ مثل ذلك؛ لأنه لم يكن له أعمال سيئة غير التوقُّف عن التلفظ بالشهادة. وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لولا أنا" أي كنتُ سببًا لمنعه عن ارتكاب الأعمال التي تقتضي زيادة العذاب. ويحتمل أن يقال: إنه خُفِّف عنه بشفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو المتبادر من قوله: "لولا أنا ... ". لكن يُعارض هذا قوله تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18]، إلا أن تؤوَّل الآية في الشفاعة في الآخرة؛ وشفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي طالب وقعت في الدنيا. أو يقال بتخصيص الآية، وفيه نظر. ويحتمل أن يقال: قد وقع التقييد في بعض الأدلة القاضية بأن الكافر يوفَّى جزاءه في الدنيا بمن يريد الحياة الدنيا وزينتها. فإذا حُمل المطلق على المقيَّد، احتمل أن مَن كان مِن الكفَّار يريد الآخرة كضُلَّال أهلِ الكتاب ربما يُجزى في الآخرة ببعض أعماله فيخفَّف عنه العذاب، فلعلَّ أبا طالبٍ كذلك. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3883) ومسلم (209/ 357).

ويحتمل أن يقال: إن أبا طالب يجازى بأعماله الخيرية خصوصيةً للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فيكون ذلك مخصِّصًا لعموم الأدلة. وهذا أضعف الوجوه. بقيت قصَّة أبي لهب (¬1). وقصة أبي لهب رؤيا رآها بعض أهله، فإن صحَّت تعيَّن فيها أن يُقال: خصوصية للنبي - صلى الله عليه وسلم -. والله أعلم. [فائدة:] قول المفسرين والبيانيين وغيرهم: إن كلمة "يُطاع" في قوله تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} لا مفهوم له وليس بقَيدٍ = فيه نظر للحديث الصحيح أن إبراهيم عليه السلام يلقى أباه يوم القيامة ويشفع له (¬2). **** الحمد لله. في حديث الأشعث بن قيس عند مسلم (¬3): " ... كان بيني وبين رجلٍ أرض باليمن فخاصمتُه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: فقال: "هل لك بيّنة؟ " فقلتُ: لا، قال: "فيمينه"، قلتُ: إذن يحلف! ". وفي رواية (¬4): "فقال: شاهداك أو يمينه". يحتج من لا يقول بحجِّية الشاهد الواحد مع اليمين بقوله: "شاهداك أو ¬

_ (¬1) في "صحيح البخاري" (5101). (¬2) أخرجه البخاري (3350). (¬3) رقم (138/ 220). (¬4) رقم (138/ 221).

يمينه". ولا يخفى أن هذا اللفظ لم تتفق عليه الروايات، بل في بعضها إطلاق البيِّنة. ولا شك أن الواقعة واحدة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتكلَّم بها جميعًا، وإنما تكلَّم بواحدة منها، أو بما في معنى واحدة منها. فلا يصحُّ الاحتجاج إلا بالمعنى المشترك بينها كلِّها. وقد قال لي قائل في مثل هذا: يُحمل المطلق على المقيد. فأجبته بأن حَمْل المطلق على المقيد إنما يكون في النصَّين الثابتين. وقد قدَّمتُ أن هذا ليس من ذلك، لظهور أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتكلَّم بالجميع. فتأمل. ومثل هذا يقال في حديث صُلْح الحديبية، فإن في بعض الروايات لفظ "رجل" (¬1)، وفي بعضها: "من" (¬2)، ولا ندري أيُّ اللفظين وقع في العهد. وقد رجَّح الشافعي (¬3) دخول النساء بأن الله عزَّ وجلَّ أمر بإعطاء ما أنفقوا، ولو لم يدخلْن لما أمر لهم بشيءٍ. وفيه نظر من وجهين: الأول: أن عدم دخولهن في العهد لا يقتضي عدم ردِّهن بل يَبْقَين مسكوتًا عنهنَّ. والمسكوت عنه في المعاهدات إما أن يُلحق بما دخل قياسًا، وإما أن يتفاوض فيه المتعاهدان ليتَّفقا على حلٍّ مرضيٍّ. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2731، 2732) من حديث المِسور بن مخرمة الطويل وفيه: "لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا". (¬2) أخرجه مسلم (1784/ 93) من حديث أنس بلفظ: "ومن جاءكم منا رددتموه". (¬3) في "الأم" (5/ 462 وما بعده) ط. دار الوفاء.

باب الإسراء

والقياس هنا غير واضح، كما يظهر للمتأمل. فلم يبق إلا المفاوضة، فأرشد الله عزَّ وجلَّ إلى إرجاع النفقة، فرضي الفريقان بذلك. والوجه الثاني: أن إعطاء النفقة للكفار جُعل في مقابله إعطاؤهم للمسلمين نفقة من يرتدُّ من نسائهم. مع أنه ليس في المعاهدة الأولى أن على الكفار إرجاع نساء المؤمنين ولا عدمه، بل هنَّ أيضًا مسكوت عنهن. فتبيَّن من هذا أنه اتفاق آخر. والله أعلم. **** باب الإسراء عن ابن عباس قال: سرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين مكة والمدينة، فمررنا بواد فقال: "أيُّ واد هذا؟ " فقالوا: وادي الأزرق، فقال: "كأني أنظر إلى موسى - صلى الله عليه وسلم - فذكر من لونه وشعره شيئًا لم يحفظه داود (أحد الرواة) - واضعًا أصبعيه في أُذُنيه له جُؤَار إلى الله بالتلبية مارًّا بهذا الوادي" (¬1). يقول كاتبه: يؤخذ منه استحباب وضع السبابتين في الأذنين عند الأذان لزيادة رفع الصوت. فأما ما في "البخاري" أن ابن عمر كان لا يفعله، ويُذكر أن بلالًا كان يفعله (¬2)، فالظاهر - والله أعلم - أن ابن عمر لم يكن يقصد زيادة رفع الصوت كما كان يقصده بلال، أو كان صوته عاليًا بحيث لا يحتاج إلى ذلك، ¬

_ (¬1) رقم (166/ 269) (¬2) علَّقه البخاري في كتاب الأذان، باب: هل يتتبع المؤذن فاه ها هنا وها هنا؟

أو لم يبلغه هذا الحديث. والحاصل أن وضع الأصبعين في الأذنين ليس سنةً مقصودًا لذاته حتى يندب في كلَّ أذان. وإنما المقصود منه الإعانة على رفع الصوت، فإن أراد الإنسان زيادة رفع الصوت فعله. وقد ثبت أن رفع الصوت في الأذان سنة، وما يُستعان به على السنة يكون له حكمها. والله أعلم. ويؤخذ من الحديث أيضًا: استحباب رفع الصوت بالتلبية بأقصى ما يمكن. نعم، رفع الصوت بالأذان مطلوب ولكن لا إلى حدّ أن يشقَّ على صاحبه، فكذا في التلبية. والله أعلم. **** في "صحيح مسلم" (¬1) عن عائشة أن أسماء سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن غسل المحيض، فقال: "تأخذ إحداكن ماءها وسدرتها فتَطهَّرُ فتحسن الطهورَ، ثم تصبُّ على رأسها فتَدلُكُه دلكًا شديدًا حتى تبلغ شؤون رأسها ... "، وسألته عن غسل الجنابة فقال: "تأخذ ماءً فتطهَّر فتُحسن الطهور - أوتُبلِغ الطهور - ثم تصب على رأسها فتدلُكُه حتى تبلغ شؤون رأسها ... ". وفيه أيضًا (¬2) عن أمِّ سلمة قالت: قلتُ: يا رسول الله إني امرأة أَشُدُّ ضَفْر رأشي أفأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: "لا، إنما يكفيكِ أن تَحْثِي على رأسك ثلاث حَثَيات، ثم تُفيضين عليك الماء فتَطْهرين". ¬

_ (¬1) رقم (332/ 61). (¬2) رقم (330/ 58).

وفيه (¬1) عن عائشة أنه بلغها أن عبد الله بن عَمْرو يأمر النساء إذا اغتسلْن أن ينقضن رؤوسهن، فقالت: "لقد كنتُ أغتسل أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد، ولا أزيد على أن أُفرِغ على رأسي ثلاث إفراغات". قد يُتوهَّم بين الأحاديث معارضة. والظاهر أن وصول الماء إلى (¬2) بشرة الرأس لا بدَّ منه. وأما باطن الشعر فتكفي فيه ثلاث حثيات. وبهذا تتفق الأحاديث. وفي "مسلم" (¬3) أحاديث أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "أما أنا فأفيض على رأسي ثلاثًا". وفيه (¬4) عن جابر قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من جنابة صبَّ على رأسه ثلاث حفناتٍ من ماء. فقال الحسن بن محمد: إن شعري كثير. قال جابر: فقلت له: يا ابنَ أخي كان شعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثر من شعرك وأطيب. وفيه (¬5) عن عائشة: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة ... ثم يتوضَّأ وضوءه للصلاة، ثمَّ يأخذ الماء فيُدخل أصابِعَه في أصول الشعر. حتَّى إذا رَأَى أن قد استبرأ، حَفَنَ على رأسه ثلاث حفنات، ثم أفاض على سائر جسده، ثمَّ غسل رجليه". ¬

_ (¬1) رقم (331/ 58). (¬2) في الأصل: "إلا" سبق قلم. (¬3) برقم (327) من حديث جبير بن مطعم، وأخرجه البخاري (254). (¬4) برقم (329). (¬5) برقم (316)، وأخرجه البخاري (254).

(باب ما يجمع صفة الصلاة)

فتبيَّن بهذا أن الثلاث الحفنات إنما هي بعد إيصال الماء إلى بشرة الرأس، والثلاث الحفنات إنما هي لأجل بواطن الشعر. فاتفقت الأحاديث على أن وصول الماء إلى بشرة الرأس لا بد منه. وأما الشعر فيكفي له ثلاث حفنات مُطلقًا. والله أعلم. **** (باب ما يجمع صفة الصلاة) (¬1) عن ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سجد خَوَّى بيديه - يعني جَنّح - حتى يُرى وَضَحُ إبطيه من ورائه، وإذا قعد اطمأَنَّ على فخذه اليسرى". أقول: ظاهر هذا أنها تريد التورُّك، فيكون الحديث دليلًا عليه. باب سترة المصلِّي عن الحكم قال: سمعت أبا جحيفة قال: "خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالهاجرة إلى البطحاء فتوضأ فصلَّى الظهر ركعتين، والعصر ركعتين وبين يديه عَنَزة" (¬2). أقول: ظاهره أنه جَمَع تقديمًا (¬3). ¬

_ (¬1) برقم (497/ 238). (¬2) برقم (503/ 252). (¬3) ما سبق من التعليقات من مجموع [4711].

باب ما يتعلق بالقراءات

باب ما يتعلَّق بالقراءات (¬1) عن [إبراهيم قال: أتى] علقمة الشام، فدخل مسجدًا فصلَّى فيه، ثم قام إلى حلقة فجلس فيها. قال: "فجاء رجل فعرفتُ فيه تَحَوُّشَ القوم وهيئتهم (يعني أبا الدرداء) ... ". قال المُحشِّي (¬2): "تحوش القوم وهيئتهم: أي اجتماعهم حوله وانقباضهم عنِّي". يقول كاتبه: بل التحوُّش هنا الاستحياء والانقباض. والمراد بالقوم الصحابة. يقول علقمة: عرفتُ في هذا الرجل استحياءَ الصحابة وانقباضهم وهيئتهم، فعرفت أنَّه صحابي. والله أعلم. **** في "صحيح مسلم" في حديث الركعتين بعد العصر (¬3): "إنه أتاني ناسٌ من عبد القيس بالإسلام من قومهم فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر، فهما هاتان". ففيه أن كراهة الصلاة بعد العصر كان قبل قدوم وفد عبد القيس. وفيه ¬

_ (¬1) برقم (824/ 283). (¬2) ينقل المؤلف عن حاشية على صحيح مسلم، لعلها لأحد علماء الهند. وهذا التفسير الذي ذكره قاله القاضي عياض احتمالًا، وذكر قبله المعنى الذي ذكره المؤلف، وبه جزم النووي. (¬3) برقم (834/ 297)

حديث عَمْرو بن عَبَسة (¬1) وفيه ذِكر أوقات الكراهة. وكان قدومه على ما في "الإصابة" (¬2) بعد خيبر قبل الفتح. **** في حديث الزكاة (¬3): " ... ولا صاحبَ كنزٍ لا يفعل فيه حقَّه، إلا جاء كنزُه يوم القيامة شُجاعًا أقرع يتبعه فاتحًا فاه، فإذا أتاه فرَّ منه فيناديه: خذ كنزك الذي خبَأْته فأنا عنه غني ... ". ذكر في "حواشي صحيح مسلم" عن ابن المَلَك (¬4) أن فاعل "يناديه" ضمير يعود على الكنز؛ ومستنده عدم تقدُّم مرجع غيره، وما جاء في بعض الروايات أن الكنز يقول لصاحبه: "أنا مالك، أنا كنزك" (¬5). والصواب: أن الفاعل ضمير يعود إلى الله عزَّ وجلَّ وإن كان غير مذكور فهو معلوم من المقام كما في {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص: 32]. ويبيِّن ذلك قوله: "فأنا عنه غني". وفي بعض الروايات: "يتبع صاحبه حيثما ذهب، وهو يفرُّ منه، ويقال: ¬

_ (¬1) برقم (832) (¬2) (7/ 422) ط. دار هجر. (¬3) برقم (988/ 27) من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -. (¬4) كذا، وهو معروف بابن ملك، عبد اللطيف بن عبد العزيز بن فِرِشتا الكرماني (ت 801)، له "مبارق الأزهار في شرح مشارق الأنوار". انظر "الفوائد البهية" (ص 107)، و"الأعلام": (4/ 59). (¬5) أخرجه البخاري (1403، 4565) من حديث أبي هريرة.

هذا مالُك الذي كنتَ تبخَلُ به" (¬1). فالكنز نفسه يدعوه: "أنا كنزك أنا مالك"، والباري تعالى يناديه: "خذ كنزك الذي خبأته فأنا عنه غني". وأما قول: "هذا مالك الذي كنت تبخل به" فلعلّه معنى قوله: "خذ كنزك الذي خبَأْته"؛ رُوي بالمعنى. والله أعلم. **** الحمد لله. في حديث الصدقة (¬2): "لا يتصدَّق أحدٌ بتمرة من كسبٍ طيِّب إلا أخذها الله بيمينه فيربِّيها كما يُربِّي أحدُكم فلوَّه أو قَلُوصَه حتى تكون مثل الجبل أو أعظم". فسَّروا التربية بمطلق الزيادة، أي أن الله عزَّ وجلَّ يضاعفها أضعافًا كثيرة. وفي هذا نظر لضعف مطابقته للفظ التربية وللتمثيل بتربية أحدنا الفلوَّ. والصواب: أن الله عزَّ وجلَّ يأخذها ويضاعفها الأضعاف التي يريدها، ثمَّ كلَّما وقع في الكون خير مسبَّبٌ عنها ضمَّ مثلَ أجره إليها. فإذا تصدَّق أحدُنا بتمرة أخذها الله عزَّ وجلَّ وضاعفها، ثمَّ إذا اقتدى به آخر فتصدَّق، ضمَّ الله عزَّ وجلَّ مثلَ أجر هذا الآخر إلى تلك التمرة. وهكذا ¬

_ (¬1) برقم (988/ 28). (¬2) "صحيح مسلم" برقم (1014/ 64) من حديث أبي هريرة. وهو في "صحيح البخاري" (1410، 7430).

في الصدقات المتسلسلة. وإذا استعان المتصدَّق عليه بالتمرة أو أحد المتصدَّق عليهم بالصدقات المتسلسلة عنها على فعل طاعة = ضمَّ الله عزَّ وجلَّ مثل أجره إلى تلك التمرة. وإذا استعان بها على زواج فكذلك. وكذا من يتولَّد من الناس ولتلك التمرة أو الصدقات المتسلسلة عنها علاقة في تولُّده، فكلَّما عمل خيرًا ضمَّ الله عزَّ وجلَّ مثل أجره إلى التمرة. وكذا كلُّ من يتولَّد من ذلك المولود إلى يوم القيامة. والله أعلم. **** في حديث مسلم (¬1): "إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172] ثم ذكر الرجل يُطيل السفر أشعثَ أغبرَ يمدُّ يديه إلى السماء: يا ربِّ! يا ربِّ! ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغُذِيَ بالحرام، فأنَّى يُستجاب لذلك؟ ". أقول: في هذا الحديث دليل على أن المراد بالطيبات في الآيتين الحلال لا اللذائذ. والله أعلم. **** ¬

_ (¬1) رقم (1015).

في حديث الصدقة (¬1): " [قال رجل: لأتصدَّقنَّ اللَّيلةَ بصدقة] فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية فأصبحوا يتحدَّثون: تُصدِّق الليلة على زانية! قال: اللهم لك الحمد على زانية ... ". قوله: "اللهم لك الحمد" أي على كلِّ حال، ثمَّ استأنف فقال: "على زانية" أي أَعلى زانية؟! من باب الاستفهام الإنكاري، أي أتصدَّقتُ على زانيةٍ؟ وهكذا في الموضعَين الآخرين. **** في "صحيح مسلم" (¬2) عن أبي أُمامة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يا ابن آدم إنك أن تَبذُل الفضلَ خيرٌ لك، وأن تُمسِكَه شرٌّ لك، ولا تُلام على كفاف، وابدأ بمن تعول". وفيه (¬3): "أفضل الصدقة - أو خير الصدقة - عن ظهر غنًى". نقل المحشِّي عن ابن المَلَك (¬4) وغيره: أنه قد يُشكل هذا مع حديث: "أفضل الصدقة جُهد المقلِّ" (¬5)، وذكر الجواب عنه بما فيه نظر. ¬

_ (¬1) برقم (1022). (¬2) برقم (1036). (¬3) برقم (1034) من حديث حكيم بن حزام - رضي الله عنه -. (¬4) انظر عن "المحشي، وابن الملك" ما تقدم (ص 150). (¬5) أخرجه أحمد (8702) وأبو داود (1677) وابن خزيمة (2444، 2451) وابن حبان (3346) والحاكم (1/ 414) من حديث أبي هريرة, وقال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم"، ولم يتعقَّبه الذهبي. وروي أيضًا من حديث عبد الله بن حبشي عند =

وأقول: إنه لا منافاة؛ فإن المراد بالغنى الكفاف، بمعنى أنَّ أفضل الصدقة ما لم تخلَّ بالكفاف. أي ما تركتْ لصاحبها ما يكفيه. والمقصود أن المتصدِّق له حالان: الأولى: أن يتصدَّق وقد بقي له ما يكفيه. الثانية: أن يتصدَّق بقوته الذي هو محتاج إليه. فالأولى أفضل. وقوله في الحديث الآخر: "جهد المقل" لا ينافي هذا؛ لأن جهد المقلِّ المراد به أقصى ما قدر عليه حيث لم يبق له غير الكفاف. والحاصل أن للمتصدِّق في نفس الأمر ثلاثة أحوال: الأولى: أن يتصدَّق وقد بقي عنده أكثر مما يكفيه. الثانية: أن يتصدَّق وقد بقي عنده ما يكفيه فقط. الثالثة: أن يتصدَّق بقوته ويبقى محتاجًا. فقوله: "عن ظهر غنى" يشمل الحالين الأوليين. وإنما فَضَّلهما بالنسبة إلى الثالثة. وقوله: "جهد المقلِّ" فَضَّل فيه الثانية على الأولى. نعم، إنما يشكل ما جاء في فضل الإيثار لقوله عزَّ وجلَّ: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9]. والجواب: أن جهد المقل أفضل من الإيثار غالبًا، ولكن قد يكون الإيثار أفضل في بعض المواطن كحال الصحابي وزوجته اللذَين آثرا ضيف ¬

_ = أحمد (15401)، وأبي داود (1449) وغيرهما بإسناد حسن.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أنفسهما وأطفالهما (¬1). فلمَّا كان الضيفُ ضيفَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والإيثار هنا لا يؤدِّي إلى هلاك الموثِر أو تضرُّره ضررًا شديدًا = كان محمودًا. فأما لو أن رجلًا ذا بيت آثر سائلًا من المتكفِّفين على الأبواب فهذا غير محمود؛ لأن هذا السائل إذا لم يصبْ شيئًا من هذا البيت فإنه سيصيب من غيره؛ فلا معنى لإيثاره، ولا سيَّما إذا أدَّى الإيثار إلى هلاك المؤثِر أو تضرُّره. والله أعلم. **** عند مسلم (¬2) في حديث ابن عبَّاس في شأن هلال رمضان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله مدَّه للرؤية". وفي رواية (¬3): "إن الله قد أمدَّه لرؤيته، فإن أُغمي عليكم فأكملوا العدة". وهذا الحديث أصرح من غيره في أن ابتداء الشهر لا يعتبر بمجرَّد مجاوزة الهلال الشمسَ، وكذا بمجرَّد إمكان الرؤية، وإنما يدخل بالرؤية نفسها أو إكمال ثلاثين. والله أعلم. **** ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم برقم (2054). (¬2) برقم (1088/ 29). (¬3) برقم (1088/ 30).

في "مسلم" في باب النهي عن الوصال

في "مسلم" (¬1) في باب النهي عن الوصال عن أنس قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلِّي في رمضان فجئت فقمت إلى جنبه وجاء رجل آخر فقام أيضًا حتى كنا رهطًا، فلما حسَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أنّا خلفه جعل يتجوَّز في الصلاة ثم دخل رحله فصلى صلاة لا يصلِّيها عندنا. قال: قلنا له حين أصبحنا: أفطِنْتَ لنا الليلة؟ قال: فقال: "نعم، فذلك الذي حملني على الذي صنعت" .... أقول: فيه صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - النافلة في المسجد لغير حاجة. فإن قيل: يحتمل أن يكون معتكفًا. قلتُ: المعتكف تكون حجرته في المسجد بمنزلـ[ـة] بيته، فيصلِّي النفل فيها، لا في باقي المسجد. وصلاته - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث كانت في غير المعتكَف لقوله: "ثم دخل رحله فصلَّى". فإن لم يكن معتكفًا فالمراد دخل بيته. وإن كان معتكِفًا فالمراد دخل معتكَفه؛ لأن المعتكِف لا يدخل بيته. وعلى التقديرين (¬2) فالصلاة كانت في المسجد في غير الحجرة المعتكَف [فيها]. فإن قيل: لعلَّه لبيان الجواز. قلتُ: الذي يُفعل لبيان الجواز إنما يكون في مظنَّة مشاهدة الناس، وظاهر السياق هنا يخالف ذلك. ¬

_ (¬1) برقم (1104/ 59). (¬2) في الأصل: "التقدير" سبق قلم.

فإن قيل: لعلَّ هذا خاص بقيام رمضان. قلتُ: يردُّه سبب قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإن صلاة المرء في بيته خيرٌ له إلا المكتوبة" (¬1)؛ فإن السبب في هذا الحديث قيام رمضان، ودخول السبب ضروري. فما بقي إلا أن يدَّعى أن المعتكِف يصلِّي أينما شاء في المسجد، ولو في غير حجرته أو يخصُّ تفضيل الصلاة في البيت على المسجد بما إذا كان هناك من يعلم به. فأما إذا أمكنه أن يصلِّي في المسجد في حين يظن أنه لا يعلم به أحد، فالصلاة في المسجد مساوية للصلاة في البيت أو أفضل، وتكون العلة حينئذ خشية العجب والرئاء وثناء الناس؛ فإن ثناء الناس ينقص من الأجر، وإن لم يكن هناك عجب ولا رئاء. أو يقال: هذا من فعله - صلى الله عليه وسلم - فلا يُخصُّ به عموم قوله، فيكون في حقه - صلى الله عليه وسلم - الصلاة في بيته وفي مسجده سواء. وأما غيره ففي البيت أفضل إلا المكتوبة كما دلَّ عليه عموم الحديث والله أعلم. ولعل هذا الأخير أقرب إلى القواعد. **** الحمد لله. في "صحيح مسلم" (¬2) عن ابن عبَّاس: "ما علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (731، 6113، 7290) ومسلم (781/ 213). (¬2) (1132/ 131).

صام يومًا يطلب فضله على الأيام إلا هذا اليوم (يوم عاشوراء) ولا شهرًا إلا هذا الشهر. يعني رمضان". في هذا دليل على تساوي ما عدا يوم عاشوراء من الأيام في مشروعية التطوّع بالصيام. فلا يُعْدَل عن هذه الكلية إلا بحجَّة صحيحة. والمقصود أنه لا يكفي في معارضة هذا ما جاء من الأحاديث الضعاف، وإن مُشي على رأي النووي ومن تابعه في جواز العمل بالضعيف بشرطه. والله أعلم. **** الحمد لله. في حديث تلبية النبي - صلى الله عليه وسلم - أن عمر وابنه عبد الله كانا يزيدان فيها (¬1). فقد يُستدل به على جواز الزيادة على الأدعية المأثورة. والجواب: أن غاية ما فيه دلالته على أنهما كانا يريان جواز الزيادة في التلبية، وهو لا يدلُّ على أنهما يريان الجواز في غيرها من الأدعية والأذكار. وفي حديث جابر (¬2): أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يلبُّون بغير تلبيته، فلم ينكر عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولزم هو تلبيته. فيحتمل أن منهم من كان يلبِّي مثل تلبيته - صلى الله عليه وسلم - ويزيد عليها ولم ينكر عليه - صلى الله عليه وسلم -، فأخذ عمر وابنه بذلك. والمقصود أن جواز الزيادة هنا عُلِم من تقريره - صلى الله عليه وسلم -، فلا يدل على جواز ¬

_ (¬1) مسلم (1184). (¬2) أخرجه مسلم (1218/ 147).

الزيادة في جميع الأدعية والأذكار؛ لأن جواز الزيادة في موضع لا يدل على الجواز في آخر مع عدم العلم باتحاد السبب. ومع ذلك فإقراره - صلى الله عليه وسلم - لهم إنما يدل على الجواز فقط، وإلا فالأفضل ما لزمه هو بأبي وأمّي. وأيضًا ففعل عمر وابنه، وإن كان مما يُستأنس به فليس بحجَّة إذا عارضه ما هو أقوى منه كما هو مقرَّر في محلِّه. والله أعلم. **** الحمد لله. في حديث جابر (¬1) في حجَّة النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فرماها بسبع حصيات، يكبِّر مع كل حصاة منها، مثل حصى الخَذْف". قال المحشِّي: "فقوله: "مثل" صفة بعد صفة لحصاة، فهو قاعد في محله، ليس بزائد كما ظنَّه النووي" (¬2). ¬

_ (¬1) برقم (1218/ 147). (¬2) قال النووي في شرح مسلم: (8/ 191): "قوله: "فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها حصى الخذف" فهكذا هو في النسخ، وكذا نقله القاضي عياض عن معظم النسخ قال: وصوابه: "مثل حصى الخذف" قال: وكذلك رواه غير مسلم، وكذا رواه بعض رواة مسلم هذا كلام القاضي. قلت: والذي في النسخ من غير لفظة "مثل" هو الصواب بل لا يتجّه غيره ولا يتم الكلام إلاَّ كذلك، ويكون قوله: "حصى الخذف" متعلقًا بـ "حصيات" أي رماها بسبع حصيات حصى الخذف، يكبر مع كل حصاة فـ "حصى الخذف" متصل بـ "حصيات" واعترض بينهما "يكبر مع كل حصاة" وهذا هو الصواب. والله أعلم".

أقول: جعْله صفةً لحصاة، وإن صحَّ لفظًا، فلا يخفى بُعده أو بطلانه في المعنى. فالوجه أنه صفة لحصيات. **** الحمد لله. لم يُنقل كم حجَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يهاجر إلا أن حديث جبير بن مطعم (¬1) أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم عرفة بعرفة (والسياق ظاهر في أنه قبل الهجرة) = يثبت به حجَّة واحدة. والله أعلم. **** الحمد لله. حديث مسلم (¬2) عن ابن مسعود قال: "ما رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلَّى صلاة إلا لميقاتها، إلا صلاتين: صلاةَ المغرب والعشاء بجَمْعٍ، وصلَّى الفجر يومئذ قبل ميقاتها". وفي رواية: "قبل وقتها بغلس". قال المُحشِّي: "وهذا ينادي بأعلى صوته وبمنطوقه لا بمفهومه أن الوقت المعتاد في صلاة الصبح هو المضيئُ المعبَّر عنه بالإسفار - كما هو مذهبنا - دون التغليس". ¬

_ (¬1) برقم (1220). (¬2) برقم (1289).

أقول: كأنّ الرجل لا يعرف المنطوق من المفهوم! ولا يخفى أنه (¬1) من طلوع الفجر الصادق إلى الإسفار. **** في حديث المدينة (¬2): "لا يصبر أحد على لَأْوائها [فيموت]، إلا كنت له شفيعًا أو شهيدًا يوم القيامة [إذا كان مسلمًا] ". أقول: أراد - والله أعلم - الشفاعة الخاصة، وهي ما تكون في مغفرة الذنوب. ولهذا قال: "شفيعًا أو شهيدًا"؛ لأن الصابر قد لا يكون له ذنوب تتوقَّف مغفرتها على الشفاعة لكثرة حسناته، فهذا يكون له شهيدًا. والله أعلم. **** في "مسلم" (¬3) عن معمر بن عبد الله: [إني] كنت أسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الطعام بالطعام مثلًا بمثل" قال: وكان طعامنا يومئذ الشعير. هذا الحديث حجَّة في أن الأطعمة كلُّها ربوية، ولكن (¬4) يحتمل أن يُحمل على البرِّ والشعير فقط، بدلالة أنه لما فصَّل لم يَذكر غيرَهما، ويعتضد بقول الصحابي: وكان طعامنا يومئذ الشعير. ¬

_ (¬1) في الأصل: "أن"، ولعل المثبت هو الصواب، ويكون الضمير راجعًا إلى الوقت المعتاد. (¬2) برقم (1374/ 477) من حديث أبي سعيد الخدري. (¬3) برقم (1592). (¬4) بعده كلمة رسمها يحتمل: "ألا"، والسياق مستقيم بدونها.

الجهاد - باب بيان الرجلين يقتل أحدهما الآخر

والظاهر بقاء الطعام على عمومه، والحديث حجَّة على من يخصُّ الربا بالست. وعن أبي سعيد (¬1) قال: أُتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتمر، فقال: "ما هذا التمرُ من تمرنا" فقال الرجل: يا رسول الله، بعنا تمرنا صاعين بصاع من هذا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هذا الرِّبا فردوه، ثم بِيعوا تمرَنا واشتروا لنا من هذا". وفيه (¬2) عن أبي هريرة وأبي سعيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث أخا بني عدي الأنصاري، فاستعمله على خيبر، فقدم بتمر جَنِيب، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أكُلُّ تمر خيبرَ هكذا؟ " قال: لا والله يا رسول الله، إنا لنشتري الصاع بالصاعين من الجمع، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تفعلوا، ولكن مثلًا بمثل، أو بيعوا هذا واشتروا بثمنه من هذا، وكذلك الميزان". قوله: "وكذلك الميزان" ظاهره جواز بيع التمر بالتمر وزنا بوزن. **** الجهاد - باب بيان الرجلين يقتل أحدهما الآخر (¬3) عن أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يضحك الله إلى رجلين، يقتل أحدهما الآخر، كلاهما يدخل الجنة"، فقالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: "يقاتل هذا في سبيل الله عزَّ وجلَّ فيستشهد، ثم يتوب الله على القاتل فيُسلم، ¬

_ (¬1) برقم (1594/ 97). (¬2) برقم (1593/ 94). (¬3) برقم (1890/ 128).

باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام

فيقاتل في سبيل الله عزَّ وجلَّ فيستشهد". في الحديث دليل قوي أن القاتل عمدًا لا يدخل الجنَّة إلا إن كان كافرًا ثمَّ أسلم. وما في الحديث من اشتراط استشهاد الثاني، تدل أحاديث جَبِّ الإسلام لما قبله على أنه شرطٌ لضحك الله عزَّ وجلَّ لا لأصل الدخول. والله أعلم. وحديث الذي قتل تسعة وتسعين ثم ذهب يسأل عن التوبة إلخ (¬1)، لعلَّه يحتمل - والله أعلم - أنه قتلهم وهو كافر ثمَّ جاء يسأل هل يتوب الله عليه إن أسلم، فلمَّا أخبره المسؤول أنه لا توبة له قتله وهو حينئذ باقٍ على كفره، ثم لمَّا أخبره الثاني أنَّ له توبةً أسلم. والله أعلم. **** باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام (¬2) " لا تبدءوا اليهود و [لا] النصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطرُّوه إلى أَضْيَقه". أي - والله أعلم - اضطروه إلى حيث يواجهكم فيضطرُّ إلى أن يبدأكم بالسلام، فيظهر بذلك مقتضى كونه ذمِّيًّا، ولا تَدَعوه يمرُّ بعيدًا عنكم فلا يضطرُّ إلى بدئكم بالسلام. **** ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3470) ومسلم (2766) من حديث أبي سعيد الخدري. (¬2) برقم (2167).

في "صحيح مسلم" (¬1)، في فضائل سعد، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - له: "ارمِ فداك أبي وأمِّي". قال المحشِّي: "وفي هذه التفدية إشارة إلى أن أبويه - عليه الصلاة والسلام - معزَّزان عنده، فكيف يقال في حقِّهما ما يقال، عفا الله عنَّا وعمَّن قال". أقول: الذي آذى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما هو الذي يخوض في هذا البحث مع عدم الضرورة إليه. فأما من اضطُرَّ، فقال ما أدَّاه إليه الدليل، فهو معذور. ثمَّ إن قولهم: "فداك أبي وأمي" لا يُقصد بها حقيقتها، كيف وأبواه - صلى الله عليه وسلم - كانا قد ماتا؟ وإنما المقصود بهذه العبارة إظهار محبة المفدَّى. فإن قلت: لعلَّ المراد فَدَياك في الآخرة، كان هذا عكس مراد المحشِّي. والتحقيق ما قلنا، على أنَّ أبوي الرجل عزيزان عنده ولو كانا ... (¬2). وفي "الصحيح" (¬3) زيارته - صلى الله عليه وسلم - قبر أمِّه وما قال حينئذ. وفي "الصحيح" (¬4) أيضًا خبر إبراهيم - عليه السلام - وشفاعته لأبيه يوم القيامة. وقد مرَّ في فضائل عمر تفديته النبي - صلى الله عليه وسلم - بأبيه وأمّه (¬5) مع أنَّهما ماتا ¬

_ (¬1) برقم (2411). (¬2) لم يكمل المؤلف العبارة اكتفاءً بمعرفة القارئ للمراد. (¬3) "صحيح مسلم" (976) من حديث أبي هريرة. (¬4) "صحيح البخاري" (3350) من حديث أبي هريرة. (¬5) الذي في "صحيح مسلم" (2395) أنه فدَّاه بأبيه فقط. وفي رواية البخاري (7023)

في فضائل خديجة

مشركَين، ولم يُنكر عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك، ولا فهم أحد من ذلك أنه احتقر النبي - صلى الله عليه وسلم - لكونه فداه بمشركَين، ولا أنه كان أبواه عزيزين عليه إلى الحدِّ الذي يأباه عليه الإيمان. وقد جاء مثله عن جماعة من الصحابة. والحاصل أن هذه الصيغة انسلخت من معناها كما انسلخ قوله: "تربت يداك" (¬1)، فلا دلالة فيها إلا على محبة النبي - صلى الله عليه وسلم - سعدًا وشكرِه له. والله أعلم. **** في فضائل خديجة (¬2) [عن هشام، عن أبيه، قال: سمعت عبد الله بن جعفر يقول]: سمعت عليًّا بالكوفة يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد". قال أبو كريب: وأشار وكيع إلى السماء والأرض. قال المحشِّي عن النووي (¬3): " ... وأن المراد به جميع نساء الأرض، أي كل مَن بين السماء والأرض مِن النساء. والأظهر أنَّ معناه أن كلَّ واحدة ¬

_ تفديته بهما معًا بلفظ: "أعليك - بأبي أنت وأمي يا رسول الله - أغار؟ ". (¬1) ورد ذلك في عدَّه أحاديث، أشهرها حديث أبي هريرة: "تُنكح المرأة لأربعٍ لمالها ولحسبها وجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك". أخرجه البخاري (5090) ومسلم (1466). (¬2) برقم (2430). (¬3) "شرح النووي" (15/ 198).

منهما خير نساء الأرض. وأمَّا التفضيل بينهما فمسكوت عنه". أقول: بل الظاهر أنه فسَّر الضمير الأول بالسماء والثاني بالأرض. أي خير نساء السماء مريم وخير نساء الأرض خديجة. يعني أن مريم قد توفِّيت ورجعت روحها إلى الجنَّة، والجنَّة في السماء. وأما خديجة فكانت في قيد الحياة. وهذا التفسير من وكيع إنْ كان روايةً فذاك، وإلا فصحَّته تتوقَّف على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال هذا في حياة خديجة - رضي الله عنها -. **** في قصَّة جُريج عند مسلم (¬1): "ولو دَعَتْ عليه أن يُفتَن لَفُتِن". * ففي هذا استجابة الدعاء بالفتنة وجوازه. والله أعلم. ولا بدَّ من تقييده، فلينظرْ. ولعله خاص بالمظلوم على ظالمه المتمادي في ظلمه. ومما يُضعف الإشكال أنه ليس المقصود ظاهر الأمر من إرادة أن يعصي الله تعالى، وإنما المقصود غاية ذلك من العقوبة. فكما يجوز الدعاء على الظالم أن يعذِّبه الله تعالى فقط، يجوز الدعاء بأن يجري له ما هو سبب العذاب ليعذَّب أو يعاقَب. وقد دلَّ القرآن بأن العقوبة على الذنب قد يكون بإيقاع المُذنب في ذنب آخر. فكأنَّ الداعي على الظالم إنما دعا عليه بشيء يجوز أن يكون عقوبة ظلمه. والله أعلم. ومنه دعوة سعد على أبي سعدة: "وعرِّضه للفتن" (¬2)، ودعوة موسى ¬

_ (¬1) برقم (2550/ 7). (¬2) أخرجه البخاري (755) من حديث جابر بن سمرة.

باب تفسير البر والإثم

وهارون - عليه السلام - على فرعون وقومه: {وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس: 88]. ويقاربه الدعاء للمؤمن بالشهادة فإنها تتضمَّن قتل الكافر له. * وفي قصَّة جُريج إثبات الكرامات لغير الأنبياء؛ إذ الظاهر أنه لم يكن نبيًّا. وهي من باب استجابة الدعاء لأن فيها: "فقال: دعوني حتَّى أصلِّي، فصلَّى". * وفيها: "فأَقْبَلوا على جريجٍ يقبِّلونه ويتمسَّحون به" يُستدلُّ به على التبرُّك بغير الأنبياء. * وفي القصَّة ذكر الصبيِّ الذي تكلَّم في المهد لمَّا مرَّ عليه الجبَّار والأَمَة. ففيها أن العادة قد تنخرق للصبيِّ. والله أعلم. **** باب تفسير البرِّ والإثم عن نوَّاس بن سمعان (¬1)، قال: "أقمت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة سنةً، ما يمنعني من الهجرة إلا المسألة، كان أحدنا إذا هاجر لم يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شيء، قال: فسألته عن البر والإثم ... ". قد يُظنُّ أن قوله: "ما يمنعني من الهجرة إلا المسألة" مقلوب، والصواب: ما يمنعني من المسألة إلا الهجرة، والسياق يدلُّ عليه. ¬

_ (¬1) برقم (2553/ 15).

باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها

وليس كذلك؛ لأن النواس لم يهاجر، وإنما وفد إلى المدينة فمكث سنةً ورجع إلى باديته. ومعناه أنه لم يهاجر الهجرة التامّة لئلا تحرم عليه المسألة، بل اختار أن لا يهاجر حتَّى كلَّما عرض له شيء جاء فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه. والله أعلم. **** باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها [عن جبير بن مطعم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال]: "لا يدخل الجنَّة قاطع" (¬1). في "الحاشية" عن "المرقاة" (¬2): " ... أي للرحم أو للطريق، ويدلُّ على الأول إيراده في هذا الباب ... ". أقول: ليس هذا بدليل؛ فإن إيراده في هذا الباب من فعل المصنِّف، وهو يدلُّ أنه فهم ذلك، وفهمه ليس بحجَّة. والصواب أنَّ المراد قاطع الرحم بلا شبهة لِمَا جاء في الرواية الأخرى من التصريح به، ولأن لفظ قاطع إذا أُطلِق فُهم منه قاطع الرحم لا قاطع الطريق. وأيضًا فلفظ القطع في الشريعة جاء غالبًا لقطع الرحم؛ وأما قطع الطريق فجاء بلفظ المحاربة والفساد في الأرض، إلا ما جاء في القرآن في ذِكْر قوم لوط: {وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ} [العنكبوت: 29]. واختُلف في تأويله. ¬

_ (¬1) برقم (2556). (¬2) "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" (4/ 668).

باب النهي عن التحاسد

والمقصود أن مجيء القطع لقطع الرحم أكثر وأشهر. وأيضًا فالوعيد بعدم دخول الجنة قد جاء في الأحاديث في قطع الرحم. والأمر أظهر من هذا. والله أعلم. **** باب النهي عن التحاسد (¬1) [عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال]: "لا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تقاطعوا، وكونوا عباد الله إخوانًا" زاد في رواية: "كما أمركم الله". فيه دليل لتعبير العلماء بقولهم: "خبر بمعنى الأمر" (¬2). والله أعلم. **** في حديث الهجرة أواخر "صحيح مسلم" (¬3) من قول سراقة: "فالله لكما أن أردَّ عنكما الطلب". قال المحشِّي: "معناه فالله ينفعكم بردِّي عنكما الطلب". هـ. أقول: هذا كما ترى. وإنما المعنى: فالله كفيل لكما بأن أردَّ عنكما الطلب. والله أعلم (¬4). ¬

_ (¬1) الحديث برقم (2559/ 24). (¬2) يقصد الشيخ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عنى بقوله: "كما أمركم الله" قولَه تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] مع أنه خبر في اللفظ. (¬3) برقم (2009/ 75) عقب الحديث (3014). (¬4) من (ص 150) إلى هنا من مجموع [4716].

[تعليق على أحاديث من سنن أبي داود]

[تعليق على أحاديث من سنن أبي داود] باب في نسخ المراجعة بعد التَّطليقات الثَّلاث * حدثنا بشر بن هلال، أن جعفر بن سليمان حدثهم، عن يزيد الرِّشْك، عن مُطَرِّف بن عبد الله، أن عمران بن حصين سئل عن الرجل يطلق امرأته ثم يقع بها، ولم يشهد على طلاقها ولا على رجعتها فقال: "طلقتَ لغير سنة وراجعتَ لغير سنة، أشهِدْ على طلاقها وعلى رجعتها ولا تعُدْ" (¬1). أقول: لم يستفصله عمران أطلَّق واحدة أو أكثر؟ فالظاهر أنه كان لا يرى فرقًا في ذلك، ويشبه أن يكون أبو داود أورده في هذا الباب لهذا المعنى لكن ... (¬2). * حدثنا أحمد بن محمد المروزي، حدثني علي بن حسين بن واقد، عن أبيه، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: " {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} الآية [البقرة: 228]، وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثًا، فنسخ ذلك فقال: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] " (¬3). [قال الشيخ معلَّقًا على قوله: "وإن طلقهما ثلاثًا"]: أي ثلاث مرات كما يدل عليه جعلُه سببا لنزول الآية. والله أعلم (¬4). ¬

_ (¬1) برقم (2186). (¬2) بياض في الأصل. (¬3) برقم (2195). (¬4) مجموع [4711].

[تعليق على حديث: "إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه"]

[تعليق على حديث: "إن الله قد أعطى كلَّ ذي حق حقه"] حديث أبي داود وابن ماجه والترمذي (¬1): "إن الله قد أعطى كل ذي حقٍّ حقَّه فلا وصيةَ لوارثٍ" دليل واضح على أن الناسخ لآية الوصية هي آية المواريث المشار إليها بقوله: "إن الله قد آتى كل ذي حقٍّ حقَّه". والحديث إنما هو بيان لما دل عليه القرآن في هذا، فكأن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله قد آتى كل ذي حقٍّ حقَّه" من باب ذكر الملزوم على سبيل الاستدلال، ثم عقَّبه بقوله: "فلا وصية لوارث" بيانًا للازم، أي قد ثبت إيتاء الله كلَّ ذي حق حقه، فلَزِم منه أن لا وصية لوارث، وذلك أن الوصية للوارث إنما شُرعت أولًا لأجل أداء ما لَه من الحق، ثم علم الله تعالى أن ابن آدم لا يمكنه الوفاء بمقتضى الحق لعدم علمه، قال تعالى: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} [النساء: 11]، ففرض المواريث بحكمه كما قال تعالى عقب ذلك: {وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ} [النساء: 12]، أي حالَّة محل الوصية التي أُمرتم بها. والآية واضحة في نسخ آية الوصية، وبيَّنَها الحديث، فكأنه - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن الوصية للوارث إنما شرعت لأداء ما له من الحق، ثم إن الله تعالى فرض لكل ذي حق حقَّه، فلم يبقَ للوصية معنى لأنها إنْ وقعت بمقدار ميراثه كانت تحصيل حاصل، وإن وقعت بأكثر كان فيها زيادة عن حقه الذي علمه الله له ¬

_ (¬1) أبو داود (2870، 3565)، والترمذي (2120)، وابن ماجه (2713) من حديث أبي أمامة. وقد روي من حديث عمرو بن خارجة عند الترمذي (2121) وغيره، ومن حديث أنس عند ابن ماجه (2714) وغيره. والحديث "حسن صحيح" كما قال الترمذي عقب حديث أبي أمامة وحديث عمرو بن خارجة.

وفرضه مِن عنده، مع ما في ذلك من ظلم غيرِه بنقصان أنْصِبائهم، وإن وقعت بأقل كان فيها زيادةُ غيره وظلمُه. ولقائل أن يقول: إن الاستدلال بالحديث على بطلان الوصية لوارث مطلقًا فيه نظر؛ لأنه إنما ورد لبيان نسخ وجوب الوصية كما مرَّ تقريره، وذلك على أن المراد "فلا وصية لوارث" أي واجبة، فبقي الجواز. وأما ما مرَّ من قولنا: لأنها إن وقعت بمقدار ميراثه كانت تحصيل حاصل، فهذا مسلَّم، وأما قولنا: وإن وقعت بأكثر ... إلخ، فهذا منقوض بجواز الوصية للأجنبي فإنه يلزم منها إعطاء الأجنبي ما لا يستحقه، ونقصُ حقوق الورثة، ومع ذلك فهي صحيحة قطعًا. والجواب بالفرق بين إعطاء الأجنبي وبين تفضيل بعض الورثة على بعض، كما يدل عليه حديث الصحيحين (¬1) عن النعمان بن بشير أن أباه أتى به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني نحلتُ ابني هذا غلامًا، فقال: "أكلَّ ولدك نحلتَ مثله؟ " قال: لا، قال: "فأرجعه". وفي رواية (¬2) أنه قال: "أيسرُّك أن يكونوا إليك في البرِّ سواء؟ " قال: بلى. قال: "فلا إذًا". وفي رواية (¬3) أنه قال: أعطاني أبي عطية، فقالت عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تُشْهِد رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فأتى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني أعطيتُ ابني من عمرة بنت رواحة عطية فأمرتني أن أشهدك يا ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2586) و"صحيح مسلم" (1623/ 9). (¬2) "صحيح مسلم" (1623/ 17). (¬3) "صحيح البخاري" (2587)، وبنحوه في "صحيح مسلم" (1623/ 13).

رسول الله، قال: "أعطيتَ سائر ولدك مثل هذا؟ " قال: لا، قال: "فاتقوا الله واعْدِلوا بين أولادكم"، قال: فرجع فرد عطيته. وفي رواية (¬1) أنه قال: "لا أَشهد على جور" هـ. هكذا في "المشكاة" (¬2). وفي "صحيح مسلم" (¬3) عن جابر نحوه، وفي آخره قال: "فليس يصلح هذا، وإني لا أشهد إلا على حق" هـ. والذي يظهر في الوصية للوارث أن مَن قال بحرمة تفضيل بعض الورثة على بعض في العطية يقول به في الوصية. ومَن اقتصر على مجرد الكراهة يلزمه الاقتصار عليها، اللهم إلا أن يقولوا: إن ما كان مكروهًا في صحته، يكون موقوفًا في مرضه؛ كما أن هبته للأجنبي في حال صحته صحيحة مطلقًا ولو في جميع ماله، وفي مرضه صحيحة في الثلث فقط، موقوفة في الباقي. فتأمل. فأما حديث: "لا وصية لوارث" فالظاهر حَمْله على نفي الوجوب كما مرّ. نعم، إن صحت رواية: "لا تجوز وصية لوارث إلا أن يشاء الورثة" (¬4)، كانت دليلًا خاصًّا على منع الوصية لوارث، وإن أمكن حمل نفي الجواز ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2650) و"صحيح مسلم" (1623/ 14، 15). (¬2) (2/ 183). (¬3) "صحيح مسلم" (1624). (¬4) أخرجها الدارقطني: (4/ 152) ومن طريقه البيهقي في "الكبرى": (6/ 263) من طريق عطاء عن عكرمة عن ابن عباس، وعطاء هو الخراساني فيه ضعف. ورواه أبو داود في "المراسيل" (349) عن عطاء عن ابن عباس بنحوه، وهو مرسل. وانظر "البدر المنير": (7/ 269 - 272).

على الكراهة, لأننا نقول: الظاهر من نفي الجواز الحرمة، وهذا بالنسبة إلى حياة الموصي أي فلا يحل له أن يوصي لبعض الورثة إلا إذا استأذن بقيتهم. هكذا ظَهَر لي، ثم فهمت أنَّ "تجوز" ليس من الجواز بمعنى الإباحة ونحوه، بل من الجواز الذي هو النفاذ، أي لا تنفذ إلا إذا شاء الورثة. ثم إن في حديث النعمان بن بشير دليلًا على صحة الوصية للورثة لكلٍّ بمقدار ميراثه، ويكون فائدة الوصية القِسْمة. والله أعلم (¬1). ... ¬

_ (¬1) مجموع [4657].

[تعليق على مواضع من "الموطأ"]

[تعليق على مواضع من "الموطأ"] [باب] العمل في غسل يوم الجمعة قال مالك (¬1) عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل". قال مالك: من اغتسل يوم الجمعة أولَ نهاره وهو يريد بذلك غسل الجمعة (¬2)، فإن ذلك الغسل لا يجزئ عنه حتى يغتسل لرواحه، وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في حديث ابن عمر: "إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل". أقول: ويشهد له قصة عمر في إنكاره على عثمان؛ فإن فيها أن عثمان قال: انقلبت من السوق فسمعت النداء فما زدتُ على أن توضَّأت، فقال عمر: الوضوء أيضًا؟! وقد علمتَ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر بالغسل. ففهم عمر من جواب عثمان أنه لم يغتسل الغسل المأمور به؛ مع أنه إنما يُفهم أنه لم يغتسل قُبَيل مجيئه إلى المسجد، وليس فيه ما يُفهم أنه لم يغتسل أول النهار. والله أعلم. **** ¬

_ (¬1) (1/ 102). (¬2) من: "أول نهاره" إلى هنا تكرَّر في الأصل سهوًا.

"الموطأ" [باب] الزكاة في الدين

" الموطأ" [باب] الزكاة في الدين [قال مالك (¬1)]: "والدليل على الدين يغيب أعوامًا ثم يقتضى فلا يكون فيه إلا زكاة واحدة: أن العروض تكون للتجارة عند الرجل أعوامًا ثم يبيعها فليس عليه في أثمانها إلا زكاة واحدة، وذلك أنه ليس على صاحب الدين أو العروض أن يخرج زكاة ذلك الدين أو العروض من مال سواه وإنما يخرج زكاة كل شيء منه ولا يخرج الزكاة من شيء عن شيء غيره". أقول: قوله: "وذلك أنه ليس" إلخ، لا دلالة فيه؛ لأننا لا نقول يخرجها من مال سواه، بل يخرجها منه عند قبضه عن السنين كلِّها. **** صدقة الخُلَطاء قال مالك (¬2): ولا تجب الصدقة على الخليطين حتى يكون لكل واحد منهما ما تجب فيه الصدقة ... فإن كان لكل واحد منهما ما تجب فيه الصدقة جُمعا في الصدقة ووجبت الصدقة عليهما جميعا (أي بحساب المجموع، فلو كان لكل منهما أربعون فليس عليهما إلا شاة واحدة كما أوضحه بعد ذلك) (¬3) ... وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس فيما دون خمس ذود صدقة". وقال عمر بن الخطاب: "في سائمة الغنم إذا بلغت أربعين شاةً شاةٌ". قال مالك: وهذا أحبّ ما سمعت إليَّ في ذلك. ¬

_ (¬1) (1/ 254). (¬2) (1/ 263 - 264). (¬3) هذا من كلام الشيخ وضعه بين هلالين.

أقول: إن كان قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس فيما دون خمس ذودٍ صدقة" ملحوظًا في كلِّ واحد من الخليطين على حِدَة فليُلحظْ قوله: "وفي خمس وعشرين بنت مخاض" وما بعده كذلك، فلا يبقى حكم للخلطة كما هو مذهب أبي حنيفة. وإن كان قوله: "وفي خمس وعشرين بنت مخاض" وما بعده غير ملحوظ في حقّ كلِّ واحد من الخليطين على حدَة، بل يُنظر إلى المجموع، فليكنْ كذلك في قوله: "ليس فيما دون خمس ذود صدقة". فإذا كان لخليط ناقتان وللآخر ثلاث، فالمجموع خمس ذود ففيها الصدقة، وهذا هو الصواب. وهو مذهب الشافعي رحمه الله تعالى. **** الحمد لله. أمَّا مسألة ضمِّ الماشية المستفادة بنحو ميراثٍ إلى ما قبلها من جنسها إذا كان نصابًا، ففيه نظر. وإنما قاسه مالك رحمه الله (¬1) على الورِق يزكِّيها رجل ثم يشتري بها من رجلٍ عرضًا قد وجبت فيه الزكاة فيزكِّيها البائع من النقد. وهذا القياس مختلٌّ؛ لأن المشتري (¬2) في المقيس عليه لم يزكِّ هذا الورِق الذي أخذه لوجوبها في عينه، بل لوجوبها في ذلك العرض بمرور الحول عليه. ¬

_ (¬1) انظر "الموطأ" (1/ 261). (¬2) كذا في الأصل، ولعل الصواب: البائع.

غاية الأمر أن وجوب إخراجها عن العرض مشروط ببيعه، فليس في هذا وجوب زكاتين في مال واحد باعتبار واحد، بخلاف مسألة ضمِّ الماشية، فإن البائع قد زكَّى المبيع بعينه من حيث وجوب الزكاة في عينه، فكيف يزكِّيه المشتري بعد يوم مثلًا من حيث وجوب الزكاة في عينه أيضًا. وقد قال (¬1): إن المستفاد من النقد بميراث أو نحوه لا يُضمُّ إلى مثله من النقد الأول في حوله، بل يُفرد لكلٍّ حولٌ. ولم يأت بفرق. وأما مسألة الزكاة في الدين الذي مرَّت عليه سنون، فقاسه على العرض الذي يبقى بعينه سنين فلا تجب فيه إلا زكاة واحدة عند بيعه. والظاهر أن هذا القياس صحيح إلا أنَّ من الناس من لا يسلِّم حكم الأصل، بل يقول: على العرض كلَّ عام زكاة. ولو قال قائل في مسألة الدين: إن كان حالًّا وقصَّر في طلبه سنين أو أجَّله بدون طلب من المدين لزمته الزكاة لكلِّ سنة، وإن كان حالًّا ولم يقصِّر في طلبه، أو مؤجَّلا بطلب المدين تأجيلَه فزكاة واحدة = لكان صوابًا إن شاء الله تعالى. بل لو قال قائل: لا زكاة في هذا الأخير مطلقًا = لم يظهر خطاؤه؛ لأن الزكاة إنما هي في مقابل كنز المال أو استثماره، والدائن في هذا الأخير لم يكنز ولم يستثمر بخلاف الأول، فإنه في معنى الكانز. ¬

_ (¬1) انظر "الموطأ" (1/ 252، 266).

ما جاء في الصداق والحباء

ونحو هذا يقال في مسألة العروض: إنَّ المالك إنْ حبس العرض رجاء صعود قيمته فزكاة واحدة. وكذا إن حبسه بعذرٍ كعدم وجود مشترٍ، أو عدم القدرة على تسليمه، أو نحو ذلك. وإلا، فعليه الزكاة لكلِّ سنة لأنه في معنى الكنز، ولعلَّ صاحبه إنما أراد الحيلة على الزكاة. **** ما جاء في الصداق والحِباء (¬1) مالك عن أبي حازم بن دينار عن سهل بن سعد الساعدي: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاءته امرأة فقالت: يا رسول الله إني قد وهبت نفسي لك، فقامت قيامًا طويلًا، [فقام رجل] فقال: يا رسول الله زوِّجنيها إن لم تكن لك بها حاجة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هل عندك من شيء تُصدقها إياه؟ " فقال: ما عندي إلا إزاري [هذا]. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنْ أعطيتَها إياه جلست لا إزار لك، فالتمسْ شيئًا"، فقال: ما أجد شيئًا! قال: "التمس ولو خاتمًا من حديد! "، فالتمس فلم يجد شيئا، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هل معك شيء من القرآن؟ " فقال: نعم معي سورة كذا وسورة كذا لسُورٍ سمَّاها، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قد أنكحتكها بما معك من القرآن". أقول: "هل عندك من شيء تصدقها إياه؟ " صريح في أنه طلب منه ما يكون صداقًا تامًّا، فقوله بعد ذلك: "التمس ولو خاتمًا من حديد" ظاهر في أنه يفي بالمطلوب، وهو الصداق التام. وكذلك قوله بعد ذلك: "هل معك شيء من القرآن؟ " ظاهر في أنها تفي بالمطلوب، أي عند الضرورة. ¬

_ (¬1) "الموطأ" (1/ 526).

ومثله أو أظهر منه قوله: "قد أنكحتكها بما معك من القرآن" فإنه بنفسه ثم بتعيُّن السياق صريح في أنه جعل ما معه من القرآن وافيًا بالمطلوب، وهو الصداق التام. نعم، قلنا في جعل تعليم القرآن صداقًا أنه للضرورة لأدلة أخرى تقتضي منع أخذ الأجرة على تعليم القرآن. فيُمكن أن يقال مثل هذا في خاتم الحديد أنه إنما اكتُفي به للضرورة. ولكن هذا يحتاج إلى دليل، فإذا انتهضت أدلَّة الحنفية أو المالكية في نفسها مع قطع النظر عن هذا الحديث، فالظاهر أنه بمجرَّده لا يردُّها ولكن يخصِّصها بحال الضرورة. والله أعلم (¬1). ... ¬

_ (¬1) من (ص 176) إلى هنا من مجموع [4716].

[تعليقات على أحاديث من "مجمع الزوائد"]

[تعليقات على أحاديث من "مجمع الزوائد"] (¬1) * عن عمران بن الحصين أن أباه الحصين أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أرأيت رجلًا كان يقري الضيف ويصل الرحم، مات قبلك وهو أبوك؟ فقال: "إنَّ أبي وأباك وأنت في النار". فمات حصين مشركًا. طب. رجال الصحيح (¬2). أقول: في الترمذي (¬3) وغيره ما يدلّ أن حصينًا أسلم وعلَّمه النبي - صلى الله عليه وسلم - دعاءً: "اللهم ألهمني رُشْدِي وأَعِذْني من شرّ نفسي". فلعل المراد بقوله: "وأنت" أي أنت الآن ممن تستحق النار إذ كان حينئذ كافرًا، أو إن متَّ على حالك هذه. وأما قوله: "فمات حصين مشركًا" فمن كلام الراوي. **** ¬

_ (¬1) انتقى الشيخ أحاديث كثيرة من "مجمع الزوائد" في المجموع [4656]، وذلك من ص (265) إلى (374). وعلَّق على بعضها وهو ما ذكرناه هنا. وقد جرى في النقل - غالبًا - على الاختصار واستخدام الرموز. وبيانها: (ع): مرفوعًا، (حم): أحمد، (طب): الطبراني في الكبير، (طس): الطبراني في الأوسط، (طص): الطبراني في الصغير, (طبسص): في الثلاثة كلِّها، (بز) البزار، (يع): أبو يعلى، (م): رجاله موثَّقون، (ص): رجاله رجال الصحيح، (ح): إسناده حسن، (ث): رجاله ثقات. (¬2) "مجمع الزوائد" (1/ 117). والحديث في "المعجم الكبير" (18/ 220). (¬3) برقم (3483) وقال: "هذا حديث [حسن] غريب". وأخرجه أحمد (19992) والبزار (3580) وغيرهما. والراجح أنه أسلم. انظر "الإنابة": (1/ 167 - 168) لمغلطاي و"الإصابة": (2/ 162).

* عبد الله بن عمرو (ع): "من مسَّ فرجه فليتوضأ، وأيما امرأة مست فرجها فلتتوضأ". حم، وفيه بقية بن الوليد، وقد عنعنه، وهو مدلس. اهـ (¬1). أقول: في "النيل" (¬2) أنه حدث فقال: حدثني محمد بن الوليد الزبيدي، حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (¬3). **** * الحارث بن سويد: "كان عبد الله يقول: "تجوَّزوا في الصلاة، فإن خلفكم الكبير والضعيف وذا الحاجة". وكنَّا نصلي مع إمامنا الفجر وعلينا ثيابنا، فيقرأ السورة من المئين، ثم ننطلق إلى عبد الله فنجده في الصلاة". طب، رجال الصحيح (¬4). أقول: يريد الحارث أن التجوُّز الذي كان يأمر به إنما هو بالنسبة إلى من يطيلها جدًّا؛ بدليل أنهم كانوا يصلون خلف من يقرأ بالسورة من المئين ثم ينطلقون إليه فيجدونه في الصلاة. وهذا إنما يدل على أنه كان يُسفر بالفجر، بمعنى أنه يطيل الصلاة حتى يسفر، لا أنه كان يؤخرها إلى الإسفار. ويوضحه ما سيأتي في باب (من أم الناس فليخفف) عن إبراهيم بن يزيد التيمي قال: "كان أبي قد ترك الصلاة ¬

_ (¬1) "مجمع الزوائد": (1/ 245). والحديث في "المسند" (7076). (¬2) "نيل الأوطار": (1/ 251). (¬3) رواية الإمام أحمد فيها عنعنة بقيَّة على ما قاله الهيثمي. وقد صرَّح بالتحديث في رواية الدارقطني: (1/ 147) والبيهقي في "الكبرى": (1/ 132). (¬4) "مجمع الزوائد": (1/ 316). والحديث في "الكبير" (9282).

معنا، فقلت له: يا أبت مالك تركت الصلاة معنا؟ قال: إنكم تخففون. قلت: فأين قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن فيكم الضعيف والكبير وذا الحاجة"؟ فقال: قد سمعت عبد الله بن مسعود يقول ذلك، وكان يمكث في الركوع والسجود ثلاثة أضعاف ما تصلون". طبس (م) (¬1). وهذا واضح جدًّا. وكأن الشيخ إنما ذكر حديث الحارث عقب حديث "أسفروا بالفجر" لينبِّه أن المراد إطالتها إلى أن يُسفر، لا تأخيرها إلى الإسفار. وإنما ذكر حديث "أسفروا بالفجر" في المواقيت لأنه مظنَّته فيما يفهمه غالبُ الناس، أو لأن إطالة الصلاة إلى أن يسفر دليل على أن الإسفار من وقتها؛ إذ لا يجوز إطالة الصلاة إلى أنه يخرج الوقت. والله أعلم. **** * [عن] أبي هريرة: أنهم كانوا يحملون اللبن إلى بناء المسجد، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - معهم. قال: فاستقبلت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عارض لبِنةً على بطنه، فظننت أنها شقَّت عليه، فقلت: ناوِلْنيها يا رسول الله، قال: "خذ غيرها يا أبا هريرة فإنه لا عيش إلا عيش الآخرة". حم (ص) (¬2). أقول: هذا بناءٌ غير الأول الذي كان أول الهجرة؛ لأن أبا هريرة إنما هاجر والنبي - صلى الله عليه وسلم - محاصرٌ خيبر. **** ¬

_ (¬1) "مجمع الزوائد" (2/ 73). والحديث في "الكبير" (10507)، و"الأوسط" (7915). (¬2) "مجمع الزوائد" (2/ 9). وانظر "المسند" (8951) وتعليق المحققين عليه.

* معاذ بن رِفاعة عن رجل من بني سَلِمة يقال له: سُلَيم أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إن معاذ بن جبل يأتينا بعد ما ننام ونكون في أعمالنا بالنهار، فينادي بالصلاة فنخرج إليه فيطوِّل علينا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا معاذ بن جبل لا تكن فتّانًا، إما أن تصلي معي وإما أن تخفف على قومك"، ثم قال: "يا سليم ماذا معك من القرآن؟ " قال: إني أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار، والله ما أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وهل تصير (¬1) دندنتي ودندنة معاذ إلا أن نسأل الله الجنة ونعوذ به من النار؟ " قال سليم: سترون غدًا إذا التقى القوم إن شاء الله، قال: والناس يتجهزون إلى أحد فخرج فكان في الشهداء. حم (ث) إلا أن معاذ بن رفاعة تابعي لم يُدرك أُحُد. طب بلفظ: عن معاذ بن رفاعة أن رجلًا من بني سلمة (¬2). * جابر: كان معاذ يتخلف عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكان إذا جاء أَمَّ قومَه، وكان رجل من بني سَلِمة يقال له: سُلَيم يصلي مع معاذ، فاحتبس معاذ عنهم ليلةً، فصلَّى سُليم وحده وانصرف، فلما جاء معاذ أُخبر أن سليمًا صلَّى وحده، فأخبر معاذ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأرسل رسول - صلى الله عليه وسلم - إلى سليم يسأله عن ذلك فقال: إني رجل أعمل نهاري حتى إذا أمسيت، أمسيت ناعسًا فيأتينا معاذ وقد أبطأ علينا، فلما احتبس عليَّ صليتُ وانقلبت إلى أهلي. فقال ¬

_ (¬1) الأصل تبعًا للمجمع: "تعتبر" والمثبت من مسند أحمد. (¬2) "مجمع الزوائد" (باب من أمَّ الناس فليخفِّف) (2/ 71 - 72). والحديث في "المسند" (20699) و"المعجم الكبير" (6391).

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كيف صنعت حين صليت؟ " قال: قرأت بفاتحة الكتاب وسورة ثم قعدت وتشهدت وسألت الجنة وتعوَّذت من النار وصلَّيت على النبي - صلى الله عليه وسلم -[ثمَّ انصرفت]، ولست أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[وقال: "هل أدندن أنا ومعاذ] إلا لندخل الجنة ونعاذ من النار! ". ثم أرسل إلى معاذ: "لا تكن فتانًا تفتن الناس! ارجع إليهم فصلِّ بهم قبل أن يناموا". ثم قال سليم: ستنظر يا معاذ غدًا إذا لقينا العدو كيف نكون أو أكون أنا وأنت. قال: فمرَّ سليم يومَ أُحُدٍ شاهرًا سيفه فقال: يا معاذ تقدم! فلم يتقدم معاذ وتقدَّم سليم فقاتل حتى قُتل، فكان إذا ذكر عند معاذ يقول: إن سليمًا صدق الله وكذب معاذ. بز (ص) خلا معاذ بن عبد الله بن حبيب وهو ثقة لا كلام فيه. ولجابر حديث في "الصحيح" غير هذا (¬1). * بريدة أن معاذ بن جبل صلَّى بأصحابه صلاة العشاء فقرأ فيها {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} فقام رجل من قبل أن يفرغ، فصلى وذهب، فقال له معاذ قولًا شديدًا، فأتى الرجلُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فاعتذر إليه فقال: إني كنت أعمل في نخل وخِفتُ على الماء، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صل بالشمس وضحاها، ونحوها من السور". حم (ص) (¬2). ¬

_ (¬1) "مجمع الزوائد" (باب صفة الصلاة) (2/ 132 - 133). المطبوع من "مسند البزار" ليس فيه مسند جابر بن عبد الله، فانظر للحديث "كشف الأستار" (528). وأصل الحديث في "البخاري" (701، 705) و"مسلم" (465) بغير هذا اللفظ. (¬2) "مجمع الزوائد" (باب القراءة في العشاء الآخرة) (2/ 118 - 119). والحديث في "المسند" (23008).

* جابر بن عبد الله قال: مرَّ حزم بن أبي كعب بن أبي القين بمعاذ بن جبل وهو يصلي بقومه صلاة العتمة، فافتتح بسورة طويلة ومع حزم ناضح له، فتأخر فصلى فأحسن الصلاة ثم أتى ناضحه، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره وقال: يا رسول الله إنه من صالح مَنْ هو منه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تكونن فتَّانًا - قالها ثلاثًا - إنه يقوم وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة والمريض". بز (م). قلت: هو في الصحيح باختصار (¬1). أقول: في المتفق عليه أن السورة البقرة، ولم يُسمَّ الرجل. * جابر بن عبد الله قال: كان أُبَيٌّ يصلي بأهل قباء فاستفتح سورة طويلة، ودخل معه غلام من الأنصار ... (ذكر نحو قصة حزم مع معاذ). يع. وفيه عيسى جارية (¬2) ضعَّفه ابن معين وأبو داود، ووثَّقه أبو زرعة وابن حبَّان. اهـ (¬3). أقول: كأنَّ عيسى كان كثير الخطأ (¬4)، ومن ذلك هذا الحديث؛ فإنه بنفسه حديث جابر في قصة معاذ وحزم، فنقله إلى أبيِّ بن كعب، وكأنه وقع له الخطأ أن حزم هو حزم بن أبي كعب - كما مرّ - فاشتبه عليه بأبيِّ بن كعب ¬

_ (¬1) "مجمع الزوائد" (باب من أمَّ الناس فليخفِّف) (2/ 72 - 73). وانظر "كشف الأستار" (483). (¬2) في الأصل: "حارثة" خطأ. وانظر أقوال النقاد فيه في "تهذيب التهذيب" (8/ 207). (¬3) "مجمع الزوائد" (2/ 72). والحديث في "مسند أبي يعلى" (1798). (¬4) وهو كذلك؛ فقد وصفه ابن معين وأبو داود بأنه يروي مناكير.

[باب في] الرجل يؤم النساء

وبنى عليه ما بنى. وأما حديث معاذ بن رفاعة المار، فهو حديث جابر في قصَّة معاذ مع سُليم. فعند جابر حديثان في شأن معاذ: أولهما: قصَّته مع حزم حيث شرع معاذ بسورة البقرة، ففارقه حزم. وثانيهما: قصته مع سُليمٍ حيث أبطأ معاذ فصلَّى سليم قبل أن يجيء واشتكى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن معاذًا يبطئ عليهم ومع ذلك يطوِّل. وأما حديث بريدة المارّ، [فالظاهر] أنها قصَّة أخرى، وكأنها بعد قصَّة حزم حيث ظنَّ معاذ أن التطويل الذي يشقُّ على الناس إنما هو في نحو قراءة سورة البقرة، فقرأ (اقتربت الساعة). والله أعلم (¬1). **** [باب في] الرجل يؤمُّ النساء * عن جابر بن عبد الله قال: جاء أُبيّ بن كعب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، إنه كان مني الليلة شيء، يعني في رمضان. [قال: وما ذاك] يا أُبَيِّ؟ قال: نسوة في داري قُلْن: إنا لا نقرأ القرآن فنصلي بصلاتك؟ قال: فصليتُ بهن ثمانِ ركعات وأوترت. فكان شِبْه (¬2) الرِّضا، ولم يقل ¬

_ (¬1) وانظر رسالة "إعادة الصلاة" (ص 177 - 178) ضمن مجموع رسائل الفقه؛ فقد جمع الشيخ فيه بين الأحاديث بوجه آخر يخالف ما هنا. (¬2) وقع في الأصل تبعًا لمجمع الزوائد: "فكانت سنة" تصحيف، والمثبت من مصادر الحديث الآتية.

شيئًا. يع طب (¬1) ببعضه (ح) (¬2). * جابر بن عبد الله عن أُبيّ بن كعب قال: جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله عملت الليلة عملًا! قال: "ما هو؟ " قال: نسوة معي في الدار قلن: إنك تقرأ ولا نقرأ، فصلِّ بنا، فصليتُ ثمانيًا والوتر. قال: فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: فرأينا أن سكوته رضا. رواه عبد الله بن أحمد، وفي إسناده من لم يُسمَّ (¬3). [أقول:] وفيه حجة لصلاة التراويح جماعة، وبيان عددها. وفيه تسمية سنة التقرير: سنة الرضا، وأنها حجة. وفيه أيضًا دليل لحقيقة الوتر. **** * عمار: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي، فسلَّمتُ عليه فلم يرد عليَّ. طب (ث). ولعمار عند النسائي: أنه سلم فردَّ عليه. فيكون هذا ناسخًا لذاك. اهـ (¬4). ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، وهو سبق قلم، والصواب "طس". (¬2) "مجمع الزوائد" (2/ 74). والحديث في "مسند أبي يعلى" (1801) و"المعجم الأوسط" (3731). وفي إسناده عيسى بن جارية، ليَّن الحديث. ومع ذلك فقد صححه ابن حبان (2549). (¬3) "مجمع الزوائد" (2/ 74). والحديث في "زوائد مسند أحمد" (21098). (¬4) "مجمع الزوائد" (2/ 81). الحديث ليس في المطبوع من "المعجم الكبير". وحديث ردِّ السلام أخرجه أحمد (18318) والنسائي (1188) وفي "الكبرى" (546). وهو حديث صحيح.

[فوائد من حديث اتخاذ بعض الصحابة الخيطين لمعرفة طلوع الفجر]

أقول: أو لعله ردَّ عليه بالإشارة، ولم يرد عليه بالكلام. فالنفي والإثبات غير واردين على محلٍّ واحد. ويؤيده الحديث الذي عقبه: * عبد الله: مررت برسول الله - صلى الله عليه وسلم -[وهو يصلِّي] (¬1) فسلمت عليه، فأشار إلى. طسص (ص). ولابن مسعود في "الصحيح" أنه سلم عليه فلم يردَّ عليه (¬2). **** [فوائد من حديث اتِّخاذ بعض الصحابة الخيطين لمعرفة طلوع الفجر] الأحاديث في أن بعض الصحابة كان يضع خيطين أبيض وأسود، فيأكل حتى يتبينا (¬3)، تدل على أمور: أحدها: على جواز اجتهاد الصحابة في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبحضرته. ثانيها: أن مثل ذلك الاجتهاد يُعذَر صاحبه وإن أخطأ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمرهم بالقضاء. وربما يدل على سقوط القضاء عمن أكل بعد طلوع الفجر ظانًّا بقاء الليل. ¬

_ (¬1) زيادة من المعاجم الثلاثة. (¬2) "مجمع الزوائد" (2/ 81 - 82). والحديث في "المعجم الكبير" (9783) - ولم يذكره الهيثمي -، و"الأوسط" (5918) و"الصغير" (2/ 27). وأما حديثه الآخر فقد أخرجه البخاري (1199، 3875) ومسلم (538). (¬3) صحَّ ذلك من حديث عدي بن حاتم عند البخاري (1916) ومسلم (1090)، ومن حديث سهل بن سعد عندهما عَقِبَ الحديث السابق.

[شرح حديث "الصوم لي وأنا أجزي به"]

والاحتجاج على وجوب القضاء بوجوب الصيام من طلوع الفجر - كما صنع البيهقي (¬1) - لا وجه له؛ لأنه محمول على العلم، فلا يقاس عليه الجهل. على أن صحة صوم من أكل ناسيًا دليلٌ قوي في المسألة، والله أعلم. بل في آثار الصحابة أنهم كانوا يأمرون من يحول بينهم وبين مطلع الفجر (¬2). ولا وجه لذلك إلا أن يكونوا يرون أن يطعم الإنسان مع الشك في طلوع الفجر، وإن كان سعى بنفسه للاختفاء منه (¬3). **** [شرح حديث "الصوم لي وأنا أجزي به"] حديث: "الصوم لي وأنا أجزي به" (¬4) يُسأل عن معناه وحكمته. فأما حكمته: فقد ذُكرت في الحديث، وهو قوله: "يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي". وذلك أنه يجتمع في الصوم من ترك الشهوات ما لا يجتمع في غيره من العبادات. وأما المعنى: فظاهر حديثِ (¬5) أبي هريرة المتفق عليه - كما في ¬

_ (¬1) في "السنن الكبير" (4/ 216). (¬2) روي ذلك عن أبي بكر - رضي الله عنه -. أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (9022). (¬3) مجموع [4726]. (¬4) أخرجه البخاري (7492) ومسلم (1151) من حديث أبي هريرة. (¬5) الأصل: "حد".

"المشكاة" - أن المعنى أن جزاءه لا يتقيّد بعشرة أمثاله إلى سبعمائة، بل هو موكول إلى فضل الله عزَّ وجلَّ. قال في "المشكاة" (¬1): وعنه (أبي هريرة) قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كل عمل ابن آدم يُضاعَف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به". وقد يُدفع بأحاديث أن صيام ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر، وحديث صوم رمضان وستة أيام من شوال صوم الدهر؛ فإنه مبنيّ على أن الحسنة بعشر أمثالها. لكن يجاب بأن بناءه على الأقل لا يستلزم نفيَ الأكثر، يعني أن الباري سبحانه عزَّ وجلَّ قدّر جزاء الصدقة - مثلًا - بعشر أمثالها إلى سبعمائة، ووَكلَ الصيام إلى فضله، فكان معلومًا أنه لا يجوز أن يكون أقل من عشر، بل لا شك أنه أكثر. فبُني حديث صيام ثلاثة أيام على العشر لأنها محققة قطعًا، وأما ما زاد عنها، وإن كان محقّقًا أيضًا، لكنه دون تحقّق العشر. والله أعلم. وقال ابن عيينة (¬2): إن معنى الحديث أن الأعمال كلها يؤخذ منها جزاء المظالم يوم القيامة إلا الصوم فإنه لا يؤخذ منه، بل إذا فَنِيت أعمال الظالم في جزاء المظالم وبقيت عليه مظالم، فإن الله تبارك وتعالى يقضي الباقي من فضله ويترك له الصوم. ¬

_ (¬1) "مشكاة المصابيح": (1/ 442). (¬2) أخرجه عنه البيهقي في "الكبرى" (4/ 274، 305)، وفي "شعب الإيمان" (3309).

[شرح حديث: "إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ... "]

وهذا المعنى، وإن كان توافقه رواية البخاري (¬1) في التوحيد بلفظ: "يقول الله تعالى: ... الصوم لي وأنا أجزي به والأعمال كفارت" (¬2)، فإن بقية الروايات تدفعه. وأيضًا ففي حديث القصاص الذي في "صحيح مسلم" (¬3): "أَتدرون من المفلس؟ " ذُكِرَ الصيام. ولفظه: "لكل عمل كفارة، والصوم لي وأنا أجزي به، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك" (¬4). **** [شرح حديث: "إن الله حرَّم عليكم عقوق الأمهات ... "] قال في "المشكاة" (¬5) في باب البر والصلة: "وعن المغيرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله حرَّم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنعَ وهات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال" متفق عليه". وفي هذا الحديث دليل على حرمة السؤال للمال، وهو المعني بقوله: "هات". ¬

_ (¬1) برقم (7538). (¬2) هكذا كتب الشيخ الحديث من حفظه أولًا، ثم كتب بعدُ: "ولفظه: لكل عمل كفارة، والصوم لي وأنا أجزي به، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك". (¬3) برقم (2581). (¬4) مجموع [4711]. (¬5) "مشكاة المصابيح" (3/ 65). والحديث في البخاري (2408)، ومسلم (593/ 12).

[معنى حديث: "الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن"]

وأما قوله: "وكثرة السؤال" فالمراد السؤال عن أحوال الناس، وهو ما يقابل الأخبار في "قيل وقال". وفيه دليل استعمال الشارع الكراهة في ما هو دون الحرمة، والمراد بكراهة الأمور الثلاثة ما لم يكن فيها ما يقتضي الوجوب أو الندب أو الحرمة، وإلا فبحسبه والله أعلم (¬1). **** [معنى حديث: "الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن"] الحمد لله. قول ابن شهاب (¬2): "إن قوله - صلى الله عليه وسلم - كما في "الصحيحين" (¬3): "الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق" فيه: أن العلّة هي نصرهم؛ لِمَا قيل: إن تعليق الحكم بالمشتق يؤذِن بعلّيّة ما منه الاشتقاق". وغرضه أنه لا يكون بغضهم علامةً للنفاق إلّا إذا كان من حيث النصر. والجواب: إن قولهم: تعليق الحكم بالمشتق إلخ، إنما هو فيما كان باقيًا على الوصف، وليس لفظ "أنصار" كذلك، فإنه قد غلب استعماله في مؤمني الأوس والخزرج. ¬

_ (¬1) مجموع [4657]. (¬2) كذا رسمها، ولم يتحرر مَن المراد، ولعله "السيد العلوي" المردود عليه في مواضع من هذا المجموع. وانظر (ص 58). (¬3) "صحيح البخاري" (3783) ومسلم (75) من حديث البراء بن عازب.

[الجمع بين أحاديث ذم المبادرة بالشهادة وأحاديث الحث على ذلك]

فقولك: "أعطِ زيدًا الصالح" يفيد التعليل بخلاف قولك: "أعطِ زيدًا القاضي". ومع هذا فلو سلّم إيماء الحديث إلى العلة لكانت علَّةً لثبوت تلك المزيَّة لهم لا علّة للحب والبغض. وهذا واضح لا غبار عليه. نعم، مزيّة أمير المؤمنين عليهم أنه لا يصدق النفاق لمبغضهم إلا إذا أبغضهم جميعًا. فأقيم أمير المؤمنين مُقامَ مجموعهم (¬1). والله أعلم. لأن لفظ الأنصار قد صار كالعَلَم على مجموعهم فلا يُقال: إنه جمع محلّى بأل فيعم. والله أعلم (¬2). **** [الجمع بين أحاديث ذم المبادرة بالشهادة وأحاديث الحث على ذلك] في مسند أحمد (ج 1 ص 18) (¬3) من حديث عمر: "استوصوا بأصحابي خيرًا، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يفشو الكذب، حتى إن الرجل ليبتدئ بالشهادة قبل أن يسألها". أقول: في هذا دلالة أنّ ذمّ الابتداء بالشهادة إنّما أُريد به شهادة الزور؛ لأنّه هنا جعلها غاية لفُشُوِّ الكذب. وإنّما كانت غاية لأن المتوقع من شاهد الزور أن لا يشهد حتى يسأله ¬

_ (¬1) وذلك لِما أخرجه مسلم (78) عن علي - عليه السلام - أنه قال: "والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي - صلى الله عليه وسلم - إليَّ أن لا يحبَّني إلا مؤمن ولا يبغضَني إلا منافق". (¬2) مجموع [4657]. (¬3) برقم (114) ط. الرسالة.

المدَّعي ويبذل له مالاً ونحوه، فيشهد طمعًا في المال. فإذا صار الناس بحيث يبادرون بشهادة الزور لغير غرض، فذلك نهاية فشوِّ الكذب. وعلى هذا، فلا معارضة بين أحاديث الابتداء بالشهادة قبل السؤال (¬1). والله أعلم (¬2). **** قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الولاء لمن أعتق" (¬3) لا يعارضه قوله: "لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم" (¬4) أو كما قال؛ لأن الحديث الأول إنما هو في إثبات الولاء لا في إثبات الوراثة به. وحينئذ فكلٌّ من الحديثين على عمومه، والولاء ثابت للكافر لعموم الأول، ولا يرث به لعموم الثاني. ويؤيِّده القياس الجلي؛ لأن الولاء أضعف من النسب بدليل تقديم الوارث بالنَّسَب على المولى، فإذا منع الكفرُ الإرثَ بالنّسَب فلأَن يمنعه بالولاء أولى. والله أعلم (¬5). **** ¬

_ (¬1) كحديث زيد بن خالد الجهني عند مسلم (1719) بلفظ: "ألا أخبركم بخير الشهداء؟ الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها". (¬2) مجموع [4719]. (¬3) أخرجه البخاري في مواضع كثيرة أوَّلها برقم (456)؛ ومسلم (1504) من حديث أم المؤمنين عائشة - عليها السلام -. (¬4) أخرجه البخاري (4283) ومسلم (1614) من حديث أسامة بن زيد - رضي الله عنه -. (¬5) مجموع [4716].

في حديث فاطمة بنت قيس (¬1): وأمرها أن تعتدَّ في بيت أم شريك ثم قال: "تلك امرأة يغشاها أصحابي، اعتدِّي عند عبد الله بن أمِّ مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك عنده". إن كان هذا بعد نزول الحجاب، ففيه دلالة على أن التشديد في الحجاب خاصٌّ بأمهات المؤمنين (¬2). **** عن حمزة بن عمر الأسلمي أنه قال: يا رسول الله، إني أجد بي قوة على الصيام في السفر، فهل عليَّ جُناح؟ قال: "هي رخصة من الله عزَّ وجلَّ، فمن أخذ بها فحسن، ومن أحبّ أن يصوم فلا جناحَ عليه" رواه مسلم (¬3). يُسْتَدلُّ به على عدم وجوب القصر في السفر؛ لقوله: "فمن أحب" بالفاء الدالة على السببيَّة. فليتأمّل (¬4). **** يُستدلُّ بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن كنت عبد الله فارفع إزارك" (¬5) على عدم دلالة ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1480/ 36) وغيره. (¬2) مجموع [4716]. (¬3) (1121/ 107). (¬4) مجموع [4657]. (¬5) أخرجه أحمد (6263، 6340) وغيره. وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (5/ 123): "أحد إسنادي أحمد رجاله رجال الصحيح".

نحو قوله: "من كان يؤمن بالله ... " إلخ (¬1) على كفر مَن لم يصنع المعلَّق. والله أعلم (¬2). **** الحمد لله. حديث البراء أن آخر سورة نزلت كاملة براءة، وآخر آية نزلت آية الكلالة آخرَ سورة النساء (¬3). أحسبه - والله أعلم - أراد آخر آية نزلت مفرَدة، فلا ينفي أن يكون نزل بعدها آيات أخرى، ولكن مثنى فصاعدًا. والله أعلم (¬4). **** الحمد لله. حديث الشافعي (¬5) عن عروة أنه قال: "إذا رأى أحدكم البرق أو الوَدْقَ ¬

_ (¬1) ورد ذلك في عدة أحاديث أشهرها حديث أبي هريرة عند البخاري (6018) ومسلم (47) بلفظ: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره ... " الحديث. (¬2) مجموع [4657]. (¬3) أخرجه البخاري (4364) ومسلم (1618). (¬4) مجموع [4716]. (¬5) في "الأم" (2/ 557 ط. دار الوفاء) من طريق: "من لا أتَّهم قال: حدثنا سليمان بن عبد الله عن عروة". وشيخ الشافعي هو إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي، كما جاء مصرَّحًا في "مصنف عبد الرزاق" (4917). وهو متروك، إلا أنه تابعه ابن =

فلا يشر إليه". لعل السلف - والله أعلم - كرهوا الإشارة إلى المطر فرارًا من التشبه بقوم هود إذ قالوا: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24] (¬1). **** قوله في دعاء الاستسقاء: "دائمًا إلى يوم الدين" (¬2). الظاهر أن المراد الدوام المنقطع بحسب الحاجة (¬3) (¬4). **** قوله - صلى الله عليه وسلم - في آلة الحرث (¬5): "ما دخل هذا بيت قوم إلا دخله الذلّ" لا ¬

_ = إسحاق عند أبي داود في "المراسيل" (525) بمعناه. وروي النهي عن الإشارة إلى السحاب أيضًا من مُرسل التابعي الثقة عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين القرشي. أخرجه أبو داود في "المراسيل" (526). (¬1) مجموع [4657]. (¬2) جاء الدعاء في الاستسقاء بلفظ "دائمًا" عند الطبراني في "الأوسط" (7619) و"الدعاء" (2179) من حديث أنسٍ - رضي الله عنه - في دعاء طويل. ومن حديث ابن عمر مرفوعًا أخرجه البيهقي في "معرفة السنن والآثار": (3/ 100). وأما اللفظ الذي ذكره المؤلف "دائمًا إلى يوم الدين" فذُكر في بعض كتب الشافعية المتأخرة. انظر "حاشية الجمل على شرح منهج الطلاب" (2/ 121)، و"شرح الغزي على التقريب": (1/ 449 - مع حاشية البيجوري). (¬3) وهذا ما صرَّح به البيجوري في "حاشيته على شرح الغزي": (1/ 450). (¬4) مجموع [4657]. (¬5) أخرجه البخاري (2321) بنحوه.

يقتضي ذمّها شرعًا، وإنّما هو مثل قوله في الولد: "مَجْبَنة مَبْخَلة" (¬1) (¬2). **** "المستدرك" (ج 2 ص 167 - 166): عن أبي موسى مرفوعًا: "تُستأمر اليتيمة في نفسها، فإن سكتت فهو رضاها، وإن كرهت فلا كره عليها". وفي "تلخيصه" حديث آخر سقط من المستدرك، وهو: عن أبي هريرة مرفوعًا: "تُستأمر اليتيمة في نفسها، فإن أبت فلا جواز عليها". أقول: مفهوم قوله: "اليتيمة" أن ليس على الأب استئذان ابنته، ولكن قد وردت أحاديث بخلافه. فلتُنظر إن شاء الله تعالى (¬3). **** ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (17562)، وابن ماجه (3666) والطبراني في "الكبير" (2587) من حديث يعلى العامري. وفيه إسناده سعيد بن أبي راشد، لم يوثِّقه غير ابن حبَّان. وله شاهد من حديث أبي سعيد عند أبي يعلى (1032) بإسناد ضعيف فيه عطية العوفي. وشاهد آخر من حديث الأشعث بن قيس عند الطبراني في "الكبير" (650) والبيهقي في "شعب الإيمان" (10551)، وإسناد كليهما ضعيف. وشاهد من حديث عمر بن عبد العزيز عن خولة بنت حكيم، أخرجه أحمد (27314) والترمذي (1910) وقال: لا نعرف لعمر بن عبد العزيز سماعًا من خولة. فالحديث حسن بشواهده. (¬2) مجموع [4719]. (¬3) مجموع [4720].

[تعليق على "مقدمة الفتح" حول رواية الحسن عن أبي بكرة]

[تعليق على "مقدمة الفتح" حول رواية الحسن عن أبي بكرة] (ص 370) (¬1): حديث (69): الحسن عن أبي بكرة، وكذا في حديث (59) (¬2)، وحديث (12) (¬3). وقال في حديث (59): "والبخاري إنما اعتمد رواية أبي موسى عن الحسن أنه سمع أبا بكرة. وقد أخرجه مطولًا في كتاب الصلح (¬4)، وقال في آخره: قال لي علي بن عبد الله: إنما ثبت عندنا سماع الحسن من أبي بكرة بهذا الحديث". اهـ. يقول كاتبه: فعلى هذا فيسقط اعتراض الدارقطني في هذا الحديث فقط، ويبقى في بقية الأحاديث التي رواها البخاري من طريق الحسن عن أبي بكرة ولم يصرِّح الحسن بالسماع، مع أن الحسن كان يدلِّس (¬5). **** [تعليق على مواضع من "فتح الباري"] في "الفتح" (¬6)، في الطهارة، في "باب [البول] في الماء الدائم": ¬

_ (¬1) "هدى الساري" (ص 371) ط. السلفية. (¬2) (ص 367). (¬3) (ص 354). (¬4) برقم (2704). (¬5) مجموع [4711]. (¬6) (1/ 347 - 348).

"واستدل به (¬1) بعض الحنفية على تنجيس الماء المستعمل ... وهذا من أقوى الأدلة على أن المستعمل غير طهور ... ولا فرق في الماء الذي لا يجري في الحكم المذكور بين بول الآدمي وغيره خلافًا لبعض الحنابلة ولا بين أن يبول في الماء أو يبول في إناء ثم يصبه فيه خلافًا للظاهرية. وهذا كله محمول على الماء القليل عند أهل العلم على اختلافهم في حد القليل. وقد تقدم قول من لا يعتبر إلا التغير وعدمه، وهو قوي، لكن الفصل بالقلتين أقوى لصحة الحديث فيه. وقد اعترف الطحاوي من الحنفية بذلك، لكنه اعتذر عن القول به بأن القُلّة في العرف تطلق على الكبيرة والصغيرة كالجرة، ولم يثبت من الحديث تقديرهما فيكون مجملًا فلا يُعمل به، وقوّاه ابن دقيق العيد، لكن استدل له غيرهما؛ فقال أبو عبيد القاسم بن سلام: المراد القُلّة الكبيرة إذ لو أراد الصغيرة لم يحتج لذكر العدد؛ فإن الصغيرتين قدر واحدة كبيرة. ويرجع في الكبيرة إلى العُرْف عند أهل الحجاز. والظاهر أن الشارع - عليه السلام - ترك تحديدهما على سبيل التوسعة، والعلم محيط بأنه ما خاطب الصحابة إلا بما يفهمون، فانتفى الإجمال. لكن لعدم التحديد وقع الخلف بين السلف في مقدارهما على تسعة أقوال حكاها ابن المنذر. ثم حدث بعد ذلك تحديدهما بالأرطال واختلف فيه أيضًا. ونقل عن مالك أنه حمل النهي على التنزيه فيما لا يتغير، وهو قول الباقين في الكثير. وقال القرطبي (¬2): يمكن حمله على التحريم مطلقًا على قاعدة سد الذريعة؛ لأنه يفضي إلى تنجيس الماء". ¬

_ (¬1) أي بالنهي عن اغتسال الجنب في الماء الدائم. [المؤلف]. (¬2) في "المفهم": (1/ 542).

يقول كاتبه - عفا الله عنه -: الظاهر ما قاله القرطبي؛ وبيانه: أن أحكام الشارع عامَّة، فلو أبيح البول في الماء الدائم لأبيح للناس جميعًا. ولو كان ذلك، لم يَقتصر على البول فيه إنسان واحد مرَّة واحدة، بل يكون معرَّضًا لأن يتوارد على البول فيه كلُّ واردٍ مرارًا (¬1) كثيرة. ولا سيَّما والناس يعتادون الاغتسال، وإذا نزل الإنسان في الماء عرض له البول عادة، بل كثيرًا ما يعرض البول للإنسان بمجرَّد رؤيته الماء. ونحن نرى الحكومات في البلاد المنظَّمة تشدِّد في النهي عن البول في الشوارع، وتعاقب من يبول، وإن كان واحدًا، مع العلم أنه ببوله لا يحصل المحذور الذي كان التشديد لأجله، وهو تقذُّر الشوارع. ثم إن تعيينهم العلَّة بأنَّها خوف التنجُّس = فيه نظر؛ فقد يقال: هي خوف التقذُّر. وتقذير الماء حرام؛ لأنه إن كان مِلْك المقذِّر ففيه إضاعة المال أو الإضرار بالنفس؛ كيف والفقهاء يحرِّمون تناولَ نحو المخاط. وإن كان ملكَ غيره، فتقذيره ظلم. وقد يقال: هي خوف الإضرار؛ فإن البول كثيرًا ما يحتوي على جراثيم ضارَّة. وإدخال الضرر في الماء حرام كما مرَّ في التقذير. وإذا كانت العلل الثلاث محتملة فتعيين بعضها يحتاج إلى دليل. فالذين رجَّحوا الأولى رأوا أنها أقرب إلى التفات الشارع إليها، بدليل قلَّة تفصيله للسُّمِّيَّات والمضرَّات والمستقذرات. ¬

_ (¬1) في الأصل: "مرار" سهو.

وقد يُردُّ هذا بأن الأشياء التي جاءت الإشارة الشرعية إلى أنها سامَّة أو ضارَّة أو مستقذرة تفوق عدد النجاسات، وإنما لم يستوعبها الشارع لأن للناس إلى معرفتها سبيلًا من غير الشرع. أما السُّمِّيَّات والمضرَّات فبالتجارب وإخبار الأطباء. وأما المستقذرات فظاهر. وقد وجدناه نصَّ على كثير من السُّمِّيات والمضرَّات، وذلك فيما الحاجة دعت إليه؛ إما لعموم وجوده وجهل أصحابه بسُمِّيته أو مضرَّته كنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن النفخ في الشراب والطعام، وإما لتهاون الناس به لاعتيادهم له. بل يرى بعض العقلاء من المسلمين أن غالب الأشياء التي حرَّمها الشرع إنما حرَّمها لضرر فيها. إذا تقرَّر هذا، فالبول في الماء مما يعتاده الناس ويألفونه. وقد قدَّمنا ما يوضح ذلك. وكانوا يجهلون مضرَّته حينئذ أصلًا. ولو فُرض شعورهم بضرره في الجملة، فربما يرى أحدهم الماء الكثير فيرى أنَّ بوله مرَّة لا يضر بأحد، ولا يتنبَّه إلى أن جواز بول الواحد مرَّة واحدة يلزمه جواز بول جميع الناس دائمًا كما تقدَّم. ولا سيما إذا كانت العادة أن ذلك الماء لا يُشرب منه لظنِّهم أن الضرر إنما يصل إلى البدن بالأكل، ولا يشعرون بأن من الجراثيم ما يضرُّ بمجرَّد اتصاله بجرح أو بالأنف أو العين ونحو ذلك. وهكذا قُل في التقذير؛ فقد يرى أن بوله مرَّة واحدة لا يقذِّر. وبعض الناس - ولو علم الضرر والقذر - قد يتهاون بحقِّ غيره. فعلى هذا فينبغي التماس مرجِّح غير ما تقدَّم، وإلا فلا يحتج بالحديث في تنجُّس ولا عدمه. وربما يرجَّح الضرر بأنه أقرب إلى دخول أغلب أفراد

الماء الدائم في معنى الحديث، وذلك أقرب إلى إطلاقه؛ لأن الماء كثيرًا ما يبلغ في الكثرة إلى حدٍّ لا يتنجَّس معه، وربَّما يبلغ إلى حدٍّ لا يتقذَّر معه، فأما بلوغه إلى حدٍّ لا يحتمل إضرار البول فيه فأقلُّ من ذلك. ولكن ربما يدفع هذا بما قدَّمناه من احتمال أن يكون الشارع نظر إلى أن عدم النهي عن البول مطلقًا يؤدِّي إلى (¬1) أن يكثر البول من كثير من الناس بحيث يغيِّر الماء الكثيرَ فينجِّسه، إلا أن يقال: إن الماء قد يبلغ في الكثرة إلى حدٍّ لا يحتمل التغير بالبول فيه، وإن كثُر، ما دامت الكثرةُ إلى حدٍّ يُحتمل عادةً. فأما ما لا يحتمل عادةً فلا وجه لمراعاة الشارع إيَّاه. وعلى فرض تسليم أنَّ العلَّة هي التنجُّس، فإمَّا أن يدَّعى أن ظاهره أن البولة الواحدة تنجِّس الماء، وإمَّا أن يقال: ظاهره أن البول في الماء قد ينجِّسه فيصدق بذلك وبما إذا كثر بول الناس فيه. والنهي صالح للأمرين وربما يرجَّح الأول بقوله: "لا يبولَنَّ أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه" (¬2) بنصب (يغتسلَ). ولكن المعروف في الرواية الضم، ومنع بعضهم النصب عربيةً أيضًا؛ انظر "الفتح" (¬3). ويرجِّح الثاني إطلاق الماء، فلم يقيَّد بقلَّة ولا كثرة مع اتفاقهم على أنَّ الكثير لا ينجس إلا بالتغيُّر، وإن اختلفوا في حدِّ الكثير. وحَمْل الدليل على ما يسلم معه من التقييد والتخصيص أصلًا - أو من ¬

_ (¬1) في الأصل: "إلا" سبق قلم. (¬2) "صحيح البخاري" (239)، وبنحو في "صحيح مسلم" (282) من حديث أبي هريرة. (¬3) (1/ 347).

كثرتهما - أولى من حمله على خلاف ذلك كما مرَّ. هذا بحثنا كلُّه في شأن البول، وبقي شأن اغتسال الجنب. فقد يقال: إنه لا يحتمل التعليل بالاستقذار والإضرار؛ إذ لا يناسب التعليلَ بأحدهما التقييدُ بالجنب؛ فإن الاغتسال في الماء ربما يقذِّره أو يبث فيه ضررًا مطلقًا، سواءٌ أكان المغتسل جنبًا أم لا. وهذا قوي. وقد سمعت من يعتذر عنه بأن الناس يستقذرون الماء الذي اغتسل فيه الجنب أشدَّ من استقذارهم الماء الذي اغتسل فيه غيره، وباحتمال أن يكون اغتسال الجنب أشدَّ ضررًا من اغتسال غيره؛ لاحتمال أن يكون في العرق والوسخ الذي ينفصل عن الجنب ضرر خاص، كما يرمز إليه إيجاب الغسل عليه، مع ما عُلم أن أحكام الشرع مبنيَّة على مصالح البشر. فلا شك أنَّ الغسل من الجنابة من حكمته جلبُ مصلحة للجنب أو إزالةُ ضررٍ عنه، ويحتمل أن يكون في انغماسه - أعنى الجنب في الماء - إضرار (¬1) بصحَّته؛ لأن الأجزاء التي تنفصل عنه تبقى مدَّة مجاورةً لبدنه مع انفتاح مسامِّه، بخلاف البخاري فإنه وإن انغمس فيه فإن الماء يتجدَّد. ولعلَّك ترى هذا تعسُّفًا أو قريبًا منه إلا أنه تؤيَّده الأدلة الظاهرة في جواز التطهُّر بالماء الذي اغتسل فيه الجنب. نعم، أدلَّة عدم تنجُّسه أكثر وأظهر من أدلَّة بقاء طهوريَّته (¬2). **** ¬

_ (¬1) الأصل: "إضرارا" سبق قلم. (¬2) مجموع [4716].

باب [من قال]: لا يقطع الصلاة شيء

باب [من قال]: لا يقطع الصلاة شيء (¬1) " وقد اختلف العلماء في العمل بهذه الأحاديث، فمال الطحاوي وغيره إلى أن حديث أبي ذر (¬2) وما وافقه منسوخ بحديث عائشة (¬3) وغيرها، وتُعقِّب بأن النسخ لا يُصار إليه إلا إذا عُلم التاريخ وتعذَّر الجمع، والتاريخ هنا لم يتحقق والجمع لم يتعذر. ومال الشافعي وغيره إلى تأويل القطع في حديث أبي ذر بأن المراد به نقص الخشوع لا الخروج من الصلاة، ويؤيد ذلك أن الصحابي راوي الحديث سأل عن الحكمة في التقييد بالأسود فأجيب بأنه شيطان. وقد علم أن الشيطان لو مر بين يدي المصلي لم تفسد صلاته كما سيأتي في "الصحيح" (¬4): "إذا ثوِّب بالصلاة أدبر الشيطان، فإذا قضي التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه" الحديث، وسيأتي في باب العمل في الصلاة حديث: "إن الشيطان عرض لي فشد عليَّ" (¬5) الحديث. ¬

_ (¬1) "فتح الباري" (1/ 589). (¬2) بلفظ: "إذا قام أحدكم يصلي فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل آخرة الرحل، فإذا لم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل فإنه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود". أخرجه مسلم (510) وغيره. (¬3) وهو حديث الباب برقم (514) ولفظه: "عن عائشة: ذكر عندها ما يقطع الصلاة - الكلب والحمار والمرأة - فقالت: شبَّهتمونا بالحمر والكلاب! والله لقد رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي وإني على السرير بينه وبين القبلة مضطجعة، فتبدو لي الحاجة فأكره أن أجلس فأوذي النبي - صلى الله عليه وسلم - فأنسلُّ من عند رجليه". (¬4) برقم (608). (¬5) برقم (1210) من حديث أبي هريرة.

وللنسائي (¬1) من حديث عائشة: "فأخذته فصرعته فخنقته". ولا يقال قد ذكر في هذا الحديث أنه جاء ليقطع صلاته؛ لأنا نقول: قد بيَّن في رواية مسلم (¬2) سبب القطع، وهو أنه جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهه، وأما مجرد المرور فقد حصل ولم تفسد به الصلاة. وقال بعضهم: حديث أبي ذر مقدم؛ لأن حديث عائشة على أصل الإباحة. انتهى. وهو مبني على أنهما متعارضان، ومع إمكان الجمع المذكور لا تعارض. وقال أحمد: يقطع الصلاة الكلب الأسود، وفي النفس من المرأة والحمار شيء. ووجَّهه ابنُ دقيق العيد وغيره بأنه لم يجد في الكلب الأسود ما يعارضه، ووجد في الحمار حديث ابن عباس (¬3) ... ووجد في المرأة حديث عائشة ... ". يقول كاتبه: أما النسخ فلا وجه له لإمكان الجمع كما سيأتي. وأما تأويل القطع بنقص الخشوع فضعفه بيِّن؛ أولا: لمخالفته الظاهر. وثانيًا: أنه لا اختصاص لنقص الخشوع بهذه الأشياء، بل ربما ينقص الخشوع بغيرها أكثر مما ينقص ببعضها. وثالثًا (¬4): تقييد الكلب بالأسود وتعليله بأنه شيطان. ورابعًا: قد ثبت أن السُّترة تمنع القطع مع أنها لا تمنع نقص الخشوع إذا ¬

_ (¬1) في "السنن الكبرى" (11375). (¬2) برقم (542) من حديث أبي الدرداء. (¬3) أخرجه البخاري (493) ومسلم (504). (¬4) الأصل: "وثانيًا"، سبق قلم.

كانت حَرْبة مثلًا، فكيف إذا كانت خطًّا - لو صحَّ حديثه (¬1) -؟ وأما كون الشيطان لا يقطع الصلاة مطلقًا فلا دليل عليه؛ فإنه من الجائز أن يقول الشارع: يقطعها إذا مرَّ وكان يمكن المصلِّي منعُه بلا مشقَّة، ولا يقطعها فيما عدا ذلك. فالذي يجيء بعد التثويب بالصلاة لا يقدر المصلِّي على منعه، وكذا الذين يدخلون من الفُرَج كأنهم الخذف، فإنه تكثر المشقة في دوام إلصاق المصلِّي رجليه برجلَي رفيقه، مع احتمال أن يجاب عن هذا بأن سترة الإمام سترة من خلفه كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى. وأما الشيطان الذي عرض للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فكان بغير تقصير من النبي - صلى الله عليه وسلم - في الاحتراز، بل دفعه حتَّى ردَّه خاسئًا كما في الحديث. ومجيء الشيطان بالشهاب من النار يحتمل أنه أراد أن يخوِّف النبي - صلى الله عليه وسلم - به لعلَّه يشتغل عن دفعه. والظاهر أن ذلك الشهاب تخييل، لا أنَّ هناك شهاب (¬2) حقيقة بحيث لو أصاب لأحرق. والله أعلم. وقد يقال: إن القاطع هو المرور، ولم يجئ في الحديث أن الشيطان مرَّ من جانب إلى آخر، وإنما فيه أنَّه وُجِد أمام النبي - صلى الله عليه وسلم - فردَّه خاسئًا. وأما حديث ابن عبَّاس في قصَّة الأتان فواقعة حال تحتمل عدَّة وجوه: ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (7392)، وأبو داود (689)، وابن خزيمة (811)، وابن حبان (2361). وفيه أبو عمرو بن محمد بن حريث، وهو مجهول. وقد قال الإمام أحمد - كما في ترجمة أبي عمرو في "تهذيب التهذيب" (12/ 181) -: [حديث] الخطِّ ضعيف. (¬2) كذا في الأصل، والوجه النصب.

فيحتمل أنه تركها بين يدي بعض الصف بعيدًا عنهم بحيث يكون أبعد من سترتهم - أعني النبي - صلى الله عليه وسلم - أو سترته، على الخلاف في ذلك. ويحتمل ما مال إليه البخاري أنَّ سترة الإمام سترة من خلفه (¬1)، أو أنَّ الإمام نفسه سترة من خلفه. وليس فيها أنها مرَّت قاطعة أوسط الصف بحيث تعدُّ قاطعة للسترة، بل الحديث ظاهر في عدم ذلك. وأما المرأة فحديث عائشة، قد ذكر في "الفتح" بعد هذا احتمالات فيه، فقال (¬2): "وجه الدلالة من حديث عائشة الذي احتجَّ به ابن شهاب أن حديث "يقطع الصلاة المرأة" إلخ يشمل ما إذا كانت مارَّة أو قائمة أو قاعدة أو مضطجعة، فلما ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - صلَّى وهي مضطجعة أمامه دل ذلك على نسخ الحكم في المضطجع، وفي الباقي بالقياس عليه. وهذا يتوقف على إثبات المساواة بين الأمور المذكورة، وقد تقدم ما فيه (¬3). فلو ثبت أن حديثها متأخر عن حديث أبي ذر لم يدل إلا على نسخ الاضطجاع فقط. وقد ¬

_ (¬1) وذلك حين بوَّب بذلك على حديث ابن عباس (493). (¬2) "الفتح" (1/ 590). (¬3) يعني قوله قبل ذلك [1/ 589]: "استدل به (يعني بقول عائشة: فتبدو لي الحاجة فأكره أن أجلس فأوذي النبي - صلى الله عليه وسلم - فأنسل من عند رجليه) على أن التشويش بالمرأة وهي قاعدة يحصل منه ما لا يحصل بها وهي راقدة، والظاهر أن ذلك من جهة الحركة والسكون، وعلى هذا فمرورها أشد. وفي النسائي ... : "فأكره أن أقوم فأمر بين يديه، فأنسل انسلالا". فالظاهر أن عائشة إنما أنكرت إطلاق كون المرأة تقطع الصلاة في جميع الحالات، لا المرور بخصوصه". [المؤلف]

نازع بعضهم في الاستدلال به مع ذلك من أوجه أخرى: أحدها: أن العلة في قطع الصلاة فيها (بها) (¬1) ما يحصل من التشويش، وقد قالت: إن البيوت يومئذ لم يكن فيها مصابيح، فانتفى المعلول بانتفاء العلة. ثانيها: أن المرأة في حديث أبي ذر مطلقة وفي حديث عائشة مقيدة بكونها زوجته، فقد يُحمل المطلق على المقيد، ويقال: بتقييد القطع بالأجنبية لخشية الافتتان بها بخلاف الزوجة فإنها حاصلة. ثالثها: أن حديث عائشة واقعةُ حالٍ يتطرق إليها الاحتمال، بخلاف حديث أبي ذر فإنه مسوق مساق التشريع العام، وقد أشار ابن بطال إلى أن ذلك كان من خصائصه - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه كان يقدر مِن مَلْك إربه على ما لا يقدر عليه غيره. وقد قال بعض الحنابلة: يعارض حديث أبي ذر وما وافقه أحاديث صحيحة غير صريحة وصريحة غير صحيحة، فلا يُترك العمل بحديث أبي ذر الصريح بالمحتمل، يعني حديث عائشة وما وافقه. والفرق بين المار وبين النائم في القبلة أن المرور حرام بخلاف الاستقرار نائمًا كان أم غيره، فهكذا المرأة يقطع مرورها دون لُبثها". يقول كاتبه: الذي يظهر لي أنَّ القاطع إنما هو مرور الشيطان؛ وعلى ذلك أدلَّة: 1. قد عُلِّل تخصيص الكلب بالأسود بأنه شيطان. وسواءٌ قلنا: إن المراد أنه شيطان حقيقةً أو غير ذلك = فالدلالة ظاهرة. ولعلَّ الأظهر أن بين الكلب الأسود وبين الشيطان مناسبة، ومروره بين يدي المصلِّي ظاهر في أن الشيطان معه وأنَّه هو الذي حمله على ذلك. ¬

_ (¬1) كتبه الشيخ مستظهرًا الصواب، وهو كذلك في ط. السلفية.

2. قد صحَّ في الحمار أنه إذا صاح فإنه رأى شيطانًا (¬1)، فالكلام فيه كالكلام في الكلب. 3. المرأة قد جاء أنها تُقبل بصورة شيطان (¬2). فالكلام عليها كما مرَّ. نعم، كونها تقبل بصورة شيطان إنما هو بالنظر إلى الأجنبيَّة. وعلى هذا، فلا تدخل الزوجة؛ لأن الشيطان لا فائدة له من صحبتها للفتنة. وهذا هو بعض الاحتمالات في حديث عائشة. وعليه فقد يقاس عليها المحارم والصغار. فأما الصغار فإنه يساعده أحاديث أُخر. وأما المحارم ففيه نظر. وتُستثنى الزوجة الحائض، لأن للشيطان فائدةً بفتنة زوجها بها. والأقرب عدم استثناء الزوجة غير الحائض لأن العلة ليست خوف الفتنة، وإنما هي مرور الشيطان. فقد دلَّ حديثُ "إن المرأة تُقبل بصورة شيطان" على مناسبة بين المرأة والشيطان. فلا يدل الأمن من افتتان زوجها بها على مفارقة الشيطان لها؛ فإنَّ غرضه هنا المرور أمام المصلِّي ليقطع صلاته، وهذا حاصل وإن كانت زوجه طاهرًا. 4. جاء في تعليل الأمر بدفع المارِّ: "فإنه شيطان" (¬3). وفي رواية (¬4): ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3303) ومسلم (2729). (¬2) أخرجه مسلم (1403). (¬3) أخرجه البخاري (509) ومسلم (505) من حديث أبي سعيد الخدري. (¬4) أخرجه مسلم (506) من حديث ابن عمر.

كتاب البيع، باب: {وإذا رأوا تجارة}

"فإن معه القرين". فإن قيل: فقضية هذا أن الرجل يقطع الصلاة أيضًا. فالجواب: أن لفظ الحديث: "فإنْ أبى فلْيقاتله؛ فإنه شيطان" - "فإن معه القرين". فالمقصود - والله أعلم - الآبي، أي أنَّ إباءه إلا أن يمرَّ يجعل حكمه حكم الشيطان، ويدلُّ أن القرين معه، وأنه الحامل له على الإصرار على هذا الفعل المحرَّم، بخلاف من مرَّ بدون شعور منه أو من المصلِّي؛ فليس كذلك. والفرق بينه وبين المرأة أن مرورها يقطع مطلقًا، ومروره يقطع بشرط أن يُدفع فيأبى إلا أن يمرَّ. وقد يفرق بين الشيطان الملازم للإنسان غالبًا - وهو القرين - وغيره من الشياطين، فلا يقطع مرور الرجل إذ لم يقم الدليل إلا على أن معه القرين. وأما المرأة، فإنه يصحبها مع القرين غيرُه. والله أعلم (¬1). **** كتاب البيع، باب: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً} (¬2) " ... وهذا (¬3) يؤيد ما تقدم من النقل عن أبي ذر الهروي أن أصل ¬

_ (¬1) مجموع [4716]. (¬2) "فتح الباري" (4/ 300). (¬3) أي تكرار قوله تعالى: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ}، وقول قتادة: "كان القوم يتَّجرون ... " إلخ في البابين: "باب التجارة في البزِّ وغيره" و"باب {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} ".

باب من جوز طلاق الثلاث

البخاري كان عند الفربري وكانت فيه إلحاقات في الهوامش وغيرها، وكان من ينسخ الكتاب يضع الملحق في الموضع الذي يظنه لائقًا به. فمِن ثَمَّ وقع الاختلاف في التقديم والتأخير، ويزاد هنا أن بعضهم احتاط فكتب الملحق في الموضعين فنشأ عنه التكرار" اهـ. أقول: أو وقع التكرار ممن نسخ مِن أحد الفروع، وقابل بفرعٍ آخر. والله أعلم (¬1). **** باب من جوّز طلاق الثلاث (¬2) " ... ويمكن أن يتمسك له بحديث "أبغض الحلال إلى الله الطلاق" (¬3) ... وأخرج سعيد بن منصور (¬4) عن أنس "أن عمر كان إذا أتي برجل طلق امرأته ثلاثًا أوجع ظهره" وسنده صحيح. ويحتمل أن يكون مراده بعدم الجواز من قال: لا يقع الطلاق إذا أوقعها مجموعة للنهي عنه، وهو قول للشيعة وبعض أهل الظاهر، وطرد بعضُهم ذلك في كل طلاق منهيّ كطلاق ¬

_ (¬1) مجموع [4718]. (¬2) "فتح الباري" (9/ 362). (¬3) أخرجه أبو داود (2177، 2178)، وابن ماجه (2018) من حديث ابن عمر. والصواب فيه أنه مرسل. انظر: "علل ابن أبي حاتم" (1297)، و"العلل" للدارقطني (3123). (¬4) برقم (1073) ومن طريقه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (3/ 58).

الحائض، وهو شذوذ، وذهب كثير منهم إلى وقوعه مع منع جوازه، واحتج له بعضهم بحديث محمود بن لبيد قال: "أُخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعًا، فقال: أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟ " الحديث. أخرجه النسائي (¬1) ورجاله ثقات، لكن محمود بن لبيد ولد في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يثبت له منه سماع، وإن ذكره بعضهم في الصحابة فلأجل الرؤية، وقد ترجم له أحمد في "مسنده" (¬2) وأخرج له عدة أحاديث ليس فيها شيء صرح فيه بالسماع، وقد قال النسائي بعد تخريجه: لا أعلم أحدًا رواه غير مخرمة بن بكير يعني ابن الأشج عن أبيه. اهـ. ورواية مخرمة عن أبيه عند مسلم في عدة أحاديث، وقد قيل: إنه لم يسمع من أبيه، وعلى تقدير صحة حديث محمود فليس فيه بيان أنه هل أمضى عليه الثلاث مع إنكاره عليه إيقاعَها مجموعة أو لا؟ فأقل أحواله أن يدل على تحريم ذلك وإن لزم. وقد تقدم في الكلام على حديث ابن عمر في طلاق الحائض أنه قال لمن طلق ثلاثًا مجموعة: "عصيت ربك، وبانت منك امرأتك". وله ألفاظ أخرى نحو هذه عند عبد الرزاق (¬3) وغيره. وأخرج أبو داود (¬4) بسند صحيح من طريق مجاهد قال: كنت عند ابن عباس، فجاءه رجل فقال: إنه طلق امرأته ثلاثًا، فسكت حتى ظننت أنه سيردُّها إليه فقال: "ينطلق أحدكم فيركب الأحموقة ثم يقول: يا ابن عباس [يا ابن عباس]، إن الله قال: {وَمَن ¬

_ (¬1) (3401)، وفي "الكبرى" (5564). (¬2) (39/ 30 - 44) وأخرج له (18) حديثا. (¬3) برقم (10964، 11344). وأخرجه ابن أبي شيبة (18091) ط. دار القبلة. (¬4) برقم (2197).

يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا}، وإنك لم تتق الله فلا أجد لك مخرجًا، عصيتَ ربك وبانتْ منك امرأتك". وأخرج أبو داود له متابعات عن ابن عباس نحوه. ومن القائلين بالتحريم واللزوم من قال: إذا طلق ثلاثًا مجموعة وقعت واحدة، وهو قول محمَّد بن إسحاق صاحب المغازي، واحتج بما رواه عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال: طلق ركانة بن عبد يزيد امرأته ثلاثًا في مجلس واحد، فحزن عليها حزنًا شديدًا، فسأله النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كيف طلقتها؟ " قال: ثلاثًا في مجلس واحد، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنما تلك واحدة، فارتجعها إن شئت"، فارتجعها. وأخرجه أحمد وأبو يعلى (¬1) وصححه من طريق محمَّد بن إسحاق. وهذا الحديث نص في المسألة لا يقبل التأويل الذي في غيره من الروايات الآتي ذكرها. وقد أجابوا عنه بأربعة أشياء: أحدها: أن محمَّد بن إسحاق وشيخه مختلف فيهما، وأجيب بأنهم احتجوا في عدة من الأحكام بمثل هذا الإسناد كحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ردّ على أبي العاص بن الربيع زينبَ ابنتَه بالنكاح الأول. وليس كل مختلف فيه مردودًا. الثاني: معارضته بفتوى ابن عباس بوقوع الثلاث كما تقدم من رواية مجاهد وغيره؛ فلا يُظنُّ بابن عباس أنه كان عنده هذا الحكم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يفتي بخلافه إلا بمرجِّح ظهر له، وراوي الخبر أَخبرُ مِن غيره بما روى. وأجيب أن الاعتبار برواية الراوي لا برأيه لما يطرق رأيه من احتمال النسيان وغير ذلك، ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (2387) و"مسند أبي يعلى" (2500).

وأما كونه تمسك بمرجح فلم ينحصر في المرفوع لاحتمال التمسك بتخصيص أو تقييد أو تأويل، وليس قول مجتهد حجة على مجتهد آخر. الثالث: أن أبا داود رجح (¬1) أن ركانة إنما طلق امرأته البتة كما أخرجه هو من طريق آل بيت ركانة, وهو تعليل قوي (¬2) لجواز أن يكون بعض رواته حمل "البتة" على الثلاث، فقال: طلقها ثلاثًا، فبهذه النكتة يقف الاستدلال بحديث ابن عباس. الرابع: أنه مذهب شاذ فلا يعمل به، وأجيب بأنه نُقل عن علي وابن مسعود وعبد الرحمن بن عوف والزبير مثله، نقل ذلك ابن مغيث في "كتاب الوثائق" له وعزاه لمحمد بن وضَّاح، ونقل الغنوي ذلك عن جماعة من مشايخ قرطبة كمحمد بن بقي بن مخلد (¬3) ومحمد بن عبد السلام الخشني ¬

_ (¬1) علق عليه الشيخ بقوله: "إنما رجّحه لأنه لم يصحّ مقابله عنده، وقد صحّ عند غيره". (¬2) علق عليه الشيخ بقوله: "إنما يكون قويًّا لو صح حديث آل بيت ركانة, ولا يصحّ، بل لو صحّ لكان حمله على حديث ابن إسحاق أولى؛ فإن التعبير عن الثلاث بالبتّة أسهل من عكسه. وأظهر من هذا أن لفظ الحديث: "ثلاثًا في مجلس واحد"، فقوله "في مجلس واحد" صريح في رفع الاحتمال المذكور. حتى لو كان لفظه: "طلقها البتة في مجلس واحد" لكان ظاهرًا في أن المراد بالبتة الثلاث لا لفظ البتة. فتأمل. والله أعلم". (¬3) كذا في الأصل تبعًا للفتح. والصواب: "أحمد بن بقي بن مخلد" قاضي قرطبة (ت 324 هـ) , له ترجمة في "سير أعلام النبلاء": (15/ 83). والتصويب مستفاد من رسالة "تسمية المفتين بأن الطلاق الثلاث بلفظ واحد طلقة واحدة" (ص 61) للدكتور سليمان العمير.

لحوم الحمر [الإنسية]

وغيرهما، ونقله ابن المنذر عن أصحاب ابن عباس كعطاء وطاوس وعمرو بن دينار ... " (¬1). **** لحوم الحمر [الإنسية] (¬2) " وتقدَّم في المغازي في حديث ابن أَبِي أَوفى (¬3): فتحدَّثنا أنه إنّما نهى عنها لأنها لم تُخَمَّس، وقال بعضهم: نهى عنها لأنَّها كانت تأكل العَذِرَة. قلتُ: وقد أزال هذه الاحتمالات من كونها لم (¬4) تُخَمَّس أَو كانت جَلَّالَة أو كانت انْتُهبت، حديثُ أَنَس (¬5) المذكور قبل هذا حيث جاء فيه "فإنها رِجْس" وكذا الأَمر بغَسل الإناء في حديث سَلَمَة". أقول: غفل - رحمه الله - عمّا قدمه في باب التسمية على الذبيحة في الكلام على حديث رافع بن خديج (¬6): "كُنَّا مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بذي الحُلَيفة فأصاب النَّاسَ جوعٌ فأَصبنا إبلًا وغنمًا وكان النَّبي - صلى الله عليه وسلم - في أُخْرَيات النَّاس فَعَجِلُوا فَنَصَبُوا القدورَ فدفع النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم فَأَمَرَ بالقدور فَأُكْفِئَتْ ثُمَّ قَسَمَ فَعَدَلَ ... ". ¬

_ (¬1) مجموع [4711]. (¬2) "فتح الباري" (9/ 655 - 656). (¬3) برقم (4220). (¬4) في الأصل: "لا". (¬5) برقم (4197، 5528). (¬6) برقم (5498).

حكى الحافظ هناك (¬1) عن عياض قال: "كانوا انتهَوا إلى دار الإِسلام والمحَلّ الذي لا يجوز فيه الأَكل من الغنيمة المشتَرَكة إلاَّ بعد القسمة، وأَنَّ محل جواز ذلك قبل القسمة إنَّما هو ما داموا في دار الحرب، قال: ويحتمل أنَّ سبب ذلك كونهم انتَهَبُوا, ولم يأخذوا [باعتدال و] على قدر الحاجة. قال: وقد وقع في حديث آخر ما يدل لذلك، يشير إلى ما أخرجه أبو دَاود (¬2) من طريق عاصم بن كُلَيب عن أَبيه - وله صحبة - عن رَجُل من الْأَنصار قال: "أصاب النَّاسَ مجاعةٌ شديدة وجَهْد فأصابوا غنمًا فانتهبُوها، فإنَّ قُدُورنَا لتَغْلِي بها إذ جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على فرسه فَأَكْفأ قدورنا بقوسه، ثمَّ جعل يُرَمِّل اللَّحم بالتراب، ثُمَّ قال: إنَّ النُّهْبَة ليست بِأَحلَّ من المَيتة" اهـ ... وأمَّا الثَّاني فَقَالَ النووي (¬3): المأْمور به من إراقة القدور إنَّما هو إتْلَاف المَرَق عقوبةً لهم، وأمَّا اللَّحم فلم يُتلِفُوه بل يُحمَل على أنه جُمع ورُدَّ إلى المَغنم، ولا يُظَنّ أنه أَمَرَ بإتلافه مع أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن إضاعة المال ... فإن قيل: لم يُنقل أنهم حملوا اللَّحم إلى المغنم، قُلنا: ولم يُنقل أَنهم أَحرقوه أو أَتلفوه، فيجب تأويلُه على وفق القواعد اهـ. ويرُدُّ عليه حديث أبي داود فإنَّه جيِّد الإسناد، وتَرْك تسمية الصَّحَابي لا يَضُرّ، ورجال الإسناد على شرط مسلم ... ". أقول: رحم الله النووي، استبعد إتلاف اللحم لكونه مالاً مع اعترافه ¬

_ (¬1) (9/ 626). (¬2) برقم (2705). (¬3) "شرح صحيح مسلم" (13/ 127).

بإتلاف المرق، وهو مال، ثم قال: "فإن قيل: لم يُنقل أنهم حملوا اللَّحم إلى المغنم، قيل: ولم يُنقل أَنهم أَحرقوه أو أَتلفوه". ولا يخفى ما في هذا من الركاكة؛ لأن الحديث نص في أنه كفأه إلى الأرض، ولم يُنقل ما صنع به بعد ذلك، فكان الظاهر أنه تُرك لتأكله الطير والسباع؛ لأن ذلك هو المعقول من حيث العادة، فلذلك تُرك نقله. ولا يلزم من الحكم بالإتلاف الحكمُ بإحراقه لأن تركه للسباع والطير يحصل به الإتلاف على الناس مع مصلحة إطعام الوحش والطير. وقد جاء أمره بإكفاء القدور التي فيها لحوم الحمر، ولم يجئ أنه أُحرق وأُتلف. وأما قوله: "فيجب تأْويله على وفق القواعد"، فإنه ليس هنا قاعدة شرعية يجب التأويل لأجلها، والقواعد المذهبية متابعة لا متبوعة. على أن حديث أبي داود قد نص على حرمة النهبة كحرمة الميتة. ثم قال الحافظ بعد كلام (¬1): "وقال الإسماعيليُّ: أَمْره - صلى الله عليه وسلم - بإكفاء القدور يجوز أن يكون مِن أجل أَنَّ ذَبْح من لا يملك الشَّيء كُلَّه لا يكون مُذَكِّيًا، ويجوز أن يكون من أَجْل أنهم تَعَجَّلُوا ... ثم رَجَّح الثَّاني وزَيَّف الأَوَّل بأنه لو كان لذلك لم يَحِلَّ أَكل البعير النَّادّ .... وقد جَنَحَ البخاريّ إلى المعنى الأَوَّل وترجمَ عليه كما سيأْتي في أواخر أبواب الأضاحِيّ، ويمكن الجواب ... بأَن يكون الرَّامي رمى بحضرة النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - والجماعة، فأقرُّوه، فَدَلَّ سكوتهم على رضاهم ... ". ¬

_ (¬1) (9/ 626 - 627).

أقول: بل ترجم البخاري عليه في آخر هذا الكتاب - كتاب الذبائح - بقوله (ص 321) (¬1): "باب إذا أصاب قومٌ غنيمة [فذبح بعضهم غنمًا أو إبلًا بغير أمر أصحابهم لم تُؤكل لحديث رافعٍ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -] ". ثمّ ترجم للجواب عن قضية البعير بما هو أحسن من جواب الحافظ فقال (ص 322) (¬2): "باب إذا ندَّ بعيرٌ لقوم فرماه بعضهم بسهم فقتله وأراد إصلاحهم فهو جائز". وقال الحافظ في "باب ذبيحة الأَمَة والمرأة" (¬3) في قصة حديث أن جاريةً لكعب بن مالك كانت ترعى غنمًا بسَلْعٍ فأُصيبت شاة منها، فأدركتها فذبحتْها بحجرٍ، فسئل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "كلوها": "وفيه جواز أكل ما ذبح بغير إذن مالكه ولو ضمن الذابح، وخالف في ذلك طاوس وعكرمة كما سيأتي في أواخر كتاب الذبائح، وهو قول إسحاق وأهل الظاهر، وإليه جنح البخاري [لأنه أورد في الباب المذكور حديث رافع بن خديج في الأمر بإكفاء القدور، وقد سبق ما فيه.] وعورض بحديث الباب، وبما أخرجه أحمد وأبو داود (¬4) بسند قوي من طريق عاصم بن كليب عن أبيه في قصة الشاة التي ذبحتها المرأة بغير إذن صاحبها فامتنع ¬

_ (¬1) "فتح الباري" (9/ 672). (¬2) المصدر السابق. (¬3) (9/ 632). (¬4) "مسند أحمد" (22509) و"سنن أبي داود" (3332).

النبي - صلى الله عليه وسلم - من أكلها لكنه قال: "أطعموها الأسارى"، فلو لم تكن ذكية ما أمر بإطعامها الأسارى". هـ أقول: جواب البخاري عن قضية البعير النادِّ هو عينه جواب عن ذبيحة الجارية كما لا يخفى. وأما حديث أحمد (¬1) وأبي داود الذي فيه الأمر بإطعام الأسارى ففيه وجهان: الأول: أن يقال أن الأسارى كفار، وهم غير مخاطبين بالفروع في قول. والثاني: أن يفرق بين ما ذُبح بغير إذن أهله مع اعتقاد رضاهم، فهذا مكروه فقط. وما ذبح بغير إذنهم ولا اعتقاد رضاهم فهذا حرام. والله أعلم. نعم، في "صحيح مسلم" (¬2) في فضائل نبيّنا - صلى الله عليه وسلم - قصة عن المقداد أنه كان يبيت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - هو ورجلان آخران، وفي القصة أنه أراد أن يذبح شاةً من شياه النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يظهر بغير إذن صريح منه، وأَخبر النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بذلك، ولم يذكر أنه أنكر عليه ذلك العزم وبيّن له أن ذلك لا يجوز. فانظر القصّة وتأمّلْها. والله أعلم (¬3). **** ¬

_ (¬1) مسند ج 5 ص 293. [المؤلف] (¬2) برقم (2055). (¬3) مجموع [4711].

[تعليق على كلام الحافظ في "التلخيص"]

[تعليق على كلام الحافظ في "التلخيص"] [قال الحافظ (¬1)]: "تنبيه: ادَّعى ابن بطال في "شرح البخاري" وتبعه القاضي عياض تفرُّد أبي هريرة بهذا, وليس بجيِّد. وقد قال به جماعة من السلف ومن أصحاب الشافعي. قال ابن أبي شيبة (¬2): حدثنا وكيع عن العمري عن نافع أن ابن عمر كان ربما بلغ بالوضوء إبطيه في الصيف. ورواه أبو عبيد (¬3) بإسناد أصح من هذا فقال: ثنا عبد الله بن صالح: ثنا الليث عن محمَّد بن عجلان عن نافع. وأعجب من هذا أن أبا هريرة رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في رواية مسلم (¬4). وصرح باستحبابه القاضي حسين وغيره .. ". [علَّق الشيخ على قوله: "في الصيف"]: "أقول: التقييد بالصيف يضعف الاستدلال بهذا الأثر لإشارته إلى أنه كان يفعله تبرُّدًا لا أنه يراه من السنَّة". [علَّق الشيخ على قوله: "رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -"]: "ليس الرفع بالصريح" (¬5). **** ¬

_ (¬1) (1/ 100). (¬2) برقم (609) ط. دار القبلة. (¬3) "الطهور" (24). (¬4) انظر "صحيح مسلم" (246, 250). (¬5) مجموع [4711].

[تعليق على مواضع من "نيل الأوطار"]

[تعليق على مواضع من "نيل الأوطار"] في "نيل الأوطار" (¬1)، في باب الجماعة: "واعلم أن الاستدلال بحديثي الأعمى وحديث أبي هريرة الذي في أول الباب على وجوب مطلق الجماعة فيه نظر؛ لأن الدليل أخص من الدعوى، إذ غاية ما في ذلك وجوب حضور جماعة النبي - صلى الله عليه وسلم - في مسجده لسامع النداء، ولو كان الواجب مطلق الجماعة لقال في المتخلفين: إنهم لا يحضرون جماعته ولا يجمعون في منازلهم، ويقال لعتبان بن مالك: انظر من يصلّي معك، ولجاز الترخيص للأعمى بشرط أن يصلي في منزله جماعة". اهـ. أقول: فإن قيل: إن عتبان والأعمى لا يمكن أن يجد كل منهما من يصلي معه؛ إذ كل إنسانٍ مدعوّ للجماعة يحضر المسجد. فالجواب: أن المفروض أن الواجب مطلق الجماعة، فإذًا يسوغ لغير عتبان أن يتخلَّف معه فيصلِّي جماعة، وكذا حال الأعمى، مع أن كلاًّ منهما قد يجد غيره ممّن لا يلزمه حضور المسجد، من النساء والمعذورين (¬2). **** ¬

_ (¬1) (3/ 154). (¬2) مجموع [4712].

"النيل" ساعة الجمعة

" النيل" (¬1) ساعة الجمعة [... حديث أبي سعيد الذي أخرجه أحمد وابن خزيمة والحاكم بلفظ: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنها فقال:] "قد علمتها ثم أُنسيتها كما أُنسيت ليلةَ القدر". [... ويجاب عنه بأن نسيانه - صلى الله عليه وسلم - لها لا يقدح في الأحاديث الصحيحة الواردة بتعيينها] لاحتمال أنه سُمع منه - صلى الله عليه وسلم - التعيين قبل النسيان كما قال البيهقي ... إلخ. أقول: هذه غفلة؛ فإنه إذا نسيها - صلى الله عليه وسلم - كما نسي ليلة القدر، وجب أن ينساها غيره ممن سمعها منه؛ لأن الحديث صريح في أن التنسية لمصلحة، ليس من النسيان العارض. فالوجه أن يقال: إنه علمها أولاً ثمَّ نسيها ثمَّ علمها ثانيًا، وبقي كذلك. فإمّا أن يكون عيَّنها لبعض أصحابه قبل أن ينساها، فلمَّا نسيها نسوها أيضًا، ثمَّ لمَّا علمها ثانيًا ذكروا ما حدَّثهم أولاً. وإمّا أن يكونوا نسوها ثمَّ لمَّا عَلِمها - صلى الله عليه وسلم - ثانيًا أعلمهم. وإمَّا أن يكون إنما أعْلَمهم عندما عَلِمها ثانيًا. والله أعلم (¬2). **** ¬

_ (¬1) (3/ 303 - 304). (¬2) مجموع [4712].

"إحكام الأحكام شرح العمدة"

" إحكام الأحكام شرح العمدة" (¬1) حديث البراء: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قال: "سمع الله لمن حمده" لم يَحْنِ أحدٌ منا ظهره حتى يقع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ساجدًا ثم نقع سجودًا بعده. " ... والحديث يدل على تأخُّر الصحابة في الاقتداء عن فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يتلبس بالركن الذي ينتقل إليه، لا حين يشرع في الهويِّ إليه ... ولفظ الحديث الآخر يدل على ذلك، أعني قوله: "فإذا ركع فاركعوا وإذا سجد فاسجدوا"؛ فإنه يقتضي تقدم ما يسمى ركوعًا وسجودًا". أقول: قد كان ظهر لي قبل أن أرى هذا مثل ما ذكره، ولكن تبيَّن لي أن دلالة قوله: "وإذا ركع فاركعوا وإذا سجد فاسجدوا" على ما ذكر فيها نظر؛ لأن لقائل أن يقول: إذا لاحظتم ذلك في قوله: "إذا ركع - إذا سجد" فلاحظوه في قوله: "فاركعوا - اسجدوا"؛ فالمأمور به هو أن لا يستوي المأموم راكعًا أو ساجدًا حتى يستوي الإِمام كذلك. وليس فيه أن لا يهوي المأموم حتَّى يستوي الإِمام راكعًا أو ساجدًا. فالعمدة في الاستدلال حديث البراء. والله أعلم (¬2). **** ¬

_ (¬1) (1/ 206 - 207) ط. المنيرية. (¬2) مجموع [4716].

أحاديث زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن "تلخيص الحبير" مع تصرف وزيادة من "التهذيب" و"اللسان".

أحاديث زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن "تلخيص الحبير" مع تصرُّف وزيادة من "التهذيب" و"اللسان". 1. هارون بن أبي قزعة، عن رجل من آل حاطب، عن حاطب مرفوعًا: "من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي، ومن مات بأحد الحرمين يُبعث من الآمنين يوم القيامة" (¬1). وفي "اللسان" (¬2): "هارون بن أبي قَزَعة [المدني] عن رجل في زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال البخاري: لا يتابع عليه. عبد الملك بن إبراهيم الجُدَّي (¬3)، ثنا شعبة، عن سوار بن ميمون، عن هارون بن قزعة، عن رجل من آل الخطاب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من زارني متعمدًا كان في جواري يوم القيامة، ومن مات في أحد الحرمين بعثه الله يوم القيامة من الآمنين". والمحاملي (¬4) والساجي قالا: حدثنا محمَّد بن الوليد البسري، ثنا وكيع، ثنا ابن عون وخالد بن أبي خالد، عن الشعبي والأسود (؟) (¬5) بن ميمون، عن هارون بن أبي قزعة (؟) (¬6) رجل من آل حاطب، عن حاطب ¬

_ (¬1) "التلخيص الحبير" (2/ 286). (¬2) (8/ 309). (¬3) ومن طريقه أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (3856). (¬4) ومن طريقه أخرجه الدارقطني (2694) والبيهقي في "شعب الإيمان" (3855). (¬5) وضع عليه الشيخ علامة الاستفهام لأنه في السند السابق: "سوار بن ميمون". (¬6) وضع عليه الشيخ علامة الاستفهام لأنه في السند السابق: "هارون بن قزعة".

قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: .... (كما في التلخيص) انتهى. قال الأزدي: هارون أبو قزعة يروي عن رجل من آل حاطب المراسيل. قلت: فتعين أنه الذي أراد الأزدي، وذكره العقيلي والساجي وابن الجارود في الضعفاء". أقول: فالرجل متفق على ضعفه، وقال البخاري في حديثه هذا: "لا يتابع عليه". ثمَّ [في] رواية شعبة - على ما في "اللسان" -: سوار بن ميمون. وفي رواية ابن عون: الأسود بن ميمون. وفي رواية شعبة: هارون بن قزعة. وفي رواية ابن عون: ابن أبي قزعة. وفي رواية شعبة: عن رجل من آل الخطاب عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي رواية ابن عون: من آل حاطب، عن حاطب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ويَحتمِل أن تكون هذه الاختلافات من خطأ النسخة. وفي رواية شعبة: "من زارني متعمِّدًا كان في جواري يوم القيامة". وفي رواية ابن عون: "من زارني بعد موتي فكأنَّما زارني في حياتي". ومع ذلك فالرجل الذي من آل حاطب مجهول، وحاطب لا يُدرى أهو ابن أبي بلتعة الصحابي أم غيره؟ وفي قوله: "من زارني بعد موتي فكأنَّما زارني في حياتي (¬1) " نكارةٌ لمخالفته النصوص الصحيحة والإجماع. وللحديث طريق ثالث: ¬

_ (¬1) في الأصل: "حياته"، سبق قلم.

قال الطيالسي (¬1): حدثنا سوار بن ميمون أبو الجراح العبدي، قال: حدثني رجل من آل عمر، عن عمر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من زار قبري- أو قال: من زارني - كنت له شفيعًا أو شهيدًا، ومن مات في أحد الحرمين بعثه الله من الآمنين يوم القيامة". وهذا يوافق رواية شعبة، ويخالفها في الوصل والإرسال. والشك الذي في رواية الطيالسي يُحمل على رواية شعبة، فيكون الراجح عن سوار: "من زارني" لا: "من زار قبري". ورواه البيهقي (¬2) من طريق الطيالسي ثم قال: "إسناده مجهول". وفي هذا كلِّه (¬3)، فالحديث ساقط لا يصلح للمتابعة. والله أعلم. 2. الدارقطني (¬4) من حديث حفص بن أبي داود، عن ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، عن ابن عمر مرفوعًا: "من حجَّ فزار قبري بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي". والطبراني في "الأوسط" (¬5) من طريق الليث ابن بنت الليث بن أبي سليم، عن عائشة بنت يونس امرأة الليث، عن ليث. ¬

_ (¬1) "مسند الطيالسي" (65). (¬2) في "الكبرى": (5/ 245). وأخرجه أيضًا الطبراني في "الكبير" (13497)، و"الأوسط" (3376). (¬3) كذا في الأصل. (¬4) في "سننه" (2693). (¬5) برقم (287). وأخرجه أيضًا في "الكبير" (13496).

قال ابن حجر (¬1): وهذان الطريقان ضعيفان. أقول: حفص بن أبي داود، هو حفص القارئ (¬2). اتَّفقوا على تركه وجاء عن الإِمام أحمد فيه ثلاث عبارات؛ مرَّة: "صالح"، ومرَّة: "ما به بأس"، ومرَّة: "متروك الحديث". والجمع بينها: أنَّه في دينه صالح ما به بأس، وفي حديثه متروك، أي لغلبة خطائه وغفلته وغلطه. فإن شككت في هذا الجمع فأسقِط العبارات كلَّها لتعارضها. بل قال أبو حاتم الرازى: "لا يصدق". وقال ابن خراش: "كذَّاب". وقال الساجي عن أحمد بن محمَّد البغدادي عن ابن معين: "كان كذَّابًا". نعم، قال أبو عمرو الداني: قال وكيع: "كان ثقةً"، ولم يبيَّن سنده إلى وكيع. ولو صحَّ فهو محمول على أنه كان ثقةً في القراءة. أو يسقط ذلك لمعارضته الجرح المفسَّر من نحو خمسة عشر إمامًا. ومع هذا، فحديثه هذا أورده البخاري في ترجمته في الضعفاء إنكارًا له. ثمَّ شيخه ليث بن أبي سليم، وخلاصة ترجمته قول الحافظ في "التقريب": "اختلط أخيرًا ولم يتميَّز حديثه فتُرك". ثم إن الرواة عن ليث كثيرون فانفراد حفصٍ مما يزيده وهنًا على وهن. ¬

_ (¬1) "التلخيص الحبير" (2/ 286). (¬2) انظر لأقوال الأئمة فيه "تهذيب التهذيب".

وأما الليث ابن بنت الليث عن عائشة بنت يونس (¬1) امرأة الليث، فبغاية الجهالة. ولا حاجة لذكر مجاهد - رحمه الله - وتدليسه، فهو أجلُّ من أن يُذكر هنا. ومع ذلك ففي الحديث النكارةُ المتقدِّم ذكرها. فالحديث من الضعف بحيث لا يصلح للمتابعة. 3. ورواه العقيلي (¬2) من حديث ابن عبَّاس، وفي إسناده فضالة بن سعيد المأربي، وهو ضعيف. أقول: لفظه كما في "اللسان" (¬3): "حدثنا سعيد بن محمَّد الحضرمي، ثنا فضالة، حدثنا محمَّد بن يحيى، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - مرفوعًا: "من زارني في مماتي كان كمن زارني في حياتي". ولا يُعرف إلا به. قال الذهبي: هذا موضوع على ابن جريج. اهـ. وفضالة، قال أبو نعيم: روى المناكير لا شيء". أقول: ومحمد بن يحيى المأربي (¬4)، قال ابن حزم: مجهول، ووثَّقه ¬

_ (¬1) في الأصل: "مسلم"، سبق قلم، وقد سبق على الصواب. (¬2) في "الضعفاء": (3/ 457). (¬3) (6/ 332). (¬4) انظر "تهذيب التهذيب" (9/ 521).

[تعليق على "تهذيب التهذيب"]

الدارقطني وابن حبَّان، إلا أنهما يوثِّقان المجهول بشروط عندهما، منها: أن لا يكون حديثه منكرًا. وقد قال ابن عديًّ (¬1) في محمَّد بن يحيى هذا: "أحاديثه مظلمة منكرة". فلو سَلِم الحديث من فَضالة لم يسلم من محمَّد بن يحيى. وقد أَجَلَّ الله ابنَ جريج وعطاءً أن يُحتاج إلى ذكر تدليسهما هنا. فالحديث موضوع، أو بغاية الضعف، لا يصلح للمتابعة (¬2). **** [تعليق على "تهذيب التهذيب"] " د ت ق. عطية بن عروة، ويقال: ابن سعد، ويقال: ابن عمرو ... صحابي نزل الشام، .. قلتُ (¬3): صحّح ابن حبّان أنه عطية بن عروة بن سعد، ووقع في "الكبير" (¬4) وفي "المستدرك" (¬5): عطية بن سعد، كأنه نسبه إلى جده ... ". قلتُ: فكان ينبغي أن ينبّه على ترجمته في (عطية بن سعد) و (عطية بن ¬

_ (¬1) في "الكامل" (6/ 234). (¬2) مجموع [4716]. (¬3) القائل هو الحافظ ابن حجر. (¬4) (17/ 166) للطبراني. (¬5) (4/ 319).

[فائدة حول "أنبا" في "الكفاية" للخطيب]

عمرو)؛ لأن الناظر إذا رأى في كتاب (عطية بن سعد) وينظر في "التهذيب"، فإما أن يظنّه العوفي التابعي الضعيف، وإما أن يجهله، وكذا إذا نظر (عطية بن عمرو). والله أعلم (¬1). **** [فائدة حول "أنبا" في "الكفاية" للخطيب] الحمد لله. وقد وقعت هذه الصيغة - أنبا - في "كفاية الخطيب" في النسخة الموجودة في المطبعة، وهي منقولة كما يظهر في آخرها من نسخة كتبت سنة 848. وكاتب هذه النسخة التي في المطبعة يضبط الصيغة: "أنبأ" حتّى في المواضع التي يدل السياق أنها: أخبرنا. فمن ذلك في ص 131 في باب ما جاء في عبارة الرواية عمّا سمع من المحدّث. قال الخطيب: "ثم قول: أخبرنا، وهو كثير في الاستعمال حتى إن جماعة من أهل العلم لم يكونوا يخبرون عمّا سمعوه إلا بهذه العبارة منهم ... و ... انبا محمَّد بن أحمد ... سمعت نعيم بن حماد يقول: ما رأيت ابن المبارك يقول قط: حدثنا، كأنه يرى "أنبا" أوسع ... " (¬2). ¬

_ (¬1) مجموع [4711]. (¬2) مجموع [4711]. وللشيخ تحقيق في هذه الصيغة الواقعة في "السنن الكبرى" للبيهقي، انظر "مقدمات المعلمي" (ص 311).

[كشف خطأ في مطبوعة "تهذيب التهذيب"]

[كشف خطأ في مطبوعة "تهذيب التهذيب"] " تهذيب التهذيب" (¬1): ترجمة (عمرو بن أبي سفيان بن أسيد): "وقد بين المصنف الاختلاف في تسميته على الزهري في ترجمته عن أبي هريرة في "الأطراف"، وحاصله أن البخاري وقع عنده من طريق شعيب ومعمر: "عمرو"، ومن طريق إبراهيم بن سعد: عن أبي (¬2) أسيد". أقول: ولعلّ الصواب بدل قوله "عن أبي": "عمر بن". وانظر "البخاري" (¬3)، كتاب المغازي، عقب ذكر غزوة بدر (¬4). **** [كشف سقط في مطبوعة "الإصابة"] في "تهذيب التهذيب" (¬5): "الربيع بنت معوذ [ابن عفراء، وعفراء أم معوَّذ، وأبوه: الحارث بن رفاعة بن الحارث بن سواد بن مالك بن غنم بن مالك بن النجار] ". وفي "الإصابة" (طبع مصر، وطبع كلكته) (¬6): "الربيع بنت معوذ بن عقبة بن حزام بن جندب الأنصارية النجارية، من ¬

_ (¬1) (8/ 41). (¬2) وضع المعلمي الخط فوق "عن أبي" في الموضعين. (¬3) برقم (3989) حيث وقع فيه: " ... إبراهيم [بن سعد]، عن ابن شهاب قال: أخبرني عمر بن أسيد بن جارية الثقفي". (¬4) مجموع [4719]. (¬5) (12/ 418). (¬6) (13/ 375) ط. دار هجر. وفيه: "ابن عفراء بن حرام" بدل: "بن عقبة بن حزام".

[معنى إطلاق وصف "الخوارج" على بعض الرواة]

بني عدي بن النجار ... " (فذكر ترجمتها). ثم نظرت "ثقات ابن حبان" (¬1)، فنسبها كما في "التهذيب"، ثم راجعت "طبقات ابن سعد" (¬2) فإذا فيه: "الربيع بنت معوذ بن الحارث [بن رفاعة بن الحارث] بن سواد بن مالك بن غنم بن مالك بن النجار. وأمها: أم يزيد بنت قيس بن زعوراء بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار". فظهر من هذا أنّه وقع في "الإصابة" سقطٌ أَدمَجَ نسبَها في نسب أمّها. والله أعلم (¬3). **** [معنى إطلاق وصف "الخوارج" على بعض الرواة] الحمد لله. المحدثون قد يطلقون "الخوارج" على مطلق الخارجين على السلطان، وإن كانوا بريئين عن سائر أقوال الخوارج الشاذة. وقد يغفل بعض الأئمة عن هذا، فيقول في أحد هؤلاء: إنّه من الحرورية؛ يَبْيِنه على ما فهمه من قول غيره: "من الخوارج". انظر ترجمة عمران بن داود من "التهذيب" (¬4) (¬5). ¬

_ (¬1) (3/ 132). (¬2) (8/ 447). (¬3) مجموع [4719]. (¬4) (8/ 130 - 132). (¬5) مجموع [4719].

[دفاعا عن إمام المغازي ابن إسحاق]

[دفاعًا عن إمام المغازي ابن إسحاق] " الفهرست" (ص 136) أخبار ابن إسحاق " ... يحكى أن أمير المدينة رقي إليه أن محمدًا يغازل النساء ... ". قلتُ: لم أر هذه الحكاية لغير هذا الرجل. وهي معضَلَة بلا سند، فلا يُلتفت إليها. وعلى فرض أن لها أصلاً فقد يحتمل أن بعض أعداء ابن إسحاق وشى به كذبًا فعوقب بغير حقٍّ. وعلى فرض صحَّة ذلك، فالظاهر أن ذلك في الصِّغر وأوائل الشباب. ثمَّ ذكر إنكار هشام بن عروة على ابن إسحاق روايته عن فاطمة بنت المنذر زوج هشام. وقد أجاب أئمة الحديث عن ذلك. ثم قال النديم: "ويقال كان يُعمل له الأشعار ويؤتى بها ويُسأل أن يُدخلها في كتابه في السيرة [فيفعل] " إلخ. قلتُ: أمَّا هذا فمحتمل؛ وذلك أن ابن إسحاق كان يأخذ عن كلِّ أحد، فلعلَّ بعض الناس كان يصنع بعض الأشعار ثم يجيء إلى ابن إسحاق فيذكر له ذلك الشعر ويزعم أنه سمعه من الرواة. ولا يعلم ابن إسحاق كَذِب ذلك فيثبته في السيرة لاحتمال صحته عنده. وليس في هذا ما يبطل روايته إذا أسند عن الثقات وصرَّح بالسماع. والله أعلم. فأما نقله عن اليهود والنصارى وتسميته إيَّاهم أهلَ العلم الأوَّل، فلا عيب فيه (¬1). ¬

_ (¬1) مجموع [4724].

[كلام على بعض الرواة]

[كلام على بعض الرواة] * [في "اللسان" (¬1)]: "زيد بن عبد الرحمن ... "أخوك البكري لا تأمنه". قال العقيلي: لا يُتابع عليه، ولا يعرف إلا به". أقول: أما المتن فقد روي من وجهٍ آخر. انظره في "مسند أحمد" (¬2) في حديث ... أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثه بمالٍ لأبي سفيان بعد الفتح، فأراد عمرو بن أمية الضمري أن يصحبه، فاستأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أن يستصحب عمرًا، فأذن له، وقال له: " .... أخوك البكري ولا تأمنه". * قيس بن الربيع: فيه كلام طويل (¬3)، حاصله: أنه صدوق سيء الحفظ، وكان له ابن سوء يدسُّ في كتبه ما ليس من حديثه. ومثل هذا يصلح للمتابعة، ولا سيما مع إمامة الراوي عنه وتيقّظه. * [في "التهذيب" (¬4)]: المسعودي. وقال ابن نمير: كان ثقة، واختلط بأخرة. سمع منه ابن مهدي ويزيد بن هارون أحاديث مختلطة. عبد الله بن أحمد عن أبيه: سماع وكيع من المسعودي قديم، وأبو نعيم أيضًا، وإنما اختلط المسعودي ببغداد، ومن سمع منه بالكوفة والبصرة فسماعه جيد. ¬

_ (¬1) (3/ 558). (¬2) برقم (22492). وأخرجه أبو داود (4861). وهو ضعيف أيضًا، انظر تعليق المحققين على المسند. (¬3) انظر "التهذيب" (8/ 391 - 395). (¬4) (6/ 210 - 212).

[تعليق على كلام "السيد علوي" حول توثيق الوليد بن مسلم]

قلت: ويزيد بن هارون بصري؛ ففي ترجمته (¬1): "وقال عمرو بن عون عن هشيم: ما بالبصريين مثل يزيد". * "لسان الميزان (¬2) ": شعبة بن زافر، أبو رافع الأصبهاني، قال أبو الشيخ في "الطبقات": كان يرى الإرجاء. أقول: ذكر الذهبي في "الميزان" (¬3) في ترجمة [هشام بن حسَّان القردوسي] (¬4) أن هُدْبة بن خالد قال في شعبة بن الحجاج الإِمام: إنه مرجئ! فلينظر، لعل هدبة إنما قال ذلك في شعبة هذا (¬5). **** [تعليق على كلام "السيد علوي" حول توثيق الوليد بن مسلم] " السيد علوي": "الوليد بن مسلم ثقة غير مدافع، وقد صرَّح فيه بالتحديث، فانتفى توهم التدليس، وأيضًا فقد رواه عن الأوزاعي غيره كشعيب بن إسحاق، وأبي المغيرة, ومحمد بن مصعب، ويزيد بن يوسف، وقد زعم أيضًا أن تمَّامًا الرازي قال في الوليد بن مسلم: إنه منكر الحديث، وهذا خطأ فإن الذي قال فيه تمام ذلك هو الوليد بن سلمة لا الوليد بن مسلم". ¬

_ (¬1) "التهذيب" (11/ 322). (¬2) (4/ 245). (¬3) (4/ 296). (¬4) بيَّض الشيخ للاسم فكأنه لم يستحضره. (¬5) مجموع [4727].

[قال الشيخ معلقًا على قوله: "وقد صرّح بالتحديث"]: "هذا خطأ، فإن الوليد إنما صرَّح بالتحديث عن شيخه، وهذا لا يدفع تدليس التسوية الذي عُرف به، بل لا يكفي في دفعها إلا التصريح بالتحديث في جميع السند". (ج 2/ ص 87): "الثاني: أن الأئمة قد اتفقوا على توثيق الوليد بن مسلم، ولم ينكر عليه بعضهم إلا التدليس ... وقد روى الوليد هذا الحديث بصيغة التحديث، ورواه غيره عن الأوزاعي أيضًا فانتفى توهم التدليس ... " إلخ (ج 2/ ص 89): "ألا ترى أن الوليد قال لهيثم: "أنبأنا الأوزاعي أنه يروي عن مثل هؤلاء" يعني أنهم مقبولون عنده، فلمّا شغب عليه الهيثم وضعَّفهم سكت عنه، والسكوت خير جواب؛ لأن الوليد بن مسلم يعلم التفاوت العظيم في العلم والمعرفة بين الإِمام الأوزاعي والهيثم. فلا يُقدَّم قوله على قول الأوزاعي ولا جرحه لهؤلاء الرواة على اعتماد الأوزاعي بهم، وما كان ينبغي له أن يترك حافظ الشام للهيثم وأشباهه". اهـ. أقول: هذا غلط كما يُعلم بمراجعة المحاورة (¬1). (ص 88): "السابع أن الذي رأيناه في مقدمة "شرح صحيح مسلم" للإمام النووي ¬

_ (¬1) إذ صواب العبارة: "أُنْبِلُ الأوزاعيَّ أن يروي ... ". انظر "سير أعلام النبلاء": (9/ 215) و"ميزان الاعتدال": (4/ 348) و"تهذيب التهذيب": (11/ 135).

موافق لِمَا قاله غيره من الأئمة، فإنه قال بعد ذِكْر الخلاف في الجرح بتدليس التسوية: والصحيح ما قاله الجماهير من الطوائف ... " إلخ. أقول: ظاهر هذا السياق أن كلام النووي ينصبّ على تدليس التسوية، وهو غير ظاهر، فليراجع، ولا سيما وقد قال السيد بعد ذلك: وأما قول النووي في مقدمة شرح الصحيح في تدليس التسوية أن تحريمه ظاهر ... إلخ (¬1). ¬

_ (¬1) مجموع [4657].

الفوائد الفقهية

الفوائد الفقهية

[شرح آية الوضوء]

[شرح آية الوضوء] (¬1) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} مُحْدِثين كنتم أو غير مُحدثين {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ] وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} أي - والله أعلم - سواءٌ أكنتم محدثين أم لا {أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ} أصحَّاء حاضرين ولكن محدثين {جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}. فالحاصل أن الله تعالى أمر بالوضوء عند القيام إلى الصلاة مطلقًا، ثم رخَّص للمريض أن يتيمَّم مطلقًا أيضًا، ورخَّص للمسافر أن يتيمَّم مطلقًا بشرط عدم الماء، ورخَّص للصحيح الحاضر المحدث بشرط عدم الماء. وفُهمَ من هذا الأخير أن الصحيح الحاضر غير المحدث العادم للماء يتيمَّم من باب أَوْلى، فبقي الصحيح الحاضر غير المحدث إذا وجد الماء، فيجب عليه الوضوء. فإن قيل: فلو قيل في غير القرآن: "أو مرضى أو لم تجدوا ماء فتيمموا" يوفي بهذا المعنى الذي زعمته مع إيجازه ووضوحه، فلماذا عدل عنه إلى الإطناب مع ما فيه من الغموض؟ (¬2). **** ¬

_ (¬1) وقد سبق في قسم الفوائد التفسيرية كلام للشيخ على الآية والاستنباط منها. (¬2) هنا توقّف قلم الشيخ. مجموع [4724].

[هيئات الصلاة والأصل في وضعها]

[هيئات الصلاة والأصل في وضعها] أعمال الصلاة أو أكثرها مستعمل بين الأمم تحيَّةً وتعظيمًا. أما السجود والركوع والقيام فظاهر. وهكذا التطبيق المنسوخ مستعمل عند أهل الهند تعظيمًا؛ يُطبَّق أحدهم كفَّيه مشيرًا بهما إلى من يعظِّمه، وأغلب ما يُستعمل عند الاسترحام. ورفع اليدين مستعمل عند .... (¬1)؛ يرفع أحدُهم يديه إذا دخل على مخدومه أو أراد الخروج من عنده، إلاَّ أنه يرفعهما مادًّا لهما إلى قدَّام منحنيًا. والجلوس مفترشًا هو قريب من جلوس الإنسان بين يدي مَنْ يحترمه كالتلميذ بين يدي شيخه. ووضع اليد على اليد أيضًا معروف يستعمله الناس أمام من يحترمونه. وقبض الأصابع غير المسبِّحة يحتمل أن يكون له حظٌّ من هذا. والظاهر أن الأصل في هذه الأعمال مِنْ وَضْع الباري عَزَّ وَجَلَّ ليُعبد بها، ثمَّ تناهبها الملوك والرؤساء وغيَّروا فيها وبدَّلوا. ويحتمل أن يكون بعضها اخترعه الناس لتعظيم رؤسائهم، ثم أمر الله عزَّ وجلَّ أن يُعبد به؛ لأن التعظيم لا يستحقّه سواه (¬2). ¬

_ (¬1) بياض في الأصل مقدار كلمة. (¬2) مجموع [4711].

[مشروعية جهر الإمام بآمين]

[مشروعية جهر الإِمام بآمين] النِّيموي (¬1) (ص 94): "لا تبادروا الإِمام، إذا كبَّر فكبَّروا، وإذا قال: ولا الضالين، فقولوا: آمين، وإذا ركع فأركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد". رواه مسلم (¬2). قال النيموي: "يُستفاد منه أن الإِمام لا يجهر بآمين؛ لأن تأمين الإِمام لو كان مشروعًا بالجهر لما علَّق النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - تأمينهم بقوله: ولا الضالين. بل السياق يقتضي أنه لم يقل إلا هكذا: وإذا قال آمين فقولوا آمين". اهـ. أقول: إنما لم يقل: "وإذا قال آمين فقولوا آمين"؛ لأن السنة موافقة الإِمام، بأن يقولها معه لا بعده. وهذا المعنى إنما يؤديه قوله: "وإذا قال ولا الضالين فقولوا آمين". وأما قوله في الحديث: "إذا كبر فكبروا" فالمشروع أن يكون تكبير المأموم بعد تكبير الإِمام، وهكذا الركوع، وقول سمع الله لمن حمده (¬3). **** ¬

_ (¬1) هو ظهير أحسن النيموي الحنفي (ت 1325 هـ). والنقل من كتابه "آثار السنن مع التعليق الحسن". (¬2) (415) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) مجموع [4726].

[مناقشة الشافعية في قولهم بركنية الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهد]

[مناقشة الشافعية في قولهم بركنيَّة الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهد] الحمد لله. احتجَّ الشافعية على أن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهُّد ركن بحديث فَضالة بن عُبيد قال: "بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاعد إذ دخل رجل فصلَّى فقال: اللَّهم اغفر لي وارحمني، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عجلتَ أيها المصلِّي! إذا صلَّيتَ فقعدت فاحْمد الله بما هو أهله وصلِّ عليَّ ثم ادْعُه". قال: ثم صلَّى رجل آخر بعد ذلك فحمد الله وصلَّى على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أيها المصلِّي ادعُ تُجَبْ" (¬1). ورُدَّ بأنه دليل عليكم؛ إذ لو كانت ركنًا لأَمَره بالإعادة كما أمر المسيء صلاته. فأما كونه لم يأمر الذي تكلَّم في صلاته جاهلاً، فلأن مثل ذلك الكلام يُعذر به الناسي والجاهل بخلاف ترك الركن فإنه لا يُعذر ناسيه ولا جاهله؛ وهذا مذهبكم. ومع هذا فلا ندري هل كان دعاء الرجل ودعاؤه (¬2) بعد الفراغ من الصلاة أم فيها، فإن كان الأول فلا علاقة له بالمسألة، إلا أن الأشبه الثاني. واحتجُّوا بحديث الحاكم على شرط مسلم عن ابن مسعود قال: "أقبل ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (23937)، والترمذي (3476، 3477) - واللفظ لأُولي روايتيه -, والنسائي (1284)، وابن خزيمة (709)، وابن حبان (1960). وقال الترمذي: "هذا حديث حسن". وقال في الرواية الثانية: "حسن صحيح". (¬2) كذا في الأصل.

رجل حتى جلس بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن عنده فقال: يا رسول الله أما السَّلام عليك فقد عرفناه، فكيف نصلِّي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا - صلَّى الله عليك -؟ قال: فصَمَت حتى أحببْنا أن الرجل لم يسأله, ثم قال: إذا صليتم عليَّ فقولوا ... ". وحملوا قوله "في صلاتنا" على ذات الركوع والسجود، وهو محتمل كما أنه يحتمل أن يكون المراد: في صلاتنا عليك؛ كأنه قال: كيف نقول في صلاتنا عليك؟ وربَّما يؤيَّده جوابه - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "إذا صليتم عليَّ فقولوا"، ولم يقل: إذا صلَّيتم عليَّ في صلاتكم ... وعلى كلِّ حال، فلا دلالة فيه على الوجوب فضلاً عن الركنيّة؛ فإن قوله: "إذا صلَّيتم عليَّ" معناه: إذا أردتم الصلاة عليَّ، فقوله: "فقولوا" أمر إرشاد وتعليم لتعليقه على إرادتهم. وأيضًا فكونه تعليمًا لسائل التعليم ظاهر في كونه إرشادًا فقط. واستدلُّوا أيضًا بالآية، والأمر للوجوب. وأجيب بتسليم الوجوب، ولكن لا تتعيَّن الصلاة. كما أن الله عزَّ وجلَّ أمرنا بالاستغفار، ولم يقل أحدٌ: إنه ركن من أركان الصلاة. ويظهر لي وجهٌ آخر وهو أن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ} [الأحزاب: 56]، معناه: ادعوا له، وفي التشهُّد الدعاء له: "السلام عليك أيُّها النبي ورحمة الله وبركاته". وإن ادُّعي أن قوله: {صلُّوا} أراد به: انطقوا بلفظ الصلاة.

قلنا: أفلا يحتمل أن يكون المراد الصلاةَ أو ما يرادفها، وهو الرحمة؛ فإنَّ في الصلاة الإبراهيمية: "كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد [مجيد] ... كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد". وهو مأخوذ من قوله تعالى حاكيًا عن الملائكة في خطابهم لآل إبراهيم: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ (¬1) حَمِيدٌ مَجِيدٌ} [هود: 73]. فأنت ترى كيف أبْدَلَ الرحمةَ بلفظ الصلاة، وهو يدلُّ على ترادفهما. ثم إن العبارة التي في التشهُّد: "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته" مطابقة للآيتين. أما آية: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]، فلأنّ قولنا: "السلام عليك" يقابل قوله: {وَسَلِّمُوا}. وقولنا: "ورحمة الله" يقابل قوله: {صَلُّوا} كما مرَّ. وأما آية: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} فظاهر، والله أعلم (¬2). **** ¬

_ (¬1) في الأصل: "إنك" سبق قلم. (¬2) مجموع [4716].

[بحث في فرضية التشهد الأول، وما الذي شرع له سجود السهو؟]

[بحث في فرضية التشهُّد الأول، وما الذي شُرِع له سجود السهو؟] الحمد لله. الحق - إن شاء الله - أن التشهُّد الأول فرض، بمعنى أن تركَه عمدًا مبطلٌ للصلاة، وتركَه سهوًا موجبٌ سجودَ السهو. والدليل على فرضيته هو الدليل على فرضيَّة التشهد الثاني. وأما كون النبي - صلى الله عليه وسلم - تَرَكَه مرَّة وسجد للسهو، فذلك لا ينفي فرضيته بالمعنى الذي قلنا، كما أن كونه سلَّم مرَّة قبل التمام ثم رجع فأتمَّ وسجد للسهو لا ينفي كون السلام قبل التمام مُبطل (¬1) لو وقع عمدًا، وهكذا زيادة ركعة. بل فعله - صلى الله عليه وسلم - ذلك دليل على الفرضيَّة إذ لم يثبت أنه سجد للسهو إلا لفعلِ ما يبطل عمدُه. وقد قال إسحاق بن راهويه في الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهُّد الثاني: إنها فرض بهذا المعنى، أي أنَّ تركها عمدًا مبطل للصلاة بخلاف تركها سهوًا. وقول أصحابنا: إنه سنَّة، دعوى لا دليل عليها، بل قد أبطلناها. ونزيد فنقول: إن كانت سنَّة فلماذا سجد النبي - صلى الله عليه وسلم - لِتَرْكها؟ وما الفرق بينها وبين دعاء الافتتاح والتعوُّذ والتكبيرات وأذكار الركوع والاعتدال والسجود والجلوس بين السجدتين؟ ولم يأتوا بفرق إلا أنه نُقل عن الغزالي أن التشهد الأول من الشعائر ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، والوجه: "مبطلًا".

الظاهرة المخصوصة بالصلاة وليس ما تقدَّم مثل ذلك. فيقال له: إنْ أردتَ بالشعائر الظاهرة ما لها صورة فهذا خاص بالجلوس لا بالتشهُّد، فلو جلس (¬1) ولم يتشهَّد لا يسجد للسهو، وأنتم لا تقولون به. وأيضًا فإنّ جلسة الاستراحة كذلك، وأيضًا فـ "سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد" كذلك لأنه يُجهر بها. وإن أردتَ غير ذلك، فما هو؟ فإن قلتَ: "الظاهرة" لغو، والمقصود الشعائر الخاصة بالصلاة، فـ "سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد" كذلك، وجلسة الاستراحة كذلك. وإن أردتَ أن الخاص بالصلاة هو لفظ التشهُّد، فإن "سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد" مثل [ذلك]؛ لأن كلًّا منهما ذِكرٌ لم يُشْرَع إلا في الصلاة، ومع ذلك لو قاله إنسان في غير الصلاة لم يُمنع. وقول غيره: الفرق بين التشهُّد وبين غيره ممّا مرَّ أنه بعضٌ، فلذلك ألحقت به الأبعاض في السجود للسهو عند تركها. فيقال له: وما البعض؟ قالوا: السنن التي تُجْبَر بسجود السهو. فيقال لهم: هذا دور! إذا سألناكم الدليل على أن هذه الأشياء تُجبر بسجود السهو، قلتم: لأنها أبعاض، فإذا سألناكم الدليل على أنها أبعاض دون غيرها، قلتم: لأنها تُجبر بسجود السهو. والحاصل أنهم لم يأتوا بشيء! فأما القنوت في الصبح فهو غير مشروع أصلاً، كما بيَّن أهل العلم أدلَّة ذلك. ¬

_ (¬1) في الأصل: "فإذا لو جلس".

وأما الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهُّد الأول، فالصواب - إن شاء الله تعالى - أنها غير مشروعة أصلاً لما جاء في حديث ابن مسعود، و [...] (¬1). وهم إنما يثبتونها بالقياس، ولا قياس مع النصِّ، على أن القياس في العبادات ضعيف جدًّا. ثم إن الحديث الذي يستدلون به على الأمر بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهُّد الأخير = يدلُّ أنها إنما شُرعت لتكون مقدِّمة للدعاء، ولا دعاء في التشهُّد الأول. وأيضًا فذلك الحديث يدل على عدم ركنيَّتها في التشهُّد الثاني؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر المصلِّي الذي لم يأت بها بالإعادة. فإن قلتم: كان جاهلاً. قلنا: الجاهل لا يُعذر في ترك ركن من الأركان. فإن قلتم: لعلَّه كان في نفل. قلنا: كان الظاهر أن يبيَّن له النبي - صلى الله عليه وسلم - ركنيَّتها حتَّى لا يتركها مرَّة أخرى في الفرض أو في نفل فيأتيَ بصلاة غير صحيحة، وهي حرام، ولو نفلاً. على أن ذلك الرجل يحتمل أنه ترك أصل التشهُّد؛ فإن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا قعدت فأحمد الله بما هو أهله، وصلَّ عليَّ ثم ادعه"، فأول التشهد: "التحيَّات لله والصلوات والطيبات"، وهذا حَمدُ الله (¬2). ثم: "السلام عليك أيُّها النبي ورحمة الله وبركاته"، وهذه صلاة عليه - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن الرحمة هي الصلاة كما ترجمها هو - صلى الله عليه وسلم - بذلك فقال: "اللهم صلِّ ¬

_ (¬1) بياض في الأصل بمقدار أكثر من سطرين. (¬2) كذا في الأصل، ولعل الصواب: "حمدٌ لله".

على محمَّد، وعلى آل محمَّد، كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك ... "، أراد - صلى الله عليه وسلم - قولَ الملائكة لأهل بيت إبراهيم [في] قوله تعالى: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ (¬1) حَمِيدٌ مَجِيدٌ} [هود: 73]. ثم: "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين"، وهذا الدعاء. وغاية ما في الأمر أن يثبت به أن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظ الصلاة مأمور به في التشهُّد الثاني. وهذا - مع عدم بيانه - صلى الله عليه وسلم - الركنية - يصدق بالفرضية على ما قال إسحاق. فوُجد فرق بين التشهُّد والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلا يجوز مع ذلك قياسها عليه لإثبات مشروعيتها في الجلوس الأول. ثمَّ إنهم أثبتوها في القنوت بغير نصٍّ من الإِمام، بل قياسًا على ثبوتها في التشهُّد، وهذا قياس على مقيس، وهو ضعيف جدًّا. على أنه لا مشابهة بين القنوت والتشهُّد، هذا فضلاً عن كون القنوت لم يثبت من أصله. نعم، احتجُّوا بما رواه النسائي (¬2) عن الحسن بن علي في قنوت الوتر، ¬

_ (¬1) في الأصل: إنك، سبق قلم. (¬2) (1746)، وفي الكبرى (1447 و8047). قال النووي في "الخلاصة": (1/ 458): إسناده صحيح أو حسن. وحسَّنه ابنُ الملقن في "تحفة المحتاج": (1/ 410). وضعَّفه الحافظ ابن حجر بالانقطاع، وبالاختلاف في إسناده. انظر "التلخيص": (1/ 264 - 265).

وفيه: "وصلَّى الله على النبي". فعلى العين والرأس ما ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن هذا الحديث فيه اضطراب معروف. وهبْه صحَّ، فإن أصل القنوت في الصبح لم يصحَّ. وهبه صحَّ، فمن أين زدتم الصلاة على الآل؟ قالوا: قياسًا على الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم -. قلنا: قياس مسلسل، ومع ذلك لِمَ لم تفعلوه في التشهُّد الأول؟ قالوا: التشهُّد الأول مبني عل التخفيف. قلنا: والاعتدال عندكم ركن قصير يبطل تطويله. قالوا: قياسًا على التشهُّد الثاني. قلنا لهم: تارة تقيسونه على الأول وتارة على الثاني؟! فاختاروا أحدهما! إما أن تقيسوه على الثاني وتقولوا: هو ركن، فلا تجبروه بسجود السهو، أو على الأول فلا تزيدوا فيه الصلاة على الآل. ثم بالغوا فقالوا: "وصحبه" مع أن الصلاة على الصحب ليست مشروعة في الأول ولا في الثاني! قالوا: قياسًا على الآل. قلنا: ما جعل هذا القياس المسلسل أولى من القياس المباشر؟ أعني إثباتها في الثاني. ثم إن هذه الزيادات التي جلبتموها جعلتموها كلها تُجبَر بسجود السهو، مع أن سجود السهو إذا وقع لغير سببٍ مبطلٌ، فكيف تجرؤون على شرع المبطل لمثل تلك التمحُّلات؟

والحاصل أن القنوت من أصله لم يثبت، فكفى الله المؤمنين شرَّ القتال. وسجود السهو ليس له إلا سبب واحد، وهو فعل ما يُبطل عَمْده ولا يُبطل سهوه، ولو احتمالًا، أعني بأن لم يتيقَّن فعل المبطل ولكنه شكَّ في فعله. ثمَّ قالوا: إذا قرأ الفاتحة أو السورة أو التشهد أو الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في غير محلها، سجد للسهو على تفريعٍ في ذلك. ولا دليل لهم على هذا. قالوا: لأنه يدل على عدم الاعتناء بالصلاة بحيث شبَّه ترك التشهد الأول. قلنا: أما التشهُّد الأول فقد ثبت أن تركه عمدًا مبطل، ونَقْل تلك الأشياء غير مبطل. ثم لِمَ لم تقولوا في أذكار الركوع والاعتدال والسجود والجلوس بين السجدتين مثل ذلك؟ والظاهر أنَّ أول من طرق ذلك إنما قاسها على السلام قبل التمام؛ فإنه ركن وقع في غير محلَّه، فقاس عليه الفاتحة والتشهُّد والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولكن المتأخرين لم يوجَّهوه بذلك، لعلمهم أن السلام قبل التمام إنما سُجد له لكون فِعْله عمدًا مبطلًا، لا لإيقاعه في غير محلَّه، فوجهوه بما وجهَّوا، وألحقوا بعض ما يناسب توجيههم، ولم يجرؤوا على إلحاق الجميع خوف الشناعة. فالحق - إن شاء الله تعالى - في سجود السهو أنه إنما شُرع لترك التشهُّد الأول، وللسلام قبل التمام، وللزيادة، أو الشك فيها. ومن يقول بالقياس فيُلحق بها كلَّ شيء أبطل عمدُه لا سَهْوُه، سواء أكان فعلًا أم تركًا.

[فائدة حول التشهد وعطف اسم النبي - صلى الله عليه وسلم - على لفظ الجلالة]

وإذًا فلا معنى للسجود لعمد تلك الأشياء؛ إذ قد تبيَّن أن عمدها مُبطل، فأما الشكُّ فإنه لا يتصوَّر عمده. ثمَّ الحق في سجود السهو أنَّه فرض لأنه تداركٌ لفعل مبطل، إلا أن البطلان سقط لأجل السهو. والظاهر - والله أعلم - أن تارك الشيء منها جهلاً لا يُؤمر بسجود السهو لحديث الرجل الذي علَّمه النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة عليه؛ فإننا نختار أن الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - في التشهد الثاني فرض لا ركن، وهذا هو مذهب إسحاق. وأيضًا في حديث معاوية بن الحكم أنه تكلَّم في الصلاة، ولم يأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسجود للسهو مع أنَّ عمد الكلام مبطلٌ. قالوا: إنما لم يأمره لأنه كان مأمومًا، والمأموم يتحمَّل عنه إمامه. قلنا: وما دليلُ أنَّ المأموم يتحمَّل عنه إمامه؟ لم نجد لهم دليلاً في ذلك (¬1). **** [فائدة حول التشهد وعطف اسم النبي - صلى الله عليه وسلم - على لفظ الجلالة] جاء في بعض روايات التشهد: "أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله". وفي بعضها: "وأن محمدًا عبده ورسوله". وفي أخرى: "وأشهد أن محمدًا رسول الله". ¬

_ (¬1) مجموع [4716].

فقال بعضهم: يُفهم منه جواز: "وأن محمدًا رسول الله" بناءً على أن كلمة "أشهد" أُسقطت في روايةٍ، وكلمة "عبده" أُسقطت في أخرى، فيجوز حذفهما معًا. وهو عندي خطأ، فإسقاط كلّ منهما وحدها لا يدلّ على جواز إسقاطهما معًا. ثم من الحكمة في ذلك - والله أعلم - أنه إذا أسقط كلمة "أشهد" صار قوله: "وأن محمدًا" إلخ داخلًا تحت "أشهد" الأولى، فوجب حينئذ أن يُؤتى بكلمة: "عبده" حفظًا لمقام الربوبية ودفعًا لما يُوهمه إدخال الجملتين تحت "أشهد" واحدة من التسوية. وأما إذا جاء بـ "أشهد" أخرى فهذا الإيهام مندفع، فجاز حينئذ إسقاط كلمة "عبده". ومما يرشد إلى هذا إنكاره - صلى الله عليه وسلم - على من قال: "ومن يعصهما فقد غوى" (¬1) وعلى قائل: "ما شاء الله وشئت" (¬2) (¬3). **** ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (870) من حديث عديّ بن حاتم. (¬2) أخرجه أحمد (1839)، والنسائي في "الكبرى" (10759)، وابن ماجه (2117)، والبخاري في "الأدب المفرد" (783)، والبيهقي: (3/ 217) وغيرهم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وفي سنده الأجلح الكندي مختلف فيه, وله شواهد يتقوَّى بها. (¬3) مجموع [4711].

[جمع الصلوات في الحضر]

[جمع الصلوات في الحضر] الحمد لله. في "الصحيح" (¬1) عن ابن عباس وأبي هريرة: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع بأصحابه في المدينة بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء لغير عذر ولا سفر". وفي رواية: "ولا مطر". فأخذ بهذا بعض التابعين وغيرهم. وتأوَّله الجمهور؛ فمنهم من تأوَّله بأنه كان لعذر. ورُدَّ بأن الصحابي قد قال: "بغير عُذرٍ"، وفعله ابن عبَّاس لغير عذر. ثم ما هو العذر؟ فقيل: مرض، ورُدَّ بما تقدَّم، وبأن ابن عبَّاسٍ فعله وهو يخطب في الجامع، وبأن المرض تُحِيل العادة أن يعمَّ، ولو كان خاصًّا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن عذرًا في حقِّ غيره. وقيل: مطر، ورُدَّ بما تقدَّم من إطلاق الصحابي أنه لغير عذر، وأن ابن عبَّاس فعله وهو يخطب في الجامع، وبأنه ثبت في بعض الروايات: "ولا مطر". وأيضًا فابن عبَّاس جمع تأخيرًا، وجمع المطر في الحديث من مذهب الشافعي خاصٌّ بالتقديم، وهو الذي يقتضيه النظر. على أن الجمع للمطر لم تقم عليه حجَّة، وإنما يحتجُّون عليه بهذا الحديث، وهو كما ترى. وقيل - وهو أقرب ما قيل -: لعلَّه جمعٌ صوري، ورُدَّ بأن ابن عبَّاس لمَّا سُئل عن سبب ذلك قال: "أراد أن لا يُحرج أمَّته". ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (543) عن ابن عباس، ومسلم (705) من حديثهما.

والجمع الصوري أحرج من التوقيت. وهذا الرد محتمل ولكن ظهر لي ردٌّ أوضح منه وأبْيَن، وهو أن الصحابي أطلق الجمع، والمفهوم عند الإطلاق: الجمع الحقيقي. ولو أراد الجمع الصوري لقال: أخَّر الصلاة إلى آخر وقتها. وأيضًا - وهو أظهر - أنه قال: "جمع ... من غير عذر ولا سفر" فظهر من فحواه أنه أراد الجمع الذي يكون للسفر، وهو الحقيقي. كما لو قال قائل: قصَّر فلان الصلاة، لاحتمل إرادة القصر المعروف في السفر - وهو أن يصلَّي الرباعية ثنتين -, وإرادةَ القصر المقابل للتطويل. فإذا قال: قصَّر فلانٌ الصلاةَ من غير سفر= تعيَّن الأول، وهو صلاة الرباعية اثنتين. وقيل: إن هذا الحديث منسوخ بأحاديث التوقيت، وفيها النص على تحديد وقت الظهر ووقت العصر ووقت المغرب ووقت العشاء. وهذا جيِّد لو ثبت تأخُّر أحاديث التوقيت عن هذا الفعل، ولا يثبت. ثم في هذا الحديث أن ابن عبَّاس حضره، وهو إنما حضر المدينة أخيرًا. وكذا أبو هريرة. والظاهر أن أحاديث التوقيت متقدَّمة. ثم فِعل ابن عبَّاس له واحتجاجه بهذا الحديث وتصديق أبي هريرة له يُبعد النسخ. فأقوى ما بيد الجمهور أن عمل النبي - صلى الله عليه وسلم - الغالبَ التوقيتُ، وعمل الأئمة مستمرٌّ عليه. ولكن غايته أن يكون الجمع مكروهًا فقط. وفَعَله - صلى الله عليه وسلم - لبيان الجواز، وتَرَكه الأئمةُ لكونه مكروهًا، فلا يلزم من هذا عدم الجواز. والله أعلم (¬1). ¬

_ (¬1) مجموع [4716].

[مسألة قضاء الصلوات المتروكة عمدا]

[مسألة قضاء الصلوات المتروكة عمدًا] احتجاج من يرى قضاء الصلاة المتروكة عمدًا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فدَين الله أحق أن يُقضى" (¬1) = فيه نظر؛ لأن لفظ الدَّيْن موضوع لما في الذمَّة مما يلزم أداؤه، فالحجُّ كان دَينًا في ذمّة أبي الخثعمية يلزمه أداؤه بحيث لو تُكلِّف حمله إلى مكة لصحَّ حجُّه اتفاقًا. وإنما خفي عليها هل يصحُّ أن تحجَّ هي عنه؟ فبيَّن لها النبي - صلى الله عليه وسلم - المثل (¬2) أن ذلك في معنى الدين؛ لأنه شيء ثبت في الذمة يلزم أداؤه. فإذا كان الشيء الثابت في الذمَّة كذلك للبشر ينبغي للوارث أداؤه - ويراه صحيحًا - (¬3)، فأولى منه الثابت لله عَزَّ وَجَلَّ كذلك. وبهذا يتبيَّن أنه يلزم القائلين بقضاء الصلاة المتروكة عمدًا أن يجيزوا للوارث قضاء الصلاة عن مورّثه؛ لأنها عندهم دين، ودين الله أحق بالقضاء. فإذ لم يقولوا بهذا، تبيَّن أنها ليست بدَين، فكيف يصحُّ قضاؤها؟ وقولهم: إن الحديث متروك الظاهر بالنسبة إلى الصلاة = كلام غير مقبول، بل نقول: هو على ظاهره، والصلاة لا تكون دَينًا، وإنما منزلتها في وقتها الأدائي (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1953)، ومسلم (1148) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (¬2) غير محررة في الأصل ولعلها ما أثبت. (¬3) كلمتان غير محررتين ولعلها ما أثبت. (¬4) بعده كلامٌ ضرب عليه المؤلف، ونصُّه: "منزلةُ الحجَّ في أشهره، فمن ترك الحجَّ =

[المسافر إذا نوى إقامة أربعة أيام فأكثر، هل يتم؟]

[المسافر إذا نوى إقامة أربعة أيام فأكثر، هل يتم؟] الحمد لله. احتجاج المالكية والشافعية وغيرهم على أن المسافر إذا نوى إقامة أربعة أيام أتمَّ بما رُوي من إذن النبي - صلى الله عليه وسلم - للمهاجر أن يقيم بمكة ثلاثًا فقط. وَجْهُه كما قيل: إنه دلّ على أن المسافر إذا أقام ثلاثًا لم يرتفع عنه اسم السفر؛ بخلاف ما إذا زاد. فيُردُّ عليهم بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - مكث خمسة عشر يومًا أو أكثر يقصر. وقولهم: إنه كان يتوقَّع السفر، بحيث لم ينو إقامة أربعة أيام سواء= يردُّه أن ارتفاع السفر ليس من شرطه النية، بل إذا حصلت الإقامة بالفعل، ارتفع. وهذا محل نظر، والله أعلم (¬1). **** وجوه الأفضلية في قيام الليل 1 - يحصل أصل السُّنَّة بالصلاة أوله وأوسطه وآخره، والأفضل بعد نصف الليل. 2 - يحصل أصل السُّنَّة بأي مقدار كان من الليل يكون فيه صلاة، ¬

_ = حتى انقضت أيامه, لا يستطيع أن يؤدَّيه في المحرَّم مثلا. ولا يقال: إنه يُقضى حينئذ لأنه وإن كان دينًا إلا أنه دين موقَّت، بمنزلة الإيمان في العمر، فمن لم يؤ [من] ... ". مجموع [4716]. (¬1) مجموع [4717].

والأفضل قيام داود من نصف الليل إلى أن يبقى سدسه، وذلك سدساه الرابع والخامس، والمراد بالليل الليل الشرعي. 3 - يحصل أصل السُّنَّة بالصلاة قبل النوم أو بعده، والأفضل قيام داود، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه (أي السدسان الرابع والخامس كما مرَّ) وينام سدسه، وقد صحَّ هذا مِن فِعْل النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث عائشة في "الصحيح" (¬1). 4 - يحصل أصل السُّنَّة بأي عدد كان، والأفضل أن لا يزيد على إحدى عشرة، ولا ينقص عن سبع كما صَّح مِنْ فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -. 5 - يحصل أصل السُّنَّة بأن تكون الصلاة مثنى مثنى، وبغير ذلك كأربع وغيرها، والأفضل ما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - سائله بقوله: "صلاة الليل مثنى مثنى، والوتر ركعة من آخر الليل" (¬2). وقد صحّ مِنْ فعله - صلى الله عليه وسلم - غير ذلك، ولكن الفعل إذا عارض القول فالمتعين على الأمة العمل بالقول. 6 - يحصل أصل السُّنَّة بأن يكرر المصلَّي سورة واحدة مثلاً، والأفضل خلاف ذلك. 7 - يحصل أصل السُّنَّة بالصلاة في المسجد، والبيت أفضل. 8 - يحصل أصل السُّنَّة بالصلاة في جماعة، والمنفرد أفضل (¬3). ¬

_ (¬1) البخاري (1133). (¬2) أخرجه البخاري (472)، ومسلم (749) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. (¬3) مجموع [4711]. وانظر مكمّلات قيام الليل التي ذكرها الشيخ في رسالة "قيام رمضان" ضمن مجموع رسائل الفقه (ص 381 وما بعدها).

[بحث في التراويح والوتر]

[بحث في التراويح والوتر] الحمد لله. ما زلتُ أتعجَّب من قول أصحابنا: إن الثلاثة وعشرين (¬1) ركعةً التي تُصلَّى في رمضان، منها عشرون ركعة تراويح وثلاث وتر؛ كيف لَم يقولوا: إن اثنتي عشرة تراويح، وإحدى عشرة وتر؟ حتَّى يكون الوتر تامًّا على مذهبهم، وهو أفضل من التراويح. ثم تبيَّن لي أنهم تواتر عندهم عن الصحابة في زمن عمر ثم بعدُ أنهم كانوا لا يعدُّون الوتر إلا الثلاث الأخيرة، ولكن فِعْل الصحابة مبنيٌّ على ما يخالف رأيَ أصحابنا؛ وذلك أنهم كانوا يرون أن الوتر يفصل بينه بتسليم سواءٌ أكان واحدةً مستقلَّة، أو ثلاث (¬2) مجموعة، أو خمس أو سبع أو تسع، ولكن اختاروا الثلاث لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشيتَ الصبح فصلِّ ركعةً" أو كما قال؛ كأنهم كانوا يرون أن المراد وصلها بالركعتين اللتين قبلها. وفي هذا نظر، بل لأنهم - والله أعلم - لمَّا كانوا يصلُّون إحدى عشرة ركعة كانوا يوترون بركعة، فلمَّا ثَنَّوا الركعات، أرادوا أن يثنُّوا الوتر، ولكن تثنيته يخرجه عن الوتريَّة، فزادوه ركعة - والله أعلم -, ووصلوها لأنهم لو فصلوها لم تكن الثلاث وترًا شرعيًّا. والله أعلم (¬3). **** ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، والوجه فيه: "والعشرين". (¬2) كذا في الأصل، والوجه فيه والمعطوفات بعده النصب. (¬3) مجموع [4716].

[تعليق على كلام الشافعي في استحبابه الانفراد في قيام رمضان]

[تعليق على كلام الشافعي في استحبابه الانفراد في قيام رمضان] " مختصر المزني" (ج 1 ص 107) (¬1). قال الشافعي: "فأما قيام شهر رمضان فصلاة المنفرد أحبُّ إليَّ منه". هذا نصٌّ ظاهر في استحباب عدم الجماعة، وفي حواشي الأم (ج 1 ص 125) أنَّ ابن سُريج يؤوَّله بأن مراد الإِمام أن الصلاة التي تُشرع انفرادًا، وهي الوتر وركعتا الفجر، ثمَّ نقل عن البويطي ما يردُّ هذا التأويل. ولا يخفى أنه ليس بتأويل بل تحريف. ونصُّ البويطي الذي نقله البلقيني؛ قال البلقيني: "وفي مختصر البويطي في ترجمة طهارة الأرض: والوتر سنة، وركعتا الفجر سنة، والعيدان سنة، والكسوف والاستسقاء سنة مؤكَّدة. وقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلِّي ركعتين قبل الظهر وركعتين بعد الظهر وركعتين بعد المغرب وركعتين بعد الفجر قبل أن يصلِّي الصبح. والكسوف والعيدان والاستسقاء أوكد، وقيام رمضان في معناها في التوكيد" (¬2). **** [بعض ما وقع من المخالفات في المساجد] 1 - النقش في بناء جدار المسجد. 2 - فرشه بالفرش الملوَّنة. 3 - تعليق الأوراق المكتوبة بقبلته. ¬

_ (¬1) "الحاوي شرح مختصر المزني" للماوردي (2/ 291) ط. دار الكتب العلمية. (¬2) مجموع [4716].

4 - وضع المصاحف لسورة الكهف وغيرها فيه. 5 - وضع المصاحف بالقبلة. 6 - وضع النعال أمام المصلّين وعن أيمانهم. 7 - إحراق البخور فيه. 8 - المحراب. 9 - وضع المراوح الملوَّنة فيه. 10 - كون المصاحف الموضوعة بالقبلة ملوَّنة الدفَّات. 11 - مجيء الخطيب قبل وقت الخطبة. 12 - الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في الخطبة بما يخالف المأثور. 13 - التزام "بارك الله لي ولكم ... " آخر الخطبة الأولى. 14 - التزام دعاء معين بين الخطبتين. 15 - وجود من يتكلم في وقت الخطبة بالذكر. 16 - التزام تحميدٍ معين في الخطبة الثانية. 17 - التزام الدعاء للصحابة رضي الله عنهم. 18 - تمطيط التكبير في الصلاة. وكذلك السلام. 19 - عدم التراصّ في الصف. 20 - التزام "سبحان ربي الأعلى" عند قراءته {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}. 21 - التزام الدعاء عقب ختم الإِمام سورة الغاشية. 22 - رفع الصبيان أصواتهم بـ "ربنا ولك الحمد".

[حكمة النهي عن تخصيص يوم الجمعة بالصوم]

23 - التزام المكث بعد الصلاة. 24 - التزام الدعاء بعد الصلاة مشتركَا، بحيث يدوم رفع المأمومين أيديهم ما دام الإِمام رافعًا يديه. 25 - جعل الإِمام يساره إلى المصلين (¬1). **** [حكمة النهي عن تخصيص يوم الجمعة بالصوم] الحمد لله. ثبت في "الصحيح" (¬2) عن أبي هريرة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يصوم أحدكم يومَ الجمعة إلا أن يصوم قبله أو يصوم بعده". ولمسلم (¬3) عنه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تختصّوا ليلةَ الجمعة بقيامٍ مِن بين الليالي، ولا تختصّوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صومٍ يصومه أحدكم". وفي "حواشي المشكاة" (¬4) عن "اللمعات": "قد ذكروا للنهي عن تخصيص يوم الجمعة بصوم وجوهًا: الأول: أنه نهى عن صومه لئلّا يحصل به ضعفٌ يمنعه عن إقامة وظائف ¬

_ (¬1) مجموع [4726]. (¬2) البخاري (1985)، ومسلم (1144) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) (1144/ 148). (¬4) (ص 179).

الجمعة وأورادها. والثاني: خوف المبالغة في تعظيمه, فيفتتن كما افتتن اليهود بالسبت والنصارى بالأحد. والثالث: أن سبب النهي خوف اعتقاد وجوبه. والرابع: أن يوم الجمعة يوم عيد فلا يصام فيه، وقد ورد: "يوم الجمعة يوم عيدكم فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم" (¬1). وهذا الوجه أحسن الوجوه لأنه منطوق الحديث". اهـ اللمعات مختصر. يقول كاتبه: كلٌّ من هذه الوجوه فيه نظر: أما الأول: فلأنه إنما يحتمل لو كان النهي عن صوم يوم الجمعة وقيام ليلتها مطلقًا, وليس الأمر كذلك. وإنما النهي عن التخصيص؛ فلو صام يوم الخميس جاز أن يصوم يوم الجمعة، وكذا يجوز أن يصوم يوم الجمعة إذا كان يريد أن يصوم يوم السبت، كما هو منطوق الحديث، وخوف الضعف حاصل فيه. وأما الثاني، فلأن مجرد التخصيص بالصيام والقيام لا يؤدي إلى الفتنة. ونحن مأمورون بتخصيص يوم عاشوراء بالصيام، وبتخصيص شهر رمضان ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (8025) وابن خزيمة (2161) والحاكم في "مستدركه" (1/ 437) من طريق أبي بشر، عن عامر بن لدين الأشعري، عن أبي هريرة مرفوعًا. قال الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يُخرجاه, إلا أن أبا بشر هذا لم أقف على اسمه"، وتعقّبه الذهبي بقوله: "قلتُ: هو مجهول، وشاهده في الصحيحين". يعني ما ورد في الصحيحين من النهي عن إفراد يوم الجمعة بالصيام.

بالصيام، وغير ممنوعين عن تخصيصه بالقيام بدليل زيادة الترغيب فيه. وأما الثالث، [فـ]ـإنه كان يكفي في دفع ظن الوجوب أن ينصّ نصًّا قاطعًا على عدم وجوبه. وقد رُغِّبنا في صيام يوم عاشوراء، ولم يُخش من ذلك أن يُظَنَّ الوجوب، ورُغِّبنا في صيام أيام مخصوصة كالاثنين والخميس وثلاث من كلّ شهر وستٍّ من شوال وغير ذلك، ورغبنا في قيام رمضان أكثر من قيام غيره، وذلك يدل على عدم المنع من تخصيصه، ولم يُخش في شيء من ذلك ظن الوجوب. وأما الرابع، فالحديث الذي ذكره لا أظنّه يصح، فلا حجّة فيه. والمعنى ضعيف لِما أوردناه على الوجه الأول بأن المنهي عنه إنما هو التخصيص، وصومُ يوم قبله أو بعده لا يخرجه عن كونه عيدًا، كما أن صوم يوم الأضحى ويوم الفطر حرامٌ مطلقًا لا تخصيصهما فقط. وأيضًا فالعيدية، وإن كان فيها مناسبة لعدم الصيام، فلا مناسبة فيها لعدم القيام، بدليل أننا لم نُنه عن تخصيص ليلة الأضحى وليلة الفطر بالقيام. وإذا تقرّر هذا فالصحيح - والله أعلم - أن حكمة النهي إنما هي لأن تخصيص يوم من الأيام بالعبادة إنما يجوز إذا كان قد خصّه الشارع بذلك وإلا كان تخصيصه بدعةً، كما تقرّر في مباحث البدع، فخشي - صلى الله عليه وسلم - أن يقع الناس في هذه البدعة في صيام يوم الجمعة أو قيام ليلته استنادًا منهم إلى أنه يوم فاضل، فنهاهم عن ذلك تنبيهًا منه - والله أعلم - إلى أنَّ مجرّدَ كون الوقت فاضلًا لا يقتضي كون العبادة فيه فاضلةً مطلقًا. وإنما العبادة الفاضلة

فيه ما نصّ عليها الشارع بخصوصها، كالصيام في عاشوراء وغيره مما تقدّم، وكالقيام في رمضان. فإن قيل: فعلى هذا لا يمتنع صوم يوم الجمعة وحده إذا وافق يوم نذرٍ مثلًا أو نحو ذلك، فيما إذا لم يكن تخصيصه بالصيام تحرّيًا لفضله، وإنما وقع اتّفاقًا. فالجواب: أن هذا محتمِل إلا أن الأظهر أنه يمتنع أيضًا سدًّا للذريعة؛ لأن الجهّال إذا رأوا عالمًا خصَّ يوم الجمعة بصيام توهّموا أنه إنما خصّه لفضله، فيتتابعون في تخصيصه، بخلاف ما إذا رأوا عالمًا خصّ يوم الثلاثاء مثلاً، فإنه ليس ليوم الثلاثاء فضيلة تُوقع في أنفسهم أنه إنما خصّه لأجلها. فأما صيام يوم الخميس وحده، فإنما لم يُمنع لأنه مرغَّب فيه شرعًا. والحاصل أن يوم الجمعة يوم فاضل في الشرع، ولكن لا بالنسبة إلى صيامه وقيام ليلته، بل بالنسبة إلى غير ذلك من العبادات المشروعة فيه. فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن تخصيصه بالصيام والقيام؛ لأن تخصيصه إن كان عن اعتقاد أفضليّتهما فيه فهو خطأ، وإن كان اتفاقًا خشي أن تتوهّم العامة أفضليّتهما فيه. والله أعلم. وبهذا يُعلم أن ما يفعله كثير من الناس من تخصيص يوم الجمعة بالصدقة بدعة؛ لأنه لم يثبت ذلك. وأيضًا فإن تخصيصه بالصدقة مناقض للمصلحة الشرعية؛ لأن حاجة الفقراء لا تختص بوقت دون وقت، فلتكن الصدقة كذلك. وأيضًا إذا علم الفقراء من رجلٍ أنه يخصِّص يوم الجمعة أدّى ذلك إلى

مفاسد. منها: أن بعضهم قد يجهل ذلك، أو يكون له مانع عن الحضور فيفوز بالصدقة المبادرون. ومنها: أن بعضهم قد يكون محلّه بعيدًا فيحمله الحرص على تحصيل الصدقة على أن يترك التهيّؤ للجمعة، بل قد يترك الجمعة! فإن قيل: فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخصَّص شهر رمضان بزيادة العطاء. فالجواب أن ما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - فهو مشروع قطعًا, ولا منافاة فيه للمصلحة المذكورة؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يخص رمضان بالصدقة، بل كان يخصُّه بكثرتها، فكان في سائر السنة كلَّ ما رأى محتاجًا للصدقة أعطاه. ثمّ يُكثر البذل في رمضان لإغناء الفقراء عن التكسّب أو كثرة الدوران فيه ليتفرّغوا للعبادة. وشهر رمضان شهرٌ لا يؤدِّي إلى ما تقدّم من المفاسد. والحاصل أن السعادة في الاتِّباع والشقاوة في الابتداع. وفقنا الله تعالى لرضاه بفضله وكرمه (¬1). **** ¬

_ (¬1) مجموع [4711].

[هل يكتفى في النسك بالنية دون النطق به؟]

[هل يكتفى في النسك بالنية دون النطق به؟] البيهقي (¬1) في "باب من قال لا يسمَّي في إهلاله حجًّا ولا عمرة": " ... وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمرو، قالا: ثنا أبو العباس محمَّد بن يعقوب، أنا يحيى بن أبي طالب، أنا عبد الوهاب بن عطاء، أبنا ابن جريج، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن نافع: أن ابن عمر سمع رجلاً يقول: لبيك بحجة (¬2)، فضرب في صدره وقال: أَتُعْلِم الله ما في نفسك؟ ". وفي الباب أحاديث أخرى في أن الصحابة رضي الله عنهم اكتفوا بالنية ولم ينطقوا بالتعيين. أقول: فأما نطقه - صلى الله عليه وسلم -، فهو لإعلام الناس بنيته؛ لما يتوقف على معرفتهم إياها من الأحكام. وأما ما جاء من أن الصحابة كانوا يصرخون بالحج صراخًا، وفي رواية: بالحج والعمرة (¬3) (¬4). **** ¬

_ (¬1) (5/ 40). (¬2) أشار الشيخ إلى أنه في نسخة: "بحج" (¬3) أخرجه مسلم (1247) من حديث أبي سعيد. والمعنى يرفعون أصواتهم بالتلبية. (¬4) إلى هنا انتهى كلام الشيخ. مجموع [4726].

[بحث في ما يستثنى من قاعدة: "الأجر على قدر النصب"]

[بحث في ما يستثنى من قاعدة: "الأجر على قدر النصب"] الحمد لله. مما يستثنى من قاعدة الأجر على قدر النصب قتلُ الوزغ؛ لما رواه مسلم (¬1) عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قتل وزغًا في أول ضربة كُتبتْ له مائةُ حسنةٍ, وفي الثانية دون ذلك، وفي الثالثة دون ذلك". وكأنَّ ذلك - والله أعلم - لأن القاتل بأول ضربة أحْسَنَ القِتْلة بخلاف غيره، وقد ثبت الأمر بإحسان القِتْلة بعموم قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل: 90]. ويفسره حديث مسلم (¬2) عن شدَّاد بن أوس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله تبارك وتعالى كتب الإحسان على كلّ شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلَة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبْحَة ... " الحديث. وفيه دليل على عموم الصيغة في مثل الإحسان في الآية. والقِتْلةُ والذِّبْحةُ في الحديث عامة، كما أن "قَتَلَ" كذلك لأنه فعل في سياق النفي (¬3)، وحَذْف المعمول مؤذن بالعموم، أي لأن حذفه بغير دليل إنما يكون لعمومه كما هو مقرر في علم النحو. والله أعلم. كاتبه (¬4). **** ¬

_ (¬1) (2240). (¬2) (1955). (¬3) كذا في الأصل ولعل صوابه: "في سياق الشرط". (¬4) مجموع [4657].

[فائدة في ذوي القربى]

[فائدة في ذوي القربى] مما يحتج به على عدم دخول أولاد ذوات القربى في ذوي القربى: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقسم لأولاد الهاشميات في خمس الخمس. وفي ترجمة عثمان رضي الله عنه من "التهذيب" أن جدّته - أمَّ أمه - أم حكيم بنت عبد المطلب (¬1). **** [بعض صور النذر، وهل هي طاعة؟] كثيرًا ما يُظنُّ أن من الطاعة: نذر الطاعة في حقّ من يريد فعلها ولكنه يخشى أن لا تُطاوعه نفسه على فعلها، فيقصد بالنذر الاستظهار على نفسه؛ لأنها أن تخضع لفعل المنذور لكونه واجبًا يخشى من تركه العذاب = أقرب من أن تخضع لفعل المندوب. وعندي في هذا نظر؛ لأن العذاب ليس لترك ذلك الواجب بعينه، وإنما هو لزيادة السيئات على الحسنات. فمن كان عليه ذنب ولكن له حسنات عظيمة تزيد عن مقدار الذنب فإنه لا يعذّب، والله أعلم. وعلى هذا، فإنَّ ترك المندوب يُخشى منه العذاب، لا من حيث تركُه بخصوصه، بل من حيث إنَّ تركه موجب لقلّة الحسنات، وقلَّةُ الحسنات يُخشى أن يلزم منها زيادة السيئات، وزيادة السيئات موجبة للعذاب، والعياذ بالله. ¬

_ (¬1) مجموع [4711]. يعني فلم يقسم لعثمان بن عفان من خمس الخمس مع أن جدته لأمه هاشمية.

فإن قيل: هذا صحيح، ولكن ترك الواجب أظهر في خشية العذاب من ترك المندوب؛ فإنَّ ترك الواجب ارتكاب سيئة وترك حسنات كثيرة، بخلاف ترك المندوب فإنما فيه تركُ حسناتٍ دون حسناتِ [الواجب] (¬1). قلت: هذا يَرِد لو قلنا: إنه ينبغي أن تمتنع النفس من ترك المندوب من حيث هو مندوب كما تمتنع من ترك الواجب الأصلي. فأما ما أوجبه المرء بالنذر فلا، ونضرب لذلك مثلًا يتضح منه المراد. فنقول: النفس أقرب إجابة إلى فعل صلاة الظهر منها إلى فعل أربع ركعات قبلها, ولها في هذا عذر؛ لأنه لو فُرِض أن لها قبل ذلك مائة حسنة، ومائة سيئة، فإن ترك الظهر يستلزم زيادة السيئات فيجب العذاب، بخلاف ترك سنة الظهر. ولو فُرِض أن لها سبعمائة سيئة وعشر حسنات، فإنّ فِعْل الظهر يخلصها من العذاب؛ لأن أجر الفرض سبعمائة حسنة على ما قيل بخلاف فعل سنة الظهر فقط. ولكن نفس المؤمن لا تكون إلا خائفة أبدًا، فهي دائما تعتقد أن سيئاتها أكثر من حسناتها، فلا تكِلُّ ولا تملُّ من السعي في تكثير عدد الحسنات. مثال آخر: إذا أردتَ أن تنذر عمل حسنة فإننا نفرض عند النذر أنَّ لك مائة حسنة ومائة سيئة، فأنت إذا عملت تلك الحسنة زادت حسناتك فتسلم من العذاب، وإن لم تفعلها بقي الحال على ما كان عليه. وإذا نذرت فعملتَها زادت حسناتك، وإن لم تفعلها زادت سيئاتك. فينبغي لك أن تقول: يا نفسُ طاوعيني على عملها ابتداءً؛ فإن الثواب ¬

_ (¬1) في الأصل: "المندوب", ولعله سبق قلم.

[طهارة جرة الأنعام]

الذي تطمعين فيه بعد النذر هو الذي تطمعين فيه الآن؛ لأن النذر لا يزيد في الأجر، والله أعلم. والفرض الذي يزيد أجره هو ما فرضه الله ابتداءً. و ... (¬1). **** [طهارة جرَّة الأنعام] الحمد لله. ما يدلُّ على طهارة الجِرَّة (¬2)، كراهية لحم الجلّالة دون غيرها, ولو كانت الجِرَّة نجسة لكانت الإبل والبقر والغنم كلُّها جلَّالة. والله أعلم (¬3). **** [تعليق على "مختصر المزني"] المزني (ج 2 ص 157) (¬4). "قال الشافعي: أخبرنا مالك عن زيد بن أسلم عن ابن المسيب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع اللحم بالحيوان. وعن ابن عباس أن جزورًا نُحِرت على عهد أبي بكر رضي الله عنه فجاء رجل بعَنَاق فقال: أعطوني جزءًا بهذه العناق، فقال أبو بكر: لا يصلح هذا. ¬

_ (¬1) هنا وقف قلم المؤلف، وترك مقدار ربع الصفحة بياضًا. مجموع [4711]. (¬2) الجِرَّة: ما يُخرجه البعير من بطنه ليَمضُغَه ثم يبلعه. (¬3) مجموع [4716]. (¬4) "الحاوي شرح مختصر المزني" (5/ 157).

أقول في هذا الباب فوائد

وكان القاسم بن محمَّد، وابن [ص 158] المسيب، وعروة بن الزبير، وأبو بكر بن عبد الرحمن يحرمون بيع اللحم بالحيوان عاجلًا وآجلًا يعظمون ذلك ولا يرخِّصون فيه. قال: وبهذا نأخذ، كان اللحم مختلفًا أو غير مختلف، ولا نعلم أحدًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - خالف في ذلك أبا بكر. وإرسال ابن المسيب عندنا حسن. قال المزني: إذا لم يثبت الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فالقياس عندي أنه جائز، وذلك أنه كان فصيل بجزور قائمين جائزًا, ولا يجوزان مذبوحين لأنهما طعامان لا يحل إلا مثلًا بمثل، فهذا لحم وهذا حيوان وهما مختلفان، فلا بأس به في القياس إن كان فيه قول متقدِّم ممن يكون بقوله اختلاف، إلا أن يكون الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثابتًا فيكون ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". أقول في هذا الباب فوائد: 1. قول الشافعي: "وإرسال ابن المسيب عندنا حسن" فيه بحث مشهور، وقد اشتهر أن الحسن إذا جاء في كلام المتقدمين لا يُراد به الحسن في اصطلاح المتأخرين، بل يُراد به الحسن اللغوي، فيكون المراد هنا أن إرسال ابن المسيب قويٌّ بالنسبة إلى إرسال غيره. وهذا لا يستلزم الاحتجاج به. وإنما احتجَّ به هنا لما عضده من قول الصدِّيق وغيره، وكونه لم يعلم مخالفًا لذلك. ويحتمل أن يكون الشافعي أراد بقوله: "وإرسال ابن المسيب عندنا حسن" = إرساله هذا الذي ذكره في الباب، أي أنه حسن لاعتضاده بما ذكر. والأول أولى.

2. أن الشافعي وصاحبه المزني يجيزان ورود الشرع بخلاف القياس، ويوجبان اتِّباع الدليل الشرعي في ذلك، وإن لم يخلُ من ضعفٍ. 3. أن الشافعي يحتجُّ بقول بعض الصحابة لم يعلم له مخالفًا. ولكن هذا حيث لم يقم دليل على خلافه، كما حقَّقناه في غير هذا الموضع. وهل يستجيز مخالفته للقياس؟ محل نظر. وليس في هذا الباب دلالة على عدم المخالفة لأنه قد يقال: إنه إنما لم يخالفه لاعتضاده بمرسل ابن المسيب، فالله أعلم. 4. أن المزني لا يستجيز مخالفة قول من سبق، ولو كان بيده قياس إلاّ إذا ثبت خلافٌ عنهم. 5. [...] (¬1). **** الحمد لله. بيع الفضة بالفضة، والذهب بالذهب، والمقتات بالمقتات على الوجه المحرَّم، وحكمة تحريمه (¬2). أما بيع أحدها بشيء من صنفه متفاضلاً حالًّا، فمِنْ حكمة النهي عنه - والله أعلم - التضييق على المحتكرين؛ لأن من الناس من يحتكر الذهب مثلاً، فإذا اجتمع اثنان محتكران للذهب وعند أحدهما ذهب جيِّد وعند ¬

_ (¬1) كذا، وترك المؤلف باقي الورقة بياضًا. مجموع [4716]. (¬2) وللمؤلف رسالة في الربا وأنواعه ضمن "مجموع رسائل الفقه"، المجلد الثالث.

الآخر ذهب رديء، وهما يريدان التبايع، إما لمصلحة الاحتكار, لأن كلاًّ منهما يقول: إذا احتكرت فينبغي أن يكون عندي من النوعين، وإما لغير ذلك، لكن مع مراعاة كلٍّ منهما للاحتكار, لأن أحدهما يقول: إذا لزم لي أن أشتري شيئًا من الذهب وأعطي في قيمته ذهبًا، فلا ينبغي أن أشتريه إلا من رجل آخر محتكر للذهب مثلي؛ لأنه أيضًا يراعي الاحتكار، فلا يخرج الذهب إلا عند غلاء سعره، وبذلك يتمُّ مقصودي في حكر الذهب حتَّى يغلى سعره. والآخر يقول: إذا بدت لي مصلحة في أن أبيع شيئًا من الذهب، فلا ينبغي لي [أن] أبيعه إلا بذهب حتَّى لا أضيِّع شيئًا من المقدار الذي أريد احتكاره. فضيَّق الشرع عليهم فألزمهم أن لا يبيعوا الذهب بالذهب حالًّا إلا مثلاً بمثل؛ لأن الغالب أن لا تدعو حاجة لاشتراء الذهب بالذهب إلا لمزيَّة لأحدهما على الآخر. وصاحب الذهب الممتاز لا يرضى أن يخسر تلك المزيَّة، فيضطرَّ أحدُهما إلى بيع ذهبه بفضَّة أو غيرِها ثمَّ يشتري بذلك ذلك الذهب الذي رغب فيه، فينفكُّ الاحتكار أو يبقيان مضيَّقًا عليهما. وإنما لم يُمنع بيع الذهب بالذهب مطلقًا لأن في ذلك تضييقًا شديدًا على الناس. وقد يكون البائع أو المشتري غيرَ قاصد للاحتكار، وإنما دعتْه ضرورة أخرى. والعادة أن صاحب الذهب الممتاز لا يرضى بخسارة تلك المزيَّة إلاَّ لضرورة دعته، فالتضييق عليه مع اضطراره منافٍ للحكمة، فكانت الحكمة أن يُحدَّ لذلك حدٌّ بحيث لا يباع الذهب بالذهب إلا من ضرورة، وهذا الحدُّ هو إيجاب المماثلة.

وأما بيع الذهب بالذهب متماثلًا نسيئة، فلأنه في معنى بيع الذهب بالذهب متفاضلًا نقدًا لأن الأجل في معنى الفضل. فقد تكون قطعة من الذهب تزن أوقية وقيمتها خمسون درهمًا، وقطعة من ذهب آخر تزن أوقيةً أيضًا (¬1) وقيمتها أربعون درهمًا، ولكن صاحب القطعة الممتازة يرضى ببيعها بالقطعة الأخرى إلى سنة، لِمَا يستفيده من الأجل. وبذلك لا يتحقق أنه كان مضطرًّا إلى البيع. وفيه أيضًا الدخول في ربا القِران؛ إذ قد يكون إنسان محتاجًا إلى النقد ويعلم أنَّ عند صاحبه ذهبًا، فيقول: لو أَتَيته أستقرضه لم يقرضني، ولو شرطت له أن أزيده في القضاء كان ذلك ربا، فالحيلة أن أشتري منه مائة دينار من ذهبه بمائة دينار من ذهب أجود مع أنَّ الوزن واحد، وأؤجِّله إلى الأجل الذي أحتاج أن أقترض إليه. وهو طبعًا يرضى لزيادة الذهب الذي بعتُه منه في الجودة. والحاصل أن مقصود هذا الرجل الاقتراض، وإنما جعل الصورة بيعًا ليسلم من الربا في زعمه. فهذا في المعنى اقترض من صاحبه مائة دينار وشَرَط له أن يقضيه مائة دينار أجود منها، وهذا هو الربا. وأما بيع الذهب بالفضة متفاضلًا حالًّا فكأنه أجيز - والله أعلم - لأن الضرورة كثيرًا ما تدعو من عنده فضَّة أن يستبدلها بذهب وبالعكس، فتقلُّ تهمة قصد الاحتكار، بخلاف من كان عنده ذهب ويريد استبداله بذهبٍ، أو ¬

_ (¬1) في الأصل: "أيضًا تزن أوقيةً أيضًا".

فضةٌ ويريد استبدالها بفضَّة؛ فإن الضرورة في ذلك تقلُّ فتَقْوى تهمة قصد الاحتكار. وأما بيع الذهب بالفضَّة نسيئةً فهو مظنَّة الربا؛ إذ قد يكون إنسان محتاجًا إلى مائة دينار مثلاً، ويريد أن يتحصَّل عليها من صاحبه، ولكنه يعلم أنه إن قال له: أقرِضْني، لم يُقرضه لأنه يطلب الربح. ولو شرط له أن يزيده في القضاء كان ذلك ربا، فيحتال بأن يشتري منه مائة دينار بألف وخمسمائة درهم إلى أجل مع أن صرف الدينار حينئذ ثلاثة عشر درهمًا مثلاً، وإنما زاده ليرضى بذلك. فالحاصل أن مقصوده الاقتراض، وإنما جعل الصورة بيعًا ليسلم من الربا في زعمه. فهذا في المعنى من اقترض من صاحبه مائة دينار وشَرَط له أن يقضيه مائة دينار ومائتي درهم، وهذا هو الربا. فالمقصود أنَّ الذهب والفضة متقاربان؛ لأنه تجمعهما النقديَّة، فإذا اقترض الإنسانُ أحدَهما على أن يردَّ الآخر، فكأنه اقترض أحدَهما على أن يردّ من جنسه مع زيادة. وإذا جعل بدل صورة القرض صورة البيع، فالمعنى باق. ومثل الذهب والفضة: البرُّ والتمر، وبقيَّة المقتاتات، وما لا بدَّ لها منه كالملح. أما في معنى الاحتكار، فلأن احتكار كلٍّ منها شديد الإضرار بالناس. أما احتكار القوت وما لا بدَّ منه فظاهر. وأمَّا احتكار النقد فلأنَّه الوسيلة إلى نيل الأقوات وغيرها. ويتبيَّن هذا بما إذا فرضنا أن النقد ارتفع من السوق

جملةً فإن الحركة تتوقَّف. فالذي عنده ثياب ويريد القوت، لا يتيسَّر له ذلك؛ لأن بائع الأطعمة قد لا يرغب في الثياب التي عنده، وإنما يريد نوعا آخر، أو لا يرغب في الثياب جملةً، وإنما يريد شيئًا من الآلات، أو يريد أن يستخدم من يعمل له، أو غير ذلك. وصاحب الثياب قد يجد آخر يرغب فيها ولكن يبذل له شيئًا من الجوهر مثلاً، أو غير ذلك مما لا يرغب فيه صاحب الطعام أيضًا. ويموت صاحب الثياب جوعًا. بخلاف ما إذا كان النقد دائرًا في السوق؛ فإن صاحب الثياب يبيع به، لعلمه بأن صاحب الطعام طبعًا يقبله لأنه جامع الأغراض. وأمَّا في معنى الربا، فلأن الأقوات جرت العادةُ باقتراضها، كما جرى العادة باقتراض النقد. والبرّ مع الذرة مثلًا كالذهب مع الفضَّة، يجمعهما القوتيَّة كما جمعت ذينك النقدية. فإذا اقترض الإنسانُ أحدَهما على أن يردَّ الآخر فكأنه اقترض صنفًا واحدًا على أن يردَّه بزيادة. وإذا جعل بدل صورة القرض صورة البيع فالمعنى باق. فأما الثياب مثلاً، فحاجة الناس إليها دون حاجتهم إلى القوت، ولم تجرِ العادة باحتكارها جريانَها باحتكار القوت والنقد، ولا جرت العادة باقتراضها جريانَها فيهما (¬1). **** ¬

_ (¬1) مجموع [4716].

[مناظرة فقهية في بعض صور الربا]

[مناظرة فقهية في بعض صور الرِّبا] [قلتُ: هل يجوز إذا] (¬1) باع رجلٌ سلعة بخمس رُبّيات إلى شهر، وعند تمام الشهر اتفقا على مدِّ الأجل شهرًا آخر، في مقابل زيادة ربّيّة، فيكون الدين ستة ربّيات. قال: لا. قلت: فلو قبض البائع الخمس ربّيات ثم أرجعها للمشتري قرضًا بشرط زيادة ربّية؟ فمال إلى جوازه. فقلت: ما الفرق بين المسألتين؟ قال: قد فرق بينهما الشرع، فمنع بيع الربّيّات بالربّيات إلا مع المماثلة والحلول، وأجاز القرض مع عدم الحلول، اتفاقًا. فقلت: هذا خارج عن موضوعنا, لأنه فرق بين البيع والقرض، وأنا إنما حكيت الفرق بين المنفعة المشروطة في مقابل مدّ الأجل في الثمن، والمنفعة المشروطة في مقابل ابتداء أجل في القرض. فلم يفهم. فقلت: أنا أوضّح لك هذا: لو باعه عبدًا بثلاثة أثواب إلى شهر، وعند تمامه مدّ في الأجل بشرط زيادة ثوب، فتكون أربعة أثواب؟ قال: لا يجوز؛ لأنه ربا في البيع. قلت: فلو أقرضه ثلاثة أثواب على أن يرجع له أربعة؟ فمال إلى جوازه. ¬

_ (¬1) كتب الشيخ أولاً: "قلت: هل يجوز أن يُباع" ثم ضرب عليه كلَّه وكتب: "باع رجل ... " إلخ. وقد أثبتُّ نحوًا من العبارة المضروب عليها ليتَّم المعنى.

[تعليق على "كتاب الأم" حول اشتراط منفعة الرهن]

قلت: فهل فرّق الشارع بينهما كما ذكرت أولاً؟ قال: أما في هذا، فلا. قلت: فتبيَّن لك أن جوابك الأول خارج عن الموضوع؟ قال: نعم، ولكن عندي جواب آخر. قلت: ما هو؟ قال: الأول ربا بيع، وليس هذا ربا بيع. قلت: هذا مسلَّم أن الثاني ليس بربا بيع، ولكنه نظيره، فهل من فرقٍ معنوي بينهما؟ وفوق هذا، فإن الحرمة في المقيس أولى من المقيس عليه عندنا معشر الشافعية، وعندكم معشر الحنفية. وذلك أن (¬1). **** [تعليق على "كتاب الأم" حول اشتراط منفعة الرهن] [من الأم ج 3] (¬2): "باب ما يفسد الرهن من الشرط: ... فإن شرط المرتهن على الراهن أن له سُكْنى الدار، أو خدمة العبد، أو منفعة الرهن، أو شيئًا من منفعة الرهن ما كانت، أو من أي الرهن كانت دارًا أو حيوانًا أو غيره = فالشرط باطل. ¬

_ (¬1) هنا توقف قلم الشيخ، وبعده بياض قدر ثلث الصفحة. مجموع [4726]. (¬2) (4/ 322 - 323).

[أنواع الرخص في العبادات]

وإن كان أسلفه ألفًا على أن يرهنه بها رهنًا، وشرط المرتهن لنفسه منفعة الرهن = فالشرط باطل؛ لأن ذلك زيادة في السلف. وإن كان باعه بيعًا بألف، وشرط البائع للمشتري أن يرهنه بألفه رهنًا، وأن للمرتهن منفعة الرهن = فالشرط فاسد؛ لأنّ لزيادةِ منفعة الرهن حصةً من الثمن غير معروفة". أقول: إنما علَّل هذا بما ذكر؛ لأن الزيادة هنا ليست في مقابل المهلة، وإنما هي من جملة الثمن، كأن البائع يقول: إنّ سلعتي تُقَوَّم بأكثر من ألف، ولكني أبيعك إياها بألف ومنفعة المرهون. تأمل. ثم ذكر بعد فروعًا علَّلها بغير الزيادة في السلف؛ لأنها ليست منها كما يُعلم بالتأمل (¬1). **** [أنواع الرخص في العبادات] الحمد لله. حديث: "إنّ الله يحبُّ أن تُؤتى رُخَصُه كما يحبّ أن تؤتى عزائمُه" (¬2) يظهر لي أن الرخص على ضربين: ¬

_ (¬1) مجموع [4726]. (¬2) أخرجه ابن حبان (354)، والبزار (990)، والطبراني في "الكبير" (11880) وغيرهم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وسنده قوي. وأخرجه أحمد (5866)، وابن خزيمة (950)، وابن حبان (3568) وغيرهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وإسناده قوي أيضًا، وله شواهد أخرى.

[مسألة الطلاق الثلاث, والتحليل]

ضرب يَرِد بصورة التخيير، ولا يعارضه شيء، سواء أجاء ما يؤيد التخيير أم لا. فهذا - والله أعلم - ليس مرادًا بالحديث، ومنه كفارة اليمين. الثاني: ما ورد بصيغة الأمر ولم يعارضه شيء، فهذا هو المراد بالحديث. ويبقى التردّد فيما ورد بصيغة نفي الحرج، أو نفي الجُناح ونحوهما. فالظاهر في هذا أنّه من القسم الأول، إلاّ أن يجيء ما يدخله في القسم الثاني لورود أمر آخر به، أو مواظبة النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه، ومنه القَصْر في السفر. وكان الظاهر في الصوم في السفر أنه من القسم الثاني؛ لأن ظاهر القرآن في معنى الأمر، بل آكد منه، إذ جعل محلّ الصيام هو أيام أُخَر. ولكن السنة خصّصت ظاهر القرآن بما إذا وُجِدت المشقة (¬1). **** [مسألة الطلاق الثلاث, والتحليل] (¬2) الحمد لله. أمّا السبيل الذي أشار إليه السائل (¬3)، فإنّ من أهل العلم [مَن] ذهب (¬4) إلى أنّ مثل هذا الطلاق المسؤول عنه لا يقع به إلا واحدة. وهذا مذهب الزيدية، يروونه عن أسلافهم من أئمة أهل البيت كابرًا عن كابر، ووافقهم ¬

_ (¬1) مجموع [4719]. (¬2) للمؤلف رسالة بعنوان "القول المشروع في الطلاق المجموع" مطبوعة ضمن هذه الموسوعة. (¬3) لم نقف على كلام هذا السائل الذي كتب المؤلف هذا التقييد - فيما يظهر - إجابة لسؤاله. (¬4) غير محررة، وكان قد كتبها: "يذهب" ثم أصلحها كما هو مثبت.

عليهم المتأخرون من محدّثي أهل اليمن، كالشوكاني وغيره، وحكاه في "نيل الأوطار" (¬1) عن جماعة من الصحابة والتابعين وهلمّ جرًّا. واختاره ابن تيمية وابن القيم، وهما من المنتسبين إلى مذهب إمام السنة الإِمام أحمد بن حنبل. ودليلهم حديث ابن عباس الثابت في "صحيح مسلم" (¬2) وغيره. ولكن أئمة المذاهب الأربعة على أنّه يقع ثلاثًا. وقد أجاب الشافعي - رحمه الله تعالى - عن هذا الحديث في كتاب "اختلاف الحديث" المطبوع بهامش "الأم". انظر: ج 7 ص 310 إلى ص 315 (¬3). وكلامه - رحمه الله تعالى - يدلّ على تردّد، فإنّه ذكر هذا الحديث، ثم ذكر أنّ ظاهر القرآن خلافه، ثم عارضه بحديث عائشة قالت: جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إنّي كنت عند رفاعة فطلقني فبتَّ طلاقي ... ، فتبسّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى يذوق عسيلتك ... " (¬4). ¬

_ (¬1) (6/ 260). (¬2) (1472) ونصه: قال ابن عباس: "كان الطلاق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمرٍ قد كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم". (¬3) (10/ 256 - 260) ط. دار الوفاء. (¬4) أخرجه البخاري (2639)، ومسلم (1433).

قال الشافعي: "فإن قيل: فقد يحتمل أن يكون رفاعة بتّ طلاقها في مرّات. قلت: ظاهره في مرة واحدة ... ". أقول: لكن قد ثبت في "صحيح مسلم" (¬1) وغيره أن طلاق رفاعة كان في مرات، فسقط الاستدلال بحديث رفاعة. قال الشافعي: "فلما كان حديث عائشة في رفاعة موافقًا ظاهرَ القرآن، وكان ثابتًا، كان أولى الحديثين أن يؤخذ به، والله أعلم، وإن كان ليس بالبين فيه جدًّا (¬2) ". قال الشافعي: "ولو كان الحديث الآخر له مخالفًا كان الحديث الآخر يكون ناسخًا، والله أعلم، وإن كان ذلك ليس بالبين فيه جدًّا". اهـ. ففي كلامه - رحمه الله - من التردّد ما لا يخفى، مع أنّه كان بيده ظاهر حديث امرأة رفاعة، فكيف لو بلغه ما ثبت في مسلم وغيره أنّ طلاق رفاعة كان في مرّات؟ والكلام في المسألة طويل، والذي يترجّح لنا - وهو ظاهر جدًّا من كلام الشافعي رحمه الله - أنها من المسائل الاجتهادية التي لا يُشنَّع على أحد من المختلفين فيها, ولا مقلَّديه. وقد نصّ جماعة من الأئمة، منهم السبكي رحمه الله، أنّه يجوز للمسلم تقليد غير الأئمة الأربعة في حقِّ نفسه. ¬

_ (¬1) (1433/ 112). (¬2) الخط من وضع المؤلف.

* وأمّا التحليل، فإنّ مذهب الشافعي - رحمه الله تعالى - جوازه إذا لم يُشْتَرط في صلب العقد. وكثيرٌ من الأئمة يحرّمه، ودليلهم الحديث الصحيح أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ " قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "هو المحلل"، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لعن الله المحلَّل والمحلَّل له" (¬1). والحديث عامٌّ، فقَصْرُه على ما إذا كان بالشرط في صُلب العقد مفتقر إلى دليل، ولم يذكروا دليلاً ظاهرًا في ذلك. وظاهر الحديث يأباه جدًّا، فإنّه علَّق الحكم بالمحلّل، وقد تقرَّر في أصول الفقه وعلم البيان أنّ تعليق الحكم بالمشتق يؤذن بعِلِّيّة ما منه الاشتقاق، فتكون العلة هنا هي التحليل من حيث هو تحليل. فأمّا شرط الطلاق في صلب العقد فإنّه حرام، سواء أكان نيّته التحليل أو غيره، كما لو كانت بكرًا. وقد روى الحاكم في "المستدرك" (¬2) - وقال: صحيح على شرط الشيخين، وأقرّه الذهبي - عن نافع قال: جاء رجل إلى ابن عمر فسأله عن ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه (1936)، والحاكم: (2/ 198)، والبيهقي: (7/ 208) من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه. والحديث حسَّنه عبد الحق الإشبيلي، وصححه شيخ الإِسلام وابن القطّان وقوَّاه الزيلعي. انظر "نصب الراية": (3/ 239 - 240)، و"التلخيص": (3/ 195). (¬2) (2/ 199). وأخرجه البيهقي: (7/ 208)، وأبو نعيم في "الحلية": (7/ 96).

[حرمة ابنة الرجل من السفاح عليه]

رجل طلّق امرأته ثلاثًا، فتزوجها أخ له عن غير مؤامرة ليحلّها لأخيه، هل تحل للأوّل؟ قال: لا، إلا بنكاح رغبة؛ كنّا نعدّ هذا سفاحًا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1). **** الحمد لله. [حرمة ابنة الرجل من السِّفاح عليه] الحمد لله. ندين الله تعالى بحرمة المخلوقة من ماء الرجل عليه، وكذا على أبيه وبنيه وإخوته وغير ذلك. والحاصلُ أنها بنتُه فيما يتعلق بحرمة النكاح. وهي بنته حقيقة. وفي حديث جريج أنه قال لولد الزنا: من أبوك؟ قال: أبي راعي الغنم (¬2). وفي حديث عبد الله بن حذافة: من أبي يا رسول الله؟ (¬3). وفي حديث ابن وليدةِ زمعة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لسودة: "احتجبي منه, فإنه ليس لك بأخ" (¬4). ¬

_ (¬1) مجموع [4719]. (¬2) أخرجه البخاري (1206)، ومسلم (2550). (¬3) أخرجه البخاري (92)، ومسلم (2359). (¬4) أخرجه البخاري (2053)، ومسلم (1457).

مسألة المحرمات من الحيوانات

فنفى أُخوَّته لها، ونفى محرميَّته لها، مع الحكم بأنه ابن أبيها. فتبين أن إلحاق النسب شرعًا لا يقتضي قطع النظر عن النسب الحقيقي. فكذا نقول: إن نفي بعض مقتضيات البُنُوَّة كالإرث بين الزاني ومن خُلِق من مائه، لا يقتضي نفي سائرها كالمحرمية. والله أعلم (¬1). **** مسألة المحرمات من الحيوانات ظهر لي - والله أعلم - أن الحيوانات كلَّها كانت حلالًا في أول الإِسلام، عدا ما نُصَّ عليه في قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ...} الآية [الأنعام: 145]. ثم دام الحال على هذا إلى أن نزل قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ ....} الآية [173] من سورة البقرة مؤكدًا لذلك. ثم نزلت قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ...} [4] من سورة المائدة. والمائدة من آخر ما نزل، فتكون - والله أعلم - ناسخةً للآيتين السابقتين، بأن حَرَّمت جميعَ الخبائث زيادة على المنصوصات. ¬

_ (¬1) مجموع [4729].

[جواز الشهادة على سماع الصوت]

والوصف بالطيبات والخبائث مُجمل، يعلمه الله عزَّ وجلَّ، وأَعْلَمَه رسوله - صلى الله عليه وسلم -. وهو - صلى الله عليه وسلم - بَيَّن ذلك بما ورد في السنة. فكلّ ما صح في السنة تحريمُه والنهيُ عنه فهو من الخبائث المنصوص على تحريمها بالآية الناسخة للآيتين السابقتين. فلم يقع النسخ للقرآن إلا بالقرآن، ولم يقع إهمالٌ لما ثبت بالسنة، ولم يقع تحكُّم في تعيين الطيبات من الخبائث، بل وُكِل ذلك إلى بيان المعصوم - صلى الله عليه وسلم -. على أنه لا مانع مع هذا من الاستدلال بالآية على حرمة ما استخبثته النفوس، فيكون - صلى الله عليه وسلم - نصّ على حُرْمة ما قد يخفى خبثُه، وَوَكَل الباقي إلى نظر الأمة. والله أعلم (¬1). **** [جواز الشهادة على سماع الصوت] مِن الحجة على جواز الشهادة على سماع الصوت حديثُ: "إن بلالاً يؤذّن بليل" (¬2) إلخ. فإنه لو لم يكن صوت كلًّ منهما ممتازًا عن صوت الآخر، أو لم يكن ¬

_ (¬1) مجموع [4656]. (¬2) أخرجه البخاري (617)، ومسلم (1092) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

[كراهية ذكر الله حال الحدث]

العمل بمعرفة الصوت جائزًا = لأشكل؛ أنّ مِن الناس من يكون نائمًا أو غافلاً، فينتبه فيسمع الأذان الثاني فيظنه الأول، فيأكل ويشرب مريدًا للصيام. أو يسمع الأول فيظنه الثاني، فيمتنع عن الأكل والشرب والوتر، وربّما صلَّى الصبح. هذا، مع أن تسمية المؤذَّنَين في الحديث تُشْعِر بالأمر باعتماد معرفة صوتيهما، وإلاّ يكفي أن يقول: إن الأذان الأول يقع بليلٍ، فكلوا واشربوا حتى تسمعوا الأذان الثاني. ويكون هذا اللفظ أولى، لكثرة فائدته. والله أعلم (¬1). **** [كراهية ذكر الله حال الحدث] في حديث أبي الجُهَيم بن الحارث بن الصِّمَّة الثابت في "الصحيحين" (¬2) دليل على أنّ ذِكْر الله تعالى حال الحَدَث مكروه أو خلاف السنة. وما ثبت ممّا يُخالف ذلك فهو لبيان الجواز. نعم، قد يقال: يحتمل في حديث أبي الجُهَيم أنّه - صلى الله عليه وسلم - كان جنبًا، فيكون صريحًا في الحَدَث الأكبر، ويبقى النظر في الأصغر. فليُنظر. ¬

_ (¬1) مجموع [4718]. (¬2) البخاري (337)، ومسلم (369)، ونصّه: قال ابن عباس: أقبلت أنا وعبد الرحمن بن يسار ... على أبي الجهيم .. فقال أبو الجُهَيم: "أقبل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من نحو بئر جمل فلقيه رجلٌ فسلّم عليه، فلم يرد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليه حتى أقبل على الجدار فمسح وجهه ويديه ثم ردّ عليه السلام".

[مشروعية الوضوء للجنب إذا أراد ذكر الله]

- ودليلٌ على أنّ تأخير ردّ السلام لمثل ذلك جائز أو مندوب. - ودليلٌ على أنّ التيمّم في الحضر لنحو ردّ السلام جائز (¬1). **** [مشروعية الوضوء للجنب إذا أراد ذكر الله] الحمد لله. قد ثبت مشروعية الوضوء للجنب إذا أراد أن يأكل أو ينام. وفي حديث أبي الجُهَيم في "الصحيحين" (¬2) حجة على مشروعية الوضوء للجنب إذا أراد ذكر الله عَزَّ وَجَلَّ؛ لأنّه سلّم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يردّ عليه حتى تيمّم. فإن قيل: ليس في الحديث أنّه - صلى الله عليه وسلم - كان جنبًا. قلت: ولا فيه أنّه لم يكن جنبًا. والظاهر أنّه كان جنبًا؛ لحديث ابن عباس عند مسلم (¬3)، فإنّه يدلّ أنّه - صلى الله عليه وسلم - أنكر مشروعية الوضوء للأكل، مع أنّ الأكل يلتزم فيه الذكر أوَّلَه وآخرَه. فإن قيل: لعله إنّما أنكر الوجوب. قلت: الظاهر من الحديث إنكار المشروعية، فراجعه. فإن قيل: فإن ظاهره يفيد إنكار الوضوء لغير الصلاة. وقد ثبت مشروعية ¬

_ (¬1) مجموع [4719]. (¬2) السالف قريبًا. (¬3) برقم (374/ 118) ولفظه: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج من الخلاء فأتي بطعام، فذكروا له الوضوء، فقال: أريد أن أصلي فأتوضَّأ؟! ".

[تعليق على كلام الشوكاني حول الزيادة على العدد الوارد في الأذكار]

الوضوء لغير الصلاة في حقِّ الجُنُب، فوجب حمل حديث ابن عباس على إنكار الوجوب. قلت: ثبوت مشروعية الوضوء لغير الصلاة في حق الجنب لا يستلزم ثبوت المشروعية مطلقًا في حق غير الجنب. وهو - صلى الله عليه وسلم - في قصة ابن عباس لم يكن جنبًا، وإنّما جاء من الكنيف. فإنكاره مشروعية الوضوء في حقه حينئذ لغير الصلاة لا ينافي مشروعية الوضوء في حق الجنب لغير الصلاة. فتأمّل. والله أعلم (¬1). **** [تعليق على كلام الشوكاني حول الزيادة على العدد الوارد في الأذكار] " نيل الأوطار" (ج 2/ 203): "قال العراقي في شرح الترمذي: كان بعض مشايخنا يقول: إن هذه الأعداد الواردة عقب الصلاة أو غيرها من الأذكار الواردة في الصباح والمساء، وغير ذلك، إذا ورد لها عدد مخصوص مع ثواب مخصوص، فزاد الآتي بها في أعدادها عمدًا = لا يحصل له ذلك الثواب الوارد على الإتيان بالعدد الناقص، فلعل لتلك الأعداد حكمة وخاصية تفوت بمجاوزة تلك الأعداد وتعديها, ولذلك نهى عن الاعتداء في الدعاء ... وفيما قاله نظر ... [وقد ورد في الأحاديث الصحيحة ما يدلّ على ذلك]: "ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك" ... "لم يأت ¬

_ (¬1) مجموع [4719].

[عدم جواز الاقتصار على لفظ الجلالة في الذكر]

أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثل ما قال أو زاد عليه". وقد يقال ... ". [وقال] الشوكاني: "وهذا مسلَّم في التعبُّد بالألفاظ؛ لأن العدول إلى لفظ آخر لا يتحقق معه الامتثال، وأما الزيادة في العدد فالامتثال متحقق ... وكون الزيادة عليه مغيرة له غير معقول. وقيل: إن نوى عند الانتهاء إليه امتثال الأمر الوارد ثم أتى بالزيادة، فقد حصل الامتثال، وإن زاد بغير نية لم يعدّ ممتثلًا". [علَّق الشيخ على قوله: "غير معقول" بقوله]: "أقول: بل هو معقول كالزيادة على ركعات الصلاة" (¬1). **** [عدم جواز الاقتصار على لفظ الجلالة في الذكر] الاقتصار على ذكر الجلالة أو كلمة "هو" ليس بذكر؛ أوّلاً: لأنه لم يرد، ومن الحكمة في ذلك - والله أعلم - أنه لا يُفْهِم معنى؛ إذ يحتمل أن يقدَّر التعظيم وأن يقدَّر الكفر - والعياذ بالله - ولا عبرة بالنية هنا؛ لأن مجرد نية الذِّكْر لا يُعدُّ ذكرًا، فلو نوى بقلبه "الله أكبر" مثلًا لم يُعد ذاكرًا، فكذا إذا قال: "الله" ونوى: "أكبر". ومما يُستدل به هنا أنه لو قال: "زوجتي" ونوى (¬2) "طالق"، أو "عبدي" ¬

_ (¬1) مجموع [4717]. (¬2) في الأصل: "نو"، والصواب ما أثبت.

ونوى "حُرّ"، أو "أرضي" ونوى "وقف"، أو نحو ذلك = لم يقع شيء من ذلك، فكذا هنا بجامع أن الشارع اعتبر التلفّظ في الجميع، ولم يعتبر مجرّد النية، والله أعلم. نعم، قد ورد من الذكر الذي دخله الحذف ما جرى الحذف في مثله لغةً مثل: "هو حسبي" بعد قوله: "أشكو إلى الله" - مثلًا -. وليس هو مثل الذي قبله؛ لأن هذا يفهم السامع المراد منه بخلاف ذاك. والله أعلم. ولهذا يقع في مثل هذا الطلاق والعتاق والصدقة، كما إذا قيل له: من العتيق؟ فقال: فلان. والله أعلم (¬1). ¬

_ (¬1) مجموع [4711].

الفوائد الأصولية

الفوائد الأصولية

حديث يتعلق بالعمل بالمفهوم

حديث يتعلَّق بالعمل بالمفهوم عن عبد الله بن أبي أوفى قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نبيذ الجرّ الأخضر. قلت: أنشرب في الأبيض؟ قال: لا. رواه البخاري (¬1). "مشكاة" (¬2) - آخر باب النقيع والأنبذة. **** [المراد بالواجب في كلام الشارع] يستدل بقوله: "فقد أوجب الله له النار، وحرَّم عليه الجنة" (¬3) على أن الوجوب حقيقة شرعية في الفرض لمقابلته بالتحريم. وبهذا تتبيّن فرضية غسل الجمعة. **** [مما يستدل به على أن دلالة الاقتران معتبرة] مما يستدل به على اعتبار دلالة الاقتران حديث: "عُدلت شهادة الزور بالإشراك بالله" (¬4)، وحديث: "أعوذ بالله من الكفر والدَّين"، فقال رجل: ¬

_ (¬1) (5596). (¬2) (2/ 476). (¬3) أخرجه مسلم (137) من حديث أبي أمامة وأوله: "من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب ... ". (¬4) بقية الحديث: ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} أخرجه أحمد (18898)، وأبو داود (3599)، والترمذي (2300)، وابن ماجه (2372) وغيرهم من حديث خُريم بن فاتك رضي الله عنه بإسناد ضعيف. ورُوي موقوفًا على ابن مسعود في "مصنف عبد الرزاق": (8/ 327) و"مصنف ابن أبي شيبة": (7/ 256).

[اعتراض على قاعدة "لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة"]

يا رسول الله أيعدل الكفر بالدَّين؟ قال: "نعم" (¬1). **** [اعتراض على قاعدة "لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة"] حديث البخاري (¬2) عن سهل بن سعد قال: أنزلت {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} [البقرة: 187]. ولم ينزل: {مِنَ الفَجرِ} فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود، فلا يزال يأكل ويشرب حتى تتبين له رؤيتهما، فأنزل الله بعدُ: {مِنَ الْفَجر} فعلموا أنما يعني الليل والنهار. اهـ انظر هذا مع قولهم: لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة (¬3) (¬4). **** [نسخ المتواتر بخبر الواحد] فائدة: في تحوّل أهل القبلة إلى الكعبة دليل على أن خبر الواحد كافٍ في نسخ المتواتر. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (11333)، والنسائي (5473)، والحاكم: (1/ 532) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. قال الحاكم: صحيح الإسناد. وصححه ابن حبان (1025). (¬2) (1917). (¬3) وقد نظر الشيخ في الآية وحقَّق القول فيها في "إرشاد العامِه" ضمن مجموع رسائل أصول الفقه (ص 231 وما بعدها). (¬4) ما سبق من الفوائد من مجموع [4657].

[الاستدلال بتروك النبي - صلى الله عليه وسلم -]

[الاستدلال بتروك النبي - صلى الله عليه وسلم -] من الاستدلال بترك النبي - صلى الله عليه وسلم -: حديث عائشة في الصحيح: "قد كانت إحدانا تحيض على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم لا تؤمر بقضاء" (¬1). وفي رواية: "كان يصيبنا ذلك (الحيض) فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة". **** [تعليق على كتاب الموافقات] المسألة الرابعة عشرة (¬2) "الأمر بالشيء على القصد الأول ليس أمرًا بالتوابع ... والدليل على ذلك ما تقدم من أن الأمر بالمطلقات لا يستلزم الأمر بالمقيدات ... " [ثم نقل الشيخ فقرات ببعض الاختصار إلى قوله:] "والأحاديث في هذا والأخبار كثيرة جميعها تدل على أن التزام الخصوصات في الأوامر المطلقة مفتقر إلى دليل، وإلّا كان قولًا بالرأي واستنانًا بغير مشروع، وهذه الفائدة انبنت على هذه المسألة مع مسألة أن الأمر بالمطلق لا يستلزم الأمر بالمقيد" اهـ. أقول: أنكر الإِمام الشافعي - رحمه الله تعالى - في "الأم" (¬3) كراهة ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (335). والرواية الأخرى عند مسلم أيضًا. (¬2) موافقات ج 3 ص 121. [المؤلف]. (¬3) (3/ 622).

[مما يقدح في حجية عمل أهل المدينة]

الإِمام مالك - رحمه الله - الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - عند الذبح، وعلَّل ذلك بأن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - مطلوبة مطلقًا. وإنكاره في محلَّه إن كان مالك - رحمه الله - كرهها مُطلقًا. فأما إذا كان إنما كرهها إذا التُزمت أو اعتقد الذابح أنها مطلوبة على الخصوص حينئذ، أو خشي أن يظنَّ من بحضرته ذلك = فلا معنى للإنكار، والكراهة ظاهرة. والشافعيُّ - رحمه الله تعالى - لا يخالف في هذا - إن شاء الله تعالى - بل إن في كلامه إشارةً إليه. **** [مما يقدح في حجيَّة عمل أهل المدينة] الحمد لله. مما يقدح في الاحتجاج بعمل أهل المدينة: ما جاء في التكبير في الصلاة في كلَّ خفض ورفع؛ فإن الأحاديث تدل أن هذه السنة كان قد غفل عنها الأمراء حتى استنكرها عكرمة كما في حديث البخاري (¬1)، وأبو سلمة كما في حديث مسلم (¬2)، ففيه: "فقلنا: يا أبا هريرة ما هذا التكبير؟ قال: إنها لَصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". ¬

_ (¬1) (787). (¬2) (392).

[الفرق بين مفهوم الصفة ومفهوم اللقب]

وفي "مسلم" (¬1) أيضًا عن مطرِّف أنه صلَّى وعمران بن حصين خلف عليٍّ عليه السلام، فكان إذا سجد كبَّر وإذا رفع رأسه كبَّر وإذا رفع من الركعتين كبَّر، فقال عمران: لقد صلَّى بنا هذا صلاة محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، أو قال: قد ذكَّرني هذا صلاة محمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -. وكذلك ما جاء في السلام من الصلاة مرَّتين؛ أنَّ ابن عمر (¬2) سمع أميرًا يفعله، فقال: أنَّى عَلِقها؟! ولقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله. أو كما قال (¬3). **** [الفرق بين مفهوم الصفة ومفهوم اللقب] الحمد لله. ذكر بعضُهم أنّ احتجاج أصحابنا بحديث "وجعلت تُربتها طهورًا" (¬4) على اختصاص التيمم بالتراب دون سائر أجزاء الأرض، من باب الاحتجاج بمفهوم اللقب. وهذا وهم، بل هو من مفهوم الصفة؛ فإن لفظ (تربة) ها هنا قَيْد للأرض المذكورة، بخلاف نحو: "عَلىَ زيد زكاة"، فإن لفظ "زيد" ليس قيدًا لشيء. ¬

_ (¬1) (33). وهو في البخاري أيضًا (786). (¬2) كذا في الأصل، والقول إنما رُوي عن ابن مسعود كما في "صحيح مسلم" (581) وغيره. (¬3) ما سبق من فوائد من مجموع [4711]. (¬4) أخرجه مسلم (522) من حديث حذيفة رضي الله عنه.

[مسألة الصلاة في الدار المغصوبة]

ويوضح لك هذا: أنّ الحجة على عدم حُجيّة اللقب إنّما هي، أنّه أي الّلقب إنما يُذْكَر ليصح الكلام، إذ لو حُذِفَ لمَا أمكن تصحيح الكلام المقصود، بخلاف مفهوم الصّفة، فإنّه ظاهر أنّه يصح الكلام بدونه، فإذا حذف "زيد" من قولك: "على زيد زكاة"، لم يصح الكلام بخلاف حذف "سائمة" من قوله: "في سائمة الغنم زكاة". ولذلك شرطوا في حُجيّة مفهوم الصّفة، أن لا يظهر لذكره فائدة غير نفي حكم غيره. ولا شكّ أنه لو أراد حذف لفظ (تربة) من قوله: "وجعلت تربتها طهورًا" لصحَّ الكلام بقوله: وجعلت طهورًا. فانظر أي فائدة لذكر لفظ (تربة)؟ وهل هو إلاَّ عبث بحت إن لم يكن لبيان أنّ التوبة هي المختصة (¬1). **** [مسألة الصلاة في الدار المغصوبة] الحمد لله. أهم ما استدلَّ به الأصوليون على صحة الصلاة في الدار المغصوبة أمران: الإجماع والنظر. فأما النظر فمثَّلوه بالعبد إذا أمره سيِّدُه بالخياطة ونهاه عن دخول الدار، ¬

_ (¬1) مجموع [4715].

فدخل الدار وخاط فيها. قالوا: فإنه لا خلاف أن العبد قد فعل ما أمره به سيَّده من الخياطة، وإن كان قد عصاه في دخول الدار. وأقول: إن هذا الإلزام مغالطة لوضوح الفرق؛ فإن المأمور به في المثال - وهي الخياطة - ليست كالمأمور به في سورة المسألة، وهي الصلاة. وذلك أننا نعلم أن السيد إنما أمر عبدَه بالخياطة لتحصيل مطلوبه، وهو خياطة الثوب، وقد حصل تامًّا بلا نقص حتى لو لم يقصد العبد امتثال أمره، وإنما قصد التمرُّن على الخياطة مثلاً، أو مباهاة خائطٍ آخر أو غير ذلك. وليس الصلاة كذلك؛ فإن حصول صورة أفعالها لا يستلزم حصولها، فلو صلَّى الرجل بنيَّة حكاية مُصلٍّ آخر على سبيل السخرية منه، أو يقصد الحركات الرياضية = لم يُعد مصلِّيًا. والحاصل أن الخياطة مصلحة محسوسة محدودة. والمفروض في المثال أنها وقعت تامَّةً كاملة من كلِّ وجه. وأما الصلاة فإنما هي عبادة، الغالب فيها أمر معنوي، وهو الطاعة، ولا يُحكم بتمامها إلا إذا وُجد هذا المعنى أيضًا. ووجود هذا المعنى هو المنازَع فيه. وأما الإجماع فقالوا: إن الغصب لم يزل معروفًا في الأمَّة، ولم يُنقل عن أحد من السلف أنه كان يأمر الغاصبين بقضاء الصلوات التي صلَّوها في الأمكنة المغصوبة. وأجيب عنه بأن الإِمام أحمد بن حنبل يرى بطلان الصلاة ويمتنع أن يجهل هذا الإجماع.

ورُدَّ بأنه لا يرى الحجَّة إلا إجماعَ الصحابة، ولا يحتجُّ بالإجماع ما لم يثبت بالنقل الثابت عن كلَّ فرد من المعتبرين في الإجماع. وأقول: ما حكوه عنه من مذهبه في الإجماع هو جواب عن الإجماع، أعني أن مِنْ شَرْط الإجماع النقلَ عن جميع المعتبرين، ولم يوجد. بل شَرَط جماعة - منهم الغزالي - أن يكون النقل متواترًا عن كلِّ واحد. وأما قولهم: لو كان خلافٌ لنُقل، فكلام ضعيف لا يخفى ضعفه على أحد، ثمَّ لعله نُقل ثم اندرس. وألزم الغزاليُّ الإمامَ أحمدَ (مستصفى ج 1ص 79) أن لا تحلَّ امرأة لزوجها وفي ذمَّته دانق ظلم، ولا يصح بيعه ولا صلاته ولا تصرُّفاته، ولا يحصل التحليل بوطءِ مَن هذا حاله؛ لأنه عصى بترك ردِّ المظلمة، ولم يتركها إلا بتزويجه وبيعه وصلاته وتصرفاته، فيؤدّي إلى تحريم أكثر النساء وفوات أكثر الأملاك، وهو خرق للإجماع قطعًا وذلك لا سبيل إليه. أقول: قوله: ولم يتركها إلا بتزويجه ... إلخ، لا يخفى ما فيه؛ فإن الاشتغال بالتزوُّج والبيع والصلاة والتصرُّفات غير داخل في ترك رد الدانق بحيث يُسمَّى تركًا، بخلاف أفعال الصلاة؛ فإنها من استعمال الدار المغصوبة بحيث تسمَّى استعمالًا. فلصاحب الدار أن يقول للغاصب: لماذا تصلِّي في بيتي؟ ولا يأتي نظير هذا في ظلم الدانق. نعم، له (¬1) أن يقول له: لماذا تصلِّي قبل أن تردَّ إليَّ دانقي، ولكن ليس هذا نظير ذاك (¬2). ¬

_ (¬1) في الأصل: "نعم, له أن له". (¬2) مجموع [4716].

[سبب موافقة الشافعي زيد بن ثابت في الفرائض]

[سبب موافقة الشافعي زيدَ بن ثابت في الفرائض] " الجوهر النقي" (¬1) في أول كتاب الفرائض، عند ذِكْر موافقة الشافعي زيدَ بن ثابت: " ... وإن كان لم يقلِّد زيدًا - كما هو المشهور عندهم - ففيه أيضًا نظر من وجهين: ... الثاني: أنه لم يخالف ولا في مسألة واحدة، ويبعد اتِّفاق رأيين في كتاب من العلم من أوَّله إلى آخره". أقول: لا يشك من نظر في الخلاف أن ذلك [غير] (¬2) بعيد بالنسبة إلى كتاب الفرائض لقلة مسائله الخلافية. فأما في كتاب الصلاة مثلاً، فلا شكَّ أن الاتفاق فيه بغير تقليد محال. وموافقة الشافعي زيدًا ليس تقليدًا محضًا، وإنما رأى أنَّ قول زيد يصلح أن يرجَّح به لشهادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له. على أن ظاهر كلامه في "الأم" أنه لا فرق عنده بين زيد وغيره من الصحابة. وإنما يختار ما يرجِّحه الدليل. والله المستعان (¬3). **** ¬

_ (¬1) بهامش "السنن الكبرى" للبيهقي (6/ 211). (¬2) زيادة يستقيم بها السياق. (¬3) مجموع [4716].

دليل أن لا مفهوم للعدد

دليل أن لا مفهوم للعدد حديث البخاري (¬1) وغيره: "أيما امرأة مات لها ثلاثة من الولد كنَّ لها حجابًا من النار"، فقالت امرأة: واثنان؟ قال: "واثنان". وفي "الفتح" (¬2): "قال ابن التين - تبعًا لعياض -: هذا يدلّ على أن مفهوم العدد ليس بحجة؛ لأن الصحابيّة من أهل اللسان ولم تعتبره، إذ لو اعتبرتْه لانتفى الحكم عندها عمَّا عدا الثلاثة، لكنها جوَّزت ذلك، فسألته" اهـ. وخالفه الحافظ، فعكس، ثم قال: "والتحقيق أن دلالة مفهوم العدد ليست يقينيّة، وإنّما هي محتملة، ومِن ثَمَّ وقع السؤال عن ذلك" اهـ. وقد وقع مثل هذا السؤال من عدة من الصحابة، بيّنه الحافظ في هذا الباب. ووقع مثله أيضًا في باب ثناء الناس على الميّت. وفي "الفتح" (¬3) هناك: "قوله: "فقلنا: وثلاثة؟ " فيه اعتبار مفهوم الموافقة؛ لأنه سأل عن الثلاثة، ولم يسأل عمّا فوق الأربعة كالخمسة مثلاً، وفيه أن مفهوم العدد ليس دليلاً قطعيًّا، بل هو في مقام الاحتمال" اهـ. أقول: يؤخذ من كلامه أن مفهوم الموافقة قطعيّ، وفيه ما فيه، فلعله يريد ¬

_ (¬1) (1249). (¬2) (3/ 122). (¬3) (3/ 230).

تعارض القول والفعل

أن مفهوم العدد ليس في الدلالة كمفهوم الموافقة، بل هو أضعف منه، والله أعلم. والحقُّ فيه ما قال ابن التين وعياض، كما هو ظاهر، والله أعلم (¬1). **** الحمد لله. تعارض القول والفعل * إن كان القول خاصًّا به - صلى الله عليه وسلم -، فهو ضربان: أ - للقول مفهوم أتى بخلافه. وفيه ثلاث صور: 1. مع (¬2) الفعل دليلٌ خاص بتأسِّينا به فيه. فالمتأخِّر ناسخ في حقه وحقنا. فإن لم يُعلم فالترجيح، فإن تعذَّر فالوقف. 2. كذلك، إلاَّ أنه ليس مع الفعل دليل خاص بالتأسِّي، وإنما هناك الدليل العام. فالمتأخر ناسخ في حقِّه، فإن لم يُعلم فالوقف. وأمّا في حقنا فالعمل بالمفهوم لأنه مخصِّص لعموم دليل التأسِّي تقدَّم أو تأخَّر. 3. كالأولى إلا أن مع الفعل دليلاً على اختصاصه به. فالمتأخر ناسخ في حقه - صلى الله عليه وسلم - وحقنا، فإنْ لم يعلم فالترجيح بين دلالة المفهوم ودليل الاختصاص. ¬

_ (¬1) مجموع [4718]. (¬2) الأصل: "ومع".

ب - القول خاص به ولا مفهوم له. وفيه ثلاث صور أيضًا: 1 - مع الفعل دليل خاص بالتأسَّي، فالمتأخر ناسخ في حقه - صلى الله عليه وسلم -، فإن لم يُعلم فالوقف. وأمَّا في حقنا فيتعيَّن التأسَّي بالفعل مطلقًا لأنه إن كان السابق فهو مخصِّص لعموم دليل التأسِّي بمضمون القول، وإن كان المتأخر فهو ناسخ في حقّنا. 2 - ليس مع الفعل دليل خاصّ بالتأسِّي وإنما هناك الدليل العام، فالمتأخر ناسخ في حقه وحقنا؛ لأن عموم التأسي متناولٌ للأمرين، فليس أحدهما أَوْلى به من الآخر، فإن لم يعلم المتأخر ترجَّح في حقنا التأسي بالقول لما يُتصوَّر في الفعل من الاحتمالات. 3 - مع الفعل دليل على اختصاصه به - صلى الله عليه وسلم -. أما في حقه فالنسخ أو الوقف، وأمَّا في حقنا فلا تعارض؛ لأن دليل التأسي العام يتناول تأسينا به في مضمون القول ودليل الاختصاص في الفعل يؤيد ذلك. * وإن كان القول خاصًّا بنا فهو ضربان أيضًا: أ - أن يكون له مفهوم أنه - صلى الله عليه وسلم - خلافنا. وفيه ثلاثة أوجه: 1 - مع الفعل دليل خاص بالتأسِّي، فلا تعارضَ في حقه - صلى الله عليه وسلم -، وأما في حقنا فالمتأخر ناسخ، فإن لم يُعلم ترجّح القول. 2 - لم يدل على التأسي إلا الدليل العام، فلا تعارض في حقه أيضًا، وأما في حقنا فالقول، ويكون مخصِّصًا لعموم دليل التأسي العام.

3 - مع الفعل دليل على اختصاصه به، فلا تعارض. ب - لا مفهوم له. وفيه ثلاثة أوجه أيضًا: 1 - مع القول دليل خاص بالتأسي. لا تعارض في حقه، وأما في حقنا فالمتأخر ناسخ، فإن لم يُعلم تَرجَّح القول. 2 - ليس إلاَّ الدليل العام. لا تعارض في حقه أيضًا، وأمَّا في حقنا فالقول، وهو مخصص لعموم دليل التأسي. 3 - مع الفعل دليل على اختصاصه به، فلا تعارض. * وإن كان القول يعمّه - صلى الله عليه وسلم - نصًّا ففيه ثلاث صور: 1. مع الفعل دليل خاص للتأسِّي. فالثاني ناسخ، فإن لم يعلم ترجَّح القول. 2. ليس إلا الدليل العام للتأسي، ففي حقه النسخ أو الوقف، وفي حقنا القول، ويكون هو ناسخًا لعموم دليل التأسي العام. 3. معه دليل على الاختصاص، ففي حقه النسخ أو الوقف، ولا تعارض في حقنا. * وإن كان القول يعمّه ظاهرًا فقط، ففيه ثلاث صور: 1 - مع الفعل دليل خاص للتأسي. فأما في حقه فالفعل دالٌّ على الاختصاص أو النسخ، وأما في حقنا فالمتأخر ناسخ، فإن لم يعلم ترجَّح القول.

[بحث في الوصف المناسب المؤثر في الحكم]

2 - ليس إلا الدليل العام للتأسي. ففي حقه الفعل تخصيص أو نسخ. وفي حقنا يترجح القول. 3 - معه دليل على الاختصاص، ففي حقه الفعل تخصيص أو نسخ، وفي حقنا لا معارضة (¬1). **** [بحث في الوصف المناسب المؤثِّر في الحكم] الحمد لله. كلام أهل الأصول في فصل بيان أقسام المناسب من حيث اعتبار الشرع له وعدمه = مضطرب. وظاهر صنيع الآمدي (¬2) أن أصل الكلام في استخراج علَّة الحكم المنصوص بالمناسبة، فإن كان الوصف المناسب منصوصًا على كونه علَّةً أو مُجْمَعًا على ذلك فهو المؤثر. وإلاَّ فإن لم يكن هناك إلاَّ بناء الحكم على وَفْقِهِ في تلك الصورة، فإن اعتبر الشرع ذلك الوصفَ في ذلك الحكم في صورة أخرى = فهو الملائم. وإن لم يوجد له اعتبار إلا في الصورة المطلوب تعليلها، فهو المناسب الغريب. قول "جمع الجوامع" (¬3): "ثم المناسب إن اعتبر الشرعُ بنصٍ أو إجماع ¬

_ (¬1) مجموع [4724]. (¬2) في "الإحكام": (3/ 242 - 244). (¬3) (2/ 282 - مع حاشية البناني).

عين الوصف في عين الحكم = فالمؤثر ... " إلخ. أقول: اضطرب كلامهم في هذا الفصل كما أشار إليه الإسنوي في "شرح المنهاج" (¬1). فظاهر ما في "جمع الجوامع" مع شرحه أن المؤثِّر هو ما كان فيه الوصف مناسبًا منصوصًا على أنه علة أو مُجْمَعًا على أنه علة. وهذا موافق لنصَّ ابن الحاجب، وهو على ما نقله الإسنوي (¬2): "الوصف المناسب الذي اعتبره الشارع، إن كان اعتباره بتنصيص الشارع على كونه علةً أو بقيام الإجماع عليه، فهو المؤثر". قال الإسنوي: "وأما الآمدي ... وتفسيره للمؤثر موافق لتفسير ابن الحاجب". أقول: وكلام الآمدي ظاهر في ذلك، فليكن هذا هو المعتمد في تفسير المؤثر. وأما الملائم، فظاهر عبارة "الجمع" أنَّ المدار على النظر بين الفرع المراد إلحاقُه قياسًا وبين الأصل. وعليه فالملائم أقسام: الأول: أن يكون الوصف في الفرع عينه في الأصل، والحكم من جنسه. ¬

_ (¬1) "نهاية السول": (4/ 102 - 103 مع حاشية محمَّد بخيت المطيعي). (¬2) (4/ 103).

الثاني: أن يكون الوصف في الفرع من جنس الوصف في الأصل، والحكم بعينه. الثالث: أن يكون الوصف في الفرع من جنس الوصف في الأصل، والحكم من جنس الحكم أيضًا. ولم يصرِّح صاحب الجمع إلا بهذا الأخير وطوى غيره، فزاد الشارح الأوَّلين مع المغايرة كما يأتي. ولو بني على ظاهر طريقة "الجمع" لوجب أن يُزَاد رابعًا، وهو: أن يكون الوصف في الفرع عين الوصف في الأصل والحكمُ في الفرع عين الحكم في الأصل أيضًا؛ كقياس النبيذ على الخمر بفرض أن كون السُّكْر علَّةً لا نصَّ عليه ولا إجماع. ولكن يظهر أن الشارح نظر إلى تفسير البيضاوي والآمدي وغيرهما، وإن كان في عبارته اشتباه. أما تفسير البيضاوي والآمدي وما يظهر من المَحَلِّي، فهو أن المقصود هو النظر في علة الأصل الثابت فيه الحكم بنصٍ أو إجماع، هل شهد لها نصٌّ أو إجماع في صورة أخرى؟ الإحكام للآمدي (ج 4 ص 3): "القسمة الثالثة: القياس ينقسم إلى مؤثر وملائم. أما المؤثر فإنه يطلق باعتبارين: الأول ما كانت العلة الجامعة فيه منصوصة بالصريح أو الإيماء أو مجمعًا عليها. والثاني ما أَثَّر عين الوصف الجامع في عين الحكم، أو عينه في جنس الحكم، أو جنسه في عين الحكم. وأما الملائم: فما أَثَّر جنسه في جنس الحكم كما سبق تحقيقه.

ومن الناس من جعل المؤثر من هذه الأقسام ما أَثَّر عينُه في عين الحكم لا غير، والملائم ما بعده من الأقسام". وقال في (ج 3 ص 406): "القسم الأول: أن يكون الشارع قد اعتبر خصوص الوصف في خصوص الحكم، وعموم الوصف في عموم الحكم في أصل آخر، وذلك كما في إلحاق القتل بالمثقَّل بالمحدد لجامع القتل العمد العدوان، فإنه قد ظهر تأثير عين القتل العمد العدوان في عين الحكم وهو وجوب القتل في المحدَّد، وظهر تأثير جنس القتل من حيث هو جناية على المحلّ المعصوم بالقَوَد في جنس القتل من حيث هو قصاص في الأيدي، وهذا القسم هو المعبَّر عنه بالملائم، وهو متفق عليه بين القياسين، ومختلف فيما عداه". الحمد لله. إذا وجدت مناسبة في شيء لِحُكمٍ، فلا يخلو أن يكون الشرع جاء بإثبات ذلك الحكم في ذلك الشيء، كالحُرْمة في الخمر أو لا. فالأول: لا كلام فيه ها هنا. وأما الثاني: فلا يخلو أن يكون جاء الشرع بخلافها أو لا. الأول: لمُلْغَى. وأما الثاني: فلا يخلو أن لا يجيء الشرع بخلافها ولا وفاقها، أو جاء بوفاقها في صورة أخرى. الأول: المصالح المرسلة.

وأما الثاني: فلا يخلو أن يكون فيها عين الوصف الموجود في صورة البحث وثبت بنص أو إجماع كونه علَّة لعين الحكم المراد إثباته في صورة البحث أو لا. الأول: المؤثِّر، ومثاله قياس النبيذ على الخمر في الحُرْمة لثبوت النص والإجماع على أن الإسكار في الخمر علة للحرمة. وأما الثاني: ففيه أربع صور: الأولى: أن يكون الوصف في الفرع والأصل واحدًا والحكم فيهما كذلك. كقياس النبيذ على الخمر على فرض أنه لم يقم نص ولا إجماع على أن العلة هي الإسكار. الثانية: أن يكون الوصف فيهما واحدًا، والحكمان مختلفان ولكنهما يدخلان تحت جنس قريب، كقياس تولِّي الولي نكاحَ الصغير على تولِّيه ماله. الثالثة: أن يكون الحكم فيهما واحدًا، والوصفان مختلفان ولكنهما يدخلان تحت جنس قريب. كقياس المجنون على الصبي في تولّي الأب ماله. الرابعة: أن يختلف الوصفان ولكنهما داخلان تحت جنس، ويختلف الحكمان ولكنهما داخلان تحت جنس. كقياس المجنون في تولّي الأب نكاحه، على الصبي في تولّي الأب ماله. وفي كل واحدة من هذه الصور: إما أن لا يوجد أصل آخر يشهد لذلك

[استدلال على أن صيغة "افعل" للوجوب]

الوصف بالاعتبار، أو يوجد. الأول: هو الغريب. والثاني: الملائم، وتخرج من النظر بين الأصلين أربعُ صور كالأربع المتقدمة في النظر بين الأصل والفرع. الأولى: عينٌ في عين، كالملح في شهاوته لاعتبار الطعم في البر. الثانية: عينٌ في جنس، كما إذا علّلنا الرِّبا في البُرِّ بالقوت مع الادِّخار، واستشهدنا بتحريم الاحتكار في الأقوات التي تُدَّخر. فإن الوصف في الأصلين هو القوت مع الادّخار، والحُكْمان مختلفان، ولكنهما يجتمعان في جنس وهو التشديد. الثالثة: جنس في عين (¬1). **** [استدلال على أن صيغة "افعل" للوجوب] الحمد لله. مما يدلُّ على أن لفظ "افعل" للوجوب: الحديثُ الصحيح في غزوة الفتح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه: "إنكم قد دنوتم من عدوِّكم والفطر أقوى بكم". قال الصحابي: فكانت رخصة. ¬

_ (¬1) هذا آخر ما كتبه الشيخ في المجموع [4724]. قلت: الرابعة: جنس في جنس. انظر "التقرير والتحرير": (3/ 206).

[تعليق الشيخ على حكاية من "الموافقات"]

ثم قال - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك: "إنكم مصبَّحوا عدوَّكم فأَفْطروا". قال الصحابي: فكانت عزمةً. يُراجع لفظ الحديث (¬1). **** [تعليق الشيخ على حكاية من "الموافقات"] الموافقات (ج 3 ص 91): ["وقد حكى إمام الحرمين عن ابن سريج أنه ناظر أبا بكر بن داود الأصبهاني في القول بالظاهر، فقال له ابن سريج: أنت تلتزم الظواهر، وقد قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] فما تقول فيمن يعمل مثقال ذرتين؟ فقال مجيبًا: الذرتان ذرة وذرة، فقال ابن سريج: فلو عمل مثقال ذرَّةٍ ونصفٍ؟ فتبلَّد وانقطع".] لا أرى الحكاية صحيحة؛ لأن ابن داود وأباه لا يريدان بالظاهر مثل هذا، كما دلَّت القواطع العقلية والنقلية والإجماع على عدم إرادته (¬2). ¬

_ (¬1) الحديث في "صحيح مسلم" (1120) وقد راجعنا اللفظ وأصلحناه، فقد كتب الشيخ في الموضعين: "إنكم ملاقو عدوكم ... ". (¬2) الفائدتان الأخيرتان من مجموع [4729].

الفوائد اللغوية

الفوائد اللغوية

أصل اللغة الإشارة

الحمد لله. أصلُ اللُّغةِ الإشارةُ اختلف الباحثون في أصل اللغة، وظهر لي في ذلك شيء هو في نظري أصحُّ ما يُقال في هذا الباب، ولعلّي أكون أوَّلَ مَنْ تنبَّه له. المعذرةُ أيها القارئ! فلعلّي أكون مخطئًا في اعتقادي هذا. وقد كان يجب عليَّ أن أستوعب ما قيل في هذا الموضوع قبل أن أُبدي ما عندي، ولكن لم يتيسَّر لي ذلك في الحال، وعلمت أنَّ للمخلّفاتِ - كما قيل - آفاتٍ. وقبل بيان ما ظهر لي، أذكرُ ما وقفتُ عليه من آراء الناس في هذا الباب. الرأي الأول: أنَّ اللغة من وضع الخالق عزَّ وجلَّ. ثم اختلف أصحاب هذا الرأي، فقال بعضهم: علَّمها الله عَزَّ وَجَلَّ آدمَ محتجِّين بقوله عزَّ وجلَّ: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31]، مع ما في الحديث الصحيح أنَّ الناس يوم القيامة يأتون يقولون لآدم: "وعلَّمك أسماء كلّ شيء" (¬1)، ثمَّ علَّمها آدمُ بنيه فتوارثوها. وقال آخرون: بل بالوحي إلى الأنبياء. وقال غيرهم: بل بالإلهام. الرأي الثاني: أنَّ الواضع لها هم البشر، ثم اختلف هؤلاء. فقال فريق منهم: إنَّ بين الألفاظ والمعاني مناسَباتٍ طَبْعيَّة تفطَّن لها الواضع. ومنهم مَنْ فسَّر هذا بأن المراد بالمناسبة أنَّ للحروف صفاتٍ ¬

_ (¬1) البخاري (4476) من حديث أنس رضي الله عنه.

محسوسةً من الجهر والشدة وغيرهما، وكذا للفتح والكسر والضم والسكون، وللمسميات صفاتٌ مشابهة لذلك، فرُوعِيَتِ المناسبة بذلك، وقد ذكر ابن جني في "خصائصه" (¬1) أمثلة لذلك. وقال فريق آخر: بل بمجرَّد الاصطلاح بمعونة الإشارة، كأن يحضر الشيءُ أمام المُصطَلِحِين فيتَّفِقُون على لفظٍ يضعونه له. وقال آخرون: بل الأصل في هذا حكاية أصوات الحيوانات وغيرها، وقد حكاه ابنُ جنِّي في "الخصائص" (¬2) وحسَّنه، ولفظُه: "وذهب بعضهم إلى أنَّ أصل اللغات كلِّها إنما هو من الأصوات المسموعات كدوِيِّ الريح، وحنين الرعد، وخرير الماء، وشحيج الحمار، ونعيق الغراب، وصهيل الفرس، ونزيب الظبْي، ونحو ذلك، ثم ولدت اللغات عن ذلك فيما بعد. وهذا عندي وَجْهٌ صالح ومذهبٌ مُتَقَبَّلٌ". خصائص (ج 1 ص 44). الرأي الثالث: الوَقْف. أمَّا أنا فإني أرى أنَّ أصل اللغة الإشارةُ على تصرُّفٍ في معنى الإشارة لما ستراه إن شاء الله تعالى. ثم أقول: إمّا أن يكون الخالق عَزَّ وَجَلَّ وضعها موافقةً لذلك مراعاةً للحكمة وليَسهل تعلُّمُها على الناس، ويكون أظهر في الدلالة على المعاني، كما يدلك على ذلك كثرة استعمال العرب كلمة (البَوْس) بمعنى التقبيل، حتى لا تكاد العامة تعرف له لفظًا غير (البَوْس) مع ¬

_ (¬1) وذلك في باب: "في إمساس الألفاظ أشباه المعاني": (1/ 152 - 168) ت. محمَّد علي النجار. (¬2) (1/ 46 - 47).

الدليل الإجمالي

أنه من غير لغة العرب، إلاَّ أنه ظاهر الموافقة للإشارة بخلاف (التقبيل) ونحوه، كما ستراه إن شاء الله تعالى. وإمَّا أن يكون الخلق هم الذين ولَّدوها من الإشارة. ولا أجزم بأحدهما, ولكنّي سأبني كلامي على الثاني. الدليل الإجمالي أصحُّ أساسٍ نبني عليه البحث في هذا الموضوع أن نعتبر حال الإنسان قبل اللغة بحال الأبكم، وكلّنا يعلم أنَّ الأبكم يعتمد في تفهيم ما يريده على أمورٍ منها: الإشارة ببعض أعضائه الظاهرة، ومنها أصوات طبعية تدل على أغراض معروفة، كالأنين على الألم. وهذا القسم يظهر أنه كان كثيرًا في الإنسان لأننا نرى العجماوات تستفيد من أصواتها المطبعية كثيرًا في تفهيمها، ولا شك أن الإنسان قبل اللغة كان أرقى منها. ومنها حكاية أصوات الأشياء التي يريد [أن] يخبر عنها سواءً من أصوات الإنسان نفسه كالأنين والحنين والنخير والشخير أو أصوات الحيوانات أو غيرها. ومنها حكايه المعاني بأصوات تناسبها، وهذا هو الذي دندن عليه ابن جنّي. أنا أرى أنَّ الأقسام الثلاثة يصحّ أن تكون كلها من باب الإشارة، فالأول إشارة مرئية، والآخران إشارة مسموعة، وإن كان معنى الإشارة في أصل اللغة لا يتحمَّل هذا فلنحمِّلْه إيَّاه على سبيل الاصطلاح. ويرجّح هذا أنَّ الإشارة بالأعضاء أوسع تصرُّفًا من الأصوات الطبعية والحكاية كما لا يخفى.

التحليل

وقريب من الأبكم: الناطق الذي يحاول تفهيم مَنْ لا يعرف لسانه. بل إن الناطق الذي يريد تفهيم مَنْ يعرف لسانه كثيرًا ما يستغني بالإشارة والأصوات الطبعية والحكاية. وإذن فقد كان الناس قبل الكلام يتفاهمون بذلك. والمنطق يدل أنّ أقرب ما يمكن أن تَولَّد منه أداة الشيء هو أداة أخرى لذلك الشيء كانت قبلها. وإذن فاللغة مولَّدة من الإشارة والحكاية. التحليل 1 - الإشارة بالأعضاء هي عبارة عن تحريك بعض الأعضاء حركةً مخصوصةً، وقد يكون غير الأعضاء كعُودٍ باليد، ولكن مبنى الإشارة على الأعضاء كما لا يخفى. 2 - من الأعضاء: أعضاء الفم من الشفتين واللسان وغيرها. 3 - الإشارة بأعضاء الفم قد تكون بالتحريك الظاهر كإبراز اللسان، وقد تكون بتحريك لا يظهر للبصر، وإنّما يُستدلّ عليه بصوتٍ كدلالة "هع" على تحريك بعض أعضاء الحلق حركةً مخصوصةً للدلالة على القيء. 4 - قد يقال: الأَولى أن يُجعل نفس الصوت - "هع" مثلاً - هو الدالّ على المعنى - وهو القيء هنا - مع قطع النظر عن تحريك أجزاء الحلق، فيكون هذا من الحكاية لا من الإشارة العضوية. وهذا - وإن صحّ في المثال - لا يصحّ في نحو (بَلَع) كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى.

5 - قدَّمنا الإشارة العضوية التي يمكن توليد الكلام منها هي ما كان بأعضاء الفم، والظاهر أن أول ما ولد من الكلام هو ما جرت العادة بأن يشار إليه بشيء من أعضاء الفم. ثم إن الواضعين ألحقوا بذلك ما جرت العادة أن يشار إليه بغير ذلك بأن كلّفوا أنفسهم أولاً الاقتصار في الإشارات على أعضاء الفم ثم فعلوا بها كما فعلوا بالأولى. 6 - الكلمات المولدة من الإشارة العضوية والأصوات الطبعية والحكاية هي أصول المراد، وكذا أصول الصِيَغ فيما يظهر، ثم جُعِلت تلك الأصول أمهات، وولدت منها كلمات أخرى بمقتضى المناسبة، وقد تكون المناسبة إشارية وقد تكون غيرها، وقد تكون مركبة. 7 - طريق البحث في هذا الموضوع أن ... (¬1). * من لطائف الإشارة كلمة: "حِرْح" فإنها إشارة إلى شيء فيه دفع وبلع. ثمَّ أسقطوا منه ما يدل على البلع على عادتهم في إضمار ذلك والتحاشي من التصريح به (¬2). **** ¬

_ (¬1) بياض في الأصل. (¬2) مجموع [4716].

اشتقاق الكلمات

اشتقاق الكلمات ذكروا أنّ اشتقاق الكلمات بحسب الأصل قد يكون من طبائع الحروف، كالشدة والجهر وضديهما. ومثَّل له ابن جني في "الخصائص" بما مثّل. وذكروا أنّه قد يكون من أصوات الحيوانات ونحوها، ومثّلوه بنحو الصّرير، والأزيز. وقال قائل: كيف يحتاج الإنسان إلى أن يَستمدَّ كلامه من أصوات الحيوانات ونحوها، في حين أنّ الحيوانات لا تستمدُّ كلامها الذي تتفاهم به إلا من أصواتها أنفسها، مع أنّ الإنسان أشرف من الحيوان؟! وأقول أنا: إنّ كثيرًا من الكلام - ولا سيّما ألفاظ الأصوات الإنسانية - مشتق من الأصوات نفسها، كالنخير، والشخير، والتنحنح، والنفخ، والقهقهة، والأنين، والحنين، والرنين. ولكن بعض ذلك مما يُفهم بسهولة، وبعضه يحتاج إلى إمعان نظر واستقراء لأنواع الصوت، كالضحك والبكاء. وأقول أيضًا: إنّ كثيرًا من الكلام مأخوذ من الإشارة، وهذا باب واسع جدًّا؛ فإن الإنسان الذي لا يعلم الكلام كالأبكم يستطيع أن يُفهِم صاحبه كثيرًا من أغراضه بمجرد الإشارة. ولكن الإشارة قد تكون باليدين، وبغيرهما من الأعضاء. واستمدادُ الكلام منها إنّما يمكن من الإشارة بأعضاء الفم، كاللسان والشفتين، فإنّها هي التي يكون بها الكلام.

ومن أمثلة هذا: اسم الإشارة وهو (ذا). فالإنسان إذا أشار إلى حاضر يُبرز عضوًا منه موجِّهًا إلى ذلك الشيء، وقد يصوِّت معه بصوت خالٍ عن معنى ليوجِّه نظر السامع إلى الإشارة فالمشارِ إليه. ومن جملة الأعضاء التي تُبرَز للإشارة: اللسان، وهو الذي يمكن منه استمداد اللفظ. فرأى الواضعُ أنّه ينبغي وضع كلمة الإشارة استمدادًا من إخراج اللسان والنطقِ ببعض الحروف التي يتيسّر النطق بها حينئذ. فوجد ثلاثة أحرف: الذال، والثاء، والظاء. والثاء خفيّة، والظاء لا تخلو من خفاء، فتعيَّن الذال. وزاد معها الألف ليَبِين الصوتُ، ثم تصرّف فيها في أسماء الإشارة، والموصول، وبعض الظروف كإذ، وإذا، ومُذ، ومنذ؛ لوجوه يطول بيانها، والأصل فيها ما تقدم. ومن ذلك: أنّ إشارة الإنسان إلى نفسه تكون بعطف عضوٍ منه إلى جسمه، فتعيَّن ها هنا اللسان. وأنت إذا عطفت لسانك إليك محرِّكًا له كما يفعل المشير، ثم التمست حرفًا تنطق به حينئذٍ، تعيَّنَ النون. فجُعلت النون أصلاً لضمير المتكلم، وتُصرِّف فيها في غيره. ومن ذلك: أنّ إشارة الإنسان إلى الوقت الحاضر تكون بتحريك يديه حركة معترضة، ثم الإشارة إلى نفسه، يريد وقتنا الحاضر، مع تصويتٍ يصحب الإشارة.

فرأوا أنّ الصوت الذي يؤدّي معنى الصوت (¬1) ويمثِّل الإشارة، هو المَدَّة، والذي يؤدي معنى الإشارة إلى النفس هو النون كما مرّ، فقالوا: "ءان"، ثم تصرّفوا في ءان، ومن جملة تصرّفهم فيه (¬2): قلبُهم لبعضه ليدلّ على تغيير في معناه، فقالوا: "أنَى" لساعةٍ غير معيَّنة. ثم تصرفوا في هذه أيضًا، فقالوا: أنَى الشيءُ يأني، أي: حضر إناهُ، أي وقته. ومن ذلك: "أنَى الطعام" أي بلغ وقته، أي المطلوب منه، وهو النضج. ثم قالوا للوعاء: "إناء"؛ لأن الطعام إذا بلغ إناه جُعِل فيه. وقال تعالى: {حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن: 44] أي بلغ وقته المطلوب منه، وهو شدة الحرارة. وقالوا: "أنيت الشيءَ" أي أخَّرته إلى إناه، أي إلى وقته المناسب، ومنه "الأناة" و"التأنَّي"، [و] هو تأخير الشيء إلى إناه، أي إلى وقته المناسب. ومن هنا كان التأني ممدوحًا مطلقًا. ولو كان معناه: تأخير الشيء عن إناه، أي عن وقته، كما زعم الراغب (¬3) = لكان مذمومًا أو على الأقلّ لا يدلّ على مدح ولا ذمّ. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأشج عبد القيس: "إن فيك لخصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة" (¬4). ¬

_ (¬1) كذا في الأصل. (¬2) في الأصل: فيهم، سبق قلم. (¬3) "المفردات" (ص 96). (¬4) أخرجه مسلم (17/ 25).

[بحث في أصل صيغ الفعل واشتقاقها منه، وإتيان بعضها مكان بعض]

ومن ذلك: الابتسام. لمَّا كان آلته الشفتان، وغايته أن تبدو معه الأسنان العليا؛ جعلوا له حرفين شفويّة، وهما: الباء والميم، وحرفًا من الثنايا العليا، وهو السين. وقريب من الابتسام: البَوس. وإن لم يكن بعربي (¬1). **** [بحث في أصل صيغ الفعل واشتقاقها منه، وإتيان بعضها مكان بعض] الحمد لله. "أمالي ابن الشجري" المجلس (38). "قال أبو الفتح عثمان بن جني: قال لي أبو علي: سألت يومًا أبا بكر - يعني ابن السراج - عن الأفعال يقع بعضها موقع بعض، فقال: كان ينبغي للأفعال كلها أن تكون مثالاً واحدًا لأنها لمعنى واحد، ولكن خولف بين صيغها لاختلاف أحوال الزمان، فإذا اقترن بالفعل ما يدل عليه من لفظ أو حال جاز وقوع بعضها في موقع بعض. قال أبو الفتح: وهذا كلامٌ من أبي بكر بحال شديد (¬2) ". أقول: وقد سبق لي جواب لعله أوضح من هذا وأقعد. وذلك أني سُئلت عن فعلَي التعجب: لِمَ جُعلا فعلين ماضيين أبدًا، مع أنّ التعجب قد يكون ماضيًا وحالاً وآتيًا؟ ¬

_ (¬1) مجموع [4719]. (¬2) علَّق عليه الشيخ بقوله: "كذا، وذكره في موضع آخر: عالٍ سديد".

فأجبتُ بأن الفعل بحسب الأصل صيغة واحدة تدل على وقوع ذلك الفعل، فكأنه في الأصل اختير أن يكون من الضرب: "ضَرَبَ"، بدليل خِفَّتها وعدم الزيادة فيها. ثم رأوا أنّ مجرّد الإخبار بالوقوع لا يكفي؛ لأنّ الوقوع قد يكون في الحال، وقد يكون قبل ساعة فأكثر، إلى ما لا نهاية له، وقد يكون بعد ساعة إلى ما لا نهاية له. ولمّا كان لا يمكن تعدّد الصيغ بتعدد الأزمنة، فلا أقل من اعتبار الجهات، وهي المضي والحال والاستقبال. فنظروا أيّها أَلْيَق بالأصل، فإذا هو الماضي، لأنّه الأصل والغالب فيما يحتاج فيه إلى الإخبار بالوقوع، فجعلوا له الصيغة الأصلية، وهي "ضَرَبَ" مثلًا. ثم رأوا أن يغيّروا الصيغة تغييرًا ما، ويجعلوها للذي يلي الماضي وهو الحال، فزادوا الهمزة التي هي الأصل في الزيادات، فجعلوها للأصل في الإخبار بالوقوع، وهو التكلُّم؛ لأنّ الغالب أنّ الإنسان إنما يخبر عن شيء وقع منه. ثم جعلوا أُختيها: الواو والياء لبقية وجوه الإخبار، إذا الإخبار إما أن يكون عن المتكلم، أو عن مخاطب، أو غائب. ولكنهم قلبوا الواو تاء, لأن التاء أليق بالخطاب؛ لأن الناطق بها كالمشير إلى ما أمامه، ولذلك جعلوا التاء ضمير الخطاب.

وقلبُ الواو تاءً في أوائل الكلمات معروف عندهم، مثل: تترى، وتراث، وتقوى، وتُجاه، وتَبال، وتُكَلة، وتُهَمة. ثم رأوا الاحتياج إلى زيادة صيغةٍ رابعة لأجل المتكلم ومعه غيره، فاختاروا النون, لأنها أشبه الحروف بحروف العلة، كما هو مبيّن في محلَّه. وأمّا المستقبل، فرأوا أن لا يجعلوا له صيغة مستقلة، بل يكتفون بالصيغة التي جعلوها للحال، ويكتفون بدلالة القرائن على أنه لم يُرَد بها الحال وإنما أريد بها الاستقبال. وجعلوا حرفًا خاصًّا لهذا المعنى، حتى يُفْزَع إليه إذا لم يوجد في الكلام قرينة أخرى، وهو (السين)، ثم زادوا مع (السين) حرفين فقالوا: (سوف)، لتكون (السين) وحدها دالةً على المستقبل القريب، و (سوف) دالةً على البعيد. وأما الأمر، فهو مشتق من المضارع، كما عليه الكوفيون، وهو الصحيح. ثم إنهم كثيرًا ما يجدون القرائن مُغْنِية عن الصيغة، فيرجعون إلى الأصل، وهو صيغة (ضَرَب) مثلًا. ومن هنا كان الغالب مع أدوات الشرط مجيء صيغة الماضي؛ وذلك لأن أدوات الشرط تدل على أن الفعل مستقبل، فاستغنوا بها عن الصيغة ورجعوا إلى الأصل. ومن هنا تعلم أن المستقبل إذا جاء بلفظ الماضي لا يجب أن يكون ذلك لنكتة معنوية، وإن كان كثيرًا ما يَرِد كذلك، إلا أنه ليس بلازم.

وهذا في كلِّ شيء يجيء على أصله. قد يكون لمجيئه على أصله نكتة معنوية أو أكثر، ولكن ليس ذلك بلازم، فقد يجيء على الأصل لغير نكتة، بل لمجرد أنه الأصل. فأمّا مجيء المعنى الماضي بصيغة المضارع فلا بدّ له من نكتة. هذا معنى ما أجبت به قبل اطلاعي على ما قاله ابن السراج، وهو بحمد الله تعالى من التحقيق بحيث ترى، بخلاف كلام ابن السراج ففيه إجمال لا يخفى. فأمّا خصوص صيغتَي التعجب، فإنها خُصَّت بصيغة الماضي لما تقدم أنه الأصل، مع أن الغالب في التعجب الواقع أنه إنما يكون من شيء واقع فأما ما لم يقع، فإن التعجب منه إنما يقع عند وقوعه. فإن تُجُوَّز في المجيء بالصيغة للدلالة على تعجبٍ سيقع، فذلك عزيز، فليُجَأْ معه بقرينة دالة على المطلوب. والتزامُ ذلك أخف وأيسر من تعديد صيغ التعجب. والله أعلم (¬1). **** ¬

_ (¬1) مجموع [4719].

[المناسبة بين رسم كلمتي الصدق والكذب وبين معانيهما]

[المناسبة بين رسم كلمتَي الصدق والكذب وبين معانيهما] الحمد لله. الصدق والكذب إن الصدق والكذب ليترائَيان للأبصار ضئيلين جدًّا بالنسبة إلى مقدارهما الحقيقي، فإذا أُنعِم النظر فيهما أَخذَا في الاتِّساع إلى أن يَلْتَهِما جميع الأخلاق. وقد دعاني هذا من حالهما إلى أن أكتب شيئًا في شأنهما، ما بين رسمهما وتسميتهما من المناسبة الغريبة. [الصدق:] الصاد: حرفٌ مهموس رخو مُستَعْلٍ. فكأنه أشيرَ به إلى أن الصدق أول ما يُفاه به، يهمس به صاحبُه خوفًا، ويكون معناه كالكلام المهموس، أي خفيًّا غير ظاهر، ويكون ضعيفًا لكراهية الناس له وميلهم إلى الكذب. وهو مع ذلك مستعلٍ في جوهره، ولكن أُشيرَ بجعل حركته كسرةً إلى أنه سافل في صورة حاله. والدال والقاف مجهوران شديدان مُقَلْقلان. وكل ذلك إشارة إلى أن الصدق في أوسط أحواله وآخرها يشتهر ويقوى ويظهر. وزادَ القافُ بكونه مستعليًا، وهو بحسب الصورة قابل للفتح والرفع

والخفض. ففيه إشارة إلى أن الصدق في آخره هو مستعلٍ في حقيقته، وقد يكون مستعليًا في الصورة، وربما خُفِض. الكذب: الكاف: مهموس شديد منخفض، كان ذلك إشارة إلى (¬1) أن الكذب في أوله يهمس به صاحبُه خوفًا من التكذيب، أو لأن ضميره يلومه إن كان بقي فيه شيء من الحياة. وقد قيل: إن الكاف مجهور. ويظهر من ذلك نكتة أخرى، وهي أن الكاذب يموَّه كذبه بحيث يشبه المجهور. والشّدّة فيه إشارةٌ إلى أن الكذب في أوله شديد التأثير. والانخفاض إشارةٌ إلى انخفاضه في ذاته، ولكنه حُرَّك بالفتح إشارةً إلى أن صاحبه يصوّره بصورة الظاهر المستعلي، وإن كان في نفسه بخلاف ذلك. الذال: مجهورٌ رخوٌ منخفض. فكأن ذلك إشارة إلى أن الكذب في أوسط أحواله يشتهر، ويضعف ويكون سافلاً حقيقة وكذا صورةً؛ لتحريكه بالكسرة. وقد قيل: إن الذال مهموس. وتظهر من ذلك نكتة أخرى، وهي أن صاحبه يجهد حينئذ في أن يغفل عنه الناس وينسوه. الباء: مجهور شديد مُقَلْقَل منخفض. ¬

_ (¬1) تكررت "إلى" في الأصل.

[تعليقات على مواضع من "مختصر المعاني شرح تلخيص المفتاح" و"حاشيته" للبناني]

الجهر إشارة إلى ظهوره واشتهاره، والشدة إشارة إلى أنه كثيرًا ما يشتد الكذب ويقوى بوجود أناسٍ يتعصبون له بجهلٍ أو هوى. وهذا مُشاهَد بكثرة. والانخفاض: إلى أنه منخفض في ذاته، مُهْمَلٌ في صورته؛ فقد يُعْلِيهِ التعصُّب، وقد يخفضه الإنصاف (¬1). **** [تعليقات على مواضع من "مختصر المعاني شرح تلخيص المفتاح" و"حاشيته" للبنَّاني] الحمد لله. * قول "المختصر" (¬2): "وتقديم الحمد باعتبار أنه أهم [نظرًا إلى كون المقام مقام الحمد] " إلخ. اعتُرض عليه بأن النكتة إنما تذكر للمُزال عن محله الأصلي لا القارَّ فيه. وحكى المحشِّي جوابين غير واضحين. والجواب الصحيح أنه إنما يعتبر الأصل حيث لا مقتضى لخلافه، فإذا ورد شيء على أصله ولا مقتضى لخلافه لم يُسأل عنه. وأما إذا وجد ما يقتضي خلافه فإنه يُسأل, لأن كونه أصلاً مُعارَض بما هو أرجح منه، وهو ذلك المقتضي. ¬

_ (¬1) مجموع [4729]. (¬2) "مختصر المعاني - مع حاشيته التجريد" لمصطفى بن محمَّد البنَّاني: (1/ 25 - 26).

مثاله في النحو: أن يسأل سائل عن "ذو" بمعنى صاحب، لماذا أُعربَ مع كونه على حرفين؟ فلا يكفي في الجواب أن يقال: الأصل في الاسم الإعراب فلا يُسأل عنه؛ لأنه يقال: هذا إنما هو فيما ليس فيه مقتضٍ لخلافه، وهو ها هنا معارَض بما هو أرجح منه، وهو أن ما كان من الاسم على حرفين ما فيهما حرف علَّة واجبُ البناء. فيتعين في الجواب أن يُقال: إن لفظ "ذو" ليس على حرفين، بل هو على ثلاثة؛ لأن أصله "ذوي"، وقاعدة بناء الاسم إذا كان على حرفين إنما هي فيما كان على حرفين من أصل الوضع، وليس "ذو" كذلك. إذا تقرر ذلك، فكون تقديم الحمد هو الأصل لكونه مبتدأً قد عارضه ما هو أرجح منه، وهو أن تقديم لفظ الجلالة أحق لأنه الأهم، فلا يكفي في الجواب أن يقال: "هو الأصل", لأن الأصل قد عارضه ما هو أرجح منه. وعليه فلا بد من نكتة أخرى للعدول عمّا كان هو الظاهر في البلاغة، وهو تقديم الأهم. والله أعلم. **** * قول المختصر (¬1): "والتعليل بأن البلاغة إنما هي باعتبار المطابقة لمقتضى الحال، وهي لا تتحقق للمفرد = وهمٌ ... " إلخ. أقول: وتعليل السعد بأنه "لم يُسمع: كلمة بليغة" تقصير لأنه قد يقال: ولماذا لم يستعمل العرب ذلك؟ فكان الأولى أن يعلل بأن البلاغة مُشتقة من البلاغ، ففي "القاموس وشرحه": بَلُغ الرجل بلاغةً إذا كان يبلغ بعبارته كُنْهَ ¬

_ (¬1) "مختصر المعاني - مع التجريد": (1/ 59 - 60).

مراده ... إلخ، وهذا إنما يناسب المتكلم لكونه هو الذي يبلغ، فيقال: بليغ فعيل بمعنى فاعل؛ والكلامَ لأنه به يبلغ صاحبه مراده، فيكون فعيل بمعنى مُفعَل أي مبلَغ. وأما المفرد، فلا مناسبة لذلك فيه، فلذلك لم تطلق العرب: "كلمة بليغة". ولعل المعلل الأول قصد هذا ولكن قصرت عبارته عنه. والله أعلم. **** * البنَّاني ([ج 1] ص 91) (¬1): "مع أنه لا يحسن في نظر العقل طلب التصويت عند سماع صوت المحبوب" إلخ. فيه نظر، أولاً: أن هذا إذا كان هو أيضًا بذلك المرأى والمسمع، كالحمامة، ولا دليل عليه، بل ربما كان بينه وبين ذلك المحلّ مراحل. وقد يكون إنما قال ذلك للحمامة غبطةً لها. ومع ذلك، فليس المراد من كونها بمسمع منها كونها تسمع صوتها بالفعل. بل المراد أنها بحيث لو تكلمت لسمعتها. ويظهر لي معنى آخر غير ما تقدم، وهو أنه أراد تنبيه الحمامة على جمال المحبوبة، يُقال لها: ينبغي لكِ إذا كنتِ بحيث ترينها وتسمعين كلامها أن تنشطي وتفرحي وتطربي. ¬

_ (¬1) تعليقًا على الشاهد التالي: حمامةَ جرعا حومةِ الجندل اسْجَعي ... فأنتِ بمرأى من سُعادَ ومسمع

ومعنى آخر: وهو أنه سمع الحمامة تسجع، فأمرُه لها بمعنى: دومي على السجع غير ملومة، فإنك بحيث ترين المحبوبة وتسمعين كلامها، فلا غرو إذا طربْتِ وطرَّبتِ! فيحق لمن كان بذلك المحلّ أن يطرَبَ ويُطرَّبَ. **** * " (وبينهما) أي بين الطرفين (مراتب كثيرة) متفاوتة، بعضها أعلى من بعض بحسب تفاوت المقامات ورعاية الاعتبارات، والبُعد من أسباب الإخلال بالفصاحة. هـ مختصر. قوله: "متفاوتة" لمَّا كان يُشكل التفاوت بأنه إن حصلت المطابقة حصلت البلاغة، وإن انتفت انتفت البلاغة = بيّنه بقوله: "بحسب تفاوت المقامات" أي كما في مقام يقتضي تأكيدًا شديدًا، ومقام يقتضي مطلق التأكيد، "ورعاية الاعتبارات" كما لو روعي اعتبار واحد، وروعي أكثر، "والبعد من أسباب ... " إلخ كما لو انتفى الثقل بالكلية في موضع وبقي منه شيء يسير لا يخرجه عن الفصاحة في موضع آخر. اهـ "سم" ببعض تغيير. ولا تغفل عمَّا قدمناه من أنه لا يشترط في أصل البلاغة المطابقة لجميع مقتضيات الحال، بل المطابقة في الجملة". هـ (¬1). أقول: قوله: "كما في مقام يقتضي تأكيدًا شديدًا ومقام يقتضي مطلق التأكيد"، يعني فالإتيان بالتأكيد الشديد في الأول وبالتأكيد غير الشديد في الثاني أبلغ من العكس، فإن مَن جاء بالتأكيد الشديد في المقام الذي يقتضي ¬

_ (¬1) "التجريد" للبنَّاني: (1/ 112 - 113).

التوكيد الشديد قد وَفَى بتمام المقصود، ومَن جاء بالتأكيد الخفيف في المقام الذي يقتضي التأكيد الشديد قد جاء بأصل المقصود، وهو مطلق التأكيد، ولكنه أخطأ في نوعه. وهكذا مَن جاء بالتأكيد الخفيف في المقام الذي فيه التأكيد الخفيف فقد جاء بتمام المقصود، ومَن جاء بالتأكيد الشديد في المقام الذي يقتضي التأكيد الخفيف قد جاء بأصل المقصود وهو مطلق التوكيد، ولكنه أخطأ في نوعه، وبما ذكر تبين اقتضاء ما ذكر لتفاوت البلاغة. ومن اختلاف المقامات أيضًا أن يكون مقام يقتضي نكتةً مخالفة للأصل، أي زائدة على أصل المراد، ومقام آخر لا يقتضيها، أو مقام يقتضي واحدة فقط، ومقام يقتضي اثنتين، وهكذا. فالكلام الوارد في المقام المقتضي للنكتة الزائدة على أصل المراد مطابقًا لها = أبلغ من الكلام الوارد في المقام الذي لا يقتضي ذلك، والكلام الوارد في المقام الذي يقتضي نِكاتًا متعددة مطابقًا أبلغ من الكلام الوارد في المقام الذي يقتضي أقل منها. والله أعلم. ويدل على ما ذكرنا ما نقله عن الفَنَري (¬1) في الكلام على قوله: "عطف على قوله: هو" قال: "فإن قلت: لا يمكن إنكار تفاوت الآيات في البلاغة، قلت: التفاوت الحاصل فيها بالنظر إلى أن الأحوال المقتضية للاعتبارات في بعضها أكثر، فالمقتضيات المرعية فيها أوفر من المقتضيات المرعية في الأخرى، وذلك لا يقدح في أن يكون كل منها في الطرف الأعلى، أي في مرتبة من البلاغة لا بلاغة فوقها بالنسبة لتلك الآية لوجوب اشتمال كل آية على جميع مقتضيات الأحوال التي في نفس الأمر بناء على إحاطة علم الله ¬

_ (¬1) "التجريد": (1/ 110).

تعالى بجميعها فتأمل". هـ ثم نقل بعد ذلك بأسطر (¬1) كلامًا لابن قاسم قال في آخره: "على أنه يمكن أن يُدَّعى تفاوت نفس البلاغة القرآنية بغير النظر إلى ما ذكر، بأن يكون أحد الكلامين أبعد عن أسباب الإخلال بالفصاحة، كأن لا يكون في أحدهما شائبة ثقل ويكون في الآخر شائبة ثقل لا تخلُّ بالفصاحة، نحو {فَسَبِّحْهُ} [ق: 40]. ولا شك أن انقطاع الشائبة بالكلية أدخل في الفصاحة وموجب للأعلوية في البلاغة". هـ أقول: ومع ذلك، فتلك الآية المحتوية على اللفظ الذي فيه شائبة ثقل = هي في أعلى طبقات الفصاحة في بابها، أي أنه لا يمكن أن يؤدَّى ذلك المعنى بلفظ أفصح من ذلك اللفظ فتأمل. والله أعلم. ونقل (¬2) عن يس الكلام على قوله: "وارتفاع شأن الكلام [في الحُسن والقبول بمطابقته للاعتبار المناسب وانحطاطه] (¬3) " كلامًا فيه: "وبحمل الكلام على الكلام الفصيح لا البليغ يندفع ما أورد على كل من المقدمتين في قول المصنف: وارتفاع ... إلخ. أما الأولى فلأن ارتفاع شأن الكلام في الحسن والقبول إنما هو بزيادة المطابقة للاعتبار المناسب وكمالها لا بنفس المطابقة، والثابت بنفس المطابقة إنما هو أصل الحسن .... " إلخ. ¬

_ (¬1) (1/ 111). (¬2) (1/ 105). (¬3) في الأصل: " ... إلخ". وأكملنا الكلام ليتضح المعنى.

[بحث في المجاز العقلي]

ثم قال (¬1): "وحاصل جواب المحشي الحفيد أنَّ كمال المطابقةِ مطابقةٌ، فصح أن يقال: الارتفاع بالمطابقة، أي بجنس المطابقة، فالإضافة للجنس كما أن أصل الحُسْن أيضًا بذلك الجنس. وكذلك إضافة عدم للجنس، والمعنى الانحطاط بجنس عدم المطابقة الصادقة بالمراد، وهو عدم كمال المطابقة. اهـ. ويمكن الجواب أيضًا بأن الإضافة للكمال أي الارتفاع بالمطابقة الكاملة والانحطاط بعدم تلك المطابقة الكاملة". اهـ (¬2). **** [بحث في المجاز العقلي] الحمد لله. مدار المجاز على التأول، وهو إرادة المتكلم أن يُفهم عنه أنه أَسنَد الفعل أو معناه إلى غير ما هو له عنده، ولخفاء الإرادة وجب أن تكون هناك قرينةٌ تدل عليها. فمتى وُجدت قرينة كذلك حُكِم بمجازية الإسناد، ومتى لم توجد فإن عُلم أو ظُنَّ عدمها حُكِمَ بحقيقيَّته؛ إذ عدمها يدل على عدم الإرادة. وإن شُكَّ، فقضية قولهم: "الأصل في الكلام الحقيقة" أن يحمل عليها, لكن نُقِلَ عن السيد (¬3) أنه يتعين التوقف. والله أعلم. هـ ك (¬4). ¬

_ (¬1) (1/ 105 - 106). (¬2) مجموع [4657]. (¬3) كما في "التجريد" للبنَّاني: (1/ 181). (¬4) مجموع [4657].

[حول المثنى بالتغليب]

[حول المثنَّى بالتغليب] من الشواهد على ما ظهر لي في قوله تعالى: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ} [النساء: 16]. قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اتقوا اللعانين" (¬1)، وقول الشاعر (¬2): أيَّ يوميَّ من الموت أَفِرْ ... يومَ لم يُقدر أم يوم قُدِرْ وقول الآخر (¬3): لولا الثريدان لمُتْنا بالضُّمُرْ ... ثريدُ ليلٍ، وثريدٌ بالنُّهُرْ وقول الآخر (¬4): عيُّوا بأمرهمُ كما ... عيت ببيضتها الحمامه جعلت لها عودين من ... نشم وآخر من ثمامه وقوله عزَّ وجلَّ: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} [الرحمن: 19] على وجه. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وقاضيان في النار" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (269) من حديث أبي هريرة. (¬2) أنشده ابن الأعرابي في "نوادره" للحارث بن المنذر الجرمي. ويُنسب لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه كما في "حماسة البحتري" (37) وغيره. قال البغدادي في شرح أبيات مغني اللبيب (5/ 134): "الظاهر أنه رضي الله عنه كان يتمثل به، فإن رواته قد أجمعوا على أنه للحارث المذكور". (الإصلاحي). (¬3) البيت في "تهذيب اللغة": (6/ 148)، و"المخصص": (2/ 392)، و"الصحاح": (2/ 840). (¬4) هو عَبِيد بن الأبرص كما في "ديوانه" (126). وانظر "أدب الكاتب" (ص 68)، و"المعاني الكبير": (1/ 359)، و"مجمع الأمثال": (1/ 255). (¬5) مجموع [4657]. والحديث أخرجه الترمذي (1322) والطبراني في "الكبير" =

[تنبيهات على أبيات لامرئ القيس]

[تنبيهات على أبياتٍ لامرئ القيس] * قوله (¬1): أرى أم عمرو دمعُها قد تحدَّرا ... بكاءً على عمرٍو وما كان أصبرا جعل بعض شراح الشواهد (¬2) "أرى" بَصَرية، وهو مردود بأن البيت لامرئ القيس من قصيدة قالها بعد مجاوزته الدرب هو وصاحبه عمرو بن قميئة يقول فيها: بكى صاحبي لمَّا رأى الدربَ دونه ... وأيقن أنّا لاحقان بقيصرا فقلت له: لا تبك عينُك إنما ... نحاول ملكًا أو نموتَ فنعذرا وأم عمرو حينئذ في وطنها ترعى إبلها بدليل بكائها على عمرو، وإنما تبكي عليه إذا كان فارقها، فأما إذا كانت معه فلماذا تبكي؟ مع أنه لا يعقل أن امرئ القيس وصاحبه في ذهابهما إلى قيصر يحملان معهما تلك العجوز. إذا تقرر لك هذا علمت أن الرؤية البَصَرية في تلك الحال محال. وامرؤ القيس لا يدعي علم الغيب، فـ "أرى" قلبية قطعًا. أفدته بزنجبار. هـ ك (¬3). ¬

_ = (1154، 1156، 13801) والحاكم في "المستدرك" (4/ 90) وصححه على شرط مسلم. وأخرجه أبو داود (3573) وابن ماجه (2315) بلفظ: "القضاة ثلاثة. اثنان في النار وواحد في الجنة". (¬1) أي امرئ القيس في ديوانه (744). (¬2) هو بدر الدين العيني في "المقاصد النحوية": (3/ 670 بهامش "خزانة الأدب"). (¬3) أي: انتهى للكاتب. مجموع [4657].

* قوله (¬1): والله لا يذهب شيخي باطلاً ... حتى أُبير مالكًا وكاهلا القاتلين المَلِك الحُلاحِلا ... خير مُعِدٍّ حسبًا ونائلا كان يجري على ألسنتنا ضبط مَعَدّ بفتحتين فتشديد على أنه معد بن عدنان، و"حسبا ونائلا" تمييز، ثم تنَّبهت لأن الشعر لامرئ القيس بن حجر الكندي، والمراد بالمَلِك الحُلاحِل أبوه, وكندة يمانية لا من معد بن عدنان، ولا أعرف مَعَدًّا من آباء اليمن، فعلمت أنه مُعِدًّ بضمَةٍ فكسرةٍ فتشديد، اسم فاعل من الإعداد، وأصله: (مُعْدِد) فأدغم الدال في الدال فالتقى ساكنان فكُسِرَ أولها، وهو العين فصار مُعِدٍّ بوزن مُحِبًّ، وهو اسم فاعل، وفاعله فيه، و"حسبًا ونائلًا" مفعوله، والمراد: خير مَلِكٍ مُعِد حسبًا ونائلاً، أو نحو ذلك. ثم ذكرت هذا لبعض الفضلاء بأن سألته عن الأبيات فأملاها "خير مَعَدّ" بفتحتين فَشَدّ، فذكرت له الاعتراض وما ظهر لي فوافقني على ذلك، ثم قال: ويمكن أن يكون (خيرَ) بالنصب نعتًا لـ (مالكًا وكاهلا) وهما من معدّ بن عدنان. فقلت له: هذا بعيد، أولاً لأن الرواية أن هذا الشطر: (خير معد حسبًا ونائلا) بعد قوله: (القاتلين الملك الحُلاحِلا)، وهذا يدل أنه من تمام وصف الملك الحلاحل، ويبعد الرجوع به إلى ما قبله. ¬

_ (¬1) ديوانه (554). والبيتان بهذا السياق والترتيب من رواية الأصمعي، واللفظة التي علق عليها المؤلف "خير معد" هي في غير رواية الأصمعي: "خير شيخ" وهي تؤيد ما ذهب إليه من المعنى.

[تعليقات على مواضع من "شرح الشافية"]

وثانيًا: أن مدح الموتور لواتره بالشرف خلاف الظاهر. وثالثًا: أن مالكًا وكاهلا لم يكونوا بهذه المنزلة، أي بحيث يُمدحون بكونهم خير معد بن عدنان حسبًا ونائلا. ورابعًا: أن امرئ القيس قد ذكرهم في شعره بخلاف المدح. والله أعلم (¬1). **** [تعليقات على مواضع من "شرح الشافية"] * [" شرح الشافية"] (ص 66) (¬2): "مَفْعَلَة، للمكان الذي يكثر فيه الشيء كمسبعة ليس بقياس". وبهذا يعترض على من قال: "مَكْرَثَة". * (ص 65) في الهامش: "مُلمول" (¬3). انظر ما وزنه. فإن كان فُعلول فلا وجه لزيادته. (ص 65) هامش (¬4). هذا سهو من المصحح, لأن الكلام فيما جاء على ¬

_ (¬1) مجموع [4657]. (¬2) "شرح الشافية" (1/ 188 باختصار). ط محمَّد محيي الدين ورفاقه. (¬3) راجع "شرح الشافية" (1/ 187) حيث ذكر الرضي أربعة أحرف جاءت على مُفعول: المغفور والمغثور، والمغرور، والمغلوق، وكأن مصحح الطبعة التي كانت عند الشيخ زاد عليها "ملمول" في الهامش. ولم يرتض الشيخ ذلك. (¬4) بعد أن كتب الشيخ ما سبق، ذهب ينقل كلامًا آخر من "شرح الشافية"، ثمَّ رجع بعد ذلك إلى المسألة نفسها ليحقَّق القول فيها.

دلائل كون الكلمة أعجمية

مُفْعول، و"مُلْمُول" ليس كذلك، وإنما وزنه فُعلول. * (ص 148) (¬1) قوله: "وأما ظروف ... " إلخ. أقول: لا مانع أن يكون جمعَ "ظرف" الاسم من الظرافة، كما أن "عدل" مصدر "عَدَل" يطلقُ صفةً، ويجمع فيقال: "عُدُول" لكن عدل سُمعَ صفةً، ولم يُسمع ظرف (¬2). **** الحمد لله. دلائل كون الكلمة أعجمية نُقِلْ (¬3) خروج عن الأوزان (¬4) كل خما ... سي عن الذّلْق أعني (مر بنفل) خلا كذا الرباعيُّ إلا أن يكون به ... سين كما عسجدٍ فاسمع لما نُقِلا وكُلُّ ما كِلْمةٍ للجيم حاوية ... مع قاف او صاد او كاف كما وصلا أو صدرها النون جاء الراء عاقبه ... أو عجزها الزاي بعد الدال متصلا (¬5) **** ¬

_ (¬1) (2/ 138). (¬2) مجموع [4657]. (¬3) علَّق عليه الشيخ بقوله: "عن الأئمة". (¬4) علَّق عليه الشيخ بقوله: "العربية". (¬5) مجموع [4657].

[تعليق على كلام الجوهري في معنى "التدافن"]

[تعليق على كلام الجوهري في معنى "التدافن"] " مختار" (د ف ن) (¬1): "والتدافن التكاتم، يقال (¬2): لو تكاشفتم ما تدافنتم" أي لو انكشف عيب بعضكم لبعضٍ". اهـ. أقول: أي لو انكشف عيب بعضكم لبعض ما تكاتمتم، أي ما كَتَم بعضُكم عيبَ بعض. وكان يسبق إلى الفَهم أن المراد ما تدافنتم في القبور، يعني لو انكشف عيب بعضكم لبعض لما قَبَر بعضكم بعضًا، ووجهه واضح. والله أعلم (¬3). **** [أنواع اسم الجنس والفرق بينها وبين الجمع واسم الجمع] الحمد لله. ما صَدَق على واحدٍ لا بعينه فاسم جنس آحادي كـ "أسد". وما صدق على القليل والكثير كـ "ماء" و"ضرْب" فاسم جنس إفرادي. وما لم يصدق إلا على ثلاثة فأكثر: فإن كان له مفردٌ فُرِّق بينه وبينه بالتاء أو ياء النسب، وغُلِّب في ضميره التذكير، فاسم جنس جمعي. ¬

_ (¬1) وانظر "الصحاح": (5/ 2113). (¬2) في "الصحاح": "يقال في الحديث". وإنما هو أثر من قول الحسن البصري، أخرجه أبو بكر الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم" (616). (¬3) مجموع [4657].

[مجيء "إذا" للماضي في القرآن]

وإن لم يكن له مفرد من لفظه، أو كان له مفرد من لفظه ولكنه خارج عن أوزان الجموع، أو غير خارج عنها ولكنه أجري عليه أحكام المفرد كتصغيره والنسب إلى لفظه = فاسم جمع، ومنه: (رهط) (¬1) و (صحب) (¬2). و (رِكاب) جُعل اسمَ جمعٍ لركوبة لأنهم نسبوا إلى لفظه. وما لم يصدق إلا على ثلاثة فأكثر، وكان له مفرد من لفظه لم يفرَّق بينه وبينه بغير (¬3) ياء النسب، ولم يغلب تذكير ضميره، وهو غير خارج عن أوزان الجموع ولا أُجريت عليه أحكام المفرد = فجمعٌ (¬4). **** [مجيء "إذا" للماضي في القرآن] من مجيء (إذا) للماضي قوله تعالى في سورة يوسف: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ} [110] (¬5). **** ¬

_ (¬1) كتب الشيخ فوقه بخط صغير: "1". وهو - والله أعلم - إشارة إلى النوع الأول من اسم جمع، وهو ما ليس له مفرد من لفظه. (¬2) كتب الشيخ فوقه: "2" إشارة إلى النوع الثاني، وهو ما كان له مفرد من لفظه ولكنه خارج عن أوزان الجموع. (¬3) كذا في الأصل. والمعنى إنما يستقيم بحذف "غير" ووصل الباء بـ "ياء النسب". (¬4) مجموع [4657]. (¬5) مجموع [4657].

[أمثلة لـ "فعيل" التي تأتي بمعنى "مفعل"]

[أمثلة لـ "فعيل" التي تأتي بمعنى "مُفعِل"] قد يجيء فعيل بمعنى مُفعِل كالحكيم والأليم، وكذا السميع في قوله (¬1): * أَمِن ريحانة الداعي السميع * والأنيق في قوله (¬2): * أنيقٌ لِعَين الناظر المتنعِّم * (¬3) **** [أمثلة لما شذَّ عن القاعدة في صياغة "أفعل" التفضيل وصيغة التعجب] الحمد لله. الشواذ: ما أضوأَه. ما أظلمه. ما أجنَّه. فهو أهيَب. أخوف. أطعم بمعنى أكثر إطعامًا. ما أكرمه لي (¬4) (¬5). ¬

_ (¬1) صدر بيت لعمرو بن معدي كرب، وعجزه: * يؤرِّقني وأصحابي هجوع * وريحانة أخته. انظر "الكامل": (1/ 261)، و"الأصمعيات" (ص 172)، و"سمط اللآلي": (1/ 40، 63). (¬2) عجز بيت لزهير بن أبي سلمى في معلّقته "ديوانه - شرح ثعلب" (20). وصدره: * وفيهن ملهًى لِلَّطيف ومنظرٌ * والرواية في الديوان: "الناظر المتوسِّم". (¬3) مجموع [4657]. (¬4) شذَّ (ما أضوأه) و (ما أظلمه) و (أطعم) و (ما أكرمه لي) لأن أفعل التفضيل وصيغة التعجب (ما أفعله) لا يُصاغان من الرباعي. وشذَّ (أهيب) و (أخوف) و (ما أجنَّه) لأن التفضيل أو التعجب فيها واقع على المفعول والقياس أن يكون على الفاعل. (¬5) مجموع [4657].

[حول توالي الإضافات]

[حول توالي الإضافات] الحمد لله. مما يدل على أن توالي الإضافات مناف للبلاغة قوله عزَّ وجلَّ: {ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ} [الكهف: 25]. فأما قوله تعالى: {مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ} [غافر: 31]، فإن "قوم نوح" كالكلمة الواحدة، والألفاظ ثلاثية ساكنة الأوسط, مع كونه في "الدأب" قد يُقلب ألِفًا، وهو في الأخيرين حرف علَة. والله أعلم (¬1). **** [بحث في اشتقاق "أَحبَّ"] الحمد لله. "أَحبَّ": والأصل فيه أن المحبوب يَحِبُّ المُحِبَّ بمعنى يصيب حبَّةَ قلبِه، كما يقال: فَأَدْته وكَبَدْته ورَأَيْته. ويشهد له قول الأعشى (¬2): فأصبتُ حبَّةَ قلبِهـ[ـا] وطِحالَها يريد أنها جعلته يحبها ويهواها، فكأنها استولت على حَبَّة قلبه. ثمَّ أدخلوا على "حبّ" همزةَ التعدية فقالوا: أحبَّ فلانٌ فلانة، أي جعلها تَحِبُّه أي تصيب حبَّة قلبه. ¬

_ (¬1) مجموع [4711]. (¬2) "ديوانه" (ص 150) وصدره: * فرميتُ غفلةَ عينه عن شاته *

ثمَّ استعملوا حبَّ بمعنى أحبَّ؛ كأنهم أرادوا التفاؤل، ولهذا غلَّبوا استعمال هذه اللغة في اسم المفعول فقالوا للمعشوق: محبوب، مع أن المحبوب بمقتضى الاشتقاق هو العاشق، حتى إنهم لم يستعملوا اسم المفعول من أحبَّ إلا نادرًا. في قول عنترة (¬1): ولقد نَزَلتِ فلا تَظُنّي غَيرَهُ ... منّي بمنزلة المُحَبِّ المُكرَمِ وإنما استعمله عنترة هنا لأنه أنسب بغرضه؛ فإن غرضه أن يؤكِّد لها أنه يحبُّها. فلو قال: بمنزلة المحبوب لدلَّ على شدَّة توجِّهه إلى حبِّها له فأوهم أنه إنما يحبُّها لتحبَّه. وهذا منافٍ لغرضه، فإن غرضه أن يؤكد لها أنه يحبُّها على كلَّ حال. وإنما لم يستعملوا حبَّ بمعنى عشق إلا نادرًا لأن العمدة فيه الدلالة على وقوع الفعل من الفاعل، فلم يقْوَ داعي التفاؤل كما قوِيَ في لفظ محبوب؛ لأن العمدة فيه الدلالة على المفعول. ولهذا لم يُسمع "حابٌّ" اسم فاعل لأن كون وقوع الفعل من الفاعل هو العمدة = أقوى فيه من الفعل. فإن قلت: لعله لا يوجد في كلامهم حبَّ بمعناه الأصلي، وهو إصابة حَبَّة القلب، فما وجه ذلك؟ قلتُ: كأنهم استغنَوا عنه بـ "شغف"، فإنه بمعناه أو قريب منه. والله أعلم (¬2). ¬

_ (¬1) ضمن معلقته، انظر "شرح ابن الأنباري" (ص 301). (¬2) مجموع [4716].

[تعليقات على مواضع من "المثل السائر"]

[تعليقات على مواضع من "المثل السائر"] * " المثل السائر" (ص 189) (¬1). (عالم وعليم) نقل عن الجمهور أنّ (عليمًا) أبلغ، وزعم أن الذي يظهر له عكس ذلك، ووجّهه بما هو وجه عكسه، قال: "وسبق أنّ (عالمًا) اسم فاعل من "عَلِم" وهو متعدًّ، وأن (عليمًا) اسم فاعل من "عَلُم" إلا أنه أشبه وزن الفعل القاصر، نحو: شَرُف فهو شريف ... ، فلما أشبهه (عليم) انحط عن رتبة (عالم) الذي هو متعدٍّ ... ، ولربما كان ما ذهبوا إليه لأمر خفي عنَّي ولم أطلع عليه". أقول: بل اطلعتَ عليه، ولكن أسأت فهمَه، فإنه يقال: عَلِم زيد بمجيء الحجام فهو عالم به. ويقال: عَلُمَ زيد، أي صار من المتمكنين في العلم الثابتين فيه بحيث يستحق أن تُشتق له صفة ثابتة منه. ولفظ (عليم) لمَّا أشبه (شريف) ونحوه، صار كأنه مشتق من (عَلُمَ) المجعول لازمًا، وهو أبلغ من المتعدّي، كما مرّ، فتأمّل. * (ص 183) (¬2): " {فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ ...} [مريم: 22 - 23]. وفي هذه الآية دليل على أن حملها به ووضعها [إيَّاه] كانا ¬

_ (¬1) (1/ 285) ط. دار الرفاعي بالرياض. (¬2) (1/ 261).

متقاربين؛ لأنه عطف الحمل والانتباذ ... والمخاض الذي هو الطلق بالفاء، وهي للفور. ولو كانت كغيرها من النساء لعطف بـ (ثم) التي هي للتراخي والمهلة. ألا ترى أنه قد جاء في الأخرى: {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} [عبس: 17 - 20] ... ". أقول: قد ذكر النحاة أن المراد بالفوريّة: الفوريّة بحسب العرف، ومثّلوه بـ "تزوّج زيدٌ فَوُلِدَ له". والصواب عندي - والله أعلم - أنه في مثل هذا قد يُراعى تارةً الصورة، وتارة العرف. فإذا روعيت الصورة عطف بـ (ثم)، وإلَّا فالفاء. وبهذا يندفع الإشكال الذي أورده في (ص 184) (¬1)، وعيَّ بجوابه. وهو في قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} [المؤمنون: 12 - 14]، مع قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ} [الحج: 5] (¬2). **** ¬

_ (¬1) (1/ 262). (¬2) مجموع [4718].

[فائدة في نسبة المطر إلى "النوء"]

[فائدة في نسبة المطر إلى "النوء"] الظاهر - والله أعلم - أنّ اسم "النوء" من النوء الذي هو النهوض، وذلك أنّ المنزلة الساقطة في الفجر هي نفسها الناهضة بعد العصر في ذلك اليوم، وبعد العصر هو وقت نزول المطر غالبًا في بلاد العرب. فلمّا رأوا أنّ نزول المطر غالبًا يكون عند طلوع هذه الكواكب سمَّوها "أنواء". وإنّما اعتبروا سقوط الفجر لأنّ الساقط بالفجر يُرى بالنظر حين سقوطه، ولا يُرى في ذلك اليوم عند طلوعه؛ لأنّه يطلع نهارًا كما تقدّم. نَعم، إنّه يُرى بعد المغرب، ولكن في مكان لا ينضبط وهو أثناء السماء، والانضباط إنّما يكون بالطلوع والغروب. وبما تقدم يُجاب عمّا قد يُسأل عنه، من كونهم لماذا لم ينسبوا المطر إلى طالع الفجر الذي هو رقيب الغارب، وهو رقيبه دائمًا، مع أنّ تسبُّب الطالع في المطر أقرب إلى الوهم من تسبب الغارب؟ ونحن قدّمنا - بحمد الله تعالى - أنّهم لاحظوا هذا، أعني أنّ تسبّب الطالع أقرب، ولكنّهم لاحظوا أنّه ينبغي ذلك في الذي يكون طالعًا في الساعة التي يغلب نزول المطر فيها، وهي بعد العصر في بلادهم. والله أعلم (¬1). **** ¬

_ (¬1) مجموع [4719].

[بحث في معنى "أرأيتك"]

[بحث في معنى "أرأيتك"] قولهم: "أرأيتك" أنها بمعنى أخبرني، فيه نظر. والظاهر أنها على أصلها، بمعنى: أعرفت كذا وكذا؟ والمقصود بها حمل المخاطَب على استحضار ذلك الشيء. وقد تستعمل في هذا المعنى مع الكاف وبدونه. فمن الأول: قوله تعالى - حكاية عن إبليس -: {أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} [الإسراء: 62]. أراد - والله أعلم -: أعرفته؟ وهو يعلم أن الله عَزَّ وَجَلَّ يعرفه، وإنّما أراد بذلك شِبه ما تريده من صاحب زيد (¬1) إذا قلت له: "أرأيتك زيدًا؟ لأقتلنَّه! "؛ تريد من استفهامه التوسل إلى إحضاره في ذهنه أوّلاً حتى تحكم عليه. ومنه قوله تعالى: {أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأنعام: 40] المعنى - والله أعلم -: أعرفتم فرض مجيء عذاب الله أو الساعة؟ أراد: أحضروا هذا الفرض في أذهانكم. ثم قال: {أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ} أي: حينئذ. ففي الآية حذف وتقدير لا يخفى. ومن الثاني: قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} [النجم: 19]، {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} [الواقعة: 58]، {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} [الواقعة: 63]، {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ} [الواقعة: 68]، {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ} [الواقعة: 71]. كأنّه قال: أحضروا هذا الشيء في أذهانكم، كما تقدم. ¬

_ (¬1) الكلمتان مطموستان في الأصل، واستظهرتهما هكذا.

[بحث في الحرف الزائد]

ومنه قوله: {أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ} [الأنعام: 46]، {أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ} [يونس: 50]. والتقدير فيها كالتقدير في قوله: {أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ} [الأنعام: 47]. وبعد هذا رأيت الراغب في "المفردات" (¬1) قال في هذا التركيب: "كل ذلك فيه معنى التنبيه". وهذا إجمال لما فصلناه. والحمد لله. وانظر ما قال البيانيون في باب المسند إليه، في نِكات المجيء به اسمَ إشارة، ومثّلوه بقول ابن الرومي: هذا أبو الصقر ... البيت (¬2). **** [بحث في الحرف الزائد] الحمد لله. تعريف بعضهم الزائدَ بأنّه ما كان دخوله وخروجه سواء، غير صحيح؛ لما تقرّر أنّ الزائد - ولا سيّما في القرآن - لا بدّ له من فائدة. وإطلاق بعضهم في الفائدة: أنها التوكيد، لا يصحّ أيضًا؛ لأنّ التوكيد على قسمين: الأوّل: ما كان موضوعًا للتوكيد من أصل الوضع، كاللام الداخلة في جواب (إنّ) و (لو) وغيرهما. فهذا أصليٌّ، وإن صحّ المعنى مع خروجه ولم يفد إلا التوكيد. ولم يقل أحد بزيادتها؛ لأنها دخلت لتُفيد معناها الذي ¬

_ (¬1) (ص 374). (¬2) مجموع [4719]. والبيت لابن الرومي في "ديوانه": (6/ 2399)، وتمامه: هذا أبو الصقرِ فردٌ في مكارمهِ ... من نسلِ شيبانَ بين الطلحِ والسلمِ

وضعت له. الثاني: ما لم يوضع للتوكيد، وإنّما وضع لمعنى آخر، وجاء زائدًا في كلام موافق لمعناه الموضوع له، مثل زيادة (إنْ) النافية بعد (ما) النافية، وزيادة (لا) النافية في معطوف على منفي، فإن الدليل يدلّ على زيادتها، أي أنها لم تدخل لتفيد معناها الأصلي وهو النفي المستقل، ولكن بين معناها الأصلي والمعنى الذي دخلت فيه مناسبة - وهو النفي -, فكان معقولاً أنها أكدت النفي. فهذا يصح أن يقال فيه: إنّه مزيد للتوكيد. ولكن ليس كل الزوائد هكذا، بل قد يجيء الزائد في كلام منافٍ لمعناه الأصلي، مثل قوله تعالى: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ} [الحديد: 29]. فقوله: {لِئَلَّا يَعْلَمَ} المعنى على الإثبات، و (لا) نافية، فكيف يقال: إنها للتوكيد؟! وعليه، فلا بدّ من البحث عن فائدة أخرى غير التوكيد، فيقال في هذه الآية: لعلها زيدت إشارة إلى أنهم ليسوا أهلاً لأن يعلموا، أو إلى أنهم سيعاندون ولا يسلِّمون، فيكونون بمنزلة من لم يعلم، أو نحو ذلك. فإن قلت: فما الفرق حينئذ بين الزائد وبين الحروف الموضوعة لمعاني تكميلية، كـ (لام) التوكيد ونُونَيه؟ فإن كلاًّ من القسمين يصح أصل المعنى بدونه، ولا يتمّ المعنى بدونه. قلت: الفرق أنّ تلك وضعت للتوكيد من أصلها، فإذا دخلت لتفيدَه، فكيف يقال: إنّها زائدة؟! وأمّا نحو (إنْ) و (لا) النافيتين، فإنّما وُضعتا للنفي المستقل، فإذا جاءتا

لغيره تعيّن القول بزيادتها. فإن قلت: فلماذا لا يقال: إنهما موضوعتان لكل من الأمرين؟ أي للنفي المستقل، أو لتوكيد النفي، أو للإشارة إليه، أو نحو ذلك؛ إمّا على الاشتراك، وإمّا على المواطأة، وإمّا على التشكيك. فإن كان لا بدّ من القول بكونها موضوعة للنفي الأصلي فقط، فغاية ما فيها أنها استُعملت في غير ما وضعت له لعلاقة، فهي مجاز، والمجاز لا يقال بزيادته. قلت: أمّا كونها موضوعة للأمرين، فيردّه أنّ الأصل عدم الاشتراك، وأنّ المتبادر منها إنّما هو ذلك المعنى مستقلًّا. وأمّا كونها مجازًا، فهو ظاهر لا يُدفع، ولا أرى مَخْلَصًا إلا أن يقال: إنّ كونها مجازًا على ذلك الوجه لا ينافي القول بزيادتها على المعنى الذي قال المحققون، ولا يلزم من القول بزيادتها القول بزيادة كل مجاز، كما لا يخفى، والله أعلم (¬1). **** ¬

_ (¬1) مجموع [4719].

[تعليق الشيخ على مواضع من "المزهر"]

[تعليق الشيخ على مواضع من "المُزْهِر"] المزهر (ج 2/ ص 251) (¬1): "وقال ابن دريد في أواخر "الجمهرة" (¬2): "باب ما أجروه على الغلط فجاءوا به في أشعارهم": قال الشاعر: وكلُّ صَمُوتٍ نثلةٍ تُبَّعيَّةٍ ... ونسجُ سُلَيمٍ كلَّ قضاء ذائل أراد: سليمان. وذائل: أي ذات ذيل. وقال آخر: من نسج داود أبي سلَّام يريد سليمان. وقال آخر: جدلاء محكمة من نسج سلَّام يريد سليمان". اهـ. قال: "وقال آخر: وسائلة بثعلبة بن سير يريد ثعلبة بن سيّار. وقال آخر: والشيخ عثمان أبو عفانا يريد عثمان بن عفَّان. ¬

_ (¬1) (2/ 500 - 503) ط. البجاوي ورفاقه. (¬2) (3/ 1327) ط. دار العلم للملايين.

وقال آخر: فإن تنسنا الأيام والعصر تعلمي ... بني قارب أنا غضاب لمعبد أراد عبد الله لتصريحه به في بيت آخر من القصيدة. وقال آخر: هوى بين أطراف الأسنة هَوْبَر يريد ابن هوبَر. وقال آخر: صبحن من كاظمة الحصن (¬1) الخرب ... يحمِلْن عباس بن عبد المطلب يريد: عبد الله بن عباس ... ". (ص 252): "وقال آخر: فهل لكمو فيها إليَّ فإنني ... طبيب بما أعيا النِّطَاسيَّ حِذْيَمَا يريد ابن حِذْيم". أقول: وقال آخر: من نسج داود أبي سلْم فهذه ثلاثة تصرفات في اسم واحد، على أن مَن قال: نسج سلم، ونسج سلّام، فيه شيء آخر، وهو أن المعروف في الدروع نسج داود، فإثبات هذين ¬

_ (¬1) علَّق الشيخ بقوله: "في الأصل: الحصين".

النسجَ لسليمان لعلَّه على توهّم أن سليمان كان يصنعها أيضًا؛ لأن الابن يتبع أباه في الصنعة غالبًا. **** "المزهر" ([2] / 189) (¬1) عن "الخصائص" (¬2): وأنشد رجل من أهل المدينة أبا عمرو بن العلاء قول ابن قيس: إن الحوادث بالمدينة قد ... أوجعنني وقَرَعْنَ مروتيَه فانتهره أبو عمرو وقال: ما لنا ولهذا الشعر الرخو؟ إن هذه الهاء لم تدخل في شيء من الكلام إلا أَرْخَتْه. فقال له المديني: قاتلك الله! ما أجهلك بكلام العرب! قال الله تعالى: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة: 28 - 29]. وقال: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ} [الحاقة: 25 - 26]. فانكسر أبو عمرو انكسارًا شديدًا". هـ أقول: في ذوقي الفرق بين ما إذا كان قبلَ قبلِ الياء ألِفٌ، وما لم يكن. ففي الأول تكون الكلمة جيدةً لا رخاوة فيها، وهو الذي في القرآن، وفي الشعر المستجاد بخلاف غيره كما في البيت، وفي الأبيات التي أولها: * يا جواري الحيّ عُدنَنِيَه * ¬

_ (¬1) (2/ 374). (¬2) (3/ 293).

فإنه يحسّ لها رخاوة ولين ظاهر، كما قال أبو عمرو. والله أعلم. **** ([2] / 168) (¬1) [نقلًا عن] "الجمهرة": "زعم قوم من أهل اللغة أن اللات التي كانت تُعبد في الجاهلية صخرةٌ كان عندها رجل يَلُتُّ السَّوِيق للحاج، فلما مات عُبدت، ولا أدري ما صحة ذلك؛ ولو كان كذلك، لقالوا: "اللاتّ يا هذا" (¬2)، وقد قُرئ: {اللَّاتَ وَالْعُزَّى} [النجم: 19] بالتخفيف والتشديد. والله أعلم، ولم يجئ في الشعر إلا بالتخفيف. قال زيد بن عمرو بن نُفيل: تركتُ اللات والعزى جميعًا ... كذلك يفعل الجلد الصَّبُور وقد سَمَّوا في الجاهلية: زيد اللات، بالتخفيف لا غير. فإن حملت هذه الكلمة على الاشتقاق لم أحبَّ أن أتكلم فيها". انتهى. أقول: أما قوله: "ولم يجئ في الشعر إلا بالتخفيف" فلا حجَّة فيه؛ لأن في المشدَّد اجتماعَ ساكنين، ولا يجيء ذلك في الشعر. نعم، يمكن في المتقارب، ولكن بشرط أن يكون قبلهما متحركان كما تقدّم (¬3) في قوله: ¬

_ (¬1) "المزهر" (2/ 327 - 328). وانظر "الجمهرة": (1/ 80). (¬2) في "الجمهرة": "اللات بتثقيل التاء لأنها تاءان". (¬3) أي في "المزهر": (2/ 107) باختلاف يسير. والبيت بلا نسبة في "الكامل" (1/ 39) و"اللسان": (7/ 73).

فقالوا القصاص، وكان التَّقا ... صُّ فرضًا وحقًّا على المسلمينا ولا يجيء هذا في اللات لأن قبل الساكنين متحركًا واحدًا. فإن قيل: يمكن أن يجيء إذا نزعت "ال" فبقي "لات"، وكان قبلها كلمة محرّكة الآخر. قلتُ: يَقِلُّ (¬1) مجيء اللات بنزع الألف واللام كقوله (¬2): فإني وتركي حبَّ [كأسٍ لـ]ـكالذي ... تبرأ من لات وكان يدنِّيها وكذلك نُقِل في الشعر حذف الساكن الأول، كقوله (¬3): نعم، على اجتماع الساكنين في غير المتقارب، ولكن في الضرب بحيث إذا كان ثانيهما مُدغمًا، كما في "اللات"، لم يظهر التشديد، بل يُحذف الحرف الأخير فتصير الكلمة مخفَّفة، فلا يتبيَّن التشديد (¬4). **** ¬

_ (¬1) يحتمل الرسم: "نُقِلَ". (¬2) القائل عمرو بن الجعيد كما في "كتاب الأصنام" (ص 16). (¬3) بيَّض الشيخ للشاهد، فلم يذكره. (¬4) مجموع [4720].

[تعليقات على مواضع من "أمالي القالي"]

[تعليقات على مواضع من "أمالي القالي"] * ([ج 2] ص130 - 131)، في قصيدة المُهلهِل: "أليلتَنا بذي حُسُمٍ أنيري": كواكبُها زواحفُ لاغباتٌ ... كأنَّ سماءها بيدي مدير قال في تفسيره: " ... يريد أن سماءها أثقل من أن يُديرها مدير، فهو إذا تكلَّف إدارتها لم يقدر عليها". أقول: هذا كما ترى! والعجبُ من البكريّ إذ لم يتنبّه له في "تنبيهه"! والأقربُ أنه أراد: كأن السماء بيدي مديرٍ يديرها إلى جهة الشرق، فكلما قطعت الكواكب جزءًا من السماء إلى جهة الغرب أظهر المدير مقابله من السماء بإدارته. وإذا كان الحال هكذا لم تغلب الكواكب أبدًا. وهو مقصوده. والله أعلم. **** * ([ج2] ص 154): "كان المُجشَّر في الشرف من العطاء، وكان دميمًا [فقال له عبيد الله ذات يوم: كم عيالك؟ فقال: ثمانُ بنات، فقال: وأين هنَّ منك؟ فقال: أنا أحسن منهنَّ] وهنَّ أكمل مني ... ". صوابه: وهن آكل منّي. وقد ذكر غيرُه القصة بما يوضِّح صحة هذه الكلمة، وهو أن الرجل كان دميمًا كثير الأكل (¬1). ¬

_ (¬1) راجع "المستجاد من فعلات الأجواد" (ص 235)، و"الإمتاع والمؤانسة" (2/ 81) وتصحَّف فيه "المجشّر" إلى "المحسِّن".

* ([ج 2] ص 157) في كلمةٍ لعامر بن الظَّرِب: "إن الخير أَلوفٌ عروف". صوابه: "عزوف" (¬1). **** * ([2] ص 180) قال: "وأنشدنا أيضًا أبو العباس: وجاءت للقتال بنو هُلَيكٍ ... فسِحِّي يا سماءُ بغير قَطْرِ قال أبو العباس: هؤلاء قوم استعظم الشاعر مجيئهم للقتال، وصَغُر شأنهم عنده، فقال: فسحّي يا سماء بغير قطر. يعني بدمٍ لا بقطر" اهـ. يقول كاتبه: أو يكون ضَرَبَهُ مثلاً، يريد أن السماء لا يمكن أن تسحَّ بغير قطر، فكذلك هؤلاء القوم لا نَجْدة لهم، فبماذا يقاتلون؟! (¬2). **** * ["ذيل الأمالي والنوادر"] (ص 68): حكاية عن بعض الفصحاء أنه قال: "وهل لي به طُوقة". يريد: طاقة. ¬

_ (¬1) انظر: "البيان" (1/ 401)، و"المعمرين" (47). وفي "عيون الأخبار": (1/ 266) و"المجالسة وجواهر العلم: (6/ 28) جمع بينهما: "عَروف عَزوف". (¬2) البيت لأبي جندب الهذلي. وتفسيره في "شرح أشعار الهذليين": (1/ 370): "أي أمطري بغير مطر، يهزأ بهم. يقول: لكم وعيد وقول، وليس لكم فعل، مثل السماء لها رعد وبرق بلا مطر". ونقل البكري نحوه عن يعقوب في "سِمط اللآلي" (799). ونحوه في "المعاني الكبير" لابن قتيبة (1/ 595). وروى السكري: "بنو هلال". قال البكري: ولا يعرف في العرب "بنو هليك". (الإصلاحي).

قال المحشّي: "في هامش الأصل أنه بضمَّ الطاء وسكون الواو، ولم نجده فيما بيدنا من كتب اللغة". يقول كاتبه: أحسبه من التفخيم، ولا تكون الواو محقَّقة، بل مهوَّاة. كما يقول بعضهم في "لَوْح": لُوح. بضمّ اللام وتهوية الواو. * ["ذيل الأمالي والنوادر"] (ص 200): "حدثنا أبو بكر بن دريد عن أبي حاتم قال: لما قتل عبدُ الله بن علي بني أميَّة بنهر أبي فُطرُس بعث إليَّ ... " (¬1). يقول كاتبه: سقط هنا آخر السند بين أبي حاتم وصاحب القصة؛ فإن قصة نهر أبي فطرس كانت سنة 132، كما في "تاريخ الطبري" (¬2). وأبو حاتم وُلِد بعد ذلك بنحو ثلاثين سنة, لأن وفاته - كما في "بغية الوعاة" (¬3) - كانت سنة مائتين وخمسين، أو وخمس وخمسين، أو وأربع وخمسين، أو وثمانية وأربعين (¬4). **** ¬

_ (¬1) القصة المذكورة للأوزاعي. راجع "سير أعلام النبلاء": (7/ 128) و"تاريخ الإِسلام" (4/ 127) ط. دار الغرب. (¬2) (4/ 355). (¬3) (1/ 606). (¬4) مجموع [4723].

[تعليق على "التنبيه على أوهام أبي علي في أماليه" للبكري]

[تعليق على "التنبيه على أوهام أبي علي في أماليه" للبكري] * ص 85: الكلامُ على بيت الفرزدق: يُفلِّقْنَ هامًا لم تنله سيوفُنا ... بأسيافنا هام الملوك القَماقم (¬1) أنكر البكري على القالي قوله: "إن الهام مؤنثة، لم يؤثر عن العرب فيها تذكير". واحتج البكري بأن القالي نفسه يروي للنابغة (¬2): بضربٍ يُزيل الهام عن سَكناته ... وطعنٍ كإيزاغ المخاضِ الضواربِ ويروي لعنترة (¬3): والهامُ يَنْدُر في الصعيد كأنما ... تلقى السيوفُ به رُؤوس الحنظلِ ويروي لطُفيل (¬4): بضربٍ يزيل الهام عن سكناته ... ويَنقَع من هام الرجال بمَشْرَب أقول: أما البيت الأول فقد يقال: إن الهام فيه عبارة عن جمع هامة، وهي الطائر الذي كانت العرب تزعم أنه يخرج من رأس المقتول. ¬

_ (¬1) لم يرد البيت في "ديوان الفرزدق". (¬2) "ديوانه" (ص 46). (¬3) "ديوانه" (ص 257). (¬4) "ديوانه" (ص 33).

وكلامُ القالي في الهام التي هي الرؤوس نفسها. وكذا الهام الأول في بيت طفيل، وهو محل الحجة. وأما بيت عنترة، ففي الحاشية عن الديوان أن البيت: والهامُ تندر ... بها ... **** * ص 86: أنكر البكري على القالي روايته: ليست إذا سَمِنَت بجابِئةٍ ... عنها العيونُ كريهةَ المسَّ (¬1) وزعم أن الرواية: "ليست إذا رُمِقَتْ ... " قال: "وكيف تَجبَأ العيون عن الناعمة السمينة؟! " وفي الحاشية نقلاً عن هامش الأصل كلام يردّ به على البكري. نعم، عبارة البكري ظاهرها خطأ، ولكن روايته هي الصواب. وكأنه لحظ هذا فقال: "وبعد البيت: وكأنما كُسِيَتْ قلائِدُها ... وحشيَّة نظرتْ إلى الإنس" ووجهُ الخطأ في رواية القالي (¬2): أن مفهوم قوله: ¬

_ (¬1) في الأصل: "اللمس"، والمثبت ما في مصدر النقل. (¬2) رواية القالي جيدة، وإنما المقصود أنها ليست مفرطة في السمن، كما قال الميمني في "السمط". (الاصلاحي).

تنبيه

"ليست إذا سمنت بجابئةٍ .... " أنها إذا لم تسمن تجبأ عنها العين، فكأنها لا تُسْتَحسن إلا للسِّمَن فقط. وهذا عيب لا يناسب البيت بعده؛ فإن المناسب أن يجعلها مستحسنة على كل حال، سمِنَتْ أم لم تسمن. **** * " تنبيه" (ص 112): نبَّه على وهم أبي عليّ في إدخاله في أبيات عروة بن الورد بيتًا لخصمه قيس بن زهير. وقد وقع البكري في هذا السياق في مثل هذا الوهم، فنسب إلى قيس قوله: "أتهزأ مِنِّي أن سمنتَ وقد ترى ... بجسمي مسَّ الحق والحقُّ جاهد" وقد نبّه في الحاشية أن صاحبي الحماسة، والأغاني، نسبا البيت لعروة. وهو الذي يُعيِّنه المعنى؛ فإن معناه: أتهزأُ منّي أن سمنتَ. أي لأنك سمنتَ، وقد ترى بجسمي مسَّ الحق، أي النَّحافة وعدم السِّمَن؛ لأن الحق يحملني على الجود بمالي، فلا يبقى لي مالٌ، فيقلُّ لذلك طعامي، فيضعف (¬1) جسمي فينحف. يريد: أتهزأُ مني لأنك سمينٌ وأني غير سمين؟! وقد قدَّم البكري أن قيسًا كان أكولًا مِبطانًا، فكان عروة يعرض له بذلك في أشعاره. ¬

_ (¬1) كتب الشيخ فوقه: "فيُجهد".

[تعليق على "الطارقية" لابن خالويه]

وقد ضُبط في المطبوع قوله: "سمنتُ" بضم التاء، وهو قضية نسبة البيت إلى قيس، مع كونه هو المعيب بالسِّمَن. ولكن آخر البيت ينقض ذلك؛ فأوّله اعتراف بالسَّمَن وآخره نفيٌ له. فإن قيل: يحتمل أن لا يكون أول البيت اعترافًا، وإنما معناه: إنك تهزأ مني زاعمًا أني سمين. قلتُ: هذا معنًى لا تحتمله العبارة. وأيضًا: فمقابلة البيت بأبيات عروة يشهد بأنه له لاتحاد المعنى (¬1). **** [تعليق على "الطارقية" لابن خالويه] آخر صفحة (10) من إعراب القرآن (¬2). قوله: "أُمَّهَتِي خِنْدِف والْياسُ أبي". هذا البيت منسوب إلى قصي بن كلاب الجدَّ الرابع للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وقبله: إنَّي لدى الحرب رَخِيُّ اللَّبب ... عند تناديهم بهَالٍ وهَبِ وقافية هذا الرَّجز بائية؛ بالباء الموحَّدة. وأما قوله: "حيدةُ ... " إلخ البيتين، فالقافية يائيَّة؛ بالياء المثنَّاة من تحت. ¬

_ (¬1) مجموع [4723]. (¬2) "الطارقية" (إعراب ثلاثين سورة من المُفَصَّل) لابن خالويه (ص 17 - ط. عالم الكتب).

فهو من رجز آخر، ويشهد لذلك أن قُصيًّا قبل حاتم الطائي بأكثر من مائة سنة. ثم رأيت البغدادي في "الخزانة" (ج 3/ ص 304) (¬1) ذكر قوله: * وحاتم الطائي وهَّاب المئي * وقال: "هذا البيت من رجز أورده أبو زيد في "نوادره" في موضعين: الموضع الأول قال: هو لامرأة من بني عامر. والموضع الثاني قال: هو لامرأة من بني عقيل تفخر بأخوالها من اليمن وهو: حيدة خالي ولقيطٌ وعلي ... وحاتم الطائي وهاب المئي ولم يكن كخالك العبد الدعي ... يأكل أزمان الهزال والسني هنات عيرٍ ميت غير ذكي". ثم قال (ص 306) (¬2): "تتمَّة: زعم العيني أن البيت الشاهد من هذا الرجز: إن لدى الحرب رخيُّ اللبب ... وهذا لا أصل له ... " فذكر نحو ما ذكرناه. وفي روايته: "وعلي" بدل: "وعديّ". وفيه: "حيدة" كما وقع هنا، وهو الصواب؛ فإن الوزن يستقيم به ولا يستقيم بـ "حيدرة" (¬3). **** ¬

_ (¬1) من طبعة بولاق. (¬2) في الأصل: (307) سبق قلم. (¬3) مجموع [4724].

[بحث في أدوات الاستفهام]

[بحث في أدوات الاستفهام] الحمد لله. إذا تردَّد الإنسانُ في شيء من الأشياء وطلب من غيره التعيين ببعض أدوات الاستفهام، فهذا الطلب هو الاستفهام. فإن كان التردّد بين وقوعٍ وعدمه، فهذا موضع (هل)، تقول: هل جاء زيدٌ؟ إذا كنت متردّدًا بين وقوع المجيء وعدمه. وإن كان بين شيئين أو أكثر لا تدري أيُّهما المتعيّن، فهذا موضع بقية الأدوات غير الهمزة. مثال ذلك: أن تكون عالمًا بوقوع مُسنَدٍ معيَّنٍ كالمجيء مثلاً، ولكن تردَّدتَ في تعيين المسند إليه بين زيد وعمرو، أو بين زيدٍ وعمرو وخالد، فتقول مثلاً: مَنْ قام من هذين الرجلَين زيدٍ وعمرو؟ أو مِن هؤلاء الثلاثة زيدٍ وعمرو وخالد؟ أو تكون عالمًا بمسندٍ إليه معين كزيدٍ مثلاً، ولكن تردَّدْتَ في عين المسند إليه، أهو القتال أم الفرار أم الاستسلام - مثلاً - فتقول: ما فعلَ زيدٌ من هذه الثلاثة الأمور؟ و (متى) للأزمنة و (أين وأيَّان) للأمكنة، و (كيف) للهيئات، و (كم) للمقادير، و (أيّ) تجيء لذلك كلّه بحسب ما تضاف إليه. فأمّا الهمزة فقد تجيء كـ (هل)، فتقول: أجاء زيدٌ؟ وتجيء كبقية الأدوات، فتقول: أزيدٌ جاء أم عمروٌ أم خالدٌ؟، وتقول: أقاتلَ زيدٌ أم فَرَّ أم استسلم؟

وإذا وقعت (أم) بعد الهمزة، فإن كانت الهمزة هي التي كـ (هل) فـ (أم) منقطعة، أي أنها داخلةٌ على استفهام آخر تقديرًا. وإن كانت الهمزة هي التي كبقية الأدوات فتُسمَّى (أم) متصلةً أي لأنها مع ما قبلها استفهامٌ واحد. والله أعلم. * الاستفهام ضربان: الأول: ما يطلب به تعيين وقوعِ أو عدمِ وقوعِ حكمٍ معيَّن، فيُجاب بنَعَم أو لا. الثاني: ما يُطلب به تعيين الحكم الواقع من حكمين فأكثر، أو تعيين الواقع عليه الحكمُ من اثنين أو أكثر، أو تعيين مقداره، أو تعيين ما يتعلق بالحكم من زمانٍ أو مكان أو هيئة. فالضرب الأول يستعمل فيه من الأدوات (هل) والهمزة. والثاني يُستعمل فيه الهمزة وبقية الأدوات بحسب مناسباتها، فـ (مَنْ) لذوات العقلاء، و (ما) لذوات غيرهم وللمعاني، وربما تجيء إحداهما في موضع الأخرى. و (متى) للزمان، و (أين) و (أيّان) للمكان. و (كيف) للهيئة. وتُستعمل (أيّ) في هذه كلِّها بشرط إضافتها لما يناسب، كقولك: أي رجلٍ، وأي دابةٍ، وأي فعلٍ، وأي زمانٍ، وأي مكانٍ، وأي هيئة (¬1). ¬

_ (¬1) مجموع [4724].

[تعليق على موضع من "عروس الأفراح"]

[تعليق على موضع من "عروس الأفراح"] في "عروس الأفراح" (ص 36) من مجموعة شروح التلخيص: " ... كقول تلك المرأة بالحديبية: أيها المائح (¬1) دلْوي دونكا ... إنِّي رأيت الناس يحمدونكا وهذا البيت ذكره ابن إسحاق في "السيرة" (¬2)، وظاهر كلامه أنه من شعر هذه المرأة. لكن قال ابن الشجري في "أماليه" (¬3) أنه لرؤبة، وأنه في مالٍ لا في ماءٍ. فذِكْر الدلْو حينئذ استعارة، وعلى هذا فيُحمل كلام ابن إسحاق على أن المرأة في الحديبية أنشدتْه من كلام غيرها". اهـ. قلتُ: هذا كلام من يجوِّز أنَّ رؤبة كان شاعرًا قبل وقعة الحديبية، فيكون له صحبة أو إدراك، ولم يذكر أحدٌ ذلك. وأرَّخوا وفاته سنة 145. وإنما ذكروا أباه في المخضرمين. فإن قيل: يحتمل أن يكون رؤبة آخر. قلتُ: إذا أُطلق رؤبة - ولا سيَّما في الرجز - لم يُعنَ به إلا رؤبة بن العجَّاج المشهور. ¬

_ (¬1) في المطبوع: "المادح"، وكتبه المؤلف على الصواب. (¬2) انظر "سيرة ابن هشام": (2/ 311). (¬3) (3/ 140 - تحقيق الطناحي). وذكر الطناحي في تعليقه أن ابن الشجري تابع القاضي الجرجاني في "الوساطة". وخطَّأ البغداديُّ هذه النسبة في "الخزانة": (6/ 207). والبيتان لراجز جاهلي من بني أُسيَّد بن عمرو بن تميم. انظر "إصلاح ما غلط فيه النمري" للغندجاني (ص 77 - 78). (الإصلاحي).

[بحث في منع "أبي هريرة" ونحوه من الصرف]

وبالجملة، فلا شكَّ أن البهاء غفل، رحمنا الله وإياه (¬1) **** [بحث في منع "أبي هريرة" ونحوه من الصرف] الحمد لله. فائدة قالوا: إنّ "هريرة" و"بكرة" و"حمزة" مِنْ "أبي هريرة" و"أبي بكرة" و"أبي حمزة" - كنية لأنس بن مالك (¬2) - تُمنعُ عن الصرف للتأنيث في المضاف إليه، والعَلَميَّة في مجموع المضاف والمضاف إليه. وحاصله: أنه يكفي للمنع من الصرف علَّةٌ وجزءُ علَّة. فيقع السؤال عن "أم هانئ" و"أم محمَّد" ونحوهما. فيقال: ها هنا في المضاف إليه علة تامة وهي العَلَمية، وجزء علة وهي التأنيث، فهل يُمْنع؟ بل هو أولى؛ لأن العلة التامة التي في المضاف إليه، كهانئ ومحمد - وهي ¬

_ (¬1) مجموع [4724]. (¬2) ليس "هريرة" و"بكرة" و"حمزة" في الأصل أعلامًا في هذه الكنى, وإنما "هريرة" تصغير هرة - واحدة الهِرر -؛ لأن الصحابيّ ربّاها، أو غير ذلك. و"بكرة" هي بكرة البئر؛ لأن أبا بكرة تدلى بها من الطائف. و"حمزة" اسم بقلةٍ معروفة، وقال أنس: "كناني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باسم بقلةٍ كنتُ أجتنيها". [المعلمي]. وحديث أنس الذي ذكره الشيخ أخرجه أحمد (12286) والترمذي (3830) وقال: "هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث جابر الجعفي عن أبي نصر ... ". وجابر الجعفي وأبو نصر (خيثمة البصري) كلاهما ضعيف.

العلمية - تأكدت هنا بكونها موجودة في مجموع المضاف والمضاف إليه؛ فهانئ ومحمد عَلَمان، وأم هانئ وأم محمَّد عَلَمان، بخلاف أبي هريرة ونحوه؛ فإن التأنيث الذي في "هريرة" ليس موجودًا في "أبي هريرة". وانظر قول الشاعر (¬1): * ألا يا أمَّ فارعَ لا تلومي * فأمّا صرفُ مثل هذا فكثير في الشعر القديم، كقوله (¬2): * يُبْلِغْنَ أمَّ قاسمٍ وقاسما * وقول امرئ القيس: أجدك ..... ولا أمّ هاشمٍ (¬3) ... قريبٌ ولا البسباسة ابنةُ يشكرا وقول الآخر: .... (¬4) ¬

_ (¬1) عجزه: على شيء رفعتُ به سماعي. وهو أحد بيتين أنشدهما أبو زيد في "نوادره" (ص 206، 260) لجاهليّ من بني نهشل. وأراد الشاعر: "أم فارعة"، فحذف الهاء استخفافًا. وانظر: "الخزانة" (9/ 266). (الإصلاحي). (¬2) هو هدبة بن خشرم العذري. انظر: "الشعر والشعراء": (2/ 691)، و"الأغاني" (21/ 281). (¬3) كذا في الأصل. ورواية الديوان (68): "له الويلُ إن أمسى ولا أم هاشم". (¬4) ضرب الشيخ على البيت في الأصل، وهو: يا أمَّ عمروٍ جزاك الله مكرمةً ... ردّي عليَّ فؤادي حيثما كانا وهو لجرير في "ديوانه": (1/ 161) بنحوه.

والجاري على الألسنة في "أم هانئ" ونحوها: الصرف. ويمكن أن يقال: لم يُمنع في "أبي هريرة" ونحوه إلا بعلَّتين تامَّتين فيه، مع قطع النظر عن مجموع الكنية. كأنه قُدِّر أن "هريرة" بنتٌ له، فيكون فيه العَلَمية التامة والتأنيث. ونحو هذا قُل في غيره. وأمّا "أم هانئ" فلا يأتي فيها هذا التقدير. وكذا ما قاله الخبيصي في "معدي كرب" و"بعلبك": إن من اختار الإضافة وقدَّر "كرب" و"بك" اسمين للكُرْبة والبقعة مَنَع. يحتمل أن يكون مرادُه بتقدير "كرب" اسمًا للكربة: أي عَلَم جنسٍ لها، كـ "برة" للمبرَّة. وبتقدير "بك" اسمًا للبقعة: أي علمًا لها. فعلى هذا يكون في "كرب" و"بك" عند الإضافة وتقديرهما اسمين للكربة والبقعة = علتان تامَّتان هما: التأنيث والعلمية، بدون النظر إلى مجموع المركَّب. والله أعلم (¬1). ¬

_ (¬1) مجموع [4729].

فوائد متفرقة

فوائد متفرقة

فروق ملخصة من "كتاب الروح" لابن القيم

فروق ملخصة من "كتاب الروح" (¬1) لابن القيم 1 - خشوع الإيمان هو خشوع القلب لله بالتعظيم والإجلال مع شهود نِعَم الله ومساوي النفس. أما خشوع النفاق فيبدو على الجوارح تكلُّفًا، والقلب غير خاشع. 2 - شَرَف النفس: صيانتها عن الرذائل والمطامع. التِّيه: نتيجة إعجابه بنفسه وازدرائه بغيره. 3 - الحميَّة: فطام النفس عن رضاع اللؤم. الجفاء: غلظة في النفس، وقساوة في القلب، وكثافة في الطبع. 4 - التواضع: انكسار القلب لله، وخفض جناح الذلِّ والرحمةِ لعباده. المهانة: الدناءة والخسّة وابتذال النفس في نيل حظوظها. 5 - القوة في أمر الله: تعظيمه وتعظيم أوامره وحقوقِه حتى يقيمها لله. العلو في الأرض: تعظيم النفس وطلب تفرُّدها بالرياسة. 6 - الجود: وضع العطاء مواضعه. السَرَف: وضعه حيثما اتفق. 7 - المهابة: أثر من آثار امتلاء القلب بعظمة الله. الكِبْر: أثر من آثار العُجْب والبغي. ¬

_ (¬1) (2/ 655 - 723 - ط. عالم الفوائد).

8 - الصيانة: اجتناب المعاصي ومظانَّها خوفًا من الله. التكبّر والعلو: اجتناب ما يُعَدُّ نقصًا في العرف ليتمّ له الرياسة والفخر. 9 - الشجاعة: ثبات القلب الناشئُ عن الصبر وحسن الظن. الجراءة: قلة المبالاة وعدم النظر في العاقبة. 10 - الحزم: جمع الهمّ والإرادة والعقل، والاستعداد التام، ومعرفة خير الخيرَين وشر الشرَّين. الجبن: فَشَل الهمِّ والإرادة والعقل. 11 - الاقتصاد: خُلُق ناشئ من العدل والحكمة. الشحّ: خلق متولِّد من سوء الظن وضعف النفس. 12 - الاحتراز: الاستعداد لكلّ ما يمكن أن يقع. سوء الظن: اتَّهام الناس الذي يؤدي إلى الإضرار بهم بغيبةٍ وغيرها. 13 - الفراسة: لا تكون إلا مع نور القلب وطهارته. الظن: يكون مع النور والظلمة، والطهارة والنجاسة. 14 - النصيحة: يكون القصد منها تحذير المسلم من مُبتدع أو فتّان أو غاشٍ أو مفسد. الغيبة: يكون القصد منها مجرَّد الطعن في الغير وتنقيصه. 15 - الرشوة: ما قُصِدَ به إحقاق باطلٍ أو إبطال حقٍّ أو دفع مضرّة.

والهدية بخلاف ذلك؛ فإنْ قُصِدَ بها المحبّة في الله فهدية شريفة، وإن قُصِدَ بها المحبة في غير الله فبحَسَبِها، وإن قُصد بها المكافأة فهي معاوضة ومتاجرة. 16 - الصبر: حبس النفس عن الجزع والهلع والتشكّي، فيحبس النفس عن التسخُّط، واللسانَ عن الشكوى عما لا ينبغي فعله. أو هو ثبات القلب على الأحكام القدرية والشرعية. القسوة: يُبس في القلب يمنعه من الانفعال، وغلظةٌ تمنعه عن التأثر. القلوب ثلاثة: قاسٍ، ومائع، ورقيق. فالأول: لا ينفعل بمنزلة الحجر، والثاني: بمنزلة الماء، والثالث: كما في بعض الآثار: "القلوب آنية الله في أرضه، فأحبّها إليه أرقّها وأصلبها وأصفاها". قال: فهذا القلب الزجاجي. 17 - العفو: إسقاط الحق فضلاً وكرمًا مع القدرة وأمن العاقبة. الذل: ترك الحق عجزًا أو لخوف العاقبة. 18 - سلامة القلب: عدم إرادة الشر مع معرفته. البَلَه والغفلة: جهلٌ وقلة معرفة. 19 - الثقة: سكون يستند إلى أدلة قوية توازيها قوةً وضعفًا. الغِرَّة: سكون لغير دليل أو أشد ممّا يقتضيه الدليل. 20 - الرجاء: الأمل الذي يصحبه بذل الجهد في السعي.

التمنِّي: الأمل مع تعطيل الأسباب و (ها هنا كلام نفيس) (¬1). 21 - التحدث بنعمة الله: ما قُصد به الثناء عليه سبحانه عزَّ وجلَّ. الفخر: ما قُصد به الاستطالة على الغير. 22 - فرح القلب: ما يكون بالله ومعرفته ومحبته. فرح النفس: ما يكون بغيره. 23 - الجزع: ضعف في النفس وخوف في القلب، يمدّه شدّة الطمع والحرص، ويتولد من ضعف الإيمان بالقدر. رقة القلب: ... (¬2). أقول: لم يوضّح الفرق، والذي يظهر أن الفرق الصحيح إنما هو اتباع رضوان الله. ورضوان الله هو في الرقّة والرحمة دائمًا، إلا أن تؤدي إلى ترك ما أمر به أو فعل ما نهى عنه. 24 - الموجدة: الإحساس بالمؤلم والعلم به وتحرّك النفس في دفعه. الحقد: إضمار الشر وتوقعه كل وقت ... إلخ. أقول: الموجدة ما يمكن أن يزيله العتاب والاعتذار والصلح. والحقد بخلاف ذلك ولا سيّما إذا كان مع إظهار عدم التأثر. وأشدّ منه إذا كان بعد إظهار العفو والرضا. وأشد منه إذا كان أشد مما تقتضيه الإساءة بحيث يحمل صاحبه على عقوبةٍ أعظمَ من الفعل. ¬

_ (¬1) انظر "الروح": (2/ 686 - 693). (¬2) كَتَب الشيخ في الأصل كلامًا ثم ضرب عليه.

25 - المنافسة: المباراة في الكمال بحيث تحب لنفسك بلوغ رُتبة أخيك بدون أن يحملك ذلك على حبك نقصانه، بل يجب أن تحب له زيادة الرقي في الكمال إلى ما لا نهاية له، وتحب لنفسك كذلك. حبّ الرياسة: ما قُصد به المال والجاه والشهرة والعلو. الدعوة إلى الله: ما قُصد به إقامة أوامر الله عزَّ وجلَّ. 26 - الحب في الله: ما كان مداره على طاعة الله. الحب مع الله: ما كان مداره على حظّ النفس. 27 - التوكُّل: عمل القلب وعبوديته اعتمالًا على الله وثقةً به مع القيام بالأسباب المأمور بها والاجتهاد في تحصيلها. والعجز: ترك الأمرين أو أحدهما. (ههنا كلام نفيس) (¬1). 28 - الاحتياط: الاستقصاء في متابعة السنة بلا غلو ولا تقصير. الوسوسة: ما يحمل على مخالفة السنة كغَسل الأعضاء في الوضوء فوق ثلاثٍ، وغسل الأعضاء أو الثياب مما لا تتيقن نجاسته. 29 - إلهام المَلَك: ما يوافق الشرع (¬2)، يثمر إقبالًا على الله تعالى وانشراحًا في الصدر وسكينة وطمأنينةً. ووسوسة الشيطان بخلاف ذلك. ¬

_ (¬1) انظر "الروح": (2/ 711 - 713). (¬2) في الأصل: "للشرع".

30 - الاقتصاد: التوسط. والتقصير: التفريط. والمجاوزة: الإفراط. 31 - النصيحة: ما كان مع اللطف والرفق، وحَمَلَ عليه الشفقةُ، فيعامله معاملة الطبيب العالم المُشفق للمريض المُدنَف، فهو يحتمل سوء خلقه وشراسته، ويتلطّف في وصول الدواء إليه بكل ممكن. التأنيب: ما كان بخلاف ذلك، بل قُصِدَ به التعيير والإهانة. وعلامة هذا أنه لو رأى من يحبّه على مثل ذلك العمل لم ينهه بل يلتمس له المعاذير. الناصح لا يُعادي من لم يقبل منه ولا يذكر عيبه للناس، بل فوق ذلك هو يدعو له. 32 - المبادرة: انتهاز الفرصة حال إمكانها. العجلة: الهجوم على الشيء بدون ترقّب فرصة. 33 - الإخبار بالحال: ما قُصد به قصدٌ صحيح كالإعلام بسبب أذاته (¬1) أو الاعتذار أو التحذير من الوقوع في مثل ذلك. والشكوى بخلاف ذلك. أقول: وكذا (¬2) الاستعانة المشروعة كالشكوى إلى الطبيب. ¬

_ (¬1) كذا في الأصل تبعًا للمطبوعة. وفي "الروح": "إزالته". (¬2) أي من الإخبار بالحال الذي قُصد به قصد صحيح.

[الفرق بين العشق والرقة والفسق]

[بعده نقلٌ طويل يبدأ من ذكر الفرق بين توحيد المرسلين وتوحيد المعطلين إلى آخر كتاب الروح (¬1)] (¬2). **** [الفرق بين العشق والرقَّة والفسق] الفرقُ بين العشق، والرِّقَّة، والفسق: أن الأول: التعلّق بشخصٍ معيَّن. والثاني: الميلُ إلى الجمال أينما كان، مع غلبة العِفَّة. والثالث: الميلُ إلى الجمال حيث كان، بلا عفَّة. فالمجنون وجميل: عاشقان. وابن أبي ربيعة والحارث بن خالد: رقيقان. ولا أحبُّ أن أسمّي أحدًا فاسقًا (¬3). والغالب على الأدباء مدحُ العشق وتفضيلُه، وعندي أن الرِّقَّة أدلُّ على سلاسة الطبع ولطف الحِسّ وصفاء النفس. إلا أن العشق يمتاز بالثباتِ وإمكان المحافظة معه على الدين والشرف. والله أعلم (¬4). ¬

_ (¬1) (2/ 726 إلى آخره). (¬2) مجموع [4656]. (¬3) كان الشيخ قد كتب: "وأبو نواس". ثم ضرب عليه وكتب العبارة المثبتة. وهذا من ورعه رحمه الله. (¬4) مجموع [4729].

[اليمن والشؤم]

بسم الله الرحمن الرحيم [اليُمْن والشؤم] اعلم أن اليُمْن والشؤم عند الناس معنيان يكونان في الأشياء، ينشأ عن الأول كثرة الخير، وعن الثاني كثرة الشر. فإذا كان رجلٌ قليلَ المال سيئ الحال نكد العيش فولد له ولدٌ فتوفَّر ماله وحسُنت حاله وصفا عيشه، قال الناس: إن ذلك الولد ميمون. فإذا كبر الولد وكان أبوه يُرسله في حوائجه فينجح في الغالب تأكَّد يمنه. وهكذا كلَّما ازداد نجاحه فيما يحاوله أو يوكل إليه. وعكس هذا يقال في الشؤم. والناس لا يقصرون هذا على الأناسي، بل يقولون مثله في سائر الحيوانات، بل والجمادات. فترى منهم من يتيمَّن أو يتشائم بالخاتم والعصا والنعل. وإذا سئلوا عن سبب اليُمن والشؤم فأكثرهم يحيله على النجوم. وقد أبطل أهل العلم ذلك. ومنهم مَن يحيله على قدر الله عزَّ وجلَّ. ومنهم من يجحده البتة، ويفسِّر كلَّ ما يراه الناس يُمنًا أو شؤمًا بالأسباب العادية تارةً، وبالاتفاق والمصادفة أخرى. والحق إثبات اليُمْن والشؤم في الأناسي، وأنه بقدر الله عزَّ وجلَّ لحِكَمٍ، منها ما يظهر لنا ومنها ما يخفى. ولكنه سبحانه وتعالى إذا قدَّر شيئًا هيَّأ أسبابه على ما جرت به سنته. فلذلك يمكن تأويل أكثر ما تراه يُمْنًا أو شؤمًا بحسب الأسباب العادية، إلا أن العاقل المنصف إذا نظر في أسباب الأسباب وأسبابها بأن له الحق. وقد عُرف مذهب أهل السنة في تقدير السعادة

والشقاء والرزق والعمر وغير ذلك، فكذلك نقول في اليُمْن والشؤم. هذا، واليُمن والشؤم عند الناس إنما هو بحسب الخير والشر في الدنيا. والحق أنهما بحسب الخير والشر في الدين. فإذا انضاف إلى الخير في الدين الخيرُ في الدنيا، وإلي الشر في الدين الشرُّ في الدنيا فتلك الغاية. هذا، واليُمْن والشؤم بالنظر إلى الدنيا لا يمكن الحكم بأحدهما على الشخص جزمًا, لأن التقدير غيب، وليس بيدنا إلا تكرُّر الخير والشر، وليس ذلك بواضحٍ لاحتمال أسباب أخرى، ولاحتمال الاختصاص. فقد تكون المرأة بحيث تُظن أنها مشؤومة على أبيها، فإذا تزوَّجت تحسَّنت حال زوجها فتظن أنها ميمونة عليه. بل قد تتغيَّر الحال في شيء واحد. فقد يتزوَّج الرجل المرأة فتَحسُن حاله مدَّةً، ثم تتغيَّر أو تسوءُ حاله مدَّةً، ثم تحسن. وذلك أنه قد يكون تقدير اليُمْن إنما هو في حال دون أخرى، وكذلك الشؤم. فالذي ينبغي البناء عليه هو الصفات الظاهرة والمقاصد الدينية. فإذا كانت امرأة جميلة صحيحة ديِّنة أديبة حسنة التدبير، ولكن اشتهر أنه بعد ولادتها افتقر أبوها ولازَمَه المرض، وأن رجلاً تزوَّجها فأصابه مثل ذلك ثم فارقها فحسنت حاله = فلا ينبغي للمؤمن إذا تزوَّجها بعدُ ثم سمع بحال أبيها وزوجها الأوَّل أن يطلِّقها. بل إذا امتنع من تطليقها طاعةً لله لأن أبغض الحلال إلى الله الطلاق، وتوكُّلًا على الله عزَّ وجلَّ، ورحمةً لها خشيةَ أن لا يتزوَّجها بعدَه أحدٌ = فلسنا نشك أنها تكون ميمونة عليه في دينه، وكذا في دنياه إن شاء الله. وهكذا من سمع بقصة أبيها وزوجها السابق قبل أن يتزوَّجها فاستخار

الله عزَّ وجلَّ وعَزَم على نكاحها لصفات الخير التي فيها, ولظنّه أن الناس يرغبون عنها لقصَّة أبيها وزوجها السابق وتوكُّلًا على الله تبارك وتعالى. وإنما يتفق استمرار الشؤم إذا كانت في المرأة بعض أوصاف النقص وأهمُّها ضعف الدين، وتزوَّجها رجل لجمالها أو ليعتزَّ في الدنيا بمصاهرة أهلها أو نحو ذلك، ثم آخر كذلك وهكذا. والحاصل أنه لا يستقر شؤم المرأة على زوجها إلا إذا لم يُراعِ في نكاحها ما يقتضيه الدين والأخلاق الظاهرة كالعقل والأدب وحسن التدبير. فإن كان قد كُتب عليها الشؤم البتة، فإنه لا يكون في التقدير أن يتزوَّجها أحد إلا على هذا الوجه. والله أعلم. [ل 35] وكذلك الدار لا مانع أن يُقدَّر لها اليُمْن والشؤم. وقد تكون بُنيت في أرض كانت مسجدًا أو وقفًا، أو أُخذت غصْبًا، أو كان البناء بآلةٍ كذلك، إلى غير هذا. والذي ينبغي اعتماده في هذا هو النظر في الصفات الظاهرة والدينية. فمن الصفات الظاهرة: النظر في موقع الدار ومحلتها وصفة بنائها بحسب ما يعرفه أهل الخبرة من الموافقة للصحة والمخالفة لها. ومن الدينية: النظر بحسب ما يتيسَّر في أصل بنائها، أَعَلى وجهِ الحلال أم على خلافه؟ وفي نزولها أعلى وجه الطاعة أم على وجه المعصية أم على الإباحة؟ ويختلف ذلك من وجوه، فإن كانت ملكَه، فمن جهة حلًّ أم حُرمة أو شبهة؟ وإلا، فنزوله إياها على حلًّ أو حُرمةٍ أو شُبهةٍ؟ وكذلك غرضه من نزولها، فقد يكون فيه القرب من المسجد أو من

بيتِ أمِّه ليخدمها، أو من بيت فسقٍ ليتيسَّر عليه، أو الاطلاع على العورات، أو الفخر والمباهاة، أو استأجرها بأجرة زائدة على ما يليق به فيحتاج إلى التقصير في الواجبات، وغير ذلك. وعلى نحو هذا يقال في الفرس. وبالجملة فمن راعى بحسب ما يتيسَّر الصفاتِ الطبيعيةَ والأحكام والآداب الدينية، ومن جملتها الاستخارة والتعُّوذ والتسمية وذكر الله عَزَّ وَجَلَّ والتوكل عليه وغير ذلك = فإنه لا يناله أثر الشؤم البتة. ومن قصَّر في ذلك فإلى مشيئة الله عزَّ وجلَّ، فإن أصابه شر فبتقصيره، وشؤمُ التقصير محقَّق. فمن الجهل أن يغفل عن هذا الشؤم المحقَّق ويحيل ما يصيبه إلى شؤم محتمل، مع أن الشؤم المحتمل لا يصيبه إلا إذا قصَّر (¬1). ... ¬

_ (¬1) مجموع [4786].

[في معنى حديث: "لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون" وحكم التداوي]

[في معنى حديث: "لا يسترقون ولا يتطيَّرون ولا يكتوون" (¬1) وحكم التداوي] أقول: الذي دل هذا الحديث على أن تركه مطلوب من الأسباب ثلاثة: الأول: ما في تعاطيه مشقَّة شديدة وفائدة محتملة فقط، وهو الكي. الثاني: ما فيه احتمال مفاسد وفائدته محتملة فقط، وهو الاسترقاء، أي: أن تسأل آخر أن يرقيك. ومن مفاسده: أن الرقية قد يكون شركًا ونحوه، وأنه إذا رقاك بدعاء فأنت تقدر على أن تدعو لنفسك، ولعل دعاءك لنفسك أقرب إلى الإجابة من دعائه لأنك مضطرّ يتأتى منك حسن الخشوع وصدق الالتجاء. فإن قلت: أنا مذنب خطَّاء لا يُستجاب دعائي. فهذا أوَّلاً: ضرب من اليأس من رحمة الله. وثانيًا: كالتكذيب لقوله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]، وقوله: {فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]. وثالثًا: ضربٌ من عدم الرضا باختياره. ورابعًا: يكاد يكون ذريعة من ذرائع الشرك؛ فإن المشركين إنما أشركوا لزعمهم أنهم لحقارتهم وجهلهم ومعاصيهم ليسوا بأهلٍ أن يتقبل الله عزَّ وجلَّ عبادتهم له أو يجيب دعاءهم إيَّاه فاتخذوا من دونه آلهة شفعاء. فإن كان الاسترقاء بدون أجرة أو نحوها فهو سؤال من مخلوق لنفع ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5705) ومسلم (218) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه.

دنيوي، فهو قريب من سؤال المال، وهو حرام شرعًا لغير المضطر. الثالث: الطيرة، وهي وَهْم مجرَّد مع ما فيها من خطر الشرك. فالذي يدل هذا الحديث أن تركه مطلوب شرعًا هو هذه الثلاثة وما في معناها. والتداوي ليس في معناها إذ ليس فيه مشقة كمشقة الكي، ولا مفاسد كمفاسد الرقية، ولا هو وَهْم قد يكون شركًا كالتطيُّر. وقد تداوى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمر بالتداوي، ونهى عن تلك الثلاثة. فلو لم نفهم فرقًا بينه وبينها لسقط القياس للنص، فكيف والفرق مثل الصبح ظاهر. فإن قيل: إن آخر الحديث: "وعلى ربِّهم يتوكَّلون". قلت: حقيقة التوكل كما يدل عليه الكتاب والسنة وسِيَر الأنبياء عليهم السلام هو: الثقة بالله تبارك وتعالى والاعتماد عليه دون الأسباب. فالمؤمن يتعاطى ما شرعه الله تعالى من الأسباب الواجبة والمندوبة وما يقرب منها مما هو سبب ظاهر ولم يحرِّمه الشارع ولا كرهه، بل ندب إليه في الجملة كالتداوي وطلب الحلال وغيره، ولكنه إنما يتعاطاها امتثالًا لشرع الله عزَّ وجلَّ ولسنَّته التي أجرى هذا العالَم عليها. وهو مع ذلك عالم أن حصول المطلوب إنما هو بمشيئة الله عَزَّ وَجَلَّ وفضله. وهو مع ذلك عالم بأن الله تبارك وتعالى هو الذي جعل الأسباب والذي يسَّرها له، إلى غير ذلك. ألا ترى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يقصِّر في تعاطي الأسباب حتى ظاهر في بعض حروبه بين درعين، ولكنه مع ذلك غير واثق إلا بربه عزَّ وجلَّ {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران: 126].

أَوَلا ترى أنه لما وقع من بعض المسلمين يوم حُنين ما يشعر باعتمادٍ على الأسباب إذ أعجبتهم كثرتهم، وقال بعضهم: "لن نغلب اليوم عن قلة" = ابتلاهم الله عزَّ وجلَّ بما أزال ذلك الأثر من قلوبهم. فلما زال وخَلُص الاعتماد على الله عزَّ وجلَّ نصرهم. فالمحذور المنافي للتوكل إنما هو الاعتماد على الأسباب، فأما تعاطيها فمطلوب والله أعلم. ***

المعاريض

بسم الله الرحمن الرحيم المعاريض في الأثر: "إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب" (¬1) قال ابن الأثير في "النهاية": "المعاريض جمع معراض، وهو خلاف التصريح من القول. يقال: إنما عرفت ذلك في مِعراض كلامه ومِعْرض كلامه". قال عبد الرحمن: المعاريض هنا كل كلام فيه إيهام مقصود لمعنى لا يحب المتكلم التصريح به؛ إما لكونه كذبًا، وإما لغير ذلك. وهو على أضرب: أبعدها عن الكذب ما يكون الكلام بحيث إذا تأمله السامع عرف أن المعنى الموهم غيرُ مرادٍ. وإنما يتم الإيهام بمعونة تقصير السامع واستعجاله في فهم الكلام؛ إما لأن تلك عادته، وإما لأنه في حال ضيق وانقباض، وإما لأن في الكلام ما يزعجه، وإما لغير ذلك. فمن ذلك ما يُروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاءه رجل فقال: "أُبدع بي" أي هلكت راحلتي "فاحملني" أي أعطني راحلةً أركبها، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "لأحملنك على ولد ناقةٍ" فقال الرجل: وما أصنع بولد ناقةٍ؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وهل تلد الأبلَ إلا النوقُ؟ " (¬2). ¬

_ (¬1) صحَّ موقوفًا على عمران بن الحصين. أخرجه ابن أبي شيبة (26499) والبخاري في "الأدب المفرد" (857). وقد روي مرفوعًا ولا يصح. انظر "الضعيفة" (1094). (¬2) أخرجه أحمد (13817) والبخاري في "الأدب المفرد" (268) وأبو داود (4998) =

فـ "ولد الناقة" حقيقة لغوية في الكبير والصغير من الإبل، ولكنه صار حقيقة عرفية في الصغير, إلا أن قوله: "لأحملنك على" قرينة تعيِّن الكبير لأنه هو الذي يُحمل عليه. ولكن الرجل كان في ضيق وانقباض لهلاك راحلته وحاجته إلى أخرى، فاستعجل ولم يتأمَّل. ومنه ما يُروى أن امرأةً مرَّت تسأل عن زوجها، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: "هو ذاك في عينيه بياض" فأسرعت حتى أدركت زوجها وطفقت تنظر في عينيه وأخبرته بما قال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال الرجل: "صدق، وسوادٌ" (¬1). فالمعروف في العادة أن البياض الأصلي في العين، وهو المحدق بالسواد لا يُخبر عنه بأن يقال: في عينَي فلانٍ بياض؛ إذ لا تخلوا عينا أحدٍ من الناس عنه. فالإخبار به إخبار بما لا يخفى على أحدٍ، فلا تظهر له فائدة. فهذا هو الذي حمل المرأة على حمل البياض على البياض الذي يَحْدُث في بعض العيون لرَمَدٍ أو بثرة أو نحوها فيعيب العين وينقص ضوءها, ولكن مثل هذا البياض إنما يحدث في العين تدريجًا وبعد مقدمات في مدة شهرٍ أو أكثر. وزوج المرأة كان عندها صباح ذلك اليوم وقبله، وليس بعينيه بأس، فهذه قرينة واضحة تردُّ ما توهَّمته المرأة. ومنه ما يُروى أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لعجوز: "لا تدخل الجنَّة عجوز" فانزعجت، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "ألم تسمعي قول الله عزَّ وجلَّّ: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ ¬

_ = والترمذي (1991) من حديث أنس بن مالك، وقال: "هذا حديث حسن صحيح غريب". (¬1) روي من مُرسل زيد بن أسلم. انظر "تخريج أحاديث الإحياء" للعراقي (ص 1019).

أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37)} [الواقعة: 35 - 37] " (¬1). فالمرأة قد كانت قرأت الآية وفهمتها، وبايعت النبي - صلى الله عليه وسلم - على التوحيد وغيره على أن لها الجنَّة، وعرفت ذلك يقينًا, ولكنَّها لمَّا سمعت ما يُوهم أنها لا تدخل الجنَّة انزعجت فغفلت عن ذلك كلِّه. هذا، ومن الحكمة في هذه الأمثلة ونحوها مع ما فيها من حُسن الخُلق وملاطفة الأمة = تعليمُهم وإرشادهم إلى التؤَدة وتدبُّر الكلام، وترك الاستعجال المُوقِع في الغلط. ومن هذا الضرب - فيما يظهر - قوله - صلى الله عليه وسلم - لأزواجه: "أسرعكن لحوقًا بي أطولكن يدًا" (¬2) لأن طول اليد وإن كان حقيقة لغوية في الطول الحسّي لهذه الجارحة، إلا أن هناك ثلاث قرائن تصرف عنه: الأولى: أن طول اليد الحقيقي ملازم عادة لطول القامة، وكنَّ يعرفن أن أعضاءهن متناسبةٌ، وعليه فلو أراد الحقيقة لقال: "أطولكن" واقتصر عليه؛ لأن زيادة "يدًا" عبثٌ. الثانية: أن سرعة اللحاق به فضيلة ثوابية، ومن عادة الشريعة ترتيب الفضائل الثوابية على الفضائل العملية، لا على الصور الخَلْقية. الثالثة: أن إخبار الشارع عن الغيوب المستقبلة يغلب فيه عدم التصريح. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في "الشمائل" (240) وغيره من مرسل الحسن البصري. ويشهد له مرسل مجاهد عند الطبري في "تفسيره" (16/ 429) وغيره، ومرسل سعيد بن المسيب بإسناد صحيح عند هنَّاد في "الزهد" (24). (¬2) أخرجه البخاري (1420) ومسلم (2452) من حديث عائشة رضي الله عنها.

وقد بان ذلك في هذا الخبر، فإنه لو أراد التصريح لعيَّن المرادة بالإشارة إليها أو الاسم الخاص بها؛ وطول اليد الحسَّي تصريح. الضرب الثاني: ما يحتمل المعنيين على السواء. ومنه قول أمير المؤمنين علي رضوان الله عليه: "خير هذه الأمة بعد نبيِّها: أبو بكر ثم عمر، ولو شئتُ لسمَّيتُ الثالث" (¬1). فيحتمل أنه أراد نفسه ولكنه كره التصريح بذلك لما في ظاهره من تزكية النفس، ويحتمل أنه أراد عثمان رضي الله عنه ولكنه كره التصريح بذلك لأن مخالفيه من بني أميَّة وأهل الشام كانوا يزعمون أنهم يطالبون بدم عثمان، ويدَّعون أن عليًّا سامح في قتله وآوى قَتَلتَه. وكان جماعة ممن نقم على عثمان بعض الأمور انضمُّوا إلى أنصار علي. فتصريح علي بفضل عثمان في تلك الحال يقوَّي فتنة أهل الشام وينفَّر من انضمَّ إلى علي من الناقمين على عثمان. الضرب الثالث: ما يكون الظاهر منه خلاف الواقع، إلا أن هناك قرائن فيها خفاءٌ ما، لو تأملها المخاطَب لعاد الكلام عنده محتملًا. فمنه فيما يظهر كلمات إبراهيم خليل الله عليه السلام. أما قوله لمَّا سئل عن زوجته: "هي أختي" وأراد أخته في الدين، فإنه إنما قال ذلك لقوم يعلمون أن من عادة ملكهم إذا سمع بامرأة جميلة لها زوج بدأ بقتل الزوج. ومن عادة الإنسان إذا وقع في شدة لا يمكنه التخلص منها إلا بالتورية ورَّى. بل كثير من الناس لا يتردَّد في مثل ذلك في الكذب الصريح. فهذه قرينة لو ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (879, 880) وفي "فضائل الصحابة" (429، 446، 548) بأسانيد صحيحة.

تأمَّلها القوم لعلموا أنه لا يألو جهدًا في دفع الشرِّ عن نفسه، وذلك مظنة التورية، مع أن الأخوة يكثر استعمالها في غير الحقيقة الأصلية، ولهذا يكثر من الناس أن لا يكتفوا من الرجل بقوله لآخر: هذا أخي، حتى يستفسروه. وأما نظره في النجوم وقوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89]، فإنما فعل ذلك بعد أن سبق منه أن قال لهم: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} [الأنبياء: 57]، فقد سبق منه أن بيَّن لهم أنه يريد التخلُّف ليكيد أصنامهم. ولا يخفى أنه لو أعاد لهم هذا القول عند خروجهم وسؤاله أن يخرج معهم لما تركوه. فلو تأمَّلوا ذلك لعلموا أنه لا يتحاشى مغالطتهم بالتورية ونحوها. ومَن عَلِم من حال صاحبه أن لا يتحاشى عن التورية لم يكتفِ منه بظاهر قولٍ، بل يصير الظاهر حينئذ غير ظاهر. والإيهام في القصة هو إيهامه أنه استدلَّ بأحوال النجوم على أنه سيسقم عن قريب. وكأن نظرته في النجوم كانت نظرةً خفيفةً، كما يشير إليه قوله تعالى: {نَظْرَةً} بالتنكير، أي يسيرة. والنظرة اليسيرة قد تقع ممن يتذكر شيئًا أو يتدبَّره، فليست بظاهرة في نظر الاستدلال بأحوال النجوم، بل هي محتملة. وقوله: {إنّىِ سَقِيمٌ} أي في المستقبل، وقد فهم المخاطبون ذلك ولكنهم لِتوهُّمِهم أن النظرة في النجوم كانت نظرةَ استدلال بأحوالها توهَّموا أن المراد: في المستقبل العاجل. وقوَّى ذلك عندهم أن كلامه عليه السلام كان في معرض اعتذار عن الخروج معهم، والسقم المستقبل الذي يصلح أن يكون عذرًا هو الذي في المستقبل القريب. وأما قوله عليه السلام: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63]،

فليس الإيهام - والله أعلم - في نسبة الفعل إلى كبير الأصنام، فإن مثل ذلك لا يوجب إيهامًا؛ للعلم بأن الصنم جماد لا يتأتى منه الفعل عادةً. وهذه قرينة واضحة على أنه لم يُرِدْ نسبة الفعل إلى الصنم على الحقيقة. ولكن الإيهام فيما أرى - والله أعلم - في كلمة "بل"، فإنها تقتضي بظاهرها النفي عن نفسه، كأنه قال: "ما أنا فعلته، بل فعله كبيرهم هذا". ولعل المعنى المراد أن التقدير: " [لا] أقول: أنا فعلت (بل) أقول: (فعله كبيرهم) ". فـ (بل) للإضراب عن القول المقدَّر. هذا، وقد ذكر المفسرون أنه عليه السلام حطَّم أصنامهم كلها عدا الصنم الكبير، ثم علَّق الفأس بعنق الكبير أو يده. ومقصوده عليه السلام بذلك أن يقيم الحجَّة عليهم من وجهين: الأول: أن الأصنام لا تفعل ولا تنطق، فلا تنفع ولا تضر، فلا معنى لعبادتها. الثاني: أنها لو كانت تعقل وتفعل لاحتمل أن الكبير يغضب من عبادة الصغار معه. وفي ذلك إشارة إلى أن رب العالمين سبحانه يغضب من عبادة شيء دونه. هذا، وقد بيَّنتُ في موضع آخر أنه يظهر أن هذه الثلاث الكلمات كانت من الخليل عليه السلام قبل النبوة (¬1). ومما يدل على ذلك ما وقع في ¬

_ (¬1) انظر "التنكيل" (2/ 392 وما بعدها) و"إرشاد العامه إلى معرفة الكذب وأحكامه" (ص 246 وما بعدها) ضمن مجموع رسائل أصول الفقه.

القصة: {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء: 60]. وبقية الكلام في موضعه. فأما حكم المعاريض، فما كان من الضرب الأول فلا كلام فيه لظهور بُعده عن الكذب بمراحل، وكذلك الثاني. وإنما الكلام في الثالث. فإن صحَّ ما قدمته أن كلمات الخليل كانت قبل النبوة، فالظاهر أن هذا الضرب إذا كان لدفع شرًّ أو للتوصل إلى حقًّ، ولا تترتَّب عليه مفسدة = فهو جائز، ولكنه لا يخلو عن كراهية، فيتنزَّه الأنبياء بعد النبوة عنه. ويؤيد ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمَّى هذه كذبات، فقال: "لم يكذب إبراهيم عليه السلام إلا ثلاث كذبات كلهن في ذات الله" (¬1). ويعتذر الخليل عليه السلام يوم القيامة عن الشفاعة بقوله: "إني كذبت ثلاث كذبات" (¬2) كما يعتذر آدم بأكله من الشجرة، وموسى بقتله النفس. فإذا كان لدفع ضرر خفيف، ولم تترتَّب عليه مفسدة اشتدَّت الكراهة، وتزداد شدَّة إذا لم يكن لدفع ضرر بل لتحصيل نفع أو عبثًا. ويتحقق التحريم إذا أمكن أن تترتَّب عليه مفسدة. هذا، وأما الكلام الذي ظاهره البيِّن كذبٌ وليس عند السامع قرينة تصرفه عن ذلك الظاهر فهو كذب، وإن تأوَّله المتكلم في نفسه؛ لأن المعتدَّ به في اللغة والعرف والشرع [ل 33] هو الظاهر، ولأن فائدة الكلام هي ¬

_ (¬1) كذا, ولفظ الحديث: "ثنتين منهن في ذات الله". أخرجه البخاري (3358) ومسلم (2371) من حديث أبي هريرة. (¬2) أخرجه البخاري (4712) ومسلم (194) من حديث أبي هريرة.

الإفهام، وإنما يفهم المخاطَب الظاهر سواءٌ أقصده المتكلم أم قصد غيره. حتى لو فهم مخاطب خلاف الظاهر بغير قرينة لكان ملومًا لأنه خالف الدليل بغير دليل وردَّ الحجَّة بلا حجَّة. ولأن الكذب إنما قَبُح وحَرُم لما يترتَّب عليه من المفاسد، والمفاسدُ التي تترتب على الكذب الصريح يجيء مثلها في الخبر الذي ظاهره البيِّن كذب وقصد به المتكلم معنى صادقًا لا قرينة عليه. فمن المفاسد: استعمال الكلام في عكس الحكمة التي كان لأجلها، وهي تعاون الناس على معرفة ما يحتاجون إلى معرفته؛ فإن المعرفة إنما تحصل للمخاطب بإفهامك إياه الواقع، فإذا أفهمته خلاف الواقع فقد أوقعته في الباطل. ومنها: ما يترتَّب عليه من المفاسد كان يُقتل زيد ولا يُعلم قاتله، فيخبر رجلان أو ثلاثة ابنَه بأن بكرًا هو الذي قتل أباك، فيذهب ابنه فيقتل بكرًا ويكون خبرهم كذبًا. فالمفسدة واحدةٌ سواءٌ أرادوا من خبرهم ظاهرَه أم تأوَّلوا، كأن كانت أمُّ زيد في قرية أخرى مريضة فأخبره بكر بذلك ونصحه أن يزورها فخرج ليزورها فقُتل في الطريق، فتأولوا أن بكرًا لمَّا أشار على زيد بما كان سببَ قتلِه كأنه هو الذي قتله، ولكن لم يكن هناك قرينة صارفة يَعرف بها ابنُ زيد مقصودَهم. ومنها: أن من عُرف بالكذب لم يعتدَّ الناس بخبره, فكأنه خرج من سلسلة التعاون الإنساني على المعرفة. فظَلَم الناس بأنه ينتفع بهم ولا ينفعهم، بل عُرف بالإضرار بهم، وظَلَم نفسَه بسقوط الاعتداد به. ومثله في ذلك من عُرف بكثرة الأخبار التي ظاهرها البيِّن كذب، فإنه لا يُؤمن في كل

خبر يُخبر به أن يكون تأوَّل في نفسه خلافَ ظاهره. بل إذا كثر ذلك منه لم يصدِّقه الناس فيما يزعمه بعد الإخبار من أنه قصد بها معنًى صادقًا خلاف ظاهرها، بل يعدُّون اعتذاره كذبًا آخر يريد به التخلص من كذبه السابق. واعلم أن كل ما ثبت في كتاب الله عزَّ وجلَّ أو السنة الصحيحة مما يقول أهل العلم أو بعضهم: إن المراد به خلاف ظاهره = له أوجه: الأول: نحو قوله تعالى: {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} [الكهف: 77] مما للكلمة في ذاتها ظاهر إذا أطلقت، ولكنها وقعت في كلام الظاهرُ منها فيه خلاف الظاهر إذا أطلقت. فهذا ليس مما نحن فيه لأننا إنما نريد بالظاهر: الظاهر من الكلام مع اعتبار القرائن. الثاني: ما يصح ردُّه إلى الضربين الأوَّلين من المعاريض، وهذا مقبول. الثالث: ما لا يصح ردُّه إلا إلى الثالث أو إلى ما بعده، وهذا لا يوجد في الكتاب والسنة الصحيحة. ومن زعم أن شيئًا منهما منه، فإما أن يكون مخطئًا في زعمه منه، والحق أنه ممَّا تقدم؛ وإما أن يكون مخطئًا في تأويله، وتأويله مردود عليه. وتفصيل ذلك ودفعُ ما يخالفه يحتاج إلى تطويل ليس هذا محلُّه. وكثير من الأمثلة يُتوهم فيه أنه من الضرب الثالث أو مما بعده، وردُّه إلى الأول أو الثاني يحتاج إلى فضل عناية وشفوف نظر. فمن ذلك: أن العموم والإطلاق ونحوهما من الظواهر ذهب جماعة من أهل العلم إلى أنه لا يجوز إخراجها عن الظاهر إلا بدليل مقارن, لأنه لا يجوز أن يريد الشارع بالنص خلافَ ظاهره ثم لا يقيم على ذلك حجَّة مقترنة

به، أي لأن ذلك عندهم كذب. وذهب آخرون إلى جواز تأخير البيان عن الخطاب، ولكن لا يتأخر عن وقت الحاجة. وذكروا أنه واقع في الشرع. فإذا قلنا بالمذهب الثاني احتجنا إلى رد ما كان ذلك سبيله إلى الضرب الأول أو الثاني من أضرب المعاريض. وظهر لي أنه يمكن ردُّه إلى الثاني، وبيَّنتُ وجه ذلك لبعض طلبة العلم، ووجدتهم اقتنعوا به. وأما الاعتقاديات، فقد تكلَّمتُ عليها في موضع آخر (¬1) (¬2). ... ¬

_ (¬1) انظر "القائد إلى تصحيح العقائد - التنكيل". (¬2) مجموع [4786].

التعليم والحكمة

التعليم والحكمة (¬1) العلم والحكمة أخوان لا يختلفان، لكن معارف الناس وطباعهم وأهواءهم تختلف، فيؤدّي ذلك إلى اختلاف التعليم والحكمة. مثال ذلك: أنّ النّصوص الشرعية منها ما يورث سعة الرَّجاء في رحمة الله تعالى ومغفرته، ومنها ما يورث شدة الخوف منه عزَّ وجلَّ وخشيته، ولا ريب أنَّها كلها حقّ. وأن معرفة الأمر على حقيقته هو حقيقة العلم، وأن الإنسان لو أحاط بذلك وأعطى كلًّا من الجانبين حقّه لكان قائمًا بين الرَّجاء والخوف، وذلك هو مقتضى الحكمة. لكن الإنسان قد يعلم شيئًا مما يورث الرَّجاء، ويجهل ما يقابله أو يغفل عنه، ويكون طبعه وهواه الميل إلى الرَّجاء، فيميل إليه حتى يتعدّى الحد، فيُخشى عليه أن يقع في الأمن من مكر الله عزَّ وجلَّ. وقد يعلم شيئًا مما يورث الخوف والخشية، ويجهل ما يقابله أو يغفل عنه، ويكون طبعه يميل إلى ضعف الرَّجاء، فيميل إليه حتى يتعدّى الحدّ، فيُخشى عليه أن يقع في اليأس والقنوط من رحمة الله عزَّ وجلَّ. وكلا الأمرين - أعني الأمن من مكر الله عزَّ وجلَّ، واليأس من رحمته - ¬

_ (¬1) هذا المبحث كان في صدر رسالةٍ عزم الشيخ على تأليفها تعقُّبًا على الشيخ محمَّد حامد الفقي في بعض تعليقاته على رسائل لشيخ الإِسلام ابن تيمية، أثنى على الشيخ الفقي فيها لكنه بيَّن أنه لم يوفَّق في التعليق لا من جهة بيان ما في نفس الأمر، ولا من جهة الحكمة والنصيحة. ولكن لم نقف إلا على صدر هذه الرسالة، فأثبتنا منها هذا المبحث هنا لأهميته.

مهلكٌ. وقد يؤديان إلى نتيجة واحدة، وهي الاسترسال في الفجور. أما الأمن فواضح. وأما اليأس، فيقول اليائس: أما الآخرة فلا حظّ لي فيها إلاَّ النّار، فلماذا أجمع على نفسي مع ذلك تعذيبها في الدنيا بتحمُّل مشاقَّ الطاعات واتقاء الشهوات؟ فإن لم يؤديا إلى هذا، فلا بدّ أن يؤديا إلى الجهل بالله عزَّ وجلَّ. أما الأمن فجهلٌ بحكم الله عزَّ وجلَّ وعدله، وأما اليأس فجهلٌ برحمة الله عزَّ وجلَّ وفضله. فإذا عمد العالِم إلى أُناس مائلين إلى ما يقرب من الأمن فتلا عليهم النصوص المورثة للرجاء، أو إلى أُناسٍ مائلين إلى ما يقرب من اليأس فتلا عليهم النصوص المورثة للخوف والخشية = فالنصوص حقّ ومعرفتُها عِلم، ولكن التعليم مخالف للحكمة كما لا يخفى, لأن من شأنه أن يزيد الأولين قربًا من الأمن من مكر الله عزَّ وجلَّ، ويزيد الآخرين قربًا من اليأس من رحمته. فمن لم يُراعِ في التعليم إلا بيانَ العلم أوشك أن يقع في مثل هذا مما هو مخالف للحكمة، بل ولحقيقة العلم؛ فإن حقيقة العلم هنا إنما هي ما يُوقِف الإنسان بين الرَّجاء والخوف. فمن هنا اقتضت الحكمة أن يُراعَى في التعليم حال المخاطبين، وبذلك نزل القرآن. فمن الآيات ما روعي فيها الجانبان كقوله تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر: 49 - 50].

ومنه ما كان ينزل بحسب أحوال الناس، إذا مالوا إلى شدة الرَّجاء نزلت آية مخوّفة، وإذا مالوا إلى شدة الخوف نزلت آية مبشّرة. وعلى حسب هذا كان تعليم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وجرى عليه حكماء العلماء. فقد ورد حديث في أنّ امرأة دخلت النار في جزاء هرَّة (¬1)، وجاء حديث في أن بغيًّا من بغايا بني إسرائيل غُفِرَ لها في كلب سقته (¬2). فكان الزهريّ إذا روى أحد هذين الحديثين روى الآخر معه (¬3). وكان أمير المؤمنين علي عليه السلام في محاربته لأهل الشام والخوارج يُظهِر مساوئهم، فلما سمع بعضَ أصحابه يظن كفرَهم نفى عنهم الكفر والنفاق، وقال: "إخواننا بغوا علينا" (¬4). ولما خرجت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إلى البصرة، كان علي وأصحابه يسكتون عن الثناء عليها، فلما خشي عمار - وكان من أصحاب ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2365)، ومسلم (2242) من حديث ابن عمر. وأخرجه مسلم (2243) من حديث أبي هريرة أيضًا. (¬2) أخرجه البخاري (3321) ومسلم (2245) من حديث أبي هريرة. (¬3) الحديثان اللذان رواهما الزهري معًا هما حديث "دخلت امرأة النار في هرَّة" وحديث الرجل الذي أمر نبيه أن يحرقوه إذا مات ويذروه في الريح. ثم قال الزهري: "ذلك أن لا يتَّكل رجلٌ، ولا ييأس رجل". أخرجه أحمد (7647 - 7648) ومسلم (2756). (¬4) أخرجه ابن أبي شيبة (38938) من قول علي في الخوارج بإسناد صحيح. وأخرجه (38759) من قوله في أهل الجمل بإسناد مُرسل.

علي - أن يكون في ظاهر حاله أو كلامه ما يوهم انتقاص عائشة قال: "والله إنّا لنعلم أنها لزوجة نبيّكم في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاكم بها"، ومع هذا ضرَّتْه هذه الكلمة؛ فإن أهل البصرة أجابوا بقولهم: "فنحن مع الذي شهدتَ له بالجنة يا عمّار" (¬1). وأمثلة هذه القاعدة لا تحصى، وسيأتي بعضها. ... ¬

_ (¬1) قول عمّار أخرجه البخاري (3772)، وأما إجابة أهل البصرة فأخرجه الطبري في "تاريخه" (3/ 27) بإسناد واه.

[قانون لتعليم علم النحو]

[قانون لتعليم علم النحو] علم النحو لا شكَّ مفتاح لكلِّ علْم، ومَن عرفه كان لها (¬1) سِلْم، وهو مصباح الفهْم، وحجاب عن الوهْم، وهيهات أن يهتدي إلى [إتقانه] (¬2) مَن لم يعرفه إلا بعسر وشدَّة. ولما كان هذا العلم صعبَ التعلُّم في ابتدائه لأنه كما كان آلةً لغيره فهو كذلك آلةٌ لفهم عباراته وإدراك إشاراته، فربما حاول تعلُّمَه المتعلم مع عدم بصيرة المعلم فيستصعبه، وقد يتركه ولا سيما إن كان المعلّم مهذارًا يلقي إلى المتعلم فوق ما يحمله ذهنه = فأحببت أن أضع قانونًا لطيفًا ليُقتدى به في التعليم. وأرجو أن يتلقَّى بالقبول والتسليم. فأقول: أولاً يلزم المعلِّم أن يعرِّف المتعلم مباديَه حتى يتصوَّرها فيفهم حينئذ ما سيُلقى إليه ويكون على بصيرة في التعلُّم، فيفهِّمَه حدَّه وفائدته ونحوها. ثم يشرع فيه فيبدأ أولاً بأن يعرّفه ما الاسم، وما الفعل، وما الحرف، وأن الكلام ينحصر فيها، ويقرِّبَ له حقيقة كلٍّ منها وبعض علاماته التي يسهل عليه تناولها بعبارة سهلة بتلطُّف وتعطف. وليعرِّفْه بلسان عامته، وأن هذه العلامة هي التي تبدل بلسان العامة كذا، مثل "قد" أبدلت [] (¬3)، والسين [] ". ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولعل الضمير يرجع إلى العلوم. (¬2) تمزق في طرف الورقة أتى على الكلمة، ولعلها ما قدَّرناها. (¬3) طمس في الأصل.

ثم الفرق بين الأفعال الثلاثة، ثم يبيَّن له الفرق بين الفعل والفاعل والمفعول، وأن الفعل يحتاج إلى فاعل وبعضه يحتاج إلى مفعول. ثم أن الإعراب يكون بالحركات الثلاث والسكون. وقد تُوقف الكلمة على السكون لا على أنه إعراب، وأنها قد تجيء أشياء [أُخَر] تنوب عن الحركات. ثم يشرع في الفاعل، فإنه أقرب مأخذًا من غيره, فيمثِّل له بالأسماء المفردة المعربة، ثم المفعول كذلك، ثم نائب الفاعل فيعرفه أيضًا [بعبارة] (¬1) سهلة. ثم يشرع في المقصور والمنقوص، ثم في الأفعال الخمسة والأسماء الستة، ثم في التثنية، ثم في الجَمْعين (¬2)، ثم في المبتدأ وخبره, ثم في حروف الجر، ثم حروف النصب، ثم حروف الجزم، ثم في النواسخ. ولا يبهته بجميع شروط الناسخ ونحوه، بل بالتدريج لئلَّا يسأم. ولا يغضبُ عليه بل يلين له ويخفف عليه. ولا يذكر له خلافًا ونحوه, فإنه لا يليق به. ثم يبيّن له المعرفة من النكرة، ثم غير المنصرف، ثم المفاعيل والحال والتمييز وغيرها من الأبواب. ولا يُطِلْ عليه في التفصيل، فقد قيل: كثرة التفصيل تمنع التحصيل. وهو مع ذلك يعاوده مذاكرة الأبواب الأُوَل، وإلَّا ضيَّعَها كمن يصبُّ ¬

_ (¬1) رسم في الأصل [برا] ولعل المثبت هو المقصود. (¬2) أي جمع المذكر السالم وجمع المؤنث السالم.

ماء في إناءٍ ضيِّق الفم، فإنه إن صبَّ وعاجل انسدَّ الفم بالماء وخرج الماء، وإن صبَّه في إناء مكسور فإنه كلَّما صبَّ خرج الماء، فلا يحصل على شيء. ومثل المحارب إذا أراد أن يُدوِّخ أرضًا فإنه يبتدئ من أولها فكلَّما دخل قرية شيَّدها وحصَّنها ويعاودها في الانتباه حتَّى يأتي على آخر البلد وقد صارت في قبضته، وإلا ذهب عمله سُدًى. يرجع (¬1) المسائل العويصة التي فيها الحذف والتقدير والمتشابه لوقتها. وكل مسألة تتوقف على درايةِ غيرها فليتركْها إلى انقضاء ذلك الغير. وبالجملة فالكون مبني على التدريج. والله أعلم (¬2). ... ¬

_ (¬1) كذا, ولعل الأنسب: "يُرْجِي". (¬2) مجموع [4708].

[مقدمة في فن المنطق]

بسم الله الرحمن الرحيم [مقدمة في فن المنطق] المقدمة: المنطق آلة قانونية تعصم مراعاتُها الذهنَ عن الخطأ في الفكر. ومنه بديهي ومنه نظري. والفكر هو ترتيب أمور معلومة للتأدِّي إلى مجهول، وذلك الترتيب قد يخطئ. والعلم هو الحضور الذهني مطلقًا، فإن قارنه حكم فالتصديق، وإلا فالتصور. وكلٌّ منهما إما بديهي وإما نظري. وموضوع المنطلق هو المعلومات التصورية والتصديقية. والموصل إلى التصور: قول شارح. والموصل إلى التصديق: حجَّة. المقالة الأولى: دلالة اللفظ على المعنى بتوسط الوضع له: مطابقة، كدلالة الإنسان على الحيوان الناطق. وبتوسطه لما دخل فيه ذلك المعنى: تضمُّن، كدلالته على الحيوان، وعلى الناطق فقط. وبتوسطه لما خرج عنه: التزامٌ، كدلالته على قابل العلم وصنعة الكتابة.

وشرط الثالثة كون الخارج بحال يلزم من تصوّر المسمَّى في الذهن تصوُّره، لا كونه بحال يلزم من تحقُّق المسمى في الخارج تحقُّقُه فيه. والمطابقة لا تستلزم التضمُّن كما في البسائط. واستلزامها - وكذا التضمُّن - الالتزامَ غير متيقَّن. وأما التضمن والالتزام فإنه معًا يستلزمان الوضع المستلزم للمطابقة، فهما يستلزمانها قطعًا. والدالُّ مطابقةً إن قُصد بجزئه الدلالةُ على جزء معناه فهو المركب كـ "رامي الحجارة"، وإلا فهو المفرد. فلا بد في المركب أن يكون لِلَّفظِ جزءٌ (¬1) له دلالة على معنى (¬2) هو جزء المعنى المقصود (¬3) من اللفظ دلالةً مقصودةً (¬4). فكل من همزة الاستفهام ولفظ "زيد" ولفظ "عبد الله" ولفظ "الحيوان الناطق" اسمًا لإنسان = كل منها مفرد. والمفرد إن لم يصلح لأن يُخبر به وحده، فهو الأداة كـ "في" و"لا". وإن صلح لذلك، فإن دل بهيئته على زمان معين من الأزمنة الثلاثة فهو الكلمة (¬5)، وإن لم يدل فهو الاسم. ¬

_ (¬1) يخرج عنه البسائط، كهمزة الاستفهام. [المؤلف]. (¬2) يخرج نحو "زيد". [المؤلف]. (¬3) يخرج نحو "عبد الله" فإن كلا لفظيه لا يدلُّ على جزء معناه المقصود. [المؤلف]. (¬4) يخرج نحو ما إذا سمَّي إنسان بـ "الحيوان الناطق" فدلالة كل من لفظيه على جزء معناه المقصود من اللفظ غير مقصودة. [المؤلف]. (¬5) كذا، على اصطلاح أهل المنطق الأرسطي.

والاسم إما أن يكون معناه واحدًا أو كثيرًا. فإن كان الأول؛ فإنْ تشخَّصَ ذلك المعنى سمِّي "علمًا"، وإلا فـ "متواطئًا" إن استوت أفراده الذهنية والخارجية فيه، كالإنسان والشمس، و"مشكِّكًا" إن كان حصوله في البعض أولى وأقدم وأشدَّ من الآخر، كالوجود بالنسبة إلى الواجب والممكن. وإن كان الثاني، فإن كان وضعه لتلك المعاني على السوية فهو "المُشترَك"، كالعين. وإن لم يكن كذلك بل وُضع لأحدهما أوَّلًا ثم نُقل إلى الثاني، وحينئذ (¬1) إن تُرك موضوعه الأوَّل يسمَّى لفظًا منقولًا عُرفيًّا إن كان الناقل هو العرف العام كـ "الدابَّة"؛ وشرعيًّا إن كان الناقل هو الشرع كـ "الصلاة" و"الصوم"؛ واصطلاحيًّا إن كان هو العرف الخاص كاصطلاح النحاة والنظَّار. وإن لم [يُترك] موضوعه الأول يُسمَّى بالنسبة إلى المنقول عنه: حقيقةً، وبالنسبة إلى المنقول إليه مجازًا، كالأسد بالنسبة إلى الحيوان المفترس وإلى الرجل الشجاع. وكل لفظ فهو بالنسبة إلى لفظ آخر: مرادف له إن توافقا في المعنى، وإلاَّ فمُبايِن. وأما المركب فهو إما تام - وهو الذي يصح السكوت عليه -, أو غير تام. والتام إن احتمل الصدق والكذب فهو الخبر والقضية، وإن لم يحتمل ¬

_ (¬1) كتبها المؤلف "ح" اختصارًا.

فهو الإنشاء. فإن دل على طلب الفعل دلالة أولية، أي وضعية، فهو مع الاستعلاء: أمرٌ، ومع الخضوع: سؤالٌ ودعاءٌ، ومع التساوي: إلتماسٌ. وإن لم يدل، فهو بنيَّته يندرج فيه التمنّي والترجِّي والتعجب والقسم والنداء. وأما غير التام فهو إما تقييدي كالحيوان الناطق، وإما غير تقييدي كالمركب من اسم وأداة، أو كلمة وأداة. وقد يقال: الإنشاء إذا دلَّ على طلب الفعل دلالةً وضعية، فإما أن يكون المقصود حصولَ شيء في الذهن من حيث هو حصول شيء فيه فهو الاستفهام. وإما أن يكون المقصود حصول شيء في الخارج أو عدم حصوله فيه؛ فالأول مع الاستعلاء: أمر، والثاني مع الاستعلاء: نهيٌ، وكلاهما مع المساواة: التماس، ومع الخضوع: سؤال. الفصل الثاني (¬1) ... ¬

_ (¬1) هنا توقف قلم الشيخ. مجموع [4708].

[تأملات في بعض المقادير الشرعية]

[تأمّلات في بعض المقادير الشرعية] شيء .......................... نصف شيء ............ لا شيء 1 - مهر مطلقة بعد الدخول ... مهر مطلقة قبله ... مهر مفسوخة بعيبها قبله 2 - حدُّ الحر البالغ العاقل ... حد العبد البالغ العاقل ... حدُّ الصبي والمجنون 3 - ديَّة الحر المسلم ... ديَّة الحرَّة المسلمة ... دية الحربي 4 - كلٌّ من العصبة الذكور ... إن كان معه مثله ... إذا تعلق به مانع إذا انفرد 5 - العُشْر في النصاب ... نصف العشر في سقي ... ما لم يبلغ نصابًا السقي بلا كلفة ... بكلفة 6 - عِدَّة الحرة المدخول بها ... عِدَّة الأَمة المدخول بها ... عدة كل منهما قبل الدخول 7 - أجر المتنفل قائمًا ... أجر المتنفل قاعدًا مع ... أجر المرائي ونحوه القدرة 8 - عقول العلماء ... عقول المتعلمين ... عقول غيرهم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 9 - "كن عالمًا ... أو متعلَّمًا ... ولا تكن الثالث فتهلك" (¬1) 10 - نفقة الموسر للمطيعة ... نفقة المعسر لها ... نفقة الناشزة (¬2) ¬

_ (¬1) لا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما صحَّ نحوه عن بعض السلف. انظر "جامع بيان العلم وفضله" (1/ 140 - 148)، و"المقاصد الحسنة" (ص 68). (¬2) مجموع [4708].

[دفع طعن السيد العلوي في شيخ الإسلام والاعتذار عنه في رده لبعض الأحاديث التي يراها غيره أنها صحيحة]

[دفع طعن السيد العلوي في شيخ الإسلام والاعتذار عنه في ردّه لبعض الأحاديث التي يراها غيره أنها صحيحة] (416) (¬1) عن ابن تيمية: "وإنما يصح الاعتذار عنه بذلك لو كان يقول فيما لم يعلمه ولم يستحضره: "لم أطلع عليه ولا علم لي به" أو نحو ذلك. كلَّا إنه لا يرضى لنفسه بذلك ولا يجد من الورع ما يحمله على التحرِّي، بل يدَّعي اتفاق أهل العلم على وضع أحاديث صحيحة مروية في السنن وكتب الحديث ... " إلخ أقول: ابن تيمية إمام من أئمة المسلمين، وعلمه بالكتاب والسنة أعرف مِن أن يُعرَّف. وكل ما انتُقد عليه، له فيه أعذار مقبولة؛ الأول أن تلك الأحاديث التي يردّها قد يكون اطّلع فيها على علل قادحة، ورأى أن الكلام فيها يطول أو يوهم فاكتفى بردّها (¬2)، ومن العلل أن يكون في رواتها بعض أهل الأهواء وهي موافِقَة لأهوائهم، فهم متَّهمون فيها وإن كانوا في أنفسهم ثقات، ولو لم يكن إلا التدليس وإن لم يُعرفوا به، وقد قال السيد نفسه في موضع من كتابه في (ص 428): "وقد ألغى الشرع شهادة المتَّهمين" على أن هذا ليس على إطلاقه، بل لا بد معه من قرائن يعرفها أهلها. وقد اعترف السيد في موضع آخر من كتابه أن علم العلل خاص. وقال العلماء: إنه يكاد ¬

_ (¬1) نقلٌ لكلام السيد علوي من كتاب له (ص 416 ج 2). (¬2) علق عليه الشيخ بقوله: "بل قال الإِمام النووي في تقريبه ما لفظه ممزوجًا بشرحه (1/ 295) للسيوطي: والعلة [عبارة عن سبب غامض خفي قادح في الحديث مع أن الظاهر السلامة منه] ".

[حول شدة التعصب المذهبي لدى الحنفية]

يكون ذوقيًّا لا تؤدِّيه العبارة، وإنما يحصل بكثرة الممارسة والمزاولة، وابن تيمية معروف بذلك، ولا بِدْعَ أن تقوم لديه علل (¬1). **** [حول شدّة التعصّب المذهبي لدى الحنفية] حكى الحنفية عن داود الظاهري أنه كان يناظرهم ببغداد في بيع أمَّ الولد، فيقول: أجمعْنا على أنها قبل الحمل يجوز بيعها، فنحن على ذلك حتى يثبت ما يمنعه. حتى جاء بعض أكابرهم (¬2) فقال له: لمَّا كانت حاملًا كنَّا مجمعين على منع بيعها، فنحن على ذلك حتى يثبت ما يجيزه. هذا معنى ما نقلوه وتبجَّحوا به, وأساءوا الكلام في داود رحمه الله. ولا يخفى ما في جواب صاحبهم من الضعف، فإن لداود أن يقول: إنما وافقناكم على منع بيعها حين حملها لمعنًى عارض قد زال قطعًا بالاتفاق، فلا يلزمنا استصحابُ حكمٍ مبنيًّ على سبب قد زال قطعًا، بخلاف الاستصحاب الذي احتجَّ به داود؛ فإنه مبنيٌّ على سبب لم يثبت زواله أعني الرقَّيَّة. بل أنتم معترفون ببقاء السبب في الجملة. ¬

_ (¬1) مجموع [4657]. (¬2) هو أحمد بن الحسين أبو سعيد البردعي (ت 317). ترجمته ومناظرته مع داود في "الجواهر المضيئة في طبقات الحنفية": (1/ 163 - 166). وانظر "فتح القدير" لابن الهمام (5/ 33).

ويمكن أن يورد إلاستدلال بطريق أخرى فيقال في أمِّ الولد التي قد مات سيَّدها: أجمَعْنا أنها كانت أمَةً مملوكة، فنحن على ذلك حتَّى يثبت خلافه. وأيضًا: بعد الولادة وقبل موت السيِّد كنا مجمعين على أن أحكامها غيرَ البيع ونحوه أحكامُ الأَمَة، فنحن على ذلك بعد موت السيد حتى يثبت خلافه. إلى غير ذلك من الوجوه. والحنفية - غفر الله لنا ولهم - يشنَّعون على كل من ضعَّف قولاً من أقوال أبي حنيفة رحمه الله. ولا تكاد تجد عالمًا من علمائهم إلا وهو يطعن في غيره من الأئمة لا بتضعيف الأقوال فقط - فإن تضعيف قول العالم لا يلزم منه الطعن عليه ولا إساءة الأدب في حقّه ولا انتهاك حُرْمته، وهؤلاء الأئمة أنفسهم وأبو حنيفة نفسه قد ضعَّفوا أقوالاً من أقوال أئمة الصحابة والتابعين، كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم - بل بالطعن والتجهيل والتحقير كما صنع الجصَّاص في "أحكام القرآن" (¬1) عند قول الله تبارك وتعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22] مع أن من ذبَّ عن أنفه خُنزُوانة ¬

_ (¬1) (2/ 116 - 120) وذلك عندما نقل وعلَّق على مناظرة ذكرها الشافعي في "الأم": (6/ 398 - 406) جرت بينه وبين بعضهم في مسألة: هل الوطء زنًا يحرَّم كما يحرّم النكاح؟ وممَّا طعن به الجصَّاص على الشافعي قولُه في تعليقه على المناظرة: "فقد بان أن ما قاله الشافعي ... كلام فارغ لا معنى تحته! ".

التعصُّب ولو قليلاً يعلم أن الجصاص - غفر الله لنا وله - هو المخطئ في تفسير الآية. ولكنه مضطر إلى ذلك الخطأ؛ لأنه لو اعترف بأن النكاح في الآية هو العقد كما هو اصطلاح القرآن المطَّرد، واللائق بالقرآن كما قاله الرضي. والغالب في لغة العرب إذا أرادوا أن يعبِّروا عن المعاني المُستحيَى من ذكرها عبَّروا عنها بألفاظ موضوعة في الأصل لمعنى آخر. وعكس هذا قليل في كلامهم، وإنما يُستعمل في مقام الشتم أو الهزل، كقولهم للقوم إذا نعسوا: تنايكوا، إنما يصلح في مقام الهزل كأن يكون جماعة سامرًا أو سَفْرًا (¬1) فينعس كثير منهم، فيقول من لم ينعس تلك الكلمة على سبيل العيب لهم لفِعْلهم ما يخالف مقتضى الهمَّة والعزم والجدِّ في الأمر. فلو اعترف الجصَّاص بذلك لزمه أن لا يقول بحديث العسيلة (¬2) لأن أصله (الواهي) أن الزيادة على القرآن نسخ، وليس هذا مذهبه، فرأى أنَّ جرَّ الآية إلى جانبه - ولو كانت في نفسها بعيدة عنه - يدفع عنه هذا الإلزام، وينفعه في إثبات مذهبه أن الوطء زنًا يحرِّم. ولا يخفى أن إساءة الأدب من جانب تستدعي الإساءة من الجانب الآخر، وهكذا: ¬

_ (¬1) الأصل "سفر". (¬2) المتفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها في قصة امرأة رفاعة. "صحيح البخاري" (2639) و"صحيح مسلم" (1432).

إذا شُقَّ بردٌ شق بالبرد مثلُه ... دوالَيك حتَّى كلُّنا غير لابس (¬1) فحبَّذا لو تمسَّك أهل العلم بالإنصاف وعرفوا للعلماء مقاديرهم، وذبَّ كل مقلِّدٍ عن إمامه بما يدفع عنه الباطل لا بما يدفع عنه الحق أو المحتمِل. على أن خطأ المجتهد ليس ذنبًا في حقِّه، فنسبته إليه لا تُشعر بإرادة الناسب نقيصته، وإلا كان أبو حنيفة - رحمه الله - وغيره من الأئمة منتقصين لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وجميع الصحابة والتابعين فمَن بعدهم، فإنه ما من أحد من الصحابة والتابعين إلا وقد خُولف في حكم من الأحكام، ومخالفتُه تخطئة له، بل وكثيرًا ما يُنسب إليهم الخطأ صريحًا. ونحن نقطع - أو نكاد - أنه ليس أحد من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من أهل العلم متطابق (¬2) مع أبي حنيفة في كلِّ قليل ودقيق حتَّى يُتصوَّر أن أبا حنيفة - رحمه الله - لم يخطِّئه. وقال صاحب "الجوهر النقي" (¬3) في كتاب الفرائض عند ذكر موافقة الشافعي زيد بن ثابت أنه يبعد أن يتطابق مجتهدان في [كتابٍ من العلم من أوله إلى آخره] (¬4). **** ¬

_ (¬1) البيت لسُحَيم عبد بني الحسحاس في "ديوانه" (ص 16). (¬2) كذا في الأصل، والوجه النصب. (¬3) (6/ 210 - 211). (¬4) مجموع [4711].

[زعم الصوفية أن العبادة لا تنبغي لقصد الجنة]

[زعم الصوفية أن العبادة لا تنبغي لقصد الجنة] ما زعمه بعض المتصوَّفة من أن العبادة لقصد الجنَّة ناقصة وصاحبها عبد سوء = يُردُّ بأن الله عَزَّ وَجَلَّ غنيٌّ عن العبد وعن خدمته، ولا تعود عليه - عزَّ وجلَّ - من الخدمة فائدة. وإنما أمرَنا بما أمر لننال ثواب ذلك. فلو عبدناه لئلا ننالَ ذلك لكُنَّا كأنَّنا نعتقد أن عبادتنا تفيده عزَّ وجلَّ، أو نعتقد أنه أمرَنا بعبادته عَبَثًا، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا. وأيضًا فهو الذي حثَّنا على طلب الثواب والمسابقة إليه وسؤاله منه، فترْكُنا لذلك معصية ظاهرة. وأيضًا ... (¬1). **** [سبب منع أبي بكر النفقة عن مسطح] فائدة المناسب لمقام الصدَّيق أنَّ منعه عن مسطح النفقة لم يكن غضبًا لنفسه وابنته، وإنما هو غضب لله تعالى؛ لأن قوله بالإفك معصية. ويؤيَّده أن ظاهر القصَّة أنه إنما منعه النفقة بعد براءة عائشة. والله أعلم (¬2). **** ¬

_ (¬1) هنا وقف قلم الشيخ. مجموع [4711]. (¬2) مجموع [4716].

[مناظرة مع الشيخ الخضر الشنقيطي]

[مناظرة مع الشيخ الخضر الشنقيطي] الحمد لله. لما وصل الشيخ الخضر الشنقيطي حيدر آباد، كنتُ فيمن زاره، فجرى ذكر العلم والعلماء، فتكلَّم الشيخ الخضر بكلام في معنى فقْدِ العلماء الحقيقيَّين، وتلا: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] احتجاجًا على أن من لا يخشى الله تعالى فليس بعالم. فقال بعض الفضلاء ما معناه: ليس في الآية دليل على هذا, لأنها قصرت الخشية على العلماء، ولا يلزم من ذلك قصر العلماء على أهل الخشية. فسكت الشيخ عن الجواب (¬1). **** [خطَّة الشيخ لترتيب أحاديث المسند] (¬2) * الحمد لله. أحاديث المسند على ضربين: مفردة، وجامعة. ويعني بالمفردة: ما هو في حكم خاص. وبالجامعة: ما اشتملت على عدة أحكام. فأما المفردة؛ فنضع كلاًّ منها في بابه. فإن كان يصلح لبابين، كقوله في أفضل الأعمال: "الصلاة لوقتها" عَدَدْناه في الجامعة. وأما الجامعة؛ فإن كان الجمع من جهة الراوي، قسمناها على أبوابها؛ ¬

_ (¬1) مجموع [4716]. (¬2) هذه خطة يبدو أن الشيخ وضعها تمهيدًا لترتيب مسند الإمام أحمد على الأبواب الفقهية، ولم نقف فيما بقي من آثار الشيخ على أثر لهذا الترتيب.

باب الآداب

إلاّ إن كان نحو قول الصحابي: "نهينا عن كذا، وعن كذا، وعن كذا"، فهذا النوع والذي يكون الجمع فيه في قصة واحدة، أو في كلام واحد من النبي - صلى الله عليه وسلم - نضعه في القسم الجامع. ثم إن كانت أفراد ذلك الحديث الجامع قد رُوي كلٌّ منها على حدة؛ أثبتنا الأفراد في أبوابها, ولم نثبت الجامع؛ بل رمزنا إليه بجزئه وصفحته عند كل من المفردات، كما في المكررات؛ وإلاّ فإننا نثبت الحديث الجامع في القسم الجامع، ثم نطبعه - إن شاء الله - مقدَّمًا، ثم نطبع قسم الأفراد. فإذا جئنا على باب له حظ في حديث جامع قلنا: "انظر جامع ص ... ". * الحمد لله. باب الآداب ينبغي تقسيمه؛ فما ظهر لنا أنه طِبِّيّ جعلناه في "باب الطب"، وما كان في الأطعمة والأشربة ألحقناه ببابها، وما كان في اللِّباس ألحقناه ببابه، وهكذا إن شاء الله. ما كان من باب التفسير يظهر منه حكم؛ نجعله من الجامعة. الحمد لله. ابتداء مراعاة زوائد المسند من (ص 118). فما كان "عبد الله حدثني أبي" لم نبال بانقطاع سنده. فما كان من الزوائد حافظنا على رواة السند إن شاء الله تعالى. باب (144 - عدد 8). "ق": إشارة إلى - قرأت على أبي - (¬1). ¬

_ (¬1) مجموع [4717].

[منهج وضعه الشيخ لتأليف كتاب في التفسير]

[منهج وضعه الشيخ لتأليف كتاب في التفسير] بسم الله الرحمن الرحيم - القراءات: (عن تفسير الآلوسي). أقتصرُ على ما كان له علاقة بالمعنى، فلا أتعرّض للخلاف في الهمزة ونحوه. - اللغة والتصريف والاشتقاق: (عن الراغب، وابن الأثير، واللسان، والقاموس مع شرحه، ونحوها، مع التفاسير). وأقتصر على ما له [علاقة] بالمعنى. - النحو: (أعاريب القرآن للسّمين، وغيره، مع التفاسير). أقتصر على ما فيه غموض. - البلاغة: (الكشاف، وغيره، مع مراجعة كتب البلاغة). - أسباب النزول: (السيوطي، وغيره، والتفاسير). - المعنى: وفيه الناسخ والمنسوخ، وذكر الأحاديث المبيّنة للآية، وما جاء من القصص ممّا كان إسناده قويًّا، مع بيان ذلك بالأسانيد. أقتصر على نقل الأقوال التي لها محلّ من النظر (¬1). **** ¬

_ (¬1) مجموع [4718].

[سر صيغة الجمع في السلام وجواب التشميت]

[سرّ صيغة الجمع في السلام وجواب التشميت] في الحديث أن العاطس إذا حمد الله، يقال له: "يرحمك الله"، فيجيب: "يهديكم الله ويصلح بالكم" (¬1). وفي حديث تعليم السلام؛ أن يقول: "السلام عليكم"، فيجاب: "وعليكم السلام" (¬2). فما سرّ الإفراد في "يرحمك الله"، والجمع في البواقي؟ مع أن المترحَّم والمسلَّم والمسلَّم عليه قد يكون واحدًا؟ قد كان ظهر لي أن السرّ في جمع "يهديكم الله" الإشارةُ إلى أنه ينبغي أن يَترحمّ على العاطس كلُّ من سمعه, ثم رأيت أن هذا لا يكفي, لأنه على ذلك ينبغي إذا كان المترحِّم واحدًا أن يقال: "يهديك". وكذا في السلام. ثم تبيَّن لي سحر ليلة الجمعة 29 رمضان سنة 1356 أن السرّ هو أن الترحُّم يقع من الإنس وحاضري الملائكة ومؤمني الجنّ، فلذلك ينبغي أن يجاب بالجمع "يهديكم الله ويصلح بالكم"، وإن كان الإنسان المترحَّم واحدًا؛ لأن معه مَنْ ذُكِر. فأمّا العاطس، فلا يمكن أن (¬3) يقال: إذا عطس، عطس معه الحاضرون من الملائكة ومؤمني الجن. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (6224) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) أخرجه أحمد (12612)، وابن حبان (845) من حديث أنسٍ رضي الله عنه. (¬3) في الأصل: "أنه" ولعله سبق قلم.

وأمّا السلام، فإن القادم يسلّم على الجالس ومَن معه من الملائكة ومؤمني الجنّ؛ فلذلك ورد بلفظ الجمع. وكذا جوابه؛ لأن سلامه يكون عنه وعمّن معه من الملائكة ومؤمني الجنّ، فيكون الجواب بالجمع. ثمّ السلامُ معناه الدعاء بالسلامة، ويلزمه الوعد بسلامة المسلَّم عليه من المسلَّم. فعلى هذا، إذا سلمتَ على أحدٍ أو رددتَ عليه السلام [ثم آذيته] (¬1)، فقد أخلفت وعدك. وكأنه إلى هذا يشير حديث الأمر بالسلام عند القيام، وفيه: "فليست الأُولى بأَولى من الثانية" (¬2). أي - والله أعلم -: فإن الإيذاء كما يمكن في الحضور يمكن في الغَيبة، بل لعله في الغَيبة أكثر. وكأنّ حديث: "أولا أنبئكم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم" (¬3) يشير إلى هذا؛ فإن المحبة إنما تتمّ بوعد كل إنسانٍ من المسلمين ¬

_ (¬1) زيادة لا بدّ منها. (¬2) أخرجه أحمد (7852، 9664)، والبخاري في "الأدب المفرد" (986)، وأبو داود (5208)، والترمذي (2706) وحسَّنه، وابن حبان (493 - 496) من حديث أبي هريرة ولفظه: "إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليُسلَّم، فإذا أراد أن يقوم فليُسلِّم فليست الأولى بأحق من الآخرة". (¬3) "صحيح مسلم" من حديث أبي هريرة (54).

[كشف تحريف لأحد الجهلة في نسخة من "حلية الأولياء"]

صاحبه أن لا يؤذيه، ثم وفائِه بالوعد، فلا يؤذيه ولا يغتابه ولا ينمّ عليه، ولا إليه. والله أعلم (¬1). **** [كشف تحريف لأحد الجهلة في نسخة من "حلية الأولياء"] [حلية الأولياء: حدثنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن علي بن أحمد بن مخلد، ثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، ثنا عبادة بن زياد، ثنا يحيى بن العلاء، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر قال جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا محمد اعرض علي الإسلام، فقال: "تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله"، قال: تسألني عليه أجرا؟ قال: "لا، إلا المودة في القربى" قال: قرباي أو قرباك؟ قال: "قرباي". قال: هات أبايعك، فعلى من لا يحبك ولا يحب قرباك لعنة الله، قال - صلى الله عليه وسلم -: "آمين". هذا حديث صحيح (¬2) من حديث جعفر بن محمد، لم نكتبه إلا من حديث يحيى بن العلاء.] قوله: "صحيح"، راجعت الأصل المنقول منه هذه النسخة، فإذا هذه الكلمة مكتوبة على حكًّ، فظهر أنه في الكتابة الأولى كُتبت مكانها كلمةٌ أخرى ثمَّ حُكَّت وكُتبت هذه الكلمة: "صحيح". وعند مقابلة الكلمة الموجودة بخط كاتب الأصل يتبيَّن أنَّها بغير خطِّه. ¬

_ (¬1) مجموع [4718]. (¬2) هكذا في النسخة التي يتكلَّم عليها الشيخ، وفي المطبوع على الصواب: "هذا حديث غريب".

ولا شكَّ أنَّ كلمة "صحيح" غير صحيحة هنا؛ فإنَّ في السند يحيى بن العلاء، وهو البجلي، متَّفق على ضعفه. بل قال الإمام أحمد فيه: كذَّاب يضع الحديث. انظر ترجمته في "تهذيب التهذيب" و"الميزان". وفيه أيضًا عبادة بن زياد، وهو عبَّاد (ويقال: عبادة كما في "التهذيب") بن زياد بن موسى الأسدي الساجي، وفيه نظر. وقد قال ابن عديًّ فيه: هو من أهل الكوفة الغالين في التشيُّع، له أحاديث منكرة في الفضائل. وفي السند أيضًا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، وفيه مقال. فإن قيل: يحتمل أنه صحَّ عند المصنف من طريق أخرى. قلت: هذا باطل لقوله في آخره: "لم نكتبه إلا من حديث يحيى بن العلاء". فالحاصل أن كلمة "صحيح" لا محلَّ لها؛ والصواب: "غريب". وكاتب الأمِّ، وإن كان زيديًّا، إلا أنه عالم جليل ليس محلًّا للتهمة. وقد بينَّا فيما تقدَّم براءته، فتعيَّن أن يكون الحكُّ والتغيير من فعل بعض الجهلة من الزيدية؛ لمَّا رأى في الحديث فضلاً لأهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، ظنَّ أن الحديث لا بد وأن يكون صحيحًا أو نحو ذلك. والله أعلم (¬1). **** ¬

_ (¬1) مجموع [4718].

[بحث في معنى الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وآله]

[بحث في معنى الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وآله] {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]. الصلاة في الأصل: الدعاء. ولكنها أُطلقت حقيقةً شرعيةً في ذات الركوع والسجود. وأطلقت أيضًا حقيقة شرعية - وإن كانت أقل من الأولى - في ذكر صيغة دعاء تتضمن لفظ الصلاة أو الرحمة. فقوله في الآية: {يُصَلُّونَ} من هذا الثالث، وهو ذكر صيغة تتضمن لفظ الصلاة أو الرحمة؛ احتمالان. ولكنّها من الله عَزَّ وَجَلَّ على سبيل الثناء، ومن الخلق على سبيل الدعاء. على أنّه لا مانع من إطلاق أنها من الله عَزَّ وَجَلَّ على سبيل الدعاء من نفسه لنفسه تعالى. والله أعلم. وقال السّنْدي في حاشيته (¬1): "قوله "كما صليت" قد اعترض بأنّ الصلاة المطلوبة له - صلى الله عليه وسلم - ينبغي أن تكون على حسب منصبه وجاهه عند الله تعالى. ومنصبه أعلى، فكيف (تطلب) (¬2) له الصلاة المشبهة بصلاة إبراهيم، ¬

_ (¬1) (3/ 178). (¬2) هذه الزيادة زادها الشيخ بين القوسين ليستقيم الكلام.

مع أنّ صلاة إبراهيم على حسب منصبه صلوات الله وسلامه عليهما؟ وأجيب: بأنّ وجه الشبه ها هنا هو كون صلاة كلًّ أفضل من صلاة من تقدم ... وقد يُجاب بأن التشبيه في اشتراك الآل معه في الصلاة. أي: صلِّ صلاة مشتركة بينه وبين أهل بيته كما صليت على إبراهيم كذلك. فكأنّه - صلى الله عليه وسلم - نظر إلى أنّ صلاة الله تعالى [عليه] دائمًا لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} بصيغة المضارع. وقد تقرّر أنّها تفيد الدوام والاستمرار، فالأفيد أنّ المؤمنين يطلبون اشتراك أهل بيته معه في الصلاة، فعلَّمهم هذه الكيفية، ليفيد دعاؤهم فائدة جديدة، وإلا فيصير دعاؤهم كتحصيل الحاصل. والله تعالى أعلم" اهـ سندي. وأقول: إنّ هذا الرجل - أعني السندي - ذو ذكاء مفرط كما يظهر من حواشيه، ولكن هذا المقام مزلَّة أقدام، ومضلَّة أفهام. فأقول: أوّلاً: إنّني لا أقول بتفضيل أحد من الأنبياء على نبينا صلَّى الله عليهم جميعًا وآلهم وسلم. ولكن قد أثبتنا في بحث مستقل (¬1) أنّنا منهيُّون عن التخيير بين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهذا الاستشكال ناشئ عنه كما لا يخفى. والتخيير المنهي عنه هو أن نقول أو نكتب، فأمّا أن يعتقد أحدنا شيئًا من ¬

_ (¬1) تقدم في الفوائد الحديثية (ص 136) بحث في هذا المعنى في التعليق على حديث: "لا ينبغي لعبد أن يقول: إنه خير من يونس بن متَّى" وإن أراد مبحثًا مستقلاً فلم نقف عليه.

ذلك بمقتضى ما ثبت له من الأدلة، فلا منع منه. ولكنّنا مع هذا لا نخلي الآية والصلاة من البحث. فأقول: إنَّ نصَّ الآية: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ}. و (يصلون) بصيغة المضارع، وصيغةُ المضارع من حيث هي لا تفيد دوامًا ولا استمرارًا، كما عليه المحققون، وأدلته غنية عن البيان. ولكن قد تفيد ذلك بمعونة القرائن. والقرائن ها هنا إنّما تفيد نحو ما يفيده قولك: إنّ زيدًا يزورنا. أي أنّ ذلك في حكم العادة له، بحيث لا يقطعها مدة طويلة تُعَدّ في العرف قطعًا للعادة. ومنه قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} ليس المعنى أنّهم لا يفترون عن الإنفاق طرفة عين، كما لا يخفى، وإنّما المعنى أنّ الإنفاق عادة لهم. ثم قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}. وقد تقرّر أنّ صلاتنا عليه هي الدعاء له بالصلاة، ولا يلزم من ذلك تحصيل حاصل؛ لِما تقدم أنّ أوّل الآية لا يدل على استمرار الصلاة منه عزَّ وجلَّ بحيث تستحيل الزيادة. وأمّا الصلاة الإبراهيمية الواردة في الحديث ففيها مباحث: الأول: أنّ فيها ذكر الآل، وليس في الآية، فدلّ أنّ ذكر الآل عَلِمه - صلى الله عليه وسلم - من دليلٍ آخر. الثاني: قوله "كما صليت"؛ الكاف إمّا تعليلية، وإمّا تشبيهية.

فإن كانت تعليلية، فلا محلّ للاستشكال، وكأنّنا نقول: اللهم إنّك قد صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، ولأجل ذلك نطلب منك أن تصلِّي على محمد وعلى آل محمد, لأنّ كلًّا منهما نبيّك وخليلك. والكاف كثيرًا ما تجيء للتعليل، ولا سيَّما مع (ما) كما حقّقه ابن هشام في "المغني" (¬1)، فراجعْه إن أردت. ومنه في القرآن قوله تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ (¬2) كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110]. ومثال هذا قولك للملك: كما ولَّيتَ فلانًا فولَّني، وكما أنعمت عليه فأَنعِمْ عليّ؛ فإن علّة التولية والإنعام، وهي الاستحقاق الموجود فيه، موجود فيَّ أيضًا. وإن كانت تشبيهية، وهو المشهور، فيحتمل أن يكون المراد التشبيه في مُطلق الصلاة، لا في صفتها ومقدارها، مثل قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا} [المزمل: 15]. وقوله عزَّ وجلَّ: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163]. وفائدة هذا التشبيه ذكر نظير يعتبر به. ومنه قولك للمَلِك: أنفِق الأموال كما كان أبوك يُنفقها. وتقول للحاكم: لا ترتشِ كما كان فلان يرتش. ¬

_ (¬1) (1/ 192). (¬2) في الأصل: (وأهوائهم) سهو.

قال سعيد بن المسيب لغلامه: لا تكذب عليَّ كما يكذب عكرمة على ابن عباس (¬1). ويحتمل أن يكون التشبيه في المقدار. ولا يلزم منه أفضلية ولا مساواة. فلو أنّ ملكًا أمرك أن تسأله حاجة، فقلتَ له: أعطني كما أعطيت فلانًا؛ لم يلزم من هذا أنّك تعتقد مساواته لك، وإنّما أردت بيان المقدار. على أنّه لو فرض إشعار ذلك بالمساواة، فلا بدع؛ فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "نحن أحقُّ بالشكّ من إبراهيم" (¬2). وقال له رجل: يا خير البرية. فقال: "ذاك إبراهيم" (¬3). إلى غير ذلك مما بينّاه في مبحث التفضيل بين الأنبياء عليهم وآلهم الصلاة والسلام (¬4). وأبلغ من هذا: تأدب النبي - صلى الله عليه وسلم - حين أراد أن يربط الشيطان الذي تفلَّت عليه في الصلاة حتى يراه الناس، ثم ذكر دعوة أخيه سليمان: رب {هَبْ لِي (¬5) مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص: 35]، فترك ذلك تأدبًا مع سليمان - عليه السلام -, مع أنّ ربط الشيطان إنّما هو شيء يسير من ملك سليمان، لا يلزم منه مخالفة لدعوته، كما هو ظاهر، ولكنّه - صلى الله عليه وسلم - رأى أنّ مثل هذا ربما يكون فيه إيهام لذلك (¬6). ¬

_ (¬1) انظر "العلل": (2/ 71) للإمام أحمد، و"الثقات": (5/ 230) لابن حبان. (¬2) أخرجه البخاري (4537)، ومسلم (151) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) أخرجه مسلم (2369) من حديث أنسٍ رضي الله عنه. (¬4) انظر التعليق على (ص 402). (¬5) في الأصل: "آتني"، سهو. (¬6) وانظر في الكلام على هذه الآية ما سبق في الفوائد التفسيرية (ص 59 - 62).

وقد بينّا في مبحث التفضيل بين الأنبياء أنّه يجب على الأمة التأدب بأدبه - صلى الله عليه وسلم - في حقّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. فإذا تأدب - صلى الله عليه وسلم - في حق أحد من الأنبياء لزم الأمة أن لا تخل بذلك التأدّب. كما لو أنّ عالمًا تأدب مع عالم آخر، فلم يقل: إنّه أعلم منه = لزم أولاده وتلامذته أن يتأدبوا مع ذلك العالم، فلا يقولوا: إنّ أباهم أو شيخهم أعلم منه؛ لأنَّ فعلهم منسوب إليه. فأمّا ما ذكره السنْدي: أنّ وجه الشبه هو كون صلاة كلٍّ أفضلَ من صلاة من تقدم؛ فلا يخفى تكلُّفه وخروجه عن الظاهر. والناس لا يفهمون من قولك للملك: (أعطني كما أعطيت فلانًا) إلا أحد الأوجه التي قدّمناها. فأمّا أن يُفهم منه أنّك أردت التشبيه بعطاء ذلك الرجل من حيث أن عطيَّته كانت أكثر ممن تقدمه، فيلزم من ذلك أن يكون مطلوبك أكثر من عطية ذلك الرجل = فلا. وإذا أردت منهم أن يفهموا هذا فقد كلّفتهم الغلط في الفهم! وهذا من الله عزَّ وجلَّ ورسوله - صلى الله عليه وسلم - محال. فلا يكون من الله عزَّ وجلَّ أن يكلم العباد بكلامٍ مكلِّفًا لهم أن يفهموه على خلاف ظاهره. وهكذا كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وأمّا ما وقع في الكتاب والسنة من المجاز ونحوه فإنّه تُنصب معه قرينة تدلّ على المراد دلالةً بيِّنة. وإذا قالوا فيه: خلاف الظاهر؛ فإنّما المراد أنّه خلاف الظاهر لولا تلك القرينة. فأمّا ما ذكره السنْدي من عنديَّاته بقوله: "وقد يجاب بأن التشبيه باشتراك الآل"؛ فكلامٌ يُستحيى من ذكره!

[تعليق الشيخ على كلام الفراهي في كتابه "الرأي الصحيح في من هو الذبيح"]

أوّلاً: لِما بيّنا في معنى الآية أنها لا تفيد دوام الصلاة من الله عزَّ وجلَّ واستمرارها، بحيث تستحيل الزيادة. وثانيًا: لأنَّ الله عزَّ وجلَّ أمرنا فيها أن نصلِّي عليه - صلى الله عليه وسلم -، ولم يذكر آله. وثالثًا: لو كان الأمر كما ذكر لكان ينبغي أن يُقال: اللهم صل على آل محمد كما صليت على آل إبراهيم. وتُترك الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنّها كتحصيل الحاصل على زعمه مع ما فيها من الإيهام. ورابعًا: أنّ الآل من أول الداخلين في قوله عزَّ وجلَّ: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ} [الأحزاب: 43]. و {يُصَلِّي} صيغة مضارع، وحينئذ فتكون الصلاة عليهم أيضًا في زعم السنْدي تحصيلَ حاصلٍ، أو "كتحصيل الحاصل" كما عبّر هو، أعني بكاف المغالطة! والحاصل أنّ هذا القول من السنْدي - رحمه الله - غفلة محضة. والله أعلم (¬1). **** [تعليق الشيخ على كلام الفراهي في كتابه "الرأي الصحيح في مَن هو الذبيح"] استدلّ العلَّامة الفراهي في كتابه "الرأي الصحيح في مَن هو الذبيح" (¬2) على أن الذبيح إسماعيلُ بما في التوراة الموجودة أن الذبح كان عند تَلَّ "مورة"، وفي موضع آخر ما يدل أن "مورة" في أرض المديانيين. وفي ¬

_ (¬1) مجموع [4719]. (¬2) (ص 60).

"التكوين" إصحاح 37 جملة 25 وما بعدها: "ثم جلسوا ليأكلوا طعامًا، وإذا قافلة إسماعيليين .... فقال يهوذا: تعالوا: فنبيعه إلى الإسماعيليين ... واجتاز رجال مديانيون تجار، فسحبوا يوسف وأصعدوه من البئر، وباعوا يوسف للإسماعيليين" اهـ. ففهم الفراهي أن ضمير "سحبوا" لإخوة يوسف، والمديانيون هم الإسماعيليون، ولكن في هذا نظر ظاهر؛ إذ لو كان المراد بالمديانيين نفس الإسماعيليين لقيل: "واجتاز المديانيون" أو نحو ذلك لتقدُّمِ ذكرهم. وأوضح من هذا أن في هذا السياق: "ورجع راوبين إلى البئر، وإذا يوسف ليس في البئر، فمزّق ثيابه ثم رجع إلى إخوته وقال: الولد ليس موجودًا". وراوبين أحد الإخوة. فظهر مما ذُكر أن الإخوة عَزَموا على أن يُصعدوا يوسف ويبيعوه في الإسماعيليين، ولكن سبقهم المديانيون، فأصعدوا يوسف وباعوه في الإسماعيليين. ثمَّ رأيت عجبًا، وهو أن بعد ذلك في السياق: "وأما المديانيون فباعوه في مصر لفوطيفار خصيّ فرعون رئيس الشُرَط". فهذا يؤيد ما قال الفراهي. وعلى كل حال، فالكلام غير منتظم. وفي أول الإصحاح 39: "وأما يوسف فأُنزل إلى مصر، واشتراه فوطيفار خصيّ فرعون رئيس الشُرَط رجل مصري من يد الإسماعيليين الذين أنزلوه إلى هناك".

[تقييد وفاة يحيى الهمداني]

وفي إصحاح 45: "فقال: أنا يوسف أخوكم الذي بعتموه إلى مصر والآن لا تتأسفوا ولا تغتاظوا لأنكم بعتموني إلى هنا" (¬1). **** [تقييد وفاة يحيى الهمداني] توفي يحيى بن يحيى الهمداني صباح يوم الأحد لخمس خلون من ذي القعدة سنة 1369 هـ, الموافق عشرين أكَست سنة 1950 م (¬2). **** [معاناة الشيخ مع بعض المصححين بدائرة المعارف] * في حديث أبي بصرة الغفاري: "فلم يجاوز البيوت حتى دعا بالسُّفْرة، قال: اقتربْ". رسم في نسخة "دعى"، فقلتُ: أَصلحْه بالألف، فقال: الألف غلط، فبينت له أن القاعدة في مثله: إذا كان أصل الألف واوًا أن تكتب ألفًا، وإن كان أصله ياءً كتب ياءً. وأصله هنا واو (¬3)، لقولهم: يدعو، ودعوة، وغير ذلك. فقال: قد تُقلب الواو ياءً مثل (رضي). فقلت: نعم، وأزيدك أنه يجيء مثل ذلك في كلمتنا (دعا) إذا بنيت ¬

_ (¬1) مجموع [4720]. (¬2) مجموع [4721]. (¬3) في الأصل: "واوًا"

للمجهول، مثل: (دعي)، ولكن هذا خارج عن البحث. فالقاعدة تقول: إن الثلاثي الذي آخره لين، إن كانت ألفه منقلبة ... إلخ. فاستحمق وكتبها بالألف، لا موافقةً ولكن حسمًا للنزاع. * باب الركنين اللذين يليان الحجر: عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ألم تَري أن قومك ... ". قلت: "تري" فأنكر، وقال: إنما هو "ترى"، وأخذ يستدل لذلك، مع اعترافه أنه خطابٌ لأنثى. فذكرت له قوله تعالى: {فإما تَرَينّ}، فأخذ يفرِّق بينهما. * باب الدليل على أنه (الرَّمَل) بقي هيئة: أن عمر ... وقال: "ما لنا وللرَّمَل؟ إنما راءينا به المشركين، وقد أهلكهم الله". قال: إنما هو "رأينا" بوزن فعلنا؛ لأنه معدَّى بالباء ... إلخ. حتى أطلعتُه على "النهاية" وفيها وزنه بكلمة: فاعلْنا. * باب الرجل يحرم بالحج عن نفسه تطوعًا ولم يكن حج حجة الإسلام. سقط في نسخةٍ قوله: عن (¬1) نفسه. فزعم أن سقوطه هو الصواب! (¬2). **** ¬

_ (¬1) في الأصل: "في"، سبق قلم. (¬2) مجموع [4726].

* "غير أن لا تطوفي بالبيت حتَّى تطهرين" (¬1). ["لا"]: قال هي ناهية ولذلك حُذف النون! ["تطهرين"]: قال هذا الصواب لأن "حتَّى" وإن كانت تنصب، فلا يُحذف معها النون بخلاف "لن" في نحو: "لن تطهري"، فإنها تنصب وتحذف النون! ولمَّا رأى في "الصحيح" بحذف النون، قال: لعلَّه معطوف على "تطوفي"! * 743 - "ونحن نغسل ابنته". وقع في نسخة: "نغتسل". وصوبه الأخ! 744 - ما قوله "أشعرنها أَتُؤْزَرُ به"؟ وقع في النسخ: "اتَّزِرْن به". وصوَّبه. 443 - "كان ابن سيرين يأمر بالمرأة أن تُشعَرَ لفافةً ولا تُؤزَر". وقع في موضع في بعض النسخ: "يأمر المرأة". وصوَّبه. باب المُرْتَثَّ: "وكان اسمُ الأكوعِ سنان". وقع في نسخة: "سنانًا". وغلَّطه الأخ، محتجًّا بأن سنان علم! 768 - "بجوانب السرير الأربعة". أنكرها، وذكر أن هذا لا يصح، وأنه يجب أن يقال: بجوانب الأربعة للسرير. كذا قال! ¬

_ (¬1) في المطبوع (5/ 3) على الصواب بحذف النون من "تطهرين".

773 - "مر عليه بجنازة وهي (¬1) يُسرع بها، وهي تُمْخَض مَخْض الزَّق". وقع في نسخة: تَمَخُّضَ الزق. وصوَّبها الأخ وغلَّط الأخرى، قائلاً: إن تمخض، إنما يكون مصدره: التمخُّض. كذا قال! ص 812 - "قرأ بأم القرآن حتى أسمع من خلفه". وقع في بعض النسخ: "حتى سمع". وقال الأخ: إنها الصواب؛ لأن قوله: "قرأ" فعل ماض، و"سمع" ماض فيتفقان، بخلاف "أسمع" فإنه مضارع! 832 - "فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأل عنها من حضره من جيرانها". وقع في نسخة: "حضرها"، فقال: إنها الصواب، وإن الأخرى غلط! 838 - "العلاء [هذا هو] ابن زيد. ويقال: ابن زيدل، يحدِّث عن أنس بن مالك بمناكير". في نسخة: "العلاء بن زيد. ويقال: ابن زيد". فصوَّبها وغلَّط الأولى! 454 - في حديث عائشة: " ... فقلت: أَرغم الله أنفَك، لَم تفعل ما أمرك به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم تترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من العناء". وقع في نسخة: "يترك" بالمثناة من تحت. وصوَّبها حتى قال: النسخ الأخرى غلط، ولا معنى لما فيها! ¬

_ (¬1) في الأصل: "وهو"، سبق قلم.

[وصف نسخة من "سنن البيهقي" بخط مؤلفه]

ولم أستطع إقناعه إلا بإراءته الصحيحين، وكلام شراحهما في الحديث. * "فإذا وجب فلا تبكيَنَّ باكية". وقع في نسخة: "يبكين" بالمثناة من تحت. فصوَّبها، قال: لأنه للجمع. فبينت له خطأ ذلك، فقال: لعله للواحدة، ولكن للغائبة، وإذا كان للغائبة فيقال بالياء لا بالتاء. فراجعته في ذلك، وكان فضلٌ حاضرًا. * في باب تحريم أواني الذهب: "فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم". وفي رواية أخرى: "فإنما يجرجر في بطنه نارًا من جهنم". فاستشكل الأخ قوله: "نارًا". وقال: إنما هو "نارٌ" بالضم، بدليل ما تقدم في الرواية الأولى ففهمته ....... (¬1) (¬2). **** [وصف نسخة من "سنن البيهقي" بخط مؤلفه] فهرست الكتبخانه الخديوية سنة 1310. (ج 1/ ص 351 - 354). تجد عنوان "سنن البيهقي". مجلد من نسخة أخرى يشمل على عدة أجزاء، أولها الجزء التاسع والثمانون بعد المائة من تجزئة المؤلف. وأول ما فيه: "باب لا يقضي القاضي وهو غضبان". ¬

_ (¬1) كلمة غير محررة رسمها: "والعياذ". (¬2) مجموع [4727].

[وصف نسخة خطية من "الرد على المنطقيين"]

وينتهي المجلد المذكور إلى آخر الكتاب. وهو بخط المؤلف. مكتوب عليه في مواضع عديدة بخط بعض أفاضل العلماء ما يفيد سماعه على مؤلفه في سنين مختلفة، بعضها في سنة 442، وبعضها في سنة 445، وسنة 447، وغير ذلك. أوراقه 392. نس. ج 1 ن خ 267 ن ع 589 (¬1). **** [وصف نسخة خطية من "الرد على المنطقيين" (¬2)] الحمد لله. تصفَّحت النسخة المحفوظة بالمكتبة الآصفية من كتاب "الرد على المنطقيين" فوجدتها نسخة صحيحة، قرئ فيها على المؤلف، وكتب عليها بخطه بعض تصحيحات. والكتاب في نفسه كتاب ممتع، كسائر مؤلفات ابن تيمية الجامعة بين المعقول والمنقول. وهو مرتب على مقامات وفصول. وبهامش النسخة عناوين للمباحث الفرعية. فالكتاب حري بالطبع، والنسخة صالحة لأن يكون الطبع عنها. ¬

_ (¬1) مجموع [4718]. (¬2) طبع الكتاب سنة 1368 هـ بتحقيق الشيخ عبد الصمد شرف الدين عن الدار القيمة.

[تحضيض الشيخ أركان دائرة المعارف أن يعلموا أبناءهم العربية]

ولأركان المجلس حسن النظر وفقهم الله تعالى. 3 شعبان 1347 كتبه: عبد الرحمن بن يحيى اليماني (¬1). **** [تحضيض الشيخ أركان دائرة المعارف أن يعلِّموا أبناءهم العربية] ومما ينبغي توجيه النظر إليه أن يلتزم حضرات الأركان وغيرهم من العارفين باللسان العربي أن يلقَّنوا أولادهم وإخوانهم في بيوتهم العربية، ويحرصوا على جعل محاورتهم بها. ومن كان له ولد أو أخ وأخذ حظًّا من ذلك، فليُحضره إلى النَّديَّ في بعض جلساته إن شاء الله تعالى، ليُلقي فيه خطابًا بالعربية، فيكون ذلك أدعى للرغبة والنشاط. وكذا أساتذة المدارس، إذا كان في المدرسة تلميذ قد تمرن على المحاورة والخطابة= يُحضَر إلى النَّدِيَّ في بعض جلساته، ويلقي خطابه. وحبذا لو تيسَّر أن يُنعم على ذلك التلميذ بكتاب أو قلم أو نحوه (¬2). **** ¬

_ (¬1) مجموع [4727]. (¬2) مجموع [4727].

[قواعد في صيغ الجمع باللغة الأوردية]

[قواعد في صيغ الجمع باللغة الأوردية] الجمع 1 - إذا كان الجمع منادى جُمِع بالواو مطلقًا. 2 - وإلَّا فإن كان معه أحد هذه الحروف: (مهى، سى، كو، تك، تلك، بر، نى، والا، كما، كي، 4) جُمِع بالواو والنون. 3 - وإلَّا فالمذكر إذا كان آخره ألف أو هاء (هـ) جُمِع بإبدال الألف أو الهاء بياء مُهوَّاة. 4 - وإلَّا فلا يُجمع، وإنما يُدَلّ على الجمع بالفعل. 5 - والمؤنث: إن كان آخره ياءً جُمِع بزيادة ألف ونون. 6 - وإلَّا فبزيادة ياء ونون (¬1). **** [تعليقات على مواضع من "ألف باء" للبلوي] * [حول الصلاة الإبراهيمية] "ألف باء" (ج 2/ ص 453) "وكذلك امتثل - صلى الله عليه وسلم - أمرَ ربه في الصلاة عليه، وذكر الآل كما ذكر "البيت" في الآية، وقال: "إنك حميد مجيد" كما في الآية، مع ما في هاتين اللفظتين من خفيّ الإلطاف في السؤال. وسؤال (؟) (¬2) الأدب مع أبيه ¬

_ (¬1) مجموع [4729]. (¬2) إشارة من الشيخ إلى استشكال كلمة "وسؤال". ولعل صواب تلك الكلمة: "وسلوك".

إبراهيم، لم يطلب زيادة عليه تصريحًا، لكن أومأ إليه بذكر هاتين اللفظتين؛ لأن المجد في اللغة الزيادة والكثرة، تقول العرب: في كلَّ شجرة نار واستمجد المرخ والعفار". أقول: لا أرى هذا جيّدًا؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكرم من أن يدع أمرًا تأدُّبًا ثم يرجع فيه. وما أشبه هذا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين" (¬1). نعم، قد يقال: ليس طلب الزيادة بمخلًّ بالأدب في نفس الأمر بالنسبة إلى مقام الأنبياء عليهم السلام، فقد نزَّههم الله عزَّ وجلَّ عن الحسد، فلا يتأذّى أحدهم بطلب غيره زيادةً عليه، ولا سيّما بعد الموت والخروج من الدنيا، فإن نفوس أفراد المؤمنين تتطهَّر من مثل هذا، فضلاً عن الأنبياء عليهم السلام، ولا سيّما خليل الرحمن مع ولده محمد - صلى الله عليه وسلم -. ولكن خشي محمد - صلى الله عليه وسلم - من التصريح بطلب الزيادة أن يفهم بعضُ الناس من ذلك نقصًا في رتبة إبراهيم عليه الصلاة والسلام. فَترَكَ التصريح بذلك، وأشار إليه، على ما هو المشروع للإنسان من علوّ الهمة، وأن يوسع رغبته في فضل الله تعالى بقدر الإمكان. وقد قيل: القناعةُ من الله حرمان. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (2683، 4359)، والنسائي (4067)، والحاكم (3/ 45) من حديث سعد بن أبي وقاص. وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، لكن في إسناده أحمد بن المفضل القرشي، لم يخرج له مسلم، وهو صدوق في حفظه شيء، وصححه ابن الملقن، وقال الحافظ ابن حجر: "إسناده صالح". انظر "البدر المنير": (7/ 449 - 450).

ومع هذا، فالبحث مبنيٌّ على أن التشبيه في قوله: "كما صليت على إبراهيم" يتناول القدر والصفة. وقد بينت في بحث آخر (¬1) أن المراد - والله أعلم - التشبيه في مجرد الصلاة، كما تقول للمَلِك: أعطني كما أعطيت فلانًا. تريد: ليكن منك عطاءٌ لي كما كان منك عطاءٌ لفلان. لا تريد: ليكن منك عطاءٌ لي كالعطاء الذي كان منك لفلان. يعني في قدره وصفته. فتأمَّل. * [طَعم ماء زمزم] "ألف باء" (ج 2/ ص 462 - 463) "وأما طعم الماء (زمزم) ساعةَ يخرج من البئر، فيخيَّل إليك أنه ماءٌ شِيبَ بلبنٍ حار رطبٍ، لبنٍ ليس فيه مرارة. فإذا بَرَد ربَّما وجدت فيه قليل مرارة". يقول كاتبه: كذا وجدتُه أنا. كنتُ إذا شربتُ من زمزم عند البئر أجد له طعم اللبن، وإذا شربت منه خارجًا عن ذلك المكان لا أجد ذلك، بل أجد فيه ملوحةً ما. وكان خطر لي أن المدار على المكان، وأتأوَّل ذلك على أن السرَّ في عدم نقل الماء عن محلّه. وأقول: لعلَّ البركة مثل ذلك، أي أنها مختصة بمن شربه عند البئر كما فعل - صلى الله عليه وسلم -، فإذا نُقِل قلَّتْ بركته. ثم رأيتُ ما ذكره صاحب ¬

_ (¬1) انظر (ص 401 - 407) في التعليق على كلام السندي.

"ألف باء". فالله أعلم. * [معنى حديث "صوموا الشهر وسِرَّه"] (ج 2 ص 474): "وتسمَّي العرب الهلال شهرًا، قال الشاعر: ابدأْنَ من نجدٍ على ثقةٍ ... والشهر مثل قلامةِ الظفر ... ذكر هذا الخطابي (¬1) - رحمه الله - في تفسير قوله عليه الصلاة والسلام: "صوموا الشهر وسِرَّه" (¬2)، أي: مستهلَّ الشهر. وقال: العرب تسمَّي الهلال شهرًا". اهـ. أقول: فيه بُعد. وقد حمل ابن حزمٍ الشهر على رمضان. يعني وعطفُ سِرَّه عليه مِن عطف الخاص على العام. وفي هذا ضعف؛ فإن عطف الخاص على العام إنما يحسن لنكتة. وحَمَله غيرُه على شعبان، وهو أقرب؛ لأنه جاء في حديث آخر الإرشاد إلى صوم سَرر شعبان. ونكتةُ العطف فيه: أن السَّرر - على رأي الأكثر - هو الأخير، وقد جاء النهي عن صوم آخر شعبان مطلقًا. فكأنَّ حديث "صوموا الشهر وسره" كان بعد النهي المتقدم. ¬

_ (¬1) في "معالم السنن": (2/ 747 بحاشية سنن أبي داود). (¬2) أخرجه أبو داود (2329)، والطبراني في "الكبير" (19/ 384)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (4/ 210) من حديث معاوية وفي إسناده المغيرة بن فروة فيه جهالة. انظر "ضعيف أبي داود - الأم" للألباني (2/ 258).

فلو قال: "صوموا الشهر" وسكت، لجَمعَ العلماء بين الحديثين بالعموم والخصوص، وأبقوا النهي المتقدم على حكمه؛ فزاد قوله: "وسره" نصًّا على نسخ النهي المتقدم. أو يقال - وهو أولى -: قد كان سبق النهي عن صوم يوم الشك، وكان يحتمل أن يفهم بعض الناس من النهي الإطلاقَ ويخصِّص به عموم "صوموا الشهر"، فزاد قوله "وسِرَّه" لينبَّه على أن النهي عن صوم يوم الشك مقيَّدٌ بما إذا لم يوافق صيامًا آخر كان يصومه الرجل، كما إذا كان يصوم شعبان كلَّه. والله أعلم. هذا كلُّه بناءً على صحة الحديث، وفيه مقال. والله أعلم. * [شرح بيت لبشَّار بن برد] "ألف باء" (ج 2/ ص 567): "بشار: وإذا قلتُ لها جودي لنا ... خرجَتْ بالصمت عن لا ونعمْ قال مروان بن أبي حفصة: قلت لبشار - وقد أنشدني هذا الشعر -: هلَّا قلت: * خرست بالصمت عن لا ونعم * فقال: لو كنتُ في عقلك لقُلْتهُ، أتطيَّر على من أحبُّ بالخَرسَ؟! ". يقول كاتبه: وفي قوله: "خرجت" لطيفة أخرى أدقُّ من التي ذكرها. وهي أن في قوله "خرجت" إشارة إلى غرابةٍ في ما ذكره. وذلك أن

الجواب بِـ (لا) والجواب بِـ (نعم) ضدان، ومن شأن الضدين أن لا يجتمعا، ويمكن ارتفاعهما, ولكنهما كثيرًا ما يشتبهان بالنقيضين اللذين لا يجتمعان ولا يرتفعان. وهذا من ذاك؛ فإن المتبادر إلى الأذهان أن المسؤول إما أن يمنع وإمّا أن يسمح. وعلى هذا جرت عادة الشعراء في بيان حال من يسألونه، إما أن يقولوا "سَمحَ" وإما أن يقولوا "مَنَع"، سواء كان ذلك في العطاء أو الوصل. وكونُ المسؤول يسكت حالٌ بعيدةٌ عن الأذهان - كأنه - لأن الغالب عدمُها. فلو قال: "خرست بالصمت عن لا ونعم" ربّما لا تُفهم تلك الغريبة. فلما قال: "خرجت" كانت ظاهرة، كأنه يقول: خرجت من مضيقٍ يُظَنُّ أنه لا يمكن الخروج منه. فتأمّل. ويزيدُ ما ذكرتُ غرابةً أن "لا" و"نعم" كناية عن المنع والمنح، وأصلُ المنع والمنح نقيضان - إذا عددنا السكوت منعًا - فحينئذ لا يمكن خروج المسؤول عن "لا" و"نعم" بمعنى المنع والمنح؛ لأنه إما أن يسمح وذلك قول "نعم"، وإما أن يمنع صراحة أو باعتلالٍ وسكوت أو غيره، وذلك قول "لا"، فجَعَل بشار "لا" كناية عن الإنكار، و"نعم" عن الوعد بالجُود. وهذان يمكن ارتفاعهما. ولكن لما كانت العادة جَعْلَ "لا" و"نعم" كناية عن المنع والمنح - مع عدِّ السكوت منعًا كما تقدم - نشأت الغرابة. والله أعلم (¬1). ¬

_ (¬1) مجموع [4729].

[تعليق على مواضع من "طبقات ابن سعد"]

[تعليق على مواضع من "طبقات ابن سعد"] * ([ج 4] ص 95) "أخبرنا عفان بن مسلم: ثنا حماد بن سلمة: أخبرنا علي بن زيد، قلتُ لسعيد بن المسيب: يزعم قومك أن ما منعك من الحج أنك جعلتَ لله عليك إذا رأيت الكعبة أن تدعو الله على ابن مروان. قال: ما فعلتُ، وما أصلي صلاة إلا دعوتُ الله عليهم، وإني قد حججت واعتمرت بضعًا وعشرين سنة، وإنما كتبت عليَّ حجة واحدة وعمرة، وإني أرى ناسًا من قومك يستدينون فيحجون ويعتمرون، ثم يموتون ولا يُقضى عنهم، ولجمعةٌ أحب إلى من حج أو عمرة تطوعًا. فأخبرت بذلك الحسن فقال: ما قال شيئًا! لو كان كما قال ما حج أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا اعتمروا". أقول: لم يُرِد سعيد - والله أعلم - أن الجمعة أفضل من الحج والعمرة تطوُّعًا مطلقًا، بل من الحجَّ والعمرة اللَّذين يُستدان لهما، كما يدلُّ عليه السياق. كاتبه. * ([ج 8] ص 25) " ... عن أسماء بنت عميس قالت: أنا غسلت أم كلثوم بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[وصفية بنت عبد المطلب]، وجعلت عليها نعشا، أمرت بجرائد رطبة فواريتها". إن صحَّ هذا، دلَّ على أن النعش الذي جعلتْه أسماء لفاطمة - عليها السلام - كان ممَّا أقرَّه النبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته (¬1). ¬

_ (¬1) مجموع [4730].

[نظم في زكاة الحيوان]

[نظم في زكاة الحيوان] (¬1) في الهاءِ (¬2) من إبِلٍ والميم (¬3) من غَنَمٍ (¬4) شاةٌ (¬5) وثنتان (¬6) في عَشْيرٍ (¬7) وفي أَكقِ (¬8) ثم الثَّلاث (¬9) لِهِيٍّ (¬10) مَعْ أَرٍ (¬11) جُعِلتْ وأربعٌ (¬12) يَكُ (¬13) ثم التَّاءُ (¬14) فاعتنقِ ¬

_ (¬1) الهوامش على النظم من وضع المؤلف، وذكر فيها الأعداد التي نظمها بحساب الجمَّل. (¬2) (5). (¬3) (40). (¬4) ضأن أو معزى. (¬5) جذعة ضأن لها سنة، أوثنية معز لها سنتان. (¬6) شاتان. (¬7) من الإبل. (¬8) (121) من الغنم. (¬9) (3) شِيَاه. (¬10) (15) من الإبل. (¬11) (201) من الغنم. (¬12) شياه. (¬13) (30) من الإبل (¬14) (400) من الغنم.

وبعد ذا غَنَمٌ في كلِّ مَا مائةٍ شاةٌ فَحقِّقهُ يا مَنْ رَامَ واعْتَلقِ والإبْل في هَكًّ (¬1) بِنْتُ المخاضِ فَوَلْ (¬2) بنتُ اللَّبونِ (¬3) وفي وَمْ (¬4) فَرْدةُ الحِقَقِ (¬5) وأَسُّ (¬6) قُل جَذعةً (¬7) بِنْتا اللَّبون لِوَعْ (¬8) وحِقَّتانِ لأَصٍّ (¬9) فادْرِ وانْتَشقِ ثلاثُ بنتِ لبونٍ في كَقَا (¬10) فَخُذَنْ فردًا (¬11) لميمٍ (¬12) فنونٍ (¬13) واحدُ الحِقَقِ (¬14) ¬

_ (¬1) (25). (¬2) (36). (¬3) لها سنتان. (¬4) (46). (¬5) حِقّةٌ لها ثلاث سنين. (¬6) (61). (¬7) لها أربع سنين. (¬8) (76). (¬9) (91). (¬10) (121). (¬11) بنت لبونٍ. (¬12) لكلَّ (40). (¬13) لكل (50). المؤلف (¬14) حِقَّة.

واللَّامُ (¬1) مِن بقَرٍ فيها التَّبيعُ وفي ميمٍ (¬2) مُسِنَّتُها وهكذا فَثِقِ تمت عبد الرحمن المعلمي ¬

_ (¬1) (30). (¬2) (40).

[نظم في أصوات الحيوانات]

[نظم في أصوات الحيوانات] قد صهل الخيل وحمحم الفرسْ ... ونهق العير ويشحَج عدس لنا نُبابُ الجديِ والشاة الثُّغا ... وجرجرَ البعيرُ جَمَلٌ رَغَا وخار عِجلٌ والنياق تهدِرُ ... ونهمَ الفيلُ وليث يزأرُ ضبْحٌ لثعلبٍ عُواءُ الذِّئبِ ... قبْعٌ لخنزيرٍ نباحُ الكلب كشكشة الأفعى فحيحُ الحيةِ ... نقيق ضفدع ضُغاء الهرَّة وبَغَمَ الظبيُ وحَفَّ الجُعَل ... وللظليم فالزَّميرَ جعلوا والفهد صاءَ وابن آوى وَعْوَعَا ... وصرصر البازي وديكٌ صَقَعا ونعب الغراب لمَّا نعقا ... وفي العصافير يقال زَقْزقا ونمنم الفار حمام قد هدر ... ونقَضَ العقابُ قُبَّرٌ صَفَر مغرَّدًا وناغمًا وصادحًا ... وساجعًا وقد يقال: نائحًا والنسر خرَّ والدجاج نقَقَا ... ونبَّ تيس ... (¬1) دَفَقا وخرَمَ الماء وهبَّت الرياحْ ... وزخر البحر وقعقع السلاحْ (¬2) ... ¬

_ (¬1) كلمتان لم أتبيَّنهما. (¬2) بعده بيت لم يظهر لانثناء في الورقة. مجموع [4708].

[من قريض الشيخ]

[من قريض الشيخ] للحقير: زارت وقد جنَّ الظلام وغابت الـ ... ـواشون فابتسمت ليَ الأفراحُ سَفَرت فلم تأْلُ الفَرَاش تهافتا ... يحسبن أن جَبِينَها مصباح فَشَكت إليَّ فقلت صبرًا إنها ... لَقلوبُ من يهواك والأرواح ... للحقير: حِرْتُ في حبِّك (¬1) يا نور عيني ... رُبَّما يَصْلُدُ فكر الحكيم أنعيمٌ كامن في عذاب ... أم عذابٌ كامن في نعيم إنَّه جرَّعَنِي كلَّ ذلّ ... وهوان وبلاءٍ عظيم **** للحقير: خيرُ بني زمانِنا ... وإنْ بدى مُشاهدا سرابُ قاعٍ كلَّما ... نَحَوْتَه تَباعَدا (¬2) **** يا راميًا بالبندقيْـ ... ـيَة وهو بالألحاظ أرمى ¬

_ (¬1) الرسم يحتمل: "حسنك". (¬2) المقطوعات الثلاث من مجموع [4657].

تُنمي يداه وإنما ... ما يُرمَ بالعينين أصمى **** ألا قاتل الله المروءة إنها ... لأجنى على نفس الطريق من الدهر إذا طمحت عيناه قالت له اتئد ... فأنت الفتى يخشى القبيح من الذِكر (¬1) **** "أسرار البلاغة" (ص 109). [قال] ابن نُباتة: قد سَمِعْنا بالعِزِّ من آلِ ساسا ... نَ ويُونانَ في العُصور الخواليِ والملوكِ الأُلىَ إذا ضاع ذِكْرٌ ... وُجِدُوا في سوائر الأمثالِ مَكْرُماتٌ إذا البليغُ تعاطَى ... وَصْفَها لم يجدْهُ في الأقوال وإذا نحن لم نُضِفْه إلى مد ... حِكَ كانت نهايةً في الكمال إن جمعنَاهُمَا أضرَّ بها الجمـ ... ـعُ وضاعت فيه ضَياعَ المُحال فهو كالشمس بُعْدُها يملأ البَدْ ... روفي قُرْبها مُحاقُ الهلالِ [قال الشيخ]: قد كنت قلت في هذا المعنى قبل أن أقف على هذه الأبيات: إذا عالم منكم دنا بان نقصُه ... كذلك نقص البدر إن قارب الشمسا (¬2) **** ¬

_ (¬1) المقطوعتان من مجموع [4729]. (¬2) مجموع [4716].

الحمد لله. في الله ثم المجد يقدس هاشم .... أسباب حتفهم تُقًى ومكارم ......... (¬1) بهم شرف لهم ... في الدين والدنيا وفخر دائم جادوا إلى بذل النفوس فكلهم ... كعب بن مامة والمبخَّل حاتم وحموا إلى أن غالبوا عن جارهم ... طغيان أخضر موجه متلاطم ...... (¬2) أحمد والرزايا مألف ... لكم فهل هي شيعة بهواكم ماذا يقول لكم وأنتم معدن ... للصبر والتأساء من عزَّاكم (¬3) **** إذا أَلِف المرء المشقة جاهلاً ... سواها فزالت عنه حنَّ كعادته ولكن سريعًا ما يقر قراره ... كذاك بكاء الطفل عند ولادته **** ولو نطق المولود قال مبادرًا ... إذا سِيلَ ما يُبكيه ساعة يوضع وُكِلتُ إليكم بعد أن كان خالقي ... كفيلي ومهما تحفظوا فمضيَّع (¬4) **** وضَعَ الإبهام بين الإصبعين ... مُعْرِضًا لمَّا رأى حِدّة عيني لم يُفدْ ذاك فأبدى ذهبًا ... ففهمت النكتتين الحلوتَيْنِ **** ¬

_ (¬1) كلمتان مطموستان. (¬2) كلمة مطموسة. (¬3) مجموع [4716]. (¬4) المقطوعتان من مجموع [4718].

رشأٌ أمعنتُ لا عَنْ غرضٍ ... نظرًا فيه بنادي البَيعتينِ لم يُعِرني نظرةً لكنه ... وضع الإبهام بين الأصبعين نكتةٌ واضحةٌ لو أنها ... صادفت عندي فهمًا غير ذين ثم أبدى عابثًا كيسًا له ... فيه كُثْرٌ من بُنيّات اللُّجينِ فبدت لي عندها تهمته (¬1) ... وفهمت النكتتين الحلوتَيْنِ فرماني ظَرفُه بل خوفُه ... في الذي خاف ولكن لا لِشَيْنِ (¬2) **** لكاتبه: أفحمني من لم يكن عارفًا ... لو لم يكن من ساحلي غارفًا كالشمس منها نور بدر الدُّجى ... وربَّما يُلفى لها كاسفًا **** قالوا على البعداء أكثر جوده ... فأجبتهم لا غرو فيه ولا عجب فالشمس تحبو البدر بالأنوار إذ ... ينأى وينقص كلما منها اقترب **** كم من عداء في التدا ... ني كان ودًّا في التنائي كالشمس فصل القيظ تكـ ... ـره وهي تُعشق في الشتاء (¬3) **** ¬

_ (¬1) غير محررة في الأصل. (¬2) المقطوعتان من مجموع [4719]. (¬3) المقطوعات الثلاثة من مجموع [4719]

[وصف الباخرة]

في 4/ 4/ 1372 هـ. كيف يرجو الكريمُ إنصاف دنيا ... هُ وميزانُ عدلِها الميزانُ عدلُه أنّ فيه يرتفعُ الدّو ... نُ وينحطُّ ماله الرجحانُ (¬1) **** [وصف الباخرة] (¬2) طوينا العُباب على باخره ... تبيت لقاموسه ماخره بناء على الموج ما إنْ له ... أساسٌ سوى اللجّة الزاخره إذا ما تأملتها من قريبٍ ... تخال بها بلدة عامره وتحسبها جبل النار إن ... تعالت ............ الثائره .............. إن بدت ... بعيدًا كمدخنة زاهره تباري وما إن تبالي الرَّياح ... أعادلة هي أم جائره وليست تُرى لسكون الرّياح ... على الماء راكدة حائره يهيج الخضمّ ويرتج وَهْي ... به جدّ هازئة ساخره لها النار قوتٌ متى لم تجِدْهْ ... رأيت قواها له خائره يصرّفها رجلٌ واحدٌ ... فتنقاد خاضعةً صاغره يراعي النجومَ لها، والنُّجوم ... لديه - لعمرك - في دائره (¬3) **** ¬

_ (¬1) مجموع [4721]. (¬2) ما تركناه نقاطًا فلم نتبينه في الأصل. (¬3) مجموع [4726].

لكاتبه: هو كالجوِّ فكن راجِيَه ... خائفًا حال احتداد وسكونْ فلقد يضحك عن صاعقةٍ ... ولقد يعبس عن غيثٍ هَتُون (¬1) **** للحقير وأنا في قضاء الحُجَرية لمَّا بني مفتي القضاء أمين وقف الشيخ عمر الطيار دارَه في مركز القضاء المذكور، فلما أتمَّ طبقتها الثانية أوكر (¬2) على عادة الناس اليوم في الولائم من الذبح وتفريق اللحم ثم اجتماع الناس للسمر في بيت المولم. فحضرنا فحصل ازدحام مفرط، فارتجلتُ ولم أفُهْ بها، قلتُ: بنى المفتي أمين الوقف دارًا ... تفوق متانة القصر المشيد وأوكر داعيًا للناس ليلاً ... إليها ذي القرابة والبعيد وكنا في الذين دُعُوا فجِئْنا ... وأظْفرنا محلاًّ للقعود تزاحمْنا كما رُصِفت ورُصَّت ... نُزحزح كالوحوش لدى الورود فلو من تحتنا الأخشاب زالت ... ثبتنا في الهواء بلا عمود عسى الرحمن يمنحنا اكتفاءً ... بها الإعفاء عن ضمِّ اللحود (¬3) **** ¬

_ (¬1) مجموع [4729]. (¬2) أوكر: عَمِلَ وكيرةً، والوكيرة: طعام يعمل لفارغ البنيان - كما في القاموس -. (¬3) مجموع [4708].

جمعَ الشملُ بعد طول الشَّتات ... وصفا وِرْدُنا برغم الوُشاة هجرونا حتى إذا ما يئسنا ... أسعفونا بنظرةٍ والتفات وجفاء الهوى عسيرٌ وأيسر ... لسواه من سائر الحادثات زارني من أحب بعد ازورارٍ ... فاستحالتْ بقربه حالاتي ودنَا مُسعِدًا وباتَ نديمي ... فلنعم البياتُ كان بَياتي ولقد صُلْت بالعتاب عليه ... وتتبعتُ سائر التبِعات فأتاني بحجة تدفع اللو ... مَ, وعذرٍ مَحا جميع التَّراتِ **** رويدًا أمينَ الله فالحبُّ ذمَّة ... لمن حبَّ من محبوبه بأمان فلا تَجزِينْ أُمنيَّتي بمنيَّتي ... وبعض منايا العاشقين أماني فإنك إن تفعلْ تكنْ تلك بدعةً ... عليكَ إثْمُها ما أقبل الملَوان وحسبُك فتكًا بي عيونُك إنها ... ستكفيك بي عن حدَّ كلَّ يماني أعوذ بحسن الوجه منك من الردى ... فحسبيَ ما من مقلتيك أعاني سمعنا بموتٍ في الهوى غايةً، وما ... سمعنا بضربٍ في الهوى وطعانِ فإن كنتَ مِن شُحًّ بوَصْليَ باخلاً ... فدعْ ليَ روحي واتركنَّ وشاني **** ألا فَصَمتْ أواخيَها نوارُ ... وشَّط عن المشوق بها المزارُ وأَنْجَدَ أهلُها فهُمُ بنجدٍ ... وأهلي في تهامة قد أغاروا وعهدي بالنوار وقد أطلَّتْ ... تشيَّعُني إذا ارتفع النهارُ

وأدْمُعُها على الخدَّين تجري ... ودمعي في الخدود له انهمار لها من نرجِسٍ طَلٌّ لورد ... ولي عَنَم يُطِلُّ له بُهار على أنَّا اعتنقنا فافترقنا ... وفي الأحشاء نارٌ واسْتِعار فأضحى الحَبْل مجذومًا وعهدي ... بها والحبل مفتولٌ مُغارُ وكم من ليلة بتنا جميعًا (¬1) **** ألا إن بحري أجل البحار ... فلا أرتضي درًّا الَّا الدراري ومن كان جار إمام الهدى ... وجلوته للمزايا الكبارِ إمامَ الهدى يا زكيَّ الخلال ... ذكي الفروع زكي النِّجار عُبيدُك ذا قاصرٌ همَّه ... على الكتْب لا فضَّةٍ أو نُضارِ فإن تأذنوا فكدا شأنكم ... فما زال فضلكمُ في انهمارِ ... غَزالٌ تُزفُّ إلى خُنفساء ... رأتْ وجه آخرَ يحكي القمرْ فباتتْ وباتَ جميعُ النساء ... إلى وجهه شاخصاتِ البصرْ تَعَضُّ على كفِّها حسرةً ... تلوم الزمان وتشكو القدرْ **** شيئان أشهى من نكاح الخرَّد ... وألذُّ من شرب القَرَاح الأسود وأجلُّ من رُتب الملوك عليهمُ ... وَشْيُ الحرير مطرَّزًا بالعسجد ¬

_ (¬1) هنا توقف قلم الشيخ.

سُود الدفاتر أن أكون نديمَها ... أبَدَ الزمان وبردُ ظلَّ المسجد **** سأجعل فضل مالي في كتابي ... وأرضى بالرثاثة في ثيابي [وأعرف] (¬1) أن درسًا في كتاب ... ألذُّ من المطاعم والشراب ومِن لُبْس الحريرِ ووَشْيِ خَزًّ ... وأحسنُ من ملامسة الكِعاب (¬2) ... ¬

_ (¬1) خرم في الورقة، ولعله نحو ما قدَّرناه. (¬2) المقطوعات السبع الأخيرة من مجموع [4708].

[رؤى رآها الشيخ]

[رؤى رآها الشيخ] * الحمد لله. يوم ... (¬1) صباحًا بعد أن صلَّيت الصبح في جماعة - والحمد لله - وقرأ الإمام سورة غافر، وبعد تمام الصلاة رجعتُ إلى محلّي فنمتُ فرأيت كأنني ذاهبٌ أتمشَّى على جبلٍ فأشرفت على رأسه، فإذا بديكٍ وقع هناك ولونه جميل إلى الغاية، لعلّه أجمل من الطاووس، فأعجبني لونه جدًّا، وصاح، فقلت: هذا المكان يصلح للتفرُّج، ثمَّ إذا بديكة أخرى مثل الأول تقع وتطير ثم رأيت الجوَّ كلَّه ممتلئًا طيرًا في مثل ذلك الجمال. ثم انتبهت لنفسي وإذا أنا على شرف الجبل، فانبطحت لأَثبُتَ كيلا أسقط، وإذا أنا أحسّ نفسي أنجرُّ بغير اختياري، فتمسَّكت بيدي فإذا بالصخرة التي أنا عليها انقلعتْ، ففرحتُ لأنه وقع في نفسي أنها إذا سقطت وأنا عليها لا يلحقني ضررٌ، فسقطت ولم أجد مشقَّة لسَقْطتها، بل أحسست كأنها إنما سقطت مقدار ذراعين أو ثلاثة. ثم إذا أنا بالأرض وإذا فيها بساتين وقصور عالية، فمشيتُ فوصلت إلى وادٍ ضيِّق يجري فيه ماء قليل، فأردتُ أن أمشي فيه، فرأيتُ رجلاً يغتسل في الجهة التي أريد أن أذهب منها والماء متغيِّر فيها فعدلت عن ذلك أتطلب طريقًا أخرى، وإذا أنا برجلٍ كان يَقْصُر ثيابه (¬2) فجرتْ بيني ¬

_ (¬1) لم يستحضر الشيخ التاريخ فترك له بياضًا بمقدار أربع كلمات. (¬2) أي يحوِّرها ويبيَّضها بالغسل. ومنه يقال لمن يمتهن هذا العمل: "قصَّار" ولصناعته "القِصَارة".

وبينه محاورة سأقصّها بالمعنى. فقلت له: أيّ وادٍ هذا؟ قال لي: وادي الشيخ، وأحسبني قلت له: في أي بلد؟ قال: في عُتْمة (وطني). قلت: في أي مخلافٍ؟ قال: في السُّمَل (¬1)، أظنه ثم قال لي: ما اسمك؟ قلت: عبد الرحمن بن يحيى. قال: من أين أنت؟ قلت: من رازح (مخلافنا) من بني المعلّمي (قبيلتنا). قال لي: وأين جنَّتك؟ فوقع في نفسي أنَّي في الآخرة، فقلت له: لم أَمُتْ بعد، ولم أزل من أهل الدنيا وإنما جئتكم زائرًا. فلما قلت هذا كأنه غضب مني وتغيَّرتْ صورته وعظُمَ وصار ينظر إليَّ بحَنَقٍ، فأحسستُ في جسمي بقشعريرة ومبادئ غشيٍ. ثم إذا أنا بمثل الإنسان طائرًا، وقع في نفسي أنها امرأة، فقالت لي كلامًا لا أحفظه إلا أنه وقع في نفسي أنها تَعرِض عليَّ أن أمسك بيدها لتخلَّصني فمددتُ يدي لأقبض على يدها، فأولاً لم أقدر على القبض لأني كنت كلَّما قبضت لم يقع في يدي شيء ثم انقبضت لي اليد، وأخذ ذلك الشخص يَسبَح في الهواء وأنا أمشي قابضًا بيدها ثم ترددتُ في نفسي: لا أدري، أهذه تريد بي خيرًا أم شرًا؟ فرأيت أن أتعوّذ بشيء من ذكر الله تعالى حتى إذا كانت تريد شرًّا يخلَّصني الله تعالى منها، فتعوَّذت بشيء غالبُ ظني أنه آية الكرسي ولم أكن أقدر على النطق إنما أديرها ¬

_ (¬1) بمهملة مضمومة وفتح الميم وآخره لام. مخلاف من ناحية "عُتمة". انظر: "مجموع بلدان اليمن وقبائلها": (2/ 432، 576).

على قلبي وأحرك لساني بدون أن تنفتح شفتاي فأنطق، فلم أر تلك الطائرة تغيرت لذلك بل استمرت على حالها ثم استيقظت. أسأل الله التوفيق، لا حول ولا قوة إلا به، وصلى الله وسلم على خاتم أنبيائه محمد وآله. **** * الحمد لله. وفي يوم الثلاثاء 9 ذي الحجة سنة 1349 نهارًا رأيت رؤيا لا أذكر منها إلا أن شخصًا وقع في نفسي أنه نبي، ثم رأيت الأرض تَخْضَرُّ حيث مرَّ، فقلت: هو الخضر. فسألته فيما يتعلق بالمذاهب والآراء في الدين وأيَّها أتَّبع؟ فأمرني أن لا أتَّبعَ منها واحدًا بعينه بل أنظر لنفسي، وكلّمني بكلامٍ في هذا المعنى نسيته. والله أعلم. * وفي ليلة الخميس 11 ذي الحجة رأيت رؤيا طويلة كأني كنت أصحب رجلاً من أمراء بعض الملوك، فجئت إليه بمكتوبٍ وهو مع الملك ووزيره، فأخذ الوزير منِّي المكتوب فخفت أن يكون فيه سِرٌّ، فلم يكن ثَمَّ .... (¬1) معهم، فلم نشعر إلا برمية بمسدّس أصابت ثياب صاحبي الأمير، ولم يُدرَ مَن الرامي، وأنا توهمت أنه الوزير وكأنني ساررتُ الأمير بذلك. ¬

_ (¬1) كلمتان لم تتبيّنا.

فاتفق أننا وصلنا إلى جُند في الطريق ففتّشوا الوزير فإذا معه مسدس وفيه فَشْكة (¬1) قريبة العهد بالضرب، فنسبوا إليه تلك الرمية، فأُمسك فاعترف، ثم جاء الملك فدنا من الوزير يوبخه، فأخذ بلحية الملك قائلًا له ما معناه: لا بد من عزلك، فإنه لم يتملَّك علينا أحدٌ قبلك غير واحد. فتبيَّن أن هناك مؤامرة على خلع الملك، ولكن كأنّ صاحبي الأمير لم يكن موافقًا على ذلك فأرادوا قتله أَوَّلاً، أو كان الوزير أراد بتلك الرمية إصابة الملك، الله أعلم. ثم ساروا قليلاً وأنا معهم فعلموا أن هناك قومًا راصدين لهم كأنهم من الثائرين، فقدّمني أصحابي أمامهم، وإذا ناسٌ مجتمعون فأتيتهم وإذا هم يشكون من الملك، وإذا أمامهم شخص كأنه مجروح يقولون إنه امرأةٌ كأنه جرحها زوجها، فاستخبروها وأنا حاضر وأخذتْ تشكو زوجها وأنه ...... (¬2)، وإذا ليس هناك جرح يُعتدَّ به ولكن كأنهم جعلوها حيلة ليستوقفوا الملك إذا جاء فيغدروا به، فرأى الملك وصاحبي الأمير من بعيد وفهموا فغيَّروا صورتهم، وجعل الملك بفِيهِ مزمارًا يزمر به، وأخذ صاحبي ما يناسب ذلك، ليوهما أنهما من الزمّارين الذين يتكسّبون فمرَّا ومررت معهما. ولكن بعد المرور شعر ذلك القوم بالحيلة فأتبعونا ونحن نسرع، ثم لم أشعر إلا بأحد الرَّجُلَين - الغالب ¬

_ (¬1) فَشْكة: كلمة معرَّبة عن التركية بمعنى خرطوشة ولفيفة بارود. انظر: "تكملة المعاجم العربية" لدوزي: (2/ 76). (¬2) هكذا في الأصل.

على ظَني أنه صاحبي الأمير - قد وجد فرسًا فركبه وركضه فارًّا، والآخر لا أدري وجد مركوبًا أم كيف ذلك إلا أنه فرَّ، وبقيت أنا وآخر معي وقع في ذهني أنه الشيخ سعيد بن علي بن مصلح الرِّيمي، ففرَرْنا فأتينا على طرف جبل كأنه لا طريق فيه فرجعنا إلى جهة أخرى رأينا فيها طريقًا، فوقعنا في أيدي القوم فكأنهم قاتلونا فأخرجوا عَيْنَ رفيقي وفصلوها ثم رموا بها إليه، وأزال ما كان مع الشحمة من جلدة ونحوها ثم أعادها في محلّها، يقول لهم: إنها رجعت كما كانت! ثم فررنا منهم، فأخذت أدعو الله عزَّ وجلَّ أن يعيد لرفيقي عينه صحيحةً، ولما رأيناهم يتبعوننا اخترت أن نعدل عن الطريق حتى يمرّوا فيها فمرَّ أكثرهم ولكن رفيقي لم يستتر تمامًا بل نزل في بركة ماء، ففطن لنا رجل فمرَّ إلينا فأخذت عودًا وغرزْته في بطنه فسقط للموت، ثم فررت مع صاحبي فأتينا على نهرٍ وناس يُخرجون منه شجرًا، فسألْنا، فقيل لنا: كلُّ مَنْ وصل هنا يكون أسيرًا لا يستطيعون الخروج من هنا, ولكن الملك (يعنون ملك تلك الجهة) قال للأسراء يخرجون شجرًا من النهر: هناك شجرة مجهولة عند الإسراء، فمن اتَّفق أنه أخرجها أُمر بإطلاقه، فقلت أنا وصاحبي ونحن أسيران: فلنجرَّبْ حظّنا، فأوَّل ما نزلت أخرجت شيئًا من الشجر، فلما صعدتُ بها ألقيتها وإذا ببنت الملك مارَّة، فلما ألقيت الشجر التي صعدت بها من النهر رمت هي بشجرة كانت معها طرحتْها بسرعة فوق الشجرة التي صعدت بها قائلة: نعم، ها هي الشجرة المطلوبة قد أصعدها هذا الرجل، تعنيني، فعرفت أن تلك الشجرة هي التي كانت

معها، فطرحتْها على شجري وأنها أرادت خلاصي لإيهام أني أنا أصعدتها. ثم قالت لي: بيَّض الله وجهك، فقلت وأنا أجهش للبكاء: بيَّض الله وجه من فعل المعروف. وكأن الحاضرين فهموا الإشارة وفرحوا (¬1) بذلك. والحاصل قد خلصت، ولكن بقي صاحبي، فبينما أنا أتأمل كيف أستعين بالبنت على خلاصه، استيقظتُ. أما غرض البنت من خلاصي فمعلوم، كأن أباها كان قد شرط مَن وفّق لإخراج تلك الشجرة أن يزوّجه إيّاها، وكانت هي تعرف الشجرة، فأخذتها معها، وكانت تتردد إلى النهر، حتى إذا رأت من أولئك الذين يخرجون الشجر مَن ترضاه طرحت الشجرة على شجره. ولكن استيقظت قبل تمام الرواية, بل لم أزل على النهر والبنت أمامي والشجر قدامي وأنا أفكِّر في نجاة صاحبي. أسأل الله تبارك وتعالى نجاتي ونجاته، ومكافأة تلك الفتاة بما تحب وترضى (¬2). * بسم الله. ليلة الأحد، 4 صفر، سنة 1358. رأيتُ وأنا نائم كأنني نائم فجاء بعض أهلي يجر الفراش من تحتي ¬

_ (¬1) غير واضحة في الأصل، فلعلها ما أثبت. (¬2) الرؤى الثلاثة من مجموع [4716].

يوقظني للصلاة، فكأنني استيقظت ونظرت فإذا قد بقي ساعة أو أقل من طلوع الشمس. وهو يقول لي: قم صلِّ! قم صلِّ، وإلا اخرُجْ من عندنا - أو قال: اذهب، أو انتقل، أو ارتحل، أو كلمة نحوها - وإلا فلماذا ترفع يديك في الصلاة؟! وكأنني شكرته على ذلك وقمتُ وذهبت لأصلي في المسجد وعمدت لأتوضأ، فكأن هناك بِرْكةً وموضئًا فيه درج إلى أسفل وفي بعض الدرج حنفيَّات يمنة ويسرة. فكأنني جلستُ أتوضَّأ من حنفية منها، ومقابلي بعض معارفي (¬1) يتوضَّأ. ثم كأنني ذهبت للصلاة في المسجد فوجدت نفسي في بيت كأنه بيت رجل من أصحاب "ج"، وكأن "ج" معي، وكأنني جالس وهو يعرض عليَّ قصيدة (لم أذكر بعد اليقظة شيئًا منها, ولا بحرها, ولا رويَّها). وكأنني أستعجله لإدراك صلاة الصبح، وهو يسرد القصيدة، وإذا هي (¬2) طويلة مكتوبة في وجه الورقة وظهرها، وكأنه فرغ منها، وقمنا للصلاة في ذاك البيت لضيق الوقت، وكأنني أبسط ثوبًا لنصلِّي عليه. والبيت ضيِّق، فيه دواليب، وليس فرش ولا هيئة حسنة. ثم كأنني أحس في نفسي أنني لا أزال راقدًا، وأن ما جرى أوَّلًا كان حُلمًا. وكأنني أقاتل نفسي لأستيقظ، وأنا لا أستطيع. فكأن شخصًا (لم أره إلا أنني ظننت حينئذ أنه الذي حاول إيقاظي أوَّلًا) يجرُّ اللِّحاف من فوقي. وفي هذا الوقت استيقظت حقيقةً، فقمت وأنا أتوهَّم أنه قد قرب طلوع ¬

_ (¬1) كتب فوقه: "خصم د * م * ل". (¬2) في الأصل: "هي في".

الشمس لأني أعتاد قبل ذلك أن أرى في نحو ذلك الوقت ما يوقظني، ولكني نظرت فإذا الليل باقٍ، ثم نظرتُ الساعة فإذا هي 40 دقيقة بعد 12 ساعة (¬1). ¬

_ (¬1) مجموع [4730].

المقدمات وما إليها

آثار الشيخ العَلّامَة عبد الرحمن بن يحيى المعَلمي (25) المقدمات وما إليها تأليف الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني 1312 هـ - 1386 هـ تحقيق علي بن محمد العمران وفق المنهج المعتمد من الشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد (رحمه الله تعالى) تمويل مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

بسم الله الرحمن الرحيم

راجع هذا الجزء مُحَمَّد أجمَل الإصلَاحِي

مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية SULAIMAN BIN ABDUL AZIZ AL RAJHI CHARITABLE FOUNDATION حقوق الطبع والنشر محفوظة لمؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الطبعة الأولى 1434 هـ دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع مكة المكرمة - هاتف 5473166 - 5353590 فاكس 5457606 الصف والإخراج دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

مقدمة التحقيق

بسم الله الرحمن الرحيم تقديم الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، اللهمّ صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، اللهمّ ارْضَ عن صحابة نبيّك أجمعين ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد، فلا يخفى على المهتمّين بالعلم والتراث أثر الشيخ العلامة عبد الرحمن المعلمي رحمه الله في حركة التحقيق العلمي للتراث، فقد كان من أوائل روّادها، المعدودين في الطبقة الأولى منهم، وقد قضى في هذه الصنعة عمرًا مديدًا من حياته المباركة. وقد اضطلع الشيخ إبَّان التحاقه بدائرة المعارف العثمانية بحيدر اباد بتحقيق وتصحيح أهم الكتب في الحديث والرجال والأنساب واللغة وغيرها، واستمرّ أيضًا حتى بعد انتقاله عنها. وكانت تحقيقاته محطّ إعجاب العلماء وتقديرهم، وقد نقلتُ طرفًا من ذلك في ترجمته الموسّعة، ونكتفي هنا بقول العلامة حمد الجاسر وهو يعرّف بما طبع من كتاب "الأنساب" - فذكر أنه من تحقيق -: " ... فضيلة محقّقه العلامة الجليل، الذي فقد تراثُنا بفقدِه عالمًا فذًّا، قلّ الزمانُ أن يجود بمن يسدّ الفراغ الذي أحدثه فقدُه رحمه الله" (¬1). ¬

_ (¬1) مجلة العرب، السنة الثانية 1387 هـ ص 465.

وقد التزم الشيخ رحمه الله في تلك الكتب المحقَّقَة صنعَ مقدمة للتحقيق يشرح فيها كل ما يتعلق بالكتاب ومؤلفه، ونسخه الخطية، وطريقة العمل فيه، وما يتبع ذلك من مباحث. وربما لم يكتب مقدمة لكنه كتب خاتمة طبع. وقد اشتملت مقدّماته تلك على فوائد نفيسة، وأبحاث مفيدة، جديرة بالوقوف عليها والإفادة منها، وكان بعض تلك المقدمات من الطول بحيث تصلح رسالة مفردة، كما في مقدمة "الإكمال" فقد بلغت 68 صفحة. فكان من الخير أن تُجمع هذه المقدمات في مكان واحد ليسهل الاطلاع عليها جميعًا. فإن الكتب التي حققها الشيخ قد لا تحصل جميعها عند من يرغب فيها، وإن حصلت فقد حُذفت بعض المقدمات من تلك الكتب لمّا أعيد تصويرها. وهي أيضًا جزء من تراث الشيخ المكتوب، وتكشف جانبًا مهمًّا من حياته العلمية الطويلة مع التراث، وتمثّل خلاصة تجاربه الثرّة في تصحيح الكتب وتحقيقها. وعدد المقدّمات التي جمعناها هنا خمس عشرة مقدمة وخاتمة طبع، وهي بحسب ترتيبها في هذا السَّفر: 1 - مقدمة الإكمال، لابن ماكولا. 2 - مقدمة الأنساب، للسمعاني. 3 - مقدمة الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم. 4 - مقدمة تاريخ جرجان، للسهمي. 5 - مقدمة الموضح لأوهام الجمع والتفريق، للخطيب. 6 - مقدمة كتاب بيان خطأ محمد بن إسماعيل في التاريخ, لابن أبي حاتم.

7 - مقدمة المعاني الكبير، لابن قتيبة. 8 - مقدمة الفوائد المجموعة، للشوكاني. 9 - مقدمة المنار المنيف، لابن القيم. 10 - مقدمة تذكرة الحفاظ للذهبي. 11 - مقدمة كشف المخدّرات، للبعلي. 12 - البحث عن كتاب الكنى, للبخاري. 13 - خاتمة طبع الكفاية، للخطيب. 14 - خاتمة طبع نزهة الخواطر، للحسني. 15 - خاتمة طبع معجم الأمكنة لنزهة الخواطر، للندوي. ثم أتبعنا المقدمات تقريظين كتبهما الشيخ لكتابين من كتب الحديث، ألَّفهما عالمان من علماء الحديث المعاصرين، وناسب إدخالهما هنا باعتبار أن التقريظ مقدمة للكتاب ومدخل إليه، وهما: 16 - تقريظ كتاب فضل الله الصمد في توضيح الأدب المفرد، للجيلاني. 17 - تقريظ كتاب مسند الصحيحين، للشيخ عبد الحق الهاشمي. ثم رأينا أن نضمّ إلى ذلك تعليقين للشيخ لهما علاقة بالتحقيق، هما: 18 - تحقيق لفظة (أبنا) (أنبأ) في سنن البيهقي. 19 - تحقيق نسبة (العندي). من حاشية الإكمال. فالمجموع تسع عشرة مقدمة وما تَبِعها من تقاريظ وتعاليق.

ومع أن الشيخ اشتغل بالتحقيق مدة طويلة تزيد على الأربعين عامًا، وصار متمرّسًا في هذه الصناعة، إلا أن كتابة المقدّمات كانت تثقل عليه، وقد صرّح بذلك في مقدمة تحقيق كتاب "الأنساب" بعد أن كان يأمل أن يقوم أحد منسوبي دائرة المعارف العثمانية بكتابتها - وقد شاركوه في مقابلة بعض نسخها - قال: "وأنا مع كثرة اشتغالي أستثقل كتابة المقدمات، وأراها مما لا أحسنه ... " (¬1). أما الاستثقال فنعم، وأما الأخير فمِن تواضع الشيخ المعهود. وقد كَشَفت لنا هذه المقدمات وما معها جانبًا مهمًّا في حياة الشيخ الاجتماعية وعلاقاته الثقافية، فذكر فيها بعض أصدقائه ومعارفه من العلماء والمثقفين، وما كان بينهم من أواصر الودّ والتعاون العلمي (¬2). وقد اعتمدت في إخراج هذه المقدمات وما تَبِعها على الطبعات الأولى لتلك الكتب، وقد أصلحتُ ما وقع فيها من خطأ أو نحوه مع الإشارة إلى ذلك في الهامش. غير أن تقريظ الشيخ لـ "مسند الصحيحين" لم يكن قد طبع من قبل، ووقفتُ على أصله عند شيخنا عبد الوكيل بن عبد الحق الهاشمي في ورقة واحدة، مكتوبة بالمداد الأزرق، وبها بعض التمزّق من وسطها, لكنه لم يؤثر على نصها، وتفضّل شيخنا فصوّر إلى نسخة منها جزاه الله خيرًا. ¬

_ (¬1) "مقدمات المعلمي - مقدمة الأنساب" (ص 72). أقول: وهذا مما أعلمه عن كثير من العالمين بالتراث المشتغلين بتحقيقه، يستثقلون كتابة المقدمات التي لا مناص لهم من كتابتها! (¬2) انظر ترجمة الشيخ المفصلة.

ووجدت أيضًا مسوّدةً لمقدمة الجرح والتعديل في مكتبة الحرم المكيّ الشريف برقم 4660، لكن وضع لها المفهرِس عُنْوانًا يُبعد الناظر عن معرفة حقيقتها، وهو "أصول الرواة" في (18 (صفحة بخط المؤلف المعروف. وإنما هي مقدمة الشيخ لتحقيق كتاب الجرح والتعديل. والنص في المسوّدة مغاير في كثير من المواضع للمطبوع زيادة ونقصًا، فلم يكن من المفيد مقارنتها بالمطبوع. والحمد لله رب العالمين. وكتب علي بن محمد العمران مكة المكرمة 21 صفر 1432 هـ [email protected]

النص المحقق

آثار الشيخ العَلّامَة عبد الرحمن بن يحيى المعَلمي (25) المقدمات وما إليها تأليف الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني 1312 هـ - 1386 هـ تحقيق علي بن محمد العمران وفق المنهج المعتمد من الشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد (رحمه الله تعالى) تمويل مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

مقدمة "الإكمال في رفع عارض الارتياب عن المؤتلف والمختلف في الأسماء والكنى والأنساب" لابن ماكولا (ت 475)

(1) مقدمة "الإكمال في رفع عارض الارتياب عن المؤتلف والمختلف في الأسماء والكنى والأنساب" لابن ماكولا (ت 475)

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله على خاتم أنبيائه محمد وآله وصحبه وسلم. أمّا بعد، فإنّ أشدَّ نقص في الكتاب العربي المطبوع كثرةُ الخطأ والغلط والتصحيف والتحريف. ولذلك أسباب: منها خلوّ أكثر المخطوطات عن الشكل، وخلو كثير منها عن النقط، وتقارب صور بعض الحروف، ولا سيما في الخطوط التي لم يُعْتن بتحقيقها. هذه الأسباب - مع جهل النسّاخ - تفسد أكثر المخطوطات، وإذا لم يُعتن بالتصحيح قبل الطبع وعنده، جاء المطبوع أكثر وأفحش غلطًا من النسخ المخطوطة. والعناية الناجحة بالتصحيح لا يكفي فيها عالِمِيّة المصحّح، بل لا بدّ من أمور أخر، أهمها توفّر المَرَاجع. وأكثر الألفاظ تعرُّضًا للغلط أسماء المتقدمين وألقابهم وكناهم ونِسَبهم؛ لأنّها كما قال بعض القدماء: "شيء لا يدخله القياس، ولا قبله شيء ولا بعده شيء يدل عليه" (¬1). ليست التَّبِعَة على الخط العربي، فقد أُعِدّ فيه من النقط والشكل، ¬

_ (¬1) خطبة كتاب عبد الغني الأزدي في المؤتلف. [المؤلف].

وعلامات توضّح أنّ الحرف مهمل - أي غير منقوط - ما هو كفيل مع تحقيق الخط بَدَاء (¬1) كل لبس. وقد كان السلف يُعْنَون بذلك حق العناية، حتى إن بعضهم سمع خبرًا فيه ذكر أبي الحوراء - بالحاء والراء - فكتبه وخاف أن يلتبس فيما بعد بأبي الجوزاء - بالجيم والزاي - فلم يكتف بعدم النقط ولا بوضع العلامات حتى كتب تحت الكلمة (حور عين). ثم لمّا شاع التساهل في الضبط, وكَثُر في الشيوخ من يقلّ تحقيقه، واضطر أهل العلم إلى الأخذ من الكتب بدون سماع = فزع المحققون إلى ما يدافعون به الخطأ والتصحيف. فمن ذلك: تأليفهم كتب التراجم مرتبة على الحروف، ثم على الأبواب لكل اسم، كما تراه في "تاريخ البخاري" و"كتاب ابن أبي حاتم" فمن بعدهما. ولا ريب أنّ هذا يدفع كثيرًا من التصحيف والتحريف. ومن ذلك: الضبط بالألفاظ، كأن يقال "بحاء غير منقوطة". ويقع للقدماء قليل من هذا، ويكثر في مؤلفات بعض المتأخرين، كابن خلكان في "وفياته" والمنذري في "تكملته" وابن الأثير في "كامله". كما نبه عليه الدكتور مصطفى جواد في مقدمته لـ "تكملة إكمال الإكمال" لابن الصابوني (¬2). ومن ذلك - وهو أجلها وأنفعها - تأليف كتب في هذا الموضوع خاصة، وهو ضبط ما يُخْشى الخطأ فيه. ¬

_ (¬1) كذا, ولعلها "بجلاء". (¬2) (ص/ 23 - 25).

وإذا كان أكثر الخطأ وقوعًا وأشده خطرًا الخطأ في الأسماء التي توجد أسماء أخرى تشتبه بها = وجَّهوا معظم عنايتهم إلى هذا، فوضعوا له فنًّا خاصًّا، وهو (المؤتلف والمختلف) أي المؤتلف خطًّا المختلف لفظًا، وهو كل ما لا يفرق بينه إلاّ الشكل أو النقط مثل: (عُبَاد) بعين مهملة مضمومة فموحدة مفتوحة (¬1) فألف فدال مهملة، مع (عِباد) مثله لكن بكسر أوله، و (عَبَّاد) بتلك الحروف لكن بفتح فتشديد، و (عِيَاذ) بعين مهملة مكسورة فتحتية مخففة فألف فذال معجمة. وكثيرًا ما يذكرون الاسمين اللذَين يفرق بينهما الخط المجوّد فقط مثل (بشر وشتر). وربما ذكروا ما هو أقل التباسًا من هذا كما يأتي في باب (أحمد وأجمد وأحمر) فصورة الراء مخالفة لصورة الدال مخالفةً بينة، ولكن لما كانت صورتاهما قد تتقاربان في بعض الخطوط، وكان اسم (أحمر) قليلاً من سمى به لم يؤمَن فيمن يرى في كتابٍ "أحمر بن فلان" مقاربة فيه صورة الراء لصورة الدال أن يتبادر إلى ذهنه أنّه أحمد. فأمّا ما يزيد أحد الاسمين فيه على الآخر بحرف كحسن وحسين، وسعد وسعيد، وعبد الله وعبيد الله، وأشباه ذلك؛ فقلّما يتعرضون له لأنّه يكثر جدًّا. أسلفتُ أنّ العناية الناجحة بتصحيح الكتب للطبع تتوقف على أمور، أهمها توفّر المَرَاجع، فهل بين أيدي المصحّحين مَرْجع واف في المؤتلف والمختلف؟ ¬

_ (¬1) الحرف الذي يليه الألف لا يكون إلا مفتوحًا، فإذا نُص على فتحه فالمراد أنه غير مشدد. هكذا يدلّ عليه استقراء كلامهم، والأولى أن يقال: "مخففة" [المؤلف].

قبل أن أجيب عن هذا السؤال أسوق أسماء مشاهير المؤلفين في هذا الفنّ وكتبهم، ووصف ما هو مطبوع منها، وما وقفت عليه ممّا لم يطبع وأرتبهم بحسب وفياتهم، وإن كان فيهم من هو أقدم ميلادًا من سابقه أو أسبق تأليفًا. 1 - ابن حبيب (- 245): هو أبو جعفر محمد بن حبيب البغدادي الأخباري النسّابة، له كتاب (مختلف أسماء القبائل ومؤتلفها)، وهو خاص بالمؤتلف والمختلف من أسماء القبائل، وفيه مع ذلك عوز. طبعه المستشرق وستنفلد سنة 1850 م، ونُسَخه عزيزةٌ جدًّا، وكنت قد أوصيت صديقي العزيز البحّاثة الشيخ سليمان الصنيع مدير مكتبة الحرم المكي، وعضو مجلس الشورى في الدولة السعودية - أيدها الله - في رحلته إلى مصر سنة 1378 هـ أن يبحث عن نسخة منه ويشتريها لي وإن زاد ثمنها، فلم يجد، فلجأ مشكورًا إلى التصوير، فأخذ إلى نسخةً مصورة مكبرة عن نسخة في دار الكتب المصرية مطبوعة، وفوق ذلك دلّه الأستاذ الفاضل النحرير فؤاد السيد مدير قسم المخطوطات في دار الكتب على نسخة في الدار مخطوطة جليلة من كتاب "الإيناس" للوزير المغربي المتوفى سنة 418، فأخذ لي نسخةً مصورة مكبرة عنها فجزاهما الله خيرًا. أمّا كتاب ابن حبيب فطبع عن نسخة نقل عن آخرها أنّها بخط المقريزي المؤرّخ المشهور، وأنّه كتبها سنة 845 هـ (¬1) بمكة, والنسخة جيدة، ويكثر فيها الضبط بالألفاظ، ونبه في المخطوطة أنّه ليس من الأصل، قال: "لكنه معتمد فثِقْ به". ¬

_ (¬1) وهي سنة وفاة المقريزي عن نحو 80 عامًا. فلينظر.

وأمّا "الإيناس" فهو تهذيب لكتاب ابن حبيب بترتيبه على الحروف، وضبط كثير منه بالألفاظ، وزيادة لطائف أدبية وتاريخية، والنسخة بخط التاج ابن مكتوم العالم المشهور، المتوفى سنة 749. وكفاها ذلك كفيلًا بالجودة. ولكتاب ابن حبيب تهذيب آخر ينقل عنه ابن ناصر الدين في "توضيحه" الآتي ذكره، وهو لأبي الوليد الكناني (الوقَّشي) المتوفى سنة 489 (¬1). 2 - الآمدي (- 370): هو أبو القاسم الحسن بن بِشْر الآمدي، له كتاب (المؤتلف والمختلف في أسماء الشعراء) خاصة وفيه إعواز، وهو مطبوع متداول. 3 - أبو أحمد العسكري (293 - 382): هو الحسن بن عبد الله ابن سهل (¬2)، مؤلف مشهور، ذكره صاحب كشف الظنون في المؤلفين في الفن، ويأتي ما فيه عند ذكر عبد الغني. 4 - الدارقطني (306 - 385): هو الحافظ الإمام أبو الحسن علي بن عمر بن مهدي الدارقطني، له كتاب كبير في المؤتلف والمختلف من الرواة وغيرهم، لم أقف عليه (¬3)، وأخذه ابن ماكولا كما يأتي. 5 - ابن الفَرَضي (351 - 403): هو حافظ الأندلس ومؤرخها أبو الوليد عبد الله بن محمد ابن الفرضي، له كتاب كبير في المؤتلف ¬

_ (¬1) وله تهذيب آخر لأبي عبيد البكري (478). ذكره ابن خير في فهرسته (219). وعن كتاب الوقّشي انظر مقدمة تحقيق "التعليق على الموطأ": 1/ 52 - 53 له. (¬2) كذا، وفي المصادر "سعيد". (¬3) طبع الكتاب في خمسة مجلدات سنة 1406 على نقص في أوله.

والمختلف من الأسماء والألقاب والكنى (¬1)، وكتاب في مشتبه النسبة كما في ترجمته من "الجذوة" ص (237) و"تذكرة الحفاظ" ص (1077). وفي هوامش نسخة دار الكتب المصرية من "إكمال ابن ماكولا" تعليقات كثيرة عن ابن الفرضي، عامتها في مشتبه النسبة، فكأنّه لم يقع لمعلقها - وأحسبه الحافظ ابن عساكر - من كتابي ابن الفرضي إلا الذي في مشتبه النسبة. 6 - عبد الغني (332 - 409): هو الحافظ العَلَم عبد الغني بن سعيد الأزدي المصري، له كتابان ككتابي ابن الفرضي صغيران، وقد طبعا في الهند، وهما عندي. وفي ذكر هذا الفن من كتاب "فتح المغيث" للسخاوي ص (429) ما لفظه: "صنف فيه أبو أحمد العسكري، لكنه أضافه إلى كتاب التصحيف [له]، ثم أفرده بالتأليف عبد الغني بن سعيد، فلذا كان أول من صنف فيه، ثم شيخه الدارقطني". وفي ترجمة عبد الغني من "تذكرة الحفاظ" وغيرها نصوص تدل على هذا، وأنّه ألف كتابه في شبابه، وعلى هذا فابن الفرضي إنّما حذا حذو عبد الغني، وقد يكون الآمدي إنّما ألّف كتابه بعد ظهور كتابي عبد الغني. وفي مكتبة صديقي العزيز الشيخ سليمان بن عبد الرحمن الصنيع مدير مكتبة الحرم المكي، وعضو مجلس الشورى في دولة السعودية السعيدة نسخة من كتابَي عبد الغني مطبوعة، قد قابلها على نسخة مخطوطة جليلة في آخرها نقص يسير من "مشتبه النسبة" وأثبت بهامش نسخته ما وجد في المخطوطة من اختلاف أو زيادة أو حواشي، والحواشي مفيدة فيها تعقبات ¬

_ (¬1) طبع كتاب الألقاب للفرضي في الدار الحسنية بالمغرب.

وزيادات تبتدأ بلفظ "قال الصوري"، وفي آخرها "صح سماعًا". ويظهر بهذا أنّ المخطوطة قديمة قرئت على الصوري، وهو الحافظ محمد بن عبد الله بن علي، مولده سنة ست أو سبع وسبعين وثلاثمائة، وتوفي سنة إحدى وأربعين وأربعمائة، صحب الحافظ عبد الغني مؤلف الكتابين وتخرّج عليه. وقد استفدت من هذه النسخة كما أستفيد من كلِّ كتاب أريده من مكتبة الشيخ سليمان. 7 - الماليني (- 412): هو الحافظ أبو سعد أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الله الهروي الماليني، له كتاب في مشتبه النسبة كما في "فتح المغيث" ص (429)، فوائده في أنساب الرُّشاطي ثم تبصير ابن حجر. 8 - الحضرمي (- 416): هو أبو القاسم يحيى بن علي بن محمد بن إبراهيم الحضرمي المصري يعرف بابن الطحان، له كتاب في المؤتلف والمختلف، ينقل عنه ابن ماكولا في مواضع من "الإكمال". 9 - المُسْتغفري (350 - 432): هو أبو العباس جعفر بن محمد بن المعتز بن المستغفر الحافظ، له كتاب (الزيادات في كتاب المؤتلف والمختلف لعبد الغني). وعندي نسخة مصورة منه مكبرة عن فِلْم بمعهد المخطوطات لجامعة الدول العربية بالقاهرة، كما في فهرس المعهد برقم 294 من كتب التاريخ. وفي النسخة زيادات أخرى لمكي بن عبد الرزاق الكُشْمِيْهَني، وللحسن بن أحمد السمرقندي، ولعبد العزيز العاصمي، وليوسف بن منصور السَّيّاري. وفي آخر النسخة تقييد للسماع سنة 542 على الحافظ محمد بن ناصر السَّلَامي الآتي ذكره، وتحت ذلك "صحيح ذلك وكتبه محمد بن ناصر بن محمد بن علي بالتاريخ".

10 - الخطيب (392 - 463): هو الحافظ الجليل أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت البغدادي، له كتاب (المؤتنف في تكملة المؤتلف والمختلف) (¬1) أكمل به كتب عبد الغني والدارقطني ولم أره، وله كتاب في "المتفق والمفترق" وهو فنٌّ آخر، وكتاب في "تلخيص المتشابه" (¬2) وهو فن مركب من الفنين. 11 - الأمير ابن ماكولا (421 على الأرجح - 487 أو قبلها): هو الحافظ أبو نصر علي بن هبة الله بن جعفر الأمير، سعد الملك، الشهير بابن ماكولا، له في الفن كتابان؛ الأول: (الإكمال في رفع [عارض] الارتياب ...)، والثاني: (تهذيب مستمر الأوهام ...) وسأبسط الكلام في الأمير وكتابيه بعدُ إن شاء الله. 12 - الزمخشري (467 - 538): هو العلامة محمود بن عمر الشهير بجار الله الزمخشري، له كتاب في مشتبه النَّسبة كما في "فتح المغيث" ص (429) 13 - ابن ناصر (467 - 550): هو الحافظ محمد بن ناصر السَّلَامي، عدّه السخاوي في "فتح المغيث" ص (429) في المؤلفين في الفن. 14 - الأبِيْوَرْدي (- 557): هو أبو المظفر محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن إسحاق الأموي. في ترجمته في "وفيات ابن خلكان" (¬3) أنّ له "كتاب المؤتلف والمختلف، وما ائتلف واختلف في أنساب العرب". ¬

_ (¬1) منه نسخة في برلين رقم 10157 كما ذكر بروكلمان. (¬2) "المتفق والمفترق" و"تلخيص المتشابه" و"تالي التلخيص" طبعت جميعًا. (¬3) (4/ 448).

15 - الحازمي (548 - 584): هو الحافظ محمد بن موسى الحازمي، له كتاب "الفيصل في مشتبه النسبة" (¬1)، ذكره ابن خلكان في ترجمته وغيره. 16 - ابن نقطة (579 - 629): هو الحافظ محمد بن عبد الغني الحنبلي، يُعرف بابن نُقْطة، له في الفن ذيل على إكمال ابن ماكولا يسمى (الاستدارك) (¬2) أو (المستدرك) أو (إكمال الإكمال)، حجمه يزيد على نصف حجم "الإكمال"، وعندي منه نسختان. الأولى: من أول الكتاب إلى آخر باب السين، وهي مصورة مكبرة عن فلم بمعهد المخطوطات لجامعة الدول العربية بالقاهرة، مأخوذ عن نسخة بظاهرية دمشق، كما في فهرس المعهد رقم 26 من كتب التاريخ, وفي آخرها سماع بخط الحافظ خالد بن يوسف النابلسي (585 - 663) قال فيه: "سمع هذا المجلد وهو الأول من الاستدراك، تأليف الحافظ أبي بكر محمد بن عبد الغني بن نقطة البغدادي رحمه الله بإجازتي منه ... صاحبه الشيخ ... عماد الدين جمال الفضلاء أبو عبد الله محمد بن الشيخ العلامة المرحوم أبي عبد الله محمد بن علي بن العربي ... وذلك في مجالس آخرها يوم الثلاثاء رابع عشر من جمادى الأولى من سنة تسع وخمسين وستمائة بدمشق حرسها الله، وكتب خالد بن يوسف بن سعد بن الحسن النابلسي"، وخالد من أقران ابن نقطة أصغر منه قليلاً. ¬

_ (¬1) طبع أخيرًا في مجلدين. (¬2) ذكر هذا الاسم في صدر النسخة، وفي سماعها. وفي "البداية والنهاية" 12/ 123 قال بعد ذكر الإكمال: "استدرك عليه ابن نقطة في كتاب سماه: الاستدراك" [المؤلف].

والثانية: من أثناء حرف الحاء المهملة إلى أثناء باب الياء آخر الحروف تنقص من أواخر الكتاب بضع أوراق، وهي مصورة مكبرة عن فلم مأخوذ من نسخة بدار الكتب المصرية. وذكرت في فهرس معهد المخطوطات برقم 58 من كتب التاريخ, وفيه وفي فهرس دار الكتب أنّ الكتاب لمؤلف مجهول، لكن أفادني حضرة الأستاذ الكبير المحقق الشهير حمد الجاسر صاحب "مجلة اليمامة" التي تصدر بالرياض عاصمة الدولة السعودية - أيدها الله - وعضو المجمع العلمي اللغوي بمصر، أنّه في بعض زياراته لمصر زار دار الكتب، واطلع على هذه النسخة فبان له أنّها من ذيل ابن نقطة على "الإكمال"، فطلبتُ صورها فوجدتُ الأمر كما ذكر الأستاذ، فشكرًا له (¬1). ولابن نقطة كتاب في تراجم المحدثين الدائرة عليهم رواية كتب السنة اسمه (التقييد لمعرفة رواة السنن والمسانيد) وعندنا بمكتبة الحرم المكي نسخة منه (¬2). 17 - ابن باطيش (575 - 640): هو أبو المجد إسماعيل بن هبة الله الموصلي الشافعي، له كتاب في "مشتبه النسبة"، كما في مقدمة تكملة ابن الصابوني ص (17) عن تاريخ ابن العديم (¬3). 18 - منصور (607 - 677): هو الحافظ منصور بن سليم وجيه الدين، محتسب الإسكندرية، عُرِف بابن العمادية، له ذيل على ذيل ابن ¬

_ (¬1) طبع كتاب ابن نقطة في سبعة مجلدات عن مركز إحياء التراث بجامعة أم القرى. (¬2) طبع في مجلدين، وطبع ذيله للفاسي في ثلاثة مجلدات. (¬3) وله كتاب: "التمييز والفصل .. " طبع منه مجلدان بليبيا.

نقطة، عندي منه نسخة مصورة مكبرة عن فلم مأخوذ من نسخة بدار الكتب المصرية، ذكرت في فهرس معهد المخطوطات برقم (678) من كتب التاريخ, ووصفت بأنّها "بقلم معتاد قديم" وهو مغربي (¬1). 19 - ابن الصابوني (604 - 680): هو الحافظ محمد بن علي بن محمود، أبو حامد جمال الدين، له ذيل على ذيل ابن نقطة أيضًا سماه (تكملة إكمال الإكمال) طبع ببغداد سنة 1377 هـ, بتحقيق الدكتور مصطفى جواد، يوافق منصورًا في أشياء وينفرد كل منهما بأشياء، وفوائد منصور أكثر. 20 - الفَرَضي (649 - 700): هو أبو العلاء محمود بن أبي بكر شمس الدين الفَرَضي، له ترجمة في "الدرر المضية" (2/ 163) فيها عن الذهبي أنّه ذكره، قال: "سوَّد كتابًا كبيرًا في مشتبه النسبة ونقلت منه كثيرًا". 21 - ابن الفُوَطي (642 - 723): عبد الرزاق بن أحمد بن محمد بن أحمد الشيباني، له مؤلّف في الفن (¬2)، على ما في "فتح المغيث" ص (429) عن ابن الجزري، فيحقق. 22 - الذهبي (673 - 748): هو الحافظ الشهير أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز، له في الفن كتاب (المشتبه) طبع بمطبعة بريل في ليدن سنة 1881 م عن نسخة قرئت على المؤلف بتعليقات مفيدة (¬3) للمستشرق دي بونك، وعندي نسخة منه، ويأتي شيء من وصفه. ¬

_ (¬1) طبع الكتاب في مجلدين عن مركز إحياء التراث بجامعة أم القرى. (¬2) سمّاه "تلقيح الأفهام في المؤتلف والمختلف" ذكره الذهبي وغير واحد. (¬3) ط: فقيدة.

23 - ابن التركماني (683 - 749): هو العلاّمة علي بن عثمان بن إبراهيم بن مصطفى المارديني المصري، ذكر له صاحب "كشف الظنون" (كتاب المؤتلف والمختلف من أنساب العرب) فيحرر. 24 - مُغُلْطاي (626 - 762): هو الحافظ مُغُلْطاي بن قليج علاء الدين، له كما في خطبة تبصير ابن حجر "ذيل كبير لكنه كثير الأوهام والتكرار والإعادة والإيراد لما لا تمسّ الحاجة إليه غالبًا"، وفي "فتح المغيث" للسخاوي ص (429): "ذيّل على ابن نقطة العلاء مغلطاي جامعًا بين الذيلين المذكورين (لمنصور والصابوني) مع زيادات من أسماء الشعراء وأنساب العرب وغير ذلك، ولكن فيه أوهام وتكرير حيث يذكر ما هو صالح لإدخاله في الباء والتاء أو السين والشين مثلًا في أحدهما ويكون من قبله ذكره في الآخر". ولم أقف عليه (¬1). 25 - ابن ناصر الدين (777 - 842): هو الحافظ محمد بن أبي بكر عبد الله بن محمد، شمس الدين بن ناصر الدين الدمشقي، له في الفن كتابان، الأوّل (التوضيح) وهو شرحٌ حافل لمشتبه الذهبي، والثاني (الإعلام بما في مشتبه الذهبي من الأوهام) (¬2) وهو مقتطف من الأول. عندي من التوضيح نسخة مصورة مكبرة، أمّا الجزآن الأولان فعن فلم بمعهد المخطوطات، كما في فهرسه رقم 47 و48 من كتب التاريخ, وهو مأخوذ ¬

_ (¬1) اسم كتابه "الإيصال لكتاب ابن سليم وابن نقطة والإكمال" منه نسخة بالخزانة العامة بالرباط بخط المؤلف مسوّدة. وطبع أخيرًا في ستة مجلدات. (¬2) طبع الكتابان، الأول في عشرة مجلدات حققه محمد نعيم العرقسوسي، والثاني في مجلد واحد حققه عبد القيوم بن عبد رب النبي.

عن نسخة بظاهرية دمشق. وكنت قد وقفت في فهرس كتب التاريخ في الظاهرية للدكتور الفاضل يوسف العش، على أنّ النسخة فيها كاملة في ثلاثة أجزاء، فكتبت مرارًا إلى إدارة معهد المخطوطات بذلك رجاء أن يطلبوا فلمًا من الثالث، ثم تكبر لي منه نسخة، فلم يستجيبوا لذلك. وبلغت القضية حضرة المحسن الكبير السلفي الشهير صاحب الفضيلة الشيخ محمد نصيف، فبعد أيام أهدى إليّ نسخة مصورة مكبّرة للجزء الثالث مع فلمها، فأبقيت النسخة وأهديت الفلم لمعهد المخطوطات لتكميل نسختهم. فتكرم مديره بالأمر بتكبير نسخة منه وإهدائها إليّ فله الشكر. وليست هذه بالأولى ولا المائة من أيادي فضيلة الشيخ محمد نصيف عليّ وعلى العلم والعلماء، بل لم تزل أياديه تترى بضروب الإحسان الذي تعشقه نفسه وتقرّ به عينه، أطال الله عمره وزاده من فضله. وفي آخر الجزء الأول والثاني تاريخ انتهاء كتابتهما، الأول في جمادى الآخرة سنة ثلاثين وثمانمائة. والثاني في شهر رمضان من السنة نفسها، وفي آخر كل منهما "بخط إبراهيم بن محمد بن محمود بن بدر الحنبلي" يذكر أنّه اشترك في الكتابة جماعة وختم هو. والثالث من النسخة عينها إلاّ أنّه لم يقع بآخره تاريخ. وإبراهيم هذا عالم من تلامذة المؤلف، ولد سنة عشر وثمانمائة، وتوفي سنة تسعمائة كما يعلم من الضوء اللامع (2/ 166)، والشذرات. والنسخة جليلة محرّرة يكثر فيها الضبط بالحركات والعلامات، ويقل فيها الخطأ، وتزدحم فيها دلائل المعارضة بأصلها معارضة تحزًّ وإتقان، وإنّما كُتِبت النسخة لضم الكتاب إلى موسوعة عليّ بن الحسين بن عروة الدمشقي التي

جعلها شرحًا لمسند الإمام أحمد بعد ترتيبه على أبواب صحيح البخاري وسمّاها (الكواكب الدراري) وصار كلما جاءت مناسبة لكتاب من الكتب أخذه برمته. فهذه النسخة هي في الكواكب، المجلد التاسع عشر بعد المائة، والعشرون بعد المائة، وبعض الحادي والعشرين بعد المائة، فقد كُتبت النسخة في حياة المؤلف قبل وفاته باثنتي عشرة سنة، وفي بلده، والكَتَبة كلُّهم أو أكثرهم من تلامذته، وابن عروة المكتوبة له من أهل العلم، ولا شكّ في أنّها عُورِضت على نسخة المؤلف، بل ربما كانت المعارضة معه هو وإن لم أظفر بما ينص على ذلك. ولم يقتصر مؤلف التوضيح على الشرح، بل زاد زيادات كثيرة من "الإكمال" و"ذيل ابن نقطة" وغيرهما. وعندنا بمكتبة الحرم المكي مجموع رسائل لابن ناصر الدين بخطه، منها رسالة في هذا الفن، وهي (رفع الملام عمن خفف اسم والد شيخ البخاري محمد بن سلام) (¬1). 26 - ابن حجر العسقلاني (773 - 852): هو خاتمة الحفاظ الأكابر، أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن شهاب الدين الكناني، له كتاب (تبصير المنتبه بتحرير المشتبه) (¬2) عندي منه نسخة مصورة مكبّرة عن فلم مأخوذ من نسخة بدار الكتب المصرية، كما في فهرس معهد المخطوطات رقم 137 في كتب التاريخ, وفي آخرها ما لفظه: "كتبت معظم هذه النسخة وقرأته على مؤلفه مع المعارضة معه لأصله وهو بيده، ثم كتبت الباقي من ¬

_ (¬1) نشرها عن هذه النسخة صديقي البحّاثة محمد عُزير شمس ضمن "روائع التراث": (ص/ 237 - 257). وذكر أنها بخط ابن فهد وعنوانها بخط مؤلفها. (¬2) طبع الكتاب في أربعة مجلدات في مصر بتحقيق النجار والبجاوي.

نسخة الشيخ العالم الفاضل البارع المفنن برهان الدين إبراهيم بن خضر بن أحمد العثماني التي نقلها من خط مؤلفها ... قال ذلك مثبت هذه الأحرف الفقير أبو نعيم رضوان بن محمد بن يوسف العقبي، كتبته في آخر يوم الخميس المبارك الخامس عشر من شهر رجب الأصب سنة اثنتين وأربعين وثماني مائة". وفي مواضع من الشطر الأول بالهامش بخط المؤلف هذه العبارة أو نحوها: "بلغ الشيخ زين الدين رضوان قراءة عليّ وعرضًا بالأصل، كتبه ملخصه". وزين الدين رضوان وإبراهيم بن خضر كلاهما من كبار تلامذة ابن حجر وأخص أصحابه، وتوفيا قبله في سنة موته. راجع "الضوء اللامع" (3/ 226) و (1/ 43). والنسخة من جهة الصحة دون المستوى الذي يقتضيه ظاهر ما تقدم، والكتاب نفسه فيه مواضع دون مستوى المؤلف، وذلك للاستعجال وكثرة الأعمال والحرص على الاختصار. فهذه مؤلفات الفن، وثَمّ كتب أخرى ليست منه وإن قاربته كالكتب التي تُعنى بضبط ما يشكل من أسماء رجال الصحيحين مطلقًا كـ "تقييد المهمل" (¬1) لأبي علي الحسين بن محمد الغسّاني الجياني (427 - 498 هـ)، وفي ملك صديقي العزيز الشيخ سليمان الصنيع نسخة منه، هي من أنفس ما في مكتبته النفيسة. ¬

_ (¬1) طبع في ثلاثة مجلدات عن دار عالم الفوائد سنة 1420، بتحقيقي بالاشتراك مع الأستاذ محمد عزير شمس.

وفي "القاموس" و"شرحه" طائفة كبيرة من ضبط الأسماء والكنى والألقاب والأنساب. وككتب الرجال والطبقات وتواريخ الرواة، وغالب المطبوع منها متوفر. ومن المخطوط (طبقات شَبَاب) وهو الحافظ خليفة بن خياط العُصْفري، المتوفى سنة (240 هـ)، وفي ظاهرية دمشق نسخة قديمة منها بخط راويها عن تلميذ المؤلف، وقد قرئت كلها أو بعضها على كبار حفاظ أصبهان: الطبراني (260 - 360 هـ)، وأبي الشيخ بن حيان (274 - 369 هـ)، وابن المقرئ (285 - 381 هـ). وكانت في ملك الحافظ الضياء المقدسي (569 - 643 هـ)، وهي من وقفه، وذُكِرت في فهرس معهد المخطوطات رقم (723) من كتب التاريخ, وعندي نسخة مصورة مكبرة منها (¬1). وككتب النِّسَب، وقد طبع بعضها وأكثره ممسوخ، وكتب الأنساب أو النسب (بكسر النون)، وأعني بها التي تذكر كلمة النِّسبة، كلفظ (البحري) سواء أكانت إلى قبيلة أم إلى جد أم إلى بلد أم إلى صنعة أو غير ذلك، وتذكر من نسب تلك النسبة. والمشهور من هذا القبيل كتاب "الأنساب" للحافظ أبي سعد عبد الكريم بن محمد السمعاني (506 - 562 هـ) وقد طُبِع بالزنكوغراف في أوربا سنة 1902 م، والنسخة كثيرة الأغلاط والأسقاط، وقد قررت إدارة دائرة المعارف العثمانية (التي تطبع هذا الكتاب - الإكمال لابن ماكولا) إعادة طبع "الأنساب" بعد المقابلة على نسخ مصورة، والتصحيح والتعليق، وفي عزمها الشروع في طبعه هذه السنة. ¬

_ (¬1) طبع الكتاب في مجلد واحد بتحقيق د/ أكرم العمري.

وقد طُبِع مختصره "اللباب" لعز الدين علي بن محمد بن الأثير الجزري (555 - 630 هـ) وهو مختصر مفيد أصلح بعض زلل الأصل، وزاد زيادات، لكنه أجحف بصنيعه الذي بينه بقوله: "فإن كان [ابن السمعاني] قد ذكر هو في الترجمة (أي الرسم) الواحدة عدة أشخاص، فأذكر أنا الترجمة وأقتصر على ذكر واحد أو اثنين من الذين ذكرهم ... فرأيت أنّ المقصود من النَّسَب ليس تعداد الأشخاص إنّما هو معرفة ما ينسب إليه". كذا قال، وكل مزاول للبحث يعلم أنّ هذا خَطَل في الرأي، ويتمنى لو أنّ ابن الأثير أبقى الأشخاص الذين ذكرهم السمعاني كلهم وزاد من رجال القرن الثالث فما بعده ما وسعته الزيادة، ولكنها شهوة الاختصار! وقد أوحى استدلاله المذكور إلى السيوطي أن يختصر "اللباب" أيضًا، ويقتصر على ذكر النِّسبة وضبطها! وعندنا في مكتبة الحرم المكي نسختان مخطوطتان من الجزء الأول من "اللباب" ربما تزيدان على المطبوع أو تخالفانه. ولأبي محمد عبد الله بن علي الرُّشاطي (466 - 542 هـ) كتاب كبير في الأنساب سماه "اقتباس الأنوار"، اختصره مجد الدين إسماعيل بن إبراهيم البُلْبَيسي (728 - 802 هـ) في كتاب سماه (القبس) ثم جمع بين هذا المختصر وبين "اللباب" فألف منهما كتابًا واحدًا عندي نسخة منه مصورة مكبرة عن فلم بمعهد المخطوطات كما في فهرسه رقم 450 من كتب التاريخ, وهو مأخوذ من نسخة في مكتبة رئيس الكُتَّاب بإستانبول بخط المؤلف البُلْبَيسي نفسه، وأنا أُحيل على هذا الكتاب باسم (القبس) لأني لم أتحقق اسمه الخاص.

وللحافظ محمد بن طاهر المقدسي (448 - 507 هـ) كتاب (الأنساب المتفقة في الخطّ المتماثلة في النقط والضبط) طبعه المستشرق دي بونك في ليدن سنة 1890 م ذكره الدكتور مصطفى جواد في مقدمته "للتكملة"، ويظهر من الاسم أنّه في النَّسَب التي يتعدد فيها المنسوب إليه، كالأسدي إلى أسد خزيمة وإلى أسد قريش، والصنعاني إلى صنعاء اليمن وإلى صنعاء الشام (¬1)، وفي "معجم البلدان" لياقوت طائفة كبيرة من الأنساب غالبها عن أنساب السمعاني. وككتب الألقاب، وعندي منها كتاب (نزهة الألباب في الألقاب) (¬2) للحافظ ابن حجر، نسخة مصورة مكبرة عن فلم بمعهد المخطوطات كما في فهرسه رقم 545 من كتب التاريخ, وفيه أن الفلم مأخوذ من نسخة بدار الكتب المصرية كتبت في القرن العاشر نقلاً عن خط المؤلف، وعندهم نسخة أخرى سأطلب صورة مكبّرة عنها إن شاء الله. وككتب الكنى, طبع منها كتاب أبي بشر الدولابي (224 - 310 هـ)، وحبذا لو يوجد كتاب الحاكم أبي أحمد ويطبع (¬3). نعم استعرضنا كتب المؤتلف والمختلف فوجدنا المطبوع منها لا يفي بالمقصود مع أنّ أكثرها عزيزة النُّسخ. فأمّا غير المطبوع فما كان منه قبل "الإكمال" فقد احتوى "الإكمال" على ما فيها مع تهذيب وتنقيح وزيادة. وما ¬

_ (¬1) وقد جرّد ياقوت ما في كتابه "معجم البلدان" من هذا النوع وأفرده بكتاب سماه: "المشترك وضعًا والمفترق صُقْعًا" طبعه المستشرق وستنفلد. (¬2) طبع الكتاب في مجلدين عام 1409 عن مكتبة الرشد. (¬3) كتب الكنى طبع عدد منها، وكتاب الحاكم طُبع ما وُجد منه في أربعة مجلدات.

كان بعده فالموجود منها إما ذيول عليه، والذيل لا يغني عن الأصل، وإمّا مختصر مجحف مع خلل فيه أعني "المشتبه"، و"التبصير" قريب منه، و"التوضيح" شرح يبسط في تفسير المتن ونقده، وبذلك طال جدًّا مع عدم استيفائه ما أغفله المتن مما في "الإكمال" وغيره. ثم الغالب في هذه الكتب الثلاثة أن لا يُدْرى مَن الضابطُ؟ والنفس إلى ضبط المتقدمين أركن وبه أوثق، على أنّه يوجد في كتب التراجم والأنساب وغيرها ممّا يدخل فيٍ هذا الفن ما ليس في كتبه. فالرّأي الوحيد إذن اختيار طبع "الإكمال" محققًّا، ويضاف إليه تعليقًا أو تذييلًا جميع الزوائد التي توجد في ذيوله أو غيرها، مع نِسْبة كل زيادة إلى أعلى مصدر موجود لها، وإلى هذا عمدنا بتوفيق الله تبارك وتعالى وعونه. ***

مؤلف الإكمال

مؤلف الإكمال من حقّ الأمير على من يقدّم لكتابه الجليل أن يضع له ترجمة وافية، لكنّي أوثر أن يقوم بهذا من هو أمكن منّي، وأخصّ حضرة الدكتور الفاضل يوسف العُشّ، فمن الحق له وعليه أن يؤدي ذلك رابًّا نعمته السالفة إذ أهدى نسخته من "الإكمال" إلى دائرة المعارف العثمانية إذ علم بعزمها على طبعه. وأقتصرُ أنا على ما يحضرني. هو الأمير "أبو نصر سعد الملك، واسمه علي بن هبة الله بن علي بن جعفر بن عَلّكان بن محمد بن دُلَف بن أبي دُلَف القاسم بن عيسى بن إدريس بن معقّل بن عَمرو بن شيخ بن معاوية بن خزاعي بن عبد العزيز بن دُلف بن جشم بن قيس بن سعد بن عجل بن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل"، هكذا على لوح نسخة دار الكتب من "الإكمال" نقلاً عن الحافظ ابن عساكر عن سعد الخير الأندلسي عن محمد بن طرخان صاحب الأمير. ومثله في ترجمة الأمير من "معجم الأدباء"، كذا وقع فيهما "عبد العزيز" والمعروف "عبد العزى"، وقد سيق النسب هكذا في "تاريخ بغداد" (8/ 80) في ترجمة قاضي القضاة الحسين بن علي بن جعفر عم الأمير، و (12/ 416) في ترجمة أبي دُلف، وفي "وفيات ابن خلكان" في ترجمتي الأمير وأبي دلف، لكن وقع في نسخته بدل "عَمرو" "عمير"، وفي "أنساب السمعاني" في رسمي (العجلي) و (الكرجي) "عمرو"، وفي "السَّمْط" ص (331) كما في "الوفيات"، وزاد فجعل بدل شيخ "شَنِج" وشكل بفتح فكسر، وهذا غريب. وقد ذكر الأمير في "الإكمال" باب شيخ وما يشتبه به، وذكره من بعده، فلم يذكروا هذا. وقضيّة ذلك أنّه (شيخ)

كالجادة، بل لم يذكر في الأسماء "شنج" بفتح فكسر. وفي " جمهرة ابن حزم" ص (294): "القاسم بن عيسى بن إدريس ابن مَعْقِل بن سيار بن شيخ بن سيار بن عبد العزى بن دلف ... "، إلى آخر ما مر، فخالف في سياق النسب بين معقل وعبد العزى، وقد يكون هذا خلافًا قديمًا، فإنّ جماعةً من المؤلفين كصاحب "الأغاني" والمرزباني يتجنبون وصل النسب، مع الاتفاق على أنّه من بني عِجْل. وقد عقد الأمير في "الإكمال" بابًا لاسم (شيخ) وما يشتبه به، وذَكَر جماعةً، ولم يتعرض لـ (شيخ) الذي في نسبه. وذكر في رسم (سيار) نبذة من نسب بني عجل ولم يتعرّض لما يستفاد في نسبه، وربما كان يتحاشى ذلك؛ لما حكاه أعداء جده دلف بسبب التراث والمذهب عن أبيه أبي دلف في شأنه مع أم دلف، وهي حكاية يمتنع من أبي دلف في عقله ونبله وترفعه أن يحكيها، ويمتنع عليه لو وقعت أن يعتز بدلف ذاك الاعتزاز فيكتني به، حتى لا يكاد يُعرف إلا بأبي دلف، وكيف يرضى أبو دلف أن يكتني كنية تذكّره كل وقت بتلك الفعلة؟ كل ما يحضرني من أحوال أجداد الأمير في الإسلام: أنّ إدريس وأخاه عيسى كانا من عمّال بني أمية في نواحي أصبهان، وعزلهما ابنُ هبيرة إذ ولي العراق، وسُجِنا ثم فرّا من السجن، كما تراه في ترجمة أبي مسلم الخراساني من "وفيات ابن خلكان" وغيره. ثم كان عيسى بن إدريس ومن معه في نواحي أصبهان يُغيرون وينهبون، ثم تاب عيسى ونزل موضع بلدة الكَرَج وعمرها ومَدَّنها ابنُه أبو دلف. تجد حكاية ذلك عند ذِكر الكرج في "معجم البلدان" وغيره.

ثم أخبار أبي دلف، وهي أشهر من أن تذكر، ثم نُتف يسيرة عن أبنائه. ثم ذكر هبة الله والد الأمير وإخوته، وبعض بني عمهم، ففي "كامل ابن الأثير" وغيره أنّ ابن عمهم أبا سعد ابن ماكولا كان وزيرًا لجلال الدولة ابن بويه، وتوفي سنة 417. وعقبه في الوزارة عم الأمير، وهو أبو علي الحسن بن علي بن جعفر، وتقلبت به الأمور حتى قتل سنة 421، ثم ولي الوزارة والد الأمير، وهو أبو القاسم هبة الله بن علي بن جعفر، وكان مولده سنة 365، فتقلبت به الأمور يلي الوزارة ويُعزل دواليك، إلى أن توفي سنة 430 في الحبس بهِيت (¬1)، بعد أن مكث محبوسًا سنتين وخمسة أشهر، كان جلال الدولة سلمه إلى قرواش بن المقلد فحبسه. وانفرد الأخ الثالث عم الأمير، وهو أبو عبد الله الحسين بن علي بن جعفر كان من أهل العلم، وولي قضاء القضاة ببغداد، واستمر فيه سبعًا وعشرين سنة ولايةً متصلة لم يُعزل البتة حتى مات، مع شدة الاضطرابات في تلك الفترة ببغداد، وتعرض أخويه لشرها مرارًا، ومولده سنة 368، وولي القضاء سنة 420، وتوفي سنة 447، وفي ترجمته من "تاريخ بغداد" (8/ 80) قول الخطيب: "كان نزها صينًا عفيفًا، لم نر قاضيًا أعظم نزاهة ولا أظلف (¬2) نفسًا منه". وفي الترجمة أنّه من أهل جرباذقان ثم سكن بغداد، وكذلك يذكر في وصف الأمير "الجرباذقاني". وجرباذقان بلد بين همذان والكرج وأصبهان، كأن بني دلف نزحوا إليها عن الكرج للخلاف بينهم وبين بني عمهم. ¬

_ (¬1) هِيت: بلدة بالعراق. معجم البلدان: 2/ 420 - 421. (¬2) أي: أمنع نفسًا وأبعد عن الدنايا.

* مولد الأمير

* مولد الأمير: ولد الأمير ببلدة عُكْبرا، وهي قريبة من بغداد، وفي تاريخ مولده أقوال: الأول: سنة اثنتين وأربعمائة، كذا وقع في وفيات سنة 486 من "المنتظم" لابن الجوزي، وهي السنة التي ذكر أنّ الأمير توفي فيها أو في التي بعدها، وتبعه ابنُ الأثير في "كامله" في أخبار سنة 486، وابن كثير في وفيات هذه السنة عن "البداية"، وبنى على ذلك قوله: "وقد جاوز [عمره] الثمانين كذا ذكره ابن الجوزي". وهذا القول غلط ففي "التذكرة" عن ابن النجار وصف الأمير بأنّه "أحبَّ العلم من الصبا", ولم أر في شيوخ الأمير أحدًا ممّن توفي قبل سنة 430، ولا فيها إلاّ أنّه قال في رسم (أبّا) من "الإكمال": "وثبتني فيه السعيد أبي"، ولا في التي تليها إلا واحدًا وهو بشرى الرومي الفاتني، فإنّه مذكور من شيوخه، وقد نصّ الأمير على ذلك عندما ذكره في "الإكمال" في رسم (بشرى) وغالب شيوخه هم ممن توفي سنة 440 فما بعدها كما ستراه. القول الثاني: سنة عشرين وأربعمائة. رواه ابن نُقطة في "التقييد" عن محمد بن عمر بن خليفة الحربي عن ابن ناصر إجازة، وقاله ابن الجوزي في وفيات سنة خمس وسبعين وأربعمائة من "المنتظم"، وتبعه في ذكره في وفيات تلك السنة أبو الفداء وابن الأثير وابن كثير مع ذكرهما - كابن الجوزي - خلافه في أخبار سنة ست وثمانين وأربعمائة كما مرّ. القول الثالث: ما في "النجوم الزاهرة" (5/ 115): "قال شيرويه في طبقاته: وكان يعرف بالوزير سعد الملك بن ماكولا، وولد بعكبرا في سنة إحدى وعشرين وأربعمائة في شعبان، وكنيته أبو نصر، قال صاحب "مرآة

الزمان" .... ". وظاهر هذا أنّ التاريخ من بقية عبارة شيرويه، وشيرويه ممن سمع من الأمير كما يأتي، فالظاهر أنّه يحكي هذا القول عن الأمير نفسه. وفي "تذكرة الحفاظ" ص (1203): "قال الحافظ ابن عساكر: وزَرَ أبوه للقائم أمير المؤمنين، وولي عمه قضاء القضاة ببغداد وهو الحسين بن علي، قال: ولدت في شهر شعبان سنة إحدى وعشرين"، وهذا محكيّ عن الأمير نفسه، ويظهر أنّ ابن عساكر سمعه من إسماعيل ابن السمرقندي عن الأمير، ففي "التذكرة" بعد ذلك: "قال ابن عساكر: سمعت إسماعيل ابن السمرقندي يذكر أنّ ابن ماكولا ... " ذكر وفاته كما يأتي، وإسماعيل من الرواة عن الأمير، واعتمد هذا القول ابن خلكان قال: "كانت ولادته في عُكْبرا في خامس شعبان سنة إحدى وعشرين وأربعمائة"، وأحسبه أخذ هذا عن نقل ابن عساكر عن إسماعيل ابن السمرقندي، فإنّ بقية عبارة ابن خلكان هي معنى ما في "التذكرة" عن ابن عساكر عن ابن السمرقندي. القول الرابع: ما في "معجم الأدباء" في ذكر وفاة الأمير: "وقال ابن الجوزي: في سنة خمس وثمانين وأربعمائة، ومولده بعكبرا في شعبان من سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة" كذا قال، وتبعه الكُتُبي في "ذوات الوفيات" وليس هذا في "المنتظم". ويمكن إهمال هذا القول لولا ما في "تذكرة الحفاظ" أول الترجمة قال: "قال ولدت في شعبان سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة". وقد يُشكّك في الأقوال الثلاثة الأخيرة بما تقدم أنّ من شيوخ الأمير من توفي سنة 431، وأنّه حكى عن أبيه المتوفى سنة 430 في الحبس بعد مكثه فيه سنتين وخمسة أشهر. ويجاب بما تقدم أنّ الأمير أحب العلم مِن الصّبا،

* حياة الأمير

وعُني به أهله، بدليل ما تراه في رواياته في "تهذيب مستمر الأوهام" قلما يروي عن شيخ بغدادي إلا قال: "قراءة في دارنا" أو "قراءة عليه في دارنا" أو نحو ذلك، فلا يُنكر إسماعه وهو ابن إحدى عشرة أو عشر أو تسع، ولا يُنكر حفظه ضبط اسم سمعه من أبيه وهو ابن تسع، أو ثمان أو سبع على أنه لا يُنكر اجتماعه بأبيه في محبسه، وكان أبوه وزيرًا عربيًّا وجيهًا، وفي حبس قرواش بن المقلد العقيلي وهو مَلِك عربيّ سَرِي، ولم يُعرف لوالد الأمير جُرم كبير، فالظاهر أنّه كان موسَّعًا عليه في محبسه يجتمع به أهله وولده. وبعد، فأرْجَح الأقوال هو الثالث: خامس شعبان سنة إحدى وعشرين وأربعمائة. * حياة الأمير: هل كان له إخوة؟ وهل كانت دارهم التي كان يدعى إليها شيوخ العلماء ليسمع الأمير منهم هي دار عمه قاضي القضاة الحسين أيضًا؟ وهل تزوَّج الأمير؟ وهل وُلد له؟ في أسئلة أخرى لا أملك الجواب عنها، فلأقتصر على ما أملك. القَدْر الذي وقفت عليه من حياة والد الأمير وأخويه يبين أنّ اللذين وليا الوزارة، وهما الحسن وهبة الله، عاشا عيشة مضطربة، في مَدّ وجزر، ومتاعب ونكبات شديدة منهما وبهما، حتى مات الأول قتيلاً، والثاني سجينًا، وسَلِم الثالث الذي اختار العلم، وهو الحسين، فلا غرابة أن يعتبر الأمير بذلك، فيختار جانب العلم، والأمير هو القائل: تجنبتُ أبوابَ الملوك لأنّني ... علمت بما لم يعلم الثقلان عن

* طلبه العلم

رأيت سُهيلًا لم يَحِد في طريقه ... الشمسِ إلا من حذار هوان (¬1) ولا غرابة أن تتشبث به الوراثة، فيأخذ من الإمارة بنصيب لا يعوقه عن العلم، ولا يعرِّضه لما أصاب أباه وعمه. ولنبدأ بالشطر الأول وهو جانب العلم: * طلبه العلم: ليس بأيدينا ما يصف لنا بداية الأمير في طلب العلم، غير أنّه لا يخرج عمّا كان معروفًا لأبناء الأمير الجامعة (¬2) بين الإمارة والعلم، يُرَتّب له في بيت أهله مؤدِّب يحفّظه القرآن ويعلّمه القراءة والكتابة، ثم العربية والأدب والحساب، ويروِّضه على المحافظة على الواجبات الدينية، والآداب اللائقة بمركز أهله. وقد كان الأمير نحويًّا مبرزًا، وشاعرًا مجيدًا كما يأتي، وهذا يبين عنايته بهذا الجانب، وإن لم أجد نصًّا على اسم مؤدّبه وأستاذه في العربية والأدب. فأما الحديث والكتب المؤلفة فيه وفي فنونه وغيرها فسمعها من الشيوخ المعروفين، وكان إلى أن ناهز عمره عشرين سنة لا يسمع أو لا يكاد يسمع إلا في دار أهله، فإنّنا نجده إذا روى عن بعض شيوخه المتوفين سنة أربعين أو قبلها أو بعدها بقليل يبين أنّ السماع كان في داره، يقول "قراءة في دارنا" أو نحو ذلك. وهذا يفسِّر لنا ما قد يُستغرب من أنّ جماعة من الشيوخ البغداديين الذين أدركهم لم يُذكروا في شيوخه، ونذكر الآن بعض شيوخه على ترتيب وفياتهم، وذِكْر المولد إن عرفناه. ¬

_ (¬1) تصرفت في البيت الثاني بما أظنه هو الصواب. [المؤلف]. (¬2) كذا بالأصل.

* شيوخه

* شيوخه: 1 - بُشرى بن مَسِيس (ويقال له: بُشرى بن عبد الله) الرومي الفاتني (- 430). 2 - القاضي أبو عبد الله، الحسين بن علي الصيمري الحنفي (351 - 436). 3 - مُسْنِد العراق، أبو طالب محمد بن محمد بن إبراهيم بن غيلان (347 - 440). 4 - المحدّث أبو القاسم، عبيد الله بن عمر بن شاهين (351 - 440). 5 - المحدث أبو منصور، محمد بن محمد بن عثمان السواق (361 - 440). 6 - ال م حدث أبو الخطاب، عبد الصمد بن محمد بن محمد .. ابن مكرم (366 - 440). 7 - المحدث أبو الحسن، أحمد بن محمد بن أحمد العتيقي التاجر (367 - 441). 8 - المحدث أبو علي، الحسن بن علي بن محمد التميمي ابن المذهب (355 - 444). 9 - المحدث أبو القاسم، عبد العزيز بن علي الخياط الأزجي (356 - 444).

10 - المحدث أبو طاهر، عبد الغفار بن محمد بن عبد الغفار ابن الأموي (363 - 447). 11 - القاضي المحدث الأخباري، أبو القاسم علي بن المُحسِّن التنوخي (365 - 447). 12 - الراوي أبو أحمد، محمد بن موسى الغُنْدجاني راوية "تاريخ البخاري" وغيره (366 - 447). 13 - المحدث أبو بكر، محمد بن عبد الملك بن محمد بن عبد الله ابن بشران (373 - 448). 14 - الإمام القاضي أبو الطيب، طاهر بن عبد الله بن طاهر الطبري (348 - 450). 15 - المحدّث المؤرخ القاضي أبو عبد الله، محمد بن سلامة بن جعفر القُضاعي المصري (- 454). 16 - المحدث القاضي أبو تمام، علي بن محمد بن الحسن الواسطي (372 - 459). 17 - المحدث أبو علي، الحسن بن علي بن وهب الدمشقي (- 459). 18 - المحدث أبو القاسم الحسين بن محمد بن إبراهيم الحِنّائي الدمشقي (378 - 459). 19 - المحدث اللغوي النحوي الأخباري أبو غالب، محمد بن

أحمد بن سهل بن بَشران الواسطي (380 - 462). 20 - المحدث أبو محمد عبد الله بن الحسن بن طلحة يُعرف بابن البصري تِنّيسى سكن دمشق (- 462). 21 - الحافظ الإمام أبو بكر، أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي (392 - 463). 22 - المحدث النبيل أبو جعفر، محمد بن أحمد بن محمد بن المسلمة (375 - 465). 23 - المحدث الجليل أبو محمد، عبد العزيز بن أحمد الكتاني التميمي الدمشقي (389 - 466). 24 - المحدث أبو القاسم علي بن عبد الرحمن بن الحسن بن عَليّك الرازي (- 468). 25 - مسند خراسان، أبو عمرو، عثمان بن محمد بن عبيد الله المحمي (- 481). 26 - الحافظ الكبير أبو إسحاق، إبراهيم سعيد النعماني الحَبّال المصري (391 - 482). 27 - مسند قزوين أبو منصور، محمد بن الحسين بن الهيثم المقومي (- 484). 28 - الحافظ الزاهد أبو القاسم، عبد الملك بن علي بن شَغَبَة البصري (- 484).

* رحلاته

وجماعة غير هؤلاء منهم: من أهل واسط إبراهيم بن محمد بن خلف الجمّاري، ومن أهل دمشق أبو الحسن أحمد بن عبد الواحد بن محمد السلمي، ومن أهل مصر أحمد بن القاسم بن ميمون بن حمزة الحسيني، وعبد الله بن أبي الحسن الأشعري، وعبد الرحمن بن المُظفّر بن محمد السلمي الأديب، ومن أهل نيسابور هبة الله بن أبي الصهباء ابن فتحويه أبو السنابل، ومن أهل شيراز علي بن محمد بن علي بن الحسين وغيرهم. * رحلاته: في "تذكرة الحفاظ": "سمع بُشرى و ... وخلائق ببغداد، وأبا القاسم الحِنّائي وطبقته بدمشق و ... بمصر، وسمع بما وراء النهر وخراسان والجبال والجزيرة والسواحل، ولقي الحفاظ والأعلام". * الرواة عنه: جرت عادة المؤلفين أن يذكروا الرواة عن المترجم عقب ذكر شيوخه، وهؤلاء جماعة من الرواة عن الأمير: 1 - الخطيب (¬1)، وقد تقدم رقم (21) من شيوخه (392 - 463). 2 - الكتاني، وقد تقدم رقم (23) من شيوخه (389 - 466). 3 - الحافظ أبو نصر، محمد بن فتوح الحميدي (420 - 488). 4 - الشيخ المحدث الفقيه الزاهد، نصر بن إبراهيم المقدسي (407 - 490). ¬

_ (¬1) تجد من روايته عن الأمير في "تاريخ بغداد: 13/ 42". [المؤلف].

5 - الحافظ أبو محمد، الحسن بن أحمد ابن السمرقندي (409 - 491). 6 - الحافظ أبو غالب، شجاع بن فارس الذُّهلي (430 - 507). 7 - الحافظ شيرويه بن شهردار الهمذاني (445 - 509). 8 - الحافظ أبو الغنائم، محمد بن علي بن ميمون النَّرْسي (424 - 510). 9 - المحدث النحوي الزاهد، محمد بن طرخان التركي (- 513). 10 - المحدث أبو علي، محمد بن محمد ابن المهتدي (432 - 515). 11 - الحافظ أبو عبد الله، محمد بن عبد الواحد الدقاق الأصبهاني (بضع و430 (¬1) -516). 12 - المحدّث أبو الحسن، علي بن الحسين بن عمر بن الفراء المصري (433 - 519). 13 - المحدث المفيد أبو القاسم إسماعيل بن أحمد بن عمر ابن السمرقندي (454 - 536). 14 - المحدث أبو الحسن علي بن هبة الله بن عبد السلام الكاتب (452 - 539). 15 - الحافظ أبو الفضل، محمد بن ناصر السَّلَامي (467 - 550). ¬

_ (¬1) "بضع وثلاثين وأربعمائة". [المؤلف].

* الثناء عليه

وآخرون، كأبي نصر عبد الملك بن مكي بن بنجير الهمذاني، وأبي ثابت بنجير بن علي. * الثناء عليه: قال الحافظ محمد بن طاهر المقدسي: "سمعت أبا إسحاق الحبال، (يعني المتقدم رقم 26 من شيوخ الأمير) يمدح أبا نصر ابن ماكولا ويثني عليه ويقول: دخل مصر في زيّ الكَتَبة فلم نرفع به رأسًا، فلمّا عرفناه كان من العلماء بهذا الشأن". وقال الحافظ الحميدي (المتقدم رقم (3) من الرواة عنه): "ما راجعت الخطيب في شيء إلا وأحالني على الكتاب، وقال: حتى أكشفه، وما راجعت ابن ماكولا في شيء إلا وأجابني حفظًا كأنّه يقرأ من كتاب". وقال الحافظ شجاع الذُّهلي (المتقدم رقم (6) من الرواة عنه): "كان حافظًا فهمًا ثقة". وقال شيرويه (المتقدم رقم (7) في الرواة عنه): "كان الأمير يُعرف بالوزير سعد الملك ابن ماكولا، قَدِم (همذان) رسولاً (من الخليفة إلى ملوك تلك الجهات) مرارًا، سمعت منه، وكان حافظًا متقنًا عُني بهذا الشأن، ولم يكن في زمانه بعد الخطيب أحد أفضل منه, حضر مجلسه (بهمذان) الكبار من شيوخنا وسمعوا منه". وقال أبو سعد ابن السمعاني الحافظ: "كان ابن ماكولا لبيبًا حافظًا عارفًا، يرشح للحفظ حتى كان يقال له: "الخطيب الثاني"، وكان نحويًّا

مجوّدًا، وشاعرًا مبرزًا، جزل الشعر، فصيح العبارة، صحيح النقل، ما كان في البغداديين في زمانه مثله، طاف الدنيا وأقام ببغداد". وقال ابن النجار: "أحبّ العلم من الصبا، وطلب الحديث، وأتقن الأدب، وله النظم والنثر والمصنفات، نفَّذَه المقتدي بالله رسولاً إلى سمرقند وبخارى لأخذ البيعة له على ملكها". وقال الذهبي عند ذكر كتاب "تهذيب مستمر الأوهام" للأمير: "ملَكْته، وهو كتاب نفيس يدلّ على تبحر ابن ماكولا وإمامته". وقال الحافظ مؤتمن السّاجي: "لم يلزم ابن ماكولا طريق أهل العلم فلم ينتفع بنفسه". وقال ابن الجوزي في وفيات سنة 486 من "المنتظم": "كان حافظًا للحديث ... وكان نحويًّا مبرّزًا، جزل الشعر، فصيح العبارة ... وحدّث كثيرًا، وسمعت شيخنا عبد الوهاب يطعن في دينه ويقول: العلم يحتاج إلى دين". قال المعلمي: عبد الوهاب هو الأنماطي الحافظ الصالح الزاهد، ومولده سنة اثنتين وستين وأربعمائة، وسيأتي أنّ الأمير خرج من بغداد قبل سنة 475 ولم يعد إليها، وكان عُمر عبد الوهاب حينئذ نحو اثنتي عشرة سنة، وكان الأمير ذا حشمة وأبّهة، عسى أن يكون عبد الوهاب رآه من بعيد، ورأى أبهته وحشمته، فأراه ما كان معروفًا به من العبادة والصلاح أنّ ذلك نقص في الدين. وغايةُ كلمته أن تكون من الجرح المجمل، لا يُعتدّ به مع التوثيق، وقد أعرض الذهبي عن كلمة عبد الوهاب فلم يذكرها في "التذكرة"، ولا ذكر الأمير في "الميزان" مع التزامه أن يذكر فيه كل من تكلّم

فيه، ولو بما لا يضرّه. فأمّا كلمة المؤتمن فأبعد عن الطعن، إنّما عنى أنّ اختيار الأمير زِيّ الأمراء أو الكُتَّاب - كما عبر به الحافظ الحبال وقد تقدم - حالَ بين الأمير وبين نشر علمه، فلم تنتشر الرواية عنه، وهذا صحيح، حتى قال الذهبي: "يعز وقوع حديث الأمير ابن ماكولا" يعني يعز وجود الحديث مسندًا من طريقه. وقد قدمت السبب الذي دعا الأمير إلى اختيار طلب العلم مع التشبث بمظاهر الإمارة، وذكرت طرفًا من الشطر الأول، وبقي منه طرف أرى أن أرجئه الآن، وأقدم الشطر الثاني. الأمير كما قال ياقوت: "من بيت الوزارة والقضاء والرياسة القديمة"، وقد سبقت الإشارة إلى ما وقفت عليه من الرياسة والوزارة، وذلك ثابت متمكن، فأمّا القضاء فإنّما عرفته لعمه الحسين وقد نُشّئ الأمير تنشئة الأمراء، حتى سماعه للعلم، كان يُدعى شيوخ أهل العلم إلى داره ليسمع منهم كما تقدم، ولمّا رحل إلى مصر كان في زِيّ الكُتّاب كما قال الحبال، والكُتّاب إذ ذاك هم الوزراء ونحوهم. هذا شأن الهيئة والأُبهة والحشمة. فأمّا التلبس بالإمارة فكان حظ الأمير منها هو السفارة بين الخليفة وبين ملوك البلدان النائية، وقد تقدم أن المقتدي الخليفة نفذه إلى سمرقند وبخارى لأخذ البيعة له على ملكها، وتقدّم أنّه ورد همذان مرارًا رسولًا من الخليفة إلى ملوك الجهات. وذكر الأمير في رسم (بزرك) من "الإكمال" نظام الملك الوزير المشهور مدبّر الدولة السلجوقية من سنة 455 إلى أن

* الأمير والأدب

توفي سنة 485 فقال الأمير: " .... نظام الملك قوام الدين، غياث الدولة رِضى أمير المؤمنين، أبو علي الحسن بن علي بن إسحاق، يُعرف بين العجم بالبزرك، ومعناه: العظيم، سمع الكثير، وحدّث وأملى بخراسان جميعها، وبالثغور وبقوهستان وغيرها من البلاد، وسمعت منه إملاءً بالري، وسمعت منه بنواحي خت وبقراءة غيري، وكان ثقة ثبتًا متحريًّا فهمًا عالمًا". وكان سفراء الخلفاء إلى الملوك إنّما يُختارون من مشاهير العلماء، وقد اجتمع في الأمير العلم والإعراق في الإمارة، ولم تذكر له مباشرةٌ للإمارة سوى هذه السفارات، ويظهر أنّ الخليفة لقّبه بالأمير سعد الملك ليكون ذلك أرجى لنجاحه في سفاراته, وهل لقّبه أيضًا بالوزير، فقد كان يُعرف بذلك كما سلف من شيرويه؟ لم تكن سفارات الأمير ورحلاته في البلدان لتشغله عن العلم، فقد رأيتَ حاله مع نظام الملك، ومرّ بك قول شيرويه في حال الأمير في همذان. وقال الأمير في باب (بَرهان وبُرهان) عن "تهذيب مستمر الأوهام": "قال الخطيب: برهان بن سليمان السمرقندي الدبُّوسي - بتشديد الباء - وهذا وهم؛ لأنه الدبُوسي بتخفيف الباء، دَبُوسية بلدٌ بين كشانية وكرميلية (عند ياقوت: كرمينية) ... دخلته وحدّثت به، وسمع الجماعة من أهل العلم مني به". * الأمير والأدب: للأمير كتاب (مفاخرة القلم والسيف والدينار) ذكره صاحب "كشف الظنون"، وقال: "أوله: اللهم إنّا نسألك إلهام ذكرك ... إلخ" وله مقاطيع من

* الأمير والخطيب وهذا الفن

الشعر من أجودها قوله: قوَّض خيامك عن أرض تُهان بها ... وجانِبِ الذلَّ إنّ الذلَّ مُجتنَبُ وارحل إذا كانت الأوطانُ منقصةً ... فالمَنْدلُ الرطْبُ في أوطانه حطبُ * الأمير والخطيب وهذا الفن: قد سبق أنّ الخطيب من شيوخ الأمير ومن الرواة عنه في الجملة، والنظر هنا فيما يتعلّق بكتاب "تهذيب مستمر الأوهام"، ففي "التذكرة": "قال أبو الحسن محمد بن مرزوق: لمّا بلغ الخطيب أنّ ابن ماكولا أخذ عليه في كتابه "المؤتنف" وصنف في ذلك تصنيفًا، وحضر عنده ابن ماكولا، سأله الخطيب عن ذلك فأنكر ولم يقرّ، وأصرّ وقال: هذا لم يخطر ببالي. وقيل: إنّ التصنيف كان في كُمه، فلمّا مات الخطيب أظهره، وهو الكتاب الملقب بمستمر الأوهام". قال المعلمي: ظاهر صيغة الذهبي أنّ الحكاية ثابتة عن محمد بن مرزوق، ومحمد بن مرزوق ثقة من الرواة عن الخطيب، ومولده سنة 442، ومات سنة 517. وفي "معجم الأدباء": "قال ... الحميدي ... " فذكر الكلمة التي تقدمت في الثناء على الأمير، وقال عقبها: "قال: وبلغ أبا بكر الخطيب أنّ ابن ماكولا أخذ عليه في كتابه "المؤتنف"، وصنّف في ذلك تصنيفًا، وحضر عنده ابن ماكولا، وسأله الخطيب عن ذلك فأنكره ولم يقرّ به، وقال: تنسبني الناس إلى ما لا أحسنه من الصنعة، واجتهد الشيخ أبو بكر أن يعترف بذلك، وحكى له ما كان من عبد الغني بن سعيد في تتبعه أوهام الحاكم أبي عبد الله

في كتاب "المدخل"، وحكايات عدة من هذا المعنى، قال: أرني إيّاه، فإن يكن صوابًا استفدته منك، ولا أذكره إلاّ عنك، فأصرّ على الإنكار، وقال: لم يخطر هذا ببالي قط، ولم أبلغ هذه الدرجة، أو كما قال". قال المعلمي: ظاهر السياق أنّ هذه الحكاية حكاها الحُميدي. لكن الأمير يقول في خطبة "تهذيب مستمر الأوهام" ما نصّه: "بعد ذلك، فإنّ أبا بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي - رحمه الله - وكان أحد الأعيان ممّن شاهدناه معرفة وإتقانًا، وحفظًا وضبطًالحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتفنّنًا في علله وأسانيده، وخبرة برواته وناقليه، وعلمًا بصحيحه وغريبه، وفرده ومنكره، وسقيمه ومطروحه، ولم يكن للبغداديين بعد أبي الحسن علي بن عمر الدارقطني من يجري مجراه، ولا قام بعده بهذا الشأن سواه، وقد استفدنا كثيرًا من هذا اليسير الذي نحسنه به وعنه، وتعلّمنا شطرًا من هذا القليل الذي نعرفه بتنبيهه ومنه، فجزاه الله عنّا الخير ولقاه الحسنى، ولجميع مشايخنا وأئمتنا ولجميع المسلمين، كان قد عمل بالشام كتابًا سمّاه "المؤتنف تكملة المؤتلف"، ولمّا عاد إلى بغداد قرأ عليّ شيئًا من أوّله مغربًا عليّ به مشرفًا لي بما ضمَّنه إياه، ومعرّفًا لي قدر ما تيسر له، وأنه قد استدرك فيه على أئمة هذا العلم أشياء تم عليهم السهو فيها، ونبّه على أشياء غفلوا عنها ولم يحيطوا بها معرفة، ووجدته كبيرًا فظننت أنّه قد استوعب ما يحتاج إليه في هذا المعنى، ولم يدع بعده لمتتبع حكمًا. ولما دُعي به فأجاب قال لي بعض المتشاغلين والمعتنين بهذا العلم: لقد تَعِب الخطيب وأتْعَب، تَعِب بما جمعه، وأتعبا من أراد أن يعرف الحقيقة في [اسم] لأنّه يحتاج أن يطلبه في كتاب الدارقطني، فإن لم يجده

ففي كتابَي عبد الغني، فإن لم يجده ففي كتاب الخطيب، ثم يحتاج أن [يفصل] طبقاته أيضًا، فيمضي زمانه ضياعًا، ويصير ما أريد من إرشاده تضليلاً، فلو أنّك جمعتَ شمل هذه الكتب، وجعلتها كتابًا واحدًا حُزْت الثواب ويسرت على مبتغي العلم الطِّلاب، وراجعني في ذلك مراجعة تجرّمت لها وأوجبت له فيها رعايةً لحقه ورغبة في مساعدته، واغتنامًا للأجر في إفادة مسترشد وتعليم جاهل ومعرفة (¬1) طالب. وبدأت بالنظر في كتاب الخطيب فوجدته يذكر في أوله أنّه قد جمع فيه من مؤتلف أسماء الرواة وأنسابهم ومختلفها، وممّا يتضمن كتب أصحاب الحديث من ذلك، وإن لم يكن المذكور راويًا، ما شذّ عن كتابي أبي الحسن علي بن عمر وأبي محمد عبد الغني بن سعيد المصنفين في "المؤتلف والمختلف"، وفي "مشتبه النسبة"، وأنّه يذكر ما رسم فيهما أو في أحدهما على الوهم، ودخل على مدوّنه فيه الخطأ والسهو، ويبين فيه صوابه، ويورد شواهده، ويذكر صحيح ما اختلفوا فيه ممّا انتهى إليه علمه، ويقر ما أشكل عليه من ذلك؛ لينسب كل قول إلى صاحبه. وجعله خمسة فصول، أورد في الأول منها ما لم يذكراه ولا واحد منهما، وفي الثاني أوهام كتبهم، وفي الثالث ما أغفلاه ممّا أوردا له نظائر، وفي الرابع أشياء ذكراها وقصّرا في شرحها وإيضاحها فبينها وأتم نقصانها، وفي الخامس ما أورداه من الأحاديث نازلة ووقعت له عالية. ولما أنعمتُ النظر فيه وجدته قد ذكر في الفصل الأول ما قد ذكراه أو أحدهما، وفي الفصل الثاني قد غلّطهما في أشياء لم يغلطا فيها وأخل بأوهام لهما ظاهرة، ¬

_ (¬1) لعل الصواب: "ومعونة". [المؤلف].

وفي الفصل الثالث قد كرّر أشياء ذكراها أو أحدهما، وأخل بنظائر لِمَا ذكراه لم يهتد إليها، وفي الفصل الرابع لم يشرح ممّا ضَمِن بيانه إلا شيئًا يسيرًا. وفي كتبهم أشياء كثيرة تحتاج إلى شرح وبيان، وإيضاح وتعريف، ولا سيما كتاب عبد الغني، فإنّ أكثر ما فيه غير مبين. [و] وجدت له في تضاعيف الكتاب أوهامًا من تصحيف، وإسقاط أسماء من أنساب، وأغلاطًا غير ذلك، فتركته على ما هو عليه، وجمعت كتابي الذي سميته بـ "الإكمال"، ولم أتعرض فيه لتغليطه ولا لتغليط غيره، ورسمت ما غلط فيه واحدٌ منهم في كتابه على الصحة. ولما أعان الله على تمامه ذكرت ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال: "من كتم علمًا عَلِمه أُلجِم يوم القيامة بلجام من نار". وما رُوي عن بعض السلف أنّه قال: ما أوجب الله تعالى على الجهال أن يتعلموا حتى أوجب على العلماء أن يعلّموا. وخشيت أن تبقى هذه الأوهام في كتبهم، فيظن من يراها أنّها الصحيح ويتبع أثرهم فيها فيضلّ من حيث طلب الهداية، ويزلّ من جهة ما أراد الاستثبات، وإذا رأى كتابي بما [يخالفها] تصور أن الغلط ما ذكرته أنا، وإن أحسن الظن بي جعل قولي خلافًا وقال: كذا ذكر فلان، وكذا ذكر فلان. فاستخرت الله تعالى، ورغبت إليه في عضدي بالتوفيق والإرشاد، وسألته إلهامي القصد، وتأييدي بالسداد، وجمعت في هذا الكتاب أغلاط أبي الحسن علي بن عمر وعبد الغني بن سعيد ممّا ذكره الخطيب وممّا لم يذكره؛ لتكون أغلاطهما في مكان واحد، وما غلَّطهما فيه وهو الغالط، وأغلاط الخطيب في "المؤتنف"، ورتبته على حروف المعجم ليسهل طلبه على ملتمسه، ويقرب وجوده من طالبه، وتَثْبت الحجة على ما ذكرته،

والدليل على ما أوردته، واعتمدت الإيجاز والاختصار، ولم أسق الطرق، وأُكْثِر بتكرير الأسانيد. وتركتُ أغلاطًا للخطيب رحمه الله في تراجم أبواب حكاها عن الشيخين وَهِم عليهما أو على أحدهما فيها، ورتبها على غير ما رتباه تركًا للمضايقة، ولأن ذلك ممّا لا يضر طالب العلم جهلُه، ولا تنفعه استفادته، ويعلم الله تعالى أن قصدي فيه تبصير المسترشد، وإرشاد الحائد، وتيسير الطرق على حافظي شريعة الإِسلام، وتقريب البعيد على ناقلي سنن الأحكام، وهو بقُدْرته ولطفه لا يضيع أجر من أحسن عملاً، إنّه جواد كريم رؤوف رحيم" (¬1). قال المعلمي: سُقت هذه الخطبة بطولها لما اشتملت عليه من المطالب، وأصل مقصودي هنا أنّ الأمير ينص على أنّه إنّما بدا له أن يؤلف في هذا الفن بعد أن "دُعي الخطيب فأجاب"، وأنّه بدأ بتأليف "الإكمال" فلمّا تمّ شرع في تأليف "تهذيب مستمر الأوهام". قد يقال: إن كلمة "دُعي به فأجاب"، وإن كان ظاهرها الموت فإنها تحتمل غيره، ويقوّي هذا الاحتمال عدول الأمير إليها عن التصريح بالموت، وهذا ربّما يُشعر بأنّ القضية وقعت في حياة الخطيب، ولكن لم يشأ الأمير أن يصرح في كتابه بما ¬

_ (¬1) عندي من "تهذيب مستمر الأوهام" نسخة مصورة مكبرة عن فلم بمعهد المخطوطات كما في فهرسه رقم 190 في كتب التاريخ وفي الفهرس أنها كتبت في القرن السابع. وفي النسخة نقص في أثنائها. ولم يصلني إلا بعد طبع الجزء الأول من الإكمال. [المؤلف].

ينافي (¬1) ما قاله للخطيب، ولا مجال لأن يكذب فورَّى بهذه الكلمة. قال المعلمي: هذا بادي الرأي وجيه، لكن يرده أنّ في آخر "الإكمال" (نسخة دار الكتب) ما نصه: "قال الأمير أبو نصر هبة الله بن علي بن جعفر رحمه الله: فرغتُ من تصنيف هذا الكتاب يوم الاثنين ثالث شعبان من سنة سبع وستين وأربعمائة، وكان الابتداء بتصنيفه ليلة السبت الثاني من صفر سنة أربع وستين وأربعمائة، عملت إلى بعض حرف الحاء ثم تشاغلت عنه مدة طويلة ثم عدت فأكملته يوم الأحد سلخ شعبان سنة سبع وستين وأربعمائة، وبدأت بكَتْب هذه النسخة في سنة سبع، ثم خرجت من بغداد، وقد بلغت إلى آخر العاشر منها، ثم عدت إلى تبييضه الثاني من شهر رمضان سنة سبعين وأربعمائة وفرغت منها يوم الثلاثاء السادس عشر من شوال سنة سبعين وأربعمائة". والخطيبُ توفي في سابع ذي الحجة سنة ثلاث وستين، وبين وفاته وشروع الأمير في تصنيف "الإكمال" - على حسب ما ذكره - أقل من شهرين، ولم ينص على تاريخ ابتدائه تصنيف كتابه الثاني (تهذيب مستمر الأوهام) ولكن في آخره ما نصه: "قال الأمير أبو نصر ابن ماكولا رحمه الله: وهذا آخر ما وجدناه إلى آخر صفر من سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة مع تقسم الفكر، وتشعّث الخاطر بأهوال الزمان ونوائبه، وقلة التنقير والتفتيش، ولعل الوقت يتسع فأعيد النظر مرة أخرى وأتقصَّى التفتيش، فإن وجدت شيئًا ألحقته بمكانه". ويشهد لما ذكره الأمير أنّ الخطيب إنّما عاد إلى بغداد سنة اثنتين ¬

_ (¬1) في الأصل: "يتأخى" ولا معنى لها.

وستين كما في "التذكرة" ص (1142) عن ابن السمعاني، وبين ذلك ووفاة الخطيب أقل من سنتين، ولا أرى هذه المدة تتسع لتحصيل الأمير نسخةً من كتاب الخطيب ثم نظره فيه ثم تعقبه له، وتأليفه كتابًا في ذلك يحضر إلى الخطيب وهو في كمه، ثم لا داعي للأمير بعد وفاة الخطيب إلى أن يصرح بما تقدم لو كان يعلم أنّه خلاف الواقع، وفي وسعه أن يبهم الأمر. وبعدُ فالخَطْب سهل، فإنّ الحكاية لم تُثبِت أنّ الأمير صنف، وإنّما ذكرت أنّه بلغ الخطيب أنّ ابن ماكولا أخذ عليه في كتابه وصنف في ذلك تصنيفًا, ولم تُبين من الذي بلّغ الخطيب ذلك. والمخلص من التعارض هو أنّ الأمير لما اطلع على كتاب الخطيب كان يعرض له الاعتراض بعد الاعتراض، ويهاب الخطيب، ولكنه يذكر ذلك لبعض من يثق به، وكأنه تكرر ذلك فتوهم بعض أولئك الذين كان يشق بهم أنّه قد شرع في تصنيف يتعقب فيه الخطيب، فنُمِي ذلك إلى الخطيب فجرى ما جرى، والأمير صادق فيما أجاب به الخطيب؛ لأنّه لم يكن قد بدا له أن يصنف تصنيفًا، وصادق فيما قاله في كتابيه. أمّا ما يظهر من كلام الأمير من تأخر جمعه "التهذيب" عن تصنيفه "الإكمال" فقد يعارضه ما يوجد من الإحالة عليه في "الإكمال"، ويُوَفَّق إمّا بأن تكون تلك الإحالة متأخرة ألحقها الأمير في "الإكمال"، ولم تكن فيه عندما أتمّ تصنيفه أول مرَّة، وإمّا - وهو المتّجِه - بأنّ الأمير عزم أولا على تصنيف الكتابين، وبدأ بتصنيف "الإكمال" مهذبًا، وكان كلّما رأى وهمًا في تلك الكتب التي هذبها قيد ذاك الوهم في دفتر خاص، فلمّا أتمّ تصنيف "الإكمال" وتأكد عزمه على تصنيف "التهذيب" شرع في تصنيفه بعد أن

تجمعت له مادة ذلك، ويشهد لهذا أنّه فيما قد وقفت عليه الإحالات، قال فيها: "ذكرناه في الأوهام"، ولم يذكر اسم التهذيب. وليتدبر القارئ اعتذار الأمير عن تعقبه أوهام المتقدمين، فإنّي لم أرَ في معناه اعتذارًا يضاهيه في المتانة والإقناع. وقد سمعتَ ثناءه البالغ على الخطيب وتواضعه في نفسه, وأوضَح الحالَ في مقدمة "الإكمال" إذ قال: "ولست أدّعي التقدمَ عليهم في هذا الفن ولا المساواة لهم فيه ولا المقاربة، وإنّما أدعي أني تتبعت هذا الفن أوفى ممّا تتبعوه، وصرفت إليه اهتمامي أكثر ممّا صرفوه، وتركت التأويل الضعيف الذي أجعله طريقًا إلى تغليط أئمة هذا الشأن الذين بأقوالهم نقتدي، ولآثارهم نقتفي، ولأنّي كُفيت مؤنة التتبع لما أودعوه كتبهم فخفّ عنّي أكثر الثقل وسقط عني عُظْم العناء". وقد كان الأمير معنيًّا من صباه بضبط الأسماء، فقد مرّ بك في بيان تاريخ ولادته قوله في ضبط (أبّا) "وثبتني فيه السعيد أبي" وتقدم هناك ما يتعلق به، ولا بد أنّه جرى على ذلك في طلبه العلم، ويشهد لذلك ما يدل عليه كلامه من جمعه كثيرًا من الكتب في التواريخ والنِّسَب بالخطوط الموثوقة، فينقل عن "تاريخ مصر" لابن يونس، ويذكر أنّه عنده بخط أبي عبد الله الصوري الحافظ المتقن، وينقل عن "تاريخ بخارى" لغُنجار، ويذكر أنّه عنده بخط غنجار المؤلف، وينقل عن كتاب شبل بن تكين في النَّسب، ويذكر أنّه عنده بخط شبل، وهكذا يقول في كتب أخرى "بخط ابن الفرات - بخط ابن عبدة النسابة - بخط علي بن عيسى الرَّبَعي، في كتاب أحمد بن محمد بن سعيد بخطه في نسب حمير"، ونحو ذلك في نسب قضاعة وغيرها ويبين في مواضع أسانيده بهذه الكتب عن أهلها المتقنين لها

* خروج الأمير آخر مرة من بغداد ووفاته

كالنسَّابة العمرى، والشريف النسابة، وغير ذلك، وسيتضح ذلك من فهرس الكتب الذي سيرتب في فهارس "الإكمال" إن شاء الله. ثم قضية الوقت والتفرغ، فقد كان الخطيب رحمه الله موزَّع الوقت والنظر بين عدة المؤلفات يؤلفها معًا، يجعل ساعة لهذا وساعة لذاك، مع اشتغاله بالتسميع وغيره، وقريب من ذلك حال الدارقطني، فأمّا الأمير فإنه حصر همه في هذا الفن. * خروج الأمير آخر مرة من بغداد ووفاته: توافقت الروايات على أن الأمير قُتِل في بعض بلدان الشرق، اغتاله غِلمان له أتراك، وأخذوا ماله وفرُّوا. واختُلف في الموضع والتاريخ, أمّا الموضع فقيل: خوزستان أو الأهواز، وهما واحد، وقيل: جرجان، وقيل: كرمان. وأمّا التاريخ فذكر ابن الجوزيُّ الأميرَ في وفيات سنة 475 من "المنتظم"، وجزم بوفاته فيها، ثم ذكره في وفيات سنة 486 وجزم بوفاته فيها أو في التي تليها، وكلا القولين مرويّ عن شيخه محمد بن ناصر، ففي "التذكرة": "قال ابن ناصر: قُتل الحافظ ابن ماكولا، وقد كان سافر نحو كرمان، ومعه مماليكه الأتراك، فقتلوه وأخذوا ماله في سنة خمس وسبعين وأربعمائة، هكذا نقل ابن النجار. وقال أبو سعد السمعاني: سمعت ابن ناصر يقول: قتل ابن ماكولا بالأهواز إما في سنة ست - أو سبع - وثمانين وأربعمائة". وفي "التقييد": "أخبرنا محمد بن عمر بن علي بن خليفة

الحربي قال: أبنا ابنُ ناصر إجازة: مولد (¬1) أبي نصر ابن ماكولا في سنة عشرين وأربعمائة، وقتل في سنة خمس وتسعين (كذا) وأربعمائة بخوز كربان (كذا) قتله غلمان له من الأتراك وأخذوا الموجود من ماله". وقوله: "وتسعين" محرف والصواب "وسبعين" جزمًا. وفي "وفيات ابن خلكان": "قال الحُميدي: خرج إلى خراسان ومعه غلمان له أتراك فقتلوه بجرجان، وأخذوا ماله وهربوا، وطاح دمه هدرًا، رحمه الله تعالى" والحميدي توفي سنة 488، كما مرّ في الرواة عن الأمير. وفي معنى الأول ما ذكره ابن عساكر عن إسماعيل ابن السمرقندي قال: "سنة نيف وسبعين وأربعمائة". وفي معنى - بل هو عبارة عنه فيما أرى - قول ابن السمعاني "بعد الثمانين". فأمّا قول ابن خلكان: "وقال غيره في سنة تسع وسبعين" فشاذ، ولم يبين قائله، وكذلك قول ياقوت وتبعه الكُتبي "سنة خمس وثمانين" وأراه وهما. وثَمّ قضايا قد يستدل بها على تأخر موت الأمير عن سنة 475: الأولى: أنّ ابن ناصر من الرواة عن الأمير مع أنّه إنّما ولد سنة 467، ويجاب عن هذا بأنّه لا مانع من سماع ابن ثماني سنين، مع أنّ ابن ناصر إنّما يروى عن الأمير بالإجازة كما صرّح به ابن نقطة في "التقييد"، قال: "وآخر من حدّث عنه بالإجازة محمد بن ناصر". الثانية: ما في "التذكرة" من طريق ابن المقيّر وابن الأخضر عن ابن ناصر: "عن كتاب أبي نصر الأمير إليه" ومن طريق أبي الحسن بن الفراء عن الأمير ... ، فذكر خبرًا هو في "الإكمال" في رسم (فافاه) و"الإكمال" يرويه ¬

_ (¬1) في النسخة "مولى". [المؤلف].

الناس عن ابن المقير عن ابن ناصر عن الأمير، فيظهر أنّ الذهبي إنّما أخذ رواية ابن المقير لذاك الخبر من سند "الإكمال" نفسه. فأمّا ما في سياق الخبر من مخالفة لما في "الإكمال"؛ فكأنّ الذهبي ساق لفظ ابن الفراء عن الأمير ولم يسق لفظ ابن ناصر، وعلى هذا فابن ناصر يروي الإكمال أو يروي ذاك الخبر على الأقل بحق إجازة كتب بها الأمير إليه، وابن ناصر نشأ يتيمًا من عائلة هي إلى الفقر أقرب منها إلى التوسّط، فكيف يظن به وهو في السابعة من عمره تقريبًا أن يكتب الأمير إليه؟ أمّا أن يكتب إليه وهو ابن سبع عشرة سنة أو نحوها فهذا لا غبار عليه، فإنّ ابن ناصر كان في ذاك السن طالبًا لبيبًا، فغير ممتنع أن يكتب إلى الأمير يلتمس منه الإجازة فيسعفه الأمير بالكتابة إليه بها. والذي يظهر لي أنّ كلمة "إليه" من زيادة بعض الرواة توهمًا، وإنّما أصل اللفظ "عن كتاب الأمير أبي نصر"، ويقصد بالكتاب ههنا كتاب الإجازة، كأنّ الأمير كتب إجازة لجماعة التمسوا منه ذلك وكتبوا أسماءهم وكان فيهم من يعتني بابن ناصر، فكتب اسم ابن ناصر معهم، فكتب الأمير بالإجازة لمن في ذاك الكتاب. وممّا يشهد لهذا ما في رسم (فتحويه) من استدراك ابن نقطة عند ذكر هبة الله بن أبي الصهباء - أحد شيوخ الأمير - ما لفظه: "وسمع منه أبو نصر ابن ماكولا، ونسبه في إجازته كذلك ... " دلّ هذا على أنّه كانت هناك إجازة من الأمير مكتوبة معروفة بين أهل العلم اطلع عليها ابن نقطة وأنّها كانت لجماعة، إذ لو كانت لواحد لكان الظاهر أن يسميه ابن نقطة، يقول: "في إجازته لفلان". على أنّه لو صحت كلمة "إليه" لم يكن فيها ما ينافي أن تكون الكتابة وابن ناصر في السابعة مثلًا؛ لأن الواقع فيما يظهر كما مرّ أنَّ جماعة

كتبوا إلى الأمير يلتمسون الإجازة، وكتبوا ابن ناصر معهم، فكتب الأمير إلى المسمَّيْن في الكتاب، ومنهم ابن ناصر، وقد تقدم عن ابن ناصر أنّه قال مرة: إنّ الأمير قُتل سنة خمس وسبعين، فكيف يقول هذا، وعنده كتاب الأمير إليه بعد هذا التاريخ؟ الثالثة: ما في رسم (الحبَّال) من "الإكمال" ذكر إبراهيم الحبال المتقدم في شيوخه رقم (26) وقال: "وكان مكثرًا ثقة ثبتًا ... "، وفي "الإكمال" أيضًا في رسم (بزرك) في ذكر الوزير نظام الملك: "وكان ثقة ثبتًا"، وهذه الصيغة "كان ثقة" إنّما تقال عادة فيمن قد مات، ولم يمت الحبَّال إلا سنة 482، ولا نظام الملك إلا في سنة 485، وربما كانت هذه الكلمة هي مستند ابن ناصر في قوله الثاني: إنّ الأمير توفي سنة ست وثمانين وأربعمائة أو في التي تليها، وقد تكون هي مستند ياقوت إذ قال: إنّ وفاة الأمير سنة خمس وثمانين وأربعمائة إن لم يكن وهم. ولا يخدش في هذا وجود هذه الكلمة في جميع نسخ "الإكمال" التي وقفت عليها، ومنها النسخة التي ذُكِر في آخرها قول الأمير: إنّه فرغ من التبييض سنة سبعين وأربعمائة، لاحتمال أنّ الأمير زاد في النسخة زيادات بعد هذا التاريخ, ولما ظهرت النسخة التي زاد فيها ألحق أرباب النسخ التي كانت قبل ذلك تلك الزيادات في نسخهم. وقد يُنظر في هذه القضية بأن كلمة "كان ثقة" ربما تقال فيمن هو حي، ففي ترجمة ابن المسلمة (المذكور في شيوخ الأمير رقم 22) من "تاريخ بغداد" هذه الكلمة "وكان ثقة ... "، مع أنّ الخطيب توفي قبله. وبالجملة فلم يتضح لى ترجيح لأحد القولين على الآخر، غير أنّ "اشتهار الأول بين البغداديين بدون مخالف محقّق يدل على أنّ الأمير خرج

* مؤلفات الأمير

من بغداد في أوائل سنة خمس وسبعين وأربعمائة أو قبلها, ولم يعد إليها ولا ورد إلى بغداد خبرٌ بحياته بعدها، إلا أن يكون شيئًا وقع لابن ناصر بعد زمان. هذا وإنّي لمَّا أستوعب "الإكمال" و"المُستمر" مطالعةً، وقد يكون فيما لم أطالعه منهما ما يوضح الحال والله المستعان. * مؤلفات الأمير: أشهر مؤلفات الأمير كتاب "الإكمال"، وله كتبت هذه المقدمة، وسيأتي بسط القول فيه، وكتاب "تهذيب مُسْتمر الأوهام"، وقد تقدمت خطبته، وكتاب "الوزراء" ذكره الأمير في رسم (البريدي) من "الإكمال"، قال: "أبو عبد الله البريدي الذي ولي الوزارة، قد ذكرناه في كتاب الوزراء"، وكتاب "مفاخرة القلم والسيف والدينار"، مرّ ذكره. ***

الإكمال ووصفه

الإكمال ووصفه اسمه التام (الإكمال في رفع [عارض] الارتياب عن المؤتلف والمختلف من الأسماء والكنى والأنساب)، وكلمة "عارض" ثبتت في النسختين رقم (5 و6) الآتي ذكرهما في النسخ. "الإكمال" كتاب جليل أثنى عليه أرباب هذا الفنّ وأهل المصطلح، ومترجمو الأمير وغيرهم، فمن أمثلة ذلك: قال ابن نقطة: " جمع فيه كتب الحفاظ المتقدمين، وصار قدوة وعَلَمًا للمحدثين وعمدة للحفاظ المتقنين، وفاصلاً بين المختلفين، ومزيلًا لشُبَه الشكّ عن قلوب المرتابين". وقال النووي في "التقريب" عند ذكر كتب هذا الفن: "أحسنها وأكملها "الإكمال" لابن ماكولا"، وقال ابن خلكان: "هو في غاية الإفادة في رفع الالتباس والضبط والتقييد، وعليه اعتماد المحدثين وأرباب هذا الشأن، فإنّه لم يوضع مثله، ولقد أحسن فيه غاية الإحسان ... وما يحتاج الأمير المذكور مع هذا الكتاب إلى فضيلة أخرى، وفيه دلالة على كثرة اطلاعه وضبطه وإتقانه". الكتاب مرتّب على ترتيب حروف المعجم، فهو مقسوم إلى ثمانية وعشرين حرفًا، وكل حرف مقسومٌ إلى قسمين، الأول: ما جاء في الأسماء والألقاب والكنى, والثاني: في مُشتبه النَّسبة، وكل قسم من هذه الأقسام مرتّب على أبواب يشتمل كل باب على مادتين فأكثر، يذكر تحت كل مادة شخص أو أكثر، فإذا كثروا بدأ بالأشخاص الذين يقع الاشتباه في أسمائهم أو ألقابهم أنفسهم فإذا فرغ منهم قال: "الكنى والآباء" فذكر من يقع الاشتباه

في كنيته أو في اسم بعض آبائه أو كنيته. مثال ذلك: قال في حرف الباء الموحدة: "باب بُجَير وبَحِير وبُحَير وبُحْتُر) ثم ذكر المادة الأولى وهي (بُجَير)، فذكر بجير بن أبي بجير، وبجير بن بجرة، وبجير بن زهير، وعدة بجيرين، ثم قال: "الكنى والآباء - أبو بجير محمد بن جابر، وأبو بجير زهير بن أبي سلمى ... والحارث بن بجير ... وجابر بن أبي بجير ... "، وعند الاستواء يقدم الرجال على النساء، ويقدم الصحابة فمن بعدهم من الرواة الأقدم فالأقدم، ثم الشعراء والأمراء، والأشراف في الإسلام والجاهلية. هكذا شَرَط في خُطبته، ووعد بأن يُرتّب الأبواب على ترتيب الحروف، وسيأتي شيء من خطبته. وإذ كان الاشتباه قد يكون في الحرف الأول، فلا بدّ أن يجمع في الباب بين مادتين مشتبهتين على الأقل، مع أنّ إحداهما من حرف والأُخرى من آخر مثل أول حرف الباء (باب باشر وناشر وياسر وماشر) فترتيب الكتاب على ثمانية وعشرين حرفًا إنّما هو بالنظر إلى أول مادة تُذكر في الباب، مثل (باشر) هنا، وفي الإمكان أن يجعل هذا الباب في حرف النون بتقديم مادة (ناشر)، وفي التحتية بتقديم (ياسر) وقِسْ على ذلك. والأمير يحاول أن يكون للتقديم مسَوّغ، ولذلك نجده قد يذكر الباب في حرف، ثم يكتب في الحاشية في موضع آخر: أنّه ينبغي تأخير ذاك الباب إليه كما سترى هذا في التعليقات، وبناء على ذلك تختلف النسخ، ويختلف ترتيب المؤلفات في الفن، وإنّما الممكن مراعاة ترتيب الأبواب باعتبار الحرف الثاني وما بعده من المواد الأولى منها، وقد راعى الأمير هذا في الجملة، وأخلّ به في مواضع لأسباب قد تظهر، فقدم في باب الألف باب

* نسخ الإكمال

(أبين) وما يشتبه به على باب (أبّا) وما يشتبه به، وكان ذلك لأنّ قبلهما باب (آمين وأَمِين وأُمَين)، و (أبين) قد يشتبه بذلك في الجملة بخلاف (أبّا)، وعلى كل حال فالإخلال بالترتيب لا ضير فيه، فإنّ الفهارس تغني عنه وتزيد. كثيرًا ما يستطرد الأمير لذكر نُتف من أنساب القبائل والمشاهير، نقلاً عن أئمة النسابين من كتبهم المشهورة، ويذكر نُسَخ كتبهم الصحيحة التي وقعت له، وشيوخهم (¬1) الذين تلقّى عنهم وأسانيدهم. كثيرًا ما يذكر الخلاف ويرجّح تارة ويسكت أخرى، وإذا رجَّح ذكر حجته. قلّما يتعرض في "الإكمال" لتوهيم بعض من قبله؛ لأنّه أفرد لذلك كتاب "تهذيب مستمر الأوهام"، وسيأتي (¬2) نقل خُطبته, وفيها فوائد تتعلّق بـ "الإكمال". * نُسَخ الإكمال: 1 - نسخة دار الكتب المصرية، وهي نسخة في مجلدين، الأول إلى آخر حرف الراء في (319) ورقة، والثاني إلى آخر الكتاب في (334) ورقة، مقاسها على ما في فهرس معهد المخطوطات رقم (61) في كتب التاريخ (17×25) عدد الأسطر في الصفحة الكاملة 21 بخط نسخ جميل واضح، والنسخة معتنى فيها بتوضيح الكتابة، وإثبات النقط، وعلامات الإهمال والفواصل والشكل في أكثر المواضع الملتبسة. ¬

_ (¬1) كذا ولعلها: شيوخه. (¬2) كذا وصوابه: وسبق. انظر ص 41 وما بعدها.

وفي آخر الجزء الأول ما لفظه: "كتبه لنفسه عبد الكريم بن الحسن بن جعفر بن خليفة البعلبكّي ... ووافق الفراغ منه في غُرَّة شعبان سنة إحدى وتسعين وخمسمائة"، وبالحاشية: "عارضت به الأصل المنقول منه، فصحَّ بحسب الجهد والطاقة، ولله الحمد والمنة". وفي آخر الثاني مثل ما تقدم إلاّ أنه قال: "لخمس بقين من شوال سنة إحدى وتسعين وخمسمائة"، وقال بعد ذلك: "نقلته عن نسخة الحافظ أبي القاسم علي بن الحسن بن هبة الله الشافعي (هو ابن عساكر) وهي بخط محمد بن عبد الملك بن علي بن نصر الغافقي التدميري، وتاريخ نسخها في سنة ست وتسعين وأربعمائة". وفي حواشي النسخة تعليقات عن خط المؤلف، منها ص (55)، وقع في المتن "باب الأمين والأمير ... "، ومقابله في الحاشية ما لفظه: "بخط المصنف: يردّ هذا الباب ويلحق بباب آمين وأَمِين وأُمَين في أول الكتاب"، وحواشٍ كثيرة عن ابن الفَرَضي وعن ابن الجارود وعن الدارقطني وعن الخطيب وعن ابن ناصر وغير ذلك، لعلها منقولة عن حواشي نسخة الحافظ ابن عساكر، وسترى جميع ذلك في مواضعه إن شاء الله تعالى. وفيها في مواضع النقل عن نسخة أخرى كما تراه في ص (29) منها، وسترى الإشارة إليه في موضعه. وفي النسخة أشياء يسيرة جُعِلت في المتن، ونبّه على أنّها من زيادة الحُميدي، منها في ص (50) وص (188) في رسم (الباجي). وبالجملة فلو كانت نسخة ابن عساكر نفسها لما زادت على هذه في الصحة والإتقان، بل إنّ كثيرًا من الكتب يوجد منها نسخ كانت لبعض الحفاظ، ومع ذلك نجدها دون هذه بكثير.

وعبد الكريم ذكر في "كشف الظنون" في الكلام على مقامات الحريري أنّه "شرحها صفي الدين عبد الكريم بن حسن اللغوي البعلبكي شرحًا جيّدًا في الغاية، وتوفي سنة 600"، وأنا أعتبر هذه النسخة الأصل، وأشير إليها في التعليقات بلفظ (الأصل). 2 - نسخة في المكتبة الآصفية بحيدراباد دكين حديثة الخط، ولكنها جيدة ومنقولة عن أصل جيد، إمّا أن يكون منقولاً من النسخة الأولى، وإمّا عن أصلها الذي هو نسخة ابن عساكر، فإنّه موافق للنسخة الأولى في عامة الأشياء، إلاّ أنه يدرج الحواشي في المتن، وعلامة هذه النسخة (هـ). 3 - نسخة أخرى في المكتبة الآصفية أقدم من التي قبلها, لكنها رديئة جدًّا، وهي موافقة للنسخة الثانية. ولم نستفد منها وحدها شيئًا. 4 - كراريس من نسخة نُقلت عن نسخة في السند، أهداها إليّ حضرة الشاب العالم الفاضل، أبو تراب الظاهري، استفدت منها في الجملة وعلامتها (س). 5 - نسخة من أول الكتاب إلى أثناء باب الحصيني وما يشتبه به، وهي في ملك حضرة المحسن الكبير نصير السنة ملجأ العلم وأهله، صاحب الفضيلة الشيخ محمد بن حسين نصيف الوجيه المشهور بجدة، وهي نسخة حديثة إلاّ أنّها مهمة جدًّا؛ لأنّها تختلف عن النسخة الأولى في ترتيب الأبواب، وفي كثير من ترتيب العبارات، وتشتمل على عدة زيادات، ولم تثبت فيها زيادات الحميدي التي في النسخة الأولى مدرجة في متنها.

والظاهر أنّ الأمير أخرج الكتاب مرّتين، فإحدى هاتين النسختين ترجع إلى الأصل المخرج أوّلًا، والأخرى إلى المخرج أخيرًا. وترتيب الأبواب في الثانية يوافق غالبًا ما شَرَطه الأمير في الخطبة من ترتيبها على حروف الهجاء، وترتيبها في الأولى بخلاف ذلك، فقد يُستدل بهذا على أنّ الثانية ترجع إلى الأصل المخرج أخيرًا. وسياق البيان في الأولى محكم، وبعضه في الثانية مختلّ، وهذا يدلّ على أن الأولى هي التي ترجع إلى الأصل المخرج أخيرًا، وهذا في نظري أشبه، فإنّ ترتيب الأبواب في الثانية يجوز أن يكون ممن بعد المؤلف، إذ قد يقول المغيّر: ليس في هذا تغيير معنوي، وهو أوفق بقصد المؤلف كما نصّ عليه في خطبة كتابه. 6 - نسخة تحتوي على ما احتوى عليه المجلد الثاني من النسخة الأولى، أي من أول باب الزاي إلى آخر الكتاب، وهي في مجلدين، الأول: مكتوب على لوحِه أنّه المجلد الثالث، وينتهي بانتهاء (باب عقيل وعُقيل وغُفيل)، والثاني: مكتوب عليه أنّه المجلد الرابع يبتدئ بباب عقال وعقَّال، وينتهي بانتهاء الكتاب. هذه النسخة عندي مصورة مكبرة عن فلم بمعهد المخطوطات للدول العربية، ذكر في فهرس المعهد رقم (61) من كتب التاريخ بلفظ "نسخة كُتبت سنة 646 من خط محمد بن المفضَّل بن الحسن بن موهوب المهراني [مكتبة] جار الله [بإستانبول] 584, 385 ق، 17×25 سم، ق 870"، وهي بخط واضح جميل، في الصفحة 21 سطرًا، وترتيب الأبواب فيها فيه مخالفة ما لما في النسخة الأولى. وفيها قليل من الزيادات، وفيها بياضات يسيرة مُسدّدة في الأولى، وفي الأولى بياضات

* منهج الكتاب

مُسدّدة في هذه، هذا وعلامة هذه النسخة في التعليقات (جا) (¬1). * منهج الكتاب: تقدم شيء عن منهاج الإكمال، ونتم ذلك بقطعة من خطبته، قال: " ... لما نظرت في كتاب أبي بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب الذي سماه: تكملة المؤتلف والمختلف لكتاب أبي الحسن علي بن عمر الدارقطني في المؤتلف والمختلف، ولكتابي عبد الغني بن سعيد الأزدي في "المؤتلف والمختلف" و"مشتبه النسبة"، وجدته قد أخلّ بأشياء كثيرة لم يذكرها، وكرّر أشياء قد ذكراها أو أحدهما، ونسبهما إلى الغلط في أشياء لم يغلطا فيها، وترك أغلاطًا لهما لم ينبه عليها، ووهم في أشياء مما استدركه سطرها على الغلط. فآثرت أن أعمل في هذا الفن كتابًا جامعًا لما في كتبهم وما شذّ عنها، وأسقط ما لا يقع الإشكال فيه ممّا ذكروه، وأذكر ما وهم فيه أحدهم على الصحة، وما اختلفوا فيه، وكان لكل قول وجه ذكرته. فبدأت به محتسبًا بعمله وراجيًا الثواب بتلخيصه، إذ كان أكبر عون لطالب العلم على معرفة ما يشتبه عليه من الأسماء والأنساب والألقاب التي يحتاج إلى قراءتها وكتابتها. ورتبته على حروف المعجم، وجعلت كل حرف أيضًا على حروف المعجم. وبدأت في كل باب بذكر من اسمه موافق لترجمته، ثم بمن كنيته كذلك، ثم أتْبَعْته بذكر الآباء والأجداد. وقدمت في كل صنف الصحابة، وأتبعتهم بالتابعين وتابعيهم إن كانوا في ذلك الباب، وإلا الأقدم فالأقدم من الرواة، ثم جعلت بعد ذكر من له رواية الشعراء ¬

_ (¬1) لم تصل إليّ هذه النسخة إلا بعد تمام طبع المجلد الأول من "الإكمال". [المؤلف].

والأمراء والأشراف في الإِسلام والجاهلية، وكل من له ذكر في خبر من الرجال والنساء، وختمت كل حرف بمشتبه النسبة منه ليقرب إدراك ما يطلب فيه؛ ويسهل على مبتغيه". وبمراجعة الكتاب يتبين مقدار نجاح الأمير في الوفاء بما التزمه هنا، وقد تقدمت خطبة "تهذيب مستمر الأوهام"، وأذكر هنا شيئًا من خطبة كتاب ابن نقطة وبقية الكتب التي التزمت تلخيص فوائدها، قال ابن نقطة: "نظرتُ في كتاب الأمير أبي نصر علي بن هبة الله بن علي بن جعفر الحافظ المعروف بابن ماكولا الذي جمع فيه كتب الحفَّاظ المتقدمين، وصار قدوة وعَلَمًا للمحدثين وعمدة للحفاظ المتفننين، وفاصلًا بين المختلفين، ومزيلًا لشبه الشك عن قلوب المرتابين، فوجدته قد بيَّض فيه تراجم، واستشهد رحمه الله قبل أن يلحقها، ومواضع قد ذكر فيها قومًا، وترك آخرين يلزمه ذكرهم، ولم يبيض لهم، وتراجم قد نقلها ثقة بمن تقدمه من غير كشف، والصواب بخلافها، وأخرى كان الوهم من قبله فيها، ثم قد حدثت من بعده تراجم لها من أسماء المتقدّمين ونِسَبهم ما يشبه بها. فاستخرت الله تعالى في جمع أبواب تشتمل على ما وصل إليّ من ذلك، وسطّرْتها على وضع كتابه، وأتبعنا كلّ حرف بمشتبه النِّسبة فيه، مع ضيق الزمان وتعذر الإمكان، والاعتراف بالتقصير في هذا الشأن، ليتذكر بذلك من أحبّ أن يجمع كتابًا في هذا الفن، ولو وجدنا بعض الطلبة المتيقِّظين قد نظر في هذا الباب وصرف الهمة إليه لاعتمدنا في ذلك عليه، مع أنّه لم يمنعنا أن نستكثر مما أوردناه إلا أنّا وجدنا كثيرًا من الأسماء التي يحتاج إليها بخط من لا يُعْتمد على ضبطه، ولا تلوح آثار الإتقان في خطه،

وإن كان من ثقات الرواة، وممّن يتهمه بالحفظ بعض الطلبة الغباة، فأخذنا ما وجدناه بخط الحفّاظ مثل أبي نعيم الأصبهاني، ومؤتَمَن بن أحمد الساجي، ومحمد بن طاهر المقدسي، وعبد الله بن أحمد السمرقندي، وأبي الفضل محمد بن ناصر السَّلَامي، وأبي طاهر أحمد بن محمد السِّلَفي، وأبي العلاء الحسن بن أحمد العطار الهَمَذاني، وأبي محمد عبدا لله بن أحمد بن الخشَّاب النحوي، وأبي القاسم علي بن عساكر الدمشقي، وأبي موسى محمد بن عمر الأصبهاني، وأبي سعد عبد الكريم بن محمد السَّمعاني، وأبي عامر محمد بن سعدون العبدري، ومن بعدهم من ثقات الطلبة المميزين، والعلماء المبرّزين، وما وجدناه بغير خط هؤلاء ومن أشبههم رفضناه، ولم نلتفت إليه، ولم نعتمد في هذا الباب عليه، مع أنّ البشر لا يخلو من وهم وغلط نسأل الله الكريم أن يوفقنا لصواب القول والعمل، وأن يحرسنا من الخطأ والزلل بمنه وكرمه إنّه سميع الدعاء". وفي خطبة كتاب منصور ابن العمادية ما لفظه: "لمّا وقفت على كتاب الحافظ أبي بكر محمد بن عبد الغني بن أبي بكر ابن نقطة البغدادي في مشتبه الأسماء والنِّسَب المذيّل على كتاب الأمير أبي نصر علي بن هبة الله بن علي بن ماكولا البغدادي، رأيت كتابًا مليحًا، ورصفًا سديدًا إلاّ أنّه أخلّ بتراجم، منها ما لم تقع له، ومنها ما وقع له وأخرجه في بعض التراجم ويدخل في ترجمة أخرى، ومنها ما حدث بعده، أحببتُ أن أُذيّل على كتابه بما تيسّر لي من ذلك، وعجلته في موضعه خوفًا من تعذر الإمكان وقواطع الزمان". وفي خطبة "التكملة" لابن الصابوني ما لفظه: "لما وقفت على كتاب

(إكمال الإكمال) الذي صنفه الحافظ أبو بكر محمد بن عبد الغني ابن أبي بكر ابن نقطة البغدادي - رحمه الله - مذيِّلاً به على كتاب الأمير أبي نصر علي بن هبة الله بن علي المعروف بابن ماكولا - رحمه الله وبلغه نهاية الآمال - وجدته أحسن فيه الجمع، وأجاد المقال، ونبّه على فوائد كثيرة، سمعها في رحلته من أفواه الرجال، وأخذها عن أولي الحفظ والترحال، بَيْد أنّه أغْفَل ذكر جماعة في بعض التراجم، يلزمه ذكرهم من هذا المثال، وجماعة لم يقعوا له ولا خطروا منه على بال، فأحببت أن أنبه عليهم، وأنسج على هذا المنوال". وقال الذهبي في خطبة "المشتبه": "هذا كتابٌ مبارك ... اخترته، وقرّبت لفظه، وبالغت في اختصاره، بعد أن علَّقت في ذلك كلام الحافظ عبد الغني ... وكلام الأمير الحافظ أبي نصر ابن ماكولا، وكلام الحافظ أبي بكر ابن نقطة، وكلام شيخنا أبي العلاء الفَرَضي وغيرهم، وأضفت إلى ذلك ما وقع لي أو تنبهت له. فاعلم أرشدك الله أن العمدة في مختصري هذا على ضبط القلم إلا فيما يَصْعب ويُشْكِل فيقيَّد ويُشْكَل ... فأتقن يا أخي نسختك واعتمد على الشكل والنَّقْط ولا بد، وإلاّ لم تصنع شيئًا". قال المعلمي: يظهر من تعقبات "التوضيح" و"التبصير" لكثير ممّا في "المشتبه" مع النص أنّه وقع كذلك، أي على الوهم في النسخة التي بخط مؤلفه أنّ أبا عبد الله رحمه الله لم يتمكَّن هو مما طالب به من إتقان النسخة. وقال ابن ناصر الدين في خطبة "التوضيح": "أمّا بعد فإنّ كتاب "المشتبه" ... كتاب مشتمل على فوائد، محتوٍ على نفائس، ليس له في مجموعه نظير، لكن اختصاره أدى إلى التقصير ... " ثم ذكر خطبة "المشتبه"

ثم قال: "قلت ضبط القلم لا يؤمن التحريف عليه .... وهذا الكتاب أراد مصنفه زوال الإشكال ... لكنّ الاختصار قاده إلى كثير من الإهمال ... فأوضحت ولله الحمد ما أهمله ... ورفعت في بعض الأنساب، ونبهت على الصواب مما وقع خطأً في الكتاب ... ". قال المعلمي: لقد قصّر في وصف شرحه جدًّا. وقال ابن حجر في خطبة "التبصير": "لما علقت كتاب "المشتبه" الذي لخَّصه الحافظ الشهير أبو عبد الله الذهبي - رحمه الله - وجدت فيه إعوازًا من ثلاثة أوجه، أحدها: وهو أهمها تحقيق ضبطه؛ لأنّه أحال في ذلك على ضبط القلم، فما شفى من ألم. ثانيها: إجحافه في الاختصار، بحيث إنّه يعمد إلى الاسمين المشتبهين أو أكثر، فيقول في كل منهما: فلان وفلان وفلان وغيرهم، .... وكان ينبغي أن يستوعب أقلهما، وثالثها - وفيه ما لا يرد عليه إلا أنّ ذلك من تتمة الفائدة -: ما فاته من التراجم المستقلة (الأبواب والمواد) ... مع كونها في أصل ابن ماكولا وذيل ابن نقطة اللذين لخصهما، وزاد من ذيل أبي العلاء الفرضي وغيره ما استدرك عليهما فاستخرت الله تعالى في اختصار ما أسهب وبَسْط ما أجحف في اختصاره، بحيث يكون ما أقتصر عليه من ذلك أزيد من حجمه قليلاً، فأعان الله على ذلك ولله الحمد. فكل اسم كان شهيرًا بدأت به، ولا أحتاج إلى ضبطه بل أضبط ما اشتبه به بالحروف، وكل حرف لم أتعرض له فهو نظير الذي قبله إهمالًا وإعجامًا، وحركة وسكونًا ... واعتمدت على نسخة المصنف التي بخطه، وعلى الأصول التي نقل هو منها، وعلى ما غلب على ظنّي أنّه لم يراجعه حالةَ تصنيفه، كالأنساب للرُّشاطي ولابن السمعاني، وكالذيل الذي ذيل به

الحافظ منصور بن سليم ... وكالذيل الذي ذيل به العلامة علاء الدين مغلطاي ... ". قال المعلمي: أمّا أنا فأبدأ بتحقيق متن "الإكمال" شيئًا فشيئًا بالمقابلة بين النسخ، ومراجعة المظانّ من "الإكمال" نفسه، ومن أخيه المستمر - أعني "تهذيب مستمر الأوهام" -, وعند أدنى اشتباه أراجع ما عندي من أصوله، ككتاب ابن حبيب، وكتاب الآمدي، وكتابَي عبد الغني، وطبقات خليفة، وطبقات ابن سعد، ومعجم المَرْزُباني، وكل مرجع تصل إليه يدي، وأطمع أن أجد فيه ضالتي، فإن وجدت ما يوافق الأصل فحسب فذاك، وإن وجدت ما يبينه أو يخالفه أو يزيد عليه زيادة متصلة، وهي التي تتعلق بالشخص المسمى في "الإكمال" بدون زيادة شخص آخر في المادة علقت ذلك على موضعه. فأمّا الزيادات المنفصلة فهي على أضرب: الأول: زيادة شخص أو أكثر في المادة المذكورة في الأصل فهذه أعلق لزيادتها بعد انتهاء نظائرها في الأصل، ففي باب (أجمد وأحمد وأحمر) ذكر الأمير في المادة الأخيرة مَن اسمه "أحمر"، فعلّقتُ على منتهاه ذِكْر من زِيد عليه ممّن اسمه "أحمر"، ثم قال الأمير: (الكنى والآباء) فذكر من يقال له: "أبو أحمر" أو يكون في أثناء نسبه من اسمه "أحمر" فعلّقت على منتهاه من زِيد عليه من هذا القبيل. نعم إذا كان المزيد قريبًا للمذكرر في "الإكمال" كأن يكون ابنه أو أخاه أو نحو ذلك، فقد أعامله معاملة الزيادة المتصلة. الضرب الثاني: زيادة مادة كاملة، فهذه أنبه عليها في الموضع المناسب لها من عنوان الباب، ثم أعلقها عند مجيء دورها، مثلًا في "الإكمال" (باب

أُثان وأبان) فهاتان مادتان، وقد زادوا عليه مادة ثالثة، وهي (أيان) فهذه زيادة حتمية، وزاد ابن نقطة في الباب (أُثال)، وزاد منصور في الباب أيضًا (أياز) فعلقت على قوله (باب أُثان وأَبان) قولي: "وأيان وأُثال وأياز"، ثم علقت على آخر الباب بيان من يقال له: "أيّان"، فمن يقال له: "أثال"، فمن يقال له "أياز" ناقلاً نص أول من زاد ذلك. هذا وقد أهمل "المشتبه" و"التوضيح" و"التبصير" مادتي (أثال وأياز) بعلة أن صورة اللام والزاي مخالفة لصورة النون، وحجة من زادها: أن هذه أسماء غريبة لا يعرفها كثير من الناس، واللام والزاي كثيرًا ما تشتبه بالنون في الخط المُعلّق ونحوه، وعلى كلّ حال فأنا لا أهمل مثل هذه الزيادة، نعم إذا كان هناك مادتان مشتبهتان حق الاشتباه فإنّي أعقد منهما بابًا وأعاملهما معاملة الضرب الآتي. الثالث: ما كانت الزيادة لمادتين فأكثر لا تشتبهان بمادة في "الإكمال"، فإني أعقد لذلك بابًا مستقلًا مثل (أبرجة وأترجّة) و (بريال وترثال)، وكنت أريد أن أعلّق هذه الأبواب في المواضع المناسبة لها ثم أحجمت عن ذلك لأمور؛ الأول: أنّ هذه زيادات مستقلة، الثاني: كراهية طول التعليقات جدًّا، الثالث: رجائي أن أظفر بمزيد من ذلك، فآثرتُ أن أؤخّرها لأجمعها في جزء مستقل يمكن أن يطبع بعد انتهاء طبع "الإكمال" تتمة له. هذا وإنّي أنقل الزيادة عن أول من زادها ولا أذكرها عمن بعده، فقد يزيد ابن نقطة زيادة فتذكر في "المشتبه" و"التوضيح" و"التبصير" أو بعضها، فأنقلها عن ابن نقطة فقط. وإن تعدّد الزائدون والزيادات ذكرتُ زيادة ابن نقطة ثم منصور ثم الصابوني ثم الذهبي ثم ابن ناصر الدين ثم ابن حجر أو

* الاصطلاحات والرموز

من زاد منهم، وإذا وجدت الزيادة في غير هذه الكتب من المراجع ذكرتها ناسبًا لها إلى مرجعها. ويكثر هذا في مشتبه النسبة إذ أجد في "الأنساب" و"معجم البلدان" عدة زيادات. * الاصطلاحات والرموز: ألفاظ الضبط منها ما هو معروف أو واضح، أما ما قد يخفى فمنه أنّ الأمير يطلق "المبهمة" بمعنى "المهملة" قال في (أحنف) "بحاء مبهمة"، ويطلق المتأخرون على الباء: "الموحدة" وعلى التاء: "المثناة من فوق"، ويقول بعضهم: "الفوقانية"، وأنا أقول: "الفوقية"، وعلى الثاء: "المثلثة"، وعلى الياء: "المثناة من تحت" "التحتانية" "التحتية"، والغالب الاكتفاء في ضبط الراء والزاي باسمهما، وربما قيل: الراء المهملة، والزاي المعجمة، وهو جيد لأن صورة الهمزة (ء) قد تشتبه بصورة الياء (ي)، ولا سيّما عند التثنية بالياء فإنّ بعض الكتاب قد يكتب تثنية راء هكذا "كتبت رائين". وليس في الكتاب رموز ولا في تعليقاتي إلا رموز النُّسَخ، وقد تقدم بيانها؛ نعم قد أكتب بعد ذكر كتاب ابن نقطة (ظ) أو (د) لتعيين إحدى نسختيه، فالأول لنسخة الظاهرية، والثاني لنسخة الدار. أختصر أسماء الكتب كقولي "المستمر" لكتاب "تهذيب مستمر الأوهام"، و"التهذيب" لكتاب "تهذيب التهذيب" لابن حجر، و"التاج" لشرح القاموس، ونحو ذلك ممّا لا يخفى على الممارس. ***

قضايا فيها نظر

قضايا فيها نظر ثَمّ قضايا لم يتضح لي صوابها: الأولى: النِّسبة إلى الأسماء الثلاثية المقصورة، لا يخفى أنّ قاعدتها قلب الألف واوًا عند النسبة، لكن يأتي في كلامهم ما يخالف ذلك، كما ستراه في مواضعه، والذي أراه: أن ما خالف ذلك إن كان ذاك الاستعمال قديمًا أو مشهورًا أبقي على ما هو عليه على أنّه من شواذ النِّسب، وإلا فخطأ. الثانية: قضية هاء سيبويه ونحوه على طريقة من يسكِّن الواو مع ضم ما قبلها وفتح ما بعدها، هل تبقى هاءً وقفًا ووصلًا؟ نقلت في التعليق على ص (164) من الجزء الأول المطبوع من الإكمال ما وقفت عليه في ذلك، ولم يظهر لي بعد ما يزيل الشك، ولم يقنعني ما في "التاج". الثالثة: قضية سائر الأسماء الأعجمية التي آخرها هاء، المعروف في الفارسية إسكان هذه الهاء، فإذا اضطروا إلى تحريكها لإلحاق علامة الجمع ونحوه بالكلمة قلبوها (كافا) وهو الحرف الذي بين الجيم والقاف والكاف، يقولون" (بَنْدَهْ) أي العبد، ويقولون في جمعه: (بندكَان) وفي المصدر (بندكَي). ونجد هذه الهاء فيما عُرِّب قديمًا قد جُعلت جيمًا أو قافًا أو كافًا، مثل ارندج وبنفسج، واستبرق وشوذانق، وتربك ونيزك. ومن سنتهم قلب الكَاف جيمًا أو قافًا أو كافًا كما صرّح به علماء العربية والتعريب، ووجه ذلك واضح؛ فإنّ الكَاف تقارب كلاًّ من هذه الثلاثة، فكأنّهم لما رأوا العجم إذا اضطروا إلى تحريك تلك الهاء جعلوها كافًا، وعلموا أنّها بعد التعريب تكون دائمًا عُرْضة للتحريك عاملوها في التعريب معاملة الكَاف.

وثَمّ أربعة أسماء صرّح أهل العلم بأنّه يبقى آخرها هاء وقفًا ووصلاً، وهي (ماجه - داسه - منده - سيده)، وكأنّ وجه هذا: أنّ الهاء في أواخر الأسماء الأعجمية تعتبر حرفًا أصليًّا، وفي العربية أسماء آخرها هاء أصلية بعد فتحة مثل: مِدْرَه، ومنزه، ومَهْمَه، فلماذا لا تُترك تلك الهاء عند التعريب على أصلها؟ والتحريك الذي يعرض لها في العربية ليس هو التحريك الذي يعرض لها في العجمية. بقي أنّ هناك أسماء كثيرة من هذا القبيل يعاملها المتأخرون معاملة ما آخره هاء تأنيث فهل لذلك مستند؟ أرجو ممّن له علم بهذه القضايا أن يكتب إليّ أو إلى دائرة المعارف العثمانية، وفقنا الله جميعًا لما يحبه ويرضاه. عبد الرحمن بن يحيى المعلمي مكة المكرمة

مقدمة كتاب "الأنساب" لأبي سعد السمعاني (ت 562)

(2) مقدمة كتاب "الأنساب" لأبي سعد السمعاني (ت 562)

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، صلّى الله وسلّم وبارك على خاتم أنبيائه محمد وآله وصحبه. أمّا بعد، فإن كتاب (الأنساب) للحافظ الإمام أبي سعد عبد الكريم بن محمد السمعاني كتاب جليل، أدرك المستشرقون شأنه فسبقونا إلى طبعه منذ خمسين سنة - أي سنة 1912 - طبعوه بالزنكوغراف، محافظةً منهم على صورة النسخة التي ظفروا بها، ونِعْم ما صنعوا، غير أنّ النسخة سقيمة جدًّا يكثر فيها السقط والتحريف، ومع ذلك فقد عزَّ وجود نُسَخ تلك الطبعة، وتقادم العهد بطبعها، فبلي ورقها فصار الموجود منها عُرضة للتلف؛ فأهمّ رجال جمعية دائرة المعارف العثمانية بحيدراباد الدكن أمر هذا الكتاب، كيف لا وجمعيَّتهم هي حاملة لواء فنّ التراجم، والسبّاقة إلى نشر كتبه والمتفرِّدة بأكثرها، فسعوا في تحصيل نسخٍ من الكتاب مخطوطة أو مصورة عنه، فظفروا بثلاث نسخ غير المطبوعة- وسيأتي وصفها - فبادروا إلى استنساخ مسوّدة للكتاب، ومقابلتها على النسخ، وتقييد الاختلافات مع مراجعة بعض المراجع بِنيَّة تحقيق الكتاب، فلم يكادوا يتوسطون مقدمة المؤلف حتى بدت لهم صعوبة العمل؛ لكثرة الاختلافات، وخفاء الصواب، فبدا لفضلاء الدائرة - وعلى رأسهم مديرها الفاضل الدكتور محمد عبد المعيد خان - أن يضعوا ثِقَل العمل على عاتق زميلٍ سابق لهم هو كاتب هذه الكلمة، فكتب إليّ الدكتور بذلك، وأنّه قرّر أن يقوم فضلاء الدائرة

* فن الأنساب والحاجة إليه

بمقابلة المسوَّدة على النسخ، وتقييد الاختلافات، وإرسال ما قوبل من المسودة مع بيان الاختلاف إليّ شيئًا فشيئًا؛ لأحقّق كلّ ما أرسل إليّ، وأبعثه إليهم شيئًا فشيئًا؛ لأنهم مضطرون إلى تعجيل طبع الكتاب لأسباب ذكرها. هذا كلّه مع استعجالهم لي في تحقيق "إكمال ابن ماكولا" وبعث ما تمّ تحقيقه منه إليهم، ومع اشتغالي بغير ذلك؛ وكثرة العمل والإسراع فيه مظنة اختلاله بل مَئِنّته، وأنا أكره ذلك حتى إني أرى الغلطة في الكتاب الذي طُبع بتحقيقي فينالني حزن غير هيّن. لكن علمت تصميمهم على طبع الكتاب واستعجالهم فيه، وأنّي إن لم أُجِبْهم إلى طلبهم فسيطبعونه بما تيسّر لهم من التصحيح، وهو دون ما يتيسر لي، فلم يسعني إلاَّ إجابتهم إلى طلبهم، وأرجو أن يرى أهل العلم ما يرضيهم. بعد أن أتممت الجزء الأول، وبعثت به إليهم وطبعوه، حدث مِصداق المثل (ضِغْث على أبّالة) كتب إليّ الدكتور يلتمس منّي كتابة مقدمة للأنساب، وأنا مع كثرة اشتغالى أستثقل كتابة المقدّمات، وأراها ممّا لا أحسنه، فأجبته بالاعتذار، وبأن في وسعه هو أن يكتب مقدمة قد تكون أجود مما يمكنني، فأجاب بالإصرار على طلبه، فلم يسعني إلا الإجابة، وعليه تَبِعة التقصير. * فنّ الأنساب والحاجة إليه: يُطلق "فن الأنساب" على ما يُذكر في أصول القبائل وكيف تفرّعت، كنسب عدنان يُذكر فيه أبناء عدنان ثم أبناؤهم وهلمّ جرّا؛ ويطلق أيضًا على جمع النِّسَب اللفظية كالأسدي والمقدسي والنجار ونحو ذلك، ويُضبط كل

* التأليف فيه

منها ويبين معناها، ويذكر بعض من عُرِف بها. وهذا الثاني هو موضوعنا. قال ابن الأثير في خطبة "اللباب" في ذِكْر هذا الفن: "هو ممّا يحتاج طالب العلم إليه، ويضطر الراغب في الأدب والفضل إلى التعويل عليه، وكثيرًا ما رأيت نسبًا إلى قبيلة أو بطن أو جد أو بلد أو صناعة أو مذهب أو غير ذلك، وأكثرها مجهول عند العامّة غير معلوم عند الخاصة، فيقع في كثير منه التصحيف، ويكثر الغلط والتحريف". * التأليف فيه: أول ما يمكن أن يُعدّ من كتبه في الجملة كتاب (مختلف [أسماء] القبائل ومؤتلفها) لمحمد بن حبيب البغدادي (- 245)، وقد ذكرته في مقدمة "الإكمال"، وهذا أوّل فصل منه: "في الأزد حُدان [بضم الحاء] ابن شمس بن عَمرو بن غَنْم بن غالب (في النسخة: خالد) بن عثمان بن نصر بن زهران بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد. وفي تميم حَدان [بفتح الحاء] بن قُريع بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد بن مناة بن تميم. وفي ربيعة جَدّان [بفتح الجيم ودال مشدّدة] بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار. وفي أسد بن خزيمة خدّان [بخاء معجمة من فوق ودال مشددة] بن عامر بن هر بن مالك بن الحارث بن سعد بن ثعلبة بن دودان بن أسد. وفي هَمْدان ذو حَُدان [بفتح المهملة وضمها] بن شراحيل بن ربيعة بن جُشَم بن حاشد بن جُشم بن خيوان بن نوف بن أوْسَلة وهو هَمْدان". نعم إنّ هذا ليس على الطريقة التي عرفنا بها الفن، لكنّه يفيد في تصحيح النِّسَب وإثباتها باستنباط قريب، فمن عرفنا أنّه خَداني عرفنا أنّه

ربعي وأسدي وغير ذلك، ومن عرفنا أنّه من أسد بن ربيعة ووجدنا في صفته "الجاني" عرفنا أنّ الصواب "الخُداني" وإذا وجدنا في وصف رجل محققًا "الجداني" بالجيم، أو "الخداني" بالمعجمة، أو "الحداني" بالمهملة، ووجدنا في وصفه أيضًا "الأسدي" فإننا نعلم في الأول أنّ "الأسَدي" بفتح السين وأنّها إلى أسد بن ربيعة، وفي الثاني بالفتح أيضًا وأنها إلى أسد بن خزيمة، وفي الثالث بسكون السين، وأنّها نسبة إلى الأسْد لغة في الأزْد، وقِسْ على هذا. وعلى كل حال، فإذا صحّ عدّه في كتب الفن فهو في ضرب خاص كما لا يخفى. ثم تلاه الحافظ عبد الغني بن سعيد الأزدي المصري (332 - 409) ألّف فيه كتابه في "مشتبه النسبة"، وهو ضرب خاصّ من هذا الفنّ أيضًا، وتلاه جماعة كما بينته في مقدمة "الإكمال". وألّف الحافظ محمد بن طاهر المقدسي (448 - 507) كتاب "الأنساب المتفقة في الخط المتماثلة في النقط" وقد طُبع ولم أره، وهو في ضرب خاصّ أيضًا. وثَمَّ ضرب خاصّ رابع يذكره أهل المصطلح وهو (المنسوبون على خلاف الظاهر) أي: مثل (التيمي) وليس من بني تَيْم، ولكنّه جاورهم، و (الحذّاء) ولم يكن من الحذَّائين، ولكن جالسهم، ونحو ذلك. وأوّل (¬1) مؤلِّف في مطلق النسبة أعْلَمُه هو أبو محمد عبد الله بن ¬

_ (¬1) قيل: أول من ألّف في الأنساب عند العرب: هو محمد بن مسلم بن شهاب الزهري المتوفى 124 هـ وأنه بدأ بكتاب في "نسب قومه" ولم يتمه، ثم ألّف أبو اليقظان سُحيم بن حفص الأخباري المتوفى سنة 190 كتبًا، منها كتاب "النسب الكبير" =

علي بن عبد الله الرُّشاطي (466 - 542) ألّف كتابه "اقتباس الأنوار" توجد من مختصره لأبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن الإشبيلي نسخة ناقصة في مكتبة الأزهر، واختصره أيضًا مجد الدين إسماعيل بن إبراهيم البُلبيسي (728 - 802) وسمّى مختصره (القبس)، ثم جمع بين هذا المختصر وبين "لباب ابن الأثير"، وعندي نسخة مصوّرة من نسخة هذا الجامع، وهي بخط مؤلفه، وقد شرحتُ بعض حالها في مقدمة "الإكمال". وفي خطبته: " ... وبعد فإنّي لمّا اختصرت كتاب أبي محمد الرُّشاطي وسميته "القبس"، واستعنتُ على ضبط بعض الأسماء وأكثر الأنساب بكتاب "اللباب" لأبي الحسن ابن الأثير الجزري رحمهما الله، وجدتهما قد اجتمعا على تراجم، وانفرد كل منهما بأخرى (¬1)، وإذا اجتمعا على ترجمة تارة يتفقان على من سمّي فيها وتارة يختلفان ... وكلّ من الكتابين محتاج إليه ومُعوّل في هذا الفن عليه، فأحببت أن أجمع بينهما ليستغني الناظر في هذا الكتاب عن النظر في كتابين كبير حجمهما". هذا آخر الموجود من الخطبة وسقط باقيها من ¬

_ = و"نسب خندف وأخبارها"، ثم مؤرّج بن عَمرو السدسي المتوفى سنة 195 هـ كان يؤلّف في الأنساب فيضع كتابًا عن "نسب قريش" وآخر عن "جماهير القبائل"، وكان في الكوفة هشام بن محمد الكلبي المتوفى سنة 204 هـ, ترك في الأنساب كتابًا ضخمًا اسمه "النسب الكبير" أو "جمهرة النسب". ثم تتابع التأليف في الأنساب بعد ابن الكلبي - انظر مقدمة "كتاب حذف من نسب قريش لمؤرج بن عمرو السدوسي" نشره الدكتور صلاح الدين المنجد وطبع في القاهرة سنة 1960 م. وقد طبع "كتاب نسب قريش" لأبي عبد الله المصعب بن عبد الله بن المصعب الزبيري المتوفى 236 في دار المعارف بمصر سنة 1953 م. [المؤلف]. (¬1) الأصل: "بآخر".

* أنساب السمعاني

النسخة، ولم يذكر ما سمّى به هذا الجامع، وفي فهرس المخطوطات المصورة أنّه سمّاه (القبس) وأنا كذا أسميه على ما فيه. * أنساب السمعاني: كتاب الأنساب لأبي سعد السَّمْعاني هو بحق الكتاب الوحيد الجامع في هذا الفن، جمع فيه عامة ما ظفر به من النَّسَب مطلقًا، بل زاد فاستنبط عِدّة منها أطلقها على جماعة يصحّ أن تُطلق عليهم لكنّهم لم يُعرفوا بها، وسترى الإشارة إلى ذلك في مواضع، وزاد أيضًا جملة من الألقاب والأوصاف التي لا يسميها أهل العربية (نسبة) كما سترى ذلك في مواضعه، ولم يقتصر في كل نِسْبة على ذكر شخص واحد تطلق عليه حيث وجد غيره، بل يزيد على ذلك كثيرًا، ولم يقتصر في ذِكْر الرجل على أقلّ تعريف به، بل يسوق له ترجمة مفيدة قد تطول في كثير من المواضع. وهذان الأمران هما اللذان سطا عليهما صاحب اللباب فأسقطهما من مختصره فذهب بمعظم فائدة الكتاب. * الكتب التي تلته: نعرف منها "اللباب" لأبي الحسن علي بن محمد بن محمد بن الأثير (555 - 630) وهو مختصر لكتاب السمعاني، أسقط أكثر أسماء الأشخاص، واختصر أكثر التراجم، ونبّه على الأوهام اليسيرة، وزاد زيادات ليست بالكثيرة، وسننبه على فوائده في التعليق على "الأنساب" إن شاء الله. وعندي منه النسخة المطبوعة، ونسختان مخطوطتان في مكتبة الحرم المكي غير كاملتين، و"القبس" بمثابة نسخة رابعة.

ثمّ تلاه قطب الدين محمد بن محمد بن عبد الله الخَيْضري الدمشقي الشافعي (821 - 894) فألّف "الاكتساب في تلخيص كتب الأنساب" قالوا: "لخّص فيه أنساب السمعاني، وضمّ إليه ما عند ابن الأثير والرُّشاطي". يوجد منه الجزء الثالث فقط كما في فهرس المخطوطات المصورة. أمّا "لبّ" السيوطي وما تلاه فحسبها هذه الإشارة. و"معجم البلدان" لياقوت الحموي (577 تقديرًا -626) عظيم الفائدة في النِّسب إلى البلدان. وممّا ينبغي تحقيقه أنّه يكثر جدًّا موافقة لفظه في تلخيص عبارة "الأنساب" للفظ "اللباب" وعاش ياقوت شطر عمره الأخير في حلب، وكان صاحب "اللباب" يتردّد إليها، وكان ياقوت خبيرًا بكتب أبي سعد، فإنّه ينقل من "الأنساب" كثيرًا ممّا ليس في "اللباب"، وينقل أيضًا من "التحبير" وغيره، وقد عاش مدّة طويلة بجوار مكتبات السمعانيين وغيرها من مكتبات مرو، وصرّح بأنّ أكثر فوائد كتابه منها، ويستوقف النظر في (¬1) تلخيصهما أنّهما كثيرًا ما يتوقيان ذكر الأسماء الغريبة، وقد يكون ذلك ممّا يسميه العصريون "التهرّب من المشاكل". وعلى كلّ حال فليس هناك ما يغني عن كتاب السمعاني ولا يقارب. ... ¬

_ (¬1) الأصل: "من".

ابن السمعاني

ابن السمعاني ينبغي أن نقدّم هنا ذِكْر سَلَفه، وحسبي أن أسوق ما قاله هو في رسم "السمعاني" من "الأنساب" قال: "السَّمعاني - بفتح السين المهملة وسكون الميم وفتح العين المهملة وفي آخرها النون - وهو اسم لبعض أجداد المنتسب إليه؛ وأمّا سمعان الذي ننتسب إليه فهو بطن من تميم، هكذا سمعت سَلَفي يذكرون ذلك، فأوّل من حدّث من سَلَفِنا ... ثم القاضي الإمام أبو منصور محمد بن عبد الجبار بن أحمد بن محمد بن جعفر بن أحمد بن عبد الجبار بن الفضل بن الربيع بن مسلم بن عبد الله السمعاني التميمي، كان إمامًا فاضلًا ورعًا متقنًا، أحكمَ العربيةَ واللغة وصنّف فيها التصانيف المفيدة ... وولداه: أبو القاسم علي، وأبو المظفر منصور جدِّي؛ أمّا أبو القاسم علي بن محمد بن عبد الجبار السمعاني [الحنفي] فكان فاضلًا عالمًا ظريفًا كثير المحفوظ، خرج إلى كرمان وحظي عند ملكها، وصاهر الوزير بها ورُزِق الأولاد، وكان قد سمع مع والده من شيوخه، ولما انتقل أخوه جَدّنا الإمام أبو المظفر من مذهب أبي حنيفة إلى مذهب الشافعي - رحمهما الله - هجره أخوه أبو القاسم وأظهر الكراهة، وقال: خالفت مذهب الوالد وانتقلت عن مذهبه! فكتب كتابًا إلى أخيه وقال: ما تركت المذهب الذي كان عليه والدي - رحمه الله - في الأصول بل انتقلت عن مذهب القدرية، فإنّ أهل مرو صاروا في أصول اعتقادهم إلى رأي القدر، وصنّف كتابًا يزيد على عشرين جزءًا في الرد على القدرية، وأهداه إليه، فرضي عنه، وطاب قلبه، ونفَّذ ابنه أبا العلاء علي بن علي السمعاني إليه للتفقه عليه، فأقام عنده مدّة يتعلّم ويتدرّس الفقه، وسمع الحديث من أبي

الخير محمد بن موسى بن عبد الله الصفَّار المعروف بابن أبي عِمران رواية "صحيح البخاري" عن أبي الهيثم الكُشْميهني، ورجع إلى كرمان، ولما مات والده فُوّض إليه ما كان إلى والده من المدرسة وغيره؛ ورزق أبو العلاء الأولاد، وإلى الساعة له بكرمان ونواحيها أولاد فضلاء علماء. وجَدُّنا الإمام أبو المظفّر منصور بن محمد بن عبد الجبار السمعاني إمام عصره بلا مدافعة، وعديم النظير في فنه، ولا أقدر على أن أصف بعضَ مناقبه، ومن طالع تصانيفه وأنصف عَرَف محلّه من العلم. صنّف "التفسير" الحسن المليح الذي استحسنه كلُّ من طالعه، وأملى المجالس في الحديث، وتكلّم على كل حديث بكلام مفيد، وصنّف التصانيف في الحديث مثل "منهاج أهل السنة" و"الانتصار" و"الرد على القدرية" وغيرها، وصنّف في أصول الفقه "القواطع" وهو مُغْن عما صُنّف في ذلك الفن، وفي الخلاف "البرهان" وهو مشتمل على قريب من ألف مسألة خلافية، و"الأوساط" و"المختصر" الذي سار في الآفاق والأقطار، الملقب بـ "الاصطلام"، وردّ فيه على أبي زيد الدَّبوسي، وأجاب عن "الأسرار" التي جمعها. وكان فقيهًا مناظرًا، فانتقل بالحجاز في سنة اثنتين وستين وأربعمائة إلى مذهب الشافعي رحمه الله، وأخفى ذلك وما أظهره إلى أن وصل إلى مرو، وجرى له في الانتقال مِحَن ومخاصمات، وثبت على ذلك ونَصَر ما اختاره، وكان مجالس وعظه كثير النكت والفوائد، سمع الحديث الكثير في صغره وكبره، وانتشرت عنه الرواية, وكثر أصحابه وتلامذته، وشاع ذكره. سمع بمرو أباه وأبا غانم أحمد بن علي بن الحسين الكراعي، وأبا بكر محمد بن عبد الصمد الترابي، المعروف بابن الهيثم، وجماعة كثيرة

بخراسان والعراق وجرجان والحجاز، وقد جمع الأحاديث الألف الحِسَان من مسموعاته عن مائة شيخ له، عن كل شيخ عشرة أحاديث، أدركت جماعة من أصحابه وتفقهت على صاحبيه أبي حفص عمر بن محمد بن علي السرخسي، وأبي إسحاق إبراهيم بن أحمد بن محمد المروروذي، والله يرحمهما، وروى لي عنه الحديث أبو نصر محمد بن محمد بن يوسف الفاشاني بمرو، وأبو القاسم الجُنيد بن محمد بن علي القايني بهراة, وأبو طاهر محمد بن أبي بكر السّنْجي ببلخ، وأبو بكر أحمد بن محمد بن بشّار الخرجردي بنيسابور، وأبو البدر حسّان بن كامل بن صخر القاضي بطوس، وأبو منصور محمد بن أحمد بن عبد المنعم بن ماشاذه بأصبهان، وجماعة كثيرة تزيد على خمسين نفرًا. وكانت ولادته في ذي الحجة سنة ست وعشرين وأربعمائة، وتوفي يوم الجمعة الثالث والعشرين من شهر ربيع الأول سنة تسع وثمانين وأربعمائة، ودُفِن بأقصى سجذان إحدى مقابر مرو، ورُزِق من الأولاد خمسة: أبو بكر محمد والدي، وأبو محمد الحسن، وأبو القاسم أحمد، وابن رابع وبنت، ماتا عقب موته بمدة يسيرة. فأمّا والدي [الإمام] أبو بكر محمد بن منصور بن محمد بن عبد الجبار السمعاني رحمة الله عليه، ابن أبيه، وكان والده يفتخر به ويقول على رؤوس الأشهاد في مجلس الإملاء: "ابني محمد أعلم منّي وأفضل منّي" تفقّه عليه، وبرع في الفقه، وقرأ الأدب على جماعة، وفاق أقرانه، وقرض الشعر المليح وغَسَله في آخر أيامه، وشرع في عدة مصنفات ما تمّمَ شيئًا منها؛ لأنّه لم يُمتّع بعمره، واستأثر الله تعالى بروحه، وقد جاوز الأربعين

بقليل، سافر إلى العراق والحجاز، ورحل إلى أصبهان لسماع الحديث، وأدرك الشيوخ والأسانيد العالية، وحصَّل النسخَ والكتب، وأملى مائة وأربعين مجلسًا في الحديث، من طالعها عرف أن أحدًا لم يسبقه إلى مثلها. سمع بمرو أباه، وأبا الخير بن أبي عِمران الصفار، وأبا سعيد الطاهري، وبنيسابور أبا الحسن علي ابن أحمد المؤذن المديني، وبهَمَذان أبا الحسن فِيد بن عبد الرحمن الشعراني، وببغداد أبا المعالي ثابت بن بندار البقال، وبالكوفة أبا البقاء المعمر بن محمد بن علي الكوفي الحبال، وبمكة أبا شاكر أحمد بن محمد بن عبد العزيز العثماني، وبأصبهان أبا بكر أحمد بن محمد بن أحمد بن موسى بن مردويه الحافظ، وجماعة كثيرة من هذه الطبقة. كتب لي الإجازة بجميع مسموعاته، وشاهدت خطه بذلك، وحدّث بهراة. وكانت ولادته في جمادى الأولى سنة ست وستين وأربعمائة، وتوفي يوم الجمعة الثالث من صفر سنة عشر وخمسمائة, ودُفِن عند والده، وكان شيخنا أبو الفتح محمد بن علي النطنزي إذا ذكره أنشد: زين الشباب أبو فرا ... سٍ لم يمتّع بالشباب وعمِّي الأكبر أبو محمد الحسن بن أبي المظفر السمعاني، كان إمامًا زاهدًا ورعًا كثير العبادة والتهجد، نظيفًا منورًا مليح الشيبة، منقبضًا عن الخلق، قلَّما يخرج عن داره إلاَّ في أيام الجمع للصلاة، تفقه على والده، وكان تِلْو والدي رحمهم الله وسمع معه الحديث - وظنّي أنّه ولد بعده بسنتين - وأفاده والدي عن جماعة من الشيوخ، ورحل معه إلى نيسابور، وسمع بمرو أباه، وأبا سعيد عبد الله بن أحمد الطاهري، وأبا القاسم إسماعيل بن محمد بن أحمد الزاهري، وأبا محمد كامكار بن عبد الرزاق

الأديب، وأبا الفرج المظفر بن إسماعيل التميمي الجرجاني، وبنيسابور أبا الحسن علي بن أحمد بن محمد المديني، وأبا إبراهيم محمد بن الحسين البالوي، وأبا سعيد عبد الواحد بن أبي القاسم القشيري، وأبا علي نصر الله بن أحمد الخشنامي، وجماعة سواهم. سمعت منه الكثير، وكان يكرمني ويحبني، وقرأت عليه الكتب المصنفة مثل كتاب "الجامع" لمعمر بن راشد، وكتاب "التاريخ" لأحمد بن سيار، و"الأمالي" و"الانتصار" و"الأحاديث الألف" لجدي بروايته عنه، "وأمالي أبي زكريا المزكي وأبي القاسم السراج" بروايته عن أبي الحسن المديني، وأبي العباس عبد الصمد، وغير ذلك من الأجزاء والفوائد، ورُزِق ثواب الشهداء في آخر عمره ودخل عليه اللصوص لوديعة كانت لإنسان عند زوجته وخنقوه ليلة الاثنين ... سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة - والله تعالى يرحمه - وصل إليّ نعيه وأنا بأصبهان. وولده - ابن عمي - أبو منصور محمد بن الحسن السمعاني، كان شابًّا فاضلًا ظريفًا، قرأ الأدب وبرع فيه، وكانت له يد باسطة في الشعر باللسانين غير أنّه اشتغل بما لم يشتغل سلفه من الجلوس مع الشبان والجري في ميدانهم وموافقتهم فيما هم فيه، والله تعالى يتجاوز عنّا وعنه، سمعت من شعره الكثير، وتوفي بعد والده بسنتين واخترمته المنية في حال شبابه وما استكمل الأربعين، وذلك ليلة عرفة من سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة. وعمّي الآخر الأصغر أُستاذي، ومن أخذت عنه الفقه، وعلقت عليه الخلاف وبعض المذهب، أبو القاسم أحمد بن منصور السمعاني، كان إمامًا فاضلًا عالمًا مناظرًا مفتيًا واعظًا مليح الوعظ، شاعرًا حسن الشعر، له فضائل

جمة ومناقب كثيرة، وكان حييًا وقورًا ثابتًا حمولًا صبورًا، تفقه على والدي - رحمهما الله - وأخذ عنه العلم، وخَلَفه بعده فيما كان مفوّضًا إليه، سمع بمرو أخاه - والدي - وأبا محمد كامكار بن عبد الرزاق الأديب، وأبا نصر محمد بن محمد الماهاني وطبقتهم. انتخبتُ عليه أوراقًا وقرأت عليه عن شيوخه وخرجت معه إلى سرخس وانصرفنا إلى مرو وخرجنا في شوال سنة تسع وعشرين إلى نيسابور، وكان خروجه بسببي لأني رغبت في الرحلة لسماع حديث مسلم بن الحجاج القشيري فسمع معي الصحيح، وعزم على الرجوع إلى الوطن، وتأخّرت عنه مختفيًا لأقيم بنيسابور بعد خروجه، فصبر إلى أن ظهرت ورجعت معه إلى طوس، وانصرفت بإذنه إلى نيسابور، ورجع هو إلى مرو، وأقمت أنا بنيسابور سنة وخرجت منها إلى أصبهان ولم أره بعد ذلك. وكانت ولادته في سنة سبع وثمانين وأربعمائة، وتوفي في الثالث والعشرين من شوال سنة أربع وثلاثين خمسمائة، وصل إليّ نعيه وأنا ببغداد وعقدنا له العزاء بها. وأمة الله حرة أختي، امرأة صالحة عفيفة كثيرة الدرس للقرآن مُديمة للصوم راغبة في الخير وأعمال البر، حصَّل لها والدي الإجازة عن أبي غالب محمد بن الحسن الباقلاني البغدادي، قرأت عليها أحاديث وحكايات بإجازتها عنه، وكانت ولادتها في رجب من سنة إحدى وتسعين وأربعمائة. فهذه الجماعة الذين حدثوا من بيتنا، والله تعالى يرحمهم". ومن أحبّ الزيادة في أخبارهم فليراجع تراجمهم في طبقات الشافعية وغيرها.

* اسمه ونسبه وكنيته ولقبه

* اسمه ونسبه وكنيته ولقبه: هو عبد الكريم بن محمد بن منصور بن محمد بن عبد الجبار بن أحمد بن محمد بن جعفر بن أحمد بن الفضل بن الربيع بن مسلم بن عبد الله، أبو سعد تاج الإِسلام السمعاني المروزي. وسياق النسب بعد جعفر أثبته أبو سعد نفسه كما تقدّم في ذكر سَلَفه، وكذا ثبته زميله ابن عساكر كما في "تقييد ابن نقطة" وغيره, وذكر ابن نقطة أنّ يحيى بن مندة وشيرويه ساقا النسب إلى جعفر ثم قالا: "ابن سمعان" ولم يزيدا. قال المعلمي: ليس هذا بخلاف، وإنّما نسبا جعفرًا إلى الجد الأعلى وهو سمعان، الذي ذكر أبو سعد عن أهله أنّه بطن من تميم، وليس معنى هذا أنّه بطن قديم معروف في الجاهلية، فإنّ علماء النسب لا يعرفون ذلك، وإنّما سمعان - والله أعلم - تميمي، كان هو أو ابنه في زمن الصحابة، وكان فيمن غزا مرو واستوطنها، وكثر بنوه فنُسِبوا إليه، وبذلك صار بطنًا من تميم. * مولده ونشأته: ولد بمرو يوم الاثنين الحادي والعشرين من شعبان، سنة ست وخمسمائة، ومع أنّ والده لم يجاوز عمره حينئذ أربعين سنة وأربعة أشهر تقريبًا، فأحسبه كان يشعر بقرب موته، فإنّه سارع بإدراج اسم ابنه في سجلّ المحدَّثين، فكان يُحضره وهو ابن سنتين أو نحوها مجالس المحدِّثين، ويكتب له ما أملوه أو قُرئ عليهم وهو حاضر، ويثبت ذلك ويصحّحه ليكون أصلاً يرجع إليه ولده ويروي منه إذا كبر، ويأخذ له مع ذلك إجازاتهم، ولم يكتف ببلده، بل رحل به وعمره نحو ثلاث سنوات إلى نيسابور، وأحضره لدى كبار محدثيها وسَمّع له منهم، وسيأتي تفصيلُ بعض ذلك في أسماء شيوخه.

* رحلته

ومع أنّه كان للأب أخوان عالمان فاضلان، فلم يكتف عندما أحسّ بالموت بأن يدع ابنه إليهما، بل أوصى به إلى أفضل عالم من أصحابه، وسيأتي ذكره في مشايخه. توفي الأب ثالث شهر صفر من سنة عشر وخمسمائة، وعمر أبي سعد حينئذ ثلاث سنين وخمسة أشهر وثلاثة عشر يومًا, ولا أعرف الآن شيئًا من حال والدة أبي سعد. كَفَل أبا سعد وصيّه وعمّاه، وكلهم من خيار العلماء، والبيئة صالحة فاضلة رجالها ونساؤها، وفي ذلك ما يغني عن الكلام في تنشئة أبي سعد في أوائل عمره، ولا سيما مع العلم بما صار إليه من أمره. وبالجملة فإنّه حفظ القرآن وتعلّم الفقه والعربية والأدب، وصار يسمع الحديث مع عمّيه، ثم بعد أن قارب العشرين صار يسمع بنفسه غير أنّهم لم يسمحوا له بالرحلة إلا بأخرة. * رحلته: ألحّ عليهم أن يأذنوا له بالرحلة إلى نيسابور ليسمع "صحيح مسلم" من المتفرد به المعمّر الثقة الفاضل أبي الفضل الفُراوي الذي طال عمره، وأصبح يتوقع كل يوم موته، وإذا مات ولم يسمع منه أبو سعد كانت حسرةً في قلبه لا تندمل، فلم يأذنوا له حتى جاوز عمره الثانية والعشرين من السنين، ولم يسمحوا له بالسفر وحده، بل سافر معه أحد عميه. وضاق صدر أبي سعد بتلك العناية الحبيبة الكريهة، فلمّا أتمّ سماع "صحيح مسلم" في نيسابور أراد عمه أن يرجع به إلى وطنه، فلم يسع أبا سعد إلا أن يختبئ، أملًا أن يملّ عمه الانتظار، فيذهب ويدعه يطوف في مراكز العلم كما يحب، لكن العمّ كان أصبر منه, لزم نيسابور حتى ملّ

* رجوعه إلى وطنه

أبو سعد الاختباء؛ فظهر وطاوع عمه في الرجوع معه، وكأنه بقي يحاجّ عمه ويوضّح له أنه مضطر إلى الرحلة، وأنّه لا داعي لمنعه من الغربة وحده، ويمكن أن يكون كاتَبَ عمَّه الآخر والوصيّ، فعاد جوابهما بالإذن له. نعم أذن له عمه وهما بطوس، فرجع هو إلى نيسابور وأقام بها سنة كما تقدم شرح ذلك في ذِكْره عمَّه في جملة أهله. ثم ذهب يطوف في مراكز العلم في الدنيا عدة سنوات، واتسعت رحلته فعمّت بلاد خراسان وأصبهان وما وراء النهر والعراق والحجاز والشام وطبرستان وزار بيت المقدس وهو بأيدي النصارى، وحجَّ مرتين، ومات عمه والوصي عليه بمرو وهو في الرحلة. * رجوعه إلى وطنه: في "طبقات الشافعية": "وعاد إلى وطنه بمرو سنة ثمان وثلاثين [وخمسمائة] فتزوج وولد له أبو المظفّر عبد الرحيم ... ". قال المعلمي: أرّخ ابن نقطة وغيره مولد عبد الرحيم في ذي القعدة من سنة سبع وثلاثين وخمسمائة، فإمّا أن يكون أبو سعد إنّما رجع إلى مرو أوائل سنة سبع وثلاثين وستمائة، وإمّا أن يكون تزوج وولد له عبد الرحيم في الرحلة. حاله بعد رجوعه: في "طبقات الشافعية" عَقِب ما مرّ: "فرحل به - يعني بعبد الرحيم - إلى نيسابور ونواحيها وبلخ وسمرقند وبخارى، وخَرَّج له معجمًا ثم عاد به إلى مرو، وألقى عصا السفر بعد ما شقّ الأرض شقًّا، وأقبل على التصنيف

* بعض شيوخه

والإملاء والوعظ والتدريس ... عاد بعد ما دوّخ الأرض سفرًا إلى بلده مرو وأقام مشتغلًا بالجمع والتصنيف والتحديث والتدريس بالمدرسة العميدية ونشر العلم. * بعض شيوخه: قد تقدم ذكره لأبيه وعمّيه وأخته، ونذكر طائفة من غيرهم. 1 - أبو بكر، عبد الغفار بن محمد بن الحسين الشيروي النيسابوري (414 - 510) ذكره أبو سعد في رسم (الشيروي) من "الأنساب"، وقال: "سمعت منه بنيسابور، وأحضر في الإمام والدي رحمه الله وشكر سعيه وسمَّعني منه". 2 - أبو العلاء، عبيد بن محمد بن عبيد القشيري التاجر النيسابوري (417 - 512). 3 - أبو القاسم، سهل بن إبراهيم السُبعي المسجدي النيسابوري (- 522) ذكره أبو سعد في رسم (السبعي) وقال: "سمع منه جماعة من شيوخنا، وأدركته وأحضرني والدي عليه بنيسابور، وقرأ لي عليه جزءًا". 4 - أبو عبد الله، محمد بن الفضل الفُراوي (441 - 530) وإليه على الأخصِّ رحل أبو سعد مع عمه سنة 529 كما تقدم في ذكر أهله، وكان الفُراوي مع جلالته قد تفرّد بـ "صحيح مسلم" بسند عال جليل، ولم يكن بينه وبين مسلم إلاَّ ثلاثة، مع أنّ بين وفاتيهما نحو مائتين وسبعين سنة. 5 - أبو القاسم، تميم بن أبي سعيد الجرجاني مُسْنِد هراة (- 531). 6 - أبو الفرج، سعيد بن أبي الرجا الأصبهاني (440 تقديرًا - 532).

7 - أبو المظفَّر، عبد المنعم بن عبد الكريم القُشيري النيسابوري (445 - 532). 8 - أبو نصر، أحمد بن عمر بن محمد المغازي الأصبهاني (448 - 532). ذكره أبو سعد في رسم (المغازي) وقال: "ثقة حافظ ما رأيت في شيوخي أكثر رحلة منه". 9 - أبو الحسن، محمد بن عبد الملك بن محمد بن عمر الكَرَجي الفقيه الشافعي (458 - 532) ذكره أبو سعد في رسم (الكَرَجي) قال: "فكتبت بالكرج عن الإمام أبي الحسن محمد بن أبي طالب عبد الملك بن محمد الكرجي، وكان إمامًا متقنًا مكثرًا من الحديث". وكان هذا الكرجي شافعيًّا، ويخالف منصوص المذهب حيث يقوى الدليلُ عنده، من ذلك أنّه كان لا يقنت في الصبح، وكان سلفيّ العقيدة، له في ذلك كتاب "الفصول عن الأئمة الفحول". وفي ترجمة الكرجي من "طبقات الشافعية" (4/ 81) ثناءٌ عاطر من أبي سعد - كأنه في "التحبير" (¬1) - على الكَرَجي، ومنه "إمام عالم ورع عاقل فقيه مفتٍ محدِّث شاعر أديب، مجموعٌ حَسَن، أفنى طول عمره في جمع العلوم ونشرها"، وأن أبا سعد قال: "وله قصيدة بائية في السنة شَرَح فيها اعتقاده واعتقاد السلف، تزيد على مائتي بيت، قرأتها عليه في داره بالكرج". وذكر ابن السبكي أبياتًا من القصيدة، وفيها التصريح بالعلو الذاتي وغير ذلك، وذم للأشعري، فراح ابن السبكي يتشكك ويشكِّك، ويزعم أنّ ابن السمعاني أشعري، وأنّ ذلك يقتضي أحد أمور: إمّا أن لا تكون تلك القصيدة هي التي ¬

_ (¬1) ليس في "التحبير" المطبوع، ولا "المنتخب من معجم شيوخ السمعاني".

عناها أبو سعد، وإمّا أن يكون الأبيات التي تخالف مذهب الأشعري وتذمّه مدسوسة فيها (¬1)، وإمّا أن يكون ذكر القصيدة وسماعها مدسوسًا في كتاب أبي سعد. والظاهر سقوط هذه الاحتمالات، وأنّ أبا سعد سلفيّ العقيدة، فإنّ شيوخه الذين يُبْلِغ في الثناء عليهم سلفيون، ولم أر في "الأنساب" ما هو بَيِّن في خلاف ذلك. وقد حاول ابنُ الجوزي الحنبلي في "المنتظم" أن يعيب زميله أبا سعد وجَهَد في ذلك، ولم يذكر ما يدلّ على أنّه أشعري، نعم زعم أنّ أبا سعد كان يتعصّب على مذهب أحمد ويبالغ، ومعنى هذا أنّه شافعي، ولو أراد أنّه أشعري لقال: كان يتعصّب على أهل السنة، أو كان يتعصّب لأهل البدع، أو نحو ذلك، ومع هذا حاول ابن الجوزي أن يقيم شهادة على دعواه فلم يصنع شيئًا كما يأتي. نعم لم يكن أبو سعد يتصدّى لعيب الأشعرية والطعن فيهم، بل إذا اتفق له ذِكْر أحد منهم أثنى عليه بما فيه من المحاسن أو حكى ثناء غيره، وكذلك الحنفية الذين آذوا جدَّه أبلغ أذية، تراه يسوق تراجمهم، ويُبالغ في الثناء عليهم. وقوله في بعضهم: "إنّه كان يتعصب لمذهبه"، حكاية للواقع، مع أنّه في نظر الحنفية كلمة مدح، ولذلك تراهم ينقلونها مبتهجين بها، وهم عالة على أبي سعد في أكثر طبقاتهم. 10 - أبو محمد هبة الله بن سهل بن عمر بن محمد بن الحسين السيدي البسطامي ثم النيسابوري (445 - 533) ذكره أبو سعد في رسم (السيدي) وقال: "كان من أهل العلم وبيت الإمامة، سمع جماعة كثيرة مثل أبي الحسين عبد الغافر الفارسي (توفي عبد الغافر سنه 448) ... سمعت منه الكثير". ¬

_ (¬1) الأصل: "منها".

11 - أبو القاسم، زاهر بن طاهر الشحّامي النيسابوري (450 تقديرًا - 533). 12 - الإمام أبو إسحاق، إبراهيم بن أحمد (¬1) بن محمد بن علي بن محمد بن عطاء المرورّوذي (453 - 533) في "طبقات الشافعية" (4/ 199): "حدّث عنه ابن السمعاني، وقال: سمعت منه الكثير، قال: وكان إمامًا متقنًا مصيبًا ومناظرًا ورعًا محتاطًا في المأكل والملبوس، حادّ الخاطر، حسن المحاورة, كثير المحفوظ، ذا رأي ونباهة وإصابة في التدبير، وكان الأكابر يصادقونه ويستضيئون برأيه ويزورونه، قال: وكان والدي لما توفي فوَّض النظر في مصالحي ومصالح أخي - كذا - إليه، وجعله وصيًّا، قال: وكان إذا دخل مدرستنا لا يشرب الماء في زاويتنا ولا في دارنا، ويحتاط في ذلك". 13 - أبو محمد، عبد الجبار بن محمد بن أحمد الخواري (455 تقديرًا - 534) ذكره أبو سعد في رسم (الخواري) وقال: "كان إمامًا فاضلًا مفتيًا متواضعًا ... كتبت عنه الكثير بنيسابور، وقرأت عليه الكتب". 14 - أبو بكر، محمد بن عبد الباقي بن محمد الأنصاري البغدادي (442 - 535). 15 - أبو منصور، عبد الرحمن بن محمد بن عبد الواحد القزاز البغدادي (450 تقديرًا - 535). 16 - أبو القاسم، إسماعيل بن محمد بن الفضل التيمي الأصبهاني، وكان يقال له (جوزي) (457 - 535) وهو فيما أرى أجلّ شيوخ أبي سعد، ذكره في رسم (الجوزي) وقال: "أستاذنا وشيخنا وإمامنا ... كان إمامًا في ¬

_ (¬1) في (ط): "محمد" خطأ.

* عدد شيوخه ومعاجمه

فنون العلم في التفسير والحديث واللغة والأدب حافظًا متقنًا، كبير الشأن، جليل القدر، عارفًا بالمتون والأسانيد ... أملى بجامع أصبهان قريبًا من ثلاثة آلاف مجلس ... ، وفي مدة مقامي ما فاتني من أماليه شيء، وكان يملي عليّ في كل أسبوع يومًا مجلسًا خاصًّا في داره، وأقرأ عليه في كل أسبوع يومين". * عدد شيوخه ومعاجمه: ذكر ابن خلكان وغيره أنّ عدد شيوخ أبي سعد يزيد على أربعة آلاف، وقال ابن النجار: "سمعت من يذكر أنّ عدد شيوخه سبعة آلاف شيخ" وهذا غير بعيد، إذا عددنا كل من حكى عنه أبو سعد حكايةً شيخًا له، وقد جمع هو تراجم شيوخه في معاجمه. فمن مؤلفاته (معجم البلدان)، أحسبه بناه على أسماء البلدان التي دخلها في رحلته، يذكر البلدة، ويذكر شيوخه من أهلها أو بعضهم. و"معجم الشيوخ" كأنّه رتّبه على أسماء الشيوخ، فإمّا أن يكون اقتصر على من أكثر عنه منهم، وإمّا أن يكون ذكرهم باختصار. و"التحبير في المعجم الكبير" استوعب فيه شيوخه وتراجمهم. قال الذهبي في "التذكرة": "ذكر في التحبير تراجم شيوخه فأفاد وأجاد، طالعته، ولا علاقة له بالمعجم الكبير للطبراني". * ثناء أهل العلم عليه: قال زميله الحافظ أبو القاسم ابن عساكر كما نقله ابن نقطة وغيره: "كان متصوّنًا (¬1) عفيفًا حسن الأخلاق ... وهو الآن شيخ خراسان غير مدافَع عن ¬

_ (¬1) تحرّفت في بعض الكتب "متصوفًا" وهو خطأ [المؤلف].

* بعض الآخذين عنه

صدق ومعرفة وكثرة سماع لأجزاء وكتب مصنفة، والله يبقيه لنشر السنة ويوفقه لأعمال أهل الجنة". وقال ابن النجار: "وكان مليح التصانيف، كثير النشوار والأناشيد، لطيف المزاح، ظريفًا حافظًا واسع الرحلة، ثقة صدوقًا دينًا، سمع منه مشايخه وأقرانه وحدّثنا عنه جماعة". وقال الذهبي في "التذكرة": "الحافظ البارع العلّامة ... وكان ذكيًّا فهمًا سريع الكتابة مليحها، درَّس وأفتى، ووعظ وأملى، وكتب عمّن دبَّ ودرج، وكان ثقة حافظًا حجة واسع الرحلة، عدلاً دينًا جميل السيرة، حسن الصحبة، كثير المحفوظ". وقال في ترجمة ابن ناصر بعد أن ذكر تجنّي ابن الجوزي على زميله أبي سعد في قوله في شيخهما ابن ناصر: إنّه كان يحب الطعن في الناس. قال الذهبي يخاطب ابن الجوزي: "لا ريب أنّ ابن ناصر متعصّب في الحطّ على بعض الشيوخ، فدع الانتصار، فأبو سعد أعلم بالتاريخ وأحفظ منك ومن شيخك، وقد قال في ابن ناصر: إنّه ثقة حافظ ديّن متقن ثبت لغوي، عارف بالمتون والأسانيد، كثير الصلاة والتلاوة، غير أنّه يحب أن يقع في الناس، وهو صحيح القراءة والنقل". قال المعلمي: وكلام ابن الجوزي تجنٍّ محض، أوقعه فيه إفراط غبطته لزميله المتفوق عليه، غفر الله للجميع. * بعض الآخذين عنه: 1 - الحافظ أبو القاسم، علي بن الحسن بن هبة الله ابن عساكر الدمشقي (499 - 571).

2 - أبو محمد، القاسم بن علي بن الحسن بن عساكر (527 - 600). 3 - أبو الفتوح، يوسف بن المبارك الخفّاف البغدادي (- 601). 4 - أبو أحمد، عبد الوهاب بن أحمد (ابن سكينة) البغدادي (519 - 607). 5 - أبو محمد، عبد العزيز بن معالي بن غنيمة (ابن منينا) البغدادي (525 - 612). 6 - أبو هاشم، عبد المطلب بن الفضل الحلبي (536 - 616). 7 - أبو رَوح، عبد المعز بن محمد بن أبي الفضل الهروي (522 - 618). 8 - أبو المظفّر، عبد الرحيم بن عبد الكريم ابن السمعاني (537 - 617). وهو ابن أبي سعد، له ترجمة في "تقييد ابن نقطة", قال فيها: "سَمَّعه أبوه من جماعة من شيوخ خراسان، منهم أبو الأسعد هبة الرحمن بن عبد الواحد القُشيري، وعبد الأول بن عيسى السّجْزي، وأبو طاهر السنجي، سمع "مسند الهيثم بن كُليب" من مسعود بن محمد الغانمي، قال: أنا أبو القاسم الخليلي، و"مسند الدارمي" من عبد الأول، وكتاب "الصحيح" للبخاري من أبي الفتح عبد الرحمن الكُشْميهيني قال: أنا أبو الخير محمد بن أبي عمران موسى الصفار ثنا أبو الهيثم محمد بن المكي، وكتاب "الصحيح" لأبي عوانة من عبد الله بن محمد ابن الفراوي، وسمع "مسند الشافعي" و"مسند عبد الله بن وهب" من أبي طاهر محمد بن محمد السنجي،

* مؤلفات أبي سعد

ثنا نصر الله بن أحمد النيسابوري، أنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري. وكان واسع الرواية, اعتنى به أبوه، وسَمّعه الكثير، وأثبت له مسموعاته في جزء كبير يأتي بيانه في مؤلفات أبي سعد. مولده في ذي القعدة من سنة سبع وثلاثين وخمسمائة، وانقطعت عنّا أخباره من سنة سبع عشرة وستمائة، وظهور الترك - التتر - بخراسان". وفي "الشذرات" (5/ 76): "خَرَّج له أبوه معجمًا في ثمانية عشر جزءًا، وكان مفتيًا عارفًا بالمذهب، وروى الكثير، ورحل الناس إليه، وسمع منه الحافظ أبو بكر الحازمي، ومات قبله بدهر، وحدّث عنه الأئمة: ابن الصلاح والضياء المقدسي والزكي البرزالي والمحبّ ابن النجار، وخَرَّج لنفسه أربعين حديثًا، وانتهت إليه رياسة الشافعية ببلده، وخُتِم به البيت السمعاني، عدم في دخول التتار". * مؤلفات أبي سعد: نقل ابن النجار أسماءها ومقاديرها عن خط أبي سعد، فنسوقها على ترتيبه: 1 - ذيل تاريخ بغداد، للخطيب، أربعمائة طاقة. وقال ابن خلكان: نحو خمسة عشر مجلدًا، ألفه وسمعه الناس منه ببغداد أثناء رحلته، كما ذكره ابن عساكر. 2 - تاريخ مرو، خمسمائة طاقة. وقال ابن خلكان: يزيد على عشرين مجلدًا. 3 - طراز الذهب في أدب الطلب. مائة وخمسون طاقة.

4 - الإسفار عن الأسفار، خمس وعشرون طاقة. 5 - الإملاء والاستملاء (¬1) خمس عشرة طاقة. 6 - التذكرة والتبصرة، مائة وخمسون طاقة، (سقط ذكره من تذكرة الحفاظ). 7 - معجم البلدان خمسون طاقة. 8 - معجم الشيوخ، ثمانون طاقة. 9 - تحفة المسافر، مائة وخمسون طاقة. 10 - التحف والهدايا، خمس وعشرون طاقة. 11 - عِزّ العزلة، سبعون طاقة. 12 - الأدب في استعمال الحسب، خمس طاقات. 13 - المناسك، ستون طاقة. 14 - الدعوات الكبير، أربعون طاقة. 15 - الدعوات المروية عن الحضرة النبوية، خمس عشرة طاقة. 16 - الحث على غسل اليدين، خمس طاقات. 17 - أفانين البساتين، خمس عشرة طاقة. 18 - دخول الحمام، خمس عشرة طاقة، قال ابن السبكي: "وكان هذب ¬

_ (¬1) طبع حديثًا باعتناء مكس ويسويلر، طبع في مدينة ليدن المحروسة. بمطبعة برلين سنة 1952 م. [المؤلف]. وطبع محققًا في مجلدين.

به كتاب أبيه أبي بكر في دخول الحمام". 19 - فضائل صلاة الصبح، عشر طاقات. إلى هنا يتفق ترتيب "تذكرة الحفاظ" وترتيب "طبقات الشافعية" وقد يزيد أحدهما الكلمة أو يقع اختلاف، فأثبتُّ ما هو الأصح والأوضح، ومن هنا ترتيب "تذكرة الحفاظ"، وراجعت في الكتابة ما في "طبقات الشافعية" للتصحيح والتوضيح. 20 - التحايا [والهدايا]، ست طاقات. 21 - تحفة العيد - في الطبقات: "العيدين" - ثلاثون طاقة. 22 - فضل الديك، خمس طاقات. 23 - الرسائل والوسائل، خمس عشرة طاقة [لم تكمل]. 24 - صوم [الأيام] البيض، خمس عشرة طاقة. 25 - سلوة الأحباب [ورحمة الأصحاب]، خمس طاقات. 26 - التحبير في المعجم الكبير، ثلاثمائة طاقة. قال المعلمي: يظهر من هذا أنّه بقدر ستة أسباع الأنساب، وذكر ابن خلكان أنّ الأنساب نحو ثمان مجلدات. وذكره في ترجمة ابن الأثير، فقال: في ثمان مجلدات، وذكر أنّه رآه مرة. وفي ترجمة أبي سعد من "الشذرات": "عمل معجم شيوخه في عشرة مجلدات كبار". ومن "التحبير" (¬1) نسخة ناقصة ¬

_ (¬1) طبع التحبير - والصحيح أنه منتخب منه - في العراق، بتحقيق منيرة ناجي في مجلدين عام 1395.

ذكرت في فهرس المخطوطات المصورة لجامعة الدول العربية (ج 2/ 143)، وفي الفهرس أيضًا رقم (491) معجم السمعاني (¬1) ... نسخة كتبت سنة 647 بخط نسخ قليل الإعجام، أحمد الثالث 953 م، 298 ف 21 س 18/ 24 سم"، وسمعت من يذكر أنّ هذا هو "التحبير" أيضًا، ولا أدري (¬2). 27 - فرط الغرام إلى ساكني الشام، خمس عشرة طاقة. قال المعلمي: ذكره ابن عساكر في ترجمة أبي سعد قال: "وآخر ما ورد عليّ من أخباره كتاب كتبه بخطه وأرسل به إليّ، سماه كتاب "فرط الغرام إلى ساكني الشام". في ثمانية أجزاء كتبه سنة ستين وخمسمائة ... وضمّنه قطعة من الأحاديث المسانيد وأودعه جملة من الحكايات والأناشيد". وبهذا يظهر أنّ الطاقة نصف جزء أو نحوه. 28 - مقام العلماء بين يدي الأمراء، إحدى عشرة طاقة. 29 - المساواة والمصافحة، ثلاث عشرة طاقة، قال المعلمي: إذا كان حديث قد رواه الترمذي - مثلاً - بسنده، ووقع لأبي سعد - مثلاً - عاليًا بسند من جهة أخرى، واستوى عدد رجال السندين إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فهي المساواة، وإن زاد سند أبي سعد واحدًا فهي المصافحة، وقس على ذلك، وراجع كتب المصطلح قسم العالى والنازل. ¬

_ (¬1) طبع بعنوان "المنتخب من معجم شيوخ السمعاني" عن هذه النسخة في أربعة مجلدات، تحقيق د. موفق عبد القادر، في الرياض. (¬2) والنسخة من "التحبير في المعجم الكبير" لعبد الكريم السمعاني في دار الكتب الظاهرية - انظر فهرس مخطوطات دار الكتب الظاهرية ليوسف العش، دمشق 1947 ص 181. [المؤلف].

30 - ذكرى حبيبٍ رحل، وبشرى مشيب نزل، عشرون طاقة. 31 - الأمالى الخمسمائة، مائتا طاقة، ليس في "الطبقات". 32 - فوائد الموائد، مائتا طاقة. 33 - فضل الهرة، ثلاث طاقات. 34 - الأخطار في ركوب البحار، سبع طاقات. 35 - الهريسة، ثلاث طاقات. 36 - تاريخ الوفاة للمتأخرين من الرواة، خمس عشرة طاقة. 37 - الأنساب، ثلاثمائة وخمسون طاقة، وقال ابن خلكان: إنّه في ثمان مجلدات. 38 - الأمالى، ستون طاقة. 39 - بخار بخور البخاري، عشرون طاقة. 40 - تقديم الجفان إلى الضيفان، سبعون طاقة. 41 - صلاة الضحى، عشر طاقات. 42 - الصدق في الصدقة. 43 - الربح والخسارة في الكسب والتجارة. 44 - رفع الارتياب عن كتاب الكتاب، أربع طاقات. 45 - النزوع إلى الأوطان [والنزاع إلى الإخوان] (¬1) خمس وثلاثون طاقة. 46 - حث الإمام على تخفيف الصلاة مع الإتمام، في طاقتين. ¬

_ (¬1) من مقدمة م. [المؤلف].

* مكاتب السمعانيين

47 - لفتة المشتاق إلى ساكن العراق، أربع طاقات. 48 - السد والعد لمن اكتنى بأبي سعد (¬1)، ثلاثون طاقة. 49 - فضائل الشام، في طاقتين. 50 - فضل يس، في طاقتين. 51 - كتاب الحلاوة. ذُكر في "الطبقات" وليس في "التذكرة". 52 - المعجم الذي ألّفه لابنه أبي المظفر، وقد تقدم عن ابن نقطة أنّه في جزء كبير، وذكر ابن خلكان وصاحب "الشذرات" أنّه في ثمانية عشر جزءًا، فكلمة جزء في عبارة ابن نقطة بالمعنى اللغوي. لم يذكر هذا وتاليه في سياق عدد مؤلفات أبي سعد. 53 - عوالي ابنه أبي المظفَّر، خَرَّجها أبو سعد لابنه أبي المظفر، وفي "تاريخ ابن خلكان" أنها في مجلدين ضخمين. * مكاتب السمعانيين: في "معجم البلدان" رسم (مرو الشاهجان) وهي وطن السمعانيين ما لفظه: "ولولا ما عرا من ورود التتر إلى تلك البلاد وخرابها لما فارقتها إلى الممات؛ لما في أهلها من الرفد ولين الجانب وحسن العشرة، وكثرة كتب الأصول المتقنة بها، فإني فارقتها وفيها عشر خزائن للوقف، لم أر في الدنيا مثلها كثرة وجودة، منها خزانتان في الجامع ... وخزانتان للسمعانيين، وخزانة أخرى في المدرسة العميدية (التي كان أبو سعد يدرس بها) ... وأكثر فوائد هذا الكتاب وغيره مما جمعته فهو من تلك الخزائن". ¬

_ (¬1) لفظ التذكرة في اسم الكتاب كله: "من كنيته أبو سعد". [المؤلف].

* وفاة أبي سعد

* وفاة أبي سعد: قال ابن عساكر فيما نقله ابن نقطة في "التقييد": ثنا أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن محمد المسعودي الفقيه: أنّ أبا سعد توفي بمرو في شهر ربيع الأول من سنة اثنتين وستين وخمسمائة". وفي "تاريخ ابن خلكان": "توفي بمرو في ليلة غُرة ربيع الأول سنة اثنتين وستين وخمسمائة. وفي "طبقات الشافعية": "في الثلث الأخير من ليلة غرة - في النسخة: عشرة خطأ - ربيع الأول ... ". وفي تذكرة الحفاظ: "في ربيع الأول في أوله". وخفي الأمر على ابن الجوزي فذكر أبا سعد في وفيات سنة ثلاث وستين وخمسمائة وقال: "توفي ابن السمعاني ببلده في هذه السنة، ووصل الخبر بذلك"، وتبعه بعضهم وهو خطأ. ***

كتاب الأنساب

كتاب الأنساب سبق أوائل هذه المقدمة الإلماع إلى مكانة هذا الفن، وشدة الحاجة إلى معرفته، وأنّ كتاب الأنساب للسمعاني هو بحق الكتاب الوحيد فيه، وأذكر الآن سبب تأليفه وبعض الثناء عليه. قال أبو سعد في خطبته: "كنت في رحلتي أتتبع ذلك، وأسأل الحفاظ عن الأنساب وكيفيتها، وإلى أي شيء نُسِب كل أحد، وأُثبت ما كنت أسمعه، ولما اتفق الاجتماع مع شيخنا وإمامنا أبي شجاع عمر بن الحسن البسطامي - ذكره الله بالخير - بما وراء النهر، فكان يحثّني على نظم مجموع في الأنساب، وكل نسبة إلى أيّ قبيلة أو بطن أو ولاء أو بلدة أو قرية أو جدّ أو حِرفة أو لقب لبعض أجداده، فإنّ الأنساب لا تخلو عن واحد من هذه الأشياء، فشرعت في جمعه بسمرقند في سنة خمسين وخمسمائة، وكنت أكتب الحكايات والجرح والتعديل بأسانيدها، ثم حذفت الأسانيد لكيلا يطول، وملت إلى الاختصار ليسهل على الفقهاء حفظها, ولا يصعب على الحفاظ ضبطها، وأوردت النسبة على حروف المعجم، وراعيت فيها الحرف الثاني والثالث إلى آخر الحروف، فابتدأت بالألف الممدودة لأنها بمنزلة الألِفين، وذكرت (الآبُرى) في الألفين، وهي قرية من سجستان، و (الإبري) بالألف مع الباء الموحدة، وهذه النسبة إلى عمل الإبرة، وأذكر نسبَ الرجل الذي أذكره في الترجمة وسيرته وما قال الناس فيه وإسناده، وأذكر شيوخه ومن حدّث عنهم، ومن روى عنه، ومولده ووفاته إن كان بلغني ذلك، وقدمت فصولاً فيها أحاديث مسندة في الحثّ على تحصيل

هذا النوع من العلم، ونسب جماعة من أصول العرب وورد في الحديث ذكرهم، وقد أذكر البلاد المعروفة والنسبة إليها لفائدة تكون في ذكرها، والله تعالى ينفع الناظر فيه والمتأمل له بفضله وسعة رحمته". وقال ابن الأثير في مقدمة "اللباب": "كانت نفسي تنازعني إلى أن أجمع في هذا كتابًا حاويًا لهذه الأنساب، جامعًا لما فيها من المعارف والآداب، فكان العجز عنه يمنعني، والجهل بكثير منه يصدني، ومع هذا فأنا ملازم الرغبة فيه، مُعرِض عما يباينه وينافيه، كثير البحث عنه والاقتباس منه، فبينما أنا أحوم على هذا المطلب ثم أجبن عن ملابسته، وأُقدم عليه ثم أُحجم عن ممارسته؛ إذ ظفرت بكتاب مجموع فيه قد صنفه الإمام الحافظ تاج الإِسلام أبو سعد عبد الكريم بن محمد بن منصور السمعاني المروزي رضي الله عنه وأرضاه وشكر سعيه وأحسن منقلبه ومثواه، فنظرت فيه فرأيته قد أجاد ما شاء، وأحسن في تصنيفه وترتيبه وما أساء، فما لواصف أن يقول: لولا أنه، ولا لمستثن أن يقول: إلا أنه. فلو قال قائل: إنّ هذا تصنيف لم يُسبق إليه لكان صادقًا, ولو زعم أنّه قد استقصى الأنساب لكان بالحقّ ناطقًا. قد جمع فيه الأنساب إلى القبائل والبطون كالقرشي والهاشمي، وإلى الآباء والأجداد كالسليماني والعاصمي، وإلى المذاهب في الفروع والأصول كالشافعي والحنفي والحنبلي، والأشعري والشيعي والمعتزلي، وإلى الأمكنة كالبغدادي والموصلي، وإلى الصناعات كالخياط والكيال والقصّاب والبقال، وذكر أيضًا الصفات والعيوب كالطويل والقصير والأعمش والضرير، والألقاب كجَزَرة وكَيْلَجة؛ فجاء الكتاب في غاية الملاحة ونهاية الجودة والفصاحة، قد أتى مصنفه بما عَجَز عنه الأوائل ولا يدركه الأواخر،

فإنّه أجاد ترتيبه وتصنيفه، وأحسن جمعه وتأليفه. قد لزم في وضعه ترتيب الحروف في الأبواب والأسماء على ما تراه. فلمّا رأيته فردًا في فنه منقطع القرين في حُسنه، قلتُ: هذا موضع المثل "أَكْرَمتَ فارتبط، وأَمْرعتَ فاخْتبِط"، فحين أمعنت مطالعته، وأردت كتابته رأيته قد أطال واستقصى حتى خرج عن حد الأنساب، وصار بالتواريخ أشبه. ومع ذلك ففيه أوهام قد نبهت على ما انتهت إليه معرفتي منها، وهي في مواضعها. فشرعت حينئذ في اختصار الكتاب، والتنبيه على ما فيها من غلط وسهو، فلا يظن ظانّ أنّ ذلك نقص في الكتاب أو في المصنف، كلّا والله، وإنّما السيد من عُدّت سقطاته، وأخذت غلطاته، فهي الدنيا لا يكمل فيها شيء، وقد صحّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال: "حقٌّ على الله أن لا يرفع شيئًا من الدنيا إلا وضعه"، ليس المعنى بوضعه إعدامه وإتلافه، إنّما هو نقص يوجد فيه، وسياق الحديث يدل عليه، وكيف يكمل تصنيف والله تعالى يقول عن القرآن العزيز: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (¬1) ". ثم ذكر ابن الأثير أشياء وُضِعت في بعض المواضع من "الأنساب" على خلاف الأولى، منها أنّه حيث يتعدد المنسوب إليه للنسبة الواحدة قد يضطرب سياق الأنساب، ومنها أنّه قد يذكر الرجل مرتين أو ثلاثًا، فيوهم التعدّد، وذكر ابن الأثير بعض أمثلة ذلك، وهو قليل في "الأنساب". وممّا يحسن التنبيه عليه أنّ أبا سعد كثيرًا ما يسوق عبارات ابن حبان في الجرح والتعديل، فتارة يعزوها إليه، وتارة يسوقها بدون عزو، وكثيرًا جدًّا ما ¬

_ (¬1) سورة 4 [النساء] آية 82. [المؤلف].

* النسخ التي طبع عنها وقوبل عليها

يسوق عبارة بعض الكتب، كـ "تاريخ بغداد" للخطيب، و"تاريخ نيسابور" للحاكم ملخَّصة، وكثيرًا ما لا يعزوها. وأغرب من ذلك أنّه بعد التلخيص قد يُبقي ضمائر المتكلم كما هي، كأنْ يكون في عبارة الحاكم في ذكر شخص: "سمعت منه" فيلخص أبو سعد العبارة بلا عزو، ويُبقي فيها "سمعت منه" يقع مثل هذا سهوًا، والقرائن تبين الحال، فإنّه يذكر في مثل هذا وفاة ذاك الرجل، وهي قبل ولادة أبي سعد بعشرات السنين أو نحو هذا من القرائن. وقريب من هذا أنّه عند التلخيص قد يترك بعض الألفاظ على حالها في أصل العبارة من جهة الإعراب، مع أنّها في سياق تلخيصه تستحق غير ذلك. وعلى كل حال فليس في هذا وما يشبهه ما ينقص قيمة الكتاب، وقد نبهت في التعليق على ما نبه عليه صاحب اللباب وما ظهر لي، وأسأل الله التوفيق. * النسخ التي طُبع عنها وقُوبل عليها: تيسّر للدائرة أربع نسخ من الكتاب: 1 - ك: وهي فلم مأخوذ من نسخة محفوظة بمكتبة كوبريلي بإستانبول، ذُكرت في فهرس المخطوطات المصورة لجامعة الدول العربية (ج 2 رقم 68) بما يأتي: "نسخة كُتبت سنة 951 بخط نسخ جميل، كتبه عبد المجيد بن محمد الكرماني العباسي، 482 ق، مكتبة كوبريلي 1010". وهي نسخة كاملة سوى سقطات يسيرة في أثناء الكتاب كما سينبه عليها، وفي خاتمتها بخط كاتبها ما صورته: "تممت كتابة هذا الكتاب المشهور عند أرباب الألباب بـ "الأنساب" للنحرير المحقق ... الإمام السمعاني؛ ... لأجل حضرت (كذا) من خصه الله من حقائق المعارف ...

* وصف النسخ

اللهم كما نظمت عقود الملك بعلوّ شأنه وكمال سيادته "أحمد نظام" فاحرسه عن مكايد الأعادي ... في بلدة الهراة (كذا) ... بتاريخ شهر مولد النبي الأكمل - أعني ربيع الأول - سنة خمس عشر (كذا) وتسعمائة، وأنا تراب أقدام العلماء ... عبد المجيد بن محمد الكرماني العباسي ... من كرمهم مسؤول ... " وهي الأصل المعتمد عليه لهذا المطبوع. 2 - س: وهي فلم مأخوذ من نسخة محفوظة بمكتبة غوث أكبر في روسيا برقم [ج 361 - OR]، وهي نسخة تامة إلاَّ أنه سقط منها عشر أوراق بعد الأولى، وسقطات عديدة في الأثناء سينبه عليها، وعدد أوراقها 470. 3 - م: وهي النسخة التي طبعها المستشرق مرجليوث بالزنكوغراف في ليدن، سنة 1912، عن نسخة المتحف البريطاني المحفوظة تحت رقم 225، 23. وهي نسخة تامة عدا السقطات الكثيرة أثناء الكتاب، كما سينبه عليها، وعدد أوراقها 603. 4 - ع: وهي نسخة ناقصة محفوظة بمكتبة الجامعة العثمانية بحيدراباد الدكن، برقم (قع 97 s 922)/ س -1 تبتدئ من قوله أثناء رسم (الإستراباذي): "ابن خزيمة مثله أو أفضل منه ... " وتنتهي إلى رسم (الصريفيني)، وعدد أوراقها 239 في كل صفحة 33 سطرًا. * وصف النسخ: أ - الأولى بخط نسخ جميل، والثانية بخط نسخ جيد، والثالثة بالخط المسمى (نسخ تعليق)، والرابعة بخط نسخ معتاد. ب - يغلب إعجام الحروف المعجمة في غير الرابعة.

ج- عناوين النِّسب مكتوبة في النسخ بخط جليّ، وامتازت النسخة الأولى بشكلها فيها بالحركات. د- إذا كان ضمن النسبة رجلان فأكثر، فلم يلاحظ بيان الفصل إلاّ في النسخة الأولى، وضعت بينهما فيها هذه العلامة (ـ) والغالب في النسخ أن يُعطَف الثاني بالواو، وقد يترك. هـ - لم يميز الشعر من النثر في النسخ تمييزه المعروف، لكن في الأولى مُيز بوضع هذه العلامة (ـه) أول الشعر، وهذه العلامة (،) بين الشطرين، وكذا بين البيتين. و- لم يجر النسخ على وتيرة واحدة في كتابة الأعلام المصطلح على حذف ألفاتها (إسحق - سليمن - معوية) بل تارة تحذف، وتارة تثبت. ز - الياء الراجعة، ويسميها كُتّاب الهند مجهولة مثل (على) لم تقع في الأولى، ووقعت في غيرها في بعض المواضع. ح- التزم في الأولى فقط الترضية عن الصحابة مع مراعاة ما يقتضي الحال في الضمير (عنه، عنها، عنهما، عنهم). ط - لم يثبت تاريخ الكتابة واسم الكاتب في غير الأولى، وختمت الثانية والثالثة بهذه العبارة: "تمت تمام شد آخر الأنساب وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم". ي - يغلب في الأولى الصحة وعدم السقط، ويكثر ذلك في غيرها، ومع هذا فثَمَّ مواضع يقع فيها الخطأ أو السقط في الأولى فقط، فالنسب بين الأولى وبين الثلاث الباقية بعيد، وأمّا الثلاث الباقية فلم أجد إلى الآن خطأ

* التحقيق والتعليق

أو سقطًا في الثانية (س) إلاّ وهو في الأخريين، وقد يوجد فيهما من الخطأ والسقط ما ليس فيها، ففي رسم (البزوري) ورسم (البحقوبي) ورسم (البعلبكي) عبارات سقطت من (م)، وهي ثابتة في (ك) و (س)، فأمّا (ع) فهي تابعة لـ (م) وتزيد عليها في الخطأ والسقط، وبهذا يسوغ أن نحدس أن (ع) فرع لـ (م)، و (م) فرع لـ (س)، و (س) أشف الثلاث، ولهذا قدمتها على (م) مع أنّا بنينا في التعليقات على عكس ذلك. * التحقيق والتعليق: المسوّدة منقولة من الأصل الذي هو النسخة الأولى (ك) أقرؤها وانظر ما قُيد من اختلاف النسخ، وأراجع عند الاشتباه - وحبذا لو اتسع الوقت للمراجعة مطلقًا - ما عندي من المراجع المطبوعة والمخطوطة وكتبي المصورة، وقد ذكرتها في مقدمة "الإكمال"، ويؤسفني أن لا أجد "التحبير" للمؤلف (¬1)، وأكثر مصادر الكتاب وهي تواريخ نيسابور وبخارا ومرو وغيرها. وأحرص على أن أثبت في المتن ما يتبين لي أو يغلب على ظني أنّه هو الذي كان في نسخة المؤلف، وإن كان خطأ، وأنبه مع ذلك في التعليق على الصواب، وعلى ما للتنبيه عليه فائدة مّا من اختلاف النسخ وبعض مخالفات المراجع كاللباب وتاريخ بغداد والإكمال. وفي التعليق مع ذلك زيادات أهمها زيادة نِسَب مستقلة، أذكر النسبةَ ومصدرها وضبطها، وبعضَ من ذُكِر بها صريحًا أو قريبًا منه أو احتمالاً قريبًا، وهذا قليل جَرَّأني عليه أنّ المؤلف نفسه سلك هذه الطريق كما مرت الإشارة إليه، ووضعنا لِنسَب الأصل رقمًا مسلسلًا, ولنسب التعليق رقمًا آخر. ¬

_ (¬1) انظر ما سبق في مؤلفاته ص 98 - 103.

إنّني أحرص فيما أنقله في التعليق عن الكتب الأخرى على الصحة والتنبيه على ما في تلك الكتب من الخطأ، غير أنّ الوقت لا يسمح لي باستيفاء ذلك. وعلى العِلَّات فسيرى أهل العلم ما يسرُّهم إن شاء الله تعالى. عبد الرحمن بن يحيى المعلمي مكة المكرمة

مقدمة "الجرح والتعديل" لعبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي (ت 327)

(3) مقدمة "الجرح والتعديل" لعبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي (ت 327)

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى. الإنسان يفتقر في دينه ودنياه إلى معلومات كثيرة، لا سبيل له إليها إلاَّ بالأخبار، وإذ كان يقع في الأخبار الحق والباطل، والصدق والكذب، والصواب والخطأ، فهو مضطرٌ إلى تمييز ذلك، وقد هيأ الله تبارك وتعالى لنا سلفَ صِدْق، حفظوا لنا جميع ما نحتاج إليه من الأخبار؛ في تفسير كتاب ربنا عزَّ وجلَّ، وسنّة نبينا - صلى الله عليه وسلم -، وآثار أصحابه، وقضايا القضاة، وفتاوى الفقهاء، واللغة وآدابها، والشعر والتاريخ, وغير ذلك. والتزموا وألزموا من بعدهم سَوقّ تلك الأخبار بالأسانيد، وتتبعوا أحوال الرواة التي تساعد على نقد أخبارهم، وحفظوها لنا في جملة ما حفظوا، وتفقّدوا أحوال الرواة، وقضوا على كل راوٍ بما يستحقه، فميزوا من يجب الاحتجاج بخبره ولو انفرد، ومن لا يجب الاحتجاج به إلاَّ إذا اعتضد، ومن لا يحتج به ولكن يُستشهد، ومن يُعْتمد عليه في حالٍ دون أُخرى، وما دون ذلك من متساهل ومغفّل وكذّاب، وعمدوا إلى الأخبار فانتقدوها وفحصوها، وخلصوا لنا منها ما ضمَّنوه كتبَ الصحيح، وتفقدوا الأخبار التي ظاهرها الصحة، وقد عرفوا بسَعَة علمهم ودقة فهمهم ما يدفعها عن الصحة، فشرحوا عللها، وبينوا خللها، وضمَّنوها كتبَ العلل، وحاولوا مع ذلك إماتة الأخبار الكاذبة، فلم يَنقل أفاضلهم منها إلاّ ما احتاجوا إلى ذكره للدلالة على كذب راويه أو وهنه، ومن تسامح من متأخريهم فروى كل ما سمع فقد بيَّن ذلك، ووَكَل الناسَ إلى النقد الذي قد مُهّدت قواعدُه، ونُصِبت معالِمُه، فبحق قال

* علم الجرح والتعديل

المستشرق المحقق مرجليوث: "ليفتخر المسلمون ما شاؤوا بعلم حديثهم" (¬1). * علم الجرح والتعديل: " هو علم يبحث فيه عن جرح الرواة وتعديلهم، بألفاظ مخصوصة، وعن مراتب تلك الألفاظ، وهذا العلم من فروع علم رجال الأحاديث، ولم يذكره أحد من أصحاب الموضوعات, مع أنّه فرع عظيم. والكلامُ في الرجال جرحًا وتعديلًا ثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم عن كثير من الصحابة والتابعين فمن بعدهم، وجُوّز ذلك تورّعًا وصونًا للشريعة لا طعنًا في الناس، وكما جاز الجرح في الشهود جاز في الرواة، والتثبت في أمر الدين أولى من التثبت في الحقوق والأموال، فلهذا افترضوا على أنفسهم الكلام في ذلك" (¬2). * النقد والنُّقاد: ليس نقد الرواة بالأمر الهين، فإنّ النّاقد لا بدّ أن يكون واسع الاطلاع على الأخبار المروية، عارفًا بأحوال الرواة السابقين وطرق الرواية, خبيرًا بعوائد الرواة ومقاصدهم وأغراضهم، وبالأسباب الداعية إلى التساهل والكذب، والموقعة في الخطأ والغلط، ثم يحتاج إلي أن يعرف أحوال الراوي متى ولد؟ وبأيّ بلد؟ وكيف هو في الدين والأمانة والعقل والمروءة والتحفّظ؟ ومتى شَرع في الطَّلَب؟ ومتى سمع؟ وكيف سمع؟ ومع من ¬

_ (¬1) انظر المقالات العلمية ص 234 و253. [المؤلف]. (¬2) كشف الظنون ج 1 - ص 390. [المؤلف].

* أئمة النقد

سمع؟ وكيف كتابه؟ ثم يعرف أحوال الشيوخ الذين يحدّث عنهم، وبلدانهم ووفياتهم، وأوقات تحديثهم وعادتهم في التحديث، ثم يعرف مرويات الناس عنهم، ويعرض عليها مرويات هذا الراوي ويعتبرها بها، إلى غير ذلك ممّا يطول شرحه. ويكون مع ذلك متيقظًا مرهف الفهم، دقيق الفِطْنة، مالكًا لنفسه، لا يستميله الهوى، ولا يستفزّه الغضب، ولا يستخفّه بادِرُ ظنًّ حتّى يستوفي النظر، ويبلغ المقرّ، ثم يحسن التطبيق في حكمه، فلا يجاوز ولا يقصر. وهذه المرتبة بعيدة المرام، عزيزة المنال، لم يبلغها إلا الأفذاذ، وقد كان من أكابر المحدثين وأجلتهم من يتكلّم في الرواة فلا يعوَّل عليه، ولا يُلتفت إليه. قال الإمام علي بن المديني - وهو من أئمة هذا الشأن -: "أبو نعيم وعفَّان صدوقان، لا أقبل كلامهما في الرجال، هؤلاء لا يدعون أحدًا إلاّ وقعوا فيه" (¬1)، وأبو نعيم وعفان من الأجلة، والكلمة المذكورة تدلّ على كثرة كلامهما في الرجال، ومع ذلك لا تكاد تجد في كتب الفن نقل شيء من كلامهما. * أئمة النقد: اشتهر بالإمامة في ذلك جماعة، كمالك بن أنس، وسفيان الثوري، وشُعبة بن الحجّاج، وآخرون قد ساق ابن أبي حاتم تراجم غالبهم مستوفاةً في كتابه "تقدمة المعرفة لكتاب الجرح والتعديل"، وذلك أنّه رأى أنّ مدار الأحكام في كتاب الجرح والتعديل على أولئك الأئمة، وأنّ الواجب أن لا ¬

_ (¬1) تهذيب التهذيب: ج 7 ص 232. [المؤلف].

يصل الناظر في أحكامهم في الرواة حتى يكون قد عرفهم المعرفة التي تثبت في نفسه أنّهم أهلٌ أن يصيبوا في قضائهم، ويعدلوا في أحكامهم، وأن يقبل منهم ويستند إليهم ويعتمد عليهم، ولنحو هذا المعنى يجدر بنا أن نقدم هنا ترجمة ابن أبي حاتم نفسه. ***

ابن أبي حاتم

ابن أبي حاتم * اسمه ونسبه: هو عبد الرحمن بن محمد بن إدريس بن المنذر بن داود بن مهران، أبو محمد بن أبي حاتم الحنظلي الرازي، ذكر ابن السمعاني في "الأنساب" (179 ب) عن ابن طاهر قال: "أبو حاتم الرازي الحنظلي منسوب إلى درب حنظلة بالري، وداره ومسجده في هذا الدرب رأيته ودخلته"، ثم ساق ابن طاهر بسند له إلى ابن أبي حاتم قال: "قال أبي: نحن من موالي بني تميم بن حنظلة من غطفان"، قال ابن طاهر: "والاعتماد على هذا أولى والله أعلم"، تعقبه ياقوت في "معجم البلدان" (حنظلة) فقال: "هذا وهم لأنّ حنظلة هو حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، وليس في ولده مَن اسمه تميم، ولا في ولد غطفان بن سعد بن قيس عيلان مَن اسمه تميم بن حنظلة البتة على ما أجمع عليه النسّابون .... "، فإن صحّ السند إلى ابن أبي حاتم فهم من موالي بني حنظلة من تميم، والتخليط ممن بعده. * مولده ونشأته وطلبه للعلم: ولد سنة 240 قال: "ولم يدعني أبي أطلب الحديث حتّى قرأت القرآن على الفضل بن شاذان"، والفضل بن شاذان هذا من العلماء المقرئين. ثم شرع في الطلب على أبيه الإمام أبي حاتم الرازي والإمام أبي زُرْعة عبيد الله بن عبد الكريم الرازي وغيرهما من محدثي بلده الريّ، ثم حج به أبوه سنة 255، ذكر ذلك في ترجمة أبيه من التقدمة، وفي "تذكرة الحفاظ" عنه: "رحل بي أبي سنة خمس وخمسين [ومائتين] وما احتلمت بعد، فلمّا

* مشايخه والرواة عنه

بلغنا ذا الحليفة احتلمت، فسرَّ أبي حيث أدركت حجة الإسلام". وفي "التذكرة" أيضًا: "قال أبو الحسن علي بن إبراهيم الرازي الخطيب في ترجمة عملها لعبد الرحمن " ..... ثم قال أبو الحسن: رحل مع أبيه، وحجّ مع محمد بن حماد الطهراني، ورحل بنفسه إلى الشام ومصر سنة 262، ثم رحل إلى أصبهان سنة 264"، ولم تؤرَّخ سنة حجه مع الطهراني، وفي كتابه في ترجمة الطهراني: "سمعت منه مع أبي بالريّ، وببغداد وإسكندرية"، وفي "التذكرة" عنه: "كنا بمصر سبعة أشهر لم نأكل فيها مرقة، نهارنا ندور على الشيوخ، وبالليل ننسخ ونقابل، فأتينا يومًا أنا ورفيق لي شيخًا، فقالوا: هو عليل، فرأيت سَمَكة أعجبتنا فاشتريناها، فلما صِرْنا إلى البيت حضر وقت مجلس بعض الشيوخ فمضينا، فلم تزل السمكة ثلاثة أيام وكاد أن ينضى؛ فأكلناه نيئًا لم نتفرغ نشويه، ثم قال: لا يُسْتطاع العلم براحة الجسد". * مشايخه والرواة عنه: ذكر الذهبي في "التذكرة" جماعةً من قدماء شيوخ ابن أبي حاتم الذين ماتوا سنة 256 فما بعدها إلى الستين، منهم عبد الله بن سعيد أبو سعيد الأشج، وعلي بن المنذر الطريقي، والحسن بن عَرَفة، ومحمد بن حسان الأزرق، ومحمد بن عبد الملك بن زنجويه، وحجّاج بن الشاعر، ومحمد بن إسماعيل الأحمسي. ومن أئمة شيوخه: أبوه، وأبو زُرعة الرازي، ومحمد بن مسلم ابن وَارَة، وعلي بن الحسين بن الجُنيد، ومسلم بن الحجّاج صاحب الصحيح، وجماعة كثيرة.

* ثناء أهل العلم عليه

ومن الرواة عنه: الحسين بن علي حُسَينك التميمي الحافظ، وأبو الشيخ عبد الله بن محمد بن حيان الأصبهاني الحافظ، وعلي بن عبد العزيز بن مدرك، وأبو أحمد الحاكم الكبير، وأحمد بن محمد البصير، وعبد الله بن محمد بن أسد، وحَمْد الأصبهاني، وإبراهيم بن محمد النصراباذي، وأحمد بن محمد بن يزداذ، وعلي بن محمد القصار، وأبو حاتم بن حِبّان البُسْتي صاحب "الثقات"، ذكر ذلك في ترجمة أبي حاتم الرازي من "الثقات". * ثناء أهل العلم عليه: قال أبو الحسن الرازي: "كان رحمه الله قد كساه الله بهاءً ونورًا يسرّ من نظر إليه". وقال علي بن أحمد الفَرَضي: "ما رأيت أحدًا ممّن عرف عبد الرحمن ذَكَر عنه جهالةً قط، ويُروى أنّ أباه كان يتعجَّب من تعبد عبد الرحمن ويقول: من يقوى على عبادة عبد الرحمن؟ لا أعرف له ذنبًا". وقال أبو عبد الله القزويني: "إذا صليت مع ابن أبي حاتم فسلم نفسك إليه يعمل بها ما شاء". وقال أبو يعلى الخليلي الحافظ: "أخذ علم أبيه وأبي زُرعة، وكان بحرًا في العلوم ومعرفة الرجال، صنّف في الفقه واختلاف الصحابة والتابعين وعلماء الأمصار ... وكان زاهدًا، يعدّ من الأبدال". وقال الخليلي في ترجمة أبي بكر بن أبي داود: "كان يقال: أئمة ثلاثة في زمن واحد، ابن أبي داود، وابن خزيمة، وابن أبي حاتم". أقول: قدم ذِكْر ابن أبي داود لأنّه في ترجمته، وإلاّ فابن أبي حاتم أجلّ، مع أنّه عاش مدة طويلة بعد ابن أبي داود وابن خزيمة، تفرّد فيها بالإمامة. وفي "لسان الميزان" (1/ 265): "روى ابن صاعد ببغداد في أيامه

حديثًا أخطأ في إسناده، فأنكره عليه ابن عُقدة، فخرج عليه أصحاب ابن صاعد، وارتفعوا إلى الوزير علي بن عيسى، فحبس ابنَ عُقدة، ثم قال الوزير: مَن يُرْجع إليه في هذا؟ فقالوا: ابن أبي حاتم، فكتبوا إليه في ذلك، فنظر وتأمّل، فإذا الصواب مع ابن عُقدة، فكتب إلى الوزير بذلك، فأطلق ابن عقدة، وعظّم شأنه"، وقد كان في ذاك العصر جماعة من كبار الحفاظ ببغداد وما قَرُب منها، فلم يقع الاختيار إلا على ابن أبي حاتم مع بعد بلده. وقال مَسْلَمة بن قاسم الأندلسي الحافظ: "كان ثقة جليل القدر، عظيم الذكر، إمامًا من أئمة خراسان". وقال أبو الوليد الباجي: "ابن أبي حاتم ثقة حافظ". وقال ابن السمعاني في "الأنساب": "من كبار الأئمة، صنّف التصانيف الكثيرة، منها كتاب "الجرح والتعديل"، و"ثواب الأعمال" وغيرهما، سمع جماعة من شيوخ البخاري ومسلم". وقال الذهبي في "التذكرة": "الإمام الحافظ الناقد، شيخ الإسلام ... كتابه في الجرح والتعديل يقضي له بالرتبة المتقنة في الحفظ، وكتابه في التفسير عدة مجلدات، وله مصنف كبير في الرد على الجهمية يدلّ على إمامته". وقال في "الميزان": "الحافظ المثبت ابن الحافظ المثبت ... وكان ممّن جمع علوّ الرواية ومعرفة الفن، وله الكتب النافعة ككتاب الجرح والتعديل والتفسير الكبير وكتاب العلل. وما ذكرته لولا ذِكْر أبي الفضل السليماني له فبئس ما صنع، فإنه قال: ذكر أسامي الشيعة من المحدثين الذين يقدمون عليًّا على عثمان: الأعمش، النعمان بن ثابت، شعبة بن الحجاج، عبيد الله بن موسى، عبد الرحمن بن أبي حاتم". وفي "لسان الميزان" (2/ 128) عن الحاكم قال: "سمعت أبا علي

* مصنفاته

الحافظ يقول: دخلت مرو وفاتني حديث ... فدخلت في بعض رحلاتي الري، فإذا الحديث عندهم عن جعفر بن منير الرازي عن رَوْح بن عبادة عن شعبة، فأتيت ابن أبي حاتم، فسألته عنه فقال: ولِمَ تسأل عن هذا؟ فقلت: هذا حديث تفرّد به عثمان بن جبلة عن شعبة، وهو في كتب روح بن عبادة عن سعيد ... وقد أخطأ فيه شيخكم هذا على روح. فلمّا كان بعد أيام عاودته في السؤال عن هذا الحديث، فأخرج إليّ كتابه على الحاشية: قلت أنا هذا الحديث كذا وكذا، وساق الكلام الذي ذكرته له، فقلت له: متى قلت أنت هذا؟ وإنّما سمعته مني! وانقبضت عنه". أقول: هذه مشاحّة من أبي علي، ويظهر من قول ابن أبي حاتم أوّلاً: "ولم تسأل عن هذا؟ " أنّه قد عرف علة الحديث، وإنّما أراد امتحان أبي علي، ينظر أتفطّن لها أم لا؟ وابن أبي حاتم في طبقة شيوخ أبي علي رحمهما الله. وفي "طبقات الشافعية": "الإمام ابن الإمام، حافظ الري وابن حافظها، كان بحرًا في العلم، وله التصانيف المشهورة". وقال أبو الحسن الرازي: "سمعت علي بن الحسين المصري ونحن في جنازة ابن أبي حاتم يقول: قلنسوة عبد الرحمن من السماء، وما هو بعجب، رجل من ثمانين سنة لم ينحرف عن الطريق". توفي في شهر المحرم سنة 327. * مصنفاته: 1 - التفسير في أربع مجلدات (¬1). ¬

_ (¬1) طبع ما وُجد من الكتاب في عدة مجلدات.

2 - كتاب علل الحديث. (طبع بمصر في مجلدين). 3 - المسند في ألف جزء. 4 - الفوائد الكبير. 5 - فوائد الرازيين. 6 - الزهد. 7 - ثواب الأعمال. 8 - المراسيل (¬1). 9 - الرَّد على الجهمية. 10 - الكنى. 11 - تقدمة المعرفة للجرح والتعديل (¬2). 12 - كتاب الجرح والتعديل (¬3). وقد تقدم عن الخليلي أنّ له مصنفات في الفقه واختلاف الصحابة والتابعين وعلماء الأمصار. ... ¬

_ (¬1) طبع في حيدراباد الدكن سنة 1341. [المؤلف]. (¬2) طبع في دائرة المعارف بحيدراباد الدكن (الهند). [المؤلف]. (¬3) طبعنا منه المجلد الأول بقسميه سنة 1371 هـ, والبقية تحت الطبع. [المؤلف]. أقول: وقد طبع كاملًا في تسعة مجلدات والحمد لله.

كتاب تقدمة المعرفة للجرح والتعديل ومزيته

كتاب تَقْدِمة المعرفة للجرح والتعديل ومَزيَّته هو كتاب بمنزلة الأساس أو التمهيد لكتاب الجرح والتعديل، افتتحه المؤلف ببيان الاحتياج إلى السنّة وأنّها هي المبينة للقرآن، ثم ببيان الحاجة إلى معرفة الصحيح من السقيم، وأنّ ذلك لا يتم إلا بمعرفة أحوال الرواة، وأنّ معرفة الصحيح والسقيم ومعرفة أحوال الرواة إنما يتمكّن منها الأئمة النقاد، ثم أشار إلي طبقات الرواة، وذكر نبذةً في تنزيه الصحابة وتثبيت عدالتهم، ثم بالثناء على التابعين، ثم ذكر أتباعهم، وذِكْر مراتب الرواة، ثم ذَكَر الأئمة وسَرَد بعض أسمائهم. ثم تخلَّص إلى مقصود الكتاب، وهو شرح أحوال مشاهير الأئمة كمالك بن أنس وسفيان بن عُيينة وسفيان الثوري وشعبة بن الحجاج وغيرهم، وساق لكل واحد من الأئمة ترجمةً مبسوطة تشتمل على بيان علمه وفضله ومعرفته ونقده وغير ذلك من أحواله، وجاء في ضمن ذلك فوائد عزيزة جدًّا في النقد والعلل ودقائق الفنّ، لا توجد في كتاب آخر، طبع عن ثلاثة أصول يأتي بيانها فيما بعد. ****

كتاب الجرح والتعديل ومزيته

كتاب الجرح والتعديل ومَزيَّته ألّف الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري "تاريخه الكبير" وكأنّه حاول استيعاب الرواة من الصحابة فمن بعدهم إلى طبقة شيوخه، وللبخاري رحمه الله إمامته وجلالته وتقدمه، ولتاريخه أهميته الكبرى ومزاياه الفنية. وقد أعْظَم شيوخُه ومن في طبقتهم "تاريخه"، حتّى إنّ شيخه الإمام إسحاق بن إبراهيم المعروف بابن راهويه لمّا رأى "التاريخ" لأول مرّة لم يتمالك أن قام فدخل به على الأمير عبد الله بن طاهر فقال: "أيها الأمير ألا أريك سحرًا؟ " (¬1). لكن "تاريخ البخاري" خالٍ في الغالب من التصريح بالحكم على الرواة بالتعديل أو الجرح، أحسَّ الإمامان الجليلان أبو حاتم محمد بن إدريس الرازي وأبو زرعة عبيد الله بن عبد الكريم الرازي وهما من أقران البخاري ونُظَرائه في العلم والمعرفة والإمامة، أحسّا بهذا النقص، فأحبّا تكميله. في "تذكرة الحفاظ" (3/ 175) عن أبي أحمد الحاكم الكبير أنّه ورد الري، فسمعهم يقرؤون على ابن أبي حاتم كتاب "الجرح والتعديل"، قال: "فقلت لابن عبدويه الورَّاق: هذه ضُحْكة أراكم تقرؤون كتاب "التاريخ" للبخاري على شيخكم، وقد نسبتموه إلي أبي زرعة وأبي حاتم، فقال: يا أبا أحمد إنّ أبا زرعة وأبا حاتم لما حُمِل إليهما "تاريخ البخاري" قالا: هذا علم لا يُسْتغنى عنه، ولا يحسن بنا أن نذكره عن غيرنا، فأقعدا عبد الرحمن يسألهما عن رجل بعد رجل وزادا فيه ونقصا". ¬

_ (¬1) مقدمة فتح الباري ص 484. [المؤلف].

كأنَّ أبا أحمد رحمه الله سمعهم يقرؤون بعض التراجم القصيرة التي لم يتفق لابن أبي حاتم فيها ذِكْر الجرح والتعديل ولا زيادة مهمة على ما في "التاريخ"، فاكتفى بتلك النظرة السطحية, ولو تصفّح الكتاب لما قال ما قال. لا ريب أنّ ابن أبي حاتم حذا في الغالب حذو البخاري في الترتيب وسياق كثير من التراجم وغير ذلك، لكن هذا لا يغضّ من تلك المزية العُظْمى، وهي التصريح بنصوص الجرح والتعديل، ومعها زيادة تراجم كثيرة، وزيادات فوائد في كثير من التراجم، بل في أكثرها، وتدارك أوهام وقعت للبخاري وغير ذلك. وأما جواب ابن عبدويه الورَّاق فعلى قدر نفسه لا على قدر ذينك الإمامين أبي زُرعة وأبي حاتم! والتحقيقُ أنّ الباعث لهما على إقعاد عبد الرحمن وأمرهما إياه بما أمراه، إنّما هو الحرص على تسديد ذاك النقص، وتكميل ذاك العلم، ولا أدلّ على ذلك من اسم الكتاب نفسه، كتاب "الجرح والتعديل". حرص ابن أبي حاتم بإرشاد ذينك الإمامين، على استيعاب نصوص أئمة الفنّ في الحكم على الرواة بتعديل أو جرح، وقد حصل في يده ابتداء نصوص ثلاثة من الأئمة، وهم أبوه وأبو زرعة والبخاري، أمّا أبوه وأبو زرعة فكان يسائلهما في غالب التراجم التي أثبتها في كتابه ويكتب جوابهما، وأمّا نصوص البخاري فإنّه استغنى عنها بموافقة أبيه للبخاري في غالب تلك الأحكام. ومعنى ذلك أنّ أبا حاتم كان يقف على ما حكم به البخاري فيراه صوابًا في الغالب فيوافقه عليه, فينقل عبد الرحمن كلام أبيه. وكان محمد بن يحيى الذُّهلي قد كتب إليهم فيما جرى للبخاري في مسألة القرآن

على حسب ما تقوَّله الناسُ على البخاري كما ذكره ابن أبي حاتم في ترجمة البخاري من كتابه، فكأنَّ هذا هو المانع لابن أبي حاتم من نِسْبة أحكام البخاري إليه. وعلى كل حال فالمقصود حاصل. ثم تتبَّع ابن أبي حاتم نصوصَ الأئمة فأخذ عن أبيه ومحمد بن إبراهيم بن شعيب ما روياه عن عَمْرو بن علي الفلّاس ممّا قاله باجتهاده، وممّا يرويه عن عبد الرحمن بن مهدي ويحيى بن سعيد القطان ممّا يقولانه باجتهادهما، وممّا يرويانه عن سفيان الثوري وشعبة، وأخذ عن صالح بن أحمد بن حنبل ما يرويه عن أبيه، وأخذ عن صالح أيضًا وعن محمَّد بن أحمد بن البراء ما يرويانه عن علي بن المديني ممّا يقوله باجتهاده، وممّا يرويه عن سفيان بن عيينة، وعن عبد الرحمن بن مهدي، وعن يحيى بن سعيد القطان. وحرص على الاتصال بجميع أصحاب الإِمام أحمد ويحيى بن معين، فروى عن أبيه عنهما، وعن أبيه عن إسحاق بن منصور عن يحيى ابن معين، وروى عن جماعة من أصحاب أحمد وابن معين؛ منهم صالح بن أحمد بن حنبل، وعلي بن الحسن الهسنجاني، والحسين بن الحسن أبو معين الرازي، وإسماعيل بن أبي الحارث أسد البغدادي، وعبد الله بن محمَّد بن الفضل أبو بكر الأسدي - ووصفه في ترجمة زياد بن أيوب بأنَّه "كان من جلة أصحاب أحمد بن حنبل" - وأخذ عن عباس الدوري "تاريخه"، ويروي منه بلفظ: "قُرئ على عباس الدوري وأنا أسمع" ونحو ذلك. وكاتَبَ عبد الله بن أحمد بن حنبل وقال في ترجمته: "كتب إليَّ بمسائل أبيه وبعلل الحديث، وكان صدوقًا ثقة"، وكاتَبَ حرب بن إسماعيل

الكرماني فكتب إليه بما عنده عن أحمد، وكاتب أبا بكر بن أبي خَيْثمة فكتب إليه بما عنده عن ابن معين وغيره، ويمكن أن يكون كتب إليه بتاريخه كله. وروى عن محمَّد بن حمويه بن الحسن ما عنده عن أبي طالب أحمد بن حميد صاحب أحمد بن حنبل عن أحمد، وروى عن عبد الله بن بشر البكري الطالقاني ما عنده عن الميموني صاحب أحمد عن أحمد، وكاتب علي بن أبي طاهر القزويني، فكتب إليه بما عنده عن الأثرم صاحب أحمد عن أحمد، وكاتب يعقوب بن إسحاق الهروي فكتب إليه بما عنده عن عثمان بن سعيد الدارمي عن ابن معين. وأخذ عن علي بن الحسين بن الجُنيد ما عنده عن محمَّد بن عبد الله بن نُمير. وبالجملة فقد سعى أبلغ سعي في استيعاب جميع أحكام أئمة الجرح والتعديل في الرواة إلي عصره، ينقل كلَّ ذلك بالأسانيد الصحيحة المتصلة بالسماع أو القراءة أو المكاتبة. وفي آخر ترجمة طاووس من الكتاب قول الراوي عنه: "سألنا أبا محمَّد عبد الرحمن بن أبي حاتم فقلنا: هذا الذي تقول: "سئل أبو زرعة" سألَه غيرُك وأنت تسمعه أو سأله وأنت لا تسمع؟ فقال: كلما أقول: "سئل أبو زرعة" فإني قد سمعته منه إلا أنه سأله غيري بحضرتي، فلذلك لا أقول: سألته، وأنا فلا أدلس بوجه ولا سبب أو نحو ما قال". وقال في آخر مقدمة الكتاب (1/ 1/ 38): "قصدنا بحكايتنا الجرح والتعديل إلى العارفين به العالمين له متأخرًا بعد متقدم إلى أن انتهت بنا الحكاية إلى أبي وأبي زرعة رحمهما الله. ولم نَحْكِ عن قوم قد تكلَّموا في ذلك، لقلة معرفتهم به، ونسبنا كلَّ حكاية إلى حاكيها، والجواب إلى

* ترتيب الكتاب

صاحبه، ونظرنا في اختلاف أقوال الأئمة في المسؤولين عنهم، فحذفنا تناقض قول كل واحد منهم، وألحقنا بكل مسؤول عنه ما لاق به وأشبهه من جوابهم. على أنا قد ذكرنا أسامي كثيرة مهملة من الجرح والتعديل كتبناها ليشتمل الكتاب على كل من رُوي عنه العلم رجاء وجود الجرح والتعديل فيهم، فنحن ملحقوها بهم إن شاء الله تعالى". وقد يحكي في الجرح والتعديل عن شيوخه غير أبيه وأبي زرعة كمحمد بن مسلم بن وارة، وعلي بن الحسين بن الجنيد، وقد يتكلم باجتهاده. فهذا الكتاب هو بحق أم كتب هذا الفن، ومنه يستمد جميع من بعده، ولذلك قال المزي في خطبة "تهذيبه": "واعلم أنّ ما كان في هذا الكتاب من أقوال أئمة الجرح والتعديل ونحو ذلك فعامته منقول من كتاب "الجرح والتعديل" لأبي محمَّد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي الحافظ ابن الحافظ ..... ". * ترتيب الكتاب: افتتحه بمقدمة نفيسة في بضع وثلاثين صفحة من المطبوع في تثبيت السنن وأحكام الجرح والتعديل، وقوانين الرواية، كما ترى بيانه في الفهرست. ثم شرع في التراجم مبوبًا مرتبًا على ترتيب حروف المعجم بالنظر إلى الحرف الأول من الاسم فقط، ففي باب الألف: "باب أحمد، باب إبراهيم، باب إسماعيل، باب إسحاق، باب أيوب، باب آدم، باب أشعث، باب إلياس، باب أسامة، باب أنس، باب أُبي، باب الأسود، باب أبان إلخ.

فأنت تراه اعتبر الحرف الأول فقط، وهو الألف، ولم ينظر إلى الحرف الثاني فضلاً عمّا بعده، وإنّما يراعي في التقديم والتأخير شرف بعض المُسَمّين بذاك الاسم كما قدم أحمد ثم إبراهيم، أو كثرة التراجم في الباب، أو غير ذلك من المناسبات، أو كما اتفق. وإذا كثرت التراجم في الباب رتبها على أبواب ذيلية بحسب أول أسماء الآباء، فقدم في الأحمدين من أول اسم أبيه ألف، ثم من أول اسم أبيه باء، وهكذا. وربما توسّع في الترتيب كما فعل فيمن اسمه محمَّد واسم أبيه عبد الله، رتّبهم على أبواب باعتبار أول اسم الجد "من اسمه محمَّد واسم أبيه عبد الله وأول اسم جده ألف"، ثم "من اسمه محمَّد واسم أبيه عبد الله وأول اسم جده باء" وهكذا. ويختم كلّ اسم من الأسماء التي تكثر التراجم فيها بباب لمن يسمى ذاك الاسم ولم ينسب، ويختم كل حرف بباب للأفراد، وهم الذين لا يوجد في الرواة من يسمى ذاك الاسم إلا واحد. ثم ختم الكتاب بستة أبواب: الأوّل: للذين لم يُعرفوا إلا بابن فلان، ورتبهم على أبواب ذيلية باعتبار أسماء الآباء. الباب الثاني: من يقال له "أخو فلان" فيه ترجمة واحدة. الباب الثالث: للمبهمات، فيه ترجمتان فقط "رجل عن أبيه"، "مولى سباع". الباب الرابع: لمن عُرِف ابنه ولم يُعْرَف هو، فيه ترجمة واحدة "رشيد الهجري عن أبيه". الباب الخامس: لمن لم يعرف إلاّ بكنيته، ورتّبها على أبواب ذيلية بحسب الحروف. الباب السادس: لمن تُعرف بكنيتها من النساء، ورتّبها على الحروف أيضًا. وهذا الترتيب شبيه بترتيب "تاريخ البخاري" إلاّ أنّ البخاري قدَّم المحمدين أول الكتاب؛ لأنّه صدَّر الكتاب بنبذة من الترجمة النبوية،

* البياضات

فاسْتَحسن أن يقدّم المحمدين، ثم رتّب الباقي على حروف المعجم بالنظر إلى الحرف الأول فقط. ويتحرّى البخاري تقديم تراجم الصحابة، ففي الأبواب التي تكثر تراجمها يقدم أسماء الصحابة بدون نظر إلى أسماء آبائهم، ثم يرتّب تراجم غيرهم على أبواب ذيلية بحسب حروف الآباء، ففي المحمدين بدأ بالترجمة النبوية، ثم بتراجم المحمدين من الصحابة، ثم رتّب تراجم غيرهم على أبواب ذيلية على حسب حروف الهجاء؛ من اسمه محمَّد وأول اسم أبيه ألف، ثم من اسمه محمَّد وأول اسمه أبيه باء إلخ. والمؤلّف حيث يبوب الأبواب الذيلية يراعي تقديم أسماء الصحابة، إلاّ أنّه يُتبع كلَّ اسم بمن يوافقه في الاسم واسم الأب من غير الصحابة، يبدأ مثلًا بباب من اسمه محمَّد وأول اسم أبيه ألف، فيذكر صحابيًّا ثم من يوافقه في اسمه واسم أبيه، ثم صحابيًّا آخر ثم من يوافقه، وهكذا، فيقع اسم كل صحابي في بابه باعتبار اسمه واعتبار اسم أبيه أيضًا. فأمّا الأسماء التي لا تكثر التراجم فيها جدًّا فلا يرتبها البخاري ولا المؤلف. ممّا ذكر يتبين أنّ الكتابين مرتبان ترتيبًا ينفع في سهولة المراجعة إلى حدّ كبير، إلاّ أنّه غير مستقصى، فإذا أريد الترتيب المستقصى فلا غنى بالكتابين عن فهارس مطوّلة مرتبة الترتيب المستقصى. * البياضات: قد يذكر المؤلف الرجل ولا يستحضر عمّن روى، ولا مَن روى عنه، أو يستحضر أحدهما دون الآخر، فيدع لما لا يستحضره بياضًا "روى عن .... روى عنه .... "، ويكثر ذلك في الأسماء التي ذكرها البخاري ولم ينصّ.

* الأوهام

وعادة ابن حبان في "الثقات" أن لا يدع بياضًا، ولكن يقول: "يروي المراسيل، روى عنه أهل بلده" كأنَّه اطلع على ذلك أو بنى على أنّ البخاري إنّما لم يذكر عمّن يروي الرجل؛ لأنّه لم يرو عن رجل معين وإنّما أرسل، وأن الغالب أنّه إذا كان الرجل ممّن يُروى عنه فلا بدّ أن يروي عنه بعض أهل بلده، وطريقة المؤلف أحوط كما لا يخفى، وقد حاولت فيما حققته من الكتاب التنبيه في الحاشية على ما عثرت عليه ممّا يسدّ البياض. * الأوهام: الكتاب كبير، لعلّه يحتوي على قريب من عشرين ألف ترجمة، ومعظم التراجم مأخوذ من أسانيد الأخبار المتفرقة، والرواة قد يصحِّف بعضهم بعض أسماء رجال الإسناد أو يحرّفها، وقد يُنْسَب الرجل إلى جده أو جد أبيه، وقد يُنسب تارة إلى قبيلة وتارة أخرى إلى غير ذلك، ممّا يوقع المحدّث في الوهم، وقد وقع للبخاري من ذلك أشياء تعقّبها المؤلف في كتابٍ على حِدة، ذكره ابن حجر في "لسان الميزان" (3/ 233)، وكذلك للخطيب "كتاب أوهام الجمع والتفريق" يعني أن يُجعل الرجل اثنين فأكثر أو يجعل الاثنان فأكثر واحدًا، وقد وقع في "كتاب الجرح والتعديل" أوهام من هذا الضرب وغيره ليست بالكثيرة. منها ما قد نبّه عليه أهلُ العلم ممّن جاء بعد المؤلف، كجعله ترجمةً لجعفي بن سعد العشيرة على أنّه صحابي، وإنّما هي قبيلة سُمّيت بجدٍّ جاهلي قديم، وكذِكْره ترجمة لـ "دقرة" على أنّها رجل، وإنّما هي امرأة، ومنها ما تبعوه عليه كذكره ترجمة "حارثة بن عَمْرو من بني ساعدة قتل يوم أحد"، وإنّما هذا اسم جاهلي قديم وقع في نَسَب بعض شهداء أحد. ومنها ما

* الأصول المطبوع عنها

لم ينبهوا عليه، كذكره ترجمة لـ "شميسة" على أنّه اسم رجل، وإنّما هي امرأة، وقع له عن ابن معين أنّه قال "شميسة ثقة" فظنّ أنّه اسم رجل، وفي "التهذيب" ترجمة لشميسة في النساء، ولم يذكر توثيق ابن معين لها، كأنّهم لم يعثروا على هذه الترجمة؛ لأنّها في غير مظنتها. وأكثر ما وقع الوهم في عدِّ الرجل واحدًا واثنين؛ ذَكَر لجُنيد بن العلاء بن أبي دهرة ترجمة في بابه، وذكر له ترجمتين في باب حميد، إحداهما "حميد بن أبي دهرة"، والأخرى "حميد بن العلاء"، فجعل الواحد ثلاثة. وذَكَر ترجمةً لحفص بن سلم ثم أعاده باسم حفص بن مسلم، إلى غير ذلك، وقد نبّهت في حواشي ما حققته من الكتاب على ما ظهر لي من ذلك. * الأصول المطبوع عنها: الأصل الأول: نسخة محفوظة في مكتبة مراد ملا بإستانبول، تحت رقم (1427)، وهي شاملة للتقدمة والكتاب، ولكن لاكتفائنا ببقية النسخ لم نحصِّل منها إلا التقدمة بتصوير مختصر، وتاريخ كتابتها سلخ شهر ربيع الأول سنة سبع وستمائة (607)، وهي نسخة جيدة مقابلة، روعي فيها الإعراب فيما وقع التسامح فيه في النسخ الأخرى، ووقع فيها اختصار في بعض المواضع لما هو في معنى التكرار، ومن غرائبها اختصار كلمة "حدثنا" على "حنا"، وهو اختصار غريب لم يذكره أهل المصطلح، وعلامة هذه النسخة في المطبوع (د). الأصل الثاني: نسخة محفوظة في دار الكتب المصرية، التقدمة منها تحت رقم (892)، والكتاب تحت رقم (891)، التقدمة منها ناقصة من أولها، الموجود منها من أثناء رسالة الثوري إلى عباد بن عباد، راجع ص (87)

من المطبوع، والكتاب في ستة مجلدات، في آخر السادس ما لفظه: "تم السفر السادس، وهو آخر "كتاب الجرح والتعديل" ... ووافق الفراغ منه في شهر ذي الحجة، سنة ست وأربعين وسبعمائة (746)، وكتبه محمَّد بن رسلان، عُرِف بابن السكري، عفا الله عنه". ووقع في آخر المجلد الأول ذكر التاريخ، بكتابة معلقة غير واضحة، ربما تقرأ هكذا "سنة أربع وخمسمائة" كذا، والظاهر "سنة أربعين وسبعمائة"، وهي نسخة واضحة الكتابة، مقابلة يقل فيها السقط، ولكن يكثر فيها التحريف، حَصَلت منها نسخة مأخوذة بالتصوير تشمل ما عدا ما يقابل المجلد الثالث من الكتاب الذي طبع قديمًا في الدائرة سنة 1361، وعلامة هذه النسخة في المطبوع (م). الأصل الثالث: نسخة محفوظة في مكتبة كوبريلي بإستانبول، تحت رقم (278)، وهي نسخة كاملة للتقْدِمة والكتاب، وهي مسوقة مساقًا واحدًا، من أول التقدمة إلى آخر الكتاب، بلا فصل ولا تجزئة، كأنّها كلها مجلد واحد. وفي آخر الكتاب "تم الكتاب بحمد الله وحسن توفيقه، على يدي أضعف العباد وأحوجهم إلى عفو ربه الغَفَّار: إبراهيم العطار في العشر الأول من شهر ذي القعدة، سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة الهلالية (793)، وهي نسخة جيدة، لا يكثر في التحريف، إلاّ أنّه يظهر أنّها لم تُقابل على أصلها فوقع فيها سقط في مواضع غير قليلة، حصلت للدائرة قديمًا نسخة منها مأخوذة بالتصوير بتوسُّط المستشرق الأجل الدكتور كرنكو معاون الدائرة المقيم في كيمبرج، واعتنى بنقل المسوّدة، فنقل بخطه من أول التقدمة إلى آخر ترجمة "شيبة بن النعمان بن شروس الصنعاني"، مع شيء من الإصلاح قد نبهنا على ما يحسن التنبيه عليه منه في مواضعه، ثم أرسل

* تجزئة الكتاب لأجل الطبع

إلى الدائرة النسخة المصورة كاملة مع نقله. وكانت الدائرة قد عثرت في المكتبة السعيدية بحيدراباد الدكن على مجلد من الكتاب من أثناء باب عبيد إلى آخر باب من يسمى محمدًا واسم أبيه عبد الرحمن، مكتوب عليه: "المجلد الثالث ... "، فبادرت الدائرة سنة 1361 هـ إلى طبعه عن هذه النسخة الناقصة وعن نسخة كوبريلي طبعته في قسمين، وتأخر طبع بقية الكتاب انتظارًا لنسخة أخرى، حتى يسر الله تعالى ذلك بعد عشر سنين كاملة، وذلك بفضل جهود ناظم الدائرة حضرة الدكتور محمَّد نظام الدين، فإنّه قام في العام الماضي برحلته بمناسبة الاشتراك في مؤتمر المستشرقين المنعقد بإستانبول، فكان في جملة ما اعتنى بتحصيله من النسخ نسخة ملا مراد للتقدمة، ونسخة دار الكتب المصرية، وعلامة نسخة كوبريلي في المطبوع أخيرًا (ك). * تجزئة الكتاب لأجل الطبع: الكتاب غير مجزّأ في نسخة كوبريلي كما تقدّم، وهو مجزّأ في نسخة دار الكتب تجزئة غير مناسبة ولا متناسبة، ولما طبعت الدائرة في سنة 1361 المجلد الثالث، تَبِعت فيه ما وقع في المجلد المحفوظ في المكتبة السعيدية بحيدراباد الدكن، فإنّه كُتب عليه "المجلد الثالث" وابتداؤه وانتهاؤه غير مناسب كما يعلم ممّا تقدّم، وقسمته الدائرة إلى قسمين، فلمّا أردنا أخيرًا طبع بقية الكتاب وجدنا أنفسنا مقيدين بمراعاة ما تقدم، فجعلنا التقدمة في مجلدة على حدة، وعدد صفحاته (375)، وعدد صفحات الفهرس (14). ثم المجلّد الأول من أول الكتاب إلى آخر باب الزاي، وقسّمناه إلى

* الاختلافات بين نسختي كوبريلي ودار الكتب المصرية

قسمين، الأول يشتمل على (أ، ب، ت، ث، ج) أي من أول باب الألف إلى آخر باب الجيم، وعدد صفحاته (552)، وعدد صفحات فهرسته (13)، والقسم الثاني يشتمل على (ح، خ، د، ذ، ر، ز)، أي من أول باب الحاء إلى آخر باب الزاي، وعدد صفحاته (625)، وصفحات فهرسته (16). ثم المجلد الثاني، وقسّمناه إلى قسمين، الأول يشتمل على (س، ش، ص، ض، ط، ظ)، أي من أوّل باب السين إلى آخر باب الظاء. والقسم الثاني من أوّل باب عبد الله إلى آخر ترجمة "عبيد بن كرب أبو يحيى" إلى أن يلاقي المجلد الثالث المطبوع قديمًا في باب عبيد، وهو أيضًا قسمان، الأوّل من "عبيد بن مهران المكتب" إلى "عياض بن بكر ابن وائل"، وعدد صفحاته 409، والثاني من "عدي بن حاتم الطائي" إلى "محمَّد بن عبد الرحمن، أبو الجماهر الحمصي"، وعدد صفحاته 327. ثم المجلد الرابع، وهو من أوّل من اسمه محمَّد واسم أبيه عبيد الله إلى آخر الكتاب، وقسّمناه أيضًا إلى قسمين، الأوّل يشتمل على بقية باب الميم وباب النون، من "محمَّد بن عبيد الله" إلى "ندى المعروف بأبي سعيد بن عباد الموصلي". والثاني من أول باب حرف الواو، "الوليد بن أعين"، إلى "أم هانئ". آخر الكتاب وبه خُتِم. وهذا المجلدان الثاني والرابع تحت الطبع. فقد راعينا المناسبة والتناسب ما أمكن، وإنّما انخرم علينا ذلك فيما يتصل بالمجلد الثالث الذي طبع قديمًا. * الاختلافات بين نسختي كوبريلي ودار الكتب المصرية: يقع بين النسختين اختلاف كثير، فأمّا ما كان بالزيادة والنقص واختلاف الألفاظ والعبارات، فقد نبّه عليه في الحواشي، وأهمّ الاختلافات التقديم

والتأخير، فربّما وقع بباب كامل، وذلك قليل، وقد نبه عليه في الحواشي أيضًا، ويقع أكثر منه في ترتيب التراجم، وقد نبّه عليه أيضًا، وأكثر منهما في ترتيب النصوص في التراجم الكبيرة، فإنّ المؤلف يسوق في الترجمة عدة نصوص، كل نصّ منها بسند، فيقع بين النسختين اختلاف كثير في ترتيب تلك النصوص، وأقرب ما يتبادر إلى الظن توجيه التقديم والتأخير في التراجم والنصوص بافتراض أن يكون المؤلف بيض الكتاب مرّتين، لكن لو كان الواقع هكذا لما غير في المرّة الثانية شيئًا من الترتيب الأول إلا لمناسبة، وإنعام النظر في مواقع ذلك الاختلاف لا يطابق هذا، بل تارةً يكون المناسب ما في هذه النسخة، وتارة ما في الأخرى. فلا بدّ من افتراض سبب آخر. والذي يظهر أنّ المؤلف قيد في أصله أوّلًا ما تحصل لديه من التراجم والنصوص، وترك بياضًا واسعًا في جوانب كل صفحة ليضيف ما يجده بعد ذلك، ثم كان يضيف في الجوانب إلى أن اجتمع ما رضيه فأذن لأصحابه أن ينتسخوا من ذلك الأصل، فكان الناسخ يضع تلك الألحاق التي في الجوانب في المواضع الصالحة لها من المتن، فاختلف الناسخان، فمن هنا جاء الاختلاف. ويشهد لهذا أنّه في بعض المواضع يقع بعض النصوص في إحدى النسختين في ترجمة غير الترجمة التي يتعلق بها لكنّها قريب منها. وقد يكون مع هذا سببٌ آخر، كأنْ يكون أصحابه أخذوا الكتاب عنه أوّلًا ثم كان إذا وجد زيادة أخبرهم بها ليضيفها كل منهم في نسخته في الموضع المناسب فيختلفون. وعلى كلّ حال فإنّ الترتيب في المطبوع هو ترتيب نسخة كوبريلي، اللهم إلا في مواضع يسيرة عدلنا عنها إلى ترتيب المصرية لموجب، ونبّهنا

* النقل عن الكتاب

على ذلك في الحاشية، وكذلك نبهنا على ترتيب تراجم المصرية حيث يخالف، فأمّا ترتيب النصوص فإنّما التزمنا التنبيه حيث يكون للاختلاف مساس بالمعنى، فأمّا ما عدا ذلك فأكثر من أن يمكن التنبيه عليه. ولهذا الاختلاف أهمية كبرى، وهو أنّه يدلّ أنه لا جامع بين هاتين النسختين إلا أصل المؤلف، فليست إحداهما منقولة من الأخرى، ولا ترجعان إلى أصل واحد من الأصول التي بعد المؤلف، وبهذا يعظم الوثوق بما اتفقتا عليه. ومن الاختلاف أيضًا أنّه يقع في نسخة كوبريلي ذكر اسم المؤلف في أوائل الأسانيد وترك ذلك في النسخة المصرية، وكذلك ترك في نسخة ملامراد. ومنها أنّه كثيرًا ما يقع في عبارات المؤلف في الأسانيد "ذكره أبي"، وفي نسخة مراد ملا من التقدمة "ذكر أبي". * النقل عن الكتاب: عامّة الكتب المؤلفة بعد المؤلف من كتب الفن وما يتصل به تنقل عن هذا الكتاب، كـ "تاريخ بغداد" و"تاريخ دمشق" و"تذكرة الحفاظ" و"التهذيب" و"الميزان" وفروعهما و"تعجيل المنفعة" و"طبقات القرّاء" لابن الجزري و"الأنساب" لابن السمعاني وغيرها، وقد قابلتُ كثيرًا من تلك النقول بما في الكتاب فوجدته مطابقًا لكلا الأصلين أو لأحدهما، إلاّ أن يقع هناك اختصار أو تحريف، وأشكل عليّ موضع واحد هو ما وقع في ترجمة داود بن خلف، وهي في المطبوع ج 1 قسم 2 ص 410، وقد شرحت ذلك في التعليق عليها.

* تصحيح الكتاب والتعليق عليه

* تصحيح الكتاب والتعليق عليه: قد بذلت الوُسْع في تحقيق ما حققته من الكتاب (¬1)، أوّلًا بتصفُّح الكتاب نفسه، فإن أوثق التصحيح تصحيح بعض الكتاب ببعضه، ثانيًا بعرض ما وقع فيه على ما في الكتب الأخرى؛ فراجعت لتراجم كثير من الصحابة: "طبقات ابن سعد" و"سيرة ابن هشام" و"الاستيعاب" و"التجريد" و"الإصابة". واستقصيت أو كدت في غالب الكتاب معارضة تراجم الصحابة وغيرها بـ "تاريخ البخاري" و"ثقات ابن حبان". واستكثرتُ من المعارضة على "تهذيب المزي" و"تهذيبه" لابن حجر و"الميزان" للذهبي و"لسانه" لابن حجر و"تعجيل المنفعة" له، و"طبقات القراء" لابن الجزري؛ ومن مراجعة "تاريخ بغداد" والمطبوع من "تهذيب تاريخ دمشق"، و"الأنساب" لابن السمعاني، و"اللباب" لابن الأثير، و"المؤتلف" و"مشتبه النسبة" لعبد الغني، و"الإكمال" لابن ماكولا، و"المشتبه" للذهبي، و"التبصير" لابن حجر، وتوخيتُ أن أثبت في المتن ما هو الصواب أو الأصوب وإن اتفقت الأصول على الخطأ، اللهم إلا حيث لا يبعد أن يكون الخطأ من أصل المؤلف، ونبّهت في التعليقات على سائر التصرفات، ونبّهت أيضًا على ما يسدّ بعضَ البياضات، وما ظهر لي من الأوهام، إلى تحقيقات أخرى تشتبك بالتصحيح ولا تبعد عنه. ولا أدعي أنّني قد وفيت بالواجب، ولكنّي بلغت مبلغًا أَكِلُ تقديره إلى أهل العلم الذين لهم معرفة بالفن وبالنسخ الخطية القديمة، وهذه الإشارات التي عملت في التصحيح: الأرقام أثناء المتن التي تكون بين قوسين هكذا () أرقام صفحات ¬

_ (¬1) وهو التقدمة والمجلد الأول والثاني والقسم الأول من المجلد الرابع. [المؤلف].

النسخ، وبعد كل رقم علامة نسخته، وبعد علامة النسخة المصرية من أثناء ص (351) من القسم الأول من المجلد الأول فما بعدها رقم المجلد منها، وما وُضِع من المتن بين حاجزين هكذا [] فهو زيادة في بعض النسخ، وفي آخر الزيادة رقم يشير إلى الحاشية التي تتعلّق به، واقتصرت في تلك الحواشي على قولي مثلًا "من م" أعني أنّها زيادة من المصرية. وربما أقول مثلًا "ليس في م"، أو "سقط من م" أعني أنها زيادة من النسخة الأخرى أو النسختين من التقدمة، وإذا علقت على بعض الكلمات نحو "م ... " فالواقع في المتن هو ما في النسخة الأخرى أو النسختين من التقْدِمة. ***

شكر

شُكر وممّا يجدر ذكره هنا أنّه في هذا الدور الجديد لحيدراباد الدكن، وفي هذه الخمس السنوات الأخيرة انتشر صيت دائرة المعارف، وطابت سمعتها، وحصل لها القبول العام في الأوساط العالمية، شرقية وغربية؛ بما قامت به من الأعمال العلمية الخالصة في نشر الكتب الجليلة النادرة، وبذلك ازدادت الروابط الحسنة الأدبية والثقافية بين الشرق والغرب، وبين الهند والمعاهد العلمية في أوروبا، ونحن ممنونون جدًّا من جميع العلماء والأكابر الذين يشجعوننا باستحسان أعمالنا وتقديرها، ونرجو من العلماء والمستشرقين في أقطار العالم والمراكز العربية أن يتعاهدونا بملاحظاتهم القيمة وآرائهم السديدة فيما يساعد على توسيع أعمال الدائرة، والزيادة في إتقانها. وإنّا لنتقدم بالشكر الجزيل لمن قامت الدائرة بأعمالها الجليلة في عهد رياسته، وشملها حسن عنايته، صاحب السمو والفخامة "هز إكَزالتد هائنس دي نظام النواب مير عثمان علي خان راج برمكهـ آف حيدراباد"، وكذلك نشكر لحكومة حيدراباد وأرباب الجامعة العثمانية، خصوصًا منهم صاحب المعالي رئيس الوزراء وأمير الجامعة بي رام كشن راو، فإنّه بإبقائه للدائرة إمدادها، سَهُل عليها القيام بأعمالها، ولولاه لتعسّر عليها الاستمرار في إجراء الأعمال العلمية ونشر الكتب العربية. ومن الحقّ أن نهدي عنّا وعن أهل العلم الشكر الجميل لجناب النواب

الجليل علي ياورجنكَـ معين أمير الجامعة ورئيس دائرة المعارف سابقًا، الذي بدأ العمل في تصحيح هذا الكتاب وطبعه في عهد رياسته للدائرة، ثم لخلفه الفاضل الجليل الدكتور السيد حسين معين أمير الجامعة ورئيس دائرة المعارف حالاً، ثم لجناب ناظم الدائرة الساعي في ترقية شؤونها، الدكتور الحاج محمَّد نظام الدين، وبفضل مساعيه حصلت النسخة المصرية ونسخة مراد ملا للتقدمة، وذلك في رحلته في العام الماضي للاشتراك في مؤتمر المستشرقين المنعقد في إستانبول، وبتلك الرحلة مَدّ رحلته إلى أوربا، وتجوَّل في أقطارها لزيارة أكابر العلماء والمستشرقين، ولمشاهدة المكاتب الشهيرة، وتحصيل النُّسَخ القلمية لكتب عديدة، وكذلك اغتنم وجوده في إستانبول فاطلَّعَ على مكاتبها، وحصَّل منها نسخًا عديدة من الكتب القلمية المهمة، وعطف على مكاتب مصر والشام والحجاز، وقد سعد بالحج والزيارة في تلك الرحلة، ولا ننسى ما للعالم الجليل والفاضل النبيل المستشرق الشهير معاون الدائرة، الدكتور إيف كرنكو من المساعي الجميلة في مساعدة الدائرة ومعاضدتها على توسيع أعمالها، وبذل جهده في استنساخ وتصحيح هذا الكتاب، وقد كان لفضيلة العلامة الكبير الأستاذ محمَّد زاهد الكوثري - مدّ الله في أيامه - فضلٌ كبير بتنبيهه على وجود نسخة التقدمة في مكتبة مراد ملا، وإرشاده إلى نسخ كثير من الكتب، هذا مع حسن عنايته بمطبوعات الدائرة، شكر الله سعيه، ووفّق الجميع للاستمرار على خدمة العلم ونشره، وأرجو أن يُتمّم بقية الكتاب على النحو الذي جرى عليه العمل من أوله. وأسأل الله تعالى أن لا تزال دائرة المعارف ينبوعًا متبجّسًا بأمثال هذه النفائس، لا ينضب ماؤه، ولا

يتكدّر صفاؤه، آمين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على خاتم أنبيائه محمَّد وآله وصحبه. 23 شوال سنة 1371 هـ كتبه راجي عفو ربه: عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني

مقدمة "تاريخ جرجان" لأبي القاسم حمزة بن يوسف السهمي الجرجاني (ت 428)

(4) مُقَدِّمَة "تاريخ جُرجان" لأبي القاسم حمزة بن يوسف السهمي الجرجاني (ت 428)

* ابتداء التأليفات في التواريخ وكتب الرجال وأصنافها

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى. إنّ ممّا امتازت به الأمة الإِسلامية: حفظ تاريخ قدمائها، وتراجم علمائها. والباعث الأول على ذلك هو حفظ علم الأنساب وتواريخ الأمم، والنصوص الدينية، وتيسير التمكّن من نقد الروايات، وتمييز الصحيح من غيره، ولهذا تجد غالب التواريخ إنّما هي في تراجم رواة العلم، والتآليف في ذلك كثيرة جدًّا؛ فقلّ عالم إلاّ وقد قيّد أسماء شيوخه وأحوالهم ووفياتهم، مع مَن تيسّر له مِن غيرهم، لكن لما كان المتأخر ينقل في تصنيفه كلام من تقدّمه، ويغلب أن يكون تصنيف المتأخر أكثر جمعًا وأحسن ترتيبًا؛ كانت عناية الناس تتجه غالبًا إلى حفظ مؤلفات المتأخرين، وقد قال أبو خراش الهذلي فيما يلاقي هذا: على أنّها تعفو الكلوم وإنما ... نوكَّل بالأدنى وإن جلّ ما يمضي هذا مع ضياع ألوف مؤلفة من تلك المؤلفات بالنكبات العامة؛ كالجارف التتري بالشرق، والطغيان الصليبي بالغرب، والسُّبات العميق الذي وقعت فيه الأمة منذ قرون، والقناعة من العلم المديني بمختصرات المتأخرين في الفقه ونحوه، وإهمال كتب الفقهاء المتقدمين، فضلاً عن كتب السنة المطولة أو كتب الرجال. * ابتداء التأليفات في التواريخ وكتب الرجال وأصنافها: مِن أول مَن عُرفَ بالتأليف في تواريخ الرجال: الإِمام الليث بن سعد

الفَهْمي عالم مصر (94 - 175 هـ)، له تاريخ ذكره ابن النديم ص (281)، ثم الإِمام عبد الله بن المبارك المروزي عالم خراسان (118 - 181 هـ) له تاريخ ذكره ابن النديم ص (319)، والوليد بن مسلم الدمشقي عالم الشام (119 - 195 هـ)، ففي ترجمته من "تذكرة الحفاظ" للذهبي (ج 1 ص 278) "صنّف التصانيف والتواريخ"، وذكر أنّ مصنفاته سبعون كتابًا. ثم كثر بعد ذلك التأليف جدًّا، وذلك على أصناف: الأوّل: معاجم الشيوخ، وهي كثيرة جدًّا، وعظيمة الفائدة؛ لأنّ الرجل أعلم بشيوخه، ولا أعلم طبع منها شيء إلى الآن (¬1). الصنف الثاني: التواريخ الجامعة كـ "طبقات ابن سعد" (¬2)، وتواريخ البخاري (¬3)، و"كتاب الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (¬4)، و"تاريخ ابن أبي خيثمة" (¬5). الصنف الثالث: ما يختصّ برواة بعض الكتب؛ كـ "الجمع بين رجال ¬

_ (¬1) كلام الشيخ هذا قبل ستين عامًا، وقد طبع إلى وقتنا من هذه المعاجم عشرات الكتب، ولا يزال الكثير منها مخطوطًا. (¬2) طبع في أوروبا وفيه نقص في مواضع. [م]. أقول: طبعت تتماته في رسائل علمية. (¬3) طبع الصغير في حيدراباد الدكن، والكبير في دائرة المعارف. بحيدراباد أيضًا. ومن الأوسط نسخة في مكتبة الجامعة العثمانية بحيدراباد أيضًا. [م]. أقول: ما طبع باسم الصغير هو التاريخ الأوسط، انظر في بحث المسألة مقدمة تحقيق "التاريخ الأوسط": (1/ 54 - 78) ط الرشد. (¬4) طبع بدائرة المعارف أيضًا. [م]. (¬5) منه نسخة بجامع القرويين بفاس. [م]. أقول: طبع الموجود منه عدة طبعات.

الصحيحين" (¬1)، و"تعجيل المنفعة" (¬2)، و"تهذيب الكمال" للمزي، و"تهذيبه" لابن حجر (¬3). الصنف الرابع: ما يختصّ بالثقات كـ "ثقات العجلي" (¬4)، و"ثقات ابن حبان" (¬5)، و"ثقات ابن شاهين" (¬6). الصنف الخامس: ما يختصّ بالضعفاء, كـ "كتاب الضعفاء" للعُقيلي (¬7)، و"الكامل" لابن عدي (¬8)، و"الميزان" للذهبي (¬9)، و"لسان الميزان" لابن حجر (¬10). الصنف السادس: ما يختصّ ببعض البلدان، وهذا الصنف كثير جدًّا، قل بلدة من البلدان الإِسلامية إلاّ ولها تاريخ على الأقلّ، وكثير منها لها عدة ¬

_ (¬1) طبع بدائرة المعارف. [م]. (¬2) طبع بدائرة المعارف. [م]. (¬3) طبع بدائرة المعارف أيضًا. [م]. أقول: وكتاب المزي طبع في مؤسسة الرسالة في 37 مجلدًا. (¬4) منه جزء في المكتبة الآصفية بحيدراباد. [م]. وطبع كاملاً عدة طبعات. (¬5) منها نسخة في المكتبة الآصفية أيضًا وأخرى جيدة ينقصها الربع الأول في المكتبة السعيدية بحيدراباد أيضًا. [م]. ثم طبع كاملاً في دائرة المعارف. (¬6) طبع في بيروت ناقصًا، ثم طبعت تتمته والاستدراك عليه. (¬7) منه نسخة بالمكتبة الآصفية أيضًا. [م]. طبع كاملاً عدة مرات. (¬8) طبع في بيروت في سبعة مجلدات. (¬9) طبع بمصر والهند. [م]. (¬10) طبع في دائرة المعارف. [م]. ثم طبع طبعة متقنة بتحقيق الشيخ عبد الفتاح أبو غدة في عشرة مجلدات عن دار البشائر الإِسلامية.

تواريخ، وهذا الصنف عظيم الفائدة، غزير المادة؛ لأنّ صاحبه يحاول الاستيعاب، فيوجد في ذلك من التراجم والمواد ما لا يكون له في التواريخ العامة عين ولا أثر، والمحقّقون في هذا العصر وما قبله يرجحونه على التواريخ العامة؛ لأنّ مؤلف تاريخ البلد يغلب أن يكون من أهله فهو أدرى بأحوال أهله من غيرهم، وكثير منهم هم شيوخه وأقرانه، جالسهم وسبر أحوالهم كما يجب، فإذا أخبر عنهم أخبر عن مشاهدة وخبرة وتحقيق، وبذلك يعظُم الوثوق بما يحكيه، ويؤمَن الغلط فيما يرويه. ومع الأسف لم يُطبع من هذا الصنف إلا ما لا يُكاد يذكر بالنسبة إلى ما بقي، طُبع "تاريخ بغداد" للخطيب وبقيت ذيوله، فلكل من ابن السمعاني وابن النجار ذيل عليه، ولكل من ابن الدّبيثي (¬1) والعماد ابن حامد ذيل على ذيل السمعاني، ولكلّ من التقي ابن رافع وأبي بكر المارستاني ذيل على ذيل ابن النجار وهلمّ جرّا. وطبعت أجزاء مقتضبة من "تاريخ دمشق" لابن عساكر أضاع المختصر أكثر المهمات العلمية من الكتاب، فأين "ذيول تاريخ بغداد"، وأين "تاريخ دمشق" (¬2)، وأين تواريخ حلب (¬3)، وأين تواريخ البصرة والكوفة مهد العلم والعلماء في القرون الأولى، وأين تواريخ بلدان خراسان وما وراء النهر، وغيرها مثل مرو ونيسابور وهراة والري وهَمَذان وبخارى وأصبهان (¬4) ¬

_ (¬1) طبع ذيل ابن النجار وابن الدبيثي. (¬2) طبع تاريخ دمشق لابن عساكر عدة طبعات، وبغية الطلب في تاريخ حلب لابن العديم، على نقص فيهما. وبعض تواريخ البلدان الأخرى. (¬3) الحاشية السابقة. (¬4) في المكتبة الآصفية بحيدراباد نسخة من "طبقات المحدثين بأصبهان والواردين عليها" للحافظ أبي محمَّد عبد الله بن جعفر بن حيان المعروف بأبي الشيخ الأصفهاني، =

* جرجان وكثرة علمائها

وغيرها. وقد ذكر المستشرق بروكلمان في كتابه "آداب اللغة العربية" المجلد الأول، الطبعة الثانية، ص (400 - 417) طائفةً من هذا القسم، تحت عنوان "التواريخ المحلية". ويسرّنا أن نزفّ إلى أهل العلم واحدًا من هذه التواريخ الجليلة وهو "تاريخ جُرجان". * جُرجان وكثرة علمائها: جُرجان (¬1) بلدة تاريخية، من أعمال مازندران في بلاد العجم، لها شأن كبير في التاريخ، ولا سيما التاريخ العلمي الإِسلامي، نبغ منها طوائف من أهل العلم، ففي الحديث أمثال أبي نعيم عبد الملك بن محمَّد بن عدي (¬2)، والإمام أبي أحمد عبد الله بن عدي (¬3)، والإمام أبي بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي (¬4)، وفي فقه الحديث مثل أبي سعيد إسماعيل بن سعيد الشالنجي الكسائي (¬5) مؤلف كتاب "البيان"، وفي فقه الحنفية مثل الإِمام ¬

_ = ونسخة قلمية من تاريخ أصبهان أو ذكر أخبار أصفهان للحافظ أبي نعيم الأصبهاني (وقد طبع في مجلدين في سنة 1931 - 1934 م - في ليدن). [م]. أقول: طبع كتاب أبي الشيخ "طبقات علماء أصبهان" في أربعة مجلدات عن مؤسسة الرسالة. (¬1) راجع جغرافية الخلافة المشرقية. ص 376 - 381 [م]. (¬2) له ترجمة في تاريخ جرجان رقم (466) وتاريخ بغداد (10/ 428) وتذكرة الحفاظ (3/ 35). [م]. (¬3) له ترجمة في تاريخ جرجان رقم (443) وتذكرة الحفاظ (3/ 143) ومعجم البلدان (جرجان). [م]. (¬4) ترجمته في تاريخ جرجان رقم (98) وتذكرة الحفاظ (3/ 149) والمنتظم (1087) وغيرها. [م]. (¬5) له ترجمة في تاريخ جرجان رقم (159) وكتاب ابن أبي حاتم، وأنساب =

كميل بن جعفر (¬1)، وفي فقه الشافعية مثل إبراهيم بن هانئ (¬2)، والإمام أبي سعيد إسماعيل بن أحمد الإسماعيلي (¬3)، وفي الأدب أمثال أبي القاسم يوسف بن عبد الله الزجَّاجي، صاحب المؤلفات في اللغة (¬4)، والقاضي أبي الحسن علي بن عبد العزيز (¬5)، مؤلف كتاب "الوساطة بين المتنبي وخصومه"، والإمام عبد القاهر بن عبد الرحمن (¬6)، مؤلف كتاب "دلائل الإعجاز" و"أسرار البلاغة" وهو أبو عِلْمي المعاني والبيان، وفي الزهد أمثال كرز بن وبرة الحارثي (¬7)، وإسحاق بن حنيفة (¬8). وقد أفل نجم جُرجان منذ زمان، فبقيت بُلَيدة لا أهمية لها. ... ¬

_ = ابن السمعاني الورقة (326/ ب). [م]. (¬1) ترجمته في تاريخ جرجان رقم (619) والجواهر المضيئة (1/ 415). [م]. (¬2) ترجمته في تاريخ جرجان رقم (139). [م]. (¬3) ترجمته في تاريخ جرجان رقم (170) وتاريخ بغداد (6/ 309). [م] (¬4) ترجمته في تاريخ جرجان رقم (1010) ومعجم الأدباء (20/ 61) وبغية الوعاة (ص 422). [م]. (¬5) ترجمته في تاريخ جرجان رقم (560) وتاريخ ابن خلكان (1/ 408) ومعجم الأدباء (14/ 14 - 35). [م]. (¬6) ترجمته في نزهة الألباء (134) وفوات الوفيات (1/ 297) وبغية الوعاة (ص 310). [م]. (¬7) ترجمته في تاريخ جرجان رقم (618) وصفة الصفوة (3/ 67). [م]. (¬8) ترجمته في تاريخ جرجان رقم (178). [م].

ترجمة المؤلف

ترجمة المؤلف له ترجمة في "الأنساب" لابن السمعاني (ورقة 319/ أَلِف)، و"تهذيب تاريخ ابن عساكر" (4/ 453)، و"معجم البلدان" لياقوت الحموي، تحت "جُرجان"، و"تذكرة الحفاظ" للذهبي (3/ 272)، و"شذات الذهب" (3/ 231). ورعايةً لحقّ النسخة أقدّم هنا ترجمة مختصرة مفيدة، ثبتت على حاشية لوح الأصل بقلم الإِمام تاج الدين ابن مكتوم (¬1)، المتوفي سنة 749 هـ، قال: "هو أبو القاسم حمزة بن يوسف بن إبراهيم بن موسى بن إبراهيم بن محمَّد بن أحمد بن عبد الله بن هشام بن العاص بن وائل القرشي السَّهْمي الجُرجاني الحافظ، صاحب المسائل المدونة والتصانيف الجليلة، طاف البلاد ولقي الحفاظ، وسمع من جماعة كأبي زُرعة محمَّد بن يوسف الجُرجاني، وأبي الحسن الدارقطني، ومحمد بن المظفر، ومحمد بن أحمد بن حماد، ومحمد بن إبراهيم بن المقري، وعبد الوهاب الكلابي وغيرهم. روى عنه أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري، وإسماعيل بن مسعدة الإسماعيلي، وأبو بكر البيهقي، وأبو صالح أحمد بن عبد الملك المؤذن وغيرهم. وتوفي سنة ثمان وعشرين وأربعمائة، وقيل: سنة سبع وعشرين رحمه الله. قال: هذا وكتبه أحمد بن عبد القادر بن أحمد بن مكتوم بن أحمد بن محمَّد القيسي الدمشقي الحنفي". ¬

_ (¬1) ترجمته في الدرر الكامنة (1/ 175) والجواهر المضيئة (1/ 75)، وبغية الوعاة (ص/ 140) وذكر ابن حجر أنه كان من عادة ابن مكتوم أنه يتحرى أن يكتب على كل كتاب ترجمة مصنفه. فهذا من ذاك. [م].

أقول: كذا وقع في سياق النسب: " ... محمَّد بن أحمد" بتقديم "محمَّد" على "أحمد" ووقع مثله في "تاريخ جُرجان" في ترجمة أحمد ابن موسى رقم (61) وهو عمّ والد المؤلف، ومثله في "تذكرة الحفاظ" (3/ 272). لكن في ترجمة يوسف والد حمزة من "التاريخ" رقم (1000) وترجمة إبراهيم بن موسى جد حمزة رقم (146): " .... أحمد بن محمد" بتقديم "أحمد"، ووقع في أنساب ابن السمعاني الورقة (319) تارة هكذا، وتارة هكذا، على تخليطٍ في النسخة، وذكر ياقوت في "معجم البلدان" (جُرجان) ترجمة لحمزة، وأشار إلى الخلاف وعبارته غير واضحة، كأنّه وقع في النسخة تخليط، والله أعلم. ذكر حمزة في "التاريخ" ترجمةً لأبيه وجده الأدنى وعم أبيه كما مرّ، وكذا لجماعة من أعمامه وإخوته، ولم يذكر من فوق جده الأدنى إبراهيم، ولا وقفت على ترجمة أحد منهم إلى عبد الله. فأمّا هشام بن العاص فمن فضلاء أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو أخو عمرو بن العاص الصحابي الأمير المشهور، وهشام أصغر سنًّا وأقدم إسلامًا، أسلم بمكة قديمًا وهاجر إلى الحبشة، ثم رجع إلى مكة عقب هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فحبسه أبوه وقومه، فبقي بمكة حتى لحق بالنبي - صلى الله عليه وسلم - عقب الخندق، فشهد بقية المشاهد، ثم كان فيمن غزا الشام والعراق، واستشهد في خلافة أبي بكر، يقال: بأجنادين، ويقال: باليرموك، هكذا يُعلم من "الاستيعاب"، ولا أدري من أوّل من سكن جُرجان من أجداد حمزة، لكن الظاهر أنّ جد أبيه موسى بن إبراهيم كان بها، فإنّ ابنيه إبراهيم بن موسى وأحمد بن موسى نشآ فيها.

لم أجد نصًّا على تاريخ مولد حمزة، لكن قال الذهبي في "التذكرة": "أوّل سماعه بجُرجان كان في سنة أربع وخمسين وثلاثمائة من أبي بكر محمَّد بن أحمد بن إسماعيل الصرام" (¬1). وفي "تاريخ جُرجان" عدة أحاديث يرويها حمزة عن أبي بكر الصرامي هذا، ويذكر أنّه سمعها منه سنة 354 إملاءً في جامع جُرجان، من ذلك في رقم (484)، وفي رقم (618) ص 311، وفي رقم (784). فدلّت روايته عنه أنّه ضبط ما سمعه، فعُلِم من ذلك أنّ حمزة وقت السماع أي سنة 354 كان بحيث يحضر مجالس العلم ويفهم ويضبط ما يسمع. وبالنظر إلى أنّ أباه وجده وأقاربه كانوا محدثين، يظهر أنّهم بكَّروا به في السماع، وهم من أهل جُرجان بلدة الصرام، وقد ذكر حمزة نفسه في "التاريخ" في الترجمة رقم (18) عن شيخه الإِمام أبي بكر الإسماعيلي أنّه كتب بخطه إملاءً وهو ابن ست سنين، وذكر في ترجمة أبي معمر المفضل بن إسماعيل رقم (927): "سمعت أبا بكر الإسماعيلي رحمة الله عليه يقول: ابني هذا أبو معمر له سبع سنين، يحفظ القرآن، ويعلم الفرائض، وأصاب في مسألة أخطأ فيها بعضُ قضاتنا"، فنستطيع أن نقول على طريق التخمين: إنّ حمزة كان عند أول سماعه - أي سنة 354 - ابن تسع أو عشر سنين تقريبًا، فيكون مولده حوالي سنة 345. وأمّا منشؤه فجُرجان مقرّ آبائه، وتولّى بها الخطابة والوعظ. وأمّا وفاته ففي "تهذيب تاريخ دمشق": "توفي بنيسابور في السنة التي توفي فيها الثعلبي صاحب التفسير، وهي سنة سبع وعشرين وأربعمائة". ¬

_ (¬1) في "التذكرة": "الصوام" خطأ، ويقال له "الصرامي" أيضًا. [م].

* طلبه العلم، رحلته، شيوخه، الرواة عنه

وقال ياقوت: "قال أبو عبد الله الحسين بن محمَّد الكتبي الهروي الحاكم سنة 427: ورد الخبر بوفاة الثعلبي صاحب التفسير، وحمزة بن يوسف السهمي بنيسابور". وقال الذهبي: "توفي سنة سبع وعشرين وأربعمائة، وبعضهم أرَّخه سنة ثمان". وكذا ذكر ابن مكتوم كما سبق، وذكره صاحب "الشذرات" في وفيات سنة 427. فقد يرجح بوقائع مثبتة مذكورة أنّ وفاته كانت سنة 427. وذكروا كما رأيت أنّه توفي بنيسابور، ولا أدري أذهب إليها لحاجة أم تحوَّل إليها آخر عمره، وفي أخبار سنة 426 من "تاريخ ابن الأثير" أنّ دارا بن منوجهر بن قابوس بن وشمكير أمير جرجان عصى على السلطان مسعود بن محمود، فسار مسعود إلى جُرجان واستولى عليها، فعسى أن يكون لهذه الواقعة دَخْل في خروج حمزة عن جُرجان إلى نيسابور، والله أعلم. * طلبه العلم، رحلته، شيوخه، الرواة عنه: سلف أنّ أول سماعه الحديث كان سنة 354، وكانت جُرجان في ذلك العصر عامرة بكبار الحفاظ، كابن عدي والإسماعيلي والغطريفي وغيرهم، فاغتنم حمزة ذلك، ثم كان أول رحلته كما في "التذكرة" سنة 368، فدخل أصبهان والري ونيسابور وغزنة وغيرها من بلاد خراسان والأهواز وما والاها، ودخل العراق والشام ومصر والحجاز فسمع بمكة والبصرة والكوفة وبغداد وعُكْبرا والرَّقة ودمشق وعسقلان وتِنّيس وغيرها.

وشيوخه كثير جدًّا، صنّف في تراجمهم كتابًا خاصًّا هو معجمه - الآتي عند ذكر مؤلفاته - فنقتصر هنا على نفر من أكابرهم: 1 - المحدث الثقة الثبت المعمّر أبو محمَّد، عبد الله بن إبراهيم بن أيوب بن ماسي البغدادي (274 - 369). 2 - الحافظ الكبير أبو أحمد، عبد الله بن عدي الجُرجاني، مؤلف "الكامل" وغيره (277 - 365). 3 - الحافظ الإِمام أبو بكر، أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي مؤلف "الجامع الصحيح المستخرج" وغيره (277 - 371). 4 - الحافظ محمَّد بن إبراهيم بن علي بن المقري الأصبهاني، مؤلف "المعجم الكبير" وغيره (285 - 381). 5 - الحافظ أبو حفص عمر بن محمَّد بن علي بن الزيات البغدادي (286 - 375). 6 - الحافظ أبو الحسين، محمَّد بن المظفر البغدادي (286 - 379). 7 - الحافظ أبو بكر، أحمد بن عبدان الشيرازي (293 - 388). 8 - الحافظ الإِمام أبو الحسن، علي بن عمر الدارقطني، مؤلف "السنن" و"العلل" وغيرها (306 - 385). 9 - الحافظ الوزير أبو الفضل، جعفر بن الوزير الكبير، أبي الفتح الفضل بن حنزابة مؤلف "المسند" (308 - 391). 10 - أبو زُرعة، أحمد بن الحسين الرازي (310 - 375).

وأمّا الرواة عنه فلم أظفر إلاّ بقليل منهم وهم هؤلاء (¬1): 1 - الإِمام أبو القاسم، عبد الكريم بن هوازن القُشيري، مؤلف "الرسالة" الشهيرة في التصوف (375 - 465). 2 - الحافظ أبو بكر، أحمد بن الحسين البيهقي، مؤلف "السنن الكبرى" وغيره (384 - 458). 3 - الحافظ أبو صالح، أحمد بن عبد الملك النيسابوري المؤذن (388 - 470). 4 - الحافظ أبو الحسن، علي بن محمَّد بن عبد الله بن الحسن بن زكريا الزَبَحي الجُرجاني. (- 468). 5 - المحدث الثبت أبو القاسم، إسماعيل بن مسعدة الإسماعيلي راوي "التاريخ" عن حمزة (407 - 477). 6 - المحدث المتقن، أبو بكر أحمد بن علي بن عبد الله بن عمر بن خلف الشيرازي (- 487). 7 - المحدث أبو هاشم، محمَّد بن الحسين الخفافي الجُرجاني، (بعد 470). 8 - المحدث الأديب أبو عامر، الفضل بن إسماعيل التميمي الجرجاني. ¬

_ (¬1) الستة الأولون ذكرهم الذهبي في تذكرة الحفاظ، وكذا التاسع وأشار إلى العاشر، وأما السابع فعثرت عليه في الأنساب الورقة 205 الوجه الأول، وأما الثامن فذكره ياقوت في معجم البلدان وله عنده ترجمة في معجم الأدباء (16/ 192 - 204)، والعاشر يروي الخطيب عنه عن حمزة مسائل الدارقطني - راجع تاريخ بغداد (1/ 254) سطر 18 وغيرها. [م].

* مكانته في العلم، وتثبته، وثناء الأئمة عليه

9 - المحدث أبو القاسم، إبراهيم بن عثمان الخلالي الجُرجاني. 10 - المحدث علي بن محمَّد بن نصر الدينوري، أحد شيوخ الخطيب البغدادي. * مكانته في العلم، وتثبته، وثناء الأئمة عليه: كان حمزة واسع العلم كثير الرواية، وحسبك أنّه لازم الإِمام أبا أحمد بن عدي، والإمام أبا بكر الإسماعيلي، وسمع منهما مصنفاتهما، وسمع من الشيوخ الذين تقدموا وأضعافهم، وله أسئلة في الجرح والتعديل سأل عنها الدارقطني، وأخرى سأل عنها أحمد بن عبدان، وأخرى سأل عنها أبا زُرعة أحمد بن الحسين الرازي، وأخرى سأل عنها الحافظ أبا محمَّد الحسن بن علي بن غلام الزهري. ومن تأمّل هذا "التاريخ" علم سعة علمه وتثبته، قال في الترجمة رقم (60): "كتب إليّ أبو عمر عبد الله بن محمَّد بن عبد الوهاب المقري الأصبهاني مشافهة، وأكبر علمي أنّي سمعت منه هذا الحديث ... "، فمن كمال ديانته وتحريه وتثبته وتوقيه لم يجزم بسماع هذا الحديث مع غلبة ظنه بأنّه سمعه. وقال في الترجمة رقم (165): "قرأت بخط أبي بكر الإسماعيلي من كتابه العتيق في سنة إحدى وتسعين ومائتين ... "، فبيّن أنه لم يسمع هذا من شيخه الإسماعيلي، وأنّه إنّما قرأه في أصل الإسماعيلي الذي كُتِب في التاريخ المذكور. وقال في الترجمة رقم (191): "أخبرنا أبو أحمد بن عدي الحافظ ... أنّ النّبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أقيلوا ذوي الهيئات عثرتهم"، في كتابي بخطي: "عثراتهم"، ورأيت في كتاب ابن عدي بخطه "عقوبتهم". وقال في ترجمة عمه أسهم رقم (203): "وقد سمعت منه إلا

* مؤلفاته

أني لم أجد شيئًا من مسموعاتي عنه لكني رويتُ عنه على سبيل الوجادة والإجازة" ثم تجده يروي عن عمه أسهم فيقول: "قرأت في كتاب عمي أسهم" "وجدت بخط عمي أسهم". وقال في الترجمة (رقم 225): "في كتابي عن عبد الله بن عدي وأنا شاك في سماعه ... ". وقال في الترجمة (رقم 292): "أخبرني أبي، سماع أو إجازة ... ". وله من أمثال هذا كثير مما يدل على شدة تحريه وتوقيه. وقلّما يتكلم في الرواة وإنما ينقل كلام أئمة شيوخه كابن عدي والإسماعيلي وأبي زُرعة محمَّد بن يوسف الكشي؛ كان هو يسألهم عن الرجال فيحكي كلامهم، فإن تكلَّم من عنده فبغاية الورع. أما الثناء عليه؛ فقال السمعاني: "أحد الحفاظ المكثرين". وقال الذهبي: "الحافظ الإِمام الثبت". وفي "الشذرات": "الثقة الحافظ ... وكان من أئمة الحديث حفظًا ومعرفة وإتقانًا" وعده السخاوي في "فتح المغيث" (ص 480) من أئمة الجرح والتعديل. * مؤلفاته: تقدم قول الإِمام تاج الدين ابن مكتوم: "صاحب المسائل المدونة والتصانيف الجليلة". وقال الذهبي: "صنّف التصانيف وجَرَّح وعدّل وصحّح وعلّل"، ولم يعددوا مصنفاته، والمعروف منها: أوّلًا: تاريخ جُرجان، وهو هذا الكتاب. وثانيًا: معجم شيوخه، له ذكر في "اللآلئ المصنوعة" (2/ 44). وثالثًا: كتاب الأربعين في فضائل العباس عمّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ذكره صاحب "كشف الظنون".

ورابعًا: سؤالاته للدارقطني في الجرح والتعديل (¬1)، وهو مشهور، يروي الخطيب في "تاريخ بغداد" كثيرًا من ذلك عن عليّ بن محمَّد بن نصر الدينوري عن حمزة، وفي "التهذيب" و"الميزان" وغيرهما كثير منه يقولون: "وقال حمزة السهمي عن الدارقطني ... "، انظر "تهذيب التهذيب" (1/ 215)، و"لسان الميزان" (1/ 238). وله أسئلة أيضًا لجماعة من شيوخه، منهم الحافظ أحمد بن عبدان، قال الذهبي في ترجمته من "التذكرة" (3/ 186): "سأله حمزة عن أحوال الرجال". ومنهم الحافظ أبو محمَّد الحسن بن علي بن غلام الزهري، وفي ترجمته من "التذكرة" (3/ 211): "سأله الحافظ حمزة السهمي عن الرجال والجرح والتعديل". ومنهم الحافظ أبو زُرعة أحمد بن الحسين الرازي، وفي ترجمته من "التذكرة" (3/ 194): سأله حمزة السهمي عن أحوال الرواة، ولا أدري أفرد حمزة هذه السؤالات أم جمعها، والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) طبع في مجلد واحد في مكتبة المعارف بالرياض.

تاريخ جرجان وترتيبه، ورواته، والنقل عنه

تاريخ جُرجان وترتيبه، ورواته، والنقل عنه اشتهر هذا الكتاب بهذا الاسم، والذي على لوح الكتاب وتكرّر في صدور الأجزاء: "كتاب معرفة علماء أهل جُرجان .... ". ذكر ابن السمعاني هذا الكتاب في "الأنساب" "الجُرجاني" قال: "هذه النسبة إلى بلدة جُرجان، وهي بلدة حَسَنة فتحها يزيد بن المهلّب أيام سليمان بن عبد الملك، خرج منها جماعة من العلماء قديمًا وحديثًا ... وقد جمع تاريخَها أبو القاسم حمزة بن يوسف السهمي الحافظ في مُجَلَّدة، وذكر فيها عالَمًا منهم"، وذكره ياقوت في "معجم البلدان" (جُرجان). وفي "كشف الظنون" "تاريخ جُرجان لعلي بن محمَّد الجُرجاني المعروف بالإدريسي، وللحافظ أبي القاسم حمزة بن يوسف السهمي"، وقال قبل ذلك: "تاريخ إستراباذ لأبي سعيد الإدريسي، ولحمزة السهمي". كذا وقع فيه، والمعروف إنّما هو تاريخ إستراباذ لأبي سعد عبد الرحمن بن محمَّد بن الإستراباذي المعروف بالإدريسي، ذكره ابن السمعاني في "الإستراباذي" وذكره ياقوت وغيره. وأمّا تاريخ حمزة فإنّه ضم فيه إلى جُرجان وهي البلدة كُوَرَها ومنها إستراباذ. وقال (204/ ب): "بنيتُ كتابي على علماء جُرجان وكُوَر جُرجان، فدخل فيه إستراباذ وآبسكون وما بينهما من القرى، ودهستان ورباط دهستان؛ لأن الجميع يُنْسَب إلى كور جُرجان". أمّا الترتيب فقسّم حمزة كتابه إلى أربعة عشر جزءًا على عادة المتقدِّمين كل جزء منها في بضع وثلاثين صفحة من المطبوع، وافتتح الكتاب بعد

الخطبة بأبواب تتعلق بجُرجان، فذكر فيها فتح جُرجان، ومن دخلها من الصحابة ومن التابعين، ونَسَب يزيد بن المهلّب فاتح جُرجان، وأولاده، وما أسند يزيد من الحديث، ومكارمه، ثم عمّال بني أمية، وتسمية خطط المساجد في عهدهم، ثم من دخل جُرجان من الخلفاء العباسية، ثم عمالها في دولتهم، استغرقت هذه الأبواب بضع عشرة صفحة. ثم شرع في التراجم مرتبة على حروف المعجم بحسب أول حرف من الاسم فقط، بدأ بأحمد ثم إبراهيم ثم إسماعيل ثم إسحاق وهكذا، وبعد فراغ الحروف ذكر تراجم من لم يُعْرف إلا بكنيته، ثم تراجم النساء، ثم ذكر فصلاً في النِّسَب التي تشتبه بكلمة "الجُرجاني" وشرحها، ثم استدرك عدة تراجم من تاريخ إستراباذ للإدريسي، منها ما كان فاته، ومنها ما كرره لزيادة فائدة، ذَكَر ذلك مرتبًا على الحروف أيضًا، ثم زاد في الأخير عدة تراجم. أمّا رواية الكتاب عن المؤلف؛ فالمعروف رواية تلميذه أبي القاسم إسماعيل بن مسعدة بن إسماعيل بن أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي المتوفى سنة 477 (¬1)، وهو مذكور في سند هذه النسخة، كما في لوح الكتاب وصدور الأجزاء، وله بعض تنبيهات تراها في المطبوع، الأولى تتعلّق بترجمة جده (45/ ألف)، والثانية بترجمة أبيه مسعدة (185/ ب)، والثالثة بترجمة عمة أبيه سكينة (203/ ألف). سمع التاريخ من إسماعيل هذا جماعة، منهم الأمير أبو نصر بن ماكولا، ذكر ذلك في مواضع من "الإكمال" سيأتي بعضها بعد هذا. ¬

_ (¬1) له ترجمة في "الأنساب" الورقة 36، و"المنتظم" (9/ 10)، و"طبقات الشافعية" (3/ 129)، "والشذرات": (3/ 354). [م].

ومنهم الحافظ المؤتَمَن بن أحمد الساجي المتوفى سنة 507، وفي آخر الكتاب (221/ ألف)، نقل عبارته بسماعه، وزاد في روايته عدة تراجم، تراها في آخر الكتاب (120/ ألف)، وزاد من عنده ترجمة هي الترجمة رقم (475). ومنهم الحافظ أبو بكر محمَّد بن أحمد بن الخاضبة، المتوفى سنة 489، ثبت ذلك في عبارة المؤتَمَن في آخر الكتاب. ومنهم أبو القاسم إسماعيل بن أحمد بن عمر بن أبي الأشعث السمرقندي، المتوفى سنة 536 (¬1)، وهو المذكور في سند النسخة، كما تراه في لوح الكتاب وصدور الأجزاء، وكذلك ثبت في عبارة المؤتَمَن المنقولة آخر الكتاب. روى هذا الكتاب عن ابن السمرقندي جماعة، منهم أبو الفرج بن الجوزي، كما يُعلَم من ترجمة أبي بكر الإسماعيلي في "المنتظم"، وسيأتي نقل ذلك. ولعلّ منهم أبا سعد ابن السمعاني، فإنّه من الرواة عن ابن السمرقندي، وقد ذكر في "الأنساب" الورقة (36/ ب) إسماعيل بن مسعدة، وقال: "روى لي عنه جماعة كثيرة". ومنهم أبو الفضل مسعود بن علي بن عبيد الله ابن النادر، وهو الواقع في سند النسخة، وهو من علماء القرن السادس، له ترجمة في "مرآة الزمان" ¬

_ (¬1) له ترجمة في تهذيب تاريخ دمشق (3 - 10) والمنتظم (10/ 98) وذيل تذكرة الحفاظ ص 72 والشذرات (9/ 112) وفي نسبه في التراجم "ابن أبي الأشعث" ووقع في سند تاريخ جرجان "ابن الأشعث" في مواضع. [م].

لسِبْط ابن الجوزي. في وفيات سنة 586 وذكر أنه ولد سنة 515، وقد وصفه الحافظ عبد القادر الرُّهاوي، كما تراه في (48/ ألف) من "تاريخ جُرجان" المطبوع وغيرها بقوله: "الشيخ الأجل العدل فخر الإِسلام". ووصفه الحافظ عبد الغني المقدسي، كما تراه في أثناء السند (85/ ألف) من المطبوع بقوله: "الشيخ الإِمام العدل فخر الإِسلام". وقال السبط في "المرآة": "كان ثقة". روى هذا الكتاب عن ابن النادر جماعة منهم الحافظ عبد القادر ابن عبد الله الرُّهاوي المتوفى سنة 612، وقد نقل في النسخة سماعه في مواضع منها في المطبوع (48/ ألف) و (64/ ب) و (100/ ب) و (117/ ألف). ومنهم أبو القاسم تميم بن أحمد البندنيجي المتوفى سنة 597، ذكر الرُّهاوي سماعَه معه وذكر جماعةً آخرين. ومنهم الحافظ الإِمام عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي المتوفى سنة 600 (¬1) وإسناد هذه النسخة من طريقه، كما تراه في لوح الكتاب وصدور الأجزاء، سمعه منه أبو القاسم عبد الرحمن بن الحسين بن عبد الرحمن التنيسي وجماعة معه، كما تراه في السماعات المقيدة في خواتيم الأجزاء، والتنّيسي هذا آخر الموجودين في سند النسخة، ولم أظفر له بترجمة (¬2)، ¬

_ (¬1) له ترجمة في تذكرة الحفاظ (4/ 160 - 168) والشذرات (4/ 345 - 346)، ومن مؤلفاته (الإكمال في أسماء الرجال) توجد نسخة منه في دار الكتب المصرية، وهو الذي هذبه الحافظ أبو الحجاج المزي في كتابه (تهذيب الكمال)، منه نسخة ناقصة في المكتبة الآصفية بحيدراباد الدكن. [م]. (¬2) له ترجمة في "التكملة لوفيات النقلة": 2/ 50 - 51، و"تاريخ الإِسلام" و"وفيات" =

* النقل عن تاريخ جرجان

وقد وصفه الحافظ عبد الغني، كما تراه في (213/ ب) من المطبوع بقوله: "الشيخ الفقيه العالم"، ووصفه رفيقه في السماع علي بن عبد الغني الأَرتاحي، كما تراه في (84/ ب) من المطبوع بقوله: "الإِمام العالم" فليراجع سلسلة الرواة المدرجة في ص، لب. * النقل عن تاريخ جُرجان: أما النقل عن "تاريخ جُرجان" فكثير، فمِن أول مَن علمته نقل عنه الأمير أبو نصر ابن ماكولا المتوفى سنة 475 هـ نقل عنه في مواضع من "الإكمال"؛ وهذه أمثلة من ذلك: 1 - الإكمال لابن ماكولا: أ - باب بريد وتزيد: في "الإكمال": " ... جُرجاني حدث بحديث منكر عن أحمد بن عبد الله النهرواني عن أبي منصور سليمان بن محمَّد بن الفضل عن أحمد بن حفص عن أبيه عن إبراهيم بن طهمان عن شعبة عن قتادة عن أنس أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إنّ في الجنّة نهر زيت - قاله حمزة السهمي -". في "تاريخ جرجان": رقم 357 "سالم بن بريد الرسعني، نزل جُرجان، وحدّث بحديث منكر، روى عن أحمد بن عبد الله النهرواني عن أبي منصور سليمان بن محمَّد بن الفضل البجلي، حدّثنا أحمد بن حفص، حدثنا أبي ¬

_ = ص 600/ 441. قال المنذري: "انقطع إلى الحافظ أبي محمَّد عبد الغني المقدسي .. فسمع منه ومعه الكثير .. وعاجلته المنية قبل أوان التحديث فلم يحدث إلا باليسير .. "، ذكره في وفيات سنة 600، وهي سنة وفاة الحافظ عبد الغني.

حدثنا إبراهيم بن طهمان عن شعبة عن قتادة عن أنس أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنّ في الجنّة نهر الزيت". ب - باب الخندقي والخندفي: في "الإكمال": " ... أبو محمَّد أحمد بن سعيد بن عمران المعروف بابن سعيدك الذرَّاع الخندقي الجُرجاني، روى عن أبي نعيم الإستراباذي وجماعة. ذكره حمزة". في "تاريخ جرجان": رقم 81 "أبو محمَّد أحمد بن سعيد بن عمران المعروف بابن سعيدك الذرَّاع الخندقي الجُرجاني، روى عن أبي نعيم الإِستراباذي وجماعة". في "الإكمال": "وأبو إسحاق إبراهيم بن أحمد السمان الخندقي، جُرجاني توفي سلخ شوال سنة خمس عشرة وأربعمائة، وروى عنه الإسماعيلي، ذكره حمزة". في "تاريخ جرجان": رقم 156 "أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد السمان الخندقي، توفي يوم الأحد سلخ شوال سنة خمس عشرة وأربعمائة، روى عنه الإسماعيلي ... ". جـ - باب دُراج ودراج: في "الإكمال": " ... وأمّا دُراج بالضم فهو علي بن محمَّد، المعروف بأبي دراج، روى عن أبي بكر محمَّد بن موسى الخطيب الجُرجاني، وكذلك ذكره لنا الإسماعيلي عن حمزة السهمي بالضم". في "تاريخ جرجان": رقم 738 "أبو بكر محمَّد بن موسى الخطيب

الجرجاني، روى عن أحمد بن عبد الجبار العطاردي، روى عنه علي بن محمَّد المعروف بأبي دُراج". د - باب القطراني والقطواني: في "الإكمال": "أمّا القطراني بالراء، فهو أبو عبد الرحمن حمدان بن موسى بن الجُنيد القطراني الورّاق الجُرجاني، روى عن إبراهيم بن موسى العصّار بجُرجان، في سنة سبع وسبعين ومائتين، قاله لنا الإسماعيلي عن حمزة السهمي". في "تاريخ جرجان": رقم 299 "أبو عبد الرحمن حمدان بن موسى بن الجنيد القطراني الوراق الجُرجاني، روى عن إبراهيم بن موسى العصار بجُرجان في سنة سبع وسبعين ومائتين". 2 - "الأنساب" للسمعاني المتوفى (562 هـ): في "الأنساب": (13/ ألف) "أبو القاسم عبد الله بن إبراهيم بن يوسف الآبندوني ... قال حمزة السهمي: سمعت أبا بكر الإسماعيلي حين بلغه نعيه ترحّم عليه وأثنى عليه خيرًا ... ". في "تاريخ جرجان": رقم 444 "أبو القاسم عبد الله بن إبراهيم بن يوسف الآبندوني ... سمعت أبا بكر الإسماعيلي حين بلغه نعيه ترحّم عليه وأثنى عليه خيرًا ... ". في "الأنساب": (142/ ب) "الجوزفلقي ... هذه النسبة إلى "جوزفلق" وهي قرية بقرب آبسكون، هكذا ذكره حمزة بن يوسف السهمي، ولا أحقق نقط هذه القرية ولا عجمها، منها أبو إسحاق إبراهيم بن الفرج الفقيه

الجوزفلقي، قال حمزة السهمي: هو كان قد رحل وكتب الكثير، وتخرج على يده جماعة من الفقهاء، وكان منزله في سكة القصاصين، وقريته بقرب آبسكون ... ". في "تاريخ جرجان": رقم 143 "أبو إسحاق إبراهيم بن الفرج الفقيه الجوزفلقي ... كان قد رحل وكتب الكثير، وتخرج على يده جماعة من الفقهاء، وكان منزله في سكة القصاصين، وقريته بقرب آبسكون". في "الأنساب": (593/ ب) "الهياني هذه صورته، ولا أدري كيف هي فإنّي قرأت في كتاب "تاريخ جُرجان" لحمزة بن يوسف السهمي: أبو بكر محمَّد بن بسام بن بكر بن عبد الله بن بسام الجُرجاني الهياني، سكن هيان ماتوان (؟) قرية من قرى جُرجان، روى "الموطأ" عن القعيني (؟)، وروى عن محمَّد بن كثير الحجمي (؟) وغيره، روى عنه أبو نعيم عبد الملك بن محمَّد بن عدي، وأبو يعقوب البحري ومكبل (؟) بن جعفر وغيرهم، وقال أبو نعيم: خرجنا أربعين نفسًا من إستراباذ إلى محمَّد بن بسام، فأقمنا عنده شهرين، وكانت مؤننا ومؤنة دواببا (؟) عليه، وتوفي في سنة 279" (¬1). في "تاريخ جرجان": رقم 629 "أبو بكر محمَّد بن بسام بن بكر ابن عبد الله بن يسار، سكن هياباتوان (؟) قرية من قرى جُرجان، روى "الموطأ" عن القعيني (؟) وروى عن محمَّد بن كثير والحجبي وغيرهم. روى عنه أبو نعيم الإستراباذي وأبو يعقوب البحري وكميل بن جعفر وغيرهم، توفي سنة تسع وسبعين ومائتين، سمعت أبي وابن عدي يقول: سمعت أبا نعيم ¬

_ (¬1) في النسخة أغلاط كما ترى. [م].

عبد الملك بن محمَّد يقول: خرجنا أربعين نفسًا من إستراباذ إلى محمَّد بن بسام، فأقمنا عليه شهرين، وكانت مؤنتنا ومؤونة .... عليه" (¬1). 3 - المنتظم لابن الجوزي، المتوفى سنة (597 هـ): في "المنتظم": (7/ 108) "أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن العباس، أبو بكر الإسماعيلي الجُرجاني، طلب الحديث وسافر، أخبرنا إسماعيل بن أحمد (¬2)، أخبرنا إسماعيل بن مسعدة، أخبرنا حمزة بن يوسف السهمي قال: سمعت أبا بكر الإسماعيلي يقول: لما ورد نعي محمَّد بن أيوب الرازي، دخلت الدار وبكيت ... ". في "تاريخ جرجان": رقم 98 "الشيخ الإِمام أبو بكر أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل ... سمعت الشيخ أبا بكر الإسماعيلي يقول: لما ورد نعي محمَّد بن أيوب الرازي دخلت الدار وبكيت ... ". 4 - أمّا "تذكرة الحفاظ" للذهبي، المتوفى سنة 748 هـ, فالنّقل فيها عن "تاريخ جُرجان" كثير، قابل ترجمة أبي زُرعة أحمد بن حميد في "التذكرة" (2/ 12) بترجمته في "تاريخ جُرجان" رقم 2، وترجمة أبي أحمد عبد الله، ابن عدي في "التذكرة" (3/ 143) بترجمته في "تاريخ جُرجان" رقم 443، وترجمة أبي بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي في "التذكرة" (3/ 149) بترجمته في "تاريخ جُرجان" رقم 98. 5 - وهكذا في كثير من الكتب، قابل ترجمة أحمد بن إبراهيم بن نومرد ¬

_ (¬1) أصلحت الأغلاط في المطبوع 197/ ألف. [م]. (¬2) هو ابن السمرقندي الذي تقدم في سلسلة سند النسخة [م].

* من مزايا الكتاب

في "طبقات الشافعية" لابن السبكي، المتوفى سنة 771 هـ (2/ 80) بترجمته في "تاريخ جُرجان" رقم 47 وقابل ترجمة عبد الله بن علي القومسي في "طبقات الشافعية" (2/ 230) بترجمته في تاريخ جُرجان رقم (456). 6 - وقابل "الجواهر المضيئة" لعبد القادر القرشي المتوفى سنة 775 (ج 1 رقم 297 و675 و698 و722 و970) بتاريخ جُرجان (رقم 194 و373 و387 و441 و537). 7 - وراجع "الإصابة" لابن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852 هـ, ترجمة فارعة الجنية، وقابله بما في "تاريخ جُرجان" رقم 397. ومن هذه المنقولات المتواترة يظهر علوّ مرتبة المؤلف في معرفة علم الرجال، وخصوصًا أسماء أهل جُرجان ونواحيها. * من مزايا الكتاب: منها: الأبواب التي في أوّله فيمن دخل جُرجان من الصحابة والتابعين، وأسماء ولاتها في الدولتين الأموية والعباسية، وبيان خطط مساجدها، ولا يوجد جميع ذلك في غيره. ومنها: أنّ كثيرًا من التراجم التي فيه لا توجد إلاّ فيه، وممّن لم أجد ترجمته في غيره جماعة من الحفاظ منهم (رقم 15) أحمد بن آدم الجُرجاني غندر، قال حمزة: "صاحب حديث مكثر ثقة". و (رقم 162) إسماعيل بن زيد الجُرجاني قال حمزة: "صاحب حديث كَتّاب جوّال". و (رقم 186) إسحاق بن عيسى بن يونس وصفه أبو بكر الإسماعيلي

وحمزة بأنّه كان يحفظ. و (رقم 255) الحسن بن يحيى بن نصر قال حمزة: "له من التصانيف عدة، منها في نظم القرآن مجلدتان". و (رقم 350) سليمان بن داود بن أبي الغصن، قال حمزة: "صاحب حديث مكثر". و (رقم 394) عبد المؤمن بن عيسى بن يونس الحافظ. و (رقم 646) أبو زُرعة محمَّد بن عبد الوهاب بن هشام، قال الإسماعيلي: "كان فقيهًا حافظًا". و (رقم 708) أبو عبد الله محمَّد بن عميرة الجُرجاني الحافظ. و (رقم 819) أبو علي محمَّد بن الحسين بن علي المعروف بالحافظ. ومن المترجمين فيه جماعةٌ من الفقهاء الحنفية والشافعية فاتوا أصحاب الطبقات. ومنها: أنّه المصدر الأول لكثير من التراجم، كتراجم شيوخه أبي أحمد عبد الله بن عدي، وأبي بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي، وأبي أحمد محمَّد بن أحمد الغطريفي وغيرهم. ومنها: أنّ كثيرًا من التراجم التي توجد فيه وفي غيره تضمن زيادات فيها وفوائد، فمن ذلك (رقم 170) ترجمة الإِمام أبي سعد إسماعيل بن أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي، وله ترجمة في "تاريخ بغداد" (6/ 309) لكن في "تاريخ جُرجان" زيادات مهمة تُعرف بالمراجعة. ومن ذلك (رقم 297) "حاتم بن يونس الحافظ الجُرجاني يعرف بابن أبي الليث .... " ولهذا الرجل ترجمة في "تاريخ بغداد" (8/ 245) سماه "حاتم بن الليث بن الحارث بن عبد الرحمن"، ثم ذكر أنّ بعض الرواة يقول: "حاتم بن أبي الليث". ومنها: أنّه قد يقع في النقل عن هذا الكتاب وهم أو إيهام، ففي

* وصف النسخة الأصل

"الميزان" و"اللسان" (6/ 59): "معبد بن جمعة أو شافع، كذَّبه أبو زُرعة الكشي" والمفهوم من هذا أنّه كذبه في الرواية، وبذلك يسقط البتة، وترجمة معبد هذا في "تاريخ جُرجان" (رقم 951) وفيها: "سمعت أبا زُرعة محمَّد بن يوسف الجنيدي (الكشي) .. " فذكر عبارته وليس فيها تكذيب لمعبد في الرواية بل فيها: "وكان ثقة في الحديث". ومنها: أنّ فيه عددًا من الأحاديث والآثار والحكايات الغريبة، وكأنّه حاول في ترجمة كرز بن وبرة (رقم 618)، وترجمة محمَّد بن جعفر الصادق (رقم 620) استيعاب ما رُوي عنهما من الأحاديث لعزَّة حديثهما. ومن تلك الأحاديث والحكايات ما هو ضعيف جدًّا، وسكت المؤلف عن بعضها على ما جرت به عادة المتأخرين: أنّهم إذا ساقوا الحديث بإسناده اعتقدوا أنّهم قد برئوا من عُهدته؛ مع أنّ المؤلف لم يسق ذلك في معرض الاستدلال، ووقفتُ أنا عند حدّ التصحيح، فلم أستجز مجاوزة ذلك إلى نقد الروايات، والله المستعان. * وصف النسخة الأصل: وممّا اختصّ به هذا الكتاب أنّ نسخته وحيدة، ولا توجد في العالم نسخة أخرى، وهذه النسخة محفوظة في مكتبة جامعة أكسفورد، المعروف ببودلين بإنجلترا، ورقم النسخة لاد 276، وعلى الورقة البياض، تصريح بالإِنجليزية يُعلَم منه أنّها كانت من مستملكات خزانة "وليم لاد" الأسقُف للكنيسة المشهورة كنتربري، ورئيس جامعة أكسفورد في سنة 1638 م، ويوجد بيان هذه النسخة في فهرست المخطوطات العربية لمكتبة البودلين في المجلد الأول ص (746)، وحصل للدائرة بتوسُّط المستشرق الكبير

والعالم النحرير البروفيسر كرنكو مُعِين دائرة المعارف العثمانية، صور منها بالعكس، وهي مشتملة على 224 ورقة، قطع سبعة في أربعة ونصف إنج، وفي كل صفحة واحد وعشرون سطرًا بخط نسخ جميل واضح. وعلى لوح النسخة - أعني الورقة الأولى - اسم الكتاب وسنده إلى المؤلف وصورة السماع، وعلى حواشي اللوح بخطوط مختلفة ذكر جماعة ملكوا النسخة، أو طالعوا فيها، أو نقلوا واستفادوا منها، وأهم هذه الحواشي ترجمة للمؤلف بقلم الإِمام تاج الدين أحمد بن عبد القادر بن أحمد بن مكتوم بن أحمد بن محمَّد القيسي الدمشقي الحنفي، المتوفى سنة 749 قد أثبتناها في هذه المقدمة (ص 152) وذكر أيضًا أنّه ابتاع هذه النسخة. وفي ختم الكتاب على ورقة (224/ ب) كتب الناسخ اسمه وتاريخ الاستنساخ هكذا: "وكتبه العبد الفقير إلى رحمة ربه، محمَّد بن نصر الله بن علي الناسخ، وكان الفراغ منه في الخامس والعشرين من شهر صفر، سنة تسع وثمانين وستمائة" 689. وأصل الكتاب مجزّأ إلى أربعة عشر جزءًا صغارًا على عادة القدماء، والتزم في هذه النسخة إعادة عنوان الكتاب والسند في أول كل جزء على لوح الجزء، ثم في أول الجزء متصلاً، وأثبتنا ذلك كله في المطبوع كما ستراه في (1 و2/ ألف)، وفي (17/ ب)، و18 (/ ألف)، وفي (33/ ب) و (34/ ألف)، وهكذا في ابتداء كل جزء إلى الأخير وهو الرابع عشر. وإنّ ممّا يلفت النظر في هذه النسخة أن التسميعات كلها منقولة بخط الأصل، مع أنّها منسوبة إلى أناس مختلفين، مع التصريح بتاريخ السماع، وذلك متقدم على تاريخ كتابة النسخة، فمن ذلك (213/ ب) سماع كتبه

الحافظ عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور المقدسي (سنة 596)، وآخر في (166/ ب)، و (183/ ب) كتبه أبو الحسن علي ابن عبد الغني بن حسين الأرتاحي سنة 596، وسماعات أخرى كما في (33/ ألف) و (48/ ألف)، و (50/ ب)، و (68/ ب) و (221/ ب) كتبها عبد الرحمن بن حسين بن عبد الرحمن التنّيسي سنة 596، وبهذا يظهر أنّ هذه النسخة منقولة من أصل التنّيسي المقروء على الحافظ عبد الغني المقدسي، ونَقَل الناسخ - أي محمَّد بن نصر الله بن علي - كلّ ما كان في نسخة التنّيسي من أصل وسماعات وغيرها كما وجدها، وكان سماع التنّيسي ومن معه لهذا الكتاب على الحافظ عبد الغني في شهور سنة 596 كما في أكثر المواضع. ووقع في أول موضع على لوح الكتاب "سنة ست وستين وخمسمائة" وهو خطأ من الناسخ؛ لأن الحافظ عبد الغني المتوفى سنة 600 كان في سنة 566 لا يزال شابًّا دائبًا في الطلب، وإنّما نزل مصر في آخر عمره، والسماع كان بمصر في سنة 596 كما نص عليه في التسميع كما في (166/ ب)، فتحقَّقَ أنّ هذه النسخة فرعٌ من أصل التنيسي، وليست هي أصل التنيسي كما يتوهَّم من ظاهر كتابة الأسانيد والسماعات، بل إنها هي التي نسخها محمَّد بن نصر الله بن علي الناسخ في سنة 689 هـ, أي بعد السماع الأخير بثلاث وتسعين سنة. في أوائل هذه النسخة بياضات يسيرة، ولا بأس بها في النسخة (¬1)، ولم يقع فيها من الأغلاط إلا ما اشتبه على الناسخ أو وهم فيه، وترك بعض النقط كما هو دأب النساخ القديم، مع أنّه ليس بالكثير، ولا يخل بفهم المعنى ¬

_ (¬1) كذا.

ومعرفة الرجال، إلا بعض الأسماء والأنساب الغريبة والفارسية التي لا توجد في مأخذ آخر؛ لأنّ في هذا الكتاب نِسَبًا كثيرة إلى قرى وكُوَر ونواحي ومضافات جُرجان وإستراباذ غير معلومة ولا مشهورة، وسندرجها في الفهرست في آخر الكتاب على حِدَة لأجل الغرابة والندرة وتكميل الفائدة. وفي آخر الكتاب زيادات لا علاقة لها بالكتاب البتة، وأهمها قطعة من كتاب لابن شاهين أراه كتاب "الرواة المختلف فيهم"، وقصيدة بسندها قوافيها "فاطلبني تجدني"، وقد أثبتنا ذلك في آخر الكتاب، تحت عنوان الزيادات (67/ ألف - 49 ب). ****

سلسلة الرواة لتاريخ جرجان

سلسلة الرواة لتاريخ جرجان (1) المؤلف حمزة بن يوسف السهمي توفي سنة 427 (2) أبو القاسم إسماعيل بن مسعدة بن أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي توفي سنة 477 * الحافظ الأمير أبو نصر ابن ماكولا توفي سنة 475 * الحافظ المؤتمن بن أحمد الساجي توفي سنة 507 * الحافظ أبو بكر محمد بن أحمد ابن خاضبة توفي سنة 489 * (3) أبو القاسم إسماعيل بن أحمد ابن عمر السمرقندي توفي 536 * أبو الفرج بن الجوزي توفي سنة 597 * أبو سعد ابن السمعاني توفي سنة 562 * (4) أبو الفضل مسعود بن علي بن عبيد الله ابن النادر توفي سنة 586 * الحافظ عبد القادر بن عبد الله الرُّهاوي توفي سنة 612 * أبو القاسم بن أحمد البندنيجي توفي سنة 597 * (5) الحافظ الإمام عبد الغني بن عبد الواحد ابن سرور المقدسي توفي سنة 600 * علي بن عبد الغني بن حسين الأرتاحي * (6) عبد الرحمن بن الحسين بن عبد الرحمن التّنيسي (توفي سنة 600)

كيفية التصحيح

كيفية التصحيح النسخة وحيدة ربما يُهْمَل فيها النقط، وفيها بياضات في مواضع، وتصحيف وتحريف غير قليل، وغالب رجال الكتاب والمذكورين فيه غير مذكورين في الكتب المتداولة، كـ "التهذيب" و"الميزان"، وفيه أسماء وألقاب وأنساب غريبة، فمن هذه الجهات يتبين ما يلقاه المصحِّح من الصعوبات، أضف إلى ذلك ضيق الوقت والاستعجال للطبع، ومع هذا فقد بذلت الممكن في التصحيح، فما تبين صحته كما في الأصل أو لم أجد ما يدلّ على خطائه أبقيته كما هو، وما لم ينقط في الأصل وتبين لي صحة نقطه صححته، وما ارتبتُ فيه ولم أوفَّق لتصحيحه أشرتُ إلى الشك فيه بهذه العلامة (؟)، وما بان لي أنّه خطأ واتضح لي الصواب صححته في المتن، ونبهت في الحاشية على ما وقع في الأصل مع الإشارة إلى مستند التصحيح إن لم يكن واضحًا، وأرجو أن أكون قد أديت ما تيسَّر. وكان القيام بهذا العمل العلمي المفيد في عهد رياسة ذي الشرف الأصيل والمجد الأثيل، النواب علي ياورجنكَـ بهادر عميد الجامعة العثمانية، ورئيس الدائرة أدام الله مجده وأتمّ سعده. وضمن إدارة المحقق المفضال الدكتور محمَّد نظام الدين ناظم الدائرة الساهر فيما يرفع شأنها، ويوطد بنيانها، وكان تصحيح الكتاب، وترتيب هذه المقدمة تحت إشرافه ورهن هدايته، ومهما كان في ذلك من إجادة فمن ثمرات إشارته ونتائج إفادته. حُرّر في أوائل شهر محرم الحرام سنة 1370 من الهجرة النبوية عبد الرحمن بن يحيى اليماني المصحح بدائرة المعارف العثمانية بحيدراباد دكن

مقدمة "موضح أوهام الجمع والتفريق" للخطيب البغدادي (ت 463)

(5) مُقَدِّمَة "مُوَضِّح أوهام الجَمْع والتفريق" للخطيب البغدادي (ت 463)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى. أمّا بعد، فمن الواضح أنّ معظم العلوم الإِسلامية مدارها على النقل، وأنّ النّقل لما عدا نصّ كتاب الله تعالى من شأنه أن يختلط صحيحه بسقيمه، فأصبح مفتقرًا إلى النقد، وعماد النقد النظر في أحوال الناقلين. وقد اعتنى علماء سلفنا بنقل تلك العلوم من قراءات وتفسير وحديث وآثار وفقه، وكذا التاريخ واللغة والأدب بأسانيد متصلة يحدِّث بها اللَّاحق عن السابق إلى أن تمّ تقييدها في المصنفات. وإلى جانب ذلك عُنوا بالبحث عن أحوال الرواة وبيانها للناس لتُنْقل ثم تُقيد كغيرها. وأوّل مصنف جامع لأسماء الرواة - إلاَّ ما شذّ - هو "التاريخ الكبير" للإمام أبي عبد الله محمَّد بن إسماعيل البخاري رحمه الله، احتوى على بضعة عشر ألف ترجمة. وفي عصره جمع أصحاب الإمامين أحمد بن حنبل ويحيى بن معين مجاميع ممّا أفاداه في أحوال الرواة، ثم كثرت المصنفات والمجاميع في ذلك. هذا والأسماء قد تشتبه، فيتفق الرجلان فأكثر في الاسم واسم الأب واسم الجد ونحو ذلك، كأحمد بن جعفر بن حمدان، أربعة في طبقة واحدة. وكثيرًا ما يُذْكر الراوي بأوصافٍ متعددة كمحمد بن سعيد بن حسان الشامي المصلوب، يقال له: محمَّد بن حسان، محمَّد بن عبد الرحمن، محمَّد بن زكريا، محمَّد بن أبي قيس، محمَّد بن أبي زينب، محمَّد بن أبي

الحسن، محمَّد بن أبي عتبة، محمَّد بن أبي حسان، محمَّد بن أبي سهل، محمَّد الطبري، محمَّد الأردني، محمَّد مولى بني هاشم، أبو عبد الرحمن الشامي، أبو عبد الله الشامي، أبو قيس الملائي، أبو قيس الدمشقي، إلى غير ذلك. والأئمة إنما يعرفون أكثر الرواة قبلهم من أسانيد الأخبار التي تجيء من طريقهم، وإذ كان الأمر كذلك فطبيعي أن يقع لبعض الأئمة الخطأ فيَعدُّ الاثنين فأكثر واحدًا لاتفاق الاسم والطبقة، ويعدّ الواحد اثنين فأكثر لاختلاف الاسم، أو يتردد بين الأمرين، كما لا يُؤمَن أن يقع الاشتباه لمن ينظر في أسانيد الأخبار، وفي ذلك من الخلل ما فيه، فقد يكون أحد الرجلين موثَّقًا والآخر مجروحًا، فمن ظنهما واحدًا، كان بين أن يردّ خبر الثقة أو يقبل خبر المجروح، ومن حسب الواحد اثنين، قد يَعدُّ أحدَهما ثقة والآخر غير ثقة، فيكون قد اعتقد في رجل واحد أنّه ثقة غير ثقة، إلى غير ذلك من المفاسد. لذلك اعتنى المحدِّثون بهذا الباب، فوضعوا لبيانه فنَّين، فنّ المتفق والمفترق، لِمَا اتفق اثنان فأكثر في اسم واحد، وفنّ مَن يُذْكَر بأوصاف متعددة، لمن يُذْكَر باسمين فأكثر وهو واحد. كما وضعوا في علوم الحديث فنونًا أخر تذكر في كتب المصطلح. وكان قدماء الأئمة في شُغل عن هذا التفنين بما هو أهم منه من جمع الأصول وحياطتها، ثم في القرن الرابع بدأ العمل فيها، فألَّف (¬1) بعضهم في ¬

_ (¬1) الأصل: "فبها تألف" خطأ.

بعض الفنون، واعتنى بعضهم برسمها والتمثيل لها كما فعل أبو عبد الله الحاكم النيسابوري في كتاب "معرفة علوم الحديث". فلمّا جاءت النوبة إلى الحافظ أبي بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي (¬1) وجَّه عنايته إلى التأليف في تلك الفنون، فصنّف في كلّ فنّ كتابًا، صارت عمدةً لأهل الحديث بعده، كما قال ابن السمعاني عند ذكر (الخطيب) في "الأنساب". وقال ابن الجوزي في "المنتظم" بعد أن ذكر جُملة من مؤلفات الخطيب: "مَن نظر فيها عرف قدر الرجل وما هيئ له ممّا لم يتهيأ لمن كان أحفظ منه كالدارقطني وغيره"، وقال الحافظ ابن حجر في مقدمة "شرح النخبة" بعد أن ذكر مؤلَّفَي الخطيب "الكفاية" و"الجامع": "وقلَّ فن من فنون الحديث إلاّ وقد صنّف فيه كتابًا مفردًا، فكان كما قال الحافظ ابن نُقْطة: كل مَن أنصف عَلِم أنّ المحدثين بعد الخطيب عيال على كتبه". وقال الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمَّد السِّلَفي: تصانيف ابن ثابت الخطيب ... ألذّ من الصبا الغض الرطيب يراها إذ رواها من حواها ... رياضًا للفتى اليَقِظ اللبيب ويأخذ حُسْن ما قد صاغ فيها ... بقلب الحافظ الفطن الأريب فأيةُ راحةٍ ونعيم عيش ... يوازي عيشها أم أي طيب ألَّف الخطيب في فنِّ (المتفق والمفترق) كتابًا، ولم يذكروا أحدًا سبقه إلى التأليف فيه، وألَّف في مَن يُذكر بأوصاف متعددة كتابه (المُوَضِّح)، وقد سُبِق في الجملة؛ ذكروا أنّ أبا زرعة أخذ على "تاريخ البخاري" عدة قضايا ¬

_ (¬1) ترجمة الخطيب معروفة وقد لخصتها في آخر كتابه الجليل (الكفاية) المطبوع بدائرة المعارف العثمانية، فلم أر هنا الإطالة بذكرها. [المؤلف].

في الجمع والتفريق. والجمع: عدّ الاثنين فأكثر واحدًا. والتفريق: عدّ الواحد اثنين فأكثر. وذكروا أنّ لعبد الغني بن سعيد مؤلَّفًا سماه (إيضاح الإشكال)، فأمّا مآخذ أبي زرعة فقد جمعها ابن أبي حاتم، وأشار إليها في كتابه (الجرح والتعديل) وليست بكثيرة. وأمّا كتاب عبد الغني فقرأت على لوح الجزء الثاني من "المُوَضِّح" فائدة بخط بعض أهل العلم، ذكر فيها "إيضاح الإشكال"، وأنّ السيوطي لخَّصه في خمس عشرة ورقة، قال: "والذي فيه من الأسماء قليل جدًّا بالنسبة لما ذكره الخطيب". وأمّا كتاب الخطيب - وله أكتب هذه المقدمة - فهو هذا:

"موضح أوهام الجمع والتفريق"

" موضح أوهام الجمع والتفريق" هذا الكتاب مشهورٌ بين أصحاب الحديث، يذكرونه في ترجمة الخطيب، وفي كتب علوم الحديث (المصطلح) وينقلون عنه في كتب الرجال. * وصفه: ابتدأه الخطيب بالحمد والصلاة، وبيان موضوع الكتاب والحاجة إليه، ثم روى عن الدارقطني قضيتين في الجمع والتفريق أخذهما على البخاري، ثم ذكر الخطيب أنّ في "تاريخ البخاري" قضايا كثيرة من هذا الباب، وأنّه سيذكرها ثم يذكر ما شاكلها ممّا وقع لغير البخاري، ثم يذكر ما اختلفوا فيه ولم يتبين له الصواب، ثم يذكر ما له رُسِم الكتاب، ثم قال: "ولعلّ بعض من ينظر فيما سطرناه ... يُلْحق سيئ الظن بنا، ويرى أنّا عَمَدنا للطعن علي من تقدمنا، وإظهار العيب لكبراء شيوخنا. وأنّى يكون ذلك وبهم ذُكِرْنا، وبشعاع ضيائهم تبصَّرْنا ... ولما جعل الله تعالى في الخلق أعلامًا ... لزم المهتدين بمبين أنوارهم .... بيان ما أهملوا وتسديد ما أغفلوا ... وذلك حق للعالم على المتعلم، وواجب على التالي للمتقدم". ثم ذكر حكايات في أنّ الكامل من عُدّت سقطاته، وأنّه لا يسلم من الخطأ كتاب غير كتاب الله عزَّ وجلَّ. ثم روى عن أبي زُرعة أنّه وجد في "تاريخ البخاري" خطأ كثيرًا، فوافقه صالح بن محمَّد الحافظ، واعتذر عن البخاري بأنّ الخطأ ممّن قَبْله. ثم ذكر أنّ ابن أبي حاتم جمع الأوهام التي أخذها أبو زرعة على البخاري في كتاب مفرد. قال الخطيب: "ونظرت فيه فوجدت كثيرًا منها لا

تلزمه، وقد حكى عنه في ذلك الكتاب أشياء هي مدونة في تاريخه على الصواب بخلاف الحكايات عنه"، ثم أخذ عليه أنّه لم ينص على عدم قصده انتقاص البخاري مع أنّه أغار على "تاريخه" فضمنه "كتاب الجرح والتعديل"، وذكر حكاية الحاكم أبي أحمد، وقد ذكرتُها وأجبتُ عنها في مقدمتي لكتاب (الجرح والتعديل). ثم روى كلمة ابن عقدة في حاجة أهل الحديث إلى "تاريخ البخاري". ثم قال: "فمن أوهام البخاري في الجمع والتفريق ... " فساق أربعة وسبعين فصلاً، غالبها في التفريق وهو موضوع الكتاب، وبعضها في الجمع وهو من موضوع فن المتفق والمفترق، يسوق في كل فصل عبارة "التاريخ"، ثم يذكر رأيه ويستدلّ عليه بكلام بعض الأئمة، وبسياق الأسانيد التي تشهد لقوله مع أحاديثها. ويتوسع في ذكر الأحاديث والاختلاف فيها ويستطرد لفوائد أخر. ثم ذكر قضايا لابن معين، ثم لجماعة من الأئمة إلى أن ختم بالدارقطني، ثم ساق فصلاً فيما اختلف فيه من ذلك ولم يَبِن له الصواب: الجمع أم التفريق؟ وبتمامه تم القسم الأول من الكتاب، وهو نحو خمسيه. ثم شرع في القسم الثاني بسياق أسماء الرواة الذين ذُكِر كل منهم بوصفين أو أكثر فقال: "باب الألف، إبراهيم بن أبي يحيى ... " وساق من طريقه خبرًا بهذا الاسم، ثم قال: "وهو إبراهيم بن محمَّد الذي حدث عنه محمَّد بن إدريس الشافعي وعبد الرزاق"، وساق عن كل منهما خبرًا عن إبراهيم بهذا الاسم. وحكايةً عن صالح بن محمَّد الحافظ أن شيخ عبد الرزاق هو ابن أبي يحيى. ثم قال: "وهو إبراهيم بن محمَّد بن أبي عطاء الذي روى عنه ابن جريج" ثم ساق خبرًا بذلك، ثم حكايةً عن ابن معين

بإثبات ذلك، ثم حكاية عن صالح بن محمَّد الحافظ بخلاف ذلك، وردّها بشواهد من الرواية، ومن أقوال الأئمة يسوق كل ذلك بسنده. ثم قال: "وهو أبو إسحاق بن محمَّد .... وهو أبو إسحاق الأسلمي ... وهو أبو إسحاق بن سمعان ... وهو أبو إسحاق ابن أبي عبد الله ... وهو أبو الذئب ... ". ثم قال: "ذِكْر إبراهيم الصائغ ... " وعلى هذه الوتيرة إلى آخر الكتاب. ***

مع الخطيب

مع الخطيب لا يرتاب ذو علم أنّ الخطيب مُحسن مصيب في بيان ما أخطأ فيه مَن قَبْله مِن الأئمة، وأنّه بذلك مؤدّ حق الله عزَّ وجلَّ وحقّ العلم وأهله، وحق أولئك الأئمة أنفسهم، فإنّهم إنّما أرادوا بيان الحق والصواب، فإذا أخطأ أحد منهم، كان ذلك نقيض ما قصد وأحبّ، فالتنبيه على خطائه ليرجع الأمر إلى ما قصده وأحبه من حقه على كل من له حق عليه. وكذلك لا يرتاب عارف أنّ الخطيب كان عارفًا بحق العلم وسلف العلماء، وخاصة أولئك الأئمة الذين لولاهم لما كان شيئًا مذكورًا، وأنّه كان محبًّا لهم لا هوى له في الغض منهم والطعن فيهم. ومع هذا فإنّنا لا نبرّئ الخطيب من أن يكون له هوى في إظهار سعة علمه، ودقة فهمه، وعلوّ مكانته، وإذ كان من الوسائل إلى ذلك أن يبين أنّه استدرك على كبار الأئمة، وعرف الصواب فيما أخطأوا فيه، كان يحرص على أن يجد لأحدهم خطأ يعرف هو صوابه فيبين ذلك. إنّنا نظلم الخطيب إذا عبناه بهذا، فإنّ لنفسه عليه حقًّا، فإذا أحبَّ مع أداء الواجب أن يَظْهر قدرُه ويسير ذكرُه، لم يكن عليه في ذلك حرج، كيف وقد يريد بذلك أن ينتفع الناس بعلمه، ويغتنموا الاستفادة من كتبه. وقد يكون الحامل له على هذا أنّ أهل عصره لم يكن كثير منهم أو أكثرهم يعرفون له حقّه، وينزلونه المنزلة التي تنبغي له، بل منهم من عاداه وآذاه وحاول إهلاكه. ومن يدري؟ فلعلّه كان في ذلك خير كثير للعلم وأهله وللخطيب نفسه، فلعله لو رُزِق التوقير البالغ من أهل عصره ما انبعثت همته

إلى الحرص على إظهار علمه بتلك المؤلفات الجليلة. بيد أنّا نأخذ عليه أمورًا: الأوّل: كلمات كان في غنًى عنها، كقوله في بعض ما أخذه على البخاري: "وهذا خطأ قبيح" ونحو ذلك، ولولا أنّ الأئمة قبله قد أطلقوا كلمة "الوهم" على ما يشاكل تلك القضايا التي سماها أوهامًا لأخذنا عليه هذه الكلمة؛ لأنّها قد تُشْعِر بالغفلة، وعامة ما يصحّ فيه قوله من تلك القضايا إنّما هي أخطاء اجتهادية بنى مَن وقعت له على ما عنده من الأدلة، والأدلة في هذا الباب منتشرة غاية الانتشار، وفي "تاريخ البخاري" بضعة عشر ألف ترجمة، وقد يتعلق بالترجمة الواحدة عددٌ من الأخبار، ولو تحرّى البخاري أن لا يقع له خطأ البتة لترك علمه في صدره. على أنّ كثيرًا من القضايا التي ذكر الخطيب أنّ البخاري وهم فيها، إنّما جاء الوهم من نُسْخة الخطيب أو من غفلته عن اصطلاح البخاري أو إشارته، وسأنبه على ما تنبهت له من ذلك، وعلى كل حال فالأوهام هنا ليست من قبيل أوهام الرواة التي تنشأ عن غفلة أو نسيان أو نحو ذلك، ممّا يخدش في حفظ الراوي وضبطه. الأمر الثاني ممّا نأخذه على الخطيب: أنّه يستشهد في توهيم الأئمة بروايات من طريق بعض الكذابين أو المتَّهمين، وكان عليه إن لم يُعرض عنها البتة أن ينصّ على عذره، كأن يقول: وفلان وإن كان معروفًا بالكذب فلا مانع من الاستشهاد به في مثل هذا؛ لأنّه لا غرض له في الكذب فيه، وإذًا لقبلنا منه هذا العذر على ما فيه. الثالث: أنّه يذكر بعض قضايا قد سبقه إلى مثل قوله فيها من هو أجلّ منه، فلا يذكر ذلك مع أنّ الظاهر أنّه وقف عليه. ولسنا ننكر على الخطيب أنّه

أهل لإدراك الصواب في تلك القضايا ولو لم يبينه غيره، فلا يكون سكوته انتحالًا ولا تشبعًا بما لم يُعْطَ، ولكن كان ذكر ذلك أنفى للتهمة عنه، وأثبت لقوله. الرابع: أنّه لم ينصف البخاري، فقد ذكر له نحو ثمانين قضية سماها أوهامًا، وهذا العدد وإن لم يكن شيئًا بالنسبة إلى بضعة عشر ألف ترجمة جمعها البخاري من الأسانيد، فالواقع أنّه لا يلزم البخاري من ذلك إلا اليسير كما سأوضحه إن شاء الله، لكن كلام الخطيب في تلك القضايا مفيد جدًّا من جهات أخرى، كما يعرف بالاطلاع عليها، وعلى كل حال فهذه المآخذ مغتفرة في جانب فضل الخطيب وإفادة كتابه هذا. ***

الأصل

الأصل كان الأخ العلامة الشيخ محمَّد عبد الرزاق حمزة عافاه الله قد اطلع على نسخة هذا الكتاب (الموضح)، في مكتبة المدرسة الأحمدية بحلب برقم 339، وذكره لي عند رجوعه إلى مكة المكرمة، وذكر علاقته "بتاريخ البخاري"، وإنّ من تمام ما قُمتُ به وقامت به جمعية دائرة المعارف العثمانية في حيدراباد الدكن من خدمة "التاريخ" تلك الخدمة البالغة أن تقوم بخدمة هذا الكتاب (الموضح). ولم أهتمّ حينئذٍ بالأمر لأنّي لم أقدره قدره. ثم سافر فضيلته مرّة أخرى إلى الشام، فأخذ لنفسه صورًا من الكتاب، وعند رجوعه إلى مكة المكرمة أراني، فلمّا تصفَّحت الكتاب علمت أنّي كنت على خطأ في عدم اهتمامي به أوّلاً، فبادرت إلى نَسْخِه وتحقيقه والتعليق عليه. هذا والنسخة مقسومة إلى جزأين، يقع الأول في 134 ورقة، ينتهي بانتهاء باب الألف من القسم الثاني من قسمي الكتاب - وقد مرّ بيان ذلك -. ويقع الجزء الثاني في 129 ورقة، وعدد الأسطر في الصفحة تختلف ما بين 27 - 33، ومعدل كلمات السطور خمس عشرة كلمة في السطر. وتاريخ كتابته سنة 627، وسمى الكاتب نفسه في آخر الجزء الأول: محمَّد بن أبي عبد الله بن جبريل بن عرار الأنصاري، وفي آخر الجزء الثاني: محمَّد بن محمَّد بن أبي عبد الله بن عرار بن محمَّد بن أحمد بن علي الأنصاري. وفي آخر الجزء الأول على الحاشية بخط كاتب الأصل: "بلغ هذا الجزء الأول مقابلة مع الإِمام الحافظ" (؟)، في بعض المواضع محو وسقط سأنبه عليه في التعليقات.

تاريخ البخاري والتوهيمات

تاريخ البخاري والتوهيمات تقدّم قول أبي زرعة وتوهيمه للبخاري في مواضع، وجمع ابن أبي حاتم لذلك، واعتراض الخطيب عليه، وتصدي الخطيب أول كتابه هذا لما تصدى له، وأَخْذي عليه في ذلك، وهناك حقائق تبين الواقع، رأيت أن أعرضها هنا إجمالاً، ثمّ أنبه على ذلك في التعليقات. من اللطائف أنّ "تاريخ البخاري" مثلث من ثلاث جهات: الأولى: في "مقدمة فتح الباري" عنه: "لو نُشِر بعض أستاذيّ هؤلاء لم يفهموا كيف صنفت التاريخ" ثم قال: "صنفته ثلاث مرات"، ومعنى هذا أنّه بدأ فقيّد التراجم بغير ترتيب، ثم كرّ عليها فرتبها على الحروف، ثم عاد فرتّب تراجم كل حرف على الأسماء، باب إبراهيم، باب إسماعيل إلخ. هذا هو الذي التزمه، ويزيد في الأسماء التي تكثر مثل محمَّد وإبراهيم فيرتب تراجم كل اسم على ترتيب الحروف الأوائل لأسماء الآباء ونحوها. الجهة الثانية: في "مقدمة الفتح" أيضًا عنه: "صنفت جميع كتبي ثلاث مرات"، يعني - والله أعلم - أنّه يصنّف الكتاب ويخرجه للناس، ثمَّ يأخذ يزيد في نسخته ويصلح، ثم يخرجه مرة ثانية، ثم يعود يزيد ويصلح حتى يخرجه الثالثة. وهذا ثابتٌ للتاريخ كما يأتي. الجهة الثالثة: أنّ له ثلاثة تواريخ؛ "الكبير"، وقد طبع في دائرة المعارف العثمانية بحيدراباد الدكن في الهند، طبع منه أولاً ما عدا الربع الثالث، ثم

وُجِد الربع الثالث، وتمّ طبعه حديثًا بحمد الله، و"الصغير" (¬1)، وقد طبع في الهند أيضًا، و"الأوسط" لمّا يطبع، ومنه نسخة في مكتبة الجامعة العثمانية بحيدراباد الدكن. ومعرفة الجهتين الأوليين نافعة، أمّا الثانية فإنّ ما تقدم من كلام أبي زرعة وصالح بن محمَّد الحافظ، وما جمعه ابن أبي حاتم من المآخذ على البخاري؛ كان بالنظر إلى النسخة التي أخرجها البخاري أوّلاً، وبهذا يتضح السبب فيما (¬2) ذكره الخطيب معترضًا على ابن أبي حاتم، قال: "وحكى عنه - أي عن البخاري - في ذلك الكتاب أشياء [على الغلط] هي مدوّنة في "تاريخه" على الصواب بخلاف الحكاية عنه"، فكلام ابن أبي حاتم كان بحسب النسخة التي أخرجها البخاري أوّلاً، وكلام الخطيب بالنظر إلى النسخة التي أخرجها البخاري ثانيًا، وهي رواية أبي أحمد محمَّد بن سليمان بن فارس الدلال النيسابوري، المتوفى سنة 312. ذكر الخطيب في "الموضح" أوّل اعتراضاته على البخاري إسناده إليه. وفي رواية ابن فارس هذه مواضع على الخطأ، وهي في رواية محمَّد بن سهل بن كردي عن البخاري على الصواب، انظر "الموضح": الأوهام 7 و9 و13 من أوهام البخاري مع تعليقي، فظهر أنّ رواية ابن فارس ممّا أخرجه البخاري ثانيًا، ورواية ابن سهل ممّا أخرجه ثالثًا. وأمّا الجهة الأولى فيتعلق بها اصطلاحات للبخاري: ¬

_ (¬1) الذي طبع باسم "الصغير" هو "الأوسط"، وانظر بحث ذلك بتوسع في مقدمة "التاريخ الأوسط": (1/ 54 - 78 ط - الرشد). (¬2) (ط): "فيها".

الأوّل: أنه حيث يرتب الأسماء الكثيرة بحسب أوائل أسماء الآباء، يتوسع فيعد كل لفظ يقع بعد "فلان بن" بمنزلة اسم الأب، ويزيد على ذلك فيمن لم يُذْكر أبوه، فيعد اللفظ الواقع بعد الاسم كاسم الأب، فمن ذلك "عيسى الزرقي" ذكره فيمن اسمه عيسى، وأول اسم أبيه زاي، وهكذا "أسلم الخياط" فيمن اسمه أسلم (¬1)، وأول اسم أبيه خاء. الثاني: أنّه إذا عُرِف اسم الرجل على وجهين يقتضي الترتيب وضعه بحسب أحدهما في موضع، وبحسب الآخر في آخر ترجمة في الموضعين، فمن ذلك: شيخه محمَّد بن إسحاق الكرماني، يعرف أيضًا بمحمد بن أبي يعقوب، ذكره في موضعين من المحمدين، فقال في المجلد الأول رقم (66): "محمَّد بن إسحاق هو ابن أبي يعقوب الكرماني، مات سنة 244"، وقال فيه رقم (858): "محمَّد بن أبي يعقوب، أبو عبد الله الكرماني .... ". ومن ذلك: عبد الله بن أبي صالح ذكوان، يقال لعبد الله "عباد"، فذكره البخاري في باب عبد الله، وفي باب عباد، وكلامه في الموضعين، وفي ترجمة صالح بن أبي صالح ذكوان صريح في أنه لم يلتبس عليه. من ذلك مسلم بن أبي مسلم يقال له "الخياط"، فذكره في "مسلم بن أبي مسلم"، وفي "مسلم الخياط". وسياقه صريح في أنّه لم يلتبس عليه، فهذا هو اصطلاحه. وصاحب "التهذيب" يذكر الرجل في موضع مفصّلاً، ثم يذكره في الموضع الآخر مختصرًا جدًّا، ويحيل على ذاك. وصنيع البخاري إن لم يكن أحسن من هذا، فعلى كلّ حال ليس بوهم، ولكن الخطيب يعدّ هذا أوهامًا، ¬

_ (¬1) الأصل: مسلم، خطأ.

انظر "الموضح": الوهم 2 و42 و55 من أوهام البخاري. ولم يكتف بذلك بل فصل هذه المواضع بمزيدٍ من التشنيع، وتشنيعه عائد عليه كما لا يخفى. الاصطلاح الثالث: (وقد نبّهت عليه في تعليقاتي على التاريخ 2/ 1/ 269 رقم 1001) وهو أنّ البخاري إذا وجد من وُصِفَ بوصفين، وكان محتملاً أن يكون واحدًا وأن يكون اثنين، فإنّه يعقد ترجمتين، فإن لم يمنعه مقتضى الترتيب الذي التزمه من قَرْنهما قَرَنَهما، كي يسهل فيما بعد جعلهما ترجمةً واحدة إذا تبين له، أو الإشارة القريبة البينة إذا قوي ذلك ولم يتحقق، كأن (¬1) يزيدَ في الثانية: "أراه الأول"، ولما جرت عادته بهذا صار القرن في مواضع الاحتمال كالإشارة إليه والتنبيه عليه. أمّا إذا لم يسمح مقتضى الترتيب بالقرن، فإنه يضع كلاًّ من الترجمتين في موضعهما ويشير إشارة أخرى، وقد يكتفي بظهور الحال، انظر "الموضح" 6 و12 و14 و15 و38 و55 من أوهام البخاري. وكثيرٌ من المواضع التي لم يقض فيها البخاري بل أبقاها على الاحتمال، يكون دليل الخطيب على أحد الاحتمالين غير كاف للجزم بحسب تحرّي البخاري وتثبته. وما كان كافيًا للجزم فلا يليق أن يسمّى توقف البخاري وهمًا. هذا، وللبخاري - رحمه الله - ولوعٌ بالاجتزاء بالتلويح عن التصريح، كما جرى عليه في مواضع من جامعه الصحيح حرصًا منه على رياضة الطالب، واجتذابًا له إلى التنبه والتيقُّظ والتفهُّم. قدّمت هذا الفصل هنا لأحيل عليه في التعليقات كما ستراه وترى بقية الأجوبة عن أكثر تلك القضايا التي سمّاها الخطيب أوهامًا. ¬

_ (¬1) (ط): "كأنه".

وممّا يجب التنبه له أنّ المزِّي وابن حجر وغيرهما قد يقلّدون الخطيب، ويذكرون أنّ البخاري وهم، ولا يبينون شيئًا ممّا بينته، ولا يذكرون ما استدلّ به الخطيب. فمن الواجب على كل من يريد التحقيق في علوم الحديث تحصيل هذا الكتاب؛ ليتبين له الحال في تلك المواضع وغيرها، مع الوقوف على الأدلة وما لها وما عليها، ويعرف ما يتعلق بهذا الفنّ الخاصّ؛ ليحصل فوائده التي تقدمت الإشارة إليها مع فوائد أخرى جزيلة لهذا الكتاب، والله الموفق. كاتبه عبد الرحمن بن يحيى المعلمي مكتبة الحرم المكي بمكة المكرمة 15/ ربيع الآخر/ سنة 1378 هـ

مقدمة "خطأ محمد بن إسماعيل في تاريخه" لعبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي (ت 327)

(6) مُقَدِّمَة "خطأ محمَّد بن إسماعيل في تاريخه" لعبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي (ت 327)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله، وحده لا شريك له وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه على محمَّد وآله وصحبه. وبعد، فإن معرفة نَقَلة الأخبار ورواة الأحاديث والآثار عليها مدار التمييز بين الصحيح والسقيم والمقبول والمردود. ومن أهمّ فروعها معرفة ما وقع من الخطأ في بعض كتب أسماء الرجال المتلقاة بالقبول والاعتماد، إذ قد يُستند إليها في ذلك الخطأ، بناءً على أنَّها أهل للاستناد. وكنتُ ذكرت في مقدمة "كتاب الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم الرازي، ومقدمة كتاب "موضح أوهام الجمع والتفريق" لأبي بكر الخطيب البغدادي: أنّ لابن أبي حاتم كتيبًا جمع فيه تعقبات أبيه وأبي زُرعة الرازيين على "التاريخ الكبير" للبخاري، وكنتُ أحسبه جزءًا صغيرًا، وأنّ عامة فوائده قد شملها "كتاب الجرح والتعديل". ثمّ إنّ صديقي العزيز البحَّاثة المحقق الشيخ سليمان بن عبد الرحمن الصنيع - مدير مكتبة الحرم المكي، وعضو مجلس الشورى في الدولة السعودية العلية، وهو مَنْ أَوْلىَ العناية البالغة بكتب الرجال وتحقيق الأسانيد - وقف على ذكر ذاك الكُتيب في فهرس المخطوطات المصورة للإدارة الثقافية لجامعة الدول العربية، فأخبرني بذلك، وذكر لي أنّ المجموعة الجليلة (تاريخ البخاري، وكتاب الجرح والتعديل, والموضح للخطيب) لا تتمّ إلا بهذا الكتاب، وأنّ خدمتي لتلك الكتب تتقاضاني أن

1 - اسم الكتاب

أقوم بخدمته، وأن ما وُفّقت له دائرة المعارف العثمانية من طبع تلك الكتب لا تكمل إلا بطبعه. ثم لم يَمْهَل أن طلب صور ذاك الكتاب على نفقته الخاصة، ولم أشعر إلاَّ وهو يقدّم إليّ الصور. 1 - اسم الكتاب: وقع في صدر هذه النسخة تسميته هكذا "بيان خطأ محمَّد بن إسماعيل البخاري في التاريخ". وجاء اسمه في ترجمة عباد بن عبد الصمد من "لسان الميزان": "كتاب خطأ البخاري". وفي "التهذيب" في ترجمة حسن بن شُفي: "خطأ البخاري". وفي ترجمة علي بن حفص المروزي: "كتاب الرد على البخاري". والأول هو المعتمد. 2 - الموضوع والفائدة: موضوع الكتاب على التحديد بيان ما وقع من خطأ أو شبهة في النسخة التي وقف عليها الرازيان من "تاريخ البخاري"، والشواهد تقضي أن أبا زرعة استقرأ تلك النسخة من أولها إلى آخرها، ونبه على ما رآه خطأ أو شبهه، مع بيان الصواب عنده، وترك بياضًا في مواضع، ثم تلاه أبو حاتم فوافقه تارة وخالفه أخرى واستدرك مواضع. وإذ كان البخاري والرازيان من أكابر أئمة الحديث والرواية، وأوسعهم حفظًا، وأثقبهم فهمًا، وأسدّهم نظرًا، فمِنْ فائدة هذا الكتاب: أن كل ما في "التاريخ" مما لم يعترضه الرازيّان فهو على ظاهره من الصحة بإجماعهم، ومثله بل أولى ما ذكرا أنه الصواب وحكيا عن "التاريخ" خلافه، والموجود في نُسَخ "التاريخ" ما صوَّباه.

3 - النظر في تعقبات الرازيين

ومن فائدته بالنظر إلى المواضع التي هي في نسخ التاريخ على ما حكياه وذكرا أنه خطأ: معرفة الخلاف؛ ليجتهد الناظر في معرفة الصواب، وكثير من ذلك لم ينبه عليه في "الجرح والتعديل"، ولا غيره فيما علمت. 3 - النظر في تعقبات الرازيين: وجدت المواضع المتعقَّبة على أضْرُب: الأول: ما هو في "التاريخ" على ما صوَّبه الرازيان لا على ما حكياه عنه وخطآه، وهذا كثير جدًّا، لعلّه أكثر من النصف، وقد ذكرت في مقدمة "الموضح" أنّ البخاري أخرج "التاريخ" ثلاث مرات، وفي كل مرة يزيد وينقص ويصلح، واستظهرتُ أنّ النسخة التي وقعت للرازيين كانت ممّا أخرجه البخاري لأول مرة، وهذا صحيح، ولكني بعد الاطلاع على هذا الكتاب علمت أنّه لا يكفي لتعليل ما وقع فيه من هذا الضرب لكثرته، ولأنّ كثيرًا منه يبعد جدًّا أن يقع من البخاري بعضه فضلاً عن كثير منه، وتبين لي أنّ معظم التَّبعة في هذا الضرب على تلك النسخة التي وقعت للرازيين، وعلى هذا فوق ما تقدم شاهدان: الأول: أنّ الخطيب ذكر في "الموضح" (1/ 7) هذا الكتاب ثم قال: "وقد حكي عنه في ذلك الكتاب أشياء هي مدونة في تاريخه على الصواب بخلاف الحكاية عنه"، وقد وقف الخطيب على عدة نسخ من "التاريخ" مختلفة الأسانيد إلى البخاري. الثاني: أنّ أبا حاتم وهو زميل أبي زرعة، ولا بدّ أن يكون قد اطلع على تلك النسخة، وعرف حالها، يقول في مواضع كثيرة من هذا الكتاب: "وإنّما هو غلط من الكاتب" أو نحو هذا، راجع رقم 10، 31، 42، 66، 89، 210، 229، 230، 239، 404، 460، 472، 609.

يعني أنّ الخطأ فيها ليس من البخاري ولا ممّن فوقه، وإنّما هو من كاتب تلك النسخة التي حكى عنها أبو زرعة. وثمَّ مواضع أكثر مما ذكره؛ الحمل فيها على الكاتب أوضح. قد يُعترض هذا بما في أول هذا الكتاب عن أبي زرعة: "حَمَل إليَّ الفضل بن العباس المعروف الصائغ كتاب "التاريخ" ذَكَر أنّه كتبه من كتاب محمَّد بن إسماعيل البخاري فوجدت فيه ... "، والفضل بن العباس الصائغ حافظ كبير يبعد أن يخطئ في النقل ذاك الخطأ الكثير، وقد ذكر أنه كتب من كتاب البخاري، والظاهر أنه يريد به نسخة البخاري التي تحت يده، والأوجه التي تحمل التبعةَ على تلك النسخة توجب أحدَ أمرين: الأول: أن يكون الفضل بن العباس حين نقل النسخة لمَّا يستحكم علمه، وقد تكون نسخة البخاري حين نقل منها لا تزال مسوَّدة، فنقل ولم يسمع ولا عَرَض ولا قابل. الثاني: أن تكون كلمة "كتاب محمَّد بن إسماعيل" في عبارة أبي زرعة لا تعني نسخة البخاري التي تحت يده، وإنّما تعني مؤلفه الذي هو "التاريخ"، وتكون النسخة التي نقل منها الصائغ نسخةً لبعض الطلبة غير محررة، وإنّما نُقِلت عن نسخة أخرى مع جهل الكاتب، ولم يسمع ولا عَرَض ولا قابل. الضرب الثاني: ما اختلفت فيه نُسخ "التاريخ" ففي بعضها كما حكاه أبو زرعة وخطأه، وفي بعضها كما ذكر أنّه الصواب، والأمر في هذا محتمل، وموافقة بعض النسخ للنسخة التي وقف عليها أبو زرعة لا تكفي لتصحيح النسبة إلى البخاري، ولا سيما ما يكثر فيه تصحيف النسَّاخ كاسم "سعر"، يتوارد النسَّاخ على كتابته "سعد".

الثالث: ما وقع في الموضع الذي أحال عليه أبو زرعة كما حكاه، وفي موضع آخر من "التاريخ" على ما صوَّبه، وهذا قريب من الذي قبله، لكن إذا حكى البخاري كلاًّ من القولين من وجهٍ (¬1) غير وجه الآخر فالخلاف من فوق. وقد يذكر البخاري مثل هذا، ويرجّح تصريحًا أو إيماء، وقد يسكت عن الترجيح ولا يعد هذا خطأ، والبخاري معروف بشدة التثبت. الرابع: ما هو في "التاريخ" على ما حكاه أبو زرعة وخطَّأه، ولا يوجد فيه كما صوَّبه، والأمر في هذا أيضًا محتمل، ولا سيما في المواضع التي تنفرد نسخة واحدة من "التاريخ"، وفي المواضع التي يغلب فيها تصحيف النسَّاخ، وما صحت نسبته إلى البخاري من هذا، فالغالب أنّه كذلك سمعه، فإن كان خطأ فالخطأ ممّن قبله، وما كان منه يكون أمره هينًا كالنسبة إلى الجدّ؛ فإنّ أبا زرعة يعدها في جملة الخطأ، وقد دفع ذلك أبو حاتم في بعض المواضع، راجع رقم 36، 92. وقد يكون الصواب مع البخاري وأخطأ أبو زرعة في تخطئته، وقد قضى أبو حاتم بذلك في مواضع منها ما هو مصرَّحٌ به في هذا الكتاب، ومنها ما يعلم من "الجرح والتعديل" راجع رقم 11، 32، 44، 49. وبالجملة، فقد استقرأتُ خمسين موضعًا من أول الكتاب، فوجدته يتجه نسبة الخطأ إلى أبي زرعة في هذه المواضع الخمسين (¬2)، ولا يتَّجِه نسبة الخطأ إلى البخاري نفسه إلا في موضع واحد هو رقم 25 ذكر رجلاً ممّن أدركه سماه محمدًا، وقال الرازيان وغيرهما: اسمه أحمد. ¬

_ (¬1) ط: وجهه. (¬2) (ط): الخمسة.

4 - حكم الخطأ هنا

4 - حكم الخطأ هنا: مِن الناس مَن عرف طرفًا مِن علم الرواية ولم يحققه، فسمع أنّ كثرة خطأ الراوي تخدش في ثقته، فإذا رأى هنا نسبة الخطأ إلى البخاري أو أبي زرعة توهَّم أنّ هذا خطأ من جنس ذاك. ومن الناس من يعرف الحقيقة ولكنّه يتجاهلها لهوى له. والحقيقة هي أنّ غالب الخطأ الذي تتجه نسبته إلى البخاري نفسه أو إلى أبي زرعة إنّما هو من خطأ الاجتهاد الذي يوقِعُ فيه اشتباه الحال وخفاء الدليل، وما قد يكون في ذلك ممّا يسوغ أن يعدّ خطأً في الرواية فهو أمرٌ هيّن، لا يسلم من مثله أحدٌ من الأئمة، وعلى كلّ حال فليس هو بالخطأ الخادش في الثقة. 5 - النسخة الأصل: وُصِفَت النسخة في فهرس المخطوطات المصورة لمعهد المخطوطات لجامعة الدول العربية (2/ 51) بما يأتي: نسخة كُتبت سنة 728 بخط أبي بكر بن علي بن إسماعيل البهنسي الأنصاري الشافعي 25 ق، 25 س، 19 × 26 [مكتبة] أحمد الثالث [بإستانبول] 624 (11) ضمن مجموعة من 119 ب/ 143 ف 667. والمجموعة كلها تتعلق بعلوم الحديث والرواية، والنسخة صالحة في الجملة، وعامة ما فيها من الخطأ يمكن تداركه، كما ستراه إن شاء الله تعالى. 6 - طريقتنا في تحقيق الكتاب: الغالب في هذه التعليقات أن تبدأ باسم رجل من المترجمين في "التاريخ"، ثم قد يكون الاعتراض متعلقًا بذلك الرجل نفسه، وقد يكون

متعلقًا باسم أو معنى في ضمن تلك الترجمة، وفي عدة مواضع لا يذكر اسم صاحب الترجمة بل تُحْكَى عبارة من أثنائها. وقد يتعلق بترجمة واحدة اعتراضان أو أكثر؛ وعملاً بإشارة الصديق الشيخ سليمان الصنيع الصائبة وضعتُ أرقامًا مسلسلة بحسب التراجم، ووضعت عقب الرقم بين حاجزين رقم تلك الترجمة في "تاريخ البخاري" المطبوع. وما لم يذكر فيه اسم صاحب الترجمة أضفت الاسم بين حاجزين، وراجعت تلك الترجمة في "التاريخ" وفي "الجرح والتعديل" مع مراجعة مواضع أُخر منهما ومن غيرهما بحسب ما يقتضيه الحال، وعلّقتُ ما ظهر لي. وكثيرًا ما تكون العبارة المحكيَّة في هذا الكتاب عن "التاريخ" غير مطابقة لما في "التاريخ" المطبوع. ولم ألتزم بيان ذلك إلا حيث يختلف المعنى اختلافًا بينًا، وما كان في الأصل خطأ وبان لي أنه من خطأ النسَّاخ أصلحته في المتن ونبهت في التعليق على ما وقع في الأصل. وأسأل الله التوفيق. عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني

مقدمة "المعاني الكبير" لابن قتيبة الدينوري (ت 275)

(7) مُقَدِّمَة "المعاني الكبير" لابن قتيبة الدينوري (ت 275)

* مكانة الشعر القديم

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه. * مكانة الشعر القديم: كان العرب قبل الإِسلام أمة أمية كتابهم الطبيعة، مدرستهم الحياة، أقلامهم ألسنتهم، ودفاترهم قلوبهم، وكان كل من أراد منهم تقييد فكرة، أو تخليد حكمة، أو تثبيت مأثرة، أو إظهار عبقرية في دقة الإحساس ولطف التصوّر وإتقان التصوير، أنشأ في ذلك أبياتا أو قصيدة، فلا تكاد تجاوز شفتيه حتى يتلقفها الرواة فيطيروا بها كلَّ مَطار، فكان الشعر وحده هو مؤلفاتهم وهو تاريخهم وهو مظهر نبوغ مفكريهم. ثم جاء الإِسلام فنقلهم من الأمية إلى العلم والحضارة، ومن العزلة عن الأمم إلى مخالطتها، فكان من جراء تلك المخالطة مع ما أفادوا بها من المصالح أن أخذت السليقةُ تضْعُف، وأخذ اللحن والخطأ يتسرّب إلى ألسنتهم، وأخذ الخطر يهدد اللغة وآثار السلف ويتطاول إلى الدين نفسه، فإن مداره على الكتاب والسنة وهما باللسان العربي الفصيح، فنهض العلماء لمقاومة ذاك الخطر؛ فدوّنوا اللغة وأسسوا قواعدها وقيدوا شواردها، وكان من أهمّ ما اعتنوا بحفظه أشعارُ القُدماء لعلمهم أنها تراثهم وتاريخهم، وأنها المنبع المعين لمعرفة اللغة وقواعدها، وأنها هي المحكّ الذي يتيسر به نقد الحكايات والقصص عن أحوال الجاهلية، فكان العلماء لا يكادون يصغون

* تدوين الشعر

لحكايةٍ لا تتضمن شعرًا، فإن تضمنته بدؤوا بنقده، فإن وجدوه كما يعهدون من الشعر الجاهلي وكما يعرفون من طراز من نُسب إليه وثقوا به، وكان عندهم من أصدق الشواهد على صحة تلك الحكاية وإلا نبذوه وقالوا: "شعر مصنوع" وجعلوا ذلك دليلاً على اختلاق ذاك الخبر. * تدوين الشعر: من العلماء من دوّن الشعر بصفة دواوين للقبائل، كديوان أشعار هذيل. ومنهم من دوّنه بصفة دواوين لأفراد الشعراء، كديوان الأعشى وديوان النابغة. ومنهم من اختار عددًا من القصائد كالأصمعيات والمفضليات، ومنهم من انتخب قطعًا رتبها على حسب معانيها كالحماسة لأبي تمام. ومنهم من جمع الأبيات الغريبة المعاني المتأبَّية على أفهام أكثر الناس، وهي "أبيات المعاني". * أبيات المعاني: قال السيوطي في "المُزْهر" (ج 1 ص 275) في فصل الألغاز: " ... وأبيات لم تقصد العرب الإلغاز بها، وإنما قالتها فصادف أن تكون ألغازًا، وهي نوعان، فإنها تارة يقع الإلغاز بها من حيث معانيها، وأكثر أبيات المعاني من هذا النوع، وقد ألف ابن قتيبة في هذا النوع مجلدًا حسنًا، وكذلك ألف غيره، وإنّما سمّوا هذا النوع "أبيات المعاني"؛ لأنّها تحتاج إلى أن يسأل عن معانيها ... ". أقول: ومن تدبّر أبيات المعاني بأن له أنّ خفاء معانيها إنّما يكون غالبًا لغرابة الأسلوب وبُعْد المَأْخذ وطرافة الاستعارة، فهي لذلك من آيات البلاغة، ولم يكن يكاد يتعاطاها إلا فحول الشعراء، كأنهم إنّما يقصدون بها

* المؤلفون في هذا الفن

الدلالة على تفوّقهم في الشعر وتمكّنهم منه. ومن فوائد هذا النوع: أنّ قدماء العلماء باللغة والشعر قاموا بتفسيرها، فعلّموا الناس كيف يفهمون كلام العرب. * المؤلفون في هذا الفن: من المؤلفين في هذا الفن أبو الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش "الأوسط" المتوفى سنة 210، وقيل بعد ذلك، وعبد الرحمن بن عبد الله هو ابن أخي الأصمعي، وأبو نصر أحمد بن حاتم الباهلي المتوفى سنة 231، وأبو العميثل عبد الله بن خُليد مولى جعفر بن سليمان المتوفى سنة 240، وأبو عثمان سعيد بن هارون الأشنانداني، وأبو محمَّد عبد الله ابن مسلم بن قتيبة الدينوري المتوفى سنة 276، وأبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب المتوفى سنة 291، وأبو محمَّد عبد الله بن جعفر بن درستويه المتوفى سنة 347، ولم يطبع من هذه الكتب غير كتاب الأشنانداني. وبين أيدينا الآن أغزر تلك الكتب مادة وأحسنها ترتيبًا، وهو الذي خصّه السيوطي بالذكر، كتاب ابن قتيبة، وهو "كتاب المعاني الكبير". ***

التعريف بابن قتيبة

التعريف بابن قتيبة (¬1) هو الإِمام البارع المفسّر المحدّث الفقيه القاضي اللغوي النحوي الأديب الكاتب، أبو محمَّد عبد الله بن مسلم بن قتيبة، يقال له المروزي؛ لأنّ أباه كان من مرو، ويقال له الكوفي لأنّه ولد بها، وقيل بل ببغداد وبها أقام، ويقال له الدينوري؛ لأنّه ولي قضاءها فأقام بها مدة. * مبدأ أمره: ولد بلا خلاف سنة 213 بالكوفة، ويقال ببغداد وبها نشأ، ولا نعرف عن مبدأ أمره شيئًا، بل ولا رفعوا فيما وقفت عليه من تراجمه نَسَبه زيادةً على ما مرّ من تسمية أبيه وجده فقط، ولا ذكروا أَعَربيّ النسب هو أم مولى؟ غير أنّ الذي يشعر به اسم أبيه وجده أنّه عربي، وجُلّ ما يعرف عنه هو طلبه للعلم وتأليفه. * شيوخه: من شيوخه في الحديث والسنة والفقه: الإِمام العلم أبو يعقوب ¬

_ (¬1) له ترجمة في تاريخ بغداد للخطيب (10/ 170)، وفهرست ابن النديم (ص 115) ونزهة الألباء لأبي البركات ابن الأنباري (ص 272) والأنساب لابن السمعاني (ص 443 - الف)، وتاريخ ابن خلكان (1/ 314)، والميزان للذهبي طبعة مصر (2/ 77)، ولسان الميزان لابن حجر العسقلاني (3/ 357)، وشذرات الذهب (2/ 169)، وبغية الوعاة (ص 292)، ودائرة المعارف الإِسلامية (1/ 260)، عن البروفسور بروكلمان، وآداب اللغة العربية وتتمته له في الألمانية (1/ 320)، وفي مقدمة المجلد الرابع من كتاب عيون الأخبار لابن قتيبة ترجمة له واسعة بقلم الفاضل أحمد زكي العدوي. [المؤلف].

* الرواة عنه

إسحاق بن إبراهيم بن مخلد الحنظلي، المعروف بابن راهويه، المتوفى سنة 238، وفي اللغة والعربية والأدب وغيرها: أبو حاتم سهل بن محمَّد السجستاني المتوفى سنة 248 وقيل بعدها، وأبو إسحاق إبراهيم بن سفيان الزيادي المتوفى سنة 249، وأبو سعيد أحمد بن خالد الضرير، وأبو الفضل العباس بن الفرج الرياشي المتوفى سنة 257، وعبد الرحمن بن عبد الله بن أخي الأصمعي وغيرهم. * الرواة عنه: ممّن روى عنه ابنه أبو جعفر أحمد بن عبد الله بن مسلم (¬1) قاضي مصر المتوفى سنة 322، وأبو سعيد الهيثم بن كُلَيب الشاشي المتوفى سنة 334، وأبو محمَّد القاسم بن أصبغ القرطبي المتوفى سنة 340، وأبو محمَّد عبد الله بن جعفر بن درستويه المتوفى سنة 347 وغيرهم. * مكانته في معرفة الشعر: وإذ كان هذا الكتاب كتاب أدب، والعلوم الأدبية مدارها على معرفة النحو والمعرفة بالشعر ونقده، فحقٌّ علينا أن نشير إلى مكانة ابن قتيبة في ذلك. فأمّا مكانه في معرفة اللغة فيكفي شاهدًا لذلك كتبه في الغريب. وأمّا النحو والصرف فحسبك أنّ ابن قتيبة أوّل من جمع بين مذهبي الكوفيين ¬

_ (¬1) في ترجمته من "رفع الإصر عن قضاة مصر" لابن حجر: "أنه كان يحفظ مصنفات أبيه كلها كما يحفظ السورة من القرآن". ونحوه في "الديباج المذهب" (ص 25) وزاد "ويرد من حفظه النقطة والشكلة وما معه نسخة". [المؤلف].

والبصريين، فإنّه لا يقوم لذلك إلا من أتقن المذهبين وعرف الأصول التي تُبْنى عليها العلل والمقاييس عند الفريقين. وأمّا الشعر فدونك كتابه "الشعر والشعراء" وكلامه فيه وما ذكره في تراجم الشعراء ممّا يختار للشاعر وما يعاب عليه، وكذلك ما اختاره في كتابه "عيون الأخبار"، فأمّا هذا الكتاب "المعاني الكبير" فحدّث عنه ولا حرج. كان العلماء كالأصمعي وابن الأعرابي وغيرهما يظهرون التعصب على المُحْدَثين من الشعراء، ويزعمون أنّ الفضل كله للمتقدمين، ذكر إسحاق الموصلي أنّه أنشد الأصمعي هذين البيتين: هل إلى نظرة إليك سبيلُ ... يرو منها الصّدي ويُشْفَى الغليلُ إن ما قلّ منك يكُثر عندي ... وكثيرٌ ممن تحبّ القليلُ فقال الأصمعي: "هذا الديباج الخسرواني، هذا الوشي الإسكندراني، لمن هذا؟ " فأخبره إسحاق أنّ البيتين له، فقال الأصمعي: "أفسدته أفسدته، أما إن التوليد فيه لبين" (¬1)، وقال ابن الأعرابي: إنّما أشعار هؤلاء المُحْدَثين مثل أبي نواس وغيره مثل الريحان يشمّ يومًا ويذوي فيرمى به، وأشعار القدماء مثل المسك والعنبر كلّما حركته ازداد طيبًا" (¬2) فأنكر ابن قتيبة هذه الطريقة. قال في مقدمة كتابه "عيون الأخبار": "مذهبنا فيما نختاره من كلام المتأخرين وأشعار المُحْدَثين إذا كان مُتخيَّر اللفظ، لطيف المعنى، لم يُزْرِ به ¬

_ (¬1) الأغاني 5/ 71. [المؤلف]. (¬2) الموشّح ص 246. [المؤلف].

عندنا تأخُّر قائله، كما أنه إذا كان بخلاف ذلك لم يرفعه تقدمه". وقال في أوائل كتابه "الشعر والشعراء": "ولم أقصد فيما ذكرته من شعر كل شاعر مختارًا له سبيل من قلد أو استحسن باستحسان غيره، ولا نظرت إلى المتقدم منهم بعين الجلالة لتقدمه، ولا المتأخر منهم بعين الاحتقار لتأخره، بل نظرت بعين العدل على الفريقين، وأعطيت كلاًّ حقه، ووفرت عليه حظه، فإنيّ رأيت من علمائنا من يستجيد الشعر السخيف لتقدم قائله، ويضعه موضع متخيره، ويرذل الشعر الرصين، ولا عيب له عنده إلا أنه قيل في زمانه ورأى قائله. ولم يقصر الله الشعر والعلم والبلاغة على زمن دون زمن، ولا خصّ به قومًا دون قوم، بل جعل ذلك مشتركًا مقسومًا بين عباده، وجعل كل قديم منهم حديثًا في عصره، وكل شريف خارجيًّا في أوله، فقد كان جرير والفرزدق والأخطل يعدون مُحْدَثين، وكان أبو عَمرو بن العلاء يقول: "لقد نبغ هذا المُحْدَث وحَسُن حتى لقد هممت بروايته". "ثم صار هؤلاء قدماء عندنا بِبُعد العهد منهم، وكذلك يكون من بعدهم لمن بعدنا كالخريمي والعتابي والحسن بن هانئ، فكل من أتى بحَسَنٍ من قول أو فعل ذكرناه له، وأثنينا عليه به، ولم يضعه عندنا تأخر قائله، ولا حداثة سنه، كما أنّ الرديء إذا ورد علينا للمتقدم والشريف لم يرفعه عندنا شرف صاحبه ولا تقدمه". أقول: الظنّ بالعلماء أنهم إنما كانوا يظهرون التعصب للمتقدمين ترغيبًا للناس في حفظ أشعارهم وروايتها؛ لأنّها حجة في اللغة والعربية، فالشعر القديم حتى الرديء منه صالح لأن يحتجّ به في تثبيت اللغة وقواعد العربية وتفسير القرآن وشرح السنة؛ والشعر المولَّد حتى ما كان منه بغاية الجودة لا

يصلح للحجة في ذلك، فكان العلماء يرون أن حفظ أشعار المتقدمين والترغيب في حفظها وروايتها، وإن كان فيها ما هو رديء من الفروض المتعينة لحفظ اللغة والدين، بخلاف أشعار المولَّدين، يدلك على هذا أنّ العلماء قد كانوا يعيبون كثيرًا من أشعار المتقدمين، كما تراه في "الموشّح" للمرزباني وغيره. وقد كانوا يستجيدون كثيرًا من أشعار المولّدين، فقد أنشد الأصمعي بيتين لإسحاق الموصلي وهما: إذا كانت الأحرار أصلي ومَنْصبي ... ودافع ضيمي خازمٌ وابنُ خازم عطستُ بأنفٍ شامخٍ وتناولت ... يداي الثريا قاعدًا غير قائم "فجعل الأصمعي يعجب منهما ويستحسنهما، وكان بعد ذلك يذكرهما ويفضلهما" (¬1). وأنشد رجل ابن الأعرابي شعرًا لأبي نواس فسكت ابن الأعرابي، فقال له الرجل: أما هذا من أحسن الشعر؟ قال بلى، ولكن القديم أحب إليّ (¬2). وليس مقصود ابن قتيبة من كلامه في مقدمة "عيون الأخبار" و"الشعر والشعراء" المفاضلة بين المتقدمين والمتأخرين، ولا إثبات استواء الفريقين على الإطلاق، وإنّما مقصوده أنه يوجد في أشعار كل من الفريقين ما هو جيد وما هو رديء، فيجب في الحكم على الشعر بالجودة أو الرداءة أن ينظر إليه بحسب ما هو عليه. ¬

_ (¬1) الأغاني: 5/ 53. [المؤلف]. (¬2) الموشّح ص 246. [المؤلف].

* اختيار الشعر

وذكر في "الشعر والشعراء" أن طباع الشعراء تختلف، فمنهم من يسهل عليه فنٌ من الشعر كالمديح فيجيد فيه، ويتعسّر عليه غيره، فيجيء شعره فيه متكلفًا غير جيد، وذكر الأسباب والعوارض التي تعرض للشاعر، فمنها ما يبعثه على الشعر ويسهله له، فيجيء شعره مطبوعًا جيدًا، ومنها ما يثبطه وينكده عليه، فيجيء شعره متكلفًا رديئًا. قال: "وبهذه العلل تختلف أشعار الشاعر ورسائل الكاتب، وقالوا في شعر النابغة الجعدي: "خمار بواف، ومطرف بآلاف"، ولا أرى غير الجعدي إلا كالجعدي، ولا أحسب أحدًا من أهل المعرفة والتمييز نظر بعين العدل وترك طريق التقليد؛ يستطيع أن يقدم أحدًا من المتقدمين المكثرين على أحد، إلا أن يرى الجيد في شعره أكثر منه في شعر غيره". * اختيار الشعر: قال في "الشعر والشعراء": "وليس كل الشعر يُختار ويُحفظ على جودة اللفظ والمعنى، ولكنه قد يُختار على جهات وأسباب، منها الإصابة في التشبيه ... ومنه ما يُختار ويُحفظ لأنّ صاحبه لم يقل غيره ... وقد يختار ويحفظ لأنّه غريب في معناه ... وقد يحفظ ويختار أيضًا لنبل قائله" ذكر لكل نوع من هذه أمثلة، وذكر من أمثلة الأول الأبيات التي فيها: ونَبْلي وفُقَاها كَعَـ ... ـراقيبِ قطًا طُحْل ثم قال: "وهذا الشعر ممّا اختاره الأصمعيّ لخِفَّة رويه".

* أقسام الشعر

* أقسام الشعر: ثم قال في "الشعر والشعراء": "تدبرت الشعر فوجدته أربعة أضرب، ضربٌ منه حَسُن لفظه وجادَ معناه، كقول القائل: في كفِّه خَيزُرانٌ ريحُه عَبقٌ ... من كفِّ أروعَ في عِرْنينه شممُ يُغْضي حياءً ويُغضَى من مَهَابته ... فلا يُكلَّم إلا حين يبتسمُ لم يقل أحد في الهيبة أحسن منه ... " ثم ذكر أمثلة ثم قال: "وضرب منه حَسُن لفظه وحلا، فإذا أنت فتَّشته لم تجد هناك طائلًا كقول القائل: ولمّا قَضَينا مِن منًى كلَّ حاجةٍ ... ومسَّح بالأركان من هو ماسِحُ وشُدَّت على حُدْب المهاري رحالنا ... ولم ينظُرُ الغادي الذي هو رائحُ أخذنا بأطرافِ الأحاديثِ بيننا ... وسالت بأعناقِ المَطيِّ الأباطحُ وهذه الألفاظ أحسن شيء مطالعَ ومخارجَ ومقاطعَ، فإذا نظرت إلى ما تحتها وجدته: ولما قضينا أيام منى، واستلمنا الأركان، وعالينا إبلنا الأنضاء، ومضى الناس لا ينظر من غدا الرائح، ابتدأنا في الحديث، وسارت المَطي في الأبطح (¬1) .... ". ثم ذكر أمثلة: ثم قال: "وضرب منه جاد معناه، وقَصُرت الألفاظ عنه، كقول لبيد: ماعاتبَ المرءَ الكريمَ كنفسِه ... والمرءُ يُصلحه الجليسُ الصالحُ هذا وإن كان جيد المعنى والسبك فإنّه قليل الماء والرونق ... ". ثم ذكر أمثلة ثم قال: "وضرب منه تأخر لفظه وتأخر معناه، كقول الأعشى: ¬

_ (¬1) راجع أسرار البلاغة لعبد القاهر ص 14 - 17. [المؤلف].

* مكانته في علوم الأدب وغيرها

وفوهٌ كأقاحيَّ ... غَذَاهُ دائمُ الهَطْلِ كما شيب بماءٍ با ... ردٍ من عَسَل النحلِ (¬1) ويحسن بمن يحب أن يتحقق معرفة ابن قتيبة بالشعر أن يتأمل ما قدمه في كتابه "الشعر والشعراء" قبل التراجم، ثم ما اختاره في التراجم، فإنّ هذه الكلمة لا تتسع لاستيفاء البحث. * مكانته في علوم الأدب وغيرها: قال الخطيب في "تاريخ بغداد": "كان ثقة ديّنًا فاضلاً"، وقال ابن حجر العسقلاني في "لسان الميزان": "قال مسلمة بن قاسم: كان لغويًا كثير التأليف عالمًا بالتصنيف، صدوقًا من أهل السنة ... يقال: كان يذهب إلى قول إسحاق بن راهويه، وسمعت محمَّد بن زكريا بن عبد الأعلى يقول: كان ابن قتيبة يذهب مذهب مالك. وقال نفطويه: كان إذا خلا في بيته وعمل شيئًا جوّده، وما أعلمه حكى شيئًا في اللغة إلاَّ صَدَق فيه. وقال ابن حزم: كان ثقة في دينه وعلمه. وقال النديم: كان صادقًا فيما يرويه، عالمًا باللغة والنحو، وكتبه مرغوب فيها ... وقال السِّلَفي (¬2): كان ابن قتيبة من الثقات وأهل السنة. ¬

_ (¬1) البيتان في "الشعر والشعراء - ط شاكر": 1/ 69 هكذا: وفُوها كأقاحيَّ ... غَذَاهُ دائمُ الهَطْلِ كما شيب براحٍ با ... ردٍ من عَسَل النحلِ (¬2) الأصل: السفلي. تحريف.

وقال ابن خلكان: "كان فاضلاً ثقة ... وتصانيفه كلها مفيدة". وقال الشيخ تقي الدين ابن تيمية في تفسير سورة الإخلاص ص (86): "وابن قتيبة من المنتسبين إلى أحمد وإسحاق والمنتصرين لمذاهب السنة المشهورة، قال فيه صاحب كتاب "التحديث بمناقب أهل الحديث": وهو أحد أعلام الأئمة والعلماء والفضلاء، وأجودهم تصنيفًا، وأحسنهم ترصيفًا، له زهاء ثلثمائة مصنف ... وكان أهل المغرب يعظمونه، ويقولون: من استجاز الوقيعة في ابن قتيبة يتهم بالزندقة، ويقولون: كل بيت ليس فيه شيء من تصنيفه لا خير فيه" (¬1). وقال أبو البركات ابن الأنباري: "كان فاضلاً في اللغة والنحو والشرع، متفننًا في العلوم، وله المصنفات المذكورة، والمؤلفات المشهورة". وفي "لسان الميزان": "وقال [الخطيب] في [كتاب] "المتفق": شهرته ظاهرة في العلم، ومحله من الأدب لا يحقر". وفي "بغية الوعاة": قال الخطيب: "كان ¬

_ (¬1) حُملت كتب ابن قتيبة إلى المغرب في حياته أو بعده بقليل، فقد تقدم أن من الرواة عنه قاسم بن أصبغ القرطبي، وفي بعض الكتب في الرواة عنه أبو بكر المالكي. ورأيت في ترجمة ولد ابن قتيبة أحمد بن عبد الله بن مسلم من كتاب "رفع الإصر عن قضاة مصر" للحافظ ابن حجر نسخة المكتبة الآصفية بحيدراباد الدكن ما لفظه: "قال ابن زولاق في سيرة جوهر: دخل أبو أحمد عبد الواحد بن أحمد بن عبد الله بن قتيبة على جوهر ... فأجابه ... أي شيء يكون المصنف منك؟ قال: جدي، قال: كم كتبه؟ قال: أحد وعشرون كتابًا، فقال جوهر: أو أكثر بقليل. فقال جوهر: كان أبو جعفر البغدادي كَتبَ كُتُب ابن قتيبة وكان يفتخر بها، فورد على المهدي (العبيدي) الخبر أن ابن قتيبة ولي قضاء مصر فقال لأبي جعفر: نهنئك قد ولي ابن أستاذك القضاء" ... [المؤلف].

رأسًا في العربية واللغة والأخبار وأيام الناس". وقال ابن السمعاني: " ... وهو صاحب التصانيف كغريب الحديث ومختلف الحديث ... وغيرها من الكتب الحسنة المفيدة". وقال الشيخ تقي الدين ابن تيمية بعد ما تقدم: "قلت: ويقال هو لأهل السنة كالجاحظ للمعتزلة، فإنّه خطيب السنة، كما أنّ الجاحظ خطيب المعتزلة". وقال ابن الأثير في خطبة "النهاية" بعد ما ذكر تآليف القدماء في غريب الحديث: واستمرت الحال إلى زمن أبي عبيد ... فجمع كتابه المشهور ... قال فيما يُروى عنه: إنّي جمعت كتابي هذا في أربعين سنة ... إلى عصر أبي محمَّد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري رحمه الله، فصنّف كتابه المشهور في غريب الحديث ... ولم يودعه شيئًا من الأحاديث المدرجة في كتاب أبي عبيد إلا ما دعت إليه حاجة ... فجاء كتابه مثل كتاب أبي عبيد أو أكبر ... واستمرت الحال إلى عهد الإِمام أبي سليمان حَمْد بن محمَّد بن أحمد الخطابي ... فألّف كتابه المشهور ... سلك فيه نهج أبي عبيد وابن قتيبة، واقتفى هديهما. وقال في مقدمة كتابه بعد أن ذكر كتابيهما وأثنى عليهما ... "ذكر الخطابي مؤلفات أخرى ثم قال: ليس لواحد من هذه الكتب التي ذكرنا أن يكون شيء منها على منهاج كتاب أبي عبيد في بيان اللفظ وصحة المعنى، وجودة الاستنباط وكثرة الفقه، ولا أن يكون من جنس كتاب ابن قتيبة في إشباع التفسير وإيراد الحجة، وذكر النظائر، وتلخيص المعنى ... ". أقول: من تدبّر هذا علم علو درجة ابن قتيبة، فإنّ أبا عبيد جمع كتابه في غريب الحديث في أربعين سنة، ولا شكّ أنّه جمع الأحاديث المشهورة والآثار المتداولة، فلمّا جاء ابن قتيبة وحاول استدراك ما لم يذكره أبو عبيد

* غض بعضهم منه

فعمله أشق، ومع ذلك جمع كتابًا مثل كتاب أبي عبيد أو أكبر. وبالنظر إلى كثرة مصنفاته الأخرى يظهر أنّه قام بعمل كتاب غريب الحديث في سنوات قليلة. وقال ابن النديم في "الفهرست": "كان ابن قتيبة يغلو في البصريين إلا أنّه خلط المذهبين، وحكى في كتبه عن الكوفيين، وكان صادقًا فيما يرويه، عالمًا باللغة والنحو، وغريب القرآن ومعانيه، والشعر والفقه، كثير التصنيف والتأليف، وكتبه بالجبل مرغوب فيها". وقال بروفسور بروكلمان: "ويعتبر ابن قتيبة في كتب الأدب إمام مدرسة بغداد النحوية التي خلطت بين مذهبي البصرة والكوفة، والواقع أنّ مصنفات ابن قتيبة كمصنفات معاصريه، أمثال أبي حنيفة الدينوري والجاحظ، فقد تناولت جميع معارف عصره، وقد حاول أن يجعل اللغة والشعر - وخاصة ما جمعه منهما نحويو الكوفة - وكذلك الأخبار، في متناول الذين يعملون في الحياة العامة، ويرغبون في التعلم". * غضّ بعضهم منه: أخذ عليه أبو الطيب عبد الواحد بن علي اللغوي في كتابه "مراتب النحويين" (¬1): "أنّه قد خلط عليه بحكايات عن الكوفيين لم يكن أخذها". وذكر بعض مؤلفاته كالمعارف والشعر والشعراء وعيون الأخبار، فقال: "إنّ ابن قتيبة كان يشرع في أشياء ولا يقوم بها نحو تعرضه لأمثال هذه المؤلفات". ¬

_ (¬1) عن الترجمة المطبوعة في عيون الأخبار. [المؤلف].

أقول: أمّا الحكايات عن الكوفيين فلا حرج في ذلك، وأمّا ما زعمه من التقصير في بعض مؤلفاته فكتابه "المعارف" لم يحاول فيه الاستيعاب، وإنّما حاول جمع ما تشتد الحاجة إليه، ويحْسُن بالمتأدب استحضاره، ويسهل على الناس حفظه، على أن في صدر كتاب "الفاخر" عن الصولي: أنّ أبا بكر ابن الأنباري أخذ كتابه "الزاهر" من كتاب "الفاخر" للمفضل بن سلمة، كما أنّ قتيبة أخذ كتابه "المعارف" من كتاب "المحبر" لمحمد بن حبيب"، ولم يزل العلماء يستمدّ بعضُهم من بعض. وأمّا "الشعر والشعراء" فقد بسط ابن قتيبة مغزاه، وأوضح عذره في مقدمته في أنّه إنّما قصد جمع ما تشتد الحاجة إليه. وأمّا "عيون الأخبار" فمن طالعه بان له حيف عبد الواحد وتعنته. وفي "لسان الميزان": "وقال الأزهري في مقدمة كتاب "تهذيب اللغة": وأمّا ابن قتيبة فإنه ألّف كتابًا في مشكل القرآن وغريبه، وفي غريب الحديث ... وما رأيت أحدًا يدفعه عن الصدق فيما يرويه .. وهو كثير الحدس والقول بالظن فيما لا يحسنه ولا يعرفه، ورأيت أبا بكر بن الأنباري ينسبه إلى الغباوة وقلة المعرفة ويزري به". أقول: أمّا كلام ابن الأنباري فيكفي في دفعه ما قال الشيخ تقي الدين ابن تيمية في تفسير سورة الإخلاص ص (95) قال: "وابن الأنباري من أكثر الناس كلامًا في معاني الآي المتشابهات، يذكر فيها من الأقوال ما لم يُنْقَل عن أحد من السلف، ويحتجّ لما يقول في القرآن بالشاذ من اللغة، وقصده بذلك الإنكار على ابن قتيبة، وليس هو أعلم بمعاني القرآن والحديث من ابن قتيبة، ولا أفقه في ذلك، وإن كان ابن الأنباري من أحفظ الناس للغة،

* حياته

لكن باب فقه النصوص غير باب حفظ اللغة". فحاصل هذا أنّ ابن قتيبة يقف عند أقوال أئمة السلف وما يشبهها، وابن الأنباري يوسِّع في التأويل. وقد قال ابن قتيبة في خطبة كتابه "غريب الحديث" (¬1): "وكتابنا هذا مستنبط من كتب المفسرين، وكتب أصحاب اللغة العالمين، لم نخرج فيه عن مذاهبهم، ولا تكلفنا في شيء منه بآرائنا غير معانيهم، بعد اختيارنا في الحرف أولى الأقاويل في اللغة وأشبهها بقصة الآية، ونَبَذْنا منكر التأويل ومنحول التفسير"، وكان هذا الاختلافِ بين الرجلين يرجع إلى اختلاف ما في المذهب، كما يشير إليه كلام ابن تيمية. وأمّا الأزهري فإنّما ينعي على ابن قتيبة كلمات رأى أنّه أخطأ فيها، كما ترى بعض أمثلة ذلك في مادة (ب ع ل) من "لسان العرب"، وقد نعى الأزهري نحو ذلك على أبي عبيد وغيره من الأئمة، ومن تتبع كلام أئمة اللغة والغريب علم أنّهم كثيرًا ما يقولون في بعض الكلمات باجتهادهم، والعالم يضطر إلى مثل ذلك فيصيب ويخطئ، والأزهري نفسه لا يدعي لنفسه العصمة. * حياته: يظهر أنّ حياة ابن قتيبة كانت حياة هادئة، إنّما أولها في طلب العلم وآخرها في تصنيف الكتب وإملائها، ولم يُنقل عنه كبير اختلاط برجال الدولة، إلا أنّه ولي قضاء الدينور، فأقام بها مدة حتى نُسِب إليها، ثم عاد إلى ¬

_ (¬1) عن الترجمة المطبوعة في عيون الأخبار. [المؤلف].

* وفاته

بغداد فقضى فيها بقية عمره في جمع العلم ونشره، ويظهر أنّه كان له علاقة علمية بالوزير أبي الحسن عبيد الله بن يحيى بن خاقان، وزير الخلافة ببغداد، فإنّه ذكره في صدر كتابه "أدب الكاتب"، وأثنى عليه، فكأنّه ألفه باسمه. * وفاته: قال الخطيب في "تاريخ بغداد": "قرأت على الحسن بن أبي بكر، حدثنا أحمد بن كامل القاضي قال: ومات عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري في ذي القعدة سنة 270، أخبرنا محمَّد بن عبد الواحد، حدثنا محمَّد بن العباس، قال: قُرئ على ابن المنادي وأنا أسمع قال: ومات عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري صاحب التصانيف فجأة، صاح صيحةً سُمعت من بُعْد، ثم أغمي عليه ومات. قال ابن المنادي: "إنّ (¬1) أبا القاسم إبراهيم بن محمَّد بن أيوب بن بشير الصائغ أخبرني أن ابن قتيبة أكل هريسة، فأصابته حرارة، ثم صاح صيحة شديدة، ثم أغمي عليه إلى وقت صلاة الظهر، ثم اضطرب ساعة ثم هدأ، فما زال يتشهد إلى وقت السحر، ثم مات، وذلك أول ليلة من رجب سنة ست وسبعين". وقال ابن خلكان: "توفي في ذي القعدة سنة سبعين، وقيل: إحدى وسبعين، وقيل: أول ليلة من رجب سنة ست وسبعين ومائتين، والأخير أصح الأقوال". ¬

_ (¬1) في (ط): "قم أن"! ولعلها: "ثم إن".

* تراثه العلمي ومؤلفاته

* تراثه العلمي ومؤلفاته: تقدم عن صاحب كتاب "التحديث بمناقب أهل الحديث" أن له زهاء ثلثمائة مصنف، ونقل عن النووي أنّ له نحو ستين مصنفًا، وذكر ابن النديم اثنين وثلاثين كتابًا. وفي ترجمة ولد ابن قتيبة أحمد من كتاب "رفع الإصْر عن قضاة مصر" أنّ القائد جوهرًا مولى العبيدين سأل حفيد ابن قتيبة عن مصنفات جده فقال: "واحد وعشرون"، فقال جوهر: "أو أكثر بقليل". وفي الترجمة المطبوعة في المجلد الرابع من كتاب "عيون الأخبار" بقلم الأستاذ أحمد زكي العدوي بيان ضافٍ لتلك المصنفات، وأسماء ما عُرِف منها وما يتعلق بها، ذَكَر 48 مصنفًا فلتراجع هناك، وأقْتصِر هنا على كتاب المعاني. ***

كتاب المعاني الكبير

كتاب المعاني الكبير تقدم عن "المزهر" للسيوطي في الكلام على أبيات المعاني: "وقد ألف ابن قتيبة في هذا النوع مجلدًا حسنًا"، وذكر البغدادي في "خزانة الأدب" (ج 1 ص 9) الكتب التي استمدَّ منها وفيها: "وأبيات المعاني لابن قتيبة في مجلدين ضخمين" (¬1). وفي ترجمة أحمد بن عبد الله بن مسلم بن قُتيبة من كتاب "رفع الإصر عن قضاة مصر" للحافظ ابن حجر ذكر في جملة مصنفات ابن قتيبة و"معاني الشعر". وأيضًا وجدنا في ترجمة أحمد في "الديباج المذهب" (ص 35) في تعداد مصنفات أبيه ابن قتيبة "ومعاني الشعر". وفي "فهرست ابن النديم" عند ذكر ابن قتيبة: "وله من الكتب كتاب معاني الشعر الكبير ويحتوي على اثني عشر كتابًا منها: 1 - كتاب الفرس، ستة وأربعون بابًا. 2 - كتاب الإبل، ستة عشر بابًا. 3 - كتاب الجرب، عشرة أبواب. 4 - كتاب العرور، عشرون بابًا. 5 - كتاب الديار، عشرة أبواب. 6 - كتاب الرياح، إحدى وثلاثون بابًا. 7 - كتاب السباع والوحوش، سبعة عشر بابًا. ¬

_ (¬1) لا منافاة بين القولين، يمكن أن قطع هذين المجلدين كان صغيرًا. [المؤلف].

8 - كتاب الهوام، أربعة عشر بابًا. 9 - كتاب الأيمان والدواهي، سبعة أبواب. 10 - كتاب النساء والعزل، باب واحد. 11 - كتاب النسب واللبن، ثمانية أبواب. 12 - كتاب تصحيف العلماء، باب واحد. وذكر بروفسور بروكلمان "كتاب المعاني" الذي ذكره ابن النديم، ثم قال: "ومن المحتمل أن يكون عين كتاب "أبيات المعاني"، موجود بمكتبة آيا صوفيا رقم 4050". وذكر الفاضل أحمد زكي العدوي مصنفات ابن قتيبة، فذكر فيها عدد (21) "معاني الشعر الكبير ... " ساق عبارة ابن النديم، ثم كتب عدد (22)، وقال "كتاب المعاني في خزانة أيا صوفيا رقم 4050، الجزء الأول من كتاب المعاني لابن قتيبة، وهذا الجزء في كتاب الخيل (¬1). وفي المكتب الهندي بلندن الجزء الثاني منه، وأوله باب الذباب (¬2)، ويحتمل أن يكون هذان الجزءان من الكتاب السابق". أقول: قد تصفَّحتُ النقل عن هذين الجزئين، فتبين لي أنّهما من كتاب ¬

_ (¬1) هو الذي عبَّر عنه ابن النديم بكتاب الفرس، وكذلك فيه كتاب السباع والوحوش وكتاب الطعام والضيافة وهذا الجزء في الأصل على 539 صفحة. [المؤلف]. (¬2) وفي هذا الجزء كتاب الذباب وكتاب الهوام أو كتاب الوعيد والبيان ... والأيمان والدواهي وكتاب الحرب وكتاب الميسر ... والشيب والكبر وفيه بعض خروم وناقص من آخره. الموجود منه 272 ورقة وهو في مكتب الهند بالقسم العربي رقم (1155). [المؤلف].

المعاني الذي ذكره ابن النديم، وممّا يدلّ على ذلك أولاً أن هذين الجزئين من تصنيف ابن قتيبة حتمًا لشواهد كثيرة، منها ما تشاهده في الجدول الآتي: في عيون الأخبار لابن قتيبة .................. كتاب المعاني ص (110) من (1/ 157 - 158): "وأنشدني أبو .......... مطبوعنا "وأنشد أبو عبيدة هذا حاتم عن أبي عبيدة ... قال أبو ............ الشعر .. وقال [أبو حاتم] حاتم: أحسبه لعبد الغفار ................. السجستاني: هو لعبد الغفار الخزاعي ............................... الخزاعي: ذاك وقد أذعَرُ الوحوشَ بصَلْـ .......... ذاك وقد أذعَرُ الوحوشَ بصلـ ـتِ الخدِّ رَحْبٍ لَبانُه مُجْفَرْ ........... ـتِ الخدّ رَحْبٍ لَبانُه مجفرْ طويلُ خمسِ قصيرُ أربعةٍ ............ طويلُ خمسٍ قصيرُ أربعةٍ عريضُ سِتِّ مقلِّصٌ حَشْوَرْ .......... عريضُ ستِّ مقلِّص حَشْوَرْ ... وقد فسَّرت هذا الشعر في ....... قال: قال أبو عبيدة: طويل العنق كتاب المؤلف في "أبيات ............. طويل الأذنين طويل الذراعين المعاني" في خلق الفرس. .......... طويل الأقراب طويل الناصية". **** أنشد ابن السِّيد في الاقتضاب ص .. كتاب المعاني الكبير ص (217) (302) قول الأعلم يصف ضبعًا: ... من مطبوعنا: عشنزرةٌ جواعرها ثمانُ ........... عشنزرةٌ جواعرها ثمانُ فويق زماعها وشم حجولُ .......... فويق زماعها وشم حجولُ ..................................... العشنزرة: لغليظة.

ثم قال: "وذكر ابن قتيبة ... في ........... وسألت الرياشي عن قوله: كتابه الموضوع في معاني الشعر .......... "جواعرها ثمان" فقال: الجواعر سألت الرياشي عن قوله: .................. أربع وهي في موضع رقمتي "جواعرها ثمان" فقال: الجواعر ........... الحمار، ومواصل أطراف عظام أربع وهي في موضع الرقمتين من ........ وأراه أراد زيادة في تركيب مؤخر الحمار، وأراه أراد زيادة في ........ خلقها". تركيب خلقها" ................................................ **** أنشد البغدادي في "خزانة الأدب" ........ وفي كتاب المعاني الكبير (ج 4 ص 20) لامرئ القيس يصف .... (ص 60) من مطبوعنا: "وقال فرسًا: ................................... امرؤ القيس: إذا أقبلت قلت دُبّاءة ................... إذا أعرضت قلت دباءة من الخضر مغموسة في الغدر .......... من الخضر مغموسة في الغدر وقال ابن قتيبة في أبيات المعاني: ....... وفسره بقوله: يقول: كأنّها من يقول: كأنّها من بريقها قرعة، ........... بريقها قرعة، وليس يريد أنّها وليس يريد أنّها مغموسة في الماء، .... مغموسة في الماء، ولكنّه أراد أنها ولكنّه أراد أنها في رِيّ، فهو أشد ..... في رِيّ، فهو أشد لملاستها، وهذا لملاستها، وهذا كقولك: فلان .......... كقولك: فلان مغموس في الخير، مغموس في الخير، وقال بعضهم: .... وقال بعضهم: إناث الخيل تكون

إناث الخيل تكون في الخِلْقة .............................. في الخِلْقة كالقَرْعة، يدق مقدمها كالقَرْعة، يدق مقدمها ويعظم .............................. ويعظم مؤخرها". مؤخرها" ................................................. **** في "الخزانة" (ج 3 ص 642) ........................... كتاب المعاني الكبير (ص 84 - "أنشده ابن قتيبة في أبيات ................................ 85) من مطبوعنا، وقال آخر: المعاني ................................................. فأعقب خيرًا كلّ أهوج مهرجِ" (؟) ......................... فأعقب خيرًا كلّ أهوج ممرجِ وكل مفداة العلالةِ صلدمِ ................................... وكل مفداة العلالةِ صلدمِ قال: أي أعقبتهم خيلهم هذا (؟) ........................... أي: أعقبتهم خيلهم هذه خيرًا ممّا خيرًا مما قاموا عليها وصنعوها، ............................ قاموا عليها وصنعوها، والأهوج والأهوج الذي يركب رأسه، ................................. الذي يركب رأسه، والممرج والمهرج (؟) بكسر الميم الكثير ............................ الكثير الجري، وقوله: "مفداة الجري، وقوله: "وكل مفداة .................................. العلالة" يقال لها إذا طلب العلالة" يقال لها إذا طلب ................................... علالتها، وهي بقية جريها: ويها علالتها، وهي بقية جريها: ويها ............................... فدى لك. ومثله لطفيل: فدا لك. ومثله قول طفيل: .................................. وللخيل أيام فمن يصطبر لها وللخيل أيام [فمن يصطبر لها ................................ ويعرف لها أيامها الخير تعقبُ ويعرف لها أيامها الخير تعقبُ ................................ والعرب لكثرة انتفاعها بالخيل والعرب لكثرة انتفاعها بالخيل ................................ تسميها: الخير، قال الله تعالى:

تسميها: الخير، قال الله تعالى: ............................. {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي .................. حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص: 32] حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص: 32] ................... ذكروا أنّه لها بالخيل وبالنظر ذكروا أنّه لها بالخيل وبالنظر ................................. إليها، حتى فاتته صلاة العصر، إليها، حتى فاتته صلاة العصر، ............................... وقال أبو ميمون العجلي: فالخيل وقال أبو ميمون العجلي: فالخيل ............................. والخيرات كالقرينين". والخيرات كالقرينين". ............................................................ في الخزانة (ج 1 ص 65) "من .............................. وفي كتاب المعاني الكبير (ص أبيات أربعة رواها الرواة لتأبط ................................. 208 - 209)، وقال: تأبط شرًّا: شرًّا منهم .... وابن قتيبة في أبيات ............................ ووادٍ كجَوْف العير قفرٌ قطعته المعاني ... والأبيات هذه: .................................... به الذئبُ يعوي كالخليع المعيلِ وقربة أقوام جعلت عصامها .................................... الخليع: الذي قد خلعه أهله على كاهل مني ذلول مرحلِ .................................... لجناياته، والمعيَّل: الذي ترك ووادٍ كجَوْف العير قفرٌ قطعته .................................. يذهب ويجيء حيث شاء ... به الذئب يعوي كالخليع المعيَّلِ ................................ طرحت له نعلاً من السبت طلة فقلتُ له لما عوى إن شأننا .................................... خلاف ندى من آخر الليل مخضلِ قليلُ الغنى إن كنت لمّا تموّلِ .................................. وقلتُ له لما عوى إنّ ثابتًا كلانا إذا ما نال شيئًا أفاته ..................................... قليل الغنى إن كنت لما تمولِ ومن يحترث حرثي وحرثك يهزلِ ............................... كلانا مضيعٌ لا حراثة عنده ............................................................. ومن يحترث حرثي وحرثك يهزل

إلى أن قال: "والخليع قال ابن ................................. يقول: إن كنت لا مال لك فأنا لا قتيبة في أبيات المعاني هو الذي ............................... مال لي، وثابت اسم تأبط شرًّا، لا قد خلعه أهله، والمعيل الذي تُرِك .............................. حراثة عنده، أي: ليس عنده يذهب ويجيء حيث شاء، .................................... إصلاح مال". وروى ابن قتيبة: وقلت له لما ........................................................... عوى إن شأننا (؟) ... كلانا مضيع ....................................................... لا خزانة (؟) ............................................................................... **** شرح ديوان امرئ القيس للوزير ................................ وفي كتاب المعاني الكبير أبي بكر عاصم بن أيوب ...................................... (ص 20) من مطبوعنا: "وقال (ص 16): "وقال القتيبي يروي: .............................. امرؤ القيس: لها وثباتٌ كصوبِ السحاب .................................. لها وثباتٌ كصوبِ السحاب فوادٍ خطيط ووادٍ مطر ........................................ فوادٍ خطيط ووادٍ مطر الخطيطة: أرض لم تمطر بين .................................. الخطيطة: أرض لم تمطر بين أرضين أرضين ممطورتين، ويستحب .................................. ممطورتين، ويستحب سعة شحوة سعة سحرة (؟) الفرس فجعل .................................. الفرس، فجعل شحوته - وهي ما بين سحويه (؟) وهو (؟) ما بين حافر .............................. حافريه من الأرض - خطيطًا، (؟) من الأرض خطيطًا وموضع ................................ وموضع الحافر غيثًا". الحافر مغيثًا" ...............................................................................

وفي شرح ديوان امرئ القيس مواضع أخرى، لكنّه لا يسمي الكتاب، بل يقول: "وقال القتيبي" وعامة ذلك من هذا الكتاب "كتاب المعاني". **** شرح ديوان النابغة للوزير أبي بكر ............................ كتاب المعاني الكبير (ص 1015) عاصم بن أيوب (ص 3) قول ..................................... "وقال النابغة: النابغة: .......................................................... لئن كان للقبرَيْن قبر بجلّقٍ ................ لئن كان للقبرَيْن قبرٌ بجلّقٍ وقبرٌ بصيداء الذي عند حاربِ ................... وقبرٌ بصيداء الذي عند حاربِ وللحارث الجفني سيد قومه ........................... وللحارث الجفني سيد قومه ليلتمسنْ بالجيش دار المحاربِ ............... ليلتمسنْ بالجيش دار المحاربِ وقال في شرح ذلك (ص 4): ..................................... هذا تحضيض على الغزو يقول: "وقال القتيبي: هذا تحضيض على .................................. لئن كان ابن هؤلاء الذين سميتَ الغزو يقول: لئن كان ابن هؤلاء ...................................... ووصفتَ مكان قبورهم ليغزون الذين سميتَ ووصفتَ مكان ........................................ بالجمع دار من يحاربه". قبورهم ليغزون بالجيش دار من ........................................................ يحاربه" .............................................................................. **** وفي شرح ديوان النابغة مواضع كثيرة يقول فيها: "قال القتيبي ... " ولا يسمي الكتاب، وعامة ذلك من هذا الكتاب "المعاني الكبير".

ولم يذكر أحد من مترجمي ابن قتيبة أنّ له كتابين في هذا الفن، إنّما المعروف له كتاب واحد، فما وقع في "فهرست ابن النديم": "كتاب المعاني الكبير" لعله إشارة إلى أنه أكبر من كتب المعاني التي ألفها غير ابن قتيبة. ثانيًا: قابلت التفصيل الذي ذكره ابن النديم بما في الجزئين فلم أجد فيهما خمسة من الكتب الضِّمْنية التي ذكرها، وهي الثاني والخامس والسادس والعاشر والثاني عشر. وأمّا السبعة الكتب الباقية فتبين لي أنّها في الجزئين، أكثر ذلك بوضوح وبعضه برجوح، وذلك أنّه وقع في بعض الألفاظ في "فهرست ابن النديم" تصحيف، ووقع في الجزئين مخالفة في الترتيب وغير ذلك كما ترى بيانه في الجدول الآتي: تفصيل ابن النديم مما يطابقه من الموجود من هذا الكتاب. 1 - كتاب الفرس: ................................. الجزء الأول المجلد الأول (ص 2 - 180) من (ستة وأربعون بابًا). ................................. مطبوعنا الجزء الأول في كتاب الخيل "أبيات ..................................................... المعاني في الخيل" ثم ساق الكلام وعدد .................................................... العناوين كما سترى في "الفهرست" ستة .................................................... وخمسون. 2 - كتاب الإبل: ................................. مفقود، وقد أحال عليه المؤلف في مواضع (ستة عشر بابًا) .................................... منها ص (14)، قال: "وللعرق باب ألّفته في .................................................... كتاب الإبل فيه أبيات المعاني في عرق الإبل، .................................................... ومنها ص (81) قال: "وقد فسّر في كتاب .................................................... الإبل".

3 - كتاب الجرب: ................................. الجزء السادس ص (879 - 1146) من (عشرة أبواب) ........................................ مطبوعنا "الأبيات في الحرب" ثم ساق ....................................................... الأبواب المناسبة "الطعنة والشجة والضربة ....................................................... في الديات في الثأر ... " وهي عشرة أبواب. ....................................................... فالظاهر أنّ كلمة "الحرب" تصحفت في ....................................................... فهرست ابن النديم، والذي أوقع في ذلك ....................................................... مجاورة الإبل، فإن الجرب من أدوائها. 4 - كتاب العرور: .................................. الجزء الثالث ص (365 - 602) من مطبوعنا (عشرون بابًا) ....................................... "الثالث من كتاب المعاني لابن قتيبة، وهو كتاب ....................................................... الطعام والضيافة ... أبيات معان في القدور" ثم ....................................................... ذكر بعد ذلك أبوابا "في الجفان، في الرحا، .... ..................................................... وهي عشرون بابًا، فيظهر أنّ ابن النديم إنّما قال: ....................................................... "باب القدور ... " فتصحَّفت الكلمة في النسخة، ....................................................... أوقع في ذلك مجاورة الجَرَب والإبل, لأنّ ....................................................... العرور من أدواء الإبل كالجَرَب. 5 - كتاب الديار: .................................... مفقود، وقد أحال عليه المؤلف في النصف (عشرة أبواب) ........................................ الثاني، الورقة الأصل (243 ألف)، ذكر بيت ....................................................... النابغة: ....................................................... كأنّ مجرّ الرامسات ذيولها ....................................................... عليه حصير نمقته ....................................................... الصوانع ثم قال: "وقد فُسَّر في موضعه في ....................................................... وصف الديار".

6 - كتاب الرياح: ................................. مفقود (أحد وثلاثون بابًا) .......................................................................... 7 - كتاب السباع ................................. الجزء الثاني ص (181 - 364) من مطبوعنا والوحوش: ......................................... "الجزء الثاني فيه الأبيات في صفة الذئب ................................................... والأرنب والضبع والكلاب والأسد ... "، ................................................... والأبواب سبعة عشر كاملاً. 8 - كتاب الهوام ... : ............................ الجزء الرابع ص (306 - 792) "أبيات في (أربعة عشر بابًا) .................................... الذباب" وسقطت قبل ذلك ورقة، ثم أبيات ................................................... في البعوض، وأبواب أخرى: الجراد، النحل، ................................................... الجعل ... الحية، العقارب، ضروب من ................................................... الهوام"، وعناوينه ثلاثة وعشرون. 9 - كتاب الأيمان ................................. الجزء الخامس ص (793 - 872) من والدواهي: .......................................... مطبوعنا "الجزء الخامس في الوعيد والبيان (سبعة أبواب) ....................................... والخطابة ... والأيمان ... والداهية ... " ................................................... وعناوينه ستة. 10 - كتاب النساء ................................. مفقود والعزل (والغزل؟) ............................................................................ 11 - كتاب النسب ................................. الجزء السابع، المجلد الثالث من مطبوعنا واللبن: ................................................ "السابع من كتاب المعاني ... الميسر والشعر (ثمانية أبواب) ......................................... والشعراء والشيب والكبر وغير ذلك، وأبوابه ................................................... ثمانية كاملاً، فكأن كلمتي "الشيب والكبر" ................................................... تصحفت في نسخة "الفهرست".

12 - كتاب تصحيف .................................... مفقود العلماء: ................................................................................. (باب واحد) .............................................................................. وممّا يصحح القياس في تصحيف "الجرب" عن "الحرب"، وتصحيف "العرور" عن "القدور"، وتصحيف "النسب واللبن" عن "الشيب والكبر" أمور: الأول: أنّ عدد الأبواب في تلك الكتب على ما ذكره ابن النديم موافق لعدد الأبواب في كتابنا "في كتاب الحرب" و"كتاب الطعام والضيافة" و"كتاب الميسر ... والشيب والكبر". والثاني: أنّ من يعرف الأدب العربي لا يخفى عليه أن الجرب والعرور لم يأت فيهما من الشعر ما يمكن أن يُجْمع من أبيات المعاني منه كتابان يحتوي الأول على عشرة أبواب، والثاني على عشرين بابًا، وإنّما حقهما أن يكون لهما باب أو بابان في كتاب الإبل. الثالث: أنّه لو فرض أنّ هذا الكتاب غير كتاب "المعاني الكبير" الذي ذكره ابن النديم، وأنّ في ذاك كتابين للجرب والعرور، لكان ذاك الكتاب خاليًا من ذكر الحرب، وذكر الطعام والضيافة، فكيف يعقل أن يهمل ابن قتيبة في ذاك الكتاب الكبير والحرب والطعام والضيافة مع عظم أهميتهما وكثرة الأشعار فيهما، ويعتني بالجرب والعرور؟ فأمّا اختلاف عدد الأبواب فأقرب ما يوجَّه به اختلاف النسخ، وأيضًا من العناوين ما يكتب أوله لفظ "باب"، ومنها ما لا يكتب فيه ذلك، فيمكن أن

تكون بعض العناوين ضمنية، ويكون ما تحتها داخلا في الباب السابق، وذلك ممّا ينشأ عنه اختلاف عدد الأبواب. قد سلف الإشارة إلى مكانة الشعر العربي ثم إلى مكانة فن أبيات المعاني وتفسير علماء السلف لها. وههنا نذكر خصائص أخر لهذا الكتاب، فمنها: 1 - أنّه مُتكفِّل بجمع غالب أبيات المعاني، وبقية كتب الفن مفقودة إلا كتاب الاشنانداني وهو مختصر جدًّا، لا يكاد يبلغ نصف عشر الموجود من هذا الكتاب. 2 - لم يقتصر ابن قتيبة على ذكر العويص من الشعر، بل أتى به وبما يقرب منه وما يتصل به وما يناسبه في معناه، فأصبح بذلك ذخيرة أدبية عظيمة. 3 - في الكتاب طائفة غير قليلة من الأشعار التي لا توجد في الكتب المطبوعة، ومنها ما يُشكّ في وجوده فيما أبقته يدُ الحَدَثان من المخطوطات، من ذلك أرجوزتان طويلتان [و] لامية في الخيل أيضًا. 4 - فيه أشعار كثيرة توجد في الكتب الأخرى، لكنّها فيها غير مفسرة، وهي فيه مفسرة بالتفسير الواضح. 5 - المؤلف من الأئمة الذين يُسْتند إلى قولهم ونقلهم في اللغة والغريب، وفي هذا الكتاب جملة كبيرة من ذلك، بحيث يصح أن يُعدّ كتاب لغة لا كتاب أدب وشعر فقط.

6 - عامة الألفاظ اللغوية المفسرة فيه إنّما هي واردة في الأشعار التي يفسرها، وفي ذلك أعظم فائدة لتحقيق ضبط الكلمة ومعناها وموضع استعمالها، ومن أمثلة ذلك أنّ في "تاج العروس شرح القاموس" (وق ي): "التقيا: شيء يتقي به الضيف أدنى ما يكون" فأخذ هذه العبارة صاحب "أقرب الموارد"، وزاد فضبط "التَّقْيا" بفتح التاء وسكون القاف، وفي هذا الكتاب ص (424): "وأنشد: قَرانا التُّقَيَّا بعد ما هبّت الصبا" ثم قال: "التقيا: شيء يُقراه الضيف يتقي به الأذى، بقدر ما تقول: أطعمته شيئًا". فبان بوزن الشطر الذي أورده أن ضبط "أقرب الموارد" خطأ، واتضح معنى الكلمة، وثبتت عربيتها؛ لأنّها في "التاج" غير منسوبة إلى كتاب ولا إمام. 7 - يوجد فيه من الألفاظ اللغوية أو الصِّيَغ ما لا يوجد في المعاجم المطبوعة، من ذلك ما في ص (474) لعدي بن زيد: ووطيد مستعل سيبه ... عاقد الأيام والدهر يُسنّ قال: "الوطيد الملك"، ولم نجد هذا في المعاجم، ولا هناك مظنة لتصحيف أو تحريف. ومن ذلك أنّه أنشد في ص (576) لأبي النجم: عيرًا يُكَدّ ظهرُه بالأفْوُقِ ... حمارَ أهِلِ غير أن لم ينهَقِ ثم قال: "أي يكد بالذل، فواقًا بعد فواق". وهذا يعطي أن الأفوق جمع فواق، ولم نجده في المعاجم. وأثمن من هذا وأجدى أنّ فيه مواضع يتبين بها خطأ أصحاب المعاجم وتصحيفهم، منه ما في ص (446) أنشد لابن مقبل:

سقتني بصهباء درياقةٍ ... متى ما تُليِّنْ عظامي تَلِنْ صُهابيةٌ مُترعٌ دنُّها ... تُرجَّع في عودِ وعسٍ مُرِن وفسره بقوله: "أي ترجَّع الخمر في هذا القدح، تعرف منه فيوالي عرفها ويُشرب وهو ترجيعه، وعسا لموالاة العَرف والحاجة، كما تواعس أنت الأرض فتلحّ عليها وتطؤها، عود يعني قدحًا، والمرن الذي يُرِنّ إذا شُرب أطرب صاحبه حتى يَرنّ أي يتغنى ويترنّم ... "، ونقلتُ في التعليق عن القدماء ما يوافق قول المؤلف: أنّ البيت الثاني في وصف الخمر، وأنّ كلمة "عود" أريد بها القدح، إلا أنّ بعضهم قال: الوعس هنا الرمل، ومعنى عود وعس عود رمل، وعني به قدح زجاج، فإنّ الزجاج يعمل من الرمل، فجاء بعض المتأخرين فتصحف عليه الشطر الأول، وحَدَس أنّ البيت في وصف مغنية، وأنّ المراد بالعود عود الطرب، وأنّ الوعس ضرب من الشجر، فتبعه أصحاب المعاجم من المتأخرين، فزعموا أنّ الوعس ضرب من الشجر تُعْمَل منه البرابط، وهذا كله حدس، ولا يثبت في اللغة أنّ الوعس شجر. 8 - لم يسق ابن قتيبة الأشعار التي يريد تفسيرها مفرقة كيفما اتفق، بل رتّب وبوّب وهذّب، فقسّم الكتاب أولاً إلى أجزاء بحسب موضوعاتها، كما تقدم، فالجزء الأول في الخيل. ثمّ رتّبه على أبواب، بدأ أولاً بأبيات أبي دواد: لقد ذعرتُ بناتِ عـ ... ـمِّ المرشقاتِ لها بصابِصْ بمجوَّفٍ بلقًا وأعـ ... ـلى لونه وردٌ مُصامِصْ ككنانةٍ الزُّغَرى زَيَّـ ... ـنها من الذهب الدُّلامِصْ

يمشي كمشي نعامَتَيْـ ... ـن تتابعان أشقَّ شاخصْ يخرجن من خلل الغبا ... فجامِزُ الوَلَقى وقابصْ وأبيات أخرى تتعلّق بألوان الخيل، فظهر أنّ تلك المقدمة في وصف ألوان الخيل، ثم ذكر الأبواب: العرق، اضطرام العدو وحفيفه، في وثبها، لحوق الخيل بالصيد، الميل في أحد الشقين، جريها ومشيها، ما يشبَّه به جريها ومشيها، التشبيه بالعقاب، التشبيه بالبازي، التشبيه بالصقر، التشبيه بالنعامة. وتراه يتحرّى حُسْن التخلُّص من باب إلى باب، مع مراعاة المناسبة. ويجمع بين النظائر ويضم الشيء إلى مثله والشكل إلى شكله، وبذلك يتهيأ للمُطالع الإحاطة بكل موضوع في مكان واحد، ويتسنّى للمراجع أن يظفر ببغيته في موضع معين. ومن أثمن ما فيه جمع الأشعار الغريبة البديعة في صفات الوحوش والطير والهوام والحشرات؛ كالأشعار في الذئب، والأشعار في القطا، والأشعار في الحية، والأشعار في النحل، وفي هذه الأبواب وغيرها من الأشعار الوصفية الرشيقة ما لا غايةَ بعده في إطراب أرباب الذوق. جلُّ الفضل في إحياء هذا الكتاب الجليل لجناب المستشرق الكبير الدكتور كرنكو، وذلك أن البحاثين لم يجدوا لهذا الكتاب أثرًا في مكاتب العالم، إلا أنهم عثروا على جزء منه في خزانة أيا صوفيا بإستانبول رقم (4050)، وجزء آخر بمكتب الهند بلندن في القسم العربي رقم (1155)، فظفر الدكتور كرنكو عند بعض أصدقائه بنسخة مأخوذة بالتصوير الشمسي عن جزء أيا صوفيا، فبادر إلى انتساخها بخط يده، ثم دعته همته العالية

ورغبته الصادقة في إحياء العلم ونشره إلى تكميل الموجود من الكتاب، فنسخ النصف الثاني من جزء مكتب الهند، فحصلت له نسخة تحتوي على الجزئين. وأفادنا الدكتور في بعض مكاتيبه أن الجزأين بخط واحد، يظهر أنهما كانا نسخة واحدة فرَّقت بينهما أيدي الزمان، وأنّ كتابتهما كانت في القرن السادس أو السابع، ولمّا رأى الدكتور ما في الأصل من كثرة الخطأ والتصحيف شمَّر عن ساعد الجدّ، وبذل غاية الجهد في تصحيح نسخته، وضحّى في مقابل ذلك بمدة ثمينة من وقته صرفها في تقليب المعاجم، وتتبُّع المظانّ من الكتب المطبوعة والخطيّة التي لم تطبع بعد، كما ترى دليل ذلك في تعليقاته القيمة، وبالغ في الاعتناء بتخريج أبيات الكتاب، ولا يخفى على من زاول مثل ذلك ما فيه من المشقة الشديدة، ثم أكمل ذلك بترتيب الفهارس المتعددة كما يأتي. ثم بعث حضرة الدكتور كرنكو بنسخته المصححة إلى إدارتنا العلمية "دائرة المعارف العثمانية" للطبع، وذَكَر ما قاساه من سُقْم الأصل، وأنّه مع ما عاناه وبذله من المجهود العظيم في تصحيح النسخة، لا يثق بأنّه لم يبق في النسخة شيء من الغلط، فأُحِيلت النسخة إلى كاتب هذه الكلمة، فتصفحتُ الكتاب، واستدركت بعض ما بقي بحسب ما بلغه علمي على ما تيسر واتسع له الوقت المقرر. وقسمنا الكتاب إلى ثلاثة مجلدات، قد تمّ طبع مجلدين منها، المجلد الأول من (ص 2 - 602) يشتمل على الجزء الأول في كتاب الخيل، والجزء الثاني في كتاب السِّباع والوحوش، والجزء الثالث في كتاب الطعام

والضيافة. المجلد الثاني من (ص 603 - 1146) يشتمل على الجزء الرابع في كتاب الذباب، والجزء الخامس في كتاب الوعيد والبيان، والجزء السادس في كتاب الحرب. والمجلد الثالث تحت الطبع، ويشتمل على الجزء السابع في الميسر والشعر والشعراء، وعلى فهارس الكتاب: الفهرس الأول للشعراء، والثاني لأعلام الرجال والنساء والقبائل، والثالث لأسماء الأماكن والمياه والأيام، والرابع للكتب المذكورة في كتاب المعاني، والخامس للقوافي، والسادس للأمثال. الأصل رغمًا عن سقمه معرب الكلمات صوابًا وخطأ، واعتنى حضرة الدكتور بالمحافظة على الإِعراب وإصلاح ما بان له أنّه خطأ، لكن مع الأسف لا يتيسر لمطبعتنا وعمالها استيفاء الإِعراب في المطبوع، فنحن مضطرون إلى الاقتصار على ما نراه ضروريًّا منه. أكثر التعليقات من إفادات حضرة الدكتور كرنكو، وبعض التعليقات بقلم كاتب هذه الكلمة، وتمتاز في المطبوع بعلامة في أواخرها وهي حرف (ي)، والتعليقات تشتمل على أمور، الأول: إثبات حواشي كانت على هامش الأصل، الثاني: تخريج الأشعار ببيان مواضعها من الكتب الأخرى، الثالث: التنبيه على ما وقع في الأصل ممّا اعتقد المصحح أنّه خطأ مع بيان الحجة، الرابع: فوائد مهمة من بيان معنى كلمة غريبة، أو إيضاح مراد المؤلف، أو التنبيه على تفسير آخر، أو على رواية أخرى أو نحو ذلك. علينا وعلى جميع العالم الأدبي تقديم الشكر الجزيل لحضرة المستشرق الجليل البحَّاثة الدكتور كرنكو، فإنّ له الفضل في إحياء هذا الأثر الثمين، مع ما بذله من المجهود البالغ في تصحيحه والتعليق عليه وترتيب

فهارسه، مؤملين أن لا يزال يقدم للعلم وأهله أمثال هذه التحف السَّنية. ولا أنسى فضل الرفيق المفضال السيد زين العابدين الموسوي مصحح دائرة المعارف، والقائم بتكاليف التصحيح المطبعي لهذا الكتاب، مع تنبيهه لي على مواضع غير قليلة ممّا كان بقي في المسودة من الخطأ. ونرجو من أهل العلم والفضل إذا عثر أحد منهم على نسخة من هذا الكتاب قديمة يكون فيها تكملة القطعة الباقية (الإبل، الديار، الرياح، النساء والغزل، تصحيف العلماء) أن يبادر بإخبار دائرتنا بذلك لنسعى في تكميل الكتاب. كما أنّنا نرجو منهم إذا عثروا في مطبوعنا على زلل أو خلل أن يتكرّموا بإطْلاعِنا لنتدارك ذلك في الطبعة الثانية إن شاء الله تعالى. طَبْع هذا الكتاب الجليل من أوائل الأعمال المهمة التي تقوم بها هذه الإدارة العلمية في عهدها الجديد، وهو عهد رئاسة ذي الفضل البارع والمجد الفارع، النواب علي ياورجنكَـ بهادر عميد الجامعة العثمانية ورئيس الدائرة، وهو من بيت الشرف والعلم والرئاسة والعناية بهذه الدائرة العلمية، فإنّ مؤسسها السيد الجليل العالم الشهير النواب عماد الملك أعلى الله مقامه، جَدّه، ورئيسها السابق المأسوف عليه السيد الجليل مهدي ياورجنكَـ، رفع الله درجاته، خاله. نجوم سُماءٍ كلما انقضّ كوكبٌ ... بدا كوكبٌ تأوي إليه كواكبه نسأل الله تعالى أن يجعله خير خلف لخير سلف، في حسن العناية بهذه الدائرة العلمية وغيرها، ويبلغه في الخير آماله، ويقرن بالفوز أعماله. وعهد إدارة العالم الجليل الفاضل النبيل الدكتور محمَّد نظام الدين، الساعي لإصلاح شؤون هذه الدائرة وتوسعة أعمالها، ورفعها إلى المستوى

اللائق بها، نسأل الله تعالى أن يكلّل مساعيه الجميلة بالنجاح الباهر، ويثيبه على حسناته الجزيلة الثواب الوافر، وله الفضل في الإشراف على تصحيح الكتاب وعلى ترتيب هذه المقدمة، وإصلاح بعض ما فيها من الخلل والنقص، مع الإفادة بالمعلومات القيمة. تقوم الدائرة بهذا العمل الجليل في عهد سلطنة مولانا السلطان الموفق المعان، سلطان العلوم، نظام الملك، مير عثمان علي خان بهادر، مدّ الله في أيامه، وبارك في أعماله، وحفظ ولي عهده وسائر أنجاله الكرام. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على خاتم أنبيائه محمَّد وآله وصحبه وسلم. عبد الرحمن بن يحيى اليماني المصحح بدائرة المعارف العثمانية بحيدراباد الدكن في 9 ذي الحجة الحرام، سنة 1368 هجري

مقدمة "الفوائد المجموعة" للشوكاني (ت 1250)

(8) مُقَدِّمَة "الفوائد المجموعة" للشوكاني (ت 1250)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله. صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه. أمّا بعد، فإنّ حضرة المحسن الكريم، الواقف نفسَه طول عمره المبارك على إحياء علوم السنة النبوية، والعناية بأهلها وكُتُبها، وبَذْل كل مرتخص وغالٍ في ذلك السبيل، وهو صاحب الفضيلة: لشيخ محمَّد بن حسين نصيف، بارك الله في عمره، وأحسن مثوبته، عهد إليّ بتحقيق كتاب "الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة" جمع الإِمام المجتهد القاضي محمَّد بن علي الشَّوْكاني - رحمه الله - بعد أن تحصّل على نسخة مخطوطة، نُقِلت وقوبلت على نسخة كُتِبت في حياة المؤلف، بخط أحد تلامذته، مضافًا إلى ذلك النسخة المطبوعة بالهند. ولما نظرتُ في الكتاب، وجدت جامعه رحمه الله قصد - كما تنبئ عنه مقدمته - إلى جمع الأحاديث التي نصّ بعض أهل العلم أنّها موضوعة، مبوبةً على سبيل الاختصار، مع تنبيهات منها ما هو مأخوذ عن بعض الكتب التي أخَذَ منها، وقبول (¬1) لقول مؤلفيها، أو مَن نقلوها عنه، ومنها ما هو مبني على بعض القواعد الأصولية، وزاد في باب فضائل البلدان أحاديث يوردها بعض مؤرخي اليمن، فبيّن أنّه لا أصل لها. ¬

_ (¬1) كذا في (ط).

ورأيته كثيرًا ما يورد الحديث، وأنّ ابن الجوزي ذكره في "الموضوعات"، ثم يذكر أن صاحب "اللآلئ المصنوعة" - وهو السيوطي - تعقبه في ذلك، أو ذكر له طريقًا أخرى فصاعدًا، ولا يبين حال تلك الطرق، ولا يسوق أسانيدها. وعذره في ذلك قصده إلى الاختصار، وعدم توفُّر الكتب الكافية لاستيفاء البحث والتحقيق، وسيظهر ذلك من صنيعه في مواضع من الكتاب لعلِّي أنبه عليها في التعليق. ومسلك صاحب "اللآلئ" قريب من هذا، إلاّ أنّه يسوق الأسانيد غالبًا، فيخفّ الإعواز، إذ يتيسر لمن يعرف نقد الأسانيد أن يتبين الحال. وعلى كل حال، ففي هذه الطريقة إعواز شديد؛ إذ لا يدري أكثر المطالعين ما الذي تقتضيه تلك الطريق، أو الطرق الأخرى، أتوجب ردّ الحكم بالوضع أم لا؟ وقد تتبعت كثيرًا من تلك الطرق، وفتشت عن تلك الأسانيد، فوجدت كثيرًا منها أو أكثرها، يكون ما ذكره السيوطي من الطرق ساقطًا، لا يفيد الخبر شيئًا من القوة. ومنها ما غايته أن يقتضي التوقف عن الجزم بالوضع، فأمّا ما يفيد الحُسْن أو الصحة فقليل. ولمّا فكّرت في تقييد ملاحظاتي، وجدت هناك أمورًا تحول دون استيفاء النظر في جميع المواضع. منها: أنّ في "اللآلئ" خطأ، بعضه من النساخ، وبعضه من السيوطي نفسه، وسترى التنبيه على بعضه، واستيفاء النظر يقتضي مراجعة أصوله كلها، وكثير منها ليس في متناول يدي.

* المؤلفات في الموضوعات

ومنها: أنّه يوجد في الأسانيد رواة لا توجد تراجمهم فيما بين يديّ من الكتب، كما يوجد عدة من أسماء الرواة محرّفة أو مختصرة أو مدلَّسة. ومنها: أنّني عندما أقرن نظري بنظر المتأخرين أجدني أرى كثيرًا منهم متساهلين، وقد يدلّ ذلك على أنّ عندي تشددًا، قد لا أُوافق عليه، غير أنّي مع هذا كله رأيت أن أبدي ما ظهر لي، ناصحًا لمن وقف عليه من أهل العلم أن يحقق النظر، ولا سيما من ظفر بما لم أظفر به من الكتب التي مرت الإشارة إليها. * المؤلفات في الموضوعات: في "الرسالة المستطرفة" ص (111 - 115) فصل مبسوط في هذا، سألخص منه ومن غيره ما تدعو إليه الحاجة. لم يفرد المتقدمون الموضوعات بالتأليف، ولكن يكثر بيانهم لها في كتب العلل والرجال، كالتواريخ والكتب في الضعفاء، ونصُّوا على وَضْع نسخٍ معروفة: ككتاب العقل، والأربعين الودعانية، وغيرهما، وقد ذكرها الشوكاني آخر كتابه. وأول من علمته أفرد الموضوعات بالتأليف: الحافظ الحسين بن إبراهيم الجوزقاني، المتوفى سنة 543، له كتاب "الأباطيل" (¬1). ثم الحافظ أبو الفرج ابن الجوزي المتوفى سنة 597، وكتابه أكبرها وأشهرها. ¬

_ (¬1) ألف قبله أبو سعيد النقّاش (ت 414) كتاب الموضوعات, وهو من مصادر الذهبي في الميزان وابن حجر في اللسان.

ثم الصاغاني اللغوي المتوفى سنة 650، له رسالتان في ذلك. ثم السيوطي المتوفى سنة 911، وله كتب في التعقب على ابن الجوزي، وهي: "النكت البديعات"، و"الوجيز"، و"اللآلئ المصنوعة"، و"التعقبات"، وقد طبع الأخيران. وله ذيل على كتاب ابن الجوزي، طبع أيضًا (¬1). ثم محمَّد بن يوسف بن علي الشامي، صاحب السيرة، المتوفى سنة 942، له كتاب "الفوائد المجموعة في بيان الأحاديث الموضوعة"، أشار إليه في سيرته. ثم علي بن محمَّد بن عراق، المتوفى سنة 963، له كتاب "تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة"، جمع فيه بين موضوعات ابن الجوزي والجلال السيوطي، كذا في "كشف الظنون" وغيره، يحقق ذلك (¬2). ثم محمَّد بن طاهر الفتَّني الهندي، المتوفى سنة 986، له كتاب "تذكرة الموضوعات"، مطبوع، جمعه من كتب السيوطي وغيرها. ثم الملّا علي قاري المتوفى سنة 1014، له كتاب في ذلك، سماه بعضهم "تذكرة الموضوعات"، وطبع بالآستانة باسم موضوعات كبيرة، وله أيضًا رسالة تسمى "المصنوع في الحديث الموضوع". ¬

_ (¬1) طبعت كتب السيوطي، أما الذيل على كتاب ابن الجوزي الذي ذكره الشيخ فلعلَّه الذيل على اللآلئ المصنوعة، وقد طبع. (¬2) طبع الكتاب في مجلدين. وقد ذكر ذلك ابن عراق في مقدمته.

ثم الشيخ محمَّد بن أحمد بن سالم السفَّاريني الحنبلي، المتوفى سنة 1188، له كتاب "الدرر المصنوعات في الأحاديث الموضوعات"، في مجلد ضخم. ثم القاضي محمَّد بن علي الشوكاني المتوفى سنة 1250، له كتابنا هذا. ثم العلامة عبد الحي بن عبد الحليم اللكنوي، المتوفى سنة 1304، له "الآثار المرفوعة في الأحاديث الموضوعة". ولأبي المحاسن محمَّد بن خليل القاوقجي، المتوفى سنة 1305، له كتاب "اللؤلؤ المرصوع، فيما قيل: لا أصل له، أو بأصله موضوع". ولمحمد البشير ظافر الأزهري، المتوفى سنة 1325 "تحذير المسلمين من الأحاديث الموضوعة على سيد المرسلين". وثَمّ كتب اشتملت على الموضوع والواهي ونحوه، منها كتاب "التذكرة" للحافظ محمَّد بن طاهر المقدسي، المتوفى سنة 507 وهو مطبوع، وهو من هذا الضرب، كما يدلّ عليه تصفحه، وكما تشعر به مقدمته، وكذلك اسمه في بعض التراجم "التذكرة في غرائب الأحاديث والمنكرة" أو "ومنكراتها"، ولا يعتدّ بتسميته في المطبوع "تذكرة الموضوعات". ومنها كتاب "المغني عن الحفظ والكتاب، بقولهم: لم يصح شيء في هذا الباب" لعمر بن بدر الموصلي، المتوفى سنة 543، وهو مطبوع، وله أيضًا: "العقيدة الصحيحة في الموضوعات الصريحة" و"معرفة الوقوف على الموقوف" في الموقوفات التي عدت في الموضوعات, باعتبار رَفْع بعضهم لها.

* وهذه قواعد يحسن تقديمها

ومنها كتاب "الكشف الإلهي عن شديد الضعف والموضوع والواهي" لمحمد بن محمَّد الطرابلسي السندروسي. المتوفى سنة 1177. وثَمّ ضرب ثالث يكثر فيه بيان الموضوع، فمنه: "تخريج أحاديث الإحياء" للعراقي، ومختصره لصاحب "القاموس"، و"المقاصد الحسنة في الأحاديث الدائرة على الألسنة" للسخاوي، وللحافظ ابن القيم رسالة طبعت باسم "المنار" فيها مباحث في شأن الحديث الموضوع ونحوه، وفيها جملة من الأحاديث الموضوعة. * وهذه قواعد يحسن تقديمها: 1 - إذا قام عند الناقد من الأدلة ما غلب على ظنه معه بطلان نسبة الخبر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد يقول: "باطل" أو "موضوع". وكلا اللفظين يقتضي أن الخبر مكذوب عمدًا أو خطأ، إلا أن المتبادر من الثاني الكذب عمدًا، غير أنّ هذا المتبادر لم يلتفت إليه جامعو كتب الموضوعات، بل يوردون فيها ما يرون قيام الدليل على بطلانه، وإن كان الظاهر عدم التعمد. 2 - قد تتوفر الأدلة على البطلان، مع أنّ الراوي الذي يصرح الناقد بإعلال الخبر به لم يُتَّهم بتعمّد الكذب، بل قد يكون صدوقًا فاضلاً، ولكن يرى الناقد أنه غلط أو أُدخِل عليه الحديث. 3 - كثيرًا ما يذكر ابن الجوزي الخبر، ويتكلم في راوٍ من رجال سنده، فيتعقبه بعض من بعده، بأنّ ذاك الراوي لم يتهم بتعمّد الكذب، ويعلم حال هذا التعقُّب من القاعدتين السابقتين. نعم، قد يكون الدليل الآخر غير كاف للحكم بالبطلان، ما لم ينضم إليه

وجود راو في السند معروف بتعمّد الكذب، ففي هذه الحال يتجه ذاك التعقب. 4 - إذا استنكر الأئمة المحققون المتن، وكان ظاهر السند الصحة، فإنّهم يتطلبون له علة، فإذا لم يجدوا علة قادحة مطلقًا، حيث وقعت، أعلوه بعلة ليست بقادحة مطلقًا، ولكنهم يرونها كافية للقدح في ذاك المنكر. فمن ذلك: إعلاله بأنّ راويه لم يصرِّح بالسماع، هذا مع أنّ الراوي غير مدلِّس. أعلَّ البخاري بذلك خبرًا رواه عَمرو بن أبي عَمرو مولى المطلب عن عكرمة، تراه في ترجمة عَمرو من "التهذيب". ونحو ذلك كلامه في حديث عَمرو بن دينار في القضاء بالشاهد واليمين. ونحوه أيضًا كلام شيخه علي ابن المديني في حديث "خلق الله التربة يوم السبت .. إلخ" كما تراه في "الأسماء والصفات" للبيهقي، وكذلك أعل أبو حاتم خبرًا رواه الليث بن سعد عن سعيد المقبري، كما تراه في "علل ابن أبي حاتم" (2/ 353). ومن ذلك: إشارة البخاري إلى إعلال حديث الجمع بين الصلاتين بأن قتيبة لما كتبه عن الليث كان معه خالد المدائني، وكان خالد يدخل على الشيوخ. يُراجع "معرفة [علوم] الحديث" للحاكم ص (120). ومن ذلك: الإعلال بالحمل على الخطأ، وإن لم يتبين وجهه، كإعلالهم حديث عبد الملك بن أبي سليمان في الشُّفْعة (¬1). ومن ذلك: إعلالهم بظن أنّ الحديث أُدْخِل على الشيخ، كما ترى في "لسان الميزان" في ترجمة الفضل بن الحباب وغيرها. ¬

_ (¬1) فصّل المصنفُ القول في إعلال هذا الحديث في "تراجم مختارة" رقم (191) في ترجمة عبد الملك بن أبي سليمان.

وحجتهم في هذا: أنّ عدم القدح بتلك العلة مطلقًا، إنّما بُني على أن دخول الخلل من جهتها نادر، فإذا اتفق أن يكون المتن منكرًا، يغلب على ظن الناقد بطلانه، فقد يحقق وجود الخلل، وإذ لم يوجد سبب له إلا تلك العلة، فالظاهر أنّها هي السبب، وأنّ هذا من ذاك النادر الذي يجيء الخلل فيه من جهتها. وبهذا يتبين أنّ ما يقع ممن دونهم من التعقب بأن تلك العلة غير قادحة، وأنّهم قد صحَّحوا ما لا يُحصى من الأحاديث مع وجودها فيها = إنّما هو غفلة عما تقدم من الفرق، اللهم إلا أن يثبت المتعقّب أن الخبر غير منكر. 5 - القواعد المقررة في مصطلح الحديث منها ما يُذْكر فيه خلاف، ولا يحقق الحق فيه تحقيقًا واضحًا، وكثيرًا ما يختلف الترجيح باختلاف العوارض التي تختلف في الجزئيات كثيرًا، وإدراك الحق في ذلك يحتاج إلى ممارسة طويلة لكتب الحديث والرجال والعلل، مع حسن الفهم وصلاح النية. 6 - صِيَغ الجرح والتعديل كثيرًا ما تُطلق على معانٍ مغايرة لمعانيها المقررة في كتب المصطلح، ومعرفة ذلك تتوقف على طول الممارسة واستقصاء النظر. 7 - ما اشتهر أنّ فلانًا من الأئمة مسهّل، وفلانًا مشدّد، ليس على إطلاقه، فإنّ منهم من يسهل تارةً، ويشدِّد أخرى، بحسب أحوال مختلفة. ومعرفة هذا وغيره من صفات الأئمة التي لها أثر في أحكامهم، لا تحصل إلا باستقراءٍ بالغ لأحكامهم مع التدبر التام. هذا وسترى أثناء التعليقات، التنبيه على قواعد أخرى.

وقد كان صديقي العزيز، الناقد البحَّاثة، الشيخ سليمان بن عبد الرحمن الصَّنِيْع، مدير مكتبة الحرم المكي، وعضو مجلس الشورى في الحكومة السعودية، أشار عليَّ بوضع مقدمة مستوفاة، فلم يتهيأ لي ذلك؛ لاشتغالي بأعمال أخرى، هي عندي بالعناية أولى، أو إلى رغبة نفسي أدنى، كما أشار بأنْ أُلحِق بهذا الكتاب رسالةً في تحقيق حكم العمل بالحديث الضعيف، وما حدّ الحديث الضعيف الذي يقدمه بعض أهل العلم على القياس، والذي يُعمل به في فضائل الأعمال (¬1). وقد جمع هو نصوصًا في ذلك لشيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم وغيرهما، وكنت قد سوَّدت في ذلك رسالة، فعاقني الآن عن العمل بإشارته ما قدمتُ من العذر، وعسى أن ييسر الله تعالى ذلك فيما بعد. وبهذه المناسبة أقدم شكري لصديقي المذكور على ما أمدَّني به في عملي هذا، من آراء قيمة، وتنبيهات على فوائد مهمة، مع الإرشاد إلى مراجعها والبحث بنفسه عنها، ثم بذل تلك المراجع من مكتبته الخاصة البديعة، فأحسن الله جزاءه، وأجزل مثوبته، ووفقنا جميعًا لما يحبه ويرضاه. كتبه: عبد الرحمن بن يحيى المعلمي 2 صفر سنة 1379 هـ ¬

_ (¬1) وهي مطبوعة ضمن هذه الموسوعة بحمد الله تعالى.

مقدمة "المنار المنيف" لابن قيم الجوزية (ت 751)

(9) مُقَدِّمَة "المنار المنيف" لابن قيم الجوزية (ت 751)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وقفتُ على الرسالة المطبوعة باسم المنار، تصنيف الإِمام العلَّامة المُحَقِّق أبي عبد الله محمَّد بن أبي بكر ابن قيِّم الجوزية - رحمه الله - فأقبلتُ على مطالعتها؛ فعثرتُ على خطأ في بعضِ الأسماء والألفاظ، فكنت أُشيرُ إلى ذلك في حاشيةِ النسخة، فاتفقَ أن وقفَ عليه حضرةُ البحّاثةِ المدقق الشيخ سليمان بن عبد الرحمن الصنيع، وكان هو قد لاحظَ عدَّة من ذلك عند مطالعته الرسالة، فحثَّني على تتبعها وتقييدها، فعدتُ للمطالعة مرةً أخرى مع مراجعة كتب الحديث وغيرها. وكان مما راجعته: "الموضوعات" للمُلَّا علي قاري وإذا به قد نقل قريبًا من ثُلُثَي هذه الرسالة. قال في ص (130) من موضوعاته المطبوع -إسطنبول سنة 1289 هـ: "فصل: وقد سُئِلَ ابن قيِّم الجوزية: هل يمكنُ معرفةُ الحديثِ الموضوعِ بضابطٍ من غير أن يُنظر في سنده؟ فقال: هذا سؤال عظيم القدر ... " فساق المسألةَ الخامسةَ الواقعةَ في هذا المطبوع من أوَّل ص (15) إلى آخر ص (51)، لم يحذفْ إلا يسيرًا كبعض الكلام في شأن الخضر، وقد يفصلُ بين كلام ابن القيم بكلامٍ من عنده مميِّزًا له بقوله في أوَّله: "قلتُ" وفي آخره: "ثم قال". وفي مكتبة الحرم المكيّ نسخةٌ مخطوطةٌ من موضوعاته برقم (420) من كتب الحديث، كُتبت سنة 1280 هـ بخط الشيخ محمَّد صالح ابن الشيخ محمَّد أمين وعليها تعليقاتٌ بخَطِّه، فعارضتُ بذاكَ النقل، ثم أفادني الشيخُ سليمانُ بالقصَّة التي أدَّتْ إلى طبع الرسالة، وأرى أن أسردها بلفظه.

قال: كنتُ يومها بحضرة صاحب الفضيلة الشيخ عبد الملك بن إبراهيم آل الشيخ رئيس هيئات الأمر بالمعروف، فكان مما أفاده أن بعض طلبة العلم أخبرَه أنه اطَّلع في مكتبة آل الروَّاف - من وجهاء أهل بريدة إحدى مدن القصيم - على نسخة من "المسائل الطرابلسية" ونسخة من "المنار" كلاهما لابن القيم، وأفاد فضيلة الشيخ أنه كاتب آل الروَّاف وأنهم لم يجدوا الكتابين، ولعلهما مما استُعيرَ فذهب. وأرانا الشيخ فوائدَ نقلها ذاك الطالبُ من "المنار" وإذا منها كلام في حديث: "لا مهدي إلا عيسى" وفيه نقل عن مناقب الشافعيّ لمحمد ابن الحسن الإسنوي. كان في هذا الخبر ما يُستغرب، فإنا لم نكن نعرف كتابًا لابن القيم باسم "المنار" ولا نعرف من مؤلفي مناقب الشافعي من يقال له: محمَّد بن الحسن الإسنوي، فبقيتُ بعد ذلك أبحثُ عن هذا، فراجعتُ كتبَ التراجم والفهارس فلم أظفر بشيء، حتى نظرتُ في كتاب حديث هو كتاب "هدية العارفين في أسماء المؤلفين" لإسماعيل باشا، فوجدتُه ذكر في مؤلفات ابن القيم "المنار المُنيف في الصحيح والضعيف". ثم اتفق أن ذهبتُ في إجازةٍ رسميّة إلى مصر وكان ذلك في رمضان سنة 1375 هـ, فزرت دار الكتب المصرية، وبحثتُ عن الكتاب فلم أجده، ثم راجعتُ فهارس المكاتب الأخرى، فوجدتُ ذكر "المنار" لابن القيم في فهرس مكتبة برلين رقم 1069 ترجمتها: أنّ النسخة في (42) ورقة، ونقل عبارة من أوّله وعبارة من آخره، فكتبتُ حينئذٍ إلى فضيلة الشيخ عبد الملك أخبره بذلك، وأنه ممكنٌ - بواسطة الأخ الفاضل فؤاد السيد رئيس قسم

المخطوطات بدار الكتب - الحصول على صورٍ من الكتاب، وعقب ذلك قَدِمَ الأخ فؤاد السيد للحجّ، واجتمع بفضيلة الشيخ عبد الملك وجرى ذكر الكتاب، فوعد الأخ فؤاد السيد باستحضار صُورٍ منه، ولما عاد إلى مصر وفّى بوعده فاستحضر الصور، وصوَّر منها نسخةً أخرى وأرسلها لفضيلة الشيخ عبد الملك، ولمَّا حضرتُ لدى فضيلته بشَّرني بذلك وأطلعني على المُصوَّر، فقلت: لو تتكرّمون بالأمر بطبعه، وحالاً - كعادته في المبادرة إلى أعمال الخير ونشر العلم - أمر سكرتيره الخاصّ أحمد محمَّد باشميل أن يكتب إلى فضيلة الشيخ محمَّد حامد الفقي أن يأخذ صورًا أخرى من النسخة التي لدى الأخ فؤاد السيد، ويستنسخ منها مسوَّدةً للطبع، ويقوم بطبع الكتاب، ولم يكتف فضيلتُه بذلك بل أردفه بمحادثةٍ تلفونيةٍ مع الشيخ حامد. فقام الشيخ حامد بالطبع على نفقة الشيخ عبد الملك، وقَدِمَ بالنُّسخ معه في رجب هذه السنة. بعد أن قصَّ الشيخ سليمان هذه القصة، ذكرتُ له أنَّه لأجل إتمام عملي في الرسالة يحسنُ المعارضة بالنسخة المصوَّرة إذ قد تكون صورةٌ أوضح من صورة، وقد يتَّضح لقارئٍ ما التبس على قارئ. فذكر ذلك لفضيلة الشيخ عبد الملك، وجاءني بالصور فعارضتُ بها هذا. وقد قيَّدتُ تصحيحاتي في إحدى النُّسخ المطبوعة جاريًا على الطريقة الآتية:

1 - تُرك في المطبوع كلماتٌ وعباراتٌ ثابتةٌ في الأصل لا أرى داعيًا لإسقاطها، فأضعُ موضعَها من المتن هذه العلامة () وأكتبُ الساقط مقابل ذلك في الحاشية في الجهة التي يشير إليها الطَّرف الطويل من العلامة، ثم أكتب فوقه "أصل". 2 - أما ما تُرِك بحقٍّ وللتنبيه عليه فائدةٌ ما فإني أضع موضعه رقمًا للتعليق وأعلِّق ببيانه. 3 - ربما وجدتُ في النقل - أعني ما نقله علي قاري في موضوعاته عن هذه الرسالة - أو في بعض المراجع زيادة لا يُستغنى عنها فأُعلّم موضعها العلامة السابقة () وأثبتها مقابل ذلك في الحاشية بين الحاجزين هكذا [...] ورقمًا للتعليق وأعلِّق ببيان مصدرها. 4 - وقَعَ في المطبوع زياداتٌ على الأصل، فما كان منها من قبيل الدعاء كقوله ص (3) سطر (3): "وأسكنه فسيح جنّته" ونحو "رضي الله عنه" فلا أعرضُ له، وما عدا ذلك أُحوّطُه بحاجزين؛ ليُعلم أنه ليس من الأصل، وربما أرى الصواب إلغاء الزيادة فأضربُ عليها وأكتبُ فوقها "لا" وأُجري مجرى ذلك ما أثبت في المطبوع وهو مضروبٌ عليه في الأصل. 5 - في الأصل تحريفٌ غيرُ قليلٍ، غالبه قد صحَّحه محقق المطبوع، فهذا لا كلام فيه سوى أن منه ما يحسنُ أن يُعلَّق عليه ببيان ما في الأصل وقد قمت بذلك، ومنه ما طبع محرَّفًا: إمَّا كما في الأصل، وإما على وجه آخر، فأنا أضربُ على المحرَّف وأضعُ عليه تلك العلامة () وأثبتُ الصواب قُبالته في الحاشية وأعلِّق عليه بما يوضّح الحال إلا مواضع يسيرة يظهر أنها

كانت في نسخة المؤلف كما في أصلنا، فهذه أبقيها كما هي وأعلّق عليها بما تبيّن لي. 6 - هناك كلمات تحرَّفت في الطبع وهي في الأصل على الصواب، فأنا أضرب عليها في المطبوع، وأضع عليها العلامة () وأثبت مقابل ذلك ما في الأصل، وأكتب فوقه: "أصل صح" وربما أكتب حرف "ق" أريدُ النقل - نقل علي قاري -. 7 - رأيت أوراق المطبوع تضيق عن التعليقات فجعلتُها في أوراقٍ مفردة تجدها بعد هذا بقيد صفحة المطبوع رقم التعليق. 8 - قيدتُ في النسخة التي صححتها من المطبوع بيان أوراق الأصل، أضع في مبتدأ الورقة من السطر تلك العلامة () ثم أكتب مقابلها في الحاشية رقم الورقة وبعده رقم - 1 - للوجه الأول، وعند انتهاء الوجه الأول أعيد رقم الورقة وبعده رقم - 2 - للوجه الثاني، وهكذا. 9 - هناك مواضع يسيرة من خطأ الطبع لا توجب لبسًا اجتزأت بالإشارة إليها بخطٍ أحمر صغيرٍ مقابلها في الحاشية. ***

مقدمة "تذكرة الحفاظ" لشمس الدين الذهبي (ت 748)

(10) مُقَدِّمَة "تَذْكرة الحُفَّاظ" لشمس الدين الذهبي (ت 748)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتاب "تذكرة الحفاظ" للذهبي كتابٌ جليل، طبع مرتين في دائرة المعارف العثمانية بحيدراباد الدكن، ولم يذكر في المطبوع عن أيّ أصل طُبع، وبمكتبة الحرم المكي نسخة من "التذكرة" مخطوطة، حسبتها بادي الرأي هي الأصل المطبوع عنه لما يظهر بينهما من الموافقة، ولأن الدائرة كانت سابقًا على صلة بمكتبة الحرم، ثم تبيّن لي خلاف ما ظننت كما يأتي. في آخر هذه النسخة المخطوطة بخط ناسخها: "تم الكتاب .... غرة شهر ربيع الآخر سنة 1177 هـ، بعناية سيدي القاضي العلامة ... أحمد بن محمَّد قاطن ... بخط أفقر عباد الله وأحوجهم إليه أحمد بن محمَّد الحودي ... " وبحاشية اللوح بخط مالكها الذي كُتبت له: "استكتبه لنفسه الفقير إلى مولاه الغني أحمد بن محمَّد بن عبد الهادي قاطن ... شهر جماد الآخرة سنة 1177 هـ. وبعده بخطه: "قد شرعت في تصحيح هذه النسخة على نسخةٍ عليها خطّ المؤلف رحمه الله في شهر ذي القعدة الحرام سنة 1182 هـ. أحمد بن محمَّد قاطن". وبحاشية آخر النسخة بخطه أيضًا: "بلغ مقابلة على نسخة قُرئت على المؤلف وعليها خطه، وبالغت في التصحيح عليها، ولله الحمد، في آخر شهر ربيع الآخر سنة 1184، كتبه الفقير إلى مولاه الغني أحمد بن محمَّد بن عبد الهادي قاطن ... ". وجميع التصحيحات والألحاق بخطه؛ ومتن الكتاب بحسب ما كتبه الناسخ مطابق في الأكثر للمطبوع صوابًا وخطأً، وهذا يدل على صلة بين

أصل المطبوع وأصل هذه النسخة، وأما الألحاق فمنها ما هو ساقط من المطبوع ويظهر أنه كان ساقطًا من أصل هذه النسخة وإنما استُدْرِك عن المقروءة على المؤلف، ومنها ما هو ثابت في المطبوع بما جرت به العادة من الأغلاط، وهي ملحقة في المخطوطة على الصحة كسائر ما يلحق من المقروءة على المؤلف، وهذا يُشعر بأن هذه المخطوطة - رغمًا عن العناية بها - لم تقابل على أصلها، ويشهد لهذا أنني لم أجد فيها إشارة ما إلى المقابلة على أصلها، لكن قد جبر ذلك ورَفَع النسخة إلى درجة الاعتماد مقابلتها وتصحيحها على المقروءة على المؤلف. مع أن هذا الرجل الذي قام بذلك هو مالك النسخة أحمد بن محمَّد بن قاطن كان من كبار علماء الزيدية باليمن، وله ترجمة جيدة في "البدر الطالع" للشوكاني (1/ 113 - 114): وصَفَه بالمعرفة بالسنة وفنونها والتأليف في التراجم، وأنه كان مجتهدًا لا يقلّد أحدًا، وأرّخ وفاته سنة 1199 هـ. ويدهشني جدًّا أن في "التذكرة" مواضع عديدة تتعلق بالعقائد مخالفة ما عليها أسلاف هذا العالم وأشياخه وأهل جهته، ومع ذلك لم يعلّق على شيء منها بما يُشعر بالإنكار، مع أن هناك تعليقات لضبط اسم أو تفسير كلمة ونحو ذلك من الفوائد الفنيّة. وهذا يدل على رجاحة عقل هذا الرجل ومتانة علمه رحمه الله، وقد ملك النسخة بعده جماعة منهم العلامة السيد عبد الله ابن الإِمام محمَّد بن إسماعيل الأمير. وبعدُ، فلما وقفت على هذه النسخة، وكنت أعلم أن النسخ المطبوعة قد نَفِدت من دائرة المعارف، وأنها تنوي إعادة طبع الكتاب، كتبتُ إلى ناظمها الجليل الدكتور محمَّد نظام الدين فبعث إليّ بنسخة مطبوعة ورغب إليّ في

مقابلتها على هذه المخطوطة، وإكمال التصحيح، فشرعت في ذلك، وها أنا أكمل الجزء الأول. في كلٍّ من المخطوطة والمطبوع زيادات على الآخر فجعلت الزيادات بين حاجزين هكذا [] وميزت ما كان من المخطوطة برقم للحاشية، وأكتب في الحاشية "من المكية"، فما كان بين حاجزين وليس عليه حاشية فهو من المطبوع. ويبدو أن عامة ذلك ليس من أصل الكتاب، وإنما زِيد من الخلاصة. ولما كان التصحيح عن النسخة المقروءة على المؤلف واختبرت أنا صحته لم أحتج إلى التنبيه على ما وقع في المطبوع من الخطأ، فإن وقع خطأ فيهما معًا نبّهت عليه. وقد كان ترقيم تراجم المطبوع وبيان الرموز مضطربًا فرأيت أن أجعل لتراجم الكتاب كلها عددًا واحدًا بأرقام مسلسلة، وأُبيّن مع ذلك رقم الترجمة من الطبقة، وأرمز بعد ذلك لمن خَرَّج لصاحب الترجمة من أصحاب الأمهات الستّ فيها خاصة كما جرى عليه في المخطوطة وإن أَغْفَل فيها بعض التراجم. فأجعل - مثلاً - أمام أول ترجمة هكذا: (11/ 1 ع أبو بكر الصديق) أي الترجمة الأولى من الكتاب، والأولى من الطبقة الأولى، أخرجَ له الستة جميعهم، ومثلًا (164 11/ 5 ع) أي الترجمة الرابعة والستون بعد المائة من تراجم الكتاب، والحادية عشرة من الطبقة الخامسة منه، أخرج له الستة جميعهم، والله الموفق.

أرقام الأمهات الست

أرقام الأمهات الست: 1 - صحيح البخاري: خ 2 - صحيح مسلم: م 3 - سنن أبي داود: د 4 - سنن النسائي: س 5 - سنن الترمذي: ت 6 - سنن ابن ماجه: ق 7 - السنن الأربع كلها: 4 8 - الأمهات الست جميعها: ع عبد الرحمن بن يحيى المعلمي مكتبة الحرم المكي بمكة المعظمة 15 شوال سنة 1374 هـ

(11) مُقَدِّمَة "كشف المُخدَّرات والرياض المزهرات شرح أخصر الختصرات" لزين الدين البعلي الدمشقي (ت 1192)

بيان من ناسخ الكتاب ومصحح أصله أحسن الله إليه

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بيانٌ من ناسخ الكتاب ومصحّح أصله أحسن الله إليه كان قد عُهِد بواسطتي إلى بعض الفضلاء بنسخ كتاب "كشف المخدَّرات والرياض المزهرات شرح أخصر المختصرات" في الفقه على مذهب إمام السنة الإِمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه، عن نسخة محفوظة بمكتبة الحرم المكي، فابتدأ ذلك الفاضل في النسخ قليلًا ثم أحجم وطالت المدةُ، وتبين إعراضه عن القيام بما التزمه، فرأيتُ أن أقوم بنسخ الكتاب. ولما شرعت فيه وجدت النسخة مكتوبة بالقلم الفارسي الهندي المسمى "نسخ تعليق"، وكاتبها أعجمي غريب عن اللغة العربية، فاستقبلني فيها من الخلل والتصحيف والتحريف ما منعني الاقتصار على النسخ الصوري، وألزمني القيام بإصلاح ما يتضح حاله مع التنبيه على ما في الأصل. هذا، وعنوان الكتاب في لوح الأصل هكذا: "كشف المخدَّرات ورياض (صوابه: الرياض - كما في الخطبة) المزهرات شرح أخصر المختصرات لمحمد بن بدر الدين بن عبد القادر بن بلبان ... ". والذي لمحمد بن بدر الدين هو المتن "أخصر المختصرات" كما في الخطبة وغيرها، فأما الشرح فلم يسم مؤلفه، وقد كتب بعض الأفاضل بالمرسمة: "الشرح المذكور للشيخ الإِمام محمَّد الخلوتي تلميذ الشيخ منصور رحمه الله تعالى" كذا بلا ذكر مستند، والشيخ محمَّد الخلوتي معاصر لابن بلبان

مات بعده بخمس سنين فقط، ولم يذكر صاحب "المدخل" أن له شرحًا على أخصر المختصرات، وله ترجمة في "مختصر طبقات الحنابلة" لمحمد جميل الشطي ولم يذكر فيها ذلك، ويدفعه أن في هذا الشرح في فصل شروط الغسل ما لفظه: "قال الخلوتي في حاشيته على المنتهى ... " والخلوتي صاحب الحاشية على المنتهى هو الشيخ محمَّد المذكور، ويمتنع أن يحكي الإنسان عن نفسه بمثل هذا اللفظ. نعم هناك خلوتي آخر هو الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد بن محمَّد البعلي له شرح على أخصر المختصرات كما في "المدخل" وفي "مختصر طبقات الحنابلة" ص 133 ولفظ الأخير "اطلعت عندنا على شرح لصاحب الترجمة على كتاب أخصر المختصرات ... " ولم يذكرا - ولا أحدهما - اسم الشرح (¬1). وقد طبع متن أخصر المختصرات بالمطبعة الماجدية بمكة سنة 1332 عن "نسخة بخط الفاضل المرحوم الشيخ خلف بن إبراهيم مفتي الحنابلة بمكة المشرفة سابقًا" هكذا على لوح المطبوع وعليه أيضًا "قد شرحه العلامة الشيخ عثمان بن جامع النجدي أصلاً قاضي البحرين بشرح جامع مبسوط في مجلد ضخم نحو خمسين كراسًا". ولم يذكر أيضًا اسم الشرح. ¬

_ (¬1) نعم لم يذكره الشيخ عبد القادر بدران في كتابه (المدخل) ص 228 ولكنه ذكره في المقدمة الثالثة ص 8 من (أخصر المختصرات) الذي طبع في دمشق بتعليقاته سنة 1339، وقد اعتمد في هذه التعليقات على (كشف المخدَّرات) وذكره باسمه وعزاه إلى الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد البعلي ثم الدمشقي. ونحن قد سمينا (كشف المخدَّرات) ومؤلفه في طبعتنا لأخصر المختصرات سنة 1370 عند كتابتنا ترجمة الشمس البلباني رحمه الله (محب الدين الخطيب).

أما عملي في الإصلاح فكما يأتي: 1 - الشرح ممزوج بالمتن، وهما في الأصل مكتوبان بنمط واحد إلا أنه اعتمد بتعيين كلمات المتن بوضع خط أحمر على العبارة أو الكلمة، ولكنه وقع الخلل في هذه الخطوط، فكثيرًا ما تُهمل وكثيرًا ما تُجعل على عبارات أو كلمات من الشرح، وأنا وضعت كلمات المتن وعباراته بين قوسين هكذا () والتزمت مقابلة المتن المطبوع حرفيًّا (¬1)، ونبهت على المواضع التي يكون فيها ما في الأصل محتملًا. 2 - لكثرة ما في الأصل من اشتباه وتصحيف وتحريف التزمت مع مقابلة المتن المطبوع مراجعة الكتب الموجودة في المكتبة في الفقه الحنبلي، ولا سيما المنتهى بشرحه والإقناع بشرحه، فإنّ شارحنا لا يكاد يخرج عنهما ويساير هذا تارة وهذا أخرى، فحيث يقع الخلاف ويكون ما في الأصل محتملًا أبقيه وأنبه في الحاشية على ما خالفه، وحيث يتضح أن ما في الأصل غلط أنبه عليه في الحاشية وأثبت في الصلب ما هو الصواب وأبين مرجعه، فأكتب عليه بالمرسمة الحمراء "مط" أعني المتن المطبوع. أو "منتهى" أو "شرح المنتهى" أو "إقناع" أو "كشاف" أريد بهذا كشاف القناع شرح الإقناع إلى غير ذلك، إلا المواضع التي يكون خطأ ما في الأصل فيها بغاية الوضوح، ومعرفة الصواب بعينه واضحة، فإني أثبت الصواب، ولا ألتزم استيعابها بالتنبيه على ما وقع في الأصل لكثرة ذلك ¬

_ (¬1) أي المطبوع بالمطبعة الماجدية بمكة. [المؤلف].

وضآلة فائدة التنبيه. وقد نبهت على كثير منه كما ستراه (¬1). 3 - وقع في الأصل مواضع من سقط يختلّ به الكلام واستدركته من المتن المطبوع (¬2) أو غيره وجعلته بين حاجزين هكذا [] وأبين مصدره. ولا أقول: إني حققت الكتاب ولا صححته، وإنما قمت بما تيسر من الإصلاح في الجملة، إذ لم تَطِب نفسي بإهماله. والله الموفق. عبد الرحمن بن يحيى المعلمي ¬

_ (¬1) وهذا الذي نبه عليه حضرة العالم الجليل الشيخ عبد الرحمن المعلمي، وقد ذكر أن التنبيه عليه ضئيل الفائدة، أعرضنا عنه عند الطبع, لأنه من سقطات قلم ناسخ الأصل وهو أعجمي كما علمت. وأبقينا ما في التنبيه عليه فائدة علمية. والحق أن الأستاذ المعلمي خدم الشرح بصبر وبصيرة لأن تصحيح كتب العلم والفقه من العبادة، تقبلها الله منه. (محب الدين). (¬2) ونحن عند الطبع قابلنا المتن على مخطوطة تفضَّل علينا بها حضرة العالم الجليل الشيخ محمَّد بن عبد العزيز بن مانع، وعارضناها بطبعة المطبعة السلفية سنة 1370 وهي مطبوعة على طبعة الشيخ عبد القادر بدران التي نقلها عن خط المؤلف البلباني، وقد ورثها عن جده لأمه الشيخ أحمد بن مصطفى حسين رمضان النعساني المتوفى سنة 1281 كما ذكر ذلك في خطبة تعليقاته على أخصر المختصرات. (محب الدين).

"البحث عن كتاب الكنى" للإمام البخاري (ت 256)

(12) "البحث عن كتاب الكنى" (¬1) للإمام البخاري (ت 256) ¬

_ (¬1) طُبع في آخر كتاب الكنى الملحق بـ "التاريخ الكبير": (8/ 94 - 97) دائرة المعارف العثمانية.

الحمد لله الذي لا تُحصى نِعمه ولا يتناهى جُوده وكرمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه. أما بعد، فإن جمعيتنا العلمية "دائرة المعارف العثمانية" لما اعتزمت طبع الكتاب الجليل "التاريخ الكبير" للإمام أبي عبد الله محمَّد بن إسماعيل البخاري رحمه الله تعالى؛ ظَفِرتُ بالجزء الرابع منه في الخزانة الآصفية بحيدراباد الدكن، فسارعت إلى استنساخه، ثم بعد البحث والتنقيب عُلم بأنّ في بعض مكاتب إسلامبول نسخة من الكتاب، وفي المكتبة المصرية نسخة أخرى، فاستحْصَلَت الجمعيةُ على صور مأخوذة منهما، وعند المقابلة تبيَّن أن المصرية منقولة عن الإِسلامبولية، ووُجِد في آخر المجلد الرابع من النسخة الآصفية زيادة مشتملة على الكنى لا توجد في الإِسلامبولية، مع أن في آخر الإِسلامبولية ما لفظه: "كَمُل جميع كتاب التاريخ الكبير ... ". وذلك صريح في أنّ أبواب الكنى المتصلة بآخر النسخة الآصفية كتاب مستقلّ عن "التاريخ". ولكن الذي تبيَّن لنا بإمعان النظر أن هذا الجزء المشتمل على الكنى تأليف البخاريِّ قطعًا، وأنه إن لم يكن قطعةً من "التاريخ" فهو تتمّة له، فإن ابن أبي حاتم مع اقتفائه في ترتيب كتابه أَثَر البخاريّ في "التاريخ" غالبًا قال في أواخره: "باب ذِكْر مَن رُوي عنه العلم ممن عُرف بالكنى ولا يُسمى" ثم اقتفى في الترتيب أثر البخاري في هذا الجزء غالبًا، وربما سماه كقوله: "أبو المعلى بن رؤبة كذا قال البخاري في كتابه ... " وراجع رقم (685) من هذا الجزء. ووجدنا ابنَ عبد البر في الكنى من "الاستيعاب" ربما نقل عن هذا

الجزء فيما يظهر، كقوله في الترجمة الرابعة من باب الخاء مِن كنى "الاستيعاب": "أبو خالد ذكره البخاري قال: قال وكيع عن الأعمش عن مالك بن الحارث عن أبي خالد وكانت له صحبة. قال: وفدنا إلى عمر رضي الله عنه ففضل أهل الشام". وتجد هذه العبارة بتغيير يسير في الترجمة رقم 224 من هذا الجزء. وقد نقل ابنُ حجر في كتبه كثيرًا عنها تارة يسميها "الكنى المفردة" وتارة "الكنى المجردة". قال في ترجمة أبي حريزة: "ذكره البخاري في الكنى المفردة، وأورد له من طريق هُشيم عن أبي إسحاق الكوفي وهو الشيباني عن أبي حريزة" فإن نحو هذا تجده (¬1) في هذا الجزء في ترجمة أبي حريزة رقم 204. وقال في ترجمة أبي سلالة: "قال أبو عمر تبعًا لأبي حاتم: حديثه عند حكّام بن سَلْم عن عنسبة بن سعيد عن عاصم بن عبيد الله عن عبد الله بن عبد الله عنه" وهذا مأخوذ من كلام البخاري في الكنى المفردة، راجع ترجمة أبي سلالة في هذا الجزء رقم (356)، وانظر ترجمة أبي نجيح العبسي في "الإصابة" وفيها عن البخاري أنه ذكره "في الكنى المفردة" وترجمته في هذا الجزء رقم (833). وفي "تهذيب التهذيب" (12/ 161): "أبو عبيدة عن أنس في القراءة في الظهر، وعنه سفيان بن حسين ذكره البخاري في الكنى المجرَّدة"، راجع رقم (448) في هذا الجزء. وفي "تعجيل المنفعة" (ص 507): "أبو علي الكاهلي عن أبي موسى الأشعري، ¬

_ (¬1) الأصل: "تجد".

ذكره الحاكم أبو أحمد فيمن لم يُسمّ (¬1) ونقل ذلك عن البخاري في الكنى المجردة"، وراجع رقم (453) في هذا الجزء. وربما اقتصر على قوله: "كتاب الكنى" أو "الكنى" أو "ذكره البخاري" فقط. ويظهر في مواضع من كلامه أنه وقف على هذا الكتاب، وفي مواضع أنما ينقل عنه بواسطة كتاب "الكنى" للحاكم أبي أحمد كأنه كان في نسخته نقص. وقد عدَّ في "مقدمة الفتح" تصانيفَ البخاري إلى أن قال: "وكتاب الكنى, ذَكَره الحاكم أبو أحمد ونقل منه". "المقدمة" طبعة ميرية ص 493. وفي "تهذيب التهذيب" (5/ 358) في ترجمة عبد الله بن فيروز: "قال أبو أحمد الحاكم في "الكنى" قال مسلم: أبو بشر - يعني بالمعجمة قال - وقد بيَّنا أن ذلك خطأ أخطأ فيه مسلم وغيره. وخليق أن يكون محمَّد - يعني البخاري - قد اشتبه عليه مع جلالته، فلما نقله مسلم مِن كتابه تابعه عليه، ومَن تأمَّل كتاب مسلم في الكنى عَلِم أنه منقول من كتاب محمَّد حذو القذّة بالقذّة، وتجلَّد في نقله حقّ الجلادة؛ إذ لم ينسبه إلى قائله والله يغفر لنا وله". أقول: لكنّ السخاويّ وغيره ذكروا أن كتاب "الكنى" لمسلم خاصٌّ بكنى مَن عُرفت أسماؤهم، راجع "فتح المغيث" ص 424، وغالب هذا الجزء في كنى مَن لم تُعرف أسماؤهم، ثم ظهر لي أن كتاب مسلم في الكنى معظمه فيمن عُرفت أسماؤهم وأقلّه فيمن لم تُعرف أسماؤهم، فقد نقل عنه ذكر مَن لم يعرف اسمه، ففي ترجمة أبي خيرة من التعجيل: "خفي ذلك على البخاري وعلى مَن تبعه كمسلم والحاكم أبي أحمد وغيرهم فذكروه فيمن لا يعرف اسمه" التعجيل ص 482. ¬

_ (¬1) الأصل: "يسمه".

وفي "تهذيب التهذيب" فيمن كنيته أبو عمر: "ويؤيد ذلك أن مسلمًا وغيره ذكروا الصيني فيمن لا يُعرف أسمه" (12/ 177). وفيه في ترجمة أبي عمران الأنصاري: "قال الحاكم أبو أحمد: أخرجه محمَّد بن إسماعيل في "التاريخ" في باب سليم وباب سليمان وهو بسليمان أشبه، وكأنه غلط في نقله فأسقط النون، وربما يقع له الخطأ لا سيما في الشاميين ونقله مسلم في كتابه فتابعه على خطائه" تهذيب (12/ 185). أقول: فقول الحاكم أبي أحمد: "ومن تأمل كتاب مسلم في الكنى عَلِم أنه منقول من كتاب محمَّد" يعني البخاري، أراد بكتاب البخاري "التاريخ" مع هذا الجزء من الكنى, نقل مسلم كنى مَن عُرفت أسماؤهم من التاريخ، وكنى مَن لم تُعرف أسماؤهم من هذا الجزء، وقد علمتَ تسميةَ الحافظ ابن حجر لهذا الجزء "الكنى المفردة" أو "الكنى المجردة" والاسم الأول يقتضي أنها ليست من التاريخ؛ لأن معناه الكنى المفردة عن التاريخ كما سموا كتاب "الأدب" للمؤلف "الأدب المفرد" يريدون المفرد عن "الجامع الصحيح". والاسم الثاني محتمل، والظاهر أن معناه: الكنى المجرّدة عن الأسماء، أي أنها فيمن لم تُعرف إلا كنيته مجرّدة عن الاسم وذلك بالنظر إلى الغالب. وبالجملة فعبارة الحاكم أبي أحمد "عَلِم أنه منقول من كتاب محمَّد" وأراد ما يشمل أصل "التاريخ" وهذا الجزء مع ما يدل عليه صنيع ابن أبي حاتم كما تقدم = ظاهرٌ في أن هذا الجزء إن لم يكن من "التاريخ" فهو تتمّة له، والله أعلم.

خاتمة طبع "الكفاية في علم الرواية" وترجمة الخطيب البغدادي (ت 463)

(13) خاتمة طبع "الكفاية في علم الرواية" وترجمة الخطيب البغدادي (ت 463)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله الذي يسّر لحفظ دينه من تقوم به الكفاية، ونصب لذلك من العلماء أعلامًا بذلوا أتم العناية، وأوضحوا معالم الرواية والدراية. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه. أما بعد، فقد تم طبع كتاب (الكفاية في علم الرواية) للإمام الكبير الحافظ الشهير أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي، وهو الكتاب الذي جَمع من أحكام مصطلح الحديث كل ما يحتاج إليه، وأوعب في نقل الأقوال وإقامة الأدلة على ما ينبغي التعويل عليه. وكانت جمعيتنا الموقرة قد ظفرت بنسخة من الكتاب محفوظة في المكتبة الآصفية للحكومة النظامية في عاصمتها المحروسة (حيدراباد - دكن) وأمرت بتصحيحه مولانا العالم الفاضل أبا عبد الله السورتي، فقام بالتصحيح بحسب الطاقة. ثم سمعت الجمعية بنسخة محفوظة في مكاتب إستانبول فاستدعت نقلاً منها بالتصوير الشمسي، فإذا بها نسخة جيدة جدًّا كما يعلم من خاتمتها التي أثبتناها آنفًا، فقابل عليها حضرة المدير مع حضرة الأستاذ الفاضل الشيخ إبراهيم حمدي المدني مدير مكتبة شيخ الإِسلام بالمدينة المنورة عند وروده إلى حيدراباد، وقام مصححو الدائرة باستدراك ما بقي من التصحيح، وجعلنا علامة النسخة الآصفية - صف - وعلامة النسخة الإستانبولية - قط - وعلامة المصحح الأول (س) وعلامة مصححي الدائرة (ح).

وتم طبعه في مطبعة الجمعية العلمية العليا، ذات الأيادي البيضاء، المشهورة (بدائرة المعارف العثمانية) بحيدراباد الدكن، صانها الله تعالى عن الفتن والمحن في ظل الملك المؤيد المعان، الذي اشتهر فضله في كل مكان، وعم كرمه القاصي والدان، السلطان بن السلطان سلطان العلوم مظفر الممالك آصف جاه السابع مير عثمان علي خان بهادر، لا زالت مملكته بالعزِّ والبقاء دائمة المتقدم والارتقاء. وهذه الجمعية تحت صدارة ذي الفضائل السنية، والمفاخر العلية، النواب السير حيدر نوازجنكَـ بهادر، رئيس المجلس الانتظامي ورئيس الوزراء في الدولة الآصفية، والعالم العامل بقية الأفاضل النواب محمَّد يارجنكَـ بهادر رئيس المجلس العلمي للجمعية، وتحت اعتماد الماجد الأريب الشريف المسيب النواب مهدي يارجنكَـ بهادر عميد الجمعية ووزير المعارف والسياسة في الدولة الآصفية، ونائب أمير الجامعة العثمانية، والماجد الهمام النواب ناظر يارجنكَـ بهادر شريك عميد الجمعية وركن العدلية. وضمن إدارة ذي الفضل السنيّ والمنهج السوي، مولانا السيد هاشم الندوي، ركن الجمعية ومدير المطبعة أدام الله تعالى درجاتهم سامية ومحاسنهم زاكية. وعُني بتصحيحه من رجال الدائرة مولانا المدقق السيد هاشم الندوي، والرفقاء الأفاضل الشيخ محمَّد طه الندوي، والسيد أحمد الله الندوي، والشيخ محمَّد عادل القدوسي، والسيد حسن جمال (¬1) الليل المدني، والشيخ أحمد بن محمَّد اليماني، وخادمهم الحقير عبد الرحمن بن يحيى ¬

_ (¬1) كذا.

اليماني، ونظر نظرة ثانية وقت الطبع مولانا العلامة الفاضل محمود حسن صاحب معجم المصنفين وركن دائرة المعارف ستر الله عيوبهم وغفر ذنوبهم. وكان تمام الطبع في يوم الأربعاء عاشر شهر شعبان سنة 1357، والحمد لله رب العالمين وصلاته وسلامه على خاتم النبيين سيدنا محمَّد وآله وصحبه أجمعين آمين. ***

ترجمة المؤلف [الخطيب البغدادي]

ترجمة المؤلف [الخطيب البغدادي] هو الحافظ الكبير الإِمام محدث الشام والعراق أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي (بن ثابت) (¬1) صاحب التصانيف (¬2). نسبه: ذكر في تاريخ بغداد ترجمة لوالده فقال: "علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي أبو الحسن الخطيب والدي ... وكان يذكر أن أصله من العرب وأن له عشرة (¬3) يركبون الخيل مسكنهم بالجصاصة (¬4) من نواحي الفرات" (¬5). مولده: ولد يوم الخميس لست بقين من جمادى الآخرة سنة 392 هـ هكذا ذكره ابن السبكي (¬6) وابن خلكان (¬7). وقال ابن الجوزي في "المنتظم": "ولد يوم الخميس لست بقين من جمادى الآخرة سنة 391 هـ كذا رأيته في خط أبي الفضل ابن خيرون" (¬8). وقال الذهبي: "ولد سنة اثنتين ¬

_ (¬1) زيادة من تاريخ ابن خلكان. [المؤلف، وكذا جميع حواشي هذه الخاتمة]. (¬2) تذكرة الحفاظ (3/ 312). (¬3) لعل الصواب عشيرة. (¬4) لعل الصواب "الحصاصة" بالحاء المهملة، انظر معجم البلدان والقاموس. (¬5) تاريخ بغداد (11/ 359). (¬6) طبقات الشافعية (3/ 16). (¬7) الوفيات (1/ 32). (¬8) المنتظم مخطوط.

وتسعين وثلثمائة" (¬1) ونحوه لابن السمعاني (¬2) وابن الصلاح (¬3) وغيرهم، وأشار ابن خلكان إلى هذا الاختلاف فقال: "وقيل: إنه ولد سنة 391 والله أعلم"، واقتصر النووي في "التقريب" على إحدى وتسعين وثلاثمائة، زاد السيوطي في "شرحه" (¬4): "أو اثنتين"، وقال السخاوي في "فتح المغيث" (¬5): "مولده في جمادى الآخرة سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة، وقيل: سنة اثنتين وهو المحكي عن الخطيب نفسه". نشأته وطلبه للعلم: قال ابن السبكي: "كان لوالده الخطيب أبي الحسن علي إلمام بالعلم وكان يخطب بقرية درزيجان (¬6) إحدى قرى العراق فحض ولده أبا بكر على السماع في صغره فسمع وله إحدى عشرة سنة ورحل إلى البصرة وهو ابن عشرين سنة وإلى نيسابور ابن ثلاث وعشرين سنة ثم إلى أصبهان ثم رحل في الكهولة إلى الشام" ثم ذكر دخوله الدينور والكوفة والري وهمذان والحجاز ودمشق، وذكر الذهبي نحو ذلك وزاد: والحرمين والقدس وصور وغيرها. حرصه على العلم: قال ابن الجوزي وغيره: "قرأ صحيح البخاري على كريمة بنت أحمد المروزية في خمسة أيام"، قال: "وكان حريصًا على ¬

_ (¬1) تذكرة الحفاظ (3/ 312). (¬2) الأنساب (ورقة 203 ب). (¬3) علوم الحديث طبع الطباخ (ص 388). (¬4) تدريب الراوي مخطوط. (¬5) (ص 476). (¬6) ضبطه ياقوت ووقع في الطبقات "درزنجان".

علم الحديث وكان يمشي في الطريق وفي يده جزء يطالعه". مشايخه: فيهم كثرة جدًّا فمن مشاهيرهم من الحفاظ: البرقاني وأبو نعيم الأصبهاني وأبو سعد الماليني وأبو بكر الحِيري وأبو حازم العبدوي، ومن الفقهاء: القاضي أبو الطيب الطبري، وأبو الحسن المحاملي، وأبو نصر بن الصباغ وغيرهم. الرواة عنه: قال الذهبي: "روى عنه البرقاني شيخه وأبو الفضل بن خيرون والفقيه نصر المقدسي وأبو عبد الله الحميدي وعبد العزيز الكتاني وأبو نصر بن ماكولا ... وخلق يطول عدهم". مكانته في الحديث وثناء الأئمة عليه: قال ابن السمعاني: "كان إمام عصره بلا مدافعة وحافظ وقته بلا منازعة، صنف قريبًا من مائة مصنف صارت عمدة لأصحاب الحديث". وقال الذهبي: "طلب هذا الشأن ورحل فيه إلى الأقاليم وبرع وصنف وجمع وسارت بتصنيفه الركبان وتقدم في عامة فنون الحديث" إلى أن قال: "قال ابن ماكولا: كان أبو بكر الخطيب آخر الأعيان ممن شاهدناه معرفةً وحفظًا وإتقانًا وضبطًا لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتفننًا في علله وأسانيده وعلمًا بصحيحه وغريبه وفرده ومنكره ومطروحه، ثم قال: ولم يكن للبغداديين بعد الدارقطني مثله. وسألت الصوري عن الخطيب وأبي نصر السجزي ففضل الخطيب تفضيلاً بينًا. وقال مؤتمن الساجي: ما أخرجت بغداد بعد الدارقطني مثل الخطيب. قال أبو علي البَرَدَاني: لعل الخطيب لم يرَ مثل نفسه. وقال أبو إسحاق الشيرازي الفقيه: أبو بكر الخطيب يُشبَّه بالدارقطني ونظرائه في معرفة الحديث وحفظه. قال أبو سعد السمعاني: كان الخطيب مهيبًا وقورًا ثقة متحريًّا حسن

الخط كثير الضبط فصيحًا ختم به الحفاظ". علومه غير الحديث: قال ابن الجوزي: "قرأ القرآن والقراءات"، وقال الذهبي: "قال ابن النجار في ترجمة الخطيب: نشأ ببغداد وقرأ القرآن بالروايات وعلّق شيئًا من الخلاف"، وقال الذهبي: "كان من كبار الشافعية"، وقال ابن السبكي: "كان من كبار الفقهاء". وحكى السيوطي في "تدريب الراوي" عن النووي: أنه ذكر كلامًا للخطيب والبيهقي في مذهب الشافعي في مراسيل ابن المسيب ثم قال: "فهذان إمامان حافظان فقيهان شافعيان مضطلعان من الحديث والفقه والأصول والخبرة التامة بنصوص الشافعي ومعاني كلامه". وسيأتي عن التبريزي ما يعلم منه مكانة الخطيب في العلوم الأدبية، ويأتي في الكلام على عقيدته ما يعلم منه معرفته بالكلام. مذهبه وعقيدته: قال ابن الجوزي: "كان أبو بكر الخطيب قديمًا على مذهب أحمد بن حنبل فمال عليه أصحابه - الحنابلة - لما رأوا من ميله إلى المبتدعة وآذوه فانتقل إلى مذهب الإِمام الشافعي وتعصَّب في تصانيفه عليهم ورمز إلى ذمهم وصرح بقدر ما أمكنه". ثم ذكر أمثلة مما زعمه تعصبًا من الخطيب على الحنابلة. ومن نظر بعين الإنصاف لم يجد فيها مثالًا واحدًا يظهر منه التعصب، وكأنه أراد بالمبتدعة الأشاعرة قال ابن السبكي: "وكان يذهب في الكلام إلى مذهب أبي الحسن الأشعري". ونجد الخطيب ينقل في "الكفاية" من كتب القاضي أبي بكر بن الطيب الباقلاني رأس الأشاعرة بروايته عن محمَّد بن عبيد الله المالكي عن الباقلاني. وحكى ابن السبكي عن الكتاني أنه قال: "وكان - الخطيب - يذهب إلى

مذهب أبي الحسن الأشعري"، ثم حكى عن شيخه الذهبي أنه حكى ذلك ثم قال: "مذهب الخطيب في الصفات أنها تُمر كما جاءت صرّح بذلك في تصانيفه"، ثم قال ابن السبكي: "قلت وهذا مذهب الأشعري فقد أُتي الذهبي من عدم معرفته بمذهب الشيخ أبي الحسن كما أُتي أقوام آخرون وللأشعري قول آخر بالتأويل". أقول: لم يزد الذهبي على التنبيه على الصواب؛ لأن المشهور من مذهب الأشعري هو التأويل فخشي الذهبي أن يتبادر إلى ذهن السامع أن الخطيب كان يؤوّل، وابن السبكي شديد العقوق لأستاذه الذهبي. وقد نقل الذهبي في "التذكرة" من نصوص الخطيب ما هو صريح في أن مذهبه في العقائد هو مذهب السلف. مصنفاته: قد تقدم قول ابن السمعاني: "صنف قريبًا من مائة مصنف"، وذكر غيره أعدادًا مختلفة وذكر الذهبي وابن الجوزي عدة منها لا نطيل بذكرها، وأشهرها وأكبرها "تاريخ بغداد" ومن أهمها كتاب "الكفاية". كتاب الكفاية: قال الحافظ ابن حجر: "أول من صنف في ذلك - يعني اصطلاح الحديث - القاضي أبو محمَّد الرامهرمزي فعمل كتاب "المحدث الفاصل" لكنه لم يستوعب، والحاكم أبو عبد الله النيسابوري لكنه لم يُهَذِّب ولم يرتب، وتلاه أبو نعيم الأصبهاني فعمل على كتابه مستخرجًا وأبقى أشياء للمتعقب، ثم جاء بعدهم الخطيب أبو بكر البغدادي فعمل في قوانين الرواية كتابًا سماه "الكفاية" وفي آدابها كتابًا سماه "الجامع لآداب الراوي والسامع" وقلَّ فن من فنون الحديث إلا وقد صنف فيه كتابًا مفردًا، فكان كما قال الحافظ أبو بكر بن نقطة: كل من أنصف عَلِم أن المحدثين بعد الخطيب

عيال على كتبه" (¬1). تعبده: روى الذهبي عن أبي الفرج الإسفراييني قال: كان الخطيب معنا في الحج فكان يختم كل يوم قريب الغياب قراءة ترتيل ثم يجتمع عليه الناس وهو راكب فيقولون: حدِّثنا، فيحدث. قال الذهبي: "وقال عبد المحسن الشيحي: عادلت الخطيب من دمشق إلى بغداد فكان له في كل يوم وليلة ختمة. ثروته وكرمه: يعلم من كلام العلماء في ترجمته أنه كان له ثروة طائلة، وكان ينفق منها على أهل الحديث وطلبة العلم، ويتنزَّه عن قبول صِلات الناس. قال الذهبي: قال أبو زكريا التبريزي: كنت أقرأ على الخطيب بحلقته بجامع دمشق كتب الأدب المسموعة له وكنت أسكن منارة الجامع فصعد إليّ وقال: أحببت أن أزورك فتحدثنا ساعة، ثم أخرج ورقة وقال: الهدية مستحبة اشتر بهذه أقلامًا. فإذا خمسة دنانير، ثم صعد نوبة أخرى ووضع نحوًا من ذلك، وكان إذا قرأ الحديث يسمع صوته في آخر الجامع كان يقرأ معربًا صحيحًا". وقال ابن السبكي: ولما مرض وقف جميع كتبه وفرق جميع ماله في وجوه البر وعلى أهل العلم والحديث، وكان ذا ثروة ومال كثير فاستأذن أمير المؤمنين القائم بأمر الله في تفريقها فأذن له. وسبب استئذانه أنه لم يكن له وارث إلا بيت المال". وفاته: اتفقوا على تاريخ وفاته، وهذه عبارة ابن الجوزي في "المنتظم": "كان يقول: شربتُ ماء زمزم على نية أن أدخل بغداد وأروي بها "التاريخ" ¬

_ (¬1) مقدمة شرح النخبة مخطوط.

وأن أحدث بها وأُدْفَن بجنب بشر بن الحارث، وقد رزقني الله دخولها ورواية "التاريخ" بها وأنا أرجو الثالثة، وأوصى أن يدفن إلى جانب بشر. توفي ضحوة نهار يوم الاثنين سابع ذي الحجة من هذه السنة (سنة 463) في حُجرة كان يسكنها بدرب السلسلة في جوار مدرسة النظامية، وحمل جنازته أبو إسحاق الشيرازي وعَبَر به على الجسر، وجازوا به في الكرخ، وحُمِل إلى جامع المنصور وحضر الأماثل والفقهاء والخلق الكثير، وصلى عليه أبو الحسين بن المهتدي ودفن إلى جانب بشر، وكان أحمد بن علي الطريثيثي قد حفر هناك قبرًا لنفسه فكان يمضي إلى ذلك الموضع ويختم فيه القرآن عدة سنين، فلما أرادوا دفن الخطيب هناك منعهم وقال: هذا قبري أنا حفرته وختمت فيه ختمات ولا أمكنكم، فقال له أبو سعد الصوفي: يا شيخ! لو كان بشر الحافي في الحياة ودخلت أنت والخطيب عليه أيُّكما كان يقعد إلى جانبه؟ قال: الخطيب! فقال: كذا ينبغي أن يكون في حالة الموت. فطاب قلبه ورضي فدفن الخطيب هناك". رحمه الله تعالى.

خاتمة طبع "نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر" لعبد الحي الحسني (ت 1341)

(14) خاتمة طبع "نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر" لعبد الحي الحسني (ت 1341)

بحمد الله تبارك وتعالى انتهى طبع هذا الجزء من كتاب "نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر" وهو الجزء المشتمل على تراجم العلماء والنبلاء من أهل الهند في القرن الثامن، اخترنا طبعه ليكون كالذيل للدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة للحافظ ابن حجر رحمه الله؛ تتميمًا للفائدة المقصودة من كتاب الدرر؛ لأنا وجدناه قد فاته أكثر تراجم أعيان الهند؛ لبعد الديار وقلة المواصلات في ذلك العهد. كان الطبع بعد استئذان نجل المؤلف العالم الفاضل الطبيب الدكتور السيد عبد العلي، وبإذنه أبدلنا بعض الألفاظ والتراكيب بما هو أعرف منها، وأننا نشكر جنابه على هذه الإعانة العلمية المفيدة للعلماء المتطلعين إلى معرفة أخبار مَن مضى من علماء المسلمين وأعيانهم، جزاه الله تعالى خير الجزاء. وكان الطبع على نفقة جمعية دائرة المعارف في ظل مولانا السلطان المؤيد المُعان، سلطان العلوم: النواب مير عثمان علي خان آصف جاء السابع، أدام الله دولته وخلَّد مُلكَه وسُلطته. وهذه الجمعية تحت صدارة ذي المكارم والمحاسن: النواب حيدر نوازجنكَـ رئيس المجلس الانتظامي ووزير المال في الدولة الآصفية، والعالم الفاضل: النواب محمَّد يارجنكَـ بهادر رئيس المجلس العلمي، أدامهما الله بالعز والوقار إلى يوم القرار. وتحت اعتماد الشريف النسيب: النواب مهدي يارجنكَـ وزير السياسة وشريك العميد: النواب ناظر يارجنكَـ ركن العدالة العالية أدامهما الله في

خدمة علمية وحياة طيبة. وطُبع هذا الكتاب تحت إدارة مولانا الحاج السيد ظهور الحق مدير الجمعية زاده الله فضلًا وكمالًا (¬1). حرره الفقير إلى الله تعالى عبد الرحمن بن يحيى اليماني مصحح دائرة المعارف ¬

_ (¬1) وكان طبعه سنة 1350 هـ.

خاتمة طبع "معجم الأمكنة لنزهة الخواطر" لمعين الدين الندوي (ت)

(15) خاتمة طبع "معجم الأمكنة لنزهة الخواطر" لمعين الدين الندوي (ت)

الحمد لله الملك الوهاب، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء سيدنا محمَّد، إمام أولي الألباب، وعلى آله وأصحابه خير آل وأصحاب. وبعده، فقد تمّ بعون الله تعالى طبع هذه الرسالة الموسومة بـ "معجم الأمكنة لنزهة الخواطر" للفاضل الأريب الحاج معين الدين الندوي، وهي رسالة عظيمة النفع على صِغر حجمها، ولا سيَّما وقد طُرّزت بملاحظات من قلم العلَّامة الشهير الأستاذ السيد سليمان الندوي حفظه الله، وذلك بمطبعة دائرة المعارف العثمانية الواقعة في حيدراباد دكن وقاها الله شرور الفتن والمحن، وهي العاصمة العامرة بالعلوم والمعارف والكليات والمدارس والمكاتب والمطابع في ظل الملك المؤيد المُعان، الذي اشتهر فضله في كل مكان، وعمَّ كرمه القاصي والدان، السلطان ابن السلطان سلطان العلوم مظفر الممالك آصف جاه السابع مير عثمان علي خان، لا زالت مملكته بالعز والبقاء، دائمة التقدم والارتقاء. وهذه الجمعة تحت صدارة ذي الفضائل السَّنِية، والمفاخر العليّة النواب سر (¬1) حيدر نوازجنكَـ بهادر رئيس المجلس الانتظامي للجمعية ووزير المالية في الدولة الآصفية، والعالم العامل بقية الأفاضل النواب محمَّد يارجنكَـ بهادر رئيس المجلس العلمي للجمعية، وتحت اعتماد الماجد الأريب الشريف النسيب النواب مهدي يارجنكَـ بهادر عميد الجمعية ووزير السياسة في الدولة الآصفية، والماجد الهمام النواب ناظر يارجنكَـ بهادر شريك العميد للجمعية وركن العدلية، وضمن إدارة صاحب ¬

_ (¬1) كذا، وقد سبق رسمه في خاتمة الكفاية (ص 284) "السير". وهو بالإِنجليزية (sir) أي: السيد.

الفضل والصدق السيد ظهور الحق ركن الجمعية ومدير المطبعة أدام الله تعالى درجاته ساميةً ومحاسنهم زاكية. وكان انتهاء طبعه يوم الأربعاء سابع ربيع الأول سنة 1353 هجرة (¬1) على مشرفها أفضل الصلاة والسلام والتحية. راقمه عبد الرحمن اليماني ¬

_ (¬1) كذا.

تقريظ "فضل الله الصمد في توضيح الأدب المفرد" للسيد فضل الله الجيلاني (ت 1399)

(16) تقريظ "فضل الله الصَّمَد في توضيح الأدب المفرد" للسيد فضل الله الجيلاني (ت 1399)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله وحده، وصلّى الله على خاتم أنبيائه محمَّد وآله وصحبه وسلم. قد أكثر العارفون بالإِسلام المخلصون له من تقرير: أنّ كلَّ ما وقع فيه المسلمون من الضعف والخَوَر والتخاذل، وغير ذلك من وجوه الانحطاط إنّما كان لبعدهم عن حقيقة الإِسلام. وأرى أنّ ذلك يرجع إلى أمور: الأول: التباس ما ليس من الدين بما هو منه. الثاني: ضعف اليقين بما هو من الدين. الثالث: عدم العمل بأحكام الدين. وأرى أنّ معرفة الآداب النبوية الصحيحة في العبادات والمعاملات، والإقامة والسفر، والمعاشرة والوحدة، والحركة والسكون، واليقظة والنوم، والأكل والشرب، والكلام والصمت، وغير ذلك ممّا يعرض للإنسان في حياته، مع تحري العمل بها كما يتيسّر = هو الدواء الوحيد لتلك الأمراض. فإنّ كثيرًا من تلك الآداب سهل على النفس، فإذا عمل الإنسان بما يسهل عليه منها، تاركًا لما يخالفها، لم يلبث إن شاء الله تعالى أن يرغب في الازدياد، فعسى أن لا تمضي عليه مدة إلا وقد أصبح قدوة لغيره في ذلك. وبالاهتداء بذلك الهدي القويم، والتخلُّق بذلك الخلق العظيم - ولو إلى حدًّ ما - يستنير القلب، وينشرح الصدر، وتطمئن النفس؛ فيرسخ اليقين، ويصلح العمل. وإذا كثر السالكون في هذا السبيل لم تلبث تلك الأمراض أن تزول إن شاء الله.

ومن أبسط مجموعات كتب السنة في الأدب النبوي كتاب (الأدب المفرد) للإمام محمَّد بن إسماعيل البخاري رحمه الله، والإِمام البخاري كالشمس في رابعة النهار شهرةً، وإلى مؤلفاته المنتهى في الجودة والصحة. وكتابه هذا - أعني الأدب المفرد - هو بعد كتابه "الجامع الصحيح" أولى كتبه بأن يَعتني به من يريد اتباع السنة، فإنّه جمع فأوعى، مع التحري والتوقّي والتنبيه على الدقائق. ولكن الأمة - لسوء حظها - قصَّرت في حق هذا الكتاب، فنسخه المخطوطة عزيزة جدًّا، وقد طبع مرارًا ولكن قريبًا من العدم؛ لأنّها مشحونة بالأغلاط الكثيرة في الأسانيد والمتون، أغلاط لا يهتدي إلى صوابها إلا الرّاسخون. وقد قيّض الله - وله الحمد - لخدمة هذا الكتاب صديقي العالم الفاضل السيد فضل الله بن السيد أحمد علي، فصرف في العناية به سنين عديدة. أوّلاً: حقّق كلماته أسانيد ومتونًا حتى أقامها على الصواب مع صعوبة ذلك في كثير من المواضع. ثانيًا: قام بوضع شرحٍ عليه يبين أحوال أسانيده، ويعرِّف بالمهم من أحوال رجاله، ويذكر من خرّجه، ثم يفيض في شرح المتن، واستنباط النكت والفوائد منه، ويشير إلى الأحاديث الواردة في معناه، وينبه على فوائد ذاك الأدب أو الخلق وحكمه وحكمته، مع الإلمام بما يوافق الحق من المشارب المتعددة كالفقهاء والصوفية والعصرية، باذلاً جهده في أن يجعل الحق أمامه غير متقيد بغيره ولا متحيِّز إلى سواه.

ثالثًا: اعتنى بوضع فهارس عديدة على الطراز الحديث لأبواب الكتاب وأحاديثه ورجاله وأعلامه وغير ذلك، وقد تعمّدت التقصير في الثناء عما هو عليه في نفس الأمر، حتى يرى من يطالعه إن شاء الله تعالى أنّه فوق ما وصفته. والشارح - كغالب أهل العلم في هذا العصر - يستطيع أن يتعب نفسه السنين العديدة في خدمة العلم والدين، ثم يعجز عن نشر عمله، فعسى أن يقيض الله له من أصحاب المطابع أو محبّي العلم من ذوي الثروة من يقوم بهذا الغرض، والله الموفق. وكتبه عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني مصحح بدائرة المعارف في حيدراباد (الدكن) 19 جمادى الآخرة 1370 هـ

تقريظ "مسند الصحيحين" لعبد الحق الهاشمي العمري (ت 1392)

(17) تقريظ "مسند الصحيحين" لعبد الحق الهاشمي العمري (ت 1392)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. صلوات الله وسلامه على محمَّد وآله وصحبه. وبعد، فقد وقفني الشيخ العلامة الجليل أبو محمَّد عبد الحق بن عبد الواحد العمري على المجلد الأول من مؤلفه "مسند الصحيحين" فتصفَّحته فوجدته جمعًا وافيًا بين الصحيحين، مرتبًا على مسانيد الصحابة؛ قدم الخلفاء الراشدين على ترتيبهم، ثم رتب الباقين على حروف المعجم، يذكر في مسند كل صحابي أحاديثه في "الصحيحين" أو أحدهما حديثًا حديثًا، يبدأ فيترجم للحديث بما ينبه على مدلوله ثم يسوق طرقه بأسانيدها عازيًا كل طريق إلى موضعها من "صحيح البخاري" أو "صحيح مسلم" مع التنصيص على الكتاب والباب. هذا، وقد جمع كثير من المتقدمين بين "الصحيحين" على هذا النحو في الجملة، ولم أقف على شيء منها إلا على قطعة من جَمْع الحُمَيدي، وليست عندي الآن ولا تصفحتها كما ينبغي. وعلى كل حال؛ فهذا الكتاب "مسند الصحيحين" يغني عن أكثر تلك الكتب وله على أكثرها - إن لم يكن عليها كلها - مزايا. وإذا كان لي أن أقترح على مؤلفه الجليل فإني أقترح أمرين: الأول: أن يُرقم على أسماء الصحابة الأرقام العددية 1 - 2 - 3 - إلخ ...

ثم يرقم على أحاديث كل صحابي كذلك، ثم كل حديث وقع في "الصحيحين" أو أحدهما عن صحابيين فأكثر ينبه في كل موضع على الآخر فإذا اتفق مثلاً الحديث الثالث في مسند عمر والحديث الخامس في مسند علي كتب على الأول: "انظر 4/ 5"، وعلى الثاني: "انظر 2/ 3" وهكذا. الثاني: أن يرتب فهرسًا مطولًا للأحاديث مرتبًا على ترتيب الجوامع، يذكر في كل باب طرفًا من الحديث ورقمه أو أرقامه. وبهذا يكون الكتاب مسندًا وجامعًا معًا، والاستفادة في هذا العصر من الجوامع أيسر، وعناية الناس ورغبتهم تتحرى اليسر. وعلى كل حال، فأسأل الله تعالى أن ييسر لفضيلة المؤلف إتمام الكتاب، ويهيئ لطبعه ونشره مَن يخْتاره مِن محبي السنّة والساعين في نشرها. والله الموفق (¬1). كتبه راجي عفو ربه عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني في 19 ذي القعدة الحرام سنة 1378 ¬

_ (¬1) أصلها محفوظ عند شيخنا عبد الوكيل بن عبد الحق على ورق أبيض مسطّر قد تمزّق من وسطه، كتبه الشيخ بالمداد الأزرق.

تحقيق في لفظة (أبنا) و (أنبأ) الواقعة في "السنن الكبرى للبيهقي"

(18) تحقيق في لفظة (أبنا) و (أنبأ) الواقعة في "السنن الكبرى للبيهقي" (¬1) ¬

_ (¬1) طُبعت في خاتمة طَبْع المجلد الرابع من "السنن الكبرى للبيهقي"، وسبب كتابتها أنه وقع الاشتباه في ضبط هذه الألفاظ في النسخ الخطية، فانتدب الشيخ لتحقيقها إذ كان أحد القائمين على تصحيح الكتاب، ووضع تحقيقه في آخر المجلد الرابع. أقول: ينظر المجموع 4729 (ص 9 - 19)، ففيه مقارنة بين صِيَغ الأداء في البيهقي وصحيح مسلم. ويُنظر أيضًا "فوائد المجاميع" (ص 233) حول ورود الصيغة نفسِها في "الكفاية" للخطيب.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وقع كثيرًا في أسانيد "سنن البيهقي" في أكثر النسخ التي وقفنا عليها صيغة (انبا)، وطُبعت تبعًا لبعض النسخ الحديثة الكتابة هكذا (أنبأ) وأرى أن الصواب (أبنا) وهي اختصار (أخبرنا) بحذف الخاء والراء، كذلك اختصرها البيهقي وجماعة، ذكره ابن الصلاح في "مقدمته" ثم النووي في "تقريبه" والعراقي في "ألفيته" وغيرهم. قد تصفحت النسخ الموجودة عندنا في الدائرة، فلم أر هذه الصيغة مضبوطة هكذا (أنبأ) صريحًا في شيء من النسخ القديمة، بل ضُبِطت في مواضع هكذا (أبنا) وفي الباقي مهملة أو مشتبهة. لم تقع هذه الصيغة في بعض النسخ القديمة، وإنّما وقع بدلها (أنا) و (أنا) اختصار أخبرنا. البيهقي يعبر في أول الأسانيد بقوله: (أخبرنا) غالبًا، وكُتِبت صريحة في أكثر النسخ، أمّا في المصرية فكتبت هكذا (انبا). النسخ التي وقع فيها (انبا) لم يكد يقع فيها (أخبرنا) ولا (أنا) إلا في أوائل الأسانيد في غير المصرية، مع أنّ صيغة (أخبرنا) كثيرة في الاستعمال، كما يُعلم من مراجعة كتب الحديث، ونصّ عليه الخطيب وغيره قال الخطيب في "الكفاية": "حتى إنّ جماعة من أهل العلم لم يكونوا يخبرون عمّا سمعوه إلاّ بهذه العبارة (أخبرنا)، منهم حماد بن سلمة وعبد الله بن المبارك وهشيم بن بشير وعبيد الله (¬1) بن موسى وعبد الرزاق بن همام ¬

_ (¬1) ط: "عبد الله" خطأ.

ويزيد بن هارون ... ". بل إنّ البيهقيّ نفسه لا يكاد يعبر في روايته عن شيوخه إلا بـ "أخبرنا". إنّ أكثر ما في "سنن البيهقي" مروي عن كتبٍ مصنَّفة، وقد قابلتُ بعضَ ما فيها بمآخِذِه من الكتب كـ "الأم" و"سنن أبي داود" و"سنن الدارقطني"، فوجدت محلّ هذه الصيغة (أخبرنا) أو (أنا). وتتبعت في "سنن البيهقي" مواضع من رواية الأئمة الذين نصّ الخطيب على أنهم لم يكونوا يعبرون عمّا سمعوه إلاّ بلفظ (أخبرنا)، فوجدت عبارتهم تقع في السنن بهذه الصيغة (انبا). إنّ صيغة (أنبأنا) عزيزة كما يُعلم بتصفُّح كتب الحديث، ونصّ عليه الخطيب وغيره، ونصّ السخاوي والبقاعي وغيرهما من علماء الفن أنّه لم يَجْر للمحدثين اصطلاح في اختصار (أنبأنا)، وحذف الضمير في الصِّيغ مع الاتصال عزيز جدًّا، لا تكاد تجد في الكتب (حدّث فلان) أو (أخبر فلان) على معنى (حدثنا) أو (أخبرنا)؛ لأنّ مثل ذلك محمول على الانقطاع عند الخطيب واختاره الحافظ ابن حجر. ومن خالف فيه فإنّه موافقٌ على أنّه محمول على الانقطاع في عبارات المدلسين. وكثيرًا ما تقع عبارات المدلسين في "سنن البيهقي" بهذه الصيغة (انبا) وهي في الكتب المأخوذ منها (أخبرنا). إنّ صيغة (أخبرنا) للسماع اتفاقًا، وصيغة (أنبأنا) في اصطلاح شيوخ البيهقي ومشايخهم وأهل عصرهم للإجازة، نصّ عليه الحاكم، فكيف يختار البيهقي لنفسه (أخبرنا) ثم يبدلها باطراد في كلام غيره ممّا ثبت في الكتب المصنفة، حتى من لم يكن يعبر إلاّ بها بـ "أنبأنا" مع كثرة "أخبرنا" وعزة

"أنبأنا"، وتغاير معنييهما اصطلاحًا. ثمّ لا يكتفي بذلك حتى يشفعه بحذف الضمير الذي هو دليل السماع، فيصير الظاهر الانقطاع. وبالجملة؛ فالصواب ضبط هذه الصيغة هكذا (ابنا) قطعًا، وهي اختصار (أخبرنا)، ولهذا تقع في محلها فيما رواه عن الكتب المصنفة، ويقع محلها في النسخ (أخبرنا) أو (أنا)؛ لأنّ الأمر في ذلك موكول إلى الكاتب، فإن شاء كتبها صريحة (أخبرنا)، وإن شاء اختصرها على أحد الاختصارات المنصوص عليها؛ لأنّ القارئ يتلفظ بها دائمًا "أخبرنا" فلا حرج في الكتابة، فأمّا إبدال صيغة بأخرى دونها، أو مغايرة لها في المعنى الاصطلاحي، أو فيما ثبت في الكتب المصنفة فغير جائز، فضلاً عن أن يحذف الضمير الدال على السماع. قد وقعت هذه الصيغة (أنبا) في كتب أخرى غير "سنن البيهقي"، وطُبِعت في بعضها هكذا (أنبأ) والصواب في عامة ذلك (أبنا). الأدلة على ما ذكرت أكثر مما تقدم، وأرى أنّ فيما لخَّصته ههنا غنى عن البسط والتطويل، وحسبي الله ونعم الوكيل، وصلى الله على خاتم أنبيائه محمَّد وآله وصحبه وسلم.

تحقيق نسبة (العندي)

(19) تحقيق نِسبة (العندي) (¬1) ¬

_ (¬1) من حاشية تحقيق كتاب "الإكمال" (6/ 322 - 331) لابن ماكولا.

بسم الله الرحمن الرحيم قال العلامة المعلمي تعليقًا على قول ابن ماكولا في "الإكمال": "وأما العندي بنون ساكنة ... ". قال: "بياض في النسخة ولم أجد هذا الاسم (العندي) فيما لدي من كتب المؤتلف والأنساب، وتقدم في باب عبدة ونحوه قال: "وأما عنْدة بنون ساكنة فامرأة من مهرة، هي أم علقمة بن سلمة بن مالك بن معاوية الأكرمين وهو ابن عنْدة، ولقبه الزوير" وفي بعض الكتب في نسبة الأديب الأبيني "العندي" ويأتي النظر فيه في (العيدي) ". ثم قال: "في "المشتبه" بإضافة من "التوضيح": "و [أما] العيدي - بالكسر [مع إهمال الدال] نسبة إلى العيد [فهو] جلال الدين محمد بن أحمد بن عمر البخاري، في آبائه من ولد في العيد فنسب إليه، بارع في الفقه والأصلين، أخذ عنه الفرضي، وقال: مات سنة ثمان وستين وستمائة". تعقبه "التوضيح" بقوله: "لم يجزم أبو العلاء الفرضي بوفاته، إنما قال فيما وجدته بخطه: توفي فيما أظن في شهر رمضان سنة ثمان وستين وستمائة". قال المعلمي: كأن الذهبي فهم أن التردّد مُنصبّ على الشهر فقط، وهو قريب. ثم قال في "التوضيح" عن الفرضي: "وأخوه صاحبنا كمال الدين عمر بن أحمد بن عمر العيدي، تفقه على أخيه وقرأ الفرائض والحساب على شيخي الإِمام نجم الدين عمر بن أحمد بن عمر الكاخُشْتُواني البخاري رحمه الله. انتهى".

قال في "التوضيح": "وأبو الحسين يحيى بن علي بن القاسم العيدي عن أبي بكر الحنيفي وعنه أبو طاهر السِّلَفي في "معجم السفر". ونسبةً إلى العيدي بن نَدَغى بن مهرة بن حيدان بن عمرو بن الحاف بن قضاعة، منها ذهبن بن فرضم بن العجيل بن قثاث بن قمومي بن بَقْلُل بن العيدي، صحابي له وفادة، ذكره ابن الكلبي في "الجمهرة"، وقال: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكرمه لبعد مسافته. انتهى". وقد تقدم ذهبن بنسبه 3/ 388 ولم أستوف هناك النظر في الأسماء، وسترى ذلك إن شاء الله تعالى في رسم (قثاث). ومنه أنه وقع هناك تبعًا للأصول "ابن العيذي" بنقط الذال، وكذا وقع في الأصل في رسم (قثاث) مع شكله بفتح العين وبسكون الياء. وإنما الصواب بكسر العين وسكون التحتية تليها دال مهملة، قال ابن دُريد في "الاشتقاق" ص 552 في أسماء مهرة بن حيدان: "ومنهم بنو عيدي تنسب إليهم الإبل العيدية" وقال في "جمهرته" 2/ 286 في مادة (ع ود): "العيدية نجائب منسوبة إلى العيد، وهو قبيلة من مهرة بن حيدان" وذكرها غيره من أهل المعاجم، وفي "الإكليل" 1/ 193 في نسب مهرة "وقبائل نادغم (هو الذي سماه ابن دريد وغيره: ندغى) العقار ... والعيدي، وإليهم تنسب الإبل العيدية". وقال ص 194: "وولد نادغم العيد" كأنه يقال له: "العيد" ويقال: "العيدي" وهو الأكثر. وفي "التوضيح" عقب ما مرَّ عنه: "وأبو بكر أحمد بن محمد العيدي الأبيني الأديب، شاعر، ذكره عمارة بن الحسن اليمني الشاعر" والعطف على قوله: "منها ذهبن ... " أي: ومن بني العيدي بن ندغى "أبو بكر ... ". وفي شأن هذا الأديب الأبيني اختلاف في موضعين، الأول: ذكر هنا في

"التوضيح" كما ترى: "أبو بكر أحمد بن محمد"، ومثله في "معجم البلدان" في رسم: (أبين) و (الإسكندرية) و (عدن)، وفي "تكملة ابن الصابوني" ص 92: "الأديب أحمد بن محمد، وكذا نقل في رسم (الخلي) من "التوضيح" وتقدم نقله 1/ 116. لكني رأيته في "العَسْجد المسبوك" مخطوطة مكتبة الحرم المكي يذكره بلفظ: "أبو بكر بن أحمد" في مواضع منها ص 97 وص 153، وكذا في نسختين أخريين بالمكتبة المحمودية في المدينة الشريفة، وكذا في "قرة العيون" مخطوطة مكتبة الحرم أيضًا في ذكر توران شاه ابن أيوب قال: "ولما دخل عدن أنشده الأديب أبو بكر بن أحمد العبدي (كذا) قصيدة بلغة فصيحة يقول فيها: أعساكرًا أسريتها وجنودا ... أم أنجمًا أطلعتهن سعودا" وفي تعليقات المحقق النحرير الأستاذ فؤاد سيد على "طبقات فقهاء اليمن" ص 169 في ذِكْر هذا الأديب ما لفظه: "ترجم له عمارة في "المفيد" 180 - 232 ترجمة مطولة ... وذكر اسمه: فخر الدين أبو العتيق أبو بكر بن أحمد العبدي (كذا) ... وترجم له الجندي أيضًا لوحة 156 ... وذكر أنّ اسمه أبو العتيق أبو بكر بن أحمد العبدي (كذا) ... ". وكتب إليّ الأستاذ فؤاد سيد جوابًا عن سؤال في شأن هذا الرجل وفيه: "في خريدة القصر ... قسم شعراء الشام .. المطبوع أخيرًا سنة 1964 ... يذكر الاسم فيها: "أبو بكر بن أحمد بن محمد العيدي"، وأرى أن ما تقدم كاف للجزم بأنه "أبو بكر بن أحمد" وأن من قال: "أبو بكر أحمد" إنما بنى على الغالب المألوف أن قولهم: (أبو بكر) كنية يتبعها الاسم. وقد اتضح أنها هنا اسم وأن كنيه هذا

الرجل أبو العتيق. الموضع الثاني: النسبة (العيدي) كيف ضبطها؟ فقد جاءت على أوجه: الوجه الأول: (العبدي) بعين ودال مهملتين بينهما موحدة هكذا في عدة نسخ من "العسجد المسبوك" مرت الإشارة إليها. وفي "قرة العيون"، وفي كتاب "المفيد في أخبار زبيد" لعمارة و"السلوك" للجندي أفادني عنهما الصديق الحميم الأستاذ فؤاد سيد في كتابه, وفي مواضع من المخطوطات تثبت مع النقطة التي تحت الموحدة نقطة أخرى تحت الدال علامة للإهمال كما ثبتت هذه العلامة في تلك الكتب في غير هذه الكلمة. ويلاحظ: أن هذه النقطة قد تقرب من الأولى فيقرأ: (العيدي) بتحتية بين المهملتين، وقد يستغرب هذا؛ لأن المتقدمين لم يذكروه فيظن الصواب (العيذي) بتحتية فمعجمة. وليس من المحتَّم أن لا تكون نسبة (العبدي) بالموحدة بين المهملتين إلا إلى عبد القيس، بل من الجائز أن تكون في بعض الجهات إلى عبد آخر. الوجه الثاني: (العِيدي) بالتحتية بين المهملتين تقدم ذلك عن "التوضيح" وكذا وقع في مواضع من "معجم البلدان": (أبّه - أبين - الإسكندرية - عدن) وفيه في رسم (أبين) ما لفظه: "قال عمارة بن الحسن اليمني الشاعر: أبين موضع في جبل عدن منه الأديب أبو بكر أحمد (كذا) بن محمد العيدي القائل منسوب إلى قبيلة يقال لها عيد، ويقال عيدي بن ندعي (كذا) بن مهرة بن عيدان (كذا)، وهي التي تنسب إليها الإبل العيدية؛ وأشار بعضهم يقول: ليت ساري المزن من وادي منى ... بان عن عيني فيسقي أبينا"

ذكر الأبيات، وكل من (عيدي بن ندغي) و (الإبل العيدية) لا نزاع أنه بتحتية بين مهملتين، وكنت رأيت أن هذا الضبط من كلام عمارة نفسه فيكون نصًّا قاطعًا لأنه صاحب هذا الأديب، ثم قلت: إن لم يكن من كلام عمارة فهو من كلام ياقوت، ثم لما تأملت العبارة رابني فيها أن قوله: (وهو القائل) غير متصل بما بعده، وأن قوله: "وأشار بعضهم يقول" عبارة ركيكة لا تليق بعمارة ولا ياقوت، وأن الأبيات هي لذاك الأديب الأبيني نفسه كما في "خريدة القصر" وغيرها, ولو أنك حذفت ما بين (وهو القائل) والأبيات وقلتَ: "وهو القائل: ليت ساري المزن من وادي منى ... "؛ لوجدت العبارة مستقيمة. فأخشى أن يكون هذا هو الأصل وأن بعضهم كتب بهامش بعض النسخ حاشية قوله: "منسوب إلى قبيلة ... الإبل العيدية" فجاء آخر فأدرج هذه الحاشية في المتن وزاد من عنده قوله: "وأشار بعضهم يقول" ليصل العبارة بما بعدها. غير أن موافقة هذا الضبط "للتوضيح" تدل أن له أصلاً متينًا. الوجه الثالث: (العَيْذي) بمهملة فتحتية فمعجمة كذا وقع في "تكملة ابن الصابوني" ص92 في رسم (الخلي) ولفظه بعد أن ذكر أبا الربيع سليمان بن محمد الخلي وأنه سأله عن مولده فذكره وأنه بخلة قرية قبْلي عدن "حدثنا أبو الربيع .. الخلي ... من لفظه بدمشق قال: أنبأنا عبد الله بن محمد بن يحيى الإسحاقي بعدن قال: كنت يومًا عند الأديب أحمد بن محمد العيذي بعد أن عمي ... " وهكذا نقلت هذه العبارة عن التكملة في التوضيح وعلى كلمة (العيذي) "صح". فهذا يدل أنها بهذا النقط صحيحة عن ابن الصابوني، وهو روى هذه الحكاية عن عالم عدني عن آخر كذلك من أصحاب هذا الأديب نفسه، فيبعد أن تكون خطأ.

وقد يُعارض هذا بأن ياقوت قال في رسم (الإسكندرية): "حدثني القاضي المفضل أبو الحجاج ... قال حدثني الفقيه أبو العباس أحمد بن محمد الأبي ... قال: أذكر ليلةً وأنا أمشي مع الأديب أبي بكر أحمد بن محمد العيدي ... " فذكره بالتحتية بين المهملتين مع أن هذا السند أقصر، ويهون أمرهما معًا أنه وقع فيهما معًا اسم الأديب "أحمد بن محمد" وإنما هو أبو بكر بن أحمد كما مر. وقد يخدش في الوجهين الثاني والثالث معًا؛ بأن في عبارة الجندي كما يأتي: "العبدي ... من قومه الأعبود" فلو كانت هذه الصيغة (الأعبود) مأخوذة من (عيد) أو (عيذ) لكانت (الأعيود) أو (الأعيوذ) والضمة على الياء ثقيلة مع أنه كان ينبغي أن يقال: (الأعوود) أو (الأعووذ)؛ لأنهما من (ع ود) و (ع وذ) وسبب القلب غير موجود في الصيغة، ويجاب: بأن الضمة محتملة، وفي رسم (قين) من "الإكمال": "وأما قين أوله قاف بعدها ياء معجمة باثنتين من تحتها فهو القين بن فهم ... وولده يقال لهم الأقيُون" على أن الجندي من أهل القرن الثامن لا يلزم التزامه لمقتضى التصريف، على أن العرب قد جمعوا العيد على لفظه فقالوا: (أعياد) و (والعيدي بن ندغى) اسم حميري قديم لا يجب أن يكون من (ع ود) ومادة (ع ي د) موجودة ومنها قولهم للنخلة: عيدانة. الوجه الرابع: (العندي) بنون بين المهملتين ذكره لي الأخ العلامة الناقد حمد الجاسر وأنه يقال: إن مسجد هذا الرجل موجود بعدن يعرف بمسجد العندي، وأشار عليّ باستقصاء البحث فاستعنت بالسيد الفاضل المؤرخ هادون العطاس فكتب إليّ السيد الفاضل العالم طاهر بن علوي بن طاهر الحداد وهو بعدن، فعاد جوابه وفيه ما لفظ: "العندي صاحب مسجد العندي بعدن. ظهر لنا بعد أن ظفرنا بترجمة العندي في كتاب "هدية الزمن"

للأمير أحمد فضل العبدلي أن من سميتموه ونقلتم ترجمته من كتاب الصابوني رجل آخر، أما العند وصاحب مسجد العندي بعدن فهاكم ترجمته: قال أحمد فضل في كتابه ص 72 قال الأهدل في "التحفة": الأديب أبو بكر بن أحمد العندي نسبة إلى الأعنود قوم يسكنون لَحْج أبين وعدن، أثنى عليه عمارة ... وكانت وفاة الأديب بعدن سنة 580 تقريبًا وكان من آثاره مسجده المعروف بمسجد العندي بعدن" فشكرته على إفادته ورجوت من السيد هادون أن يكتب إليه بالشكر الجزيل ورجاء المزيد بالبحث عن المسجد والقوم أمعروف بعدن الآن مسجد يقال له: مسجد العندي - أو ما يشبه هذه الكلمة؟ فإن كان، ففي أي موضع من عدن؟ أمعروف في تلك الجهات الآن قوم يقال لهم: الأعنود، أونحو هذا مما يقرب منه؟ فلم يرد جواب منه، وأحسب السيد هادون كرر المكاتبة ولكن لم يفدني بشيء، فحدستُ: أن ذاك الفاضل بحث فلم يجد وخشي أن يجيب بالنفي ويكون هناك شيء يعثر عليه غيره. ثم سمى لي السيد هادون فاضلاً آخر، فكتبت إليه فلم يجب وأحسبه: بحث فلم يجد وخشي ما خشيه الأول، ولا أدري ما مستند أحمد فضل في النقط أوَجَده كذلك في النسخة التي نقل عنها من "تحفة الأهدل"؟ أم نظر على أن هناك قرية يقال لها (العند) ويسوغ أنه يقال لسكانها (الأعنود) كما يأتي بعد؟ ومن جهة أخرى كتبت إلى الصديق الحميم الأستاذ فؤاد سيد أمين المخطوطات بدار الكتب المصرية فعاد جوابه مبسوطًا، وفيه ما لفظه: والزيادات المقوسة منه: "أولا: في "تاريخ ثغر عدن" لبامخرمة المطبوع سنة 1950 يذكر

صاحبنا في مواضع كثيرة باسم - العَيّدِي - مضبوطة بالشكل ويذكر في الحواشي القراءات الأخرى التي يراها لهذا الاسم وهي: العبدي - العَيْذي - العَيِذي - العِيّدي. ثانيًا: في "خريدة القصر" لابن العماد الأصفهاني قسم شعراء الشام واليمن والحجاز المطبوع أخيرًا سنة 1964 بتحقيق الدكتور شكري فيصل ترجمة لا بأس بها للرجل مع أشعار كثيرة له نقلها ابن العماد عن كتاب "المفيد" لعمارة اليمني، وتبدأ هذه الترجمة من ص 145 ويذكر الاسم فيها: أبو بكر أحمد بن محمد العِيدي اليمني. وفي الحواشي يورد الروايات الأخرى التي رآها وهي: العَبدي - العيذي. ثالثًا: رجعت إلي مخطوطة "المفيد في أخبار زبيد" لعمارة اليمني فرأيت أن الناسخ يذكر الاسم: العبدي - وترجمته هناك مطولة وحافلة بشعره من ورقة 180 - 232. رابعًا: في كتاب ابن المجاور .. المستبصر ص 46، يذكر باسم: العبدي، وفي الحاشية: العيدي. خامسًا: وعند الجندي في السلوك ترجمة له في لوحة 156 بقوله: ومنهم أبو العتيق أبو بكر بن أحمد العبدي (بنقطة تحت الموحدة ونقطة تحت الدال للإهمال) نسبًا، الأبيني بلدًا، من قومه الأعود (كذا بدون نقط) جماعة يسكنون أبين ولحج وعدن ... ، وقد أنهى الجندي الترجمة بقوله: وكانت وفاة الأديب بعدن سنة ثمانين وخمسمائة تقريبًا ومن آثاره في عدن المسجد الذي يعرف بمسجد العبدي (كذا بنقط الموحدة). ويبدو أن هذه الترجمة هي التي نقل منها الأهدل".

قال المعلمي: مما استفدنا من هذا أن المخطوطات مطبقة على (العبدي) بموحدة بين مهملتين وأن العبارة التي مر نقلها عن كتاب أحمد فضل عن "تحفة الأهدل" أصلها للجندي. فالجندي هو الذي ذكر المسجد، لكن السيد هادون جزاه الله خيرًا أوقفني على كتاب تاريخ عدن وجنوب الجزيرة لحمزة علي إبراهيم لقمان، وفيه ص 268 في آثار عدن ما لفظه: "مسجد العندي - بناه الشاعر الأديب السياسي العدني أبو بكر بن أحمد العندي قبل وفاته سنة 580". فظاهر هذا أن لقمان وهو عدني من أهل هذا العصر عرف المسجد، لكن رابني أنه لم يبين موضعه! فهل أخذ من كتاب أحمد فضل؟ فعلى هذا يكون المسجد كان معروفًا في زمن الجندي أي في صدر القرن الثامن، وكان الجندي بعدن ولي بها الحسبة. وهل كان المسجد معروفًا في زمن الأهدل؟ لا ندري، وكان الأهدل بزبيد أو ما يقرب منها, ولا يظهر من ترجمته أنه عرف عدن، وإنما لخص كتاب الجندي مع زيادات. ووفاته سنة 855. ثم كتبت إلى علامة الجنوب فضيلة الشيخ محمد بن سالم البيحاني رئيس الجمعية الإِسلامية للتربية والتعليم بعدن فأجاب مشكورًا، وقال في جوابه: "المذكور هو أبو بكر بن أحمد بن محمد العندي بفتح العين المهملة والنون المنقوطة من أعلى مفتوحة أيضًا وبعدها قال مهملة، وهكذا ينطق بهذا الاسم، وهي نسبة إلى قرية يقال لها (العند) شمال حوطة لحج العاصمة على بعد عشرين ميلاً تقريبًا، وهي تقرب من الشققة بفتح الشين وسكون القاف، وبها سكان قليل، وقال لي أحد أمراء لحج: إنها كانت قلعة حربية، وكان فيها معسكر صغير للجيش البريطاني، والمسؤول عنه أديب ... ، أما مسجده الذي ذكره حمزة لقمان في ص 268 من كتابه "تاريخ

عدن والجنوب العربي" فهو غير معروف اليوم، وقد سألت الكبار من أهل عدن عن هذا المسجد فلم يعرفوا عنه ولا عن موقعه قليلاً ولا كثيرًا، والمذكور هو أستاذ الشيخ نجم الدين عمارة اليمني، ونسبته إلى الأعنود قبيلة تسكن عدن وأبين ولحج غير صحيحة، ولو كان الأمر كذلك لقيل له: الأعنودي، وإنما هو منسوب إلى قرية العند، وفي جهتنا ينسب السكان إلى مساكنهم بهذه الصيغة، فيقال في أهل قَدَس: الأقدوس، وفي أهل الحكم - بسكون الكاف -: الأحكوم، وفي أهل العند: الأعنود، وهكذا، وكل ما ورد في ضبط اسمه غير ما ذكرناه فهو مغيّر ومصحف فليس هو بالعبدي ولا العيذي ولا العيدي، وليس هو أبو بكر أحمد بن محمد، وإنما هو أبو بكر بن أحمد العندي فاضبطوه فضلاً لا أمرًا، وإذا تيسر لكم الوقوف على كتاب "التحفة السنية" للأهدل أو "تاريخ الجندي" أو "ثغر عدن" لبامخرمة أو كتاب النسب - بكسر النون - لبامخرمة أيضًا فستجدون أكثر وأحسن مما تيسر لي في هذه الخلاصة". قال المعلمي: أما "تحفة الأهدل" فقد تقدم النقل عنها, ولم يكن الأهدل بعده وإنما لخص كتاب الجندي، و"تاريخ الجندي" و"ثغر عدن" قد تقدم ما فيهما في إفادة الأستاذ فؤاد سيد، وكتاب "النسب" لبامخرمة أراه كتاب النسبة إلى البلدان، رأيت منه نسخة في المكتبة المحمودية بالمدينة الشريفة ولم أجد فيه ما يفيد في قضيتنا هذه. والذي يتحصل من الجواب: 1 - أنه لا يعرف الآن بعدن مسجد ينسب إلى هذا الأديب. 2 - أنه لا يعرف قوم يكونون بأبين وعدن ولحج يقال: لهم (الأعنود) إلا أنه يسوغ أن يقال لسكان تلك القرية (الأعنود).

3 - أن ذاك الأديب يعرف الآن بين علماء عدن وأدبائها بقولهم (العندي) بفتح أوله وثانيه. 4 - أن فضيلة المجيب يجزم بذلك، وبأن ما عداه تصحيف. 5 - أنه يجزم بأنها نسبة إلى قرية (العند) التي توجد الآن في تلك الجهة بها سكان قليل، وأفاد بعض أمراء لحج أنها كانت قلعة حربية وكان بها معسكر صغير للجيش البريطاني. 6 - أنه يجزم بعدم صحة ما قيل: إن النسبة إلى الأعنود قبيلة تسكن عدن وأبين ولحج، ويرى أنه لو كان كذلك لَقيل: الأعنودي. قال المعلمي: أما الأمر السادس فقد مرت عبارة الأهدل، ولا يبعد خطاؤه؛ لأنه متأخر عن الأديب بأكثر من قرنين ولم يكن بعدن ولكنه استند إلى عبارة الجندي، وقد مرّت عبارة الجندي وهي أصرح، والجندي كان بعدن واليًا للحسبة في صدر القرن الثامن. ولا يسعني تأخير إرسال المسودة إلى الهند بعد الآن حتى أراجع فضيلة المجيب، ولعل أعماله المهمة تشغله عن البحث مكررًا، فإذا لم يصنع كما صنع السيد الفاضل طاهر بن علوي، فكما صنع الصديق الحبيب الأستاذ فؤاد سيد فإني بعد إفادته الأولى الممتعة راجعته فلم تسمح له أعماله بأكثر من جواب مقتضب مع وريقة كتبها صديقنا العلامة حمد الجاسر، سأثبتها مع ما أحالت عليه وأختم البحث بذلك شاكرًا لهم جميعًا. وراجع ما تقدم 3/ 75، و134، والأنساب 4/ 27. كتب الأخ حمد ما لفظه: "أبو بكر العَنْدي (شكلها بفتح العين وسكون النون) لا العيدي ولا العبدي ولا العيذي.

1 - أول من غلط وخلط في نسبة هذا الشاعر ياقوت في "معجم البلدان"، وفي "معجم الأدباء" وقد أورد له نسبتين مختلفتين. 2 - ثم جاء ابن الصابوني فوقع في الغلط، وزاده تخليطًا وغلطًا الأستاذ الدكتور مصطفى جواد بتعليقة حاول فيها أن يصحح فما أصاب. 3 - ثم الدكتور شكري فيصل في تصحيحه للجزء الثالث من كتاب "خريدة القصر" - أو الثاني - وقد أشار في آخر الجزء أنني نبهته إلى الصواب إشارة مبهمة. 4 - أن الصواب في نسبة الشاعر هو: العَنْدي (شكله كما مر) بالعين المهملة بعدها نون فدال مهملة، كما ورد بذلك نص صريح في كتاب "تاريخ عدن" للسلطان الفضل منسوب إلى الأعنود، وأن في عدن مسجدًا ينسب إلى الشاعر المذكور، وقد نقلت نصَّه في تعليقي على دائرة معارف البستاني المنشور في جريدة الرياض في المحرم سنة 1385 وصفر سنة 1385". قال المعلمي: هو في جريدة الرياض العدد 44 بتاريخ يوم الأحد 21 صفر سنة 1385، ذكر هناك كتاب أحمد فضل ثم قال: "فوجدت في الكتاب نصًّا صحيحًا صريحًا ص 72 هو: قال الأهدل في التحفة الأديب أبو بكر بن أحمد العندي نسبة إلى الأعنود قوم يسكنون لحج وأبين وعدن أثنى عليه عمارة - إلى أن قال ص 73: وكانت وفاة الأديب بعدن سنة 580 تقريبًا، وكان من آثاره مسجده المعروف بمسجد العندي بعدن. اهـ. فهل بعد هذا يبقى شك في صحة النسب؟ وانظر زيادة عليه مخطوطة دار الكتب المصرية من "تاريخ عمارة" رقم 8048 ج تاريخ"

قال المعلمي: قد أمللتُ القارئ ولم أمل، وحسبي أن يكون ما أثبته نموذجًا لما يقاسيه المعنيون بتحقيق الكتب، وإن أحدهم ليتعب نحو هذا التعب في مواضع كثيرة جدًّا ولكنه في الغالب ينتهي إلى أحد أمرين: إما عدم الظفر بشيء فيكتفي بالسكوت، أو بأن يقول: (كذا) أو نحوها ولا يرى موجبًا لذكر ما عاناه في البحث والتنقيب، وإما الظفر بنتيجة حاسمة فيقدمها للقراء لقمة سائغة ولا يهمه أن يشرح ما قاساه حتى حصل عليها والله المستعان.

§1/1